الكتاب: المبسوط المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1414هـ - 1993م عدد الأجزاء: 30   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المبسوط للسرخسي السرخسي الكتاب: المبسوط المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1414هـ - 1993م عدد الأجزاء: 30   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] يُنْكِرُ هَذَا، وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُحْتَاطُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ حَالَة الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا فَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ أَجْزَأَهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَبْدَأُ بِالْوُضُوءِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَيَمُّمُهُ مَادَامَ مَعَهُ مَاءٌ هُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَا فِي التَّرْتِيبِ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ، أَوْ أَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ لَا فِي كَوْنِهِ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَقِينٌ فَأَمَّا الْعُضْوُ، وَالثَّوْبُ فَطَاهِرٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ، وَالْحَدَثُ مَوْجُودٌ بِيَقِينٍ فَالشَّكُّ وَقَعَ فِي طَهَارَتِهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي لُعَابِ الْحِمَارِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَا لَمْ يَفْحُشْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجْزَأَهُ، وَإِنْ فَحُشَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ غُمِسَ فِيهِ الثَّوْبُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَجَمِيعُ مَا بَيَّنَّا فِي الْحِمَارِ كَذَلِكَ فِي الْبَغْلِ فَإِنَّ وَالِدَهُ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَالصَّحِيحُ فِي عَرَقِهِمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَشَارَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ مَا لَمْ يَفْحُشْ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ حِمَارًا مُعْرَوْرِيًا»، وَالْحَرُّ حَرُّ تِهَامَةَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرَقَ الْحِمَارُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْبَلْوَى فِي عَرَقِهِ ظَاهِرٌ لِمَنْ يَرْكَبُهُ. فَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ طَاهِرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَلَحْمِهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ السُّؤْرَ لِمَعْنَى الْبَلْوَى أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ اللَّحْمِ كَمَا فِي الْحِمَارِ، وَالْبَغْلِ، وَالْكَرَاهَةُ الَّتِي فِي اللَّحْمِ تَنْعَدِمُ فِي السُّؤْرِ لِيَظْهَرَ بِهِ خِفَّةُ الْحُكْمِ. فَأَمَّا سُؤْرُ حَشَرَاتِ الْبَيْتِ كَالْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِيَاسِ فَنَجِسٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا، وَلِسَانُهَا رَطْبٌ مِنْ لُعَابِهَا، وَلُعَابُهَا يَتَحَلَّبُ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَحْمُهَا حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ الْبَلْوَى الَّتِي، وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْهِرَّةِ مَوْجُودَةٌ هُنَا فَإِنَّهَا تَسْكُنُ الْبُيُوتَ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا. وَأَمَّا سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْعُقَابِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَقُلْنَا بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَمِنْقَارُهَا عَظْمٌ جَافٌّ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فَإِنَّهَا تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا، وَلِسَانُهَا رَطْبٌ بِلُعَابِهَا، وَلِأَنَّ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فِي الدِّينِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» وَلِهَذَا اشْتَغَلَ بِهِ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. (وَأَوَّلُ) مَنْ فَرَّعَ فِيهِ وَأَلَّفَ وَصَنَّفَ سِرَاجُ الْأُمَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - بِتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَصَّهُ بِهِ، وَاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابٍ اجْتَمَعُوا لَهُ كَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَدَّمِ فِي عِلْمِ الْأَخْبَارِ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادَةَ اللُّؤْلُؤِيِّ الْمُقَدَّمِ فِي السُّؤَالِ وَالتَّفْرِيعِ، وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بْنِ قَيْسِ بْنِ مُكَمِّلِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ذُؤَيْبِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَمْرٍو الْمُقَدَّمِ فِي الْقِيَاسِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَدَّمِ فِي الْفِطْنَةِ وَعِلْمِ الْإِعْرَابِ وَالنَّحْوِ وَالْحِسَابِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَقِيَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَرٍ الزَّبِيدِيِّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَنَشَأَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى مَعَهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ أَنَا فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ وَيَحْلِفَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ». فَمَنْ فَرَّعَ وَدَوَّنَ الْعِلْمَ فِي زَمَنٍ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِهِ بِالْخَيْرِ وَالصِّدْقِ كَانَ مُصِيبًا مُقَدَّمًا، كَيْفَ وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ الْخُصُومُ بِذَلِكَ؟ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفِقْهِ ". (وَبَلَغَ) ابْنَ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مُقَدَّمًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا يَقَعُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَدَعَاهُ وَقَالَ: يَا هَذَا أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ الرُّبُعَ. قَالَ: وَكَيْف ذَلِكَ؟ قَالَ: الْفِقْهُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِوَضْعِ الْأَسْئِلَةِ فَسُلِّمَ لَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْكُلِّ، وَخُصُومُهُ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْكُلِّ فَإِذَا جَعَلْتَ مَا وَافَقُوهُ مُقَابَلًا بِمَا خَالَفُوهُ فِيهِ سُلِّمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ وَبَقِيَ الرُّبْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ. فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ مَقَالَتِهِ. (وَمَنْ) فَرَّغَ نَفْسَهُ لِتَصْنِيفِ مَا فَرَّعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمَبْسُوطَ لِتَرْغِيبِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ بِبَسْطِ الْأَلْفَاظِ وَتَكْرَارِ الْمَسَائِلِ فِي الْكُتُبِ لِيَحْفَظُوهَا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا إلَى أَنْ رَأَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إعْرَاضًا مِنْ بَعْضِ الْمُتَعَلِّمِينَ عَنْ قِرَاءَةِ الْمَبْسُوطِ لِبَسْطٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَتَكْرَارٍ فِي الْمَسَائِلِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي تَأْلِيفِ الْمُخْتَصَرِ بِذِكْرِ مَعَانِي كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَبْسُوطَةِ فِيهِ وَحَذَفَ الْمُكَرَّرَ مِنْ مَسَائِلِهِ تَرْغِيبًا لِلْمُقْتَبِسِينَ وَنِعْمَ مَا صَنَعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ إنِّي رَأَيْتُ فِي زَمَانِي بَعْضَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْفِقْهِ مِنْ الطَّالِبِينَ لِأَسْبَابٍ: فَمِنْهَا قُصُورُ الْهِمَمِ لِبَعْضِهِمْ حَتَّى اكْتَفَوْا بِالْخِلَافِيَّاتِ مِنْ الْمَسَائِلِ الطِّوَالِ، وَمِنْهَا تَرْكُ النَّصِيحَةِ مِنْ بَعْضِ الْمُدَرِّسِينَ بِالتَّطْوِيلِ عَلَيْهِمْ بِالنِّكَاتِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي لَا فِقْهَ تَحْتَهَا، وَمِنْهَا تَطْوِيلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذِكْرِ أَلْفَاظِ الْفَلَاسِفَةِ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْفِقْهِ وَخَلْطِ حُدُودِ كَلَامِهِمْ بِهَا. (فَرَأَيْتُ) الصَّوَابَ فِي تَأْلِيفِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ لَا أَزِيدُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤْثَرِ فِي بَيَانِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ اكْتِفَاءً بِمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي كُلِّ بَابٍ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ سُؤَالُ بَعْضِ الْخَوَاصِّ مِنْ زَمَنِ حَبْسِي، حِينَ سَاعَدُونِي لِأُنْسِي، أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَجَبْتهمْ إلَيْهِ. (وَأَسْأَلُ) اللَّهَ - تَعَالَى - التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ، وَالْعِصْمَةَ عَنْ الْخَطَأِ وَمَا يُوجِبُ الْعِقَابَ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا نَوَيْتُ فِيمَا أَمْلَيْتُ سَبَبًا لِخَلَاصِي فِي الدُّنْيَا وَنَجَاتِي فِي الْآخِرَةِ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. [كِتَابِ الصَّلَاةِ] ثُمَّ إنَّهُ بَدَأَ بِكِتَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَقْوَى الْأَرْكَانِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [التوبة: 5] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» فَمَنْ أَرَادَ نَصْبَ خَيْمَةٍ بَدَأَ بِنَصْبِ الْعِمَادِ، وَالصَّلَاةُ مِنْ أَعْلَى مَعَالِمِ الدِّينِ مَا خَلَتْ عَنْهَا شَرِيعَةُ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْإِمَامَ الْأُسْتَاذَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أَيْ لِأَنِّي ذَكَرْتُهَا فِي كُلِّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَفِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] مَا يَدُلُّ عَلَى وَكَادَتِهَا، فَحِينَ وَقَعَتْ بِهَا الْبِدَايَةُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْقُوَّةِ بِأَعْلَى النِّهَايَةِ، وَفِي اسْمِ الصَّلَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِيمَانِ فَالْمُصَلِّي فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّالِي لِلسَّابِقِ فِي الْخَيْلِ قَالَ الْقَائِلُ وَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أَكُونَ مُصَلِّيًا ... إذَا كُنْتُ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ السَّبَقُ وَفِي رِوَايَةٍ أَمَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ أَكُونَ مُصَلِّيًا وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أَيْ دُعَاءَكَ، وَقَالَ الْقَائِلُ: وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ أَيْ دَعَا وَأَثْنَى عَلَى دَنِّهَا وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْكَانٍ مَخْصُوصَةٍ كَانَ فِيهَا الدُّعَاءُ أَوْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ، فَالدَّلَائِلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا مَشْهُورَةٌ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا. [كَيْفِيَّة الْوُضُوء] (ثُمَّ بَدَأَ بِتَعْلِيمِ الْوُضُوءِ) فَقَالَ: (إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ»، وَمَنْ أَرَادَ دُخُولَ بَيْتٍ مُغْلَقٍ بَدَأَ بِطَلَبِ الْمِفْتَاحِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ إمَامُ الْمُتَّقِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَاقْتَدَى بِالْكِتَابِ فِي الْبِدَايَةِ بِالْوُضُوءِ لِهَذَا، وَفِي تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ هَاهُنَا وَذِكْرِهِ فِي الْحَجِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وَفِي إضْمَارِ الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ مُضْمَرٌ فِي الْكِتَابِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] مِنْ مَنَامِكُمْ أَوْ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فَلَا إضْمَارَ فِي الْآيَةِ. وَالْوُضُوءُ فَرْضٌ سَبَبُهُ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ فَكُلُّ مَنْ قَامَ إلَيْهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَوْ يَوْمُ الْخَنْدَقِ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيْتُكَ الْيَوْمَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْلُ. فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُ يَا عُمَرُ كَيْ لَا تُحْرَجُوا» فَقِيَاسُ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ جَلَسَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ آخَرُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ مَشْغُولًا بِالْوُضُوءِ لَا يَتَفَرَّغُ لِلصَّلَاةِ، وَفَسَادُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. قَالَ (وَكَيْفِيَّةُ الْوُضُوءِ أَنْ يَبْدَأَ فَيَغْسِلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ أَعْضَاءَهُ بِيَدَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُطَهِّرَهُمَا أَوَّلًا بِالْغَسْلِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِمَا التَّطْهِيرُ، ثُمَّ الْوُضُوءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي الْكِتَابِ رَوَاهُ حَمْرَانِ عَنْ أَبَانَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ، ثُمَّ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا وُضُوءُهُ، وَذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ثَلَاثًا (قَالَ) أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - النَّاسَ الْوُضُوءَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَرَوَاهُ عَبْدُ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هَذَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِهِ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ فَرُوِيَ ثَلَاثًا وَرُوِيَ مَرَّةً فَبِهَذِهِ الْآثَارِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالُوا الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَمَضْمَضَ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا، (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِكَفِّ مَاءٍ وَاحِدٍ لِمَا رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ بِكَفٍّ وَاحِدٍ» وَلَهُ تَأْوِيلَانِ عِنْدَنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِنْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِالْيَدَيْنِ كَمَا فَعَلَ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ يَسْتَعْمِلُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ الْيَدَ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ مَوْضِعُ الْأَذَى كَمَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ. قَالَ: (ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا) وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ إلَى الْأُذُنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ النَّاظِرَ إلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ إدْخَالَ الْمَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ شَحْمٌ لَا يَقْبَلُ الْمَاءَ، وَفِيهِ حَرَجٌ أَيْضًا فَمَنْ تَكَلَّفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كُفَّ بَصَرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَالرَّجُلُ الْأَمْرَدُ وَالْمُلْتَحِي وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي حَقِّ الْمُلْتَحِي لَا يَلْزَمُهُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَبَيْنَ شَحْمَةِ الْأُذُنِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْعِذَارَ اسْمًا لِذَلِكَ الْبَيَاضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِذَارُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ نَبَاتِ الشَّعْرِ وَهُوَ غَيْرُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنِ، وَمَنْبَتِ الشَّعْرِ، قَالَ: لِأَنَّ الْبَشَرَةَ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ لَا يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهَا فَمَا هُوَ أَبْعَدُ أَوْلَى، لَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَبَتَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ قَدْ اسْتَتَرَ بِالشَّعْرِ فَانْتَقَلَ الْفَرْضُ مِنْهُ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، فَأَمَّا الْعِذَارُ الَّذِي لَمْ يَنْبُتْ عَلَيْهِ الشَّعْرُ فَالْأَمْرَدُ وَالْمُلْتَحِي فِيهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بِصِفَةِ الْغَسْلِ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي الْمَغْسُولَاتِ إذَا بَلَّهُ بِالْمَاءِ سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ حَدُّ الْمَسْحِ، فَأَمَّا الْغَسْلُ فَهُوَ تَسْيِيلُ الْمَاءِ عَلَى الْعَيْنِ وَإِزَالَةُ الدَّرَنِ عَنْ الْعَيْنِ قَالَ الْقَائِلُ: فَيَا حُسْنَهَا إذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا ... وَإِذْ هِيَ تَذْرِي دَمْعَهَا بِالْأَنَامِلِ. (ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا)، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ قَدْ غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا بَقِيَ غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالْمِرْفَقُ يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْغَسْلِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ الْكَعْبَانِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ غَايَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْغَايَةُ حَدٌّ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الْمَحْدُودِ اعْتِبَارًا بِالْمَمْسُوحَاتِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَاَلَّذِي يُرْوِي «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ الْمَرَافِقَ» فَمَحْمُولٌ عَلَى إكْمَالِ السُّنَّةِ دُونَ إقَامَةِ الْفَرْضِ وَلَنَا أَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَيَكُونُ حَرْفُ " إلَى " فِيهِ بِمَعْنَى " مَعَ " قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ فَكَانَ هَذَا مُجْمَلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ:، فَإِنَّهُ «تَوَضَّأَ وَأَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ» وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَرْكُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُضُوءِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، ثُمَّ إنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَايَةِ مَتَى كَانَ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ الْغَايَةَ كَمَا فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ " اقْتَضَى صَوْمَ سَاعَةٍ، وَمَتَى كَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاء الْغَايَةِ يَبْقَى مَوْضِعُ الْغَايَةِ دَاخِلًا وَهَا هُنَا ذَكَرَ الْغَايَةَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَ الْغَايَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَأَيْدِيَكُمْ اقْتَضَى غَسْلَ الْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ كَمَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ذَلِكَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فِي الِابْتِدَاءِ فَذَكَرَ الْغَايَةَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَ الْغَايَةِ فَيَبْقَى الْمِرْفَقُ دَاخِلًا. (ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَتَمَامُ السُّنَّةِ فِي أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ»، وَالْبِدَايَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْهَامَةِ إلَى الْجَبِينِ، ثُمَّ مِنْهُ إلَى الْقَفَا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْبِدَايَةُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ كَمَا فِي الْمَغْسُولَاتِ الْبِدَايَةُ مِنْ أَوَّلِ الْعُضْوِ، وَالْمَسْنُونُ فِي الْمَسْحِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ بِمَاءٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا، وَفِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ. (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: السُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثًا يَأْخُذُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَاءً جَدِيدًا وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُجَرَّدِ لِابْنِ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَجْهُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» فَيَنْصَرِفُ هَذَا اللَّفْظُ إلَى الْمَمْسُوحِ وَالْمَغْسُولِ جَمِيعًا وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ هُوَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَالْمَغْسُولَاتِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بِالْخُفِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ وَبِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ بِالْمَاءِ وَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي تَكْرَارِ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ مِنْ حَيْثُ تَلْوِيثُ الْوَجْهِ وَذَلِكَ الْحَرَجُ مَعْدُومٌ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ. (وَلَنَا): حَدِيثُ «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي مَرَضِهِ: إنِّي مُفَارِقُكُمْ عَنْ قَرِيبٍ، أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً»، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وَإِنَّمَا كَانَ يُنْقَلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ هَذَا مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَالْمَسْحِ بِالْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِيعَابَ فِي الْمَمْسُوحِ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِفَرْضٍ حَتَّى يَجُوزَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَبِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ الِاسْتِيعَابِ يَحْصُلُ إقَامَةُ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْرَارِ بِخِلَافِ الْمَغْسُولَاتِ، فَإِنَّ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا فَرْضٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّكْرَارِ لِيَحْصُلَ بِهِ إقَامَةُ السُّنَّةِ، وَمَعْنَى الْحَرَجِ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا، فَفِي تَكْرَارِ بَلِّ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ إفْسَادُ الْعِمَامَةِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ عَنْ الْغَسْلِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْمُجَرَّدِ حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ»، وَالْكَلَامُ فِي مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْكِتَابِ. قَالَ (ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ وَظِيفَةُ الطَّهَارَةِ فِي الرِّجْلِ الْمَسْحُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَضْرُورُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِغَسْلَيْنِ وَمَسْحَيْنِ يُرِيدُ بِهِ الْقِرَاءَةَ بِالْكَسْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلِكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْسِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَحِلِّ، فَإِنَّ الرَّأْسَ مَحَلُّهُ مِنْ الْإِعْرَابِ النَّصْبُ، وَإِنَّمَا صَارَ مَحْفُوظًا بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مُعَاوِي إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا (وَلَنَا): «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ» وَبِهِ أَمَرَ مَنْ عَلَّمَهُ الْوُضُوءَ «وَرَأَى رَجُلًا يَلُوحُ عَقِبُهُ فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ»، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ وَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعٍ يُؤَدِّي إلَى الِالْتِبَاسِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِي الْبَيْتِ. وَالْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ عَطْفٌ عَلَى الْأَيْدِي أَيْضًا، وَإِنَّمَا صَارَ مَخْفُوضًا بِالْمُجَاوَرَةِ كَمَا يُقَالُ جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ أَيْ خَرِبٌ وَبَارِدٌ. (فَإِنْ قِيلَ:) الِاتِّبَاعُ بِالْمُجَاوَرَةِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ جَوَّزُوا الِاتِّبَاعَ فِي الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ قَالَ الْقَائِلُ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ وَلَكِنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْمُجَاوَرَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْإِعْرَابِ قَالَ جَرِيرٌ فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاحِلٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أَيْ فَخَاطِبٌ جَوَّزَ الِاتِّبَاعَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْفَاءُ. وَأَمَّا الْكَعْبُ فَهُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ الْمُتَّصِلُ بِعَظْمِ السَّاقِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ فِي اللِّسَانِ إذَا قِيلَ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ فِي الصَّلَاةِ»، وَفِي قَوْلِهِ: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] دَلِيلٌ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ مَا يُوَحَّدُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ يَذْكُرُ تَثْنِيَتَهُ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أَيْ قَلْبَاكُمَا وَمَا كَانَ مَثْنًى يَذْكُرُ تَثْنِيَتَهُ بِعِبَارَةِ التَّثْنِيَةِ فَلَمَّا قَالَ إلَى الْكَعْبَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَثْنًى فِي كُلِّ رِجْلٍ، وَذَلِكَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلْمِفْصَلِ وَمِنْهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ أَيْ مَفَاصِلُهُ وَاَلَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ مِفْصَلٌ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهَذَا سَهْوٌ مِنْ هِشَامٍ لَمْ يُرِدْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَفْسِيرَ الْكَعْبِ بِهَذَا فِي الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ أَنَّهُ يَقْطَعُ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَفَسَّرَ الْكَعْبَ بِهَذَا، فَأَمَّا فِي الطَّهَارَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْعَظْمُ النَّاتِئُ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ فَإِنْ تَوَضَّأَ مَثْنَى مَثْنَى أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَوَضَّأَ مَرَّةً سَابِغَةً أَجْزَأَهُ وَتَفْسِيرُ السُّبُوغِ التَّمَامُ وَهُوَ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْسُولَاتِ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً»، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَذِرَاعَيْهِ مَرَّتَيْنِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتَوَضَّأُ مَرَّةً مَرَّةً. وَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ - تَعَالَى - الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي وَوُضُوءُ خَلِيلِ اللَّهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ»، أَيْ زَادَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا أَوْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْدُودِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مُعْتَقِدًا أَنَّ كَمَالَ السُّنَّةِ لَا يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ، فَأَمَّا إذَا زَادَ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ هُنَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَعْلِيمُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْمَنَامِ وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِنْجَاءٌ، وَلِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ بِالْحَجَرِ لَيْسَ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ هَذَا شَيْءٌ أُحْدِثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَرُبَّمَا قَالَ هُوَ طَهُورُ النِّسَاءِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ بَلْ لِاكْتِسَابِ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ. جَاءَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِأَهْلِ قُبَاءَ مَا هَذِهِ الطُّهْرَةُ الَّتِي خُصِّصْتُمْ بِهَا فَقَالُوا إنَّا كُنَّا نُتْبِعُ الْأَحْجَارَ الْمَاءَ فَقَالَ هُوَ ذَاكَ»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَسْحَ الرَّقَبَةِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْوُضُوءِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امْسَحُوا رِقَابَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُغَلَّ بِالنَّارِ وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيكَ الْخَاتَمِ وَلَا نَزْعَهُ وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ نَزْعَ الْخَاتَمِ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاسِعًا يَدْخُلُهُ الْمَاءُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى النَّزْعِ وَالتَّحْرِيكِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا يَدْخُلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيكِهِ، وَفِي التَّيَمُّمِ لَا بُدَّ مِنْ نَزْعِهِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ. ثُمَّ سُنَنُ الْوُضُوءِ وَآدَابُهُ فَرَّقَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ فَنَذْكُرُ كُلَّ فَصْلٍ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - تَحَرُّزًا عَنْ التَّطْوِيلِ [كَيْفِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ] قَالَ (إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ) وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ إرَادَةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ هِيَ النِّيَّةُ وَالنِّيَّةُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ»، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَالنِّيَّةُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ أَيَّ صَلَاةٍ يُصَلِّي وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَعَ هَذَا: فِي الْفَرَائِضِ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ. وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ، فَالظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا فَحَاجَتُهُ إلَى نِيَّةِ مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا احْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ جَازَ عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ يُغْنِيهِ عَنْ نِيَّتِهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ حِينَ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ جَازَ عِنْدَنَا وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَمِيعًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِيَكُونَ عَمَلُهُ عَنْ عَزِيمَةٍ وَإِخْلَاصٍ وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا. وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ وَلَكِنْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ وَيُجْعَلُ مَا قُدِّمَ مِنْ النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ بِعَمَلٍ كَالْقَائِمِ عِنْدَ الشُّرُوعِ حُكْمًا كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيُّ يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ: أَيُّ صَلَاةٍ يُصَلِّي؟ أَمْكَنَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فَهُوَ نِيَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ، وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ، فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فَعَلَهُ لِيَجْتَمِعَ عَزِيمَةُ قَلْبِهِ فَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَإِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ يَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَالْأَذْكَارُ عِنْدَهُمَا كَالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَنِيَّةُ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ قَالَا: لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا عَلَى الْأَذْكَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْأَذْكَارِ الْقَادِرَ عَلَى الْأَفْعَالِ يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْقَادِرِ عَلَى الْأَذْكَارِ؟ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أَيْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَعْظِيمٌ بِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَأَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ اللِّسَانُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»، فَدَلَّ أَنَّ بِدُونِهِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا وَتَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ تَتَنَاوَلُ اللِّسَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؟ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ التَّحْرِيمُ لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا كَالنَّظَرِ بِالْعَيْنِ وَمَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ دُونَ الْكَفِّ فَكُلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَهُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ رَفْعَ الْيَدِ»؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاجِبَاتِ وَوَاظَبَ عَلَى رَفْعِ الْيَدِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَدَلَّ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ التَّكْبِيرَ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا فَإِذَا اسْتَقَرَّتَا فِي مَوْضِعِ الْمُحَاذَاةِ كَبَّرَ؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنَّهُ بِرَفْعِ الْيَدِ يَنْفِي الْكِبْرِيَاءَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبِالتَّكْبِيرِ يُثْبِتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَيَكُونُ النَّفْيُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. وَلَا يَتَكَلَّفُ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ عِنْدَ رَفْعِ الْيَدِ وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَبَّرَ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ»، مَعْنَاهُ نَاشِرًا عَنْ طَيِّهَا بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَثْنِيًّا بِضَمِّ الْأَصَابِعِ إلَى الْكَفِّ. وَالْمَسْنُونُ عِنْدَنَا أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ إبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ وَرُءُوسُ أَصَابِعِهِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَسْنُونُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ»، وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ»، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْعُذْرِ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ حِينَ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْفَ الْإِمَامِ أَعْمَى وَأَصَمُّ فَأَمَرَ بِالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ لِيَسْمَعَ الْأَعْمَى وَبِرَفْعِ الْيَدَيْنِ لِيَرَى الْأَصَمُّ فَيَعْلَمُ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَكَانَ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ وَلَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غُضَّ بَصَرَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ وَكُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَنَالَهُ». وَلَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ فِيهِ: التَّزَاوُجُ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَنْصِبَهُمَا نَصْبًا. ثُمَّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، جَاءَ عَنْ الضَّحَّاكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ»، وَلَمْ يَذْكُرْ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ الْمُصَلِّي أَيْضًا وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَزِيدَ فِي الِافْتِتَاحِ: «وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ» لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا»، إلَى آخِرِهِ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ بِهَذَا وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، فَإِنَّهُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ»، فَتَأْوِيلُ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَالْأَمْرُ فِيهِ وَاسِعٌ، فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ - الْأَثَرُ. ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ»، وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَالُوا نَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ عِنْدَنَا لِلْحَالِ كَمَا يُقَالُ إذَا دَخَلْتَ عَلَى السُّلْطَانِ فَتَأَهَّبْ أَيْ إذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَتَأَهَّبْ فَكَذَا مَعْنَى الْآيَةِ إذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَشَفَ الرِّدَاءَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الْآيَاتِ، وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ قَالَ عَطَاءٌ الِاسْتِعَاذَةُ تَجِبُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ فَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَبَيْنَ الْقُرَّاءِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ التَّعَوُّذِ فَاخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ زَادَ حَفْصٌ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَاخْتِيَارُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَاخْتِيَارُ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ. وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ الْمُصَلِّي فِي نَفْسِهِ إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ لَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ جَهَرَ بِالتَّعَوُّذِ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا أَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ السَّامِعِينَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَوَّذَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ الْجَهْرُ بِثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي، فَلَا يَتَعَوَّذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَا يَتَعَوَّذُ حَتَّى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ حِينَئِذٍ يَتَعَوَّذُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَتَعَوَّذُ الْمُقْتَدِي، فَإِنَّ التَّعَوُّذَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الثَّنَاءِ لِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعِيدَيْنِ، وَالتَّعَوُّذُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ يَقُولُ يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَمَا يَقْرَأُ وَهَذَا فَاسِدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاحِدَةٌ فَكَمَا لَا يُؤْتِي لَهَا إلَّا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا التَّعَوُّذُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَعِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ أَيْضًا قَالُوا قَدْ صَحَّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ»، فَمَنْ ادَّعَى النَّسْخَ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَقِيَ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ مَا بَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ»، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ». فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ فَرَجَّحَ حَدِيثَهُ بِعُلُوِّ إسْنَادِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَّا حَمَّادٌ فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ وَلَوْلَا سَبْقُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقُلْتُ بِأَنَّ عَلْقَمَةَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَرُجِّحَ حَدِيثُهُ بِفِقْهِ رُوَاتِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ لَا بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ فَالشَّافِعِيُّ اعْتَمَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ تَكْبِيرُ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهِ حَالَةَ الْقِيَامِ فَلْيُسَنَّ رَفْعُ الْيَدِ عِنْدَهُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَحْسُوبٌ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَرَفْعُ الْيَدِ مَسْنُونٌ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَكَذَا هَذَا وَلَنَا أَنَّ الْآثَارَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتَحَاكَمُ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ»، وَذَكَرَ أَرْبَعَةً فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَحِينَ رَأَى بَعْضَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَ «مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شَمْسٍ اُسْكُتُوا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «قَارُّوا فِي الصَّلَاةِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَةَ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالِ الِانْتِقَالِ، فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدِ عِنْدَهُ كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ وَفِقْهُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَفْعِ الْيَدِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الَّذِي خَلْفَهُ وَهَذَا إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيمَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ، فَإِنَّ الْأَصَمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يَرَاهُ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِرَفْعِ الْيَدِ. (ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَقَدْ أَدْخَلَ التَّسْمِيَةَ فِي الْقِرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا يَأْتِي الْمُصَلِّي بِالتَّسْمِيَةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، وَلَنَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقُرْآنَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي التَّسْمِيَةَ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ»، وَلَمَّا صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا أَسَرَقْتَ مِنْ الصَّلَاةِ؟ أَيْنَ التَّسْمِيَةُ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَا بُنِيَ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ «، فَإِنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَعُدُّ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آيَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَوْلَانِ وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ حَتَّى قَالَ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ فَكَأَنَّمَا تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً أَوْ مِائَةً وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُبَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَعَدَّهَا آيَةً، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَعَدَّهَا آيَةً»، وَلِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ لِمَبْدَأِ الْفَاتِحَةِ وَكُلِّ سُورَةٍ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ النَّقْطِ وَالتَّعَاشِيرِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ وَلَا تَكُونُ سَبْعَ آيَاتٍ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] آيَةٌ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آيَةٌ ضَعِيفٌ تَشْهَدُ الْمَقَاطِعُ بِخِلَافِهِ. وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»، فَالْبُدَاءَةُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ إلَّا نِصْفًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَالسَّلَفُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ اخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ وَالْعُلَمَاءِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْيَقِينِ وَالْإِحَاطَةِ. (وَعَنْ) مُعَلَّى قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ. قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ تَجْهَرْ؟ فَلَمْ يُجِبْنِي. فَهَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ بَيَانُ أَنَّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلِهَذَا كُتِبَتْ بِخَطٍّ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ عَلَى وَجْهِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا حُرْمَةَ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا قُرْآنًا الْجَهْرُ بِهَا كَالْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَتَيْنِ. وَدَلِيلُ هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ لِمَ لَمْ تَكْتُبْ التَّسْمِيَةَ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْأَنْفَالِ؟ قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا شَأْنَهَا فَرَأَيْتُ أَوَائِلَهَا يُشْبِهُ أَوَاخِرَ الْأَنْفَالِ فَأَلْحَقْتُهَا بِهَا فَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهَا لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ كَالتَّعَوُّذِ. (وَرَوَى) الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - وَالْآثَارِ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ. (وَرَوَى) ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ يُخْفِي الْقِرَاءَةَ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ، وَإِذَا كَانَ يَجْهَرُ لَا يَأْتِي بِهَا بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَأَخْفَى بِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَكْتَةً لَهُ فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مَأْثُورًا. ثُمَّ قَالَ (وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَيُخَافِتُ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ) وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَا قِرَاءَةَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ»، أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ»، وَقِيلَ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «بِمَ عَرَفْتُمْ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ»، وَقَالَ قَتَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا». (وَقَالَ) أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ: {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السَّجْدَةَ»: «، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِابْتِدَاءِ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا»، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَهُ وَيَسُبُّونَ مَنْ أَنْزَلَ وَمِنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] فَكَانَ يُخَافِتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَيَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْأَكْلِ، وَفِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا، وَلِهَذَا جَهَرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِهَا قُوَّةُ الْأَذَى، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ أَأَقْرَأُ خَلْفَ إمَامِي؟ فَقَالَ أَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَجْمَاءُ أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. وَحَدُّ الْقِرَاءَةِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَنْ يُصَحِّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ عَلَى وَجْهٍ يَسْمَعُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ مَنْ قَرَّبَ أُذُنَهُ مِنْ فِيهِ، فَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَفَكُّرًا وَمَجْمَجَةً لَا قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ يُخَافِتُ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ كَالْإِمَامِ، فَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ فَيَتَخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ خَافَتَ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ لِإِسْمَاعِ مَنْ خَلْفَهُ وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا صَلَاتَهُ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَالْمُنْفَرِدُ مَنْدُوبٌ إلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ فِي التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ إنْ شَاءَ خَافَتَ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَهَجُّدِهِ كَانَ يُؤْنِسُ الْيَقْظَانَ وَلَا يُوقِظُ الْوَسْنَانَ»، «وَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ وَبِعُمَرَ، وَهُوَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَبِبِلَالٍ، وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ فَلَمَّا أَصْبَحُوا سَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِيهِ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَقَالَ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا وَلِعُمَرَ أَخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا وَلِبِلَالٍ إذَا ابْتَدَأْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا»، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي التَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ كَرَفْعِ الْيَدِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَنَحْوِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 يَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ»، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ آخِرَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ نَاسِخًا لِأَوَّلِهِمَا وَالْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَمَلًا لَا يَجُوزُ. قَالَ (وَالْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، وَإِنْ تَرَكَهَا جَازَ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ»، وَهَذَا يَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْقِرَاءَةِ لَا تَكْرَارَهَا، فَإِنَّ الْكُلَّ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاكْتِفَاءُ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ - تَعَالَى - الْفَاتِحَةَ مَثَانِيَ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَيْ تُقْرَأُ مَرَّتَيْنِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتَجَّ فَقَالَ أَجْمَعْنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَالْفَرْضُ أَقْوَى مِنْ التَّطَوُّعِ فَثَبَتَتْ الْفَرْضِيَّةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْفَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الْأَرْكَانِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَذَلِكَ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أُقِيمُ الْقِرَاءَةَ فِي أَكْثَرِ الرَّكَعَاتِ مَقَامَهَا فِي الْجَمِيعِ تَيْسِيرًا. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ وَجَهَرَ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ يُسَبِّحَانِ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَالَتْ اقْرَأْ لِيَكُونَ عَلَى جِهَةِ الثَّنَاءِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ. قَالَ (ثُمَّ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ ذَكَرَ يُخَافِتُ بِهَا فِي كُلِّ حَالٍ)، فَلَا تَكُونُ رُكْنًا كَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ مَبْنَى الْأَرْكَانِ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ رُكْنًا لَمَا خَالَفَ الْأُولَيَيْنِ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَكُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ الْفَرْضِ حَتَّى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي فِي التَّطَوُّعِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الْأَخِيرَتَيْنِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ وَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا سَاهِيًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. فَسُجُودُ السَّهْوِ يَجِبُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ السُّنَنِ الْمُضَافَةِ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ قَائِمًا كَانَ سَامِدًا مُتَحَيِّرًا، وَتَفْسِيرُ السَّامِدِ الْمُعْرِضُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ». قَالَ (ثُمَّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لَا تَتَعَيَّنُ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتَعَيَّنُ حَتَّى لَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا النَّصِّ، وَهُوَ يَعْدِلُ النَّسْخَ عِنْدَنَا، فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ التَّعْظِيمُ بِاللِّسَانِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ فَتَعَيُّنُ الْفَاتِحَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاجِبٌ حَتَّى يُكْرَهَ لَهُ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا وَتَثْبُتَ الرُّكْنِيَّةُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ الْآيَةُ، وَلَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا أَوْ قَالَ وَشَيْءٍ مَعَهَا»، وَنَحْنُ نُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَذَا الْخَبَرِ حَتَّى لَا نَأْذَنَ لَهُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَكِنْ لَا نُثْبِتُ الرُّكْنِيَّةَ بِهِ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي إلَى الرُّكُوعِ»، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَلَا عِنْدَ السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ، وَيَرْوُونَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، فَأَمَّا عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَكَانُوا يُكَبِّرُونَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ ذَكَّرَنِي هَذَا الْفَتَى صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، أَوْ قَالَ: عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ»، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ أَيْ جَهْرًا أَيْ يُخَافِتُ بِآخِرِ التَّكْبِيرِ كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ: (وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ)، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ بِالتَّطْبِيقِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَضُمَّ إحْدَى الْكَفَّيْنِ إلَى الْآخِرِ وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَرَأَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابْنًا لَهُ يُطْبِقُ فَنَهَاهُ فَقَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَفْعَلُ هَكَذَا فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كُنَّا أُمِرْنَا بِهَذَا، ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ، وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ وَضَعْ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ»، وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: (وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) وَلَا يُنْدَبُ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ إلَّا هَذَا لِيَكُونَ مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّكْبَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أُمِرْنَا بِالرُّكَبِ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ. قَالَ: (وَبَسَطَ ظَهْرَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ». قَالَ: (وَلَا يُنَكِّسُ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ) وَمَعْنَاهُ يُسَوِّي رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَذْبَحَ الْمُصَلِّي تَذَبُّخَ الْحِمَارِ»، يَعْنِي إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ. قَالَ: (وَإِذَا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ) وَالطُّمَأْنِينَةُ مَذْكُورَةٌ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ»، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ قَالَ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَسْتَقِرَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ»، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهَا مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ تَبِعَ سُنَّتِي فَقَدْ تَبِعَنِي، وَمَنْ تَبِعَنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ». ثُمَّ (يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَقُولُ مَنْ خَلْفَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) وَلَمْ يَقُلْهَا الْإِمَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَقُولُهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ثَلَاثٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَفِي جُمْلَتِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَلِأَنَّا لَا نَجِدُ شَيْئًا مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ فَقَدْ يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ كَالْقِرَاءَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»، فَقَسَمَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَمُطْلَقُ الْقِسْمَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِي قِسْمِهِ وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ عِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لَكَانَتْ مَقَالَتُهُ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمُقْتَدِي وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الْإِمَامَةِ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فِي التَّهَجُّدِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَبِهِ نَقُولُ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَيَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ هَكَذَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَثٌّ لِمَنْ خَلْفَهُ عَلَى التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُلُّ مُصَلٍّ يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحُثُّ مَنْ خَلْفَهُ عَلَى التَّحْمِيدِ، فَلَا مَعْنَى لِمُقَابَلَةِ الْقَوْمِ إيَّاهُ بِالْحَثِّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالتَّحْمِيدِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَزِيدُ عَلَى هَذَا مَا نُقِلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ» إلَخْ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِي التَّهَجُّدِ. قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ فَإِذَا اطْمَأَنَّ سَاجِدًا رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَاعِدًا سَجَدَ أُخْرَى وَكَبَّرَ)، وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْ تَكَلَّمُوا أَنَّ السُّجُودَ لِمَاذَا كَانَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَثْنَى وَالرُّكُوعُ وَاحِدٌ؟ فَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا تَعَبُّدِيٌّ لَا يُطْلَبُ فِيهِ الْمَعْنَى كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ السُّجُودُ مَثْنَى تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِسَجْدَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ تَرْغِيمًا لَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَقَالَ: «هُمَا تَرْغِيمَتَانِ لِلشَّيْطَانِ»، وَقِيلَ إنَّهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] الْآيَةَ. (وَيَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ) لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» قَالَ عُقْبَةُ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا». وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ»، وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ أَدْنَى الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَدْنَى الْكَمَالِ، فَإِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَجُوزَانِ بِدُونِ هَذَا الذِّكْرِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلُّ فِعْلٍ هُوَ رُكْنٌ يَسْتَدْعِي ذِكْرًا فِيهِ يَكُونُ رُكْنًا كَالْقِيَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ شُرِعَ فِي الرُّكُوعِ ذِكْرٌ هُوَ رُكْنٌ لَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الرُّكُوعَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَحِينَ عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الْأَرْكَانَ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ كَانَ أَفْضَلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَوِّلَ عَلَى وَجْهٍ يَمَلُّ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، فَإِنَّ مُعَاذًا لَمَّا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ «قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ». وَكَانَ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهَا الْإِمَامُ خَمْسًا لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَدِي مِنْ أَنْ يَقُولَهَا ثَلَاثًا، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بِهَذَا وَيَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَفِي السُّجُودِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»، وَهَذَا مَحْمُولٌ وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَيَضَعُ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ»، وَلِأَنَّ آخِرَ الرَّكْعَةِ مُعْتَبَرٌ بِأَوَّلِهَا فَكَمَا يَجْعَلُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ الرَّكْعَةِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ»، مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ لِلْكِبَرِ أَوْ الْمَرَضِ وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ أَصَابِعَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ». وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مَعَهُ فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَاحَتَيْهِ» لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلَا أَصِفُ لَكُمْ سُجُودَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا نَعَمْ فَسَجَدَ وَادَّعَمَ عَلَى رَاحَتَيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَسْجُدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَيُبْدِي ضَبْعَيْهِ) لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا سَجَدَ أَبْدَى ضَبْعَيْهِ أَوْ أَبَّدَ ضَبْعَيْهِ» وَالْإِبْدَاءُ وَالتَّبْدِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لُغَةٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يُرْثَى لَهُ أَنْ يُرْحَمَ مِنْ جَهْدِهِ»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ لَمَرَّتْ. (وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الْمُصَلِّي ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ أَوْ الثَّعْلَبِ»، فَذِكْرُهُ هَذَا الْمَثَلَ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الْكَرَاهَةِ وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي النَّفْلِ لَا بَأْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بِأَنْ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ جَمِيعًا وَهَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَحْتَفِزُ وَتَنْضَمُّ وَتُلْصِقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا وَعَضُدَيْهَا بِجَنْبَيْهَا هَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي بَيَانِ السُّنَّةِ فِي سُجُودِ النِّسَاءِ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السِّتْرِ فَمَا يَكُونُ أَسْتَرَ لَهَا فَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ». (وَيَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ حَتَّى يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَنْهَضَ، لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَنْهَضُ»، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمِنْ أَرْكَانِهَا الْقَعْدَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَتْمُ كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَعْدَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ طَوِيلَةٍ. وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ نَهَضَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ»، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَاهُنَا قَعْدَةٌ لَكَانَ الِانْتِقَالُ إلَيْهَا وَمِنْهَا بِالتَّكْبِيرِ وَلَكَانَ لَهَا ذِكْرٌ مَسْنُونٌ كَمَا فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ فَعَلَ لِأَجْلِ الْعُذْرِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي امْرُؤٌ قَدْ بَدَنْتُ، فَلَا تُبَادِرُونِي بِرُكُوعٍ وَلَا سُجُودٍ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بَدَّنْتُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الْبَدَانَةَ هِيَ الضَّخَامَةُ وَلَمْ يُنْقَلْ فِي صِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي قَوْلِهِ نَهَضَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ قِيَامِهِ كَمَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَى جَالِسٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اعْتِمَادٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ شِبْهَ الْعَاجِزِ»، تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْعُذْرِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ. (وَيَحْذِفُ التَّكْبِيرَ حَذْفًا وَلَا يُطَوِّلُهُ) لِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «الْأَذَانُ جَزْمٌ وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ»، وَلِأَنَّ الْمَدَّ فِي أَوَّلِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَلِبُ اسْتِفْهَامًا، وَفِي آخِرِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَفْعَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْمُبَالَغَةَ. (وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ فِي سُجُودِهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) لِمَا رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا سَجَدَ فَتَحَ أَصَابِعَهُ»، أَيْ أَمَالَهَا إلَى الْقِبْلَةِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ». قَالَ: (وَيَعْتَمِدُ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فِي قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ) وَأَصْلُ الِاعْتِمَادِ سُنَّةٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَتَخَيَّرُ الْمُصَلِّي بَيْنَ الِاعْتِمَادِ وَالْإِرْسَالِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا أُمِرُوا بِالِاعْتِمَادِ إشْفَاقًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطَوِّلُونَ الْقِيَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فَكَانَ يَنْزِلُ الدَّمُ إلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِمْ إذَا أَرْسَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اعْتَمَدْتُمْ لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ شَمَائِلَنَا بِأَيْمَانِنَا فِي الصَّلَاةِ»، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَضْعِ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَفْظُ الْأَخْذِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَفْظُ الْوَضْعِ وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَضَعَ بَاطِنَ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَيُحَلِّقَ بِالْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ عَلَى الرُّسْغِ لِيَكُونَ عَامِلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْوَضْعِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَنَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْأَفْضَلُ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ عَلَى النَّحْرِ، وَهُوَ الصَّدْرُ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ نُورِ الْإِيمَانِ فَحِفْظُهُ بِيَدِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَوْرَةِ بِالْوَضْعِ تَحْتَ السُّرَّةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ. وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا رَوَيْنَا وَالسُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ الْوَضْعُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَبْعَدُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَقْرَبُ إلَى سِتْرِ الْعَوْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَانْحَرْ نَحْرُ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّحْرِ الصَّدْرَ فَمَعْنَاهُ لِتَضَعَ بِالْقُرْبِ مِنْ النَّحْرِ وَذَلِكَ تَحْتَ السُّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الِاعْتِمَادُ سُنَّةُ الْقِيَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ هَذَا فِي الْمُصَلِّي، بَعْدَ التَّكْبِيرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرْسِلُ يَدَيْهِ فِي حَالَةِ الثَّنَاءِ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ اعْتَمَدَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرَةِ يَعْتَمِدُ. قَالَ: (وَإِذَا قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَجْعَلُهَا بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نَحْوَ الْقِبْلَةِ) وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا الْمَسْنُونُ أَنْ يَقْعُدَ مُتَوَرِّكًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُفْضِي بِأَلْيَتَيْهِ إلَى الْأَرْضِ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَعَدَ فِي صَلَاتِهِ قَعَدَ مُتَوَرِّكًا»، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى مِثْلَ قَوْلِنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَطُولُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَامِ وَالْقُعُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِيَامِ، وَفِي الْقَعْدَةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ قَوْلَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تَطُولُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَامِ بَعْدَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ. وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا وَصَفَتْ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ: «كَانَ إذَا قَعَدَ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصَبًا» وَمَا رُوِيَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ لِلْكِبَرِ وَلِأَنَّ الْقُعُودَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَشُقُّ عَلَى الْبَدَنِ: «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ أَحَمْزُهَا»، أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ مُتَكَرِّرًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَالثَّانِي لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَقْعُدَ مُتَوَرِّكَةً لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ فَلَمَّا فَرَغَتَا دَعَاهُمَا وَقَالَ: اسْمَعَانِ، إذَا قَعَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى الْأَرْضِ»، وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى السَّتْرِ فِي حَقِّهِنَّ. قَالَ (وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ فِي صَلَاتِهِ حَالَ الْقِيَامِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَلَّى سَمَا بِبَصَرِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] رَمَى بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ»، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ أَبُو طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا الْخُشُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى بَصَرِ الْمُصَلِّي حَالَ الْقِيَامِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ»، ثُمَّ فَسَّرَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ عَلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ عَلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ عَلَى حِجْرِهِ زَادَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، فَالْحَاصِلُ أَنْ يَتْرُكَ التَّكَلُّفَ فِي النَّظَرِ فَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ»، وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: «تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ»، وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ وَوَجْهَهُ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَأَمَّا إذَا نَظَرَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ، فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ». (وَلَا يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَثِيَابِهِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا الرَّفَثَ فِي الصَّوْمِ وَالْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ وَالضَّحِكَ فِي الْمَقَابِرِ»، وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُصَلِّي، وَهُوَ يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ قَالَ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»، فَجَعَلَ فِعْلَهُ دَلِيلَ نِفَاقِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الرَّجُلَ مُنَافِقٌ مُسْتَهْزِئٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ قَلَّمَا يَنْجُو مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أَلَا تَرَى أَنَّهُ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ لِيَكُنْ فِي الْفَرِيضَةِ»، إذًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ هُوَ مُفِيدٌ لِلْمُصَلِّي، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ عَرِقَ لَيْلَةً فِي صَلَاتِهِ فَسَلَتَ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ»؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ فَكَانَ مُفِيدًا: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الصَّيْفِ إذَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ نَفَضَ ثَوْبَهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً»؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُفِيدًا حَتَّى لَا يُبْقِي صُورَةً، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ فَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»، وَالْعَبَثُ غَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ شَيْئًا، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ. (وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ عَبَثٍ غَيْرُ مُفِيدٍ وَالنَّهْيُ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَصَى يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَابِرٌ وَأَبُو ذَرٍّ وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى قَالَ فِي بَعْضِهَا: «وَإِنْ تَتْرُكْهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ تَكُونُ لَكَ»، فَإِنْ كَانَ الْحَصَى لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ السُّجُودِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ: «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ يَا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أَوْ ذَرْ» وَلِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُفِيدٌ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا لَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ وَتَرْكُهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَهُوَ أَوْلَى. قَالَ: (وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ الْفَرْقَعَةِ فِي الصَّلَاةِ»، «وَمَرَّ بِمَوْلًى لَهُ، وَهُوَ يُصَلِّي وَيُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ فَقَالَ أَتُفَرْقِعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي؟، لَا أُمَّ لَكَ»، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَنْهَى الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ أَنْ يُفَرْقِعَ أَصَابِعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ»، فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى، وَهُوَ نَوْعُ عَبَثٍ غَيْرُ مُفِيدٍ. قَالَ: (وَلَا يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «نَهَى عَنْ التَّخَصُّرِ فِي الصَّلَاةِ»، وَقِيلَ: إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ وَلَا رَاحَةَ لَهُمْ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أُهْبِطَ مُتَخَصِّرًا وَلِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُصَابِ وَحَالُ الصَّلَاةِ حَالٌ يُنَاجِي فِيهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ - تَعَالَى - فَهُوَ حَالُ الِافْتِخَارِ لَا حَالَ إظْهَارِ الْمُصِيبَةِ وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. قَالَ: (وَلَا يُقْعِي إقْعَاءً) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يُقْعِيَ الْمُصَلِّي إقْعَاءَ الْكَلْبِ»، وَفِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي السُّجُودِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى: «نَهْي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ». الثَّانِي: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ إقْعَاءَ الْكَلْبِ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا أَنَّ إقْعَاءَ الْكَلْبِ يَكُونُ فِي نَصْبِ الْيَدَيْنِ وَإِقْعَاءَ الْآدَمِيِّ يَكُونُ فِي نَصْبِ الرُّكْبَتَيْنِ إلَى صَدْرِهِ. قَالَ: (وَلَا يَتَرَبَّعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ)، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى ابْنَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ فَقَالَ إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ غَلَّلَ فِيهِ فَقَالَ التَّرَبُّعُ جُلُوسُ الْجَبَابِرَةِ فَلِهَذَا كُرِهَ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يَتَرَبَّعُ فِي جُلُوسِهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ»، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ: «كَانَ يَأْكُلُ يَوْمًا مُتَرَبِّعًا فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُلْ كَمَا تَأْكُلُ الْعَبِيدُ»، وَهُوَ كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَخْلَاقِ الْجَبَابِرَةِ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ جُلُوسِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَرَبِّعًا وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُقَالَ الْجُلُوسُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ مِنْ التَّرَبُّعِ فَهُوَ أَوْلَى فِي حَالِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الْعُذْرِ. قَالَ: (لَوْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ مِنْ التُّرَابِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُفِيدٌ، فَإِنَّ الْتِصَاقَ التُّرَابِ بِجَبْهَتِهِ نَوْعُ مُثْلَةٍ فَرُبَّمَا كَانَ الْحَشِيشُ الْمُلْتَصِقُ بِجَبْهَتِهِ يُؤْذِيهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ مَسَحَ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَتَرَّبُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَلَوْ مَسَحَ لِكُلِّ مَرَّةٍ كَانَ عَمَلًا كَثِيرًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَجَعَلُوا الْقَوْلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ لَا مَفْصُولًا عَنْ قَوْلِهِ أَكْرَهُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ قُلْتُ لَوْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَا أَكْرَهُهُ يَعْنِي لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ قَائِمًا وَأَنْ تَسْمَعَ النِّدَاءَ فَلَمْ تُجِبْهُ وَأَنْ تَنْفُخَ فِي صَلَاتِكَ وَأَنْ تَمْسَحَ جَبْهَتَكَ فِي صَلَاتِكَ»، وَتَأْوِيلُهُ، عِنْدَ مَنْ لَا يَكْرَهُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَسْحُ بِالْيَدَيْنِ كَمَا يَفْعَلُهُ الدَّاعِي إذَا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَالتَّشَهُّدُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، وَهُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَشَهُّدُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصِفَتُهُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ يَقُولُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ مِنْ فِتْيَانِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، فَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ آخِرًا، فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهُوَ مِنْ الشُّيُوخِ يَنْقُلُ مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا نَقَلَ التَّطْبِيقَ وَغَيْرَهُ وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {تَحِيَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَالسَّلَامُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73]: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصُورَتُهُ التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَقَالَ: إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِيهِ حِكَايَةٌ، فَإِنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ؟ فَقَالَ: بِوَاوَيْنِ. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي لَا وَلَا، ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ وَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْ التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أَبِي مُوسَى؟ قُلْتُ: بِوَاوَيْنِ. قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحُسْنِ ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ أَخَذَ حَمَّادٌ بِيَدِي وَقَالَ حَمَّادٌ أَخَذَ إبْرَاهِيمُ بِيَدِي وَقَالَ إبْرَاهِيمُ أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِي وَقَالَ عَلْقَمَةُ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِي وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يَعْلَمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ»، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ لَمْ يَصِحَّ مِنْ التَّشَهُّدِ إلَّا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَعَنْ خُصَيْفٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّشَهُّدِ فَبِمَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ قَالَ بِتَشَهُّدِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ، فَإِنَّ الْوَاوَاتِ تَجْعَلُ كُلَّ لَفْظِ ثَنَاءً بِنَفْسِهِ. (وَالسَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ مِنْهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ) وَتَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ الْأَحْدَاثِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ بِهِ وَتَرْجِيحُ مَالِكٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ أَيْضًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ كَمَا هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَدَلَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ أَوْلَى. (وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ شَيْئًا أَوْ يَبْتَدِئَ قَبْلَهُ بِشَيْءٍ) وَمُرَادُهُ مَا نُقِلَ شَاذًّا فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ، وَفِي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ لِيَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ نَقْلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِالْوَاوِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَالْأَلِفِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعَاتِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِالنَّصِّ فَجَوَّزْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَزِيدُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَزِيدُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَشَهُّدٌ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ». وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى»، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْعُدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ يَعْنِي الْحِجَارَةَ الْمُحْمَاةَ يَحْكِي الرَّاوِي بِهَذَا سُرْعَةَ قِيَامِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فِي التَّطَوُّعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ مُرَادُهُ سَلَامُ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا فِي الرَّابِعَةِ فَيَدْعُو بَعْدَهُ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَدْعُو حَاجَتَهُ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى -. وَيُعْقِبُهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي التَّحْمِيدِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ يُجْزِئُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْكَانِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا. وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ وَجْهَانِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِي صَلَاتِهِ»، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ. وَلَنَا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ فَقَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى الْ مُحَمَّدٍ»، فَهُوَ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ حَتَّى سَأَلُوهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ وَحِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ نَقُولُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارٍ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ»، وَبِهِ نَقُولُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَبِهِ نَقُولُ وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ كُلَّمَا سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مِنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَكَرَهُ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. (ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] قِيلَ مَعْنَاهُ إذَا فَرَغْتُ مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ وَارْغَبْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْإِجَابَةِ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ صَلَاتِهِ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»، وَلَمَّا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: «وَإِذَا قُلْتَ هَذَا فَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ»، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو بِكَلِمَاتِ مِنْهُنَّ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ". قَالَ: (ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتَحْلِيلُهَا السَّلَامُ»، وَقَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحْلِيلِ. وَمَنْ تَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْ النَّاسِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ وَعِنْدَ التَّحْلِيلِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَيُسَلِّمُ. والتَّسْلِيمَتَانِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ أَوْلَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»، فَأَمَّا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَكَانَتْ تَقِفُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّبْيَانِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ الثَّانِيَةُ أَخْفَضُ مِنْ الْأُولَى». (ثُمَّ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى يُحَوِّلُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى يَسَارِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ الْأَيْسَرِ»، يَحْكِي الرَّاوِي بِهَذَا شِدَّةَ الْتِفَاتِهِ. قَالَ: (وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَنْ يَسَارِهِ مِنْهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُهُمْ بِوَجْهِهِ وَيُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِ فَيَنْوِيهِمْ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَصِيرُ عَزِيمَةً بِالنِّيَّةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَرَاءَ لِسَانِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ فَلْيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَا يَقُولُ»، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَفَظَةَ هُنَا وَأَخَّرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا ذَكَرَ هُنَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْآخِرِ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتَّبَ بِالنِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ تَعْمِيمُ الْفَرِيقَيْنِ بِالنِّيَّةِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأَمَّا الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ يَقُولُ يَنْوِي جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُشَارِكُهُ، وَمَنْ لَا يُشَارِكُهُ وَهَذَا عِنْدَنَا فِي سَلَامِ التَّشَهُّدِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْعَبْدُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، فَأَمَّا فِي سَلَامِ التَّحْلِيلِ فَيُخَاطِبُ مَنْ بِحَضْرَتِهِ فَيَخُصُّهُ بِالنِّيَّةِ وَالْمُقْتَدِي يَنْوِي كَذَلِكَ فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ الْمُقْتَدِي يُسَلِّمُ ثَلَاثَ تَسْلِيمَاتٍ إحْدَاهُنَّ لِرَدِّ سَلَامِ الْإِمَامِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الرَّدِّ حَاصِلٌ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ نَوَاهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ نَوَاهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ نَوَاهُ فِي الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي حَقِّهِ تَرَجَّحَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. [مَكْرُوهَات الصَّلَاة] قَالَ: (وَيُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ تَغْطِيَةُ الْفَمِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الْمُصَلِّي فَاهُ»، وَلِأَنَّهُ إنْ غَطَّاهُ بِيَدِهِ فَقَدْ قَالَ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ نَهَى عَنْ التَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ فِي عِبَادَتِهِمْ النَّارَ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ مُعْتَجِرٌ): «لِنَهْيِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الِاعْتِجَارِ فِي الصَّلَاةِ»، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَشُدَّ الْعِمَامَةَ حَوْلَ رَأْسِهِ وَيُبْدِيَ هَامَتَهُ مَكْشُوفًا كَمَا يَفْعَلُهُ الشُّطَّار وَقِيلَ أَنْ يَشُدَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَبَعْضَهَا عَلَى بَدَنِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مَعَ تَنَقُّبٍ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَطَرَفًا مِنْهُ يَجْعَلُهُ شِبْهَ الْمِعْجَرِ لِلنِّسَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّهُ حَوْلَ وَجْهِهِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهُوَ عَاقِصٌ) لِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ»، وَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ عَاقِصٌ شَعْرَهُ فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى جَنْبِهِ فَحَلَّهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ فَقَالَ أَقْبِلْ عَلَى صَلَاتِكَ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَانَا عَنْ هَذَا. وَالْعَقْصُ فِي اللُّغَةِ الْإِحْكَامُ فِي الشَّدِّ حَتَّى قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى هَامَتِهِ وَيَشُدُّهُ بِخَيْطٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ وَقِيلَ أَنْ يَلُفَّ ذَوَائِبَهُ حَوْلَ رَأْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِنَّ. قَالَ: (وَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَدَيْهِ إذَا انْحَطَّ لِلسُّجُودِ) وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ابْنُ سِيرِينَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ»،. وَلَنَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ». وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يَبْرُكَ الْمُصَلِّي بُرُوكَ الْإِبِلِ وَقَالَ لَيَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ»، يَعْنِي أَنَّ الْإِبِلَ فِي بُرُوكِهَا تَبْدَأُ بِالْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ الْمُصَلِّي بِالرِّجْلِ وَلِأَنَّهُ يَضَعُ أَوَّلًا مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَجْهَهُ، وَفِي الرَّفْعِ يَرْفَعُ أَوَّلًا مَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْأَرْضِ فَيَرْفَعُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ. قَالَ: (وَيُخْفِي الْإِمَامُ التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَآمِينَ وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) أَمَّا التَّعَوُّذُ وَالتَّسْمِيَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَالتَّشَهُّدُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ الْجَهْرُ بِالتَّشَهُّدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّاسُ تَوَارَثُوا الْإِخْفَاءَ بِالتَّشَهُّدِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالتَّوَارُثُ كَالتَّوَاتُرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " فَقَدْ طَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُهَا أَصْلًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ جَوَابُهُ أَنَّهُ يُخْفِي بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ عَرَفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ لِحُرْمَةِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُخْفِي بِهَا إذَا كَانَ يَقُولُهَا كَمَا فَرَّعَ مَسَائِلَ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَهَا، فَأَمَّا " آمِينَ " فَالْإِمَامُ يَقُولُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَاتِحَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ»، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُهَا. وَلَنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْا زِيَادَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَقُولُوا آمِينَ»، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَمَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ»، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ فِي صَلَاتِهِ آمِينَ وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ»، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ قَالَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا أَوْ كَانَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ كَمَا يُؤَمِّنُ الْقَوْمُ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ الْحَسَنُ اللَّهُمَّ أَجِبْ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أُجِيبَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ كَانَ يُؤَمِّنُ. وَالْإِخْفَاءُ فِي الدُّعَاءِ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي»، وَفِي التَّأْمِينِ لُغَتَانِ أَمِينَ بِالْقَصْرِ وَآمِينَ بِالْمَدِّ وَالْمَدُّ يَدُلُّ عَلَى يَاءِ النِّدَاءِ مَعْنَاهُ يَا آمِينَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ أَزِيدُ يَعْنِي يَا زَيْدُ. وَمَا كَانَ مِنْ النَّفْخِ غَيْرَ مَسْمُوعٍ فَهُوَ تَنَفُّسٌ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْهُ، فَلَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا أَفْسَدَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يُفْسِدْهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّأْفِيفَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أُفّ أُفّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا تُعَذِّبُهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ»، وَلِأَنَّ هَذَا تَنَفُّسٌ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ فَالْكَلَامُ مَا يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ وَلَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إذَا أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ أَفَّفَ يُؤَفِّفُ تَأْفِيفًا كَانَ قَطْعًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ فَلَوْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنَّمَا تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقَاسَهُ بِالتَّنَحْنُحِ وَالْعُطَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَطْعًا، وَإِنْ سُمِعَ فِيهِ حُرُوفٌ مُهَجَّاةٌ، وَهُوَ أَصْوَبُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّ بِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ رَبَاحٌ، وَهُوَ يَنْفُخُ التُّرَابَ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ»، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " أُفٍّ " مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ مُهَجَّاةٌ وَلَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ يُذْكَرُ لِمَقْصُودٍ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فَجَعَلَهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْقَائِلُ يَقُولُ أُفًّا وَتَفًّا لِمَنْ مَوَدَّتُهُ ... إنْ غِبْتُ عَنْهُ سُوَيْعَةً زَالَتْ وَإِنْ مَالَتْ الرِّيحُ هَكَذَا وَكَذَا ... مَال مَعَ الرِّيحِ أَيْنَمَا مَالَتْ. وَالْكَلَامُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ التَّنَحْنُحِ، فَإِنَّهُ لِإِصْلَاحِ الْحَلْقِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ. وَالْعُطَاسُ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَكَانَ عَفْوًا بِخِلَافِ التَّأْفِيفِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ هِرٌّ وَنَحْوَهُ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا، ثُمَّ انْتَسَخَ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ»، وَسَأَلَ ثَوْبَانُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ: «فَقَالَ يَا ثَوْبَانُ أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ أَوْ قَالَ أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ». (وَصِفَةُ) التَّوَشُّحِ أَنْ يَفْعَلَ بِالثَّوْبِ مَا يَفْعَلُهُ الْقَصَّارُ فِي الْمِقْصَرَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 إذَا لَفَّ الْكِرْبَاسَ عَلَى نَفْسِهِ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا كَانَ ثَوْبُكَ وَاسِعًا فَاتَّشِحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ»، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ صَفِيقًا يَحْصُلُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ. (وَذَكَرَ) ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إنْ لَمْ يَزُرَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُلْتَحِفًا لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ لِحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ فِي حَاجَةٍ كُنْتَ مُنْطَلِقًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الصَّلَاةَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ، وَفِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ عَنْ الْجَفَاءِ، وَفِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ. (وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَ ثِيَابَهُ أَوْ يَكُفَّهَا أَوْ يَرْفَعَ شَعْرَهُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا»: وَقَالَ «إذَا طَوَّلَ أَحَدُكُمْ شَعْرَهُ فَلْيَدَعْهُ يَسْجُدْ مَعَهُ»، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ أَجْرٌ بِكُلِّ شَعْرَةٍ، ثُمَّ كَفُّهُ الثَّوْبَ وَالشَّعْرَ لِكَيْ لَا يَتَتَرَّبَ نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي مَا هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَبَابِرَةِ. وَيَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَاظَبَ عَلَى هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ تَمَامُ السُّجُودِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُكْرَهُ وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - وَهُوَ رِوَايَةُ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَمَّا الشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَمْ يُمِسَّ أَنْفَهُ الْأَرْضَ فِي سُجُودِهِ كَمَا يُمِسُّ جَبْهَتَهُ، فَلَا سُجُودَ لَهُ»، وَالْمُرَادُ بِهَذَا عِنْدَنَا نَفْيُ الْكَمَالِ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَرِيضَةٌ وَعَلَى الْأَنْفِ تَطَوُّعٌ» فَإِذَا تَرَكَ مَا هُوَ الْفَرْضُ لَا يُجْزِئُهُ، ثُمَّ الْأَنْفُ تَبَعٌ لِلْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ تَبَعٌ لِلرَّأْسِ فِي الْمَسْحِ، وَلَوْ اكْتَفَى بِمَسْحِ الْأُذُنِ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لَا يُجْزِئُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ فَكَانَ إذَا سَجَدَ سَقَطَ عَلَى جَبْهَتِهِ فَنَادَاهُ ابْنُ عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا أَمْسَسْتَ أَنْفَكَ الْأَرْضَ أَجْزَأَكَ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ السُّجُودُ عَلَى الْوَجْهِ كَمَا فُسِّرَ الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ. وَوَسَطُ الْوَجْهِ الْأَنْفُ فَبِالسُّجُودِ عَلَيْهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَهُوَ أَحَدُ أَطْرَافِ الْجَبْهَةِ، فَإِنَّ عَظْمَ الْجَبْهَةِ مُثَلَّثٌ وَالسُّجُودُ عَلَى أَحَدِ أَطْرَافِهِ كَالسُّجُودِ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ حَتَّى إذَا كَانَ بِجَبْهَتِهِ عُذْرٌ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَمَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا بِالْعُذْرِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخَدِّ وَالذَّقَنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَسْجِدٌ فَبِالسُّجُودِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] وَالْمُرَادُ مَا يَقْرَبُ مِنْ الذَّقَنِ، وَالْأَنْفِ أَقْرَبُ إلَى الذَّقَنِ مِنْ الْجَبْهَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ] قَالَ: (وَإِذَا انْتَهَى الرَّجُلُ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَاعِدٌ - يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِيَدْخُلَ بِهَا فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ كَبَّرَ أُخْرَى وَيَقْعُدُ بِهَا)؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَاعِدٌ وَالِانْتِقَالُ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ يَكُونُ بِالتَّكْبِيرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعُونَ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»، وَكَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ حَتَّى أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ يَوْمًا، وَقَدْ سَبَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ الصَّلَاةِ فَتَابَعَهُ فِيمَا بَقِيَ، ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ يَا مُعَاذُ؟ فَقَالَ: وَجَدْتُكَ عَلَى حَالٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أُخَالِفَكَ عَلَيْهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بِهَا»، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ وَلَا يَقُومُ لِلْقَضَاءِ حَتَّى يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَتَكَلَّمُوا أَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّشَهُّدِ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ يَسْكُتُ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُؤَخَّرٌ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إنَّمَا لَا يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْأَرْكَانِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَيَجُوزُ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ وَيَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ أَجْزَأَهُ، وَأَلْفَاظُ التَّكْبِيرِ عِنْدَهُ أَرْبَعَةٌ: اللَّه أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ كَبِيرٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظَتَيْ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ»، وَبِهَذَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظَةِ التَّكْبِيرِ، وَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَغَلُ بِالتَّعْلِيلِ حَتَّى لَا يُقَامَ السُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْأَذَانُ لَا يُنَادَى بِغَيْرِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ فَالتَّحْرِيمُ لِلصَّلَاةِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»، وَلِأَنَّ الرُّكْنَ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]، وَإِذَا قَالَ اللَّهُ أَعْظَمُ أَوْ اللَّهُ أَجَلُّ فَقَدْ وُجِدَ مَا هُوَ الرُّكْنُ، فَأَمَّا لَفْظُ التَّكْبِيرِ وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ حَتَّى يُكْرَهَ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِهِ لِمَنْ يُحْسِنُهُ وَلَكِنَّ الرُّكْنَ مَا هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ، ثُمَّ مَنْ قَالَ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ فَقَدْ أَتَى بِالتَّكْبِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] الْآيَةَ. وَالتَّكْبِيرُ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أَيْ عَظَّمْنَهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أَيْ فَعَظِّمْ وَالتَّعْظِيمُ حَصَلَ بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَعْظَمُ. (فَأَمَّا) الْأَذَانُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ وَبِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ يَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَذَانٌ، فَإِنْ قَالَ اللَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْظِيمِ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْمِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّأَلُّهِ، وَهُوَ التَّحَيُّرُ، وَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ وَالسُّؤَالُ غَيْرُ الذِّكْرِ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»، فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ فَالْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ قَالُوا الْمِيمُ بَدَلٌ عَنْ يَاءِ النِّدَاءِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ يَا اللَّهُ فَيَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ قَالُوا الْمِيمُ بِمَعْنَى السُّؤَالِ أَيْ يَا اللَّهُ آمِنَّا بِخَيْرٍ، فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهِ. وَلَوْ كَبَّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِكُلِّ لِسَانٍ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنْ لَا يُحْسِنَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَقَالَ لِلْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْسِنَةِ فَإِذَا عَبَرَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ، وَإِذَا عَبَرَ إلَى الْفَارِسِيَّةِ لَا يَجُوزُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُكْرَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُهَا يَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ بِحَالٍ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَهُوَ أُمِّيٌّ يُصَلِّي بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَشَهَّدَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ خَطَبَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ الْفَارِسِيَّةَ غَيْرُ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] الْآيَةَ فَالْوَاجِبُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْفَارِسِيَّةُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْقُرْآنُ مُعْجِزٌ وَالْإِعْجَازُ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِهِمَا، وَإِذَا عَجِزَ عَنْ النَّظْمِ أَتَى بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ كَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْفُرْسَ كَتَبُوا إلَى سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ الْفَاتِحَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَانُوا يَقْرَءُونَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَانَتْ أَلْسِنَتُهُمْ لِلْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْمُعْجِزِ وَالْإِعْجَازُ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حُجَّةٌ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً وَعَجْزُ الْفُرْسِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِلِسَانِهِمْ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُحْدَثٍ وَاللُّغَاتُ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قُرْآنٌ بِلِسَانٍ مَخْصُوصٍ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] وَقَدْ كَانَ بِلِسَانِهِمْ. وَلَوْ آمَنَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ لَبَّى بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَبَّرَ وَقَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ. (وَرَوَى الْحَسَنُ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَذَانٌ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَجُوزُ إذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ إذَا كَانَ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ. فَأَمَّا إذَا صَلَّى بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ. إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْإِمَامِ، ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ فَصَلَّى الرَّجُلُ بِصَلَاتِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ»، وَالِائْتِمَامُ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ حِينَ كَبَّرَ قَبْلَهُ، فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي صَلَاتِهِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَاطِعًا لِمَا كَانَ فِيهِ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالتَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ تَعْمَلُ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ كَمَنْ كَانَ فِي النَّافِلَةِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْفَرِيضَةَ. وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الْبَابِ إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ جَدَّدَ بَيْعًا بِأَلْفَيْنِ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَانْعِقَادَ عَقْدٍ آخَرَ وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّهُ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَكْبِيرَةُ الثَّانِي قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ فَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ وَقِيلَ إنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَةَ إذَا فَسَدَتْ يَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْقَى وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الصَّلَاةِ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُقَارَنَةِ وَعِنْدَهُمَا الْأَفْضَلُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا»، يَشْهَدُ لِهَذَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ. وَفِي التَّسْلِيمِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسَلِّمُ بَعْدَ الْإِمَامِ لِيَكُونَ تَحَلُّلُهُ بَعْدَ تَحَلُّلِ الْإِمَامِ. وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَفِي الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ يَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ لِيَشْتَغِلَ بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَطَوَّعَ بَعْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَلَا يَجْلِسَ كَمَا هُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَإِنْ كَانَ خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَتْ بِهِ الْقِبْلَةُ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ: «جُلُوسُ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِدْعَةٌ» «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الْفَجْرَ اسْتَقْبَلَ أَصْحَابَهُ بِوَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا فِيهِ بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ»، وَلِأَنَّهُ يَفْتَتِنُ الدَّاخِلُ بِجُلُوسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ بِوَجْهِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ مَسْبُوقٌ يُصَلِّي، فَإِنْ كَانَ فَلْيَنْحَرِفْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمُصَلِّي بِوَجْهِهِ مَكْرُوهٌ، لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ رَجُلٍ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ؟ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّيَ بِوَجْهِكَ؟ فَأَمَّا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى التَّنَفُّلِ بَعْدَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَالسُّنَنُ لِجَبْرِ نُقْصَانِ مَا يُمْكِنُ فِي الْفَرَائِضِ فَيَشْتَغِلُ بِهَا وَكَرَاهِيَةُ الْقُعُودِ فِي مَكَانِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَلَا يَشْتَغِلُ بِالتَّطَوُّعِ فِي مَكَانِ الْفَرِيضَةِ لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بِسُبْحَتِهِ أَيْ بِنَافِلَتِهِ»، وَلِأَنَّهُ يُفْتَنُ بِهِ الدَّاخِلُ أَيْ يَظُنُّهُ فِي الْفَرِيضَةِ فَيَقْتَدِي بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلَى مَكَان آخَرَ لِلتَّطَوُّعِ اسْتِكْثَارًا مِنْ شُهُودِهِ، فَإِنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي وَيَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ لِيَكُونَ حَالُهُمَا فِي التَّطَوُّعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خِلَافَ حَالِهِمَا فِي الْفَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي أُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّفِّ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، فَإِذَا قَالَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ أَخَّرُوا التَّكْبِيرَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ جَازَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ وَقَالَ زُفَرُ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ مَرَّةً قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَامُوا فِي الصَّفِّ، وَإِذَا قَالَ ثَانِيًا كَبَّرُوا وَقَالَ: لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُبَايِنُ الْأَذَانَ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَأَبُو يُوسُفَ، احْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْإِقَامَةِ كَانَ يَقُومُ فِي الْمِحْرَابِ وَيَبْعَثُ رِجَالًا يَمْنَةً وَيَسَرَةً لِيُسَوُّوا الصُّفُوفَ فَإِذَا نَادَوْا اسْتَوَتْ كَبَّرَ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَبْلَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْإِقَامَةِ فَاتَ الْمُؤَذِّنَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَمَانَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ بِلَالٍ حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَهْمَا سَبَقْتَنِي بِالتَّكْبِيرِ، فَلَا تَسْبِقُنِي بِالتَّأْمِينِ». فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ بِقَوْلِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ يُخْبِرُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ، وَهُوَ أَمِينٌ فَإِذَا لَمْ يُكَبِّرْ كَانَ كَاذِبًا فِي هَذَا الْإِخْبَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقُوا خَبَرَهُ بِفِعْلِهِمْ لِتَحَقُّقِ أَمَانَتِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ غَيْرَ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ لَمْ يَقُومُوا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَإِمَامُهُمْ الْآنَ قَائِمٌ لِلْإِقَامَةِ لَا لِلصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْمَسْجِدَ لَا يَقُومُونَ فَإِذَا اخْتَلَطَ بِالصُّفُوفِ قَامَ كُلُّ صَفٍّ جَاوَزَهُمْ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمِحْرَابِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى يَدْخُلَ الْإِمَامُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ»، وَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى النَّاسَ قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ مَالِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ أَيْ وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ. وَمَنْ تَثَاءَبَ فِي الصَّلَاةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُغَطِّ فَاهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيهِ»، أَوْ قَالَ فَمَه وَلِأَنَّ تَرْكَ تَغْطِيَةِ الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ فِي الْمُحَادَثَةِ مَعَ النَّاسِ تُعَدُّ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فَفِي مُنَاجَاةِ الرَّبِّ أَوْلَى. قَالَ: (وَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ عَلَى الْأَرْضِ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ»، فَلَوْ لَمْ يَكْرَهْ كَوْنَ الْإِمَامِ عَلَى الدُّكَّانِ لَصَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ لِيَكُونَ أَشْهَرَ، وَإِنَّ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ قَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي لِأَصْحَابِهِ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ حَتَّى أَنْزَلَهُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ذَلِكَ؟ قَالَ فَلِهَذَا اتَّبَعْتُكَ حِينَ جَذَبْتَنِي، (وَرُوِيَ) «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَامَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَجَذَبَهُ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ هَذَا؟» قَالَ لَقَدْ تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ حِينَ جَذَبْتَنِي، وَفِي قِيَامِهِ عَلَى الدُّكَّانِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَإِظْهَارُ التَّكَبُّرِ عَلَى الْقَوْمِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْقَوْمُ عَلَى الدُّكَّانِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا مِنْ الْقَوْمِ لِأَئِمَّتِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ هَذَا لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضُ الْقَوْمِ لَمْ يُكْرَهْ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْأَصْلِ حَدَّ ارْتِفَاعِ الدُّكَّانِ (وَذَكَرَ) الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْقَامَةَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الِارْتِفَاعِ عَفْوٌ فَفِي الْأَرْضِ هُبُوطٌ وَصُعُودٌ، وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ أَنْ يُجَاوِزَ الْقَامَةَ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُونَ إلَى التَّكَلُّفِ لِلنَّظَرِ إلَى الْإِمَامِ وَرُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَالُهُ. قَالَ (وَيَجُوزُ إمَامَةُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْعَبْدِ وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ. وَغَيْرُهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَكَانَ الْإِمَامَةِ مِيرَاثٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ فَيُخْتَارُ لَهُ مَنْ يَكُونُ أَشْبَهَ بِهِ خُلُقًا وَخَلْقًا، ثُمَّ هُوَ مَكَانٌ اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ الْخِلَافَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا «أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّهُ اخْتَارَ أَبَا بَكْرٍ لِأَمْرِ دِينِكُمْ فَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّمَا يُخْتَارُ لِهَذَا الْمَكَانِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي النَّاسِ. (وَتَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ اثْنَيْنِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ مَعَ الثَّلَاثَةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ اثْنَيْنِ وَكُلَّمَا كَثُرَتْ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ»، وَفِي تَقْدِيمِ الْمُعَظَّمِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ أَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ تَقْدِيمُ الْفَاسِقِ لِلْإِمَامَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْف الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا يُؤْتَمَنُ فِي أَهَمِّ الْأُمُورِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ شَهَادَتَهُ لِكَوْنِهَا أَمَانَةً؟،. (وَلَنَا) حَدِيثُ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجِهَادُ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ وَالصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ»، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا لَا يَمْنَعُونَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْحَجَّاجِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ جَاءَ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثَاتِهَا وَنَحْنُ جِئْنَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَقَلَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الْأَمَالِي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى أَوْ بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَإِنَّمَا جَازَ إمَامَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّةً وَعِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ مَرَّةً وَكَانَا أَعْمَيَيْنِ»، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ أَلَا تَؤُمُّهُمْ؟ قَالَ: كَيْف أَؤُمُّهُمْ وَهُمْ يُسَوُّونَنِي إلَى الْقِبْلَةِ؟ وَلِأَنَّ الْأَعْمَى قَدْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصُونَ ثِيَابَهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ فَالْبَصِيرُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ. وَأَمَّا جَوَازُ إمَامَةِ الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَثْنَى عَلَى بَعْضِ الْأَعْرَابِ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 99] الْآيَةَ وَغَيْرُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ عَلَيْهِمْ غَالِبٌ وَالتَّقْوَى فِيهِمْ نَادِرَةٌ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْضَ الْأَعْرَابِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97]، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَجَوَازُ إمَامَتِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيدٍ قَالَ عَرَّسْتُ وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَغَيْرُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَلَّمَا يَرْغَبُونَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْعَبِيدِ وَالْجَهْلُ عَلَيْهِمْ غَالِبٌ لِاشْتِغَالِهِمْ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى عَنْ تَعَلُّمِ الْأَحْكَامِ، وَالتَّقْوَى فِيهِمْ نَادِرَةٌ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُفَقِّهُهُ فَالْجَهْلُ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ»، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَتْ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ثُمَّ الْمُرَادُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا أَوْ قَالَهُ فِي وَلَدِ زِنًا بِعَيْنِهِ نَشَأَ مُرْتَدًّا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ صَحِيحٌ. قَالَ: (وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا) لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا»، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا»، فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَقَالُوا مَنْ يَكُونُ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ»، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ الْقُرْآنِ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي رُكْنٍ وَاحِدٍ وَالْعِلْمَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ وَالْخَطَأُ الْمُفْسِدُ لِلصَّلَاةِ فِي الْقِرَاءَةِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْأَقْرَأَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ بِأَحْكَامِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَفِظَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَالْأَقْرَأُ مِنْهُمْ يَكُونُ أَعْلَمُ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْعِلْمِ فَالْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُطْعَنُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يُقَدَّمُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ. (فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ فَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ»، (وَقَالَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ»، وَفِي الْحَدِيثِ: «يُقَدَّمُ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً»؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فَرِيضَةً يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» وَلِأَنَّ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً يَكُونُ أَعْلَمَهُمْ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُهَاجِرُونَ لِتَعَلُّمِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكِبَرُ الْكِبَرُ»، وَلِأَنَّ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا يَكُونُ أَعْظَمَهُمْ حُرْمَةً عَادَةً وَرَغْبَةُ النَّاسِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَكْثَرُ، وَاَلَّذِي قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا»، قِيلَ مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ كَمَا يُقَالُ وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ». قَالَ وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ»، وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ بَيْنَ عَشِيرَتِهِ وَأَقَارِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ لَهُ حَيْثُ يَكُونُ وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلَانِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَيُصَلِّي بِهِمَا؛ لِأَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمُ الْجَمَاعَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ». وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْمُثَنَّى وَاَلَّذِي رُوِيَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَقَامَ فِي وَسَطِهِمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ ذَلِكَ لِضِيقِ الْبَيْتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا كَانَ مَذْهَبَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِمَامُ وَصَلَّى بِهِمَا فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَالتَّقَدُّمُ لِلْإِمَامَةِ مِنْ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ النِّصَابُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ. (وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ كَثِيرًا فَقَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ أَوْ فِي مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أَوْ فِي مَيْسَرَةِ الصَّفِّ فَقَدْ أَسَاءَ الْإِمَامُ وَصَلَاتُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تَامَّةٌ). أَمَّا جَوَازُ الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ تَقَدُّمَ الْقَوْمِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ بِأَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَوَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ»، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ سُنَّتِهِ مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي وَسَطِ الصَّفِّ يُشْبِهُ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ. (وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي عَلَى الْإِمَامِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْمُتَابَعَةُ فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا أَتَى بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ قِيَامُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ). (وَلَنَا) الْحَدِيثُ لَيْسَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ يَقْدُمُهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالَةُ افْتِتَاحِهِ وَاحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيَقْتَدِيَ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ،. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ وَقَفَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ فَانْتَبَهَ فَقَالَ: «نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عُمْرَانِ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَامَ إلَى شَنِّ مَاءٍ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مَا مَنَعَكَ يَا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْقَفْتُكَ قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ فِي الْمَوْقِفِ فَقَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، فَإِعَادَة رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ. (وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَأَخَّرُ الْمُقْتَدِي عَنْ الْإِمَامِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ). وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ فَكَانَ سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا بِمَوْضِعِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي الصَّفِّ وَوَقَعَ فِي سُجُودِهِ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ. وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ امْرَأَةٌ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى طَعَامٍ فَقَالَ قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا وَصَلَاةُ الصَّبِيِّ تَخْلَقُ فَبَقِيَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاقِفًا خَلْفَهُ وَحْدَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّبِيِّ وَحْدَهَا»، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا الْإِمَامُ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عَلَى يَسَارِ الْإِمَامِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَقَفَ فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ يَسَارِهِ وَاقْتَدَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بِهِ، ثُمَّ جَوَازُ اقْتِدَائِهِ بِهِ، وَفِي الْإِدَارَةِ حَصَلَ خَلْفُهُ فَدَلَّ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ قَالَ: (وَهُوَ مُسِيءٌ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هَذِهِ الْإِسَاءَةُ إذَا وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ لَا خَلْفَهُ)؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ عَلَى يَمِينِهِ، فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عَنْ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ عَلَى يَسَارِهِ. (وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْإِسَاءَةَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخِرِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ) وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [بَابُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ] قَالَ (يَبْدَأُ فِي غَسْلِ الْجَنَابَةِ بِيَدَيْهِ فَيَغْسِلُهُمَا ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ)، هَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَأَنَسٌ وَمَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اغْتِسَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْمَلُهَا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ «وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَغْتَسِلَ بِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ وَأَكْفَأَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَنْقَى فَرْجَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ مَالَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهُمَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ». وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ وَفَرْضِيَّةُ الْمَسْحِ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ وُجُوبِ الْغَسْلِ وَيَبْدَأُ بِغَسْلِ مَا عَلَى جَسَدِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ازْدَادَتْ النَّجَاسَةُ بِإِسَالَةِ الْمَاءِ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ إفَاضَةِ الْمَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَنَا، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ مَا إذَا أَجْنَبَ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ طَاهِرٌ فَقَالَ: إذَا كَانَ مُحْدِثًا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْجَنَابَةِ قَدْ كَانَ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ وَالْغَسْلُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْجَنَابَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَالِاطِّهَارُ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلطَّهَارَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَائِضَ إذَا أَجْنَبَتْ يَكْفِيهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ؟ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ بَعْدَ إفَاضَةِ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلسَّائِلِ قَدْ تَعَمَّقْتَ أَمَا يَكْفِيكَ غَسْلُ جَمِيعِ بَدَنِكَ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ». (وَالدَّلْكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فِي الِاغْتِسَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ) يَقِيسُهُ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ الْأَطْهَارُ وَالدَّلْكُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ وَالدَّلْكُ لِمَقْصُودِ إزَالَةِ عَيْنٍ مِنْ الْبَدَنِ وَلَيْسَ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ عَيْنٌ يُزِيلُهَا بِالِاغْتِسَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّلْكِ. وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ عَنْ الْوُضُوءِ لِأَنَّ رِجْلَيْهِ فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ إمْرَارَ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ». وَبِإِفَاضَةِ الْمَاءِ ثَلَاثًا يَتَضَاعَفُ الثَّوَابُ وَبِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ تَتِمُّ السُّنَّةُ وَهُوَ نَظِيرٌ لِمَرَاتِبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَدْنَى مَا يَكْفِي فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنْ الْمَاءِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ لَهُ إنْ لَمْ يَكْفِنَا فَغَضِبَ وَقَالَ لَقَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَكْثَرُ شَعْرًا» وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ بِدُونِ الْمُدِّ أَجْزَأَهُ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ»، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ الْمُدُّ فِي الْوُضُوءِ يَزِيدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْرِفُ فِي صَبِّ الْمَاءِ لِحَدِيثِ «سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ وَيَصُبُّ الْمَاءَ صَبًّا فَاحِشًا فَقَالَ إيَّاكَ وَالسَّرَفُ قَالَ: أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَوْ كُنْتَ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ». ثُمَّ التَّقْدِيرُ بِالصَّاعِ لِمَاءِ الْإِفَاضَةِ فَإِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْوُضُوءِ زَادَ مُدًّا لَهُ وَالتَّقْدِيرُ بِالْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ إذَا كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِنْجَاءِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ اسْتَنْجَى بِرِطْلٍ وَتَوَضَّأَ بِمُدٍّ، وَإِنْ كَانَ لَابِسًا لِلْخُفِّ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِنْجَاءِ يَكْفِيهِ رِطْلٌ. كُلُّ هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَيْضِ فَالْوَاجِبُ فِيهِمَا الِاطِّهَارُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَإِنْ لَمْ تَنْقُضْ رَأْسَهَا إلَّا أَنَّ الْمَاءَ بَلَغَ أُصُولَ شَعْرِهَا أَجْزَأَهَا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «فَإِنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ - إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْتُ فَقَالَ لَا. يَكْفِيكِ أَنْ تُفِيضِي الْمَاءَ عَلَى رَأْسِكِ وَسَائِرِ جَسَدِكِ ثَلَاثًا» وَبَلَغَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِنَقْضِ رَأْسِهَا فِي الِاغْتِسَالِ فَقَالَتْ لَقَدْ كَلَّفَهُنَّ شَطَطًا أَلَا أَمَرَهُنَّ بِجَزِّ نَوَاصِيهِنَّ؟، وَقَالَ: إنَّمَا شَرْطُ تَبْلِيغِ الْمَاءِ أُصُولَ الشَّعْرِ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إلَى جَنْبِ امْرَأَتِهِ إذَا اغْتَسَلَتْ وَيَقُولُ يَا هَذِهِ أَبْلَغِي الْمَاءَ أُصُولَ شَعْرِكِ وَمُتُونَ رَأْسِكِ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي وُجُوبِ بَلِّ الذَّوَائِبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَبُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ذَوَائِبَهَا ثَلَاثًا مَعَ كُلِّ بِلَّةٍ عَصْرَةٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» يَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. (جُنُبٌ) اغْتَسَلَ فَانْتَضَحَ مِنْ غُسْلِهِ فِي إنَائِهِ لَمْ يُفْسِدْ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمَنْ يَمْلِكُ سَيْلَ الْمَاءِ. وَلَمَّا سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذَا فَقَالَ إنَّا لَنَرْجُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا، أَشَارَ إلَى أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ يَكُونُ عَفْوًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ يَسِيلُ فِي إنَائِهِ لَمْ يَجُزْ الِاغْتِسَالُ بِذَلِكَ الْمَاءِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْكَثِيرَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ عَفْوًا، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ إنْ كَانَ يَسْتَبِينُ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ فِي الْإِنَاءِ يَكُونُ كَثِيرًا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِمَاءٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي وُضُوءٍ، أَوْ غَسْلِ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَنِ)، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ طَاهِرٌ حَتَّى لَوْ عَرِقَ فِي ثَوْبِهِ، أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَبْلُولًا لَمْ يُفْسِدْ الثَّوْبَ،، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ طَاهِرٍ لَا يُغَيِّرُ صِفَتَهُ كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ إنَاءٌ طَاهِرٌ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي مُسَافِرٍ مَعَهُ مَاءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِشُرْبِهِ إنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَيُمْسِكُ الْمَاءَ لِعَطَشِهِ فَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَأَمَرَا بِالتَّوَضُّؤِ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ بِالْإِمْسَاكِ لِلشُّرْبِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِصَبِّ الْغُسَالَةِ فِي السَّفَرِ، وَالْحَضَرِ مَعَ عِزَّةِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ نَجِسٌ إلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ زُفَرَ، وَعَافِيَةُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَدَثَ الْحُكْمِيَّ أَغْلَظُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ، ثُمَّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ بِالْمَاءِ تُنَجِّسُهُ فَإِزَالَةُ الْحَدَثِ الْحُكْمِيِّ بِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالدِّرْهَمِ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ فَإِنَّ لِلْبَلْوَى تَأْثِيرًا فِي تَخْفِيفِ النَّجَاسَةِ،، وَمَعْنَى الْبَلْوَى فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ صَوْنَ الثِّيَابِ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي نَجَاسَتِهِ فَلِذَلِكَ خَفَّ حُكْمُهُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ «الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يَتَبَادَرُونَ إلَى وَضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَمْسَحُونَ بِهِ أَعْضَاءَهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ أَخَذَ بَلَلًا مِنْ كَفِّ صَاحِبِهِ»، وَالتَّبَرُّكُ بِالنَّجَسِ لَا يَكُونُ، وَالْمَعْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ، وَلَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ تَحَوَّلَ ذَلِكَ الْمَنْعُ إلَى الْمَاءِ فَصَارَتْ صِفَةُ الْمَاءِ كَصِفَةِ الْعُضْوِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَ النَّجَاسَةَ بِالْمَاءِ فَالنَّجَاسَةُ هُنَاكَ تَتَحَوَّلُ إلَى الْمَاءِ (وَرَوَى) الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ بِالْمَاءِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا يَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا، وَلَكِنْ بِاسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمُهُمَا اللَّه تَعَالَى - فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ إزَالَةُ حَدَثٍ، أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا كَمَا لَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا (وَلَنَا) أَنَّ إقَامَةَ الْقُرْبَةِ حَصَلَ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَنَزَّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ إزَالَةِ الْحَدَثِ بِهِ بِخِلَافِ غَسْلِ الثَّوْبِ، وَالْإِنَاءِ الطَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ (وَذَكَرَ) الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا فَيَزُولُ الْحَدَثُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّبَرُّدَ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. قَالَ (، وَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ، وَنَاوَلَ الْبَاقِي أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَرِبَهُ»، وَلِأَنَّ عَيْنَ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْكَلُ لِكَرَامَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَسُؤْرُهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ طَاهِرٌ فَكَذَلِكَ سُؤْرُهُ. وَكَذَلِكَ سُؤْرُ الْحَائِضِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - شَرِبَتْ مِنْ إنَاءٍ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا، وَشَرِبَ» «، وَلَمَّا قَالَ لَهَا نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ فَقَالَتْ إنِّي حَائِضٌ فَقَالَ حَيْضَتُكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ». إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْيَدِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَمِ. وَكَذَلِكَ سُؤْرُ الْجُنُبِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَادَ أَنْ يُصَافِحَهُ فَحَبَسَ يَدَهُ، وَقَالَ إنِّي جُنُبٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ». وَكَذَلِكَ سُؤْرُ الْمُشْرِكِ عِنْدَنَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْهُ خُبْثُ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانُوا مُشْرِكِينَ»، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا أَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَذَلِكَ سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الدَّوَابِّ، وَالطُّيُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ، أَوْ شَاةٍ، وَقَالَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ» مَا خَلَا الدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ فَإِنَّ سُؤْرَهَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهَا تُفَتِّشُ الْجِيَفَ، وَالْأَقْذَارَ فَمِنْقَارُهَا لَا يَخْلُو عَنْ النَّجَاسَةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ بِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَةِ مِنْقَارِهَا. وَفِي شَكٍّ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ فَإِنْ كَانَتْ الدَّجَاجَةُ مَحْبُوسَةً فَسُؤْرَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مِنْقَارَهَا عَظْمٌ جَافٌّ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلِأَنَّ عَيْنَهَا طَاهِرٌ مَأْكُولٌ فَكَذَلِكَ مَا يَتَحَلَّبُ مِنْهُ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِحُرْمَةِ الدَّجَاجَةِ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجَةِ». وَصِفَةُ الْمَحْبُوسَةِ أَنْ لَا يَصِلَ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَصِلُ رُبَّمَا تُفَتِّشُ مَا يَكُونُ مِنْهَا فَهِيَ، وَالْمُخَلَّاةُ سَوَاءٌ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي سُؤْرِ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ فِي اللُّعَابِ، وَالْعَرَقِ إذَا أَصَابَ لُعَابُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، أَوْ عَرَقُهُ ثَوْبَ إنْسَانٍ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَحَلِّبٌ مِنْ عَيْنِهِ فَكَانَ طَاهِرًا كَلَبَنِهِ. قَالَ (وَلَا يَصِحُّ التَّطَهُّرَ بِسُؤْرِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الدَّوَابِّ، وَالسِّبَاعِ، وَلُعَابُهُ يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَهُنَا مَسَائِلُ): أَحَدَاهَا سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ نَجِسٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَالرِّجْسُ، وَالنَّجِسُ سَوَاءٌ. (وَالثَّانِيَةُ) سُؤْرُ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَنَاوُلِ لَحْمِهِ، وَكَانَ يَقُولُ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ كَانَ تَعَبُّدًا لَا لِلنَّجَاسَةِ كَمَا أَمَرَ الْمُحْدِثَ بِغَسْلِ أَعْضَائِهِ تَعَبُّدًا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ عُقُوبَةً عَلَيْهِمْ، وَالْكِلَابُ فِيهِمْ كَانَتْ تُؤْذِي الْغُرَبَاءَ فَنُهُوا عَنْ اقْتِنَائِهَا، وَأُمِرُوا بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا عُقُوبَةً عَلَيْهِمْ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا، وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا». وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «سَبْعًا، وَتُعَفِّرَ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» فَقَوْلُهُ طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَنَجُّسِ الْإِنَاءِ بِوُلُوغِهِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلتَّنْجِيسِ لَا لِلتَّعَبُّدِ فَإِنَّ الْجَمَادَاتِ لَا يَلْحَقُهَا حُكْمُ الْعِبَادَاتِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَالتَّعْفِيرِ بِالتُّرَابِ دَلِيلٌ عَلَى غِلَظِ النَّجَاسَةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ عَيْنَ الْكَلْبِ نَجِسٌ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ، وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ عَيْنُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِطَهَارَةِ جِلْدِهِ بِالدِّبَاغِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا سُؤْرُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ السِّبَاعِ كَالْأَسَدِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ عِنْدَنَا نَجِسٌ.، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - طَاهِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ فَقِيلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ فَقَالَ نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَمَا يَنُوبُهَا مِنْ السِّبَاعِ فَقَالَ لَهَا مَا وَلَغَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ، وَطَهُورٌ»، وَلِأَنَّ عَيْنَهَا طَاهِرَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَجَوَازِ بَيْعِهَا فَيَكُونُ سُؤْرُهَا طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْهِرَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَرَدَا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ أَتَرِدُ السِّبَاعُ مَاءَكُمْ هَذَا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا. فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخْبَرَ بِوُرُودِ السِّبَاعِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُهُ لَمَّا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عَيْنَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُسْتَخْبَثٌ غَيْرُ طَيِّبٍ فَسُؤْرُهَا كَذَلِكَ كَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُؤْرَهَا يَتَحَلَّبُ مِنْ عَيْنِهَا كَلَبَنِهَا، ثُمَّ لَبَنُهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَكَذَلِكَ سُؤْرُهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْهِرَّةِ أَيْضًا لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ «لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَالطَّوَّافَاتِ» أَشَارَ إلَى الْعِلَّةِ، وَهِيَ كَثْرَةُ الْبَلْوَى لِقُرْبِهَا مِنْ النَّاسِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي السِّبَاعِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْمَفَاوِزِ لَا تَقْرَبُ مِنْ النَّاسِ اخْتِيَارًا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ تَحْرِيمِ لَحْمِ السِّبَاعِ، أَوْ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْحِيَاضِ الْكِبَارِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ مِثْلَهَا لَا يَنْجُسُ بِوُرُودِ السِّبَاعِ. فَأَمَّا سُؤْرُ الْحِمَارِ فَطَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْحِمَارُ يُعْلَفُ الْقَتُّ، وَالتِّبْنُ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ، وَعِنْدَنَا مَشْكُوكٌ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِطَهَارَتِهِ، وَلَا بِنَجَاسَتِهِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ إنَّهُ رِجْسٌ فَيَتَعَارَضُ قَوْلُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ تَعَارَضَتْ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ»، وَرُوِيَ أَنَّ أَبْجَرَ بْنَ غَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ»، وَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ سُؤْرِهِ بِعَرَقِهِ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاعْتِبَارِهِ بِلَبَنِهِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ مَوْجُودٌ فِي الْحِمَارِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِطُ النَّاسَ لَكِنَّهُ دُونَ مَا فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَضَايِقَ فَلِوُجُودِ أَصْلِ الْبَلْوَى لَا نَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ، وَلِكَوْنِ الْبَلْوَى فِيهِ مُتَقَاعِدًا لَا نَقُولُ بِطَهَارَتِهِ فَيَبْقَى مَشْكُوكًا فِيهِ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَارَضَ، وَالْحُكْمُ فِيهَا الْوَقْفُ، وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يُنْكِرُ هَذَا، وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُحْتَاطُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ حَالَة الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا فَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ أَجْزَأَهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَبْدَأُ بِالْوُضُوءِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَيَمُّمُهُ مَادَامَ مَعَهُ مَاءٌ هُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَا فِي التَّرْتِيبِ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ، أَوْ أَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ لَا فِي كَوْنِهِ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَقِينٌ فَأَمَّا الْعُضْوُ، وَالثَّوْبُ فَطَاهِرٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ، وَالْحَدَثُ مَوْجُودٌ بِيَقِينٍ فَالشَّكُّ وَقَعَ فِي طَهَارَتِهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي لُعَابِ الْحِمَارِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَا لَمْ يَفْحُشْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجْزَأَهُ، وَإِنْ فَحُشَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ غُمِسَ فِيهِ الثَّوْبُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَجَمِيعُ مَا بَيَّنَّا فِي الْحِمَارِ كَذَلِكَ فِي الْبَغْلِ فَإِنَّ وَالِدَهُ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَالصَّحِيحُ فِي عَرَقِهِمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَشَارَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ مَا لَمْ يَفْحُشْ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ حِمَارًا مُعْرَوْرِيًا»، وَالْحَرُّ حَرُّ تِهَامَةَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرَقَ الْحِمَارُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْبَلْوَى فِي عَرَقِهِ ظَاهِرٌ لِمَنْ يَرْكَبُهُ. فَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ طَاهِرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَلَحْمِهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ السُّؤْرَ لِمَعْنَى الْبَلْوَى أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ اللَّحْمِ كَمَا فِي الْحِمَارِ، وَالْبَغْلِ، وَالْكَرَاهَةُ الَّتِي فِي اللَّحْمِ تَنْعَدِمُ فِي السُّؤْرِ لِيَظْهَرَ بِهِ خِفَّةُ الْحُكْمِ. فَأَمَّا سُؤْرُ حَشَرَاتِ الْبَيْتِ كَالْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِيَاسِ فَنَجِسٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا، وَلِسَانُهَا رَطْبٌ مِنْ لُعَابِهَا، وَلُعَابُهَا يَتَحَلَّبُ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَحْمُهَا حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ الْبَلْوَى الَّتِي، وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْهِرَّةِ مَوْجُودَةٌ هُنَا فَإِنَّهَا تَسْكُنُ الْبُيُوتَ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا. وَأَمَّا سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْعُقَابِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَقُلْنَا بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَمِنْقَارُهَا عَظْمٌ جَافٌّ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فَإِنَّهَا تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا، وَلِسَانُهَا رَطْبٌ بِلُعَابِهَا، وَلِأَنَّ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 تَتَحَقَّقُ الْبَلْوَى فَإِنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ فَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصًا فِي الصَّحَارِي بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ.، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ مَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مِنْقَارَهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً. وَأَمَّا سُؤْرُ السِّنَّوْرُ فَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَالَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِسُؤْرِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْغِي الْإِنَاءَ لِهِرَّةٍ حَتَّى تَشْرَبَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْبَاقِي». (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً»، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْهِرَّةُ سَبُعٌ»، وَهِيَ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ فَأَثْبَتْنَا حُكْمَ الْكَرَاهَةِ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا، وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: كَرَاهَةُ سُؤْرِهِ لِحُرْمَةِ لَحْمِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرَاهَةُ سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ فَلَا يَخْلُو فَمُهُ عَنْ النَّجَاسَةِ عَادَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالْأَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْأَثَرِ. قَالَ (وَإِنْ مَاتَ فِي الْإِنَاءِ ذُبَابٌ، أَوْ عَقْرَبٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ لَمْ يُفْسِدْهُ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُفْسِدُهُ إلَّا مَا خُلِقَ مِنْهُ كَدُودِ الْخَلِّ يَمُوتُ فِيهِ، وَسُوسِ الثِّمَارِ يَمُوتُ فِي الثِّمَارِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَجَاسَةِ كُلِّ مَيْتَةٍ، وَإِذَا تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ تَنَجَّسَ مَا مَاتَ فِيهِ إلَّا أَنَّ فِيمَا خُلِقَ مِنْهُ ضَرُورَةً، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَصَارَ عَفْوًا لِهَذَا. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، ثُمَّ اُمْقُلُوهُ، ثُمَّ اُنْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخِرِ شِفَاءً»، وَإِنَّهُ لَيُقَدِّمُ السُّمَّ عَلَى الشِّفَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذُّبَابَ إذَا مُقِلَ مِرَارًا فِي الطَّعَامِ الْحَارِّ يَمُوتُ فَلَوْ كَانَ مُفْسِدًا لَمَا أَمَرَ بِمَقْلِهِ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ إذَا مَاتَ فِي الْإِنَاءِ فَهُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ، وَشُرْبُهُ، وَالْوُضُوءُ بِهِ»، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ إذَا مَاتَ فَإِنَّمَا يَتَنَجَّسُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ حَتَّى لَوْ ذُكِّيَ فَسَالَ الدَّمُ مِنْهُ كَانَ طَاهِرًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فَمَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ لَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ فَلَا يَنْجُسُ مَا مَاتَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مَا خُلِقَ مِنْهُ. قَالَ (وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ دَمٌ، أَوْ خَمْرٌ، أَوْ عَذِرَةٌ، أَوْ بَوْلٌ أَفْسَدَهُ عِنْدَنَا)، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُفْسِدُهُ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ مِنْ لَوْنٍ، أَوْ رِيحٍ، أَوْ طَعْمٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرٍ، وَهِيَ بُضَاعَةُ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ، وَمَحَايِضُ النِّسَاءِ فَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ». (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِلْمَاءِ مَا كَانَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مَعْنًى، وَفَائِدَةٌ، وَفِيهِ طَرِيقَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَاءِ تَتَغَيَّرُ بِمَا يُلْقَى فِيهِ حَتَّى يُضَافَ إلَيْهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، وَمَاءِ الْبَاقِلَا، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ، وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ لِمُجَاوَرَةِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَفَرَّقُ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ حَرَامٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَانَ مَاؤُهُ جَارِيًا يُسْقَى مِنْهُ خَمْسُ بَسَاتِينَ، وَعِنْدَنَا الْمَاءُ الْجَارِي لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ. وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ يُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِي الْإِسْلَامِ نُهُوا عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَكَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّنَزُّهِ، وَالتَّقَذُّرِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّوَضُّؤِ، وَالشُّرْبِ مِنْ بِئْرٍ يُلْقَى فِيهِ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هَلْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِتَطْهِيرِ الْبِئْرِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَزَالَ إشْكَالَهُمْ بِمَا قَالَ. (وَإِنْ بَزَقَ فِي الْمَاءِ، أَوْ امْتَخَطَ لَمْ يُفْسِدْهُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَى طَاهِرًا)، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَهَارَةِ الْبُزَاقِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ فِي مَحْوِ بَعْضِ الْكِتَابَةِ بِهِ»، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَاطِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتَخَطَ فِي صَلَاتِهِ فَأَخَذَهُ بِثَوْبِهِ، وَدَلَّكَهُ»، ثُمَّ الْمُخَاطُ، وَالنُّخَامَةُ سَوَاءٌ، وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ النُّخَامَةِ قَالَ «مَا نُخَامَتُكَ، وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ». (وَإِنْ أَدْخَلَ جُنُبٌ، أَوْ حَائِضٌ، أَوْ مُحْدِثٌ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَذَرٌ لَمْ يُفْسِدْ الْمَاءَ اسْتِحْسَانًا)، وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يُفْسِدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ زَالَ عَنْ يَدِهِ بِإِدْخَالِهِ فِي الْإِنَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا كَالْمَاءِ الَّذِي غَسَلَ بِهِ يَدَهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمِهْرَاسَ كَانَ يُوضَعُ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهَا مَاءٌ فَكَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ بِأَيْدِيهِمْ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى، وَضَرُورَةً فَقَدْ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَغْتَرِفُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الْعَظِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فَيَجْعَلُ يَدَهُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ كَالْمِغْرَفَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْمُحْدِثِ فَكَذَلِكَ فِي الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا بَدَأْت أَنَا، وَرُبَّمَا بَدَأَ هُوَ، وَكُنْتُ أَقُولُ أَبْقِ لِي، وَهُوَ يَقُولُ بَقِّ لِي»، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي قَالَ إذَا أَدْخَلَ الْجُنُبُ يَدَهُ، أَوْ رِجْلَهُ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَإِنْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْإِنَاءِ أَفْسَدَهُ، وَهَذَا لِمَعْنَى الْحَاجَةِ فَفِي الْبِئْرِ الْحَاجَةُ إلَى إدْخَالِ الرِّجْلِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِلَ عَفْوًا، وَفِي الْإِنَاءِ الْحَاجَةُ إلَى إدْخَالِ الْيَدِ فَلَا تُجْعَلُ الرِّجْلُ عَفْوًا فِيهِ، وَإِنْ أَدْخَلَ فِي الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ، وَالرِّجْلِ أَفْسَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْأَصْلِ إذَا اغْتَسَلَ الطَّاهِرُ فِي الْبِئْرِ أَفْسَدَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لِلْمَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَالْمَاءُ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا اغْتَسَلَ فِي الْبِئْرِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، وَقَوْلُهُ أَفْسَدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْمَاءِ هُوَ النَّجِسُ، وَإِذَا انْغَمَسَ فِيهِ لِطَلَبِ دَلْوٍ، وَلَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ قَذَرٌ لَمْ يُفْسِدْ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إزَالَةُ الْحَدَثِ، وَلَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ لَمَّا لَمْ يَغْتَسِلْ فِيهِ، وَإِنْ انْغَمَسَ فِي جُبٍّ يَطْلُبُ دَلْوًا لَمْ يُفْسِدْ الْمَاءَ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ مِنْ الْغَسْلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَيُجْزِئُهُ مِنْ الْغُسْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْمَاءَ يَفْسُدُ، وَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْغُسْلِ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هَذَا الْخِلَافُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَاءُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ فَلَوْ زَالَ الْحَدَثُ هُنَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الِاغْتِسَالِ فَلِهَذَا قَالَ الرَّجُل بِحَالِهِ، وَالْمَاءُ بِحَالِهِ، وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَالِاغْتِسَالُ يَتَحَصَّلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَكَانَ الرَّجُلُ طَاهِرًا، وَالْمَاءُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِعَدَمِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصًّا، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ إزَالَةَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ مُفْسِدٌ لِلْمَاءِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْجُنُبِ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، وَفِي الْبِئْرِ مَعْنَى الضَّرُورَةِ مَوْجُودٌ فَإِنَّهُمْ إذَا جَاءُوا بِغَوَّاصٍ لِطَلَبِ دَلْوِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُكَلِّفُوهُ الِاغْتِسَالَ أَوَّلًا فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ كَمَا أَدْخَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فِي الْبِئْرِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَبَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ اغْتَسَلَ، أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ. قَالَ (وَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَفْسَدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يُفْسِدُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ). وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ جَاءُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْرُجُوا إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا، وَأَلْبَانِهَا» الْحَدِيثَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ، وَالْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بَيْعُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فِي الْقَوَارِيرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَلَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ»، وَلَمَّا اُبْتُلِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِضَغْطَةِ الْقَبْرِ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِهِ فَقَالَ إنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ»، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ بَوْلَ نَفْسِهِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبْوَالَ الْإِبِلِ عِنْدَ مُعَالَجَتِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ أَحَدِ الْغِذَاءَيْنِ إلَى نَتِنٍ، وَفَسَادٍ فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَعْرِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي شُرْبِ أَلْبَانِ الْإِبِلِ»، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَبْوَالَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَالْحَدِيثُ حِكَايَةُ حَالٍ فَإِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، أَوْ لَا يَكُونُ حُجَّةً سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، ثُمَّ نَقُولُ خَصَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ شِفَاءَهُمْ فِيهِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا، وَهُوَ كَمَا «خَصَّ الزُّبَيْرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِلُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِ»، وَهِيَ مَجَازٌ عَنْ الْقَمْلِ فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْقَمْلِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَسُولُهُ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءُ الْكَافِرِ فِي النَّجِسِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ طَاهِرٌ فَلَا يُفْسِدُ الْمَاءَ حَتَّى يَجُوزَ شُرْبَهُ، وَلَكِنْ إذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ كَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ إذَا غَلَبَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ نَجِسٌ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْمَاءِ، وَالْبِئْرِ، وَالْإِنَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي، وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي، وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي لَا غَيْرَ عَمَلًا بِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ لَمْ يُنَجِّسْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَإِنْ امْتَلَأَ الثَّوْبُ مِنْهُ، وَعَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُنَجَّسُ الثَّوْبُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي نَجَاسَتِهِ، وَفِيهِ بَلْوًى لِمَنْ يُعَالِجُهَا فَخَفَّتْ نَجَاسَتُهُ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي الثَّوْبِ الرُّبُعُ فَصَاعِدًا قِيلَ أَرَادَ بِهِ رُبُعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ مِنْ ذَيْلٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ رُبُعَ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْحَ بِرُبُعِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ بِجَمِيعِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَتِهِ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا يُقَدِّرُ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ عَلَى قَوْلِهِ كَالْأَرْوَاثِ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَدْرُ مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ شِبْرٍ فِي شِبْرٍ. (وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ حِينَ يَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَجْزَأَهُ)، وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ التَّسْمِيَةُ مِنْ الْأَرْكَانِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ إلَّا بِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ»، وَعِنْدَنَا التَّسْمِيَةُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ لَا مِنْ أَرْكَانِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَرْكَانَ الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ «، وَعَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَعْرَابِيَّ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» نَفْيُ الْكَمَالِ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ تَوَضَّأَ، وَسَمَّى كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسَمِّ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» أَيْ نَاقِصٌ غَيْرُ كَامِلٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّا أُمِرْنَا بِهَا إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ فَكَانَ التَّرْكُ مُفْسِدًا، وَهُنَا أُمِرْنَا بِالتَّسْمِيَةِ تَكْمِيلًا لِلثَّوَابِ لَا مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَوَضَّئُونَ فَلَمْ يَكُنْ التَّرْكُ مُفْسِدًا لِهَذَا. قَالَ (وَإِنْ بَدَأَ فِي وُضُوئِهِ بِذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ، أَوْ رِجْلَيْهِ قَبْلَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا)، وَلَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَنَا سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، وَالْفَاءُ لِلْوَصْلِ، وَالتَّرْتِيبِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَصْلُ غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّرْتِيبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا، وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ». فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلتَّرْتِيبِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ، وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ»، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَرْفَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي سُنَنِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَيَمَّمَ فَبَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ بِوَجْهِهِ»، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فِي وُضُوئِهِ فَتَذَكَّرَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَسَحَهُ بِبَلَلٍ فِي كَفِّهِ»، وَلِأَنَّ الرُّكْنَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِدُونِ التَّرْتِيبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّرْتِيبُ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ فَقَدْ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى السُّنَنِ كَمَا وَاظَبَ عَلَى الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْتَضِيَ جَمْعًا، وَلَا تَرْتِيبًا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو كَانَ إخْبَارًا عَنْ مَجِيئِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فِي الْمَجِيءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ لَا بِالتَّرْتِيبِ فِي الْغُسْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ثُبُوتَ الْحَدَثِ فِي الْأَعْضَاءِ لَا يَكُونُ مُرَتَّبًا فَكَذَلِكَ زَوَالُهُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ، وَبِهِ نَقُولُ. (وَإِنْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَتَرَكَ الْبَعْضَ حَتَّى جَفَّ مَا قَدْ غَسَلَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا)، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُوَالَاةُ رُكْنٌ فَلَا يُجْزِئُهُ تَرْكُهُ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاظَبَ عَلَى الْمُوَالَاةِ» فَلَوْ جَازَ تَرْكُهُ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ.، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ كَانَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْوُضُوءِ فَإِنْ كَانَ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَجَفَّ وَجَبَ عَلَيْنَا إعَادَةُ مَا جَفَّ، وَجَعْلُهُ قِيَاسَ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ إذَا اشْتَغَلَ فِي خِلَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ. (وَلَنَا) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِدُونِ الْمُوَالَاةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فَلَوْ شَرَطْنَا الْمُوَالَاةَ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوَاظَبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَأَفْعَالُ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِعَمَلٍ آخَرَ مُبْطِلٌ لِلتَّحْرِيمَةِ فَكَانَ مُفْسِدًا بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ أَرْكَانَ الْوُضُوءِ لَا تَنْبَنِي عَلَى التَّحْرِيمَةِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ فِي الْوُضُوءِ مُفْسِدًا لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (، وَلَا يُفْسِدُ خُرْءُ الْحَمَامِ، وَالْعُصْفُورِ الْمَاءَ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَجِسٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَالثَّوْبَ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ غِذَاءِ الْحَيَوَانِ إلَى فَسَادٍ لَكِنْ اسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ خَرِئَتْ عَلَيْهِ حَمَامَةٌ فَمَسَحَهُ بِأُصْبُعِهِ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - ذَرَقَ عَلَيْهِ طَائِرٌ فَمَسَحَهُ بِحَصَاةٍ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَغْسِلْهُ، وَلِأَنَّ الْحَمَامَ تُرِكَتْ فِي الْمَسَاجِدِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ عِلْمِ النَّاسِ بِمَا يَكُونُ مِنْهَا، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَكَرَ الْحَمَامَةَ، وَقَالَ إنَّهَا، أَوْكَرَتْ عَلَى بَابِ الْغَارِ حَتَّى سَلَّمَتْ فَجَازَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَ الْمَسَاجِدَ مَأْوَاهَا» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ مَا يَكُونُ مِنْهَا. . قَالَ (وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ خُرْءِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ السِّبَاعِ)، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ غِذَائِهِ إلَى فَسَادٍ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا لَكِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ لِمَعْنَى الْبَلْوَى، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْخُرْءَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي النَّجَاسَةِ، ثُمَّ خُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ طَاهِرٌ فَكَذَلِكَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. قَالَ (، وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَلَا يَسْتَقْذِرُهُ النَّاسُ عَادَةً)، وَيُفْسِدُهُ خُرْءُ الدَّجَاجِ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءَ بِالْعَذِرَةِ لَوْنًا، وَرَائِحَةً فَكَانَ نَجِسًا نَجَاسَةً غَلِيظَةً. قَالَ (، وَمَوْتُ الضِّفْدَعِ، وَالسَّمَكِ، وَالسَّرَطَانِ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ) لِوَجْهَيْنِ.: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَاءَ مَعْدِنُهُ، وَالشَّيْءُ إذَا مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَمَنْ صَلَّى، وَفِي كُمِّهِ بَيْضَةً مَذِرَةً حَالَ مُحُّهَا دَمًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ مَوْتِهِ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّ مَا يَسِيلُ مِنْهَا إذَا شُمِسَ ابْيَضَّ، وَالدَّمُ إذَا شُمِسَ اسْوَدَّ، وَهَذَا الْحَرْفُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ بِمَوْتِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهِ لَا يُفْسِدُ غَيْرَ الْمَاءِ كَالْخَلِّ، وَالْعَصِيرِ، وَيَسْتَوِي إنْ تَقَطَّعَ، أَوْ لَمْ يَتَقَطَّعْ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا تَقَطَّعَ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ دَمَهُ نَجِسٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَا دَمَ فِي السَّمَكِ إنَّمَا هُوَ مَاءٌ آجِنٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ دَمٌ فَهُوَ مَأْكُولٌ فَلَا يَكُونُ نَجِسًا كَالْكَبِدِ، وَالطِّحَالِ. وَأَشَارَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الطَّافِيَ مِنْ السَّمَكِ يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي الطَّافِي أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَهُوَ كَالضِّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الضِّفْدَعُ إذَا تَفَتَّتَ فِي الْمَاءِ كَرِهْتُ شُرْبَهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الضِّفْدَعِ فِيهِ، وَالضِّفْدَعُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. (وَإِذَا مَاتَتْ الْفَأْرَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فِي الْبِئْرِ فَاسْتُخْرِجَتْ حِينَ مَاتَتْ نُزِحَ مِنْ الْبِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَإِنْ مَاتَتْ فِي جُبٍّ أُرِيقَ الْمَاءُ، وَغُسِلَ الْجُبُّ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِمَوْتِ الْفَأْرَةِ فِيهِ) وَالْقِيَاسُ فِي الْبِئْرِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ أَمَّا مَا قَالَهُ بِشْرٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُطَمُّ رَأْسُ الْبِئْرِ، وَيُحْفَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ نُزِحَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ يَبْقَى الطِّينُ، وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا، وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ فَيُطَمُّ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ اجْتَمَعَ رَأْيِي، وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ يُصَبُّ فِيهِ مِنْ جَانِبٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ جَانِبٍ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِإِدْخَالِ يَدٍ نَجِسَةٍ فِيهِ. ثُمَّ قُلْنَا، وَمَا عَلَيْنَا لَوْ أَمَرْنَا بِنَزَحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ، وَلَا نُخَالِفُ السَّلَفَ، وَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ، عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعُ دِلَاءٍ. ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ فِي الدَّجَاجَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا. (وَلَنَا) حَدِيثُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا»، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي الزِّنْجِيِّ الَّذِي وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ فَمَاتَ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزَحِ جَمِيعِ الْمَاءِ. ثُمَّ فِي الْأَصْلِ جَعَلَهُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَفِي السِّنَّوْرِ، وَالدَّجَاجَةِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَفِي الشَّاةِ، وَالْآدَمِيِّ جَمِيعُ الْمَاءِ.، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَهُ عَلَى خَمْسِ دَرَجَاتٍ فِي الْجِلَّةِ، وَالْفَأْرَةِ الصَّغِيرَةِ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَفِي الْفَأْرَةِ الْكَبِيرَةِ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَفِي الْحَمَامَةِ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، وَفِي الدَّجَاجَةِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَفِي الشَّاةِ، وَالْآدَمِيِّ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَنَجَّسُ مِنْ الْمَاءِ مَا جَاوَزَ النَّجَاسَةَ، وَالْفَأْرَةُ تَكُونُ فِي وَجْهِ الْمَاءِ فَإِذَا نُزِحَ عِشْرُونَ دَلْوًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نُزِحَ جَمِيعُ مَا جَاوَزَ الْفَأْرَةَ فَمَا بَقِيَ يَبْقَى طَاهِرًا، وَالدَّجَاجَةُ تَغُوصُ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا تَغُوصُ الْفَأْرَةُ فَيَتَضَاعَفُ النَّزْحُ لِهَذَا، وَالشَّاةُ، وَالْآدَمِيُّ يَغُوصُ إلَى قَعْرِ الْمَاءِ فَيَمُوتُ، ثُمَّ يَطْفُو فَلِهَذَا نُزِحَ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَفَسَّخْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ انْتَفَخَ، أَوْ تَفَسَّخَ نُزِحَ جَمِيعُ الْمَاءِ. الْفَأْرَةُ، وَغَيْرُهَا فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْهَا بِلَّةٌ نَجِسَةٌ، وَتِلْكَ الْبِلَّةُ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَطْرَةٍ مِنْ خَمْرٍ، أَوْ بَوْلٍ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ. وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا، وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعَ فِيهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ بِخِلَافِ الْفَأْرَةِ فَإِنْ غَلَبَهُمْ الْمَاءُ فِي مَوْضِعٍ، وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ فَالْمَرْوِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا نُزِحَ مِنْهَا مِائَةُ دَلْوٍ يَكْفِي، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى آبَارِ الْكُوفَةِ لِقِلَّةِ الْمَاءِ فِيهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ، أَوْ مِائَتَا دَلْوٍ، وَإِنَّمَا أَجَابَ بِهَذَا بِنَاءً عَلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ فِي آبَارِ بَغْدَادَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْزَحُ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى عُمْقِ الْبِئْرِ، وَعَرْضِهِ فَيُحْفَرُ حَفِيرَةٌ مِثْلُهَا، وَيُصَبُّ مَا يُنْزَحُ فِيهَا فَإِذَا امْتَلَأَتْ فَقَدْ نَزَحَ مَا كَانَ فِيهَا. وَقِيلَ يُرْسِلُ قَصَبَةً فِي الْمَاءِ، وَيَجْعَلُ عَلَى مَبْلَغِهِ عَلَامَةً، ثُمَّ يَنْزَحُ عَشْرَ دِلَاءٍ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْقَصَبَةَ ثَانِيًا فَيَنْظُرُ كَمْ اُنْتُقِصَ فَإِنْ اُنْتُقِصَ الْعَشْرُ عَلِمَ أَنَّ الْبِئْرَ مِائَةُ دَلْوٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا رَجُلَانِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي الْمَاءِ فَبِأَيِّ مِقْدَارٍ قَالَا فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ فَإِنْ كَانَ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْهَا بَعْدَ مَا مَاتَتْ الْفَأْرَةُ فِيهَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَوَاتِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي مَتَى وَقَعَ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ وُضُوءُهُ مِنْ ذَلِكَ الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْتَفِخَةً أَعَادَ صَلَاةً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفِخَةٍ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْهَا، وَهُوَ فِيهَا، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَةِ الْبِئْرِ فِيمَا مَضَى، وَفِي شَكٍّ مِنْ نَجَاسَتِهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ كَمَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً لَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَتْهُ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ لِهَذَا، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى رَأَى طَائِرًا فِي مِنْقَارِهِ فَأْرَةٌ مَيِّتَةٌ، وَأَلْقَاهَا فِي بِئْرٍ فَرَجَعَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: ظَهَرَ لِمَوْتِ الْفَأْرَةِ سَبَبٌ، وَهُوَ وُقُوعُهَا فِي الْبِئْرِ فَيُحَالُ مَوْتُهَا عَلَيْهِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ يُحَالُ مَوْتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ السَّبَبِ، ثُمَّ الِانْتِفَاخُ دَلِيلُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَأَدْنَى حَدِّ التَّقَادُمِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ دُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يُصَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَسَّخُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَقَوْلُهُمَا: إنَّ فِي نَجَاسَةِ الْبِئْرِ فِيمَا مَضَى شَكًّا قُلْنَا يُؤَيِّدُ هَذَا الشَّكُّ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ فِي الْحَالِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَالْقَوْلُ بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ قَالَ مُعَلَّى: الْخِلَافُ فِيهِمَا، وَاحِدٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ بَالِيَةً يُعِيدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَرِيَّةً يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، وَمَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ الثَّوْبُ كَانَ يَقَعَ بَصَرُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 عَلَيْهِ فِي كُلِّ، وَقْتٍ فَلَوْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فِيمَا مَضَى لَرَآهَا فَأَمَّا الْبِئْرُ فَمُغَيَّبٌ عَنْ بَصَرِهِ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفِخَةٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ أَمَرْنَاهُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا. (وَإِذَا صَلَّى، وَفِي ثَوْبِهِ مِنْ الرَّوْثِ، أَوْ السِّرْقِينِ، أَوْ بَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الدَّوَابِّ، أَوْ خُرْءِ الدَّجَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ)، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِيهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ قَالَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ كَالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ الْحُكْمِيِّ فَكَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يَنْعَدِمُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الْحَدَثِ، وَكَثِيرِهِ فَكَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَكَثِيرِهَا. وَحُجَّتُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِثْلَ ظُفْرِي هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ، وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ فَجَعَلَ الْقَلِيلَ عَفْوًا لِهَذَا بِخِلَافِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لَا بَلْوَى فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَالْكَثِيرِ. ثُمَّ إنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا يَكْتَفُونَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَقَلَّمَا يَتَطَيَّبُونَ بِالْمَاءِ، وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ حَتَّى لَوْ جَلَسَ بَعْدَهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ نَجَّسَهُ فَاكْتِفَاؤُهُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِالدِّرْهَمِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ مَوْضِعِ خُرُوجِ الْحَدَثِ هَكَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاسْتَقْبَحُوا ذِكْرَ الْمَقَاعِدِ فِي مَجَالِسِهِمْ فَكَنُّوا عَنْهُ بِالدِّرْهَمِ.، وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَقُولُ إذَا بَلَغَ مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ.، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ لَا يَمْنَعُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَأَخَذْنَا بِهَذَا لِأَنَّهُ أَوْسَعُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ هُوَ مَبْطُونٌ، وَلَوَثُ الْمَبْطُونِ أَكْثَرُ، وَمَعَ هَذَا كَانُوا يَكْتَفُونَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَالدِّرْهَمُ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّقْدِ الْمَعْرُوفِ فَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ مِنْ النُّقُودِ كَالسُّهَيْلِيِّ، وَغَيْرِهِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِالدِّرْهَمِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَى نَجَاسَتِهِ كَالْخَمْرِ، وَالْبَوْلِ، وَخُرْءِ الدَّجَاجِ، وَفِي الْخُرْءِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِ مِثْقَالٍ، وَلَا عَرَضَ لَهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ أَيْضًا. فَأَمَّا الرَّوْثُ، وَالسِّرْقِينِ فَنَقُولُ: رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ سَوَاءٌ، وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الشُّبَّانَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 السَّفَرِ كَانُوا يَتَرَامَوْنَ بِالْجِلَّةِ فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمْ يَمَسُّوهَا، وَقَالَ؛ لِأَنَّهُ وُقُودُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَب مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ، وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَقَالَ أَنَّهَا رِكْسٌ أَيْ نَجِسٌ». وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَ قُلْت بِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَمْ تَقُلْ بِطَهَارَةِ رَوْثِهِ قَالَ: لَمَّا قُلْت بِطَهَارَتِهِ أَجَزْت شُرْبَهُ فَلَوْ قُلْت بِطَهَارَةِ رَوْثِهِ لَأَجَزْت أَكْلَهُ، وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ بِهَذَا، ثُمَّ التَّقْدِيرُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالدِّرْهَمِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، وَقَالَ زُفَرُ فِي رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا لَمْ يَمْنَعْ، وَفِي رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ الْجَوَابُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاعْتَبَرَ الرَّوْثَ بِالْبَوْلِ فَقَالَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ التَّقْدِيرُ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِي نَجَاسَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي رَوْثِهِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الْأَرْوَاثِ بَلْوًى، وَضَرُورَةٌ خُصُوصًا لِسَائِرِ الدَّوَابِّ، وَلِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي تَخْفِيفِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الرَّوْثُ مَنْصُوصٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَتَتَغَلَّظُ نَجَاسَتُهُ، وَلَا يُعْفَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَالْخَمْرِ، وَالْبَلْوَى لَا تُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ فَإِنَّ الْبَلْوَى لِلْآدَمِيِّ فِي بَوْلِهِ أَكْثَرُ، وَكَذَا فِي بَوْلِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ يَتَرَشَّشُ فَيُصِيبُ الثِّيَابَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي الرَّوْثِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا فَرَأَى الطُّرُقَ، وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنْ الْأَرْوَاثِ، وَلِلنَّاسِ فِيهِ بَلْوًى عَظِيمَةً فَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ لِهَذَا. قَالَ (، وَأَدْنَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبِئْرِ، وَالْبَالُوعَةِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالنَّوَادِرِ، وَالْأَمَالِي)، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ بِشَيْءٍ إنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ لَا يَخْلُصَ مِنْ الْبَالُوعَةِ، وَالْبِئْرِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِيِ فِي الصَّلَابَةِ، وَالرَّخَاوَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَوُجِدَ فِي الْمَاءِ رِيحُ الْبَوْلِ، أَوْ طَعْمُهُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْخُلُوصُ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِي إنَاءٍ، وَاحِدٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَفْعَلَا مَعًا فَكَذَلِكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 اغْتَسَلَتْ مِنْ إنَاءٍ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَقَالَتْ إنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ»، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الرَّجُلِ» شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. (وَإِذَا نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي الْجَنَابَةِ حَتَّى صَلَّى لَمْ يُجْزِهِ)، وَهُوَ عِنْدَنَا الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُنَّتَانِ فِيهِمَا، وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فَرْضَانِ فِيهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ دُونَ الْمَضْمَضَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَانَ يُوَاظِبُ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا فِيهِ تَحْصِيلُ الْكَمَالِ كَمَا يُوَاظِبُ عَلَى الْأَرْكَانِ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ بِتَطْهِيرِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ، وَعَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَعْرَابِيَّ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِيهِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وَالْإِطْهَارُ إمْرَارُ الطَّهُورِ عَلَى الظَّوَاهِرِ مِنْ الْبَدَنِ، وَالْفَمِ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَهُ لَمْ يَضُرَّهُ، وَبِدَلِيلِ الْوُضُوءِ فَالْفَمُ، وَالْأَنْفُ مَوْضِعُهُمَا الْوَجْهُ، وَالْغُسْلُ فَرْضٌ فِيهِمَا. وَبِدَلِيلِ غُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَضْمَضَةٌ، وَلَا اسْتِنْشَاقٌ، وَإِمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ قَالَ: هُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ»، وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْبَشَرَةُ الْجِلْدَةُ الَّتِي تَقِي اللَّحْمَ مِنْ الْأَذَى، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ فِي الْجَنَابَةِ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِالنَّارِ» كَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي، وَفِي الْأَنْفِ شَعَرَاتٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لِلْفَمِ حُكْمَيْنِ حُكْمُ الظَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى إذَا أَخَذَ الصَّائِمُ الْمَاءَ بِفِيهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَحُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ وَجْهٍ كَمَا قَالَ فَفِيمَا يَعُمُّ جَمِيعَ الظَّاهِرِ أَلْحَقْنَاهُ بِالظَّاهِرِ، وَفِيمَا يَخُصُّ بَعْضَهُ أَلْحَقْنَاهُ بِالْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ بَعْضَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَفْوًا فَمَا هُوَ بَاطِنٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ تَحِلُّ الْفَمَ، وَالْأَنْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَالْحَدَثُ لَا يَحِلُّهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي غُسْلِ الْمَيِّتِ سُقُوطُ الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ لِلتَّعَذُّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ كَبَّهُ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَاءُ مِنْ فِيهِ، وَبِدُونِهِ يَكُونُ سُقْيًا لَا مَضْمَضَةَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْفَرَائِضِ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى إذَا قَهْقَهَ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْمَسْنُونِ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَقِّلًا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ أَخَذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنَّ الْمَاءَ إذَا فَارَقَ عُضْوَهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْمَاءَ مِنْ لِحْيَتِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي لُمْعَةٍ رَآهَا» تَأْوِيلُهُ فِي الْجَنَابَةِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ كَعُضْوٍ، وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَهُ بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي بَقِيَ فِي كَفِّهِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فَهُوَ كَالْبَاقِي فِي إنَائِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَغْسُولَاتِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغُسْلِ تَأَدَّى بِمَا جَرَى عَلَى عُضْوِهِ لَا بِالْبِلَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي كَفِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَسْحِ بِالْخُفِّ، وَحِينَئِذٍ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِالْبِلَّةِ. قَالَ، وَلَا يُجْزِئُ مَسْحُ الرَّأْسِ بِأُصْبُعٍ، وَلَا بِأُصْبُعَيْنِ، وَيُجْزِئُهُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ: أَحَدُهُمَا فِي قَدْرِ الْمَفْرُوضِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فَفِي الْأَصْلِ ذَكَرَ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَفِي مَوْضِعٍ النَّاصِيَةَ، وَفِي مَوْضِعٍ رُبُعَ الرَّأْسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، وَلَوْ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَفْرُوضُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَكْثَرُ الرَّأْسِ، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ «بِفِعْلِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ»، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدُلُّ عَلَى الرُّكْنِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِإِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَاعْتَبَرَ الْمَمْسُوحَ بِالْمَغْسُولِ، وَهُوَ فَاسِدٌ فَإِنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْمَسْحِ، وَهُوَ حَرْفُ الْبَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْبَعْضِ كَمَا يُقَالُ كَتَبْت بِالْقَلَمِ، وَضَرَبْت بِالسَّيْفِ أَيْ بِطَرَفٍ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْ مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لَا يُقَالُ إنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ عَادَةً، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِ، وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بَيَانُهُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ»، وَذَلِكَ الرُّبُعُ فَإِنَّ الرَّأْسَ نَاصِيَةٌ، وَقَذَالٌ، وَفَوْدَانٌ، وَلِأَنَّ الرُّبُعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ فَإِنَّ مَنْ رَأَى وَجْهَ إنْسَانٍ يَسْتَجِيزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ رَأَيْت فُلَانًا، وَإِنَّمَا رَأَى أَحَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ أَنَّهُ إذَا وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ، وَلَمْ يُمِرَّهَا جَازَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرَّأْسِ وَالْخُفِّ، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى يُمِرَّهَا بِقَدْرِ مَا تُصِيبُ الْبِلَّةُ مِقْدَارَ رُبُعِ الرَّأْسِ فَهُمَا اعْتَبَرَا الْمَمْسُوحُ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ الْمَمْسُوحَ بِهِ، وَهُوَ عَشْرَةُ أَصَابِعَ، وَرُبُعُهَا أُصْبُعَانِ، وَنِصْفٌ إلَّا أَنَّ الْأُصْبُعَ الْوَاحِدَ لَا يَتَجَزَّأُ فَجَعَلَ الْمَفْرُوضَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ لِهَذَا، وَإِنْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ إذَا مَسَحَ بِهِ مِقْدَارَ رُبُعِ الرَّأْسِ قَالَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ إصَابَةُ الْبِلَّةِ دُونَ الْأَصَابِعِ حَتَّى لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ مَاءُ الْمَطَرِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْمَسْحِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ كُلَّمَا وَضَعَ الْأَصَابِعَ صَارَ مُسْتَعْمِلًا فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِهِ بِالْإِمْرَارِ فَإِنْ قِيلَ إذَا وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ، وَمَسَحَ بِهَا جَمِيعَ رَأْسِهِ جَازَ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَذَلِكَ إقَامَةُ السُّنَّةِ بِالْمَمْسُوحِ. قُلْنَا: الرَّأْسُ تُفَارِقُ الْمَغْسُولَاتِ فِي الْمَفْرُوضِ دُونَ الْمَسْنُونِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمَسْنُونِ يَسْتَوْعِبُ الْحُكْمُ جَمِيعَ الرَّأْسِ كَمَا فِي الْمَغْسُولَاتِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْمَغْسُولَاتِ الْمَاءُ فِي الْعُضْوِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ إقَامَةِ السُّنَّةِ فِي الْمَمْسُوحِ، إلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُشِيرُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ لَوْ أَعَادَ الْأُصْبُعَ إلَى الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَجُوزُ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعِهِ بِجَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ يَجُوزُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ الطَّرِيقَةَ غَيْرُ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ لَا يَجُوزُ فَالِاسْتِيعَابُ هُنَاكَ فَرْضٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ فَأَكْثَرُ الْأَصَابِعِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوْ الْخُفِّ، أَوْ التَّيَمُّمِ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ كَانَ كَالْمَاسِحِ بِجَمِيعِ يَدِهِ فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ كَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَمَسَحَ مَا تَحْتَ أُذُنَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ مَسَحَ مَا فَوْقَهُمَا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُمَا رَأْسٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَمْسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَمَا أَدْبَرَ مَعَ الرَّأْسِ، وَإِنْ غَسَلَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مَعَ الْوَجْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي الْغُسْلِ مَسْحًا، وَزِيَادَةً، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْفَرْضُ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى الرَّأْسِ، وَاعْتُبِرَا بِآذَانِ الْكِلَابِ، وَالسَّنَانِيرِ، وَالْفِيلِ، وَمَنْ فَغَرَ فَاهُ فَيَزُولُ عَظْمُ اللَّحْيَيْنِ عَنْ عَظْمِ الرَّأْسِ، وَتَبْقَى الْأُذُنُ مَعَ الرَّأْسِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا لَا يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 جَدِيدًا.، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَأَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا»، وَقَالَ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ مَعَ الرَّأْسِ كَالْفَمِ، وَالْأَنْفِ مَعَ الْوَجْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ لِلْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ مَاءً جَدِيدًا سِوَى مَا يُقِيمُ بِهِ فَرْضَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأُذُنَيْهِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ». فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا مَمْسُوحَانِ كَالرَّأْسِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَاتِّفَاقُ الْعُضْوَيْنِ فِي الْفَرْضِ لَا يُوجِبُ إضَافَةَ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا مَمْسُوحَانِ بِالْمَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ الرَّأْسَ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي كَفِّهِ بِلَّةٌ فَلِهَذَا أَخَذَ فِي أُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُنْتَقَى إذَا أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَتَمَضْمَضَ بِهَا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ أَجْزَأَهُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ قُلْنَا: الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ مُقَدَّمَانِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ فَإِذَا أَقَامَهُمَا بِمَاءٍ، وَاحِدٍ كَانَ الْمَفْرُوضُ تَبَعًا لِلْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَا هُنَا إذَا أَقَامَهُمَا بِمَاءٍ، وَاحِدٍ يَكُونُ الْمَسْنُونُ تَبَعًا لِلْمَفْرُوضِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. قَالَ (وَإِنْ مَسَحَ أُذُنَيْهِ دُونَ رَأْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَرْكَ الْمَفْرُوضِ، وَالْمَسْنُونُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَفْرُوضِ (فَإِنْ قِيلَ) لَكُمْ أَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ (قُلْنَا) هُمَا مِنْ الرَّأْسِ، وَلَيْسَا بِرَأْسٍ كَالثِّمَارِ مِنْ الشَّجَرَةِ، وَلَيْسَتْ بِشَجَرَةٍ، وَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ بِعَشْرَةٍ، وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَكَوْنُ الْآذَانِ مِنْ الرَّأْسِ ثَابِتٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ كَمَنْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ بِالصَّلَاةِ فَلَا تُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَكَوْنُ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَابِتٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ. (وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ، أَوْ نَتَفَ إبْطَيْهِ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، أَوْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَلَا أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ)، وَكَانَ ابْنُ جَرِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ»، وَفِعْلُهُ هَذَا تَطْهِيرٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ مَا ازْدَادَ إلَّا طُهْرًا، وَنَظَافَةً. قَالَ (ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مِثْلُ الْمَسْحِ عَلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَهُ) لَا أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأُصْبُعَ إذَا مَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَانَ جَزُّ الشَّعْرِ بَعْدَ الْمَسْحِ كَتَقْشِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْجِلْدِ عَنْ الْعُضْوِ الْمَغْسُولِ بَعْدَ الْغُسْلِ فَكَمَا لَا يَلْزَمُهُ إمْرَارُ الْمَاءِ ثَمَّةَ فَكَذَلِكَ هُنَا بِخِلَافِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا نَزَعَهُمَا فَإِنَّ الْمَسْحَ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْغُسْلِ، وَلَكِنَّ اسْتِتَارَ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رِجْلُهُ بَادِيًا، وَقْتَ الْحَدَثِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ فَبِخَلْعِ الْخُفِّ يَسْرِي الْحَدَثُ إلَى الْقَدَمِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا مَسَّ بِبَاطِنِ كَفِّهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِي مَسِّ الْفَرْجِ سَوَاءٌ عِنْدَهُ لِحَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»، وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَقَالَتْ: إنْ كَانَتْ تَرَى مَاءً هُنَالِكَ فَلْتَتَوَضَّأْ، وَلِأَنَّ مَسَّ الذَّكَرِ سَبَبٌ لِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَذْيِ فَيُجْعَلُ بِهِ كَالْمُمْذِي كَمَا أَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ جُعِلَ بِهِ كَالْمُمْنِي، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ «قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ مَسَّ ذَكَرَهُ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَقَالَ لَا هَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةً مِنْكَ، أَوْ قَالَ جِذْوَةً مِنْكَ». وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِنَا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْكَ نَجِسًا فَاقْطَعْهُ (وَقَالَ) بَعْضُهُمْ مَا أُبَالِي أَمَسِسْته أَمْ أَنْفِي، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَوْ نَجِسًا، وَلَيْسَ فِي مَسِّ شَيْءٍ مِنْ الطَّاهِرَاتِ، وَلَا مِنْ النَّجَاسَاتِ وُضُوءٌ، وَلَوْ مَسَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَمْ يُنْتَقَضْ بِهِ وُضُوءُهُ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْخَفِيِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا فَإِنَّ الْمَذْيَ يُرَى، وَيُشَاهَدُ، وَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ عِنْدَهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى الْمَاسِّ دُونَ الْمَمْسُوسِ ذَكَرَهُ، وَاسْتِطْلَاقُ وِكَاءِ الْمَذْي هُنَا يَنْبَغِي فِي حَقِّ الْمَمْسُوسِ ذَكَرُهُ، وَحَدِيثُ بُسْرَةَ لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ثَلَاثٌ لَا يَصِحُّ فِيهِنَّ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا هَذَا، وَمَا بَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ هَذَا بَيْنَ يَدَيْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ حَتَّى لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بَيْنَ يَدَيْ بُسْرَةَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدُّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ: مَنْ بَالَ، فَجَعَلَ مَسَّ الذَّكَرِ عَنْ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَبُولُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ عَادَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، وَالْغَائِطُ هُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ كَنَّى بِهِ عَنْ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً، أَوْ الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدِ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ»، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَسْلُ الْيَدِ (قَالَ)، وَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَبِمُجَرَّدِ النَّظَرِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ، وَالتَّفْكِيرُ سَوَاءٌ. . قَالَ (وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» يَعْنِي الِاغْتِسَالَ مِنْ الْمَنِيِّ، وَمُرَادُهُ إذَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ، وَالشَّهْوَةِ فَإِنْ خَرَجَ لَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِحَمْلِهِ شَيْئًا ثَقِيلًا، أَوْ سُقُوطِهِ عَلَى ظَهْرِهِ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ بِصِفَةِ خُرُوجِ الْمَذْيِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَذْي فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - مُفَارَقَةُ الْمَنِيِّ عَنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَالدَّفْقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُعْتَبَرُ ظُهُورُهُ. بَيَانُهُ فِي فَصْلَيْنِ.: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ احْتَلَمَ فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ سَالَ مِنْهُ الْمَنِيُّ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ عِنْدَهُمَا، وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُجَامِعَ إذَا اغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ، ثُمَّ سَالَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ فَعَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ عِنْدَهُمَا ثَانِيًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ (، وَفِي الْمَذْي الْوُضُوءُ) لِحَدِيثِ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ كُنْتُ فَحْلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ حَتَّى سَأَلَهُ فَقَالَ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، وَفِيهِ الْوُضُوءُ» وَكَذَلِكَ الْوَدْيُ فَإِنَّهُ الْغَلِيظُ مِنْ الْبَوْلِ فَهُوَ كَالرَّقِيقِ مِنْهُ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمِيَاهَ فَقَالَ (الْمَنِيُّ خَائِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ)، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي كِتَابِهِ أَنَّ لَهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ (، وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ، وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ الْبَوْلِ)، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْمِيَاهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بِهَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَ (وَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْقُبْلَةِ، وَمَسُّ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ، أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ)، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَهُوَ اخْتِلَافٌ مُعْتَبَرٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حَتَّى قِيلَ يَنْبَغِي لِمَنْ يَؤُمُّ النَّاسَ أَنْ يَحْتَاطَ فِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ يَجِبُ، وَإِلَّا فَلَا فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ بِالْيَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7]، وَلَا يُعَارِضُ الْقِرَاءَةَ. (أَلَا تَرَى) قَوْلَهُ {أَوْ لَامَسْتُمْ} [النساء: 43] فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ الْجِمَاعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فَيُعْمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّقْبِيلَ، وَالْمَسَّ سَبَبٌ لِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَذْيِ فَيُقَامُ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَذْيِ حَقِيقَةً فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ انْصَرَفَ يَوْمًا مِنْ صَلَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ رَأَوْهُ يُصَلِّي فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فَقَالَ إنِّي تَوَضَّأْت فَمَرَّتْ بِي جَارِيَتِي رُومِيَّةٌ فَقَبَّلْتهَا فَلَمَّا اُفْتُتِحَتْ الصَّلَاةُ، وَجَدْتُ مَذْيًا فَقُلْت أَمْضِي فِي صَلَاتِي حَيَاءً مِنْكُمْ قُلْت لَأَنْ أُرَاقِبُ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ أُرَاقِبَكُمْ فَانْصَرَفْت، وَتَوَضَّأْت فَهَذَا دَلِيلُ رُجُوعِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّقْبِيلِ حَتَّى إذَا أَحَسَّ بِالْمَذْيِ انْصَرَفَ، وَتَوَضَّأَ، وَلِأَنَّ عَيْنَ الْمَسِّ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِدَلِيلِ مَسِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَبَقِيَ الْحَدَثُ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْمَسِّ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ يُكَنِّي بِالْحَسَنِ عَنْ الْقَبِيحِ كَمَا كَنَّى بِالْمَسِّ عَنْ الْجِمَاعِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْجِمَاعِ كَانَ ذِكْرًا لِلْحَدَثِ الْكُبْرَى بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدَثِ الصُّغْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} [النساء: 43] فَأَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ كَانَ تَكْرَارًا مَحْضًا. قَالَ (فَإِنْ بَاشَرَهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ فَانْتَشَرَ لَهَا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتِحْسَانًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ كَالتَّقْبِيلِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ مَنْ بَلَغَ فِي الْمُبَاشَرَةِ هَذَا الْمَبْلَغَ خُرُوجُ الْمَذْيِ مِنْهُ حَقِيقَةً فَيُجْعَلُ كَالْمُمْذِي بِنَاءً لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ كَمَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّ الْمَاءَ فِي الْمِصْرِ لَا يَعْدَمُ، وَفَسَّرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ بِأَنْ يُعَانِقَهَا، وَهُمَا مُتَجَرِّدَانِ، وَيَمَسَّ ظَاهِرُ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا. قَالَ (وَإِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ، وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ)، وَهُوَ قَوْلُ الْمُهَاجِرِينَ عُمَرَ وَعَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَأَمَّا الْأَنْصَارُ كَأَبِي سَعِيدٍ وَحُذَيْفَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لَا يَجِبُ الِاغْتِسَالُ بِالْإِكْسَالِ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَبِهِ أَخَذَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ». (وَلَنَا) حَدِيثٌ شَاذٌّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ»، وَهُوَ قَوْلُ الْمُهَاجِرِينَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَصَحُّ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يُسَوِّغْ لِلْأَنْصَارِ هَذَا الِاجْتِهَادَ حَتَّى قَالَ لِزَيْدٍ أَيْ عَدُوَّ نَفْسِكَ مَا هَذِهِ الْفَتْوَى الَّتِي تَقَشَّعَتْ عَنْكَ فَقَالَ سَمِعْت عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ يَقُلْنَ ذَلِكَ فَجَمَعَهُنَّ عُمَرُ، وَسَأَلَهُنَّ فَقُلْنَ كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا نَغْتَسِلُ فَقَالَ عُمَرُ، أَوَ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَ: لَا، فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبَعَثَ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَسَأَلَهَا فَقَالَتْ فَعَلْت ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاغْتَسَلْنَا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِزَيْدٍ لَئِنْ عُدْت إلَى هَذَا لَأَذَيْتُكَ»، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ سَبَبٌ لِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ عَادَةً فَقَامَ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ مَغِيبٌ عَنْ بَصَرِهِ فَرُبَّمَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ لَمَّا خَرَجَ لِقِلَّتِهِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ (وَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مَا لَمْ يُنْزِلْ)؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْفَرْجِ لَيْسَ نَظِيرَ الْفَرْجِ فِي اسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِمَسِّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَدِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْإِكْسَالِ فَقَالَ يُوجِبُ فِيهِ الْحَدَّ، وَلَا يُوجِبُ فِيهِ صَاعًا مِنْ مَاءٍ. قَالَ (وَمَنْ احْتَلَمَ، وَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ تَفَكَّرَ فِي النَّوْمِ فَهُوَ كَالتَّفَكُّرِ فِي الْيَقَظَةِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِنْزَالُ (قَالَ) فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَلَكِنَّهُ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ، أَوْ فِرَاشِهِ مَذْيًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - احْتِيَاطًا (وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَاتَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُصْبِحُ جُنُبًا بِالشَّكِّ ، وَخُرُوجُ الْمَذْيِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الِاغْتِسَالِ.، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَصْبَحَ فَوَجَدَ مَاءً، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ شَيْئًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ احْتَلَمَ، ثُمَّ أَصْبَحَ عَلَى جَفَافٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ»، وَلَسْنَا نُوجِبُ الِاغْتِسَالَ بِخُرُوجِ الْمَذْيِ إنَّمَا نُوجِبُهُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَلَكِنْ مِنْ طَبْعِ الْمَنِيِّ أَنْ يَرِقَّ بِإِصَابَةِ الْهَوَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخَارِجَ كَانَ مَنِيًّا قَدْ رَقَّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ، وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ قَوْلِهِ فَوَجَدَ مَذْيًا مَا يَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ الْمَذْيِ لَا حَقِيقَةَ الْمَذْيِ. ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَسْأَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ، وَمَسْأَلَةِ الْفَأْرَةِ الْمُنْتَفِخَةِ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَافَقَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 لِوُجُودِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ سَبَبُ خُرُوجِ الْمَذْيِ، وَخَالَفَهُ فِي الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْهُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَافَقَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ فِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ؛ لِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحِسُّ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ الِاحْتِيَاطِ بِخِلَافِ الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَإِنَّ الْمُبَاشِرَ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُحِسُّ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. قَالَ (، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي الِاحْتِلَامِ) لِحَدِيثِ «أُمِّ سُلَيْمٍ حِينَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ»، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَذَكَّرَتْ الِاحْتِلَامَ، وَالتَّلَذُّذَ، وَلَمْ تَرَ شَيْئًا فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ مَنِيَّهَا يَتَدَفَّقُ فِي رَحِمِهَا فَلَا يَظْهَرُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مُتَعَلِّقٌ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُوَاقَعَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّجُلِ. قَالَ (وَإِذَا احْتَلَمَتْ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ أَدْرَكَهَا الْحَيْضُ فَإِنْ شَاءَتْ اغْتَسَلَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَّرَتْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضِ)؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لِلتَّطْهِيرِ حَتَّى تَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَائِضِ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَإِنْ شَاءَتْ اغْتَسَلَتْ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ يُعِينُ عَلَى دُرُورِ الدَّمِ (وَكَانَ مَالِكٌ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْحَائِضَ لَا تُمْنَعُ. قَالَ (وَإِذَا عَرَقَ الْجُنُبُ، أَوْ الْحَائِضِ فِي ثَوْبٍ لَمْ يَضُرَّهُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ الْحَائِضَ مِنْ نِسَائِهِ بِالِاتِّزَارِ، ثُمَّ كَانَ يُعَانِقُهَا طُولَ اللَّيْلِ، وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَكَانَا يَعْرَقَانِ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يَتَحَرَّزْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَقِهَا»، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ فَهُوَ وَأَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ سَوَاءٌ. قَالَ (وَإِذَا وَقَعَتْ الْجِيفَةُ، أَوْ النَّجَاسَةُ فِي الْحَوْضِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ قِيَاسُ الْأَوَانِي وَالْجِبَابِ يَتَنَجَّسُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا»، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ كَبِيرًا فَهُوَ قِيَاسُ الْبَحْرِ لَا يَتَنَجَّسُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَالْفَصْلُ بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ يُعْرَفُ بِالْخُلُوصِ فَإِذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَلْقَى فِيهِ الصَّبْغَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَهُوَ صَغِيرٌ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ النَّجَاسَةَ تَخْلُصُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا خَلَصَ اللَّوْنُ هَكَذَا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمَذْهَبُ الظَّاهِرُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ جَانِبٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكَ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكَ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَهُوَ كَبِيرٌ. وَصِفَةُ التَّحْرِيكِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اعْتَبَرَ تَحْرِيكَ الْمُتَوَضِّئِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ تَحْرِيكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الْمُنْغَمِسِ فَرِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْسَعُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَاءِ الْجَارِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَتَنَجَّسُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُتْرَكُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْلُصُ إلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ مُفَسَّرٌ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى هَذَا قَالُوا: مَنْ اسْتَنْجَى فِي مَوْضِعٍ مِنْ حَوْضٍ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالْمِسَاحَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ كَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَدِّرُ فِي ذَلِكَ عَشْرَةً فِي عَشْرَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ: لَا أُقَدِّرُ فِيهِ شَيْئًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: إنْ كَانَ مِثْلَ مَسْجِدِي هَذَا فَهُوَ كَبِيرٌ فَلَمَّا قَامَ مَسَحُوا مَسْجِدَهُ فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَكَانَ مَنْ رَوَى ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ مَسَحَ الْمَسْجِدَ مِنْ دَاخِلٍ، وَمَنْ رَوَى اثْنَيْ عَشَرَ مَسَحَهُ مِنْ خَارِجٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِعُمْقِ الْمَاءِ حَتَّى قَالُوا إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَنْحَسِرُ بِالِاغْتِرَافِ فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي. هَذَا كُلُّهُ فِي بَيَانِ مَذْهَبِنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) إذَا كَانَ الْمَاءُ بِقَدْرِ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَالْقُلَّةُ اسْمٌ لِجَرَّةٍ تُحْمَلُ مِنْ الْيَمَنِ تَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا فَالْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ، وَخَمْسِينَ مَنًّا. وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا» (قُلْنَا) هَذَا ضَعِيفٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ بَلَغَنِي بِإِسْنَادٍ لَمْ يَحْضُرْنِي مَنْ ذَكَرَهُ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» الْحَدِيثَ، وَمِثْلُ هَذَا دُونَ الْمُرْسَلِ، ثُمَّ قِيلَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ فَيَتَنَجَّسُ بِهِ كَمَا يُقَالُ: مَالُ فُلَانٍ لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ لِقِلَّتِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْقُلَّةِ فَقِيلَ إنَّهَا الْقَامَةُ، وَقِيلَ إنَّهُ رَأْسُ الْجَبَلِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إذَا بَلَغَ مَاءُ الْوَادِي قَامَتَيْنِ، أَوْ رَأْسَ الْجَبَلَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ بَحْرًا، وَبِهِ نَقُولُ (وَكَانَ) مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْقَلِيلُ، وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَهُ. قَالَ (وَيَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ مِنْ الْحَوْضِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَذَرٌ، وَلَا يَسْتَيْقِنُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ فَعَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غَيْرُهُ، وَخَوْفُهُ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِلْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَأَصْلُ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ مُطْلَقٌ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أَنْكَرَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِ يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ بِقَوْلِهِ لَا تُخْبِرْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَنْتَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جِيفَةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى عَلَى بِئْرِ رُومَةَ فَوَجَدَ مَاءَهَا مُنْتِنًا فَأَخَذَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ مَجَّهُ فِي الْبِئْرِ فَعَادَ الْمَاءُ طَيِّبًا»، وَلِأَنَّ تَغَيُّرِ اللَّوْنِ قَدْ يَكُونُ بِوُقُوعِ الطَّاهِرِ كَالْأَوْرَاقِ، وَغَيْرِهَا، وَتَغَيُّرَ الرَّائِحَةُ يَكُونُ بِطُولِ الْمُكْثِ كَمَا قِيلَ الْمَاءُ إذَا سَكَنَ مُنْتِنُهُ تَحَرَّكَ نَتِنُهُ، وَإِذَا طَالَ مُكْثُهُ ظَهَرَ خُبْثُهُ فَلَا يَزُولُ أَصْلُ الطَّهَارَةِ بِهَذَا الْمُحْتَمَلِ فَلِهَذَا لَا نَدَعُ التَّوَضُّؤَ بِهِ. قَالَ (وَإِذَا نَسِيَ الْمُتَوَضِّئُ مَسْحَ رَأْسِهِ فَأَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ أَجْزَأَهُ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ)، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَقَفَ فِي الْمَطَرِ الشَّدِيدِ حَتَّى غَسَلَهُ، وَقَدْ أَنْقَى فَرْجَهُ، وَتَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وَالطَّهُورُ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ التَّطَهُّرِ بِهِ عَلَى فِعْلٍ يَكُونُ مِنْهُ كَالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ الِاحْتِرَاقِ بِهَا عَلَى فِعْلٍ يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْمَغْسُولِ ثَبَتَ فِي الْمَمْسُوحِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْمَغْسُولِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إصَابَةُ الْبَلَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِجَوَازِ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ بِدُونِ النِّيَّةِ. (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): لَا يَجُوزُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ هِيَ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِقَصْدٍ، وَعَزِيمَةٍ مِنْ الْعَبْدِ بِخِلَافِ غُسْلِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ. (وَلَنَا) آيَةُ الْوُضُوءِ فَفِيهَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْغُسْلِ، وَالْمَسْحِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَنْصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا بِالْقِيَاسِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ لُغَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] فَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَكَانَتْ كَغُسْلِ النَّجَاسَةِ، وَتَأْثِيرُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ دُونَ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ فَإِذَا عَمِلَ الْمَاءُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَفِي إزَالَةِ الْحَدَثِ الْحُكْمِيِّ أَوْلَى، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُضُوءَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يَكُونُ عِبَادَةً، وَلَكِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا تَبَعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ إنَّمَا الْمَقْصُودُ إزَالَةُ الْحَدَثِ، وَزَوَالُ الْحَدَثِ يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْقِيَامُ إلَيْهَا طَاهِرًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِهِ نُجِيبُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ بِحَسَبِ النِّيَّةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَعَنْ التَّيَمُّمِ فَإِنَّ التُّرَابَ غَيْرُ مُزِيلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لِلْحَدَثِ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَوْ أَبْصَرَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ كَانَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا مَعْنَى التَّعَبُّدِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ النِّيَّةَ تَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفِعْلِ فِي التَّيَمُّمِ حَتَّى إذَا أَصَابَ الْغُبَارُ وَجْهَهُ، وَذِرَاعَيْهِ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ التَّيَمُّمِ. وَفِي الْوُضُوءِ، وَالِاغْتِسَالِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْفِعْلِ حَتَّى إذَا سَالَ مَاءُ الْمَطَرِ عَلَى أَعْضَائِهِ زَالَ بِهِ الْحَدَثُ فَكَذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالتَّمَسُّحِ بِالْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ) لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَوَضَعْنَا لَهُ مَاءً فَاغْتَسَلَ، وَالْتَحَفَ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ حَتَّى أَثَّرَ الْوَرْسُ فِي عُكَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَلِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ فَإِنَّ مَنْ اغْتَسَلَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لَا يَأْمُرُهُ أَحَدٌ بِالْمُكْثِ عُرْيَانًا حَتَّى يَجِفَّ فَلَعَلَّهُ يَمُوتُ قَبْلَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّمَسُّحِ بِثِيَابِهِ، أَوْ بِمِنْدِيلٍ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا زَايَلَ الْعُضْوَ فَأَمَّا الْبَلَّةُ الْبَاقِيَةُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ حَتَّى لَوْ جَفَّ كَانَ طَاهِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ ذَلِكَ بِالْمِنْدِيلِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ، أَوْ يُعَاوِدَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ) لِحَدِيثِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصِيبُ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَنَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً فَإِذَا انْتَبَهَ رُبَّمَا عَاوَدَ، وَرُبَّمَا قَامَ فَاغْتَسَلَ»، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلِ وَاحِدٍ فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا، وَنَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُعْطِيَ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا». قَالَ (وَإِنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَ مِنْ أَهْلِهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ نَامَ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ، وَالْوُضُوءَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ لَا لِلنَّوْمِ، وَالْمُعَاوَدَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ازْدَادَ نَظَافَةً فَكَانَ أَفْضَلَ. (فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ، وَيَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ يَأْكُلُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُنُبِ أَيَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ قَالَ نَعَمْ إذَا تَوَضَّأَ»، وَالْمُرَادُ غَسْلُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً فَالْمُسْتَحَبُّ إزَالَتُهَا بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى شَرِبَ كَانَ مِنْ وَجْهٍ شَارِبًا لِلْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ يَدِهِ أَصْلٌ، وَفِي النَّجَاسَةِ شَكٌّ. قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الْجَبَائِرُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَسَحَ عَلَيْهَا)، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ، وَعَصَبَ عَلَيْهِ فَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ»، «وَلَمَّا كُسِرَتْ إحْدَى زَنْدَيْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَوْمَ حُنَيْنٍ حَتَّى سَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَقَالَ مَاذَا أَصْنَعُ بِجَبَائِرِي فَقَالَ امْسَحْ عَلَيْهَا». وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّهُ الْغُسْلُ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَاءِ حَارٌّ، أَوْ بَارِدٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ أَقْوَى مِنْ الْمَسْحِ، وَلَمَّا سَقَطَ الْغُسْلُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ لِخَوْفِ الضَّرَرِ فَكَذَلِكَ الْمَسْحُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ الْمَسْحُ مَسَحَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ فَإِنْ تَرَكَ الْمَسْحَ، وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ قَالَ فِي الْأَصْلِ - لَمْ يُجْزِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلَى قَوْلِهِمَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْغُسْلَ، وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ لَمْ يُجْزِهِ فَكَذَلِكَ الْمَسْحُ اعْتِبَارًا لِلْبَدَلِ بِالْأَصْلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْمَسْحَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْغُسْلِ، وَنَصْبُ الْأَبْدَالِ بِالْآحَادِ مِنْ الْأَخْبَارِ لَا يَجُوزُ الْبَدَلُ، ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يَجِبْ الْأَصْلُ، وَهَا هُنَا لَوْ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ بَادِيًا لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بَدَلًا عَنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْخُفَّ. قَالَ (وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ عَنْهُ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ)، وَهَذَا إذَا كَانَ سُقُوطُهَا عَنْ غَيْرِ بُرْءٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ بُرْءٍ فَعَلَيْهِ غُسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَاسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ فَأَمَّا إذَا سَقَطَ عَنْ غَيْرِ بُرْءٍ فَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهُ مَا دَامَتْ الْعِلَّةُ بَاقِيَةً، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بِالْخُفِّ. قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ فِي جَانِبِ رَأْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِقْدَارَ الْمَسْحِ)؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْحِ مِقْدَارُ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمَحَلِّ صَحِيحًا فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَالْعِرَاقِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنْ ذَهَبَ عِيرٌ فَعِيرٌ فِي الرِّبَاطِ. قَالَ (وَإِذَا قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ) إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَلْسَ حَدَثٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ. (وَلَنَا) قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ عَدَّ الْأَحْدَاثَ فَقَالَ أَوْ دَسْعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الْقَلْسَ لَا يَكُونُ حَدَثًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ خَارِجٌ نَجِسٌ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَالْقَلْسُ مُخْرَجٌ لَا خَارِجٌ فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْأَشْيَاءِ السَّيَّالَةِ أَنَّهَا لَا تَسِيلُ مِنْ فَوْقٍ إلَى فَوْقٍ إلَّا بِدَافِعٍ دَفَعَهَا، أَوْ جَاذِبٍ جَذَبَهَا فَهُوَ كَالدَّمِ إذَا ظَهَرَ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فَمَسَحَهُ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ عِنْدَ مِلْءِ الْفَمِ - بِالْآثَارِ فَبَقِيَ مَا دُونَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ بَلْوًى فَإِنَّ مَنْ يَمْلَأُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا رَكَعَ فِي الصَّلَاةِ يَعْلُو شَيْءٌ إلَى حَلْقِهِ فَلِلْبَلْوَى جَعَلْنَا الْقَلِيلَ عَفْوًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إذَا تَجَشَّأَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ شَيْءٍ، وَلِهَذَا خَبُثَ رِيحُهُ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّ الْفُسَاءَ جُعِلَ حَدَثًا، وَحَدُّ مِلْءِ الْفَمِ أَنْ يَعُمَّهُ، أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَقِيلَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الْفَمِ، وَعَلَى هَذَا حِكَايَةُ عَابِدٍ بِبَلْخٍ يُقَالُ عَلِيُّ بْنُ يُونُسَ أَنَّ ابْنَتَهُ سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ إنْ خَرَجَ مِنْ حَلْقِي شَيْءٌ فَقَالَ لَهَا إذَا وَجَدْتِ طَعْمَهُ فِي حَلْقِكِ فَأَعِيدِي الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَا يَا عَلِيُّ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ فَجَعَلْت عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُفْتِي بَعْدَ هَذَا أَبَدًا. (فَإِنْ قَاءَ مِلْءَ الْفَمِ مُرَّةً، أَوْ طَعَامًا، أَوْ مَاءً فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَاءَ، أَوْ رَعَفَ، أَوْ أَمْذَى فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقَيْءُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا شَرِبَ الْمَاءَ، وَقَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، وَجَعَلَهُ قِيَاسَ خُرُوجِ الدَّمْعِ، وَالْعَرَقِ، وَالْبُزَاقِ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّهُ بِالْوُصُولِ إلَى الْمَعِدَةِ يَتَنَجَّسُ فَإِنَّمَا يَخْرُجُ، وَهُوَ نَجِسٌ فَكَانَ كَالْمُرَّةِ، وَالطَّعَامِ سَوَاءٌ. (وَإِنْ قَاءَ بَلْغَمًا، أَوْ بُزَاقًا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ) أَمَّا الْبُزَاقُ طَاهِرٌ، وَبِخُرُوجِ الطَّاهِرِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، وَالْبَلْغَمُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ نَجِسٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إذَا مَلَأَ الْفَمَ قِيلَ إنَّمَا أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ، وَهُمَا فِيمَا يَنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ فَالْمُنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِهِ طَاهِرٌ بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ، أَوْ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلنَّجَاسَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَعْلُو مِنْ الْجَوْفِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْبَلْغَمُ إحْدَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمُرَّةِ، وَالصَّفْرَاءِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَاتِ فَكَانَ نَجِسًا بِالْمُجَاوَرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: الْبَلْغَمُ بُزَاقٌ، وَالْبُزَاقُ طَاهِرٌ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الرُّطُوبَةَ فِي أَعْلَى الْحَلْقِ تَرِقُّ فَتَكُونُ بُزَاقًا، وَفِي أَسْفَلِهِ تَثْخُنُ فَيَكُونُ بَلْغَمًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ خُرُوجَهُ لَيْسَ مِنْ الْمَعِدَةِ بَلْ مِنْ أَسْفَلِ الْحَلْقِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلنَّجَاسَةِ فَالْبَلْغَمُ هُوَ النُّخَامَةُ «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا نُخَامَتُك، وَدُمُوعُ عَيْنِكَ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءً». (قَالَ)، وَإِنْ قَاءَ دَمًا فَعَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ بِقَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَاحْتَجَّا بِأَنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ الدَّمِ فَخُرُوجُ الدَّمِ مِنْ فَرْجِهِ فِي الْجَوْفِ فَإِذَا سَالَ بِقُوَّةِ نَفَسِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَالسَّائِلِ مِنْ جُرْحٍ فِي الظَّاهِرِ (وَرَوَى) الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ هَذَا إذَا قَاءَ دَمًا رَقِيقًا فَإِنْ كَانَ شِبْهَ الْعَلَقِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ سَوْدَاءُ مُحْتَرِقٌ. قَالَ (وَإِنْ خَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ دَمٌ، أَوْ صَدِيدٌ، أَوْ قَيْحٌ فَسَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقَضَ الْوُضُوءَ عِنْدَنَا)، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ حَدَثٍ، قِيلَ وَمَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: صَوْتٌ، أَوْ رِيحٌ»، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَوْضِعِ الْحَدَثِ لَا عَيْنَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ الْحَدَثَ مَا يَكُونُ مِنْ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا يَكُونُ حَدَثًا فَالْقَلِيلُ مِنْهُ، وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الرِّيحُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَخْرَجَ مَقَامَ الْخَارِجِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْحَدَثِ فَمَا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا النَّجَاسَةُ جُعِلَ الْخَارِجُ مِنْهُ حَدَثًا، وَنَجِسًا، وَمَا يَخْتَلِفُ الْخَارِجُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ نَجِسٌ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ»، وَقَالَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالدَّمُ يَسِيلُ مِنْ أَنْفِي فَقَالَ أَحْدِثْ لِمَا حَدَثَ بِكَ وُضُوءً»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ خَارِجٌ نَجِسٌ، وَصَلَ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَكَانَ حَدَثًا كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْخَارِجِ دُونَ الْمَخْرَجِ حَتَّى الْوَاجِبِ بِاخْتِلَافِ الْخَارِجِ فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَخُرُوجُ الْمَذْيِ يُوجِبُ الْوُضُوءُ، وَالْمَخْرَجُ وَاحِدٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ خَارِجًا إنَّمَا تَقَشَّرُ عَنْهُ الْجِلْدُ فَظَهَرَ مَا هُوَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، وَفِي السَّبِيلِ، وَإِنْ قَلَّ مَا ظَهَرَ فَقَدْ فَارَقَ مَكَانَهُ، وَكَذَلِكَ الرِّيحُ إذَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلِ، وَمَعَهُ قَلِيلُ شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ. يُقَرِّرُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ غُسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِمَعْنًى مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بَدَنِهِ فَيَكُونُ حَدَثًا كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسِلْ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ غُسْلِهِ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى مِنْ بَدَنِهِ فَلَا تَتَغَيَّرُ صِفَةُ طَهَارَةِ بَدَنِهِ، ثُمَّ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الدَّمَ سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ حَتَّى انْحَدَرَ انْتَقَضْ بِهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَدِرْ، وَلَكِنَّهُ عَلَا فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ لَمْ تُنْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ إنْ مَسَحَهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيلَ فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تُرِكَ لَسَالَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَسِلْ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ فِي الدَّمِ إذْ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَهُوَ حَدَثٌ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ (فَإِنْ بَزَقَ فَخَرَجَ مِنْ بُزَاقِهِ دَمٌ فَإِنْ كَانَ الْبُزَاقُ هُوَ الْغَالِبُ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الدَّمَ مَا خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفَسِهِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبُزَاقُ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ (وَإِنْ كَانَ الدَّمُ هُوَ الْغَالِبُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ)؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ بِقُوَّةِ نَفَسِهِ. وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِي الْقِيَاسِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِصِفَةِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ فِي شَكٍّ مِنْ الْحَدَثِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الْبُزَاقُ سَائِلٌ بِقُوَّةِ نَفَسِهِ فَمَا سَاوَاهُ يَكُونُ سَائِلًا بِقُوَّةِ نَفَسِهِ أَيْضًا. ثُمَّ اعْتِبَارُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَاعْتِبَارُ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ». وَفِي الْكِتَابِ قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَالتَّبَسُّمُ لَا يَنْقُضُهُ) أَمَّا التَّبَسُّمُ فَلِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ «مَا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تَبَسَّمَ، وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَسَّمَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» فَدَلَّ أَنَّ التَّبَسُّمَ لَا يَضُرُّ الْمُصَلِّي فَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْوُضُوءِ يَكُونُ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدَثًا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَقَاسَ بِالْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَاسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إذْ أَقْبَلَ أَعْمَى فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ رَكِيَّةٍ هُنَاكَ فَضَحِكَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ». وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ضَحِكَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى قَرْقَرَ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ»، وَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ.، وَالضَّحِكُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حَالَ الصَّلَاةِ حَالَ الْمُنَاجَاةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَتَعْظُمُ الْجِنَايَةُ مِنْهُ بِالضَّحِكِ فِي حَالِ الْمُنَاجَاةِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ (وَلَا يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ مَا دَامَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، أَوْ قَاعِدًا، وَيَنْقُضُهُ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُتَّكِئًا، أَوْ عَلَى إحْدَى أَلْيَتَيْهِ) أَمَّا نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عَيْنَهُ حَدَثٌ بِالسُّنَّةِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ طَاهِرًا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَخُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ عَيْنَهُ حَدَثٌ، وَالثَّانِي، وَهُوَ: أَنَّ الْحَدَثَ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّائِمُ عَادَةً فَيُجْعَلَ كَالْمَوْجُودِ حُكْمًا فَإِنَّ نَوْمَ الْمُضْطَجِعِ يَسْتَحِكُمْ فَتَسْتَرْخِي مَفَاصِلُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ». وَهُوَ ثَابِتٌ عَادَةً كَالْمُتَيَقِّنِ بِهِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالنَّوْمِ مُضْطَجِعًا حَتَّى يَعْلَمَ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَكَانَ إذَا نَامَ أَجْلَسَ عِنْدَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ فَإِذَا انْتَبَهَ سَأَلَهُ فَإِنْ أُخْبِرَ بِظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهُ أَعَادَ الْوُضُوءَ، وَالْمُتَّكِئُ كَالْمُضْطَجِعِ؛ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ زَائِلٌ عَنْ الْأَرْضِ فَأَمَّا الْقَاعِدُ إذَا نَامَ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ طَالَ النَّوْمُ قَاعِدًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «نِمْتُ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى وَقَعَ ذَقَنِي عَلَى صَدْرِي فَوَجَدْت بَرْدَ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِي فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت أَعَلَيَّ فِي هَذَا وُضُوءٌ؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى تَضْطَجِعَ»، وَلِأَنَّ مَقْعَدَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأَرْضِ فَيَأْمَنُ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يُطِلْ نَوْمَهُ. فَأَمَّا إذَا نَامَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ، أَوْ نَوْمٍ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ إلَّا أَنَّا خَصَّصَنَا نَوْمَ الْقَاعِدِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ مَقْعَدَهُ زَائِلٌ عَنْ الْأَرْضِ فِي حَالِ نَوْمِهِ فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ»، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ مَعَ النَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَبَقَاءُ الِاسْتِمْسَاكِ يُؤَمِّنُهُ مَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ كَالْقَاعِدِ بِخِلَافِ الْمُضْطَجِعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا تَعَمَّدَ النَّوْمَ فِي السُّجُودِ اُنْتُقِضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ غَلَبْته عَيْنَاهُ لَمْ يُنْتَقَضْ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَوْمِ السَّاجِدِ أَنَّهُ حَدَثٌ كَنَوْمِ الْمُضْطَجِعِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَادُ النَّوْمَ عَلَى وَجْهِهِ. تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلْبَلْوَى فِيهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا إذَا غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ لَا إذَا تَعَمَّدَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فَيَقُولُ اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي، وَجَسَدُهُ فِي طَاعَتِي»، وَإِنَّمَا يَكُونُ جَسَدُهُ فِي الطَّاعَةِ إذَا بَقِيَ وُضُوءُهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ فَإِنَّهُ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ نَوْمَ الْقَائِمِ، وَالرَّاكِعِ، وَالسَّاجِدِ إنَّمَا لَا يَكُونُ حَدَثًا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ يَكُونُ حَدَثًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِبَقَاءِ الِاسْتِمْسَاكِ فَإِنْ كَانَ الْقَاعِدُ مُسْتَنِدًا إلَى شَيْءٍ فَنَامَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أُزِيلَ سَنَدُهُ عَنْهُ يَسْقُطُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأَرْضِ فَيَأْمَنُ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ نَامَ قَاعِدًا فَسَقَطَ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ النَّوْمِ، وَهُوَ الْحَدَثُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حِينَ سَقَطَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ زَايَلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ. قَالَ (وَلَا يَنْقُضُ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ الْوُضُوءَ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجِسَ، وَلِأَنَّهُ لَا كَلَامَ أَفْحَشَ مِنْ الرِّدَّةِ، وَالْمُتَوَضِّئُ إذَا ارْتَدَّ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ -، ثُمَّ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلْمُتَسَابَّيْنِ: إنَّ بَعْضَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ شَرٌّ مِنْ الْحَدَثِ فَجَدِّدُوا الْوُضُوءَ إنَّمَا أَمَرَتْ بِهِ اسْتِحْسَانًا لِيَكُونَ الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِمَا. قَالَ (وَلَا وُضُوءَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَمَا لَمْ تَمَسَّهُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَوَضَّئُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»، وَقَالَ جَابِرٌ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ لِيَخْرُجَ فَرَأَى عِرْقًا أَيْ عَظْمًا فِي يَدِ بَعْضِ صِبْيَانِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَعِيفٌ قَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: أَلَسْنَا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ غَسْلُ الْيَدِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَأُتِينَا بِقَصْعَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ، وَالْوَدَكِ فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَإِنَّ الطَّعَامَ وَاحِدٌ، ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ مِنْ رُطَبٍ فَجَعَلْت آكُلُ مِمَّا يَلِينِي فَقَالَ: أَجِلْ يَدَكَ فَإِنَّ الرُّطَبَ أَلْوَانٌ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتُهُ النَّارُ»، وَلِهَذَا فَصَّلَ فِي رِوَايَتِهِ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لِلَحْمِ الْإِبِلِ مِنْ اللُّزُوجَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ نِيئًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ فَالنَّارُ لَا تَزِيدُهُ إلَّا نَظَافَةً. قَالَ (، وَيُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ، وَأَصَابِعَهُ فِي الْوُضُوءِ) فَإِنْ لَمْ يُخَلِّلْ لِحْيَتَهُ أَجْزَأَهُ، وَأَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ حَتَّى لَا يَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ»، وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَقَدْ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَخِلَالُ الشَّعْرِ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِ لِحْيَتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَشَرَةَ الَّتِي اسْتَتَرَتْ بِالشَّعْرِ كَانَ يَجِبُ إمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهَا قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ فَإِذَا اسْتَتَرَتْ بِالشَّعْرِ يَتَحَوَّلُ الْحُكْمُ إلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الشَّعْرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: إنْ مَسَحَ مِنْ لِحْيَتِهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا أَجْزَأَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِيعَابَ فِي الْمَمْسُوحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنْ تَرَكَ مَسْحَ اللِّحْيَةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ غَسْلٌ، وَمَسْحٌ، وَغَسْلُ الْوَجْهِ فَرْضٌ فَلَا يَجِبُ الْمَسْحُ فِيهِ، وَاللِّحْيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ فَأَمَّا تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَلَمْ يَعُدَّهُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّخْلِيلُ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّلُ إذَا تَوَضَّأَ، وَقَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «رَأَيْت أَصَابِعَ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ، وَقَالَ نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فَأَمَرَنِي أَنْ أُخَلِّلَ لِحْيَتِي إذَا تَوَضَّأْت». قَالَ (وَإِذَا حَتَّ النَّجَاسَةَ عَنْ الثَّوْبِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا فِي الْمَنِيِّ الْيَابِسِ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ رَقِيقٌ تَتَدَاخَلُ النَّجَاسَةُ فِي أَجْزَائِهِ فَلَا يُخْرِجُهُ إلَّا الْمَاءُ فَأَمَّا الْحَتُّ يُزِيلُ مَا عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ مَا يَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَائِهِ فَأَمَّا الْمَنِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَاهِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ الْمَنِيُّ كَالْمُخَاطِ فَأَمِطْهُ عَنْكَ، وَلَوْ بِإِذْخِرَةٍ، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ لِخِلْقَةِ الْآدَمِيِّ فَكَانَ طَاهِرًا كَالتُّرَابِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - خُلِقُوا مِنْ شَيْءٍ نَجِسٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ غِذَاءِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا يَكُونُ نَجِسًا إذَا كَانَ يَسْتَحِيلُ إلَى نَتِنٍ، وَفَسَادٍ، وَالْمَنِيُّ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ إلَى فَسَادٍ، وَنَتِنٍ فَهُوَ كَاللَّبَنِ، وَالْبَيْضَةِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْخَمْرِ، وَالدَّمِ، وَالْمَنِيِّ»، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْبَدَنِ يَجِبُ الِاغْتِسَالُ بِخُرُوجِهِ فَكَانَ نَجِسًا كَدَمِ الْحَيْضِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ مَكَانِ النَّجَاسَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَإِنْ يَكُنْ نَجِسًا فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ أَصْلَ خِلْقَةِ الْآدَمِيِّ لَا يَنْفِي صِفَةَ النَّجَاسَةِ عَنْهُ كَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةُ، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَبَّهَهُ بِالْمُخَاطِ فِي الْمَنْظَرِ لَا فِي الْحُكْمِ، وَأَمَرَ بِالْإِمَاطَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ غَسْلِهِ فَإِنَّ قَبْلَ الْإِمَاطَةِ تَنْتَشِرُ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ إذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ، وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مَا دَامَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ فَإِنْ جَفَّ فَحَتُّهُ، وَفَرْكُ الثَّوْبِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ إلَّا أَنَّهُ نَضِيجٌ فَهُوَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الدَّمِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ. اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فِي الْمَنِيِّ إذَا رَأَيْته رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِذَا رَأَيْته يَابِسًا فَافْرُكِيهِ». «، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يُصَلِّي»، وَلِأَنَّ جُرْمَ الْمَنِيِّ لَا يَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْفَرْكِ فَهُوَ نَظِيرُ سَيْفِ الْمُجَاهِدِ، وَسِكِّينِ الْقَصَّابِ إذَا مَسَحَهُ بِالتُّرَابِ يَطْهُرُ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الْبَدَنَ لَا يَطْهُرُ بِهِ إلَّا بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ لِينَ الْبَدَنِ يَمْنَعُ زَوَالَ أَثَرِهِ بِالْحَتِّ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا كَانَ الْمَنِيُّ غَلِيظًا فَجَفَّ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ، وَقَالَ إذَا أَصَابَ الْمَنِيُّ ثَوْبًا ذَا طَاقَيْنِ فَالطَّاقُ الْأَعْلَى يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَالْأَسْفَلُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصِيبُهُ الْبِلَّةُ دُونَ الْجُرْمِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّ الْفَحْلَ لَا يُمْنِي حَتَّى يُمْذِي، وَالْمَذْيُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الْمَذْيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلِكًا بِالْمَنِيِّ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْمَنِيِّ دُونَ الْمَذْيِ. قَالَ (وَإِنْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْخُفَّ، أَوْ النَّعْلَ فَمَا دَامَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ)؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ بِالْأَرْضِ لَا يُزِيلُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا مَسَحَ بِالْأَرْضِ حَتَّى لَمْ تَبْقَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَلَا رَائِحَتُهَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْخُفِّ، وَاعْتَبَرَ الْبَلْوَى فِيهِ لِلنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جُرْمٌ كَالْبَوْلِ، وَالْخَمْرِ فَلَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْبِلَّةَ تَدَاخَلَتْ فِي أَجْزَاءِ الْخُفِّ، وَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ جُرْمٌ حَتَّى يَزُولَ بِالْمَسْحِ بِالْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ لَهَا جُرْمٌ كَالْعَذِرَةِ، وَالرَّوْثِ فَمَسَحَهُ بِالْأَرْضِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغُسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي أَجْزَاءِ الْخُفِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا بَعْدَ الْجَفَافِ تَبْقَى مُتَّصِلَةً بِالْخُفِّ فَلَا يُطَهِّرُهَا إلَّا الْغُسْلُ كَمَا إذَا أَصَابَتْ الثَّوْبَ، أَوْ الْبِسَاطَ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ بِالْأَرْضِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ فَإِنْ رَأَى فِيهِمَا قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ» «، وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رُبَّمَا أَمْشِي عَلَى مَكَان نَجِسٍ، ثُمَّ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ فَقَالَ الْأَرْضُ يُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلْجِلْدِ صَلَابَةً تَمْنَعُ دُخُولَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فِي بَاطِنِهِ، وَلِهَذِهِ النَّجَاسَةُ جُرْمٌ يُنْشِفُ الْبِلَّةَ الْمُتَدَاخِلَةَ إذَا جَفَّ فَإِذَا مَسَحَهُ بِالْأَرْضِ فَقَدْ زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْجِلْدِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، أَوْ الْبِسَاطِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ تَتَدَاخَلُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فِي بَاطِنِهِ فَلَا يُخْرِجُهُ إلَّا الْمَاءُ فَإِنَّ الْمَاءَ لِلَطَافَتِهِ يَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُخْرِجُ النَّجَاسَةَ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى أَثَرِهَا بِالْعَصْرِ. قَالَ (، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ، وَغَسْلِهِ، وَحَمْلِهِ وُضُوءٌ، وَلَا غُسْلٌ إلَّا أَنْ يُصِيبَ يَدَهُ، أَوْ جَسَدَهُ شَيْءٌ فَيَغْسِلُهُ) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْلِمَ طَاهِرٌ، وَمَسُّ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا فَمَسُّ النَّجِسِ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَيْضًا، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ، وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» ضَعِيفٌ قَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ أَيَلْزَمُنَا الْوُضُوءُ بِمَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ» غُسْلُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ قَذَارَةٍ عَادَةً، وَقَوْلُهُ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ» إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أَصَابَتْهُ الْغُسَالَاتُ النَّجِسَةُ، وَقَوْلُهُ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» إذَا كَانَ مُحْدِثًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قَالَ (، وَالْحِجَامَةُ تُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَغُسْلَ مَوْضِعِ الْمَحْجَمَةِ)، وَهُوَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُوجِبُ مَوْضِعَ الْمَحْجَمَةِ، وَلَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اغْسِلْ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ، وَحَسْبُكَ. وَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا مَعْنَاهُ: وَحَسْبُكَ مِنْ الِاغْتِسَالِ. فَإِنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانُوا يُوجِبُونَ الِاغْتِسَالَ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْحِجَامَةِ فَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ هَذَا رَدًّا عَلَيْهِمْ فَأَمَّا الْوُضُوءُ وَاجِبٌ بِخُرُوجِ النَّجِسِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَغْسِلْ مَوْضِعَ الْمَحْجَمَةِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَجْزَأْته، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تُجْزِئُهُ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْكَثِيرِ عِنْدَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ. قَالَ (وَإِنْ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ دَابَّةٌ، أَوْ رِيحٌ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ)، وَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الدُّودُ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ بِلَّةٍ تَكُونُ مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ الْقَلِيلُ كَالْكَثِيرِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ الدُّودُ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْخَارِجِ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ سَائِلٍ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَأَمَّا الرِّيحُ إذَا خَرَجَ مِنْ الدُّبُرِ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَيَقُولُ: أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ أَحَدُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا». فَإِنْ خَرَجَ الرِّيحُ مِنْ الذَّكَرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ حَدَثٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ هَذَا لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاجٌ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ، وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الرِّيحُ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مُفْضَاةً يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ، وَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِ الرِّيحِ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. قَالَ (وَإِنْ رَعَفَ قَلِيلًا لَمْ يَسِلْ لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ)، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِيمَا صَلُبَ مِنْ أَنْفِهِ لَمْ يَنْزِلْ إلَى مَا لَانَ مِنْهُ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّوَادِرِ: إذَا نَزَلَ الدَّمُ إلَى قَصَبَةِ الْأَنْفِ انْتَقَضَ بِهِ الْوُضُوءُ بِخِلَافِ الْبَوْلِ إذَا نَزَلَ إلَى قَصَبَةِ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ النَّجَاسَةَ لَمْ تَصِلْ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، وَفِي الْأَنْفِ قَدْ وَصَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْجَنَابَةِ فَرْضٌ، وَفِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ. قَالَ (، وَيَتَوَضَّأُ صَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلِّي بِذَلِكَ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَالنَّوَافِلِ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ)، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ دَمَ الْمُسْتَحَاضَةِ حَدَثٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ مِنْ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ»، ثُمَّ عِنْدَنَا يَلْزَمُهَا الْوُضُوءُ فِي كُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَا شَاءَتْ مِنْ النَّوَافِلِ بِذَلِكَ، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ اُسْتُحِيضَتْ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»، وَمُطْلَقُهُ يَتَنَاوَلُ الْمَكْتُوبَةَ، وَلِأَنَّ طَهَارَتَهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِاقْتِرَانِ الْحَدَثِ بِهَا، وَيَتَجَدَّدُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ مَكْتُوبَةٍ ضَرُورَةً فَيَلْزَمُهَا وُضُوءٌ جَدِيدٌ فَأَمَّا النَّوَافِلُ تَبَعٌ لِلْفَرَائِضِ فَثُبُوتُ حُكْمِ الطَّهَارَةِ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ ثُبُوتَهُ فِي التَّبَعِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ». مَا رُوِيَ «لِكُلِّ صَلَاةٍ» فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَقْتُ فَالصَّلَاةُ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا، وَآخِرًا» أَيْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: آتِيكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَيْ وَقْتَهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَوْقَاتَ مَشْرُوعَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فِيهَا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْأَدَاءِ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْ بَيْنِ مُطَوِّلٍ، وَمُوجِزٍ فَشُرِعَ لِلْأَدَاءِ وَقْتٌ يَفْصِلُ عَنْهُ تَيْسِيرًا، وَإِذَا قَامَ الْوَقْتُ مَقَامَ الصَّلَاةِ لِهَذَا فَتَجَدُّدُ الضَّرُورَةِ يَكُونُ بِتَجَدُّدِ الْوَقْتِ، وَمَا بَقِيَ الْوَقْتُ يَجْعَلُ الضَّرُورَةَ كَالْقَائِمَةِ حُكْمًا تَيْسِيرًا عَلَيْهَا فِي إقَامَةِ الْوَقْتِ مَقَامَ الْفِعْلِ، وَبَعْدَ مَا فَرَغَتْ مِنْ الْأَدَاءِ إنْ بَقِيَتْ طَهَارَتُهَا فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فَرْضًا آخَرَ، وَإِنْ لَمْ تَبْقَ طَهَارَتُهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ النَّوَافِلَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ شَرْطِهَا. ثُمَّ انْتِقَاضُ طَهَارَتِهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَبِدُخُولِ الْوَقْتِ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ فَطَلَعَتْ الشَّمْسُ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَوْ تَوَضَّأَتْ فِي، وَقْتِ الضَّحْوَةِ فَزَالَتْ الشَّمْسُ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُمَا يَقُولَانِ طَهَارَتُهَا قَبْلَ وُقُوعِ الْحَاجَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبِدُخُولِ الْوَقْتِ تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُهَا بِهِ الطَّهَارَةُ. (وَلَنَا) أَنَّ انْتِقَاضَ طَهَارَتِهَا بِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، ثُمَّ صَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ عِنْدَنَا فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ حَدَثٌ عِنْدَنَا فَيَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَوْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا عَنْ الْجَامِعِ فَلَوْ انْتَظَرَ لِلْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 زَوَالَ الشَّمْسِ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ قَبْلَ الزَّوَالِ. قَالَ (وَإِنْ سَالَ الدَّمُ بَعْدَ الْوُضُوءِ حَتَّى نَفَذَ الرِّبَاطُ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ) «؛ لِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أَثُجُّ الدَّمَ ثَجًّا قَالَ احْتَشِي، وَالْتَجِمِي، وَصَلِّي»، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا فَإِنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا لَمْ يَغْسِلْهُ، وَصَلَّى، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ يُصِيبُهُ ثَانِيًا، وَثَالِثًا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَيْهِ غَسْلُ ثَوْبِهِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ مَرَّةً بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوُضُوءِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ حَتَّى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ يَكُونُ عَفْوًا فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فَإِنْ سَالَ الدَّمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ أَعَادَ الْوُضُوءَ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ، وَتَقَدُّرُ طَهَارَتِهِ بِالْوَقْتِ كَانَ لِلْحَدَثِ الْمَوْجُودِ بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فَمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ الْحَدَثِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ. قَالَ (وَمَنْ خَاضَ مَاءَ الْمَطَرِ إلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ دَاسَ الطِّينَ لَمْ يَنْقُضْ ذَلِكَ وُضُوءَهُ)؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ الْبَدَنِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ يَوْمًا، وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ، وَخَاضَ الْمَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَمَسَحَ قَدَمَيْهِ، وَدَخَلَ، وَصَلَّى، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَلَا غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ بَلْ يَمْسَحُ قَدَمَيْهِ، وَيُصَلِّي هَذَا إذَا كَانَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَإِنَّ الطِّينَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ، وَالتُّرَابَ الطَّاهِرَ طَاهِرٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْمَاءُ، وَإِمَّا التُّرَابُ نَجِسًا فَالطِّينُ نَجِسٌ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأَى رَجُلًا يَمْسَحُ خُفَّيْهِ بِأُسْطُوَانَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ لَوْ مَسَحْته بِلِحْيَتِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا مُعَدًّا لِذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يُصَلَّى فِيهِ عَادَةً. قَالَ (وَمَنْ سَالَ عَلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ شَيْءٌ لَا يَدْرِي مَا هُوَ فَغُسْلُهُ أَحْسَنُ)؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ لَا يَرِيبُهُ، وَتَرْكُهُ يَرِيبُهُ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» فَإِنْ تَرَكَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ فِي ثَوْبِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ غَسَلَهُ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْي فِيمَا لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتَهُ كَالْيَقِينِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى»، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي بَلْدَتِنَا لَا بُدَّ مِنْ غُسْلِهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُرَاقُ الْبَوْلُ، أَوْ الْمَاءُ النَّجِسُ مِنْ السُّطُوحِ. قَالَ (وَإِنْ انْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَوْلِ مِثْلُ رُءُوسِ الْإِبَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهُ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَلْوًى فَإِنَّ مَنْ بَال فِي يَوْمِ رِيحٍ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ ذَلِكَ خُصُوصًا فِي الصَّحَارِيِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا. قَالَ (وَمَنْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ) لِأَنَّ غَسْلَهُ لَا يَرِيبُهُ، وَلِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْحَدَثِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ غَسْلِهِ. وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ قَطُّ مِثْلُ هَذَا إنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الشَّكَّ فِي مِثْلِهِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ حَتَّى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَسَاوِسِ، وَالسَّبِيلُ فِي الْوَسَاوِسِ قَطْعُهَا، وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَكُلَّمَا قَامَ إلَيْهَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الشَّكِّ. . قَالَ (وَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ عَلَى حَدَثِهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ، وَمَا تَيَقَّنَ بِهِ لَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ)، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْمُتَوَضِّئُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دَخَلَ الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهَا، أَوْ بَعْدَ مَا قَضَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إلَّا بَعْدَ قَضَائِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ، وَمَعَهُ الْمَاءُ، وَشَكَّ فِي أَنَّهُ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، أَوْ بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاجِبٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ. قَالَ (وَمَنْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا عَنْ ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ)؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ سَالَ مِنْهُ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا قَالَ رَآهُ سَائِلًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبِلَّةِ مُحْتَمَلَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُرِيهِ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَوْلٌ، أَوْ مَاءٌ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَسَاوِسِ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلَهَانُ لَا شُغْلَ لَهُ إلَّا الْوَسْوَسَةَ فِي الْوُضُوءِ» فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ، وَإِزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ حَتَّى إذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَحَالَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَرَنِي بِذَلِكَ». . قَالَ (وَلَيْسَ دَمُ الْبَقِّ، وَالْبَرَاغِيثِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ سَائِلٍ، وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ) خُصُوصًا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إلَّا ثَوْبٌ، وَاحِدٌ يَنَامُ فِيهِ كَمَا كَانَ لِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ دَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَعْنِي لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِبَارِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا دَمُ الْحَلَمِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ مَا صَلَّى، وَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ سَائِلٍ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ الْأَذَى كَانَ فِي نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ» كَانَ دَمُ حَلَمٍ. قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ فَأَخْبَرَهُ بَعْضٌ أَنَّهُ قَذِرٌ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ)؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ حُجَّةٌ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً حَتَّى كَانَ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَدْخَلَ الصَّبِيُّ يَدَهُ فِي كُوزِ مَاءٍ، وَلَا يُعْلَمُ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَوَضَّأَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَاتِ عَادَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّ يَدَهُ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّوَضُّؤِ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَحَالُهُ كَحَالِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سُؤْرَهَا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ حُبٍّ يُوضَعُ كُوزُهُ فِي نَوَاحِي الدَّارِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَذِرٌ)؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ، وَيَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ فَيُتَمَسَّكُ بِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِالنَّجَاسَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَسْقَى الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ أَلَا نَأْتِيكَ بِالْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْبُيُوتِ فَإِنَّ النَّاسَ يُدْخِلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي مَاءِ السِّقَايَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ مِنْهُمْ». قَالَ (وَإِذَا وَقَعَ بَعْرُ الْغَنَمِ، أَوْ الْإِبِلِ فِي الْبِئْرِ لَمْ يَضُرَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا)، وَفِي الْقِيَاسِ يَتَنَجَّسُ الْبِئْرُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَيَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا، وَقُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ لِلْبَلْوَى فِيهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْآبَارِ فِي الْفَيَافِي، وَالْمَوَاشِي تَبْعَرُ حَوْلَهَا، ثُمَّ الرِّيحُ تُسْفِي بِهِ فَتُلْقِيهِ فِي الْبِئْرِ فَلَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ كَانَ فِيهِ انْقِطَاعُ السُّبُلِ، وَالرُّسُلِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ فَقُلْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مَاءَ الْبِئْرِ كُلَّهُ، وَالْكَثِيرُ مَا اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ، وَقِيلَ أَنْ يُغَطِّيَ رُبُعَ وَجْهِ الْمَاءِ، وَقِيلَ أَنْ لَا تَخْلُو دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ يَابِسًا فَإِنْ كَانَ رَطْبًا تَفْسُدُ الْبِئْرُ بِقَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ، ثُمَّ قَالَ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ ثَقِيلٌ لَا يَسْفِي بِهِ الرِّيحُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّطْبِ مِنْ الصَّلَابَةِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ مَا لِلْيَابِسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْيَابِسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ يَصِيرُ رَطْبًا، وَمَا عَلَى الرَّطْبِ مِنْ الرُّطُوبَةِ رُطُوبَةُ الْأَمْعَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُتَفَتِّتِ فَإِنْ كَانَ مُتَفَتِّتًا، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَدْخُلُ فِي أَجْزَائِهِ فَيَتَنَجَّسُ، ثُمَّ يَخْرُجُ، وَهُوَ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمُتَفَتِّتِ؛ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ قَائِمَةٌ. وَأَمَّا السِّرْقِينِ فَقَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ رَطْبًا كَانَ، أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ الصَّلَابَةِ كَمَا لِلْبَعْرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي تَبِنَةٍ، أَوْ تَبِنَتَيْنِ مِنْ الْأَرْوَاثِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ اسْتَحْسَنَ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُهُ، وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِقِيَامِ الْبَلْوَى فِيهِ حَتَّى قَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ لَوْ حَلَبَ عَنْزًا فَبَعَرَتْ فِي الْمَحْلَبِ يَرْمِي بِالْبَعْرَةِ، وَيَحِلُّ شُرْبُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَلْوًى فَإِنَّ الْعَنْزَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْلَبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْعَرَ فِي الْمَحْلَبِ. قَالَ (وَلَا يَتَوَضَّأُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ سِوَى الْمَاءَ) إلَّا بِنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَمَّا نَبِيذُ التَّمْرِ فَفِي الْأَصْلِ قَالَ يَتَوَضَّأُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ مَعَ ذَلِكَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَتَيَمَّمُ، وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَرَوَى نُوحُ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وَخَبَرُ نَبِيذِ التَّمْرِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَانْتَسَخَ بِهَا خَبَرُ نَبِيذِ التَّمْرِ؛ لِأَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ، وَالْقِيَاسُ هَكَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ فَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ تَرَكَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَلَمَّا انْصَرَفَ إلَيْهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ قَالَ أَمَعَكَ مَاءٌ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ فِي إدَاوَةٍ فَقَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ، وَأَخَذَهُ، وَتَوَضَّأَ بِهِ»، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ نَبِيذُ التَّمْرِ طَهُورُ مَنْ لَا يَجِدْ الْمَاءَ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالسُّنَّةِ، وَبِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ فَقِيهًا فَأَمَّا آيَةُ التَّيَمُّمِ تَتَنَاوَلُ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَهَذَا مَاءٌ شَرْعًا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَمَاءٌ طَهُورٌ»، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ التَّيَمُّمَ، وَالْخَبَرَ يُوجِبُ التَّوَضُّؤُ بِالنَّبِيذِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا، وَإِذَا قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ فَهَا هُنَا أَوْلَى. وَصِفَةُ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ أَنْ يَكُونَ حُلْوًا رَقِيقًا يَسِيلُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَالْمَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَخِينًا فَهُوَ كَالرُّبِّ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا فَهُوَ حَرَامٌ شُرْبُهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ حُلْوًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كَانَ، أَوْ مُشْتَدًّا؛ لِأَنَّ النَّارَ غَيَّرَتْهُ فَهُوَ كَمَاءِ الْبَاقِلَا فَأَمَّا سَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِجَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ فِي الْوُضُوءِ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ (، وَالْإِغْمَاءُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا) «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فِي مَرَضِهِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ تَوَضَّأَ ثَانِيًا»، وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ فِي غَفْلَةِ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَهَا هُنَا لَا يَنْتَبِهُ، وَكَذَلِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لَوْ عَرَضَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَيَمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ مُسْتَحْسَنٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالْإِغْمَاءُ لَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْإِمَامُ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمُ الصَّلَاةَ بِإِمَامٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ»، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِهَذَا اسْتَقْبَلُوا. قَالَ (وَلَيْسَ الْغُسْلُ بِوَاجِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ) إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، أَوْ قَالَ حَقٌّ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا، وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ». وَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ فَقَالَ أَيَّةُ سَاعَةِ الْمَجِيءِ هَذِهِ، قَالَ: مَا زِدْت بَعْدَ أَنْ سَمِعْت النِّدَاءَ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت فَقَالَ، وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِالِاغْتِسَالِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»، ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِانْصِرَافِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَا: كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، وَيَعْرَقُونَ فِيهِ، وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ الْبَعْضِ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ لِهَذَا، ثُمَّ انْتَسَخَ هَذَا حِينَ لَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَيْدِيهِمْ، وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الِاغْتِسَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْيَوْمِ أَمْ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْيَوْمِ، وَإِظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ»، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَلَهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ. عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ وَالِاغْتِسَالُ فِي الْحَاصِلِ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا. خَمْسَةٌ مِنْهَا فَرِيضَةٌ. الِاغْتِسَالُ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمِنْ إنْزَالِ الْمَاءِ، وَمِنْ الِاحْتِلَامِ، وَمِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا سُنَّةٌ. الِاغْتِسَالُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ. وَوَاحِدٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ، وَآخَرُ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ»، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا فَإِنْ أَجْنَبَ، وَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى أَسْلَمَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ صِفَةِ الْجَنَابَةِ بَعْدَ إسْلَامِهِ كَبَقَاءِ صِفَةِ الْحَدَثِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْبِئْرِ] قَالَ (وَإِذَا مَاتَتْ الْفَأْرَةُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ فَعِشْرُونَ وَاجِبٌ وَثَلَاثُونَ أَحْوَطُ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا مَضَى، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَطْعَنُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: دَلْوٌ يُمَيِّزُ الْمَاءَ النَّجِسَ مِنْ الطَّاهِرِ دَلْوٌ كَيِّسٌ. وَهَذَا طَعْنٌ فِي السَّلَفِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَهَارَةَ الْبِئْرِ بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ قَوْلُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ثُمَّ هُمْ قَالُوا بِالرَّأْيِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا فَقَالُوا فِي بِئْرٍ فِيهَا قُلَّتَانِ مِنْ الْمَاءِ مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ فَنُزِحَ مِنْهَا دَلْوٌ فَإِنْ حَصَلَتْ الْفَأْرَةُ فِي الدَّلْوِ فَالْمَاءُ الَّذِي فِي الدَّلْوِ نَجِسٌ وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي الْبِئْرِ طَاهِرٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْفَأْرَةُ فِي الْبِئْرِ فَالْمَاءُ الَّذِي فِي الدَّلْوِ طَاهِرٌ وَاَلَّذِي فِي الْبِئْرِ نَجِسٌ فَدَلْوُهُمْ هَذَا أَكْيَسُ. قَالَ (فَإِنْ نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا قَبْلَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ لَمْ تَطْهُرْ)؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْفَأْرَةِ فِيهَا بَعْدَ النَّزْحِ كَابْتِدَاءِ الْوُقُوعِ وَلِأَنَّ سَبَبَ نَجَاسَةِ الْبِئْرِ حُصُولُ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ فِيهَا وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلنَّجَاسَةِ. قَالَ (فَإِنْ أُخْرِجَتْ الْفَأْرَةُ ثُمَّ نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا وَهُوَ يَقْطُرُ فِيهَا لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ) لِأَنَّ النَّزْحَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْطُرُ شَيْءٌ مِنْهُ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. قَالَ (وَإِنْ صُبَّ الدَّلْوُ الْآخِرُ فِي بِئْرٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا دَلْوًا مِثْلَهُ كَمَا لَوْ صُبَّ فِي الْبِئْرِ الْأُولَى) لِأَنَّ حَالَ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مَا حَصَلَ هَذَا الدَّلْوُ فِيهَا كَحَالِ الْبِئْرِ الْأُولَى حِينَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 هَذَا الدَّلْوُ فِيهَا (وَإِنْ صُبَّ الدَّلْوُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مِنْهَا عِشْرِينَ دَلْوًا) لِأَنَّ حَالَ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَذَا الدَّلْوِ فِيهَا كَحَالِ الْبِئْر الْأُولَى حِينَ كَانَ هَذَا الدَّلْوُ فِيهَا وَلَوْ صُبَّ دَلْوٌ فِي بِئْرٍ أُخْرَى قَبْلَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ يُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِي الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ كَذَا قَالَهُ أُسْتَاذنَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَّا تَقَلُّدًا فَإِنَّ مَاءَ الدَّلْوِ نَجِسٌ كَمَاءِ الدَّلْوِ الْأَوَّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمَعْنَى غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَشَبَّهَ هَذَا بِالثَّوْبِ إذَا غُسِلَ ثَلَاثًا فَالْمَاءُ الثَّالِثُ فِي النَّجَاسَةِ كَالْمَاءِ الْأَوَّلِ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا آخَرَ نَجَّسَهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ: إذَا أَصَابَ الْمَاءُ الْأَوَّلُ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا وَإِنْ أَصَابَهُ الْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ أَصَابَهُ الْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَالْأَصَحُّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ: النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ عَيْنِيَّةٌ وَيُنَجَّسُ الْمَاءُ بِحُصُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، فَأَمَّا تَنْجِيسُ الْمَاءِ فَحُكْمِيٌّ وَطَهَارَتُهُ بِالنَّزْحِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَكَانَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ أَخَفَّ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي فِي الدَّلْوِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ نَزْحِ الدَّلْوِ الْأَوَّلِ يَتَيَقَّنُ بِكَوْنِ الْمَاءِ النَّجِسِ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مَا جَاوَزَ الْفَأْرَةَ، وَعِنْدَ نَزْحِ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ لَا يَتَيَقَّنُ بِذَلِكَ فَلَعَلَّ مَا جَاوَزَ الْفَأْرَةَ الْمَاءُ الَّذِي نُزِحَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الدِّلَاءِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلَّمَا نُزِحَ الْمَاءُ كَانَ أَطْهَرُ لِلْبِئْرِ فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ الدَّلْوِ الْأَوَّلِ إذَا صُبَّ فِي بِئْرٍ أُخْرَى وَبَيْنَ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ. وَإِنْ صُبَّ الدَّلْوُ الثَّانِي فِيهَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مِنْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ حَالَهَا كَحَالِ الْبِئْرِ الْأُولَى وَإِنْ صَبُّوا الدَّلْوَ الْعَاشِرَ فِيهَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مِنْهَا عَشَرَ دِلَاءٍ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَحَدَ عَشَرَ دَلْوًا وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ حَالَ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مَا صُبَّ الدَّلْوُ الْعَاشِرُ فِيهَا كَحَالِ الْبِئْرِ الْأُولَى حِينَ كَانَ هَذَا الدَّلْوُ فِيهَا، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ سِوَى الْمَصْبُوبُ فِيهَا وَالْمَصْبُوبُ فِيهَا وَاجِبُ النَّزْحِ بِيَقِينٍ وَإِنْ خَرَجَتْ الْفَأْرَةُ فَأُلْقِيَتْ فِي الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ وَصُبَّ فِيهَا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ الْبِئْرِ الْأُولَى فَعَلَيْهِمْ إخْرَاجُ الْفَأْرَةِ وَنَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ كَحَالِ الْبِئْرِ الْأُولَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مِنْهَا عِشْرِينَ دَلْوًا سِوَى الْمَصْبُوبِ فِيهَا وَجَعَلَ الْمَصْبُوبَ فِيهَا كَالْفَأْرَةِ فِي الْبِئْرِ الْأُولَى وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبِئْرِ إلَّا نَجَاسَةُ فَأْرَةٍ وَنَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ يُطَهِّرُهَا نَزْحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عِشْرِينَ دَلْوًا. قَالَ (وَإِذَا خَرَجَتْ الْفَأْرَةُ وَجَاءُوا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا بِدَلْوِهِمْ فَاسْتَقَوْا مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُمْ وَقَدْ طَهُرَتْ الْبِئْرُ) لِأَنَّ النَّجَسَ مَا جَاوَزَ الْفَأْرَةَ مِنْ الْمَاءِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ فِي دَلْوٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عِشْرِينَ دَلْوًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا يَطْهُرُ بِهَذَا النَّزْحِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَكْرَارِ نَزْحِ الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْجَارِي، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِنَزْحِ دَلْوٍ عَظِيمٍ مِنْهَا وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا قَدَّرَ الشَّرْعُ الدِّلَاءَ بِقَدْرٍ خَاصٍّ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَدْرُ الْمَنْزُوحِ وَأَنْ مَعْنَى الْجَرَيَانِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِدُونِهِ وَيَزْدَادُ بِزِيَادَتِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ نَزَحَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ يَطْهُرُ لِوُجُودِ الْقَدْرِ مَعَ عَدَمِ الْجَرَيَانِ ثُمَّ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُ تِلْكَ الْبِئْرِ لِقَوْلِهِ بِدَلْوِهِمْ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلْوٌ يَسَعُ فِيهِ صَاعًا مِنْ الْمَاءِ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّزْحِ بِهِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ. قَالَ (وَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ بَعْدَ مَا نَحَّى الدَّلْوَ الْأَخِيرَ عَنْ رَأْسِهَا جَازَ وُضُوءُهُ)؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ فَإِنْ صُبَّ ذَلِكَ الدَّلْوُ فِيهَا لَمْ يَفْسُدْ وُضُوءُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ حَصَلَ الْآنَ وَإِنْ كَانَ الدَّلْوُ بَعْدُ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْصَلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَإِنْ فُصِلَ الدَّلْوُ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَهُوَ مُعَلَّقٌ فِي هَوَاءِ الْبِئْرِ فَتَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجْزَأَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ تَمَيَّزَ عَنْ الْمَاءِ النَّجِسِ فَكَأَنَّهُ نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ وَكَوْنُ الْمَاءِ النَّجِسِ مُعَلَّقًا فِي هَوَاءِ الْبِئْرِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ فِي دَلْوٍ مُعَلَّقٍ فِي هَوَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يُحْكَمُ هُنَاكَ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ بِهَذَا وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّقَاطُرُ عَفْوًا لِأَجَلِ الضَّرُورَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمهمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ حُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّ التَّقَاطُرَ فِيهِ يُجْعَلُ عَفْوًا وَلَوْلَا الِاتِّصَالُ حُكْمًا لَمَا جُعِلَ التَّقَاطُرُ عَفْوًا كَمَا فِي الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ فَصَارَ بَقَاءُ الِاتِّصَالِ حُكْمًا كَبَقَائِهِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا حَقِيقَةً بِأَنْ لَمْ يُفْصَلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبِئْرَ مَوْضِعُ الْمَاءِ فَأَعْلَاهُ كَأَسْفَلِهِ كَالْمَسْجِدِ لَمَّا كَانَ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ جُعِلَ كُلُّهُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الِاقْتِدَاءِ قَالَ (وَلَوْ غُسِلَ ثَوْبٌ نَجِسٌ فِي إجَّانَةٍ بِمَاءٍ نَظِيفٍ ثُمَّ فِي أُخْرَى ثُمَّ فِي أُخْرَى فَقَدْ طَهُرَ الثَّوْبُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ الثَّوْبُ وَلَوْ غُسِلَ فِي عَشْرِ إجَّانَاتٍ وَبِهِ قَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ كُلَّمَا حَصَلَ فِي الْإِجَّانَةِ تَنَجَّسَ ذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنَّمَا غُسِلَ الثَّوْبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ النَّجِسِ فَلَا يَطْهُرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 حَتَّى يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ يُغْسَلَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِنَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَقْوِيرِ أَسْفَلِهِ لِيَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثِّيَابَ النَّجِسَةَ يَغْسِلُهَا النِّسَاءُ وَالْخَدَمُ عَادَةً وَقَدْ يَكُونُ ثَقِيلًا لَا تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى حَمْلِهِ لِتَصُبَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَان فَلَوْ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ فِي الْإِجَّانَاتِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ. ثُمَّ النَّجَاسَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَرْئِيَّةٌ وَغَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، ثُمَّ الْمَرْئِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ الْعَيْنِ بِالْغَسْلِ، وَبَقَاءُ الْأَثَرِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ لَا يَضُرُّ هَكَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَمِ الْحَيْضِ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ وَلَا يَضُرُّكِ بَقَاءُ الْأَثَرِ» وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا خَضَّبَتْ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ النَّجِسِ ثُمَّ غَسَلَتْهُ تَجُوزُ صَلَاتُهَا وَلَا يَضُرُّهَا بَقَاءُ أَثَرِ الْحِنَّاءِ، وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ يُغْسَلُ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ غُسِلَتْ مَرَّةً فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهَا تُغْسَلُ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» فَلَمَّا أَمَرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا فِي النَّجَاسَةِ الْمَوْهُومَةِ فَفِي النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَوْلَى وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعِبْرَةُ بِغَلَبَةِ الرَّأْيِ فِيمَا سِوَى وُلُوغِ الْكَلْبِ حَتَّى إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ طَهُرَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَكْفِيهِ ذَلِكَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اغْسِلِيهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ غَلَبَةُ الرَّأْيِ فِي الْعَامِّ الْغَالِبِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَقَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِ قُلُوبُ النَّاسِ فَأَقَمْنَا السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا وَهُوَ الْغَسْلُ ثَلَاثًا. قَالَ: وَإِنْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْإِجَّانَاتِ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الْعُضْوِ فِي تَغَيُّرِ صِفَةِ الْمَاءِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الثَّوْبِ فَإِنَّ الْعُضْوَ الطَّاهِرَ إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِخِلَافِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ فَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْعُضْوِ عَلَى الثَّوْبِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْعُضْوِ فِي أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْإِجَّانَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَحَقَّقَتْ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ مَنْ دَمِيَ أَنْفُهُ أَوَفَمُهُ لَا يُمْكِنُهُ صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْرَبَ الْمَاءَ النَّجِسَ أَوْ يَعْلُوَ عَلَى دِمَاغِهِ وَفِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَأَخَذْنَا بِالِاسْتِحْسَانِ فِي الْعُضْوِ كَمَا أَخَذْنَا بِهِ فِي الثَّوْبِ. ثُمَّ مَاءُ الْإِجَّانَاتِ كُلِّهَا نَجِسٌ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الْمَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الثَّالِثِ قَدْ بَقِيَ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ (قُلْنَا) مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا مَعَ أَنَّ الْمَاءَ يَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُخْرِجُ النَّجَاسَةَ ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى أَثَرِهَا بِالْعَصْرِ فَمَا بَقِيَ مِنْ الْبِلَّة بَعْدَ الْعَصْرِ لَمْ تُجَاوِزْهُ النَّجَاسَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ النَّجَاسَةِ صِبْغٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ يَتَحَوَّلُ إلَى الْمَاءِ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اللَّوْنِ فِي الثَّوْبِ بِبَقَاءِ الْبِلَّةِ فَكَذَلِكَ النَّجَاسَةُ. قَالَ (جُنُبٌ اغْتَسَلَ فِي ثَلَاثَةِ آبَارٍ وَلَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ فَقَدْ أَفْسَدَ مَاءَ الْآبَارِ وَلَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ الثَّالِثِ طَاهِرًا وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ الْحُكْمِيَّ مُعْتَبَرٌ بِالنَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ فَالْآبَارُ كَالْإِجَّانَاتِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّجَاسَةُ لَا تَزُولُ عَنْ الْبَدَنِ بِالْغُسْلِ فِي الْإِجَّانَاتِ فَكَذَلِكَ الْحَدَثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَزُولُ بِالْغُسْلِ فِي الْآبَارِ لَكَانَ يَخْرُجُ الْجَنْبُ مِنْ الْبِئْرِ الْأُولَى طَاهِرًا كَمَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى بَدَنِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ عَنْ الْبَدَنِ تَزُولُ بِالْغُسْلِ فِي الْإِجَّانَاتِ فَكَذَلِكَ الْجَنَابَةُ قَالَ: وَلَمَّا كَانَ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّجَاسَةِ شَرَطْنَا فِيهِ عَدَدَ الثَّلَاثِ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي غُسْلِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ (فَأْرَةٌ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ فِيهَا وَوَقَعَتْ فَأْرَةٌ أُخْرَى فِي بِئْرٍ أُخْرَى فَمَاتَتْ فَاسْتُقِيَ مِنْ إحْدَاهُمَا عِشْرُونَ دَلْوًا وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى أَجْزَأَهُمْ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَظِمُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ لَا مَا هُوَ فَوْقَهُ فَإِذَا كَانَ مَا فِي الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ مِثْلُ مَا صُبَّ فِيهَا انْتَظَمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَطْهُرُ بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ الْبِئْرِ الثَّانِيَةِ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى مَا لَوْ مَاتَتْ فَأْرَتَانِ فِي بِئْرٍ، وَحُكْمُ الْفَأْرَتَيْنِ كَحُكْمِ الْفَأْرَةِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنَّ الْبِئْرَ تَطْهُرُ بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْهَا، وَإِنْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ ثَالِثَةٍ فَصُبَّ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْبِئْرِ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِنَزْحِ أَرْبَعِينَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ الْمَصْبُوبَ فِيهَا أَكْثَرُ فَيَنْتَظِمُ مَا كَانَ فِيهَا فَتَطْهُرُ بِنَزْحِ الْقَدْرِ الْمَصْبُوبِ فِيهَا وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دَلْوًا وَلِأَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثِ فَأْرَاتٍ مَاتَتْ فِي بِئْرٍ وَثَلَاثُ فَأْرَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَالدَّجَاجَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَالَ) مَا لَمْ يَكُنْ خَمْسُ فَأْرَاتٍ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّجَاجَةِ، فَإِذَا كَانَ الثَّلَاثُ كَالدَّجَاجَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُطَهِّرُهَا نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا وَإِنْ صَبُّوا مِنْ الْبِئْرِ الثَّالِثَةِ فِيهَا دَلْوًا أَوْ دَلْوَيْنِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا مِنْهَا عِشْرِينَ دَلْوًا مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَصْبُوبَ فِيهَا أَكْثَرُ فَيَنْتَظِمُ مَا كَانَ فِيهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا أَنَّ بَعْدَ نَزْحِ الْقَدْرِ الْمَصْبُوبِ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا. قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي جُبٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فَصُبَّ مَاؤُهَا فِي بِئْرٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْزَحُ مِنْهَا مَا صُبَّ فِيهَا وَبَعْدَهُ عِشْرُونَ دَلْوًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْظَرُ إلَى مَاءِ الْجُبِّ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ أَكْثَرَ يُنْزَحُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَإِنْ كَانَ دُونَ عِشْرِينَ دَلْوًا يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ). قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي سَمْنٍ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا يُرْمَى بِهَا وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ مَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا مَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ» وَلِأَنَّ فِي الْجَامِدِ النَّجَاسَةُ إنَّمَا جَاوَزَتْ مَوْضِعًا وَاحِدًا فَإِذَا قُوِّرَ ذَلِكَ كَانَ الْبَاقِي طَاهِرًا، وَفِي الذَّائِبِ النَّجَاسَةُ جَاوَزَتْ الْكُلَّ فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا. وَحَدُّ الْجُمُودِ وَالذَّوْبِ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ قُوِّرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَا يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ جَامِدٌ وَإِنْ كَانَ يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ، ثُمَّ الذَّائِبُ لَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ سِوَى الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِصْبَاحِ وَدَبْغِ الْجِلْدِ بِهِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَيَانِ عَيْبِهِ عِنْدَنَا فَإِذَا بَاعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ بِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِصِفَةِ النَّجَاسَةِ صَارَ كَالْخَمْرِ فَإِنَّ عَيْنَهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَامِدِ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ مَا حَوْلَ الْفَأْرَةِ وَفِي الذَّائِبِ أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْكُلِّ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَعُلَمَاؤُنَا احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي النَّجَاسَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الدُّهْنِ قَالَ: يَسْتَصْبِحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجُلُودَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَانْتَفِعُوا بِهِ» وَلِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَةِ إيَّاهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ النَّجِسِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّ عَيْنَهَا نَجِسٌ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ مُرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ حُرْمَةِ الْأَكْلِ فَمُعْظَمُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هُوَ الْأَكْلُ وَإِذَا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ ثُمَّ غُسِلَ بِالْمَاءِ طَهُرَ بِهِ الْجِلْدُ وَمَا تَشَرَّبَ فِيهِ عَفْوٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الدُّهْنِ يَزُولُ بِالْغَسْلِ إنَّمَا بَقِيَ لِينُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي جُبٍّ فِيهِ خَلٌّ فَأَدْخَلَ رَجُلٌ يَدَهُ فِيهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا فِي عَشْرِ خَوَابِي خَلٍّ أَوْ مَاءٍ فَقَدْ أَفْسَدَهُنَّ كُلَّهُنَّ) فَإِنْ كَانَ فِي الْخَوَابِي مَاءٌ فَهَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَخْرُجُ يَدُهُ مِنْ الْخَابِيَةِ الثَّالِثَةِ طَاهِرَةً بِنَاءً عَلَى غَسْلِ الْعُضْوِ الْمُتَنَجِّسِ فِي الْإِجَّانَاتِ كَمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَدْخَلَهَا فِي الْخَابِيَةِ الْأُولَى إلَى الْإِبِطِ حَتَّى تَتَنَجَّسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 كُلُّهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي الْخَابِيَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الرُّسْغِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ خَابِيَةٍ زَادَ قَلِيلًا فَحِينَئِذٍ الْكُلُّ نَجِسٌ كَمَا قَالَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْخَوَابِي خَلٌّ فَالْجَوَابُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَخْرُجُ يَدُهُ مِنْ الْخَابِيَةِ الثَّالِثَةِ طَاهِرَةً وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَاتِ بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ سِوَى الْمَاءِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الثَّوْبُ وَالْبَدَنُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَصَلَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ لَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ عَنْهُ إلَّا بِالْمَاءِ وَفِي الثَّوْبِ تَزُولُ عَنْهُ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ فَأَمَّا مَا لَا يَنْعَصِرُ كَالدُّهْنِ وَالسَّمْنِ لَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ. حُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] فَقَدْ خَصَّ الْمَاءَ بِكَوْنِهِ مُطَهِّرًا وَاعْتَبَرَ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَهِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَاءِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ وَلَا عِبْرَةَ بِزَوَالِ الْعَيْنِ، فَكَمَا تَزُولُ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ تَزُولُ بِالْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَمْ يُعْتَبَر ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثَّوْبَ قَبْلَ إصَابَةِ النَّجَاسَةِ كَانَ طَاهِرًا وَبَعْدَ الْإِصَابَةِ الْوَاجِبُ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهُ بِالْمِقْرَاضِ بَقِيَ الثَّوْبُ طَاهِرًا وَإِزَالَةُ الْعَيْنِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ تَحْصُلُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ وَرُبَّمَا يَكُونُ تَأْثِيرُ الْخَلِّ فِي قَلْعِ النَّجَاسَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَاءِ فَإِذَا زَالَتْ بِهِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ يَبْقَى كَمَا كَانَ بِخِلَافِ مَا لَا يَنْعَصِرُ فَإِنَّهُ يَتَشَرَّبُ فِي الثَّوْبِ فَتَزْدَادُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَلَا تَزُولُ. وَفِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ النَّجَاسَةَ الْأُولَى تَزُولُ بِهِ لَكِنْ تَبْقَى نَجَاسَةُ الْبَوْلِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّطْهِيرَ بِالنَّجِسِ لَا يَكُونُ لِمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنْ التَّضَادِّ فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ فَطَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ مَوْجُودٌ لَا يَلْحَقُ النَّاسَ حَرَجٌ فِي إفْسَادِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَإِنَّهَا أَمْوَالٌ يَلْحَقُ النَّاسَ حَرَجٌ فِي فَسَادِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْبَدَنِ وَعَلَى الثَّوْبِ فَقَالَ: مَا كَانَ عَلَى الْبَدَنِ فَهُوَ نَظِيرُ الْحَدَثِ الْحُكْمِيِّ؛ لِأَنَّ فِي تَطْهِيرِ الْبَدَنِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَلَى الثَّوْبِ قَالَ فَإِنْ صُبَّ خَابِيَةٌ مِنْهَا فِي بِئْرِ مَاءٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزَحُوا الْأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا وَمِنْ مِقْدَارِ الْخَابِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهَا نَجَاسَةُ فَأْرَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لَا غَيْرُ وَقَدْ مَرَّ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّوْبِ الطَّهَارَةُ وَخُبْثُ الْكَافِرِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى ثِيَابِهِ فَثَوْبُهُ كَثَوْبِ الْمُسْلِمِ وَعَامَّةُ مَنْ يَنْسِجُ الثِّيَابَ فِي دِيَارِنَا الْمَجُوسُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ التَّحَرُّزُ عَنْ لُبْسِهَا، وَكَفَى بِالْإِجْمَاعِ حُجَّةً، إلَّا الْإِزَارَ وَالسَّرَاوِيلَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا قَبْلَ الْغَسْلِ وَإِنْ صَلَّى جَازَ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ يَلِي مَوْضِعَ الْحَدَثِ وَهُمْ لَا يُحْسِنُونَ الِاسْتِنْجَاءَ وَيَعْرَقُونَ فِيهِمَا لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إزَارَهُمْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَجَاسَةٍ فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ كَرَاهَةِ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الشُّرْبِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ فَقَالَ إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ اشْرَبُوا فِيهَا» وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ كَالْمَيْتَةِ وَأَوَانِيَهُمْ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ دُسُومَةٍ فِيهَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ثِيَابِ بَعْضِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ إصَابَةَ الْخَمْرِ لِثِيَابِهِمْ فِي حَالَةِ الشُّرْبِ. وَقَالُوا فِي الدِّيبَاجِ الَّذِي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِيهِ عِنْدَ النَّسْجِ الْبَوْلَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي بِرِيقِهِ ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُهُ فَإِنْ صَحَّ هَذَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] (اعْلَمْ) أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اُشْتُهِرَ فِيهِ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا. مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ وَكُنْت أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ فَأَخْرُج يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ ذَيْلِهِ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقُلْت نَسِيتَ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي». وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ لَهُ أَكَانَ ذَلِكَ بَعْد نُزُولِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ وَهَلْ أَسْلَمْت إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ» وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَإِنَّمَا قَالَ: هَذَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: سَلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْمَسْحَ هَلْ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَاَللَّهِ مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَلَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى ظَهْرِ عَنْزٍ فِي الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَمُتْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَتَّى اتَّبَعَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَأَنْ تُقْطَعَ قَدَمَايَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهَا عَنْهُ عَلَى مَا رَوَى «شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ لَا أَدْرِي سَلُوا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ سَفَرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ». وَفِي رِوَايَةٍ سَمِعْت رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَالَتْ هُوَ أَعْلَمُ». وَلِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا قُلْت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خَبَرُ الْمَسْحِ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ لِشُهْرَتِهِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ. وَهُوَ مُؤَقَّتٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَحَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ خَرَجْت إلَى الْعِرَاقِ فَرَأَيْت سَعْدًا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقُلْت مَا هَذَا فَقَالَ إذَا رَجَعْت إلَى أَبِيك فَسَلْهُ فَسَأَلْت أَبِي فَقَالَ عَمُّك أَفْقَهُ مِنْك رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَسَمِعْته يَقُولُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَلِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَذَلِكَ مُؤَقَّتٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْبَسُ خُفَّيْهِ حِينَ يُصْبِحُ وَيَخْرُجُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ النَّزْعُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى بَيْتِهِ لَيْلًا، وَالْمُسَافِرُ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِالنَّزْعِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَقُدِّرَ فِي حَقِّهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ إذْ لَا نِهَايَةَ لِأَكْثَرِهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ الْمَسْحُ مُؤَبَّدٌ لِلْمُسَافِرِ لِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْت: يَوْمَيْنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ حَتَّى انْتَهَيْت إلَى سَبْعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أَيَّامٍ فَقَالَ: إذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَامْسَحْ مَا بَدَا لَك» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مُرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ مُؤَبَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنْ يُنْزَعَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَالْأَخْبَارُ الْمَشْهُورَةُ لَا تُتْرَكُ بِهَذَا الشَّاذِّ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ أَصْلًا وَيَمْسَحُ الْمُسَافِرُ مَا بَدَا لَهُ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: وَفَدْت عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ الشَّامِ فَقَالَ: مَتَى عَهْدُك بِالْخُفِّ؟ فَقُلْت مُنْذُ أُسْبُوعٍ. قَالَ: أَصَبْت. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَوَّلِ اللُّبْسِ وَخُرُوجِهِ مُسَافِرًا لَا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِعْ بَيْنَ ذَلِكَ. ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الْحَدَثُ وَاسْتِتَارُ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ يَمْنَعُ سِرَايَة الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَمَا هُوَ مُوجِبُ لُبْسِ الْخُفِّ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْحَدَثِ فَلِهَذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ اللُّبْسِ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفِّ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَمْسَحْ وَلَمْ يُصَلِّ أَيَّامًا لَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ. قَالَ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ) لِحَدِيثِ «صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ نَوْمٍ» وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَلْزَمَتْهُ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَمَعَ الْخُفِّ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ وَالرِّجْلُ مُعْتَبَرَةٌ بِالرَّأْسِ فَمَتَى كَانَ الْفَرْضُ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحَ كَانَ فِي الرِّجْلِ فِي حَقِّ لَابِسِ الْخُفِّ كَذَلِكَ وَفِي الْجَنَابَةِ الْفَرْضُ فِي الرَّأْسِ الْغُسْلُ فَكَذَلِكَ فِي الرِّجْلِ عَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفِّ وَغَسْلُ الْقَدَمَيْنِ. قَالَ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إذَا لَبِسَ الْخُفَّ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ) لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ إنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» وَلِأَنَّ مُوجِبَ لُبْسِ الْخُفِّ الْمَنْعُ مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ لَا تَحْوِيلُ حُكْمِ الْحَدَثِ مِنْ الرِّجْلِ إلَى الْخُفِّ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إذَا كَانَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ. قَالَ (فَإِنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا)؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ مَا طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَهُوَ وَمَا لَبِسَ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ سَوَاءٌ، وَإِنْ أَكْمَلَ وُضُوءَهُ قَبْلَ الْحَدَثِ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عِنْدَنَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا فَأَوَّلُ الْحَدَثِ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ قَالَ (وَلَوْ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَمْسَحَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ لَمْ يَنْزِعْ الْخُفَّ الْأَوَّلَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ وَإِنْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ لَبِسَهُ بَعْدَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ وَهَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ يَنْزِعُ ثُمَّ يَلْبَسُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ فِيهِ غَسْلٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ اشْتِرَاطُهُ. قَالَ (وَمَسْحُ الْخُفِّ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَقَالَ عَطَاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثَلَاثًا كَالْغَسْلِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ «الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْمَسْحِ عَلَى ظَهْرِ خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ» وَإِنَّمَا لَمْ تَبْقَ الْخُطُوطُ إذَا لَمْ يَمْسَحْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ فِي كَثْرَةِ إصَابَةِ الْبِلَّةِ إفْسَادُ الْخُفِّ وَفِيهِ حَرَجٌ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَبْدَأُ مِنْ قِبَلِ الْأَصَابِعِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَسْفَلِ السَّاقِ اعْتِبَارًا بِالْغُسْلِ فَالْبُدَاءَة فِيهِ مِنْ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَيْنِ غَايَةً. قَالَ (وَإِنْ مَسَحَ خُفَّيْهِ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَمْسَحَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ) وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُجْزِئُهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ وَقَدْ مَرَّ. قَالَ (وَالْخَرْقُ الْيَسِيرُ فِي الْخُفِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهِ وَفِي الْقِيَاسِ يَمْنَعُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي بَدَا مِنْ الرِّجْلِ وَجَبَ غَسْلُهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَإِذَا وَجَبَ الْغُسْلُ فِي الْبَعْضِ وَجَبَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْخُفَّ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ خَرْقٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا فَآثَارُ الزُّرُورِ وَالْأَشَافِي خَرْقٌ فِيهِ وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ التُّرَابُ فَجَعَلْنَا الْقَلِيلَ عَفْوًا لِهَذَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَرْقُ كَبِيرًا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْمَشْيُ فِيهِ سَفَرًا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَامَّتُهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا الْخَلَقَ مِنْ الْخِفَافِ وَقَدْ جُوِّزَ لَهُمْ الْمَسْحُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْخَرْقُ الْيَسِيرُ إنَّمَا جُعِلَ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثَلَاثُ أَصَابِعَ فَإِنْ كَانَ يَبْدُو مِنْهُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مُعْتَبَرٌ بِالْكَمَالِ وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ عَلَيْهِ الرِّجْلُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ الْيَدُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظَاهِرِ الْخُفِّ أَوْ بَاطِنِهِ أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِبِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَبْدُو مِنْهُ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ صُلْبًا لَا يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَبْدُو فِي حَالَةِ الْمَشْيِ دُونَ حَالِ وَضْعِ الْقَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ يُلْبَسُ لِلْمَشْيِ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا كَانَ يَبْدُو ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ مِنْ الْأَنَامِلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَتُجْمَعُ الْخُرُوقُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَلَا تُجْمَعُ فِي خُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ. قَالَ (وَإِنْ مَسَحَ بَاطِنَ الْخُفِّ دُونَ ظَاهِرِهِ لَمْ يُجْزِهِ) فَإِنَّ مَوْضِعَ الْمَسْحِ ظَهْرُ الْقَدَمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ فَرْضٌ، وَعَلَى بَاطِنِهِ سُنَّةٌ، فَالْأَوْلَى عِنْدَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى بَاطِنِهِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا عَلَى كُلِّ رِجْلٍ وَعِنْدَنَا الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ فَقَطْ لِحَدِيثِ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا» وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عَنْ لَوَثٍ عَادَةً فَيُصِيبُ يَدَهُ ذَلِكَ اللَّوَثُ وَفِيهِ بَعْضُ الْحَرَجِ وَالْمَسْحُ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ. [الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ] قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ) وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَّزَهُ لِحَدِيثِ «بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْمَشَاوِذِ وَالتَّسَاخِينَ» فَالْمَشَاوِذُ الْعَمَائِمُ وَالتَّسَاخِينُ الْخِفَافُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ «جَابِرٍ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» وَكَأَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ فَظَنَّ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ حِينَ لَمْ يَضَعْهَا عَنْ رَأْسِهِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ بِهِ تِلْكَ السَّرِيَّةَ لِعُذْرِهِمْ فَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَخُصُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَشْيَاءَ كَمَا خَصَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَخُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ. ثُمَّ الْمَسْحُ إنَّمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْغُسْلِ لَا عَنْ الْمَسْحِ، وَالرَّأْسُ مَمْسُوحٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ بَدَلًا عَنْهُ بِخِلَافِ الرِّجْلِ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرُ حَرَجٍ فِي إدْخَالِ الْيَدِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا) لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَإِنْ مَسَحَتْ عَلَى خِمَارِهَا فَنَفَذَتْ الْبِلَّةُ إلَى رَأْسِهَا حَتَّى ابْتَلَّ قَدْرُ الرُّبْعِ أَجْزَأَهَا حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ الْخِمَارُ جَدِيدًا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَدِيدًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ثُقُوبَ الْجَدِيدِ لَمْ تَنْسَدَّ بِالِاسْتِعْمَالِ فَتَنْفُذُ الْبِلَّةُ مِنْهَا إلَى الرَّأْسِ. [الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ] قَالَ (وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فَإِنْ كَانَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ثَخِينَيْنِ مُنَعَّلَيْنِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ مُوَاظَبَةَ الْمَشْيِ سَفَرًا بِهِمَا مُمْكِنٌ وَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ اللِّفَافَةِ وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ غَيْرَ مُنَعَّلَيْنِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مُوَاظَبَةَ الْمَشْيِ بِهِمَا سَفَرًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْجَوْرَبِ الرَّقِيقِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَرَضِهِ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِعُوَّادِهِ فَعَلْت مَا كُنْت أَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ جَوْرَبَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ مُنَعَّلًا أَوْ مُجَلَّدًا، وَالثَّخِينُ مِنْ الْجَوْرَبِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى السَّاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُدَّهُ بِشَيْءٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ اللُّبُودِ التُّرْكِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوَاظَبَةَ الْمَشْيِ فِيهَا سَفَرًا مُمْكِنٌ قَالَ (وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ فَوْقَ الْخُفَّيْنِ) عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ وَحْدَهُمَا مَسَحَ وَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفِّ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ مَا تَحْتَهُمَا مَمْسُوحٌ وَالْمَسْحُ لَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْمَسْحِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَأَيْت رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ فِي مَعْنَى خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ وَلَوْ لَبِسَ خُفًّا ذَا طَاقَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عِنْدَنَا عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ وَيَمْسَحَ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ أَوَّلًا ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْخُفِّ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ مَا لَبِسَ الْخُفَّ ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ الْجُرْمُوقَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِي الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا انْتَقَضَ مَسْحُهُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَعَلَيْهِ غَسْلُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ رَوَى حَمَّادٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَرَوَى ابْنُ أَبِي يَعْلَى عَنْ الْحَكَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ الْوُضُوءِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ انْتِقَاضَ الْوُضُوءِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤُ كَانْتِقَاضِهِ بِالْحَدَثِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْكَامِلَةَ لَا تَنْتَقِضُ إلَّا بِالْحَدَثِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَنَزْعُ الْخُفِّ لَيْسَ بِحَدَثٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ اسْتِتَارَ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ كَانَ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ وَذَلِكَ الِاسْتِتَارُ بِالْخَلْعِ يَزُولُ فَيَسْرِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَمِ فَكَأَنَّهُ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُمَا، وَالرِّجْلَانِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأُخْرَى ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ. قَالَ (وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ الظَّاهِرِ وَعَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي) وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْأَصْلِ قَالَ: يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الثَّانِي وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ: يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي نَزَعَ الْجُرْمُوقَ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْآخَرِ شَيْءٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِتَارَ بَاقٍ فَكَانَ الْفَرْضُ الْمَسْحُ فَفِيمَا زَالَ الْمَمْسُوحُ بِالنَّزْعِ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ وَفِيمَا كَانَ الْمَمْسُوحُ بَاقِيًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَعَ إحْدَى خُفَّيْهِ. وَوَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ نَزْعَ أَحَدِ الْجُرْمُوقَيْنِ كَنَزْعِهِمَا جَمِيعًا كَمَا إذَا خَلَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ يَكُونُ كَخَلْعِهِمَا وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ عَلَى إحْدَى الْخُفَّيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْخُفِّ الْبَاقِي، فَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْجُرْمُوقَيْنِ، إلَّا أَنَّ حُكْمَ الطَّهَارَةِ فِي الرِّجْلَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤُ فَإِذَا انْتَقَضَ فِي أَحَدِهِمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ يَنْتَقِضُ فِي الْآخَرِ فَلِهَذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ الظَّاهِرِ وَعَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي. قَالَ (وَإِذَا انْقَضَى مُدَّةُ مَسْحِهِ وَلَمْ يُحْدِثْ فَعَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَغَسْلُ الْقَدَمَيْنِ) لِأَنَّ الِاسْتِتَارَ كَانَ مَانِعًا فِي الْمُدَّةِ فَإِذَا انْقَضَى سَرَى ذَلِكَ الْحَدَثُ إلَى الْقَدَمَيْنِ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُمَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ كَمَا لَوْ كَانَتْ السِّرَايَةُ بِخَلْعِ الْخُفَّيْنِ. قَالَ (وَإِذَا تَوَضَّأَ فَنَسِيَ مَسْحَ خُفَّيْهِ ثُمَّ خَاضَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ الْمَسْحِ) لِأَنَّ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِإِصَابَةِ الْبِلَّةِ ظَاهِرَ الْخُفِّ وَقَدْ وُجِدَ، وَهَلْ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِهَذَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِهَذَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْمَسْحِ إذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا غَيْرَ جَارٍ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الرَّأْسِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ تَأَدِّي فَرْضِ الْمَسْحِ بِالْبِلَّةِ الْوَاصِلَةِ إلَى مَوْضِعِهَا لَا بِالْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ فَبَقِيَ الْإِنَاءُ كَمَا كَانَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَوْ تَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ لَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ فَإِنَّمَا أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ بِهِ. قَالَ (وَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْمُقِيمُ مَسْحَ الْإِقَامَةِ ثُمَّ سَافَرَ نَزَعَ الْخُفَّ)؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ سَرَى إلَى الْقَدَمَيْنِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ. قَالَ (وَإِنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمَالَ مُدَّةِ السَّفَرِ) لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ انْعَقَدَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ وَهُوَ مُقِيمٌ أَوْ مَسَحَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثُمَّ سَافَرَ جَازَ لَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَمْسَحُ إلَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً. قَالَ: لِأَنَّ الْمُدَّةَ انْعَقَدَتْ وَهُوَ مُقِيمٌ فَلَا يَمْسَحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالشُّرُوعُ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ. وَمَنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي السَّفِينَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ السَّفَرِ وَإِنَّمَا يُتِمُّ صَلَاةَ الْمُقِيمِينَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَسْحَ جَازَ لَهُ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمَالَ مُدَّةِ السَّفَرِ كَمَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ الْحَدَثِ وَفَعَلَ الصَّلَاةَ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ بِالْحَدَثِ صَارَ شَارِعًا فِي وَقْتِ الْمَسْحِ فَوِزَانُهُ أَنْ لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا فَهُنَاكَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ. قَالَ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ بَعْدَ مَا مَسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ) لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ لَا يَمْسَحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قُدُومُهُ بَعْدَ مَا مَسَحَ يَوْمَيْنِ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَلَمْ يُعِدْ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَسَحَ كَانَ مُسَافِرًا. قَالَ (وَإِذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَا لَمْ يَبْرَأْ جُرْحُهُ) لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهُ مَا دَامَتْ الْعِلَّةُ قَائِمَةً وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا مَضَى فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ مَا بَقِيَتْ الْعِلَّةُ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنْ بَرِئَ جُرْحُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ طَهَارَةٌ تَامَّةٌ مَا بَقِيَتْ الْعِلَّةُ وَاللُّبْسُ بَعْدَ الْبُرْءِ غَيْرُ حَاصِلٍ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ حَتَّى بَرِئَ جُرْحُهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ حَتَّى غَسَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ وَإِنْ أَحْدَثَ قَبْلَ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ الْخُفَّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ نَاقِصَةٍ. قَالَ (وَلِلْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنْ يَؤُمَّ الْغَاسِلِينَ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ بَدَلٍ صَحِيحٍ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ جُعِلَ كَالْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهُ فِي الْمُدَّةِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَكَانَ الْمَاسِحُ فِي حُكْمِ الْإِمَامَةِ كَالْغَاسِلِ. قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ بَال فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ) لِأَنَّ لُبْسَهُمَا حَصَلَ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ وَلَمَّا سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا فَقَالَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِفِعْلِهِ عَلَى فِقْهِهِ؛ لِأَنَّهُ تَطَرَّقَ بِهِ إلَى رُخْصَةٍ شَرْعِيَّةٍ. قَالَ (وَإِذَا بَدَا لِلْمَاسِحِ أَنْ يَخْلَعَ خُفَّيْهِ فَنَزَعَ الْقَدَمَ مِنْ الْخُفِّ غَيْرَ أَنَّهُ فِي السَّاقِ بَعْدُ فَقَدْ انْتَقَضَ مَسْحُهُ) لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْحِ فَارَقَ مَكَانَهُ فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ رِجْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَاقَ الْخُفِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ لَبِسَ خُفًّا لَا سَاقَ لَهُ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ إذَا كَانَ الْكَعْبُ مَسْتُورًا فَيَكُونُ الرِّجْلُ فِي سَاقِ الْخُفِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَظُهُورُهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً. وَإِنْ نَزَعَ بَعْضَ الْقَدَمِ عَنْ مَكَانِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ إذَا نَزَعَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ انْتَقَضَ مَسْحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ نَزَعَ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ انْتَقَضَ مَسْحُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنْ بَقِيَ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ لَمْ يَنْتَقِضْ مَسْحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ رِجْلِهِ مَقْطُوعًا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فَلَبِسَ عَلَيْهِ الْخُفَّ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ فَهَذَا قِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَإِذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ أَوْ الْوُضُوءِ بِنَبِيذٍ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ نَزَعَ خُفَّيْهِ) لِأَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ النَّبِيذِ فَصَارَ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ كَأَنَّهُ لَبِسَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. قَالَ (وَإِذَا لَبِسَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ الْخُفَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا مِنْ حِينِ تَوَضَّأَتْ إلَى أَنْ لَبِسَتْ الْخُفَّيْنِ فَلَهَا أَنْ تَمْسَحَ كَمَالَ مُدَّةِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ وُضُوءَهَا رَفَعَ الْحَدَثَ السَّابِقَ وَلَمْ يَقْتَرِنْ الْحَدَثُ بِالْوُضُوءِ وَلَا بِاللُّبْسِ فَإِنَّمَا طَرَأَ أَوَّلُ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ) فَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ أَوْ سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَلَبِسَتْ الْخُفَّيْنِ كَانَ لَهَا أَنْ تَمْسَحَ فِي الْوَقْتِ إذَا أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْسَحَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا أَنْ تَمْسَحَ كَمَالَ مُدَّةِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ عَفْوٌ فِي حَقِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَهُ فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَلَى طَهَارَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ عَفْوٌ فِي الْوَقْتِ لَا بَعْدَهُ حَتَّى تَنْتَقِضَ الطَّهَارَةُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَخُرُوجُ الْوَقْتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَلَى طَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْوَقْتِ لَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمْسَحَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. قَالَ (وَإِذْ كَانَ مَعَ الْمُسَافِرِ مَاءٌ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ غَسَلَ الدَّمَ بِذَلِكَ الْمَاءِ ثُمَّ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ) وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَضَّأُ بِذَلِكَ الْمَاءِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقِيلَ هَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ خَالَفَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أُسْتَاذَه. وَوَجْهُ قَوْلِ حَمَّادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ وَمِنْ الْحَدَثِ لَا، وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا كَانَ لَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُهُ بِهِ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ بِحَالٍ فَصَرْفُ الْمَاءِ إلَى أَغْلَظِ الْحَدَثَيْنِ أَوْلَى، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّهَارَتَيْنِ بِأَنْ يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ بِالْمَاءِ فَيَطْهُرَ بِهِ الثَّوْبُ ثُمَّ يَكُونُ عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَكُونُ طَهَارَتَهُ التَّيَمُّمُ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّهَارَتَيْنِ لَا يَكُونُ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أَنْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَيَتْرُكَ الْآخَرِ فَلِهَذَا كَانَ صَرْفُ الْمَاءِ إلَى النَّجَاسَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ التَّيَمُّمِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَيْ قَصَدْت، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ إلَى الصَّعِيدِ لِلتَّطْهِيرِ الِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ (وَثُبُوتُ التَّيَمُّمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وَنُزُولُ الْآيَةِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ حِينَ عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً فَسَقَطَ عِقْدُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَمَّا ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبِهِ وَنَزَلُوا يَنْتَظِرُونَهُمَا فَأَصْبَحُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَقَالَ حَبَسْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَلَمَّا صَلَّوْا جَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ إلَى مِضْرَبِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَجَعَلَ يَقُولُ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجًا. وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّيْتُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ يَنْتَظِرُ مَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ آخِرَ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ صَعِيدًا طَيِّبًا وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ إذَا كَانَ مُفِيدًا، فَإِذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ فَالِانْتِظَارُ مُفِيدٌ لَعَلَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ الْمَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِانْتِظَارِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ التَّيَمُّمِ فَقَالَ (يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَرْفَعُهُمَا فَيَنْفُضُهُمَا وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ يَضَعُ يَدَيْهِ ثَانِيَةً عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَرْفَعُهُمَا فَيَنْفُضُهُمَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا كَفَّيْهِ وَذِرَاعَيْهِ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ. قَالَ: فَإِنْ مَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَلَمْ يَمْسَحْ ظَهْرَ كَفَّيْهِ لَمْ يُجْزِهِ) فَقَدْ ذَكَرَ الْوَضْعَ، وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِلَفْظِ الضَّرْبِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَمَّا يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ» وَالْوَضْعُ جَائِزٌ وَالضَّرْبُ أَبْلُغُ لِيَتَخَلَّلَ التُّرَابُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَيَنْفُضُهُمَا مَرَّةً وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قَالَ: يَنْفُضُهُمَا مَرَّتَيْنِ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ فَإِنَّ مَا الْتَصَقَ بِكَفِّهِ مِنْ التُّرَابِ إنْ تَنَاثَرَ بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ يَكْتَفِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَنَاثَرْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّحُ بِكَفٍّ مَوْضُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ لَا اسْتِعْمَالُ التُّرَابِ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ مِثْلُهُ. ثُمَّ التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ ثَالِثَةٌ فِيهِمَا، وَحَدِيثُ عَمَّارٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِ كَمَا رَوَيْنَا وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] يُوجِبُ الْمَسْحَ دُونَ التَّكْرَارِ ثُمَّ التَّيَمُّمُ إلَى الْمَرَافِقِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْأَعْمَشُ إلَى الرُّسْغَيْنِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى الْآبَاطِ، وَحَدِيثُ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ وَرَدَ بِكُلِّ ذَلِكَ فَرَجَّحْنَا رِوَايَتَهُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ لِحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» وَالثَّانِي حَدِيثُ الْأَشْلَعِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ التَّيَمُّمَ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ ثُمَّ الْوُضُوءُ فِي الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَالتَّيَمُّمُ كَذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ سَقَطَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَانِ أَصْلًا وَبَقِيَ عُضْوَانِ فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ فِيهِمَا كَالْوُضُوءِ فِي الْكُلِّ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ سَقَطَ مِنْهُ رَكْعَتَانِ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَلِهَذَا شَرَطْنَا الِاسْتِيعَابَ فِي التَّيَمُّمِ حَتَّى إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَمْسُوحَاتِ الِاسْتِيعَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا فِي الْمَسْحِ بِالْخُفِّ وَالرَّأْسِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الِاسْتِيعَابُ فِي التَّيَمُّمِ فَرْضٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ وَلِهَذَا قَالُوا: لَا بُدَّ مِنْ نَزْعِ الْخَاتَمِ فِي التَّيَمُّمِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ لِيَتِمَّ بِهِ الْمَسْحُ. وَمَنْ قَالَ التَّيَمُّمُ إلَى الرُّسْغِ اسْتَدَلَّ بِآيَةِ السَّرِقَةِ قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ثُمَّ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الرُّسْغِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ ذَاكَ عُقُوبَةٌ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِالْيَقِينِ، وَالتَّيَمُّمُ عِبَادَةٌ وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَمَنْ قَالَ إلَى الْآبَاطِ قَالَ اسْمُ الْأَيْدِي مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْجَارِحَةَ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْغَايَةِ فِي الْوُضُوءِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ. يَقُولُ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ التَّيَمُّمِ فَقَالَ: الْوَجْهُ وَالذِّرَاعَانِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَقُلْت: كَيْفَ؟ فَمَالَ بِيَدِهِ عَلَى الصَّعِيدِ فَأَقْبَلَ بِيَدِهِ وَأَدْبَرَ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا عَلَى الصَّعِيدِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ رَفَعَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَنَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِكُلِّ كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِ الْأُخْرَى وَبَاطِنَهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَبْلَ الْوَضْعِ عَلَى الْأَرْضِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ لِيَنْظُرَ هَلْ الْتَصَقَ بِكَفِّهِ شَيْءٌ يَصِيرُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّعِيدِ. وَالثَّانِي: أَقْبَلَ بِهِمَا عَلَى الصَّعِيدِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ رَفِيقٍ لَهُ مَاءٌ فَطَلَبَ مِنْهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ حِينَ مَنَعَهُ صَاحِبُ الْمَاءِ وَهُوَ شَرْطُ التَّيَمُّمِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ فِي النَّاسِ عَادَةً خُصُوصًا لِلطَّهَارَةِ فَلَا يَصِيرُ عَادِمًا لِلْمَاءِ إلَّا بِمَنْعِ صَاحِبِهِ فَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِطَلَبِهِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ لَا يُجْزِئُهُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ الرُّفْقَةِ مَاءٌ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَاءِ أَوَّلًا يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَيَهْبِطُ وَادِيًا وَيَعْلُو شَرَفًا إنْ كَانَ ثَمَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وَذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ إلَّا بِطَلَبِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الطَّلَبُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ الْوُجُودِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ وَقَدْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَمَا شُرِعَ التَّيَمُّمُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ تَيَمَّمَ بِهِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ جِصٍّ أَوْ نُورَةٍ أَوْ زِرْنِيخٍ فَهُوَ جَائِزٌ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الصَّعِيدُ هُوَ التُّرَابُ الْخَالِصُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَالْجِصُّ وَالنُّورَةُ لَيْسَا بِتُرَابِ» فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِمَا وَمَا سِوَى التُّرَابِ مَعَ التُّرَابِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مَعَ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ فَكَمَا يَخْتَصُّ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ وَفِيهِ إظْهَارُ كَرَامَةٍ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ فَخُصَّا بِكَوْنِهِمَا طَهُورًا لِهَذَا. وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِالْآيَةِ فَإِنَّ الصَّعِيدَ هُوَ الْأَرْضُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُحْشَرُ الْعُلَمَاءُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ إنِّي لَمْ أَضَعْ حِكْمَتِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ انْطَلِقُوا مَغْفُورًا» لَكُمْ فَدَلَّ أَنَّ الصَّعِيدَ هُوَ الْأَرْضُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ثُمَّ مَا سِوَى التُّرَابِ مِنْ الْأَرْضِ أُسْوَةُ التُّرَابِ فِي كَوْنِهِ مَكَانَ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ وَقَدْ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّرَابِ كَمَا تُدْرِكُهُ فِي مَوْضِعِ التُّرَابِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْكُلِّ تَيْسِيرًا ثُمَّ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ، وَمَا لَا فَلَا حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا جَوْهَرَانِ مُودَعَانِ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى يَذُوبَ بِالذَّوْبِ وَكَذَلِكَ الرَّمَادُ مِنْ الْحَطَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ هَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَام السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا. - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ (إنْ كَانَ الْمِلْحُ جَبَلِيًّا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ دَاءُ سَبَخٍ) وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْمَرْدَاءُ سَبَخٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِمَا وَالْآجُرُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُسْتَحْجَرٌ فَهُوَ كَالْحَجَرِ الْأَصْلِيِّ وَالتَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُبَارٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ غُبَارٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ يَتَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَحِيطَانُهُمْ كَانَتْ مِنْ الْحَجَرِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الطِّينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ بِالطِّينِ. قَالَ (وَإِذَا نَفَضَ ثَوْبَهُ أَوْ لَبَدَهُ وَتَيَمَّمَ بِغُبَارِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّعِيدِ أَجْزَأَهُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّعِيدِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغُبَارَ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ وَلَكِنَّهُ مِنْ التُّرَابِ مِنْ وَجْهٍ وَالْمَأْمُورُ بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا بِالصَّعِيدِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَحِينَئِذٍ تَيَمَّمَ بِالْغُبَارِ كَمَا أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّا بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ فَنَظَرُوا بِالْخَابِيَةِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْفُضُوا لُبُودَهُمْ وَسُرُوجَهُمْ وَيَتَيَمَّمُوا بِغُبَارِهَا وَلِأَنَّ الْغُبَارَ تُرَابٌ فَإِنَّ مَنْ نَفَضَ ثَوْبَهُ يَتَأَذَّى جَارُهُ مِنْ التُّرَابِ إلَّا أَنَّهُ دَقِيقٌ وَكَمَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْخَشِنِ مِنْ التُّرَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ فَكَذَلِكَ بِالدَّقِيقِ مِنْهُ. قَالَ (وَإِنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ) وَكَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا قَبْلَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَشَرَطَ عَدَمَ الْمَاءِ فَقَطْ وَجَعَلَهُ فِي حَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوُضُوءِ. ثُمَّ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْحَدَثُ فَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ. فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى أَوْجُهٍ إنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الطَّهَارَةُ مَتَى صَحَّتْ لَا يَرْفَعُهَا إلَّا الْحَدَثُ وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك» وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَكِنَّهُ طَهَارَةٌ شَرْعًا إلَى غَايَةِ وَهُوَ وُجُودُ الْمَاءِ وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا خِلَافُ مَا قَبْلَهَا فَعِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ يَصِيرُ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَنَا وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقَرَّبُ الْمَاءُ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِي وَأَظْهَرُ أَقَاوِيلِهِ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ كَمَا لَوْ رَأَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ مَا أَدَّى فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مَانِعٌ أَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الِاسْتِسْقَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ انْتَهَتْ بِوُجُودِ الْمَاءِ فَلَوْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَتَمَّهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ إنَّمَا تَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَنْ لَوْ بَقِيَتْ وَلَمْ تَبْقَ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَعِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ يَصِيرُ مُحْدِثًا بِحَدَثٍ سَابِقٍ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ كَخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ عُرِفَ بِالْأَثَرِ وَذَلِكَ فِي حَدَثٍ يَسْبِقُهُ لِلْحَالِ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الصَّلَاةِ وَالشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ صَحَّ كَمَا قَالَ إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَالْأَدَاءُ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ ثُمَّ بَرِئَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْعُمْرَ لِلْحَجِّ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّيَا بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ فَسَأَلَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِلَّذِي أَعَادَ أَتَاك أَجْرُك مَرَّتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَلِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَتْك صَلَاتُك» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ بِالتَّيَمُّمِ وَانْصَرَفَ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتٍ ثُمَّ دَخَلَهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ إسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَقَدْ حَصَلَ بِالْبَدَلِ فَلَا يَعُودُ إلَى ذِمَّتِهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ جَوَازَ الْإِحْجَاجِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَوْتِ وَهَا هُنَا جَوَازُ التَّيَمُّمِ بِاعْتِبَارِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَكَانَ مُتَحَقِّقًا حِينَ صَلَّى. قَالَ (وَيَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَؤُمُّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمُتَيَمِّمِ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَا يَؤُمُّ مَنْ لَا ضَرُورَةَ لَهُ كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ لَا يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ. وَهُمَا اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ فَلَمَّا انْصَرَفُوا سَأَلَهُمْ عَنْ سِيرَتِهِ فَقَالُوا كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ وَلَكِنَّهُ صَلَّى بِنَا يَوْمًا وَهُوَ جُنُبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ احْتَلَمَتْ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَخَشِيت الْهَلَاكَ إنْ اغْتَسَلْت فَتَلَوْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فَتَيَمَّمْت وَصَلَّيْت بِهِمْ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ وَقَالَ يَا لَك مِنْ فَقِهٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ صَاحِبُ بَدَلٍ صَحِيحٍ فَهُوَ كَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَؤُمُّ الْغَاسِلِينَ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ بَدَلٍ صَحِيحٍ. قَالَ (وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْمُحْدِثُ فِي التَّيَمُّمِ سَوَاءٌ) وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَرُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنْت مَعَك فِي الْإِبِلِ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ ثُمَّ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَصِرْت حِمَارًا أَمَا يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ إنْ شِئْت فَلَا أَذْكُرُهُ أَبَدًا فَقَالَ عُمَرُ إنْ شِئْت فَاذْكُرْهُ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَذْكُرْهُ وَلَمَّا ذُكِرَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَالَ لَمْ يَقْنَعْ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْمُرَادُ الْمَسُّ بِالْيَدِ فَجَوَّزَ التَّيَمُّمَ لِلْمُحْدِثِ خَاصَّةً وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْمُرَادُ الْمُجَامَعَةُ فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نَوْعَيْ الْحَدَثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وَقَوْلُهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَذَكَرَ نَوْعَيْ الْحَدَثِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ لَهُمَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْمُجَامَعَةِ أَكْثَرَ إفَادَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا إنَّا نَكُونُ فِي هَذِهِ الرِّمَالِ وَرُبَّمَا لَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا وَفِينَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِأَرْضِكُمْ» وَفِي حَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اجْتَمَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبِلُ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لِي أَبْدِيهَا فَبَدَوْت إلَى الرَّبَذَةِ فَأَصَابَتْنِي الْجَنَابَةُ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَالَك فَسَكَتُ فَقَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك مَالَك فَقُلْت إنِّي جُنُبٌ فَأَمَرَ جَارِيَةً سَوْدَاءَ فَأَتَتْ بِعُسٍّ مِنْ مَاءٍ وَسَتَرَتْنِي بِالْبَعِيرِ وَالثَّوْبِ فَاغْتَسَلْت فَكَأَنَّمَا وَضَعْت عَنْ عَاتِقِي حِمْلًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْفِيك التَّيَمُّمُ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ». قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْوُضُوءَ أَوْ الْغُسْلَ) أَمَّا إذَا كَانَ يَخَافُ الْهَلَاكَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَالتَّيَمُّمُ جَائِزٌ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْمَجْدُورِ وَالْمَقْرُوحِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ بِهِ جُدَرِيٌّ فَاحْتَلَمَ فِي سَفَرٍ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَأَمَرُوهُ بِالِاغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ» وَإِنْ كَانَ يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا يَخَافُ الْهَلَاكَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ وَالْعَجْزُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ لَا يَخَافُ الْهَلَاكَ. (وَلَنَا) أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ قَاعِدًا أَوْ بِالْإِيمَاءِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ لَا تَكُونُ دُونَ حُرْمَةِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ يَلْحَقُهُ الْخُسْرَانُ فِي الْمَالِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِأَنْ كَانَ لَا يُبَاعُ إلَّا بِثَمَنٍ عَظِيمٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَعِنْدَ خَوْفِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْلَى هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يَسْتَضِرُّ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَضِرُّ بِالْمَاءِ وَلَكِنَّهُ لِلْمَرَضِ عَاجِزٌ عَنْ التَّحَرُّكِ لِلْوُضُوءِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْوُضُوءِ فَحِينَئِذٍ يَتَيَمَّمُ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنْ الْوُضُوءِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْخَدَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فِي الْمِصْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ - الزَّوَالِ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِهَذَا ثُمَّ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ تَزُلْ الْعِلَّةُ. وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَجِدْ الْمَاءَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجْمَعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ وَحُجَّتُهُ أَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ وَبِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرِيضَةٍ تَتَجَدَّدُ الضَّرُورَةُ فَعَلَيْهِ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَالنَّوَافِلُ تَبَعٌ لِلْفَرَائِضِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا. وَحُجَّتُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابِ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» فَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ مُمْتَدًّا إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوُضُوءِ، ثُمَّ الْمُتَوَضِّئُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلِأَنَّ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ تَنْتَقِضْ طَهَارَتُهُ حَتَّى جَازَ لَهُ أَدَاءُ النَّافِلَةِ وَإِذَا بَقِيَتْ الطَّهَارَةُ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرْضَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ طَاهِرًا وَقَدْ وُجِدَ قَالَ (وَإِنْ وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ عَدِمَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ) لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَصَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَهَذَا مُحْدِثٌ لَا مَاءَ مَعَهُ فَعَلَيْهِ التَّيَمُّمُ لِلصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ) فَهُوَ وَالْمَسْحُ بِالرَّأْسِ وَالْخُفِّ سَوَاءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا. قَالَ (وَإِنْ أَجْنَبَ الْمُسَافِرُ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ الْمَاءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَضَّأُ بِذَلِكَ الْمَاءِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ. وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لَغُسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَنَا يَتَيَمَّمُ وَعِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ فِيمَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَذَكَرَهُ مُنَكِّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَمَا بَقِيَ وَاجِدًا لِشَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيمَا يَكْفِيهِ فَهُوَ كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَمَعَهُ لُقْمَةٌ مِنْ الْحَلَالِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْ تِلْكَ اللُّقْمَةَ الْحَلَالَ وَلَا يَبْعُدُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فَإِنَّ الْمُرَادَ مَاءٌ يُطَهِّرُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ التَّيَمُّمِ وَلِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَيَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَيَغْتَسِلُونَ بِهِ عِنْدَ الْجَنَابَةِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِذَلِكَ الْمَاءِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَهِّرْهُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْمَاءِ لَا يَكُونُ فِي اسْتِعْمَالِهِ إلَّا مَضْيَعَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَلِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يُوَفَّى بِالْأَبْدَالِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَقِيَانِ كَمَا لَا يَكْمُلُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ بِالصَّوْمِ وَلَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ بِالْحَيْضِ وَلَوْ قُلْنَا يَتَيَمَّمُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَ فِيهِ رَفْوُ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ وَلَا نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَخْمَصَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فَإِنَّ مَا مَعَهُ مِنْ الْحَلَالِ إذَا كَانَ لَا يَكْفِيهِ لِسَدِّ الرَّمَقِ فَلَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَهُ الْمَيْتَةَ. وَفِي سُؤْرِ الْحِمَارِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِرَفْوِ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ وَلِذَلِكَ لَوْ أَنَّهُ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ فَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ لِمَا خُوطِبَ بِهِ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِيهِ لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ (وَإِنْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّيَمُّمَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ مَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ مَرَّ بِالْمَاءِ فَلَمْ يَغْتَسِلْ ثُمَّ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَعِنْدَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يُوَضِّئُهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِمَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَلَا يَلْزَمُهُ نَزْعُ الْخُفِّ إذْ لَا تَيَمُّمَ فِي الرِّجْلِ. قَالَ (فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الْأُخْرَى وَقَدْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ) لِأَنَّهُ بِالتَّيَمُّمِ الْأَوَّلِ خَرَجَ مِنْ الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ مَاءً يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ وَلَمْ يَجِدْ بَعْدُ، فَهَذَا مُحْدِثٌ مَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَنْزِعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِمَاءٍ يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ وَجَبَ عَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّ بِالْمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ مَا لَمْ يَجِدْ مَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُحْدِثِ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ غَيْرَ أَنَّهُ يَخَافُ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ) هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّهُ يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ اسْتِعْمَالِهِ حُكْمًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ لَا تَكُونُ دُونَ حُرْمَةِ الْمَالِ. قَالَ (وَإِذَا تَيَمَّمَ الْمُسَافِرُ وَالْمَاءُ مِنْهُ قَرِيبٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَجْزَأَهُ تَيَمُّمُهُ بِهِ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حِينَ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الِاسْتِقَاءِ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ. وَلَمْ يُفَسَّرْ حَدُّ الْقُرْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي حَالَةِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ دُونَ مِيلٍ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَإِنْ كَانَ مِيلًا أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، وَالْمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخٍ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ الْمَاءُ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ وَإِنْ كَانَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَمِيلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمِيلَ لِلذَّهَابِ وَمِثْلُهُ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ مِيلَيْنِ وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَصِلُ إلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّفْرِيطُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْهُ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إذَا كَانَ لَا يَبْلُغُهُ صَوْتُهُمْ فَبَعِيدٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ مَاءٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ) إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ السُّؤَالُ ذُلٌّ وَفِيهِ بَعْضُ الْحَرَجِ وَمَا شُرِعَ التَّيَمُّمُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَاءُ الطَّهَارَةِ مَبْذُولٌ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً وَلَيْسَ فِي سُؤَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَذَلَّةٌ «فَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ حَوَائِجِهِ مِنْ غَيْرِهِ» فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِالثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُهُ يَتَيَمَّمُ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَمَنُهُ فَإِنْ أَعْطَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَأَنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْسَرُ عَلَى هَذِهِ التِّجَارَةِ وَلَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَإِنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ خُسْرَانٌ فِي مَالِهِ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمِ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ خُسْرَانٌ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي النَّوَادِرِ فَقَالَ إنْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِدِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَشْتَرِ فَجَعَلَ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ فِي تَضْعِيفِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إذَا كَانَ يُعْطِيهِ الثَّمَنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى بَدَلِ الْمَاءِ كَقُدْرَتِهِ عَلَى عَيْنِهِ كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَيَطْلُبُهُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَعَنْ يَسَارِهِ قَالَ إنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلَا يُبْعِدْ فَيَضُرَّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أَوْ بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ وَلَا يَطْلُبُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخْبَرَ بِمَاءٍ فَيَطْلُبُهُ الْغَلْوَةَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ إذَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ وُجُودِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَجَاءٍ مِنْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ، وَعَدَمُ الْوُجُودِ كَالْوُجُودِ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الطَّلَبِ يُقَالُ وَجَدَ فُلَانٌ لُقَطَةً وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي رَدْغَةٍ وَطِينٍ لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَلَا الصَّعِيدَ نَفَضَ ثَوْبَهُ أَوْ لَبَدَهُ وَتَيَمَّمَ بِغُبَارِهِ) وَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّيَمُّمِ بِالطِّينِ وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْوِيثُ الْوَجْهِ وَهُوَ مُثْلَةٌ وَلَكِنَّهُ يَنْفُضُ لَبَدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فَيَتَيَمَّمُ بِغُبَارِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ عَمَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَطَّخَ بِالطِّينِ بَعْضَ جَسَدِهِ فَإِذَا جَفَّ حَتَّهُ وَتَيَمَّمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِفَّ لَمْ يُصَلِّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ وَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُصَلِّي ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ عَلَى الطَّهُورِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا يَتَشَبَّهُ فِيهِ بِالْمُصَلِّينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ تَشَبُّهًا كَمَنْ تَسَحَّرَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَانَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعْصِيَةٌ وَالتَّشَبُّهُ بِالْمُطِيعِينَ لَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ. قَالَ (وَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ أَوْ بَغْلٍ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمَّمَ) وَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ أَجْزَأَهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ مَا دَامَ مَعَهُ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فَلَا عِبْرَةَ بِتَيَمُّمِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَا فِي التَّرْتِيبِ فَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ التَّرْتِيبِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَدِّمَ فِي التَّوَضُّؤِ بِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَصَابَ بَدَنَ الْمُتَيَمِّمِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَنْقُضْ ذَلِكَ تَيَمُّمَهُ) وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ بِخِرْقَةٍ أَوْ تُرَابٍ لِتَتَقَلَّلَ بِهِ النَّجَاسَةُ ثُمَّ يُصَلِّي فَإِنْ صَلَّى لَمْ يَمْسَحْهُ وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إزَالَتِهَا فَجَازَتْ صَلَاتُهُ مَعَهَا. قَالَ (وَإِذَا تَوَضَّأَ الْكَافِرُ أَوْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فَعِنْدَهُ الْوُضُوءُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَعِنْدَنَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَيَزُولُ بِهِ الْحَدَثُ فَيَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ كَغُسْلِ النَّجَاسَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا طَلَبَ مِنْ أُخْتِهِ أَنْ تُنَاوِلَهُ الصَّفْحَةَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ حَتَّى يَغْتَسِلَ نَاوَلَتْهُ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْكَافِرِ. قَالَ (وَإِنْ تَيَمَّمَ الْكَافِرُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ الطُّهْرِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ يُفَارِقُ الْوُضُوءَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ الطُّهْرِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَنِيَّةُ الْإِسْلَامِ نِيَّةُ قُرْبَةٍ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالتَّيَمُّمِ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ صَحَّ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ. (وَلَنَا) أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّيَمُّمِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ بِهِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَالتَّيَمُّمُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَنِيَّةُ الْإِسْلَامِ لَا تُعْتَبَرُ فِي التَّيَمُّمِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ قُرْبَةٍ وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالطَّهَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ أَوْ الصَّدَقَةِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ ثُمَّ إصْرَارُهُ عَلَى الْكُفْرِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ التَّيَمُّمِ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ. قَالَ (وَلَوْ تَوَضَّأَ الْمُسْلِمُ أَوْ اغْتَسَلَ ثُمَّ ارْتَدَّ - نَعُوذُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بِاَللَّهِ - لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ وَهُوَ كُفْرٌ وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ فَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ عَمَلَهُ وَوُضُوءَهُ مِنْ عَمَلِهِ (قُلْنَا) الرِّدَّةُ تُحْبِطُ ثَوَابَ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْحَدَثِ كَمَنْ تَوَضَّأَ عَلَى قَصْدِ الْمُرَاءَاةِ زَالَ الْحَدَثُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُثَابُ عَلَى وُضُوئِهِ. قَالَ (وَلَوْ تَيَمَّمَ الْمُسْلِمُ ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ) إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ الْكُفْرُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّيَمُّمِ فَيَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَمَنْ صَلَّى ثُمَّ ارْتَدَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَيَمُّمُهُ قَدْ صَحَّ بِاقْتِرَانِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَنْقُضُهُ إلَّا الْحَدَثُ أَوْ وُجُودُ الْمَاءِ وَالرِّدَّةُ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ وَهَذَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْوُضُوءَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي الْبَقَاءِ فَفِي الْبَقَاءِ الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ سَوَاءٌ فَكَمَا يَبْقَى وُضُوءُهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ. قَالَ (وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُكْرَهُ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَنْتَ إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَاغْتَسَلَ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْجَنَابَةِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ وَالصَّلَاةُ مَعَ الْجَنَابَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فَذَلِكَ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْمُلَامَسَةِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ ثُمَّ التَّيَمُّمُ لِلْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَمَا يَجُوزُ لَهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْحَدَثِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ فَكَذَلِكَ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِ النَّفْسِ بَعْدَ غَلَبَةِ الشَّبَقِ بَعْضَ الْحَرَجِ وَمَا شُرِعَ التَّيَمُّمُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ. قَالَ (وَمَنْ تَيَمَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْغَيْرِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يُجْزِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ وَظَاهِرُ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ تَكْفِي وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ أَوْ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ. قَالَ (وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الضَّرُورَةُ لِلتَّيَمُّمِ، ثُمَّ أَدَاءُ النَّافِلَةِ بِالتَّيَمُّمِ يَجُوزُ عِنْدَنَا كَأَدَاءِ الْفَرْضِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي أَدَاءِ النَّافِلَةِ. قَالَ (مُسَافِرَةٌ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فَلَمْ تَجِدْ مَاءً فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا) لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا حِينَ صَحَّ تَيَمُّمُهَا وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِجَوَازِ صَلَاتِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَصْدِ الرَّجْعَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا جَعَلَ التَّيَمُّمَ كَالِاغْتِسَالِ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ قَطْعُ الرَّجْعَةِ. وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْوَطْءِ تَرْكُهُ فَلَمْ يُجْعَلْ التَّيَمُّمَ فِيهِ قَبْلَ تَأَكُّدِهِ بِالصَّلَاةِ كَالِاغْتِسَالِ كَمَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْحِلِّ لِلْأَزْوَاجِ. قَالَ (مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ)؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَصَدَ الْمُكْثَ فِيهِ أَوْ الِاجْتِيَازَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ مُجْتَازًا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَلَكِنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ قَالُوا إنَّ إلَّا هُنَا بِمَعْنَى وَلَا أَيْ وَلَا عَابِرِي سَبِيلٍ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَبَقِيَ الْمَنْعُ بِقَوْلِهِ لَا تَقْرَبُوا، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَيَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَقِي مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَسْتَقِي بِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مَاءً جَارِيًا أَوْ حَوْضًا كَبِيرًا اغْتَسَلَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا صَغِيرًا فَالِاغْتِسَالُ فِيهِ يُنَجِّسُ الْمَاءَ وَلَا يُطَهِّرُهُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَنِيَّةُ الصَّلَاةِ شَرْطُهُ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِهَذَا تَيَمَّمَ ثَانِيًا وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَمَّمَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَمَّمَ لِسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَنِيَّتُهُ لِلسَّجْدَةِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ بِنِيَّتِهِ ذَلِكَ نَاوِيًا لِلصَّلَاةِ. قَالَ (وَلَا يَتَوَضَّأُ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ) إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ سُؤْرُهُ طَاهِرٌ، وَالْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ تَعَبُّدٌ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سُؤْرُهُ نَجِسٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا» دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالنَّجِسِ فَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ. قَالَ (وَتَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي الْمِصْرِ إذَا خَافَ فَوْتَهَا) وَكَذَلِكَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَيَمَّمُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهُورٌ شُرِعَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَمَعَ وُجُودِهِ لَا يَكُونُ طَهُورًا وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ إذَا فَاجَأَتْك جِنَازَةٌ فَخَشِيت فَوْتَهَا فَصَلِّ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مِثْلُهُ وَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ السَّلَامَ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ حِينَ خَافَ الْفَوْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لِمُوَارَاةِ الْمُسْلِمِ عَنْ بَصَرِهِ» فَصَارَ هَذَا أَصْلًا إلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفُوتُ لَا إلَى بَدَلٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ تَفُوتُ لَا إلَى بَدَلٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى إذَا فَاتَتْ مَعَ الْإِمَامِ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ تَفُوتُ لَا إلَى بَدَلٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَادُ عِنْدَنَا وَكَأَنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُنَا لَا يَتَوَصَّلُ بِالتَّوَضُّؤِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ صَارَ وُجُودُ الْمَاءِ كَعَدَمِهِ فَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وَبِهَذَا فَارَقَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ هُنَاكَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فَكَانَ مُخَاطَبًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَبِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ فَلَا تَفُوتُهُ وَبِالْوُضُوءِ يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهَا فَلَا يُجْزِئُهُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ؛ لِهَذَا قَالَ (وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ مَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِالتَّيَمُّمِ تَيَمَّمَ وَبَنَى بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ لِلْبِنَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَإِنَّهُ إذَا ذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَإِنْ عَادَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَمَّا جَازَ الِافْتِتَاحُ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ فَالْبِنَاءُ أَجَوْزُ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْبِنَاءِ أَسْهَلُ وَخَوْفُ الْفَوْتِ قَائِمٌ فَرُبَّمَا يُبْتَلَى بِالْمُعَالَجَةِ مَعَ النَّاسِ لِكَثْرَةِ ازْدِحَامِهِمْ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فَتَفُوتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى جِبَائِيَّةِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ الْمَاءَ بَعِيدٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ إلَى الْمِصْرِ فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا الْمَاءُ مُحِيطٌ بِالْمُصَلَّى فَلَا يَتَيَمَّمُ لِلِابْتِدَاءِ وَلَا لِلْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ لَا يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَإِنَّ النَّاسَ وَإِنْ صَلُّوا عَلَيْهَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مِنْ مَكَان قَدْ كَانَ فِيهِ بَوْلٌ أَوْ نَجَاسَةٌ وَإِنْ ذَهَبَ الْأَثَرُ) وَذَكَرَ ابْنُ كَاسِرٍ النَّخَعِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ حِينَ ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ طِيبَةُ الصَّعِيدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وَهَذَا الْمَكَانُ صَارَ طَاهِرًا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الطَّهَارَةِ الطِّيبَةُ وَلَمْ يَصِرْ طَيِّبًا، ثُمَّ طَهَارَةُ هَذَا الْمَكَانِ ثَابِتَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي الصَّعِيدِ ثَابِتٌ بِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْبَيْتِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِهَذَا وَقَدْ قَرَرْنَاهُ. قَالَ (وَإِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى) لِأَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَجْوَزُ؛ لِأَنَّهُ بَنَى الضَّعِيفَ عَلَى الْقَوِيِّ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فَإِنْ وَجَدَ مَاءً يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَانِهِ فَالْقِيَاسُ يَتَوَضَّأُ وَيَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَهَذَا مُتَيَمِّمٌ وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ. اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَا يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَيَمَّمْ أَصْلًا وَلَكِنَّهُ كَانَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ جَعَلْنَاهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَيَمَّمْ كَانَتْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَتَوَضَّأُ لِلْبِنَاءِ إذَا أَدَّى شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا فَأَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُتَوَضِّئًا ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ مِنْهُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ لَا يُفْسِدُ صَلَاةَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمًا فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ تُفْسِدُ صَلَاةِ الْقَوْمِ. قَالَ (وَإِذَا أَمَّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ فَأَبْصَرَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْمَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ وَالْآخَرُونَ حَتَّى فَرَغُوا فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ تَامَّةٌ إلَّا مَنْ أَبْصَرَ الْمَاءَ) فَإِنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِفَسَادِ الصَّلَاةِ مِنْ سَبَبٍ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَوَضِّئٌ فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدًا فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ هُنَا صَحِيحَةٌ فَلَا مَعْنَى لِفَسَادِ صَلَاتِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحْدِثٌ لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ الْقَوْمِ، وَطَهَارَتُهُ هُنَا تَيَمُّمٌ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ مَنْ أَبْصَرَ الْمَاءَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَمِّمُ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْفَسَادَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ الْفَسَادَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ جِهَتِهِ. قَالَ (مُتَيَمِّمٌ رَأَى فِي صَلَاتِهِ سَرَابًا فَظَنَّ أَنَّهُ مَاءٌ فَمَشَى إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ سَرَابٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصَّلَاةَ) لِأَنَّ مَشْيَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا ظَنَّ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَتْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أَنْ يَبْنِيَ كَمَا لَوْ ظَنَّ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ نَسِيَ مَسْحَ الرَّأْسِ فَمَشَى لِيَمْسَحَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ مَسَحَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَمَشَى لِيَتَوَضَّأَ فَعَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ؛ لِأَنَّ انْصِرَافَهُ هُنَاكَ كَانَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ دُونَ رَفْضِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ مَا ظَنَّ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ فَمَا لَمْ يُفَارِقْ مَكَانَ الصَّلَاةِ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِهِ فَبَنَى لِهَذَا. قَالَ (وَمَنْ اسْتَيْقَنَ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ عَلَى تَيَمُّمِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ بِالْحَدَثِ أَوْ بِوُجُودِ الْمَاءِ) لِلْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ التَّيَمُّمَ فَتَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ وَدَلَّكَ بِذَلِكَ جَسَدَهُ كُلَّهُ فَإِنْ كَانَ أَصَابَ التُّرَابُ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ حَدِيثَ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ» يَعْنِي ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةً لِلذِّرَاعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ (وَإِنْ بَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ مَكَثَ بَعْدَ تَيَمُّمِ وَجْهِهِ سَاعَةً ثُمَّ تَيَمَّمَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ وَالْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ لَا يَمْنَعُ تَرْكُهُ الْجَوَازَ فَكَذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ. قَالَ (وَإِذَا تَيَمَّمَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ مِنْ مَكَانِ ثُمَّ وَضَعَ آخَرُ يَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ الصَّعِيدَ الْبَاقِيَ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ تَيَمُّمِ الْأَوَّلِ نَظِيرُ الْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ وَاغْتِسَالِهِ بِهِ فَيَكُونُ طَهُورًا فِي حَقِّ الثَّانِي كَذَا هَذَا. قَالَ (وَإِذَا تَيَمَّمَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ مِنْ الْمِرْفَقَيْنِ فَعَلَيْهِ مَسْحُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ الْمِرْفَقِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِرْفَقَ يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ مَوْضِعُ الْقَطْعِ صَارَ بَادِيًا فِي حَقِّهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْكَفِّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ صَحِيحُ الْيَدَيْنِ فَعَلَيْهِ مَسْحُهُ فِي التَّيَمُّمِ وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ فَوْقُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَسْحُهُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الطَّهَارَةِ مِنْ يَدِهِ فَائِتٌ فَإِنَّ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ الطَّهَارَةِ. قَالَ (وَإِذَا تَيَمَّمَ وَفِي رَحْلِهِ مَاءٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ بِأَنْ كَانَ نَسِيَهُ بَعْدَ مَا وَضَعَهُ أَوْ وَضَعَهُ بَعْضِ أَهْلِهِ فَصَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ جَائِزَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ مِنْ أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْمُسَافِرِ فَقَدْ نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ نِسْيَانُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ فَنَسِيَهُ لَا يُعْتَبَرُ نِسْيَانُهُ وَلِأَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لِكَوْنِهِ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّ رَحْلَهُ فِي يَدِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا نَسِيَ الرَّقَبَةَ فِي مِلْكِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِهَذَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّا فِي الْكِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا عِلْمَهُ وَمَعْنَى هَذَا التَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِاسْتِعْمَالِهِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ كَالْمَرِيضِ وَمَنْ يَخَافُ الْعَطَشَ عَلَى نَفْسِهِ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِهِ فَكَانَ نَظِيرَ الْوَاقِفِ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الِاسْتِسْقَاءِ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ مِلْكُهَا حَتَّى لَوْ عَرَضَ إنْسَانٌ عَلَيْهِ الرَّقَبَةَ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، وَبِالنِّسْيَانِ لَمْ يَنْعَدِمْ مِلْكُهُ، وَهُنَا الْمُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَتَّى لَوْ عَرَضَ إنْسَانٌ عَلَيْهِ الْمَاءَ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فَجَازَ تَيَمُّمُهُ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ نَفَذَ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ثَابِتَةٌ بِعِلْمِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِظَنِّهِ وَعَلَيْهِ التَّفْتِيشُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَإِذَا كَانَ بِهِ جُدَرِيٌّ أَوْ جِرَاحَاتٌ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَالْمُعْتَبَرُ أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ) فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ مَجْرُوحًا فَعَلَيْهِ التَّيَمُّمُ دُونَ غَسْلِ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَالْعِبْرَةُ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ مَجْرُوحًا تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ فِيمَا هُوَ صَحِيحٌ فِي الْوُجُوهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَمَّا هُوَ مَجْرُوحٌ لِضَرُورَةِ الضَّرَرِ فِي إصَابَةِ الْمَاءِ وَالثِّيَابِ وَالضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَقَلَّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَجْدُورِ كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ» وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ أَنَّهُ يَغْسِلُ مَا بَيْنَ كُلِّ جُدَرِيَّيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْأَكْثَرِ وَإِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ مَجْرُوحًا فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَجْرُوحٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ عَلَى سَبِيلِ رَفْوِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ مَجْرُوحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّيَمُّمِ فَسَقَطَ فَرْضُ الْغُسْلِ لِهَذَا. قَالَ (وَإِنْ أَجْنَبَ الصَّحِيحُ فِي الْمِصْرِ فَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ إنْ اغْتَسَلَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَالْمُسَافِرِ إذَا خَافَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي الْمِصْرِ قَالَا: لِأَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ مِنْ الْبَرْدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَاءً سَخِينًا وَلَا ثَوْبًا يَتَدَفَّأُ بِهِ وَلَا مَكَانًا يَأْوِيهِ وَأَمَّا الْمِصْرُ لَا يَعْدَمُ أَحَدٌ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إلَّا نَادِرًا وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ مُجَوِّزًا لِلتَّيَمُّمِ بِخِلَافِ خَارِجِ الْمِصْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُسَافِرُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ مِنْ الْبَرْدِ فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ كَانَ هُوَ كَالْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ثَابِتٌ فِيهِمَا وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَالْمِصْرُ وَالسَّفَرُ لَهُ سَوَاءٌ كَالْمَرِيضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ فِي السِّجْنِ فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَظِيفٍ وَهُوَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَمْ يُصَلِّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يُصَلِّي ثُمَّ يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالتَّيَمُّمِ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ التَّيَمُّمُ طَهُورًا لَهُ وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ إنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا نَادِرًا فَأَمَّا فِي السِّجْنِ فَعَدَمُ الْمَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَاءِ فَأَمَّا الْإِعَادَةُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا لَوْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعِيدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ الْعِبَادِ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالطَّهَارَةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّ هُنَاكَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَا لِلْحَبْسِ فَلَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُقَيَّدِ إذَا صَلَّى قَاعِدًا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إذَا رُفِعَ الْقَيْدُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ. وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَكَان قَذِرٍ لَا يَجِدُ صَعِيدًا طَيِّبًا وَلَا مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ تَشَبُّهًا بِالْمُصَلِّينَ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ وَنُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْأَصْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَتَشَبَّهُ بِالْمُصَلِّينَ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالتَّكْلِيفِ إنَّمَا يَتَثَبَّتُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ طَهُورٍ مَعْصِيَةٌ وَلَا يَحْصُلُ التَّشَبُّهُ بِالْمُصَلِّينَ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ الْهَارِبُ مِنْ الْعَدُوِّ مَاشِيًا وَالْمُشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَالسَّابِحُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ مَا انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلُّونَ بِالْإِيمَاءِ تَشَبُّهًا ثُمَّ يُعِيدُونَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُصَلُّونَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْعَمَلِ مِنْ الْقِتَالِ وَالسِّبَاحَةِ وَالْمَشْيِ لَا تَكُونُ الصَّلَاةُ قُرْبَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ» لِكَوْنِهِ كَانَ مَشْغُولًا بِالْقِتَالِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. قَالَ (مُسَافِرٌ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ ثُمَّ أَهَرَاقَ الْمَاءَ فَتَيَمَّمَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ قَهْقَهَ فِيهَا وَوَجَدَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مَا بَقِيَ مِنْ بَعْضِ جَسَدِهِ) لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ لَوْ طَرَأَ عَلَى غَسْلِ الْأَعْضَاءِ نُقِضَ طَهَارَتُهُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ الَّتِي بِهَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَشُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ هُنَا بِالتَّيَمُّمِ لَا بِغَسْلِ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَلَا تَنْتَقِضُ بِالْقَهْقَهَةِ طَهَارَتُهُ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْغَسْلِ فِيهِمَا كَمَا لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْغَسْلِ فِيمَا غَسَلَ مِنْ جَسَدِهِ سِوَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. قَالَ (جُنُبٌ اغْتَسَلَ فَبَقِيَ عَلَى بَدَنِهِ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي) لِأَنَّ زَوَالَ الْجَنَابَةِ مُعْتَبَرٌ ثُبُوتُهَا حُكْمًا فَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهَا فِي بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ زَوَالُهَا مَا بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ غَسَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا يُطَهِّرُهُ وَلَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ عَنْ الْحَدَثِ فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ قَبْلَ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ إنْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي وَجَدَهُ يَكْفِيهِ لِلُّمْعَةِ وَالْوُضُوءِ غَسَلَ اللُّمْعَةَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ؛ لِأَنَّهُ مُحْدِثٌ مَعَهُ مَا يُوَضِّئهُ، وَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَيَمَّمُ لِلْحَدَثِ وَتَيَمُّمُهُ لِلْجَنَابَةِ بَاقٍ وَلَكِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي اللُّمْعَةِ لِتَقْلِيلِ الْجَنَابَةِ وَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ لِلُّمْعَةِ دُونَ الْوُضُوءِ غَسَلَ بِهِ اللُّمْعَةَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْحَدَثِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ دُونَ اللُّمْعَةِ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمُّمُهُ لِلْجَنَابَةِ بَاقٍ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ غَسَلَ بِهِ اللُّمْعَةَ لِتَزُولَ بِهِ الْجَنَابَةُ فَإِنَّ حُكْمَهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ حَتَّى يُمْنَعَ الْجُنُبُ مِنْ الْقِرَاءَةِ دُونَ الْمُحْدِثِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْحَدَثِ فَإِنْ بَدَأَ بِالتَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ أَجْزَأَهُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ وَقِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَيَمُّمُهُ وَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لِلُّمْعَةِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الْحَدَثِ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْعَطَشِ، وَشُبِّهَ هَذَا بِسُؤْرِ الْحِمَارِ فِي أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ بِهِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْوُضُوءِ بِهِ فَإِنْ بَدَأَ بِالتَّيَمُّمِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ (مُتَيَمِّمٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ تَوَضَّأَ بِهِ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ) لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِي طَهَارَتِهِ وَشُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالشَّكِّ فَلِهَذَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيُعِيدُ احْتِيَاطًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُؤْرُ الْحِمَارِ طَاهِرًا. قَالَ (وَلَوْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ) عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُتِمُّ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيُعِيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لِأَنَّهُ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْطَعُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ عِنْدَهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ فَتَنْتَقِضُ صَلَاتُهُ بِوُجُودِهِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَسْتَقْبِلُ وَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ الْحِمَارِ وَالنَّبِيذَ جَمِيعًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَيَتَوَضَّأُ بِهِمَا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَالنَّبِيذُ مَعَهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ فَلِهَذَا تَوَضَّأَ بِهِمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ تَوَضَّأَ بِهِمَا وَأَعَادَ الصَّلَاةَ احْتِيَاطًا. [فَصْلٌ فِي ذَكَرِ الْمَسَائِلِ الْمَعْدُودَة لِأَبِي حَنِيفَةَ] - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا فَرَغَ الْمُصَلِّي مِنْ تَشَهُّدِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى انْقَضَى وَقْتُ مَسْحِهِ أَوْ وَجَدَ فِي خُفِّهِ شَيْئًا فَنَزَعَهُ فَانْتَقَضَ بِهِ مَسْحُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَمُصَلِّي الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا وَمُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَالْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا وَالْأُمِّيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ وَالْقَارِئُ إذَا اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا وَالْمُومِئُ إذَا قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمُصَلِّيَ إذَا تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ إذَا بَرِئَ جُرْحُهُ أَوْ ذَهَبَ وَقْتُهُ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمُصَلِّي الْفَائِتَةِ إذَا تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَضَتْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَخَرَجَ بِهَا عَنْهَا وَجَازَتْ عَنْهُ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَبْتَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ وَاحْتِجَاجُهُمَا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا رَفَعَ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» وَلِأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ حَادَثَ الْمَرْأَةَ الرَّجُلُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَلَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لَفَسَدَتْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَا تَفْسُدُ قَبْلَ الْقَعْدَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ إلَّا بِصُنْعِهِ كَالْحَجِّ وَتَقْرِيرِهِ أَنَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ لَوْ أَرَادَ اسْتِدَامَةَ التَّحْرِيمَةِ إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ إلَى دُخُولِ صَلَاةٍ أُخْرَى مُنِعَ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَيْ قَارَبَ التَّمَامَ كَمَا قَالَ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَيْ قَارَبَ التَّمَامَ، وَالْكَلَامُ وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ وَالْمُحَاذَاةُ وَالْقَهْقَهَةُ صُنْعٌ مِنْ جِهَتِهِ (فَإِنْ قِيلَ) فَنَزْعُ الْخُفِّ أَيْضًا صُنْعُهُ. (قُلْنَا) هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 صُنْعٌ غَيْرُ قَاطِعٍ حَتَّى أَنَّ غَاسِلَ الرِّجْلَيْنِ لَوْ فَعَلَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّهُ وَلِهَذَا قِيلَ تَأْوِيلُهُ إنْ كَانَ الْخُفَّ وَاسِعَ السَّاقِ لَا يَحْتَاجُ فِي نَزْعِهِ إلَى الْمُعَالَجَةِ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ (فَإِنْ قِيلَ) فَالِاسْتِخْلَافُ أَيْضًا صُنْعُهُ (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنَّهُ صُنْعٌ غَيْرُ مُفْسِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَارِئُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ يَتَأَدَّى فَرْضُ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي فَرْضًا لَاخْتَصَّ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَجِّ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَاعْتِرَاضُ الْمُغَيِّرِ لِلْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَاعْتِرَاضِهِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ مُغَيِّرَةٌ لِلْفَرْضِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَاطِعٌ لَا مُغَيِّرٌ وَالْقَهْقَهَةُ وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ وَالْمُحَاذَاةُ مُبْطِلٌ لَا مُغَيِّرٌ (فَإِنْ قِيلَ) فَطُلُوعُ الشَّمْسِ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ مُبْطِلٌ لَا مُغَيِّرٌ وَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُغَيِّرٌ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِهِ مِنْ التَّحْرِيمَةِ، وَجَمِيعُ مَا بَيَّنَّا فِيمَا إذَا اعْتَرَضَ قَبْلَ السَّلَامِ، كَذَلِكَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ أَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا شَكَّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ بِالسَّلَامِ يَخْرُجُ مِنْ التَّحْرِيمَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُسَلِّمُ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ التَّحْرِيمَةِ يَحْصُلُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا، فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْعَوَارِضِ الْمُفْسِدَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِالسَّلَامِ عِنْدَهُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» فَكَمَا أَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ الصَّلَاةِ مُخْتَصٌّ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَكَذَلِكَ التَّحْلِيلُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ مِنْهُ لِلنَّاسِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَمَا يَكُونُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» الْإِذْنُ بِانْقِضَائِهَا فَإِنَّ مَنْ تَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْ النَّاسِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ وَعِنْدَ التَّسْلِيمِ يَصِيرُ كَالْعَائِدِ إلَيْهِمْ فَلِهَذَا يُسَلِّمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عَلَيْهِمْ لَا أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَلَوْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ الْأَرْكَانِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ،. وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْقَعْدَةِ مَا يَأْتِي فِيهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَفْرُوضَ قَدْرُ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ إلَى قَوْلِهِ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَالتَّشَهُّدُ إذَا أُطْلِقَ يَفْهَمُ مِنْهُ هَذَا. وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا فِي الْأُمِّيِّ يَتَعَلَّمُ السُّورَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَيَبْنِي كَالْقَاعِدِ يَقْدِرُ عَلِيٌّ الْقِيَامِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّ صَلَاةَ الْأُمِّيَّ ضَرُورَةٌ مَحْضَةٌ حَتَّى لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ فِي النَّفْلِ وَالْفَرْضِ فَهُوَ قِيَاسُ الْمُومِئِ يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَذَانِ] الْأَذَانُ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] الْآيَةَ، وَتَكَلَّمُوا فِي سَبَبِ ثُبُوتِهِ فَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «مَرَّ أَنْصَارِيٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَآهُ حَزِينًا وَكَانَ الرَّجُلُ ذَا طَعَامٍ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَاهْتَمَّ لِحُزْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الطَّعَامَ وَلَكِنَّهُ نَامَ فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ أَتَعْلَمُ حُزْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّ ذَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّاقُوسِ فَمُرْهُ فَلْيُعَلِّمْ بِلَالًا الْأَذَانَ» وَذَكَرَهُ إلَى آخِرِهِ وَالْمَشْهُورُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ تَارَةً وَيُعَجِّلُهَا أُخْرَى فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي عَلَامَةٍ يَعْرِفُونَ بِهَا وَقْتَ أَدَائِهِ الصَّلَاةَ لِكَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَنْصِبُ عَلَامَةً حَتَّى إذَا رَآهَا النَّاسُ أَذِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِضَرْبِ النَّاقُوسِ فَكَرِهَهُ لِأَجْلِ النَّصَارَى، وَبَعْضُهُمْ بِالنَّفْخِ فِي الشَّبُّورِ فَكَرِهَهُ لِأَجْلِ الْيَهُودِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْبُوقِ فَكَرِهَهُ لِأَجْلِ الْمَجُوسِ فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى شَيْءٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ: فَبِتُّ لَا يَأْخُذُنِي النَّوْمُ وَكُنْت بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ رَأَيْت شَخْصًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ وَفِي يَدِهِ شِبْهُ النَّاقُوسِ فَقُلْت: أَتَبِيعُنِي هَذَا؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَضْرِبُهُ عِنْدَ صَلَاتِنَا. فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فَقُلْت: نَعَمْ فَقَامَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَأَذَّنَ ثُمَّ مَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: رُؤْيَا صِدْقٍ، أَوْ قَالَ: حَقٍّ أَلْقِهَا عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَمَدُّ صَوْتًا مِنْك فَأَلْقَيْتهَا عَلَيْهِ فَقَامَ عَلَى سَطْحِ أَرْمَلَةٍ كَانَ أَعْلَى السُّطُوحِ بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلَ يُؤَذِّنُ فَجَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي إزَارٍ وَهُوَ يُهَرْوِلُ وَيَقُولُ لَقَدْ طَافَ بِي اللَّيْلَةَ مَا طَافَ بِعَبْدِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ سَبَقَنِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا أَثْبَتُ». وَرُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ رَأَوْا تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَانَ أَبُو حَفْصٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يُنْكِرُ هَذَا وَيَقُولُ تَعْمِدُونَ إلَى مَا هُوَ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ فَتَقُولُونَ ثَبَتَ بِالرُّؤْيَا كَلًّا وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُسْرِيَ بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَجُمِعَ لَهُ النَّبِيُّونَ أَذَّنَ مَلَكٌ وَأَقَامَ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى قَالَ كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ أَذَّنَ جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ فَسَمِعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ. ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَذَانِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: (أَحَدُهَا) فِي التَّرْجِيعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْأَذَانِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَصِفَتُهُ) أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ - الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ يَخْفِضُ بِهِمَا صَوْتَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ فَيَأْتِيَ بِهِمَا مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ يَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَا يَكُونُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً إلَّا بِالتَّرْجِيعِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّرْجِيعِ نَصًّا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشَّهَادَتَيْنِ قِيَاسَ التَّكْبِيرِ فَكَمَا أَنَّهُ يَأْتِي بِلَفْظَةِ التَّكْبِيرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الشَّهَادَتَيْنِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ الْأَصْلُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّرْجِيعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَلَا تَرْجِيعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فَفِيمَا سِوَاهُمَا أَوْلَى. وَأَمَّا لَفْظُ التَّكْبِيرِ فَدَلِيلُنَا فَإِنَّ ذِكْرَ التَّكْبِيرِ مَرَّتَيْنِ لَمَّا كَانَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ قُلْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّكْرَارِ حَالَةَ التَّعْلِيمِ لِيَحْسُنَ تَعَلُّمُهُ وَهُوَ كَانَ عَادَتُهُ فِيمَا يَعْلَمُ أَصْحَابُهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّرْجِيعِ. وَقِيلَ «إنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ كَانَ مُؤَذِّنَ مَكَّةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَفَضَ صَوْتَهُ اسْتِحْيَاءً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يَعْهَدُوا ذِكْرَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ جَهْرًا فَفَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُذُنَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ لِيَكُونَ تَأْدِيبًا لَهُ». (وَالثَّانِي) فِي التَّكْبِيرِ (عِنْدَنَا أَرْبَعُ مَرَّاتٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّتَيْنِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَاسَهُ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَحَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي الْأَذَانِ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إذَا كَانَ التَّكْبِيرُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ كَمَا يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّ آخِرَ الْآذَانِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ فَاعْتَبَرُوا آخِرَهُ بِأَوَّلِهِ وَيَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي أَذَانِهِ حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَقَدَمَاهُ مَكَانَهُمَا) وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مُنَاجَاةٌ وَمُنَادَاةٌ فَفِي حَالَةِ الْمُنَاجَاةِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَعِنْدَ الْمُنَادَاةِ يَسْتَقْبِلُ مَنْ يُنَادِي لِأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِأَنَّهُ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْمُنَاجَاةِ قَالَ (وَالْإِقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى كَالْأَذَانِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِقَامَةُ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا مَرَّتَانِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ فَمَعَ التَّكْرَارِ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ وَالْإِقَامَةَ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَالْإِفْرَادُ بِهَا أَعْجَلُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَوْلَى (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا بَيَّنَّا. وَمَرَّ عَلِيٌّ بِمُؤَذِّنٍ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ فَقَالَ: اشْفَعْهَا لَا أُمَّ لَك وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَذَانَيْنِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِقَوْلِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَلَوْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِ الْإِفْرَادُ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَعْنَاهُ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ مُجَاهِدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَانَتْ الْإِقَامَةُ مَثْنَى كَالْأَذَانِ حَتَّى اسْتَخَفَّهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فَأَفْرَدَهُ لِحَاجَةٍ لَهُمْ (وَقَالَ) مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفْرَدُ وَقَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ أَيْضًا وَيَرْوِي فِيهِ حَدِيثًا عَنْ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الْبَلْوَى وَالشَّاذُّ هِيَ مَسْأَلَةٌ لَا تَكُونُ حُجَّةً. قَالَ (وَيَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ عِنْدَ أَذَانِهِ) «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ إذَا أَذَّنْت فَاجْعَلْ أُصْبُعَيْك فِي أُذُنَيْك فَإِنَّهُ أَنْدَى لِصَوْتِك» وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ فِي صَوْمَعَتِهِ يَتْبَعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ حَاصِلٌ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَدَارَ فِي صَوْمَعَتِهِ لَمْ يَضُرَّهُ) لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِتَحْوِيلِ الْوَجْهِ يَمِينًا وَشِمَالًا بِدُونِ الِاسْتِدَارَةِ لِتَبَاعُدِ جَوَانِبِ الْمَحَلَّةِ فَالِاسْتِدَارَةُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْلَامِ قَالَ (وَلَا يُثَوِّبُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْفَجْرِ) وَكَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الْأَذَانِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ وَهُوَ حَسَنٌ. أَمَّا مَعْنَى التَّثْوِيبِ لُغَةً فَالرُّجُوعُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّوَابُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ تَعُودُ إلَيْهِ وَيُقَالُ ثَابَ إلَى الْمَرِيضِ نَفَسُهُ إذَا بَرَأَ فَهُوَ عَوْدٌ إلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ حُصَاصٌ كَحُصَاصِ الْحِمَارِ فَإِذَا فَرَغَ رَجَعَ فَإِذَا ثَوَّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا فَرَغَ رَجَعَ فَإِذَا أَقَامَ أَدْبَرَ فَإِذَا فَرَغَ رَجَعَ وَجَعَلَ يُوَسْوِسُ إلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ كَمْ صَلَّى». فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَكَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَذَّنَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ جَاءَ إلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَالَ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الرَّسُولُ نَائِمٌ فَقَالَ بِلَالٌ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَلَمَّا انْتَبَهَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بِذَلِكَ فَاسْتَحْسَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَوْلُهُ) فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ إشَارَةٌ إلَى تَثْوِيبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوا الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ بِالْأَذَانِ وَجَعَلُوا التَّثْوِيبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ (وَالتَّثْوِيبُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا يَتَعَارَفُونَهُ إمَّا بِالتَّنَحْنُحِ أَوْ بِقَوْلِهِ الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ أَوْ بِقَوْلِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) لِأَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْلَامِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ. قَالَ (وَلَا تَثْوِيبَ إلَّا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى مُؤَذِّنًا يُثَوِّبُ فِي الْعِشَاءِ فَقَالَ أَخْرِجُوا هَذَا الْمُبْتَدِعَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ دَخَلْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَسْجِدًا نُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُثَوِّبُ فَغَضِبَ وَقَالَ قُمْ حَتَّى نَخْرُجَ مِنْ عِنْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 هَذَا الْمُبْتَدِعِ فَمَا كَانَ التَّثْوِيبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى فِي حَالِ نَوْمِ النَّاسِ وَلِهَذَا خُصَّتْ بِالتَّطْوِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ فَخُصَّتْ أَيْضًا بِالتَّثْوِيبِ لِكَيْ لَا تَفُوتَ النَّاسَ الْجَمَاعَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ يُؤَذِّنُ لِلْفَجْرِ ثُمَّ يَقْعُدُ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يُثَوِّبُ ثُمَّ يَقْعُدُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُقِيمُ لِحَدِيثِ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ إذَا أَذَّنْت فَأَمْهِلْ النَّاسَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ وَالْمُعْتَصِرُ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ» وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ التَّثْوِيبَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْأَذَانِ كَانَ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فَيُسْتَحْسَنُ التَّثْوِيبُ بِهِمَا أَيْضًا هَذَا اخْتِيَارُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَاسْتَحْسَنُوا التَّثْوِيبَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ ازْدَادَ بِهِمْ الْغَفْلَةُ وَقَلَّمَا يَقُومُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ فَيُسْتَحْسَنُ التَّثْوِيبُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْلَامِ وَمِثْلُ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَخُصَّ الْأَمِيرَ بِالتَّثْوِيبِ فَيَأْتِيَ بَابَهُ فَيَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ الصَّلَاةُ يَرْحَمُك اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ لَهُمْ زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِأَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ وَرَغْبَةٌ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخَصُّوا بِالتَّثْوِيبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اشْتِغَالُهُ نَصَبَ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرِهَ هَذَا وَقَالَ أُفًّا لِأَبِي يُوسُفَ حَيْثُ خَصَّ الْأُمَرَاءَ بِالذِّكْرِ وَالتَّثْوِيبِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ حَجَّ أَتَاهُ مُؤَذِّنُ مَكَّةَ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ أَلَمْ يَكُنْ فِي أَذَانِك مَا يَكْفِينَا قَالَ (وَيَتَرَسَّلُ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدُرُ فِي الْإِقَامَةِ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ إذَا أَذَّنْت فَتَرَسَّلْ وَإِذَا أَقَمْت فَاحْدُرْ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ فَالتَّرَسُّلُ فِيهِ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ وَالْمَقْصُودَ مِنْ الْإِقَامَةِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَالْحَدْرُ فِيهَا أَبْلَغُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ. قَالَ (فَإِنْ تَرَسَّلَ فِيهِمَا أَوْ حَدَرَ فِيهِمَا أَوْ تَرَسَّلَ فِي الْإِقَامَةِ وَحَدَرَ فِي الْأَذَانِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ أَقَامَ الْكَلَامَ بِصِفَةِ التَّمَامِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِعْلَامُ فَتَرْكُ مَا هُوَ زِينَةٌ فِيهِ لَا يَضُرُّهُ [الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ] قَالَ (وَيَجُوزُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَيُكْرَهُ مَعَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يُعَادَ أَذَانُ الْجُنُبِ وَلَا يُعَادَ أَذَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الْمُحْدِثِ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَادُ فِيهِمَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُعَادُ فِيهِمَا وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ وَالْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ حَاصِلٌ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَذَانَ مُشَبَّهٌ بِالصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَسْتَقْبِلُ فِيهِ الْقِبْلَةَ، وَالصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ لَا تَجُوزُ فَمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِهِ مُشَبَّهٌ بِهِ يُكْرَهُ مَعَهُ، ثُمَّ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّبًا لَهَا دَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ الْأَذَانُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَيُقَاسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْمُحْدِثُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ فَكَذَلِكَ الْأَذَانُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ جَعْلُ الْإِقَامَةِ كَالْأَذَانِ فِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ مُحْدِثًا. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَكْرَهُ الْإِقَامَةَ لِلْمُحْدِثِ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَتَّصِلُ بِهَا إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْحَدَثِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ [الْأَذَانُ قَاعِدًا] قَالَ (وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ قَاعِدًا) لِأَنَّهُ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا قَالَ: فَقَامَ الْمَلَكُ عَلَى جِذْمِ حَائِطٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ وَتَمَامُهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ حَاصِلٌ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ وَيُقِيمَ آخَرُ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْأَذَانِ نَصِيبٌ فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِلَالٌ وَيُقِيمَ» هُوَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرٌ مَقْصُودٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ الْحَارِثَ الصُّدَائِيَّ أَذَّنَ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ وَبِلَالٌ كَانَ غَائِبًا فَلَمَّا رَجَعَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَخَا صُدَاءَ أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» إنَّمَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لَا أَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ قَالَ (وَإِنْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي أَذَانِهِ أَجْزَأَهُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ حَصَلَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَالْكَرَاهِيَةُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ [أَذَان الْمُسَافِر] قَالَ (وَيُؤَذِّنُ الْمُسَافِرُ رَاكِبًا إنْ شَاءَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا فِي السَّفَرِ رُبَّمَا أَذَّنَ رَاكِبًا وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ (وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ أَحَبُّ إلَيَّ) لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَتَّصِلُ بِهَا إقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ فَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِهَذَا قَالَ (وَإِنْ اقْتَصَرَ الْمُسَافِرُ بِالْإِقَامَةِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا لِأَحَدِ الْأَذَانَيْنِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا وَهُمْ فِي السَّفَرِ مُجْتَمِعُونَ وَالْإِقَامَةُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهُمْ إلَيْهَا مُحْتَاجُونَ فَيُؤْتَى بِهَا فِي السَّفَرِ وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ لِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْتِيَ بِهِمَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَابْنِ عَمٍّ لَهُ إنْ سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْثَرُكُمَا قُرْآنًا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَذَّنَ فِي أَرْضٍ قَفْرٍ وَأَقَامَ صَلَّى بِصَلَاتِهِ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَهُ إلَّا مَلَكَاهُ» [أَذَان الْمَرْأَة] قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ) لِأَنَّهُمَا سُنَّةُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَجَمَاعَتُهُنَّ مَنْسُوخَةٌ لِمَا فِي اجْتِمَاعِهِنَّ مِنْ الْفِتْنَةِ وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّيْنَ بِالْجَمَاعَةِ صَلَّيْنَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ لِحَدِيثِ رَابِطَةَ قَالَتْ كُنَّا جَمَاعَةً مِنْ النِّسَاءِ عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَمَّتْنَا وَقَامَتْ وَسَطَنَا وَصَلَّتْ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ يُشْهِرُ نَفْسَهُ بِالصُّعُودِ إلَى أَعْلَى الْمَوَاضِعِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْأَذَانِ وَالْمَرْأَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَإِنْ صَلَّيْنَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُنَّ مَعَ الْإِسَاءَةِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْفِتْنَةِ قَالَ (وَإِنْ صَلَّى أَهْلُ الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ فَقَدْ أَسَاءُوا) لِتَرْكِ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ وَجَازَتْ صَلَاتُهُمْ لِأَدَاءِ أَرْكَانِهَا وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ سُنَّةٌ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ فَتَرْكُهُمَا ضَلَالَةٌ هَكَذَا قَالَ مَكْحُولٌ السُّنَّةُ سُنَّتَانِ سُنَّةٌ أَخْذُهَا هَدْيٌ وَتَرْكُهَا لَا بَأْسَ بِهِ ، وَسُنَّةٌ أَخْذُهَا هَدْيٌ وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَصَرَّ أَهْلُ الْمِصْرِ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أُمِرُوا بِهِمَا فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلَاحِ كَمَا يُقَاتَلُونَ عِنْدَ الْإِصْرَارِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَاتَلَةُ بِالسِّلَاحِ عِنْدَ تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا فِي السُّنَنِ فَيُؤَدَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافٌ فَيُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ لِهَذَا قَالَ (فَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ فَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ فِي بَيْتٍ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تُؤَذِّنُ فَقَالَ أَذَانُ الْحَيِّ يَكْفِينَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُمَا وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِيهِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا هَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْمُقِيمُ أُذِّنَ وَأُقِيمَ فِيهِ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا. قَالَ (وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ) لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَالْإِقَامَةُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ يُقِيمُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قَالَ (وَلَيْسَ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ) أَمَّا لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِيدَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» وَكَذَلِكَ تَوَارَثَهُ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ فَلِأَنَّهَا لَا تُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ إلَّا فِي التَّرَاوِيحِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ وَعِنْدَ أَدَائِهَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ وَأَمَّا فِي السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ فَلِأَنَّهَا لَا تُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ إلَّا التَّرَاوِيحَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ وَهِيَ تَبَعٌ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ أُذِّنَ وَأُقِيمَ لَهَا وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَدَائِهَا ، فَأَمَّا الْجُمُعَةُ يُؤَذَّنُ لَهَا وَيُقَامُ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مَكْتُوبٌ وَالْأَذَانُ لَهُ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَذَانِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ وَيَجِبُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ فَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ هُوَ الْأَذَانُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ «كَانَ الْأَذَانُ لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يَخْرُجُ فَيَسْتَوِي عَلَى الْمِنْبَرِ وَهَكَذَا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -» ثُمَّ أَحْدَثَ النَّاسُ الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْأَذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا عَنْ الْجَامِعِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ أَذَانٍ يَكُونُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ الْأَذَانِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عَلَى الزَّوْرَاءِ قَالَ (وَلَا يَتَكَلَّمُ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ) لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كَالْخُطْبَةِ فَيُكْرَهُ التَّكَلُّمُ فِي خِلَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْحُرْمَةِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُكْرَهُ رَدُّ السَّلَامِ فِي خِلَالِ الْأَذَانِ وَكَانَ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِرَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يُحْتَمَلُ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ أَذَانِهِ قَالَ (وَإِنْ أَذَّنَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ وَيُعِيدُهُ فِي الْوَقْتِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ إعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَقَبْلَ الْوَقْتِ يَكُونُ تَجْهِيلًا لَا إعْلَامًا وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» وَفِي الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ إظْهَارُ الْخِيَانَةِ فِيمَا ائْتُمِنَ فِيهِ وَلَوْ جَازَ الْأَذَانُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَأَذَّنَ عِنْدَ الصُّبْحِ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِخَمْسِ صَلَوَاتٍ وَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - آخِرًا: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذِّنَ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْتَدَلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بِتَوَارُثِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ وَفِي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَاسَا الْأَذَانَ لِلْفَجْرِ بِالْأَذَانِ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا وَفِي الْأَذَانِ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ إضْرَارٌ بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَوْمِهِمْ فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ إذَا سَمِعَ مَنْ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ عُلُوجُ فَرَاحٍ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْوَقْتِ، لَوْ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ فَأَمَّا أَذَانُ بِلَالٍ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ بِاللَّيْلِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَا إنَّ الْعَبْدَ قَدْ زَامَ فَكَانَ يَبْكِي وَيَطُوفُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ دَمِ جَبِينِهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُعَاتَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ، وَقِيلَ إنَّ أَذَانَ بِلَالٍ مَا كَانَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَكِنْ كَانَ لِيَنَامَ الْقَائِمُ وَيَقُومَ النَّائِمُ فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً يَتَهَجَّدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ وَفِرْقَةً فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَكَانَ الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ. وَإِنَّمَا كَانَ صَلَاةُ الْفَجْرِ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَغُرَّنكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صَائِمُكُمْ وَيَقُومَ نَائِمُكُمْ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَكَانَ هُوَ أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسَ يَقُولُونَ أَصْبَحْت أَصْبَحْت قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْقَوْمُ مَسْجِدًا قَدْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ كَرِهْت لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ) لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَتْ الصَّحَابَةُ إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ الْجَمَاعَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ فَاسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَرَجَعَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَهُ وَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ» فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَسَاجِدِ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا (وَلَنَا) أَنَّا أُمِرْنَا بِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَفِي تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ تَقْلِيلُهَا لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ يُعَجِّلُونَ لِلْحُضُورِ فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا تَفُوتُهُمْ يُؤَخِّرُونَ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَسْجِدَ الَّذِي عَلَى قَارِعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْمٌ مَعْلُومُونَ فَكُلُّ مَنْ حَضَرَ يُصَلِّي فِيهِ فَإِعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَحَالِّ إنْ صَلَّى غَيْرُ أَهْلِهَا بِالْجَمَاعَةِ فَلِأَهْلِهَا حَقُّ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ لِأَهْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي نَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ إلَيْهِمْ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، فَأَمَّا إذَا صَلَّى فِيهِ أَهْلُهَا أَوْ أَكْثَرُ أَهْلِهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ حَقُّ الْإِعَادَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنْ وَقَفَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فِي زَاوِيَةٍ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَعْهُودِ لِلْإِمَامِ فَصَلَّوْا بِأَذَانٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ حَسَنٌ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَدَخَلَ أَعْرَابِيٌّ وَقَامَ يُصَلِّي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أَحَدٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يَقُومُ فَيُصَلِّي مَعَهُ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَلَّى مَعَهُ. قَالَ (وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ عَنْ وَقْتِهَا فَقَضَاهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً) لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بَعْدَ مَا انْتَبَهَ مَعَ أَصْحَابِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَضَى الْفَجْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَمَرَ بِلَالًا بِهِمَا» «وَشُغِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ» قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا» وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ» «وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ». قَالَ (وَإِنْ اكْتَفَوْا بِالْإِقَامَةِ جَازَ) لِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِقَامَةَ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى سُنَنِ الْأَدَاءِ قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ فَاتَهُ ظُهْرُ أَمْسِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمِ غَيْرِ ذَلِكَ) وَهَا هُنَا مَسَائِلُ. إحْدَاهَا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيَكُونُ أُمَرَاءُ بَعْدِي يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا فَإِذَا فَعَلُوا فَصَلُّوا أَنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ثُمَّ صَلُّوا مَعَهُمْ وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» أَيْ نَافِلَةً، وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ بَنَى صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ إمَامِهِ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَبْنِي آخِرَ صَلَاتِهِ عَلَى أَوَّلِ صَلَاتِهِ، وَبِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى تَحْرِيمَةٍ انْعَقَدَتْ لِلْفَرْضِ يَجُوزُ وَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فَأَمَّا الْمُفْتَرِضُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُتَنَفِّلِ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَصِحُّ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ وَلِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي فِي التَّحْرِيمَةِ، وَالنَّفَلُ وَالْفَرْضُ يَسْتَدْعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْرِيمَةً مُطْلَقَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فَكَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فَكَذَلِكَ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» مَعْنَاهُ تَتَضَمَّنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْقَوْمِ وَتَضْمِينُ الشَّيْءِ فِيمَا هُوَ فَوْقَهُ يَجُوزُ وَفِيمَا هُوَ دُونَهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّفَةِ، وَالنَّفَلُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُفْتَرِضًا فَصَلَاتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى صَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةٍ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُتَنَفِّلًا فَصَلَاتُهُ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْقَوِيَّ عَلَى أَسَاسٍ ضَعِيفٍ. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ تَأْوِيلُهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يَأْتِيَ قَوْمَهُ فَيُصَلِّيَ بِهِمْ الْفَرْضَ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ تَغَايُرَ الْفَرْضَيْنِ عِنْدَنَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى إذَا اقْتَدَى مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْعَصْرِ أَوْ مُصَلِّي عَصْرِ يَوْمِهِ بِمُصَلِّي عَصْرِ أَمْسِهِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِدَاءُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ. وَإِذَا اقْتَدَى مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ أَوْ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِالْمُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ وَهَذَا الْخِلَافُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا هُوَ أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي لَا تَقْوَى عِنْدَهُ حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحْدِثٌ فَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ. وَعِنْدَنَا الْمُشَارَكَةُ تَقْوَى بَيْنَهُمَا فَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُشَارَكَةِ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ صَحِيحٌ إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي الْجِهَةِ. وَفِي بَابِ الْحَدَثِ قَالَ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا حَتَّى لَوْ قَهْقَهَ لَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ. وَمَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْجِهَةِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْجِهَةَ مَتَى فَسَدَتْ صَارَ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ [أَذَانُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْأَعْرَابِيِّ] قَالَ (وَيَجُوزُ أَذَانُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْأَعْرَابِيِّ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ حَاصِلٌ وَغَيْرُهُمْ أَوْلَى. أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لَا يَتَفَرَّغُ لِمُحَافَظَةِ الْمَوَاقِيتِ وَرُوِيَ أَنَّ وَفْدًا جَاءُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ مَنْ يُؤَذِّنُ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: عَبِيدُنَا، قَالَ: إنَّ هَذَا لَنَقْصٌ بِكُمْ. وَأَمَّا الْأَعْمَى فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ وَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُؤَذِّنٌ أَعْمَى يُقَالُ لَهُ مَعْبَدٌ فَقَالَ لَهُ: لَا تَكُنْ آخِرَ مَنْ يُقِيمُ وَلَا أَوَّلَهُمْ. وَأَمَّا وَلَدُ الزِّنَا وَالْأَعْرَابِيِّ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْجَهْلُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَيُخْتَارُ لَهُ مَنْ يَكُونُ مُحْتَرَمًا فِي النَّاسِ مُتَبَرَّكًا بِهِ وَلِهَذَا قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الْمُؤَذِّنُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَفِيهِ حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَؤُمُّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» قَالَ (وَإِنْ أَذَّنَ لِلْقَوْمِ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ أَجْزَأَهُمْ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَذَانِهِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَالْبَالِغُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ وَالْأَذَانُ لِلْمَكْتُوبَاتِ خَاصَّةً فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَذِّنَ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْمَكْتُوبَاتِ قَالَ (وَإِنْ أَذَّنَتْ لَهُمْ امْرَأَةٌ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ أَذَانَ النِّسَاءِ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَلِأَنَّ فِي صَوْتِهَا فِتْنَةً وَهِيَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَاتِ وَالْأَذَانُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ قَالَ (وَيُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ حَيْثُ يَكُونُ أَسْمَعَ لِلْجِيرَانِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُهُمْ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «يَشْهَدُ لِلْمُؤَذِّنِ مَنْ سَمِعَ صَوْتَهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ» قَالَ (وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فَرُبَّمَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ) وَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُؤَذِّنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فَقَالَ أَمَا تَخْشَى أَنْ يَنْقَطِعَ مُرَيْطَاؤُك وَالْمُرَيْطَاءُ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ بِالصُّلْبِ فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حَيَاةٌ. قَالَ (وَلَا أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي صَوْمَعَتِهِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ رُبَّمَا تَطَوَّعَ فِي صَوْمَعَتِهِ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّطْحِ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قَالَ (وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْزِمَ قَوْلَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ [التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ] قَالَ (وَالتَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ مَكْرُوهٌ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّك فِي اللَّهِ. فَقَالَ: إنِّي أُبْغِضُك فِي اللَّهِ. فَقَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تُغَنِّي فِي أَذَانِك يَعْنِي التَّلْحِينَ وَأَمَّا التَّفْخِيمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إحْدَى اللُّغَتَيْنِ قَالَ (وَإِنْ افْتَتَحَ الْأَذَانَ فَظَنَّ أَنَّهَا الْإِقَامَةُ فَأَقَامَ فِي آخِرِهَا بِأَنْ قَالَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ثُمَّ عَلِمَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْأَذَانَ ثُمَّ يُقِيمُ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِقَامَةِ فَظَنَّ أَنَّهَا الْأَذَانُ فَصَنَعَ فِيهَا مَا صَنَعَ فِي الْأَذَانِ أَعَادَهَا مِنْ أَوَّلِهَا) لِأَنَّ هُنَا وَقَعَ التَّعْيِينُ فِي جَمِيعِهَا وَفِي الْأَوَّلِ فِي آخِرِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ إعْلَامُ النَّاسِ لِيَحْضُرُوا وَبِالْإِقَامَةِ فِي آخِرِهَا لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ بَلْ يَزْدَادُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُعَجِّلُونَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا الْإِقَامَةُ فَلِهَذَا لَا يُعِيدُهَا وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالتَّعْجِيلُ لِلْإِدْرَاكِ فَإِذَا صَنَعَ فِي الْإِقَامَةِ مَا يَصْنَعُ فِي الْأَذَانِ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ لِأَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْأَذَانُ فَيَنْتَظِرُونَ الْإِقَامَةَ فَلِهَذَا يُعِيدُ الْإِقَامَةَ مِنْ أَوَّلِهَا. قَالَ (فَإِنْ غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً فِي الْأَذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَهَا مِنْ أَوَّلِهَا) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أَسْبَابِ الصَّلَاةِ قَالَ (وَإِنْ رَعَفَ فِيهَا أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَهَا مِنْ أَوَّلِهَا) لِأَنَّ بِذَهَابِهِ انْقَطَعَ النَّظْمُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ أَوْ يَتَعَلَّمُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْأَوْلَى لَهُ إذَا أَحْدَثَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ مَعَ الْحَدَثِ يَجُوزُ فَإِتْمَامُهُ أَوْلَى قَالَ (وَإِذَا قَدَّمَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى لَا يُعِيدَهُ فِي أَذَانِهِ) وَمَا يَقَعُ مُكَرَّرًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ قَالَ (وَإِذَا وَقَعَ فِي إقَامَتِهِ فَمَاتَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِقَامَةَ غَيْرُهُ مِنْ أَوَّلِهَا) لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلَا بِنَاءَ عَلَى الْمُنْقَطَعِ قَالَ (مُؤَذِّنٌ أَذَّنَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنْ اعْتَدُّوا بِأَذَانِهِ وَأَمَرُوا مَنْ يُقِيمُ وَيُصَلِّي بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ قَدْ حَصَلَ بِأَذَانِهِ وَبُطْلَانُ ثَوَابِ عَمَلِهِ بِالرِّدَّةِ فِي حَقِّهِ لَا يُبْطِلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ ارْتَدَّ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ قَالَ (وَيَقْعُدُ الْمُؤَذِّنُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَصِلَ الْإِقَامَةَ بِالْأَذَانِ وَلَا يَقْعُدَ بَيْنَهُمَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ» وَالْأَوْلَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي قَبْلَهَا تَطَوُّعٌ مَسْنُونٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَتَطَوَّعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ جَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] أَنَّهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُو النَّاسَ بِأَذَانِهِ وَيَتَطَوَّعُ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِقَامَةِ فَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَيُكْرَهُ لَهُ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالْأَذَانِ كَمَا فِي غَيْرِهَا وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ وَذَكَرَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَفْضَلُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ مِقْدَارَ جِلْسَةِ الْخَطِيبِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَالْإِقَامَةِ بِجِلْسَةٍ وَلِأَنَّ السَّكْتَةَ تُشْبِهُ السَّكَتَاتِ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهَا الْفَصْلُ فَالْجِلْسَةُ لِلْفَصْلِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ وَقَالَ بَادِرُوا بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ اشْتِبَاكِ النُّجُومِ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَالنُّجُومُ مُشْتَبِكَةٌ» وَالْفَصْلُ بِالسَّكْتَةِ أَقْرَبُ إلَى تَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 نَقُولُ قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدَيْنِ وَيُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا صَلَّى يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مُخْتَصٌّ بِالْمَكْتُوبَاتِ فَإِنَّمَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ عَلَى أَثَرِهِمْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ عَلَى أَثَرِهِمَا قَالَ (وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ طَلَبُ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْقَوْمِ) لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ لِأَنْفُسِهِمَا فَكَيْفَ يَشْتَرِطَانِ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِمَا ثُمَّ هُمَا خَلِيفَتَانِ لِلرَّسُولِ فِي الدُّعَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فَمَنْ يَكُونُ خَلِيفَتَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ صَلِّ بِالنَّاسِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَإِذَا اُتُّخِذْت مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنِّي أُحِبُّك فِي اللَّهِ. فَقَالَ: إنِّي أُبْغِضُك فِي اللَّهِ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا فَإِنْ عَرَفَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُ فَوَاسَوْهُ بِشَيْءٍ فَمَا أَحْسَنَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِحِفْظِ الْمَوَاقِيتِ وَإِعْلَامِهِ لَهُمْ فَرُبَّمَا لَا يَتَفَرَّغُ لِلْكَسْبِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُهْدُوا إلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ فَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ وَعَلَى هَذَا قَالُوا الْفَقِيهُ الَّذِي يُفْتِي فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْفُتْيَا شَيْئًا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ عَرَفُوا حَاجَتَهُ فَأَهْدَوْا إلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ فِي تَفْرِيغِ نَفْسِهِ عَنْ الْكَسْبِ وَحِرَاسَةِ أَمْرِ دِينِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلُوا إحْسَانَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ قَالَ (وَاَلَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى بِالْأَذَانِ مِنْ غَيْرِهِ) لِأَنَّ صَوْتَهُ يَصِيرُ مَعْهُودًا لِلْقَوْمِ فَلَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ وَإِنْ أَذَّنَ السُّوقِيُّ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَذَّنَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ غَيْرُهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ السُّوقِيَّ مُحْتَاجٌ إلَى الْكَسْبِ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمَحَلَّةِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ [أَذَان السَّكْرَانُ وَالْمَجْنُونُ] قَالَ (وَإِذَا أَذَّنَ السَّكْرَانُ أَوْ الْمَجْنُونُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدُوا)؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ بِأَذَانِهِمَا وَعَامَّةُ كَلَامِ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ هَذَيَانٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ فَالْأَوْلَى إعَادَةُ أَذَانِهِمْ قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَقْتَسِمُوا الْمَسْجِدَ وَيَنْصِبُوا وَسَطَهُ حَائِطًا) لِأَنَّ بُقْعَةَ الْمَسْجِدِ تَحَرَّرَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعَبْدِ فَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالْقِسْمَةُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمِلْكِ فَلَا يُشْتَغَلُ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلْيُصَلِّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِإِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ عَلَى حِدَةٍ مَا لَمْ يَنْتَقِضُوا الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَسْجِدَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ عَلَى حِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 [بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ] (اعْلَمْ) أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لِأَوْقَاتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا يَغْفِرُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]». وَلِلْمَوَاقِيتِ إشَارَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ فَقَوْلُهُ حِينَ تُمْسُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَصْرُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْمَغْرِبُ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْفَجْرُ، وَعَشِيًّا الْعِشَاءُ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دُلُوكُ الشَّمْسِ الزَّوَالُ فَالْمُرَادُ بِهِ الظُّهْرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا وَالْمُرَادُ الْمَغْرِبُ، إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَهُوَ الْعَصْرُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ} [هود: 114] وَقَالَ الْحَسَنُ الْفَجْرُ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ثُمَّ بَدَأَ بِبَيَانِ وَقْتِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ. قَالَ (وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) وَالْفَجْرُ فَجْرَانِ كَاذِبٌ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو فِي السَّمَاءِ طُولًا وَيَعْقُبُهُ ظَلَامٌ، وَالْفَجْرُ الصَّادِقُ وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ فَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ عَلَى الصَّائِمِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ الصَّادِقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَغُرَّنكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ» يَعْنِي الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ ، وَقَالَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ طُولًا. وَالْأَصْلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَمَّنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ الْبَيْتِ فَصَلَّى بِي الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا ثُمَّ قَالَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ لَك وَلِأُمَّتِك وَهُوَ وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ» وَفِي حَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ وَلَكِنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْوَقْتِ الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَفِي حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]» قَالَ (وَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ إلَّا شَيْئًا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إذَا صَارَ الْفَيْءُ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ الْفَيْءُ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ». وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْ لِزَوَالِهَا وَالْمُرَادُ مِنْ الْفَيْءِ مِثْلَ الشِّرَاكِ الْفَيْءُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِلْأَشْيَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ فَاتَّفَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدْ قِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى لِكُلِّ شَيْءٍ فَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَّا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ فَلَا يَبْقَى بِمَكَّةَ ظِلٌّ عَلَى الْأَرْضِ وَبِالْمَدِينَةِ تَأْخُذُ الشَّمْسُ الْحِيطَانَ الْأَرْبَعَةَ وَذَلِكَ الْفَيْءُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّقْدِيرِ بِالظِّلِّ قَامَةً أَوْ قَامَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَغْرِزُ خَشَبَةً فِي مَكَان مُسْتَوٍ وَيَجْعَلُ عَلَى مَبْلَغِ الظِّلِّ مِنْهُ عَلَامَةً فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْقُصُ مِنْ الْخَطِّ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَإِذَا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ فَهُوَ سَاعَةُ الزَّوَالِ وَإِذَا أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ زَالَتْ وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَعِنْدَهُمَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا فِي خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَةً يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَبَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ النَّاسُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، كَمَا أَنَّ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَقْتًا مُهْمَلًا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «إمَامَةِ جِبْرِيلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ قَالَ صَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ أَوْ قَالَ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ بِالْأَمْسِ» وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَلْ نَقَصْت مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَهَذَا فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» بَيَّنَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقَلُّ عَمَلًا مِنْ النَّصَارَى فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقَلُّ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا امْتَدَّ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَلِأَنَّا عَرَفْنَا دُخُولَ وَقْتِ الظُّهْرِ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي خُرُوجِهِ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَةً لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالْأَوْقَاتُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَفِيهِ «أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ» وَالْوَقْتُ يَبْقَى بَعْدَهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَفِيهِ أَيْضًا «أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ» وَالْوَقْتُ يَبْقَى بَعْدَهُ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ فَإِذَا مَضَى بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَكَانَ الْوَقْتُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ «صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ» أَيْ قَرُبَ مِنْهُ «وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ» أَيْ تَمَّ وَزَادَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ أَيْ قَرُبَ بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ، وَقَالَ تَعَالَى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] أَيْ انْقِضَاءُ تَمَّ عِدَّتُهُنَّ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ خَالَفْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَقُلْت أَوَّلُهُ إذَا زَادَ الظِّلُّ عَلَى قَامَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَغَيُّرُ الشَّمْسِ إلَى الصُّفْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَادَتْ الشَّمْسُ تَتَغَيَّرُ». (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ أَيْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ» وَلَكِنْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ الشَّمْسُ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ يَقْعُدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي صَلَاةٌ حِينَ مَا تَحْمَارُّ الشَّمْسُ بِفَلْسَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلضَّوْءِ أَمْ لِلْقُرْصِ فَكَانَ النَّخَعِيُّ يَعْتَبِرُ تَغَيُّرَ الضَّوْءِ وَالشَّعْبِيُّ يَقُولُ الْعِبْرَةُ لِتَغَيُّرِ الْقُرْصِ وَبِهَذَا أَخَذْنَا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الضَّوْءِ يَحْصُلُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِذَا صَارَ الْقُرْصُ بِحَيْثُ لَا تَحَارُ فِيهِ الْعَيْنُ فَقَدْ تَغَيَّرَتْ قَالَ (وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ مُقَدَّرٌ بِفِعْلِهِ فَإِذَا مَضَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَإِنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الْأَدَاءِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسْتَبْرِئُ فِيهِ الْغُرُوبَ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ» وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَدَاءَ الْمَغْرِبِ يَوْمًا حَتَّى بَدَا نَجْمٌ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى نَجْمَيْنِ طَالِعَيْنِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ فَهَذَا بَيَانُ كَرَاهِيَةِ التَّأْخِيرِ فَأَمَّا وَقْتُ الْإِدْرَاكِ يَمْتَدُّ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَالشَّفَقُ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَ الْحُمْرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْحُمْرَةُ الَّتِي قَبْلَ الْبَيَاضِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَهَكَذَا رَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ وَالْغَوَارِبَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ الْوَسَطُ مِنْ الطَّوَالِعِ وَهُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي فَكَذَلِكَ فِي الْغَوَارِبِ الْمُعْتَبَرُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ الْوَسَطُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ فَبِذَهَابِهَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْبَيَاضِ مَعْنَى الْحَرَجِ فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ إلَّا قَرِيبًا مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ (وَقَالَ) الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ رَاعَيْت الْبَيَاضَ بِمَكَّةَ فَمَا ذَهَبَ إلَّا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: لَا يَذْهَبُ الْبَيَاضُ فِي لَيَالِي الصَّيْفِ أَصْلًا بَلْ يَتَفَرَّقُ فِي الْأُفُقِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ عِنْدَ الصُّبْحِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَعَلْنَا الشَّفَقَ الْحُمْرَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْحُمْرَةُ أَثَرُ الشَّمْسِ وَالْبَيَاضُ أَثَرُ النَّهَارِ فَمَا لَمْ يَذْهَبْ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ إلَى اللَّيْلِ مُطْلَقًا وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ صَلَاةُ اللَّيْلِ كَيْفَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «وَقْتُ الْعِشَاءِ إذَا مَلَأَ الظَّلَامُ الظِّرَابَ» وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ» أَيْ اسْتَوَى الْأُفُقُ فِي الظَّلَامِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ذَهَابِ الْبَيَاضِ فَبِذَهَابِهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَيَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ. فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. وَالْمُرَادُ بَيَانُ وَقْتِ إبَاحَةِ التَّأْخِيرِ فَأَمَّا وَقْتُ الْإِدْرَاكِ فَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَيَبْقَى وَقْتُهَا مَا بَقِيَ اللَّيْلُ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَخْرُجُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا إنْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَالْمَشْهُورُ اللَّفْظُ الَّذِي رَوَيْنَا قَالَ (وَالتَّنْوِيرُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ بِهَا عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ التَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ إنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ كُنَّ النِّسَاءُ يَنْصَرِفْنَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ» وَقَالَ أَنَسٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْفَجْرَ وَلَا يَعْرِفُ أَحَدُنَا مَنْ إلَى جَنْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ» وَلِأَنَّ فِي هَذَا إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. (وَلَنَا) حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نَوِّرُوا بِالْفَجْرِ أَوْ قَالَ أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ يُبَارَكُ لَكُمْ» وَلِأَنَّ فِي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ وَفِي التَّغْلِيسِ تَقْلِيلَهَا، وَمَا يُؤَدِّي إلَى تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» وَإِذَا أَسْفَرَ بِهَا تَمَكَّنَ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَعِنْدَ التَّغْلِيسِ قَلَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا. فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَاتِ إسْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الْفَجْرِ «قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمئِذٍ بِغَلَسٍ» فَدَلَّ أَنَّ الْمَعْهُودَ إسْفَارُهُ بِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ فِي وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ حِينَ يَحْضُرُ النِّسَاءُ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ حِينَ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ قَالَ (وَالْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَيُبَرِّدَ بِهَا فِي الصَّيْفِ وَفِي الشِّتَاءِ يُعَجِّلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ يُعَجِّلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرُ يَسِيرًا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي خِيَامِنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُجِبْنَا إلَى شَكْوَانَا فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُ الظُّهْرَ وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ جَاءَ بِلَالٌ لِيُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ هَكَذَا مِرَارًا فَلَمَّا صَارَ لِلتِّلَالِ فَيْءٌ قَالَ أَذِّنْ». وَلِأَنَّ فِي التَّعْجِيلِ فِي الصَّيْفِ تَقْلِيلَ الْجَمَاعَاتِ وَإِضْرَارًا بِالنَّاسِ فَإِنَّ الْحَرَّ يُؤْذِيهِمْ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ خَبَّابٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا. عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ لَمْ يَدَعْنَا فِي الشِّكَايَةِ بَلْ أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بِهَا، فَأَمَّا فِي الشِّتَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي الشِّتَاءِ فَلَا يَدْرِي أَنَّ مَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أَكْثَرُ أَمْ مَا بَقِيَ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ إذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ فَإِنْ تَقَيَّلُوكَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ فَإِنَّ اللَّيَالِيَ طِوَالٌ» فَأَمَّا الْعَصْرُ فَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ يَدْخُلْهَا تَغَيُّرٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي» وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ وَيَأْكُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ». (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ» وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْخِيرٍ لِلْعَصْرِ، «وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنْتُمْ أَشَدُّ تَأْخِيرًا لِلظُّهْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدُّ تَأْخِيرًا لِلْعَصْرِ مِنْكُمْ» وَقِيلَ سُمِّيَتْ الْعَصْرَ؛ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ تُؤَخَّرُ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ تَكْثِيرَ النَّوَافِلِ وَأَدَاءُ النَّافِلَةِ بَعْدَهَا مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ فِي الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ لِأَنَّ أَدَاءَ النَّافِلَةِ قَبْلَهَا مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَمَكَثَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِذَا أَخَّرَ الْعَصْرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَدْ كَانَتْ حِيطَانُ حُجْرَتِهَا قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فِيهَا إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَأْخِيرَهَا مَكْرُوهٌ وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ تُؤَخَّرُ الْمَغْرِبُ لِيُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا، فَلَوْ كَانَ الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ لَمَا أُبِيحَ ذَلِكَ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ كَمَا لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ الشَّمْسُ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةً» وَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ وَإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ. فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا تَأْخِيرُهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ لِحَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعِشَاءَ حِينَ يَسْقُطُ الْقَمَرُ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ» وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَكُونُ، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِهَا تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ خُصُوصًا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ أَمَا أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» (وَكَتَبَ) عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَإِنْ أَبَيْت فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنْ نِمْت فَلَا نَامَتْ عَيْنَاك وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْتَارُ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» وَالْعَفْوُ يَكُونُ بَعْدَ التَّقْصِيرِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إحْرَازَ الْفَضِيلَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ عُذْرٌ يُعْجِزُهُ عَنْ إحْرَازِهَا وَأَصْحَابُنَا اخْتَارُوا التَّأْخِيرَ فَفِيهِ انْتِظَارٌ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا» وَفِي التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا وَفِيهِ تَقْلِيلُ النَّوْمِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَا كَانَ امْتِدَادُ الْوَقْتِ إلَّا لِلتَّيْسِيرِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إظْهَارُ مَعْنَى التَّيْسِيرِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» فَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ الْفَضْلُ قَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَفْوُ هَاهُنَا عَلَى التَّجَاوُزِ عَنْ التَّقْصِيرِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ لِلصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْصِدُ إلَى شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ تَقْصِيرٌ فَإِنَّ الزَّلَّةَ الَّتِي تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ قَالَ (وَفِي يَوْمِ الْغَيْمِ الْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّأْخِيرُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ أَفْضَلُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْ بَعْدَ ذَهَابِهِ يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبَّ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ بِهَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَقَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَلِأَنَّ النَّاسَ يَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي التَّعْجِيلِ عِنْدَ الظُّلْمَةِ بِسَبَبِ الْغَيْمِ فَيُؤَخَّرُ لِيَكُونَ فِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ فِي الظُّهْرِ يُؤَخَّرُ لِكَيْ لَا يَقَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيُعَجَّلُ الْعَصْرُ لِكَيْ لَا يَقَعَ فِي حَالِ تَغْيِيرِ الشَّمْسِ وَيُؤَخَّرَ الْمَغْرِبُ لِكَيْ لَا يَقَعَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِالْمَطَرِ يَأْخُذُهُمْ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى مَنَازِلِهِمْ وَعِنْدَ الْغَيْمِ يُنْتَظَرُ الْمَطَرُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ لِيَنْصَرِفُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُمْطَرُوا قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ إحْدَاهُمَا فِي حَضَرٍ وَلَا فِي سَفَرٍ) مَا خَلَا عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ فَيُؤَدِّيهِمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ فَيُؤَدِّيَهَا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، عَلَيْهِ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهُ وَفِيمَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقْتًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِعُذْرِ الْمَرَضِ أَيْضًا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ السَّفَرِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إلَى تَبُوكَ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّفَرُ» وَعَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعًا جَمْعًا وَثَمَانِيًا جَمْعًا» فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَبِالثَّمَانِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا قَالَ «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ». (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أَيْ فِي مَوَاقِيتِهَا وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَلَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَقْتٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ شَرْعًا فَكَذَلِكَ الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ. وَتَأْوِيلُ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ فِعْلًا لَا وَقْتًا وَبِهِ نَقُولُ، وَبَيَانُ الْجَمْعِ فِعْلًا أَنَّ الْمُسَافِرَ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ يَمْكُثُ سَاعَةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَيُصَلِّيهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّيهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِعْلًا. الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ «نَافِعٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِنْ مَكَّةَ فَاسْتَصْرَخَ بِامْرَأَتِهِ فَجَعَلَ يَسِيرُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَنَادَى الرَّكْبُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِمْ حَتَّى إذَا دَنَا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِهِ وَتَعَشَّى بَيْنَهُمَا، وَفِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَدَاخُلًا حَتَّى إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ الظُّهْرِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ وَعِنْدَنَا لَا تَدَاخُلَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصٌّ بِوَقْتِهِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَيْنَا لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْأُخْرَى قَالَ (وَوَقْتُ الْوِتْرِ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إلَى الْفَجْرِ وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ) لِحَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» «وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ يُوتَرُ لَك مَا قَبْلَهُ» «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَخَذْت بِالثِّقَةِ وَلِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَخَذْت بِفَضْلِ الْقُوَّةِ». (فَإِنْ أَوْتَرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ بِالِاتِّفَاقِ) لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ بِنَاءِ الْوِتْرِ عَلَى الْعِشَاءِ. فَأَمَّا إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ جَدَّدَ الْوُضُوءَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْعِشَاءِ دُونَ الْوِتْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ كَانَ سَاقِطًا عَنْهُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا دُخُولَ وَقْتِ الْوِتْرِ بَعْدَ أَدَاءِ الْعِشَاءِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ مُصَلِّيًا قَبْلَ وَقْتِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْخُلُ وَقْتُ الْوِتْرِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاجِبٌ أَوْ فَرْضٌ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ قَالَ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ) وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ خَمْسَةٌ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لَا يُصَلَّى فِيهَا جِنْسُ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 تَبْيَضَّ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَعِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى تَزُولَ وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ». وَفِي حَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُونَهَا حَتَّى يَسْجُدُوا لَهَا فَإِنْ ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا كَانَ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ»، وَفِي حَدِيثِ «عُمَرَ بْنِ عَنْبَسَةَ قَالَ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَاعَةٌ لَا يُصَلَّى فِيهَا فَقَالَ إذَا صَلَّيْت الْمَغْرِبَ فَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى أَنْ تُصَلِّيَ الْفَجْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ أَمْسِكْ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُسَعَّرُ فِيهَا جَهَنَّمُ ثُمَّ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى أَنْ تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَالْأَمْكِنَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا لِعُمُومِ الْآثَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ لِحَدِيثٍ رُوِيَ «إلَّا بِمَكَّةَ» وَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا شَاذَّةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْمَشَاهِيرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَقْتُ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ رُوِيَ شَاذًّا إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ لِلنَّاسِ بَلْوَى فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَالْآثَارُ الَّتِي رَوَيْنَا تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ كُلُّ وَقْتٍ يُنْهَى فِيهِ عَنْ عِبَادَةٍ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لَا تُؤَدَّى الْفَرَائِضُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّهْيُ عَنْ أَدَاءِ النَّوَافِلِ، فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَلَا بَأْسَ بِأَدَائِهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا». (وَلَنَا) حَدِيثُ «لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ فَقَالَ بِلَالٌ أَنَا فَنَامُوا فَمَا أَيْقَظَهُمْ إلَّا حَرُّ الشَّمْسِ وَفِي رِوَايَةٍ انْتَبَهُوا وَقَدْ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبِلَالٍ أَيْنَ مَا وَعَدْتنَا قَالَ ذَهَبَ بِنَفْسِي الَّذِي ذَهَبَ بِنُفُوسِكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْوَاحُنَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ فَانْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ نَزَلُوا فَأَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قَضَاءً» وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي؛ لِأَنَّهُ تَشَاءَمَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَلَوْ جَازَ الْفَجْرُ الْمَكْتُوبَةُ فِي حَالِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمَا أَخَّرَ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي النَّهْيِ عَامَّةٌ فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ وَبِهَا يَثْبُتُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَصْمُ. قَالَ (وَلَا يُصَلَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا) لِقَوْلِهِ «وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا. قَالَ (وَلَا يُسْجَدُ فِيهِنَّ لِلتِّلَاوَةِ أَيْضًا)؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالتَّشَبُّهُ يَحْصُلُ بِالسُّجُودِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَعَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَلَوْ أَدَّى سَقَطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالنَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ السُّجُودِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يُمْنَعُ الْجَوَازُ (إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الْأَدَاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الْعَصْرِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْغُرُوبِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ». وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا أَنَّ بِالْغُرُوبِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلْفَرْضِ وَبِالطُّلُوعِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْفَرْضِ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْفَرْضِ كَخُرُوجِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فِي خِلَالِهَا مُفْسِدٌ لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ مِثْلِهَا، قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي الْفَرْقِ أَنَّ الطُّلُوعَ بِظُهُورِ حَاجِبِ الشَّمْسِ وَبِهِ لَا تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بَلْ تَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْفَرْضِ، وَالْغُرُوبُ بِآخِرِهِ وَبِهِ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا لِلْعَصْرِ لِهَذَا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْوُجُوبِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ هَذَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ أَفْسَدْنَاهَا كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَأَدَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ خَارِجَ الْوَقْتِ. وَوَقْتَانِ آخَرَانِ مَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ النَّوَافِلِ لِحَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَجَمَاعَةٌ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرِيضَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، إنَّمَا النَّهْيُ عَنْ التَّطَوُّعَاتِ خَاصَّةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدَّى فَرْضُ الْوَقْتِ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفَرَائِضِ فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مِنْ الْعِبَادِ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لَا تُؤَدَّى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ» «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ مَا بَالُكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا إنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُمَا الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ بَعْدَ الْفَجْرِ تَطَوُّعًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي طُوًى فَطَلَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَخَّرَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافَ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورَةُ لَا تُؤَدَّى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ فَهِيَ كَالتَّطَوُّعِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ لَا يُصَلِّي تَطَوُّعًا إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَطَوَّعْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ. (فَإِنْ قِيلَ) لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَقْتًا آخَرَ وَهُوَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالتَّطَوُّعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا قَالَ (وَإِذَا نَسِيَ الْفَجْرَ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَدَأَ بِهَا وَلَوْ بَدَأَ بِالظُّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَنَا) لِأَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَفَرْضِ الْوَقْتِ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَنَا وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِذَا بَدَأَ بِالظُّهْرِ جَازَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَقْتٌ لِلظُّهْرِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا إذَا كَانَ نَاسِيًا لِلْفَائِتَةِ ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِي أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا لِضَرُورَةِ التَّرْتِيبِ فِي أَوْقَاتِهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُرْسَلَةً عَنْ الْوَقْتِ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ قِيَاسُ قَضَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَدَاءِ. (وَلَنَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» فَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ فَمِنْ ضَرُورَتِهَا أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتًا لِغَيْرِهَا، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ حَالَةِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَائِتَةِ فَكَانَ وَقْتًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ. ثُمَّ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَكَمَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ أَدَاءً فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ قَضَاءً بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ وَلْيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ لِيَقْضِ مَا ذَكَرَهُ ثُمَّ لِيُعِدْ مَا كَانَ فِيهِ» وَبِعَيْنِ هَذَا نَقُولُ. وَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ ثُمَّ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: النِّسْيَانُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ هَلْ رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ فَقَالُوا لَا فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ». وَالثَّانِي: ضِيقُ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَدَارُكُ الْفَائِتَةِ بِتَفْوِيتِ مِثْلِهَا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ فَإِنَّهُ فَرْضُ الْوَقْتِ وَلَكِنْ هُنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ لَوْ بَدَأَ بِالْفَائِتَةِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَدَاءَةِ بِالْفَائِتَةِ وَلَوْ بَدَأَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبُدَاءَةِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ هُنَاكَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ أَيْضًا وَالنَّهْيُ مَتَى لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ. وَالثَّالِثُ: كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا وَحَدُّ الْكَثْرَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهَا تَصِيرُ مُكَرَّرَةً وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى ضِيقِ الْوَقْتِ أَيْضًا فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ مَعَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ لَفَاتَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ شَهْرٍ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى شَهْرٍ وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً لَمْ يُجْزِهِ صَلَاةٌ فِي عُمْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْضِهَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لَهَا؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عَنْ كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ، ثُمَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ كَمَا لَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ. وَعِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ يَجِبُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ مُرَتِّبًا ثُمَّ قَالَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَجَعَلَ أَوَّلَ وَقْتِ السَّادِسَةِ كَآخِرِهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَبِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لَا تَدْخُلُ الْفَوَائِتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ قَالَ (وَإِنْ ذَكَرَ الْوِتْرَ فِي الْفَجْرِ فَسَدَ فَرْضُهُ إذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا لَا يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْوِتْرَ أَضْعَفُ مِنْ الْفَجْرِ وَالضَّعِيفُ لَا يُفْسِدُ الْقَوِيَّ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ» فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوِتْرِ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْوِتْرِ وَالْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَبْعُدُ إفْسَادُ الْقَوِيِّ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ كَالْمُصَلِّي إذَا قَعَدَ قَدْرَ قَعْدَةَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فَسَجَدَ لَهَا تَبْطُلُ الْقَعْدَةُ، وَالسَّجْدَةُ أَضْعَفُ مِنْ الْقَعْدَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْوِتْرِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَنَا أَنَّ الْوِتْرَ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ حَتَّى أَنَّهَا تُقْضَى إذَا انْفَرَدَتْ بِالْفَوَاتِ أَلَا تَرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بَدَأَ بِقَضَاءِ الْوِتْرِ وَاَلَّذِي رُوِيَ» لَا وِتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ تَأْخِيرِهَا لَا نَفْيَ قَضَائِهَا وَكَذَلِكَ تُقْضَى بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَدَلَّ أَنَّهَا أَقْوَى مِنْ السُّنَنِ وَهِيَ دُونَ الْفَرَائِضِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهَا وَلَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَلَا تُصَلَّى بِالْجَمَاعَةِ إلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفُوا وَرَاءَ هَذَا فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوِتْرَ فَرِيضَةٌ وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ عَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ فَقَالَ لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ الْوِتْرُ فَرِيضَةٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَالَ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ». وَقَالَ عَلِيٌّ الْوِتْرُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ وَفِي الْقُرْآنِ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَلَنْ تَتَحَقَّقَ الْوُسْطَى إلَّا إذَا كَانَ عَدَدُ الْوَاجِبَاتُ خَمْسًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي بُسْرَةَ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ وُجُوبَ الْوِتْرِ كَانَ بَعْدَ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ زَادَكُمْ وَأَضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى نَفْسِهِ وَالسُّنَنُ تُضَافُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ بِعَدَدِ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ كَالْمَغْرِبِ وَفِي رِوَايَةٍ وِتْرُ اللَّيْلِ كَوِتْرِ النَّهَارِ ثُمَّ وِتْرُ النَّهَارِ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ وِتْرُ اللَّيْلِ. وَفِي اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى تَقْدِيرِ التَّرَاوِيحِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرُونَ رَكْعَةً وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا، غَيْرَ أَنَّ وُجُوبَ الْوِتْرِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ فَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَتُحَطُّ رُتْبَتُهُ بِسَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَلَا يُسَمَّى فَرْضًا مُطْلَقًا أَمَّا الْفَرْضُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْآثَارِ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبَاتِ ظَاهِرٌ عِنْدَنَا قَالَ (فَإِنْ افْتَتَحَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ) لِأَنَّ وُجُوبَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ مُخْتَصٌّ بِالْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي خِلَالِ الْفَرْضِ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ تَطَوُّعًا فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا كَانَ أَوْلَى قَالَ (وَالتَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا فَصْلَ بَيْنَهُنَّ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَانِ) وَمُرَادُهُ السُّنَّةُ وَلَكِنَّهُ فِي الْكِتَابِ يُسَمِّي السُّنَنَ تَطَوُّعَاتٍ وَالْأَصْلُ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذَكَرَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَكِنْ ذَكَرَ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَقُلْنَا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِحَدِيثِ «أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ سَاعَةٌ تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. فَقُلْت: أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْت: أَبِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ؟ فَقَالَ: بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ» (فَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَهُوَ حَسَنٌ) لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَانَتْ لَهُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ» وَلَا تَطَوُّعَ بَعْدَهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَالَ: رَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ شَغَلَنِي الْوَفْدُ عَنْهُمَا فَقَضَيْتُهُمَا. فَقَالَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أَنَقْضِيهِمَا نَحْنُ؟ فَقَالَ: لَا» (وَكَذَلِكَ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَهُ رَكْعَتَانِ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ (وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]» وَلَمْ يَذْكُرْ التَّطَوُّعَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (فَأَمَّا التَّطَوُّعُ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَرَكْعَتَانِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَهُوَ أَفْضَلُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ لَهُ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (فَأَمَّا قَبْلَ الْفَجْرِ فَرَكْعَتَانِ) اتَّفَقَتْ الْآثَارُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ أَقْوَى السُّنَنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] أَنَّهُ الرَّكَعَاتُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَالَ (وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ الْأَخِيرَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ وَالْحَادِي يَحْدُو فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ أَمْسِكْ فَإِنَّهَا سَاعَةُ ذِكْرٍ» وَكَانَ الْكَلَامُ عَزِيزًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَيْ شَدِيدًا وَلِأَنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ جَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أَنَّهُ يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدُوهُمْ إلَّا عَلَى خَيْرٍ قَالَ (وَالتَّطَوُّعُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعٌ لَا فَصْلَ بَيْنَهُنَّ إلَّا بِتَشَهُّدٍ وَقَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعٌ) أَمَّا قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَلِأَنَّهَا نَظِيرُ الظُّهْرِ وَالتَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَاخْتَلَفُوا بَعْدَهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْبَعًا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا أَرْبَعًا ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْبَعًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّطَوُّعِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ يَبْدَأُ بِالْأَرْبَعِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ الْفَرْضِ مِثْلَهَا وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَطْرُ الصَّلَاةِ قَالَ (وَلَا صَلَاةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فَرَأَى بَعْضَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا لَهُمْ أَيُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَنَا؟ قِيلَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ يَتَطَوَّعُونَ. فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ يَنْهَاهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: انْهَهُمْ أَنْتَ. فَقَالَ: إنِّي أَحْتَشِمُ قَوْله تَعَالَى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] فَنَهَاهُمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ» وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُقَاتِلِ الرَّازِيّ يَقُولُ: إنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى لِكَيْ لَا يُشَبِّهَ عَلَى النَّاسِ فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ قَالَ (وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَهَا بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ فَحَسَنٌ) لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً» قَالَ (وَطُولُ الْقِيَامِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ طُولُ الْقُنُوتِ وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ وَطُولُ الْقِيَامِ أَشَقُّ وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ فَرْضَيْنِ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْضٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِ وِرْدَهُ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَطُولُ الْقِيَامِ أَحَبُّ. قَالَ: (وَالتَّطَوُّعُ بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ ثَمَانٍ أَيَّ ذَلِكَ شِئْت) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً». الَّذِي قَالَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرُ اللَّيْلِ، وَاَلَّذِي قَالَ تِسْعَ سِتٌّ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرٌ، وَاَلَّذِي قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَمَانٍ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرٌ وَرَكْعَتَانِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَكَانَ يُصَلِّي هَذَا كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ فَضَّلَ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ هَكَذَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصْلًا بِالْعِبَادَةِ وَذَلِكَ أَفْضَلُ. ثُمَّ قَالَ (وَالْأَرْبَعُ أَحَبُّ إلَيَّ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ فَالْأَفْضَلُ رَكْعَتَانِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» وَاسْتِدْلَالًا بِالتَّرَاوِيحِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 سَوَاءً كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» وَلِأَنَّ فِي الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ مَعْنَى الْوَصْلِ وَالتَّتَابُعِ فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَالتَّطَوُّعُ نَظِيرُ الْفَرَائِضِ وَالْفَرْضُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ وَهِيَ أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَةٍ فَكَذَلِكَ النَّفَلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «فَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَسَلِّمْ» مَعْنَاهُ فَتَشَهَّدْ وَالتَّشَهُّدُ يُسَمَّى سَلَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلَامِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ إنَّمَا جَعَلُوهَا رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَى الْبَدَنِ وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَامَّةُ يُبْنَى عَلَى الْيُسْرِ فَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَهُوَ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ (وَأَمَّا تَطَوُّعُ النَّهَارِ فَالْأَفْضَلُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ) عِنْدَنَا عَلَى قِيَاسِ الْفَرَائِضِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَفْضَلُ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ وَلِحَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَإِنَّمَا بَدَأَ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ. وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلِهَا فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا الْأَثَرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُصَلِّيًا بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِشَاءِ يَتَطَوَّعُ بِرَكْعَتَيْنِ لِهَذَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُرَادُ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ فِي الْفَرْضِ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَفِي النَّفْلِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَوُّعَ قَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَانِ وَالْمُخَالَفَةُ فِي صِفَةِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّطْوِيلِ فِي الْفَرْضِ دُونَ السُّنَّةِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَالَ (رَجُلٌ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ تَكَلَّمَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْأَوَّلِ وَبِدُونِ الشُّرُوعِ أَوْ النَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَرْبَعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَإِنْ نَوَاهَا وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ يَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَإِنْ نَوَى مِائَةَ رَكْعَةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ فَنِيَّتُهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ كَتَسْمِيَتِهِ عِنْدَ النَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ التَّطَوُّعَ نَظِيرُ الْفَرَائِضِ وَأَرْبَعٌ بِالتَّسْلِيمَةِ مَشْرُوعٌ فِي الْفَرَائِضِ فَيَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ فِي التَّطَوُّعِ بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَيْهِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتَارُوا قَوْلَهُ فِيمَا يُؤَدَّى مِنْ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ كَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا قَالَ (فَإِنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ قَالَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ لَا يُفْسِدُ التَّحْرِيمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّحْرِيمَةِ صَحِيحٌ قَبْلَ مَجِيءِ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ فَصَحَّ قِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَفْسَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَرْكِ مَا هُوَ رُكْنٌ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْكُلِّ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالتَّحْرِيمَةُ تَنْحَلُّ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ لَا بَقَاءَ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِحُّ قِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَا تَنْحَلُّ التَّحْرِيمَةُ وَلَكِنَّهَا تَضْعُفُ فَقِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي حَصَلَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ فَلَا يَكُونُ مُلْزَمًا إيَّاهُ مَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّرُوعِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي إذَا قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ إتْمَامِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَقَدْ أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ وَالثَّالِثُ إذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ دُونَ الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَالتَّحْرِيمَةُ لَمْ تَنْحَلَّ فَصَارَ شَارِعًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَتَمَّهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا أَفْسَدَ وَهُوَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّحْرِيمَةُ انْحَلَّتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَقَطْ وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُمَا عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ، وَالرَّابِعُ إذَا قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْحَلَّتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ فَصَحَّ شُرُوعُهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَفْسَدَهُ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ جَرَتْ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَذْهَبِهِ حَتَّى عَرَضَ عَلَيْهِ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَوَيْت لَك عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ رَوَيْت لِي أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَقِيلَ مَا حَفِظَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ ضَعُفَتْ بِالْفَسَادِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الشَّفْعُ الثَّانِي بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ وَالِاسْتِحْسَانُ مَا حَفِظَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ وَإِنْ حَصَلَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَقَدْ أَكَّدَهُ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ فَصَارَ ذَلِكَ مُلْزِمًا إيَّاهُ لِتَأَكُّدِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّأَكُّدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ قَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَبِالْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَكُونُ صَلَاتُهُ بِقِرَاءَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إلَّا فِي رَكْعَةٍ، وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَالسَّادِسُ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالسَّابِعُ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَكِّدْ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْهَا، وَالثَّامِنُ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَقَطْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَكِّدْ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَا يَصِحُّ شُرُوعُهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَإِنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَصَلَّاهُمَا مَعَهُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ كَمَا يَقْضِي الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ الْإِمَامَ فِي التَّحْرِيمَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ الْإِمَامُ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ قَدْ انْحَلَّتْ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ، وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ رَجُلٌ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ وَمَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَعَلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ خَلْفَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا الْأُولَيَانِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ كُلُّهَا صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الشَّفْعُ الثَّانِي بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، فَإِذَا خَرَجَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الشَّفْعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، وَإِنْ حَصَلَ أَدَاؤُهُمَا بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ قَالَ (وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ الْفَجْرَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ يَقْضِهِمَا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُمَا إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ. أَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ إذَا فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعهَا لَمْ تُقْضَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (وَدَلِيلُنَا) حَدِيثُ «أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حِينَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَقْضِيهَا نَحْنُ؟ فَقَالَ لَا» وَلِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا تَطَوَّعَ بِهِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَهِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 مَشْرُوعَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ فَأَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَلَوْ فَاتَتْ مَعَ الْفَجْرِ قَضَاهَا مَعَهُ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ «لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ» وَلِأَنَّ لِهَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوهَا فَإِنَّ فِيهَا الرَّغَائِبَ» وَإِنْ انْفَرَدَتْ بِالْفَوَاتِ لَمْ تُقْضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْفَرْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْضِيهَا إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الزَّوَالِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي حُكْمِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْضِيهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ الْقِيَامِ فِي الْفَرِيضَةِ] قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَصْلِ: «بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ عَلَى وَجْهٍ يَمَلُّ الْقَوْمُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الطَّرَّادِينَ» «وَلَمَّا شَكَا قَوْمٌ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ قَالَ الرَّاوِي: فَمَا رَأَيْته فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ. قَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَهَا ثَلَاثًا أَيْنَ أَنْتَ مِنْ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَكَلَّفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» «وَقَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا صَلَّيْت خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا أَوْجَزْتَ قَالَ سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَنَ» فَدَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ قَالَ (وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) يَعْنِي سِوَاهَا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى مِائَةِ آيَةٍ وَهَذَا لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ فِيهِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السَّجْدَةَ وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ» وَعَنْ «مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: تَلَقَّفْتُ سُورَةَ ق وَاقْتَرَبْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ عُمَرُ كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ يُوسُفَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّ الْقَوْمَ إنْ كَانُوا مِنْ عِلْيَةِ الرِّجَالِ يَرْغَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَإِنْ كَانُوا كَسَالَى غَيْرَ رَاغِبِينَ فِي الْعِبَادَةِ يَقْرَأُ أَرْبَعِينَ آيَةً كَمَا فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يَقْرَأُ خَمْسِينَ سِتِّينَ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقِيلَ يَبْنِي عَلَى كَثْرَةِ اشْتِغَالِ الْقَوْمِ وَقِلَّةِ ذَلِكَ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَقِيلَ يَبْنِي عَلَى طُولِ اللَّيَالِي وَقِصَرِهَا، وَقِيلَ يَبْنِي عَلَى حَالِ نَفْسِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَحُسْنِ الصَّوْتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَحَرَّزُ عَمَّا يُنَفِّرُ الْقَوْمَ عَنْهُ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ لِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَزَرْنَا قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً قَالَ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ»، وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ نَحْوُ الْقِرَاءَةِ فِي الْجُمُعَةِ» قَالَ (وَيَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِعِشْرِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِعِشْرِينَ آيَةً سُورَةَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَفِي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ» فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ مِثْلُ قِرَاءَتِهِ فِي الظُّهْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسَ آيَاتٍ أَوْ سِتًّا مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ تَكَلَّفَ فِيهِ لِمَعْنًى قَالَ الْفَجْرُ يُؤَدَّى فِي حَالِ نَوْمِ النَّاسِ فَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا لِكَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي الصَّيْفِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقِيلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَأَمَّا الْعَصْرُ يُؤَدَّى فِي حَالِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَلْتَكُنْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا دُونَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعِشَاءُ تُؤَدَّى فِي حَالِ عَزْمِ النَّاسِ عَلَى النَّوْمِ وَالْمَغْرِبُ تُؤَدَّى فِي حَالِ عَزْمِ النَّاسِ عَلَى الْأَكْلِ فَلْتَكُنْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا أَقْصَرَ لِقِلَّةِ صَبْرِ النَّاسِ عَلَى الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ [أَحْكَام الْوِتْر] قَالَ (وَمَا قَرَأَ فِي الْوِتْرِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَسَنٌ) وَقَدْ بَلَغَنَا «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْوِتْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» [الْفَصْل الْأَوَّل عَدَد رَكَعَات الْوِتْر] وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فُصُولٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» وَمَالِكٌ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ يُوتَرُ لَك مَا قَبْلَهُ» وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كَمَا رَوَيْنَا «فِي صِفَةِ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» «وَبَعَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أُمَّهُ لِتُرَاقِبَ وِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ قَرَأَ فِي الْأُولَى سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حِينَ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ لِيُرَاقِبَ وِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَعْدًا يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ فَقَالَ مَا هَذِهِ الْبُتَيْرَاءُ لَتَشْفَعَنَّهَا أَوْ لَأُوذِيَنَّكَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوِتْرَ اُشْتُهِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْبُتَيْرَاءِ» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاَللَّهِ مَا أَخَّرْت رَكْعَةً قَطُّ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الِاكْتِفَاءُ بِرَكْعَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ لَدَخَلَ فِي الْفَجْرِ قَصْرٌ بِسَبَبِ السَّفَرِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ] (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا لِمَا رَوَيْنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ بِالْإِمَامَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَان أَمَرَهُ بِالْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ طُولُ الْقِرَاءَةِ لَا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ عِنْدَنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ وَلِأَنَّ الْقُنُوتَ فِي مَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 مَكْتُوبٌ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَتَيْنِ فَالْقِرَاءَةُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا الْأَثَرُ فِي الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَاسَ بِهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ قَالَ (وَلَا قُنُوتَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِوَى الْوِتْرِ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا» وَقَدْ صَحَّ قُنُوتُهُ فِيهَا فَمَنْ قَالَ إنَّهُ انْتَسَخَ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي حُرُوبِهِ كَانَ يَقْنُتُ عَلَى مَنْ نَاوَاهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ»، وَهَكَذَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا أَوْ قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانٍ وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] الْآيَةَ تَرَكَ ذَلِكَ» وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ سِنِينَ وَخَلْفَ عُمَرُ كَذَلِكَ فَلَمْ أَرَ وَاحِدًا مِنْهُمَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَرَوَوْا الْقُنُوتَ وَرَوَوْا تَرْكَهُ، كَذَلِكَ فَفِعْلُهُ الْمُتَأَخِّرُ يَنْسَخُ فِعْلَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ انْتَسَخَ أَحَدُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ قَالَ (وَكَانَ يُقَالُ مِقْدَارُ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَلَيْسَ فِيهَا دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ) يُرِيدُ بِهِ سِوَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك، فَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ بِمَا «عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي قُنُوتِهِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» إلَى آخِرِهِ وَالْقِرَاءَةُ أَهَمُّ مِنْ الْقُنُوتِ فَإِذَا لَمْ يُؤَقِّتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ بِرِقَّةِ الْقَلْبِ، وَمَشَايِخُنَا قَالُوا: مُرَادُهُ فِي أَدْعِيَةِ الْمَنَاسِكِ، فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ فَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ قَالَ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يَفْتَتِحُ الْقُنُوتَ) لِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَفِي الْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» (ثُمَّ يَكْفِيهِمَا) قِيلَ مَعْنَاهُ يُرْسِلُهُمَا لِيَكُونَ حَالُ الدُّعَاءِ مُخَالِفًا لِحَالِ الْقِرَاءَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَقِيلَ يَضَعُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ مُشَبَّهٌ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالْوَضْعُ سُنَّةُ الْقِيَامِ فَكُلُّ قِيَامٍ فِيهِ ذِكْرٌ فَإِنَّهُ يَطُولُ فَالْوَضْعُ فِيهِ أَوْلَى، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ الدُّعَاءُ أَرْبَعَةٌ دُعَاءُ رَغْبَةٍ وَدُعَاءُ رَهْبَةٍ وَدُعَاءُ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءُ خُفْيَةٍ، فَفِي دُعَاءِ الرَّغْبَةِ يَجْعَلُ بُطُونَ كَفَّيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَفِي دُعَاءِ الرَّهْبَةِ يَجْعَلُ ظَهْرَ كَفَّيْهِ إلَى وَجْهِهِ كَالْمُسْتَغِيثِ مِنْ الشَّيْءِ، وَفِي دُعَاءِ التَّضَرُّعِ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ بِالْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَدُعَاءُ الْخُفْيَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ يَسْتَقْبِلُ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ الْقِبْلَةَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ السَّمَاءَ عِنْدَ رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ بِدُعَاءِ الرَّغْبَةِ. وَالِاخْتِيَارُ الْإِخْفَاءُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ وَالْقَوْمُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِيَاسِ الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ قَالَ (وَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ نِسَاءً فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالرِّجَالِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنِّسَاءِ وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ الْخَلْوَةِ فَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ مَعَهُنَّ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُنَّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَبِتَفَرُّدِ النِّسَاءِ يَزْدَادُ مَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَلَا تَزُولُ الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ مَحْرَمٌ لِحَدِيثِ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِهِمْ قَالَ فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَ أُمِّيَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا» وَلِأَنَّ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ يَزُولُ مَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمَحْرَمُ لَهُنَّ أَوْ لِبَعْضِهِنَّ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ قَالَ (رَجُلٌ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِيهِ فَحَسَنٌ وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ) لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْجَمَاعَةَ وَمُرَادُهُ الصَّحَابَةُ، وَلِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مُرَاعَاةَ جِهَةٍ وَتَرْكَ أُخْرَى: فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ حَقِّ مَسْجِدِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أَيِّهِمَا شَاءَ وَالْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا إنْ لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ بَعْدُ أَنْ يَتْبَعَ الْجَمَاعَةَ فَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ صَلَّى فِيهِ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَدِلُّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ، فَدَلَّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ كَالْمَدَدِ لَهُمْ فَلْيُعَجِّلْ أَدَاءَ الْفَرِيضَةِ لِيَلْحَقَ بِهِمْ فِي أَنْ لَا يَتَطَوَّعَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَهُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ مَشْرُوعٌ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ وَحَاجَةُ مَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ إلَى هَذَا أَمَسُّ قَالَ (وَإِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ كَرِهْتُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَوَّعَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنِّي لَمْ أَكْرَهْهُمَا) وَكَذَلِكَ إذَا انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ وَقَدْ افْتَتَحَ الْقَوْمُ صَلَاةَ الْفَجْرِ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إنْ رَجَا أَنْ يُدْرِكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فِي الْجَمَاعَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَامَ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ إنِّي لِأَذْكُرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَيَدْخُلُ النَّاسُ وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَنَا لَا يَقْضِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَوَاتِ فَيُحْرِزُهُمَا إذَا طَمِعَ فِي إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْضِيهِمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ دَخَلَ مَعَ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَاتِ فَإِنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْمُتَخَلِّفُ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ (وَقَالَ) عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْظُرَ إلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجَمَاعَةَ فَآمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يُحَرِّقُوا بُيُوتَهُمْ فَدَلَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَقْوَى السُّنَنِ فَيَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِ فَضِيلَتِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ إذَا كَانَ يَرْجُو إدْرَاكَ التَّشَهُّدِ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إدْرَاكُ التَّشَهُّدِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَيَبْدَأُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَبَرُ إدْرَاكُ التَّشَهُّدِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ قَالَ (رَجُلٌ سَلَّمَ عَلَى تَمَامٍ مِنْ صَلَاتِهِ فِي نَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ وَكَبَّرَ ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ التَّشَهُّدَ فِي الرَّابِعَةِ) فَاقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ سَهْوٌ وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَحَصَلَ الِاقْتِدَاءُ فِي حَالِ بَقَاءِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ عَادَ الْإِمَامُ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ قَرَأَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ تَابَعَهُ الرَّجُلُ ثُمَّ يَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ أَوْ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ الْإِمَامُ إلَيْهَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ مَا تَذَكَّرَ لَيْسَ مِنْ الْأَرْكَانِ وَكَذَلِكَ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي فَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَادَ الْإِمَامُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَتَابَعَهُ الرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الِاقْتِدَاءُ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَالَ بِشْرٌ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى بَعْدَ السَّلَامِ، وَعِنْدَنَا سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِنُقْصَانِهَا ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَعُدْ فِيهَا إلَّا بِتَحْرِيمَةٍ جَدِيدَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِالسَّلَامِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَدْ أَتَى بِهِ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ فَيَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي التَّحْلِيلِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا عَادَ يَعُودُ إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً وَلَا تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الضَّرُورَةُ قَبْلَ عَوْدِهِ فَيَخْرُجُ بِالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْعَوْدِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ حُكْمُ خُرُوجِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ مَوْقُوفًا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: (إحْدَاهَا) مَا بَيَّنَّا (وَالثَّانِيَةُ) إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ فَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ. (وَالثَّالِثَةُ) إذَا ضَحِكَ قَهْقَهَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى (وَالرَّابِعَةُ) إذَا اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَكَلَّمَ قَبْلَ عَوْدِ الْإِمَامِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ عَادَ الْإِمَامُ إلَى سُجُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 السَّهْوِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ حَصَلَ فِي حَالِ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ فَصَارَ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ مُفْسِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ] (مُصَلٍّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ رُعَافٍ بِغَيْرِ قَصْدِهِ انْصَرَفَ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ تَكَلَّمَ وَاسْتَقْبَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ) وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَبْنِي ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَعَابَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْحُجَجِ بِرُجُوعِهِ مِنْ الْآثَارِ إلَى الْقِيَاسِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ بَقَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَائِهَا فَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ بَقَاؤُهَا، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» وَلَا بَقَاءَ لِلْعِبَادَةِ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا. وَجْهُ قَوْلِنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمَذْي فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْآثَارِ. ثُمَّ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ يَذْهَبُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إلَى مُصَلَّاهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَتَمَّ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، وَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، وَلَوْ أَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إمَامِهِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ إمَامُهُ يُخَيَّرُ هُوَ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ إمَامًا تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِمَّنْ خَلْفَهُ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا يُوَافِقُنَا، فَإِنَّ عَلَى أَصْلِهِ بِحَدَثِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا جَازَ صَلَاةُ الْقَوْمِ، فَيَسْتَخْلِفُ لَهُمْ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَسْتَقْبِلُ، وَعِنْدَنَا يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَجَزَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عَنْ إتْمَامِ مَا ضَمِنَ لَهُمْ الْوَفَاءَ بِهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدَ مَا افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي حَقِّ كُلِّ إمَامٍ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ وَيَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَإِنْ تَكَلَّمَ وَاسْتَقْبَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ شُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ وَأَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ، فَإِنْ كَانَ حِينَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ بَالَ وَاسْتَمْشَى لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ عَمْدٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ أَوْ فَوْقَهُ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ الْبِنَاءِ كَانَ بِالْآثَارِ فِي الْحَدَثِ الَّذِي يَسْبِقُهُ فَلَا يُقَاسُ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَسْبِقُهُ بَلْوَى وَضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا يَتَعَمَّدُهُ، وَلِهَذَا لَوْ اُبْتُلِيَ بِالْجَنَابَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْنِ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. قَالَ: (فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَا يَسْتَقْبِلُ إلَّا إذَا طَالَ كَلَامُهُ، وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَاعْتِمَادُهُ عَلَى حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ: بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، فَنَظَرَ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَا: نَعَمْ، فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» فَقَدْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا ثُمَّ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَقَاسَ الْكَلَامَ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ ثُمَّ فِي السَّلَامِ فَصْلٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ شَرْطُهَا فَسَوَّيْنَا بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ لِهَذَا، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، «وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»، فَدَلَّ أَنَّ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قَطُّ، وَفِي حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، قَالَ: فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ». وَفِي حَدِيثِ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَالِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا، فَضَرَبُوا بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُسَكِّتُونَنِي فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاَللَّهِ، مَا رَأَيْت: مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا نَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ فَمُبَاشَرَتُهُ مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لِهَذَا، وَالْخُرُوجُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ طَالَ الْكَلَامُ كَانَ مُفْسِدًا، وَلَوْ كَانَ النِّسْيَانُ فِيهِ عُذْرًا لَاسْتَوَى فِيهِ أَنْ يُطَوِّلَ أَوْ يُقَصِّرَ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ. وَالْقِيَاسُ فِي السَّلَامِ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَّا مَا فِيهِ لِمَعْنَى لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ مِنْ جِنْسِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُتَشَهِّدَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ اسْمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أُخِذَ حُكْمُ الْكَلَامِ لِكَافِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْخِطَابِ فِيهِ عِنْدَ الْقَصْدِ، وَإِذَا كَانَ نَاسِيًا شَبَّهْنَاهُ بِالْأَذْكَارِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا شَبَّهْنَاهُ بِالْكَلَامِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي رَفْعِ الْإِصْرِ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، فَأَمَّا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ انْتَسَخَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ كَانَ عَامِدًا بِالْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِقْبَالِ (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَقَدْ قَالَ: صَلَّى بِنَا، وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ ثَابِتَةً حِينَ جَاءَ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ (قُلْنَا:) مَعْنَى قَوْلِهِ: بِنَا بِأَصْحَابِنَا وَلَا وَجْهَ لِلْحَدِيثِ إلَّا هَذَا؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ وَاسْمُهُ مَشْهُورٌ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَذَلِكَ قَبْلَ خَيْبَرَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ. قَالَ: (وَإِنْ قَهْقَهَ فِي صَلَاةٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ عِنْدَنَا نَاسِيًا كَانَ أَوْ عَامِدًا)؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ أَفْحَشُ مِنْ الْكَلَامِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ نَاقِضَةً لِلْوُضُوءِ ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ وَفِي الْقَهْقَهَةِ أَوْلَى وَالْبِنَاءُ لِأَجْلِ الْبَلْوَى وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَهْقَهَةِ، وَإِنْ قَهْقَهَ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْقَهْقَهَةُ عَرَفْنَاهَا حَدَثًا بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ، فَكُلُّ قَهْقَهَةٍ تُوجِبُ إعَادَةَ الصَّلَاةِ تُوجِبُ الْوُضُوءَ وَمَا لَا يُوجِبُ مُرَاعَاةَ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الضَّحِكَ صَادَفَ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ لِبَقَائِهَا مَا لَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَبِالنَّصِّ صَارَ الضَّحِكُ حَدَثًا لِمُصَادَفَتِهِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَفْحُشُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي حَالَةِ الْمُنَاجَاةِ، وَذَلِكَ بَاقٍ بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَأَلْزَمْنَاهُ الْوُضُوءَ لِهَذَا، فَأَمَّا إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَلِبَقَاءِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْقَهْقَهَةِ لِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ هُنَا فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ لِهَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِمَا يَرْفَعُ السَّلَامَ دُونَ الْقَعْدَةِ، فَكَأَنَّهُ قَهْقَهَ بَعْدَ الْقَعْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِنْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَ بِهَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْمِ)؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا خَارِجِينَ مِنْ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَضَحِكَهُمْ لَمْ يُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ (وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ فَعَلَى الْكُلِّ إعَادَةُ الْوُضُوءِ)؛ لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الْقَوْمِ صَادَفَتْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ قَهْقَهَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْهَا بِخُرُوجِ الْقَوْمِ، وَإِنْ ضَحِكُوا مَعًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَحِكَ الْقَوْمِ لَمَّا اقْتَرَنَ بِضَحِكِ الْإِمَامِ كَانَ مُصَادِفًا حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنْ حُكْمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَيَعْقُبُهُ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا قَدْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ) وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْمَسْبُوقِ شَرِيكُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ وَصِحَّةِ الِاسْتِخْلَافِ بِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ وَالْحَاجَةِ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ وَقَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ السَّلَامِ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْ الْمُدْرِكِينَ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ عَلَيْهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إتْمَامَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَلِهَذَا قَدَّمَ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ. قَالَ: (فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فَإِنْ كَانَ صَلَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الثَّانِي، وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِي إذَا أَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ، وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُقْتَدِينَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ. قَالَ: (فَإِنْ قَعَدَ الْإِمَامُ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ فَضَحِكُهُ حَصَلَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ الْبِنَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ لِفَسَادِ مَا مَضَى، وَلَوْ ضَحِكُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ تَامَّةً، فَضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِمْ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ ضَحِكِهِمْ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي مَعَ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ صَلَاتِهِ فَيَكُونُ كَالْفَارِغِ بِقَعْدَةِ الْإِمَامِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ وَضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبِنَاءِ كَضَحِكِهِ، وَلَوْ ضَحِكَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ ضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَأَنَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ ثُمَّ أَجَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَامَّةٌ وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ يَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ فِي الْجَوَابِ. قَالَ: (رَجُلٌ سَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَاسْتَقْبَلَ التَّكْبِيرَ يَنْوِي بِهِ الدُّخُولَ فِي الظُّهْرِ ثَانِيَةً وَهُوَ إمَامُ قَوْمٍ وَكَبَّرُوا مَعَهُ يَنْوُونَ مَعَهُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ الْأُولَى يُصَلُّونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَيَسْجُدُونَ لِلسَّهْوِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ، فَهُمْ فِي التَّحْرِيمَةِ فِي صَلَاتِهِمْ بَعْدُ قَدْ نَوَوْا إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَذَلِكَ لَغْوٌ. بَقِيَ مُجَرَّدُ التَّكْبِيرِ وَهُوَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي الظُّهْرِ فَنَوَى الْعَصْرَ وَكَبَّرَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إيجَادَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْأُولَى دَاخِلًا فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ صَلَّوْا الْعَصْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ هَكَذَا، فَإِنْ قَعَدُوا فِي الثَّانِيَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَمَا زَادُوا مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ نَافِلَةٌ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدُوا فِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ سَاهِيًا بَعْدَ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَجَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِفَرْضِهِ قَالَ: (رَجُل صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَاقْتَدُوا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِإِفْسَادِ صَلَاتِهِمْ، فَإِنَّ الضَّحِكَ وَالْحَدَثَ لَمْ يُوجَدَا مِنْهُمْ، فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ هُنَا، فَهُوَ قِيَاسُ ضَحِكهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ صَارَ الْمَسْبُوقُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ يَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ وَكَلَامَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ، فَكَذَلِكَ ضَحِكُ الْإِمَامِ وَحَدَثُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْإِمَامُ فَالْمَسْبُوقُ مُقْتَدٍ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْقِيَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ الْإِمَامُ، وَالضَّحِكُ وَالْحَدَثُ إذَا لَاقَى جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ مُفْسِدًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَبِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَفْسُدُ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَلَا يَضُرُّهُ، وَالْمَسْبُوقُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَفَسَادُ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَمْنَعُهُ مِنْ بِنَاءِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ، فَكَذَلِكَ فِعْلُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ، فَالسَّلَامُ مِنْهُ لِلصَّلَاةِ وَالْكَلَامُ قَاطِعٌ لَا مُفْسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ، فَأَمَّا الضَّحِكُ وَالْحَدَثُ مُفْسِدٌ لَا قَاطِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُسَلِّمُوا، وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَهْقَهَ لَمْ يُسَلِّمْ الْقَوْمُ، وَخُرُوجُ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا لِكَلَامِهِ فَلَا يُفْسِدُ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ الرَّجُلُ صَلَاةَ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ ثُمَّ أُقِيمَ لَهُ فِيهَا فَفِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، إنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى وَقَعَدَ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَهَا كَذَلِكَ كَانَ مُبْطِلًا عَمَلَهُ، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ صَلَاةً فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَ شَفْعًا ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَقْطَعُ فَرْضَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا.؟ (قُلْنَا:) لَا يَقْطَعُهَا رَافِضًا لَهَا، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا يَقْطَعُ الظُّهْرَ إذَا أُقِيمَتْ الْجُمُعَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ عَادَ فَقَعَدَ وَسَلَّمَ لِكَيْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُسَلِّمُ كَمَا هُوَ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقِعْدَةِ كَانَ سُنَّةً، وَقِعْدَةُ الْخَتْمِ فَرْضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقِعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُمَا جَائِزٌ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ رُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْجَمَاعَةَ، فَلِهَذَا دَخَلَ مَعَهُ، فَأَمَّا فِي الْعَصْرِ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدْخُلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُكْثِ تَطُولُ مُخَالَفَتُهُ لِلْإِمَامِ، وَفِي الْخُرُوجِ إنَّمَا يُظْهِرُ مُخَالَفَتَهُ فِي لَحْظَةٍ فَهُوَ أَوْلَى، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ كَيْفَ يَصْنَعُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ بِهِ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّلَاةِ حَتَّى إنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ لَا يَحْنَثُ عَلَى مَا دُونَ الرَّكْعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ يَعُودُ إذَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ، (فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى رَكْعَةً أُخْرَى تَمَّ فَرْضُهُ وَفَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْطَعَهَا لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، (وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَةٍ أَتَمَّهَا)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَكْثَرَهَا ثُمَّ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ حَالِ الرَّجُلَيْنِ حِينَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ صَلَاةَ الْفَجْرِ كَمَا رَوَيْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ تِلْكَ الْحَادِثَةَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَئِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِالنَّهْيِ، (وَأَمَّا الْمَغْرِبُ، فَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى كَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَطَعَ كَانَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِهَذَا قَطَعَ صَلَاتَهُ لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَةٍ أَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى أَكْثَرَهَا ثُمَّ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَإِنَّمَا لَا يَدْخُلُ لَا لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مَعَهُ فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ مَعَهُ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَوْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَيَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ مَعَهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَ شَفْعًا لَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُومَ لِإِتْمَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ كَالْمَسْبُوقِ وَهُوَ بِالشُّرُوعِ قَدْ الْتَزَمَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ أَرْبَعٌ، وَعِنْدَنَا إنْ دَخَلَ فَعَلَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغَيُّرَ كَانَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ يَقْعُدُ مَعَهُ وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَالْجُمُعَةُ فَرْضُهُ وَيَصِيرُ الظُّهْرُ تَطَوُّعًا لَهُ)؛ لِأَنَّ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ مَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مُفْتَرِضًا وَلَا يَجْتَمِعُ فَرْضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا لَهُ أَنْ يَنْقَلِبَ مَا قَبْلَهُ تَطَوُّعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ أَدْرَكَهَا بِالْجَمَاعَةِ فَصَلَّاهَا، فَالْأُولَى فَرْضٌ وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ، بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ شَهِدَهَا كَانَ مُتَنَفِّلًا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْجُمُعَةَ أَقْوَى مِنْ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يَسْتَدْعِيهِ الظُّهْرُ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، وَإِذَا ظَهَرَ الْقَوِيُّ بِأَدَائِهِ لِإِسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ بِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الضَّعِيفِ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَأَمَّا الظُّهْرُ الْمُؤَدَّى فِي الْجَمَاعَةِ فِي حُكْمِ الْقُوَّةِ كَالْمُؤَدَّى فِي بَيْتِهِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَدْعِي شَرْطًا لَا يَسْتَدْعِيهِ الْآخَرُ، فَإِذَا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ السَّابِقُ مِنْهُمَا لِإِسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ بِهِ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ نَفْلًا. قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ فَلَمْ يُقَدِّمْ أَحَدًا حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إمَامٌ فِي مَكَانِهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حَالَ الْإِمَامِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ لِيَصِيرَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدَى بِهِ كَغَيْرِهِ فَبِتَرْكِ الِاسْتِخْلَافِ لَمَّا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلَأَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ كَانَ أَوْلَى، وَذَكَرَ أَبُو عِصْمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ، فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ، فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسَادُ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى فَسَادِ صَلَاةِ إمَامِهِمْ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَسَادُ صَلَاةِ الْقَوْمِ اسْتِحْسَانٌ فَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَفْسُدَ، فَإِنَّ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ بَقُوا مُقْتَدِينَ بِهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فَتَوَضَّأَ وَعَادَ إلَى مَكَانِهِ وَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ أَجْزَأَهُمْ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَأُرَاهُ قَبِيحًا أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ وَإِمَامُهُمْ فِي أَهْلِهِ، فَأَمَّا مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَأَنَّهُ فِي الْمِحْرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي كَوْنِهِ مَكَانَ الصَّلَاةِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَا يُنَافِي الِاقْتِدَاءَ، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَدْ صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَا يُنَافِي الِاقْتِدَاءَ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ. قَالَ: (فَإِنْ قَدَّمُوا رَجُلًا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقَوْمِ إيَّاهُ كَاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى لَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ وَبَيْنَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي الِاسْتِخْلَافِ يَنْظُرُ لَهُمْ فِي إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا، فَإِنْ قَدَّمَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ الْقَوْمِ رَجُلًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا اُفْتُتِحَتْ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا بِإِمَامَيْنِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَؤُمَّ نَفْسَهُ، وَهَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا اقْتَدَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْقَوْمِ بِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ إلَّا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ اقْتَدَيَا بِالثَّانِي فَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ الْجَمَاعَةُ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْآخَرَيْنِ فَاسِدَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ»، وَقَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الشُّورَى إنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ فَاقْتُلُوهُ، فَأَمَّا إذَا اقْتَدَى بِكُلِّ إمَامٍ جَمَاعَةٌ وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ الْآخَرِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: صَلَاةُ الْأَكْثَرِينَ جَائِزَةٌ وَيَتَعَيَّنُ الْفَسَادُ فِي الْآخَرِينَ كَمَا فِي الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى، وَالْأَصَحُّ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ تَامٌّ يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْأَقَلُّ مُسَاوِيًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمًا، كَالْمُدَّعِيَيْنِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي قَدَّمَ رَجُلَيْنِ فَهَذَا وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ إيَّاهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ قَبْلَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ لِلْإِمَامَةِ وَجَازَ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ كَانَ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ بِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ، فَاسْتِخْلَافُ الْآخَرِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. قَالَ: (وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ صَارَ هُوَ إمَامًا قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ نَوَى هُوَ الْإِمَامَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلِاسْتِخْلَافِ، فَإِنَّ صَلَاحِيَّتَهُ لِلِاسْتِخْلَافِ بِكَوْنِهِ شَرِيكَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مُزَاحِمَ لَهُ وَالْحَاجَةُ فِي هَذَا إلَى الِاسْتِخْلَافِ أَوْ النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ لَا عِنْدَ التَّعَيُّنِ، فَإِذَا تَوَضَّأَ الْإِمَامُ رَجَعَ وَدَخَلَ مَعَ هَذَا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يَرْجِعْ الْإِمَامُ حَتَّى أَحْدَثَ هَذَا فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى رَجَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِي فَقَدْ صَارَ الْإِمَامُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ جَاءَ ثَالِثٌ وَاقْتَدَى بِالثَّانِي ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَى الثَّالِثِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا، فَإِنْ أَحْدَثَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ رُجُوعِ أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمَا إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ أَحَدُ الْأَوَّلَيْنِ قَبْلَ خُرُوجِ الثَّالِثِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ بِخُرُوجِ الثَّالِثِ، فَإِنْ كَانَا رَجَعَا جَمِيعًا، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ الثَّالِثُ أَحَدَهُمَا صَارَ هُوَ الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ حَتَّى خَرَجَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ الْآخَرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَحْدَثَ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ، قَالَ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِمَامَةِ فَبِنَفْسِ انْصِرَافِهِ تَتَحَوَّلُ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ فَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ وَصَلَّى بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِالِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُوجَدْ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَانْفَتَلَ وَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ، فَإِنْ كَانَ كَبَّرَ قَبْلَ الْحَدَثِ مِنْ الْإِمَامِ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ)؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَّرَ فَلَمَّا اسْتَخْلَفَهُ كَبَّرَ يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِهِ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ بِشْرٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي كَحَدَثِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مُحْدِثًا يَمْنَعُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ بَقَاءَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ بِالسُّنَّةِ، وَالِابْتِدَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَقَاءِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: التَّحْرِيمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ بَاقِيَةٌ حَتَّى إذَا عَادَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ صِفَةُ الْإِمَامَةِ لَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ وَعَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ جَازَ، فَاقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ حِينَ كَبَّرَ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً مُسْتَقْبَلَةً وَلَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَوَّلِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا بِهَا وَقَدْ أَدَّاهَا وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إتْمَامُهَا مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي، فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُؤَدَّى بِإِمَامَيْنِ، بِخِلَافِ خَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ الْإِمَامُ وَاحِدًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مَثْنَى فِي الصُّورَةِ، وَهُنَا الثَّانِي لَيْسَ بِخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ قَطُّ فَتَحَقَّقَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ خَلْفَ إمَامَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَلِهَذَا لَا يُجْزِئُهُمْ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ وَهُوَ مُسَافِرٌ وَخَلْفَهُ مُقِيمُونَ وَمُسَافِرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فَقَدَّمَ مُقِيمًا صَحَّ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ شَرِيكُهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْأَوَّلُ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ حُكْمَ الِاقْتِدَاءِ، وَمَا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالثَّانِي إنَّمَا لَزِمَهُمْ الِاقْتِدَاءُ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: لَوْ قَدَّمَ مُسَافِرًا فَنَوَى الثَّانِي الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ عَلَى الثَّانِي أَنْ يُتِمَّ بِهِمْ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَأْتِي بِمَا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ مُسَافِرًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ بِنَفْسِهِ لِبَقَاءِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُومُ هُوَ مَعَ الْمُقِيمِينَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا، هَكَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى بِعَرَفَاتٍ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَإِنْ اقْتَدَوْا فِيمَا يَقْضُونَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِانْفِرَادُ كَالِانْفِرَادِ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي فِي صَلَاتِهِ حَتَّى أَتَمَّهَا صَلَاةَ الْإِقَامَةِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ، فَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسَافِرُونَ إنَّمَا اشْتَغَلُوا بِالنَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَلَا يَضُرُّهُمْ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَإِذَا اقْتَدَوْا بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي إذَا تَرَكَهَا فَتَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ. قَالَ: (إمَامٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَجُلٌ هَذَا الرُّكُوعَ الثَّانِي فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ)؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ انْتَقَضَ بِالثَّانِي، فَإِنَّ الْأَوَّلَ سَبَقَ أَوَانَهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَمَا سَبَقَهُ كَانَ مُنْتَقِضًا، وَالرُّكُوعُ الثَّانِي حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْلَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فَالرُّكُوعُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِي لَا يَصِيرُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَالثَّانِي وَقَعَ مُكَرَّرًا وَلَا تَكْرَارَ فِي الرُّكُوعِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمُنْتَقَضُ مَا وَقَعَ مُكَرَّرًا، وَذَكَرَ فِي بَابِ السَّهْوِ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي وَمُدْرِكُهُ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اعْتِبَارَ الرُّكُوعِ بِاتِّصَالِ السُّجُودِ بِهِ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ السُّجُودُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُنْتَقِضُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْفَرْضَ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ صَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مُؤَدَّى، فَيَقِفُ يَنْتَظِرُ السُّجُودَ فَيَجْعَلُ السُّجُودَ مُتَّصِلًا بِهِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْدَثَ حِينَ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الرُّكُوعِ إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَرَأَ قَبْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ قَبْلَهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَحَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ الْأَوَّلِ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِخْلَافِ فَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ وَهَذَا عِنْدَنَا، فَإِنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، فَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا اقْتَدَوْا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُحْدِثٌ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ فِي حَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَّ فِي صَلَاةٍ أَصْحَابَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَأَعَادُوا» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ حَتَّى ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا، فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ ابْنَ التَّيَّاحِ أَنْ يُنَادِيَ، أَلَا إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الِاحْتِلَامِ فِي ثَوْبِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَتَى أَصَابَهُ فَأَعَادَ صَلَاتَهُ احْتِيَاطًا، وَعِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْمِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ صَبِيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ تَخَلُّقٌ وَاعْتِيَادٌ أَوْ نَافِلَةٌ فَلَا يَصْلُحُ هُوَ خَلِيفَةً لِلْإِمَامِ فِي الْفَرْضِ، كَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِنَا أَيْضًا، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الِاقْتِدَاءَ بِالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَقَدْ مَرَّ. وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِالصَّبِيِّ فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ جَوَّزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالصَّبِيُّ لَا يَصْلُحُ ضَامِنًا لِفَلْسٍ» فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ الضَّمَانُ لِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي. وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ امْرَأَةً فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلُّهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» فَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ إعْرَاضٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مِنْهُ عَنْ الصَّلَاةِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاةُ النِّسَاءِ صَحِيحَةٌ إنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ إنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ. قَالَ: (أُمِّيٌّ صَلَّى بِقَوْمٍ أُمِّيِّينَ وَقَارِئِينَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ فَاسِدَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْأُمِّيِّينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ صَاحِبُ عُذْرٍ، فَإِذَا اقْتَدَى بِهِ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، كَالْعَارِي يَؤُمُّ الْعُرَاةَ وَاللَّابِسِينَ، وَالْمُومِي يَؤُمَّ مَنْ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَمَنْ يُصَلِّي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَالْأَصِحَّاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَمَّا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ بِالْجَمَاعَةِ فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِالْقِرَاءَةِ بِأَنْ يُقَدِّمَ الْقَارِئَ، فَتَكُونُ قِرَاءَةُ إمَامِهِ قِرَاءَةٌ لَهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ»، فَإِذَا تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ أَيْضًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ فَلُبْسُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِينَ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مِنْ الْإِمَامِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وُضُوءًا لِلْمُقْتَدِي فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إزَالَةِ هَذَا الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ (فَإِنْ قِيلَ:) لَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُنَاكَ قَارِئٌ يُصَلِّي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَلَمْ يُنْظَرْ إلَى قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ (قُلْنَا:) ذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ أَنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ قُلْنَا: لَمْ يَظْهَرْ هُنَاكَ مِنْ الْقَارِئِ رَغْبَةٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (وَالطَّرِيقُ الثَّانِي) أَنَّ افْتِتَاحَ الْكُلِّ لِلصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ التَّكْبِيرِ، فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَالْقَارِئِ فَبِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ صَارَ الْأُمِّيُّ مُتَحَمِّلًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ عَنْ الْقَارِئِ، ثُمَّ جَاءَ أَوَانُ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا تَحَمَّلَ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ، فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ ابْتِدَاءً (فَإِنْ قِيلَ:) لَوْ اقْتَدَى الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ (قُلْنَا:) إنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فِيهَا. قَالَ: (أُمِّيٌّ تَعَلَّمَ سُورَةً وَقَدْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ فَقَرَأَهَا فِيمَا بَقِيَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مِثْلُ الْآخَرِينَ) لِزَوَالِ أُمِّيَّتِهِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءَ فَصَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ نَسِيَ فَصَارَ أُمِّيًّا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مِثْلُ الْآخَرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَفْسُدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ اسْتَقْبَلَ، وَإِذَا نَسِيَ بَنَى اسْتِحْسَانًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إذْ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَقَدْ قَرَأَ الْأُخْرَيَيْنِ أَجْزَأَهُ، فَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَجْزُهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ كَتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَإِذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَضُرُّهُ عَجْزُهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: إذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَوْ اسْتَقْبَلَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَأَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ، فَأَمَّا إذَا نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَالْأَوْلَى هُوَ الْبِنَاءُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَهَا بِقِرَاءَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ حِينَ افْتَتَحَهَا وَهُوَ أُمِّيٌّ، فَقَدْ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ بِصِفَةِ الضَّعْفِ، فَحِينَ تَعَلَّمَ السُّورَةَ فَقَدْ قَوِيَ حَالُهُ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ كَالْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِهَا، وَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي الْفَصْلَيْنِ، هَذَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْإِمَامُ الْأَوَّلُ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةٌ، فَاسْتِخْلَافُ الْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ فِيهِ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَقَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ، وَالْأُمِّيُّ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ، وَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ السَّجْدَةِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ عِنْدَنَا، فَأَمَّا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَصَاحِبَيْهِ. قَالَ: (أُمِّيٌّ اقْتَدَى بِقَارِئٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قَامَ الْأُمِّيُّ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ) وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَامَ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي، فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةً فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْقِرَاءَةَ ضِمْنًا لِلِاقْتِدَاءِ وَهُوَ مُقْتَدٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ لَا فِيمَا سَبَقَهُ بِهِ الْإِمَامُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ بَنَى كَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَأَدَاءُ الْبَعْضِ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَطَوُّعًا وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ)؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ تُفْتَرَضُ الْقَعْدَةُ فِي آخِرِهَا، فَتَرْكُ الْقَعْدَةِ الْأُولَى هُنَا كَتَرْكِهَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْجُمُعَةِ فَتَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّطَوُّعِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْفَرِيضَةِ، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرِيضَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّطَوُّعِ يَجُوزُ الْأَرْبَعُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرْضِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَعْدَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَلَّى التَّطَوُّعَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَبِفَسَادِهَا يَفْسُدُ مَا قَبْلَهُ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَوَّزَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ وَالتَّسْلِيمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْسَانَهُ فِي الْأَرْبَعِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُعَادُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ لِهَذَا. قَالَ: (امْرَأَةٌ صَلَّتْ خَلْفَ الْإِمَامِ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ فَوَقَفَتْ فِي وَسَطِ الصَّفِّ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهَا وَمَنْ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ أَحَدٍ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُحَاذَاةِ الْكَلْبِ أَوْ الْخِنْزِيرِ إيَّاهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِصَلَاةِ الرَّجُلِ، وَلَوْ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالصُّفُوفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ عَلَى الرَّجُلِ صَلَاتَهُ، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ تَرَكَ الْمَكَانَ الْمُخْتَارَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ أَخَّرَهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا، فَالْمُخْتَارُ لِلرِّجَالِ التَّقَدُّمُ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِذَا وَقَفَ بِجَنْبِهَا أَوْ خَلْفَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فَقَدْ تَرَكَ الْمَكَانَ الْمُخْتَارَ لَهُ وَتَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْرِ بِتَأْخِيرِهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَالَ الصَّلَاةِ حَالُ الْمُنَاجَاةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي الشَّهْوَةِ فِيهِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ إيَّاهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ عَادَةً، فَصَارَ الْأَمْرُ بِتَأْخِيرِهَا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، فَإِذَا تَرَكَ تَفْسُدُ صَلَاتَهُ، وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّأْخِيرِ لِلرَّجُلِ وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَخَّرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِالْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ هِيَ مُنَاجَاةٌ بَلْ هِيَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْمَيِّتِ، ثُمَّ لَيْسَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ مَقَامٌ لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً عَنْ الْخُرُوجِ فِي الْجَنَائِزِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِهَا، وَمَنْ عَلَى يَسَارِ مَنْ هُوَ عَلَى يَسَارِهَا إذْ هُنَاكَ حَائِلٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُسْطُوَانَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ الثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَ صَفٌّ تَامٌّ مِنْ النِّسَاءِ وَرَاءَهُنَّ صُفُوفٌ مِنْ الرِّجَالِ فَسَدَتْ صَلَاةُ تِلْكَ الصُّفُوفِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ إلَّا صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَ صُفُوفِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُحَاذَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَوُجُودُ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فُرْجَةٌ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّفِّ مِنْ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَفْنَ فِي الصَّفِّ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَالَ: الثَّلَاثُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ قِيَاسُ الصَّفِّ التَّامِّ، فَأَمَّا الْمَثْنَى فَلَيْسَتَا بِجَمْعٍ تَامٍّ فَهُمَا قِيَاسُ الْوَاحِدَةِ لَا يُفْسِدَانِ إلَّا صَلَاةَ مَنْ خَلْفَهُمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا جَعَلَ الثَّلَاثَ كَالِاثْنَيْنِ وَقَالَ لَا يُفْسِدْنَ إلَّا صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَمَنْ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِي صَفٍّ تَامٍّ وَالثَّلَاثُ لَيْسَ بِصَفٍّ تَامٍّ مِنْ النِّسَاءِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ الْمَثْنَى كَالثَّلَاثِ وَقَالَ: يُفْسِدَانِ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ؛ لِأَنَّ لِلْمَثْنَى حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي الِاصْطِفَافِ حِينَ يَصْطَفَّانِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ»، فَإِنْ وَقَفَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ تَأْتَمُّ بِهِ وَقَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ تَفْسُدُ وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ اقْتَرَنَتْ بِشُرُوعِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ طَرَأَتْ كَانَتْ مُفْسِدَةً لِصَلَاتِهَا، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ مَنَعَتْ صِحَّةَ اقْتِدَائِهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ مَا لَمْ تَكُنْ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاتِهَا إلَّا فَسَادًا، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا وَقَفَا فِي مَكَان وَاحِدٍ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْمَقَامِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُعْتَرِضَةٌ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ، فَكَانَ إذَا سَجَدَ خَنَسْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهُمَا». وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ إمَامَتَهَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي صَلَاتِهِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ بِالْمُحَاذَاةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، ثُمَّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، فَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ النِّسَاءِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّ اقْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ يَلْحَقُ صَلَاتَهُ فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ كَالْمُقْتَدِي لَمَّا كَانَتْ صَلَاتُهُ يَلْحَقُهَا فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَا اقْتِدَاءَهَا بِغَيْرِ النِّيَّةِ قَدَرَتْ عَلَى إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ كُلُّ امْرَأَةٍ مَتَى شَاءَتْ بِأَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ، فَتَقِفُ إلَى جَنْبِهِ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُطْلَقًا فِي الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ فَقَالَ: الضَّرُورَةُ فِي جَانِبِهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ وَحْدَهَا وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ تَقْتَدِي بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لِكَثْرَةِ الِازْدِحَامِ فَصَحَّحْنَا اقْتِدَاءَهَا بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ فَقَصْدُهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ لَا فَسَادُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فَلَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَرُدَّ قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ نَوَى إمَامَتَهَا، فَحِينَئِذٍ هُوَ مُلْتَزِمٌ بِهَذَا الضَّرَرِ. قَالَ: (وَإِذَا سَبَقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَا يَقْضِيَانِ فَوَقَفَتْ بِحِذَاءِ الرَّجُلِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَا لَاحِقَيْنِ بِأَنْ أَدْرَكَا أَوَّلَ الصَّلَاةِ ثُمَّ نَامَا أَوْ سَبَقَهُمَا الْحَدَثُ فَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ بِحِذَائِهِ فِيمَا يُتِمَّانِ فَصَلَاةُ الرَّجُلِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ حَتَّى تَلْزَمَهُ الْقِرَاءَةُ وَسُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَهَا، فَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَأَمَّا اللَّاحِقُ فِيمَا يُتِمُّ كَالْمُقْتَدِي حَتَّى لَا يَقْرَأَ، وَلَوْ سَهَا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ. وَفِقْهُ هَذَا الْحَرْفِ أَنَّ اللَّاحِقَ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِصِفَةِ الِاقْتِدَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إنَّمَا الْتَزَمَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ مَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ مَا فَرَغَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فَجَعَلْنَاهُ كَالْمُنْفَرِدِ فِيمَا يَقْضِي بِهَذَا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فَائْتَمَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ تُرِيدَ التَّطَوُّعَ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا ثُمَّ وَقَفَتْ بِحِذَائِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا)؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ صَحِيحٌ، فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهَا بِسَبَبِ فَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ نَوَتْ الْعَصْرَ لَمْ تُجْزِهَا صَلَاتُهَا وَلَمْ تُفْسِدْ عَلَى الْإِمَامِ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَذَانِ، وَمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ: الْجَوَابُ مَا ذَكَرَ فِي بَابِ الْأَذَانِ، وَمَعْنَى مَا ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَتَجْعَلُ هِيَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ. قَالَ: (وَيُصَلِّي الْعُرَاةُ وُحْدَانًا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ) وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَرْكَانِهَا، فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَا: الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ وَالْإِيمَاءَ أَسْتَرُ لَهُمْ، وَفِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ زِيَادَةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، فَكُلُّ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَا يُمْكِنُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَّا بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ فَذَلِكَ حَرَامٌ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّتْرِ لَا يَحْصُلُ بِالْقُعُودِ فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَلَا يَقَعُ بَصَرُ بَعْضِهِمْ عَلَى عَوْرَةِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ إذَا صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِكَيْ لَا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا وَحَالُهُمْ فِي حَالِ الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ، فَإِنْ صَلَّيْنَ بِالْجَمَاعَةِ قَامَتْ إمَامُهُنَّ وَسَطَهُنَّ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَارِي ثَوْبٌ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الرُّبُعِ مِنْ الثَّوْبِ طَاهِرًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَجَاسَةَ الرُّبُعِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ كَنَجَاسَةِ الْكُلِّ فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الرَّبُعِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْكُلِّ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّوْبُ كُلُّهُ مَمْلُوءًا دَمًا، أَوْ كَانَ الطَّاهِرُ مِنْهُ دُونَ رُبُعِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ مَنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ سَبْعُونَ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عُرْيَانًا كَانَ تَارِكًا لِفَرَائِضَ مِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَمِنْهَا الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ كَانَ تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَهَذَا الْجَانِبُ أَهْوَنُ. «وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: مَا خُيِّرَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا» وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: الْجَانِبَانِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرُورَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فِي النَّفْلِ وَلَا فِي الْفَرْضِ يَعْنِي الصَّلَاةَ عُرْيَانًا وَالصَّلَاةُ فِي ثَوْبٍ مَمْلُوءٍ دَمًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا خُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّلَاةِ، وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ عَنْ النَّجَاسَةِ تَخْتَصُّ بِهَا، فَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ الرَّجُلُ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَجَاءَ لَمْ يُجْزِئْهُ الِاعْتِدَادُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ نَقَضَهُ، وَمَعْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 هَذَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَفْسُدَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ الْمُجَوِّزِ لِلْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ ذَلِكَ الرُّكْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ، وَلِأَنَّ تَمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ رَفْعَ رَأْسِهِ بَعْدَ الْحَدَثِ إتْمَامًا لِذَلِكَ الرُّكْنِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَعَلَيْهِ إتْمَامُ ذَلِكَ الرُّكْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إتْمَامُهُ إلَّا بِإِعَادَتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِهَذَا قَالَ: (فَإِنْ كَانَ إمَامًا فَأَحْدَثَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَتَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مَكَثَ الرَّجُلُ رَاكِعًا كَمَا هُوَ حَتَّى يَكُونَ قَدْرَ رُكُوعِهِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ، وَالثَّانِي قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إنْشَاءُ الرُّكُوعِ فَعَلَى الثَّانِي اسْتِدَامَتُهُ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ وَلَكِنَّ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِنْ احْتَسَبَ بِذَلِكَ الرُّكُوعِ جَازَ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَهُ السُّجُودَ غَيْرُ نَاقِضٍ لِرُكُوعِهِ، وَلِأَنَّ رَفْعَ رَأْسِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إتْمَامًا لِلرُّكُوعِ بَعْدَ تَذَكُّرِهِ السَّجْدَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ جَازَ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَالْإِعَادَةُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إنَّمَا قَصَدَ إذَا تَذَكَّرَ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ رُكْنٌ وَاجِبٌ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّهَا وَبَطَلَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ رُكْنًا لَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهَا بِعُذْرِ الْجَمَاعَةِ كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَئِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الرُّكُوعِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُكْنٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَوْ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ رُكْنٌ، حَتَّى إنَّهُ إنْ لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فِي الصَّلَاة وَلَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَيُكْرَهُ أَشَدُّ الْكَرَاهَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ أَصْلًا لِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَفَّفَ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ حِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عَلَّمَهُ قَالَ: لَهُ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ» الْحَدِيثَ وَرَأَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَجُلًا يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَقَالَ: مُذْ كَمْ تُصَلِّي هَكَذَا، فَقَالَ: مُذْ كَذَا، فَقَالَ: إنَّكَ لَمْ تُصَلِّ مُنْذُ كَذَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ سَمَاعًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ رَجُلٌ وَصَلَّى وَخَفَّفَ فَلَمَّا خَرَجَ أَسَاءُوا الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالُوا: أَخَّرَهَا ثُمَّ لَمْ يُحْسِنْ أَدَاءَهَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَلَا أَحَدٌ يَشْتَرِي صَلَاتَهُ مِنْهُ، فَخَرَجَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاشْتَرَاهَا بِدِرْهَمٍ فَأَبَى فَمَا زَالَ يَزِيدُ حَتَّى ضَجِرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا مَا بِعْتُكَهَا، فَعَادَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ الْمُصَلِّينَ» فَقَدْ جَعَلَ فِعْلَهُ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ صَلَاةِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَنْقُرُونَ نَقْرًا، فَقَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءَ، وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْيَقِينِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى فَبَقِيَتْ الرُّكْنِيَّةُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِلْإِكْمَالِ، وَلَكِنَّ تَرْكَ مَا هُوَ لِإِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ مِمَّا لَيْسَ بِرُكْنٍ لَا يُفْسِدُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِيمَا عَلَّمَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: «إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتْمَمْتَ صَلَاتَكَ، وَإِنْ نَقَصْتَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَتْ صَلَاتُكَ». إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُكْنٌ، فَإِنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ السَّجْدَةَ فِي الرُّكُوعِ إمَّا السَّجْدَةَ الصَّلَاتِيَّةَ أَوْ التِّلَاوِيَّةَ فَخَرَّ لَهَا سَاجِدًا وَلَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ الْقَوْمَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الرُّكُوعِ لِيَأْتِيَ بِتِلْكَ الْقَوْمَةِ. وَعِنْدَنَا تِلْكَ الْقَوْمَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فَتَرْكُهَا لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْأَوْلَى الْإِعَادَةُ لِيَأْتِيَ بِهَا. ثُمَّ قَدْرُ الرُّكْنِ مِنْ الرُّكُوعِ أَدْنَى الِانْحِطَاطِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى رَاكِعًا فِي النَّاسِ، وَفِي السُّجُودِ إمْسَاسُ جَبْهَتِهِ أَوْ أَنْفِهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الرَّفْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَدْرُ مَا يُزَايِلُ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ الْأَرْضَ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الْفَصْلُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْفَعَ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى السُّجُودِ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. قَالَ: (وَإِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ يَقْضِي قَالَ: يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ)، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِي كَمَا فَاتَهُ، وَيُؤَيَّدُ هَذَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الرَّكْعَةَ ثَانِيَةُ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الثَّالِثَةُ لِلْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى فِي حَقِّهِ هَذِهِ الرَّكْعَةُ، وَرُوِيَ أَنْ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اُبْتُلِيَا بِهَذَا، فَصَلَّى جُنْدُبٌ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ، وَمَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى، فَسَأَلَا عَنْ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَقَالَ: كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: كِلَاكُمَا أَصَابَ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا الْحَقُّ فَوَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، ثُمَّ مَا يُصَلِّي الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتِ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فِعْلًا وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْآخِرُ إلَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّهِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُؤَدِّيًا لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» فَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ مَعَ الْإِمَامِ مَا أَدْرَكَ لَا مَا فَاتَهُ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ هَكَذَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لَلَزِمَهُ الْقُنُوتُ فِيمَا يَقْضِي، فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ فَتَتِمُّ الصَّلَاةُ بِقَعْدَةٍ هِيَ رُكْنٌ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا قَعَدَ إذَا صَلَّى رَكْعَةً، وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى الْبَنَّاءِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَ بِمَا قُلْنَا، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ: هَذِهِ صَلَاةٌ مَعْكُوسَةٌ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا أَفْلَحْتَ، قَالَ: وَكَانَ كَمَا قَالَ: أَفْلَحَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُفْلِحْ بِدُعَائِهِ. قَالَ: (وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ شَيْءٌ أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» وَكَانَتْ الْعَنَزَةُ تُحْمَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُرْكَزُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، حَتَّى قَالَ عَوْنُ بْنُ جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَطْحَاءِ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، فَرَكَزَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا»، وَإِنَّمَا قَالَ: بِقَدْرِ ذِرَاعٍ طُولًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَرْضَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ السَّهْمُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا دُونَ هَذَا لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، (وَإِذَا اتَّخَذَ السُّتْرَةَ فَلْيَدْنُ مِنْهَا) لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيُرْهِقْهَا»، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ، فَصَلَاتُهُ جَائِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِاِتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى عَيْنِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَمْنَعُ تَرْكُهُ جَوَازَ الصَّلَاةِ. وَإِنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يُفْسِدُ صَلَاتَهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا رَدَّتْهُ «عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، فَإِنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةِ: يَا عُرْوَةُ مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِرَاقِ.؟ قَالَ: يَقُولُونَ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ قَرَنْتُمُونِي بِالْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَرَادَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ فَوَقَفَ، ثُمَّ أَرَادَتْ زَيْنَبُ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقِفْ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ صَاحِبَاتِ يُوسُفَ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبهُنَّ اللِّئَامُ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ وَالْكَلْبِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَدِيثَ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: زُرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَخِي الْفَضْلِ عَلَى حِمَارٍ فِي الْبَادِيَةِ فَنَزَلْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَالْحِمَارُ يَرْتَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ». وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الْمَارُّ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِكَيْ لَا يُشْغِلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ بِالْإِشَارَةِ أَوْ الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ مَشْيٌ وَلَا عِلَاجٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنْ لَمْ يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ ابْنُ مَرْوَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ، فَلَمَّا حَاذَاهُ ضَرَبَهُ عَلَى صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 اسْتِهِ، فَجَاءَ إلَى أَبِيهِ يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي، فَقَالَ: مَا ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ، قَالَ: لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» يَعْنِي بِأَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ. (وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَا عَلَيْهِ لَوَقَفَ، وَلَوْ إلَى أَرْبَعِينَ» وَلَمْ يُوَقِّتْ يَوْمًا وَلَا شَهْرًا وَلَا سَنَةً. (وَحَدُّ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِ، وَقِيلَ بِقَدْرِ الصَّفَّيْنِ)، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّي لَوْ صَلَّى بِخُشُوعٍ فَإِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ يُكْرَهُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ، وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ الْخَطَّ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أَوْ عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا» وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ لِهَذَا. قَالَ: (وَإِذَا انْفَرَدَ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ الصَّفِّ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ) وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» وَعَنْ فُرَافِصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: أَعِدْ صَلَاتَك فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ». (وَلَنَا) حَدِيثُ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِي وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا»، فَقَدْ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهَا وَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ صَلَاةَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا مَعَ النَّهْيِ عَنْ الِانْفِرَادِ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا «، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ ثُمَّ دَبَّ حَتَّى لَصِقَ بِالصَّفِّ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أَوْ قَالَ: لَا تُعِدْ»، فَقَدْ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ وَهُوَ خَلْفَ الصَّفِّ. يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِجَنْبِهِ مُرَاهِقٌ تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَصَلَاةُ الْمُرَاهِقِ تَخَلُّقٌ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْفَرِدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِجَنْبِهِ كَانَ مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ نَفْيُ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ نَاحِيَةٍ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَخْتَلِطَ بِالصَّفِّ إنْ وَجَدَ فُرْجَةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ يَنْتَظِرُ مَنْ يَدْخُلُ فَيَصْطَفَّانِ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةَ جَذَبَ مِنْ الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لِكَيْ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْجَرَّ إلَيْهِ أَحَدٌ حِينَئِذٍ يَقِفُ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْمُقْتَدِي حَائِطٌ أَجْزَأَتْهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُجْزِئُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ. وَفِي الْحَاصِلِ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْحَائِطُ قَصِيرًا دَلِيلًا يَعْنِي بِهِ الصَّغِيرَ جِدًّا حَتَّى يَتَمَكَّنَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ أَوْ خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ: لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ أَنَّهُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ كَالصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ يَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَيْسَ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ طَرِيقٌ تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا طَرِيقٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّهْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجِدَارِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً عَلَى الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ بِاتِّصَالِ الصُّفُوفِ خَرَجَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا لِلنَّاسِ وَصَارَ مُصَلًّى فِي حُكْمِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ فَبِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ صَارَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ. قَالَ: (وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ) يَعْنِي الْمُقْتَدِي، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُقْتَدِي إذَا فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْمُصَلِّي، وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إذَا فَتَحَ عَلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ، وَالْقَارِئُ إذَا اسْتَفْتَحَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ مَا قَرَأْتَ مَاذَا فَذَكِّرْنِي، وَاَلَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ مَا قَرَأْتُ كَذَا فَخُذْ مِنِّي، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَشْكُلْ فَسَادُ صَلَاةِ الْمُصَلِّي، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ هَكَذَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ حَرْفًا، فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فَرَغَ قَالَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ فَقَالَ ظَنَنْتُ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَقَالَ: لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ بِهَا» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَابْنُ عُمَرَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ سُورَةً، فَقَالَ نَافِعٌ: {إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] فَقَرَأَهَا، وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَقْصِدُ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ، فَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فَلِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِ قُلْنَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَبِهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُحْوِجَهُ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَرْكَعُ أَوْ يَتَجَاوَزُ إلَى آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَخَافَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَحِينَئِذٍ يُفْتَحُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَهُوَ مُلِيمٌ أَيْ مُسْتَحِقُّ اللُّوَّمِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَجَ الْمُقْتَدِيَ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْوِي بِالْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ التِّلَاوَةَ وَهُوَ سَهْوٌ، فَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالْفَتْحُ عَلَى إمَامِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يَدَعُ نِيَّةَ مَا رُخِّصَ لَهُ بِنِيَّةِ شَيْءٍ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. قَالَ: (وَقَتْلُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» «وَلَدَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْرَبٌ فِي صَلَاتِهِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ نَعْلَهُ وَغَمَزَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تُبَالِي نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ، أَوْ قَالَ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ»، وَلِأَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ ذَاكَ وَقِيلَ: هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُ الْحَيَّةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَقْرَبِ، فَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى مُعَالَجَةٍ وَضَرَبَاتٍ فَلْيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ قَاتَلَ إنْسَانًا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ كَثِيرٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُصَلِّي فَهُوَ كَالْمَشْيِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤِ، وَإِذَا رَمَى طَائِرًا بِحَجَرٍ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ أَذَاهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي أَذَى الطَّيْرِ مَا يُحْوِجُهُ إلَى هَذَا لِدَفْعِ أَذَاهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ فِيهِ. وَإِنْ أَخَذَ قَوْسًا وَرَمَى بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَابُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالُوا: الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ إسْقَاطُهُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: يَرْمِي إذَا رَمَى بِالسَّهْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لِمُحَمَّدٍ كَانَ تَعْلِيمَ عَامَّةِ النَّاسِ، وَوَجَدَ هَذَا اللَّفْظَ مَعْرُوفًا فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ فَلِهَذَا ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ أَخْذَ الْقَوْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَتَثْقِيفَ السَّهْمِ عَلَيْهِ وَالْمَدُّ حَتَّى رَمَى عَمَلٌ كَثِيرٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ، وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مُفْسِدًا لِهَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّهَنَ أَوْ سَرَّحَ رَأْسَهُ أَوْ أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ حَتَّى قَالُوا إذَا زَرَّ قَمِيصَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا حَلَّ إزَارَهُ لَمْ تَفْسُدْ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ إذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ، فَمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ إذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَمَلَتْ صَبِيَّهَا أَوْ أَرْضَعَتْهُ لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيَتْ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ»، فَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ لَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةَ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ بُكَائِهِ. وَإِنْ قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِالْقِتَالِ فَلَوْ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِحَالِ الْمُصَلِّي مَا يُذَكِّرُهُ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْأَكْلِ، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ، وَفِي الصَّوْمِ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالِهِ مَا يُذَكِّرُهُ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَمْنَعُهُ مَا يُؤَدِّي إلَى الْأَكْلِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي الطَّعَامِ، ثُمَّ الْأَكْلُ عَمَلٌ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ مَضْغُ الْعِلْكِ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِرِيقِهِ فَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ، وَهَذَا إذَا كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ، فَإِنْ ذَلِكَ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ إنْ قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ فَقَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا خُصُوصًا فِي لَيَالِيِ رَمَضَانَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ الْفِطْرِ، فَلِلْبَلْوَى قُلْنَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى الْمُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَانْفَتَلَ فَغَسَلَهُ لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ)، وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يَبْنِي؛ لِأَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، فَقَدْ رَوَيْنَا فِي الرُّعَافِ، وَمَنْ رَعَفَ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ أَنْفِهِ إلَى الْوُضُوءِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ ثَمَّةَ فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْآثَارِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ هُنَاكَ كَانَ لِلْوُضُوءِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَالِانْصِرَافَ هَاهُنَا لِغَسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْ الثَّوْب، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَيُلْقِي مَا تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَقُلْنَا: لَا يَبْنِي. قَالَ: (وَإِنْ سَالَ مِنْ دُمَّلٍ بِهِ دَمٌ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ رَعَفَ) وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا إذَا سَالَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَمَّا إذَا عَصَرَهُ حَتَّى سَالَ أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رُكْبَتَيْهِ فَانْفَتَحَ مِنْ اعْتِمَادِهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي سُجُودِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، قَالَ عَلِيٌّ لَا يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ بُنْدُقَةٌ فَشَجَّتْهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْنِي إذَا تَوَضَّأَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ فِي الْمِحْرَابِ اسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ سَبَقَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ كَالْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَيَمْنَعُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِصُنْعِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَدَثَ السَّمَاوِيَّ الْعُذْرُ الْمَانِعُ مِنْ الْمُضِيِّ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ، وَهُنَا الْعُذْرُ مِنْ غَيْرِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ لَا يُعِيدُ إذَا بَرَأَ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ آهٍ قَتَلَنِي الْكَلْبُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَهَذَا كَلَامٌ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: (وَإِنْ نَامَ فِي صَلَاتِهِ فَاحْتَلَمَ فِي الْقِيَاسِ يَغْتَسِلُ وَيَبْنِي) يُرِيدُ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فِي الْحَدَثِ الصُّغْرَى وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاغْتِسَالِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّي قَدْ يُبْتَلَى بِالْحَدَثِ الصُّغْرَى عَادَةً فَمِنْ النَّادِرِ أَنْ يُبْتَلَى بِالْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلِاغْتِسَالِ، وَالنَّادِرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. قَالَ: (وَإِذَا سَقَطَ عَنْ الْمُصَلِّي ثَوْبَهُ فَقَامَ عُرْيَانًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَذَكَّرَ مِنْ سَاعَتِهِ فَتَنَاوَلَ ثَوْبَهُ وَلَبِسَهُ، فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ)، وَفِي الْقِيَاسِ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ لِوُجُودِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَا ابْتَدَأَهَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الِانْكِشَافُ الْكَثِيرُ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الِانْكِشَافِ الْيَسِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ رُكْنًا وَلَمْ يَمْكُثْ عُرْيَانًا بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فَإِنْ مَكَثَ عُرْيَانًا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَالَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، فَإِنْ أَلْقَى النَّجَسَ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ. [صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَرُبُعُ سَاقِهَا مَكْشُوفٌ] قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَرُبُعُ سَاقِهَا مَكْشُوفٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ)، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُعِدْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُعِيدُ حَتَّى يَكُونَ النِّصْفُ مَكْشُوفًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَالْمُرَادُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لَأَجْلِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَأْسُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ صَلَاةَ بَالِغَةٍ، فَإِنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي. ثُمَّ الْقَلِيلُ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ نَظِيرُ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَدَلِيلُنَا فِيهِ ضَرُورَةٌ وَبَلْوًى خُصُوصًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا الْخَلِقَ مِنْ الثِّيَابِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَؤُمُّ أَصْحَابِي يَعْنِي الصِّبْيَانَ عَلَى إزَارٍ مُتَخَرِّقٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لِأُمِّي غَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكِ فَدَلَّ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ، فَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ ذَلِكَ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا، وَإِذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْمَكْشُوفُ دُونَ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ كَثِيرٌ، وَفِي النِّصْفِ سَوَاءٌ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فِي إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الِانْكِشَافَ الْكَثِيرَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ. وَفِي الْأُخْرَى اسْتَوَى الْجَانِبُ الْمُفْسِدُ وَالْمُجَوِّزُ فَيُغَلَّبُ الْمُفْسِدُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا الْكَثِيرَ بِالرُّبُعِ، فَإِنَّ الرُّبْعَ يَحْكِي الْكَمَالَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْحَ بِرُبُعِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ بِجَمِيعِهِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ فُلَانًا، وَإِنَّمَا رَأَى أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الرَّأْسِ كَذَلِكَ فِي الْبَطْنِ وَالشَّعْرِ وَالْفَخِذِ، فَأَمَّا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِمَا بِالدِّرْهَمِ دُونَ الرُّبُعِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ غَلِيظَةٌ فَتُقَاسَ بِالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إظْهَارُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّ الدُّبُرَ مُقَدَّرٌ بِالدِّرْهَمِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ إذَا انْكَشَفَ الدُّبُرُ يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الصَّلَاةُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبُعِ فِي الْكُلِّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الزِّيَادَاتِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ وَشَيْءٌ مِنْ رَأْسِهَا وَشَيْءٌ مِنْ بَطْنِهَا وَشَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا بَادٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إذَا جُمِعَ بَلَغَ قَدْرَ رُبُعِ عُضْوٍ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ) وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَتَقْعُدُ الْمَرْأَةُ فِي صَلَاتِهَا كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا) لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةَ: ضُمِّي بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى الْأَرْضِ»، وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى التَّسَتُّرِ فِي خُرُوجِهَا، فَكَذَلِكَ فِي صَلَاتِهَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَتَّرَ بِقَدْرِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ». قَالَ: (رَجُلٌ دَعَا فِي صَلَاتِهِ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى - الرِّزْقَ وَالْعَافِيَةَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَأَمَّا فِي سُجُودِكُمْ فَاجْتَهِدُوا بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ بِمَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ دَعَا بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَلْبِسْنِي ثَوْبًا اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلَانَةَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ وَالْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ»، وَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي حُرُوبِهِ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَدْعُو عَلَى مَنْ نَاوَاهُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ، وَقَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَهُوَ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى ابْنًا لَهُ يَدْعُو فِي صَلَاته فَقَالَ: إيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] ثُمَّ قَالَ أَمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَأَعِدْ صَلَاتَكَ. وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَمَا كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ، وَمِنْ الشَّعْرِ مَا هُوَ ذِكْرٌ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قَالَ: (وَإِذَا مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ، أَوْ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْهَا فَهُوَ حَسَنٌ فِي التَّطَوُّعِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ) لِحَدِيثِ «حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قَالَ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ»، فَأَمَّا إذَا كَانَ إمَامًا كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَرُبَّمَا يَمَلُّ الْقَوْمُ بِمَا يَصْنَعُ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي خُشُوعِهِ، وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ بِالِاسْتِمَاعِ أُمِرُوا وَإِلَى الْإِنْصَاتِ نُدِبُوا وَعَلَى هَذَا وُعِدُوا الرَّحْمَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. وَيَتَرَتَّبُ هَذَا الْفَصْلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْرَأُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إلَّا أَنَّ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوَانَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُنْصِتُ حَتَّى يَقْرَأَ الْمُقْتَدِي الْفَاتِحَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَفِي حَدِيثِ «عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُنَّ خَلْفِي، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: لَا تَقْرَؤُنَّ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَسْقُطُ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامُ فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَةِ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ قَدْ تَسْقُطُ بَعْضُ الْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِيَامَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ رُكْنٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ هَذَا لِلضَّرُورَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُقْتَدِي وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَالِ الْخُطْبَةِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَفِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وَمَنْعُ الْمُقْتَدِي مِنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مَرْوِيٌّ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَمَعَ أَسَامِيَهُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِعَيْنِهَا بَلْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاِتَّخَذَ النَّاسُ تِلَاوَتَهُ عَمَلًا، وَحُصُولُ هَذَا الْمَقْصُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَسَمَاعُ الْقَوْمِ، فَإِذَا اشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ لَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخُطْبَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْوَعْظُ وَالتَّدَبُّرُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ وَيَسْتَمِعَ الْقَوْمُ لَا أَنْ يَخْطُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَرْكَانِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي لَمَا سَقَطَ بِهَذَا الْعُذْرِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يُقَالُ إنَّ رُكْنَ الْقِيَامِ يَسْقُطُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا، وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ تَصِيرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا أَنَّ بِخُطْبَةِ الْإِمَامِ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا بِالْخُطْبَةِ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُكْنًا فِي الِابْتِدَاء، ثُمَّ مَنَعَهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ خَلْفَهُ قَالَ مَالِي أُنَازَعُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقِرَاءَةُ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ أَأَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ.؟ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ. قَالَ: (وَإِذَا مَرَّتْ الْخَادِمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ لِيَصْرِفَهَا لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ) لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ عَلَى زَيْنَبَ فَلَمْ تَقِفْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ» قَالَ فِي الْكِتَابِ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعْنَاهُ وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِنَّ لَهُ بِأَحَدِهِمَا كِفَايَةً فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ أُسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لِي مَدْخَلَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ، فَكُنْتُ إذَا أَتَيْتُ الْبَابَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ» وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا صِيَانَةً، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حَتَّى يُبْتَلَى هُوَ بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُوءُهُ فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ جَوَابَهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ جَوَابَهُ لَمْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى قَصْدِ التَّكَلُّمِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ كَانَ جَوَابًا، وَمَعْنَى اسْتِرْجَاعِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَشْكُلْ فَسَادُ صَلَاتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَهُ بِالِاسْتِرْجَاعِ، وَإِذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أُخْبِرَ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَرَادَ جَوَابَ الْمُخْبِرِ فَقَدْ قَطَعَ صَلَاتَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ التَّحْمِيدُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» فَمَا تَلَفَّظَ بِهِ شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ، فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إنَّمَا تَفْسُدُ بِنِيَّتِهِ، وَمُجَرَّدُ نِيَّةِ الْكَلَامِ غَيْرُ مُفْسِدٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ، وَمَنْ سَلَّمَ قَالَ: الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ، وَالتَّحْمِيدُ إظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَبَّحَ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ وَلَا عَجَبٍ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَذَا» وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُسَبِّحًا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعَجُّبَ فَثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّعَجُّبَ كَانَ مُتَعَجِّبًا لَا مُسَبِّحًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ، فَمَنْ رَأَى رَجُلًا اسْمُهُ يَحْيَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ فَقَالَ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ بِهِ خِطَابَهُ لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ لَا قَارِئٌ، وَإِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي: بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْت فَقَالَ: بِبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَأَرَادَ الْجَوَابَ لَا يَشْكُلُ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِهِ، وَإِذَا أَنْشَدَ شِعْرًا فِيهِ ذَكَرُ اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَشْكُلْ أَنَّهُ كَانَ مُنْشِدًا لَا ذَاكِرًا حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُكْرَهُ لِحَدِيثِ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا حَمْلُ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ، وَلَوْ حَمَلَ شَيْئًا آخَرَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ الْمُصْحَفُ إلَّا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّا نَأْكُلُ كَمَا يَأْكُلُونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَالتَّفَكُّرَ فِيهِ لِيَفْهَمَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، كَالرَّمْيِ بِالْقَوْسِ فِي صَلَاتِهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: إذَا كَانَ الْمُصْحَفُ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ قَرَأَ بِمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمِحْرَابِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ يُلَقَّنُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَكَأَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُصْحَفِ يُسَمَّى صُحُفِيًّا، وَمِنْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 يُحْسِنُ قِرَاءَةَ شَيْءٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ يَكُونُ أُمِّيًّا يُصَلِّي بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ مُتَعَلِّمٌ مِنْ الْمُصْحَفِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي يَدَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ ذَكْوَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ، إنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْرَأُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِفَرْضٍ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى وَمَعَهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ مَدْبُوغٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ عِنْدَهُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا إلَّا فِي الْجَامِدِ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ اللَّيْثِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَفِيهِ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ». (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْإِهَابُ اسْمُ الْجِلْدِ لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا دُبِغَ يُسَمَّى أَدِيمًا، ثُمَّ الْمُحَرَّمُ بِالْمَوْتِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَصْلَحَةِ الْأَكْلِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَبِالدِّبَاغِ خَرَجَ الْجِلْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ نَجَاسَتَهُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالدِّبَاغِ فَصَارَ طَاهِرًا كَالْخَمْرِ تَخَلَّلَ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الدَّبَّاغِ عِنْدَنَا مَا يَعْصِمُهُ مِنْ النَّتْنِ وَالْفَسَادِ، حَتَّى إذَا شَمَّسَهُ أَوْ تَرَّبَهُ كَانَ ذَلِكَ دِبَاغًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَكُونُ دِبَاغًا إلَّا بِمَا يُزِيلُ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّبِّ وَالْقَرْضِ وَالْعَفْصِ (وَدَلِيلُنَا) فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَى فِيهِ الدُّسُومَاتُ النَّجِسَةُ، فَإِنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ فِيهِ لَأَنْتَنَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ جُلُودُ السِّبَاعِ عِنْدَنَا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، وَقَاسَ بِجِلْدِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ. (وَلَنَا) عُمُومُ الْحَدِيثِ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَمَا طَهُرَ مِنْ لُبْسِ النَّاسِ كَجِلْدِ الثَّعْلَبِ وَالْفِيلِ وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ، فَأَمَّا جِلْدُ الْخِنْزِيرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَيْضًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ، فَإِنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا لِلْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا لَا يَطْهُرُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ الْمُطَهِّرَ وَهُوَ الدِّبَاغُ، أَوْ لِأَنَّ عَيْنَهُ نَجِسٌ وَجِلْدَهُ مِنْ عَيْنِهِ، فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ النَّجَسُ مَا اتَّصَلَ بِالْعَيْنِ مِنْ الدُّسُومَاتِ ، وَعَلَى هَذَا جِلْدُ الْكَلْبِ يَطْهُرُ عِنْدَنَا بِالدِّبَاغِ، وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَطْهُرُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْكَلْبِ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مُبَاحٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَلَوْ كَانَ عَيْنُهُ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ فَصَلَّى فِيهِ أَوْ صَلَّى وَمَعَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِلنَّجَاسَةِ، وَإِنْ صَلَّى وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَافِهَا وَشُعُورِهَا أَوْ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيهِمَا حَيَاةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْعَظْمِ حَيَاةٌ دُونَ الشَّعْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] وَلِأَنَّهُ يَنْمُو بِتَمَادِي الرُّوحِ فَكَانَ فِيهِ حَيَاةٌ فَيُحِلُّهُ الْمَوْتُ فَيَتَنَجَّسُ بِهِ وَمَالِكٌ يَقُولُ: الْعَظْمُ يَتَأَلَّمُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي السِّنِّ بِخِلَافِ الشَّعْرِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ مُبَانٌ مِنْ الْحَيِّ فَلَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فَلَوْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ لَمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْعَظْمَ يَتَأَلَّمُ بَلْ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَاللَّحْمُ يَتَأَلَّمُ، وَبَيْنَ النَّاسِ كَلَامٌ فِي السِّنِّ أَنَّهُ عَظْمٌ أَوْ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ، فَإِنَّ الْعَظْمَ لَا يَحْدُثُ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] أَيْ النُّفُوسَ، وَفِي الْعَصَبِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا حَيَاةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَكَةِ وَيُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ الْحَيُّ بِقَطْعِهِ، بِخِلَافِ الْعَظْمِ فَإِنَّ قَطْعَ قَرْنِ الْبَقَرَةِ لَا يُؤْلِمُهَا، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِظَامِ حَيَاةٌ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ «مَرَّ بِشَاةٍ مُلْقَاةٍ لِمَيْمُونَةَ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا مَيِّتَةُ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَصْلَحَةِ الْأَكْلِ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ. وَعَلَى هَذَا شَعْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَلَقَ شَعْرَهُ قَسَمَ شَعْرَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا جَازَ لَهُمْ التَّبَرُّكُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ عَظْمُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ، وَاَلَّذِي قِيلَ إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مَعَ الْحِنْطَةِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ لَا لِنَجَاسَتِهِ. فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ عَظْمُهُ وَعَصَبُهُ فِي النَّجَاسَةِ كَلَحْمِهِ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْخَرَّازِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَفِي طَهَارَتِهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ طَاهِرٌ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ جَائِزًا وَلِهَذَا جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ لَا يَتَأَدَّى بِهِ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَهُوَ نَجِسٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُوا مَوْضِعَهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ أَلْحَقَ الْفِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بِالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ عَظْمُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ سِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» وَظَهَرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ الْعَاجَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَتِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى وَقُدَّامُهُ عَذِرَةٌ قَالَ: لَا يُفْسِدُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ)؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وُجِدَ فَالنَّجَاسَةُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا تَضُرُّهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْعُدَ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لِمَكَانِ الصَّلَاةِ حُرْمَةً فَيُخْتَارُ لَهَا أَقْرَبُ الْأَمَاكِنِ إلَى الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَتَأَدَّى عَلَى مَكَان نَجِسٍ، وَكَوْنُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ كَكَوْنِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِوَضْعِ الْأَرْنَبَةِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَذَلِكَ دُونَ مِقْدَارِ الدِّرْهَمِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّجُودَ فَرْضٌ، فَإِذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ تَأَدَّى الْفَرْضُ بِالْكُلِّ كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ أَوْ طَوَّلَ الرُّكُوعَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ، وَأَدَاءُ الْكُلِّ بِالْفَرْضِ فِي الْمَكَانِ النَّجَسِ لَا يَجُوزُ، وَالْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا سَجَدَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ ثُمَّ أَعَادَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ جَازَ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ قَدْ فَسَدَتْ بِأَدَائِهَا عَلَى مَكَان نَجِسٍ، وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا فَسَدَ بَعْضُهَا فَسَدَ كُلُّهَا كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى النَّجَاسَةِ عِنْدَ التَّحْرِيمِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرُّكْنَ لَا يَتَأَدَّى عَلَى مَكَان نَجِسٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهَا أَصْلًا حَتَّى أَدَّاهَا عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَهَكَذَا نَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَ التَّحَرُّمِ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّمْ لِلصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْكَفَّيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ جَازَتْ صَلَاتَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ السَّجْدَةِ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْوَجْهِ جَمِيعًا فَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الرُّكْبَتَيْنِ كَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْوَجْهِ، فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَا إذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ النَّجِسِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَهُ بُدٌّ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ كَمَا بِالِاكْتِفَاءِ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ. (وَلَنَا) أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ عَلَى مَكَان نَجِسٍ كَتَرْكِ الْوَضْعِ أَصْلًا، وَتَرْكُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ فِي السُّجُودِ لَا يَمْنَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الْجَوَازَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِثْلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ عَاقِصٌ شَعْرَهُ كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَجْهَ، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَضْعِ فِيهِ يَمْنَعُ جَوَازَ السُّجُودِ، بِخِلَافِ الثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ اللَّابِسَ لِلثَّوْبِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ، فَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، فَلِهَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ كَانَ يُمْسِكُهُ بِيَدِهِ، وَالْمُصَلِّي لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلْمَكَانِ حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ الطَّرِيقُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهُ أَصْلًا. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى عَلَى مَكَان مِنْ الْأَرْضِ قَدْ كَانَ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا) وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ طَهَارَةُ الْمَكَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِدَلِيلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ زَكَتْ» أَيْ طَهُرَتْ وَقَالَ: «زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» ثُمَّ النَّجَاسَةُ تَحْرِقُهَا الشَّمْسُ وَتُفَرِّقُهَا الرِّيحُ وَتُحَوِّلُ عَيْنَهَا الْأَرْضُ وَيُنَشِّفُهَا الْهَوَاءُ فَلَا تَبْقَى عَيْنُهَا بَعْدَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا فَتَعُودُ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْضِعٍ تَقَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ لَا تَقَعُ وَبَيْنَ مَوْضِعٍ فِيهِ حَشِيشٌ نَابِتٌ أَوْ لَيْسَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَشِيشَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَوْضِعَ مَاءٌ فَابْتَلَّ أَوْ أُلْقِيَ مِنْ تُرَابِهِ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَعُودُ نَجِسًا كَمَا قَبْلَ الْجَفَافِ، وَالْأُخْرَى وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا إصَابَةُ الْمَاءِ وَالْمَاءُ لَا يُنَجِّسُ شَيْئًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْبِسَاطَ فَذَهَبَ أَثَرُهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَاءِ الْبِسَاطِ فَلَا يُخْرِجُهَا إلَّا الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، وَلَيْسَ مِنْ طَبْعِ الْبِسَاطِ أَنْ يُحَوِّلَ شَيْئًا إلَى طَبْعِهِ، وَمِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ تَحْوِيلُ الْأَشْيَاءِ إلَى طَبْعِهَا، فَإِنَّ الثِّيَابَ إذَا طَالَ مُكْثُهَا فِي التُّرَابِ تَصِيرُ تُرَابًا، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ النَّجَاسَةُ إلَى طَبْعِ الْأَرْضِ بِذَهَابِ أَثَرِهَا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ الْمَوْضِعِ لِهَذَا، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ بَاقِيًا لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ طَهُورَ الْأَثَرِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الثَّلْجِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِدُ جَبِينُهُ حَجْمَ الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَلَبِّدًا حَتَّى لَا يَجِدَ جَبِينُهُ حَجْمَ الْأَرْضِ حِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السُّجُودِ عَلَى الْهَوَاءِ عَلَى هَذَا السُّجُودِ عَلَى الْحَشِيشِ أَوْ الْقُطْنِ إنْ شُغِلَ جَبِينُهُ فِيهِ حَتَّى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى عَلَى طِنْفِسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ إذَا كَانَ مُتَلَبِّدًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 عَشْرِ طَنَافِسَ أَوْ أَكْثَرَ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدَّ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّ «سَائِلًا سَأَلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - هَلْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَصِيرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى - {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] فَقَالَتْ: لَا» وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شَاذٌّ فَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِقِطْعَةِ حَصِيرٍ، وَمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] أَيْ مُحْتَبَسًا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّلَاةُ عَلَى مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَا لَمْ تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، فَلِهَذَا اخْتَارُوا الْحَشِيشَ وَالْحَصِيرَ عَلَى الْبِسَاطِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ مَخْرَجٍ) لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَتْ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْ الْأَقْذَارِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هَذَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا فِي مَسْجِدِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ وَلِلنَّاسِ فِيهِ بَلْوَى، بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا، وَأَصْلُ النَّهْيِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ الْمَجْزَرَةُ وَالْمَزْبَلَةُ وَالْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ وَقَوَارِعُ الطَّرِيقِ وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» فَأَمَّا الْمَجْزَرَةُ وَالْمَزْبَلَةُ فَمَوْضِعُ النَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا لِانْعِدَامِ شَرْطِهَا وَهُوَ الطَّهَارَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَسْجِدًا» وَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى قَبْرٍ فَنَادَاهُ الْقَبْرَ الْقَبْرَ فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَقُولُ: الْقَمَرَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى بَيَّنَهُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَالْجُهَّالُ يَسْتَتِرُونَ بِمَا يُشْرِفُ مِنْ الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ، فَعَلَى هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي الْحَمَّامِ أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً. فَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى فِي مَوْضِعِ جُلُوسِ الْحَمَّامِي لَا يُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى هَذَا الْكَرَاهَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ سَوَاءٌ غُسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَوْ لَمْ يُغْسَلْ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي قَوَارِعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمَارُّ، فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يُصَلِّي عَلَى الطَّرِيقِ فِي الْبَادِيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِي قَوَارِعِ الطُّرُقِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ قِيلَ: لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَةِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» وَفِيمَا يَكُونُ مِنْهَا الْمَعَاطِنُ وَالْمَرَابِضُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَصُولُ عَلَى الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهَذَا لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ الْغَنَمِ. وَأَمَّا فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ، النَّهْيُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عَنْ الصُّعُودِ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا النَّهْيُ لِإِفْسَادِ صَلَاتِهِ، حَتَّى إذَا صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ. قَالَ: (وَمَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ) لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اُسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ حِينَ طَلَبَ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَسِّعَ الْمَسْجِدَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ هَذَا مَسْجِدٌ بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَعَهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ كَانَ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ شَرِيكِهِ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظَهْرُ الْقَدَمِ، فَأَمَّا إذَا سَجَدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَهُوَ رَاكِعٌ لَا سَاجِدٌ فَلَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ. وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوْ الْجُمُعَةُ أَجْزَأَهُ أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ فَالْعِلْمُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ وَالْبِنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بِمَ أَهْلَلْتُمَا فَقَالَا بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمَا» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا وَقْتَ الْإِهْلَالِ، فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لَمْ يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ إذَا كَانَ إمَامُهُ فِي الْجُمُعَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي غَيْرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: إذَا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةَ، فَإِذَا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَعْتَبِرُ بِمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو، وَكَانَ الِاقْتِدَاءُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ، فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْمَكْتُوبَةَ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ)؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ تَنْقِيصُ الْقِيَامِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَامِ فِي الْمَكْتُوبَةِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَنْقِيصُهُ بِالِاعْتِمَادِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الِاعْتِمَادَ فِي التَّطَوُّعِ فَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ يَجُوزُ فِي التَّطَوُّعِ فَتَنْقِيصُهُ أَوْلَى، وَقِيلَ: بَلْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ بَعْضَ التَّنَعُّمِ وَالتَّجَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي الْمَسْجِدِ حَبْلًا مَمْدُودًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا، فَقِيلَ: لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فَقَالَ لِتُصَلِّ فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ مَا بَسَطَتْ، فَإِذَا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ». قَالَ: (وَمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ حَتَّى قَرَأَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ) وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ تَنُوبُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ، وَالتَّحْرِيمُ لِلصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ يَكُونُ، فَإِذَا لَمْ يُكَبِّرْ لِلِافْتِتَاحِ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ قَائِمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ قَاعِدًا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْقُعُودُ فِي التَّطَوُّعِ بِلَا عُذْرٍ كَالْقُعُودِ فِي الْفَرْضِ بِعُذْرٍ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ الِابْتِدَاءِ أَوْ الْبَقَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَخِيَارُهُ فِيمَا لَمْ يُؤَدِّ بَاقٍ، وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا بَاشَرَ وَلَا صِحَّةَ لِمَا بَاشَرَ إلَّا بِهِ، وَلِلرَّكْعَةِ الْأُولَى صِحَّةٌ بِدُونِ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْعُذْرِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِيَامُ بِالشُّرُوعِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ فَهُوَ الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى صِفَةِ الْقِيَامِ وَلَا رِوَايَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ فَقِيلَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ التَّطَوُّعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ فِي الشُّرُوعِ، فَإِنْ افْتَتَحَهَا قَاعِدًا فَقَضَى بَعْضَهَا قَائِمًا وَبَعْضَهَا قَاعِدًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ أَوْ نَحْوُهَا قَامَ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ» فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي التَّطَوُّعِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ)؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَمْ يَصِحَّ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ وَالْإِتْمَامِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ (وَإِنْ افْتَتَحَهَا نِصْفَ النَّهَارِ أَوْ حِينَ تَحْمَرُّ الشَّمْسُ أَوْ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَإِنْ صَلَّى كَذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا يَبْنِي عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا شُرِعَ فِيهَا، وَإِنْ قَطَعَهَا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ بِالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ يَوْمَ النَّحْرِ، لَعَلَّهُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ، وَالْفَرْقُ لَنَا أَنَّ بِالشُّرُوعِ هُنَاكَ يَصِيرُ صَائِمًا مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ، وَهَا هُنَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ لَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ وَارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فِيهِ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ إلَّا بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ، وَهَا هُنَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَذْهَبَ الْوَقْتُ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُ الْقَضَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ أَنَّ الشُّرُوعَ كَالنَّذْرِ، وَالنَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ الشُّرُوعُ، فَأَمَّا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَا يَصِحُّ وَهُنَا مَسَائِلُ. إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عُرْيَانًا أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ مَا سَمَّى فِي الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ وَمَا زَادَ فِي كَلَامِهِ فَهُوَ لَغْوٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَا سَمَّاهُ فِي نَذْرِهِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا سَمَّى مَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَهُ بِحَالٍ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا سَمَّى مَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ تَلْزَمُهُ. قَالَ: (وَإِنْ افْتَتَحَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ قَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَامِلَةٌ ابْنَتَهَا أَجْزَأَهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَكَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا» قَالَ: (وَهِيَ مُسِيئَةٌ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّهَا شَغَلَتْ نَفْسَهَا بِمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهَا، وَأَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِنْ سُنَّةِ الِاعْتِمَادِ (فَإِنْ قِيلَ:) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَفْعَلُ فِي صَلَاتِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ (قُلْنَا:) تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِمَادُ سُنَّةً. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَفِي فَمِهِ شَيْءٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ) وَهَذَا إذَا كَانَ فِي فَمِهِ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي فَمِهِ سُكَّرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ وَلِذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَفِّهِ مَتَاعٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الِاعْتِمَادَ أَوْ وَضَعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ. وَالْمُصَلِّي قَاعِدًا تَطَوُّعًا أَوْ فَرِيضَةً بِعُذْرٍ يَتَرَبَّعُ وَيَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَرَبِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ تَرْكُ أَصْلِ الْقِيَامِ فَتَرْكُ صِفَةِ الْقُعُودِ أَوْلَى، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْعُدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُؤَدِّي جَمِيعَ صَلَاتِهِ مُتَرَبِّعًا فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَعَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى فَوْقَ الْمَسْجِدِ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ أَجْزَأَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ بِحِذَائِهِ، فَإِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ افْتَتَحَهَا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ اقْتِدَاءَهُ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ بِمَنْزِلَةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَانِعٌ مِنْ الِاقْتِدَاءِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي بَيْتٍ فِي قِبْلَتِهِ تَمَاثِيلُ مَقْطُوعَةُ الرَّأْسِ) لِأَنَّ التِّمْثَالَ تِمْثَالٌ بِرَأْسِهِ فَبِقَطْعِ الرَّأْسِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تِمْثَالًا، بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَ إلَيْهِ ثَوْبٌ عَلَيْهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ مَحَا وَجْهَهُ» وَرُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ كَيْف أَدْخُلُ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ تِمْثَالُ خُيُولِ رِجَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَقْطَعَ رُءُوسَهَا أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ»، وَلِأَنَّ بَعْدَ قَطْعِ الرَّأْسِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ تَمَاثِيلِ الشَّجَرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إنَّمَا الْمَكْرُوهُ تِمْثَالُ ذِي الرُّوحِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ نَهَى مُصَوِّرًا عَنْ التَّصْوِيرِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَهُوَ كَسْبِي قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ، وَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ مَنْ صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ كَرِهْتُهَا فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِمَنْ يَعْبُدُ الصُّوَرَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَبْدُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لِلنَّاظِرِينَ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ الصُّورَةَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ مِنْهَا جِدًّا، وَقَدْ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي مُوسَى ذُبَابَتَانِ، وَلَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كَانَ عَلَى فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْكِي بِهَذَا الِابْتِدَاءِ، أَوْ لِأَنَّ التِّمْثَالَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلِنَا كَانَ حَلَالًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] وَكَمَا يُكْرَهُ فِي الْقِبْلَةِ يُكْرَهُ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ يَسَارِهَا؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ قَدْ جَاءَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى الْحَائِطِ الَّذِي هُوَ خَلْفَ الْمُصَلِّي فَالْكَرَاهَةُ فِيهِ أَيْسَرُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّشْبِيهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الصُّوَرَ تَنْعَدِمُ هُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأُزُرِ وَالسُّتُورِ، وَأَمَّا عَلَى الْبِسَاطِ فَنَقُولُ: اتِّخَاذُ الصُّورَةِ عَلَى الْبِسَاطِ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ الْوِسَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ إنْ كَانَتْ الصُّورَةُ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ أَوْ أَمَامَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بِتَقَرُّبِ الْوَجْهِ مِنْ الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ عَلَى كُلٍّ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: (رَجُلٌ قَارِئٌ دَخَلَ فِي صَلَاةِ أُمِّيٍّ تَطَوُّعًا أَوْ فِي صَلَاةِ امْرَأَةٍ أَوْ جُنُبٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا)؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ حِينَ اقْتَدَى بِمَنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَكُونُ بِالْإِفْسَادِ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ. قَالَ: (وَإِذَا وَقَفَتْ جَارِيَةٌ مُرَاهِقَةٌ تَعْقِلُ الصَّلَاةَ بِجَنْبِ رَجُلٍ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُمَا فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ) اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغَةِ تَخَلُّقٌ وَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَتُضْرَبُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَكَانَتْ كَالْبَالِغَةِ فِي الْمُشَارَكَةِ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْفَسَادُ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْتَهَى فَلَا يَصْفُو قَلْبُ الرَّجُلِ عَنْ الشَّهْوَةِ فِي حَالِ الْمُنَاجَاةِ عِنْدَ مُحَاذَاتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عُرْيَانَةً أَمَرْتُهَا أَنْ تُعِيدَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ لِتَتَعَوَّدَ فَلَا يُشَقُّ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَتْ، وَذَلِكَ إذَا أَدَّتْ بِصِفَةٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِحَالٍ، فَإِنْ أَدَّتْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ عُرْيَانَةً لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلِهَذَا أُمِرَتْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ، فِي الْقِيَاسِ تُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا إذَا صَلَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 عُرْيَانَةً؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنْهَا عَوْرَةٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: تُجْزِئُهَا صَلَاتُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» مَعْنَاهُ صَلَاةَ بَالِغَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغَةِ تَجُوزُ بِغَيْرِ الْخِمَارِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْبَالِغَاتِ مَنْ تُصَلِّي بِغَيْرِ قِنَاعٍ وَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ وَتَجُوزُ صَلَاتُهَا فَصَلَاةُ غَيْرِ الْبَالِغَةِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعُرْيَانَةِ. قَالَ: (وَلِلْأَمَةِ أَنْ تُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِنَاعٍ) لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى جَارِيَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: أَلْقِي عَنْكِ الْخِمَارَ يَا دَفَارِ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ فِيهِنَّ فَلَيْسَ لِرُءُوْسِهِنَّ حُكْمُ الْعَوْرَةِ، فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي صَلَاتِهَا أَخَذَتْ قِنَاعَهَا وَمَضَتْ فِي صَلَاتِهَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ تَسْتَقْبِلُ كَالْعُرْيَانَةِ إذَا وَجَدَتْ ثَوْبًا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فَرْضَ السَّتْرِ لَزِمَهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَقَدْ أَتَتْ بِهِ كَمَا لَزِمَهَا، بِخِلَافِ الْعُرْيَانَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّتْرِ كَانَ عَلَيْهَا الشُّرُوعُ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ عُرْيَانَةً بِعُذْرِ الْعَجْزِ، فَإِذَا أُزِيلَ اسْتَقْبَلَتْ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ، وَالْمُتَوَضِّئُ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. [بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ] الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] قَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ بَيَانُ حَالِ الْمَرِيضِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ «وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: كَيْفَ أُصَلِّي فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ» أَيْ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْكَ، وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرِيضُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقُعُودِ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَعَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّوْمِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ثُمَّ عَجَزَ، فَإِنَّهُ لَا يَصُومُ أَصْلًا وَهُنَا يُصَلِّي. وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الصَّوْمِ لَمَّا أَفْطَرَ فِي آخِرِ الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ مُعْتَدًّا فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قَعَدَ فِي آخِرِهِ، وَلَكِنَّ فِعْلَهُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَقَعَ مُعْتَدًّا فَيَشْتَغِلُ بِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَعَاجِزًا عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا بِإِيمَاءٍ وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَيْسَ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِهِ، فَكُلُّ قِيَامٍ لَا يَعْقُبُهُ سُجُودٌ لَا يَكُونُ رُكْنًا، وَلِأَنَّ الْإِيمَاءَ إنَّمَا شُرِعَ لِلتَّشَبُّهِ بِمَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَالتَّشَبُّهُ بِالْقُعُودِ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْمُومِئَ يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْبَهَ بِالسُّجُودِ إلَّا أَنَّ بِشْرًا يَقُولُ: إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ بِالْمَرَضِ مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ إتْيَانِهِ، فَأَمَّا فِيمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الِانْفِصَالَ عَنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقُعُودِ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَوَجْهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً» فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْجَنْبِ، وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَكَمَا إذَا اُحْتُضِرَ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ هَكَذَا يُصَلِّي أَيْضًا، وَكَذَلِكَ يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ هَكَذَا، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا بِأَنَّهُ إذَا اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَالْجَانِبَانِ مِنْهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَوَجْهُهُ إلَى مَا هُوَ الْقِبْلَةُ، وَفِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُهُ إلَى رِجْلِهِ وَذَا لَيْسَ بِقِبْلَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَوَجْهُهُ أَيْضًا يَكُونُ إلَى الْقِبْلَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اُحْتُضِرَ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ مَرَضُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَاقْتَرَبَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلِمَا قِيلَ بِأَنَّ مَرَضَهُ كَانَ بَاسُورًا فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ. وَالثَّانِي وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً» يَعْنِي سَاقِطًا عَلَى الْجَنْبِ كَقَوْلِهِ: «فَإِذَا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا» أَيْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (الْمُومِئُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُومِئِ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» مَعْنَاهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ تَتَضَمَّنُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي، وَتَضَمُّنُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ دُونَهُ، وَهَا هُنَا حَالُ الْمُقْتَدِي مِثْلُ حَالِ الْإِمَامِ أَوْ دُونَهُ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ بِأَنَّ الْإِمَامَ إنْ كَانَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلُ حَالِ الْإِمَامِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا وَالْمُقْتَدِي قَارِئًا أَوْ أُمِّيًّا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلُ حَالِ الْإِمَامِ أَوْ دُونَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَاعِدًا وَالْمُقْتَدِي قَائِمًا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 لَا يَصِحُّ قِيَاسًا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا»، وَهَذَا نَصٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ، وَهَذَا نَصٌّ وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ الْإِمَامِ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَمَا لَا فَلَا، كَإِمَامَةِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ لِلْأَصِحَّاءِ وَلِأَصْحَابِ الْجُرُوحِ. وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ وَالْمُقْتَدِي يَنْفَرِدُ بِهَذَا الرُّكْنِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ يَكُونُ هَذَا مُقْتَدِيًا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَكَانَ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ خَلْفَهُ» فَإِنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ فِي مَرَضِهِ قَالَ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ فِي مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فَقَالَتْ ذَلِكَ كَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: إنَّكُنَّ صَاحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا شَرَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِفَّةً فِي نَفْسِهِ فَخَرَجَ وَهُوَ يُهَادِي بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَكَانَ رِجْلَاهُ تَخُطَّانِ الْأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّ مَجِيءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَوْمُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ»، وَهَذَا آخِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْسَرُ فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا، فَالصَّحَابَةُ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا فَاقْتَدُوا بِهِ قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اُقْعُدُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا أَجْمَعِينَ وَلَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» وَلَكِنَّا نَقُولُ: صَارَ هَذَا مَنْسُوخًا بِفِعْلِهِ الْآخِرِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ مَرَضِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الْمَاسِحُ لِلْغَاسِلِينَ وَبِالْإِجْمَاعِ إمَامَةُ الْمَاسِحِ لِلْغَاسِلِ جَائِزَةٌ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ بَدَلٍ صَحِيحٍ فَاقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْأَصْلِ بِهِ صَحِيحٌ كَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا أَمَّ الْغَاسِلِينَ بِخِلَافِ صَاحِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الْجُرْحِ السَّائِلِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ بَدَلٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ تَقَارُبًا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَجُوزَ الْقُعُودُ فِي التَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَائِمَ كِلَا الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ مُسْتَوٍ، فَالْقَاعِدُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ مُنْثَنٍ فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَاقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالرَّاكِعِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا وَالْمُقْتَدِي يُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ يَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَدٍّ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، نَظِيرُهُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ وَالْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ حَالَ الْمُقْتَدِي فَوْقَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَلِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ يَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءً بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْمَسْحُ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ وَالْمَأْمُومُ يُصَلِّي قَائِمًا بِالْإِيمَاءِ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى كَانَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ فَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ كَانَ مَعْدُومًا أَصْلًا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اقْتِدَاءُ الْقَاعِدِ بِالْقَاعِدِ فَكَذَلِكَ هُنَا. فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا وَالْمُقْتَدِي يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ فَوْقَ حَالِ الْإِمَامِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ. قَالَ: (فَإِنْ نُزِعَ الْمَاءُ مِنْ عَيْنَيْهِ وَأُمِرَ بِأَنْ يَسْتَلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ أَيَّامًا وَنُهِيَ عَنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لَهُ طَبِيبٌ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ: لَوْ صَبَرْتَ أَيَّامًا مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاكَ لَصَحَّتْ عَيْنَاكَ فَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَالصَّحَابَةَ فَلَمْ يُرَخِّصُوا لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِصَلَاتِكَ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَوَّزُوا لَهُ إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا بِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ خَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ كَانَ مَعَهُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُرَخِّصُوا لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَهُمْ صِدْقُ ذَلِكَ الطَّبِيبِ فِيمَا يَدَّعِي، فَلِهَذَا لَمْ يُرَخِّصُوا لَهُ. قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّدًا لَا تَجُوزُ، وَإِنْ أَخْطَأَ تَجُوزُ) مَعْنَاهُ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى إلَى جِهَةٍ وَصَلَّى إلَيْهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لَا تَجُوزُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِيمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَأَمَّا فِيمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، ثُمَّ الصَّحِيحُ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي الْمَغَارَةِ فَتَحَرَّى إلَى جِهَةٍ وَصَلَّى إلَيْهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ تَعَمَّدَ لَا تَجُوزُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ وَجْهُهُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَجِدُ أَحَدًا بِأَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا بَرَأَ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ، ثُمَّ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الْأَرْكَانِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الشُّرُوطِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إذَا صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِيمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، ثُمَّ الصَّحِيحُ إذَا صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (قَوْمٌ مَرْضَى فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى جِهَةٍ وَصَلَّى إلَيْهَا جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ)؛ لِأَنَّهَا تَجُوزُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمِنْ الْمَرْضَى أَوْلَى، قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ، فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ إلَّا إذَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِمَامِ فَحِينَئِذٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. قَالَ: (مَرِيضٌ مُتَحَرٍّ أَوْ مُسَافِرٌ مُتَحَرٍّ تَبَيَّنَّ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ) لِحَدِيثِ أَهْلِ قُبَاءَ أُخْبِرُوا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَهُمْ فِي رُكُوعٍ فَجَوَّزَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْمُؤَدَّى حَصَلَ بِالِاجْتِهَادِ، وَهَذَا اجْتِهَادٌ آخَرُ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، كَالْقَاضِي إذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ كَانَ خَطَأً فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ لَا يَنْقُضُ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ: (الْمَرِيضُ الْمُومِئُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ يُومِئُ إيمَاءً لِسَهْوِهِ) لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ دُونَ الصُّلْبِيَّةِ وَتِلْكَ تَتَأَدَّى بِالْإِيمَاءِ فَهَذَا أَوْلَى، فَلَوْ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ سَقَطَ عَنْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ بِالْعَيْنَيْنِ قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحْدَهُ: يُومِئُ بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: بِأَنَّ الْإِيمَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِشَارَةِ، وَالْإِشَارَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِالرَّأْسِ، فَأَمَّا الْعَيْنُ يُسَمَّى إنْحَاءً، وَلَا يُسَمَّى إيمَاءً، وَبِالْقَلْبِ يُسَمَّى نِيَّةً وَعَزِيمَةً وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ، وَنَصْبُ الْأَبْدَالِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا بَرَأَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مُعْتَقًا بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى إذَا بَرَأَ يَجِبُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ يُنْظَرُ إذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ بِشْرٌ تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ طَالَ الْإِغْمَاءُ. هُوَ يَقُولُ: الْإِغْمَاءُ نَوْعُ مَرَضٍ فَلَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَالنَّوْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا اسْتَوْعَبَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ، وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَاهُمَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فَلَمْ يَقْضِهَا. وَالْفِقْهُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْإِغْمَاءَ إذَا طَالَ يُجْعَلُ كَالطَّوِيلِ عَادَةً وَهُوَ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ، وَإِذَا قَصُرَ يُجْعَلُ كَالْقَصِيرِ عَادَةً وَهُوَ النَّوْمُ، فَيُحْتَاجُ إلَى الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، فَإِنْ كَانَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ قَصِيرٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَكُونُ طَوِيلًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَخَلَتْ تَحْتَ حَدِّ التَّكْرَارِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ بِالسَّاعَاتِ لَا بِالصَّلَوَاتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ السُّجُودَ لِمَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ خَوْفٍ فَهُوَ كُلُّهُ سَوَاءٌ وَيُومِئُ)؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ. قَالَ: (فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ تَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ) لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ كَمَا أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ جِرَاحَةٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَ يَسْجُدُ عَلَى أَنْفِهِ)؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ كَالْجَبْهَةِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ الْمُومِئِ أَنْ يُرْفَعَ إلَيْهِ عُودٌ أَوْ وِسَادَةٌ لِيَسْجُدَ عَلَيْهِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ لِيَعُودَهُ فَوَجَدَهُ يَسْجُدُ عَلَى عُودِهِ فَقَالَ لَهُ: إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِ بِرَأْسِكَ» وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ عُتْبَةَ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَرَأَى عُودًا يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَسْجُدُ عَلَيْهِ فَأَخَذَ الْعُودَ مِنْ يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَقَالَ: إنَّ هَذَا شَيْءٌ عَرَضَ لَكُمْ الشَّيْطَانُ فَأَوْمِ بِسُجُودِكَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى مَرِيضًا يَفْعَلُ هَكَذَا فَقَالَ: أَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً فَدَلَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَجَدَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: يُنْظَرُ إنْ خَفَضَ رَأْسَهُ لِلرُّكُوعِ ثُمَّ لِلسُّجُودِ يَجُوزُ بِالْإِيمَاءِ لَا بِوَضْعِ الرَّأْسِ عَلَى الْعُودِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ رَفَعَ الْعُودَ إلَى جَبْهَتِهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا إذَا سَجَدَ عَلَى الْوِسَادَةِ يُجْزِئُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ «أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَ بِهَا رَمَدٌ فَسَجَدَتْ عَلَى الْمِرْفَقَةِ فَجَوَّزَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا صَلَّى بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصَّلَاةَ) وَلَا يَبْنِي إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَبْنِي آخِرَ صَلَاتِهِ عَلَى أَوَّلِ صَلَاتِهِ، كَالْمُقْتَدِي يَبْنِي صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ يَصِحُّ الْبِنَاءُ وَإِلَّا فَلَا فَنَقُولُ بِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْإِيمَاءِ مُضْطَجِعًا وَالْمُقْتَدِي يُصَلِّي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ، وَأَمَّا إذَا صَلَّى قَاعِدًا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثُمَّ بَرَأَ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى قَاعِدًا وَالْمُقْتَدِي قَائِمًا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ يَصِحُّ الْبِنَاءُ، وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ قَائِمًا ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَذَلِكَ يَصِحُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ] الْأَصْلُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَسَجَدَ» وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هُوَ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةِ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ وَصِفَةُ الْكَمَالِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ. وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ سُنَّةٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ رَافِعًا لِلتَّشَهُّدِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَلِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِ بَعْضِ السُّنَنِ، وَالْخَلْفُ لَا يَكُونُ أَقْوَى فَوْقَ الْأَصْلِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا سَهَا وَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَسْتَقْبِلْ»، وَلِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَرِيبُهُ وَالْمُضِيُّ يَرِيبُهُ بَعْدَ الشَّكِّ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَةِ لِيُؤَدِّهَا بِكَمَالِهَا وَاجِبٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَيْسَ بِعَادَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمْرِهِ قَطُّ، وَإِنْ لَقِيَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَحَرَّى الصَّوَابَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ»، وَلِأَنَّا لَوْ أُمِرْنَا بِالِاسْتِقْبَالِ يَقَعُ فِي الشَّكِّ ثَانِيًا وَثَالِثًا إذَا صَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الصَّلَاةِ فَلِهَذَا تَحَرَّى وَشَهَادَةُ الْقَلْبِ فِي التَّحَرِّي تَكْفِي عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحَرٍّ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِالْأَقَلِّ وَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ كَمَا يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ»، وَلِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَتْرُكُ هَذَا الْيَقِينَ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَقَلِّ إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ فَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ قَعْدَةَ الْخَتْمِ رُكْنٌ وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّافِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ. ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَبْلَ السَّلَامِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ» وَمَا رُوِيَ بَعْدَ السَّلَامِ أَيْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَمَا قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: «وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» أَيْ فَتَشَهَّدْ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَالسَّلَامُ مُحَلِّلٌ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّي فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ هَذَا قِيَاسُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَمَا رُوِيَ قَبْلَ السَّلَامِ أَيْ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي، فَإِنَّ عِنْدَنَا يُسَلِّمُ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ أَيْضًا إذْ بِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَارُ إلَى قَوْلِهِ وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ»، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مُؤَخَّرٌ عَنْ مَحِلِّهِ، فَلَوْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 مُؤَدًّى قَبْلَ السَّلَامِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَدَّى فِي مَحَلِّهِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُؤَخَّرًا لِيَتَأَخَّرَ أَدَاؤُهُ عَنْ كُلِّ حَالَةٍ يُتَوَهَّمُ فِيهَا السَّهْوُ، وَفِيمَا قَبْلَ السَّلَامِ يُتَوَهَّمُ السَّهْوُ فَيُؤَخَّرُ عَنْهُ لِهَذَا، وَلَكِنَّهُ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ الصَّلَاةِ فَبِالْعَوْدِ إلَيْهِ يَكُونُ عَائِدًا إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً فَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ سَهْوُهُ عَنْ نُقْصَانٍ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِلنُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ عَنْ زِيَادَةٍ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ تَرْغِيمٌ لِلشَّيْطَانِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْ الْخَلِيفَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ زَادَ وَنَقَصَ كَيْفَ يَصْنَعُ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (وَمَنْ سَهَا عَنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ) لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا لَهُ فَلَمْ يَعُدْ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ»، وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْقَعْدَةِ مُقَدِّمٌ لِلْقِيَامِ عَلَى وَقْتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ فَهُوَ زَائِدٌ فِي صَلَاتِهِ قَعْدَةً لَيْسَتْ مِنْهَا مُؤَخِّرٌ لِلْقِيَامِ عَنْ وَقْتِهِ فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي فِعْلِهِ فَلِهَذَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ. قَالَ: (فَإِنْ سَهَا عَنْ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ أَوْ قُنُوتِ الْوِتْرِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ فَبِتَرْكِهَا لَا يَتَمَكَّنُ كَثِيرُ نُقْصَانٍ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا إذَا تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَذْكَارِ، وَسُجُودُ السَّهْوِ عُرْفٌ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي الْأَفْعَالِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ تُضَافُ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ يُقَالُ: تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ وَقُنُوتُ الْوِتْرِ وَتَشَهُّدُ الصَّلَاةِ فَبِتَرْكِهَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا ثَنَاءُ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ، بَلْ الِافْتِتَاحُ وَالتَّعَوُّذُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ لِلْقِرَاءَةِ فَبِتَرْكِهِ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِنْ سَهَا عَنْ التَّكْبِيرَاتِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا سَهَا عَنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ) وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَكْبِيرَةُ الِانْتِقَالِ سُنَّةٌ لَا تُضَافُ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَبِتَرْكِهَا لَا يَتَمَكَّنُ التَّغَيُّرُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَهَا عَنْ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ تُضَافُ إلَى رُكْنٍ مِنْهَا لَا إلَى جَمِيعِهَا، فَكَانَ كَالتَّعَوُّذِ وَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ. قَالَ: (وَإِنْ سَهَا عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ)؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ وَالْأُولَيَانِ تَعَيَّنَتَا لِأَدَاءِ هَذَا الرُّكْنِ وَاجِبًا، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِنْ سَهَا عَنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَبَدَأَ بِغَيْرِهَا، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 السُّورَةِ تَذَكَّرَ، يَعُودُ فَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّورَةِ) لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُمِّيَتْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي مَحِلِّهِ كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، كَمَا لَوْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ عَادَ إلَى التَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ بَعْدَهَا وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْقِرَاءَةِ وَاجِبٌ فَبِتَرْكِهِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ. قَالَ: (وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ سُورَةً وَلَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُعِدْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مَحِلُّ الْفَاتِحَةِ أَدَاءً فَلَا يَكُونُ مَحِلًّا يَكُونُ مَحِلًّا لَهَا قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى الْفَاتِحَةَ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي قِيَامٍ وَاحِدٍ. قَالَ: (وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ السُّورَةَ قَضَاهَا فِي الْآخِرَتَيْنِ) لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ بِهَا وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَرَكَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ، وَلِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ لَيْسَتَا بِمَحَلٍّ لِلسُّورَةِ أَدَاءً فَتَكُونَانِ مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ (وَجَهَرَ) قَالَ الْبَلْخِيُّ أَيْ بِالسُّورَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهُوَ مُؤَدٍّ فَيُخَافِتُ بِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي قِيَامٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ جَهْرًا دُونَ الْبَعْضِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَهْرُ بِالسُّورَةِ فَيَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُخَافِتُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ، وَالسُّنَّةُ الْمُخَافَتَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي السُّورَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا لَا يَقْضِي الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَ مَوْضِعُهَا، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَقْضِي الْفَاتِحَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا يَقْضِي السُّورَةَ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا فَالْقَضَاءُ فِيهَا أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْفَاتِحَةُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إذَا قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بَعْدَهَا السُّورَةَ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا عَادَ إلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ وَانْتَقَضَ بِهِ رُكُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ، فَإِذَا طَوَّلَهَا فَالْكُلُّ فَرْضٌ فَلِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ يُنْتَقَضُ الرُّكُوعُ لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ. قَالَ: (وَإِذَا قَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاتِهِ بِآيَةٍ أَجْزَأَهُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْآخَرِ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تُجْزِئُ مَا لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةً طَوِيلَةً، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْمُعْجِزَةِ وَهِيَ السُّورَةُ وَأَقْصَرُهَا الْكَوْثَرُ وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُسَمَّى بِهِ قَارِئًا، وَمَنْ قَالَ: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] أَوْ قَالَ: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] لَا يُسَمَّى بِهِ قَارِئًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَاَلَّذِي تَيَسَّرَ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، ثُمَّ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْآيَةِ الْقَصِيرَةِ وَالطَّوِيلَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرُّكْنَ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. (وَإِنْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ)؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِذَا تَرَكَ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافِتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يَجْهَرُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ وَإِلَّا فَلَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ صِفَةَ الْمُخَافَتَةِ فِي صَلَوَاتِ النَّهَارِ أَلْزَمُ مِنْ صِفَةِ الْجَهْرِ فِي صَلَوَاتِ اللَّيْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ يَتَخَيَّرُ، وَفِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ لَا يَتَخَيَّرُ فَبِنَفْسِ الْجَهْرِ فِي صَلَوَاتِ الْمُخَافَتَةِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ، وَبِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِي صَلَوَاتِ الْجَهْرِ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ التَّغَيُّرُ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَإِلَّا فَلَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِثَلَاثِ آيَاتٍ فَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ التَّغَيُّرُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا تَمَكَّنَ التَّغَيُّرُ فِي هَذَا الْقَدْرِ وَجَبَ السَّهْوُ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ بِهَذَا) أَمَّا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ جَهَرَ أَوْ خَافَتَ، وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ فَجَهْرُ الْمُنْفَرِدِ بِقَدْرِ إسْمَاعِهِ نَفْسَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ السَّهْوُ. قَالَ: (وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْتَمِّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ)؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ تَبَعٌ لَهُ وَقَدْ تَقَرَّرَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ عَلَى التَّبَعِ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَسَهْوُ الْمُؤْتَمِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، أَمَّا عَلَى الْإِمَامِ فَلَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْمُؤْتَمِّ، وَأَمَّا عَلَى الْمُؤْتَمِّ فَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ». قَالَ: (وَإِذَا سَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فِي الرَّابِعَةِ سَاهِيًا بَعْدَ قُعُودِ مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يَقْرَأْ التَّشَهُّدَ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ أَوْ سَجْدَةٌ صَلَاتِيَّةٌ عَادَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ سَلَامُ سَهْوٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبُ مَحَلِّ أَدَائِهِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بِسَلَامِ السَّهْوِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إنْ عَادَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ انْتَقَضَ بِهِ الْقَعْدَةَ، كَمَا لَوْ عَادَ إلَى سَجْدَةٍ صَلَاتِيَّةٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ وَاجِبَةٌ مَحَلَّهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقَعْدَةِ، وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ مَحَلُّهَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى الصَّلَاتِيَّةِ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ بَعْدَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، بِخِلَافِ الْعَوْدِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ رَافِعٌ لِلسَّلَامِ دُونَ الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقَعْدَةِ وَالسَّلَامِ إلَّا أَنَّ ارْتِفَاعَ السَّلَامِ بِهِ لِلضَّرُورَةِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَدِّيًا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى ارْتِفَاعِ الْقَعْدَةِ بِهِ حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ عَامِدًا فَقَدْ قَطَعَ صَلَاتَهُ بِسَلَامِ الْعَمْدِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ، وَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ أَوْ قَرَأَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَلَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَوَازِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاتِيَّةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ سَجْدَةَ الصَّلَاتِيَّةِ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيمَةِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيمَةِ، وَلَكِنَّهَا وَجَبَتْ بِعَارِضِ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ فَبِتَرْكِهَا لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَاسْمِهِ يَجِبُ عِنْدَ تَمَكُّنِ السَّهْوِ، وَلَا سَهْوَ إذَا كَانَ عَامِدًا. قَالَ: (وَإِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ بِهِ، فَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ حِينَ شَكَّ حَتَّى شَغَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ بَطَلَ تَفَكُّرُهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَهْوٌ)، وَفِي الْقِيَاسِ هُمَا سَوَاءٌ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ حِينَ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَمُجَرَّدُ التَّفَكُّرِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ السَّهْوَ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ هَذَا ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ حَتَّى شَغَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ بِتَأْخِيرِ الرُّكْنِ عَنْ أَوَانِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُطِلْ تَفَكُّرَهُ، ثُمَّ السَّهْوُ إنَّمَا يُوجِبُ السَّجْدَةَ إذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ سَهْوُهُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ سَاهِيًا فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَقَعَدَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ) لِتَمَكُّنِ السُّهُولَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا يَعُودُ، وَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لَا يَعُودُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَسَبَّحُوا بِهِ فَعَادَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ وَلَكِنَّهُ سَبَّحَ بِهِمْ فَقَامُوا». وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَادَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ كَانَ بَعْدَمَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَتَمَّ قَائِمًا اشْتَغَلَ بِفَرْضِ الْقِيَامِ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَرْكُ الْفَرْضِ لِلْعَوْدِ إلَى السُّنَّةِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ إلَى الْعَوْدِ أَقْرَبُ يَعُودُ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَاعِدِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقِيَامِ لَا يَعُودُ كَمَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا. قَالَ: (وَإِذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ مَرَّاتٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَتَانِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سَجْدَتَانِ تُجْزِئَانِ عَنْ كُلِّ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ»، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا يُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ لِكَيْ لَا يَتَكَرَّرَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِتَكَرُّرِ السَّهْوِ. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ)؛ لِأَنَّ مَا قَرَأَ وَمَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ بِهَذَا السَّبَبِ. وَإِذَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَانَ سَاجِدًا لِلسَّهْوِ مَرَّتَيْنِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهٍ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عَمِلَ بِالتَّحَرِّي وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنْ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِهَذَا السَّهْوِ رُبَّمَا يَسْهُو فِيهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ ابْنَ خَالَتِهِ: لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مَعَ هَذَا الْخَاطِرِ، فَقَالَ: مَنْ أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَلِكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنِّي أُلْقِي عَلَيْكَ شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ مِنْ النَّحْوِ.؟ فَقَالَ: هَاتِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَفَكَّرَ سَاعَةً.؟ فَقَالَ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مِنْ أَيِّ بَابٍ مِنْ النَّحْوِ خَرَّجْتَ هَذَا الْجَوَابَ.؟ فَقَالَ: مِنْ بَابِ أَنَّ الْمُصَغَّرَ لَا يُصَغَّرُ فَتَعَجَّبَ مِنْ فِطْنَتِهِ. قَالَ: (وَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا وَيَسْجُدُ)؛ لِأَنَّ أَوَانَ السُّجُودِ مَا بَعْدَ السَّلَامِ فَلَمْ يَفُتْهُ بِهَذَا السَّلَامِ شَيْءٌ، وَنِيَّتُهُ أَنْ لَا يَسْجُدَ حَدِيثُ النَّفْسِ فَلَا يُعْتَدُّ حُكْمًا، كَمَا لَوْ نَوَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي حَالِ صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَمَا سَلَّمَ وَبَعْدَ مَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِلسَّهْوِ تَوَضَّأَ وَعَادَ فَأَتَمَّ)؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ وَسَبْقُ الْحَدَثِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مَنْ يُتِمُّ بِالْقَوْمِ كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ وَقَدْ سَهَا فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا، يَسْجُدُ خَلِيفَتُهُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ)؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا كَانَ يَأْتِي بِهِ الْأَوَّلُ، وَإِنْ سَهَا خَلِيفَتُهُ فِيمَا يُتِمُّ أَيْضًا كَفَتْهُ سَجْدَتَانِ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ سَهَا مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَهُ. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ سَهَا لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِسَهْوِ الثَّانِي)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي كَغَيْرِهِ مِنْ الْقَوْمِ فَيَلْزَمُهُ السَّهْوُ لِسَهْوِ إمَامِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ عَلَى نَفْسِهِ فَسَدَتْ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ بِسَهْوِهِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ. قَالَ: (وَلَوْ سَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ لَا يُوجِبُ سَهْوُهُ شَيْئًا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ لَمْ تَفْسُدْ بِهِ صَلَاةُ الثَّانِي، وَلَا صَلَاةُ الْقَوْمِ. قَالَ: (وَيَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ)، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ لَا يُتَابِعُهُ فِي السَّلَامِ فَكَيْفَ يُتَابِعُهُ فِيمَا يُؤَدِّي بَعْدَ السَّلَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ لِعَارِضٍ فِي صَلَاتِهِ فَيُتَابِعُهُ الْمَسْبُوقُ فِيهَا كَمَا يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلِأَنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ إلَى الْقَضَاءِ مَا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَمَا دَامَ الْإِمَامُ مَشْغُولًا بِوَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مُؤَدِّيًا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ إلَى الْقَضَاءِ فَعَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْجُدُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ السَّجْدَةِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الِاقْتِدَاءِ وَقَدْ صَارَ مُنْفَرِدًا فِيمَا يَقْضِي، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَغَلَ بِصَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَبْنِي مَا يَقْضِي عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَهُوَ بَعْدَ الْقَضَاءِ مُنْفَرِدٌ فِي الْأَفْعَالِ مُقْتَدٍ فِي التَّحْرِيمَةِ، حَتَّى لَا يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ فَلِهَذَا يَسْجُدُ لِذَلِكَ السَّهْوِ. قَالَ: (وَإِنْ سَهَا فِيمَا يَقْضِي كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِسَهْوِهِ) وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ وَاحِدَةٌ فَبِتَكَرُّرِ السَّهْوِ فِيهَا لَا يَتَكَرَّرُ السُّجُودُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّاهُ مَعَ الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، (فَإِنْ قِيلَ:) قَدْ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي تَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ (قُلْنَا:) التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةٌ صُورَةً، فَأَمَّا الْأَفْعَالُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ مُنْفَرِدًا فِيمَا يَقْضِي بَعْدُ إنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنُزِّلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الصَّلَوَاتِ. قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْبُوقُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ سَجَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 مَعَهُ الْإِمَامُ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ قَضَى فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَمَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُهَا مَعَهُ) وَهُوَ لَا يَقْضِي الْأَوَّلُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَمَا سَجَدَهَا لَمْ يَقْضِهَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُتَابَعَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْهُ قَبْلَ اقْتِدَائِهِ بِهِ، فَأَمَّا فِيمَا فَرَغَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَلَا مُتَابَعَةَ، وَلَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ. قَالَ: (وَلَا يُتَابِعُ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) بِخِلَافِ سُجُودِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ غَيْرُ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي حَالَةِ التَّكْبِيرِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُسَلِّمُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِخِلَافِ سُجُودِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ بَعْدَهُ، وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي هَذَا كَالتَّلْبِيَةِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَكَمَا لَا يُتَابِعُهُ الْمَسْبُوقُ فِي التَّلْبِيَةِ فَكَذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ تَابَعَهُ فِي التَّكْبِيرَاتِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ تَابَعَهُ فِي التَّلْبِيَةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ إجَابَةٌ لِلدَّاعِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَافُ الْخِطَابِ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا ذَكَرَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بَدَأَ بِالْأُولَى مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ كَمَا أَنَّ الثَّانِيَةَ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْأُولَى فِي الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ تَرَكَ سَجْدَةً وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ يَأْتِي بِتِلْكَ السَّجْدَةِ وَيُعِيدُ مَا صَلَّى بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ كَزِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ فِي احْتِمَالِ الْإِلْغَاءِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا زِيَادَةُ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِلْغَاءَ، وَالرَّكْعَةُ تَتَقَيَّدُ بِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ فَأَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إذًا مُعْتَبَرٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ إلَّا قَضَاءَ الْمَتْرُوكِ، وَتَرْكُ السُّجُودِ مُخَالِفٌ لِتَرْكِ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ سُجُودٍ لَمْ يَسْبِقْهُ رُكُوعٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ السُّجُودَ تَتَقَيَّدُ الرَّكْعَةُ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا لِتِلَاوَةٍ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْدَأُ بِالصَّلَاتِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقَضَاءُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالصَّلَاتِيَّةُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَدَأَ بِالتِّلَاوَةِ لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهَا. قَالَ: (وَإِذَا سَلَّمَ وَانْصَرَفَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً أَوْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَادَ إلَى صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاسِ إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَعُودَ إلَى صَلَاتِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانُ الصَّلَاةِ فَبَقَاؤُهُ فِيهِ كَبَقَائِهِ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ لِمَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ صَرْفُ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُلْتَفِتِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ فِي الصَّلَاتِيَّةِ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا رُكْنٌ وَالْخُرُوجُ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ أَصْحَابَهُ عَادَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ كَالْمَسْجِدِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ يَمْشِي أَمَامَهُ، قِيلَ: وَقْتُهُ بِقَدْرِ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَذَلِكَ فِي حُكْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الرَّابِعَةِ، قَالَ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَفْسُدُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ، وَلَا أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ فِي احْتِمَالِ النَّقْصِ وَمَا دُونَهُمَا سَوَاءٌ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَكَّنَ مِنْ إصْلَاحِ صَلَاتِهِ بِالْعَوْدِ إلَى الْقُعُودِ فَكَذَلِكَ بَعْدَمَا قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ،. (وَلَنَا) أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالرَّكْعَةُ الْخَامِسَةُ نَفْلٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْكَامِ شُرُوعِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجُهُ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْفَرْضِ قَبْلَ إكْمَالِهِ مُفْسِدٌ لِلْفَرْضِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ تَقَيُّدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّلَاةِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ لَمْ يَحْنَثْ بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ فَلَمْ يَسْتَحْكِمْ شُرُوعَهُ فِي النَّفْلِ بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ، وَالْحَدِيثُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فِي الرَّابِعَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى الظُّهْرَ، وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّمَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا هِيَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى حَمْلًا لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ قَالَ: (وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَشْفَعَ الْخَامِسَةَ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يُسَلِّمَ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الظُّهْرَ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَبِالْفَسَادِ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ فِي التَّطَوُّعِ فِي كُلِّ شَفْعٍ عِنْدَهُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ وَيَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ تَطَوُّعًا فَيَشْفَعُهَا بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تَرْكَ الْقَعْدَةِ عَقِيبَ كُلِّ شَفْعٍ عِنْدَهُمَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلتَّطَوُّعِ، وَإِنْ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدَرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ الظُّهْرُ وَالْخَامِسَةُ تَطَوُّعٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ إلَى النَّافِلَةِ كَانَ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْفَرْضُ، وَيَشْفَعُ الْخَامِسَةَ بِرَكْعَةٍ فَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِرَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا إذَا شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ فِي صَلَاةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ هَهُنَا فِي الْخَامِسَةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَشْفَعَهَا بِرَكْعَةٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاَللَّهِ مَا أَخَّرْتُ رَكْعَةً قَطُّ، وَإِذَا شَفَعَهَا بِرَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ السَّهْوِ كَانَ فِي الْفَرْضِ وَقَدْ أَدَّى بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا بَنَى النَّفَلَ عَلَى التَّحْرِيمَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا السَّهْوُ فَيَأْتِي بِسُجُودِ السَّهْوِ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَسْبُوقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا تَنُوبَانِ عَنْ السُّنَّةِ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ كَانَ لَا عَنْ قَصْدٍ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَالسُّنَّةُ مَا شَرَعَ فِيهِ عَنْ قَصْدِ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا وَاظَبَ عَلَيْهِ. قَالَ: (رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَرْكَعْ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً)؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ وَالْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهِ فَحِينَ سَجَدَ تَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ فَكَانَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ أَوَّلًا ثُمَّ قَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي أَوَانِهِ، وَالثَّانِي وَقَعَ مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَبِسُجُودِهِ يَتَقَيَّدُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَرَأَ أَوَّلًا وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَلَمْ يَرْكَعْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَرْكَعْ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً؛ لِأَنَّ سُجُودَهُ الْأَوَّلَ حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَحِينَ قَرَأَ وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هَذَا الرُّكُوعُ عَلَى التَّقَيُّدِ بِسُجُودِهِ بَعْدَهُ، فَحِينَ سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ بِهِ ذَلِكَ الرُّكُوعُ فَكَانَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ وَرَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ تَوَقَّفَ عَلَى السُّجُودِ فَحِينَ سَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ تَقَيَّدَ بِهَا الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَمَكُّنِ السُّهُولَةِ بِمَا زَادَ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ بَيَانُهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ، وَزِيَادَةُ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا سَهَا الْمُصَلِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فَسَجَدَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا زَادَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ. قَالَ: (وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مَسْبُوقًا فَأَتَمَّ الْمَسْبُوقُ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمَ)؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لِمَا فَاتَهُ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّسْلِيمِ، وَأَوَانُ سُجُودِ السَّهْوِ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَقُلْنَا: يَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَسَجَدَ هُوَ مَعَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ خَلِيفَتِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْمُقِيمُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ يُتَابِعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ) ثُمَّ يَقُومُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ سَهَا فِيمَا يَقْضِي سَجَدَ أَيْضًا، وَهَذِهِ ثَلَاثُ فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي الْمَسْبُوقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالثَّانِي فِي اللَّاحِقِ إذَا نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ أَوَّلًا، وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُتِمُّ، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي مُتَعَطِّلٌ وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ فِيمَا يُتِمُّ، وَالْمَسْبُوقُ يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِهَذَا تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا، وَلَا يَقُومُ إلَى الْقَضَاءِ إلَّا بَعْدَ إتْمَامِ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالثَّالِثُ فِي الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ إذَا قَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْقِرَاءَةُ فِيمَا يُتِمُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقِرَاءَةَ الْإِمَامِ فِيهِمَا تَكُونُ قِرَاءَةً لَهُ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ السَّهْوِ فَفِي الْكِتَابِ جَعَلَهُ كَالْمَسْبُوقِ، فَقَالَ: يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِتْمَامِ غَيْرَ مُقْتَدٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُقْتَدِيًا فِيمَا لَيْسَ عَلَى إمَامِهِ، وَالْإِمَامُ لَوْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا كَانَ مُتَنَفِّلًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُقْتَدِيًا فِيهِمَا كَانَ كَاقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُؤَدِّيهِ بِتِلْكَ التَّحْرِيمَةِ كَاللَّاحِقِ. قَالَ: (وَإِنْ سَجَدَ اللَّاحِقُ مَعَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ لَمْ يُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ (فَإِنْ قِيلَ:) أَلَيْسَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ لَوْ تَابَعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِمَامِ سَهْوٌ، فَصَلَاةُ الْمَسْبُوقِ فَاسِدَةٌ وَمَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ (قُلْنَا:) فَسَادُ صَلَاتِهِ لَيْسَ لِلزِّيَادَةِ بَلْ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا فَاللَّاحِقُ مُقْتَدٍ فِي جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا ثُمَّ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَضَى فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَا فَاتَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْفَائِتُ إذَا قُضِيَ اُلْتُحِقَ بِمَحَلِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ مَا فَاتَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْإِمَامِ فِي الْأُولَيَيْنِ كَانَتْ أَدَاءً، وَالْمُقِيمُ شَرِيكُهُ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَسْبُوقُ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا صَلَّى مَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ فِيمَا هُوَ مُقْتَدٍ فِيهِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهَا، فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّهِ. قَالَ: (وَإِذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَشَهَّدَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ حَصَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي تَرْكِ الِانْتِظَارِ لِسَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ لِلْقَضَاءِ مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قَامَ إلَيْهِ وَقَضَى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ كَانَ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ أَرْكَانِهَا. ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقَالَ: إنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ قَرَأَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ مِقْدَارَ مَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ وَقِرَاءَتَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهِمَا مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَيُجْعَلُ هُوَ فِي الْحُكْمِ كَالْقَاعِدِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَتُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ ثُمَّ رَكَعَ وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ فَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ هُوَ الرَّكْعَتَانِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ وُجِدَ الْقِيَامُ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَالْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قِيَامُ مُعْتَدٍ بِهِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَامَ بَعْدَ مَا تَشَهَّدَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ ذَلِكَ وَيَخِرُّ فَيَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ انْفِرَادُهُ بِأَدَاءِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لَهَا بِالْعَوْدِ إلَى الْمُتَابَعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمُتَابَعَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الْإِمَامُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَمْ يَعُدْ إلَى مُتَابَعَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحْكَمَ انْفِرَادُهُ بِأَدَاءِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ، وَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي السَّهْوِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالثَّانِي فِي الصَّلَاتِيَّةِ إذَا تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً بَعْدَمَا قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى الْقَضَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيهَا وَسَجَدَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عَادَ إلَى الْمُتَابَعَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ؛ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمَسْبُوقُ بِهَا، وَبَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ، وَالثَّالِثُ إذَا تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَالْقَعْدَةُ مِنْ أَرْكَانِهَا كَالصَّلَاتِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ الْإِمَامُ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ثُمَّ عَادَ الْإِمَامُ، فَإِنْ تَابَعَهُ الْمَسْبُوقُ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ فِي الْأَصْلِ: صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَنْقُضُ الْقَعْدَةَ، وَهُوَ وَالصَّلَاتِيَّةُ سَوَاءٌ، وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ تِلْكَ الْقَعْدَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الصَّلَاتِيَّةِ. وَفِقْهُ هَذَا أَنَّ قُعُودَهُ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَضَ فِي حَقِّهِ بِالْعَوْدِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ انْفِرَادُ الْمَسْبُوقِ عَنْهُ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إمَامًا لَوْ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِقَوْمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا انْقَلَبَ الْمُؤَدَّى فِي حَقِّهِ تَطَوُّعًا وَبَقِيَ فَرْضًا فِي حَقِّ الْقَوْمِ. قَالَ: (وَإِذَا اقْتَدَى أَحَدُ الْمَسْبُوقِينَ بِالْآخَرِ فِيمَا يَقْضِيَانِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُؤْتَمِّ)؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الْأَوَّلِ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ هَذَا أَدَاءُ صَلَاةٍ بِإِمَامَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْمُقِيمَانِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ إذَا قَامَا إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِمَا فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي فَاسِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِذَا اقْتَدَى مُصَلِّي التَّطَوُّعِ بِمُصَلِّي الظُّهْرِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ)، وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالِاقْتِدَاءِ مُلْتَزِمًا صَلَاةَ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ الظُّهْرَ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَهَا سِتًّا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَلَّمَ عَلَى الْأَرْبَعِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ فِيمَا نَوَى ثُمَّ نَدِمَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَشْرَعْ، وَإِنَّمَا حَصَلَ شُرُوعُهُ فِي الظُّهْرِ وَالظُّهْرُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَقَدْ أَدَّاهَا، (وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَهَا الْمُسَافِرُ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ كَالْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَنِيَّةُ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى أَنْ يَقْطَعَهَا بِكَلَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتِلْكَ النِّيَّةُ سَاقِطَةٌ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا» قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الْفَجْرِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ)؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ طَالَتْ لَا تَنُوبُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَجْرَ لَا يَكُونُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ جِهَةُ الْفَسَادِ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا تَوَهَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ)؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ كَانَ سَهْوًا فَلَمْ يَصِرْ بِهِ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ أَنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالْقَدْرِ الَّذِي أَدَّى فَسَلَامُهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِصَلَاتِهِ وَظَنُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَلَامُهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ صَلَاتُهُ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ وَلَكِنَّهُ نَوَى الْقَطْعَ لِصَلَاتِهِ وَالدُّخُولَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى تَطَوُّعًا وَهُوَ سَاهٍ وَقَدْ كَبَّرَ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى التَّطَوُّعِ ثُمَّ يُعِيدُ الظُّهْرَ)؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَهُ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ وَشُرُوعٌ فِي التَّطَوُّعِ فَيُتِمُّ مَا شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ يُعِيدُ مَا كَانَ قَطَعَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ. قَالَ: (وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَتَابَعَهُ فِيهِمَا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَإِنَّمَا يَسْجُدُونَ إذَا فَرَغُوا مِنْ الْإِتْمَامِ)؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِينَ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ قَدْ أَدْرَكُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ. قَالَ: (رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ)؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى التَّكْبِيرَةِ وَالْقِرَاءَةِ سَاهِيًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَشُكَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ الرُّكُوعِ وَلَيْسَ تَكْبِيرُ الثَّانِي يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى عِنْدَهَا إيجَادَ الْمَوْجُودِ، وَنِيَّةُ الْإِيجَادِ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ، بَقِيَ مُجَرَّدُ التَّكْبِيرِ وَهُوَ لَيْسَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ. وَإِنْ كَانَ فِي الظُّهْرِ فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ وَصَلَّى فِي ذَلِكَ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَيَّنَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَتَعَيُّنُ النِّيَّةِ كَأَصْلِهَا شَرْطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ، فَإِنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عَنْ رُكْنٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَقَدْ بَيَّنَّا قَالَ: (وَإِذَا قَعَدَ الْمُصَلِّي فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ حَتَّى شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ التَّسْلِيمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ) لِتَأْخِيرِهِ السَّلَامَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: أَوَانُ سُجُودِ السَّهْوِ مَا بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوَانُ وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ فَيُؤَخِّرُ الْأَدَاءَ عَنْهُ كَمَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ صَارَ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِيَةُ لِتَعْمِيمِ الْقَوْمِ بِهَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ لَهُ سَهْوٌ فِي صَلَاتِهِ قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ فَعَرَضَ لَهُ هَذَا الشَّكُّ حَتَّى شَغَلَهُ عَنْ وُضُوئِهِ سَاعَةً فَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ)؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْحَدَثِ، فَإِنَّمَا تَمَكَّنَ لَهُ هَذَا السَّهْوُ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَانَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنْ حَصَلَ سُجُودُ السَّهْوِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَذَلِكَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ لَا يُفْعَلُ مُبَاشَرَةً بِاخْتِيَارِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ ثُمَّ بِالْعَوْدِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ تَعُودُ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لَا فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ عَمَلُهَا فِي وُجُوبِ إكْمَالِ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَيَظْهَرُ عَوْدُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّهَا، فَأَمَّا كُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَمْ تُعَدَّ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى الْعِشَاءَ فَسَهَا فِيهَا فَقَرَأَ آيَةَ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَسْجُدْهَا وَتَرَكَ سَجْدَةً مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَاهِيًا ثُمَّ سَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لِلْكُلِّ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا سَلَامُ السَّهْوِ (وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّلَاتِيَّةِ حِينَ سَلَّمَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ (وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ نَاسِيًا لِلصَّلَاتِيَّةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ) أَيْضًا، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ دُونَ الْأَرْكَانِ فَسَلَامُهُ فِيمَا هُوَ رُكْنُ سَلَامٍ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِوَاجِبٍ يُؤَدَّى قَبْلَ السَّلَامِ فَكَانَ سَلَامُهُ قَطْعًا لِصَلَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَطَعَهَا قَبْلَ إتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالصَّلَاتِيَّةِ لَزِمَنَا أَنْ نَقُولَ يَأْتِي بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَلَا وَجْهَ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لِلتِّلَاوَةِ فَكَانَ قَطْعًا فِي حَقِّهِ، وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ. قَالَ: (وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ أَوْ لَا يُحْسِنُهُ لَمْ تُجْزِئْهُ)؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَا تَسْبِيحٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنْ قَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا فَلَعَلَّ مَا قَرَأَ مِمَّا حَرَّفُوا، وَهَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا بِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا هُوَ فِي أَيْدِيهِمْ الْآنَ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَلَا يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَا قَرَأَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا قَرَأَ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْسِنَةِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّة فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ لِهَذَا. قَالَ: (وَإِنْ نَسِيَ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَقْنُتْ)؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ أَوَانَ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمَا كَانَ سُنَّةً فِي مَحَلِّهِ يَكُونُ بِدْعَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَنَتَ لَكَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَالْفَرْضُ لَا يُنْتَقَضُ بِالسُّنَّةِ وَبِهِ فَارَقَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ، وَإِذَا قَرَأَ السُّورَةَ كَانَ مُفْتَرِضًا فِيمَا يَقْرَأُ فَيُنْتَقَضُ بِهِ الرُّكُوعُ قَالَ: (وَإِذَا تَذَكَّرَ الْقُنُوتَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) فِي إحْدَاهُمَا يَعُودُ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ كَحَالَةِ الْقِيَامِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهَا كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَلِهَذَا يَعُودُ لِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا ذَكَرَهَا فِي الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ لِلْقُنُوتِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَعُودُ لِلْقُنُوتِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ فَرْضٌ، وَلَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ بَعْدَمَا اشْتَغَلَ بِهِ لِلْعَوْدِ إلَى السُّنَّةِ كَمَا لَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ فَالرُّكُوعُ مَحَلٌّ لَهَا، حَتَّى إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ يَأْتِي بِهَا، فَلِهَذَا يَعُودُ لِأَجْلِهَا، فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَقَدْ سَقَطَ بِالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ فَالْقُنُوتُ مُشَبَّهٌ بِالْقِرَاءَةِ، وَحَالَةُ الرُّكُوعِ لَيْسَ بِحَالَةِ الْقِرَاءَةِ، فَبَعْدَمَا سَقَطَ لَا يَعُودُ لِأَجْلِهِ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ قَنَتَ أَوْ لَمْ يَعُدْ يَقْنُتْ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي صَلَاتِهِ لِسَهْوِهِ. قَالَ: (وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا وَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ)؛ لِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ الَّتِي تَمَكَّنَ فِيهَا السَّهْوُ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ سُجُودِ السَّهْوِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 [بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (وَأَقَلُّ مَا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِمَشْيِ الْأَقْدَامِ وَسَيْرِ الْإِبِلِ فَهُوَ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّ أَعْجَلَ السَّيْرِ سَيْرُ الْبَرِيدِ، وَأَبْطَأُ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى التَّقْدِيرُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ»، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَوْلٍ: التَّقْدِيرُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: التَّقْدِيرُ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا لِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهَا، فَقَالَ: كُنَّا إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا، وَمِنْ السُّوَيْدَاءِ إلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقَالَ: نَفَاهُ الْقِيَاسُ لَا تَقْدِيرَ لِأَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101] الْآيَةَ، فَإِثْبَاتُ التَّقْدِيرِ يَكُونُ زِيَادَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ: ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْمُرَادَ السَّفَرُ، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] وَالْخَارِجُ إلَى حَانُوتٍ أَوْ إلَى ضَيْعَةٍ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ التَّقْدِيرِ لِتَحْقِيقِ اسْمِ السَّفَرِ. وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَلِمَةُ فَوْقَ صِلَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَهِيَ لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ لِغَيْرِهِ بِدُونِ الْمَحْرَمِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ لَا تَنْقُصُ عَمَّا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّخْفِيفَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَمَعْنَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَحْمِلَ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَيَحُطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحْمِلُ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إذَا كَانَ مَقْصِدُهُ يَحُطُّهُ فِي أَهْلِهِ، وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُ رَحْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَيَحُطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْحَرَجِ، فَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلِهَذَا قَدَّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ مِنْ السَّفَرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قُدِّرَ بِيَوْمَيْنِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَأَقَامَ الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إذَا بَكَّرَ وَاسْتَعْجَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَلَ إلَى الْمَقْصِدِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَقَمْنَا الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ بِالْفَرَاسِخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ فِي السُّهُولِ وَالْجِبَالِ وَالْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ بِالْأَيَّامِ وَالْمَرَاحِلِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَإِذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَصَرَ الصَّلَاةَ حِينَ تَخَلَّفَ عُمْرَانُ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ مَادَامَ فِي الْمِصْرِ فَهُوَ نَاوِي السَّفَرِ لَا مُسَافِرٌ، فَإِذَا جَاوَزَ عُمْرَانَ الْمِصْرِ صَارَ مُسَافِرًا لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِعَمَلِ السَّفَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ فَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا ذَلِكَ الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: (وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا صَلَّى أَرْبَعًا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَخَرَجَ مِنْهَا إلَى مِنًى فِي الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ حَتَّى قَالَ بِعَرَفَاتٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمُ سَفَرٍ»، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَيَّامِ أَوْ بِالشُّهُورِ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَنَازِلِ أَيَّامًا لِلِاسْتِرَاحَةِ أَوْ لِطَلَبِ الرُّفْقَةِ فَقَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالشُّهُورِ، وَذَلِكَ نِصْفُ شَهْرٍ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي مَعْنَى مُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُ مَا سَقَطَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَكَمَا يَتَقَدَّرُ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَعْنَى الطُّهْرِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَوَائِجَهُمْ كَانَتْ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا لِتَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ. قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ مَكَّةَ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُقِيمَ فِيهَا وَبِمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُسَافِرٌ)؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ مَا يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْإِقَامَةَ ضِدُّ السَّفَرِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ يَكُونُ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ جَوَّزْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّكَ إذَا جَمَعْتَ إقَامَةَ الْمُسَافِرِ الْمَرَاحِلَ رُبَّمَا يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِمَكَّةَ وَمِنًى وَالْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، فَإِنْ كَانَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ دَخَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا قُلْتَ لِلسُّوقِيِّ: أَيْنَ تَسْكُنُ يَقُولُ: فِي مَحَلَّةِ كَذَا، وَهُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ فِي السُّوقِ، وَكَانَ سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ قَالَ: فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ صَاحِبٍ لِي وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، فَإِنَّك تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ أَنْ أُصَاحِبَهُ فَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَخْطَأَتْ، فَإِنَّك مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا لَا تَكُونُ مُسَافِرًا، فَقُلْتُ: أَخْطَأْتُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَنْفَعْنِي مَا جَمَعْتُ مِنْ الْأَخْبَارِ، فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَلَكِنَّهُ مَكَثَ أَيَّامًا فِي الْمِصْرِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا عِنْدَنَا، وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا زَادَ عَلَى ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ثَمَانِ عَشَرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ السَّفَرَ يَنْعَدِمُ بِالْمُقَامِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ تَرَكْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِلنَّصِّ، فَبَقِيَ مَا رَوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَابْنُ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَنَسٌ أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ شَهْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقَامَ بِخُوَارِزْمَ سِنِينَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَنْوِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ طَافَ جَمِيعَ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا مَا لَمْ يَنْوِ الْمُكْثَ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ اتِّفَاقًا. قَالَ: (وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا بَعْدَمَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ عِنْدَنَا)، وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى أَرْبَعًا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ، وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بَيْنَ الْأَدَاءِ، وَالتَّأْخِيرُ وَالْوُجُوبُ يَنْفِي التَّخَيُّرَ، وَالتَّخَيُّرُ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَلَوْ مَاتَ فِي الْوَقْتِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا خَرَجَ مُسَافِرًا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ يُصَلِّي صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ مَا دُونَ ذَلِكَ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَسَعُهُ إلَى وَقْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَإِنْ قَلَّ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَوُجُودُ السَّفَرِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِذَا صَارَ مُسَافِرًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، فَإِذَا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسَافِرًا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ، وَيُعْتَبَرُ جَانِبُ السَّفَرِ بِجَانِبِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ شَيْئًا يَسِيرًا فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ السَّفَرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِقَامَةِ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ». قَالَ: (وَإِذَا قَرُبَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ مِصْرَهُ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى بُيُوتِ الْكُوفَةِ حِينَ قَدِمَهَا مِنْ الْبَصْرَةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ، وَلِأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِصْرِهِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ فِي انْصِرَافِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ عَزِيمَةَ السَّفَرِ بِعَزْمِهِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، فَصَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ مِصْرَهُ. قَالَ: (رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فَانْفَتَلَ لِيَأْتِيَ مِصْرَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ مَا صَلَّى، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ)؛ لِأَنَّهُ مَنْ عَزَمَ عَلَى الِانْصِرَافِ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ صَارَ مُقِيمًا، وَبَعْدَمَا صَارَ مُقِيمًا فِي صَلَاتِهِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يَصِحُّ، وَالْمُقِيمُ فِي السَّفِينَةِ إذَا جَرَتْ بِهِ السَّفِينَةُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا الْإِقَامَةُ تَرْكُ السَّفَرِ، وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ أَمَامَهُ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ فَصَارَ مُسَافِرًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ النِّيَّةَ مَتَى تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ لَا تَكُونُ مُؤَثِّرَةً، فَإِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلِ الْإِقَامَةِ فَصَارَ مُقِيمًا، وَإِذَا نَوَى السَّفَرَ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَوَى فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْخِدْمَةِ صَارَ لِلْخِدْمَةِ، وَلَوْ نَوَى فِي عَبْدِ الْخِدْمَةِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لَهَا مَا لَمْ يَتَّجِرْ فِيهِ. قَالَ: (مُسَافِرٌ صَلَّى فِي سَفَرِهِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَالْأُخْرَيَانِ تَطَوُّعٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْعُدْ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا)، وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَكَانَ الْأَرْبَعُ فَرْضًا لَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رُخْصَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ، «وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَابِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَقَالَ: أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، وَإِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّى بِعَرَفَاتٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَاعْتَبَرَ الصَّلَاةَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ السَّفَرَ مُؤَثِّرٌ فِيهَا، ثُمَّ الْفِطْرُ رُخْصَةٌ وَمَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ فَكَذَلِكَ الْقَصْرُ فِي الصَّلَاةِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ، فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 رَكْعَتَانِ، وَسَأَلَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَالثَّانِي يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا، فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ: أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ قَصَرْتَ، وَلَمَّا صَلَّى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعَرَفَاتٍ أَرْبَعًا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ الْأَرْبَعِ مِثْلُ حَظِّي مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ قَالَ: إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَإِنْكَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ إلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَحَبَّ أَنْ يَأْمَنَ عُثْمَانُ غَيْرَهُ؛ لِتَكُونَ إقَامَةُ الصَّلَاةِ عَلَى هَيْئَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَقَامَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ الْأَعْرَابِ بِعَرَفَاتٍ كَيْلًا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ رَكْعَتَانِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِي سَاقِطٌ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا إلَى بَدَلٍ، وَبَقَاءُ الْفَرْضِيَّةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ أَوْ الْأَدَاءَ فَحِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ الْفَرْضِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّهِ كَالْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْمُقِيمُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ، وَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَالْأُخْرَيَانِ تَطَوُّعٌ لَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَبِهِ فَارَقَ الصَّوْمَ، فَإِنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَمَّا بَقِيَتْ هُنَاكَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ أَدَاءً. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَا قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ تَتَنَقَّلُ مِنْ بَيْتِ بَعْضِ أَوْلَادِهَا إلَى بَيْتِ بَعْضٍ فَلَمْ تَكُنْ مُسَافِرَةً، وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَالْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ التَّجَوُّزُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْأَرْكَانِ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ عَرَفْنَاهُ بِالسُّنَّةِ كَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ. قَالَ: (مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ لَمْ تُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ فَرْضُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كَانَ عَائِدًا إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَكُونُ سُجُودُهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَكَمَا يَسْجُدُ بِتَرْكِ الْإِتْمَامِ لِلصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَمَا عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ حَصَلَتْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا سَوَاءٌ يَقُومُ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالسَّلَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إذَا كَانَ عَلَيْهِ سَهْوٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. قَالَ: (مُسَافِرٌ أَمَّ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا دَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ سَاعَتئِذٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَنْبَغِي لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ)؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَكِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي قَالَ: يَسْجُدُ الثَّالِثُ السَّجْدَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْإِمَامَيْنِ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا تِلْكَ الرَّكْعَةَ، فَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ السَّجْدَةُ، وَلَا يَسْجُدُهَا الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا فَلَا يَبْدَأُ بِالسَّجْدَةِ مِنْهَا، وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: يَسْجُدُهَا مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقْتَدِي بِالْإِمَامِ الثَّالِثِ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يَأْتِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا مِنْ صَلَاتِهِ، كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ ثُمَّ سَجَدَ السَّجْدَةَ الْأُخْرَى وَسَجَدَهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلُّوا هَذِهِ الرَّكْعَةَ، وَلَا يَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَى إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَحِينَئِذٍ سَجَدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَيَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: يُصَلِّي الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الْإِمَامُ الثَّالِثُ وَيَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَسْجُدُونَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ الثَّانِي فَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِقِرَاءَةٍ، وَيُكَمِّلُ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ. [الْفَصْل الْأَوَّل صَلَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا وَجَاءَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فَصْلَيْنِ فِي الْمُقِيمِينَ: (أَحَدُهُمَا) فِي اللَّاحِقِينَ إذَا صَلَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا وَجَاءَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْخَامِسِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْأَئِمَّةُ وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلُّوا تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَيَسْجُدُونَهَا مَعَهُ غَيْرَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ سَجَدَ الثَّالِثَةَ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيَسْجُدُونَهَا مَعَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُصَلِّيَا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيَسْجُدُونَهَا مَعَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا صَلُّوا هَذِهِ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَالْإِمَامُ الثَّانِي رَكْعَتَيْنِ، وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مُدْرِكُونَ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْخَامِسُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ، وَكُلُّ إمَامٍ فَرَغَ مِنْ إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَأَدْرَكَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 تَابَعَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَمَنْ لَمْ يَفْرُغْ أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ رَجُلًا خَامِسًا وَتَوَضَّأَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَاءُوا] (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إذَا كَانُوا مَسْبُوقِينَ وَقَدْ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ رَجُلًا خَامِسًا وَتَوَضَّأَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَاءُوا، فَيَنْبَغِي لِلْخَامِسِ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَسْجُدُونَهَا مَعَهُ لِلْمُتَابَعَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، وَلَا يَسْجُدُهَا مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، وَلَا الثَّالِثُ، وَلَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُمَا مَسْبُوقَانِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ إلَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلُّوا هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَلَمْ يَسْجُدُوا هَذِهِ السَّجْدَةَ، ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيَسْجُدُهَا مَعَهُ الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ سَادِسًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ، وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، ثُمَّ يَقُومُ الْخَامِسُ فَيُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا فَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ بِالْخِيَارِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ يَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى اللَّاحِقِ فِيمَا يَقْضِي، وَالْإِمَامُ الثَّانِي يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فِيهِمَا ثُمَّ رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ، وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ يَقْضِي الرَّابِعَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهِمَا، وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ يَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ هُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا (فَإِنْ قِيلَ:) لِمَاذَا أَوْرَدَ هَذَا الْمَسَائِلَ مَعَ تَيَقُّنِ كُلِّ عَاقِلٍ بِأَنَّهَا لَا تَقَعُ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا (قُلْنَا:) لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَحْتَاجُ، إلَيْهِ إلَّا بِتَعَلُّمِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْتَاجُ لِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِدُّ لِلْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ. قَالَ: (مُسَافِرٌ أَمَّ مُسَافِرِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَ بِهِمْ الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ اسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَهُمْ قَدْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّاوِي لِلْإِقَامَةِ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَا الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ، فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُدْرِكًا ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ حَتَّى صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً وَقَدَّمَهُ، فَإِنْ تَأَخَّرَ هُوَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى)؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْبُدَاءَةِ بِمَا فَرَغَ مِنْهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَةً أَوَّلًا ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الثَّلَاثَ رَكَعَاتٍ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا وَسَلَّمَ بِهِمْ وَقَامَ وَقَضَى مَا عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبُدَاءَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِيهِ، فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فَتَرْكُهَا لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ لَا لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ مَا هُوَ مَسْبُوقٌ فِيهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا هُوَ مَسْبُوقٌ فِيهِ كَالْمُنْفَرِدِ، فَإِذَا انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَهَهُنَا حُكْمُ الْكُلِّ وَاحِدٌ فِي حَقِّهِ، فَتَرْكُ التَّرْتِيبِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا صَلَاتَهُ. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رَكْعَتَهُ تِلْكَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُومِئَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يَقْضِيَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ) كَمَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَفْعَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَأَخَّرَ حِينَ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَلَّى بِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ أَيْضًا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِرَكْعَتِهِ أَجْزَأَهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا. [اقْتِدَاء الْمُسَافِر بِالْمُقِيمِ] قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْمُقِيمِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْمُسَافِرِ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ)، أَمَّا فِي الْوَقْتِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَوَّزَ اقْتِدَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَاتٍ حِينَ قَالَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمُ سَفَرٍ» وَكَذَلِكَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمُقِيمِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالِاقْتِدَاءِ. وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ يَجُوزُ وَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَبَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِالِاقْتِدَاءِ، فَإِنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْفَرْضِ إمَّا نِيَّةُ الْإِقَامَةِ أَوْ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُقِيمِ، ثُمَّ الْفَرْضُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُقِيمِ، وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ كَانَ هَذَا عَقْدًا لَا يُفِيدُ مُوجِبَهُ، وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ فَرَغَ قَبْلَ إمَامِهِ، وَإِنْ أَتَمَّ أَرْبَعًا كَانَ خَالِطًا النَّفَلَ بِالْمَكْتُوبَةِ قَصْدًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ الْقَعْدَةُ الْأُولَى نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الْفُرُوقَ، كَمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. قَالَ: (وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ إذَا كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ فِي الصَّفِّ أَجْزَأَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ذَلِكَ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ». قَالَ: (رَجُلٌ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً ثُمَّ صَلَّى شَهْرًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَحْدَهَا اسْتِحْسَانًا)، وَإِنْ كَانَ صَلَّى يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَعَادَ مَا صَلَّى بَعْدَهَا فِي هَذِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا وَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا، وَوَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا؛ لِأَنَّهُ إنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْقَضَاءِ صَحَّ الْخَمْسُ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَدَّى الْمَتْرُوكَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ السَّادِسَةَ فَسَدَ الْخَمْسُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسِ صَلَوَاتٍ بَعْدَهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَ فَسَدَتْ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْكُلِّ فَبِتَأَخُّرِ الْقَضَاءِ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: الْفَسَادُ كَانَ بِوُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهَا غَيْرَ مُرَتَّبٍ يَجُوزُ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حُكْمُ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الثَّانِي، كَمُصَلِّي الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَدَّاةَ كَانَتْ تَطَوُّعًا وَإِلَّا كَانَ فَرْضًا، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِيهَا دُونَ عَادَتِهَا وَصَلَتْ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً صَحِيحَةً، وَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا كَانَتْ صَحِيحَةً قَالَ: (وَإِذَا زَادَ عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا، فَإِذَا انْقَطَعَ لِتَمَامِ الْعَشَرَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ حَيْضٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِنْ جَاوَزَهَا كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ)، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: إذَا صَلَّى الْحَاجُّ الْمَغْرِبَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا إنْ وَصَلَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَحَاصِلُ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ مُؤَدَّاةٌ فِي أَوْقَاتِهَا، وَالْفَسَادُ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فَسَادٌ ضَعِيفٌ، فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: مَا يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ لَا يَصِحُّ لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ، كَمَنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَطَوَّلَهَا حَتَّى يَضِيقَ الْوَقْتُ لَمْ يَحْكُمْ بِجَوَازِهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هُنَاكَ لَمْ يَسْقُطْ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ السُّقُوطِ لَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ، وَهُنَاكَ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْمَتْرُوكَةِ وَصَلَاةِ شَهْرٍ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ الَّتِي سَقَطَ بِهَا التَّرْتِيبُ وَقَدْ بَيَّنَّا قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ عَلَى وُضُوءٍ ذَاكِرًا لِذَلِكَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُمَا جَمِيعًا) لِوُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَظَنُّهُ جَهْلٌ فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يَسْقُطُ عَنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَكَانَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ إنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِئُهُ فَرْضُ الْوَقْتِ. (وَلَنَا) أَنْ نَقُولَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ نَاسِيًا فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الْفَائِتَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ فَمُجَرَّدُ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ، فَإِنْ أَعَادَ الظُّهْرَ وَحْدَهَا ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ لَهُ جَائِزٌ، قَالَ: يُجْزِئُهُ الْمَغْرِبُ وَيُعِيدُ الْعَصْرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ هَذَا اسْتَنَدَ إلَى خِلَافٍ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا يُؤَدَّى بَعْدَهُ، فَأَمَّا فَسَادُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ تَذَكُّرِ التَّرْتِيبِ فَسَادٌ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى، فَهُوَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ. قَالَ: (رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَكَثَ فِيهَا شَهْرًا وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا)، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَلَكِنْ قَصَرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ، كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ مَا يَجِبُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ فَرْضِيَّةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَجَوَّزَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ. وَشَرِبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُخَاطَبِ الِائْتِمَارُ قَبْلَ الْعِلْمِ، فَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، (وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَهُوَ الْحَدُّ لِمَا بَيَّنَّا. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَقُومُ شُيُوعُ الْخِطَابِ مَقَامَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ أَنْ يُبَلِّغَ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا الَّذِي وُسْعُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْخِطَابَ شَائِعًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَالْإِقَامَةَ وَيَرَى شُهُودَ النَّاسِ الْجَمَاعَاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَا لَا يَشْتَبِهُ، وَلِأَنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُ مِنْهُ، فَتَرْكُ السُّؤَالِ تَقْصِيرٌ مِنْهُ بِخِلَافِ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ بَلَّغَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يُخْبِرْهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مُلْزِمٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الْخَبَرِ الْمُلْزِمِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ الْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْإِخْبَارِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ مِنْ الْمَوْلَى وَالْمُوَكِّلِ، وَخَبَرُ الرَّسُولِ هُنَاكَ مُلْزِمٌ فَهَهُنَا كَذَلِكَ. قَالَ: (رَجُلٌ تَرَكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الظُّهْرَ الَّذِي تَرَكَ أَوَّلًا أَوْ الْعَصْرَ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِالتَّحَرِّي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ رَأْيٌ وَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ صَلَّاهُمَا ثُمَّ أَعَادَ الْأُولَى مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَا لَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى التَّحَرِّي؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ مَا تَرَكَ إلَّا صَلَاتَيْنِ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ، وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ إلَى الْجِهَاتِ كُلِّهَا احْتِيَاطِيًّا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ أَصْلٌ، وَفِي إعَادَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا تَيَقُّنٌ بِأَدَاءِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ التَّرْتِيبِ بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً، فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ بِمُبَاشَرَةِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. فَأَمَّا هَهُنَا إعَادَةُ الْأُولَى إمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا وَهُوَ قُرْبَةٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً لَا يَدْرِي أَيَّمَا هِيَ مِنْ صَلَوَاتِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ فَعَلَيْهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يُعِيدُ الْفَجْرَ وَالْمَغْرِبَ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا بِنِيَّةِ مَا عَلَيْهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِنِيَّةِ مَا عَلَيْهِ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ، وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَفِيمَا قَالُوا تَضْيِيعُ النِّيَّةِ، فَكَيْفَ يَتَأَدَّى بِهِ الْقَضَاءُ، وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: (رَجُلٌ أَمَّ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَأَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَصَلَاةُ النِّسْوَةِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلنِّسْوَةِ إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ فَتَفْسُدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 صَلَاتُهُنَّ؛ لِهَذَا قَالَ: (فَإِنْ اسْتَخْلَفَ امْرَأَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُنَّ) وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ صَلَاةُ النِّسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ بِدَلِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: اشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، فَإِنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ قَبْلَ تَحَوُّلِ الْإِمَامَةِ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَتَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ. قَالَ: (فَإِنْ تَقَدَّمَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّمَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ)، وَهَذَا جَوَابٌ مُبْهَمٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ فَصْلَانِ حُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْفَصْلَ الثَّالِثَ وَلَمْ يُبَيِّنْ بِأَيِّ فَصْلٍ يَعْتَبِرُهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ هَذَا وَاسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ إيَّاهَا سَوَاءٌ حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْإِمَامِ إيَّاهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى لَا تَفْسُدَ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ، فَصَارَ فِي حَقِّهِ كَأَنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ. قَالَ: (مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ) وَهُوَ وَالْمُقِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فَهَهُنَا حُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْفَجْرُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحٌ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ، فَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي رَفْعِ الْفَسَادِ، وَلَهُمَا أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَهِيَ فِي أَوَّلِهَا، وَلَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِهَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمْ يَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِعَرْضِ أَنْ يَلْحَقَهُ مَدَدُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَالْمُفْسِدُ خُلُوُّ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِخِلَافِ فَجْرِ الْمُقِيمِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَرَكَعَ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ، وَإِنْ كَانَ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى كَانَ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ لَمْ يَكُنْ نَوَى الْإِقَامَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى إلَى وَقْتِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ نَافِلَةً فَلَا تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِهَذَا. قَالَ: (مُسَافِرٌ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ)؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ بِالشُّرُوعِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ فَالْتَحَقَ بِغَيْرِهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الْمُقِيمِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْإِتْمَامَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ أَفْسَدَهَا الْإِمَامُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِتْمَامِ عَلَيْهِ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِفْسَادِ (فَإِنْ قِيلَ:) فَقَدْ كَانَ هُوَ مُقِيمًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَبِأَنْ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْفَرْضُ. (قُلْنَا:) لَمْ يَكُنْ مُقِيمًا فِيهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الِاقْتِدَاءَ فِي الْوَقْتِ كَأَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ، وَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَفِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ تَبْقَى صَلَاتُهُ كَامِلَةً بِخِلَافِ الْفَجْرِ، فَإِنَّ بَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنْهَا لَا يَبْقَى إلَّا رَكْعَةً وَهِيَ لَا تَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ بَعْدَ سُقُوطِ شَطْرٍ مِنْهَا لَا تَبْقَى صَلَاةً تَامَّةً فَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْهَا الْقَصْرُ، وَالسُّنَنُ وَالتَّطَوُّعَاتُ لَا يَدْخُلُهَا الْقَصْرُ بِسَبَبِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَاةِ بِسَبَبِ السَّفَرِ تَوْقِيفٌ لَمْ يُعْرَفْ بِالرَّأْيِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِتَرْكِ السُّنَنِ فِي السَّفَرِ، وَيَرْوُونَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَتَيْتُ بِالسُّنَنِ لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ، وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَنَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُكْثُ فِي مَوْضِعٍ لِأَدَاءِ السُّنَنِ. قَالَ: (وَيُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ فِي الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا أُسْقِطَ عَنْهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَلَأَنْ يُسْقِطَ مُرَاعَاةَ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ أَطْوَلُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْإِقَامَةِ فَيَقْرَأُ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَفِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَمَا أَشْبَهَهَا. قَالَ: (وَدُخُولُ الْمُسَافِرِ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ الْإِكْمَالُ إنْ دَخَلَ فِي أَوَّلِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا قَبْلَ السَّلَامِ)؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْمُقِيمِ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ كَنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: (وَتَوْطِينُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُحَاصِرُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَاقِطٌ وَهُمْ مُسَافِرُونَ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّا نُطِيلُ الثَّوِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِقَامَةِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْفِرَارِ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمَ الْعَدُوَّ فَيَفِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ، وَلِأَنَّ فِنَاءَ الْبَلْدَةِ تَبَعٌ لِجَوْفِهَا وَالْبَلْدَةُ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْعَسْكَرُ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 حُكْمًا. وَكَذَلِكَ إذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ فَلَا قَرَارَ لَهُمْ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ، فَكَانَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ مَقَاسَ نِيَّةِ السَّفَرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ حَارَبُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَاصَرُوهُمْ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ لَهُمْ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْفِرَارِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبُيُوتِ وَالْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ دُونَ الصَّحْرَاءِ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْأَخْبِيَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْأَعْرَابِ وَالْأَتْرَاكِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلْمَرْءِ أَصْلٌ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ قَطُّ إنَّمَا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ، وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى فَكَانُوا مُقِيمِينَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ. قَالَ: (وَإِذَا مَرَّ الْإِمَامُ بِمَدِينَةٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُ وَأَجْزَأَهُمْ)، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ» فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ وَهُوَ كَانَ مُسَافِرًا بِهَا» ثُمَّ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا تَجُوزُ بِأَمْرِهِ فَلَأَنْ تَجُوزُ مِنْهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْحُضُورُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، فَإِذَا حَضَرَ وَأَدَّى كَانَ مُفْتَرِضًا كَالْمَرِيضِ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ يَطُوفُ فِي بِلَادِ عَمَلِهِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَهُوَ وَالْإِمَامُ سَوَاءٌ فِي هَذَا. قَالَ: (وَيُصَلِّي الْمُسَافِرُ التَّطَوُّعَ عَلَى دَابَّتِهِ بِإِيمَاءٍ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ تَطَوُّعًا حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]» وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ إنَّمَا يَتَطَوَّعُ عَلَى دَابَّتِهِ بِالْإِيمَاءِ وَوَجْهُهُ إلَى الْمَشْرِقِ» إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ لِلْوِتْرِ وَالْمَكْتُوبَةِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ عَلَى دَابَّتِهِ وَيَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ إلَّا حِفْظُ اللِّسَانِ وَحِفْظُ النَّفْسِ عَنْ الْوَسَاوِسِ وَالْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَلَى سَرْجِهِ قَذَرٌ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ صَلَاتُهُ) وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ وَأَبُو حَفْصٍ النَّجَّارِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ: لَا تَجُوزُ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الرِّكَابَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ اعْتِبَارًا لِلصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَا يَقُولَانِ: تَأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقَذَارَةِ عَرَقُ الدَّابَّةِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: تَجُوزُ لِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَالدَّابَّةُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّ بَاطِنَهَا لَا يَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ وَيَتْرُكُ عَلَيْهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ النُّزُولِ وَالْأَدَاءِ، وَالْأَرْكَانُ أَقْوَى مِنْ الشَّرَائِطِ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَرْكَانِ هُنَا لِحَاجَةٍ فَشَرْطُ طَهَارَةِ الْمَكَانِ أَوْلَى، ثُمَّ الْإِيمَاءُ لَا يُصِيبُ مَوْضِعَهُ، إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤَدِّي عَلَيْهِ رُكْنًا وَهُوَ لَا يُؤَدِّي عَلَى مَوْضِعِ سَرْجِهِ وَرِكَابَيْهِ رُكْنًا فَلَا تَضُرُّهُ نَجَاسَتُهُمَا. وَكَذَلِكَ الْمُقِيمُ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُسَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِ الْوَسَاوِسِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا سَيْرَ عَلَى الدَّابَّةِ هَاهُنَا مَدِيدٌ كَسَيْرِ الْمُسَافِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ رَاكِبًا فِي الْمِصْرِ هَلْ يَتَطَوَّعُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَذَكَرَ فِي الْهَارُونِيَّاتِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَالْمِصْرُ فِي هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى خَارِجِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ سَيْرَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ لَا يَكُونُ مَدِيدًا عَادَةً فَرَجَعْنَا فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا سَمِعَ هَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ الْحِمَارَ فِي الْمَدِينَةِ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَكَانَ يُصَلِّي وَهُوَ رَاكِبٌ» فَلَمْ يَرْفَعْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَأْسَهُ، قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يَرْفَعْ رُجُوعًا مِنْهُ إلَى الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالشَّاذُّ فِي مِثْلِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ بِالْحَدِيثِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ اللَّغَطَ يَكْثُرُ فِيهَا فَلِكَثْرَةِ اللَّغَطِ رُبَّمَا يُبْتَلَى بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ فَلِذَلِكَ كُرِهَ. قَالَ: (وَلَا يُصَلِّي الْمُسَافِرُ الْمَكْتُوبَةَ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ)؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتٍ مَحْصُورَةٍ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ النُّزُولُ لِأَدَائِهَا فِيهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ النُّزُولَ لِأَدَائِهَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النُّزُولُ لِأَدَائِهَا، تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إذًا مَا يُنَشِّطُهُ فِيهِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ أَوْ يَنْقَطِعُ سَفَرُهُ، وَكَذَلِكَ يَنْزِلُ لِلْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يُوتِرَ عَلَى الدَّابَّةِ لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ فَمُطِرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي حَتَّى نَادَى صَلُّوا عَلَى رَوَاحِلِكُمْ، فَنَزَلَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَطَلَبَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ يَأْتِيكُمْ وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا أَمَرْتُ بِهِ أَمَا لَكَ فِي أُسْوَةٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ تَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ، وَأَنَا أَسْعَى فِي رَقَبَةٍ لَمْ يَظْهَرْ فِكَاكُهَا، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنَّهُ يَأْتِيكُمْ وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إنِّي لَأَرْجُو عَلَى هَذَا أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُمْ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ النُّزُولِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنْ سُبُعٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَكِبَ فَأَتَمَّهَا رَاكِبًا لَمْ تُجْزِهِ، وَلَوْ افْتَتَحَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ فَأَتَمَّهَا أَجْزَأَهُ) قِيلَ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَالرُّكُوبُ عَمَلٌ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ عَادَةً، وَفِي النُّزُولِ يَجْعَلُ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ فَيَنْزِلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مُعَالَجَةٍ، وَقِيلَ: إذَا افْتَتَحَ عَلَى الْأَرْضِ فَلَوْ أَتَمَّهَا رَاكِبًا كَانَ دُونَ مَا شَرَعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَالْإِيمَاءُ دُونَ ذَلِكَ، وَالرَّاكِبُ إذَا نَزَلَ يُؤَدِّيهَا أَتَمَّ مِمَّا شَرَعَ فِيهَا بِالْإِيمَاءِ وَيُؤَدِّيهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِمَا جَمِيعًا يَبْنِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ افْتِتَاحُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ فَالْإِتْمَامُ أَوْلَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِمَا جَمِيعًا يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَنَى بَعْدَ النُّزُولِ كَانَ هَذَا بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَالْمَرِيضِ الْمُومِئِ يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَرْقٌ فَقَالَ: هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَ بِالْإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا يَبْنِي وَبَيَّنَّا لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَ بِالْإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنُّزُولِ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ. قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّاهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ) اعْتِبَارًا بِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمِعَ تِلَاوَةً عَلَى الْأَرْضِ فَسَجَدَهَا عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ لَمْ تُجْزِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالسُّجُودِ بِالسَّمَاعِ عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ سَمِعَهَا قَبْلَ الرُّكُوبِ وَلَوْ سَمِعَهَا وَهُوَ رَاكِبٌ فَسَجَدَهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا لَوْ الْتَزَمَهَا وَلَوْ سَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا أَتَمَّ مِمَّا الْتَزَمَهَا. قَالَ: (رَجُلَانِ فِي مَحَلٍّ اقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِي التَّطَوُّعِ أَجْزَأَهُمَا) كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى الْأَرْضِ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ إذَا كَانَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 دَابَّةٍ لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ الْمُؤْتَمِّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الدَّابَّتَيْنِ طَرِيقًا، وَالطَّرِيقُ الْعَظِيمُ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجُوزَ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ إذَا كَانَتْ دَابَّتُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ دَابَّةِ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ الْفُرْجَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ إلَّا بِقَدْرِ الصَّفِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ: (وَنِيَّةُ اللَّاحِقِ لِلْإِقَامَةِ - وَهُوَ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ وَقَدْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ - سَاقِطَةٌ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ)؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يُتِمُّ مُقْتَدٍ بِالْإِمَامِ فَنِيَّتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَنِيَّةِ إمَامِهِ، وَنِيَّةُ الْإِمَامِ لِلْإِقَامَةِ لَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَيَعْنِي بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْهَا فَكَذَلِكَ نِيَّتُهُ، (فَإِنْ قِيلَ:) نِيَّةُ الْمُقْتَدِي مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَفِي حَقِّ الْإِمَامِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بِخُرُوجِهِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ (قُلْنَا:) الْمُقْتَدِي تَبَعٌ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ مِنْ الصَّلَاةِ حُكْمًا لِخُرُوجِ إمَامِهِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ، فَإِنَّ دُخُولَ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَنِيَّةُ الْمَسْبُوقِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ لِلْإِقَامَةِ أَوْ دُخُولِهِ مِصْرَهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ، وَنِيَّةُ الْمُنْفَرِدِ الْإِقَامَةَ مُعَبِّرٌ فَرْضُهُ فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَنِيَّةُ الْمُنْفَرِدِ الْإِقَامَةَ بَعْدِ خُرُوجِ الْوَقْتِ فِي صَلَاةٍ افْتَتَحَهَا فِي الْوَقْتِ سَاقِطَةٌ، وَكَذَلِكَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ؛ لِأَنَّ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ صَارَ صَلَاةُ السَّفَرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِإِقَامَتِهِ، فَأَمَّا فِي الْوَقْتِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدُ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْوَقْتِ يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَسْقُطُ. قَالَ: (خُرَاسَانِيٌّ قَدِمَ الْكُوفَةَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ فَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا يُرِيدُ خُرَاسَانَ وَيَمُرُّ بِالْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنًا مُسْتَعَارًا فَانْتَقَضَ بِمِثْلِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ. وَطَنُ قَرَارٍ وَيُسَمَّى الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا نَشَأَ بِبَلْدَةٍ أَوْ تَأَهَّلَ بِهَا تَوَطَّنَ بِهَا. وَوَطَنٌ مُسْتَعَارٌ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُسَافِرُ الْمَقَامَ فِي مَوْضِعٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَوَطَنُ سُكْنَى وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْمَسَافِرُ الْمُقَامَ فِي مَوْضِعٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ لَا يَنْقُضُهُ إلَّا وَطَنٌ أَصْلِيٌّ مِثْلُهُ، وَالْوَطَنُ الْمُسْتَعَارُ يَنْقُضُهُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ وَوَطَنٌ مُسْتَعَارٌ مِثْلُهُ وَالسَّفَرُ لَا يَنْقُضُهُ وَطَنُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَوَطَنُ السُّكْنَى يَنْقُضُهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْخُرُوجُ مِنْهُ لَا عَلَى نِيَّةِ السَّفَرِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ فَأَكْثَرُ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِخُرُوجِهَا ثَمَّةُ، وَالْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَهُنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حِينَ تَوَطَّنَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَانَ هَذَا وَطَنًا مُسْتَعَارًا لَهُ فَانْتَقَضَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ وَالْتَحَقَ بِمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا قَطُّ فَلِهَذَا يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُوَطِّنْ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْحِيرَةِ صَلَّى بِالْكُوفَةِ أَرْبَعًا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، فَإِنَّ الْحِيرَةَ كَانَتْ وَطَنَ السُّكْنَى لَهُ فَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ مِنْهَا. قَالَ: (كُوفِيٌّ خَرَجَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ لِحَاجَةٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحَفِيرَةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحَفِيرَةِ يُرِيدُ الشَّامَ وَلَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ نَقْلٌ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْقَادِسِيَّةَ كَانَتْ وَطَنَ السُّكْنَى فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَمْ يَعْزِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِنَاءِ الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكُوفَةِ دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى الْحَفِيرَةِ انْتَقَضَ وَطَنُهُ بِالْقَادِسِيَّةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَ السُّكْنَى يَنْقُضُهُ مِثْلُهُ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ بِالْحَفِيرَةِ وَطَنُ السُّكْنَى، فَالْتَحَقَ بِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَادِسِيَّةَ، فَلِهَذَا صَلَّى بِهَا رَكْعَتَيْنِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَمُرُّ بِهَا فَقَدْ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ فَكَانَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْتِ الْحَفِيرَةَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ لِحَاجَةٍ حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْحَفِيرَةِ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَيَحْمِلَ ثِقَلَهُ مِنْهَا وَيَرْتَحِلَ إلَى الشَّامِ، وَلَا يَمُرُّ بِالْكُوفَةِ، صَلَّى أَرْبَعًا حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاسِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَ السُّكْنَى الَّذِي كَانَ لَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ قَدْ انْتَقَضَ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا عَلَى قَصْدِ الْحَفِيرَةِ، كَمَا يُنْتَقَضُ لَوْ دَخَلَهَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْقَادِسِيَّةُ كَانَتْ لِي وَطَنُ السُّكْنَى، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ بِقَصْدِ الْحَفِيرَةِ وَطَنُ سُكْنَى آخَرَ مَا لَمْ يَدْخُلْهَا فَبَقِيَ وَطَنُهُ بِالْقَادِسِيَّةِ، أَرَأَيْت لَوْ خَرَجَ مِنْهَا لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ أَوْ لِاسْتِقْبَالِ قَادِمٍ أَكَانَ يَنْتَقِضُ وَطَنُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخُرُوجِ لَا يَنْتَقِضُ، فَكَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَفِيرَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْهَا، فَلِهَذَا صَلَّى بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعًا حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 [بَاب الصَّلَاة فِي السَّفِينَة] بَابٌ فِي الصَّلَوَاتِ فِي السَّفِينَةِ (قَالَ) وَإِنْ اسْتَطَاعَ الرَّجُلُ الْخُرُوجَ مِنْ السَّفِينَةِ لِلصَّلَاةِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الْخِلَافِ وَإِنْ صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اسْتِحْسَانًا وَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ السَّفِينَةَ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْتِ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ فِيهِ بِالْإِيمَاءِ تَطَوُّعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَكَمَا إذَا تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْبَيْتِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَا يُجْزِئْهُ فِي أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ فَكَذَلِكَ فِي السَّفِينَةِ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِيَامِ فِي الْمَكْتُوبَةِ لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْمَشَقَّةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي حَالِ رَاكِبِ السَّفِينَةِ دَوَرَانُ رَأْسِهِ إذَا قَامَ وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَوْمَ الْمُضْطَجِعِ جُعِلَ حَدَثًا عَلَى الْغَالِبِ مِمَّنْ حَالُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ وَسُكُوتُ الْبِكْرِ رِضًا لِأَجْلِ الْحَيَاءِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ مِنْ حَالِ الْبِكْرِ وَالشَّاذُّ يَلْحَقُ بِالْعَامِّ الْغَالِبِ فَهَذَا مِثْلُهُ (وَفِي) حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي السَّفِينَةِ قُعُودًا وَلَوْ شِئْنَا لَخَرَجَنَا إلَى الْحَدِّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صَلَّيْنَا مَعَ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قُعُودًا فِي السَّفِينَةِ وَلَوْ شِئْنَا لَقُمْنَا فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي السَّفِينَةِ بِالْإِيمَاءِ بِخِلَافِ رَاكِبِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ الْجَوَازَ لَهُ بِالْإِيمَاءِ هُنَاكَ لِوُرُودِ النَّصِّ بِهِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ لَيْسَ لَهُ مَوْضِعُ قَرَارٍ عَلَى الْأَرْضِ وَرَاكِبَ السَّفِينَةِ لَهُ فِيهَا مَوْضِعُ قَرَارٍ عَلَى الْأَرْضِ فَالسَّفِينَةُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْرِيهَا بَلْ هِيَ تَجْرِي بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يُجْرِيهَا حَتَّى يَمْلِكَ إيقَافَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 مَتَى شَاءَ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ وَفِي السَّفِينَةِ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ كُلَّمَا دَارَتْ السَّفِينَةُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَالْبَيْتِ فَيَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَصَاحِبُ السَّفِينَةِ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ حَصَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً مِنْ قَرْيَتِهِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُقِيمٌ فِيهَا فِي مَوْضِعِ إقَامَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فِيهَا فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّفِينَةِ بِإِمَامٍ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ بَيْنَهُمَا طَائِفَةً مِنْ النَّهْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَا مَقْرُونَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَكَأَنَّهُمَا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ السَّفِينَتَيْنِ الْمَقْرُونَتَيْنِ فِي مَعْنَى أَلْوَاحِ سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَدَى مَنْ عَلَى الْحَدِّ بِإِمَامٍ فِي سَفِينَةٍ لَمْ يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ (قَالَ): وَمَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَطْلَالِ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ فِي السَّفِينَةِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْإِمَامِ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ وَاقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمَامَ الْإِمَامِ (قَالَ): وَمَنْ خَافَ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْ مَالِهِ وَكَذَلِكَ إذَا انْقَلَبَتْ سَفِينَتُهُ أَوْ رَأَى سَارِقًا يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ فَكَمَا يَسْعَهُ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَدَّرُوا ذَلِكَ بِالدِّرْهَمِ فَصَاعِدًا وَقَالُوا مَا دُونَ الدِّرْهَمِ حَقِيرٌ فَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِهِ. قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَعَنَ اللَّهُ الدَّانِقَ وَمَنْ دَنَقَ الدَّانِقَ. وَإِنَّمَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ لِحَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَانْسَلَّ قِيَادُ الْفَرَسِ مِنْ يَدِهِ فَمَشَى أَمَامَهُ حَتَّى أَخَذَ قِيَادَ فَرَسِهِ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ سُجُود التِّلَاوَة] بَابُ السَّجْدَةِ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَيُكْرَهُ لِلْمَرْءِ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ مِنْ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْفِرَارِ عَنْ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِأَنَّهُ فِي صُورَةِ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 مِنْ الْقُرْآنِ مَهْجُورًا وَلِأَنَّ الْقَارِئَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ التَّأْلِيفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أَيْ تَأْلِيفَهُ وَبِغَيْرِ التَّأْلِيفِ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَإِذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِنْ بَيْنِ آيِ السُّورَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ وَإِنْ اكْتَفَى بِقِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ آيَةِ السَّجْدَةِ مِنْ بَيْنِ الْآيِ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ أَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَالْإِعْجَازِ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْتَقِدُ هُوَ أَوْ بَعْضُ السَّامِعِينَ مِنْهُ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ فِي آيَةِ السَّجْدَةِ وَمَنْ حَيْثُ إنَّ قِرَاءَةَ الْكُلِّ سَوَاءٌ فَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ (قَالَ): وَمَنْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ أَوْ سَمِعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّرَائِعَ وَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرَهَا؟ فَقَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَلَوْ كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا تَرَكَ الْبَيَانَ بَعْدَ السُّؤَالِ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَنَشَزَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا تَلَا ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي فَيَقُولُ: أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَلَمْ أَسْجُدْ فَلِي النَّارُ» وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ مَتَى حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِالنَّكِيرِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَوَابٌ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ آدَمَ مَأْمُورٌ بِالسُّجُودِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ بِهَذِهِ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَبَخَّ تَارِكَ السُّجُودِ بِقَوْلِهِ {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وَالتَّوْبِيخُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ لَمْ يَكْتُبْ عَلَيْنَا التَّعْجِيلَ بِهَا فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْقَوْمِ التَّأْخِيرَ عَنْ حَالَةِ الْوُجُوبِ وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ بَيَانُ الْوَاجِبَاتِ ابْتِدَاءً دُونَ مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَنْذُورَةَ (قَالَ) فَإِنْ قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُجْزِئْهُ التَّيَمُّمُ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ وَلِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِهِ الْمَاءَ يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهَا بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ (قَالَ): وَمَنْ سَمِعَهَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ كَافِرٍ أَوْ جُنُبٍ أَوْ حَائِضٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ قُرْآنٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا مُنِعَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فَتَقَرَّرَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ فِي حَقِّ السَّامِعِ (قَالَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 : وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ سَجْدَةٌ قَرَأَتْ أَوْ سَمِعَتْ لِأَنَّ السَّجْدَةَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَائِضُ لَا تَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَهُوَ شُهُودُ الْوَقْتِ فَلَا يَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْجُنُبِ فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ الْوَقْتِ فَتَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ بِالتِّلَاوَةِ أَوْ السَّمَاعِ (قَالَ) وَيَسْتَوِي فِي حَقِّ التَّالِي إذَا تَلَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَفِي حَقِّ السَّامِعِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ بِالْقِرَاءَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّجْدَةِ وَإِلَّا فَلَا وَفِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهِ السَّجْدَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَكِنْ يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يَعْلَمْ (قَالَ): وَإِنْ قَرَأَهَا وَمَعَهُ قَوْمٌ فَسَمِعُوهَا سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ وَلَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ قَبْلَهُ لِأَنَّ التَّالِيَ إمَامُ السَّامِعِينَ هَكَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلتَّالِي كُنْت إمَامَنَا لَوْ سَجَدْت لَسَجَدْنَا مَعَك فَكَانُوا فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِينَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ قَبْلَهُ لِهَذَا وَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ فَسَادُ سَجْدَتِهِ بِسَبَبٍ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِمْ (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَمَاعِهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَكْثَرُ مِنْ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَقْرَؤُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ مِنْ الْأَصَمِّ وَالسَّمَاعَ مِنْ السَّمِيعِ مُوجِبَانِ لَهَا ثُمَّ لَوْ تَلَاهَا سَمِيعٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ لِأَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ وَهُوَ حُرْمَةُ الْمَتْلُوُّ فَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ مَحْضٌ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَلَا يَتَجَدَّدُ بِهِ الْمُسَبِّبُ وَهَذَا الْحَرْفُ أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ تَلَاهَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي مَجْلِسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَالتَّدَاخُلُ لَا يَكُونُ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ اتِّحَادُ السَّبَبِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ مِرَارًا فَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُونَ هَذَا قِيَاسَ السَّجْدَةِ فَيَقُولُونَ: يَكْفِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ «لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي قِيلَ: وَكَيْفَ تُجْفَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ» وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فِي مَجْلِسٍ يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 لَا يُشَمِّتُهُ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِلْعَاطِسِ بَعْدَ الثَّلَاثِ: قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّك مَزْكُومٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَرَأَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ بِالرُّجُوعِ مَجْلِسٌ آخَرُ وَيَتَجَدَّدُ الْمَجْلِسُ بِتَجَدُّدِ السَّبَبِ لِلتِّلَاوَةِ حُكْمًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَكَأَنَّهُ تَلَاهَا فِي مَكَانِهِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ يَزْحَفُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذِهِ تَارَةً فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ قَرَأَ آيَةً أُخْرَى وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَجَدَّدَ فَإِنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى [عَدَدَ سُجُودِ الْقُرْآنِ] ثُمَّ ذَكَرَ عَدَدَ سُجُودِ الْقُرْآنِ وَهِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: عَدَدُ سُجُودِ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَلَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ عِنْدَهُ سَجْدَةٌ وَكَانَ يَعُدُّ الْأَعْرَافَ وَالرَّعْدَ وَالنَّحْلَ وَبَنِي إسْرَائِيلَ وَمَرْيَمَ وَالْحَجَّ الْأُولَى مِنْهَا وَالْفُرْقَانَ وَالنَّمْلَ وَالَمْ تَنْزِيلَ وَصِّ وَحَم السَّجْدَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَسَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعَدَّهُنَّ كَمَا عَدَّهُنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ مِنْهَا وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ عِنْدَهُ سَجْدَةٌ. وَاَلَّذِي فِي سُورَةِ (ص) عِنْدَهُ سَجْدَةُ شُكْرٍ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْحَجِّ عِنْدَنَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَجْدَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِحَدِيثِ مَسْرَعِ بْنِ مَاهَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» أَوْ قَالَ «فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأهُمَا» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَقَدْ قَرَنَهَا بِالرُّكُوعِ فَقَالَ {: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَالسَّجْدَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالرُّكُوعِ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالْأُخْرَى سَجْدَةُ الصَّلَاةِ وَيَخْتَلِفُونَ فِي الَّتِي فِي سُورَةِ (ص) عِنْدَنَا وَهِيَ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَجْدَةُ الشُّكْرِ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ إذَا تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا يَسْجُدُهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْجُدُهَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَلَا فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ ص فَنَشَزَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: عَلَامَ نَشَزْتُمْ إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ». (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ فَأَمَرَ حَتَّى يَكْتُبَ فِي مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مَعَ أَصْحَابِهِ» (فَإِنْ قِيلَ) فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ «سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا». (فَلِمَا) هَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَمَا مِنْ عِبَادَةٍ يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ إلَّا وَفِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ إنَّهُ كَانَ تَوْبَةَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا لَمْ يَسْجُدْهَا فِي خُطْبَتِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ سَجَدَهَا فِي خُطْبَتِهِ مَرَّةً» وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ فَقَدْ قَطَعَ الْخُطْبَةَ لَهَا. وَيَخْتَلِفُونَ فِي الَّتِي فِي حم السَّجْدَةِ فِي مَوْضِعِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: آخِرُ الْآيَةِ الْأُولَى عِنْدَ قَوْلِهِ {إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: عِنْدَ آخِرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَبِهِ أَخَذْنَا لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ عِنْدَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهَا وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ الْأُولَى جَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْمُفَصَّلِ فَعِنْدَنَا فِيهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: عَزَائِمُ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ الَّتِي فِي {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] وَحَم السَّجْدَةِ وَفِي النَّجْمِ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إلَّا شَيْخًا وَضَعَ كَفًّا مِنْ التُّرَابِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: إنَّ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقِيتُهُ قُتِلَ كَافِرًا بِبَدْرٍ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ». (قَالَ): فَإِنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ رَاكِبًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُومِئَ بِهَا وَقَالَ بِشْرٌ: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْمَنْذُورَةِ فَإِنَّ الرَّاكِبَ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا الْتَزَمَهَا فَتِلَاوَتُهُ عَلَى الدَّابَّةِ شُرُوعٌ فِيمَا تَجِبُ بِهِ السَّجْدَةُ فَكَانَ نَظِيرُ مَنْ شَرَعَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي التَّطَوُّعِ فَكَمَا تَجُوزُ هُنَاكَ تَجُوزُ هَاهُنَا بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشُرُوعٍ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا فَيُقَاسُ بِمَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ): وَإِنْ تَلَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَنَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ وَأَدَّاهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 نُزُولِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا نَزَلَ وَرَكِبَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ (قَالَ) وَمَنْ تَلَاهَا مَاشِيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُومِئَ لَهَا لِأَنَّ السَّجْدَةَ رُكْنُ الصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يُصَلِّي الْمَاشِي بِالْإِيمَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَسْجُدُ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ (قَالَ) وَإِذَا قَرَأَهَا فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِينَ بَعْدَهَا فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالرُّكُوعِ كَمَا يَحْصُلُ بِالسُّجُودِ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي أَنَّ الرُّكُوعَ يَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَمْ السُّجُودُ بَعْدَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الرُّكُوعُ أَقْرَبُ إلَى مَوْضِعِ التِّلَاوَةِ فَهُوَ الَّذِي يَنُوبُ عَنْهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَجْدَةَ الصَّلَاةِ تَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ افْتِتَاحٌ لِلسُّجُودِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ السُّجُودِ وَإِنَّمَا يَنُوبُ مَا هُوَ الْأَصْلُ. (قَالَ) فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى هَكَذَا فَسَّرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا سَجَدَ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ آيَةِ السَّجْدَةِ ثُمَّ يَقُومَ فَيَتْلُوَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَالْأَوْلَى إذَا قَامَ مِنْ سُجُودِهِ أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ لِكَيْ لَا يَكُونَ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ عِنْدَ خَتْمِ السُّورَةِ فَإِنْ رَكَعَ لَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ سَجَدَ لَهَا ثُمَّ قَامَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعَ لِكَيْ لَا يَكُونَ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ (قَالَ) فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنَّهُ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ رَكَعَ أَجْزَأَهُ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي وَسَطِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ لَهَا ثُمَّ يَقُومَ فَيَقْرَأَ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْكَعَ وَإِنْ رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السَّجْدَةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ عَنْ السَّجْدَةِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ فَلَا يَنُوبُ الرُّكُوعُ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ عِنْدَهَا فَإِنَّهَا مَا صَارَتْ دَيْنًا بَعْدُ لِبَقَاءِ مَحَلِّهَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا مَا صَارَتْ دَيْنًا بَعْدُ حِينَ لَمْ يَقْرَأْ بَعْدَهَا مَا يُتِمُّ بِهِ سُنَّةَ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ فَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ نَابَ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ أَيْضًا وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ (قَالَ) فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا فَالْقِيَاسُ أَنَّ الرَّكْعَةَ وَالسَّجْدَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِالْقِيَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 نَأْخُذُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا السَّجْدَةُ وَتَكَلَّمُوا فِي مَوْضِعِ هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مُرَادُهُ إذَا تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فَفِي الْقِيَاسِ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَقَارَبَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] أَيْ سَاجِدًا وَيُقَالُ: رَكَعَتْ النَّخْلَةُ أَيْ طَأْطَأَتْ رَأْسَهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرُّكُوعُ خَارِجُ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا هُوَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الصَّلَاةِ إذَا رَكَعَ عِنْدَ مَوْضِعِ السَّجْدَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ نَظِيرُ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ فَكَمَا أَنَّ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنُوبُ عَنْ الْأُخْرَى وَالرُّكُوعُ لَا يَنُوبُ عَنْهُمَا فَكَذَلِكَ لَا يَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ التَّقَارُبُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الصَّلَاةِ قُرْبَةٌ وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِمَا يَتَرَجَّحُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ أَوْ قُوَّةٍ فِي جَانِبِ صِحَّتِهِ. (قَالَ): وَإِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَلَا يَذْكُرُهَا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا سَلَامُ السَّهْوِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ جَازَ اقْتِدَاؤُهُ وَيَسْجُدُهَا الْإِمَامُ إذَا ذَكَرهَا وَالْمُقْتَدِي مَعَهُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ لِأَنَّ عَوْدَهُ إلَى السَّجْدَةِ يَنْقُضُ الْقَعْدَةَ. (قَالَ) فَإِنْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَاطِعٌ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَمَا وَجَبَ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْكَانِ (قَالَ) وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقْضِهَا فِيهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِهَا فِيهَا وَكَذَلِكَ إنْ سَمِعَهَا فِي صَلَاتِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ فَإِنَّ سَبَبَهَا تِلَاوَةٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤَدِّيهَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا وَإِنْ سَجَدَهَا فِيهَا لَمْ تُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ (قَالَ) فَإِنْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَجْزَأَهُ يَعْنِي إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَسَجَدَ إلَى جِهَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّحَرِّي تَجُوزُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَالسَّجْدَةُ أَوْلَى. وَإِنْ ضَحِكَ فِيهَا أَعَادَهَا كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ لِأَنَّ الضَّحِكَ عُرِفَ حَدَثًا بِالْأَثَرِ وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَكَانَتْ قِيَاسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فِي صَلَاةٍ لَا يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَسَجَدَ لَهَا اشْتَبَهَ عَلَى الْقَوْمِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ غَلِطَ فَقَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَإِنْ قَرَأَ بِهَا سَجَدَ لَهَا لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السَّجْدَةِ» (قَالَ) وَيُكَبِّرُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَإِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَمَا فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ (قَالَ) وَلَا يُسَلِّمُ فِيهَا لِأَنَّ السَّلَامَ لِلتَّحْلِيلِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ وَلَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَاذَا يَقُولُ فِي سُجُودِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ مِنْ التَّسْبِيحِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا {سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] الْآيَةُ وَاسْتُحْسِنَ أَيْضًا أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُرْآنُ وَرَدَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ (قَالَ) رَجُلٌ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَمِعَهَا الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْجُدُونَ إذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ أَمَّا فِي الصَّلَاةِ لَا يَسْجُدُونَ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَهَا التَّالِي وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ انْقَلَبَ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ الْإِمَامُ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ وَإِنْ سَجَدَهَا الْإِمَامُ وَتَابَعَهُ التَّالِي كَانَ هَذَا خِلَافَ مَوْضُوعِ السَّجْدَةِ فَإِنَّ التَّالِيَ الْمُعْتَدَّ بِهِ إمَامُ السَّامِعِينَ وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلسَّجْدَةِ فِي حَقِّهِمْ قَدْ وَجَبَ وَهُوَ التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَنَعَتْ الْأَدَاءَ فِيهَا فَيَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ كَمَا لَوْ سَمِعُوا مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السَّجْدَةِ بِتِلَاوَتِهِ كَالْجُنُبِ إذَا تَلَاهَا وَلَهُمَا حَرْفَانِ. الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ عَنْ الْمُقْتَدِي فَرْضًا كَمَا يَحْمِلُ عَنْهُ مُوجِبَ السَّهْوِ ثُمَّ سَهْوُ الْمُقْتَدِي يَتَعَطَّلُ فَكَذَلِكَ تِلَاوَتُهُ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ صَلَاتِيَّةٌ لِأَنَّ سَبَبَهَا تِلَاوَةُ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّلَاتِيَّةُ إذَا لَمْ تُؤَدَّ فِي الصَّلَاةِ لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا كَمَا لَوْ تَلَاهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ إذَا فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ لَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ وَمَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ إذَا فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ وَلَيْسَ هَذَا كَقِرَاءَةِ الْجُنُبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قِرَاءَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الْقُرْآنِ الْمُوجِب لِلسَّجْدَةِ وَهُوَ مَا دُونَ الْآيَةِ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي وَلِأَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ مُولًى عَلَيْهِ وَالْمُقْتَدِي مُولًى عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفِهِ حُكْمٌ (قَالَ) وَإِذَا سَمِعَهَا مِنْ الْإِمَامِ مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ وَهُوَ السَّمَاعُ فَإِنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْهَا بَعْدُ سَجَدَهَا وَالدَّاخِلُ مَعَهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَلَاتِهِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَجَدَهَا سَقَطَتْ عَنْ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلَاةِ إذْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْجُدَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ فِي حَقِّهِ كَمَا هِيَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ فِيهَا وَالصَّلَاتِيَّةُ لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا. وَفِي الْأَصْلِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِيهَا يَنْوِي صَلَاةً أُخْرَى تَطَوُّعًا فَصَلَّاهَا مَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُبْتَدَأَةٌ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عِنْدَنَا سَقَطَ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ وَقَالَ زُفَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا كَالْمَنْذُورَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَدَّى خَلْفَ الْإِمَامِ حِينَ يُصَلِّيَ صَلَاةً أُخْرَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ أَتَمَّهَا حِينَ شَرَعَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ أَدَّاهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ فَقَدْ قَالَ هَهُنَا يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَفِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ قَالَ: لَا يَنُوبُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَنُوبُ هَذَا الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ أَدَّاهَا. (قَالَ): فَإِنْ قَرَأَهَا الْمُصَلِّي وَسَمِعَهَا أَيْضًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجْزِئُهُ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صَلَاتِيَّةٌ فَلَا تَنُوبُ عَمَّا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَدَّى مَا لَزِمَهُ بِالتِّلَاوَةِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ السَّمَاعِيَّةِ لِأَنَّ لَهَا حُرْمَتَيْنِ حُرْمَةَ التِّلَاوَةِ لَهَا وَحُرْمَةَ الصَّلَاةِ وَلِلسَّمَاعِيَّةِ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْقَوِيُّ يَنُوبُ عَنْ الضَّعِيفِ وَلَوْ اسْتَوَيَا نَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الثَّانِي فَلَأَنْ يَنُوبَ الْقَوِيُّ عَنْ الضَّعِيفِ كَانَ أَوْلَى (قَالَ): وَإِنْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 إلَى مَكَانِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَى هَذَا الْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لِأَنَّ بِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ تَجَدَّدَ لَهُ مَجْلِسٌ آخَرُ مِمَّا لَا يَكُونُ مِنْ صَلَاتِهِ وَالسَّمَاعِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ وَمَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ إذَا سَمِعَ وَسَجَدَ ثُمَّ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ وَسَمِعَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى (قَالَ): وَإِنْ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَسَجَدَ ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي مَكَانِهِ فَقَرَأَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لِلتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ صَلَاتِيَّةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْهَا الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ أَوَّلًا حَتَّى شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَكَانِهِ فَقَرَأَهَا فَسَجَدَ أَجْزَأَتْهُ عَنْهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُهُ عَنْ الْأُولَى وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُ الثَّانِيَةِ فِي الْأُولَى لِأَنَّهَا أَقْوَى وَلَا يُمْكِنُ إدْخَالُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّدَاخُلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ الصَّلَاتِيَّةُ تُؤَدَّى فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرُ الصَّلَاتِيَّةِ وَهِيَ الْأُولَى تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْمَتْلُوَّ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمَكَانُ وَاحِدٌ وَالْمُؤَدَّاةُ أَكْمَلُ مِنْ الْأُولَى لِأَنَّ لَهَا حُرْمَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْأُولَى لَنَابَتْ عَنْهَا فَإِذَا كَانَتْ أَكْمَلُ مِنْ الْأُولَى فَأَوْلَى أَنْ تَنُوبَ عَنْهَا (قَالَ): رَجُلٌ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ قَرَأَهَا ثَانِيَةً بَعْدَ مَا أَطَالَ الْقُعُودَ أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بَيْنَ التِّلَاوَتَيْنِ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ بِهِ الْمَجْلِسَ وَبِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَتَّحِدُ السَّبَبُ فَإِنْ أَكَلَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ عَمَلٍ يُعْرَفُ إنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَرَأَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعُلُومِ فَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسَ الْأَكْلِ ثُمَّ يَقْتَتِلُونَ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ وَصَارَ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ. (قَالَ) وَإِنْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ قَرَأَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِبَقَائِهِ فِي مَكَانِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا وَكَانَ قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَتْ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَتْ شَرْبَةً. (قَالَ) وَإِنْ قَرَأَ بَعْدَهَا سُورَةً طَوِيلَةً ثُمَّ أَعَادَ قِرَاءَةَ تِلْكَ السَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ السُّجُودِ فَبِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَتَّحِدُ السَّبَبُ (قَالَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَإِنْ قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سُجُودٌ وَلَمْ يَذْكُرْ هَهُنَا اخْتِلَافًا وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرُ لَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى. وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حُكْمًا عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يَسْقُطَ بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ نَظِيرَ الْإِعَادَةِ فِي الصَّلَاتَيْنِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مَكَانٌ وَاحِدٌ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمَتْلُوُّ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَصْلَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ (قَالَ): وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَخَذَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدِمَ رَجُلٌ جَاءَ سَاعَتئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ قَبْلَ هَذَا وَهُوَ فِي هَذِهِ التِّلَاوَةِ مُبْتَدِئٌ وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ وَإِذَا سَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ قَرَأَهَا فِي مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: إذَا سَلَّمَ ثُمَّ قَرَأَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لَمْ يَنْقَطِعْ فَوْرَ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا فِي الصَّلَاةِ وَهُنَا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرَ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ السَّلَامِ يَأْتِي بِهَا وَبَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بِهَا فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ (قَالَ) فِي الْأَصْلِ: وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَجَدَهَا الْآنَ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْكَلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَعَادَهَا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ. وَإِنْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَقَرَأَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ بِالنُّزُولِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ النُّزُولُ عَمَلٌ يَسِيرٌ حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ فَإِنْ كَانَ سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ كَمَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ (قَالَ): وَإِنْ قَرَأَهَا عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَكِبَ فَقَرَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ سَجَدَهَا سَجْدَةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَرْضِ وَلَوْ سَجَدَهَا عَلَى الدَّابَّةِ لَا تُجْزِئُهُ عَنْ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى وَإِنْ سَجَدَهَا عَلَى الْأَرْضِ فَالْمُؤَدَّاةُ أَقْوَى وَالْمَكَانُ مَكَانٌ وَاحِدٌ فَتَنُوبُ الْمُؤَدَّاةُ عَنْهُمَا. وَإِنْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ فِي مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَكَانَ وَاحِدٌ وَالْمَتْلُوَّ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ قَرَأَهَا رَاكِبًا سَائِرًا مَرَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إيقَافَهَا مَتَى شَاءَ فَكَانَ نَظِيرَ مَشْيِهِ وَهُوَ يَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ بِخِلَافِ رَاكِبِ السَّفِينَةِ فَإِنَّ السَّفِينَةَ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْتِ وَهُوَ لَا يُجْرِيهَا بَلْ هِيَ تَجْرِي بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَكَانَ وَإِنْ تَفَرَّقَ فَإِنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ وَاحِدَةٌ وَالسَّجْدَةُ مِنْ الصَّلَاةِ لَا مِنْ الْمَكَانِ فَيُرَاعِي فِيهَا اتِّحَادَ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا إذَا أَعَادَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَعَادَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ الْجَوَابُ هَهُنَا فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ أَنَّ هُنَاكَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَذَلِكَ عَمَلٌ كَثِيرٌ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ التِّلَاوَتَيْنِ وَالرَّاكِبُ يُومِئُ وَهُوَ عَمَلٌ يَسِيرٌ فَلِهَذَا لَا يَتَجَدَّدُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ (قَالَ) فَإِنْ سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِهِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْأَمْكِنَةِ لِاتِّحَادِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ بِالسَّمَاعِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ صَلَاة الْمُسْتَحَاضَةِ] بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ (قَالَ) وَإِذَا أَدْرَكَهَا الْحَيْضُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَقَدْ افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ تَفْتَتِحْهَا سَقَطَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ عَنْهَا أَمَّا إذَا حَاضَتْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إذَا طَهُرَتْ عِنْدَنَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَلَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَدَّتْ كَانَتْ مُؤَدِّيَةً لِلْفَرْضِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ ثُمَّ حَاضَتْ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرٌ لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فَإِذَا وُجِدَ تَقَرَّرَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا تَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ وَقَالَ زُفَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْوَقْتِ حِينَ حَاضَتْ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُوَسَّعٌ وَإِنَّمَا يَضِيقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ يَجِبُ بِالتَّفْوِيتِ فَمَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لَمْ تَكُنْ هِيَ مُفَوِّتَةٌ بِالتَّأْخِيرِ شَيْئًا حَتَّى لَا تَكُونَ آثِمَةً مُفْرِطَةً وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ فَهِيَ آثِمَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 مُفْرِطَةٌ وَكَانَتْ مُفَوِّتَةً فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتِ فَالصَّلَاةُ لَمْ تَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بَلْ هِيَ فِي الْوَقْتِ عَيْنٌ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَضَاءِ فَأَمَّا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الصَّلَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ مُخَيَّرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَمَا لَمْ يَتَقَرَّرْ الْوُجُوبُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِذَا اقْتَرَنَ الْحَيْضُ بِوَقْتٍ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فَلَمْ يَتَقَرَّرْ الْوُجُوبُ وَإِذَا حَاضَتْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَقْتَرِنْ الْحَيْضُ بِحَالِ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فَتَقَرَّرَ وَعَلَى هَذَا لَوْ نَفِسَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ بِإِسْقَاطِ سِقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُلِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَطَالَ إغْمَاؤُهُ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ تِلْكَ الصَّلَاةِ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ حَاضَتْ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهَا الْحَيْضُ بَعْدَ مَا افْتَتَحَتْ التَّطَوُّعَ كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إذَا طَهُرَتْ لِأَنَّهَا بِالشُّرُوعِ الْتَزَمَتْ الْأَدَاءَ فَكَأَنَّهَا الْتَزَمَتْهُ بِالنَّذْرِ وَفِي الْفَرِيضَةِ بِالشُّرُوعِ مَا الْتَزَمَتْ شَيْئًا وَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِلْإِسْقَاطِ لَا لِلِالْتِزَامِ فَإِذَا أَدْرَكَهَا الْحَيْضُ اُلْتُحِقَتْ بِمَا لَوْ لَمْ تُشْرَعْ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ مَا هُوَ لَازِمٌ لَا يَتَحَقَّقُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَدَاءَ فَرِيضَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالنَّذْرِ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَعَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا تَغْتَسِلُ فِيهِ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَانْقَطَعَ الدَّمُ وَقَدْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَبِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ تَيَقَّنَّا خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ لَزِمَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ تَمَكَّنَتْ فِيهِ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ صَبِيٌّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَمُدَّةُ الِاغْتِسَالِ مِنْ جُمْلَةِ حَيْضِهَا عَلَى مَا قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَةَ هَذِهِ الْبَلْوَى لَا تَكَادُ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْوَلَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لَا تَخْرُجُ مِنْ الْحَيْضِ لِجَوَازِ أَنْ يُعَاوِدَهَا فَإِذَا اغْتَسَلَتْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا شَرْعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ مِنْ حَيْضِهَا قُلْنَا إذَا أَدْرَكَتْ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ وَتَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ فَقَدْ أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْقُرْبَانِ لِلزَّوْجِ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَمَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَالِاطِّهَارُ بِالِاغْتِسَالِ. (وَلَنَا) أَنَّ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ تَيَقَّنَّا خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ وَالْمَانِعُ مِنْ الْوَطْءِ الْحَيْضُ لَا وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّاهِرَةَ إذَا كَانَتْ جُنُبًا فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا فَكَذَلِكَ هُنَا بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا وَلَوْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَانْقَطَعَ دَمُهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِبَقَاءِ فَرْضِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الطِّهَارَاتِ فَثَبَتَتْ صِفَةُ الطَّهَارَةِ بِهِ شَرْعًا كَمَا ثَبَتَتْ بِالِاغْتِسَالِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ صِفَةِ الْحَيْضِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا (قَالَ) وَإِذَا كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَزَادَ الدَّمُ عَلَيْهَا فَالزِّيَادَةُ دَمُ حَيْضٍ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِأَنَّ عَادَةَ الْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهَا لَا تَبْقَى عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَزْدَادُ تَارَةً وَتَنْقُصُ أُخْرَى بِحَسَبِ اخْتِلَافِ طَبْعِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا جَعَلْنَاهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَيْضِ عَلَى الْإِمْكَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا بَلَغَتْ فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُجْعَلُ حَيْضُهَا عَشَرَةً لِلْإِمْكَانِ فَهَذَا كَذَلِكَ فَإِذَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ كَانَ حَيْضُهَا هِيَ الْخَمْسَةَ وَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ فَتَيَقَّنَّا فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ أَنَّهَا اسْتِحَاضَةٌ وَتَيَقَّنَّا فِي أَيَّامِهَا بِالْحَيْضِ بَقِيَ التَّرَدُّدُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ إنْ أَلْحَقْنَاهُ بِمَا قَبْلَهُ كَانَ حَيْضًا وَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بِمَا بَعْدَهُ كَانَ اسْتِحَاضَةً فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالشَّكِّ وَإِلْحَاقُهُ بِمَا بَعْدَهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَا ظَهَرَ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ الِاسْتِحَاضَةُ مُتَّصِلًا بِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» (قَالَ) وَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَتَقَدَّمَ حَيْضُهَا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ خَمْسَةٍ فَهِيَ حَائِضٌ اعْتِبَارًا لِلْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ وَمَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَالْمُتَقَدِّمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 تَبَعٌ لِأَيَّامِهَا وَالْكُلُّ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ تَبَعٌ لِمَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا شَيْئًا وَرَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا مَعَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهُ دَمٌ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ قَبْلَ وَقْتِهِ فَهِيَ كَالصَّغِيرَةِ جِدًّا إذَا رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَعِنْدَهُمَا الْكُلُّ حَيْضٌ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّهُ مَرْئِيٌّ عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ وَبَابُ الْحَيْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ كَمَا قَرَّرْنَا فَأَمَّا إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ وَفِي أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ فَعِنْدَهُمَا الْكُلُّ حَيْضٌ إذَا لَمْ يُجَاوِزَ الْعَشَرَةَ (وَعَنْ) أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا أَنَّ الْكُلَّ حَيْضٌ لِأَنَّ مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا كَانَ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فَيَسْتَتْبِعُ مَا قَبْلَهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى إنَّ حَيْضَهَا مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا دُونَ مَا رَأَتْ قَبْلَهَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَالْمُتَقَدِّمُ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ قَبْلَ وَقْتِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّ فِي الْمُتَأَخِّرِ قَدْ صَارَتْ هِيَ حَائِضًا بِمَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا فَبَقِيَتْ صِفَةُ الْحَيْضِ لَهَا بِالْمَرْئِيِّ بَعْدَهُ تَبَعًا وَفِي الْمُتَقَدِّمِ الْحَاجَةُ فِي إثْبَاتِ صِفَةِ الْحَيْضِ لَهَا ابْتِدَاءً وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْمُسْتَنْكَرِ الْمَرْئِيِّ قَبْلَ وَقْتِهِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا مُخْتَلِفًا مَرَّةً تَحِيضُ خَمْسَةً وَمَرَّةً سَبْعَةً فَاسْتُحِيضَتْ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ خَمْسَةً بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَتُصَلِّي يَوْمَيْنِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا لِجَوَازِ أَنَّهَا حَائِضٌ فِيهِمَا وَلَوْ كَانَ هَذَا آخِرَ عِدَّتِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا. (قَالَ) وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَتَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ جَانِبٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءَتْ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ فَائِتَةٍ (قَالَ) فَإِنْ أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تَتَقَدَّرُ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ الدَّمِ السَّائِلِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي سَائِرِ الْأَحْدَاثِ فَهِيَ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَصِحَّاءِ وَكَذَلِكَ إنْ تَوَضَّأَتْ لِلْحَدَثِ أَوَّلًا ثُمَّ سَالَ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ لَمَّا سَبَقَ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَالْحُكْمُ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 يَسْبِقُ سَبَبَهُ فَكَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ كَالْمَعْدُومِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً ثُمَّ حَاضَتْ أُخْرَى سِتَّةً فَحَيْضُهَا سِتَّةٌ وَكُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذَلِكَ وَمُرَادُهُ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَاحْتَاجَتْ إلَى الْبِنَاءِ وَهَذَا الْجَوَابُ وَهُوَ قَوْلُهُ حَيْضُهَا سِتَّةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّمَا تَبْنِي عَلَى مَا رَأَتْ آخِرَ مَرَّةٍ لِأَنَّ عَادَتَهَا انْتَقَلَتْ إلَيْهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْصُلُ انْتِقَالُ الْعَادَةِ بِمَا دُونَ الْمَرَّتَيْنِ لِيَتَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ فَسِتَّةٌ قَدْ رَأَتْهُ مَرَّتَيْنِ فَانْتَقَلَتْ إلَيْهَا وَالْيَوْمُ السَّابِعُ إنَّمَا رَأَتْ الدَّمَ فِيهِ مَرَّةً فَلَمْ يَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ وَالْبِنَاءُ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا تَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسًا فَحَاضَتْهَا وَطَهُرَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَاوَدَهَا الْيَوْمَ الْعَاشِرَ كُلَّهُ ثُمَّ انْقَطَعَ فَذَلِكَ كُلُّهُ حَيْضٌ وَلَا يُجْزِئُهَا صَوْمُهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي طَهُرَتْ فِيهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ عِنْدَهُ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ إذَا كَانَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ فَاصِلًا عِنْدَهُ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِأَنَّ الدَّمَ مُحِيطٌ بِطَرَفَيْ الْعَشَرَةِ وَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لِأَنَّهَا رَأَتْ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثْلَ أَقَلِّهِ وَزِيَادَةً وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ الدَّمَ غَالِبٌ عَلَى الطُّهْرِ فِي الْعَشَرَةِ فَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَحَيْضُهَا خَمْسَتُهَا لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا بَلَغَ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَصِيرُ فَاصِلَا وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ (قَالَ) وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْكَدِرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ الْخَالِصَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا تَكُونُ الْكَدِرَةُ حَيْضًا إلَّا بَعْدَ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْحَيْضَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الرَّحِمِ دُونَ الْخَارِجِ مِنْ الْعِرْقِ وَدَمُ الْحَيْضِ يَجْتَمِعُ فِي الطُّهْرِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ يَخْرُجُ الصَّافِي مِنْهُ ثُمَّ الْكَدِرَةُ فَأَمَّا دَمُ الْعِرْقِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْكَدِرَةُ أَوَّلًا ثُمَّ الصَّافِي وَمَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي حَالِ الْمُفْتَصَدِ فَإِذَا خَرَجَتْ الْكَدِرَةُ أَوَّلًا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا لَنَا عَلَى أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ وَأَمَّا إذَا خَرَجَ الصَّافِي مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ الْكَدِرَةُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ الْكُلُّ حَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا يَكُونُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهَا يَكُونُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ بِالنَّصِّ هُوَ الْأَذَى الْمَرْئِيُّ مِنْ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَالْكُلُّ فِي صِفَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الْأَذَى سَوَاءٌ. (قَالَ) وَأَلْوَانُ الدَّمِ سِتَّةٌ وَالْبَيَانُ الشَّافِي فِيهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. وَإِنَّمَا قَالَ حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ الْخَالِصَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكَرَاسِفِ إلَيْهَا لِتَنْظُرَهَا فَكَانَتْ إذَا رَأَتْ كَدِرَةً قَالَتْ: لَا حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ يَعْنِي الْبَيَاضَ الْخَالِصَ قِيلَ هُوَ بَيَاضُ الْخِرْقَةِ وَقِيلَ هُوَ شِبْهُ خَيْطٍ دَقِيقٍ أَبْيَضَ تَرَاهُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْكُرْسُفِ إذَا طَهُرَتْ (قَالَ) فَإِنْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُؤَالًا فَقَالَ: لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: إذَا ضَمَمْت إلَيْهَا طُهْرًا آخَرَ كَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ (وَيَحْكِي) أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَتْ: إنِّي حِضْت فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ: مَاذَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً مِنْ بِطَانَتِهَا مِمَّنْ يُرْضَى بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ مِنْهَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون وَهِيَ بِلُغَةِ الرُّومِيَّةِ أَصَبْت وَمُرَادُ شُرَيْحٍ مِنْ هَذَا تَحْقِيقُ نَفْيِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ ذَلِكَ وَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ (قَالَ) وَمَا رَأَتْ النُّفَسَاءُ مِنْ الدَّمِ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ تُصَلِّي فِيهَا وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا عِنْدَنَا وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَكَانَتْ الْأَرْبَعُونَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ فَكَمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَشَرَةِ هُنَاكَ تَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ هَاهُنَا. (قَالَ) وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ عَقِبَ الْوِلَادَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ تَنَفَّسَ الرَّحِمُ بِهِ وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِذَا طَهُرَتْ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ إيَّاهَا مَوْهُومَةٌ وَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ (قَالَ): فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَطَهُرَتْ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا وَصَلَتْ وَصَامَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ فَاسْتَمَرَّ بِهَا حَتَّى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِينَ لِأَنَّ صَاحِبَةَ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ كَصَاحِبَةِ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ مَتَى زَادَ عَلَى عَادَتِهَا وَجَاوَزَ الْعَشَرَةَ تُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا وَتُجْعَلُ مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): وَلَا يُجْزِئُهَا صَوْمُهَا فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي صَامَتْهَا قَبْلَ الثَّلَاثِينَ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ مُسْتَقِيمٌ وَعَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فِيهِ نَظَرٌ وَهَذَا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 كَمَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لَهَا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا عِنْدَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي بَعْدَ الْعِشْرِينَ (قَالَ) وَدَمُ الْحَامِلِ لَيْسَ بِحَيْضٍ وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ حَيْضٌ فِي حُكْمِ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقُرْبَانِ دُونَ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ قَالَ: لِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا صَغِيرَةٌ أَوْ آيِسَةٌ أَوْ ذَاتُ قُرْءٍ وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ وَلَا آيِسَةٍ وَلِأَنَّ مَا يُنَافِي الْأَقْرَاءَ يُنَافِي الْحَبَلَ كَالصِّغَرِ وَالْيَأْسِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ رَأَتْ مِنْ الدَّمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا جُعِلَ حَيْضًا لَهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إذَا أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ» إلَّا أَنَّا لَا نَجْعَلُ حَيْضَهَا مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ فِي حَقِّهَا وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا قَالَتْ: الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ انْسَدَّ فَمُ رَحِمِهَا فَلَا يَخْلُصُ شَيْءٌ إلَى رَحِمِهَا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَالدَّمُ الْمَرْئِيُّ لَيْسَ مِنْ الرَّحِمِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قَالَتْ الصَّحَابَةُ: فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَنَزَلَ قَوْلُهُ {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ} [الطلاق: 4] فَقَالُوا: فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَنَزَلَ قَوْلُهُ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ «إذَا أَقْبَلَ قُرْؤُك» يَتَنَاوَلُ الْحَائِلَ دُونَ الْحَامِلِ (قَالَ) فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ فَالنِّفَاسُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ حَامِلٌ بَعْدُ. وَالْحَامِلُ لَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ كَمَا لَا تَحِيضُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوَلَدِ الْآخَرِ وَهُمَا يَقُولَانِ النِّفَاسُ مِنْ تَنَفَّسَ الرَّحِمُ بِالدَّمِ مِنْ خُرُوجِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الْوَلَدُ أَوْ مِنْ خُرُوجِ النَّفَسِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ لِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ وَقَدْ انْفَتَحَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَكَانَ الدَّمُ الْمَرْئِيُّ بَعْدَهُ مِنْ الرَّحِمِ وَفِي حُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الْعِبْرَةُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوَلَدِ الْآخَرِ (قَالَ) وَإِذَا تَوَضَّأَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ وَالدَّمُ سَائِلٌ وَلَبِسَتْ خُفَّيْهَا فَلَهَا أَنْ تَمْسَحَ عَلَيْهِمَا مَا دَامَتْ فِي وَقْتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 عِنْدَنَا (قَالَ) زُفَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَمْسَحُ كَمَالَ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. (قَالَ) وَإِذَا وَجَبَ الْوُضُوءُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَتْ الصَّلَاةَ وَإِذَا وَجَبَ بِسَيَلَانِ الدَّمِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا وَمَعْنَى هَذَا إذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا حِينَ تَوَضَّأَتْ أَوْ سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ لِأَنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَكِنْ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِالدَّمِ السَّائِلِ مَقْرُونًا بِالطَّهَارَةِ أَوْ بَعْدَهَا فِي الْوَقْتِ وَقَدْ أَدَّتْ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّمِ وَأَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا فَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَخَرَجَ الْوَقْتُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَبْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ وَتَبْنِي لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِالدَّمِ السَّائِلِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَبْنِيَ (قَالَ): وَصَاحِبُ الرُّعَافِ السَّائِلِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ (قَالَ): وَإِنْ سَالَ الدَّمُ مِنْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ فَتَوَضَّأَ لَهُ ثُمَّ سَالَ مِنْ الْمَنْخَرِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَقَعْ الطَّهَارَةُ لَهُ فَهُوَ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ سَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَتَوَضَّأَ لَهُمَا ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ وُضُوءَهُ وَقَعَ لَهُمَا وَمَا بَقِيَ بَعْدَ انْقِطَاعِ أَحَدِهِمَا حَدَثٌ كَامِلٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَوَضَّأَ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا لِوَاحِدٍ كَانَ يَتَقَدَّرُ وُضُوءَهُ بِالْوَقْتِ لِأَجْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْبَقَاءِ وَمَا انْقَطَعَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ صَاحِبِ الْقُرُوحِ إذَا كَانَ الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ مِنْ آخَرَ أَوْ كَانَ الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عَنْ الْبَعْضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِوُجُوبِهِ وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ لِأَجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا. وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا وَتَحَبَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُجْبَرُوا وَتُنْصَرُوا وَتُرْزَقُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 هَذَا فَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَلَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ أَلَا فَلَا صَوْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَفِي حَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ يَقُولُ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلِيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ». وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْفَرْضِ الْجُمُعَةُ فِي حَقِّ مَنْ تَلْزَمُهُ إقَامَتُهَا وَكَانَتْ فَرِيضَةُ الْجُمُعَةِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَفَرِيضَةِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا هُوَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَهُوَ الظُّهْرُ وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ هَذَا الْفَرْضِ بِالْجُمُعَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ وَلَوْ جَعَلْنَا أَصْلَ الْفَرْضِ الْجُمُعَةَ لَكَانَ الظُّهْرُ خَلَفًا عَنْ الْجُمُعَةِ عِنْدَ فَوَاتِهَا وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا تَكُونُ خَلَفًا عَنْ رَكْعَتَيْنِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الظُّهْرُ وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ هَذَا الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهَا فَهِيَ تَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْهَا فِي الْمُصَلِّي وَمِنْهَا فِي غَيْرِهِ (قَالَ) أَمَّا الشَّرَائِطُ فِي الْمُصَلِّي لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَالْإِقَامَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالصِّحَّةُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا مُسَافِرٌ وَمَمْلُوكٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ وَمَرِيضٌ فَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ». وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدُخُولِ الْمِصْرِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ أَحَدًا يَحْفَظُ رَحْلَهُ وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ وَالْمَمْلُوكُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَيَتَضَرَّرُ مِنْهُ الْمَوْلَى بِتَرْكِ خِدْمَتِهِ وَشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ الْإِمَامَ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ كَمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْجِهَادَ بِخِلَافِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ حَيْثُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى أَوْ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى عَنْهُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى إذْ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ كَثِيرٌ عَلَيْهِ وَتَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْكَثِيرِ. (قَالَ): وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا لِمَا فِي خُرُوجِهَا إلَى مَجْمَعِ الرِّجَالِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْمَرِيضُ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّعْيِ بِنَفْسِهِ وَيَلْحَقُهُ مِنْ الْحَرَجِ مَا يَلْحَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الْمَرِيضَ وَعِنْدَهُمَا إذَا وَجَدَ قَائِدًا تَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى السَّعْيِ وَإِنَّمَا لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ كَالضَّالِّ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ لَا شَرَائِطُ الْأَدَاءِ حَتَّى أَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَمْلُوكَ وَالْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ إذَا شَهِدُوا الْجُمُعَةَ فَأَدَّوْهَا جَازَتْ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كُنَّ النِّسَاءُ يُجْمَعْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا تَخْرُجْنَ إلَّا تَفِلَاتٍ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» وَلِأَنَّ سُقُوطَ فَرْضِ السَّعْيِ عَنْهُمْ لَا لِمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ فَإِذَا تَحَمَّلُوا الْتَحَقُوا فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ (قَالَ) فَأَمَّا الشَّرَائِطُ فِي غَيْرِ الْمُصَلَّى لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَسِتَّةٌ الْمِصْرُ وَالْوَقْتُ وَالْخُطْبَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَالسُّلْطَانُ وَالْإِذْنُ الْعَامُّ أَمَّا الْمِصْرُ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكُلُّ قَرْيَةٍ سَكَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ بِهِمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَى وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ وَكَتَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُوَاثَى فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ جَمِّعْ بِهَا وَحَيْثُمَا كُنْت. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى مَا اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَبِنَاءِ الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَجُؤَائِي مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ وَتَسْمِيَةُ الرَّاوِي إيَّاهَا بِالْقَرْيَةِ لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّأْوِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ولِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92] وَمَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَحَيْثُمَا كُنْت أَيْ مِمَّا هُوَ مِثْلُ جِؤَائِي مِنْ الْأَمْصَارِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ قَاضٍ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ صَانِعٍ أَنْ يَعِيشَ بِصَنْعَتِهِ فِيهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّحَوُّلِ إلَى صَنْعَةٍ أُخْرَى وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّ أَهْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا مِصْرٌ جَامِعٌ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا عَلَى مَنْ سَكَنَ الْمِصْرَ وَالْأَرْيَافَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْمِصْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الْآيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ سَكَنَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الْمِصْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَهَا وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَسْكُنُهُ مَنْ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ مُسَافِرًا فَوَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَهَا لِأَنَّ مَسْكَنَهُ لَيْسَ مِنْ الْمِصْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقِيمَ فِي الْمِصْرِ لَا يَكُونُ مُقِيمًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. [وَقْت صَلَاة الْجُمُعَةَ] وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ يَعْنِي بِهِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ قَالَ لَهُ: إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» «وَكَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَتَجَهَّزُ فِيهِ الْيَهُودُ لِسَبْتِهِمْ فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحَى» مَعْنَاهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَمَقْصُودُ الرَّاوِي أَنَّهُ مَا أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: تَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْوَقْتَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ [شُرُوط الْجُمُعَةَ] (قَالَ) وَالْخُطْبَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يَعْنِي الْخُطْبَةَ، وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى الْجُمُعَةَ فِي عُمْرِهِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ فَلَوْ جَازَ لَفَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ. (قَالَ) بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْخُطْبَةُ تَقُومُ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ شَطْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْخُطْبَةَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي أَدَائِهَا وَلَا يَقْطَعُهَا الْكَلَامُ وَيُعْتَدُّ بِهَا وَإِنْ أَدَّاهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ فَبِهِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ (قَالَ) وَالْجَمَاعَةُ مِنْ شَرَائِطِهَا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً وَفِي هَذَا الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا. وَيَخْتَلِفُونَ فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثَةُ نَفَرٍ سِوَى الْإِمَامِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ لِأَنَّ الْمُثَنَّى فِي حُكْمِ الْجَمَاعَةِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمَا وَفِي الْجَمَاعَةِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُثَنَّى وَجْهُ قَوْلِهِمَا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهَذَا يَقْتَضِي مُنَادِيًا وَذَاكِرًا وَهُوَ الْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ وَالِاثْنَانِ يَسْعَوْنَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاسْعَوْا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُثَنَّى ثُمَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِجَمْعٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَصَلُوا بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَالْمُثَنَّى وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ وَاشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِي الثَّلَاثَةِ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 يَكُونُوا بِحَيْثُ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى أَنَّ نِصَابَ الْجُمُعَةِ لَا يَتِمُّ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَيَتِمُّ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: النِّصَابُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ وَهَذَا فَاسِدٌ. فَإِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَقَامَهَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَلَمَّا نَفَرَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْعِيرُ الْمَدِينَةَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا} [الجمعة: 11] بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْإِقَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ لِأَنَّ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ أَعْلَى فَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا فِي الصَّلَاحِيَّةِ لِلْإِمَامَةِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَكُونُ مُؤْتَمًّا وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ هَذَا فَقَدْ «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ حَتَّى قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ» (قَالَ) وَالسُّلْطَانُ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَاسَهُ بِأَدَاءِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَالسُّلْطَانُ وَالرَّعِيَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ» فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِمَامَ لِإِلْحَاقِهِ الْوَعِيدَ بِتَارِكِ الْجُمُعَةِ وَفِي الْأَثَرِ «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ مِنْهَا الْجُمُعَةُ» وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ الْجَمَاعَاتِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا السُّلْطَانُ أَدَّى إلَى الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ يَسْبِقُ بَعْضُ النَّاسِ إلَى الْجَامِعِ فَيُقِيمُونَهَا لِغَرَضٍ لَهُمْ وَتَفُوتُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَيُجْعَلُ مُفَوَّضًا إلَى الْإِمَامِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ أَحْوَالُ النَّاسِ وَالْعَدْلُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ. وَالْإِذْنُ الْعَامُّ مِنْ شَرَائِطِهَا حَتَّى أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا صَلَّى بِحَشَمِهِ فِي قَصْرِهِ فَإِنْ فَتْح بَابَ الْقَصْرِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ إذْنًا عَامًّا جَازَتْ صَلَاتُهُ شَهِدَهَا الْعَامَّةُ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوهَا وَإِنْ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ قَصْرِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ السُّلْطَانِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَفْوِيتِهَا عَلَى النَّاسِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِذْنِ الْعَامِّ وَكَمَا يَحْتَاجُ الْعَامَّةُ إلَى السُّلْطَانِ فِي إقَامَتِهَا فَالسُّلْطَانُ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ إذْنًا عَامًّا بِهَذَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (قَالَ) فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُمْ وَقَدْ أَسَاءُوا فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُمْ أَدَّوْا أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْهَا لَهُمْ أَمَرْنَاهُمْ بِإِعَادَةِ الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْأَمْرُ بِإِعَادَةِ الظُّهْرِ عِنْدَ تَفْوِيتِهَا فِي الْوَقْتِ وَمَا فَوَّتُوهَا وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِمْ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ مَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَهَا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ» (قَالَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَلَيْسَ تَتْلُو قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوك قَائِمًا} [الجمعة: 11] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ النَّاسُ بِدُخُولِ الْعِيرِ الْمَدِينَةَ» وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِلْسَةَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّهَا شَرْطٌ (قَالَ) إمَامٌ خَطَبَ جُنُبًا ثُمَّ اغْتَسَلَ فَصَلَّى بِهِمْ أَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُجْزِئُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَفِي الْأَثَرِ إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ فَكَمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْخُطْبَةَ ذِكْرٌ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَا خَلَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي حَقِّ الْجُنُبِ وَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ نَظِيرَ الصَّلَاةِ وَلَا بِمَنْزِلَةِ شَطْرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُؤَدَّى غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ بِهَا الْقِبْلَةَ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّوَابِ كَشَطْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي اشْتِرَاطِ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْأَذَانِ أَنَّهُ يُعَادُ أَذَانُ الْجُنُبِ وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ خُطْبَةِ الْجُنُبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّ الْأَذَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْجَوَازِ فَذِكْرُ اسْتِحْبَابِ الْإِعَادَةِ وَالْخُطْبَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ الْجَوَازِ فَذَكَرَ الْجَوَازَ هُنَا. وَاسْتِحْبَابُ الْإِعَادَةِ هَاهُنَا كَهُوَ فِي الْأَذَانِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فِي خُطْبَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] قِيلَ: الْآيَةُ فِي الْخُطْبَةِ سَمَّاهَا قُرْآنًا لِمَا فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَلِّغُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خُطْبَتِهِ وَذَكَرَ السُّورَةَ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَالْإِعْجَازِ وَلَوْ اكْتَفَى بِقِرَاءَةِ آيَةٍ طَوِيلَةٍ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بِهَذَا فَسُنَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى (قَالَ) وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَأَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 شَرَائِطَ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِمَامُ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَالْجُمُعَةُ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَمَنْ وَلَّاهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِخْلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الْمُفْتَتِحُ لَهَا فَإِذَا لَمْ يَسْتَجْمِعْ شَرَائِطَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ افْتِتَاحُهَا كَالْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَخْطُبْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ افْتَتَحَ الْأَوَّلُ الصَّلَاةَ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّانِي بَانٍ وَلَيْسَ بِمُفْتَتِحٍ وَالْخُطْبَةُ مِنْ شَرَائِطِ الِافْتِتَاحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَفْسَدَ الْبَانِي صَلَاتَهُ ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ أَيْضًا وَهُوَ مُفْتَتِحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَصَارَ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ اُلْتُحِقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ حُكْمًا فَلِهَذَا جَازَ لَهُ افْتِتَاحُهَا بَعْدَ الْإِفْسَادِ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ جُنُبًا وَقَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلَمَّا أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ أَمَرَ هُوَ رَجُلًا طَاهِرًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ الْإِمَامِ إيَّاهُ يُثْبِتُ لَهُ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ فَيُفِيدُهُ وِلَايَةَ الِاسْتِخْلَافِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ الْأَوَّلُ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَمَرَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ إيَّاهُ لَمْ يُفِدْهُ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُفِيدُهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ الْأَوَّلُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْهُ وِلَايَةَ إقَامَتِهَا بِنَفْسِهِ وَوِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ تَثْبُتُ تَبَعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا فَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ إمَامًا أَوْ الْقَاضِي أَوْ أَمَرَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَقَدْ فَوَّضَ إلَى الْقَاضِي وَصَاحِبِ الشُّرْطِ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا فِيهِ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ فِي الْإِمَامَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ (قَالَ): وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ وَالتَّكَلُّمُ فِي خِلَالِهِ يُذْهِبُ بَهَاءَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ كَمَا فِي خِلَالِ الْأَذَانِ وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسْأَلُهُ النَّاسُ عَنْ سِعْرِ الشَّعِيرِ وَعَنْ سِعْرِ الزَّيْتِ فَقَدْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي خِلَالِهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ دَخَلَ وَهُوَ يَخْطُبُ: أَيَّةُ سَاعَةِ الْمَجِيءِ هَذِهِ الْحَدِيثُ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْخُطْبَةُ كُلُّهَا وَعْظٌ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ إذْ دَخَلَ أَعْرَابِيُّ وَقَالَ: هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ وَخَشِينَا الْقَحْطَ فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قِيلَ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204] الْآيَةُ وَقِيلَ كَانَ مَلَكًا مُقَيَّضًا هَبَطَ فِي الْجُمُعَتَيْنِ لِيُذَكِّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاءَ الِاسْتِسْقَاءِ وَدُعَاءَ الْفَرَجِ مِنْ خَوْفِ الْغَرَقِ وَالْخُطْبَةُ فِيهَا الدُّعَاءُ (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ فِي الْخُطْبَةِ يُخَاطِبُهُمْ بِالْوَعْظِ فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِالْكَلَامِ لَمْ يُفِدْ وَعْظُهُ إيَّاهُمْ شَيْئًا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: انْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ» «وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةً فِي خُطْبَتِهِ. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَمَا إنَّ حَظَّك مِنْ صَلَاتِك مَا لَغَوْت فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُوهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَدَقَ أُبَيٌّ» وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: مَتَى تَخْرُجُ الْقَافِلَةُ؟ فَقَالَ صَاحِبُهُ: غَدًا فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لِلْمُجِيبِ: أَمَّا إنَّك فَقَدْ لَغَوْت وَأَمَّا صَاحِبُك هَذَا فَحِمَارٌ. فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَسْكُتُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْئَانِ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ فَمَنْ قَرُبَ مِنْ الْإِمَامِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْإِنْصَاتُ فَيَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْتَارُ السُّكُوتَ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْتَارُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ وَالْحَكَمُ بْنُ زُهَيْرٍ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا وَكَانَ مُولَعًا بِالتَّدْرِيسِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا دَخَلَ الْعِرَاقَ أَحَدٌ أَفْقَهُ مِنْ الْحَكَمِ بْنِ زُهَيْرٍ قُلْت: فَهَلْ يَرُدُّونَ السَّلَامَ وَيُشَمِّتُونَ الْعَاطِسَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَمِعُوا فَقَدْ أَظْرَفَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَلَمْ يَقُلْ لَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَاطِسَ هَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَأَمَّا التَّشْمِيتُ وَرَدُّ السَّلَامِ فَلَا يَأْتِي بِهِمَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ وَالِاسْتِمَاعَ سُنَّةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: رَدُّ السَّلَامِ إنَّمَا يَكُونُ فَرِيضَةً إذَا كَانَ السَّلَامُ تَحِيَّةَ وَفِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ الْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ السَّلَامِ فَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ فَرْضًا كَمَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ طَلَبُ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِنْ تَارِيخِ الْمُنْزَلِ فَقَدْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا آيَةَ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَقَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّغْوِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَكَذَلِكَ رَدُّ السَّلَامِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّهُ يُبَلِّغُهُمْ أَمْرًا فَعَلَيْهِمْ الِامْتِثَالُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَالَةَ الْخُطْبَةِ كَحَالَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ فَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ الْقَوْمُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا فِي خُطْبَتِهِ (قَالَ): الْإِمَامُ إذَا خَرَجَ فَخُرُوجُهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُكْرَهَ افْتِتَاحُهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ فِيهَا أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا يَعْنِي يُسَلِّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: الصَّلَاةُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ خَطِيئَةٌ وَلِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ وَالصَّلَاةُ تَشْغَلُهُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّطَوُّعِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِحَدِيثِ «سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْهُمَا» وَدَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الْمَسْجِدَ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَا أَتْرُكُهُمَا بَعْدَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِيهِمَا مَا قَالَ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ سُلَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْلِهِ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204] وَقِيلَ لِمَا دَخَلَ وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ رَثَّةٌ تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُطْبَةَ لِأَجْلِهِ وَانْتَظَرَهُ حَتَّى قَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَرَى النَّاسُ سُوءَ حَالِهِ فَيُوَاسُوهُ بِشَيْءٍ وَفِي زَمَانِنَا الْخَطِيبُ لَا يَتْرُكُ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ فَلَا يَشْتَغِلُ هُوَ بِالصَّلَاةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ كَمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَلَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «خُرُوجُ الْإِمَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يَقْطَعُ الصَّلَاةَ» وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَمْتَدُّ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهَا حِينَ يَأْخُذُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَتَى شَاءَ وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى النَّاسُ الْكَلَامَ وَأَمَّا إذَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فَهُمْ يَكْتُبُونَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَكَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا فَيَجْعَلُ كَالشَّارِعِ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ جَعْلَ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا كَالشُّرُوعِ فِيهَا فَكَذَلِكَ فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ وَوُجُوبُ الْإِنْصَاتِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْخُطْبَةِ حَتَّى يُكْرَهَ الْكَلَامُ فِي حَالَةِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْخَطِيبَ بِوَجْهِهِ إذَا أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ لِأَنَّ الْخَطِيبَ يَعِظُهُمْ وَلِهَذَا اسْتَقْبَلَهُمْ بِوَجْهِهِ وَتَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ لِيُظْهِرَ فَائِدَةَ الْوَعْظِ وَتَعْظِيمَ الذِّكْرِ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَلَكِنَّ الرَّسْمَ الْآنَ أَنَّ الْقَوْمَ يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ هَذَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْحَرَجِ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ إذَا اسْتَقْبَلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ (قَالَ) وَإِذَا خَطَبَ بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِتَهْلِيلٍ أَوْ بِتَحْمِيدٍ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَكُونَ كَلَامًا يُسَمَّى خُطْبَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَجْلِسَ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً وَاسْتَدَلَّ بِالتَّوَارُثِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالتَّوَارُثُ كَالتَّوَاتُرِ وَلَكِنَّا قَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ وَجَلَسَ بَيْنَهُمَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الشَّرْطُ الْخُطْبَةُ وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً وَقَائِلُهَا لَا يُسَمَّى خَطِيبًا فَمَا لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَمَّى خُطْبَةً لَا يَتِمُّ شَرْطُ الْجُمُعَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُخْلِفَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتُجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَعُدَّانِ لِهَذَا الْمَكَانِ مَقَالًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 أَوْ قَالَ يَرْتَادَانِ أَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ وَسَتَأْتِي الْخُطَبُ اللَّهُ أَكْبَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ وَنَزَلَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ. وَلَمَّا أَتَى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتُجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ هَالَنِي كَثْرَةُ رُءُوسِكُمْ وَأَحْدَاقِكُمْ إلَيَّ بِأَعْيُنِكُمْ وَإِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَيْكُمْ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْعَيِّ إنَّ لِي نِعَمًا فِي بَنِي فُلَانَ فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَانْتَهِبُوهَا وَنَزَلَ وَصَلَّى مَعَهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالذِّكْرُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ شَرْطُ الْكَمَالِ لَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةٌ وَجِيزَةٌ تَحْتَهَا مَعَانٍ جَمَّةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى قَدْرِ الْخُطْبَةِ وَزِيَادَةٍ وَالْمُتَكَلِّمُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَالذَّاكِرِ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خُطْبَةً لَكِنَّهَا وَجِيزَةٌ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ حَتَّى إذَا عَطَسَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى عُطَاسِهِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْخُطْبَةِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ مُفَسَّرًا فِي الْأَمَالِي (قَالَ): وَالْأَذَانُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ الصَّلَاةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ هَكَذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَحْدَثَ النَّاسُ الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَذَانِ (قَالَ): رَجُلٌ ذَكَرَ فِي الْجُمُعَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَجْرَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَخَافُ فَوْتَ الْجُمُعَةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُمُعَةَ وَيَبْدَأَ بِالْفَجْرِ ثُمَّ بِالْجُمُعَةِ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا. وَالثَّانِي أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَهَذَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عَنْهُ سَاقِطٌ بِضِيقِ الْوَقْتِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ دُونَ الْوَقْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَظِيرُ الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الْجُمُعَةِ قَدْ صَحَّ وَهُوَ يَخَافُ فَوْتَهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْعِشَاءَ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَخَافُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَفُوتُهُ أَصْلُ الصَّلَاةِ إنَّمَا يَفُوتُهُ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ وَهَهُنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 يَفُوتُهُ أَصْلُ الصَّلَاةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْجُمُعَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ الْفَجْرَ فِي خِلَالِ الظُّهْرِ وَهُوَ يَخَافُ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَا يَفُوتُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَالظُّهْرِ وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ (قَالَ): رَجُلٌ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ فَوَقَفَ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ فَهَذَا وَاللَّاحِقُ سَوَاءٌ يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا فَكَانَ مُقْتَدِيًا فِي الْإِتْمَامِ وَلَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ كَاَلَّذِي نَامَ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِقْدَارَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ كَمَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا رَكَعَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْقِيَامِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَا امْتِدَادُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَوْ لَمْ يُطَوِّلْ الْقِيَامَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِيهِمَا فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): وَلَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ خَافَ فَوْتَهَا لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الظُّهْرُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ (قَالَ): مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ شُهُودُ الْجُمُعَةِ فِيهِ (قَالَ): وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَالْجُمُعَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَفَرْضُهُ الظُّهْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فَفَرْضُهُ الْجُمُعَةُ وَلَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْمَعْذُورِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَفِي سَائِرِ الْأَيَّامِ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ كَانَ فَرْضُهُ مَا أَدَّى فِي بَيْتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجُمُعَةُ أَقْوَى مِنْ الظُّهْرِ وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ وَإِنَّمَا فَارَقَ الْمَرِيضُ الصَّحِيحَ فِي التَّرَخُّصِ بِتَرْكِ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَإِذَا شَهِدَهَا فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا يُجْزِئُهُ الظُّهْرُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّهِ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ وَهَذَا صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ فَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُجْزِئُهُ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَوَاتُ الْأَصْلِ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ السُّلْطَانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَوَاتُ الْأَصْلِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَأَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ الظُّهْرُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ هَذَا الْيَوْمِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يَنْوِي الْقَضَاءَ فِي الظُّهْرِ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي حَقِّهِ الظُّهْرَ لَمَا احْتَاجَ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ وَقَدْ أَدَّاهُ فِي وَقْتِهِ فَيُجْزِئُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ (قَالَ) وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ فَرَغَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْجُمُعَةُ فَأَمَّا مُجَرَّدُ السَّعْيِ فَلَيْسَ بِأَقْوَى مِمَّا أَدَّى وَلَا يَجْعَلُ السَّعْيَ إلَيْهَا كَمُبَاشَرَتِهَا فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ بِهِ كَالْقَارِنِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ يَصِيرُ رَافِضًا لَهَا وَلَوْ سَعَى إلَى عَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّعْيَ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِيهَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَالِاشْتِغَالِ بِهَا مِنْ وَجْهٍ فَيَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِلظُّهْرِ وَلَكِنَّ السَّعْيَ إلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا لَا بَعْدَهُ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَارِنِ فِي الْقِيَاسِ تَرْتَفِضُ عُمْرَتُهُ بِالسَّعْيِ إلَى عَرَفَاتٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَرْتَفِضُ لِأَنَّ السَّعْيَ هُنَاكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَضَعُفَ فِي نَفْسِهِ وَهَهُنَا مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ (قَالَ): وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ شَرَائِطِهَا فَإِذَا فَاتَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا لِأَنَّ شَرَائِطَ الْعِبَادَةِ مُسْتَدَامَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنْ قَهْقَهَ لَمْ يَلْزَمْهُ وُضُوءٌ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْحَلَّتْ بِفَسَادِ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَمْ تَحِلَّ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرِيضَةِ فَإِذَا قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِمُصَادَفَةِ الْقَهْقَهَةِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ (قَالَ) وَإِذَا فَزِعَ النَّاسُ فَذَهَبُوا بَعْدَ مَا خَطَبَ الْإِمَامُ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ إلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 أَنْ يَبْقَى مَعَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ سَوَاءٍ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي مِقْدَارِهَا وَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْعَبِيدِ أَوْ الْمُسَافِرِينَ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ لِأَنَّهُمْ يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ الصِّبْيَانِ وَإِنْ كَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَةً ثُمَّ ذَهَبُوا أَتَمَّ صَلَاتَهُ جُمُعَةً عِنْدَنَا (وَقَالَ) زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ إذَا ذَهَبُوا قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الْجُمُعَةِ كَالْوَقْتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجَمَاعَةُ شَرْطُ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَتَّى صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً فَكَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمُعَةً بِخِلَافِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَتَمَامُ الْأَدَاءِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَأَتَمَّ الْجُمُعَةَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَمِثْلُهُ لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قَضَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ بِهِ جُمُعَتُهُ فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ وَلَوْ ذَهَبُوا بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَكَبَّرُوا مَعَهُ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً لِأَنَّ الِافْتِتَاحَ بِالتَّكْبِيرِ يَحْصُلُ وَقَدْ كَانَ شَرْطُ الْجَمَاعَةِ مَوْجُودًا عِنْدَهُ وَقِيَاسًا بِالْخُطْبَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ أَتَمَّ الْجُمُعَةَ وَكَانَ اسْتِخْلَافُهُ إيَّاهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ كَاسْتِخْلَافِهِ بَعْدَ أَدَاءِ رَكْعَةٍ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْجَمَاعَةُ شَرْطُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَكَانَ ذَهَابُ الْجَمَاعَةِ قَبْلَ تَقْيِيدِهَا كَذَهَابِهِمْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ ثُمَّ الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَهُوَ مُفْتَتِحٌ لِكُلِّ رُكْنٍ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ مُعِيدٌ لِلْأَرْكَانِ لَا مُفْتَتِحٌ وَلَيْسَ كَالْخُطْبَةِ فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ هُنَاكَ بَانٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَشَرْطُ الْخُطْبَةِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَهَهُنَا الْإِمَامُ أَصْلٌ فِي افْتِتَاحِ الْأَرْكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ رُكْنٍ (قَالَ): رَجُلٌ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ خَلِيفَتِهِ أَوْ صَاحِبِ الشَّرْطِ أَوْ الْقَاضِي لَمْ يُجْزِئْهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّلْطَانَ شَرْطٌ لِإِقَامَتِهَا وَقَدْ عُدِمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ هَلْ يُجْزِئُهُمْ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَامِلُ إفْرِيقِيَّةَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا حُصِرَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ إنَّمَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ فَإِذَا نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ إيَّاهُ (قَالَ): وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فِي الطَّاقَاتِ أَوْ فِي السُّدَّةِ أَوْ فِي دَارِ الصَّيَارِفَةِ أَجْزَأَهُ إذَا كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ يَجْعَلُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالِاصْطِفَافُ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِأَنَّهُ صَفٌّ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَتَخَلُّلُ الْأُسْطُوَانَةِ بَيْنَ الصَّفِّ كَتَخَلُّلِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ أَوْ كَفُرْجَةٍ بَيْنَ رِجْلَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَلَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ (قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَاقْتَدَى بِهِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُصَلِّي أَرْبَعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا». وَهُمَا اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَقَدْ فَاتَهُ رَكْعَتَانِ ثُمَّ هُوَ بِإِدْرَاكِ التَّشَهُّدِ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْوِيهَا دُونَ الظُّهْرِ حَتَّى لَوْ نَوَى الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ثُمَّ الْفَرْضُ بِالِاقْتِدَاءِ تَارَةً يَتَعَيَّنُ إلَى الزِّيَادَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَقْتَدِي بِالْمُقِيمِ وَتَارَةً إلَى النُّقْصَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فِي اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَمَا دُونَهَا فِي تَعَيُّنِ الْفَرْضِ بِهِ فَكَذَا هُنَا وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَإِذَا أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَاطَ وَقَالَ: يُصَلِّي أَرْبَعًا احْتِيَاطًا وَذَلِكَ جُمُعَتُهُ وَلِهَذَا أَلْزَمَهُ الْقِرَاءَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ كَمَا هُوَ لَازِمٌ لِلْإِمَامِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِأَنَّهُ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تَكُونُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فِيهِ وَاجِبَةً وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى تَحْرِيمَةٍ عَقَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ جُمُعَةً فَلَا تَكُونُ الْجُمُعَةُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ (قَالَ): إمَامٌ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَدِمَ أَمِيرٌ آخَرُ يُصَلِّي فَإِنْ صَلَّى الْقَادِمُ بِخُطْبَةِ الْأَوَّلِ صَلَّى الظُّهْرَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِ وَإِنْ خَطَبَ خُطْبَةً أُخْرَى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ صَلَّى الْأَوَّلُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ الثَّانِي أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ الثَّانِي وَإِنْ عَلِمَ بِهِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهُ مُسْتَجْمِعٌ لِشَرَائِطِهَا وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْزِئُهُمْ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ إقَامَتَهَا لِعَدَمِ شُهُودِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ الْأَوَّلَ بِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ (قَالَ) وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 جَمَاعَةً فِي سِجْنٍ أَوْ فِي غَيْرِ سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ النَّاسَ أَغْلَقُوا أَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَمْصَارِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي جَمَاعَةً فِيهَا وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْكُنُ الْمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ شَيْئَانِ: تَرْكُ الْجَمَاعَةِ وَشُهُودُ الْجُمُعَةِ وَأَصْحَابُ السِّجْنِ قَدَرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ فَيَأْتُونَ بِذَلِكَ وَلَوْ جَوَّزْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ رُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُ الْمَعْذُورِ وَفِيهِ تَقْلِيلُ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرَى فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا شُهُودُ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ (قَالَ): وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (قَالَ) وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى حَفِظَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ مَا قَرَأَ فِيهَا وَنَقَلُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُنَافِقِينَ» وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: «قَرَأَ فِي الْأُولَى {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]» (قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ وَقَدَّمَهُ سَجَدَ بِهِمْ السَّجْدَتَيْنِ وَلَمْ يَحْتَسِبْ بِهِمَا مِنْ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَأْتِي بِمَا كَانَ يَأْتِي الْأَوَّلُ إلَّا أَنَّ شَرْطَ الِاحْتِسَابِ بِهِمَا لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الرُّكُوعِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِمَا كَانَ تَطَوُّعًا فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَوْمِ بِهِ وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ بَلْ هُمَا فَرْضٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ بِهِمَا لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاحْتِسَابِ فِي حَقِّهِ (قَالَ) وَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ جَازَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ) وَمَا قَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْجُمُعَةِ فَهُوَ حَسَنٌ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُوَقِّتُ لِذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَجْرِ مَا سِوَى مَا وَقَّتَهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مَهْجُورًا إلَّا أَنْ يَتَبَرَّكَ بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَهَا فِيهَا فَيَقْتَدِي بِهِ (قَالَ): وَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيَقْعُدُ لِأَنَّهَا قَعْدَةُ الْخَتْمِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَيَعُودُ إلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْجُمُعَةُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ كَالظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ (قَالَ): وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَحْتَبِيَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ قُعُودَهُ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَقْعُدُ كَمَا شَاءَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّطَوُّعَاتِ فِي بَيْتِهِ كَانَ يَقْعُدُ مُحْتَبِيًا فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَفِي حَالَةِ انْتِظَارِهَا أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 [بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] الْأَصْلُ فِي الْعِيدَيْنِ حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى» وَاشْتَبَهَ الْمَذْهَبُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ فَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْعِيدَيْنِ: يَجْتَمِعَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَالْأُولَى مِنْهُمَا سُنَّةٌ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: لَا يُصَلَّى التَّطَوُّعُ فِي الْجَمَاعَةِ مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَكِنَّهَا مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ أَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخُرُوجُ فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَ أَهْلِ الْقُرَى وَالسَّوَادِ لِمَا رَوَيْنَا «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَالْمُرَادُ بِالتَّشْرِيقِ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَا ذَبْحَ إلَّا بَعْدَ التَّشْرِيقِ» وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَا يُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا الْخُطْبَةَ فَإِنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْعِيدِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْخُطْبَةُ فِي الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَفِي الْعِيدِ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا خُطْبَةُ تَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ كَالْخُطْبَةِ بِعَرَفَاتٍ وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مَرْوَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا خَطَبَ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَخْرَجْت الْمِنْبَرَ يَا مَرْوَانُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطَبْت قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَخْطُبْ هُوَ قَبْلَهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَرْوَانُ: ذَاكَ شَيْءٌ قَدْ تُرِكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» يَعْنِي أَضْعَفَ أَفْعَالِ الْإِيمَانِ فَقَدْ كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَتَّى أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي خُطْبَتِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَحِلُّ فَكَانَ النَّاسُ لَا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسَمَاعِهَا فَأَحْدَثُوهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا النَّاسُ وَالْخُطْبَةُ فِي الْعِيدَيْنِ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَقْرَأُ فِيهَا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَيَسْتَمِعُ لَهَا الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا لَهُ لِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ فَإِنَّمَا يَنْفَعُ وَعْظُهُ إذَا اسْتَمَعُوا (قَالَ): وَلَيْسَ فِي الْعِيدَيْنِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ هَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ (قَالَ): وَإِنْ خَطَبَ أَوَّلًا ثُمَّ صَلَّى أَجْزَأَهُمْ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَصْلًا (قَالَ) وَالتَّكْبِيرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تِسْعٌ خَمْسٌ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِيهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِيهَا وَاَلَّذِي بَيَّنَّا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِي الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سِتًّا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ وَالزَّوَائِدُ ثَمَانُ تَكْبِيرَاتٍ وَفِي الْأَضْحَى خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ وَاحِدَةٌ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى فِي الثَّانِيَةِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ الْبُدَاءَةُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ شَاذَّةٌ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ وَعَشْرٌ زَوَائِدُ خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ وَتِسْعُ زَوَائِدَ خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ رَجَعَ إلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَيْهِ عَمَلَ النَّاسُ الْيَوْمَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَمَّا انْتَقَلَتْ إلَى بَنِي الْعَبَّاسِ أَمَرُوا النَّاسَ بِالْعَمَلِ فِي التَّكْبِيرَاتِ بِقَوْلِ جَدِّهِمْ وَمِنْ مَذْهَبِهِ الْبُدَاءَةُ بِالتَّكْبِيرِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فَقَالَ: هَذَا الْعِيدُ فَكَيْفَ تَأْمُرُونَنِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ: عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الْجَنَائِزِ فَلَا يُشْتَبَهُ عَلَيْكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَحَبَسَ إبْهَامَهُ» فَفِيهِ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَإِشَارَةٌ وَاسْتِدْلَالٌ وَتَأْكِيدٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ يُؤْتَى بِهَا عَقِبَ ذِكْرٍ هُوَ فَرْضٌ فَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُؤْتَى بِهَا عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَفِي الثَّانِيَةِ عَقِيبَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ مَا أَمْكَنَ فَفِي الرَّكْعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الْأُولَى يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَفِي الثَّانِيَةِ يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْكِتَابِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَيَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَأْخُذُ بِأَيِّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ شَاءَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا أَخَذَ بِمَا رَآهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْآخِرُ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (قَالَ): وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي سَائِرِ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ إلَّا فِي تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ». (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَفِيهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَلِأَنَّ هَذَا تَكْبِيرٌ يُؤْتَى بِهِ فِي قِيَامٍ مُسْتَوٍ فَتُرْفَعُ الْيَدُ فِيهِ كَتَكْبِيرَةِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ مَنْ لَا يَسْمَعُ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ (قَالَ): وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُصَلِّي وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَالصَّلَاةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا فَعَلَهَا إلَّا بِالْجَمَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِذَا فَاتَتْ فَلَيْسَ لَهَا خَلْفٌ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهَذَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لِصَلَاةٍ وَاجِبَةٍ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ بِخِلَافِ مَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَهُوَ وَقْتٌ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَلَكِنَّهُ إنْ أَحَبَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الضُّحَى فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ لِحَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي صَلَاةِ الضُّحَى» وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذَا الْيَوْمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً» (قَالَ) وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الْجَامِعِ وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مَعَ خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ وَيُكَبِّرُ وَيُكَبِّرُونَ وَلِأَنَّ فِي الِاسْتِخْلَافِ نَظَرًا مِنْهُ لِلضُّعَفَاءِ وَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ لَا يَتْرُكُ الْخُرُوجَ إلَى الْجَبَّانَةِ وَمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شُهُودُهَا (قَالَ) فَإِنْ أَحْدَثَ الرَّجُلُ فِي الْجَبَّانَةِ فَخَافَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِصْرِ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ غَيْرَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ هُنَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا فِي جَبَّانَةِ الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ بَعِيدٌ وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ مُحِيطٌ بِالْمُصَلَّى وَقَدْ قَالَ وَهُوَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَصَلَاةُ الْعِيدِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا إنْ فَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى خَافَ الْفَوْتَ يَجُوزُ لَهُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوهَا دُونَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَرُبَّمَا تَزُولُ الشَّمْسُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ إنْ أَحْدَثَ بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ (قَالَ): وَأَيُّ سُورَةٍ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ جَازَ وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فَحَسَنٌ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ حَتْمًا فِي صَلَاةٍ لَا يَقْرَأُ فِيهَا غَيْرَهُ فَرُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تِلْكَ الصَّلَاةُ إلَّا بِقِرَاءَةِ تِلْكَ السُّورَةِ فَكَانَ هُوَ مُدْخِلًا فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (قَالَ) وَلَيْسَ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ صَلَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ يَفْعَلُهُ (قَالَ): وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ فِي الْعِيدِ إذَا قَامَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ بَنَى عَلَى رَأْيِ نَفْسِهِ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَمَحَلِّهَا إذَا كَانَ رَأْيُهُ مُخَالِفًا لِرَأْيِ إمَامِهِ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ إنْ كَانَ يَرَى قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ وَبِهِ أَجَابَ فِي الْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كَمَا فَاتَهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ كَانَ مُوَالِيًا بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ فَإِنَّ فِي الرَّكْعَةِ الْمُؤَدَّاةِ مَعَ الْإِمَامِ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ كَانَ فِعْلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 مُوَافِقًا لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَأَنْ يَفْعَلَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ كَانَ آتِيًا بِالتَّكْبِيرَاتِ عَقِيبَ ذِكْرٍ هُوَ فَرْضٌ جَامِعًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ وَهُوَ أَصْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ خُرُوجٌ فِي الْعِيدَيْنِ وَقَدْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ يَعْنِي لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ فَقَدْ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ وَنُهِينَ عَنْ الْخُرُوجِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَيُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَةِ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَالْعِيدَيْنِ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمَعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُرَخَّصُ لِلْعَجَائِزِ فِي حُضُورِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَفِي الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي خُرُوجِ الْعَجَائِزِ فِتْنَةٌ وَالنَّاسُ قَلَّ مَا يَرْغَبُونَ فِيهِنَّ وَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَاوِينَ الْمَرْضَى وَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيَطْبُخْنَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي صَلَوَاتِ اللَّيْلِ تَخْرُجُ الْعَجُوزُ مُسْتَتِرَةً وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَظَرِ الرِّجَالِ إلَيْهَا بِخِلَافِ صَلَوَاتِ النَّهَارِ وَالْجُمُعَةُ تُؤَدَّى فِي الْمِصْرِ فَلِكَثْرَةِ الزِّحَامِ رُبَّمَا تُصْرَعُ وَتُصْدَمُ وَفِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ فَإِنَّ الْعَجُوزَ إذَا كَانَ لَا يَشْتَهِيهَا شَابٌّ يَشْتَهِيهَا شَيْخٌ مِثْلُهَا وَرُبَّمَا يَحْمِلُ فَرْطُ الشَّبَقِ الشَّابَّ عَلَى أَنْ يَشْتَهِيَهَا وَيَقْصِدَ أَنْ يَصْدِمَهَا فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَتُؤَدَّى فِي الْجَبَّانَةِ فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَعْتَزِلَ نَاحِيَةً عَنْ الرِّجَالِ كَيْ لَا تُصْدَمَ. ثُمَّ إذَا خَرَجْنَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُصَلِّينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُرُوجِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِيَخْرُجْنَ إذَا خَرَجْنَ تَفِلَاتٍ» أَيْ غَيْرِ مُتَطَيِّبَاتٍ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُصَلِّينَ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا خُرُوجُهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِيدَيْنِ حَتَّى ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَظَهَرَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا (قَالَ): وَلِلْمَوْلَى مَنْعُ عَبْدِهِ مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ حَقُّ مَوْلَاهُ وَفِي خُرُوجِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي خِدْمَتِهِ وَإِضْرَارٌ بِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَا إذَا حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ لِيَحْفَظَ دَابَّتَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُخِلُّ بِحَقِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 مَوْلَاهُ فِي إمْسَاكِ دَابَّتِهِ (قَالَ) وَلَا يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى نَاقَتِهِ» وَالنَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ إخْرَاجِ الْمِنْبَرِ وَلِهَذَا اتَّخَذُوا فِي الْمُصَلَّى مِنْبَرًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ اللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاتِّبَاعُ مَا اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَاجِبٌ. (قَالَ) وَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ اتَّبَعَهُ الْمُؤْتَمُّ إلَّا أَنْ يُكَبِّرَ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُجْتَهِدٌ فَإِذَا حَصَلَ فِعْلُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَإِذَا كَبَّرَ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ فِعْلُهُ خَطَأً مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا مُتَابَعَةَ فِي الْخَطَأِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لِأَنَّ فِعْلَهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً زَوَائِدَ فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ صَارَتْ سِتَّ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً فَلِاحْتِمَالِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَتَيَقَّنُ بِخَطَئِهِ فَيُتَابِعُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ سَمِعَ التَّكْبِيرَ مِنْ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِ الْمُنَادِي فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ لِجَوَازِ أَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ الْمُنَادِي فَلَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَا أَخْطَأَ بِهِ الْمُنَادِي فَلِهَذَا لَا يَدَعُ شَيْئًا مِنْهَا وَقَدْ قَالُوا: إذَا كَانَ يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِ الْمُنَادِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ لِجَوَازِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَانَ خَطَأً مِنْ الْمُنَادِي وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَأْتِي بِثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الزَّوَائِدِ إلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فَأَمَّا التَّعَوُّذُ فَيَأْتِي بِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَقِيبَ ثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ الزَّوَائِدِ حِينَ يُرِيدُ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ وَبَيَانُ هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ] اتَّفَقَ الْمَشَايِخُ مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا مَشْرُوعًا إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ مَا قُلْت وَقَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يَوْمَ عَرَفَةَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ وَقْتِ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ مَشْرُوعًا فِي وَقْتِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ: الْبُدَاءَةُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ يَقْطَعُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي يَوْمٍ يُؤَدِّي فِيهِ رُكْنَ الْحَجِّ فَالْقَطْعُ مِثْلُهُ يَكُونُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ رُكْنُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْيَقِينِ وَالْيَقِينُ فِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُكَبِّرُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ يَقْطَعُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي الْأُخْرَى إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَهِيَ إمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَوْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا مَشْرُوعًا وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِإِكْثَارِ الذِّكْرِ وَلَأَنْ يُكَبِّرَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ وَاتَّفَقَ الشُّبَّانُ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ وَقْتَ الضُّحَى مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ عَقِيبَهُ وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ ثُمَّ الْحَاجُّ يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَأْخُذُونَ فِي التَّكْبِيرَاتِ وَذَلِكَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يُكَبِّرُوا عَقِيبَ أَوَّلِ صَلَاةٍ مُؤَدَّاةٍ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَقَالَ زَيْدٌ: إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَهُوَ أَجْمَعُ وَهَذَا التَّكْبِيرُ عَلَى الرِّجَالِ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ مَنْ يُصَلِّي مَكْتُوبَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الْجَمَاعَةِ أَوْ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ بِمَنْزِلَةِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ وَفِي التَّلْبِيَةِ لَا تُرَاعَى هَذِهِ الشُّرُوطُ فَكَذَلِكَ فِي التَّكْبِيرَاتِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» قَالَ الْخَلِيلُ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: التَّشْرِيقُ فِي اللُّغَةِ التَّكْبِيرُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ الْحُرِّيَّةَ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (قَالَ): وَإِنْ صَلَّى النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ وَالْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرُ تَبَعًا كَمَا يَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الْجُمُعَةِ تَبَعًا وَفِي الْمُسَافِرِينَ إذَا صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ جَمَاعَةً رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرُ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرُ لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ بَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَكَذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ (قَالَ): وَلَا تَكْبِيرَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بِصَلَاتِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ وَقَاسَ التَّكْبِيرَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَذَانَ أَوْجَبُ مِنْ التَّكْبِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَهَذَا فِي أَيَّامٍ مَخْصُوصَةٍ ثُمَّ الْأَذَانُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي التَّطَوُّعَاتِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ وَكَذَلِكَ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْوِتْرَ لَا يُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَكَذَلِكَ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا يُكَبِّرُونَ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَأَمَّا عَقِيبَ الْجُمُعَةِ فَيُكَبِّرُونَ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مَكْتُوبَةٌ (قَالَ) وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ بِسُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 اقْتَدَى بِهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ وَالتَّكْبِيرُ يُؤَدَّى فِي فَوْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي حُرْمَتِهَا حَتَّى لَا يُسَلِّمَ بَعْدَهُ وَلَا يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا فِي فَوْرِهَا حَتَّى لَا تَخْتَصَّ بِحَالَةِ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ مُؤَدًّى فِي حُرْمَتِهَا ثُمَّ بِمَا هُوَ مُؤَدًّى فِي فَوْرِهَا ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ وَالْمَسْبُوقُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَعَلَى هَذَا إذَا نَسِيَ الْإِمَامُ سُجُودَ السَّهْوِ لَمْ يَسْجُدْ الْقَوْمُ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِ لَا يَأْتُونَ بِهِ دُونَهُ (قَالَ): وَإِذَا نَسِيَ التَّكْبِيرَ أَوْ التَّلْبِيَةَ أَوْ تَرَاكَهُمَا مُتَأَوِّلًا لَمْ يَتْرُكْ الْقَوْمُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِذَا نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ حَتَّى انْصَرَفَ فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ عَادَ وَكَبَّرَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ أَوْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا أَوْ أَحْدَثَ عَامِدًا سَقَطَ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَقْطَعُ فَوْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا لَوْ حَصَلَ فِي خِلَالِهَا كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَأَمَّا الْخُرُوجُ وَالْكَلَامُ وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ فَيَقْطَعُ فَوْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَمْنَعَ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا لَوْ حَصَلَ فِي خِلَالِهَا فَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ مِنْ غَيْرِ تَطَهُّرٍ لِأَنَّ سَبْقَ الْحَدَثِ لَا يَقْطَعُ فَوْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ مِنْ الْبِنَاءِ التَّكْبِيرُ غَيْرُ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَالْأَذَانِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الطَّهَارَةِ كَانَ خُرُوجُهُ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَهَا فَيُكَبِّرَ لِلْحَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ] اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوَّلًا كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ خَاصَّةً وَلَمْ تَبْقَ مَشْرُوعَةً بَعْدَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] فَقَدْ شَرَطَ كَوْنُهُ فِيهِمْ لِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَلِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَا لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ فَشَرَعَ بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِيَنَالَ كُلُّ فَرِيقٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَقَدْ ارْتَفَعَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَهُ فَكُلُّ طَائِفَةٍ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَدَاؤُهَا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَامُوهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ عَنْهَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَعَلَّمَهُ فَأَقَامَهَا وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْخَوْفُ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَتَرْكُ الْمَشْيِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ ثُمَّ الْآنَ يَحْتَاجُونَ إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ فَهِيَ أَفْضَلُ وَقَوْلُهُ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] مَعْنَاهُ أَنْتَ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَك فِي الْإِمَامَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَدْ يَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْتَصُّ هُوَ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وَالثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَصُ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: صَلَاةُ الْمُقِيمِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَكَانَتْ لَهُ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ» وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَنَا وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ مُؤَدَّاةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكْعَةٌ أُخْرَى صَلَّوْهَا وَحْدَهُمْ وَالثَّالِثُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا ذَهَبُوا فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ ثُمَّ ذَهَبُوا فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ بِلَا قِرَاءَةٍ ثُمَّ ذَهَبُوا وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلُّونَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِقِرَاءَةٍ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً أُخْرَى» وَهَكَذَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِالطَّائِفَتَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ» وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ جَعَلَ النَّاسَ صَفَّيْنِ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ رَكَعُوا مَعَهُ وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ وَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا فَإِذَا قَعَدَ وَسَلَّمَ سَلَّمُوا مَعَهُ وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الزُّرَقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ» وَأَبُو يُوسُفَ يُجَوِّزُ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذَهَابٌ وَمَجِيءٌ وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ صَلَّوْا بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ صَلَّوْا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ كَمَا بَيَّنَّا أَجْزَأَهُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَجْعَلُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَطَائِفَةٌ تَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ حَتَّى تُصَلِّيَ الطَّائِفَةُ الْأُولَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُونَ فَيَذْهَبُونَ إلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَقُومُونَ لِقَضَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَهَكَذَا رَوَى صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ بِذِي قَرَدٍ» وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ حَدِيثَ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ فِي شَرْحِ الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ جَالِسًا لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى حَتَّى أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسَلِّمُ الْإِمَامُ حَتَّى تَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ مَعَهُ وَقَالَ: كَمَا يَنْتَظِرُ فَرَاغَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ إتْمَامِ صَلَاتِهِمْ فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ نَأْخُذْ بِهَذَا لِأَنَّ فِيهِ فَرَاغَ الْمُؤْتَمِّ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِي حَقِّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ مَعَ الْإِمَامِ فَجَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً انْتَظَرَهُمْ حَتَّى أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَبَدَءُوا بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْتَظِرُهُمْ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ» وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ بِأَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ وَرُوِيَ شَاذًّا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَانِ» وَلَمْ نَأْخُذْ بِهَذَا لِأَنَّ فِي حَقِّ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ يَحْصُلُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً عِنْدَنَا (وَقَالَ) الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظٌّ. (وَلَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَشَطْرُ الْمَغْرِبِ رَكْعَةٌ وَنِصْفٌ فَثَبَتَ حَقُّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِي نِصْفِ رَكْعَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُجْزِئُ فَثَبَتَ حَقُّهُمْ فِي كُلِّهَا وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ شَطْرُ الْمَغْرِبِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْقَعْدَةُ بَعْدَهُمَا وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّطْرَيْنِ ثُمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ بِالْقِرَاءَةِ وَيَقْعُدُونَ بَيْنَهُمَا وَبَعْدَهُمَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَتَيْنِ فِي الْمَغْرِبِ (قَالَ): وَمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ السِّلَاحِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِتَالُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ مُفْسِدًا لَهَا كَتَخْلِيصِ الْغَرِيقِ وَاتِّبَاعِ السَّارِقِ لِاسْتِرْدَادِ الْمَالِ وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِيهِمْ الْعَدُوُّ إذَا رَآهُمْ مُسْتَعِدِّينَ أَوْ لِيُقَاتِلُوا بِهَا إذَا احْتَاجُوا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُونَ الصَّلَاةَ (قَالَ): وَلَا يُصَلُّونَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ وَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هُدْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَقَالَ: شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا» فَلَوْ كَانَ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ مَنْ رَكِبَ مِنْهُمْ فِي صَلَاتِهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى يَقِفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَجَوَازُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ (قَالَ): وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً رُكْبَانًا لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ طَرِيقًا فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَانِعٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ فِي الْخَوْفِ أَنْ يُصَلُّوا رُكْبَانًا بِالْجَمَاعَةِ وَقَالَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَقَدْ جَوَّزْنَا لَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ لِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا أَثْبَتْنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 مِنْ الرُّخْصَةِ أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّصِّ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الرُّخَصِ (قَالَ): وَإِنْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَايِنُوا الْعَدُوَّ جَازَ لِلْإِمَامِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَوْمِ إذَا صَلَّوْا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ إذَا كَانُوا بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا بِحَضْرَتِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبُ التَّرَخُّصِ بِالذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ بِهَا وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوا أَنَّهُ الْعَدُوُّ فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَوَادُ الْعَدُوِّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ التَّرَخُّصِ كَانَ مُتَقَرِّرًا فَتُجْزِئُهُمْ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ السَّوَادَ سَوَادُ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ مُتَقَرِّرًا فَلَا تُجْزِئُهُمْ وَالْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُونَهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ سَبَبِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهِيدِ] (قَالَ): وَإِذَا قُتِلَ الشَّهِيدُ فِي مَعْرَكَةٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُغَسَّلُ وَيُصْلَى عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَمَّا الْحَسَنُ فَقَالَ: الْغُسْلُ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ آدَمَ لَمَّا مَاتَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ يَا بَنِي آدَمَ» وَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ تَطْهِيرٌ لَهُ حَتَّى تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ وَإِنَّمَا لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ فَشَتْ فِي الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَمْلُ الْمَاءِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَغُسْلُهُمْ لِأَنَّ عَامَّةَ جِرَاحَاتِهِمْ كَانَتْ فِي الْأَيْدِي فَعُذْرُهُمْ لِذَلِكَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ التَّأْوِيلِ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّيَمُّمِ وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْغُسْلِ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانٍ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْذِرْهُمْ فِي تَرْكِ الدَّفْنِ وَكَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي حَفْرِ الْقُبُورِ لِلدَّفْنِ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي الْغُسْلِ وَكَمَا لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ كَمَا رَوَاهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تَكُنْ يَوْمئِذٍ وَكَذَلِكَ لَمْ يُغَسَّلْ شُهَدَاءُ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ فَظَهَرَ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا يُصَلَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 عَلَيْهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ» وَلِأَنَّهُمْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ تَطَهَّرُوا مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السَّيْفُ مَحَّاءُ الذُّنُوبِ» وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ شَفَاعَةٌ لَهُ وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا اسْتَغْنَى عَنْ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَقَالَ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى الْحَيِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ» حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَبْعِينَ صَلَاةً» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُؤْتَى بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَقَالَ: صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا فَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُ حَاضِرًا حِينَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا رُوِيَ مَا رُوِيَ وَمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَمِعَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُدْفَنَ الْمَوْتَى فِي مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فِيهَا» وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ» وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَالْعَبْدُ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ الذُّنُوبِ فَلَا تَبْلُغُ دَرَجَتُهُ دَرَجَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الدُّعَاءِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا إشْكَالَ أَنَّ دَرَجَتَهُ فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَالشَّهِيدُ حَيٌّ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَيِّتٌ يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ وَتَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَفَرِيضَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ فِيهِ مَيِّتًا يُصَلَّى عَلَيْهِ (قَالَ): وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَكُلُومِهِمْ» وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ لَمَا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنَى ثَوْبًا فَإِنَى رَجُلٌ مِحْجَاجٌ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَنِي وَلَمَّا اُسْتُشْهِدَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ قَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةَ بِالْجَادَّةِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ وَالْجِلْدُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْقَلَنْسُوَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَبِسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِدَفْعِ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ (قَالَ): وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الثَّلَاثِ فِي الْكَفَنِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَيَخِيطُونَهُ إنْ شَاءُوا كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى إنَّمَا لَا يُزَالُ عَنْهُ أَثَرُ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى (قَالَ) وَإِنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِي بَيْتِهِ أَوْ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ غُسِّلَ لِأَنَّهُ صَارَ مُرْتَثًّا وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِغُسْلِ الْمُرْتَثِّ وَمَعْنَاهُ مِنْ خَلَقَ أَمْرُهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ يُقَالُ: ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ غُسِّلَ وَكَانَ شَهِيدًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُمِلَ حَيًّا بَعْدَ مَا طُعِنَ ثُمَّ غُسِّلَ وَكَانَ شَهِيدًا فَأَمَّا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ وَلَمْ يُغَسَّلْ فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ مَنْ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ دُونَ مَنْ حُمِلَ حَيًّا وَهَذَا إذَا حُمِلَ لِيُمَرَّضَ فِي خَيْمَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ وَأَمَّا إذَا جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ هَذَا مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ رَاحَةِ الدُّنْيَا بَعْدَ صِفَةِ الشَّهَادَةِ فَتَحَقَّقَ بَذْلُ نَفْسِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بِحَسَبِ مَا مَرِضَ قَدْ نَالَ رَاحَةَ الدُّنْيَا بَعْدُ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ يُغَسَّلُونَ وَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) وَمَا قُتِلَ بِهِ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ لَا يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ وَفِيهِمْ مَنْ دُمِغَ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ وَفِيهِمْ مِنْ قُتِلَ بِالْعَصَا ثُمَّ عَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ الشَّهِيدَ بَاذِلٌ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وَفِي هَذَا الْمَعْنَى السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ (قَالَ): وَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَعْرَكَةِ مَيِّتًا لَيْسَ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ يُفَارِقُ الْمَيِّتَ بِالْأَثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ انْزِهَاقُ رُوحِهِ بِقَتْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ فَمَاتَ وَالْجَبَانُ مُبْتَلًى بِهَذَا وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرٌ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِذَلِكَ الْجُرْحِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَدُوِّ فَاجْتِمَاعُ الصَّفَّيْنِ كَانَ لِهَذَا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ مَخَارِقِهِ نَظَّرَ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ غُسِّلَ وَذَلِكَ كَالْأَنْفِ وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ فَقَدْ يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ وَقَدْ يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وَقَدْ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ رَأْسِهِ غُسِّلَ وَجُرْحُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ وَمِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَ يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ لَمْ يُغَسَّلْ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَعْلُو مِنْ الْجَوْفِ إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِلَوْنِ الدَّمِ (قَالَ) وَمَنْ صَارَ مَقْتُولًا مِنْ جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُغَسَّلْ أَيْضًا لِأَنَّهُ قُتِلَ دَافِعًا عَنْ مَالِهِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» فَلِهَذَا لَا يُغَسَّلُ. (قَالَ): وَمَنْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ ظُلْمًا لَمْ يُغَسَّلْ أَيْضًا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُغَسَّلُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ كَالْخَطَأِ فَإِذَا وَجَبَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ غُسِّلَ وَعِنْدَنَا الْعَمْدُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَالِ فَهَذَا مَقْتُولٌ ظُلْمًا لَمْ يَجِبْ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا وَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ لَيْسَ بِبَدَلٍ مَحْضٍ بَلْ هُوَ عُقُوبَةٌ زَاجِرَةٌ فَلَا يَخِلُّ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَدْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ وَكَانَ شَهِيدًا وَلَمْ يُغَسَّلْ وَإِنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ غُسِّلَ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَطَأِ حَتَّى يَجِبَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا كَبِيرٍ فَهُوَ عِنْدَهُمَا وَالْقَتْلُ بِالسِّلَاحِ سَوَاءٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُغَسَّلُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِهَذِهِ الْآلَةِ (قَالَ): وَلَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ غُسِّلَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ جَاءَ عَمُّهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُتِلَ مَاعِزٌ كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الشَّهِيدَ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْتُولِ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ غُسِّلَ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ مَنْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ غُسِّلَ لِأَنَّ الظَّالِمَ غَيْرُ بَاذِلٍ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي حُكْمِ الْغُسْلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى (قَالَ): وَمَنْ قَتَلَهُ السَّبُعُ أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ غُسِّلَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ وَالْمَيِّتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي مَحَلَّةٍ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ غُسِّلَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ (قَالَ): وَيُصْنَعُ بِالْمُحْرِمِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ يَعْنِي يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ بِالْكَفَنِ عِنْدَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ جِرْزَانٍ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا أَوْ قَالَ: مُلَبَّدًا» وَلِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِعِبَادَةٍ لَهَا أَثَرٌ فَيَبْقَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ كَالْغَازِي إذَا اُسْتُشْهِدَ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَطَاءٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ: خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَلَا تُشْبِهُوهُ بِالْيَهُودِ» وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ وَاقِدٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ كَفَّنَهُ وَعَمَّمَهُ وَحَنَّكَهُ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ لَحَنَّطْنَاك يَا وَاقِدُ وَلِأَنَّ إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْهَا فَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لَا يَبْنِي الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ عَلَى إحْرَامِهِ وَالْتَحَقَ بِالْحَلَالِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يُخَمَّرَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ بِاللَّبَنِ وَالتُّرَابِ فَكَذَلِكَ بِالْكَفَنِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ خُصُوصِيَّتَهُ بِبَقَاءِ إحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخُصُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَشْيَاءَ. (قَالَ) وَمِنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهُوَ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَعَهُمْ مَأْمُورٌ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَالْمَقْتُولُ فِي هَذِهِ الْمُحَارَبَةِ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِ اللَّهِ كَالْمَقْتُولِ فِي مُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا قَاتَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَهْلَ النَّهْرَوَانِ لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الْآيَةُ وَلَكِنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ رَجْمًا أَوْ فِي قِصَاصٍ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَكَفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ النِّسَاءُ كَمَا لَا يُغَسَّلُ الرِّجَالُ لِأَنَّهُنَّ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 لَهُنَّ كَالرِّجَالِ فَأَمَّا الصِّبْيَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُغَسَّلُونَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَسَّلُونَ قَالَ لِأَنَّ حَالَ الصِّبْيَانِ فِي الطَّهَارَةِ فَوْقَ حَالِ الْبَالِغِينَ فَإِذَا لَمْ يُغَسَّلْ الْبَالِغُ إذَا اُسْتُشْهِدَ لِأَنَّهُ قَدْ تَطَهَّرَ فَالصَّبِيُّ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَيْسَ لِلصَّبِيِّ ذَنْبٌ يَمْحُوهُ السَّيْفُ فَالْقَتْلُ فِي حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ فَيُغَسَّلُ ثُمَّ الصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا يُخَاصِمُ بِنَفْسِهِ فِي حُقُوقِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا الْخَصْمُ فِي حُقُوقِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الشُّهُودِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ (قَالَ): وَإِذَا وُجِدَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْآدَمِيِّ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يُدْفَنُ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ بَدَنِهِ لَا عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْعُضْوِ حَيٌّ وَلَا يُصَلَّ عَلَى الْحَيِّ وَلَوْ قُلْنَا يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ إذَا وُجِدَ لَكَانَ يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ آخَرَ إذَا وُجِدَ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُغَسَّلُ مَا وُجِدَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِنَّ لِأَطْرَافِ الْآدَمِيِّ حُرْمَةٌ كَمَا لِنَفْسِهِ وَعِنْدَهُ لَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ وُجِدَ النِّصْفُ مِنْ بَدَنِهِ مَشْقُوقًا طُولًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَكَانَ يُصَلَّى عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ إذَا وُجِدَ فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ (قَالَ) وَإِذَا وُجِدَ مَيِّتٌ لَا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسِيمَا الْمُسْلِمِينَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلَيْسَ السَّوَادُ وَمَا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَلَامَةُ وَالسِّيمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] وَقَالَ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ غُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ كَافِرٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَلَبَةِ وَالْمَغْلُوبُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ مَعَ الْغَالِبِ وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إلَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ بِالسِّيمَا فَإِذَا اسْتَوَيَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكُفَّارِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَيَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلَالِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ تَرْجِيحًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَنْوِي مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا فَعَلَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ مُيِّزَ بِالنِّيَّةِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَعْمِلُ التَّحَرِّيَ فَيُصَلِّي عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّحَرِّي وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَيَّ مَوْضِعٍ يُدْفَنُونَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إذَا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ دُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي نَصْرَانِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ أَنَّهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُدْفَنُ فَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ جَانِبَ الْوَلَدِ وَقَالَ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضُهُمْ جَانِبَهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ وَقَالَ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ إذَا مَاتَ وَيَدْفِنَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مَعَ كُفْرِهِ مِنْهُمْ وَالْوَلَدُ الْمُسْلِمُ مَنْدُوبٌ إلَى بِرِّ وَالِدِهِ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَالِدُ الْمُشْرِكُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الْآيَةَ وَمِنْ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ فِي حَقِّهِ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ «وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَقَالَ اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثْ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي فَلَمَّا رَجَعْت إلَيْهِ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ». وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ أُمِّيَ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ: غَسِّلْهَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا وَإِنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَاتَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ كَمَا تُغْسَلُ النَّجَاسَاتُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَلَا يُوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَتَوَضَّأُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا كَانَ خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الِابْنَ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ هَلْ يُمَكَّنُ أَبُوهُ الْكَافِرُ مِنْ الْقِيَامِ بِغُسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ «الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لُوا أَخَاكُمْ وَلَمْ يُخِلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ» وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ ابْنِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُ يَنْزِلُ فِيهِ السَّخَطُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 لِيَضَعُوهُ عَلَى سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ عِنْدَ وَضْعِهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. . [بَابُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ] السُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: السُّنَّةُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ عَمُودَيْنِ» (وَحُجَّتُنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ» وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَى الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ وَأَبْعَدُ عَنْ تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ وَلِهَذَا كُرِهَ حَمْلُهَا عَلَى الظَّهْرِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِضِيقِ الطَّرِيقِ أَوْ لِعَوَزٍ بِالْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ كَمَالَ السُّنَّةِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدِّمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُقَدِّمُ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ وَالْبُدَاءَةُ بِالشَّيْءِ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ بِالْأَيْمَنِ الْمُؤَخِّرِ ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ الْمُقَدِّمِ ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ الْمُؤَخِّرِ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَ مِنْ الْأَيْمَنِ الْمُقَدِّمِ إلَى الْأَيْسَرِ الْمُقَدِّمِ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ فَلِهَذَا يَتَحَوَّلُ مِنْ الْأَيْمَنِ الْمُقَدِّمِ إلَى الْأَيْمَنِ الْمُؤَخِّرِ وَالْأَيْمَنُ الْمُقَدِّمُ جَانِبُ السَّرِيرِ الْأَيْسَرِ فَذَلِكَ يَمِينُ الْمَيِّتِ وَيَمِينُ الْحَامِلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبِ عَشْرَ خُطُوَاتٍ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كُفِّرَتْ لَهُ أَرْبَعُونَ كَبِيرَةً (قَالَ): وَلَيْسَ فِي الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ غَيْرَ أَنَّ الْعَجَلَةَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْإِبْطَاءِ بِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ يَكُنْ خَيْرًا عَجَّلْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ شَرًّا وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ أَوْ قَالَ: فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِالْمَشْيِ قُدَّامَهَا وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَإِنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ فِي الْعَادَةِ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَمْشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُمَا اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قَدْ عَرَفَا أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلَكِنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُيَسِّرَا الْأَمْرَ عَلَى النَّاسِ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَهَا لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَوْعَظُ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَيَتَفَكَّرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ فَيَتَّعِظُ بِهِ وَرُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى التَّعَاوُنِ فِي حَمْلِهَا فَإِذَا كَانُوا خَلْفَهَا تَمَكَّنُوا مِنْ التَّعَاوُنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَذَلِكَ أَفْضَلُ وَالشَّفِيعُ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَعْجِيلِ مَنْ تُطْلَبْ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَشْفَعُ لَهُ حَتَّى يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إذَا عَجَّلَ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ هَهُنَا (قَالَ) وَإِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ بِهِ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ حِينَ كَانُوا قِيَامًا مَعَهُ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ فَقَالَ يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَصْنَعُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ» وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَرُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعَاوُنِ قَبْلَ الْوَضْعِ وَإِذَا كَانُوا قِيَامًا أَمْكَنَ التَّعَاوُنُ وَبَعْدَ الْوَضْعِ قَدْ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا إكْرَامًا لَهُ فَالْجُلُوسُ قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَنْ الْمَنَاكِبِ يُشْبِهُ الِازْدِرَاءَ وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ لَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ (قَالَ): وَحَمْلُ الرِّجَالِ جِنَازَةَ الصَّبِيِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّ فِي حَمْلِهَا عَلَى الدَّابَّةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَفِي حَمْلِهَا عَلَى الْأَيْدِي إكْرَامٌ لِلْمَيِّتِ وَالصِّغَارُ مِنْ بَنِي آدَمَ مُكَرَّمُونَ كَالْكِبَارِ (قَالَ): وَمَنْ وُلِدَ مَيِّتًا لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَفِي غُسْلِهِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَاتِ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمُنْفَصِلَ مَيِّتًا فِي حُكْمِ الْجُزْءِ حَتَّى لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يُغَسَّلُ وَوَجْهُ مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ وَمِنْ النُّفُوسِ مَنْ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ قُلْنَا يُغَسَّلُ اعْتِبَارًا بِالنُّفُوسِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْأَجْزَاءِ. وَإِنْ وُلِدَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ صُنِعَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حِينَ انْفَصَلَ حَيًّا (قَالَ): وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ شَهِيدًا وَهُوَ جُنُبٌ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُغَسَّلْ عِنْدَهُمَا قَالَا: صِفَةُ الشَّهَادَةِ تَتَحَقَّقُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ غُسْلِهِ لِإِبْقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَامِرٍ إنَّمَا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - إكْرَامًا لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَى بَنِي آدَمَ لَمْ يَكْتَفِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُ وَحَيْثُ اكْتَفَى دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثُ «حَنْظَلَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: أَصَابَ مِنِّي فَسَمِعَ الْهَيْعَةَ فَأَعْجَلَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ جُنُبٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هُوَ ذَاكَ». «وَلَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بَادِرُوا بِغُسْلِ سَعْدٍ لَا تُبَادِرْنَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ كَمَا بَادَرُونَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَنْظَلَةَ لَوْ لَمْ تُغَسِّلْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَغَسَّلَهُ وَإِنَّمَا لَمْ يُعِدْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَأَدَّى بِفِعْلِ «الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ غَسَّلُوا آدَمَ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَلَمْ يُعِدْ أَوْلَادُهُ غُسْلَهُ» ثُمَّ صِفَةُ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالْمَوْتِ وَلَا تُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبِ الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ تُغْسَلُ تِلْكَ النَّجَاسَةُ وَلَا يُغْسَلُ الدَّمُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا فِي حَقِّ الطَّاهِرِ الْغُسْلُ يَجِبُ بِالْمَوْتِ فَصِفَةُ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ مِنْهُ وَفِي حَقِّ الْجُنُبِ الْغُسْلُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ ثُمَّ اُسْتُشْهِدَتْ فَإِنْ اُسْتُشْهِدَتْ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إحْدَاهُمَا أَنَّهَا لَا تُغَسَّلُ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تُغَسَّلُ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قَدْ حَصَلَ بِالْمَوْتِ وَالدَّمُ السَّائِلُ مُوجِبٌ لِلِاغْتِسَالِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ] اعْلَمْ بِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَفِي جُمْلَتِهِ أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدُ غُسْلُهُ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ كَانَ يَتَجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُودُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ اغْسِلُوا نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ (قَالَ): وَيُوضَعُ عَلَى تَخْتٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 التَّخْتِ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أَوْ عَرْضًا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَيُطْرَحُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ فَيُكْتَفَى بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ بِخِرْقَةٍ ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَيَبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ بَدَأَ بِالْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ فِيهِ فَيَكُونُ سَقْيًا لَا مَضْمَضَةً وَلَوْ كَبُّوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَخْرُجَ الْمَاءُ مِنْ فِيهِ رُبَّمَا يَسِيلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَتُغْسَلُ رِجْلَاهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ فِي حَقِّ الْحَيِّ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ فِيهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ثُمَّ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ وَلَا يُسَرَّحُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْحَيُّ لِلزِّينَةِ وَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَلَوْ فَعَلَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ وَالسُّنَّةُ دَفْنُهُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَلَا شَارِبُهُ وَلَا يُنْتَفُ إبِطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ وَرَأَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فَقَالَتْ: عَلَّامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَغْسِلُ هَذَا الشِّقَّ حَتَّى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتِ وَقَدْ أَمَرَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ فَأَغْلَى بِالسِّدْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِدْرٌ فَحَرْضٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ ثُمَّ يُقْعِدُهُ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا حَتَّى إنْ بَقِيَ عِنْدَ الْمَخْرَجِ شَيْءٌ يَسِيلُ مِنْهُ لَكِيلَا تَتَلَوَّثَ أَكْفَانُهُ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا وَفِي رِوَايَةٍ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ فِي الْبَيْتِ لَمَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ مَسَحَهُ ثُمَّ أَضْجَعَهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي اغْتِسَالِ الْحَيِّ عَدَدُ الثَّلَاثِ فَكَذَلِكَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ وَقَدْ أَمَرَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَكْفَانِهِ وَسَرِيرِهِ فَأَجْمَرَتْ وِتْرًا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: ابْدَأْنَ بِالْمَيَامِنِ وَاغْسِلْنَهَا وِتْرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وَأَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِهَا وِتْرًا». وَهَذَا لِأَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ لِلْعَرْضِ عَلَى رَبِّهِ وَفِي حَيَاتِهِ كَانَ إذَا لَبِسَ ثَوْبَهُ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ تَطَيَّبَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يُفْعَلُ بِكَفَنِهِ وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عَلَيْهَا طُولًا فَإِنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ أُلْبِسَ إيَّاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَضُرَّهُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَمِيصَ فِي الْكَفَنِ سُنَّةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَيْسَ فِي الْكَفَنِ قَمِيصٌ إنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ عِنْدَهُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ». (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِيهَا قَمِيصُهُ» وَلِبَاسُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ بِلِبَاسِهِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حَتَّى إذَا مَشَى لَمْ تَنْكَشِفْ عَوْرَتَهُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْإِزَارُ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ وَلَكِنْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ الْإِزَارُ تَحْتَ الْقَمِيصِ لِيَتَيَسَّرَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْإِزَارُ فَوْقَ الْقَمِيصِ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ فِي الْكَفَنِ وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَانَ الْكَفَنُ شَفْعًا وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا لِمَعْنَى الزِّينَةِ وَبِالْمَوْتِ قَدْ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ (قَالَ) ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ فِي لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَتُخَصُّ بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ وَعَنْ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَذُرُّ الْكَافُورُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْثُرُ عَلَيْهِ الْكَافُورَ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْمُخَارِقُ مِنْ بَدَنِهِ بِالْكَافُورِ لِهَذَا (قَالَ): ثُمَّ يَعْطِفُ الْإِزَارَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ إنْ كَانَ طَوِيلًا حَتَّى يَعْطِفَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ يَعْطِفُ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ ثُمَّ يَعْطِفُ اللِّفَافَةَ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعِطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (قَالَ): وَإِنْ تَخَوَّفْت أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ عَقَدْته وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ يُحَلُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ عُقْدَتُهُ قَدْ زَالَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ هَلْ تُحْشَى مَخَارِقُهُ وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي أَنْفِهِ وَفَمِهِ كَيْ لَا يَسِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي دُبُرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أَيْضًا وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مَشَايِخُنَا ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ وَلَا يُتْبَعُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي الْإِجْمَارَ فِي الْقَبْرِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا نَارًا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالْآكَامِ» فَإِذَا انْتَهَى إلَى قَبْرِهِ فَلَا يَضُرُّهُ وِتْرًا دَخَلَهُ أَوْ شَفْعًا لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةُ نَفَرٍ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّابِعِ أَنَّهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَوْ أَبُو رَافِعٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَضْعُ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ بِقَدْرِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ الشَّفْعُ وَالْوِتْرُ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِذَا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ قَالُوا: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَيْ بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاك وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ سَلَّمْنَاك وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ يَعْنِي تُوضَعُ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السُّنَّةُ أَنْ يَسِلْ إلَى قَبْرِهِ وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَازَةَ تُوضَعُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجْلِهِ فَيُحْمَلُ إلَى الْقَبْرِ فَيُسَلُّ جَسَدُهُ سَلًّا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُلَّ إلَى قَبْرِهِ» وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلَ بِرِجْلِهِ وَالْقَبْرُ بَيْتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَبْدَأُ بِإِدْخَالِ رِجْلَيْهِ فِيهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُدْخِلَ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ» فَإِنْ صَحَّ هَذَا اتَّضَحَ الْمَذْهَبُ وَإِنْ صَحَّ مَا رَوَوْا فَقِيلَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبِيهَا مِنْ قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُبِضُوا فِيهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ وَضْعِ السَّرِيرِ قِبَلَ الْقِبْلَةِ لِأَجْلِ الْحَائِطِ فَلِهَذَا سُلَّ إلَى قَبْرِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: يَدْخُلُ الْمَيِّتَ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخْتَارَ لِلْجُلُوسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَلْتَ بِهِ الْقِبْلَةَ» فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوَفَاةِ يُخْتَارُ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ (قَالَ): وَيُلْحِدُ لَهُ وَلَا يَشُقُّ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَشُقُّ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّحْدُ لَنَا وَالشِّقُّ لِغَيْرِنَا» «وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ حَفَّارَانِ أَحَدُهُمَا يُلْحِدُ وَالْآخَرُ يَشُقُّ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثُوا فِي طَلَبِ الْحَفَّارِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك فَوُجِدَ الَّذِي يُلْحِدُ» وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ ثُمَّ يُحْفَرَ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَصِفَةُ الشِّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَسْطَ الْقَبْرِ وَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَإِنَّمَا اخْتَارُوا الشَّقَّ فِي دِيَارِنَا لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ فَإِنَّ الْأَرْضَ فِيهَا رَخَاوَةٌ فَإِذَا أُلْحِدَ إنْهَارَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا اسْتَعْمَلُوا الشَّقَّ وَيُجْعَلُ عَلَى لَحْدِهِ التِّبْنَ وَالْقَصَبُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «وُضِعَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ» «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرْجَةً فِي قَبْرٍ فَأَخَذَ مَدَرَةً وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وَقَالَ: سُدَّ بِهَا تِلْكَ الْفُرْجَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ كُلِّ صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ» وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ مِنْ اللَّبِنِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ اللَّبِنِ وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْأَبْنِيَةِ لِلزِّينَةِ أَوْ لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْآجُرُّ وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرْضِ وَكَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ رُفُوفِ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذِ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ اتَّخَذُوا تَابُوتًا مِنْ حَدِيدٍ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ (قَالَ) وَيُسَجِّي قَبْرَ الْمَيِّتِ بِثَوْبٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ اللَّحْدِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - سُجِّيَ قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَغُشِّيَ عَلَى جِنَازَتِهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى السَّتْرِ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى قَبْرَ رَجُلٍ سُجِّيَ بِثَوْبٍ فَنَحَّى الثَّوْبَ وَقَالَ: لَا تُشْبِهُوهُ بِالنِّسَاءِ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الرَّجُلِ عَلَى الِانْكِشَافِ وَالظُّهُورِ إلَّا إذَا كَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِدَفْعِ مَطَرٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ حَرٍّ عَلَى الدَّاخِلِينَ فِي الْقَبْرِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ (قَالَ) وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ لِحَدِيثِ «النَّخَعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي مِنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مُسَنَّمَةٌ عَلَيْهَا فَلْقٌ مِنْ مَدَرٍ بِيضٍ» وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ فِي الْأَبْنِيَةِ لِلْإِحْكَامِ وَيُخْتَارُ لِلْقُبُورِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ إحْكَامِ الْأَبْنِيَةِ وَعَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ السُّنَّةُ التَّرْبِيعُ فِي الْقُبُورِ وَلَا تُجَصَّصُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ وَتَرْبِيعِهَا» وَلِأَنَّ التَّجْصِيصَ فِي الْأَبْنِيَةِ إمَّا لِلزِّينَةِ أَوْ لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ (قَالَ) وَإِمَامُ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَلِأَنَّ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى السُّلْطَانِ ازْدِرَاءٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ فِي حَقِّهِ التَّوْقِيرُ. وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَضَرَ جِنَازَتِهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فَقَدَّمَهُ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا قَدَّمْتُك وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ الْقَاضِي فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَإِمَامُ الْحَيِّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ رَاضِيًا بِإِمَامَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 مَوْتِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْوَلِيُّ أَحَقُّ مِنْ إمَامِ الْحَيِّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ إمَامُ الْحَيِّ فَالْأَوْلِيَاءُ. وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: الْأَبُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالِابْنُ أَحَقُّ مِنْ الْأَبِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَبُ لِأَنَّهُ جَدُّهُ وَفِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَبُ أَعَمُّ وِلَايَةً حَتَّى يَعُمَّ وِلَايَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَهَذَا نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ هَذَا الْحَقُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْعُصُوبَةِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ وَابْنُ الْعَمِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ ابْنٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَاتَتْ امْرَأَةٌ لَهُ فَقَالَ لِأَوْلِيَائِهَا: كُنَّا أَحَقُّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً فَأَمَّا إذْ مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِهِ (قَالَ): وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْآثَارُ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُوِيَ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كَانَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ فَكَانَ هَذَا نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ وَأَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ الصَّحَابَةَ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فَوَجَدُوهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ» وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَأَهْلُ الزَّيْغِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا وَهَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا وَرُوِيَ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى عَلَى فَاطِمَةَ أَبُو بَكْرٍ وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا وَعُمَرُ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ يُثْنِي عَقِيبَ الِافْتِتَاحِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَى هَذَا وُضِعَتْ الْخُطَبُ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالتَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ يَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 يَعْقُبُهُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالْمَقْصُودُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةُ لَهُ فَلِهَذَا يَأْتِي بِهِ وَيَذْكُرُ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا» إنْ كَانَ يُحْسِنُهُ وَإِلَّا يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي التَّشَهُّدِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخِرِهِ» وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَا يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا بِرَحْمَتِك عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ». فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي فِي الْخَامِسَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. (وَلَنَا) أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا وَلَا مُتَابَعَةَ فِي الْمَنْسُوخِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ ثُمَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسَلِّمُ حِينَ رَأَى إمَامَهُ يَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ خَطَأٌ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَنْتَظِرُ سَلَامَ الْإِمَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ مَعَهُ (قَالَ): وَلَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا وَمَوْضِعُهَا عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» «وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهَا بِالْفَاتِحَةِ وَجَهَرَ ثُمَّ قَالَ عَمْدًا: فَعَلْت لِيُعْلَمَ أَنَّهَا سُنَّةٌ». (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَمْ يُوَقَّتْ لَنَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ وَلَا قِرَاءَةٌ كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِمَيِّتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْكَانُ الصَّلَاةِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْمِيَةِ بِالصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَلَاةٌ حَقِيقَةٌ وَإِنَّ فِيهَا قِرَاءَةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فِيهَا سَوَاءٌ وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِيهَا وَكَانَ نَصِيرُ بْنُ يَحْيَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً فَمَنْ اخْتَارَ الرَّفْعَ قَالَ: هَذِهِ تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بِهَا فِي قِيَامٍ مَسْنُونٍ فَتُرْفَعُ الْأَيْدِي عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَتَكْبِيرُ الْقُنُوتِ وَالْفِقْهُ فِيمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى إعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ أَصَمَّ أَوْ أَعْمًى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَلَيْسَ فِيهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَا تُرْفَعُ الْيَدُ فِيهَا إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَكَمَا لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَذَلِكَ هَهُنَا (قَالَ): وَإِذَا اُجْتُمِعَتْ الْجَنَائِزُ فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهَا صَفًّا وَإِنْ شَاءُوا وَضَعُوا وَاحِدًا خَلْفَ وَاحِدٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تُوضَعُ شَبَهَ الدَّرَجِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ صَدْرِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ تَكُونَ الْجَنَائِزُ أَمَامَ الْإِمَامِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كَيْفَ وَضَعُوا فَكَانَ الِاخْتِيَارُ إلَيْهِمْ (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ رِجَالًا وَنِسَاءً يُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الْإِمَامِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ عَلَى عَكْسِ هَذَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَلِكَ فِي وَضْعِ الْجَنَائِزِ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ الرِّجَالُ أَقْرَبُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ فِي وَضْعِ الْجَنَائِز وَإِنْ كَانَتْ جِنَازَةَ غُلَامٍ وَامْرَأَةٍ وُضِعَ الْغُلَامُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امْرَأَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَاتَا مَعًا فَوَضَعَ ابْنُ عُمَرَ جِنَازَتَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يُقَدَّمُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لِلْفَضِيلَةِ بِالذُّكُورَةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْغُلَامِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّهُ تُوضَعُ جِنَازَةُ الرَّجُلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَخَلْفَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ جِنَازَةُ الْغُلَامِ وَخَلْفَهُ جِنَازَةُ الْخُنْثَى إنْ كَانَ وَخَلْفَهُ جِنَازَةُ الْمَرْأَةِ (قَالَ): وَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِهِ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: احْفِرُوا وَأُوسِعُوا وَاجْعَلُوا فِي كُلِّ قَبْرٍ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَقُدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ» فَقُلْنَا: يُوضَعُ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثُمَّ خَلْفَهُ الْغُلَامُ ثُمَّ خَلْفَهُ الْجَنِينُ ثُمَّ خَلْفَهُ الْمَرْأَةُ وَيُجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ مَيِّتَيْنِ حَاجِزٌ مِنْ التُّرَابِ لِيَصِيرَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ (قَالَ): وَأَحْسَنُ مَوَاقِفِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ وَإِنْ وَقَفَ فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَقِفُ مِنْ الرَّجُلِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ وَسْطِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أُمَّ بُرَيْدَةَ صَلَّى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَفَ بِحِذَاءِ وَسْطِهَا». (وَلَنَا) أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ فِي الْبَدَنِ الصَّدْرُ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْأَذَى، وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ أَوْلَى كَمَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ ثُمَّ الصَّدْرُ مَوْضِعُ نُورِ الْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] الْآيَةُ وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِإِيمَانِهِ فَيَخْتَارُ الْوُقُوفَ حِذَاءَ الصَّدْرِ لِهَذَا أَوْ الصَّدْرُ هُوَ الْوَسْطُ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ فَوْقَهُ رَأْسٌ وَيَدَانِ وَتَحْتَهُ بَطْنٌ وَرِجْلَانِ (قَالَ) وَيَتَيَمَّمُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا خَافَ فَوْتَهَا فِي الْمِصْرِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ تَيَمَّمَ وَبَنَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ فَإِنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ جِيءَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَإِنْ وَجَدَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً مِنْ الْوَقْتِ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الْعُذْرَ قَائِمٌ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعِيدُ التَّيَمُّمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ تَجَدَّدَتْ ضَرُورَةٌ أُخْرَى فَعَلَيْهِ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ (قَالَ) وَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرُ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ قَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اتَّبِعْ إمَامَك حِينَ تَحْضُرُ فِي أَيِّ حَالٍ أَدْرَكْتَهُ» وَقَاسَ هَذَا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِي إلَى الْإِمَامِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَاقِفًا خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَأَخَّرَ تَكْبِيرُهُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ لَمْ يَنْتَظِرْ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ حِينَ جَاءَ كَانَ قَاضِيًا مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مَعْنَيَانِ: مَعْنَى الِافْتِتَاحِ وَالْقِيَامِ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَمَعْنَى الِافْتِتَاحِ مُرَجَّحٌ فِيهَا بِدَلِيلِ تَخْصِيصِهَا بِرَفْعِ الْيَدِ عِنْدَهَا. وَلَوْ جَاءَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِمَا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُكَبِّرُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُكَبِّرْ حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لَهُمَا أَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ مُدْرِكٌ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَيَأْتِي بِهَا حِينَ حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 التَّكْبِيرَاتِ (قَالَ): وَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ حَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا ثَانِيَةً جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهَا أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: قَبْرُ فُلَانَةِ فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقِيلَ: إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْك هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَامَ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا» وَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمَا فَاتَتْهُمَا الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا حَضَرَا مَا زَادَا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةِ عُمَرَ فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ لَهُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ قَدْ تَأَدَّى بِفِعْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَلَوْ فَعَلَهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي كَانَ تَنَفُّلًا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يُرْزَقُ زِيَارَتُهُ الْآنَ لِأَنَّهُ فِي قَبْرِهِ كَمَا وُضِعَ فَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ بِهَذَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي حَضَرَ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ وِلَايَةُ إسْقَاطِ حَقِّهِ وَهُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَهَكَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ وَكَانَ الْحَقُّ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ بَعْدَهُ عَلَيْهِ (وَعَلَى) هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُصَلَّى عَلَيْهِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ» وَلَكِنَّا نَقُولُ: طُوِيَتْ الْأَرْضُ وَكَانَ هُوَ أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَيِّتُ خَلْفَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كَانَ مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (قَالَ): وَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا قَالَ: يَفْرُغُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى فَيُتِمُّهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا أَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ نِيَّةٌ فِيهَا فَهُوَ فِي الْأُولَى وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى الثَّانِيَةِ كَانَ قَاطِعًا لِلْأُولَى شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَيُصَلِّي عَلَى الثَّانِيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَاهُمَا لِأَنَّهُ غَيْرُ رَافِضٍ لِلْأُولَى فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأُولَى (قَالَ): وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ عِنْدَ غُرُوبِهَا أَوْ نِصْفَ النَّهَارِ لِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَنْ نُقْبِرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَإِنْ صَلَّوْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِمَا أَدَّوْا فَإِنَّ الْمُؤَدَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَوُّعَ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ (قَالَ): وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بَدَءُوا بِالْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا أَقْوَى فَإِنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَقْوَى أَوْلَى لِأَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مَكْرُوهٌ وَتَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ (قَالَ): وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا مَاتَ أَمَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِإِدْخَالِ جِنَازَتِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهَا أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ ثُمَّ قَالَتْ لِبَعْضِ مَنْ حَوْلَهَا: هَلْ عَابَ النَّاسُ عَلَيْنَا بِمَا فَعَلْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِنَازَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي الْبَيْضَاءِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ أَوْ صَلَاةٌ وَالْمَسْجِدُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلُنَا لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَقَدْ عَابُوا عَلَيْهَا فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَرَاهَةُ هَذَا. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ وَأَمَرَ بِالْجِنَازَةِ فَوُضِعَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ إنَّمَا الْكَرَاهَةُ فِي إدْخَالِ الْجِنَازَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ يُنَحَّى عَنْ الْمَسْجِدِ فَالْمَيِّتُ أَوْلَى (قَالَ): وَإِذَا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَاسِدَةٌ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ طَاهِرًا وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ قَدْ صَحَّتْ وَحَقَّ الْمَيِّتِ بِهِ تَأَدَّى فَالْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ (قَالَ) وَإِذَا أَخْطَئُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطٌ وَهُوَ كَوْنُ الْمَيِّتِ أَمَامَ الْإِمَامِ فَقَدْ وُجِدَ إنَّمَا التَّغَيُّرُ فِي صِفَةِ الْوَضْعِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءُوا بِتَغْيِيرِ الْوَضْعِ عَمَّا تَوَارَثَهُ النَّاسُ (قَالَ) وَإِذَا أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ يَعْنِي إذَا صَلَّوْا بِالتَّحَرِّي وَإِنْ تَعَمَّدُوا خِلَافَهَا لَمْ تَجُزْ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ [دفن الْمَيِّت قَبْل الصَّلَاة عَلَيْهِ] (قَالَ) وَإِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا صُلِّيَ فِي الْقَبْرِ عَلَيْهَا إنَّمَا لَا يُخْرَجُ مِنْ الْقَبْرِ لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّمَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ» وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ تَتَأَتَّى فَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى أَعْضَائِهِ وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» مَعْنَاهُ دَعَا لَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَمَا دُفِنُوا لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ وَهَكَذَا وُجِدُوا حِينَ أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ فَتَرَكَهُمْ (قَالَ) وَيُصَفُّ النِّسَاءَ خَلْفَ الرِّجَالِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا» وَإِنْ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ بِجَنْبِ رَجُلٍ لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَلِهَذَا لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِيهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ (قَالَ): وَإِذَا صَلَّوْا قُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا فِي الْقِيَاسِ يُجْزِيهِمْ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْقِيَامِ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْأَرْكَانِ كَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ فِيهَا شَيْئَيْنِ التَّكْبِيرَ وَالْقِيَامَ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّكْبِيرِ يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ فَكَذَلِكَ تَرْكُ الْقِيَامِ وَالْقِيَامُ هَهُنَا كَوَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى السَّجْدَةُ إلَّا بِهِمَا كَذَا هُنَا (قَالَ): وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 أَنْ تُغَسِّلَهُ وَهَكَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا نِسَاءَهُ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقَائِمِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ فَإِنَّ الْمَوْتَ مُحَوِّلٌ لِلْمِلْكِ لَا مُبْطِلٌ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ إلَى الْوَرَثَةِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الزَّوَالِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلَوْ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ فَإِنَّمَا ارْتَفَعَ إلَى خَلْفٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ وَهَذِهِ الْعِدَّةُ حَقُّ النِّكَاحِ فَتَقُومُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ فِي إبْقَاءِ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخِرِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ مِنْ فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَهِيَ كَالْمَنْكُوحَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخِرِ إنَّهَا عَتَقَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِبْرَاءِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ فَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ كَالْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَةٌ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ارْتَفَعَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِدَّةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلِهَذَا تُقَدَّرُ بِالْأَقْرَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ فَقَدْ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: النِّكَاحُ كَالْقَائِمِ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فَارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَقَدْ بَقِيَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ وَطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّ الْغُسْلِ عِنْد الْمَوْتِ لَهَا فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أُخْتُهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيَّةُ إذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتُهُ لَمْ تُغَسِّلهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَبْقَى حُكْمًا لِحَاجَتِهِ إلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ. (وَلَنَا) أَنَّهَا قَدْ انْتَقَلَتْ إلَى الْوَارِثِ وَصَارَتْ كَسَائِرِ إمَائِهِ وَهَذَا لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ يَعْتَمِدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا مِلْكَ الْمَالِيَّةِ وَمِلْكَ الْمُتْعَةِ فِي الْأَمَةِ تَبَعٌ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهَا لَهُ بَعْدَ تَحَوُّلِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ إلَى الْوَارِثِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهِنَّ أَحَدٌ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الْمَحْرَمَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فَكَذَلِكَ ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ وَلَكِنْ يُيَمِّمَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ لِانْعِدَامِ مَنْ يُغَسِّلُهُ فَصَارَ كَتَعَذُّرِ غُسْلِهِ لِانْعِدَامِ مَا يُغَسَّلُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مَنْ يُيَمِّمُهُ مَحْرَمًا يَمَّمَهُ بِغَيْرِ خِرَقِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ لَهَا مَسُّ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً يَمَّمَتْهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ثُمَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَقَامَ الْإِمَامُ مِنْهُنَّ وَسْطَهُنَّ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِيُغَسِّلَهُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فِي الدِّينِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسِّلُ قَرَابَتَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَفِيهِمْ زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَارْأَسَاهُ فَقَالَ: وَأَنَا وَارْأَسَاهُ لَا عَلَيْك إنَّك لَوْ مِتَّ غَسَّلْتُك وَكَفَّنْتُك وَصَلَّيْت عَلَيْك» وَمَا جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ انْتَهَى بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ فَيُفِيدُ الْبَاقِي مِنْهُمَا حِلَّ الْغُسْلِ كَالرَّجُلِ إذَا مَاتَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُنْتَهَى مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِهِ نَحْوَ الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ جُعِلَ كَالْقَائِمِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إلَى الْغُسْلِ وَمِلْكُ الْحِلِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ فَقَالَ: تُيَمَّمُ الصَّعِيدَ» وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا أَوْ لَا يَكُونُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ بِمَوْتِهَا ارْتَفَعَ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهَا بِالْمَوْتِ صَارَتْ مُحَرَّمَةً أَلْبَتَّةَ وَالْحُرْمَةُ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ ثُمَّ الزَّوْجُ بِالنِّكَاحِ مَالِكٌ وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ فَبَعْدَ مَوْتِهِ يُمْكِنُ إبْقَاءُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ حُكْمًا لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْمِلْكِ فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمِلْكِ مَعَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: غَسَّلْتُك أَيْ: قُمْت بِأَسْبَابِ غُسْلِك كَمَا يُقَالُ بَنَى فُلَانٌ دَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بَنَى وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ غَسَّلَهَا فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ فَاطِمَةَ غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَاطِمَةُ زَوْجَتُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَادِّعَاؤُهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا لِأَنَّ نِكَاحَهُ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا لَمْ تُغَسَّلْ يَمَّمَهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ يُيَمِّمُهَا مَحْرَمًا لَهَا يَمَّمَهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يُيَمِّمُهَا بِخِرْقَةِ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ وَيُعْرِضُ وَجْهَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهَا دُونَ وَجْهِهَا لِأَنَّ فِي حَالَةِ حَيَاتِهَا مَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا غُسْلَ الْمَيِّتِ لِتُغَسِّلَهَا ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا الرِّجَالُ لِمَا بَيَّنَّا [كفن الْمَرْأَة] (قَالَ): وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَالرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلِأَنَّ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ وَالرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً قَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَعِمَامَةٍ وَالْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَإِزَارٍ وَمِلَاءَةٍ وَنِقَابٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُزَادُ كَفَنُهَا عَلَى كَفَنِ الرَّجُلِ وَتَفْسِيرُ الْأَثْوَابِ الْخَمْسَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ عَلَيْهَا الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تُرْبَطُ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبَ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ وَيُوضَعُ الْحَنُوطُ مِنْهَا مَوْضِعَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا وَلَكِنْ يُسْدَلُ مِنْ بَيْنِ ثَدْيَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ سَدْلَ الشَّعْرِ خَلْفَ ظَهْرِهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ لِمَعْنَى الزِّينَةِ وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْوَفَاةِ ثُمَّ يُسْدَلُ الْخِمَارُ عَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الْمُقَنَّعَةِ فَوْقَ الدِّرْعِ وَتَحْتَ الْإِزَارِ وَإِنْ كُفِّنَتْ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ وَخِمَارٍ وَلَمْ تُكَفَّنْ فِي دِرْعٍ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى السِّتْرِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ (قَالَ): وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيْ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمَهْلِ وَالصَّدِيدِ وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ مِنْ الْمَيِّتِ إلَى الْجَدِيدِ (قَالَ): وَالْبُرُودُ وَالْبَيَاضُ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبَيَاضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالسُّنَّةُ فِي كَفَنِ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فِي بُرْدٍ» وَحُلَّةٍ اسْمٌ لِلزَّوْجِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبُرْدُ اسْم لِلْفَرْدِ مِنْ الثِّيَابِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ» (قَالَ): وَأَدْنَى مَا يُكَفَّنُ فِيهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ثَوْبَانِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَكَذَلِكَ يُكَفَّنُ فِيهِمَا (قَالَ): فَإِنْ كَفَّنُوهُ فِي وَاحِدٍ فَقَدْ أَسَاءُوا لِأَنَّ فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِأَنَّ «مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي نَمِرَةَ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهِ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُغَطَّى رَأْسُهُ وَيُجْعَلُ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» وَكَذَلِكَ حَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ هَذَا (قَالَ): وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ وَإِنْ كُفِّنَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ (قَالَ): وَتُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِفَرْجِهِ حُكْمُ الْعَوْرَةِ حَتَّى لَا يَجِبْ سَتْرُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ (قَالَ) قَوْمٌ صَلَّوْا عَلَى مَيِّتٍ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ قَالَ: تُعَادُ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْغُسْلِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي حَقِّهِ مُعْتَبَرَةٌ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ عَلَى جِنَازَةٍ أَعَادَهَا بَعْدَ الطَّهَارَةِ فَكَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ غَسَلُوهُ وَبَقِيَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ قَدْرُ لُمْعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّ فِي كَفَنِهِ وَقَدْ بَقِيَ عُضْوٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ فَيُغَسَّلُ ذَلِكَ الْعُضْوُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي شَيْئًا يَسِيرًا كَالْأُصْبُعِ وَنَحْوِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الْأُصْبُعَ فِي حُكْمِ الْعُضْوِ بِدَلِيلِ اغْتِسَالِ الْحَيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَعَلَّهُ أَسْرَعَ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَالَ) فَإِنْ كَانُوا قَدْ دَفَنُوهُ لَمْ يُنْبَشْ عَنْهُ الْقَبْرُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَسَقَطَ فَرْضُ غُسْلِهِ عَنْهُمْ ثُمَّ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ فَكَأَنَّهُمْ دَفَنُوهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ (قَالَ): مَيِّتٌ وُضِعَ فِي لَحْدِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ أَوْ جُعِلَ رَأْسُهُ فِي مَوْضِعِ رِجْلَيْهِ قَالَ: لَا يُنْبَشُ عَنْهُ قَبْرُهُ لِأَنَّ وَضْعَهُ إلَى الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ وَقَدْ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بَعْدَ مَا أَهَالُوا عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 التُّرَابَ فَلَا يَجُوزُ نَبْشُهُ فَإِنْ وُضِعَ اللَّبِنُ وَلَمْ يُهَلْ التُّرَابُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنْزَعُ اللَّبِنُ وَيُوضَعُ كَمَا يَنْبَغِي وَيُغَسَّلُ إنْ لَمْ يَكُنْ غُسِّلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ خُرُوجُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بَعْدُ فَنَزْعُ اللَّبِنِ بَعْدَ الْوَضْعِ مُتَيَسِّرٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَفْرٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (قَالَ): وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ مَتَاعِ الْقَوْمِ فِي الْقَبْرِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْفِرُوا التُّرَابَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيُخْرِجُوا مَتَاعَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبَشَ الْمَيِّتُ لِأَنَّ لِمَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةً وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» وَفِي إبْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْقَبْرِ إضَاعَةُ الْمَالِ وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَقَطَ خَاتَمُهُ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا زَالَ بِالصَّحَابَةِ حَتَّى رُفِعَ اللَّبِنُ وَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كَانَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: أَنَا آخِرُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ): وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى اللَّحْدِ رُفُوفُ الْخَشَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَبْنِيَةِ لِلزِّينَةِ أَوْ لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ] الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ) «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّاسُ: إنَّمَا انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا تُرْسَلُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَكِنْ يُرْسِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيُخَوِّفَكُمْ بِهَا فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَغْفِرُوهُ» ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَسُجُودَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» وَلَنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ كَأَطْوَلِ صَلَاةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 كَانَ يُصَلِّيهَا فَانْجَلَتْ الشَّمْسُ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهَا» وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي الْكُسُوفِ ثُمَّ كَانَ الدُّعَاءُ حَتَّى تَجَلَّتْ» وَهُوَ كَانَ مُقَدَّمًا فِي بَابِ الْإِخْبَارِ فَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ عَلَى مَا يَصِحُّ مِنْهَا فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ جَازَ الْأَخْذُ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَجَازَ الْأَخْذُ بِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ بِسِتِّ رُكُوعَاتٍ وَسِتِّ سَجَدَاتٍ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ بِثَمَانِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» وَبِالْإِجْمَاعِ هَذَا غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْهُودِ فَكَذَلِكَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوَّلَ الرُّكُوعَ فِيهَا فَإِنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَمَلَّ بَعْضُ الْقَوْمِ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَظَنَّ مَنْ خَلْفَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ رَأْسَهُ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ ثُمَّ عَادَ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ إلَى الرُّكُوعِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْضًا وَظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ وَاقِفَةً فِي صَفِّ النِّسَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلِهَذَا نَقَلَا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمَا وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ أَمْرًا بِخِلَافِ الْمَعْهُودِ فَيَنْقُلُهَا الْكِبَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَيْثُ لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْنَا ثُمَّ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُقِيمُهَا بِالْجَمَاعَةِ إلَّا الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ فَأَمَّا أَنْ يُصَلِّيَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَسْجِدِهِمْ فَلَا لِأَنَّهُ أَقَامَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يُقِيمُهَا الْآنَ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا لِأَنَّ هَذَا تَطَوُّعٌ وَالْأَصْلُ فِي التَّطَوُّعِ أَدَاؤُهَا فُرَادَى إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا وَذَلِكَ أَفْضَلُ ثُمَّ إنْ شَاءُوا طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ وَإِنْ شَاءُوا قَصَّرُوا ثُمَّ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْجَلِي الشَّمْسُ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالُ بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ حَسَنَةٌ وَكَذَلِكَ فِي الظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَالْفَزَعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» وَعَابَ أَهْلُ الْأَدَبِ عَلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 اللَّفْظِ وَقَالُوا: إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَمَرِ لَفْظُ الْخُسُوفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُسُوفُ ذَهَابُ دَائِرَتِهِ وَالْكُسُوفُ ذَهَابُ ضَوْئِهِ دُونَ دَائِرَتِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ هَذَا النَّوْعَ بِذِكْرِ الْكُسُوفِ ثُمَّ الصَّلَاةُ فِيهَا فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ كُسُوفَ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ فَيَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الِاجْتِمَاعُ وَرُبَّمَا يَخَافُ الْفِتْنَةَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ وَالْأَصْلُ فِي التَّطَوُّعَاتِ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ مِنْ الصَّلَاةِ يُؤَذَّنُ لَهَا وَيُقَامُ وَلَا يُؤَذَّنُ لِلتَّطَوُّعَاتِ وَلَا يُقَامُ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ (قَالَ) وَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَجْهَرُ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى مُضْطَرِبٌ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَخْصُوصَةٌ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ حَرْفٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ النَّهَارِ وَفِي الْحَدِيثِ «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا أَوْ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا مَشْرُوعَةٌ (قَالَ): وَلَا يُصَلَّى الْكُسُوفُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ (قَالَ): وَلَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ إنَّمَا فِيهَا الدُّعَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُصَلِّي فِيهَا رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ كَصَلَاةِ الْعِيدِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَكْبِيرَاتٌ كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِيهَا تَكْبِيرَاتٌ كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ» وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] فَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ {يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَسْقِيَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو فَمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى نَشَأَتْ سَحَابَةٌ فَمُطِرْنَا إلَى الْجُمُعَةِ الْقَابِلَةِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الْحَدِيثُ وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ فَمَا زَادَ عَلَى الدُّعَاءِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: لَقَدْ اسْتَسْقَيْت لَكُمْ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يَسْتَنْزِلُ بِهَا الْمَطَرُ وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجْلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فَمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى سَقَوْا فَدَلَّ أَنَّ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الدُّعَاءَ وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ وَالْأَثَرُ الَّذِي نُقِلَ أَنَّهُ صَلَّى فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَمَا يَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاذٌّ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي دِيَارِهِمْ ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ نَحْوَ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ وَقَدْ وَرَدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فَإِذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ قَلَبَ رِدَاءَهُ وَصِفَتُهُ إنْ كَانَ مُرَبَّعًا جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا جَعَلَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ سِوَى أَنْ يُقَالَ تُغَيَّرُ الْهَيْئَةُ لِيَتَغَيَّرَ الْهَوَاءُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى عَصًا وَأَنْ يَتَنَكَّبَ قَوْسًا بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَهَذَا لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَصًا وَإِذَا قَلَبَ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَمْ يَقْلِبْ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ. وَتَأْوِيلُهُ إنَّهُمْ اقْتَدُوا بِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ كَمَا خَلَعُوا نِعَالَهُمْ حِينَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَكُونُ مِنْ سُنَّةِ الْخُطْبَةِ يَأْتِي بِهِ الْخَطِيبُ دُونَ الْقَوْمِ كَالْقِيَامِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ الدُّعَاءِ سُنَّةٌ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُتَضَرِّعِ الْمِسْكَيْنِ» وَإِنَّمَا يَخْرُجُونَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُخْرِجُونَ الْمِنْبَرَ فِيهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ (قَالَ): وَلَا يَخْرُجُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي عَهْدِ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَخْرُجُ النَّاسُ لِلدُّعَاءِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ وَلِأَنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ يَسْتَنْزِلُونَ الرَّحْمَةَ وَمَا يَنْزِلُ عَلَى الْكُفَّارِ إلَّا اللَّعْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَالسَّخَطُ وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» فَلِهَذَا لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ): وَيَنْصِتُ الْقَوْمُ لِخُطْبَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ فِيهَا وَفَائِدَةُ الْوَعْظِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْإِنْصَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ إنَّمَا فِيهَا الدُّعَاءُ فَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهَا صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ لَكِنَّهَا تَطَوُّعٌ كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَلَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ فِي الْكَعْبَةِ] (قَالَ): وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَفَ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَتُحَلَّقُ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَقْتَدُونَ بِهِ فَيُجْزِيهِمْ بِهِ جَرْيُ التَّوَارُثِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَالْقَوْمُ كُلُّهُمْ قَدْ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِمَامُ فِي مَقَامِهِ فَيُجْزِيهِمْ إلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَكَانَ مُسْتَقْبِلًا الْجِهَةَ الَّتِي اسْتَقْبَلَهَا الْإِمَامُ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى حَائِطِ الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ فَهَذَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْإِمَامِ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فَإِنْ وَقَفَتْ امْرَأَةٌ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ تَقْتَدِي بِهِ وَقَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَإِنْ اسْتَقْبَلَتْ الْجِهَةَ الَّتِي اسْتَقْبَلَهَا الْإِمَامُ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَاسِدَةٌ لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَإِنْ اسْتَقْبَلَتْ الْجِهَةَ الْأُخْرَى لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ عَنْ يَمِينِهَا وَمِنْ عَنْ يَسَارِهَا وَمِنْ خَلْفِهَا بِحِذَائِهَا لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي حَقِّهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ الْجِهَةَ الَّتِي اسْتَقْبَلَتْهَا هِيَ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ فُرَادَى لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ أَحَدٍ بِالْمُحَاذَاةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ تُبْنَى وَقَدْ أَظْرَفَ فِي الْعِبَارَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ كَرِهَ إطْلَاقَ لَفْظِ الِانْهِدَامِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يُفْهَمُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَإِذَا تَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا هَكَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ شَيْءٌ مَوْضُوعٌ لَا يُجْزِئُهُمْ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْقِبْلَةَ هِيَ الْبِنَاءُ وَالْبُقْعَةَ جَمِيعًا فَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلَى الْبِنَاءِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْقِبْلَةُ هِيَ الْكَعْبَةُ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ بِنَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِنَاءَ لَوْ نُقِلَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يَكُونُ قِبْلَةً وَقَدْ رُفِعَ الْبِنَاءُ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ بُنِيَ الْبَيْتُ عَلَى قَوَاعِدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَفِي عَهْدِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَعَادَهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَجُوزُ الصَّلَاةُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بِنَاءٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَرَ بِتَعْلِيقِ الْأَنْطَاعِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لَهُمْ (قَالَ) فَإِنْ صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ النَّافِلَةُ وَالْمَكْتُوبَةُ فِيهِ سَوَاءٌ وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا جِهَةً فَهُوَ مُسْتَدْبِرٌ جِهَةً أُخْرَى وَالصَّلَاةُ مَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ لَا تَجُوزُ فَيُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَفِي التَّطَوُّعِ الْأَمْرُ أَوْسَعُ وَقَاسَ الصَّلَاةَ بِالطَّوَافِ فَإِنَّ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اسْتَقْبَلَهَا بِيَقِينٍ وَالْفَرْضُ وَالنَّفَلُ فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَوَاءٌ فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي الْكَعْبَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ الْفَرْضُ وَلَيْسَ الصَّلَاةُ كَالطَّوَافِ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا؟ فَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّهُ صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَمِنْهُ إلَى الْحَائِطِ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ» فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ قَدْ تَحَلَّقُوا حَوْلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَعَهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ أَوْ إلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ إلَى يَسَارِهِ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ وَجْهُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مِنْ ظَهْرِهِ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ مَنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا الْجِهَةَ الَّتِي اسْتَقْبَلَهَا الْإِمَامُ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَائِطِ مِنْ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَرَّوْا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَاقْتَدُوا بِالْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ هُنَاكَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ إمَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَهَاهُنَا كُلُّ جَانِبٍ قِبْلَةٌ بِيَقِينٍ فَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ الْخَطَأَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ فَجَازَ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ وَعِنْدَنَا الْقِبْلَةُ هِيَ الْكَعْبَةُ فَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَبِالِاتِّفَاقِ مَنْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ لِلْبِنَاءِ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي قَالُوا بِالِاتِّفَاقِ لَوْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ إكَافًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَتَعَلَّقَ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِاسْتِقْبَالِ الْإِكَافِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبِنَاءِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [كِتَابُ السَّجَدَاتِ] [زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ] (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَسَائِلُ هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْهَا أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنَّمَا تَتَقَيَّدُ الرَّكْعَةُ بِالسَّجْدَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ يُفْسِدُهَا وَمِنْهَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا شُرِعَ مُتَكَرِّرًا لَا يَكُونُ رُكْنًا وَتَرْكُهَا لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَتْرُوكَةَ إذَا قُضِيَتْ اُلْتُحِقَتْ بِمَحَلِّهَا وَصَارَتْ كَالْمُؤَدَّاةِ فِي مَوْضِعِهَا وَمِنْهَا سَلَامُ السَّهْوِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ بِتَأْخِيرِ رُكْنٍ عَنْ مَحَلِّهِ وَيُؤَدَّى بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَمِنْهَا أَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ يَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ لَازِمٌ وَأَدَاءُ السُّنَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الثَّلَاثِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ سُنَّةٌ وَقَعْدَةُ الْخَتْمِ فَرِيضَةٌ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ إذَا فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ إعَادَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّك تَنْظُرُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى الْمَتْرُوكَاتِ مِنْ السَّجَدَاتِ وَإِلَى الْمَأْتِيِّ بِهَا، فَعَلَى الْأَقَلِّ مِنْهَا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ، وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُصُولِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: رَجُلٌ صَلَّى الْغَدَاةَ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً قَالَ يَسْجُدُ تِلْكَ السَّجْدَةَ وَيَسْتَوِي إنْ ذَكَرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَسْجُدُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَتْرُوكَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى اُلْتُحِقَتْ بِمَحَلِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ مُؤَدَّاةٌ فِي مَحَلِّهَا؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ تُنْتَقَضُ بِالْعُودِ إلَيْهَا، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا بِقَعْدَةِ الْخَتْمِ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إمَّا لِتَأْخِيرِ رُكْنٍ عَنْ مَحِلِّهِ أَوْ لِزِيَادَةِ قَعْدَةٍ أَوْ لِلسَّلَامِ سَاهِيًا. وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقَيَّدَتْ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رَكَعَ ثُمَّ قَعَدَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَانَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ كَيْفَ تَرَكَهُمَا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَةً إلَّا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالرَّكْعَةِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَتَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالسَّجْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ رَكْعَةٍ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ السَّجْدَةِ وَالسَّجْدَتَيْنِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يُفْسِدْ الْفَرِيضَةَ؛ فَلِهَذَا بَدَأَ بِالسَّجْدَتَيْنِ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَجْهُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَكْفِي ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، فَإِنْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَعَدَ بَعْدَهُمَا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَتَيْنِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَقَعْدَةُ الْخَتْمِ فَرِيضَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَكْعَةً كَانَتْ هَذِهِ الْقَعْدَةُ بِدْعَةً وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْفَرِيضَةِ يَجِبُ أَدَاؤُهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا لَا تَأْمُرُهُ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى حَتَّى لَا يَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَتَيْنِ؟ قُلْنَا: هَذَا تَرَدُّدٌ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْبِدْعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِمِثْلِهِ. وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَكَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَةٍ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ إذَا أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِجَوَازِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذَا، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَنَقُولُ: هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً وَبِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَتَقَيَّدُ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِيُتِمَّ بِهَا رَكْعَةً، ثُمَّ لَا يَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَلَكِنْ يُصَلِّي رَكْعَةً، ثُمَّ يَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَةِ قَضَاءَ الْمَتْرُوكَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَتَى بِسَجْدَةٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ الْقَضَاءَ تَتَقَيَّدُ بِهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ، فَإِذَا قَامَ بَعْدَهَا، وَصَلَّى رَكْعَةً كَانَ مُتَنَفِّلًا بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، فَإِذَا نَوَى بِهَا الْقَضَاءَ اُلْتُحِقَتْ بِمَحَلِّهَا وَانْتَقَضَ الرُّكُوعُ الْمُؤَدَّى بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ فَلِهَذَا يَنْوِي بِهَا الْقَضَاءَ فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا رَكَعَ رُكُوعَيْنِ وَلَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 لِيُتِمَّ رَكْعَةً ثُمَّ لَا يَقْعُدُ، وَلَكِنْ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ (قَالَ) رَجُلٌ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً قَالَ: يَسْجُدُ تِلْكَ السَّجْدَةَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهَا مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ تَرَكَهُمَا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً، وَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَرَكَهَا مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ. وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ وَسَجْدَةٌ فَيَبْدَأُ بِالسُّجُودِ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ يَقْعُدُ لِجَوَازِ أَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا وَبَعْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ فَقَطْ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَيَبْدَأُ فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الثَّانِي، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ، ثُمَّ يَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. (قَالَ) فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ فَنَقُولُ: الْمَأْتِيُّ بِهِ مِنْ السَّجَدَاتِ هَهُنَا أَقَلُّ فَنَبْنِي التَّخْرِيجَ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: إنَّمَا أَتَى بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهَا فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ثَلَاثِ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ سَجْدَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ فَيَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ لَا يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَعْدَةَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُ إنْ تَمَّ لَهُ رَكْعَتَانِ فَالْقَعْدَةُ لَهُ سُنَّةٌ، وَإِنْ تَمَّ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَالْقَعْدَةُ بِدْعَةٌ فَلَا يَقْعُدُ، لَكِنْ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سِتَّ سَجَدَاتٍ فَإِنَّمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَتَانِ، وَإِنْ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَيَحْتَاطُ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ لَا يَقْعُدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 لَكِنَّهُ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. (قَالَ): فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَبْعَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا مَا أَتَى إلَّا بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَتَقَيَّدُ إلَّا رَكْعَةٌ فَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا ثَمَانِ سَجَدَاتٍ فَهَذَا رَكَعَ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ وَلَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ فَيُتِمُّ بِهَا رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ. (قَالَ) رَجُلٌ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً قَالَ: يَسْجُدُ تِلْكَ السَّجْدَةَ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ فَيَسْجُدُ أَوَّلًا سَجْدَتَيْنِ احْتِيَاطًا ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَسَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ فَيَحْتَاطُ فَيَسْجُدُ أَوَّلًا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي (قَالَ): فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا إنَّمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فَيَبْدَأُ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ لَا يَقْعُدُ، وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي. (قَالَ): فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا خَمْسَ سَجَدَاتٍ فَإِنَّمَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَبِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَتَقَيَّدُ إلَّا رَكْعَةٌ فَيَسْجُدُ سَجْدَةً لِيُتِمَّ بِهَا رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ وَيَقْعُدُ بَعْدَهُمَا، وَهِيَ قَعْدَةُ الْخَتْمِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سِتَّ سَجَدَاتٍ فَهَذَا رَكَعَ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ وَلَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. (قَالَ) رَجُلٌ صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى رَكْعَةً كَامِلَةً قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً لَمْ يَرْتَفِعْ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 مُصَلِّيًا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَالرَّكْعَةُ تَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَيَكُونُ مُصَلِّيًا لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَتْرُوكَاتِ مِنْ السَّجَدَاتِ مَتَى كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الْمَأْتِيِّ بِهَا أَوْ مِثْلَ الْمَأْتِيِّ بِهَا لَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْتِيُّ بِهَا أَقَلَّ فَالْآنَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ حَتَّى إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا إنَّمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِسَجْدَتَيْنِ إلَّا رَكْعَتَانِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُصَلِّي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ؛ فَلِهَذَا يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ مِنْ وَجْهٍ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَدْ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَذَكَّرَ فِي رُكُوعِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا زَادَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ وَبِزِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. (قَالَ) رَجُلٌ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا لَمْ يَرْتَفِعْ الْفَسَادُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ مِنْ خَمْسِ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ لِمَاذَا لَا يُجْعَلُ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ مِمَّا هُوَ خَطَأٌ، وَهُوَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْفَسَادُ؟ قُلْنَا: وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْفَسَادُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ مَتَى فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَكْفِي ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ احْتِيَاطًا، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سِتَّ سَجَدَاتٍ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى إلَّا بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ فَيَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ وَجْهُ الْإِتْمَامِ أَنْ يَقُولَ مِنْ وَجْهٍ: عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَجَدَ سَجْدَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَجَدَ أَرْبَعًا فِي رَكْعَتَيْنِ فَيَحْتَاطُ فَيَسْجُدُ أَوَّلًا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الثَّانِي ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَبْعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 سَجَدَاتٍ فَإِنَّمَا أَتَى بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهَا فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَتَانِ فَيَحْتَاطُ فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا ثَمَانِ سَجَدَاتٍ فَإِنَّمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَتَانِ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَيَسْجُدُ أَوَّلًا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا تِسْعَ سَجَدَاتٍ فَإِنَّمَا أَتَى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَسْجُدُ سَجْدَةً لِيُتِمَّ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَقْعُدُ لِخَتْمِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا عَشْرَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا قَدْ رَكَعَ خَمْسَ رُكُوعَاتٍ وَلَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ. فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَةً كَامِلَةً، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا لَمْ يَرْتَفِعْ الْفَسَادُ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا خَمْسَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهَا إلَّا ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَيَتَيَقَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مُصَلٍّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ أَتَى بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَيَحْتَاطُ أَوَّلًا فَيَسْجُدُ أَوَّلًا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سِتَّ سَجَدَاتٍ فَهُوَ مَا أَتَى إلَّا بِسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ، وَإِنْ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ فَيَحْتَاطُ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ لَا يَقْعُدُ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَبْعَ سَجَدَاتٍ فَهَذَا مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً لِيُتِمَّ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ وَبَعْدَهَا وَهِيَ قَعْدَةُ الْخَتْمِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ فَهَذَا رَكَعَ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ وَلَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا فَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ لِيُتِمَّ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ وَبَعْدَهُمَا وَهِيَ قَعْدَةُ الْخَتْمِ. (قَالَ): رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى صَلَّى الْإِمَامُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً وَانْتَبَهَ النَّائِمُ فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ وَقَدَّمَهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِخْلَافِ إتْمَامُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَغَيْرُهُ أَقْدَرُ عَلَى هَذَا الْإِتْمَامِ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَاحِقٌ حِينَ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فَإِنْ تَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِخْلَافِ تَعْتَمِدُ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا شَرِيكُهُ فِيهَا فَيَبْدَأُ فَيُصَلِّي الْأُولَى وَيَسْجُدُ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً بِسَجْدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ تِلْكَ السَّجْدَةَ الَّتِي تَرَكَهَا الْإِمَامُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَسْجُدُ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِسَجْدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَيَسْجُدُ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ بِسَجْدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَيَسْجُدُ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَسْجُدُ الْقَوْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ سُجُودُ السَّهْوِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ تَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ قَالَ: وَلِمَاذَا تَفْسُدُ؟ قُلْت: لِأَنَّ الْإِمَامَ يَصِيرُ مَرَّةً لِلْقَوْمِ إمَامًا وَمَرَّةً غَيْرَ إمَامٍ، وَهَذَا قَبِيحٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي رَكْعَةٍ اسْتَحْسَنْت أَنْ أُجِيزَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ الْإِتْمَامِ لَيْسَ بِإِمَامٍ لِلْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَاللَّاحِقُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ خُرُوجُهُ مِنْ حُكْمِ الْإِمَامَةِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يُصَلِّيَ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدَ بِهِمْ السَّجْدَةَ الْمَتْرُوكَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَحُ أَنْ يَتَكَرَّرَ خُرُوجُهُ مِنْ الْإِمَامَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حِينَ يَشْتَغِلُ بِإِتْمَامِ مَا عَلَيْهِ خَاصَّةً ثُمَّ عَوْدِهِ إلَى الْإِمَامَةِ حَيْثُ انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الَّتِي تَرَكَهَا الْإِمَامُ مِنْ تِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ فَلِهَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصَّلَاةَ بِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 [بَابُ نَوَادِرِ الصَّلَاةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بُنِيَ مَسَائِلُ أَوَّلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَبَيْنَ فَرْضِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ إلَّا فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ (وَقَالَ): لَوْ أَنَّ رَجُلًا نَسِيَ الظُّهْرَ فَصَلَّى مِنْ الْعَصْرِ رَكْعَةً فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ ذَكَرَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْعَصْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ عِنْدَ الشُّرُوعِ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ فِي الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَإِذَا ذَكَرَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَصْرِ لَا يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْعَصْرِ أَيْضًا كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَفِي قَوْلِهِ: يَقْطَعُ الْعَصْرَ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِ الظُّهْرِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الْعَصْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاشْتِبَاهِ الْآثَارِ فِيهِ، وَالسَّبِيلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَتَمَامُ الِاحْتِيَاطِ فِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَصْرَ قَالَ: فَإِنْ مَضَى فِي الْعَصْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فَإِنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَصْرِ ثُمَّ يُجْزِئُهُ عَنْ التَّطَوُّعِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَوَاهُ الْحَسَنُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِئُهُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلصَّلَاةِ جِهَةً وَاحِدَةً فَإِذَا فَسَدَتْ صَارَ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِفَسَادِ الْجِهَةِ لَا يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا اعْتَرَضَ مُنَافِيًا لِأَصْلِ الصَّلَاةِ، وَتَذَكُّرُ الظُّهْرِ لَا يُنَافِي أَصْلَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ أَدَاءَ الْعَصْرِ فَيَفْسُدُ الْعَصْرُ وَيَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الْعَصْرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً لَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ فَقَالَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 بِفَرْضِ الْوَقْتِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالْفَائِتَةِ أَجْزَأَهُ إذَا كَانَ الْوَقْتُ قَابِلًا لِلْفَائِتَةِ، وَعِنْدَ سِعَةِ الْوَقْتِ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ. وَلَوْ بَدَأَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ النَّهْيَ عَنْ الْبُدَاءَةِ بِالْفَائِتَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِيهَا بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ فَرْضِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يُنْهَى عَنْ الْبُدَاءَةِ بِالْفَائِتَةِ يُنْهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ، وَالنَّهْيُ مَتَى كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَعِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ النَّهْيُ عَنْ الْبُدَاءَةِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لِمَعْنًى فِيهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنْهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالنَّهْيُ مَتَى كَانَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَانَ مُفْسِدًا لَهُ. فَإِنْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَهُوَ نَاسٍ لِلظُّهْرِ فَصَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً ثُمَّ احْمَرَّتْ الشَّمْسُ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ الظُّهْرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ افْتِتَاحَ الْعَصْرِ فَلَا يَمْنَعُ الْمُضِيَّ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَهَا، وَاشْتَغَلَ بِالظُّهْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ فَفِيهِ تَفْوِيتُ الصَّلَاتَيْنِ عَنْ الْوَقْتِ فَكَانَ تَذَكُّرُ الظُّهْرِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ (قَالَ): وَهِيَ تَامَّةٌ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ لَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْبَابُ، فَإِنَّ أَدَاءَ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَكْرُوهٌ عَلَى مَا قَالَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي صَلَاةٌ حِينَ تَحْمَرُّ الشَّمْسُ بِفَلْسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فَصَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً ثُمَّ احْمَرَّتْ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ مَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَعَ ذِكْرِهِ لِلظُّهْرِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَاسِدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْعَصْرَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا صَارَ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ وَلَكِنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْسُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَأَدَاءُ عَصْرِ الْيَوْمِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَيَشْتَغِلُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ غَيْرُ شَارِعٍ فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْعَصْرَ، وَإِنْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَمْرَاءُ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَدَاءُ الظُّهْرِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَاةِ سِوَى عَصْرِ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا يَكُونُ الْوَقْتُ قَابِلًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ تَفْوِيتَهَا؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ عَنْ وَقْتِهَا يَكُونُ تَفْوِيتًا لِأَدَائِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ كَانَ مُتَدَارِكًا لِمَا فَوَّتَ بِتَفْوِيتِ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ فَإِنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَهُوَ فِي الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَطَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَبْدَأُ بِالظُّهْرِ ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 بِالْعَصْرِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ الْوَقْتُ قَابِلٌ لِلظُّهْرِ، وَالْمَعْنَى الْمُسْقِطُ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ ضِيقُ الْوَقْتِ، وَقَدْ انْعَدَمَ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ اتَّسَعَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ نَاسٍ لِلظُّهْرِ ثُمَّ تَذَكَّرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يَعْرِضُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ افْتِتَاحِهَا كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ أَوْ الْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ وَمَا ذَكَرَهُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَوْ قَطَعَ صَلَاتَهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الْعَصْرِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا. وَلَوْ أَتَمَّهَا كَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، وَكَمَا سَقَطَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ لِحَاجَتِهِ إلَى أَدَاءِ جَمِيعِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا يَسْقُطُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ لِحَاجَتِهِ إلَى أَدَاءِ بَعْضِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِالِابْتِدَاءِ كَانَ مَأْمُورًا بِالشُّرُوعِ فِي الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا لَهُ مِنْ إتْمَامِ الْعَصْرِ لَكَانَ تَيَقُّنُهُ بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ مَانِعًا لَهُ مِنْ افْتِتَاحِ الْعَصْرِ، وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ إنَّهُ لَا يُفْتَتَحُ الْعَصْرُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَمَا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي صَلَاةٍ لَا يَعُودُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ حَالَةِ النِّسْيَانِ فَهُنَاكَ التَّرْتِيبُ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بَقِيَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ كَمَا كَانَ. (قَالَ): فَإِنْ كَانَ افْتَتَحَ الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَاسِعٌ، وَقَدْ صَارَتْ الْعَصْرُ فَائِتَةً كَالظُّهْرِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لِلظُّهْرِ حِينَ افْتَتَحَ الْعَصْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمَّا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً ذَكَرَ أَنَّ الظُّهْرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ عَصْرُهُ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَمْنَعُهُ مِنْ افْتِتَاحِ الْعَصْرِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ إتْمَامِهَا أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ يُعْذَرُ لِلنِّسْيَانِ فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهُوَ نَاسٍ لِلظُّهْرِ فَلَمَّا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً احْمَرَّتْ الشَّمْسُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظُّهْرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْضِي فِيهَا؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الْعَصْرِ قَدْ صَحَّ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ نَاسِيًا لِلظُّهْرِ، وَإِنَّمَا تَذَكَّرَ بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْسُ، وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ سَاقِطٌ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ تَذَكُّرُهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ صَلَاتَهُ حِينَ تَذَكَّرَ لَكَانَ يَسْتَقْبِلُ الْعَصْرَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَقْطَعَ عَصْرًا صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ حِينَ افْتَتَحَهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الْعَصْرِ فَهُوَ إنَّمَا يَقْطَعُ التَّطَوُّعَ لِيَشْتَغِلَ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، وَذَلِكَ مُفِيدٌ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، وَيَقَعُ الْعَصْرُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بَعْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ عِنْدَهُ مَا بَعْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْعَصْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَبَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَغَيُّرُ الضَّوْءِ أَمْ تَغَيُّرُ الْقُرْصِ، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِلْعَصْرِ وَلَكِنَّ تَأْخِيرَ الْعَصْرِ إلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعْنَى الْكَرَاهَةِ يُسْقِطُ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِ يُسْقِطُ ذَلِكَ بَيَانُهُ فِي مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ إذَا تَذَكَّرَ الْفَجْرَ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَلَا يَفُوتُهُ الْوَقْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَلْزَمُهُ وَلَكِنْ يُتِمُّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجُمُعَةِ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فِي الْمِصْرِ مَكْرُوهٌ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ خَوْفِ فَوَاتِ الْوَقْتِ فِي سُقُوطِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ هَهُنَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجُمُعَةَ أَقْوَى مِنْ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا أَدْعَى لِلشَّرَائِطِ وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ كَانَ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ فَالْأَضْعَفُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْأَقْوَى وَخَوْفُ فَوَاتِ الْأَقْوَى يَمْنَعُهُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْأَدْنَى، وَهَهُنَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ يَسْتَوِيَانِ فِي الْقُوَّةِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ إلَّا بِخَوْفِ فَوَاتِ الْوَقْتِ. (رَجُلٌ) تَوَضَّأَ بِالنَّبِيذِ، وَصَلَّى ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ طَهُورٌ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ قِيلَ: الْوَقْتُ بَاقٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَوُجُودِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ قُلْنَا: وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ، وَمَا وُجِدَ الْمَاءُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 إذَا أَيْسَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِصَلَاةٍ أُخْرَى. رَجُلٌ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مِنْ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمَّا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ قَامَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَقْعُدْ مَعَهُ فَإِنْ كَانَ قَرَأَ بَعْدَمَا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مِقْدَارَ مَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا لَمْ تُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ وَقِرَاءَتَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ مَا لَمْ يَقْعُدْ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُقْتَدٍ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ الْإِمَامِ مُقْتَدِيًا بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ إلَّا فِي وَقْتٍ لَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ فِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَمَا لَمْ يَقْعُدْ الْإِمَامُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ لَوْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ هُوَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِقِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي؛ وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى الْقُعُودِ مَعَ الْإِمَامِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ التَّشَهُّدِ فَيُجْعَلُ هُوَ فِي الْحُكْمِ كَالْقَاعِدِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي الصُّورَةِ فَإِذَا رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَلَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَرَأَ بَعْدَمَا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مِقْدَارَ مَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَامَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ قِيلَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ رُكْنٌ، وَقَدْ تَرَكَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ قُلْنَا: هَذِهِ الْقَعْدَةُ فِي حَقِّهِ لَيْسَتْ هِيَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ مَا يَكُونُ خَتْمُ الصَّلَاةِ بِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْقَضَاءِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا، وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَالَ: إنْ كَانَ قَرَأَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ إنْ قَرَأَ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْرَأْ بَعْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ شَيْئًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقِيَامَ فَكُنِّيَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ قَائِمًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ رُكْنٌ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ فَإِذَا بَقِيَ قَائِمًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَقَدْ وَجَدَ فَرْضَ الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَقَدْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ لِانْعِدَامِ الْقِيَامِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ. وَإِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا مَعَ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَصَلَّى مَعَهُ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} [آل عمران: 191] الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَحْوَالِ الْمُصَلِّي بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 إنْ افْتَتَحَهَا قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَجَعَلَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَهُوَ قَاعِدٌ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ حِينَ قَعَدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا قَائِمًا جَعَلَ يُومِئُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيَتْبَعَ الْإِمَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَهِيَ تَامَّةٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ قَاعِدٌ يَتَأَدَّى بِهِ التَّطَوُّعُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَإِذَا لَمْ يُجْزِئْ مَا أَدَّى عَنْ الْفَرْضِ كَانَ نَفْلًا وَاشْتِغَالُهُ بِأَدَاءِ النَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِلْفَرْضِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْإِيمَاءُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ التَّطَوُّعِ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُؤَدِّيًا لِلنَّفْلِ، وَلَكِنَّهُ مُؤَخِّرٌ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ بَعْدَمَا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيُؤَدِّيَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَامَ بِالتَّأْخِيرِ، وَالثَّانِي أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَاشْتِغَالُهُ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ، فَأَمَّا الْإِيمَاءُ فَلَيْسَ بِعَمَلٍ، وَهُوَ يَسِيرٌ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِصَلَاتِهِ كَالِالْتِفَاتِ فَلِهَذَا يَقُومُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَلَوْ ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ كَبَّرَ، وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَ فَكَبَّرُوا ثُمَّ قَهْقَهَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُمْ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِمَامِ فَضِحْكُهُمْ لَمْ يُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّجُلُ يَكُونُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَيَكُونُ تَكْبِيرُهُ هَذَا قَطْعًا لِمَا كَانَ فِيهِ وَشُرُوعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَارِعٌ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِمَامِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ أَنَّهُ نَوَى أَصْلَ الصَّلَاةِ، وَنَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فَصَحَّتْ نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ فَيَكُونُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا أَنَّهُ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ هَذَا حِينَ لَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ الْجِهَةِ عِنْدَهُمَا لَا يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْجِهَةِ تَبْقَى نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفَسَادِ الْجِهَةِ يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ بِبُطْلَانِ نِيَّةِ الْجِهَةِ هَهُنَا تَبْطُلُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ هُنَا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا صَلَّى بِقَوْمٍ وَسَلَّمَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضَحِكَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ ضَحِكَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْإِمَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 إذَا ضَحِكَ؛ فَلِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ صَارَ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»، وَقَدْ وُجِدَ وَتَسْلِيمُهُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجَفَاءِ وَلِتَعْمِيمِ جَمِيعِ الْقَوْمِ بِالسَّلَامِ فَلَا يَتَوَقَّفُ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِهِ، وَإِذَا صَارَ خَارِجًا بِالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ فَضِحْكُهُ لَمْ يُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا ضَحِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ ثُبُوتُهُ فِي الْمَتْبُوعِ، وَكَمَا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ السَّلَامُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ تَبَعٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ السَّلَامُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي تَبَعٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَالْمُقْتَدِي إنَّمَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ نَفْسِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ كَانَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ يَكُونُ الْمُقْتَدِي فِيهِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْمُقْتَدِي أَصْلًا كَالْقِرَاءَةِ؛ وَلِأَنَّ التَّحْلِيلَ مُعْتَبَرٌ بِالتَّحْرِيمِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ الْمُقْتَدِي شَارِعًا بِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَقِيَ مَقْصُودًا وَفِيمَا يَكُونُ هُوَ تَبَعًا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ جَهْلُ بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ يَشْتَغِلُ بِالدَّعَوَاتِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُسَلِّمَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالدَّعَوَاتِ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِسَلَامِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَ صَارَ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ يَعْنَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْجَوَابِ مُطْلَقًا يَكُونُ خَارِجًا عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ فَإِنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ لَا بِسَلَامِ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ دَعَوَاتُهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الْإِمَامِ وَكَذَلِكَ يَأْتِي بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ مَعَهُ، وَفِي التَّسْلِيمِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ وَالْمُشَارَكَةُ تَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ وَعِنْدَهُمَا الْأَوْلَى أَنْ يُكَبِّرَ عَقِيبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ حِينَ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ صَارَ خَارِجًا مِنْهَا فَكَيْفَ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الصَّلَاةِ [نَامَ الْمُقْتَدِي فَلَمْ يَتَشَهَّدْ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ] وَلَوْ نَامَ الْمُقْتَدِي فَلَمْ يَتَشَهَّدْ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ هَهُنَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ ثُمَّ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ كَاللَّاحِقِ وَالْمَسْبُوقِ فَإِنْ ضَحِكَ الرَّجُلُ النَّائِمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِهَا وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ ضِحْكَهُ لَاقَى حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الضَّحِكُ مَتَى لَمْ يُوجِبْ إعَادَةَ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ الْوُضُوءِ وَإِنْ سَلَّمَ هَذَا النَّائِمُ عَمْدًا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَإِنْ سَلَّمَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ ثُمَّ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ صَلَاتِهِ فَلَا يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِهِ سَاهِيًا كَمَنْ سَلَّمَ سَاهِيًا وَعَلَيْهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ. وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَكَبَّرَ ثُمَّ انْحَطَّ يَرْكَعُ فَرَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ رَكَعَ الرَّجُلُ لَمْ يُجْزِئْ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ كَحَالَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّ الْقَائِمَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْقَاعِدَ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْأَسْفَلَ مِنْ الْقَاعِدِ مُنْثَنٍ وَمِنْ الْقَائِمِ مُسْتَوٍ فَأَمَّا النِّصْفُ الْأَعْلَى فِيهِمَا سَوَاءٌ وَالرَّاكِعُ كَالْقَائِمِ فِي اسْتِوَاءِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ فَيَكُونُ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ، وَهُوَ رَاكِعٌ بِمَنْزِلَةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ. وَلَوْ كَبَّرَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَبَّرَ وَرَكَعَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَبَّ رَاكِعًا حَتَّى الْتَحَقَ بِالصَّفِّ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُشَارَكَتُهُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ شَرْطًا لِلْإِدْرَاكِ لَمَا فَعَلَ هَكَذَا؛ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةِ فَلَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إلَّا بِمُشَارَكَةِ الْإِمَامِ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ، وَهُوَ الرُّكُوعُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَكَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْرَكَهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ سَاجِدٌ فَكَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَسَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَمْ يَسْجُدْ هَذَا الرَّجُلُ مَعَهُ وَاحِدَةً مِنْ السَّجْدَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ لَا يُحْتَسَبُ بِهِمَا مِنْ صَلَاتِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَهُوَ تَقَدُّمُ الرُّكُوعِ فَإِنَّ الرُّكُوعَ افْتِتَاحُ السُّجُودِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهِمَا لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْمُتَابَعَةُ فِيمَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ بَعْدَمَا صَارَ هُوَ مُقْتَدِيًا بِهِ، وَقَدْ سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ هُوَ مُقْتَدِيًا بِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ بِذَلِكَ السَّجْدَةُ لِلْمُتَابَعَةِ، وَسَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا صَارَ هُوَ مُقْتَدِيًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَا لَمْ يَرْكَعْ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى وَيَسْجُدْ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَشْتَغِلُ بِهَا وَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَهُوَ الرُّكُوعُ، وَسَجْدَةُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاتِهِ. (قَالَ): رَجُلٌ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ ثُمَّ عَادَ فَإِنْ نَوَى عِنْدَ عَوْدِهِ السَّجْدَةَ الْأُولَى أَوْ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَائِدٌ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَمُتَابَعَةَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ تَكُونُ فِيمَا فِيهِ الْإِمَامُ، وَهِيَ السَّجْدَةُ الْأُولَى فَصَارَ نَاوِيًا لَهُمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُتَأَتٍّ فَتَلْغُو نِيَّتُهُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ. وَلَوْ نَوَى السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ خَاصَّةً فَلَمْ يَزُلْ سَاجِدًا حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَسَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ لِلثَّانِيَةِ فِي وَقْتٍ لَوْ سَجَدَهَا إمَامُهُ جَازَ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فِي آخِرِهَا حِينَ أَدْرَكَهُ فِيهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فِي أَوَّلِهَا بِأَنْ سَجَدَ الثَّانِيَةَ مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَسَجَدَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ فَظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ يَنْوِي الْأُولَى أَوْ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْ الثَّانِيَةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَسُجُودُهُ هَذِهِ هِيَ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى قَدْ تَمَّتْ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا، وَجَاءَ أَوَانُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى أَيِّ نِيَّةٍ أَتَى بِهَا كَانَتْ هِيَ الثَّانِيَةُ وَلَوْ أَنَّ قَارِئًا اقْتَدَى بِأُمِّيٍّ ثُمَّ قَهْقَهَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وُضُوءٌ؛ لِأَنَّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ، وَإِنْ صَارَ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ لَكِنْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا جَاءَ أَوَانُ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إيفَائِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا فَهَذَا الضَّحِكُ مِنْهُ فِي صَلَاةٍ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ فَهُوَ كَالضَّحِكِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَهَا خَلْفَ أَخْرَسَ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مَرِيضٍ يُومِئُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَصْلُحُونَ لِلْإِمَامَةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إذَا اقْتَدَى بِهِمْ وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمَّ نَامَ فَاحْتَلَمَ وَانْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ وَقْتُ الْعِشَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْمُؤَدَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدَّى فِي آخِرِ الْوَقْتِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا أَدَّاهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ مَوْقُوفًا فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْفَرِيضَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَقَعَ الْمُؤَدَّى عَنْ الْفَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُؤَدَّى وَقَعَ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْفَرْضِ حِينَ أَدَّى فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْفَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ، وَالنَّفَلُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَرْضِ، وَالْقَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 بِالتَّوَقُّفِ يَنْبَنِي عَلَى الْأَهْلِيَّةِ لِلْفَرْضِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ بِخِلَافِ الَّذِي عَجَّلَ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفَرْضِ، وَإِنَّمَا أَدَّى بَعْدَ كَمَالِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي سَمِعَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا عَلَى مَا يَحْكِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ بَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ فَمَرَّ يَوْمًا بِبَنِي حَرَامٍ وَوَقَفَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَسْمَعُ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ الصِّبْيَانُ، وَكَانَ هُوَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَكَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ اُبْتُلِيَ بِهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَعَادَ الْعِشَاءَ فَدَعَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتهَا فَأَخْبَرَهُ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ فَقَالَ يَا غُلَامُ: الْزَمْ مَجْلِسَنَا فَإِنَّك تُفْلِحُ فَتَفَرَّسَ فِيهِ خَيْرًا حِينَ رَآهُ عَمِلَ بِمَا تَعَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَنْتَبِهْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَاطَبًا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ صَبِيًّا وَفِي آخِرِ الْوَقْتِ نَائِمًا وَالنَّوْمُ يَمْنَعُ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ شَرَطَ الِانْتِبَاهَ قَبْلَ ذَهَابِ الْوَقْتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ يَمْنَعُ تَوَجُّهَ خِطَابِ الْأَدَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ نَائِمًا وَقْتَ صَلَاةٍ أَوْ صَلَاتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا انْتَبَهَ، وَقَدْ جُعِلَ النَّائِمُ كَالْمُنْتَبِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ احْتَلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بِأَنْ انْتَبَهَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْفَجْرِ، وَهُوَ يَتَذَكَّرُ الِاحْتِلَامَ، وَيَرَى الْأَثَرَ وَلَا يَدْرِي مَتَى احْتَلَمَ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ حَادِثٌ فَإِنَّمَا يُحَالُ حُدُوثُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - ثُمَّ أَسْلَمَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ عِنْدَهُ مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ مَا لَمْ يَمُتْ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الْآيَةُ، وَعِنْدَنَا بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وَالْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ الْآنَ فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ جَاءَ، وَهُوَ نَاسٍ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى فَدَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ يَنْوِي الظُّهْرَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَلَّاهَا فَأَفْسَدَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ فَإِنْ رَعَفَ الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ هَذَا الرَّجُلَ فَصَلَاتُهُمْ جَمِيعًا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا لِلْمُفْتَرِضِ وَاشْتِغَالُ الْإِمَامِ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ يَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ ثُمَّ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَقَدْ أَدَّاهُ الْإِمَامُ وَلَيْسَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةٌ وَالْأُمِّيُّ وَالْقَارِئُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ لِلصَّلَاةِ تُؤَدَّى فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَهَذِهِ الصَّلَاةُ افْتَتَحَهَا الْقَارِئُ، وَالْأُمِّيُّ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا، وَاشْتِغَالُ الْإِمَامِ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ يَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّاهُمَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لَمْ تُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْمُؤَدَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ نَاقِصٌ؛ وَلِأَنَّ بِالنَّذْرِ يَلْزَمُ أَدَاءٌ صَحِيحٌ وَالْمُؤَدَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَكُونُ فَاسِدًا لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ فَلَا يَحْصُلُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَذَكَرَهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا لَمْ يُكَبِّرْ عَقِيبَهَا، وَهَذِهِ أَرْبَعُ فُصُولٍ بَيَّنَّاهَا فِي الصَّلَاةِ: أَحَدُهَا هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ مَا إذَا نَسِيَ صَلَاةً فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالثَّالِثَةُ مَا إذَا نَسِيَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ قَابِلٍ، وَفِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَقْضِي بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ سُنَّةً فِي وَقْتِهِ يَكُونُ بِدْعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِذَا كَانَ يَقْضِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَلَاةً نَسِيَهَا قَبْلَهُ فَالْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا إذَا نَسِيَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَضَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَبَّرَ عَقِيبَهَا عِنْدَهُمَا الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ سَوَاءٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانُوا جَمَاعَةً كَبَّرُوا؛ لِأَنَّ وَقْتَ التَّكْبِيرِ بَاقٍ وَالْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَهُوَ نَظِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ إذَا تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي يَقْضِيهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَلَوْ صَلَّى الْوِتْرَ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ جَاءَ إلَى قَوْمٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُصَلُّونَ الْوِتْرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُمْ فِي التَّطَوُّعِ فَدَخَلَ فِي صَلَاتِهِمْ ثُمَّ قَطَعَ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُمْ فِي الْوِتْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَمَنْ الْتَزَمَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى الشَّفْعِ دُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الْوِتْرِ وَالشَّفْعُ الْوَاحِدُ لَا يَتَجَزَّأُ فَالْتِزَامُ بَعْضِهِ الْتِزَامٌ لِكُلِّهِ وَإِنْ دَخَلَ يُرِيدُ الْوِتْرَ وَلَمْ يَكُنْ أَوْتَرَ، وَقَدْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَأَوْتَرَ مَعَهُمْ أَوْ أَدْرَكَهُمْ رُكُوعًا فَرَكَعَ مَعَهُمْ ثُمَّ قَامَ فَقَضَاهُمَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْنُتَ فِيمَا يَقْضِي قَالَ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ يَجْعَلُ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ لَمْ يُشْرَعْ مُكَرَّرًا فِي وِتْرٍ وَاحِدٍ فَلَوْ جَعَلْنَا مَا أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ كَأَنْ يَقْنُتَ فِيمَا يَقْضِي فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ وَكَذَلِكَ إنْ أَدْرَكَهُمْ فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَهِيَ مَحَلٌّ لِلْقُنُوتِ فَيَجْعَلُ إدْرَاكَهُ مَحَلَّ الْقُنُوتِ مَعَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ قُنُوتِهِ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ افْتَتَحَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَجَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ قَالَ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي صَلَاتِهِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَنِيَّةُ الْإِيجَادِ فِي الْمَوْجُودِ لَغْوٌ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تَمَّتْ فَرِيضَتُهُ ثُمَّ كَانَتْ الرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ نَفْلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِهَا بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ. وَلَوْ كَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ تَجْدِيدِ التَّكْبِيرِ فِي صَلَاتِهِ الْأُولَى فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى فَكَانَ قَدْ اشْتَغَلَ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي الْمَغْرِبِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَصَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً وَفَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ ثُمَّ رَعَفَ فَانْطَلَقَ فَتَوَضَّأَ، وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الرَّكْعَةِ يَعْنِي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ، وَقَدْ فَرَغَ الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَيَقْعُدُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَيُصَلِّيهِمَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ وَيَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْإِمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى إمَامِهِ وَلَكِنَّهَا نَفْلٌ مَقْصُودٌ فِي حَقِّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِقِرَاءَةٍ وَفِيمَا كَانَ تَبَعًا لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ كَمَا أَدَّاهُ الْإِمَامُ، وَلِهَذَا قُلْنَا يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ كَمَا قَعَدَ الْإِمَامُ رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَنَامَ خَلْفَهُ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ انْتَبَهَ، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَضَاهَا فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ سَاهِيًا ثُمَّ عَلِمَ الرَّجُلُ كَيْفَ صَنَعَ الْإِمَامُ قَالَ: يَتْبَعُهُ وَيُصَلِّي بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالْتَزَمَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فَكَانَ هُوَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ فِيمَا يَأْتِي بِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةٌ، وَيَسْجُدُ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَضَى تِلْكَ السَّجْدَةَ فَالْتُحِقَتْ بِمَحَلِّهَا، وَصَارَ كَأَنَّهُ أَدَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَلَا يَقْعُدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا اسْتَتَمَّ قَائِمًا إنَّمَا لَمْ يَعُدْ إلَى الْقُعُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْفَرِيضَةِ لِأَدَاءِ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقَعْدَةِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ وَقَاسَ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي مَوْضِعِهَا كَمَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَمَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَسْقُطُ عَنْهُ الْقَعْدَةُ الْأُولَى بِسُقُوطِهَا عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا، وَلَمْ يَقُمْ الْقَوْمُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ، وَلَا يَأْتُونَ بِتِلْكَ الْقَعْدَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ، وَبِهِ فَارَقَ السَّجْدَةَ فَإِنَّ تِلْكَ السَّجْدَةَ مَا سَقَطَتْ عَنْ الْإِمَامِ بِالتَّرْكِ، وَلِهَذَا قَضَاهَا، وَقَدْ سَقَطَتْ الْقَعْدَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِيهَا فَتَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ رَعَفَ فَقَدَّمَهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ مِنْهُ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ، وَإِنْ فَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشِيرَ إلَى الْقَوْمِ لِيَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الَّتِي نَامَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَيَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَكِنْ صَلَّى بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ حَتَّى سَلَّمَ بِهِمْ، وَقَامَ هُوَ فَقَضَى رَكْعَتَهُ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ إنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي أَعْمَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ رُكْنٌ، وَإِنْ بَدَأَ بِاَلَّتِي نَامَ فِيهَا فَاتَّبَعَهُ الْقَوْمُ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا إمَامُهُمْ فَإِنَّ إمَامَهُمْ مَشْغُولٌ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي أَدُّوهَا هُمْ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُمْ قَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِمْ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَاقْتَدَى فِيهِمَا بِمُتَطَوِّعٍ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَالتَّطَوُّعُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِنَاءٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْتَرِضِ يَقْتَدِي بِالْمُتَطَوِّعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ رَكْعَتَيْنِ فَأَدَّاهُمَا خَلْفَ مُتَطَوِّعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ بِيَمِينِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَكَانَ هُوَ فِي الْأَدَاءِ مُتَطَوِّعًا، وَإِنْ كَانَ بِبِرٍّ بِهِ فِي يَمِينِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِرَّ فِي الْيَمِينِ يَحْصُلُ بِمَا هُوَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ الْيَوْمَ فَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ الْيَوْمَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الْفَرْقُ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا وَمُقِيمًا نَسِيَا صَلَاةً فَأَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَمَا تَذَكَّرَا فَإِنْ أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ جَازَ، وَإِنْ أَمَّ الْمُقِيمُ الْمُسَافِرَ لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إنَّ اقْتِدَاءَ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ يَجُوزُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِالِاقْتِدَاءِ وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ يَتَغَيَّرُ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الْفَجْرَ فَجَعَلَ يَرْكَعُ مَعَهُ وَيَسْجُدُ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَجَدَ قَبْلَهُ وَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ فَلَمَّا سَجَدَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ الرَّجُلُ يَنْوِي الثَّانِيَةَ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ السَّجْدَةُ الْأُولَى فِي حَقِّهِ فَإِنَّمَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَتَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ الْإِمَامِ ثُمَّ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ هُوَ رَأْسَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَدْرَكَهُ فِي آخِرِ السَّجْدَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ جَمِيعًا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِأَدَاءِ السَّجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُصَلِّيًا رَكْعَةً فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أُخْرَى فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَلَّى رَكْعَةً وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى بِسَجْدَتَيْنِ فَهُمَا لِهَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ سَجَدَ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي أَوَانِهَا فَيَكُونُ سُجُودُهُ عَنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَسَجْدَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى صَارَتْ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ فَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَمَا تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَنَا عَنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلْيُصَلِّ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ «مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ أُسْبُوعًا ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ أُسْبُوعًا فَقَالَ: عَطَاءٌ: اُرْمُقُوا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يُصَلِّي؟ فَرَمَقُوهُ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ أُسْبُوعًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى وَارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: رَكْعَتَانِ مَكَانُ رَكْعَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 جِهَةِ الْعَبْدِ فَهِيَ كَالْمَنْذُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنْذُورَةَ لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جُبَيْرٍ وَلْيُصَلِّ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ فِي الْأَوْقَات الَّتِي لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا رَجُلٌ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ رَعَفَ فَانْطَلَقَ يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى إمَامُهُ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ تَكَلَّمَ الَّذِي أَحْدَثَ فَصَلَّى هَذَا الْإِمَامُ تَمَامَ سِتِّ رَكَعَاتٍ فَعَلَى الرَّجُلِ الدَّاخِلِ مَعَهُ أَنْ يَقْضِيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِهَذَا الشَّفْعِ وَالشَّفْعُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَدَّاهُ الْإِمَامُ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ ثُمَّ هُوَ قَدْ أَفْسَدَ الِاقْتِدَاءَ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ إلَى الشَّفْعِ الثَّالِثِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الشَّفْعُ الثَّالِثُ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا لَهُ حِينَ قَامَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ افْتَتَحَا الصَّلَاةَ مَعًا يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ إمَامًا لِصَاحِبِهِ فَصَلَاتُهُمَا تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَنْبَنِي عَلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ فَنِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْإِمَامَةِ، وَنِيَّتُهُ الِانْفِرَادَ سَوَاءٌ، وَإِنْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ وَنِيَّتُهُ الِاقْتِدَاءَ بِالْمُقْتَدِي لَا تَصِحُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا فَاتَ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَعًا لِصَاحِبِهِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ: فَإِنَّ النَّوْمَ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ كَالْمُنْتَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَجَعَلَ الْجُنُونَ كَالْإِغْمَاءِ فَقَالَ: إذَا جُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا جُنَّ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ مَعَ بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْفَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَهُ الْمُؤَدَّى يَبْقَى عَلَى حَالِهِ يَعْنِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ حَتَّى لَوْ أَفَاقَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا قَصُرَ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فَإِنْ كَانَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا اسْتَوْعَبَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ قَالُوا: لِأَنَّ الْجُنُونَ يُزِيلُ الْعَقْلَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ جُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنْ عُمُرِهِ كَفَرَ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هَهُنَا رَجُلٌ نَسِيَ صَلَاتَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيُّ صَلَاتَيْنِ هُمَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ صَلَاةِ يَوْمَيْنِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا أَكْثَرُ مِنْ سِتِّ صَلَوَاتٍ فَيَسْقُطُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ لِلْكَثْرَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيُّهَا هِيَ أَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعِيدُ الْفَجْرَ وَالْمَغْرِبَ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِنِيَّةِ مَا عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ شَرْطٌ لِلْجَوَازِ، وَالصَّلَوَاتُ وَإِنْ اتَّفَقَتْ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ لَا يَجُوزُ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيمَا يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا فِيمَا يَقُولُ سُفْيَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُ قَضَاءَ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ: قَدْ كَانَ فِي ثَوْبِي قَذَرٌ فَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَاجِنًا فَحِينَئِذٍ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا كَانَ مَاجِنًا، وَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ أَنَّهُ يَكْذِبُ فِي خَبَرِهِ عَلَى قَصْدِ الْإِضْرَارِ بِالْقَوْمِ لِمَعْنًى دَخَلَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ وَالْمَاجِنُ هُوَ الْفَاسِقُ فَإِنَّ الْمُجُونَ نَوْعُ جُنُونٍ وَهُوَ أَنْ لَا يُبَالِيَ بِمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَتَكُونُ أَعْمَالُهُ عَلَى نَهْجِ أَعْمَالِ الْمَجَانِينِ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الْمَاجِنُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي سَبَبَ نَبْتٍ وَهُوَ الَّذِي يَلْبَسُ قَبَاطَاقَ وَيَتَمَنْدَلُ بِمَنْدِيلٍ خَيْشٍ وَيَطُوفُ فِي السِّكَكِ يَنْظُرُ فِي الْغُرَفِ أَنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إلَيْهِ أَمْ لَا وَلَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ قَهْقَهَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ لِصَلَاةٍ أُخْرَى أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا مِنْ أَصْلِ التَّحْرِيمَةِ فَقَدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ فَالضَّحِكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ الضَّحِكِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلَا يُجْعَلُ حَدَثًا وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ خُصُوصًا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ يُتِمُّ الْفَرِيضَةَ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُشْكِلُ أَنَّ ضِحْكَهُ صَادَفَ حُرْمَةَ صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَكَانَ حَدَثًا وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 حِينَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ أَفْسَدَهَا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ قَضَاهَا حِينَ احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَجْزَأَهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا أَفْسَدَهَا فَقَدْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْذُورَةِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ أَدَّاهَا حِينَ افْتَتَحَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَهُوَ وَالْمُؤَدَّى حِينَ شَرَعَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] رَجُلٌ صَلَّى بِمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَامَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ فَتَكَلَّمُوا ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ حَصَلَتْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ إتْمَامُ الصَّلَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُقِيمِينَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِمْ وَمَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ فِي صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حُرْمَتِهَا فِي وَقْتٍ لَوْ خَرَجَ إمَامُهُمْ مِنْهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ. وَمَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ فَرْضُ الْإِمَامِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بَعْدَمَا نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ تَغَيَّرَ بِنِيَّةِ الْإِمَامِ الْإِقَامَةَ فَيَكُونُ هُوَ مُتَكَلِّمًا فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قَامَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْمُقِيمِينَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَهَذَا الرَّجُلُ خَارِجٌ مِنْ صَلَاتِهِ يُتِمُّ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ انْفِرَادُهُ حِينَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَتِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدِي بِهِ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ انْفِرَادُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ انْفِرَادُهُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ فَكَانَ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقُمْ بَعْدُ مِنْ الْمُقِيمِينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِي إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنَّهُ سَجَدَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ. وَمَنْ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ أَوْ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ انْفِرَادَهُ إنَّمَا اسْتَحْكَمَ بِتَقْيِيدِهِ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ الرَّفْضَ وَالرَّكْعَةُ الْكَامِلَةُ لَا تَحْتَمِلُهُ؛ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ يُفْسِدُهَا فَإِنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ إذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ نَافِلَةً وَخَلْطُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً، وَيَقُومُ الْإِمَامُ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ فَتَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْفَسَادِ بِتَوَقُّفِ حَالِ فَرِيضَتِهِ فَإِنَّ فَرْضَهُ فِي الْوَقْتِ بِغَرَضِ التَّغْيِيرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَإِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي الِانْتِهَاءِ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَنِيَّتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَتَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمُقِيمِ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ حَتَّى إذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْقِرَاءَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْمُقِيمِينَ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَسَجَدَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَصَلَاةُ هَذَا الرَّجُلِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ انْفِرَادُهُ قَبْلَ تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي حَالٍ لَوْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ كَانَتْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً، وَإِنْ كَانَ قَرَأَ، وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ مَا صَنَعَ، وَيَعُودُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ انْفِرَادُهُ بَعْدُ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ سَجَدَ بَعْدَمَا نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَظَنَّ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً فَقَامَ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، وَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ إنْ سَجَدَ بِمَدِّ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ الرَّفْضَ فَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ صَارَ هَذَا وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ سَجَدَ فَهَذِهِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةٌ فِي حَقِّهِ لَا تَحْتَمِلُ الرَّفْضَ وَاشْتِغَالُهُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَجَدَ بَعْدَ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ يَتَقَيَّدُ مَا أَدَّى مِنْ الرَّكْعَةِ، وَهِيَ نَافِلَةٌ وَالنَّفَلُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَعَادَ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِمَا زَادَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ خُرُوجُهُ مِنْ الْفَرْضِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَلَكِنَّهُ مُتَنَفِّلٌ بِرَكْعَةٍ فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ شَفْعًا، وَإِنْ كَانَ رَكَعَ، وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى نَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ تَغَيَّرَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْكِمُ خُرُوجُهُ مِنْ الْفَرْضِ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ مَا أُدِّيَ كَانَ نَافِلَةً، وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ إعَادَةَ الرُّكُوعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْكَعُ عَنْ قِيَامٍ، وَفَرْضُ الْقِيَامِ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ لِتَرْكِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الْفَرِيضَةِ وَأَدَاءِ النَّافِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى قَامَ سَاهِيًا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى قِيَامِهِ، وَلَا يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَالْمُقِيمُ بَعْدَمَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا لَا يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَوْدِ مِنْ الْفَرْضِ إلَى السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ ثُمَّ نَوَاهَا قَبْلَ إتْمَامِ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ التَّشَهُّدَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ الْعَوْدُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ قَاعِدٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ [اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الصَّلَاةِ] مُسَافِرٌ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ تَكَلَّمَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى بِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ ثُمَّ تَكَلَّمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالشُّرُوعِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَهُنَا بِالشُّرُوعِ مَا قَصَدَ الْتِزَامَ شَيْءٍ وَإِنَّمَا قَصَدَ إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ حُكْمًا لِلْمُتَابَعَةِ فَإِذَا انْعَدَمَتْ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي صَلَاتِهِ أَصْلًا. وَلَوْ نَامَ هَذَا الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَاللَّاحِقُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فَإِنْ تَكَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ يَخْرُجُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَتَبْقَى نِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ فَرْضَهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ رَكْعَتَيْنِ وَهُنَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنْ وُجُوبُ الْأَرْبَعِ عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَانَ مِنْ الْمُتَابَعَةِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ تَكَلَّمَ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَنَوَى هُوَ أَنْ يُقِيمَ فِي مَوْضِعٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَإِنْ لَمْ تَنْوِ الْإِقَامَةَ. وَلَوْ أَنَّهَا نَوَتْ الْإِقَامَةَ دُونَ الزَّوْجِ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ النِّيَّةِ مِمَّنْ هُوَ أَصْلٌ دُونَ مَنْ هُوَ تَبَعٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا إذَا كَانَتْ قَدْ اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فَإِنَّهَا تَعْتَبِرُ نِيَّتَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ فَلَا تَخْرُجُ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لَهَا لِاسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا فَمَا لَمْ تَحْبِسْ كَانَتْ تَابِعَةً لِزَوْجِهَا، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا نَوَتْ الْإِقَامَةَ أَوْ السَّفَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ قَصَدَتْ حَبْسَ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا وَعَلَى هَذَا حُكْمُ كُلِّ تَبَعٍ مَعَ أَصْلِهِ كَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ وَالْأَجِيرِ لِلْخِدْمَةِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْجُنْدِيِّ مَعَ السُّلْطَانِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ مِمَّنْ هُوَ أَصْلٌ دُونَ التَّبَعِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ خَلَّى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَبَيْنَ النِّيَّةِ الْآنَ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا أَصْلَيْنِ بِهَذِهِ التَّخْلِيَةِ مَا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ، وَالسَّيِّدُ عَنْهَا (قَالَ): كُوفِيٌّ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْحِيرَةِ تَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ رَعَفَ فَنَوَى الرُّجُوعَ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءَ فِي مَكَانِهِ فَتَوَضَّأَ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ فِي فِنَاءِ وَطَنِهِ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِسَفَرِهِ وَالْتَحَقَ بِالْمُقِيمِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَكَذَلِكَ إنْ تَكَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا بِنِيَّتِهِ الْأُولَى فِي هَذَا الْمَكَانِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَرْتَحِلْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَكِنْ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَمَامَك مَاءً عَلَى رَأْسِ غَلْوَةٍ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِنِيَّتِهِ الْأُولَى وَلِأَنَّهُ بِالتَّوَجُّهِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بَعْدَمَا صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ عَمَلٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ بِخِلَافِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِلسَّفَرِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ فَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا مَشَى أَمَامَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُنْشِئٌ لِلسَّفَرِ بِمَشْيِهِ بَعْدَمَا خَرَجَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا أَوَطَنَ الْكُوفَةَ سَنَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَهَذَا وَطَنٌ مُسْتَعَارٌ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ فَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بَنَى هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَقَالَ: إنْ خَرَجَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 الْخُرَاسَانِيُّ مَعَ كُوفِيٍّ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا انْتَهَيَا إلَى الْحِيرَةِ نَوَيَا الْإِقَامَةَ بِالْقَادِسِيَّةِ شَهْرًا فَعَلَى الْكُوفِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَالْخُرَاسَانِيُّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ الْقَادِسِيَّةَ عَلَى نِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ وَطَنَ الْكُوفِيِّ بِالْكُوفَةِ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ فَإِنَّمَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي فِنَاءِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَادِسِيَّةَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ فَصَارَ هُوَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ وَوَطَنُ الْخُرَاسَانِيِّ بِالْكُوفَةِ كَانَ مُسْتَعَارًا فَانْتَقَضَ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ فَهُوَ مُسَافِرٌ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ فَمَا لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا. فَإِذَا دَخَلَا الْقَادِسِيَّةَ صَلَّيَا أَرْبَعًا حَتَّى يَخْرُجَا مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَإِنْ بَدَا لَهُمَا أَنْ لَا يُقِيمَا بِالْقَادِسِيَّةِ بَعْدَ نِيَّتِهِمَا الْأُولَى، وَهُمَا بِالْحِيرَةِ بَعْدُ فَإِنَّ الْكُوفِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْخُرَاسَانِيُّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ مُقِيمٌ بِنِيَّتِهِ الْأُولَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِرَفْضِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَإِنَّ شَخْصًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ نَوَيَا مِنْ الْحِيرَةِ أَنْ يَخْرُجَا إلَى خُرَاسَانَ وَيَمُرَّانِ بِالْكُوفَةِ فَالْخُرَاسَانِيُّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالْكُوفِيُّ يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَيَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْحَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى خُرَاسَانَ، وَإِنْ نَوَيَا الذَّهَابَ إلَى خُرَاسَانَ وَلَا يَمُرَّانِ بِالْكُوفَةِ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَهُوَ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَالْخُرَاسَانِيِّ. وَإِنْ خَرَجَ الْكُوفِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُّ يُرِيدَانِ قَصْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَهُوَ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ صَلَّيَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْزِمَا عَلَى السَّفَرِ مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنَّ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَهُمَا أَنْ يُقِيمَا بِالْقَصْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يَمْضِيَانِ إلَى بَغْدَادَ صَلَّيَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْقَصْرِ إلَى بَغْدَادَ دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ فَإِنْ بَدَا لَهُمَا الرُّجُوعُ مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْكُوفَةِ وَيَمُرَّانِ بِالْقَصْرِ فَالْخُرَاسَانِيُّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكُوفِيُّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَ الْخُرَاسَانِيِّ بِالْقَصْرِ كَانَ وَطَنًا مُسْتَعَارًا فَانْتُقِضَ بِهِ وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ وَصَارَ وَطَنُهُ الْقَصْرَ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَيُصَلِّي أَرْبَعًا، وَأَمَّا وَطَنُ الْكُوفِيِّ بِالْقَصْرِ فَكَانَ وَطَنَ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ فِي فِنَاءِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَلَا يَكُونُ لَهُ وَطَنًا مُسْتَعَارًا فِي فِنَاءِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَنْقُضُ الْوَطَنَ الْمُسْتَعَارَ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ وَوَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ لَا عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ فَالْتَحَقَ هُوَ بَعْدَمَا وَصَلَ إلَى بَغْدَادَ بِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَصْرَ فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَقَدْ أَنْشَأَ سَفَرًا مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْكُوفَةِ، وَإِنْ كَانَا أَوْطَنَا بِبَغْدَادَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بَدَا لَهُمَا الرُّجُوعُ صَلَّيَا جَمِيعًا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الْخُرَاسَانِيِّ بِالْقَصْرِ قَدْ انْتَقَضَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ وَطَنُهُ بِبَغْدَادَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا نَوَيَا الْإِقَامَةَ بِالْقَصْرِ وَلَا بِبَغْدَادَ فَإِذَا خَرَجَا مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْكُوفَةِ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُمَا بِالْقَصْرِ كَانَ وَطَنَ السُّكْنَى، وَقَدْ انْتَقَضَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا بَاعَ دَارِهِ وَخَرَجَ مَعَ عِيَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يُوطِنَ مَكَّةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الثَّعْلَبِيَّةِ بَدَا لَهُ أَنْ يُوطِنَ خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ لَا يَنْقُضُهُ إلَّا وَطَنٌ أَصْلِيٌّ مِثْلُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَكَانَتْ الْكُوفَةُ وَطَنًا لَهُ فَيُصَلِّي بِهَا أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ أَتَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا عَلَى عَزِيمَتِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِأَهْلِهِ وَثِقَلِهِ عَلَى قَصْدِ التَّوَطُّنِ بِهَا صَارَ ذَلِكَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ وَانْتَقَضَ وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ مُتَوَطِّنًا بِمَكَّةَ فَلَمَّا تَوَطَّنَّ بِالْمَدِينَةِ انْتَقَضَ وَطَنُهُ بِمَكَّةَ حَتَّى لَمَّا دَخَلَهَا قَالَ أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْيَمَنِ وَيَمُرُّ بِمَكَّةَ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ بَعْدَهَا وَطَنًا آخَرَ وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى يُرِيدُ الْحَجَّ وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ سَنَةً فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مِنًى؛ لِأَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِهَذَا الدُّخُولِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى إلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ أَتَاهَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُقِيمًا ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا، وَإِنْ بَدَا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِنًى أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُوفَةِ بَعْدَمَا قَضَى حَجَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى مَا دَخَلَهَا عَلَى عَزْمِ الْإِقَامَةِ فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا بَدَا لَهُ هَذَا بَعْدَمَا رَجَعَ مِنْ مِنًى صَلَّى أَرْبَعًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُ سَفَرًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا بِهَا حِينَ دَخَلَهَا عَلَى عَزْمِ الْإِقَامَةِ وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا أَوْطَنَ الْكُوفَةَ وَالْحِيرَةَ عِشْرِينَ يَوْمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَكُونَ بِاللَّيْلِ بِالْحِيرَةِ وَبِالنَّهَارِ بِالْكُوفَةِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُقِيمًا إذَا انْتَهَى إلَى الْحِيرَةِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الْمَرْءِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّك تَسْأَلُ السُّوقِيَّ أَيْنَ يُقِيمُ فَيَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَيُشِيرُ إلَى مَبِيتِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ فِي السُّوقِ وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا خَرَجَ حَاجًّا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْحِيرَةِ فَنَوَى بِهَا الْإِقَامَةَ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى النَّجَفِ وَهُوَ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُوفَةَ؛ لِأَنَّ الْحِيرَةَ كَانَتْ وَطَنَ السُّكْنَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فِي حَقِّهِ فَانْتَقَضَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَالْتَحَقَ بِمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْحِيرَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُوفَةَ فَإِنَّ وَطَنَهُ بِالْحِيرَةِ كَانَ وَطَنَ السُّكْنَى وَلَوْ أَنَّ كُوفِيَّيْنِ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِهِ يُرِيدُ مَكَّةَ وَأَقْبَلَ الْآخَرُ مِنْ الشَّامِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ فَالْتَقَيَا بِالْحِيرَةِ، وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَا الصَّلَاةَ ثُمَّ رَعَفَا فَأَقْبَلَا يُرِيدَانِ الْكُوفَةَ ثُمَّ أَصَابَا مَاءً قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَا إلَى بُنْيَانِ الْكُوفَةِ فَاَلَّذِي خَرَجَ مِنْ الْكُوفَةِ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَاَلَّذِي أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْكُوفَةَ وَاَلَّذِي خَرَجَ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَصَارَ مُقِيمًا فِي الْحَالِ فَلِهَذَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَا دَخَلَا الْكُوفَةَ فَتَوَضَّئَا صَلَّيَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ بِدُخُولِهِ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ صَارَ مُقِيمًا فَإِنْ كَانَا مُقْتَدِيَيْنِ بِمُسَافِرٍ فَدَخَلَا الْكُوفَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ إمَامُهَا صَلَّيَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ إمَامِهِمَا. وَلَوْ دَخَلَ إمَامُهُمَا وَطَنَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَ فَرَغَ إمَامُهُمَا مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ أَحْدَثَا فَدَخَلَا الْكُوفَةَ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مُقْتَدِيَانِ بِهِ وَإِمَامُهُمَا. وَلَوْ صَارَ مُقِيمًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُمَا، وَإِنْ تَكَلَّمَا صَلَّيَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُتَابَعَةِ قَدْ انْقَطَعَ حِينَ تَكَلَّمَا، وَقَدْ دَخَلَا وَطَنَهُمَا الْأَصْلِيَّ فَكَانَا مُقِيمَيْنِ فِيهِ يُصَلِّيَانِ أَرْبَعًا (قَالَ): اللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فَيَكُونُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَالْإِمَامُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَالْمَسْبُوقُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ. وَلَوْ نَوَى اللَّاحِقُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ إمَامَهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ اللَّاحِقُ بَعْدَمَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَغَيَّرَ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمُتَابَعَةِ فَصَارَ أَصْلًا وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْوَقْتِ مِمَّنْ هُوَ أَصْلٌ يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْفَرْضِ وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ الْمُسَافِرَ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ صَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ بِيَدِهِ لَمْ تَتَحَوَّلْ الْإِمَامَةُ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّمَا نَوَى الْإِقَامَةَ وَهُوَ إمَامٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْقَوْمِ. وَلَوْ أَخَذَ بِيَدِ مُقِيمٍ فَقَدَّمَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ فَإِذَا أَتَمَّ بِهِمْ الْمُقِيمُ الصَّلَاةَ وَقَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالنَّفْلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَأَمَّا صَلَاةُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُقِيمِينَ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدَوْا فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ هَذَا الْخَلِيفَةُ فِي الرَّكْعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ جَمِيعِ الْقَوْمِ وَلَوْ أَنَّ أَمَةً افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ قِنَاعٍ فَرَعَفَتْ فَذَهَبَتْ لِتَتَوَضَّأَ فَأُعْتِقَتْ، أَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَ سَيِّدُهَا فَأَخَذَتَا الْقِنَاعَ مِنْ سَاعَتَيْهِمَا قَبْلَ أَنْ تَعُودَا إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُمَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِمَا اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ وَفِيهِ قِيَاسَانِ كِلَاهُمَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فَرْضَ التَّقَنُّعِ لَمَّا لَزِمَهُمَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْجَبَ اسْتِقْبَالَ الصَّلَاةِ كَالْعَارِي لَوْ وَجَدَ ثَوْبًا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي أَنَّهُمَا لَمَّا رَعَفَتَا وَهُمَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدُ فَكَأَنَّهُمَا فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَتَا التَّقَنُّعَ سَاعَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ: هَذَا الْفَرْضُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُمَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَتَيَا بِهِ بِخِلَافِ الْعُرْيَانِ فَهُنَاكَ فَرْضُ السِّتْرِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَكِنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لِلْعَجْزِ، وَالثَّانِي أَنَّهُمَا بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ، وَإِنْ كَانَتَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَهُمَا غَيْرُ مَشْغُولَتَيْنِ بِأَدَاءِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَخَّرَتَا التَّقَنُّعَ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ مَكْشُوفَتَيْ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَتَا إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ ثُمَّ تَقَنَّعَتَا فَقَدْ وُجِدَ هُنَاكَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ مَكْشُوفَتَيْ الْعَوْرَةِ، وَهُوَ الْقِيَامُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِصَلَاتَيْهِمَا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً فَتَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ مَاءً قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ عَادَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ عَادَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ مَاءً فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ [صَلَّى بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ] رَجُلٌ صَلَّى بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ فَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أَوْ مُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ أَنَّهُ مُقِيمٌ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ مُقِيمًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ جَمِيعِ الْقَوْمِ حِينَ سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَذَهَبَ فَإِنْ سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُسَافِرٌ جَازَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ إنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ أَوْ مُقِيمِينَ فَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ بَعْدَ فَرَاغِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَبِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 [بَابُ السَّهْوِ] [رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا فَنَسِيَ أَنْ يَتَشَهَّدَ حَتَّى قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ] قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ - رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا فَنَسِيَ أَنْ يَتَشَهَّدَ حَتَّى قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فَسَبَّحَ بِهِمْ حَتَّى قَامُوا»، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ تَشَهَّدَ فَنَسِيَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ التَّشَهُّدَ حَتَّى قَامُوا جَمِيعًا فَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ أَنْ يَعُودَ فَيَتَشَهَّدَ ثُمَّ يَتْبَعَ إمَامَهُ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فِي حَقِّهِ سُنَّةٌ وَبَعْدَمَا اشْتَغَلَ بِفَرْضِ الْقِيَامِ لَا يَعُودُ إلَى السُّنَّةِ، وَهُنَا التَّشَهُّدُ فَرْضٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ السَّجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رَكْعَةٍ أُخْرَى فَإِنْ خَافَ فَوْتَ ذَلِكَ تَرَكَهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ يَقْضِي تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَتَيْهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْرَازِ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى إذَا خَافَ فَوْتَهَا وَهُنَا لَا يَقْضِي هَذَا التَّشَهُّدَ بَعْدَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ يَتْبَعُ إمَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ إذَا انْتَبَهَ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا يَأْتِي الْإِمَامُ، وَإِنْ سَهَا هَذَا الْمُقْتَدِي فِي الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ عَنْ التَّشَهُّدِ حِينَ سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى وَمُرَادُهُ أَنَّهُ سَهَا عَنْ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ لَا عَنْ الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَهْقَهَ هُوَ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ رُكْنٌ فَتَرْكُهَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ وَاجِبٌ فَهُوَ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِسَلَامِ الْإِمَامِ إذَا بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فَضِحْكُهُ يَكُونُ مُصَادِفًا حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا سَلَّمَ نَاسِيًا وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ بِسَلَامِ السَّهْوِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْجُدْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي كَمَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ الرَّجُلُ مَعَهُ ثُمَّ قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَهُ بِهِ فَإِنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَى مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً فَقَدْ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي تَرَكَهَا الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ، وَقَدْ قَيَّدَ هَذَا الرَّجُلُ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ الْإِمَامُ إلَيْهَا فَفِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَلَا يَعُودُ إلَى مُتَابَعَتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يَقُولُ: صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَوْدَةَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَنْقُضُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَكَانَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ قُعُودِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ تَكَلَّمَ فِيهِ إمَامُهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي تَذَكَّرَهَا سَجْدَةً صُلْبِيَّةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْقَعْدَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ إنَّمَا كَانَ بِالْعَوْدِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا الْمُقْتَدِي خَارِجًا عَنْ مُتَابَعَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَالْإِمَامِ إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ السَّلَامِ حَتَّى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْقَوْمِ. وَلَوْ صَلَّى بِقَوْمٍ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ الْإِمَامُ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا انْقَلَبَ مَا أَدَّى نَفْلًا فِي حَقِّهِ وَبَقِيَ فَرْضًا فِي حَقِّ الْقَوْمِ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سُجُودَ السَّهْوِ وَاقْتَدَى بِهِ هَذَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا فَفِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ قَامَ وَقَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ الْإِمَامُ إلَى سَجْدَةِ السَّهْوِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَعُدْ إلَى مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى السَّهْوِ يَرْفَعُ السَّلَامَ وَلَا يَنْقُضُ الْقَعْدَةَ. وَلَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَةً مِنْ تِلَاوَتِهِ حَتَّى سَلَّمَ فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَهُمَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ سَاهِيًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِصَلَاتِهِ فَيَعُودُ، وَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ الصُّلْبِيَّةَ ثُمَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْدَاهُمَا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ أَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ فَسَلَامُهُ قَطْعٌ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ السَّلَامَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ نَاسِيًا لِلصُّلْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ هَهُنَا حِينَ سَلَّمَ فَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ رُكْنِ الصَّلَاةِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ سَلَامُهُ هَذَا قَطْعٌ لِصَلَاتِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِوَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَيَكُونُ سَلَامُهُ قَطْعًا لَا نِهَايَةً وَبَعْدَ قَطْعِ الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ فَأَتَى بِالصُّلْبِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ ذَاكِرًا لَهَا حِينَ سَلَّمَ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا لَوْ سَلَّمَ، وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُمَا أَوْ لِإِحْدَاهُمَا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُمَا أَوْ لِإِحْدَاهُمَا كَانَ سَلَامُهُ قَاطِعًا أَيْضًا حَتَّى لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِهَا. فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي الْقَعْدَةِ الَّتِي بَعْدَهَا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدُ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ سُجُودُ السَّهْوِ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّهُ مَا سَهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمْهُ بِحُكْمِ الْمُتَابَعَةِ [جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ] ثُمَّ ذَكَرَ مَا إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ قَالَ: هُنَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ السَّهْوُ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا نَسِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ رَعَفَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ قَرَأَ فِيهِمَا ثُمَّ تَأَخَّرَ، وَقَدَّمَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَقَامَ هُوَ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ حَتَّى إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَتُلْتَحَقُ قِرَاءَتُهُ بِمَحَلِّهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَلَا يَتَأَدَّى بِذَلِكَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ فِيمَا يَتِمُّ مَسْبُوقٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِقِرَاءَةٍ وَمَنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ وَتَكْبِيرٌ وَتَلْبِيَةٌ بَدَأَ بِالسَّهْوِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ مُؤَدَّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَالتَّكْبِيرُ مُؤَدَّى فِي فَوْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي حُرْمَتِهَا فَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ وَالتَّلْبِيَةُ تُؤَدَّى لَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا فِي فَوْرِهَا فَيُؤَخِّرُهَا فَإِنْ سَلَّمَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَأَعَادَ التَّكْبِيرَ. وَلَوْ لَبَّى ثُمَّ تَذَكَّرَ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرٌ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَالتَّلْبِيَةُ كَلَامٌ فَإِنَّهُ إجَابَةٌ لِلدَّاعِي فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ وَمَنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، ثُمَّ خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْلَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا نَحْوُ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْضِي فَائِتَةً عَلَيْهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ أَيْضًا نَحْوُ دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي حَقِّ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ رَكَعَ سَاهِيًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ سُورَةً ثُمَّ رَكَعَ فَاقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مَا كَانَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَلَوْ كَانَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ ثُمَّ ظَنَّ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فَقَرَأَ، وَرَكَعَ الثَّانِي فَأَدْرَكَ رَجُلٌ مَعَهُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ حَصَلَ فِي أَوَانِهِ وَالرُّكُوعُ الثَّانِي وَقَعَ مُكَرَّرًا فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَوْ صَلَّى مِنْ الظُّهْرِ رَكْعَةً وَتَرَكَ سَجْدَةً ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَسَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَالسَّجْدَةُ الثَّالِثَةُ لَا تَكُونُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ صَارَتْ السَّجْدَةُ الْمَتْرُوكَةُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ حِينَ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَةً تَامَّةً فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْكَعْ فِي الثَّانِيَةِ حَتَّى سَجَدَ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ تِلْكَ السَّجْدَةِ لَمْ يَفُتْ وَلَمْ يَأْتِ مَحَلُّ الثَّانِيَةِ. فَلَوْ سَهَا عَنْ سَجْدَةٍ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى صَلَّى الثَّانِيَةَ، وَقَامَ سَاهِيًا قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَسَجَدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَهَا وَلَكِنَّهُ يَقُومُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى تِلْكَ السَّجْدَةَ فَقَدْ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا، وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأُولَى وَيَبْقَى هُوَ فِي حُكْمِ الْقَائِمِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَلَا يَعُودُ لِلْقَعْدَةِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِنْ الثَّانِيَةِ أَيْضًا سَجْدَةً - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالسَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا أَوَانُ الْقَعْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ بَعْدُ إذْ لَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا رَكْعَةً وَكَانَتْ مُؤَدَّاةً فِي مَحِلِّهَا وَارْتَفَضَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ بِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ إلَى الثَّالِثَةِ فَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَشَهَّدَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ؛ لِأَنَّ بِالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ انْتَقَضَ تَشَهُّدُهُ كَمَا انْتَقَضَ قِيَامُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْمَعْرُوفَةَ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْخَمْسُ إمَامِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ أَجَابَ هُنَا فِي الْمَسْبُوقِينَ أَنَّ الْإِمَامَ الْخَامِسَ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَيَسْجُدُ مَعَهُ جَمِيعُ الْقَوْمِ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَقُولُ: لَا يَسْجُدُ مَعَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ هَذِهِ السَّجْدَةُ مِنْهَا فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَعَلَيْهِمْ قَضَاءُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَتَيْهَا فَلَا يُتَابِعُونَهُ فِيهَا، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ: عَلَى الْمَسْبُوقِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْضِي ذَلِكَ إذَا قَامَ إلَى الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ وَاقْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ فِي السَّجْدَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ يَسْجُدُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي وَسَطِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَمَّ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ بَعْدُ، وَسَجَدَ يَنْوِي التِّلَاوَةَ فَإِنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ تَكُونُ مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ وَلَا تَكُونُ مِنْ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ فَلَا تُؤَدَّى بِغَيْرِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ وَسَجَدَ فِي مَوْضِعِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَتُجْعَلُ مُؤَدَّاةً بِغَيْرِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ. وَلَوْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السُّنَّةُ خَرَجَ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنُوبُ هَذَا عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الدَّيْن ثُمَّ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 هُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَكَعَ وَسَجَدَ فِي مَوْضِعِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّ السَّجْدَةَ الَّتِي بَعْدَ الرُّكُوعِ هِيَ الَّتِي تَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَأَقْسَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا صَلَّى رَكْعَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ، وَرَكَعَ وَسَجَدَ سَجْدَةً وَقَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ مَا فَعَلَ فَإِنَّهُ يَنْحَطُّ فَيَسْجُدُ وَيَتَشَهَّدُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ فَيَسْجُدُهَا وَيَرْتَفِضُ مَا أَدَّى بَعْدَهَا فَلِهَذَا يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ اعْتَدَّ بِذَلِكَ الرُّكُوعِ وَسَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ لَمَّا أَدَّاهَا بِسَجْدَتَيْهَا فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ السُّجُودِ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَمْ يَنْوِهَا فَلَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَقْضِ تِلْكَ السَّجْدَةَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي لِلصَّوَابِ [بَابُ الْحَدَثِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَنَّ إمَامًا صَلَّى بِقَوْمٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَهُ فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ تَأَخَّرَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَسَلَّمَ بِهِمْ فَصَلَاتُهُمْ جَمِيعًا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الثَّانِي اسْتَخْلَفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَخْلَفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ الْقَوْمِ فَكَذَلِكَ الثَّانِي إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً فَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي رَابِعَةِ الْإِمَامِ فَصَلَاتُهُمْ أَيْضًا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَوْ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ وَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ جَمِيعِ الْقَوْمِ فَكَذَلِكَ الثَّانِي وَلَوْ أَنَّ إمَامًا أَحْدَثَ فَتَقَدَّمَ رَجُلَانِ مِمَّنْ خَلْفَهُ وَنَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ إمَامًا فَائْتَمَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ فَصَلَاةُ الَّذِي ائْتَمَّ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْقَوْمِ تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْآخَرِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ اُفْتُتِحَتْ بِإِمَامٍ فَلَا يُمْكِنُ إتْمَامُهَا بِإِمَامَيْنِ وَالْأَقَلُّ لَا يُزَاحِمُ الْأَكْثَرَ، فَالْإِمَامُ هُوَ الَّذِي ائْتَمَّ بِهِ أَكْثَرُ الْقَوْمِ وَبِمَا ذَكَرَ هُنَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ إذَا ائْتَمَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ بَعْدَ أَنْ وُجِدَ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ نَصَّ هُنَا عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي ائْتَمَّ بِهِ أَكْثَرُ الْقَوْمِ فِي حُكْمِ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 جَمِيعُ الْقَوْمِ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ بَعْضُ الطَّائِفَةِ عَلَى بَعْضٍ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ صَلَاةِ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِإِمَامٍ لَا يُمْكِنُ إتْمَامُهَا بِإِمَامَيْنِ. وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ رَجُلًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَتَقَدَّمَ آخَرُ وَائْتَمَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْقَوْمِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِي حُكْمِ مَنْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ إذَا اقْتَدَى بِهِ الْقَوْمُ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَسْتَخْلِفُ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَاقْتِدَاءُ الْقَوْمِ بِمَنْ تَقَدَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ إيَّاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ بِمَنْزِلَةِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ إيَّاهُ فِي حُكْمِ ثُبُوتِ الْإِمَامَةِ لَهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ رَجُلَيْنِ فِي مَسْجِدٍ فَأَحْدَثَ فَقَدَّمَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ أَحْدَثَ الثَّانِي فَخَرَجَ وَنَوَى الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فَهَذَا لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِمَامَةِ سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ فَإِنْ أَحْدَثَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ أَحَدُ الْأَوَّلَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمَا إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ. وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلَانِ ثُمَّ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَحَدَهُمَا، وَقَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَصَلَاةُ الرَّجُلَيْنِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَحَوُّلِ الْإِمَامَةِ إلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا لِلْإِمَامَةِ أَوْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَاتُهُمْ جَمِيعًا تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ قَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى مَنْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُ مَكَانُ الْإِمَامَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مَلْآنُ وَصَفٌّ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلٌ بِهِمْ يُصَلُّونَ فَأَحْدَثَ وَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مِمَّنْ هُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَقَدَّمَهُ فَصَلَاتُهُمْ جَمِيعًا فَاسِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ قَالَ؛ لِأَنَّ الصُّفُوفَ مُتَّصِلَةٌ وَبِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ تَصِيرُ الْأَمْكِنَةُ الْمُخْتَلِفَةُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَهَا صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الِاسْتِخْلَافِ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ هُمْ خَارِجُ الْمَسْجِدِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِالْإِمَامِ، وَإِنَّمَا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ لِإِصْلَاحِ صَلَاةِ الْقَوْمِ وَحَاجَةُ الَّذِينَ هُمْ خَارِجُ الْمَسْجِدِ إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَوْ أَشَارَ إلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ حَتَّى دَخَلَ فَتَقَدَّمَ كَانَ اسْتِخْلَافُهُ صَحِيحًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَيْهِ فَقَدَّمَهُ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ فَقُلْنَا بِأَنَّ اسْتِخْلَافَهُ يَكُونُ صَحِيحًا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِمَامَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ الِاسْتِخْلَافِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاةِ الْقَوْمِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِتَرْكِ الِاسْتِخْلَافِ مِنْ أَوَّلِ الصُّفُوفِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لِخُلُوِّ مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ وَهُوَ الْمِحْرَابُ عَنْ الْإِمَامِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ مَا دَامَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ وَقَفَ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا ذَلِكَ فِي حُكْمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَسْجِدُ مَلْآنًا لَا يَجْعَلُ كَذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِالْإِمَامِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ لَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَمْكِنَةَ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِيهَا لَمْ تَكُنْ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ كَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الصُّفُوفِ فَالْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةٌ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهَهُنَا الْمَسْجِدُ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ بِدُونِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدُ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ كَانَ اسْتِخْلَافُهُ صَحِيحًا فَلَمَّا كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ صَلَاتِهِمْ يُعْتَبَرُ الْمَسْجِدُ هَهُنَا وَلَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى فَسَادِ صَلَاتِهِمْ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى رَكْعَةً وَهُوَ إمَامٌ وَلَيْسَ خَلْفَهُ أَحَدٌ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ، وَاقْتَدَوْا بِهِ وَأَحْدَثَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَدَّمَهُ، وَقَدْ كَانَ سَهَا قَالَ يُتِمُّ هَذَا بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ فَيَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ وُحْدَانًا؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغُوا سَجَدُوا لِلسَّهْوِ وَلَا يَسْجُدُونَ عِنْدَ إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَيْسَ هُنَا مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ فَلِهَذَا لَا يَسْجُدُونَ لِلسَّهْوِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِمْ فَإِذَا سَلَّمُوا سَجَدُوا لِلسَّهْوِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِ إذَا لَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ اسْتِحْسَانًا فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ رَعَفَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ، وَقَدْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ صَلَّى هَذَا فِي مَنْزِلِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 يَسْتَقِيمُ هَذَا وَاللَّاحِقُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُتِمُّ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ نَهْرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَدِي وَلَكِنَّ الْإِمَامَ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ يُرَاعِي تَرْتِيبَ الْمَقَامِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَرُبَّمَا خَرَجَ أَوْ أَحْدَثَ أَوْ نَامَ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدُ فَصَلَاةُ هَذَا الرَّجُلِ فَاسِدَةٌ إذَا كَانَ أَمَامَ الْإِمَامِ أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ مِنْ بَيْتِهِ يَكُونُ اقْتِدَاؤُهُ صَحِيحًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بَقِيَّةَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى الشَّيْءِ أَيْسَرُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ ابْتِدَاءً وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَلْآنًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ الْإِمَامِ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ [بَابُ الْجُمُعَةِ] (بَابُ الْجُمُعَةِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ بَعْضُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ حَتَّى قَامَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَهَذَا الرَّجُلُ مَعَهُ يُرِيدُ اتِّبَاعَهُ فِي الثَّانِيَةِ فَسَجَدَ مَعَهُ قَالَ هَذِهِ السَّجْدَةُ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى بِهَا مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فَسَجْدَةُ الْإِمَامِ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَنِيَّتُهُ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْجُدَ لِلثَّانِيَةِ فَيُقَيَّدُ الرُّكُوعُ الثَّانِي بِالسَّجْدَةِ وَلَمْ يَتَقَيَّدْ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ بِهَا وَكُلُّ رُكُوعٍ لَمْ يَعْقُبْهُ سُجُودٌ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَلَا يَقْرَأُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ وَلَكِنْ يَقُومُ فَيَقْضِي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ خَلْفَ الْإِمَامِ إذَا انْتَبَهَ. وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيب فِي رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فَلَا يَضُرُّهُ هَذَا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ يَتْبَعُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَكِنَّهُ سَجَدَ مَعَهُ يَنْوِي اتِّبَاعَهُ لَمْ تُجْزِهِ هَذِهِ السَّجْدَةُ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَوَاهَا لِلثَّانِيَةِ حِينَ نَوَى مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَشَرْطُ جَوَازِهَا لِلثَّانِيَةِ تَقَدُّمُ الرُّكُوعِ فَإِنَّ الرُّكُوعَ افْتِتَاحٌ لِلسُّجُودِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يُمْكِنُ تَجْوِيزُهَا لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنْ انْحَطَّ لِلسَّجْدَةِ عَلَى نِيَّةِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَسَجَدَ قَبْلَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْإِمَامُ فِيهَا فَهَذَا يُجْزِئُهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُتَابَعَةِ لَا تَكُونُ نِيَّةً لِسَجْدَةِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مَا اشْتَغَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 بِهَا وَإِنَّمَا يُتَابِعُ الْإِمَامُ فِيمَا أَدَّاهُ الْإِمَامُ أَوْ هُوَ فِيهِ فَإِنَّمَا أَدَّى الْإِمَامُ سَجْدَةَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَنِيَّتُهُ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ السَّجْدَةِ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى وَيَرْتَفِضُ رُكُوعُهُ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِرُكُوعٍ، وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ جَوَابَ هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا إذَا لَمْ يَرْكَعْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِيَةَ. (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ سَوَاءٌ رَكَعَ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَرْكَعْ إذَا سَجَدَ قَبْلَهُ فَإِنَّ سُجُودَهُ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ بَعْدَ مَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَنْوِي اتِّبَاعَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَانَتْ لِلْأُولَى وَإِنْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ يَنْوِي الْأُولَى فَهِيَ لِلْأُولَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَدَاءَ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ وَلَهُ مَا نَوَى، وَإِنْ كَانَ رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَسَجَدَ يَنْوِي اتِّبَاعَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ فَهِيَ الثَّانِيَةُ وَبِقَوْلِهِ هُوَ سَاجِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْجَوَابِ فِيمَا سَجَدَ قَبْلَهُ أَنَّهَا لِلْأُولَى سَوَاءٌ رَكَعَ أَوْ لَمْ يَرْكَعْ. وَلَوْ أَنَّ إمَامًا كَبَّرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ مُتَوَضِّئُونَ فَلَمْ يُكَبِّرُوا مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ قَوْمٌ الْمَسْجِدَ فَأَحْدَثَ هَؤُلَاءِ وَكَبَّرَ الَّذِينَ دَخَلُوا فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ كَبَّرَ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الْجَمَاعَةَ وَالْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ قَدْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْجُمُعَةِ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَتُهُ لِلْجُمُعَةِ، ثُمَّ مُشَارَكَةُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ مَعَهُ وَمُشَارَكَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنْ لَوْ كَبَّرُوا مَعَهُ سَوَاءٌ، فَإِنْ أَحْدَثَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أُولَئِكَ ثُمَّ جَاءُوا فَكَبَّرُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُوا لَوْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّئُوا وَاقْتَدَوْا بِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ تَامَّةً فَكَذَلِكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَهَذَا لِأَنَّ سَبْقَ الْحَدَثِ لَمَّا كَانَ لَا يُنَافِي صِفَةَ الْإِمَامَةِ عَنْ الْإِمَامِ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُنَافِي الِاسْتِعْدَادَ لِلْجُمُعَةِ عَنْ الْقَوْمِ مَا دَامُوا فِي الْمَسْجِدِ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَكَبَّرَ الْإِمَامُ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ آخَرُونَ فَدَخَلُوا مَعَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِمْ التَّكْبِيرَ وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَبَّرَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا جَمِيعَ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ نِصَابَ الْجَمَاعَةِ لَا يَتِمُّ فِي الْجُمُعَةِ بِالْمُحْدِثِينَ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَتُهُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الْجُمُعَةِ بِاقْتِدَاءِ الْقَوْمِ بِهِ مَا لَمْ يُجَدِّدْ التَّكْبِيرَ. وَلَوْ أَنَّ أَمِيرًا قَدِمَ وَالْوَالِي الْأَوَّلُ يَخْطُبُ فَاسْتَمَعَ الْخُطْبَةَ وَالْأَوَّلُ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ تَقَدَّمَ الْأَوَّلُ فَأَدَّى الْفَرْضَ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِقُدُومِ الثَّانِي فَإِنَّمَا صَلَّى بِهِمْ وَهُوَ إمَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ عَلِمَ بِقُدُومِ هَذَا فَإِنْ أَمَرَهُ الْآخَرُ أَنْ يَعْتَزِلَ الصَّلَاةَ لَمْ تُجْزِهِمْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَمَا عَلِمَ بِالْعَزْلِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنْ الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الثَّانِي فَصَلَّى الْجُمُعَةَ لَمْ يُجْزِهِمْ إلَّا أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا نَهَى الْأَوَّلَ عَنْ الصَّلَاةِ صَارَ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الرَّعِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فَلَا يُعْتَدُّ بِخُطْبَتِهِ وَالثَّانِي لَمْ يَخْطُبْ وَمِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الْخُطْبَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَمَرَهُ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي خُطْبَتِهِ فَفَعَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ الْآخَرُ فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْأَوَّلِ بِأَمْرِ الثَّانِي كَخُطْبَةِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّانِي شَهِدَ خُطْبَةَ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَمْ تُجْزِئْهُمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجُمُعَةِ انْعَدَمَ فِي حَقِّ الثَّانِي حِينَ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ الْأَوَّلَ بِأَنْ يُصَلِّيَ أَوْ تَقَدَّمَ الْأَوَّلُ وَاقْتَدَى بِهِ الثَّانِي يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِإِمَامَتِهِ وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا فَيُجْزِيهِمْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ مَنْ افْتَتَحَ الْجُمُعَةَ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِهَا. وَلَوْ أَنَّ أَمِيرًا فَتَحَ أَبْوَابَ الْقَصْرِ وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ فَجَمَعَ بِالنَّاسِ فِي قَصْرِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِ يَهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْ فَتْحِ أَبْوَابِ الْقَصْرِ الْإِذْنُ لِلْعَامَّةِ بِالدُّخُولِ وَقَدْ أَدَّى الْجُمُعَةَ وَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ لِشَرَائِطِهَا وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِيمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُعَدَّ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ الْمَسْجِدُ وَقَدْ جَفَا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَفِي فِعْلِهِ نَوْعُ تَرَفُّعٍ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ قَصْرِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَفِعْلُهُ هَذَا مُخَالِفٌ فِعْلَ السَّلَفِ فَكَانَ مُسِيئًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ قَصْرِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ وَصَلَّى بِحَشَمِهِ وَمَوَالِيهِ لَمْ يُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الْإِذْنَ الْعَامَّ وَلَمْ يُوجَدْ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْإِذْنَ الْعَامَّ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِأَهْلِ الْمِصْرِ فَإِنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ الْمِصْرُ وَإِذَا لَمْ يَفْتَحْ بَابَ قَصْرِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا بِأَهْلِ الْمِصْرِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا - السُّلْطَانَ شَرْطًا فِي الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ عَلَى الْبَعْضِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّتَ الْجُمُعَةَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا الْإِذْنَ الْعَامَّ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ أَمَرَ الْأَمِيرُ إنْسَانًا فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَانْطَلَقَ فِي حَاجَةٍ لَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْمِصْرَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ قَالَ يُجْزِئُ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ خَلِيفَتَهُ مُسْتَجْمِعٌ لِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ صَلَّى بِأَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ بِأَنْ أَذِنَ لَهُمْ إذْنًا عَامًا فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ الْجُمُعَةِ إلَّا بِذَلِكَ. (قَالَ) وَهَذَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْمِصْرِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَمَا هُوَ بِبَغْدَادَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ جَانِبٍ فِي حُكْمٍ مِصْرٍ عَلَى حِدَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ فُتِحَتْ الْأَمْصَارُ وَلَمْ يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مِصْرٍ أَكْثَرَ مِنْ مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَلَوْ جَازَ إقَامَتُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ جَازَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، وَفِي تَجْوِيزِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَعْلَامِ الدَّيْنِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِهَا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمِصْرَ قَدْ يَكُونُ مُتَبَاعِدَ الْجَوَانِبِ فَيَشُقُّ عَلَى الشُّيُوخِ وَالضُّعَفَاءِ التَّحَوُّلُ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فَلِدَفْعِ هَذَا الْعُسْرُ جَوَّزْنَا إقَامَتَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْجَبَّانَةِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِتَجْوِيزِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ فَلَا نُجَوِّزُهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» فَإِنَّمَا شُرِطَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ الْمِصْرُ الْوَاحِدُ وَهَذَا الشَّرْطُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ وَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مَعْنَى الْحَرَجِ وَمَعْنَى تَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ مِصْرٍ وَاحِدٍ اخْتِلَافٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَسْكِينِهَا فَلِهَذَا جَوَّزْنَا إقَامَتَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ وَخَلَفَ إنْسَانًا فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَصَلَّى هُوَ بِمَنْ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْجَبَّانَةِ وَهُوَ عَلَى غَلْوَةٍ مِنْ الْمِصْرِ فَصَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ جَوْفِ الْمِصْرِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ سَوَاءً ثُمَّ الْمِصْرُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَهُوَ إنَّمَا يُؤَدِّي فِي الْجَبَّانَةِ عَلَى غَلْوَةٍ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هَذَا الْمَوْضِعُ فِي حُكْمِ الْمَفَازَةِ لَا فِي حُكْمِ جَوْفِ الْمِصْرِ حَتَّى إنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ عَلَى نِيَّةِ السَّفَرِ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ قَدِمَ مُسَافِرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ فَانْتَهَى إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ أَيْضًا فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْمَوْضِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفَازَةِ قُلْنَا فِنَاءُ الْمِصْرِ مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِحَوَائِجِ أَهْلِ الْمِصْرِ بِإِقَامَتِهِمْ فِي الْمِصْرِ لَا بِإِقَامَتِهِمْ فِي فِنَائِهَا وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِالْإِقَامَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ، وَأَمَّا إقَامَةُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَهَذَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فِنَاءُ الْمِصْرِ كَجَوْفِ الْمِصْرِ. رَجُلٌ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِفُصُولِهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَلَّذِي زَادَ هُنَا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ ظُهْرُهُ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا كَانَ سَعَى فِي دَارِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ مِنْ بَابِ دَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الْجُمُعَةِ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ وَسَعْيُهُ فِي دَارِهِ لَا يَكُونُ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُصُوصِ وَإِنَّمَا سَعْيُهُ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُصُوصِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَابِ دَارِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ. وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْقَوْمِ أَجْزَأَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ الْقَوْمِ كَتَقْدِيمِ الْإِمَامِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى إصْلَاحِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجُمُعَةِ بَلْ أَظْهَرُ فَإِنَّ هُنَا لَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِهَا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْعَوَامّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّمَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ هُنَا يَحْتَاجُ إلَى افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ وَلَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِهَا وَمِنْ شَرَائِطِهَا السُّلْطَانُ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ ذَا سُلْطَانٍ فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَحَاجَةُ الْمُتَقَدِّمِ إلَى الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا يُعْتَبَرُ اسْتِجْمَاعُ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّ مَنْ بَنَى عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ صَحَّ تَقْدِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ حِينَ افْتَتَحَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَقَدْ صَارَ مُسْتَعِينًا بِهِمْ فِيمَا يَعْجِزُ هُوَ عَنْ إقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ مِنْهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فِي التَّقَدُّمِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَكُونُ تَقَدُّمُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَدَّمَ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِهَا. فَإِنْ قَدَّمَ هَذَا الْمُقَدَّمُ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ قَالَ هُنَا يُجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَجْمِعٌ لِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُجْزِيهِمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 لَا يَمْلِكُ إقَامَتَهَا بِنَفْسِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَدَّمَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً فَقَدَّمَ هَذَا الْمُقَدَّمُ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إنَّمَا قَدَّمَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ خَلِيفَتَهُ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَاسْتِجْمَاعُ الشَّرَائِطِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبِنَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَحَرُّمُهُ لِلْجُمُعَةِ الْتَحَقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَقَدْ قَالَ إنْ تَكَلَّمَ هَذَا الْمُقَدَّمُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَهُوَ يَحْتَاجُ الْآنَ إلَى افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَحَرُّمُهُ لِلْجُمُعَةِ صَارَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فِي الْحُكْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ فَكَبَّرَ ثُمَّ رَعَفَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ وَقَدْ صَلَّى الْإِمَامُ قَالَ يَقُومُ مِقْدَارَ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَسْبُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِمَا هُوَ لَاحِقٌ فِيهِ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضِيهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَاَلَّذِي قَالَ إنَّهُ يَقُومُ مِقْدَارَ الْقِرَاءَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَأَمَّا فَرْضُ الْقِيَامِ فَيَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ قَامَ فَقَضَى الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا ثُمَّ ذَكَرَ هَهُنَا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي صَفْحَةٍ وَاحِدَةٍ فَالرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَ يَبْدَأُ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ جَوَابُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِيه كَمَا فَاتَهُ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَ يَبْدَأُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ وَالسِّيَرِ الْكَبِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْعِيدِ رَكْعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُمَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بِالشُّرُوعِ الْتَزَمَ أَدَاءَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالنَّذْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالشُّرُوعِ وَقِيَاسًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هُوَ بِالشُّرُوعِ مَا قَصَدَ أَدَاءَ شَيْءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ إقَامَةَ مَا هُوَ مِنْ إعْلَامِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ هَذَا فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الشُّرُوعُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ الْإِسْقَاطَ لَا الِالْتِزَامَ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ تَكَلَّمَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَهُوَ أَدَاءُ الظُّهْرِ فَكَذَلِكَ هُنَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَ مَعَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ بِدُونِ التَّكْبِيرَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَعَ التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالْمُنْفَرِدُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ بِدُونِ التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَرَدُّوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمٍ آخَرَ وَهَذَا فِي الْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْأَدَاءِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْأَصْلَ لِإِيجَادِ الْقَضَاءِ بِدُونِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا ثُمَّ ذَكَرَ بَابَ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَّا مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَذَكَرَ بَابَ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَيْضًا وَمَسَائِلَهُ عَيْنَ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ نَصَّ هُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْخَوْفِ بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ الْيَوْمَ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَعَفَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ يَنْفَتِلُ هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ فَيَقُومُونَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَهَذَا لَا يَشْكُلُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَأَوَانُ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا فِي حَقِّهِ فَنَقُولُ هُوَ خَلِيفَةُ الْإِمَامِ فِي إتْمَامِ بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ وَقَدْ فَعَلَ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَلِهَذَا يَنْصَرِفُ مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَعُودُ مَعَهُمْ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ] (بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ) (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، فَأَمَّ قَوْمًا يُومِئُونَ وَقَوْمًا يَسْجُدُونَ فَإِنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ يَسْجُدُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَيَجُوزُ بِنَاءُ الضَّعِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ وَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ هُنَا فَقَالَ إذَا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الْإِمَامُ مُسْتَلْقِيًا يُومِئُ إيمَاءً وَخَلْفَهُ مَنْ يُومِئُ مُسْتَلْقِيًا وَمَنْ يُومِئُ قَاعِدًا فَإِنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْقَاعِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ فَإِنَّ حَالَ الْمُسْتَلْقِي فِي الْإِيمَاءِ دُونَ حَالِ الْقَاعِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِيمَاءُ مُسْتَلْقِيًا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقُعُودِ فِي النَّافِلَةِ وَلَا فِي الْمَكْتُوبَةِ وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ فَإِنَّهُمَا يَجُوزَانِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْإِمَامِ قَرِيبٌ مِنْ حَالِ الْمُقْتَدِي حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّ «آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ هُوَ قَاعِدًا وَهُمْ خَلْفَهُ قِيَامٌ» وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ الْإِمَامِ قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يُعِدْ التَّكْبِيرَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ إلَّا أَنْ يُعِيدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ أَوْ بَعْدَ مَا يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ شَرْطٌ عِنْدَ التَّحَرُّمِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فَلَمْ تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَتُهُ لِلْمَكْتُوبَةِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ التَّكْبِيرَ لَهَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ افْتَتَحَ صَلَاةَ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فَأَدَّاهَا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ] (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهُوَ مَرِيضٌ قَاعِدًا وَصَلَّى الْقَوْمُ مَعَهُ قِيَامًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُجْزِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَا هُوَ فَرْضٌ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا اقْتِدَاءَ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ أَنَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ فِي التَّطَوُّعَاتِ كَالْقِيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فَكَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إلَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَهُنَا لَا يُجْزِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الْقَوْمَ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَتَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْإِمَامِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَالْإِمَامُ الَّذِي صَلَّى قَاعِدًا عَلَيْهَا كَانَ مَرِيضًا فَجَازَتْ صَلَاتُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيُّ وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ جِنَازَةً تَشَاجَرَ فِيهَا قَوْمٌ أَيُّهُمْ يُصَلِّي عَلَيْهَا فَوَثَبَ رَجُلٌ غَرِيبٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَصَلَّى مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ، وَإِنْ أَحَبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَعَادُوا الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْمَكْتُوبَةَ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حَقُّ الْإِعَادَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ حَقُّ الْإِعَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ حِينَ افْتَتَحَ الرَّجُلُ الْغَرِيبُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ اقْتَدَى بِهِ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَقُّ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَدَّمَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ مُتَكَامِلَةٌ فَإِذَا سَقَطَ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ حَقُّ الْإِعَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ جَوَازَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمِصْرِ، زَادَ هَهُنَا فَقَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ بِنَفْسِهِ الْإِمَامُ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمِصْرِ قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي حَالِّ عَدَمِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ طَهَارَةً إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الَّذِي يَكُونُ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا كَانَ لَهُ حَقُّ إعَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يُجْزِيه الْأَدَاءُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا فَاجَأَتْكَ جِنَازَةٌ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَتَيَمَّمْ وَصَلِّ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَإِنَّهُ عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ إذَا ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ لَا يَنْتَظِرُهُ النَّاسُ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهَا وَيَدْفِنُونَ الْمَيِّتَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ هُوَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَلَوْ انْتَظَرَهُ النَّاسُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزْنَا لَهُ الْأَدَاءَ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّمَا التَّيَمُّمُ إنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً لِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] الْآيَةَ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرَ فِي حَقِّ الْقَوْمِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ وَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْكَانُ الصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطُ صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 عَلَى الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً تَسْمِيَةً شَرَطْنَا فِيهَا نَوْعَ طَهَارَةٍ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ لَوْ كَانَ جُنُبًا فِي الْمِصْرِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْجُنُبِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا كَمَا «تَيَمَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَدِّ السَّلَامِ» فِي حَدِيثٍ مَعْرُوفٍ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَلَمْ يَفْعَلْ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَقَدْ انْتَهَى تَيَمُّمُهُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ إنْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُصَلِّي عَلَيْهَا بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعِيدُ التَّيَمُّمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَانْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ حَدَثَتْ لَهُ حَاجَةٌ جَدِيدَةٌ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَقَاسَ بِمَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْوُضُوءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ جَوَّزْنَا الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى بِالتَّيَمُّمِ قَائِمٌ بَعْدُ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ فَيَبْقَى تَيَمُّمُهُ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. يُوضِحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَعْدَ مَا صَحَّ لَا يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكَّنٍ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَ فَرْضُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ سَاقِطًا عَنْهُ فَيَكُونُ وُجُودُ الْمَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً. وَإِنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى فَوُضِعَتْ إلَى جَنْبِهَا فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَوْ عَلَيْهِمَا أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى عَلَى حَالِهِ يُتِمُّهَا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ مَوْجُودُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَكُونُ فِعْلُهُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إتْمَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِلْأُولَى شَارِعٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَنْ كَانَ فِي فَرِيضَةٍ فَكَبَّرَ يَنْوِي فَرِيضَةً أُخْرَى كَانَ رَافِضًا لِلْأُولَى شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَائِضًا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي مِصْرٍ فَتَيَمَّمَتْ فَصَلَّتْ عَلَى جِنَازَةٍ فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا فَذَلِكَ يُجْزِئُهَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِمُضِيِّ أَيَّامِهَا، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ فَقَطْ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ وَقَدْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ طَاهِرَةً حُكْمًا حَتَّى وَجَبَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَلِهَذَا حَلَّ لِلزَّوْجِ غَشَيَانُهَا وَحُكِمَ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ وَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ فَإِنَّهُ لَا تُجْزِئُهَا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الْحَيْضِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرُبَهَا وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الرَّجْعَةِ بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ. وَإِذَا كَانَتْ حَائِضًا حُكْمًا فَلَيْسَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي سَفَرٍ وَهِيَ عَادِمَةٌ لِلْمَاءِ فَحِينَئِذٍ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ بَعْدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَتُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمِ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الِاغْتِسَالِ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهَا أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ بِالتَّيَمُّمِ فَكَذَلِكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ الرَّجْعَةُ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ التَّيَمُّمِ وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ التَّيَمُّمِ وَلَكِنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ بِالنَّصِّ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ طَهَارَةً فِي حَقِّ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا فَإِنْ غُسِّلَ مَيِّتٌ وَبَقِيَ مِنْهُ عُضْوٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَكُفِّنَ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ فَيُغَسَّلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ثُمَّ يُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُضْوِ الْكَامِلِ فِي حُكْمِ الِاغْتِسَالِ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ إذَا اغْتَسَلَتْ الْمَرْأَةُ وَبَقِيَ مِنْهَا عُضْوٌ فَيَكُونُ هَذَا وَمَا لَوْ كُفِّنَ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ سَوَاءً، وَهُنَاكَ يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ وَيُغَسَّلُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ مَا كُفِّنَ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ غُسْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الدَّفْنِ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ حِينَ أَهَالُوا التُّرَابَ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ فَرْضُ الْغُسْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مَوْضِعُ أُصْبُعٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْ الْكَفَنِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُخْرَجُ فَيُغَسَّلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ اللُّمْعَةِ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي اغْتِسَالِ الْحَيِّ فَكَذَلِكَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَمَا لَا يَتَجَزَّأُ حُكْمُ الْغُسْلِ فِي الْبَدَنِ وُجُوبًا فَكَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ سُقُوطًا وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِغَسْلِهِ وَقِيَامُ الْخِطَابِ بِغَسْلِهِ عُذْرٌ لَهُمْ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكَفَنِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ عَلِمُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ التَّكْفِينِ سَوَاءً وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ لَا يُتَيَقَّنُ بِقِيَامِ فَرْضِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِمَّا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ فَلَعَلَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ ثُمَّ جَفَّ وَقَدْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ فَقُلْنَا بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ بَقَاءِ اللُّمْعَةِ لِهَذَا فَكَذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 حُكْمِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكَفَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ بَأْسٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ يَتَأَدَّى فَرْضُ الْغُسْلِ فِيهِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِ مَاءٍ جَدِيدٍ بِأَنْ تُحَوَّلَ الْبَلَّةُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ إلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ ثُمَّ رَأَى لُمْعَةً عَلَى بَدَنِهِ فَغَسَلَهَا بِحُمَّةٍ» أَيْ أَخَذَ الْبُلَّةَ مِنْهَا فَغَسَلَ تِلْكَ اللُّمْعَةَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ جَدِيدٍ فِي غُسْلِهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ فَرَغُوا مِنْ غَسْلِهِ سَوَاءً، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْكَفَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ عُضْوٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَلَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا غُسِّلَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ إمَاطَةِ الْأَذَى وَلَا يُعَادُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُحْدِثُ وَلَا يُجْنِبُ. وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا حُمِلَ فِي سَفَطٍ عَلَى دَابَّةٍ فَصَلَّوْا عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ تُجْزِهِمْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهُمْ إنَّمَا صَلَّوْا عَلَى الدَّابَّةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ، فَإِنَّ فِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ وَدُعَاءُ الرَّاكِبِ وَالنَّازِلِ سَوَاءٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ التَّكْبِيرَاتُ وَالْقِيَامُ فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ التَّكْبِيرَاتِ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ عَلَى الدَّابَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ] (بَابُ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ بِعَرَفَةَ الظُّهْرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحِجَّةٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاتَيْنِ مَعَهُ جَمِيعًا وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ يَجُوزُ أَنَّ التَّغَيُّرَ إنَّمَا حَصَلَ فِي الْعَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ وَلَا تَغَيُّرَ فِي الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ شَرْطُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ وَكَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 الْعَصْرُ وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ جَدَّدَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَصْرِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ وَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ شَرْطٌ لِأَدَاءِ الْعَصْرِ فَيُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَيْضًا كَالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ تَقَدُّمُ الْخُطْبَةِ وَالسُّلْطَانُ شَرْطٌ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ كَانَ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ أَيْضًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لِهَذَا الْجَمْعِ ثُمَّ الْجَمْعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ فِيهِمَا. وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ جَمَعَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ هُوَ دُونَ الْقَاضِي وَصَاحِبِ الشَّرْطِ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ صَلَّى بِهِمْ بِمِنًى لَمْ يُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ أُمِرَ بِإِقَامَةِ الْمَنَاسِكِ وَمَا أُمِرَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ مَكَّةَ مِصْرٌ وَأَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ كَانَ ذَا سُلْطَانٍ فَهُوَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا وَأَمَّا أَهْلُ مِنًى فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِأَمِيرِ الْمَوْسِمِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ بِمِنًى فَإِنْ كَانَ أَمِيرُ مَكَّةَ أَوْ أَمِيرُ الْحِجَازِ أَوْ الْخَلِيفَةُ حَجَّ بِنَفْسِهِ فَفِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَهُ بِمِنًى خِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَخْطُبْ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِبَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَالْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فِي الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ: خُطْبَةٌ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يَخْطُبُهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ وَخُطْبَةٌ بِعَرَفَاتٍ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَخُطْبَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَرَظٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» يُرِيدُ الْيَوْمَ الثَّانِيَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الظُّهْرِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَخْطُبُ ثَلَاثَ خُطَبٍ: خُطْبَةٌ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَخُطْبَةٌ يَوْمَ عَرَفَةَ وَخُطْبَةٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ هُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْطُبَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالْإِفَاضَةَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَالْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالرَّمْيَ وَالذَّبْحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَالْحَلْقَ وَالرُّجُوعَ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ ثُمَّ الْعَوْدَ إلَى مِنًى ثُمَّ يَخْطُبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يُعَلِّمُهُمْ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بَقِيَّةَ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَكُونُ لِلتَّعْلِيمِ يَوْمٌ وَلِلْعَمَلِ يَوْمٌ فَكَانَ هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَاب أَحْكَام سُجُود التِّلَاوَة] (بَابُ السَّجْدَةِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلٌ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي مَكَان ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ فِي مَوْضِعِهِ فَقَرَأَهَا الْإِمَامُ فَسَجَدَهَا وَسَجَدَ هَذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ الْأُولَى إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْجَامِعِ يَقُولُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ الْأُولَى إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَوَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمَكَانَ مَكَانٌ وَاحِدٌ وَالْمُؤَدَّاةَ أَكْمَلُ فَإِنَّ لَهَا حُرْمَتَيْنِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ التِّلَاوَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُؤَدَّاةُ مِثْلَ الْأُولَى نَابَتْ عَنْهَا فَإِذَا كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْ الْأُولَى فَلَأَنْ تَنُوبَ عَنْهَا أَوْلَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ إحْدَاهُمَا صَلَاتِيَّةٌ وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ فَلَا تَدْخُلُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَمَا لَوْ كَانَ الْمَتْلُوُّ آيَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا فِيمَا إذَا أَعَادَهَا الْإِمَامُ فَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ تِلَاوَةِ الْإِمَامِ تَبَعًا، وَالْأُولَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِتِلَاوَتِهِ مَقْصُودًا فَلَا تَتَأَدَّى بِالتَّبَعِ وَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَامَ فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَرَأَهَا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فِي حَقِّهِ وَالْمُؤَدَّاةُ أَكْمَلُ، فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فَعَلَى الرَّجُلِ السَّجْدَةُ الْأُولَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ صَلَاتِيَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الصَّلَاتِيَّةِ فَتَسْقُطُ بِسُقُوطِ الصَّلَاتِيَّةِ عَنْهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ افْتَتَحَا التَّطَوُّعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ فَقَرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُورَةً لَمْ يَقْرَأْهَا صَاحِبُهُ وَفِيهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّتِي قَرَأَهَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْجُدَ لِمَا سَمِعَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا فَرَغَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السَّجْدَةِ سَمَاعِيَّةُ فِي حَقِّهِ لَا صَلَاتِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَمِعَهَا مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَا قَرَآ سُورَةً وَاحِدَةً فَسَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا كَانَ قَرَأَ فَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْجُدَ إذَا فَرَغَ لِمَا سَمِعَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 مَكَانٌ وَاحِدٌ وَالْمُؤَدَّاةَ أَكْمَلُ لِاجْتِمَاعِ الْحُرْمَتَيْنِ لَهَا، وَإِنْ سَهَا كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَا سُجُودَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الصَّلَاتِيَّةِ بِسَبَبِ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَقَدْ سَقَطَتْ الصَّلَاتِيَّةُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَتَسْقُطُ السَّمَاعِيَّةُ أَيْضًا. فَإِنْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَرَأَهَا فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَقُولُ إذَا سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى قِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا سَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَبِمُجَرَّدِ السَّلَامِ لَا يَنْقَطِعُ فَوْرُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَوْ أَنَّهُ تَذَكَّرَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ السَّلَامِ كَانَ يَأْتِي بِهِ وَلَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ الْكَلَامِ وَقِيلَ بَلْ مَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فَلَمْ تَغْتَسِلْ حَتَّى سَمِعَتْ السَّجْدَةَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ السَّجْدَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ فَقَطْ فَهِيَ كَالْجُنُبِ وَالْجُنُبُ إذَا سَمِعَ آيَةَ السَّجْدَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشْرِ وَذَهَبَ وَقْتُ الصَّلَاةِ مُنْذُ انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا فَقَدْ حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا حِينَ أَوْجَبْنَا الصَّلَاةَ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ بِالسَّمَاعِ أَيْضًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَذْهَبْ وَقْتُ صَلَاةٍ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَهِيَ فِي مِصْرٍ فَسَمِعَتْ آيَةَ التِّلَاوَةِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَائِضٌ بَعْدُ، فَإِنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِي حَقِّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَالْحَائِضُ لَا يَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ كَمَا لَا تَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إذَا تَمَكَّنَتْ مِنْ الِاغْتِسَالِ فَلَمْ تَغْتَسِلْ ثُمَّ سَمِعَتْ آيَةَ السَّجْدَةِ يَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلسَّجْدَةِ كَمَا أَنَّ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ لَوْ أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاغْتِسَالِ تَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاغْتِسَالِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي سَفَرٍ فَإِنْ تَيَمَّمَتْ ثُمَّ سَمِعَتْ فَعَلَيْهَا السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الِاغْتِسَالِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ السَّجْدَةِ، وَإِنْ لَمْ تَتَيَمَّمْ حَتَّى سَمِعَتْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الْحَيْضِ مَا لَمْ تَتَيَمَّمْ أَوْ يَذْهَبْ وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ عَمَلَهُ وَتَجْعَلُهُ كَكَافِرٍ أَصْلِيٍّ أَسْلَمَ الْآنَ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. وَلَوْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةٍ لَا يَجْهَرُ فِيهَا وَلَمْ يَسْمَعْهَا الْقَوْمُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْجُدُوا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِمَامِ بِالتِّلَاوَةِ وَهِيَ صَلَاتِيَّةٌ وَالْمُقْتَدِي تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَهَا عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ تُؤَدَّى فِي غَيْرِ تَحْرِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَالْإِمَامِ فِيهَا مُتَابَعَةٌ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلسَّجْدَةِ هُنَاكَ التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ فَلَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مِنْ تَقَرَّرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ. وَلَوْ قَرَأَهَا رَجُلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ وَسَمِعَهَا قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْفَارِسِيَّةَ وَهُمْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْجُدُوهَا وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنَّمَا تَجِبُ السَّجْدَةُ هَهُنَا عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى قَالَ يَتَأَدَّى بِهَا فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَجَبَتْ السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ وَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْفَارِسِيَّةُ لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَيَتَأَدَّى فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ فَكَذَلِكَ يَجِبُ بِهَذَا السَّمَاعِ السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ يَعْرِفْ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ سَكْرَانًا قَرَأَ سَجْدَةً أَوْ سَمِعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِإِدْرَاكِ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ إذَا قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ قَالُوا وَهَذَا إذَا طَالَ جُنُونُهُ، فَأَمَّا إذَا قَصَرَ فَكَانَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُ السَّجْدَةُ اسْتِحْسَانًا كَمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَرَأَهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَقَضَاهَا نِصْفَ النَّهَارِ لَمْ تُجْزِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَالْمُؤَدَّاةُ عِنْدَ الزَّوَالِ نَاقِصَةٌ، وَإِنْ قَرَأَهَا نِصْفَ النَّهَارِ فَسَجَدَهَا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ الْغُرُوبِ ثُمَّ أَدَّاهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا تُجْزِيهِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِيمَا بَيَّنَّا إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الزَّوَالُ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَقَضَاهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 عِنْدَنَا وَلَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الدَّابَّةِ ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَدَّاهَا جَازَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ النُّزُول، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فَقَدْ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَلَا تَتَأَدَّى بِالْإِيمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَرَأَهَا وَهُوَ نَازِلٌ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَحَاضَةً تَوَضَّأَتْ وَلَبِسَتْ الْخُفَّيْنِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَلَمَّا صَلَّتْ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَغْسِلَ قَدَمَيْهَا وَتَسْتَقْبِلَ الصَّلَاة، وَفِي وَجْهٍ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهَا وَتَسْتَقْبِلَ الصَّلَاةَ، وَفِي وَجْهٍ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهَا وَتَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهَا، أَمَّا بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِيمَا إذَا تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ وَلَبِسَتْ الْخُفُّ فَإِنَّ هَذَا اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى طَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْوَقْتِ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَتَنْتَقِضُ طَهَارَتُهَا عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْحَدَثِ الْمُقَارِنِ لِلْوُضُوءِ وَكَانَ ذَلِكَ سَابِقًا عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ طَهَارَةَ الْمُصَلِّي مَتَى انْتَقَضَتْ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَغْسِلَ قَدَمَيْهَا وَتَسْتَقْبِلَ الصَّلَاةَ. وَبَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي فِيمَا إذَا تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَلَبِسَتْ الْخُفَّ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَهُنَا اللُّبْسُ حَصَلَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَمْسَحَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ وَلَكِنْ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِسَيَلَانٍ كَانَ فِي الْوَقْتِ فَقَدْ أَدَّتْ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ سَبَقِ الْحَدَثِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ. وَبَيَانُ الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِيمَا إذَا تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَلَبِسَتْ الْخُفَّ ثُمَّ لَمْ يَسِلْ الدَّمُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَهَهُنَا طَهَارَتُهَا إنَّمَا تَنْتَقِضُ بِالْحَدَثِ لَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ وَتَبْنِي عَلَى صَلَاتِهَا وَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَبِسَتْ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَسِلْ الدَّمُ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ صَلَاتِهَا ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَصَلَاتُهَا تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ ثُمَّ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ الدَّمَ كَانَ مُنْقَطِعًا حِينَ تَوَضَّأَتْ وَلَمْ يَسِلْ بَعْدَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 حَتَّى دَخَلَ وَقْتٌ آخَرُ فَإِنَّ طَهَارَتَهَا لَمْ تَنْتَقِضْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا تَنْتَقِضُ بِسَيَلَانِ الدَّمِ فَلَا يَنْفَعُهَا الْوُضُوءُ الْمُتَقَدِّمُ لِهَذَا السَّيَلَانِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا حِينَ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ انْقَطَعَ ثُمَّ دَخَلَ وَقْتٌ آخَرُ فَتَوَضَّأَتْ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا وُضُوءٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا تَوَضَّأَتْ وَالْوُضُوءُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا فَلَا يَلْزَمُهَا وُضُوءٌ آخَرُ بِسَيَلَانِ الدَّمِ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ بِالنَّبِيذِ فِي سَفَرٍ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً كَثِيرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالنَّبِيذِ بَدَلٌ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَإِنَّمَا لَبِسَ الْخُفَّ بِطَهَارَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَلَبِسَ الْخُفَّ ثُمَّ وَجَدَ مَاءً طَهُورًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِسُؤْرِ الْحِمَار لَا يَكُونُ طَهَارَةً بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا انْكَسَرَتْ يَدُهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَرَبَطَ الْجَبَائِرَ عَلَيْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَبِسَ الْخُفَّ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهُ مَا دَامَتْ الْعِلَّةُ قَائِمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالْغُسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهُ فَلَا يَضُرُّهُ الْحَدَثُ عِنْدَ رَبْطِ الْجَبَائِرِ، وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ فَلَمْ يُجْعَلْ كَغُسْلِ الرِّجْلِ وَلَكِنَّ اسْتِتَارَ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ وَلَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْهَا وَشَرْطُ جَوَازِ الْمَسْحِ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ». وَلَوْ رَبَطَ الْجَبَائِرَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى طَهَارَةٍ فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهَا مَا دَامَتْ الْعِلَّةُ قَائِمَةً فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ وَالْجَبَائِرِ، فَإِنْ بَرِئَ مَا تَحْتَ الْجَبَائِرِ وَهُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَهَا وَيُصَلِّي؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَانَ مُعْتَبَرًا قَبْلَ الْبُرْءِ فَإِذَا بَرِئَتْ فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْمَسْحِ فَعَلَيْهِ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْبُرْءُ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ وُضُوءُهُ فَإِنْ غَسَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَسَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَقَدْ تَمَّتْ طَهَارَتُهُ، وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ أَوَّلُ الْحَدَثِ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ وَلَوْ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَدَثِ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ مَا طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الْبُرْءِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ. وَلَوْ أَنَّ جُنُبًا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْجَنَابَةِ مَا لَمْ يَجِدْ مَاءً يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ فَإِنَّمَا لُبْسُ الْخُفِّ بَعْدَ الْوُضُوءِ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ مَا لَمْ يَجِدْ مَاءً يَكْفِيه لِلِاغْتِسَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَكِنَّهُ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَبِسَ الْخُفَّ لَا عَلَى طَهَارَةٍ فَإِنَّ الْوُضُوءَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ مَرَّ بِمَاءٍ يَكْفِيه لِلِاغْتِسَالِ فَلَمَّا جَاوَزَهُ أَحْدَثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ تَيَمُّمِ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَى بِمَا أَصَابَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَرَّ بِمَاءٍ يَكْفِيه لِلِاغْتِسَالِ فَقَدْ عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ جُنُبًا اغْتَسَلَ وَبَقِيَ بَعْضُ جَسَدِهِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ وَيَتَوَضَّأَ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَبِسَ الْخُفَّ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْجُنُبِ الَّذِي بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ يَكْفِيه لِمَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ وَلِلْوُضُوءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْجَنَابَةِ ثُمَّ هُوَ مُحْدِثٌ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِيه لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَلَكِنْ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ الْمَوْجُودَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ لِتَقْلِيلِ الْجَنَابَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ بِحَيْثُ يَكْفِيه لِلُّمْعَةِ وَلَا يَكْفِيه لِلْوُضُوءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ بِهِ اللُّمْعَةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْجَنَابَةِ ثُمَّ هُوَ مُحْدِثٌ لَا مَاءَ مَعَهُ فَيَتَيَمَّمُ لِلْحَدَثِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي مَعَهُ يَكْفِيه لِلْوُضُوءِ وَلَا يَكْفِيه لِمَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ لِلْجَنَابَةِ بَاقٍ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَكْفِيه لِإِزَالَتِهَا فَهُوَ مُحْدِثٌ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بِحَيْثُ يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يَكْفِيه لَهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ الْمَاءَ إلَى غُسْلِ مَا بَقِيَ مِنْ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْمُحْدِثُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إزَالَةُ أَغْلَظِ الْحَدَثَيْنِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْحَدَثِ فَإِنْ تَيَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ غَسَلَ اللُّمْعَةَ بِالْمَاءِ أَجْزَأَهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي الزِّيَادَاتِ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ وَقِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيه لِوُضُوئِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَيَمُّمُهُ وَقَاسَ هَذَا بِرَجُلَيْنِ فِي السَّفَرِ وَجَدَا مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَوَضَّأَ الْآخَرُ بِالْمَاءِ لَمْ يَجُزْ تَيَمُّمُ الْمُتَيَمِّمِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي مَعَهُ مُسْتَحَقٌّ لِإِزَالَةِ الْجَنَابَةِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ حَتَّى يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِعَطَشِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ هَذَا فِي الْكِتَابِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَهُوَ مُحْدِثٌ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ فَإِنْ تَيَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي اللُّمْعَةِ فَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ يُجْزِئُهُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ لِلْفَجْرِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ وَصَلَّى ثُمَّ أَحْدَثَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ كَذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ بِرَأْسِهِ فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ وَيُعِيدَ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ اللُّبْسَ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ تَامَّةٍ وَأَنَّ وُضُوءَهُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَمْ يَكُنْ طَهَارَةً بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَيَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بَعْدَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الظُّهْرِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ لُبْسَهُ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَتَكُونُ طَهَارَتُهُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْمَسْحِ بِالْخُفِّ تَامَّةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدَ النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الظُّهْرِ. وَلَوْ سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ بَعْدَ مَا مَسَحَ عَلَيْهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِ بُرْءٍ فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهَا مَا دَامَتْ الْعِلَّةُ قَائِمَةً لِعَجْزِهِ عَنْ الْغُسْلِ لِمَا تَحْتَهَا. وَلَوْ نَسِيَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجَبَائِرُ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَا يُعِيدُ الْجَبَائِرَ وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَقُولُ إنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ تَرْكُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ حِمَارٍ وَتَيَمَّمَ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً نَظِيفًا فَلَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى ذَهَبَ الْمَاءُ وَمَعَهُ سُؤْرُ الْحِمَارِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَلَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَلِهَذَا يَكْفِيه إعَادَةُ التَّيَمُّمِ. وَمَنْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ مُبَطَّنٍ أَوْ مُصَلَّى مُبَطَّنٍ وَفِي الْبِطَانَةِ قَذَرٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ قِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُضَرَّبًا وَلَا كَانَتْ الظِّهَارَةُ مُتَّصِلَةً بِالْبِطَانَةِ بِالْعُرَى أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونُ هَذَا فِي حُكْمِ ثَوْبَيْنِ يُبْسَطُ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخِرِ وَالْأَسْفَلُ مِنْهُمَا نَجِسُ فَرْشٍ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَمَوْضُوعُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مُضَرَّبًا أَوْ مُتَّصِلًا بِالْعُرَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي حُكْمِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَفِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْوَجْهِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ فَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ فَهَذَا كَذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْمُصَلَّى، وَإِنْ كَانَ مُبَطَّنًا فَإِنَّهُ يُعَدُّ فِي النَّاسِ ثَوْبًا وَاحِدًا وَيُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَاقِفًا عَلَى النَّجَاسَةِ وَشَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِرَاشُهُ نَجِسًا وَعَلَيْهِ مَجْلِسٌ طَاهِرٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ هُنَاكَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْفِرَاشِ وَهُمَا ثَوْبَانِ مُخْتَلِفَانِ وَقِيَامُهُ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْأَعْلَى دُونَ الْأَسْفَلِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُصَلَّى الْمُبَطَّنَ فِي الْحَقِيقَةِ ثَوْبَانِ وَإِنْ خِيطَ جَوَانِبُهُ لِتَيَسُّرِ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ قِيَامُهُ وَجُلُوسُهُ فِي الْعَادَةِ إلَى الْأَعْلَى دُونَ الْأَسْفَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْلَى إذَا كَانَ دِيبَاجًا يُقَالُ فُلَانٌ جَالِسٌ عَلَى الدِّيبَاجِ فَإِذَا كَانَ الْأَعْلَى طَاهِرًا قُلْنَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفِرَاشِ وَالْمَجْلِسِ وَمِنْ هَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ نَزْعُ الْمُكَعَّبِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النَّجَاسَةِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الصِّرْمِ لَا عَلَى الْمُكَعَّبِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الصِّرْمَ مُتَّصِلٌ بِالْمُكَعَّبِ بِعُرًى فَيَكُونُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ أَنَّ جُبَّةً مُبَطَّنَةً فِيهَا دَمٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَقَدْ نَفَذَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَصَلَّى فِيهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَةَ مَعَ الْبِطَانَةِ ثَوْبَانِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَجَاسَةٌ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَنَفَذَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّوْبَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهَيْنِ لَا تَزْدَادُ النَّجَاسَةُ فِي ثَوْبِهِ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَهَهُنَا الظِّهَارَةُ غَيْرُ الْبِطَانَةِ فَهُمَا ثَوْبَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِهِ جُرْحَانِ لَا يَرْقَآنِ فَتَوَضَّأَ وَهُمَا سَائِلَانِ ثُمَّ رَقَأَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ قَائِمٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّائِلُ حِينَ تَوَضَّأَ إلَّا أَحَدُهُمَا كَأَنْ يَتَقَدَّرَ وُضُوءُهُ بِالْوَقْتِ فَكَذَلِكَ إذَا رَقَأَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ سَائِلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 فَإِنْ سَكَنَ هَذَا وَانْفَجَرَ الَّذِي كَانَ سَكَنَ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ. قَالَ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جُرْحٍ وَاحِدٍ يَعْنِي فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ وَقَعَتْ لَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الَّذِي انْفَجَرَ كَانَ سَاكِنًا حِين تَوَضَّأَ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَسْكُنْ أَصْلًا فَتَبْقَى طَهَارَتُهُ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ رَقَأَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ ذَوِي الْأَعْذَارِ وَالْعُذْرُ قَائِمٌ فَزَوَالُ الْعُذْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَ الْعُذْرُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمَبْطُونِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ اسْتِطْلَاقُ بَطْنِهِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَوْ سُقُوطُ الدُّودِ أَوْ انْفِلَاتُ الرِّيحِ فَإِنَّ طَهَارَةَ هَؤُلَاءِ تَتَقَدَّرُ بِالْوَقْتِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُسْتَحَاضَةِ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَتْ إذَا كَانَ الطَّاهِرُ يَفْسُدُ إذَا لَبِسَتْهُ أَمَّا إذَا صَلَّتْ فِي الطَّاهِرِ مِنْهُمَا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَفْوٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «قَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ صَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّتْ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي لُبْسِ الطَّاهِرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ الدَّمِ وَتُجْعَلُ صَلَاتُهَا فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةً فَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهَا فِي الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُلْزِمَهَا بِتَنْجِيسِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا صَلَاتَهَا فِي أَيِّ الثَّوْبَيْنِ لَبِسَتْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ] (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَحِيضُ فِي غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسًا فَتَقَدَّمَ حَيْضُهَا فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَلَمْ تَرَ فِي خَمْسَتِهَا شَيْئًا فَهَذَا الْمُتَقَدِّمُ لَا يَكُونُ حَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فَقَالَ الْمُتَقَدِّمُ يَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ يَكُونُ الْمُتَقَدِّمُ حَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا لَا يَكُونُ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَرَأَتْ فِي أَيَّامِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ بِأَنْ رَأَتْ خَمْسَتَهَا أَوْ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَتِهَا فَالْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِأَيَّامِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فَإِنَّ إتْبَاعَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ لِمَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ أَصْلٌ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهَا مَا إذَا رَأَتْ خَمْسَةً قَبْلَ خَمْسَتِهَا وَلَمْ تَرَ فِي خَمْسَتِهَا شَيْئًا أَوْ رَأَتْ فِي خَمْسَتِهَا مَعَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ رَأَتْ قَبْلَ خَمْسَتِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَفِي خَمْسَتِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا وَعِنْدَهُمَا كُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مَا إذَا رَأَتْ قَبْلَ خَمْسَتِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ وَرَأَتْ فِي خَمْسَتِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ. فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ حَيْضُهَا مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ الْكُلُّ حَيْضٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا بِهَذِهِ الْمَرَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى انْتِقَالَ الْعَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ حَيْضًا وَلَكِنْ يَكُونُ حُكْمُ انْتِقَالِ الْعَادَةِ بِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا تَرَاهُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَإِنْ رَأَتْ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ فَعَادَتُهَا الْأُولَى تَكُونُ بَاقِيَةً، وَإِنْ رَأَتْ كَمَا رَأَتْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فَحِينَئِذٍ نَتَنَقَّلُ عَادَتُهَا بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْكُلُّ عَشَرَةً فَإِنْ جَاوَزَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَيْضُهَا أَيَّامَهَا الْمَعْرُوفَةَ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَفِي الْمُتَأَخِّرِ اتِّفَاقٌ أَنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا تَبَعًا لِأَيَّامِهَا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ فَإِنْ جَاوَزَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُهَا الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا وَرَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ حَيْضًا بِطَرِيقِ الْإِبْدَالِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَالْإِمْكَانُ بِأَنْ يَبْقَى بَعْدَ الْإِبْدَالِ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرُ حَتَّى قَالَ لَوْ رَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّا لَوْ أَبْدَلْنَا لَهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ لَا يَبْقَى إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي إلَّا عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَذَلِكَ دُونَ مُدَّةِ الطُّهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْفُصُولِ بِمَعَانِيهَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ ثُمَّ رَأَتْهُ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا فَهَذَا حَيْضٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُجْعَلُ كُلُّهُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْضِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ حَائِضٌ فِي أَيَّامِ أَقْرَائِهَا فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا حَيْضًا إذَا رَأَتْ الدَّمَ مِنْهَا، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَرَ إلَّا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَكُونُ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا حَيْضًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. وَالنُّفَسَاءُ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ انْقَطَعَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْهُ فِي تَمَامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهَذَا كُلُّهُ نِفَاسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ بِمَنْزِلَةِ الْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ فَكَمَا أَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فِي مُدَّةِ الْعَشَرَةِ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا فَكَذَلِكَ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ لَا يَكُونُ فَاصِلًا فِي النِّفَاسِ وَعِنْدَهُمَا نِفَاسُهَا خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ كَمَا أَنَّ الْعَشَرَةَ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ فِي أَيَّامِ أَقْرَائِهَا». وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ فِي غُرَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَتْ رَمَضَانَ كُلَّهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ رَمَضَانَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ فَإِنَّهَا تَقْضِي صَوْمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَصَلَاةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إذَا كَانَتْ اغْتَسَلَتْ فِي غُرَّةِ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا حَبِلَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ وَالْحَامِلُ كَمَا لَا تَحِيضُ لَا تَكُونُ نُفَسَاءَ فَإِنَّ النِّفَاسَ أَخُو الْحَيْضِ فَإِذَا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ النِّفَاسِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ لَمْ تُصَلِّ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِطُهْرِهَا فَعَلَيْهَا قَضَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَتْ اغْتَسَلَتْ يَوْمَ الْفِطْرِ وَصَامَتْ شَوَّالَ وَصَلَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تَقْضِي يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ صَلَاةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطُهْرِهَا حِينَ حَمَلَتْ وَقَدْ أَخَّرَتْ الِاغْتِسَالَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ. وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ كَانَتْ حَائِضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِإِيَاسِهَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ جِدًّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَبْنَى الْحَيْضِ عَلَى الْإِمْكَانِ وَفِيمَا رَأَتْهُ الْعَجُوزُ إمْكَانُ جَعْلِهِ حَيْضًا ثَابِتٌ بِخِلَافِ مَا تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ جِدًّا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إمْكَانُ جَعْلِهِ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ حَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحْكَمَ بِبُلُوغِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وَالصَّغِيرَةُ جِدًّا لَا تَكُونُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنْ رَأَتْ دَمًا سَائِلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ رَأَتْ شَيْئًا قَلِيلًا لَيْسَ بِسَائِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِلَّةٌ تَظْهَرُ عَلَى الْكُرْسُفِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَيْضًا بَلْ هُوَ مِنْ نَدَاوَةِ الرَّحِمِ فَلَا تُجْعَلُ حَائِضًا بِهِ. وَالْمُرَاهِقَةُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَهِيَ حَائِضٌ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا بِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً رَأَتْ الدَّمَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا عَشْرًا ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْغُسْلِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَهَذِهِ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَلَا تَقْضِي صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ وَتُصَلِّي الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مُرَاجَعَتِهَا إنْ كَانَ طَلَّقَهَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَلْزَمُهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ وَيَجُوزُ صَوْمُهَا؛ لِأَنَّهَا أَهْلٌ لِأَدَاءِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا خَمْسًا خَمْسًا ثُمَّ انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْغُسْلِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَهَذِهِ تَصُومُ وَتَقْضِي وَمَعْنَاهُ تُمْسِكُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا عَنْ الْحَيْضِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الصَّوْمِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهَا صَوْمُهَا وَزَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَتُصَلِّي الْعِشَاءَ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ مِقْدَارَ مَا يُمَكِّنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الْعِشَاءِ، وَلَوْ لَزِمَهَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَجَازَ صَوْمُهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِقْدَارُ مَا يُمَكِّنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَيَجُوزُ صَوْمُهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهَا حِينَ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَوْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَزَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِطَهَارَتِهَا يَكُونُ ضِمْنًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَبَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ هِيَ حَائِضٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا. وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً أَيَّامَ أَقْرَائِهَا خَمْسٌ خَمْسٌ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي مِقْدَارٍ لَا تَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْغُسْلِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَإِنَّهَا تَصُومُ وَلَا تَقْضِي وَتُصَلِّي الْعِشَاءَ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتُهَا؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالِاغْتِسَالِ فَبِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَهِيَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فَتَلْزَمُهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَيَجْزِيهَا صَوْمُهَا مِنْ الْغَدِ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتُهَا. وَلَوْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي مِقْدَارٍ لَا تَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْغُسْلِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنَّهَا تَصُومُ وَتَقْضِي وَزَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَقَدْ لَزِمَهَا الِاغْتِسَالُ وَلَا يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا مِنْ الْغَدِ وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. (قَالَ) وَتُصَلِّي الْعِشَاءَ وَهَذَا غَلَطٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهَا قَضَاءَ الْعِشَاءِ لَحَكَمْنَا بِطُهْرِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ تَوَضَّأَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَصَلَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ دَمُهَا فَصَلَاتُهَا تَامَّةٌ لِبَقَاءِ الْعُذْرِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الِانْقِطَاعُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ بِطَهَارَةِ ذَوِي الْأَعْذَارِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَهَذَا إذَا تَمَّ الِانْقِطَاعُ وَقْتَ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهَا تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الِانْقِطَاعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّ صَاحِبَةَ هَذِهِ الْبَلْوَى لَا تَكَادُ تَرَى الدَّمَ عَلَى الْوَلَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا لَوْ رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْوَلَاءِ أَضْنَاهَا ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهَا فَجَعَلْنَا الْقَلِيلَ مِنْ الِانْقِطَاعِ عَفْوًا وَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا اعْتِبَارًا لِلِانْقِطَاعِ بِالسَّيَلَانِ فَإِنَّ السَّيَلَانَ إذَا كَانَ دُونَ وَقْتِ صَلَاةٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ وَإِذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ وَكَذَلِكَ الِانْقِطَاعُ إذَا كَانَ دُونَ وَقْتِ صَلَاةٍ لَا يَكُونُ بَرَأَ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَ صَلَاةِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ بَرَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ التَّرَاوِيحِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ] (كِتَابُ التَّرَاوِيحِ) (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ التَّرَاوِيحِ، وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَجَوَازِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا الرَّوَافِضُ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَصْلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ) فَإِنَّهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ عِنْدِنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السُّنَّةُ فِيهَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ قِيلَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَسْلُكَ مَسْلَكَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً كَمَا هُوَ السُّنَّةُ وَيُصَلِّي الْبَاقِيَ فُرَادَى كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ الْكُلِّ جَمَاعَةً كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا (قَالَ) وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَاسَ النَّفَلَ بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَيَجْرِي مَجْرَى الْفَرْضِ فَيُعْطَى حُكْمَهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّوَافِلِ الْإِخْفَاءُ فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الِاشْتِهَار مَا أَمْكَنَ وَفِيمَا قَالَهُ الْخَصْمُ إشْهَارٌ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِعْلَانِ وَالْإِشْهَارِ وَفِي الْجَمَاعَةِ إشْهَارٌ فَكَانَ أَحَقَّ. يُوضِحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً فِي حَقِّ النَّوَافِلِ لَفَعَلَهُ الْمُجْتَهِدُونَ الْقَائِمُونَ بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ جُوِّزَتْ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ وَبِالْجَمَاعَةِ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا أَفْضَلُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَلَا فِي زَمَنِ غَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ فَالْقَوْلُ بِهَا مُخَالِفٌ لِلْأُمَّةِ أَجْمَعَ وَهَذَا بَاطِلٌ. [فَصَلِّ التَّرَاوِيح تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ أَمْ فُرَادَى] (الْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ أَمْ فُرَادَى) ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمَا قَالَا إنْ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهُ فِي بَيْتِهِ صَلَّى كَمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَأَشْبَاهِهِ فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَدَاءُ التَّرَاوِيحِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلُ وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَبَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ وَالْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْجَمَاعَةُ أَحَبُّ وَأَفْضَلُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَوْثَقُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ لَمَّا بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَّى بِهِمْ حَتَّى مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَلَمْ يَخْرُجْ فِي اللَّيْلَةِ السَّادِسَةِ ثُمَّ خَرَجَ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ وَصَلَّى بِنَا حَتَّى مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْنَا لَوْ نَفَلْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَوَابَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ثُمَّ خَرَجَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَصَلَّى بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ يَعْنِي السَّحَرَ» وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الِانْفِرَادَ عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ الْقِيَامَ فِي الْمَسْجِدِ، فَالْجَمَاعَةُ مِنْ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - حَتَّى قَالُوا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - نَوَّرَ اللَّهُ قَبْرَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا نَوَّرَ مَسَاجِدَنَا، وَالْمُبْتَدِعَةُ أَنْكَرُوا أَدَاءَهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ جُعِلَ شِعَارًا لِلسُّنَّةِ كَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِالْجَمَاعَةِ شُرِعَ شِعَارَ الْإِسْلَامِ. [فَصَلِّ التَّرَاوِيح سُنَّةً مُتَوَارَثَةً أَمْ تَطَوُّعًا مُطْلَقَةً مُبْتَدَأَةً] (الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا سُنَّةً مُتَوَارَثَةً أَمْ تَطَوُّعًا مُطْلَقَةً مُبْتَدَأَةً) اخْتَلَفُوا فِيهَا وَيَنْقَطِعُ الْخِلَافُ بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَهَا ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَدَائِهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْنَا ثُمَّ وَاظَبَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّاهَا بِالْجَمَاعَةِ مَعَ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ فَرَضِيَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى دَعَا لَهُ بِالْخَيْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا وَرَدَ وَأَمَرَ بِهِ فِي عَهْدِهِ. (قَالَ) وَلَوْ صَلَّى إنْسَانٌ فِي بَيْته لَا يَأْثَمُ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ الصَّوَّافُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - بَلْ الْأَوْلَى أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ لِمَا بَيَّنَّا. [فَصَلِّ الِانْتِظَارِ بَعْدَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ] (الْفَصْلُ الرَّابِعِ فِي الِانْتِظَارِ بَعْدَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ) وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَعْنَى الِاسْتِرَاحَةِ وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَطُوفُونَ سَبْعًا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ كَمَا حَكَيْنَا عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ اسْتَرَاحَ إمَامٌ بَعْدَ خَمْسِ تَرْوِيحَاتٍ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الِانْتِظَارُ وَالِاسْتِرَاحَةُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ عَلَى مَا حَكَيْنَا. [فَصَلِّ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِي صَلَاة التَّرَاوِيحِ] (الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ) وَاخْتَلَفُوا فِيهَا وَالصَّحِيحُ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ قِيَامَ اللَّيْلِ وَلَوْ نَوَى مُطْلَقَ الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ عَنْ التَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، فَلَوْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الْإِمَامُ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ وَالْمُقْتَدِي يَنْوِي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجُوزُ عَنْ التَّرَاوِيحِ، وَالنِّيَّةُ فِي مِثْلِهَا لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هَذِهِ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَعْدَادُ رَكَعَاتِهَا وَلَكِنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا النِّيَّةُ مِنْ الْمُقْتَدِي كَمَا لَا تُعْتَبَرُ مِنْ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى عِنْدَ تَسْلِيمِ الْأُولَى الثَّانِيَةَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَذَا كَانَ لَغْوًا وَجَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي يَكُونُ لَغْوًا. [فَصَلِّ حَقِّ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة التَّرَاوِيحِ] (الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي حَقِّ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ) وَاخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْضُهُمْ يَقْرَأُ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ يَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ أَخَفَّ مِنْ الْفَرَائِضِ وَهَذَا شَيْءٌ مُسْتَحْسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ دَرْكِ الْخَتْمِ، وَالْخَتْمُ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً إلَى ثَلَاثِينَ آيَةً أَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَعَا ثَلَاثَةً مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاسْتَقْرَأَهُمْ فَأَمَرَ أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثِينَ آيَةً وَأَمَرَ الْآخَرَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ آيَةً وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِمَامَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ وَنَحْوَهَا وَهُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّرَاوِيحِ الْخَتْمُ مَرَّةً وَبِمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُخْتَمُ الْقُرْآنُ مَرَّةً فِيهَا؛ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ سِتُّمِائَةٍ وَعَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافٍ وَشَيْءٍ فَإِذَا قَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ يَحْصُلُ الْخَتْمُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوَقَعَ الْخَتْمُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْمُحْسِنُ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَفْضَلُ عِنْدِي أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ عَشْرٍ مَرَّةً وَذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ نَحْوَهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَشْرٍ مَخْصُوصٌ بِفَضِيلَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَبِهِ نَطَقَ الْحَدِيثُ وَهُوَ «شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَوَسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنْ النَّارِ» فَيَحْسُنُ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ عَشْرٍ وَلِأَنَّ التَّثْلِيثَ يُسْتَحَبُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَذَا فِي الْخَتْمِ وَحَكَى عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ عِمَادِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَشَايِخ بُخَارَى جَعَلُوا الْقُرْآنَ خَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ رُكُوعًا وَعَلِمُوا الْخَتْمَ بِهَا لِيَقَعَ الْخَتْمُ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ رَجَاءَ أَنْ يَنَالُوا فَضِيلَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إذْ الْأَخْبَارُ قَدْ كَثُرَتْ بِأَنَّهَا لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمَصَاحِفُ مُعَلَّمَةٌ بِالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ رُكُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا تُقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 [فَصَلِّ أَدَاء صَلَاة التَّرَاوِيح قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ] الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَنُوبُ عَنْ التَّرَاوِيحِ عَلَى قِيَاسِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُمَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَجُوزُ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ آكَدُ وَأَشْهَرُ وَهَذَا الْفَرْقُ يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَ الْفَرْقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ. [فَصَلِّ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُسِنُّونَ فِي صَلَاة التَّرَاوِيحِ] (الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُسِنُّونَ وَهُوَ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ) فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى رَأْسِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا يَقْعُدُ فَإِنْ قَعَدَ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ التَّسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعِ صَلَاةٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِهَذَا لَوْ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي فَسَدَ هُوَ لَا غَيْرُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمَا بِالسَّلَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ فَإِنْ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ أَوْ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ شَفْعٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فَالْمُتَقَدِّمُونَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ عَنْ الْعَدَد الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ فِي التَّطَوُّعِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ عَنْ الْعَدَدِ الْجَائِزِ وَهُوَ سِتُّ رَكَعَاتِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ صَلَّى عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَهُوَ عَنْ التَّسْلِيمَاتِ الْخَمْسِ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّهَا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَتَى جَازَ تَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا فِي النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُجْزِئُهُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا شَكَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ سَوَاءٌ شَرَعَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْظَرُ إنْ شَرَعَ عَامِدًا يَجِبُ، وَإِنْ شَرَعَ سَاهِيًا لَا يَجِبُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي إنْ شَرَعَ فِيهِ عَامِدًا، وَإِنْ شَرَعَ سَاهِيًا لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ لَمَّا صَحَّ صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ إكْمَالُهُ إنْ شَرَعَ فِيهِ عَنْ قَصْدٍ حَتَّى لَوْ صَلَّى الرَّجُلُ التَّرَاوِيحَ بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ فِي كُلِّ تَسْلِيمَةٍ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّرَاوِيحُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ، وَلَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ التَّرْوِيحَاتِ أَجْمَعَ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَقَاوِيلُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. [فَصَلِّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي صَلَاة التَّرَاوِيحِ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ] (الْفَصْلُ التَّاسِعُ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الشَّكُّ) فِي أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنْ يُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فُرَادَى لِتَصِيرَ عَشْرًا بِيَقِينٍ وَلِئَلَّا يَصِيرَ مُؤَدِّيًا لِلتَّطَوُّعِ بِجَمَاعَةٍ إذْ هِيَ مَكْرُوهَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصَلِّ تَفْضِيلِ التَّسْلِيمَتَيْنِ عَلَى الْبَعْضِ فِي صَلَاة التَّرَاوِيحِ] (الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي تَفْضِيلِ التَّسْلِيمَتَيْنِ عَلَى الْبَعْضِ) وَهُوَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَالتَّسْوِيَةُ أَفْضَلُ، وَأَمَّا تَفْضِيلُ إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَإِنَّ فَضْلَ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى لَا شَكَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا بِمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَفِي تَفْضِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّعْدِيلُ أَفْضَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَفْضَلُ تَفْضِيلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. [فَصَلِّ وَقْتِ صَلَاة التَّرَاوِيحِ الْمُسْتَحَبِّ] (الْفَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ) الْأَفْضَلُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ إلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِشَاءِ وَلَوْ أَخَّرَهَا إلَى مَا وَرَاءِ النِّصْفِ اُخْتُلِفَ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ اسْتِدْلَالًا بِالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْأَفْضَلُ فِيهِ آخِرُ اللَّيْلِ فَإِنْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى؟ قَالَ بَعْضُهُمْ تُقْضَى مَا دَامَ اللَّيْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 بَاقِيًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْضَى مَا لَمْ يَأْتِ وَقْتُهَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْضَى مَا دَامَ الشَّهْرُ بَاقِيًا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا تُقْضَى أَصْلًا كَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ السُّنَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا سُنَّةَ الْفَجْرِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا جَمِيعًا إنَّهَا لَا تُقْضَى بِجَمَاعَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا تُقْضَى لَكَانَتْ تُقْضَى عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ. [فَصَلِّ إمَامَةِ الصَّبِيِّ فِي التَّرَاوِيحِ] (الْفَصْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِي إمَامَةِ الصَّبِيِّ فِي التَّرَاوِيحِ) جَوَّزَهَا مَشَايِخُ خُرَاسَانَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُجَوِّزهَا مَشَايِخُ الْعِرَاقِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [كِتَابُ الزَّكَاةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَمِنْهُ يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا فَسُمِّيَتْ الزَّكَاةُ زَكَاةً لِأَنَّهَا سَبَبُ زِيَادَةِ الْمَالِ بِالْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وَقِيلَ أَيْضًا إنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الطُّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أَيْ تَطَهَّرَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوَاجِبُ زَكَاةً؛ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ صَاحِبَهَا عَنْ الْآثَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَهِيَ فَرِيضَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا فِي الْقُرْآنِ ثَالِثَةُ الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] وَفِي السُّنَّةِ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ الْخَمْسِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» فَأَصِل الْوُجُوبِ ثَابِتٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبُ الْوُجُوبِ مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ سَبَبًا وَهُوَ الْمَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَلِهَذَا يُضَافُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا، وَلَكِنَّ الْمَالَ سَبَبٌ بِاعْتِبَارِ غِنَى الْمَالِكِ «، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ». وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ وَذَلِكَ هُوَ النِّصَابُ الثَّابِتُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَالنِّصَابُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ النَّمَاءِ، فَإِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ فَصَارَ السَّبَبُ النِّصَابَ النَّامِيَ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَى النِّصَابِ وَإِلَى السَّائِمَةِ يُقَالُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَضَاعَفُ بِتَضَاعُفِ النِّصَابِ فَإِنْ قِيلَ الزَّكَاةُ تَتَكَرَّرُ فِي النِّصَابِ الْوَاحِدِ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ ثُمَّ الْحَوْلُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ قُلْنَا التَّكَرُّرُ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ النُّمُوِّ، فَإِنَّ النَّمَاءَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمُدَّةِ فَقَدَّرَ ذَلِكَ الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ فَيَتَكَرَّرُ الْحَوْلُ بِتَجَدُّدِ مَعْنَى النُّمُوِّ وَيَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ السَّبَبِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ بَدَأَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكِتَابَ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً كُلُّهَا بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي، وَقِيلَ: لِأَنَّ قَاعِدَةَ هَذَا الْأَمْرِ كَانَ فِي حَقِّ الْعَرَبِ وَهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي وَكَانُوا يَعُدُّونَهَا مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَبَدَأَ بِمَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ. [زَكَاة الْإِبِل] (قَالَ) وَلَيْسَ فِي أَرْبَعٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ» عَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةُ لِلْقِيمَةِ فِي الْمَقَادِيرِ، فَإِنَّ الشَّاةَ تُقَوَّمُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبِنْتَ الْمَخَاضِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَإِنَّ أَدْنَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الْآثَارُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَمَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا مُوَالَاةً بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ بِلَا وَقْصٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ خِلَافُ أُصُولِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّ الْوَقْصَ يَتْلُو الْوَاجِبَ وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ يَتْلُو الْوَقْصَ وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ وَفِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ أَعْلَى الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا ثَنِيٌّ وَسَدِيسٌ وَبَازِلٌ وَبَازِلُ عَامٍ وَبَازِلُ عَامَيْنِ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّعَاةَ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ». وَبِنْتُ الْمَخَاضِ الَّتِي تَمَّ لَهَا سَنَةٌ وَطَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَعْنًى فِي أُمِّهَا، فَإِنَّهَا صَارَتْ مَخَاضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 أَيْ حَامِلًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23]. وَبِنْتُ اللَّبُونِ الَّتِي تَمَّ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَعْنًى بِهَا فِي أُمِّهَا، فَإِنَّهَا لَبُونٌ بِوِلَادَةٍ أُخْرَى. وَالْحِقَّةُ الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَعْنًى فِيهَا وَهُوَ أَنَّهُ حُقَّ لَهَا أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا. وَالْجَذَعَةُ الَّتِي تَمَّ لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَعْنًى فِي أَسْنَانِهَا مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْإِبِلِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزَادُ الْقَدْرُ بِزِيَادَةِ الْإِبِلِ فَيَجِبُ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ وَفِي إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الْآثَارُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسًا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَشَاةٌ وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَشَاتَانِ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسِتِّينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ مَخَاضٍ وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى عَنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ عَنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ كَمَا بَيَّنَّا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَالْأَوْقَاصُ تِسْعٌ تِسْعٌ فَلَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتُ لَبُونٍ؛ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ وَمَرَّتَيْنِ أَرْبَعُونَ وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ مَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ الْإِبِلُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَةِ وَقَرَبَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 بِقِرَابِ سَيْفِهِ وَلَمْ يَخْرُجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى قُبِضَا وَكَانَ فِيهِ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» إلَّا أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَمَلَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَلَّقَ هَذَا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهَا يُوجَبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا حَظٌّ مِنْ الْوَاجِبِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - بِالْإِسْنَادِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، فَإِنَّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ مَالٌ عَظِيمٌ فَفِي إخْلَائِهِ عَنْ الْوَاجِبِ إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ، وَفِي إيجَابِ الْوَاحِدَةِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الشِّقْصِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فَأَوْجَبَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْإِبِلِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ خِلَافِ الْجِنْسِ. وَمَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ يَسْتَقِرُّ النِّصَابُ وَالْوَقَصُ وَالْوَاجِبُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ يَجِبُ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٌ، ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقُ، فَإِنَّ أَدْنَاهَا بِنْتُ الْمَخَاضِ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ وَالْأَعْدَلُ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَكَذَلِكَ أَعْدَلُ الْأَوْقَاصِ هُوَ الْعَشْرُ، فَإِنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الِابْتِدَاءِ خَمْسٌ، وَفِي الِانْتِهَاءِ خَمْسَةَ عَشْرَ فَالْمُتَوَسِّطُ هُوَ الْعَشْرُ وَهُوَ الْأَعْدَلُ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً. (وَلَنَا) حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَخْرِجْ لِي «كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ». وَرُوِيَ بِطَرِيقٍ شَاذٍّ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ خَمْسًا فَإِذَا كَانَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ» وَهَذَا نَصٌّ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ. وَالْقَوْلُ بِاسْتِقْبَالِ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَشْهُورٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثُمَّ نَقُولُ وُجُوبُ الْحِقَّتَيْنِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْآثَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 إسْقَاطُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُؤْخَذُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الزِّيَادَةِ الْكَبِيرَةِ حَتَّى يَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَحَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ مِائَةٌ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُونَ وَلِلْآخَرِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ، فَإِذَا زَادَتْ لِصَاحِبِ الْخَمْسِ وَثَلَاثِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ بُعْدٍ فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْعَلْ لِهَذِهِ الْوَاحِدَةِ حَظًّا مِنْ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ، فَإِنَّ مَا لَا حَظَّ لَهُ مِنْ الْوَاجِبِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا فِي الْحُمُولَةِ وَالْعُلُوفَةِ. وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات وَلَكِنْ اخْتَلَفْنَا فِي أَنَّ أَيَّ الْإِدَارَتَيْنِ أَوْلَى فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَدَارَ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَفِيهَا الْحِقَّةُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ مَا دُونِهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَنَقُولُ الْأَخْذُ بِمَا كَانَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْلَى، فَإِنَّ مَبْنَى أُصُولِ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَالِ يَسْتَقِرُّ النِّصَابُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي نِصَابِ الْبَقَرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُسِنَّةِ فِي الْأَرْبَعِينَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ مَا دُونَهَا وَهُوَ التَّبِيعُ، فَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْإِبِلِ وَلِهَذَا لَمْ تَعُدْ الْجَذَعَةُ؛ لِأَنَّ الْإِدَارَةَ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَلَا يُوجَدُ فِيهَا نِصَابُ الْجَذَعَةِ، فَأَمَّا مَا دُونَ الْجَذَعَةِ فَيُوجَدُ نِصَابُهَا فِي الْخَمْسِينَاتِ فَتَعُودُ لِهَذَا وَلَسْنَا نُسَلِّمُ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ الْوَاجِبَ مِنْ الْجِنْسِ، فَإِنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ كَالْمَقْطُوعِ عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لِإِيفَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا كَمَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْآثَارِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْإِيجَابِ مِنْ جِنْسِهِ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْغَنَمِ فِيهَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مَعَ إبْقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقَلْنَا مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسُونَ فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ السَّائِمَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ انْفِرَادِهِ حَتَّى إنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُ الْخُلْطَةِ، وَذَلِكَ بِاتِّحَادِ الْبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْكَلْبِ، وَحُجَّتُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ» قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الدَّلْوِ وَالْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَهَذَا النِّصَابُ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُفَرَّقُ وَاعْتَبَرَ الْخُلْطَةَ فِي إثْبَاتِ التَّرَاجُعِ، وَالتَّرَاجُعُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا نِصَابٌ تَامٌّ مَمْلُوكٌ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْخُلْطَةِ تَخِفُّ الْمُؤْنَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِخِفَّةِ الْمُؤْنَةِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِي السَّائِمَةِ دُونَ الْعَلُوفَةِ، وَأَوْجَبَ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرَ وَفِيمَا يُسْقَى بِالْغَرْبِ وَالدَّالِيَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَسَائِمَةُ الْمَرْءِ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ فَلَيْسَ فِيهَا الزَّكَاةُ» وَهُنَا سَائِمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ غِنَى الْمَالِكِ بِمِلْكِ النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِغَنِيٍّ بِمَا يَمْلِكُ بِدَلِيلِ حِلِّ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَبْعَدُ مِنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ كَسْبِهِ فَلِلْمُكَاتَبِ حَقُّ مِلْكٍ فِي كَسْبِهِ، وَلَيْسَ لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَقُّ الْمِلْكِ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهِ فَلَأَنْ لَا تَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ كَانَ أَوْلَى. (وَأَمَّا الْحَدِيثُ) فَدَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْمَكَانِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ نِصَابٌ كَامِلٌ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُجْمَعُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَفَرِّقَ فِي الْمِلْكِ لَا يُجْمَعُ فِي حُكْمِ الصَّدَقَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالتَّرَاجُعِ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ، فَإِنَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْغَنَمِ إذَا كَانَتْ لِرَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ وَلِلْآخَرِ ثَمَانُونَ فَحَالَ الْحَوْلُ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ مِنْ عُرْضِهَا شَاتَيْنِ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْكَثِيرِ عَلَى صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِثُلُثِ شَاةٍ، ثُمَّ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي إنَّمَا يَجِبُ شَاةٌ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ خَاصَّةً دُونَ صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ قَدْ نَقَصَ عَنْ الْأَرْبَعِينَ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ شَاةً رَجَعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عَلَى صَاحِبِ الْكَثِيرِ بِثُلُثِ شَاةٍ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّرَاجُعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ بِدُونِ غِنَى الْمَالِكِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ كَمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا وَبِهِ يَبْطُلُ اعْتِبَارُهُمْ خِفَّةَ الْمُؤْنَةِ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ عَشَرَةِ نَفَرٍ كُلُّ بَعِيرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ شَيْءٌ. زُفَرُ يَقُولُ: كُلُّ بَعِيرٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ لِلْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ تَامٌّ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ فِيهَا رَجُلًا وَاحِدًا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَتَعَدُّدُ الشُّرَكَاءِ لَا يُنْقِصُ مِلْكَهُ وَلَا يَعْدَمُ صِفَةَ الْغِنَى فِي حَقِّهِ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ بِمَلْكِ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ (قَالَ) وَإِذَا وَجَبَتْ الْفَرِيضَةُ فِي الْإِبِلِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ السِّنُّ وَوُجِدَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا وَجَدَ وَرَدَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَخَذَ فَضْلَ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ جُبْرَانَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهُ بِحَسَبِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَقَدَّرُ بِشَاتَيْنِ أَوْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ وَجَبَ فِي إبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْ الْمُصَدِّقُ فِيهَا إلَّا حِقَّةً أَخَذَهَا وَرَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مِمَّا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بِنْتَ مَخَاضٍ أَخَذَهَا وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مِمَّا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ فِي زَمَانِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا أَنَّهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَدَّرَ جُبْرَانَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ بِشَاةٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ كَانَ مُصَدِّقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ وَلَا يَظُنُّ بِهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ فِي زَمَانِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَلِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ بِشَيْءٍ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ أَوْ الْإِجْحَافِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْحِقَّةَ وَرَدَّ شَاتَيْنِ فَرُبَّمَا تَكُونُ قِيمَتُهُمَا قِيمَةَ الْحِقَّةِ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِلزَّكَاةِ عَلَيْهِ مَعْنًى، وَإِذَا أَخَذَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَأَخَذَ الشَّاتَيْنِ فَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُمَا مِثْلَ قِيمَةِ بِنْتِ اللَّبُونِ فَيَكُونُ آخِذًا لِلزَّكَاةِ بِأَخْذِهِمَا وَبِنْتُ الْمَخَاضِ تَكُونُ زِيَادَةً وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ. (الْفَصْلُ الثَّانِي) إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي إبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تُوجَدْ وَوَجَدَ ابْنَ اللَّبُونِ فَعِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ أَخْذُ ابْنِ اللَّبُونِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَعَيَّنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي وَاسْتَدَلَّا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ» ذَكَرٍ عَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ اللَّبُونِ عِنْدَ عَدَمِ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا اعْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْمُعَادَلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ مَعْنًى، فَإِنَّ الْإِنَاثَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ قِيمَةً مِنْ الذُّكُورِ وَالْمُسِنَّةَ أَفْضَلُ قِيمَةً مِنْ غَيْرِ الْمُسِنَّةِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِيَادَةَ السِّنِّ فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَقَامَ زِيَادَةِ الْأُنُوثَةِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَنُقْصَانَ الذُّكُورَةِ فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَقَامَ نُقْصَانِ السِّنِّ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَلَكِنْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَلَوْ عَيَّنَّا أَخْذَ ابْنِ اللَّبُونِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ أَوْ الْإِجْحَافِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) إنَّ أَدَاءَ الْقِيمَةِ مَكَانَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْوَاجِبِ حَتَّى لَقَّبُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالْإِبْدَالِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مَعَ قِيَامِ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا (حُجَّتُهُ) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ»، وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا هُوَ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْمُؤْتَى غَيْرُ مَذْكُورٍ فَالْتَحَقَ بَيَانُهُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ فَتَكُونُ الشَّاةُ حَقًّا لِلْفَقِيرِ بِهَذَا النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُقَدَّرٌ بِأَسْنَانٍ مَعْلُومَةٍ شَرْعًا فَلَا يَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا أَوْ يُقَالُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِمَحِلٍّ عُيِّنَ فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَالسُّجُودِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ لَمْ يُتَأَدَّ بِالْخَدِّ وَالذَّقَنِ، وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ الْبَعِيرِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِاعْتِبَارِ النَّصِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ مَالٌ، وَبَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي لَا لِتَقْيِيدِ الْوَاجِبِ بِهِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي تَعِزُّ فِيهِمْ النُّقُودُ وَالْأَدَاءُ مِمَّا عِنْدَهُمْ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ»، وَكَلِمَةُ " فِي " حَقِيقَةً لِلظَّرْفِ وَعَيْنُ الشَّاةِ لَا تُوجَدُ فِي الْإِبِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَدْرُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 مِنْ الْمَالِ «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى الْمُصَدِّقِ، وَقَالَ: أَلَمِ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَقَالَ السَّاعِي أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ» إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ بِالْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ آخُذُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ أَوْ قَالَ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَلَّكَ الْفَقِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَدَّى بَعِيرًا عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ» فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الشَّاةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ سَدُّ الْخَلَّةِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَظْهَرَ وَلَا نَقُولُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ حَقُّ الْفَقِيرِ. وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَلَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وُعِدَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَنَّهُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِكِفَايَتِهِ لَهُ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِكِفَايَةِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِكِفَايَتِهِمْ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ وَلَا مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالسُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا حَتَّى لَا يَتَنَفَّلَ بِهِ وَلَا يُصَارَ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يُقَامُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ فَقُرْبَةٌ وَفِيهِ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ إنَّ ظَاهِرَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَى الْمُصَدِّقِ يُعَيِّنُ أَيَّهَا شَاءَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى سِنًّا دُونَ الْوَاجِبِ وَفَضْلِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى سِنًّا فَوْقَ الْوَاجِبِ وَاسْتَرَدَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ حَتَّى إذَا عَيَّنَ شَيْئًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اعْتَبَرَ التَّيْسِيرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ (قَالَ) وَلَيْسَ فِي الْحِمْلَانِ وَالْفِصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ زَكَاةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقُلْتُ مَا تَقُولُ فِيمَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حَمَلًا، فَقَالَ: فِيهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ فَقُلْتُ رُبَّمَا تَأْتِي قِيمَةُ الشَّاةِ عَلَى أَكْثَرِهَا أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 عَلَى جَمِيعِهَا فَتَأَمَّلَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَا وَلَكِنْ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَوَ يُؤْخَذُ الْحَمَلُ فِي الزَّكَاةِ؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إذًا لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي أَبُو يُوسُفَ وَبِقَوْلِهِ الثَّالِثِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِهِ حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَجْلِسٍ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَلَمْ يَضِعْ شَيْءٌ مِنْهَا. فَأَمَّا زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ»، وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِنْتَ مَخَاضٍ تَجِبُ شَاةٌ فِيهَا وَلَا تَجِبُ الشَّاةُ فِي تِلْكَ الْوَاحِدَةِ بَلْ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا جَازَ إيجَابُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ شَاةٍ بِاعْتِبَارِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْفِصْلَانِ جَازَ إيجَابُ الشَّاةِ بِاعْتِبَارِ خَمْسٍ مِنْ الْفِصْلَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ عَفْوٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَا يَزْدَادُ بِهَا الْوَاجِبُ، فَكَذَلِكَ نُقْصَانُ السِّنِّ عَفْوٌ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ الْوَاجِبُ (وَحُجَّتُنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَقَالَ: لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا» وَإِيجَابُ الْمُسِنَّةِ فِي الصِّغَارِ يُؤَدِّي إلَى هَذَا، ثُمَّ رُبَّمَا تَكُونُ قِيمَةُ الْمُسِنَّةِ آتِيَةً عَلَى أَكْثَرِ النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَأَخْذُ الْمُسِنَّةِ مِنْ الصِّغَارِ فِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ مُسِنَّةً، فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْمَحِلِّ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْعَنَاقِ مَدْخَلًا فِي الزَّكَاةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الصِّغَارِ، ثُمَّ اُعْتُبِرَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ وَلَا يَعْدِمُهَا، وَنُقْصَانُ الْوَصْفِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَصْلًا حَتَّى إنَّ فِي الْعِجَافِ وَالْمَهَازِيلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَذَلِكَ نُقْصَانُ السِّنِّ وَلَنَا حَدِيثُ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ «إيَّانَا مُصَدِّقُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنَ شَيْئًا، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلسَّاعِي: عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ، وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ أَخْذِ الصِّغَارِ» عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْنَانٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا مَدْخَلَ لِلصِّغَارِ فِيهَا مَقْصُودًا كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ الَّتِي اعْتَبَرَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الصِّغَارِ وَبِهِ فَارَقَ الْعِجَافَ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَسْنَانَ تُؤْخَذُ فِيهَا مَعَ الْعَجَفِ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ اعْتَبَرَ السِّنَّ فِي الْمَأْخُوذِ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّمَسُّكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعِقَالِ مَدْخَلًا فِي الزَّكَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفِصْلَانِ فَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا تَجِبُ فِيهَا الْوَاحِدَةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ ثِنْتَانِ مِنْهَا إلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ ثَلَاثٌ مِنْهَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً مِنْ مَالٍ اُعْتُبِرَ قَبْلَهُ أَرْبَعَةُ نُصُبٍ وَأَوْجَبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ ثِنْتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ اعْتَبَرَ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذِهِ النُّصُبِ لَوْ أَوْجَبْنَا كَانَ بِالرَّأْيِ لَا بِالنَّصِّ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ تَعْيِينَ الْوَاجِبِ بِالنَّصِّ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَالسِّنِّ وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ السِّنُّ فِي الْفُصْلَانِ فَبَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ يَجِبُ فِي خَمْسٍ فِصْلَانِ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ شَاةٍ وَفِي الْعَشْرِ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ شَاتَيْنِ وَفِي الْخَمْسَةَ عَشْرَ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ ثَلَاثِ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ الْأَقَلُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ أَرْبَعِ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي الْكِبَارِ الْوَاجِبَ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ لِلتَّيْسِيرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى وَاحِدَةً مِنْهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَكَذَلِكَ فِي الصِّغَارِ يُؤْخَذُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسَا فَصِيلٍ وَهَكَذَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْجُمْلَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - خَرَّجُوا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الزِّيَادَاتِ فِي زَكَاةِ الْمَهَازِيلِ فَقَالُوا: إذَا مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْفِصْلَانِ نُظِرَ إلَى قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَالشَّاةِ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَقِيمَةُ الشَّاةِ عَشْرَةً فَنَقُولُ: لَوْ كَانَتْ الْوَاحِدَةُ بِنْتَ الْمَخَاضِ لَكَانَ يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ تُسَاوِي عَشْرَةً، وَذَلِكَ بِمَعْنَى خُمُسِ قِيمَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِيَكُونَ بِمَعْنَى خُمُسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أَفْضَلِهِنَّ فَهَذَا هُوَ الْإِيجَابُ فِي الصِّغَارِ عَلَى قِيَاسِ الْإِيجَابِ فِي الْكِبَارِ وَإِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ السَّائِمَةِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ النِّصَابِ الْكَامِلِ النَّامِي وَالْمَدْيُونُ مَالِكٌ لِذَلِكَ، فَإِنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَصِفَةُ النَّمَاءِ بِالْإِسَامَةِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ، ثُمَّ الدَّيْنُ مَعَ الزَّكَاةِ حِقَّانِ اخْتَلَفَا مَحِلًّا وَمُسْتَحَقًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ (وَلَنَا) حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي رَمَضَانَ، أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْتَسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ الْمَدْيُونُ فَقِيرٌ وَلِهَذَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ مَالِهِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى»، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، وَالْخِطَابُ بِالْإِغْنَاءِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَمَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْمُوَاسَاةِ شَرْعًا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوَاسِيَ غَيْرَهُ وَالشَّرْعُ لَا يَرُدُّ بِمَا لَا يُفِيدُ وَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَ شَاةً مِنْ سَائِمَةِ الْغَيْرِ صَدَقَةً وَيُعْطِيَ شَاةً مِنْ سَائِمَتِهِ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ، فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدِمَ الْمِلْكَ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ كَانَ أَوْلَى، وَقَدْ جُعِلَ مَالُ الْمَدْيُونِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَالْمَمْلُوكِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى هَذَا، وَقَالَ: إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ يُؤَدِّي إلَى تَزْكِيَةِ مَالٍ وَاحِدٍ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ مِرَارًا. بَيَانُهُ فِيمَنْ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ عَشْرٌ مِنْ الْأَيْدِي فَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَكَاةُ الْأَلْفِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَالْمَالُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا الْعَبْدَ حَتَّى إذَا أُقِيلَتْ الْبُيُوعُ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ شَيْءٌ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ لَا مُعْتَبَرَ فِيهِ بِغِنَى الْمَالِكِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِكِ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتِبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا فِي الْمَالِ النَّامِي بِوَاسِطَةِ غِنَى الْمَالِكِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْحَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 حَتَّى إذَا سَقَطَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ يُعْدِمُ صِفَةَ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَيَكُونُ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَعِنْدَنَا لَا يَنْقَطِعُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) فَإِنْ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ، فَقَالَ: لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ عَلَى السَّائِمَةِ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا أَوْ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّائِمَةُ لِي وَحَلَفَ صُدِّقَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ أَمِينٍ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَنْكَرَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَبَ عَلَى السَّاعِي تَصْدِيقُهُ وَلَكِنْ يُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ كَمَا لَوْ قَالَ: صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَهُنَا السَّاعِي مُكَذِّبٌ لَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ فَلِهَذَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ: أَخَذَهَا مِنِّي مُصَدِّقٌ آخَرُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ إذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ كَانَ مُصَدَّقًا، وَإِذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ لَمْ يَكُنْ مُصَدَّقًا، وَهَذَا أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَتَى بِالْبَرَاءَةِ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَقُولُ: وَجَاءَ بِالْبَرَاءَةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَجِيءَ بِالْبَرَاءَةِ شَرْطٌ لِتَصْدِيقِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ وَلِصِدْقِهِ عَلَامَةٌ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمُصَدِّقَ إذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ دَفَعَ الْبَرَاءَةَ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ تِلْكَ الْعَلَامَةُ قُبِلَ خَبَرُهُ وَإِلَّا فَلَا كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِالْوِلَادَةِ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِهَا قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْبَرَاءَةَ خَطٌّ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَقَدْ لَا يَأْخُذُ صَاحِبُ السَّائِمَةِ الْبَرَاءَةَ غَفْلَةً مِنْهُ، وَقَدْ تَضِلُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بَعْدَ الْأَخْذِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ حُكْمًا فَبَقِيَ الْمُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ (قَالَ) فَإِنْ قَالَ: دَفَعْتُهَا إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُصَدَّقْ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]، وَقَالَ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25]، فَإِذَا أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَالْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَهْلِ أَخْذِ حَقِّهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا أَقْبِضَ الْمُوَكِّلَ الثَّمَنَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ يَقْبِضُ لِيَصْرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ فَهُوَ كَفَى السَّاعِيَ هَذِهِ الْمَئُونَةَ وَأَوْصَلَهَا إلَى مَحِلِّهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ سَبِيلٌ (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ إذَا صُرِفَ بِنَفْسِهِ إلَى الْمُقَاتَلَةِ، ثُمَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الزَّكَاةَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ مَنْ يُعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِمَامُ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إلَّا بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: وَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ فِيمَا يَقُولُ يُؤْخَذْ مِنْهُ ثَانِيًا وَلَا يَبْرَأُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لِلْإِمَامِ رَأْيًا فِي اخْتِيَارِ الْمَصْرِفِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ رَأْيَ الْإِمَامِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ. وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ السَّاعِيَ عَامِلٌ لِلْفَقِيرِ وَفِي الْمَأْخُوذِ حَقُّ الْفَقِيرِ وَلَكِنَّهُ مَوْلًى عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَخْذِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ بِطَلَبِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ لِصَغِيرٍ دَفَعَهُ الْمَدْيُونُ إلَيْهِ دُونَ الْوَصِيِّ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ يَبْرَأُ بِالْأَدَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ " لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ " إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ صِدْقُهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِطَلَبِهِ فَجَعْلُ السَّاعِي نَائِبًا عَنْهُ كَانَ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُ، فَإِذَا أَدَّى مَنْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ إلَيْهِ حَصَلَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ فَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (قَالَ) وَلَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي سَائِمَتِهِمَا عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِمَا وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيُتْمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ: إذَا أَدَّاهُ الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضَمِنَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ، أَوْ قَالَ: تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ»، وَذَلِكَ دَلِيلُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ يُصْرَفُ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ شَرْعًا فَالصِّغَرُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ كَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَبِالصَّرْفِ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ وَالصِّغَرُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حَقِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَالنَّفَقَةُ صِلَةٌ وَجَبَتْ لِلْمَحَاوِيجِ الْمَاسِّينَ لَهُ فِي الْقَرَابَةِ، وَالزَّكَاةُ صِلَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الْمَاسِّينَ لَهُ فِي الْمِلَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ كَانَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ حَتَّى إنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتَأَدَّى بِأَدَاءِ وَكِيلِهِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَبِهِ فَارَقَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ فَلَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» وَفِي إيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْوَلِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ عَلَى الصَّبِيِّ وَفِيهِ يُوجَدُ الْخِطَابُ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ أَيْ النَّفَقَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الدَّيْنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ أَصْلِ الدَّيْنِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الدَّيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، وَقَالَ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] وَبِجَعْلِ الْمَالِ لَهُ خَالِصًا يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ وَعَزِيمَةٍ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَوِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ تَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ شَرْعًا وَمِثْلُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لَا تَتَأَدَّى بِهَا الْعِبَادَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتِلْكَ نِيَابَةٌ عَنْ اخْتِيَارٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ مِنْهُ وَبِهِ فَارَقَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا لِمَعْنَى الْمُؤْنَةِ حَتَّى تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْأَبِ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ فِي مَالِهِ احْتَجْنَا إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَبِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَبِهِ فَارَقَ الْعُشْرَ، فَإِنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وُجُوبُهَا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْمُؤْنَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ لَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ حَتَّى يُفِيقَ، فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ طَارِئًا فَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِبْرَةَ لِأَكْثَرِ الْحَوْلِ، فَإِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَجَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَرِضَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجِزْيَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ هَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الصَّوْمِ فَالسَّنَةُ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ وَالْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 كَالْإِفَاقَةِ فِي جَمِيعِهِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَجْنُونِ الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ فَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي كِتَابِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا اعْتَرَضَ جُنُونُهُ إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَوْلِ فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَبَرَ الْإِفَاقَةَ فِي آخِرِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهَا يَكُونُ (قَالَ) وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتِبِ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَصْرِفٌ لِلزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ بِكَسْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ وَبِدُونِ الْمِلْكِ لَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْغِنَى وَالْمَالُ النَّامِي سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِوَاسِطَةِ غِنَى الْمَالِكِ فَبِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَبِدُونِهِ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَوِّنُ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ السَّائِمَةِ مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاسْتَفَادَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ضَمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ وَزَكَّاهَا كُلَّهَا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْتَبَرُ لِلْمُسْتَفَادِ حَوْلٌ جَدِيدٌ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ (وَحُجَّتُهُ) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ فِيهِ الْحَوْلُ» وَالْمُرَادُ الْحَوْلُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ اثْنَا عَشْرَ شَهْرًا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِهِ فَيَكُونُ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ، فَإِنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيَسْرِي إلَيْهَا حُكْمُ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّصَابِ لِيَحْصُلَ الْغِنَى بِهِ لِلْمَالِكِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالنِّصَابِ الْأَوَّلِ فَبِالزِّيَادَةِ بَعْدَهُ يَزْدَادُ الْغِنَى، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِحُصُولِ النَّمَاءِ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَنْجَبِرَ بِالنَّمَاءِ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا كَأَصْلِ الْمَالِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَالٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ رَأْسِ السَّنَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحَادِثِ كَمَا تَجِبُ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّ وَقْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، ثُمَّ الضَّمُّ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا يُضَمُّ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فَضَمُّ بَعْضِ الْمَالِ إلَى الْبَعْضِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ دُونَ التَّوَالُدِ فَكَذَلِكَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَسْرِي بِعِلَّةِ التَّوَالُدِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَسْرِيَ إلَى الْحَادِثِ بَعْدَ الْحَوْلِ لِتَقَرُّرِ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ مَا بَعْدَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ بِنَاءٌ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَعٌ لَهُ حَتَّى يَسْقُطَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ فِيهِ وَيُجْعَلُ حُؤُولُ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ حُؤُولًا عَلَى التَّبَعِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَالُ النِّصَابِ لِإِيجَابِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعَادِنِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا حُؤُولُ الْحَوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ حَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَفَادِ؛ إذْ حُؤُولُ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ يَكُونُ حُؤُولًا عَلَى التَّبَعِ مَعْنًى فَإِنْ كَانَ إنَّمَا اسْتَفَادَهَا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِانْعِدَامِ حُؤُولِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنْ السَّائِمَةِ لَمْ يَضُمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمْ يَضُمَّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ (قَالَ) وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْإِبِلُ أَوْ الْبَقَرُ أَوْ الْغَنَمُ سَائِمَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَذَلِكَ كَالْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِيهَا الزَّكَاةُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ»، ثُمَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالِاسْتِعْمَالِ بَلْ يَزْدَادُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ بِالِاسْتِعْمَالِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَالصِّفَةُ مَتَى قُرِنَتْ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعَلَمِ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ وَالْمُطْلَقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ» وَفَسَّرَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ الْجَبْهَةَ بِالْخَيْلِ وَالنُّخَّةَ بِالْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: النُّخَّةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَسَّرَهَا بِالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو غُلَامُ ثَعْلَبٍ: هُوَ مِنْ النَّخِّ وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَوَامِلِ، ثُمَّ مَالُ الزَّكَاةِ مَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ عَيْنِهِ لَا مِنْ مَنَافِعِهِ، أَلَا تَرَى إلَى دَارِ السُّكْنَى وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا وَالْعَوَامِلُ إنَّمَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلْعَلَفِ فِي مِصْرَ أَوْ غَيْرِ مِصْرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَعْظُمُ عَلَى صَاحِبِهَا. وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ خِفَّةِ الْمَئُونَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَئُونَةِ؛ لِأَنَّ لِخِفَّةِ الْمَئُونَةِ تَأْثِيرًا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 إيجَابِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَإِنْ كَانَ يُسِيمُهَا فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَيَعْلِفُهَا فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَالْعِبْرَةُ لِأَكْثَرِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي زَمَانِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ فَجَعَلْنَا الْأَقَلَّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ عَلَفَهَا بِقَدْرِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ مُؤْنَةُ عَلَفِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ سَائِمَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا (قَالَ) وَالصَّدَقَةُ وَاجِبَةٌ فِي ذُكْرَانِ السَّوَائِمِ وَإِنَاثِهَا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، ثُمَّ طَلَبُ النَّمَاءِ مِنْ الْعَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ، إمَّا مِنْ الْأَوْلَادِ إذَا كُنَّ إنَاثًا بِأَنْ يُسْتَعَارُ لَهَا فَحْلٌ أَوْ مِنْ السَّمْنِ إذَا كَانُوا ذُكُورًا فَإِنَّهَا مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ (قَالَ) وَإِذَا بَاعَ السَّائِمَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا انْقَطَعَ الْحَوْلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا بَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ: سَوَاءٌ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ غِنَى الْمَالِكِ بِهِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْبَدَلِ وَقَاسَهُ بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا فَحُكْمُ الزَّكَاةِ فِي الْبَدَلِ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا بَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَحُكْمُ الزَّكَاةِ فِي الْبَدَلِ يُخَالِفُ حُكْمَ الزَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ مَا كَانَ ثَابِتًا بِبَقَاءِ الْبَدَلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِئْنَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ يُضَمُّ الْجِنْسُ إلَى الْجِنْسِ وَلَا يُضَمُّ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، فَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَنْبَنِي عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ وَيَسْتَقِلُّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. (وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ نِصَابُهُ مِنْ الْعَيْنِ وَالنَّمَاءِ فِيهِ مَطْلُوبٌ مِنْ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ النِّصَابُ مِنْ قِيمَتِهِ، ثُمَّ الِاسْتِبْدَالُ يُحَقِّقُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَيُضَادُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ أَصْحَابِ السَّوَائِمِ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِهِمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالِاسْتِبْدَالِ فَيَكُونُ نَظِيرَ تَرْكِ الْإِسَامَةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ يُرِيدُ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ لَا يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا بِحَوْلٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُكْرَهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُكْرَهُ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ وَلِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَالْفِرَارُ مِنْ الْعِبَادَةِ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 يَقُولُ: هَذَا امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامِ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ إذَا الْتَزَمَهُ فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْعُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاسْتِبْدَالِ مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى سَائِمَتِهِ، وَعِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَزَكَّى السَّائِمَةَ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لَمْ يُزَكِّ مَعَهَا أَثْمَانَ الْإِبِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُزَكِّيهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: الضَّمُّ لِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ، وَأَدَاءُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَصْلِهِ لَا يَمْنَعُ ضَمَّ الثَّمَنِ إلَى مَا عِنْدَهُ كَمَنْ أَدَّى صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِ الْخِدْمَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ أَدَّى عُشْرَ الطَّعَامِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ثِنَا فِي الصَّدَقَةِ» غَيْرِ مَمْدُودٍ. وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي ثَمَنِ السَّائِمَةِ فِي هَذَا الْحَوْلِ بَعْدَ مَا أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ أَصْلِهَا يُؤَدِّي إلَى الثِّنَى فِي الصَّدَقَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا يَبْقَى بِالثَّمَنِ الْمَالِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ بِالْبَيْعِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ بِدُونِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، ثُمَّ زِيَادَةُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْغِنَى، وَلَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِأَصْلِ هَذَا الْمَالِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِهِبَةٍ أَوْ وِرَاثَةٍ فَقَدْ اسْتَفَادَ بِهِ زِيَادَةَ الْغِنَى وَبِخِلَافِ أَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِ الْخِدْمَةِ فَالْمَالِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ حَتَّى تَجِبَ عَنْ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الْمُسْتَغْرَقِ انْتَقَصَ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَالِيَّةً مُسْتَحَقَّةً بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَلَا مُعْتَبَرَ لِلْحَوْلِ فِيهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا لَيْلَةَ الْفِطْرِ أَدَّى عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْعُشْرَ كَذَلِكَ لَا مُعْتَبَرَ بِالْحَوْلِ فِيهِ وَوُجُوبُهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ بَلْ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ هُوَ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ حَتَّى إذَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ أَحْوَالًا لَا شَيْءَ فِيهِ فَالْبَيْعُ أَفَادَهُ الْغِنَى شَرْعًا وَكَذَلِكَ السَّائِمَةُ إذَا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا بِهَا شَرْعًا فَبِالْبَيْعِ اسْتَفَادَ صِفَةَ الْغِنَى فَهُوَ وَالْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ فَقُضِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِوَلَدِهِ بِالدِّيَةِ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ قَبَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ يَقْبِضُهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْإِبِلِ بِصِفَةِ الْإِسَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ سَائِمَةً، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَالْمِلْكُ لِلْوَارِثِ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى إبِلٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ سَائِمَةً، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى إبِلٍ سَائِمَةٍ بِأَعْيَانِهَا وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِ الزَّوْجِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا إذَا قَبَضَتْ مِنْهَا نِصَابًا كَامِلًا فَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا قَبَضَتْ مِنْهَا شَيْئًا يَلْزَمُهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ الْمَقْبُوضِ لِمَا مَضَى سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ دُونَهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بِالْعَقْدِ مَلَكَتْ الصَّدَاقَ مِلْكًا تَامًّا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَ الْيَدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ انْعِقَادِ الْحَوْلِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا مَلَكَتْ الْمَالِيَّةَ ابْتِدَاءً بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهَا فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ مِلْكَ الْمَالِيَّةِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِالْبَيْعِ بَلْ يَتَحَوَّلُ مِنْ أَصْلٍ كَانَ مَالًا إلَى بَدَلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ الْحُكْمُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا بِالْقَبْضِ أَوْ يَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِهَذَا لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَجْعُولِ صَدَاقًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ بِالْعَقْدِ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَتَمَامُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَصَيْرُورَتُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ لَا عَلَى حُصُولِ أَصْلِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ نُفُوذَهُ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِ الْمِلْكِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يُكَوِّنُ نِصَابَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ غَيْرُ نَامٍ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ إنَّ الصِّدْقَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْبَدَلِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَالَ الْبَدَلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ حَتَّى يَقْبِضَ نِصَابًا تَامًّا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: هُنَاكَ أَصْلُهُ كَانَ مَالًا، وَهَذَا أَصْلُهُ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالصَّدَاقُ جُعِلَ صِلَةً مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهَا الْمَالَ إلَّا بِالْقَبْضِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالصَّدَاقُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا زَكَاةٌ فِي نَصِيبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ النِّصَابِ وَلَوْ كَانَ عُشْرًا كَانَ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ فِي نَصِيبِهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَلْزَمُهَا زَكَاةُ نَصِيبِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ إبِلٌ سَائِمَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا أَوْ يَعْلِفَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَائِمَةً فِي جَمِيعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الْحَوْلِ وَمَا نَوَى كَانَ حَدِيثَ النَّفْسِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا»، ثُمَّ الِاسْتِعْمَالُ فِعْلٌ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يُفْعَلْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَوَى فِي عَبْدِ الْخِدْمَةِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَتَّجِرْ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَنَوَاهُ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِالْعَمَلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْكَافِرِ يَنْوِي الْإِسْلَامَ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا مَا لَمْ يَأْتِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَوْ نَوَى أَنْ يَكْفُرَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - صَارَ كَافِرًا بِنِيَّتِهِ تَرْكَ الْإِسْلَامِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَحَلَّ عَلَيْهَا حَوْلَانِ فَعَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ هَلْ يَأْثَمُ بِمَا صَنَعَ؟ فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ آثِمٌ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى. ، وَرَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَذْهَبِهِ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَقَالَ: فِي الزَّكَاةِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، وَفِي تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إضْرَارٌ بِهِمْ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ يَقُولُ يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفَرَّقَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ الْحَجِّ، وَقَالَ: أَدَاءُ الْحَجِّ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ وَفِي التَّأْخِيرِ عَنْهُ تَفْوِيتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْقَى إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ تَفْوِيتٌ فَكُلُّ وَقْتٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهَا، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَجَبَ عَلَيْهِ شَاتَانِ فَانْتَقَصَ بِقَدْرِهِمَا مِنْ الْعُشْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الثَّانِيَةِ إلَّا شَاةٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ شَاتَانِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَالَ: لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى - كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَكَانَ الْبَلْخِيُّ يُفَرِّقُ عَلَى أَصْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ عَنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَقَالَ: فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لِلسَّاعِي حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فَكَانَ نَظِيرُ دَيْنِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى رَجُلٍ يُوجِبُ فِي مِائَتِي دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمُرَادُهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا ثَمَانُونَ حَوْلًا. ثُمَّ دَيْنُ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِمَنْزِلَتِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى فَوَّضَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمَّا خَافَ الْمَشَقَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَالْحَرَجُ فِي تَفْتِيشِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُعَاةِ السُّوءِ فَكَانَ ذَلِكَ تَوْكِيلًا مِنْهُ لِصَاحِبِ الْمَالِ بِالْأَدَاءِ فَنَفَذَ تَوْكِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِلْمُصَدِّقِ إذَا مَرَّ بِالْمَالِ عَلَيْهِ فِي سَفَرِهِ فَلِهَذَا مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَالِ الْقَائِمِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَعَنْ الْمَالِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْقَائِمَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْمُسْتَهْلَكِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ فَصِيلًا وَنَاقَةٌ مُسِنَّةٌ فَعَلَيْهِ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ تَبَعٌ لِلْمُسِنَّةِ تُعَدُّ مَعَهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتُعَدُّ صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا»، وَهَذَا لِأَنَّ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مَوْجُودٌ فِي مَالِهِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَاجِبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا. ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فَصِيلًا وَنَاقَةٌ مُسِنَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ إلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ مَعَ فَصِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجَبُ فِي الصِّغَارِ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ إبِلٌ سَائِمَةٌ قَدْ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ نِصَابُ السَّائِمَةِ تَامًّا فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ نِصَابًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاتَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: زَكَاةُ السَّائِمَةِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَالضَّعِيفُ لَا يُعَارِضُ الْقَوِيَّ، فَإِذَا أَمْكَنَ إيجَابُ زَكَاةِ السَّائِمَةِ لَا تَظْهَرُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَفِي تَرْجِيحِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ مَنْفَعَةٌ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُهَا وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ مُفَوَّضٌ أَدَاؤُهَا إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا لَا يُؤَدِّي وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالُوا: إنْ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ يَنْعَدِمُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسَّوْمِ وَمَا لِأَجْلِهِ أُوجِبَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ فِي السَّائِمَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِيهَا وَبِنِيَّةِ التِّجَارَةِ يَنْعَدِمُ هَذَا فَكَانَتْ سَائِمَةً صُورَةً لَا مَعْنًى وَهُوَ مَالُ التِّجَارَةِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتُرَجَّحُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِهَذَا وَحَقُّ الْأَخْذِ ثَابِتٌ لِلسَّاعِي سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ أَوْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ مَالٌ ظَاهِرٌ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَى الْحِمَايَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ حَتَّى إذَا احْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ فِيهَا بِالْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ السَّائِمَةُ بَيْنَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ وَبَيْنَ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ كَافِرٍ فَعَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ زَكَاةُ نَصِيبِهِ لَوْ بَلَغَ نِصَابًا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَالَةَ الِاخْتِلَافِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ (قَالَ) وَإِذَا ذَهَبَ الْعَدُوُّ بِالسَّائِمَةِ أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى صَاحِبِهَا بَعْدَ سِنِينَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى عِنْدَنَا. ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ فِي الَّذِي ذَهَبَ بِهَا الْعَدُوُّ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَفِي الْمَغْصُوبِ الْمَجْحُودِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَلْزَمُهُ فِيهَا الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى الْأَمْوَالِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّ بِالْغَصْبِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ دُونَ الْمِلْكِ. وَجْهُ قَوْلِنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ» وَمَعْنَاهُ مَالٌ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِكَ بَعِيرٌ ضَامِرٌ إذَا كَانَ نَحِيفًا مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَصْحَابِهَا قِيلَ أَفَلَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ زَكَاتَهَا لِمَا مَضَى قَالَ: لَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ ضِمَارًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ كَانَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ، وَقَدْ انْسَدَّ عَلَى صَاحِبِهَا طَرِيقٌ يُحَصِّلُ النَّمَاءَ مِنْهَا بِجُحُودِ الْغَاصِبِ إيَّاهَا فَانْعَدَمَ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ نِصَابُ الزَّكَاةِ بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَدٍ ثَانِيَةٍ كَمَا يَحْصُلُ بِيَدِهِ فَكَانَ نِصَابُ الزَّكَاةِ لِهَذَا، وَكَذَلِكَ الضَّالَّةُ وَمَا سَقَطَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِي النُّمُوِّ وَالِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا صُورَةً وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ وَأُطْلِقَ الْجَوَابُ فِيهِ فِي الْكِتَابِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ كَانَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ بِعِلْمِ الْقَاضِي. وَجْهُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ إذْ لَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ ذُلٌّ فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالُوا: إذَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ يُقِرُّ مَعَهُ سِرًّا وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا أَخَذَهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (قَالَ) وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ انْتَقَصَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقْتًا طَوِيلًا مَا لَمْ يَنْقَطِعْ أَصْلُهُ مِنْ يَدِهِ وَمَالُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِيهِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ كَامِلًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السَّائِمَةِ كَذَلِكَ، وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ قَالَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ خَاصَّةً وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَنْزِلَةِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يُجْعَلُ كَهَلَاكِهِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ، وَكَذَلِكَ السَّائِمَةُ إذَا جَعَلَهَا حَمُولَةً أَوْ عَلُوفَةً فِي وَسَطِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ كَالْعَلُوفَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السَّائِمَةِ كَذَلِكَ، وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ قَالَ: الْقِيَاسُ هَكَذَا وَلَكِنِّي أُزَكِّيهِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ الْقِيمَةِ وَيَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ قُلْنَا: إنَّمَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ. (وَلَنَا) أَنَّ اشْتِرَاطَ كَمَالِ النِّصَابِ لَيَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ، وَالْغِنَى مُعْتَبَرٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ وَعِنْدَ كَمَالِهِ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَالِ انْعِقَادِ الْحَوْلِ وَلَا بِحَالِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا يُشْتَرَطُ غِنَى الْمَالِكِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ حَالُ بَقَاءِ الْحَوْلِ الْمُنْعَقِدِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحِلِّ لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَحِلِّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهَا عَلُوفَةً أَوْ أَعَدَّهَا لِلِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَحِلِّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ، فَأَمَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْبَعْضِ فَبَقِيَ الْمَحِلُّ صَالِحًا لِبَقَاءِ الْحَوْلِ وَهُوَ نَظِيرُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يُبْقِي عَلَى الْأَلْفِ بِبَقَاءِ بَعْضِهَا حَتَّى إذَا رَبِحَ فِيهَا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَتْ كُلُّهَا وَمَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْمَشَقَّةِ صَالِحٌ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ (قَالَ) وَيُحْتَسَبُ عَلَى الرَّجُلِ فِي سَائِمَتِهِ الْعَمْيَاءُ وَالْعَجْفَاءُ وَالصَّغِيرَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْكُلِّ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ النَّاسَ شَكَوْا إلَيْهِ مِنْ السُّعَاةِ فَقَالُوا: إنَّهُمْ يَعُدُّونَ عَلَيْنَا السِّخَالَ وَلَا يَأْخُذُونَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلسَّاعِي: عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ، وَإِنْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ أَلَسْنَا تَرَكْنَا لَكُمْ الرُّبَى وَالْأَكِيلَةَ وَالْمَاخِضَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ خِيَارِ الْمَالِ وَرُذَالِهِ فَبِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذْنَا وَقُلْنَا لَا تُؤْخَذُ الرُّبَى وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا وَلَا الْأَكِيلَةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ قَالَ يُونُسُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ الْأَكُولَةُ وَأَمَّا الْأَكِيلَةُ فَهِيَ الَّتِي تُكْثِرُ تَنَاوُلَ الْعَلَفِ وَلَكِنْ فِي عَادَةِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ الْأَكِيلَةَ وَمَقْصُودُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعْلِيمُ الْعَوَامّ فَاخْتَارَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَفْهَامِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَثَرِ إلَّا أَنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ اللُّغَةُ وَالْمَاخِضُ هِيَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ وَفَحْلُ الْغَنَمِ ظَاهِرٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»، ثُمَّ كَمَا نَظَرْنَا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ مِنْ الْكَرَائِمِ نَظَرْنَا لِلْفُقَرَاءِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ مِنْ الصِّغَارِ وَالْعِجَافِ مَعَ عَدِّهَا عَلَيْهِمْ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (قَالَ) وَإِذَا وَجَبَتْ الصَّدَقَةُ فِي السَّائِمَةِ، ثُمَّ بَاعَهَا صَاحِبُهَا جَازَ بَيْعُهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ قَوْلَانِ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ صَارَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَمْتَنِعُ عَلَى صَاحِبِهَا بَيْعُهَا كَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَالنِّصَابُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَصِيرُ كَالْمَرْهُونِ بِمَا وَجَبَ فِيهِ وَبَيْعٌ الْمَرْهُونِ لَا يَجُوزُ. وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً بِالدِّينَارِ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَاشْتَرَى شَاةً أُخْرَى بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ» فَقَدْ جَوَّزَ بَيْعَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ مَا وَجَبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا فَصَارَ هَذَا أَصْلًا لَنَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَالِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيْعَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ وَمِلْكُهُ بَاقٍ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلَمْ يَخْتَلَّ ذَلِكَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَكَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا بِخِلَافِ الْمَرْهُوقِ، فَإِنَّ الْيَدَ هُنَاكَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهَنِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْدُورُ التَّسَلُّمِ لَهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ مَالِيَّتَهُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْغَرِيمِ بِدَيْنِهِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ تَعَلُّقًا يَتَعَيَّنُ فِيهِ حَتَّى إنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ اخْتِيَارَ الْأَدَاءِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ نَظِيرُ تَعَلُّقِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِ الْمُوَلَّى فِيهِ كَمَا قُلْنَا فَكَذَلِكَ هَذَا (قَالَ) وَإِذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الصَّدَقَةَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى عَيْنِ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ صَارَ مُتْلِفًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَضْمَنُهُ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إنْ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْعَيْنِ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - اخْتَلَفُوا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالسَّاعِي مُجْتَهِدٌ فَإِنْ شَاءَ اعْتَبَرَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اعْتَمَدَ الْقِيَاسَ الظَّاهِرَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِنَفْسِهِ وَأَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ الْبَائِعِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَقْلِ الْمَاشِيَةِ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ مَا نَقَلَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا يُخَيَّرْ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ دَاخِلَةً فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً بِالنَّقْلِ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ النَّقْلِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّقْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُشْرِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ إذَا بَاعَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ الْعَيْنِ تَفَرَّقَا أَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا نَقَلَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَنْقُلْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عُشْرُ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمِلْكِ فِيهِ وَفِي الزَّكَاةِ الْوُجُوبُ عَلَى الْمَالِكِ حَتَّى لَا تَجِبَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (قَالَ) وَإِذَا نَفَقَتْ السَّائِمَةُ كُلُّهَا بَعْدَ حَوْلِ الْحَوْلِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ ضَمِنَ صَاحِبُهَا الزَّكَاةَ، فَأَمَّا قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَلَا ضَمَانَ وَلَهُ قَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ قَالَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ كَمَالِ النِّصَابِ وَحَوْلَانِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: التَّمَكُّنُ شَرْطُ الضَّمَانِ لَا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَاسْتَدَلَّ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ، ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ صَارَ ضَامِنًا كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَالَبَهُ الْفَقِيرُ بِالْأَدَاءِ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ لِلْفَقِيرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ وُجُوبِ الطَّلَبِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ صَارَ ضَامِنًا. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ مَحِلَّ الزَّكَاةِ هُوَ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ وَالشِّقْصِ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِتَفْوِيتِ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ كَسَائِرِ الضَّمَانَاتِ وَهُوَ بِهَذَا التَّأْخِيرِ مَا فَوَّتَ عَلَى الْفَقِيرِ يَدًا وَلَا مِلْكًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ شَرْعًا بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَبَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ اسْتَحَقَّ الْمُوَاسَاةَ مَعَهُمْ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوَاسِيَ غَيْرَهُ وَالْوَاجِبُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِهِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِالْمَالِ النَّامِي حَتَّى يَنْجَبِرَ بِالنَّمَاءِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْخُسْرَانِ بِالْأَدَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَلَوْ اسْتَوْفَى كَانَ الْمُسْتَوْفِي غَيْرَ مَا وَجَبَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ الْأَدَاءِ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِهَلَاكِ مَالِهِ. أَمَّا إذَا طَالَبَهُ الْفَقِيرُ فَهَذَا الْفَقِيرُ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلَهُ رَأْيٌ فِي الصَّرْفِ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ، فَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ وَبِالِامْتِنَاعِ يَصِيرُ مُفَوِّتًا، وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: إذَا حَبَسَهَا بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ حَتَّى مَاتَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ، فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ وَبِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا إنَّمَا مُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسُ بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، فَإِنْ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ عَلَى النِّصَابِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ كُلُّهُ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ مَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ جَعَلْتُمُوهُ شَرْطَ الْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ كَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ شَرْطَ الْأَدَاءِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ أَدَاءُ شَيْءٍ إذَا انْتَقَصَ النِّصَابُ قُلْنَا كَمَالُ النِّصَابِ لَيْسَ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ لِعَيْنِهِ وَلَكِنْ لِحُصُولِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهِ وَغِنَى الْمَالِكِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْغِنَى لَيْسَ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ أَدَاءِ الصَّدَقَةِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى النِّصَابِ وَالْوَقَصِ فَهَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَعَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْوَقَصِ دُونَ النِّصَابِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ النِّصَابِ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَجْعَلَانِ الْهَالِكَ مِنْ الْكُلِّ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ الْحَوْلُ فَهَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ. (حُجَّتُهُمَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ، وَالْمَعْنَى يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ الْمَالَ النَّامِيَ لَا يَخْلُو عَنْ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مَالٌ نَامٍ لَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ شَهِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ بِحَقٍّ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَسْتَغْنِي عَنْ الثَّالِثِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ فَمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عُشْرًا فَهَذَا» تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْوَقَصِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَقَصَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ وَالنِّصَابُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْوَقَصِ، وَالْوَقَصُ لَا يَسْتَغْنِي بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ عَنْ النِّصَابِ، وَالْمَالُ مَتَى اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَإِذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ مِنْهَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَا هَذَا، ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَوَّلَ النِّصَابِ يُجْعَلُ أَصْلًا وَمَا بَعْدَهُ بِنَاءً وَتَبَعًا فَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ فِيمَا زَادَ عَلَى أَوَّلِ النِّصَابِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَوَّلُ النِّصَابِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ نِصَابٌ آخَرُ، فَإِذَا أَتَى نِصَابٌ آخَرُ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ آخِرُ النِّصَابِ أَصْلًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ الْحَوْلُ، ثُمَّ هَلَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَاقِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَمَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ آخِرَ النِّصَابِ أَصْلًا وَالْهَالِكُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْمَخَاضِ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ فَيَسْقُطُ حِصَّةُ مَا هَلَكَ وَيَبْقَى حِصَّةُ مَا بَقِيَ (قَالَ) وَتَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَالِ الْكَامِلِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ مِنْ سَائِمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَائِزٌ عَنْ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ (أَحَدُهَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ، فَإِنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَوِّزُ التَّعْجِيلَ أَصْلًا وَيَعْتَبِرُ الْعِبَادَةَ الْمَالِيَّةَ بِالْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَيَقُولُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، ثُمَّ بِكَمَالِ النِّصَابِ» حَصَلَ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الزَّكَاةِ مِنْ النِّصَابِ النَّامِي وَغِنَى الْمَالِكِ وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ تَأْجِيلٌ وَتَعْجِيلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ الْمَالُ وَالْأَدَاءُ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ وَالرَّجُلِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ جَازَ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ مُتَأَخِّرًا، أَوْ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْوُجُوبِ لِتَحَقُّقِ النَّمَاءِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ السَّنَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ صَحِيحًا، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ وَبَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِسَنَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَجُوزُ إلَّا لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ التَّعْجِيلَ عِنْدَهُ عَلَى آخِرِ الْحَوْلِ لَا عَلَى أَوَّلِهِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْجِيلَ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ الثَّانِي بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ مَا لَمْ يَنْتَقِصْ عَنْهُ وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ السَّبَبِ وَفِي ذَلِكَ الْحَوْلُ الثَّانِي كَالْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ، ثُمَّ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ النُّصُبِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ إلَّا عَنْ النِّصَابِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ، وَفِي مِلْكِهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدَنَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ الْكُلِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ زَكَاةِ الْخُمُسِ قَالَ: لِأَنَّ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بَعْدَ وُجُودِ مِلْكٍ بِدَلِيلِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فِي نُصُبٍ يَمْلِكُهَا عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، فَإِذَا جُعِلَ الْمِلْكُ الْحَاصِلُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ يُجْعَلُ الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ. وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لِهَلَاكِ مَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ دَفَعَ إلَيْهِمْ إنْ بُيِّنَ لَهُ أَنَّهُ يُعْطِي مُعَجَّلًا وَإِنْ أَطْلَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إذَا بُيِّنَ لَهُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَمَنْ قَضَى دَيْنَ إنْسَانٍ، ثُمَّ انْفَسَخَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَا يُؤَدِّيهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بَلْ إنْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ كَانَ مُتَنَفِّلًا كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الْأَدَاءَ (قَالَ) وَيَنْظُرُ فِي السَّائِمَةِ إلَى كَمَالِ النِّصَابِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا نَاقِصَةً عَنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ وَيَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهَا إنْ أَرَادَ بِهَا التِّجَارَةَ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَبَرَ فِي السَّائِمَةِ كَمَالَ الْعَدَدِ دُونَ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي السَّائِمَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا وَفِي مَالِ التِّجَارَةِ إنَّمَا يُطْلَبُ النَّمَاءُ مِنْ مَالِيَّتِهَا فَاعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ حَيْثُ يُطْلَبُ النَّمَاءُ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ مِائَتِي دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ وَلَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ صَارَ وُجُودُ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَعَدَمِهَا فَتَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ. قُلْنَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً مَعْنًى عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالصُّورَةُ بِدُونِ الْمَعْنَى لَا تَكْفِي لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ (قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَى الْإِبِلَ لِلتِّجَارَةِ فَلَمَّا مَضَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَوْلِ بَدَا لَهُ فَجَعَلَهَا سَائِمَةً فِرَارًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ حِينِ جَعْلِهَا سَائِمَةً؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ فِيهَا وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَقِيقَةً فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِالْفِعْلِ وَزَكَاةُ السَّائِمَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَقُلْنَا بِاسْتِئْنَافِ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ جَعْلِهَا سَائِمَةً (قَالَ) وَيُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ صَدَقَةُ سَائِمَتِهِمْ ضَعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا بَلَغَتْ مِقْدَارَ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَبَنُو تَغْلِبَ قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا بِقُرْبِ الرُّومِ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُوَظِّفَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ أَبَوْا وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ نَأْنَفُ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ وَظَّفْت عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَحِقْنَا بِأَعْدَائِكَ مِنْ الرُّومِ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتُضَعِّفَهُ عَلَيْنَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَشَاوَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كُرْدُوسٌ التَّغْلِبِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَالِحْهُمْ، فَإِنَّكَ إنْ تُنَاجِزْهُمْ لَمْ تُطِقْهُمْ فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الصُّلْحِ بَعْدَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَزِمَ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 صُلْحَهُمْ حِينَ رَآهُمْ قَلُّوا وَذَلُّوا قُلْنَا قَدْ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ هَذَا الصُّلْحَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّوَادِرِ أَنَّ صُلْحَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ ضَغْطَةً وَلَكِنْ تَأَيَّدَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْحَقُّ يَدُورُ مَعَهُ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِمَّا دُونَ النِّصَابِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَالٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضَعْفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ رِجَالِهِمْ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ قَالَ: لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا مَالُ الصُّلْحِ وَالنِّسَاءُ فِيهِ كَالرِّجَالِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعًا فِرْيَةً» وَهُوَ نَظِيرُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا شَيْءَ مِنْهَا عَلَى النِّسَاءِ فَإِنْ صَالَحَتْ امْرَأَةٌ عَنْ قِصَاصٍ عَلَى مَالٍ أَخَذَتْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَهْدُ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الرِّجَالِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ سَوَائِمِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ. أَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ وَلَكِنْ تُوضَعُ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ بَنُو تَغْلِبَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ نَسَبًا لَا وَلَاءً فَبَقِيَتْ مَوَالِيهِمْ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» قُلْنَا الْمُرَادُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي تَغْلِبَ لَا يَكُونُونَ أَعْلَى حَالًا مِنْ مَوَالِي الْمُسْلِمِينَ وَمَوْلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ أَوْلَى. (قَالَ) وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا صَالَحَهُمْ قَالَ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ مَعْنَاهُ جِزْيَةٌ فِي حَقِّنَا فَنَضَعُهُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ حَقِيقِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذَا التَّقَرُّبِ وَهُوَ جِزْيَةٌ مَعْنًى فَالْجِزْيَةُ اسْمٌ لِمَالٍ مَأْخُوذٍ بِسَبَبِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّضْعِيفِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَسْقُطَ إذَا أَسْلَمُوا فَلِهَذَا يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 قَالَ) وَإِذَا ظَهَرَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذُوا مِنْهُمْ صَدَقَةَ أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِمْ وَالْجِبَايَةُ تَكُونُ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّاجِرِ إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَعَشَرَهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشِرُهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَرَضَ مَالَهُ حِينَ مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُعْذَرْ وَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ وَلَكِنْ يُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَدَاءِ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا عَلَى طَرِيقِ الصَّدَقَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ وَلَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفِ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا أَخَذُوا مِنْهُ شَيْئًا ظُلْمًا وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ خَرَاجَ رُءُوسِهِمْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ الْإِمَامُ بِمَا مَضَى لِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ. فَأَمَّا مَا يَأْخُذُ سَلَاطِينُ زَمَانِنَا هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي يُفْتُونَ بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَ الْمَأْخُوذَ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَقُولُ فِي الصَّدَقَاتِ يُفْتُونَ بِالْإِعَادَةِ فَأَمَّا فِي الْخَرَاجِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتَلَةِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ حَتَّى إذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ ذَبُّوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَ إلَى هَذِهِ الْمَصَارِفِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إذَا نَوَوْا بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَالِهِمْ فَلَوْ رَدُّوا مَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ مَاهَانَ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ أَمِيرًا بِبَلْخٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَسَأَلَ عَنْهَا الْفُقَهَاءَ عَمَّا يُكَفِّرُ بِهِ فَأَفْتَوْهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ لِحَشَمِهِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَا لَكَ مِنْ الْمَالِ وَكَفَّارَتُكَ كَفَّارَةُ يَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الرَّجُلِ مِنْ الْجِبَايَاتِ إذَا نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عُشْرِهِ وَزَكَاتِهِ جَازَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا (قَالَ) وَتُقَسَّمُ صَدَقَةُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى فُقَرَاءِ بِلَادِهِمْ وَلَا يُخْرَجُ إلَى غَيْرِهِمْ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ»، وَلِأَنَّ لِفُقَرَاءِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ حَقَّ الْقُرْبِ وَالْمُجَاوَرَةِ، وَاطِّلَاعُهُمْ عَلَى أَرْبَابِ أَمْوَالِهِمْ أَكْثَرُ فَالصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ وَلَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ لِي جَارَيْنِ أَيُّهُمَا أَبِرُّ؟ فَقَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِمْ جَازَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وَهُوَ مَكْرُوهٌ» وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ نَقَلَ عُشْرَهُ وَصَدَقَتَهُ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ أَيْ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ. (وَلَنَا) ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَتَخْصِيصُ فُقَرَاءِ الْبَلْدَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهِمْ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ قَدْ حَصَلَ وَقَوْلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ كَانَ بِالْيَمَنِ كَانَ يَنْقُلُ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَدِينَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ وَأَنْفَعُ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْقُلُ إلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ فُقَرَاءَهَا كَانُوا أَشْرَفَ الْفُقَرَاءِ حَيْثُ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ وَهَاجَرُوا لِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَصْرِفَ الصَّدَقَةَ إلَيْهِمْ وَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ (قَالَ) وَمَنْ كَانَ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ سِنِينَ فَلَمْ يُؤَدِّ صَدَقَةَ مَالِهِ، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حِمَايَةِ الْإِمَامِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ كَانَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ لَزِمَهُ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَصَارَتْ الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فِي حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْإِمَامِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهَا كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ (قَالَ) وَالْعَاشِرُ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ رَسُولِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِ كَمَا يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9]. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ (قَالَ) وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ فِي تِلْكَ الدَّارِ سِنِينَ، فَإِنْ عَرَفَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤَدِّهَا، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ يُؤْخَذْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حِمَايَةِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ يُفْتِي بِأَدَائِهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ قَابِلًا لِأَحْكَامِهِ وَجَهْلُهُ عُذْرٌ فِي دَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّرْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ تَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَجُوِّزَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ شَائِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ غَيْرُ شَائِعَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِقِيَامِ الشُّيُوعِ مَقَامَ الْوُصُولِ إلَيْهِ (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى صَدَقَةَ مَالِهِ إلَى الْمُصَدِّقِ الَّذِي كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَكَفَّ عَنْهُ الْمُصَدِّقُ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى كَذِبِهِ بَعْدَ سِنِينَ أَخَذَهُ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يَسْقُطُ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالتَّأْخِيرُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ حَقَّ الْأَخْذِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلِهَذَا أَخَذَهُ بِالصَّدَقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ زَكَاةِ الْغَنَمِ] (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَبَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ. (وَحُجَّتُنَا) حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ وَفِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ وَفِي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ لَا تَكُونُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ بَلْ بِالنَّصِّ (قَالَ) وَلَا تُؤْخَذُ الْجَذَعَةُ مِنْ الْغَنَمِ فِي الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا وَالْجَذَعَةُ هِيَ الَّتِي تَمَّ لَهَا حَوْلٌ وَاحِدٌ وَطَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّنِيُّ الَّذِي تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ فَأَمَّا مِنْ الضَّأْنِ فَتُؤْخَذُ الْجَذَعَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ إلَّا مَا يُجْزِي فِي الضَّحَايَا. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيِّ»، وَلِأَنَّ الْجَذَعَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 مِنْ الضَّأْنِ تُجْزِي فِي الضَّحَايَا وَهِيَ أَدْعَى لِلشُّرُوطِ مِنْ الْأَخْذِ فِي الزَّكَاةِ فَجَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَخْذِهَا فِي الزَّكَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، ثُمَّ مَا دُونَ الثَّنِيِّ قَاصِرٌ فِي نَفْسِهِ»، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ الْمَعْزِ وَلَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الْبَالِغُ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَعْزِ مَا دُونَ الثَّنِيِّ، وَكَذَلِكَ فِي الضَّأْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا وَلَكِنْ تُرِكَ لِنَصٍّ خَاصٍّ وَرُدَّ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ سَمِينًا لَوْ اخْتَلَطَ بِالثَّنِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ قَبْلَ التَّأَمُّلِ وَمِثْلُ هَذَا يُقَارِبُ الثَّنِيَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَهُنَا مَا دُونَ الثَّنِيِّ لَا يُقَارِبُ الثَّنِيَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ النَّسْلِ لَا تَحْصُلُ بِهِ (قَالَ) وَيَجُوزُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ أَخْذُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُؤْخَذُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّسْلِ لَا تَحْصُلُ بِهِ وَيَجُوزُ فِي زَكَاةِ الذُّكُورِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَاسْمُ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ فِيهِ (قَالَ) فَإِنْ اخْتَلَطَ الْمَعْزُ بِالضَّأْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ نِصَابَ الْبَعْضِ يُكْمَلُ بِالْبَعْضِ، ثُمَّ لَا يُؤْخَذُ إلَّا الْوَسَطُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ الْأَدْوَنُ مِنْ الْأَرْفَعِ وَالْأَرْفَعُ مِنْ الْأَدْوَنِ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى، وَكَذَلِكَ فِي الْبَقَرِ مَعَ الْجَوَامِيسِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِهِمَا يَقُولُ يُؤْخَذُ مِنْ جِنْسِ الْأَغْلَبِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تَقُومُ وَاحِدَةٌ مِنْ الْأَرْفَعِ وَالْأُخْرَى مِنْ الْأَدْوَنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ قَالَ: وَهُوَ الْعَدْلُ وَبِهِ يَتِمُّ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَخُذُوا مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ» وَالْأَخْذُ مِنْ الْحَوَاشِي فِيمَا قُلْنَا (قَالَ) وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ الظَّبْيِ وَالْغَنَمِ يَكُونُ نِصَابًا إذَا كَانَتْ الْأُمُّ نَعْجَةً، وَكَذَلِكَ الْمُتَوَلَّدُ مِنْ الْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ وَالْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ عِنْدَنَا الْعِبْرَةُ لِلْأُمِّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ تَجَاذَبَهُ جَانِبَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ وَالْآخَرُ لَا يُوجِبُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالْوُجُوبُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ جِنْسِ الْأُمِّ يُشْبِهُهَا عَادَةً وَيَتْبَعُهَا فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ لِمَالِكِ الْأُمِّ وَحَتَّى يَتْبَعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِمَائِهَا فَالْوَلَدُ يَكُونُ مِنْهَا (قَالَ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى غَنَمٍ سَائِمَةٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهَا وَحَال الْحَوْلُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَيْهَا زَكَاةُ النِّصْفِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهَا فِي الْحَوْلِ إنَّمَا عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَهُ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَانَتْ مَالِكَةً لِلْكُلِّ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فَوَجَبَ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ مِنْ يَدِهَا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ فِيمَا بَقِيَ كَمَا لَوْ نَقَصَ النِّصَابُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ فِي نَصِيبِهَا إذَا قَبَضَتْ وَكَانَ نِصَابًا تَامًّا، فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهَا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا الزَّكَاةُ فِي نَصِيبِهَا سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ دُونَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكُلُّ نِصَابًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ وَأَوْضَحَهُ فِي الْكِتَابِ بِمَا لَوْ كَانَ الصَّدَاقُ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ عِنْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَيْهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الزَّوْجِ حِينَ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ قَبْلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَهُمَا فَرَّقَا، وَقَالَا: صَدَقَةُ الْفِطْرِ تَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ التَّامَّةَ لَا مُجَرَّدَ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْيَدِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَمِلْكُهَا فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَامٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَتْ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنٌ وَلَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً فَحَالَ الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلتَّقَلُّبِ وَالتَّصَرُّفُ مُعَدٌّ لَهُ، فَأَمَّا السَّائِمَةُ فَمُعَدَّةٌ لِاسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَهَذَا إذَا حَضَرَهُ الْمُصَدِّقُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ فَالْخِيَارُ لِرَبِّ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْمُصَدِّقِ، فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ فَلِهَذَا صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً سَائِمَةً فَحَلَّ عَلَيْهَا حَوْلَانِ فَعَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ قَدْ انْتَقَصَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَظِيرِهِ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ (قَالَ) فِي الْكِتَابِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ لِيَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً فَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْمَعَهَا وَيَأْخُذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَالتَّفْرِيقُ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا وَبَيَّنَّا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ وَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَنَزِيدُهُ وُضُوحًا فَنَقُولُ الْمُرَادُ إذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إحْدَى وَسِتُّونَ مِنْ الْإِبِلِ لِأَحَدِهِمَا سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَلِلْآخِرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ مِنْهَا بِنْتَ لَبُونٍ وَبِنْتَ مَخَاضٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ بِزَكَاةِ صَاحِبِهِ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى، فَإِنَّ التَّرَاجُعَ عَلَى وَزْنِ التَّفَاعُلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا (قَالَ) وَالشَّرِيكُ الْمُفَاوِضُ وَالْعَنَّانُ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَغِنَى الْمَالِكِ بِهِ وَلَا مِلْكَ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مُفَاوِضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (قَالَ) وَإِذَا مَرَّ الْمُسْلِمُ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْمَاشِيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لِلتِّجَارَةِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أَنْكَرَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْعَاشِرُ لَا يَأْخُذُ إلَّا الزَّكَاةَ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ بِصِفَةِ الْإِسَامَةِ أَوْ التِّجَارَةِ وَمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ لَا يَكُونُ سَائِمَةً، وَقَدْ انْتَفَى صِفَةُ التِّجَارَةِ فِي حَقِّهِ بِحَلِفِهِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ وَالتَّغْلِبِيُّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَمُرُورُهُمَا عَلَى الْعَاشِرِ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ كَمَا يَكُونُ بِمَالِ التِّجَارَةِ كَالْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَا يُصَدِّقُ فِي ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ فِي هَذَا مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَّا عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ لَا نُصَدِّقُهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِنَا لَا يَدْخُلُ إلَّا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَمَا مَعَهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ فَلِهَذَا أُخِذَ مِنْهُ (قَالَ): رَجُلٌ مَاتَ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فِي سَائِمَتِهِ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ صَدَقَتَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ. وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ «الْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيهِ قَالَتْ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» فَقَدْ شَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَيْنَ اللَّهِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ، ثُمَّ دَيْنُ الْعِبَادِ يُقْضَى مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْفِقْهُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا حَقٌّ كَانَ مُطَالَبًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَتَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَدُيُونِ الْعِبَادِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تُقْتَضَى بِالْمَالِ وَالْوَارِثُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُورِثِ فِي أَدَاءِ مَا تَجْرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِيصَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ. (وَحُجَّتُنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ»، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا لَمْ يُمْضِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ يَكُونُ مَالَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِهِ عَلَّلَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ يَعْنِي أَنَّ الْمَالَ صَارَ مِلْكَ الْوَارِثِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَارِثِ شَيْءٌ لِيُؤْخَذَ مِلْكُهُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ حُقُوقِ الْعِبَادِ إذَا اجْتَمَعَا فِي مَحَلٍّ تُقَدَّمُ حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْإِيتَاءِ وَفِعْلُ الْإِيتَاءِ لَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُ بِالْمَالِ لِيَقُومَ الْمَالُ فِيهِ مَقَامَ الذِّمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْوَارِثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَائِبًا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا هُوَ عِبَادَةٌ. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَفِعْلٍ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ الْمُورِثَ تَكُونُ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْمُورِثِ وَبِهِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ وَاسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ تُنَفَّذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَيَظْهَرُ بِمَا ذَكَرْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ دُيُونِ الْعِبَادِ إذَا تَأَمَّلْتَ. فَإِنْ كَانَ مَوْتُ صَاحِبِ السَّائِمَةِ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعْ بِهِ حُكْمُ الْحَوْلِ عِنْدَنَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُبْنَى عَلَى حَوْلِهِ، فَإِذَا تَمَّ فَعَلَى الْوَارِثِ الزَّكَاةُ قَالَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْمُورِثِ، وَلَيْسَ بِابْتِدَاءِ مِلْكٍ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَغَيْرِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوَارِثِ مُتَجَدِّدَةٌ، وَفِي حُكْمِ الزَّكَاةِ الْمَالِكُ مُعْتَبَرٌ فَلِتَجَدُّدِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ قُلْنَا يُسْتَقْبَلُ الْحَوْلُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ] (الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ) حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ وَلَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لَهَا ثُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّه شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ وَلَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 قَدْ بَلَّغْتُ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً سَائِمَةً صَدَقَةٌ وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَةٌ وَطَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي أَرْبَعِينَ مِنْهَا مُسِنَّةٌ وَهِيَ الَّتِي تَمَّ لَهَا سَنَتَانِ وَبِهَذَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَقَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ»، وَلَمْ يُفَسِّرْ هَذَا الْكَلَامَ وَفِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ إحْدَى وَأَرْبَعُونَ بَقَرَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ وَرُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٌ أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَإِنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبْعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ، وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى سَبْعِينَ ثُمَّ بَعْدَ سِتِّينَ الْأَوْقَاصُ تِسْعٌ تِسْعٌ وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ حَتَّى إذَا كَانَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ وَفِي الْمِائَةِ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرٍ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ إنْ شَاءَ أَدَّى ثَلَاثَ مُسِنَّاتٍ وَإِنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَةَ أَتَبَعَةً فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعُونَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثُونَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَأْخُذُوا مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرُوا الْأَوْقَاصَ بِمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ، وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْإِشْقَاصُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ حَتَّى إنَّ فِي الْإِبِلِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ أَوْجَبَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عَنْ إيجَابِ الشِّقْصِ فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا تَجُوزُ الْإِشْقَاصُ؛ لِأَنَّهَا عَيْبٌ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ نَصْبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَإِنَّمَا يَكُونُ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ، وَلَا نَصَّ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَإِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِيهِ أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ بِحِسَابِ مَا سَبَقَ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادُ بِهِ حَالَ قِلَّةِ الْعَدَدِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ الْوَقَصَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، وَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 فِي الِابْتِدَاءِ يَكُونُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَوْقَاصِ الصِّغَارُ وَهِيَ الْعَجَاجِيلُ وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا (قَالَ) وَالْجَوَامِيسُ بِمَنْزِلَةِ الْبَقَرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ مِنْ زَكَاةِ الْغَنَمِ (قَالَ) وَذُكُورُهَا وَإِنَاثُهَا فِي الصَّدَقَةِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إلَّا الْإِنَاثُ وَهَذَا لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَتَبَايُنِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ. فَأَمَّا الْخَيْلُ السَّائِمَةُ إذَا اخْتَلَطَ ذُكُورُهَا وَإِنَاثُهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ شَاءَ صَاحِبُهَا أَدَّى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - لَا شَيْءَ فِيهَا. فَإِنْ كَانَتْ إنَاثًا كُلَّهَا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا كُلَّهَا فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهَا فِي كِتَاب الْآثَارِ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَفَوْتُ لِأُمَّتِي عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ» وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَجِبُ مِنْ عَيْنِهَا شَيْءٌ، وَمَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلِلْإِمَامِ فِيهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْمُرَابِطَةِ شَيْءٌ»، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْخَيْلِ السَّائِمَةِ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» فَقَالَ مَرْوَانُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَجَبًا مِنْ مَرْوَانَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ مَاذَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَالَ زَيْدٌ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَرَادَ فَرَسَ الْغَازِي، فَأَمَّا مَا حُبِسَتْ لِطَلَبِ نَسْلِهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ، فَقَالَ: كَمْ، فَقَالَ: فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَار أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ سَائِمٌ فِي أَغْلِبْ الْبُلْدَانِ فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، إلَّا أَنَّ الْآثَارَ فِيهَا لَمْ تَشْتَهِرْ لِعِزَّةِ الْخَيْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا كَانَتْ إلَّا مُعَدَّةً لِلْجِهَادِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُثْبِتْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ مَطْمَعُ كُلِّ طَامِعٍ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا بِهِ لَا يَتْرُكُونَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 لِصَاحِبِهِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْإِنَاثُ، قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الَّتِي ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ النَّسْلُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِنَاثِ الْمُفْرَدَاتِ وَفِي الْأُخْرَى قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعَارَ لَهَا فَحْلٌ فَيَحْصُلَ النَّمَاءُ مِنْ حَيْثُ النَّسْلُ. وَأَمَّا فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدِينَ لَا شَيْءَ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْلِ لَا يَحْصُلُ بِهَا وَبِزِيَادَةِ السِّنِّ لَا تَزْدَادُ الْقِيمَةُ فِي الْخَيْلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَعْنَى السِّمَنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ فَلِهَذَا قَالَ لِانْعِدَامِ النَّمَاءِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْآثَارِ جَعَلَ هَذَا قِيَاسَ سَائِرَ أَنْوَاعِ السَّائِمَةِ فَإِنَّ بِسَبَبِ السَّوْمِ تَخِفُّ الْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهَا وَبِهِ يَصِيرُ مَالُ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَيْلِ (قَالَ) وَلَيْسَ فِي الْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]» وَلِأَنَّهَا لَا تُسَامُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ مَعَ كَثْرَةِ وُجُودِهَا، وَالنَّادِرُ لَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ الْعَامُّ الْغَالِبُ فَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ] (قَالَ) وَلَيْسَ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْوَرِقَةِ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» وَحِينَ بَعَثَ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الْوَرِقِ شَيْءٌ وَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا دِرْهَمٌ مَعَ الْخَمْسَةِ»، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا فَفِيهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ طَاوُسٍ الْيَمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَيَجِبُ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» وَلِأَنَّ نَصْبَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَلَمْ يَشْتَهِرْ الْأَثَرُ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِحُصُولِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهِ فَفِي الزِّيَادَةِ الْمُعْتَبَرَةَ زِيَادَةُ الْغِنَى، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَهُ لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا، وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَقَاسَ بِالسَّوَائِمِ فَفِيهَا وَقَصٌ بَعْدَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ فِي النُّقُودِ بِعِلَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى (قَالَ) وَلَيْسَ فِي أَقَلِّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ زَكَاةٌ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: فِيهِ «، وَفِي الذَّهَبِ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فِيهِ» وَالدِّينَارُ كَانَ مُقَوَّمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهَا قِيرَاطَانِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا زَادَ بِحِسَابِ ذَلِكَ هَذَا وَالدَّرَاهِمُ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ تَجِبُ بِالْقِيمَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فُصُولٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا بَاعَهَا زَكَّى لِحَوْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا فِي مُلْكِهِ أَحْوَالٌ، وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا شَيْءَ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الرَّقِيقِ، وَفِي كُلِّ مَالٍ يَتْبَعُهُ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «، وَفِي الْبُرِّ صَدَقَةٌ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ». وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِحَمَاسٍ مَا مَالُكَ يَا حَمَاسُ؟ فَقَالَ: ضَأْنٌ وَأَدَمٌ، قَالَ: قَوِّمْهَا وَأَدِّ الزَّكَاةَ مِنْ قِيمَتِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ثُمَّ مَعْنَى النَّمَاءِ مَطْلُوبٌ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهَا كَمَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي السَّوَائِمِ مِنْ عَيْنِهَا وَكَمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ حَوْلٍ يَتَجَدَّدُ النَّمَاءُ بِمُضِيِّهِ فَكَذَلِكَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ وَيُعْتَبَرُ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 تَكُونَ قِيمَتُهَا نِصَابًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْمُعْتَبَرُ كَمَالِ النِّصَابِ آخِرَ الْحَوْلِ فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَيُقَوِّمُهَا يَوْمَ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا إنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيُقَوِّمُهَا بِهِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ نُقُودٍ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَمَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ الْبَدَلُ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هُوَ أَصْلُهُ أَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَيُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِتَقْوِيمِهِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يُتِمُّ النِّصَابَ وَبِالْآخِرِ لَا يُتِمُّ فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِمَا يُتِمُّ بِهِ النِّصَابَ لِمَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا، وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهَا بِأَيِّهِمَا شَاءَ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ - وَهُوَ مَا إذَا بَلَغَتْ الْإِبِلُ مِائَتَيْنِ - الْخِيَارَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا فِي عَيْنِ مَالِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْوُجُوبُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْقِيمَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مِلْكِهِ، وَمِلْكُهُ الْعَيْنُ فَكَانَ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ (قَالَ:) وَمَا كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تِبْرًا مَكْسُورًا أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ أَوْ مِنْطَقَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِي جَمِيعِهِ الزَّكَاةُ إذَا بَلَغَ الذَّهَبُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا أَوْ مِنْ الْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَالْكَنْزُ اسْمٌ لِمَالٍ مَدْفُونٍ لَا يُرَادُ بِهِ التِّجَارَةُ، وَقَدْ أَلْحَقَ اللَّهُ الْوَعِيدَ بِمَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْهَا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِدُونِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ ثُمَّ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مَخْلُوقَةٌ لِلِابْتِذَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فَلَا تَصِيرُ مُعَدَّةً لِلنَّمَاءِ إلَّا بِفِعْلٍ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ إسَامَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ. وَأَمَّا الذَّهَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وَالْفِضَّةُ فَخُلِقَا جَوْهَرَيْنِ لِلْأَثْمَانِ لِمَنْفَعَةِ التَّقَلُّبِ وَالتَّصَرُّفِ فَكَانَتْ مُعَدَّةً لِلنَّمَاءِ عَلَى أَيْ صِفَةٍ كَانَتْ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا [زَكَاة الحلي] (قَالَ:) وَالْحُلِيُّ عِنْدَنَا نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ سَوَاءٌ كَانَ لِلرِّجَالِ أَوْ لِلنِّسَاءِ مَصُوغًا صِيَاغَةً تَحِلُّ أَوْ لَا تَحِلُّ. وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ مَالُ الزَّكَاةِ كَمَالِ الْبِذْلَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مَحْظُورٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ شَرْعًا يُسْقَطُ اعْتِبَارَ الصَّنْعَةِ وَالِابْتِذَالَ حُكْمًا فَيَكُونُ مَالُ الزَّكَاةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُبَاحًا شَرْعًا وَهُوَ نَظِيرُ ذَهَابِ الْعَقْلِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا بِخِلَافِ ذَهَابِ الْعَقْلِ بِسَبَبِ شُرْبِ دَوَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى امْرَأَتَيْنِ تَطُوفَانِ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاتَهُمَا، فَقَالَتَا: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ، فَقَالَتَا: لَا، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَّيَا زَكَاتَهُمَا»، وَالْمُرَادُ الزَّكَاةُ دُونَ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَالْإِعَارَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا لَهَا مِنْ ذَهَبٍ فَسَأَلَتْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَنْزٌ هِيَ، فَقَالَ: إنْ أَدَّيْتِ مِنْهَا الزَّكَاةَ فَلَيْسَتْ بِكَنْزٍ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِالصَّنْعَةِ كَحُكْمِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَجَرَيَانِ الرَّبَّا وَبَيَانِ الْوَصْفِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَا اعْتَبَرَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَعَ اسْمِ الْعَيْنِ وَصْفًا آخَرَ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَعَلَى أَيْ وَجْهٍ أَمْسَكَهُمَا الْمَالِكُ لِلنَّفَقَةِ أَوْ لِغَيْرِ النَّفَقَةِ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَوْ كَانَ لِلِابْتِذَالِ فِيهِمَا عِبْرَةٌ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا أَوْ مُبَاحًا كَمَا فِي السَّوَائِمِ إذَا جَعَلَهَا حَمُولَةً ثُمَّ الِابْتِذَالُ هَاهُنَا لِمَقْصُودِ الْحَمْلِ زَائِدٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَيَاةُ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ فَلَا تَنْعَدِمُ بِهِ صِفَةُ التَّنْمِيَةِ الثَّابِتَةِ لِهَذَيْنِ الْجَوْهَرَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ بَلْ يَعْتَبِرُ كَمَالَ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ لِيُكْمِلَ النِّصَابَ كَالسَّوَائِمِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا رِبَا الْفَضْلِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَضُمَّ الذَّهَبَ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَمُطْلَقُ السُّنَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ يُكْمِلُ نِصَابَ أَحَدِهِمَا بِمَا يُكْمِلُ بِهِ نِصَابَ الْآخَرِ فَيُكْمِلُ نِصَابَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالسُّودِ مَعَ الْبِيضِ وَالنَّيْسَابُورِيّ مِنْ الدَّنَانِيرِ مَعَ الْهَرَوِيِّ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكْمُلُ بِمَالِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صُورَةً فَفِي حُكْمِ الزَّكَاةِ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ حَتَّى يَتَّفِقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا فَيَتَقَدَّرُ بِرُبُعِ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِمَا فَإِذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُؤَدَّى فَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبُعَ مِثْقَالٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ وَالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُقَوِّمُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَوَاتِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ وَعِنْدَهُمَا يَضُمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَقَدْ مَلَكَ نِصْفَ نِصَابِ أَحَدِهِمَا وَرُبُعَ نِصَابِ الْآخَرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِمَا شَيْءٌ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْتَبَرُ فِي التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْوِيمَ فِي النُّقُودِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تُقَوَّمُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَوْ كَانَ لِلتَّقْوِيمِ عِبْرَةٌ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ هَهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ». فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَيَظْهَرُ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُقَوَّمُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمُعْتَبَرِ فِيهِمَا الْوَزْنُ دُونَ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ فِي النَّصِّ ذِكْرَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْوَزْنِ مِنْ الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّنَانِيرِ وَزْنُ الْمِثْقَالِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَهُوَ الْوَزْنُ الْمَعْرُوفُ فِي الدَّرَاهِمِ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَأَصْلُهُ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَوْعَانِ مِنْ الدَّرَاهِمِ يُقَالُ لَهُمَا مَثَاقِيلُ وَخِفَافٌ فَلَمَّا أَرَادُوا فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ جَمَعُوا أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ وَجَعَلُوهُ دِرْهَمَيْنِ فَكَانَ وَزْنَ سَبْعَةٍ وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ صِفَةُ الدَّرَاهِمِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْجِيَادِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالزُّيُوفِ وَالْمُبَهْرَجَةِ وَالْمُكَحَّلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا يَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا، أَمَّا فِي السَّتُّوقَةِ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ غِشُّهُ عَلَى فِضَّتِهِ نُظِرَ إلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ مِنْ الْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَ وَزْنُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا وَمُرَادُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ لِلتِّجَارَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِقِيمَتِهَا كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ مِنْ الصُّفْرِ إذَا كَانَ لَا يَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِمَّا يَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفْتِي بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْغِطْرِيفِيَّةِ عَدَدًا وَكَانَ يَقُولُ هِيَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي (قَالَ:) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَرْضٌ أَوْ ثَمَنُ مَتَاعٍ كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَالِ دَيْنًا كَانَ بِتَصَرُّفِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَأْخِيرِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ لَا يَمْلِكُ التَّأْخِيرَ وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ مَمْلُوكٌ كَالْعَيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ فَإِذَا كَانَ النِّصَابُ دَيْنًا فَيَدُهُ مَقْصُورَةٌ عَمَّا هُوَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ مَا لَمْ تَصِلْ يَدُهُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ كَابْنِ السَّبِيلِ. ثُمَّ الدُّيُونُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: دَيْنٌ قَوِيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ كَانَ أَصْلُهُ لِلتِّجَارَةِ لَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ، وَدَيْنٌ وَسَطٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ لَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ، وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ مَا يَكُونُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَفِي الدَّيْنِ الْقَوِيِّ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ مَا لَمْ يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَبَضَ الْمِقْدَارَ أَدَّى دِرْهَمًا وَكَذَلِكَ كُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَفِي الدَّيْنِ الْمُتَوَسِّطِ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَفِي الدَّيْنِ الضَّعِيفِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَيَحُولُ الْحَوْلُ عِنْدَهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الدَّيْنَ نَوْعَانِ وَجَعَلَ الْوَسَطَ كَالضَّعِيفِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَكُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِقَدْرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مَا خَلَا دَيْنَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى عِنْدَهُمَا دَيْنَانِ الْكِتَابَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدُّيُونَ فِي الْمَالِيَّةِ كُلَّهَا سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُطَالَبَةَ تَتَوَجَّهُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ وَتَصِيرُ مَالًا بِالْقَبْضِ حَقِيقَةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّهَا وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ كَابْنِ السَّبِيل بِخِلَافِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لَا أَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَمِلْكُ الْمَالِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهِ ابْتِدَاءً فَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ صَاحِبُهُ أَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ الْمَالِيَّةُ فِيهِ عِنْدَ تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ فَلَا يَصِيرُ نِصَابُ الزَّكَاةِ مَا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ، وَالْحَوْلُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى نِصَابِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا مَا كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ فَمِلْكُ الْمَالِيَّةِ كَانَ تَامًّا فِي أَصْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَكِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ وَنِصَابُ الْأَدَاءِ يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا بَيَّنَّا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ وَأَمَّا بَدَلُ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ فَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إلَى أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 أَصْلَهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا شَرْعًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِلزَّكَاةِ فَهُوَ وَمَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَالًا عَلَى الْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ مَالٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمِنْ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ شَرْعًا فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ مِنْهُمَا، وَيُقَالُ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ فِي الْمَقْبُوضِ أَنْ يَكُونَ نِصَابُ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمِائَتَانِ وَيَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الْمَالِيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدَّيْنِ ابْتِدَاءً. وَفِي الْأُجْرَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةٍ جَعَلَهَا كَالْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَالِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَعَلَهَا كَبَدَلِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ أُجْرَةَ دَارِ التِّجَارَةِ أَوْ عَبْدَ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ مَتَاعِ التِّجَارَةِ كُلَّمَا قَبَضَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ اعْتِبَارًا لِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلِ الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ وَجَبَ لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أُوصِيَ لَهُ بِهِ فَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ جَعَلَهُ كَالدِّينِ الْوَسَطِ، وَقَالَ: إذَا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُورِثِ، وَقَدْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُورِثِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ، وَفِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ جَعَلَهُ كَالدِّينِ الضَّعِيفِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَلَكَهُ ابْتِدَاءً وَهُوَ دَيْنٌ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَقْبِضَ وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ ضَمَانَ قِيمَةِ عَبْدٍ أَعْتَقَ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَاخْتَارَ تَضْمِينَهُ فَهَذَا وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ بَيْعِهِ نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِشَرِيكِهِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ سِعَايَةً لَزِمَ ذِمَّةَ الْعَبْدِ بِعِتْقِ شَرِيكِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ هُوَ وَدَيْنُ الْكِتَابَةِ سَوَاءٌ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ، قِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ مُكَاتِبٌ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْمُسْتَسْعَى حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَعُذْرُهُمَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ صِلَةً فِي حَقِّهِ فَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ فَمَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ الزَّكَاةَ وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ مَحِلٌّ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَهُوَ بِتَصَرُّفِهِ حَوَّلَ حَقِّهِمْ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا وَكَانَ هَلَاكُ الْبَدَلِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا عَبْدُ الْخِدْمَةِ فَلَيْسَ بِمَحِلٍّ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ حَتَّى صَارَ هُوَ بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا مَحِلَّ حَقِّهِمْ فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ أَوْ بَقِيَ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 الْحَوْلُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالْأَلْفِ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ وَلَوْ أَبْدَلَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا بَادَلَ بِالدَّنَانِيرِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ حَتَّى لَا يَضُمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرَ فَهُوَ كَالسَّوَائِمِ، وَعِنْدَنَا هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ حَتَّى يَضُمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يُبَادِلُ بِهَا فِي خِلَالِ الْحَوْلِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ بِقِيمَةِ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ مُعَدٌّ لِلتَّقْلِيبِ وَالتَّصَرُّفِ بِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ مَصْرُوفًا إلَيْهِ فَأَمَّا الدَّارُ وَالْخَادِمُ فَمَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ فَلَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ. (قَالَ) فِي الْكِتَابِ أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمَالَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ حَاجَتَهُ بَلْ يَزِيدُ فِيهَا فَالدَّارُ تُسْتَرَمُّ وَالْعَبْدُ يُسْتَنْفَقُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمَا وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ تَحِلُّ لِلرَّجُلِ وَهُوَ صَاحِبُ عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، قِيلَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ: يَكُونُ لَهُ الدَّارُ وَالْخَادِمُ وَالْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ وَكَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ بَيْعِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ الْفَقِيهَ إذَا مَلَكَ مِنْ الْكُتُبِ مَا يُسَاوِي مَالًا عَظِيمًا وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ التَّاجِرِ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ وَفِيهِمْ الْمَلِيءُ وَغَيْرُ الْمَلِيءِ وَحَال الْحَوْلُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا مَلِيًّا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَزِمَهُ الْأَدَاءُ إذَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَمِنْ كَانَ مِنْهُمْ جَاحِدًا فَلَيْسَ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ مَالِ الضِّمَارِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا مُفْلِسًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ مَرَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَحَقَّقُ فَيَصِيرُ الْمَالُ تَاوِيًا وَمَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّفْلِيسَ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْمَالُ تَاوِيًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ التَّفْلِيسُ وَإِنْ كَانَ يَتَحَقَّقُ عِنْدِي وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهِ الدَّيْنُ إنَّمَا تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ فَهُوَ نَظِيرُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ الْمُؤَجَّلِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا وَإِنْ فَعَلَ كَانَ فَضْلًا كَمَنْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ حَوْلَانِ الْحَوْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 قَالَ:) وَلَيْسَ عَلَى التَّاجِرِ زَكَاةُ مَسْكَنِهِ وَخَدَمِهِ وَمَرْكَبِهِ وَكِسْوَةِ أَهْلِهِ وَطَعَامِهِمْ وَمَا يَتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ آنِيَةٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ وَفَرَسٍ وَمَتَاعٍ لَمْ يَنْوِ بِهِ التِّجَارَةَ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ الْمَالُ النَّامِي وَمَعْنَى النَّمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ بِدُونِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ يَشْتَرِيهَا لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهَا صُفْرٌ وَالصُّفْرُ لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ طَلَبِ النَّمَاءِ مِنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا اشْتَرَاهُ لِلنَّفَقَةِ. وَذَكَر بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الصَّبَّاغَ إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لِيَصْبُغَ بِهِمَا ثِيَابَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ فِيهِمَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عِوَضٌ عَنْ الصَّبْغِ الْقَائِمِ بِالثَّوْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ يُصَارُ إلَى التَّقْوِيمِ فَكَانَ هَذَا مَالُ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ إذَا اشْتَرَى الْحَوْضَ وَالصَّابُونَ وَالْقَلْيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ آلَةُ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا وَلَا يَبْقَى فِي الثَّوْبِ عَيْنُهُ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ الْآلَةِ، وَنَخَّاسُ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْجِلَالَ وَالْبَرَاقِعَ وَالْمَقَاوِدَ فَإِنْ كَانَ يَبِيعُهَا مَعَ الدَّوَابِّ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ الدَّوَابَّ بِهَا وَلَا يَبِيعُهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إذَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالشِّرَاءِ أَوْ الْإِعَارَةِ صَارَ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ اقْتَرَنَتْ بِعَمَلِ التِّجَارَةِ، وَلَوْ وَرِثَ مَالًا فَنَوَى بِهِ التِّجَارَةَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ فَالْمِيرَاثُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ قَبِلَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةُ فِي مَالٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا تَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونَةً بِعَمَلِ التِّجَارَةِ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: التِّجَارَةُ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ فَمَا لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ كَسْبُهُ فَيَصِحُّ اقْتِرَانُ نِيَّةِ التِّجَارَةِ بِفِعْلِهِ كَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ. (قَالَ:) وَمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَالِ لِلتِّجَارَةِ فَنَوَاهُ لِلْمِهْنَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا لِلْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَبِيدٌ لِلْخِدْمَةِ فَنَوَى التِّجَارَةَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَبِعْهُمْ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسَافِرِ يَنْوِي الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ يَنْوِي السَّفَرَ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى السَّفَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 [بَابُ الْعُشْرِ] قَالَ:) - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَاشِرُ مَنْ يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ وَتَأْمَنُ التُّجَّارُ بِمَقَامِهِ مِنْ اللُّصُوص، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَتَسْتَعْمِلُنِي عَلَى الْمَكْسِ مِنْ عَمَلِكَ، فَقَالَ: أَلَا تَرْضَى أَنْ أُقَلِّدَكَ مَا قَلَّدَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ ذَمِّ الْعُشَارِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ مَالَ النَّاسِ ظُلْمًا كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا دُونَ مَنْ يَأْخُذُ مَا هُوَ حَقٌّ وَهُوَ الصَّدَقَةُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْعَاشِرُ يَأْخُذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا نَصَّبَ الْعُشَارَ، قَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ رُبُعَ الْعُشْرِ وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ نِصْفَ الْعُشْرِ فَقِيلَ لَهُ: فَكَمْ نَأْخُذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْحَرْبِيُّ، فَقَالَ: كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا فَقَالُوا: الْعُشْرَ، فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ. وَفِي رِوَايَةٍ خُذُوا مِنْهُمْ مِثْلَ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا فَقِيلَ لَهُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْمُسْلِمُ حِينَ أَخْرَجَ مَالَ التِّجَارَةِ إلَى الْمَفَاوِزِ فَقَدْ احْتَاجَ إلَى حِمَايَةِ الْإِمَامِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لِأَجْلِ الْحِمَايَةِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ يَأْخُذُ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ لِحَاجَتِهِ إلَى حِمَايَتِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ بَلْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ طَمَعَ اللُّصُوصِ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَكْثَرُ وَأَبْيَنُ. (قَالَ:) وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَالْأَخْذُ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَسْنَا نَعْنِي بِهَذَا أَنَّ أَخَذْنَا بِمُقَابَلَةِ أَخْذِهِمْ فَأَخْذُهُمْ أَمْوَالِنَا ظُلْمٌ وَأَخْذُنَا بِحَقٍّ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّا إذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الْأَمَانِ وَاتِّصَالِ التِّجَارَاتِ وَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُمْ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْحَرْبِيِّ مَعَ الذِّمِّيِّ كَحَالِ الذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ لِلذِّمِّيِّ مِنَّا دَارًا دُونَ الْحَرْبِيِّ فَكَمَا يُضَعَّفُ عَلَى الذِّمِّيِّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ يُضَعَّفُ عَلَى الْحَرْبِيِّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ (قَالَ:) فَإِنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مَالًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِمَايَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا فِي بَيْتِهِ وَمَا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَارُّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فِي الْحَرْبِيِّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ هَكَذَا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالسِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونُوا هُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا مِنْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَنَحْنُ نَأْخُذُ أَيْضًا حِينَئِذٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ شَرْعًا وَعُرْفًا فَإِنْ كَانُوا يَظْلِمُونَنَا فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْقَلِيلِ فَنَحْنُ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَأْخُذُونَ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ مِنْ التُّجَّارِ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى غَدْرِ الْأَمَانِ وَإِذَا كَانَ الْمُرُورُ بِهِ نِصَابًا كَامِلًا أُخِذَ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ مِثْلُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا عُشْرًا كَانَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ (قَالَ:) فَإِنْ ادَّعَى الْمُسْلِمُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُحِيطُ بِمَالِهِ أَوْ إنْ حَوَّلَهُ لَمْ يَتِمَّ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا حَلَفَ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي السَّوَائِمِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لِي، صَدَّقَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ إذَا حَضَرَهُ الْمَالِكُ وَالْمِلْكُ فَكَمَا أَنَّ حُضُورَ الْمَالِكِ بِدُونِ الْمِلْكِ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ فَكَذَلِكَ حُضُورُ الْمِلْكِ بِدُونِ الْمَالِكِ وَلِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ فَوَّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ دُونَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلْعَاشِرِ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ الزَّكَاةِ (قَالَ:) وَيَصَدَّقُ الذِّمِّيُّ أَيْضًا فِيمَا يَصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَأَمَّا الْحَرْبِيِّ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: لَمْ يَتِمَّ الْحَوْلُ فَفِي الْأَخْذُ مِنْهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمَقَامِ فِي دَارِنَا حَوْلًا، وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُطَالِبُ بِهِ فِي دَارِنَا، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ مَا دَخَلَ دَارَنَا إلَّا لِقَصْدِ التِّجَارَةِ فَمَا مَعَهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ لِغُلَامٍ فِي يَدِهِ هَذَا وَلَدِي أَوْ لِجَارِيَةٍ فِي يَدِهِ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ تَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ فَتَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ فِيهِمَا بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُ: دَفَعْتُ صَدَقَتَهَا إلَى الْمَسَاكِينِ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَانَ الدَّفْعُ إلَى الْمَسَاكِينِ مُفَوَّضًا إلَيْهِ قَبْلَ الْمُرُورِ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، وَفِي السَّوَائِمِ كَانَ حَقُّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ (قَالَ:) وَلَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُكَاتِبُ وَالْيَتِيمُ، وَإِنْ كَانَ وَصِيُّهُ مَعَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتِبِ وَلَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ (قَالَ:) وَإِذَا أَخْبَرَ التَّاجِرُ الْعَاشِرَ أَنَّ مَتَاعَهُ مَرْوِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَاتَّهَمَهُ الْعَاشِرُ، وَفِي فَتْحِهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ حَلَّفَهُ وَأَخَذَ الصَّدَقَةَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِضْرَارِ بِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِعُمَّالِهِ لَا تُفَتِّشُوا عَلَى النَّاسِ مَتَاعَهُمْ، ثُمَّ لَوْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 صَدَّقَهُ مَعَ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ لَوْ أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ (قَالَ:) وَالتَّغْلِبِيُّ وَالذِّمِّيُّ فِي الْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ (قَالَ:) وَإِنْ أُخِذَ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى مَا دَامَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصْرَانِيًّا خَرَجَ بِفَرَسٍ مِنْ الرُّومِ لِيَبِيعَهُ فِي دَارِنَا فَأَخَذَ مِنْهُ الْعَاشِرُ الْعُشْرَ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعُهُ فَلَمَّا عَادَ بِهِ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ طَالَبَهُ الْعَاشِرُ بِعُشْرِهِ، فَقَالَ: إنِّي كُلَّمَا مَرَرْتُ عَلَيْكَ لَوْ أَدَّيْتُ إلَيْكَ عُشْرَهُ لَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَتَرَكَ الْفَرَسَ عِنْدَهُ وَجَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ يَنْظُرُونَ فِي كِتَابٍ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنَفِيُّ فَمَا وَرَاءَكَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَعَادَ عُمَرُ إلَى مَا كَانَ فِيهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى كَلَامِهِ فَرَجَعَ عَازِمًا عَلَى أَدَاءِ الْعُشْرِ ثَانِيًا فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْعَاشِرِ إذَا كِتَابُ عُمَرَ سَبَقَهُ أَنَّكَ إنْ أَخَذْتَ مَرَّةً فَلَا تَأْخُذُ مَرَّةً أُخْرَى. (قَالَ) النَّصْرَانِيُّ: إنَّ دِينًا يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَأَسْلَمَ. وَلِأَنَّ تَجَدُّدَ حَقِّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْحَوْلِ وَالْحَرْبِيِّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا حَوْلًا، قَالَ فِي الْكِتَابِ: إلَّا أَنْ يَتَجَدَّدَ الْحَوْلُ، وَمُرَادُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِحَالِهِ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَانِيًا لِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ كَمَا يَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ (قَالَ:) فَإِنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ عَشَّرَهُ ثَانِيَةً، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ الْتَحَقَ بِحَرْبِيٍّ لَمْ يَدْخُلْ دَارَنَا قَطُّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الدُّخُولِ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ لِأَجْلِ الْأَمَانِ، وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ بِرُجُوعِهِ فَدُخُولُهُ ثَانِيًا يَكُونُ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ (قَالَ:) وَإِذَا مَرَّ الْعَبْدُ بِمَالٍ مَوْلَاهُ يَتَّجِرُ بِهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ الْعُشْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى حَاضِرًا، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ بِضَاعَةً فِي يَدِ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ كَمَا لَوْ كَانَ بِضَاعَةً مَعَ أَجْنَبِيٍّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ كَسْبَ الْعَبْدِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مَعَهُ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَعَهُ فَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَقُولُ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ يَأْخُذُ مِنْهُ رُبُعَ الْعُشْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي الْمُضَارِبِ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا: يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا أَعْلَمُهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ أَمْ لَا، وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارِبِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْعَبْدِ شَيْئًا أَيْضًا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ حَقٌّ قَوِيٌّ يُشْبِهُ الْمِلْكَ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَإِذَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ نَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ فَكَانَ حُضُورُ الْمُضَارِبِ كَحُضُورِ الْمَالِكِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِي الْمَالِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَالْأَجِيرِ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ التِّجَارَةَ فِي الْمَالِ لَا أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ تَسْتَدْعِي نِيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ الثَّانِي فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ أَيْضًا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْعَبْدِ فَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا لَحِقَتْهُ الْعُهْدَةُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ فِي أَدَاءِ مَا يَجِبُ فِي كَسْبِهِ كَالْمَالِكِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّهُ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ (قَالَ): وَإِذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ وَمَعَهُ بَرَاءَةٌ بِغَيْرِ اسْمِهِ يَقُولُ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ عَاشِرِ كَذَا مَرَّ بِهِ رَجُلٌ كَانَ هَذَا الْمَالُ مَعَهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ فَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَفَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ وَهُوَ أَمِينٌ فَيُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى الْمَسَاكِينِ (قَالَ:)، وَإِنْ مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فَعَشَّرَهُ لَمْ يَحْسِبْهُ لَهُ عَاشِرُ أَهْلِ الْعَدْلِ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ مِنْ زَكَاتِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ لَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ وَلَا يَصْرِفُونَهُ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ، وَصَاحِبُ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَرَضَ مَالَهُ لِلْأَخْذِ بِالْمُرُورِ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ (قَالَ:) وَلَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَا الْحَجُّ وَلَا قَضَاءُ دَيْنِ مَيِّتٍ وَلَا تَكْفِينُهُ وَلَا بِنَاءُ مَسْجِدٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ فِعْلُ الْإِيتَاءِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيتَاءُ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَكُلُّ قُرْبَةٍ خَلَتْ عَنْ التَّمْلِيكِ لَا تُجْزِي عَنْ الزَّكَاةِ وَإِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فَإِنَّ مَا يُنْفِقُهُ الْحَاجُّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَحَجَّ رَجُلًا فَالْحَاجُّ يُنْفِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَيِّتُ شَيْئًا وَمَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَا مِنْ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ أَحَدٍ (قَالَ:) وَلَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ كَافِرٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ دَفْعَهَا إلَى الذِّمِّيِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ عَلَى طَرِيقِ التَّقَرُّبِ، وَقَدْ حَصَلَ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الدَّفْعِ إلَى فُقَرَاءِ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ. (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَيِّنَ بِهِ حَاجًّا مُنْقَطِعًا أَوْ غَازِيًا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ يَحْصُلُ بِهِ وَالْمُكَاتَبُ مِنْ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ بِالنَّصِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {، وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ أَيْضًا، ثُمَّ هُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْن السَّبِيلِ، وَابْنُ السَّبِيلِ مِنْ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ، وَكَذَلِكَ يُقْضَى دَيْنُ مُغَرَّمٍ بِأَمْرِهِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْضَى دَيْنُهُ بِأَمْرِهِ بِمِلْكِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا قَضَاهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ التَّمْلِيكِ مِنْهُ (قَالَ): وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ الْوَاجِبِ جِنْسًا آخَرَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْ الْعُرُوضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:)، وَإِنْ أَعْطَى مِنْ جِنْسِ مَالِهِ وَكَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. بَيَانُهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَبَهْرَجَةٌ فَأَدَّى مِنْهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جِيَادًا تَبْلُغُ قِيمَتُهَا خَمْسَةً نَبَهْرَجَةً لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيمَةِ وَفَاءٌ بِالْوَاجِبِ وَلَا رِبًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةٌ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، وَأَدَاءُ أَرْبَعَةٍ جِيَادٍ كَأَدَاءِ أَرْبَعَةٍ نَبَهْرَجَةٍ فَلَا تُجْزَيْهِ إلَّا عَنْ مِثْلِ وَزْنِهِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ يَنْوِي أَنْ يَكُونَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ مِقْدَارِ الدَّيْنِ إنْ كَانَ الْمَدْيُونُ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ الْعَيْنُ جُزْءٌ مِنْهُ وَالدَّيْنُ أَنْقُصُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْ الْعَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ يَدِهِ بِحِسَابِ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ أَدَاءُ زَكَاةِ الدَّيْنِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى رَجُلٍ وَخَمْسَةٌ عَلَى فَقِيرٍ فَأَبْرَأهُ مِنْ تِلْكَ الْخَمْسَةِ يَنْوِي بِهِ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَمَا أَبْرَأَ الْفَقِيرَ مِنْهُ لَا يَتَعَيَّنُ فَكَأَنَّ دُونَهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَلِأَنَّ مُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَا تَجُوزُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ مِنْ كُلِّ دَيْنٍ جُزْءٌ مِنْهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ عَلَى الْفَقِيرِ فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ يَنْوِي عَنْ زَكَاةِ ذَلِكَ الدَّيْنِ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ، وَقَدْ أَوْصَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَجُوزُ وَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ الْعَيْنَ كُلَّهُ مِنْ الْفَقِيرِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَنِيًّا فَوَهَبَ لَهُ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ قَالَ فِي الْجَامِعِ: يَضْمَنُ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ، وَقَالَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ: لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَنْبَنِي عَلَى الْقَبْضِ وَهُوَ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ، قَالَ: صَارَ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِمَا صَنَعَ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 عَلَيْهِ فِي مَالٍ عَيْنٍ فَوَهَبَهُ لِغَنِيٍّ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ بِتَصَرُّفِهِ يُجْعَلُ قَابِضًا حُكْمًا كَالْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا. وَأَمَّا مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ زَكَاةُ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ نِصَابًا أَوْ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا. وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ: قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَقَوْلٌ إنَّ زَكَاةَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَحَقِّهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ الرِّبْحُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ، وَزَكَاةُ الْأَصْلِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ التَّبَعُ، وَقَوْلٌ آخَرُ إنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ يُسَلِّمُ لَهُ إنْ بَقِيَ كُلُّهُ وَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ إنْ هَلَكَ بَعْضُهُ فَهُوَ نَظِيرُ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِطَرِيقِ الْجَعَالَة لَا بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ وَلَا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْجَعَالَةُ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالْعِمَالَةِ لِعَامِلِ الصَّدَقَاتِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ فَكَمَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ الْعَمَلُ وَرَأْسَ مَالِ الثَّانِي الْمَالُ وَالرِّبْحُ يَحْصُلُ بِهِمَا فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ، وَقَدْ نَصَّا فِي الْعَقْدِ عَلَى هَذَا وَتَنْصِيصُهُمَا مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْقِسْمَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ نَصِيبُهُ وَلَا حُكْمَ لِلشَّرِكَةِ إلَّا هَذَا، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا لَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ هُنَا، وَالرِّبْحُ مَوْجُودٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي نَصِيبِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الرَّقِيقِ. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ حَتَّى إنَّ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَمَّا كَانَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ (قَالَ): وَيَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْحَرْبِيِّ إذَا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ مَالِ صِبْيَانِنَا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَنُعَامِلُهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا دُونَ النِّصَابِ (قَالَ:) وَإِذَا مَرَّ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ بِالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْعِنَبِ وَالتِّينِ قَدْ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ يُعَشِّرْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ بِنَفْسِهِ وَعِنْدَهُمَا يُعَشِّرُهُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعَاشِرُ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ فَيَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يَأْخُذُ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ لِحَاجَةِ صَاحِبِ الْمَالِ إلَى حِمَايَتِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَرْفَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَبْقَى حَوْلًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَمُرَّ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ مَرَّ عَلَيْهِ بِمَا دُونَ النِّصَابِ، وَقَالَ: فِي بَيْتِي مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ. وَالثَّانِي - أَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ فُقَرَاءُ لِيَصْرِفَهُ إلَيْهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّخِرَهُ إلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْفُقَرَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْسُدُ فَقُلْنَا لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ مَنْ يَصْرِفُ إلَيْهِمْ الْمَأْخُوذَ (قَالَ): وَإِنْ مَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِلتِّجَارَةِ عَشَّرَ الْخَمْرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَلَمْ يُعَشِّرْ الْخَنَازِيرَ، وَرَوَاهُ فِي الْخَمْرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَكَانَ مَسْرُوقٌ يَقُولُ: يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَنَازِيرِ وَحْدَهَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ مَرَّ بِهَا مَعَ الْخَمْرِ أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعًا مِنْ الْقِيمَةِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْخَنَازِيرَ فِي هَذَا تَبَعًا لِلْخَمْرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِ فِي وَقْفِ الْمَنْقُولِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا تَبَعًا لِلْعَقَارِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لَهُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ: وُلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، ثُمَّ الْخَمْرُ عَيْنٌ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَبْلَ التَّخْمِيرِ كَانَ مَالًا وَهُوَ بِعَرْضِ الْمَالِيَّةِ إذَا تَخَلَّلَ بِخِلَافِ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَرْضِيَّةُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَاشِرُ مُسْلِمٌ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْهَا (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ مَكَثَتْ عِنْدَهُ أَشْهُرًا، ثُمَّ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا، قَالَ: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ رُجُوعِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحَوْلِ إلَّا بِمَحِلٍّ. (قَالَ): وَإِنْ مَكَثَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ، أَمَّا عَلَى الْوَاهِبِ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ فِي الْحَوْلِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِبَارِهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ رُجُوعُ الْوَاهِبِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِقَضَاءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْفُقَرَاءِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالْمَوْهُوبِ يَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ جَعَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَرْهُونًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرُّجُوعَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيَضْمَنُ الزَّكَاةَ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَرَضِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ وَفِي مِثْلِهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ نَظَرَ لِنَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَرَ فِي الْخُصُومَةِ فَائِدَةً فَلَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ (قَالَ:) وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ طَعَامًا فَبَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَهُ فَجَاءَ الْعَاشِرُ وَالطَّعَامُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ عُشْرَ الطَّعَامِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْحَبَّ يَنْبُتُ عَلَى الْحَقَّيْنِ عُشْرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ لِلْمَالِكِ فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مِقْدَارِ الْعُشْرِ فَكَانَ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي يَجِبُ إيتَاءُ الْعُشْرِ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَيْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَبْطُلُ الْحَقُّ عَنْهُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ لِإِتْلَافِهِ مَحِلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ (قَالَ): وَإِذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ قَدْ أَدْرَكَ فَعُشْرُ الزَّرْعِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّرْعِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَفْسِ الْخُرُوجِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْإِدْرَاكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالِاسْتِحْكَامِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَهُوَ نَمَاءُ أَرْضِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرُهُ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ عِوَضًا عَمَّا أَعْطَى مِنْ الثَّمَنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ بَاعَهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَعُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا حَصَدَهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي الْحَبِّ وَانْعِقَادُهُ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ نَمَاءُ أَرْضِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عُشْرُ مِقْدَارِ الْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ النَّمَاءِ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ، أَمَّا عُشْر الْحَبِّ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ الزَّرْعَ وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قَصِيلٌ فَإِنْ قَصَلَهُ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ فَالْعُشْرُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ وَغَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَطْلُعُ فَإِنْ قَطَعَهُ الْمُشْتَرِي فَالْعُشْرُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ حَتَّى أُدْرِكَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عُشْرُ مِقْدَارِ الطَّلْعِ وَالْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَحَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بِانْعِقَادِ الْحَبِّ وَإِدْرَاكِ الثِّمَارِ يَزْدَادُ النَّمَاءُ فَيَزْدَادُ الْوَاجِبُ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْحَبُّ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِذَا انْعَقَدَ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَانْعِقَادُهُ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا كَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ (قَالَ): وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعُشْرَ مَحِلُّهُ الْخَارِجُ وَالزَّكَاةُ مَحِلُّهَا عَيْنُ مَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ الْأَرْضُ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: عُشْرُ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمَالِ النَّامِي وَهِيَ الْأَرْضُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ مِلْكِ مَالٍ وَاحِدٍ حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا تَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالٍ وَاحِدٍ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قُلْنَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ صَارَ وَظِيفَةً لَازِمَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَسْبِقُ ثُبُوتًا مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ وُجُوبُهَا بِنِيَّتِهِ، فَلِهَذَا بَقِيَتْ عُشْرِيَّةً وَخَرَاجِيَّةً كَمَا كَانَتْ (قَالَ:) وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ زَكَّاهَا مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الدَّارِ حَقٌّ آخَرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهِيَ وَسَائِرُ الْعُرُوضِ سَوَاءٌ (قَالَ:) وَلَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ: يَجِبُ أَدَاءُ الْعُشْرِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا مَعَ الْخَرَاجِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْتَدَلَّا فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مَعَ الْخَرَاجِ حَقَّانِ اخْتَلَفَا مَحِلًّا وَمُسْتَحَقًّا وَسَبَبًا، فَإِنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ مَصْرُوفٌ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَالْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مَصْرُوفٌ إلَى الْفُقَرَاءِ فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ، ثُمَّ الْخَرَاجُ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ لِلْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْأَرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً وَوُجُوبُ الْأُجْرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ. وَجْهُ قَوْلِنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ الْعُشْرَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ مَعَ كَثْرَةِ احْتِيَالِهِمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكَفَى بِالْإِجْمَاعِ حُجَّةً، ثُمَّ الْخَرَاجُ وَالْعُشْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُؤْنَتَانِ بِسَبَبِ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَسَبَبُهُمَا لَا يَجْتَمِعُ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فَتْحُ الْأَرْضِ عَنْوَةً وَثُبُوتُ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ إسْلَامُ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الْبَلْدَةَ طَوْعًا وَعَدَمُ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ السَّبَبَانِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمَانِ جَمِيعًا (قَالَ): رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ قَدْ أَدْرَكَ زَرْعَهَا قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ لِغَيْرِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ السَّائِمَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا دُونَ الْفِعْلِ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَبْقَى مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ، وَالْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مُسْتَحَقًّا بِبَقَاءِ الْمَالِ فَلِهَذَا سَقَطَ بِالْمَوْتِ (قَالَ:) رَجُلٌ لَهُ رَطْبَةٌ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ وَهِيَ تُقْطَعُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ: يَأْخُذُ مِنْهَا الْعُشْرَ كُلَّمَا قُطِعَتْ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إيجَابِ الْعُشْرِ فِي الرَّطْبِ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَمَقْصُودُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَوْلَ لَا يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ وَالْحَوْلُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَوْلِ لَتَحَقُّقِ النَّمَاءِ فِي السَّوَائِمِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْعُشْرُ لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا هُوَ نَمَاءٌ مَحْضٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْعِنَبِ يَبِيعُهُ مَرَّةً عِنَبًا وَمَرَّةً عَصِيرًا وَمَرَّةً زَبِيبًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ أُخِذَ الْعُشْرُ فِي جَمِيع ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَابَى فِيهِ مُحَابَاةً فَاحِشَةً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعُشْرَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَفِيمَا لَا يَبْقَى أَوْ لَا يَبْقَى، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَبْقَى فَيُنْظَرُ إلَى هَذَا الْعِنَبِ فَإِنْ كَانَ مِقْدَارٌ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَوْ أَكْثَرُ يَجِبُ الْعُشْرُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَالِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ عِنَبًا رَطْبًا رَقِيقًا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْمَاءِ وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 قَالَ): رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَدَافَعَهُ سِنِينَ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، ثُمَّ أَعْطَاهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا مَضَى، وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ " دَافَعَهُ " أَيْ أَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ نُسَخٍ لِزَكَاةٍ فَكَابَرَهُ بِهِ سِنِينَ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُحُودِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَجْحُودَ ضِمَارٌ وَلَا زَكَاةَ فِي الضِّمَارِ، وَفِي قَوْلِهِ " وَلَيْسَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بَيِّنَةٌ فَلَمْ يُقِمْهَا سِنِينَ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ قِبَلِهِ جَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ (قَالَ): رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ، ثُمَّ قَبَضَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا فِيمَا مَضَى زَكَاةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ وَلَا عَلَى الزَّوْجِ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهَا زَكَاةُ الْأَلْفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السَّوَائِمِ فَفِي النُّقُودِ مِثْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهَا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ عَنْهَا زَكَاةُ النِّصْفِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ بِالتَّعْيِينِ فَعِنْدَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهَا رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ وَاسْتِحْقَاقُ مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، وَعِنْدَنَا النُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَعِنْدَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ إنَّمَا عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ دَيْنًا لِلزَّوْجِ فَهَذَا دَيْنٌ لَحِقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ (قَالَ:) وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِ الشَّرِيكَيْنِ الْمُفَاوِضَيْنِ فَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةَ جَمِيعِ الْمَالِ فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ ضَمِنَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ صَارَ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَمَرَ صَاحِبَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يُؤَدِّيَا مَعًا، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِنْ أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِمَّا أَدَّى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَضْمَنْ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُؤَدَّيْ أَوَّلًا مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَيَضْمَنُ الْمُؤَدَّيْ آخِرًا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِمَّا أَدَّى فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ صَاحِبِهِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا، هَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي الزِّيَادَاتِ يَقُولُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ شَرِيكِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ يَعْتِقُ الْعَبْدُ عَنْ الظِّهَارِ إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا كَفَّرَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِيَ الْعَبْدُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ سَوَاءً عَلِمَ بِتَكْفِيرِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَدَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الزَّكَاةِ بِنَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْعَزْلِ وَنَظِيرُهُ لِوَكِيلٍ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا قَضَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَضَى الْوَكِيلُ فَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ قَالَ: هُوَ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الْفَقِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ صَدَقَةً وَقُرْبَةً، وَأَدَاءُ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ لَا يَنْفِي هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي الْأَدَاءِ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ قَضَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ الدَّيْنَ فَكَانَ قَضَاؤُهُ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ أَدَّى غَيْرَ الزَّكَاةِ فَكَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا، أَنَّ بَيَانَهُ مُوجِبُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَقَدْ سَقَطَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إسْقَاطُهُ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ وَكَانَ أَدَاءُ الْمُوَكِّلِ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ الْمَحِلِّ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَالْوَكِيلِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَ الْمُوَكِّلُ الْعَبْدَ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَدَّى مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ بِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَلَمْ يَكُنْ أَدَاؤُهُ مُوجِبًا عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ نُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِجَهْلِهِ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ لَا يَلْحَقُ الْمُوَكِّلَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَيَضْمَنُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَهُنَا لَوْ لَمْ نُوجِبْ الضَّمَانَ أَدَّى إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَا تَضْمِينِهِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ بِكُلِّ حَالٍ (قَالَ): رَجُلٌ دَفَنَ مَالِهِ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ فَنَسِيَهُ حَتَّى مَضَى عَلَى ذَلِكَ سُنُونَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَنَهُ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ حِرْزٌ فَالْمَدْفُونُ فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ حُكْمًا، وَقِيَامُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ تَاوِيًا فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ فَانْعَدَمَ بِهِ يَدُهُ حِينَ عَدِمَ طَرِيقَ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ فَكَانَ تَاوِيًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَدْفُونَ فِي بَيْتِهِ يَتَيَسَّرُ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِنَبْشِ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ إنْسَانٍ، ثُمَّ نَسِيَهُ إنْ كَانَ الْمُودَعُ مِنْ مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إنْ تَذَكَّرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لِمَا بَيَّنَّا مِنْ تَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَتَعَذُّرِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 [بَابُ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا] اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعَادِنِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، وَمِنْهَا جَامِدٌ لَا يَذُوبُ بِالذَّوْبِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزَّرْنِيخِ، وَمِنْهَا مَائِعٌ لَا يَجْمُدُ كَالْمَاءِ وَالزِّئْبَقِ وَالنِّفْطِ. فَأَمَّا الْجَامِدُ الَّذِي يَذُوبُ بِالذَّوْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَالنِّصَابُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ حَتَّى إذَا كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَفِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لَهُ وَجْهَانِ. حُجَّتُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ وَهِيَ يُؤْخَذُ مِنْهَا رُبُعُ الْعُشْرِ» إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَمْ تُحْرِزْهُ يَدٌ قَطُّ فَكَانَ لِمَنْ وَجَدَهُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْمُبَاحَاتِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ التَّقَوُّمُ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ فَكَانَتْ لِلْمُحْرِزِ إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمَا دُونَ سَائِرِ الْجَوَاهِرِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ تَكْمِيلُ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ قَالَ: كَمْ مِنْ حَوْلٍ مَضَى عَلَى هَذَا الْعَيْنِ قَبْلَ أَخْذِهِ وَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِحُصُولِ النَّمَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ نَمَاءٌ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَنْزِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَوَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ وَلَمْ يُؤْخَذْ لِخَفَاءِ مَكَانِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْآنَ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مِنْ الْمَعْدِنِ فَحَادِثٌ يَحْدُثُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدٍ فَهُوَ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ. (وَأَصْحَابُنَا) احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» وَاسْمُ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلُ الْكَنْزَ وَالْمَعْدِنَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِثْبَاتِ يُقَالُ رَكَّزَ رُمْحَهُ فِي الْأَرْضِ إذَا أَثْبَتَهُ وَالْمَالُ فِي الْمَعْدِنِ مُثْبَتٌ كَمَا هُوَ فِي الْكَنْزِ، وَلَمَّا «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرِّكَازُ قَالَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَيْنِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَهَا». وَلَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُوجَدُ فِي الْخَرِبِ الْعَادِي قَالَ: فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» فَعَطَفَ الرِّكَازَ عَلَى الْمَدْفُونِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مَالٌ نَفِيسٌ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الْأَرْضِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْكَنْزِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ الْخُمْسُ فِي الْكَنْزِ مَوْجُودٌ فِي الْمَعْدِنِ فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 تَحْدُثُ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ عُرُوقٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَقَعَتْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ فَتَعَلَّقَ حَقُّ مَصَارِفِ الْخُمْسِ بِتِلْكَ الْعُرُوقِ فَيَثْبُتُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَكَانَ هَذَا وَالْكَنْزُ سَوَاءً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ يَسْتَوِي إنْ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمْسُ وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْوَاجِدِ سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ أَوْ أَرْضِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا فَإِنَّ الصَّبَّ وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمَرْأَةَ يَرْضَخُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا وَلَا يَبْلُغُ بِنَصِيبِهِمْ السَّهْمَ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ، وَهُنَا لَا مُزَاحِمَ لِلْوَاجِدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يُعْتَبَرَ التَّفَاضُلُ فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي لَهُ. وَاَلَّذِي رَوَى أَنَّ عَبْدًا وَجَدَ جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَدَّى ثَمَنَهُ مِنْهُ وَأَعْتَقَهُ وَجَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ وَجَدَهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَكَانَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ فَلِهَذَا صَرَفَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُعْطِيَ ثَمَنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيُوَصِّلَهُ إلَى الْعِتْقِ وَأَمَّا الْجَامِدُ الَّذِي لَا يَذُوبُ بِالذَّوْبِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي الْحَجَرِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنِهِ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلِّ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الذَّائِبُ الَّذِي لَا يَتَجَمَّدُ أَصْلًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ وَالنَّاسُ شُرَكَاءُ فِيهِ شَرْعًا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكِلَاءِ وَالنَّارِ» فَمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ يَفُورُ مِنْ عَيْنِهِ وَلَا يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ وَلَا يَتَجَمَّدُ كَانَ مُلْحَقًا بِالْمَاءِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ (قَالَ): وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ فِي الْمَعَادِنِ يَوْمًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ مِنْ الْغَدِ فَعَمِلَ فِيهَا حَتَّى أَصَابَ الْمَالَ أَخَذَ مِنْهُ خُمُسَهُ وَالْبَاقِي لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِدَ هُوَ الثَّانِي، وَالْمَعْدِنُ لِمَنْ وَجَدَهُ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحَافِرٌ لِلْأَرْضِ لَا وَاجِدٌ لِلْمَعْدِنِ وَبِحَفْرِ الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعْدِنَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ، وَالْأَوَّلُ كَالْمُثِيرِ وَالثَّانِي كَالْآخِذِ فَكَانَ الْمَأْخُوذُ لَهُ (قَالَ): وَلَيْسَ فِي السَّمَكِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَنْبَرِ الْخُمُسُ، وَكَذَلِكَ فِي اللُّؤْلُؤِ عِنْدَهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. أَمَّا السَّمَكُ فَهُوَ مِنْ الصَّيُودِ، وَلَيْسَ فِي صَيْدِ الْبَرِّ شَيْءٌ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ. وَأَمَّا الْعَنْبَرُ وَاللُّؤْلُؤُ فَقَدْ احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا رُوِيَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْأَلُهُ عَنْ عَنْبَرٍ وُجِدَ عَلَى السَّاحِلِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَفِيهِ الْخُمُسُ، وَلِأَنَّ نَفِيسَ مَا يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ مُعْتَبَرٌ بِنَفِيسِ مَا يُوجَدُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ اسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَنْبَرِ: إنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَيْشِ دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ فَيُصِيبُونَ الْعَنْبَرَ فِي السَّاحِلِ، وَعِنْدَنَا فِي هَذَا الْخُمْسُ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، ثُمَّ وُجُوبُ الْخُمْسِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الرِّكَازِ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْمَوْجُودِ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَمَا فِي الْبَحْرِ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ قَطُّ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا: لَوْ وُجِدَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ لَمْ يَجِبْ فِيهِمَا شَيْءٌ. ثُمَّ النَّاسُ تَكَلَّمُوا فِي اللُّؤْلُؤِ فَقِيلَ: إنَّ مَطَرَ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا فَعَلَى هَذَا أَصْلُهُ مِنْ الْمَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّ الصَّدَفَ حَيَوَانٌ تَخَلَّقَ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ، وَلَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ شَيْءٌ وَهُوَ نَظِيرُ ظَبْيِ الْمِسْكِ يُوجَدُ فِي الْبَرِّ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَنْبَرُ فَقِيلَ أَنَّهُ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي الْبَحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ فِي الْبَرِّ، وَقِيلَ: إنَّهُ شَجَرَةٌ تَتَكَسَّرُ فَيُصِيبُهَا الْمَوْجُ فَيُلْقِيهَا عَلَى السَّاحِلِ، وَلَيْسَ فِي الْأَشْجَارِ شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ خَثَى دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ، وَلَيْسَ فِي أَخْثَاءِ الدَّوَابِّ شَيْءٌ (قَالَ): وَلَيْسَ فِي الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ أَوْ الْجَبَلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جَامِدٌ لَا يَذُوبُ بِالذَّوْبِ وَلَا يَنْطَبِعُ بِالطَّبْعِ كَالتُّرَابِ، وَلَيْسَ فِي التُّرَابِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ وَلِأَنَّهُ حَجَرٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَجَرِ صَدَقَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْحَجَرِ أَضْوَأَ مِنْ بَعْضٍ وَأَمَّا الزِّئْبَقُ إذَا أُصِيبَ فِي مَعْدِنِهِ فَفِيهِ الْخُمُسُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا شَيْءَ فِيهِ وَحَكَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ: لَا شَيْءَ فِيهِ وَكُنْتُ أَقُولُ فِيهِ الْخُمُسُ فَلَمْ أَزَلِ بِهِ أُنَاظِرُهُ وَأَقُولُ أَنَّهُ كَالرَّصَاصِ حَتَّى قَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ الْخُمُسُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ لَا شَيْءَ فِيهِ قَالَ: لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ عَيْنِهِ وَلَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْخُمُسَ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ يَجِبُ فِيهَا الْخُمُسُ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): إذَا وَجَدَ الرَّجُلُ الرِّكَازَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُ قَدِيمٌ فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِ الْفَلَاةِ فَفِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الْخُمُسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدِّرْهَمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا، أَوْ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّرْكِ كَالصَّنَمِ وَالصَّلِيبِ فَحِينَئِذٍ فِيهِ الْخُمُسُ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ فَهُوَ لُقَطَةٌ» تُعَرَّفُ وَمَا يُوجَدُ فِي الْخَرَابِ الْعَادِي فَفِيهِ «، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّرْكِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِ لَا يُغْنَمُ وَالْمَوْجُودُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ كَالْمَوْجُودِ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا فَهُوَ لُقَطَةٌ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ قَدْ تَقَادَمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا دَفَنَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ حُرًّا أَوْ مُسْلِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَعْدِنِ فَكَذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الرِّكَازِ (قَالَ:) وَإِنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: أَنَا وَضَعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ سَاكِنًا فِي الدَّارِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شِرَاءٍ وَصَاحِبُ الْخُطَّةِ هُوَ الَّذِي أَصَابَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ بِالْقِسْمَةِ حِينَ اُفْتُتِحَتْ الْبَلْدَةُ فَسُمِّيَ صَاحِبَ الْخُطَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَخُطُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ حَيِّزًا لِيَكُونَ لَهُ فَإِنْ كَانَ هُوَ بَاقِيًا أَوْ وَارِثُهُ دَفَعَ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِأَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ وَأَجْعَلُ الْمَوْجُودَ فِي الدَّارِ وَالْأَرْضِ كَالْمَوْجُودِ فِي الْمَفَازَةِ بِعِلَّةِ أَنَّ الْوَاجِدَ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَحَازَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْإِمَامَ قَدْ مَلَّكَهُ صَاحِبَ الْخُطَّةِ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ عَادِلٌ فِي الْقِسْمَةِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُمَلَّكًا لِلْكَنْزِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا هَذَا مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَدَهَا فِي خَرِبَةٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إنْ وَجَدْتَهَا فِي أَرْضٍ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا قَوْمٌ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ، وَإِنْ وَجَدْتَهَا فِي أَرْضٍ لَا يُؤَدِّي خَرَاجَهَا أَحَدٌ فَخُمُسُهَا لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَكَ، وَهَذَا مُرَادُ مُحَمَّدٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا قِيَاسُ الْأَثَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْبُقْعَةَ بِالْحِيَازَةِ فَمَلَكَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي مِنْهُ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ فَيَمْلِكُ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فَوَجَدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فِي بَطْنِهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى سَمَكَةً وَإِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ ثُمَّ الْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَلَا نَقُولُ الْإِمَامُ يُمَلِّكُهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ بَلْ يَقْطَعُ مُزَاحِمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ عَنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَتَقَرُّرُ يَدِهِ فِي الْمَحِلِّ يُوجِبُ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَحِلِّ فَصَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْحِيَازَةِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ (قَالَ): مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ رِكَازًا فَإِنْ كَانَ وَجَدَهُ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رَدَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ قَدْ ضَمِنَ بِعَقْدِ الْأَمَانِ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي أَخْذِهِ غَادِرًا بِهِمْ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَلَيْسَ فِيهِ خُمُسٌ؛ لِأَنَّ الْخُمُسَ فِيمَا كَانَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فَهُوَ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ خُمُسٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: فِيهِ الْخُمُسُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَجْهَ قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدِنَ، ثُمَّ قَاسَهُ بِالْمَوْجُودِ فِي الْفَلَاةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَالٌ نَفِيسٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَقَدْ كَانَتْ عَزُوفَةً فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْمَعْدِنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مِلْكِهِ وَسَائِرِ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا فَكَذَلِكَ هَذَا الْجُزْءُ بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ فِي الْفَلَاةِ وَبِخِلَافِ الْكَنْزِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُسَوَّى بَيْنَ الدَّارِ وَالْأَرْضِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ - أَنَّ الدَّارَ مُلِّكَتْ بِشَرْطٍ قَطَعَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَجِبُ فِيهَا خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ إذَا كَانَ فِيهَا نَخِيلٌ يُخْرِجُ أَكَرَّارًا مِنْ تَمْرٍ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ يَقُولُ فِي الْأَرْضِ يَجِبُ الْخُمُسُ فِي الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَا مُلِّكَتْ بِشَرْطٍ قَطَعَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَوْ الْعُشْرُ فَكَذَلِكَ الْخُمُسُ فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ): حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَصَابَ كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ رَضْخًا وَلَا سَهْمًا بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ فِي الْمَعْدِنِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أُخِذَ مِنْهُ الْخُمُسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ رَأَى فِيهِ لِصَارِفِ الْخُمُسِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا شَرَطَ لَهُ، أَلَا تَرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 أَنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ رَضَخَ لَهُمْ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): وَلَا شَيْءَ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ أَوْ فِي الْجِبَالِ فَفِيهِ الْعُشْرُ كَيْفَ كَانَ صَاحِبُهُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ فَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِي الْعَسَلِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالْإِبْرَيْسِمِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ دُودِ الْقَزِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بَنِي سَامِرٍ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمَ كَانَتْ لَهُمْ نَحْلٌ عَسَّالَةٌ فَكَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يَحْمِي لَهُمْ وَادِيَهُمْ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنَّ النَّحْلَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدُّوا إلَيْكَ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْمِ لَهُمْ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فَدَفَعُوا إلَيْهِ الْعُشْرَ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنْ نُوَّارِ الشَّجَرِ وَثِمَارِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] فَمَا يَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْعَسَلِ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الثِّمَارِ، وَفِي الثِّمَارِ - إذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ - الْعُشْرُ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ثِمَارِ الْأَشْجَارِ النَّابِتَةِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ شَيْءٌ وَبِهَذَا فَارَقَ دُودُ الْقَزِّ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْوَرَقَ، وَلَيْسَ فِي الْأَوْرَاقِ عُشْرٌ فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا (قَالَ:) وَلَا شَيْءَ فِي الْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّهَا فَوَّارَةٌ كَالْمَاءِ، وَأَمَّا مَا حَوْلَهَا مِنْ الْأَرْضِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ الْخَرَاجِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُونُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ فَكَانَتْ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَمَا لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُول: لَا شَيْءَ فِي مَوْضِعِ الْقِيرِ، وَأَمَّا حَرِيمُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ صَاحِبُهُ لِإِلْقَاءِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ يُمْسَحُ فَيُوجِبُ فِيهِ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صَالِحٌ لِلزِّرَاعَةِ إنَّمَا عَطَّلَهُ صَاحِبُهُ لِحَاجَتِهِ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ عَنْهُ (قَالَ): وَلَا شَيْءَ فِي الطَّرْفَاءِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْبِتُ فِي الْجِنَانِ بِمَاءٍ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي عَادَةً بَلْ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لَهَا، وَالْعُشْرُ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِيِ عَادَةً (قَالَ): وَلَا يَسْقُطُ فِيهِ الْخُمُسُ عَنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدُهُ مُعْسِرًا أَوْ فَقِيرًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَلِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَكِنَّ الْخُمُسَ صَارَ حَقًّا لِمَصَارِفِ الْخُمُسِ حِينَ وَقَعَ هَذَا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ مَنْ يُظْهِرُهُ (قَالَ:) وَإِذَا تَقَبَّلَ الرَّجُلُ مِنْ السُّلْطَانِ مَعْدِنًا، ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فِيهِ أُجَرَاءَ وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ مَالًا قَالَ: يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمُتَقَبِّلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ حُكْمًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا عَمِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لَهُمْ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْمَالَ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْوَاجِدِ وَالتَّقَبُّلُ مِنْ السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنٌ وَالتَّقَبُّلُ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ كَمَنْ تَقَبَّلَ أَجَمَةً فَاصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ غَيْرُهُ كَانَ لِلَّذِي اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَبَّلَ بَعْضَ الْمَقَانِصِ مِنْ السُّلْطَانِ فَاصْطَادَ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقَبُّلُ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 [بَابُ عُشْرِ الْأَرَضِينَ] قَالَ): الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ قَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَكْسُوبِ مَالُ التِّجَارَةِ فَفِيهِ بَيَانُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ»، ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَنْبِتُ فِي الْجِنَانِ وَيُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي فَفِيهِ الْعُشْرُ الْحُبُوبُ وَالْبُقُولُ وَالرِّطَابُ وَالرَّيَاحِينُ وَالْوَسْمَةُ وَالزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْدُ وَالْوَرْسُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْ الْبُقُولِ مِنْ كُلِّ عَشْرِ دَسْتَجَاتٍ دَسْتَجَةٌ وَأَخَذَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيثِ الْعَامِّ «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَكَانَ يَقُولُ: الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُعَدُّ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فِي وُجُوبِ الْخَرَاجِ فَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: السَّعَفُ فَإِنَّهُ مِنْ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ، وَلَيْسَ فِي الشَّجَرِ شَيْءٌ وَالتِّبْنُ فَإِنَّهُ سَاقٌ لِلْحَبِّ كَالشَّجَرِ لِلثِّمَارِ وَالْحَشِيشُ فَإِنَّهُ يُنَقَّى مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِي وَالطُّرَفَاءُ وَالْقَصَبُ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ اسْتِغْلَالُ الْأَرَاضِيِ بِهِمَا عَادَةً وَالْمُرَادُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ فَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ وَكَذَلِكَ فِي قَصَبِ الذَّرِيرَةِ الْعُشْرُ. وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ وَالرَّيَاحِينِ إنَّمَا الْعُشْرُ فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ. وَاحْتَجَّا فِيهِ بِحَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ». وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ إذَا مَرَّ بِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ تَافِهًا عَادَةً يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصُّيُودِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَإِنَّمَا يَجِبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَنَالُهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ كَالسَّوَائِمِ وَمَالِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا مَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْخَضْرَاوَاتُ وَالرَّيَاحِينُ فَتَافِهَةٌ عَادَةً وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا فِي الزَّعْفَرَانِ، وَلَمْ نُوجِبْ فِي الْوَرْسِ وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا انْتِفَاعًا عَامًّا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْجَبَ فِي الْحِنَّاءِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِيهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ وَفِي الثُّومِ وَالْبَصَلِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: هُمَا مِنْ الْخُضَرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِمَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ يَقَعَانِ فِي الْكَيْلِ وَيَبْقَيَانِ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ حَوْلٍ إلَى حَوْلٍ فَيَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَالْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرِّطَابِ وَبَزْرُهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَكَذَلِكَ فِي الثِّمَارِ قَالَ: لَا شَيْءَ فِي الْكُمِّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَمَا يُجَفَّفُ مِنْهَا لَا يَعْتَبِرُ وَأَوْجَبْنَا فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْعُشْرَ وَفِي الْفُسْتُقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ الْعُشْرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْخَارِجِ وَكَثِيرِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِي أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْر فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِ هُنَا لَا يُعْتَبَرُ فَهُوَ وَخُمُسُ الرِّكَازِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ وَاحْتَجَّا فِيهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ فَقِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَا: هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ كَالزَّكَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَافِهٌ عَادَةً، وَهُوَ عَفْوٌ شَرْعًا وَمُرُوءَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ تَصِيرُ الْأَرْضُ نَامِيَةً فَيَجِبُ الْعُشْرُ كَمَا يَجِبُ الْخَرَاجُ، ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ مَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بِالْبَيْعِ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ وَمَا لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالسَّوَائِمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكُلَّ إذَا أَدْرَكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ وُجُوبُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِذَا أَدْرَكَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَإِذَا تَفَرَّقَتْ الْأَرَاضِي لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ عَامِلَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِمَّا لَيْسَ فِي عَمَلِهِ وَمَا فِي عَمَلِهِ دُونَ النِّصَابِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُضَمُّ بَعْضُ ذَلِكَ إلَى الْبَعْضِ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَاحِدٌ وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَخْذِ لِلْعَامِلِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَأَخْرَجَتْ طَعَامًا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْشِرُ إنْ بَلَغَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّوَائِمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِي الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِالْخَارِجِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ الَّتِي لَا مِلْكَ لَهَا، ثُمَّ الْعُشْرُ يَجِبُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَأَمَّا مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا سُقِيَ بَعْلًا، أَوْ سَيْحًا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَعَلَّلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ وَقَالُوا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الزِّرَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَنَتْبَعُهُ وَنَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: لَا عُشْرَ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْوَسْقِ لِلنِّصَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ. (قَالَ): وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ طَعَامًا وَعَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعُشْرُ، وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَعْدِمُ غِنَى الْمَالِكِ بِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غِنَى الْمَالِكِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُكَاتَبٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَجْنُونٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا شَيْءَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعُشْرُ عِنْدَهُ قِيَاسُ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ أَمَّا عِنْدَنَا فَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُلَّاكِ أَمَّا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى أَقْوَامٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا. (قَالَ): رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ وَزَرَعَهَا قَالَ عُشْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بَالِغًا مَا بَلَغَ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَجْرِ، أَوْ أَكْثَرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْخَارِجِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْأَرْضِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ وُجُوبَ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْمَنْفَعَةُ سَلِمَتْ لِلْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ الْأُجْرَةُ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا سَلِمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بِعِوَضٍ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي لِلزَّرْعِ، ثُمَّ الْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْض النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَخَرَاجُ أَرْضِ الْمُؤَاجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ أَمَّا أَذَا أَعَارَ أَرْضَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي الْخَارِجِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَى الْمُعِيرِ وَقَاسَهُ بِالْخَرَاجِ وَقَالَ: حِينَ سَلَّطَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ سَلِمَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ مَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ سَلَامَةَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ كَانَ بِعِوَضٍ وَبِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَّ الْمُعِيرُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَحَلُّ الْخَرَاجِ الذِّمَّةُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ لَازِمٌ فِي الْأَرْضِ وَمَحَلُّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ كَانَ أَعَارَ الْأَرْضَ مِنْ ذِمِّيٍّ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ صَدَقَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُعِيرُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الْكَافِرِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْعُشْرِ. (قَالَ): مُسْلِمٌ اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضَ خَرَاجٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَصِيرُ عُشْرِيَّةً؛ لِأَنَّ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ، وَهَذَا لَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ مَالِكُهُ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَقَاسَ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِخَرَاجِ الرُّءُوسِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ بِالسَّوَادِ فَكَانَ يُؤَدِّي فِيهَا الْخَرَاجَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مَعْنَى الصِّغَارِ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ دُونَ الْبَقَاءِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْعُقُودِ فِي ابْتِدَاءِ الِاسْتِرْقَاقِ دُونَ الْبَقَاءِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الرَّقِيقُ يَبْقَى رَقِيقًا بِخِلَافِ خَرَاجِ الرُّءُوسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَا قُلْنَا إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 عَادَاتِ النَّاسِ. (قَالَ) وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ فَإِنْ أَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَرَجَعَتْ إلَى الْمُسْلِمِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهَا فَإِنْ بَقِيَتْ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ وَانْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ عُشْرَانِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ جَمِيعًا وَكَانَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَجَعْلُ هَذَا قِيَاسُ السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا الْكَافِرُ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِي النَّامِيَةَ فِي دَارِنَا لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ أَصْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْكَافِرِ يَشْتَرِي عَبْدًا مُسْلِمًا وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ: بِأَنَّ مَا كَانَ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ يَبْقَى وَبِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ الْحَادِثِ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَمَالِكٌ يَقُولُ: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا، وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا لِإِبْقَاءِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: مَا صَارَ وَظِيفَةً لِلْأَرْضِ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ، ثُمَّ الْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَاتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْعُشْرَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَمَالٍ يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يَضْعُفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: الْأَرَاضِي النَّامِيَةُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ فِي دَارِنَا وَالْوَظِيفَةُ إمَّا الْخَرَاجُ، أَوْ الْعُشْرُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ كَاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَالُ الْمُسْلِمِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. (قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَى تَغْلِبِيٌّ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِلصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَضْعِيفَ الْعُشْرِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا صَارَ مِنْ وَظِيفَةٍ لِلْأَرْضِ يُقَرَّرُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَيْهَا، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عُشْرٌ وَاحِدٌ. وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ هَذَا وَذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَتَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا أَوْ بَاعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ يَجِبُ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَظِيفَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ أَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: تَضْعِيفُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ كُفْرِ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ، أَوْ بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهُوَ نَظِيرُ السَّوَائِمِ إذَا أَسْلَمَ عَلَيْهَا التَّغْلِبِيُّ أَوْ بَاعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: التَّضْعِيفُ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ فِي الْعُشْرِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ حَتَّى يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ وَبَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةٌ لَا تَتَبَدَّلُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ، وَلَا بِبَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ فَهَذَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ فَإِنَّهُ لَا وَظِيفَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ حَتَّى إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِ فَيَسْقُطُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ، أَوْ بِتَبَدُّلِ حَالِهِ بِالْإِسْلَامِ. أَمَّا بَيَانُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجِيَّةِ فَنَقُولُ أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَحَدُّهَا مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةٍ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ مَكَّةَ أَرْضَ خَرَاجٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَظِّفْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَكَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ وَكُلُّ بَلْدَةٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُبْدَأُ بِالْخَرَاجِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ مَعْنَى الصِّغَارِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَكُلُّ بَلْدَةٍ افْتَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِي النَّوَادِرِ ذُكِرَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي تَقْرُبُ مِنْ الْأَرَاضِي الْعُشْرِيَّةِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ؛ لِأَنَّ لِلْقُرْبِ عِبْرَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْقَرْيَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهَا لِحَقِّ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَالْمَرْءُ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِفِنَاءِ دَارِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ عَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا، أَوْ نَهْرٍ شَقَّهُ لَهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الْعِظَامِ كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَجَيْحُونَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ بَعْضِ الْأَنْهَارِ الْخَرَاجِيَّةِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ فَإِذَا سَاقَ إلَى أَرْضِهِ مَاءَ الْخَرَاجِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلْخَرَاجِ فَيَلْزَمُهُ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ وَحْدُ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةَ حُلْوَانَ وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ إلَى عَبَّادَانَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَظَّفَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ وَبَعَثَ لِذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ. (قَالَ): وَكُلُّ بَلْدَةٍ فَتَحَهَا الْإِمَامُ عَنْوَةً وَقَهْرًا، ثُمَّ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهَا عَلَى الْكَافِرِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَيُوَظَّفُ الْخَرَاجُ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرَاضِي تَبَعٌ لِخَرَاجِ الْجَمَاجِمِ، وَالذِّمِّيُّ إذَا جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا، أَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الْخَرَاجُ لِمَا بَيَّنَّا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ: قَدْ أَدَّيْت الْعُشْرَ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ فَكَانَ نَظِيرُ زَكَاةِ السَّوَائِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (قَالَ): وَإِنْ وَضَعَ الْعُشْرَ، أَوْ الزَّكَاةَ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ وَسِعَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مَصَارِفَ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ مَا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةُ وَلِلنَّاسِ كَلَامٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْفُقَرَاءِ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} [البقرة: 273] قِيلَ لَا إلْحَافًا، وَلَا غَيْرَ إلْحَافٍ وَفِي الْمِسْكِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] وَقَدْ جَاءَ يَسْأَلُ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيُظْهِرُ افْتِقَارَهُ وَحَاجَتَهُ إلَى النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38] وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ لَا يَسْأَلُ، وَلَا يُعْطَى لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أَيْ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْي. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَكِنْ لَا يُغْنِيه قَالَ الرَّاعِي أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَمَنْ قَالَ الْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ قَالَ: الْمِسْكِينُ مَنْ يَمْلِكُ مَالًا يُغْنِيَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] وَقَالَ الرَّاجِزُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ ... تَغِيثُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهْ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مُشْتَقٌّ مِنْ انْكِسَارِ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَالْحَدِيثُ يَشْهَدُ لِهَذَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمَّتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْخِلَافُ. وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى جَمْعِ الصَّدَقَاتِ وَيُعْطِيهِمْ مِمَّا يَجْمَعُونَ كِفَايَتَهُمْ وَكِفَايَةَ أَعْوَانِهِمْ، وَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الْفُقَرَاءِ كَانَتْ كِفَايَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَلِهَذَا يَأْخُذُونَ مَعَ الْغِنَى، وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا سَقَطَ حَقُّهُمْ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ، وَكَانَتْ الزَّكَاةُ مُجْزِيَةً عَنْ الْمُؤَدِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ نَائِبُونَ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِالْقَبْضِ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَكَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَكَانَ يُعْطِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَرْضِ اللَّهِ سَهْمًا مِنْ الصَّدَقَةِ يُؤَلِّفُهُمْ بِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقِيلَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَقِيلَ كَانُوا وَعَدُوا أَنْ يُسْلِمُوا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ قُلْنَا الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ لِدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ جُزْءًا مِنْ مَالِ الْفُقَرَاءِ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ السَّهْمُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ انْقَضَى الرَّشَا بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى أَنَّهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - استَبْذَلُوا الْخَطَّ لِنَصِيبِهِمْ فَبَذَلَ لَهُمْ وَجَاءُوا إلَى عُمَرَ فَاسْتَبْذَلُوا خَطَّهُ فَأَبَى وَمَزَّقَ خَطَّ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأْلِيفًا لَكُمْ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الدِّينَ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ فَعَادُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرَ بَذَلْت لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فَالْمُرَادُ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالصَّدَقَةِ عَبْدًا فَيَعْتِقَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمَا يَأْخُذُهُ بَائِعُ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْعَبْدُ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُوجَدُ التَّمْلِيكُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ قَالَ: أَوَ لَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا، فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهِ». وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فَهُمْ الْمَدْيُونُونَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْمُرَادُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] فَهُمْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ هَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِمْ. لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَاجُّ» وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الطَّاعَاتُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ الْمَقْصُودُ بِهِمْ الْغُزَاةُ عِنْدَ النَّاسِ. وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ الْغِنَى بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْبَدَنِ لَا بِمِلْكِ الْمَالِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ «وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ». وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا عَلَى الطَّرِيقِ يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ كَمَنْ يَكُونُ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا يُسَمَّى ابْنَ الْفَقْرِ وَابْنَ الْغِنَى، وَابْنُ السَّبِيلِ غَنِيٌّ مِلْكًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَيُؤْمَرَ بِالْأَدَاءِ إذَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَدًا حَتَّى تُصْرَفَ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِلْحَالِ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ لَا مُسْتَحِقُّونَ لَهَا عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهَا حَتَّى لَا تَجُوزَ مَا لَمْ تُصْرَفْ إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَبِحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرَقْعَةً» وَاعْتَبَرَ أَمْرُ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ بَعْضِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» وَبَعَثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِصَدَقَةٍ إلَى بَيْتِ أَهْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالصَّرْفِ إلَى وَاحِدٍ، وَبِهِ فَارَقَ أَوَامِرَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا اللَّفْظُ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ تَقَعُ خَالِيَةً عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ بِخِلَافِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادُ بَيَانُ الْمَصَارِفِ فَإِلَى أَيِّهِمْ انْصَرَفَتْ أَجْزَأَتْ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا اسْتَقْبَلَ جُزْءًا كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خِلَّةِ الْمُحْتَاجِ. . (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ عُشْرٍ مَا لَمْ يَزْرَعْ وَعُشْرُ ثَمَرٍ لَمْ يَخْرُجْ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِ الطَّلْعِ فَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَهُوَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدُ كَمَالِ النِّصَابِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: السَّبَبُ الْمُوجِبُ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِلْكُ رِقَابِ النَّخِيلِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْعُشْرِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَتَعْجِيلُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ أَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الزَّرْعِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُوبِ عَمَلٌ سِوَى مُضِيِّ الزَّمَانِ، وَهُوَ الزِّرَاعَةُ وَبَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَا زُرِعَ قَبْلَ أَنْ يَنْبُتَ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ كَهُوَ فِي الْحَبِّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ. (قَالَ): وَلَا يُعْطِي زَكَاتَهُ وَعُشْرَهُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادَهُ وَكُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمُؤَدِّي بِالْوِلَادَةِ، أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِيتَاءِ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى وَالْمَنَافِعُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مُتَّصِلَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً} [النساء: 11] فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (قَالَ): وَلَا يُعْطِي مُدَبَّرَهُ وَعَبْدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكَهُ كَسْبُهُمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَتِمَّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى مُكَاتَبٍ غَنِيٍّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِيتَاءُ تَمَّ بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤَدِّي عَمَّا أَدَّى، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ لِلْغَنِيِّ مِلْكٌ، وَلَا يَدٌ لِلْحَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ لَا يَتِمُّ فَمَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ وَجْهٍ لِزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ جَائِزَةٌ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُعْطِي زَوْجَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُعْطِيه (وَاسْتَدَلَّا) بِحَدِيثِ «زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ: يَجُوزُ وَلَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مَالِ زَوْجِهَا فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ كَمَا يَتِمُّ بِالصَّرْفِ إلَى الْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ يَصْرِفُ إلَى زَوْجَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لِزَوْجَتِهِ أَصْلُ الْوِلَادِ، ثُمَّ مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ يُمْنَعُ صَرْفُ زَكَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ الْأَصْلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَمَا بِالْوِلَادِ وَحَدِيثُ زَيْنَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً ضَيِّقَةَ الْيَدِ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى غَنِيًّا، أَوْ وَلَدًا صَغِيرًا لِغِنًى مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ بِالنَّصِّ فَإِنْ صَرَفَ إلَى زَوْجَةِ غَنِيٍّ وَهِيَ فَقِيرَةٌ، أَوْ إلَى بِنْتٍ بَالِغَةٍ لِغِنًى، وَهِيَ فَقِيرَةٌ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا إلَى الْفَقِيرِ وَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ عَلَى الْغِنَى لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَصْرِفًا كَأُخْتٍ فَقِيرَةٍ لِغَنِيٍّ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ بِالْإِنْفَاقِ فَهُوَ نَظِيرُ وَلَدٍ صَغِيرٍ لِغَنِيٍّ وَكَذَلِكَ لَوْ صَرَفَهَا إلَى هَاشِمِيٍّ أَوْ مَوْلًى هَاشِمِيٍّ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ الْأَرْقَمَ بْنَ أَبِي الْأَرْقَمِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَجَاءَ مَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لِبَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةِ النَّاسِ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ». وَهَذَا فِي الْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ وَالْأَوْقَافِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُؤَدِّي يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهِ الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَنِيًّا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِي إنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ فَقِيرٌ، أَوْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، أَوْ كَانَ جَالِسًا مَعَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ظَهَرَ لَهُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ فِي الصَّدَقَاتِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يُجْزِئُهُ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، أَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الصَّرْفُ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ وَقَدْ فَعَلَ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ إلَى جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِمَا وَقَدْ لَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ عَلَى غِنَى نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَذَلِكَ يُوقَفُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَالِ وَطَهَارَتِهِ. وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَى أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ جَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمَا وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً فَيَتَبَيَّنُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، أَوْ مُكَاتَبُهُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ دَفَعَ أَبِي صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَصْرِفَهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَأَعْطَانِي فَلَمَّا رَآهُ أَبِي فِي يَدِي فَقَالَ: مَا إيَّاكَ أَرَدْت يَا بُنَيَّ فَقُلْت مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَرُدُّهُ عَلَيْك فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت» فَقَدْ جَوَّزَ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْوَلَدِ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ التَّطَوُّعِ فَأَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْكَمُ بِهِ وَيُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ يَجُوزُ. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا فَهُوَ كَالذِّمِّيِّ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. (قَالَ): وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَ رَجُلًا مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَهُ عِيَالٌ وَإِنْ أَعْطَاهُ جَازَ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ إعْطَاءُ الْمِائَتَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْمِائَتَيْنِ إلَيْهِ إنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: غِنَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ يَقْتَرِنُ بِقَبْضِهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغِنَى يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَقْتَرِنْ الْغِنَى بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ مُتَّصِلًا بِهِ فَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ لِلْقُرْبِ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ جَازَتْ الصَّلَاةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَكَانَ مَكْرُوهًا لِلْقُرْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: جُزْءٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَتِهِ لِلْحَالِ وَالْبَاقِي دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الْمِائَتَيْنِ. ، ثُمَّ الْغِنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِيَهَا فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ صَاحِبَ عِيَالٍ لَا تُغْنِيه الْمِائَتَانِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمِائَتَيْنِ لِقِيَامِ حَاجَتِهِ كَابْنِ السَّبِيلِ تُصْرَفُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ. وَسُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا، أَوْ خُمُوشًا، أَوْ كُدُوشًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا الْغِنَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا». وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمَا فِي حُرْمَةِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَبِهِ نَقُولُ: «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَلَا اسْتِشْرَافٍ فَخُذْهُ فَإِنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ» وَذَمَّ السُّوَالَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ، وَلَا مَالٌ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سِوًى». وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا حُرْمَةُ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ. أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا وَرَآهُمَا جَلِدَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَالِ». أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْإِعْطَاءَ لَهُمَا وَقِيلَ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ حُرْمَةَ الْأَخْذِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِمِلْكِ خَمْسِينَ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا عَلَى هَذَا لِيَكُونَ النَّاسِخُ أَخَفُّ مِنْ الْمَنْسُوخِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَوْ مِثْلِهَا.} [البقرة: 106] (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى آخَرَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ وَكِيلُهُ فَتَعَيَّنَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَرَفَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا الْعَيْنَ دُونَ الدَّيْنِ. (قَالَ): رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ مِنْ مَالِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ كَانَ تَامًّا غَيْرَ مَوْقُوفٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ رِضَا الْآخَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا الْمَالَ مِنْهُ إنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، أَوْ مُسْتَوْهِبًا مِنْهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ ذَلِكَ وَالْفَقِيرُ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ يَقْبِضُ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى الْآمِرِ هُنَا إلَّا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَهُنَاكَ أَمَرَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَهُنَا لَا يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهُ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي. يُوضِحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ هُوَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ بِالْأَدَاءِ بِأَمْرِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَهُنَا مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُؤَدِّي بِأَمْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَنْ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ عَوِّضْ هِبَتِي مِنْ مَالِكَ لِفُلَانٍ فَعَوَّضَهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالشَّرْطِ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاة مِنْ الْعَيْنِ تَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْقِيمَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا مُعْتَبِرًا وَقْتَ الْأَدَاءِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ هَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَهُوَ الْعَيْنُ إلَّا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَيْنِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ زَائِدًا كَانَ، أَوْ نَاقِصًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوَاجِبُ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إمَّا رُبْعُ عُشْرِ الْعَيْنِ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ وَاجِبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْقِيمَةِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ هُنَا أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ حَتَّى إذَا كَمُلَ النِّصَابُ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا فِي الْجَامِعِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَقَرَّرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ. (قَالَ): وَالْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ الْعَسَلِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِيهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَفِي الْقُطْنِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ وَفِي السُّكَّرِ كَذَلِكَ وَفِي الْعَسَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ وَالْفَرْقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ تَكُون تِسْعِينَ مَنًّا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْمُعْتَبَرِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ وَرَوَى عَشْرُ قِرَبٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُقَاسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى مُؤَثِّرٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَالٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَدْنَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: نَصْبُ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوصُ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ مَعَ السَّوَائِمِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَفِيهَا نَحْلٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ صَاحِبُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَخَذَ عَسَلَهَا فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُتَّخَذْ لِذَلِكَ أَمَّا كَوْنُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُحَرَّزًا لَهُ بِمِلْكِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ إلَيْهِ أَسْبَقَ حُكْمًا فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى بِمِلْكِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّيْرِ إذَا فَرَّخَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَجَاءَ رَجُلٌ، وَأَخَذَهُ فَهُوَ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يُفَرِّخُ فِي مَوْضُوعٍ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ إذَا قَوِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لِلْفَرْخِ بِمِلْكِهِ فَكَانَ لِلْآخِذِ فَأَمَّا النَّحْلُ فَيُعَسِّلُ فِي الْمَوْضِعِ لِيَتْرُكَهُ فِيهِ فَصَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْرِزًا لَهُ بِمِلْكِهِ كَالْمَاءِ إذَا اجْتَمَعَ فِي أَرْضٍ فَاجْتَمَعَ مِنْهُ الْحَمَأُ وَالطِّينُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَوُجُوبُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَمَاءٌ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: إذَا وُجِدَ الْجَوْزُ، أَوْ اللَّوْزُ فِي جَبَلٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ كَالصُّيُودِ وَالْعُشْرُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ نَمَاءِ أَرْضِ الْعُشْرِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ نَمَاءٌ كُلُّهُ فَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَخُمُسِ الْمَعَادِنِ. (قَالَ): وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ، أَوْ لَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ عَادِيَ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي» وَبَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا حَاجَةَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْطُ الْمِلْكِ، وَهُوَ إذْنُ الْإِمَامِ كَمَا تَبَيَّنَ بِمَا وَرَدَ السَّبَبُ، وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 الْإِحْيَاءُ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، ثُمَّ النَّاسُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرَاضِي سَوَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ أَدَّى إلَى امْتِدَادِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِيهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي إحْيَاءِ نَاحِيَةٍ وَجَعَلَ التَّدْبِيرَ فِي مِثْلِهِ إلَى الْأَئِمَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْمَصْلَحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إطْفَاءِ ثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَعُودُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ مَعَ بَيَانِ حَدِّ الْمَوَاتِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا نُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [بَابُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْخُمُسُ] (قَالَ) مَنْ أَصَابَ رِكَازًا وَسِعَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُمُسِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَطَلَعَ الْإِمَامَ عَلَى ذَلِكَ أَمْضَى لَهُ مَا صَنَعَ؛ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقَدْ أَوْصَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهُوَ فِي إصَابَةِ الرِّكَازِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى حِمَايَةِ الْإِمَامِ فَكَانَ هُوَ فِي الْحُكْمِ كَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِنْ وَجَدْتهَا فِي قَرْيَةٍ خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ فَارِسَ فَخُمُسُهَا لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَك وَسَنُتِمُّهَا لَك أَيْ نُعْطِيَك الْخُمُسَ مِنْهَا أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْخُمُسِ فِي الْمُصَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى الْمُصِيبِ خَاصَّةً فَهُوَ فِي كَوْنِهِ مَصْرِفًا كَغَيْرِهِ وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ فِي خُمُسِ الْغَنَائِمِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى الْغَانِمِينَ لِحَاجَتِهِمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُصِيبُ فِي الْخُمُسِ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ فَفِي آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ خُمُسِ الْغَنَائِمِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضَعَهُ فِي أَوْلَادِ الْغَانِمِينَ وَآبَائِهِمْ. (قَالَ): وَمَا جُبِيَ مِنْ الْخَرَاجِ فَهُوَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطِي الْإِمَامُ مِنْهُ أَعْطِيَةَ الْمُقَاتِلَةِ وَفِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُجْبَى إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعٌ أَحَدُهَا الْخُمُسُ وَمَصْرِفُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَاحِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ فَكَانَ الْخُمُسُ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ سَقَطَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ مَصْرُوفٌ إلَى كُلِّ خَلِيفَةٍ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ نَائِبُونَ مِنَّا بِهِ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ مِنْ جَوَائِزِ الْوُفُودِ وَالرُّسُلِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مَا رَفَعُوا هَذَا السَّهْمَ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَانَ لِرَسُولِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ يَصْطَفِيه لِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَنَا. وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَبَقِيَ الْمَصْرِفُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي الصَّدَقَاتُ وَالْعُشُورُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَصَارِفَهَا. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ الْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِ فَهَذَا النَّوْعُ مَصْرُوفٌ إلَى نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا إعْطَاءُ الْمُقَاتِلَةِ كِفَايَتَهُمْ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ وَدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعْطَوْنَ الْكِفَايَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ إيجَادُ الْكُرَاعِ وَالْأَسْلِحَةِ وَسَدُّ الثُّغُورِ وَإِصْلَاحُ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدُّ الْبَثْقِ وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ. وَمِنْهُ أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُحْتَسِبِينَ وَالْمُعَلَّمِينَ وَكُلُّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ فَكِفَايَتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ تَرِكَةُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ يَرِثُهُ الزَّوْجُ، أَوْ الزَّوْجَةُ فَقَطْ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مَصْرُوفٌ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ اللُّقَطَةِ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَصْرُوفُ هَذَا النَّوْعِ نَفَقَةُ اللَّقِيطِ وَتَكْفِينُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَالَ لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي صَرْفِ الْأَمْوَالِ إلَى الْمَصَارِفِ فَلَا يَدْعُ فَقِيرًا إلَّا أَعْطَاهُ حَقَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى يُغْنِيَهُ وَعِيَالَهُ وَإِنْ احْتَاجَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ أَعْطَى الْإِمَامُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ مَالِ الصَّدَقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَرَاجَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يُصْرَفُ إلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى إعْطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ، وَلَا مَالَ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ صَرَفَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ مَالُ الْخَرَاجِ. (قَالَ): وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ وُضِعَ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِمَا مَرَّ وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ أَهْلِ بَلَدٍ رُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ كَمَا «أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ» وَحَكَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا تَخْرُجُ الزَّكَاةُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا (قَالَ) وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُحْتَاجٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 فَإِنْ كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهُمْ مُحْتَاجٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ فُقَرَاءِ غَيْرِهِمْ لِقُرْبِهِمْ فَلَوْ وَضَعَهَا الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ فَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِمْ جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ (قَالَ): وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يُقِرَّ وَلَيْسَ فِي الدِّيوَانِ اسْمُهُ، وَلَا يَلِي لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لَمْ يُعْطَ مِنْ الْخَرَاجِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْكَسْبِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ. (قَالَ): وَتَجِبُ لِلْإِمَامِ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ مَا يُغْنِيه يُفْرَضُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُخْلِفَ رَآهُ عُمَرُ يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ أَهْلِهِ فَقَالَ: إلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: إلَى السُّوقِ أَبِيعُ مَتَاعًا لِأَهْلِي لِأُنْفِقَهُ فِي حَوَائِجِي فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ عَلَى مَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى عَائِشَةَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ تَرُدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَحِمَك اللَّهُ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبْت مَنْ بَعْدَك وَعُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ كَانَ يَأْخُذُ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْجَزُورَ يُنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْعُنُقُ مِنْهُ لِآلِ عُمَرَ أَمَّا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِثَرْوَتِهِ وَيَسَارِهِ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَكَانَ يَأْخُذُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ مَالِي مِنْ مَالِكُمْ كُلُّ يَوْمٍ قَصْعَتَا ثَرِيدٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ غَنِيًّا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَخَذَ كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ عَلَى مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَوْصِيَاءِ {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] (قَالَ)، وَلَا شَيْءَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ الْعَاشِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إذَا كَانَ مُحْتَاجًا عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ يُعْطَى قَدْرَ حَاجَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاهُ أَخَذْنَا مِنْهُ فِي حَالَ قُوَّتِهِ وَلَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَعْفِهِ وَفَرَضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ التَّرْغِيبِ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مَا لَمْ يُسْلِمْ. (قَالَ): وَأَمِيرُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ إنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفَرَسَانِ وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْعَلُ سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَاهَدَ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْغَنَائِمِ ثَلَاثُ حُظُوظِ: خُمُسُ الْخُمُسِ وَصَفِيٌّ يَصْطَفِيه لِنَفْسِهِ مِنْ دِرْعٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ جَارِيَةٍ وَسَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ فَخُمُسُ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ كَانَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ أَخَذَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بِوِلَايَةِ النُّبُوَّةِ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَبَعْدَهُ بَقِيَ السَّهْمُ فَهُوَ لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ نَوَادِرِ الزَّكَاةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ أَوَّلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَّ النُّقُودِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ صُورَةً فَفِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تُقَوَّمُ الْأَمْوَالُ بِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِمَا سِوَى أَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ وَبِهِمَا تُعْرَفُ خِيرَةُ الْأَمْوَالِ وَمَقَادِيرُهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] ثُمَّ اعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ لِأَجْلِ صِفَةِ الْغِنَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَالْغِنَى بِهِمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَاعْتِبَارُ كَمَالِ النِّصَابِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْمَالِ النَّامِي وَمَعْنَى النَّمَاءِ فِيهَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَرُبَّمَا يَحْصُلُ بِالتِّجَارَةِ فِي الذَّهَبِ النَّمَاءُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً صُورَةً يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ النُّقُودُ. أَلَا تَرَى أَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكْمُلُ بِمَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ، وَهُوَ الْعُرُوض فَكَذَلِكَ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ ثُمَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُضَمُّ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ النِّصَابِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ إلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَبِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ لَا يُمْكِنُ تَكْمِيلُ النِّصَابِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: ضَمُّ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ، وَصِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ، ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا لَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّقْدِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ قَلْبَ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ فَلَمَّا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: رَجُلٌ لَهُ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ ثَمَنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ نِصَابٍ مِنْ الْفِضَّةِ وَخُمُسَيْ نِصَابِ الذَّهَبِ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نِصَابٍ وَنِصْفَ خُمُسٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ دِينَارٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَثَمَنُ خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَإِنْ ضَمَّهَا إلَى الدِّينَارِ يَكُونُ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ يُقَوَّمُ الذَّهَبُ تَارَةً بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ تَارَةً بِالذَّهَبِ، ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَاطِ وَتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ دَنَانِيرَ ثَمَنُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَامِلٌ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ، وَمِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ثَمَنُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، أَوْ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَمَالِ النِّصَابِ سَوَاءٌ اُعْتُبِرَ الضَّمُّ بِالْأَجْزَاءِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْجِنْسَيْنِ تُؤَدَّى الزَّكَاةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ عُشْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ بِالنَّصِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: هَاتُوا عُشُورَ أَمْوَالِكُمْ وَفِي أَدَاءِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَالْفُقَرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ إلَّا رُبْعَ عُشْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ النَّوْعَيْنِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ خَلَطَهُمَا ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ خَمْسَمِائَةٍ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الَّذِي ضَاعَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الَّذِي بَقِيَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ وَنِصْفَهُ كَانَ فَارِغًا عَنْ حَقِّهِمْ، وَلَيْسَ صَرْفُ الْهَلَاكِ إلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْهُمَا وَالْبَاقِيَ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ خَمْسُمِائَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَمَلَ الْمَالُ عَلَى النِّصَابِ وَالْوَقْصِ فَهَلَكَ مِنْهُمَا شَيْءٌ يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ الْوَقْصِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى نَحْوُ مَا إذَا كَانَ لَهُ فَوْقَ النِّصَابِ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْصَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْوَقْصُ إلَّا بَعْدَ النِّصَابِ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ الْأَصْلِ مَعَ التَّبَعِ فَإِنَّ التَّبَعَ يَقُومُ بِالْأَصْلِ وَالْأَصْلُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّبَعِ ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْأَصْلِ وَجَعْلِ الْهَالِكِ مِنْ الْمَالَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ فَأَمَّا هُنَا فَأَحَدُ الْأَلْفَيْنِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْآخَرِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْهُمَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَهَلَكَ مِنْهَا شَيْءٌ يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ الرِّبْحِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ وَالْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبَ الْمَالِ بِهَذَا الْخَلْطِ مُسْتَهْلِكًا لِمَالِ الزَّكَاةِ حَتَّى يَكُونَ ضَامِنًا اعْتِبَارًا لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَلَطَهَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ ضَامِنًا. قُلْنَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي عَيْنِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ وَيُعْطِيَهُ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْخَلْطُ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ بَعْدَهُ إلَى تِلْكَ الْعَيْنِ فَأَمَّا حَقُّ الْفُقَرَاءِ هُنَا فَفِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مِنْ دَرَاهِمَ غَيْرِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ، وَمِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَلْطِ تَفْوِيتُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَلَا إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ بِالْخَلْطِ شَيْئًا فَإِنْ عَرَفَ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الْبَاقِي أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي هَذِهِ الْمِائَةَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ رُبْعَ عُشْرِهَا حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَيُزَكِّي تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ الْمِائَةَ بَقِيَ الْمُشْتَبَهُ أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَتْ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ذَلِكَ فَارِغَةً عَنْ الزَّكَاةِ وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ مَشْغُولَةً بِالزَّكَاةِ فَمَا هَلَكَ يَكُونُ مِنْهَا بِالْحِصَّةِ، وَمَا بَقِيَ كَذَلِكَ فَلِهَذَا يُزَكِّي تِسْعَةَ أَجْزَاءَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ، وَلَوْ عَرَفَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُخْرَى وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَشَرَةَ أَجْزَاءَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَبَهَ تِسْعَةَ عَشَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 سَهْمًا عَشَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مَالُ الزَّكَاةِ وَتِسْعَةٌ فَارِغَةٌ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ مِنْهُمَا بِالْحِصَّةِ وَالْبَاقِي كَذَلِكَ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ الْبِيضِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَهْلِكَ الْبِيضُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ أَوْ تُسْتَحَقَّ، أَوْ يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ فَإِنْ ضَاعَتْ الْبِيضُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى السُّودِ يُجْزِئُهُ مَا أَدَّى عَنْ زَكَاةِ السُّودِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، وَهُوَ زَكَاةُ السُّودِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِي مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا بِيضًا بِزَكَاةِ السُّودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبِيضَ وَالسُّودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَصْلُ النِّيَّةِ فَأَمَّا نِيَّةُ التَّعْيِينِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا كَمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَصَامَ بِعَدَدِهَا يَنْوِي الْقَضَاءَ يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي نِيتَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْغَنَمِ شَاةً ثُمَّ ضَاعَتْ الْغَنَمُ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْإِبِلِ فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ. وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْبِيضُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يُجْزِ الْمُعَجَّلُ عَنْ زَكَاةِ السُّودِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَكَيْفَ يُجْزِئُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَدَّى مِنْ الْبِيضِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَمَّا هُنَا إنَّمَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَيُجْزِي الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَفِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ: الْمُعَجَّلُ يَكُونُ مِنْ زَكَاةِ الْبِيضِ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ الْبِيضُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السُّودِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: الْمُعَجَّلُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا هَلَكَتْ الْبِيضُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ زَكَاةِ السُّودِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا يُجْعَلُ الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّعْجِيلِ كَالْأَدَاءِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، وَلَوْ أَدَّى بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْبِيضِ كَانَ الْمُؤَدَّى عَمَّا نَوَاهُ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ إذَا عَجَّلَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ حِينَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا فَاعْتَبَرْنَا نِيَّتَهُ فِي التَّمْيِيزِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ، وَهِيَ الْأَصَحُّ مَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّودَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَالْبِيضَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ فِيهِمَا فَكَأَنَّهُ قَصَدَ عِنْدَ الْأَدَاءِ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ فَقَطْ فَيُجْعَلُ الْمُؤَدَّى مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ تَفْرِيغٌ لِلْمَالِ عَنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ يَصِيرُ الْمَالُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الْأَدَاءِ عَنْ زَكَاةِ الْبِيضِ مُفِيدَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَفْرِيغَ الْبِيضِ دُونَ السُّودِ بِخِلَافِ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نِيَّةِ التَّمْيِيزِ هُنَاكَ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى لَوْ أَدَّى زَكَاةَ الْبِيضِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْبِيضُ لَمْ يَكُنْ الْمُؤَدَّى عَنْ السُّودِ، وَلَوْ عَجَّلَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْبِيضُ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى السُّودِ كَانَ الْمُعَجَّلُ مِنْ زَكَاةِ السُّودِ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي السُّودِ وَالْبِيضِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعِشْرُونَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، أَوْ أَدَّى بَعْدَ الْوُجُوبِ فَهِيَ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ مِثْلُ مَا سَبَقَ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَيْنًا وَأَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْعَيْنِ ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِي عَنْ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَدَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يُجْزِ الْمُؤَدَّى عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَدَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ إنَّمَا قَصَدَ تَطْهِيرَ مَالِهِ الْعَيْنِ وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ فَكَانَ بَقَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَلَاكُهُ سَوَاءً فِي التَّعْجِيلِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ إنَّمَا قَصَدَ إسْقَاطَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ وَأَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ زَكَاةِ الدَّيْنِ جَائِزٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْهُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْآخَرِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِئُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا زَكَّى أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي زَكَّى عَنْهُ وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَ الَّذِي زَكَّى عَنْهُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْبَاقِيَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ عَلَيْهِ نِصْفُ زَكَاةِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ يُجْزِئُ عَنْهُمَا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي يَدِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُصُولِ إلَى كَفِّ الْفَقِيرِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَنِصَابُهُ نَاقِصٌ وَكَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَهُ مِنْ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كَفِّ الْفَقِيرِ بِطَرِيقِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَصْلَ التَّصْدِيقِ وَالصِّفَةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ حِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فَيَبْقَى أَصْلُ نِيَّةِ الصَّدَقَةِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا يَوْمًا ثُمَّ اعْوَرَّتْ فَتَمَّ الْحَوْلُ، وَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ: يُزَكِّيهَا عَوْرَاءَ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَوَرِ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ دُونَ النِّصَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِالْعَوَرِ فَاتَ نِصْفُهَا، وَكَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مَعَ الْعَوَرِ نِصَابًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا عَوْرَاءَ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ مِنْهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِنْ ذَهَبَ الْعَوَرُ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الْعَوَرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَحُكْمُ الزَّكَاةِ لَا يَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَوَرِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ، وَهِيَ كَذَلِكَ ثُمَّ ذَهَبَ الْعَوَرُ لَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ ذَهَابُ الْعَوَرِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لِإِيجَابِ أَصْلِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ أَصْلِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ ذَهَبَ الْعَوَرُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَتَمَّ الْحَوْلُ، وَهِيَ صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا حَدَثَتْ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يُضَمُّ إلَى أَصْلِ الْمَالِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ، أَوْ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ أَلْفٌ مِنْهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْبَاقِيَةِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ وَجَدَ الْمَالَ الَّذِي كَانَ ضَاعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ الْمَالَ الَّذِي ضَاعَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي ضَاعَ صَارَ تَاوِيًا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَإِذَا وَجَدَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِفَادَةٍ اسْتَفَادَهَا مِنْ جِنْسِ مَالِهِ وَحُكْمُ الزَّكَاةِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِآخِرِ الْحَوْلِ فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي الْأَلْفِ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَلْفِ الْأُخْرَى شَيْءٌ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَمَّا إذَا وَجَدَهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا يُقَرَّرُ حُكْمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي أَلْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ اعْوَرَّتْ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا عَوْرَاءَ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ نِصْفُهَا وَلَوْ هَلَكَتْ كُلُّهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ فَإِنْ ذَهَبَ الْعَوَرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهَا صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي قِيمَتِهَا صَحِيحَةً ثُمَّ انْتَقَضَ بِالْخُسْرَانِ الَّذِي لَحِقَهُ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْخُسْرَانُ بِذَهَابِ الْعَوَرِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ضَاعَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَزَكَّى مَا بَقِيَ ثُمَّ وَجَدَ الَّذِي كَانَ ضَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ، وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ إذَا حَدَثَتْ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ كَانَتْ جَابِرَةً لِلنُّقْصَانِ وَيَنْعَدِمُ بِهَا النُّقْصَانُ مَعْنًى. يُوَضِّحُهُ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهِيَ قَدْ عَادَتْ بِذَهَابِ الْعَوَرِ إلَى الْمَالِيَّةِ الْأُولَى الَّتِي تَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 فِيهَا عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ كُلَّهُ (قَالَ) رَجُل لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهِمْ الْحَوْلُ ثُمَّ ابْتَاعَ بِهَا جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا ثَمَانُمِائَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ فَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَابَى فِي الشِّرَاءِ بِقَدْرِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَضْمَنُ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ وَفِي مِقْدَارِ ثَمَانِمِائَةٍ حَوَّلَ حَقَّهُمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يَعْدِلُهُ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ فِي كَوْنِهَا مَالَ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ هَلَاكُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فَاشْتَرَى بِهَا أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْغَنَمُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَإِنَّمَا النَّمَاءُ مَطْلُوبٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْعَيْنُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَهُنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّمَاءُ مَطْلُوبٌ بِالتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْحَوْلُ فَإِذَا وُجِدَ بَعْد كَمَالِ الْحَوْلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاةٍ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ ابْتَاعَ بِالْأَلْفِ جَارِيَةً لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ بَقِيَتْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ بِتَصَرُّفِهِ فَالْجَارِيَةُ الَّتِي لِلْخِدْمَةِ لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ بِهِ الْحَوْلُ فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ صَارَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ (قَالَ) رَجُلٌ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْأُمِّ بِصِفَتِهَا وَهِيَ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ فَوَلَدُهَا كَذَلِكَ ثُمَّ الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يُضَمُّ إلَى أَصْلِ النِّصَابِ بِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَلَّدًا مِنْ الْأَصْلِ فَالْمُتَوَلَّدُ أَوْلَى فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا، وَلَا يُزَكِّي وَلَدَهَا لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ انْتَهَى قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَسْرِي مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْوَلَدِ مَا كَانَ قَائِمًا لَا مَا كَانَ مُنْتَهِيًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّقَّ يَنْتَهِي بِالْعِتْقِ فَالْوَلَدُ الَّذِي يَنْفَصِلُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ رَقِيقًا، وَلَا لَنَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ اسْتَفَادَهُ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ حَوْلٍ جَدِيدٍ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا وَلَدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ كَانَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ حُكْمُ الْحَوْلِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ وَصِفَةُ الْمَالِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 تَحْدُثُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ لَا يَكُونُ مَالًا مَنْقُولًا وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَمَا بِهِ صَارَ الْوَلَدُ مَحَلَّ وُجُوبِ الزَّكَاةِ حَادِثٌ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الزَّكَاةِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَمَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْبَعْضَ بِتَصَرُّفِهِ. وَلَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْبَعْضَ (قَالَ)، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَضُمُّ هَذَا إلَى مَالِهِ فَيُزَكِّيهِ مَعَ مَالِهِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي ثَمَنِهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَهُ فَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْمَالِيَّةُ لَهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ بِتَصَرُّفِهِ هَذَا فَيَكُونُ ثَمَنُهَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وُهِبَ لَهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ قَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ بِقَدْرِهِ يُشِيرُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَهَا بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَصَاحِبُ الْمَالِ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَكَمَا أَنَّ هُنَالِكَ يُفْصَلُ بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فِي تَصَرُّفِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلِكًا شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَانَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِي مِقْدَارِ الْمُحَابَاةِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ. وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ضَمَّ الْمِائَةَ إلَى مَالِهِ ثُمَّ زَكَّاهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي مِقْدَارِ الْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَعَلَى الْبَائِعِ زَكَاةُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي عِنْدَ رَدِّ الْجَارِيَةِ بِالْعَيْبِ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ وَيُتَخَيَّرُ هُوَ بَيْنَ أَدَاءِ الْأَلْفِ وَبَيْنَ أَدَاءِ أَلْفٍ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَهَذَا دَيْنٌ لَحِقَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 قَالَ وَعَلَى الرَّادِّ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ الْجَارِيَةُ فَقَطْ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بِرَدِّهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْخَمْسِمِائَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ خَمْسُمِائَةٍ حِينَ كَانَتْ لَا عَيْبَ فِيهَا فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْعَيْبِ تَكُونُ قِيمَتُهَا دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ قُلْنَا مُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْجَوَابِ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَيْبِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْجَارِيَةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ الْجُزْءُ الْفَائِتُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ كَالْقَائِمِ حُكْمًا فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ (قَالَ)، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا فَعَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَالْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَتَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفِ سَوَاءٌ رَدَّهَا بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرَّدِّ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ إيَّاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَعَلَى الْبَائِعِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ ثَمَنُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ جَارِيَةٌ ثَمَنُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَبَايَعَا الْعَبْدَ بِالْجَارِيَةِ وَتَقَابَضَا وَهُمَا لِلتِّجَارَةِ جَمِيعًا فَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ وَجَدَ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَأَخَذَ جَارِيَتَهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَمَّا الرَّادُّ فَلِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ الْعَبْدُ ثُمَّ اسْتَفَادَ الزِّيَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْأَلْفِ وَأَمَّا الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ مَا عَادَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ (قَالَ)، وَإِنْ رَدَّهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَعَلَى الرَّادِّ زَكَاةُ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ حِينَ أَقَالَ الْعَقْدَ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا كَبَيْعٍ مُسْتَقِلٍّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّادِّ هُنَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَدْفُوعَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَا هُنَا حَقُّ الرَّادِّ يَتَعَيَّنُ فِي الْجَارِيَةِ فَلِهَذَا جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ إذَا رَدَّ الْعَبْدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَبَضَ الْجَارِيَةَ هُوَ الَّذِي وَجَدَ الْعَيْبَ بِهَا فَرَدَّهَا بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِلرَّدِّ وَقَدْ تَمَّ الْحَوْلُ وَمَالُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْآخَرِ زَكَاةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِثَمَنِهَا عَلَى بَائِعِهَا، وَذَلِكَ مَالٌ سَالِمٌ لَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ وَأَمَّا بَائِعُهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى بَائِعِهَا أَيْضًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا كَانَ مَالُهُ أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي الْحَوْلِ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَمَالُ الْمَدْيُونِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِثَمَنِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَتَقَابَضَا فَحَالَ الْحَوْلُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْعَقْدِ وَعَلَى الْبَائِعِ زَكَاةُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْبَائِعِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَعَلَى الْمُشْتَرِي زَكَاةُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا مَالُهُ الَّذِي يُسَلَّمُ لَهُ مَا دَفَعَ فِي ثَمَنِهَا، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا زَكَاةُ الْأَلْفِ وَيَسْتَوِي إنْ رَدَّهَا بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ لَمْ يَرُدَّهَا وَلَكِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ الَّتِي تُسَلَّمُ لِلْبَائِعِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ مِقْدَارُهَا أَلْفَانِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْجَارِيَةَ أَوْ قِيمَتَهَا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا وَاَلَّذِي يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارُ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْأَلْفِ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ نِصْفُهَا قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ أَفَادَ مِائَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَقَدْ وُجِدَ وَالْمُسْتَفَادُ لَوْ كَانَ قَبْلَ هَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ كَانَ مَضْمُونًا إلَى النِّصَابِ لِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَوْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ هَذِهِ الْمِائَةَ ثُمَّ مَضَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ إلَّا يَوْمًا ثُمَّ اسْتَفَادَ مِائَةً ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَالُهُ دُونَ النِّصَابِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ الثَّانِي عَلَى مَالِهِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِائَةَ وَلَيْسَ عَلَى مَالِهِ حَوْلٌ يَنْعَقِدُ فَلَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ اسْتَفَادَ الْمِائَةَ لِأَنَّهُ تَمَّ نِصَابُهُ الْآنَ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 لَهُ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِمَا صَنَعَ حِينَ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَمُرَادُهُ مَا إذَا وَهَبَهَا لِغَنِيٍّ فَأَمَّا إذَا وَهَبَهَا لِفَقِيرٍ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لَا رُجُوعَ فِيهَا وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْمَالِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ فَلَوْ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ الْآخَرُ فَضَاعَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ لِأَنَّ بِالرُّجُوعِ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَضَعْ وَلَكِنْ رَجَعَ فِيهَا الْأَوَّلُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ الثَّانِي، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الثَّانِي بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَالدَّرَاهِمُ تَتَعَيَّنُ فِي الْهِبَةِ وَالرُّجُوعِ فِيهَا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَ تَمَّ الْحَوْلُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَجَعَ فِيهَا بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى وَلَكِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَنِهِ إذَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يَعْدِلُهُ فَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ فَمَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّمَا عَادَ الْعَبْدُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا عَادَ كَهَلَاكِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْتَقِضُ مِنْ الْأَصْلِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَمَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَالرَّدُّ بِحُكْمِهِ يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ، وَهُوَ عِنْدَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً وَدَفَعَهُ إلَيْهَا ثُمَّ فَجَرَ بِهَا ابْنُ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْزَمُهَا رَدُّ الصَّدَاقِ فَإِنْ رَدَّتْهُ فَمَاتَ عِنْدَ الزَّوْجِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي حُكْمِ الْفَسْخِ فَإِنَّمَا عَادَ الْعَبْدُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الزَّوْجِ فَيَكُونُ هَلَاكُهُ بَعْدَ الِاسْتِرْدَادِ كَهَلَاكِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ الْجَدِيدِ مِنْ سَبَبٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا سَبَبٌ جَدِيدٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِعَوْدِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَوْ مَاتَ فِي يَدِهَا فَهِيَ ضَامِنَةٌ قِيمَتَهُ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا قَبَضَتْهُ عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهَا بِعِوَضٍ فَيَدْخُلُ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهَا فَلَوْ قَبَضَ الزَّوْجُ مِنْهَا الْقِيمَةَ فَضَاعَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ تَزَوَّجَ عَلَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ إلَّا أَنَّهُ مَتَى عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ يَرْتَفِعُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ بِهِ وَلَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهَا فَبَقِيَ مُسْتَهْلِكًا وَهَلَاكُ الْقِيمَةِ الْمَقْبُوضَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ مَالٍ آخَرَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَاسْتَرَدَّ الْقِيمَةَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ فِي يَدِ بَائِعِ الْجَارِيَةِ فَاسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فَهَلَكَتْ الْقِيمَةُ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ فَرَدَّتْ الْأَلْفَ إلَى الزَّوْجِ فَضَاعَتْ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْأَلْفِ الْمَقْبُوضَةِ بِعَيْنِهَا وَلَكِنْ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ رَدَّتْ تِلْكَ الْأَلْفَ، وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ مِثْلَهَا فَلَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ رَدَّتْ تِلْكَ الْأَلْفَ وَفِي الْأَوَّلِ عَلَيْهَا رَدُّ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ فَيَخْرُجُ الزَّوْجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا بِعَوْدِ الْعَبْدِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ (قَالَ) وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ الْأَلْفَ فَعَلَيْهَا زَكَاةُ الْأَلْفِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا رَدُّ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا كَانَ هَذَا دَيْنًا لَحِقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الزَّكَاةُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتْ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ وَيَدِهَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ لَوْ نَوَتْ هِيَ التِّجَارَةَ وَحَقَّقَتْ ذَلِكَ وَحَالَ الْحَوْلُ عِنْدَهَا ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ الزَّوْجِ فَرَدَّتْ الْعَبْدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا زَكَاةٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْعَبْدِ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهَا هُنَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ الَّتِي اكْتَسَبَتْ سَبَبَ زَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ الْعَبْدِ فَتَكُونُ مُتْلِفَةً حَقَّ الْفُقَرَاءِ فَتَلْزَمُهَا الزَّكَاةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا صُنْعٌ فِي إبْطَالِ مِلْكِهَا فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ صُنْعَهَا تَقْبِيلُ ابْنِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ مِلْكَهَا الْعَبْدَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ الْمُبْطِلَ لِمِلْكِهَا انْفِسَاخُ النِّكَاحِ، ذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلِهَذَا يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ يَدِهَا (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 إلَّا شَهْرًا فَزَكَّى الْأَلْفَ عَمَّا يَسْتَفِيدُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ثُمَّ أَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَحَال عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِئُ مِنْ زَكَاةِ الْمُسْتَفَادِ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ بِمَا عَجَّلَ لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ فَقَدْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ بَعْضُ النِّصَابِ، وَهُوَ الْمِائَةُ ثُمَّ الْمُسْتَفَادُ مَضْمُومٌ إلَى مَا بَقِيَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ بِعِلَّةِ الْمُجَانَسَةِ فَعِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَزَكَاةُ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ عَجَّلَهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَةِ دِرْهَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ عِنْدَهُمَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ إنَّمَا يَجُوزُ عَنْ الْمَالِ الْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَمَّا يَسْتَفِيدُهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا جُعِلَ الْمُسْتَفَادُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ جَوَازِ التَّعْجِيلِ فَإِنْ تَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفِيدَ شَيْئًا ثُمَّ أَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَالْمُعَجَّلُ لَا يُجْزِي مِنْ زَكَاتِهَا وَيُجْزِي مِنْ زَكَاةِ الْمِائَةِ خَاصَّةً، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَالْمُعَجَّلُ قَدْ تَمَّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُصُولِ إلَى الْفَقِيرِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْمِائَةِ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَجَّلُ يُجْزِي مِنْ زَكَاةِ الْمِائَةِ ثُمَّ حِينَ اسْتَفَادَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا نَعْقِدُ الْحَوْلَ عَلَى مَالِهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَمَّا يُفِيدُ ثُمَّ أَفَادَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ عَامَّةِ ذَلِكَ فَالْمُعَجَّلُ لَا يُجْزِي مِنْ زَكَاتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَجَّلَ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابِ وَتَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ كَمَالُ النِّصَابِ فَالْأَدَاءُ قَبْلَهُ يَكُونُ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ (قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا كُلَّهَا عَمَّا يُفِيدُ ثُمَّ أَفَادَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ عَامَّةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهَا حَوْلًا، وَلَا يُجْزِيهِ الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ إذْ لَمْ يَبْقَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِذَا انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ آخَرَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عَجَّلَ عَنْ الْمِائَتَيْنِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ حَوْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَضَى حَوْلَانِ فَالْمُعَجَّلُ يُجْزِيهِ عَنْ زَكَاةِ الْحَوْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ بَقِيَ حُكْمُ الْحَوْلِ بِبَقَاءِ بَعْضِ النِّصَابِ وَمِلْكُ النِّصَابِ الْوَاحِدِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ حَوْلٍ وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ شَرْطٌ لَا سَبَبٌ فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ أَمَّا هُنَا لَمْ يَبْقَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَمِلْكُ ذَلِكَ النِّصَابِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فِي مَالٍ آخَرَ مَقْصُودًا فَلِهَذَا لَا يُجْزِي الْمُعَجَّلُ حَتَّى لَوْ بَقِيَ عِنْدَهُ دِرْهَمٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَيُجْزِي الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا بِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ اسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِهِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَنِصَابُهُ كَامِلٌ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَيُجْزِيهِ الْمُعَجَّلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَوْلِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَضَاعَ نِصْفُهَا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِنَّهُ لَوْ ضَاعَ الْكُلُّ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَإِنْ ضَاعَ النِّصْفُ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الزَّكَاةِ ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا وَاضِحٌ فَإِنَّمَا يُوجِبَانِ الْكُسُورَ فِي زَكَاةِ الدَّرَاهِمِ ابْتِدَاءً فَالْبَقَاءُ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُوجِبُ الْكُسُورَ فِي زَكَاةِ الدَّرَاهِمِ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الْكُسُورِ بَعْدَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ (قَالَ) رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا خَمْسَةُ أَحْوَالٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْخَمْسِ سِنِينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ النِّصْفِ مُعْتَبَرٌ بِهَلَاكِ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُهُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَفِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ، وَهُوَ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ زَكَاةُ تِسْعِمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهَكَذَا فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا يَعْتَبِرُ فِي مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ وَالْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَبَرُ مِنْ مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ وَتُعْتَبَرُ الْكُسُورُ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ، وَلَا يَعْتَبِرَانِ بَعْدَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ نِصَابًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا أُخْرَى فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا أُخْرَى فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الْأُولَى نِصْفَ الْمَالِ الْأَوَّلِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَنِصْفِ الْمَالِ الْآخَرِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَالْمَالِ الثَّانِي وَنِصْفِ الْمَالِ الْآخَرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى حَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثُهُ أَحْوَالٍ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا لِلسَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةُ نِصْفِ الْأَلْفِ وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 مَا وَجَبَ فِيهَا لِلسَّنَةِ الْأُولَى فَإِنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلَيْنِ وَالْأَلْفُ الثَّانِيَةُ حَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ نِصْفَهَا وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي كَذَلِكَ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالْأَلْفُ الثَّالِثَةُ حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ وَاحِدٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّ هَلَاكَ بَعْضِ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ بِهَلَاكِ الْكُلِّ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ أَخْرَجَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهَا يُزَكِّيهَا فَتَصَدَّقَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ضَاعَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ الْمَالِ، وَبَقِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِلزَّكَاةِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي زَكَّى عَنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَدَّى كَانَ فِي مِلْكِهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا سِوَى الْأَلْفِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِلزَّكَاةِ فَإِذَا ضُمَّتْ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ الْمُؤَدَّاةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا كَانَ الْكُلُّ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَلِهَذَا تَتَوَزَّعُ تِلْكَ الْخَمْسُمِائَةِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَمَا أَصَابَ عِشْرِينَ أَلْفًا الَّتِي هَلَكَتْ بَطَلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْضَ زَكَاتِهَا، وَهَلَكَ الْبَعْضُ وَمَا أَصَابَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهَا، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ مِنْ زَكَاتِهَا اعْتِبَارًا لِهَلَاكِ الْبَعْضِ بِهَلَاكِ الْكُلِّ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي خَمْسِينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ النِّصَابَ الْأَوَّلَ يُجْعَلُ أَصْلًا وَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ، فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ هَلَكَ رُبْعُهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ رُبْعُ الْوَاجِبِ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يُسْقِطُ نِصْفَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ نِصْفِ الْمَالِ وَيَبْقَى النِّصْفُ لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَا يَنْوِي بِهِ زَكَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مِنْ زَكَاتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَادُهُ إذَا تَصَدَّقَ بِمَالٍ آخَرَ سِوَى النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَقَدْ أَوْصَلَهُ إلَى مُسْتَحَقِّهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ النِّصَابِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 مِنْ الزَّكَاةِ وَعِنْدَ الْآخَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ مِقْدَارُ زَكَاةِ الْمُؤَدَّى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ (قَالَ): وَإِنْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُجْزِي فِيهَا النِّيَابَةُ فَأَدَاءُ الْغَيْرِ بِأَمْرٍ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَهُوَ إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ هُوَ مَطْلُوبًا بِهِ مُجْبَرًا عَلَى قَضَائِهِ فَإِذَا مَلَّكَهُ الْمُؤَدِّيَ بِبَدَلٍ أَدَّاهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بِأَدَائِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَدِّي مُمَلَّكًا شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِدُونِ شَرْطٍ كَمَا لَوْ عَوَّضَ عَنْ هِبَتِهِ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْ الزَّكَاةِ لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ مِنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ مَطْلُوبٌ فِي الْعِبَادَةِ، ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ بِدُونِ أَمْرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ تُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اعْوَرَّتْ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ عَنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَيَجْعَلُ مَا هَلَكَ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهَا اعْوَرَّتْ حِينَ كَانَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَرَاجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى مِائَةٍ فَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَا هَلَكَ، وَيَبْقَى النِّصْفُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ. وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ بَاعَهَا بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَوَتْ مِنْهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمِائَةَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ كَانَ تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَمَا تَوِيَ مِنْ الرِّبْحِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّهُ بَاعَهَا بِمِائَتَيْنِ فَتَوَتْ مِائَةٌ وَاسْتَوْفَى مِائَةً فَيَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْمِائَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا تُجْزِيهِ مِنْ زَكَاةِ غَيْرِهَا، وَإِنْ نَوَى ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ بِزَكَاةِ الْمَالِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَكْمَلُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ أَمَّا زَكَاةُ هَذِهِ الْأَلْفِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ فَقِيرًا لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ قَالَ يَكُونُ ضَامِنًا زَكَاتَهَا. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَوَهَبَهُ مِنْ غَنِيٍّ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِي الزَّكَاةِ لِلْغَنِيِّ فَلَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ الدَّيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَحِينَ أَبْرَأَهُ الْمَدْيُونَ مِنْهُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْقَبْضُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ صَارَ مُبْطِلًا الدَّيْنَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَابِضِ الْمُسْتَهْلِكِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى يَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فَقِيرٍ آخَرَ وَأَمَرَ بِقَبْضِهَا مِنْهُ يَنْوِي عَنْ زَكَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَقِيرَ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ يَنْوِي مِنْ زَكَاتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَبَضَهَا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَدْيُونِ، وَهُوَ يَنْوِي مِنْ زَكَاتِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ إذَا كَانَ فَقِيرًا كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الزَّكَاةِ وَيَكُونُ ضَامِنًا زَكَاةَ هَذِهِ الْأَلْفِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ فَلَا يُشَكُّ فِيهِ وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ فَكَانَ هِبَتُهُ مِنْهُ كَهِبَتِهِ مِنْ غَنِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِغِنَاهُ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَذَلِكَ يُجْزِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمُرَادُهُ إذَا تَحَرَّى وَدَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ التَّحَرِّي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا فَإِنْ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الذِّمِّيِّ مَعَ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ كَدَفْعِهِ إلَى الْغَنِيِّ. وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَالِدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ ثُمَّ عَلِمُوا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالتَّحَرِّي قَالَ يُجْزِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّا فِيهِ بِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّسَبَ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ فِي الْأَصْلِ الِاجْتِهَادَ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ شَرْعًا وَلِهَذَا لَوْ نَفَى نَسَبَ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ فَإِنَّمَا تَحَوَّلَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينٍ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ الْيَقِينِ كَمَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّمَا تَحَوَّلَ هُنَاكَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى اجْتِهَادٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى عَبْدِ أَبِيهِ، أَوْ أُمِّهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّ التَّصَدُّقَ بِالزَّكَاةِ عَلَى عَبْدٍ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَى مَوْلَاهُ وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى عَبْدِ غَنِيٍّ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى حَرْبِيٍّ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَالَ يُجْزِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 الْحَرْبِيِّ لَا يَكُونُ قُرْبَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ مَبَرَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] فَلَا يَقَعُ فِعْلُهُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا وَلِهَذَا جَازَ التَّنْفِيلُ بِهِ (قَالَ): وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَمَكَثَ فِيهَا سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَ وَفِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ مَالَهُ الَّذِي خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَلِلسُّلْطَانِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ انْعَدَمَتْ الْحِمَايَةُ مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وَلَكِنْ يَعْنِي مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى أَهْلِ بَلَدِهِ لِأَنَّ فُقَرَاءَ أَهْلِ بَلَدِهِ لَهُمْ حَقُّ الْمُجَاوَرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَلَّ مَا يَجِدُ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ نَقَلَ صَدَقَةَ بَلَدِهِ إلَى فُقَرَاءِ بَلْدَةٍ أُخْرَى هُمْ أَفْضَلُ مِنْ فُقَرَاءِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ فَذَلِكَ أَوْلَى بِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسَيْفٌ فِيهِ فِضَّةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَغَيْرُهَا مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِهِ (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ بِخِلَافِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْجَوَاهِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُرُوضِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا وَالْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِالصَّنْعَةِ، وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا، وَلَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ الْأَوَانِي الْمَصُوغَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ إنَاءٌ مَصُوغٌ مِنْ الْفِضَّةِ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهِ عَلَى فَقِيرٍ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ رُبْعِ عُشْرِهِ مِنْ الذَّهَبِ فَإِنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ الْقِيمَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا يُؤَدَّى مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ تَسْقُطُ عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْوَزْنُ دُونَ الْجُودَةِ وَالصَّنْعَةِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ الذَّهَبِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْفَضْلِ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَقَالَ: هِيَ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكَلَّمَهُ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِهَا بِحُكْمِ النَّذْرِ فَمِلْكُهُ كَامِلٌ فِيهَا فَإِنَّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْمِلْكِ خُصُوصًا مَا لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ بِحَالٍ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إلَى حَاجَتِهِ فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ مِنْ جُمْلَةِ حَاجَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْفَاقِهِ الْمَالَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا يَنْوِي عَنْ زَكَاتِهَا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِمَا بَقِيَ مِمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ يَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْخَمْسَةِ الْأُولَى كَانَ عَنْ الزَّكَاةِ دُونَ النَّذْرِ فَإِنَّهُ نَوَاهَا عَنْ الزَّكَاةِ وَلِلْمَرْءِ مَا نَوَى ثُمَّ تَصَدَّقَ عَنْ نَذْرِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِمِائَتَيْنِ عَنْ نَذْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَمْسَةً أُخْرَى. وَإِنْ ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا مِمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ غَنِيًّا فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، وَلَا وَجْهَ لِتَجْوِيزِ الْمُؤَدَّى عَنْهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَمَّا نَوَاهُ، وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِلْمَحَلِّ وَهُنَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ، وَإِنَّمَا فَاتَ الْمَحَلُّ لِضَيَاعِ الْمَالِ وَمَعْنَى فَوَاتِ الْمَحَلِّ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقَّيْنِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ أُمَّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ لَهَا حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُزَكِّيَ ذَلِكَ مَعَ مَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ فَكَسْبُهَا وَمَا فِي يَدِهَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ كَسْبُ الْعَبْدِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَثِيرٌ مُحِيطٌ بِمَا فِي يَدِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى سَيِّدِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ فَالْفَضْلُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَارِغٌ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَالِهِ وَيُزَكِّيهِ وَلَكِنَّ هَذَا بَعْدَ مَا يَقْضِي الْعَبْدُ دُيُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دُيُونِهِ فَإِذَا قَضَى دُيُونَهُ فَالْآنَ يُسَلَّمُ الْفَضْلُ لِلْمَوْلَى فَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قَالَ): وَالْمَجْنُونُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ بَرِئَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِلْحَوْلِ الْمَاضِي سَوَاءٌ كَانَ مَجْنُونًا جُنُونًا أَصْلِيًّا، أَوْ جُنُونًا طَارِئًا، وَإِنْ أَفَاقَ فِي يَوْمٍ مِنْ الْحَوْلِ فِي أَوَّلِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ قَالَ: وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَمَضَانَ يَعْنِي إذَا كَانَ مُفِيقًا فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّ فِي الصَّوْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ وَالْجُنُونِ الطَّارِئِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَاَلَّذِي قَالَ هُنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَكْثَرُ الْحَوْلِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ هُوَ إنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَقَاسَ الْأَهْلِيَّةَ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمَحَلِّيَّةِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهِيَ السَّائِمَةُ فَإِنَّ صَاحِبَ السَّائِمَةِ إذَا كَانَ يَعْلِفُهَا بَعْضَ الْحَوْلِ اُعْتُبِرَ نَافِيهِ أَكْثَرَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ لَا تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَوْلَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ مُفِيقًا يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الْحَوْلِ مُفِيقًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ فَإِنَّ وُجُودَ الْمُسْتَفَادِ فِي مِلْكِهِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ، وَإِنْ قَلَّ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِفَاقَةِ (قَالَ): وَالْأَجِيرُ وَالْمُضَارَبُ وَصَاحِبُ الْبِضَاعَةِ وَالْمُسْتَوْدَعُ وَالْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ لَا يُعْتَبَرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمَّا الْأَجِيرُ وَصَاحِبُ الْبِضَاعَةِ وَالْمُسْتَوْدَعِ؛ فَلِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالِ، وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ، ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِنِيَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ وَأَدَائِهِ أَوْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا الْمُضَارَبُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْهُ الزَّكَاةَ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَأْخُذُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ يَعْقُوبُ: وَلَا أَعْلَمُهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الْآخَرِ يُوجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَبْدُ أَيْضًا، وَهُنَا نَصٌّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُضَارَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ رُجُوعُهُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا شَكَّ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لِكَسْبِهِ فَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ مَا بَقِيَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ السَّيِّدُ مَعَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ وَالشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَكِّيَ نِصْفَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 النِّصْفِ الْمُشْتَرَكِ بِالْكَامِلِ، وَإِنْ أَخَذَ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُضَارَبِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ غَاصِبٌ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ غُصِبَ بَعْضُ مَالِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارَبِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَكِنْ لَا رِبْحَ لَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ لِأَنَّ مَا أَخَذَ الْعَاشِرُ تَاوٍ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْمُضَارَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارَبُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ خَائِنٌ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِ مَنْ أَمَرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ، أَوْ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عِنَانٍ أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ الْمَالِ كُلِّهِ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ فِيمَا أَدَّى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ وَاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِيمَا أَدَّى مِنْ نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ مِنْ زَكَاةِ الشَّرِيكِ لِانْعِدَامِ نِيَّتِهِ وَأَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ فَيَتَعَاوَضَانِ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَطَوِّعًا فِيمَ أَدَّى الزَّكَاةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْفَقِيرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمَرَ صَاحِبَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا جَازَ الْمُؤَدَّى عَنْ زَكَاتِهَا، وَإِنْ أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا زَكَاةَ نَصِيبِهِ، وَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ أَدَّيَا مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا أَوَّلًا مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرَطَ عِنْدَ الْأَمْرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَأْمُورِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ، وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا فَالثَّانِي ضَامِنٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا سَوَاءٌ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَاسْتَسْعَى الْآخَرُ الْعَبْدَ فِي حِصَّتِهِ مِنْهُ بَعْدَ حَوْلٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبٌ وَمَا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ إذَا قَبَضَهُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَضَمَّنَهُ الشَّرِيكُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَقَبَضَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَلَكَ نَصِيبَهُ بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَرِثَ عَنْ أَبِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا بَعْدَ سِنِينَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى الْآخَرِ وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَمَا مَضَى فَفِي هَذَا الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْمَوْرُوثَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الضَّعِيفِ مِثْلَ الصَّدَاقِ وَبَدَلَ الْخُلْعِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَذَلِكَ فِي هَذَا وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ جَعَلَ الْمَوْرُوثَ كَالدَّيْنِ الْمُتَوَسِّطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ ثَمَنُ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ فَقَالَ: إذَا قَبَضَ نِصَابًا كَامِلًا بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ الدَّيْنُ كَانَ مَالَ الزَّكَاةِ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمِيرَاثِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يُمْلَكُ دَيْنًا عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ الصَّدَاقُ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ حَتَّى يُقْبَضَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالصَّدَقَةُ لِلْمَرْأَةِ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أَيِّ عَطِيَّةً وَمَا يُسْتَحَقُّ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لَا يَتِمُّ فِيهِ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ (قَالَ): وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَأَخَذَهَا بَعْدَ سِنِينَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَبَضَ مِنْهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَعِوَضُهُ يَكُونُ بِنَاءً فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَنِصَابُ الْبِنَاءِ يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُنَا أَصْلُ هَذَا الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ ثَمَنُهُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ أَصْلًا مُبْتَدَأً وَنِصَابُ الِابْتِدَاءِ يَتَقَدَّرُ بِمِائَتَيْنِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا إذَا قَبَضَ شَيْئًا قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ بَلَغَهُ فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الْمُوصَى بِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَلَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فِي حَقِّهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُوصَى بِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيرَاثِ فَإِنْ قَبِلَهَا ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ إنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَلَا يَتِمُّ مِلْكُهُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ، وَفِيهَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمِيرَاثِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ الرِّوَايَةُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حَتَّى لَا يُرَدَّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرَ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي فَأَمَّا مِلْكُ الْوَارِثِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَلِهَذَا اعْتَبَرَ هُنَاكَ مِلْكَ الْمُوَرِّثِ وَجَعَلَهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَاعْتَبَرَ هَاهُنَا مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَجْعَلْهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَاتَمُ فِضَّةٍ فِي أُصْبُعِهِ فِيهِ دِرْهَمٌ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ غَيْرَ شَهْرٍ ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ، وَبَقِيَ الْخَاتَمُ ثُمَّ اسْتَفَادَ أَلْفًا، وَتَمَّ الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ فِضَّةَ الْخَاتَمِ كَانَتْ مَضْمُومَةً إلَى الْأَلْفِ فِي حُكْمِ النِّصَابِ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَائِهَا، وَإِنْ ضَاعَ الْأَلْفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ بَقَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يَكْفِي لِبَقَاءِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْأَلْفَ، وَالْحَوْلُ بَاقٍ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاتَمٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْحَوْلَ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مُنْذُ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ جَمِيعُ النِّصَابِ حِينَ ضَاعَ الْمَالُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَبْقَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ مُنْعَقِدًا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَسْتَدْعِي جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ فَإِنْ وَجَدَ دِرْهَمًا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْأُوَلِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ضَمَّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ فَيُزَكِّي الْكُلَّ وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْبَقِيَّةَ بَعْدَمَا زَكَّى فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ كُلَّهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاتَمٌ؛ لِأَنَّ بِالضَّيَاعِ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ يَدُهُ وَتَمَكُّنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِأَنْ وَجَدَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ صَارَ الضَّيَاعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى وَجَدَ الْأَلْفَ الْأُخْرَى، وَتَمَّ الْحَوْلُ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ عَنْ الْكُلِّ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا وَجَدَ مَا ضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَكْمُلَ الْحَوْلُ فِيهِ مُنْذُ اسْتَفَادَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ، وَالْمَالُ الْأَوَّلُ تَاوٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِهِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ مِنْ حِينِ اسْتَفَادَ، وَإِنْ كَانَتْ ضَاعَتْ الْأَلْفُ الْأُولَى بَعْدَ الْحَوْلِ، وَبَقِيَ الْخَاتَمُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْخَاتَمِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُومًا إلَى مَالِهِ وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَلَمَّا تَمَّ الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ مَالِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ الْبَاقِي حِصَّتَهُ (قَالَ): فَإِنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ وَفِي يَدِهِ فِضَّةٌ فِيهِ دِرْهَمٌ فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ الْخَاتَمَ مِنْ نِصَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعَاشِرُ شَيْئًا، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِمَالٍ آخَرَ لَهُ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ كَمَالَ النِّصَابِ فِي الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ بِاعْتِبَارِ حَاجَةِ صَاحِبِ الْمَالِ إلَى الْحِمَايَةِ، ذَلِكَ فِي الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ عَلَيْهِ دُونَ الَّذِي خَلَّفَهُ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَمْرُورُ بِهِ عَلَيْهِ نِصَابًا كَامِلًا يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإِلَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بِقَضَاءٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِعَيْنِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرُّجُوعُ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَتَّى اسْتَفَادَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا لِمَا قُلْنَا لَهُ، وَيُزَكِّي الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ (قَالَ) فِي الْكِتَابِ: إذَا مَضَى تَمَامُ حَوْلٍ مُنْذُ مَلَكَهَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيُقْطَعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَيُعْتَبَرُ مُضِيُّ حَوْلٍ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَوْهُوبَ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ كَانَ انْعَقَدَ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَوْهُوبَ فَحِينَ اسْتَفَادَ أَلْفًا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ مَضْمُومَةً إلَى أَصْلِ النِّصَابِ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْمَوْهُوبِ صَارَ كَأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُسْتَفَادِ، وَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَمَّا هُوَ بَاقٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ يُنْهِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَالْمِلْكُ ثَبَتَ لَهُ فِي الْهِبَةِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ جَارِيَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عُقْرُهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ بَقِيَ الْوَلَدُ سَالِمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ أَجَرَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ كُلَّ سَنَةٍ بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْأُجْرَةَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ثُمَّ أَخَذَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَنَقُولُ: إذَا مَضَى ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ انْعَقَدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ هُنَا فَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا مَضَتْ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ فَإِذَا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْأُجْرَةِ ثَلَثَمِائَةٍ أُخْرَى، ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَإِنَّمَا تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ثَمَانِمِائَةٍ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْخَمْسِمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِمُضِيِّ الْحَوْلِ الثَّانِي ثَلَثَمِائَةٍ أُخْرَى فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَمَالُهُ ثَمَانُمِائَةٍ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْخَمْسِمِائَةِ دَيْنٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ الْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا تُعْتَبَرُ الْكُسُورُ. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يُوجِبُ فِيهَا الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ وَالْجَامِعِ وَالْأَمَالِي وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْقَبْضِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ، وَإِنْ أَخَذَتْ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ إذَا قَبَضَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي حُكْمِ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ هُوَ ثَمَنُ مَالِ التِّجَارَةِ فَإِذَا قَبَضَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ أَجَّرَهَا كُلَّ سَنَةٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ مَا لَمْ يَمْضِ كَمَالُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عِنْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ أُخْرَى زَكَّى أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَلَكَ مِائَتَيْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 دِرْهَمٍ أُخْرَى مِنْ الْأَجْرِ فَإِنَّمَا تَمَّتْ السَّنَةُ وَفِي مِلْكِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ أُخْرَى فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سِتِّمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ سِتُّمِائَةٍ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالْكُسُورُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا فَإِنَّمَا يُزَكِّي عِنْدَهُ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا. (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ضَمِنَهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ مِنْهُ الْأَصِيلَ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الَّذِي كَانَ لَهُ الْمَالُ، وَلَا عَلَى الضَّامِنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَمَّا الَّذِي لَهُ أَصْلُ الْمَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلزَّكَاةِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْيُونُ عَنِيًا أَوْ فَقِيرًا وَأَمَّا عَلَى الضَّامِنِ فَلِأَنَّ الْمَالَ قَدْ وَجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقَدْرِ مَالِهِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ وَمَالُ الْمَدْيُونِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ زَكَاةِ الْأَرَضِينَ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ] (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ فَمَنَحَهَا لِمُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ سُلِّمَ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ الْتَزَمَهُ فَيَكُونُ هَذَا وَالْخَارِجُ مِنْ مِلْكِهِ فِي حَقِّهِ سَوَاءً. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَيَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ إلَّا أَنَّهُ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ حُصُولُ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُعِيرَ آثَرَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ النَّمَاءِ فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِهِ (قَالَ: وَلَوْ مَنَحَهَا لِرَجُلٍ كَافِرٍ) فَعُشْرُهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هُنَا مَنَحَهَا مَنْ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَصِيرُ بِهِ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا يَمْنَحُهَا لِمُسْلِمٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُشْرُ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا بَلْ يَكُونُ مُحَوِّلًا حَقَّهُمْ مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ (قَالَ): وَلَوْ غَصَبَهَا مُسْلِمٌ فَزَرَعَهَا فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ نَقَصَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِنُقْصَانِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ يُسَلِّمُ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَيَلْزَمُهُ الْعُشْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَرَهَا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 مُسْلِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا الزَّرْعُ فَلَا عُشْرَ عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَا كَانَ مُسَلِّطًا لِلزَّارِعِ عَلَى زِرَاعَتِهَا وَلَكِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ سُلِّمَتْ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنْ غَصَبَهَا مِنْهُ كَافِرٌ فَإِنْ نَقَصَهَا الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّمَ لَهُ عِوَضُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَرَهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا فَلَا عُشْرَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَنْ سُلِّمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُشْرُ وَالْمَالِكُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ عُشْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ سُلِّمَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَسْلَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْكَافِرَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ عُشْرُهَا كَمَا كَانَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي مَصْرِفِ الْعُشْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْكَافِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيَرِ وَالزَّكَاةِ (قَالَ): وَلَوْ أَعَارَ الْمُسْلِمُ أَرْضَهُ الْخَرَاجِيَّةَ فَالْخَرَاجُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الْمُعِيرُ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ الْخَرَاجُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَمُؤْنَةُ الْمِلْكِ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إلَّا أَنَّ فِي الْعُشْرِ مَحَلَّ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ الْخَارِجَ فَأَمْكَنَ إيجَابُهَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا أَوْجَبْنَا الْخَرَاجَ فِي الْخَارِجِ وَمَحَلِّ الْخَرَاجِ ذِمَّةَ الْمَالِكِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى الْمَالِكِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ غَصَبَهَا مُسْلِمٌ، أَوْ كَافِرٌ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّهَا وَيَسْتَوِي إنْ قَلَّ النُّقْصَانُ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا بِعِوَضٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ النُّقْصَانُ مِثْلَ الْخَرَاجِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّهَا، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَقَلَّ فَعَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ شَيْئًا فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَ الْمَالِكِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ زَرَعَهَا، وَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا، أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا عَطَّلَهَا فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَإِذَا زَرَعَهَا فَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا، أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ انْعَدَمَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ مُصَابٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَانُ، وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهَا وَمِمَّا حُمِدَ مِنْ سِيَرِ الْأَكَاسِرَةِ أَنَّهُ إذَا أَصَابَ زَرْعَ بَعْضِ الرَّعِيَّةِ آفَةٌ غَرِمُوا لَهُ مَا أَنْفَقَ فِي الزِّرَاعَةِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَقَالُوا التَّاجِرُ شَرِيكٌ فِي الْخُسْرَانِ كَمَا هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 الْإِمَامُ شَيْئًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يُغَرِّمَهُ الْخَرَاجَ فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا وَلَكِنَّهَا غَرِقَتْ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَوْ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ زَرَعَهَا، أَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ فِيهَا الْعُشْرَ، أَوْ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ، أَوْ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ نَمَاءِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقَّيْنِ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَمَّا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا رَجَّحْنَا مَا تَقَرَّرَ فِيهَا، وَهُوَ الْعُشْرُ، أَوْ الْخَرَاجُ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ وَظِيفَةً لَازِمَةً لِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ أَسْرَعُ وُجُوبًا مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا كَمَالُ النِّصَابِ، وَلَا صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رَقَبَةِ الدَّارِ وَظِيفَةٌ أُخْرَى فَتُعْمَلُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ فِيهَا حَتَّى تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَاشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْأَرْضِ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْحَقَّيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَالزَّكَاةِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ وَقَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ ثُمَّ لَمْ يُجْزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ فِيهَا الْخَرَاجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنَّ هَذَا بَعْدَ مَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْلِمٌ، أَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً عَلَى حَالِهَا سَوَاءٌ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، أَوْ لَمْ يُوضَعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَيْبٌ، وَهَذَا عَيْبٌ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بِشَرْطِ أَنَّ خَرَاجَهَا دِرْهَمٌ فَوَجَدَهُ دِرْهَمَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَإِنْ كَانَ زِيَادَةُ الْخَرَاجِ عَيْبًا فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَرَاجِ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ حَتَّى وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا بِيعَتْ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ هُنَا وَمُرَادُهُ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا مُطَالَبَةُ صَاحِبِهَا بِأَدَاءِ الْخَرَاجِ (قَالَ): وَلَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 أَنَّ تَغْلِبِيًّا اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ فَلِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ فَلِأَنَّ كَافِرًا آخَرَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً كَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ مُضَاعَفًا عِنْدَهُ فَالتَّغْلِبِيُّ أَوْلَى وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ تَضْعِيفَ الْعُشْرِ فِي الْأَرَاضِي الْأَصْلِيَّةِ لَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَرَضِينَ التَّغْلِبِيُّ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَمَا صَارَ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً كَانَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ نَجْرَانَ كَانَ عَلَيْهِ الْمَالُ عَلَى حَالِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْخَرَاجُ مِمَّا لَا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ فَلَا يُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْعُشْرُ مِمَّا يَبْذُلُهُ الْمُسْلِمُ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَائِمَةً مِنْ مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فِيهَا مُضْعِفَةً وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ مَا تَمَلَّكَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ. (قَالَ): وَإِنْ بَاعَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ بَلَغَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ فِيهَا ثُمَّ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْعُشْرِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الزَّرْعُ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عُشْرُ الزَّرْعِ غَلَى الْبَائِعِ وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْقَصِيلِ إذَا قَصَلَهُ صَاحِبُهُ وَإِذَا لَمْ يَقْصِلْهُ حَتَّى انْعَقَدَ الْحَبُّ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْحَبِّ دُونَ الْقَصِيلِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْحَبُّ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّرْعُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، وَانْعِقَادُ الْحَبِّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي النَّمَاءِ الْحَاصِلِ، وَأَصْلُ الزَّرْعِ إنَّمَا حَصَلَ لِلْبَائِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي إنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْعُشْرِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَى الْبَائِعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وَمَا حَصَلَ مِنْ الْفَضْلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ إنَّمَا يَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ فَعَلَيْهِ عُشْرُ ذَلِكَ الْفَضْلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَضْرَاوَاتِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ عِنْدَهُمَا (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ أَرْضًا غَصَبَهَا رَجُلٌ فَزَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يَتَصَدَّقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِشَيْءٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ، أَوْ تَصَرَّفَ الْمُودَعُ وَرَبِحَ (قَالَ): فَإِنْ كَانَ أَجَرَهَا بِمَالٍ كَثِيرٍ يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَيَّنَهَا فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ كَانَ مِلْكًا طَيِّبًا لَهُ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِهَا بِنَذْرِهِ وَالِالْتِزَامُ بِالنَّذْرِ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهَا وَيُمْسِكَهَا فَلِهَذَا لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَأَمَّا هُنَا إنَّمَا لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ فِي عَيْنِ هَذَا الْمَالِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ وَيُمْسِكَهُ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ هَذَا فَقَالَ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا وَالْفَضْلُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا كَامِلٌ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْحَوْلِ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ الْخَبَثُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَقُلْنَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَمَا كَانَ يَتَصَدَّقُ قَبْلَ الْحَوْلِ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ بِمَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ كَافِرٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوضَعُ فِيهَا الْخَرَاجُ لِأَنَّ الْحَبَّ انْعَقَدَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَرَعَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْبَائِعِ عُشْرُ الزَّرْعِ وَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْكَافِرِ أَمَّا قَوْلُهُ عَلَى الْبَائِعِ عُشْرُ الزَّرْعِ صَحِيحٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِيمَا بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْكَافِرِ فَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْكَافِرَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ فِيهَا عُشْرَانِ، وَلَا يُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ فَهُنَا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ يَجِبُ فِي الْفَضْلِ عُشْرَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ عَلَيْهِ عُشْرُ الْفَضْلِ فَإِذَا كَانَ كَافِرًا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْفَضْلِ عُشْرَانِ (قَالَ): وَإِنْ أَجَرَهَا مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَزْرَعْهَا فَلَا عُشْرَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعُشْرِ الْخَارِجُ وَلَمْ يَحْصُلْ وَلَوْ عَطَّلَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الْمَالِكُ لَمْ يَجِبْ عُشْرُهَا عَلَى أَحَدٍ فَكَذَلِكَ إذَا عَطَّلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَبِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَتَقَرَّرُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ مَاتَ رَبُّهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ وَرَثَتُهُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى التَّرِكَةِ كَالزَّكَاةِ ثُمَّ خَرَاجُ الْأَرْضِ مُعْتَبَرٌ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الصِّغَارِ وَكَمَا أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. (قَالَ): وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَفِيهَا زَرْعٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى حَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، وَقَالَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الزَّرْعُ كَمَا حَصَلَ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الْأَرْضِ عُشْرُهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ حَقُّ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ الْمَالِكُ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ وَالْمَدْيُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَبِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ وَلَكِنْ يَبْقَى بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَبِمَوْتِهِ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَالْمَالُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّمَّةِ فِيهَا فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وُجُوبَ الْخَرَاجِ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَمَالُ الصَّبِيِّ مُحْتَمِلٌ لِلْمُؤْنَاتِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَاتِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَجَّلَ خَرَاجَ أَرْضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ مِلْكُ الْأَرْضِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، ذَلِكَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ جَائِزٌ لِسَنَةٍ وَلِسَنَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لِسَنَتَيْنِ كَانَ جَائِزًا فَكَذَلِكَ إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ النِّصَابِ لِسَنَتَيْنِ كَانَ جَائِزًا فَأَمَّا إذَا عَجَّلَ عُشْرَ أَرْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَهَا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْعُشْرَ، وَإِنْ كَانَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْخَارِجِ فَلَا يَتِمُّ السَّبَبُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَقَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهَا سَائِمَةً وَبَعْدَ مَا زَرَعَهَا جَازَ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ سَوَاءٌ اسْتَحْصَدَ، أَوْ لَمْ يَسْتَحْصِدْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَمَّ، وَلَمْ يَبْقَ إلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَهُوَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ عَجَّلَ عُشْرَ نَخْلَهُ قَالَ: هُنَا يُجْزِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ حَصَلَ الطَّلْعُ جَازَ التَّعْجِيلُ وَإِلَّا لَمْ يُجْزِ لِأَنَّ مِلْكَ النَّخْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 كَمِلْكِ الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يَجِبُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ فَكَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ عُشْرِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الطَّلْعُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ عُشْرَ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ؛ لِأَنَّ الْقَصِيلَ مَحَلٌّ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَصَلَهُ كَمَا هُوَ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْعُشْرِ مِنْهُ فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ بِاعْتِبَارِهِ وَأَمَّا النَّخْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعُشْرِ فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ كَانَ حَطَبًا لَا شَيْءَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْعُشْرُ بِاعْتِبَارِهِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْعُشْرِ إلَّا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَمَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ عَنْ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ وَعَنْ النِّصَابِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَ نَخْلٍ، أَوْ مُشْجِرَةٌ فَلَا خَرَاجَ فِيهَا لَكِنْ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ مَا تَطِيقُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا خَرَاجُ الْكَرْمِ، وَلَا خَرَاجَ الرُّطَبَةِ، وَلَا خَرَاجُ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْأَرَاضِي فِي الِانْتِفَاعِ وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا وَظَّفَ مِنْ الْخَرَاجِ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ حَيْثُ قَالَ لِلَّذِينَ مَسَحَا الْأَرَاضِي لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرَاضِيَ مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا: بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تَطِيقُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الطَّاقَةُ فَفِي الْمُشْجِرَةِ وَأَرْضِ النَّخْلِ تُعْتَبَرُ الطَّاقَةُ أَيْضًا، ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى غَلَّتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ غَلَّةِ الرُّطَبَةِ فَخَرَاجُهَا مِثْلُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ غَلَّةِ الْكَرْمِ، وَكَذَلِكَ. (قَالَ): فَإِنْ عَجَّلَ خَرَاجَ أَرْضِهِ ثُمَّ غَرِقَتْ تِلْكَ السَّنَةَ كُلَّهَا فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا أَدَّى مِنْ خَرَاجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ خَرَاجُهَا وَيَدُ الْإِمَامِ فِي الْخَرَاجِ الْمُعَجَّلِ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ إذَا عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي ثُمَّ هَلَكَتْ السَّائِمَةُ وَالْمُعَجَّلُ قَائِمٌ فِي يَدِ السَّاعِي فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَرَاجِ (قَالَ): فَإِنْ زَرَعَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَحْسِبُ لَهُ مَا أَدَّى مِنْ خَرَاجِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ كَيَدِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي حَوْلٍ آخَرَ. قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ فَتَتِمُّ تَطَوُّعًا عِنْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَهُنَا لَا يَتِمُّ الْمُؤَدَّى خَرَاجًا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَيُحْسَبُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ خَرَاجِهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي (قَالَ): فَإِنْ أَجَرَ أَرْضِهِ سِنِينَ فَغَرِقَتْ سَنَةً فَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْضُبَ الْمَاءُ عَنْهَا، وَلَا خَرَاجَ عَلَى رَبِّهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي غَرِقَتْ فِيهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ انْعَدَمَ إلَّا أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ لِلْمُدَّةِ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرَقَ وَالْخَرَاجُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضٌ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ إنَّمَا يَجِبُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ غَرِقَتْ الْأَرْضُ وَتَكُونُ الْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَعَ بَقَائِهَا بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَتَبْقَى الْإِجَارَةُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْعَقْدَ فَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ الْإِجَارَةُ مُسْتَقْبَلَةً؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لَهُ قَائِمٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا أَبَقَ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْعَقْدَ حَتَّى عَادَ كَانَتْ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةً، وَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَعُدْ الْإِجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا أَدَّى أَبُوهُ عُشْرَ أَرْضَهُ أَوْ خَرَاجَهَا، أَوْ أَدَّى ذَلِكَ وَصِيُّهُ فَهُمَا ضَامِنَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا إذَا أَدَّيَا الْعُشْرَ إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْخَرَاجَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِيهِمَا لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الصَّبِيِّ بِأَدَائِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمُقَاتِلَةِ فَأَمَّا إذَا أَدَّيَا إلَى السُّلْطَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَكَيْفَ يَضْمَنَا وَالسُّلْطَانُ يُطَالِبُهُمَا بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُمَا عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ بَيَّنَ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْخُمْسِ وَالْجِزْيَةِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. (قَالَ): فَإِنْ اشْتَرَى بِمَالِ الْخَرَاجِ غَنَمًا سَائِمَةً لِلتِّجَارَةِ، وَحَال عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ الْغَنَمُ الْمَأْخُوذَةُ فِي الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْإِمَامِ، وَهِيَ سَائِمَةٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْوَاجِبِ وَالْمُوجِبَ فِيهِ وَاحِدٌ، وَهُنَا فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَائِدَةٌ فَإِنَّ مَصْرِفَ الْمُوجِبَ فِيهِ الْمُقَاتِلَةُ وَمَصْرِفَ الْوَاجِبِ الْفُقَرَاءُ فَكَانَ الْإِيجَابُ مُفِيدًا فَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَالِكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ، وَلَا فِي سَوَائِمِ الْمُكَاتَبِ وَيُعْتَبَرُ فِي إيجَابِهَا صِفَةُ الْغِنَى لِلْمَالِكِ، ذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا إذَا اشْتَرَاهَا الْإِمَامُ بِمَالِ الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَالِكِ وَصِفَةِ الْغِنَى لَهُ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ فَضَمَّهَا مَعَهَا ثُمَّ ضَاعَ مَعَهَا عَشَرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيِّهِمَا هِيَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثٌ مِنْ الْغَنَمِ فِيهَا وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجُمْلَةَ كَانَتْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَحِينَ ضَاعَ مِنْهَا عَشَرَةٌ يُجْعَلُ مَا ضَاعَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 لَا زَكَاةَ فِيهِ بِالْحِصَّةِ فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ مَا ضَاعَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَسُبُعَاهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَشَرَةِ سَبْعَةٌ وَسُبُعٌ وَقَدْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَاعَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسُبُعٌ، وَبَقِيَ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنْ كَانَ سُبُعٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ فَإِذَا جَمَعْتَ خَمْسَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ يَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ أَسْبَاعٍ فَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاصٍ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الشَّرْعُ أَوْجَبَ الْغَنَمَ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ بِإِيجَابِ الشِّقْصِ عَلَيْهِ كَمَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَيُجْعَلُ الْهَلَاكُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّ فِي مِلْكِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَسِتَّةَ أَسْبَاعٍ فَعَلَيْهِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْغَنَمِ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ مُعْتَبَرٌ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَا يُعْتَبَرُ، وَلَكِنْ يَبْقَى مِنْ الْوَاجِبِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحْوِيلِ إلَى الْغَنَمِ عِنْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ فَقَالَ: إنْ عَرَفَ خَمْسَةً مِنْ الْإِبِلِ فَعَلَيْهِ فِيهَا خُمُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَفِي الْبَاقِيَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ بِنْتِ مَخَاضٍ أَمَّا وُجُوبُ خُمُسِ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي الْخَمْسَةِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ بِنْتُ الْمَخَاضِ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ فِي خَمْسَةٍ خُمُسُهَا ثُمَّ بَقِيَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ عَشْرَةٌ وَالْهَالِكُ عَشْرَةٌ فَثُلُثُ الْهَالِكِ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَثُلُثَا مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَإِذَا نَقَصْنَا ذَلِكَ مِنْ الْعِشْرِينَ بَقِيَ ثُلُثُ عُشْرٍ وَثُلُثٌ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ ثُلُثَا بِنْتِ مَخَاضٍ فِي سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّهَا ثُلُثَا خَمْسَةٍ وَعِشْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسه فَإِنَّ كُلَّ خُمْسٍ يَكُون ثَلَاثَةً وَثُلُثًا فَلِهَذَا قَالَ فِي الْبَاقِيَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا فَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ ثُمَّ ضَاعَ نِصْفُهَا فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي نِصْفُ بِنْتِ مَخَاضٍ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْهَالِكِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَنِصْفَهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ وَأَنَّ مَا بَقِيَ نِصْفُ مَالِ الزَّكَاةِ فَلِهَذَا قَالَ: عَلَيْهِ نِصْفُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي الْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالْبَاقِي مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَلَكِنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى كَمَا بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرَ بَعْد هَذَا إلَى آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَعْدِنِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ ذَلِكَ هُنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [كِتَابُ الصَّوْمِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا أَيْ وَاقِفَةٌ وَمِنْهُ صَامَ النَّهَارُ إذَا وَقَفَتْ الشَّمْسُ سَاعَةَ الزَّوَالِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ إمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا طَاهِرًا مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَفِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَأَصْلُ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَفِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُوجِبًا، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَأَمَرَ بِالْأَدَاءِ نَصًّا بِقَوْلِهِ فَلْيَصُمْهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّوْمَ وَقَدْ كَانَ وَقْتُ الصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَوْ يَنَامُ وَهَكَذَا كَانَ فِي شَرِيعَةٍ مَنْ قَبْلِنَا ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَجَعَلَ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ حِينِ يَطْلُعْ الْفَجْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ} [البقرة: 187] الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ وَالْخَيْطُ اللَّوْنُ وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» وَسَبَبُ هَذَا التَّخْفِيفِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْهُودًا فَقَالَ: مَا لَك أَصْبَحْت طَلْحًا أَوْ قَالَ طَلِيحًا» الْحَدِيثُ وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي النَّاسِ أَكْلَتَانِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ بِتَرْكِ الْغَدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ بِأَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعَشَاءُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْقَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَكْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ فِي تَقْدِيمِ الْغَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّحُورِ إنَّهُ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ وَالتَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ مُجَاهِدَةُ النَّفْسِ وَالْمُجَاهَدَةُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَنْعِ النَّفْسِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الطَّعَامِ وَقْتَ الِاشْتِهَاءِ وَالثَّانِي بِالْقِيَامِ وَقْتَ حُبِّهَا الْمَنَامَ وَمِنْ الْمُجَاهَدَةِ حِفْظُ اللِّسَانِ وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ وَذَكَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ لَا أَدْرِي لَعَلَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي هَذَا إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَكِنْ عَظِّمُوهُ كَمَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُبِنْ مَذْهَبَ نَفْسِهِ، وَلَا رَوَى خَبَرًا بِخِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَالُوا: فِي بَيَانِ الْمَعْنَى إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْمَاضِ، وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالْمُحْرِقُ لِلذُّنُوبِ الْمَذْهَبُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وَقَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» وَقَالَ: «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ رَمَضَانَ وَاثِبَاتُ الِاسْمِ لَا يَكُونُ بِالْآحَادِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشَاهِيرِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَالَ: جَاءَ الْحَكِيمُ وَالْعَالِمُ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ): رَجُلٌ تَسَحَّرَ وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمُرَادُهُ الْفَجْرُ الثَّانِي فَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّوْمِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ»، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَسَحُّرَهُ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَسَدَ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقِيسُهُ عَلَى النَّاسِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعِنْدَنَا الْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ هَذَا الْغَلَطِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ثُمَّ فَسَادُ صَوْمِهِ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ مَشْرُوعٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ»؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَيَضْمَنُهُ بِالْمِثْلِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْجَانِي قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهَرِ وَاَلَّذِي أَفْطَرَ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ فَعَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا» وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ حِينَ أَفْطَرَ مَعَ الصَّحَابَةِ يَوْمًا فَلَمَّا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ الْمِئْذَنَةَ قَالَ الشَّمْسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ وَقَضَاءَ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جُنُبًا فَصَوْمُهُ تَامٌّ إلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ». (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضِ} [البقرة: 187]، وَإِذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُبَاحَةً فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ضَرُورَةً وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إنِّي أَصْبَحْت جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا رُبَّمَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ: لَسْت كَأَحَدِنَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِمَا يَبْقَى». وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَذُكِرَ قَوْلُهَا لِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: هِيَ أَعْلَمُ حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَيِّتًا ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا أَهْلَهُ، وَإِنْ احْتَلَمَ نَهَارًا لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» (قَالَ): وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ، وَإِنْ تَقَيَّأَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ»؛ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ فَفِي تَكَلُّفِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ كُلُّ مُفْطِرٍ غَيْرُ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَلِيءِ الْفَمِ، وَمَا دُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ مَا دُونَ مَلِيءِ الْفَمِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ فَكَانَ قِيَاسَ مَا لَوْ تَجَشَّأَ وَمِلْءُ الْفَمِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِرِيقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَاقِضٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 لِطَهَارَتِهِ فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ أَعَادَهُ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَرَدَّهُ، وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَكَانَ مِلْءَ فِيهِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَادَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الصُّنْعَ فِي طَرَفِ الْإِخْرَاجِ، أَوْ الْإِدْخَالِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ الْإِمْسَاكُ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِرِيقِهِ حَتَّى إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ، وَعَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ تَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فَمِهِ فَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَاهُمَا لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِطَهَارَتِهِ وَفِي الْأُخْرَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِكَثْرَةِ صُنْعِهِ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ جَمِيعًا فَكَانَ قِيَاسَ مِلْءِ الْفَمِ (قَالَ): وَإِنْ احْتَجَمَ الصَّائِمُ لَمْ يَضُرَّهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّونَ فِيهِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ بِنَا أَبُو طَيْبَةَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَقُلْنَا مِنْ أَيْنَ جِئْت فَقَالَ: حَجَمْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ الدَّمَ فَرَخَّصَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَةِ» وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ أَذْهَبَتْ ثَوَابَ صَوْمِهِمَا الْغَيْبَةُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ثُمَّ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ وَبَقَاءُ الْعِبَادَةِ بِبَقَاءِ رُكْنِهَا (قَالَ): وَاذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهَا صَوْمُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَعَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 مَنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ الْإِفْطَارُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ فِيهِ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَعَلَى هَذَا الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَرِيضُ إذَا بَرِئَ وَالْمُسَافِرُ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ عِنْدَهُ بِخِلَافِ يَوْمِ الشَّكِّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُتَسَحِّرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بَاطِنًا وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ صَارَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى صِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَشْرُوعٌ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ فَوَاتِهِ لِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ، وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهْمَةِ وَاجِبٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفْنَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ». وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إيَّاكَ وَمَا يَقَعُ عِنْدَ النَّاسِ إنْكَارُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكُرًا يُطِيقُ أَنْ يُوسِعَهُ عُذْرًا، وَإِنْ أَكَلَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَحِقَ الْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ سَائِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: مَا بَالُ إحْدَانَا تَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَمَا أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْأَدَاءِ وَفِي قَضَاءِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ عِشْرِينَ يَوْمًا حَرَجٌ بَيِّنٌ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا كَبِيرُ حَرَجٍ (قَالَ): وَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ وَيُبَاشِرُ إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ» وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يُصِيبُ مِنْ وَجْهِهَا، وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِأَدَبِهِ أَوْ لِإِرَبِهِ فَالْأَدَبُ الْعُضْوُ وَالْإِرْبُ الْحَاجَةُ «وَجَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاسْتَغْفِرْ لِي قَالَ وَمَا ذَنْبُك قَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك فَقَالَ: لَا قَالَ: فَقُمْ إذَنْ» وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى بَقَاءِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَانْعِدَامِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِنَفْسِ التَّقْبِيلِ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ فَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ شَابًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَمَنَعَهُ، وَسَأَلَ شَيْخٌ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ عَلِمْت لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 إلَى بَعْضٍ إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي حَدِيثِهِ «أَنَّ الشَّابَّ قَالَ لَهُ: إنَّ دِينِي وَدِينَهُ وَاحِدٌ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ»، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ الْقُبْلَةِ إلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَعَلَى هَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِلصَّائِمِ وَكَذَلِكَ بِأَنْ يُعَانِقَهَا وَهُمَا مُتَجَرِّدَانِ وَيَمَسَّ ظَاهِرُ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا (قَالَ): وَإِنْ اشْتَبَهَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَى الْأَسِيرِ تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَطَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ كَأَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَرِّي، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا بَعْدَهُ جَازَ بِشَرْطَيْنِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَتَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَفِي الْقَضَاءِ يُعْتَبَرُ هَذَانِ الشَّرْطَانِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ وَلَمْ يَنْوِ الْقَضَاءَ. قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَوَّالَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عَنْ الْقَضَاءِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ ذِي الْحَجَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا آخَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ كَامِلًا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي يَوْمًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ (قَالَ): وَإِنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ لَا يَعْلَمُ فَصَوْمُهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ شَرْطٌ لِأَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي زَمَانِ رَمَضَانَ صَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِ الْفَرْضِ فِيهِ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ فَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وَهَبَ النِّصَابَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ فَقِيرٍ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. (وَلَنَا) حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِعْلٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ وَالْعَزِيمَةِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَعْمَالُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ وَيَصْرِفُ إلَيْهِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَصَرْفُ مَنَافِعِهِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ وَعَزِيمَةٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ النِّصَابِ مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى الْعَزِيمَةِ حَصَلَ لِحَاجَةِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِفَقِيرٍ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَقُولُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ فِي مَعْنَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالشُّرُوعُ فِيهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا كَذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا بَقِيَ وَأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْأَيَّامِ زَمَانٌ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَإِنْ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا بَقِيَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ صَلَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَسْتَدْعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِيَّةً عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ فَهُوَ صَائِمٌ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَنَوَى النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ كَانَ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَهُوَ كَنِيَّةِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ قُرْبَةٌ كَأَصْلِ الصَّوْمِ فَكَمَا لَا يَتَأَدَّى أَصْلُ الصَّوْمِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَبِانْعِدَامِ الصِّفَةِ يَنْعَدِمُ الصَّوْمُ ضَرُورَةً وَعَلَى هَذَا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَا يَجُوزُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ صَارَ مُعْرِضًا عَنْ الْفَرْضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايِرَةِ فَصَارَ كَإِعْرَاضِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقِدَ فِي الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُعْرِضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ وَكَانَا يَقُولَانِ، لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا كَانَا يَصُومَانِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ التَّبَيُّنِ يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّحَرُّزِ مِنْهُمَا مَعْنًى ثُمَّ هَذَا صَوْمُ عَيْنٍ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا وَالْمُتَعَيِّنُ فِي زَمَانٍ كَالْمُتَعَيِّنِ فِي مَكَان فَيَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجِنْسِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّوْعِ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ لِبَقَاءِ الِاخْتِيَارِ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إبْدَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِوَصْفٍ آخَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الصِّفَةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَغْوٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ يَكُونُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْرَاضُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى جَازَ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُقِيمَ فِي التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ قَصَدَ صَرْفَ مَنَافِعِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ مَصَالِحِ بَدَنِهِ وَفِي هَذِهِ النِّيَّةِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَصُومَ، أَوْ يُفْطِرَ فَصَحَّ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ أَوْ يُفْطِرَ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ النَّفَلَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتٌ مُشْتَبَهٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ النُّجُومَ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ سَحَرًا فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزَ لَهُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِأَنْ تُجْعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 تِلْكَ النِّيَّةُ كَالْقَائِمَةِ حُكْمًا فَأَمَّا النِّيَّةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ وَفِي الْكِتَابِ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَالثَّانِي إذَا نَوَى قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالشَّرْطُ عِنْدَنَا وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِيُقَامَ مُقَامَ الْكُلِّ، وَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الزَّوَالِ نِصْفُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ قَلْبُهُ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ لَا يُجْزِئُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَصْدَ وَالْعَزِيمَةَ عِنْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ لِيَكُونَ قُرْبَةً كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْجُزْءُ قُرْبَةً وَمَا بَقِيَ لَا يَكْفِي لِلْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى مَعَ أَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْفَرْضِ عَلَى الضِّيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى أَلَا مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى اللَّيْلِ ثُمَّ هُوَ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى سَائِرِ الصِّيَامَاتِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَوْمُ صَوْمٍ فَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلصَّوْمِ رُكْنًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِأَكْثَرِهِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ فَيُجْعَلُ كَاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِجَمِيعِهِ ثُمَّ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَاب الصَّوْمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّقْدِيمِ فَصَارَتْ حَالَةُ الشُّرُوعِ هُنَا كَحَالَةِ الْبَقَاءِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا جَازَ نِيَّتُهُ مُتَقَدِّمَةً دَفْعًا لِلْحَرَجِ جَازَ نِيَّتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حَالَةِ الشُّرُوعِ بِطَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالشُّرُوعِ هُنَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ بِالْأَدَاءِ وَمَعْنَى الْحَرَجِ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ لَا يَنْدَفِعُ بِجَوَازِ التَّقْدِيمِ فَفِي الصَّائِمِينَ صَبِيٌّ يَبْلُغُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَحَائِضٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 تَطْهُرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَلَا يَنْتَبِهُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِي أَيَّامِهِ يَوْمَ الشَّكِّ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ لَيْلًا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ جَانِبُ الْعَدَمِ ثُمَّ الْقُرْبُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ وَقَعَ فِي تَرْكِ الْغَدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا وَوَقْتُ الْغَدَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ تَارِكًا لِلْغَدَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ، وَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْغَدَاءَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَلَا يَكُونُ صَوْمًا وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَدْ قَدِمَ مِصْرَهُ، أَوْ لَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ يَقُولُ إمْسَاكُ الْمُسَافِرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَيْهِ فِي حَقِّهِ إلَى أَوَّلِ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرَ وَقْتِ الْأَدَاءِ مُقَامَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ فَالْمُسَافِرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أُسْوَةُ الْمُقِيمِ إنَّمَا يُفَارِقُهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يَتَرَخَّصْ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي وَقْتِهَا مَعَ ضَرْبِ نُقْصَانٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَبِهَذَا فَارَقَ صَوْمَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْأَيَّامُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ نُجَوِّزْهُ مَعَ النُّقْصَانِ فَلِهَذَا اعْتَبَرَ صِفَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْهُ فَصَوْمُهُ جَائِزٌ، وَقَدْ أَسَاءَ حِينَ تَقَدَّمَ النَّاسَ وَمُرَادُهُ فِي هَذَا يَوْمُ الشَّكِّ وَمَعْنَى الشَّكِّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ وَطَرَفُ الْجَهْلِ بِالشَّيْءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ غُمَّ هِلَالُ شَعْبَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ أَنَّهُ الْيَوْمُ الثَّلَاثُونَ مِنْهُ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ، أَوْ غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، أَوْ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا خِلَافَ إنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِيهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ»؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ نَوَى الْفَرْضَ فَقَدْ اعْتَقَدَ الْفَرِيضَةَ فِيمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَذَلِكَ كَاعْتِقَادِ النَّفْلِيَّةِ فِيمَا هُوَ فَرْضٌ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَأَمَّا إذَا صَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ وَافَقَ ذَلِكَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، أَوْ صَامَ قَبْلَهُ أَيَّامًا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ» وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالصَّوْمُ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ. (قَالَ): إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، أَوْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ نَشِزٍ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ قَالَ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ غَيْمٌ أَظْهَرَ فَإِنَّ الْغَيْمَ مَانِعٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَعِنْدَ قِيَامِهِ أَوْلَى. (وَلَنَا) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ ثُمَّ هُوَ مُخْبِرٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ كَمَنْ رَوَى حَدِيثًا، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَلَعَلَّهُ تَقَشَّعَ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَاتَّفَقَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَنْظَرِ وَحِدَةِ الْبَصَرِ وَمَوْضِعِ الْقَمَرِ فَإِذَا رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ»، وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّيَقُّنِ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ وَتَيَقُّنُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِشَكِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِيهِ عَنْ الْفَرْضِ، وَيَوْمُ الشَّكِّ يُنْهَى فِيهِ عَنْ مِثْلِهِ وَكَمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْفِطْرِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْجَبَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ الْفِطْرُ لَهُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يَصِيرُ شُبْهَةً وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْفِطْرِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْيَوْمُ رَمَضَانُ مِنْ وَجْهٍ شَعْبَانُ مِنْ وَجْهٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَا يَلْزَمُهُمْ الصَّوْمَ فِيهِ وَيَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْيَوْمُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ فِيهِ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي فِي حَقِّهِ (قَالَ): رَجُلٌ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ فَقَالَ: قَدْ أَفْطَرَا» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ حُصُولَ الْإِنْزَالِ بِهِ ثُمَّ مَعْنَى افْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قَدْ حَصَلَ بِالْإِنْزَالِ فَانْعَدَمَ رُكْنُ الصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا وَلَكِنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِنُقْصَانٍ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّقْبِيلَ تَبَعٌ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ أَنْزَلَتْ لِحَدِيثِ «أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ امْرَأَةٍ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَلْتَغْتَسِلْ» أَشَارَ إلَى أَنَّهَا تُنْزِلُ كَالرَّجُلِ، وَإِذَا أَنْزَلَتْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ (قَالَ): وَمَنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي صَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ ذَلِكَ وَالنَّفَلُ وَالْفَرْضُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَرْضِ يَقْضِي، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْضِي أَيْ لَوْلَا رِوَايَتُهُمْ الْأَثَرَ أَوْ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَالَفَ الْأَثَرَ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ يَنْعَدِمُ بِأَكْلِهِ نَاسِيًا كَانَ، أَوْ عَامِدًا وَبِدُونِ الرُّكْنِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ فَلَا يُمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدَاءِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْطُرْ، وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَفْطَرَ قَالَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الصَّوْمِ زَمَانُ وَقْتٍ لِلْأَكْلِ عَادَةً فَيُبْتَلَى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ وَلَيْسَ بِوَقْتِ الْجِمَاعِ عَادَةً فَلَا تَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ وُرُودًا فِي الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَنْ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 اجْعَلْ زَيْدًا وَعُمَرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا فَإِنْ تَذَكَّرَ فَنَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَكَذَا الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُخَالِطٌ لِأَهْلِهِ إذَا نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِمَا جَمِيعًا يَقْضِي الصَّوْمَ لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْمُوَاقَعَةِ، وَإِنْ قَلَّ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَقْضِي بِخِلَافِ النَّاسِي وَالْفَرْقُ أَنَّ اقْتِرَانَ الْمُوَاقَعَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الصَّوْمِ، وَفِي النَّاسِي صَوْمُهُ كَانَ مُنْعَقِدًا وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ فَبَقِيَ صَائِمًا فَإِنْ أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ كَالْإِنْشَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ ابْتِدَاءَهُ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ إذَا أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ أَوَّلِهِ وَفِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ أَوَّلُ فِعْلِهِ عَمْدٌ فَكَذَلِكَ آخِرُهُ بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنْ ذُكِّرَ النَّاسِي فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَأَكَلَ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِبَقَاءِ الْمَانِعِ، وَهُوَ النِّسْيَانُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ قَدْ لَزِمَهُ حِينَ ذُكِّرَ وَعَدَمُ التَّذَكُّرِ بَعْدَ مَا ذُكِّرَ نَادِرٌ فَلَا يُعْتَبَرُ (قَالَ): وَإِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فَسَبَقَهُ الْمَاءُ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ كَمَا لَوْ شَرِبَ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ثُمَّ عُذْرُ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي فَإِنَّ النَّاسِيَ قَاصِدٌ إلَى الشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَهَذَا غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الشُّرْبِ وَلَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ ثَمَّةَ فَهُنَا أَوْلَى. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فَالنَّهْيُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي فِيهَا كَمَالُ السُّنَّةِ عِنْدَ الصَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي حَلْقِهِ مُفْسِدٌ لِصَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعَ عُذْرِ الْخَطَأِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا لَا يُتَصَوَّرُ وَهَكَذَا الْقِيَاسُ فِي النَّاسِي وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 التَّحَرُّزَ عَنْ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ مُمْكِنٌ ثُمَّ رُكْنُ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعْنًى فَإِنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا قَدْ انْعَدَمَ صُورَةً لَا مَعْنًى بِأَنْ يَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَسَدَ صَوْمُهُ فَإِذَا انْعَدَمَ مَعْنًى أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَبْيَنُ مِنْ مُرَاعَاةِ الصُّوَرِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: إنْ كَانَ وُضُوءُهُ فَرْضًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا فَسَدَ صَوْمُهُ لِهَذَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إنْ كَانَ فِي الثَّلَاثِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَإِنْ جَاوَزَ الثَّلَاثَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصْلَ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْعُ الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِهِ نَقُولُ (قَالَ): وَالِاكْتِحَالُ لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَقُولُ: إنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَطَّرَهُ لِوُصُولِ الْكُحْلِ إلَى بَاطِنِهِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعَا بِمُكْحُلَةِ إثْمِدٍ فِي رَمَضَانَ فَاكْتَحَلَ، وَهُوَ صَائِمٌ». وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ» وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فَرْضًا ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا ثُمَّ مَا وَجَدَ مِنْ الطَّعْمِ فِي حَلْقِهِ أَثَرُ الْكُحْلِ لَا عَيْنُهُ كَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَّةِ يَجِدُ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَهُوَ قِيَاسُ الْغُبَارِ وَالدُّخَانِ، وَإِنْ وَصَلَ عَيْنُ الْكُحْلِ إلَى بَاطِنِهِ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْمَسَامِّ لَا مِنْ قِبَلِ الْمَسَالِكِ إذْ لَيْسَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْحَلْقِ مَسْلَكٌ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّائِمِ يَشْرَعُ فِي الْمَاءِ فَيَجِدُ بُرُودَةَ الْمَاءِ فِي كَبِدِهِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ وَعَلَى هَذَا إذَا دَهَنَ الصَّائِمُ شَارِبَهُ فَأَمَّا السَّعُوطُ وَالْوَجُورُ يُفْطِرُهُ لِوُصُولِهِ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ إمَّا الدِّمَاغُ، أَوْ الْجَوْفُ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ لَا يَتِمُّ بِهِ فَإِنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ إلَّا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ. وَالْحُقْنَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّضِيعِ إذَا احْتَقَنَ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةٌ لِرَضَاعٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانِشَازُ الْعَظْمِ، وَذَلِكَ بِمَا يَحْصُلُ إلَى أَعَالِي الْبَدَنِ لَا إلَى إلَّا سَافِلِ فَأَمَّا الْفِطْرُ يَحْصُلُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ لِانْعِدَامِ الْإِمْسَاكِ بِهِ وَالْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ كَذَلِكَ يُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالدِّمَاغُ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ فَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا صَبَّ الدُّهْنَ فِي إحْلِيلِهِ فَوَصَلَ إلَى مَثَانَتِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِنْ الْمَثَانَةِ إلَى الْجَوْفِ مَنْفَذٌ حَتَّى لَا تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَا فَإِنَّ أَهْلَ الطِّبِّ يَقُولُونَ: الْبَوْلُ يَخْرُجُ رَشْحًا وَمَا يَخْرُجُ رَشْحًا لَا يَعُودُ رَشْحًا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُنَاكَ مَنْفَذٌ عَلَى صُورَةِ حَرْفِ الْخَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُصَبُّ فِي الْإِحْلِيلِ فَأَمَّا الْجَائِفَةُ وَالْآمَّةُ إذَا دَاوَاهُمَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَمْ يُفْطِرْهُ، وَإِنْ دَوَاهُمَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ فَسَدَ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَفْسُدْ فِي قَوْلِهِمَا وَالْجَائِفَةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ وَالْآمَّةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الدِّمَاغِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ أَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْبَاطِنِ مِنْ مَسْلَكٍ هُوَ خِلْقَةٌ فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلصَّوْمِ مَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْإِمْسَاكُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْإِمْسَاكِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ مِنْ مَسْلَكٍ هُوَ خِلْقَةٌ دُونَ الْجِرَاحَةِ الْعَارِضَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُفْسِدُ لِلصَّوْمِ وُصُولُ الْمُفَطِّرِ إلَى بَاطِنِهِ فَالْعِبْرَةُ لِلْوَاصِلِ لَا لِلْمَسْلَكِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْوُصُولُ هُنَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُولِ حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْيَابِسَ وَالرَّطْبَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ فَالْيَابِسُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَاحَةِ لِاسْتِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاطِنِ، وَالرَّطْبُ يَصِلُ إلَى الْبَاطِنِ عَادَةً فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْيَابِسَ يَتَرَطَّبُ بِرُطُوبَةِ الْجِرَاحَةِ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي أَهْلِهِ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَصْبَحَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ فَإِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَصُورَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تُبَحْ تُمَكِّنْ شُبْهَةً، وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اعْتِبَارًا لِآخِرِ النَّهَارِ بِأَوَّلِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ يَتَعَرَّى فِطْرُهُ عَنْ الشُّبْهَةِ وَبَعْدَ السَّفَرِ يَقْتَرِنُ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِالْفِطْرِ، وَلَوْ وُجِدَ هَذَا السَّبَبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَكَانَ الْفِطْرُ يُبَاحُ لَهُ فَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِهِ يَصِيرُ شُبْهَةً (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ «أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاوَلَهَا فَضْلَ سُؤْرِهِ فَشَرِبَتْ ثُمَّ قَالَتْ إنِّي كُنْتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 صَائِمَةً لَكِنْ كَرِهْت أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَك فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ صَوْمُك عَنْ قَضَاءٍ فَاقْضِي يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ صَوْمُك تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْت فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْت فَلَا تَقْضِيهِ»؛ وَلِأَنَّ الْمُتَنَفِّلَ مُتَبَرِّعٌ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي آخِرِهِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَوَّلِهِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ يَنْوِي أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ بِتَبَرُّعِهِ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنَّمَا تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ عَمَّا شَرَعَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ حَتَّى لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِالْإِحْصَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ عِنْدِي، وَبِخِلَافِ النَّاذِرِ فَإِنَّهُ مُلْتَزِمٌ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَكَانَ نَظِيرُ النَّذْرِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْكَفَالَةُ وَنَظِيرُ الشُّرُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَصْبَحْت أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْتَدَرْنَا لِنَسْأَلَهُ فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةُ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا سَبَّاقَةً إلَى الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» فَإِنْ كَانَ هَذَا بَعْدَ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ كَانَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْت فَلَا تَقْضِيهِ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ وَتَعْجِيلُهُ أَوْ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ أُمَّ هَانِئٍ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنْهَا بِقَصْدِهَا التَّبَرُّكَ بِسُؤْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ الصَّوْمِ لِفَرْطِ قَصْدِهَا إلَى التَّبَرُّكِ كَمَا «أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ لَمَّا حَجَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ دَمَهُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَك عَلَى النَّارِ» وَشُرْبُ الدَّمِ لَا يُوجِبُ هَذَا وَلَكِنَّهُ لِفَرْطِ الْمَحَبَّةِ غَفَلَ عَنْ الْحُرْمَةِ فَأَكْرَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرَ؛ وَلِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلَ قُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ. وَلَا نَقُولُ: إنَّ تَبَرُّعَهُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَلَكِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمُؤَدَّى لِكَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] كَمَا أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ فَكَمَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ فِيهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الشَّفْعِ الثَّانِي إبْطَالُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ تَعَيَّنَ هَذَا الْيَوْمُ لِأَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ وَالْتَحَقَ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَيَّنِ لِلصَّوْمِ شَرْعًا، وَالْإِفْسَادُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ كَالنَّاذِرِ لَمَّا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ الْتَحَقَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ شَرْعًا حَتَّى إذَا انْعَدَمَ الْأَدَاءُ مِنْهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 فَيَصِيرُ بِالْإِفْطَارِ جَانِيًا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الضِّيَافَةِ هَلْ تَكُونُ عُذْرًا؟ فَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عُذْرٌ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَامْتَنَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَكْلِ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا دَعَاك أَخُوك لِتُكْرِمَهُ فَأَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَقِيلَ، أَوْ تُشْرِكُ أُمَّتُك بَعْدَك فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ فَقِيلَ وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَقَالَ: أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرْ عَلَى طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ» وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ سَوَاءٌ حَصَلَ الْفِطْرُ بِصُنْعِهِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ حَتَّى إذَا حَاضَتْ الصَّائِمَةُ تَطَوُّعًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ أَبْصَرَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْخُرُوجُ هُنَا مَا كَانَ بِصُنْعِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ لِلْإِتْمَامِ كَالنَّذْرِ مُوجِبٌ لِلْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْإِتْمَامُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (قَالَ): رَجُلٌ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بَعْدَ الْغَدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَهُوَ مُفِيقٌ فَقَدْ صَحَّ مِنْهُ نِيَّةُ صَوْمِ الْغَدِ وَرُكْنُ الصَّوْمِ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يُنَافِيهِ فَتَأَدَّى صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرْطُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ تُوجَدْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ يَسْتَدْعِي نِيَّةً عَلَى حِدَةٍ وَبِمُجَرَّدِ الرُّكْنِ بِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ (قَالَ): وَإِذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ فَأَنْزَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ مَا لَمْ يَمَسَّهَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ نَظَرَ مَرَّةً فَكَذَلِكَ، وَإِنْ نَظَرَ مَرَّتَيْنِ فَسَدَ صَوْمُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا الْأُولَى لَك، وَالْأُخْرَى عَلَيْك»؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ الْأَوَّلَ يَقَعُ بَغْتَةً فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْإِمْسَاكُ فَإِذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ فَقَدْ فَوَّتَ رُكْنَ الصَّوْمِ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّظَرَ كَالتَّفَكُّرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرَ فِي جَمَالِ امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ فَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 التَّكْرَارَ كَالْمَسِّ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْمَأْثَمِ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَإِنْ جَامَعَهَا مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْكَفَّارَةُ إمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَقَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَيْسَ عَلَيْهِ: الْقَضَاءُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ لَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْقَضَاءِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُظَاهِرِ سِوَى الْكَفَّارَةِ». (وَلَنَا) أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَقَدْ انْعَدَمَ الْأَدَاءُ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْذُورًا وَفَوَّتَ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْأَدَاءِ فَيَضْمَنُهُ بِمِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ بِسَبَبِ الْفِطْرِ، وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَيْسَ بِسَبَبِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ لِلْأَعْرَابِيِّ مَا كَانَ مُشْكِلًا عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُشْكِلٍ فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» فَانْتَسَخَ بِهَذَا حُكْمُ الْكَفَّارَةِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَحَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حِينَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْت فَقَالَ: وَاقَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا مُتَعَمِّدًا فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ، وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: وَهَلْ أَتَيْت مَا أَتَيْت إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ بِصَدَقَاتِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ: خُذْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجَ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» فَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْتِسَاخُ الْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّهُ عَذَرَهُ فِي التَّأْخِيرِ لِلْعُسْرَةِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَبَتَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ لِحَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا». (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَعَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ بَيَانُ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بَيَانُ التَّخْيِيرِ ثُمَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ الْأَعْلَى قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَجَعَلَ هَذَا قِيَاسَ الْمُجَامِعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ ذِكْرُ الْبَدَنَةَ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيمَا تَتَأَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ فَكَذَا فِيمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِيهَا. وَالصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرَيْنِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَضَاءِ وَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَكَانَ رَبِيعَةُ الرَّازِيّ يَقُولُ: الصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا قَالَ: لِأَنَّ السُّنَّةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَصَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ يَقُومُ مَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَبَعْضُ الزُّهَّادِ يَقُولُ: الصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِأَلْفِ يَوْمٍ فَإِنَّ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فَإِذَا فَوَّتَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ أَلْفَ يَوْمٍ لِيَقُومَ مَقَامَهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا رَوَيْنَا، وَهَذِهِ آثَارٌ تَلَقَّتْهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَالْعَمَلُ بِهَا وَإِثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ بِمِثْلِهَا جَائِزٌ، وَكَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَيْهَا إنْ طَاوَعَتْهُ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلٌ مِثْلُ هَذَا وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ دُونَهَا وَقَوْلٌ آخَرُ فَصَّلَ بَيْنَ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ فَقَالَ: عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ وَيَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهَا إذَا كَانَ مَالِيًّا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ فِي جَانِبِهِ لَا فِي جَانِبِهَا فَلَوْ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ لَبَيَّنَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ الْحَدَّ فِي جَانِبِهَا فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ ثُمَّ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ الْمُوَاقَعَةُ الْمُعْدِمَةُ لِلصَّوْمِ وَالرَّجُلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ دُونَهَا إذْ هِيَ مَحَلُّ الْمُوَاقَعَةِ وَلَيْسَتْ بِمُبَاشَرَةِ لِلْمُوَاقَعَةِ فَكَانَ فِعْلُهَا دُونَ فِعْلِ الرَّجُلِ كَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِخِلَافِ الْحَدِّ فَإِنَّ سَبَبَهُ الزِّنَا وَهِيَ مُبَاشِرَةٌ لِلزِّنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا اشْتَرَكَا فِيهِ كَالِاغْتِسَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالِيًّا تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ كَامِلَةٌ، وَهَذَا السَّبَبُ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهِ فَنُلْزِمُهَا الْكَفَّارَةَ كَمَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَمْكِينَهَا فِعْلٌ كَامِلٌ فَإِنَّ مَعَ النُّقْصَانِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَبَيَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَفَّارَةَ فِي جَانِبِهِ بَيَانٌ فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ كَفَّارَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْعَسِيفِ فَإِنَّ الْحَدَّ فِي جَانِبِهِ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 هُوَ الْجَلْدُ وَفِي جَانِبِهَا الرَّجْمُ وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً، أَوْ عِبَادَةً وَبِسَبَبِ النِّكَاحِ لَا يَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مُؤَنِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَفْسُدُ صَوْمُهَا وَالْكَلَامُ فِي هَذَا نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي الْخَاطِئِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ الْمُوَاقَعَةُ الْمُعْدِمَةُ لِلصَّوْمِ فَلَوْ أَوْجَبَ بِالْأَكْلِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُقَاسُ دَوَاعِي الْجِمَاعِ عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَارَةً تَكُونُ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَتَارَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ ثُمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ مَتَى كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَجِّ فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ فِيهِ، وَهُوَ فَسَادُ النُّسُكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالْجَامِعُ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لِلْكَفَّارَةِ الْعُظْمَى فِيهَا فَتَخْتَصُّ بِالْمُوَاقَعَةِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَإِنَّمَا فَهِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُؤَالِهِ الْفِطْرَ بِمَا يَحُوجُهُ إلَيْهِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: شَرِبْتُ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ عَلِيٌّ ": - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ؛ وَلِأَنَّ فِطْرَهُ تَضَمَّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ النَّصِّ فَكَانَ كَالْفِطْرِ بِالْجِمَاعِ وَبَيَانُهُ أَنَّ نَصَّ التَّحْرِيمِ بِالشَّهْرِ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْإِبَاحَةِ بِاللَّيَالِيِ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ النَّصِّ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ ثُمَّ نَحْنُ لَا نُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا نُوجِبُهَا اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ ذَكَرَ الْمُوَاقَعَةَ وَعَيْنُهَا لَيْسَ بِجِنَايَةٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ فِي مَحَلِّ مَمْلُوكٍ وَإِنَّمَا الْجِنَايَةُ الْفِطْرِيَّةُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى النَّاسِي لِانْعِدَامِ الْفِطْرِ وَالْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ لَا بِالْآلَةِ ثُمَّ إيجَابُهُ فِي الْأَكْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أُوجِبَتْ زَاجِرَةً، وَدُعَاءُ الطَّبْعِ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ إلَى الْأَكْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى الْجِمَاعِ وَالصَّبْرُ عَنْهُ أَشَدُّ فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ أَوْلَى كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّأْفِيفِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الشَّتْمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ اسْتَوَى حُرْمَةُ الْجِمَاعِ وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بِخِلَافِ حَالِ عَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ أَغْلَظُ حَتَّى تَزِيدَ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ الْأَكْلِ وَبِخِلَافِ الْحَجِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فَإِنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ فِيهِ أَقْوَى حَتَّى لَا يَرْتَفِعَ بِالْحَلْقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ هُنَا فَصَّلَ النَّاسِي فَقَدْ جَعَلْنَا النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الْأَكْلِ حَالَ النِّسْيَانِ كَالْوَارِدِ فِي الْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْمُوَاقَعَةِ كَالْوَارِدِ فِي الْأَكْلِ وَالدَّوَاعِي تَبَعٌ فَلَا تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ. ثُمَّ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْفِطْرَ مَتَى حَصَلَ بِمَا يُتَغَذَّى بِهِ، أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِهِ زَجْرًا فَإِنَّ الطِّبَاعَ تَدْعُو إلَى الْغِذَاءِ وَكَذَلِكَ إلَى الدَّوَاءِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ إعَادَتِهَا فَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَ مَالًا يَتَغَدَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: حُصُولُ الْفِطْرِ بِمَا يَكُونُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: رُكْنُ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ إيصَالِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِتَنَاوُلِ الْحَصَاةِ ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ مُفْطِرٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ قَالَ: وَجِنَايَتُهُ هُنَا أَظْهَرُ إذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ سِوَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِخِلَافِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَدَمُ دُعَاءِ الطَّبْعِ إلَيْهِ يُغْنِي عَنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ زَاجِرًا كَمَا لَمْ نُوجِبْ الْحَدَّ فِي شُرْبِ الدَّمِ وَالْبَوْلِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَمَامُ الْجِنَايَةِ بِانْعِدَامِ رُكْنِ الصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى فَانْعَدَمَ مَعْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ إذَا انْعَدَمَ لَمْ تَتِمَّ الْجِنَايَةُ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ (قَالَ): وَإِنْ جَامَعَهَا ثَانِيًا فِي الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ كُلُّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ قَالَ: لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصَّوْمِ، أَوْ الْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ الْكَفَّارَاتُ لَا تَتَدَاخَلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ حَتَّى يُفْتَى بِهَا وَتَتَأَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّدَاخُلُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ. (وَلَنَا) حَرْفَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا حَتَّى أَنَّ الْفِطْرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِانْعِدَامِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَبِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الصَّوْمِ لَا تَتَجَدَّدُ حُرْمَةُ الشَّهْرِ وَمَتَى صَارَتْ الْحُرْمَةُ مُعْتَبَرَةً لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَرَّةً لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِإِيجَابِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِعَيْنِهَا (وَالثَّانِي): أَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَتَتَدَاخَلُ كَالْحُدُودِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجِنَايَاتُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْعُقُوبَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ سُقُوطُهَا بِعُذْرِ الْخَطَأِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ (قَالَ): فَإِنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ وَكَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى إلَّا فِي رِوَايَةِ زُفَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَكْفِيهِ تِلْكَ الْكَفَّارَةُ لِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي مَجْلِسٍ وَسَجَدَ ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 تَلَاهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَلْزَمْهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّدَاخُلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ لَا بَعْدَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ آخَرَ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ مَحَلٌّ تُغَلَّظُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَسْبَابِ دُونَ الْمَحَالِّ، فَإِنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِسَائِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ لِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخنَا يَقُولُونَ: لَا اعْتِمَادَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّدَاخُلِ (قَالَ): وَكُلُّ صَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ مُتَتَابِعًا فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ وَمَا ذَكَرَ مُتَتَابِعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ أَمَّا الْمَذْكُورُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْقَدْرِ الْمَنْصُوصِ فَكَذَا بِالْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ الْقَضَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَصْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - انْهَمُوا مَا أَنْهَمَ اللَّهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قَضَاءِ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَصُومَ مُتَفَرِّقًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ فَقَضَيْت الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْك فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْقَبُولِ» وَاَلَّذِي فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ شَاذٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَالَ): إنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا التَّتَابُعَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى كَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ (قَالَ): رَجُلٌ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَمَرِضَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَقَطَتْ عَنْهُمَا الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَسْقُطُ عَنْهَا بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ الْفِطْرُ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَالْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ الْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَمْ يُصَادِفُ الصَّوْمَ هُنَا فَاعْتِرَاضُهُمَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قِيَاسُ السَّفَرِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: الْحَيْضُ يُنَافِي الصَّوْمَ وَصَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَتَقَرُّرُ الْمُنَافِي فِي آخِرِهِ يُمَكِّنُ شُبْهَةَ الْمُنَافَاةِ فِي أَوَّلِهِ فَأَمَّا الْمَرَضُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالْمَرَضِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةُ الْمُنَافَاةِ فِي أَوَّلِهِ لِلصَّوْمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى مَرِضَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْفِطْرِ فِي صَوْمٍ مُسْتَحَقٍّ وَاسْتِحْقَاقُ الصَّوْمِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَتَقَرُّرُ الْمُنَافَاةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُمَكِّنُ شُبْهَةِ مُنَافَاةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالسَّفَرِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةٌ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى سَافَرَ ثُمَّ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْمُبِيحَةِ وَالصُّورَةُ الْمُبِيحَةُ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ وَلَا إسْنَادَ فِي الصُّوَرِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَعَانِي ثُمَّ السَّفَرُ فِعْلُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ فَإِنَّهُ سَمَاوِيٌّ لَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ فَإِذَا جَاءَ الْعُذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ سَقَطَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ مُكْرَهًا فَقَدْ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الصُّنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ عِنْدَهُ بِالْمَرَضِ لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ فَبِالسَّفَرِ مُكْرَهًا كَيْفَ تَسْقُطُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ يُرِيدُ بِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالنُّصُوصِ وَالنُّصُوصُ وَرَدَتْ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَالْفِطْرُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِقَضَائِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ الْجِمَاعَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ يُوجِبُ مَا يُوجِبُ فِي الْأَدَاءِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَجِّ النَّفْلِ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ (قَالَ): مُسَافِرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مِصْرَهُ أَوْ بَعْدَمَا قَدِمَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ حِينَ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ فَهَذَا وَالْفِطْرُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ سَوَاءٌ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إنْ أَفْطَرَ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَجَعَلَ وُجُودَ الْإِقَامَةِ فِي آخِرِهِ كَوُجُودِهَا فِي أَوَّلِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الشُّبْهَةُ تَمَكَّنَتْ بِالسَّفَرِ الْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْأَدَاءِ وَصَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 قَالَ): رَجُلٌ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهَا حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ مِنْ قَابِلٍ فَصَامَهَا مِنْهُ فَإِنَّ صِيَامَهُ عَنْ هَذَا الرَّمَضَانِ الدَّاخِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ الْمَاضِي وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ عِنْدَهُ الْقَضَاءَ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ يُسْتَدَلُّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى شَعْبَانَ، وَهَذَا مِنْهَا بَيَانُ آخِرِ مَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ فَكَمَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ وَلَنَا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَلَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ وَالتَّوْقِيتُ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ يَكُونُ زِيَادَةً ثُمَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ قَضَاؤُهَا لَا يَتَوَقَّتُ بِمَا قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ مِثْلِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَإِنَّمَا كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تَخْتَارُ لِلْقَضَاءِ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ وَلَأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ مُؤَقَّتًا بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ فَالتَّأَخُّرُ عَنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ كَالتَّأَخُّرِ عَنْ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَتَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا إنَّمَا وُجُوبُ الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ لَا بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ ثُمَّ الْفِدْيَةُ تَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَبِالتَّأْخِيرِ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ الصَّوْمِ، وَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَكَمَا لَمْ يَتَضَاعَفْ الْقَضَاءُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْضَمُّ الْقَضَاءُ إلَى الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّضْعِيفِ (قَالَ): وَإِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ، وَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ شَاكٌّ فَصَوْمُهُ تَامٌّ أَمَّا التَّسَحُّرُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلَةِ السُّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السُّحُورِ» وَالتَّأْخِيرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَالسِّوَاكُ» إلَّا أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِي الْفَجْرِ الثَّانِي فَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَالْأَكْلُ يَرِيبُهُ فَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ شَاكٌّ فَصَوْمُهُ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَالتَّيَقُّنُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ تَسَحَّرَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ بِالسَّبَبِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الشَّكِّ وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَاطَ، وَإِنْ أَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَقُّنِ فِيمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ (قَالَ): وَإِنْ صَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَصُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَبْصَرَ الْهِلَالَ مِنْ الْغَدِ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالرَّجُلُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ وَقَدْ أَخْطَأَ أَهْلُ الْمِصْرِ حِينَ صَامُوا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» فَأَهْلُ الْمِصْرِ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا مُخْطِئِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحِسَابِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا وَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُبَيَّنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَخَنَسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَا صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَهَكَذَا عَنْ عَائِشَةَ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَأَ الرَّجُلِ فِيمَا صَنَعَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ وَاَلَّذِي رَوَى «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ» الْمُرَادُ فِي حَقِّ الثَّوَابِ دُونَ الْعَدَدِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَفُ فِي خَبَرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِصْرِ رَأَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ فَأَحْصَوْا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا فَقَدْ أَحْسَنُوا وَعَلَى مَنْ لَمْ يَصُمْ مَعَهُمْ قَضَاءُ يَوْمٍ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَفْطَرُوا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ أَلْزَمَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فَقَالَ: هَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَأَنْتَ لَا تَرَى ذَلِكَ، وَهَذَا إلْزَامٌ ظَاهِرٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَيْ الشَّهَادَةِ وَيَثْبُتُ بِمِثْلِهِ مَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الشَّهَادَةِ كَالْمِيرَاثِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 عَلَى الْوِلَادَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ أَبْصَرَ الْهِلَال وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَصَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَعَلَّ الْغَلَطَ وَقَعَ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي قَالَ: رَأَيْت الْهِلَالَ أَنْ يَمْسَحَ حَاجِبَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ الْهِلَالُ فَقَالَ فَقَدْتُهُ فَقَالَ: شَعْرَةٌ قَامَتْ مِنْ حَاجِبِك فَحَسِبْتَهَا هِلَالًا، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ احْتِيَاطًا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَحْكُمَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ لَا يُفْطِرَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ (قَالَ): وَإِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَرْجِ فَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْغُسْلُ أَمَّا الْغُسْلُ فَلِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِفِعْلِهِ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِحُصُولِ الْفِطْرِ عَلَى وَجْهٍ تَتِمُّ الْجِنَايَةُ بِهِ قِيلَ تَمَامُ الْجِنَايَةِ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ إنْزَالٍ (قُلْنَا) اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي الْمَحَلِّ يَتِمُّ بِالْإِيلَاجِ فَأَمَّا الْإِنْزَالُ تَبَعٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْجِنَايَةِ فَلَوْ جَامَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِمَا الْغُسْلُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا شَكَّ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَامِلًا فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحَدِّ وَفِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ ظَاهِرٌ فَلَيْسَ لَهَا فِيهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ الْفِطْرُ بِجِنَايَةٍ مُتَكَامِلَةٍ إنَّمَا يَدَّعِي أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ وَلَا مُعْتَبَرٌ بِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ (قَالَ): فَإِنْ جَامَعَ بَهِيمَةً، أَوْ مَيْتَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ عِنْدَنَا خِلَافًا للِشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصَّوْمِ وَقَدْ وُجِدَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجِنَايَةُ لَا تَتَكَامَلُ إلَّا بِاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا الْمَحَلُّ غَيْرُ مُشْتَهًى عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَإِنْ حَصَلَ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ، أَوْ لِفَرْطِ السَّفَهِ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَكَلَّفُ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ بِيَدِهِ لَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): فَإِنْ جَامَعَ أَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَبِهُ فَإِنَّ الْأَكْلَ مَعَ النِّسْيَانِ يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ حَقِيقَةً وَلَا بَقَاءَ لِلْعِبَادَةِ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهَا فَيَكُونُ ظَنُّهُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ فَصَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ خَبَرُ النَّاسِي فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ «تِمَّ عَلَى صَوْمِك» فَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 تَبْقَى شُبْهَةٌ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالرَّاوِي فَلَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ فَطَّرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِنَّ انْعِدَامَ رُكْنِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَفْتَاهُ مُفْتِي الْعَامَّةِ بِأَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ فَحِينَئِذٍ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي فَتَصِيرُ الْفَتْوَى شُبْهَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» فَاعْتَمَدَ ظَاهِرَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا كَمَا لَوْ اعْتَمَدَ الْفَتْوَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا سَمِعَ حَدِيثًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِظَاهِرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا، وَإِنْ دَهَنَ شَارِبَهُ أَوْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ فَطَّرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ اعْتَمَدَ حَدِيثًا، أَوْ فَتْوَى؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ وَالْفَتْوَى بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ لَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَنَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَلَكِنَّهُ يُمْسِكُ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ وَالْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ مِنْ الشَّهْرِ وَجَعَلُوا إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الشَّهْرِ كَمَا أَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْوَقْتِ، وَالتَّفْرِيطُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْذَرُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ حِينَ قَدِمُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمُوا فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَهُمْ بِصَوْمِ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَاءِ مَا مَضَى» وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى خِطَابِ الشَّرْعِ بِالْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِثَوَابِهَا فَلَا يَثْبُتُ خِطَابُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِمِيعَادِهَا، وَهُوَ الزَّمَانُ فَلَا تَصَوُّرَ لِلصَّوْمِ مِنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِأَوْقَاتِهَا وَالْوَقْتُ ظَرْفٌ لَهَا فَجَعَلَ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ ثُمَّ الْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ (قَالَ): وَلَا تُصَلِّي الْحَائِضُ وَلَا تَصُومُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَيَانِ نُقْصَانِ دَيْنِ الْمَرْأَةِ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وَلَا تُصَلِّي» يَعْنِي زَمَانَ الْحَيْضِ فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتْ أَيَّامَ الصَّوْمِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. (قَالَ): وَكُلُّ وَقْتٍ جَعَلْتُهَا فِيهِ نُفَسَاءَ، أَوْ حَائِضًا فَإِنَّهَا تُعِيدُ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تُعِيدُ صَلَاتَهُ وَكُلُّ وَقْتٍ عَدَدْتُهَا فِيهِ مُسْتَحَاضَةً فَإِنَّهَا تُعِيدُ صَلَاتَهُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَلَّتْهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَّتْ وَصَامَتْ فَقَدْ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادَاتِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلْمُسْتَحَاضَةِ «تَوَضَّئِي وَصَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَقَالَ: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» ثُمَّ طَوَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ فَذَكَرَ فِي بَابِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَسَائِلَ مِنْهَا أَنْ يَنْقُصَ الدَّمُ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ، أَوْ يَزِيدَ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، أَوْ أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ يَسْبِقُ رُؤْيَةُ الدَّمِ أَوَانَهُ فَالِاسْتِحَاضَةُ تَكُونُ بِدَمٍ فَاسِدٍ وَيُسْتَدَلُّ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى أَوَانِهِ عَلَى فَسَادِهِ وَتَمَامُ شَرْحِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ أَنْ يَصُومَهُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، أَوْ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ أَبُو رَافِعٍ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُنَادِي فِي أَيَّامِ مِنًى أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إذَا كَانَ يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ عَنْ الْوُقُوفِ وَالذِّكْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ فَاسِدًا وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فِي الْقَدِيمِ يَتَأَدَّى صَوْمُ الْمُتْعَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (قَالَ): وَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّجُلِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ فِطْرٍ أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ فَصَامَهَا وَأَفْطَرَ فِيهَا يَوْمًا لِمَرَضٍ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصِّيَامِ لِانْعِدَامِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِالْفِطْرِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَأَفْطَرَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِلْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا اسْتِقْبَالُهُ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ لِاعْتِبَارِ الْعُذْرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ لِانْعِدَامِ التَّتَابُعِ بِالْفِطْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ تَجِدُ الْمَرْأَةُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ مِنْ الْحَيْض إذَا حَبِلَتْ، أَوْ أَيِسَتْ وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 الرَّجُل يَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْمَرَضِ فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ حَرَجٍ وَالْمَرْأَةُ لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْحَيْضِ عَادَةً فَلَعَلَّهَا لَا تَحْبَلُ وَلَا تَعِيشُ إلَى أَنْ تَيْأَسَ فَفِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِقْبَالِ حَرَجٌ بَيِّنٌ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ حَتَّى لَوْ تَكَلَّفَ وَصَامَ جَازَ فَانْقِطَاعُ التَّتَابُعِ كَانَ بِفِعْلِهِ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ اسْتَقْبَلَ فَأَمَّا الْحَيْضُ يُنَافِي أَدَاءَ الصَّوْمِ مِنْهَا فَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِفِعْلِهَا إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِصَوْمِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّتَابُعِ فِي وُسْعِهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا صَامَتْ شَهْرًا فَأَفْطَرَتْ فِيهِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَعَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَوْ حَبِلَتْ بَعْدَ مَا صَامَتْ شَهْرًا فَأَفْطَرَتْ فِيهِ لِعُذْرِ الْحَيْضِ بَنَتْ عَلَى صَوْمِهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْحَبَلِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِصَوْمِهَا اسْتَقْبَلَتْ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ التَّتَابُعَ الَّذِي فِي وُسْعِهَا (قَالَ): وَإِنْ صَامَ عَنْ ظِهَارٍ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا رَمَضَانُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا نَوَاهُ وَكَانَ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا يَتَأَدَّى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ الْوَقْتُ لَا مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُهُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ فَصَامَهُ عَنْ الظِّهَارِ جَازَ عَمَّا نَوَى؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَجَبَ كَانَ مَشْرُوعًا لَهُ، وَكَانَ صَالِحًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ بِهِ قَبْلَ النَّذْرِ، وَهُوَ بِالنَّذْرِ مُوجِبٌ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا تَبْقَى صَلَاحِيَّةٌ لِغَيْرِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَأَمَّا الشَّرْعُ لَمَّا عَيَّنَ صَوْمَ رَمَضَانَ لِلْفَرْضِ نَفَى صَلَاحِيَّتَهُ لِغَيْرِهِ وَلِلشَّرْعِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى صَوْمُ الظِّهَارِ مِنْ الْمُقِيمِ فِي رَمَضَانَ. وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَفِيهِ قَوْلٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ يَجِبُ مُتَتَابِعًا وَكَذَلِكَ صَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَاَلَّذِي رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ فِي الْحَجِّ شَاذٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا يَنْوِي قَضَاءَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ فَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطَرَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ التَّبَيُّنِ وَالْيَسَارِ هُوَ فِي نَفْلٍ صَحِيحٍ حَتَّى لَوْ أَتَمَّهُ كَانَ نَفْلًا فَيَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إبْطَالِهِ وَالْقَضَاءُ إنْ أَبْطَلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ شُرُوعُهُ بَنِيَّةِ النَّفْلِ وَكَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مَظْنُونٍ وَكَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ. (وَلَنَا) أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ أَمَّا فِي حَقِّ الْمُكَفِّرِ فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ حِينَ شَرَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَظْنُونِ فَإِنَّ الْمَرْءَ يُخَاطَبُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْفَرْضُ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ شَرْعًا فَمَا بَقِيَ مِنْ النَّفْلِ إنَّمَا بَقِيَ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُ لَا إيجَابًا عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُتِمَّهُ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ لَمْ يُتِمَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ إبْطَالِ عَمَلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَبْطُلْ عَمَلُهُ بِالْفِطْرِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ كَانَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّفْلِ الْمَشْرُوعِ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْأَوْلَى لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ ثُمَّ الشُّرُوعُ فِي كَوْنِهِ مُلْزَمًا لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ النَّذْرِ وَإِضَافَةُ النَّذْرِ إلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ لَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ فَالشُّرُوعُ أَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ مَا أَدَّى مِنْ الْفَرْضِ قَدْ سَقَطَ بِالتَّبَيُّنِ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ فَالْإِحْرَامُ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا خُرُوجَ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، فَإِنْ أَحُصِرَ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ فَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ الْأَحْرَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ فِي الْأَصْلِ لَازِمٌ وَالتَّحَلُّلَ بِالْإِحْصَارِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَبْقَى صِفَةُ اللُّزُومِ مُعْتَبَرَةٌ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى الْفَقِيرِ فَوِزَانُهُ مَا لَوْ أَتَمَّ الصَّوْمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا لَا يُمْكِنُهُ إبْطَالُهُ (قَالَ): امْرَأَةٌ أَصْبَحَتْ صَائِمَةً مُتَطَوِّعَةً ثُمَّ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ الْمَوْجُودَ فِي آخِرِ النَّهَارِ فِي مُنَافَاةِ الصَّوْمِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهَا وَالشُّرُوعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّوْمِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا كَالشُّرُوعِ لَيْلًا. (وَلَنَا) أَنَّ شُرُوعَهَا فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الشُّرُوعِ ثُمَّ بِالْإِفْسَادِ وَجَبَ الْقَضَاءُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَالْحَيْضُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الصَّوْمِ دَيْنًا وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَيْضُ مُؤَثِّرًا إذَا صَادَفَ الصَّوْمَ وَهُنَا الْحَيْضُ لَمْ يُصَادِفْ فَاعْتِرَاضُهُ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الشُّرُوعَ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ ثُمَّ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ كَانَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 شَرَعَتْ فَإِنْ لَمْ تُفْطِرْ حَتَّى حَاضَتْ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهَا الْقَضَاءَ أَيْضًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ صَادَفَ الصَّوْمَ وَالْمُنَافَاةُ لَمْ تَكُنْ بِفِعْلِهَا فَلَا تَكُونُ جَانِيَةً مُلْزَمَةً لِلْقَضَاءِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ شُرُوعَهَا قَدْ صَحَّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَذْرِهَا، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ فَحَاضَتْ فِيهِ كَانَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَذُّرُ الْإِتْمَامِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا شَرَعَ فِي النَّفْلِ ثُمَّ أَبْصَرَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (قَالَ): الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ عَنْ ظِهَارٍ إذَا جَامَعَ بِالنَّهَارِ عَامِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ سَوَاءٌ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ بِفِعْلِهِ، فَإِنْ جَامَعَ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا، أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا نُظِرَ فَإِنْ جَامَعَ غَيْرَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صَوْمِهِ فَلَمْ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي وَالْجِمَاعَ بِاللَّيْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجِمَاعِ غَيْرِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ صَارَ مُؤَدِّيًا صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَلَوْ بَنَى صَارَ مُؤَدِّيًا أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْآخَرَ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الِامْتِثَالِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا ثُمَّ جَامَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْإِطْعَامِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إخْلَاءُ الشَّهْرَيْنِ عَنْ الْمَسِيسِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذَا فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وَمِنْ ضَرُورَةِ الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَسِيسِ الْأَمْرُ بِإِخْلَائِهِمَا عَنْهُ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالْمَنْصُوصِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَسِيسِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ إخْلَاؤُهُمَا عَنْ الْمَسِيسِ فَيَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِقْبَالِ بِخِلَافِ جِمَاعِ غَيْرِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِتَقْدِيمِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ عَلَى جِمَاعِهَا فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِإِخْلَائِهَا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ جِمَاعُهُ فِي الصَّوْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ إذَا انْعَدَمَ بِهِ الشَّرْطُ الْمَنْصُوصُ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي خِلَالِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ يَسَارَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ وَتَبْطُلُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ فِي حَقِّ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِدَوَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي مِثْلِهِ النِّسْيَانُ وَالْعَمْدُ سَوَاءٌ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وَالْأَمْرُ بِإِخْلَائِهِ عَنْ الْمَسِيسِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ، وَعِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ (قُلْنَا) مَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ «أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ رَآهَا فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ وَعَلَيْهَا خَلْخَالٌ فَأَعْجَبَتْهُ فَوَاقَعَهَا ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ اسْتَغْفِرْ اللَّهِ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرْ» فَبِهَذَا النَّصِّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالِاطِّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ (قَالَ): وَتَجُوزُ نِيَّةُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارَ. وَقَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِفِطْرِهِ وَالصَّوْمُ وَالْفِطْرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فَهُوَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ بِأَكْلِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَطَوِّعُ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ تَزُلْ الشَّمْسُ» يَعْنِي الْمَرِيدَ لِلصَّوْمِ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ فَإِنْ قُلْنَ لَا قَالَ: إنِّي صَائِمٌ» وَفِي حَدِيثِ عَاشُورَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» فَإِنْ كَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ نَفْلًا فَهُوَ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَجَوَازُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ جِهَةَ الْفِطْرِ قَدْ تَعَيَّنَتْ بِتَرْكِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَلَكِنْ بَقِيَ الْأَمْرُ مُرَاعًى مَا بَقِيَ وَقْتُ الْغَدَاءِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ إلَّا تَرْكَ الْغَدَاءِ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ، وَفَوَاتُ وَقْتِ الْغَدَاءِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدْ تَرَكَ الْغَدَاءَ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ صَوْمًا (قَالَ): وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ صَائِمًا إذَا نَوَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ فِي يَوْمِهِ شَيْئًا قَالَ: لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى نَشَاطِهِ فَرُبَّمَا يَنْشَطُ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ وَقْتُ الْأَدَاءِ كَمَا قَبْلَهُ وَشَبَّهَهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ يَجُوزُ رَاكِبًا وَقَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى نَشَاطِهِ. (وَلَنَا) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ تَرْكُ الْغَدَاءِ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَإِنَّ الْعَشَاءَ بَاقٍ فِي حَقِّ الصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ جَمِيعًا، وَوَقْتُ الْغَدَاءِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ دُونَ مَا بَعْدَهُ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْغَدَاءَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَلَا يَكُونُ صَوْمًا، وَأَمَّا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَكُلِّ صَوْمٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ فَسَوَاءٌ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَدَائِهِ يَوْمٌ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَإِمْسَاكُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ فَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 يَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ إلَيْهِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي وَقْتِهِ فَيَتَوَقَّفُ إمْسَاكُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ ثُمَّ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَذَلِكَ فِيمَا يُفَوِّتُهُ دُونَ مَا لَا يُفَوِّتُهُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ يُفَوِّتُهُ عَنْ وَقْتِهِ وَالنَّفَلُ لَا يُفَوِّتُهُ أَصْلًا فَأَمَّا مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَفُوتُ فَلَا تُقَامُ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ فِي حَقَّةِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ (قَالَ): وَلَا يَكُونُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ، وَإِنْ اجْتَنَبَ الْمُفْطِرَاتِ إلَى آخِرِ يَوْمِهِ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إنَّهُ يَتَأَدَّى مِنْهُ الصَّوْمُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا مَا لَمْ يَنْوِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَعِنْدَنَا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ قُرْبَةً فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْقُرْبَةَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَفِي هَذَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ إنَّمَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ فِي التَّرْخِيصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ صَحَّتْ مِنْهُ النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ (قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ فَظَنَّ أَنَّ نِيَّتَهُ هَذِهِ قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِ صَوْمَهُ وَأُفْتِيَ بِذَلِكَ فَأَكَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ، وَهُمَا فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إذَا أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى الْفِطْرَ لَا يَبْطُلُ بِهِ صَوْمُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْطُلُ فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى نِيَّةِ الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدْ أَبْدَلَهُ بِضِدِّهِ وَبِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ. (وَلَنَا) الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ» وَبِنِيَّتِهِ مَا وَصَلَ شَيْءٌ إلَى بَاطِنِهِ ثُمَّ هَذَا حَدِيثُ النَّفْسِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا» وَكَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ مِنْ الصَّوْمِ وَبِالِاتِّفَاقِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ فَفِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا أُفْتِيَ بِأَنَّ صَوْمَهُ لَا يَجُوزُ فَأَفْطَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَائِمًا بِنِيَّتِهِ فَصَارَ بِأَكْلِهِ جَانِيًا مُفَوِّتًا لِلصَّوْمِ فَأَمَّا بَعْدَ الزَّوَالِ إمْسَاكُهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَكْلِهِ جَانِيًا عَلَى الصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْكَفَّارَةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَتَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ تَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ بِأَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هُوَ صَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ (قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَكَلَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ بِالْفِطْرِ كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى بِاللَّيْلِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يَنْفِي كَوْنَهُ صَائِمًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ يَبْقَى شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَكَلَ قَبْلَ النِّيَّةِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي آخِرِهِ كَالسَّفَرِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعُذْرُهُ مَا بَيَّنَّا (قَالَ): الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ، وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُبْتُلِيَ بِالْإِغْمَاءِ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ مَعْصُومًا عَمَّا يُزِيلُ الْعَقْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] فَإِذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْجُنُونُ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِ الصَّوْمِ كَالْإِغْمَاءِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِأَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ثُمَّ الْجُنُونُ يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ شُهُودُ الشَّهْرِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلصَّوْمِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَلَا يُزِيلُهُ فَلِذَلِكَ جُعِلَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ حُكْمًا، وَهُوَ كَابْنِ السَّبِيلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ هَلَكَ مَالُهُ. (قَالَ): فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مُنِعَ الْقَضَاءُ فِي الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِهِ يُمْنَعُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَقِيَاسًا عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ بَعِيدٌ عَنْ الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّغِيرِ عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ فَإِذَا كَانَ الصِّغَرُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَالْجُنُونُ أَوْلَى اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَصَارَ بِهَذَا النَّصِّ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ الْجُنُونُ عَارِضٌ أَعْجَزَهُ عَنْ صَوْمِ بَعْضِ الشَّهْرِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَجَّ ثُمَّ جُنَّ بَقِيَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَلَّى الْفَرْضَ ثُمَّ جُنَّ، وَبَقَاءُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا دَلِيلُ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا الْقَضَاءَ لَا لِانْعِدَامِ أَثَرِ الْخِطَابِ بَلْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْحَرَجُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَالْحَيْضِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِسَبَبِ الصِّبَا وَلَا بِسَبَبِ الْجُنُونِ وَلَا بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ إلَّا أَنَّ الصِّبَا يَطُولُ عَادَةً فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَالْإِغْمَاءُ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ وَالْجُنُونُ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَإِذَا طَالَ الْتَحَقَ بِمَا يَطُولُ عَادَةً، وَإِذَا قَصُرَ الْتَحَقَ بِمَا يَقْصُرُ عَادَةً ثُمَّ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِتَدْخُلَ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ بِالنَّهَارِ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَلَا صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَرُكْنُ الصَّوْمِ بَعْدَ النِّيَّةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِيهِ (قَالَ): وَإِنْ جُنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ سِنِينَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 قَضَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَقَضَاءُ الشَّهْرِ الْآخَرِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشُّهُورِ الَّتِي فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْهَا فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَالْمَحْفُوظُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ حِينَ يَبْلُغُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ فِي الْقِيَاسِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْجُنُونَ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى (قَالَ): مَرِيضٌ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَلَأَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَإِنْ بَرِئَ وَعَاشَ شَهْرًا فَلَمْ يَقْضِ الصَّوْمَ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَصَارَ الْقَضَاءُ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ كَانَ مَرِيضًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصَّوْمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» يَعْنِي بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ صَامَ عَنْهُ وَارِثُهُ قَالَ أَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ: وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» ثُمَّ الصَّوْمُ عِبَادَةٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهُ شَاقًّا عَلَى بَدَنِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا أَوْصَى وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُوصِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي دَيْنِ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْإِطْعَامُ عِنْدَنَا يُقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَعِنْدَهُ يُقَدَّرُ بِالْمُدِّ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 نَقِيسُهُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ كِفَايَةً لِلْمِسْكِينِ فِي يَوْمِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ صَلَوَاتٌ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ أَوَّلًا: يُطْعِمُ عَنْهُ لِصَلَوَاتِ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالصَّاعُ قَفِيزٌ بِالْحَجَّاجِيِّ، وَهُوَ رُبْعُ الْهَاشِمِيِّ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ كُلُّ رِطْلٍ عِشْرُونَ إسْتَارًا فَذَلِكَ مِائَة وَسِتُّونَ إسْتَارًا وَخَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْحَجَّاجِيِّ كُلُّ رِطْلٍ ثَلَاثُونَ اسْتَارَا فَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ نَصَّ كِتَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنَّمَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ حِينَ حَجَّ مَعَ الرَّشِيدِ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ صَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهُ سَبْعُونَ شَيْخًا مِنْهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْمِلُ صَاعًا تَحْتَ ثَوْبِهِ فَقَالَ: وَرِثْت هَذَا عَنْ أَبِي عَنْ آبَائِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَتَوَارُثُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقِيهُهُمْ: صَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَحَرِّي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى صَاعِ رَسُولِ اللَّه. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى التَّحَرِّي فَتَحَرِّي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْلَى بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ، وَالْقَفِيزُ الْحَجَّاجِيِّ صَاعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ يَمُنُّ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَيَقُولُ: أَلَمْ أُخْرِجْ لَكُمْ صَاعَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. (قَالَ): إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ صَاعُ عُمَرَ حَجَّاجِيًّا ثُمَّ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْهَا لِلنَّفَقَاتِ وَمِنْهَا لِلصَّدَقَاتِ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ مَحْمُولٌ عَلَى صَاعِ النَّفَقَاتِ. (قَالَ): وَإِنْ صَحَّ بَعْدَ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي صَحَّ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِهَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ، وَهَذَا وَهَمٌّ مِنْ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي النَّذْرِ إذَا نَذَرَ الْمَرِيضُ صَوْمَ شَهْرٍ ثُمَّ بَرَأَ يَوْمًا وَلَمْ يَصُمْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فَأَمَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ النَّذْرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرِيضِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ أَدَاءِ الصَّوْمِ حَتَّى يَبْرَأَ فَعِنْدَ الْبُرْءِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ وَالصَّحِيحُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَهُنَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَدَاءِ إدْرَاكُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَالْمُسَافِرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ (قَالَ): مُسَافِرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ فَأُفْتِيَ بِأَنَّ صِيَامَهُ لَا يُجْزِئُهُ وَأَنَّهُ عَاصٍ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ». (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وَهَذَا يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ ثُمَّ قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ لِبَيَانِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَيَنْتَفِي بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرِو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَفَأَصُومُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صُمْ إنْ شِئْت» وَفِي حَدِيثِ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا رَوَى «أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مَغْشِيٍّ عَلَيْهِ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَقِيلَ إنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يُعْنَى لِمَنْ هَذَا حَالُهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسَافَرَةَ فِي رَمَضَانَ لَا بَأْسَ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ يَسْتَدِيمُ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُنْشِئُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ لِلَّيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى أَتَى قَدِيدًا فَشَكَا النَّاسُ إلَيْهِ فَأَفْطَرَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ» فَإِنْ سَافَرْتَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ صُمْت فَقَدْ صَامَ، وَإِنْ أَفْطَرْت فَقَدْ أَفْطَرَ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَالثَّالِثُ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالْفِطْرِ وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ ذَلِكَ لِمَنْ أَهَلَّ الْهِلَالُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وَهُوَ مُسَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا حُجَّةً فَقَدْ أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ لَمَّا أَهَلَّ الْهِلَالُ، وَهُوَ مُقِيمٌ فَقَدْ لَزِمَهُ أَدَاءُ صَوْمِ الشَّهْرِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِسَفَرٍ يُنْشِئُهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْيَوْمِ الَّذِي يُسَافِرُ فِيهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: صَوْمُ الشَّهْرِ عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ مُقِيمًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ مُسَافِرًا فِي جَمِيعِهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ. وَالرَّابِعُ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْفِطْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ تُرِكَ هَذَا الظَّاهِرُ فِي حَقِّ الْجَوَازِ بَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ وَقَاسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يُؤَثِّرُ فِيهِمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ». (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فِي الْمُسَافِرِ يَتَرَخَّصُ بِالْفِطْرِ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ حَتَّى شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ أَفْطَرَ» فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ ثُمَّ الْفِطْرُ رُخْصَةٌ، وَأَدَاءُ الصَّوْمِ عَزِيمَةٌ وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَرَجُ فِي حَقِّهِ فِي الْفِطْرِ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ وَحْدَهُ، وَالصَّوْمُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فِي السَّفَرِ يَكُونُ أَخَفُّ مِنْ الْفِطْرِ، وَالْقَضَاءُ وَحْدَهُ فِي يَوْمٍ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهِ مُفْطِرُونَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَإِنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّهِ كَالْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَدِمَ الْمِصْرَ فَأُفْتِيَ أَنَّ صَوْمَهُ لَا يُجْزِيهِ تَصِيرُ هَذِهِ الْفَتْوَى شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا كَوْنُهُ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي آخِرِهِ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُرِيدُ بِهِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ» وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ قِيَاسُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَصَوْمِ شَعْبَانَ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَجُوزُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَادُ صَوْمَ هَذِهِ الْأَيَّامِ تَطَوُّعًا إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ عَادَتَهُ وَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 قَالَ): وَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ النِّيَّةَ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَصَارَ بُلُوغُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ كَبُلُوغِهِ لَيْلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ مَا كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَصَوْمُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَإِمْسَاكُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا تَوَقَّفَ عَلَى صَوْمِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَلَوْ بَلَغَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ فَنَوَى الصَّوْمَ تَطَوُّعًا أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ اشْتِبَاهٌ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَبِيٍّ بَلَغَ وَكَافِرٍ يُسْلِمُ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ صَحِيحٌ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ نِيَّةُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إمْسَاكُهُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ (قَالَ): وَإِذَا ذَاقَ الصَّائِمُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَى جَوْفِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَالْفَمُ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ يَتَمَضْمَضُ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ حَلْقَهُ بَعْدَ مَا أَدْخَلَهُ فَمَه فَيَحُومَ حَوْلَ الْحِمَى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» (قَالَ): وَإِنْ دَخَلَ ذُبَابٌ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُغَذٍّ وَأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ نَظِيرُ التُّرَابِ يُهَالُ فِي حَلْقِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضُرُّهُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتَحَ فَمَهُ فَيَتَحَدَّثَ مَعَ النَّاسِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَغَذَّى بِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ، وَهُوَ نَظِيرُ الدُّخَانِ وَالْغُبَارِ يَدْخُلُ حَلْقَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بِصِفَةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الذُّبَابُ فِي حَلْقِهِ ثُمَّ طَارَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ لَكَانَ بِوُصُولِهِ إلَى بَاطِنِهِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ نَزَلَ فِي حَلْقِهِ ثَلْجٌ أَوْ مَطَرٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ السَّقْفِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَدَخَلَ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنْ تَسَحَّرَ بِالسَّوِيقِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَإِذَا أَصْبَحَ يَدْخُلُ فِي حَلْقِهِ مَعَ رِيقِهِ ثُمَّ مَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ فَكَمَا أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَمْ يَضُرَّ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ تَبَعٌ، وَهَذَا إذَا كَانَ صَغِيرًا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي فَمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ مُمْكِنٌ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِالْحِمَّصَةِ فَإِنْ كَانَ دُونَهَا لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الصَّوْمُ وَقَدْرُ الْحِمَّصَةِ إذَا أَدْخَلَهُ فِي حَلْقِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ فَهُوَ كَالْمُفْطِرِ بِاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَالطِّبَاعُ تَعَافُهُ فَهُوَ نَظِيرُ التُّرَابِ ثُمَّ لِلْفَمِ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ وَجْهٍ وَحُكْمُ الظَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلِهَذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْكَفَّارَةَ (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَلَهُ أَنْ يَصُومَهُ مُتَفَرِّقًا أَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ بِنَذْرِهِ؛ فَلِأَنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وَذَمَّ مَنْ تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ بِقَوْلِهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الْآيَةَ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَوْنَ الْمُنْذِرِ قُرْبَةً ثُمَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ فَرْعٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَتَعْيِينُ وَقْتِ الْأَدَاءِ إلَى الْعَبْدِ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ مُتَفَرِّقًا أَوْ مُتَتَابِعًا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْأَيَّامِ وَقْتٌ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَوْ يَنْوِيَهُ فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ جُعِلَ كَالْمَلْفُوظِ. (قَالَ): فَإِنْ سَمَّى شَهْرًا بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَذَلِكَ إنْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَالَ: مُتَتَابِعًا، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ وَأَيَّامَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ مُتَجَاوِزَةٌ لَا مُتَتَابِعَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ صِفَةُ التَّتَابُعِ فِيهِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ، أَوْ نَوَاهُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى شَهْرًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُعْتَبَرٌ ثُمَّ فِي الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَصُمْهُ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ سَوَاءٌ أَفْطَرَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ، أَوْ فِي يَوْمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 لَفْظِهِ فَإِنَّ الْحَالِفَ يُعَاهِدُ اللَّهَ تَعَالَى كَالنَّاذِرِ ثُمَّ شَرْطُ حِنْثِهِ أَنْ لَا يَصُومَ جَمِيعَ الشَّهْرِ فَسَوَاءٌ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ كَلَامُهُ نَذْرًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْعَادَةِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا نَذْرًا بِظَاهِرِهِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا جَمِيعًا كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهُ إنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا كَانَ نَذْرًا وَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْيَمِينِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اجْتِمَاعِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجَازِ هُنَاكَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي لَفْظِهِ كَلِمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَمِينٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَ آدَم الْجَنَّة فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ وَالْبَاءَ يَتَعَاقَبَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِهِ وَقَوْلُهُ عَلَيَّ نَذْرٌ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنَى النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُمَا فَقَدْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ فَيَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ مَا يُقَالُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجْتَمِعُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي كَلِمَتَيْنِ (قَالَ): وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا أَفْطَرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذَا الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَإِلَى الْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ بِنَذْرِهِ لَا رَفْعُ الْمَنْهِيِّ ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْأَيَّامِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا وَغَدًا يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا آخَرَ فَإِنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ مِنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ، وَإِنْ قَالَ: غَدًا وَغَدًا يَوْمَ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ شَرْعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَالصَّوْمِ لَيْلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ هَذَا الزَّمَانَ لِلْأَكْلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَتَعَيُّنِهِ لِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَنْفِي الضِّدَّ الْآخَرَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً فَلَا يَكُونُ صَوْمًا. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ» وَمُوجِبُ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يَتَحَقَّقُ؛ وَلِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ اخْتِيَارٌ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الِارْتِكَابِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَبْقَ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا فِيهِ وَمُوجِبُ النَّهْيِ غَيْرُ مُوجِبِ النَّسْخِ فَإِذَا كَانَ مُوجِبُ النَّسْخِ رَفْعَ الْمَشْرُوعِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُوجِبُ النَّهْيِ رَفْعَ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَوْنُ الْإِمْسَاكِ فِيهَا بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَظْهَرُ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِالْفِطْرِ فِيهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُفْطِرًا فِيهِ بِخِلَافِ اللَّيْلِ فَقَدْ جَعَلَهُ مُفْطِرًا بِدُخُولِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَالنَّهْيُ يَجْعَلُ الْأَدَاءَ مِنْ الْعَبْدِ فَاسِدًا وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهِ وَلَكِنَّ صِفَةَ الْفَسَادِ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ أَصْلِهِ شَرْعًا كَمَنْ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ نَفْيُ عَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ شَرْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ حَصَلَ نَذْرُهُ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ وَلَيْسَ فِي النَّذْرِ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ إنَّمَا ذَلِكَ فِي أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَلِهَذَا أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا آخَرَ كَيْ لَا يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ أَدَّى كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهِيَ عَمْيَاءُ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ بِإِعْتَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَقَدْ أَدَّى بِإِعْتَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَدَّى شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهَا، وَكَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَإِذَا صَلَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا نَصَّ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي نَذْرِهِ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا قَالَ: غَدًا لَمْ يُصَرِّحْ فِي نَذْرِهِ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَصَحَّ نَذْرُهُ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ حَيْضِي لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهَا، وَلَوْ قَالَتْ: غَدًا وَغَدًا يَوْمُ حَيْضِهَا صَحَّ نَذْرُهَا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ إذَا أَفْطَرَ فِيهَا يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ الْتَزَمَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ عَنْ الْمَنْذُورِ، وَلَوْ قَالَ: سَنَةً مُتَتَابِعَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ هَذَا الْقَضَاءَ بِالْأَدَاءِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يُفْطِرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّتَابُعِ فِي وُسْعِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ نَذَرَتْ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا قَضَتْ أَيَّامَ الْحَيْضِ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ): رَجُلٌ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ خَمِيسٍ يَأْتِي عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ خَمِيسًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ إنْ أَرَادَ يَمِينًا فَإِنْ أَفْطَرَ خَمِيسًا آخَرَ قَضَاهُ أَيْضًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَنِثَ فِيهَا مَرَّةً لَا يَحْنَثُ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِحُكْمِ النَّذْرِ لَزِمَهُ صَوْمُ كُلِّ خَمِيسٍ فَكُلُّ مَا أَفْطَرَ فِي خَمِيسٍ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ خَمِيسٍ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ النَّذْرِ بِخِلَافِ إيجَابِ الْكَفَّارَتَيْنِ (قَالَ): وَإِنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ حَقِيقَةٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يُقَالُ الْيَوْمُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْوَقْتِ، وَلَكِنْ إذَا قَرَنَ بِهِ مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، وَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ الْوَقْتَ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَلَا يَقْضِي هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ قَالَ: لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النَّذْرُ وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فِيهِ فَعِنْدَ وُجُودِهِ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى نَذْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَأَكَلَ الْغَدَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى وَقْتِ قُدُومِ فُلَانٍ فَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدُومِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالْمُنَجَّزِ، وَمَنْ أَكَلَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ أَبَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِالْتِزَامِ الصَّوْمِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِالْتِزَامِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْأَكْلِ فَهُوَ وَقْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ فِيهِ صَامَهُ لِبَقَاءِ وَقْتِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَصَارَ كَالْمُنَجِّزِ لِلنَّذْرِ فِي الْحَال (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 لِأَنَّ فِيهِ مَعْصِيَةً وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِيَ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ؛ وَلِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى كَانَ فَاسِدًا لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ وَالْقَضَاءِ لِحِفْظِ الْمُؤَدَّى بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ بِنَذْرِهِ صَارَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، وَفِي الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِالشُّرُوعِ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ التَّكْبِيرِ لَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فَكَبَّرَ لَا يَحْنَثُ فَلِهَذَا صَحَّ الشُّرُوعُ، وَهُنَا بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ صَارَ صَائِمًا مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ لَا بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ فَلِهَذَا لَزِمَهُ، وَهُنَا بِهَذَا الشُّرُوعِ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِدُونِ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ (قَالَ): امْرَأَةٌ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ حَيْضِي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَدَاءَ الصَّوْمِ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُنَافِي لَا يَصِحُّ الِالْتِزَامُ كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي أَكَلْت فِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ مُتَحَقِّقٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهَا تَصْرِيحٌ بِالْمُنَافِي فَصَحَّ الِالْتِزَامُ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْحَيْضِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ (قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الْغُبَارُ، أَوْ الدُّخَانُ حَلْقَ الصَّائِمِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَالتَّنَفُّسُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلصَّائِمِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلَوْ طَعَنَ بِرُمْحٍ حَتَّى وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرُّمْحِ بِيَدِ الطَّاعِنِ يَمْنَعُ وُصُولُهُ إلَى بَاطِنِهِ حُكْمًا فَإِنْ بَقِيَ الزَّجُّ فِي جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغِيبًا حَقِيقَةً فَكَانَ وَاصِلًا إلَى بَاطِنِهِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ ابْتَلَعَ خَيْطًا فَإِنْ بَقِيَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِيَدِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَسَدَ صَوْمُهُ (قَالَ): وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ صَبَّ فِي حَلْقِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ وَاعْتُبِرَ صُنْعُهُ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ وُصُولَ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ مَعَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِفِعْلِهِ وَبِفِعْلِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ انَّائِمُ إنْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَاءً فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي إذَا لَا صُنْعَ لَهُ أَصْلًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّاسِي مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا صُنْعَ فِيهِ لِلْعِبَادِ فَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ مَنَعَ فَسَادَ صَوْمِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك» وَهُنَا إنَّمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 جَاءَ الْعُذْرُ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الْعِبَادِ، وَهُوَ النَّوْمُ مِنْهُ وَالصَّبُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ فَسَادِ الصَّوْمِ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ (قَالَ): وَلِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلصَّائِمِ السِّوَاكَ آخِرَ النَّهَارِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَالسِّوَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ وَمَا هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشَّهِيدِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» ثُمَّ هُوَ تَطْهِيرٌ لِلْفَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالسِّوَاكُ لَا يُزِيلُ الْخُلُوفَ بَلْ يَزِيدُ فِيهِ إنَّمَا يُزِيلُ النَّكْهَةَ الْكَرِيهَةَ وَمُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ دَرَجَةِ الصَّائِمِ لَا عَيْنُ الْخُلُوفِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُ الرَّوَائِحُ، وَدَمُ الشَّهِيدِ يَبْقَى عَلَيْهِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنِ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّاهِدِ، وَالسِّوَاكِ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ الْأَخْضَرِ وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَبُلَّهُ بِالْمَاءِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا فَهُوَ نَظِيرُ الذَّوْقِ، وَإِدْخَالِ الْمَاءِ فِي فَمِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، وَهُوَ صَائِمٌ» (قَالَ): وَإِذَا خَافَتْ الْحَامِلُ، أَوْ الْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا أَفْطَرَتْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ»؛ وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهَا الْحَرَجُ فِي نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْحَرَجُ عُذْرٌ فِي الْفِطْرِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَانِيَةٍ فِي الْفِطْرِ وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَّا أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْفِدْيَةُ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: الْفِطْرُ مَنْفَعَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ الصَّوْمِ خِلْقَةً لَا عِلَّةَ فَيُوجِبُ الْفِدْيَةُ كَفِطْرِ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَنْفَعَةُ شَخْصَيْنِ مَنْفَعَتُهَا وَمَنْفَعَةُ وَلَدِهَا فَبِاعْتِبَارِ مَنْفَعَتِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَبِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ وَلَدِهَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا مُفْطِرٌ يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 مَشْرُوعَةٌ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ لَا يَكُونُ، وَهُوَ خَلَفٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِاعْتِبَارِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا صَوْمَ عَلَى الْوَلَدِ فَكَيْفَ يَجِبُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ لَوَجَبَ فِي مَالِهِ كَنَفَقَتِهِ وَلَتَضَاعَفَ بِتَعَدُّدِ الْوَلَدِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَاَلَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْهُ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ خَلَفُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ مَشْرُوعٌ لِيَقُومَ مَقَامَ الْأَصْلِ وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ قَدْ لَزِمَهُ لِشُهُودِ الشَّهْرِ حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَصَامَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ لِأَجْلِ الْحَرَجِ، وَعُذْرُهُ لَيْسَ بِعَرَضِ الزَّوَالِ حَتَّى يُصَارَ إلَى الْقَضَاءِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّوْمَ لَزِمَهُ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ خَلَفِهِ كَالْكَفَّارَةِ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَالِ بَلْ بِاعْتِبَارِ خَلَفِهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ وَقِيلَ حَرْفُ " لَا " مُضْمَرٌ فِيهِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ. (قَالَ): وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ الطِّينَ، أَوْ الْجَصَّ، أَوْ الْحَصَاةَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَمُرَادُهُ طِينُ الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا أَكَلَ الطِّينَ الْأَرْمَنِيَّ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ رَوَاهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ فَإِنَّهُ وَالْغَارِيقُونَ سَوَاءٌ. (قَالَ) ابْنُ رُسْتُمَ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِنْ أَكَلَ مِنْ هَذَا الطِّينِ الَّذِي يُقْلَى وَيُؤْكَلُ، قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا وَيُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي فَقَدْ يَنْفَعُ الْمَرْطُوبَ. (قَالَ): وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ مَضْغُ الْعِلْكِ وَلَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ مَضْغَ الْعِلْكِ، يَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَلَمْ يَأْنِ لَهُ فَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَيَتَّهِمُهُ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ شَيْئًا مِنْهُ حَلْقَهُ فَيَكُونُ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْعِلْكِ لَا تَصِلُ إلَى حَلْقِهِ إنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ طَعْمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْعِلْكُ مُصْلَحًا مُلْتَئِمًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا فَمَضَغَهُ حَتَّى صَارَ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَتَفَتَّتْ أَجْزَاؤُهُ فَيُدْخِلُ حَلْقَهُ مَعَ رِيقِهِ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَمْضُغَ الْمَرْأَةُ لِصَبِيِّهَا طَعَامًا إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ، وَيَجُوزُ لَهَا الْفِطْرُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ فَلَأَنْ يَجُوزَ مَضْغُ الطَّعَامِ كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ مِنْهُ حَلْقَهَا فَكَانَتْ مُعَرِّضَةً صَوْمَهَا لِلْفَسَادِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] (الْأَصْلُ) فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْعَدَوِيِّ وَيُقَالُ الْعَبْدَرِيُّ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَابَ فَقَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَحَدِيثُ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَطَبَ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: أَدَّوْا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ فَنَظَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ: مَنْ هُنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قُومُوا رَحِمكُمْ اللَّهُ فَعَلِّمُوا إخْوَانَكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نُؤَدِّيَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ: أَنَّهَا فَرِيضَةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرِيضَةِ، وَعِنْدَنَا هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ وَاجِبًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَا يَكُونُ فَرْضًا حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ إنَّمَا الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أَيْ تَطَهَّرَ بِأَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ بَعْدَهُ ثُمَّ سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» وَحَرْفُ عَنْ لِلِانْتِزَاعِ مِنْ الشَّيْءِ فَيُحْتَمَلُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا يُنْتَزَعُ مِنْهُ الْحُكْمُ أَوْ مَحَلًّا يَجِبُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤَدِّي عَنْهُ، وَبَطَلَ الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَضَاعَفُ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ وَقْتُ الْفِطْرِ، وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْإِضَافَةُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ إلَى السَّبَبِ فَقَدْ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ فَأَمَّا التَّضَاعُفُ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ ثُمَّ هِيَ عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الْمُؤْنَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ وَمَعْنَى الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ الرَّأْسَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا عَلَى الْوَقْتِ. وَاذَا كَانَ الْوُجُوبُ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ يُسْتَحَبُّ أَدَاؤُهُ كَمَا وَجَبَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْمُصَلَّى وَقَالَ: اغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَدَّى قَبْلَ الْخُرُوجِ تَفَرَّغَ قَلْبُ الْفَقِيرِ عَنْ حَاجَةِ الْعِيَالِ فَتَفَرَّغَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَسْتَاكَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيُؤَدِّيَ فِطْرَتَهُ وَيَتَنَاوَلَ شَيْئًا ثُمَّ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى (قَالَ): وَعَلَى الْمُسْلِمِ الْمُوسِرِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ أَمَّا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِينَ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» وَقَالَ: عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّوْمُ مَحْبُوسٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِثَوَابِهَا، وَهُوَ الْمُسْلِمُ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْيَسَارِ فَقَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ وَزِيَادَةً بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ فَيُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي آخَرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ»؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ كَالْمُوسِرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تُشْبِهُ الْكَفَّارَةَ دُونَ الزَّكَاةِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ وَفِي الْكَفَّارَةِ يُعْتَبَرُ تَيْسِيرُ الْأَدَاءِ دُونَ الْغِنَى فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنَى» وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ مَحِلُّ الصَّرْفِ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَاَلَّذِي لَا يَمْلِكُ إلَّا قُوتَ يَوْمِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِمَا لَا يُفِيدُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ كَانَ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الصَّدَقَةُ مَا كَانَتْ عَنْ ظَهْرِ غِنًى أَوْ مَا أَبْقَتْ غِنًى» أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ «أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى» ثُمَّ الْيَسَارُ الْمُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتِي دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ النَّقْرَةُ فِيهَا عَلَى الْغِشِّ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْيَسَارِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ حُرْمَةُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةُ. وَكَمَا يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ أَوْلَادِهِ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هَذَا يُؤَدِّي عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلْخِدْمَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ الْقِنُّ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمْ لَا تَنْعَدِمُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ إنَّمَا تَسْتَحِيلُ الْمَالِيَّةُ بِهَذَا وَلَا عِبْرَةَ لِلْمَالِيَّةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمْ مَا خَلَا مُكَاتَبِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَّتْ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْمُكَاتِبَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ»، وَقَالَ: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» وَهُوَ لَا يُمَوِّنُ الْمُكَاتَبَ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ جَمِيعِ مَمَالِيكِهِ إلَّا الْمُكَاتَبِينَ لَهُ. وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ مَمَالِيكِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُكَاتَبَ مَالِكًا لِكَسْبِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ إذَا مَلَكَهُ الْمَوْلَى، وَعِنْدَنَا الْمَمْلُوكُ مَالٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ لِلتَّضَادِّ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَيْنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِكَسْبِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ الْغِنَى، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إبَاحَةُ الْأَخْذِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ كَسْبٌ (قَالَ): وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ عَنْ مَمْلُوكِهِ الْكَافِرِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُؤَدِّي عَنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا عَلَى الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يَتَحَمَّلُ الْمَوْلَى عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْعَبْدِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْتَدِلُّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ»؛ وَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ، وَوُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى الْعَبْدِ وَقِيلَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِلصَّوْمِ كَسُجُودِ السَّهْوِ لِلصَّلَاةِ، وَالسُّجُودُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي لَا عَلَى غَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قَبُولُ الصَّوْمِ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» فَإِنَّمَا الْوُجُوبُ عَلَى مِنْ خُوطِبَ بِالْأَدَاءِ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ ثُمَّ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَزَكَاةِ الْمَالِ عَنْ عَبْدِ التِّجَارَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ دُونَ حَالِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَا فَإِذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَلَأَنْ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَحَرْفُ عَلَى فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِمَعْنَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 حَرْفِ عَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] أَيْ عَنْ النَّاسِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّضِيعِ وَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَنَا حَدِيثُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ» وَهُوَ نَصٌّ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكُفْرِ الْمَمْلُوكِ وَإِسْلَامِهِ وَلَا يُؤَدِّي الْكَافِرُ عَنْ مَمْلُوكِهِ الْمُسْلِمِ أَمَّا عِنْدَنَا؛ فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَحَمُّلُ الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَالْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِ الْمَوْلَى الْأَدَاءَ عَنْهُ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا (قَالَ): وَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ مَالٌ أَدَّى عَنْهُ أَبُوهُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ يُضَحِّي عَنْهُ مِنْ مَالِهِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَدَّى مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْوَصِيِّ إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْوَصِيُّ لَا يُؤَدِّي عَنْهُ أَصْلًا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَا: فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ بِدَلِيلِ الْوُجُوبِ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ هَذِهِ طُهْرَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَتُقَاسُ بِنَفَقَةِ الْخِتَانِ وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ احْتَجْنَا إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَبِ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ فِي مَالِهِ حِفْظُ حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ إسْقَاطٌ عَنْهُ، وَمَالُ الصَّبِيِّ يَحْتَمِلُ حُقُوقَ الْعِبَادِ، وَبِهِ فَارَقَ الزَّكَاةَ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يُؤَدَّى عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ مَمَالِيكِ الصَّغِيرِ يُؤَدَّى مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُؤَدَّى عَنْ مَمَالِيكِهِ أَصْلًا وَالْمَعْتُوهُ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا يُؤَدِّي عَنْ ابْنِهِ الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مُفِيقًا ثُمَّ جُنَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وُلِدَ مَجْنُونًا بَقِيَ مَا كَانَ وَاجِبًا بِبَقَاءِ وِلَايَتِهِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مُفِيقًا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِ فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَادَتْ الْوِلَايَةُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى السَّبَبُ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَالطَّارِئِ (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانُوا زَمْنَى مُعْسِرِينَ فَعَلَيْهِ الْأَدَاءُ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَصِحَّاءَ مُعْسِرِينَ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» وَهُوَ يُمَوِّنُ وَلَدَهُ الزَّمِنَ وَالْمُعْسِرَ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: بِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ الزَّمْنَى إذَا كَانُوا كِبَارًا وَبِدُونِ تَقَرُّرِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ (قَالَ): وَلَا يُؤَدِّي الْجَدُّ عَنْ نَوَافِلِهِ الصِّغَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَدَاءَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ يُخَالِفُ الْجَدُّ فِيهَا الْأَبَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَا يُخَالِفُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالثَّانِي التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَالثَّالِثُ جَرُّ الْوَلَاءِ وَالرَّابِعُ الْوَصِيَّةُ لِقَرَابَةِ فُلَانٍ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وِلَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ، وَهُوَ يُمَوِّنُهُمْ فَيَتَقَرَّرُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ الْأَبِ إلَيْهِ فَهُوَ نَظِيرُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ إذَا كَانَ رَأْسُهُ فِي مَعْنَى رَأْسِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ فِي حَقِّ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ وِلَايَتِهِ بِوَاسِطَةٍ وَوِلَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ثَابِتَةٌ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ. (قَالَ): وَلَا يُؤَدِّي الزَّوْجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ زَوْجَتِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ عَنْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» وَهُوَ يُمَوِّنُ زَوْجَتَهُ وَمِلْكُهُ عَلَيْهَا نَظِيرُ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْفِرَاشُ وَحِلُّ الْوَطْءِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ زَوْجَتِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ عَلَيْهَا الْأَدَاءَ عَنْ مَمَالِيكِهَا وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ الْأَدَاءُ عَنْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ نَفْسِ مَمَالِيكِهَا ثُمَّ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلصَّدَقَةِ كَنَفَقِهِ الْأَجِيرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الصَّدَقَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَا تَزَوَّجَهَا لِيَحْمِلَ عَنْهَا الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُؤْنَةِ بِدُونِ الْوِلَايَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَنْهَضُ سَبَبًا وَبِعَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا الْوِلَايَةُ فِيمَا سِوَى حُقُوقِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَإِنْ أَدَّى الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِأَمْرِهَا جَازَ، وَإِنْ أَدَّى عَنْهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَاسِ كَمَا لَوْ أَدَّى عَنْ أَجْنَبِيٍّ، وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْهَا ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ قُرَابَتِهِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 عَلَيْهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ كَمَنْ تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِهِ. (قَالَ): وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِصَدَقَتِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لِحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ نَقَلَ عُشْرَهُ وَصَدَقَتَهُ عَنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» وَأَمَّا عَنْ رَقِيقِهِ فَإِنَّمَا يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَيْثُ هُوَ وَإِنْ كَانُوا فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: يُؤَدِّي عَنْهُمْ حَيْثُ هُمْ، وَجَعَلَهُ قِيَاسَ زَكَاةِ الْمَالِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ مَوْضِعُ الْمَالِ لَا مَوْضِعَ صَاحِبِهِ فَهُنَا كَذَلِكَ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ، وَرَأْسُ الْمَمَالِيكِ فِي حَقِّهِ كَرَأْسِهِ فَكَمَا أَنَّ فِي أَدَاءِ الصَّدَقَةِ عَنْ نَفْسِهِ يُعْتَبَرُ مَوْضِعُهُ فَكَذَلِكَ عَنْ مَمَالِيكِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ الْمَالِ، وَهُنَا لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَمَالِيكِ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَوْلَى. (قَالَ): رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا مَمْلُوكٌ لِلْخِدْمَةِ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ مَا يُسَمَّى عَبْدًا فَإِنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِعَبْدٍ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ هُوَ يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَمَّنْ تُمَوِّنُونَ» وَهُمَا يُمَوِّنَانِهِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عَنْهُ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا وِلَايَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَبِمُجَرَّدِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ السَّبَبُ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ (قَالَ): فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَمَالِيكُ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ فِي حِصَّتِهِ إذَا كَانَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ عَنْ عَبْدَيْنِ، وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُضْطَرِبٌ ذَكَرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْكِتَابِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَمَّى عَبْدًا وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا وَبِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فِي الْبَعْضِ مُتَكَامِلٌ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَعُذْرُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ لَا عَلَى الْمِلْكِ حَتَّى تَجِبَ الصَّدَقَةُ عَنْ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّءُوسِ. (قَالَ): فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ثُمَّ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَلَا صَدَقَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا عَلَى الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُ وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْأَبُ أَحَدُهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأُولَى مِنْ الْآخَرِ فَجَعَلْنَاهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ ابْنٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ صَدَقَةٌ كَامِلَةٌ. (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي مَمَالِيكِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فَإِنَّ عِنْدَهُ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَزَكَاةَ التِّجَارَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ فَلَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ عَلَى مِلْكٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ. (قَالَ): وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ صَدَقَةَ نَفْسِهِ وَمَمَالِيكِهِ فَيُعْطِيَهَا مِسْكِينًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغْنَوْهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِصَرْفِ الْكُلِّ إلَى وَاحِدٍ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ بِالتَّفْرِيقِ؛ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْقَدْرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَصِفَةُ الْفَقْرِ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالتَّفْرِيقِ، وَالْجَمْعِ فَجَازَ الْكُلُّ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكَيْنِ وَاحِدٍ جُمْلَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ صُورَةً وَمَعْنًى (قَالَ): فَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الْحِنْطَةِ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حُصُولُ الْغِنَى وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحِنْطَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَدَاءُ الْحِنْطَةِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَأَبْعَدُ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَدَاءُ الْقِيمَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَنْفَعَةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ لِلْحَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ كَانَ؛ لِأَنَّ الْبِيَاعَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْمَدِينَةِ يَكُونُ بِهَا فَأَمَّا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 دِيَارِنَا الْبِيَاعَاتُ تُجْرَى بِالنُّقُودِ، وَهِيَ أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فَالْأَدَاءُ مِنْهَا أَفْضَلُ. (قَالَ): وَمَنْ مَاتَ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَوَلَدِهِ لَيْلَةَ الْعِيدِ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ عَنْهُمْ، وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ الصُّبْحِ فَالصَّدَقَةُ وَاجِبَةٌ عَنْهُمْ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا وَقْتُ الْفِطْرِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَعِنْدَهُ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُهِلُّ بِهَا هِلَالُ شَوَّالٍ حُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفِطْرِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ انْسِلَاخُ شَهْرِ رَمَضَانَ يَكُونُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَحُجَّتُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ يَوْمٌ تُفْطِرُونَ فِيهِ مِنْ صَوْمِكُمْ وَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ لَحْمَ نُسُكِكُمْ»؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِطْرِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَذَلِكَ فِيمَا قَبْلَهُ، وَالْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ كَانَ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ يَلْزَمُهُ الْفِطْرُ، وَهَذَا الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الْفِطْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ فِيهِ لِيَتَحَقَّقَ هَذَا الِاسْمُ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ تَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَتُؤَدَّى فِيهِ لِيَتَحَقَّقَ هَذَا الِاسْمُ فِيهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ جَاءَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مَنْ يُولَدُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ جَاءَ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مُنْفَصِلٌ وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَمَمَالِيكِهِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَيِّتٌ وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ جَاءَ، وَهُوَ حَيٌّ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ وَبِهَلَاكِهِ يَفُوتُ مَحَلُّ الْوَاجِبِ، وَهُنَا الصَّدَقَةُ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُؤَدِّي فَبِمَوْتِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ لَا يَفُوتُ مَحَلُّ الْوَاجِبِ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي أَنَّ مَنْ قَالَ: لِعَبْدِهِ إذَا جَاءَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِأَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى» وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُسَارَعَةُ إلَى الْأَدَاءِ لَا التَّأْخِيرُ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ (قَالَ) وَاذَا مَرَّ وَقْتُ الْفِطْرِ وَفِي يَدِ الرَّجُلِ مَمْلُوكٌ قَدْ اشْتَرَاهُ وَفِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْمِلْكُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَنْ لَهُ مِلْكُ الْعَبْدِ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ يَقُولُ هَذِهِ مُؤْنَةٌ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ نَظِيرَ النَّفَقَةِ وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَوُجُوبُ الصَّدَقَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ عَلَى الرَّأْسِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا تَمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ وَإِذَا فُسِخَ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ فَحُكْمُ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ مَوْقُوفٌ فِيهِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ مُقَابَلٌ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الزَّوَائِدُ فَكَمَا تَوَقَّفَ حُكْمُ اسْتِحْقَاقِهِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَاجَةِ الْمَمْلُوكِ لِلْحَالِ فَإِذَا جَعَلْنَاهَا مَوْقُوفَةً مَاتَ الْمَمْلُوكُ جُوعًا فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ اعْتَبِرْنَا فِيهِ النَّفَقَةَ لِلْحَالِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ. (قَالَ): فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ قَبَضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِقَبْضِهِ وَإِنْ أُتْلِفَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَلَا صَدَقَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَقْتَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْبَاتَّ يُزِيلُ مِلْكَهُ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ مِلْكُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَوُجُوبُ الصَّدَقَةِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَبْقَى لِمُلْكِهِ حُكْمٌ حِين انْفَسَخَ الْبَيْعُ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَرَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ بِالرَّدِّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ هُنَاكَ بَعْدَ الْهَلَاكِ كَفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ مِلْكِ الْبَائِعِ فِي حَالِ قِيَامِهِ فَإِنْ رَدَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ وَوِلَايَتَهُ كَانَتْ تَامَّةً وَقْتَ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ قَابِضًا فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ فَبَقِيَ مِلْكُ الْبَائِعِ بَعْدَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَاذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَزَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا تَمَّ الْآنَ، وَالْمَوْهُوبُ فِي هَذَا نَظِيرُ الْمُشْتَرَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 شِرَاءً فَاسِدًا (قَالَ): فَإِنْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ، وَهُوَ مَقْبُوضٌ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِتَعَذُّرِ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ رَدَّهُ فَصَدَقَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ، وَإِنْ كَانَ قَابِضًا مَالِكًا وَقْتَ الْوُجُوبِ وَلَكِنَّ يَدَهُ وَمِلْكَهُ مُسْتَحِقُّ الرَّفْعِ عَنْهَا شَرْعًا فَإِذَا رُفِعَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّ الرَّفْعِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَرْفَعُهُ بِاخْتِيَارِهِ. (قَالَ): وَاذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى فِيهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ لِفِطْرٍ وَلَا تِجَارَةٍ أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ؛ فَلِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ؛ فَلِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَلْ كَانَ كَالْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا فَوَجَدَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَاوِيًا فِي السَّنِينِ الْمَاضِيَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عَنْهُ زَكَاةُ فِطْرٍ وَلَا التِّجَارَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَغْصُوبًا مَجْحُودًا أَوْ مَأْسُورًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي حُكْم التَّاوِي وَيَدُهُ مَقْصُورَةٌ عَنْهُ. (قَالَ): وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَعُدْ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ فَاسِخًا لِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِتَصَرُّفَاتِهِ فَلَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِفِعْلٍ هُوَ تِجَارَةٌ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ فِي الْأَصْلِ لِلْخِدْمَةِ حَتَّى يَجْعَلَهُ لِلتِّجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ فَاسِخًا لِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ بِالْإِذْنِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِتَصَرُّفَاتِهِ. (قَالَ): وَاذَا لَمْ يُخْرِجْ الرَّجُلُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: تَسْقُطُ بِمُضِيِّ يَوْمِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ اخْتَصَّتْ بِأَحَدِ يَوْمَيْ الْعِيدِ فَكَانَتْ قِيَاسَ الْأُضْحِيَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ مَالِيَّةٌ فَلَا تَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ إلَّا بِالْأَدَاءِ كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَلَا نَقُولُ: الْأُضْحِيَّةُ تَسْقُطُ بَلْ يَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ فَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ قُرْبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ جَوَازَ التَّعْجِيلِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَّا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَدَّى قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ جَازَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ تَعْجِيلَهُ جَائِزٌ لِسَنَةٍ وَلِسَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مُتَقَرِّرٌ، وَهُوَ الرَّأْسُ فَهُوَ نَظِيرُ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ أَصْلًا كَالْأُضْحِيَّةِ، وَكَانَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ يَقُولُ: يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ بَعْدَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَكَانَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ يَقُولُ: يَجُوزُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 تَعْجِيلُهُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ. (قَالَ): وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُلُّ صَدَقَةٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُلُّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ إلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُلُّ صَدَقَةٍ هِيَ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَاتِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ دَفْعُ التَّطَوُّعَاتِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقِيسُ هَذَا بِزَكَاةِ الْمَالِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ الْمَالِيَّةَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ الْمُنَاسِبِينَ لَهُ فِي الْمِلَّةِ فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى غَيْرِهِمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيَتَفَرَّغَ عَنْ السُّؤَالِ لِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالصَّرْفِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَيَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَدَفَعَ حَاجَتِهِ بِفِعْلٍ هُوَ قُرْبَةٌ مِنْ الْمُؤَدِّي وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِالصَّرْفِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ لِمَنْ لَا يُقَاتِلُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الْآيَةُ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ مُقَاتِلٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ يُقَاتِلُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] الْآيَةُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» وَالْمُرَادُ بِهِ الزَّكَاةُ لَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتُ إذْ لَيْسَ لِلسَّاعِي فِيهَا وِلَايَةُ الْأَخْذِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (قَالَ): وَفُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْخِلَافِ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، وَالذِّمِّيُّ يَتَقَوَّى بِهَا عَلَى عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ. (قَالَ): وَاذَا كَانَ لِلرَّجُلِ دَارٌ وَخَادِمٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فَإِنَّ الدَّارَ تَسْتَرِمُّ وَالْخَادِمُ يَسْتَنْفِقُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمَا فَهُمَا يَزِيدَانِ فِي حَاجَتِهِ وَلَا يُغْنِيَانِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْإِغْنَاءِ كَمَا قَالَ: أَغْنَوْهُمْ وَلَا يُخَاطَبُ بِالْإِغْنَاءِ مَنْ لَيْسَ يُغْنِي فِي نَفْسِهِ. (قَالَ): وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَتَعَلَّقَتْ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ وَمَوْلَاهُ مُوسِرٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبِسَبَبِ الدَّيْنِ تُسْتَحَقُّ مَالِيَّتُهُ وَمَالِيَّةُ مَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 صَدَقَةُ الْفِطْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي وَلَدِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَبِسَبَبِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ شُغْلَهُ بِنَوْعٍ مِنْ خِدْمَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ يَنْفِي غِنَاهُ وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ. (قَالَ): فَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ عَبِيدًا فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى عَنْهُمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ اشْتَرَاهُمْ لِلْخِدْمَةِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرِقَابِهِمْ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رِقَابَهُمْ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَهُ فِي رَقَبَتِهِ. (قَالَ): وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ وَارِثًا كَانَ أَوْ مُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ فَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَحَقُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُسْتَعَارُ وَالْمُؤَاجَرُ تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْوَدِيعَةِ تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ عَلَى الْمُودِعِ فَإِنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ وَوِلَايَتَهُ لَا يَزُولُ بِهَذَا السَّبَبِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَفَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَلَا يُوجِبُ فِيهَا حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ إنَّمَا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الصَّدَقَةِ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّدَقَةَ عَنْهُ حَتَّى يَفُكَّهُ فَإِذَا فَكَّهُ أَعْطَاهَا لِمَا مَضَى، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَفُكَّهُ فَلَا صَدَقَةَ عَنْهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَجَعَلَهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَاعٌ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَالتَّقْدِيرُ بِنِصْفِ صَاعٍ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ بِرَأْيِهِ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ مِنْ الشَّامِ فَقَالَ: لَا أَرَى إلَّا مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ طَعَامِكُمْ هَذَا وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآثَارَ فِيهِ قَدْ اخْتَلَفَتْ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ وَالِاحْتِيَاطُ فِي إتْمَامِ الصَّاعِ وَقَاسَهُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ لِعِلَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 أَنَّهُ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تَتَأَدَّى بِهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ كَمَا رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَعَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ» فَاَلَّذِي رَوَى الصَّاعَ كَأَنَّهُ سَمِعَ آخِرَ الْحَدِيثِ لَا أَوَّلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَعَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ» وَالتَّقْدِيرُ مِنْ الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - حَتَّى قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ دَعْوَاهُ أَنَّهُ رَأْيُ مُعَاوِيَةَ وَنَقِيسُهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْأَذَى لِعِلَّةِ أَنَّهَا وَظِيفَةُ الْمِسْكَيْنِ لِيَوْمٍ وَفِي كَفَّارَةِ الْأَذَى نَصٌّ فَإِنَّ «كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا الصَّدَقَةُ فَقَالَ: ثَلَاثَةُ آصُعَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ». وَلَيْسَ الْبُرُّ نَظِيرَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَهُوَ النَّوَى وَالنُّخَالَةُ وَعَلَى مَا هُوَ مَأْكُولٌ فَأَمَّا الْبُرُّ مَأْكُولٌ كُلُّهُ فَإِنَّ الْفَقِيرَ يُمْكِنُهُ أَكْلُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ بِنُخَالَتِهِ بِخِلَافِ الشَّعِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الصَّاعِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَيْلًا حَتَّى قَالَ: قُلْت: لَهُ لَوْ وَزَنَ الرَّجُلُ مَنَوَيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَأَعْطَاهُمَا الْفَقِيرَ هَلْ تَجُوزُ مِنْ صَدَقَتِهِ؟ فَقَالَ: لَا فَقَدْ تَكُونُ الْحِنْطَةُ ثَقِيلَةَ الْوَزْنِ، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيفَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ نِصْفُ الصَّاعِ كَيْلًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالتَّقْدِيرِ بِالصَّاعِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِكْيَالِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَعْدِلُ بِالْوَزْنِ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَيْلُ الرَّطْلِ فَهُوَ وَزْنُهُ. (قَالَ): وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ كَالْحِنْطَةِ وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ كَعَيْنِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ مِنْ الدَّقِيقِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي الصَّدَقَاتِ يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَدُّوا قَبْلَ خُرُوجِكُمْ زَكَاةَ فِطْرِكُمْ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ دَقِيقِهِ»؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَإِغْنَاؤُهُ عَنْ السُّؤَالِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَحُصُولُ هَذَا بِأَدَاءِ الدَّقِيقِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ لِوُصُولِ مَنْفَعَتِهِ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَدَاءُ الدَّقِيقِ مِنْ أَدَاءِ الْحِنْطَةِ وَأَدَاءُ الدِّرْهَمِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ الدَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ لِمَنْفَعَتِهِ. وَأَمَّا مِنْ الزَّبِيبِ يَتَقَدَّرُ الْوَاجِبُ بِنِصْفِ صَاعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَتَقَدَّرُ بِصَاعٍ، وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُهُ أَنَّ الزَّبِيبَ نَظِيرُ التَّمْرِ فَإِنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ وَالْقِيمَةِ فَكَمَا يَتَقَدَّرُ مِنْ التَّمْرِ بِصَاعٍ فَكَذَلِكَ مِنْ الزَّبِيبِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ «أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الزَّبِيبَ نَظِيرُ الْبُرِّ فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ فَكَمَا يَتَقَدَّرُ مِنْ الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ مِنْ الزَّبِيبِ وَالْأَثَرُ فِيهِ شَاذٌّ وَبِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ التَّقْدِيرُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَاشْتَهَرَ لِعِلْمِهِمْ بِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْأَدَاءَ مِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ أَعْطَى بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ عِنْدَنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ نَصٌّ عَلَى التَّقْدِيرِ فَالتَّقْدِيرُ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَكَذَا مِنْ الْأَقِطِ يُؤَدِّي بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَتَقَدَّرُ مِنْ الْأَقِطِ بِصَاعٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ لَا أُحِبَّ لَهُ الْأَدَاءَ مِنْ الْأَقِطِ وَإِنْ أَدَّى فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ «أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ» وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْأَقِطُ: كَانَ قُوتًا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ كَانَا قُوتًا فِي أَهْلِ الْبِلَادِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: الْحَدِيثُ شَاذٌّ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَبِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّقْدِيرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَيَبْقَى الِاعْتِبَارُ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِيمَا هُوَ مَنْصُوصٌ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ حَتَّى لَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هُنَا إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ فِي الْمُؤَدَّى، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْمَنْصُوصِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ وَسَوِيقُ الْحِنْطَةِ كَدَقِيقِهَا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ لِمَا بَيَّنَّا فِي الدَّقِيقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الِاعْتِكَافِ] الِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَالْإِضَافَةُ إلَى الْمَسَاجِدِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْقُرْبِ وَتَرْكُ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ لَأَجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عَجَبًا مِنْ النَّاسِ كَيْفَ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ وَمَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ حَتَّى قُبِضَ وَفِي الِاعْتِكَافِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى بَارِئِهَا وَالتَّحَصُّنُ بِحِصْنٍ حَصِينٍ وَمُلَازَمَةُ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ) عَطَاءٌ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إلَى عَظِيمٍ فَيَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتِي وَالْمُعْتَكِفُ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي فَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ إذَا كَانَ عَنْ إخْلَاصٍ ثُمَّ جَوَازُهُ يَخْتَصُّ بِمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ مَعْلُومٌ وَتُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ يُعْتَكَفُ فِيهِ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدَيْنِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، وَضَمُّوا إلَى هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ إيلِيَاءَ» يَعْنِي مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ فِي الذِّكْرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَرَوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ عَجَبًا مِنْ قَوْمٍ عُكُوفٍ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ أَبِي مُوسَى وَأَنْتَ لَا تَمْنَعُهُمْ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رُبَّمَا حَفِظُوا وَنَسِيت وَأَصَابُوا وَأَخْطَأْت كُلُّ مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُعْتَكَفُ فِيهِ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِقَوْمٍ مُعْتَكِفِينَ فَقَالَ: لِحُذَيْفَةَ وَهَلْ يَكُونُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَة: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَإِنَّهُ يُعْتَكَفُ فِيهِ» وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ هَذَا بَيَانُ حُكْمِ الْجَوَازِ فَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَالِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْجِوَارَ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ هِجْرَةٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَ مِنْهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ. ثُمَّ الِاعْتِكَافُ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا أَنْ يُوجِبَهُ الْعَبْدُ بِنَذْرِهِ فَيَلْزَمُهُ لِحَدِيثِ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ قَالَ: لَيْلَةً أَوْ قَالَ: يَوْمَيْنِ فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِك». وَمِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِشَرْطٍ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَهِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَلِيٍّ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مِثْلُ قَوْلِنَا وَالثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ إلَّا أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِهَذَا وَبِحَدِيثِ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سُؤَالِهِ إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ» وَاللَّيْلُ لَا يُصَامُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الِاعْتِكَافِ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي حَقِّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا وَمَا يَكُونُ شَرْطُ الْعِبَادَةِ شَرْطَ اقْتِرَانِهِ بِأَوَّلِهِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ بِدَوَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَا صَوْمَ بِاللَّيْلِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ وَلَا هُوَ رُكْنَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَالِاعْتِكَافُ نَفْلٌ زَائِدٌ فَلَا يَكُونُ الْأَقْوَى رُكْنًا لِلْأَضْعَفِ بَلْ هُوَ زَائِدٌ فِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ عَلَى مَا يَتِمُّ بِهِ الِاعْتِكَافُ فَيَلْزَمُهُ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ وَالْقِرَانُ فِي الْحَجِّ. (وَلَنَا) «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اعْتَكَفَ إلَّا صَائِمًا» وَالْأَفْعَالُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَجْرِي عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الِاعْتِكَافِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ صَائِمًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ نَصَبًا عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْته وَجِيعًا أَيْ ضَرْبًا وَجِيعًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتَكِفُ اعْتِكَافًا صَائِمًا وَالصَّوْمُ لَا يَكُونُ صِفَةً لِلِاعْتِكَافِ فَالِاعْتِكَافُ لَبْثٌ فِي مَقَامٍ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَالصَّوْمُ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ إتْعَابًا لِلْبَدَنِ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلِاعْتِكَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُقَالُ: دَخَلَ الدَّارَ رَاكِبًا وَالْحَالُ خُلُوٌّ عَنْ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الْمُوجِبِ لَا الْوَاجِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ كَمَنْ يَقُولُ: أُصَلِّي طَاهِرًا وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ فَيَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ سَوَاءٌ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَصُومُ مُتَتَابِعًا فَإِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ صِفَةُ الصَّوْمِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أُصَلِّي قَائِمًا فَإِنَّهُ يَنْصِبُ قَائِمًا عَلَى الْمَصْدَرِ يُقَالُ: صَلَاةً قَائِمَةً وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أَحُجُّ قَارِنًا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ بِالِانْضِمَامِ إلَى الْحَجِّ يَزْدَادُ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لَزِمَهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَهُوَ دَمُ نُسُكٍ وَعَنْ كَلَامِهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ وَالشَّرَائِطُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ لَيْلًا فَسَقَطَ لِلتَّعَذُّرِ، وَجُعِلَ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلْأَيَّامِ كَمَا أَنَّ الشِّرْبَ وَالطَّرِيقَ يُجْعَلُ تَبَعًا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ، وَالثَّانِي أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ مُؤَدًّى فِي وَقْتِ الصَّوْمِ وَبِوُجُودِ الصَّوْمِ فِي النَّهَارِ يَتَّصِفُ جَمِيعُ الشَّهْرِ بِأَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ وَدَلِيلُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 فَصَارَ الشَّرْطُ بِهِ مَوْجُودًا كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُومَ إلَيْهَا طَاهِرًا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَحَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلِيلُنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «اعْتَكَفَ وَصُمْ» وَبِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الرِّوَايَةِ إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا. فَأَمَّا التَّطَوُّعُ مِنْ الِاعْتِكَافِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْمٍ وَلَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَجُعِلَ الصَّوْمُ لِلِاعْتِكَافِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِالِاعْتِكَافِ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ حَتَّى تَجُوزَ صَلَاةُ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. (قَالَ): وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِجُمُعَةٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَمَّا الْخُرُوجُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكِفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ»؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ، وَلَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَالْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا صَارَ مُسْتَثْنًى بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفٍ فَإِنْ آوَاهُ سَقْفٌ غَيْرُ سَقْفِ الْمَسْجِدِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَدْخُلُ حُجْرَتَهُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ» وَإِذَا خَرَجَ لِلْحَاجَةِ لَمْ يَمْكُثْ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهَا وَأَمَّا إذَا خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ فَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ دُونَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَكَفَ فِي أَيْ مَسْجِدٍ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ: لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَقَامُ وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِيهِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَامِعِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْخُرُوجِ فَهُوَ، وَالْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) أَنَّ الْخُرُوجَ لِلْجُمُعَةِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهُ فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ نَذْرِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْحَاجَةِ وَالْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وُقُوعُهُ فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ يَقْصِدُ الْتِزَامَ الْقُرْبَةِ لَا الْمَعْصِيَةَ وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَعْصِيَةٌ فَيُعْلَمُ يَقِينًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ بِنَذْرِهِ فَإِذَا اعْتَكَفَ فِي الْجَامِعِ كَانَ خُرُوجُهُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَى الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِهِ وَاذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا عَنْ الْجَامِعِ يَزْدَادُ خُرُوجُهُ إذَا اعْتَكَفَ فِي الْجَامِعِ عَلَى مَا إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْجُمُعَةِ قَالَ فِي الْكِتَابِ: يَخْرُجُ حِينَ تَزُولَ الشَّمْسُ فَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ مُعْتَكَفُهُ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ بِحَيْثُ لَوْ انْتَظَرَ زَوَالَ الشَّمْسِ لَا تَفُوتُهُ الْخُطْبَةُ وَلَا الْجُمُعَةُ فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ تَفُوتُهُ لَمْ يَنْتَظِرْ زَوَالَ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ الْجَامِعَ فَيُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْأَذَانِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ سِتَّ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَأَرْبَعٌ سُنَّةً وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ يَمْكُثُ مِقْدَار مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوَسِتًّا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَمْكُثُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَاجَةِ وَالسُّنَنِ تَبَعٌ لِلْفَرَائِضِ وَلَا حَاجَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السُّنَّةِ فَإِنْ مَكَثَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يُتِمَّ اعْتِكَافَهُ فِي الْجَامِعِ جَازَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلِاعْتِكَافِ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ الِاعْتِكَافِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ. (قَالَ): وَلَا يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَرْوِي حَدِيثًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ». (وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ فِي اعْتِكَافِهِ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ وَلَا يَعْرُجُ عَلَيْهِ»؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وُقُوعُهُ فِي مُدَّةِ اعْتِكَافِهِ فَالْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَثْنًى كَالْخُرُوجِ لِتَلَقِّي الْحَاجِّ وَتَشْيِيعِهِمْ. وَمَا كَانَ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَاجَةَ يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا فِي مُعْتَكَفِهِ. (قَالَ): وَإِذَا مَرِضَ الْمُعْتَكِفُ فِي اعْتِكَافٍ وَاجِبٍ فَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا اسْتَقْبَلَ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ وَقَدْ فَاتَ وَالْعِبَادَةُ لَا تَبْقَى بِدُونِ شُرُوطِهَا كَمَا لَا تَبْقَى بِدُونِ رُكْنِهَا (قَالَ): وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ قَدْ فَاتَ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ سَاعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْسُدُ مَا لَمْ يَخْرُجْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقِيسُ وَقَوْلُهُمَا أَوْسَعُ قَالَا: الْيَسِيرُ مِنْ الْخُرُوجِ عَفْوٌ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ، وَلَهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى التُّؤَدَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْخُرُوجِ عَفْوٌ وَالْكَثِيرَ لَيْسَ بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَإِنَّ الْأَقَلَّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ فَإِذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ فِي الْمَسْجِدِ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا قُلْنَا فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ إذَا وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ جُعِلَ كَوُجُودِهَا فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: رُكْنُ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَقَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ فَيَكُونُ مُفَوِّتًا رُكْنَ الْعِبَادَةِ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَدَثِ فِي الطَّهَارَةِ. (قَالَ): وَلَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ قَالَ: لِأَنَّ مَسْجِدَ الْبَيْتِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهِ وَالنَّوْمِ فِيهِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ فَيُخْتَصُّ بِبُقْعَةِ مُعْظَمِهِ شَرْعًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي مَسَاجِدِ الْبُيُوتِ. (وَلَنَا) أَنَّ مَوْضِعَ أَدَاءِ الِاعْتِكَافِ فِي حَقِّهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي تَكُونُ صَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلَ كَمَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فِي أَشَدِّ مَكَان مِنْ بَيْتِهَا ظُلْمَةً» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ أَمَرَ بِقُبَّةٍ فَضُرِبَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ رَأَى قِبَابًا مَضْرُوبَةً فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ فَقِيلَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَغَضِبَ وَقَالَ: آلْبِرَّ يُرِدْنَ بِهِنَّ وَفِي رِوَايَةٍ يُرِدْنَ بِهَذَا، وَأَمَرَ بِقُبَّتِهِ فَنُقِضَتْ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي ذَلِكَ الْعَشْرِ» فَإِذَا كَرِهَ لَهُنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَلَأَنْ يُمْنَعْنَ فِي زَمَانِنَا أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا إذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ جَازَ ذَلِكَ، وَاعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ يَدْخُلُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهِيَ طُولُ النَّهَارِ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَتِرَةً وَيُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ مِنْ الْفَسَقَةِ فَالْمَنْعُ لِهَذَا، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى عَيْنِ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الِاعْتِكَافِ وَإِذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا فَتِلْكَ الْبُقْعَةُ فِي حَقِّهَا كَمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا حَاضَتْ خَرَجَتْ وَلَا يَلْزَمُهَا بِهِ الِاسْتِقْبَالُ إذَا كَانَ اعْتِكَافُهَا شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَكِنَّهَا تَصِلُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ لِحِينِ طُهْرِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ فِي حَقِّهَا. وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ بَيْتِهَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابَعٍ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ قَالَ: لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ وَلَا أَصْلَ لِلِاعْتِكَافِ فِي الْفَرَائِضِ سِوَى الصَّوْمِ ثُمَّ التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ فَكَذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ إلَيْهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهِ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ نَذْرَهُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الْأَيْمَانِ وَالْآجَالِ وَالْإِجَارَاتِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهَا الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ السَّبَبَ. (وَلَنَا) أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَدُومُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا فَبِمُطْلَقِ ذِكْرِ الشَّهْرِ فِيهِ يَكُونُ مُتَتَابِعًا كَالْيَمِينِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا وَالْآجَالُ وَالْإِجَارَاتُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَدُومُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي نَفْسِهِ لَا يَجِبُ الْوَصْلُ فِيهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ وَمَا كَانَ مُتَّصِلَ الْجَزَاءِ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ ثُمَّ الِاعْتِكَافُ مِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاءِ يُشْبِهُ الصَّوْمَ فَإِنَّ أَدَاءَهُ يَسْتَدْعِي فِعْلًا مِنْ جِهَتِهِ وَكُلُّ وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ كَالْيَوْمِ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ بِمُوجِبِ الْيَمِينِ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا مِنْ جِهَتِهِ، وَكُلُّ وَقْتٍ يَصْلُحُ لَهُ فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَعْقُبُ السَّبَبَ وَمِنْ حَيْثُ الدَّوَامِ الِاعْتِكَافُ يُشْبِهُ الْأَيْمَانَ وَالْآجَالُ دُونَ الصَّوْمِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْأَيْمَانَ وَالْآجَالَ وَالْإِجَارَاتِ عَامَّةٌ فِي الْوَقْتِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا، وَالصَّوْمُ خَاصٌّ بِالْوَقْتِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَالِاعْتِكَافُ خَاصٌّ بِالْوَقْتِ ابْتِدَاءً عَامٌّ بِالْوَقْتِ دَوَامًا فَمِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاءُ أَلْحَقْنَاهُ بِالصَّوْمِ فَكَانَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَمِنْ حَيْثُ الدَّوَامُ أَلْحَقْنَاهُ بِالْآجَالِ وَالْأَيْمَانِ فَكَانَ مُتَتَابِعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي نَذْرِهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَهَذَا وَقَوْلُهُ شَهْرًا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] وَفِي تِلْكَ الْقِصَّةِ قَالَ: فِي مَوْضِعِ آخَرَ {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] فَقَوْلُهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَيِّ بِلَيَالِيِهَا فَكَانَ مُتَتَابِعًا (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالنَّهَارِ فَهُوَ كَمَا قَالَ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ بِالْبَعْضِ وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِتَنْصِيصِهِ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالنَّهَارِ وَنَوَاهُ فَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الزَّمَانِ مِنْ حِينِ يَهِلُّ الْهِلَالُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ الشَّهْرُ وَلَا اللَّيَالِي فَإِنَّمَا نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَنْ قَالَ: لَا آكُلُ وَنَوَى مَأْكُولًا دُونَ مَأْكُولٍ؛ وَلِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ الْوَقْتِ الَّذِي سَمَّاهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ لَا يَحْصُلُ كَمَا لَوْ قَالَ: شَهْرًا وَنَوَى نِصْفَ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنَوَى النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ هُنَا إنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 فَلِهَذَا أَعْمَلْنَا نِيَّتَهُ أَوْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرِ كَذَا فَمَضَى، وَلَمْ يَعْتَكِفْهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ النَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ إلَى زَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَإِضَافَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَاذَا فَوَّتَ الْأَدَاءَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَهَذَا فِي شَهْرٍ سِوَى رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَضَى وَلَمْ يَعْتَكِفْ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فِي الشَّهْرِ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ قَضَى اعْتِكَافَهُ بِقَضَاءِ صَوْمِ الشَّهْرِ وَإِنْ كَانَ صَامَ الشَّهْرَ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِصَوْمٍ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ أَنَّ اعْتِكَافَهُ تَعَلَّقَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَإِذَا صَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ بَقِيَ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَالِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْمٍ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَذْرَهُ قَدْ صَحَّ وَتَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ فَإِذَا لَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ انْقَطَعَ هَذَا التَّعْيِينُ وَصَارَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ وَالْتِزَامُ الِاعْتِكَافِ يَكُونُ الْتِزَامًا لِشَرْطِهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ الْقَابِلِ قَضَاءً عَمَّا الْتَزَمَهُ لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِين إنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا لِوُجُودِ شَرْطِ حِنْثِهِ وَإِنْ اعْتَكَفَ ذَلِكَ الشَّهْرَ الَّذِي سَمَّاهُ إلَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا قَضَى ذَلِكَ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمُتَعَيِّنَ مُتَجَاوِرُ الْأَيَّامِ لَا مُتَتَابِعٌ فَصِفَةُ التَّتَابُعِ فِي الِاعْتِكَافِ لَا تَثْبُتُ إلَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى شَهْرٍ بِعَيْنِهِ. (قَالَ): وَإِذَا نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَحَاضَتْ فِيهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَتَصِلَهَا بِالشَّهْرِ فَإِنْ لَمْ تَصِلْهَا بِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّتَابُعِ فِي وُسْعِهَا وَمَا سَقَطَ عَنْهَا مَعْلُومٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ نَذَرَتْ اعْتِكَافَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَحَاضَتْ فِيهَا فَعَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ. (قَالَ): وَإِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ قَطَعَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَبِثَ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَلَا يَكُونُ مُقَدَّرًا بِالْيَوْمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْيَوْمِ وَقَدْ يُنَافِي هَذَا رِوَايَةَ الْحَسَنِ. (قَالَ): وَاذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ فَانْهَدَمَ فَهَذَا عُذْرٌ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْمَهْدُومَ لَا يُمْكِنُ الْمَقَامُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَكَفًا فَالْمُعْتَكَفُ مَسْجِدٌ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَهْدُومِ فَكَانَ عُذْرًا فِي التَّحَوُّلِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُعْتَكِفُ وَيَبِيعَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَحَدَّثَ بِمَا بَدَا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مَأْثَمًا فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ فِي اعْتِكَافِهِ» وَصَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 شَرِيعَتِنَا وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُعْتَكِفِ قَالُوا: وَهَذَا إذَا لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إحْضَارُ السِّلْعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «جَنَّبُوا مَسَاجِدَكُمْ» إلَى قَوْلِهِ «وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ»؛ وَلِأَنَّ بُقْعَةَ الْمَسْجِدِ تَحَرَّرَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَصَارَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيُكْرَهُ شَغْلُهَا بِالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ فَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ شَغْلُ الْبُقْعَةِ. (قَالَ): وَاذَا أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الْمَسْجِدِ مُكْرَهًا فِي اعْتِكَافٍ وَاجِبٍ فَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ كَمَا تَخَلَّصَ؛ اسْتَحْسَنَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ غَرِيمٌ فَحَبَسَهُ وَقَدْ خَرَجَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ وَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا كَانَ خُرُوجُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ اللُّبْثُ قَدْ فَاتَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُكْرَهُ وَالطَّائِعُ كَمَا إذَا فَاتَ رُكْنُ الصَّوْمِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُقَاوَمَةُ السُّلْطَانِ وَلَا دَفْعُ الْغَرِيمِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ فَلَمْ يَصِرْ بِهَذَا تَارِكًا تَعْظِيمَ الْبُقْعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، فَقَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هُنَاكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ كَانَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ إذْ لَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِي انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ، وَهُنَا الْعُذْرُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُسْتَقْبَلَ. (قَالَ): وَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ يَوْمًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَقَامَ فِيهِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَالْيَوْمُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ الصَّوْمِ. (قَالَ): وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِيِ، وَمَتَى دَخَلَ فِي اعْتِكَافِهِ اللَّيْلُ مَعَ النَّهَارِ فَابْتِدَاؤُهُ يَكُونُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ تَتْبَعُ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَالْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَ لَيْلَتِهِ زَمَانُ الِاعْتِكَافِ فَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَمَّا فِي شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْخِيَارُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ شَاءَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَهُوَ أَفْضَلُ. (قَالَ): وَإِنْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 يَوْمَيْنِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَقَامَ فِيهِ لَيْلَةً وَيَوْمَهَا وَاللَّيْلَةَ الْأُخْرَى وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ أَمَّا إذَا ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالْجَوَابُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ يَوْمَيْنِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَةٍ تَتَخَلَّلُهُمَا فَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ غَيْرُ الْجَمْعِ فَهَذَا وَالْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَوَسِّطَةَ تَدْخُلُ بِضَرُورَةِ اتِّصَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ بِالْبَعْضِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» فَكَانَ هَذَا وَالْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ سَوَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَيْلَتَيْنِ صَحَّ نَذْرُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لَيْلَةً وَاحِدَةً (قَالَ): وَاذَا جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَرْجِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ سَوَاءٌ جَامَعَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا كَانَ أَوْ عَامِدًا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَصَارَ الْجِمَاعُ بِهَذَا النَّصِّ مَحْظُورَ الِاعْتِكَافِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ بِكُلِّ حَالٍ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ قَالَ: الِاعْتِكَافُ فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ وَالْفَرْعُ يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ فَإِنْ بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَإِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ، وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ أَنْزَلَ كَمَا لَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَإِنْ أَنْزَلَ فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُومُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْمُبَاشَرَةِ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فِي الْفَرْجِ فَصَارَ ذَلِكَ مَحْظُورَ الِاعْتِكَافِ بِالنَّصِّ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمُبَاشِرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافُ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِنْزَالُ فَهُوَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ وَلَا مُلْحَقٌ بِهِ حُكْمًا فِي إفْسَادِ الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ لِهَذَا الْفِعْلِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): فَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ أَطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَهَذَا إذَا أَوْصَى؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّوْمِ حُكْمَ الْفِدْيَةِ فَكَذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ فَإِنْ قِيلَ الْفِدْيَةُ عَنْ الصَّوْمِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَكَيْفَ قِسْتُمْ الِاعْتِكَافَ عَلَيْهِ وَالْعَجَبُ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ قُلْتُمْ مِثْلَ هَذَا وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ قُلْنَا: أَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ سَهْلٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ بِاعْتِبَارِ الصَّوْمِ فَإِنَّ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ تَنْصِيصًا عَلَيْهِ فِي الِاعْتِكَافِ وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُطْلَقْ الْجَوَابُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ عَلَى الْفِدْيَةِ مَكَانَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ قَالَ: فِي مَوْضِعٍ مِنْ الزِّيَادَاتِ يُجْزِيهِ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبِتَقْيِيدِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْجَوَابُ فِيهِ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا حِينَ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرِيضِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ بِنَاءً عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِشُهُودِهِ الشَّهْرَ فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِالنَّذْرِ، وَالْفِدْيَةُ تَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا ثُمَّ مَاتَ أَطْعَمَ عَنْهُ عَنْ جَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُطْعِمُ عَنْهُ بِعَدَدِ مَا صَحَّ مِنْ الْأَيَّامِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: لَمَّا صَحَّ فَقَدْ صَارَتْ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ الْأَدَاءِ فَيُجْعَلُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَالصَّحِيحُ لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ أُطْعِمَ عَنْهُ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ أَوْصَى يُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَيْهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُجْبَرْ الْوَارِثُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ أَحَبَّ فَعَلَ فَكَذَلِكَ هَذَا. (قَالَ): وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا يَلْزَمُهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّ جَوَابَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَاسْم اللَّيْلِ خَاصٌّ بِزَمَانٍ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ وَشَرْطُ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ الصَّوْمُ فَإِذَا نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا عَمِلَتْ نِيَّتُهُ اعْتِبَارًا لِلْفَرْدِ بِالْجَمْعِ فَصَارَ شَرْطَ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الصَّوْمُ بِنِيَّتِهِ مَوْجُودًا فَصَحَّ نَذْرُهُ. (قَالَ): وَلَوْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الْيَوْمَ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ فِيهِ أَوْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ إلَى وَقْتٍ لَا يُقْبَلُ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْخُرُوجِ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا الْخُرُوجُ فِيمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ لَا يُفْسِدُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 الِاعْتِكَافَ وَمَا هُوَ الشَّرْطُ، وَهُوَ الصَّوْمُ يَصِحُّ مِنْهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ. (قَالَ): وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ وَقْتٍ مَاضٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُتَعَبَّدْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَصِحَّةُ الْأَدَاءِ بِاعْتِبَارِ إمْكَانِ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي. (قَالَ): وَإِنْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ ثُمَّ يُتِمُّ اعْتِكَافَهُ وَيَشْرَعُ فِيهِ وَأَدَاءُ الْمَنَاسِكِ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ عَنْ الْإِحْرَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ مَضَى فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَحِينَئِذٍ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجُّ؛ لِأَنَّ مَا يَخَافُ فَوْتَهُ يَكُونُ أَهَمَّ فَيَبْدَأُ بِهِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ مُتَتَابِعًا فَإِذَا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ لِخُرُوجِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ. (قَالَ): وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الِاعْتِكَافُ اعْتِبَارًا لِمَا الْتَزَمَهُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى وَشَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِثَوَابِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ الْتَحَقَ بِكَافِرٍ أَصْلِيٍّ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ عَمَلَهُ وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِنَذْرِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ): وَإِذَا نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا صَحَّ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا مَا صَارَ مُسْتَثْنًى شَرْعًا وَذَلِكَ مِقْدَارُ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْفَرَائِضُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلْتَزِمُهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ لِلْمَوْلَى مَنْعُهُ فَإِذَا أُعْتِقَ قَضَاهُ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ امْرَأَتَهُ0 مِنْ الِاعْتِكَافِ الَّذِي الْتَزَمَتْهُ بِنَذْرِهَا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلزَّوْجِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي النَّذْرِ كَذَلِكَ فِي الشُّرُوعِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ الْإِتْمَامِ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالْإِذْنِ مَلَّكَهَا مَنَافِعَهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ مَا مَلَّكَ الْعَبْدَ مَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَكِنَّهُ وَعَدَ فَالْوَفَاءُ لَهُ وَخُلْفُ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ مَنْعُهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ، وَهُوَ قِيَاسُ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْرَمَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا وَالْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ وَإِنْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِذَا أَكَلَ الْمُعْتَكِفُ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّهُ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ لِأَجَلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ حَتَّى اُخْتُصَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 بِوَقْتِ الصَّوْمِ وَالْأَكْلُ نَاسِيًا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ نَاسِيًا فَحُرْمَةُ الْجِمَاعِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ حَتَّى يَعُمَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَوِي فِيهِ النَّاسِي وَالْعَامِدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَمَعْنَى الْفَرْقِ أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِحَالِهِ مَا يُذَكِّرُهُ لَا يُبْتَلَى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ عَادَةً فَيُعْذَرُ لِأَجْلِهِ فَفِي الْإِحْرَامِ هَيْئَةُ الْمُحْرِمِينَ مُذَكِّرَةٌ لَهُ وَفِي الِاعْتِكَافِ كَوْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُذَكِّرًا لَهُ فَأَمَّا فِي الصَّوْمِ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالِهِ مَا يُذَكِّرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْأَكْلِ فِي الصَّلَاةِ سَوَّى بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. (قَالَ): وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ فَعَلَيْهِ إذَا بَرِئَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الصَّوْمُ قَدْ انْعَدَمَ بِتَطَاوُلِ الْإِغْمَاءِ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فَإِنْ صَارَ مَعْتُوهًا ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ سِنِينَ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِالْعَتَهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِالْتِزَامِ تَقَرَّرَ قَبْلَ الْعَتَهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَزِمَتْهُ بِتَقَرُّرِ السَّبَبِ قَبْلَ الْعَتَهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَتَهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِثَوَابِهَا فَبَقِيَتْ ذِمَّتُهُ صَالِحَةً لِلْوُجُوبِ فِيهَا فِيمَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ (قَالَ): وَيَلْبَسُ الْمُعْتَكِفُ وَيَنَامُ، وَيَأْكُلُ، وَيَدَّهِنُ وَيَتَطَيَّبُ بِمَا شَاءَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي اعْتِكَافِهِ (قَالَ): وَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ فَإِنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ الِاعْتِكَافِ وَلَا يَفُوتُ بِهِ رُكْنُ الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ اللُّبْثُ وَلَا شَرْطُهُ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَكَذَلِكَ إنْ سَكِرَ لَيْلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ (قَالَ): وَصُعُودُ الْمُعْتَكِفِ عَلَى الْمِئْذَنَةِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ أَمَّا إذَا كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ وَالصُّعُودُ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَنْبَنِي أَنْ يَفْسُدَ اعْتِكَافُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حَاجَتِهِ فَإِنَّ مَسْجِدَهُ إنَّمَا كَانَ مُعْتَكَفًا لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالْأَذَانِ وَهُوَ بِهَذَا الْخُرُوجِ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ أَصْلًا بَلْ هُوَ سَاعٍ فِيمَا يَزِيدُ فِي تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ. (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اعْتِكَافِهِ كَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ فَكَانَتْ تَغْسِلُهُ وَتُرَجِّلُهُ»؛ لِأَنَّهُ بِإِخْرَاجِ رَأْسِهِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ أَصْبَحَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ» فَفِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرَادَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ نَذَرَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. (قَالَ): وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمِ الْعِيدِ قَضَاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ إنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا اعْتِبَارًا لِلِاعْتِكَافِ بِالصَّوْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي النَّذْرِ بِصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَتَاهُ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنَّ مَا تَطَلَّبْت وَرَاءَك فَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ كَانَ مُعْتَكِفًا مَعَنَا فَلِيَعُدْ إلَى مُعْتَكَفِهِ وَإِنِّي أَرَانِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمُطِرْنَا وَكَانَ عَرِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدٍ فَوَكَفَ فُو الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَقَدْ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَإِنِّي أَرَى جَبْهَتَهُ وَأَرْنَبَةَ أَنْفِهِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ» وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ لِبَيَانِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ فَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ عُلَمَاؤُنَا لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ فَاتَهُ ثَلَاثُ لَيَالٍ فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَيْلَةُ التَّاسِعِ عَشَرَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَآخِرُهَا لَيْلَةً فَقِيلَ سِوَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: سِوَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَبِيرُ حُجَّةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَرَانِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فَإِنَّهُ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ كَانَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ». وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُرْآنِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسَّرَيْنِ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُدْرِكْهَا فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ حَثَّ النَّاسِ عَلَى الْجُهْدِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ قُلْت بِمَ عَرَفْت ذَلِكَ قَالَ بِالْعَلَامَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَبَرْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا قُلْت وَمَا تِلْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الْعَلَامَةُ قَالَ: تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ صَبِيحَتِهَا كَأَنَّهَا طَسْتُ لَا شُعَاعَ لَهَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فَقِيلَ: لَهُ وَمِنْ أَيْنَ تَقُولُ: ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّ سُورَةَ الْقَدْرِ ثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَقَوْلُهُ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَكِنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَتَقَ إذَا انْسَلَخَ الشَّهْرُ وَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِجَوَازِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَفِي الشَّهْرِ الْآتِي فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا مَضَتْ لَيْلَةٌ مِنْ الشَّهْرِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَجَاءَ مِثْلُ الْوَقْتِ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ عَتَقَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ بَلْ هِيَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِذَا جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِمَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعِتْقُ بَعْدَ يَمِينِهِ فَلِهَذَا عَتَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ نَوَادِرِ الصَّوْمِ] (كِتَابُ نَوَادِرِ الصَّوْمِ) (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ مُوجَبَ النَّذْرِ الْوَفَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وَالنَّاذِرُ مُعَاهِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِنَذْرِهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا تَرَكُوا الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الْآيَةَ وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْمَرْءُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَمَدَحَ قَوْمًا بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ} [الإنسان: 7] الْآيَةَ. ثُمَّ النَّذْرُ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً مَقْصُودَةً فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلِيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عِبَادَةً وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْعِبَادَةَ الْمَشْرُوعَةَ نَفْلًا وَاجِبًا بِنَذْرِهِ، وَمَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهَا كَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: إنْ نَذَرَ أَنْ يَعُودَ مَرِيضًا الْيَوْمَ صَحَّ نَذْرُهُ وَإِنْ نَذَرَ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 يَعُودَ فُلَانًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ قُرْبَةٌ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَائِدُ الْمَرِيضِ يَمْشِي عَلَى مَحَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» وَعِيَادَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهَا مَقْصُودًا لِلنَّاذِرِ بَلْ مَعْنَى مُرَاعَاةِ حَقِّ فُلَانٍ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَقُّ الْمَرِيضِ وَالْمَيِّتِ وَالنَّاذِرُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: النَّذْرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِالصَّوْمِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الِاعْتِكَافِ فَنَبْدَأُ بِالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ فَنَقُولُ: إمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْوَقْتَ بِنَذْرِهِ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا أَوْ يُعَيِّنَ الْمَكَانَ فَيَقُولُ: فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ يُعَيِّنَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: عَلَى فُلَانِ الْمِسْكَيْنِ أَوْ يُعَيِّنَ الدِّرْهَمَ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْمَنْذُورِ عِنْدَنَا، وَيَلْغُو اعْتِبَارَ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمِسْكَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمٍ غَيْر الَّذِي عَيَّنَهُ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ كَمَا الْتَزَمَهُ قَالَ: لِأَنَّ فِي أَلْفَاظِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ عَلَى فُلَانٍ الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ الْعِبَادِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ فَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِيهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ فَلَا يَحْصُلُ الْوَفَاءُ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا مَا يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا عَلَى عِبَادِهِ صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ وَمَا لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا عَلَى عِبَادِهِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ ثُمَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّصَدُّقِ بِالْمَالِ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَاب قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَذَلِكَ فِي الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ لَا فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْمِسْكَيْنِ وَالدِّرْهَمِ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا مَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي التَّصَدُّقِ بِاعْتِبَارِ سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ إذْ أَخْرَجَ الْمُتَصَدِّقُ مَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ عَنْ مِلْكِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدُونِ مُرَاعَاةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَإِنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ لَمْ تَكُنْ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 بَلْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَلِهَذَا اعْتَبِرْنَا تَعْيِينَ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ فَصَارَ فُلَانٌ مُوصَى لَهُ بِمَا سُمِّيَ فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا أَمْرَ الْمُوصِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ لَمْ يُجْزِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ النَّذْرَ بِالشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ النَّذْرُ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ كَانَ مَعْدُومًا قَبْلَهُ، وَهُنَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى وَقْتٍ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُوزُ التَّعْجِيلُ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَة فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ. وَأَمَّا النَّذْرُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ فَصَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْمَنْذُورِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَدًا فَصَلَّى الْيَوْمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ فَارَقَ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّ بِالنَّذْرِ بِالصَّوْمِ جَعَلَ مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا وَاجِبًا بِنَذْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ نَفْلًا وَالْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَنَذْرُهُ تَعَلَّقَ بِالصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَتَّى يَتَأَدَّى فِيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ صَوْمُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنَذْرِهِ لَمَا تَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ بِالصَّوْمِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ النَّاذِرَ يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ الصَّوْمَ دُونَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَمَلَ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ وَتَعْيِينُ الْوَقْتِ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَلَا يُقَالُ: الصَّوْمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِي صَوْمِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الشُّهُورِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ النَّذْرُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَصَامَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمًا دُونَهُ فِي الْفَضِيلَةِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَمِثْلُ هَذَا لِبَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ جَعَلَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَإِذَا أَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُؤَدِّيًا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَمَّا هُنَا النَّاذِرُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَقْتَ بِنَذْرِهِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ وِلَايَةُ نَصْبِ الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مُتَقَرِّرًا قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَأَخِّرًا فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسَافِر فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا صَامَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَأَخِّرًا فِي حَقِّهِ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَالْحَرْفُ الثَّانِي أَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ كَفَرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ تُضَافُ إلَى النَّذْرِ لَا إلَى الْوَقْتِ يُقَالُ صَوْمُ النَّذْرِ وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَذْرًا فِي الْحَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي النَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ هُنَاكَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِالشَّرْطِ وَبَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَمَا لَوْ صَامَ الْمُسَافِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ فَإِذَا ثَبَتَ هُنَا أَنَّ السَّبَبَ، وَهُوَ النَّذْرُ مُتَقَرِّرٌ قُلْنَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ وَفِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ هُنَا مَنْفَعَةٌ لِلنَّاذِرِ فَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ قَصَدَ التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَأَعْطَيْنَاهُ مَقْصُودَهُ وَاعْتَبَرْنَا تَعْيِينَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَجَوَّزْنَا التَّعْجِيلَ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ إذَا عَيَّنَ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا وَأَمْسَكَهَا خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قُلْنَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يُرْجَعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَفِي التَّأَدِّي بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَاعْتَبَرْنَا تَعْيِينَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 الْمَكَانَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا بِمَكَّةَ أَوْ أَعْتَكِفَ فَصَامَ أَوْ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ فَصَلَّاهُمَا هُنَا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ أَوْ فِي مَكَان هُوَ أَعْلَى مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَأَفْضَلُ الْبِقَاعِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا، وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا». فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ رَكْعَتَيْنِ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا إلَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَهُ، وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا إلَّا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِد فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَإِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي بَيْتِهِ وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي نَذَرَتْ إنْ فَتْحَ اللَّهُ عَلَيْك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ وَقَالَ: صَلِّي هَهُنَا فَإِنْ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ» الْحَدِيثَ فَهَذَا دَلِيلُ اعْتِبَارِ تَعْيِينِهِ الْمَكَانَ فِي النَّذْرِ بِالصَّلَاةِ «وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَذَرَتْ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِي هَذَا فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَدَاءِ فِي مَكَان هُوَ أَعْلَى مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ لِبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ فَضِيلَةً عَلَى الْبَعْضِ وَكَذَلِكَ لِبَعْضِ الْأَزْمِنَةِ فَإِذَا عَيَّنَ لِنَذْرِهِ مَكَانًا ثُمَّ أَدَّى فِي مَكَان دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي الْفَضِيلَةِ فَإِنَّمَا يُقِيمُ النَّاقِصَ مَقَامَ الْكَامِلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ كَمَا الْتَزَمَهُ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَدَّى فِي مَكَان هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ فَقَدْ أَدَّى أَتَمَّ مِمَّا الْتَزَمَهُ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا فَصَامَ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 أَنْقَصُ مِمَّا الْتَزَمَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى وَقْتٍ فَاضِلٍ فَمَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالصِّفَةِ الَّتِي الْتَزَمَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ زُفَرُ التَّعْجِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْأَمْكِنَةُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ أَفْضَلَ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ ذَلِكَ كَمَا فِي أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ وَقَدْ أُمِرَ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَدَّاهَا فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ، وَلَمَّا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوَابَ الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، قَالَ: وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ ثُمَّ عِنْدَهُ لَوْ الْتَزَمَ صَلَاةً فِي بَعْضِ هَذِهِ الْبِقَاعِ فَصَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فِي أَشَدِّ مَكَان مِنْ بَيْتِهَا ظُلْمَةً» فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهَا إذَا الْتَزَمَتْ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَصَلَّتْ فِي أَشَدِّ مَكَان مِنْ بَيْتِهَا ظُلْمَةً أَنْ تَخْرُجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَخْرُجُ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ النَّاذِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَا مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَيَكُونُ هُوَ بِالنَّذْرِ مُلْتَزِمًا لِلصَّلَاةِ دُونَ الْمَكَانِ، وَفِي أَيْ مَوْضِعٍ صَلَّى فَقَدْ أَدَّى مَا الْتَزَمَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ أَفْضَلَ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ اسْتَقْبَلَ الشَّهْرَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ مُتَتَابِعًا إذَا أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّتَابُعِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِصِفَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصِّفَةَ لِتَعْرِيفِ مَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الشَّهْرِ وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ تَكُونُ مُتَجَاوِرَةً لَا مُتَتَابِعَةً فَذِكْرُ التَّتَابُعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فِي الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَهُوَ يَعْنِي رَجَبَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَقَالَ: فِي الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا فَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِنْدَ إطْلَاقِ الشَّهْرِ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ يَوْمًا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا كَمَا الْتَزَمَهُ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالَ. (قَالَ): وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينًا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ مَعَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ فِي النَّذْرِ مَعْنَى الْيَمِينِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّذْرُ يَمِينٌ» وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ: وَقَدْ حَنِثَ حِينَ أَفْطَرَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ نَذْرٌ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الْقَضَاءِ وَإِنْ أَرَادَ النَّذْرَ أَوْ أَرَادَهُمَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَلِلْيَمِينِ مَجَازًا وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ فَإِنَّ اللَّامَ وَالْبَاءَ يَتَعَاقَبَانِ قَالَ اللَّهُ: {آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] فَقَوْلُهُ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ وَقَوْلُهُ عَلَيَّ نَذْرٌ فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ بِلَفْظٍ آخَرَ ثُمَّ الْحَالِفُ يَلْتَزِمُ الْبِرَّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالنَّاذِرُ يَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لِأَحَدِهِمَا مَجَازًا لِلْآخَرِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى النَّذْرِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي كَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مُحْتَمَلَاتِهِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ فَأَصْبَحَ مِنْ الْغَدِ لَا يَنْوِي صَوْمًا فَلَمْ تَزُلْ الشَّمْسُ حَتَّى نَوَى أَنْ يَصُومَهُ عَنْ نَذْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ غَدًا؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَا كَانَ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ نَحْوَ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عِنْدَ تَعْيِينِ الْيَوْمِ إمْسَاكُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ عِنْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ النَّهَارِ لِتَوَقُّفِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ وَالثَّانِي أَنَّ فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إذَا تَرَكَ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 عَنْ أَدَائِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ كَمَا الْتَزَمَهُ فَجَوَّزْنَاهُ بِضَرْبِ نُقْصَانٍ بِطَرِيقِ إقَامَةِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ لِأَجْلِ الْعَجْزِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْوَقْتَ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَصُومَ يَوْمًا آخَرَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ كَمَا الْتَزَمَهُ ثُمَّ هُنَا ذَكَرَ النِّيَّةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَفِي كِتَابِ الصَّوْمِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الزَّوَالِ نِصْفُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ النِّيَّةِ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الصَّوْمِ فَإِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْمَنْذُورِ، وَكَانَ صَائِمًا عَنْ التَّطَوُّعِ وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُتِمَّهُ فَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَضَاءُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا شَبَّهْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا إنَّمَا قَصَدَ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا قَصَدَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ شَارِعًا فِي النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ لِكَيْ لَا يَضِيعَ سَعْيُهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا ثُمَّ أَصْبَحَ فَنَوَى أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا فَإِنَّهُ يَكُونُ صَوْمُهُ مِمَّا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ وَهَذَا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيِّنَاهُ أَنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ لَا يَجْعَلُ بِنَذْرِهِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ مَشْرُوعًا، وَلَكِنْ يَجْعَلُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا نَفْلًا فِي الْوَقْتِ وَاجِبًا عَلَى نَفْسِهِ فَفِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إنَّمَا الْتَزَمَ الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ أَصَابَهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَبْلَ النَّذْرِ كَانَ مُصِيبًا لَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ النَّذْرِ، وَعِنْدَ إطْلَاقِ النَّذْرِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمَشْرُوعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ مُصِيبًا لِلْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ التَّطَوُّعُ فَلَا يَكُونُ مُحَوِّلًا عَنْ ذِمَّتِهِ مَا الْتَزَمَهُ فِيهَا إلَى الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِدُونِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَصَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ: أَحَدُهُمَا: رَجَبُ أَجْزَآهُ مِنْ الظِّهَارِ كَمَا نَوَاهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْمَنْذُورِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَامَ عَنْ ظِهَارِهِ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ فَإِنَّ صَوْمَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 يَكُونُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: لِأَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ مِثْلُ صَوْمِ الْمَنْذُورِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَعَنْ أَيِّهِمَا نَوَاهُ كَانَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى مِنْ صَوْمِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَصَوْمُ الظِّهَارِ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَلِهَذَا كَانَ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ صَوْمِ الظِّهَارِ وَصَوْمِ الْمَنْذُورِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي رَجَبَ نَفْسِهِ، وَصَوْمُ الظِّهَارِ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ الْمَنْذُورُ بِاعْتِبَارِ السَّبْقِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ إنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ بِنِيَّتِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّذْرُ سَابِقًا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْوَقْتِ لَمَّا صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِنَذْرِهِ لَا يَبْقَى صَالِحًا لِصَوْمِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِمَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الْوَقْتِ لَهُ لَا عَلَيْهِ فَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْلَ نَذْرِهِ كَانَ الصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ فِي رَجَبَ صَالِحًا لِأَدَاءِ صَوْمِ الظِّهَارِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِنَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَنْفِي صَلَاحِيَّتَهُ لِغَيْرِهِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْعَبْدِ فَإِذَا بَقِيَ بَعْدَ نَذْرِهِ صَالِحًا لِأَدَاءِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِهِ تَأَدَّى بِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ فَرْضًا عَلَيْهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يَنْفِيَ صَالِحًا لِأَدَاءِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِهِ، وَلِلشَّرْعِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِأَدَاءِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِهِ تَلْغُو نِيَّتُهُ عَنْ الظِّهَارِ بِهِ وَانْتِفَاءُ الصَّلَاحِيَّةِ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْأَدَاءُ فِي الشَّهْرِ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُ عَنْ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الظِّهَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَمَسْأَلَةُ النَّذْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ثُمَّ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ إذَا كَانَ نَوَى الْيَمِينَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي رَجَبَ لَا أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ الْمَنْذُورِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَإِنْ صَامَهُ عَنْ الظِّهَارِ. (قَالَ): وَالْمَجْنُونَةُ وَالنَّائِمَةُ إذَا جَامَعَهُمَا زَوْجُهُمَا وَهُمَا صَائِمَتَانِ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً فَإِنَّهَا سَتَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَأَدَّى مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ رُكْنُ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِمَا مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. (قَالَ): هُنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ قَتَلَا رَجُلًا خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَلَا تُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ (قَالَ): - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ غَلَطٌ فِي حَقِّ النَّائِمَةِ فَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ أَنَّ النَّائِمَ إذَا انْقَلَبَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ هَذَا الِاسْتِشْهَادُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَا تَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً، وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ. (قَالَ): وَإِذَا خَافَ الرَّجُلُ وَهُوَ صَائِمٌ إنْ هُوَ لَمْ يُفْطِرْ تَزْدَادُ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ تَزْدَادُ حُمَّاهُ شِدَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْطِرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَخَّصَ لِلْمَرِيضِ فِي الْفِطْرِ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَهَذَا مَرِيضٌ؛ لِأَنَّ وَجَعَ الْعَيْنِ نَوْعُ مَرَضٍ وَالْحُمَّى كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَفِي إيجَابِ أَدَاءِ الصَّوْمِ مَعَ هَذَا الْخَوْفِ عُسْرٌ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْيُسْرِ فِيهِ وَيَتَرَخَّصَ بِالْفِطْرِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصَهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي يَوْمٍ فَأَفْطَرَ فِيهِ بَعْدَ مَا صَامَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ أَدَاءً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَدَاءُ وَاجِبًا فِي جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِالْفِطْرِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي رَمَضَانَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُتَسَحِّرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَعَلَى الْمُفْطِرِ الَّذِي يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ لَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ يَكُونُ شُبْهَةً قَوِيَّةً فِي الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْأَدَاءِ وَلَا شُبْهَةَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ مُسْقِطَةٌ لِلْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِشُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مُضَافٌ إلَى وَالِدِهِ شَرْعًا وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَنَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ صَارَ مُقِيمًا ثُمَّ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرِضَ فِي آخِرِهِ فَأَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ صَارَ الْفِطْرُ مُبَاحًا لَهُ. وَلَوْ سَافَرَ فِي آخِرِ النَّهَارِ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ صَارَ مُبَاحًا لَهُ فَإِنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ فِي الْأَصْلِ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ يَكُونُ مُورِثًا شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْكَفَّارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ الْفِطْرُ مُبَاحًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ، وَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا إذَا أَصْبَحَتْ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً ثُمَّ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ أَصْبَحَ الرَّجُلُ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ ثُمَّ مَرِضَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ] بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَمَا يَجُوزُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَمَا لَا يَجُوزُ (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ ابْتَلَعَ جَوْزَةً رَطْبَةً وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ابْتَلَعَ لَوَزَّةً رَطْبَةً أَوْ بِطِّيخَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْفِطْرُ بِمَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ تَتَكَامَلُ بِتَنَاوُلِ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ لِانْعِدَامِ الْإِمْسَاكِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِتَنَاوُلِ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ، وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يَنْعَدِمُ بِهِ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَدْعُو إلَى تَنَاوُلِ مَا يُتَغَذَّى بِهِ وَمَا يُتَدَاوَى بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ الْبَدَنِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيهِ وَلَا تَدْعُو الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ إلَى تَنَاوُلِ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ فَلَا حَاجَةَ لِشَرْعِ الزَّاجِرِ فِيهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْجَوْزَةُ الرَّطْبَةُ لَا تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ عَادَةً وَاللَّوْزَةُ الرَّطْبَةُ تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ عَادَةً، وَهَذَا إذَا ابْتَلَعَ الْجَوْزَةَ فَأَمَّا إذَا مَضَغَهَا، وَهِيَ رَطْبَةٌ أَوْ يَابِسَةٌ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ لُبَّهَا وَلُبُّ الْجَوْزِ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا يُتَغَذَّى بِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ فِي التَّنَاوُلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ. وَإِذَا ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ أَرَادَ بِهِ الدَّوَاءَ أَوْ لَمْ يُرِدْ هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ وَهِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ لِلتَّدَاوِي عَادَةً وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ هُنَا فَإِنَّ الْإِهْلِيلِجَةَ مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ فَسَوَاءٌ أَكَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ قُلْنَا أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ مِسْكًا أَوْ غَالِيَةً أَوْ زَعْفَرَانًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُؤْكَلُ عَادَةً لِلتَّغَذِّي أَوْ لِلتَّدَاوِي. وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ عَجِينًا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْعَجِينَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً قَبْلَ الطَّبْخِ، وَلَا يَدْعُو الطَّبْعُ إلَى تَنَاوُلِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: لَوْ أَكَلَ الدَّقِيقَ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَجِينًا فِي فَمِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى جَوْفِهِ. (قَالَ): وَلَوْ أَكَلَ حِنْطَةً يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ عَادَةً فَإِنَّهَا مَا دَامَتْ رَطْبَةً تُؤْكَلُ وَبَعْدَ الْيُبْسِ تُغْلَى فَتُؤْكَلُ وَتُقْلَى فَتُؤْكَلُ. (قَالَ): وَلَوْ أَكَلَ طِينًا أَرْمَنِيًّا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِيقُونَ يُتَدَاوَى بِهِ قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: فَقُلْت: لَهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْ هَذَا الطِّينِ الَّذِي يَأْكُلُهُ النَّاسُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَأْكُلُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ أَيْضًا إذَا أَكَلَهُ كَمَا هُوَ إلَّا أَنْ يُسَوِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يُتَدَاوَى بِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (قَالَ): وَمَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَقَضَى شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ آخَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَضَاءِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ بِالْأَيَّامِ (قَالَ): وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَبِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَشَرْطٌ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا وَالطَّحَاوِيُّ يَقُول: عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ قِيلَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا فِي الْبَاطِنِ وَقِيلَ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَخَبَرِ الْفَاسِقِ فِي بَابِ الدِّينِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ): وَأَمَّا عَلَى الْفِطْرِ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَأَشَارَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ: الْمُتَعَلِّقُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ هُوَ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ مَقْبُولٌ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِإِسْلَامِ رَجُلٍ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِلَالِ شَوَّالٍ الْخُرُوجُ مِنْ الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رِدَّةِ الْمُسْلِمِ، وَأَشَارَ هُنَا إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَقَالَ: الْمُتَعَلِّقُ بِهِلَالِ شَوَّالٍ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا يُكْتَفَى فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَصُومُونَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا يُفْطِرُونَ إذَا لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ، وَإِنْ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِدُونِ التَّيَقُّنِ بِانْسِلَاخِ رَمَضَانَ لِلْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْجَانِبَيْنِ فَأَمَّا ابْنُ سِمَاعَةَ يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُمْ يُفْطِرُونَ إذَا أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ لَا يَكُونُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالَ: ابْنُ سِمَاعَةَ فَقُلْت لِمُحَمَّدٍ كَيْف يُفْطِرُونَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ قَالَ: لَا يُفْطِرُونَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ بَلْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِدُخُولِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِانْسِلَاخِ رَمَضَانَ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِطْرَ هُنَا مِمَّا تُفْضِي إلَيْهِ الشَّهَادَةُ لَا أَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ نَظِيرُ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى النَّسَبِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ ابْتِدَاءً وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ أَوْ غَيْرَ مَحْدُودٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْبَلُونَ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرَةَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فَإِذَا كَانَ الْمُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ الْفَاسِقُ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ هُنَا فَالْمَحْكُومُ بِكَذِبِهِ كَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا ظَاهِرًا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهَكَذَا فِي هِلَالِ الْفِطْرِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ هُنَا فَإِنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُمَا، وَهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَفِي هِلَالِ شَوَّالٍ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا أُسْوَةُ سَائِرِ النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَنْظَرِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وَمَوْضِعِ الْقَمَرِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا ظَاهِرًا وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَامَعَ امْرَأَتَهُ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِطُهَا فَقَامَ عَنْهَا أَوْ جَامَعَهَا لَيْلًا فَانْفَجَرَ الصُّبْحُ، وَهُوَ مُخَالِطُهَا فَقَامَ عَنْهَا مِنْ سَاعَتِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْمُجَامَعَةِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَانْفِجَارِ الصُّبْحِ إلَى أَنْ نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَكْفِي لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذِهِ الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ حَانِثٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ اللُّبْسِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا حِنْثَ؛ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ يُوَضِّحُهُ أَنَّ نَزْعَ النَّفْسِ كَفٌّ عَنْ الْمُجَامَعَةِ وَالْكَفُّ عَنْ الْمُجَامَعَةِ رُكْنُ الصَّوْمِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ التَّذَكُّرِ إلَّا مَا هُوَ رُكْنُ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِصَوْمِهِ أَلَا تَرَى أَنْ اللُّقْمَةَ لَوْ كَانَتْ فِي فِيهِ فَأَلْقَاهَا بَعْدَ التَّذَكُّرِ أَوْ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ إلَّا أَنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: الْمَوْجُودُ هُنَاكَ جُزْءٌ مِنْ إمْسَاكِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ إلَى أَنْ يُلْقِيَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ وَالْمَوْجُودُ هُنَا جُزْءٌ مِنْ الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: فِي النَّاسِي لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ إذَا نَزَعَ نَفْسَهُ كَمَا تَذَكَّرَ، وَإِذَا انْفَجَرَ الصُّبْحُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ نَزَعَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ آخَرَ الْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ أَوَّلِهِ وَأَوَّلُ الْفِعْلِ مِنْ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ مَعَ مُصَادِفَتِهِ وَقْتَ الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ آخِرُهُ وَأَوَّلُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الَّذِي انْفَجَرَ لَهُ الصُّبْحُ عَمْدٌ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ إذَا صَادَفَ وَقْتَ الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ آخِرُهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَاقْتِرَانُ الْمُجَامَعَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَفِي حَقِّ النَّاسِي شُرُوعُهُ فِي الصَّوْمِ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَزَعَ نَفْسَهُ لَوْ أَمْنَى هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَمْ لَا؟ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ كَمَا لَوْ احْتَلَمَ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا ذَلِكَ وَإِذَا أَتَمَّ الْفِعْلَ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْمُجَامَعَةِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَهُ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصَّوْمِ، وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا عِنْدَنَا الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْفِطْرُ عَلَى وَجْهٍ تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ، وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِيمَا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُخَالِطٌ لِأَهْلِهِ فَدَوَامَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ الْمُجَامَعَةِ، وَالْفِطْرُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلَئِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الْجِمَاعَ الْمُعْدِمَ لِلصَّوْمِ فَالْجِمَاعُ هُوَ إدْخَالُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَلَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إدْخَالُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ الِاسْتِدَامَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ الْإِدْخَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ، وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ مَكَثَ فِي الدَّارِ سَاعَةً فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ أَنَّهُ نَزَعَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَوْلَجَ ثَانِيًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ ابْتِدَاءً الْمُجَامَعَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ مَعَ التَّذَكُّرِ يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا إذَا جَامَعَ ثَانِيًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ بِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا لِشُبْهَةِ الْقِيَاسِ فَهُنَا أَيْضًا يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ صَائِمًا ابْتَلَعَ شَيْئًا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ سِمْسِمَةً كَانَتْ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَغْلُوبٌ لَا حُكْمَ لَهُ كَالذُّبَابِ يَطِيرُ فِي حَلْقِهِ، وَإِنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً وَابْتَلَعَهَا ابْتِدَاءً فَهُوَ مُفْطِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يُقْصِدُ إبْطَالَ صَوْمِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ سِمْسِمَةً فِي فَمِهِ فَابْتَلَعَهَا فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى إيصَالِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَوْمِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بَاقِيًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى إيصَالِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ، وَاَلَّذِي بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ، وَلَوْ ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ اتِّصَالِ مَا بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ إلَى جَوْفِهِ خُصُوصًا إذَا تَسَحَّرَ بِالسَّوِيقِ وَمَا لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِي فَمِهِ بَلَّةٌ ثُمَّ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَقَهُ مَعَ رِيقِهِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ: بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَحْمٌ بَيْنَ أَسْنَانِ الصَّائِمِ فَابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَبِهَذِهِ الرِّوَايَة يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ثُمَّ فِي قَدْرِ الْحِمَّصَةِ أَوْ أَكْثَرَ إذَا ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَوْ أَدْخَلَهُ فِي فِيهِ وَابْتَلَعَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَاقِيًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَفْطَرَ بِلَحْمٍ مُنْتِنٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا بَقِيَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ مِمَّا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ فِي الْعَادَةِ وَلَا مَقْصُودًا فَالْفِطْرُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كَالْفِطْرِ بِتَنَاوُلِ الْحَصَاةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ابْتِدَاءً الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَكْلِ بِإِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي فِيهِ وَإِتْمَامِهِ بِالِاتِّصَالِ إلَى جَوْفِهِ وَحِينَ أَدْخَلَ هَذَا فِي فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ جِنَايَةً عَلَى الصَّوْمِ فَتَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ فِي فِعْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَامَ فِي رَمَضَانَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِهِ بِنِيَّتِهِ مَرِيضًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فِي الْمَرِيضِ نَصًّا، وَلَكِنْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا أَنَّهُ يَكُونُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الصَّوْمِ فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّوْمِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فِي رَمَضَانَ فَلَا إشْكَالَ فِي قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يَكُونُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمُقِيمَ فِي التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا التَّرَخُّصَ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءً، وَصَوْمُ الْمُقِيمِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا هَذَا الصَّوْمُ فَنِيَّتُهُ جِهَةٌ أُخْرَى تَكُونُ لَغْوًا فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَدَاءَ صَوْمِ رَمَضَانَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الصَّوْمِ كَالْمُقِيمِ فِي شَعْبَانَ ثُمَّ هُنَاكَ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ عَمَّا نَوَى فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ يَكُونُ صَوْمُهُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَالطَّرِيقِ الْآخَرِ أَنَّهُ مَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَلَكِنَّهُ صَرَفَ صَوْمَهُ إلَى مَا هُوَ أَهَمُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْآخَرَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فَيَكُونُ هُوَ مُتَرَخِّصًا بِصَرْفِ الصَّوْمِ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَإِنَّهُ فِي رَمَضَانَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ كَانَ صَائِمًا عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ لَمْ يَصْرِفْ الصَّوْمَ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ وَإِذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءً فَيَكُونُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ شَهْرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ كُلَّمَا دَارَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُنْذُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فَيَكُونُ صَوْمُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ كُلَّمَا دَار فِي شَهْرٍ وَيَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ نَذْرَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَرَ دَارِهِ شَهْرًا وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الشَّهْرَ مَتَى شَاءَ، وَهُوَ فِي سَعَةٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ وَقْتًا مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَقْتُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ أَيْ وَقْتَ إقْبَالِهِ أَوْ إدْبَارِهِ وَقَدْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 عَلَى ضِدِّ اللَّيْلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِذَا قَرَنَهُ بِذِكْرِ الصَّوْمِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لِلصَّوْمِ وَمِعْيَارٌ لَهُ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَرَنَ الْيَوْمَ بِالصَّوْمِ فَقَالَ: أَصُومُ هَذَا الْيَوْمَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ ثُمَّ ذَكَرَ الشَّهْرَ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا نَذْرُهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَرَنَ الشَّهْرَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ فَصَارَ مِقْدَارُ الصَّوْمِ بِذِكْرِ الشَّهْرِ مَعْلُومًا ثُمَّ ذَكَرَ الْيَوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِعْيَارًا لِلصَّوْمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ فَجَعَلْنَا كَأَنَّهُ قَالَ: أَصُومُ هَذَا - الشَّهْرَ وَقْتًا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ غَدًا فَإِنْ قَالَ هَذَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ فِيهِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ، وَإِنْ قَالَ: بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ مَا أَكَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ غَدٍ الْيَوْمَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ غَدًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَقْتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الْعِطْفِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَوَّلَ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا وَيَلْغُو آخِرُ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا فَهِيَ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَلَوْ قَالَ غَدًا الْيَوْمَ تَطْلُقُ غَدًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ ذِكْرُ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ صَحَّ نَذْرُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ قَوْلُهُ غَدًا فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا صَوْمَ الْغَدِ بِنَذْرِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَإِنْ أَفْطَرَ فِي الْغَدِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْأَيَّامِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ صَوْمُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ حَرْفُ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ هِيَ الْأَيَّامُ السَّبْعَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الشُّهُورُ وَالسُّنُونَ كُلَّمَا مَضَتْ عَادَتْ فَإِلَيْهَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: ذِكْرُ الْأَلْفِ وَاللَّامِ دَلِيلُ الْكَثْرَةِ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ كَلَامُهُ إلَى أَكْثَرَ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ فِي اللُّغَةِ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَلْفَ وَاللَّامَ دَلِيلُ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ الشُّهُورِ فَعَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَشَرَةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: عَشَرَةُ أَشْهُرٍ أَوْ شُهُورٍ ثُمَّ يُقَالُ: لِمَا بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْهُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] وَهِيَ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ شُهُورٍ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ حَرْفُ الْعَهْدِ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْجُمَعِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 هَذَا عَلَى عَشْرِ جُمَعٍ وَعِنْدَهُمَا عَلَى جُمَعِ الْعُمْرِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمَعِ هَذَا الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ جُمُعَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُمَعَ جَمْعُ جُمُعَةٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ ذَلِكَ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْأُسْبُوعِ فِي الْعَادَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَكَ مُنْذُ جُمُعَةٍ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْأُسْبُوعَ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُتَيَقَّنُ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ اسْمُ جَمْعٍ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنْ مُرَادَهُ الْأُسْبُوعُ دُونَ الْيَوْمِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ خَاصَّةً وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ قَدْ يَقَعُ عَلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ السَّبْعَةِ وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْجُمُعَةِ بِعَيْنِهَا فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى عَمِلَتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهَذَا عَلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ الْمُتَيَقَّنُ هُنَا وَاعْتُبِرَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ هُنَا ذَكَرَ الْجُمُعَةَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْيَوْمُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ لَقُيِّدَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ فَتَرْكُ التَّقْيِيدِ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْأَيَّامُ السَّبْعَةُ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ فَفِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْجَمْعَ إلَى الشَّهْرِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَيَّامُ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَدُورُ فِي الشَّهْرِ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا كَذَا يَوْمًا فَإِنْ نَوَى عَدَدًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ كَانَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ كَذَا اسْمٌ لِعَدَدٍ مُبْهَمٍ فَقَدْ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعِطْفِ وَأَقَلُّ عَدَدَيْنِ مُفَسَّرَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعِطْفِ أَحَدَ عَشَرَ فَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا لَزِمَهُ صَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الْعِطْفِ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ وَأَقَلُّ عَدَدَيْنِ مُفَسَّرَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعِطْفِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مُبْهَمُ كَلَامِهِ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا آخَر (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ بِضْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا لَزِمَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ أَدْنَاهُ الثَّلَاثَةُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] خَاطَرَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ عَلَى أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمْ تَعُدُّونَ الْبِضْعَ فِيكُمْ فَقَالَ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى سَبْعٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زِدْ فِي الْخَطَرِ وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ» فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَدْنَى مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبِضْعِ ثَلَاثَةٌ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْم السِّنِينَ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا لَهُ وَفِي قَوْلِهِمَا إنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّنِينَ شَيْءٌ مَعْهُودٌ فَيُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ جَمِيعُ عُمْرِهِ فِي حَقِّهِ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَى صَوْمُ زَمَانٍ أَوْ صَوْمِ الزَّمَانِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ وَالْحِينَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَكَ مُنْذُ زَمَانٍ لَمْ أَلْقَكِ مُنْذُ حِينٍ وَلَفْظُ الْحِينِ يَتَنَاوَلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ قُرِنَ بِهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ لَمْ يُقْرَنْ فَكَذَلِكَ لَفْظُ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا لَفْظَ الْحِينِ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمُرَاد سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ لَفْظُ الْحِينِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ بِمَعْنَى أَشْيَاءَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّه تَعَالَى {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وَالْمُرَادُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَبِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] وَالْمُرَاد أَرْبَعُونَ سَنَةً وَبِمَعْنَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] يَعْنِي قِيَامَ السَّاعَةِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِنَذْرِهِ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْآدَمِيِّ إلَى هَذِهِ الْمُدَّة الطَّوِيلَة لِلصَّوْمِ فِيهَا نَادِر فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَبَدٍ أَوْ الْأَبَدِ فَهُوَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَبَدَ مَا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَكِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ زِيَادَةَ عَلَى مُدَّةِ عُمْرِهِ، وَإِنْ قَالَ صَوْمُ الدَّهْرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ شَيْئًا وَقَالَ لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَا لَفْظَ الدَّهْرِ كَلَفْظِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [كِتَابُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَالَ): الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ مَا اخْتَصَرَهُ الْحَاكِمُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْحَيْضِ قَاصِرٌ مُبْهَمٌ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِهِ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ لِهَذَا إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِمَا خَرَّجَهُ الْمَشَايِخُ، وَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 اخْتَارُوا مِنْ الْأَقَاوِيلِ فِيهِ فَذَكَرْت ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْكِتَابِ فَوَقَعَ فِي الْبَيَانِ بَعْضُ الْبَسْطِ لِهَذَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْحَيْضُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ، وَمِنْهُ يُقَالُ حَاضَتْ الْأَرْنَبُ وَحَاضَتْ الشَّجَرَةُ إذَا خَرَجَ مِنْهَا الصَّمْغُ الْأَحْمَرُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: اسْمٌ لِدَمٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَدًّا خَارِجًا مِنْ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْقُبُلُ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْوِلَادَةِ وَالْمُبَاضَعَةِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهُوَ حَيْضٌ وَإِلَّا، فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَالِاسْتِحَاضَةُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْحَيْضِ «قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ ذَلِكَ دَمُ حَيْضٍ إنَّمَا هُوَ عِرْقٌ امْتَدَّ أَوْ دَاءٌ اعْتَرَضَ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» أَشَارَ إلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مِنْ الدِّمَاءِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَنَقُولُ: الْفَاسِدُ مِنْ الدِّمَاءِ أَنْوَاعٌ فَمِنْهَا مَا نَقَصَ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الشَّرْعِيَّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِمَا دُونَ الْمِقْدَارِ حُكْمُ الْمُقَدَّرِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ عِنْدَنَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَانِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ اللَّيَالِيِ، وَذَلِكَ لَيْلَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ وَلَوْ سَاعَةً احْتَجَّ بِأَنَّ هَذَا نَوْعُ حَدَثٍ فَلَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ بِشَيْءٍ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ أَقْرَبُهَا دَمُ النِّفَاسِ لَكِنَّا نَقُولُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَمَ النِّفَاسِ يَخْرُجُ عَقِيبَ خُرُوجِ الْوَلَدِ فَيُسْتَدَلُّ بِمَا تَقَدَّمَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ، فَأَمَّا الْحَيْضُ فَلَيْسَ يَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَجَعَلْنَا الْعَلَامَةَ فِيهِ الِامْتِدَادَ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ عِرْقٍ ثُمَّ قَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَحَرُّزًا عَنْ الْكِبَرِ فَقَالَ: لَمَّا اسْتَوْعَبَ السَّيَلَانُ جَمِيعَ السَّاعَاتِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَنَحْنُ قَدَّرْنَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا فَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ يُقَامُ مَقَامَ الْكَمَالِ لِمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الدَّمَ مِنْ الْمَرْأَةِ لَا يَسِيلُ عَلَى الْوَلَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْنِيهَا وَيُجْحِفُهَا وَلَكِنَّهُ يَسِيلُ تَارَةً، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى وَجْهُ رِوَايَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فِي الْآثَارِ ذِكْرَ التَّقْدِيرَ بِالْأَيَّامِ فَجَعَلْنَا الثَّلَاثَةَ مِنْ الْأَيَّامِ أَصْلًا وَمَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ اللَّيَالِيِ يَتْبَعُهَا ضَرُورَةً. وَمِنْ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ لِمَا زَادَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذْ يَفُوتُ بِهِ فَائِدَةُ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي اخْتِلَافُهُمْ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ فَعِنْدَنَا عَشْرُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُقْصَانِ دِينِ الْمَرْأَةِ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» وَالْمُرَادُ زَمَانُ الْحَيْضِ وَالْحَيْضُ وَالطُّهْرُ يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّهْرِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فَيَتَعَيَّنُ شَطْرُ كُلِّ شَهْرٍ لِلْحَيْضِ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الشَّطْرِ فَفِي عُمُرِهَا زَمَانُ الصِّغَرِ وَمُدَّةُ الْحَبَلِ وَزَمَانُ الْإِيَاسِ وَلَا تَحِيضُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ وَإِذَا قَدَّرْنَا بِالْعَشَرَةِ فَقَدْ جَعَلْنَا مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ حَيْضًا فَأَمَّا أَقَلُّ مُدَّةِ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ عَطَاءٌ: تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا قَالَ: لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَادَةً، وَقَدْ يَكُونُ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةً بَقِيَ الطُّهْرُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: أَنَّ مُدَّةَ الطُّهْرِ نَظِيرُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ مِنْ حَيْثُ إنْ تُعِيدُ مَا كَانَ سَقَطَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ أَقَلُّ مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ مُدَّةِ السَّفَر فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ السَّفَرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فَكَذَلِكَ هَذَا. فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الطُّهْرِ فَلَا غَايَةَ لَهُ إلَّا إذَا اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ حَتَّى ضَلَّتْ أَيَّامَهَا، وَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ لَهَا فَحِينَئِذٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ طُهْرِهَا بِشَيْءٍ وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالرَّأْيِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ يَقُولُ: يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ فِي حَقِّهَا بِسِتَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً قَالَ: لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ دُونَ مُدَّةِ الْحَبَلِ عَادَةً وَأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَدَّرْنَا أَكْثَرَ مُدَّةِ الطُّهْرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً فَإِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِتِسْعَةِ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ إلَّا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ، وَهَذِهِ الْحَيْضَةُ لَا تُحْسَبُ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَحْتَاجُ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً وَثَلَاثِ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَكَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ يَقُولُ: أَكْثَرُ الطُّهْرِ يَتَقَدَّرُ فِي حَقِّهَا بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَأَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ الطُّهْرُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ فِي حَقِّهَا بِشَهْرَيْنِ فَقَدْ لَا تَرَى الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَادَةً. وَمِنْ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَةِ مَا جَاوَزَ أَكْثَرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَعِنْدَنَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سِتُّونَ يَوْمًا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَبْعُونَ يَوْمًا، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِالْأَرْبَعِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَقْعُدُ النُّفَسَاءُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى طُهْرًا قَبْلَ ذَلِكَ» وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَنْتَظِرُ النُّفَسَاءُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إلَّا أَنْ تَرَى طُهْرًا قَبْلَ ذَلِكَ» وَفِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اتِّفَاقٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ سِتُّونَ يَوْمًا وَعِنْدَنَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةٌ فَأَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَمِنْ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَةِ مَا تَرَاهُ الْحَامِلُ فَقَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعُرِفَ أَنَّهَا إذَا حَبِلَتْ انْسَدَّ فَمُ رَحِمِهَا فَالدَّمُ الْمَرْئِيُّ لَيْسَ مِنْ الرَّحِمِ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَمِنْ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَةِ مَا تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ أَوَانَهُ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ إذْ لَوْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا حَكَمْنَا بِبُلُوغِهَا بِهِ ضَرُورَةً، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي الصَّغِيرَةِ جِدًّا وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي أَدْنَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ الْحُكْمُ فِيهَا بِبُلُوغِ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَدِّرُ ذَلِكَ بِتِسْعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى بِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ لِأَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ ابْنَةٌ صَارَتْ جَدَّةً، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعَةَ عَشَرَةَ سَنَةً حَتَّى قَالَ: فَضَحَتْنَا هَذِهِ الْجَارِيَةُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا» وَالْأَمْرُ حَقِيقَةً لِلْوُجُوبِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَسُئِلَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ابْنَةِ سِتِّ سِنِينَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ هَلْ يَكُونُ حَيْضًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا تَمَادَى بِهَا مُدَّةَ الْحَيْضِ وَلَمْ يَكُنْ نُزُولُهُ لِآفَةٍ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الدَّمِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ نَادِرٌ وَلَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ. وَمِنْ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَةِ مَا تَرَاهُ الْكَبِيرَةُ جِدًّا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْعَجُوزَ الْكَبِيرَةَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ مُدَّةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الْحَيْضِ كَانَ حَيْضًا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا إذَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا أَمَّا إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ زَمَانًا حَتَّى حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، وَكَانَتْ بِنْتَ تِسْعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَرَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ رَأَتْ دَمًا سَائِلًا كَمَا تَرَاهُ فِي زَمَانِ حَيْضِهَا، فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ رَأَتْ بِلَّةً يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَيْضًا بَلْ ذَلِكَ بَلَلٌ مِنْ فَمِ الرَّحِمِ فَكَانَ فَاسِدًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْحَيْضِ فَهَذَا بَيَانُ أَنْوَاعِ الدِّمَاءِ الْفَاسِدَة. [فَصْلٌ أَلْوَانُ مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ] (فَصْلٌ أَلْوَانُ مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ) سِتَّةٌ السَّوَادُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْكَدِرَةُ وَالْخُضْرَةُ وَالتَّرْبِيَةُ أَمَّا السَّوَادُ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ أَنَّهُ حَيْضٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ عَبِيطٌ» مُحْتَدِمٌ وَالْحُمْرَةُ كَذَلِكَ، فَهُوَ اللَّوْنُ الْأَصْلِيُّ لِلدَّمِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ غَلَبَةِ السَّوْدَاءِ يَضْرِبُ إلَى السَّوَادِ وَعِنْدَ غَلَبَةِ الصَّفْرَاءِ يَرِقُّ فَيَضْرِبُ إلَى الصُّفْرَةِ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ لِمَنْ افْتَصَدَ وَالصُّفْرَةُ كَذَلِكَ حَيْضٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَلْوَانِ الدَّمِ إذَا رَقَّ وَقِيلَ هُوَ كَصُفْرَةِ السِّنِّ أَوْ كَصُفْرَةِ التِّبْنِ أَوْ كَصُفْرَةِ الْقَزِّ، وَأَمَّا الْكَدِرَةُ فَلَوْنٌ كَلَوْنِ الْمَاءِ الْكَدِرِ، وَهُوَ حَيْضٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ رَأَتْ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا أَوْ فِي آخِرِ أَيَّامِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ رَأَتْ الْكَدِرَةَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنْ رَأَتْ فِي آخِرِ أَيَّامِهَا يَكُونُ حَيْضًا قَالَ: لِأَنَّ الْكَدِرَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَتْبَعُ صَافِيَهُ فَإِذَا تَقَدَّمَهُ دَمٌ أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَدِرَةِ حَيْضًا تَبَعًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا دَمٌ لَوْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا كَانَ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا، وَهُمَا يَقُولَانِ: مَا يَكُونُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهَا يَكُونُ حَيْضًا إذَا رَأَتْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مُدَّةِ الْحَيْضِ فِي حُكْمِ وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا كَانَ النَّقْبُ مِنْ أَعْلَى الظَّرْفِ فَأَمَّا إذَا كَانَ النَّقْبُ مِنْ أَسْفَلِهِ فَالْكَدِرَةُ يَسْبِقُ خُرُوجَهَا الصَّافِي وَهُنَا النَّقْبُ مِنْ أَسْفَلَ فَجَعَلْنَا الْكَدِرَةَ حَيْضًا، وَإِنْ رَأَتْهُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وُجُودَهَا حَتَّى قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ سَلَّامٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْخُضْرَةِ كَأَنَّهَا أَكَلَتْ قَصِيلًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِبْعَادِ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَنَّ الْخُضْرَةَ نَوْعٌ مِنْ الْكَدِرَةِ وَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَمَّا التَّرْبِيَةُ، فَهُوَ مَا يَكُونُ لَوْنُهُ كَلَوْنِ التُّرَابِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْكَدِرَةِ؛ وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ وَكَانَتْ غَزَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً قَالَتْ كُنَّا نَعُدُّ التَّرْبِيَةَ حَيْضًا» وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَلْوَانِ فِي حُكْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الْأَذَى سَوَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِتَنْظُرَ فَكَانَتْ إذَا رَأَتْ كَدِرَةً قَالَتْ لَا حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ يَعْنِي الْبَيَاضَ الْخَالِصَ وَالْقُصَّةَ الطِّينُ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ، وَهُوَ أَبْيَضُ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إلَى الصُّفْرَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْحَيْضِ حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ الْخَالِصَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [فَصْلٌ حُكْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِظُهُورِ الدَّمِ وَبُرُوزِهِ] (فَصْلٌ)، وَإِنْ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِظُهُورِ الدَّمِ وَبُرُوزِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يَثْبُتُ إذَا أَحَسَّتْ بِالْبُرُوزِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَحُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالظُّهُورِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لِلْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِهِمَا بِاعْتِبَارِ وَقْتِهِمَا إذَا أَحَسَّتْ بِالْبُرُوزِ وَالِاسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِالظُّهُورِ وَالْفَتْوَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا لِتَنْظُرَ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: مَا كَانَتْ إحْدَانَا تَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ، فَهُوَ بِالْمَسِّ، فَهُوَ إشَارَةٌ مِنْهَا إلَى الظُّهُورِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ، فَهُوَ فِي مَعْدِنِهِ وَالشَّيْءُ فِي مَعْدِنِهِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الظُّهُورِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لِلْمَرْأَةِ فَرْجَانِ دَاخِلٌ وَخَارِجٌ فَالْفَرْجُ الْخَارِجُ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ الدُّبُرِ فَإِذَا وَضَعَتْ الْكُرْسُفَ فَإِمَّا أَنْ تَضَعَهُ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ أَوْ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ فَإِذَا وَضَعَتْهُ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْكُرْسُفِ كَانَ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ظَاهِرًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْكُرْسُفِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا فَإِنْ نَفَذَتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أَوْ مُحَاذِيَةً لِحَرْفِ الْفَرْجِ كَانَ حَيْضًا لِظُهُورِ الْبِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَعَلَى هَذَا لَوْ حَشَى الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْقُطْنَةِ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ. وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أَوْ مُحَاذِيَةً لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ سَقَطَتْ، فَهُوَ حَيْضٌ وَحَدَثٌ سَوَاءٌ ابْتَلَّ الْخَارِجُ أَوْ الدَّاخِلُ لِظُهُورِ الْبِلَّةِ وَلَوْ أَنَّ حَائِضًا وَضَعَتْ الْكُرْسُفَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَنَامَتْ فَلَمَّا أَصْبَحَتْ نَظَرَتْ إلَى الْكُرْسُفِ فَوَجَدَتْ الْبَيَاضَ الْخَالِصَ فَعَلَيْهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِطُهْرِهَا مِنْ حِينِ وَضَعَتْ الْكُرْسُفَ فَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً حِينَ وَضَعَتْ الْكُرْسُفَ وَنَامَتْ ثُمَّ انْتَبَهَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فَوَجَدَتْ الْبِلَّةَ عَلَى الْكُرْسُفِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ حَيْضًا مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَخْذًا بِالْيَقِينِ وَالِاحْتِيَاطِ حَتَّى يَلْزَمَهَا قَضَاءُ الْعِشَاءِ إنْ لَمْ تَكُنْ صَلَّتْ. [فَصْلٌ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَيْضِ] (فَصْلٌ): وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَيْضِ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرُ. مِنْهَا أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» يَعْنِي زَمَانَ الْحَيْضِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا بَالُ إحْدَانَا تَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ أَنْكَرَتْ عَلَيْهَا السُّؤَالَ لِشُهْرَةِ الْحَالِ وَنَسَبَتْهَا إلَى حَرُورَاءَ وَهِيَ قَرْيَةٌ كَانَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ سُؤَالَ التَّعَنُّتِ فِي الدِّينِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الْآيَةُ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى حُرْمَةِ الْغَشَيَانِ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَآخِرِهِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ الْحَائِضِ أَوْ أَتَاهَا فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَمُرَادُهُ إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ. وَمِنْهَا أَنَّهَا لَا تَمَسُّ الْمُصْحَفَ وَلَا اللَّوْحَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ آيَةً تَامَّةً مِنْ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وَهَذَا، وَإِنْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ لَا يُنَزِّلُهُ إلَّا السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ فَظَاهِرُهُ يُفِيدُ مَنْعَ غَيْرِ الطَّاهِرِ مِنْ مَسِّهِ «وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ». وَمِنْهَا أَنَّهَا لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ دُونَ الْجُنُبِ قَالَ: لِأَنَّ الْجُنُبَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ بِالِاغْتِسَالِ فَيَلْزَمُهُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْحَائِضُ عَاجِزَةٌ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَقْرَأَ. (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَى الْحَائِضَ وَالْجُنُبَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» ثُمَّ عَجْزُهَا عَنْ تَحْصِيلِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ يَدُلُّ عَلَى تَغَلُّظِ مَا بِهَا مِنْ الْحَدَثِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى إطْلَاقِ الْقِرَاءَةِ لَهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ عَنْ قِرَاءَةِ آيَةٍ تَامَّةٍ وَلَا تُمْنَعُ عَنْ قِرَاءَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُمْنَعُ عَنْ قِرَاءَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى قَصْدِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَمَا تُمْنَعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْآيَةِ التَّامَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قُرْآنٌ، وَجْهُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْقُرْآنِ حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَمَنْعُ الْحَائِضِ عَنْ قِرَاءَتِهِ ثُمَّ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَ الْآيَةِ وَمَا دُونَهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 حَاضَتْ بِسَرَفٍ اصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ». وَمِنْهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّ مَا بِهَا مِنْ الْأَذَى أَغْلَظُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ الْحَائِضُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانُ الصَّلَاةِ فَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَالِاطِّهَارُ بِالِاغْتِسَالِ. وَمَنّهَا أَنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ». وَمِنْهَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَالْقُرْءُ الْحَيْضُ بَيَانُهُ قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] نُقِلَ الْحُكْمُ إلَى الْأَشْهُرِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي حُكْمِ الِاسْتِبْرَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَعْدَ مَا وَلَدَتْ فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَكَذَلِكَ النِّفَاسُ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ. [فَصْلٌ مُرَاهِقَةٌ رَأَتْ الدَّمَ فَجَاءَتْ تَسْتَفْتِي قَبْلَ أَنْ يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ] (فَصْلٌ): مُرَاهِقَةٌ رَأَتْ الدَّمَ فَجَاءَتْ تَسْتَفْتِي قَبْلَ أَنْ يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ هَلْ تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟ كَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ: بِأَنَّهَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهَا لَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ الْحَيْضِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونَ حَيْضًا، وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ فَتُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عُلِمَ بِأَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ إذَا طَهُرَتْ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْحَيْضَ بِأَنَّهُ أَذًى وَقَدْ تَيَقَّنَتْ بِهِ فِي وَقْتِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُهُ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْمَرْئِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا إذَا انْقَطَعَ لِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَفِي هَذَا الِانْقِطَاعِ شَكٌّ فَحَكَمْنَا بِهَذَا الظَّاهِرِ وَتَرَكْنَا الْمَشْكُوكَ وَجَعَلْنَاهَا حَائِضًا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِتَمَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَهُوَ حَيْضٌ كُلُّهُ فَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ الدَّمَ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَيْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ لِتَأَيُّدِهِ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَهُوَ رُؤْيَةُ الدَّمِ وَإِلَى الْعَشَرَةِ الْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ فَجَعَلْنَاهَا حَيْضًا وَإِذَا انْقَطَعَ لِتَمَامِ الْعَشَرَةِ كَانَ الْكُلُّ حَيْضًا فَبِزِيَادَةِ السَّيَلَان لَا يُنْتَقَصُ الْحَيْضُ وَإِذَا كَانَتْ الْعَشَرَةُ حَيْضًا فَبَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ يَوْمًا طُهْرُهَا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَادَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا تَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ فَتَغْتَسِلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ تَصُومُ وَتُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ وَتَقْضِيَ صِيَامَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ حَيْضَهَا أَقَلُّ الْحَيْضِ فَتَحْتَاطُ لِهَذَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ عَرَفْنَاهَا حَائِضًا، وَدَلِيلُ بَقَائِهَا حَائِضًا ظَاهِرٌ، وَهُوَ سَيَلَانُ الدَّمِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الِاحْتِيَاطِ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ تُرَدُّ إلَى عَادَةِ نِسَائِهَا يَعْنِي نِسَاءَ عَشِيرَتِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النِّسَاءِ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا تَجِدَ أُخْتَيْنِ أَوْ أُمًّا وَابْنَةً عَلَى طَبْعٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَخْتَلِفُ طَبْعُهَا فِي كُلِّ فَصْلٍ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ حَالِ نِسَائِهَا فِي مَعْرِفَة مُدَّةِ حَيْضِهَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَيْضَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَخْذًا بِالْيَقِينِ. وَالثَّانِي أَنَّ حَيْضَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالِيه أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «تَحِيضِي يَعْلَمُ اللَّهُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَتَطْهُرُ»، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يُخَالِفُهَا وَقَدْ ظَهَرَ هُنَا مَا يُضَادُّ الطُّهْرَ، وَهُوَ سَيَلَانُ الدَّمِ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْإِمْكَانُ هَذَا إذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَحَيْضُهَا أَيَّامُ عَادَتِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَحْكُمُ لَوْنُ الدَّمِ فَمَا دَامَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، فَهُوَ حَيْضٌ وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا «دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ عَبِيطٌ مُحْتَدِمٌ» وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيَانُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، وَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ» فَتُرَدُّ إلَى أَيَّامِ أَقْرَائِهَا، وَبِهَذَا اللَّفْظِ تَبَيَّنَ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَمُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ بَيَانُ لَوْنِ الدَّمِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ وَالطِّبَاعِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ أَيَّامِهَا لِلِاخْتِبَارِ فَإِنْ طَهُرَتْ وَإِلَّا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَّامَ أَقْرَائِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ «وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: حِينَ اُسْتُحِيضَتْ انْتَظِرِي الْأَيَّامَ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا فَإِذَا مَضَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي» وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِظْهَارِ بَعْدَهَا بِشَيْءٍ. [فَصْلٌ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا] (فَصْلٌ هُوَ دَائِرَةُ الْكِتَابِ): الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرُ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 فَاصِلًا بَلْ يُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يُجَوِّزُ بِدَايَةَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَيُجَوِّزُ خَتْمَهُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ دَمٌ فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ دَمٌ يُجَوِّزُ خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ وَلَا يُجَوِّزُ بِدَايَتَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ دَمٌ وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ دَمٌ يُجَوِّزُ بِدَايَةَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ وَلَا يُجَوِّزُ خَتْمَهُ بِهِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَجْعَلُ زَمَانًا هُوَ طُهْرٌ كُلُّهُ حَيْضًا بِإِحَاطَةِ الدَّمَيْنِ بِهِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي هُوَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَكَذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَبَيَانُهُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَا دُونَهُ فَاسِدٌ وَبَيْنَ صِفَةِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ مُنَافَاةٌ وَالْفَاسِدُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الصَّحِيحِ شَرْعًا فَكَانَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَبَيَانُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ: مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عِنْدَهُ حَيْضٌ يَحْكُمُ بِبُلُوغِهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَتِسْعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: الدَّمُ الْمَرْئِيُّ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ لَمَّا كَانَ اسْتِحَاضَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ فَلَوْ جَازَ أَنْ تَجْعَلَ أَيَّامَ الطُّهْرِ حَيْضًا بِالدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيْضٍ لَجَازَ بِالرُّعَافِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ لَيْسَ بِحَيْضٍ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ بِاعْتِبَارِهِ زَمَانُ الطُّهْرِ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ فَلَا يَكُونُ كَالرُّعَافِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ خَمْسَةً فَرَأَتْ سِتَّةً دَمًا ثُمَّ أَرْبَعَةً طُهْرًا ثُمَّ يَوْمًا دَمًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ بِاعْتِبَارِ الْمَرْئِيِّ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَالرُّعَافِ مَا صَارَتْ بِهِ مُسْتَحَاضَةً فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ بَعْدَ سِتَّةٍ دَمًا أَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ ثَلَاثَةً دَمًا فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَلَوْ كَانَ الدَّمُ الْمَرْئِيُّ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ الَّذِي هُوَ اسْتِحَاضَةٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ لَكَانَتْ الثَّلَاثَةُ حَيْضًا لِتَمَامِ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ حَيْضٌ كُلُّهُ صُورَةً طُهْرًا حُكْمًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ طُهْرٌ كُلُّهُ صُورَةً حَيْضًا بِإِحَاطَةِ الدَّمَيْنِ بِهِ إذَا ثَبَتَ جَوَازُ هَذَا فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ ثَبَتَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنْ إذَا وُجِدَ شَرْطُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ دَمٌ وَبَعْدَهُ دَمٌ لِيَكُونَ الدَّمُ مُحِيطًا بِالطُّهْرِ. وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلِهِ فِي امْرَأَةٍ عَادَتُهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةٌ فَرَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا بِيَوْمٍ دَمًا ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَتَهَا ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا فَعِنْدَهُ خَمْسَتُهَا حَيْضٌ إذَا جَاوَزَ الْمَرْئِيُّ عَشَرَةً لِإِحَاطَةِ الدَّمَيْنِ بِزَمَانِ عَادَتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَرَ فِيهِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ قَبْلَ خَمْسَتِهَا يَوْمًا دَمًا ثُمَّ طَهُرَتْ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ خَمْسَتِهَا ثُمَّ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 طَهُرَتْ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ خَمْسَتِهَا ثُمَّ اسْتَمَرَّ الدَّمُ فَحَيْضُهَا خَمْسَتُهَا عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخَمْسَةِ وَخَتْمُهَا بِالطُّهْرِ لِوُجُودِ الدَّمِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْعَشَرَةِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَإِلَّا كَانَ فَاصِلًا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُجَوِّزُ بِدَايَةَ الْحَيْضِ وَلَا خَتْمَهُ بِالطُّهْرِ قَالَ: لِأَنَّ الطُّهْرَ ضِدُّ الْحَيْضِ فَلَا يَبْدَأُ الشَّيْءُ بِمَا يُضَادُّهُ وَلَا يُخْتَمُ بِهِ وَلَكِنَّ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ يُجْعَلُ تَبَعًا لَهُمَا كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَنُقْصَانَهُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَضُرُّ. وَبَيَانُ هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَمَانِيَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا أَوْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ سَاعَتَيْنِ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا فَالْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضٌ لِإِحَاطَةِ الدَّمِ بِطَرَفَيْ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَسَبْعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثْلَ أَقَلِّهِ فَإِنْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ فَاصِلًا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلدَّمِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَرْئِيُّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَانَ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ فَجُعِلَ أَصْلًا وَمَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ الطُّهْرِ تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ دُونَ هَذَا كَانَ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا حُكْمَ لَهُ إذَا انْفَرَدَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ زَمَانِ الطُّهْرِ حَيْضًا تَبَعًا. وَبَيَانُ هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَمَانِيَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مِنْ الدَّمِ دُونَ الثَّلَاثِ، وَلَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَسَبْعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْعَشَرَةُ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ بَلَغَ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ إنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْعَشَرَةُ حَيْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا فَإِذَا بَلَغَ الطُّهْرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ نُظِرَ فَإِنْ اسْتَوَى الدَّمُ بِالطُّهْرِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ كَانَ الدَّمُ غَالِبًا لَا يَصِيرُ فَاصِلًا، وَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ غَالِبًا يَصِيرُ فَاصِلًا فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا إمَّا الْمُتَقَدِّمُ أَوْ الْمُتَأَخِّرُ يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا يُجْعَلُ الْحَيْضُ أَسْرَعَهُمَا إمْكَانًا وَلَا يَكُونُ كِلَاهُمَا حَيْضًا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا طُهْرٌ تَامٌّ، وَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 لَا يُجَوِّزُ بِدَايَةَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَلَا خَتْمَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ دَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا يُجْعَلُ زَمَانُ الطُّهْرِ زَمَانَ الْحَيْضِ بِإِحَاطَةِ الدَّمَيْنِ بِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الطُّهْرَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ فَكَمَا تَبْنِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ الْحَيْضِ لَا حُكْمَ لَهُ وَيُجْعَلُ كَحَالِ الطُّهْرِ فَكَذَلِكَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ الطُّهْرِ لَا حُكْمَ لَهُ فَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي وَإِذَا بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ كَانَ الدَّمُ غَالِبًا فَالْمَغْلُوبُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَكَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيَاسٌ، وَهُوَ تَبْنِي اعْتِبَارِ الدَّمِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَاعْتِبَارُ الطُّهْرِ يُوجِبُ حِلَّ ذَلِكَ فَإِذَا اسْتَوَى الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ يَغْلِبُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ كَمَا فِي التَّحَرِّي فِي الْأَوَانِي إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجَاسَةِ أَوْ كَانَا سَوَاءً لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فَهَذَا مِثْلُهُ؛ وَالثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرَى الدَّمَ عَلَى الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْنِيهَا فَيَقْتُلُهَا فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ الدَّمُ مُعْتَبَرًا بِالْحَيْضِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَغْلِبُ الدَّمُ عَلَى الطُّهْرِ عِنْدَ التَّسَاوِي فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَأَمَّا إذَا غَلَبَ الطُّهْرُ الدَّمَ يَصِيرُ فَاصِلًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَالِبِ ظَاهِرٌ شَرْعًا وَإِذَا صَارَ فَاصِلًا بَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّمَيْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ صَاحِبِهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ إمْكَانُ جَعْلِهِ حَيْضًا كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ وُجِدَ الْإِمْكَانُ فِيهِمَا جُعِلَ الْمُتَقَدِّمُ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُهُمَا إمْكَانًا، وَأَمْرُ الْحَيْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ ثُمَّ لَا يُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ طُهْرٌ تَامٌّ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ التَّامِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَيَانُ مَذْهَبِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْأَرْبَعَةُ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ دُونَ الثَّلَاثِ وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ غَالِبٌ عَلَى الدَّمَيْنِ فَصَارَ فَاصِلًا وَكَذَلِكَ إنْ زَادَتْ فِي الطُّهْرِ فَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا فَالسِّتَّةُ كُلُّهَا حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ اسْتَوَى بِالطُّهْرِ فِي طَرَفَيْ السِّتَّةِ فَصَارَ غَالِبًا وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ غَالِبٌ وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ غَالِبٌ وَلَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالثَّمَانِيَةُ حَيْضٌ لِاسْتِوَاءِ الدَّمِ بِالطُّهْرِ وَلَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَحَيْضُهَا الثَّلَاثَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ غَالِبٌ فَصَارَ فَاصِلًا وَالْمُتَقَدِّمُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا فَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا فَحَيْضُهَا الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَسِتَّةً طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا فَحَيْضُهَا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُهَا إمْكَانًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ اسْتَوَى الدَّمُ بِالطُّهْرِ هُنَا فَلِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَلَنَا اسْتِوَاءُ الدَّمِ بِالطُّهْرِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَيْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 عَشَرَةٌ وَالْمَرْئِيُّ فِي الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةُ دَمٍ وَسِتَّةُ طُهْرٍ وَيَوْمٌ دَمٌ فَكَانَ الطُّهْرُ غَالِبًا فَلِهَذَا صَارَ فَاصِلًا. وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا فَإِذَا بَلَغَ الطُّهْرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ فَاصِلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ غَلَبَةَ الدَّمِ وَلَا مُسَاوَاةَ الدَّمِ بِالطُّهْرِ وَبَيَانُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْأَرْبَعَةُ حَيْضٌ وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ سَاعَةٍ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا فَالْكُلُّ حَيْضٌ فَإِنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا، وَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا فَعِنْدَهُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ حَيْضٌ، وَلَوْ كَانَتْ رَأَتْ أَوَّلًا ثَلَاثَةً دَمًا كَانَ الْحَيْضُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَإِنْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا فَالْحَيْضُ عِنْدَهُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُهُمَا إمْكَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا] (فَصْلٌ) أَشْكَلَ فِيهِ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُلْغِي الْيَوْمَيْنِ وَالْخَمْسَةَ وَيَجْعَلُ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ حَيْضَهَا؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا حَيْضَهَا مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمَيْنِ كَانَ خَتْمُ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَطَعَنُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يُلْغِيَ أَحَدَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَيَجْعَلَ الْعَشَرَةَ بَعْدَهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الثَّانِيَ قَاصِرٌ، فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَإِذَا جَعَلْنَاهُ كَالدَّمِ اسْتَوَى الدَّمُ بِالطُّهْرِ فِي الْعَشَرَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ حَيْضًا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ وَخَتْمَهُ بِالدَّمِ قَالُوا: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَ عَلَيْنَا فِي إلْغَاءِ أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّكُمْ أَلْغَيْتُمْ الْيَوْمَيْنِ وَالْخَمْسَةَ بَعْدَهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَيْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ فَإِذَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْعَشَرَةِ حَيْضًا بِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الطَّعْنِ أَنَّ الْيَوْمَيْنِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِاتِّصَالِ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ أَحَدِهِمَا وَاعْتِبَارُ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ جِهَاتِ الْإِلْغَاءِ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَكْثُرُ فَإِنَّك إذَا أَلْغَيْت رُبُعَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْجِهَاتِ لَا يَتَرَجَّحُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَوْلُ بِإِلْغَاءِ الْيَوْمَيْنِ وَالْخَمْسَةِ وَجَعْلُ الْأَرْبَعَةِ حَيْضًا. [فَصَلِّ اجْتَمَعَ طُهْرَانِ مُعْتَبَرَانِ وَصَارَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا مَغْلُوبًا كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي] (فَصْلٌ): مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 اجْتَمَعَ طُهْرَانِ مُعْتَبَرَانِ، وَصَارَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا مَغْلُوبًا كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي هَلْ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الطُّهْرِ الْآخَرِ؟ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْكَبِيرُ يَتَعَدَّى وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ الْغَزَالِيُّ لَا يَتَعَدَّى، وَبَيَانُ ذَلِكَ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّهَا حَيْضٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ الدَّمَ فِي طَرَفَيْهِ اسْتَوَى بِالطُّهْرِ فَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، فَكَأَنَّهَا رَأَتْ سِتَّةً دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا السَّنَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ الْعَشَرَةَ طُهْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِذَا لَمْ يُمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَانَ الطُّهْرُ غَالِبًا فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ حَيْضًا فَلِهَذَا مَيَّزْنَا وَجَعَلْنَا السِّتَّةَ الْأُولَى حَيْضًا لِاسْتِوَاءِ الدَّمِ بِالطُّهْرِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا عَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْعَشَرَةُ حَيْضٌ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا السِّتَّةُ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْعَشَرَةُ حَيْضٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا السِّتَّةُ الْأَخِيرَةُ بَعْدَ الْيَوْمِ وَالثَّلَاثَةُ فَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ يُضَافُ يَوْمَانِ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ إلَى مَا سَبَقَ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا عَشَرَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ وَالثَّلَاثَةِ الْأُولَى فَمِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ سِتَّةٌ حَيْضٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ مِنْ جُمْلَةِ حَيْضِهَا، وَبِهِ تَتِمُّ الْعَشَرَةُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ حَيْضًا لَهَا فَيَصِلُ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ وَأَجْزَاءِ النَّهَارِ] (اعْلَمْ) بِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا يَتَكَرَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ كَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَقْتِ مِنْ عِنْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَتَمَامُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قُبَيْلُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّ قُبَيْلَ اسْمٌ لِوَقْتٍ يَتَّصِلُ بِهِ الْوَقْتُ الْمَذْكُورُ بِخِلَافِ قَبْلِ؛ بَيَانُهُ: فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقْتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 الضَّحْوَةِ أَنْتِ طَالِقٌ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قِيلَ امْرَأَةٌ رَأَتْ الدَّمَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا حَيْضٌ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالطُّهْرُ فِيهِ قَاصِرٌ، فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَتْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَالْجُمْلَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةُ الطُّهْرِ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْكُلُّ حَيْضًا، وَإِنْ رَأَتْ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَارَ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَإِنْ رَأَتْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ رَأَتْ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَيْضًا ثُمَّ رَأَتْ مِنْ الْيَوْمِ السَّابِعِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَالْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَيَصِيرُ الدَّمُ غَالِبًا حُكْمًا فَإِنْ رَأَتْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ رَأَتْ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ مِنْ الْيَوْمِ السَّابِعِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ مِنْ الْعَاشِرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَصَارَ الطُّهْرُ الثَّانِي مَغْلُوبًا بِهِ فَيَتَعَدَّى أَثَرُهُ إلَى الطُّهْرِ الثَّالِثِ كَمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ أَبِي سَهْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السِّتَّةُ الْأُولَى حَيْضٌ، لِأَنَّ الطُّهْرَ الثَّانِيَ كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِالدَّمِ فَلَا يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إلَى الطُّهْرِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا السَّاعَةُ فَفِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُنَجِّمُونَ إنَّهُ وَقْتٌ مُمْتَدٌّ حَتَّى يَشْتَمِلَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً فَتَارَةً يُنْتَقَصُ اللَّيْلُ حَتَّى يَكُونَ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَزْدَادَ النَّهَارُ حَتَّى يَكُونَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَاعَةً وَتَارَةً يُنْتَقَصُ النَّهَارُ حَتَّى يَزْدَادَ اللَّيْلُ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِهِمْ فَأَمَّا فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ السَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ فَإِذَا قِيلَ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرِ سَاعَتَيْنِ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا فَالْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالطُّهْرُ قَاصِرٌ، وَإِنْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرِ ثَلَاثَةِ سَاعَاتٍ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِمَنْزِلَةِ كَمَالِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرِ سَاعَةٍ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا فَالْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةٌ وَالطُّهْرُ فِيهِ قَاصِرٌ، وَإِنْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَارَ فَاصِلًا فَإِنْ رَأَتْ سَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرِ سَاعَتَيْنِ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طُهْرًا وَسَاعَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طُهْرًا وَسَاعَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 دَمًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ لِقُصُورِهِ عَنْ الثَّلَاثِ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَصَارَ الطُّهْرُ الثَّانِي مَغْلُوبًا بِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إلَى الطُّهْرِ الثَّالِثِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الثَّانِيَ كَامِلٌ، وَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا فَلَا يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إلَى الطُّهْرِ الثَّالِثِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ. وَأَمَّا أَجْزَاءُ النَّهَارِ فَبِحَسَبِ مَا يَذْكُرُ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِذَا قِيلَ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ رُبُعَ يَوْمٍ دَمًا ثُمَّ يَوْمَيْنِ وَثُلُثِ يَوْمٍ طُهْرًا ثُمَّ رُبُعَ يَوْمٍ دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا لِأَنَّ الْكُلَّ قَاصِرٌ عَنْ الثَّلَاثِ بِسُدُسِ يَوْمٍ، وَإِنْ قِيلَ رَأَتْ يَوْمًا وَرُبُعَ يَوْمٍ دَمًا وَيَوْمَيْنِ وَنِصْفَ يَوْمٍ طُهْرًا وَرُبُعَ يَوْمٍ دَمًا فَالْكُلُّ حَيْضٌ؛ لِأَنَّهَا بَلَغَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالطُّهْرُ قَاصِرٌ، وَإِنْ رَأَتْ رُبُعَ يَوْمٍ دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طُهْرًا وَرُبُعَ يَوْمٍ دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ كَامِلٌ فَصَارَ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَاقِعَاتِ إنَّمَا وَضَعُوهُ لِتَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَامْتِحَانِ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي الْعِلْمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نَصْبِ الْعَادَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ بُلُوغَ الْمَرْأَةِ قَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَلَامَةِ وَالْعَلَامَةُ إمَّا الْحَيْضُ وَإِمَّا الْحَبَلُ فَنَبْتَدِئُ بِالْحَيْضِ فَنَقُولُ: إذَا رَأَتْ الْمُبْتَدَأَةُ دَمًا صَحِيحًا وَطُهْرًا صَحِيحًا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ يَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صَاحِبَةِ الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هُنَا الِانْتِقَالَ عَنْ حَالَةِ الصِّغَرِ، وَذَلِكَ عَادَةٌ فِي النِّسَاءِ فَيَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ فَأَمَّا فِي صَاحِبَةِ الْعَادَةِ الِانْتِقَالُ عَنْ الْعَادَةِ الثَّابِتَةِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَادَةٍ فَلَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ حَتَّى يَتَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى نَسْخِ الْعَادَةِ الْأُولَى وَإِثْبَاتِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ فَأَمَّا هُنَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْعَادَةِ دُونَ النَّسْخِ فَيَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ. وَبَيَانُ هَذَا مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَةَ يَوْمًا، وَذَلِكَ دَأْبُهَا ثُمَّ تَفْسِيرُ الدَّمِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَصُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يَصِيرُ مَغْلُوبًا بِالطُّهْرِ وَتَفْسِيرُ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَكُونَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِدَمٍ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ وَكَانَ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 [الْفَصْلِ الْأَوَّل مُبْتَدَأَة رَأَتْ أَرْبَعَة عَشْر يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَة عَشْر يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّم] ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَرْبَعَةُ فُصُولٍ إمَّا أَنْ يَفْسُدَ الدَّمُ وَالطُّهْرُ جَمِيعًا أَوْ يَفْسُدَ الدَّمُ وَيَصِحَّ الطُّهْرُ أَوْ يَصِحَّ الدَّمُ وَيَفْسُدَ الطُّهْرُ أَوْ يَكُونَ الدَّمُ صَحِيحًا، وَالطُّهْرُ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهُ يَفْسُدُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَمَّا بَيَانُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرً يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهُنَا الدَّمُ، وَالطُّهْرُ فَاسِدَانِ فَكَأَنَّهَا اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ ابْتِدَاءً فَكَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةً وَطُهْرُهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ عِشْرُونَ وَمَعَنَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَمِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تُصَلِّي يَوْمَيْنِ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالطُّهْرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ يَوْمًا وَاحِدًا تَمَامَ عِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ سِتَّةَ عَشَرَ فَأَوَّلُ الِاسْتِمْرَارِ يُوَافِقُ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا فَتَدَعُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ ثُمَّ نَسُوقُ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا إلَى أَنْ يَكُونَ الدَّمُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ وَالطُّهْرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضٌ وَقَدْ صَلَّتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالدَّمِ ثُمَّ طَهُرَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرُ سَبْعَةٍ تَمَامَ الطُّهْرِ وَسَبْعَةٍ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي لَمْ تَرَ فِيهِ ثُمَّ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي ثَلَاثَةٌ فَالثَّلَاثَةُ حَيْضٌ كَامِلٌ فَتَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تُصَلِّي عِشْرِينَ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا فَإِنْ كَانَ الدَّمُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَنَقُولُ: سِتَّةٌ مِنْ طُهْرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَقِيَّةُ طُهْرِهَا بَقِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مَوْضِعُ حَيْضِهَا الثَّانِي لَمْ تَرَ فِيهِ ثُمَّ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا يَوْمَانِ، وَيَوْمَانِ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَهَذِهِ لَمْ تَرَ مَرَّةً فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْقُلُ الْعَادَةَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مَرَّةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يَرَى الْإِبْدَالَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الِانْتِقَالِ. [الْفَصْلِ الثَّانِي مُبْتَدَأَة رَأَتْ أَحَد عَشْر يَوْمًا دَمًا وَخَمْسَة عَشْر يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّم] وَبَيَانُ الْفَصْلِ الثَّانِي مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَنَقُولُ: الدَّمُ هُنَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَبِفَسَادِهِ يَفْسُدُ الطُّهْرُ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ بِالدَّمِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ فَجَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا أَرْبَعَةٌ فَتُصَلِّي أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً، وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ طُهْرُهَا سِتَّةَ عَشَرَ فَتَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً وَتُصَلِّي سِتَّةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الدَّمِ حَتَّى كَانَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 الْعَشَرَةُ حَيْضًا فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي الطُّهْرِ أَوْلَى وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الطُّهْرِ لَا مِنْ الْحَيْضِ فَرُؤْيَةُ الدَّمِ الْفَاسِدِ فِيهِ تُؤَثِّرُ فِي الطُّهْرِ. [الْفَصْل الثَّالِث مُبْتَدَأَة رَأَتْ خَمْسَة أَيَّام دَمًا وَأَرْبَعَة عَشْر طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّم] وَبَيَانُ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ صَحِيحًا وَالطُّهْرُ فَاسِدًا بِأَنْ نَقُولَ: مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَجَاءَ الِاسْتِمْرَارُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَتُصَلِّي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَكَذَلِكَ دَأْبُهَا. [الْفَصْل الرَّابِع مُبْتَدَأَة رَأَتْ ثَلَاثَة دَمًا وَخَمْسَة عَشْر طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّم] وَبَيَانُ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهُنَا الدَّمُ فِي الثَّلَاثَةِ صَحِيحٌ، وَالطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا رَأَتْ بَعْدَهُ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ حَيْضًا؛ لِأَنَّ خَتْمَهَا بِالطُّهْرِ وَلَا وَجْهَ إلَى الْإِبْدَالِ فَتُصَلِّي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ضَرُورَةً فَيَفْسُدُ بِهِ ذَلِكَ الطُّهْرُ وَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِنَصْبِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً وَطُهْرُهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَدْ مَضَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي تِسْعَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثُمَّ تَتْرُكُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَتُصَلِّي سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَوْ رَأَتْ فِي الِابْتِدَاءَ أَرْبَعَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهُنَا الطُّهْرُ صَحِيحٌ صَالِحٌ لِنَصْبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَهُ دَمَ يَوْمٍ وَطُهْرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَوْمٌ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تَمَامُ الْأَرْبَعَةِ فَابْتَدَأَ الْحَيْضُ الثَّانِيَ وَخَتَمَهُ بِالدَّمِ فَلِهَذَا كَانَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ خَالِصًا فَتَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ يَوْمًا، وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَدَعُ أَرْبَعَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ دَأْبُهَا فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ الدَّمَ يَوْمًا وَالطُّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالدَّمَ يَوْمًا، وَالطُّهْرَ ثَلَاثَةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطُّهْرُ خَالِصٌ هُنَا صَالِحٌ لِنَصْبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ يَوْمَيْنِ إلَى مَا رَأَتْ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُجْعَلُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا فَكَانَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ خَالِصًا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْيَوْمُ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَإِنَّمَا حَيْضُهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَفْسُدُ طُهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِدَمٍ فَكَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ وَقَدْ مَضَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمٌ دَمٌ وَثَلَاثَةُ طُهْرٌ قَدْ صَلَّتْ فِيهِ فَذَلِكَ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ يَوْمٌ دَمٌ قَدْ صَلَّتْ فِيهِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طُهْرٌ وَلَا يَبْتَدِئُ الْحَيْضُ بِالطُّهْرِ فَقَدْ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَالْبَاقِي مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا سَبْعَةٌ فَتَدَعُ سَبْعَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ وَعَلَى هَذَا فَقِسْ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 [فَصْلٌ فِي نَصْبِ الْعَادَةِ] أَيْضًا إذَا اُبْتُلِيَتْ الْمُبْتَدَأَةُ بِالِاسْتِمْرَارِ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْهَا الصِّحَاحُ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَطْهَارِ، فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَرَى دَمَيْنِ وَطُهْرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ ثُمَّ الِاسْتِمْرَارُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ ثُمَّ الِاسْتِمْرَارُ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَرَى ثَلَاثَةَ دِمَاءٍ وَثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ الِاسْتِمْرَارُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَرَى مُتَّفِقَيْنِ بَعْدَهُمَا مُخَالِفٌ لَهُمَا ثُمَّ الِاسْتِمْرَارُ، وَالْخَامِسُ: أَنْ تَرَى مُتَّفِقَيْنِ بَيْنَهُمَا مَا يُخَالِفُهُمَا ثُمَّ الِاسْتِمْرَارُ. فَصُورَةُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالدَّمَ ثَلَاثَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ مَا رَأَتْ صَارَ عَادَةً قَوِيَّةً بِالتَّكْرَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ رَأَتْهُ مَرَّةً صَارَ عَادَةً لَهَا فَإِذَا رَأَتْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْلَى. وَبَيَانُ الْفَصْلِ الثَّانِي مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَأَرْبَعَةً دَمًا وَسِتَّةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبْنِي مَا رَأَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا رَأَتْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ مُزَاحِمٍ السَّمَرْقَنْدِيِّ لَا تَبْنِي وَلَكِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ أَرْبَعَةً دَمًا فَثَلَاثَةٌ مِنْهَا مُدَّةُ حَيْضِهَا، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ حِسَابِ طُهْرِهَا، وَلَكِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهِ لِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَلَمَّا طَهُرَتْ سِتَّةَ عَشَرَةً فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا تَمَامُ طُهْرِهَا وَيَوْمَيْنِ مِنْ مُدَّةِ حَيْضِهَا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَرَ فِيهِ فَلَا تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ بِدَايَةَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ بِالطُّهْرِ ثُمَّ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيْضِهَا يَوْمٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا رَأَتْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى صَارَ عَادَةً لَهَا بِالْمَرَّةِ، وَالْوَاحِدَةُ لِمَا بَيَّنَّا وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ تَبْنِي مَا تَرَى عَلَى عَادَتِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُضُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ رَأَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ بَنَتْ عَلَيْهِ مَا تَرَى بَعْدَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا رَأَتْهُ مَرَّةً وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّ مَا رَأَتْ ثَانِيًا فِي صِفَةِ الصِّحَّةِ مِثْلُ مَا رَأَتْهُ أَوَّلًا وَإِنَّمَا تَبْنِي الْفَاسِدَ عَلَى الصَّحِيحِ فَأَمَّا الصَّحِيحُ لَا يُبْنَى عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا الْعَادَةَ لِلْمُبْتَدَأَةِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا الْعَادَةُ فِي الْأَصْلِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَوْدِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي بِنَاءِ الصَّحِيحِ عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بِخِلَافِ إذَا مَا رَأَتْ أَوَّلًا مَرَّتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ، وَتَرَجَّحَ بِهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا اسْتَأْنَفَتْ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تَبْنِي عَلَى أَقَلِّ الْمُدَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عَائِدَةٌ إلَيْهَا فَالْأَقَلُّ مَوْجُودٌ فِي الْأَكْثَرِ فَتَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَذَلِكَ دَأْبُهَا وَبَيَانُ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالدَّمَ أَرْبَعَةً وَالطُّهْرَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَالدَّمَ خَمْسَةً وَالطُّهْرَ سَبْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهُنَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا تَبْنِي بَعْضَ الصِّحَاحِ عَلَى الْبَعْضِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فَيَقُولُ: هُنَا رَأَتْ مَرَّتَيْنِ خِلَافَ مَا رَأَتْ أَوَّلًا وَالْعَادَةُ تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّتَيْنِ فَلِهَذَا تَبْنِي الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُنَاكَ إنَّمَا رَأَتْ خِلَافَ الْعَادَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا تَنْتَقِلُ بِهِ الْعَادَةُ فَلِهَذَا تَبْنِي الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: تَبْنِي عَلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّجْمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبْنِي عَلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّورَةِ فَإِنَّ أَوْسَطَ الْأَعْدَادِ أَرْبَعَةٌ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَهَكَذَا أَقَلُّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ إنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قُلِبَتْ الصُّورَةُ فَقُلْتُ: رَأَتْ فِي الِابْتِدَاءِ خَمْسَةً وَسَبْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ أَرْبَعَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةَ عَشَرَ فَعَلَى قَوْلِ مِنْ يَقُولُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ أَرْبَعَةً وَتُصَلِّي سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا وَذَلِكَ دَأْبُهَا وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بِأَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ دَأْبُهَا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْعَدْلُ هُوَ الْوَسَطُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ يَلْزَمُهُ عَبْدٌ وَسَطٌ وَكَذَلِكَ هُنَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَبْنِي فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى أَوْسَطِ الْأَزْمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّ أَقَلَّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ تَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَحْتَاج إلَى حِفْظِ جَمِيعِ مَا تَرَى لِيَتَبَيَّنَ الْأَوْسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ لَا تَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ مَرَّتَيْنِ لِتَبْنِيَ عَلَى أَقَلِّهِمَا وَلِلْيُسْرِ أَخَذُوا بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْفَتْوَى كَمَا أَنَّ فِي مَسَائِلِ الِانْتِقَالِ أَفْتَوْا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَى النِّسَاءِ وَبَيَانُ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَأَرْبَعَةً دَمًا وَسِتَّةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ سِتَّةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: الْعَادَةُ لَا تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً فَكَانَ الْبِنَاءُ بَاقِيًا فَحِينَ رَأَتْ أَرْبَعَةً فَثَلَاثَةٌ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ذَلِكَ مُدَّةُ حَيْضِهَا وَيَوْمٌ مِنْ حِسَابِ طُهْرِهَا وَمِنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَمَامُ طُهْرِهَا وَيَوْمَانِ مِنْ حِسَابِ حَيْضِهَا لَمْ تَرَ فِيهِ فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعَادَةُ تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً فَتَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ أَرْبَعَةً وَتُصَلِّي سِتَّةَ عَشَرَ وَذَلِكَ دَأْبُهَا. وَبَيَانُ الْفَصْلِ الْخَامِسِ مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَأَرْبَعَةً دَمًا وَسِتَّةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ عَادَةٌ جَعْلِيَّةٌ لَهَا فَإِنَّهَا لَوْ رَأَتْ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ كَانَتْ عَادَةً أَصْلِيَّةً لَهَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالِفٌ صَارَ مَا رَأَتْ مَرَّتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ عَادَةً جَعْلِيَّةً لَهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّا جَعَلْنَا مَا رَأَتْهُ آخِرًا كَالْمَضْمُومِ إلَى مَا رَأَتْهُ أَوَّلًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ فِي الْعَدَدِ فَتَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ وَصَارَ عَادَةً لَهَا تَبْنِي عَلَيْهِ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ. [فَصْلٌ مُبْتَدَأَةٌ بَلَغَتْ بِالْحَبَلِ فَوَلَدَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ] (فَصْلٌ): مُبْتَدَأَةٌ بَلَغَتْ بِالْحَبَلِ بِأَنْ حَبِلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَوَلَدَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَنِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نِفَاسُهَا سَاعَةٌ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عِنْدَ الْإِمْكَان فَكَذَلِكَ هُنَا الْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ النِّفَاسِ، وَعِنْدَهُ هُنَاكَ الْمُعْتَبَرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَكَذَا نِفَاسُهَا أَقَلُّ النِّفَاسِ، وَذَلِكَ سَاعَةٌ ثُمَّ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ يُجْعَلُ طُهْرُهَا عِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَوَالَى حَيْضَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ لَا يَتَوَالَى حَيْضٌ وَنِفَاسٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا طُهْرَهَا بِعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ حَيْضَ الْمُبْتَدَأَةِ إذَا اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ مِنْ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ الطُّهْرِ فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا طُهْرَهَا عِشْرِينَ وَحَيْضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةً، وَذَلِكَ دَأْبُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ طَهُرَتْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذَا طُهْرٌ قَاصِرٌ لَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَكَانَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَإِنْ طَهُرَتْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً؛ لِأَنَّ طُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ صَحِيحٌ فَيَصِيرُ عَادَةً لَهَا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا عَادَةَ لَهَا فِي الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَلِهَذَا تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً، وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ فَدَوْرُهَا فِي كُلِّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَسُوقُ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَنْ نَقُولَ: طَهُرَتْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تِسْعَةً ثُمَّ تُصَلِّي أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا ذَلِكَ دَأْبُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا طَهُرَتْ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 ذَلِكَ حَيْضًا بَلْ هُوَ طُهْرٌ صَحِيحٌ وَعَادَتُهَا بِالطُّهْرِ وَالْحَيْضُ يَجْتَمِعُ فِي الشَّهْرِ فَإِذَا صَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ طُهْرًا لَهَا لَمْ يَبْقَ لِحَيْضِهَا إلَّا تِسْعَةٌ فَجَعَلْنَا حَيْضَهَا تِسْعَةً أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ حَاضَتْ خَمْسَةً فِي الِابْتِدَاءَ ثُمَّ طَهُرَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ جَعَلْنَا حَيْضَهَا خَمْسَةً وَطُهْرَهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً وَتُصَلِّي وَاحِدًا وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا فَيَكُونُ دَوْرُهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا قَالَ: لِأَنَّا إنَّمَا قَدَّرْنَا الطُّهْرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْحَيْضِ فَأَكْثَرُهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ عَشَرَةٌ فَكَانَ طُهْرُهَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا رَأَتْ، وَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ ثُمَّ نَسُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَنْ نَقُولَ: طَهُرَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاقِي مِنْ الشَّهْرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةٌ وَدَوْرُهَا فِي كُلِّ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِنْ طَهُرَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهُنَا حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَدَوْرُهَا فِي كُلِّ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الشَّهْرِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا لَهَا فَلِأَجْلِ التَّعَذُّرِ رَجَعْنَا إلَى اعْتِبَارِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَتَرَكْنَا مَعْنَى اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنْ رَأَتْ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا دَمًا كَمَا وَلَدَتْ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ فِي الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بِالدَّمِ فَيَفْسُدُ بِهِ طُهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ فَلِهَذَا كَانَ طُهْرُهَا عِشْرِينَ فَمِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تُصَلِّي أَرْبَعَةً تَمَامَ طُهْرِهَا ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ طُهْرُهَا سِتَّةَ عَشَرَ كَمَا بَيَّنَّا فَمِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تَدَعُ عَشَرَةً، وَتُصَلِّي سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَذَلِكَ دَأْبُهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ اسْتِمْرَار الْحَيْض] (بَابُ الِاسْتِمْرَارِ). (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ نَوْعَانِ: مُتَّصِلٌ وَمُنْقَطِعٌ، فَالْمُتَّصِلُ أَنْ يَسْتَمِرَّ الدَّمُ بِالْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَحُكْمُ هَذَا ظَاهِرٌ بِهَا إنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَطْهُرَ، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَأَيَّامُ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 تَكُونُ حَيْضًا لَهَا، وَأَيَّامُ عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً فِيهَا فَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْقَطِعُ، وَهُوَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: مُبْتَدَأَةٌ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، وَاسْتَمَرَّ بِهَا كَذَلِكَ أَشْهُرًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَوَابُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ وَبِدَايَتَهُ بِالطُّهْرِ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ، وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ، وَهُوَ وَالِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ سَوَاءٌ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ تِسْعَةٌ وَطُهْرُهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ كَانَ طُهْرًا، وَهُوَ لَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَيُحْتَاجُ عَلَى قَوْلِهِ إلَى مَعْرِفَةِ خَتْمِ الْعَشَرَةِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ خَتْمِ الشَّهْرِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ حُكْمُ بِدَايَةِ الْحَيْضِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَفِي مَعْرِفَتِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْتَارَ مِنْ أَيَّامِهَا حَيْضٌ وَالشَّفُوعَ طُهْرٌ، وَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الشَّفُوعِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ طُهْرًا. وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ الثَّلَاثِينَ خَتْمُ الشَّهْرِ مِنْ الشَّفُوعِ فَكَانَ طُهْرًا وَتَسْتَقْبِلُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي طَرِيقُ الْحِسَابِ، وَعَلَيْهِ تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ فَنَقُولُ: السَّبِيلُ أَنْ يَأْخُذَ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، وَذَلِكَ اثْنَانِ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الْعَشَرَةَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَاثْنَانِ فِي خَمْسَةٍ يَكُونُ عَشَرَةً، وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ وَمَعْرِفَةُ خَتْمِ الشَّهْرِ أَنْ يَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ اثْنَانِ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ وَيَسْتَقْبِلُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَكَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ تِسْعَةً حَيْضًا وَوَاحِدًا وَعِشْرِينَ طُهْرًا فَإِنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِهِ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالدَّمِ وَإِذَا أَرَادَتْ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الْعَشَرَةَ؛ لِأَنَّكَ لَا تَجِدُ الْمُوَافِقَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ تِسْعَةٌ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ يَوْمٌ دَمٌ فَعَرَفْتَ أَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ كَانَ بِالدَّمِ وَمَعْرِفَةُ خَتْمِ الشَّهْرَانِ تَأْخُذُ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَضْرِبُهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِثْلُ ذَلِكَ فَيَكُونُ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةً حَيْضًا وَعِشْرِينَ طُهْرًا، وَكَذَلِكَ إنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا، فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ. فَإِنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالدَّمِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الْعَشَرَةَ، وَذَلِكَ اثْنَانِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ يَوْمَانِ دَمٌ تَمَامُ الْعَشَرَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ كَانَ بِالدَّمِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ يَوْمَانِ دَمٌ تَمَامُ الشَّهْرِ وَاسْتَقْبَلَهَا فِي. الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمَانِ طُهْرٌ وَيَوْمَانِ دَمٌ فَهَذِهِ السِّتَّةُ تَكُونُ حَيْضًا لَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي بِيَوْمَيْنِ طُهْرٌ وَلَا يُخْتَمُ الْحَيْضُ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّانِي بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونَ سِتِّينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ يَوْمَانِ دَمٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا فَكَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ حَيْضٌ ثُمَّ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ ثُمَّ سِتَّةٌ حَيْضٌ ثُمَّ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ. فَإِنْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَكَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَمَانِيَةً حَيْضًا وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ طُهْرًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَلَبْتَ وَقُلْتَ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا، فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا هُنَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةٌ فَإِنْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ تِسْعَةٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا، وَكَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ الْحَيْضُ تِسْعَةٌ وَالطُّهْرُ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ فَإِنْ رَأَتْ أَرْبَعَةً دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالدَّمِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَى خَتْمِ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ دَمٌ أَرْبَعَةٌ يَوْمَانِ تَمَامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَيَوْمَانِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَيَكُونُ حَيْضًا، وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي حَيْضُهَا تِسْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ كَانَ طُهْرًا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرَيْنِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَيْنِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ كَانَ طُهْرًا وَبُدَاءَةُ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ لَا يَكُونُ ثُمَّ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ دَمٌ وَثَلَاثَةٌ طُهْرٌ فَمَا وَجَدَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ الْأَرْبَعَةِ فَذَلِكَ حَيْضُهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ تِسْعِينَ يَوْمًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ أَحَدًا وَتِسْعِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ الرَّابِعِ يَوْمٌ لَمْ تَرَ فِيهِ ثُمَّ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ دَمٌ وَثَلَاثَةٌ طُهْرٌ وَيَوْمَانِ تَمَامُ الْعَشَرَةِ دَمٌ فَوَجَدَتْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ فَذَلِكَ حَيْضُهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا. وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَتِسْعَةَ عَشَرَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ يَوْمٌ دَمٌ تَمَامُ الشَّهْرِ الرَّابِعِ وَفِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ ثَلَاثَةٌ دَمٌ وَثَلَاثَةٌ طُهْرٌ وَأَرْبَعَةٌ دَمٌ فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ حَيْضُهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونَ مِائَةً وَسَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ دَمٌ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَلِكَ تَمَامُ الشَّهْرِ الْخَامِسِ تُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَأَرْبَعَةً دَمًا فَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ تَكُونُ حَيْضًا لَهَا؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ كَانَ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ السَّادِسِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونَ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ السَّابِعِ يَوْمَانِ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا لَمْ تَرَ فِيهِ ثُمَّ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ دَمٌ وَثَلَاثَةٌ طُهْرٌ وَأَرْبَعَةٌ دَمٌ فَخَتْمُ الْعَشَرَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ كَانَ بِالدَّمِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مَضَتْ مِنْ الشَّهْرِ السَّابِعِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ السَّابِعِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ فَتَكُونَ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ وَكَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَهَا وَطُهْرَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ دَمٌ وَثَلَاثَةٌ طُهْرٌ. وَكَذَلِكَ إنْ قَلَبْتَ فَقُلْتَ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا، فَهُوَ فِي التَّخْرِيجِ مِثْلُ مَا سَبَقَ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَزْدَادُ وَيَنْقُصُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بَعْضُ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ فَإِنْ رَأَتْ أَرْبَعَةً دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ أَشْهُرًا فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَهَا بِالدَّمِ وَالدَّمُ غَالِبٌ عَلَى الطُّهْرِ فِيهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمَانِ لَمْ تَرَ فِيهِمَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا أَرْبَعَةٌ دَمٌ وَأَرْبَعَةٌ طُهْرٌ فَحَيْضُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِدْ فِي الْعَشَرَةِ إلَّا هَذَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ إنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَكُونَ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لَمْ تَرَ فِيهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا دَمٌ أَرْبَعَةٌ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ حَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا أَرْبَعَةٌ دَمٌ، يَوْمَانِ تَمَامُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تُصَلِّي فِيهِمَا وَفِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ وَجَدَتْ عَشَرَةً، يَوْمَانِ دَمٌ وَأَرْبَعَةٌ طُهْرٌ وَأَرْبَعَةٌ دَمٌ فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ حَيْضُهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا وَاسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ أَرْبَعَةُ دَمٌ كَمَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ دَوْرُهَا فِي كُلِّ أَرْبَعَةٍ الشَّهْرُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ حَيْضٌ وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَرْبَعَةٌ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مَضَيَا حَيْضٌ وَفِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ حَيْضٌ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ مَضَتْ مِنْهُ. وَفِي الشَّهْرِ الرَّابِعَ عَشَرَةَ حَيْضٌ فَإِنْ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالدَّمِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَهُ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ تِسْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ أَوَّلُهُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ دَمٌ خَمْسَةٌ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَمَامُ الشَّهْرِ وَتُصَلِّي فِيهَا ثُمَّ يَوْمَانِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي رَأَتْ فِيهِمَا وَبَعْدَهُمَا طُهْرَ أَرْبَعَةٍ وَدَمَ خَمْسَةٍ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي حَيْضٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَهُ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَضْرِبُ تِسْعَةً فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ لَمْ تَرَ فِيهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا دَمٌ خَمْسَةٌ فَهَذَا حَيْضٌ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ تِسْعَةٌ فَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيَكُونَ تِسْعِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَلِمْنَا أَنَّ دَوْرَهَا فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ إنْ قَلَبْتَ فَقُلْتَ: رَأَتْ أَرْبَعَةً دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا، فَهُوَ فِي التَّخْرِيجِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِذَا رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرِ الْحَيْضِ خَمْسَةٌ وَالطُّهْرُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِنْ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا وَسِتَّةً طُهْرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ خَتْمَ الْعَشَرَةِ بِالطُّهْرِ وَتَصِيرُ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَادَةً لَهَا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّانِي بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ عَادَتِهَا ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ يَوْمَانِ وَيَوْمَانِ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلِهَا دُونَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْبَدَلَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهَا لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّهَا هَلْ تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا فَتَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ فَتَضْرِبَهُ بِهِ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونَ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ أَيَّامِ عَادَتِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ تَرَ فِيهِ شَيْئًا. وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ إنْ لَمْ تَرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ يَسْتَأْنِفْ لَهَا مَوْضِعَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ كَمَا تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّتَيْنِ تَنْتَقِلُ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ وَإِذَا اسْتَأْنَفَ فِي مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةً وَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ دَوْرُهَا فِي كُلٍّ سِتَّةً وَسِتِّينَ يَوْمًا الْحَيْضُ خَمْسَةٌ وَالطُّهْرُ أَحَدٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْبَدَلَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: يُبَدَّلُ لَهَا خَمْسَةٌ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ مَضَتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِبْدَالِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ طُهْرٌ تَامٌّ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى مَا نُثْبِتُهُ فِي بَابِهِ فَيَتْرُكُ هَذِهِ الْخَمْسَةَ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرَيْنِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ أَحَدَ عَشَرَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونَ سِتَّةً وَسِتِّينَ فَلَمْ تَرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ فَيَسْتَأْنِفَ لَهَا مِنْ مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِي كُلٍّ سِتَّةٌ وَسِتِّينَ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً بِحِسَابِ الْبَدَلِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَهَذَا دَأْبُهَا، وَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ شُهُورٍ اسْتِمْرَارًا مُتَّصِلًا فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حَيْضُهَا فِي أَيَّامِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ طُهْرًا صَحِيحًا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِاتِّصَالِ الِاسْتِمْرَارِ عَادَتْ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِي الشَّهْرِ بَعْدَ أَيَّامِ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ طُهْرًا لَهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يَقُولُ: حَيْضُهَا عَشَرَةٌ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ، وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ لَمَّا فَسَدَ فَسَدَ الدَّمُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كُنَّا لَا نَجْعَلُ الْعَشَرَةَ حَيْضًا؛ لِأَنَّ خَتْمَهَا بِالطُّهْرِ وَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ كَمَا لَوْ اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ ابْتِدَاءً. وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ يَقُولُ حَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهَا قَدْ رَأَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّاتٍ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ الْخَمْسَةَ حَيْضٌ وَطُهْرُهَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَعَلَى ذَلِكَ تَبْنِي فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِصِحَّتِهِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ صَحِيحٌ حَقِيقَةً فَإِنْ رَأَتْ سِتَّةً دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ سِتَّةٌ، وَبَاقِي الشَّهْرِ طُهْرٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ أَيَّامِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ثَلَاثَةٌ لَمْ تَرَ فِيهَا ثُمَّ رَأَتْ سِتَّةً دَمًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ يَكْفِيهَا فَكَانَ حَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي هَذِهِ الثَّلَاثَةُ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَهُ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ أَحَدَ عَشَرَ وَيَضْرِبَ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونَ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَتْ أَيَّامُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ تَرَ فِيهَا فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الْآخَرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْبَدَلَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَدَّلُ لَهَا سِتَّةٌ بَعْدَ سِتَّةٍ مَضَتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ طُهْرٌ تَامٌّ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَضْرِبَ أَحَدَ عَشَرَ فِيمَا يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ رَأَتْ سِتَّةً دَمًا يَوْمَانِ تَمَامُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تُصَلِّي فِيهِمَا وَأَرْبَعَةً وَجَدَتْهُ فِي أَيَّامِهَا فَذَلِكَ حَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَهُ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ أَحَدَ عَشَرَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونَ مِائَةً وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ الدَّمُ بَعْدَهُ سِتَّةٌ وَجَدَتْهَا فِي أَيَّامِهَا فَذَلِكَ حَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَهُ بِمَاذَا يَكُونُ. فَيَضْرِبَ أَحَدَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَى مِنْ أَيَّامِهَا فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ يَوْمَانِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُبَدَّلُ لَهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سِتَّةٌ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ مَضَتْ مِنْ الشَّهْرِ السَّادِسِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَضْرِبَ أَحَدَ عَشَرَ فِيمَا يُقَارِبُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَكُونَ مِائَةً وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ ثُمَّ بَعْدَهُ دَمُ سِتَّةٍ أَرْبَعَةٌ تَمَامُ الشَّهْرِ السَّادِسِ تُصَلِّي فِيهِ وَإِنَّمَا رَأَتْ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ يَوْمَيْنِ فِي أَيَّامِهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ فَيَسْتَأْنِفُ لَهَا مِنْ وَقْتِ الْبَدَلِ وَتَجْعَلُ تِلْكَ السِّتَّةَ يَعْنِي السِّتَّة الَّتِي جُعِلَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 بَدَلًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْضًا لَهَا بِطَرِيقِ انْتِقَالِ الْعَادَةِ إلَيْهِ حَتَّى إذَا كَانَتْ لَمْ تُصَلِّ فِيهَا أَخْذًا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ دَوْرُهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْتَقِلُ عَادَتُهَا مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ وَالْعَدَدُ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ رَأَتْ سِتَّةً دَمًا وَسِتَّةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ سِتَّةٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا. وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَتْ أَيَّامُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي لَمْ تَرَ فِيهَا فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُبَدَّلُ لَهَا سِتَّةٌ مَضَتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلَاةَ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَضْرِبَ اثْنَيْ عَشَرَ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَكُونَ سِتِّينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا وَاسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتْرُكُ سِتَّةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرَيْنِ وَتُصَلِّي أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ وَعِنْدً مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتْرُكُ سِتَّةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَتُصَلِّي ثَلَاثِينَ ثُمَّ تَتْرُكُ سِتَّةً بِحِسَابِ الْبَدَلِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَخْرُجُ سِتَّةٌ وَسَبْعَةٌ وَقَلْبُهَا وَثَمَانِيَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعَةُ وَقَلْبُهَا وَتِسْعَةُ وَتِسْعَةُ وَتِسْعَةُ وَعَشَرَةُ وَقَلْبُهَا إلَى أَنْ يَقُولَ: رَأَتْ فِي الِابْتِدَاءَ عَشَرَةً دَمًا وَعَشَرَةً طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ عَشَرَةٌ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُقَارِبُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ فَيَكُونَ أَرْبَعِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَقَدْ مَضَتْ أَيَّامُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي لَمْ تَرَ فِيهَا شَيْئًا، وَالْإِبْدَالُ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْجَرِّ أَوْ الطَّرْحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِبْدَالِ لَا يَبْقَى إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي طُهْرٌ تَامٌّ فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي حَتَّى يَنْظُرَ إلَى أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرَيْنِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ سِتِّينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهَا وَاسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ تَتْرُكُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي خَمْسِينَ يَوْمًا وَذَلِكَ دَأْبُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِانْتِقَالِ فِي الْحَيْض] (بَابُ الِانْتِقَالِ) قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِانْتِقَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: انْتِقَالُ مَوْضِعٍ، وَانْتِقَالُ عَدَدٍ وَلَا يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ تَرَ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَحْصُلُ انْتِقَالُ الْعَادَةِ قَالَ: لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَادَةِ يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ كَذَلِكَ انْتِقَالُهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَاحِبَةُ بَلْوَى، وَفِي الِانْتِقَالِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ تَيْسِيرٌ عَلَيْهَا فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؛ وَلِأَنَّ الْمَرَّةَ الْأَخِيرَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالِاسْتِمْرَارِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْعَادَةِ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ فَتَرَجَّحَ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ لِصِحَّتِهَا صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَ زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ، وَمَا تَقَدَّمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْعَادَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَوْدِ وَلَنْ يَحْصُلَ الْعَوْدُ بِدُونِ التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْسَخُهُ إلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَالْأَوَّلُ مُتَأَكِّدٌ بِالتَّكْرَارِ فَلَا يَنْسَخُهُ إلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي التَّأَكُّدِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعَادَةِ وَانْتِقَالِهَا ثُمَّ نَبْدَأُ بِبَيَانِ انْتِقَالِ الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ: هُوَ نَوْعَانِ: تَارَةً يَكُونُ بِالرُّؤْيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ عَادَتِهَا مَرَّتَيْنِ وَتَارَةً يَكُونُ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ وَبَيَانُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ حَيْضُهَا عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ طَهُرَتْ مَرَّةً خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ حَيْضٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ إلَى مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ، وَفِي الطُّهْرِ إلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَكُونُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ حَيْضًا لَهَا، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ أَمْرُهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا فِي الثَّانِي فَإِنْ رَأَتْ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَرَ بِأَنْ طَهُرَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً تَبَيَّنَّ أَنَّ الْعَشَرَةَ الْأُولَى كَانَتْ حَيْضًا؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ خِلَافَ عَادَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ مَرَّتَيْنِ وَالْعَدَدُ بِحَالِهِ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَى مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ ثَلَاثَةً وَفِي الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَطَهُرَتْ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذِهِ لَمْ تَرَ مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامِ عَادَتِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا لَهَا فَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا، وَمَوْضِعُ حَيْضِهَا الْأَوَّلِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمَوْضِعُ حَيْضِهَا الثَّانِي مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَقَدْ وَافَقَ الِاسْتِمْرَارُ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا الثَّانِي فَيَجْعَلُ ثَلَاثَةً حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا. وَإِنْ طَهُرَتْ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ فَلَمْ تَرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَيَّامِهَا الثَّانِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَى أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ حَيْضًا لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةٌ، وَفِي الطُّهْرِ عِشْرِينَ فَحَبِلَتْ ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وَلَدَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ عَشَرَةٌ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ وَالشَّهْرُ الَّذِي يَلِيهَا نِفَاسُهَا ثُمَّ بَعْدَهُ عِشْرُونَ طُهْرُهَا ثُمَّ عَشَرَةٌ حَيْضُهَا فَقَدْ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَى آخِرِهِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِرَارًا فِي زَمَانِ الْحَبَلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصَلِّ رَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا] (فَصْلٌ) فِي بَيَانِ الْبَدَلِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَاحِبَةُ الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةُ إذَا لَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَرَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ حُكْمُ مَا رَأَتْ عَلَى مَا تَرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ رَأَتْ فِي مَوْضِعِ عَادَتِهَا تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِثْلَ مَا رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا سَبَقَ كَانَ حَيْضًا وَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا، وَكَانَ لَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْدَالِ إبْهَامَ نَقْلِ الْعَادَةِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا مُحَمَّدٌ قَالَ: إذَا رَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا جُعِلَ حَيْضًا بَدَلًا عَنْ أَيَّامِهَا إذَا أَمْكَنَ الْإِبْدَالُ وَالْإِمْكَانُ بِأَنْ يَبْقَى إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي بَعْدَ الْإِبْدَالِ أَقَلُّ مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرُ سَوَاءٌ كَانَ الطُّهْرُ خَالِصًا أَوْ فِيهِ اسْتِمْرَارٌ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْإِبْدَالِ مِنْ طُهْرِهَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ نَظَرَ. فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَجُرَّ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي مَا يُضَمُّ إلَى مَا فِي الطُّهْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْجَرِّ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُبَدَّلُ لَهَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يُبَدَّلُ لَهَا وَتُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ، وَالْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ إذَا بَقِيَ بَعْدَ الْإِبْدَالِ مُدَّةَ طُهْرٍ تَامٍّ أَوْ أَمْكَنَ تَتْمِيمُهُ بِالْجَرِّ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَبْقَى عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا تَتَقَدَّمُ تَارَةً، وَتَتَأَخَّرُ أُخْرَى وَكَانَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولَانِ بِالْبَدَلِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِطَرِيقِ الطَّرْحِ لَا بِطَرِيقِ الْجَرِّ وَبَيَانُهُ إذَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْإِبْدَالِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ أَيَّامِ الْبَدَلِ مَا يُضَمُّ إلَى بَاقِي الطُّهْرِ فَيُتِمُّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَيَبْقَى مِنْ مَوْضِعِ الْبَدَلِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُبَدَّلُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ لَا يُبَدَّلُ لَهَا وَقَالَا: هَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَفِي الْجَرِّ التَّغْيِيرُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجَوَازُ التَّغْيِيرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِذَا كَانَ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَعَدَدُ الْبَدَلِ دُونَ عَدَدِ الْأَصْلِ وَبَيَانُهُ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَكَانَ أَبُو زَيْدٍ الْكَبِيرُ وَأَبُو يَعْقُوبَ الْغَزَالِيُّ يَقُولَانِ بِالْبَدَلِ إذَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 يَبْقَى بَعْدَ الْإِبْدَالِ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ لَا يُبَدَّلُ لَهَا؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْبَدَلِ لِيَكُونَ الدَّمُ الْمَرْئِيُّ بَيْنَ طُهْرَيْنِ تَامَّيْنِ فَإِذَا وُجِدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُبَدَّلُ لَهَا وَإِلَّا فَلَا. وَبَيَانُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ امْرَأَةٌ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ طَهُرَتْ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُجْعَلُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَإِنْ طَهُرَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَدَّلُ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِبْدَالِ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ إنْ طَهُرَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَدَّلُ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِبْدَالِ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَذَلِكَ إنْ طَهُرَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُبَدَّلُ لَهَا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَتَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ فَإِنْ طَهُرَتْ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ لَا يُبَدَّلُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِبْدَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَكِنَّهَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَدَّلُ لَهَا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْدَالَ بِطَرِيقِ الْجَرِّ مُمْكِنٌ فَيَجُرُّ مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي يَوْمًا إلَى بَقِيَّةِ طُهْرِهَا لِيُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً بِطَرِيقِ الْبَدَلِ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَدَعُ أَرْبَعَةً ثُمَّ تُصَلِّي عِشْرِينَ ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُبَدَّلُ لَهَا بِطَرِيقِ الطَّرْحِ فَتَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ أَرْبَعَةً ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ وَكَذَلِكَ إنْ طَهُرَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَهُوَ فِي التَّخْرِيجِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ طَهُرَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ لَا يُبَدَّلُ لَهَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِبْدَالِ يَبْقَى مِنْ الطُّهْرِ اثْنَا عَشَرَ فَإِنْ جَرَرْت إلَيْهِ ثَلَاثَةً لَا يَبْقَى مِنْ مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا. وَإِنْ ضَمَمْت مِنْ أَيَّامِ الْبَدَلِ ثَلَاثَةً لَا يَبْقَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَلَا يُبَدَّلُ لَهَا وَلَكِنَّهَا تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ وَكَمَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ بَعْدَ أَيَّامِهَا عِنْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دَمًا عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ لَا اسْتِمْرَارَ فِيهِ حَتَّى إذَا صَلَّتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ بِالدَّمِ لَا يُبَدَّلُ لَهَا قَبْلَ أَيَّامِهَا. بَيَانُهُ: امْرَأَةٌ حَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا ثُمَّ طَهُرَتْ أَيَّامَهَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجْعَلُ الْخَمْسَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ حَيْضَهَا بَدَلًا عَنْ أَيَّامِهَا، وَلَوْ طَهُرَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَأَتْ سِتَّةً دَمًا ثُمَّ طَهُرَتْ أَيَّامَهَا لَمْ يُبَدَّلْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ فِي يَوْمٍ مِنْهُ بِالدَّمِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَدَّلُ لَهَا مِثْلُ أَيَّامِهَا أَوْ أَقَلُّ مِنْ أَيَّامِهَا بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدَّلَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ أَيَّامِهَا إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طُهْرَيْنِ صَحِيحَيْنِ لَا اسْتِمْرَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى جَعْلِ الزِّيَادَةِ حَيْضًا ابْتِدَاءً فَمَا لَمْ يَكُنْ مَرْئِيًّا بَيْنَ طُهْرَيْنِ صَحِيحَيْنِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ حَيْضًا ابْتِدَاءً فَإِنْ أَمْكَنَ الْإِبْدَالُ قَبْلَ أَيَّامِهَا، وَبَعْدَ أَيَّامِهَا يُبَدَّلُ لَهَا قَبْلَ أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُهُمَا إمْكَانًا وَبَيَانُهُ إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ ثَلَاثَةً، وَفِي الطُّهْرِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَطَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةً ثُمَّ طَهُرَتْ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ فَإِنَّهَا لَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا شَيْئًا فَتُبَدَّلُ لَهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي رَأَتْهَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهَا مَرْئِيَّةٌ بَعْدَ طُهْرٍ صَحِيحٍ فَكَانَ إمْكَانُ الْبَدَلِ فِيهِ قَائِمًا فَلِهَذَا يُبَدَّلُ لَهَا تِلْكَ الثَّلَاثَةُ دُونَ مَا رَأَتْهُ بَعْدَ أَيَّامِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ] (قَالَ): - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ بِأَنَّ صَاحِبَةَ الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ تَجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَإِنْ جَاوَزَ رُدَّتْ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضَهَا وَمَا سِوَاهُ اسْتِحَاضَةٌ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمَرْأَةِ لَا يَكُونُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَيَزْدَادُ حَيْضُهَا تَارَةً بِاعْتِبَارِ قُوَّةِ طَبْعِهَا، وَيَنْقُصُ أُخْرَى بِضَعْفِ طَبْعِهَا، وَأَمْرُ الْحَيْضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ فَإِذَا لَمْ تُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ فَالْإِمْكَانُ قَائِمٌ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَحَاضَةً لَمَّا رَأَتْ زِيَادَةً عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا»؛ وَلِأَنَّ مَا رَأَتْهُ بَعْدَ مَعْرُوفِهَا تَبَعٌ لِمَعْرُوفِهَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ تَجَاذَبَهُ جَانِبَانِ فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَيَّامِهَا يَجْعَلُهُ حَيْضًا وَاعْتِبَارُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يَجْعَلُهُ اسْتِحَاضَةً فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ؛ لِأَنَّهُ مَا ظَهَرَ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الِاسْتِحَاضَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 كَانَ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهَا فَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَفْتِي فَقَالَتْ: كَانَتْ عَادَتِي فِي الْحَيْضِ خَمْسَةً، وَالْآنَ أَرَى الدَّمَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا قَالَ أَئِمَّةُ بَلْخِي أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حَالَ الزِّيَادَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَعَ التَّرَدُّدِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَكُونُ حَيْضًا إلَّا بِشَرْطٍ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الْعَشَرَةَ، وَذَلِكَ مَوْهُومٌ فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مَوْهُومٍ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا تُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا عَرَفْنَاهَا حَائِضًا بِيَقِينٍ وَفِي خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ شَكٌّ، وَدَلِيلُ بَقَائِهَا حَائِضًا ظَاهِرٌ، وَهُوَ رُؤْيَةُ الدَّمِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ اسْتِحَاضَةً إلَّا بِشَرْطِ الِاسْتِمْرَارِ حَتَّى تُجَاوِزَ الْعَشَرَةَ وَذَلِكَ الشَّرْطُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَتَيَقَّنَّاهَا حَائِضًا لَا تُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهَا فَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَحِينَئِذٍ تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ أَيَّامِ عَادَتِهَا، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْمُبْتَدَأَةِ لَا تُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ مَا لَمْ تُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ. وَمِمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ امْرَأَةٌ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ خَمْسَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَرَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا فِي أَيَّامِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَأَتْهُ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَخَمْسَتُهَا الْمَعْرُوفَةُ هِيَ الْحَيْضُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى جَوَازِ خَتْمِ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَإِنْ طَهُرَ مَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي عِنْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الثَّلَاثَةُ الْأُولَى هِيَ الْحَيْضُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَلَوْ أَنَّهَا رَأَتْ فِي أَوَّلِ الْعَشَرَةِ يَوْمَيْنِ دَمًا وَفِي آخِرِهَا يَوْمَيْنِ دَمًا فَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بُرْهَانُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ قَوْلَهُ خَمْسَتُهَا حَيْضٌ إذَا كَانَ الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ هُمَا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ أَمَّا إذَا كَانَ الْيَوْمَانِ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ فَالْكُلُّ حَيْضٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ غَالِبٌ فَصَارَ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَإِنْ لَمْ تَرَ فِي أَوَّلِهَا يَوْمَيْنِ دَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ رَأَتْ فِي أَوَّلِهَا يَوْمَيْنِ دَمًا، وَرَأَتْ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ دَمًا كَانَتْ خَمْسَتُهَا هِيَ الْحَيْضُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ قَاصِرٌ، فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الْحَيْضُ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ فَإِنَّ الْإِبْدَالَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ إلَى مُدَّةِ حَيْضِهَا الثَّانِي مُدَّةَ طُهْرٍ كَامِلٍ فَإِنْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ خَمْسَتِهَا يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا حَتَّى جَاوَزَ الْعَشَرَةَ كَانَتْ خَمْسَتُهَا حَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَمْسَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وَخَتْمَهَا كَانَ بِالدَّمِ، وَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ قَاصِرٌ فَإِنْ طَهُرَتْ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا حَتَّى جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَالْيَوْمُ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِحَيْضٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ دَمٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ طُهْرٌ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ابْتِدَاءَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ أَيَّامِهَا حَيْضٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ إلَّا إذَا تَعَقَّبَ دَمًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْضُهَا ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِهَا فَإِنَّ الْخَامِسَ كَانَ طُهْرًا، وَهُوَ لَا يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْعَشَرَةِ كَانَ مَا بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَيْضًا كُلُّهُ، وَإِنْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا قَبْلَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَمِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَجَمِيعُ ذَلِكَ حَيْضٌ إلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ فَإِنَّهَا لَمْ تَرَ فِيهِ دَمًا، وَلَا بَعْدَهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ وُجِدَ فِيهِ شَرْطُ الْإِمْكَانِ فَجُعِلَ حَيْضًا، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَخَمْسَتُهَا الْمَعْرُوفَةُ هِيَ الْحَيْضُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَيْضُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَهِيَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ مِنْ مَعْرُوفِهَا؛ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ، وَهُوَ لَا يَرَى بِدَايَةَ الْحَيْضِ وَلَا خَتْمَهُ بِالطُّهْرِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي فَصْلٍ يُفْرَدُ لَهُ [بَابٌ تَقْدِيمِ الْحَيْضِ وَتَأْخِيرِهِ] (بَابٌ فِي تَقْدِيمِ الْحَيْضِ وَتَأْخِيرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَةَ الْعَادَةِ إذَا رَأَتْ قَبْلَ عَادَتِهَا دَمًا، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ هُوَ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي وَجْهٍ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهَا إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ، وَرَأَتْ فِي أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْكُلُّ عَشَرَةً فَالْكُلُّ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَا رَأَتْهُ قَبْلَ أَيَّامِهَا غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُطْلَقًا أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي أَخَذُوا بِالظَّاهِرِ فَقَالُوا: الْمُتَقَدِّمُ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَثَلَاثَةُ فُصُولٍ. أَحَدُهَا أَنْ تَرَى قَبْلَ خَمْسَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ خَمْسَةً أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ لَا تَرَى فِي خَمْسَتِهَا شَيْئًا أَوْ رَأَتْ قَبْلَ خَمْسَتِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَمِنْ أَوَّلِ خَمْسَتِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا مَا لَمْ يَجْتَمِعَا فَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَالَ: الْكُلُّ حَيْضٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَيْضَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِمْكَانِ وَالْمُتَقَدِّمُ قِيَاسُ الْمُتَأَخِّرِ فَكَمَا جَعَلَ الْمُتَأَخِّرَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ حَيْضًا فَكَذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُتَقَدِّمُ دَمٌ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا كَالصَّغِيرَةِ جِدًّا إذَا رَأَتْ الدَّمَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْحَيْضِ لَهَا ابْتِدَاءً، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْهُودٍ لَهَا مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى إبْقَاءِ مَا ثَبَتَ مِنْ صِفَةِ الْحَيْضِ وَالْإِبْقَاءِ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُوجِبًا، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ، وَرَأَتْ أَيَّامَهَا مَعَ ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَشْكُلُ أَنَّ الْكُلَّ حَيْضٌ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ اعْتِبَارًا لِلْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِيهِ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُلَّ حَيْضٌ وَمَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا يَكُونُ أَصْلًا لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فَيَسْتَتْبِعُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَيَّامَهَا حَيْضٌ فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَإِنْ رَأَتْ مَا رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ كَانَ حَيْضًا، وَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا بِالتَّكْرَارِ، وَإِنْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فِي أَيَّامِهَا، وَلَمْ تَرَ قَبْلَ أَيَّامِهَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ مَرْئِيٌّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهُوَ نَفْسُهُ مُسْتَقِلٌّ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِأَيَّامِهَا بِخِلَافِ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ فَإِذَا جَاءَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَفْتِي أَنَّهَا تَرَى الدَّمَ قَبْلَ أَيَّامِهَا فَعِنْدَهُمَا تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ أَيَّامِ طُهْرِهَا مَا لَوْ ضُمَّ إلَى أَيَّامِهَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ؛ لِأَنَّهَا تَرَى الدَّمَ عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ فَكَانَ حَيْضًا لِلْإِمْكَانِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ طُهْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ تُؤْمَرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُتَقَدِّمَ لَيْسَ بِحَيْضٍ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَسْتَتْبِعُهُ أَيَّامَ حَيْضِهَا، وَإِنْ كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ بَلْخِي تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ بُخَارَى لَا تُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا إلَّا بِشَرْطِ أَنْ تَرَى فِي أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الشَّرْطُ بَعْدُ فَلَا تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَمَّا فِي الْمُتَأَخِّرِ إنْ رَأَتْ أَيَّامَهَا وَرَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا أَيْضًا، وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ فَالْكُلُّ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ أَيَّامِهَا فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِأَيَّامِهَا وَيَسْتَقِيمُ إثْبَاتُ التَّبَعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنْ لَمْ تَرَ أَيَّامَهَا وَرَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا أَوْ رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَبَعْدَ أَيَّامِهَا مِثْلَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا وَيُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَيْضًا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْإِمْكَانِ وَذَكَرَ أَبُو سَهْلِ الْفَرَائِضِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَإِنْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فِي أَيَّامِهَا تَبَيَّنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَانْتَقَلَتْ بِهِ عَادَتُهَا، وَإِنْ رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا وَفِي أَيَّامِهَا، وَبَعْدَ أَيَّامِهَا فَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ سَوَاءٌ لَا يُفْصَلُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ وَلَكِنْ إنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْكُلُّ عَشَرَةً فَالْكُلُّ حَيْضٌ، وَإِنْ جَاوَزَ كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ عَادَتِهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَيَّامَهَا تَصِيرُ فَاصِلَةً بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمُتَقَدِّمُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ أَيَّامُهَا وَمَا تَأَخَّرَ فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ فَالْكُلُّ حَيْضٌ، وَإِنْ جَاوَزَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُهَا وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قَدْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يُفْصَلُ عَنْ أَيَّامِهَا وَالْجَوَابُ فِيهِ كَمَا قَالَا إنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْكُلُّ الْعَشَرَةَ فَالْكُلُّ حَيْضٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ يَصِيرُ فَاصِلًا فَيَنْظُرُ إلَى أَيَّامِهَا وَمَا تَأَخَّرَ خَاصَّةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إذَا كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ حَيْضًا تَبَعًا لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا وَلَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا شَيْئًا، وَرَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاوَزَ الْكُلُّ الْعَشَرَةَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُهَا؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ زَمَانَ الطُّهْرِ حَيْضًا بِإِحَاطَةِ الدَّمَيْنِ بِهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْضُهَا مَا تَقَدَّمَ إنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَحَيْضُهَا مَا تَأَخَّرَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجْعَلُ الْمُتَأَخِّرَ حَيْضًا وَعَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو سَهْلِ الْفَرَائِضِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا بَنَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوَّلَ الْبَابِ فَقَالَ: امْرَأَةٌ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَرَأَتْ قَبْلَهَا خَمْسَةً دَمًا وَطَهُرَتْ أَيَّامَهَا ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَأَيَّامُهَا الْمَعْرُوفَةُ هِيَ الْحَيْضُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْحَيْضُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِهَا مَعَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّ مَا رَأَتْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ، وَإِنْ رَأَتْ ثَلَاثَةً دَمًا فِي أَيَّامِهَا مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْحَيْضُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِانْفِرَادِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَتَقَدَّمَ حَيْضُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ طَهُرَتْ أَيَّامَهَا فَلَمْ تَرَ فِيهَا وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا دَمًا فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ذَلِكَ اسْتِحَاضَةٌ إلَّا أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ أَحَدَ عَشَرً يَوْمًا أُخَرَ فَإِنْ عَاوَدَهَا كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْأُوَلِ مِنْ أَوَّلِهَا حَيْضًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا الْأُخْرَى حَيْضًا مِنْ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِبْدَالَ فَجَعَلَ حُكْمَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا فَإِنْ تَأَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ انْتَقَلَتْ بِهِ الْعَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ انْتِقَالَ الْعَادَةِ يَحْصُلُ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا الْأَوَّلُ حَيْضٌ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ وَحُكْمُ انْتِقَالِ الْعَادَةِ بِهِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَحَاضَتْهَا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ ثُمَّ انْقَطَعَ فِي خَمْسَتِهَا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بَعْدَهَا فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْضُهَا خَمْسَتُهَا لِإِحَاطَةِ الدَّمِ بِجَانِبَيْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِبْدَالِ فِي الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ لَا اسْتِمْرَارَ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ الْإِبْدَالُ بَعْدَ أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِبْدَالِ إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي مُدَّةَ طُهْرٍ تَامٍّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اسْتِمْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ تَرَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا رَأَتْ خَمْسَةً قَبْلَ أَيَّامِهَا دَمًا، وَطَهُرَتْ أَيَّامَهَا فَتِلْكَ الْخَمْسَةُ هِيَ الْحَيْضُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِبْدَالِ فِي الْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ رَأَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ تِلْكَ الْخَمْسَةَ وَأَيَّامَهَا الْمَعْرُوفَةَ وَزِيَادَةَ يَوْمٍ دَمًا فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعَادَةِ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنْ لَمْ تَرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا رَأَتْ الْخَمْسَةَ الَّتِي قَبْلَ أَيَّامِهَا، وَطَهُرَتْ أَيَّامَهَا وَطَهُرَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا ثُمَّ رَأَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ تِلْكَ الْخَمْسَةَ وَخَمْسَتَهَا وَزِيَادَةَ يَوْمٍ فَحَيْضُهَا هِيَ الْخَمْسَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعَادَةِ حَصَلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ إنْ طَهُرَتْ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ وَلَمْ تَرَ فِي غَيْرِهَا دَمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً قَبْلَ أَيَّامِهَا وَفِي أَيَّامِهَا وَزِيَادَةَ يَوْمٍ فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ لِانْتِقَالِ الْعَادَةِ فِي الْمَوْضِعِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ طَهُرَتْ فِي أَيَّامِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَحَيْضُهَا هِيَ الْخَمْسَةُ الْمَعْرُوفَةُ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ لَا يَحْصُلُ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّةً إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَرَ قَبْلَ أَيَّامِهَا، وَلَا فِي أَيَّامِهَا، وَرَأَتْ بَعْدَهَا خَمْسَةً دَمًا ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ طَهُرَتْ خَمْسَتُهَا، وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَأَيَّامُهَا خَمْسَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ لِانْتِقَالِ الْعَادَةِ إلَى مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَيَّامَهَا مَرَّتَيْنِ. (قَالَ): فِي الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهَا طُهْرٌ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ثُمَّ تَكُونُ حَائِضًا وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَعْدَ مَا تَتْرُكُ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ تُصَلِّي ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ عَادَتَهَا فِي الطُّهْرِ قَدْ انْتَقَلَتْ إلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِرُؤْيَتِهِ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ طَهُرَتْ خَمْسَتُهَا بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ يَوْمًا وَطَهُرَتْ خَمْسَتَهَا وَخَمْسَةً بَعْدَ خَمْسَتِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ فَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَعَلِمْنَا أَنَّهَا طَهُرَتْ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ ثَلَاثِينَ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ إلَى هَذَا فَعَلَيْهِ تَبْنِي فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ. (قَالَ) الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ جَوَابِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَمَّا طَهُرَتْ أَيَّامَهَا الْمَعْرُوفَةَ مَرَّتَيْنِ كَانَ حَيْضُهَا مُنْتَقِلًا إلَى حَيْثُ تَرَى الدَّمَ فَلَمَّا رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الشَّهْرِ صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ وَقْتَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا كَالَّتِي تُدْرَكُ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِدْرَاكِ أَوْ كَاَلَّتِي انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا بِالْحَبَلِ عَنْ مَوْضِعِ عَادَتِهَا فَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ مِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ فَقَدْ انْتَهَتْ إلَى مَعْرُوفِهَا، وَهِيَ تَرَى الدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ حَيْضًا وَلَمْ يَحْصُلْ بَيْنَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَبَيْنَ الْخَمْسَةِ الْأُولَى مِنْ حِسَابِ الطُّهْرِ إلَّا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَلِذَلِكَ أَجَابَ بِمَا أَجَابَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ لَيْسَ لَهَا فِي الطُّهْرِ عَادَةٌ تَبْنِي عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ، وَلِهَذِهِ فِي الطُّهْرِ عَادَةٌ مُتَأَكَّدَةٌ بِالتَّكْرَارِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُرَادُهُ مِمَّا قَالَ وَمَا بَعْدَهَا طُهْرٌ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ مَا مَضَى عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنْ تَرَكَتْ خَمْسَةً بَقِيَ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَتُصَلِّي فِيهَا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَمَا بَعْدَهَا طُهْرٌ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّمَا الدَّمُ جُعِلَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فِي حَقِّهَا مِنْ وَقْتِ الِاسْتِمْرَارِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ غَلَطٌ لِمَا بَيَّنَّا [فَصْلٌ فِي بَيَانِ أُصُولِ مَسَائِلِ انْتِقَالِ الْعَدَدِ] (فَصْلٌ فِي بَيَانِ أُصُولِ مَسَائِلِ انْتِقَالِ الْعَدَدِ) اعْلَمْ بِأَنَّ الْعَادَةَ نَوْعَانِ: أَصْلِيَّةٌ وَجَعْلِيَّةٌ فَصُورَةُ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ دَمَيْنِ وَطُهْرَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 مُتَّفِقَيْنِ صَحِيحَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَصُورَةُ الْعَادَةِ الْجَعْلِيَّةِ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ دَمَيْنِ وَطُهْرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ بَيْنَهُمَا مُخَالِفٌ لَهُمَا أَوْ تَرَى أَطْهَارًا مُخْتَلِفَةً أَوْ دِمَاءً مُخْتَلِفَةً فَيَنْصِبُ أَوْسَطَ الْأَعْدَادِ لَهَا عَادَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ وَأَقَلُّ الْمَرَّتَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَتَكُونُ هَذِهِ عَادَةً جَعْلِيَّةً لَهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ سُمِّيَتْ جَعْلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَادَةً لَهَا لِلضَّرُورَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا دَلِيلُ ثُبُوتِ الْعَادَةِ حَقِيقَةً فَإِنْ رَأَتْ الْعَادَةَ الْجَعْلِيَّةَ بَعْدَ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَالَ أَئِمَّةُ: بَلْخِي رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُنْتَقَضُ بِهِ الْعَادَةُ الْأَصْلِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا. وَالشَّيْءُ لَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ دُونَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقُهُ؛ وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِي إثْبَاتِ عَادَةٍ لَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي نَقْضِ الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا، وَمَشَايِخُ بُخَارَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: تُنْقَضُ الْعَادَةُ الْأَصْلِيَّةُ بِالْعَادَةِ الْجَعْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّكَرُّرِ فِي الْعَادَةِ الْجَعْلِيَّةِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ مِثَالُهُ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْحَيْضِ خَمْسَةً لَا تَثْبُتُ الْجَعْلِيَّةُ إلَّا بِرُؤْيَةِ سِتَّةٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ فَالتَّكْرَارُ فِيهَا خِلَافُ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ مِرَارًا؛ لِأَنَّ سَبْعَةً وَثَمَانِيَةً يَتَكَرَّرُ فِيهَا سِتَّةٌ فَبِالتَّكْرَارِ بِخِلَافِ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ نُنْتَقَضُ تِلْكَ الْعَادَةُ وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً فِي نَفْسِهَا تَكُونُ الْعَادَةُ الثَّانِيَةُ جَعْلِيَّةً لَا أَصْلِيَّةً ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَا تُنْتَقَضُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً وَاحِدَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ خَمْسَةً، وَفِي الطُّهْرِ عِشْرِينَ فَطَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً تَمَامَ عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً، وَقَدْ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بِالرُّؤْيَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَمَّا الْعَادَةُ الْجَعْلِيَّةُ تُنْتَقَضُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَثُبُوتُهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ التَّكْرَارِ فَكَذَلِكَ انْتِقَاضُهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ التَّكْرَارِ فِيمَا يُخَالِفُهَا بِخِلَافِ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ ثُمَّ الْمُبْتَدَأَةُ إذَا رَأَتْ أَطْهَارًا مُخْتَلِفَةً وَدِمَاءً مُخْتَلِفَةً فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ لَهَا. فَالْبِنَاءُ عَلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي عُثْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ وَالْمُبْتَدَأَةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ عَادَةُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا أَصْلِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ جَعْلِيَّةً فِيهِمَا وَقَدْ تَكُونُ أَصْلِيَّةً فِي أَحَدِهِمَا جَعْلِيَّةً فِي الْآخَرِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَطْهَارِ الصَّحِيحَةِ وَالدِّمَاءِ الصَّحِيحَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 فَالطُّهْرُ الصَّحِيحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُنْتَقَصَ عَنْ أَدْنَى مُدَّتِهِ، وَأَنْ لَا تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِالدَّمِ فَإِنْ صَلَّتْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ بِالدَّمِ ثُمَّ كَانَ الطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا صَالِحٌ لِجَعْلِ مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّمِ حَيْضًا غَيْرَ صَالِحٍ لِنَصْبِ الْعَادَةِ بِهِ، وَإِنْ صَلَّتْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِالدَّمِ ثُمَّ كَانَ الطُّهْرُ بَعْدَهُ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَلَا يَجْعَلُ مَا بَعْدَهُ حَيْضًا، وَالدَّمُ الصَّحِيحُ أَنْ لَا يُنْتَقَصَ عَنْ أَدْنَى مُدَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ طُهْرَيْنِ كَامِلَيْنِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ عَشَرَةً وَفِي الطُّهْرِ عِشْرِينَ فَرَأَتْ الدَّمَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ. فَنَقُولُ: عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضَهَا وَالْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَوَّلُ طُهْرِهَا فَتُصَلِّي فِيهِ بِالدَّمِ ثُمَّ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَقَدْ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ زَمَانِ طُهْرِهَا أَرْبَعَةٌ فَتُصَلِّي هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ رَأَتْ خَمْسَةً دَمًا ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تَكُونُ حَيْضًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ عَقِيبَ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيُمْكِنُ جَعْلُهُ حَيْضًا، وَلَكِنْ لَا تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ قَدْ صَلَّتْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ بِالدَّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ رَأَتْ الدَّمَ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ الطُّهْرَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ الدَّمَ خَمْسَةً ثُمَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَإِنَّ الْخَمْسَةَ لَا تُجْعَلُ حَيْضًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ عَقِيبَ طُهْرٍ كَامِلٍ بَلْ بِتِلْكَ الْخَمْسَةِ يَتِمُّ طُهْرُهَا ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَعَشَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةُ حَيْضِهَا لَمْ تَرَ فِيهِ ثُمَّ جَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ. وَأَمَّا بَيَانُ الْبِنَاءِ عَلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ أَوْ عَلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَنْ نَقُولَ: امْرَأَةٌ حَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ رَأَتْ الدَّمَ سَبْعَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالدَّمَ سِتَّةً وَالطُّهْرَ سَبْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ تَبْنِي عَلَى سِتَّةٍ فِي الْحَيْضِ وَعَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ فِي الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوْسَطُ الْأَعْدَادِ فِيمَا رَأَتْ لَا أَوْسَطُ مَا تَرَى، وَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ فِي الْحَيْضِ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ كَانَ خَمْسَةً، وَبَعْدَهُ كَانَ سَبْعَةً، وَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ فِي الْحَيْضِ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ عِشْرِينَ، وَقَدْ رَأَتْ مَرَّةً خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بِأَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ إنَّمَا تَبْنِي عَلَى سِتَّةٍ فِي الْحَيْضِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ فِي الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ مَرَّةً سَبْعَةً وَمَرَّةً سِتَّةً وَفِي الطُّهْرِ مَرَّةً سَبْعَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً خَمْسَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا بَنَتْ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 مَتَى كَانَ لَهَا عَادَةٌ أَصْلِيَّةٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ لَهَا بِرُؤْيَةِ أَطْهَارٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ دِمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَنْصِبُ لَهَا أَوْسَطَ الْأَعْدَادِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَأَقَلَّ الْمَرَّتَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِمَّا يُوَافِقُ الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ فَإِنَّهُ يَطْرَحُ الْمَأْخُوذَ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ مِنْ الْبَاقِي أَوْ إلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ يُوَافِقُ الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ عَرَفَتْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فَتَبْنِي عَلَيْهَا الْفَسَادَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِلْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَرَفَتْ أَنَّ الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ قَدْ انْتَقَضَتْ، وَالْمَطْرُوحُ يَصِيرُ عَادَةً جَعْلِيَّةً لَهَا فَتَبْنِي عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ وَبَيَانُهُ: امْرَأَةٌ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ عَشَرَةٌ وَفِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ طَهُرَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً ثُمَّ الطُّهْرَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ الدَّمَ عَشَرَةً ثُمَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ الدَّمَ عَشَرَةً ثُمَّ الطُّهْرَ عِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَنَقُولُ: أَوْسَطُ الْأَعْدَادِ فِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ مَرَّةً ثَلَاثِينَ وَمَرَّةً أَرْبَعِينَ وَمَرَّةً خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ عِشْرُونَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ يَبْقَى بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ فَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ ثَلَاثُونَ فَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ قَدْ انْتَقَضَتْ بِهِ، وَإِنَّمَا تَبْنِي فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْرُوحُ، وَهُوَ دَمُ عَشَرَةٍ وَطُهْرُ عِشْرِينَ، وَلَوْ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً وَالطُّهْرَ ثَلَاثِينَ وَالدَّمَ عَشَرَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالدَّمَ عَشَرَةً وَالطُّهْرَ عِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ فِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ يَبْقَى بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُونَ، وَمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ عَادَةٌ لَهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَأَوْسَطُ الْأَعْدَادِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ فَلَمَّا وَافَقَ أَوْسَطُ الْأَعْدَادِ مِنْ الْبَاقِي بَعْدَ الطَّرْحِ، الْعَادَةَ الْأَصْلِيَّةَ عَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تُنْتَقَضْ فَتَبْنِي عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا فَحِينَ طَهُرَتْ ثَلَاثِينَ فَعِشْرُونَ مِنْهَا زَمَانُ طُهْرِهَا وَعَشَرَةٌ مِنْ حِسَابِ حَيْضِهَا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ عَشَرَةً، وَهُوَ ابْتِدَاءُ طُهْرِهَا ثُمَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَشَرَةٌ تَمَامُ مُدَّةِ طُهْرِهَا وَخَمْسَةٌ مِنْ حِسَابِ حَيْضِهَا ثُمَّ الدَّمَ عَشَرَةً خَمْسَةٌ بَقِيَّةُ مُدَّةِ حَيْضِهَا وَخَمْسَةٌ مِنْ حِسَابِ طُهْرِهَا ثُمَّ الطُّهْرَ عِشْرِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَقِيَّةُ مُدَّةِ طُهْرِهَا وَخَمْسَةٌ مِنْ حِسَابِ حَيْضِهَا فَجَاءَ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيْضِهَا خَمْسَةٌ فَتَدَعُ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثُمَّ تُصَلِّي عِشْرِينَ ثُمَّ تَدَعُ عَشَرَةً ثُمَّ تُصَلِّي عِشْرِينَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا، وَالْمَسَائِلُ الْمُخْرَجَةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ فِي السُّؤَالَاتِ، وَمَنْ أَحْكَمَ الْأُصُولَ فَهْمًا وَدِرَايَةً تَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 [بَابٌ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالْأَفْرَادِ وَالشَّفُوعِ فِي الْحَيْض] بَابٌ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالْأَفْرَادِ وَالشَّفُوعِ) (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ أَنَّ التَّقَدُّمَ مَتَى كَانَ بِفَرْدٍ فَإِنَّهَا لَا تَرَى فِي أَيَّامِهَا الْأُوَلِ، وَلَا فِي أَيَّامِهَا الثَّوَانِي وَمَتَى كَانَ التَّقَدُّمُ بِشَفْعٍ فَإِنَّهَا تَرَى فِي أَيَّامِهَا الْأُوَلِ وَالثَّوَانِي، وَالتَّأَخُّرُ مَتَى كَانَ بِفَرْدٍ فَإِنَّهَا لَا تَرَى فِي أَيَّامِهَا الْأُوَلِ وَلَا الثَّوَانِي، وَمَتَى كَانَ بِشَفْعٍ فَإِنَّهَا لَا تَرَى فِي أَيَّامِهَا الْأُوَلِ، وَتَرَى فِي أَيَّامِهَا الثَّوَانِي، وَبَيَانُ هَذَا امْرَأَةٌ حَيْضُهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَطُهْرُهَا سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرَأَتْ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ وَخَتْمَهُ كَانَ بِالدَّمِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ هَذَا الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ اثْنَانِ فَيَضْرِبُهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا وَجَدَتْ أَيَّامَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي كَمَا وَجَدَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِنْ تَقَدَّمَ بِيَوْمٍ بِأَنْ طَهُرَتْ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ تَمَامُ طُهْرِهَا ثُمَّ كَانَ أَيَّامُهَا ابْتِدَاؤُهُ وَخَتْمُهُ بِالطُّهْرِ فَلَمْ تَجِدْ أَيَّامَهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ حُكْمُهَا عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجْعَلُ ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضًا لَهَا بَدَلًا عَنْ أَيَّامِهَا، وَحُكْمُ انْتِقَالِ الْعَادَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَانْظُرْ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ الثَّانِي بِمَاذَا يَكُونُ فَخُذْ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ اثْنَانِ فَاضْرِبْهُ فِيمَا يُقَارِبُ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ يَوْمٌ دَمٌ تُتِمُّ بِهِ مُدَّةَ طُهْرِهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَوْمٌ طُهْرٌ وَيَوْمٌ دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ فَلَمْ تَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ أَيْضًا فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَى مَوْضِعِ الْإِبْدَالِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَقَدَّمَ بِشَفْعٍ بِأَنْ طَهُرَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَقَدِمَ طُهْرُهَا بِيَوْمَيْنِ وَاسْتَقْبَلَهَا زَمَانُ الْحَيْضِ يَوْمٌ دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ وَيَوْمٌ دَمٌ فَقَدْ وَجَدَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّ خَتْمَ الشَّهْرِ بِمَاذَا يَكُونُ فَتَأْخُذُ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ اثْنَانِ فَيَضْرِبُ فِيمَا يُوَافِقُ اثْنَيْنِ وَثُلُثَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي أَيَّامِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي دَمٌ يَوْمٌ وَطُهْرٌ يَوْمٌ وَدَمٌ يَوْمٌ فَقَدْ وَجَدَتْ أَيَّامَهَا وَهَكَذَا تَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثُمَّ تَسِيرُ الْمَسْأَلَةُ فِي التَّقَدُّمِ فَرْدًا أَوْ شَفْعًا إلَى أَنْ نَقُولَ: طَهُرَتْ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا كَذَلِكَ فَقَدْ بَقِيَ زَمَانُ طُهْرِهَا أَحَدَ عَشَرَ فَخُذْ دَمًا وَطُهْرًا وَذَلِكَ اثْنَانِ فَاضْرِبْهُ فِيمَا يُقَارِبُ أَحَدَ عَشَرَ. وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَتَكُونُ عَشَرَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ دَمٌ يَتِمُّ بِهِ طُهْرُهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي أَيَّامِهَا طُهْرٌ يَوْمٌ وَدَمٌ يَوْمٌ وَطُهْرٌ يَوْمٌ فَلَمْ تَجِدْ فِي أَيَّامِهَا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ أَيْضًا، وَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَى مَوْضِعِ الْإِبْدَالِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي أَيَّامِهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ تَجِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِنْ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا فَقَدْ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا اثْنَا عَشَرَ فَخُذْ دَمًا، وَطُهْرًا، وَذَلِكَ اثْنَانِ فَاضْرِبْهُ فِيمَا يُوَافِقُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَةَ وَآخِرُ الْمَضْرُوبِ طُهْرٌ فَاسْتَقْبَلَهَا فِي أَيَّامِهَا يَوْمٌ دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ وَيَوْمٌ دَمٌ فَقَدْ وَجَدَتْ فِي أَيَّامِهَا إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّهَا هَلْ تَجِدُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَخُذْ دَمًا وَطُهْرًا وَاضْرِبْهُ فِيمَا يُوَافِقُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي أَيَّامِهَا دَم يَوْمٌ وَطُهْرٌ يَوْمٌ وَدَمٌ يَوْمٌ فَقَدْ وَجَدَتْ، وَهَكَذَا تَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِنْ تَأَخَّرَ بِيَوْمٍ بِأَنْ طَهُرَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا فَنَقُولُ: أَنَّهَا لَمْ تَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ أَيَّامَهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي وَحُكْمُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجْعَلُ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضًا لَهَا بَدَلًا وَحُكْمُ انْتِقَالِ الْعَادَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَخُذْ دَمًا وَطُهْرًا وَاضْرِبْهُ فِيمَا يُقَارِبُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ يَوْمٌ دَمٌ بِهِ يَتِمُّ طُهْرُهَا فَيَسْتَقْبِلُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي طُهْرٌ يَوْمٌ وَدَمٌ يَوْمٌ وَطُهْرٌ يَوْمٌ فَلَمْ تَجِدْ، وَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ إلَى مَوْضِعِ الْإِبْدَالِ فَتَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. فَإِنْ تَأَخَّرَ بِيَوْمَيْنِ بِأَنْ طَهُرَتْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ ثَلَاثَةً بِطَرِيقِ الْبَدَلِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ أَنَّهَا هَلْ تَرَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَيَأْخُذَ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَيَضْرِبَهُ فِيمَا يُوَافِقُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي دَمٌ يَوْمٌ وَطُهْرٌ يَوْمٌ وَدَمٌ يَوْمٌ فَقَدْ وَجَدَتْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَهَكَذَا نَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِنْ رَأَتْ بَعْدَ طُهْرِهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ بِالطُّهْرِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. (قَالَ): الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرَ أَنَّهُ اضْطَرَّ إلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْإِبْدَالَ زِيَادَةٌ عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طُهْرَيْنِ صَحِيحَيْنِ لَا اسْتِمْرَارَ فِيهِمَا، وَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّرْطُ هُنَا وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنَّهَا لَمْ تَجِدْ أَيَّامَهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ خَتْمَ الثَّلَاثَةِ بِالطُّهْرِ، وَهَكَذَا لَا تَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَخُذْ دَمًا وَطُهْرًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَاضْرِبْهُ فِيمَا يُوَافِقُ الشَّهْرَ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَآخِرُهُ طُهْرٌ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمَانِ دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ فَلَمْ تَجِدْ. وَهَكَذَا لَا تَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَلَوْ لَمْ نَزِدْ فِي أَيَّامِهَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ لَا تَكُونَ حَائِضًا فِي شَيْءٍ مِنْ عُمُرِهَا مَعَ رُؤْيَتِهَا الدَّمَ فِي أَكْثَرِ عُمُرِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ زِدْنَا فِي أَيَّامِهَا فَجَعَلْنَاهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ يَوْمَانِ دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ وَيَوْمَانِ دَمٌ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ حَيْضُهَا، وَبَاقِي الشَّهْرِ طُهْرُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَتَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ الْفَرَائِضِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَجْعَلَ حَيْضَهَا أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أَيَّامِهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا وَخَتْمُهُ بِالدَّمِ فَلَا يُزَادُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً. وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّعْفَرَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَجْعَلَ حَيْضَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَسَاعَةً فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لِلضَّرُورَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَتَرْتَفِعُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ بِزِيَادَةِ سَاعَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ فَلَا يُزَادُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَسَاعَةً، وَلَمْ يَعْتَبِرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَيْئًا مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ دَوْرٍ مِنْ الدَّمِ، وَذَلِكَ يَوْمَانِ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لِاتِّصَالِ بَعْضِهِ بِالْبَعْضِ فَإِذَا وَجَبَ زِيَادَةُ شَيْءٍ مِنْهُ يُزَادُ كُلُّهُ فَيَجْعَلُ حَيْضَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ. فَإِنْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ حَيْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ اسْتِحَاضَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا مِنْ أَوَّلِ الرُّؤْيَةِ كَانَ خَتْمُ أَيَّامِهَا بِالطُّهْرِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي أَيَّامِهَا حَيْضَهَا وَإِذَا اعْتَبَرْنَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ أَمْكَنَ جَعْلُ الثَّلَاثَةِ حَيْضًا لَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةٍ وَإِلْغَاءِ يَوْمَيْ دَمٍ وَيَوْمِ طُهْرٍ قَبْلَ الِاسْتِمْرَارِ أَهْوَنُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي أَيَّامِهَا فَلِهَذَا يُلْغَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً. وَكَانَ الزَّعْفَرَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا يُلْغَى مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمَيْنِ سَاعَةً فَيَبْقَى يَوْمَانِ إلَّا سَاعَةً دَمٌ وَيَوْمٌ طُهْرٌ فَيَضُمُّ إلَيْهِ سَاعَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ حَتَّى تَتِمَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَيُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ حَيْضًا لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ وَخَتْمَهُ بِالدَّمِ وَالْإِلْغَاءُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِإِلْغَاءِ سَاعَةٍ لَا يَجُوزُ إلْغَاءُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ رَأَتْ بَعْدَ طُهْرِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: إنَّهَا لَمْ تَجِدْ أَيَّامَهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ خَتْمَ الثَّلَاثَةِ كَانَ بِالطُّهْرِ وَهَكَذَا لَا تَجِدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 يَسْتَقْبِلُهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَوْمٌ دَمٌ وَيَوْمَانِ طُهْرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مُدَّةِ حَيْضِهَا فَيَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ أَرْبَعَةً لِيَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ وَخَتْمُهُ بِالدَّمِ، وَالطُّهْرُ فِي خِلَالِهِ قَاصِرٌ ثُمَّ طُهْرُهَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّعْفَرَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يَزْدَادُ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِهِ تَرْتَفِعُ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْمَسَائِلُ الْمُخَرَّجَةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا بَيَّنَّاهُ كِفَايَةٌ فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ فَطَهُرَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَشَرَةٌ مِنْ أَوَّلِ الدَّمِ وَالْمُسْتَمِرُّ حَيْضٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِطَرِيقِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَ فِي أَيَّامِهَا شَيْئًا. وَالْإِبْدَالُ بِطَرِيقِ الْجَرِّ مُمْكِنٌ فَإِنَّا إذَا أَبْدَلْنَا هَذِهِ الْعَشَرَةَ يَبْقَى مِنْ زَمَانِ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ فَيَجُرُّ خَمْسَةً مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى بَاقِي الطُّهْرِ لِيُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا أَبْدَلَ لَهَا وَقَالَ: تَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَتْرُكُ خَمْسَةً ثُمَّ تُصَلِّي عِشْرِينَ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً وَتُصَلِّي عِشْرِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ طَهُرَتْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّا إذَا أَبْدَلْنَا لَهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ عَشَرَةً يَبْقَى مِنْ الطُّهْرِ ثَمَانِيَةٌ فَيَجُرُّ مِنْ أَيَّامِهَا الثَّانِي سَبْعَةً إلَيْهِ لِيُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ حَيْضٌ تَامٌّ فَأَمَّا إذَا طَهُرَتْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ فَالْآنَ لَا يُبَدِّلُ لَهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّا لَوْ أَبْدَلْنَا لَهَا عَشَرَةً يَبْقَى مِنْ زَمَانِ طُهْرِهَا سَبْعَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجُرَّ مِنْ الْحَيْضِ الثَّانِي إلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَهَا يَوْمَانِ وَيَوْمَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَلِهَذَا لَمْ يُبَدِّلْ لَهَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: تُصَلِّي إلَى مَوْضِعِ حَيْضِهَا الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّارِيخِ لِلْحَيْضِ] (فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّارِيخِ) امْرَأَةٌ كَانَ أَيَّامُ حَيْضِهَا عَشَرَةً وَأَيَّامُ طُهْرِهَا عِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ عَشَرَةِ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ثُمَّ جُنَّتْ وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ أَفَاقَتْ، وَالدَّمُ مُسْتَمِرٌّ كَذَلِكَ فَجَاءَ الْيَوْمُ وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إلَى فَقِيهٍ تَسْتَفْتِيه أَنَّهَا حَائِضٌ الْيَوْمَ أَمْ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَهَذَا أَوَّلُ حَيْضِهَا أَوْ آخِرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَكَذَلِكَ فَالسَّبِيلُ لِذَلِكَ الْفَقِيهِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ تَارِيخِ الِاسْتِمْرَارِ إلَى يَوْمِ السُّؤَالِ فَيَأْخُذَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ وَالشُّهُورَ الْكَوَامِلَ وَالْأَيَّامَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ شَهْرًا فَيَجْعَلَ السِّنِينَ شُهُورًا وَالشُّهُورَ أَيَّامًا ثُمَّ يَطْرَحَ مِنْ الْجُمْلَةِ الْعَدَدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 النَّاقِصَ مِنْ الشُّهُورِ فَنَقُولُ مِنْ تَارِيخِ الِاسْتِمْرَارِ إلَى وَقْتِ السُّؤَالِ ثَلَاثُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَاجْعَلْ السِّنِينَ شُهُورًا بِأَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ. وَتَضُمُّ إلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِينَ فَيَكُونُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَضُمُّ إلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ إلَّا أَنَّ فِي الْأَشْهُرِ كَوَامِلَ وَنَوَاقِصَ فَاجْعَلْ النِّصْفَ كَوَامِلَ وَالنِّصْفَ نَوَاقِصَ، وَاطْرَحْ بِعَدَدِ نِصْفِ الشُّهُورِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا يَبْقَى أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى مَالَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ وَعُشْرٌ صَحِيحٌ فَاطْرَحْهُ؛ لِأَنَّ دَوْرَهَا فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ عَشَرَةٌ حَيْضٌ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ فَأَلْفٌ وَمِئَتَانِ وَثَلَاثُونَ تُطْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَبْقَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ وَلَا عُشْرٌ صَحِيحٌ فَعَرَفْت أَنَّ عَشَرَةً مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْبَاقِي حَيْضُهَا وَاثْنَيْ عَشَرَ طُهْرُهَا فَيُقَالُ لَهَا: قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ طُهْرِك ثَمَانِيَةٌ فَتُصَلِّي ثَمَانِيَةً إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ عَدَدَ الْكَوَامِلِ مِنْ الشُّهُورِ كَانَ أَقَلَّ وَعَدَدَ النَّوَاقِصِ كَانَ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَاحْسِبْهُ بِالْأَسَابِيعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُسْبُوعٍ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَإِنْ وَافَقَ الْعَدَدُ بِالْأَسَابِيعِ مَا كَانَ مَعَك عَلِمْت أَنَّ النَّوَاقِصَ وَالْكَوَامِلَ كَانَا سَوَاءً، فَإِنْ فَضَلَ يَوْمٌ عَلِمْت أَنَّ النَّوَاقِصَ كَانَ أَكْثَرَ بِشَهْرٍ، وَإِنْ انْتَقَصَ يَوْمٌ عَلِمْت أَنَّ الْكَوَامِلَ أَكْثَرُ بِشَهْرٍ فَانْظُرْ إلَى مَا لَهُ سُبُعٌ صَحِيحٌ فَاطْرَحْهُ مِنْ أَصْلِ الْحِسَابِ وَلِأَلْفٍ وَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ سُبُعٌ صَحِيحٌ يَبْقَى اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَلِسِتَّةٍ وَخَمْسِينَ سُبُعٌ صَحِيحٌ فَاطْرَحْهُ مِنْ الْبَاقِي بَقِيَ مَعَك سِتَّةٌ فَابْتِدَاءُ الِاسْتِمْرَارِ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَمِنْهُ إلَى وَقْتِ السُّؤَالِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَدْ فَضَلَ يَوْمٌ فَعَلِمْت أَنَّ النَّوَاقِصَ كَانَ أَكْثَرَ بِشَهْرٍ فَاطْرَحْ مِنْ الْبَاقِي مَعَك، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَاحِدًا بَقِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَيْضُهَا مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَطُهْرُهَا أَحَدَ عَشَرَ فَيُقَالُ لَهَا: هَذَا يَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ طُهْرِك فَصَلِّي تِسْعَةَ أَيَّامٍ تَمَامَ طُهْرِك ثُمَّ اُتْرُكِي عَشَرَةً وَصَلِّي عِشْرِينَ وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُخْرِجُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [امْرَأَة جَاءَتْ إلَى فَقِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ طُهْر خَمْسَة عَشْر يَوْمًا وَلَا تحفظ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ] (فَصْلٌ): امْرَأَةٌ جَاءَتْ إلَى فَقِيهٍ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا تَحْفَظُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ وَلَا الِاسْتِئْنَافُ لِتَوَهُّمِ الِاسْتِحَاضَةِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا فَيُقَالُ لَهَا تَذَكَّرِي، فَإِنْ لَمْ تَتَذَكَّرْ شَيْئًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الضَّالَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَتْهُ عَنْ طُهْرٍ صَحِيحٍ وَدَمٍ صَحِيحٍ وَلَا تَحْفَظُ شَيْئًا آخَرَ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ لِتَوَهُّمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الِاسْتِحَاضَةِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّى لَمْ أَكُنْ مُسْتَحَاضَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى انْتِقَالَ الْعَادَةِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَنْتَقِلُ الْعَادَةُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنْ أَخْبَرَتْ عَنْ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَطُهْرَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ، وَعَلِمَتْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَاضَةً قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا فَهَذَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَلَا يَكْفِيهَا لِلِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّتَيْنِ وَلَكِنْ لَا يَكْفِيهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِتَوَهُّمِ الطُّهْرِ الطَّوِيلِ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا، فَإِنْ أَخْبَرَتْ عَنْ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْعَدَدِ وَعَنْ طُهْرَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْعَدَدِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ هَذَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِيهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِتَوَهُّمِ الطُّهْرِ الطَّوِيلِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ هَذَا لَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ فَإِنْ أَخْبَرَتْ عَنْ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَدِمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةٌ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا فَهَذَا لَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ؛ لِأَنَّ الْخَالِصَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ دَمَانِ وَطُهْرَانِ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَاضَةً قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فَهَذَا يَكْفِيهَا لِنَصْبِ الْعَادَةِ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ. وَلَا يَكْفِيهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِتَوَهُّمِ الطُّهْرِ الطَّوِيلِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَخْرُجُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْإِضْلَالِ فِي الْحَيْض] (بَابُ الْإِضْلَالِ) (قَالَ): وَإِذَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَاسْتُحِيضَتْ وَطَبَّقَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَنَسِيَتْ عَدَدَ أَيَّامِهَا وَمَوْضِعَهَا فَإِنَّهَا تَبْنِي عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهَا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَكَمَا أَنَّ عِنْدَ اشْتِبَاهِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ عَلَيْهَا تَتَحَرَّى فَكَذَا اشْتِبَاهُ حَالِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَلَيْهَا تَتَحَرَّى فَكُلُّ زَمَانٍ يَكُونُ أَكْبَرُ رَأْيِهَا أَنَّهَا حَائِضٌ فِيهِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَكُلُّ زَمَانٍ أَكْثَرُ رَأْيِهَا عَلَى أَنَّهَا فِيهِ طَاهِرَةٌ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَكُلُّ زَمَانٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ رَأْيُهَا فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بَلْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ، وَكُلُّ زَمَانٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ رَأْيُهَا عَلَى شَيْءٍ بَلْ تَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْحَيْضِ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِيهِ بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ، وَالْقِيَاسُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْيٌ أَنْ تَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 الْحَيْضِ، وَلَكِنْ لَوْ أَخَذْنَا بِهَذَا كَانَ فِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهَا لَا تَتَفَرَّغُ عَنْ الِاغْتِسَالِ لِشُغْلٍ آخَرَ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ فَأَمَرْنَاهَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِهَذَا وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ أَيْضًا، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِي أَمْرِنَا إيَّاهَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَكَمَا أَنَّ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي تَعْرِفُ أَيَّامَهَا يُقَامُ الْوَقْتُ مَقَامَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكْفِيَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وُضُوءٌ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ فِي الِاغْتِسَالِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَرَجِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ، وَالْأَثَرُ جَاءَ هُنَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. فَإِنَّ «حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ»، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَدْ نَسِيَتْ أَيَّامَهَا فَهُوَ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْفَظُ أَيَّامَهَا فَلَمَّا أَمَرْنَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَنْ حَفِظَتْ أَيَّامَهَا فَلِمَنْ نَسِيَتْ أَوْلَى، وَبِهِ أَمَرَ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَبِهِ أَمَرَ سَلَمَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَشَقَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَغْتَسِلَ لِلْفَجْرِ، وَبِهِ أَخَذَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا أَنَّهَا تَذَكَّرَتْ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ كَانَ يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: رُفِعَ فَتْوَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيَّ فَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ فَإِذَا فِيهِ إنِّي امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اُبْتُلِيتُ بِالدَّمِ وَقَدْ سَأَلْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَقَالَ: وَأَنَا أَرَى لَهَا مِثْلَ مَا رَأَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلِهَذِهِ الْآثَارِ أَمَرْنَاهَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: تَغْتَسِلُ فِي وَقْتٍ وَتُصَلِّي ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْوَقْتِ، وَتُعِيدُ مَا صَلَّتْ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ لِتَتَيَقَّنَ أَدَاءِ أَحَدِهِمَا بِصِفَةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ وَإِنَّمَا تُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ وَالسُّنَنَ الْمَشْهُورَةَ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَاتِ شُرِعَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا وَكَذَلِكَ تُصَلِّي الْوِتْرَ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَا تُصَلِّي شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ سِوَى هَذَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ مُبَاحٌ، وَفِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْبِدْعَةِ لَا يُؤْتَى بِهِ فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْبِدْعَةِ وَاجِبٌ، وَفِيمَا تُصَلِّي تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَثَلَاثَ آيَاتٍ عِنْدَهُمَا قَدْرَ مَا يَتِمُّ بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ، وَفِي السُّنَنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَعَيَّنَتْ وَاجِبَةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَلَا تَتْرُكُ قِرَاءَتَهَا، وَلَا تَقْرَأُ السُّورَةَ مَعَهَا كَمَا لَا تَقْرَأُ خَارِجَ الصَّلَاةِ آيَةً تَامَّةً مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لَا يُؤْتَى بِهِ، وَكَذَلِكَ لَا تَمَسُّ الْمُصْحَفَ وَلَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهَا حَائِضٌ، وَلَيْسَ لِلْحَائِضِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَلَا قِرَاءَةُ آيَةٍ تَامَّةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ سَمِعَتْ سَجْدَةً فَسَجَدَتْ كَمَا سَمِعَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَقَدْ أَدَّتْ مَا لَزِمَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى الْحَائِضِ بِالسَّمَاعِ، وَإِنْ سَجَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهَا أَنْ تُعِيدَهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِجَوَازِ أَنَّ سَمَاعَهَا كَانَ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَزِمَتْهَا السَّجْدَةُ ثُمَّ أَدَّتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا فَإِذَا أَعَادَتْ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ تَيَقَّنَتْ أَنَّ إحْدَاهُمَا كَانَتْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ، وَإِنْ حَجَّتْ فَلَا تَأْتِي بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لَا يُؤْتَى بِهِ فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَرُكْنُ الْحَجِّ لَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ تُعِيدَهُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِتَتَيَقَّنَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَتَتَحَلَّلُ بِهِ بِيَقِينٍ وَتَأْتِي بِطَوَافِ الصَّدْرِ ثُمَّ لَا تُعِيدُهُ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ وَاجِبٌ عَلَى الطَّاهِرِ دُونَ الْحَائِضِ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَقَدْ أَتَتْ بِهِ وَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ وَلَكِنَّهُ اقْتِضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَطَأَهَا بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ، وَزَمَانُ الطُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ زَمَانِ الْحَيْضِ، وَعِنْدَ غَلَبَةِ الْحَلَالِ يَجُوزُ التَّحَرِّي كَالْمَسَالِيخِ إذَا اخْتَلَطَتْ، وَالْحَلَالُ غَالِبٌ عَلَى الْمَيْتَةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ التَّحَرِّيَ فِي بَابِ الْفُرُوجِ لَا يَجُوزُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّحَرِّي فِي الْجَوَارِي، وَإِنَّمَا التَّحَرِّي فِيمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بِالْإِذْنِ دُونَ الْمِلْكِ، وَلَا تُفْطِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ حَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الشَّهْرِ بَعْدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ طُهْرٌ. فَإِنْ انْتَقَصَ الشَّهْرُ فَظُهُورُ ذَلِكَ النُّقْصَانِ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ أَوْ تَعْلَمَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ أَوْ لَا تَتَذَكَّرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَتْ أَنْ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ عِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فَسَدَ صَوْمُهَا فِيهِ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةٌ، وَرُبَّمَا وَافَقَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ فَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي عَشَرَةٍ أُخْرَى فَإِذَا صَامَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا خَرَجَتْ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ الْقَضَاءِ بِيَقِينٍ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فَسَدَ صَوْمُهَا فِيهِ فِي الشَّهْرِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْحَيْضِ إذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَتَمَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ فَيَفْسُدُ صَوْمُهَا فِيهِ ثُمَّ عَلَيْهَا قَضَاءُ ضِعْفِ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ وَافَقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ عِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ. وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ تَقْضِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ وَيَسْتَوِي إنْ قَضَتْ مَوْصُولًا بِالشَّهْرِ أَوْ مَفْصُولًا عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا عَلِمَتْ أَنَّ دَوْرَهَا كَانَ يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ ذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَيْهَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فَلَا تُفْطِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَعَلَيْهَا إنْ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ قَضَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ عَشَرَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّمَا فَسَدَ صَوْمُهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إمَّا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَخَمْسَةٌ مِنْ آخِرِهِ أَوْ خَمْسَةٌ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بَقِيَّةُ حَيْضِهَا وَعَشَرَةٌ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَإِذَا عَرَفْنَا أَنَّ عَلَيْهَا قَضَاءَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ مَوْصُولًا بِالشَّهْرِ أَوْ مَفْصُولًا عَنْهُ، فَإِنْ قَضَتْ مَوْصُولًا فَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فَسَدَ صَوْمُهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ عَشَرَةٌ وَمِنْ آخِرِ الشَّهْرِ خَمْسَةٌ فَيَوْمُ الْفِطْرِ هُوَ السَّادِسُ مِنْ حَيْضِهَا لَا تَصُومُ فِيهِ ثُمَّ تَصُومُ بَعْدَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يُجْزِيهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَقِيَّةِ حَيْضِهَا ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ إنَّمَا فَسَدَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ عَشَرَةٌ فَيَوْمُ الْفِطْرِ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ طُهْرِهَا لَا تَصُومُ فِيهِ ثُمَّ يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ لَا يُجْزِيهَا فِي عَشَرَةٍ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَمِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تِسْعَةَ عَشَرَ فَتَحْتَاطُ وَتَصُومُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَكَذَلِكَ إنْ قَضَتْ مَفْصُولًا فَإِنَّمَا تَقْضِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ وَافَقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 يَوْمًا، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ فَأَكْثَرُ مَا فَسَدَ مِنْ صَوْمِهَا فِي الشَّهْرِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا إمَّا أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَخَمْسَةً مِنْ آخِرِهِ أَوْ خَمْسَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بَقِيَّةِ الْحَيْضِ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ آخِرِهِ وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ ذَلِكَ مُوصِلًا بِرَمَضَانَ أَوْ مَفْصُولًا عَنْهُ، فَإِنْ قَضَتْ مَوْصُولًا فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا فَيَوْمُ الْفِطْرِ هُوَ السَّادِسُ مِنْ حَيْضِهَا لَا تَصُومُ فِيهِ ثُمَّ لَا يُجْزِئهَا الصَّوْمُ بَعْدَهُ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَيُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي يَوْمَيْنِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ شَوَّالٍ أَوَّلَ طُهْرِهَا بِأَنْ كَانَ خَتْمُ حَيْضِهَا فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَلَا تَصُومُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ ثُمَّ يُجْزِئُهَا الصَّوْمُ بَعْدَهُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَيْهَا قَضَاءُ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَمِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَيْهَا قَضَاءُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَتَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَتَصُومُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِتَخْرُجَ مِمَّا عَلَيْهَا بِيَقِينٍ. وَإِنْ قَضَتْ مَفْصُولًا فَعَلَيْهَا قَضَاءُ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يُوَافِقَ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِئُهَا الصَّوْمُ فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي يَوْمَيْنِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِذَا صَامَتْ هَذَا الْمِقْدَارَ تَيَقَّنَتْ بِجَوَازِ صَوْمِهَا فِي سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ أَوْ بِاللَّيْلِ فَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَصُومُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَعَلَى قَوْلِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَأْخُذُ بِأَحْوَط الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ قَضَتْ مَوْصُولًا بِالشَّهْرِ صَامَتْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَضَتْ مَفْصُولًا عَنْ الشَّهْرِ صَامَتْ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ كَامِلًا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِجَوَازِ صَوْمِهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَتَعَيَّنُ لِلْفَسَادِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا أَرَادَتْ الْقَضَاءَ صَامَتْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُوَافِقَ ابْتِدَاءُ صَوْمِهَا ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا بِأَنْ كَانَ حَيْضُهَا بِالنَّهَارِ وَيُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي يَوْمٍ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا فَلِهَذَا صَامَتْ هَذَا الْقَدْرَ لِتَخْرُجَ مِمَّا عَلَيْهَا بِيَقِينٍ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ بِأَنْ كَانَتْ أَفْطَرَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ إذْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ أَوْ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ تِسْعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا صَوْمُ سِتِّينَ يَوْمًا مُتَتَابِعَةً فَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ يُتَيَقَّنُ بِجَوَازِ صَوْمِهَا فِي عِشْرِينَ فَإِذَا صَامَتْ تِسْعِينَ يَوْمًا تَيَقَّنَتْ بِجَوَازِ صَوْمِهَا فِي سِتِّينَ يَوْمًا فَتَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ مِائَةَ يَوْمٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ صَوْمِهَا يُوَافِقُ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا فَلَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ فَيَبْلُغُ الْعَدَدُ تِسْعِينَ يَوْمًا. وَإِنَّمَا جَازَ صَوْمُهَا مِنْهُ فِي سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي ثَلَاثَةٍ تَتِمَّةِ سِتِّينَ فَبَلَغَ عَدَدُ الْجُمْلَةِ مِائَةَ يَوْمٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَلِهَذَا صَامَتْ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ فَعَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَصُومُ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَأْخُذُ بِأَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَتَصُومُ مِائَةً وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ لَا تَدْرِي أَنَّ دَوْرَهَا فِي كَمْ يَكُونُ، فَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ مِائَةَ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ مِنْ كُلِّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يُتَيَقَّنُ بِجَوَازِ صَوْمِهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِأَنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا صَامَتْ مِائَةَ يَوْمٍ جَازَ صَوْمُهَا فِي سِتِّينَ يَوْمًا بِيَقِينٍ فَتَسْقُطُ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ مِائَةً وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُوَافِقَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ ابْتِدَاءَ الْحَيْضِ فَلَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَبْلُغُ الْعَدَدُ مِائَةً، وَإِنَّمَا جَازَ صَوْمُهَا فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا تَتِمَّةِ سِتِّينَ فَبَلَغَ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا جَازَ صَوْمُهَا فِيهِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ وَافَقَ ابْتِدَاءُ صَوْمِهَا ابْتِدَاءَ الْحَيْضِ لَمْ يُجْزِئْهَا فِي عَشَرَةٍ ثُمَّ يُجْزِئُهَا فِي ثَلَاثَةٍ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. فَإِنْ كَانَتْ حِينَ افْتَتَحَتْ الصَّوْمَ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ جَازَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 صَوْمُهَا فِيهِمَا ثُمَّ لَمْ يَجُزْ فِي عَشَرَةٍ وَانْقَطَعَ بِهِ التَّتَابُعُ فَإِنَّ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُتَتَابِعَةً وَعُذْرُ الْحَيْضِ فِيهِ لَا يَكُونُ عَفْوًا؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً مِنْ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الشَّهْرَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحْتَاطَ بِصَوْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى إذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ طُهْرِهَا يَوْمَيْنِ حِينَ افْتَتَحَتْ الصَّوْمَ لَمْ يُجِزْهَا صَوْمُهَا فِيهِمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي الْعَشَرَةِ بَعْدَهُمَا لِعُذْرِ الْحَيْضِ وَجَازَ صَوْمُهَا فِي ثَلَاثَةٍ بَعْدَهَا فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَتْ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ تَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى فَتَيَقَّنَ أَنَّ إحْدَى الثَّلَاثَتَيْنِ وَافَقَتْ زَمَانَ طُهْرِهَا. وَجَازَ صَوْمُهَا فِيهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بِالنَّهَارِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ طُهْرِهَا حِينَ افْتَتَحَتْ الصَّوْمَ يَوْمَانِ فَلَا يُجْزِيهَا الصَّوْمُ فِيهِمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ ثُمَّ لَا يُجْزِئُهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا بِسَبَبِ الْحَيْضِ ثُمَّ يُجْزِيهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَفْطَرَتْ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَتَيَقَّنَ أَنَّ إحْدَى الثَّلَاثَتَيْنِ فِي زَمَانِ طُهْرِهَا فَيُجْزِيهَا وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ أَيْضًا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بِأَنْ كَانَ دَوْرُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَإِنْ شَاءَتْ صَامَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ شَاءَتْ صَامَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فِي شَهْرٍ ثُمَّ فِي شَهْرٍ آخَرَ عَشَرَةً أُخْرَى سِوَى الْعَشَرَةِ الْأُولَى لِتَتَيَقَّنَ أَنَّ إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ مُوَافِقٌ زَمَانَ طُهْرِهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ رَمَضَانَ قَضَاءُ ضِعْفِ عَدَدِ أَيَّامِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ صَامَتْ عَدَدَ أَيَّامِهَا فِي عَشْرٍ مِنْ شَهْرٍ ثُمَّ فِي شَهْرٍ آخَرَ صَامَتْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي عَشْرٍ آخَرَ لِتَتَيَقَّنَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُوَافِقٌ زَمَانَ طُهْرِهَا فَيُجْزِيهَا مِنْ الْقَضَاءِ. إلَّا أَنَّا لَمْ نَشْتَغِلْ بِهَذَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ وَبَيَّنَّاهُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ فِيهِ يَتَحَقَّقُ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ صَلَاةٍ تَرَكَتْهَا فِي زَمَانِ طُهْرِهَا صَلَّتْ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ ثُمَّ أَعَادَتْهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِتَخْرُجَ مِمَّا عَلَيْهَا بِيَقِينٍ فَإِنَّ أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ زَمَانُ طُهْرِهَا بِيَقِينٍ وَلَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عِصْمَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي حُكْمِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ أَبَدًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ بِشَيْءٍ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ غَيْرَ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الطُّهْرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ غَيْرَ سَاعَةٍ كَمَا بَيَّنَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا تَحْتَسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ مِنْ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ غَيْرَ سَاعَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ غَيْرَ سَاعَةٍ وَثَلَاثَةٌ حَيْضٌ، كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا جَمَعْت الْكُلَّ بَلَغَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ فَيَحْكُمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ. وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُقَدِّرُ مُدَّةَ الطُّهْرِ فِي حَقِّهَا بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا بَيَّنَّا تَتَزَوَّجُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ وَاحِدٍ غَيْرِ سَاعَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا فَلَا تَحْسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ مِنْ الْعِدَّةِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ غَيْرَ سَاعَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ فَيَبْلُغُ عَدَدُ الْجُمْلَةِ مِائَةً وَوَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا غَيْرَ سَاعَةٍ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ فَإِذَا مَضَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ بَابَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ ثَلَاثَةً وَطُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ طُهْرِهَا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلِهَذَا حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ بِهَذَا الْقَدْرِ احْتِيَاطًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي امْرَأَةٍ تَحْفَظُ أَيَّامَهَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَاغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ انْقَطَعَتْ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ مَا لَمْ تَتَيَمَّمْ مَعَهُ أَوْ تُصَلِّي بَعْدَ التَّيَمُّمِ. وَلَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمُبْتَلَاةَ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا إنْسَانٌ فَمُدَّةُ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي عِصْمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقَدَّرُ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقَدَّرُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا غَيْرَ سَاعَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ حَيْضِهَا سَاعَةٌ فَلَا تَحْسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ إلَّا سَاعَةً ثُمَّ بَعْدَهُ طُهْرُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَيْضُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا غَيْرَ سَاعَتَيْنِ يَسْتَبْرِئُهَا بِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا كَالْبِنَاءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ وَطْأَهَا بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُبِيحُ وَطْأَهَا أَصْلًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِهَا فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَخْرِيجُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي إضْلَالِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ فِي الْحَيْض] (فَصْلٌ فِي إضْلَالِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ)، فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ امْرَأَةٍ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا هُوَ دُونَهَا مِنْ الْعَدَدِ فَهَذَا مُحَالٌ بِأَنْ قَالَ أَيَّامُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 عَشَرَةٌ فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي أُسْبُوعٍ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْأُسْبُوعِ فَكَيْفَ تَضِلُّ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَضَلَّتْ فِي مِثْلِهَا مِنْ الْعَدَدِ فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا بِأَنْ قَالَ: أَيَّامُهَا سَبْعَةٌ فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِدَةٌ عَالِمَةٌ بِحَالِهَا، وَإِنْ قَالَ: أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا هُوَ فَوْقَهَا مِنْ الْعَدَدِ فَالسُّؤَالُ مُسْتَقِيمٌ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ يُتَيَقَّنُ فِيهِ بِالْحَيْضِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ بِيَقِينٍ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَيَقَّنَتْ فِيهِ بِالطُّهْرِ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ تُصَلِّي فِيهِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ. وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهَا مَتَى أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي ضِعْفِهَا مِنْ الْعَدَدِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الضِّعْفِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ نَحْوُ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي سِتَّةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَمَتَى ضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا دُونَ ضِعْفِهِ يُتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي بَعْضِهِ نَحْوُ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ الْحَيْضِ أَوْ آخِرُهُ أَوْ الثَّانِي مِنْهُ بِيَقِينٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهِ لِهَذَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ. فَنَقُولُ: إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَهَا كَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْعَشْرِ كَانَتْ، وَلَا رَأْيَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَهَذِهِ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهَا فَتُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ إلَّا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنْ الْيَوْمِ كَانَ يَكُونُ تَغْتَسِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرَّةً، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا أَرْبَعَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي الْعَشَرَةِ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ. وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا خَمْسَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي إلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا سِتَّةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تَدَعُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُولَى تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَهُوَ حَيْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ فَهَذَا آخِرُ حَيْضِهَا. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ آخِرِ الْعَشْرِ فَهَذَا أَوَّلُ حَيْضِهَا فَلِهَذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِيهِمَا بِيَقِينٍ ثُمَّ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ فَتُصَلِّي فِيهِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا سَبْعَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ أَرْبَعَةً بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فِيهَا يَقِينُ الْحَيْضِ فَإِنَّهَا آخِرُ الْحَيْضِ إنْ كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ وَأَوَّلُ الْحَيْضِ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي آخِرِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَمَانِيَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ. فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا تِسْعَةً فَأَضَلَّتْهَا فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِي يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَهِيَ وَاجِدَةٌ؛ لِأَنَّ إضْلَالَ الْعَشَرَةِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَطْهُرُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا تَوَضَّأَتْ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ غُسْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْإِبْهَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْ وَقْتَ التَّيَقُّنِ بِالطُّهْرِ مِنْ وَقْتِ الشَّكِّ، وَتَمَامُ الْجَوَابِ فِي أَنْ نُبَيِّنَ ذَلِكَ فَنَقُولَ: إلَى عِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ فِيهَا لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِنْ جُمْلَةِ الطُّهْرِ. وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِنْ جُمْلَةِ حَيْضِهَا فَتُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهَا، وَوَقْتُ الْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ مَعْلُومٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 لَهَا وَهُوَ عِنْدَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ غُسْلًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ إذَا جَاوَزَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَإِنَّهَا تَدَعُ بَعْدَ الْعِشْرِينَ الصَّلَاةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَتُعِيدُ صَوْمَ هَذَا الْعَشْرِ فِي عَشْرٍ آخَرَ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الطُّهْرِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُسْتَقِيمٌ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ رُؤْيَةِ الدَّمِ كَانَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْعِشْرِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ يَوْمَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَلَا تَتَذَكَّرُ سِوَى ذَلِكَ شَيْئًا فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ إلَى الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ فَتُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تُصَلِّي فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ آخِرُ حَيْضِهَا وَأَيَّامُهَا عَشَرَةٌ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ. وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ مَا مَضَى سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْحَيْضِ أَنَّهَا تَدَعُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَفِي عَامَّةِ النُّسَخِ قَالَ: إنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالِاغْتِسَالِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ: إنَّمَا خَالَفَ بَيْنَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ وَالْجَوَابِ فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ مُتَّصِلًا بِمُضِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُ كَوْنَهُ فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِذَا كَانَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هَذَا فَهَذِهِ امْرَأَةٌ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي الْعَشَرَةِ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ بِيَقِينٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَنْ أَضَلَّتْ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ وَلَا تَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهَا فَإِنَّهَا تَقْضِي مَا عَلَيْهَا فِي يَوْمِ أَنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَفِي يَوْمَيْنِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تُعِيدُهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ لِتَتَيَقَّنَ بِالْأَدَاءِ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ فِي إحْدَى الْمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا تَرَى الدَّمَ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الشَّهْرِ وَلَا تَذْكُرُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ إلَى الْحَادِيَ عَشَرَ بِيَقِينِ الطُّهْرِ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 صَلَاةٍ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الْيَوْمَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَ حَيْضُهَا وَلَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا أَيْضًا ثُمَّ تَتَوَضَّأُ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَمْ يُمَيِّزْ فِي هَذَا الْجَوَابِ الزَّمَانَ الَّذِي فِيهِ يَقِينُ الطُّهْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلَا يُحْتَمَلُ الْخُرُوجُ مِنْ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إنَّمَا تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ الْخُرُوجُ مِنْ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ كَانَ فِيهِ إدْخَالُ شَهْرٍ فِي شَهْرٍ وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ فَلِهَذَا تَتَوَضَّأُ فِي الْعَشَرَةِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ لِتَمَامِ الشَّهْرِ إنْ كَانَ حَيْضُهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً ثُمَّ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَكِنْ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ يَقِينُ الطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَفِي الْعَشْرِ الْآخِرِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ إنْ كَانَ حَيْضُهَا الْعَشْرَ الْآخِرَ. فَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَهَا خَمْسَةٌ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَحْفَظُ شَيْئًا سِوَى هَذَا فَمِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا ثُمَّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَفِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ تَتْرُكُ بِيَقِينٍ، وَتَغْتَسِلُ بَعْدَهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ فِيهَا تَوَهُّمُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ (قَالَ): وَإِذَا كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 كُلِّ شَهْرٍ فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ أَشْهُرًا ثُمَّ عَاوَدَهَا وَاسْتَمَرَّ بِهَا، وَقَدْ نَسِيَتْ أَيَّامَهَا فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنْ صَلَاةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّهَا يُتَيَقَّنُ فِيهَا بِالْحَيْضِ فَإِنَّ عَادَتَهَا فِي الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَقَلَتْ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَأَوَّلُ عَادَتِهَا مِنْ وَقْتِ الِاسْتِمْرَارِ وَتَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ، وَتَتَوَضَّأُ عِشْرِينَ يَوْمًا لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ فِيهَا بِالطُّهْرِ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَذَلِكَ دَأْبُهَا، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ دَوْرَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ لَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ فَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِهَذَا الْفَصْلِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. فَنَقُولُ: هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي كَمْ كَانَ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا أَوْ كَانَتْ تَذْكُرُ مِقْدَارَ طُهْرِهَا وَلَا تَذْكُرُ مِقْدَارَ حَيْضِهَا أَوْ كَانَتْ تَذْكُرُ مِقْدَارَ حَيْضِهَا، وَلَا تَذْكُرُ مِقْدَارَ طُهْرِهَا فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: إنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا بِيَقِينِ الطُّهْرِ فِي هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذَا آخِرُ طُهْرِهَا، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَهَذَا أَوَّلُ طُهْرِهَا ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ بِالطُّهْرِ وَلَا بِالْحَيْضِ بَعْدَ هَذَا فَمَا مِنْ سَاعَةٍ بَعْدَ هَذَا إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ فِي حَيْضِهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي طُهْرِهَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ إذَا عَلِمَتْ أَنَّ طُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَا تَدْرِي كَمْ حَيْضُهَا، فَإِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَابْتِدَاءُ طُهْرِهَا بَعْدَ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَابْتِدَاءُ طُهْرِهَا الثَّانِي بَعْدَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَفِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَةَ تُصَلِّي بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي يَوْمًا وَاحِدًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَغْتَسِلُ عِنْدَ تَمَامِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَقِينَ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ فِي شَيْءٍ بَعْدَهَا فَمَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَ طُهْرُهَا فَإِنَّهَا تَدَعُ ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَإِذَا بَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ فِي شَيْءٍ وَمَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ طُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الْحَيْضِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهَا تَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْيَقِينِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الْيَوْمَ الْعِشْرِينَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي الْيَوْمَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ، وَلَا تَغْتَسِلُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَأَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ. وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً فَأَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ؛ فَلِهَذَا تَغْتَسِلُ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تُصَلِّي فِي يَوْمَيْنِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَدَعُ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ آخِرُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً، وَأَوَّلُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً، فَتَتَيَقَّنُ فِيهِ بِالْحَيْضِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِجَوَازِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا أَرْبَعَةً ثُمَّ تُصَلِّي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينُ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ فَنَسُوقُ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا وَنَأْمُرُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَّا أَنْ لَا يَبْقَى لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فِي شَيْءٍ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ يَخْرُجُ مَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الطُّهْرِ بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ فَمَنْ فَهِمَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الثَّانِي. (قَالَ): وَإِذَا كَانَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ لَا تَذْكُرُ أَيَّامَهَا غَيْرَ أَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَيَوْمَ الْعِشْرِينَ وَيَوْمَ الثَّلَاثِينَ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهَا، ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الْعَاشِرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سِتَّةَ أَيَّامٍ إلَى تَمَامِ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي يَوْمَ الْعِشْرِينَ بِيَقِينٍ ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ تُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سِتَّةَ أَيَّامٍ إلَى تَمَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الثَّلَاثِينَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْتَصُمْ ضِعْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِمَا بَيَّنَّا قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَإِنْ قَضَتْ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الْعَاشِرِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ كَفَاهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَصِحُّ صَوْمُهَا فِيهَا عَنْ الْقَضَاءِ، وَالتَّتَابُعُ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَمَا قَضَتْ مِنْ الْفَوَائِتِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَعَادَتْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ فِيهَا بِالطُّهْرِ. وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَ حَيْضِهَا كَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي إذَا مَضَى عِشْرُونَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ إذَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا إلَى تَمَامِ الْعِشْرِينَ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تَتَوَضَّأُ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَكِنْ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهَا، وَفِي الثَّلَاثَةِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ فِيهَا بِالشَّكِّ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فِي وَسَطِ الْعَشْرِ الْآخَرِ، وَلَا تَدْرِي غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالسَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ وَتَغْتَسِلُ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِيهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا الثَّلَاثَةَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِيمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 [بَابُ حِلِّ الْوَطْءِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ وَقْتِهِ] (بَابُ حِلِّ الْوَطْءِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ وَقْتِهِ) (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمَرْأَةِ دُونَ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اغْتَسَلَتْ حِينَ تَخَافُ فَوْتَ الصَّلَاةِ، وَصَلَّتْ وَتَجَنَّبَهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى عَادَتِهَا؛ لِأَنَّ حَيْضَ الْمَرْأَةِ لَا يَبْقَى عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي جَمِيعِ عُمُرِهَا بَلْ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى فَالِانْقِطَاعُ قَبْلَ تَمَامِ عَادَتِهَا طُهْرٌ ظَاهِرٌ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ طُهْرًا بِأَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَإِنَّ الدَّمَ لَا يَسِيلُ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ عَلَى الْوَلَاءِ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ فَتَنْتَظِرَ آخِرَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَفُوتُهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ فَإِذَا خَافَتْ فَوْتَ الْوَقْتِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ طُهْرٌ ظَاهِرًا وَمُضِيُّ الْوَقْتِ عَلَى الطَّاهِرِ يَجْعَلُ الصَّلَاةَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَفْوِيتٍ مِنْهَا بِتَرْكِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهَا أَنْ لَا تُفَوِّتَ وَلِأَنَّهُ يَفْحُشُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ. وَلَيْسَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ ظَاهِرًا وَلَا تُصَلِّي فِيهِ، وَيَجْتَنِبُهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَائِضٌ بَعْدُ بِأَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِعَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَلَكِنْ لَا تَتَزَوَّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إنْ كَانَ هَذَا آخِرَ عِدَّتِهَا احْتِيَاطًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهَا حَائِضٌ بَعْدُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُسْتَبْرَأَةً لَا يَطَؤُهَا الْمَوْلَى حَتَّى تَمْضِيَ أَيَّامُ عَادَتِهَا احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَتْ اسْتَكْمَلَتْ عَادَتَهَا فِي الدَّمِ ثُمَّ انْقَطَعَ اغْتَسَلَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَصَلَّتْ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا سَبَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِانْقِطَاعَ طُهْرٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْتَظِرُ آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ تَفْوِيتُ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا تُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ دُونَ الْمَكْرُوهِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَقَالَ: إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهَا تُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ، وَتُصَلِّيَ قَبْلَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ يَبْقَى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَكِنَّ التَّأْخِيرَ إلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مَكْرُوهٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَإِنَّهَا تُؤَخِّرُ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ وَتُصَلِّيَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى مَا بَعْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ مَكْرُوهٌ وَبِالتَّوَهُّمِ لَا يَحِلُّ لَهَا ارْتِكَابُ الْمَكْرُوهِ وَلَا بَأْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا هُنَا؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ طُهْرٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَبْلَهُ وَاحْتِمَالُ تَوَهُّمِ الْعَوْدِ لَمْ يَتَأَيَّدْ بِدَلِيلٍ هُنَا فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ هَذَا آخِرَ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ ظَاهِرًا، وَالْمَعْلُومُ الظَّاهِرُ لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 بِهِ بِالْمُحْتَمَلِ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَكَمَا تَمَّتْ الْعَشَرَةُ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ، وَلَا تُؤَخِّرُ سَوَاءٌ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ عَادَةٌ، وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً، وَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى الْخَمْسِ أَوْ فِي النِّفَاسِ وَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى الْعِشْرِينَ وَسِعَهَا أَنْ تُمَكِّنَ زَوْجَهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَأَنْ تَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ الْعَادَةُ تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَالْتَحَقَتْ بِصَاحِبَةِ الْعَادَةِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ كَلَامٌ مُخْتَلٌّ؛ لِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً فَقَدْ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالْحَيْضَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ ثُمَّ حَاضَتْ يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَلٌّ ذَكَرَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَسِعَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا وَوَسِعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّهُ لَا اغْتِسَالَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تُخَاطَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيَّةً فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ لَا اغْتِسَالَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا أَيْضًا، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَا تَعُودُ فِيهِ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ فَرُؤْيَةُ الدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْحَيْضِ بِهِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَكَمَا انْقَطَعَ الدَّمُ عِنْدَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ فِي وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا، وَلِلْجَنَابَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ. (قَالَ): عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ حَائِضًا، وَلَوْ كَانَتْ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، وَتَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الدَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادِ الرَّحِمِ أَوْ الْغِذَاءِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحُكْمِ بِإِيَاسِهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ رَأَتْ حُمْرَةً وَتَمَادَى بِهَا إلَى مُدَّةِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضًا اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ: بِنْتُ ثَمَانِينَ أَوْ تِسْعِينَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فَهُوَ حَيْضٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَدِرَةً لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ فَسَادِ الرَّحِمِ أَوْ الْغِذَاءِ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي اللَّوْنِ فِي حَقِّهَا عِنْدَ رَفْعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 الْخِرْقَةِ فَإِنَّ الرُّطُوبَةَ عَلَى الْخِرْقَةِ قَدْ تَتَغَيَّرُ مِنْ الْحُمْرَةِ إلَى الْكَدِرَةِ أَوْ مِنْ الْكَدِرَةِ إلَى الْخُضْرَةِ قَبْلَ الرَّفْعِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إذَا تَغَيَّرَ اللَّوْنُ مِنْ الْحُمْرَةِ إلَى الْبَيَاضِ أَوْ مِنْ الْبَيَاضِ إلَى الْحُمْرَةِ فَالْعِبْرَةُ بِحَالَةِ الرَّفْعِ، فَإِنْ رَأَتْ الْبَيَاضَ عِنْدَ الرَّفْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَ إلَى الْحُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ إلَى الْخُضْرَةِ أَوْ إلَى الصُّفْرَةِ فَهَذَا انْقِطَاعٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَدِرَةً عِنْدَ الرَّفْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَتْ إلَى الْبَيَاضِ فَهِيَ حَائِضٌ بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ رَفْعِ الْخِرْقَةِ يَكُونُ فَيُعْتَبَرُ اللَّوْنُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا مَرَّةً سِتًّا وَمَرَّةً خَمْسًا فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي احْتِيَاطًا، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ السَّادِسُ لِتَوَهُّمِ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِمُضِيِّ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ السَّادِسُ، وَعِنْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فَتَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ لُزُومُ الِاغْتِسَالِ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ السَّادِسِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ، وَلَمْ تُبْتَلَ بِالِاسْتِمْرَارِ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِتَمَامِ السِّتَّةِ إذَا لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَكِنَّهَا اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ، وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الْحَيْضِ بَيْنَ الْخَمْسِ وَالسِّتِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ النِّفَاسِ] (بَابُ النِّفَاسِ) (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ قِيلَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ تَنَفَّسَ الرَّحِمُ بِهِ وَقِيلَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْوَلَدُ فَخُرُوجُهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ دَمٍ يَتَعَقَّبُهُ. وَأَكْثَرُ مُدَّتِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ فَقَدْ رُوِيَ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَتْ النُّفَسَاءُ يَقْعُدْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنْ الْكَلَفِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّفَسَاءِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» وَلَا غَايَةَ لِأَقَلِّهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ «إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» حَتَّى إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ طَهُرَتْ فَذَلِكَ الْيَوْمُ نِفَاسٌ لَهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَإِنَّ أَقَلَّهُ مُقَدَّرٌ؛ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّحِمِ وَلِدَمِ النِّفَاسِ دَلِيلٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ، وَهُوَ تَقَدُّمُ خُرُوجِ الْوَلَدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالِامْتِدَادِ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نِفَاسًا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ لَهَا فِي النِّفَاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَهَا دُونَ هَذَا الْقَدْرِ أَدَّى إلَى نَقْضِ الْعَادَةِ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا طَالَ أَوْ قَصُرَ فَلَوْ قَدَّرَ نِفَاسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَعَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ كَانَ الْكُلُّ نِفَاسًا فَلِهَذَا قَدَّرَ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْرُ مُدَّةِ نِفَاسِهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا قَدَّرَ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ دُونَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ نِفَاسٌ ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَقَالَ: الْأَرْبَعُونَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ فِي الْعَشَرَةِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِذَا كَانَ الدَّمُ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْعَشَرَةِ يُجْعَلُ الْكُلُّ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَكَذَلِكَ فِي النِّفَاسِ إذَا أَحَاطَ الدَّمُ بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا، وَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارَ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرَّقَ بَيْنَ النِّفَاسِ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ فَقَالَ: هُنَاكَ إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطُّهْرِ يَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُنَا لَا يَصِيرُ فَاصِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ طُهْرٌ مَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ غَالِبٌ عَلَى الدَّمِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ ثُمَّ هُنَاكَ الدَّمُ قَدْ يَتَقَدَّمُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ غَلَبَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَدَّى إلَى الْقَوْلِ بِجَعْلِ زَمَانٍ هُوَ طُهْرٌ كُلُّهُ حَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ النِّفَاسِ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ هُنَا يَصِيرُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ؛ لِأَنَّ طُهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَالِحٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَكَانَ الْمُتَقَدِّمُ نِفَاسًا وَالْمُتَأَخِّرُ حَيْضًا. وَبَيَانُ هَذَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا نِفَاسٌ وَعِنْدَهُمَا النِّفَاسُ هُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَقَطْ ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَسَائِلُ إلَى أَنْ يَقُولَ: رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَالدَّمَ خَمْسَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعِنْدَهُمَا نِفَاسُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ مَرَّتَيْنِ، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الَّتِي بَعْدَ الْعِشْرِينَ، وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةٌ لَهَا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نِفَاسُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالطُّهْرُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِحَاطَةِ الدَّمِ بِطَرَفَيْهِ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ، فَأَمَّا الطُّهْرُ الثَّانِي فَهُوَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتِمُّ الْأَرْبَعُونَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةٌ لَهَا فِي الطُّهْرِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا عَادَةَ لَهَا فِي الْحَيْضِ فَيَجْعَلُ أَوَّلَ الِاسْتِمْرَارِ حَيْضَهَا عَشَرَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةً وَعِنْدَهُمَا يَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَعَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ عِنْدَهُمَا تَكُونُ خَمْسَةً وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةً وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي النِّفَاسِ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ تَثْبُتُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ [أَوَّلُ وَقْتِ النِّفَاسِ] وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ النِّفَاسِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ الْوِلَادَةِ أَوَّلُ وَقْتِ النِّفَاسِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ فَرَاغِ رَحِمِهَا أَوَّلُ وَقْتِ النِّفَاسِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَصِيرُ نُفَسَاءَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ مَا لَمْ تَضَعْ الْوَلَدَ الثَّانِي قَالَا: لِأَنَّهَا حَامِلٌ بَعْدُ وَالْحَامِلُ كَمَا لَا تَحِيضُ فَكَذَلِكَ لَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ أَخُو الْحَيْضِ وَاسْتَدَلَّا بِحُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِ آخِرِ الْوَلَدَيْنِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّفَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَا يَجْعَلُ لِمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ مِنْ الدَّمِ حُكْمَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّحِمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ انْسَدَّ فَمُ رَحِمِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا؛ لِأَنَّ فَمَ الرَّحِمِ قَدْ انْفَتَحَ بِوَضْعِ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ فَالدَّمُ الْمَرْئِيُّ مِنْ الرَّحِمِ كَانَ نِفَاسًا، وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا فَرَاغَ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الشُّغْلِ، وَهُنَا حُكْمُ النِّفَاسِ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ فِي النِّفَاسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَنِفَاسُهَا بَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ مَا لَمْ تَضَعْ الْوَلَدَ الثَّانِيَ وَنِفَاسُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ: هَذَا لَا يَكُونُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ قَالَ: لَا نِفَاسَ لَهَا مِنْ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي يُوسُفَ وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِلُ كَمَا تَضَعُ الْوَلَدَ الثَّانِيَ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَالَى نِفَاسَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ كَمَا لَا تَتَوَالَى حَيْضَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ (قَالَ): فَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ فَرَوَى خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ خَرَجَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ فَهِيَ نُفَسَاءُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَقَلِّ لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الدَّمِ مِنْ الرَّحِمِ وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ الْوَلَدُ فِيهَا فَإِذَا خَرَجَ الْأَكْثَرُ كَانَتْ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكَمَالِ، فَأَمَّا إذَا أَسْقَطَتْ سِقْطًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهِيَ نُفَسَاءُ فِيمَا تَرَى مِنْ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَلَا نِفَاسَ لَهَا، وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَ جَعْلُ الْمَرْئِيِّ مِنْ الدَّمِ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طُهْرٌ تَامٌّ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَمْتَحِنُ السِّقْطَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ، فَإِنْ ذَابَ فِيهِ فَلَيْسَ بِوَلَدٍ فَلَا نِفَاسَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ وَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ نَقُلْ بِهِ لِهَذَا، وَلَكِنَّ حَكَّمْنَا السِّيمَا وَالْعَلَامَةَ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النُّفُوسِ فَهُوَ وَلَدٌ وَالنِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ بِعَقِبِ خُرُوجِ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْآثَارِ فَهَذِهِ عَلَقَةٌ أَوْ مُضْغَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلدَّمِ الْمَرْئِيِّ بَعْدَهَا حُكْمُ النِّفَاسِ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَرَى الدَّمَ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ أَوْ لَا تَرَاهُ، فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ، فَإِنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ بِالدَّمِ الْمَرْئِيِّ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْهَا قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَ رَأَتْ الدَّمَ، وَلَيْسَ لِدَمِ الْحَامِلِ حُكْمُ الْحَيْضِ، وَهِيَ نُفَسَاءُ فِيمَا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَمَا رَأَتْهُ قَبْلَ السِّقْطِ حَيْضٌ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِأَنْ وَافَقَ أَيَّامَ عَادَتِهَا، وَكَانَ مَرْئِيًّا عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا ثُمَّ إنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ مُدَّةً تَامَّةً فَمَا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ اسْتِحَاضَةٌ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُدَّةً تَامَّةً تُكْمِلُ مُدَّتَهَا مِمَّا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَرَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ ثَلَاثَةً دَمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ السِّقْطِ فَحَيْضُهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي رَأَتْهَا قَبْلَ السِّقْطِ، وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ. وَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ تُكْمِلُ مُدَّتَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِمَّا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ مَا قَبْلَ السِّقْطِ، وَرَأَتْهُ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهِيَ نُفَسَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ، فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ مَا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا لَهَا بِعَدْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أَيَّامِ عَادَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ حَيْضًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ فِي بِئْرِ الْمَخْرَجِ سِقْطًا لَا تَدْرِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَرَى الدَّمَ قَبْلَ السِّقْطِ أَوْ لَا تَرَاهُ إلَّا بَعْدَ السِّقْطِ، فَإِنْ لَمْ تَرَ الدَّمَ إلَّا بَعْدَ السِّقْطِ وَأَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشَرَةٌ، وَفِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ فَنَقُولُ: إذَا كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَلَهَا نِفَاسُ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ فِي النِّفَاسِ، وَقَدْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَيَكُونُ نِفَاسُهَا أَكْثَرَ النِّفَاسِ كَالْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَقِيبَ السِّقْطِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا حَائِضٌ وَإِمَّا نُفَسَاءُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهَا بَيْنَ الطُّهْرِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ ثُمَّ بَعْدَهُ طُهْرُهَا عِشْرُونَ وَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ دَمًا، فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ مُسْتَقِلًّا لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا تَرَكَتْ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ قَدْرَ مَا تَتِمُّ بِهِ مُدَّةُ حَيْضِهَا وَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيمَا رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ تَرَكَتْ فَعَلَيْهَا قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ مَا رَأَتْ قَبْلَهُ حَيْضَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ كَانَ ذَلِكَ حَيْضًا فَتَرَدَّدَ حَالُهَا فِيمَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ ثُمَّ إنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ، فَإِنْ رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ عَشَرَةً ثُمَّ أَسْقَطَتْ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ عِشْرِينَ يَوْمًا بَعْدَ السِّقْطِ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ نُفَسَاءُ أَوْ حَائِضٌ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا عَشَرَةً بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهَا بَيْنَ النِّفَاسِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عَشَرَةً أُخْرَى بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي عَشَرَةً بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا. وَإِنْ كَانَتْ رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا ثُمَّ أَسْقَطَتْ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ السِّقْطِ؛ لِأَنَّ السِّقْطَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تَتِمَّةُ مُدَّةِ حَيْضِهَا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهَذَا أَوَّلُ نِفَاسِهَا فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ النِّفَاسِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ النِّفَاسِ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ طُهْرُهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ أَوَّلِ الْحَيْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ آخِرِ الطُّهْرِ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتِّينَ ثُمَّ تَتْرُكُ خَمْسَةً؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ إمَّا أَوَّلُ حَيْضِهَا أَوْ آخِرُ حَيْضِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذَا آخِرُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا أَنْ تَتْرُكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ خَمْسَةٍ فِيهَا يَقِينُ الْحَيْضِ وَأَنْ تَغْتَسِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ. وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَشَكَّتْ فِي حَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ شَكَّتْ فِي حَيْضِهَا أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَتَيَقَّنَتْ بِأَنَّ طُهْرَهَا عِشْرُونَ أَوْ شَكَّتْ فِي طُهْرِهَا أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ وَعَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةٌ أَوْ شَكَّتْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ شَكَّتْ فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَلَمْ تَشُكَّ فِي الطُّهْرِ فَإِنَّهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي هِيَ نِفَاسُهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّهَا عَالِمَةٌ بِمُدَّةِ طُهْرِهَا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا حَائِضٌ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَلَهَا حِسَابَانِ الْأَقْصَرُ وَالْأَطْوَلُ فَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ. وَفِي الْحِسَابِ الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ حَيْضِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الطُّهْرُ عِشْرُونَ، وَفِي الْأَطْوَلِ الْحَيْضُ عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتِّينَ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سَبْعِينَ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَتَغْتَسِلُ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ ثَمَانِينَ ثُمَّ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ تِسْعِينَ فَتَغْتَسِلُ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ خَمْسَةً فَبَلَغَ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الطُّهْرُ عِشْرِينَ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ بَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ حَيْضِهَا خَمْسَةٌ، وَفِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً فَتَتْرُكُ هَذِهِ الْخَمْسَةَ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الشَّكُّ فِي الطُّهْرِ أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِيهِ أَيْضًا فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثُمَّ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا إذَا شَكَّتْ فِيهِمَا فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ، وَفِي الطُّهْرِ أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرُونَ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ دَوْرُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ثَلَثِمِائَةِ يَوْمٍ (قَالَ): امْرَأَةٌ وَلَدَتْ وَانْقَطَعَ دَمُهَا بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ انْتَظَرَتْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ فَالِانْتِظَارُ لِتَوَهُّمِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ، وَالِاغْتِسَالُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ ظَاهِرًا وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ طَلُقَتْ حِينَ وَلَدَتْ صُدِّقَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَزِيَادَةِ مَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَصْدُقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الْفَرَائِضِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْحَيْضِ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ الدَّمُ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِنْ طَالَ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ فِي كَمْ تُصَدَّقُ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيْضِ، وَحَيْضُهَا أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ، وَطُهْرُهَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَثَلَاثُ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ يَكُونُ تِسْعَةً وَطُهْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ فَلِهَذَا صُدِّقَتْ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهَا، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَنْبَغِي أَنْ تُصَدَّقَ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَأَرْبَعِ سَاعَاتٍ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ يَوْمَانِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَجْعَلُ كُلَّ حَيْضَةٍ يَوْمَانِ وَنِصْفٍ وَسَاعَةٍ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُ سَاعَاتٍ وَسَاعَةُ الْإِخْبَارِ وَالِاغْتِسَالِ فَتُصَدَّقُ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَأَرْبَعِ سَاعَاتٍ لِلِاحْتِمَالِ. فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ أَوَّلِ الطُّهْرِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ فَيُقَدَّرُ بِأَقَلِّهِ وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّادِرِ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَلَّ أَوْ يَمْتَدُّ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَيُعْتَبَرُ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ خَمْسَةٌ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا وَعَلَى مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَاجِبٌ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ أَقْرَبُ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْحَيْضُ لَهَا عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّا لَمَّا قَدَّرْنَا طُهْرَهَا بِأَقَلِّ الْمُدَّةِ نَظَرًا إلَيْهَا: يُقَدِّرُ حَيْضَهَا بِأَكْثَرِ الْحَيْضِ نَظَرًا لِلزَّوْجِ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَطُهْرَانِ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَكُونُ ثَلَاثِينَ فَذَلِكَ سِتُّونَ قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ لِتَصْدِيقِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إلَّا بَعْدَ أُمُورٍ كُلُّهَا نَادِرَةٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِيقَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا أَقَلَّ مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا تُؤَخِّرَ الْإِخْبَارَ عَنْ سَاعَةِ الِانْقِضَاءِ وَالْأَمِينُ إذَا أَخْبَرَ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ إلَّا بِأُمُورٍ هِيَ نَادِرَةٌ لَا يُصَدَّقُ كَالْوَصِيِّ إذَا قَالَ: أَنْفَقْت عَلَى الصَّبِيِّ فِي يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا يُصَدَّقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفَقَةً فَتُسْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُحْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتَتْلَفَ فَلَا يُصَدَّقُ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ نَادِرَةً فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَحَيْضَتَانِ تَكُونُ سِتَّةً وَطُهْرُهَا بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ فَطُهْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَحَيْضَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ يَكُونُ عَشَرَةً فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَحَيْضَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ. إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحَامِلِ: إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ نِفَاسَهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا تَحَرُّزًا عَنْ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ بَعْدَ الطُّهْرِ قَبْلَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ حَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ خَمْسَةٌ وَطُهْرَانِ بَيْنَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ فَتُصَدَّقُ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّخْرِيجُ هَكَذَا إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ وَطُهْرَانِ بَيْنَهَا يَكُونُ سِتِّينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْتهَا إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ مِائَةَ يَوْمٍ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَهْلِ الْفَرَائِضِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يَجْعَلُ نِفَاسَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ مَعْلُومٌ كَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَكَمَا قَدَّرْنَا حَيْضَهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ كَذَلِكَ قَدَّرْنَا نِفَاسَهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ ثُمَّ بَعْدَ النِّفَاسِ طُهْرٌ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ سِتِّينَ يَوْمًا كَمَا بَيَّنَّا كَانَ مِائَةَ يَوْمٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلِهَذَا لَا تُصَدَّقُ فِيمَا دُونَ هَذَا الْقَدْرِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْعَلُ نِفَاسَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ النِّفَاسِ هَذَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّاعَاتُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِهَا فَقَدَّرْنَا الزِّيَادَةَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ نِفَاسُهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَعَابَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ يَقُولُ إذَا انْقَطَعَ عَنْ النُّفَسَاءِ دَمُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ فَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْحَرْفِ اعْتَبَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الْعَادَةَ دُونَ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ طُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ بَعْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا لِثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا بَيَّنَّا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا؛ فَلِهَذَا صَدَّقَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَقَلَّ النِّفَاسِ فَإِذَا قَالَتْ: كَانَ سَاعَةً وَجَبَ تَصْدِيقُهَا لِلِاحْتِمَالِ، وَالطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا لِثَلَاثِ حِيَضٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا فَصَدَقَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لِلِاحْتِمَالِ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ فَحَيْضَتَانِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَطُهْرٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ إذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ حَيْضَهَا عَشَرَةً فَحَيْضَتَانِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَطُهْرٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْتهَا إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَهْلِ الْفَرَائِضِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُصَدَّقُ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ وَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ فَطُهْرَانِ وَحَيْضَتَانِ يَكُونُ خَمْسِينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ تِسْعِينَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُصَدَّقُ فِي سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا أَحَدَ عَشَرَ، وَالطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إذَا ضَمَمْته إلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ كَمَا بَيَّنَّا يَكُونُ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُصَدَّقُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ نِفَاسَهَا سَاعَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِهِ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ تُصَدَّقُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 [كِتَابُ الْمَنَاسِكِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَ لَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِأَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَظِيمٍ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِقَصْدٍ، وَعَزِيمَةٍ، وَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ. فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ. وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ النُّسُكِ، وَالنُّسُكُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا، وَلَكِنَّهُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَآكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِلْزَامِ كَلِمَةُ عَلَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا». وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ شَاءَ سِوَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]» وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْبَيْتُ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ مَرَّةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ» وَالْوَقْتُ فِيهِ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّ أَرْكَانَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمِنَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ كَمَا لَا يَتَأَدَّى السُّجُودُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَالْمَالُ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ مِنْ فَقِيرٍ لَا مَالَ لَهُ فَرْضًا. وَأَرْكَانُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْأَفْعَالُ، وَالْمَالُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ لِيَتَيَسَّرَ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَوَاضِعِ أَدَاءِ أَرْكَانِهِ. ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ فَقَالَ إذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ اقْتَدِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27] وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَاطَبَ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْوَاحِدُ يَشُكُّ فِي حَالَةٍ أَنَّهُ يَحُجُّ أَوْ لَا يَحُجُّ فَقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ أَنَّهُ يَحُجُّ فَمَا أَخْطَأَتْ فِرَاسَتُهُ (قَالَ) فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ، وَالْغُسْلُ فِيهِ أَفْضَلُ. هَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ فَاغْتَسَلَ» رَوَاهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ قَالَ مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ، وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ مَعَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَأَدَّى فَعَرِّفْنَا أَنَّ هَذَا الِاغْتِسَالَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ، وَمَا كَانَ لِهَذَا الْمَقْصُودُ فَالْوُضُوءُ يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَكْمَلُ ثُمَّ الْبَسْ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ هَكَذَا ذَكَرَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ»، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَتَعَيَّنَ لِلسِّتْرِ الِارْتِدَاءُ وَالِائْتِزَارُ. وَالْجَدِيدُ وَالْغَسِيلُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الْجَدِيدَ أَفْضَلُ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَزَيَّنْ لِعِبَادَةِ رَبِّك» (قَالَ) وَادْهُنْ بِأَيِّ دُهْنٍ شِئْت، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَيَّبَ، وَيَدْهُنَ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِمَا شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كُنْت لَا أَرَى بِذَاكَ بَأْسًا حَتَّى رَأَيْت أَقْوَامًا يُحْضِرُونَ طِيبًا كَثِيرًا، وَيَصْنَعُونَ شَيْئًا شَنْعًا فَكَرِهْت ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخَةٌ أَيْ مُتَلَطِّخَةٌ بِالْخَلُوقِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا جُبَّتُكَ فَانْزِعْهَا، وَأَمَّا الْخَلُوقُ فَاغْسِلْهُ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجَّتِك» فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَنَا حَدِيثُ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 قَالَتْ كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ». وَفِي رِوَايَةٍ «كُنْت أَرَى وَبِيصَ الْمِسْكِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إحْرَامِهِ فَتَطَيَّبُوا». وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَضَمِّخًا جِبَاهُنَا بِالْمِسْكِ ثُمَّ نُحْرِمُ فَنَعْرَقُ فَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى، وَلَا يَكْرَهُهُ». وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الْخَلُوقَ لَهُ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُوَرَّسِ، وَالْمُزَعْفَرِ. وَمَعْنَى كَرَاهَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ رُبَّمَا يَنْتَقِلُ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِهَذَا، وَلَوْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا تَطَيَّبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، وَكَفَّرَ ثُمَّ تَحَوَّلَ الطِّيبُ مَعَ عَرَقِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ جَدِيدَةٌ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ قَدْ انْقَطَعَ بِالتَّكْفِيرِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَثَرِهِ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى هُنَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ مَحْظُورًا فَتَحَوُّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ جِنَايَةً أَيْضًا فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا، ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْأَثَرِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ إذَا كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَالْحَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَفِيمَا ذَكَرَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدَ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي»؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي أَدَاءِ أَرْكَانِهِ إلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، وَيَبْقَى فِي ذَلِكَ أَيَّامًا فَيَطْلُبُ التَّيْسِيرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْعَبْدِ إلَّا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَسْأَلُ الْقَبُولَ كَمَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ، وَإِسْمَاعِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَلَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ لِمَنْ يُرِيدُ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا يَسِيرٌ عَادَةً، وَلَا تَطُولُ فِي أَدَائِهَا الْمُدَّةُ فَأَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَمُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَوَانِعِ عَادَةً فَلِهَذَا أَمَرَ بِتَقْدِيمِ سُؤَالِ التَّيْسِيرِ. (قَالَ) ثُمَّ لَبِّ فِي دُبُرِ صَلَوَاتِكَ تِلْكَ فَإِنْ شِئْت بَعْدَمَا يَسْتَوِي بِك بَعِيرُك. وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي اشْتِقَاقِ التَّلْبِيَةِ لُغَةً فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَلَبَّ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان فَمَعْنَى قَوْلُ الْقَائِلِ لَبَّيْكَ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ لَبَّيْكَ اتِّجَاهِي لَك يَا رَبِّ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يُلَبِّيَ مِنْ دُبُرِ صَلَوَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ يُلَبِّي حِينَ تَسْتَوِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَذَكَرَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ» إلَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ هَذَا فَقَالَ: «إنَّ بَيْدَاءَكُمْ هَذِهِ تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ». وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ: لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُبُرِ صَلَوَاتِهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَنَقَلُوهُ، وَكَانُوا الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ فَسَمِعَ تَلْبِيَتَهُ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ فَسَمِعَهُ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ». وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ جَوَابُ الدُّعَاءِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ مَنْ هُوَ فَقِيلَ: الدَّاعِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]. وَقِيلَ: الدَّاعِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: إنَّ سَيِّدًا بَنَى دَارًا وَاِتَّخَذَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا. وَأَرَادَ بِالدَّاعِي نَفْسَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ فَصَعِدَ بِأَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ، وَقَدْ بُنِيَ أَلَا فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ، وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الْآيَةَ. فَالتَّلْبِيبَةُ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، ثُمَّ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ اخْتَارَ نَصْبَ الْأَلِفِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْحَمْدَ، وَمَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَمْدَ أَوْ بِأَنَّ الْحَمْدَ فَأَمَّا الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: الْكَسْرُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَافَقَهُ الْفَرَّاءُ؛ لِأَنَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ يَكُونُ ابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ، وَبِنَصْبِ الْأَلِفِ يَكُونُ وَصْفًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَابْتِدَاءُ الثَّنَاءِ أَوْلَى، وَلَا بَأْسَ عِنْدَنَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ وَالْعَرَبِيَّةُ سَوَاءٌ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَهُ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَاكَ يَقُولُ: لَا يَتَأَدَّى بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَهُنَا يَتَأَدَّى؛ لِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هُنَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَرَبِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ، وَبِهَذَا يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ غَيْرَ التَّلْبِيَةِ مِنْ الْأَذْكَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ هُنَا كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ) وَالْمُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ هَكَذَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ آمُرَ أُمَّتِي أَوْ مَنْ مَعِي بِأَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الْأَذْكَارِ وَالدُّعَاءِ الْخُفْيَةُ إلَّا فِيمَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ لِلْإِعْلَامِ، وَالْخُطْبَةِ لِلْوَعْظِ، وَتَكْبِيرَاتُ الصَّلَوَاتِ لِإِعْلَامِ التَّحَرُّمِ وَالِانْتِقَالِ وَالْقِرَاءَةِ لِإِسْمَاعِ الْمُؤْتَمِّ فَالتَّلْبِيَةُ لِلشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ إعْلَامِ الدِّينِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ (قَالَ) فَإِذَا لَبَّيْت فَقَدْ أَحْرَمْت يَعْنِي إذَا نَوَيْت وَلَبَّيْت إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: فَاتَّقِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَالرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْجِدَالِ. أَمَّا قَتْلُ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَالصَّيْدُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَأَمَّا الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ فَالنَّهْيُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ، وَفِي تَفْسِيرِ الرَّفَثِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] وَالثَّانِي الْكَلَامُ الْفَاحِشُ. إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ رَفَثًا بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ فِي إحْرَامِهِ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إنْ تَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 لَمِيسُ اسْمُ جَارِيَتِهِ) فَقِيلَ: لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا نَنْشُدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ. فَقِيلَ لَهُ: مِثْلَ مَاذَا؟ فَقَالَ: مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً إنْ تَصْرِمَا ... سَاقًا بِحِنَّاءٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا ذُكِرَ فِي كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ. وَأَمَّا الْفُسُوقُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعَاصِي، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّ الْحَظْرَ فِي الْإِحْرَامِ أَشَدُّ لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْجِدَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ فِي الطَّرِيقِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ النَّسِيءُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الْآيَةَ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (قَالَ)، وَلَا يُشِيرُ إلَى صَيْدٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذَنْ فَكُلُوا»، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ بِمَا يُزِيلُ الْأَمْنَ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَرُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ، وَمَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ كَالزِّنَا. (قَالَ) وَلَا تُغَطِّ رَأْسَك، وَلَا وَجْهَك، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ، وَلَا يُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُغَطِّي رَأْسَهَا لَا وَجْهَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا». (وَلَنَا) حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حِينَ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ جِرْزَانٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ»، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُغْطِي رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ «، وَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ اشْتَكَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ» فَتَخْصِيصُهُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ بِالرُّخْصَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ فَإِنَّ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْهَا خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَلَأَنْ لَا يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ. (قَالَ) وَلَا تَلْبَسُ قَبَاءً، وَلَا قَمِيصًا، وَلَا سَرَاوِيلَ، وَلَا قَلَنْسُوَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَلَا الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْقَلَنْسُوَةَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَتَنَقَّبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامَ.» (قَالَ) وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْعُصْفُرِ، وَلَا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا بِالْوَرْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ»، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بَعْدَ إحْرَامِهِ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَشْقٍ فَقَالَ نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك مِنْ بَعْدُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَبِيلَتِهِ، وَيَقُولُ رَأَيْت عَلَى طَلْحَةَ فِي إحْرَامِهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَيُعَيِّرُك النَّاسُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى لَا يَنْفَضّ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ نَفْسُ الطِّيبِ لَا لَوْنُهُ، وَبَعْدَ الْغَسْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَبْقَى مِنْ عَيْنِ الطِّيبِ فِيهِ شَيْءٌ (قَالَ)، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا بَعْدَ إحْرَامِك، وَلَا تَدْهُنُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَاجُّ: الشَّعِثُ التَّفِلُ. وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ مُحْرِمًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ.» (قَالَ) وَاذَا حَكَكْت رَأْسَك فَارْفُقْ بِحَكِّهِ حَتَّى لَا يَتَنَاثَرَ الشَّعْرُ فَإِنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قَضَاءِ التَّفَثِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (قَالَ) وَلَا تَغْسِلْ رَأْسَك، وَلِحْيَتَك بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ تَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ، وَتُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِفَةَ الْحَاجِّ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ أَيْضًا. (قَالَ) لَا تَقُصُّ أَظْفَارَك؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَكَانَ مِنْ نَوْعِ قَضَاءِ التَّفَثِ (قَالَ) وَأَكْثَرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَكُلَّمَا لَقِيتَ رَكْبًا، وَكُلَّمَا عَلَوْت شَرَفًا، وَكُلَّمَا هَبَطْتَ وَادِيًا بِالْأَسْحَارِ هَكَذَا نُقِلَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي عَنْهُمْ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ تَلْبِيَةُ الْمُحْرِمِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَتَكْبِيرِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا يُؤْتَى بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ فَكَذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَكَذَلِكَ لِمُحْرِمٍ يُلَبِّي عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالِ إلَى حَالِ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَثْعَمَةَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ: فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَاذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ بِرَاحِلَتِهِ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبِالْأَسْحَارِ. (قَالَ) وَإِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ فَلَا يَضُرُّ لَيْلًا دَخَلْتهَا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ هَذَا دُخُولُ بَلْدَةٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَالرُّوَاةُ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ فَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعِشَاءَ بِذِي طُوًى، ثُمَّ هَجَعَ هَجْعَةً ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ لَيْلًا». وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ بَاتَ بِذِي طُوًى فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا». وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ذَلِكَ لِلْإِشْفَاقِ مَخَافَةَ السَّرَقِ لِيَرَى الْإِنْسَانُ أَيْنَ يَنْزِلُ، وَيَضَعُ رَحْلَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَانَ وَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ فَصَلَّى مَعَهُمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ لَيْلًا (قَالَ) فَادْخُلْ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، وَالْبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ. وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً». وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ تَعْيِينَ شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ فِي مَشَاهِدِ الْحَجِّ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَحْضُرُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْخُشُوعِ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَعَنْ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ يَقُولُ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ». (قَالَ) ثُمَّ ابْدَأْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلِمْهُ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ». وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَقَالَ رَأَيْت أَبَا الْقَاسِمِ بِك حَفِيًّا». وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ، وَبَكَى طَوِيلًا، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ يَا عُمَرُ هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ». وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَفَ فَقَالَ: أَمَا إنِّي أَعْلَمُ إنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك فَبَلَغَتْ مَقَالَتُهُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا: بَلَى، أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ لِلطَّوَافِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْبِيرِ لِلصَّلَوَاتِ فَيَبْدَأُ بِهِ طَوَافَهُ. (قَالَ) إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّكَ رَجُلٌ أَيِّدٌ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْت فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ»؛ وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤْذِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 مُسْلِمًا لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ إنْ اسْتَطَاعَ تَقْبِيلَهُ وَإِلَّا مَسَّ الْحَجَرَ بِيَدِهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ أَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا مِنْ عُرْجُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَهَذَا اسْتِقْبَالٌ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَوْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ فِي جَمِيعِهِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «إنَّ الْحَجَرَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ فَيَشْهَدُ بِالْحَقِّ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ.» (قَالَ) ثُمَّ خُذْ عَنْ يَمِينِك عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَطُفْ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ بَابِ الْكَعْبَةِ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ»، وَمَقَادِيرُ الْعِبَادَةِ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالرَّأْيِ (قَالَ) يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنْهَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَالرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْهَا سُنَّةٌ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فِيهِ، وَالرَّمَلُ هُوَ الِاضْطِبَاعُ، وَهَزُّ الْكَتِفَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدَ جَانِبَيْ رِدَائِهِ تَحْتَ إبْطِهِ، وَيُلْقِيه عَلَى الْمَنْكِبِ الْآخَرِ، وَيَهُزُّ الْكَتِفَيْنِ فِي مَشْيِهِ كَالْمُبَارِزِ الَّذِي يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لَمَّا أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِدَاءَهُ فَرَمَلَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً وَجَلَدًا» فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ». وَرُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرَادَ الرَّمَلَ فِي طَوَافِهِ فَقَالَ: عَلَامَ أَهُزُّ كَتِفَيَّ، وَلَيْسَ هُنَا أَحَدٌ أُرَائِيه، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ فَأَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ». وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِهِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ سَبَبُهُ رَمْيُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه الشَّيْطَانَ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَالرَّمَلُ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَنَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ وَإِنَّمَا الرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَحَوَّلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ حَالَ الْبَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَكَانَ لَا يَرْمُلُ». وَبِهَذَا أَخَذَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» (قَالَ) وَإِنْ زَحَمَك النَّاسُ فِي رَمَلِكَ فَقُمْ فَإِذَا وَجَدْتَ مَسْلَكًا فَارْمُلْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إقَامَةُ السُّنَّةِ فِي الطَّوَافِ لِلزِّحَامِ فَلْيَصْبِرْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ السُّنَّةِ كَالْمَزْحُومِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَصْبِرُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ، وَتَطُوفُ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْوَاطَ الْأُخَرَ مَشْيًا عَلَى هِينَتِك عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُلَّمَا مَرَرْت بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي طَوَافِك هَذَا فَاسْتَلِمْهُ إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ؛ لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا تَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقُومُ إلَيْهَا بِالتَّكْبِيرِ فَكَذَلِكَ تَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَإِنْ افْتَتَحَتْ بِهِ الطَّوَافَ، وَخَتَمْتَهُ بِهِ أَجْزَأَكَ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ فَتَرْكُ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ شَوْطٍ فَإِذَا كَانَ افْتِتَاحُهُ لِلطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَخَتْمُهُ بِذَلِكَ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُجْعَلُ كَالْمُسْتَلِمِ حُكْمًا. (قَالَ) وَلْيَكُنْ طَوَافُك فِي كُلِّ شَوْطٍ وَرَاءَ الْحَطِيمِ. وَالْحَطِيمُ: اسْمٌ لِمَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فُرْجَةٌ يُسَمَّى الْمَوْضِعُ حَطِيمًا، وَحَجَرًا فَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَجَرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَجَرٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مُنِعَ مِنْهُ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَطِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَحْطُومٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مَكْسُورٌ مِنْهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، وَقِيلَ: بَلْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ حَاطِمٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَبَيَانُهُ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فِيهِ حَطَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَطُوفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ فِي طَوَافِهِ، وَلَكِنَّهُ يَطُوفُ وَرَاءَ الْحَطِيمِ كَمَا يَطُوفُ وَرَاءَ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا، وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ، وَقَالَ صَلِّي هُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْتُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرَتْ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَأَدْخَلْتُ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَأَلْصَقْتُ الْعَتَبَةُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِشْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ فِيهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ الْبَيْتِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ فَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ وَلَا يُقَالُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ لَجَازَتْ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفَرْضِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ. (قَالَ) ثُمَّ ائْتِ الْمَقَامَ فَصَلِّ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُمَا تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الْمَقَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ». وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْت فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ»، وَهَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّوَافِ وَاجِبٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ»، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى صَلَّاهُمَا، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الزِّحَامَ يَكْثُرُ عِنْدَ الْمَقَامِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ. (قَالَ) فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهَا فَعُدْ إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلِمْهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ وَالْأَصْلُ إنْ كَانَ كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ عِبَادَةٌ قَدْ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا حِينَ فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْعَوْدِ إلَى مَا بِهِ بَدْءُ الطَّوَافِ فَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي بَعْدَهُ سَعْيٌ فَكَمَا يَفْتَتِحُ طَوَافَهُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَكَذَلِكَ السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَلِهَذَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ (قَالَ) ثُمَّ اُخْرُجْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 إلَى الصَّفَا فَمِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ خَرَجَ إلَّا أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسُنَّةٍ» بَلْ إنَّمَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْآنَ بَابَ الصَّفَا فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِالصَّفَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ قَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.} [البقرة: 158] (قَالَ) وَقُمْ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَتُثْنِي عَلَيْهِ، وَتُكَبِّرُ وَتُهَلِّلُ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ يَدْعُو». وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يَحْيَى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ فَلَمَّا انْتَصَبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ، وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا لِيَصِيرَ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ» فَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ كَانَ لِيَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَيَأْتِيَ بِالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْعَلَ الثَّنَاءَ مُقَدِّمَةَ دُعَائِهِ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَفْعَلُهُ الدَّاعِي عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ هُنَا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالُ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا حَالُ خَتْمِ الْعِبَادَةِ فَإِنْ خَتَمَ الطَّوَافَ بِالسَّعْيِ يَكُونُ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ لَا عِنْدَ ابْتِدَائِهَا كَمَا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ. (قَالَ) ثُمَّ اهْبِطْ مِنْهَا نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَامْشِ عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ بَطْنَ الْوَادِي فَاسْعَ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعْيًا فَإِذَا خَرَجْتَ مِنْهُ تَمْشِي عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَتَصْعَدَ عَلَيْهَا، وَتَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَتُثْنِي عَلَيْهِ وَتُهَلِّلَ وَتُكَبِّرَ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ تَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك. وَلِلنَّاسِ فِي أَصْلِ السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي كَلَامٌ فَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ فِعْلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرَ حِينَ كَانَتْ فِي طَلَبِ الْمَاءِ كُلَّمَا صَارَ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ النَّظَرِ إلَى وَلَدِهَا كَانَتْ تَسْعَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 حَتَّى تَنْظُرَ إلَى وَلَدِهَا شَفَقَةً مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ فَصَارَ سُنَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُسُكِهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَنَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ، وَلَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ كَمَا لَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِي تَقْدِيرِ الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ. (قَالَ) فَطُفْ بَيْنَهُمَا هَكَذَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَتَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَتَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَهَابَهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ وَرُجُوعَهُ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ آخَرُ، وَالِيه أَشَارَ فِي قَوْلِهِ يَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ رُجُوعُهُ، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ. وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا. (قَالَ) ثُمَّ تُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا لَا تَحِلُّ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ مَا لَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ. (قَالَ) وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَك، وَتُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مُشَبَّهٌ بِالصَّلَوَاتِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إلَّا بِخَيْرٍ، وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ». وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ سَائِرِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاحِدَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِلْحَجِّ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَوْ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُتَنَفِّلًا، وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ (قَالَ) حَتَّى تَرُوحَ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَتَبِيتَ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَتُصَلِّي بِهَا الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ. هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ». (قَالَ) ثُمَّ تَغْدُو إلَى عَرَفَاتٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ جَبْرَائِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَتَى إبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَأَمَرَهُ فَرَاحَ إلَى مِنًى، وَبَاتَ بِهَا، ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ. (قَالَ) وَتَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النَّاسِ فَيَنْزِلُ حَيْثُ يَنْزِلُونَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ (قَالَ) فَإِنْ صَلَّيْت الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ فَحَسَنٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ قَالَ: «لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» ، وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَتَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُرَادِقَهُ فَقَالَ أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فَقَالَ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةَ، فَقَالَ: انْتَظَرَنِي حَتَّى أَغْتَسِلَ، فَانْتَظَرَهُ فَاغْتَسَلَ وَرَاحَ إلَى الْمُصَلَّى. وَالِاغْتِسَالُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّةٌ فَإِنْ اكْتَفِي بِالْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَكَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْلِيمُ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ عَلَيْهِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ. وَلِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ وَلَا يَجْتَمِعُونَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ، وَصَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ إذَا كَانَ مُسَافِرًا، ثُمَّ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُ فَيَقُومُ ثَانِيَةً فَيُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفَةِ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْوُقُوفِ الْمَقْصُودِ، وَلِئَلَّا يَنْقَطِعَ وُقُوفُهُ فَلَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالنَّافِلَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِيَحْصُلَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يُعِيدُ الْإِقَامَةَ لِلْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُعِيدُ الْإِقَامَةَ لَهُ إعْلَامًا لِلنَّاسِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالتَّطَوُّعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: مَادَامَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَاشْتِغَالُهُ بِالنَّفْلِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ. (قَالَ) وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْجَمْعَ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُ مَعَ الْإِمَامِ قَالَ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَلَّلَ فَقَالَ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ إنَّمَا قُدِّمَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَتِهِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْمَوْقِفَ هُبُوطٌ وَصُعُودٌ لَا يُمْكِنُ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِيهَا فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا وَالِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَيَنْقَطِعُ وُقُوفُهُمْ، وَامْتِدَادُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فَلِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ جَوَّزَ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْمُنْفَرِدِ وَاَلَّذِي يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ، وَقَاسَ هَذَا الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ الثَّانِي بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا النُّسُكُ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْمَنَاسِكِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِمَامُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَهُوَ الْمَوْضُوعُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مُخْتَصٌّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِمَامٍ كَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِيهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ أَدَاءُ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ فَأَمَّا هَذَا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا الزَّمَانِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ لِلْجَمَاعَةِ لَا لِلْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ وُقُوفِهِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَاقِفٌ فَلَا يَنْقَطِعُ وُقُوفُهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ لِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إذَا أَدَّوْهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ فَيَخْتَارُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضُوعًا خَالِيًا يُنَاجِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ خَلْوَتِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمَامِ الْأَجَلِّ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا (قَالَ) وَلَوْ فَاتَهُ الظُّهْرُ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَدْرَكَ الْعَصْرَ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْعَصْرِ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِوُقُوعِ التَّغْيِيرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَصْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالتَّبَعِ لِلظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ أُدِّيَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِشَاءِ مَعَ الْوَتْرِ فَكَمَا أَنَّ الْوَتْرَ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَذَلِكَ الْعَصْرُ تَبَعٌ لِلظُّهْرِ هُنَا، وَلَمَّا جُعِلَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي التَّبَعِ كَانَ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَصْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَاءِ الظُّهْرِ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَدَّدَ الْوُضُوءَ بَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَعَلَى هَذَا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ شَرْطٌ لِأَدَاءِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حَتَّى إنَّ الْحَلَالَ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَالْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْزِيه، وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ بِزَوَالِ الشَّمْسِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْجَمْعِ، وَيَخْتَصُّ بِهَذَا الْجَمْعِ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى الزَّوَالِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ بِهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُلَبِّي، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ. وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّهُ يَقِفُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْمَوْقِفِ، الْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَيَدْعُو فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الِاسْتِمَاعِ، وَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ (قَالَ)، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ إنْ شَاءَ رَاكِبًا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَجَعَلَ نَحْرَهَا إلَى بَطْنِ الْمِحْرَابِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو»، وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْت بِهِ الْقِبْلَةَ»، وَإِنْ اخْتَارَ بِوُقُوفِهِ مَوْضِعًا آخَرَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَ لِحَدِيثِ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ». وَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ، وَادِي مُحَسِّرٍ، وَفِي وُقُوفِهِ يَدْعُو هَكَذَا» رَوَاهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَاتٍ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. . . إلَى آخِرِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي». حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يَشَاءُ وَاجْتَهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ. (قَالَ) وَيُلَبِّي فِي هَذَا الْمَوْقِفِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَاجُّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ بِاللِّسَانِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ فَإِنَّ مُعْظَمَ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 بِعَرَفَةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ». وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا شَيْخُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا زَالَ يُلَبِّيَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا إلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الرَّمْيِ يَكُونُ (قَالَ) وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ عَلَى هِينَتِهِ عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ مِنْهَا». وَرُوِيَ «أَنَّهُ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إنْ خَافَ الزِّحَامَ فَتَعَجَّلَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُدُودِ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَهَابِ الْإِمَامِ مَعَ النَّاسِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يُطَوِّلَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ، ثُمَّ أَفَاضَتْ. (قَالَ) وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ، وَلَا فِي إيضَاعِ الْإِبِلِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ». وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هِينَتِهِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَطْنِ الْوَادِي أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ: إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُفَارِقًا دَيْنَ النَّصَارَى دِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا » فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْإِيضَاعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُنَّةٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ رَاحِلَتَهُ كَلَّتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعَثَهَا فَانْبَعَثَتْ كَمَا هُوَ عَادَةُ الدَّوَابِّ لَا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ الْإِيضَاعَ (قَالَ)، وَلَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصَّلَاةُ أَمَامَك»، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا الْوَقْتُ أَوْ الْمَكَانُ، وَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 يُصَلِّ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ إلَى الْمُزْدَلِفَة فَإِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَتَحَرَّزُ عَنْ النُّزُولِ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ «فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ»، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَرْوِي «أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ». وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ سَمَّى الْأَذَانَ إقَامَةً، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ». يُرِيدُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، ثُمَّ الْعِشَاءُ هُنَا مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إفْرَادِ الْإِقَامَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا. وَإِنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِنَفْلٍ أَوْ شُغْلٍ آخَرَ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفْرَدُ الْإِقَامَةُ لِلْعِشَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَعَشَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ. (قَالَ) ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا فَإِذَا انْشَقَّ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ. هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بُسِطَ لَهُ شَيْءٌ فَبَاتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ». «وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ»، وَلِأَنَّ الْإِسْفَارَ بِالْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهُ، وَفِي الْإِسْفَارِ بَعْضُ التَّأْخِيرِ فِي الْوُقُوفِ فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ كَانَ أَوْلَى (قَالَ) ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ النَّاسِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُلَبِّي، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ، وَهَذَا الْوُقُوفُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مُشَارٌ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] الْآيَةَ، وَقَدْ «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيْت يَدَيْهِ عِنْدَ نَحْرِهِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ يَدْعُو كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكَيْنِ»، وَإِنَّمَا تَمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَوْقِفِ فَإِنَّهُ دَعَا لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا، وَالنَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 الْمَوْقِفِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ الْحُمْسَ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، وَيَقُولُونَ لَا يُعَظَّمُ غَيْرُ الْحَرَمِ حَتَّى «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَةَ جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ، وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ هَذَا مِنْ الْحُمْسِ فَمَا بَالَهُ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا أَسْفَرَ جِدًّا دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ دَفَعَ إلَى مِنًى. وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ، وَصَارَتْ كَعَمَائِمَ الرِّجَال عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ دَفَعُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ. فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِفِعْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَإِذَا أَتَى مِنًى يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَتَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يَعْرُجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَالَ: أَوَّلُ نُسُكِنَا هُنَا بِمِنًى أَنْ نَرْمِيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي» لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَرَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يَرْمِي مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يُنَاوِلَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَأَخَذَهُنَّ بِيَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا». وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا». وَالْمَقْصُودُ اتِّبَاعُ سُنَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ رُبَّمَا يُصِيبُ إنْسَانًا فَيُؤْذِيه وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَمَّا قَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الرَّمْيَ وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَجَعَلَ يَقُولُ عِنْدَ رَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا»، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ مِثْلَ مَا قُلْت (قَالَ) وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَنَا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ الرَّمْيُ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، وَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَهُمْ وَيَقُولُ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ». وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ قَالَ أَيْ بَنِيَّ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ» فَنَعْمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ بَعْدَ الصُّبْحِ يَجُوزُ، وَتَأْخِيرُهُ إلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا»، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ دُونَ الْأُولَى، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذْ لَا يَجْتَمِعُ الرَّمْيُ وَالْوُقُوفُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَوَقْتُ الرَّمْيِ يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ وَقْتُ الرَّمْيِ هُوَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَقْتُ الرَّمْيِ. (قَالَ) وَلَا يَرْمِي يَوْمَئِذٍ مِنْ الْجِمَارِ غَيْرَهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (قَالَ) وَلَا يَقُومُ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَعْمَالٌ يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُمْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي مَنْزِلَهُ فَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَالتَّحَلُّلُ بِالْحَلْقِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَقَضَاءُ التَّفَثِ بِالْحَلْقِ يَكُونُ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَبَحَ هَدَايَاهُ دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَهْوَى إلَيْهِ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ، وَقَسَّمَ شَعْرَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ حَلَقَ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ وَأَعْطَى شَعْرَهُ أُمَّ سُلَيْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -»، وَلَمْ يَذْكُرْ الذَّبْحَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ تَطَوَّعَ بِذَبْحِ الْهَدْيِ فَهُوَ حَسَنٌ يَذْبَحُهُ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا أَنْ نَرْمِيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَقَالَ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَقِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ حَتَّى قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ» فَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 ظَاهَرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُحَلِّقِينَ فَدَلَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ. (قَالَ) ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْحَلْقِ، وَالثَّانِي بِالطَّوَافِ. فَبِالْحَلْقِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ إلَّا النِّسَاءَ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. وَقَالَ اللَّيْثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا النِّسَاءَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا تَرْتَفِعُ حُرْمَتُهُمَا إلَّا بِتَمَامِ الْإِحْلَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَتْلُ الصَّيْدِ لَيْسَ نَظِيرَ الْجِمَاعِ أَلَّا يَرَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ، وَقَتْلَ الصَّيْدِ لَا يُفْسِدُهُ فَكَانَ هُوَ نَظِيرَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالطَّوَافِ كَنَفْسِ الْجِمَاعِ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فَكَانَ قِيَاسَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. وَلِهَذَا الْأَصْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حُرْمَةُ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَحِلُّهُ مُؤَخَّرٌ أَيْضًا إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ شَرْعًا، وَفِي ذَلِكَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْفَرْجِ سَوَاءٌ (قَالَ) ثُمَّ يَزُورُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَاعَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَلَا يُؤَخِّرُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ أَتَى بِمَكَّةَ لَيْلًا فَطَافَ»، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ «أَنَّهُ فِي أَيَّامِ مِنًى كَانَ يَأْتِي مَكَّةَ بِاللَّيْلِ مُسْتَتِرًا فَيَطُوفُ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ ظَنَّ أَنَّ طَوَافَهُ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ» فَنَقَلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنُ الْحَجِّ، وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ أَدَاؤُهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالتَّضْحِيَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ السَّعْيَ» عَقِيبَ هَذَا الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قِيلَ: السَّعْيُ وَاجِبٌ أَوْ رُكْنٌ وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَا هُوَ سُنَّةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ هَذَا الْوَاجِبِ عَقِيبَ طَوَافٍ هُوَ سُنَّةٌ لِلتَّيْسِيرِ فَإِنَّ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَاجِّ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ السَّعْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فِي هَذَا الْيَوْمِ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ أَوَّلِ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ فَقَدْ أَتَى بِهِ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَكِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ يَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ وَاجِبًا كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا، ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْلَالُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى فَإِذَا كَانَ الْغَدُ يَوْمَ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ فَيَقُومُ فِيهِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَقُومُ حَيْثُ يَقُومُ النَّاسُ فَيَصْنَعُ فِي قِيَامِهِ كَمَا صَنَعَ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَهَا. هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُفَسِّرًا فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ»، وَبِجَمْعٍ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقِيمُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَى، وَالْوُسْطَى، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ الرَّفْعُ لِلدُّعَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي دُعَائِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ، وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ»، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَحَالُ الْفَرَاغُ مِنْهُ حَالُ وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَبِالْفَرَاغِ مِنْهُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يُقِيمُ بَعْدَهُ لِلدُّعَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكِتَابُ أَنَّ الرَّمْيَ مَاشِيًا أَفْضَلُ أَمْ رَاكِبًا، وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْجَرَّاحِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فَقُلْت: مَاشِيًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ فَقُلْت: رَاكِبًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ رَمْيٍ كَانَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْت مِنْ عِنْدَهُ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْتُ الصُّرَاخَ لِمَوْتِهِ فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَاَلَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا» إنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَنْفِرُ إنْ أَحَبَّ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْغَدِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. (قَالَ) وَقَدْ كَانَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ إذْ قَدَّمَهُمْ قَبْلَهُ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ شُغْلُ الْقَلْبِ مِنْ إتْمَامِ سُنَّةِ الرَّمْيِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ، فَلِهَذَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ. (قَالَ) ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً، وَهَذَا اسْمُ مَوْضِعٍ «قَدْ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يُسَمَّى الْمُحَصَّبَ وَالْأَبْطَحَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: لَيْسَ النُّزُولُ فِيهِ بِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» اتِّفَاقًا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْدًا عَلَى مَا رَوَى أَنَّهُ «قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمِنًى إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هِجْرَانَ بَنِي هَاشِمٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نُزُولُهُ إرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَيَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ (قَالَ) ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَطَوَافَ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ بِهِ الْبَيْتَ، وَيَصْدُرُ بِهِ عَنْ الْبَيْتِ. (قَالَ) ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ، وَيَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْتَزِمَهُ سَاعَةً يَبْكِي، وَيَتَشَبَّثَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَيُلْصِقَ جَسَدَهُ بِالْجِدَارِ إنْ تَمَكَّنَ، ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى بَدَنِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ، وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فَوَاتِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ الَّذِي أَرَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وَقَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ» (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بَاتَ بِهَا فَنَامَ مُتَعَمِّدًا أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْإِسَاءَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُؤَدِّبُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَامِ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَلَكِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِهِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ فِي لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ»، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا مَا رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْتُوتَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ تَبَعٌ لِلرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَالْبَيْتُوتَةِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْقِرَانِ] (بَابُ الْقِرَانِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ (وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ) أَحَدُهَا فِي تَفْسِيرِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ: فَالْقِرَانُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا أَوْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَرَنَ الشَّيْءَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّمَتُّعُ هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَالْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ أَوَّلًا، ثُمَّ يَعْتَمِرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ فِي السَّفَرِ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يَكُونُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ [فَصَلِّ الْأَفْضَل مِنْ أَنْوَاع الْحَجّ] (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ هُوَ الْقِرَانُ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّمَتُّعُ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ، وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ الْقِرَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ فَالشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَأَنَا مِمَّنْ كُنْت أُفْرِدُ»، وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَإِنَّمَا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَرَّةً فَمَا كَانَ يَتْرُكُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيمَا يُؤَدِّيه مَرَّةً وَاحِدَةً»، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ رُخْصَةٌ كَمَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ تَعَبِكِ وَنَصَبِكِ»، وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ، وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ، وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ، وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً، وَيَحْلِقُ لَهُمَا حَلْقًا وَاحِدًا، وَلِأَجْلِ هَذَا النُّقْصَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 الدَّمُ جَبْرًا، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَأَدَاءُ النُّسُكِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إدْخَالِ النُّقْصَانِ وَالْجَبْرِ فِيهَا وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ»، وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ». وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كُنْت آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي، وَهُوَ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ جَمَعُوا رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَعَشَرَةٌ مِنْهُمْ تَرْوِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنُوَفِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ «لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ فَسَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَّ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنَقَلُوا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَبَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، ثُمَّ لَبَّى بِهِمَا فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا»، وَكُلٌّ نَقَلَ مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رَوَيْنَا مِنْ تَوْفِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فِعْلِهِ نَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِّلُوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ مَعْنَى الْوَصْلِ وَالتَّتَابُعِ فِي الْعِبَادَةِ. وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ صَلَوَاتِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ زِيَادَةَ نُسُكٍ، وَهُوَ إرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ. وَالْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَإِنَّ دَمَ الْقِرَانِ عِنْدَهُ دَمُ جَبْرٍ حَتَّى لَا يُبَاحَ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَعِنْدَنَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَدَمُ الْجَبْرِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ، وَإِنَّ سَبَبَهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ، وَدَمُ الْجَبْرِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، وَقَدْ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَدَايَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قِطْعَةٌ فَتُطْبَخَ لَهُ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا»، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا فَدَلَّ أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلِهَذَا جَعَلَ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ نُسُكٍ إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعْجِيلِ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَاسْتِدَامَةِ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا، وَفِي حَقِّ التَّمَتُّعِ الْعُمْرَةُ مِيقَاتِيَّةٌ، وَالْحَجَّةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ مَكِّيَّةٌ يُحْرِمُ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَالْمُفْرِدُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْحِلِّ، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِفْرَادَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكُوفَةِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا مَقْصُودًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى النَّاسَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَا أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلُوَ الْبَيْتُ عَنْ الزُّوَّارِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْتَمِرُوا بِسَفَرٍ مَقْصُودٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْبَيْتُ مِنْ الزُّوَّارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّمَتُّعُ مَكْرُوهًا عِنْدَهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: كُنْت امْرَأً نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَتَيْنِ عَلَيَّ فَقَرَنْتُ بَيْنَهُمَا فَلَقِيتُ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا قَالَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ مَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَتَأَهُّبُهُ لِلْإِحْرَامِ كَتَأَهُّبِ الْمُفْرِدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ. وَكَذَلِكَ يُلَبِّي بِهِمَا وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَلِأَنَّهُ فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يَبْدَأُ بِالْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ يَبْدَأُ فِي التَّلْبِيَةِ بِذِكْرِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ الصَّلَاةِ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ (قَالَ) ثُمَّ يَبْدَأُ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي الْحَجِّ ثُمَّ يَطُوفُ لِلْحَجِّ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى لَهُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ لِحَجَّتِهِ، وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا» هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مِنْهُ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُفْرِدًا، ثُمَّ رَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَلِعُمْرَتِكِ» «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكْتَفِي لَهُمَا بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَفَرٍ وَاحِدٍ، وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ التَّدَاخُلُ فِي الْأَرْكَانِ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ فَهِيَ مِنْ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ مَعَ الِاغْتِسَالِ فَكَمَا يَدْخُلُ الْوُضُوءُ فِي الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ قَرَنَ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ»، وَحَدِيثُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ قَرَنَ، وَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي الْكِتَابِ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ لِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ نُسُكٍ بِكَمَالِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ أَشْوَاطُ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ. وَمَعْنَى الدُّخُولِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْوَقْتُ أَيْ دَخَلَ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالسَّفَرُ وَالتَّلْبِيَةُ وَالْحَلْقُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا السَّفَرُ لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ النُّسُكِ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَرْكَانُ الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَدَاءَ شَفْعَيْنِ مِنْ التَّطَوُّعِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يَجُوزُ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الشَّفْعَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَالْوُضُوءُ مَعَ الِاغْتِسَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ لِيَقُومَ إلَى الْمُنَاجَاةِ طَاهِرًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُنَا كُلُّ نُسُكٍ مَقْصُودٌ فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ أَعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَاضَتْ بِسَرَفٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ) ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ حَتَّى إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَتُجْزِئُهُ الشَّاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ»، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ، وَالْجَزُورُ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] فَمَا كَانَ أَقْرَبَ فِي التَّعْظِيمِ فَذَلِكَ أَفْضَلُ، وَقَدْ «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»، وَلَوْ كَانَ سَاقَ هَدَايَاهُ مَعَ نَفْسِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ وَقَلَّدَهَا، وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَلَّدَهَا بِيَدِهِ» «، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا». وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»، وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَحَلُّلُ الْقَارِنِ بِالذَّبْحِ لَا بِالْحَلْقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ حَتَّى أَنْحَرَ، ثُمَّ أَحْلِقَ بَعْدَهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا لَا يَحِلُّ فِي أَثْنَائِهَا كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ دُونَ الذَّبْحِ (قَالَ) وَإِذَا طَافَ الرَّجُلُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ التَّطَوُّعَ أَوْ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ فَهُوَ طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ كَمَنْ نَوَى بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّطَوُّعَ يَكُونُ لِلزِّيَارَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ، وَهَذَا وَاجِبٌ. (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَخْرُجَ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلِ مَكَّةَ بَعْدَ طَوَافِ الصَّدَرِ يُعِيدُ طَوَافَ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ كَاسْمِهِ يَكُونُ لِلصَّدَرِ فَإِنَّمَا يُحْتَسَبُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ حِينَ يَصْدُرُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» يَشْهَدُ لِهَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا قَدِمَ مَكَّةَ إلَّا لِأَدَاءِ النُّسُكِ فَعِنْدَمَا تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلصَّدَرِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ آخِرَ نُسُكِهِ طَوَافُ الصَّدَرِ لَا آخِرَ عَمَلِهِ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ الْمُفْرَدَةُ إذَا أَرَادَهَا يَتَأَهَّبُ لَهَا مِثْلَ مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهَا عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، وَأَقْرَبُ الْجَوَانِبِ التَّنْعِيمُ وَعِنْدَهُ مَسْجِدُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ كُلُّ نِسَائِك يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ، وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ؟ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا يَعْنِي مَكَانَ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَرَفَ النَّاسُ مَوْضِعَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ إذَا أَرَادُوا الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ مَا نَزَلَ بِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَمْرٌ تَكْرَهُهُ إلَّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجٌ. ثُمَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ يَتَّقِي مَا يَتَّقِيه فِي إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا «حَتَّى يَقْدَمَ مَكَّةَ، وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ حِينَ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ». وَالِاخْتِلَافُ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ عِنْدَنَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ حِينَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ هُوَ الرُّكْنُ فِي الْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ فَكَمَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَهُنَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَا الطَّوَافُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ وُقُوعَ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ وَرُؤْيَةَ الْبَيْتِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا الْمَقْصُودُ الطَّوَافُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مَعَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجِّ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا (وَالثَّانِي) أَنَّ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ يَحْلِقُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا حَلْقَ عَلَيْهِ إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَقَطْ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَهُوَ بُشْرَى لَهُمْ بِمَا عَايَنُوهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلِأَنَّ التَّحَرُّمَ لِلْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ فَكَمَا سَوَّى بَيْنَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ فِي التَّحَرُّمِ فَكَذَلِكَ فِي التَّحَلُّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ سَوَّى بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي التَّحَرُّمِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّحَلُّلِ بِالتَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ هَذَا [أَرَادَ التَّمَتُّعَ، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا] (قَالَ) وَكَذَا إنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَلَالًا، وَقَدْ بَيَّنَّا صُورَةَ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقْتُ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ كَانَ أَدَاءُ الْأَعْمَالِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْأَعْمَالِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَإِحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِحَيْثُ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَصْبِرَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَجَّ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَيَقُولُ لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِلْمَامَ مَاذَا يَكُونُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَكِّيَّ لَهُ الْمُتْعَةُ وَالْقِرَانُ، وَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَالتَّمَتُّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَأَتَى بَلْدَةً أُخْرَى غَيْرَ بَلْدَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ كُوفِيًّا فَأَتَى الْبَصْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صُورَةَ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً، وَهَذَا حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا إذَا عَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَهُوَ وَاَلَّذِي أَلَمَّ بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ قَوْمًا سَأَلُوهُ فَقَالُوا: اعْتَمَرْنَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ زُرْنَا الْقَبْرَ، ثُمَّ حَجَجْنَا فَقَالَ: أَنْتُمْ مُتَمَتِّعُونَ، وَلِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى حَجَّ، وَعَادَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا (قَالَ) وَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ الرَّوَاحَ إلَى مِنًى لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَلَبَّى بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ شَاءَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ فَسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا جَعَلْنَاهَا بِظَهْرٍ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ بِمَكَّةَ حَلَالٌ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ يُحْرِمُ مِنْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ وَرُكْنُ الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ، وَهُوَ مُؤَدًّى فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ، وَمُعْظَمُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ الْوُقُوفُ، وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ. (قَالَ) وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَمَا قُدِّمَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»، وَلَمَّا «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ: أَحَمْزُهَا». (قَالَ) وَيَرُوحُ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيَعْمَلُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمَ الْمُتْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ثُمَّ يَحْلِقُ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَيَزُورُ الْبَيْتَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ عَلَى هِينَتِهِ هُوَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمَلَ فِي أَوَّلِ طَوَافِ الْحَجِّ سُنَّةٌ، وَالسَّعْيَ عَقِيبَ أَوَّلِ طَوَافٍ فِي الْحَجِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ فِي الْحَجِّ هُنَاكَ، وَسَعَى بَعْدَهُ فَلِهَذَا لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ مَرَّةً، وَإِنْ كَانَ حِينَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَاقَ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] إلَى قَوْلِهِ {وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2] وَلَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُقَلِّدَ الْهَدْيَ بَعْدَمَا يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَلَّدَ الْهَدْيَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَسَاقَهُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ صَارَ مُحْرِمًا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَلَائِدِ قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فَدَلَّلَ أَنَّهُ بِالتَّقْلِيدِ يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالتَّلْبِيَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ فَإِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى أَقَامَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ سَوْقَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا». وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَمَا إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ». فَإِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِحْرَامَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجَّتِهِ فَعَلَ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى رَمَلَ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ طَافَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. (قَالَ) وَلَا يَدَعُ الْحَلْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُلَبِّدًا أَوْ مُضَفِّرًا أَوْ عَاقِصًا، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَ رَأْسِهِ عَلَى هَامَتِهِ، وَيَشُدَّهُ بِصَمْغٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ كَاللِّبْدِ، وَالتَّضْفِيرُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْرَهُ ضَفَائِرَ، وَالْعَقْصُ هُوَ الْإِحْكَامُ، وَهُوَ أَنْ يَشُدَّ شَعْرَهُ حَوْلَ رَأْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ، وَلَا يَدَعُ مَا هُوَ الْأَفْضَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ «لَبَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ» كَمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، وَمَعَ ذَلِكَ حَلَقَ (قَالَ) وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ أَلَا تَرَى «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَصَفَ لَهَا حَالَ نَفْسِهِ فِي الِاغْتِسَالِ فَدَلَّ أَنَّ حَالَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّهَا تَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الدُّرُوعِ وَالْقُمْصَانِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفِّ وَالْقُفَّازَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ» كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ»، وَفِي لُبْسِ الْإِزَارِ، وَالرِّدَاءِ يَنْكَشِفُ بَعْضُ الْبَدَنِ عَادَةً، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى أَسْتَرِ الْوُجُوهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ فَلِهَذَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ وَالْخُفَّيْنِ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا، وَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنْهَا عَوْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ تُجَافِي عَنْ وَجْهِهَا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنَّا فِي الْإِحْرَامِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكْشِفُ وُجُوهَنَا فَإِذَا اسْتَقْبَلَنَا قَوْمٌ أَسْدَلْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُصِيبَ وُجُوهَنَا»، وَلَا تَلْبَسُ الْمَصْبُوغَ بِوَرْسٍ، وَلَا زَعْفَرَانٍ، وَلَا عُصْفُرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ غُسِلَ؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ فِي حَقِّهَا مِنْ اللُّبْسِ كَانَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضِرْوَةَ فِي لُبْسِ الْمَصْبُوغِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَزَيُّنٌ، وَهِيَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ كَالرَّجُلِ، وَلَا حَلْقَ عَلَيْهَا إنَّمَا عَلَيْهَا التَّقْصِيرُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ، وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ زِينَةٌ لَهَا كَاللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ فَكَمَا لَا يَحْلِقُ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا تَحْلِقُ هِيَ رَأْسَهَا، وَلَا رَمَلَ عَلَيْهَا فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ لِإِظْهَارِ التَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِتُظْهِرَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ شَيْءٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 مِنْ عَوْرَتِهَا فِي رَمَلِهَا، وَسَعْيِهَا أَوْ تَسْقُطَ لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا فَلِهَذَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَتُؤْمَرُ بِأَنْ تَمْشِيَ مَشْيًا فَهَذَا الْقَدْرُ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي الْفَرْقِ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا إنَّهَا لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَيْضًا لِمَا فِي رَفْعِ صَوْتِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ وَالزَّحْمَةِ مَعَهُمْ فَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إلَّا إذَا وَجَدَتْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا عَنْ الرِّجَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ الطَّوَافِ] (بَابُ الطَّوَافِ) اعْلَمْ بِأَنَّ الطَّوَافَ أَرْبَعَةٌ ثَلَاثَةُ فِي الْحَجِّ وَوَاحِدٌ فِي الْعُمْرَةِ: أَمَّا أَحَدُ الْأَطْوِفَةِ فِي الْحَجِّ فَهُوَ طَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْقُدُومِ وَطَوَافَ اللِّقَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى بِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَهَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِلتَّعْظِيمِ فَالنُّسُكُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الزِّيَارَةِ يَكُونُ وَاجِبًا بِمَنْزِلَةِ الذِّكْرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالطَّوَافِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَبِالْإِجْمَاعِ طَوَافُ يَوْمِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ فَمَا يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ رُكْنٌ وَاحِدٌ فِي الْإِحْرَامِ وَاجِبًا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَعَلْنَاهُ سُنَّةً لِهَذَا بِخِلَافِ طَوَافِ الصَّدَرِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ وَاجِبًا لَا يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الطَّوَافِ وَاجِبًا فِي الْإِحْرَامِ، وَالطَّوَافُ فِي الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ ثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ هُنَا كَالتَّكْبِيرِ هُنَاكَ، وَكَمَا أَنَّ ثَنَاءَ الِافْتِتَاحِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ التَّكْبِيرِ سُنَّةٌ فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ. وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ السَّعْيَ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ وَاجِبٌ، وَلَا يَكُونُ الْوَاجِبُ بِنَاءً عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ عَنْ هَذَا فِيمَا مَضَى. وَالطَّوَافُ الثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، وَالْمُرَادُ بِهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ طَوَافُ الصَّدَرِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 يَأْتِي بِهِ الْآفَاقِيُّ دُونَ الْمَكِّيِّ، وَمَا يَكُونُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَالْآفَاقِيُّ وَالْمَكِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ»، وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَتَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِرُخْصَةِ التَّرْكِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَيْضًا، وَكَمَا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِتَمَامِ التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَطَوَافُ الصَّدَرِ لِانْتِهَاءِ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ يَنْتَهِي مُقَامُهُ بِهَا، وَهُوَ الْآفَاقِيُّ أَيْضًا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ دُونَ الْمَكِّيِّ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيُسَمَّى هَذَا طَوَافَ الْوَدَاعَ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ دُونَ مَنْ لَا يُوَدِّعُهُ فَأَمَّا الطَّوَافُ الرَّابِعُ فَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الرُّكْنُ فِي الْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ طَوَافُ الصَّدَرِ، وَلَا طَوَافُ الْقُدُومِ أَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَلِأَنَّهُ كَمَا وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي هَذَا النُّسُكِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقُدُومِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ فَيَأْتِي بِالطَّوَافِ الْمَسْنُونِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ، وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدَرِ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْعُمْرَة طَوَافُ الصَّدَرِ أَيْضًا فِي حَقِّ مَنْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا إذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ كَمَا فِي الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِي الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ، وَمَا هُوَ مُعْظَمُ الرُّكْنِ فِي النُّسُكِ لَا يَتَكَرَّرُ عِنْدَ الصَّدَرِ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِي نُسُكٍ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ رُكْنٍ فِي ذَلِكَ النُّسُكِ، وَلِأَنَّ مَا هُوَ مُعْظَمُ الرُّكْنِ مَقْصُودٌ، وَطَوَافُ الصَّدَرِ تَبَعٌ يَجِبُ لِقَصْدِ تَوْدِيعِ الْبَيْتِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا وَتَبَعًا (قَالَ) وَإِذَا قَدِمَ الْقَارِنُ مَكَّةَ فَلَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَانَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّ عِنْدَهُ طَوَافَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافٌ مَقْصُودٌ لِلْعُمْرَةِ، وَعِنْدَنَا لَا يَدْخُلُ طَوَافُ الْحَجِّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ فِي الْأَدَاءِ عَلَى الْحَجِّ، وَهَذَا يَفُوتُهُ بِالْوُقُوفِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ، وَيَصِيرُ بِهِ مُؤَدَّيَا لِلْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الْفَوْتَ فَلَوْ بَقِيَتْ عُمْرَتُهُ لَكَانَ يَأْتِي بِأَعْمَالِهَا فَيَصِيرُ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، وَهَذَا لَيْسَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ فَجَعَلْنَاهُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ لِهَذَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ عَلَيْهَا بِسَرِفٍ، وَهِيَ تَبْكِي قَالَ مَا يُبْكِيكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَدَعِي عَنْكِ الْعُمْرَةَ أَوْ قَالَ اُرْفُضِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَقَدْ أَمَرَهَا بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ فَلَوْلَا أَنَّهَا بِالْوُقُوفِ تَصِيرُ رَافِضَةً لِعُمْرَتِهَا لَمَا أَمَرَهَا بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْوُقُوفِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ يَقُولُ لَا يَصِيرُ رَافِضًا حَتَّى إذَا عَادَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ، وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ قَارِنٌ، وَالْحَسَنُ يَرْوِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا جَعَلَ التَّوَجُّهَ إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ اسْتِحْسَانٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هُنَاكَ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَيَتَقَوَّى السَّعْيُ بِمَشْيِهِ، وَهُنَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُنَا لِلِارْتِفَاضِ صَيْرُورَةُ رُكْنِ الْحَجِّ مُؤَدًّى حَتَّى يَكُونَ مَا بَعْدَهُ بِنَاءَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَهَذَا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ لَا يَحْصُلُ، وَهُنَاكَ الْمُوجِبُ لِرَفْضِ الظُّهْرِ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَالسَّعْيُ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الشُّرُوعِ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ بِهِ فَلَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ ذَهَبَ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَهُوَ رَافِضٌ لِلْعُمْرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ فَإِذَا بَقِيَ أَكْثَرُهُ غَيْرَ مُؤَدًّى جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى أَكْثَرَ الطَّوَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَأَدَاءِ الْكُلِّ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ بَعْدَ أَدَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ يَأْمَنُ فَسَادَهَا بِالْجِمَاعِ، وَبَعْدَ أَدَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ لَا يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَدَّى إذَا كَانَ أَكْثَرَ فَالْأَقَلُّ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ فَكَانَ جَانِبُ الْأَدَاءِ رَاجِحًا فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَدَاءِ فَهُوَ بِالْوُقُوفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ صَارَ مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤَدِّيًا بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا كَانَ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَلَمْ يَصِرْ رَافِضًا بِالْوُقُوفِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْعُمْرَةِ بِأَدَاءِ الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَيَكُونُ بَانِيًا لِلْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، وَكَمَا يَأْمَنُ الْفَسَادَ فِي الْعُمْرَةِ بِطَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ يَأْمَنُ ارْتِفَاضَهَا بِالْوُقُوفِ، وَبَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَأْمَنُ فَسَادَهَا بِالْجِمَاعِ فَلَا يَأْمَنُ ارْتِفَاضَهَا بِالْوُقُوفِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَارَ رَافِضًا لَهَا عَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْمُحْصَرِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «حِينَ أَمَرَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي فَاتَتْهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ» لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 الْأَدَاءِ، وَقَدْ انْعَدَمَ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يَصِرْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ يُتِمُّ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا وَسَعْيِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ تَحَقُّقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَدَاءً، وَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَلَكِنَّهُ طَافَ وَسَعَى لِحَجَّتِهِ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، وَكَانَ طَوَافُهُ، وَسَعْيُهُ لِلْعُمْرَةِ دُونَ الْحَجِّ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْبِدَايَةُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ بِجِهَةٍ فَأَدَاؤُهُ يَقَعُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ. وَإِنْ نَوَى جِهَةً أُخْرَى كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لِاعْتِبَارِ الطَّوَافِ بِالْوُقُوفِ فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ، وَنَوَى شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْوُقُوفِ لِلْحَجِّ يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنُ الْحَجِّ، وَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي الطَّوَافِ إلَّا أَنَّ فِي الطَّوَافِ أَصْلَ النِّيَّةِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ عَدَا خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ طَوَافُهُ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنُ عِبَادَةٍ، وَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَلِهَذَا لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ فَوُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَصْلِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ يُغْنِي عَنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي رُكْنِهَا وَالطَّوَافُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلِهَذَا يُتَنَفَّلُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الْجِهَةِ لِتَعَيُّنِهِ كَمَا قُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ يُؤَدَّى فِي إحْرَامٍ مُطْلَقٍ فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَوُجُودُ النِّيَّةِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُغْنِي عَنْ النِّيَّةِ فِي الطَّوَافِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ الثَّانِي يَتَأَتَّى فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ دُونَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرْقُ الْأَوَّلُ يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَوَافَهُ، وَسَعْيَهُ لِلْعُمْرَةِ فَهَذَا رَجُلٌ لَمْ يَطُفْ لِحَجَّتِهِ، وَتَرْكُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ لَا يَضُرُّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمُلَ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْحَجِّ وَسَعَى أَوَّلًا ثُمَّ طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَطَوَافُهُ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ كَمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَنِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَغْوٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لَهُمَا ثُمَّ سَعَى سَعْيَيْنِ فَقَدْ أَسَاءَ بِتَقْدِيمِهِ طَوَافَ التَّحِيَّةِ عَلَى سَعْيِ الْعُمْرَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَقْدِيمِ النُّسُكِ، وَتَأْخِيرِهِ شَيْءٌ سِوَى الْإِسَاءَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَقْدِيمُ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ يُوجِبُ الدَّمَ عَلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَى سَعْيِ الْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَصْلًا، وَاشْتِغَالُهُ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ قَبْلَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ اشْتِغَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ، وَلَوْ أَنَّهُ بَيْنَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَسَعْيِهَا اشْتَغَلَ بِنَوْمٍ أَوْ أَكْلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ فَكَذَا إذَا اشْتَغَلَ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ (قَالَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلِلتَّحِيَّةِ كَذَلِكَ ثُمَّ سَعَى يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ مِنْ أَجْلِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَبْنِي الْمَسَائِلَ بَعْدَ هَذَا عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعِيدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِ الْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» ثُمَّ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِالنَّصِّ هُوَ الطَّوَافُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا وَهُوَ اسْمٌ لِلدَّوَرَانِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُحْدِثِ وَالطَّاهِرِ فَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِيهِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبَ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَالرُّكْنِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَأَصْلُ الطَّوَافِ رُكْنٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَالطَّهَارَةُ فِيهِ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ مُوجِبُ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ فَلَمْ تَصِرْ الطَّهَارَةُ رُكْنًا، وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَالدَّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبَاتِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ، وَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِي إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ تَرْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ ثُمَّ الْمُرَادُ تَشْبِيهُ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فِي حَقِّ التَّوَّابِ دُونَ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الطَّوَافِ، وَأَنَّ الطَّوَافَ يَتَأَدَّى بِالْمَشْيِ، وَالْمَشْيُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ لَا يَسْتَدْعِي الطَّهَارَةَ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَيْتِ يَسْتَدْعِي الطَّهَارَةَ كَالصَّلَاةِ، وَمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ تَكُونُ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً، وَلِكَوْنِهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يُعْتَدُّ بِهِ إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. وَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِيَحْصُلَ الْجَبْرُ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنَّ نَقَائِصَ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا يَعْتَدُّ بِهَذَا الطَّوَافِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْتَدُّ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ أَعْظَمُ مِنْ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قُرَاةِ الْقُرْآنِ، وَالْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْجَنَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ حَيْثُ الطَّوَافُ، وَمِنْ حَيْثُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وَمَنْعُ الْمُحْدِثِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ هُنَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالْبَدَنَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ تَجِبُ فِي شَيْئَيْنِ عَلَى مَنْ طَافَ جُنُبًا، وَعَلَى مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَإِنْ أَعَادَ طَوَافَهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْبَدَنَةُ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ طَوَافُهُ الثَّانِي أَمْ الْأَوَّلُ كَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي جَبْرٌ لِلْأَوَّلِ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَى هَذَا بِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إنَّهُ لَوْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الطَّوَافُ الثَّانِي كَانَ مُتَمَتِّعًا وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَالتَّحَلُّلُ حَصَلَ بِالطَّوَافِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَالثَّانِي جَبْرٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ كَالْبَدَنَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ الْمُعْتَدَّ بِهِ، وَالثَّانِي جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الثَّانِي، وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْفَسِخُ بِالثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّمَتُّعِ فَلِأَنَّهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الطَّوَافِ فِي رَمَضَانَ، وَقَعَ لَهُ الْأَمْنُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ فَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ حُكْمُهُ مُرَاعًى لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ، وَصَارَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي التَّحَلُّلِ كَمَنْ قَامَ فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَقْرَأْ حَتَّى رَكَعَ كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ مُرَاعًى عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ فَإِنْ عَادَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ يَسِيرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِهِ حُكْمُ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ بَلْ بَقِيَ مُعْتَدًّا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ الثَّانِي جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ لِلزِّيَارَةِ حَائِضًا فَهَذَا، وَالطَّوَافُ جُنُبًا سَوَاءٌ، وَلَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ، وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ كَانَ مُسِيئًا، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَخَفُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ تَجُوزُ، وَكَذَلِكَ مَعَ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عُرْيَانًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ، وَالْكَشْفَ مُحَرَّمٌ لِأَجْلِ الطَّوَافِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا لَا يَطُوفَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 بِالْبَيْتِ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانٌ» فَبِسَبَبِ الْكَشْفِ يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ، فَأَمَّا اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهِ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ، وَلَوْ كَانَ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ أَيْضًا كَمَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنٌ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَا، وَقَالَ عَلَيْهِ الدَّمُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ فِي الْعُمْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْجِمَاعِ لَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الدَّمَ يَقُومُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ فَإِنْ فَاتَ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ الدَّمُ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ يَقُومُ مُقَامَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّلِ فَلَأَنْ يَقُومَ الدَّمُ مَقَامَ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا الدَّمُ لَا يَقُومُ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْبَدَنَةُ قَدْ تَقُومُ مَقَامَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَأَوْصَى بِالْإِتْمَامِ عَنْهُ تَجِبُ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَكَذَلِكَ الْبَدَنَةُ تَقُومُ مَقَامَ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْقَارِنُ إذَا طَافَ حِينَ قَدِمَ مِنْ مَكَّةَ طَوَافَيْنِ مُحْدِثًا ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ مَعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ تَرْكِ طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ لِلتَّحِيَّةِ مُعْتَدٌّ بِهِ مَعَ الْحَدَثِ فَالسَّعْيُ بَعْدَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ أَيْضًا، وَالطَّهَارَةُ فِي السَّعْيِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ إعَادَةُ ذَلِكَ الطَّوَافِ فَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إعَادَةُ ذَلِكَ الرَّمَلِ، وَالسَّعْيِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. (قَالَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ أَعَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَالدَّمُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُعْتَدَّ بِهِ الطَّوَافَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَلَا يَجُوزُ طَوَافُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ نَاقِصٌ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ النُّقْصَانِ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَتَمَّ طَوَافَهُ يَوْمَ النَّحْرِ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَا هَذَا. وَإِذَا ارْتَفَعَ النُّقْصَانُ بِالْإِعَادَةِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِنْ طَافَهُمَا جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِطَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَيُعِيدُ السَّعْيَ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ لِلتَّحِيَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ حِينَ أَوْجَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 عَلَيْهِ الدَّمَ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ. مُفْرِدٌ أَوْ قَارِنٌ طَافَ لِلزِّيَارَةِ مُحْدِثًا، وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِلْحَدَثِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْآخَرُ لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ. وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلصَّدَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يُجْعَلُ طَوَافُهُ لِلصَّدَرِ إعَادَةً مِنْهُ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ هَذَا الطَّوَافِ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ هَذَا إعَادَةً بِهِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ صَارَ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدَرِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا، وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَإِذَا عَادَ فَعَلَيْهِ إحْرَامٌ جَدِيدٌ؛ لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَيَلْزَمُهُ إحْرَامٌ جَدِيدٌ لِدُخُولِ مَكَّةَ ثُمَّ يَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَأْخِيرِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَّرَ الطَّوَافَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْفَصْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الطَّوَافُ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مَكَّةَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَشَاةٌ لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ، وَعَلَى الْحَائِضِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ شَيْءٌ لِأَنَّ لِلْحَائِضِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ صَفِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «فَإِنَّهُ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْرَى حَلْقَى أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ فَقِيلَ إنَّهَا قَدْ طَافَتْ قَالَ فَلْتَنْفِرْ إذَنْ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ أَمَرَهَا بِأَنْ تَنْفِرَ مَعَهُمْ، وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا، وَطَافَ لِلصَّدَرِ طَاهِرًا فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَانَ طَوَافُ الصَّدَرِ مَكَانَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَمَّا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَفِي إقَامَةِ هَذَا الطَّوَافِ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ إسْقَاطُ الْبَدَنَةِ عَنْهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَالْآخَرُ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْحَائِضِ إذَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ فَطَافَتْ لِلصَّدَرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يُوجِبُ الدَّمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يُوجِبُ الدَّمَ فِي قَوْلِهِمَا. وَعَلَى هَذَا مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ كَأَنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ أَوْ نَحَرَ الْقَارِنُ قَبْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الرَّمْيِ أَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ، وَقَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، وَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَوْمئِذٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ»، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَذَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِتَعَلُّمِ التَّرْتِيبِ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ أَيْ لَا حَرَجَ فِيمَا تَأْتِي بِهِ، وَبِهِ يَقُولُ، وَإِنَّمَا الدَّمُ عَلَيْهِ بِمَا قَدَّمَهُ عَلَى وَقْتِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تَوَقُّتَ النُّسُكِ بِزَمَانٍ كَتَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى النُّسُكُ إلَّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ ثُمَّ مَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِالْمَكَانِ إذَا أَخَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْإِحْرَامِ الْمُؤَقَّتِ بِالْمِيقَاتِ إذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِالزَّمَانِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الَّذِي هُوَ مُؤَقَّتًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِالنَّصِّ إذَا أَخَّرَهُ. قُلْنَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ فِي الْأَرْكَانِ وَاجِبٌ كَمُرَاعَاةِ الْمَكَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوُقُوفَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ فَبِتَأَخُّرِ الطَّوَافُ عَنْ وَقْتِهِ يَصِيرُ تَارِكًا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ عِنْدَنَا. وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْإِحْكَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقُومُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكَمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فَكَمَا أَنَّ أَكْثَرَ عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ فَكَذَلِكَ أَشْوَاطُ الطَّوَافِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الطَّوَافِ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةُ فَكَانَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا يُقَدَّرُ شَرْعًا بِقَدْرٍ لَا يَكُونُ لِمَا دُونَ ذَلِكَ الْقَدْرِ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَدْرِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّوَرَانِ حَوْلَهُ، وَلَا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا تَقْدِيرُ كَمَالِ الطَّوَافِ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِلْإِتْمَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ شَرْطُ الْإِتْمَامِ، وَلَئِنْ كَانَ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ يُقَامُ الْأَكْثَرُ فِيهِ مَقَامَ الْكَمَالِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ إذَا أَتَى بِالْأَكْثَرِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ يُجْعَلُ اقْتِدَاؤُهُ فِي أَكْثَرِ الرَّكْعَةِ كَالِاقْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الرَّكْعَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَالْمُتَطَوِّعُ بِالصَّوْمِ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ يُجْعَلُ وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ كَوُجُودِهَا فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عِنْدَنَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ الطَّوَافُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَفِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ يُقَامُ الْبَعْضُ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ إلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا هُنَا الْأَكْثَرَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ فَإِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَالْحَلْقَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيُقَامُ الرُّبُعُ مَقَامَ الْكُلِّ هُنَاكَ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَحَلَّلُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ خُطْوَةٌ مِنْ شَوْطٍ، وَلَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ لِلزِّيَارَةِ وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ، وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِالْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ، وَيَقْضِيَ بَقِيَّةَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ عَلَيْهِ فَكَانَ إحْرَامُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بَاقِيًا، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَلَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى مَكَّةَ لِبَقِيَّةِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُرِيقُ دَمًا لِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ كَتَأْخِيرِ الْكُلِّ، وَيَطُوفُ لِلصَّدَرِ، وَإِنْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ بِشَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَقَلُّ، وَشَرْطُ الطَّوَافِ الْكَمَالُ فَيَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ، وَالدَّمُ الْآخَرُ لِطَوَافِ الصَّدَرِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْعَوْدَ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ جَدِيدٌ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَإِذَا عَادَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَأَعَادَ مَا بَقِيَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَطَافَ لِلصَّدَرِ أَجْزَأَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ أَشْوَاطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْكُلِّ لَمَّا كَانَ يُوجِبُ الدَّمَ عَنْهُ فَتَأْخِيرُ الْأَقَلِّ لَا يُوجِبُ الدَّمَ، وَلَكِنْ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقُولُ تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ فَالْمُرَادُ طَعَامُ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ ذَلِكَ قِيمَةَ شَاةٍ فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا أَحَبَّ (قَالَ) وَإِنْ طَافَ الْأَقَلَّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَطَافَ لِلصَّدَرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُكْمِلُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَارَةِ عَلَيْهِ أَقْوَى فَمَا أَتَى بِهِ مَصْرُوفٌ إلَى إكْمَالِهِ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ ذَلِكَ دَمٌ عَنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ قَدْ بَقِيَ مِنْ طَوَافِهِ لِلصَّدَرِ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ فَصَارَ تَارِكًا لِلْأَكْثَرِ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ، وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ تَرْكِ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 أَشْوَاطٍ أَكْمَلَ ذَلِكَ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ مِنْهُ صَدَقَةٌ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ مَا يَجِبُ فِي تَأْخِيرِ الْكُلِّ ثُمَّ قَدْ بَقِيَ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ فَإِنَّمَا تَرَكَ الْأَقَلَّ مِنْهَا فَيَكْفِيهِ لِكُلِّ شَوْطٍ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ طَوَافِ الصَّدَرِ فَلَا يَجِبُ فِي تَرْكِ أَقَلِّهِ مَا يَجِبُ فِي تَرْكِ كُلِّهِ، وَلَوْ طَافَ لِلصَّدَرِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ، وَيَكُونُ هُوَ كَالتَّارِكِ لِطَوَافِ الصَّدَرِ أَصْلًا، وَلَوْ طَافَ لِلصَّدَرِ وَهُوَ مُحْدِثٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِقِلَّةِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ مُعْتَدٌّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْإِحْرَامِ يَحْصُلُ بِهِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ هَذَا النُّقْصَانِ مَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ أَصْلًا (قَالَ) وَلَوْ طَافَ بِالْبَيْتِ مَنْكُوسًا بِأَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَلَى يَسَارِ الْكَعْبَةِ، وَطَافَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّوَافَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مَنْكُوسًا بِأَنْ بَدَأَ بِالتَّشَهُّدِ لَا يَجْزِيهِ فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ. وَلَنَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الثَّابِت بِالنَّصِّ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ أَخَذَ، وَلَكِنْ بِفِعْلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ هَذَا فَكَانَتْ هَذِهِ صِفَةٌ وَاجِبَةٌ فِي هَذَا الرُّكْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ عِنْدَنَا فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ بِهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ فِيهِ نُقْصَانًا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ، وَهُوَ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ أَيِّ جَانِبِ أَخَذَ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِدَايَةِ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِبَيَانِ صِفَةِ الْإِتْمَامِ لَا لِبَيَانِ صِفَةِ الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْنَا بِمَا لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِي السَّعْيِ حَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِمَا أَنَّهُ أَدَّاهُ مَنْكُوسًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ: يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَكْرُوهًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالشَّوْطِ الْأَوَّلِ لَا لِكَوْنِهِ مَنْكُوسًا، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ صُعُودُ الصَّفَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَالْمَرْوَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِذَا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فَإِنَّمَا صَعِدَ الصَّفَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ الصَّفَا مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ إلَّا بِإِعَادَةِ شَوْطٍ وَاحِدٍ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَمَّا هُنَا مَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَصْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَقَدْ دَارَ حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَلِهَذَا كَانَ طَوَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ (قَالَ) وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَعَادَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ لِلزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا الطَّوَافُ مَاشِيًا، وَعَلَى هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ كَالصَّلَاةِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَدَّ بِطَوَافِ الرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَشْيُ شَرْطُ الْكَمَالِ فِيهِ فَتَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا لِوَجَعٍ أَصَابَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ وَثَبَتْ رِجْلُهُ فَلِهَذَا طَافَ رَاكِبًا، وَذَكَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشَاهِدَهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ عَنْ حَوَادِثِهِمْ، وَقِيلَ إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِكِبَرِ سِنِّهِ»، وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ الْأَكْثَرُ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِذَا طَافَ الْمُعْتَمِرُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِأَنْ كَانَ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَ شَوَّالٌ فَأَتَمَّ طَوَافَهُ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِأَكْثَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ، وَيَمْضِي فِيهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِي الْفَاسِدِ حَتَّى يُتِمَّهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ، وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَجِمَاعُهُ بَعْدَ إكْمَالِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُؤَدَّاةً بِأَدَاءِ رُكْنِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الطَّوَافِ (قَالَ) وَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إنْ أَعَادَهُ فِي شَوَّالٍ أَوْ لَمْ يُعِدْهُ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُقُوعِ الْأَمْنِ لَهُ مِنْ الْفَسَادِ بِمَا أَدَّاهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا لَبَطَلَ بِالْإِعَادَةِ فِي شَوَّالٍ (قَالَ) كُوفِيٌّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَقَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ عُمْرَتِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِأَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ بَعْدَمَا رَجَعَ ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ أَتَى بِالْكُلِّ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَوَّلًا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 كَمَا لَوْ أَكْمَلَ الطَّوَافَ، وَهَذَا لِوُجُودِ الْإِلْمَامِ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَإِنْشَائِهِ السَّفَرَ لِأَدَاءِ كُلِّ نُسُكٍ مِنْ بَيْتِهِ (قَالَ) وَتَرَكَ الرَّمَلِ فِي طَوَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالسَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ مُسِيءٌ إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَالرَّمَلُ وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ، وَهَذِهِ الْخِلَالُ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ، وَتَرْكُ مَا هُوَ سُنَّةٌ أَوْ أَدَبٌ لَا يُوجِبُ شَيْئًا إلَّا الْإِسَاءَةَ إذَا تَعَمَّدَ (قَالَ) وَإِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي جَوْفِ الْحَطِيمِ قَضَى مَا تَرَكَ مِنْهُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الطَّوَافَ عَلَى الْحَطِيمِ فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْأَقَلَّ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَتْرُوكِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَنَا فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مِنْ الْأَصْلِ لِيَكُونَ مُرَاعِيًا لِلتَّرْتِيبِ الْمَسْنُونِ، وَإِنْ أَعَادَهُ عَلَى الْحَطِيمِ فَقَطْ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمَتْرُوكُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الطَّوَافِ مِنْ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي الطَّوَافِ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا تَرَكَ لَمْ يَكُنْ طَوَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِإِعَادَةِ الْمَتْرُوكِ فَقَطْ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، وَالْإِعَادَةُ مِنْ الْأَصْلِ أَفْضَلُ، وَيُلْزَمُونَ عَلَيْنَا بِمَا لَوْ ابْتَدَأَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَجَرِ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى يُنْتَهَى إلَى الْحَجَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ طَوَافُهُ إلَى الْحَجَرِ لَا لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ وَلَكِنْ لِأَنَّ مِفْتَاحَ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَجْعَلُهُ عَلَامَةَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ بِالثَّانِي ثُمَّ بِالثَّالِثِ فَنَادَاهُ قَدْ أَتَانِي بِالْحَجَرِ مَنْ أَغْنَانِي عَنْ حَجَرِك، وَوَجَدَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ افْتِتَاحَ الطَّوَافِ مِنْهُ فَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الِافْتِتَاحِ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ. (قَالَ) فَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ طَافَ لِحَجَّتِهِ كَذَلِكَ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَالْأَشْوَاطُ الَّتِي طَافَهَا لِلْحَجِّ مَحْسُوبَةٌ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ قَبْلَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَإِذَا جَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ كَانَ الْبَاقِي عَلَيْهِ شَوْطًا وَاحِدًا حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَيَكُونُ قَارِنًا، وَيُعِيدُ طَوَافَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ، وَلِحَجَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى مِنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ كَانَ عَقِيبَ أَقَلِّ الْأَشْوَاطِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 فَيَجِبُ أَنْ يُعِيدَ مَعَ السَّعْيِ لِلْحَجِّ، وَمَعَ الشَّوْطِ الْوَاحِدِ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ الشَّوْطِ، وَدَمٌ لِتَرْكِ سَعْيِ الْحَجِّ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِسَعْيِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى لِعُمْرَتِهِ عَقِيبَ سِتَّةِ أَشْوَاطٍ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سَعَى لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى أَصْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ السَّعْيِ فِي كُلِّ نُسُكٍ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ لِعُمْرَتِهِ غَيْرُ سَدِيدٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ يُرِيدُ بِهِ بَيَانَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مُعْتَدًّا بِهِ لِلْعُمْرَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ ذَلِكَ بَعْدَمَا أَكْمَلَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ بِالشَّوْطِ الْمَتْرُوكِ (قَالَ)، وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ الطَّوَافِ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا انْصَرَفَ عَلَى وِتْرٍ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ أَوْ خَمْسَةِ أَسَابِيعَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا طَافَتْ ثَلَاثَةَ أَسَابِيعَ ثُمَّ صَلَّتْ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الطَّوَافِ عَلَى الْوِتْرِ فِي عَدَدِ الْأَشْوَاطِ فَإِذَا انْصَرَفَ عَلَى وِتْرٍ لَمْ يُخَالِفْ انْصِرَافُهُ مَبْنَى الطَّوَافِ، وَاشْتِغَالُهُ بِأُسْبُوعٍ آخَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَاشْتِغَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ فَكَذَا هُنَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى مَا هُوَ مَبْنَى الطَّوَافِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى شَفْعٍ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَاكَ لِانْصِرَافِهِ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ مَبْنَى الطَّوَافِ لَا لِتَأْخِيرِهِ الصَّلَاةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إتْمَامُ كُلِّ أُسْبُوعٍ مِنْ الطَّوَافِ بِرَكْعَتَيْنِ فَيُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْأُسْبُوعِ الثَّانِي قَبْلَ إكْمَالِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ إكْمَالَ كُلِّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ لَمَّا كَانَ بِالتَّشَهُّدِ يُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالشَّفْعِ الثَّانِي قَبْلَ إكْمَالِ الْأَوَّلِ [الطَّوَاف قَبْل طلوع الشَّمْس] (قَالَ) وَإِذَا طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ كَالْمَنْذُورِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَدَّى عِنْدَنَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي طُوًى، وَارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَبْدَأُ بِالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ مَا لَيْسَ بِمَكْتُوبَةٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ كَالْمَنْذُورِ أَوْ سُنَّةٌ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ فَالْمَكْتُوبَةُ لَا تَنُوبُ عَنْهُ (قَالَ)، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ فِي طَوَافِهِ أَوْ يَتَحَدَّثَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ فَإِنْ فَعَلَهُ لَمْ يَفْسُدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 عَلَيْهِ طَوَافُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إلَّا بِخَيْرٍ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُفْسِدًا لِلطَّوَافِ (قَالَ)، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَقَلَّ مَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ. وَتَرْكُ الِاسْتِمَاعِ عِنْدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الْجَفَاءِ فَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ صِيَانَةً لِلنَّاسِ عَنْ هَذَا الْجَفَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي طَوَافِهِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ فِي الطَّوَافِ، وَأَشْرَفُ الْأَذْكَارِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (قَالَ) وَإِنْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِ طَوَافَهُ يُرِيدُ بِهِ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ إذَا كَانَا يَشْتَرِكَانِ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِكَا فَلَا، وَهُنَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الطَّوَافِ (قَالَ) وَإِذَا خَرَجَ الطَّائِفُ مِنْ طَوَافِهِ لِصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ جِنَازَةٍ أَوْ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ عَادَ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَامِ فَالِاشْتِغَالُ فِي خِلَالِهِ بِعَمَلٍ لَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ ثُمَّ عَادَ فَبَنَى عَلَى الطَّوَافِ (قَالَ) وَإِنْ أَخَّرَ الطَّائِفُ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَضُرَّهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (قَالَ) وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَحَبُّ إلَيَّ، وَلِلْغُرَبَاءِ الطَّوَافُ فَإِنَّ التَّطَوُّعَ مِنْ الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ تَشْمَلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِطَوَافِ التَّطَوُّعِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْغُرَبَاءِ الطَّوَافَ يَفُوتُهُ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ إلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَالِاشْتِغَالُ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِمَا يَفُوتُهُ أَوْلَى كَالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا الْمَكِّيُّ لَا يَفُوتُهُ الطَّوَافُ، وَلَا الصَّلَاةُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ) رَجُلٌ طَافَ أُسْبُوعًا، وَشَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ مِنْ أُسْبُوعٍ آخَرَ ثُمَّ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ قَالَ يُتِمُّ الْأُسْبُوعَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لَهُ بِشَوْطٍ أَوْ شَوْطَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ كَمَنْ قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ، وَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ كَانَ عَلَيْهِ إتْمَامُ الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ كُلُّ أُسْبُوعٍ سَبَبُ الْتِزَامِ رَكْعَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَانِ (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطُوفَ، وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أَوْ نَعْلَاهُ إذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا رَدًّا عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الْمُتَشَفِّعَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَطُوفُ إلَّا حَافِيًا، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفَّيْنِ أَوْ النَّعْلَيْنِ إذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى (قَالَ) وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِي حَسَنٌ، وَتَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَسْتَلِمُهُ وَلَا يَتْرُكُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُ يَدَهُ وَلَا يُقَبِّلُ الرُّكْنَ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي، وَلَمْ يُقَبِّلْهُ»، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي، وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَيْهِ»، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَلَمَ الرُّكْنَيْنِ يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدِ، وَالْيَمَانِي» فَهُوَ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ رُكْنٍ يَكُونُ اسْتِلَامُهُ مَسْنُونًا فَتَقْبِيلُهُ كَذَلِكَ مَسْنُونٌ كَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَبِالِاتِّفَاقِ هُنَا التَّقْبِيلُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فَكَذَا الِاسْتِلَامُ (قَالَ) وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا تَسْتَلِمْ الرُّكْنَيْنِ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ بِمَهْجُورٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقِيَاسُ يَنْفِي اسْتِلَامَ الرُّكْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْحَجَرِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ لَيْسَا مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَصَّرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَعَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يَسْتَلِمُهُمَا [الرَّمْي أَثْنَاء الطَّوَاف] (قَالَ) وَإِنْ رَمَلَ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْآدَابِ، وَبِتَرْكِ الْآدَابِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِنْ مَشَى فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ أَوْ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَرْمُلْ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ سُنَّةٌ فَإِذَا فَاتَتْ مِنْ مَوْضِعِهَا لَا تُقْضَى، وَالْمَشْيُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُخَرِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ فَإِنْ تَرَكَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَا هُوَ سَنَتُهَا لَا يَتْرُكُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُخَرِ مَا هُوَ سَنَتُهَا (قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ زَحْفًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ مَا يَتَنَفَّلُ بِهِ أَوْ مَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، وَأَصْلُ الطَّوَافِ قُرْبَةٌ فَأَمَّا الزَّحْفُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا تَلْزَمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ بِالنَّذْرِ، وَإِنْ طَافَ كَذَلِكَ زَحْفًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَافَ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ، وَرَاءِ زَمْزَمَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ظُلَّةِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَطَوَافُهُ يَكُونُ بِالْبَيْتِ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فَأَمَّا إذَا طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 لِأَنَّهُ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْبَيْتِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِمَكَّةَ كَانَ يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي مَكَّةَ أَرَأَيْت لَوْ طَافَ فِي الدُّنْيَا أَكَانَ يُجْزِئُهُ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يُجْزِئُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ] (بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمَلَ فِي سَعْيِهِ كُلِّهِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَشَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. فَأَمَّا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَالْمَشْيُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَدَبٌ أَوْ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ (قَالَ) وَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ بِالصَّفَا حَتَّى فَرَغَ أَعَادَ شَوْطًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِيهِ ثُمَّ أَقْبَلَ مِنْهَا إلَى الصَّفَا لَا يَعْتَدُّ بِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ افْتِتَاحَ هَذَا الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ مِنْ الصَّفَا عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ لَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى»، وَإِذَا افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ الْمُعْتَدُّ بِهِ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ بِشَوْطٍ آخَرَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ (قَالَ) وَإِنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ رَأْسًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الدَّمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّعْيُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ إلَّا بِهِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا، وَالْمَكْتُوبُ رُكْنٌ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى لِامْرِئٍ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً لَا يَطُوفُ لَهَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ»، وَجُحَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلْإِيجَابِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الظَّاهِرَ فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إسَافٍ، وَنَائِلَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَجُّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ يَكُونُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْتِ، وَلَا تَبْلُغْ دَرَجَةُ التَّبَعِ دَرَجَةَ الْأَصْلِ فَتَثْبُتُ فِيهِ صِفَةُ الْوُجُوبِ لَا الرُّكْنِيَّةُ فَكَانَ السَّعْيُ مَعَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ نَظِيرَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا رُكْنٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَدَدِ السَّبْعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ؛ لِأَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مَكْتُوبٌ، وَبِالِاتِّفَاقِ عَيْنُ السَّعْيِ غَيْرُ مَكْتُوبٌ فَإِنَّهُ لَوْ مَشَى فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الرَّكِينَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالسَّعْيِ، وَأَدَاءُ أَصْلِ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِأَرْكَانِهَا فَصِفَةُ التَّمَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ كَتَرْكِ الْكُلِّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ طَوَافِ الصَّدَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي الْأَكْثَرِ، وَالصَّدَقَةُ فِي الْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَيَجُوزُ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ كَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، وَإِنَّمَا اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَيْتِ (قَالَ) وَلَا يَجُوزُ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الطَّوَافِ، وَهَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَمِّمٌ لِلطَّوَافِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَهُ كَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمُ الطَّوَافِ فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالسُّجُودِ لَمَّا كَانَ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمَ الرُّكُوعِ فَإِذَا سَبَقَ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ (قَالَ) وَيَجُوزُ السَّعْيُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ الْأَكْثَرَ مِنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ (قَالَ) وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ الصُّعُودِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعَدَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ بِقَوْلِهِ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَمَنْ بَعْدِهِمْ تَوَارَثُوا الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُمْ فَهُوَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نُزُولِهِ مِنْ الصَّفَا كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُعْضِلَاتِ الْفِتَنِ أَوْ مِنْ مُعْضِلَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الصُّعُودِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ طَافَ لِحَجَّتِهِ، وَوَاقَعَ النِّسَاءَ ثُمَّ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ يَحْصُلُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ» فَاشْتِغَالُهُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ نَوْمٍ أَوْ أَكْلٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ أَدَاءِ السَّعْيِ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتِيَ بِالسَّعْيِ يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ بِالطَّوَافِ قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ. (قَالَ) وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ كَانَ مُؤَدِّيًا السَّعْيَ فِي إحْرَامٍ آخَرَ غَيْرَ الْإِحْرَامِ الَّذِي أَدَّى بِهِ الْحَجَّ، وَإِنْ أَرَاقَ دَمًا انْجَبَرَ بِهِ النُّقْصَانُ الْوَاقِعُ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ تَوْفِيرَ مَنْفَعَةِ اللَّحْمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ لِلَّسْعَى، وَإِنْ رَجَعَ سَعَى أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ وَسَعَى بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِأَيَّامِ النَّحْرِ إنَّمَا التَّوْقِيتُ فِي الطَّوَافِ بِالنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَأْخِيرِ السَّعْيِ شَيْءٌ (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لَهُ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ يُحِلَّ حَتَّى يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ «إذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ»، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ، وَسَعْيِ الْحَجِّ فَإِنَّ أَدَاءَ سَعْيِ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ صَحِيحٌ، وَأَلَّا يُؤَدِّيَ سَعْيَ الْعُمْرَةِ إلَّا فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَرَدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ إذْ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنًى ثُمَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مَا هُوَ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ كَالرَّمْيِ فَيَجُوزُ السَّعْيُ أَيْضًا بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ مَا يَكُونُ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ، وَالسَّعْيُ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ الْخُرُوجُ مِنْ مِنًى] (بَابُ الْخُرُوجُ مِنْ مِنًى) (قَالَ) وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَيُقِيمَ بِهَا إلَى صَبِيحَةِ عَرَفَةَ هَكَذَا عَلَّمَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه حِينَ وَقَفَهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ بِمِنًى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْوُونَ فِيهِ بِمِنًى أَوْ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ ظُهُورَهُمْ فِيهِ بِمِنًى فَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ثُمَّ رَاحَ إلَى مِنًى لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فَلَا يَضُرُّهُ تَأْخِيرُ إتْيَانِهِ، وَإِنْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا مِنْهَا إلَى عَرَفَاتٍ، وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّهُ أَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ» كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُفَسَّرًا. (قَالَ) ثُمَّ يَنْزِلُ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيَصْعَدُ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَرَغَ قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَلَبَّى، وَهَلَّلَ وَكَبَّرَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ عِنْدَنَا ثَلَاثَةَ خُطَبٍ إحْدَاهَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَخْطُبُ بِمَكَّةَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ، وَكَيْفَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا إلَى مِنًى، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ إلَى عَرَفَاتٍ، وَكَيْفَ يَنْزِلُونَ بِهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ لِيَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ النُّسُكِ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ يَخْطُبُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَقِفُ، وَيَوْمَ النَّحْرِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ فَيَخْطُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْتِي فِيهِ بِذَلِكَ الرُّكْنِ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ بِتَمَامِهِ (قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ مِنْهَا كَانَ مُدْرِكًا الْجُمُعَةَ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ فَيَقُومُ خَلِيفَتُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. (قَالَ) فَإِنْ رَجَعَ الْإِمَامُ فَأَدْرَكَ مَعَهُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الظُّهْرِ لِآخِرِ الْعَصْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى فَرَغَ خَلِيفَتُهُ مِنْ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هُنَا كَالْإِمَامِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ فَصَلَّى وَحْدَهُ الصَّلَاتَيْنِ أَجْزَأَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقِيلَ مَا ذَكَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ هُنَا نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ جَعَلَهَا فِي اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ هُنَاكَ لِتَسْمِيَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ جُمُعَةً، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا سَمَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ هُنَا مُنْصَرِفٌ إلَى الصَّلَاتَيْنِ لَا إلَى الْمُؤَدِّينَ لَهُمَا فَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ فِيهِمَا. (قَالَ) وَلَيْسَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَدَّاةٌ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْقُلُوا أَنَّهُ جَهَرَ فِي هَاتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ، وَهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَمَا يُؤَدَّيَانِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ (قَالَ) وَإِنْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ وَصَلَّى صَلَاتَيْنِ مَعًا أَجْزَأَهُ، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فَهَذِهِ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِبَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ يَوْمَ غَيْمٍ فَاسْتَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُعِيدُ الظُّهْرَ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا، وَحِينَ أَدَّى الْعَصْرَ مَا كَانَ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى النَّاسِي، وَالتَّرْتِيبُ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَصْرَ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ، وَهَذَا التَّعْجِيلُ لِلْجَمْعِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ إذَا تَقَدَّمَ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الظُّهْرَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا (قَالَ) وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ (قَالَ) وَإِنْ تَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يُجْزِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِمَامَ شَرْطُ هَذَا الْجَمْعِ عِنْدَهُ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ خَلِيفَتُهُ أَوْ ذُو سُلْطَانٍ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ خَلِيفَتَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو سُلْطَانٍ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ (قَالَ) وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَةَ يَعْنِي إذَا كَانَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَاتٍ لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَعَرَفَاتٍ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ إذْ لَيْسَ لَهَا أَبْنِيَةٌ إنَّمَا هِيَ فَضَاءٌ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ بِخِلَافِ مِنًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُرَكَّبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ (قَالَ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَنْ وَقَفَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْلَةَ النَّحْرِ قَبْلَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ أَوْ مَرَّ بِهَا مُجْتَازًا، وَهُوَ يَعْرِفُهَا أَوْ لَا يَعْرِفُهَا أَجْزَأَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ زَوَالٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّمَا يَصِيرُ الْيَوْمُ مُطْلَقًا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ». وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ سُمِّيَ نَهَارًا لِجَرَيَانِ الشَّمْسِ فِيهِ كَالنَّهْرِ يُسَمَّى نَهْرًا لِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ فَدَلَّ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بَعْدَ الزَّوَالِ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى الْيَوْمُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ صَارَ وَقْتًا لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ مَعَ أَنَّ الْيَوْمَ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيمَا قُلْنَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبِيحَةَ الْجَمْعِ، وَهُوَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَكْلَلْت رَاحِلَتِي، وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وَمَا مَرَرْتُ بِجَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» (قَالَ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّى بِهَا الصَّلَاتَيْنِ، وَلَمْ يَقِفْ أَوْ أَفَاضَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ رَوَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَفِيمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 نَهَارٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِمْ الْوُقُوفَ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ إذَا أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْوُقُوفِ رُكْنٌ، وَاسْتِدَامَتُهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ. فَإِنْ رَجَعَ وَوَقَفَ بِهَا بَعْدَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الشُّجَاعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ قَالَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَأَتَى بِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ ذَلِكَ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الشَّمْسِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ هُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِذَهَابِهِ فَبِرُجُوعِهِ لَا يَصِيرُ وُقُوفُهُ مُسْتَدَامًا بَلْ مَا فَاتَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ (قَالَ) وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَقَفَ بِهِ أَصْحَابُهُ بِعَرَفَاتٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوُقُوفُ بِحُصُولِهِ فِي الْمَوْقِفِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَرَّ بِعَرَفَاتٍ مَارٌّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَأَدَّى رُكْنُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا يَتَأَدَّى رُكْنُ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بَعْدَ النِّيَّةِ مِنْ الْمُغْمَى. (قَالَ) وَوُقُوفُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ، وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْوُقُوفِ فَتَرْكُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْوُقُوفِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ (قَالَ) وَإِنْ وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا إنْ نَوَى الرَّفْضَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ تَعَذُّرُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ نَوَى الرَّفْضَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اشْتَبَهَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا نَحَرُوا، وَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي يَوْمٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لَا يَجْزِيهِمْ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونِ»، وَفِي رِوَايَةٍ حَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا وَقَفُوا بِيَوْمٍ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِيَشْهَدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَمِعَ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ قَدْ تَمَّ لِلنَّاسِ حَجُّهُمْ، وَلَا مَقْصُودَ فِي شَهَادَتِهِمْ سِوَى ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ فَإِنْ جَاءُوا فَشَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ لِيَقِفُوا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِعُ إلَى شَهَادَتِهِمْ، وَيَقِفُ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَيُجْزِئُهُمْ (قَالَ) وَإِنْ جَامَعَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ، وَيَفْرُغُ مِنْ حَجَّتِهِ، وَعُمْرَتِهِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَهُنَا فُصُولٌ: (أَحَدُهَا) فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ يَفْسُدُ حَجُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِمَاعِ فَإِذَا وُجِدَ الْجِمَاعُ فَسَدَ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ، وَالْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ. عَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الدَّمُ لِتَعْجِيلِ هَذَا الْإِحْلَالِ، وَالشَّاةُ تَكْفِي فِيهِ كَمَا فِي الْمُحْصَرِ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ هُنَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ فَلَا يَجِبُ مَعَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَأَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، وَيُتِمُّ حَجَّهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ حَجُّهُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ مُطْلَقٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ مُفْسِدٌ لِلنُّسُكِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَحَلَّ لَهُ الْحَلْقُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا قَبْلُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ نُسُكُهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَحَجَّتُهُ تَامَّةٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، وَبِالِاتِّفَاقِ لَمْ يُرِدْ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَرْكَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِتْمَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمَنُ الْفَسَادَ بَعْدَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّ بِالْوُقُوفِ تَأَكَّدَ حَجُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّأَكُّدِ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَوَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَسَادِ فَأَمَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ حَجُّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْجِمَاعُ مُفْسِدًا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا حَصَلَ الْجِمَاعُ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْإِحْرَامِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَا بَعْدَ التَّأَكُّدِ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا وَعَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْوُقُوفِ جَازَ حَجُّهُ عَنْ الْفَرْضِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ الْحَجُّ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَفْسُدُ، وَالْجِمَاعُ قَبْلَ الرَّمْيِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ تَرْكِ الرَّمْيِ، وَتَرْكُ الرَّمْيِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجِمَاعُ قَبْلَهُ مُفْسِدًا (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَيَتَأَكَّدُ إحْرَامُهُ بِأَدَاءِ أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ كَمَا يَتَأَكَّدُ إحْرَامُ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْحَجِّ يَجِبُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ بِالْعُمْرَةِ، وَعِنْدَنَا لَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ فِي الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِالْإِتْمَامِ فَدَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِمَا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ»، وَقَالَ صَبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَيْنِ عَلَيَّ «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي». وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ، «وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَالَ لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك»، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فِي السَّنَةِ وَإِنَّمَا بَايَنَ النَّفَلُ الْفَرْضَ بِهَذَا فَإِنَّ الْفَرْضَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَالنَّفَلَ لَا يَتَوَقَّتُ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَبِالْإِجْمَاعِ فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرْضُ إنَّمَا بَايَنَ النَّفَلَ بِهَذَا فَإِنَّ النَّفَلَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ ابْتِدَاءُ خَبَرِ الْعُمْرَةِ لِلَّهِ، وَالنَّوَافِلُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالْفَرَائِضِ. ثُمَّ هَذَا أَمْرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمَا عَرَفْنَا ابْتِدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِفَرِيضَةِ نُسُكٍ وَاحِدٍ فَلَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْفَرِيضَةِ فِي عَدَدٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ أَيْ مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ فَإِنَّ الْفَرْضَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآثَارَ قَدْ اشْتَبَهَتْ فِيهِ، وَلَكِنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ مَعَ اشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ لَا تَثْبُتُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْبَدَنَةِ بِالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْعُمْرَةِ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ فَرْضًا وَجَبَ بِالْجِمَاعِ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ. (وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ) الْقَارِنُ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ بِهَذَا الْجِمَاعِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَجْلِهِ، وَجَامَعَ قَبْلَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَفْسُدُ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ، وَقَضَاءِ الْحَجِّ، وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ دَمٌ، وَلِلْحَجِّ جَزُورٌ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْسُدُ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِهَذَا الْجِمَاعِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَرُدُّ بِهِ فِي وُجُوبِ الْجَزُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بَاقٍ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْعُمْرَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ تَمَّ بِالْحَلْقِ (قَالَ) وَمَنْ جَامَعَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَتَأَكَّدُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِفِعْلِ الْوُقُوفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْآمَنَ مِنْ الْفَوَاتِ لَا يَحْصُلُ بِدُخُولِ وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْوُقُوفِ فَكَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ (قَالَ) وَإِذَا وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ ارْتَفَضَ بِالْوُقُوفِ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ جَزُورٌ لِلْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهُ صَادَفَ إحْرَامَ الْحَجِّ بَعْدَمَا تَأَكَّدَ فَيُتِمُّ حَجَّهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (قَالَ) وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَخَافَ الْفَوْتَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ، وَوَقَفَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ الْمِيقَاتَ لِلْإِحْرَامِ فَبِتَأْخِيرِهِ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ، وَنَقَائِصُ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا، وَالْتِزَامُ الدَّمِ أَهْوَنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ لِتَفْوِيتِهِ الْحَجَّ (قَالَ) وَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وَقَفَ الْحَاجُّ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أَهَلَّ وَهُوَ وَاقِفٌ بِحَجَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا، وَيَمْضِي فِي الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا، وَوَقَفَ لَهَا لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُقُوفِ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي سَنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِرَفْضِهَا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَكَانَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَيْضًا يَرْفُضُهَا؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى عُمْرَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْجَبَ رَفْضَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِوُقُوفِهِ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا أَدَّى أَفْعَالَهَا فَيَكُونُ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلِهَذَا يَرْفُضُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَضَاؤُهَا لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ سَاعَةَ أَهَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا عَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا عَجَّلَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ، وَهُنَا هُوَ مَشْغُولٌ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا بَلْ هُوَ مُؤَدٍّ لَهُ فَلِهَذَا يَرْتَفِضُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا. وَفِي الْكِتَابِ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُخَالِفُهُمَا فِي هَذَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِرْ رَافِضًا كَانَ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَرْفُضْهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَدْ فَاتَ فَلَوْ بَقِيَ إحْرَامُهُ هَذَا لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجَّةِ الْأُولَى، وَيَمْكُثُ حَرَامًا إلَى أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ إنْ حَلَقَ لِلْحَجَّةِ الْأُولَى يَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ الثَّانِي بِذَلِكَ الْحَلْقِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ وَعِنْدَهُمَا بِهَذَا التَّأْخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْهُمْ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامُوا أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِمَعْنًى هُوَ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَفُوتُ الْحَجُّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفَوَاتُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَ لَيَالٍ، وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ فَأَمَّا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَتَحَقَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، وَالْمُرَادُ يَوْمُ النَّحْرِ لَا وَقْتُ الْحَجِّ لِأَدَاءِ الطَّوَافِ فِيهِ دُونَ الْوُقُوفِ فَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْهُ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْوُقُوفِ. (فَأَمَّا) الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ»، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَالْإِحْرَامُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَا يُتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ حَجُّهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَبْقَى إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ ابْتِدَاءُ إحْرَامِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا مِنْ الْأَرْكَانِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَدَامًا إلَى الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَهَذَا حَدُّ شَرْطِ الْعِبَادَةِ لَا حَدُّ رُكْنِ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَالْإِحْرَامُ يَكُونُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ أَحْرَمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ هُنَاكَ يَتَّصِلُ بِالتَّكْبِيرِ فَإِذَا حَصَلَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يَتَّصِلُ أَدَاءُ الْأَرْكَانِ بِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبَابِ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ، وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالشَّرَائِطِ يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْأَرْكَانِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَقِيلَ بَلْ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ إذَا طَالَ مُكْثُهُ فِي الْإِحْرَامِ (قَالَ) وَيَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَإِنْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَقَامَ لِلْعِشَاءِ إقَامَةً أُخْرَى، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَذَّنَ، وَأَقَامَ لِلْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا قَدْ تَحَقَّقَ بِالِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَدِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا الْفَصْلِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَبِالْإِقَامَةِ يَتِمُّ هَذَا الْإِعْلَامُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِعَرَفَاتٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّاهَا فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا بِمُزْدَلِفَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُكْرَهُ مَا صَنَعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ فِي وَقْتِهِ فَإِنَّ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ مَا أَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ «أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصَّلَاةُ أَمَامَك»، وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا فِعْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ حَرَكَاتُ الْمُصَلِّي، وَهُوَ مَعَهُ فَإِمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ الْوَقْتَ أَوْ الْمَكَانَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانَ فَقَدْ بَيَّنَ بِهَذَا النَّصِّ اخْتِصَاصَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِمَكَانٍ، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ لَا يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ انْقِطَاعَ سَيْرِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرِيضَةٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعُذْرِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَفُوتُ بِأَدَاءِ الْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِيَصِيرَ جَمْعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ نُسُكًا، وَلِهَذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لِمَكَانِ إدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَقِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 فِي الطَّرِيقِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ) وَيُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ يَنْشَقُّ لَهُ الْفَجْرُ الثَّانِي لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ يُغْفِي حَتَّى إذَا أَسْفَرَ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى إذَا تَرَكَهُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَعَلَى قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْوُقُوفُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» عَلَّقَ تَمَامَ حَجِّهِ بِهَذَا الْوُقُوفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْوُقُوفِ بِعُذْرٍ «فَإِنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَصِيرِ إلَى مِنًى لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَأَذِنَ لَهَا»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ»، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوُقُوفَ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَعَ طَوَافِ الصَّدَرِ ثُمَّ طَوَافُ الصَّدَرِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ فَكَذَا هَذَا، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا مُحَسِّرًا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ فِيمَا سَبَقَ. (قَالَ) وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قُزَحُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ لِوُقُوفِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقِفَ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ قَرِيبًا مِنْهُ لِيُؤَمِّنَ عَلَى دُعَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنْ تَعَجَّلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ امْرَأَةٍ خَافَتْ الزِّحَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَإِنْ أَفَاضَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِيمَا صَنَعَ لِتَرْكِهِ امْتِدَادَ الْوُقُوفِ (قَالَ) فَإِنْ مَرَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَرًّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ تَأَدَّى بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَكَذَا إنْ كَانَ مَرَّ بِهَا نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ مَعَ النَّاسِ حَتَّى أَفَاضُوا؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وُقُوفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِأَنْ نَامَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْسَتْ بِنُسُكٍ مَقْصُودٍ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ بِهَا فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ] (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَيَبْدَأُ إذَا وَافَى مِنًى بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ بِالذَّبْحِ إنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ بِالْحَلْقِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ»، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ وَالْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ بِالذَّبْحِ فَيُقَدَّمُ الرَّمْيُ عَلَيْهِمَا ثُمَّ الذَّبْحُ فِي مَعْنَى التَّحَلُّلِ دُونَ الْحَلْقِ فَإِنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ وَالذَّبْحُ لَا، فَكَانَ الذَّبْحُ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَلْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي آخِرِ وَقْتِهِ؛ نَفَى ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقْتَهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ رَمَى بِاللَّيْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقْتُهُ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ يَكُونُ قَضَاءً وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا يَرْمِي ذَلِكَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الرَّمْيِ، وَمَا عُرِفَ الرَّمْيُ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيَتَحَقَّقُ فَوَاتُهُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ يَمْتَدُّ وَقْتُهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ مِنْ الرَّمْيِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ نُسُكٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ اخْتَلَفَ مَكَانُهُ وَزَمَانُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ فِيهِ إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَذَلِكَ بِمُضِيِّ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَاسَ بِالتَّكْبِيرَاتِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَقْضِيهَا بِالتَّكْبِيرَاتِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالنَّصِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ»، وَذَهَابُ تَمَامِ الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقِيسُ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَقُولُ كَمَا أَنَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الرَّمْيِ نِصْفُ الْيَوْمِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقْتُ الرَّمْيِ نِصْفُ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ إلَّا أَنَّهُ رَمَى بِاللَّيْلِ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا»، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتًا لِلرَّمْيِ فَاللَّيْلُ يَتْبَعُهُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 ذَلِكَ كَلَيْلَةِ النَّحْرِ تُجْعَلُ تَبَعًا لِيَوْمِ عَرَفَةَ فِي حُكْمِ الْوُقُوفِ فَإِنْ لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ الْغَدِ رَمَاهَا لِبَقَاءِ وَقْتِ جِنْسِ الرَّمْيِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا جَعَلَ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ عَنْ وَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِهِ، وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ نُسُكٌ تَامٌّ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَكَذَلِكَ إنَّ تَرْكَ الْأَكْثَرِ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ رَمَاهَا، وَتَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي نُسُكٌ وَاحِدٌ فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهَا كَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ إلَّا أَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَجُعِلَ تَرْكُ الْأَكْثَرِ كَتَرْكِ الْكُلِّ (قَالَ) وَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ رَمَاهَا عَلَى التَّأْلِيفِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ بَاقٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ مَا بَقِيَ وَقْتُهُ كَالْأُضْحِيَّةِ إذَا أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمَا فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ سَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ إنَّمَا رَمَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يَكُونُ الرَّمْيُ قُرْبَةً بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا كَمَا لَا يَكُونُ إرَاقَةُ الدَّمِ قُرْبَةً بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً كَانَ عَبَثًا فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ كُلَّهُ نُسُكٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي تَرْكِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْبَعْضِ مُوجِبًا لِلدَّمِ ثُمَّ لَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْكُلِّ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا أَنَّ حَلْقَ رُبُعِ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يُوجِبُ الدَّمَ ثُمَّ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا، وَقَصُّ أَظْفَارِ يَدٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ الدَّمَ ثُمَّ قَصُّ الْأَظْفَارِ كُلِّهَا لَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا (قَالَ) وَإِنْ بَدَأَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ قَالَ يُعِيدُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ شُرِعَ مُرَتَّبًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَمَا سَبَقَ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِهِ فَكَانَ رَمْيُ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ لِلْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، وَالْوُسْطَى بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَمَا أَدَّى قَبْلَ وُجُودِ مِفْتَاحِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 كَمَنْ سَجَدَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَالْمُعْتَدُّ مِنْ رَمْيِهِ هُنَا الْجَمْرَةُ الْأُولَى فَلِهَذَا يُعِيدُ عَلَى الْوُسْطَى، وَعَلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (قَالَ) وَإِنْ رَمَى مِنْ كُلِّ جَمْرَةٍ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ الْأُولَى بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ لِيُتِمَّهَا ثُمَّ يُعِيدَ عَلَى الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا رَمَى مِنْ الْوُسْطَى وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَقَ أَوَانَهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْثَرِ الرَّمْيِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ مِنْهَا شَيْئًا. (قَالَ) وَإِنْ رَمَى مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ فَإِنَّهُ يَرْمِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ؛ لِأَنَّ رَمْيَ أَكْثَرِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ كَمَالِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ كَكَمَالِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالسَّعْيِ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ مَا رَمَى مِنْ كُلِّ جَمْرَةٍ مُعْتَدًّا بِهِ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ رَمْيِ كُلِّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مَا اشْتَغَلَ بِالثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ إكْمَالِ الْأُولَى (قَالَ) وَإِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَوْقَ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَكِنْ مَا حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كُلِّهِ مَوْضِعُ الرَّمْيِ فَإِذَا رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ فَقَدْ أَقَامَ النُّسُكَ فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُكَبِّرْ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ أَوْ جَعَلَ مَكَانَ التَّكْبِيرَاتِ تَسْبِيحًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّسْبِيحِ كَمَا يَحْصُلُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ هُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا (قَالَ) وَإِنْ رَمَاهَا بِحِجَارَةٍ أَوْ بِطِينٍ يَابِسٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْحَجَرِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فَإِنَّ فِيمَا لَا يُعْقَلُ الْمَعْنَى فِيهِ إنَّمَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِعَيْنِ الْمَنْصُوصِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَجَرِ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ إنَّمَا مَقْصُودُهُ فِعْلُ الرَّمْيِ إمَّا لِإِعَادَةِ الْكَبْشِ أَوْ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ فَقُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ فِعْلُ الرَّمْيِ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ فَكَمَا يَحْصُلُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْحَجَرِ يَحْصُلُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالطِّينِ وَغَيْرِهِ، وَبَعْضُ الْمُتَشَفِّعَةِ يَقُولُونَ: إنْ رَمَى بِالْبَعْرَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ رَمَى بِالْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إهَانَةُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَعْرِ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا، وَلَكِنْ نَقُولُ الرَّمْيُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُسَمَّى فِي النَّاسِ نِثَارًا لَا رَمْيًا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى بِهِ رَامِيًا (قَالَ) فَإِنْ رَمَى إحْدَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَعْمَالِ لَا عَيْنُ الْحَصَيَاتِ فَإِذَا أَتَى بِفِعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ كَفَّارَةَ الْيَمَنِ مِسْكِينًا وَاحِدًا مَكَانَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ جُمْلَةً لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ (قَالَ) وَإِنْ رَمَاهَا بِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ لَمْ تَضُرَّهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ نَقَصَ حَصَاةٍ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتُهُنَّ نَقَصَهَا أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ حَصَاةً وَاحِدَةً أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيُّهَا تَرَكَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (قَالَ) وَإِنْ قَامَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَوَضَعَ الْحَصَاةَ عِنْدَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ، وَالْوَاضِعُ غَيْرُ رَامٍ، وَإِنْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ، وَقَدْ أَسَاءَ؛ لِأَنَّ الطَّارِحَ رَامٍ إلَّا أَنَّ الرَّمْيَ تَارَةً يَكُونُ أَمَامَهُ وَتَارَةً يَكُونُ عِنْدَ قَدَمَيْهِ بِالطَّرْحِ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصْفًا (قَالَ) فَإِنْ رَمَاهَا مِنْ بَعِيدٍ فَلَمْ تَقَعْ الْحَصَاةُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَإِنْ وَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْهَا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى التَّحَرُّزُ عَنْهُ خُصُوصًا عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ قُرْبَةٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً (قَالَ) وَإِنْ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ أَخَذَهَا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ؛ لِأَنَّ مَا عِنْدَ الْجَمْرَةِ مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ، وَلَا يَتَبَرَّكُ بِهِ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يُقْبَلُ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ تُرِكَ حَصَاهُ حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلْتُ عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ثُمَّ تَوَسَّطْتُ الْجَمْرَةَ فَرَمَيْت مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا مِنْ الْحَصَى فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ مَا بَقِيَ فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ مَرْدُودٌ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا يُجَوِّزُ الرَّمْيَ بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مِنْ الْأَحْجَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الْحِجَارَةِ. (قَالَ) فَإِنْ لَمْ يَقُمْ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَقُومُ النَّاسُ عِنْدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ أَقَامَ أَيَّامَ مِنًى بِمَكَّةَ غَيْرَ أَنَّهُ يَأْتِي مِنًى فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَرْمِي الْجِمَارَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ إلَّا السُّنَّةَ، وَهِيَ الْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 بَيَّنَّا «أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ فَأَذِنَ لَهُ» فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ (قَالَ) فَإِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ قَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَجْعَلُ مِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَالْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ رَمَاهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَالِ عُرِفَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُجْزِئُهُ قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَى أَجْزَأَهُ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ قَصْدِهِ التَّعْجِيلُ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْحَرَجِ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ بِالنَّهَارِ فَيَرَى مَوْضِعَ نُزُولِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْأَفْضَلُ مَا هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَهُوَ الرَّمْيُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ هَذَا الْيَوْمُ نَظِيرُ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ. (قَالَ) فَإِنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يُخَيَّرُ بَيْنَ النَّفْرِ، وَبَيْنَ الْمُقَامِ إلَى أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، وَخِيَارُهُ هَذَا يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ، وَامْتِدَادُ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ بَاقِيًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الرَّمْيِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّيَالِيَ هُنَا تَابِعَةٌ لِلْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ فَكَمَا كَانَ خِيَارُهُ ثَابِتًا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَكَذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ. (قَالَ) وَإِنْ صَبَرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُجْزِئُهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 الثَّلَاثُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَارْمُوا يُقَالُ انْتَفَحَ النَّهَارُ إذَا عَلَا، وَاعْتُبِرَ آخِرُ الْأَيَّامِ بِأَوَّلِ الْأَيَّامِ فَكَمَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ أَصْلًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ النَّوَافِلَ، وَالتَّوْقِيتُ فِي النَّفْلِ لَا يَكُونُ عَزِيمَةً فَلِهَذَا جُوِّزَ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ اللَّيْلِ (قَالَ) وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَاةِ الْخَذْفِ هَكَذَا «عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ طَرَفَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ عِنْدَ الْأُخْرَى فَرَمَى بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، وَقَالَ هَكَذَا فَارْمُوا»، وَإِنْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ الْكِبَارَ مِنْ الْأَحْجَارِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُصِيبُ أَحَدًا فَيَتَأَذَّى بِهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَلْبَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» (قَالَ) وَلَيْسَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ بِرِقَّةِ الْقَلْبِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهُمَا حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ لِلْحَدِيثِ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ، وَفِي الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» (قَالَ) وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ سَوَاءٌ كَمَا فِي سَائِر الْمَنَاسِكِ، وَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجِمَارَ رَاكِبًا»، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ (قَالَ) وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ رَمْيَ الْجِمَارِ يُوضَعُ الْحَصَى فِي كَفِّهِ حَتَّى يَرْمِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ رُمِيَ عَنْهُ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي النُّسُكِ كَمَا فِي الذَّبْحِ (قَالَ) وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ أَبُوهُ يَقْضِي الْمَنَاسِكَ وَيَرْمِي الْجِمَارَ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لِلتَّخَلُّقِ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُؤْمَرَ بِهِ بِمِثْلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْبَالِغُ، وَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ يُحْرِمُ عَنْهُ أَبُوهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لِلتَّخَلُّقِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا إذْ لَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِمَا وِلَايَةُ الْإِيجَابِ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِيهِ عَاجِلًا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الرَّمْيِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْكَفَّارَاتِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ عِنْدَنَا، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الرَّمْيِ هَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا مِنْ هَوْدَجِهَا إلَيْهِ فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ فَقَالَ نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرُهُ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 [بَابُ الْحَلْقِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «الْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ» لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ قَضَاءُ التَّفَثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، وَهُوَ فِي الْحَلْقِ أَتَمُّ وَالتَّقْصِيرُ فِيهِ بَعْضُ الْحَلْقِ فَلِهَذَا كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ، وَالتَّقْصِيرُ يُجْزِي وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ، وَرَوَاهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ كَمْ تُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ مِثْلَ هَذِهِ يَعْنِي مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الشَّعْرِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ كَانَ يُتِمُّ تَحَلُّلَهُ بِأَخْذِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ يُتِمُّ تَحَلُّلَهُ بِأَخْذِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَالتَّقْصِيرُ، قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، وَكَانَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَكَذَلِكَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ فَالرُّبُعُ مِنْهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ كَالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَأُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ» فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا ضِنَةً مِنْهُ بِشَعْرِهِ، وَفِيمَا هُوَ نُسُكٌ تُكْرَهُ الضِّنَةُ فِيهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَكَيْفَ بِالشَّعْرِ (قَالَ) وَإِذَا جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ أَجْرَى الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ تَشَبُّهًا بِمَنْ يَحْلِقُ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخْرَسَ يُؤْمَرُ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْزِلَةَ قِرَاءَةِ النَّاطِقِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالنُّورَةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ التَّفَثِ فِيهِ يَحْصُلُ، وَالْمُوسَى أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) وَأَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَلْقَ حَتَّى تَذْهَبَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْحَجِّ مُؤَقَّتٌ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَبِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ، وَلَا بِالْمَكَانِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ التَّحَلُّلُ عَنْ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرٌ بِابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، وَابْتِدَاءُ الْإِحْرَامِ مُؤَقَّتٌ بِالزَّمَانِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْمَكَانِ حَتَّى يُكْرَهَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيقَاتِ فَكَذَلِكَ التَّحَلُّلُ عَنْهُ بِالْحَلْقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 يَتَوَقَّتُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ دُونَ الْمَكَانِ حَتَّى إذَا أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ حَلَقَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَا كَانَ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْحَجِّ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ جَمِيعًا كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ التَّحَلُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الطَّوَافَ عَنْ وَقْتِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِحَلْقِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ مُعْتَدًّا بِهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ فِعْلِهِ الرَّأْسُ دُونَ الْحَرَمِ فَيَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَلَكِنَّهُ جَانٍ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ مَكَانِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ الْمَكَانِ كَمَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلْقَ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَا حُلِقَ لِلْحَجِّ إلَّا فِي الْحَرَمِ يَوْمَ النَّحْرِ فَمَا وُجِدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ قُرْبَةً، وَمَا خَالَفَ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَلْزَمُهُ الْجَبْرُ فِيهِ بِالدَّمِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَلْقُ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ فِي أَوَانِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ قَبْلَ أَوَانِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَلَا مَكَان فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان؛ لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَوَاءٌ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ فَحَلَقَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ تَعَلُّقُ الْمَنَاسِكِ بِالْمَكَانِ آكَدُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالزَّمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ الْمُخْتَصَّ بِمَكَانٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْمُؤَقَّتُ مِنْ الطَّوَافِ بِزَمَانٍ يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ فَالْحَلْقُ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَتَى بِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ فَيَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالدَّمِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ كَثِيرُ نُقْصَانٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالدَّمِ فَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَلَا يَتَوَقَّتُ الْحَلْقُ بِزَمَانٍ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ فِيهِ شَهْرًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ، وَمَا هُوَ الرُّكْنُ، وَهُوَ الطَّوَافُ فِيهِ أَيْضًا لَا يَتَوَقَّتُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ فَكَذَلِكَ الْحَلْقُ فِيهِ لَا يَتَوَقَّتُ بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ لِلْعُمْرَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَجِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ حَلْقٌ إذَا حَلَّ وَإِنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَحَسَنٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرَى عَلَيْهِ الْحَلْقَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْحَدِيثِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ بَعْدَ بُلُوغِ الْهَدَايَا مَحَلَّهَا، وَكَرِهَ لَهُمْ تَأْخِيرَ ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ فِي نَفْسِك رَجَاءَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لِلْحَالِ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ بَادَرُوا إلَى الْحَلْقِ»، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْصَرْ لَكَانَ يَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْحَلْقُ إنَّمَا يَكُونُ نُسُكًا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَأَمَّا قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ جِنَايَةٌ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ تَرْتِيبِ الْحَلْقِ عَلَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَإِنَّمَا تَحَلُّلُهُ بِالْهَدْيِ هُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ لَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَأَمَّا حَلْقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا لَا يَحْلِقُ الْمُحْصَرُ إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ أَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ يَحْلِقُ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِالْحَرَمِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ مُحْصَرًا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَضَارِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِي الْحِلِّ، وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا حَلَقَ فِي الْحَرَمِ، وَبِهِ نَقُولُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ لِيُحَقِّقَ بِهِ عَزْمَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ، وَيَأْمَنَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ جَانِبِهِمْ، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الصُّلْحِ (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ إذَا قَصَّرَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ لِحْيَتِهِ أَوْ شَارِبِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ أَوْ يَتَنَوَّرَ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَلْقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي لِحْيَتِهِ، وَلَا فِي شَارِبِهِ فَكَذَلِكَ التَّقْصِيرُ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَضَاءِ التَّفَثِ (قَالَ) وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ إزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَهُ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَلْقِ رَأْسِ الْحَلَالِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ حَلَقَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْآدَمِيِّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيَكُونُ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا عَنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ مُبَاشَرَتِهِ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ جَانٍ فِي قَتْلِ صَيْدِ غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ جَانِيًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فِي قَتْلِ صَيْدِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ جِنَايَتِهِ بِانْضِمَامِ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ إلَى فِعْلِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ تَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَلَزِمَهُ الدَّمُ، وَإِذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ لَا تَتَكَامَلُ جِنَايَتُهُ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ (قَالَ) وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ مُحْرِمٍ آخَرَ فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَهُ مُتَحَقِّقٌ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، وَعَلَى الْحَالِقِ رَأْسَهُ صَدَقَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَانٍ فِي أَصْلِ فِعْلِهِ، وَإِنْ حَلَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُحْرِمُ نَائِمًا فَجَاءَ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ دَمٌ عِنْدَنَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ، وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُفْسِدُ قَصْدَهُ، وَبِالنَّوْمِ يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ أَصْلًا، وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ يَنْتَفِي عَنْهُ الْإِثْمُ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِي حُكْمُ الْفِعْلِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، وَالسَّبَبُ هُنَا مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ عَنْ بَدَنِهِ، وَذَلِكَ حَصَلَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَلَا يَتَخَيَّرُ هُنَا بَيْنَ أَجْنَاسِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعُذْرُ سَمَاوِيٌّ وُجِدَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ، وَهُنَا الْعُذْرُ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَيُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الذَّنْبِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الدَّمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ بِهَذَا الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ، وَأَلْزَمَهُ هَذَا الْغُرْمَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَرْجِعُ الْمَغْرُورُ بِالْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ بِمُقَابَلَةِ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ بِالْوَطْءِ وَالْجَوَابُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ هُنَا كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ (قَالَ) وَإِذَا أَخَذَ الْمُحْرِمُ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا أَوْ مَنْ مَسَّ مِنْ لِحْيَتِهِ فَانْتَثَرَ مِنْهَا شَعْرٌ فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ بِمَا أَزَالَهُ مِنْ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ لَمْ تَتِمَّ جِنَايَتُهُ حِينَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِتَحْصِيلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ (قَالَ) وَإِنْ أَخَذَ ثُلُثَ رَأْسِهِ أَوْ ثُلُثَ لِحْيَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرُّبُعَ فِي الْكِتَابِ، وَالْجَوَابُ: فِي الرُّبُعِ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ فَالرُّبُعُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْحَلْقِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ مُعْتَادٌ فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، وَبَعْضُ الْعَلَوِيَّةِ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ لِابْتِغَاءِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُتَكَامِلَةُ تُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ مِنْ بَدَنِهِ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ: حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ أَوْ السَّاقِ، وَمِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ: حَلْقُ الرَّأْسِ أَوْ الْإِبْطَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 فَإِنْ حَلَقَ أَحَدَهُمَا أَوْ نَتَفَ أَوْ أَطَلَى بِنُورَةٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ، وَفِيمَا ذَكَرَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبْطَيْنِ النَّتْفُ دُونَ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ قَالَ نَتَفَ إبْطَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَلْقَ فَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْحِجَامَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ»، وَمَا كَانَ يَرْتَكِبُ فِي إحْرَامِهِ الْجِنَايَةَ الْمُتَكَامِلَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّهُ حَلْقٌ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ» إنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ الْحِجَامَةُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحَلْقُ فَإِنَّ الْحَجَّامَ إذَا كَانَ حَاذِقًا يَشْرِطُ طُولًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَلْقِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحْجُومُ أَشْعَرَ الْبَدَنَ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي «صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَشْعَرَ الْبَدَنَ»، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلصَّدَقَةِ كَمَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلدَّمِ وَعِنْدَهُمَا هَذِهِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلصَّدَقَةِ (قَالَ) فَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ حَلْقٌ مَقْصُودٌ لِلرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَإِنَّ الْعَلَوِيَّةَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ إنَّمَا ذَكَرَ إذَا أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ يَفْعَلُهُ الصُّوفِيَّةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ مَعَ اللِّحْيَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ قَصَّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءَ اللِّحَى، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عُضْوًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ بِمَا دُونَ الرُّبُعِ مِنْهُ الدَّمُ، وَالشَّارِبُ دُونَ الرُّبُعِ مِنْ اللِّحْيَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ فِي حَلْقِهِ. (قَالَ) وَعَلَى الْقَارِنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَتَانِ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَفِعْلُهُ جِنَايَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ جُزْءَانِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ) وَإِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمَ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَحَلَقَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَالَ مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْقُمَّلُ يَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِي، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي فَقَالَ أَتُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِكَ فَقُلْت نَعَمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَقُلْت مَا الصِّيَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقُلْت وَمَا الصَّدَقَةُ قَالَ ثَلَاثَةُ آصُعَ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ فَقُلْت وَمَا النُّسُكُ قَالَ شَاةٌ»، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 عَلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بِحَرْفٍ أَوْ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ النَّصُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَكُنَّا نُقَدِّرُهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ الطَّعَامُ بِطَعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَصَوْمُ يَوْمٍ بِمَنْزِلَةِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَكِنْ ثَبَتَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ كُلِّ قِيَاسٍ بِمُقَابَلَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لَزِمَهُ الدَّمُ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُضْطَرُّ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يَصُومُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ أَوْ غَيْرِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان. وَإِنْ اخْتَارَ الطَّعَامَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحَرَمِ، وَغَيْرِ الْحَرَمِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رِفْقُ فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَوُصُولُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّصْدِيقُ بِالطَّعَامِ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّيَامِ، وَإِنْ اخْتَارَ النُّسُكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ هُوَ الْحَرَمُ، وَهَذَا الدَّمُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالزَّمَانِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فَيَكُونُ كَفَّارَةً لِفِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحَرَمِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْهَدَايَا قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَرَمِ عَيْنَ إرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْوِيثَ الْحَرَمِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّصْدِيقُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ، وَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قُرْبَةٌ (قَالَ) وَإِنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ بِالذَّبْحِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَوُجُوبُ التَّصَدُّقِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَا إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ (قَالَ) وَإِنْ سُرِقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا بَلَغَ مَحِلَّهُ بَعْدُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ إذَا سُرِقَتْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَى صَاحِبِهَا مِثْلُهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ دِمَاءَ الْكَفَّارَاتِ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فِي أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ فَأَمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 دَمُ الْإِحْصَارِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّحَلُّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّهُ فِي مَعْنَى دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ إلَّا لِلْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ ثُمَّ وُجُوبُ هَذَا الدَّمِ لِلتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ فَإِنَّ أَوَانَ التَّحَلُّلِ مَا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَكَانَ فِي فِعْلِهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ فَالدَّمُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ يَكُونُ كَفَّارَةً لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالدَّمِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ بِرَأْسِهِ أَذًى فَأَمَّا التَّطَوُّعَاتُ مِنْ الدَّمِ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحُهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَاتِ هَدَايَا وَالْوَاجِبُ فِي الْهَدَايَا تَبْلِيغُهَا إلَى الْحَرَمِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَظْهَرُ (قَالَ) وَيُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ، وَالتَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ، وَالْجَوَابُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْمُضَحِّي، وَلِمَنْ شَاءَ الْمُضَحِّي مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَإِنْ أَكَلَ الْمُضَحِّي كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيَأْكُلَ الثُّلُثَيْنِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْهَدَايَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَاوَلَ مِنْ هَدَايَاهُ حَتَّى أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةٌ فَتُطْبَخَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ لَمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا شَيْئًا فَكَمَا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ لُحُومِ هَذِهِ الْهَدَايَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا أَيْضًا، وَلَا يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ غَيْرِهَا مِنْ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا هَكَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَاجِيَةَ حِينَ بَعَثَ بِالْهَدَايَا عَلَى يَدَيْهِ، وَقَالَ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا، وَخُطُمِهَا» فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِجُلُودِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (قَالَ) وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْجَزَّارُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا بِثَمَنٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا وَلَوْلَا الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ لَمَا أُبِيحَ لَهُ تَنَاوُلُ بَعْضِهَا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِذْنِ فِي التَّنَاوُلِ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. (قَالَ) وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهَا بِثَمَنٍ أَوْ أَعْطَى الْجَزَّارَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مِنْ اللَّحْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ بِصَرْفِهِ إلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 قَضَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ أَوْ بِتَحْصِيلِ عِوَضِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ كَمَنْ قَضَى بِنِصَابِ الزَّكَاةِ دَيْنًا عَلَيْهِ (قَالَ) وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرُ التَّقْصِيرِ فَبَدَأَ بِقَصِّ أَظْفَارِهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ فَفِعْلُهُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ يَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ تَحَلُّلَ الْحَاجِّ يَكُونُ بِالرَّمْيِ فَقَصُّ الْأَظْفَارِ بَعْدَ الرَّمْيِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً مِنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ كَفَّارَةِ قَصِّ الْأَظْفَارِ] (بَابُ كَفَّارَةِ قَصِّ الْأَظْفَارِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا قَصَّ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ يَدَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ عَطَاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ نَظِيرَ الْخِتَانِ، وَلَا بَأْسَ بِالْخِتَانِ فِي الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ قَصُّ الْأَظْفَارِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ لِمَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَمُبَاشَرَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ. وَإِنْ قَصَّ ظُفْرًا وَاحِدًا أَوْ ظُفْرَيْنِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيَنْقُصَ عَنْهُ مَا شَاءَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي كُلِّ ظُفْرٍ خُمْسُ الدَّمِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الدَّمُ فِي قَصِّ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ فَفِي كُلِّ ظُفْرٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ ظُفْرٍ أَوْ ظُفْرَيْنِ، وَالْجِنَايَةُ النَّاقِصَةُ فِي الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَبْرَ بِالصَّدَقَةِ. (قَالَ) وَإِنْ قَصَّ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَصَّ أَظْفَارِ يَدٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ الدَّمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ فَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْأَظْفَارِ مِنْ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: الدَّمُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَجِبُ بِقَصِّ أَظْفَارِ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدُ الْوَاحِدَةُ رُبْعُ ذَلِكَ فَتُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ كَرُبْعِ الرَّأْسِ فِي الْحَلْقِ فَكَانَ هَذَا أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّمُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَامَ الْأَكْثَرُ فِيهِ مَقَامَ الْكَمَالِ إذْ لَوْ فَعَلَ أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُقَالُ: إذَا قَصَّ الظُّفْرَيْنِ فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إذَا قَصَّ ظُفْرًا أَوْ نِصْفًا فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الظُّفْرَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَلَكِنْ يُقَالُ مَا كَانَ أَدْنَى الْمِقْدَارِ شَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهُ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ (قَالَ) وَلَوْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَنَّ الْمَقْصُوصَ خَمْسَةُ أَظْفَارٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ أَوْ مِنْ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا فِي الْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِقَ رُبْعَ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَوَانِبَ مُتَفَرِّقَةٍ فِي إيجَابِ الدَّمِ، وَكَمَا فِي حُكْم الْأَرْشِ لَا فَرْقَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْيَدَيْنِ بَيْنَ قَطْعِ خَمْسَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ يَدَيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ جِنَايَتُهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ بَعْضِ الْأَظْفَارِ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَظْفَارِ مَقْصُوصًا دُونَ الْبَعْضِ فَيَزْدَادُ بِهِ شُغْلُ قَلْبِهِ لَا أَنْ يَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ فَإِذَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْجِنَايَةُ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا مِنْ كُلِّ عُضْوٍ أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّ تَفْرِيقَ الْحَلْقِ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ عَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الرَّاحَةِ. (قَالَ) وَإِذَا انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُنْكَسِرَ لَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَقَلْعُهُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى النُّمُوِّ. (قَالَ) وَإِنْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِنْ كَانَ حِينَ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ كَفَّرَ ثُمَّ قَصَّ أَظْفَارَ أُخْرَى فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ ارْتَفَعَتْ بِالتَّكْفِيرِ فَفِعْلُهُ الثَّانِي يَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ تَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ فَلَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَا فَرْقَ أَنْ يَكُونَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الْوَاجِبِ عَلَى التَّدَاخُلِ، وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى التَّدَاخُلِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ، وَالْمَجَالِسُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، وَكَمَا فِي الْحُدُودِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ بِاعْتِبَارِ كُلِّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ دَمٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ مِنْهَا فَتُوجِبُ الدَّمَ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ، وَقَصَّ الْأَظْفَارَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَا يَجْرِي التَّدَاخُلُ فِي الْعِبَادَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَالْمَحَالُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 مُخْتَلِفَةٌ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَيُوجِبُ بِكُلِّ فِعْلٍ دِمَاءً بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْحَلْقَ فَإِنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُنَاكَ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى امْرَأَةً وَاحِدَةً أَوْ نِسْوَةً إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ شَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ نُقْصَانٌ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى فَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَجِبُ الدَّمُ، وَيَكُونُ قِيَاسُ الْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَذًى فِي أَظْفَارِهِ حَتَّى قَصَّهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلدَّمِ إذَا فَعَلَهُ لِعُذْرٍ تَخَيَّرَ فِيهِ الْمَعْذُورُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحْرِمٌ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْمَدْلُولُ فَعَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَاجِبٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الْآيَةَ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُتَّصِلٌ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ وَالْإِشَارَةُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْمَحِلِّ وَهُوَ الصَّيْدُ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِيمَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْحَلَالِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ إذَا كَانَ حَلَالًا بِالِاتِّفَاقِ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ، وَلَا يَضْمَنَ الدَّالُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِسَبَبِ الدَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيٍ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ صَاحِبِي فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاذَا تَرَى عَلَيْهِ فَقَالَ أَرَى عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَا عَنْ مُحْرِمٍ دَلَّ عَلَى بَيْضِ نَعَامَةٍ فَأَخَذَهُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ فَشَوَاهُ فَقَالَا عَلَى الدَّالِّ جَزَاؤُهُ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 نُقِلَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَا أَظُنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا جُزَافًا، وَالْقِيَاسُ لَا يَشْهَدُ لِقَوْلِهِمْ حَتَّى يَقُولَ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا السَّمَاعُ ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي صَيْدٍ أَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ» فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ كَالْإِعَانَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَظْرِ هُنَاكَ مَعْنًى فِي الْحِلِّ، وَهُوَ أَمْنُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَلَا بُدَّ مَنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَّصِلًا بِالْمَحِلِّ حَتَّى يَكُونَ جِنَايَةً فِي إزَالَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْمَحِلِّ. وَهُنَا الْحَظْرُ بِسَبَبِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَكَانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا لِإِحْرَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحِلِّ، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى الْجَزَاءِ هُنَا رَاجِحًا، وَمَعْنَى غَرَامَةِ الْمَحِلِّ هُنَاكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْإِحْرَامُ عَقْدٌ خَاصٌّ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ تَرْكَ التَّعَرُّضِ بِعَقْدِهِ فَإِذَا تَعَرَّضَ لَهُ بِالدَّلَالَةِ فَقَدْ بَاشَرَ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُودَعِ يَدُلُّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ بِعَقْدٍ خَاصٍّ ثُمَّ الْوَاجِبُ هُنَاكَ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ وَالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ مَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِدَلَالَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَارَ الْمُحْرِمُ سِكِّينًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَقْتُلَ صَيْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَعَلَى الْمُعِيرِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعِيرِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ بِإِعَارَةِ السِّكِّينِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ إذَا صَدَّقَهُ الْمَدْلُولُ فِي دَلَالَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ وَلَمْ يَتْبَعْ الصَّيْدَ بِدَلَالَتِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَيْهِ آخَرُ فَصَدَّقَهُ وَقَتَلَ الصَّيْدَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الثَّانِي إذَا كَانَ مُحْرِمًا دُونَ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ الْمُحْرِمُ إنْسَانًا بِأَخْذِ الصَّيْدِ فَأَمَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ إنْسَانًا آخَرَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْآمِرِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ دُونَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الْأَوَّلِ إذَا أَخَذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ، وَالدَّالُّ مُحْرِمٌ فَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّالُّ عَنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ فِعْلَهُ إنَّمَا يَتِمُّ جِنَايَةً عِنْدَ زَوَالِ مَعْنَى النُّفْرَةِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الدَّالُّ عِنْدَ ذَلِكَ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ أَخْذِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ. [اشْتَرَكَ رَهْطٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ] (قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَكَ رَهْطٌ مُحْرِمُونَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَحِلُّ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّالُّ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْمَحِلُّ هُنَا وَاحِد فَلَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقَاسَ بِصَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْحَلَالِينَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقَاسَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُجَّتُنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ فِعْلِهِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِينَ كَامِلٌ جَنَى بِهِ عَلَى إحْرَامٍ كَامِلٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكَمَا فِي الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ يُجْعَلُ كُلُّ قَاتِلٍ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ، وَيَسْلُكُ بِضَمَانِ الصَّيْدِ مَسْلَكَ الْغَرَامَاتِ، وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ، وَفِي إبَاحَةِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا فَالْغَرَامَاتُ تَكُونُ وَاجِبَةً بَدَلًا عَنْ الْمُتْلَفِ فَإِذَا كَانَ الْمُتْلَفُ وَاحِدًا لَا يَجِبُ إلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ كَالدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ فَأَمَّا هَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، وَإِحْرَامُ زَيْدٍ غَيْرُ إحْرَامِ عَمْرٍو، وَهُنَاكَ الْمُعْتَبَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَهِيَ مُتَّحِدَةٌ فِي حَقِّ الْفَاعِلِينَ فَأَمَّا ضَمَانُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَوُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِإِيجَابِ بَدَلٍ وَاحِدٍ، وَمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ لِيَكُونَ مَا يَجِبُ لَهُ جُبْرَانًا. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَارِنُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، وَعِنْدَنَا هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالْقَارِنُ جَانٍ عَلَى إحْرَامَيْنِ، وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا قَالَ يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافًا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَعِنْدَنَا لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يُنْبِئُ عَنْ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّدَاخُلِ فَصَارَ الْقَارِنُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ جَانِيًا عَلَى إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ أَدَاءً فَإِنَّ الْأَصْلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَدَاءً كَالْحَجَّتَيْنِ وَالْعُمْرَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَا يَظْهَرُ مَعَ الْأَصْلِ كَحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَعَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ إنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ تَبَعٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ مَعَ الْإِحْرَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ أَصْلٌ مِثْلُ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ مُوجِبِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ صَاحِبُهُ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَعَدَمِ الْمِلْكِ إذَا اجْتَمَعَا بِأَنْ زَنَى الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ لِعَيْنِهَا فَيَثْبُتُ بِالْيَمِينِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا حُرْمَةٌ أُخْرَى ثُمَّ عِنْدَ الشُّرْبِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَإِنَّهَا دُونَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ هُنَاكَ سِوَى وُجُوبِ تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِإِحْرَامِهِ فَلَا يَزْدَادُ بِالْحَرَمِ فِي حَقِّهِ فَأَمَّا هُنَا الْعُمْرَةُ بِعَقْدٍ مَقْصُودٍ يَحْوِي تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ (قَالَ) فَإِنْ قَتَلَ حَلَالَانِ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْف جَزَاءٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَقْتَضِيهِ ضَرْبَتُهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِضَرْبَتَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ فِعْلِهِمَا جَمِيعَ الصَّيْدِ صَارَ مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْجَزَاءِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْجُزْءُ الَّذِي تَلِفَ بِضَرْبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالْبَاقِي مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ إنْ كَانَ الصَّيْدُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا يُبَاعُ ذَلِكَ الصَّيْدُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ النَّعَمِ أَوْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ يُنْظَرُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فِي الْمَنْظَرِ لَا إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرَانِبِ عَنَاقٌ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزَعَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ، وَيَهْدُرُ، وَفِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَاحْتَجَّا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، وَحَقِيقَةُ الْمِثْلِ مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَالنَّظِيرُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَالْقِيمَةُ مِثْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ النَّعَمِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً. وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا مَا سَمَّيْنَا مِنْ النَّظَائِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ حُقُوقِ الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْحَيَوَانُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا أَنَّ الْمِثْلَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ هُنَا فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ كَيْفَ تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ، وَالْمِثْلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ ثُمَّ لَا تَكُونُ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلْبَدَنَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ لَا تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْقِيمَةُ فَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ النَّعَمِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ اسْمَ النَّعَمِ يَتَنَاوَلُ الْأَهْلِيَّ وَالْوَحْشِيَّ جَمِيعًا، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ فَجَزَاءٌ مَصْدَرٌ، وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَصْفٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ وَصْفًا لِلْمَذْكُورِ، وَذَلِكَ إذَا حُمِلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِيجَابُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِهَذِهِ النَّظَائِرِ لَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فَكَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ النُّقُودِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَدُ الْمَغْرُورِ يَفُكُّ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ، وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ. الْمُرَادُ الْقِيمَةُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي أَتَى الْحَكَمَيْنِ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ فَإِذَا ظَهَرَتْ قِيمَتُهُ فَالْخِيَارُ إلَى الْمُحْرِمِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فَإِذَا عَيَّنَا نَوْعًا عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِهِ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحَكَمَيْنِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. وَعَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ لِلتَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَثْنَى أَحْوَطَ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ الْمَثْنَى بِالنَّصِّ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَاهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّ صَاحِبِي هَذَا كَانَ مُحْرِمًا، وَإِنَّهُ رَمَى إلَى ظَبْيٍ، وَأَصَابَ أَحْشَاءَهُ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسَارَّ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِشَيْءٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَ السَّائِلُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ إنَّ فَتْوَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تُغْنِي عَنْك شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ فَأَرَى أَنْ تَنْحَرَ رَاحِلَتَك هَذِهِ، وَتُعَظِّمَ شَعَائِرَ اللَّهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَعَاهُ وَعَلَاهُ بِالدُّرَّةِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي لَا أُحِلُّ لَك مِنْ نَفْسِي شَيْئًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك فَانْظُرْ لِنَفْسِك فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَاك حَسَنَ اللَّهْجَةِ وَالْبَيَانِ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] فَأَنَا ذُو عَدْلٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ذُو عَدْلٍ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى جَاهِلًا فِيكُمْ فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ مَقَالَتِهِ ثُمَّ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَذَكَرَ الْهَدْيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يَحْكُمُ أَوْ مَفْعُولُ حُكْمِ الْحُكْمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إلَى الْحَاكِمِ، وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَهُمَا حُكْمًا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ إلَيْهِمَا، وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إلْزَامُ أَصْلِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إلَيْهِمَا التَّعْيِينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْحَاجَةُ إلَى الْحَكَمَيْنِ لِإِظْهَارِ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ لِمَا يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَمَا فِي ضَمَانِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ تَعْيِينَ مَا يُؤَدَّى بِهِ الضَّمَانُ إلَيْهِ دُونَ الْمُقَوِّمِينَ فَكَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ، وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا فَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ فَإِمَّا أَنْ يُطْعِمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا كَامِلًا فَالصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّوْمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] وَحَرْفُ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَقَاسَ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَقَالَ حَرْفُ " أَوْ " لَا يَنْفِي التَّرْتِيبَ فِي الْوَاجِبِ كَمَا فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَقِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ بَاطِلٌ، وَإِذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ فَالْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ يُشْتَرَى بِهِ الطَّعَامُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّظِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ النَّظِيرُ فَإِنَّمَا يُحَوِّلُهُ إلَى الطَّعَامِ بِاخْتِيَارِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ النَّظِيرُ كَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْلِ، وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ قِيمَةُ الصَّيْدِ، وَالْأَصْلُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِذَا اخْتَارَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ بِالطَّعَامِ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ عِنْدَنَا يَتَقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَعِنْدَهُ بِمُدٍّ، وَمَذْهَبُهُ فِي هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (قَالَ) فَإِنْ أَخْرَجَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ مَا لَمْ يُعْلَمُ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ بِالْحَرَمِ كَانَ آمِنًا، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْأَمْنُ بِإِخْرَاجِهِ فَيَكُونُ كَالْمُتْلِفِ لَهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ إلَيْهِ الْأَمْنُ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ كَالْمُحْرِمِ يَأْخُذُ صَيْدًا فَيَمُوتُ فِي يَدَيْهِ لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي نَفْرِهِ، وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَيْدِي. (قَالَ) وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ آمِنٌ بِالْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ مِنْ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا عَقَدَ عَقْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ الْحَرَامَ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمِ إذَا دَخَلَ الشَّامَ فَكَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ، وَالرَّامِي فِي الْحِلِّ فَرَمَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَيُصِيبُهُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ لِلنَّهْيِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ يَحْصُلُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ الصَّيْدُ صَيْدَ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَعَلَى هَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ. [تَنَاوُلُ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ] (قَالَ) وَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ تَنَاوُلُهُ، وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَشَرْطُ الْحِلِّ التَّسْمِيَةُ نَدْبًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُحْرِمِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَلَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ التَّنَاوُلَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا يُجْعَلُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا حَيًّا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا يَرِثَهُ، وَهُوَ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وَالْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ مُسَمًّى بِاسْمِ الذَّكَاةِ شَرْعًا فَلَمَّا سَمَّاهُ قَتْلًا هُنَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ أَصْلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَنْ فَكُلُوا» فَإِذَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَنَّ الْإِعَانَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ هُنَا أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَعِنْدَكُمْ الصَّيْدُ لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِإِشَارَةِ الْمُحْرِمِ وَدَلَالَتِهِ قُلْنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُمَا فِي الزِّيَادَاتِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَإِنْ قَامَ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِسَاخِهِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ لِمَعْنَى الدِّينِ، وَلِهَذَا حَرُمَ التَّنَاوُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ اصْطِيَادِ الْمَجُوسِيِّ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) فَإِنْ أَدَّى الْمُحْرِمُ جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا أَكَلَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَيْدَ الْمُحْرِمِ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يُوجِبُ إلَّا الِاسْتِغْفَارَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ فَكَذَا إذَا أَكَلَ هُوَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحُرُمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فَأَكَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَتْلَ هَذَا الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ بِهِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَوْلَى بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ فَإِنَّ هَذَا التَّنَاوُلَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ، وَبِخِلَافِ الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْنِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ لِلصَّيْدِ لَا لِلَّحْمِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ، وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ، وَبَعْدَ الْكَسْرِ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْمَقْتُولَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ كَالْحَيِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَرِثَ، وَكَالْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى تُعْتَقَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَتْ مَوْلَاهَا فَفِيمَا يَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ جَعَلْنَاهُ كَالْحَيِّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَهُوَ جَزَاءُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ بِالتَّنَاوُلِ جَزَاءٌ آخَرُ، وَأَمَّا جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 اللَّحْمِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ الْجَزَاءَ. [أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ] (قَالَ) وَإِذَا أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعَاهُ إلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَرَأَى الْيَعَاقِيبَ فِي الْقَصْعَةِ فَقَامَ فَقِيلَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَامَ كَرَاهَةً لِطَعَامِك فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مَا كَرِهْت طَعَامَهُ، وَلَكِنْ كُنْت مُحْرِمًا فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ فَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بِنَا رَدٌّ لِهَدِيَّتِك، وَلَكِنَّا حُرُمٌ». (وَلَنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمٌ فِي حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ فِيمَ كُنْتُمْ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَأْسَ بِهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ مَعَ أَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَرَأَى حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيرًا وَبِهِ سَهْمٌ ثَابِتٌ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخْذَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعُوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ رَمْيَتِي فَهِيَ لَك فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ»، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ تَصْحِيفٌ وَقَعَ مِنْ الرَّاوِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ حِمَارُ وَحْشٍ، وَلَئِنْ صَحَّ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرِّجْلِ الْقِطْعَةَ مِنْ اللَّحْمِ بَلْ هُوَ الْعَدَدُ مِنْ حِمَارِ الْوَحْشِ كَمَا يُقَالُ رِجْلُ جَرَادٍ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ، وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنْ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُحْرِمِينَ صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ إلَّا مَا اصْطَدْتُمُوهُ أَوْ صِيدَ لَكُمْ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّمْلِيكِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا، وَسَوَاءٌ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُحْرِمٍ فَهُوَ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ حِينَ يُهْدِيهِ إلَيْهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ لَحْمٌ لَا صَيْدَ فِيهِ فَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ. (قَالَ) مُحْرِمٌ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مُعَدٌّ لِيَكُونَ صَيْدًا مَا لَمْ يَفْسُدْ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِفْسَادِهِ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ فِي الرَّحِمِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ حُدُوثُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَالْمُتْلَفِ بَعْدَ الْحُدُوثِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَنَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْفَرْخِ حَيًّا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَغْرَمُ إلَّا قِيمَةَ الْبَيْضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاةُ الْفَرْخِ قَبْلَ كَسْرِهِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ الْبَيْضُ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فَرْخٌ حَيٌّ، وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ وَاجِبٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّ كَسْرَ الْبَيْضَةِ سَبَبٌ لِمَوْتِ الْفَرْخِ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَ هَذَا السَّبَبِ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَطَرَحَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَخْذًا فِيهِ بِالثِّقَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ سَبَبٌ صَالِحٌ لِمَوْتِهِمَا، وَقَدْ ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ الْإِشَارَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ جَارِيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ لَمَّا وَجَبَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْأَصْلِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْجَنِينِ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا رُجِّحَ شِبْهُ النَّفْسِ فِي الْجَنِينِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُمَا. (قَالَ) وَإِذَا عَطِبَ الصَّيْدُ بِفُسْطَاطِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِحَفِيرَةٍ حَفَرَهَا لِلْمَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِأَخْذِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إلَّا أَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ مِنْ الْمُحْرِمِ تَعَدٍّ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاصْطِيَادَ فَأَمَّا ضَرْبُ الْفُسْطَاطِ فَلَيْسَ بِتَعَدٍّ إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِاصْطِيَادَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ فُسْطَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا فَزِعَ مِنْهُ الصَّيْدُ فَاشْتَدَّ فَانْكَسَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا أَفْزَعَهُ هُوَ أَوْ حَرَّكَهُ فَإِنَّهُ وُجِدَ بِسَبَبٍ هُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا. (قَالَ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ مِنْ يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّيْدَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ كَمَنْ اشْتَرَى خَمْرًا لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ مِنْ يَدِهِ مُتْلِفًا عَلَيْهِ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ فَعَلَ عَيْنَ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ شَرْعًا فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ الْخَمْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ. (قَالَ) وَلَوْ قَتَلَهُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مُتْلِفًا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا بِإِثْبَاتِ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْآخِذُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَاتِلِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْآخِذَ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ، وَلَا كَانَتْ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 فِيهِ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ بِالْقَتْلِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ يُفْتَى بِهَا، وَيَخْرُجُ بِالصَّوْمِ مِنْهَا فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْمَالِيَّةِ، وَيُطَالَبُ بِهِ، وَيُحْبَسُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذَا الصَّيْدِ كَانَتْ يَدًا مُعْتَبَرَةً لِحَقِّ الْآخِذِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْإِرْسَالِ، وَإِسْقَاطِ الْجَزَاءِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْقَاتِلُ يَصِيرُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ هَذِهِ الْيَدَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ كَغَاضِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُثْبِتٌ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَاَلَّذِي قَالَ يُفْتَى بِهِ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ فَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى نَفْسِ الْحَقِّ بَلْ لِمَعْنًى مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ مَالِ عِبَادِهِ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ ضَمِنَ أَبَاهُ رَجَعَ الْأَبُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُحْبَسُ فِيمَا لَزِمَهُ لِابْنِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْغَاصِبَ مِنْهُ فِيمَا يُطَالِبُهُ بِهِ. (قَالَ) وَلَوْ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ ظَبْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ الْيَدَ مُسْتَدَامَةٌ، وَكَمَا أَنَّ إنْشَاءَ الْيَدِ مُتْلِفُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَالِاسْتِدَامَةُ كَذَلِكَ. (قَالَ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِذِي الْيَدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَازِفِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا فِعْلُهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِإِرْسَالِهِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلضَّمَانِ كَمَنْ أَرَاقَ خَمْرَ مُسْلِمٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ مِلْكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ بَقِيَ مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا عَلَى حَالِهِ فَاَلَّذِي أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا فَيَضْمَنُ لَهُ بِخِلَافِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ، وَلَوْ رَفَعَ بِنَفْسِهِ يَرْفَعُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفَوِّتُ مِلْكَهُ بَعْدَمَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِذَا فَوَّتَ هَذَا الْمُرْسِلُ مِلْكَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، وَهَذَا طَرِيقُهُ أَيْضًا فِي إتْلَافِ الْمَعَازِفِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ هُنَاكَ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ فَالْمُرْسِلُ لَا يَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 مُفَوِّتًا عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا، وَهُنَا بِالْإِحْرَامِ لَمْ يَبْطُلْ مِلْكُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَالدَّلِيلُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا حَلَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَمَا حَلَّ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. [مُحْرِمٌ قَتَلَ سَبُعًا] (قَالَ) مُحْرِمٌ قَتَلَ سَبُعًا فَإِنْ كَانَ السَّبُعُ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَهُ فَآذَاهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحَدَأَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ» فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا عَلَى الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ لِأَنَّ قَتْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْمُلْحَقِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ فَأَمَّا سِوَى الْخَمْسِ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ مِنْهَا شَيْئًا ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا اسْتَثْنَى الْخَمْسَ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِهَا الْأَذَى فَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ طَبْعِهِ الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْسِ مُسْتَثْنًى مِنْ نَصِّ التَّحْرِيمِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا تَقْتُلُوا مِنْ الصَّيُودِ غَيْرَ الْمُؤْذِي، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ غَيْرُ الْمُؤْذِي، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ حِينَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ قَالَ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك فَافْتَرَسَهُ أَسَدٌ بِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةٌ مُمْتَدَّةٌ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَأَمَّا غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَمُحَرَّمُ التَّنَاوُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا النَّصُّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وَاسْمُ الصَّيْدِ يَعُمُّ الْكُلَّ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لِتَنَفُّرِهِ، وَاسْتِيحَاشِهِ، وَبُعْدِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ الِاصْطِيَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى تُطْلَقُ عَلَى أَخْذِ الرِّجَالِ قَالَ الْقَائِلُ صَيْدُ الْمُلُوكِ ثَعَالِبٌ وَأَرَانِبُ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ ثُمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّصِّ خَمْسٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فَحُكْمُ النَّصِّ فِيهِ ثَابِتٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ خَرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا بِعَدَدِ الْخَمْسِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا مُبْطِلًا لِلنَّصِّ ثُمَّ مَا سِوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الْخَمْسِ فِي مَعْنَى الْأَذَى دُونَ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْخَمْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْبُدَاءَةُ بِالْأَذَى، وَمَا سِوَاهَا لَا يُؤْذِي إلَّا أَنْ يُؤْذَى فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَلْحَقَ بِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ إلَى غَايَةٍ فَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ هَكَذَا لِأَنَّ النَّصَّ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الِاصْطِيَادِ لَا حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ، وَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَمَا تَثْبُتُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِقَتْلِ الضَّبُعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّبُعَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَفِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حِينَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِيهِ؟ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ نَعَمْ»، وَلَكِنْ السَّبُعُ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَزَاءُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّيْدِ هَدَرٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْجَرْحِ أَيْ جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ إذَا كَانَ السَّبُعُ مَمْلُوكًا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ مِنْهُ أَوْ مِنْ السَّبُعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ فَأَهْدَى كَبْشًا، وَقَالَ إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ فَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ بَيَانُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ السَّبُعِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْخَمْسَ مُسْتَثْنَاةً لِتَوَهُّمِ الْأَذَى مِنْهَا غَالِبًا، وَتَحَقُّقُ الْأَذَى يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ تَوَهُّمِهِ فَتَبَيَّنَ بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَمَا أَلْزَمَهُ تَحَمُّلَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَإِذَا جَاءَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ صَارَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ أَذَاهُ مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعِبَادِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إتْلَافِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْقُطَ بِهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَتْلُ الْمُحْرِمِ الْقَمْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ قَمْلَةً وَجَدَهَا عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ، وَلَكِنْ إذَا قَتَلَ الْقَمْلَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا يَضْمَنُ لِمَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ بِإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ مُضْطَرًّا فَقَتَلَ صَيْدًا لِأَنَّ الْإِذْنَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ، وَالْإِذْنُ عِنْدَ الْأَذَى ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبُعَ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عَلَى قِيَاسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيُودِ هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْخِلَافَ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فِيمَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَهُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْنَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا أَوْ لَا يُجَاوِزُ بِالْقِيمَةِ شَاةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَقَطْ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ كَسَائِرِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلَحْمِهِ بِفِعْلِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي الْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْأَسَدِ لِمَعْنَى تَفَاخُرِ الْمُلُوكِ بِهِ لَا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يُجَاوِزُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَاتَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ. (قَالَ) وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَثْنَى مَكَانَ الْحَدَأَةِ الْغُرَابُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَيَخْلِطُ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَأَمَّا الْعَقْعَقُ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَالْخِنْزِيرُ وَالْقِرْدُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى قَتْلِهِ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثْت لِكَسْرِ الصَّلِيبِ، وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ»، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَيَكُونُ نَصُّ التَّحْرِيمِ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السَّمُّورُ وَالدَّلَقُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفِيلُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ وَحْشِيًّا فَأَمَّا الْفَأْرَةُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْحَدِيثِ وَحْشِيُّهَا وَأَهْلِيُّهَا سَوَاءٌ وَالسِّنَّوْرِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا الضَّبُّ فَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَمْسَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَيَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 بِقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرَانِبُ وَالْيَرْبُوعُ يَجِبُ بِقَتْلِهِمَا الْقِيمَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُنْفُذِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْفَأْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَعَلَهُ كَالْيَرْبُوعِ فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانِ حَمَلًا أَوْ عَنَاقًا لَمْ يُجْزِهِ الْحَمَلُ وَلَا الْعَنَاقُ مِنْ الْهَدْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَدْنَى مَا يَجْزِي فِي ذَلِكَ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَلِكَ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجْزِي هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِ الْحَمَلِ وَالْعَنَاقِ كَمَقْصُودٍ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ هُنَا الْهَدْيُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَكَمَا لَا يُجْزِئُ الْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَا يُجْزِئُ هُنَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ اسْتِحْسَانًا بِالْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُسَمِّي الدَّرَاهِمَ وَالثَّوْبَ هَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَالْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ أَوْلَى فِي ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ عَنَاقًا وَفَصِيلًا وَجَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى نَاقَةً فَنَتَجَتْ كَانَ وَلَدُهَا هَدْيًا مَعَهَا يُنْحَرُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَدْيٍ لَكَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ كَذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أُجَوِّزُهُ هَدْيًا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا يُجَوِّزُ بِهِ التَّضْحِيَةَ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا إذَا نَتَجَتْ الْأُضْحِيَّةُ (قَالَ) وَفِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ الْقِيمَةَ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ الْمُحْرِمَ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ صِيدَ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِالتَّكْفِيرِ فَقَتْلُهُ الْآنَ جِنَايَةٌ أُخْرَى مُبْتَدَأَةٌ فَيَلْزَمُهُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ فِي الْأُولَى لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إذَا كَفَّرَ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ إلَّا مَا نَقَصَهُ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ مَجْرُوحٍ فَأَمَّا إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ مِنْهُ جِنَايَةٌ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بَاقٍ فَيُجْعَلُ الثَّانِي إتْمَامًا لَهُ فَأَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً. (قَالَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 مُحْرِمٌ جَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ جِنَايَتُهُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِجُرْحِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَدَّى الْوَاجِبَ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَإِذَا تَمَّ الْوُجُوبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَازَ الْمُؤَدِّي كَمَا لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ. (قَالَ) وَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ بُرُوجُ الْحَمَامَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ أَحَدٌ لِإِرْسَالِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَلَا أُمِرَ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ لِإِزَالَةِ الصَّيْدِ عَنْ مِلْكِهِ، وَتَعَرُّضُهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصَّيْدُ غَائِبًا عَنْهُ فِي بَيْتِهِ لَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَرِّضًا لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّطَيُّبُ وَلُبْسُ الْمَخِيطِ فَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ. (قَالَ) وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا فَمَا لَا يَكُونُ جِنْسُهُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا لَا يَكُونُ صَيْدًا. (قَالَ) وَكَذَلِكَ الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَسْكَرِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ كَالدَّجَاجِ مُسْتَأْنَسٌ بِجِنْسِهِ فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْحَمَامُ أَصْلُهُ صَيْدٌ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ فِي الْمُسَرْوَلِ مِنْ الْحَمَامِ شَيْءٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ لَا يَفِرُّ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَمَامُ بِجِنْسِهِ مُمْتَنِعٌ مُتَوَحِّشٌ فَكَانَ صَيْدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدْ اُسْتُؤْنِسَ كَالنَّعَامَةِ وَحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَغَيْرِهِمَا. [الَّذِي يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ] (قَالَ) وَاَلَّذِي يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْآيَةَ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ قَتْلُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْقَتْلُ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ بَحْرِيَّ الْأَصْلِ وَالْمَعَاشِ كَالسَّمَكِ فَأَمَّا الطَّيْرُ فَهُوَ بَرِّيُّ الْأَصْلِ بَحْرِيُّ الْمَعَاشِ لِأَنَّ تَوَالُدَهُ يَكُونُ فِي الْبَرِّ دُونَ الْمَاءِ فَيَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَكُونُ مَائِيَّ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضُّفْدَعِ جُعِلَ مَائِيًّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ بَرِّيَّ الْأَصْلِ لَا يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ فِيهِ. (قَالَ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 ظَبْيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَوَلَدَهَا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الظَّبْيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا لِإِزَالَةِ جِنَايَتِهِ، وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْحِلِّ شَرْعًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُ وَلَدِهَا مَعَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْتَفِعُ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَإِذَا ذَبَحَهُمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِمَا شَرْعًا فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الرَّدُّ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَبِذَبْحِهِمَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى. (قَالَ) وَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّيْدَ، وَأَنْهَاهُ عَنْهُ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ أَصْلًا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ جَزَاؤُهُ أَيْضًا إنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَى الصَّيْدِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي مُفَوِّتٌ لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ. (قَالَ) وَإِنْ اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ مَعْنًى بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إحْدَى قَوَائِمِ الظَّبْيِ (قَالَ) مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا، وَقَدْ أَزَالَ ذَلِكَ الْأَمْنَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ أَمْنِهِ بِأَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْحَرَمِ فَيُرْسِلَهُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ نَسْخُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَنَسَخَ فِعْلَهُ بِأَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ. (قَالَ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَا أَعَادَهُ آمِنًا كَمَا كَانَ فَإِنَّ الْأَمْنَ كَانَ ثَابِتًا بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَرَمِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْنُ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَانِي عَنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْحَرَمِ سَالِمًا فَحِينَئِذٍ يَبْرَأُ عَنْ جَزَائِهِ كَمَا إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. (قَالَ)، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْرِمُ بِالصَّيْدِ مِمَّا يُتْلِفُهُ مِنْهُ أَوْ يُعَرِّضُهُ لِلتَّلَفِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَلِمَ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ انْتِسَاخُ حُكْمِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْرَحَهُ فَتَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَوْ يَنْتِفَ رِيشَهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ أَوْ يَقْلَعَ سِنَّهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَاسَا هَذَا بِالضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 ذَلِكَ يَسْقُطُ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْفِعْلِ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هُنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْصَلَ مِنْ الْأَلَمِ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ بِانْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ لَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتِبَارُ الْأَلَمِ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ تَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَلَالِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُحْرِمَ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُحْرِمِ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُعِينَ شَرِيكًا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْإِعَانَةِ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَكَانَ عَاصِيًا فِيهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّوْبَةِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ زَجْرًا لِلْمُحْرِمِ عَنْ اصْطِيَادِهِ فَإِنَّهُ تَقِلُّ رَغْبَتُهُ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ الصَّيْدُ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً جَزَاءٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الْآيَةَ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمْدِيَّةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ يَمْنَعُ وُجُوبَهُ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ كَفَّارَةٌ تُوجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُخْطِئِ كَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَارْتِكَابُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْعَمْدِ فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] إلَى قَوْلِهِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَهَذَا الْوَعِيدُ عَلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَمْدَ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ فِي الْقَتْلِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِتَمَحُّضِ الْحَظْرِيَّةِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هُنَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا وَجَبَ إذَا كَانَ خَطَأً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتْلُ أَوَّلَ مَا أَصَابَ أَوْ أَصَابَ قَبْلَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَأَمَّا الْعَائِدُ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ اذْهَبْ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْك لِظَاهِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْعَوْدِ إلَيْهِ، وَجَزَاءُ الْجِنَايَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَائِدِ أَظْهَرُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُبْتَدِئِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ عَادَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الرِّبَا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة: 275] يَعْنِي مَنْ عَادَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ - بِالْحُرْمَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَوْدَ إلَى الْقَتْلِ بَعْدَ الْقَتْلِ. [قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ] (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَحْرَمَ، إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى، إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» فَإِذَا ثَبَتَ أَمْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ الْقَاتِلُ جَانِيًا بِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا مُحْتَرَمًا مُتَقَوِّمًا فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ، وَالْجَزَاءُ قِيمَةُ الصَّيْدِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ إلَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَتَأَدَّى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِي التَّأَدِّي بِالْهَدْيِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ أَيْضًا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْوَاجِبُ جَزَاءَ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَعْنَى الْغَرَامَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْحِلِّ يَغْلِبُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْمُتْلَفِ بِالنَّصِّ إمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَصْلِ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فَكَانَ جَانِبُ الْمَحِلِّ هُوَ الرَّاعِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى جَزَاءِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحِلِّ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمُبَاشِرِ، وَهُوَ إحْرَامُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الِاصْطِيَادُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ وَصْفُ الْمَحِلِّ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحِلِّ، وَهُوَ صِفَةُ الْأَمْنِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَحِلِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانُ النَّامِي مِنْ الْأَشْجَارِ النَّامِيَةِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَيَاةِ مِثْلِهَا، وَثُبُوتِ الْأَمْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 لَهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَانَ هَذَا بِغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ أَشْبَهَ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَإِتْلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ فَكَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ يُقَرِّرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْ مَحَلِّ أَمْنٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُ بِمُقَابَلَتِهِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْجُوعِ لِلْمِسْكِينِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالْإِطْعَامِ يَحْصُلُ دُونَ الصِّيَامِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِارْتِكَابِهِ فِعْلًا مُحَرَّمًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِفِعْلِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الصِّيَامُ، وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ هُنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ حَتَّى يُشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْغَرَامَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَلُّكُ مِنْ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي اللَّحْمِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ حَتَّى إذَا سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْمَالِ خَالِصًا بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا (قَالَ) وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَثْبُتُ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَمْلُوكِ كَالْأَشْجَارِ فَإِنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَقَاسَ هَذَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ لَا يُزِيلُ الرِّقَّ الثَّابِتَ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى يَجِبَ إرْسَالُهُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَأَمَّا الصَّيْدُ مَمْلُوكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَهُوَ مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَإِنْ بَاعَ الصَّيْدَ بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا يُرَدُّ إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ فِي الصَّيْدِ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ. (قَالَ) رَجُلٌ أَدْخَلَ الْحَرَمَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْأَمْنُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَاتِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مُبَاشَرَةَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْ الصَّيْدِ الْآمِنِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ عُهْدَةُ مَا يَفْعَلُهُ الصَّيْدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) وَلَا خَيْرَ فِيمَا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ، وَلَا يُدْخِلُ الْحَرَمَ شَيْئًا مِنْهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْدَى إلَيْهِ بِمَكَّةَ بَيْضَ نَعَامٍ وَظَبْيَيْنِ حَيَّيْنِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا، وَقَالَ أَهْدَيْتُهُمَا إلَيَّ آمِنَيْنِ مَا كَانَا أَيْ مَا دَامَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُمَا صَارَا آمِنَيْنِ بِإِدْخَالِهِمَا فِي الْحَرَمِ حَيَّيْنِ، وَالْحَجَلُ وَالْيَعَاقِيبُ مِنْ الصُّيُودِ فَبِإِدْخَالِ الْحَرَمِ إيَّاهُمَا حَيَّيْنِ يَثْبُتُ الْأَمْنُ فِيهِمَا فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي هَذَا التَّرْخِيصُ بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَإِنْ ذَبَحَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْحَرَمَ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِهِمَا فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ، وَاللَّحْمُ لَيْسَ بِصَيْدٍ. (قَالَ) وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ، وَالْمُوجِبُ لِلْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ هَذَا الصَّيْدِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَهَذَا، وَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا قِطْعَةً مِنْ الْحَرَمِ فَمَرَّ فِيهَا السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا الرَّامِيَ فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الصَّيْدِ فَهُوَ صَيْدُ الْحِلِّ، وَبِمُرُورِ السَّهْمِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ، وَلَا فِي حَقِّ الرَّامِي، وَالسَّهْمُ لَيْسَ بِمَحَلِّ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّامِي شَيْءٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. (قَالَ) وَإِنْ جَرَحَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي وَقْتِ الْجَرْحِ كَانَ مُبَاحًا، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ مُوجِبًا كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ هَذَا الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْهُ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَلَكِنَّهُ كُرِهَ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ حُكْمٌ يَثْبُتُ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ عَنْهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُحَرِّمُ التَّنَاوُلَ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْجَرْحِ يُبِيحُ تَنَاوُلَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ. (قَالَ) وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْكُوفَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْحَرَمُ كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّبْلِيغِ إلَى الْحَرَمِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَصَابَ كُلُّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذْ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ دُونَ الْكِسْوَةِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا أَصَابَ كُلَّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. (قَالَ) وَإِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ بِالْكُوفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَصَابَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا يَظْهَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْحَلَالِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَالْمُحْرِمِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ الدَّالُّ فِيهِ كَالْمُبَاشِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْفَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. [أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ] (قَالَ) وَإِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ تَعَلَّقَ بِالْمَذْبُوحِ فَإِذَا صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ صَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُرِقَ فَإِنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ، وَبَقِيَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ مُعَلَّقًا بِعَيْنِ الْمَذْبُوحِ فَإِذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْأَكْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهِ لَا أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ لِأَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَمَّا فِي الْهَدْيِ فَالتَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ التَّصْدِيقِ بِاللَّحْمِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِالطَّعَامِ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ فَفَضَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 مُدٌّ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هَذَا الْمِقْدَارَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الصَّوْمَ يَصُومُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا أَوْ يُطْعِمُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّوْمَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] فَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. [قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ] (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ حِمْصَ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَالْحَلَمَةِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفِرُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الصَّيُودِ كَانَتْ مُؤْذِيَةً بِطَبْعِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قُمْ فَقَرِّدْ الْبَعِيرَ فَقَالَ أَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لَوْ أَمَرْتُك بِنَحْرِهِ هَلْ كُنْت تَنْحَرُهُ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ كَمْ مِنْ قُرَادٍ وَحَمْنَانَةٍ تُقْتَلُ بِالنَّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْقُرَادِ وَالْحَمْنَانَةِ شَيْءٌ، وَيُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلَةِ لَا لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ قَتْلُهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الشَّعْرِ فَإِنْ قَتَلَهَا فَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْقَمْلَةِ إذْ لَا خَيْرَ فِي الْقَمْلِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَمْلَةُ ضَالَّةٌ لَا تُلْتَمَسُ فَلِهَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ بِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. [الِاغْتِسَال لِلْمُحْرِمِ] (قَالَ)، وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغْتَسَلَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ إنَّ الْمَاءَ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَاءُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا شَعَثًا. (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَصَابَ بَيْضًا مِنْ بَيْضِ الصَّيْدِ فَأَعْطَاهُ مُحْرِمًا فَشَوَاهُ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهِ إلَى الذَّكَاةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الذَّكَاةِ فِي حِلِّ تَنَاوُلِ الْبَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمَجُوسِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَا الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ كَمَا لَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَا يَحْرُمُ بِهِ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ. (قَالَ) مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبُ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَرْتَفِضُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْقَصْدِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ الْعِبْرَةَ لِلْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى الرَّفْضِ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَرْتَفِضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِهَا فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصَّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ رَفْضِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ حَتَّى أَنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ. (قَالَ) وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهُ ذِمِّيًّا أَجْزَأَهُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ كُلُّ صَدَقَةِ وَاجِبَةٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثَمَّةَ. (قَالَ) وَإِذَا بَلَغَ جَزَاءُ الصَّيْدِ جَزُورًا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ أَغْنَامًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ التَّعْظِيمُ فِي الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ اشْتَرَى أَغْنَامًا فَذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْهَدَايَا نَحْوَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ. (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ بِالْجَزُورِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلَا أَنْ يُقَلِّدَهُ لِأَنَّ سُنَّةَ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْرِيفِ فِيمَا يَكُونُ نُسُكًا، وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّعْرِيفُ وَالتَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، وَعَلَى هَذَا هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ نُسُكًا فَالتَّشْهِيرُ فِيهِ أَوْلَى لِيَكُونَ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ كَفَّارَةً فَسَبَبُهُ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فَالسِّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ التَّشْهِيرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذَا الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ يَسْتُرْ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 تَعَالَى عَلَيْهِ». [رَمَى الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ] (قَالَ) وَإِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الرَّمْيِ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِمَا يَتَعَقَّبُهُ لَا بِمَا يَسْبِقُهُ. (قَالَ) وَإِذَا رَمَى طَائِرًا عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَصْلِهَا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَوْضِعِ الطَّائِرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُصْنُ فِي الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِالْغُصْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهُ} [النحل: 79] فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعَ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَوَاءِ الْحَرَمِ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَوَاءِ الْحِلِّ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحِلِّ فَأَمَّا فِي قَطْعِ الْغُصْنِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَغْصَانِ بِالشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْأَغْصَانِ حُكْمَ أَصْلِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحَرَمِ، وَبَعْضُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدٍ قَائِمُ بَعْضِ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ يَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَوَائِمُ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ قِوَامَهُ بِقَوَائِمِهِ دُونَ رَأْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ قِوَامُهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَإِذَا كَانَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» قَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كُلُّ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ تُؤْذِي الطَّائِفِينَ فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا، وَحُرْمَةُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ يَأْوِي إلَى أَشْجَارِ الْحَرَمِ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَتَّخِذُ الْأَوْكَارَ عَلَى أَغْصَانِهَا فَكَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ فَكَذَلِكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُ، وَشَجَرُ الْحَرَمِ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَمَّا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ سَوَاءٌ أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي الْحَرَمِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَطْعِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِمَا يَنْبُتُهُ النَّاسُ عَادَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ نَبَتَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى قَالُوا لَوْ نَبَتَ فِي مِلْكِ رِجْلِ أُمِّ غِيلَانٍ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ. (قَالَ) وَإِنْ قَطَعَ رَجُلَانِ شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا قِيمَةُ وَاحِدَةٍ عَلَى قِيَاسِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ رَجُلَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا يَسْتَوِي إنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَلَالَيْنِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَتَكَامَلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا حُرْمَةُ الشَّجَرَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الصِّيَامُ إنَّمَا يُهْدِي أَوْ يُطْعِمُ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ. (قَالَ) وَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَدَّى قِيمَتَهَا لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ فَلَا تَبْقَى أَشْجَارُ الْحَرَمِ، وَفِي ذَلِكَ إيحَاشُ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ صَارَ مَمْلُوكًا بِمَا غَرِمَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَقْطُوعِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ صَيْدَ الْحَرَمِ ثُمَّ تَنَاوَلَهُ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّنَاوُلِ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ غَرَسَهَا فَنَبَتَتْ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا، وَيَصْنَعَ بِهَا مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مِلْكُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْبَتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ. [مَا تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ حَتَّى سَقَطَ] (قَالَ) وَمَا تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ حَتَّى سَقَطَ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ بِمَا يَكُونُ نَامِيًا فِيهِ حَيَاةَ مِثْلِهِ، وَالْمُتَكَسِّرُ وَمَا يَبِسَ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى النُّمُوِّ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ. (قَالَ)، وَلَا يُخْتَلَى حَشِيشُ الْحَرَمِ، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، أَوْ لِبُيُوتِهِمْ وَقُبُورِهِمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا الْإِذْخِرَ»، وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ لِذَلِكَ أَوْ كَانَ أَوْحَى أَنْ يُرَخَّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَمَا لَا يُرَخَّصُ فِي قَطْعِ الْحَشِيشِ فِي الْحَرَمِ بِالْمِنْجَلِ فَكَذَلِكَ لَا يُرَخَّصُ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْتَشَّ، وَيُرْعَى لِأَجْلِ الْبَلْوَى، وَالضَّرُورَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ حَمْلُ عَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَفِي الِاحْتِشَاشِ» ارْتِكَابُ النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ لِأَنَّ مَشَافِرِ الدَّوَابِّ كَالْمَنَاجِلِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْكَمْأَةِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُودَعٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ الْقُدُورِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَجَرِ فِي الْحَرَمِ مُبَاحٌ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ أَيْضًا ثُمَّ حُرْمَةُ الْحَرَمِ خَاصَّةٌ بِمَكَّةَ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيُودِ، وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ «إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَقَالَ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصْطَادُ فِي الْمَدِينَةِ فَخُذُوا ثِيَابَهُ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى بَعْضَ الصِّبْيَانِ بِالْمَدِينَةِ طَائِرًا فَطَارَ مِنْ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» اسْمُ ذَلِكَ الطَّيْرِ، وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَمَا نَاوَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبِيًّا، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَتَكُونُ قِيَاسَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِخِلَافِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا مُحْرِمًا [قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْبَازِيَ الْمُعَلَّمَ] (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْبَازِيَ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ غَيْرَ قِيمَتِهِ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا صِفَةٌ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنَفُّرِهِ، وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ، وَلَا يَزْدَادُ لِأَنَّ تَوَحُّشَهُ مِنْ النَّاسِ يَقِلُّ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ زَائِدًا فِي الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ مُتْلِفَهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّتُهُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا، وَكَذَلِكَ الْحَمَامَةُ إذَا كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا لِلْعِبَادِ يُعْتَبَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُصَوِّتُ فَتَزْدَادُ قِيمَتُهَا لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا (قَالَ) وَإِذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّيَ الْجَزَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 سَبَقَ أَوْرَدَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ أَوْ صَيْدٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَنَاوَلُ مِنْ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا غُنْيَةٌ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْمَيْتَةِ أَغْلَطُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ أَغْلَظِ الْحُرْمَتَيْنِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَهْوَنِهِمَا، وَقَتْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ كَالْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى فَلِهَذَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [بَابُ الْمُحْصَرِ] (بَابُ الْمُحْصَرِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أَيْ مُنِعْتُمْ مِنْ إتْمَامِهِمَا {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] شَاةٍ تَبْعَثُونَهَا إلَى الْحَرَمِ لِتُذْبَحَ ثُمَّ تَحْلِقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَعَلَى الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ يُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحَ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَيُحِلُّ عَنْ إحْرَامِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَلَكِنْ يُذْبَحُ الْهَدْيُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُعْتَمِرًا فَأُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحَ هَدَايَاهُ وَحَلَقَ بِهَا، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعُودَ مِنْ قَابِلٍ فَيُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ» فَإِنَّمَا «نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدْيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ»، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يَفِيَ الْمَبْعُوثُ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَهْلِكَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِذَا ذَبَحَهُ فِي مَوْضِعِهِ يُتَيَقَّنُ بِوُصُولِ الْهَدْيِ إلَى مَحِلِّهِ، وَخُرُوجِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ إرَاقَةِ دَمِهِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] بَعْدَمَا ذَكَرَ الْهَدَايَا وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِإِرَاقَةِ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً، وَنَقِيسُ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الدَّمَ بِدَمِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَحَلَّلَ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَكَذَا هَذَا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي نَحْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدَايَا حِينَ أُحْصِرَ فَرُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ لِيَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ حَتَّى قَالَ نَاجِيَةُ: مَاذَا أَصْنَعُ فِيمَا يَعْطَبُ مِنْهَا؟ قَالَ انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا، وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا»، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ إنْ صَحَّتْ فَنَقُولُ: الْحُدَيْبِيَةُ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّ نِصْفَهَا مِنْ الْحِلِّ وَنِصْفَهَا مِنْ الْحَرَمِ الْحَرَمِ، وَمَضَارِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِي الْحِلِّ، وَمُصَلَّاهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا سِيقَتْ الْهَدَايَا إلَى جَانِبِ الْحَرَمِ مِنْهَا، وَنُحِرَتْ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ فِيهِ حُجَّةٌ، وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَجِدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَبْعَثُ الْهَدَايَا عَلَى يَدِهِ إلَى الْحَرَمِ. (قَالَ) ثُمَّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ إلَى الْحَرَمِ فَذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَلْقٌ، وَلَا تَقْصِيرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَلْقُ نُسُكٌ فَعَلَى الْمُحْصَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَمَّا قَضَاءُ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تَصِرْ مُؤَدَّاةً، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّارِعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إذَا أَفْسَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِأَنَّهُ صَارَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ حِينَ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ أَيْضًا. (قَالَ) وَإِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ فَإِنْ شَاءَ أَقَامَ مَكَانَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالِانْصِرَافِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُحْصَرًا بِعَدُوٍّ فَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا بِمَرَضٍ أَصَابَهُ فَعِنْدَنَا هُوَ وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ سَوَاءٌ يَتَحَلَّلُ بِبَعْثِ الْهَدْيِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآيَةُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْصَرًا بِالْعَدُوِّ فَفِيمَا لَمْ يَرِدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فِيهِ النَّصُّ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ لُزُومُ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَفْعَالَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّحَلُّلُ لَهُ حَقًّا بِالشَّرْطِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنْ تَحِلِّي حَيْثُ حُبِسْت» فَلَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَمَّا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ كَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ أَخْطَأَ الْعَدَدَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ هُنَاكَ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ شَرُّ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ إنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَرَضِ، فَفِي الْعَدُوِّ يُقَالُ حُصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَفِي الْمَرَضِ يُقَالُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَالُ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ جَمِيعًا أُحْصِرَ، وَحُصِرَ فِي الْعَدُوِّ خَاصَّةً فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ تَتَنَاوَلُ الْمَرِيضَ، وَقَوْلُهُ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] لَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرَضِ، وَمَعْنَاهُ إذَا بَرِئْتُمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ، وَالدَّمَامِلُ أَمَانٌ مِنْ الطَّاعُونِ» فَعَرَفْنَا أَنَّ لَفْظَةَ الْأَمْنِ تُطْلَقُ فِي الْمَرَضِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَا صَدَقَ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْبَصْرَةِ عُمَّارًا أَيْ مُعْتَمِرِينَ فَلُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَعْرَضْنَا الطَّرِيقَ لِنَسْأَلَ مَنْ نَجِدُهُ فَإِذَا نَحْنُ بِرَكْبٍ فِيهِمْ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِيَبْعَثْ صَاحِبُكُمْ بِدَمٍ وَيُوَاعَدْ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ فَإِذَا ذَبَحَ عَنْهُ حَلَّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ حَقُّ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ مَوْجُودٌ هُنَا، وَهُوَ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَعْمَالَ الْحَجِّ، وَبِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ تَزْدَادُ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَيَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ ضَرْبُ مَشَقَّةٍ فَأَثْبَتَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ التَّحَلُّلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَقَدْ يَزْدَادُ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي الْمُكْثِ مُحْرِمًا مَعَ الْمَرَضِ أَكْثَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هَذَا لَا مَا قَالَ إنَّ الْعَدُوَّ إذَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ حَبَسُوهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَزُولُ مَا بِهِ بِالتَّحَلُّلِ بِأَنْ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ مَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا فَأَمَّا الَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ عِنْدَنَا فَلَيْسَ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ عَلَى يَدِهِ فَذَلِكَ الرَّجُلُ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 التَّحَلُّلِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ، وَعَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَاَلَّذِي أَخْطَأَ الْعَدَدَ فَائِتُ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَأَمَّا إذَا سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ فَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْبَيْتِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا، وَالْفَقِيرُ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا (قَالَ) وَإِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ لِمَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَالْمُعْتَمِرُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ»، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَلْدُوغِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَالْمُعْتَمِرُ فِي هَذَا كَالْحَاجِّ فَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ هُنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ هُنَا يُوَاعِدُ صَاحِبَهُ يَوْمًا أَيُّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّ عَمَل الْعُمْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ فَكَذَا الْهَدْيُ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي بِهِ يَتَحَلَّلُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَهَا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا قَدْ صَحَّ (قَالَ) وَالْقَارِنُ يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، وَتَحَلُّلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ، وَإِذَا تَحَلَّلَ بِهِمَا فَعَلَيْهِ عُمْرَتَانِ، وَحَجَّةٌ يَقْضِيهُمَا بِقِرَانٍ أَوْ إفْرَادٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إحْدَى الْعُمْرَتَيْنِ تَلْزَمُهُ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَالْأُخْرَى لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ عُمْرَةً وَحَجَّةً إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ. (قَالَ) وَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ لِأَنَّ أَوَانَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلَا أُحِلُّ مِنْهُمَا»، وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا. (قَالَ) وَإِذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي لِلْعُمْرَةِ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي لِلْحَجِّ لِأَنَّ هَذَا التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَاعَدَ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدِهِ بِأَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْعَشْرِ جَازَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِيَوْمٍ فَالْإِهْدَاءُ دَمٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَهَدْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَصَّ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَكَان بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَالتَّقْيِيدُ بِالزَّمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلْإِحْلَالِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَدِمَاءُ الْكَفَّارَاتِ تَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ وَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ نُسُكٌ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَدَلِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ فَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ غَرَضٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا هَذَا الْهَدْيُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ قَدْ ارْتَفَعَ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ضَاعَ مَالُهُ فَإِنَّ الْهَدْيَ مِلْكُهُ جَعَلَهُ لِمَقْصُودٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ يُضَيِّعُ مَالَهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ فَكَمَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَهُوَ أَدَاءُ مَا شَرَعَ فِيهِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ، وَلَا زَوْجٌ يَخْرُجُ مَعَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِسَفَرِ الْحَجِّ إلَّا مَعَ مُحْرِمٍ أَوْ زَوْجٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا وَجَدَتْ رُفْقَةَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُحْرِمًا، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاشْتِرَاطُ الْمُحْرِمِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 تَعْدِلُ عِنْدَكُمْ النَّسْخَ ثُمَّ هَذَا سَفَرٌ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرَائِطَ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْمَرْءِ عَادَةً، وَلَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْمَحْرَمِ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْرَمِ الْخُرُوجُ مَعَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَجْلِ هَذَا الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّزَ عَنْ الْفِتْنَةِ، وَفِي اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ فِتْنَةٌ، وَهِيَ تَسْتَوْحِشُ بِالْوَحْدَةِ فَتَخْرُجُ مَعَ رُفْقَةِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ لِتَسْتَأْنِسَ بِهِنَّ، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَإِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَمَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُخْرُجْ مَعَهَا، لَا تُفَارِقْهَا» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَفَرَ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ السَّائِلُ مَا قَالَ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّوْجَ بِأَنْ يَتْرُكَ الْغَزْوَ، وَيَخْرُجَ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْشِئُ سَفَرًا عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ كَسَائِرِ الْأَسْفَارِ بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا لَا تُنْشِئُ سَفَرًا، وَلَكِنَّهَا تَقْصِدُ النَّجَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ هُنَاكَ لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَهُنَا لَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِلْحَجِّ، وَتَأْثِيرُ فَقْدِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ كَتَأْثِيرِ الْعِدَّةِ فَإِذَا مُنِعَتْ مِنْ الْخُرُوجِ لِسَفَرِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَحْرَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ، وَبِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ تَزْدَادُ الْفِتْنَةُ، وَلَا تُرْفَعُ إنَّمَا تُرْفَعُ بِحَافِظٍ يَحْفَظُهَا، وَلَا يَطْمَعُ فِيهَا، وَذَلِكَ الْمَحْرَمُ، وَتَفْسِيرُهُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِيهَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَذَلِكَ يُسَافِرُ بِهَا. (قَالَ) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِ مَحَارِمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهَا لَهُ فَلَا يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا تُسَافِرُ مَعَهُ، وَلَا يَخْلُو بِهَا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَحْرَمَ، وَقَدْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا فَصَارَتْ كَالْمُحْصَرِ تَبْعَثُ بِالْهَدْيِ فَتَتَحَلَّلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَأَرَادَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 أَنْ تَخْرُجَ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَهِيَ بِهَذَا الْخُرُوجِ تَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ حَقِّهِ أَوْ تَلْزَمُهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ الْأَقَارِبِ، وَكَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَكِنَّا نَقُولُ فَرْضُ الْحَجِّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، وَبِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ مَمْلُوكَهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا فَإِنَّ هُنَاكَ الْفَرْضَ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ شَرَائِطِهِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لَا تَحْتَاجُ إلَى سَفَرٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ لِلسَّفَرِ لَا لِمَا دُونَهُ، وَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ فَالْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهَا فَإِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَيُحَلِّلَهَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَتَأَخَّرُ تَحْلِيلُهُ إيَّاهَا إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَلَكِنْ يُحَلِّلُهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَعَلَيْهَا هَدْيٌ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ، وَعُمْرَةٌ، وَحَجَّةٌ لِصِحَّةِ شُرُوعِهَا فِي الْحَجِّ بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِهَا لَوْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِفَقْدِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَهُنَا تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُبْطِلَ حَقَّ الزَّوْجِ، لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ حَقَّ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَتَحْلِيلُهُ لَهَا أَنْ يَنْهَاهَا، وَيَصْنَعَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ ظُفْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَكُونُ التَّحْلِيلُ بِالنَّهْيِ، وَلَا بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فِيهِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَا تَصِيرُ خَارِجَةً عَنْ الصَّوْمِ بِمُجَرَّدِ نَهْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ يُهِلُّ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ لِقِيَامِ حَقِّهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَمَنَافِعِهِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي هَذَا كَالزَّوْجَةِ فِي حَجَّةِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ حَلَّ بِأَوَّلِهِمَا لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَالْإِحْلَالُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَدْيِ التَّطَوُّعِ (قَالَ) وَإِنْ حَلَّ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ قَبْلَ أَوَانِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وَيَعُودُ حَرَامًا كَمَا كَانَ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ لِأَنَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ مُتَعَيَّنٌ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا يَحِلُّ بِغَيْرِهِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْإِحْلَالِ بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمُحْصَرُ مُعْسِرًا لَمْ يَحِلَّ أَبَدًا إلَّا بِدَمٍ لِأَنَّ الدَّمَ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ بِالنَّصِّ كَمَا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَمَا لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَكَانَ عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْهَدْيِ فَجَعَلَ ذَلِكَ طَعَامًا يُطْعِمُ بِهِ الْمَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا فَيَتَحَلَّلُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَدْيِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هَكَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ صَامَ مَكَانَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى قِيَاسِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ [مَا صَنَعَهُ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ] (قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَكَذَلِكَ إنْ ذُبِحَ عَنْ الْمُحْصَرِ هَدْيُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَبْقَى حَرَامًا عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَبْعَثَ بِهَدْيٍ فَيُذْبَحَ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا (قَالَ) وَيُجْزِئُهُ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ، وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَشْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَدَنَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا مَا يَجْزِي فِي الضَّحَايَا، وَاَلَّذِي يَجْزِي فِي الضَّحَايَا مَا سَمَّيْنَا فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ بَعْدَمَا ذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الَّذِي ذَبَحَهُ بَعْدَمَا ذُبِحَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمَبْعُوثِ عَلَى يَدِهِ لَا تَأْكُلْ أَنْتَ، وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا»، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ اللَّحْمِ عَنْ الْمُحْصَرِ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ ضَامِنًا بَدَلَهُ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَدَلِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ أَيْضًا (قَالَ) وَإِنْ قَدِمَ مَكَّةَ قَارِنًا فَطَافَ وَسَعَى لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَأُحْصِرَ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَيَحِلُّ بِهِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَ حَجَّتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ حِينَ طَافَ لَهَا وَسَعَى، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ فَلِهَذَا لَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ لِأَجْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 الْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ طَافَ وَسَعَى لِحَجَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ قُلْنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِمِثْلِهِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لِلْحَجِّ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّوَافَ، وَالسَّعْيَ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَقْصِيرِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَهَذَا الدَّمُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا [وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ] (قَالَ) فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَحُصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أَيْ مُنِعْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» فَإِنَّمَا مُنِعَ هَذَا بَعْدَ الْإِتْمَامِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَطَوَافَ الصَّدَرِ، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلِرَمْيِ الْجِمَارِ دَمٌ، وَلِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ دَمٌ، وَلِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَالطَّوَافِ شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إنَّكُمْ قُلْتُمْ إذَا ازْدَادَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ ازْدَادَتْ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ هُنَا فَلِمَاذَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ؟ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ هُنَا (قَالَ) وَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ فَأُحْصِرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا فَقُلْت أَلَيْسَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ»، وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ إنَّ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِنَّمَا أَنَا أَقُولُ إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ جَمِيعًا فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الطَّوَافِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ فَيَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَإِنْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الْوُقُوفِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لِيُتِمَّ حَجَّهُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 مَمْنُوعًا مِنْهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَالتَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ فَيَكُونُ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (قَالَ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا فَسَارَ إلَى مَكَّةَ لِيَقْضِيَهُمَا ثُمَّ أُحْصِرَ قَالَ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِوَاحِدٍ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَدَاءُ عُمْرَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْعَقْدُ إذَا خَلَا عَنْ مَقْصُودِهِ لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا أَصْلًا فَإِذَا خَلَا أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ هُنَا عَمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِحْرَامُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَقَاسَا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَفِي صَلَاتَيْنِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا فِي أَحَدِهِمَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاضِحٌ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْإِحْرَامَ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ مِنْ الشَّرَائِطِ فَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ جُعِلَ مِنْ الْأَرْكَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْإِحْرَامَ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْأَرْكَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْمَثْنَى مِنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالْوُقُوفِ لِحَجَّتَيْنِ وَالطَّوَافِ لِعُمْرَتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنَافَاةٌ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَحَدُهُمَا كَنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ مَعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ ثُمَّ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ، وَالتَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا كَانَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَالشُّرُوعُ هُنَاكَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَيَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ وَالْوَقْتُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ الْإِحْرَامُ سَبَبٌ لِالْتِزَامِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْأَدَاءُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ. وَالنَّذْرُ بِالْعُمْرَتَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ أَعُطِيَ لَهُ حُكْمُ الْأَرْكَانِ انْتِهَاءً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُنَافَاةُ فِيهِ كَمَنْ تَطَهَّرَ لِأَدَاءِ الصَّلَاتَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ عَقَدَ إحْرَامَهُ بِهِمَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامِ جَاءَ أَوَانُ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُنَافَاةُ مُلْتَحِقَةٌ فَيَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَيَمْضِي فِي الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَهَا، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ لِلْآخَرِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي الطَّوَافِ لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَنَافَ الْإِحْرَامَانِ ابْتِدَاءً لَا يَتَنَافَيَانِ بَقَاءً بَلْ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا الْمُنَافَاةُ فِي الْأَعْمَالِ فَمَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ. قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّمَا أُحْصِرَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَبْعَثُ إلَّا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ سَارَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ أُحْصِرَ فَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا حِينَ سَارَ فِي عَمَلِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ، وَدَمٌ آخَرُ لِلتَّحَلُّلِ فَأَمَّا حُكْمُ الْقَضَاءِ فَإِنَّ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّتَيْنِ، وَعُمْرَتَيْنِ (قَالَ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ مَعَ الْإِبْهَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَ أَهْلَلْتُمَا قَالَا أَهْلَلْنَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَقَدْ صَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْرَامَهُمَا مَعَ الْإِبْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِلنُّسُكِ ابْتِدَاءً، وَالْإِبْهَامُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَبَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ مُبْهَمًا فَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ طَرِيقَانِ شَرْعًا أَمَّا الْحَجُّ أَوْ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ خَرَجَ عَنْهُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ، وَكَانَ تَعْيِينُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ فَالتَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنْ كَانَ لِلْحَجِّ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمُتَيَقَّنُ بِهِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ، وَالْمُتَيَقَّنُ الْعُمْرَةُ، وَلَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ هَذَا الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْإِحْصَارِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ. (قَالَ) وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ فَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا فَهِيَ عُمْرَةٌ لِأَنَّ طَوَافَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 الْعُمْرَةِ وَاجِبٌ، وَالتَّحِيَّةُ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَا طَوَافَهُ لِلْعُمْرَةِ، وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِهِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ إذَا جَامَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْجِمَاعِ وَالْمُضِيُّ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا، وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْعُمْرَةُ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لِلْحَجِّ، وَقَدْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ أَصْلًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ. (قَالَ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَسَمَّى ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ. (قَالَ) وَإِذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ، وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَأَخْذٌ بِالثِّقَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ الْحَجِّ فَإِذَا تَيَقَّنَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مَعْنًى، وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَكَانَ هَذَا أَوَانَ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا يَحْتَاطُ وَيَقْضِي عُمْرَةً وَحَجَّةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيْنَ مَا إذَا عَيَّنَ ثُمَّ نَسِيَ ظَاهِرٌ فِي الْمَسَائِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُحْصَرْ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَكِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُمْرَةً وَحَجَّةً، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْحَجِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْعُمْرَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَا يَعْرِفُهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ) وَلَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ لِلْجِمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إتْمَامُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ قَبْلَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْإِفْسَادِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ، وَالْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ صِحَّةِ النُّسُكَيْنِ. (قَالَ) وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَمَا نَوَى أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَحَجَّةً، وَلَبَّى بِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بَعْدَمَا لَبَّى بِهِمَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ بِطَرِيقَةِ إضَافَةِ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِلْجِمَاعِ، وَحُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْئَيْنِ ثُمَّ نَسِيَهُمَا فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَحَجَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ نَوَى عِنْدَ إحْرَامِهِ حَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّتَيْنِ احْتِيَاطًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ فِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّةٍ عُمْرَةً كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَهُوَ الْقِرَانُ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّتَيْنِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَدَاءً فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ، وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً وَحَجَّةً كَمَا يَعْمَلُ الْقَارِنُ اسْتِحْسَانًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا، وَقَضَاءٌ، وَحَجَّةٌ، وَعُمْرَةٌ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فَقُلْنَا إنَّهُ يَحْتَاطُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِاحْتِمَالِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِاحْتِمَالِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْمَالِ إحْدَاهُمَا، وَقَضَى الْأُخْرَى مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ فَيَصِيرُ خَارِجًا مِمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَهُ قَارِنًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَعَلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ فِيهِمَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ إذَا جَامَعَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْجِمَاعِ لِلْمُحْرِمِ] (بَابُ الْجِمَاعِ) (قَالَ) وَاذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُهِلَّانِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَقِفَا بِعَرَفَةَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، هَكَذَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ، قَالَ: يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إذَا رَجَعَا لِلْقَضَاءِ يَفْتَرِقَانِ مَعْنَاهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِهِ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كَمَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوَاقِعَهَا مَا لَمْ يُحْرِمَا، وَالِافْتِرَاقُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِالِافْتِرَاقِ فِي وَقْتٍ تَحِلُّ الْمُوَاقَعَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ نُسُكٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَوَانَ أَدَاءِ مَا هُوَ نُسُكٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا قَرُبَا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَفْتَرِقَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ إذَا وَصَلَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ تَهِيجَ بِهِمَا الشَّهْوَةُ فَيُوَاقِعَهَا فَيَفْتَرِقَانِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَاقَعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بِسَبَبِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فَلَوْ وَجَبَ الِافْتِرَاقُ إنَّمَا يَجِبُ عَنْ النِّكَاحِ، وَأَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِهَذَا ثُمَّ إذَا بَلَغَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلَا فِيمَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِ لَذَّةٍ يَسِيرَةٍ ازْدَادَا نَدَمًا وَتَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ ثَانِيًا لِكَيْ لَا يُصِيبَهُمَا الْآنَ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ إنْ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْفِتْنَةَ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا كَمَا يُنْدَبُ الشَّابُّ إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّقْبِيلِ فِي حَالَةِ الصِّيَامِ إذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَا قَارِنَيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْمُوَاقَعَةِ وَقَدْ سَقَطَ دَمُ الْقِرَانِ عَنْهُمَا لِفَسَادِ نُسُكِهِمَا وَإِنْ لَزِمَهُمَا الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمُ نُسُكٍ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مِنْ جَمْعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّ بِالطَّوَافِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَحْلِقْ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ مَا أَدَّى عُمْرَتَهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَلَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا فَسَدَ حَجُّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ. وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ جَزُورٌ لِجِمَاعِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ وَشَاةٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى النُّسُكَيْنِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ (قَالَ): وَاذَا جَامَعَ الْحَاجُّ بَعْدَمَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَأَهْدَى جَزُورًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ إحْرَامَهُ نُقْصَانٌ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ فَالْجِمَاعُ الثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَكْفِيهِ شَاةٌ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَكَانَ عَلَيْهِ جَزُورٌ (قَالَ): وَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 كَجَمِيعِ الطَّوَافِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّ الطَّوَافَ تَحَلَّلَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِأَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدُ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ طَافَ مُحْدِثًا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ يَحْصُلُ بِطَوَافِ الْجُنُبِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ دَمٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ إلَّا فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا لَوْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ فَصَارَ فِي الْمَعْنَى كَالْجِمَاعِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَهُنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَكْثَرِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ مُعْتَدٌّ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَا بَقِيَ هُنَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ النُّقْصَانِ فِي طَوَافِ الْمُحْدِثِ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ جَامَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ جُنُبًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ أَصْلِ الطَّوَافِ عِنْدَ فَوْتِ أَدَائِهِ وَهِيَ الْبَدَنَةُ فَجِمَاعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَجِمَاعِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ حَتَّى جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ التَّحَلُّلَ بِالطَّوَافِ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْلِقْ (قَالَ): وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيلُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ: إنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ يَفْسُدُ بِهِ الْإِحْرَامُ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالتَّقْبِيلِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فَسَادُ الْإِحْرَامِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لَا يَفْسُدُ وَمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَدِّ ثُمَّ مَا يَجِبُ هُنَا أَبْلُغُ مِمَّا يَجِبُ هُنَاكَ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَكُونُ قِيَاسَ الْكَفَّارَةِ فِي الصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْكَفَّارَةُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ هُنَا الْقَضَاءُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ، أَمَّا إذَا أَنْزَلَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّفَثِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالرُّخْصَةِ فِي التَّقْبِيلِ هُنَاكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ هُنَاكَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّقْبِيلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَهُنَا الْمُحَرَّمُ الْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ وَالتَّقْبِيلُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَيُّبَ مُحَرَّمٌ هُنَا وَلَا يُحَرَّمُ هُنَاكَ (قَالَ): وَالنَّظَرُ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْئًا وَإِنْ أَنْزَلَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ بِمَنْزِلَةِ التَّفَكُّرِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ مِنْهُ صُنْعٌ بِالْمَحِلِّ، وَلَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 نَظَرَ (قَالَ): وَحُكْمُ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاحِدٌ إذَا كَانَ عَنْ نِسْيَانٍ أَوْ عَمْدٍ أَوْ فِي حَالِ نَوْمٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ طَوْعٍ إلَّا فِي الْإِثْمِ، أَمَّا النَّاسِي عِنْدَنَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْعَامِدَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلٌ: إنَّهُ لَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِجِمَاعِ النَّاسِي عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ وَبِسَبَبِ النِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ عَيْنُ الْجِمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ وَهُوَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمَيْنِ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ فَجَعَلَ النِّسْيَانَ فِيهِ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً يَفْسُدُ حَجُّهَا عِنْدَنَا وَلَا يَفْسُدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَتَى أَبَاحَ الْإِقْدَامَ أَعْدَمَ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالنَّوْمُ يُعْدِمُ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ النَّائِمِ وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَذَا الْفِعْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ النَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ فِي دَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إعْدَامِ أَصْلِ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ وَيَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادُ النُّسُكِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّ فَسَادَ النُّسُكِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ إذَا كَانَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ الرَّفَثُ، وَالرَّفَثُ اسْمُ الْجِمَاعِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَجَامَعَ فِيهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِأُخْرَى يَنْوِي قَضَاءَهَا قَالَ: هِيَ هِيَ؛ لِأَنَّهُ بِالْجِمَاعِ وَإِنْ فَسَدَ نُسُكُهُ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَنِيَّتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْإِهْلَالِ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ الْوَاحِدَ لَا يَتَّسِعُ لِلْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ فَكَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ وَيَفْرُغُ مِنْهَا وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ مُهِلًّا بِالْحَجَّةِ (قَالَ): وَإِنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا حَجَّةً يَقْضِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ الصَّحِيحَةِ جَائِزٌ فَإِلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ أَوْلَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ. وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ تَرْكِ الْوَقْتِ إذَا أَفْسَدَ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِهِ يَعْنِي إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ هَذَا الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ النُّسُكِ فَيَعُودُ فَيُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي النُّسُكَ بِهَذَا الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَتَأَدَّ نُسُكُهُ بِهَذَا الْإِحْرَامِ حِينَ أَفْسَدَهُ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا (قَالَ): الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ النِّسَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَرَفَضَ إحْرَامَهُ وَأَقَامَ حَلَالًا يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ الْحَلَالُ مِنْ الطِّيبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ حَرَامًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ بِإِفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ وَكَذَلِكَ بِنِيَّةِ الرَّفْضِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ دَمًا وَاحِدًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ فَيَكْفِيهِ لِذَلِكَ دَمٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالشُّرُوعِ، وَالْأَدَاءُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَا يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ] (بَابُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ) (اعْلَمْ) بِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ، وَقَالَ: يَأْتُونَ شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذَا الْوَصْفَ وَمَا يَكُونُ صِفَةَ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: إنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْ الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بِهِ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ تُوجَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَ الْقَلِيلَ أَوْ الْكَثِيرَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَزَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَالْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ فَتَمَّ بِهِ جِنَايَتُهُ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِي جِنَايَتِهِ نُقْصَانٌ فَتَكْفِيهِ نُقْصَانُ الصَّدَقَةِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ وَاعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا طَيَّبَ شَارِبَهُ أَوْ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ دُونَ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ. وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي رُبْعِ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ فِي رُبْعِ عُضْوٍ آخَرَ وَجَعَلَ الرُّبْعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ عَلَى قِيَاسِ الْحَلْقِ ثُمَّ الدُّهْنُ إذَا كَانَ مُطَيَّبًا كَدُهْنِ أَلْبَانٍ وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ فَهُوَ طِيبٌ يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدُّهْنُ قَدْ طُبِخَ وَجُعِلَ فِيهِ طِيبٌ، فَأَمَّا إذَا ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِخَلٍّ غَيْرِ مَطْبُوخٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ فِي الشَّعْرِ يُزِيلُ الشَّعَثَ فَيَكُونُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الشَّعْرِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 قَضَاءِ التَّفَثِ وَلَا مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ مَأْكُولٌ، وَلَيْسَ بِطِيبٍ فَيَكُونُ قِيَاسَ الشَّحْمِ وَالسَّمْنِ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنَّهُمَا قَالَا: اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَيَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْجِنَايَةِ فَيَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الدُّهْنُ أَصْلُ الطِّيبِ فَإِنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِي الدُّهْنِ فَيَصِيرُ تَامًّا فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ أَصْلِ الطِّيبِ مَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ كَمَا إذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ. (قَالَ): وَإِذَا دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلِهِ بِزَيْتٍ أَوْ شَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ التَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِنْ دَهَنَ بِهِ شُقَاقَ رِجْلِهِ أَوْلَى (قَالَ): وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالزَّعْفَرَانَ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ مَسُّ الطِّيبِ وَهُوَ لَمْ يَمَسَّهُ وَإِنْ شَمَّ رَائِحَتَهُ كَمَنْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا مَعَ أَنَّ الرَّيْحَانَ مِنْ جُمْلَةِ نَبَاتِ الْأَرْضِ لَا مِنْ الطِّيبِ فَهُوَ كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ فِي الطِّيبِ مَعْنَى الرَّائِحَةِ، وَاسْتِعْمَالُ عَيْنِ الطِّيبِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ فَمَا يُوجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي التُّفَّاحِ هَكَذَا وَمَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْأَكْلُ فَأَمَّا الرَّيْحَانُ فَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَى رَائِحَتِهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ اشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْجُلُوسِ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهِ، وَذَكَرَ حَمْرَانِ عَنْ أَبَانَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ أَيَدْخُلُ الْبُسْتَانَ، قَالَ: نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ): فَإِنْ كَانَ تَطَيَّبَ أَوْ ادَّهَنَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ وَجَدَ رِيحَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ لَبِسَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أُجْمِرَ فِيهِ فَطَالَ مُكْثُهُ حَتَّى عَلِقَ ثَوْبَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَارَ إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ فَعَيْنُ الطِّيبِ لَمْ يَتَّصِلْ بِثَوْبِهِ وَلَا بِبَدَنِهِ إنَّمَا نَالَ رَائِحَتَهُ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَمَرَ ثِيَابَهُ فَإِنَّ عَيْنَ الطِّيبِ قَدْ عَلِقَ بِثِيَابِهِ فَإِذَا كَانَ الْإِجْمَارُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَيْنِ الطِّيبِ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعَ الْمُحْرِمِ رَائِحَتُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ الَّذِي فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الطِّيبُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ السِّكْبَاجَ الْأَصْفَرَ فِي إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّ قَصْدَهُ بِهَذَا الطَّعَامِ التَّغَذِّي لَا التَّطَيُّبُ، وَإِنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّعَامِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ لَا يُتَغَذَّى بِهِ كَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلطَّعَامِ. وَمَنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ كَمَا هُوَ يَضْحَكُ حَتَّى يَمُوتَ فَكَانَ هُوَ بِالْأَكْلِ مُطَيِّبًا فَمَه بِالزَّعْفَرَانِ وَهُوَ عُضْوٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ فَأَمَّا إذَا جُعِلَ فِي الطَّعَامِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ إنْ كَانَ فِي طَعَامٍ قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَعَامٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ مِثْلِ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْلُوبًا فِيهِ وَالْمَغْلُوبُ كَالْمُسْتَهْلَكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا عَلَى الْمِلْحِ فَحِينَئِذٍ هُوَ وَالزَّعْفَرَانُ الْبَحْتُ سَوَاءٌ. وَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَإِنْ لَزِقَ بِيَدَيْهِ تَصَدَّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِقَ بِيَدَيْهِ كَثِيرًا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْكَثِيرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِقْ بِهِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ، وَإِنْ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَأَصَابَ فَمَه أَوْ يَدَهُ خَلُوقٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُوقُ الْتَزَقَ بِهِ مِنْ الرُّكْنِ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ [اكْتِحَال الْمُحْرِم] (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتَحِلَ الْمُحْرِمُ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْكُحْلَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَتَتَفَاوَتُ الْجِنَايَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَذًى فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، فَإِنْ كَانَ عَنْ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ الطِّيبُ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ أَوْ شَرِبَ شَرَابًا؛ لِأَنَّ التَّدَاوِيَ يَكُونُ عَنْ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى وَالْأُولَى عَلَى حَالِهَا فَدَاوَى الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ الْكُلَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَبْرَأْ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ اسْتَنَدَتْ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ (قَالَ): وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَبُطَّ الْقُرْحَةَ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ وَيُعَصِّبَ عَلَيْهِ وَيَنْزِعَ ضِرْسَهُ إذَا اشْتَكَى وَيَحْتَجِمَ وَيَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَالَجَةِ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَّةِ» وَدَخَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْحَمَّامَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ (قَالَ): وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْخَطْمَيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ يَغْسِلُ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 رَأْسَهُ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَالُوا وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ بَعْدَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ عِنْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْخِطْمِيُّ مِنْ الطِّيبِ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً وَهُوَ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ أَيْضًا فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ (قَالَ): وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ بِالْحِنَّاءِ يَدَهَا فَعَلَيْهَا دَمٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ، وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ»، وَلِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً مُسْتَلَذَّةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً. وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَسْمَةَ لَيْسَتْ بِطِيبٍ إنَّمَا تُغَيِّرُ لَوْنَ الشَّعْرِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا لِلْإِخْضَابِ، وَلَكِنْ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. (قَالَ): وَإِنْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَكِنْ إنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ الْهَوَامَّ أَطْعَمَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ فَتَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ مَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ] (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَيُدْخِلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ دُونَ يَدَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ مَخِيطٌ فَإِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ صَارَ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ فَإِنَّ الْقَبَاءَ يُلْبَسُ هَكَذَا عَادَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ لُبْسُ الْقَبَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ وَاضِعًا الْقَبَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا لَابِسًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لُبْسِ الرِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تُكَلِّفْ حِفْظِهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَابِسُ الرِّدَاءِ، أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ فَيَكُونُ لَابِسًا لِلْمِخْيَطِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ لَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا زَرَّهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ هُوَ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَالتَّطَيُّبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ بِلُبْسٍ مَقْصُودٍ، وَاللُّبْسُ الْمَقْصُودُ فِي النَّاسِ عَادَةً يَكُونُ فِي يَوْمٍ كَامِلٍ فَإِنَّ مَنْ أَصْبَحَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ ثُمَّ لَا يَنْزِعُهَا إلَى اللَّيْلِ فَإِذَا لَبِسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَكَامَلَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الْجِنَايَةُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ تَتَكَامَلْ جِنَايَتُهُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ فَتَكْفِيهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا قَدْ يَرْجِعُ الْمَرْءُ إلَى بَيْتِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي لَبِسَهَا لِلنَّاسِ فَكَانَ اللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ اسْتِمْتَاعًا مَقْصُودًا عَادَةً، وَالْأَكْثَرُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْخَزَّ وَالْبُرُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْبُرْدَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْوَرْسِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُوَرَّسِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ»، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِدَاءً مُعَصْفَرًا فِي إحْرَامِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا أَرَى أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَهُوَ قِيَاسُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهُ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَرِهَتْ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ الرِّدَاءَ الْمُعَصْفَرَ حَتَّى قَالَ: لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مُمَشَّقٌ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَهُ رَائِحَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ قَدْ غُسِلَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ قَدْ عَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَصْبُوغًا بِمَدَرٍ عَلَى لَوْنِ الْعُصْفُرِ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ فَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ فَأَمَّا الْمَصْبُوغُ عَلَى لَوْنِ الْهَرَوِيِّ هُوَ أَدْمَى اللَّوْنِ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُعَصْفَرِ إذَا غُسِلَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ فِي إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ، بِنَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي لُبْسِ الْقَبَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَلَنْسُوَةً يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَمَّا إذَا ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ أَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ. وَأَمَّا فِي الْقَلَنْسُوَةِ فَلِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَفَتَقَ السَّرَاوِيلَ إلَّا مَوْضِعَ التِّكَّةِ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِلُبْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِئْزَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ قَطَعَ خُفَّيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ وَفَسَّرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْكَعْبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمِفْصَلِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا: لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمِشَكَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْكَعْبَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلَيْنِ فَإِنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَالْقَبَاءَ وَالسَّرَاوِيلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ غَطَّى وَجْهَهُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ اللِّحْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُغَطِّي وَجْهَهُ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ يَشُدُّ بِهَا حَقْوَيْهِ فِيهَا نَفَقَتُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ فَقَالَتْ اسْتَوْثِقْ مِنْ نَفَقَتِكَ بِمَا شِئْتَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَرَ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا بِأَنْ يَعْقِدَ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ وَفِيهِ نَفَقَتُهُ»، وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ نَفَقَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ لُبْسِ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَفِي هَذَا يَسْتَوِي نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ غَيْرِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَخِيطِ، وَقِيلَ: هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كَرَاهَةِ مَا قَلَّ مِنْ الْحَرِيرِ وَكَثُرَ لِلرِّجَالِ (قَالَ): وَيَتَوَشَّحُ الْمُحْرِمُ بِالثِّيَابِ وَلَا يَعْقِدُ عَلَى عُنُقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَقَدَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى تَكَلُّفٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا إذَا ائْتَزَرَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا فَقَالَ: أَلْقِ ذَلِكَ الْحَبْلَ وَيْلَكَ»، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخُلَّ رِدَاءَهُ بِخِلَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفٍ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ (قَالَ): وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَصِّبَ رَأْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ بِالْعِصَابَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إلَّا أَنَّ مَا غَطَّى بِهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ رَأْسِهِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ لِعَدَمِ تَمَامِ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ عَصَّبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ مِنْ عِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَمَا يُكْرَهُ شَدُّ الْإِزَارِ وَشَدُّ الرِّدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَإِنْ غَطَّى الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ غَطَّى أَكْثَرَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ لَا تَتِمُّ بِهِ الْجِنَايَةُ وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ، وَهَذَا أَصْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَسَائِلِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ قَالَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلرُّبْعِ فِيهِ حُكْمُ الْكَمَالِ كَالْحَلْقِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَغْطِيَةَ بَعْضِ الرَّأْسِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَفْعَلُهُ الْأَتْرَاكُ وَغَيْرُهُمْ عَادَةً بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَأَمَّا الْمُحْرِمَةُ تُغَطِّي كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا وَجْهَهَا وَتَلْبَسُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ إلَّا الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فَإِنَّ فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهَا إلَى لُبْسِهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ وَفِيمَا تَحْتَاجُ إلَى لُبْسِهِ وَسَتْرِهِ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ الرَّجُلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتَه الْقُفَّازَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ وَعَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْحُلِيِّ فِي الْإِحْرَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الْحُلِيَّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَيْنِ تَطُوفَانِ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ» الْحَدِيثَ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ (قَالَ): وَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْمَصْبُوغَ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَسْدُلَ الْخِمَارَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُصِيبُ وَجْهَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؛ لِأَنَّ تَغْطِيَةَ الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ وَجْهَهَا دُونَ مَا لَا يُمَاسُّهُ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى دُخُولِهَا تَحْتَ سَقْفٍ. وَيُكْرَهُ أَنْ تَلْبَسَ الْبُرْقُعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمَاسُّ وَجْهَهَا فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ الْخِفَافِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِلُبْسِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إذَا لَبِسَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ مَا شَاءَ، وَذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، وَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ مَعَهُ عِمَامَةً أَوْ قَلَنْسُوَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي لُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَيَتَخَيَّرُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَيُّهَا شَاءَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ زِيَادَةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَلَا تَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا لَوْ اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي الزِّيَادَةُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَكَانَتْ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ مُوجِبُهَا (قَالَ): فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِلضَّرُورَةِ أَيَّامًا، وَكَانَ يَنْزِعُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ لَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَزَعَ لِزَوَالِ الضَّرُورَةِ ثُمَّ اضْطَرَّ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَبِسَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّرُورَةِ الْأُولَى قَدْ انْتَهَى بِالْبُرْءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ يُدَاوِي الْقُرْحَةَ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ مِرَارًا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً مَا لَمْ يَبْرَأْ فَإِذَا بَرِئَ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا بِالطِّيبِ فَهَذِهِ جِنَايَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ بِهِ حُمَّى غِبٍّ فَكَانَ يَلْبَسُهُ يَوْمَ الْحُمَّى وَلَا يَلْبَسُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَجِبُ بِهَا إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُحْوِجَةَ إلَى اللُّبْسِ قَائِمَةٌ، أَرَأَيْتُ لَوْ جَلَسَ فِي الشَّمْسِ فَاسْتَغْنَى عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ الشَّمْسُ احْتَاجَ إلَى الْمَخِيطِ فَأَعَادَ اللُّبْسَ أَكَانَتْ هَذِهِ جِنَايَةً أُخْرَى بَلْ الْكُلُّ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ مَادَامَ الْعِلَّةُ قَائِمَةً فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ فَدَعَا الْمَسَاكِينَ فَغَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يُجْزِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اعْتَبَرَ الْمَقْصُودَ، فَقَالَ: هَذَا طَعَامُ كَفَّارَةٍ فَيَتَأَدَّى بِالتَّغْذِيَةِ وَالتَّعْشِيَةِ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَمَا وَرَدَ بِلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ لَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ (قَالَ): فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ قَمِيصَهُ، وَلَمْ يُزَرِّرْهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ قَدْ تَمَّ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّكَلُّفِ لِحِفْظِ الْقَمِيصِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِلُبْسِ الطَّيْلَسَانِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَزُرَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ، وَلَكِنَّا أَخَذْنَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ مُحِيطٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ لِحِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ الْمَخِيطِ (قَالَ): وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْجَوْرَبَيْنِ كَمَا لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا [يَضْرِبَ الْمُحْرِمُ فُسْطَاطًا لِيَسْتَظِلَّ بِهِ] (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ الْمُحْرِمُ فُسْطَاطًا لِيَسْتَظِلَّ بِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا آذَاهُ الْحُرُّ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَظِلَّ بِسَقْفِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ فَكَذَلِكَ الْفُسْطَاطُ. (قَالَ) وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ فَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 السِّتْرُ يُصِيبُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا عَلَى رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ كَالطَّسْتِ وَالْإِجَّانَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الثِّيَابِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ يَكُونُ هُوَ حَامِلًا لَا مُسْتَعْمَلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا (قَالَ): فَإِنْ كَانَ الْمُحْرِمُ نَائِمًا فَغَطَّى رَجُلٌ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ بِثَوْبٍ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ كَفِعْلِهِ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنْ كَانَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَأْثَمِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِ، وَعُذْرُ النَّوْمِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَى صَيْدٍ فِي حَالِ نَوْمِهِ فَقَتَلَهُ (قَالَ): صَبِيٌّ أَحْرَمَ عَنْهُ أَبُوهُ وَجَنَّبَهُ مَا يُجَنَّبُ الْمُحْرِمُ فَلَبِسَ ثَوْبًا أَوْ أَصَابَ طِيبًا أَوْ صَيْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْمَالِيَّةَ عَلَى الصَّبِيِّ كَالْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ الْوَلِيُّ بِأَدَائِهِ مِنْ مَالِهِ، وَعِنْدَنَا الْمَالِيُّ وَالْبَدَنِيَّ سَوَاءٌ فِي أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ. وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ثُمَّ إحْرَامُ الصَّبِيِّ لِلتَّخَلُّقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ جِنَايَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ مُلْزِمًا إيَّاهُ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَمُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُ الْأَبِ فِي الْإِحْرَامِ وَاقِعًا بِصِفَةِ النَّظَرِ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَخَلُّقًا غَيْرَ مُلْزِمٍ إيَّاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ. [بَابُ النَّذْرِ] (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ الِالْتِزَامُ بِالنَّذْرِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِاللَّفْظِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْمَشْيُ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ. وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْتِزَامَ النُّسُكِ، وَاللَّفْظُ إذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِحْرَامَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْإِحْرَامُ لِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ إمَّا الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَيَمْشِي فِيهَا كَمَا الْتَزَمَ فَإِذَا رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا»، وَلِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ عَلَى الرُّكْبَانِ، فَقَالَ {يَأْتُوك رِجَالًا، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]، وَلَهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ يَتَأَسَّفُ عَلَى تَرْكِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا. «وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَمْشِي فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بِجَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْكَبُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ مَشَى فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ: الْوَاحِدَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ قُلْنَا: إذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدَّى أَنْقَصَ مِمَّا الْتَزَمَ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ دَمٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَقَدْ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ، وَقَالَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ رَفِيقَهُ، وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ فِي النُّسُكِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَكِنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَقْصِدُونَ الْمَشْيَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَمِيقَاتُ الرَّجُلِ فِي الْإِحْرَامِ مَنْزِلُهُ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَ الْإِحْرَامَ قُلْنَا: يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ كَمَا الْتَزَمَ ثُمَّ لَا يَرْكَبُ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ يَحْصُلُ فَإِنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ. وَإِذَا اخْتَارَ الْعُمْرَةَ مَشَى إلَى أَنْ يَحْلِقَ فَإِنْ قَرَنَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَأْتِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِكَمَالِهِ فَنُسُكُ الْعُمْرَةِ الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَالْحَجُّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَدَّاهُمَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَكِبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرُكُوبِهِ مَعَ دَمِ الْقِرَانِ (قَالَ): وَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ فِي الْمَنَاسِكِ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بَدَنَةٍ سِتَّةُ نَفَرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّمَاءُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا فِي حُكْمِ الْجَوَازِ حَتَّى إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءَ الصَّيْدِ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إرَاقَةُ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ خَالِصًا فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ الْقُرْبَةِ فَقَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَقَطْ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ دِمَاءَ الْقُرَبِ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ كَدِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ وَبَعْضُهَا يَحِلُّ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فَقَدْ اتَّحَدَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْمَذْبُوحِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ (قَالَ): فَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدًا آخَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. أَمَّا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فَلِأَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلَفْظِهِ، وَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] وَإِذَا عُلِمَتْ نِيَّتُهُ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ يُبَاحُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَمْشِي إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاعِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ، وَلَكِنْ يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ نَذْرٌ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَهُوَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا أَطْلَقُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ يُرِيدُونَ بِهَا الْكَعْبَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ وَقَوْلُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ سَوَاءٌ وَقَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ عَادَةً لِإِرَادَةِ الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِلْكَعْبَةِ، وَالْحَرَمُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِمَكَّةَ فَلَا يُجْعَلُ ذِكْرُ الْفِنَاءِ كَذِكْرِ الْأَصْلِ فِي النَّذْرِ بَلْ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا أَوْ إلَى الْمَرْوَةِ أَوْ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: نَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَصَارَ بِهِمَا مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: عَلَى السَّفَرِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الذَّهَابِ أَوْ الْإِتْيَانِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الرُّكُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَلَكِنْ فِيمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْتِزَامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 النُّسُكِ بِهِ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْعُرْفِ فَمَا لَا عُرْفَ فِيهِ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ، فَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ يَوْمَ أُكَلِّمُهُ يَنْوِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ يَوْمَ يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ يَقْضِيهَا مَتَى شَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِهَا يَوْمئِذٍ مَا لَمْ يُحْرِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ الْيَوْمَ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ يُحْرِمُ بِهَا مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَالشُّرُوعُ فِي الْأَدَاءِ لَا يَتَّصِلُ بِالِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ لَا يَصِيرُ صَائِمًا بِنَذْرِهِ، وَالْإِحْرَامُ شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَثْبُتُ بِالِالْتِزَامِ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا قَالَ: وَإِنْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِنَذْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ شِئْتَ، فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَشَاءَ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَوْلُهُ عَلَيَّ حَجَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِزَامُ بِقَوْلِهِ " عَلَيَّ ". وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ لَزِمَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ يُرَادُ بِمِثْلِهِ التَّحْقِيقُ لِلْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي " أَشْهَدُ " وَيُرِيدُ بِهِ التَّحْقِيقَ لَا الْعِدَةَ، وَقَوْلُهُ " أَنَا أُهْدِي " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنَا أُحْرِمُ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ بِفُلَانٍ فَحَنِثَ فَإِنْ كَانَ نَوَى فَأَنَا أَحُجُّ وَهُوَ مَعَنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُحْجِجَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَهُ كَمَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَدْ أَلْصَقَ فُلَانًا بِحَجِّهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَحُجَّ فُلَانٌ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَنْ يُعْطِيَ فُلَانًا مَا يَحُجُّ بِهِ بِالْمَالِ، وَالْتِزَامُ الْأَوَّلِ بِالنَّذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْتِزَامُ الثَّانِي صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدِّي الْمَالَ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْبَدَلِ كَمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْأَصْلِ فَإِنْ نَوَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّ الْمَنْوِيَّ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ فَقَدْ نَوَى مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ يَحُجُّ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْوَفَاءُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 بِالنَّذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَ فُلَانًا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ مُحْتَمَلٌ وَالْوُجُوبُ لَا يَحْصُلُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُحْجُجَ فُلَانًا، فَهَذَا مُحْكَمٌ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ فَإِنَّهُ تَصْرِيحُ الِالْتِزَامِ بِإِحْجَاجِ فُلَانٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِالنَّذْرِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي فُلَانًا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِالْهَدْيِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَهُوَ قَدْ نَذَرَ هَدْيَ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا مَالِيَّةَ فِيهِ فَكَانَ نَذْرُهُ لَغْوًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِيُهْدِيَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ ذَلِكَ وَلَدَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الْمَعْرُوفِ فِي نَذْرِ ذِبْحِ الْوَالِدِ (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي كَذَا وَسَمَّى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْهَدْيُ قُرْبَةٌ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ فِي مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ الْإِهْدَاءُ يَكُونُ إلَى مَكَان، وَذَلِكَ الْمَكَانُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ حَقِيقَةٌ، وَلَكِنْ صَارَ مَعْلُومًا بِالْعُرْفِ أَنَّهُ مَكَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَدَايَا {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] فَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُهْدِيَهُ بِنَفْسِهِ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ يَحْصُلُ بِالْعَيْنِ تَارَةً وَيَحْصُلُ بِمَعْنَى الْمَالِيَّةِ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ لَا تُحَوَّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّصَدُّقِ بِمَالِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ حَجَبَةَ الْبَيْتِ أَجْزَأَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: فَثَوْبِي هَذَا سِتْرُ الْبَيْتِ أَوْ قَالَ: أَنَا أَضْرِبُ بِهِ حَطِيمَ الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَلَامِهِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ أَوْلَى. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِهْدَاءُ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: مَالِي هَدْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالَهُ كُلَّهُ، قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيُمْسِكُ مِنْهُ قَدْرَ قُوتِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، فَقَالَ: فِي الْقِيَاسِ يَنْصَرِفُ هَذَا إلَى كُلِّ مَالٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً بِخِلَافٍ، أَمَّا إذَا قَالَ: جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ هُنَا جَوَابُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ فِي كُلِّ مَالٍ كَالْتِزَامِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ مَالٍ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ إنَّمَا حُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَالِ مُخْتَصٌّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا أَوْجَبَ الْهَدْيَ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْهَدْيِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ يُمْسِكُ مِقْدَارَ قُوتِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: كُلُّ مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْمَذْكُورَ جَوَابُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَغُلَامِي هَذَا هَدْيٌ فَبَاعَهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالْمُنْشَإِ، وَلَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغُلَامُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِالنَّذْرِ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ وَقْتَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ أَصْلًا (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَهَذَا الْمَمْلُوكُ هَدْيٌ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّتْ يَمِينُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ثُمَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءٍ بَعْدَهُ لَا إلَى شِرَاءٍ سَبَقَهُ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: فَهَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْتِزَامَ الْهَدْيِ صَحَّ نَذْرُهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَكَانِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ كَانَ أَوْلَى (قَالَ): وَإِذَا قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُهْدِيَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَزِمَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ الْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا جُعِلَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَهُمَا كَذِكْرِ مَكَّةَ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ هُنَا، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ غَيْرُ مُلْزَمٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ فَتَلْزَمُهُ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَشْيٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قُلْنَا هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 أَنَّ ذِكْرَ مَكَّةَ يَصِيرُ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَصَّ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِكْرَ مَكَّةَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ (قَالَ): وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْهَدْيَ، وَالْهَدْيُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمٌ لِلْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ التَّصَدُّقُ بِهَا فَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَالتَّصَدُّقُ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِسَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَفِي هَذَا فُقَرَاءُ مَكَّةَ وَفُقَرَاءُ الْكُوفَةِ سَوَاءٌ (قَالَ): وَكُلُّ هَدْيٍ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَفِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئ عَنْ الْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَلَهَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ وَبَعْدَ الذَّبْحِ صَارَ الْمَذْبُوحُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بِمِنًى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الْهَدَايَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنًى مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الشَّاةُ، فَإِنْ نَوَى الْإِبِلَ أَوْ الْبَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي نِيَّتِهِ وَنَوَى التَّعْظِيمَ فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَلَا يَذْبَحُهَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَصْرِيحِهِ بِالْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: عَلَيَّ بَدَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْبُدْنِ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَهُوَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ أَوْ جَزُورٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ وَالْعِظَمُ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْبَقَرَةَ وَالْجَزُورَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ لَفَظَّةَ الْبَدَنَةِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْجَزُورَ فَإِنَّ سَائِلًا سَأَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً أَفَتُجْزِي الْبَقَرَةُ، فَقَالَ: مِمَّ صَاحِبُكُمْ، فَقَالَ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، وَإِنَّمَا وَهَمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ ثُمَّ إنْ كَانَ نَوَى أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا إلَّا بِمَكَّةَ كَمَا نَوَى لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ هُنَا بِالزَّمَانِ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْحَرَمُ كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ بِلَفْظَةِ الْهَدْيِ وَهُمَا قَالَا: كَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفَظَّةِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهَدْيِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّقَرُّبِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعِ نَحْرٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: لَا عَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ الْجَزُورِ فِي مَعْنَى الْهَدْيِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْقُرْبَةِ كَاسْمِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ اسْمِ الْجَزُورِ وَلِمَعْنَى الْقُرْبَةِ جَعَلْنَا اسْمَ الْبَدَنَةِ مُتَنَاوِلًا لِلْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا عَنْ سَبْعَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْهَدْيِ فَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ (قَالَ): وَلَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ. وَالْكَلَامُ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهَدَايَا سُنَّةٌ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2] وَصَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَّدَ هَدَايَاهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»، وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ نَعْلَ أَوْ قِطْعَةَ أَدَمٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا أُعِدَّ لِلتَّطَوُّعِ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَيَصِيرُ جِلْدُهُ عَنْ قَرِيبٍ مِثْلَ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الْجِلْدِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْهِيرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّشْهِيرَ فِيمَا هُوَ نُسُكٌ دُونَ مَا هُوَ جَبْرٌ، وَلَهَذَا لَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَهَذَا فِيمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الرَّعْيِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ فَإِنَّ الْغَنَمَ يَعْدِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَلِهَذَا يُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَلِّدُ الْغَنَمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ سُنَّةٌ فِي الْهَدَايَا، وَالْغَنَمُ مِنْ الْهَدَايَا، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَثَرٌ، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَالْبَقَرِ. (قَالَ): وَالتَّجْلِيلُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ كَانَتْ مُقَلَّدَةً مُجَلَّلَةً حَيْثُ «قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا»، وَإِنْ تَرَكَ التَّجْلِيلَ لَمْ يَضُرَّهُ وَالتَّقْلِيدُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّجْلِيلِ؛ لِأَنَّ لِلتَّقْلِيدِ ذِكْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ التَّجْلِيلِ. وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ، وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَصِفَةُ الْإِشْعَارِ هُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ ثُمَّ يُلَطِّخَ بِذَلِكَ الدَّمَ سَنَامَهُ، سُمِّيَ ذَلِكَ إشْعَارًا بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ، وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْإِشْعَارُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ السَّنَامِ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْعَرَ الْبُدْنَ بِيَدِهِ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ظَاهِرٌ حَتَّى قَالَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلَ الْإِشْعَارِ وَكَيْف يَكْرَهُ ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَهَرَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ لِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْحَدَّ، فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَطَعَ الْجِلْدَ فَقَطْ دُونَ اللَّحْمِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ثُمَّ حُجَّتُهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ إعْلَامٌ بِأَنَّهَا بَدَنَةٌ حَتَّى إذَا ضَلَّتْ رُدَّتْ، وَإِذَا وَرَدَتْ الْمَاءَ وَالْعَلَفَ لَمْ تُمْنَعْ لَكِنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ بِالتَّقْلِيدِ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُحَلُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ بِالْإِشْعَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ فَكَانَ الْإِشْعَارُ حَسَنًا لِهَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَعْنَى الْإِعْلَامِ بِالتَّقْلِيدِ يَحْصُلُ وَهُوَ لِإِكْرَامِ الْبَدَنَةِ، وَلَيْسَ فِي الْإِشْعَارِ مَعْنَى الْإِكْرَامِ بَلْ ذَلِكَ يُؤْذِي الْبَدَنَةَ، وَلِأَنَّ التَّجْلِيلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا لِدَفْعِ أَذَى الذُّبَابِ عَنْ الْبَدَنَةِ، وَالْإِشْعَارُ مِنْ جَوَالِبِ الذُّبَابِ فَلِهَذَا كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَالَ): وَلَا يَصِيرُ بِالْإِشْعَارِ وَالتَّجْلِيلِ مُحْرِمًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَجَعَلَ الْإِحْرَامَ قِيَاسَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْإِحْرَامُ قِيَاسُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ إلَّا رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِزَمَانِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 فَكَانَ الْوَقْتُ لِلصَّوْمِ مِعْيَارًا، وَلَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ فَبَعْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا حَاجَةَ إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْأَدَاءِ فَلِهَذَا صَارَ شَرْعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُنَا الزَّمَانُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلْحَجِّ، وَلَهَذَا صَحَّ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا أَدَاؤُهُ بِأَفْعَالِهِ وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَوْ قَلَّدَ الْبَدَنَةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ أَوْ أَمَرَ فَقُلِّدَ لَهُ وَهُوَ يَنْوِي الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ " لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ " وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ فِي التَّحَرُّمِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الشُّرُوعُ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ لَا يَقُومُ الْفِعْلُ فِيهِ مَقَامَهُ حَتَّى لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ بِنِيَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَبِإِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَكَذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2] إلَى أَنْ قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْإِحْرَامِ فَفِي قَوْلِهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَحْصُلُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حَتَّى رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ فَبَعْدَ مَا غَسَلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ نَظَرَ، فَإِذَا هَدَايَاهُ قَدْ قُلِّدَتْ فَقَامَ وَتَرَكَ غَسْلَ الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ: أَمَّا إنْ قُلِّدَتْ هَذِهِ الْهَدَايَا لَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ وَالصَّوْمَ مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي أَثْنَائِهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّوْمِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّلَاةِ فَيُوَفِّرُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ فَنَقُولُ بِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَبِشَبَهِهِ بِالصَّوْمِ يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرِ إذَا أَتَى بِفِعْلٍ يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّلْبِيَةِ إظْهَارُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَبِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ يَحْصُلُ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ أَيْضًا وَفَرَّقَ بَيْنَ التَّجْلِيلِ وَالتَّقْلِيدِ، فَقَالَ بِالتَّجْلِيلِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَا أُعِدَّ لِلْقُرْبَةِ فَقَدْ تُجَلَّلُ الْبَدَنَةُ لَا عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ إظْهَارًا لِلْإِجَابَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْإِشْعَارِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يُشْكَلُ؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَصِيرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 مُحْرِمًا بِهِ. وَعِنْدَهُمَا الْإِشْعَارُ بِمَنْزِلَةِ التَّجْلِيلِ فَإِنَّهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنَةِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ثُمَّ إذَا نَوَى عِنْدَ التَّقْلِيدِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ بِمَنْزِلَةِ التَّلْبِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ إنَّمَا نَوَى الْإِحْرَامَ فَقَطْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتَى بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ حَجًّا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عُمْرَةً، وَإِنْ قَلَّدَ الشَّاةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَإِنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَبَعَثَ بِهِ وَهُوَ لَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَ هَدْيَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ وَسَارَ مَعَهُ صَارَ مُحْرِمًا الْآنَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ فَقَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ بِأَهْلِهِ حَلَالًا لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ. وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا أَدْرَكَهَا فَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ مِنْ ذَلِكَ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَى أَثَرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَسُوقَهَا كَمَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَكَمَا كَانَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ بِابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ بِخِلَافِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ (قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَكَ قَوْمٌ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ فَقَلَّدَهَا بَعْضُهُمْ بِأَمْرِ أَصْحَابِهِ صَارُوا مُحْرِمِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ شُرَكَائِهِ كَفِعْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ قَلَّدَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ صَارَ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِغَيْرِ أَمَرِهِمْ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ فَكَذَلِكَ إذَا قَلَّدَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الشُّرَكَاءِ يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ (قَالَ): وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِ هَدْيِهِ إذَا نَحَرَهُ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا». (قَالَ): وَلَا يُعْطِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَجْرِ جِزَارَتِهِ لَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ لَحْمِهِ وَلَا مِنْ جِلَالِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 هَكَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ مَنْ بَاعَ جِلْدَ ضَحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» (قَالَ): وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ {، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ مَعَ عَلْقَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ وَأَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا وَأَنْ يَبْعَثَ إلَى آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِثُلُثٍ [سَاقَ بَدَنَةً لَا يَنْوِي بِهَا الْهَدْيَ] (قَالَ): وَإِنْ سَاقَ بَدَنَةً لَا يَنْوِي بِهَا الْهَدْيَ قَالَ: إذَا كَانَ سَاقَهَا إلَى مَكَّةَ فَهُوَ هَدْيٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا قَلَّدَهَا وَسَاقَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا بِالْهَدْيِ فَكَانَ سَوْقُهَا بَعْدَ إظْهَارِ عَلَامَةِ الْهَدْيِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِهِ إيَّاهَا بِلِسَانِهِ هَدْيًا (قَالَ): وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضَحُّوا بِالثُّنْيَانِ وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ» إلَّا أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا يُجْزِي لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جِذْعَانًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِزُوهَا» وَلَمَّا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: إنِّي ذَبَحْتُ نُسُكِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نُسُكَكَ، فَقَالَ: عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه يُجْزِيكَ وَلَا يُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» فَدَلَّ أَنْ مَا دُونَ الثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ. وَالْجَذْعُ مِنْ الضَّأْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْجَذْعُ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ (قَالَ): وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا الْعَوْرَاءُ أَوْ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ أَوْ جَدَّتْ عِنْدَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» «وَنَهَى رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوْرُهَا وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تَبْقَى وَالْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى مَنْسِكِهَا» وَالْحَادِثُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بَعْدَ شِرَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ، وَهَكَذَا إنْ أَضْجَعَهَا لِيَذْبَحَهَا فَأَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ عِنْدَ الذَّبْحِ فَيُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَجُعِلَ عَفْوًا لِهَذَا، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لَيُتْلِفَهَا فَتَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ. (قَالَ:): وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الذَّنَبِ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ كَثِيرًا يَمْنَعُ الْجَوَازَ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ» فَالشَّرْقَاءُ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ عَرْضًا وَالْخَرْقَاءُ طُولًا وَالْمُقَابَلَةُ الَّتِي ذَهَبَ قُدَّامُ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ خَلْفَ أُذُنِهَا إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَادَةً فَجُعِلَ عَفْوًا، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ»، وَلَكِنْ جَعَلَهُ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يُجْزِي فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ مَا وَرَاءَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حُكْمُهُ مُخَالِفٌ لِلثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الذَّاهِبَ إذَا كَانَ بِقَدْرِ الرُّبْعِ يُمْنَعُ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الرُّبْعَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْمَسْحِ وَالْحَلْقِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ وَالْبَاقِي سَوَاءً لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ إذَا اسْتَوَى بِالْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ، وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ: أَخْبَرْتُ بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ: قَوْلِي قَوْلُكَ أَوْ مِثْلُ قَوْلِكَ، قِيلَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى قَوْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ (قَالَ:): وَيُجْزِي فِي الْهَدْيِ الْخَصِيُّ وَمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ؛ لِأَنَّ مَا لَا قَرْنَ لَهُ يُجْزِي فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَرْنِ الْهَدْيِ وَأَمَّا جَوَازُ الْخَصِيِّ فَلِأَنَّهُ أَطْيَبُ لَحْمًا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا زَادَهُ الْخَصَا فِي طِيبَةِ لَحْمِهِ خَيْرٌ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا فَاتَ مِنْ الْخَصِيِّينَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحِينَ مَوْجُوءَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخِرِ عَنْ أُمَّتِهِ» (قَالَ:): فَإِنْ اشْتَرَى هَدْيًا ثُمَّ ضَلَّ مِنْهُ فَاشْتَرَى مَكَانَهُ آخَرَ وَقَلَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ نَحَرَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ وَلِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ أَنْ يَنْحَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنْ نَحَرَ الْأَوَّلَ وَبَاعَ الثَّانِيَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الثَّانِيَ لِيَكُونَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ لِيَكُونَ خَلَفًا عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمًا مَقَامَهُ، فَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 أَوْجَدَ مَا هُوَ الْأَصْلُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوَّلَ وَذَبَحَ الْآخَرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّانِي أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَوَّلَ هَدْيًا أَصْلًا فَإِنَّمَا يَجُوزُ إقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ أَنْقَصَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِيُتِمَّ جَعْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا جَعَلَهُمَا هَدْيًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ عَرَّفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ نُسُكٌ فَيَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الشُّهْرَةِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ لِلْمُتْعَةِ هَدْيَانِ فَنَحَرَ أَحَدَهُمَا حَلَّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ تَطَوُّعٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ (قَالَ:): وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ فَعَطِبَ فَنَحَرَ وَتَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ مَحِلَّهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ (قَالَ:): فَإِنْ اشْتَرَى بَدَنَةً لِمُتْعَتِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ سِتَّةُ نَفَرٍ فِيهَا بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ صَارَ الْكُلُّ لَازِمًا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدَّرَ مَا يُجْزِئُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ بِإِيجَابِهِ فَإِشْرَاكُهُ الْغَيْرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَوْجَبَ فِي الْبَعْضِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَعْضِ، وَلِأَنَّ إشْرَاكَهُ بَيْعٌ لِلْبَعْضِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْجَبَهُ هَدْيًا، وَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْكُلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ السَّبْعَةُ سَوَاءً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نِيَّةٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمْ بِأَمْرِ الْبَاقِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الشَّرِكَةُ مِنْهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ (قَالَ:): وَإِذَا وَلَدَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِهَدْيِهِ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى سَرَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَالْوَلَدَ مَعَهَا، وَإِنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَحَسَنٌ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الْأَفْضَلَ أَنْ يَذْبَحَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ بِقِيمَتِهِ (قَالَ:): وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ أَوْ الْأُضْحِيَّةِ فَرَضِيَ وَارِثُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا مَعَهُمْ عَنْ الْمَيِّتِ أَجْزَأَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يُوصِ بِأَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْقُرْبَةِ عَنْ نَصِيبِهِ فَصَارَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَقْصِدْ التَّقَرُّبَ بِذَبْحِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَخَرَجَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالذَّبْحِ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَالْعِتْقِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ وَتَقَرُّبُ الْوَارِثِ بِالتَّصَدُّقِ عَنْ الْمَيِّتِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَكَذَلِكَ تَقَرُّبُهُ بِإِيفَاءِ مَا قَصَدَ الْمُوَرِّثُ فِي نَصِيبِهِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ يَكُونُ صَحِيحًا (قَالَ): وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا يُرِيدُ بِهِ اللَّحْمَ دُونَ الْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِمْ. أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ كُفْرُهُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ الْوَاحِدِ إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ مَعَ الْمُوجِبِ لَهَا يَتَرَجَّحُ الْمُنَافِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُ أَحَدِهِمْ اللَّحْمَ فَلَا يُجْزِئُ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا لِيَكُونَ مُعَارِضًا وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ هَدْيٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَوَى، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ الَّذِي نَوَى اللَّحْمَ فَكَأَنَّهُ نَفَى مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَصِيبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيمَا ذَبَحَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ: تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يَكُونُ قُرْبَةً وَمَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَانِعُ مِنْ الْجَوَازِ مَعَ الْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا، فَأَمَّا إذَا نَوَوْا الْقُرْبَةَ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ جِهَاتُ قَصْدِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا تَسَعُ فِيهَا الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَصَدَ الْكُلُّ التَّقَرُّبَ فَكَانَتْ الْإِرَاقَةُ لِلَّهِ خَالِصًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِمَاءٌ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَحَرَ بَدَنَةً يَنْوِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ (قَالَ): وَلَا يَرْكَبُ الْبَدَنَةَ بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - خَالِصًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ»، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ مُحْتَاجًا إلَى رُكُوبِهَا، فَإِذَا رَكِبَهَا وَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ جُزْءًا مِنْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 إلَى حَاجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلُبُ لَبَنَهَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ لَبَنُهَا، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعِيدًا يَنْزِلُ اللَّبَنُ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِالْبَدَنَةِ ضَارًّا فَيَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ بِقِيمَتِهِ وَأَيُّ الشُّرَكَاءِ فِيهَا نَحَرَهَا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْتَعِينُ بِشُرَكَائِهِ فِي نَحْرِهَا فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِهِ إفْصَاحًا [عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ] (قَالَ:): وَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ نَحَرَهُ صَاحِبُهُ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَهَذَا مِلْكُهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلسِّبَاعِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْهَدَايَا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِهَا الْفِجَاجَ وَالْأَوْدِيَةَ حَتَّى يَخْرُجَ بِهَا إلَى مِنًى، فَقَالَ: مَاذَا أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ عَلَى يَدَيَّ مِنْهَا، فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا» وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رِفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا، وَمَقْصُودُهُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا عَلَامَةً يُعْلَمُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهَا هَدْيٌ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا مَعَ رِفْقَتِهِ ثُمَّ الْمُتَطَوِّعُ بِالْهَدَايَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَالْإِذْنُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا لَا يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا بَلْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا فَاتَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ يَتَعَيَّنُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ، وَذَلِكَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ غَنِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا أَيْضًا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا (قَالَ): وَإِذَا أَخْطَأَ الرَّجُلَانِ فَنَحَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَ صَاحِبِهِ أَوْ ضَحِيَّتَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا صَنَعَ فِي هَدْيِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ بِمَا صَنَعَ مِنْ صَاحِبِهِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ يَسْتَعِينُ بِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الذَّبْحِ فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَقُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَنَحْوِهَا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ هَدْيَهُ فَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ هَدْيِهِ فَيَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا آخَرَ وَيَذْبَحَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ قَائِمًا أَوْ أَضْجَعَهُ فَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ. وَبَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْأَيْدِي الْيُسْرَى، وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَرَهَا قَائِمَةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَنْبِ السُّقُوطُ مِنْ الْقِيَامِ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ خَمْسَ هَدَايَا أَوْ سِتًّا فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ» فَدَلَّ أَنَّهُ يَنْحَرُ قِيَامًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: نَحَرْتُ بِيَدَيَّ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَكِدْتُ أُهْلِكُ قَوْمًا مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً أَوْ أَسْتَعِينَ بِمَنْ يَكُونُ أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي (قَالَ:): وَلَا أَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ يَعْنِي ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ» وَيَكْفِي فِي هَذَا أَنْ يَنْوِيَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ يَذْكُرَهُ قَبْلَ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَيَنْحَرُ (قَالَ:): وَلَا يُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قِيَامًا؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَذْبَحَهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَيْسَرَ عَلَى الْمَذْبُوحِ، قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» الْحَدِيثَ (قَالَ): وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيَهُ أَوْ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ. (قَالَ:): وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ فَلَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْكَافِرِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا لَا نَسْتَعِينُ فِي أَمْرِ دِينِنَا بِمَنْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا» (قَالَ): وَإِنْ ذَبَحَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُجْزِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ كَانَ هَدْيَ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَإِنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفُ الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا، وَفِي رِوَايَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَهَا قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطِي فِي الزَّكَاةِ قِيمَةَ الشَّاةِ فَيَجُوزَ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ فَأَهْدَى شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتَهَا قِيمَةُ شَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إرَاقَةَ دَمَيْنِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ وَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَلَا يَقُومُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ مَقَامَهُ حَتَّى قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ هُنَاكَ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاةً فَأَهْدَى جَزُورًا يُجْزِئُهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً فَإِنَّ الْجَزُورَ قَائِمٌ مَقَامَ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ حَتَّى يُجْزِيَ عَنْ سَبْعَةِ نَفَرٍ فَفِيهِ وَفَاءٌ بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ أَنَّهُ إذَا أَهْدَى مِثْلَ مَا عَيَّنَهُ فِي نَذْرِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ أَهْدَى قِيمَتَهُ أَجْزَأَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ] (بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ) (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْمَيِّتِ النَّفَقَةَ فَأَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَالُهُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَوْ عَامَّةَ النَّفَقَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ يَرُدُّهُ، وَيَحُجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَكْثَرُ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْقَلِيلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَقَدْ يُضِيفُهُ إنْسَانٌ يَوْمًا فَلَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ يَسْتَصْحِبُ مَعَ نَفْسِهِ زَادًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَيُعْطِي السَّقَّاءَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَجْعَلُهُ عَفْوًا فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ وَقُلْنَا إذَا كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْحَجُّ عَنْهُ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُنْفَقَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ بِذَلِكَ السَّفَرِ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَأَنَّ إنْفَاقَ الْحَاجِّ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَإِنْفَاقِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَنْ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَبِنَحْوِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَائِلَةٍ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي»، وَقَالَ رَجُلٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 : «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَى مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ»، وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ مَشْهُورٌ حَيْثُ قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ» فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَأَمَّا الْحَجُّ يَكُونُ عَنْ الْحَاجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تُجْزِي بِالنِّيَابَةِ فِي أَدَائِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ الْمَالِ لِيُنْفِقَهُ الْحَاجُّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَا يَسْقُطُ بِهَذَا عَنْ الْحَاجِّ، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ حَتَّى صَارَ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَقَطْ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ فَلَمَّا قَالَ يَضْمَنُ وَيَحُجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ عُرْفَنَا أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ. (قَالَ)، وَإِنْ أَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَفِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفَاءٌ بِحَجِّهِ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَجَازَ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبْتَلَى بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَالُ الْمَيِّتِ حَاضِرًا أَوْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إظْهَارُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَنْ يُنْفَقَ مِنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ (قَالَ) فَإِنْ نَوَى الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّفْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَطَلَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ وَتَوَطُّنُهُ بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُهُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فِي سَفَرِهِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ أَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ أَقَامَ بَعْدَ النَّفْرِ ثَلَاثًا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ مَتَى شَاءَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ لِانْتِظَارِ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَوَطِّنًا بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْمَقَامِ أَنْ يَرْجِعَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ. فَإِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ عَادَتْ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَهُوَ نَظِيرُ النَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَقَامَ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَعُودُ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا أَصْلُ سَفَرِهِ كَانَ لِعَمَلِ الْمَيِّتِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ السَّفَرُ تَبْقَى نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَبِالْوُصُولِ لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ السَّفَرُ، ثُمَّ هُوَ أَنْشَأَ سَفَرًا بَعْدَ ذَلِكَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ لِهَذَا السَّفَرِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ بِزَمَانٍ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ، ثُمَّ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ قُدُومَ قَوَافِلِ مَكَّةَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ، وَلَكِنَّهُ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ مُوَافِقٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ. فَأَمَّا قُدُومُهُ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْإِقَامَةِ لَيْسَ يَعْمَلُ لِلْمَيِّتِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ [أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَلَغَتْ حِجَجًا] (قَالَ): فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَلَغَتْ حِجَجًا فَالْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ رِجَالًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصَى وَأَبْعَدُ عَنْ فَوَاتِ مَقْصُودِهِ بِهَلَاكِ الْمَالِ (قَالَ): وَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا عَتَقَ وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ»، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 الْحَجِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ بِدُونِ شَرْطِهِ فَيَكُونُ الْمُؤَدَّى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ نَفْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، ثُمَّ اسْتَغْنَى حَيْثُ جَازَ مَا أَدَّى عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ مِلْكُ الْمَالِ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ لَا يَتَقَدَّرُ الْمَالُ بِالنِّصَابِ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قُرْبِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَدَاءِ وَبُعْدِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ الْفَقِيرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَجَبَ الْأَدَاءُ فَإِنَّمَا حَصَلَ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَكَانَ فَرْضًا. فَأَمَّا الْعِتْقُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ بِمَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَالْمُؤَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ فَرْضًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى الْحَجَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَنَافِعُ الْفَقِيرِ حَقُّهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ كَانَ فَرْضًا فَأَمَّا مَنَافِعُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَبِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَا تَخْرُجُ الْمَنْفَعَةُ مِنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَمِلْكُ الْغَيْرِ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ فَرْضُ الْعُمْرِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدَّاهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَمَنَافِعُهُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَهَذَا جَائِزٌ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. (قَالَ): فَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَلَا بِالْإِطْعَامِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ كَمَا إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ. (قَالَ): وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ، وَإِنْ فَسَدَ لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِي الْفَاسِدِ، وَإِنَّ إحْرَامَهُ كَانَ لَازِمًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا عَتَقَ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ دَمٍ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ، وَكُلُّ مَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَكَانَ هَذِهِ يَنْوِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا بَعْدَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْ، وَلَكِنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْحُرُّ، وَالْحُرُّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ بِإِعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً إذَا عَتَقَ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِفَوَاتِ مَا شَرَعَ فِيهِ. وَإِنْ أَطْعَمَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ ذَبَحَ عَنْهُ مِنْ الدِّمَاءِ مَا يَلْزَمُهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلطَّعَامِ الَّذِي يُؤَدَّى فِي الْكَفَّارَةِ وَلَا لِمَا يُرَاقُ دَمُهُ فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْمِلْكَ وَبِدُونِ الْمِلْكِ فِيمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 كَفَّرَ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا فِي الْإِحْصَارِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِإِذْنِهِ بِالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ هَدْيٍ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُكْتَسِبُ لِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الدَّمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّلَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَوْلَى حَقٌّ بِسَبَبِ عَبْدِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِهِ، ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ حُرًّا وَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ الْعَبْدُ إذَا تَحَلَّلَ بِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِأَنَّهُ أَهْدَى فِي إقَامَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِصَيْرُورَتِهَا مَعْهُودَةً عِنْدَهُ فَإِنْ أَحَجَّ صَرُورَةً عَنْ نَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْآمِرِ وَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنْ شُبْرُمَةَ؟ فَقَالَ: أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ لَا». وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ تَعَارُضٌ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ، فَقَالَ: مَنْ نُبَيْشَةَ، فَقَالَ: صَدِيقٌ لِي، فَقَالَ: إذَا حَجَجْت عَنْ نُبَيْشَةَ فَحِجَّ عَنْ نَفْسِكَ» وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يُحْرِمْ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ لِلْكَيْفِيَّةِ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ الْغَيْرِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا. وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذَا نَظِيرِ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا حَجُّهُ يَكُونُ نَفْلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَصْلِ، وَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ يَبْقَى مُطْلَقُ نِيَّةِ الْحَجِّ وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ نَوْعُ سَفَهٍ قَبْلَ أَدَاءِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّفِيهُ مُسْتَحِقُّ الْحَجْرِ فَجَعَلَ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوًا تَحْقِيقِيًّا لِمَعْنَى الْحَجْرِ فَيَبْقَى مُطْلَقُ النِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَدَّى حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَحْرَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَبِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْلَى. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي الْحَجِّ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ مِنْهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ عِنْدَنَا، وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْوَقْتِ فَكَانَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لَهُ لَا مِعْيَارًا، وَفِي مِثْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 لَا يَتَمَيَّزُ الْفَرْضُ مِنْ النَّفْلِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ. وَقَوْلُهُ " يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ " قُلْنَا عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ التَّعْيِينَ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ تَارَةً وَبِالدَّلَالَةِ أُخْرَى، وَفِي الْحَجِّ التَّعْيِينُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَدَاءِ النَّفْلِ مَعَ بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ كَمَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فَكَانَ حَجُّهُ عَمَّا نَوَى وَمَا قَالَ بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُلْغِي اعْتِبَارَ نِيَّةِ النَّفْلِ بَلْ يَجْعَلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ آذِنٌ لِأَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْإِحْرَامِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ إفْصَاحًا فَإِنَّمَا يَتَأَدَّى لَهُ حَجٌّ بِالنِّيَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا بِمَالِهِ لِلْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَالصَّرُورَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ قَدْ حَجَّ؛ لِأَنَّ الصَّرُورَةَ بِمَالِهِ يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَمَنْ قَدْ حَجَّ مَرَّةً يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ وَكَمَا أَنَّ دَرَجَةَ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ أَوْلَى (قَالَ): وَالْحَجُّ التَّطَوُّعُ جَائِزٌ عَنْ الصَّحِيحِ يُرِيدُ أَنَّ بِهِ الصَّحِيحَ الْبَدَنِ إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ طَاعَةً عَظِيمَةً فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَنْهُ يَكُونُ جَائِزًا وَكَوْنُهُ صَحِيحًا لَا يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ التَّطَوُّعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ الْأَمْرَ مُوسِعٌ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ فَكَذَا هُنَا فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا صَرْفُ الْمَالِ إلَى سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ نِيَابَةً فَيَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِيهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إمَّا التَّعْظِيمُ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ، وَإِمَّا إتْعَابُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ أَصْلًا وَلَا تُجْزِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا، وَالْحَجُّ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلْبُقْعَةِ، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ يَحْصُلُ وَمَعْنَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى أَدَائِهَا، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ لَا يَحْصُلُ فَلَا تُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْأَدَاءِ بِالنَّائِبِ، وَتُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ لِحُصُولِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالنَّائِبِ. وَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمُعْتَبَرُ الْوُسْعُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ عَجْزٌ مُسْتَغْرِقٌ لِبَقِيَّةِ الْعُمْرِ لِيَقَعَ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَقُلْنَا: إنْ كَانَ عَجْزُهُ بِمَعْنًى لَا يَزُولُ أَصْلًا كَالزَّمَانَةِ يَجُوزُ الْأَدَاءُ بِالنَّائِبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 مُطْلَقًا. وَإِنْ كَانَ عَارِضًا يُتَوَهَّمُ زَوَالُهُ بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَسْجُونًا، فَإِذَا أَدَّى بِالنَّائِبِ كَانَ ذَلِكَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَامَ بِهِ الْعُذْرُ إلَى أَنْ مَاتَ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَوَقَعَ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ، وَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤَدِّي تَطَوَّعَ لَهُ وَالْمَالُ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْوُجُوبِ بِسَبَبِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَعْضُوبَ وَالْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَتْ: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَوْلُهَا " شَيْخًا كَبِيرًا " نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ يَعْنِي لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْمَعْضُوبِ وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ عَرَفْنَا أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ يَتِمُّ بِهِ. وَإِذَا جَازَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ يُؤَدَّى بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِالْبَدَنِ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي يَجِبُ بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالزَّمِنُ لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْخِطَابُ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الشَّرْطَ مَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى» وَزَادُ الْمَعْضُوبِ وَرَاحِلَتُهُ لَا يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ بِالزِّيَارَةِ وَالْمَالُ شَرْطٌ لِيُتَوَسَّلَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَائِتٌ فِي حَقِّ الْمَعْضُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِاعْتِبَارِهِ وَاعْتِبَارُ الِابْتِدَاءِ بِالْبَقَاءِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إذَا افْتَقَرَ بِهَلَاكِ مَالِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ يَبْقَى وَاجِبًا، ثُمَّ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْأَصْلُ بِاعْتِبَارِ الْبَدَلِ وَهُنَاكَ الْمَالُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 بِمُبَاشَرَةِ النَّائِبِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِهِ، وَالرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَتْ فِي الْخَثْعَمِيَّةِ فَفِي بَعْضِهَا قَالَتْ: هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ فِي الْحَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ مُرَادُهَا أَنْ تَزُولَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ عَنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ شَيْخًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَعْضُوبُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ إذَا بَذَلَ وَلَدُهُ لَهُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ عَنْهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَبِطَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْقَرَابَاتِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا بَذَلَتْ الطَّاعَةَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ دَيْنًا عَلَى أَبِيهَا بِقَوْلِهِ «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ فَدَلَّ أَنَّ بَذْلَ الْوَلَدِ الطَّاعَةَ يُلْزِمُهُ الْحَجَّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْمَالِ تَكْفِي لِلْإِيجَابِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ بِمَنْفَعَةِ الِابْنِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ كَثِيرُ مِنَّةٍ عَلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مِنَّةٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ مُتَبَرِّعٌ فِي بَذْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ كَغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعُهُ مُوجِبًا لِلْحَجِّ عَلَى الْأَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَوْ بَذَلَ الْمَالَ لِأَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْبَذْلِ فَكَذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْأَبُ مِنْ مُكَافَأَتِهِ إذَا اسْتَفَادَ مَالًا وَهُنَا لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا بَذَلَ مِنْ الطَّاعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ بِبَذْلِ الْوَلَدِ الْمَالَ فَبِبَذْلِهِ الطَّاعَةَ أَوْلَى، وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اسْتِطَاعَةُ تَوَصُّلِهِ إلَى الْبَيْتِ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا وَقَائِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَعْمَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَائِدٍ يُهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الضَّالِّ وَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْضُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ، وَالْمَالُ هُنَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ وَبَذْلُ الْقَائِدِ الطَّاعَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ، وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَمَا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ يَحُجُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ تَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَجِّجَ الْوَصِيُّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَإِنْ حَجَّجَ امْرَأَةً جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ أَنْقَصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَا الْحَلْقُ فَكَانَ إحْجَاجُ الرَّجُلِ عَنْهُ أَكْمَلَ مِنْ إحْجَاجِ الْمَرْأَةِ (قَالَ): وَإِنْ أَحَجَّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَجَامَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي إحْرَامِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ يُؤَدِّي بِهِ حَجًّا صَحِيحًا فَبِالْإِفْسَادِ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَالدَّمِ وَقَضَاءِ الْحَجِّ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ لِلْحَاجِّ حَتَّى إنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا وَافَقَ فَالْحَجُّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَلَكِنْ إذَا خَالَفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ مُوجَبُهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا وَافَقَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِأَمْرِهِ، وَلَوْ خَالَفَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ (قَالَ): وَلَوْ قَرَنَ مَعَ الْحَجِّ عُمْرَةً كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا يُجَانِسُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ فَهُوَ بِالْقِرَانِ زَادَ لِلْمَيِّتِ خَيْرًا فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ مُجَرَّدٍ لِلْحَجِّ، وَسَفَرُهُ هَذَا مَا تَفَرَّدَ لِلْحَجِّ بَلْ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ تَمَتَّعَ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي زَادَهَا لَا تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجِّ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ عَنْهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عُمْرَتُهُ عَنْ الْمَيِّتِ صَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُنَاكَ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَكَذَا هُنَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ، وَإِنْ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَكِنْ يَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَدَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْحَجِّ لِلْمَيِّتِ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَيْهِ عُمْرَةَ نَفْسِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْحَجُّ لِلْمَيِّتِ بِبَعْضِ النَّفَقَةِ، وَبِهَذَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجَرِّدَ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ، فَإِذَا اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجَرِّدْ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَبِقَدْرِ مَا يُنْتَقَصُ بِهِ يُنْتَقَصُ مِنْ الثَّوَابِ فَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ ضَرَرًا عَلَيْهِ لَا مَنْفَعَةً لَهُ، ثُمَّ دَمُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمَا يَكُونُ عَلَى الْحَجِّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْقِرَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَذَا النُّسُكُ، وَلِأَنَّ لِهَذَا الدَّمِ بَدَلًا وَهُوَ الصَّوْمُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُشْكِلْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ يَكُونُ عَلَيْهِ (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فَقَرَنَ مَعَهَا حَجَّةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا نَفَقَةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ يَكُونُ عَلَى الْحَاجِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَّضِحُ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَإِذَا كَانَ أُمِرَ بِالْحَجِّ فَبَدَأَ وَاعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ كَانَ مُخَالِفًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالْمُتَمَتِّعُ يَحُجُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ فَكَانَ هَذَا غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَفَرٍ يَعْمَلُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا أَنْفَقَ فِي سَفَرٍ كَانَ عَامِلًا فِيهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ فِي الْعُمْرَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ (قَالَ): وَكُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَمَ كَفَّارَةٍ فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دَمًا وَجَبَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ عَلَى الْحَاجِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الدَّمِ الْوَاجِبِ بِالْجِمَاعِ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى دَمِ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّحَلُّلِ وَهُمَا احْتَجَّا، وَقَالَا: دَمُ الْإِحْصَارِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْإِحْرَامِ وَهُوَ بِمُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ عَامِلًا لِلْمَيِّتِ فَكَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُدْخِلُ لَهُ فِي هَذَا حُكْمًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، ثُمَّ أُحْصِرَ كَانَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الرُّجُوعِ، وَنَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْبَيْتِ وَكَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عَلَى وَصِيِّ الْمَيِّتِ فَيُحِجُّ بِهِ إنْسَانًا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمَيِّتِ فِيمَا أَنْفَقَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَنْفَقَ فَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ، وَقَوْلُهُ " مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ " يَعْنِي إذَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ الْمَيِّتِ فَيَحُجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُمْكِنُ وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُلُثُ مَالِهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَيَحُجُّ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّمَا يُحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ بِنَفْسِهِ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 يُحَجُّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَكْفِي لِلْحَجِّ مِنْ مَنْزِلِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْوَصِيُّ عَنْ تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الْحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى نَسَمَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتُعْتَقُ عَنْهُ وَكَانَ ثُلُثُ مَالِهِ دُونَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَجِّ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَيْلُ الثَّوَابِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ بِعَبْدٍ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ الْمَالِ مَاشِيًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّوَادِرِ: رَاكِبُ الْبَعِيرِ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ رَاكِبِ الْحِمَارِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا إنْ وَجَدَ النَّفَقَةَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ عَنْهُ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْخِيَارُ إلَى الْوَصِيِّ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا، وَإِنْ شَاءَ مِنْ مَنْزِلِهِ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ زِيَادَةً فِي الْمَسَافَةِ وَنُقْصَانًا فِي النَّفَقَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ زِيَادَةٌ فِي النَّفَقَةِ وَنُقْصَانٌ فِي الْمَسَافَةِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَيْلُ الثَّوَابِ فَيَخْتَارُ الْوَصِيُّ أَيَّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، فَأَمَّا الْمُحْصَرُ بَعْدَمَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ الْمُحْصَرَ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ عَلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ لِلْمَيِّتِ ثَوَابَ النَّفَقَةِ فَإِنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحَجِّ فَأَهَّلَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا كَانَ ضَامِنًا لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي سَفَرٍ يَخْلُصُ لَهُ وَأَنْ يَنْوِيَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ لَزِمَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ نَوَاهُمَا، وَلَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ نِيَّتِهِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ عَنْ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَبَقِيَتْ نِيَّةُ أَصْلِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ أَبَوَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي تَرْكِهِ تَعْيِينَ أَحَدِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ يَجْعَلُ التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِيمَا صَنَعَ، وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ فَبِتَرْكِ التَّعْيِينِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الِابْتِدَاءِ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَجِّ وَالْآخَرُ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَأْمُرَاهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِسَفَرٍ خَالِصٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلنَّفَقَةِ فِي مَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ أَمَرَاهُ بِالْجَمْعِ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرَّحَ أَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ النُّسُكِ لَا خُلُوصُ السَّفَرِ لَهُ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ [اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ] (قَالَ): رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مِنْ الْكَافِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ أَدَاؤُهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حَيْثُ رَقَى الْمَلْدُوغَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» وَالرُّقْيَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ طَاعَةٌ، ثُمَّ جَوَّزَ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْأَدَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ وَقَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ إذَا عَمِلَ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الصَّلَاةِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْجِهَادِ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ يُؤَدِّي الْفَرْضَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرِّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ»، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ عُلِّمَ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْطَى قَوْسًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ»، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ عَمَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ بِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُصَلِّي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُ أَجْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 الْآيَةَ فَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الرُّقْيَةِ قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ مَالًا أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اضْرِبُوا لِي فِيهَا بِسَهْمٍ» مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِعَيْنِهِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ لَا يَجُوزُ، قُلْنَا: الْعَقْدُ الَّذِي لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ يَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ بَقِيَ أَمْرُهُ بِالْحَجِّ فَيَكُونُ لَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فِي مَالِهِ، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ لَيْسَ يَسْتَحِقُّهَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِهِ كَالْقَاضِي يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ وَالْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ لَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ (قَالَ): وَيَجُوزُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَحْبُوسِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ. (قَالَ): وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ إنْ شَاءَ قَالَ: لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِّ عَنْ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَرَّحَ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ شَاءَ نَوَى وَاكْتَفَى بِالنِّيَّةِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالْقِرَانِ فَخَرَجَ الْمُجَهَّزُ يَؤُمُّ الْبَيْتَ وَسَاقَ هَدْيًا فَقَلَّدَهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ عَنْ غَيْرِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِحْرَامِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ كَمَا يَحْصُلُ بِالتَّلْبِيَةِ فَكَذَلِكَ إحْرَامُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْهَدْيُ لِقِرَانِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ مِنْ جِمَاعٍ فِي إحْرَامٍ قَبْلَ هَذَا أَوْ إحْصَارٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا فَسَاقَ مَعَهُ لِذَلِكَ هَدْيًا بَدَنَةً وَقَلَّدَهَا فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى قِيَاسِ مَا لَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ هَذِهِ الْهَدَايَا وَسَوْقِهَا فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَدَايَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ (قَالَ): رَجُلٌ أَمَرَهُ رَجُلَانِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَنْوِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَالَ: لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَرَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَفَقَتِهِمَا، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْحَاجِّ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَتِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَكَذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِالنِّيَّةِ فَبِتَرْكِهِ تَعْيِينَ النِّيَّةِ يَكُونُ مُخَالِفًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا قَالَا: الْإِبْهَامُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ صَحِيحًا وَالتَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ لَا يَنْوِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ فِي الِانْتِهَاءِ وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كَتَعْيِينِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ فَتَرْكُهُ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِيهِ لَا يَجْعَلُهُ مُخَالِفًا، وَإِذَا عَيَّنَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِ الْأَدَاءِ كَانَ ذَلِكَ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْعَمَلِ مَعَ إبْهَامِ النُّسُكِ لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَعَهُ، ثُمَّ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ فِي إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ كَعِبَارَةِ ابْنِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَصِيرُ الِابْنُ مُحْرِمًا بِهَذَا لَا أَنْ يَصِيرَ الْأَبُ مُحْرِمًا عَنْهُ بَقِيَ لِلْأَبِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْقَارِنِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَنْ نَفْسِهِ بِإِحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ (قَالَ): وَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَوَقَفُوا بِهِ فِي الْمَوَاقِفِ وَقَضَوْا لَهُ النُّسُكَ كُلَّهُ، قَالَ: يُجْزِيهِ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِيهِ. وَالْقِيَاسُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلْأَصْحَابِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَإِلْزَامُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِوِلَايَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ النِّيَّةُ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ أَمْرِهِ لَا تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ لَا تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْأَصْحَابِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرِّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَكَمَنْ نَصَبَ الْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَجَعَلَ فِيهِ اللَّحْمَ وَأَوْقَدَ النَّارَ تَحْتَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَطَبَخَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ قَامَتْ نِيَّتُهُمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا. وَأَمَّا سَائِرُ الْمَنَاسِكِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ نِيَّاتِهِمْ عَنْهُ فِي أَدَائِهَا صَحِيحٌ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا، وَلَوْ أَدَّوْا عَنْهُ جَازَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ، فَقَالَ: الْإِحْرَامُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَتُجْزِي النِّيَابَةُ فِي الشُّرُوطِ، وَإِنْ كَانَ لَا تُجْزِي فِي الْأَعْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَابَةُ لَا تُجْزِي فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّيَابَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَفِي أَصْلِ الْإِحْرَامِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ فَيَنُوبُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَأَمَّا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ (قَالَ): فَإِنْ أَصَابَ الَّذِي أَهَلَّ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ يَصِيرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِهِ إفْصَاحًا، فَأَمَّا الْمُهِلُّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ إحْرَامِهِ (قَالَ): وَإِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ): بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّتِي سَأَلَتْهُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا: حُجِّي وَاعْتَمِرِي» وَأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي قَدْ تُوُفِّيَتْ وَأَنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا، فَقَالَ:» فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْوَارِثِ يَتَبَرَّعُ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُرَبِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَاذَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَا صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ. (قُلْنَا)؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. (قُلْنَا) خَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ فَفِيمَا طَرِيقُهُ الْعَمَلُ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِيهِ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا قُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ): رَجُلٌ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَأَحَجَّ الْوَصِيُّ عَنْهُ رَجُلًا فَهَلَكَتْ النَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً أُخْرَى مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ يَحُجُّ عَنْهُ ثَانِيًا وَإِلَّا فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي تَعْيِينِ الْمَالِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي مَالًا فَهَلَكَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: مَحِلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَتَعْيِينُ الْوَصِيِّ الثُّلُثَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الثُّلُثُ لِلْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا تَعْيِينُهُ فِي الثُّلُثِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَعْيِينُ الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْحَجُّ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الْمَيِّتِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا التَّعْيِينُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ صَارَ كَأَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يُوجَدْ وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلِهَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَعِتْقِ نَسَمَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَسَعُهُمَا يَبْدَأُ بِاَلَّذِي بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يَبْدَأُ بِهَا، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْبِدَايَةِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُوصَى يَقْصِدُ تَقْدِيمَ الْفَرْضِ فِي الْأَدَاءِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِهِ، وَلَمْ يَقُلْ " حَجَّةً " حُجَّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُفْعَلَ بِثُلُثِهِ طَاعَةٌ أُخْرَى (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ رَجُلٌ حَجَّةً فَأَحَجُّوهُ فَلَمَّا قَدِمَ فَضَلَ مَعَهُ كِسْوَةٌ وَنَفَقَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَالَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فَإِنَّ التَّمْلِيكَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْجَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا يُنْفَقُ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْكِفَايَةَ حِينَ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ لَهُ فَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَتِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ، فَقَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً، وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يُعْطَى فَإِنَّهُ يُعْطَى بِقَدْرِ مَا يُحِجُّهُ حَجَّةً وَلَهُ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ إذَا أَخَذَهُ بَلْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، إنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ الْحَجَّ عِيَارًا لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً صَحِيحَةً يَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَمَشُورَتُهُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ فَإِنْ شَاءَ حَجَّ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ (قَالَ): وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَوْصَى بِوَصَايَا لِأُنَاسٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ يُضْرَبُ لِلْحَجِّ فِيهِ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ وَجَبَ تَنْفِيذُهَا لَهُ بِنَفَقَةِ الْمُوصِي وَوَجَبَ تَنْفِيذُ سَائِرِ الْوَصَايَا حَقًّا لِلْمُوصَى لَهُمْ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْحُقُوقِ تَجْرِي الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ كُلِّ مُسْتَحِقٍّ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَجِّ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّتَيْنِ هُنَاكَ لِحَقِّ الْمُوصِي فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، ثُمَّ مَا خَصَّ الْحَجَّ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمْكِنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ثُلُثُ مَالِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 إلَّا هَذَا وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ فَإِنْ أَحَجُّوا بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ فَرَجَعَ الْحَاجُّ بِفَضْلِ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فَكَانَ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَهُ فَيُضَمُّ ذَلِكَ إلَى مَا بَقِيَ وَيُحَجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا فَحِينَئِذٍ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِي الْحَجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ التَّفَاوُتِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ رُجُوعِهِ كِسْرَةٌ أَوْ جِرَابٌ خَلَقٌ أَوْ ثَوْبٌ خَلَقٌ فَلِهَذَا جَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ عَفْوًا، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا إذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُحْصَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي حَقِّهَا الْمَحْرَمَ عِنْدَنَا، ثُمَّ يُشْتَرَطُ أَنْ تَمْلِكَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مَعَهَا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: نَفَقَةُ الْمَحْرَمِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْخُرُوجِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِتَبَرُّعِهِ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ كَمَا لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَتِهَا فَكَمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لِنَفْسِهَا فَكَذَلِكَ لِلْمَحْرَمِ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَهَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فِيمَا سَبَقَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَا مِنْ الطَّرِيقِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَمْ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ؟ وَكَانَ ابْنُ أَبِي شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ بِدُونِهِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ فَيَكُونُ شَرْطُ الْوُجُوبِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ فَسَّرَهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ»، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي شَرْطِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي وَقْتٍ أَخْوَفَ مِمَّا كَانَ يَوْمئِذٍ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْنَ الطَّرِيقِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَمِلْكُ نَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْعِيَالِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ ذَلِكَ زِيَادَةُ نَفَقَةِ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْكَسْبِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَاسْتُحْسِنَ اشْتِرَاطُ مِلْكِ نَفَقَةِ شَهْرٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ، ثُمَّ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ قَالَ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ أَخَّرَ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ مَاتَ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِتَأْخِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِيَّتِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ عَشْرٍ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتَ أَدَائِهِ وَلَا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْعُمُرِ أَدَاؤُهُ فَصَارَ جَمِيعُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْحَجِّ كَجَمِيعِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَهُنَاكَ التَّأْخِيرُ يَسَعُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ أَدَائِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْظُرَ إلَى مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَمْ يَحُجَّ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَرَاهُمْ مُسْلِمِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّنَةَ الْأُولَى بَعْدَ مَا تَمَّتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَدَاءِ الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ فَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَتَأْخِيرِ الصَّوْمِ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بَيَانُهُ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ هَذَا الْوَقْتُ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِيَقِينٍ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْأَدَاءِ بِمَجِيءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَوْهُومٌ فَرُبَّمَا لَا يَعِيشُ إلَيْهَا وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ فَبَقِيَ مُضِيُّ هَذَا الْوَقْتِ تَفْوِيتًا لَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عُمُرِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ السَّنَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِحَيَاتِهِ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ فَخَرَجَتْ السَّنَةُ الْأُولَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ فِي حَقِّهِ تُعَدُّ لِمَا أَدْرَكَهَا بِمَنْزِلَةِ السَّنَةِ الْأُولَى، فَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا نُزُولُ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَأَمَّا النَّازِلُ سَنَةَ سِتٍّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِيَّةِ مَعَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفَوْتِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِبَيَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ وَالْحَجُّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فَأَمِنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ بِفِعْلِهِ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ كَانَ لِعُذْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُلَبُّونَ تَلْبِيَةً فِيهَا شِرْكٌ وَمَا كَانَ التَّغْيِيرُ مُمْكِنًا لِلْعَهْدِ حَتَّى إذَا تَمَّتْ الْمُدَّةُ بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَتَّى قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٍ وَنَادَى أَنْ لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ، ثُمَّ حَجَّ بِنَفْسِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ وَحْدَهُ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَصْحَابِهِ يَكُونُونَ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ كِفَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ أَوْ كَانَ لِلنَّسِيءِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَعْذَارَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ (قَالَ): وَإِنْ أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ «لَا تَصُومِي تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِكِ» وَلِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهَا مِنْ ذَلِكَ فَوَّتَتْ عَلَى الزَّوْجِ حَقَّهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا كَمَا خَرَجَتْ عَنْ حَجَّةٍ أَحْرَمَتْ بِأُخْرَى وَهِيَ لَا تَمْلِكُ تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرَةِ إلَّا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا هُنَا قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ بِالْهَدْيِ لِيُوَفِّرَ حَقَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَتْ الْمَحْرَمَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ إذَا أَهَلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ. (قَالَ): وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ بِخِلَافِ الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَيْضًا أَعَادَهُ لِلْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَ الْمَمْلُوكُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ كَانَ لِمَعْنَى خُلْفِ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبِ الْإِحْرَامِ، وَجَعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ إبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا لَازِمًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ بِالسَّبْقِ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ لُزُومُهُ لَيْسَ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْمَحِلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 تَزَوَّجَتْ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَحَلَّلَهَا، ثُمَّ جَامَعَهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ بِإِحْرَامٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعَلَيْهَا دَمٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحَلَّلَتْ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ بِإِحْلَالِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَعَلَيْهَا الدَّمُ وَقَضَاءُ الْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ أَوْ فِي عَامٍ آخَرَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْمُحْصَرِ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ فَإِنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهَا فَحَجَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ فَوَاتُ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمَوَاقِيتِ] (بَابُ الْمَوَاقِيتِ) (قَالَ): بَلَغَنَا «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ جُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الثَّلَاثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ وَلَا يَلَمْلَمَ وَفِي هَذِهِ - الْآثَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ سِوَى الْمَنْعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ مَا انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِالِاتِّفَاقِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالُوا: التَّأْقِيتُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَوَاقِيتِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَجَبَتْ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 الْجَنَّةُ»، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]: إنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَّتْنَا لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ وَقْتٌ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ حَلَالًا فَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ كَانَ مِيقَاتُهُ لِلْإِحْرَامِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَذَا هُنَا، ثُمَّ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إنَّمَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ طَلَبِ غَرِيمٍ لَهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ " لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ "؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ النُّسُكِ بِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ قَاصِدٍ أَدَاءَ النُّسُكِ فَكَانَ الْحَرَمُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَأَمَّا عِنْدَنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ إذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْحَجُّ أَوْ الْقِتَالُ أَوْ التِّجَارَةُ لِحَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَقَدْ تَرَخَّصَ لِلْقِتَالِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ «إنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً» فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخُصُوصِيَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَصْنَعَ كَصَنِيعِهِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فَقَالَ: إنِّي جَاوَزْتُ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبِّ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لِإِظْهَارِ شَرَفِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ وَمَنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ سَوَاءٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِحَاجَتِهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 بَيْنَ أَهْلِ الْمِيقَاتِ وَأَهْلِ الْآفَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ». وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُجَاوِزُونَ الْمِيقَاتَ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ بَلَغَتْهُ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَصَالِحَ أَهْلِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِمْ بِهِمْ فَكَمَا يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا لِحَوَائِجِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لِأَهْلِ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى فَرُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا إذَا أَرَادُوا النُّسُكَ فَالنُّسُكُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَإِرَادَةُ النُّسُكِ لَا تَكُونُ عِنْدَ كُلِّ دُخُولٍ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ وَأَهْلُهُ فِي الْوَقْتِ أَوْ دُونَ الْوَقْتِ إلَى مَكَّةَ فَوَقَّتَهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمُوا مِنْ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ وَالْحَرَمُ حَدٌّ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَمَا أَنَّ مِيقَاتَ الْآفَاقِيِّ لِلْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَيَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ فَكَذَا هُنَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْحَرَمِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَالشَّرْطَ هُنَا أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَرَمَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ بِهَذَا يَحْصُلُ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ فَأَحْرَمَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُلَبِّيَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يَطَّوَّفَ بِالْبَيْتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمِيقَاتَ الْمَعْهُودَ فِي حَقِّهِ لِلْإِحْرَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ يُحْرِمُ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ لِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْ مَكَانِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ إلَى الْحِلِّ، وَإِنْ عَادَ فَالْخِلَافُ فِيهِ مِثْلُ الْخِلَافِ فِي الْآفَاقِيِّ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ): وَإِنْ أَرَادَ الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ إنَّمَا يُرِيدُ الْبُسْتَانَ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ لَهَا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَإِذَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ حَلَالًا كَانَ مِثْلَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَوَائِجِهِمْ مِنْ غَيْر إحْرَامٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ، وَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُولَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُتَوَطِّنًا بِالْبُسْتَانِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَإِنْ نَوَى الْمُقَامَ بِهَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ قَبْلَ قَصْدِهِ دُخُولَ مَكَّةَ، فَإِنَّمَا قَصَدَ دُخُولَ مَكَّةَ بَعْدَ مَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ فَكَانَ حَالُهُ كَحَالِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ (قَالَ): وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرِنَ أَوْ أَنْ يَتَمَتَّعَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي ذَلِكَ {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ يَكُونُ مَنْزِلُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَقُلْنَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا وَكَمَا لَا يَتَمَتَّعُ مَنْ هُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ لَهُ الْقِرَانُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَارِنَ عَلَى قَوْلِهِ يَتَرَفَّهُ بِإِدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَالْمَكِّيُّ فِي هَذَا وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّرَفُّهِ بِالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لَا فِي إدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى السَّفَرِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِالسَّفَرِ كَثِيرُ مَشَقَّةٍ فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ لَهُمَا صَحَّ وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْقَارِنِ أَنْ تَكُونَ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مُتَقَارِنَتَيْنِ يُحْرِمُ بِهِمَا جَمِيعًا مَعًا، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَلَوْ اعْتَمَرَ هَذَا الْمَكِّيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إذَا لَمْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَالْمَكِّيُّ هُنَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا إنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَكَذَلِكَ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ، ثُمَّ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ وَهُنَا الْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَكَانَ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحًا، فَلِهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَعَلَى هَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ مَاتَ وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَنْزِله وَهُوَ بِمَكَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُخْرِجُ مُسَافِرًا فَيُوصِي بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَلَوْ أَوْصَى هَذَا الْمَكِّيُّ بِأَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ لَا يَكُونُ مِنْ مَكَّةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ. (قَالَ): وَالْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْوَقْتَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَإِنْ جَاوَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ قَصَدَ إلَى مَوْضِعٍ فَحَالُهُ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ كَحَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (قَالَ): وَوَقْتُ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْحَرَمُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ بِمَكَّةَ حَلَالًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فَحَلُّوا مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ» (قَالَ): وَمِيقَاتُ إحْرَامِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَوْضِعِ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَأَدَاءُ الْحَجِّ يَكُونُ بِالْوُقُوفِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ وَأَدَاءُ نُسُكِ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ. (قَالَ): كُوفِيٌّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ نَحْوَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ جَازَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا، فَإِذَا جَاوَزَهُ حَلَالًا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ» وَأَخَّرَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ فَتَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي حَجِّهِ وَنُقْصَانُ الْحَجِّ يُجْبَرُ بِالدَّمِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبَّى إنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ يُبَاشِرُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بَعْد مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْشَاءُ تَلْبِيَةٍ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَوُجُوبُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لَا بَعْدَهُ فَهُوَ - وَإِنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ - فَإِنَّمَا أَتَى بِتَلْبِيَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا فَاتَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا أَنْ يُنْشِئَ الْإِحْرَامَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ، ثُمَّ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، وَلَمْ يُلَبِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ، وَلَمْ يُلَبِّ فَقَدْ تَدَارَكَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ حَلَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ عَادَ فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ مِيقَاتَهُ هُنَاكَ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ، وَقَدْ لَبَّى عِنْدَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): فَإِنْ قَرَنَ هَذَا الْكُوفِيُّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْإِحْرَامَيْنِ جَمِيعًا عَنْ الْمِيقَاتِ فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ إحْرَامٍ دَمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِنَ إذَا ارْتَكَبَ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضِعْفُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا: الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَانَ جَائِزًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ دَمٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ صَارَ بِجِنَايَتِهِ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِتَأْخِيرِهِ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَنْ الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْحَجِّ الْحَرَمُ، وَقَدْ أَحْرَمَ بِهِ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَيْضًا كَانَ عَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَنْ مِيقَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ الْحِلُّ بِمَنْزِلَةِ مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ فَحِينَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَقَدْ تَرَكَ مِيقَاتَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا فَيَلْزَمُهُ لِذَلِكَ دَمٌ آخَرُ (قَالَ): كُوفِيٌّ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَقَالَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَيُّ ذَلِكَ شَاءَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 مَكَّةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ الْإِحْرَامَ بِالنَّذْرِ، وَفِي نَذْرِ الْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَكَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِدُخُولِ مَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَهَلَّ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا تَنُوبُ عَمَّا صَارَتْ نُسُكًا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا يَنُوبُ هَذَا عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا: لَوْ كَانَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءِ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ نَابَ ذَلِكَ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لَا أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَنْ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ لِلِاعْتِكَافِ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَوْ أَحْرَمَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءَ كَأَنْ يُؤَدِّي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَدْ أَدَّاهَا حِينَ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَصَارَ بِهِ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لَمْ يَصِرْ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي الثَّانِيَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِهَذَا الْعَوْدِ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ وَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ؟. (قُلْنَا) هُوَ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُؤَقَّتَةً فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ السَّنَةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَلَا يَصِيرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مُتَدَارِكًا لِلْمَتْرُوكِ (قَالَ): وَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَفَاتَهُ الْحَجُّ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا فَاتَهُ الْحَجّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 ارْتَكَبَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَانْعَدَمَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ [جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ] (قَالَ): وَكَذَلِكَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْيَانَهُ وَقْتًا آخَرَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ عِنْدَهُ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّ مِنْ حَصَّلَ فِي مِيقَاتٍ فَإِحْرَامُهُ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ (قَالَ): عَبْدٌ دَخَلَ مَكَّةَ مَعَ مَوْلَاهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ إذَا عَتَقَ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّمِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ، وَلَكِنْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ يَدْخُلُ مَكَّةَ، ثُمَّ يُسْلِمُ، ثُمَّ يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ الصَّبِيُّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، ثُمَّ يَحْتَلِمُ بِمَكَّةَ فَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْوَقْتِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْإِحْرَامِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُمَا الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُمَا بِمَكَّةَ، وَمِيقَاتُ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ الْحَرَمُ، وَقَدْ أَحْرَمَا مِنْهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاك الْوَقْت وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَوَصِيَّتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُمَا الْحَجُّ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَانْعِدَامُ شَرْطِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِالْأَدَاءِ فِي وَقْتِهِ (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ، ثُمَّ احْتَلَمَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْزِئُهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِهِ عِنْدَهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَيُجْعَلُ وَكَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُنَا أَيْضًا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ: وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَكُمْ مِنْ الشَّرَائِطِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 دُونَ الْأَرْكَانِ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حِينَ أَحْرَمَ: هُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الصَّرُورَةِ إذَا أَحْرَمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا لَا يُجْزِئُهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ، وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِلْفَرْضِ وَالْإِحْرَامُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِيَقِينٍ فَلِهَذَا لَا يُجْزِئُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ الَّذِي بَاشَرَهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ كَانَ تَخَلُّقًا، وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ بِتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا أَحْرَمَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعَبْدِ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا فَلَا يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَلِهَذَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَأَهَلَّ بِهَا بَعْدَ سَنَةٍ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ الْأَوَّلِ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ قَالَ: يُجْزِيهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَوْ أَحْرَمَ مِنْ هَذَا الْمِيقَاتِ أَجْزَأَهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَجُعِلَ هَذَا كَعَوْدِهِ إلَى الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إذَا جَاءَ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَصَّلَ عِنْدَ مِيقَاتٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ] (بَابُ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ) (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَفَاتَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، قَالَ: وَبَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلْيَتَحَلَّلْ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ». وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 مَا رَوَاهُ الْأَسْوَدُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، ثُمَّ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا فَطَرِيقُ الْخُرُوجِ عَنْهُ أَدَاءُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ إمَّا الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ إحْرَامًا بِهِمَا وَهُنَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالْحَجِّ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلُ إحْرَامِهِ بَاقٍ بِالْحَجِّ وَيَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِيرُ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يُؤَدِّيهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَقَايَا أَعْمَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْتَزَمَ أَدَاءَ أَفْعَالٍ يَفُوتُ بَعْضُهَا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَا يَفُوتُهُ الْبَعْضُ فَيَسْقُط عَنْهُ مَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَلْزَمُهُ مَا لَا يَفُوتُ وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ بِهِمَا مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ فَلَا، وَحَاجَتُهُ إلَى التَّحَلُّلِ هُنَا قَبْلَ الْوُقُوفِ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ يَتَحَلَّلُ بِهِمَا مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَصِيرُ أَصْلُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: لَا يُمْكِنُ جَعْلُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ إلَّا بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ شَرَعَ فِيهِ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ، وَلَوْ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ مِيقَاتُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ (قَالَ): فَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَقَدِمَ مَكَّةَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجِّهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا يَجْعَلُ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَبْلَ فَوَاتِ الْحَجِّ كَافِيًا لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى فَقَدْ أَتَى بِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ بِعُمْرَتِهِ يَطُوفُ لَهَا الْآنَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُهُ، ثُمَّ يَطُوفُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَجَّتِهِ وَيَسْعَى حَتَّى يَتَحَلَّلَ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ أَصْلَ إحْرَامِهِ لَا يَنْقَلِبُ عُمْرَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْقَلَبَ عُمْرَةً لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامِ عُمْرَتَيْنِ وَأَدَائِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ عَاجِزٌ عَنْ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَفَائِتُ الْحَجِّ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ فَائِتُ الْحَجِّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فِي الطَّوَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ وَأَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ أَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَإِنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مَا فَاتَتْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَافَ لَهَا قَبْلَ الْفَوَاتِ فَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ (قَالَ): وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يَنْقَلِبْ إحْرَامَ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ لَوْ انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا كَمَنْ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَطَافَ لَهَا فِي شَوَّالٍ، وَلَكِنَّهُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ، وَلَيْسَ هَذَا صُورَةَ الْمُتَمَتِّعِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَجَامَعَ فِيهَا ثُمَّ قَدِمَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِجِمَاعِهِ وَيَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ بَعْدَ الْفَوَاتِ يَكُونُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَكَذَلِكَ عَنْ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ أَصَابَ فِي حَجِّهِ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ الْفَسَادِ بَاقٍ فَيَجِبُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ مَا يَلْزَمُهُ بِارْتِكَابِهِ فِي الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا الَّذِي أَفْسَدَ الْحَجَّ إنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ الْفَوَاتِ حِينَ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفُتْهُ كَانَ أَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ اعْتِبَارًا بِمَنْ صَحَّ حَجُّهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَوَاتِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَقَدِمَ مَكَّةَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَقَامَ حَرَامًا حَتَّى يَحُجَّ مَعَ النَّاسِ مِنْ قَابِلٍ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّتِهِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ إحْرَامَهُ صَارَ لِلْعُمْرَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ بَقِيَ أَصْلُ إحْرَامِهِ لِلْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِإِعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَبْطُلُ هَذَا التَّعْيِينُ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ مَعَ أَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَلَوْ صَحَّ أَدَاءُ الْحَجِّ بِهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَغَيَّرَ مُوجِبُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِفِعْلِهِ، وَلَيْسَ إلَيْهِ تَغْيِيرُ مُوجِبِ عَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ قَدِمَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَطُوفُ لِلَّذِي قَدْ فَاتَهُ وَيَسْعَى وَيَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ إحْرَامِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ تَعَيَّنَ لِلْحَجِّ فَهُوَ بِالْإِهْلَالِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ حَجَّتَيْنِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأُولَى بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ الْفَائِتِ فَهِيَ هِيَ يَعْنِي لَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إيجَادَ الْمَوْجُودِ فَإِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَنِيَّةُ الْإِيجَادِ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ نَوَى بِالْإِهْلَالِ هُنَاكَ حَجَّةً أُخْرَى سِوَى الْمَوْجُودِ [أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا فَاتَهُ الْحَجُّ] (قَالَ): وَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا فَاتَهُ الْحَجُّ رَفَضَهَا أَيْضًا وَمَضَى فِي عَمَلِ الْفَائِتَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأَوَّلِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأُولَى بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ وَقَدِمَ مَكَّةَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَالَ: يَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّتَانِ وَدَمٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِإِحْدَى الْحَجَّتَيْنِ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِرَفْضِهَا وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَدْ فَاتَتْهُ الْأُخْرَى فَيَتَحَلَّلُ مِنْهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهَا بِعَمَلِ عُمْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَمَلًا فَكَمَا أَخَذَ فِي عَمَلِ إحْدَاهُمَا صَارَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى وَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالرَّفْضِ (قَالَ): وَإِذَا سَاقَ هَدْيًا لِلْقِرَانِ فَقَدِمَ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَالَ: يَصْنَعُ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَقَدْ أَعَدَّهُ لِمَقْصُودِهِ، فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ صَنَعَ بِهِ مَا أَحَبَّ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَفُتْهُ، وَلَكِنَّهُ جَامَعَ؛ لِأَنَّ بِالْجِمَاعِ فَسَدَ حَجُّهُ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا، وَإِنَّمَا أَعَدَّ هَذَا الْهَدْيَ لِلْقِرَانِ، فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ فَإِنْ كَانَ هَدْيُهُ قَدْ نَتَجَ فِي الطُّرُقِ، ثُمَّ قَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَوْ جَامَعَ أَوْ أُحْصِرَ صَنَعَ أَيْضًا بِالْوَلَدِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ فَكَمَا يَصْنَعُ بِالْأُمِّ مَا شَاءَ فَكَذَلِكَ بِالْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جَمِيعًا فَإِنْ نَحَرَ الْأُمَّ وَوَهَبَ الْوَلَدَ أَوْ بَاعَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحَقِّ فِي الْأَصْلِ سَرَى إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَّرَ عَنْ الْوَلَدِ بَعْدَ مَا وَهَبَهُ أَوَبَاعَهُ، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ وَلَدِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ فِي الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ فِيمَا يَلِدُ هَذَا الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَلَدِ لَازِمٌ إيَّاهُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَيَسْرِي إلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَخْرُجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَكَفَّرَ عَنْهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي وَلَدِهَا الْكَفَّارَةُ (قَالَ): مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الرَّبَذَةِ فَأُحْصِرَ بِهَا، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَا يَكْفِيهِ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ، وَلَيْسَ لِطَوَافِ التَّحِيَّةِ أَثَرٌ فِي التَّحَلُّلِ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالطَّوَافِ يَكُونُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ الطَّوَافُ كَانَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي التَّحَلُّلِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 خُرُوجُهُ إلَى الرَّبَذَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَفُتْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ»، ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ بَعْدَ هَذَا بِسَبَبِ التَّرْكِ وَالتَّأْخِيرِ (قَالَ): فَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ يَقْضِي عُمْرَتَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ فَلَا يَفُوتُهُ عَمَلُ الْعُمْرَةِ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتُ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامَ الْحَجِّ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً لِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ فِيهَا بِغَيْرِهَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ لَوْ أَدَّى الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ فَيَبْقَى مُحْرِمًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِهَا وَهُوَ نَظِيرُ بَقَاءِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ [أَهَلَّ الْحَاجُّ صَبِيحَةَ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى] (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّ الْحَاجُّ صَبِيحَةَ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى لَزِمَتْهُ وَيَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْأُولَى وَيُقِيمُ حَرَامًا إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِهَذَا الْإِحْرَامِ مِنْ قَابِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِأَدَاءِ الْحَجِّ بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَعَلَيْهِ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ دَمٌ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ بَاقٍ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجَّتَيْنِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الدَّمُ بِالْجَمْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ لِرَفْضِ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ حِينَ صَارَ قَاضِيًا لِإِحْدَاهُمَا وَهُنَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى فَلِهَذَا لَزِمَهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا دَمٌ، وَإِنْ قَدِمَ الْحَاجُّ مَكَّةَ فَأَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ»، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا حُكْمَ الْإِهْلَالِ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِيهِ إنْ أَهَلَّ بِهِمَا مَعًا أَوْ بِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ بِالْأُخْرَى مَعًا؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ رَفَضَ إحْدَى الْعُمْرَتَيْنِ، ثُمَّ قَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَمَعَهَا حَجَّةٌ فَهُوَ قَارِنٌ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فَكَمَا أَنَّ كَوْنَ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقِرَانِ فَكَذَلِكَ كَوْنُ الْعُمْرَةِ وَاجِبَةً فِي ذِمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَتَى بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا فَإِنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَارِنِ إنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَجَعَ مُحْرِمًا فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ فَلِهَذَا كَانَ قَارِنًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فِي حُكْمِ الْإِلْمَامِ بِأَهْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ أَيْضًا فِي حُكْمِ الْمَكِّيِّ الَّذِي قَدِمَ الْكُوفَةَ وَبَيَّنَّا الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَدِمَ الْكُوفَةَ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمِيقَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ): وَإِذَا قَدِمَتْ الْمَرْأَةُ مَكَّةَ مُحْرِمَةً بِالْحَجِّ حَائِضًا مَضَتْ عَلَى حَجَّتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ»، فَإِذَا طَهُرَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَعَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ مَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الرُّخْصَةِ الْوَارِدَةِ لِلْحَائِضِ فِي ذَلِكَ (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ طَوَافُ الصَّدَرِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ الَّذِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ الْبَيْتِ بِالرُّجُوعِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَاِتَّخَذَهَا دَارًا سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ إنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّدَرِ بَعْدَ حِلِّ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا جَاءَ وَقْتُ الصَّدَرِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافُ الصَّدَرِ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ لَزِمَهُ بِمَجِيءِ وَقْتِ الصَّدَرِ قَبْلَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي طَوَافِ الصَّدَرِ سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَلَا يَصِيرُ طَوَافُ الصَّدَرِ دَيْنًا عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَنِيَّتُهُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا تَلْزَمُهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ. فَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الصَّدَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ بِالشُّرُوعِ فِيهِ لَزِمَ إتْمَامُهُ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَمَا اتَّخَذَهَا دَارًا لَا يَلْزَمُهُ طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ يَقْصِدُ الْخُرُوجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 مِنْ مَكَّةَ. وَإِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَيَّامًا، ثُمَّ يَصْدُرُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمْ يَصِرْ كَأَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الصَّدَرِ مِنْهَا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذَا عَلَى الصَّدَرِ مِنْهَا بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَبْقَى عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدَرِ عَلَى حَالِهِ (قَالَ): وَلَيْسَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ طَوَافُ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ لِلْقَضَاءِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَمِرِ الْمُقِيمِ فِي حَقِّ الْإِعْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ الصَّدَرِ. (قَالَ): رَجُلٌ قَصَدَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَوَافَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَقَضَاهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَقَضَاهُ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَمَ بِالْوَقْتِ بِالْعُمْرَةِ وَقَضَاهَا؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَى الْمِيقَاتِ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ حَاجًّا كَانَ أَوْ مُعْتَمِرًا، وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِعُمْرَةٍ، وَلَكِنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ فَهُوَ مُحْرِمٌ حَتَّى يَحُجَّ مَعَ النَّاسِ مِنْ قَابِلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْإِحْرَامِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْوَقْتِ فَيُلَبِّيَ مِنْهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ. (قَالَ): وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقِيمَ فِي مَنْزِلِهِ حَرَامًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَيَبْعَثَ بِالْهَدْيِ، وَلَا يَحِلُّ بِالْهَدْيِ إنْ بَعَثَ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ لِلْمُحْصَرِ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْصَرٍ بَلْ هُوَ فَائِتُ الْحَجِّ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ شَرْعًا فَلَا يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ] (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ) (قَالَ): وَالْعُمْرَةُ لَا تُضَافُ إلَى الْحَجِّ وَالْحَجُّ يُضَافُ إلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ مِنْهَا شَيْئًا وَبَعْدَ أَنْ يَعْمَلَ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعُمْرَةَ بِدَايَةً وَالْحَجَّ نِهَايَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فَمَنْ أَضَافَ الْحَجَّةَ إلَى الْعُمْرَةِ كَانَ فِعْلُهُ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَمَنْ أَضَافَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ كَانَ فِعْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ مُسِيئًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا هُوَ قَارِنٌ فَإِنَّ الْقَارِنَ هُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ بِأَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْحَجِّ فَهُوَ جَامِعٌ مُصِيبٌ لِلسُّنَّةِ فَيَكُونُ مُحْسِنًا وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ فَهُوَ جَامِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ فَكَانَ مُسِيئًا لِهَذَا وَيَلْزَمُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْمُتَرَفِّقِ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وَهُوَ شَاةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 فِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَدَنَةٌ وَأَخَذْنَا بِالْأَوَّلِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «تَمَتَّعْنَا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَدَنَةِ عَنْ سَبْعَةٍ» فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَفُوتُهُ بِمُضِيِّهِ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ (قَالَ): وَلَوْ صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ بَعْدَ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ قَبْلَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَحُجَّتُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَحِينَ صَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَصَوْمُهُ هَذَا لَيْسَ فِي الْحَجِّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: جَعَلَ الْحَجُّ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ وَفِعْلُ الْحَجِّ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَهَذَا قَدْ صَامَ فِي وَقْتِ الْحَجِّ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ السَّبَبُ، وَهُوَ التَّمَتُّعُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمَتُّعِ فِي أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَأَدَاءُ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا جَائِزٌ إذَا صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: إنِّي تَمَتَّعْتُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَقَالَ: اذْبَحْ شَاةً فَقَالَ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ فَقَالَ: سَلْ أَقَارِبَكَ فَقَالَ: لَيْسَ هُنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ لِغُلَامِهِ يَا مُغِيثُ أَعْطِهِ قِيمَةَ شَاةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ مُؤَقَّتًا بِالنَّصِّ فَبَعْدَ فَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَكُونُ بَدَلًا فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ فِي الِابْتِدَاءِ يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِهَا وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ مَا إذَا قَدَرَ عَلَى أَصْلِ الْهَدْيِ بَعْدَ مَا يَحِلُّ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحَلُّلُ فَإِنَّمَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَهُوَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ لَيْسَ بِبَدَلٍ فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَوَانَ أَدَائِهَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ وَوُجُوبِ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ أَدَاءَهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] مُضِيُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى إذَا صَامَ بَعْدَ مُضِيِّهَا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ جَازَ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 الْمُقَامَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الصَّوْمُ (قَالَ): وَإِنَّ أَهَلَّ الْآفَاقِيُّ بِالْحَجِّ فَطَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ رَفَضَهَا وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَدَمٌ لِلرَّفْضِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ وَلَوْ بَقِيَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ كَانَ بَانِيًا عَمَلَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يَرْفُضُهَا. وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا فَطَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مَضَى فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي أَعْمَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ يَكُونُ قَارِنًا وَإِنْ طَافَ لَهَا أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ بَعْدَ عَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَلِأَكْثَرِ الطَّوَافِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْقَارِنُ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَارَ جَامِعًا حِينَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ لَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلَا يُضِيفُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَإِنْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ وَمَضَى فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا، وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ أَيْسَرُ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الْحَجِّ فِي الْقُوَّةِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مَتَى شَاءَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْعُمْرَة؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْبُدَاءَةِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ هُنَا فَيَرْفُضُ الْعُمْرَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ مَضَى فِيهِمَا حَتَّى قَضَاهُمَا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ وَالْعُمْرَتَيْنِ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَمَلًا مَنْفِيٌّ هُنَاكَ وَمَعَ النَّفْيِ لَا يَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ فَيَكُونُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا عَلَى كُلُّ حَالٍ، وَهُنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَعَ النَّهْيِ يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّ هَذَا الدَّمَ لَيْسَ نَظِيرَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ نُسُكٌ يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَهَذَا جَبْرٌ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّمِ بِارْتِكَابِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَكُونُ وَاجِبًا بِطَرِيقِ الْجَبْرِ لِلنُّقْصَانِ فَلِهَذَا لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْعُمْرَةِ شَوْطًا أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأَكْثَرُ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَيَرْفُضُهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ وَالْمُتَأَكِّدُ بِأَدَاءِ الْعَمَلِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الْحَجَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّأَكُّدَ يَحْصُلُ بِشَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ مَا بَيَّنَّا فِي الْآفَاقِيِّ إذَا طَافَ لِلْحَجِّ شَوْطًا، ثُمَّ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ كَانَ عَلَيْهِ رَفْضُهَا لِتَأَكُّدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 إحْرَامِ الْحَجِّ بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْإِهْلَالِ بِالْعُمْرَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ طَوَافِ الْحَجِّ. وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَنَقُولُ: إنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا أَتَى بِأَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَلَا يَرْفُضُ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَفْرُغُ مِنْ عُمْرَتِهِ وَمِنْ حَجَّتِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُتَمَتِّعِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّمَتُّعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْ هَذَا الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ جَبْرٌ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ هَذَا الطَّوَافُ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِذَا صَارَ جَامِعًا كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا آفَاقِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَذَا الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ فِي الْعُمْرَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا كَانَ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ هُوَ الْحِلُّ (قَالَ): كُوفِيٌّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَطَافَ لَهَا، ثُمَّ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ قَالَ: يَرْفُضُ عُمْرَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا كَانَ بَانِيًا لِلْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجَّةِ، هَذَا إذَا أَهَلَّ بِعُمْرَةِ بِعَرَفَةَ، فَإِنْ أَهَلَّ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِحَجَّتِهِ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أُمِرَ أَنْ يَرْفُضَهَا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَمَضَى فِيهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ كَانَ أَهَلَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِحَجَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ حَجَّتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إنْ لَمْ يَتْرُكْ الْوَقْتَ فِيهَا، وَلَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يَرْفُضَهَا إذَا أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ تَمَامِ الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْإِحْرَامِ فَبَعْدَ مَا أَحْرَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إحْرَامٍ آخَرَ فَإِذَا أَدَّاهَا كَانَ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِهَا بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ صَارَ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ لِتَحَقُّقِ الْمُنَافِي عَلَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ إنْ كَانَ إهْلَالُهُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ فَقَدْ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَلَزِمَهُ لِذَلِكَ دَمٌ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا حَلَّ لَمْ يَصِرْ جَامِعًا بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (قَالَ): مَكِّيٌّ أَهَلَّ بِالْحَجَّةِ فَطَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ قَالَ: يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ وَقَبْلَ تَأَكُّدِهِ كَانَ يُؤْمَرُ بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ فَبَعْدَ تَأَكُّدِهِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَطَافَ لَهَا وَسَعَى أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِإِهْلَالِهِ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ حَجَّتِهِ، وَقَدْ صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ (قَالَ): مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ جَامَعَ، ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا عُمْرَةً أُخْرَى قَالَ: يَرْفُضُ هَذِهِ وَيَمْضِي فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأُولَى صَحِيحَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهَا وَيَرْفُضَ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ فَسَادِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُجَامِعْ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الْأُولَى، وَلَكِنَّهُ طَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالثَّانِيَةِ يَرْفُضُ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ تَأَكَّدَتْ لَمَّا طَافَ لَهَا فَتَعَيَّنَتْ الثَّانِيَةُ لِلرَّفْضِ وَكَذَا هَذَا فِي حَجَّتَيْنِ (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ لِلْجِمَاعِ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي عَمَلِ الْأُخْرَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِلْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا فَجِمَاعُهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجِمَاعُ مِنْهُ بَعْدَ مَا سَارَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا حِينَ سَارَ إلَى مَكَّةَ فَجِمَاعُهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالرَّفْضِ وَبِالْإِفْسَادِ مِنْ الْقَضَاءِ وَالدَّمِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ. فَإِنْ أَحْرَمَ لَا يَنْوِي شَيْئًا فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ هَذِهِ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ تَعَيَّنَتْ عُمْرَةً حِينَ أَخَذَ فِي الطَّوَافِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِبْهَامَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَدَاءِ بَلْ يَبْقَى مَا هُوَ الْمُتَيَقِّنُ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَحِينَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى فَقَدْ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الثَّانِيَةَ (قَالَ): وَإِذَا كَانَ لِلْكُوفِيِّ أَهْلٌ بِالْكُوفَةِ وَأَهْلٌ بِمَكَّةَ يُقِيمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ سَنَةً فَاعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ مُلِمٌّ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ بِمَكَّةَ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْكُوفَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِصْرٍ لَيْسَ فِيهِ أَهْلُهُ، ثُمَّ حَجّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَحَدِيثُ زَيْدٍ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: أَتَيْنَا عُمَّارًا فَقَضَيْنَاهَا، ثُمَّ زُرْنَا الْقَبْرَ، ثُمَّ حَجَجْنَا فَقَالَ: أَنْتُمْ مُتَمَتِّعُونَ وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ كَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ وَعِنْدَهُمَا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَهُوَ كَمَنْ وَصَلَ إلَى أَهْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِالْكُوفَةِ أَهْلٌ وَبِالْبَصْرَةِ أَهْلٌ فَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِالْبَصْرَةِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا (قَالَ): وَإِنْ اعْتَمَرَ الْكُوفِيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَسَاقَ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ، وَلَمْ يَحْلِقْ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ حَجَّ كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 رُجُوعُهُ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَ مَا أَتَى بِأَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَحَجَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُلِمٌّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ إلْمَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُنْحَرَ عَنْهُ، وَلَمْ يَحُجَّ كَانَ جَائِزًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ الَّذِي اعْتَمَرَ مِنْ الْكُوفَةِ وَسَاقَ لِهَدْيٍ لِمُتْعَتِهِ فَهُنَاكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ: إلْمَامُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِأَهْلِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُنْحَرْ عَنْهُ الْهَدْيُ فَكَانَ الْعَوْدُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ كَالْقَارِنِ إذَا أَتَى بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ عَادَ فَحَجَّ كَانَ قَارِنًا، وَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ حَلَّ هُنَاكَ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا لَمَّ بِأَهْلِهِ حَلَالًا فَكَانَ إلْمَامُهُ صَحِيحًا (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَسَاقَ هَدْيًا مَعَهُ لِمُتْعَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَحِلَّ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَحُجَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَحِلَّ، وَلَا يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى التَّمَتُّعِ فَكَانَ هَدْيُهُ هَدْيَ الْمُتْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِاخْتِصَاصِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاقَ الْهَدْيَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى التَّمَتُّعِ لَزِمَهُ الْبَقَاءُ فِي الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ عَمَلُ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي الْإِحْلَالِ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ حَجَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُ تَأْخِيرُ الْخُرُوجِ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا تَبَيَّنَ أَنَّ إحْلَالَهُ كَانَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَحَلَّ وَنَحَرَ هَدْيَهُ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِمُتْعَتِهِ فَإِنَّهُ أَتَى بِالنُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا وَمَا نَحَرَ مِنْ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَدَمٌ آخَرُ لِإِحْلَالِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ (قَالَ): رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَهَلَّ بِأُخْرَى يَنْوِي قَضَاءَهَا، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا أَمَّا بِالْعُمْرَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ وَالتَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ لَا يَكُونُ، وَأَمَّا بِالثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ لَهَا مِنْ غَيْرِ الْمِيقَاتِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ حِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَوَاقِيتَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ جَاوَزَ الْوَقْتَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ فَإِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَقَدْ أَتَى بِعُمْرَةٍ مِيقَاتِيَّةٍ وَحَجَّةٍ مَكِّيَّةٍ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْوَقْتَ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ؛ لِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَمَّا دَخَلَتْ، وَهُوَ دَاخِلٌ الْمِيقَاتَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّمَتُّعُ كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْمِيقَاتِ فَلَا تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ الْأَوَّلُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا مَعَ الْفَسَادِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ عَادَ فَقَضَاهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ قَدْ انْقَطَعَ بِرُجُوعِهِ إلَى أَهْلِهِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فَالْمُعْتَبَرُ سَفَرُهُ الثَّانِي، وَقَدْ أَدَّى النُّسُكَيْنِ فِي هَذَا السَّفَرِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا. وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ عَادَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرْنَا أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى بَلْدَتِهِ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ انْقَطَعَ حُكْمُ ذَلِكَ السَّفَرِ فِي حَقِّ التَّمَتُّعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَجَعَ إلَى بَلْدَتِهِ فَإِذَا عَادَ مُعْتَمِرًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا لِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ صَحِيحًا. وَإِنْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَضَاهَا، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ قَرَنَ عُمْرَةً وَحَجَّةً كَانَ قَارِنًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ كَحَالِ الْمَكِّيِّ مَتَى حَصَلَ بِمَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ قَرَنَ حَجَّةً وَعُمْرَةً كَانَ قَارِنًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ قَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ، ثُمَّ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ وَبِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ بِمَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَكِّيٍّ مُحْرِمٍ بِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا كَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْفُضُ الْحَجَّ لِتَأَكُّدِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَعِنْدَهُمَا يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَطُفْ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَطُفْ لَهَا شَيْئًا وَإِذَا تَرَكَ الْمَكِّيُّ أَوْ الْكُوفِيُّ مِيقَاتَ الْإِحْرَامِ فِي الْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ مِنْ الْوَقْتِ لَمْ يَنْفَعْهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ قَدْ تَأَكَّدَ بِالطَّوَافِ فَهُوَ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبَّى فَلَمْ يَصِرْ مُتَدَارِكًا لِمَا فَاتَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا عَادَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمُنْشِئِ لِلْإِحْرَامِ الْآنَ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّوَافِ مَحْسُوبٌ لَهُ وَكَيْفَ يُجْعَلُ كَالْمُنْشِئِ الْآنَ وَطَوَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ التَّلْبِيَةِ] (قَالَ): وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» اتَّفَقَ عَلَى هَذَا رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي نَقْلِ تَلْبِيَتِهِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: يُبَاحُ لَهُ الزِّيَادَةُ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: لَبَّيْكَ ذِي الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ، فَقَالَ: مَهْ مَا كُنَّا نُلَبِّي، هَكَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ كَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ». وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ يُلَبِّي، فَقَالَ قَائِلٌ لَا يُلَبِّي هُنَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: لَبَّيْكَ مَرْهُوبٌ مِنْكَ وَمَرْغُوبٌ إلَيْكَ وَالنُّعْمَى وَالْفَضْلُ وَالْحُسْنُ لَكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ تَرَكَ التَّلْبِيَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَاكْتَفَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَهَكَذَا نَقُولُ إذَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ الْمَعْرُوفَةَ كَانَ مَكْرُوهًا، فَأَمَّا إذَا أَتَى بِالْمَعْرُوفِ، ثُمَّ زَادَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ نُقِلَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبَيْتِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تَلْبِيَةٌ طَوِيلَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَارِيَاتُ فِي الْفُلْكِ عَلَى مَجَارِي مَنْ سَلَكَ، ثُمَّ الْحَاجُّ وَالْقَارِنُ فِي قَطْعِ التَّلْبِيَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ النُّسُكَيْنِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ حِينَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَقْتَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ وَالْمُحْصَرِ وَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّلْبِيَةِ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ فَأَمَّا بِدُونِ النِّيَّةِ مُحْرِمًا وَإِنْ لَبَّى، كَمَا لَا يَصِيرُ بِالتَّكْبِيرِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَنْوِ، وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّلْبِيَةِ كَمَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَإِذَا تَوَضَّأَ الْأَخْرَسُ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَوَى الْإِحْرَامَ بِقَلْبِهِ وَحَرَّكَ لِسَانَهُ كَانَ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَوْقَ ذَلِكَ كَمَا إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ مَعَ النِّيَّةِ يَصِحُّ شُرُوعُهُ. وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي التَّلْبِيَةِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ صَوْتَهَا فِتْنَةٌ وَاذَا لَمْ يُلَبِّ الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ كَمَا أَنَّ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْمُصَلِّي إلَّا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَكَانَ مُسِيئًا، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَأْتِ الْمُحْرِمُ بِالتَّلْبِيَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ وَتَرَكَ الْمَسْنُونَ فَيَكُونُ مُسِيئًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ] (بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ) (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا أَعْلَمُ، وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ ذَهَابَ السَّهْمِ حَتَّى وَصَلَ إلَى الصَّيْدِ كَانَ بِقُوَّةِ الرَّامِي، وَهُوَ مُبَاشِرٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الْقِصَاصَ بِهِ إذَا رَمَى إلَى مُسْلِمٍ عَمْدًا فَقَتَلَهُ، وَإِنَّمَا أَصَابَهُ بَعْدَ مَا صَارَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَكَانَ هُوَ قَاتِلًا صَيْدَ الْحَرَمِ بِفِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَطَرَدَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ طَرْدَ الْكَلْبِ الصَّيْدَ فِعْلٌ أَحْدَثَهُ الْكَلْبُ فَلَا يَصِيرُ الْمُرْسَلُ بِهِ جَانِيًا عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الرَّامِيَ مُبَاشِرٌ لِمَا يُصِيبُهُ سَهْمُهُ وَفِي مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْجَزَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَمَى سَهْمًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَأَصَابَ مَالًا أَوْ نَفْسًا كَانَ ضَامِنًا لَهُ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ هُنَا أَنَّهُ فِي أَصْلِ الرَّمْيِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ، فَأَمَّا مُرْسِلُ الْكَلْبِ مُتَسَبِّبٌ لِإِتْلَافِ مَا يَأْخُذُهُ الْكَلْبُ لَا مُبَاشِرَ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْقِصَاصُ بِحَالٍ، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ كَانَ ضَامِنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ (قَالَ): وَإِنْ زَجَرَ الْكَلْبَ بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ فَانْزَجَرَ وَأَخَذَ الصَّيْدَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَاسْتِحْسَانًا، وَفِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْكَلْبِ يَكُونُ مُحَالًا عَلَى أَصْلِ الْإِرْسَالِ دُونَ الزَّجْرِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ حَتَّى أَخَذَ الصَّيْدَ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَأَصْلُ الْإِرْسَالِ هُنَا لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَوُجُودُ الزَّجْرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ فِي هَذَا الزَّجْرِ مُتَسَبِّبٌ لِأَخْذِ الصَّيْدِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ، ثُمَّ أَصْلُ الْإِرْسَالِ هُنَا مَا انْعَقَدَ تَعَدِّيًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الزَّجْرِ كَالْمَعْدُومِ أَصْلًا، وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إذَا انْبَعَثَ عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ إرْسَالِهِ فَزَجَرَهُ صَاحِبُهُ فَانْزَجَرَ حَتَّى أَخَذَ الصَّيْدَ إنَّمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ، ثُمَّ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِرْسَالِ هُنَاكَ كَانَ مُعْتَبَرًا فَيُحَالُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ دُونَ الزَّجْرِ (قَالَ): وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الْحَرَمِ عَلَى ذِئْبٍ فَأَصَابَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ إرْسَالَ الْكَلْبِ عَلَى الذِّئْبِ مُبَاحٌ لَهُ فَلِهَذَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَإِنْ أَخَذَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى إلَى الذِّئْبِ فَأَصَابَ صَيْدًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّعَدِّي، وَلَكِنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ خَطَأً مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ كَقَتْلِهِ عَمْدًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ حَلَالٌ كَلْبًا عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ فَذَهَبَ الْكَلْبُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ كَمَا لَوْ دَخَلَ الصَّيْدُ الَّذِي أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِيهِ (قَالَ): وَلَوْ أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ مُحْرِمٌ فَانْزَجَرَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّ زَجْرَ الْمُحْرِمِ لَا يَكُونُ دُونَ دَلَالَتِهِ عَلَى الصَّيْدِ وَالْمُحْرِمُ يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالدَّلَالَةِ فَبِالزَّجْرِ أَوْلَى، وَلَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ الصَّيْدُ لَا لِزَجْرِ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَثْبُتُ بِهِ كَمَا تَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ أَخْذَهُ مُحَالٌ بِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسِلُ كَانَ مَجُوسِيًّا (قَالَ): وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ فَأَصَابَ الصَّيْدَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ، وَلَوْ نَصَبَهَا لِذِئْبٍ أَوْ سَبُعٍ آذَاهُ وَابْتَدَأَهُ فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ، وَهُوَ قِيَاسُ نَصْبِ الْفُسْطَاطِ مِنْ الْمُحْرِمِ عَلَى مَا سَبَقَ (قَالَ): مُحْرِمٌ دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ وَأَمَرَ الْمَأْمُورُ ثَانِيًا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَانٍ عَلَى الصَّيْدِ بِمَا صَنَعَ الْقَاتِلُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَالْآمِرُ الثَّانِي بِدَلَالَةِ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ وَالْآمِرُ الْأَوَّلُ بِإِعْلَامِهِ الْآمِرَ الثَّانِيَ بِمَكَانِ الصَّيْدِ حَتَّى أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَكَانُوا جَمِيعًا ضَامِنِينَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَالثَّانِي كَفِعْلِ آمِرِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الْآمِرُ الثَّانِي وَجَبَ الْجَزَاءُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 حَتَّى قَتَلَهُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ جَزَاءٌ كَامِلٌ (قَالَ): وَلَوْ أَخْبَرَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا مَا بِصَيْدٍ فَلَمْ يَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَمْ يُصَدِّقْ الْأَوَّلَ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ، وَلَكِنْ طَلَبَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَانٍ فِيمَا صَنَعَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْذَبَ الْأَوَّلَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ انْتَسَخَ حُكْمُ دَلَالَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَتْلُ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَالًا بِهِ عَلَى دَلَالَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُحَالًا بِهِ عَلَى دَلَالَةِ الثَّانِي، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لَمْ يُنْتَسَخْ حُكْمُ دَلَالَتِهِ (قَالَ): مُحْرِمٌ أَرْسَلَ مُحْرِمًا إلَى مُحْرِمٍ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَكَ إنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَيْدًا فَذَهَبَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْمُرْسِلِ وَالرَّسُولِ وَالْقَاتِلِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ بِإِرْسَالِ الْمُرْسِلِ وَتَبْلِيغِ الرَّسُولِ فَلِهَذَا ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْجَزَاءُ (قَالَ): وَإِنْ دَلَّ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ رَجُلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ وَيَرَاهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّالِّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْقَاتِلِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ لَمْ يَكُنْ بِدَلَالَتِهِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ قَبْلَ دَلَالَتِهِ (قَالَ): مُحْرِمٌ اسْتَعَارَ مِنْ مُحْرِمٍ سِكِّينًا لِيَذْبَحَ بِهَا صَيْدًا فَأَعَارَهُ إيَّاهُ فَذَبَحَ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْآلَةِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْجَزَاءِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِذَلِكَ السِّلَاحِ الصَّيْدَ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ أَعْطَى السِّكِّينَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَمَكُّنُهُ بِمَا أُعْطِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ إذَا كَانَ لِلْمَدْلُولِ عِلْمٌ بِمَكَانِ الصَّيْدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ عَلَى هَذَا الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ كَانَ بِإِعَارَتِهِ السِّكِّينَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُعِيرِ لِلسِّكِّينِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الصَّيْدَ مَأْخُوذُ الْمُسْتَعِيرِ قَبْلَ إعَارَةِ السِّكِّينِ مِنْهُ، وَكَانَ قَدْ تَلِفَ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ الْمُسْتَعِيرِ إيَّاهُ حُكْمًا وَبِقَتْلِهِ حَقِيقَةً، فَأَمَّا إعَارَةُ السِّكِّينِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ عَلَيْهِ لَا حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ حِينَ أُعْلِمَ بِمَكَانِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ الصَّيْدُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَإِنَّ امْتِنَاعَ الصَّيْدِ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ يَكُونُ بِجَنَاحِهِ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ يَكُونُ بِتَوَارِيهِ عَنْ عَيْنِهِ فَإِذَا أَعْلَمَهُ بِمَكَانِهِ صَارَ مُتْلِفًا مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ حُكْمًا. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْإِعَارَةَ تَتَّصِلُ بِالسِّكِّينِ لَا بِالصَّيْدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَيْدٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ قَتْلِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الْإِشَارَةِ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالصَّيْدِ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى سِوَى ذَلِكَ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِصَيْدٍ هُنَاكَ فَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةَ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَنَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَأَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَا أَنْ يُزَوِّجَ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَنْعَقِدْ النِّكَاحُ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ»، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ الْوَطْءُ وَبِسَبَبِ الْإِحْرَامِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِدَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ الْعَقْدُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا هَذَا وَهَذَا بِخِلَافِ شِرَاءِ الْأَمَةِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْوَطْءِ بَلْ لِلتِّجَارَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَزَوَّجُ الْمَجُوسِيَّةَ، وَلَا أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ هَؤُلَاءِ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَهُوَ مُحْرِمٌ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ حَلَالٌ»، وَفِي بَعْضِهَا «تَزَوَّجَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا، وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا السَّفِيرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا» وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لِلْوَطْءِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعَارًا لِلْعَقْدِ مَجَازًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْكَلَامُ وَاضِحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ جُعِلَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ أَوْ إفْسَادِ الْإِحْرَامِ بِهِ لَا فِي بُطْلَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَ عَقْدُ الْإِحْرَامِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَكَانَ مُنَافِيًا لِلْبَقَاءِ كَتَمَجُّسِهَا وَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ وَلَمَّا لَمْ يُنَافِ بَقَاءَ النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ الِابْتِدَاءُ وَبِهَذَا فَارَقَ شِرَاءَ الصَّيْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ فَيَمْنَعُ إثْبَاتَ الْيَدِ بِالشِّرَاءِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ كَانَ صَحِيحًا بِالِاتِّفَاقِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرَّجْعَةُ سَبَبٌ يَحِلُّ الْوَطْءُ بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَأَصْلُ كَلَامِهِ يُشْكَلُ بِالظِّهَارِ فَإِنَّ الظِّهَارَ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ بِدَوَاعِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ ابْتِدَاءً بِأَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَمْنَعُ الْمُحْرِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 مِنْ تَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَطَرُّقُ الْمُحْرِمِ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ): - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَفَرَ لَهُ: هَذَا آخِرُ شَرْحِ الْعِبَادَاتِ بِأَوْضَحِ الْمَعَانِي وَأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ أَمْلَاهُ الْمَحْبُوسُ عَنْ الْجَمْعِ وَالْجَمَاعَاتِ مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِ السَّادَاتِ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَاتِ وَعَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. تَمَّ كِتَابُ الْمَنَاسِكِ وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ وَلَهُ الْحَمْدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَفْنَى أَمَدُهُ، وَلَا يَنْقَضِي عَدَدُهُ. [كِتَابُ النِّكَاحِ] (كِتَابُ النِّكَاحِ) (قَالَ): الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً - اعْلَمْ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَطْءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَنَاكَحَتْ الْعُرَى أَيْ تَنَاتَجَتْ وَيَقُولُ: أَنْكَحْنَا الْعُرَى فَسَنَرَى لِأَمْرٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَيَنْظُرُونَ مَاذَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ هُوَ الضَّمُّ وَمِنْهُ يُقَالُ: أَنْكَحَ الظِّئْرَ وَلَدُهَا أَيْ أَلْزَمَهُ، وَيُقَالُ انْكِحْ الصَّبْرَ أَيْ الْزَمْهُ، وَقَالَ الْقَائِلُ: إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... وَالنِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى أَيْ تَضُمُّهُنَّ إلَى نَفْسِهَا وَاحِدُ الْوَاطِئِينَ يَنْضَمُّ إلَى صَاحِبِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُمَا نِكَاحًا قَالَ الْقَائِلُ كَبِكْرٍ تُحِبُّ لَذِيذَ النِّكَاحِ أَيْ الْجِمَاعِ، وَقَالَ الْقَائِلُ التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمْ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا أَيْ الْوَاطِئِينَ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِلْعَقْدِ مَجَازًا إمَّا لِأَنَّهُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَطْءِ، أَوْ لِأَنَّ فِي الْعَقْدِ مَعْنَى الضَّمِّ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَنْضَمُّ بِهِ إلَى الْآخَرِ وَيَكُونَانِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] يَعْنِي الِاحْتِلَامَ فَإِنَّ الْمُحْتَلِمَ يَرَى فِي مَنَامِهِ صُورَةَ الْوَطْءِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] وَالْمُرَادُ الْوَطْءُ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حُمِلَ عَلَى الْعَقْدِ فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ أَوْ خِطَابِ الْأَوْلِيَاءِ فِي قَوْلِهِ {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] أَوْ اشْتِرَاطِ إذْنِ الْأَهْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ حِفْظُ النِّسَاءِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِنَّ وَالْإِنْفَاقُ، وَمِنْ ذَلِكَ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ الزِّنَا، وَمِنْ ذَلِكَ تَكْثِيرُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ الرَّسُولِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ كَمَا قَالَ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِهِ إلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَبِالتَّنَاسُلِ يَكُونُ هَذَا الْبَقَاءُ. وَهَذَا التَّنَاسُلُ عَادَةً لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْوَطْءِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ طَرِيقَ ذَلِكَ الْوَطْءِ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ فِي التَّغَالُبِ فَسَادًا، وَفِي الْإِقْدَامِ بِغَيْرِ مِلْكٍ اشْتِبَاهَ الْأَنْسَابِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِضَيَاعِ النَّسْلِ لِمَا بِالْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَوْلَادِ فَتَعَيَّنَ الْمِلْكُ طَرِيقًا لَهُ حَتَّى يُعْرَفَ مَنْ يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيُوجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ لِئَلَّا يَضِيعَ، وَهَذَا الْمِلْكُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ حَالِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ الْبَقَاءُ الْمَقْدُورُ بِهِ إلَى وَقْتِهِ. ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ مَسْنُونٌ مُسْتَحَبٌّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَاجِبٌ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَكَّافِ بْنِ خَالِدٍ أَلَكَ امْرَأَةٌ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجْ فَإِنَّكَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «إنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ وَإِنْ كُنْت مِنَّا فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ أَوْ زَوْجَتَانِ أَوْ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ»، وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ الزِّنَا فَرْضٌ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا. وَحُجَّتُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَبَيَّنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ جُمْلَتِهَا النِّكَاحَ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَحُوا الْبِلَادَ وَنَقَلُوا مَا جُلَّ وَدُقَّ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْ جُمْلَتِهَا النِّكَاحَ وَكَمَا يُتَوَصَّلُ بِالنِّكَاحِ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الزِّنَا يُتَوَصَّلُ بِالصَّوْمِ إلَيْهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الشُّبَّانِ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ فِي حَقِّ مَنْ تَتُوقُ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَبِهِ نَقُولُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَسَعُهُ تَرْكُ النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالنِّكَاحُ سُنَّةٌ لَهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ النِّكَاحُ وَالتَّعَطُّرُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِي». وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: النِّكَاحُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِي النَّوَافِلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ إلَّا أَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ، وَلَا يَجِدُ الصَّبْرَ عَلَى التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتَدَلَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] فَقَدْ مَدَحَ يَحْيَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ كَانَ حَصُورًا وَالْحَصُورُ هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ فَيَكُونُ بِمُبَاشَرَتِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ هُوَ عَامِلٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُخَالَفَةِ هَوَى النَّفْسِ، وَفِيهِ اشْتِغَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى لِأَجْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَكَانَ هَذَا أَفْضَلَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ تَوَّاقَةً إلَى النِّسَاءِ فَحِينَئِذٍ فِي النِّكَاحِ مَعْنَى تَحْصِينِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنْ الزِّنَا كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا شَابٍّ تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلُثَيْ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي فَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ. وَحُجَّتُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ عَلَى دِينِي وَدِينِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَلْيَتَزَوَّجْ»، وَقَدْ اشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّزْوِيجِ حَتَّى انْتَهَى الْعَدَدُ الْمَشْرُوعُ الْمُبَاحُ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ كَانَ تَوَّاقَةً إلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَرْتَفِعُ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ بِالْوَاحِدَةِ دَلَّ أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَالِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ الْعُزْلَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْعِشْرَةِ، وَفِي شَرِيعَتِنَا الْعِشْرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحَ جَمَّةٍ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِنَفْلِ الْعِبَادَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ بِهِ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ أَيْضًا لِيُرَغِّب فِيهِ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ الْمُطِيعَ لِلْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ وَالْعَاصِيَ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَارَةِ، فَفِيهَا قَضَاءُ شَهْوَةِ الْجَاهِ، وَالنُّفُوسُ تَرْغَبُ فِيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرَ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ حَتَّى تُطْلَبَ بِبَذْلِ النُّفُوسِ وَجَرِّ الْعَسَاكِرِ لَكِنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا قَضَاءَ شَهْوَةِ الْجَاهِ بَلْ الْمَقْصُودُ قَضَاءُ إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهِ مَعْنَى شَهْوَةِ الْجَاهِ لِيُرَغِّبَ فِيهِ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ فَيَكُونَ الْكُلُّ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ مَعَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْعِبَادَةِ عَلَى الْعَابِدِ مَقْصُورَةٌ، وَمَنْفَعَةُ النِّكَاحِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى النَّاكِحِ بَلْ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَمَا يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا فَهُوَ أَفْضَلُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ بَدَأَ الْكِتَابُ، فَقَالَ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلَا عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 بِنْتِ أُخْتِهَا، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهَا»، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيه رَجُلَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِلُغَةِ الْعُلَمَاءِ بِالْمَقْبُولِ، وَالْعَمَلُ بِهِ وَمِثْلُهُ حُجَّةٌ يَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَهَذَا أَبْلُغُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] الْآيَةُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، ثُمَّ ذُكِرَ هَذَا النَّهْيُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّحْرِيمِ أَوْ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ فَرُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ نِكَاحَ بِنْتِ الْأَخِ عَلَى الْعَمَّةِ لَا يَجُوزُ وَنِكَاحَ الْعَمَّةِ عَلَى بِنْتِ الْأَخِ يَجُوزُ لِتَفْضِيلِ الْعَمَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَقَوْلُهُ «لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا» نَهْيٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَلَهُ تَأْوِيلَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأُخْتَ دِينًا بِأَنْ تَكُونَ امْرَأَتَانِ تَحْتَ رَجُلٍ، وَهُوَ يُحْسِنُ إلَيْهِمَا فَتَجِيءُ إلَى الزَّوْجِ إحْدَاهُمَا وَتَقُولُ: طَلِّقْ صَاحِبَتِي لِيَتَحَوَّلَ نَصِيبُهَا إلَيَّ، هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأُخْتَ نَسَبًا بِأَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِ أُخْتِهَا وَتَقُولَ: فَارِقْهَا وَتَزَوَّجْنِي فَإِنِّي أَوْفَقُ لَكَ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَقَالَ: «إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ «لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا» أَيْ لِتُحَوِّلَ نَصِيبَهَا إلَى نَفْسِهَا. وَرُوِيَ لِتُكْفِئَ وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ يُقَالُ كَفَأْتُ الْقِدْرَ وَأَكْفَأْتُهَا إذَا أَمَلْتُهَا وَأَرَقْتُ مَا فِيهَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لِتَكُفَّ مَا فِي صَحْفَتِهَا»، وَمَعْنَاهُ لِتَقْنَعَ بِمَا آتَاهَا اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهَا وَالصَّحْفَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ، وَقَدْ اشْتَمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى الْحَتْمِ وَالْوَعْظِ وَالنَّدْبِ فَإِنَّ قَوْلَهُ «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ رَازِقُهَا» وَعْظٌ، وَقَوْلُهُ لَا تَسْأَلُ نَدْبٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ جَازَ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْعَلَهُ، وَقَوْلُهُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» حَتْمٌ حَتَّى إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ عِنْدَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَهَذَا نَاسِخٌ لَمَا يُتْلَى فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ وَالْعَمَلُ بِهِ وَاجِبٌ فَلِكَوْنِهِ مَشْهُورًا نَقُولُ يَجُوزُ نَسْخُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 الْكِتَابِ بِهِ عِنْدَنَا أَوْ نَقُولُ هَذَا مُبَيِّنٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِنَاسِخٍ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْكِتَابِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ مُبْهَمٍ هُوَ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]. وَهَذَا الشَّرْطُ مُبْهَمٌ فَالْحَدِيثُ وَرَدَ لِبَيَانِ مَا هُوَ مُبْهَمٌ فِي الْكِتَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ مُبَيِّنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] أَوْ نَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ مُقَرِّرٌ لِلْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَفِي الْجَمْعِ قَطِيعَةٌ لِرَحِمٍ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ مِنْ التَّنَافُرِ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ كُلَّ قَرَابَةٍ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأُخْتِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَاَلَّتِي بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ قَرَابَةٌ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْأُخْرَى أُنْثَى لَمْ يَجُزْ لِلذَّكَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُنْثَى صِيَانَةً لِلرَّحِمِ، وَإِذَا مَلَكَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُقَرِّرًا لِلْحُرْمَةِ الْمَذْكُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَمْنَعَنَّ النِّسَاءَ فُرُوجَهُنَّ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ يَدًا فِي الْأَنْكِحَةِ فَقَدْ أَضَافَ الْمَنْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ مِنْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِمَّنْ يُكَافِئُهَا وَأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِعِبَارَتِهَا قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا أَيْ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارِهَا أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَيْلَ: مَعْنَاهُ تُسْتَأْمَرُ خَالِيَةً لَا فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ لِكَيْ لَا يَمْنَعَهَا الْحَيَاءُ مِنْ الرَّدِّ إذَا كَانَتْ كَارِهَةً، وَلَا تَذْهَبُ حِشْمَةُ الْوَلِيِّ عَنْهُ بِرَدِّهَا قَوْلَهُ «وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»، وَفِي بَعْضُ الرِّوَايَاتِ «سُكُوتُهَا رِضَاهَا»، وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ رِضَاهَا شَرْطٌ وَأَنَّ السُّكُوتَ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى رِضًا فَيُكْتَفَى بِهِ شَرْعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّهَا تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكُوتُهَا رِضَاهَا»، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ، وَإِذَا اُسْتُؤْمِرَتْ فَلَهَا جَوَابَانِ نَعَمْ أَوْ لَا، وَسُكُوتُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجَوَابِ، وَهُوَ الرِّضَا دُونَ الْإِبَاءِ إذْ لَيْسَ فِي الْإِبَاءِ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ، وَقَدْ يَكُونُ السُّكُوتُ دَلِيلَ الرِّضَا كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ وَسُكُوتِ الْمَوْلَى عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ عَنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِ الثَّيِّبِ فَإِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 الْمُشَاوَرَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنُّطْقِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُشَاوَرُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ ثَيِّبًا تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْمُشَاوَرَةِ وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ بِأَهْلِ الْمُشَاوَرَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ. (قَالَ): وَبَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَلَعَلَّ بِهَا دَاءً لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا قَبْلُ مَعْنَى هَذَا لَعَلَّهَا رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ، وَذَلِكَ فِي بَاطِنِهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَإِذَا زُوِّجَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارِهَا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَيُنْتَهَكُ سِتْرُهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَشْتَهِي صُحْبَةَ الرِّجَالِ لِمَعْنًى فِي بَاطِنِهَا مِنْ غَلَبَةِ الرُّطُوبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْمَارِهَا لَا تُحْسِنُ الْعِشْرَةَ مَعَ زَوْجِهَا أَوْ لَعَلَّ قَلْبَهَا مَعَ غَيْرِ هَذَا الَّذِي تُزَوَّجُ مِنْهُ فَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْمَارِهَا لَمْ تُحْسِنْ صُحْبَةَ هَذَا الزَّوْجِ وَوَقَعَتْ فِي الْفِتْنَةِ لِكَوْنِ قَلْبِهَا مَعَ غَيْرِهِ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْعِشْقِ (قَالَ): وَبَلَغَنَا عَنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ شَرْعًا رَضِيَتْ الْحُرَّةُ أَوْ لَمْ تَرْضَ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا رَضِيَتْ الْحُرَّةُ جَازَ قَالَ: لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْحُرَّةِ لَا لِلْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَقِيَ نِكَاحُهَا بَعْدَ الْحُرَّةِ وَالْجَمْعُ مَوْجُودٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْحُرَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَغَصُّهَا إدْخَالُ نَاقِصَةِ الْحَالِ فِي فِرَاشِهَا، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِرِضَاهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنْعُ لَيْسَ لِحَقِّهَا بَلْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْحُرَّةِ فَإِنَّ الْحِلَّ بِرِقِّهَا يَنْتَصِفُ كَمَا يَنْتَصِفُ بِرِقِّ الرَّجُلِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْحُرَّةِ فَهَذَا حَالُ ضَمِّهَا إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ بِرِضَاهَا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ أَوْ مُبَيِّنٌ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ذُكِرَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا وَزَادَ فِيهِ وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْقَسْمَ يَنْبَنِي عَلَى الْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَحَظُّ الْأَمَةِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَظِّ الْحُرَّةِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي النَّفَقَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ وَالْحَاجَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي النَّفَقَةِ أَيْضًا فَالْحُرَّةُ تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ خَادِمِهَا كَمَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ نَفْسِهَا وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إلَّا أَنْ يُبَوِّئَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا مَعَ زَوْجِهَا (قَالَ): وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أَنَّهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّ الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةِ أَبِيهِ فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَرِثَ نِكَاحَهَا عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ {، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الْآيَةَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ، وَأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ يَعْتَقِدُونَ الْإِرْثَ فِي مَنْكُوحَةِ الْأَبِ وَيَقُولُونَ إنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا يَخْلُفُهُ فِي نِكَاحِهَا كَمَا يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ فَيَطَؤُهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ جَدِيدٍ رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ مَتَى رَغِبَ فِيهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَ الْوَلَدَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَلَدَ الْمَقْتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] وقَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] مَعْنَاهُ أَنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ لَا تُؤَاخَذُونَ بِذَلِكَ إذَا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُنَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ، وَلَا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ كَلِمَةَ إلَّا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى، وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ نُزُولِ الْحُرْمَةِ لَا يَحِلُّ إمْسَاكُ مَا قَدْ سَلَفَ بَعْدَ نُزُولِ الْحُرْمَةِ لِكَيْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَحُرْمَةِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَفِيهِ بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَبْعٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَسَبْعٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَالْأُمَّهَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَأُمُّ الرَّجُلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَقُولُ: حُرِّمَتْ الْجَدَّاتُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأُمَّهَاتِ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ يَقُولُ: حُرِّمَتْ الْجَدَّاتُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ إذْ الْأُمَّهَاتُ هُنَّ الْأُصُولُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُ الْكُلَّ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ فِي الْأُمِّ الْأَدْنَى دُونَ غَيْرِهَا لِدَلِيلِ الْعُرْفِ فَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ الْجَدَّاتِ حَقِيقَةً وَالثَّانِي الْبَنَاتَ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حُرْمَةُ بَنَاتِ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلْنَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ حُرْمَتُهُنَّ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالثَّالِثُ الْأَخَوَاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَهُنَّ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّصِّ فَالْأُخْتِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الرَّحِمِ أَوْ فِي الصُّلْبِ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ وَالرَّابِعُ الْعَمَّاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء: 23]. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَالْخَامِسُ الْخَالَاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَالَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الْأُمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَالسَّادِسُ بَنَاتُ الْأَخِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبَنَاتُ الْأَخِ} [النساء: 23] وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَالسَّابِعُ بَنَاتُ الْأُخْتِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَوَّلًا بَنَاتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَأَمَّا السَّبْعُ اللَّاتِي مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ الْأُمَّهَاتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَخَوَاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا يَثْبُتُ بِالنَّسَبِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ». وَالثَّالِثُ أُمُّ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِلَيْهِ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ نَاظَرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَذْهَبُهُمْ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ كَلِمَاتٍ مَنْسُوقَةً بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا إنْ دَخَلَ بِهَا»، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: أُمُّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ فَأَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لُغَةً فَالنِّسَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مَخْفُوضَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي قَوْلِهِ {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مَخْفُوضٌ بِحَرْفِ " مِنْ " وَالْمَخْفُوضَاتُ بِأَدَاتَيْنِ لَا يُنْعَتَانِ بِنَعْتٍ وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إلَى عَمْرٍو الظَّرِيفَيْنِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْمَعْمُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ بِعَامِلَيْنِ فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ {وَرَبَائِبُكُمْ} [النساء: 23] ابْتِدَاءً عَطْفًا لَصَارَ قَوْلُهُ {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مَخْفُوضًا بِحَرْفِ مِنْ وَبِالْإِضَافَةِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ {وَرَبَائِبُكُمْ} [النساء: 23] ابْتِدَاءً بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مُبْهَمَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَأَمَّا حُرْمَةُ الرَّبِيبَةِ وَهِيَ بِنْتُ الْمَرْأَةِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، وَلِأَنَّ الرَّبَائِبَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأُمَّهَاتِ فَالظَّاهِرُ مِنْ الْعِبَارَةِ أَنَّ أُمَّ الزَّوْجَةِ تَبْرُزُ إلَى زَوْجِ بِنْتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا بِنْتُ الْمَرْأَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 لَا تَبْرُزُ إلَى زَوْجِ أُمِّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ. وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْحِجْرَ هَلْ يَنْتَصِبُ شَرْطًا لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ أَوْ لَا؟ فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الْحِجْرُ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا كَانَتْ تَحِلُّ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ»، فَأَمَّا عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَقُولَانِ: الْحِجْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَتَفْسِيرُ الْحِجْرِ، وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَ إذَا زُفَّتْ مَعَ الْأُمِّ إلَى بَيْتِ زَوْجِ الْأُمِّ فَهَذِهِ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ أَبِيهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ زَوْجِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحِجْرُ فِي الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ فَإِنَّ بِنْتَ الْمَرْأَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] شَرَطَ لِلْحِلِّ عَدَمَ الدُّخُولِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِالْأُمِّ لَا تَحِلُّ لَهُ الْبِنْتُ قَطُّ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَهُنَا أَوْلَى، فَأَمَّا إذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ، وَكَانَ زَيْدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ فَيَقُولُ: بِالْمَوْتِ يَنْتَهِي النِّكَاحُ حَتَّى يَتَقَرَّرَ بِهِ كَمَالُ الْمَهْرِ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدُّخُولِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ تَعَلَّقَتْ شَرْعًا بِشَرْطِ الدُّخُولِ فَلَوْ أَقَمْنَا الْمَوْتَ مُقَامَهُ كَانَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ نَصْبُ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ شَرْطٍ مُقَامَ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ، فَأَمَّا حَلِيلَةُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ حَرَامٌ سَوَاءٌ دَخَلَ الِابْنُ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ} [النساء: 23] سُمِّيَتْ حَلِيلَةً؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلِابْنِ مِنْ الْحِلِّ أَوْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحُلُولِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَحُلُّ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ يَحُلُّ فِي فِرَاشِهَا وَكَمَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ نَسَبًا فَكَذَلِكَ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ وَاسْتَدَلَّ بِالتَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ هُنَا بِقَوْلِهِ {مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ.» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] بَيَانُ إبَاحَةِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي فَإِنَّ التَّبَنِّي اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وَكَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا زَيْدٌ فَطَعَنَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا إنَّهُ تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ»، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] فَهَذَا التَّقْيِيدُ هُنَا لِدَفْعِ طَعْنِ الْمُشْرِكِينَ وَكَمَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ، فَكَذَلِكَ حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفُلَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الِابْنِ يَتَنَاوَلُهُ مَجَازًا، فَإِنْ قِيلَ ابْنُ الِابْنِ لَا يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ فَكَيْف يَصِحُّ تَعْدِيَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ إلَيْهِ مَعَ هَذَا التَّقْيِيدِ قُلْنَا مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يُذْكَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ مِنْ صُلْبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] وَالْمَخْلُوقُ مِنْ التُّرَابِ هُوَ الْأَصْلُ وَكَذَلِكَ مَنْكُوحَةُ الْأَبِ حَرَامٌ عَلَى الِابْنِ دَخَلَ بِهَا الْأَبُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَكَمَا يَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ يَحْرُمُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَبِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ مَجَازًا. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعْنَاهُ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ الْآيَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا حَرَامٌ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِرَاشًا حَتَّى لَا يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَإِنَّهُ قَالَ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا وَحَرَّمَ مِنْ الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا رَجُلٌ يَجْمَعُهُنَّ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يُرِيدُ بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ عِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ وَيَتَأَيَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْمَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ»، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] حُرْمَةُ الْجَمْعِ فِرَاشًا كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] يَقْتَضِي حُرْمَةَ الِاسْتِفْرَاشِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَالْجَمْعُ فِرَاشًا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولَةِ ابْتِدَاءً، وَلَا بِعَيْنِهَا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ، وَإِنْ نَكَحَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ جَامِعًا وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْعَقْدِ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِشُبْهَةِ صُورَةِ النِّكَاحِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ كَمَا إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وَحُكْمُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَقَلِّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ بَدَلُ الْمُتْلَفُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ لَيْسَ بِمَالٍ فَإِنَّمَا يَتَقَدَّرُ بِالْمَالِ بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى لِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ فِيهِ وَلِتَمَامِ التَّرَاضِي عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَبَدَلُهُ يَتَقَدَّرُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ لِفَسَادِ الْعَقْدِ كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ يَعْتَزِلُ عَنْ امْرَأَتِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُخْرَى سَوَاءٌ دَخَلَ بِالْأُولَى أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ رَحِمَ الْمُعْتَدَّةِ مَشْغُولٌ بِمَائِهِ حُكْمًا، وَلَوْ وَطِئَ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ الْأُخْتَيْنِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّ أَصْلَ نِكَاحِ الْأُولَى بِهَذَا لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَ رَحِمِ الثَّانِيَةِ عَارِضٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ أَصْلِ النِّكَاحِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا، وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا مِنْهُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ غَيْرِ بَائِنٍ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ مِنْهُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَلَاثٍ أَوْ خُلْعٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ مَذْهَبِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي رُجُوعَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَ زَيْدٍ الْآخَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَحُكِيَ أَنَّ مَرْوَانَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذَا فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَخَالَفَهُمْ زَيْدٌ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ، وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ قَبْلَ الطُّهْرِ وَذَكَرَ سَلْمَانُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النِّكَاحَ مُرْتَفِعٌ بَيْنَهَا بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا، وَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ حَتَّى عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، وَلَوْ بَقِيَتْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ مِنْ عَلَائِقِ النِّكَاحِ لَسَقَطَ بِهِ الْحَدُّ وَثَبَتَ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ الْوَاجِبَةُ إثْرَ مَاءٍ مُحْتَرَمٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَجِبَ بِدُونِ تَوَهُّمِ الدُّخُولِ وَمَا كَانَ مِنْ الْعِدَّةِ لِحَقِّ النِّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَوَهُّمُ الدُّخُولِ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَصْفُ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَلَا يَصِيرُ جَامِعًا بِهَذَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُولَى عُلْقَةٌ مِنْ عَلَائِقِ النِّكَاحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّحْرِيمِ صِيَانَةُ الرَّحِمِ عَنْ الْقَطِيعَةِ الَّتِي تَكُونُ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْخُلْعِ وَالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ مُعْتَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا كَالْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِدُونِ النِّكَاحِ أَوْ شُبْهَةِ النِّكَاحِ، وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّ وُجُوبَهَا بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَاءِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الزَّانِيَةِ، وَلَا عِدَّةَ، وَإِنْ اعْتَبَرَ الْمَاءَ الْمُحْتَرَمَ فَاحْتِرَامُ الْمَاءِ يَكُونُ بِالنِّكَاحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَاشْتِغَالُ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مِلْكُ النِّكَاحِ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ النِّكَاحُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّ حَقَّ النِّكَاحِ بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ إنَّمَا يَبْقَى إذَا كَانَ النِّكَاحُ مُتَأَكِّدًا وَتَأَكُّدُهُ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالدُّخُولِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَالْحَقُّ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَمَا أَنَّ حَقَّ مِلْكِ الْيَمِينِ لِلْمُكَاتَبِ كَحَقِيقَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِلْحُرِّ فِي الْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ أَمَتِهِ وَكَمَا أَنَّ الرَّضَاعَ فِي التَّحْرِيمِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَعْضِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِّ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي جَانِبِهَا جُعِلَ الْحَقُّ كَالْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ التَّزَوُّجِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ ارْتِفَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ إنَّمَا نَدَّعِي بَقَاءَ الْحَقِّ، وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدُونِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَصْلَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ، ثُمَّ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَكَمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إذَا وَطِئَهَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ إذَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ الْمَنْعِ مِنْ جَانِبِهَا، فَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ مَحَارِمِهَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْأُخْتَيْنِ فِي حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْخَمْسِ حَرَامٌ بِالنِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (قَالَ): وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 ذَوَاتَيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي الْمَنْصُوصِ لَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ بِالنَّصِّ لَا صِيَانَةُ الرَّحِمِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَرَابَةٌ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، ثُمَّ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَرَامًا، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْأُخْتَيْنِ نَسَبًا زَادَ فِي التَّفْرِيعِ هُنَا، فَقَالَ: إنْ تَزَوَّجَهَا فِي عُقْدَةٍ وَدَخَلَ بِهِمَا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَارِعَةً فِي الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ بِسَبَبِ الْوَطْءِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ شُبْهَةُ النِّكَاحِ وَرَفْعُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِالتَّفْرِيقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ وَطْأَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَبَعْدَهُ يَلْزَمُهُ فَلَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَرْتَفِعْ الشُّبْهَةُ، وَذَلِكَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الشُّبْهَةُ أَنَّهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا مِرَارًا لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِاسْتِنَادِهِ إلَى شُبْهَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ بَعْدَ مَا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى فِي عِدَّتِهِ وَعِدَّةُ الْأُخْتِ تَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ، فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا مَعًا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّةُ إحْدَاهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى مُعْتَدَّةٌ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُعْتَدَّةَ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ وَعِدَّةُ هَذِهِ لَا تَمْنَعُ صَاحِبَ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحِهَا إنَّمَا تَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فَالْعِدَّةُ عَلَى الَّتِي دَخَلَ بِهَا دُونَ الْأُخْرَى وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُعْتَدَّةَ، وَلَا يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُعْتَدَّةِ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ فُجُورٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَتَحْرُمُ هِيَ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ بِالزِّنَا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ»، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّنْ يَبْتَغِي مِنْ امْرَأَةٍ فُجُورًا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهَا، فَقَالَ: لَا بَأْسَ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ يَبْتَغِي مِنْ امْرَأَةٍ حَرَامًا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهَا، فَقَالَ: يَجُوزُ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، وَإِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ» وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: النِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدْتَ عَلَيْهِ وَالزِّنَا فِعْلٌ رُجِمْتَ عَلَيْهِ فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ، وَمَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 هَذَا أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِطَرِيقِ النِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، وَهُوَ مَعْقُولٌ، فَإِنْ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا يَصِرْنَ كَأُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ حَتَّى يَخْلُوَ بِهِنَّ وَيُسَافِرَ بِهِنَّ، وَهَذَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَالزِّنَا الْمَحْضُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَامَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ، فَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ لِلْوَطْءِ حَقِيقَةً فَتَكُونُ الْآيَةُ نَصًّا فِي تَحْرِيمِ مَوْطُوءَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْوَطْءِ حَلَالًا زِيَادَةٌ. وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا بِالْقِيَاسِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَوْطُوءَةَ الْأَبِ بِالْمِلْكِ حَرَامٌ عَلَى الِابْنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلِّهِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّ الْوَطْءَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مُحَرَّمٌ لِكَوْنِهِ مُثْبَتًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرْثٌ وَالْحَرْثُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَحَلٍّ مُثْبَتٍ وَكَوْنُ الْمَحَلِّ مُثْبَتًا لَا يَخْتَلِفُ بِالْمِلْكِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ هَذَا الْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْمِلْكِ بَلْ لِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَتَخَلَّقُ مِنْ الْمَاءَيْنِ يَكُونُ بَعْضًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَتَعَدَّى شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ إلَى أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا وَإِلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَالشُّبْهَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِالْمِلْكِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْبَعْضِيَّةِ حِسِّيٌّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْبَعْضِيَّةُ مُوجِبَةً حُرْمَةَ الْمَوْطُوءَةِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ عَمَلُهَا كَعَمَلِ حَقِيقَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَحَقِيقَةُ الْبَعْضِيَّةِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ لَا تُوجِبُ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَوَّاءَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَتْ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ إنَّمَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَفِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ ضَرُورَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَّةً. وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فَأَمَّا النَّسَبُ فَعِنْدَنَا أَحْكَامُ النَّسَبِ تَثْبُتُ، وَلَكِنَّ الِانْتِسَابَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لِمَقْصُودِ الشَّرَفِ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّانِي وَالْعِدَّةُ إنَّمَا لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ النِّكَاحِ أَوْ الْفِرَاشِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ مُنَافَاةٌ فَبِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ. وَبَعْضُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ هُنَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عُقُوبَةً، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] الْآيَةُ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُونَ الْمَحْرَمِيَّةُ لَا تَثْبُتُ حَتَّى لَا تُبَاحَ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فَاسِدٌ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ لَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ سِوَى الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالتَّعْلِيلِ، وَالْمَنْصُوصُ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ إلَى الْفُرُوعِ لَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ سِوَى الْمَنْصُوصِ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنْ نَقُولَ هَذَا الْفِعْلُ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ كَمَا قَالَ: وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَامَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي جَانِبِهَا الْفِعْلُ زِنًا تُرْجَمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَبِلَتْ بِهِ كَانَ لِذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا وَتَحْرُمُ هِيَ عَلَيْهِ. وَثُبُوتُ هَذَا كُلِّهِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ حَرْثٌ لَا؛ لِأَنَّهُ زِنًا، فَكَذَا هُنَا فَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّا لَا نَجْعَلُ الْحَرَامَ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَحُرْمَةُ هَذَا الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ زِنًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحَرَامِ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمَا إذَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ وَكَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ حَرَامٌ حَرَّمَ الْحَلَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ بَلْ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنْتُ الرَّجُلِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ زَنَى بِبِكْرٍ وَأَمْسَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ بِنْتًا حَرُمَ عَلَيْهِ تَزَوُّجُهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ حَرَامًا وَلَهُ فِي الْبِنْتِ الْمُلَاعَنَةُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُمِّ قَوْلَانِ وَاسْتَدَلَّ، فَقَالَ: نَصُّ التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبِنْتَ الْمُضَافَةَ إلَيْهِ نَسَبًا وَالْبِنْتُ مِنْ الزِّنَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ نَسَبًا بَلْ هِيَ حَرَامٌ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ نَسَبًا، وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ فِيهَا كَانَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِالزِّنَا وَبِهِ فَارَقَ جَانِبَهَا فَإِنَّ الِابْنَ مِنْ الزِّنَا يُضَافُ إلَى الْأُمِّ نَسَبًا فَكَانَتْ هِيَ حَرَامًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّفْرِيقِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ شَرْعًا تَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا وَالنِّسْبَةُ إلَى الزَّانِي غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَذَا هُنَا، وَهَكَذَا يَقُولُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي بِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: النَّسَبُ هُنَاكَ كَانَ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ لَكِنْ انْقَطَعَ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَيَجُوزُ إبْقَاءُ الْحُرْمَةِ وَهُنَا النَّسَبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَصْلًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ، وَلَا هُوَ بِعَرْضِ الثُّبُوتِ مِنْهُ وَلَنَا أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا بَعْضُهُ فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَوَلَدِ الرَّاشِدَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ حَقِيقَتُهُ بِالْمِلْكِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ فَالْوَلَدُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْمَاءَيْنِ يَكُونُ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هِيَ بِضْعَةٌ مِنِّي» وَالْبَعْضِيَّةُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا لَا يَسْتَمْتِعُ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَمْتِعُ بِبَعْضِهِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ لَا لِانْعِدَامِ الْبَعْضِيَّةِ بَلْ لِلِاشْتِبَاهِ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ يَأْتِيهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَوْ أَثْبَتْنَا النَّسَبَ بِالزِّنَا رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى نِسْبَةِ وَلَدٍ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ حَتَّى إنَّ فِي جَانِبِهَا لَمَّا كَانَ لَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الِاشْتِبَاهِ كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا، وَلِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ شَرْعًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ مَاءَهُ يَضِيعُ بِالزِّنَا يَتَحَرَّزُ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ إثْبَاتَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا بِهِ يَحْصُلُ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْحَرَامِ مَرَّةً يَفُوتُهُ حَلَالٌ كَثِيرٌ يَمْتَنِعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ هُنَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ كَمَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ تَثْبُتُ بِالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ أَصْلًا فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ قَبَّلَ أُمَّتَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا عِنْدَهُ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَقَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ عِنْدَهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِمَا يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ، وَلَيْسَ لِلْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ، فَكَذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ وَقَاسَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ التَّقْبِيلَ وَالْمَسَّ فِيهِ لَا يُجْعَلُ كَالدُّخُولِ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَكَذَا هُنَا، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا. وَعَنْ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: بِيعُوا جَارِيَتِي هَذِهِ أَمَا إنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا مَا يُحَرِّمُهَا عَلَى وَلَدِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيلَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَطْءِ فَإِنَّهُ مِنْ دَوَاعِيه وَمُقَدَّمَاتِهِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَمَا أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْوَطْءِ شَرْعًا يُقَامُ مُقَامَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ وَهِيَ الرَّبِيبَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْبَنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الدَّاعِي فِيهِ مُقَامَ الْوَطْءِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ سَائِرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 الْأَحْكَامِ كَمَا تُقَامُ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْبَعْضِيَّةِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَثْبُتُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ النَّظَرَ كَالتَّفَكُّرِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ لَاسْتَوَى فِيهِ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ كَالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا» وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ جَرَّدَ جَارِيَةً، ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهَا، ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ بَعْضُ بَنِيهِ، فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا»، ثُمَّ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْمَحَلِّ إمَّا لِجَمَالِ الْمَحَلِّ أَوْ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَمَالٌ لِيَكُونَ النَّظَرُ لِمَعْنَى الْجَمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ كَالْمَسِّ بِخِلَافِ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ بِخِلَافِ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ مَعْنَى الشَّهْوَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَسِّ وَالنَّظَرِ أَنْ تَنْتَشِرَ بِهِ الْآلَةُ أَوْ يَزْدَادَ انْتِشَارُهَا، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاشْتِهَاءِ بِالْقَلْبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَكُونَ مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ، وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ هُوَ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُتَّكِئَةً أَمَّا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً مُسْتَوِيَةً أَوْ قَائِمَةً لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ، ثُمَّ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ تَتَعَدَّى إلَى آبَائِهِ، وَإِنْ عَلَوْا وَأَبْنَائِهِ، وَإِنْ سَفُلُوا مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ تَتَعَدَّى إلَى جَدَّاتِهَا وَإِلَى نَوَافِلِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَالنَّوَافِلُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ فِيمَا تَنْبَنِي عَلَيْهِ الْحُرْمَةُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَعَلَى هَذَا إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أُمَّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلُ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ، وَذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ هَذَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ (قَالَ): رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ خَلَعَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ كَحُرْمَةِ الْأُخْتَيْنِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْعِدَّةَ تُعْمَلُ عَلَى حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ، فَكَذَا هُنَا، فَإِنْ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا قَوْلُهَا إنْ أَخْبَرَتْ إلَّا أَنْ تُفَسِّرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ مِنْ إسْقَاطِ سِقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ إنْ صَدَّقَتْهُ أَوْ كَانَتْ سَاكِتَةً أَوْ غَائِبَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى أَوْ أُخْتَهَا إنْ شَاءَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَذَّبَتْهُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ فَإِنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا فِي رَحِمِهَا، وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِبَقَاءِ عِدَّتِهَا وَالزَّوْجُ إنَّمَا أَخْبَرَ عَلَيْهَا وَهِيَ تُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ فَيَسْقُطُ مِنْهُ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ كَشَاهِدِ الْأَصْلِ أَنْ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْفَرْعِ أَوْ رَاوِيَ الْأَصْلِ إنْ كَذَبَ الرَّاوِي عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَقَاءُ نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا وَثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبِالِاتِّفَاقِ إذَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا يَبْطُلُ نِكَاحُ أُخْتِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا قَضَيْنَا بِنَفَقَتِهَا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ أَمِينًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ إذَا اُحْتُمِلَ كَمَنْ قَالَ: صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ. وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِحِلِّ نِكَاحِ أُخْتِهَا لَهُ. وَلَا حَقَّ لِلْمُطَلَّقَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْعِبَادِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ فِي مَحَلِّهِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي نِكَاحِ أُخْتِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ تَكْذِيبُهَا فِيهِ، وَالدَّلِيلُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ يَثْبُتُ لَهُ حِلُّ نِكَاحِ أُخْتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا، وَلَوْ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقُّ إنَّمَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِهَا وَتَكْذِيبُهَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي إبْقَاءِ حَقِّهَا لَا فِي إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلزَّوْجِ وَالنَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى حَقُّهَا فَيَكُونُ بَاقِيًا، وَأَمَّا نِكَاحُ الْأُخْتِ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَكْذِيبُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ، وَكَذَلِكَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ حَقِّهَا وَحَقِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يُنْدَفَعُ بِهِ تُهْمَةُ الزِّنَا عَنْهَا وَيَتَشَرَّفُ بِهِ الْوَلَدُ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ الْحُكْمُ بِاسْتِنَادِ الْعُلُوقِ إلَى مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَإِذَا أَسْنَدْنَا صَارَ الْخَبَرُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْوَضْعِ مُسْتَنْكَرًا فَلِهَذَا بَطَلَ نِكَاحُ الْأُخْتِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِهَا الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ الْمَالَ تَكْثُرُ أَسْبَابُ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ الْقَضَاءُ بِالْفِرَاشِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْفِرَاشِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ بِالْفِرَاشِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ لِلْأُخْتَيْنِ ذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِيرَاثٌ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُخْرَى، هَكَذَا ذُكِرَ هُنَا وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَالَ: الْمِيرَاثُ لِلْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي حُكْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْأُولَى سَوَاءٌ أَخْبَرَ الزَّوْجُ بِهَذَا أَوْ لَمْ يُخْبِرْ، وَلَكِنْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ لَمَّا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَرِيضِ وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا كَمَا فِي نَفَقَتِهَا وَهُنَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ فِي صِحَّتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي إبْطَالِ إرْثِهَا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ صَارَ بَائِنًا فَكَأَنَّهُ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَلَوْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَلَ الرُّجْعَى بَائِنًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَتَى كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُولَى فَلَا مِيرَاثَ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ إرْثِ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ مُنَافَاةً وَمَتَى لَمْ تَرِثْ الْأُولَى وَرِثَتْهُ الثَّانِيَةُ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا؛ لِأَنَّ لُحُوقَهَا كَمَوْتِهَا فَلَا تَبْقَى مُعْتَدَّةً بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ مُسْلِمَةً قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ مَا سَقَطَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِتَجَدُّدِ سَبَبِهَا وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا عَادَتْ مُسْلِمَةً كَانَ لُحُوقُهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا مَالُهَا فَلَا تَعُودُ كَحَالِهَا فَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا قَبْلَ رُجُوعِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ مُسْلِمَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَبْطُلُ ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي الْأَمَالِي (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ الْحُرَّةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] الْآيَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: الْكِتَابِيَّةُ مُشْرِكَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وَكَانَ يَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَاَللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَدَلَّ أَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّ مُطْلَقًا، وَلَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْكِتَابِيَّةِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى فَإِنَّ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ إذَا أَسْلَمَتْ حَلَّ نِكَاحُهَا. وَقَدْ جَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَكَذَلِكَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَوْ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ جَازَ، وَالْقَسْمُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ يَنْبَنِي عَلَى الْحِلِّ الَّذِي بِهِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي الْقَسْمُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إسْرَائِيلِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ إسْرَائِيلِيَّةٍ. وَبَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فَصَّلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيَّة وَغَيْرِهَا، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ فِي الْجَوَازِ لِكَوْنِهَا كِتَابِيَّةً، وَأَمَّا الْمَجُوسِيَّةُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَازَ نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ، وَلَكِنْ لَمَّا وَاقَعَ مَلِكُهُمْ أُخْتَهُ، وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ أَسْرَى بِكِتَابِهِمْ فَنَسُوهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ كَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلَئِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ بَعْدَ مَا نَسُوا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَأَمَّا نِكَاحُ الصَّابِئَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُكْرَهُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ ذَبَائِحُهُمْ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّابِئِينَ مِنْهُمْ فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَيُعَظِّمُونَ بَعْضَ الْكَوَاكِبِ كَتَعْظِيمِنَا الْقِبْلَةَ وَهُمَا جَعَلَا تَعْظِيمَهُمْ لِبَعْضِ الْكَوَاكِبِ عِبَادَةً مِنْهُمْ لَهَا فَكَانُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَالَا: إنَّهُمْ يُخَالِفُونَ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مُخَالَفَتُهُمْ لِلنَّصَارَى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا تُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَتِهِمْ كَبَنِي تَغْلِبَ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ النَّصَارَى فِي الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ، ثُمَّ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ النَّصَارَى (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَبِنْتَ زَوْجٍ قَدْ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الزَّوْجِ لَوْ كَانَ ذَكَرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ، وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ تَجُزْ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا لَا يَجُوزُ كَالْأُخْتَيْنِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنَتِهِ، ثُمَّ الْمَانِعُ مِنْ الْجَمْعِ قَرَابَةٌ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ الْقَرَابَةَ فِي الْحُرْمَةِ كَالرَّضَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا تُصُوِّرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْأُخْتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا فَإِنَّ امْرَأَةَ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ نِكَاحُ الْبِنْتِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَيْسَتَا كَالْأُخْتَيْنِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَكَمَا جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَيُزَوِّجَ ابْنَهُ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَزَوَّجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَتَهَا مِنْ ابْنِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِنِكَاحِ الْأُمِّ تَحْرُمُ الْأُمُّ هِيَ عَلَى ابْنِهِ، فَأَمَّا أُمُّهَا وَابْنَتُهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى ابْنِهِ فَلِهَذَا جَازَ لِابْنِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ نِكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ] (قَالَ): وَبَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِنْتُ سِتَّةِ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا» فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِتَزْوِيجِ الْآبَاءِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ حَتَّى يَبْلُغَا لِقَوْلِهِ {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فَلَوْ جَازَ التَّزْوِيجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ فِيمَا لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ كَالتَّبَرُّعَاتِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمَا إلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ طَبْعًا هُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَشَرْعًا النَّسْلُ وَالصِّغَرُ يُنَافِيهِمَا، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ وَتَلْزَمُهُمَا أَحْكَامُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُمَا ذَلِكَ إذْ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ، وَسَبَبُ الْعِدَّةِ شَرْعًا هُوَ النِّكَاحُ، وَذَلِكَ دَلِيلُ تَصَوُّرِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] الِاحْتِلَامُ، ثُمَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَصٌّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ تَزَوَّجَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ وُلِدَتْ، وَقَالَ: إنْ مِتُّ فَهِيَ خَيْرُ وَرَثَتِي، وَإِنْ عِشْتَ فَهِيَ بِنْتُ الزُّبَيْرِ، وَزَوَّجَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتَ أَخِيهِ ابْنَ أُخْتِهِ وَهُمَا صَغِيرَانِ وَوَهَبَ رَجُلٌ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتًا لَهَا صَغِيرَةً ابْنًا لِلْمُسَيِّبِ بْنِ نُخْبَةَ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ أَصَمَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ وَضْعًا فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ جَمِيعًا، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ لَا يَتَوَفَّرُ ذَلِكَ إلَّا بَيْنَ الْأَكْفَاءِ. وَالْكُفْءُ لَا يَتَّفِقُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 كُلِّ وَقْتٍ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ فِي صِغَرِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ بُلُوغَهَا لَفَاتَ ذَلِكَ الْكُفْءُ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْعَقْدِ فَتُجْعَلُ تِلْكَ الْحَاجَةُ كَالْمُتَحَقِّقَةِ لِلْحَالِ لِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَيِّرْهَا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لَهُمَا لَخَيَّرَهَا كَمَا خَيَّرَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ حَتَّى قَالَ لِعَائِشَةَ: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكِ أَمْرًا فَلَا تُحَدِّثِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكَ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، فَقَالَتْ أَفِي هَذَا أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ أَنَا أَخْتَارُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ» وَلَمَّا لَمْ يُخَيِّرْهَا هُنَا دَلَّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلصَّغِيرَةِ إذَا بَلَغَتْ، وَقَدْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَابْنِ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِيهِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، قَالَ: فِي الْقِيَاسِ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدًا يَلْزَمُهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْأَبِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا أَخُوهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ وَافِرُ الشَّفَعَةِ يَنْظُرُ لَهَا فَوْقَ مَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ وَمَعَ وُفُورِ الشَّفَعَةِ هُوَ تَامُّ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ جَمِيعًا فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ فِي عَقْدِهِ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ النَّفْسِ لَيْسَتْ مِنْ الْمَصَالِحِ وَضْعًا بَلْ هُوَ كَدٌّ وَتَعَبٌ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ فِيهِ عَلَى الصَّغِيرِ لِحَاجَتِهِ إلَى التَّأَدُّبِ وَتَعَلُّمِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِالْبُلُوغِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا لَهَا الْخِيَارَ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ فَضِيلَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَ سِنِينَ فِي بَدْءِ أَمْرِهَا، وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا «قَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - تَأْخُذُونَ ثُلُثَيْ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّغِيرَةَ يَجُوزُ أَنْ تُزَفَّ إلَى زَوْجِهَا إذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلرِّجَالِ فَإِنَّهَا زُفَّتْ إلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ فَكَانَتْ صَغِيرَةً فِي الظَّاهِرِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ سَمَّنُوهَا فَلَمَّا سَمِنَتْ زُفَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ): وَبَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَنْكَحَ الْوَالِدُ الصَّغِيرَ أَوْ الصَّغِيرَةَ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا: يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَى الْأَبِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُهُمَا إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَبِ لِلْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ»، فَقَدْ نَفَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ نِكَاحَ الْيَتِيمَةِ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُسْتَأْمَرَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مِنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ»، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَنَقُولُ هَذِهِ يَتِيمَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا كَالْبَالِغَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ مُزَوِّجَ الْيَتِيمَةِ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَلِقُصُورِ الشَّفَقَةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ فِي الْمَالِ وَحَاجَتُهَا إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فِي الصِّغَرِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى التَّصَرُّفِ فِي النَّفْسِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا كَانَ أَوْلَى. وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الْآيَةُ مَعْنَاهُ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْكَلَامُ إذَا كَانَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْيَتِيمَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، وَلَا يُقْسِطُ فِي صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَقَالَتْ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، وَلَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا لِدَمَامَتِهَا، وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ كَيْ لَا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ بِتَزَوُّجِ الْيَتَامَى أَوْ بِتَزْوِيجِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ «. وَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ صَغِيرَةٌ» وَالْآثَارُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ وَلِيُّهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَكُونُ وَلِيًّا لَهَا فِي حَالِ الصِّغَرِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْبُلُوغِ فِي زَوَالِ الْوِلَايَةِ فَإِذَا جُعِلَ هُوَ وَلِيًّا بَعْدَ بُلُوغِهَا بِهَذَا السَّبَبِ عَرَفْنَا أَنَّهُ وَلِيُّهَا فِي حَالِ الصِّغَرِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ بِهَذَا السَّبَبِ فِي الْمَالِ بِحَالٍ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَالَ تَجْرِي فِيهِ الْجِنَايَاتُ الْخَفِيَّةُ، وَهَذَا الْوَلِيُّ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ لَهَا، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ التَّقْصِيرُ فِي الْمَهْرِ وَالْكَفَاءَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ إنْ فَعَلَهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِهَؤُلَاءِ فِي الْمَالِ فَإِنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَالِ وَالْأَبُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نَصْبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 الْوَصِيِّ وَبِاعْتِبَارِهِ تَنْعَدِمُ حَاجَتُهَا. فَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي النَّفْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ بِطَرِيقِ الْقِيَامِ مَقَامَ الْآبَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْيَتِيمَةُ الْبَالِغَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَالْمُرَادُ الْبَالِغِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدَّهُ إلَى غَايَةِ الِاسْتِئْمَارِ، وَإِنَّمَا تُسْتَأْمَرُ الْبَالِغَةُ دُونَ الصَّغِيرَةِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ قُدَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهَا بَلَغَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا». أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتُهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْأَوْلِيَاءِ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ فَلَهُمَا الْخِيَارُ إذَا أَدْرَكَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا خِيَارَ لَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ عُقِدَ بِوِلَايَةٍ مُسْتَحِقَّةٍ بِالْقَرَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْبُلُوغِ كَعَقْدِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرَابَةَ سَبَبٌ كَامِلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ، وَالْقَرِيبُ بِالتَّصَرُّفِ يَنْظُرُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي النَّفْسِ كَالْوَصِيِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الْوَصِيِّ يَلْزَمُ وَيَكُونُ كَعَقْدِ الْأَبِ فِيمَا قَامَ فِعْلُهُ مُقَامَهُ، فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَلِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا مَنْ هُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهَا فَإِذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَالْأَمَةِ إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الشَّفَقَةِ مَوْجُودٌ لِلْوَلِيِّ، وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِشَفَقَةِ الْآبَاءِ، وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ هَذَا النُّقْصَانِ حُكْمًا حِينَ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ فِي الْمَالِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَلِاعْتِبَارِ وُجُودِ أَصْلِ الشَّفَقَةِ نَفَّذْنَا الْعَقْدَ وَلِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الشَّفَقَةِ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِكَيْ لَا يَفُوتَ الْكُفْءُ الَّذِي خَطَبَهَا فَيَكُونُ بِمَعْنَى النَّظَرِ لَهَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ النَّظَرُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ حَتَّى يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ وَافِرُ الشَّفَقَةِ تَامُّ الْوِلَايَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي عَقْدِهِ، وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلَايَتُهُ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ. وَأَمَّا الْقَاضِي إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي زَوَّجَ الْيَتِيمَةَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا أَدْرَكَا. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً تَامَّةً تَثْبُتُ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ فِي الْقُوَّةِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْعَمِّ وَالْأَخِ فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي تَزْوِيجِ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَفِي تَزْوِيجِ الْقَاضِي أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْقَاضِي إنَّمَا تَكُونُ لِحَقِّ الدِّينِ وَالشَّفَقَةُ لِحَقِّ الدِّينِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْمُتَّقِينَ بَعْدَ التَّكَلُّفِ فَيُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا إذَا أَدْرَكَا، فَأَمَّا الْأُمُّ إذَا زَوَّجَتْ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا إذَا أَدْرَكَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهَا وَافِرَةٌ كَشَفَقَةِ الْأَبِ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ بِهَا قُصُورَ الرَّأْيِ مَعَ وُفُورِ الشَّفَقَةِ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهَا فِي الْمَالِ وَتَمَامُ النَّظَرِ بِوُفُورِ الرَّأْيِ وَالشَّفَقَةِ فَلِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي رَأْيِهَا أَثْبَتْنَا لَهُمَا الْخِيَارَ إذَا أَدْرَكَا، فَإِنْ اخْتَارَا الْفُرْقَةَ عِنْدَ الْإِدْرَاكِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مُخْتَلِفٌ فِيهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى، وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّ السَّبَبَ قُصُورُ الشَّفَقَةِ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَانَ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمُخَيَّرَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ قَوِيٌّ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُهَا نَائِبَةً عَنْ الزَّوْجِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ قَوِيٌّ، وَهُوَ زِيَادَةُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ قُرْأَيْنِ وَيَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ، وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ، وَلَا تَتَوَصَّلَ إلَى دَفْعِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِدَفْعِ أَصْلِ الْمِلْكِ فَكَمَا أَنَّ دَفْعَ أَصْلِ الْمِلْكِ عِنْدَ انْعِدَامِ رِضَاهَا يَتِمُّ بِهَا، فَكَذَلِكَ دَفْعُ زِيَادَةِ الْمِلْكِ، فَأَمَّا هُنَا بِالْبُلُوغِ لَا يَزْدَادُ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا كَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِتَوَهُّمِ تَرْكِ النَّظَرِ مِنْ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ فَلِهَذَا لَا تَتِمُّ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ. [الْفَرْقَ بَيْنَ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ] فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: (أَحَدُهَا) مَا بَيَّنَّا. (وَالثَّانِي) خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ لَا يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ بَلْ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي جَانِبِهَا يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ، فَأَمَّا هُنَا الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلْبِكْرِ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْهَا وَرِضَاءُ الْبِكْرِ يَتِمُّ بِسُكُوتِهَا شَرْعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ زُوِّجَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَسَكَتَتْ كَانَ سُكُوتُهَا رِضًا، فَكَذَلِكَ إذَا زُوِّجَتْ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ كَمَا لَوْ زُوِّجَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُجْعَلْ رِضًا كَمَا لَوْ زُوِّجَ بَعْدَ الْبُلُوغِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ لِلْأَمَةِ دُونَ الْغُلَامِ وَخِيَارُ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ دُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 الْغُلَامِ وَثُبُوتُ خِيَارُ الْبُلُوغِ لِنُقْصَانِ شَفَقَةِ الْوَلِيِّ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْغُلَامِ الْمَوْلَى يَنْظُرُ لَهُ لَا لِنَفْسِهِ، وَفِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَإِسْقَاطِ النَّفَقَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا اخْتَلَفَا فِي حُكْمِ الْخِيَارِ وَهُنَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى نَظَرِ الْوَلِيِّ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ الْغُلَامَ هُنَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ بِالطَّلَاقِ كَمَا فِي الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ عَنْ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّخَلُّصِ عِنْدَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّخَلُّصِ بِالطَّلَاقِ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ يَوْمَئِذٍ كَانَ فِي مَالِيَّةِ الْمَوْلَى وَبِاعْتِبَارِهِ مَلَكَ الْمَوْلَى إجْبَارَهُ عَلَى النِّكَاحِ، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا. (وَالرَّابِعُ) أَنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا حَتَّى تَعْلَمَ بِهِ وَاَلَّتِي بَلَغَتْ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالْخِيَارِ وَعَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ سَقَطَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْخِيَارِ فِي الْعِتْقِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ حُكْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ فَتَعَذَّرَ بِالْجَهْلِ، وَقَدْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَعَذَرْنَاهَا لِذَلِكَ أَمَّا خِيَارُ الْبُلُوغِ فَظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلِظُهُورِهِ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ أَيْضًا فَلِهَذَا لَا تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَلِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَتَعَلَّمَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلِهَذَا لَا تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ (قَالَ): فَإِنْ اخْتَارَ الصَّغِيرُ أَوْ الصَّغِيرَةُ الْفُرْقَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا وَالْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ كَانَ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ فَيَتَوَارَثَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ الِاعْتِرَاضُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى نَقُولُ يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ حِلُّ الْوَطْءِ وَالتَّوَارُثِ (قَالَ): وَإِذَا مَاتَ زَوْجُ الصَّغِيرَةِ عَنْهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا كَانَ لِأَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ فَيُشَاوِرَهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ»، فَقَدْ عَلَّقَ هَذَا الْحُكْمَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى، وَهُوَ الثُّيُوبَةُ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لِإِيجَابِ الْحَدِّ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا»، وَالْمُرَادُ بِالْأَيِّمِ الثَّيِّبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهَا بِالْبِكْرِ، فَقَالَ «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ تُرْجَى مَشُورَتُهَا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَا يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا بِدُونِ رِضَاهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 كَالنَّائِمَةِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهَا، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ فِي الثُّيُوبَةِ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ وَمُمَارَسَةِ الرِّجَالِ، وَفِي النِّكَاحِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ مَعْنَيَانِ مَعْنَى الضَّرَرِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ بِقَضَاءِ شَهْوَتِهَا فَمَنْ تَرَجَّحَ مَعْنَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي جَانِبِهَا تَخْتَارُ الزَّوْجَ وَمَنْ تَرَجَّحَ مَعْنَى ضَرَرِ الْمِلْكِ تَخْتَارُ التَّأَيُّمَ، وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّمْيِيزِ بِالتَّجْرِبَةِ؛ لِأَنَّ لَذَّةَ الْجِمَاعِ بِالْوَصْفِ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً وَالتَّجْرِبَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثُّيُوبَةِ فَكَانَتْ صِفَةُ الثُّيُوبَةِ فِي حَقِّهَا نَظِيرَ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْغُلَامِ، وَفِي حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا تَزُولُ وِلَايَةُ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهَا بِالثُّيُوبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَا يَحْدُثُ لَهَا فِي التَّأَنِّي مِنْ الرَّأْيِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُفْقِدُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يُزَوِّجْهَا وَلِيُّهَا كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِهَا فِي الْحَالِ وَالصِّغَرُ يُفْقِدُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ فِي تَأْخِيرِ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ مَعْنَى الْإِضْرَارِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِزَوَالِ الْجُنُونِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَلَا يَدْرِي أَيُفِيقُ أَمْ لَا؟ وَفِي تَأْخِيرِ الْعَقْدِ لَا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ إبْطَالُ حَقِّهَا، فَأَمَّا الصِّغَرُ لِزَوَالِهِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَا يَكُونُ فِي تَأْخِيرِ الْعَقْدِ إلَى بُلُوغِهَا إبْطَالُ حَقِّهَا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَلَّى مَنْ لَا يَلِي نَفْسَهُ وَمَالَهُ فَيَسْتَبِدُّ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْبِكْرِ. وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الشَّرْعَ بِاعْتِبَارِ صِغَرِهَا أَقَامَ رَأْيَ الْوَلِيِّ مُقَامَ رَأْيِهَا كَمَا فِي حَقِّ الْغُلَامِ وَكَمَا فِي حَقِّ الْمَالِ وَبِالثُّيُوبَةِ لَا يَزُولُ الصِّغَرُ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الرَّأْيِ لَا يَحْصُلُ لَهَا بِالثُّيُوبَةِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ؛ لِأَنَّهَا مَا نَضَّتْ شَهْوَتُهَا بِهَذَا الْفِعْلِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَهَا رَأْيٌ فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الرَّأْيِ فَيُقَامُ رَأْيُ الْوَلِيِّ مَقَامَ رَأْيِهَا كَمَا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَاجِزَةً عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهَا أُقِيمَ تَصَرُّفُ الْوَلِيِّ مُقَامَ تَصَرُّفِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْبَالِغَةُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِهِ مَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ الْمُشَاوَرَةُ وَكَوْنُهَا أَحَقَّ بِنَفْسِهَا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبَالِغَةِ دُونَ الصَّغِيرَةِ وَلَئِنْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ مُرَادٌ فَالْمُرَادُ الْمَشُورَةُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ دُونَ الْحَتْمِ كَمَا أَمَرَ بِاسْتِئْمَارِ أُمَّهَاتِ الْبَنَاتِ، فَقَالَ: وَتُؤَامَرُ النِّسَاءُ فِي إبْضَاعِ بَنَاتِهِنَّ، وَكَانَ بِطَرِيقِ النَّدْبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَكَمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ عِنْدَنَا تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهَا يَتِيمَةٌ وَالثَّانِي أَنَّهَا ثَيِّبٌ (قَالَ): وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّغِيرَةِ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ عِنْدَنَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَامَ مَقَامَ الْأَبِ فَيُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا لِنُفُوذِ الْعَقْدِ كَالْمَوْلَيَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ أَوْ الْمُعْتَقَةِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ»، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْوَصْفِ بِالتَّجَزِّي، وَالْحُكْمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 الثَّابِتُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَجَزٍّ وَهُوَ النِّكَاحُ، فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ لِثُبُوتِ صِفَةِ الْكَمَالِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِ السَّبَبِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلتَّجَزِّي كَمَا فِي وِلَايَةِ الْأَمَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ الْمَوْلَيَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ هُوَ الْمِلْكُ أَوْ الْوَلَاءُ، وَذَلِكَ مُتَجَزٍّ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَتَكَامَلْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمَوْلَيَيْنِ لَا يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخَرُ لِأَبٍ فَعِنْدَنَا الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ دُونَ قَرَابَةِ الْأُمِّ فَإِنَّ الْوَلِيَّ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةِ الْأَبِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْوِلَايَةِ كَالْعُصُوبَةِ وَالْأَصْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَوْلِيَاءِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً مَعْتُوهَةً، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهَا أَبُوهَا، ثُمَّ الْجَدُّ بَعْدَ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى - الْأَخُ وَالْجَدُّ يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَخَ يُزَاحِمُ الْجَدَّ فِي الْعُصُوبَةِ حَتَّى يَشْتَرِكَا فِي الْمِيرَاثِ، فَكَذَا فِي الْوِلَايَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَدُّ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوِلَايَةِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ مُعْتَبَرٌ وَشَفَقَةُ الْجَدِّ فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَخِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْجَدِّ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي عَقْدِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْأَخِ وَيَثْبُتُ لِلْجَدِّ الْوِلَايَةُ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا، وَلَا يَثْبُتُ لِلْأَخِ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ حَالُ الْجَدِّ أَعْلَى حَتَّى لَا يَنْقُصَ نَصِيبُهُ عَنْ السُّدُسِ بِحَالٍ فَلِهَذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لَا يُزَاحِمُهُ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ بَعْدَ الْأَجْدَادِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَإِنْ عَلَوْا الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ، ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ عَلَى قِيَاسِ تَرْتِيبِ الْعُصُوبَةِ، فَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ إذَا كَانَ لَهَا ابْنٌ فَلِلِابْنِ عَلَيْهَا وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَ لِلِابْنِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَشِيرَتِهَا بِأَنْ كَانَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَهُ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَعِنْدَنَا تَثْبُتُ لَهَا الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ تَثْبُتُ لِابْنِهَا، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلِابْنِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ تَزْوِيجِ أُمِّهِ طَبْعًا فَلَا يَنْظُرُ لَهَا فِي التَّزْوِيجِ وَلَئِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَمِيلُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ وَرُبَّمَا لَا يَكُونُ كُفْءً لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَشِيرَتِهَا فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِمُ هَذَا الضَّرَرُ فَأَثْبَتْنَا لَهُ الْوِلَايَةَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَالِابْنُ يَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّ الْوِرَاثَةَ نَوْعُ وِلَايَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ مِلْكًا وَتَصَرُّفًا وَالْوِرَاثَةُ هِيَ الْخِلَافَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلِلْوِرَاثَةِ أَسْبَابُ الْفَرِيضَةِ وَالْعُصُوبَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَلَكِنَّ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْعُصُوبَةُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ بِهَا جَمِيعَ الْمَالِ فَلِهَذَا رَتَّبْنَا الْوِلَايَةَ عَلَى أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِرْثِ، وَهُوَ الْعُصُوبَةُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ تَزْوِيجِهَا طَبْعًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا كَانَ الِابْنُ مِنْ عَشِيرَتِهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ فَلَوْ لَمْ يُزَوِّجْهَا الِابْنُ حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْعَضْلِ فَيُزَوِّجُهَا بِنَفْسِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْأَبِ وَالِابْنِ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالتَّزْوِيجِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: الِابْنُ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ مَعَهُ يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ فَقَطْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ فَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ الْوِلَايَةُ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ يَنْظُرُ لَهَا عَادَةً وَالِابْنُ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ لَا لَهَا فَكَانَ الْأَبُ مُقَدَّمًا فِي الْوِلَايَةِ وَبَعْدَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الْأَوْلِيَاءِ لَهَا كَالتَّرْتِيبِ فِي أَوْلِيَاءِ الصَّغِيرَةِ (قَالَ): فَإِنْ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ وَالْأَقْرَبُ حَاضِرٌ تُوقَفُ عَلَى إجَازَةِ الْأَقْرَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبْعَدَ كَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ حَضْرَةِ الْأَقْرَبِ فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُهُ عَلَى إجَازَةُ الْوَلِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَلِلْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ حَتَّى يَحْضُرَ الْأَقْرَبُ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِوِلَايَةِ الْأَقْرَبِ وَوِلَايَتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْغَيْبَةِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي قَطْعِ الْوِلَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ وَأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ حَقِّ الْوَلِيِّ لِيَطْلُبَ بِهِ الْكَفَاءَةَ فَلَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِهِ بِالْغَيْبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ النِّكَاحُ فَدَلَّ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ بَاقِيَةٌ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْوُصُولُ إلَى حَقِّهَا مِنْ جِهَةِ الْأَقْرَبِ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ فَيُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ كَمَا لَوْ عَضَلهَا الْأَقْرَبُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 الْأَقْرَبُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِوِلَايَةِ الْأَقْرَبِ إلَّا بِالْغَيْبَةِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْأَبْعَدُ لَا يُزَوِّجُهَا لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ، وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ لَا يُزَوِّجُهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ السُّلْطَانِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْأَبْعَدِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ هُنَا فَالسُّلْطَانُ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا عَضَلهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ ظَالِمٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَيَقُومُ السُّلْطَانُ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ لِذَلِكَ وَهُنَا الْأَقْرَبُ غَيْرُ ظَالِمٍ فِي سَفَرِهِ خُصُوصًا إذَا سَافَرَ لِلْحَجِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لِيَقُومَ السُّلْطَانُ مَقَامَهُ فِي الْإِيفَاءِ فَيُتَأَخَّرُ إلَى حُضُورِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْأَقْرَبَ مُقَدَّمًا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ لَهَا أَكْثَرُ لِزِيَادَةِ الْقُرْبِ، ثُمَّ النَّظَرُ لَهَا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ رَأْيِ الْأَقْرَبِ بَلْ رَأْيٌ حَاضِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَقَدْ خَرَجَ رَأْيُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِهَذِهِ الْغَيْبَةِ فَالْتَحَقَ بِمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ أَصْلًا كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَرَأْيُ الْأَبْعَدِ خَلَفٌ عَنْ رَأْيِ الْأَقْرَبِ، وَفِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْخَلَفِ لَا فَرْقَ بَيْنَ انْعِدَامِ الْأَصْلِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فَمَعَ وُجُودِ الْمَاءِ النَّجَسِ يَكُونُ التُّرَابُ خَلَفًا كَمَا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَكُونُ التُّرَابُ خَلَفًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجَسَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ أَصْلًا وَنَظِيرُهُ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْأَقْرَبَ حَتَّى اشْتَغَلَتْ بِزَوْجِهَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْأَقْرَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ بِبُعْدِ مَالِهِ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْأَبْعَدِ، فَأَمَّا إذَا زَوَّجَهَا الْأَقْرَبُ حَيْثُ هُوَ فَإِنَّمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا انْتَفَعَتْ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ لَهَا اتِّفَاقًا فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ لِلْأَبْعَدِ قُرْبَ التَّدْبِيرِ وَبُعْدَ الْقَرَابَةِ وَلِلْأَقْرَبِ قُرْبَ الْقَرَابَةِ وَبُعْدَ التَّدْبِيرِ وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ بِهِمَا جَمِيعًا فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ وَلِيَّيْنِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا يَجُوزُ وَالْوِلَايَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقَاضِي عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لَمَّا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي حَدِّ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ فَكَانَ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ تَكْفِي لِذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَقْصَى مُدَّةِ السَّفَرِ نِهَايَةٌ فَيُعْتَبَرُ الْأَدْنَى وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي الْكِتَابِ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ فِي السَّوَادِ وَنَحْوِهِ أَمَا كَانَ يُسْتَطْلَعُ رَأْيُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ السَّوَادَ تَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ: مِنْ جَابَلْقَا إلَى جَابَلْتَا وَهُمَا قَرْيَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ فَقَالُوا هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ إلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: مِنْ بَغْدَادَ إلَى الرَّيِّ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الرَّيِّ وَمِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ يَقُولُ: حَدُّ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ أَنْ يَكُونَ جَوَّالًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ أَوْ يَكُونَ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقْطَعُ الْكِرَى إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَيْسَتْ الْغَيْبَةُ بِمُنْقَطِعَةٍ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَقْطَعُ الْكِرَى إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِدَفْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةٌ، وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ الْقَوَافِلُ تَنْفِرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي كُلِّ عَامٍ فَالْغَيْبَةُ لَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْفِرُ فَالْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ اُنْتُظِرَ حُضُورُهُ أَوْ اسْتِطْلَاعُ رَأْيِهِ فَاتَ الْكُفْءُ الَّذِي حَضَرَ لَهَا فَالْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَفُوتُ فَالْغَيْبَةُ لَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ وَبَعْدَ مَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ إذَا زَوَّجَهَا، ثُمَّ حَضَرَ الْأَقْرَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ نِكَاحَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عُقِدَ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» قَالَ: وَالْوَصِيُّ لَيْسَ بِوَلِيٍّ عِنْدَنَا فِي التَّزْوِيجِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَكَذَلِكَ فِي التَّصَرُّفِ فِي النَّفْسِ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ نُصَّ فِي الْوِصَايَةِ عَلَى التَّزْوِيجِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَيْنَا «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَالْوَصِيُّ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَرَابَتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي التَّزْوِيجِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مِنْ الْقَرَابَةِ بِأَنْ كَانَ عَمَّا أَوْ غَيْرَهُ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالْوِصَايَةِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ إذَا أَدْرَكَا، وَإِنْ حَصَلَ التَّزْوِيجُ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ فِي الْمَالِ بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْوِصَايَةِ فِي وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا فِي حِجْرِ رَجُلٍ يَعُولُهُمَا فَحَالُ هَذَا الرَّجُلِ دُونَ حَالِ الْوَصِيِّ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَعُولُ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ مَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلصَّغِيرِ كَالْحِفْظِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (قَالَ): وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ تُسْتَحَقُّ بِوَلَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 الْعَتَاقَةِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ. (قَالَ): وَالرَّجُلُ مِنْ عَرْضِ النَّسَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ مِنْهُ يَعْنِي بِهِ الْعَصَبَاتِ، فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ كَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُضْطَرَبٌ فِيهِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي كِتَابِ الْوَلَاءِ ذَكَرَ فِي الْأُمِّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأُمَّ إذَا عَقَدَتْ الْوَلَاءَ عَلَى وَلَدِهَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا وَالْخِلَافُ فِي التَّزْوِيجِ وَعَقْدِ الْوَلَاءِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأُمِّ وَعَشِيرَتِهَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا الْحَدِيثُ «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَإِدْخَالُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِمَنْ هُوَ عَصَبَةٌ دُونَ مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِحَالٍ وَأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فَلَوْ كَانَ لِقَرَابَتِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِهَا لَكَانُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ إذْ لَا قَرَابَةَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي إجَازَتِهِ تَزْوِيجَ امْرَأَتِهِ ابْنَتَهَا عَلَى مَا رَوَيْنَا فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ ابْنَتَهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّمَا جَوَّزَ نِكَاحَهَا بِوِلَايَةِ الْأُمُومَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوِلَايَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّفَقَةِ الْمَوْجُودَةِ بِالْقَرَابَةِ، وَهَذِهِ الشَّفَقَةُ تُوجَدُ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ كَمَا تُوجَدُ فِي قَرَابَةِ الْأَبِ فَيَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ يُقَدَّمُونَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي ثُبُوتَهُ لِهَؤُلَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ كَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ يَكُونُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَيُقَدَّمُ فِي ذَلِكَ الْعَصَبَاتُ، ثُمَّ يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَبِهِ يَنْتَقِضُ قَوْلُهُمْ أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الْوِلَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّ فِي الْإِرْثِ أَيْضًا يُقَدَّمُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ أَصْلًا، فَكَذَا هُنَا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَرِيبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ (قَالَ): وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ، فَكَذَلِكَ يَقْطَعُ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {والَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى قَطْعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الرِّقُّ يَنْفِي الْوِلَايَةَ حَتَّى يَقْطَعَ التَّوَارُثَ، وَلِأَنَّهُ يَنْفِي وِلَايَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَأَنْ يَنْفِي وِلَايَتَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ كَمَا تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَرَيَانُ التَّوَارُثِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا جَرَى فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ): وَلِأَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَنْكِحَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَالْكَافِرُ لَا يُجْعَلُ أَهْلًا لِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نِكَاحٌ لَمَا سَمَّاهَا امْرَأَتَهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ كَمَا قَالَ: وَلَكِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْآدَمِيَّةِ وَبِالْكُفْرِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ (قَالَ): وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِمَّنْ لَا يُكَافِئُهَا أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِكُفْءٍ لَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا أَوْ ابْنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، هَكَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِمَاذَا لَا يَجُوزُ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا أَصْلُ النِّكَاحِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَا مِنْ قِبَلِ الْمُسَمَّى، وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَصْلًا أَوْ زَوَّجَهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَمَعْنَى الضَّرَرِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ظَاهِرٌ فَلَا يَمْلِكُهَا الْأَبُ بِوِلَايَتِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي مَالِهِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهَا بِمِثْلِ هَذَا الصَّدَاقِ لَا يَجُوزُ فَإِذَا زَوَّجَهَا أَوْلَى وَوِلَايَتُهُ عَلَيْهَا دُونَ وِلَايَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ زَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا يَثْبُتُ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَهَذَا أَوْلَى، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَرَكَ الْقِيَاسَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ زَوَّجَهَا مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى صَدَاقِ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَدَاقَ مِثْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَدَاقُ مِثْلِهِمَا هَذَا الْمِقْدَارَ مَعَ أَنَّهُمَا مَجْمَعُ الْفَضَائِلِ فَلَا صَدَاقَ فِي الدُّنْيَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَصَالِحَ وَأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ جَمَّةٍ وَالْأَبُ وَافِرُ الشَّفَقَةِ يَنْظُرُ لِوَلَدِهِ فَوْقَ مَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَّرَ فِي الْكَفَاءَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 وَالصَّدَاقِ لِيُوَفِّرَ سَائِرَ الْمَقَاصِدِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهَا مِنْ الصَّدَاقِ وَالْكَفَاءَةِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا بِصِفَةِ النَّظَرِ فَيَجُوزُ كَالْوَصِيِّ إذَا صَانَعَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ جَازَ ذَلِكَ لِحُصُولِ النَّظَرِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الظَّاهِرِ يُعْطِي مَالًا غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْأَبِ فِي الْمَالِ إذْ لَا مَقْصُودَ هُنَاكَ سِوَى الْمَالِيَّةِ فَإِذَا قَصَّرَ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَيْسَ بِإِزَاءِ هَذَا النُّقْصَانِ مَا يَجْبُرُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُمَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِلْأَمَةِ فَفِي حَقِّ الصَّغِيرِ قَدْ انْعَدَمَ مَا يَكُونُ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ وَبِخِلَافِ الْعَمِّ وَالْأَخِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا شَفَقَةٌ وَافِرَةٌ فَيُحْمَلُ تَقْصِيرُهُمَا فِي الْكَفَاءَةِ وَالْمَهْرِ عَلَى مَعْنَى تَرْكِ النَّظَرِ وَالْمَيْلِ إلَى الرِّشْوَةِ لَا لِتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمَقَاصِدِ وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا سَرِيعَةُ الِانْخِدَاعِ ضَعِيفَةُ الرَّأْيِ مُتَابِعَةٌ لِلشَّهْوَةِ عَادَةً فَيَكُونُ تَقْصِيرُهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَالصَّدَاقِ لِمُتَابَعَةِ الْهَوَى لَا لِتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمَقَاصِدِ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْمَقَاصِدِ تَحْصُلُ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الصَّدَاقِ يَتَعَيَّرُ الْأَوْلِيَاءُ، وَلَيْسَ بِإِزَاءِ هَذَا النُّقْصَانِ فِي حَقِّهِمْ مَا يَكُونُ جَابِرًا فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ الْوَالِدُ عَلَى الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ الْوَلِيُّ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ أَدْرَكَا وَكَذَّبَاهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ شَاهِدَيْنِ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ بِالنِّكَاحِ فِي الصِّغَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالنِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا أَمَّا إذَا أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَهُمَا يَقُولَانِ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيَصِحُّ كَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِذَا حَصَلَ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ وَإِذَا حَصَلَ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ إذَا قَالَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: كُنْتُ رَاجَعْتُهَا كَانَ مُصَدَّقًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تُثْبِتُ الْحُكْمَ، بَقِيَ كَوْنُهُ مَالِكًا لِلْإِنْشَاءِ فَنَقُولُ هُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ إلَّا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 الْوَجْهِ الَّذِي يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ، وَهَكَذَا نَقُولُ إذَا سَاعَدَهُ شَاهِدَانِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالْإِنْشَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ. وَأَصْلُ كَلَامِهِمْ يُشْكَلُ بِإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الِاسْتِدَانَةِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرَةِ وَلِيَّانِ فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَوَّلُ جَازَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ»، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ عَقْدُهُ مَحَلَّهُ وَعَقْدُ الثَّانِي لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ صَارَتْ مَشْغُولَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلُ أَوْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا بَطَلَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيهِمَا (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّغِيرُ امْرَأَةً فَأَجَازَ ذَلِكَ وَلِيَّهُ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى انْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى مُبَاشَرَتِهِ لِيَحْصُلَ تَمَامُ النَّظَرِ فَإِذَا أَجَازَ الْوَلِيُّ جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ كَمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ، وَكَذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَتْ الصَّغِيرَةُ نَفْسَهَا فَأَجَازَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَمَعْنًى ثَالِثٍ أَنَّ عِبَارَةَ النِّسَاءِ عِنْدَهُ لَا تَصْلُحُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُجِيزُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِمَعْنًى رَابِعٍ عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمُجِيزَ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ التَّزْوِيجِ، وَإِنْ أَبْطَلَ الْوَلِيُّ عَقْدَهُمَا بَطَلَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَلَا بِالْإِبْطَالِ حَتَّى بَلَغَا فَالرَّأْيُ إلَيْهِمَا إنْ أَجَازَا ذَلِكَ الْعَقْدَ جَازَ كَمَا لَوْ أَجَازَ الْوَلِيُّ فِي صِغَرِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِمَا إلَّا أَنْ يُجِيزَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمَا مَا تَمَّ لِصِغَرِهِمَا وَنُفُوذُ هَذَا الْعَقْدِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ النَّظَرِ فَلِهَذَا يَعْتَمِدُ إجَازَتَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ (قَالَ): وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ عَنْ زَوْجِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَ نَفْسَهُ زَعِيمًا وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِلْأَبِ هُنَاكَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لَا بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْأَبُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الثَّمَنَ دُونَ الصَّبِيِّ، وَفِيمَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِحُكْمِ عَقْدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ ذَلِكَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 كَانَ صَحِيحًا فَإِذَا ضَمِنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي كَانَ فِي مَعْنَى الضَّامِنِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ، فَأَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ قَبْضِ الصَّدَاقِ لِلْأَبِ بِوِلَايَةِ الْأُبُوَّةِ لَا بِمُبَاشَرَتِهِ عَقْدَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ بَلَغَتْ كَانَ الْقَبْضُ إلَيْهَا دُونَ الْأَبِ فَكَانَ الْأَبُ فِي هَذَا الضَّمَانِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَلَوْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ لَهَا أَجْنَبِيٌّ آخَرُ وَقَبِلَ الْأَبُ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ إذَا ضَمِنَهُ الْأَبُ، فَإِذَا بَلَغَتْ إنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِالصَّدَاقِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَإِذَا أَدَّاهُ الْأَبُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ ضَمِنَ عَنْ الزَّوْجِ بِأَمْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى، فَإِنْ كَانَ هَذَا الضَّمَانُ فِي مَرَضِ الْأَبِ وَمَاتَ مِنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إيصَالَ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ بَاطِلٌ (قَالَ): وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فِي صِحَّتِهِ وَضَمِنَ عَنْهُ الْمَهْرَ جَازَ يَعْنِي إذَا قَبِلَتْ الْمَرْأَةُ الضَّمَانَ، ثُمَّ إذَا أَدَّى الْأَبُ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَدَّى عَلَى الِابْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَوْ ضَمِنَ بِأَمْرِ الْأَبِ وَأَدَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الِابْنِ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ قِيَامَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ كَانَ هُوَ الضَّامِنَ بِالْمَهْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَأَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي مَالِهِ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْآبَاءَ بِمِثْلِ هَذَا يَتَبَرَّعُونَ، وَفِي الرُّجُوعِ لَا يَطْمَعُونَ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ كَتَقْدِيمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِنْسَانِ يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّنَاوُلِ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا لَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّ عَادَةَ التَّبَرُّعِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي حَقِّ الْأَوْصِيَاءِ بَلْ يُكْتَفَى مِنْ الْوَصِيِّ أَنْ لَا يَطْمَعَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إذَا ضَمِنَ وَأَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ فَهَذِهِ صِلَةٌ لَمْ تَتِمَّ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصِّلَةِ يَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَكِنَّهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الصَّدَاقَ مِنْ الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ ثَابِتًا لَهَا فِي حَيَاةِ الْأَبِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، وَإِذَا اسْتَوْفَتْ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ رَجَعَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ بِذَلِكَ فِي نَصِيبِ الِابْنِ أَوْ عَلَيْهِ إنْ كَانَ قَبَضَ نَصِيبَهُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَرْجِعُونَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَفَالَةِ انْعَقَدَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 أَدَّاهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ فَبِمَوْتِهِ لَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَا يَرْجِعُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَدَّى لِمَعْنَى الصِّلَةِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ضَمِنَ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِأَمْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الضَّمَانُ فِي مَرَضِ الْأَبِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ بِضَمَانِ الصَّدَاقِ مِنْهُ وَتَبَرُّعُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ فِي مَرَضِهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِنْ ضَمِنَ عَنْ وَارِثِهِ أَوْ لِوَارِثِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ جُنُونُهُ أَصْلِيًّا أَوْ طَارِئًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ كَذَلِكَ الْجَوَابُ بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا، فَأَمَّا فِي الْجُنُونِ الطَّارِئِ لَا يَكُونُ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ وَالنِّكَاحُ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ، وَلَا تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَبِصَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ فِيهِ عَنْ نَظَرِ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لِعَجْزِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ وَالْعَارِضُ فِي هَذَا سَوَاءٌ فَرُبَّمَا لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ كُفْءٌ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ حَتَّى جُنَّ أَوْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ بَعْدَ مَا جُنَّ فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ فِي الْجُنُونِ الطَّارِئِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 [بَابُ نِكَاحِ الْبِكْرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ، وَهِيَ بِكْرٌ فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَيْهَا وَإِذَا أَبَتْ وَرَدَّتْ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ الْعَقْدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» فَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ بِالذِّكْرِ عِنْدَ نَفْيِ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ لِلْوَلِيِّ بِالتَّصَرُّفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِتَزْوِيجِ الْبِكْرِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ بِكْرٌ فَيَمْلِكُ أَبُوهَا تَزْوِيجَهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالْبُلُوغِ لَا يَحْدُثُ لَهَا رَأْيٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ فَكَأَنَّ بُلُوغَهَا مَعَ صِفَةِ الْبَكَارَةِ كَبُلُوغِهَا مَجْنُونَةً بِخِلَافِ الْمَالِ وَالْغُلَامِ، فَإِنَّ الرَّأْيَ هُنَاكَ يَحْدُثُ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَقْبِضَ صَدَاقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِذَا جُعِلَ فِي حَقِّ قَبْضِ الصَّدَاقِ كَأَنَّهَا صَغِيرَةٌ حَتَّى يَسْتَبِدَّ الْأَبُ بِقَبْضِ صَدَاقِهَا فَكَذَا فِي تَزْوِيجِهَا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ نِكَاحَ بِكْرٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ «فِي الْبِكْرِ يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا: فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ وَإِنْ أَبَتْ لَمْ تُكْرَهْ» وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْخَنْسَاءِ «فَإِنَّهَا جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي مِنْ ابْنِ أَخِيهِ وَأَنَا لِذَلِكَ كَارِهَةٌ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِيزِي مَا صَنَعَ أَبُوك فَقَالَتْ مَا لِي رَغْبَةٌ فِيمَا صَنَعَ أَبِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبِي فَلَا نِكَاحَ لَك انْكِحِي مَنْ شِئْت فَقَالَتْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ يَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ لِلْآبَاءِ مِنْ أُمُورِ بَنَاتِهِمْ شَيْءٌ»، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَالَتَهَا، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَسُكُوتُهَا رِضَاهَا». فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الرِّضَا مِنْهَا مُعْتَبَرٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْمَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي حَقِّ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 وَفِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا وَمَا عُلِّقَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ الْحَقِّ لَهَا بِصِفَةِ الثُّيُوبَةِ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمِّ وَالتَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى. يَعْنِي أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّ الْبِكْرَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهَا أَنْ تُخْدَعَ فَإِنَّهَا لَمْ تُمَارِسْ الرِّجَالَ وَلَمْ تَعْرِفْ كَيْدَهُمْ، وَلِلثَّيِّبِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى؛ لِأَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا حُرَّةٌ مُخَاطَبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا كَالثَّيِّبِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْخِطَابَ وَصْفَانِ مُؤَثِّرَانِ فِي اسْتِبْدَادِ الْمَرْءِ بِالتَّصَرُّفِ وَزَوَالِ وِلَايَةِ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمَالِ وَالْغُلَامِ. وَبَقَاءُ صِفَةِ الْبَكَارَةِ تَأْثِيرُهُ فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِسَبَبِ انْعِدَامِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَالِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ مَنْ يَبْلُغُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى التَّصَرُّفَاتِ قَبْلَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ وَلَكِنَّ الِاهْتِدَاءَ وَعَدَمَ الِاهْتِدَاءِ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَتَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ حَقِيقَةِ الِاهْتِدَاءِ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الِاهْتِدَاءِ الَّذِي يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِسَبَبِ التَّجْرِبَةِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْجَهْلِ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِعَدَمِ التَّجْرِبَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِكْرَ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا غَيْرُ مُهْتَدِيَةٍ كَاَلَّتِي لَهَا أَبٌ ثُمَّ اُعْتُبِرَ رِضَاهَا فِي تَزْوِيجِهَا بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ يَصِحُّ، فَلَوْ كَانَ بَقَاءُ صِفَةِ الْبَكَارَةِ فِي حَقِّهَا كَبَقَاءِ صِفَةِ الصِّغَرِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ. وَأَمَّا قَبْضُ الصَّدَاقِ فَعِنْدَنَا لَوْ نَهَتْ الْأَبَ عَنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النَّهْيِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي مِنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا، وَأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ؛ لِتَجْهِيزِهَا بِذَلِكَ مَعَ مَالِ نَفْسِهِ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ لِهَذَا، وَبَعْدَ الثُّيُوبَةِ لَا تُوجَدُ هَذِهِ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ التَّجْهِيزَ مِنْ الْآبَاءِ بِالْإِحْسَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا يَكُونُ فَصَارَ الْأَبُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ (قَالَ): وَإِنْ سَكَتَتْ حِينَ بَلَغَهَا عَقْدُ الْأَبِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ السُّكُوتَ مِنْهَا رِضًا؛ لِعِلَّةِ الْحَيَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّطْقِ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرْسَاءِ فَكَمَا تَقُومُ إشَارَةُ الْخَرْسَاءِ مَقَامَ عِبَارَتِهَا فَكَذَلِكَ يُقَامُ سُكُوتُ الْبِكْرِ مَقَامَ رِضَاهَا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إذَا اسْتَأْمَرَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا مِنْهَا بِالنَّصِّ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ فَسَكَتَتْ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِجَازَةِ هُنَا، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ إجَازَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا وَحِينَ يَبْلُغُهَا الْعَقْدُ الرِّضَا يَكُونُ مُلْزِمًا فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَهَا جَوَابَانِ نَعَمْ أَوْ لَا فَيَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَعَمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ إلَى الرِّجَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ فَلَهَا جَوَابَانِ أَجَزْتُ أَوْ رَدَدْتُ فَيُجْعَلُ السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِجَازَةُ (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ ضَحِكَتْ؛ لِأَنَّ الضَّحِكَ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا بِالتَّصَرُّفِ مِنْ السُّكُوتِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَكَتْ فَإِنَّ الْبُكَاءَ دَلِيلُ السُّخْطِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا إذَا كَانَ لِبُكَائِهَا صَوْتٌ كَالْوَيْلِ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ صَوْتِ الْبُكَاءِ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَدًّا بَلْ هِيَ تَحْزَنُ عَلَى مُفَارَقَةِ بَيْتِ أَبَوَيْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ قَالُوا: إنْ ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ؛ لِمَا سَمِعَتْ لَا يَكُونُ رِضًا وَالضَّحِكُ الَّذِي يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ (قَالَ:) فَإِنْ قَالَ قَبْلَ النِّكَاحِ: إنَّ فُلَانًا يَخْطُبُك وَأَنَا مُزَوِّجُك إيَّاهُ فَسَكَتَتْ ثُمَّ ذَهَبَ فَزَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خُطِبَ إلَيْهِ بِنْتٌ مِنْ بَنَاتِهِ دَنَا مِنْ خِدْرِهَا وَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَخْطُبُ فُلَانَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَزَوَّجَهَا إنْ سَكَتَتْ وَإِنْ نَكَتَتْ خِدْرَهَا بِأُصْبُعِهَا لَمْ يُزَوِّجْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّ فُلَانًا يَخْطُبُ فُلَانَةَ فَإِنْ كَرِهْتِيهِ قُولِي لَا» فَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْهَا جَوَابَ الرَّدِّ لَا جَوَابَ الرِّضَا فَدَلَّ أَنَّ السُّكُوتَ يَكْفِي لِلرِّضَا وَفِي الْكِتَابِ لَمْ يُشْتَرَطْ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ فِي الِاسْتِئْمَارِ وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ اخْتِلَافَ رَغْبَتِهَا يَكُونُ بِاخْتِلَافِ الزَّوْجِ، وَأَنَّ الْأَبَ لَا يَقِفُ عَلَى مُرَادِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الصَّدَاقِ فَالْأَبُ يَعْلَمُ بِمُرَادِهَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ صَدَاقُ مِثْلِهَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَسْمِيَةِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ الشَّرْطَ تَسْمِيَةُ الزَّوْجَيْنِ لَا الْمَهْرِ فَفِي الِاسْتِئْمَارِ أَوْلَى. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فِي الِاسْتِئْمَارِ؛ لِأَنَّ رَغْبَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَاَلَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْأَبِ هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ إنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ الْوَلِيِّ الَّذِي يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا اسْتَأْمَرَهَا فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ لِأَنَّ سُكُوتَهَا؛ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى اسْتِئْمَارِ الْأَجْنَبِيِّ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ مَالَكَ؟ وَلِلِاسْتِئْمَارِ حِينَ لَمْ تَكُنْ بِسَبِيلٍ مِنْ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اسْتَأْمَرَهَا رَسُولُ الْوَلِيِّ فَحِينَئِذٍ الرَّسُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ سُكُوتَهَا عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْأَجْنَبِيِّ يَكُونُ رِضًا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِي مِنْ الْوَلِيِّ. (قَالَ:) وَإِذَا قَالَتْ الْبِكْرُ: لَمْ أَرْضَ حِينَ بَلَغَنِي وَادَّعَى الزَّوْجُ رِضَاهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وَهُوَ السُّكُوتُ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي عَارِضًا وَهُوَ الرَّدُّ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ صَاحِبِهِ إذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَادَّعَى الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ الرَّدَّ وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ السُّكُوتُ. وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الشَّفِيعُ: عَلِمْتُ بِالْبَيْعِ أَمْسِ فَطَلَبْتُ الشُّفْعَةَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ سَكَتَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الزَّوْجُ يَدَّعِي مِلْكَ بُضْعِهَا وَهَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ، وَهِيَ تُنْكِرُ ثُبُوتَ مِلْكِهِ عَلَيْهَا فَكَانَتْ هِيَ الْمُتَمَسِّكَةُ بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى أَصْلَ الْعَقْدِ وَأَنْكَرَتْ هِيَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَوْعٌ ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَاجَةُ الزَّوْجِ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ الْعَبْدُ: لَمْ أَدْخُلْ وَقَالَ الْمَوْلَى: قَدْ دَخَلْت عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكْفِي؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ وَلَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ الشَّرْطِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَكَذَا هُنَا رِضَاهَا شَرْطٌ؛ لِثُبُوتِ النِّكَاحِ وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي؛ لِذَلِكَ فَأَمَّا الشَّفِيعُ إذَا قَالَ: طَلَبْت الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَمْسِ وَطَلَبْت الْآنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمُشْتَرِي إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِلدَّفْعِ. وَكَذَلِكَ فِي بَابِ الْبَيْعِ فَإِنَّ سَبَبَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ قَدْ ظَهَرَ فَحَاجَةُ الْآخَرِ إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ مُدَّعِي الْفَسْخِ، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِذَلِكَ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُسْتَحْلَفُ فَإِنْ نَكَلَتْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُسْتَحْلَفُ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ: فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيُقْضَى بِالنُّكُولِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الدَّعْوَى فَصْلًا شَائِعًا إذَا ادَّعَتْ الْأَمَةُ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهَا بِالنُّكُولِ كَالْأَمْوَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النُّكُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّ فِيهِ نَوْعَ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُ سُكُوتٌ وَالسُّكُوتُ مُحْتَمِلٌ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْقِصَاصُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ مَا يَثْبُتُ بِالْإِبْدَالِ مِنْ الْحُجَجِ نَحْوَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْإِقْرَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هَذِهِ الْحُقُوقُ لَا يُجْزِي فِيهَا الْبَدَلُ فَلَا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ قَالَتْ لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَلَكِنْ بَذَلْت لَك نَفْسِي لَا يُعْمَلُ بَذْلُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَسْت بِابْنٍ لَك وَلَا مَوْلًى وَلَكِنْ أَبْذُلُ لَك نَفْسِي أَوْ قَالَ: أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ وَلَكِنْ أَبْذُلُ لَك نَفْسِي؛ لِتَسْتَرِقَّنِي لَا يُعْمَلُ بَذْلُهُ أَصْلًا. بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لَك، وَلَكِنْ أَبْذُلُهُ لَك؛ لِأَتَخَلَّصَ مِنْ خُصُومَتِك كَانَ بَذْلُهُ صَحِيحًا، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْلِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ وَإِذَا جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا يُجْعَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُبْطِلًا فِي إنْكَارِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ وَلِأَنَّ النُّكُولَ سُكُوتٌ فَهُوَ إلَى تَرْكِ الْمُنَازَعَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِقْرَارِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ الْبَذْلُ، فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُسْتَحْلَفُ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي النَّفْسِ مَقْصُودَةٌ؛ لِعِظَمِ أَمْرِ الدَّمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ شُرِعَتْ مُكَرَّرَةً وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْيَمِينُ لَيْسَتْ بِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِحْلَافِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ وَبِأَنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالْإِبْدَالِ مِنْ الْحُجَجِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَتَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ الْقَاذِفَ يَثْبُتُ بِالْإِبْدَالِ مِنْ الْحُجَجِ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ قَالَتْ: لَمْ أَرْضَ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ سُكُوتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ فَحِينَئِذٍ الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِظُهُورِ دَلِيلِ السُّخْطِ مِنْهَا دُونَ دَلِيلِ الرِّضَا، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ وَلِيِّهَا بِالرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلزَّوْجِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ بُلُوغِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَيْضًا (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الْكَبِيرَ فَبَلَّغَهُ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ رِضًا حَتَّى يَرْضَى بِالْكَلَامِ أَوْ بِفِعْلٍ يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأُنْثَى السُّكُوتَ جُعِلَ رِضًا؛ لِعِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْغُلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِي مِنْ الرَّغْبَةِ فِي النِّسَاءِ؛ وَلِأَنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْبِكْرِ مَحْبُوبٌ فِي النَّاسِ عَادَةً، وَفِي حَقِّ الْغُلَامِ السُّكُوتُ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّخَنُّثِ فَلِهَذَا لَا يُقَامُ سُكُوتُهُ مَقَامَ رِضَاهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 قَالَ:) وَإِذَا مَاتَ زَوْجُ الْبِكْرِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا بَعْدَ مَا خَلَا بِهَا، زَوَّجَهَا أَبُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا تُزَوَّجُ الْبِكْرُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْبَكَارَةِ قَائِمَةٌ؛ وَالْحَيَاءَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ قَائِمٌ فَإِنَّ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ لَا يَزُولُ الْحَيَاءُ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا وَإِنْ جُومِعَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا، وَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» فَأَمَّا إذَا زَنَتْ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا عِنْدَ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا؛ لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ؛ لِأَنَّ الثَّيِّبَ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ يَكُونُ مُصِيبُهَا عَائِدًا إلَيْهَا مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ ثَابَ أَيْ: رَجَعَ وَالْبِكْرُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ مُصِيبُهَا يَكُونُ أَوَّلَ مُصِيبٍ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِيَّةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِأَوَّلِ النَّهَارِ: بُكْرَةٌ، وَأَوَّلِ الثِّمَارِ: بَاكُورَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلثَّيِّبِ دُونَ الْوَصِيَّةِ لِلْإِبْكَارِ، وَإِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ مَشُورَتُهَا بِالنَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ مَعَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِإِبْطَالِ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَيَاءَ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ رُعُونَةً مِنْهَا فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْتَحِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ عَلَى أَفْحَشِ الْوُجُوهِ كَيْف تَسْتَحِي مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ حَيَاءِ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّهُ حَيَاءُ كَرَمِ الطَّبِيعَةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ وَهَذِهِ لَوْ كَانَ فِيهَا حَيَاءٌ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْيَاءٌ مِنْ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ صَاحِبُ الشَّرْعِ إنَّمَا جَعَلَ سُكُوتَهَا رِضًا لَا لِلْبَكَارَةِ بَلْ لِعِلَّةِ الْحَيَاءِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّهَا تَسْتَحِي فَحِينَئِذٍ قَالَ: سُكُوتُهَا رِضَاهَا، وَغَلَبَةُ الْحَيَاءِ هُنَا مَوْجُودَةٌ فَإِنَّهَا وَإِنْ اُبْتُلِيَتْ بِالزِّنَا مَرَّةً؛ لِفَرْطِ الشَّبَقِ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا لَا يَنْعَدِمُ حَيَاؤُهَا بَلْ يَزْدَادُ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِنْطَاقِ ظُهُورَ فَاحِشَتِهَا، وَهِيَ تَسْتَحِي مِنْ ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِحْيَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِحْيَاءُ مَحْمُودٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا سَتَرَتْ مَا عَلَى نَفْسِهَا، وَقَدْ أُمِرَتْ بِذَلِكَ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ»، وَقَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ إنَّمَا كَانَتْ لَا تُسْتَنْطَقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْطَاقَ دَلِيلُ ظُهُورِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ فَإِذَا سَقَطَ نُطْقُهَا فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ النُّطْقُ دَلِيلَ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَلَأَنْ يَسْقُطْ نُطْقُهَا فِي مَوْضِعٍ يَكُنْ النُّطْقُ دَلِيلَ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ عَلَى أَفْحَشِ الْوُجُوهِ كَانَ أَوْلَى. بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَلَيْهَا حِينَ أَلْزَمَ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ وَأَثْبَتَ النَّسَبَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُنَا الشَّرْعُ مَا أَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا إذْ لَمْ يُعَلِّقْ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَأَمَرَهَا بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 أُخْرِجَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ الزِّنَا عَادَةً لَهَا، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ: يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بِكْرٌ شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِالشُّبْهَةِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هَذَا مَوْجُودٌ وَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ صِفَةِ الْحَيَاءِ. وَلَوْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالْوَثْبَةِ أَوْ الطَّفْرَةِ أَوْ بِطُولِ التَّعْنِيسِ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّيِّبِ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنَّهَا بِكْرٌ فَوَجَدَهَا الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ بَعْدَمَا أَصَابَهَا مَا أَصَابَهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هِيَ بِكْرٌ؛ لِأَنَّ مُصِيبَهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ لَهَا إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَذْرَاءَ، وَالْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ فِي السَّرَائِرِ يُرِيدُونَ صِفَةَ الْعُذْرَةِ فَلِهَذَا ثَبَتَ حَقُّ الرَّدِّ، فَأَمَّا هَذَا الْحُكْمُ تَعَلَّقَ بِالْحَيَاءِ أَوْ بِصِفَةِ الْبَكَارَةِ وَهُمَا قَائِمَانِ أَلَا تَرَى «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا افْتَخَرَتْ بِالْبَكَارَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَتْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَرَدْتَ وَادِيَيْنِ إحْدَاهُمَا رَعَاهَا أَحَدٌ قَبْلَك وَالْأُخْرَى لَمْ يَرْعَهَا أَحَدٌ قَبْلَك إلَى أَيِّهِمَا تَمِيلُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَى الَّتِي لَمْ يَرْعَهَا أَحَدٌ قَبْلِي فَقَالَتْ: أَنَا ذَاكَ» فَعَرَفْنَا أَنَّهَا مَا لَمْ تُوطَأْ فَهِيَ بِكْرٌ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ أَبُوهَا مِنْ رَجُلٍ وَأَخُوهَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَأَجَازَتْ نِكَاحَ الْأَخِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَبِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُبَاشِرُ أَبًا أَوْ أَخًا فَإِنَّمَا وُجِدَ شَرْطُ نُفُوذِ نِكَاحِ الْأَخِ، وَهُوَ رِضَاهَا بِذَلِكَ وَمِنْ ضَرُورَةِ رِضَاهَا بِنِكَاحِ الْأَخِ رَدُّ نِكَاحِ الْأَبِ فَلِهَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَبِ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَلَمْ يَبْلُغْهَا حَتَّى مَاتَتْ هِيَ أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا إلَّا بِرِضَاهَا، وَالْإِرْثُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ الْمُنْتَهِي بِالْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا مَاتَ فِيهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَوَارَثَا (قَالَ:) وَإِنْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا، وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ وَرَضِيَتْ بِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَذِنَتْ فِي الِابْتِدَاءِ نَفَذَ عَقْدُهُ بِإِذْنِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَتْ فِي الِانْتِهَاءِ، وَلَكِنْ لَا نَقُولُ: سُكُوتُهَا رِضًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهَا، وَالْحَاجَةُ فِي عَقْدِ غَيْرِ الْوَلِيِّ إلَى تَوْكِيلِهَا لَا إلَى رِضَاهَا، وَالتَّوْكِيلُ غَيْرُ الرِّضَا فَإِنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَالرِّضَا إسْقَاطُ حَقِّ الرَّدِّ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ التَّوْكِيلُ بِالسُّكُوتِ، يُبَيِّنُ لَك مَا قُلْنَا: إنَّ الصَّحِيحَ فِي اسْتِئْمَارِ الْأَجْنَبِيِّ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 وَلِيُّهَا بِأَمْرِهَا وَزَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا فَإِنْ قَالَتْ: هُوَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَهُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِقْرَارُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَتْ: لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَوَّلُ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِمَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ لِرَجُلَيْنِ بِالنِّكَاحِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا لِهَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِأَمْرِهَا، وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ وَلِيُّهَا فَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بَيْنَهُمَا بِرَدِّهَا فَإِنَّمَا رَضِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا جَرَى الرَّسْمُ بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الزِّفَافِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى تُظْهِرُ الرَّدَّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُحْمَدُ مِنْهَا ثُمَّ لَا يَزَالُ بِهَا أَوْلِيَاؤُهَا يُرَغِّبُونَهَا حَتَّى رَضِيَتْ فَلَوْ لَمْ يَتَجَدَّدْ الْعَقْدُ كَانَتْ تُزَفُّ إلَى أَجْنَبِيٍّ فَلِهَذَا اسْتَحْسَنَّا تَجْدِيدَ الْعَقْدِ عِنْدَ الزِّفَافِ (قَالَ:) وَإِذَا اُسْتُؤْمِرَتْ فِي نِكَاحِ رَجُلٍ خَطَبَهَا فَأَبَتْ ثُمَّ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ مِنْهُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَبَتْ بَطَلَ اسْتِئْمَارُهَا فَكَأَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَيَكُونُ سُكُوتُهَا رِضَاهَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هُنَا: لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَرَّحَتْ بِالسُّخْطِ فَكَيْفَ يَكُونُ سُكُوتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ دَلِيلَ رِضَاهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ يَسْخَطُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فِي وَقْتٍ وَيَرْضَى بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَسُخْطُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَجْعَلَ سُكُوتَهَا رِضًا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ نِكَاحِ الثَّيِّبِ] (قَالَ:) قَدْ «بَلَّغَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهِيَ كَارِهَةٌ، وَهِيَ تُرِيدُ عَمَّ صِبْيَانِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَبُوهَا ثُمَّ زَوَّجَهَا عَمَّ وَلَدِهَا»، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: وَهِيَ تُرِيدُ عَمَّ صِبْيَانِهَا فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَبِ الثَّيِّبَ لَا يَنْفُذُ بِدُونِ رِضَاهَا، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْنَا فِي الْبِكْرِ؛ لِأَنَّ ضِدَّ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ مَفْهُومٌ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ وَلِأَنَّهُ خَصَّ الثَّيِّبَ بِالذِّكْرِ، وَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهَا بِخِلَافِهِ ثُمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا امْتَنَعَ عَنْ التَّزْوِيجِ زَوَّجَهَا الْإِمَامُ فَإِنَّ الْأَبَ هُنَا امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِمَّنْ أَرَادَتْ فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ إلَيْهَا لَا إلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعَاشِرُ الْأَزْوَاجَ فَإِنَّمَا تُحْسِنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الْعِشْرَةَ مَعَ مَنْ تَخْتَارُهُ دُونَ مَنْ يَخْتَارُهُ الْوَلِيُّ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الثَّيِّبَ أَبُوهَا فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّكُوتِ أَنْ لَا يَكُونَ رِضًا؛ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الرِّضَا فِي الْبِكْرِ؛ لِضَرُورَةِ الْحَيَاءِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ فَلِهَذَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ، وَلَا إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ أَمَرَتْ غَيْرَ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَزَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا جَازَ النِّكَاحُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا لَا يَجُوزُ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا جَازَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ كُفُؤًا أَمَرَ الْقَاضِي الْوَلِيَّ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيزَهُ لَمْ يَنْفَسِخْ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُهُ فَيَجُوزُ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ نِكَاحُهَا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ وَإِنْ أَبْطَلَهُ بَطَلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجَدِّدَ الْعَقْدَ إذَا أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍّ، وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ بِنْتَهَا أَوْ أَمَتَهَا أَوْ تَوَكَّلَتْ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْغَيْرِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ غَنِيَّةً شَرِيفَةً لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ رِضَا الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً خَسِيسَةً يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ أَمَّا مَنْ شَرَطَ الْوَلِيَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 تَعَالَى {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَهَذِهِ أَبْيَنُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَمْنُوعُ فِي يَدِهِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ فَإِنْ تَشَاجَرَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ»، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَإِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا»، وَأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَحْضُرُ النِّكَاحَ وَتَخْطُبُ ثُمَّ تَقُولُ اعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِنُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ فَلَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِنَفْسِهَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَظِيمٌ خَطَرُهُ كَبِيرٌ، وَمَقَاصِدُهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا أَظْهَرَ الشَّرْعُ خَطَرَهُ بِاشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ تُجْعَلُ مُبَاشَرَتُهُ مُفَوَّضَةً إلَى أُولِي الرَّأْيِ الْكَامِلِ مِنْ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَكَأَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الصِّغَرِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ عَقْدَهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تَعْقِلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِعِبَارَةِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حَقِّ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ إذَا وَضَعَتْ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَوْ ثَبَتَتْ لَهَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ بِالْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ تَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَلِيِّ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا لَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الْوَلِيَّ بِهِ. ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ إلَيْهَا مِنْ جَانِبِ رَفْعِ الْعَقْدِ شَيْءٌ بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَضْلِ الْمَنْعُ حَبْسًا بِأَنْ يَحْبِسَهَا فِي بَيْتٍ وَيَمْنَعَهَا مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وَبِهِ نَقُولُ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَالْأَيِّمُ: اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْأَيِّمُ مِنْ النِّسَاءِ كَالْأَعْزَبِ مِنْ الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَيِّمَ: اسْمٌ لِلثَّيِّبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ»، وَحَدِيثُ الْخَنْسَاءِ حَيْثُ «قَالَتْ: بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ أُمُورِ بَنَاتِهِمْ شَيْءٌ» «وَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعْتَذَرَتْ بِأَعْذَارٍ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّ أَوْلِيَاءَهَا غُيَّبٌ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي أَوْلِيَائِك مَنْ لَا يَرْضَى بِي قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ أُمَّك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاطَبَ بِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَكَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ» وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - زَوَّجَتْ ابْنَةَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ غَائِبٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: أَوَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ؟ وَاَللَّهِ لَتُمَلِّكَنَّهُ أَمْرَهَا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَوْا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ فَتْوَى الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ وَهَنِ الْحَدِيثِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، وَجَوَّزَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ عَلَى الصَّغِيرَةِ أَوْ عَلَى الْمَجْنُونَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَوْا عَلَى هَذَا تُحْمَلُ أَوْ عَلَى بَيَانِ النَّدْبِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْعَقْدَ وَلَكِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يُزَوِّجُهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَلَمْ تُلْحِقْ الضَّرَرَ بِغَيْرِهَا فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ خَالِصُ حَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الْوَلِيَّ بِهِ، وَيُجْبَرُ الْوَلِيُّ عَلَى الْإِيفَاءِ عِنْدَ طَلَبِهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ نَفْسِهَا فَإِنَّمَا اسْتَوْفَتْ بِالْمُبَاشَرَةِ حَقَّهَا وَكَفَتْ الْوَلِيَّ الْإِيفَاءَ فَهُوَ نَظِيرُ صَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَاسْتَوْفَى كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ إلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي حَقِّ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ إنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا عِبْرَةٌ لَمَا كَانَ لَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ صَحِيحٌ عَلَى نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ مَا صَحَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ. وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الْعَقْدَ وَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ لَمَا اُعْتُبِرَ رِضَاهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا عِنْدَ طَلَبِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَالصَّغِيرَةِ لَمَا وَجَبَ الْإِيفَاءُ بِطَلَبِهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ؛ لِنَوْعٍ مِنْ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ لِتُبَاشِرَ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهَا، وَيُعَدُّ هَذَا رُعُونَةً مِنْهَا وَوَقَاحَةً، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مُبَاشَرَتِهَا كَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ؛ لِنَوْعٍ مِنْ الْمُرُوءَةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَقَدْ أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِمْ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُودَ أَصْلِ عَقْدِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ أَصْلًا. وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يَحْتَسِبُ فِي الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي، وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ فَكَانَ الْأَحْوَطُ سَدَّ بَابِ التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عَلَيْهَا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْأَحْوَطُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَصَدَ بِالْفَسْخِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا صَحَّ فَسْخُهُ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا لَمْ يَصِحَّ فَسْخُهُ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِجَازَةِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَقْدِ إذَا عَضَلَهَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمَّا تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِتَمَامِ الِاحْتِيَاطِ فَكَمَا يَنْعَقِدُ بِإِجَازَتِهِ يَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِ، وَبَعْدَ مَا يَفْسَخُ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَهُ، وَلَكِنْ يُسْتَقْبَلُ الْعَقْدُ إذَا تَحَقَّقَ الْعَضْلُ مِنْ الْوَلِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَقُولُ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي تَوَارَثَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ تَصَرُّفَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ، وَمَعْنَى التَّوَقُّفِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَلِيِّ، وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا انْتَهَى النِّكَاحُ الصَّحِيحُ بِالْمَوْتِ فَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَوَارَثَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ مَوْقُوفًا، وَفِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى مِنْهَا صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنْ كَانَتْ قَصَّرَتْ فِي مَهْرِهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ حَتَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 يَبْلُغَ بِهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ إلَّا أَنَّ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَحَقَّقُ فِي تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ: وَإِذَا أَكْرَهَتْ الْمَرْأَةُ الْوَلِيَّ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَزَوَّجَهَا ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ فَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ، وَأَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يَرْضَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهَا فَإِنَّهُ بَدَلُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ إلَيْهَا وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ، وَتَصَرُّفُهَا فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهَا صَحِيحٌ فَلَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّهَا أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَكُونُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَتَفَاخَرُونَ بِكَمَالِ مَهْرِهَا وَيُعَيَّرُونَ بِنُقْصَانِ مَهْرِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَهْرُ الْمُومِسَاتِ الزَّانِيَاتِ عَادَةً وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ: وَمَا عَلَيَّ أَنْ تَكُونَ جَارِيَهْ ... تَمْشُطُ رَأْسِي وَتَكُونُ فَالِيَهْ حَتَّى مَا إذَا بَلَغَتْ ثَمَانِيَهْ ... زَوَّجْتُهَا مَرْوَانَ أَوْ مُعَاوِيَهْ أَخْتَانُ صِدْقٍ وَمُهُورٌ غَالِيَهْ ، وَمَعَ لُحُوقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِنِسَاءِ الْعَشِيرَةِ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ تُزَوَّجُ مِنْهُنَّ بَعْدَ هَذَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فَإِنَّمَا يُقَدَّرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ هَذِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا يَذُبُّ عَنْ نِسَاءِ الْعَشِيرَةِ رِجَالُهَا فَكَانَ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ فَأَمَّا بَعْدَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ كَامِلًا صَارَ حَقُّ الْعَشِيرَةِ مُسْتَوْفًى، وَبَقَاءُ الْمَهْرِ يَخْلُصُ لَهَا فَإِنْ شَاءَتْ اسْتَوْفَتْ وَإِنْ شَاءَتْ أَبْرَأَتْ، وَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ الشَّرْعِ فِي تَسْمِيَةِ أَصْلِ الْمَهْرِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَ الْبَقَاءُ يَخْلُصُ لَهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ مَا سَمَّى لَهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ لِلصَّدَاقِ قِيَاسًا فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَعُودُ إلَيْهَا كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهَا، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِسُقُوطِ الْبَدَلِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا لَهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ أَصْلَ النِّكَاحِ بِهَذَا التَّفْرِيقِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ وَإِنْ وَلَّتْ الْمَرْأَةُ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا زَادَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، وَهَذَا شَيْءٌ رَوَاهُ أَبُو رَجَاءِ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْته عَنْ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ؟ قَالَ: يُرْفَعُ أَمْرُهَا إلَى الْحَاكِمِ؛ لِيُزَوِّجَهَا قُلْت: فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ قَالَ: يُفْعَلُ مَا قَالَ: سُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قُلْت: وَمَا فَعَلَ سُفْيَانَ قَالَ: تُوَلَّيْ أَمْرَهَا رَجُلًا لِيُزَوِّجَهَا ثُمَّ قَدْ صَحَّ رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَعَلَى ذَلِكَ تَنْبَنِي مَسَائِلُ الْجَامِعِ. يَقُولُ فِي الْكِتَابِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْحَاكِمُ أَوْ الْوَلِيُّ عَقْدَهَا يَكُونُ هَذَا رَدًّا لِلنِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَصِحُّ التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنَّ هَذَا رَدٌّ لِلنِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَاشْتِبَاهِ الْأَخْبَارِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ نِكَاحِ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ] (قَالَ:) وَإِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ لَمْ يَأْمُرْهُ فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا بِرِضَاهَا فَقَدِمَ الْغَائِبُ أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَجَازَ النِّكَاحَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِي الْبُيُوعِ مَعْرُوفَةٌ، وَعِنْدَنَا تَتَوَقَّفُ الْعُقُودُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَوْ سَبَقَ الْإِذْنُ بِهِ مِمَّنْ يَقَعُ لَهُ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَهُ فِي الِانْتِهَاءِ جُعِلَ ذَلِكَ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَوْ عُقِدَ هَذَا الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ بِإِجَازَتِهِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلْعَقْدِ فَيَتِمُّ بِهِ الِانْعِقَادُ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْغَائِبِ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْتِزَامِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَتَرَاخَى الِالْتِزَامُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَتَثْبُتُ صِفَةُ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَيَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الْغَائِبَ وَكَّلَ هَذَا الْحَاضِرَ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ حَتَّى زَوَّجَهَا مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ إلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى النَّجَاشِيِّ يَخْطُبُ أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَزَوَّجَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 النَّجَاشِيُّ مِنْهُ وَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا بِالسَّلْطَنَةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ كِتَابَهُ»، وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ لَنَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَأَنَّ الْخِطْبَةَ بِالْكِتَابِ تَصِحُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ مِمَّنْ نَأَى كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا فَإِنَّ الْكِتَابَ لَهُ حُرُوفٌ وَمَفْهُومٌ يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى مَعْلُومٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ؛ لِعِظَمِ خَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، وَقَدْ بَلَّغَ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الدِّينِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا تَامًّا فَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهَا فَبَلَغَهَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ كَمَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ». وَلَوْ قَالَتْ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشُّهُودِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا كَلَامَهَا هُنَا لَا كَلَامَهُ، لَوْ كَانَتْ حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ قَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ وَقَالَتْ: إنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ الْخَاطِبِ بِإِسْمَاعِهَا إيَّاهُمْ إمَّا بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ أَوْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمَا حَيْثُ أَوْجَبَتْ الْعَقْدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلِهَذَا تَمَّ النِّكَاحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ إذَا قَالَ: هُنَاكَ بِعْت هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَمْ يَقْرَأْ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ كَمَا فِي الْحَاضِرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي الْبَيْعِ: أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ بِعْنِي كَذَا بِكَذَا فَقَالَ بِعْت: يَتِمُّ الْبَيْعُ، وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذَا فَقَالُوا: إنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْحَاضِرِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ: بِعْت لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الثَّانِي اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْبَيْعِ مِنْ لَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي. بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَالْآخَرُ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَّيَا بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ لِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ بِبَغْتَةٍ وَفَلْتَةٍ فَقَوْلُهُ بِعْنِي يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَأَمَّا النِّكَاحُ يَتَقَدَّمُهُ خِطْبَةٌ وَمُرَاوَدَةٌ فَقَلَّمَا يَقَعُ بَغْتَةً فَقَوْلُهُ: زَوِّجْنِي يَكُونُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجِينِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ لِلْعَقْدِ إلَيْهَا، وَكَلَامُ الْوَاحِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ يَصْلُحُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُفَوَّضًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 إلَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهَا زَوَّجْت نَفْسِي عَقْدًا تَامًّا، وَفِي بَابِ الْبَيْعِ كَلَامُ الْوَاحِدِ لَا يَصْلُحُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ بِعْت مِنْك شَطْرُ الْعَقْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الشَّطْرُ الثَّانِي لِيَصِحَّ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: مُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي شَرْطِ الشُّهُودِ دُونَ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ أَوْ نَقُولُ بِعْنِي قَوْلُهُ مِنْ الْحَاضِرِ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً فَأَمَّا مِنْ الْغَائِبِ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ بِعْنِي يَكُونُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الثَّانِي تَمَّ الْبَيْعُ فَإِنْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْكِتَابِ مَخْتُومًا إلَى الشُّهُودِ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانَةَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَجُوزُ، وَلَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ مَا فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ لَا نَفْسُ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: قَدْ يَشْتَمِلُ الْكِتَابُ عَلَى شَرْطٍ لَا يُعْجِبُهُمْ إعْلَامُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مَخْتُومًا يُؤْمَنُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَخْتُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْكِتَابَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِيهِ، وَإِذَا كَانَ مَخْتُومًا فَحِينَئِذٍ هَلْ يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الشُّهُودِ مَا فِيهِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. (قَالَ): وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى الِاثْنَيْنِ إذَا كَانَ وَلِيًّا لَهُمَا أَوْ وَكِيلًا عَنْهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ وَلِيَّهُمَا جَازَ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لَا يَجُوزُ أَمَّا زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُبَاشِرُهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ قِيَاسٌ يُوَافِقُهُ الْأَثَرُ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ» وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَحْوِهِ يَسْتَدِلُّ فِي الْوَكِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي تَوْكِيلِ الْوَاحِدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ الْعَقْدِ بِعِبَارَتِهِ ضَرُورَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرُهُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ مَأْمُورُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْعًا فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْتُمْ فِي الْأَبِ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتَهُ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] أَيْ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شُرَطَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَتَوْهُ بِشَيْخٍ مَعَ جَارِيَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهَا فَقَالَ: إنَّهَا ابْنَةُ عَمِّي، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ تَرْغَبُ عَنِّي فَتَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ: خُذْ بِيَدِ امْرَأَتِك، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَاقِدَ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، وَالْوَاحِدُ كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الزَّوْجَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لَا مُعَبِّرًا. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَإِذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَالِبًا مُطَالَبًا مُسَلِّمًا مُسْتَلِمًا مُخَاصِمًا مُخَاصَمًا، وَفِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْعَاقِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: بِبَيْعِ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ حُقُوقَ الْعَقْدِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا بَلَغَ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ دُونَ الْأَبِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَوَلَّاهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الْمَعْنَى إذَا بَاشَرَهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ قَدْ حَضَرَهُ أَرْبَعَةٌ مَعْنًى فَإِنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ وَصْفَانِ فِي وَاحِدٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُثَنَّى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِاعْتِبَارِ كُلِّ صِفَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ إذَا كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَفُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا، وَلَا وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ فُضُولِيٌّ بَاشَرَ النِّكَاحَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ فَبَلَغَ الزَّوْجَيْنِ فَأَجَازَاهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ. وَجَازَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَلَمْ يُخَاطِبْ عَنْهَا أَحَدًا فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ تُخَاطِبْ عَنْهُ أَحَدًا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ قَبِلَ فُضُولِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْغَائِبِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ يَجُوزُ. أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْوَاحِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ عَقْدًا تَامًّا بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَجَعَلَ هَذَا قِيَاسَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمَالٍ فَإِنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا كَانَ عَقْدًا تَامًّا عِنْدَ الْإِذْنِ كَانَ عَقْدًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَكَلَامُ الْوَاحِدِ فِيهِ يَكُونُ شَطْرَ الْعَقْدِ وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ أَصْلًا. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: طَلَّقْت فُلَانَةَ بِكَذَا أَوْ أَعْتَقْت عَبْدِي فُلَانًا بِكَذَا يَكُونُ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُمَا بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ فَإِذَا بَلَغَهُمَا فَقَبِلَا وَقَعَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِي النِّكَاحِ قَوْلُهُ: زَوَّجْت فُلَانَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَعْلِيقًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بِمَحْضَرٍ مِنْهَا: طَلَّقْتُك بِكَذَا فَقَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ لَمَا بَطَلَ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ مَا يَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عِبَارَتُهُ تَنْتَقِلُ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَ عِبَارَتِهِمَا فَإِنَّمَا يَكُونُ تَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمُثَنَّى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُنَا لَا تَنْتَقِلُ عِبَارَتُهُ إلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فَإِذَا بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَانَ شَطْرُ الْعَقْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: تَزَوَّجْتُك، وَهِيَ حَاضِرَةٌ كَانَ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهَا بَعْدَ قِيَامِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَكَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ، وَهِيَ غَائِبَةٌ يَكُونُ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ بَيْنَ فُضُولِيَّيْنِ خَاطَبَ أَحَدُهُمَا عَنْ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ عَنْ الْمَرْأَةِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا جَازَ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ كَانَ كَلَامُهُمَا عَقْدًا تَامًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَا فُضُولِيَّيْنِ يَكُونُ كَلَامُهُمَا عَقْدًا مَوْقُوفًا (قَالَ:) وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ وَكِيلًا حَقُّ قَبْضِ مَهْرِهَا بِدُونِ أَمْرِهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعَبِّرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَكَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 مِنْ الْمَهْرِ شَيْءٌ كَمَا لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْمَعْقُودِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: الصَّدَاقُ عَلَى مَنْ أَخَذَ السَّاقَ إلَّا الْأَبَ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الْبَالِغَةِ فَإِنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ): وَإِذَا أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ رَسُولًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَبْلِيغُ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الْهُدْهُدَ رَسُولًا فِي تَبْلِيغِ كِتَابِهِ إلَى بِلْقِيسَ فَالْآدَمِيُّ الْمُمَيِّزُ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِذَلِكَ فَإِذَا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا سَأَلَكِ أَنْ تُزَوِّجِيهِ نَفْسَك فَأَشْهَدَتْ أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرِّسَالَةِ أَوْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهَا رِسَالَةَ الْمُرْسِلِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ، وَقَدْ سَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَهَا أَيْضًا فَكَانَ نِكَاحًا بِسَمَاعِهِمَا كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِذَا أَنْكَرَ الرِّسَالَةَ وَلَمْ تُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَانَ الْمُخَاطِبُ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِمَا صَنَعَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَطَبَهَا وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَقَالَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ؛ لِلزَّوْجِ إنْ أَقَرَّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْأَمْرِ وَالضَّمَانُ لَازِمٌ؛ لِلرَّسُولِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ زَعِيمًا بِالْمَهْرِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ، وَإِنْ جَحَدَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْأَمْرِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ، وَأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، وَأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَهُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: أَنَّ عَلَى الرَّسُولِ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ فَقِيلَ: مَا ذَكَرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرَ هُنَاكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ فَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفُرْقَةِ هُنَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَسَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فَيَبْقَى جَمِيعُ الْمَهْرِ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِإِقْرَارِهِ وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَإِنْكَارُهُ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّدَاقِ بِزَعْمِ الْكَفِيلِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِإِسْقَاطِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يَكْسِبُهُ فَيُجْعَلُ مُسْقِطًا فِيمَا يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ نِصْفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الصَّدَاقِ عَنْ الْأَصِيلِ سُقُوطُهُ عَنْ الْكَفِيلِ فَلِهَذَا كَانَ الْكَفِيلُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الصَّدَاقِ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي، وَلَكِنْ أُزَوِّجُهُ، وَأَضْمَنُ عَنْهُ الْمَهْرَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ جَازَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَ الزَّوْجَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ انْتَفَى بِرَدِّ الزَّوْجِ النِّكَاحَ فَيَنْتَفِي حُكْمُهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الصَّدَاقِ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ حَقِيقَةً تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ (قَالَ:) وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا عَلَى مَهْرٍ قَدْ سَمَّاهُ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَجَازَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِخِلَافِ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُهُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْوَكِيلُ فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَقَامَ مَعَهَا بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ شَاءَ فَارَقَهَا وَكَانَ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ؛ لِلشُّبْهَةِ، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ ضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الزَّوْجُ النِّكَاحَ؛ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ فَعَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ إنْكَارَ الزَّوْجِ الْأَمْرَ بِالزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِهِ الْأَمْرَ أَصْلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ (قَالَ:) فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَنَا أَغْرَمُ الْمَهْرَ وَأُلْزِمُك النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا بَاشَرَ مِنْ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ أَمْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ، وَإِنْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الزِّيَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ صَدَاقٌ وَالصَّدَاقُ مُطْلَقًا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إلْزَامُ الزَّوْجِ بِذَلِكَ وَانْعَدَمَ مِنْهَا الرِّضَا بِدُونِهِ (قَالَ:) وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَضَمِنَ لَهَا عَنْهُ الْمَهْرَ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ لَا مُلْتَزِمٌ، وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَهُ بِالضَّمَانِ كَتَبَرُّعِهِ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْأَدَاءِ (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِنْ الْوَكِيلِ بِشُهُودٍ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّوْكِيلِ شُهُودٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَالشُّهُودَ مِنْ خَصَائِصِ شَرَائِطِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 النِّكَاحِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْبُضْعَ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ اُخْتُصَّ بِشُهُودٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَمَلَّكُ بِالتَّوْكِيلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِسَائِرِ الْعُقُودِ (قَالَ:) وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَى الرَّجُلِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَدَخَلَ بِهَا فَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، وَلَا تَتَّقِي فِي عِدَّتِهَا مَا تَتَّقِي الْمُعْتَدَّةُ، وَبِنَحْوِهِ قَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَالْحِدَادُ: إظْهَارُ التَّحَزُّنِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْقَى بِالْعِدَّةِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ النَّفَقَةِ بِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ هُنَا؛ لِيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى الَّذِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى، وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعِوَضِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَ بِكَذِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَيْئًا، وَهَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْغَرُورِ لَا يُثْبِتُ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْبَرَهُ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ فِيهِ حَتَّى أَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ أُمَّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ أَيْضًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ تَحْرُمُ الْأُمُّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الْبِنْتِ، وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا لَمْ يَقْرُبْ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ فَلَوْ قَرُبَهَا كَانَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْأَكْفَاءِ] (قَالَ:) اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ إلَّا عَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا مُعْتَبَرَ فِي الْكَفَاءَةِ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ وَقِيلَ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ فَتَوَاضَعَ وَرَأَى الْمَوَالِيَ أَكْفَاءً لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ مِنْ الْمَوَالِي فَتَوَاضَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ كُفُؤًا لِلْعَرَبِ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى»، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفٌّ لِلصَّاعِ لَمْ يُمْلَأْ، وَقَالَ: النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً وَاحِدَةً» فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ بِالْعَمَلِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ «، وَخَطَبَ أَبُو طَيْبَةَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَوِّجُوا أَبَا طَيْبَةَ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ فَقَالُوا: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ». «وَخَطَبَ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ لَهُمْ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي»، وَأَنَّ سَلْمَانَ خَطَبَ بِنْتَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهَمَّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ»، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» وَمَا زَالَتْ الْكَفَاءَةُ مَطْلُوبَةً فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ حَتَّى فِي الْقِتَالِ. بَيَانُهُ: فِي قِصَّةِ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِلْبِرَازِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ فِتْيَانِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا لَهُمْ: انْتَسِبُوا فَانْتَسَبُوا فَقَالُوا: أَبْنَاءُ قَوْمٍ كِرَامٍ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ فَرَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقُوا وَأَمَرَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِمْ» فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ فِي الْقِتَالِ فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعِشْرَةِ وَتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بَيْنَ الْأَكْفَاءِ، وَفِي أَصْلِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَرْأَةِ نَوْعُ ذِلَّةٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ»، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ حَرَامٌ، قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَإِنَّمَا جُوِّزَ مَا جُوِّزَ مِنْهُ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَفِي اسْتِفْرَاشِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا زِيَادَةُ الذُّلِّ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي رَوَاهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ. وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ النَّدْبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ طَلَبِ الْكَفَاءَةِ لَا الْإِلْزَامِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ عِنْدَ الرِّضَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَيُحْكَى عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ النِّكَاحِ، وَهُوَ الدِّمَاءُ فَلَأَنْ لَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الدِّينِ فِي بَابِ الدَّمِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي النِّكَاحِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْكَفَاءَةُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (أَحَدُهَا) النَّسَبُ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ: قُرَيْشٌ أَكْفَاءٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ، وَأَفْضَلُهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَمَعَ التَّفَاضُلِ هُمْ أَكْفَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَكَانَتْ تَيْمِيَّةَ وَتَزَوَّجَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَكَانَتْ عَدَوِيَّةَ «وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عَبْشَمِيًّا» فَعَرَفْنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا نَحْوَ أَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ فَإِنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُكَافِئُهُمْ، وَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ؛ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَتَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ، لَا لِانْعِدَامِ أَصْلِ الْكَفَاءَةِ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْعَرَبِ بِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُبُّ الْعَرَبِ مِنْ الْإِيمَانِ» «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَبْغَضْنِي قَالَ: وَكَيْفَ أَبْغَضُك، وَقَدْ هَدَانِي اللَّهُ بِك؟ قَالَ: تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي»، وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كُفُؤًا لِقُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي لَا يَكُونُونَ كُفُؤًا لِلْعَرَبِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ»، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوَالِيَ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ فَلَا يَكُونُ التَّفَاخُرُ بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ بَلْ بِالدِّينِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ تَفَاخَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِذِكْرِ الْأَنْسَابِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالُوا: سَلْمَانُ ابْنُ مَنْ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: ابْنُ الْإِسْلَامِ فَبَلَغَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَبَكَى، وَقَالَ وَعُمَرُ ابْنُ الْإِسْلَامِ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمَوَالِي لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفُؤٌ لِمَنْ لَهُ عَشَرَةُ آبَاءٍ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ تَتِمُّ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ فَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ نَسَبٌ صَحِيحٌ وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا؛ لِمَنْ لَهُ أَبٌ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا انْتَسَبَ إلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ» وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاخُرِ دُونَ التَّعْرِيفِ (وَالثَّانِي): الْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ حُرَّةِ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِحُرَّةِ الْأَصْلِ، وَالْمُعْتَقُ أَبُوهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 لَهَا أَبَوَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِ الدِّينِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ أُعْتِقَ لَوْ أَحْرَزَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا يُقَابِلُ نَسَبَ الْآخَرِ كَانَ كُفُؤًا لَهُ (وَالثَّالِثُ): الْكَفَاءَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ وَنَفَقَتِهَا لَا يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضُ بُضْعِهَا، وَالنَّفَقَةُ تَنْدَفِعُ بِهَا حَاجَتُهَا، وَهِيَ إلَى ذَلِكَ أَحْوَجُ مِنْهَا إلَى نَسَبِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَتْ تَنْعَدِمُ الْكَفَاءَةُ بِضَعَةِ نَسَبِ الزَّوْجِ فَبِعَجْزِهِ عَنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ أَوْلَى، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَا يُعَجِّلُهُ، وَيَكْتَسِبُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ كَانَ كُفُؤًا لَهَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَانَ كُفُؤًا لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَاحِبَةَ مَالٍ عَظِيمٍ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتَبَرُوا الْكَفَاءَةَ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَأَيْت ذَا الْمَالِ مَهِيبًا وَرَأَيْت ذَا الْفَقْرِ مَهِينًا وَقَالَتْ: إنَّ أَحْسَابَ ذَوِي الدُّنْيَا الْمَالُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ فِي الْأَصْلِ مَذْمُومٌ «قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إلَّا مَنْ قَالَ بِمَالِهِ: هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَصَدَّقَ بِهِ» (وَالرَّابِعُ): الْكَفَاءَةُ فِي الْحِرَفِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ حَتَّى إنَّ الدَّبَّاغَ وَالْحَجَّامَ وَالْحَائِكَ وَالْكَنَّاسَ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ، وَوَرَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ أَكْفَاءٌ إلَّا الْحَائِكَ وَالْحَجَّامَ» وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْحَدِيثُ شَاذٌّ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالْحِرْفَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ لَازِمٍ فَالْمَرْءُ تَارَةً يَحْتَرِفُ بِحِرْفَةٍ نَفِيسَةٍ، وَتَارَةً بِحِرْفَةٍ خَسِيسَةٍ بِخِلَافِ صِفَةِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ، وَذُلُّ الْفَقْرِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ (وَالْخَامِسُ:) الْكَفَاءَةُ فِي الْحَسَبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: هُوَ مُعْتَبَرٌ حَتَّى إنَّ الَّذِي يَسْكَرُ فَيَخْرُجُ فَيَسْتَهْزِئُ بِهِ الصِّبْيَانُ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَكَذَلِكَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يُسْتَخَفُّ بِهِ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهِيبًا يَعْظُمُ فِي النَّاسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: الَّذِي يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ فَإِنْ كَانَ يُسِرُّ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ سَكْرَانَ كَانَ كُفْئًا، وَإِنْ كَانَ يُعْلِنُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ حَتَّى لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 أَلْحَقَتْ الْعَارَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا؛ لِدَفْعِ ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ التَّفْرِيقُ بِذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ بِسَبَبِ نَقْصٍ فَكَانَ قِيَاسُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ وَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ نَوْعُ حُجَّةٍ فِيمَا يَقُولُ فَلَا يَكُونُ التَّفْرِيقُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَحُكْمُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالتَّوَارُثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ فِي اللُّزُومِ فَتَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْفَسْخِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ فَمَا يَكُونُ فَسْخًا لِأَصْلِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إلَى الزَّوْجِ فَتَفْرِيقُ الْقَاضِي مَتَى كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْ الزَّوْجِ كَانَ طَلَاقًا، وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا قُلْنَا: لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ خَلَا بِهَا فَلَهَا مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَهْرِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا فَيَتَقَرَّرُ الْمُسَمَّى بِالتَّسْلِيمِ إمَّا بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْخَلْوَةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ نَظِيرُ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِلْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمَا قَائِمٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ فَرَضِيَ بِهِ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ جَازَ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَوْ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَنْقُضَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ: إذَا رَضِيَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ الرَّاضِي هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا، وَالْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ هُنَا، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ حَقُّ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِذَا رَضِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَحَقَّ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أُبْرِئَ أَحَدُهُمْ أَوْ ارْتَهَنَ رَجُلَانِ عَيْنًا ثُمَّ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا أَوْ سَلَّمَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ الشُّفْعَةَ أَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنْ الْقِصَاصِ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ أُمَّ جَمَاعَةٍ وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا، وَلَمْ يَكُنْ رِضَاهَا بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ مُبْطِلًا حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَحُجَّتُنَا أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّجْزِيءِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ كَمَا فِي الْأَمَانِ فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ثُمَّ صَحَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ جَمَاعَتِهِمْ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُسْقِطِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا، وَقَدْ سَقَطَ فِي حَقِّ الْمُسْقِطِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَكَانَ إذَا اسْتَوْفَاهُ يَصِيرُ حَقُّ الْغَيْرِ مُسْتَوْفًى أَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ السُّقُوطِ لَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّا لَوْ نَفَيْنَا حَقَّ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ حَقُّ الْمُسْقِطِ مُسْتَوْفًى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَدَّدُ هُنَاكَ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءُ لَا يَبْقَى بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءُ، وَهُوَ الدِّيَةُ وَبِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَلَكِنَّ الْمُصَدِّقَ يُنْكِرُ سَبَبَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْكَارُ سَبَبِ وُجُوبِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لَهُ فَوِزَانُهُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَنْ لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ الزَّوْجَ كُفُؤٌ، وَأَثْبَتَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّفْرِيقَ وَأَمَّا إذَا رَضِيَتْ هِيَ فَلِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لَهَا غَيْرُ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا صِيَانَةُ نَفْسِهَا عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ صِيَانَةُ نَسَبِهِمْ عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا سُقُوطَ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ حَتَّى تَلِدَ، وَلَهُ الْخُصُومَةُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَابِتٌ لَهُ، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ بِصِفَةِ التَّأَكُّدِ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ لَا يَرْغَبُ الْإِنْسَانُ بِالْخُصُومَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَتَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا حَقَّهُ [زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ فَارَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ] (قَالَ): وَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ فَارَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَرِضَاهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ رِضًا بِالْعَقْدِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ رِضَاهُ بِرَجُلٍ لَا يُكَافِئُهَا لَا يَكُونُ رِضًا بِرَجُلٍ آخَرَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ [تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ جَاءَ الْوَلِيُّ فَقَبَضَ مَهْرَهَا وَجَهَّزَهَا] (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ جَاءَ الْوَلِيُّ فَقَبَضَ مَهْرَهَا وَجَهَّزَهَا فَهَذَا مِنْهُ رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَهْرِ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ ضَرُورَةً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 وَمُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالرِّضَا أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ يَكُونُ إجَازَةً لِلْعَقْدِ فَلَأَنْ يَكُونُ رِضًا بِالْعَقْدِ النَّافِذِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنْ خَاصَمَ زَوْجَهَا فِي نَفَقَتِهَا أَوْ فِي بَقِيَّةِ مَهْرِهَا عَلَيْهِ بِوَكَالَةٍ مِنْهَا فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ؛ لِيُظْهِرَ عَجْزَ الزَّوْجِ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَاشْتِغَالُهُ بِإِظْهَارِ سَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ يَكُونُ تَقْرِيرًا لِحَقِّهِ لَا إسْقَاطًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ هَذَا رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ خُصُومَتُهُ فِي ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِتَمَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ وَدَخَلَ بِهَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِخُصُومَةِ الْوَلِيِّ، وَأَلْزَمَهُ الْمَهْرَ وَأَلْزَمَهَا الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ الثَّانِي، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الْآيَةَ، وَقَالَ {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، وَفِي النِّكَاحِ الثَّانِي الطَّلَاقُ حَصَلَ قَبْلَ الْمَسِيسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الْأَوَّلِ وَالدُّخُولُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُجْعَلْ دُخُولًا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. أَلَا تَرَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُبِينُهَا فَصَارَ فِي حَقِّ الْعَقْدِ الثَّانِي كَأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَانَتْ وَاجِبَةً وَبِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ صَارَ النِّكَاحُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْعِدَّةُ الْأُولَى سَقَطَتْ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي، وَالسَّاقِطُ مِنْ الْعِدَّةِ لَا يَعُودُ، وَتَجَدُّدُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ يَسْتَدْعِي تَجَدُّدَ السَّبَبِ، وَهُمَا قَالَا: الْعَقْدُ الثَّانِي يَتَأَكَّدُ بِنَفْسِهِ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى حَصَلَتْ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْعَقْدِ يَجِبُ كَمَالُ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ، وَبَيَانُ التَّأَكُّدِ أَنَّ الْيَدَ وَالْفِرَاشَ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَيَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَالْغَاصِبِ إذَا اشْتَرَى مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمَغْصُوبَ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ حُكْمُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ وُجِدَ الدُّخُولُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَمَا يَتَأَكَّدُ بِالْخَلْوَةِ، وَبِهِ يَبْطُلُ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ بَعْدَ الْخَلْوَةِ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُبِينُهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَيَكُونُ النِّكَاحُ مُتَأَكَّدًا فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ؛ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَهَذَا قَائِمٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ فِي تَجْدِيدِ الْعَقْدِ فِي بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ كَانَ تَوَهُّمُ الشُّغْلِ ثَابِتًا حَتَّى أَوْجَبْنَا الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفُرْقَةِ الْأُولَى، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ وَالْعِدَّةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ أَوْ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ أَوْ بِخِيَارِ الْعِتْقِ كُلُّهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فَاسِدًا أَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَالثَّانِي فَاسِدًا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ قَابِضًا بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ فَهُنَا كَذَلِكَ الْعِدَّةُ الْأُولَى لَمْ تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَبَقِيَتْ مُعْتَدَّةً كَمَا كَانَتْ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحًا فَارْتَدَّتْ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي قُلْنَا: لَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا تِلْكَ الْيَدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالتَّزَوُّجُ بِهَا وَبِأَجْنَبِيَّةٍ أُخْرَى سَوَاءٌ (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا خَيْرًا مِنْهَا فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ الرَّجُلِ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ؛ وَلِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَكُونُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مِنْ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لَا مِنْ قَوْمِ هَاجَرَ، وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَا كَانَ قِبْطِيًّا، وَأَوْلَادُ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ (قَالَ): وَإِذَا تَسَمَّى الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَانْتَسَبَ لَهَا إلَى غَيْرِ نَسَبِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا): أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ الْمَكْتُومُ أَفْضَلَ مِمَّا أَظْهَرَهُ بِأَنْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي هَذَا لَا خِيَارَ لَهَا، وَلَا لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَجَدَتْهُ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَ لَهَا فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ. (وَالثَّانِي): إذَا كَانَ نَسَبُهُ الْمَكْتُومُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي النَّسَبِ الْمَكْتُومِ غَيْرُ كُفْءٍ لَهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ قُرَشِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْمَوَالِي، وَفِي هَذَا لَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ رَضِيَتْ هِيَ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ. (وَالثَّالِثُ:) إنْ كَانَ النَّسَبُ الْمَكْتُومُ دُونَ مَا أَظْهَرَ، وَلَكِنَّهُ فِي النَّسَبِ الْمَكْتُومِ كُفُؤٌ لَهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَرَبِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ، وَفِي هَذَا لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْفُرْقَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَا يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَلَكِنْ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا خِيَارَ لَهَا كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَاءَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: شَرَطَ لَهَا زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مِنْهُ صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ فَإِذَا لَمْ تَنَلْ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْرَاشِ ذُلًّا فِي جَانِبِهَا، وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَرْضَى اسْتِفْرَاشَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَلَا تَرْضَى اسْتِفْرَاشَ مَنْ هُوَ مِثْلُهَا فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَرَّهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ انْعِدَامُ تَمَامِ الرِّضَا مِنْهَا فَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ. بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُمْ؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَقَطْ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا وَقَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ هُوَ قُرَشِيٌّ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِشَارَةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ، وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ نَسْتَدِلُّ عَلَى قِلَّةِ فِقْهِهِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَوَابِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ الْفَقِيهِ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ طَرِيقٍ فَقَالَ: إمَّا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَإِمَّا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَيُشِيرُ إلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطَّرِيقِ أَصْلًا (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْ الزَّوْجَ وَانْتَسَبَتْ إلَى غَيْرِ نَسَبِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إذَا عَلِمَ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ غُرُورِهَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا فِي وَلَدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ] (قَالَ:) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 الشُّهُودُ لَيْسُوا بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ إنَّمَا الشَّرْطُ الْإِعْلَانُ حَتَّى لَوْ أَعْلَنُوا بِحَضْرَةِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ أَمَرَ الشَّاهِدَيْنِ بِأَنْ لَا يُظْهِرَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ» «وَحَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمْلَاكَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَيْنَ شَاهِدُكُمْ فَأَتَى بِالدُّفِّ فَأَمَرَ بِأَنْ يُضْرَبَ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ»، وَكَانَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دُفٌّ تُعِيرُهُ لِلْأَنْكِحَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرَامَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَكُونُ إلَّا سِرًّا فَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا ضِدَّهُ، وَذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ؛ لِتَنْتَفِيَ التُّهَمُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ؛ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ: خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَانِ». ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ إلَّا رَجَمْته؛ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْإِظْهَارَ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا هُوَ طَرِيقُ الظُّهُورِ شَرْعًا، وَذَلِكَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ مَعَ شَهَادَتِهِمَا لَا يَبْقَى سِرًّا قَالَ: الْقَائِلُ وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ فَهُوَ نَظِيرُ اشْتِرَاطِ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي إثْبَاتِ إتْلَافِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ ذَلِكَ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ نَظَائِرِهِ بِزِيَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ هَذَا التَّمْلِيكُ مُخْتَصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نَظَائِرِهِ بِزِيَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِ، وَكُلَّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ، وَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذَكَرَ الْعَدَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالشَّهَادَةُ مُطْلَقَةٌ فِيمَا رَوَيْنَا فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ نَكَّرَ ذِكْرَ الْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَقْتَضِي عَدَالَةً مَا، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ، وَفِي الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ لَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا؛ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ، وَهُوَ يَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَنْقُصُ مِنْ إيمَانِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَالْأَعْمَالُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُ الشَّرَائِعُ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْتَقِصُ بِالْمَعْصِيَةِ فَجُعِلَ نُقْصَانُ الدِّينِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 كَنُقْصَانِ الْحَالِ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ. وَاعْتُبِرَ بِطَرَفِ الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ النِّكَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالصِّيَانَةُ عَنْ خَلَلٍ يَقَعُ بِسَبَبِ التَّجَاحُدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْفِسْقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَالسَّلْطَنَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَلَّ مَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ فَالْقَوْلُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ إمَامًا بِالْفِسْقِ يُؤَدِّي إلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ يَكُونُ مِنْ الْإِمَامِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَبِهِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُقْصَانِ الْحَالِ بِسَبَبِ الرِّقِّ، وَالْأَدَاءُ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الشَّهَادَةِ. وَفَوْتُ الثَّمَرَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ الَّذِي ظَاهِرُ حَالِهِ الْعَدَالَةُ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، وَلَا يَظْهَرُ بِمَقَالَتِهِ، كَذَلِكَ بِشَهَادَةِ ابْنَتِهِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْأَعْمَيَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَعْمَى إنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ، وَهُوَ النَّغْمَةُ وَالصَّوْتُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ تَحَمَّلَ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَأَمَّا بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُمَا فَهُمَا فَاسِقَانِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَعِنْدَنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِكَوْنِهِ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تُهْمَةُ الْكَذِبِ أَوْ فِيمَا يَسْتَدْعِي قَوْلًا مِنْ جِهَتِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ [شَهَادَة الْعَبْدَيْنِ وَالصَّبِيَّيْنِ فِي النِّكَاح] فَأَمَّا بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالصَّبِيَّيْنِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ هَذَا الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْوِلَايَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ لَا يُدْعَوْنَ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ عَادَةً فَلِهَذَا جُعِلَ حُضُورُهُمَا كَلَا حُضُورِهِمَا وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَمْوَالِ، وَفِيمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ بِإِشْهَادِ رَجُلَيْنِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَكَانَتْ حُجَّةً ضَرُورِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِيهَا لَا تَكْثُرُ فَكَانَتْ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلنِّكَاحِ، وَلَا قَابِلَةً فَكَذَلِكَ لَا تَصْلُحُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 شَاهِدَةً فِي النِّكَاحِ، وَعِنْدَنَا هِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلِلنِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ شَهَادَةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَلَكِنَّ فِيهَا ضَرْبَ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَغْلِبُ الضَّلَالُ وَالنِّسْيَانُ عَلَيْهِنَّ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وَبِانْضِمَامِ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى تَقِلُّ تُهْمَةُ النِّسْيَانِ، وَلَا تَنْعَدِمُ؛ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا، وَهِيَ الْأُنُوثَةُ فَلَا تُجْعَلُ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَأَمَّا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ فِيهَا نَظِيرُ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّ تُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ فِي شَهَادَةِ الْحُضُورِ لَا تَتَحَقَّقُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ نِصْفَ الشَّاهِدِ وَبِنِصْفِ الشَّاهِدِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ تَضْمَنْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا وَسَنُقَرِّرُ هَذِهِ الْأُصُولَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْتِمَادُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ ابْنَتِهِ أَوْ ابْنَتِهَا أَوْ بِنْتِهِ مِنْهَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِحُضُورِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا؛ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بَلْ؛ لِتُهْمَةِ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، وَلَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِشَهَادَتِهِمَا [تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِيَّةً بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيَّيْنِ] (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِيَّةً بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيَّيْنِ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا نِكَاحٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُهُودٍ فَلَا يَصِحُّ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِينَ كَالْعَقْدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ شَهَادَةٌ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ، وَشَرْطُ الِانْعِقَادِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ كِلَا شَطْرَيْ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَمِعَ الشَّاهِدَانِ كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الزَّوْجِ، وَلَهُمَا طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَافِرَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي الْعَقْدِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ رُكْنُ الْعَقْدِ وَالشَّهَادَةَ شَرْطُهُ فَإِذَا كَانَ يَصْلُحُ الْكَافِرُ لِلْقِيَامِ بِرُكْنِ هَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَقُومَ بِشَرْطِهِ كَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْإِشْهَادِ هُوَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْبُضْعَ، وَلَا يَتَمَلَّكُ إلَّا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْمَالَ، وَالشُّهُودُ لَيْسُوا بِشَرْطٍ؛ لِتَمَلُّكِ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ» ثُمَّ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الرَّجُلُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَبِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعُوا كَلَامَهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَسَمَاعُهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ وَمُسْلِمَيْنِ ثُمَّ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا إذَا جَحَدَتْ، وَعَلَى الزَّوْجِ لَوْ كَانَا أَسْلَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّ سَمَاعَهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِمْ حَلَالًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَقْدِ هُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ مُخَاطَبٌ بِالْإِشْهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهَا فِي حَقِّهِ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ ثُمَّ جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ، وَادَّعَاهُ الْأَبُ وَالْمَرْأَةُ فَشَهِدَ الِابْنَانِ بِذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِيَ، وَجَحَدَ الْأَبُ وَالْمَرْأَةُ لِذَلِكَ فَشَهَادَةُ الِابْنَيْنِ فِيهِ تَكُونُ مَقْبُولَةً عَلَى أَبِيهِمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لِأُخْتِهِمَا، وَعَلَى أُخْتِهِمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَشَهَادَتُهُمَا عَلَى أَبِيهِمَا فِيمَا يَجْحَدُهُ الْأَبُ مَقْبُولَةٌ، فَأَمَّا إذَا شَهِدَا لِأَبِيهِمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ إنْ كَانَ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ نَحْوُ أَنْ يَشْهَدَا بِعَقْدٍ تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ كَلَّمَك فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ ابْنَا فُلَانٍ أَنَّ أَبَاهُمَا كَلَّمَ الْعَبْدَ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْبَلُ قَالَ: لِأَنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ؛ وَإِيثَارِهِ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فِيهِ فَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ جَحَدَهَا أَوْ ادَّعَاهَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ»، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةً لَهُ إذَا كَانَ مُدَّعِيًا بِشَهَادَتِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّ جُحُودَهُ الشَّهَادَةَ يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَعَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هُنَا تَتَحَقَّقُ فَإِنَّ ظُهُورَ صِدْقِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالنَّاسِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَاقِلُ يُؤْثِرُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: كُلُّ شَيْءٍ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ جَحَدَ أَوْ ادَّعَى فَشَهَادَةُ ابْنَيْهِ فِيهِ بَاطِلٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ تَوَلَّاهُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَصْمًا كَالْبَيْعِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ عِنْدَ دَعْوَى الْأَبِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ؛ لِلتُّهْمَةِ، وَعِنْدَ جُحُودِ الْأَبِ إنْ كَانَ الْآخَرُ جَاحِدًا أَيْضًا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِعَدَمِ الدَّعْوَى فَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخَرُ مُدَّعِيًا كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ كَمَا إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةً غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. (قَالَ): وَأَمَّا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلٍ تَوَلَّاهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَصْمًا، وَمِمَّا لَا يَكُونُ خَصْمًا فَسَاقِطَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: الِابْنُ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ فَشَهَادَتُهُ كَشَهَادَةِ الْأَبِ لِنَفْسِهِ فَكَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَبِ فِيمَا بَاشَرَهُ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الِابْنِ لِلْأَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِيمَا بَاشَرَهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا لَا شَاهِدًا فَأَمَّا الِابْنُ فِيمَا بَاشَرَ أَبُوهُ يَكُونُ شَاهِدًا فَبَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّهَادَةِ الْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ هُوَ التُّهْمَةُ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ تَكُونُ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً [زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ فَأَنْكَرَتْ الرِّضَا] (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ فَأَنْكَرَتْ الرِّضَا فَشَهِدَ عَلَيْهَا أَخُوهَا وَأَبُوهَا بِالرِّضَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُرِيدُ تَتْمِيمَ مَا بَاشَرَهُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَخَوَاهَا بِالرِّضَا كَانَتْ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهَا. [تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ] (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وُجِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعَقْدِ لَيْسَ بِعَقْدٍ، وَبِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لَا يَنْقَلِبُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا. (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ أَوْ مَعْتُوهَيْنِ أَوْ نِسَاءٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ شَاهِدَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، فَإِنَّ أَدْرَكَ الصَّبِيَّانِ وَعَتَقَ الْعَبْدَانِ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرَانِ ثُمَّ شَهِدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْعِتْقُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ لَيْسُوا مِنْ شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ فَتَحَمُّلُهُمَا كَانَ صَحِيحًا حِينَ تَحَمَّلَا؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ فَلِهَذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا إلَّا أَنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ مَا هُوَ فِعْلٌ، وَهُوَ حُضُورُ الشُّهُودِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ، وَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فِي الْأَفْعَالِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 عُقِدَ بِحُضُورِهِ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ [جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ] (قَالَ:) وَإِذَا جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ جُحُودُهُ طَلَاقًا، وَلَا فُرْقَةً؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ إنْكَارُهُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ وَالْقَطْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالطَّلَاقِ يَنْتَقِصُ الْعَدَدُ، وَبِانْتِفَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَنْتَقِصُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ بِالنِّكَاحِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ (قَالَ:) وَلَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ أُمَّتَهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَاشْتِرَاطُ الشُّهُودِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِهَذَا الْعَقْدِ؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ كَانَ لِلْمَوْلَى، وَلَا دَيْنَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ؛ لِوُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ، وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الشُّهُودِ فَإِنَّ مِلْكَهُ رَقَبَتَهُمَا لَا يُنَافِي الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ وَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْإِشْهَادِ (قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ مُتَارَكَةٌ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَسْتَدْعِي مِلْكًا لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ، إمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ أَوْ مِلْكُ الْيَدِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالدُّخُولِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْيَدِ بِاعْتِبَارِهِ، وَلِهَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُتَارَكَةً فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَكُونُ رَافِعًا لِلْعَقْدِ مُوجِبًا نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَكِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ هُنَا فَبَقِيَ عَامِلًا فِي الْآخَرِ، وَهُوَ رَفْعُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الشُّبْهَةِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَانِيَةً بِشُهُودٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيمَا سَبَقَ (قَالَ:) وَإِذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَقَالَتْ هِيَ: تَزَوَّجْتَنِي بِشُهُودٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا عَلَى شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَصْلِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى الشَّرْطِ ثُمَّ الْمُنْكِرُ مِنْهُمَا لِلشَّرْطِ فِي مَعْنَى الرَّاجِعِ فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَنْكَرَتْ الشُّهُودَ فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُنْكِرَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِإِقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْرِيمِهَا عَلَى نَفْسِهِ فَجُعِلَ إقْرَارُهُ مَقْبُولًا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ أَصْلَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ فِي إنْكَارِهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُكَذَّبُ فِي زَعْمِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَبْقَى لِزَعْمِهِ عِبْرَةٌ، وَهُنَا الْقَاضِي مَا كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ بِالْحُجَّةِ وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ قَوْلَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتهَا وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ هِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِي أَوْ هِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ أُخْتُهَا عِنْدِي أَوْ هِيَ أَمَةٌ تَزَوَّجْتهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ كُلَّهَا مَعْنًى فِي مَحِلِّ الْعَقْدِ، وَالْمُحَالُ فِي حُكْمِ الشُّرُوطِ فَكَانَ هَذَا وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الشُّهُودِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي صِغَرِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَصْلَ الْعَقْدِ هُنَا فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ فَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ يَكُونُ إنْكَارًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقِي أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّ عَقْدَ الصَّغِيرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ فَهَذَا رِضًا بِذَلِكَ النِّكَاحِ، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ لَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ جَازَ كَمَا لَوْ أَجَازَ وَلِيُّهُ قَبْلَ إدْرَاكِهِ فَكَذَلِكَ بِدُخُولِهِ بِهَا يَصِيرُ مُجِيزًا (قَالَ:) وَإِذَا زُوِّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِأَمْرِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ: أَشْهَدْت فِيهِ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: لَمْ تُشْهِدْ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِإِقْرَارِهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّ إقْرَارَهُ بِأَصْلِ عَقْدِ الْوَكِيلِ إقْرَارٌ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَرْأَةُ وَوَكِيلُهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهَا بِشَرْطِ النِّكَاحِ (قَالَ:) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: لَمْ تُزَوِّجْنِي لَا يَلْزَمُهَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَكَالَةِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الزَّوْجِ إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ، وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا، وَأَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: سَوَاءٌ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِفِعْلِهِ جَائِزٌ؛ إذَا كَانَ الْآمِرُ مُقِرًّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ: الْخِلَافُ فِي إقْرَارِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ فِي النِّكَاحِ لَا فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا الْوَلِيُّ مُسَلَّطٌ شَرْعًا، وَالشَّرْعُ اعْتَبَرَ الشُّهُودَ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْوَلِيِّ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ كَمَا ذَكَرَ هُنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 [بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بُعِثْتُ إلَى الْأَحْمَرِ» وَالْأَسْوَدِ، وَخِطَابُ الْوَاحِدِ خِطَابُ الْجَمَاعَةِ فَمَا تَوَافَقْنَا فِي اعْتِقَادِهِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا فَحِينَئِذٍ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]؛ وَلِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارُوا مِنَّا دَارًا، وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ حُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نُعْرِضُ عَنْهُمْ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا لِأَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا نَتْرُكُهُمْ وَعِبَادَةَ النَّارِ وَالْأَوْثَانِ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْرَاضِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ وَالْحُكْمِ بِصِحَّةِ مَا يَفْعَلُونَ. وَلَا نُعْرِضُ عَنْهُمْ فِي عَقْدِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَقْدٌ وَيُرْوَى عَهْدٌ» «، وَكَتَبَ إلَى بَنِي نَجْرَانَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ يُجَوِّزُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ مِنْ الْمُنَزَّلِ أَنْ يُتْرَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَا يَعْتَقِدُونَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ حُكْمَ خِطَابِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِ الشِّرْكِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ وَلَنْ يَحِلَّ قَطُّ، وَإِذَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ صَحِيحًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَمَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَالشُّهُودُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فِي عِدَّةِ ذِمِّيٍّ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرَّقُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ بَاطِلًا فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا وَلَكِنْ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 الذِّمَّةِ فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بِمَا هُوَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: الْعِدَّةُ لَا تَجِبُ مِنْ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا؛ لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ؛ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا؛ لِحَقِّ الشَّرْعِ هُنَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَلَا لِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْعِدَّةُ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ، وَلَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَالِاسْتِبْرَاءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَبَعْدَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ الْإِسْلَامِ الْحَالُ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةُ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِدَّةَ قَوِيَّةٌ وَاجِبَةٌ حَقًّا لِلزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ أُمٍّ أَوْ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي مَا لَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَحَارِمِهِمْ، وَامْنَعُوهُمْ مِنْ الرَّمْرَمَةِ إذَا أَكَلُوا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ مَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا بَالُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَرَكُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَاقْتِنَاءِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فَكَتَبَ إلَيْهِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ؛ لِيُتْرَكُوا، وَمَا يَعْتَقِدُونَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ وَلَسْتَ بِمُبْتَدِعٍ، وَالسَّلَامُ. وَلِأَنَّ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: يُقْضَى لَهَا بِنَفَقَةِ النِّكَاحِ إذَا طَلَبَتْ، وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ إذَا دَخَلَ بِهَا حَتَّى إذَا أَسْلَمَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِمْ، وَلَكِنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ جَعْلُ الْخِطَابِ شَائِعًا فَيُجْعَلُ شُيُوعُ الْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْبُلُوغِ إلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِمْ لَتَوَارَثُوا بِهَا، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَقَدْ قِيلَ: الْحُرْمَةُ بِخِطَابٍ خَاصٍّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَقِيلَ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُرْمَةِ سُقُوطُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، فَالْمَالُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ يَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 حَلَالًا، وَإِنَّمَا تَنْبَنِي الْمَالِيَّةُ عَلَى التَّمَوُّلِ، وَهُمْ يَتَمَوَّلُونَ ذَلِكَ فَأَمَّا مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ بُطْلَانُ النِّكَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا بَيَّنَّا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمَجُوسِيَّةُ مُحَرَّمَةُ النِّكَاحِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الْمُبَلِّغَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا، وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْحَاجَةِ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَصَارَ حُكْمُ الْخِطَابِ قَاصِرًا عَنْهُمْ، وَشُيُوعُ الْخِطَابِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَ الْمُبَلِّغِ رَسُولًا فَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بِأَنْ أَسْلَمُوا ثَبَتَ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمْ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا قَصَرَ الْخِطَابُ عَنْهُمْ بَقِيَ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ فِي حَقِّهِمْ مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّاسِخُ، كَمَا بَقِيَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي حَقِّ أَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْخِطَابُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ صِحَّةِ الْأَنْكِحَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ بِهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ كَالنَّفَقَةِ، وَبَقَاءِ الْإِحْصَانِ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَيْسَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بِأَسْبَابٍ كَالرِّقِّ، وَاخْتِلَافِ الدِّينِ مَعَ أَنَّ التَّوَارُثَ: إنَّمَا يُسْتَحَقُّ الْمِيرَاثُ عَلَى الْمُوَرِّثِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحُكْمُ اعْتِقَادِهِ بِخِلَافِ الشَّرْعِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِالْمَوْتِ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَدْ تُيُقِّنَ بِذَلِكَ، وَلِمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] فَلَا يَكُونُ اعْتِقَادُ الْوَارِثِ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَقَاءِ الْإِحْصَانِ. إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الْآخَرُ يَأْبَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَكِنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ كَانَ لِلْوَفَاءِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ، وَانْقَادَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَكَانَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا كَإِسْلَامِهِمَا، فَكَذَلِكَ رَفْعُ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ كَمُرَافَعَتِهِمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَصْلُ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا فَرَفْعُ أَحَدِهِمَا إلَى الْقَاضِي، وَمُطَالَبَتُهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لَهُ بِاعْتِقَادِهِ بَلْ اعْتِقَادُهُ يَكُونُ مُعَارِضًا لِاعْتِقَادِ الْآخَرِ فَبَقِيَ حُكْمُ الصِّحَّةِ عَلَى مَا كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى فَلَا يَكُونُ اعْتِقَادُ الْآخَرِ مُعَارِضًا لِإِسْلَامِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا رَفَعَا؛ لِأَنَّهُمَا انْقَادَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهَا بِانْقِيَادِهِمَا لَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42]. فَتَكُونُ مُرَافَعَتُهُمَا كَإِسْلَامِهِمَا، وَبَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 إسْلَامِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ كَمَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ تُنَافِي الْبَقَاءَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا كَمَا لَوْ اعْتَرَضَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا مَهْرَ لَهَا غَيْرُ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاءِ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ غَيْرِ شَيْءٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَوَّلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ كَمَا لَا يَتَمَوَّلُهُمَا الْمُسْلِمُونَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُهُمَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا شَيْءَ لَهَا إذَا كَانُوا يَدِينُونَ بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ إلَى هَذَا يُشِيرُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ الْمَهْرُ، وَإِنْ أَسْلَمَا وَعِنْدَهُمَا لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّ تَقْيِيدَ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ فَعِنْدَهُمَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِشُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَاشْتِرَاطُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا أَوْ يَرْفَعْ أَحَدُهُمْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ شَائِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. فَصَحَّ الشَّرْطُ وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُرَافَعَةِ الْحَالُ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَالْمَهْرُ لَيْسَ بِشَرْطِ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَكَانَ هَذَا وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ سَوَاءٌ، فَأَمَّا إذَا سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ فَكَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْبُضْعِ فِي حَقِّهِمْ كَتَمَلُّكِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجِبُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْعِوَضِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ كَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا لَهَا، وَكَذَا عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَغْوٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ هَذَا وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ سَوَاءً (قَالَ:) وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهَا فَرَافَعَتْهُ إلَى السُّلْطَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ مَحْصُورَ الْعَدَدِ فَإِمْسَاكُهُ إيَّاهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ظُلْمٌ مِنْهُ، وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ لِنُقِرَّهُمْ عَلَى الظُّلْمِ أَرَأَيْت لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ أَكُنَّا نَدَعُهُ لِيَقُومَ عَلَيْهَا، وَقَدْ اسْتَوْفَى مِنْهَا فَأَمَّا إذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بِرِضَاهَا؛ فَلِأَنَّ هَذَا وَنِكَاحَ الْمَحَارِمِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ بِهَذَا السَّبَبِ تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ كَمَا تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ، فَكَانَ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ بِعَيْنِهَا أَوْ خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَهَا قِيمَتُهَا، وَفِي الْخِنْزِيرِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَهَا الْقِيمَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَمَّا حُجَّتُهُمَا فِي الْعَيْنِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَمْلُوكٌ بِالْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ قَبْضَهُ كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ يُؤَكِّدُ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَاقَ تَتَنَصَّفُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَعُودُ شَيْءٌ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الزَّوَائِدُ تَنْتَصِفُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا تَنْتَصِفُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ، وَالصَّدَاقُ عَبْدٌ عِنْدَ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِسْلَامُ كَمَا يَمْنَعُ تَمَلُّكَ الْخَمْرِ بِالْعَقْدِ ابْتِدَاءً يَمْنَعُ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ فِيهَا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ فَارَقَ الْخَمْرَ الْمَغْصُوبَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْتِرْدَادِ تَأَكُّدُ الْمِلْكِ إنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ النَّقْلِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْإِسْلَامُ وَرَدَ، وَعَيْنُ الْمُسَمَّى مَمْلُوكٌ لَهَا مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ قَبْضَهُ كَالْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ اسْتِرْدَادَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهَا فِي الصَّدَاقِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَتَّى تَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ، وَمَعَ مَنْ شَاءَتْ بِبَدَلٍ، وَغَيْرِ بَدَلٍ فَلَيْسَ الْقَبْضُ هُنَا بِمُوجِبِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ، وَلَا تَمَلُّكِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّ بِالْقَبْضِ هُنَاكَ يُسْتَفَادُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِسْلَامُ الْمَانِعُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ضَمَانُ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي نَاقِلًا لِضَمَانِ الْمِلْكِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُسَمَّى فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِضَمَانِ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهَا، وَلِهَذَا وَجَبَ لَهَا الْقِيمَةُ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقَبْضِ النَّاقِلِ لِلضَّمَانِ، إذَا لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ مِلْكٍ كَاسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسَمَّى بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَاكَ مُوجِبٌ مِلْكَ الْعَيْنِ. وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا: تَعَذَّرَ بِالْإِسْلَامِ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعَبْدِ فَاسْتُحِقَّ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْإِسْلَامُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ اقْتَرَنَ الْإِسْلَامُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ، وَبِطَرَيَانِ الْإِسْلَامِ لَا يُتَبَيَّنُ فَسَادُ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَرَنَ الْإِسْلَامُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ هُنَاكَ مُفْسِدَةٌ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ هُنَاكَ يَفْسُدُ بِالْإِسْلَامِ الطَّارِئِ، وَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ بَاقٍ، وَقَدْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً فَإِذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى كَانَ لَهَا الْقِيمَةُ، غَيْرَ أَنِّي أَسْتَقْبِحُ إيجَابَ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ فَأُوجِبُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا قِيلَ: إنَّمَا اسْتَقْبَحَ ذَلِكَ؛ لِبُعْدِ الْخِنْزِيرِ عَنْ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ قِيمَتَهُ، وَالرُّجُوعُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ؛ لِيُقْضَى بِهِ مُسْتَقْبَحٌ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا أَتْلَفَ خَمْرَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ قِيمَةُ الْخِنْزِيرِ كَعَيْنِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا إذَا أَتَاهَا بِالْعَيْنِ فَكَمَا تَعَذَّرَ قَبْضُ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ. يُقَرِّرُهُ: أَنَّ قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَبِالْإِسْلَامِ قَدْ تَغَيَّرَ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْفَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَأَمَّا قِيمَةُ الْخَمْرِ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلِهَذَا يُصَارُ إلَى قِيمَةِ الْخَمْرِ ثُمَّ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي الْعَيْنِ لَهَا نِصْفُ الْعَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي غَيْرِ الْعَيْنِ فِي الْخَمْرِ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ لَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَاجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْمُهُورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (قَالَ): مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ أَصْلِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَكَذَلِكَ مَعَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فَاسِدًا شَرْعًا فَذِكْرُهُ كَالسُّكُوتِ عَنْهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَقَدُّمُ اشْتِرَاطِهِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلنِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ، وَلَا يَنْهَدِمُ بِهِ هَكَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: النِّكَاحُ يَهْدِمُ الشَّرْطَ، وَالشَّرْطُ يَهْدِمُ الْبَيْعَ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَلَهَا مَهْرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَمَلَّكُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمُسَمَّى فَيُصَارُ إلَى الْعِوَضِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ قِيمَةُ الْبُضْعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْمُهُورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ:) وَتَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ أَصْلِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ هُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ، وَالْإِنْكَارُ؛ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَوَرَّثْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ الْمَوْلُودُ بَيْنَهُمَا عَلَى دِينِ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَنَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا، وَأَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالْآخَرُ الْحِلَّ فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُعَارِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ» الْحَدِيثَ، فَقَدْ جَعَلَ اتِّفَاقَ الْأَبَوَيْنِ عِلَّةً نَاقِلَةً عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَبَوَانِ، وَفِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ؛ وَلِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يُجْعَلُ الْوَلَدُ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي نَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ فَلَا تَقَعُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّبَعِيَّةِ لِلْكِتَابِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ التَّوْحِيدَ أَوْ يُظْهِرُهُ فَكَانَ فِي جَعْلِ الْوَلَدِ تَبَعًا لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ لِلْوَلَدِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ. (قَالَ:) وَإِذَا زُوِّجَ صَبِيَّةٌ مِنْ صَبِيٍّ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ هُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا إذَا أَدْرَكَا؛ لِشَفَقَةِ الْأُبُوَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى مَا قِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى، وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الذِّمِّيَّةُ ذِمِّيًّا فَقَالَ وَلِيُّهَا: هَذَا لَيْسَ بِكُفْءٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ ذُلَّ الشِّرْكِ، وَصَغَارَ الْجِزْيَةِ يَجْمَعُهُمْ فَلَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ نُقْصَانُ النَّسَبِ بَلْ هُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ اُسْتُرِقُّوا كَانُوا أَكْفَاءً، وَلَوْ أُعْتِقُوا كَذَلِكَ، وَلَوْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَكْفَاءً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُخَاصِمَ. (قَالَ:) إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَشْهُورًا يَعْنِي كَابْنَةِ مَلِكٍ مِنْهُمْ خَدَعَهَا حَائِكٌ أَوْ سَائِسٌ وَنَحْوُهُ فَهُنَا يُفَرَّقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 بَيْنَهُمَا لَا لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُهَيِّجُ الْفِتْنَةَ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ [تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمَةً حُرَّةً] (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمَةً حُرَّةً فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]؛ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى» فَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِلْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا فِي الِابْتِدَاءِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيُوجَعُ عُقُوبَةً إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَتُعَزَّرُ الْمَرْأَةُ وَاَلَّذِي سَعَى فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّوْقِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] فَلِهَذَا قَالَ: يُوجَعُ عُقُوبَةً، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ، وَاسْتَخَفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَارْتَكَبَ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فَيُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهَذَا نَاقِضًا لِلْعَهْدِ حِينَ بَاشَرَ مَا ضَمِنَ فِي الْعَهْدِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الذِّمِّيِّ إذَا جَعَلَ نَفْسَهُ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ بِارْتِكَابِ مِثْلِهِ لَا يَصِيرُ نَاقَضَا لِأَمَانِهِ فَالذِّمِّيُّ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ فَلَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً، وَكَذَلِكَ يُعَذَّرُ الَّذِي سَعَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ»، وَهُوَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِسْلَامِ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (قَالَ:) وَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ صَحِيحٌ بَعْدَ إسْلَامِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَقْطَعُ وِلَايَةَ الْإِجْبَارِ، وَالتَّفْرِيقُ عِنْدَنَا بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ اخْتِلَافِ الدِّينِ؛ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ النِّكَاحُ مُتَأَكَّدٌ فَلَا يَرْتَفِعُ بِنَفْسِ اخْتِلَافِ الدِّينِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَثِّرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 فِي الْفُرْقَةِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ. وَقَاسَ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ دِهْقَانَةَ بَهْزِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَأَبَتْ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَإِسْلَامُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِثْبَاتِ الْعِصْمَةِ، وَتَأْكِيدِ الْمِلْكِ لَهُ، وَكَذَلِكَ كُفْرُ مَنْ أَصَرَّ مِنْهُمَا عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا، وَمَا كَانَ مَانِعًا لِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَا بَقَائِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الدِّينِ فَإِنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَرَّرَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ السَّبَبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَافِرِ مِنْهُمَا لَا بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَنْ يُسَاعِدَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَبَتْ الْإِسْلَامَ حَتَّى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِإِصْرَارِهَا عَلَى الْخُبْثِ، وَالْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ؛ لِلطَّيِّبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَبَى الْإِسْلَامَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَأَمَّا الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ الْمَرْأَةِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَرِدَّةُ الزَّوْجِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَكُونُ بِطَلَاقٍ. وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْإِبَاءُ وَالرِّدَّةُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْفُرْقَةِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَالْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ، وَمِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَكُلُّ سَبَبٍ لِلْفُرْقَةِ يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَتِهَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلطَّلَاقِ، وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَوْلٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ إمَّا إبَاءٌ أَوْ رِدَّةٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 الطَّلَاقِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ بِهَذَا السَّبَبِ فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ تُجْعَلُ طَلَاقًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالرِّدَّةِ كَانَتْ لِفَوَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، فَيَكُونُ نَظِيرَ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمِلْكِ، فَأَمَّا إبَاءُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِهِ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ يَكُون طَلَاقًا. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي فَصْلِ الْإِبَاءِ لَمَّا كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَشْبَهَ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَاضِيَ يَنُوبُ فِيهِ عَنْ الزَّوْجِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ لَمَّا لَمْ تَتَوَقَّفْ الْفُرْقَةُ عَلَى الْقَضَاءِ أَشْبَهَ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ ثُمَّ فِي الْفَصْلَيْنِ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا فِي الْإِبَاءِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ كَانَتْ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِهَذَا السَّبَبِ غَيْرُ مُتَأَبَّدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ فَيَتَوَفَّرُ عَلَى الطَّلَاقِ مَا هُوَ مُوجِبُهُ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ إلَى غَايَةِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَلِهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَحْرَمِيَّةِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ هُنَاكَ مُؤَبَّدَةٌ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهَا مَا هُوَ مُوجِبُ الطَّلَاقِ (قَالَ:) وَإِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ عَلَى صَبِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ صَحَّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَيُعْرَضُ عَلَى الْآخَرِ الْإِسْلَامُ إنْ كَانَ يَعْقِلُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا بَالِغَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ، وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ إذَا أَتَى بِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِبَاءُ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ الصَّبِيُّ يَسْتَوِي بِالْبَالِغِ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْنُونًا، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي رِدَّةِ الصَّبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ الْفُرْقَةُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِبَاءَ تَمَسُّكٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ فَأَمَّا الرِّدَّةُ إنْشَاءٌ لِمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَهُوَ يَضُرُّهُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّهُ الْهِبَةَ بَعْدَمَا قَبَضَ لَا يَصِحُّ وَامْتِنَاعَهُ مِنْ الْقَبُولِ فِي الِابْتِدَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 صَحِيحٌ، ثُمَّ إذَا فُرِّقَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ، وَكَانَ صَغِيرًا فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ: هَذَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْبَالِغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فَهُوَ نَظِيرُ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجَبِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، ثُمَّ الْعِتْقُ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ [نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً ثُمَّ أَنَّهَا تَمَجَّسَتْ] (قَالَ:) نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً ثُمَّ أَنَّهَا تَمَجَّسَتْ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ صَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا تَمَجَّسَتْ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ يُتْرَكُ عَلَى مَا اعْتَقَدَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُ كَانَ عَلَى مَا اعْتَقَدَ فَإِذَا بَدَّلَهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَمَانٌ فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ الْأَمَانَ بِسَبَبِ الذِّمَّةِ كَانَ لَهُ مَعَ كُفْرِهِ، وَمَا تَرَكَ الْكُفْرَ، وَإِذَا كَانَ مَا اعْتَقَدَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلْبَقَاءِ أَيْضًا، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ: يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَانَ كُفْرًا فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ؟، وَالنَّصْرَانِيُّ إذَا تَهَوَّدَ فَقَدْ اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ ظَاهِرًا، فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى التَّثْلِيثِ بَعْدَ مَا اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ؟، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَا تَمَجَّسَتْ عُرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فِي الْأَصْلِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَهَوَّدَتْ أَوْ تَنَصَّرَتْ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ تَمَجَّسَتْ بَعْدَمَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَجُّسَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَرِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فَكَمَا يَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ، فَكَذَا بِتَمَجُّسِهَا بَعْدَ إسْلَامِ الزَّوْجِ (قَالَ): نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ كَانَ جَائِزًا؛ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ جَازَ فَبِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ نِكَاحِ الْمُرْتَدِّ] (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُرْتَدَّةً، وَلَا مُسْلِمَةً، وَلَا كَافِرَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ، وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الْبَقَاءِ، فَإِنَّ بَقَاءَ النَّسْلِ بِهِ يَكُونُ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ النُّفُوسِ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، وَالْمُرْتَدُّ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ فَمَا كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 فِي حَقِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَتْلَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا، وَإِنَّمَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِيَتَأَمَّلَ فِيمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الشُّبْهَةِ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ حُكْمًا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَشْغَلُهُ عَمَّا؛ لِأَجْلِهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ مَعَ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالتَّأَمُّلِ؛ لِتَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَمَمْنُوعَةٌ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ؛ وَلِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ صَارَتْ مُحَرَّمَةً، وَالنِّكَاحُ مُخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مَعَ أَحَدٍ (قَالَ:) وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَأَكُّدِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ، وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَقْصِدُ مُنَابَذَةَ الْمِلَّةِ لَا الْحَلِيلَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ تَأَكُّدِهِ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَإِنْ تَابَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَرِثَتْهُ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الرِّدَّةُ تُنَافِي النِّكَاحَ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمُنَافِي لِلنِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، فَأَمَّا اخْتِلَافُ الدِّينِ: عَيْنُهُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ حَتَّى يَجُوزَ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ فَإِنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ. وَبِالْإِسْلَامِ تَصِيرُ النِّعَمُ مُحْرَزَةً لَهُ فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ هُنَاكَ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ إبَاءِ الْآخَرِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ارْتَدَّتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ (قَالَ:) وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا، وَفِي الْقِيَاسِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةً، فَإِذَا كَانَتْ رِدَّتُهَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ تُنَافِي الْبَقَاءَ أَيْضًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ؛ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَاسْتَتَابَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَا يُقَالُ لَعَلَّ الِارْتِدَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ كَانَ قَبْلَ بَعْضٍ، وَلَمْ يُشْتَغَلْ بِذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ لَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا. وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ عِنْدَ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا؛ لِظُهُورِ خُبْثِهِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 بِطِيبِ الْمُسْلِمِ فَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا يَظْهَرُ هَذَا الْخُبْثُ بِالْمُقَابَلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَابُلُ الْخُبْثِ بِالْخُبْثِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ لَهُمَا دِينٌ، وَلَا دَارٌ فَيَبْقَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ مَعًا، وَاعْتِبَارُ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ فَاسِدٌ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ، وَلَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَأَبَّدَةٍ فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِظُهُورِ خُبْثِهِ الْآنَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِطِيبِ الْآخَرِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جَانِبِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ، فَإِنَّ إصْرَارَهُ بَعْدَ إسْلَامِ الْآخَرِ كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ (قَالَ): وَإِنْ أَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ، وَامْرَأَتُهُ نَصْرَانِيَّةٌ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ بَانَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ إسْلَامِهِ بَاقٍ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، فَتَفَرُّدُهُ بِالرِّدَّةِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ الْمَجُوسِيَّةُ ثُمَّ ارْتَدَّتْ بَانَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ بَانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ الزَّوْجُ، وَلَمْ تُسْلِمْ هِيَ حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ كَانَ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ حِينَ لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَتَقَرَّرُ بِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا ثَمَّةَ رُبَّمَا يَخْتَارُ الْمُقَامَ فِيهِمْ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ فَرُبَّمَا تَحْبَلُ مِنْهُ فَتُسْبَى فَيَصِيرُ مَا فِي بَطْنِهَا رَقِيقًا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَإِذَا وَلَدَتْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ بَعْضُ الْفِتْنَةِ فَيُكْرَهُ لِهَذَا، فَإِنْ خَرَجَ، وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ مُرَاغَمَةً، وَقَعَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 الْفُرْقَةُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَنَا؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ. وَعِنْدَهُ لِلْقَصْدِ إلَى الْمُرَاغَمَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ فَإِنْ خَرَجَتْ غَيْرَ مُرَاغِمَةٍ لِزَوْجِهَا أَوْ خَرَجَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا، وَلَا تَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَمْ يُجَدِّدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ هِنْدُ، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَخَذَتْ الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا، وَذَهَبَتْ فَجَاءَتْ بِزَوْجِهَا، وَلَمْ يُجَدِّدْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَبِعَهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بَعْدَ سِنِينَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ تَبَايُنِ الْوِلَايَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ كَاخْتِلَافِ الْوِلَايَتَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا، أَوْ الْمُسْلِمَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ مِنْ مِصْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى مَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ قَصْدِ الْمُرَاغَمَةِ فَاشْتِرَاطُهُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وَالْكَوَافِرُ: جَمْعُ كَافِرَةٍ مَعْنَاهُ لَا تَعُدُّوا مَنْ خَلَّفْتُمُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ نِسَائِكُمْ، وَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ نَادَى بِمَكَّةَ أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ تَئِيمَ امْرَأَتُهُ مِنْهُ أَوْ تَبِينَ فَلْيَلْتَحِقْ بِي أَيْ: فَلْيَصْحَبْنِي فِي الْهِجْرَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ: كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ اللَّاحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى يُقْسَمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَكَمَا لَا تَتَحَقَّقُ عِصْمَةُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَمْ يُوجَدْ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا، وَمَنَعَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ فِيهَا لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ حُكْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إلَّا قَاصِدًا إحْرَازَ نَفْسِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ الْقَصْدِ إلَى الْمُرَاغَمَةِ، وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُرَاغَمَةِ لِزَوْجِهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْجَدِيدِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْ: بِحُرْمَةِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَالْعِدَّةُ تَنْقَضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ تَتَبَّعُوهَا وَضَرَبُوهَا حَتَّى أَسْقَطَتْ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ تَقَعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا إسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا أَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَفَاعَةِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِكْرِمَةُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إنَّمَا هَرَبَا إلَى السَّاحِلِ، وَكَانَتْ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ فَلَمْ يُوجَدْ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا تَمَيَّزَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمْ يُوجَدْ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَوْمَئِذٍ فَلِهَذَا لَمْ يُجَدِّدْ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ. فَعِنْدَنَا؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِلسَّبْيِ حَتَّى إذَا سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 24] مَعْنَاهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَكُمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «، وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ»، وَإِنَّمَا سُبِيَ أَزْوَاجُهُنَّ مَعَهُنَّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي صَفَاءَ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي، وَلِهَذَا لَا يَبْقَى الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَسْبِيِّ، وَإِنَّمَا يَصْفُو إذَا لَمْ يَبْقَ مِلْكُ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِمِلْكِ مَا يَتَحَمَّلُ التَّمَلُّكَ وَمَحَلُّ النِّكَاحِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلسَّابِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَهُوَ لَيْسَ بِذِي حَقٍّ مُحْتَرَمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ مَالِكِيَّتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ مَنْكُوحَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُحْتَرَمٌ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالسَّبْيِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْقِصَاصِ الدَّمُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُحْتَمِلٍ لِلتَّمَلُّكِ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا لِمُحْتَرَمٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ مَالًا فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ كَالشِّرَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّمَلُّكُ بِالسَّبْيِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْبُضْعِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ يَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْ الشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السَّبْيِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ هُنَا تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ فَرَاغِ الْمَحَلِّ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ. وَنَفْسُ السَّبْيِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَوْ كَانَ مُحْتَرَمًا لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبْيِ، وَالْمُنَافِي إذَا تَقَرَّرَ فَالْمُحْتَرَمُ وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمِ فِيهِ سَوَاءٌ، كَمَا إذَا تَقَرَّرَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وَالرَّضَاعِ؛ وَلِأَنَّ السَّبْيَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَلَأَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ أَوْلَى، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ فَسُبِيَ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْمَأْذُونِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حُرٍّ فَسُبِيَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ عَبْدًا، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى إلَّا شَاغِلًا لِلْمَالِيَّةِ، وَحِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْحُرِّ لَمْ يَكُنْ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إذْ لَا مَالِيَّةَ فِي رَقَبَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ السَّبْيِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِمُحْتَرَمٍ لَا يَبْقَى كَذَلِكَ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي صَفَاءَ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ إذَا كَانَ مُحْتَرَمًا بَقِيَ النِّكَاحُ، وَلَا صَفَاءَ، وَكَذَلِكَ إذَا سُبِيَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَهُنَا الْمِلْكُ لَهُ لَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الرِّجَالَ هَرَبُوا إلَى حُصُونِهِمْ، وَإِنَّمَا سُبِيَ النِّسَاءُ وَحْدَهُنَّ، فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَالْآيَةُ دَلِيلُنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ انْقِطَاعُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى السَّابِي بِهَذَا النَّصِّ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا خَرَجَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ لَا إلَى عِدَّةٍ، فَإِنَّ بَقَاءَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يُنَافِي أَصْلَ النِّكَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ يُنَافِي الْعِدَّةَ، فَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الزَّوْجِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَلَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمْ الدَّارُ (قَالَ:) حَرْبِيَّةٌ كِتَابِيَّةٌ دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا جَازَ ذَلِكَ، وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا فِي الْمُقَامِ، فَتَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ رِضًى مِنْهَا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ، وَصَيْرُورَتُهَا ذِمِّيَّةً تَكُونُ ضِمْنًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ هُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ يَتْبَعُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْمُقَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ تَصِيرُ مُقِيمَةً بِإِقَامَةِ الزَّوْجِ، وَمُسَافِرَةً بِسَفَرِهِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا. (قَالَ:) حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ جَائِزٌ، وَنِكَاحُ الْخَامِسَةِ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ: مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ أَيَّ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ شَاءَ وَيُفَارِقُ الْخَامِسَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أُخْتَانِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَلَوْ كَانَ تَزْوِيجُهُمَا فِي عَقْدَيْنِ جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَخْتَارُ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَيُفَارِقُ الْأُخْرَى، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانُ نِسْوَةٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَقَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزِ الدَّيْلَمِيُّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت»، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذِهِ حُرْمَةٌ اعْتَرَضَتْ فِي بَعْضِ الْمَنْكُوحَاتِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَتُوجِبُ التَّخْيِيرَ دُونَ التَّفَرُّقِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَنْكِحَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ بَانَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ جَازَ نِكَاحُهُنَّ سَوَاءٌ مَاتَتْ الْأُولَى أَوْ الْأَخِيرَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَنْكِحَةَ صَحِيحَةٌ كَانَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ، وَالْعُقُودُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَسُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ، وَالْعُقُودَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِيهِ سَوَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفْنَا فِي التَّفْرِيقِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ الْجَوَابُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ بِحُكْمِ الشُّيُوعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ثَبَاتًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مِنْ أَصْلِهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا حَرَامٌ بِهَذَا النَّصِّ، وَبِنِكَاحِ الْأُولَى مَا حَصَلَ الْجَمْعُ فَوَقَعَ نِكَاحُهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ الْجَمْعُ فَلَمْ يَكُنْ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ إذْ لَا سَبَبَ هُنَا سِوَى الْجَمْعِ فَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ فِي نِكَاحِ مَنْ حَصَلَ الْجَمْعُ بِنِكَاحِهَا، وَكَانَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِنِكَاحِهَا الْجَمْعُ، وَكَانَ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ إبْطَالُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّةِ تَحْتَ رَجُلَيْنِ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَا مَعَهَا، وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْخَمْسِ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 الْجَمْعِ بَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ. فَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِنِكَاحِ الْخَامِسَةِ، فَصَرْفُ الْفَسَادِ إلَيْهَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِنَّ جَمِيعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ أَوْ بَانَتْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِسَبَبِ الْجَمْعِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْجَمْعِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَجِبَ الِاعْتِرَاضُ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ إذَا مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ بَانَتْ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا مِنْهُ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَمَاتَتْ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إرْضَاعِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا كَانَتْ الْأُولَى فِي نِكَاحِهِ تَحَقَّقَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ بَانَتْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّاتِ، فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ هُنَاكَ وَقَعَ صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَزَوَّجَهُنَّ كَانَ حُرًّا، وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ثُمَّ وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبَبِ الرِّقِّ الْحَادِثِ فِيهِ، وَعِنْدَ حُدُوثِ الرِّقِّ هُنَّ مُجْتَمِعَاتٌ مُسْتَوِيَاتٌ، فَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَقْدُ الْوَاحِدُ، وَالْعُقُودُ الْمُتَفَرِّقَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّضِيعَتَيْنِ إذَا أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ بَانَتَا مِنْهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ وَجَبَ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ بالأختية الْعَارِضَةِ فِيهَا، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فَقَدْ قَالَ مَكْحُولٌ: إنَّ تِلْكَ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ مَعْنَاهُ: قَبْلَ نُزُولِ حُرْمَةِ الْجَمْعِ فَوَقَعَتْ الْأَنْكِحَةُ صَحِيحَةً مُطْلَقًا ثُمَّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاخْتِيَارِ الْأَرْبَعِ؛ لِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، أَوْ لَمَّا كَانَتْ الْأَنْكِحَةُ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَطَلِّقْ سَائِرَهُنَّ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ بِنْتٌ وَأُمٌّ فَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَإِنْ كَانَ تَزْوِيجُهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ دُونَ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُخْرَى بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حُرِّمَتْ بِعَقْدِ الْبِنْتِ، وَالْبِنْتُ حُرِّمَتْ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ دُونَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِالْأُولَى فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى بِنْتًا فَسَدَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حُرِّمَتْ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وَالْبِنْتُ حُرِّمَتْ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أُمًّا فَنِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ، فَنِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَحِينَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَهَذَا إذَا كَانَ دُخُولُهُ بِالْأُمِّ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ فَنِكَاحُ الْأُمِّ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْبِنْتِ لَا تُحَرَّمُ الْأُمُّ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بِالْمُصَاهَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا. (قَالَ:) وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَامْرَأَتُهُ، وَقَدْ كَانَ نِكَاحُهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ تَقَعُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَهِيَ سَبَبُ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ إلَى وَقْتِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ قَبَّلَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِشَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ نَظِيرُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ:) وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ كَانَا وَالْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى تَأَكُّدِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا عِنْدَنَا: نَفْسُ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ، وَلَا كُفْرُ مَنْ أَصَرَّ مِنْهُمَا عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا اخْتِلَافُ الدِّينِ نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُمْكِنُ تَقْرِيرُ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بِعَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مِنْهُمَا حَتَّى إذَا أَبَى يَصِيرُ مُفَوِّتًا الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ يَدَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَصِلُ إلَى الْمُصِرِّ مِنْهُمَا؛ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ؛ وَيَحْكُمَ بِالْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَائِهِ فَيُقَامُ ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ مَقَامَ ثَلَاثِ عَرْضَاتٍ فِي تَقَرُّرِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا حِينَ لَمْ يُسَاعِدْهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَمَا صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا تَقَعُ بِانْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ. كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا إلَّا أَنَّهُ هُنَاكَ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ؛ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وَهُنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِدُونِ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا بَاشَرَ شَيْئًا بَلْ هُوَ مُسْتَدِيمٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا إذَا خَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً لَمْ تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَحِينَئِذٍ لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْحَالِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ نَسِيبَةَ «أَنَّهَا لَمَّا هَاجَرَتْ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْتَدَّ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ هَذِهِ حُرَّةٌ فَارَقَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ رَجُلَيْنِ فِي رَحِمِهَا، وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ بِحَقِّ الشَّرْعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهَا حَلَّتْ لِلسَّابِي، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِحِلِّهَا لِلسَّابِي الْحُكْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى السَّابِي؟ لِأَنَّا نَقُولُ: كَمَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى السَّابِي إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا أَوْ مَنْكُوحَةً فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً، فَكَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ هَذَا دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِبْرَاءِ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا، فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وَفِي إيجَابِ الْعِدَّةِ تَمَسُّكٌ بِعِصْمَةِ الْكَافِرَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَلَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا وَكَالْمَسْبِيَّةِ؛ هَذَا لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ، فَيَكُونُ مُنَافِيًا لِأَثَرِ النِّكَاحِ فَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ لِحَقِّ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي، وَلَا لِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ لِحَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ بِالْمِلْكِ حَقُّهُ، وَلَا تَجِبُ لِحَقِّ الشَّرْعِ؛ لِوُجُودِ الْمُنَافِي فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَا نَقُولُ: تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ النِّكَاحِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 حَتَّى تَضَعَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الْحَرْبِيِّ كَمَاءِ الزَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّانِي، وَالْحَبَلُ مِنْ الزِّنَا لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ مِنْ الزِّنَا لَا نَسَبَ لَهُ، وَهُنَا النَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمَحَلُّ مَشْغُولٌ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْمَحَلُّ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَيَسْتَوِي فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ إنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِي الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ هُوَ الزَّوْجَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا أَوْ أُخْتَهَا إنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الَّتِي بَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ خَرَجَ الزَّوْجُ مُسْتَأْمَنًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا فَكَأَنَّهُ بَاقٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ صَارَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ أَيْضًا، حَتَّى إذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْرِضَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ فِي الْأَصْلِ ذِمِّيًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَتْ إلَيْنَا ذِمِّيَّةً قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ حَتَّى يَعْرِضَ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ. فَأَمَّا إذَا خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فَفِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ يَقُولُ: إنْ عَرَضَ السُّلْطَانُ الْإِسْلَامَ عَلَى الزَّوْجِ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ حَتَّى مَضَى ثَلَاثُ حِيَضٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ أَيْضًا فَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ يَتَعَيَّنُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَفِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَتَعَيَّنُ انْقِضَاءُ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَفِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ يُوجَدُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الذِّمِّيَّ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ يَتَمَكَّنُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْحَرْبِيَّ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ؛ فَلِشَبَهِهِ بِالذِّمِّيِّ إذَا وُجِدَ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ؛ وَلِشَبَهِهِ بِالْحَرْبِيِّ إذَا وُجِدَ انْقِضَاءُ ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوَّلًا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 [بَابُ الْهِبَةِ فِي النِّكَاحِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّكَاحُ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ صُحِّحَ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَةِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] فَقَدْ جَعَلَ النِّكَاحَ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ خَالِصًا لِلرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، وَكَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالِاسْتِحْلَالِ بِهَا: الْإِنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ، وَفِي قَوْلِهِ: «اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ» إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مَعْقُودٍ لِمَقْصُودِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا انْعَقَدَ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا هَذَا الْعَقْدُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا عَقْدٌ خَاصٌّ فَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِعَتْ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهَا كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] لَمْ يَقُمْ لَفْظٌ آخَرُ مَقَامَ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَحْلِفُ؛ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّزْوِيجَ هُوَ التَّعْلِيقُ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الضَّمُّ، وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ مَعْنَى التَّلْفِيقِ وَالضَّمِّ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا اللَّفْظُ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْفُرْقَةُ تَقَعُ بِهِ؟ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَهَبْتُ نَفْسَكِ مِنْكِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُهُودٍ، وَعِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ الشُّهُودُ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمَا أَرَادَا النِّكَاحَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَاهُ: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْهِبَةَ جَوَابًا لِلِاسْتِنْكَاحِ، وَالِاسْتِنْكَاحُ طَلَبُ النِّكَاحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَالِصَةً لَك} [الأحزاب: 50] فَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَرْأَةُ يَعْنِي أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَك فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَك حَتَّى يَكُونَ شَرِيكَك فِي الْفِرَاشِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ هِبَةٌ خَالِصَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إنْ وَهَبَتْ} [الأحزاب: 50] يَقْتَضِي هِبَةً، وَالْكِنَايَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هِبَةً خَالِصَةً لَا يَلْزَمُك مَهْرٌ لَهَا، وَهَذَا لَك دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يَعْنِي مِنْ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَابَلَ الْمَوْهُوبَةَ نَفْسَهَا بِالْمُؤْتَى مَهْرُهَا بِقَوْلِهِ: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك} [الأحزاب: 50]، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ} [الأحزاب: 50]، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ؛ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إذْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ، إنَّمَا الْحَرَجُ فِي إبْقَاءِ الْمَهْرِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظَةُ الْهِبَةِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لَا فِي جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصِيَّةُ بِجِوَارِ نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ. وَإِمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ رَجُلًا وَهَبَ ابْنَتَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذَا مِلْكٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالتَّمْلِيكِ كَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَذَا كَلَامٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاحِيَةَ اللَّفْظِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِيُعْرَفَ بِالْقِيَاسِ بَلْ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، النَّظَرُ فِي كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِيرُونَ اللَّفْظَ لِغَيْرِهِ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] أَيْ: عِنَبًا بِالْعَصْرِ يَصِيرُ خَمْرًا، وَيُسَمِّي الْمَطَرَ سَمَاءً؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ سَمَاءً، وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ يُسَمَّى سَمَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ مُوجِبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَلِلِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ دُونَ سِوَاهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ حَتَّى يَجِبَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ، وَسَائِرُ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ لَهُمَا، وَإِنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ الرَّافِعِ لِهَذَا الْمِلْكِ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمِلْكُ دُونَ مَا تَوَهَّمَهُ الْخَصْمُ. وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ جُعِلَا عَلَمًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِالنَّصِّ، وَاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي الْمَنْصُوصِ لَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُمَا لَفْظَانِ لِإِيجَابِ مِلْكِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَلِهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ، وَمَتَى صَارَ اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ، وَقَامَ مَقَامَ اللَّفْظِ الَّذِي جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ، وَالشَّرْطُ سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ اللَّفْظَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَأَمَّا وُقُوفُهُمَا عَلَى مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ مَعَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك بِصَدَاقِ كَذَا، فَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّكَاحَ، وَكَمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ تَحْصُلُ بِلَفْظِ الزَّوْجِيَّةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: تَزَوَّجِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 النِّكَاحُ. فَأَمَّا لَفْظُ الْبَيْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ قَالَ: إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ قَالَ: تَزَوَّجْتهَا أَوْ اشْتَرَيْتهَا، وَهَذَا لِلْفِقْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ مِلْكًا هُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ. فَأَمَّا لَفْظَةُ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ مِلْكًا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَبِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُسْتَفَادُ مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ فِي النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ شَرْعًا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَبَّدًا فَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ. فَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ مُوجِبُهُ الْخِلَافَةُ مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ: الْهِبَةُ أَيْضًا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبْضُ قُلْنَا الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ إضَافَةَ الْمِلْكِ، وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي السَّبَبِ لِتَعَرِّيهِ عَنْ الْعِوَضِ يَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ، وَيَنْعَدِمَ ذَلِكَ الضَّعْفُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَجِبُ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ، وَالْكَبِيرَةِ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا مِلْكَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ كَالْمَقْبُوضِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ عَقِيبَ الْعَقْدِ تَعَذَّرَ الْبَدَلُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ عَيْنٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ. فَأَمَّا لَفْظُ الْإِحْلَالِ، وَالتَّمَتُّعِ لَا يُوجِبُ مِلْكًا أَصْلًا فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي مَوْضِعِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَأَمَّا الْإِعَارَةُ فَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ مِلْكًا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَالْإِقْرَاضُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ مَعَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ الْآدَمِيُّ، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَنْعَقِدُ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الدُّخُولِ (قَالَ:) وَلَوْ قَالَ: أَتَزَوَّجُك بِكَذَا فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْت فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا: قَدْ تَزَوَّجْتُك؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِخِطَابِهِ، فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ، وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ قَبِلْت، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: جِئْتُك خَاطِبًا فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْت أَوْ زَوَّجْتُك نَفْسِي كَانَ نِكَاحًا تَامًّا، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ: إذَا قَالَ: خَطَبْتُك إلَى نَفْسِك بِكَذَا فَقَالَتْ: زَوَّجْتُك نَفْسِي فَهُوَ نِكَاحٌ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِلَفْظِ الْخِطْبَةِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ غَيْرُ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي عَادَةِ النَّاسِ الْعَقْدُ، فَلِأَجْلِ الْفَرْقِ الظَّاهِرِ جَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ اسْتِحْسَانًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْمُهُورِ] (قَالَ:) وَعَقْدُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ جَائِزٌ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَهَذَا مَذْهَبُنَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ لِلْمُفَوِّضَةِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَهُ، وَمَشَايِخُهُمْ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا دَخَلَ بِهَا، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجِبُ بِالدُّخُولِ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا جَادَتْ بِحَقِّهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْجُودِ فَيَصِحُّ مِنْهَا كَمَا لَوْ وَهَبَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبِي أَوْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُكُمْ فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَبَدَلُهُ بِمَنْزِلَةِ أَرْشِ الطَّرَفِ يُخَلَّصُ حَقًّا لَهَا، وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهَا، وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْمَهْرِ، وَالشِّرَاءَ بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهَا كَمَا رَضِيَتْ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا يَكُونُ خَالِصَ حَقِّ الشَّرْعِ. فَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا بِالِاسْتِيفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]؛ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِذِكْرِهِمَا، فَأَمَّا الْمَهْرُ لَيْسَ بِعِوَضٍ أَصْلِيٍّ، وَلَكِنَّهُ زَائِدٌ وَجَبَ لَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 بِإِزَاءِ احْتِبَاسِهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَمِلُ التَّعْجِيلَ، وَالتَّأْجِيلَ، وَلَكِنَّ النِّكَاحَ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُوجِبًا لِهَذَا الْمِلْكِ عَلَيْهَا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ فَتَارَةً يُتَعَجَّلُ الْعِوَضُ بِالتَّسْمِيَةِ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ إلَى التَّأَكُّدِ بِالدُّخُولِ أَوْ الْفَرْضِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ تَارَةً يَثْبُتُ بِعِوَضٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَتَارَةً بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِنَفْسِ السَّبَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ كَالْمُسَمَّى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ هَذَا فَجَعَلَ يَرْدُدْهُ شَهْرًا، ثُمَّ قَالَ: أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ أَوْ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ وَأَبُو الْجَرَّاحِ صَاحِبُ الْأَشْجَعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَقَالَ: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا: بِرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةُ بِمِثْلِ قَضِيَّتِك هَذِهِ فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِذَلِكَ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ قَطُّ مِثْلَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ؛ لَمَّا وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: مَاذَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ إنَّمَا رَدَّهُ؛ لِمَذْهَبٍ تَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الرَّاوِيَ، وَلَمْ يَرَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يُحَلِّفَهُ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِالْمَهْرِ فَإِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا كَانَ مُوجِبًا لِلْعِوَضِ كَالْبَيْعِ، وَكَمَا لَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يَعْنِي تَبْتَغُوا مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى النِّسَاءِ بِالْمَالِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَدَلَّ أَنَّ الْعِوَضَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْمَهْرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالتَّقْدِيرِ تَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَجِبْ الْأَصْلُ بِالْعَقْدِ لَا تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّقْدِيرِ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ بِالْعَقْدِ شَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ، وَبَيَّنَ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِمَهْرٍ وَشُهُودٍ إلَّا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَحْبِسُ نَفْسَهَا؛ لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ، وَلَا تَحْبِسُ الْمُبْدَلَ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وَإِنْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ. وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالدُّخُولُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ فَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِمَا يَقُولُ: إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِمُعَاوَضَةِ الْمَالِ؛ إظْهَارًا لِخَطَرِ هَذَا الْمِلْكِ، وَهُنَا إظْهَارُ الْخَطَرِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْبَدَلِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ قُصِرَ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ، وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِلْعِوَضِ، وَسُقُوطُ الْعِوَضِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْقِطِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ، وَتَنَصُّفُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسَمَّى تَأَكَّدَ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْعَقْدِ جَمِيعًا فَلِتَأَكُّدِهِ لَا يَسْقُطُ كُلُّهُ لَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا بِالْمَوْتِ، وَالنَّفَقَةُ ضَعِيفَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ، وَالْمَوْتِ جَمِيعًا وَمَهْرُ الْمِثْلِ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، وَقَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَلِقُوَّتِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلِضَعْفِهِ مِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ كُلُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: نِسَاؤُهَا اللَّاتِي يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمُهُورِهِنَّ عَشِيرَتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا كَأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا، وَبَنَاتِ عَمَّاتِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أُمُّهَا وَقَوْمُ أُمِّهَا كَالْخَالَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قِيمَةُ بُضْعِ النِّسَاءِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَرَابَتُهَا مِنْ النِّسَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ جِنْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لَا مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أُمِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَكُونُ أَمَةً، وَالْبِنْتُ تَكُونُ قُرَشِيَّةً تَبَعًا لِأَبِيهَا فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ عَشِيرَتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ أُمِّهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ، فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا لَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّهَا بَلْ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ عَمِّ أَبِيهَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ عَشِيرَتِهَا امْرَأَةٌ هِيَ مِثْلُهَا فِي الْحُسْنِ، وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ، وَالْمَالِ وَالْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُهُورَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا» الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ بَلْدَتِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ عَشِيرَتِهَا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُهُورَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ عَادَةً. وَفِي الْحَاصِلِ مَهْرُ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى نَظِيرِهِ بِصِفَتِهِ قَالَ: فَإِنْ فَرَضَ لَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْعَقْدِ مَهْرًا فَرَضِيَتْ بِهِ أَوْ رَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَفَرَضَ لَهَا مَهْرًا فَهُوَ سَوَاءٌ، وَلَهَا ذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 بِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَهَا الْمُتْعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ يُقَدَّرُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ تَنَصُّفَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمَفْرُوضُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ اسْتَنَدَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ: تَتَنَصَّفُ الزِّيَادَةُ، وَالْأَصْلُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِثْلُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] أَيْ: مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ إلَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ: سَمَّيْتُمْ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ تَسْقُطُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ:) وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ: أَلْفٌ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: أَلْفَانِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُحَكَّمُ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي بَدَلِ عَقْدٍ لَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَهُنَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْمُسَمَّى، وَذَلِكَ مَانِعُ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَسْخِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ مَا يَقُولُهُ الزَّوْجُ، وَلَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ فَكَذَا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الشَّرْعِ مُوجِبٌ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ إلَّا بِتَسْمِيَةٍ صَحِيحَةٍ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسَمَّى يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ كَالصَّبَّاغِ وَرَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَإِنَّهُ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ قِيمَةِ الصِّبْغِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصَّارِ وَرَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِعَمَلِ الْقَصَّارِ مُوجِبٌ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ النِّكَاحُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ، وَبِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسَلُّمُ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ يَجِبُ التَّحَالُفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 بِخِلَافِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ. وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِائَةِ، وَالْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، وَالْمُتْعَةُ لَا تَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَلِهَذَا قَالَ: لَهَا نِصْفُ مَا يَقُولُهُ الزَّوْجُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَارَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَا يُصَارُ إلَى الْمُتْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَةٍ يَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيَكُونُ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطَ لَهَا مِنْ الْكَرَامَةِ، وَفِي مَعْنَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا قَوْلَانِ لِمَشَايِخِنَا. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا قَلِيلًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَهْرِ عَادَةً، فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا، وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ تَقْدِيرٌ شَرْعًا، وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: يَتَحَالَفَانِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ يُقْضَى لَهَا بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَالُفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ، وَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ ظُهُورَ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فَإِنَّ مَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُسَمَّى يَنْتَفِي بِيَمِينِ صَاحِبِهِ فَيَبْقَى نِكَاحًا بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى التَّحَالُفِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَأَصْلُ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّحَالُفِ، فَالتَّسْمِيَةُ تَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ، فَإِذَا تَحَالَفَا نُظِرَ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَلْفُ؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَالْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَّفِقَا ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ. فَأَمَّا إذَا مَاتَا مَعًا فَهُنَا فَصْلَانِ. (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَتَّفِقَ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ. (وَالثَّانِي): أَنْ يَخْتَلِفَ الْوَرَثَةُ فِي الْمُسَمَّى. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لِوَرَثَتِهَا فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَالْمُسَمَّى فَكَمَا لَا يَسْقُطُ الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَكَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى وَرَثَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى وَرَثَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ أَكُنْت تَقْضِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَفُوتُ هَذَا بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ، وَانْقَرَضَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا يُقْضَى بِمَهْرِ مِثْلِهَا. وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالنِّكَاحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْمُسَمَّى، وَهُوَ الْأَقْوَى، وَالنَّفَقَةُ وَهِيَ الْأَضْعَفُ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، فَالْمُسَمَّى لِقُوَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا وَمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَالنَّفَقَةُ لِضَعْفِهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ ذَلِكَ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اخْتَلَفُوا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هَلْ يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا. فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا كَالِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا، كَمَا لَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حَيَاتِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ عِنْدَهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَالُفِ وَتَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَبْقَى ظَاهِرُ الدَّعْوَى، وَالْإِنْكَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَوْا مِنْ الْمُسَمَّى فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِذَلِكَ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا كُلِّهِ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ إنَّمَا يُفَارِقُ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الطَّلَاقِ أَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَلَهَا مِنْ ذَلِكَ خَادِمٌ وَسَطٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وَبَيْتٌ وَسَطٌ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَادِمِ فِي النِّكَاحِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ أَوْ عَلَى أَمَةٍ فَلَهَا عَبْدٌ وَسَطٌ أَوْ أَمَةٌ وَسَطٌ، فَإِنْ أَتَاهَا بِالْعَيْنِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَكُونُ قِيَاسُ الْبَيْعِ، وَالْعَبْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عِوَضًا فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا أَصْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَصِحُّ مُسَمًّى عِوَضًا فِي الْبَيْعِ لَا يُسْتَحَقُّ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُسَمَّى مَهْرًا الْمَالِيَّةُ، وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْجِنْسِ بِدُونِ بَيَانِ الْوَصْفِ لَا تَصِيرُ الْمَالِيَّةُ مَعْلُومَةً فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ، وَالْغَرَرِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمَّى ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَكَذَلِكَ إذَا سَمَّى عَبْدًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي الدِّيَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَإِذَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ مُطْلَقًا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ شَرْعًا، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ هَذَا مَالٌ مُلْتَزَمٌ ابْتِدَاءً، وَالْجَهَالَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَبْدٍ صَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ عَيْنُهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ. وَهُنَا عَيْنُ الْمَهْرِ عِوَضٌ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ هَذَا الْتِزَامٌ مُبْتَدَأٌ، فَلِكَوْنِهِ عِوَضًا صَرَفْنَاهُ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّسْمِيَةِ إلَى الْوَسَطِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي الزَّكَوَاتِ الْوَسَطَ نَظَرًا إلَى الْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَبِكَوْنِهِ مَالًا يُلْتَزَمُ ابْتِدَاءً لَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ الصِّفَةِ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ كَالْعَيْنِ، وَلِلِاعْتِبَارِ بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ الدِّيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ احْتَجْنَا إلَى إيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ فِي الْمُسَمَّى إذَا كَانَتْ دُونَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجَهَالَةِ يَرْتَفِعُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هِيَ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْلَامِ فَجَهَالَةُ الْعَبْدِ الْمُسَمَّى جَهَالَةُ الصِّفَةِ دُونَ الْجِنْسِ فَأَمَّا جَهَالَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ جَهَالَةُ جِنْسٍ فَصَحَّحْنَا فِيهِ التَّسْمِيَةَ؛ لِيَحْصُلَ بِهَا التَّحَرُّزُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 عَنْ بَعْضِ الْجَهَالَةِ. فَأَمَّا جَهَالَةُ الثَّوْبِ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً مِنْ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ وَالْإِبْرَيْسِمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَالْمَحَالِّ وَالضِّيقِ، وَالسَّعَةِ وَكَثْرَةِ الْمَرَافِقِ وَقِلَّتِهَا، فَكَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُصَحِّحْ التَّسْمِيَةَ مَعَ جَهَالَةِ الْوَصْفِ هُنَاكَ لَا نَحْتَاجُ إلَى إيجَابِ جَهَالَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ، وَيَعُودُ إلَيْهِ عِوَضُهُ، وَهُوَ مَعْلُومٌ. فَأَمَّا إذَا سَمَّى فِي الْمَهْرِ بَيْتًا فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَتَاعُ الْبَيْتِ عَادَةً دُونَ الْبَيْتِ الْمُسَمَّى، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعِرَاقِ يَتَزَوَّجُ عَلَى بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ فَيُرِيدُونَ مَتَاعَ الْبَيْتِ مِمَّا تُجَهَّزُ بِهِ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قِيمَةُ الْبَيْتِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَقِيمَةُ الْخَادِمِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ عَلَى قَدْرِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَصَرَ فَتْوَاهُ عَلَى مَا شَاهَدَهُ فِي زَمَانِهِ، وَهُمَا زَادَا عَلَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا الْفَتْوَى فِي الْأَوْقَاتِ، وَالْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَا فَإِنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ. (قَالَ:) وَالْوَسَطُ مِنْ الْخَادِمِ السِّنْدِيِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَرْفَعَ الْخَدَمِ الْأَتْرَاكُ، وَأَدْنَى الْخَدَمِ الْهُنُودُ فَالسِّنْدِيُّ هُوَ الْوَسَطُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ فِي بِلَادِنَا قَلَّمَا يُوجَدُ السِّنْدِيُّ فَالْوَسَطُ أَدْنَى الْأَتْرَاكِ وَأَعْلَى الْهُنُودِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ أَبْيَضَ فَلَهَا خَمْسُونَ دِينَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَةِ الْوَسَطِ وَالْجَيِّدِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِهِ كَانَ هَذَا التَّفَاوُتُ بِقَدْرِ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَلِهَذَا قَدَّرَهُ بِهِ، وَإِنْ أَعْطَاهَا وَصِيفًا أَبْيَضَ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَفَّى لَهَا بِمَا شَرَطَ، وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ أَدَاءَ الْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ أَدَاءَ الْعَيْنِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ فَلَهَا بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَادِمٍ فَلَهَا خَادِمٌ وَسَطٌ مِمَّا يُعْرَفُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّسْمِيَةِ الْعُرْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِلْعُرْفِ فَهُنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ أَيْضًا، وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْبَيْتُ مِنْ الشَّعْرِ، وَفِي مَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مَتَاعُ الْبَيْتِ فَصَرَفْنَا التَّسْمِيَةَ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ تَرَهُ فَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ صِفَةِ اللُّزُومِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ فَكَذَلِكَ فِي عِوَضِهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يُتَمَكَّنَّ بِهِ مِنْ إعَادَةِ الْعِوَضِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ إلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ يَحْصُلُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ، وَفِي النِّكَاحِ لَا يَحْصُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ كَالْعَيْنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ لَا تَرُدُّ الصَّدَاقَ بِالْعَيْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: كُلُّ عَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي الْبَيْعِ يُرَدُّ بِهِ فِي الصَّدَاقِ. وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنَّ عِنْدَهُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُسَمَّى فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا لَا تُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَيْنِ الشَّيْءِ، وَبِهِ عَيْبٌ يَسِيرٌ، وَبَيْنَ قِيمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا فَتُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ صَحِيحًا، وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ، أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ يُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ مِقْدَارَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي الْأَسْوَاقِ فَهُوَ عَيْبٌ فَاحِشٌ، وَإِذَا كَانَ يُنْقِصُ بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ بَيْنَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ، وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ أَصْلِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ مِمَّا يَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ بِالرَّدِّ كَالْبَيْعِ، وَلَكِنْ بُطْلَانُ التَّسْمِيَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ كَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمُسَمَّى هُوَ الْعَقْدُ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ التَّسْمِيَةِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَلَكِنْ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ كَمَا الْتَزَمَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ إذَا أَبِقَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا هَلَكَ الصَّدَاقُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ عِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ كَمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ بِالْهَلَاكِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُسَمَّى؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فَأَمَّا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ إلَّا لِرَفْعِ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ فَتَبْطُلُ بِهِ التَّسْمِيَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ، وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَجَرَ الصَّدَاقَ فَالْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْغَاصِبُ إذَا أَجَرَ الْمَغْصُوبَ فَالْأَجْرُ لَهُ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 الْأَجْرُ لَهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ مَالٌ، وَالْأَجْرُ بَدَلُ مَا هُوَ مَالٌ لَهَا، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقْرِ وَأَرْشِ الطَّرَفِ، وَعِنْدَنَا الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا تُتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الزَّوْجُ فَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِهِ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مُتَقَوِّمًا، فَهُوَ كَمَنْ صَنَعَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ يَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ. (قَالَ:) فَإِنْ وَلَدَتْ أَوْ اكْتَسَبَتْ مَالًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمَرْأَةِ مَعَهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ نَوْعَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ. فَالْمُتَّصِلَةُ: كَالسِّمَنِ فِي الْجَارِيَةِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ. وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ: إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ، وَالثِّمَارِ، وَالْعُقْرِ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُسَلَّمُ لِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ كَانَ سَالِمًا لَهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُتَّصِلَةً تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ مَعَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْحَادِثُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ الْمَبِيعَةِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ هُنَاكَ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ حَتَّى يَصِيرَ بِمُقَابِلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا الْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لَا تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ يُسَلَّمُ الْكُلُّ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى يَبْطُلَ مِلْكُهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ يُسَلَّمُ لَهَا الْكَسْبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا يَدُورُ الْكَسْبُ مَعَ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا اُكْتُسِبَ كَسْبًا ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي، وَعِنْدَهُمَا هُوَ لِلْبَائِعِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَسْبَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الْوَلَدِ فَكَمَا لَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ مَا بَطَلَ مِلْكُهَا عَنْ الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ هَذَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهَا عَنْ الْأَصْلِ بِحُكْمِ انْفِسَاخِ السَّبَبِ فِيهِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ مُتَوَلِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ، فَبَعْدَ مَا انْفَسَخَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَهَا فِي الْأَصْلِ لَا يَبْقَى سَبَبًا لِمِلْكِ الزِّيَادَةِ لَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: السَّبَبُ الَّذِي بِهِ مَلَكَتْ الْكَسْبَ لَمْ يَنْفَسِخْ فَيَبْقَى مِلْكُ الْكَسْبِ لَهَا كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْكَسْبِ إمَّا قَبُولُ الْعَبْدِ الْهِبَةَ أَوْ إجَارَتُهُ نَفْسُهُ، وَاكْتِسَابُهُ مِنْ حَيْثُ الِاحْتِطَابُ، وَالِاحْتِشَاشُ وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَنْفَسِخُ بِالطَّلَاقِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الِاكْتِسَابَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الْمُكْتَسِبُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَمَنْ يَخْلُفُهُ، وَهُوَ مَوْلَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ؛ لِوَصْلَةِ الْمِلْكِ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الِاكْتِسَابِ، ثُمَّ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَيْسَ الْكَسْبُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَسْرِي إلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ مُكَاتَبًا، وَكَسْبَهَا لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا، وَوَلَدُ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكُونُ مَبِيعًا يُقَابِلُهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَكَسْبُ الْمَبِيعِ لَا يَكُونُ مَبِيعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ قَبَضَ مَعَ الْأَصْلِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَتْ الْمَرْأَةُ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ. لِأَنَّ حُكْمَ التَّنَصُّفِ عِنْدَ الطَّلَاقِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ حِينَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَبْضِهَا، وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَصْلَ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ، فَهُوَ سَالِمٌ لَهَا وَرَدَّتْ نِصْفَ الْأَصْلِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْكَسْبِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهَا وَيَدِهَا فَيَكُونُ سَالِمًا لَهَا، وَإِنْ لَزِمَهَا رَدُّ الْأَصْلِ أَوْ بَعْضُهُ كَالْمَبِيعِ إذَا اُكْتُسِبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ يَبْقَى الْكَسْبُ سَالِمًا لَهُ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»، وَقَدْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ضَمَانِهَا فَمَنْفَعَتُهُ تُسَلَّمُ لَهَا، وَالْكَسْبُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثِّمَارِ؛ يَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ وَعَوْدَ الْكُلِّ إلَيْهِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَلَكِنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ أَوْ جَمِيعُ قِيمَتِهِ يَوْمَ دَفَعَ إلَيْهَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ بِالطَّلَاقِ، وَيَعُودُ الْكُلُّ إلَى الزَّوْجِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا؛ لِأَنَّ بِقَبْضِهَا لَا يَتَأَكَّدُ مِلْكُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بَلْ تَوَهُّمُ عَوْدِ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْكُلِّ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ثَابِتٌ فَيَسْرِي ذَلِكَ الْحَقُّ إلَى الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي، وَازْدَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً فَإِنَّ الْبَائِعَ يَسْتَرِدُّهَا بِزِيَادَتِهَا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: فِي الطَّلَاقِ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ رِدَّتِهَا يَسْتَرِدُّ مِنْهَا الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَفْسَخُ السَّبَبَ مَعَ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِحُكْمِ انْفِسَاخِ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ، وَهُنَا كَحُكْمِ الرَّدِّ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ حَلُّ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِفَسْخٍ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يُثْبِتُ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا فِي يَدِهِ. وَيَتَعَذَّرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 تَنَصُّفُ الزِّيَادَةِ بِتَعَذُّرِ تَنَصُّفِ الْأَصْلِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مَلَكَتْ الصَّدَاقَ بِالْعَقْدِ، وَتَمَّ مِلْكُهَا بِالْقَبْضِ فَالزِّيَادَةُ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكٍ تَامٍّ لَهَا، وَحُكْمُ التَّنَصُّفِ عِنْدَ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ مَا كَانَتْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ لَا حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا إذَا لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَتَعَذَّرَ تَنَصُّفُهَا، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ تَنَصُّفُهَا بِتَعَذُّرِ تَنَصُّفِ الْعَيْنِ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَبِيعِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ إذَا كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَوْهُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَإِذَا رَجَعَ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ سَالِمًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ الزِّيَادَةُ لَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَمَّا الْبَيْعُ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةً فَبَعْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الزِّيَادَةِ لَوْ أَثْبَتْنَا حُكْمَ الرَّدِّ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ الْمِلْكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ رَفْعِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ وَجَبَ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلزَّوْجِ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَإِنَّمَا دَخَلَ الصَّدَاقُ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةَ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ، وَالْجَمَالِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هَذَا، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ سَوَاءٌ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ بِزِيَادَتِهِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدٍ، وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَازْدَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ بِزِيَادَتِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً. وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِمَنْزِلَةِ الشَّعْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ بِاعْتِبَارِهَا كَزِيَادَةِ الشَّعْرِ فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْهُوبَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِيهَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ بِعَقْدِ ضَمَانٍ فَالْقَبْضُ بِحُكْمِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الْعَيْنِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَاهِبِ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ حَتَّى تَسْرِيَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا قَبْضُهَا الصَّدَاقَ قَبْضَ ضَمَانٍ وَثُبُوتُ الضَّمَانِ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْأَصْلِ فَيَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: هَذِهِ الزِّيَادَةُ حَدَثَتْ مِنْ مِلْكٍ صَحِيحٍ تَامٍّ لَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 فَيَكُونُ سَالِمًا لَهَا بِكُلِّ حَالٍ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَإِذَا تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الْأَصْلِ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ لَا عِوَضًا عَنْ مَالٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فِي الصِّلَاتِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ كَالْمَوْهُوبِ، وَتَأْثِيرُ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي الصِّلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ حَتَّى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ فِي الْهِبَةِ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَالْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ ثُمَّ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ هُنَا تَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ فَالْمُتَّصِلَةُ أَوْلَى، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ هُنَاكَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَاصَّةً، وَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ فِي يَدِهَا بَعْدَمَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ صَارَ رَدُّ نِصْفِ الْأَصْلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا فَيَسْرِي ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ كَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يُرَدُّ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. فَأَمَّا حُكْمُ النُّقْصَانِ فَإِنْ تَعَيَّبَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ فَكَذَا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهَا شَرْطُ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ، وَبِالتَّعَيُّبِ قَدْ تَغَيَّرَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بِالصَّدَاقِ عَيْبٌ فَاحِشٌ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا): أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِقِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ تَزْوِيجِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْمَعِيبَ، وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ سَلِيمًا كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، وَإِذَا أَرَادَتْ رَجَعَتْ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْأَخْذَ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً بِالْعَقْدِ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَهَا أَنْ تُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ. (وَالثَّانِي): أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 الزَّوْجِ فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغَيُّرِ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْأَخْذَ ضَمَّنَتْ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَقُّ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ، وَالْبَائِعُ إذَا عَيَّبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِلْمُشْتَرِي فَهَذَا مِثْلُهُ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الصَّدَاقِ، وَلَوْ أَتْلَفَ الْكُلَّ ضَمِنَ قِيمَةَ الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ لَوْ أَتْلَفَ الْكُلَّ لَمْ يَضْمَنْهُ فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْجُزْءَ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَفِي مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِهِ فَصَّلْنَا بَيْنَ الْعَيْبِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ وَبِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ حَتَّى إنَّهُ إذَا تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَهُنَا أَيْضًا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَضْمُونًا بِهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مِنْ الزَّوْجِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَوْصَافِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَوْصَافَ مَقْصُودًا. (الثَّالِثُ): أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِهِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَذَا كَالْعَيْبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّبِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ الْمَضْمُونِ كَفِعْلِ الضَّامِنِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ. (الرَّابِعُ): إنْ حَصَلَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَيَكُونُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغَيُّرِ فَإِذَا اخْتَارَتْ الْأَخْذَ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ النُّقْصَانِ، وَإِنْ اخْتَارَتْ تَضْمِينَ الزَّوْجِ الْقِيمَةَ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ النُّقْصَانِ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ الْعَيْنَ، وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ لَهَا؛ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ مِنْ الزَّوْجِ فِي التَّعَيُّبِ. (الْخَامِسُ): أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَتَصِيرُ بِهِ قَابِضَةً لِلصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَتَكُونُ قَابِضَةً لِذَلِكَ الْجُزْءِ بِالْإِتْلَافِ، وَلِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِالتَّخَلِّي، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِيمَا إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ فِي حَقِّ النِّصْفِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْكُلِّ إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَأَمَّا إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا: أَمَّا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهَا نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَتْ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّ النِّصْفِ كَمَا قَبَضَتْ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ نَاقِصًا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا مِلْكًا تَامًّا فَتَعَيُّبُهُ فِي يَدِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 لَا يُلْزِمُهَا شَيْئًا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَالتَّعَيُّبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا صَادَفَ مِلْكًا صَحِيحًا لَهَا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ فِعْلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ صَادَفَ مِلْكَهَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعَيُّبُ فِي يَدِهَا بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَيَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي جِنَايَتِهِ عَلَى الصَّدَاقِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ تَنَصُّفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ التَّعَيُّبُ فِي يَدِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْأَصْلِ مَعَ نِصْفِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فَسَدَ فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ، وَصَارَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ فِي يَدِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهَا ضَمَانُ النُّقْصَانِ إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَالْأَرْشُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ. وَوَقَعَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ التَّعَيُّبَ فِي يَدِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا ذَكَرْنَا. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ جَارِيَةً فَلَمْ تَقْبِضْهَا الْمَرْأَةُ حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَى وَلَدَهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَالِاسْتِيلَادُ فِي مِلْكِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ لَزِمَهُ الْعُقْرُ فَكَانَ الْعُقْرُ مَعَ الْوَلَدِ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْعُقْرُ بَدَلٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ الْكُلُّ، فَتَكُونُ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَثْبُتُ لَهَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ غَيْرُ ثَابِتٍ هُنَا فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ نِصْفُ الْوَلَدِ يُعْتَقُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ وَلَدِهِ مِنْ الزِّنَا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَيَسْعَى لِلْمَرْأَةِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْوَلَدِ، وَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا صَنَعَهُ فِي الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِإِعْتَاقِ الْوَلَدِ، بَلْ مِنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ عَوْدُ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ، ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ حُكْمًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 لِمِلْكِهِ، وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّ الْعُقْرَ تَنَصَّفَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قَتَلَتْ الْخَادِمَ أَوْ مَاتَتْ عِنْدَ الْمَرْأَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَا لَاقَى مِلْكَ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ حِينَ قَتَلَهَا كَانَ الْخَادِمُ مِلْكًا لِلْمَرْأَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ شَيْئًا. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ ازْدَادَتْ فِي يَدِهَا زِيَادَةً مُتَّصِلَةً فَهَلَكَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَتْ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا بِالْإِتْلَافِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهَا بِالْقَبْضِ تَصِيرُ ضَامِنَةً لِلزَّوْجِ نِصْفَ قِيمَتِهَا حِينَ قَبَضَتْ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَنَصَّفَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَنْصِيفِ الْأَصْلِ هُوَ الزِّيَادَةُ فَحِينَ مَاتَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ بَدَلًا صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَلَدًا، وَقَدْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ؛ لِلنُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي يَدِهَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي اسْتَهْلَكَتْ الْوَلَدَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَلَدَتْ فَأَتْلَفَ الْمُشْتَرِي وَلَدَهَا، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهَلَكَ الْوَلَدُ لَمْ يَضْمَنْ الزَّوْجُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَهَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَكِنْ إنْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَ الْأَصْلَ، وَالزِّيَادَةَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهَا بِالْإِتْلَافِ كَالْمَغْصُوبَةِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَ لَهَا نِصْفَ الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةَ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ فَأَعْتَقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهَا فِي الْكُلِّ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهَا ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ضَمَّنَهَا نِصْفَ قِيمَتِهَا يَوْمَ أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْإِعْتَاقِ تَصِيرُ قَابِضَةً مُتْلِفَةً. (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَبَضَتْ الصَّدَاقَ، وَهُوَ جَارِيَةٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ حُكْمَ التَّنْصِيفِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَيَعُودُ نِصْفُهَا إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: سَبَبُ مِلْكِهَا فِي النِّصْفِ يَفْسُدُ بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا رَدَّ النِّصْفِ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهَا فِي شَيْءٍ إلَّا بِالرَّدِّ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 لِأَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَ الْمِلْكِ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ. (قَالَ:) وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا، وَقَدْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي، وَأَعْتَقَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهَا بَعْدَ مَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهَا أَوْ رَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ النِّصْفَ بِالتَّرَاضِي نَفَذَ عِتْقُهُ فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَتْ الْجَارِيَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ نَفَذَ عِتْقُهَا فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَتْ أَوْ وَهَبَتْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْكُلِّ بَاقٍ لَهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَتَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلزَّوْجِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَلَوْ وُطِئَتْ الْجَارِيَةُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى غَرِمَ الْوَاطِئُ عُقْرَهَا فَحُكْمُ الْعُقْرِ كَحُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَكَحُكْمِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ. (قَالَ:) وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي تَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الدَّارِ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ لِلْجَارِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ أَصْلًا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِبُ الشُّفْعَةُ. (قَالَ:)، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ كَالْمَمْلُوكِ بِالشِّرَاءِ، فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ الْعِوَضِ، وَالْعِوَضُ هُوَ الْبُضْعُ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَعِنْدَنَا وُجُوبُ الشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقٍ، وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ فَكَانَ الْمَمْلُوكُ صَدَاقًا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْهُوبِ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَمَلَّك الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا فِي إنْشَاءِ سَبَبٍ آخَرَ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَوْهُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِعِوَضٍ فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ غَيْرَ السَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ، فَكَذَلِكَ هُنَا الْمَرْأَةُ إنَّمَا مَلَكَتْ الدَّارَ بِالنِّكَاحِ صَدَاقًا فَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ كَانَ شِرَاء فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ بِعَيْنِ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ شِرَاءٌ مُطْلَقٌ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَجِبْ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ الدَّارُ عَلَى الْأَلْفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 وَعَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا يَخُصُّ الْأَلْفَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا يَخُصُّ الْأَلْفَ شِرَاءٌ، وَفِي مَا يَخُصُّ الْبُضْعَ نِكَاحٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الشِّرَاءِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ يَثْبُتُ فِيهِ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الصَّفْقَةُ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا وَعَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ دُونَ الْعَبْدِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْبَيْعَ هُنَا تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ النِّكَاحَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَوَقَّفُ حِصَّةُ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ إذَا حَصَلَ الْعَقْدُ مِنْ فُضُولِيٍّ، وَالشِّرَاءُ مَقْصُودًا لَا يَتَوَقَّفُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبُولِ حَتَّى إذَا قَالَ: زَوِّجِينِي نَفْسَك عَلَى هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ تَرُدِّي عَلَيَّ أَلْفًا فَقَالَتْ: فَعَلْت يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولِ الزَّوْجِ، وَإِنَّهَا لَوْ قَبِلَتْ حِصَّةَ النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ صَحَّ، وَلَوْ قَبِلَتْ حِصَّةَ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشِّرَاءَ تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ فَنَقُولُ: إذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ التَّبَعِ كَالْعَرْصَةِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا كَانَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْأَصْلِ فَوَاتُ وَصْفٍ هُوَ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ كَالصَّفَائِحِ مِنْ الذَّهَبِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِالْفِضَّةِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الصَّرْفِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى كَذَا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ فَلَهَا الْعَدَدُ الْمُسَمَّى مِنْ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَإِنْ أَتَى بِقِيمَةِ ذَلِكَ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:) وَالْأَثْوَابُ الْهَرَوِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِعَيْنِهِ فَلَهَا ذَلِكَ الثَّوْبُ إنْ كَانَ هَرَوِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَرَوِيًّا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهَا قِيمَةُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَسَطٍ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِقِيمَةِ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَسَطٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى عَيْنِ ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَلَكِنَّهَا وَجَدَتْهُ عَلَى خِلَافِ شَرْطِهَا فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى دُونَ الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مَعْرُوفٌ نُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 تَعَالَى، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ فَإِنْ أَتَاهَا بِالثَّوْبِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ لَا تَثْبُتُ عَيْنُهُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا وَزُفَرُ يَقُولُ: الثَّوْبُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا ثُبُوتًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَالثَّوْبُ فِي ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ بَيَّنَ صِفَةَ هَذَا الثَّوْبِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ إذَا أَتَاهَا بِهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا، وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعِنْدَ ذِكْرِ الْأَجَلِ يَثْبُتُ الثَّوْبُ دَيْنًا ثُبُوتًا صَحِيحًا، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْأَجَلِ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ وَصْفِهِ يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ. وَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ هُنَاكَ مِنْ حُكْمِ السَّلَمِ لَا مِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ الثِّيَابِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَيَسْتَوِي فِي هَذَا إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ سَلَمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ دَيْنًا ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا. (قَالَ:) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَهُ؛ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ إذَا أَتَاهَا بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا ثُبُوتًا صَحِيحًا حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا بِدَلِيلِ جَوَازِ اسْتِقْرَاضِهَا، وَالسَّلَمِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الصِّفَةَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهَا بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ بِدُونِ الصِّفَةِ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى صَحَّتْ بِذِكْرِ الْجِنْسِ تَعَيَّنَ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ فَمَا تَعَيَّنَ مِنْ الْوَصْفِ شَرْعًا يَكُونُ كَالْمَذْكُورِ نَصًّا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ. (قَالَ:) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يُكْمِلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مَا سَمَّى، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ، وَعِنْدَنَا أَدْنَى الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مِمَّا تَكُونُ الْفِضَّةُ فِيهِ غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَهْرُ جَائِزٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «الْمَهْرُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فَقَدْ اسْتَحَلَّ»، وَرُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً فَقَالَ: مَالِي حَاجَةٌ إلَى النِّسَاءِ فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْت فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْهَا مِنِّي فَقَالَ: مَاذَا تُصْدِقُهَا؟ فَقَالَ: إزَارِي هَذِهِ فَقَالَ: إذًا قَعَدْتَ، وَلَا إزَارَ لَك الْتَمِسْ، وَلَوْ بِفَلْسٍ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: هَلْ تُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا فَقَالَ: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا عِنْدَك مِنْ الْقُرْآنِ» فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الشَّرْطُ هُوَ الْمَالُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ الْمَالِ بِالْعَشَرَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا لَا يُزَوِّجْ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدٍ لَمْ يُجْعَلْ إيجَابُ أَصْلِهِ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا كَالدِّيَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا إلَّا مُوجِبًا لِلْعِوَضِ إمَّا فِي الْحَالِ، أَوْ فِي الثَّانِي عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِيهِ شَرْعًا؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَصْلِ الْمَالِيَّةِ فَاسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْخَطِيرَ، وَالْحَقِيرَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إظْهَارُ الْخَطَرِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50]، وَالْبُضْعُ مِنْ وَجْهٍ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ حُكْمُ الْفِعْلِ فِيهِ بِالْبَدَلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ؛ لِإِعْلَاقِ النَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مِلْكٍ يَضِيعُ؛ لِانْعِدَامِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخَطَرُ هُنَا فِي مَعْنَى الْخَطَرِ فِي النُّفُوسِ، وَالْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْ النُّفُوسِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَهُوَ الدِّيَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَوَلَّى بَيَانَ مِقْدَارِهِ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، فَكَذَا الصَّدَاقُ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] الْآيَةَ مَعْنَاهُ مَا قَدَّرْنَا فَإِنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَعَلَى هَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِهِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْبَدَلِ فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ. وَتَأْوِيلُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيمَا يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالِالْتِمَاسِ، وَالصَّدَاقُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الذِّمَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا عِنْدَنَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَلَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 عَنْهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا خَمْسَةٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا شَرْعًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَمَّى لَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ. (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا صَدَاقًا لَا تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نِصْفَهَا صَحَّ النِّكَاحُ فِي الْكُلِّ جَمِيعًا. (الثَّانِي): أَنَّ الْإِمْهَارَ إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ حَقُّ الشَّرْعِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَقُّهَا فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْخَمْسَةِ فَقَدْ أَسْقَطَتْ مَا هُوَ حَقُّهَا، وَبَعْضَ مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ فَيَعْمَلُ إسْقَاطُهَا فِيمَا هُوَ حَقُّهَا، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَا يَعْمَلُ فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً فَلَهَا الثَّوْبُ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الثَّوْبِ وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّوْبِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى لَهَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ وَاعْتِبَارَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالثَّوْبُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَبْضِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلَى قَوْلِهِ {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]، وَأَدْنَى الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ، وَمِلْحَفَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُصَلِّي فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَتَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مُتْعَةً لَهَا تَذْكِرَةً مِنْ الزَّوْجِ إذَا فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُتْعَةُ شَيْءٌ نَفِيسٌ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ خَادِمٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمُتْعَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا الْمُتْعَةُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النِّكَاحُ الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ أَقْوَى مِمَّا لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ لَا يَجِبُ لَهَا بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ مَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ قَبْلَ الطَّلَاقِ مَهْرَ الْمِثْلِ فَلَا تُزَادُ الْمُتْعَةُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ تَتَرَجَّحُ الْمُتْعَةُ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ عَلَى مَا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 بَطْنِ أَغْنَامِهِ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا، وَمَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ بِغَرَضِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِالِانْفِصَالِ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْخُلْعِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فَالْعِوَضُ الْآخَرُ كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ فَإِذَا سَمَّى مَا فِي الْبَطْنِ فَكَأَنَّهُ أَضَافَ التَّسْمِيَةَ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَفِي النِّكَاحِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ فَالْعِوَضُ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَالْمُسَمَّى فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا تَحْمِلُ نَخْلَةٌ أَوْ تُخْرِجُ أَرْضُهُ الْعَامَ أَوْ عَلَى مَا يَكْتَسِبُ غُلَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ، وَتَأْثِيرُ الْعَدَمِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجَهَالَةِ فَإِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ تَسْمِيَةُ مَجْهُولِ الْجِنْسِ كَالثَّوْبِ، وَالدَّابَّةِ فَتَسْمِيَةُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى أَنْ لَا تَصِحَّ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَتْهُ حُرًّا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ فَإِذَا هِيَ مَيْتَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: سَمَّى لَهَا فِي الْعَقْدِ مَالًا، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَالذَّكِيَّةُ، وَالْخَلُّ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى بِمَا ظَهَرَ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْمِثْلُ فِيمَا هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى بِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الزَّوْجِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ حُرًّا فَقَدْ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ فَيُجْعَلُ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ إيَّاهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ كَانَ لَهَا قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْأَصْلُ أَنَّ الْإِشَارَةَ، وَالتَّسْمِيَةَ إذَا اجْتَمَعَتَا فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى، فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ، وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ، وَلَوْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتٌ أَصْفَرُ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْحُرُّ وَالْعَبْدُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ حُرٌّ ثُمَّ يَتَعَرَّضُ الرِّقُّ فِيهِ، وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافٌ لِذَلِكَ الرِّقِّ الْعَارِضِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 فَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْجِنْسِ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ إمَّا بِاخْتِلَافِ الْأَصْلِ أَوْ الْهَيْئَةِ أَوْ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَهُوَ الْحُرُّ دُونَ الْمُسَمَّى، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِخِلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ. فَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْخَمْرِ، وَالْخَلِّ قَالَ: هُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ الْخَلُّ فَقَطْ لَا يَصِيرُ فِي مِثْلِ حَالِ الْخَمْرِ، وَالْخَمْرُ اسْمٌ لِعَيْنٍ حَرَامٍ، وَالْخَلُّ اسْمٌ لِمَطْعُومٍ حَلَالٍ فَكَانَا جِنْسَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى، وَالْمُسَمَّى هُوَ الْخَلُّ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْخَلُّ وَالْخَمْرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْأَصْلَ وَاحِدٌ، وَالْهَيْئَةُ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ أَوْصَافٌ تَتَعَرَّضُ عَلَى الْعَيْنِ فَلَا تُوجِبُ تَبْدِيلَ الْجِنْسِ كَالصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ فِي الْآدَمِيِّ فَإِنَّ الْحَلَاوَةَ فِي الْعَصِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَاوَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الصِّغَرِ، ثُمَّ الشِّدَّةُ فِي الْخَمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحِدَةِ، وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الشَّبَابِ، ثُمَّ الْحُمُوضَةُ فِي الْخَلِّ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الشَّيْخُوخَةِ فَكَمَا أَنَّ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ لَا يَخْتَلِفُ جِنْسُ الْآدَمِيِّ، فَكَذَلِكَ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ فِي الْعَصِيرِ، فَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مِثْلُهَا. (قَالَ:) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَمَةٍ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهَا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْوَلَدِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا، وَلَا يَكُونُ حَالُهُ أَعْلَى مِنْ حَالِ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَكِنْ لَهَا الْأَمَةُ إنْ دَخَلَ بِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا إنْ كَانَ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ يَسِيرًا كَمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ سِوَى نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا فَلَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْجَارِيَةَ، وَلَا يَضْمَنُ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْ النُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَتْ قِيمَتَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ كَالْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ، وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ جَابِرًا لِذَلِكَ النُّقْصَانِ. فَأَمَّا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ ظَهَرَ النُّقْصَانُ؛ لِانْعِدَامِ مَا يَجْبُرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي الْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَتَلَ الْوَلَدَ ضَمِنَ لَهَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالْإِتْلَافِ فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْوَلَدِ، فَيَكُونُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ فَعَلَيْهِ تَمَامُ ذَلِكَ بِهِ أَجَابَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ غَلَطٌ فَقَدْ بَيَّنَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْ قَدْرِ النُّقْصَانِ، وَلَكِنَّهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا. (قَالَ:) وَإِذَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 رَهْنًا بِصَدَاقِهَا، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الصَّدَاقِ فَهَلَكَ عِنْدَهَا فَهُوَ كَمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الصَّدَاقِ يُسْتَوْفَى كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَالرَّهْنُ يُثْبِتُ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ وَيَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» فَصَارَتْ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيَةً لِصَدَاقِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَتْ حَقِيقَةً فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ضَمَّنَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ كَمَا لَوْ كَانَتْ اسْتَوْفَتْ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ هَلَاكُ الرَّهْنِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ غَرِمَهُ الزَّوْجُ، وَلَوْ سَقَطَ الْكُلُّ بِإِبْرَائِهَا خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ النِّصْفُ فَإِنَّمَا يَبْقَى ضَمَانُ الرَّهْنِ بِمَا بَقِيَ، وَعِنْدَ هَلَاكِهِ إنَّمَا صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِمَا بَقِيَ فَلِهَذَا لَا تَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ كَانَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ وَاجِبًا هُنَاكَ فَصَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِلْكُلِّ فَلِهَذَا لَزِمَهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. (قَالَ:) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ وَرَهَنَ عِنْدَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا صَحَّ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ كَالْمُسَمَّى فِي كَوْنِهِ دَيْنًا وَاجِبَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ، وَفِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُتْعَةِ هُنَا كَنِصْفِ الْمُسَمَّى هُنَاكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَالرَّهْنُ قَائِمٌ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ لِوَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُتْعَةَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي النِّكَاحِ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ مَا يَجِبُ بَعْدَ الطَّلَاقِ جُزْءٌ مِمَّا كَانَ فِيهِ، فَكَذَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْضُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ سُقُوطِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْأَصْلِ، وَالْخَلَفِ، ثُمَّ الرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ كَالرَّهْنِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِقِيمَتِهَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُتْعَةَ دَيْنٌ حَادِثٌ سِوَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمَحْبُوسُ بِدَيْنٍ لَا يَكُونُ مَحْبُوسًا بِدَيْنٍ آخَرَ سِوَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ الْمُتْعَةَ ثِيَابٌ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ النُّقُودِ؛ وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا، وَالْمُتْعَةُ تَذْكِرَةٌ لَهَا، وَلَا يَلْتَقِيَانِ بِحَالٍ فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَالْمُتْعَةُ تَجِبُ بَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَفِيلَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا بِالْمُتْعَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا دَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ بِأَحَدِهِمَا مَحْبُوسًا بِالْآخَرِ فَإِذَا هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا قَبْلَ أَنْ تَمْنَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ضَمَانٌ، وَلَكِنَّهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمُتْعَةِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَ الزَّوْجَ بِالْمُتْعَةِ، وَإِنْ مَنَعَتْ الرَّهْنَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ حَتَّى هَلَكَ فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ لِحَقٍّ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: هِيَ ضَامِنَةٌ لِلزَّوْجِ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ غَاصِبَةً ضَامِنَةً (قَالَ:) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ دَارًا فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ تَقْدِيرُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الدَّارَ وَتَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمُتْعَةِ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْعَقْدِ مَهْرًا ثُمَّ بَاعَهَا دَارِهِ بِهِ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الدَّارَ شِرَاءً بِالْمَهْرِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَتْ الدَّارُ سَالِمَةً لَهَا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ، وَلَكِنَّهَا تَرُدُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِلصَّدَاقِ بِالشِّرَاءِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا هَذِهِ الدَّارَ وَيُعْطِيَهَا إيَّاهَا مَهْرًا أَوْ قَالَ: أَتَزَوَّجُك عَلَى هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَهَا فَأُسَلِّمَهَا إلَيْك كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهَا ذَلِكَ، وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَاجِبٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّارِ لَهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ لَا تُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا يُقَابِلُ الصَّدَاقَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيهِ صِفَةُ الْحِلِّ، فَكَذَا فِي الصَّدَاقِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ وُجِدَ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ عَلَى الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ كَالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَكَمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ فَاسْتُحِقَّ نِصْفُهَا خُيِّرَتْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ نِصْفَ الدَّارِ لَا يُشْتَرَى بِنِصْفِ مَا يُشْتَرَى بِهِ جَمِيعُ الدَّارِ عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ عَيْبٌ فَاحِشٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ النِّصْفَ الْبَاقِي بِالْعَيْبِ وَرَجَعَتْ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الدَّارِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ وَرَجَعَتْ بِنِصْفِ قِيمَةِ الدَّارِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 كَانَ لَهَا النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِ الدَّارِ، وَنِصْفُ الدَّارِ سَالِمٌ لَهَا فَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ آخَرَ عَلَيْهِ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ زَادَ فِيهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبُيُوعِ، وَدَلِيلُنَا لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] مَعْنَاهُ مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ فِي السِّرِّ وَسَمَّعَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَا تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ عَلَى مَهْرٍ ثُمَّ تَعَاقَدَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَالْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ مَا كَانَتْ لَازِمَةً وَجُعِلَ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي مَهْرِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الَّذِي فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ سُمْعَةٌ فَحِينَئِذٍ الْمَهْرُ مَا سَمَّى لَهَا فِي السِّرِّ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْإِشْهَادِ أَظْهَرَا أَنَّ مُرَادَهُمَا الْهَزْلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ، وَالْهَزْلُ بِبَعْضِ الْمُسَمَّى مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: كَمَا لَا يَعْمَلُ الْهَزْلُ فِي جَانِبِ الْمَنْكُوحَةِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الصَّدَاقِ فَيَكُونُ مَهْرُهَا مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَا أَنَّهُمَا يُجَدِّدَانِ الْعَقْدَ بِأَلْفَيْنِ سُمْعَةً، فَالْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لَغْوٌ وَبِالْإِشْهَادِ عَلِمْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّعَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا فِي ذَلِكَ فَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ زِيَادَةً لَهَا فِي الْمَهْرِ قَالُوا: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي لَغْوٌ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَيْضًا يَلْغُو، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلُ الْعَقْدِ الثَّانِي، وَإِنْ صَارَ لَغْوًا فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ: هَذَا ابْنِي فَإِنَّهُ لَمَّا لَغَا صَرِيحُ كَلَامِهِ عِنْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ لُغِيَ صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ بَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ بِإِزَاءِ الْأَلْفِ الْبُضْعُ، وَالْعَبْدُ فَيُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْعَبْدَ يَكُونُ شِرَاءً حَتَّى إذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، أَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بَطَلَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ الْمِثْلِ فَهُوَ صَدَاقٌ لَهَا حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَبِيهَا، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ أَمَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 قِيمَتُهَا أَلْفَانِ جَازَ ذَلِكَ، وَعَتَقَ الْأَبُ قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَقْسُومٌ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَعَلَى قِيمَةِ الْأَمَةِ فَمَا يَخُصُّ قِيمَةَ الْأَمَةِ تَكُونُ مُشْتَرِيَةً لَهُ بِالْأَمَةِ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا، وَكِلَا السَّبَبَيْنِ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ فَإِذَا مَلَكَتْ الْأَبَ عَتَقَ عَلَيْهَا، ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ مَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ قِيمَةِ أَبِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ قَابِضَةً لِلْأَبِ بِالْعِتْقِ، وَحِصَّةُ الصَّدَاقِ مِنْهُ تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ، وَقَدْ عَجَزَتْ عَنْ رَدِّهِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ قِيمَةِ ذَلِكَ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَةَ بِمُقَابَلَةِ الْأَلْفِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ مَتَى قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا يَكُونُ الْجِنْسُ بِمُقَابَلَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَتَفَاوَتُ فَإِذَا صَارَتْ الْأَلْفُ بِمُقَابَلَةِ الْأَلْفِ بَقِيَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ جَازَ، وَتَقْسِمُ الْأَلْفَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَعَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَمَا أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ صَرْفًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ صَدَاقًا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَدَّتْ نِصْفَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ هُنَا بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَهَا قِيمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالدَّنَانِيرُ فِي حُكْمِ الْمُقَابَلَةِ كَالْعُرُوضِ، وَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ يُكْمِلُ لَهَا عَشَرَةً، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ، وَعَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَنَقُولُ: الْمَرْأَةُ بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ الْبُضْعَ، وَالْعَبْدَ، وَالزَّوْجُ بَذَلَ الْأَلْفَ، وَشَرَطَ الطَّلَاقَ فِي ضَرَّتِهَا، فَيُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً صَارَ نِصْفُ الْأَلْفِ ثَمَنًا لِلْعَبْدِ، وَنِصْفُ الْأَلْفِ صَدَاقٌ لَهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ ذَلِكَ، وَإِنْ دَخَلَ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ بِأَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْخَمْسُمِائَةِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الطَّلَاقَ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالشَّرْطِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ لَهَا فِي طَلَاقِ ضَرَّتِهَا مَنْفَعَةً، فَإِنَّمَا رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ لَهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ، فَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ كَانَ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وَعَلَى طَلَاقِ فُلَانَةَ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَهُنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَ فَمَا لَمْ يُطَلِّقْ لَمْ يَقَعْ، وَهُنَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ بِالْعَقْدِ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا، وَالزَّوْجُ بَذَلَ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ، وَالطَّلَاقَ، وَالْمَرْأَةُ بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ الْبُضْعَ، وَالْعَبْدَ، وَالشَّيْئَانِ مَتَى قُوبِلَا بِشَيْئَيْنِ يَنْقَسِمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرَيْنِ فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الطَّلَاقِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ ثَمَنًا وَنِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الطَّلَاقِ صَدَاقٌ لَهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى الضَّرَّةِ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْبُضْعِ فَكَانَ الطَّلَاقُ بِجُعَلٍ فَيَكُونُ بَائِنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجُعَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ الْبُضْعِ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ رَجَعَ بِحِصَّةِ خَمْسِمِائَةٍ حِصَّةِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَتَتَنَصَّفُ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الطَّلَاقِ وَاسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ أَوْ هَلَاكُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُوجِبُ قِيمَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَ مُلْتَزَمَ تَسْلِيمِهِ فَلِهَذَا رَجَعَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ النِّصْفِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ فُلَانَةَ فَأَبَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ طَلَاقِ الضَّرَّةِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا ذَلِكَ فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا أَوْ يُهْدِي إلَيْهَا هَدِيَّةً، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ شَرَطَ لَهَا مَعَ الْأَلْفِ مَا هُوَ مَالٌ كَالْهَدِيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ؛ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ شَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَطَلَاقِ الضَّرَّةِ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ التَّسْلِيمُ إذَا شَرَطَ لَهَا فِي الْعَقْدِ. فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَنَحْوُهُ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ فَكَذَا لَا يَتَقَوَّمُ بِمَنْعِ التَّسْلِيمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا تُوجَبُ الزِّيَادَةُ بِاعْتِبَارِ تَقَوُّمِ مَا شَرَطَ لَهَا؛ وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِير وَهُمَا مُسْلِمَانِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: النِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ عِوَضٍ آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْخَمْرِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِخَمْرٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُمَا شَرَطَا قَبُولَ الْخَمْرِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَهَا عِوَضًا فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْبَيْعِ: إنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَرْطَالٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 مَعْلُومَةٍ مِنْ خَمْرٍ فَلَيْسَ لَهَا سِوَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ، وَالسُّكُوتَ عَنْهَا سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَمْرِ، وَقِيمَةُ الدَّنِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَلَهَا الدَّنُّ دُونَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الدَّنَّ مُتَقَوِّمٌ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمَّى لَهَا الْخَمْرَ مَعَ الْعَشَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْمَظْرُوفُ دُونَ الظَّرْفِ، وَالْمَظْرُوفُ لَيْسَ بِمَالٍ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْخَمْرِ، فَإِذَا هُوَ خَلٌّ أَوْ عَلَى هَذَا الْحُرِّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُ إذَا كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ، وَعَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الْكُوفَةِ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا أَوْ قَدَّمَ شَرْطَ الْأَلْفَيْنِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَذْكُورُ أَوَّلًا صَحِيحٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يُوَفِّ لَهَا بِالشَّرْطِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ بِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ، فَإِذَا لَمْ تَنَلْ ذَلِكَ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَكِنَّهَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفَيْنِ بِيَقِينٍ، فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ أَلْفَيْنِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مَعَ بَقَائِهِ قَدْ تَمَّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَقَرَّ بِذَلِكَ فَبِذِكْرِ الشَّرْطِ الثَّانِي قَصَدَ تَغَيُّرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ عَنْ الْأَلْفِ، وَلَا يُزَادُ عَنْ الْأَلْفَيْنِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا، وَقَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَسَنُبَيِّنُهَا ثَمَّةَ مَعَ نَظَائِرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ الْمَجْهُولَةِ إنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ؛ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ أَصْلًا. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْأَلْفُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَالِ فِي النِّكَاحِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى ذِكْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ قِيَاسُ الطَّلَاقِ بِمَالٍ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ، وَهُنَاكَ إذَا سَمَّى الْأَلْفَ أَوْ الْأَلْفَيْنِ يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَلَا وَجْهَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَبِالتَّخْيِيرِ لَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يُسْتَحَقُّ فِيهِ - التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، فَالتَّخْيِيرُ فِي الْمُسَمَّى فِيهِ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ، وَالتَّسَلُّمِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ انْعِدَامَ التَّسْمِيَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، فَكَذَا جَهَالَةُ الْمُسَمَّى بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقْوَى مِنْهَا فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ تَارَةً، وَبَيْنَ الْمَقَادِيرِ الْمُخْتَلِفَةِ تَارَةً، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ يُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَبِهِ فَارَقَ الطَّلَاقَ، وَالْعَتَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِذَلِكَ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْبَدَلِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ فَلَوْ عَيَّنَّا الْأَقَلَّ لَا يَكُونُ فِيهِ بَخْسٌ لِحَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَهُنَا الصَّدَاقُ عِوَضٌ عَمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا، وَفِي تَعْيِينِ الْأَقَلِّ بَخْسٌ لِحَقِّهَا، وَالنَّظَرُ وَاجِبٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَحَكَّمْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِهَذَا. (قَالَ:) وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْأَبْيَضِ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوُجُوبِ الْأَوْكَسِ لَهَا عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ الْأَفْضَلَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أُعْطِيَك أَيَّهمَا شِئْت، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا أَيَّهمَا شَاءَ إنْ شَرَطَ الْمَشِيئَةَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَتْ إنْ شَرَطَ الْمَشِيئَةَ لَهَا، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا تَنْعَدِمُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهَا وَيَسْتَبِدُّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِالتَّعْيِينِ فَلِهَذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، وَعِنْدَ عَدَمِ شَرْطِ الْخِيَارِ تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ، وَلَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ سَمَّى لِكُلِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا جَازَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْأَقَلِّ. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى حُكْمِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِلْجَهَالَةِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّهُ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ حَكَمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَاهَا؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهَا بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهَا، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَيْهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهَا بِدُونِ رِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا تَحْكُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَكَمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَاهَا، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَا الزَّوْجِ. (قَالَ:) وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ عَلَى مَنْ قَبِلَ النِّكَاحَ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ عَلَى صَغِيرِهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَلَى مُكَاتَبِهِ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «الصَّدَاقُ عَلَى مَنْ أَخَذَ السَّاقَ»؛ وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى الزَّوْجِ فَوَجَبَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْعَاقِدُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ حَتَّى لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْبَدَلِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ فَيُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ حِينَئِذٍ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْحَرْبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَظَاهِرٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّينَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَعِنْدَهُمَا فِي الذِّمِّيِّينَ إنَّمَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مُلْتَزِمُونَ لِأَحْكَامِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ الْخِطَابُ بِهِ غَيْرُ شَائِعٍ، وَهُمْ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِنَا فَلِهَذَا لَا شَيْءَ لَهَا، وَإِذَا أَسْلَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالْحَالُ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَالصَّدَاقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمَّةً فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا لَهَا عَلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلَّا وَكَادَةً، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ إلَّا النِّصْفَ فَيَبْقَى مُطَالَبًا بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا شَيْئًا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ مَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَسْلَمَا فَبَعْدَ الطَّلَاقِ أَوْلَى (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ إذَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يَنْقَسِمُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِمَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ حِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ فَإِنْ طَلَّقَهَا كَانَ لَهُمَا نِصْفُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ بِأَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ زَوْجٍ أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةً، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَلْفُ كُلُّهَا مَهْرُ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرَيْهِمَا، فَمَهْرُ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ حِصَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعَيْنِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا الزَّوْجُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْبُضْعَيْنِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ، كَمَا لَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِانْقِسَامَ جُعِلَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ عَلَيْهِ نَصَّ فِي الزِّيَادَاتِ، وَادَّعَى الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِهَذَا، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا مَعَ الْعِلْمِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ انْقِسَامُ الْبَدَلِ الْمُسَمَّى، وَعِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْحِلِّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحِلِّ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا الِانْقِسَامُ مِنْ حُكْمِ التَّسْمِيَةِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ أَجَابَتْهُ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: ضَمُّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ إلَى الَّتِي تَحِلُّ لَهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَغْوٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمِّ جِدَارٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ إلَى الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ، وَهُنَاكَ الْبَدَلُ الْمُسَمَّى كُلُّهُ بِمُقَابَلَتِهَا دُونَ مَا ضَمَّهُ إلَيْهَا فَكَذَا هُنَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ النِّكَاحَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِلْكُ الْحِلِّ، وَبَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةٌ، فَفِي حَقِّ الْمُحَرَّمَةِ الْعَقْدُ مُضَافٌ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَانْقِسَامُ الْبَدَلِ مِنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِيجَابِ حَتَّى لَوْ أَجَابَتَاهُ صَحَّ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَيَثْبُتُ حُكْمُ انْقِسَامِ الْبَدَلِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِيجَابِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ مَعَ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ نَفْسَهُ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ. فَأَمَّا إذَا دَخَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَفِي هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ فَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ: الْمَنْعُ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ بِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ، وَرِضَاهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى؛ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَأَمَّا الِانْقِسَامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ فَاَلَّتِي تَحِلُّ لَهُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِذَلِكَ فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ لَهَا، وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْحَدِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ حُكْمِ صُورَةِ الْعَقْدِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَأَمَّا انْقِسَامُ الْبَدَلِ مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ. (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ عِنْدَهَا جِنَايَةً فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ مِنْ أَفْحَشِ الْعُيُوبِ فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِاسْتِحْقَاقِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُثْبِتُ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ، فَإِنْ أَخَذَ نِصْفَهُ دَفَعَاهُ أَوْ فَدَيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ ابْتِدَاءً بِالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ يَعُودُ إلَيْهِ هَذَا النِّصْفُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَرْأَةِ صُنْعٌ يَكُونُ اخْتِيَارًا أَوْ اسْتِهْلَاكًا فَلِهَذَا تَبْقَى الْجِنَايَةُ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ فَيُخَاطَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَفْعِ النِّصْفِ أَوْ الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْجِنَايَةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ النِّصْفِ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَخَذَ مِنْهَا نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ دَفَعَهُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّدُّ كَمَا قَبَضَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ ثُمَّ يُخَاطَبَانِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهُ صَحِيحًا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْعَبْدَ ثُمَّ تُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَلَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ] (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً، وَاشْتُرِطَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا خِيَارٌ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النِّكَاحُ بَاطِلٌ فَمِنْهُمْ مِنْ جَعَلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ يُعْدِمُ الرِّضَا كَالْإِكْرَاهِ، وَمِنْ أَصْلِنَا انْعِدَامُ الرِّضَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَلُزُومَهُ، وَعِنْدَهُ يَمْنَعُ فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْبِنَاءَ عَلَى أَصْلِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَالْعِبَارَةُ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُفْسِدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُصَحِّحْ الطَّلَاقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وَالْعَتَاقَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَصَحَّحَهُمَا مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَحُجَّتُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، وَهُوَ الْبَيْعُ يَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَصِيرُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ مِلْكِهِ كَالْمُضَافِ فَكَذَلِكَ هُنَا بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَصِيرُ النِّكَاحُ مُضَافًا، وَإِضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَجُوزُ، وَالتَّوْقِيتُ فِي النِّكَاحِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا شَهْرًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ»، وَالْهَزْلُ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْهَازِلَ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ أَبَدًا، وَشَارِطُ الْخِيَارِ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ الْهَزْلُ تَمَامَهُ؛ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَلَا يَقْبَلُ خِيَارَ الشَّرْطِ، فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَهُ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِمَالٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ السَّبَبِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِلُزُومِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ صَحِيحًا اللُّزُومُ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ وَلُزُومُهُ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا، أَلَا تَرَى أَنَّ تَمَامَ الرِّضَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ثُمَّ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَلُزُومَهُ، حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ التَّوْقِيتِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ الْوَقْتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ الِانْعِقَادَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَلِهَذَا بَطَلَ بِالتَّوْقِيتِ. (قَالَ:) وَلَا يَرُدُّ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عَنْ عَيْبٍ بِهَا، وَإِنْ فَحُشَ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ، وَالْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ، فَإِذَا رَدَّهَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَلَمَّا خَلَا بِهَا وَجَدَ فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا، وَقَالَ: دَلَّسْتُمُونِي أَوْ قَالَ: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ»، وَالرَّدُّ مَتَى ذُكِرَ عَقِيبَ الْعَيْبِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِأَسْبَابٍ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الرَّدِّ بِعَيْبٍ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ طَبْعًا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وَشَرْعًا النَّسْلُ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ تُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أَمَّا الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ يُفَوِّتُهُ أَصْلًا، وَأَمَّا الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ يُخِلُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الطَّبْعَ يَنْفِرُ مِنْ صُحْبَةِ مِثْلِهَا، وَرُبَّمَا تَعَدَّى إلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ مِنْ الْعَمَى، وَالشَّلَلِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَهْرُ عِنْدَكُمْ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ دُونَ الْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا وَجَدَتْ زَوْجَهَا عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، وَلَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ فَكَذَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ سَوَاءٌ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ الَّذِي يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ دُونَ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا، وَالزَّوْجُ وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَاقِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ؛ لِيُسْقَطَ بِهِ الْمَهْرَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الصَّغِيرِ إذَا بَلَغَ، وَقَدْ زَوَّجَهُ عَمُّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَاقِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ عَنْ عَيْبٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا وَجَدَ بِامْرَأَتِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ فَالْمُرَادُ خِيَارُ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَدَّهَا أَيْ رَدَّهَا بِالطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِك، وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَاَلَّذِي قَالَ: «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ» قُلْنَا: نَحْنُ نُمَكِّنُهُ مِنْ الْفِرَارِ، وَلَكِنْ بِالطَّلَاقِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ بِلَا خَلَلٍ فِي وِلَايَةِ الْمَحَلِّ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَسْخِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ، وَلَا فِي حَقِّ الِانْتِقَالِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ الشَّرْعُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ لِلتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي ظُهُورَهُ فِي حَقِّ الْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ فَكَانَ فِي هَذَا الْفَسْخِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْقَاطَاتِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ تَمَامِهِ لِخَلَلٍ فِي وِلَايَةِ الْمَحَلِّ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَمَامِهِ، وَكَذَلِكَ الْفَسْخُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ لَا تُخِلُّ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْحِلُّ فَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ كَالْعَمَى، وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ ثَمَرَةٌ، وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَفُوتُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَعَيْبُ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَوْتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ هُنَا يَتَأَتَّى، وَمَقْصُودُ النَّسْلِ يَحْصُلُ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ هُنَاكَ فَوَاتَ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ وُجُودُ الْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا هَلَاكُ الْمَهْرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُثْبِتُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ فَوُجُودُ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ بِهِ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْعَيْبِ تَأْثِيرُهُ فِي انْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ، وَالنِّكَاحُ لُزُومُهُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْهَزْلِ، وَعَدَمُ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقّهَا فِي الْجِمَاعِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ، وَعِنْدَنَا هُنَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا. ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هُنَاكَ قَدْ انْسَدَّ عَلَيْهَا بَابُ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ مَادَامَ تَحْتَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ بَقِيَتْ مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ، وَلَا مُطَلَّقَةً فَأَثْبَتْنَا لَهَا الْخِيَارَ؛ لِإِزَالَةِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي جَانِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا إمَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِحَاجَتِهِ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْمَهْرِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ مَنَعَ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ قَصْدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهَا بِالْإِيلَاءِ كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إيفَاءُ حَقِّهَا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَوْ مَنَعَتْ حَقَّهُ عَلَى قَصْدِ الْإِضْرَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ بِالرَّتْقِ أَوْ الْقَرَنِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا وَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبَ الْجُنُونِ أَوْ الْجُذَامِ أَوْ الْبَرَصِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرُدَّهُ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ عَلَى حَالٍ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْوُصُولُ إلَى حَقِّهَا؛ لِمَعْنًى فِيهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: بِهَذِهِ الْعُيُوبِ لَا يَنْسَدُّ عَلَيْهَا بَابُ اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ إنَّمَا تَقِلُّ رَغْبَتُهَا فِيهِ أَوْ تَتَأَذَّى بِالصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ مَعَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لَهَا الْخِيَارَ، كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ ظَالِمٌ فِي إمْسَاكِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ إزَالَةِ الظُّلْمِ بِالطَّلَاقِ، وَهُنَا الزَّوْجُ غَيْرُ ظَالِمٍ فِي إمْسَاكِهَا مَعَ صِدْقِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهَا الْخِيَارَ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ السَّلَامَةَ مِنْ الْعَمَى وَالشَّلَلِ، وَالزَّمَانَةِ فَوُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْجَمَالَ وَالْبَكَارَةَ، فَوَجَدَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ فَوْتَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 زِيَادَةٍ مَشْرُوطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ لِتَمَامِ الرِّضَا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا بِكْرٌ شَابَّةٌ جَمِيلَةٌ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ لَهَا شِقٌّ مَائِلٌ وَعَقْلٌ زَائِلٌ وَلُعَابٌ سَائِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَقَدْ انْعَدَمَ الرِّضَا مِنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا قَالَ: الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ: زَوِّجِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْت جَازَ النِّكَاحُ، وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَقَالَ: فَعَلْت لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت أَوْ قَبِلْت، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا؛ لِإِيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي قَالَ: إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي النِّكَاحِ؛ لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الْحَكَمِ «أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ إلَى قَوْم فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ مَا فَعَلْت فَقَالُوا: قَدْ مَلَكْت» فَدَلَّ أَنَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بَعْدَ الْخِطْبَةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ حُكْمِ تَوَقُّفِ النِّكَاحِ عَلَى الْإِجَازَةِ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْبِهُ حُكْمَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى حَقِّهِ غَيْرُ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَكَانَ أَصْلُ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يَجُزْ، وَأَمَّا عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَوْ وُجُودِ الْعَيْبِ فَقَدْ ظَهَرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ حِينَ بَاشَرَهُ. فَلِهَذَا تَمَّ الْعَقْدُ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيَّ فَفِي حَقِّ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهِ بِكَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ بِكْرًا فَسُكُوتُهَا رِضَاهَا؛ لِعِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِكْرَ إذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ فَبَلَغَهَا الْعَقْدَانِ فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَهُمَا جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا بَطَلَا؛ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ سَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا رِضًا مِنْهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ سُكُوتَهَا بِمَنْزِلَةِ رِضَاهَا بِالْعَقْدَيْنِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ سُكُوتُهَا رِضًا بِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَا رِضًى بِهِمَا؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الرِّضَا؛ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَفِي الرِّضَا هُنَا بِهِمَا أَبْطَالُهُمَا، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ سُكُوتُهَا هُنَا رِضًى. (قَالَ:) وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ، وَلَهَا زَوْجٌ قَدْ كَانَ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ أَوْ تَزَوَّجَتْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَلَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَعْتَقَتْ بَرِيرَةَ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَلَكْت بُضْعِك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 فَاخْتَارِي، وَكَانَ زَوْجُهَا مُغِيثٌ يَمْشِي خَلْفَهَا وَيَبْكِي، وَهِيَ تَأْبَاهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهَا، وَبُغْضِهَا لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ زَوْجُك وَأَبُ وَلَدِك فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي فَقَالَ: لَا إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ فَقَالَتْ: إذًا لَا حَاجَةَ بِي إلَيْهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا». وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ يَزْدَادُ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ فَإِنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، وَيَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِي قُرْأَيْنِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَزْدَادُ بِالْعِتْقِ، وَهِيَ لَا تَتَوَصَّلُ إلَى رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ فَأَثْبَتَ الشَّرْعُ لَهَا الْخِيَارَ لِهَذَا، وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ؛ لِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ، وَفِي حَقِّ مَنْ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخِيَارِ مَعْنًى فِي جَانِبِهَا، وَهُوَ مِلْكُهَا أَمْرَ نَفْسِهَا، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَالرُّوَاةُ اخْتَلَفُوا فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلُوا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَيْ: عِنْدَ أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ حُرًّا عِنْدَ عِتْقِهَا، وَلَمَّا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي صِفَةِ زَوْجِهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَبْقَى الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلَكْت بُضْعَك فَاخْتَارِي»، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «كَانَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَانِ مَمْلُوكَانِ فَأَرَادَتْ عِتْقَهَا، وَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ» قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ كَيْ لَا يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: أَمَرَهَا بِذَلِكَ؛ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُمَا مَعًا عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى يَقُولُ: بِمَا اعْتَرَضَ تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ كَالْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ مُسْلِمٍ إذَا أَسْلَمَتْ أَوْ الْمُعْسِرَةِ إذَا أَيْسَرَتْ، وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ، وَالْمَنْفِيَّةِ إذَا أَثْبَتَتْ نَسَبَهَا، وَلِلزَّوْجِ نَسَبٌ ثَابِتٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَإِنَّ بِمَا اعْتَرَضَ هُنَاكَ مِنْ حُرِّيَّتِهَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ، وَتَنْعَدِمُ الْكَفَاءَةُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا لَيْسَ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا فِي الْبَقَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ أَوْ انْتَفَى نَسَبُهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِزِيَادَةِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ عَنْدَنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْحِلِّ، وَالْحِلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 فِي جَانِبِهَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمَا يَتَنَصَّفُ الْحِلُّ فِي جَانِبِهِ بِالرِّقِّ فَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ، وَالْحُرُّ أَرْبَعًا، وَإِذَا انْتَصَفَ الْحِلُّ بِرِقِّهَا فَإِذَا أُعْتِقَتْ ازْدَادَ الْحِلُّ وَبِحَسَبِهِ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ هُنَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَمَةِ؛ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ وَسَلَامَةِ الْمَهْرِ لِمَوْلَاهَا، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهَا، وَالنِّكَاحُ مَا انْعَقَدَ إلَّا بِرِضَاهَا، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: إنْ أَعَانَهَا عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُعِنْهَا فَلَهَا الْخِيَارُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمُوَافِقَ لِتَعْلِيلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَا بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثُمَّ صَارَتْ أَمَةً ثُمَّ عَتَقَتْ بِأَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ مَعَ زَوْجِهَا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ مَعًا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ سُبِيَا مَعًا فَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَامِلٌ بِرِضَاهَا ثُمَّ انْتَقَضَ الْمِلْكُ فَإِذَا أُعْتِقَتْ عَادَ الْمِلْكُ إلَى أَصْلِهِ كَمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: بِالْعِتْقِ مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا، وَازْدَادَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ الْخِيَارَ لَهَا شَرْعًا، وَلَمَّا صَارَتْ أَمَةً حَقِيقَةً الْتَحَقَتْ بِاَلَّتِي كَانَتْ أَمَةً فِي الْأَصْلِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْعِتْقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الْعِنِّينِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَجَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِامْرَأَةِ الْعِنِّينِ أَصْلًا؛ لِحَدِيثِ «امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، فَإِنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي وَتَزَوَّجْتُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمْ أَجِدْ مِنْهُ إلَّا مِثْلَ هُدْبَةِ ثَوْبِي، تَحْكِي ضَعْفَ حَالِهِ فِي بَابِ النِّسَاءِ، فَلَمْ يُخَيِّرْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَجَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَصِلُ إلَيْهَا فَقَالَ: وَلَا وَقْتَ السَّحَرِ، فَقَالَتْ: وَلَا وَقْتَ السَّحَرِ، فَقَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 مَا أَنَا بِمُفَرِّقٍ بَيْنَكُمَا، وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ مَعْذُورٌ فَيَكُونُ مُنْظَرًا بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرَ كَامِلًا، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا مَرَّةً، وَفِي هَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا، وَامْرَأَةُ رِفَاعَةَ بِمَا ذَكَرَتْ حَكَتْ صِغَرَ مَتَاعِهِ لَا الْعُنَّةَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا عِنْدَنَا لَا تُخَيَّرُ ثُمَّ هُوَ مَعْذُورٌ، وَلَكِنَّهُ فِي إمْسَاكِهَا ظَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْسَدُّ عَلَيْهَا بَابُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِنِكَاحِهِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا فَوَجَبَ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهَا بِالْعَقْدِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهِ وَتُحَصِّلَ بِهِ صِفَةَ الْإِحْصَانِ لِنَفْسِهَا، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ أَصْلًا يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ رَفْعِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ مَهْرِهَا أَيْضًا، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ، فَإِذَا انْسَدَّ عَلَيْهَا الْبَابُ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، إلَّا أَنَّ الْعَجْزَ قَدْ يَكُونُ لِآفَةٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِعَارِضٍ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْمُدَّةِ فَلِهَذَا يُؤَجَّلُ، وَالْأَجَلُ فِي هَذَا سَنَةٌ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْأَسَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن نَوْفَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْأَجَلُ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِالسَّنَةِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ: وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ قَدْ يَكُونُ بِعِلَّةِ الرُّطُوبَةِ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْحَرِّ وَالْيُبُوسَةِ مِنْ السَّنَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ الْحَرَارَةِ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْبَرْدِ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ الْيُبُوسَةِ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ فِي فَصْلِ الرُّطُوبَةِ فَقَدَّرْنَا الْأَجَلَ بِحَوْلٍ حَتَّى يُعَالِجَ نَفْسَهُ فَيُوَافِقَهُ الْعِلَاجُ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ فَيَبْرَأَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا عُلِمَ أَنَّ الْآفَةَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يُقَدَّرُ بِسَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، فَرُبَّمَا تَكُونُ مُوَافَقَةُ الْعِلَاجِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِيهَا بَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ، وَابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْخُصُومَةِ حَتَّى إذَا صَبَرَتْ مُدَّةً ثُمَّ خَاصَمَتْ، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا سَأَلَهَا الْقَاضِي أَبِكْرٌ هِيَ أَمْ ثَيِّبٌ، فَإِنْ قَالَتْ: ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْفَحْلِ أَنَّهُ إذَا خَلَا بِأُنْثَى نَزَا عَلَيْهَا، وَفِي الدَّعَاوَى الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَرَاهَا الْقَاضِي النِّسَاءَ، فَإِنَّ الْبَكَارَةَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي لِذَلِكَ وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْمَثْنَى أَكْثَرُ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا بِكْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا وَيُؤَجِّلُهُ الْقَاضِي سَنَةً فَيَأْمُرُهُ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 يُعَالِجَ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفِيضُوا عَلَيْهِ الدَّحْجَ وَالْعَسَلَ لِيُرَاجِعَ نَفْسَهُ، فَإِنْ مَضَتْ السَّنَةُ وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ، فَإِنْ أَرَاهَا النِّسَاءَ فَقُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ خَيَّرَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْوُصُولِ إلَيْهَا، فَإِذَا خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ الزَّوْجَ أَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوَانُ الْقَاضِي أَوْ قَامَ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ شَيْئًا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالتَّفْرِيقُ كَانَ لِحَقِّهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِتَأْخِيرِ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ قَامَتْ أَوْ أُقِيمَتْ يَسْقُطُ حَقُّهَا، فَلَا تُطَالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِنْ أَبِي فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ فَسْخًا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، فَأَمَّا عِنْدَنَا الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الزَّوْجِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ. فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْعِيِّ لَا يَحْصُلُ فَالْمَقْصُودُ إزَالَةُ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ، وَفِي الرَّجْعِيِّ يَسْتَبِدُّ الزَّوْجُ بِالْمُرَاجَعَةِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ مُخْتَصٌّ بِعِدَّةٍ وَاجِبَةٍ بَعْدَ حَقِيقَةِ الدُّخُولِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّهَا كَمَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ أَوْ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ كَالْمُعْتَقَةِ، ثُمَّ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مِنْهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَمَّا اسْتَوْفَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَا: مَا ذَنْبُهُنَّ إذَا جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ، وَكَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَرْكِ الْمُرَافَعَةِ زَمَانًا فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِلِاخْتِيَارِ مِنْهَا لَا لِلرِّضَا بِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ، وَرُبَّمَا كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ صُحْبَتِهَا لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ سِوَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ بَعْدَ التَّأْجِيلِ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْغَرَضَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ وَضَرَرِ زَوَالِ مِلْكِهِ، فَلِهَذَا لَا يُحْتَسَبُ بِالْمُدَّةِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ وَيُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِزَمَانِ حَيْضِهَا وَشَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدَّرُوا الْأَجَلَ بِسَنَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً، فَإِنْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَرِضَتْ مَرَضًا لَا يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ لَا يُحْتَسَبُ بِمُدَّةِ الْمَرَضِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ غِشْيَانُهَا ثُمَّ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ عَفْوٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: إذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ، وَلَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِزَمَانِ الْمَرَضِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ شَهْرًا لَا يُحْتَسَبُ وَيُزَادُ فِي مُدَّتِهِ بِقَدْرِ مُدَّةِ الْمَرَضِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْتَسَبُ عَلَى الزَّوْجِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْلِلَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً حِينَ خَاصَمَتْ لَمْ يُؤَجِّلْهُ الْقَاضِي حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ الْحَجِّ، وَلَوْ خَاصَمَتْ وَالزَّوْجُ مُظَاهِرٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ أَجَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ أَمْهَلَهُ شَهْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غِشْيَانِهَا مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَالْعَاجِزُ عَنْ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ شَهْرَانِ، فَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَاحْتَسَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ لَا يُظَاهِرَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَصِلُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَوْ جَوَارِيهِ، وَلَا يَصِلُ إلَيْهَا خَيَّرَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِوُصُولِهِ إلَى غَيْرِهَا بَلْ تَزْدَادُ بِهِ غَيْظًا، وَلَوْ كَانَ غَشِيَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مَقْصُودُهَا مِنْ تَأَكُّدِ الْبَدَلِ أَوْ ثُبُوتِ صِفَةِ الْإِحْصَانِ قَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْمَرَّةِ. (قَالَ:) وَلَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا خَيَّرَهَا الْقَاضِي فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعِنِّينِ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ، وَذَلِكَ فِي الْمَجْبُوبِ لَا يُوجَدُ فَالْمَقْطُوعُ مِنْ الْآلَةِ لَا يَنْبُتُ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَال، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّيَقُّنَ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا مَوْجُودٌ هُنَا، وَعُذْرُ الْجَبِّ فِي الزَّوْجِ أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ الْمَرَضِ، فَإِذَا كَانَ مَرَضُهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ فَكَوْنُهُ مَجْبُوبًا أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِنٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ يُشَاهَدُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هِيَ أَتَتْ بِالتَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ وَحَقُّهَا فِي الْبَدَلِ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا انْعَقَدَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُجَامَعَةِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا كَوْنَ لَهُ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَقَدْ أَتَتْ بِهِ فَيَتَقَرَّرُ حَقُّهَا ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَجِبُ الْعِدَّةُ اسْتِحْسَانًا وَأَشَارَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، فَحَيْثُ قَالَ: لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ أَرَادَ فِي مَجْبُوبٍ قَدْ جَفَّ مَاؤُهُ فَيَكُونُ هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ لَا تُعْتَبَرُ خَلْوَتُهُ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ، وَحَيْثُ قَالَ: تَجِبُ الْعِدَّةُ أَرَادَ فِي مَجْبُوبٍ لَهُ مَاءٌ يَسْحَقُ فَيُنْزِلُ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ خَلَا بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَعْدَ مَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا تَبْطُلُ تِلْكَ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْإِنْزَالِ بِالسَّحْقِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ حَقَّهَا، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَدَّعِي الْوُصُولَ إلَيْهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّا حِينَ حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِوُصُولِهِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَى إقْرَارِهَا بِالْوُصُولِ إلَيْهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ بَطَلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ عَرَفَ الْقَاضِي إقْرَارَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ التَّفْرِيقِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إلَيْهَا، فَإِنَّ قَوْلَهَا فِي إبْطَالِ التَّفْرِيقِ وَرَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي ذَلِكَ، وَالْخَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْوُصُولِ فِي حَقِّهِ مَوْجُودٌ لِبَقَاءِ الْآلَةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهِيَ تَعْلَمُ بِحَالِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَتْ: رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهَا رَضِيتُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّهَا. (قَالَ:) وَلَيْسَ يَكُونُ أَجَلُ الْعِنِّينِ إلَّا عِنْدَ قَاضِي مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ وَالْعِنِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِمَعْنًى مِنْ الزَّوْجِ، فَلِهَذَا كَانَ طَلَاقًا وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْمِصْرَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِصْرِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا ثُمَّ فَارَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا يُؤَجَّلُ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي غَيْرُ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْوُصُولُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فِيمَا يُسْتَحَقُّ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. (قَالَ:) وَالْخُنْثَى إذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ رَجُلٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أُجِّلَ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْوُصُولِ قَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ امْرَأَةٌ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ رَجُلًا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهَا ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي يَدِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الرَّتْقَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ وَالزَّوْجُ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْجِمَاعِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ فِيهَا، وَذُكِرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ إذَا زَوَّجَ أُمَّتَهُ فَوَجَدَتْهُ عِنِّينًا أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ لَهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ، وَلِأَنَّ النَّسْلَ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَبِكَوْنِهِ عِنِّينًا يَفُوتُ ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْخِيَارُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَطْءِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهَا دُونَ الْمَوْلَى فَكَانَ حَقُّ الْمُرَافَعَةِ إلَيْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نِكَاحِ الشِّغَارِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أُزَوِّجُكَ أُخْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي أُخْتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ الْأُخْرَى، أَوْ قَالَا ذَلِكَ فِي ابْنَتَيْهِمَا أَوْ أَمَتَيْهِمَا، ثُمَّ النِّكَاحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّكَاحُ بَاطِلٌ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْإِشْرَاكَ فِي بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِينَ جَعَلَ النِّصْفَ مِنْهُ صَدَاقًا وَالنِّصْفَ مَنْكُوحَةً، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ، فَالِاشْتِرَاكُ بِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا كَمَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُضْعِ صَلَاحِيَةَ كَوْنِهِ صَدَاقًا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِشْرَاكُ فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَهَبَهَا لِغَيْرِهِ أَوْ نَحْوِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ مَنْكُوحَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالنَّهْيِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلْخُلُوِّ عَنْ الْمَهْرِ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا»، وَهَذَا لِأَنَّ الشِّغَارَ هُوَ الْخُلُوُّ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: شَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لِيَبُولَ، وَبَلْدَةٌ شَاغِرَةٌ إذَا كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ السُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا تَخْلُوَ الْمَرْأَةُ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ وَبِهِ نَقُولُ، وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ مَهْرًا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَهْرِ، وَاشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ هُنَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا جَعَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 مَهْرَ امْرَأَتِهِ طَلَاقَ أُخْرَى كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ مَهْرًا، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا فَقَدْ وَقَعَ الْعَفْوُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلَّمَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحَقُّقُ الْمُعَاوَضَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فِي قَوْلِهِ «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ: اشْتِرَاطُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الصَّدَاقِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَطَلَاقُ الضَّرَّةِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بِحُرْمَةِ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا: إذَا أَعْتَقَ أُمَّتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكُونُ الْعِتْقُ صَدَاقًا لَهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالٌ لِلرِّقِّ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقًا لَهَا» وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِتَضَمُّنِهَا تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهَا، فَإِنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَنَحْوُهُ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: هِيَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ تُعَظِّمَهُ وَتُرَاعِيَ حَقَّهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِاسْتِخْدَامِهَا إيَّاهُ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ خِدْمَتُهَا صَدَاقًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي عَمَلِ الرَّعْيِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَأْجِرُ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ وَيَسْتَأْجِرُهُ لِعَمَلٍ آخَرَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ رِوَايَتَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَاشْتِرَاطُهَا مِنْ الْحُرِّ لَا يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهَا، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْخِدْمَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا فَهُوَ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا، فَإِذَا تَعَذَّرَ سَلَامَتُهَا لَهَا تَجِبُ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ عَلَى طَلَاقِ ضَرَّتِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا فِي حُكْمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الضَّرَّةِ، فَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِصَاصِ حَصَلَ الْعَفْوُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقِصَاصِ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْعَفْوِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا عَتَقَ الْأَبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَعْتِقَ أَبَاهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ صَدَاقًا مِنْ عِتْقِ الْأَبِ لَيْسَ بِمَالٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ رَقَبَةِ الْأَبِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْعِتْقَ عَنْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَرَقَبَةُ الْأَبِ مَالٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا. وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى، فَإِنْ زَوَّجَهُ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يُزَوِّجْهُ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُزَوَّجَةِ تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ لِأَبِيهَا، وَمَنْفَعَةُ أَبِيهَا كَمَنْفَعَتِهَا، وَلَوْ شَرَطَ لَهَا مَعَ الْمُسَمَّى مَنْفَعَةً كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَا هُوَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَصِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِمُبَاشَرَتِهَا أَوْ بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِآثَارٍ رُوِيَتْ فَمِنْهُ حَدِيثُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ عَقْدَ النِّكَاحِ النَّجَاشِيُّ وَمَهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ» وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ فَقَالَ: أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ لَتَمْلِكَنَّ أَمْرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَلَكَهَا فَقَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ مَعَنَا فِي الدَّارِ ابْنَتَيْهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ بَحْرِيَّةَ بِنْتِ هَانِئ قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ فَخَاصَمَ أَبِي إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَقْوَى الْحُجَّةُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّجَاشِيِّ: إنَّهُ كَانَ هُوَ الْوَلِيُّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فِي وِلَايَتِهِ، فَإِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَذَلِكَ مَا أَجَازَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا أَجَازَهُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ عَضَلَهَا فَخَاصَمَتْهُ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْوَلِيَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ السُّلْطَانُ، فَإِذَا صَنَعَتْ هِيَ بِنَفْسِهَا كَيْفَ تَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَا صَنَعَتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَهَا وَلَدٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ وَلَدَهَا مِنْهُ، أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلِيَّ هَذَا الْوَلَدُ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ أَبَاهَا وَهُوَ مَعْتُوهٌ فَزَوَّجَتْهُ أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا، فَإِذَا كَانَتْ تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ أَبَاهَا فَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمَا، وَاَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِلرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً، وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي فُصُولٍ. (أَحَدُهَا:) أَنَّ الْحُرَّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمَ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ لِضَرُورَةِ خَوْفِ الزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي تَزَوُّجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ تَعْرِيضَ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الرِّقِّ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلرِّقِّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ وَلَدَهُ لِلرِّقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْتَنِعَ النِّكَاحُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِبَاهِ نَسَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بَدَلٌ فِي حَقِّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَقْدُ ازْدِوَاجٍ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ فَكَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْعُدُولَ إلَى الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَمَا يَمْنَعُ التَّيَمُّمَ فَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالشِّرَاءِ تَمْنَعُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَإِذَا اسْتَطَابَ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، وَالْأَمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ فِي حَقِّ الْحُرِّ كَالْحُرِّ فَيَكُونُ جَوَازُ نِكَاحِهَا أَصْلًا لَا بَدَلًا وَلَا ضَرُورَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ أَنَّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَحَلًّا لَهُ، وَلَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلَّا مَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لِلْعَبْدِ أَصْلًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ أَوْسَعُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْعَبْدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَثْبُتُ لِلْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ تَحِلُّ لِلذُّكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ النَّسْلِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ثُمَّ الْحُرْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَعَانِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ مِنْ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ أَيْضًا فَأَنَّ نِكَاحَ الْعَقِيمِ وَالْعَجُوزِ يَجُوزُ، وَفِيهِ تَضْيِيعُ النَّسْلِ أَصْلًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلنَّسْلِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْأَمَةَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ، كَمَا لَا يَبْقَى حُكْمُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: حُرْمَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ». أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِنِكَاحِهَا عَنْ الْأَمَةِ، وَيَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ عَيْنُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا الِاسْتِغْنَاءُ بِنِكَاحِهَا، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَثْبُتُ لِنَسْلِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ يُبْطِلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَأَمَّا بِطَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِوَلَدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ بِالنِّكَاحِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 وَالنِّسَاءِ، فَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَحَالُ مَا بَعْدَهُ وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ، وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتَغْلِبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ حَالَتَانِ حَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ وَحَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْهَا، فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ، فَأَمَّا مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ لَا يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ وُجُودِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَبِهِ نَقُولُ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْعِدَامِ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ حِلُّهَا لِأَجَلِ الضَّرُورَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَعِنْدَنَا نِكَاحُ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ مُبَاحٌ مُطْلَقًا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي عِنْدَنَا إنْ كُنَّ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ عَنْهُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّةَ تَكُونُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ عَادَةً، وَتَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِرِقِّ الْمُسْلِمِ أَهْوَنُ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِرِقِّ الْكَافِرِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] مَعْنَاهُ مِنْ الْحَرَائِرِ فَلَمَّا جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً، فَإِذَا كَانَتْ أَمَةً لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ النَّصِّ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وَلِأَنَّ كُفْرَهَا يَغْلُظُ بِبَعْضِ آثَارِهِ وَهُوَ الرِّقُّ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا أَصْلًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ مُحَلَّلَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ كَالْمُسْلِمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 كَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ، ثُمَّ فِي حَقِّ حِلِّ الذَّبِيحَةِ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ مِنْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَتَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَرَائِرَ فَإِبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَلَكِنَّ هَذَا لِبَيَانِ الْأَوْلَى، وَاسْمُ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ لِاخْتِصَاصِهَا بِاسْمٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] الْآيَةَ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ أَجَازَ مَوْلَى الْأَمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْحِلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ الْحُرَّةُ تَحْتَهُ، فَبِهَذِهِ الْإِجَازَةِ يَحْصُلُ ضَمُّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ فَيَمْنَعُ الْإِجَازَةَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا مَوْقُوفًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا ثُمَّ إنَّ الْأُولَى أَجَازَتْ لَمْ يَجُزْ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَ أُمَّ هَذِهِ الْأَمَةِ أَوْ ابْنَتَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَ إجَازَةِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى أَكَانَ يَجُوزُ قَالَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِتْقَ إمْضَاءٌ لِلنِّكَاحِ وَإِجَازَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مُخَاطَبَةٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ عَقْدِهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى نَفَذَ الْعَقْدُ وَكَانَ نُفُوذُ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَمَا قَالَ: إنَّهُ إمْضَاءٌ وَإِجَازَةٌ تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ، فَأَمَّا نُفُوذُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ نُفُوذُ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَهْرُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا فَمَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ لَهَا، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ كَانَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا تَوَقَّفَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُهُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ النُّفُوذِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لَهَا الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ لَمْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَوْلَى، فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْمَوْلَى أَوْ إجَازَةِ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، فَأَمَّا بِالْعِتْقِ هُنَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 مَا إذَا اشْتَرَتْ شَيْئًا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشِّرَاءَ انْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى فَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ عِتْقِهَا كَانَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لَهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا هُنَا النِّكَاحُ انْعَقَدَ مُوجِبَ الْحِلِّ لَهَا وَبَعْدَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا، وَلَكِنَّهُ مَاتَ فَوَرِثَهَا ابْنُهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلِابْنِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُجِيزَهُ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْمَوْقُوفِ كَمَا إذَا طَرَأَ مِلْكٌ نَافِذٌ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمَالِكِ بَطَلَ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بَعْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَالْحِلَّيْنِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةً فَنُفُوذُ أَحَدِهِمَا فِي الْمَحَلِّ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لِلِابْنِ فَأَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ النِّكَاحَ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُنَافِي وَهُوَ طَرَيَان الْحِلِّ النَّافِذِ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْأَبِ، فَلَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى أَوْ وَهَبَهَا أَوْ سَلَّمَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمَا نَفَذَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لِمَنْ مَلَكَهَا فَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَا مَلَكَهَا وَقَدْ أَجَازَ مَنْ مَلَكَهَا النِّكَاحَ أَوْ لَمْ يُجِزْ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِمَّا سَمَّى لَهَا فِي النِّكَاحِ قَبْلَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَسَقَطَ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا يَوْمَ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَمْلُوكٌ لِلثَّانِي فَكَانَ الْبَدَلُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَجَازَ النِّكَاحَ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهَا، وَذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى مَمْلُوكٌ لِلْأَوَّلِ فَكَانَ الْمَهْرُ لَهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الثَّانِي هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ حِينَ مَلَكَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْمُعْتَدَّةُ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُعْتَدِّ مِنْهُ فَهِيَ لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً لِلْمَالِكِ الثَّانِي، فَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ، فَإِذَا أَجَازَهُ كَانَ صَحِيحًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ فَاعْتِرَاضُ الْمِلْكِ الثَّانِي يُبْطِلُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ غِشْيَانِهَا، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسَ الْمَنْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 أَعْتَقَهَا جَازَ النِّكَاحُ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مَهْرَانِ مَهْرٌ لِلْمَوْلَى بِالدُّخُولِ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَمَهْرٌ لَهَا لِنُفُوذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا، وَإِذَا وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهَا بِهِ مَهْرٌ آخَرُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِجَازَةَ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَحُكْمُهَا يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِذْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُ الشُّهُودِ اخْتَصَّ بِمِلْكِ الْحِلِّ كَشَرْطِ الْمَهْرِ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَكَذَا وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ مَهْرٍ آخَرَ لَهَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا، وَلَكِنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ جَعَلَ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ جَازَ عَقْدُهَا وَيُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ. (قَالَ:) وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُكْرِهَ أُمَّتَهُ أَوْ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَهُوَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِتَزْوِيجِهَا، وَلَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَدَلَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى، وَالنَّفَقَةُ تَسْقُطُ عَنْ الْمَوْلَى فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ النِّكَاحُ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَهُوَ فِي تَزْوِيجِهِ مُتَصَرِّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ عَبْدِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا الْعَقْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَزْوِيجَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الْعَبْدِ فَيُطَلِّقُهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، فَإِنَّمَا عَقَدَ الْمَوْلَى عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَمْلِكُ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَالْأَمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَمَةِ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا لِمِلْكِهِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لَا تَسْتَدْعِي مِلْكَ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، وَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلِيَّ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، فَثَبَتَ أَنَّ فِي حَقِّ الْأَمَةِ إنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا بِمِلْكِهِ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَفِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ إنَّمَا يَنْظُرُ لِلْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْإِمْهَارَ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَتَمْلِيكِ الْبُضْعِ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ، وَمَا قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فَاسِدٌ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِدُّ بِالنِّكَاحِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ، فَالْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ يَسْتَبِدُّ بِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَهُنَا الْعَبْدُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمُوجِبُ النِّكَاحِ الْحِلُّ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِشْمَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُهُ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَذَكَرَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَكْسِ هَذَا أَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ صَحِيحٌ، وَعَلَى أَمَتِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا فَرْجٌ، فَلَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ شُهُودٍ. (قَالَ:) وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى وَاجِبٌ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِحُكْمِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَقَرَّرَ بِهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ، كَمَا إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْمَهْرُ لِسَيِّدِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِمُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ، وَإِنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ الْأَمَةِ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ نَفْسِهَا، وَهُنَاكَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا فَهُنَا أَيْضًا لِلْمَوْلَى أَنْ يَحْبِسَهَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا، وَلَا لِلْحُرَّةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ لَا يُحْبَسُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَائِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالصَّدَاقِ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْعُمُرِ، وَفِي الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 اسْتَوْفَى الْمَوْلَى صَدَاقَهَا أُمِرَ الْمَوْلَى أَنْ يُدْخِلَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى، فَلَا تَقَعُ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى فِي بَيْتِهِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْلُ. وَمَتَى مَا وَجَدَ الزَّوْجُ مِنْهَا خَلْوَةً أَوْ فَرَاغًا قَضَى حَاجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى قَتَلَهَا مَوْلَاهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ جَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ الصَّدَاقَ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ عَنْ الزَّوْجِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ بِأَجَلٍ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا غَيْرُ الْمَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ فَبِمُضِيِّ مُدَّتِهِ يَنْتَهِي الْعَقْدُ، وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ مُوجِبٌ تَقْرِيرَ الْبَدَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاكْتَسَبَتْ مَالًا ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرِثُهَا، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ أَيْضًا، وَالتَّوْرِيثُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَسُقُوطُ الْمَهْرِ مِنْ حُكْمِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْبَدَلِ اكْتَسَبَ سَبَبَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي اكْتَسَبَ سَبَبَهُ يُجْعَلُ التَّفْوِيتُ مُحَالًا بِهِ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ يَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ بِأَجَلٍ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ جُعِلَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَيْرُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَبِاعْتِبَارِ مَوْتِهِ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى صَاحِبِ الشَّاةِ فِيمَا صَنَعَهُ غَيْرُ مُتْلِفٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ غَيَّبَ أَمَتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِصَدَاقِهَا، فَإِذَا أَتْلَفَهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِصَدَاقِهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَّضِحُ فِيمَا إذَا بَاعَهَا فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَمَا إذَا غَيَّبَهَا مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ، أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنَقُولُ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ إتْلَافًا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ، بَلْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا هَذَا مَوْتٌ مُنْهٍ لِلنِّكَاحِ ، وَلَوْ قَتَلَتْ الْحُرَّةُ الْمَنْكُوحَةُ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 الْحَقَّ فِي الْمَهْرِ لَهَا وَقَدْ فَوَّتَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَتْلُهَا نَفْسَهَا فِي الْإِحْكَامِ كَمَوْتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَاتَتْ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا نَفْسَهَا هَدَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إنَّمَا تُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهُوَ كَمَوْتِهَا، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالضَّمَانُ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ قَتْلِهَا نَفْسَهَا الْمُهُورُ لِوَرَثَتِهَا لَا لَهَا، وَلَمْ يُوجَدُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا كَانَ تَفْوِيتًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَأَمَّا الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ قَتْلِ الْأَمَةِ وَالتَّفْوِيتُ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا.؟ قُلْنَا: الْوَارِثُ إذَا قَتَلَهَا صَارَ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ هُنَا، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِي إسْقَاطِ مَهْرِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ رِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَتَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ مِنْهَا فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ هُنَا لِمَوْلَاهَا، وَفِي الْأُخْرَى يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَمْلُوكِ مُضَافٌ إلَى الْمَالِكِ فِي مُوجِبِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ غَيْرَهَا كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِهَا أَوْ فِدَائِهَا، فَإِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَوْلَى قَتَلَهَا فَلِهَذَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا. (قَالَ:) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا إيَّاهُ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ وَقَدْ وَلَدَتْ لَهُ ضَمِنَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرِقِّ مَائِهِ، وَلَكِنْ كَمَا يُعْتَبَرُ حَقُّهُ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ لَهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ كَانَ كَاذِبًا فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ حِينَ زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَضَمَانُ الْغَرَرِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّهَا ضَمِنَتْ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِمَا ذَكَرَتْ مِنْ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعَقْدِ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ الْعُقْرَ لِلْمَوْلَى، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَا اسْتَوْفَى مِنْهَا، وَالْمُسْتَوْفَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِاسْتِيفَائِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْتَسْعَاةُ فِي بَعْضِ قِيمَتِهَا ثُمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 أَدَّتْ السِّعَايَةَ فَعَتَقَتْ خُيِّرَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذَا أَعْتَقَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا خُيِّرَتْ. (قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّتِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَهُمْ يَقُولُونَ: الْمُحَرَّمُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مِلْكُهُ بَاقِيًا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِكَاحٌ، فَلَا يَكُونُ مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَتَزَوَّجَ أَمَةً يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ مَا أَبَانَهَا لَمْ تَطْلُقْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَزَوِّجٍ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا أَبَانَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَنْعُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ الْحُرَّةَ صَحَّ نِكَاحُهَا، وَلَكِنَّ الْمَنْعَ مِنْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ فِي مُزَاحَمَةِ كَامِلَةِ الْحَالِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ثَبَتَ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَكُلُّ مَنْعٍ ثَبَتَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الشَّيْءِ كَنَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي إبْقَاءِ الْحُرْمَةِ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَعْدَ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَبْقَى تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِبَقَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ، وَفِي هَذَا نَوْعُ ضَمٍّ فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ: هُنَاكَ الْمَنْعُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَتَّى يُقَالُ: يَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ قُلْنَا فِي الْأَيْمَانِ: الْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَفِي الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ، فَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ الْمُعْتَبَرُ الْمَعْنَى، وَمَعْنَى الْحُرْمَةِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِي هَؤُلَاءِ بَاقٍ، وَحُكْمُهُنَّ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ. (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ خَمْسَ حَرَائِرَ وَأَرْبَعَ إمَاءٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ لَمْ يَصِحَّ هُنَا، فَإِنَّهُنَّ خَمْسٌ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَيَلْغُو ضَمُّهُنَّ إلَى الْإِمَاءِ وَيَبْقَى الْمُعْتَبَرُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَهُنَّ أَرْبَعٌ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لِلْحُرِّ عِنْدَنَا، فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِلْحُرَّةِ زَوْجٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ بَاطِلٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا، فَضَمُّهَا إلَى الْأَمَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا يَتَحَقَّقُ ضَمُّ الْحُرَّةِ إلَى الْأَمَةِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نِكَاحُ الْحُرَّةِ أَقْوَى مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَالضَّعِيفُ لَا يَدْفَعُ الْقَوِيَّ، وَلَكِنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ، بِخِلَافِ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَمَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةُ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ، فَصَارَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ مُحَرَّمَةٍ وَمُحَلَّلَةٍ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الْمُحَلَّلَةِ دُونَ الْمُحَرَّمَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ أَوْ أُمَّتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَوَّأَهَا مَعَ الزَّوْجِ بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى خِدْمَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ بِالتَّبْوِئَةِ يَصِيرُ كَالْمُعِيرِ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مَتَى شَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرَطَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ لَا غَيْرُ، فَاشْتِرَاطُهُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِجْبَارِ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ، فَإِنَّ الْإِعَارَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا أَمَةٌ قَدْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهَا فِي النِّكَاحِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ رَقِّهَا نَوْعُ عَيْبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْبَ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ غَيْرَ أَنَّ مَا وُلِدَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ فِيمَا مَضَى وَمَا كَانَ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ حُرٌّ لِأَجْلِ الْغُرُورِ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي يَدِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ مَا لَمْ يُخَاصِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ أَمَانَةٌ مَا لَمْ يُطَالِبْ بِالرَّدِّ، فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ، حَتَّى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَانِعًا لِلْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ هُنَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ كَأُمِّهِ لَا قِيمَةَ لِرِقِّهِ حَتَّى لَا يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَذَلِكَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَصِيرُ كَأُمِّهِ إذَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِيهِ، وَهُنَا عُلِّقَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ لَهَا، وَهِيَ إنَّمَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا فَفِي حُرِّيَّةِ وَلَدِهَا يَحْصُلُ بَعْضُ مَقْصُودِهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ كَانَ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِضَمَانِ قِيمَةِ وَلَدِ الْغُرُورِ وَقَدْ تَقَرَّرَ هُنَا، وَرُجُوعُهُ عَلَيْهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهِيَ سَتُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُفِيدًا، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مُؤَخَّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ. (قَالَ:) وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِأَبِيهِ بِحُكْمِ الْإِرْثِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الطَّلَبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ، وَلَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ يَأْخُذُ الْأَبُ دِيَتَهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ كَحُكْمِ الْمُبْدَلِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ عَلَى الضَّارِب خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بَدَلُ الْجَنِينِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ عُشْرُ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحَقِّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ، فَلَا يَغْرَمُ لَهُ الْأَبُ إلَّا بَدَلَ جَنِينِ الْأَمَةِ، وَإِنْ سَلِمَ لَهُ بَدَلُ جَنِينِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ. (قَالَ:) وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ وَبَقِيَ الْوَلَدُ أَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فِي حِصَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَبِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَضَاءُ دَيْنِ الْأَبِ لَا يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ فِي حِصَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ الْأَبُ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ الْوَلَدُ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِسَائِرِ دُيُونِ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ كَانَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ عَمَّا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْغُلَامِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ بَلْ بِالْغُرُورِ، فَإِنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَالْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَمِّ فِيهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَمُّ فِيهِ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا سَوَاءً. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَعُقْرَهَا وَالْجَوَابُ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ غَيْرَ الْأَمَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ حُرٌّ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَالْحُرُّ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ فِيهَا عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ التِّجَارَةِ فِي الْحَالِ لَا بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى عِتْقِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى أَمَرَ الْعَبْدَ أَوْ الْمُدَبَّرَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ الْمَغْرُورُ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا بِأَنْ تَزَوَّجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْوَلَدُ حُرٌّ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ إذَا عَتَقَ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرِّيَّةِ الْغُرُورُ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا عِنْدَ النِّكَاحِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحُرِّ، وَكَمَا يَحْتَاجُ الْحُرُّ إلَى حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فَالْمَمْلُوكُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ بَلْ حَاجَتُهُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِرِقِّ الزَّوْجِ وَحُرِّيَّتِهِ فِي رَقِّ الْوَلَدِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْأُمِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهَا كَانَ وَلَدُهُ رَقِيقًا، فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ رِقَّ الْأُمِّ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ رِقِّهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا؛ لِأَنَّ مَا شُرِطَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: هَذَا الْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا يَتَفَرَّعُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلَانِ رَقِيقَيْنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِلْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقَدْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ هُنَاكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَاكَ؛ لِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ هُنَاكَ بِصِفَتِهِ حُرٌّ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِاتِّصَالِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَتَأْثِيرُ الْغُرُورِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِي مَائِهِ بِالِاتِّصَالِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ، وَهُنَا مَاءُ الْعَبْدِ رَقِيقٌ كَنَفْسِهِ، فَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِمَائِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مَا لَمْ يَكُنْ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ مَائِهِ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ مَائِهَا يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ فَجَعَلْنَا الْغُرُورَ دَلِيلًا مُرَجِّحًا، وَهُنَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ التَّرْجِيحِ، وَمَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا يَصْلُحُ مُوجِبًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ هُنَاكَ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَالِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهِ عَنْهُ، وَهُنَا لَوْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ فَكَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّد فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَكُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يَغُرَّهُ فِيهَا أَحَدٌ فَأَوْلَادُهُ أَرِقَّاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنْهُ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الْغُرُورُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ هُنَا، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَدَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ الْمُزَوِّجَ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهَا، وَمِلْكُ نِصْفِ الْأَمَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عَقْدُهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَنَاوَلَ عَقْدُهُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الزَّوْجِ لِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ فِي نَصِيبِ الْمُزَوِّجِ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى، وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْمُسَمَّى وَرِضَاهُ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَجِبُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ إبْطَالُ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ خَلَا بِهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَخْلُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَلَا تُعْتَبَرُ الْخَلْوَةُ فِيهِ. (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا زَوَّجَ أَمَةَ الْيَتِيمِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضُ إذَا زَوَّجَ أَمَةً مِنْ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَيَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ يَمْلِكُونَ الِاكْتِسَابَ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْأَبُ وَالْوَصِيُّ، فَإِنَّهُمَا أُمِرَا بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ، وَعَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ النَّظَرِ، وَأَمَّا الْمُفَاوَضُ فَإِنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إنَّمَا عَقَدَا الْمُفَاوَضَةَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ، وَلَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 اكْتِسَابُ الْمَالِ بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَشَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. (قَالَ:) وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَمَةَ الصَّبِيِّ مِنْ عَبْدِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَأْذُونِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ النَّسْلِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ كَإِنْزَاءِ الْفَحْلِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى أَتَانِهِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي هَذَا تَعْيِيبًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ جَمِيعًا، وَمَنْفَعَةُ النَّسْلِ مَوْهُوبَةٌ وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْهُوبَةُ لَا تَكُونُ جَائِزَةً لِلضَّرَرِ الْمُتَحَقِّقِ، فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمُضَارِبُ أَوْ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ إذَا زَوَّجَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْأَمَةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُونَ التَّزْوِيجَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: الْمَأْذُونُ إنَّمَا كَانَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ التُّجَّارَ لَا يَعْتَادُونَ اكْتِسَابَ الْمَالِ بِتَزْوِيجِ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ بِعَبْدٍ وَنَوَتْ التِّجَارَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَصَارَ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ مَتَى اقْتَرَنَتْ بِعَمَلِ التِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ، فَلَا يَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ كَالْكِتَابَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى التِّجَارَةِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ لَا يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَا يُزَوِّجُونَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ، وَلَا مِنْ التِّجَارَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةَ ابْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَعَلَى الِابْنِ أَنْ يُعِفَّ أَبَاهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ صَحَّ النِّكَاحُ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ حَتَّى لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَالْمَوْلَى إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ أَظْهَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِيلَادَهُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ صَحِيحٌ، وَاسْتِيلَادُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 الْمَوْلَى أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَصِحُّ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» فَجَارِيَةُ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبِهِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ كَأَمَةِ عَبْدِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَيْسَ لَهُ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ مِلْكٌ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَأَمَةِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَ لِأَبِيهِ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ لِمَا كَانَ لِلْمَوْلَى فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ، فَلَيْسَ لِقِيَامِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ، وَلَكِنْ لِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَهَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ فِي إيجَابِ مِلْكٍ أَوْ حَقِّ مِلْكٍ لَهُ فِيهَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَا حَقَّ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ كَسْبًا لَهُ فَهُوَ كَسْبُ حُرٍّ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُعْتَقِ لَا حَقَّ لِلْمُعْتِقِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ كَسْبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ حُرٍّ، فَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا بَلْ بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَقَرُّرِ حَاجَتِهِ إلَى صِيَانَةِ مَائِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسْلُهُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ فَمَوْلَى الْجَارِيَةِ هُنَا مَلَكَ أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ عِنْدَنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِفُجُورٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَهُنَاكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ، فَإِنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِدُونِ التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، فَإِذَا تَمَلَّكَهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ كَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَمَلُّكِهَا لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بَلْ النِّكَاحُ أَوْ شُبْهَةُ النِّكَاحِ يَكْفِي؛ لِذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَمَلِّكًا لَهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ الْأَبِ إيَّاهَا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَلَّكَ الِابْنَ أَمَتَهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 عِنْدَ الظَّنِّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَبِهُ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ أَمْرُهَا فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَبُ فِي أَنَّهُ وَطِئَهَا وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عَتَقَ الْوَلَدُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ مِنْ الزِّنَا عَتَقَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ مِنْ الزِّنَا، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ جَارِيَةِ الِابْنِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَوْلِدًا لَهَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِابْنِهِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْأَبُ فِيهِ. (قَالَ:) وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ فَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ كَمِلْكِ الطَّلَاقِ وَمِلْكِ الدَّمِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُقُودِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ مَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ وَعَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحِلِّ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلنِّكَاحِ، وَذَلِكَ الْحِلُّ يَتَّسِعُ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ وَيَتَضَيَّقُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ. أَلَا تَرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَخْصُوصًا بِإِبَاحَةِ تِسْعِ نِسْوَةٍ» لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا، فَكَانَ الْحِلُّ فِي حَقِّهِ مُتَّسِعًا لِتِسْعِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَكَذَلِكَ يَتَّسِعُ الْحِلُّ لِفَضِيلَةِ الْحُرِّيَّةِ فَيَتَزَوَّجُ الْحُرُّ أَرْبَعًا، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّقَّ يُنَصِّفُ الْحِلَّ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ يَتَنَصَّفُ حِلُّهَا بِالرِّقِّ، حَتَّى أَنَّ مَا يَنْبَنِي عَلَى الْحِلِّ وَهُوَ الْقَسْمُ يَكُونُ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي لِهَذَا الْحِلِّ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَهُوَ الْحِلُّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ بِالزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَعَلَى الْحُرِّ مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِلَّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ فَقُلْنَا: حَالُ الْعَبْدِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرِّ فَيَتَزَوَّجُ ثِنْتَانِ الْحُرَّتَانِ وَالْأَمَتَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا لَا يُخَالِفُنَا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ نِكَاحَ الْأَمَةِ أَصْلٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيضُ شَيْءٍ لِلرِّقِّ، فَإِنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، فَلِهَذَا جُوِّزَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ، وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْعَبْدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَصِّفَ لِلْحِلِّ فِيهِمْ قَائِمٌ. (قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ فَيَسْتَبِدُّ الْعَبْدُ بِهِ كَالطَّلَاقِ، وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَالنِّكَاحُ شَيْءٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي النِّكَاحِ تَعْيِيبَهُ، وَفِيهِ شَغْلُ مَالِيَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَمَالِيَّتُهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ، فَلَا يَمْلِكُ شَغْلَ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ رَقَبَتَهُ أَوْ رَهَنَهُ بِمَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي عَقْدِهِ لِلْمَوْلَى أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَتَزَوَّجُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُوجِبَ لِلْحَجْرِ فِيهِمْ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ تَزْوِيجَهُمْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فَبَاشَرَهُ الْمُكَاتَبُ يَجُوزُ أَيْضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى وَتَزْوِيجُهَا مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ، فَأَمَّا تَزْوِيجُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ وَرَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ زَوَّجَتْ أَمَتَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهَا. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَجَازَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ ثَلَاثًا بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا صَحَّ كَانَ الْعَبْدُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَالْحُرِّ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى النِّكَاحَ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ، وَلَكِنْ يَكُونُ هَذَا مُتَارَكَةً لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَخْتَصُّ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَنِكَاحُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحَلِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إذَا كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ نِكَاحًا صَحِيحًا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِوُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يَقَعْ هُنَا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» وَلَوْ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي حَالِ تَوَقُّفِ الْعَقْدِ وَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِمَا أَوْقَعَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ لَوْ أَوْقَعَهُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَقْدُ بِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ هَذَا كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى الْمَحَلِّ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى لِلْعَقْدِ بَاطِلٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْعَقْدَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَتِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ، وَإِجَازَةُ الْعُقُودِ يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، فَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ نُفُوذَ الطَّلَاقِ وَحُرْمَةَ الْمَحَلِّ فَجَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِيقَةِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أُعْتِقَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، لَكِنَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ بِوُجُودِ صُورَةِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى نَفَذَ نِكَاحُهُ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُوجِبُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ حَقِّ الْمَوْلَى يَمْنَعُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ تَثْبُتُ صِفَةُ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ نِكَاحِهِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْمَوْلَى حَقَّهُ بِالْعِتْقِ فَيَنْفُذُ النِّكَاحُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ رَقَبَتَهُ فَكَذَلِكَ فِي إجَازَةِ عَقْدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا طَرَأَ بِالْبَيْعِ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي فَلِهَذَا كَانَتْ إجَازَتُهُ كَإِجَازَةِ الْبَائِعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَيَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ، فَهُوَ كَالْحُرِّ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَلَا يُزَوِّجَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا النِّكَاحُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَجُوزُ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ عِنْدَهُ يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى: عَنَيْتُ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: نَوَيْتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْبَيَانِ. (قَالَ:) وَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُؤْخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الْعِفَّةِ بِهِ لِلْعَبْدِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، وَاسْتِدْلَالًا بِمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ يَنْصَرِفَ يَمِينُهُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إذْنُ الْمَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْفَسَادُ وَالصِّحَّةُ صِفَةُ الْعَقْدِ وَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، كَالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْوَكِيلِ أَوْ لِلْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالصَّحِيحَ جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ نَحْوَ النَّسَبِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ مَا تَزَوَّجَ فِي الْمَاضِي وَقَدْ كَانَ تَزَوَّجَ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ، فَأَمَّا هُنَا اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا دَخَلَ بِهَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ، فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا بَعْدَ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى مَا انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ مُبَاشِرًا الْعَقْدَ الثَّانِي بِإِذْنِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَاجُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ لَهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا مَهْرَانِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ وَالْمُسَمَّى بِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي جَانِبِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى حَتَّى نَفَذَ الْعَقْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الْمُدَبَّرُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا السَّيِّدُ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهَا حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَالْمَهْرُ عِنْدَ الدُّخُولِ إنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ مَتْنًا، وَلَا لِذَلِكَ الْعَقْدِ يَتَأَخَّرُ الْمَالُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ فِي كَسْبِهِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَنْ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَهْرِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِدُونِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ، وَلِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِهَذَا الدُّخُولِ فَلِهَذَا يَتَأَخَّرُ الْوَاجِبُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أُمَّتَهُ بِشُهُودٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ كَانَ لِلْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَمَالِيَّتُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي وُجُوبِهِ أَصْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَجِبُ ابْتِدَاءً لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَةِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ نَصْرَانِيًّا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ شَاهِدَيْنِ مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ جَاحِدٌ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْعَبْدُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا النِّكَاحِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ مُسْلِمٌ، قُلْنَا: أَصْلُ الْعَقْدِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ دِينَ الْعَبْدِ، وَقُلْنَا: لَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَافِرًا وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ. (قَالَ:) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 ، وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحِلُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِطَرِيقَيْنِ إمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ أَوْ التَّسَرِّي، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَمْلُوكَةٍ إلَّا لِمَنْ إذَا أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ جَازَ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ وَلَا هِبَتُهُ، فَلَا يَحِلُّ الْفَرْجُ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ لِمَا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مِنْ الْمُنَافَاةِ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ الْمَالِ قَبْلَ إذْنِ الْمَوْلَى، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِذْنِ فِي جَعْلِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَهْلًا، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ إذْنِ الْمَوْلَى فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مُنَافَاةٌ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ حَاجَتِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِبْقَاءِ النَّسْلِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، فَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى أَنْ نَجْعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَالْمُكَاتَبِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِمَا يُسَمَّى عَبْدًا. (قَالَ:) وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَوْلَاتَهُ وَلَا امْرَأَةً لَهَا فِي رَقَبَتِهِ شِقْصٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّتَهُ أَوْ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِقْصٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَبِقَوْلِهِ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الْآيَةَ، فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ بِمَوْلَاتِهِ فَهِيَ تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَمُوتَانِ جُوعًا، وَفِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَتَهُ، فَهَذَا الْعَقْدُ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ، وَمَحَلُّ الْحِلِّ ثَابِتٌ لَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ مِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا حَاجَةَ فَلَمْ يَكُنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 مَشْرُوعًا أَصْلًا، ثُمَّ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي شِقْصٍ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي جَمِيعِهَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ فِي حِلِّ الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ وَطْئِهَا بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَهِيَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَمَكَاسِبِهَا، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهَا كَانَ الْأَرْشُ لَهَا فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاطِئَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَوْلَى كَانَ الْمَهْرُ لَهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ هَذَا النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا، فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ مَوْلَاتَهُ وَدَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ، وَإِنْ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ بِنْتَ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا فِي رَقَبَتِهِ، وَلَا حَقَّ مِلْكٍ مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَسَدَ نِكَاحُ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ رَقَبَةَ زَوْجِهَا إرْثًا، وَمِلْكُهَا رَقَبَةَ الزَّوْجِ لَوْ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَنَعَ صِحَّةَ النِّكَاحِ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يَرْفَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُنَافِي يُؤَثِّرُ سَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَوْ مُقَارِنًا، فَأَمَّا نِكَاحُ الْمُكَاتَبِ لَا يَفْسُدُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَفْسُدُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تُورَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُورَثُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشْغُولَ بِحَاجَةِ الْمُورِثِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَارِثُ عِنْدَنَا كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ، وَالْمُكَاتَبُ أَيْضًا مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِوَارِثِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، فَكَذَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَارِثَ خِلَافَةٌ، وَرَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ وَعَجْزُهُ لَيْسَ بِمُوجِبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْلَكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ كَالْمُدَبَّرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَنْ يُعْتَقُ عَلَى مِلْكِهِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ عَامِلًا فِي إيجَابِ الْمِلْكِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ أَنْ تَتَمَلَّكَ رَقَبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِمَالٍ لِابْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى حَالِهَا، وَلَوْ كَفَلَ لَهُ بِمَالٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ، وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ الْعِدَّةُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ، وَالْإِبَاقُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ، فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كَثِيرٌ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ النِّكَاحِ قُلْنَا: إنْ أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْهَا، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ يُقَرِّرُ الْمُنَافِي، وَذَلِكَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَبْطَلَ النِّكَاحَ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ فِي رَقَبَتِهِ يَبْطُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ بَعْضَ رَقَبَتِهِ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا. (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْضَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَلَكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِتَقَرُّرِ الْمُنَافِي وَهُوَ مِلْكُهُ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا، وَقَدْ انْتَقَضَ النِّكَاحُ لِمِلْكِهِ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا وَإِنْ أَتَى الْعَبْدُ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ حُرٌّ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ قَدْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهَا، وَلِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ أَنْ يَسْتَفْرِشَهَا مَمْلُوكٌ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نَسَبَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ نَسَبَهُ الْمَكْتُومَ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْحُرِّيَّةَ وَتَبَيَّنَ الرِّقُّ لَأَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا. (قَالَ:) عَبْدٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَلَمْ يُخْبِرْهَا أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَإِنْ كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ زَوَّجُوهَا مِنْهُ بِرِضَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهُمْ وَلَا لَهَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَقْدَ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُمْ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ، وَالزَّوْجُ مَا شَرَطَ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَاتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ إنَّمَا ظَنَّتْ أَنَّهُ حُرٌّ وَظَنُّهَا لَا يُلْزِمَ الزَّوْجَ شَيْئًا، فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَعَلَتْهُ بِدُونِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ، وَالْمَرْأَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 حَقُّ الِاعْتِرَاضِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الرَّضَاعِ] (قَالَ:) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَذَكَرَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: «يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالْوِلَادَةِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّسَبِ لِحَقِيقَةِ الْبَعْضِيَّةِ أَوْ شُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَفِي الرَّضَاعِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِاللَّبَنِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْآدَمِيَّةِ فِي إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْأُمَّهَاتِ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ وَهُوَ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَبَنُهَا بِوَطْئِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ فَقَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ لَبَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ الْحُرْمَةَ بِالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَا تَثْبُتُ بِحَقِيقَةِ فِعْلِ الْإِرْضَاعِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَزَلَ اللَّبَنُ فِي ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتُ فِي جَانِبِهِ بِإِرْضَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَسَمِعْتُ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقُلْتُ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَا أَرَاهُ إلَّا فُلَانًا - عَمَّا لِحَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعِ - فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعِ حَيًّا أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ.؟ فَقَالَ: نَعَمْ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَّا فِي ثِيَابٍ فَضْلٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقُلْتُ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ لَا الرَّجُلُ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ» وَالْعَمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَبَنِ الْفَحْلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا اللَّبَنِ فِعْلُ الْوَاطِئِ، فَالْحُرْمَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْوِلَادَةِ، فَأَمَّا مَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُرْمَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ قُلْنَا: مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا يَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ، فَحُرْمَةُ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ مِمَّا يَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يُوجَدُ فِي إرْضَاعِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ مَا نَزَلَ فِي ثُنْدُوَتِهِ لَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ، فَهَذَا نَظِيرُ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ. (قَالَ:) وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ أَجْدَادُهُ وَنَوَافِلُهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالنَّسَبِ، وَعَلَى هَذَا الْأَخَوَاتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَمَّا إذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثِنْتَيْنِ فَهُمَا أُخْتَانِ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا وَاحِدًا فَهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُخْتَلِفًا عَنْ الْإِرْضَاعَيْنِ فَهُمَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَبَنٌ مِنْهُ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَبِيَّةً فَهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعِ كَبَنَاتٍ لِأَخٍ مِنْ النَّسَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا «عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا كَانَتْ تَحِلُّ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَرْغَبُ فِي قُرَيْشٍ وَتَرْغَبُ عَنَّا، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ شَيْءٌ.؟ قَالَ: نَعَمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ». (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ لَبَنٌ وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَحَبِلَتْ مِنْ الْآخَرِ وَنَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ فَاللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ حَتَّى تَلِدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِذَا وَلَدَتْ فَاللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الثَّانِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ مِنْ الْحَبَلِ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ انْقَطَعَ اللَّبَنُ الْأَوَّلُ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ إذَا حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي انْقَطَعَ حُكْمُ لَبَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى تَضَعَ مِنْ الْآخَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَا كَانَ بِهَا مِنْ اللَّبَنِ فَهُوَ مِنْ الْأَوَّلِ وَمَا ازْدَادَ بِسَبَبِ الْحَبَلِ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي، وَبَابُ الْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، كَمَا إذَا حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَتَيْنِ فِي قَارُورَةٍ وَأَوْجَرَ صَبِيًّا، فَإِذَا وَضَعَتْ مِنْ الثَّانِي فَقَدْ انْتَسَخَ سَبَبُ لَبَنِ الْأَوَّلِ بِاعْتِرَاضِ مِثْلِهِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: اللَّبَنُ يَنْزِلُ تَارَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَتَارَةً بَعْدَ الْحَبَلِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِذَا عُرِفَ نُزُولُ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي انْتَسَخَ بِهِ حُكْمُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا يَنْتَسِخُ بِالْوِلَادَةِ مِنْ الثَّانِي، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْحَبَلُ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ، وَحَقِيقَةُ نُزُولِ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي بَاطِلٌ فَيُقَامُ السَّبَبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ تَيْسِيرًا فَيَنْتَسِخُ بِهِ حُكْمُ لَبَنِ الْأَوَّلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: كَوْنُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَاللَّبَنُ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى بِاعْتِبَارِ الْغِذَاءِ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قُوَّةِ الْغِذَاءِ لَا مِنْ الْحَبَلِ الثَّانِي، فَلَا يَنْتَسِخُ بِهِ حُكْمُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ الثَّانِي، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْوِلَادَةِ. (قَالَ:) وَلَا يَجْتَمِعُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُمَا لَا يَجْتَمِعُ حَلَالًا شَرْعًا فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَكِنْ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ لَا يَثْبُتُ الثَّانِي وَإِذَا ثَبَتَ الثَّانِي انْتَفَى الْأَوَّلُ. (قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَرْضَعَتْهُ رَضَاعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ يَكْتَفِي الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مَنْ اعْتَبَرَ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ لِإِيجَابِ الْحُرْمَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ شَرَطَ الْعَدَدَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحْرُمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ، وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ.» وَفِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَسْخَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِيهِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَمِثْلُهُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرَّضَاعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ» يَعْنِي فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوَطْءِ، أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَتْلُوًّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ فَلِمَاذَا لَا يُتْلَى الْآنَ.؟ وَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ «فَدَخَلَ دَاجِنٌ الْبَيْتَ فَأَكَلَهُ» وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ ذَهَبَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّمَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ إرْضَاعُ الْكَبِيرِ مَشْرُوعًا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَإِنَّ إنْبَاتَ اللَّحْمِ وَإِنْشَازَ الْعَظْمِ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَكَانَ الْعَدَدُ مَشْرُوعًا فِيهِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِ حُكْمِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ:) وَالسَّعُوطُ وَالْوَجُورُ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ، فَإِنَّ السَّعُوطَ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ فَيَتَقَوَّى بِهِ، وَالْوَجُورُ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 فَيَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ، فَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ لِضِيقِ ذَلِكَ الثُّقْبِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ، فَلَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ عَادَةً، وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا احْتَقَنَ صَبِيٌّ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَيْنُ الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ بَلْ حُصُولُ مَعْنَى الْغِذَاءِ لِيَثْبُتَ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَعَالِي لَا مِنْ الْأَسَافِلِ ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ، وَالْحَاصِلُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ تَتَعَدَّى إلَى الْجَدَّاتِ وَالنَّوَافِلِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ. (قَالَ:) وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ، وَلَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ، وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ، وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ، وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَا عِتْقَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَلَا وَفَاءَ فِي نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا تَغَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ لِحَدِيثِ «سَهْلَةَ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا انْتَسَخَ حُكْمُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا فَكُنَّا نُعِدُّهُ وَلَدًا لَهُ، وَإِنَّ لَنَا بَيْتًا وَاحِدًا فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِينَ بِهَا عَلَيْهِ» وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَتَّى كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تَرْضِعَهُ خَمْسًا، ثُمَّ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً، ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَذَلِكَ فِي الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» يَعْنِي مَا يَرُدُّ الْجُوعَ، وَذَلِكَ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ قَبْلَ الطَّعَامِ» وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَمَاتَ الْوَلَدُ فَانْتَفَخَ ثَدْيُهَا مِنْ اللَّبَنِ فَجَعَلَ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّ، فَدَخَلَ بَعْضُ اللَّبَنِ فِي حَلْقِهِ فَجَاءَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: حَرُمَتْ عَلَيْكَ، فَجَاءَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هِيَ حَلَالٌ لَكَ، فَأَخْبَرَهُ بِفَتْوَى أَبِي مُوسَى فَقَامَ مَعَهُ إلَى أَبِي مُوسَى ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَرَضِيعٌ فِيكُمْ هَذَا لِلِّحْيَانِيِّ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَادَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَتِي فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَقَالَتْ: خُذْهَا دُونَكَ فَقَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتَكَ فَتَضْرِبَهَا ثُمَّ تَأْتِيَ جَارِيَتَكَ فَتَطَأَهَا، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ انْتِسَاخُ حُكْمِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ فِيهَا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِثَلَاثِينَ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَدَّرَا ذَلِكَ بِحَوْلَيْنِ وَزُفَرُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِرْضَاعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَإِلَّا فَلَا، وَاسْتَدَلَّا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وَلَا زِيَادَةَ بَعْدَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ يَكْتَفِي بِاللَّبَنِ وَبَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَكْتَفِي بِهِ فَكَانَ هُوَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233] الْآيَةَ فَاعْتُبِرَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي الْفَصْلَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] قِيلَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إذَا أَبَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيهِ بَعْدَهُ وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْسَى اللَّبَنَ وَيَتَعَوَّدَ الطَّعَامَ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ، وَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ بَعْضِ الْحَوْلِ وَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّهِ، وَتُقَدَّرُ مُدَّةُ الْفِطَامِ بِحَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ حَسَنٌ لِلِاخْتِبَارِ وَالتَّحَوُّلِ بِهِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. (قَالَ:) فَإِنْ فُطِمَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ فِي مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ عِنْدَهُمَا فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِوُجُودِ الْإِرْضَاعِ فِي الْمُدَّةِ، فَصَارَ الْفِطَامُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَوَّدْ الصَّبِيُّ الطَّعَامَ حَتَّى لَا يَكْتَفِي بِهِ بَعْدَ هَذَا الْفِطَامِ، فَأَمَّا إذَا صَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِالطَّعَامِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِرَضَاعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِالطَّعَامِ فَاللَّبَنُ بَعْدَهُ لَا يُغَذِّيهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَكَانَ قَبْلَ الطَّعَامِ أَيْ قَبْلَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالطَّعَامِ. (قَالَ:) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُمَّ ابْنِهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، وَهَذَا مِنْ النَّسَبِ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ لَا لِأَجْلِ النَّسَبِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّهَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الرَّضَاعِ فَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ يَتَزَوَّجُ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَمِثْلُهُ مِنْ النَّسَبِ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ يَحِلُّ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ فَلِأَخِيهِ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّضَاعِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ ابْنَةَ عَمَّتِهِ أَوْ ابْنَةَ خَالِهِ أَوْ ابْنَةَ خَالَتِهِ كَمَا لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي أَرْضَعَتْ أَخَاهُ أَوْ مَا بَدَا لَهُ مِنْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. (قَالَ:) وَلَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ أُخْتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي النَّسَبِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا، وَالْأُخْرَى أُنْثَى لَمْ يَجُزْ لِلذَّكَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُنْثَى، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْجَمْعِ لَيْسَ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الرَّضِيعَتَيْنِ رَحِمٌ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ. (قَالَ:) وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِ الْأَوَّلِ وَلَدًا وَهِيَ تَحْتَ الزَّوْجِ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَنْ كَانَ نُزُولُ اللَّبَنِ مِنْهُ لَا مَنْ هِيَ تَحْتَهُ، وَنُزُولُ هَذَا اللَّبَنِ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ. (قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ أَجْنَبِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُمَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهَا، وَيَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لِتَقُومَ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالثَّدْيِ، وَلَا تَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِلْأَجَانِبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الرَّضَاعُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ يَنْظُرُ إلَى الثَّدْيِ وَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِرْضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ تَحْصُلُ بِالْإِيجَارِ مِنْ الْقَارُورَةِ، وَذَلِكَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ عَدْلًا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةَ أَبِي هَانِئٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ثَالِثًا فَقَالَ فَارِقْهَا إذَنْ، فَقَالَ: إنَّهَا سَوْدَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَيْنِ وَلِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دَلِيلُنَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ» فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِهَا حَيْثُ كَرَّرَ السُّؤَالَ أَمَرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا احْتِيَاطًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ كَانَتْ عَنْ ضِغْنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبِينَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ» وَبِالْإِجْمَاعِ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ احْتِيَاطًا عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ» وَعِنْدَنَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا وَيَأْخُذَ بِالثِّقَةِ، سَوَاءٌ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَسَوَاءٌ شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ، فَأَمَّا الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ ثِقَةً حَجَّةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْحُكْمِ وَالْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحُجَّةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ دِينِيَّةٌ يُفْتِي لَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ. (قَالَ:) وَإِذَا نَزَلَ لِلْمَرْأَةِ لَبَنٌ وَهِيَ بِكْرٌ لَمْ تَتَزَوَّجْ فَأَرْضَعَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 شَخْصًا صَغِيرًا فَهُوَ رَضَاعٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ حُصُولُ شُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَاَلَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْ اللَّبَنِ جُزْءٌ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَلَبَنُهَا يُغَذِّي الرَّضِيعَ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ. (قَالَ:) وَإِذَا حُلِبَ اللَّبَنُ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ مَاتَتْ فَشَرِبَهُ صَبِيٌّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ بِهَذَا اللَّبَنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهَا فِي الْإِرْضَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَائِمَةً فَارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِهَا الصَّبِيُّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَكَذَلِكَ الْإِيجَارُ لَوْ حَصَلَ فِي حَيَاتِهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَبَ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَثْبُتُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْلَبُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَمَا فِيهِ الْحَيَاةُ إذَا بَانَ مِنْ الْحَيِّ يَكُونُ مَيِّتًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّبَنِ حَيَاةٌ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بَلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْقَى طَاهِرًا وَعِنْدَهُمَا يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ كَمَا فِي إنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ، فَكَأَنَّهُ حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي قَارُورَةٍ نَجِسَةٍ فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ بِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اللَّبَنُ يَمُوتُ فَيَكُونُ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ، فَلَا تَثْبُتُ بِمَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ عِنْدَهُ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَكَذَلِكَ إيجَارُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ حَرَامُ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، ثُمَّ قَاسَ لَبَنَ الْمَيِّتَةِ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ حَرَامًا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ إذَا تَحَقَّقَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ حَقِيقَةً فَكَذَا هُنَا ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّبَنَ يُغَذِّي الصَّبِيَّ فَيَتَقَوَّى بِهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُ حُرْمَةَ اللَّبَنِ بِالْمَوْتِ فَبِالْحُرْمَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُغَذِّيًا. أَلَا تَرَى أَنَّ لَحْمَ الْمَيْتَةِ مُغَذٍّ فَكَذَلِكَ لَبَنُهَا وَبِهِ فَارَقَ وَطْءَ الْمَيِّتَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ يَنْعَدِمُ مِنْهُ أَصْلًا وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: الْجِمَاعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِجِمَاعٍ، وَإِيجَارُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ رَضَاعٌ، وَشَبَّهَ اللَّبَنَ بِالْبَيْضَةِ، فَإِنَّ بِالْمَوْتِ لَا تَخْرُجُ الْبَيْضَةُ أَنْ تَكُونَ مُغَذِّيَةً فَكَذَا اللَّبَنُ. (قَالَ:) وَلَوْ أُرْضِعَ الصَّبِيَّانِ مِنْ بَهِيمَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ طَعَامٍ أَكَلَاهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ، يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ بُخَارَى فِي زَمَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجَعَلَ يُفْتِي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَفْعَلْ فَلَسْتَ هُنَالِكَ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ نُصْحَهُ حَتَّى اُسْتُفْتِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إذَا أُرْضِعَ صَبِيَّانِ بِلَبَنِ شَاةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 فَأَفْتَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بُخَارَى بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ دُونَ لَبَنِ الْأَنْعَامِ، وَشُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ لَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْأَنْعَامِ بِشُرْبِ لَبَنِهَا فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ بِشُرْبِ لَبَنِ بَهِيمَةٍ، وَهَذَا قِيَاسُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، وَلَا تَثْبُتُ بِوَطْءِ الْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ:) وَلَوْ صُنِعَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي طَعَامٍ فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ، فَإِنْ كَانَتْ النَّارُ قَدْ مَسَّتْ اللَّبَنَ وَأَنْضَجَتْ الطَّعَامَ حَتَّى تَغَيَّرَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَضَاعٍ، وَلَا يُحَرِّمْ؛ لِأَنَّ النَّارَ غَيَّرَتْهُ فَانْعَدَمَ بِهَا مَعْنَى التَّغَذِّي بِاللَّبَنِ، وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ، وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ لَمْ تَمَسَّهُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ هُوَ الْغَالِبُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَلِأَنَّ هَذَا أَكْلٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ شُرْبُ اللَّبَنِ دُونَ الْأَكْلِ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ هُوَ اللَّبَنُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إلْقَاءُ الطَّعَامِ فِي اللَّبَنِ يُغَيِّرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِقُّ بِهِ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ لَوْنُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَيَّرَتْهُ النَّارُ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ لَا يَتَقَاطَرُ اللَّبَنُ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ حَمْلِ اللُّقْمَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ مِنْهُ اللَّبَنُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ اللَّبَنِ إذَا دَخَلَتْ حَلْقَ الصَّبِيِّ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّيَ كَانَ بِالطَّعَامِ دُونَ اللَّبَنِ. (قَالَ:) وَإِذَا جَعَلَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي دَوَاءٍ فَأَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا أَوْ أَسُعِطَ مِنْهُ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ، فَهَذَا رَضَاعٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِيَصِلَ بِقُوَّةِ الدَّوَاءِ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ مَعْنَى التَّغَذِّي بِهِ فَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ. (قَالَ:) وَإِنْ جَعَلَ اللَّبَنَ فِي مَاءٍ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ خَلَطَ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ اللَّبَنِ، إذَا جُعِلَ فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ فَأَمَّا إذَا خَلَطَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى ثُمَّ أَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكْثُرُ بِجِنْسِهِ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ لَبَنُهَا غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْأُخْرَى قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخَلَطَ لَبَنَهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى فَشَرِبَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. (قَالَ:) الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَالْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ:) وَإِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ لَمْ تَحِلَّ لِابْنِهِ، وَلَا لِأَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا، وَلَا ابْنَتُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا لَا تَحِلُّ لِابْنِهِ وَأَبِيهِ نَسَبًا، فَإِنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ تَعَلَّقَتْ بِأَسَامٍ تَثْبُتُ تِلْكَ الْأَسَامِي بِالرَّضَاعَةِ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْهُ أُخْتَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّضَاعِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالنَّسَبِ، وَالْعِدَّةُ تَعْمَلُ عَمَلَ صُلْبِ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أُمُّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ أَوْ أُخْتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ بِلَبَنِ ابْنِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِعِلَّةِ الْمُنَافَاةِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةً وَالْمُنَافِي كَمَا يُؤَثِّرُ إذَا اقْتَرَنَ بِالنَّسَبِ يُنَافِي الْبَقَاءَ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ، فَإِذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَزِمَهُ بِذَلِكَ نِصْفُ الْمَهْرِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتْ لَا بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا أَوْ حَصَلَتْ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَهِيَ الْمَحْرَمِيَّةُ، فَيَجِبُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ الْفَسَادَ أَوْ عَمَدَتْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْطَأَتْ أَوْ أَرَادَتْ الْخَيْرَ بِأَنْ خَافَتْ عَلَى الرَّضِيعِ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهَا، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهَا إنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا تَعَمُّدُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ فِي بَاطِنِهَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي نِيَّتِهَا إذَا أَرَادَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تُرِدْ؛ لِأَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ لِهَذِهِ الْفُرْقَةِ لَا مُبَاشِرَةٌ، فَإِنَّهَا مُبَاشِرَةٌ لِلْإِرْضَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ، وَالْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَضْمَنُ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ مَا يَسْقُطُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْحَافِرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْفَسَادَ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي السَّبَبِ وَإِذَا لَمْ تُرِدْ الْفَسَادَ لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةً فِي السَّبَبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ، وَلِهَذَا جَعَلَ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلَّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِ الْمَنْكُوحَةِ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَ نِكَاحِهِ فِيهَا، وَمِلْكُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 النِّكَاحِ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ حَتَّى قَالَ فِي شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعَا ضَمِنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِ عَيْنٍ، وَلَا مَنْفَعَةٍ إنَّمَا هُوَ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ بِالْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، وَتَقَوُّمُ الْبُضْعِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ لِلْبُضْعِ وَهُوَ مُحْتَرَمٌ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ لَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَسْتَدْعِي التَّقَوُّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهَا بِإِتْلَافِ الْبُضْعِ، وَلَكِنَّهَا قَرَّرَتْ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ قَرَّرَتْ النِّصْفَ عَلَيْهِ بِمَا فَعَلَتْهُ وَهِيَ مُتَسَبِّبَةٌ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّيَةٌ إذَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَمَّتَهَا فَنِكَاحُ الْعَمَّةِ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْعَمَّةِ الصَّبِيَّةَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ وَإِنْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْعَمَّةِ بِالرَّضَاعَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْعَمَّةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ الْحَرَامُ فَلِهَذَا بَقِيَ نِكَاحُ الصَّبِيَّةِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ مَعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا فَتَقَرَّرَ الْجَمْعُ الْمُنَافِي، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَإِذَا بَانَتَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا بِأَنْ حَلَبَتْ لَبَنَهَا فِي قَارُورَةٍ وَأَلْقَمَتْ إحْدَى ثَدْيَيْهَا إحْدَاهُنَّ وَالْأُخْرَى لِلْأُخْرَى، وَأَوْجَرَتْ الثَّلَاثَةَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ مَعًا، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْأُخْتِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَفِي نِكَاحِهَا، وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهُنَّ جَمِيعًا وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ بَانَتْ الْأُولَيَانِ لِلْأُخْتِيَّةِ وَحِينَ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ بَانَتْ الْأُخْرَيَانِ أَيْضًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 لِلْأُخْتِيَّةِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ الثَّلَاثَ أَوَّلًا مَعًا ثُمَّ الرَّابِعَةَ بَانَتْ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ دُونَ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْهَا فَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَصَبِيَّتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْمَرْأَةُ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ حُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيَّةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَقَدْ صَارَتَا أُمًّا وَابْنَةً فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَبَقِيَ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ السَّابِقَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ثُمَّ لَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهَا إنَّمَا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْكَبِيرَةِ حِينَ أَرْضَعَتْهَا، فَإِنَّ اللَّبَنَ يَصِلُ إلَى جَوْفِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهَا فِي الِارْتِضَاعِ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ، وَأَمَّا الصَّبِيَّةُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ إذَا فَارَقَتْهُ الَّتِي عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ حُرِّمْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا ابْنَتَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ ثُمَّ لِلْكَبِيرَةِ مَهْرُهَا وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَبَدًا لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ كَبِيرَتَيْنِ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ صَغِيرَةً وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ صَغِيرَةٍ صَارَتْ بِنْتًا لِمَنْ أَرْضَعَتْهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْكَبِيرَتَيْنِ، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فَقَدْ بَانَتَا لِمَا قُلْنَا، وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرَةِ الْأُولَى، فَأَمَّا بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرَةِ الثَّانِيَةَ، فَإِنْ بَدَأَتْ بِإِرْضَاعِهَا بَانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ بَدَأَتْ بِإِرْضَاعِ الْأُولَى فَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فِيمَا سَبَقَ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أُخْتُهُ أَوْ أُمُّهُ أَوْ ابْنَتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَقَالَ: أَوْهَمْتُ أَوْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَهُمَا مُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: هُوَ حَقٌّ كَمَا قُلْتُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُقَرُّ بِهِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ فَسَوَاءٌ رَجَعَ أَوْ ثَبَتَ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِزَعْمِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ فَقَدْ يَقَعُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ رَضَاعٌ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ ثُمَّ يَتَفَحَّصُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ شَرْعًا لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ غَلِطَا، فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يُكَذِّبُهُمَا فِي خَبَرِهِمَا. (وَالثَّانِي) أَنَّ إقْرَارَهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ عَلَيْهَا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ صِفَةُ الْمَحَلِّ وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ لَازِمًا، فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَذَا إبْطَالَ شَيْءٍ لَزِمَهُ فَلِهَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَقَالَتْ أَخْطَأْتُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ عَلَى قَوْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَالْمُجَدِّدِ لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِقْرَارُهَا بِالْمَحْرَمِيَّةِ بَعْدَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالْحُرْمَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا، فَإِنْ قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بَعْدَ النِّكَاحِ قُلْنَا إنَّمَا لَا يَجِبُ لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْهَا عَلَى بُطْلَانِ أَصْلِ النِّكَاحِ، أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْقَصْدِ إلَى إسْقَاطِ الْمَهْرِ إذْ سَبَقَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْمِلْكِ، إمَّا بِالْمُنَافَاةِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ، وَإِقْرَارُ الرَّجُلِ مُؤَثِّرٌ فِي ذَلِكَ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ. (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَثَبَتَ عَلَيْهَا وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَتْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ بَعْدَ النِّكَاحِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَلَى مَقَالَتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَقٌّ لَا غَلَطَ فِيهِ فَقَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ وَصَارَ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ بَعْدَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَنْفَعُهُ الْجُحُودُ، وَلَوْ أَقَرَّا بِذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ كَذَّبَا أَنْفُسَهُمَا، وَقَالَا: أَخْطَأْنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْبَابُ فِي النَّسَبِ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إلَّا مَا بَيَّنَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ وَالِاشْتِبَاهَ فِيهِ أَظْهَرُ، فَإِنَّ سَبَبَ النَّسَبِ أَخْفَى مِنْ سَبَبِ الرَّضَاعِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْإِقْرَارُ بِدُونِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا بَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 النِّكَاحِ هِيَ أُخْتِي أَوْ ابْنَتِي أَوْ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ قَالَ: أَخْطَأْتُ أَوْ أَوْهَمْتُ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا النُّطْقِ، وَقَالَ هُوَ حَقٌّ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ جَحَدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ جُحُودُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ إنَّمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: أَوْهَمْتُ فَقَدْ انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرَطَهُ، فَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ وُجِدَ مَا هُوَ شَرْطُ الْإِقْرَارِ فَثَبَتَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْفُرْقَةُ ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذِهِ أُخْتِي أَوْ هَذِهِ ابْنَتِي، وَلَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْتُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ هَذَا ابْنِي أَوْ هَذِهِ ابْنَتِي ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْتُ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ فِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مُوجِبًا فِي مِلْكِهِ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مُوجَبٌ فِي مِلْكِهِ كَانَ هُوَ مُقِرًّا بِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ فَلِهَذَا يُتِمُّ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنَسَبِ زَوْجَتِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ أَصْلًا لَا أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ ثُمَّ يَزُولَ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ، فَمُوجِبُ إقْرَارِهِ هُنَا لَا يَظْهَرُ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْمَحَلِّ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ صِفَةُ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ مُتَنَاوِلًا لِمِلْكِهِ ابْتِدَاءً، فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ بِحُكْمِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالِابْنِ بَلْ عَبْدُهُ فِي الْغَالِبِ مُبَايِنٌ لِابْنِهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَجْلِسِ، فَإِذَا كَانَ الِاشْتِبَاهُ يَنْدُرُ فِيهِ لَا يُعْتَبَرُ، فَأَمَّا الِاشْتِبَاهُ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَجْلِسِ فَلِهَذَا يُعْذَرُ إذَا قَالَ: أَوْهَمْتُ. (قَالَ:) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ أُمِّي وَلَهُ أُمٌّ مَعْرُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ شَرْعًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الشَّرْعِ إيَّاهُ أَقْوَى مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، وَلَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ، وَقَالَ: أَوْهَمْتُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فَكَذَا إذَا أَكْذَبَهُ الشَّارِعُ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا أَكْذَبَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا إنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ الْعَبْدِ مُصَادِفٌ مِلْكَهُ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ، وَإِنْ امْتَنَعَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنَسَبِ امْرَأَتِهِ لَا يُصَادِفُ مِلْكَهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا يُصَادِفُ الْمَحَلَّ فَيَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ثُمَّ يَنْبَنِي عَلَيْهِ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وَهُنَا حُرْمَةُ الْمَحَلِّ لَمْ تَثْبُتْ حِينَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَمِثْلُهَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ إيَّاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ وَكَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَيُجْعَلُ النَّسَبُ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ حَتَّى يَنْتَفِيَ مِلْكُهُ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا إلَّا بِتَصْدِيقِهَا، فَلَا يَلْزَمُهَا الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْحَقِيقَةِ إيَّاهُ أَقْوَى مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ مَا قُلْنَا إنَّ لِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةُ، فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: مُوجِبُهُ نَفْيُ أَصْلِ النِّكَاحِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَجُحُودُهُ لِأَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَرْضَعَتْنِي وَمِثْلُهَا لَا يُرْضِعُ، وَلَا لَبَنَ لَهَا، فَإِنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي ذَلِكَ حَقِيقَةً فَيَنَزَّلُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، فَلِهَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْإِحْصَانِ] (قَالَ:) لَا يُحْصِنُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إلَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ، وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ، وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ» وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ثُبُوتَ الْإِحْصَانِ يَخْتَصُّ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَفِي مَعْنَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفَرْقِ أَنَّ الْإِحْصَانَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ الْوَطْءِ بَيْنَ مُسْتَوَى الْحَالِ فِي صِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بَيْنَ مُسْتَوَى الْحَالِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا وُجِدَ الدُّخُولُ بِالْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرِّ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بِالْكِتَابِيَّةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِرْ مُحْصَنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِيرُ مُحْصَنًا قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الَّتِي تُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مُحْصَنَةٌ، وَأَنَّهَا تُرْجَمُ إذَا زَنَتْ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ، وَعَلَى الْمُسْلِمَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ بِدَلِيلِ جَوَازِ نِكَاحِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ وَوِلَايَةِ الْمُبَاشَرَةِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهَا، فَكَمَا يَصِيرُ مُحْصَنًا بِالدُّخُولِ بِالْمُسْلِمَةِ، فَكَذَلِكَ بِالْكِتَابِيَّةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ بَلْ حَالُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ، وَبِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ فِي وِلَايَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَفِي مَعْنَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِمَا فِي طَبْعِهِ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْ الْمَجْنُونَةِ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ لَمَّا «أَرَادَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ» وَلَمَّا أَرَادَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَإِذَا كَانَ الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ بِوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتَ بِوَطْءِ الْكَافِرَةِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الِازْدِوَاجِ لَا يَتِمُّ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ فَقَلَّ مَا يَرْكَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى صَاحِبِهِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ لَا يَصِيرَانِ مُحْصَنَيْنِ بِالدُّخُولِ، وَمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتَ هُنَا كَانَ أَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمَةُ لَا يُحْصِنُهَا الزَّوْجُ إذَا كَانَ كَافِرًا بِأَنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الْكَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِرْ هِيَ بِهَذَا الدُّخُولِ مُحْصَنَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَا يُحْصِنُهَا الْعَبْدُ وَالْمَجْنُونُ وَغَيْرُ الْبَالِغِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِهَا بِجَانِبِهِ، فَإِنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْحَالِ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِوَطْءٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ نِعْمَةً كَامِلَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ. (قَالَ:) وَجِمَاعُ هَؤُلَاءِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الَّذِي قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إذَا كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَلَّتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِهَذَا الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بَيْنَهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا تَزَوَّجَهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَدَخَلَ بِهَا حَلَّتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنَّمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِرَفْعِ الطَّلَقَاتِ مُغَايَظَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ بِهَا كَمَا يَحْصُلُ بِدُخُولِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بَلْ مَعْنَى الْمُغَايَظَةِ فِي هَذَا أَكْثَرُ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ، فَإِنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى كَمَالِ النِّعْمَةِ، وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ فِي هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. وَعَلَى هَذَا دُخُولُ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ بِالْمَرْأَةِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ لِلْأَوَّلِ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ دُونَ فِعْلِ الْبَالِغِ فَلِانْعِدَامِ صِفَةِ الْكَمَالِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَاسْمُ الزَّوْجِ يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ ثُمَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ كَتَقْرِيرِ الْمُسَمَّى وَالْعِدَّةِ وَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ مُغَايَظَةُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَاصِلٌ أَيْضًا، فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ» قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ الْإِنْزَالَ بَلْ هِيَ اللَّذَّةُ، وَهِيَ تَنَالُ ذَلِكَ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ كَمَالُ فِعْلِ الصَّبِيِّ فِي الْوَطْءِ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ فِعْلُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ جِمَاعُ الْبَالِغِ الْمُحْصَنِ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ يَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا ثَبَتَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا وَطِئَ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ لِوُجُودِ فِعْلِ الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَهُوَ كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِالْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَيَثْبُتَ بِهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ أَيْضًا، وَاعْتُبِرَ الْوَطْءُ بِالْعَقْدِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَالْعَقْدِ عَلَى الْبَالِغَةِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، فَكَذَلِكَ الْوَاطِئُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى - قَالَا: ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْوَطْءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَلَكِنَّ ثُبُوتَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ إذَا كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَعْضِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَاءِ فَهُوَ بَاطِنٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُقَامَهُ، وَهُوَ بُلُوغُهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُشْتَهَى أُنْزِلَتْ مَنْزِلَةَ الْبَالِغَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِوَطْئِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى. أَلَا تَرَى أَنَّ إبَاحَةَ هَذَا الْفِعْلِ شَرْعًا لِمَقْصُودِ النَّسْلِ ثُمَّ جَعَلَ بُلُوغَهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ فِي حُكْمِ إبَاحَةِ هَذَا الْفِعْلِ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ الْبُلُوغِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، بِخِلَافِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ فِي الْمَحَلِّ، فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَاَلَّتِي لَا يُجَامَعُ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْفِعْلُ فِي الْمَأْتَى وَغَيْرِ الْمَأْتَى. . (قَالَ:) وَالْخَلْوَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْبَالِغَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 الْمُسْلِمَيْنِ وَرَاءَ سِتْرٍ أَوْ بَابٍ مُغْلَقٍ يُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُوجِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الْآيَةَ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ الْجِمَاعُ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَنِّي الْقَبِيحَ بِالْحَسَنِ كَمَا كَنَّى بِالْمَسِّ عَنْ الْجِمَاعِ وَلِأَنَّ هَذِهِ خَلْوَةٌ خَلَتْ عَنْ الْإِصَابَةِ، فَلَا تُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ كَالْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِقَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْنًى فِي بَاطِنِهَا لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى إلَّا بِالْآلَةِ الَّتِي تَصِلُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا تَكُونُ الْخَلْوَةُ فِيهَا قَبْضًا كَالْقِصَاصِ، فَإِنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْبَاطِنِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى إلَّا بِالْآلَةِ الْجَارِحَةِ فَلَمْ تَكُنْ الْخَلْوَةُ فِيهِ قَبْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّجْعَةِ وَبَقَاءُ الْمُطَالَبَةِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّ الْخَلْوَةَ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ لَا تُجْعَلُ كَاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضِ} [النساء: 21] نَهَى عَنْ اسْتِرْدَادِ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخَلْوَةِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمَكَانُ الْخَالِي فَضَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ أَفْضَيْتُ إلَيْهِ بِشَغَرِي أَيْ خَلَوْتُ بِهِ، وَذَكَرْتُ لَهُ سِرِّي، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا تَلِي الْمَسِيسَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهِيَ الْخَلْوَةُ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَشَفَ قِنَاعَ امْرَأَتِهِ وَقَبَّلَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» وَلَمَّا فَرَّقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ أَلْزَمَاهُ كَمَالَ الْمَهْرِ، وَقَالَا مَا ذَنْبُهُنَّ إنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ بَابًا أَوْ أَرْخَى حِجَابًا كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلِأَنَّهَا أَتَتْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَيَتَقَرَّرُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يَتَقَرَّرُ بِتَسْلِيمِ مَنْ لَهُ الْبَدَلُ لَا بِاسْتِيفَاءِ مَنْ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي أَوْ خَلَّى الْآجِرُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ يَتَقَرَّرُ الْبَدَلُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ عَلَّقْنَا تَقَرُّرَ الْبَدَلِ بِالِاسْتِيفَاءِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَصْدًا مِنْهُ إلَى الْإِضْرَارِ بِمَنْ لَهُ الْبَدَلُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّسْلِيمُ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا مَا فِي وُسْعِهَا، وَفِي وُسْعِهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ فِي حَالِ زَوَالِ الْمَانِعِ لَا حَقِيقَةِ اسْتِيفَاءِ الْوَطْءِ، فَإِذَا أَتَتْ بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ عَلَى أَنْ تُقَامَ نَفْسُهَا مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهَا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ أُقِيمَتْ نَفْسُهَا مُقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ بِتَسْلِيمٍ مَا بِاعْتِبَارِهِ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ، وَهَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 بِخِلَافِ حَقِّ الرَّجْعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ الَّذِي أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ وَلَيْسَ فِيهِ تَصَوُّرُ الرَّجْعَةِ، وَمُطَالَبَتُهَا بِالْوَطْءِ لِيَسْتَعِفَّ بِهِ وَيَحْصُلَ لِنَفْسِهَا صِفَةُ الْإِحْصَانِ بِسَبَبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَدُّ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ وَطْئِهَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا أَوْ كَانَتْ هِيَ حَائِضًا لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، وَفِي صَوْمِ الْقَضَاءِ رِوَايَتَانِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِالْفِطْرِ قَضَاءُ يَوْمٍ وَهُوَ يَسِيرٌ كَمَا فِي صَوْمِ النَّفْلِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ اعْتِبَارًا لِلْقَضَاءِ بِالْأَدَاءِ، وَفِي صَوْمِ النَّفْلِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَيْضًا أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ بِمَنْزِلَةِ حَجِّ النَّفْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ لَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ حِسًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا وَقَدْ بَيِّنَاهُ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ مِمَّنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ كَصَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ خَلَا بِزَوْجَتِهِ وَهُنَاكَ أَمَتُهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ هُنَاكَ أَمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ أَمَتِهِ دُونَ أَمَتِهَا ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ غَشَيَانِهَا بَيْنَ يَدَيْ أَمَتِهِ طَبْعًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَا بِزَوْجَتَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْخَلْوَةُ لِمَا قُلْنَا، وَالْمَكَانُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِيهِ أَنْ يَأْمَنَا فِيهِ اطِّلَاعَ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَالسَّطْحِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى جَوَانِبِهِ سُتْرَةٌ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُجْعَلُ كَالِاسْتِيفَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ أَقَرَّا بِالْجِمَاعِ لَزِمَهُمَا حُكْمُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا صُدِّقَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ. وَلَا يُحْصَنُ الْخَصِيُّ إذَا كَانَ لَا يُجَامِعُ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ حَتَّى ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ فَفِي الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ، وَفِي الْمَجْبُوبِ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ تَصِيرُ مُحْصَنَةً لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَصِيرُ هِيَ مُحْصَنَةً؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْجِمَاعِ بِدُونِ الْآلَةِ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ بِطَرِيقِ الْإِنْزَالِ بِالسَّحْقِ وَلَيْسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 ذَلِكَ مِنْ الْجِمَاعِ فِي شَيْءٍ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْإِحْصَانِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، الرَّتْقَاءُ لَا تُحْصِنُ الرَّجُلَ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ مَعَ الرَّتْقِ، وَلَا إحْصَانَ بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْحَالِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِوَطْءٍ هُوَ نِعْمَةٌ بَلْ نِهَايَةٌ فِي النِّعْمَةِ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَرَامٌ، فَلَا يُوجِبُ الْإِحْصَانَ. (قَالَ:) وَإِذَا دَخَلَ الْخُنْثَى بِامْرَأَتِهِ أَوْ دَخَلَ بِالْخُنْثَى زَوْجُهَا فَهُمَا مُحْصَنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَالْجِمَاعُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْإِحْصَانِ. (قَالَ:) وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ بِامْرَأَتِهِ الْمُسْلِمَةِ ثُمَّ ارْتَدَّا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - بَطَلَ إحْصَانُهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيَلْحَقُ الْمُرْتَدُّ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا، فَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا فَالْمُرْتَدُّ كَذَلِكَ. فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ إلَّا بِجِمَاعٍ جَدِيدٍ بِمَنْزِلَةِ زَوْجَيْنِ حَرْبِيَّيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَسْلَمَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَعَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ إذَا أَعْتَقَهَا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يُجَامِعَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ جَامَعَهَا فَهُمَا مُحْصَنَانِ عَلِمَا بِالْعِتْقِ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارُ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، فَإِذَا جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَقَدْ جَامَعَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ بَعْدَمَا كَمُلَ حَالُهُمَا بِالْعِتْقِ فَكَانَا مُحْصَنَيْنِ. (قَالَ:) وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ الدُّخُولَ فَهُمَا مُحْصَنَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ عَلَى الدُّخُولِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَبِثُبُوتِ النَّسَبِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا مُكَذَّبَانِ فِي إنْكَارِهِمَا الدُّخُولَ شَرْعًا، وَالْمُكَذَّبُ شَرْعًا لَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ. (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ جَامَعَهَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَنْ يَصْدُقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ مِنْ أَمْرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا وَهُوَ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَا حَقَّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي فِي ذَلِكَ، فَإِنْكَارُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَبَرهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَتْ الدُّخُولَ بَعْدَ إقْرَارِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي فَارَقَهَا هُوَ الَّذِي أَقَرَّ بِالْجِمَاعِ وَلَمْ تُقِرَّ هِيَ لَمْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ خَلَا بِهَا أَوْ لَمْ يَخْلُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُحْصَنَةً بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا إذَا أَنْكَرَتْ هِيَ، فَكَذَلِكَ لَا تَصِيرُ مُحَلَّلَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ. (قَالَ:) وَإِذَا قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي أَوْ مَاتَ عَنَى وَانْقَضَتْ عِدَّتِي حَلَّ لِخَاطِبِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيُصْدِقَهَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَمِينٌ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، إنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ إذَا أَكْذَبَهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ هُنَا فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ، فَلِهَذَا جَازَ قَبُولُ خَبَرِهَا فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ] (قَالَ:) بَلَغْنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الدَّهْرِ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ فِيهَا الْعُزُوبَةُ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا»، وَتَفْسِيرُ الْمُتْعَةِ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ بِكَذَا مِنْ الْبَدَلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وَلِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ يَبْقَى حَتَّى يَظْهَرَ نَسْخُهُ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَادَى يَوْمَ خَيْبَرَ أَلَّا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ» وَمِنْهُ حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتْعَةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَجِئْتُ مَعَ عَمٍّ لِي إلَى بَابِ امْرَأَةٍ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدَةٌ وَكَانَ بُرْدَةُ عَمِّي أَحْسَنَ مِنْ بُرْدَتِي فَخَرَجَتْ امْرَأَةٌ كَأَنَّهَا دُمْيَةٌ عَيْطَاءُ فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَى شَبَابِي وَإِلَى بُرْدَتِهِ، وَقَالَتْ هَلَّا بُرْدَةٌ كَبُرْدَةِ هَذَا أَوْ شَبَابٌ كَشَبَابِ هَذَا ثُمَّ آثَرَتْ شَبَابِي عَلَى بُرْدَتِهِ فَبِتُّ عِنْدَهَا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إذَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي أَلَّا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى - وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْهَا» ثُمَّ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُتْعَةِ قَطُّ إنَّمَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ مُؤَقَّتَةً بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَا يَبْقَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَى دَلِيلِ النَّسْخِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَوْ كُنْت تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرَجَمْت، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ فَثَبَتَ النَّسْخُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] الْآيَةَ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ، وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ لَهُ، وَبَيَانُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] الزَّوْجَاتُ فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] وَالْمُحْصِنُ النَّاكِحُ (قَالَ:) وَإِنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ شَهْرًا فَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْكَ، فَهَذَا مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْتُهُ، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ مَيِّتًا لَرَجَمْتُ قَبْرَهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ إنَّمَا التَّوْقِيتُ فِي الْمُتْعَةِ، فَإِذَا وَقَّتَا فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا التَّنْصِيصُ عَلَى الْمُتْعَةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَفْظَ النِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ مُؤَبَّدًا أَوْ فِي مُدَّةٍ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَا الْعَقْدَ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْحُكْمِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَعْقِدَا فِيهِ الْعَقْدَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَضَافَا النِّكَاحَ إلَى مَا بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَاهُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّوْقِيتَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ يَنْعَدِمُ بِالتَّوْقِيتِ أَصْلُ الْعَقْدِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يَعْقِدَاهُ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ فَاشْتِرَاطُ الْقَاطِعِ بَعْدَ شَهْرٍ لِيَنْقَطِعَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا عَقَدَا الْعَقْدَ مُؤَبَّدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الشَّرْطُ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، وَهُنَا لَوْ صَحَّ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ ذَكَرَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَأْكِيدَ مَعْنَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَا مُدَّةً قَدْ يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَعِنْدَنَا الْكُلُّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ فَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُهُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الدَّعْوَى فِي النِّكَاحِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَتْ أُخْتُهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنَّهُ أَتَاهَا بِزَوْجٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّجُلِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ صَدَّقَتْهُ أَوْ لَمْ تُصَدِّقْهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ لَهَا فَالزَّوْجُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ، وَالْأُخْتُ الْأُخْرَى تَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهَا حَقٌّ لِزَوْجٍ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا، وَبَيِّنَةُ الْمَرْءِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا وَجْهَ لِلْعَمَلِ بِبَيِّنَةِ الْأُخْتِ فِي إثْبَاتِ نِكَاحِهَا، فَلَوْ قَبِلْنَاهَا إنَّمَا نَقْبَلُهَا فِي نَفْيِ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ أَثْبَتَ الزَّوْجُ نِكَاحَهَا، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ نِكَاحَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِحُرْمَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَإِقْرَارُهُ مُوجِبٌ لَلْفُرْقَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِنِكَاحِ الْأُخْرَى فَبَقِيَتْ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ قَائِمَةً عَلَى النَّفْيِ، وَلَا مَهْرَ لِلْأُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ نِكَاحِهَا لَمْ يَثْبُتْ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا، وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجِ قَالَ هِيَ هَذِهِ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا، فَإِنَّ تَصَادُقَهُمَا فِي حَقِّهِمَا أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ جَحَدَتْ ذَلِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَالشَّهَادَةُ بِالْمَجْهُولِ لَا تَكُونُ حُجَّةً وَلِأَنَّهُ إمَّا أَنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاطِلًا أَوْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا الشُّهُودُ فَقَدْ ضَيَّعُوا شَهَادَتَهُمْ، فَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ بَقِيَ دَعْوَى الزَّوْجِ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِدَعْوَتِهِ، وَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الَّتِي يَدَّعِي النِّكَاحَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ تَزَوَّجَهَا، وَلَا يَعْرِفُونَ أَيَّهمَا هُوَ وَالرَّجُلَانِ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا مَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا دَعْوَى النِّكَاحِ. وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمَهْرِ اسْتَحْلَفَتْهُ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا الْآنَ دَعْوَى الْمَالِ وَالِاسْتِحْلَافُ مَشْرُوعُ فِي دَعْوَى الْمَالِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ كَانَ فِي الْمَالِ لَا فِي النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عِنْدَ النُّكُولِ بِمَا اُسْتُحْلِفَ فِيهِ خَاصَّةً كَمَا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا اُسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ. (قَالَ:) وَإِنْ ادَّعَتْ أُخْتَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهُمَا جَمِيعًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا كَانَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ فَأَيُّهُمَا قَالَ هِيَ الْأُولَى فَهِيَ الْأُولَى، وَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْعَمَلُ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الثَّابِتَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ السَّابِقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 مِنْهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانُ السَّابِقِ مِنْهُمَا إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهَا وَلِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ تَصْدِيقُهُ إحْدَاهُمَا يُرَجِّحُ بَيِّنَتَهَا، فَإِذَا ظَهَرَ الرُّجْحَانُ فِي بَيِّنَةِ إحْدَاهُمَا قَضَى بِنِكَاحِهَا وَانْدَفَعَتْ بَيِّنَةُ الْأُخْرَى، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَإِنْ جَحَدَ الزَّوْجُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُهُمَا جَمِيعًا، وَلَا أَدْرَى أَيَّتَهُمَا الْأُولَى فَهُوَ سَوَاءٌ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَا تَرْجِيحَ لِإِحْدَاهُمَا فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ، فَإِذَا تَجَاهَلَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْمَهْرِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا صَحِيحٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ الزَّوْجُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى حَكَمْنَا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، فَإِذَا أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْمَهْرِ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ قَالَ: جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ فَصْلَيْنِ وَأَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَمَّا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُهُمَا جَمِيعًا، وَلَا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا الْأُولَى، أَمَّا إذَا قَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ تَعَذَّرَ لِلتَّعَارُضِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا جَوَابُ الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي حُكْمِ الْحِلِّ دُونَ الْمَهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَوْ قَامَتَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ عُمِلَ بِهِمَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ وَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ بِالْمَهْرِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، وَجَهَالَةُ الْمَقْضِيِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: يُقْضَى بِجَمِيعِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَرْتَفِعْ بِجُحُودِهِ فَيُقْضَى بِمَهْرٍ كَامِلٍ لِلَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِهَا بِالدُّخُولِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْعَقْدِ تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ كَمَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ تَلَقِّي الْمِلْكَ فِي عَيْنٍ مِنْ ثَالِثٍ بِالشِّرَاءِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ، وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ هُنَا بِأَنْ يَجْعَلَ نِكَاحَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا سَابِقًا، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: هِيَ الْأَخِيرَةُ وَتِلْكَ الْأُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِإِقْرَارِهِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، حَتَّى يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لَهَا، وَلَا يُصْدِقُ عَلَى أَنْ يَنْقُصَهَا عَنْ ذَلِكَ وَكَانَتْ الْأُخْرَى امْرَأَتَهُ أَيْضًا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى. (قَالَ:) وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِمَا أَنَّ التَّرْجِيحَ يَحْصُلُ بِالْيَدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَدَلِيلُ التَّارِيخِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّارِيخِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الدَّلِيلِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ بِالسَّبْقِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَيُّهُمَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْهُ قَبْلَ الْآخَرِ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، إمَّا لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَتَرَجَّحُ بِإِقْرَارِهَا لَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبَ الزَّوْجِ، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا بَقِيَ تَصَادُقُ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْمُسَاوَاةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا، بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَتَحَمَّلُ الشَّرِكَةَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمِلْكِ هُوَ التَّصَرُّفُ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّرِكَةِ وَهُنَا الْمَقْصُودُ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ وَالنَّسْلِ، وَهَذَا يَفُوتُ بِالشَّرِكَةِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ يَتَعَيَّنُ الْبُطْلَانُ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَا لَمْ يَدْخُلَا بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَثْبُتْ، وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ دَخَلَا بِهَا جَمِيعًا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ تَأَكَّدَ الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالَ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْأَقَلُّ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. (قَالَ:) فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا وَكَانَ وَلَدَهُمَا يَعْقِلَانِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ رَجُلَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى، وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ مِنْ مَائِهِ فَيَجِبُ مِيرَاثُ أَبٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثِ ابْنٍ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَحَدِهِمَا فَكَمَا أَنَّ فِي جَانِبِهِمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهِ يَرِثُ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ ابْنٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هُوَ ابْنُهُمَا وَيَرِثُهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَتَحَمَّلُ التَّجَزُّؤَ إلَّا أَنَّ فِي جَانِبِهِمَا تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَتَثْبُتُ الْمُنَاصَفَةُ، وَفِي جَانِبِهِ لَا مُزَاحَمَةَ فَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ، حَتَّى لَوْ انْعَدَمَتْ الْمُزَاحَمَةُ فِي جَانِبِهِمَا بِأَنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْغُلَامِ أَحْرَزَ الثَّانِي مِنْ مَالِ الْغُلَامِ مِيرَاثَ أَبٍ كَامِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَقَرَّتْ أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ هُوَ الزَّوْجُ لَزِمَهُ الْوَلَدُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُقَرِّ لَهُ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِمَا، وَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَهْرِ، وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ مِنْ تَرِكَتِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ مُنْتَهٍ بِالْمَوْتِ فَيَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى لَهَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلِذَلِكَ تَنَصَّفَ بَيْنَهُمَا الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى، وَهَذَا لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَوُجُوبُ التَّوَقُّفِ لِمَعْنَى الْحِلِّ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِمَوْتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمِيرَاثُ وَهُوَ مَالٌ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحِلُّ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ. (قَالَ:) وَلَوْ لَمْ تَمُتْ هِيَ وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: هَذَا الْمَيِّتُ هُوَ الْأَوَّلُ فَلَهَا فِي مَالِهِ الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ، فَإِنَّ تَصْدِيقَهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ كَتَصْدِيقِهَا فِي حَيَاتِهِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فَيَنْتَهِي بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقَرَّ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ فَصَدَّقَتْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ تَصْدِيقُهَا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ يَرْتَفِعُ إلَى خُلْفٍ وَهُوَ الْعِدَّةُ. (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ وَلَمْ يَصِحَّ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاقْتِرَانِ الْمُنَافِي بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ حَرْبِيَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَّجَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مِلَّةً فَحُكْمُ أَهْلِ الْمِلَلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كَانَ نِكَاحُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِسْوَةٌ مِنْهُمَا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الَّذِي لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الْآخَرِ كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا صَحَّ نِكَاحُ مَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ مَا لَهُ صِحَّةٌ وَبَيْنَ مَا لَا صِحَّةَ لَهُ، وَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا سُمِّيَ لَهَا إنْ كَانَا سَمَّيَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ تِلْكَ فَيَقُولَانِ: الْأَلْفُ هُنَا بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَقَدْ سَلَّمَ ذَلِكَ لِلَّذِي صَحَّ نِكَاحُهُ بِكَمَالِهِ، فَأَمَّا هُنَاكَ الْأَلْفُ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ بُضْعَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الزَّوْجَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَهْرِ إلَّا قَدْرُ مَا الْتَزَمَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ سَمَّى جَمِيعَ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا، فَإِذَا سَلَّمَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ. (قَالَ:) وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَسِيسٌ أَوْ نَظَرٌ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَطْءِ شَرْعًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ أَصْلُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَالسَّبَبُ الْفَاسِدُ لَا يُثْبِتُ إلَّا الْمِلْكَ الْحَرَامَ، وَمُوجِبُ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ، وَبَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مُنَافَاةٌ، فَإِذَا انْعَدَمَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ الْحَلَالِ بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ وَالْمِلْكِ الْحَرَامِ بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ خَلَا السَّبَبُ عَنْ الْحُكْمِ، وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِأَحْكَامِهَا فَكُلُّ سَبَبٍ خَلَا عَنْ الْحُكْمِ كَانَ لَغْوًا، وَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّكَاحِ وَالزَّوْجُ جَاحِدٌ يَثْبُتُ نِكَاحُهَا وَلَمْ يَفْسُدْ بِجُحُودِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالطَّلَاقِ وَجُحُودُهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَطْعٌ لِلنِّكَاحِ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ لِلنِّكَاحِ أَصْلًا، فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَاطِعًا، فَلِهَذَا قُضِيَ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ. [بَابُ الْغُرُورِ فِي الْمَمْلُوكَةِ] (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، فَإِذَا هِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي التَّزَوُّجِ أَخَذَتْ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ أَصْلًا لِأَنَّهَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، وَفِي هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَقْصُودِهَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: هَذَا إنْ لَوْ دَخَلَ الْوَلَدُ فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 فَوَجَبَ الْعُقْرُ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ لَهَا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمَغْرُورِ، وَهِيَ بِالْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِأَجْزَائِهَا وَمَنَافِعِهَا، فَمَا هُوَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا فَهُوَ لَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَبُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إنْ كَانَ رَجُلٌ حُرٌّ غَرَّهُ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ بِأَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ رَجَعَ هُوَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا، وَالْقِيمَةُ لَهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ الرُّجُوعُ مُفِيدًا، وَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهَا، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ عَلَى حَالِهَا فَوَرِثَهُ أَبُ الْوَلَدِ خُيِّرَتْ بَيْنَ أَنْ تُبْطِلَ الْكِتَابَةَ وَبَيْنَ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ أَبْطَلَتْ الْكِتَابَةَ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِأَبِ الْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ إحْدَاهُمَا مُؤَجَّلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ وَالْأُخْرَى مُعَجَّلَةٌ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَعَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ، فَإِنَّمَا عَتَقَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ وَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ، وَإِنْ مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ عَتَقَتْ وَبَطَلَتْ عَنْهَا الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَتُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قِيلَ: هُوَ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهَا إذَا اخْتَارَتْ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ. (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ صَارَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَعَلِّقٌ بِمَوْتِ الْمَوْلَى شَرْعًا عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَوْلَى كَالْمُعْتِقِ لَهَا، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا اخْتَارَتْ الْكِتَابَةَ لِمَا فِي الْعِتْقِ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ التَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَخْتَارُ هَذِهِ الْجِهَةَ، فَإِذَا عَتَقَتْ سَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ إمَّا لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِرِضَاهَا أَوْ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهَا عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَ لَهَا الْمُكَاتَبَةَ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَوْلِدِ فِيهَا إلَى مَوْتِهِ فَبِالْمَوْتِ يَصِيرُ مُسْقِطًا حَقَّهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْرَأهَا عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْوَارِثُ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَإِبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَيُعْتَقُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ سَعَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ عِتْقَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ كَالْمُبْرِئِ لِتُعْتَقَ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تُعْتَقُ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُبَرِّئًا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا الْعِتْقَ مَجَّانًا فِي الْحَالِ فَبَقِيَتْ عَلَى اخْتِيَارِهَا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُضِيُّ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَلِهَذَا سَعَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْأَوَّلِ إذَا أَدَّتْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا وَرِثَهُ رَجُلَانِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا، وَلَوْ كَانَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الْمُكَاتَبَةُ حِينَ وَرِثَهَا رَجُلَانِ اخْتَارَتْ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ أَبُ الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ كَمَا ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَصَارَ هُوَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. (قَالَ:) أَمَةٌ غَرَّتْ رَجُلَيْنِ مِنْ نَفْسِهَا فَتَزَوَّجَاهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُمَا أَوْلَادًا ثُمَّ مَلَكَاهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا مَلَكَاهَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهَا، وَإِنْ مَلَكَهَا أَحَدُهُمَا، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمَّا ثَبَتَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيلَادِ بَعْدَ الْمِلْكِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ فِي ثُبُوتِ حَقِّهَا فِي أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمَوْلَى أَوْلَادًا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَلَكَهَا أَحَدُهُمَا مَعَ أَوْلَادِهَا كَانَ أَوْلَادُهَا مِنْ غَيْرِهِ أَرِقَّاءَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا بَعْدَ مَا تَمَلَّكَهَا الْمُسْتَوْلِدُ، فَإِنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ كَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي اسْتِدْعَائِهِ مِلْكَ الْحِلِّ، وَقَدْ انْفَصَلَ الْأَوْلَادُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهَا، فَلَا يَسْرِي ذَلِكَ الْحَقُّ إلَيْهِمْ. (قَالَ:) وَإِذَا غَرَّتْ الْأَمَةُ رَجُلًا مِنْ نَفْسِهَا وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَمَةٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا كَانَ لِأَبِ الْوَلَدِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْغُرُورِ مُبَاشَرَةُ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْبَائِعِ وَمَتَى مَلَكَهَا الْمَغْرُورُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ النِّكَاحِ فِي الْعُقُودِ الْمُتَفَرِّقَةِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ، فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ كَانَ تِسْعًا «وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَهُوَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَمَا يَجُوزُ لَهُ يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وَالْمُرَادُ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ قَالَ الْفَرَّاءُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا وَجْهَ لِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْ التِّسْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْعِيِّ فِي الْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وَالْمُرَادُ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَخْصُوصًا بِسَبَبِ إبَاحَةِ تِسْعِ نِسْوَةٍ لَهُ وَهُوَ اتِّسَاعُ حِلِّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ يَزْدَادُ الْحِلُّ كَمَا بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ نِكَاحًا، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمَمْلُوكِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرِّ وَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى عَلَى الْأَرْبَعِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ السَّرَارِي مَا خَلَا امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ حَرَّمَ مِنْ الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا رَجُلًا يَجْمَعُهُنَّ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَدَ إذْ التَّسَرِّي غَيْرُ مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا كَانَ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ لِوُجُوبِ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي الْإِمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَحْصُورًا بِالْعَدَدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَأَمَّا سَائِرُ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْمَنْكُوحَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ. (قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِمَكَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ مَكِّيَّةً ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِالطَّائِفِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَنَقُولُ: الْعُقُودُ كُلُّهَا قَدْ صَحَّتْ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَ الْمَكِّيَّةَ بَعْدَ مَا طَلَّقَ إحْدَى الْكُوفِيَّاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَحِينَ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ يُجْعَلُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ نِكَاحُ الْمَكِّيَّةِ. (قَالَ:) هَذَا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ لِوُجُودِ النَّكِيرِ فِي الْمَحَلِّ، فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُطَلِّقِ لَا إبْهَامَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَحُكْمُ الْعَدَدِ يَنْبَنِي عَلَى الْعَدَدِ فِي جَانِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَكِّيَّةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ الطَّائِفِيَّةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٌ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ، أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنَّ لِلطَّائِفِيَّةِ مَهْرًا كَامِلًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ صَحَّ وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ نِكَاحِهَا طَلَاقٌ فَيَتَقَرَّرُ مَهْرُهَا بِالْمَوْتِ، وَلِلْمَكِّيَّةِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ فَيَتَوَزَّعُ النُّقْصَانُ عَلَيْهِنَّ أَرْبَاعًا فَيُصِيبُهَا نُقْصَانُ نِصْفِ رُبْعِ صَدَاقٍ، وَذَلِكَ ثُمُنُ صَدَاقٍ فَبَقِيَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ، وَأَمَّا الْكُوفِيَّاتُ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَصْدِقَةٍ وَثُمُنُ صَدَاقٍ بَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ أَوَّلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الطَّلَاقُ نِصْفُ مَهْرٍ، وَمِنْ الطَّلَاقِ الثَّانِي أَصَابَهُنَّ أَيْضًا نُقْصَانُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ مَهْرٍ، وَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ، وَفِي الْأَصْلِ لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَصْدِقَةٍ، فَإِذَا نَقَصَتْ مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً نِصْفَ صَدَاقٍ وَمَرَّةً ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ صَدَاقٍ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَصْدِقَةٍ وَثُمُنُ صَدَاقٍ، وَحَالُهُنَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ أَرْبَاعًا، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِلطَّائِفِيَّةِ رُبُعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ثُمُنًا كَانَ أَوْ رُبُعًا؛ لِأَنَّهَا إحْدَى نِسَائِهِ بِيَقِينٍ وَلِلْمَكِّيَّةِ رُبْعُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ لَا يُزَاحِمُهَا فِيهِ إلَّا ثَلَاثٌ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ وَحَالُهُنَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَلَهَا رُبْعُ ذَلِكَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْكُوفِيَّاتِ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَمَّا فِي حَقِّ الطَّائِفِيَّةِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِانْتِهَاءِ نِكَاحِهَا بِالْمَوْتِ، وَفِي حَقِّ الْبَوَاقِي لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ لِإِيجَابِهَا. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ الطَّائِفِيَّةَ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ فَنَقُولُ: أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنَّ لِلطَّائِفِيَّةِ هُنَا سَبْعَةَ أَثْمَانِ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا فَانْتَقَصَ بِهِ نِصْفُ صَدَاقٍ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ النُّقْصَانِ الرُّبْعُ فَبَقِيَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ، وَلِلْمَكِّيَّةِ سِتَّةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ وَرُبُعُ ثُمُنِ مَهْرٍ؛ لِأَنَّ مِنْ النُّقْصَانِ الْحَاصِلِ بِالتَّطْلِيقَةِ الْأَخِيرَةِ إنَّمَا يُصِيبُهَا رُبُعُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ صَدَاقٍ، فَإِنَّ هَذَا النُّقْصَانَ يَدُورُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ، وَرُبُعُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ النِّصْفِ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثُمُنِ الصَّدَاقِ فَقَدْ أَصَابَهَا بِالتَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ نُقْصَانُ ثُمُنِ صَدَاقٍ كَمَا قُلْنَا وَبِالتَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنٍ فَبَقِيَ لَهَا سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَرُبُعُ ثُمُنٍ، فَإِذَا جَمَعْتَ ذَلِكَ كَانَ مَهْرًا وَثُمُنَ مَهْرٍ وَرُبُعَ ثُمُنِ مَهْرِ صَدَاقٍ وَلِلْكُوفِيَّاتِ مَهْرَانِ وَسِتَّةُ أَثْمَانٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنِ صَدَاقٍ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ مِنْ مُهُورِهِنَّ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ نِصْفُ صَدَاقٍ وَبِالطَّلَاقِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ وَبِالطَّلَاقِ الثَّالِثِ ثُمُنَانِ وَرُبُعُ ثُمُنٍ، فَإِذَا جَمَعْتَ ذَلِكَ كَانَ مَهْرًا وَثُمُنَ مَهْرٍ وَرُبُعَ ثُمُنِ مَهْرٍ، فَإِذَا نَقَصْتَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ مُهُورٍ بَقِيَ مَهْرَانِ وَسِتَّةُ أَثْمَانٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنٍ، وَفِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ هَذَا وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عُقْدَةٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهنَّ الْأُولَى، فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَقْدَيْنِ الْأَخِيرِينَ أَحَدُهُمَا وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ أَيَّتُهُنَّ قَالَ هِيَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ نِكَاحَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ صَحِيحٌ وَهُوَ السَّابِقُ وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْعُقُودَ فَيَعْرِفُ السَّابِقَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ وَلِأَنَّهُ صَاحِبُ مِلْكٍ فَإِلَيْهِ بَيَانُ مَحَلِّ مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ تَجِبُ عَلَيْهِ فَإِلَيْهِ بَيَانُ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ، وَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مَاتَ وَالزَّوْجُ حَيٌّ فَقَالَ هِيَ الْأُولَى وَرِثَهُنَّ وَأَعْطَى مُهُورَهُنَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَاخِرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَيَانِ الثَّابِتِ لَهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ لِلنِّكَاحِ مُقَرِّرٌ لِإِحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ ثُمَّ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ هَؤُلَاءِ الْأُوَلُ فَهُوَ الْأُوَلُ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَاخِرِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَمِمَّا سَمَّى لَهَا لِدُخُولِهِ بِهَا بِحُكْمِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ دُخُولَهُ بِهِنَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيَانِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَنْ دَخَلَ بِهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: لَا أَدْرِي أَيَّتَهنَّ الْأُولَى حُجِبَ عَنْهُنَّ إلَّا عَنْ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مِنْهُنَّ، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ فَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونُ مَحْجُوبًا عَنْهُنَّ مُخَيَّرًا عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْأَوَّلَ مِنْ الْآخِرَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَفِي الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ. أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ إنَّ لِلْوَاحِدَةِ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَهْرِ بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُنَّ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، فَإِنَّ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْجُمْلَةِ وَالتَّخْرِيجُ عَلَى ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَكْثَرُ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ بِأَنْ يَكُونَ السَّابِقُ نِكَاحَ الثَّلَاثِ، وَأَقَلُّ مَالِهِنَّ مَهْرَانِ بِأَنْ يَكُونَ السَّابِقُ نِكَاحَ الْمَثْنَى، فَالتَّرَدُّدُ فِي مَهْرٍ وَاحِدٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَكَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ لَا خُصُومَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرَيْنِ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلثَّلَاثِ وَهُوَ نِصْفُ مَهْرٍ يَبْقَى مَهْرَانِ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَحْصُلُ لِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَأَصْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَقُولُ: أَمَّا الثَّلَاثُ فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَأُمًّا الْمَثْنَى فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ وَنِكَاحُهُمَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ: لِلْوَاحِدَةِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ رُبُعًا كَانَ أَوْ ثُمُنًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا رُبُعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثٌ، وَالرُّبْعُ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَنَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ يَتَنَصَّفُ السَّهْمُ الزَّائِدُ عَلَى الرُّبْعِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ فَيَتَكَسَّرُ بِالْأَنْصَافِ فَيُضَعَّفُ الْحِسَابُ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا سِتَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الْمَثْنَى فَلَهَا ثَمَانِيَةٌ فَالتَّرَدُّدُ فِي سَهْمَيْنِ فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَيَسْقُطُ الْآخَرُ فَكَانَ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وَعِشْرِينَ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَلِلثَّلَاثِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّهْمَ الزَّائِدَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِلْمَثْنَى؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ السَّهْمُ لِلثَّلَاثِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي سِتَّةَ عَشَرَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ يُعْتَبَرُ حَالُ كُلِّ فَرِيقٍ فَنَقُولُ: إنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ تِسْعَةٌ، وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُ الْمَثْنَى فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا أَخَذَتْ الْوَاحِدَةُ نَصِيبَهَا بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ إنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ أَصْلًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ أَصْلًا كَانَ جَمِيعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ، وَهَذَا لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ إذَا كَانَ سَابِقًا، مَحْرُومٌ إذَا كَانَ مَسْبُوقًا، وَقَوْلُهُمَا إنَّ الْمَثْنَى لَا يَدَّعِيَانِ السَّهْمَ الْوَاحِدَ، فَإِنَّمَا لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ لِذَلِكَ السَّهْمِ، فَأَمَّا بِدُونِ اسْتِحْقَاقِهِمَا فَهُمَا يَدَّعِيَانِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ وَقَدْ خَرَجَ ذَلِكَ السَّهْمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لِلْوَاحِدَةِ فَكَانَ دَعْوَاهُمَا دَعْوَى الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا فَرَغَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ سَوَاءً، فَلِهَذَا قُسِمَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ. (قَالَ:) وَعَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ احْتِيَاطًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ، وَلَا يَعْرِفُ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ فَعَلَى الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالْحَيْضُ جَمِيعًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَهُوَ مَا إذَا صَحَّ نِكَاحُهُنَّ، وَمِنْ وَجْهٍ الْحَيْضُ وَهُوَ مَا إذَا فَسَدَ نِكَاحُهُنَّ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا، فَأَمَّا عَلَى الْوَاحِدَةِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا حَيْضَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ثُمَّ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَنِصْفُ الْفَضْلِ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ فِي وُجُوبِ الْأَقَلِّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ إمَّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالدُّخُولِ يَقِينًا مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا، وَنِكَاحُهَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَجَامَعَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهَا، وَمَنْ مَعَهَا الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ تَارَةً يَحْصُلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 بِالتَّصْرِيحِ وَتَارَةً بِالدَّلِيلِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي إحْدَاهُنَّ بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا حَلَالًا إذَا كَانَ صَحَّ نِكَاحُهَا، فَلِهَذَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ مِنْهُ أَنَّ السَّابِقَ عَقْدُهَا. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أُمَّ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ مَعَ الثَّلَاثِ أَمَةٌ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ هَذَا الْعَقْدُ فَنِكَاحُ الْحَرَائِرِ بِهَذَا الْعَقْدِ صَحِيحٌ، وَمَتَى صَحَّ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمَضْمُومَةِ إلَيْهِنَّ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نِكَاحُهُنَّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِهَذَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةً فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ بِيَقِينٍ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِنَّ وَقَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأُولَى مِنْهُنَّ وَإِحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةٌ وَإِحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةٌ فَنِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ فَاسِدٌ وَنِكَاحُ الْحَرَائِرِ كُلِّهِنَّ جَائِزٌ، أَمَّا فَسَادُ نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَ فَسَادِ نِكَاحِهِمَا الْحَرَائِرُ أَرْبَعٌ فَيَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ، الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةً وَالثِّنْتَانِ حُرَّتَانِ وَقَدْ تَزَوَّجَ الْوَاحِدَةَ الْحُرَّةَ قَبْلَهُنَّ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فَاسِدٌ، وَلِلْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ الْمَهْرُ وَثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا يُزَاحِمُهَا فِي الْمِيرَاثِ امْرَأَتَانِ، أَمَّا الْمُنْفَرِدَتَانِ أَوْ اللَّتَانِ كَانَتَا مَعَ الْأَمَةِ فَلَهَا ثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ، وَلِكُلِّ حُرَّتَيْنِ نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمِيرَاثِ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ فَرِيقٍ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لَا، وَيَكُونُ لِلْفَرِيقَيْنِ مَهْرَانِ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةً وَالثَّلَاثُ حَرَائِرُ، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّ النِّسَاءِ تَزَوَّجَ أَوَّلًا فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِلتَّيَقُّنِ بِضَمِّهَا إلَى الْحُرَّةِ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْحَرَائِرِ الْخَمْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِلثَّلَاثِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْمُنْفَرِدَتَيْنِ نِ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، وَهَذَا فِي الْحُكْمِ كَرَجُلٍ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ، وَوَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ، وَوَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهُنَّ أَوَّلُ، بَلْ هِيَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الثَّلَاثَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ بِأَنْ تَقَدَّمَ أَوْ كَانَ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مَعَهُنَّ نِكَاحَ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ بِأَنْ كَانَ نِكَاحُهُنَّ بَعْدَ نِكَاحِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ فَلَهُنَّ نِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فِي حَالٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُمَا سَابِقًا وَالرُّبُعُ فِي حَالٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ سَابِقًا فَالرُّبْعُ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَثَلَاثَةٌ تَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُمَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَحَالُهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ سَوَاءٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، فَلَهُنَّ نِصْفُ نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلْمُنْفَرِدَتَي نِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَيَتَيَقَّنُ لَهَا بِمَهْرٍ، وَالْأُخْرَى إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا فَلَهَا مَهْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَيَتَنَصَّفُ مَهْرُهَا، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى بِشَيْءٍ، فَمَا اجْتَمَعَ لَهُمَا وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ وَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَأَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا يُعْرَفُ أَيَّتُهُنَّ أَوَّلُ، فَنَقُولُ: مِيرَاثُ النِّسَاءِ رُبُعًا كَانَ أَوْ ثُمُنًا بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا يَتَوَزَّعُ عَلَى الْأَحْوَالِ، وَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ بِيَقِينٍ، إمَّا أَنْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ أَوْ نِكَاحُ الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ أَوْ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ مَعَ الْوَاحِدَةِ، وَلَيْسَ هُنَا حَالَةٌ رَابِعَةٌ، وَبِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كُلُّ فَرِيقٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مُسَاوٍ لِلْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ وَإِلَّا فَلَا، فَلِهَذَا كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَ الْأَرْبَعِ فِي الثُّلُثِ الَّذِي صَارَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا لَا يَجُوزُ مَعَهُنَّ، وَإِنَّمَا أَخَذْنَ مَا أَخَذْنَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ مَعَ الثَّلَاثِ فَتَأْخُذُ ثُمُنَ مَا أَصَابَهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ إنَّمَا أَخَذْنَ مَا أَخَذْنَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ يَجُوزُ مَعَهُنَّ إلَّا أَنَّ فِي نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ تَرَدُّدًا، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ مَعَ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الثِّنْتَيْنِ، فَإِنْ جَازَ مَعَ الثَّلَاثِ كَانَ لَهَا رُبُعُ مَا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ، وَإِنْ جَازَ مَعَ الثِّنْتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ، فَتَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ نِصْفَ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّلَاثِ أَثْلَاثًا، ثُمَّ تَدْخُلُ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَتَأْخُذُ سُدُسَ مَا فِي يَدَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَخَذَنَا بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِمَا، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ يَجُوزُ مَعَ نِكَاحِهِمَا، فَإِنْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِهِمَا مَعَهُمَا كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا، فَلِهَذَا تَأْخُذُ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّلُثِ وَهُوَ سُدُسُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَنَقُولُ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 وَنِصْفُ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ فَلَهُنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ جَازَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ جَازَ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ مَعَ الْوَاحِدَةِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، فَثَلَاثَةُ مُهُورٍ لَهُنَّ بِيَقِينٍ وَالْمَهْرُ الرَّابِعُ يَثْبُتُ فِي حَالَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَلِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَلِلثَّلَاثِ رُبُعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي هَذَا النِّصْفِ، وَالْأَرْبَعُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِنَّ وَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِانْضِمَامِ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِنَّ، وَانْضِمَامُ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِنَّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَبِاعْتِبَارِ الْحَالَيْنِ يَكُونُ لِلثَّلَاثِ نِصْفُ نِصْفِ هَذَا وَهُوَ الرُّبُعُ، وَلِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، فَأَمَّا مَهْرُ وَاحِدٍ فَلِلْأَرْبَعِ مِنْهُ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، وَلِلثَّلَاثِ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، وَلِلثِّنْتَيْنِ سُدُسٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ يَدَّعِينَ هَذَا الْمَهْرَ لِأَنْفُسِهِنَّ، وَالثِّنْتَانِ لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ إلَّا بِانْضِمَامِ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِمَا، وَانْضِمَامُ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِمَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَفِي حَالَةِ الِانْضِمَامِ لَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْضِمَامِ لَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَةُ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ فَرِيقٍ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، وَأَمَّا الْمَهْرَانِ فَقَدْ اسْتَوَتْ فِي ذَلِكَ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَا مَهْرٍ، فَأَمَّا الْأَرْبَعُ فَقَدْ أَصَابَهُنَّ مَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَمَرَّةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ النِّصْفِ، فَيُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ، إذْ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَهُنَّ، وَأَمَّا الثَّلَاثُ فَقَدْ أَصَابَهُنَّ مَرَّةً ثُمُنُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَمَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ الْوَاحِدَةُ تَأْخُذُ ثُمُنَ جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَهُنَّ فَلَهَا رُبْعُ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَتَأْخُذُ ثُمُنَ ذَلِكَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَإِنَّهُمَا أَصَابَهُمَا مَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسُ مَهْرٍ فَتَدْخُلُ الْوَاحِدَةُ مَعَهُمَا وَتَأْخُذُ سُدُسَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ نِكَاحُهَا مَعَهَا فَلَهَا ثُلُثُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهَا، فَتَأْخُذُ نِصْفَ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَصْحِيحَ الْحِسَابِ فَالطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّطْوِيلِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْأَرْبَعِ مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَلِلِاثْنَتَيْنِ ثُلُثَا مَهْرٍ وَلِلْوَاحِدَةِ نِصْفُ مَهْرٍ، فَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ كُلِّ حَالَةٍ، فَيَقُولُ: نِكَاحُ الْأَرْبَعِ يَصِحُّ فِي حَالٍ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ، فَإِنْ صَحَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، وَأَحْوَالُ الْحِرْمَانِ أَحْوَالٌ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ، وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، وَنِكَاحُهُنَّ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَالثِّنْتَانِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ وَنِكَاحُهُمَا صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا مَهْرٍ، وَالْوَاحِدَةُ يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي حَالَيْنِ إمَّا مَعَ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الثِّنْتَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، لَكِنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ نِكَاحُهَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَمَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ بِيَقِينٍ لِانْضِمَامِهَا إلَى الْحَرَائِرِ، وَلَا حَظَّ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَنِكَاحُ الْمُنْفَرِدَةِ هُنَا صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي الْحَاصِلِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ وَوَاحِدَةٌ، فَيَتَيَقَّنُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ إمَّا مَعَ الثِّنْتَيْنِ أَوْ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ، ثُمَّ بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ أَكْثَرَ مَالِهِنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَأَقَلَّ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، فَيَتَوَزَّعُ الْمَهْرُ الرَّابِعُ نِصْفَيْنِ ثُمَّ لِلْمُنْفَرِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَهْرٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا بَقِيَ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِلثِّنْتَيْنِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ يَدَّعِينَ ذَلِكَ فَيَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ، بَقِيَ مَهْرَانِ اسْتَوَتْ فِيهِمَا مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَا مَهْرٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلِلْوَاحِدَةِ مَهْرٌ كَامِلٌ لِمَا قُلْنَا وَلِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ فَرِيقٍ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ، وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَأَحْوَالُ الْحِرْمَانِ أَحْوَالٌ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَنِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ، وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَهُمَا مَهْرَانِ فَلَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ ثُلُثَا مَهْرٍ، وَمِيرَاثُ النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ، فَإِنْ صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا رُبْعُ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَقَدْرُ سِتَّةٍ يَقِينٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا سَبْعَةٌ، وَلَا يُقَالُ سِتَّةٌ لَهَا فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْحَالَتَانِ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهُمَا حَالَتَا حِرْمَانِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ نِكَاحِهَا مَعَ هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 الْفَرِيقِ أَوْ مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَاعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ لَا يَتَفَاوَتُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهَا تَفَاوُتٌ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ. (قَالَ:) وَلَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ بَيْنَ الثَّلَاثِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ لَا يَدَّعِيَانِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيْ الْمِيرَاثِ، وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاقِي بَعْد نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ كُلُّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْفِرَقِ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَفْرُغُ مِنْ حَقِّ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظَائِرِهِ (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بِطَلَاقِ الثِّنْتَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرُ وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ الثَّابِتُ لَهُنَّ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ وَنِصْفًا، فَإِذَا سَقَطَ مَهْرٌ كَانَ الْبَاقِي مَهْرَيْنِ وَنِصْفًا، فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ لَهَا رُبْعُ ثَلَاثَةِ مُهُورٍ بِأَنْ كَانَ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ وَوَجَبَ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ثُمَّ سَقَطَ مَهْرٌ بِالطَّلَاقِ بَقِيَ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ لَهَا رُبْعُ ذَلِكَ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ لَهَا ثُلُثُ مَهْرَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ سَقَطَ مَهْرٌ بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ مَهْرَانِ فَلَهَا ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا مَهْرٍ، فَقَدْرُ ثُلُثَيْ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَهْرٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسِ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَرُبْعُ سُدُسِ مَهْرٍ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ بَيْنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي دَعْوَى ذَلِكَ وَالْمِيرَاثُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجَوَابَ الصَّوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَكِنَّ بَيَانَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ نَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لَهُنَّ مَهْرَيْنِ وَنِصْفًا، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ تَأْخُذُهُ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ أَصْلًا، وَالثَّلَاثُ إنَّمَا يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ، فَأَمَّا بِدُونِ الْوَاحِدَةِ فَلَا يَدَّعِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْوَاحِدَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنْ يَدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ بِهَا، فَلِهَذَا تَأْخُذُ الْوَاحِدَةُ نِصْفَ مَهْرٍ بَقِيَ مَهْرَانِ. فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَالْمَثْنَى يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ، وَالْوَاحِدَةُ مَضْمُومَةٌ إلَيْهِنَّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَانَ سُدُسُ هَذَا النِّصْفِ لِلْمَثْنَى وَلِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، بَقِيَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا، فَقَدْ أَصَابَ الثِّنْتَيْنِ مَرَّةً نِصْفُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسُ النِّصْفِ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَأَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ مَرَّةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 نِصْفُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سَهْمَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ مِنْ سِتَّةٍ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ الْوَاحِدَةُ إنْ كَانَ يَصِحُّ نِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا نِصْفُ مَهْرٍ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهَا سُدُسُ مَهْرٍ، وَنِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَتَأْخُذُ مِنْهُمَا ثُلُثَ سُدُسِ مَهْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ إلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ، فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا نِصْفُ مَهْرٍ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهَا سُدُسٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ فَتَأْخُذُ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَ ذَلِكَ، فَيَجْتَمِعُ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَثُلُثُ سُدُسِ مَهْرٍ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ كُلِّ فَرِيقٍ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَابْنَتَيْهَا فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ ثُمَّ مَاتَ، وَلَا يَعْلَمْ أَيَّتَهنَّ أَوَّلُ فَلَهُنَّ مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ السَّابِقَةُ مِنْهُنَّ أَيَّتَهنَّ كَانَتْ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نِصْفُ هَذَا الْمَهْرِ لِلْأُمِّ وَنِصْفُهُ لِلْبِنْتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ نِصْفُهُ لِلْأُمِّ وَنِصْفُهُ لِلْبِنْتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا فَطَرِيقُهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ حُجَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِثْلُ حُجَّةِ صَاحِبَتَيْهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا اسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلَا شَيْءَ لَهَا. وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَابْنَتَهَا، أَوْ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَأُخْتَ أُمِّهَا، كَانَ الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ مِنْ قَبْلُ: إنَّهُ لَا يَثْبُتُ نِكَاحُ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ بِيَقِينٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَأَنَّ الْأُمَّ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا إحْدَى الْبِنْتَيْنِ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَنِصْفُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ اسْتَوَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ حَالُ الْبِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِتَعْيِينِ جِهَةِ الْبُطْلَانِ فِي نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَلِهَذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَطَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصَاهَرَةُ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَ الْكُبْرَى مِنْ الْبِنْتَيْنِ أَوَّلًا أَوْ الصُّغْرَى فَقَدْ حَرُمَتْ الْأُمُّ بِالْمُصَاهَرَةِ، فَأَمَّا السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ فَسَادَ نِكَاحِهَا مَرَّةً فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَرَّةً بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الثِّنْتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالتَّوَزُّعُ عَلَى أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَاحِدًا، وَفِي حَقِّ الْبِنْتَيْنِ مُتَعَدِّدًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسَاوَاةٌ فِي الْحِرْمَانِ بَلْ حَالُهَا أَحْسَنُ فَكَانَ لَهَا ضِعْفُ مَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ فَقَدْ قِيلَ: الْكُلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ يَسْتَشْهِدُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ. وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَقِينَ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ وَاحِدَةٍ بَلْ حَالُ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالنَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْمُتَعَدِّدُ فِي حُرْمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الِاسْمِ، كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأُمِّ وَالْخَالَةِ، أَوْ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، فَلَمَّا اسْتَوَى حَالُهُنَّ كَانَ الْوَاجِبُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ مُتْنَ جَمِيعًا وَالزَّوْجُ حَيٌّ فَالْقَوْلُ فِي الْأُولَى مِنْهُنَّ، قَوْلُهُ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأُولَى قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأُولَى قَوْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَلَهُ ثُلُثُ مِيرَاثِ زَوْجٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ مَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهَا ثُلُثُ مَا سَمَّى لَهَا، وَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ نِكَاحِهَا لَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ مِنْهَا وَالصِّحَّةُ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُ ثُلُثُ مِيرَاثِ زَوْجٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِمَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَعِنْدَ التَّيَقُّنِ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِمَا نَتَيَقَّنُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْأُمِّ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا أَوْ تَأَخَّرَ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ جَمِيعًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَا يُدْرَى أَيَّتُهُنَّ دَخَلَ بِهَا أَوَّلًا فَنَقُولُ: إمَّا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى لَهَا وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهِمَا بِحُكْمِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا لِفَسَادِ نِكَاحِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا مِيرَاثَ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ بَطَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتَيْنِ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، فَإِنَّ الدُّخُولَ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي الْقِيَاسِ لِلْأُمِّ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِكَاحَ الْأُمِّ صَحِيحٌ بِيَقِينٍ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَى الْبِنْتَيْنِ قَبْلَ الْأُمِّ فَقَدْ حَرُمَتْ الْأُمُّ بِذَلِكَ وَوَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ دَخَلَ بِالْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ فَكَانَ لَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ أَوَّلًا فَلَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى ثُمَّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا فِي وَجْهٍ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَفِي وَجْهٍ مَهْرٌ فَلَهَا مَهْرٌ بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ لَهَا: مَهْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ دَخَلَ بِالْأُمِّ أَوَّلًا، فَإِنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِلِّ مَا أَمْكَنَ، وَأَوَّلُ فِعْلِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ ثُمَّ لَا إمْكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِهَذَا جَعَلْنَا كَأَنَّهُ وَطِئَ الْأُمَّ أَوَّلًا حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَهْرَ وَالنِّصْفَ وُجُوبُهُمَا بِاعْتِبَارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 سَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، وَالْآخَرُ الْوَاطِئُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ السَّبَبَانِ إنَّمَا الظَّاهِرُ سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بَعْدَهُ وَبِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ لِدُخُولِهِ بِهِنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ وَدَخَلَ بِالْبِنْتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا فَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلِلْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ الْبِنْتَيْنِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ حَتَّى قَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَغْوٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ مِنْهُنَّ امْرَأَتُهُ وَالْأُخْرَيَانِ أَجْنَبِيَّتَانِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَقَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. (قَالَ:) وَإِنْ قَالَ: إحْدَى نِسَائِهِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ، فَإِنَّ فِي نِكَاحِهِ امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا قَالَ: إحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَى امْرَأَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى الْمُعَيَّنَاتِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَفِيهِنَّ مَنْ لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ لَهُ، فَلَا تَتَعَيَّنُ امْرَأَتُهُ لِذَلِكَ الطَّلَاقِ، وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ هُنَا كَالْخِلَافِ فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَا مِيرَاثَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ قَالَ: إحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ طَلُقَتْ الْأُمُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُوقِعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ صَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلِهَذَا طَلُقَتْ الْأُمُّ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ قَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَنُوبَهَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُنَّ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ امْرَأَتُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا بِقَلْبِهِ، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُنَّ فَاسِدٌ بِعِلَّةِ الْجَمْعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَةٌ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّتَيْنِ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، فَإِنَّ الْحُرَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا ابْنَتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِلْجَمْعِ أَيْضًا، وَمَتَى كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّتَيْنِ بَاطِلًا بِيَقِينٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِضَمِّهَا إلَى الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا عِنْدَ بُطْلَانِ نِكَاحِهَا. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتَانِ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَتَيْنِ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، فَإِنَّهُمَا إمَّا أُخْتَانِ أَوْ أُمٌّ وَبِنْتٌ، وَإِذَا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا كَانَ ضَمُّهُمَا إلَى الْحُرَّةِ لَغْوًا فَجَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ اثْنَتَانِ مِنْهُمَا ذَوَاتَيْ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ، وَلَمَّا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا صَحَّ نِكَاحُ الْفَارِغَةِ مِنْهُنَّ. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَ خَمْسَ حَرَائِرَ وَأَرْبَعَ إمَاءٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ لَوْ انْفَرَدَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ كَانَ صَحِيحًا، فَعِنْدَ الْجَمْعِ يَصِحُّ نِكَاحُ مَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ إمَاءٍ وَأَرْبَعَ حَرَائِرَ فِي عُقْدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ وَلَوْ انْفَرَدَ هُنَا كَانَ صَحِيحًا فَيَنْدَفِعُ بِنِكَاحِهِنَّ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصْلُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ ضَمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ انْضِمَامُهَا إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَمَةٍ فِي النِّكَاحِ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَمُّهَا إلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ حِينَ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ. (قَالَ:) وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا بِنْتُ الْأُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُهَا هُنَا يَصِحُّ فَيَتَحَقَّقُ ضَمُّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ، فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ دُونَ الْأَمَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَتَزَوَّجَ خَامِسَةً وَدَخَلَ بِهَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْ الْأَرْبَعَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَرِبَهُنَّ كَانَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ خَمْسِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ عِدَّةَ تِلْكَ الْوَاحِدَةِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ إذَا اقْتَرَنَ بِنِكَاحِهِنَّ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَ عَلَى نِكَاحِهِنَّ، كَعِدَّةِ الْأُخْتِ لَمَّا مَنَعَتْ نِكَاحَ الْأُخْتِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ مَنَعَتْ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى إذَا وَطِئَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا. (قَالَ:) وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِلنَّسَبِ غَيْرُ مُلْزِمٍ، حَتَّى لَوْ نَفَى الْمَوْلَى وَلَدَهُ انْتَفَى بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ، وَالنِّكَاحُ قَوِيٌّ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَكُونُ دَافِعًا لِلْقَوِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَكَمَا أَنَّ فِرَاشَهَا لِضَعْفِهِ لَا يَمْنَعُ تَزْوِيجَهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى نِكَاحَ أُخْتِهَا اعْتِبَارًا لِلْمَنْعِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْمَنْعِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ كَانَ يَطَؤُهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَأَ الَّتِي تَزَوَّجَ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأَمَةِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا صَارَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 أُخْتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ الْحَقِيقِيِّ حَرَامٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ اسْتِفْرَاشُ الْأُولَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الثَّانِيَةَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ ذَلِكَ الِاسْتِفْرَاشِ، وَانْقِطَاعُهُ بِالتَّزْوِيجِ أَوْ الْبَيْعِ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ أَمَتَهُ، وَلَا مُدَبَّرَتَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ وَالْمُدَبَّرَةَ بَعْدَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ بِالْعَقْدِ صَارَتْ فِرَاشًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الْأَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. (قَالَ:) وَلَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ وَطِئَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ فَارَقَهَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ مَادَامَ أُمُّ وَلَدِهِ تَعْتَدُّ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ عِدَّتِهَا كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ نِكَاحِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ارْتَفَعَ بِآثَارِهِ فَعَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ فَحُكْمُهُمَا وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ. (قَالَ:) فَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَيَسْتَوِي إنْ أَعْتَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذَا دَلِيلُنَا فَإِنَّهُ أَلْزَمَهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ إلَّا أَنَّا نُوجِبُ الْحَيْضَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ وَتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ فَيُقَدَّرُ بِالْحَيْضِ فِي الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ كَالْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: عِدَّتُهَا أَثَرُ مِلْكِ الْيَمِينِ فَتُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِهِ بِالِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقُرْءِ الْوَاحِدِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ عِدَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى حُرَّةٍ، فَلَا يَكْتَفِي فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَعِدَّةِ النِّكَاحِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنْ عِدَّةَ النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْحُرَّةَ كَامِلَةُ الْحَالِ فَالْوَظِيفَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ تَجِبُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لَا مَا كَانَ قَبْلَهُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ». وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَا تَضْرِبْ فُلَانًا خِطَابٌ لِلضَّارِبِ دُونَ الْمَضْرُوبِ تَوْضِيحُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ يَجِبُ وَهُنَا سَبَبُ وُجُوبِ الْمُدَّةِ زَوَالُ الْفِرَاشِ، وَالْعِدَّةُ الَّتِي تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَوْلَى أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا جَازَ عِنْدَنَا وَلَهُ أَنْ يَقْرَبَهُنَّ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، فَلَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا، وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ فِرَاشِهِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحِلِّ لَهُ، وَأَصْلُ الْفِرَاشِ هُنَا مُوجِبُ الْحِلِّ، ثُمَّ الْعِدَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْفِرَاشِ هُنَاكَ تَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعَ فَهُنَا أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ أَثَرُ فِرَاشِهَا وَأَثَرُ الشَّيْءِ لَا يَرْبُو عَلَى أَثَرِ أَصْلِهِ فِي الْمَنْعِ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ فِرَاشِهَا لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَكَذَلِكَ أَثَرُ فِرَاشِهَا، وَأَصْلُ الْفِرَاشِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ، فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْمَنْعِ مَا كَانَ ثَابِتًا لَا أَنْ يَثْبُتَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَهَذَا بِخِلَافِ تَزْوِيجِهَا مِنْ الْغَيْرِ، فَإِنَّ أَصْلَ فِرَاشِهَا مَانِعٌ مِنْ التَّزْوِيجِ مِنْ الْغَيْرِ إذَا بَقِيَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ أَثَرُ فِرَاشِهَا يَمْنَعُ، إلَّا إنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ فِرَاشَهَا بِالتَّزْوِيجِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ عِدَّتَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ بِسَبَبِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ يَبْقَى الْفِرَاشُ، حَتَّى إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، فَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْفِرَاشِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي الْفِرَاشِ وَلَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفِينَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَهُ أَنْ يَسْتَوْلِدَ مِنْ الْجَوَارِي مَا شَاءَ. (وَالثَّانِي) أَنَّ فِرَاشَهَا بِالْعِتْقِ يَتَقَوَّى حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا فَكُلُّ مَنْعٍ كَانَ ثَابِتًا فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِعِتْقِهَا وَالْمَنْعُ مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْأُخْتِ كَانَ ثَابِتًا فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ فَيَتَقَوَّى ذَلِكَ الْمَنْعُ بِالْعِتْقِ فَيَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ أَصْلًا، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْأَرْبَعِ بِالنِّكَاحِ، فَلَوْ صَارَ مَمْنُوعًا بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ مَنْعِ مُبْتَدَأٍ لَا إظْهَارَ قُوَّةٍ فِيمَا كَانَ ثَابِتًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هُوَ بِاعْتِبَارِ عِدَّتِهَا مَمْنُوعًا مِنْ وَطْءِ الْأَرْبَعِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ يَعْتِقَهَا وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأهُنَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالنِّكَاحِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ وَقَدْ سَقَطَ بِطَلَاقِ إحْدَاهُنَّ نِصْفُ مَهْرٍ، وَأَقَلُّ مَالِهِنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَقَدْ سَقَطَ نِصْفُ مَهْرٍ بِطَلَاقِ إحْدَاهُنَّ، فَقَدْرُ مَهْرَيْنِ وَنِصْفٌ يَقِينًا، وَمَهْرُ آخَرَ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَكَانَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ لِلْأَرْبَعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لَا يَدَّعِينَ ذَلِكَ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَهْرَيْنِ وَالنِّصْفِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ فَرِيقٍ مَهْرٌ وَرُبْعٌ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُنَّ، فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ فَدَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِالثِّنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ وَاحِدَةً وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا مَهْرٌ تَامٌّ لِتَأَكُّدِ مَهْرِهَا بِالدُّخُولِ، وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفٌ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الطَّلَاقَيْنِ وَاقِعًا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْآخِرُ عَلَى إحْدَاهُمَا، وَأَقَلُّ مَالِهِمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقَانِ وَقَعَا عَلَيْهِمَا فَمَهْرٌ وَاحِدٌ لَهَا بِيَقِينٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ هَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي الزِّيَادَاتِ يَقُولُ: لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنْ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُطَلَّقَةٌ بِيَقِينٍ فَيَعْزِلُهَا بِنِصْفِ مَهْرٍ، وَالْأُخْرَى إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَلَهَا نِصْفُ مَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَهَا كَامِلٌ فَنِصْفُ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ، فَإِذَا ضَمَمْتَ ذَلِكَ إلَى نِصْفِ مَهْرٍ يَكُونُ مَهْرًا وَرُبْعَ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، وَوَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَيْنِ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُلُثَا مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَبِأَنْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُنَّ حَتَّى لَمْ يُنْتَقَصْ مِنْ مَهْرِهَا شَيْءٌ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأُخْرَيَيْنِ بَلْ يُجْعَلْ فِي حَقِّهِمَا كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثَا مَهْرٍ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَدْخُولِ بِهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ وَلِلْأُخْرَيَيْنِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهُ يُلْغِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ حَالَهُنَّ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَلَى أَيَّتِهِنَّ وَقَعَتْ حُرْمَتُهَا بَقِيَتْ التَّطْلِيقَةُ الْوَاحِدَةُ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهَا ثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا. وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ، فَمِقْدَارُ أَرْبَعَةٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْبَاقِي لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُمَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ، فَمِقْدَارُ سِتَّةٍ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ لَهُمَا سَبْعَةٌ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمِيرَاثِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: عِنْدَهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا خَمْسَةُ أَثْمَانِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ، وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مُطَلَّقَةٌ مَحْرُومَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ يَقِينًا فَعَزْلُهَا لِلْحِرْمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا بَقِيَ الثَّلَاثُ عَلَى أَيَّتِهِمَا وَقَعَتْ حُرْمَتُهَا، فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ لِلَّتِي دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُهُ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمَعْزُولَةُ لِلْحِرْمَانِ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَيَثْبُتُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهَا النِّصْفَ فِي حَالٍ وَالْكُلَّ فِي حَالٍ، وَقَدْ كَانَ لَهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَرْبَعَةٌ، فَأَرْبَعَةٌ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ سِتَّةٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَمَا بَقِيَ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا أَوْ لِأَنَّ لَهُمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الرُّبْعَ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى النِّصْفَ فَيَتَنَصَّفُ الرُّبْعُ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 فَلِهَذَا كَانَ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهِ تَعَالَى - أَنْ لِلْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَحْرُومَةً عَنْ الْمِيرَاثِ فَيَعْزِلُهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ مُوجِبٌ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ، وَلَا يُتَيَقَّنُ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ فَجَعَلْنَا الْمَعْزُولَةَ لِلْحِرْمَانِ كَأَنَّ الثَّلَاثَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا، بَقِيَتْ الْوَاحِدَةُ فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا جَمِيعُ الْمِيرَاثِ، فَكَانَ لَهَا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ وَالْبَاقِي وَهُوَ رُبْعُ الْمِيرَاثِ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ اللَّتَيْنِ دَخَلَ بِهِمَا مَهْرٌ كَامِلٌ لِتَأَكُّدِ مَهْرِهِمَا بِالدُّخُولِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَلِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا نِصْفُ مَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ، فَنِصْفُ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُلُثَا مَهْرٍ، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلُ بِهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِغَيْرِهَا لَا يَزِيدُ فِي حَقِّهَا سَبَبًا، فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سُدُسُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَلَهَا سُدُسُ الْمِيرَاثِ، بِهِ عَلَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا فِي الْمِيرَاثِ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مِنْ الْمَدْخُولَتَيْنِ مَحْرُومَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ فِي التَّخْرِيجِ أَنَّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إنْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهَا. وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الثَّلَاثُ فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَلَهَا حَالَتَا حِرْمَانٍ وَحَالَةُ إصَابَةٍ، فَلِهَذَا جَعَلَ لَهَا ثُلُثَ النِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْحَاكِمُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ بَلْ الصَّوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُمُنُ الْمِيرَاثِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْمَدْخُولَتَيْنِ وَارِثَةٌ فَيَعْزِلُهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْزُولَةً بِأَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ وَقَعَ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَعْزُولَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأُخْرَى فَلِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الَّتِي لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، فَإِذَا كَانَ لَهَا النِّصْفُ فِي حَالَةٍ وَفِي حَالَةٍ لَا شَيْءَ لَهَا كَانَ لَهَا الرُّبْعُ، ثُمَّ هَذَا الرُّبْعُ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا شَيْءَ لَهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، فَلَهَا نِصْفُ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِلَّتَيْنِ دَخَلَ بِهِمَا. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ قَالَ: قَدْ دَخَلْتُ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ بِالسَّبْقِ وَقَدْ دَخَلَ بِهِنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَالثِّنْتَانِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا، فَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِيهِ، وَفِقْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ جَعَلَ إقْرَارَهُ بِالدُّخُولِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إقْرَارًا بِالدُّخُولِ بِمَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ حَمْلًا لِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهَا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ فَكَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ وَطَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا فَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ نِصْفَ مَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ وَلِلِاثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَكَانَ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَدَخَلَ بِإِحْدَاهُنَّ وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا وَالْأُخْرَى وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَرُبْعُ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَإِنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُنَّ مَهْرَانِ لِسُقُوطِ مَهْرٍ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولَيْنِ، فَقَدْرُ الْمَهْرَيْنِ لَهُنَّ بِيَقِينٍ، وَنِصْفُ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمَدْخُولَةَ مِنْهُنَّ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَحَالُهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ أَوْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 فَيَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَالْعِدَّةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ جَمِيعًا، فَإِنْ عُرِفَتْ الْمَدْخُولُ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا لِتَأَكُّدِ مَهْرِهَا بِالدُّخُولِ وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا تَخْرِيجَ الْقَوْلَيْنِ وَبَيَّنَّا حُكْمَ تَخْرِيجِ الْمِيرَاثِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ عُرِفَتْ الْمَدْخُولُ بِهَا وَقَدْ أَوْقَعَ تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً عَلَى إحْدَاهُنَّ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَالَهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى أَيَّتُهُنَّ وَقَعَتْ حَرَّمَتْهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ فَنِكَاحُ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّلَاثِ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُنَّ أَوْ تَأَخَّرَ، وَنِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةً فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِانْضِمَامِ نِكَاحِهَا إلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَلَا مَهْرَ لَهَا لِبُطْلَانِ عَقْدِهَا وَلِلْحُرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَعَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَبَقَ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْأُخْرَيَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى يَتِمُّ بِالْعِتْقِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ فِيهَا أَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا صَحِيحٌ وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَأُخْرَى فِي عُقْدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِ الزَّوْجِ، وَفِي الْعَقْدِ عَلَى الْأُخْرَى مُبْتَدِئٌ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ لِأَمْرٍ سَبَقَ مِنْ الزَّوْجِ فَيَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَى الَّتِي امْتَثَلَ بِهَا أَمْرُ الزَّوْجِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْأُخْرَى عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ النَّفَقَةِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ نَفَقَةَ الْغَيْرِ تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الزَّوْجِيَّةُ، وَمِنْهَا الْمِلْكُ، وَمِنْهَا النَّسَبُ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] مَعْنَاهُ: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا، وَأَنْ لَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ نَفَقَتُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ: «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ»، وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَمُفَرِّغَةٌ نَفْسَهَا لَهُ فَتَسْتَوْجِبُ الْكِفَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ، كَالْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَمَّا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْمَسَاكِينِ اسْتَوْجَبَ كِفَايَتَهُ فِي مَالِهِمْ، وَالْقَاضِي لَمَّا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ اسْتَوْجَبَ الْكِفَايَةَ فِي مَالِهِمْ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ طَرِيقُ إيصَالِ النَّفَقَةِ إلَيْهَا شَيْئَانِ التَّمْكِينُ أَوْ التَّمْلِيكُ، حَتَّى إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَائِدَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ، تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ تَنَاوُلِ مِقْدَارِ كِفَايَتِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الزَّوْجَ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَخَاصَمَتْهُ فِي النَّفَقَةِ، فُرِضَ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ مَا يَكْفِيهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ. فَإِنَّمَا يُفْرَضُ بِمِقْدَارِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ. وَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ فَوْقَ التَّقْتِيرِ وَدُونَ الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ لَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ مَا يَصْلُحُ لَهَا لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَإِنَّ بَقَاءَ النَّفْسِ بِهِمَا وَكَمَا لَا تَبْقَى النَّفْسُ بِدُونِ الْمَأْكُولِ عَادَةً لَا تَبْقَى بِدُونِ الْمَلْبُوسِ عَادَةً وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لَهَا خَدَمٌ فَرَضَ الْقَاضِي لِخَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُحْتَاجٌ إلَى الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهَا وَأَقْرَبُ ذَلِكَ إصْلَاحُ الطَّعَامِ لَهَا وَخَادِمُهَا يَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَبْلُغُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا نَفَقَتَهَا، حَتَّى قَالُوا يُفْرَضُ لِخَادِمِهَا أَدْنَى مَا يُفْرَضُ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ، وَلَا يُفْرَضُ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَاجُ إلَيْهِمَا لِيَقُومَ أَحَدُهُمَا بِأُمُورٍ دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَالْآخَرُ يَأْتِيهَا مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ بِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَهُمَا قَالَا: حَاجَتُهَا تَرْتَفِعُ بِالْخَادِمِ الْوَاحِدِ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَلِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ. وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِلْكِفَايَةِ، فَكَمَا لَا يَزِيدُهَا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ فِي نَفَقَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ خَادِمِهَا، وَلَوْ فَرَضَ لِخَادِمَيْنِ لَفَرَضَ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 يَتَنَاهَى، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ الزَّوْجِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الرِّجَالِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُهُمَا جَمِيعًا، حَتَّى إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَهَا نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُعْسِرَةٌ تَحْتَ زَوْجٍ مُوسِرٍ تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَسْتَوْجِبُ إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ دُونَ ذَلِكَ يَكْفِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَالزَّوْجُ مُعْسِرًا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا تَسْتَوْجِبُ إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً؛ لِتَحْصُلَ كِفَايَتُهَا بِذَلِكَ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: لَمَّا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُعْسِرٍ فَقَدْ رَضِيَتْ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا بِحَسَبِ حَالِهِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي النَّفَقَةِ تَقْدِيرٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُقَدَّرُ كُلُّ يَوْمٍ بِمُدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ وَبِمُدٍّ وَنِصْفٍ عَلَى وَسَطِ الْحَالِ وَبِمُدٍّ عَلَى الْمُعْسِرِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْكِفَايَةُ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ طِبَاعُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ مِنْ الشَّبَابِ وَالْهَرَمِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ أَيْضًا فَفِي التَّقْدِيرِ بِمِقْدَارِ إضْرَارٍ بِأَحَدِهِمَا، وَاَلَّذِي قَالَ فِي الْكِتَابِ: إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَرَضَ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ خَمْسَةً، وَلِخَادِمِهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ هَذَا بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيرِ بِالدَّرَاهِمِ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا يَفْرِضُ لَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ، وَكَمَا يُفْرَضُ لَهَا مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْإِدَامِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُتَنَاوَلُ إلَّا مَأْدُومًا عَادَةً. وَجَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] أَنَّ أَعْلَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، وَأَوْسَطَ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَأَدْنَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ. وَأَمَّا الدُّهْنُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ خُصُوصًا فِي دِيَارِ الْحَرِّ فَهُوَ مِنْ أَصْلِ الْحَوَائِجِ كَالْخُبْزِ. (قَالَ:) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ لَمْ تُفْرَضْ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَلَيْهِ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُفْرَضُ لِخَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ طَعَامِهَا وَحَوَائِجِهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَعْطَاهَا نَفَقَةَ خَادِمٍ، ثُمَّ تَقُومُ هِيَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهَا، أَوْ تَتَّخِذُ خَادِمًا فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اسْتِحْقَاقُهَا نَفَقَةَ الْخَادِمِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْخَادِمِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ لَا تَسْتَوْجِبُ نَفَقَةَ الْخَادِمِ كَالْغَازِي إذَا كَانَ رَاجِلًا لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ، وَإِنْ أَظْهَرَ غَنَاءَ الْفَارِسِ فِي الْقِتَالِ (قَالَ:) وَالْكِسْوَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 الشِّتَاءِ دِرْعٌ وَمِلْحَفَةٌ زُطِّيَّةٌ وَخِمَارٌ سَابُورِيٌّ وَكِسَاءٌ كَأَرْخَصِ مَا يَكُونُ كِفَايَتُهَا مِمَّا يُدْفِئُهَا، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصُ كَرَابِيسَ وَإِزَارٌ وَكِسَاءٌ كَأَرْخَصِ مَا يَكُونُ، وَلِلْخَادِمِ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِزَارٌ، وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَمِلْحَفَةٌ وَخِمَارٌ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ تِسْعَةٌ وَلِخَادِمِهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٌ، وَالْكِسْوَةُ لِلْمَرْأَةِ فِي الشِّتَاءِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ دِينَوَرِيَّةٌ وَخِمَارُ إبْرَيْسَمَ وَكِسَاءٌ أَذْرَبِيجَانِيٌّ وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ زُطِّيٌّ وَإِزَارٌ كَرَابِيسُ وَكِسَاءٌ رَخِيصٌ، وَفِي الصَّيْفِ لِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ كَتَّانٌ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمٌ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِزَارٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالدَّرَاهِمِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَمَا ذُكِرَ مِنْ الثِّيَابِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِيمَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يُفْرَضُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ الْإِزَارَ وَالْخُفَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، وَذَكَرَ الْإِزَارِ فِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخُفَّ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ لِلْحَوَائِجِ فَلَهَا الْخُفُّ، أَوْ الْمُكْعَبُ، بِحَسَبِ مَا يَكْفِيهَا، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَمَأْمُورَةٌ بِالْقَرَارِ فِي الْبَيْتِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ الْخُفَّ وَالْمُكْعَبَ عَلَى الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَوْجِبُ الْإِزَارَ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُهَيِّئَةً نَفْسَهَا لِبِسَاطِ الزَّوْجِ، فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهَا مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْإِزَارَ فِي كِسْوَتِهَا، ثُمَّ النَّفَقَةُ لِلْكِفَايَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَإِنَّمَا تُفْرَضُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُجَدِّدْ لَهَا الْكِسْوَةَ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَبِسَتْ لُبْسًا مُعْتَادًا فَتَخَرَّقَ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَكْفِيهَا فَتُجَدَّدُ لَهَا الْكِسْوَةُ، وَلَكِنْ إنْ أَخَذَتْ الْكِسْوَةَ وَرَمَتْ بِهَا حَتَّى جَاءَ الْوَقْتُ وَقَدْ بَقِيَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ عِنْدَهَا يُفْرَضُ لَهَا كِسْوَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَبِسَتْ لَتَخَرَّقَ ذَلِكَ فَبِأَنْ لَمْ تَلْبَسْ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا، وَيُجْعَلُ تَجَدُّدُ الْوَقْتِ كَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ كِسْوَةِ الْأَقَارِبِ فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ. وَإِذَا بَقِيَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ فَلَا حَاجَةَ. وَهُنَا لَا مُعْتَبَرَ بِحَقِيقَةِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ ثِيَابٍ تُسْتَوْجَبُ كِسْوَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى الْمَشْهُورِينَ بِذَلِكَ فَلِامْرَأَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ وَلِخَادِمِهَا خَمْسَةٌ وَلَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ فِي الشِّتَاءِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ هَرَوِيٌّ وَجُبَّةٌ فَرْوٌ، أَوْ دِرْعٌ خَزٌّ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ يَهُودِيٌّ وَإِزَارٌ وَجُبَّةٌ وَكِسَاءٌ وَخُفَّيْنِ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُوَقَّتَ النَّفَقَةُ عَلَى الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ السِّعْرَ يَغْلُو وَيَرْخُصُ لَكِنْ تُجْعَلُ النَّفَقَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ذَلِكَ فَيُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ دَرَاهِمَ شَهْرًا شَهْرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ وَاَلَّذِي قَالَ: تُفْرَضُ شَهْرًا شَهْرًا إنَّمَا بَنَاهُ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ حَالَ الرَّجُلِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَرِفًا تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ يَوْمًا يَوْمًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَدَاءُ النَّفَقَةِ شَهْرًا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ التُّجَّارِ يُفْرَضُ الْأَدَاءُ شَهْرًا شَهْرًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ الدَّهَاقِينَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ سَنَةً سَنَةً؛ لِأَنَّ تَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ عِنْدَ إدْرَاكِ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَتَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَى التَّاجِرِ عِنْدَ اتِّخَاذِ أَجْرِ غَلَّاتِ الْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَتَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَى الْمُحْتَرِفِ بِالِاكْتِسَابِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الزَّوْجِ كَفِيلٌ بِشَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ تَجِبْ بَعْدُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمَاضِي فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ يُؤْمَرُ بِقَضَائِهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ. وَلَوْ خَاصَمَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي نَفَقَةِ مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَهَا النَّفَقَةَ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقْضَى لَهَا بِمَا لَمْ تَسْتَوْفِ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ التَّرَاضِي عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِالْعَقْدِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ، أَوْ إلَى الرِّضَاءِ فِي صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمَهْرِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ كَالْأُجْرَةِ يَصِيرُ دَيْنًا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ لَا تَتَأَكَّدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الْبُضْعِ فَإِنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْبُضْعِ، وَلَا تَسْتَوْجِبُ عِوَضَيْنِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْبُضْعِ يَجِبُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ جُمْلَةً. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ عِوَضًا فَعَرَفْنَا أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ، وَتَأَكُّدُهَا إمَّا بِالْقَضَاءِ، أَوْ التَّرَاضِي وَلِأَنَّ هَذِهِ نَفَقَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ، كَنَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَكَذَا هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ، وَإِنَّمَا وِلَايَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا فَمَا اسْتَدَانَتْ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا وَإِنْفَاقُهَا مِمَّا اسْتَدَانَتْ كَإِنْفَاقِهَا مِنْ سَائِرِ أَمْلَاكِهَا فَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ، أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى نَفَقَةٍ كُلَّ شَهْرٍ، ثُمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 غَابَ أَوْ حُبِسَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ تَسْتَدِنْ أَخَذَتْهُ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنْ تَرَاضٍ؛ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِالْتِزَامِ فَوْقَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فِي الْإِلْزَامِ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَدَانَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ غَائِبٌ فَإِنَّمَا اسْتَدَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَفْرِضْ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ، أَوْ فَرَضَ لَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى زَوْجِهَا، فَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَأَمْرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ كَأَمْرِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ. (قَالَ:) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا أُجِيزُ الْفَرْضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا إلْزَامٌ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَائِبِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَطَلَبَتْ أَنْ يَفْرِضَ لِلْوَلَدِ مَعَهَا نَفَقَةً فَرَضَ عَلَيْهِ لِلصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الزَّمْنَى، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا زَمَانَةَ بِهِمْ مِنْ الرِّجَالِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ بَلْ يُؤْمَرُونَ بِالِاكْتِسَابِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ زَمِنًا مِنْهُمْ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ. وَبِالنِّسَاءِ عَجْزٌ ظَاهِرٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ. وَفِي أَمْرِهَا بِالِاكْتِسَابِ فِتْنَةٌ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُمِرَتْ بِالِاكْتِسَابِ، اكْتَسَبَتْ بِفَرْجِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ وَنَفَقَتُهَا فِي صِغَرِهَا عَلَى الْوَالِدِ لِحَاجَتِهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ؛ لِأَنَّ بِبُلُوغِهَا تَزْدَادُ الْحَاجَةُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَلِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّضَاعِ عَلَى الْوَالِدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إلَى قَوْلِهِ {، وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَذَلِكَ حَاجَةُ الْوَلَدِ مَا دَامَ رَضِيعًا فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كِفَايَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ مَا بَقِيَتْ حَاجَتُهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ نَفَقَةَ الْكِبَارِ مِنْ الْوَلَدِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهُمْ وَلَهُمْ أَهْلِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ. وَيَدْفَعُ نَفَقَةَ الصِّغَارِ إلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ فِي حِجْرِهَا وَهِيَ الَّتِي تُصْلِحُ لَهُ طَعَامَهُ، فَيَدْفَعُ نَفَقَتَهُ إلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ نَفَقَةَ الصَّغِيرِ عَلَى الْمُعْسِرِ بِالدَّرَاهِمِ وَكِسْوَتَهُ بِالثِّيَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَهَذَا أَظْهَرُ هُنَا فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سِنِّ الصَّغِيرِ فَلَا عِبْرَةَ بِالتَّقْدِيرِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أُمِرَ بِأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ فِيهِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ. (قَالَ) وَإِذَا صَالَحَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفَقَةٍ لَا تَكْفِيهَا فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ وَتُطَالِبَ بِالْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا. فَرِضَاهَا بِدُونِ الْكِفَايَةِ إسْقَاطٌ مِنْهَا لِحَقِّهَا قَبْلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الْوُجُوبِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ لَمْ تُسْقِطْ بِذَلِكَ نَفَقَتَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَا وَهُوَ الْعَقْدُ مَوْجُودٌ فَيُقَامُ ذَلِكَ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ، وَهُنَاكَ السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ وَلَكِنْ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ حَالًا فَحَالًا، فَإِسْقَاطُهَا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ بَاطِلٌ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ وَفِي التَّرَاضِي عَلَى مَا لَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ لَا تَحْصِيلُهُ فَكَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ حِينَ قَضَى بِمَا لَا يَكْفِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْخَطَأَ بِالْقَضَاءِ لَهَا بِمَا يَكْفِيهَا. (قَالَ:) وَإِذَا فُرِضَ عَلَى الْمُعْسِرِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، ثُمَّ أَيْسَرَ فَخَاصَمَتْهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَمَا لَا يُسْتَأْنَفُ الْقَضَاءُ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بَعْدَ الْيَسَارِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَدِيمُ ذَلِكَ - الْقَضَاءُ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ لِعُذْرِ الْعُسْرَةِ فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ بَطَلَ ذَلِكَ: كَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ لِلْعُسْرَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَغَيَّبَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا، أَوْ أَبَتْ أَنْ تَتَحَوَّلَ مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ، أَوْ إلَى حَيْثُ يُرِيدُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَقَدْ أَوْفَاهَا مَهْرَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي حَقِّ النَّاشِزَةِ بِمَنْعِ حَظِّهَا فِي الصُّحْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تُمْنَعُ كِفَايَتَهَا فِي النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي الصُّحْبَةِ لَهُمَا وَفِي النَّفَقَةِ لَهَا خَاصَّةً، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِتَسْلِيمِهَا نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَتَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ صَارَتْ ظَالِمَةً وَقَدْ فَوَّتَتْ مَا كَانَ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لَهَا بِاعْتِبَارِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقِيلَ لِشُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَلْ لِلنَّاشِزَةِ نَفَقَةٌ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقِيلَ كَمْ قَالَ: جِرَابٌ مِنْ تُرَابٍ. مَعْنَاهُ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَفِّهَا مَهْرَهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى يُوفِيَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ فَلَا تَكُونُ مُفَوِّتَةً مَا بِهِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ حُكْمًا بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الْمُفَوِّتُ بِمَنْعِهَا حَقَّهَا، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا وَالْمَهْرَ حَقُّهَا فَمُطَالَبَتُهَا بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا الْآخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَبَرَ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ انْتِقَالَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً، فَأَمَّا بَعْدَ مَا انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِهِ وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْعِهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 حَقٍّ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ انْتِقَالَهَا إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالنَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ، وَإِنْ رَجَعَتْ النَّاشِزَةُ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِنَفَقَتِهَا نُشُوزُهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] (قَالَ:) وَلَا نَفَقَةَ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ فَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَهْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِحَاجَتِهَا وَالصَّغِيرَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ كَالْكَبِيرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلصَّغِيرِ كَمَا تَجِبُ لِلْكَبِيرِ، فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسَلِّمَةٍ نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِهِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ كَالنَّاشِزَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ جِدًّا لَا تَنْتَقِلُ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ بَلْ تُنْقَلُ إلَيْهِ وَلَا تُنْقَلُ إلَيْهِ لِلْقَرَارِ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا فَتَكُونُ كَالْمُكْرَهَةِ إذَا حُمِلَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ فَإِذَا كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْعٍ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكَةِ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ مَبْلَغًا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا صَغِيرًا كَانَ زَوْجُهَا، أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ مُفَرِّغَةٌ نَفْسَهَا لِحَاجَتِهِ، وَإِنَّمَا الزَّوْجُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِمَعْنًى فِيهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا مَالَ لَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْأَبُ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ كَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ، فَكَمَا لَا يُؤْخَذُ أَبُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ إذَا لَمْ يَضْمَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفَقَةِ. (قَالَ:) وَكُلُّ امْرَأَةٍ قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ مُعْسِرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِأَنْ تَسْتَدِينَ، ثُمَّ تَرْجِعَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إذَا عَلِمَ عَجْزَهُ وَعُسْرَتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَقَدْ ظَهَرَ هُنَا عُذْرُهُ لَا ظُلْمُهُ فَلَا يَحْبِسُهُ وَلَكِنْ يَنْظُرُ لَهَا بِأَنْ يَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِذَا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَانَ كَاسْتِدَانَتِهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إذَا أَيْسَرَ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْلَمُ مِنْ الزَّوْجِ عُسْرَهُ فَسَأَلَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَحْبِسْهُ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عُقُوبَةٌ لَا يَسْتَوْجِبُهَا إلَّا الظَّالِمُ وَلَمْ يَظْهَرْ حَيْفُهُ وَظُلْمُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَلَا يَحْبِسُهُ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا حَبَسَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 لِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظِرَةِ إلَى مَيْسَرَةٍ بِالنَّصِّ وَلَيْسَ بِظَالِمٍ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِيفَاءِ مَعَ الْعَجْزِ. (قَالَ:) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا حَبَسَ الرَّجُلَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فِي نَفَقَةٍ، أَوْ دَيْنٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدَّرَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَدْنَى الْمُدَّةِ فِيهِ شَهْرٌ. وَالْحَاصِلُ أَنْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلْإِضْجَارِ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ عَادَةً، فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي حَتَّى إذَا وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ يَضْجَرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيُظْهِرُ مَالًا إنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ مُدَّةً، فَإِذَا سَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ مَا صَارَ مَعْلُومًا بِخَبَرِ الْعُدُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يُلَازِمَهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ مُنْظَرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّلَهُ الْخَصْمُ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَكَمَا لَا يُلَازِمُهُ هُنَاكَ، فَكَذَلِكَ لَا يُلَازِمُهُ هُنَا. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ بَعِيرًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ طَالَبَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاغَدْرَاه، فَهَمَّ بِهِ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ» وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ: التَّقَاضِي، وَبِالْيَدِ: الْمُلَازَمَةُ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَدْيُونِ مِنْ كَسْبِهِ وَمَالِهِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمُلَازَمَةِ حَتَّى إذَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ عَنْ نَفَقَتِهِ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ. وَلَسْنَا نَعْنِي بِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يُقْعِدَهُ فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَلْ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَ النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ، لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَلِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِ الْحَقِّ وَبَيْنَ حَقِّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إيفَائِهِ فَيُجَازَى بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ وَأَدَّى مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ذَلِكَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إذَا ظَفِرَ بِطَعَامِهِ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ. وَالْمَرْأَةُ تَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إذَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ، فَيُعِينُهَا الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يَبِيعُ الْقَاضِي عُرُوضَهُ فِي النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَبِيعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَاضِي لَا يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ. وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَيْهِ نَوْعُ حَجْرٍ فَلَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي. وَعِنْدَهُمَا الْقَاضِي يَحْجُرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَيَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَاسْتَدَلَّا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبَاعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ عَلَى غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ.» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: سَبَقَ الْحَاجَّ، فَادَّانَ مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَعُدْ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِأَجْلِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِيهِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ. وَبِالِاتِّفَاقِ يُبَادَلُ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ وَأَدَّى ضَمَانَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ.» وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ عَلِمَ بِيَسَارِهِ حِينَ أَلْزَمَهُ ضَمَانَ الْعِتْقِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِحَبْسِهِ وَلَمْ يَبِعْ عَلَيْهِ مَالَهُ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاشْتَغَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَلِقَضَاءِ الدَّيْنِ طُرُقٌ سِوَى بَيْعِ الْمَالِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلَايَةُ تَعْيِينِ هَذَا الطَّرِيقِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُزَوَّجُ الْمَدْيُونَةُ لِتَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا وَلَا يُؤَاجَرُ الْمَدْيُونُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ أُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَالَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ. وَمُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَفْعَلُهُ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا «حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ بِرِضَاهُ وَسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَاشِرَ بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالُهُ فَيَصِيرَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ» وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنْ النُّقُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الْمَالَ إلَّا بِطَلَبٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ طَلَبٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ، أَوْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ رَآهَا لِأُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ. (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نِسْوَةٌ فُرِضَتْ النَّفَقَةُ لَهُنَّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُنَّ كِتَابِيَّةً، أَوْ أَمَةً قَدْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَعَهُ بَيْتًا فُرِضَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا يَكْفِيهَا وَلَا تُزَادُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ عَلَى الْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ فُرِضَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَعَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ فَفِي هَذَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَوَلَا يَأْمُرُهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ حَضْرَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ فَلَمْ يَجِدْنَ ذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى طَلَاقِهِنَّ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ إذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَالْمَعْرُوفُ فِي الْإِمْسَاكِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِفَوَاتِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَاجَتَهَا إلَى النَّفَقَةِ أَظْهَرُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ لِإِيصَالِهَا إلَى حَقِّهَا مِنْ جِهَةِ عُسْرِهِ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ هُنَا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ لِإِيصَالِهَا إلَى حَقِّهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ الْمُجْتَمِعَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّفْرِيقَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِإِيصَالِهَا إلَى ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَقْتِ تَصِلُ إلَيْهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ مِنْ جِهَةِ زَوْجٍ آخَرَ وَقَاسَ بِنَفَقَةِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ فَهُنَا كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَتَبَا إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ مُرُوا مَنْ قِبَلَكُمْ أَنْ تَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ أَهْلِيكُمْ أَوْ بِطَلَاقِهِنَّ. وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَالسُّنَّةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 إذَا أُطْلِقَتْ يُفْهَمُ مِنْهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ، وَلَوْ أَجَّلَتْهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِالْفُرْقَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ شَرْعًا. إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالنَّصِّ التَّأَخُّرُ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ إبْطَالًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ الْمَنْصُوصِ، وَفِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ إبْطَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنٌ فَأَمَّا فِي حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ تَأْخِيرًا لَا إبْطَالًا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ مَعْرُوفٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ وَهُوَ الِالْتِزَامُ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وَهُوَ الِالْتِزَامُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ أَنَّ التَّسْرِيحَ طَلَاقٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَقُّ هُنَا هُوَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ حَتَّى إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَبِهِ نُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. فَإِنَّ نَفَقَةَ عِيَالِ مَنْ هُوَ مِنْ الْجُنْدِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمَا خَافَا عَلَيْهِنَّ الْفِتْنَةَ لِطُولِ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَمَرَاهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَيْهِنَّ مَا تَطِيبُ بِهِ قُلُوبُهُنَّ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَقَةَ مَالٌ فَالْعَجْزُ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ، وَنَفَقَةُ الْوَقْتِ لَمْ تَسْتَقِرَّ دَيْنًا بَعْدُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ الْمَالِ فَكَانَ الْمَالُ زَائِدًا وَالْعَجْزُ عَنْ التَّبَعِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَرَفْعِ الْأَصْلِ وَكَمَا أَنَّ بِالْفُرْقَةِ لَا تَتَوَصَّلُ إلَى مَهْرِهَا الَّذِي عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا تَتَوَصَّلُ إلَى مِثْلِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ. وَبِهِ فَارَقَ الْجَبَّ وَالْعُنَّةَ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ تَحَقُّقُ فَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، مَعَ أَنَّ عِنْدَنَا هُنَاكَ لَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَلَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ طَلَاقًا لِإِزَالَةِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هُنَاكَ قَدْ انْسَدَّ عَلَيْهَا بَابُ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ عَلَيْهَا وُصُولُ النَّفَقَةِ بِدُونِ التَّفْرِيقِ بِأَنْ تَسْتَدِينَ فَتُنْفِقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجُ يُمْسِكُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَيْهَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ ظَالِمًا وَهُنَا يُمْسِكُهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَكُونُ ظَالِمًا، وَلِأَنَّ هُنَاكَ فِي تَرْكِ التَّفْرِيقِ إبْطَالُ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْجِمَاعِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَوْ فَرَّقْنَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الزَّوْجِ فَاسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي ضَرَرِ الْإِبْطَالِ وَفِي جَانِبِهَا رُجْحَانٌ لِصِدْقِ حَاجَتِهَا وَهُنَا فِي تَرْكِ التَّفْرِيقِ تَأْخِيرُ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ وَفِي التَّفْرِيقِ إبْطَالُ الْمِلْكِ عَلَى الزَّوْجِ وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ، وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ فَالضَّرَرُ هُنَاكَ ضَرَرُ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَاكَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، ثُمَّ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 إبْطَالُ حَقِّهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى بِبَدَلٍ، فَكَانَ هَذَا الضَّرَرُ أَهْوَنَ حَتَّى أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ إبْطَالًا بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَعْتِقْهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ. (قَالَ:) وَالتَّبْوِئَةُ فِي الْأَمَةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَ الْأَمَةِ وَزَوْجِهَا وَلَا يَسْتَخْدِمُهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّبْوِئَةِ، فَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مَا بِهِ كَانَتْ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ فَهِيَ كَالْحُرَّةِ النَّاشِزَةِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَوْلَى إنَّمَا أَزَالَ ذَلِكَ بِحَقٍّ لَهُ فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُ هَذَا كَالْحُرَّةِ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا لِصَدَاقِهَا قُلْنَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا بِالصَّدَاقِ كَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ النَّفَقَةَ وَالْمَوْلَى إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا بَيْتًا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا بِصَدَاقِهَا فَالتَّفْوِيتُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ مَا لَزِمَهُ لِتَنْتَقِلَ إلَى بَيْتِهِ، فَأَمَّا هُنَا التَّفْوِيتُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَلْ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى لِشَغْلِهِ إيَّاهَا بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَجِيءُ فَتَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَوْلَى، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ تَفْوِيتٌ بَلْ الْمَوْجُودُ مِنْ جِهَتِهِ التَّسْلِيمُ، فَإِنْ جَاءَتْ فِي وَقْتٍ وَالزَّوْجُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ فَاسْتَخْدَمُوهَا وَمَنَعُوهَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ أَهْلِ الْمَوْلَى إيَّاهَا كَاسْتِخْدَامِ الْمَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ التَّبْوِئَةِ، وَالتَّبْوِئَةُ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَبَعْدَ التَّفْوِيتِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ لَا يَكُونُ لَهَا نَفَقَةٌ. (قَالَ:) وَنَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ مَرِضَتْ مِنْ قَبْلِ أَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا فِعْلَ مِنْهَا فِي الْمَرَضِ لِتَصِيرَ بِهِ مُفَوِّتَةً، مَعَ أَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِئْنَاسِ وَغَيْرِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَقْصُودِ الْجِمَاعِ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ الرَّتْقَاءَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا مَعَ فَوَاتِ مَقْصُودِ الْجِمَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِهَا وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا. وَفِي الْمَرِيضَةِ إنْ تَحَوَّلَتْ إلَى بَيْتِهِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى أَنْ تَبْرَأَ، وَإِنْ مَرِضَتْ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، بَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ مَرَضُهَا. (قَالَ:) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلصُّحْبَةِ وَالْأُلْفَةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْأُلْفَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ أَوْ يَرُدَّهَا لِقَلِيلِ مَرَضٍ فَإِذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّتَقِ الَّذِي لَا يَزُولُ عَادَةً. وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا لِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَنْسِيٍّ مِنْ جِهَتِهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الصِّغَرَ يَزُولُ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّتْقِ وَالْقَرْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّتْ، أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجِمَاعِ أَوْ هَرِمَتْ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ جِمَاعُهَا وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْعَوَارِضُ مِنْ بَعْدِ مَا دَخَلَ بِهَا وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ بَلْ الْمُرَادُ انْتِقَالُهَا إلَى مَنْزِلِهِ وَسَوَاءٌ انْتَقَلَتْ أَوْ لَمْ تَنْتَقِلْ إذَا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً نَفْسَهَا ظَالِمَةً فَهِيَ مُسْتَوْجِبَةٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَى مَا قُلْنَا. (قَالَ:) وَلَا نَفَقَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَلَا فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ مَعْدُومٌ هُنَا وَهُوَ تَسْلِيمُهَا نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فَإِنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا؛ وَلِهَذَا لَمْ تُجْعَلْ الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ تَسْلِيمًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمَهْرِ فَكَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي التَّسْلِيمِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ. (قَالَ:) وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فَقَالَ الزَّوْجُ أَنَا فَقِيرٌ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ فِي النَّاسِ أَصْلٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «يُولَدُ كُلُّ مَوْلُودٍ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُبْرَةٌ أَيْ سُتْرَةٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ» فَالزَّوْجُ يَتَمَسَّكُ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي غِنًى عَارِضًا فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ، وَبِهِ أَجَابَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إذَا ادَّعَى الْمُعْتِقُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَأَمَّا مَا أَشَارَ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ إنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِبَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَنِيًّا بِمَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِنْ الْمَالِ فَلَا قَوْلَ لَهُ فِي دَعْوَى الْفَقْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِنَا بِزَوَالِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ اخْتِيَارًا كَالْمَهْرِ وَدَيْنِ الْكَفَالَةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارٍ مِنْهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ اخْتِيَارًا. فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْعُسْرَةِ. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ يَحْكُمُ فِي ذَلِكَ زِيُّهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَّ دَلِيلٌ عَلَى غِنَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعَلَامَةِ يُجْعَلُ حُكْمًا إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ الزِّيَّ مَعَ الْعُسْرَةِ لِيُعَظِّمَهُمْ النَّاسُ فَلَا يُجْعَلُ الزِّيُّ حُكْمًا فِي حَقِّهِمْ لِظُهُورِ الْعَادَةِ بِخِلَافِهِ. (قَالَ:) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ عَلَى يَسَارِهِ وَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ يَسَارِهِ فِي السِّرِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلِيلًا يَعْتَمِدُهُ لِفَصْلِ الْحُكْمِ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ دَلِيلًا آخَرَ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ لَا يَعْتَمِدُ ذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 وَيَكُونَا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ يُخْبِرَانِ أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ يَثْبُتُ يَسَارُهُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِلْمُ الْقَاضِي وَيَحْصُلُ لَهُ عِلْمٌ بِخَبَرِهِمَا كَمَا يَحْصُلُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ أَخْبَرَا أَنَّهُمَا عَلِمَا ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ رَاوٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَخْبَرَاهُ عَنْ عِلْمٍ وَإِنَّمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ ظَنٍّ، أَوْ عَنْ خَبَرِ مَنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ، وَالْخَبَرُ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ تَتَمَكَّنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَادَةً فَلِهَذَا لَا يُعْتَمَدُ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ. (قَالَ:) وَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُوسِرٌ وَأَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلِأَنَّ شُهُودَ الزَّوْجِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَشُهُودُ الْمَرْأَةِ عَرَفُوا الْغِنَى الْعَارِضَ فَلِهَذَا يُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ. (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَالَ اُحْسُبُوا لَهَا نَفَقَتَهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ لَهَا دَيْنًا عَلَيْهِ فَإِذَا الْتَقَى الدَّيْنَانِ تَسَاوَيَا قِصَاصًا، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاصَّ بِمَهْرِهَا فَالنَّفَقَةُ أَوْلَى (قَالَ:) وَإِذَا فُرِضَتْ النَّفَقَةُ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَهْرِهَا فَأَعْطَاهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَلْ هُوَ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ مِنْ الْمَهْرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي جَمِيعِ قَضَاءِ الدُّيُونِ إذَا كَانَ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ تَفْرُغُ ذِمَّتُهُ بِهَذَا الْأَدَاءِ مِنْ كَذَا دُونَ كَذَا. (قَالَ:) وَإِذَا اخْتَلَفَا فِيمَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، أَوْ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْقَدْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةٌ الزِّيَادَةَ فَتَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَكْفِيهَا بَلَغَ بِهَا الْكِفَايَةَ فِي الْمُؤْتَنَفِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْكِفَايَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي أَوَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَكْفِيهَا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَا يَكْفِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ (قَالَ:) وَلَوْ أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا شَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كَلِمَةَ كُلٍّ إلَّا مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى كَمَنْ يَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا لِكُلِّ شَهْرٍ كَانَ لُزُومُ الْعَقْدِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ كَفِيلٌ بِنَفَقَتِهَا مَا عَاشَتْ وَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ وَلِأَنَّ قَصْدَ الْمَرْأَةِ التَّوَثُّقُ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَقِّهَا، فَكَأَنَّ الْكَفِيلَ صَرَّحَ لَهَا بِمَا هُوَ مَقْصُودُهَا فَقَالَ: فِي كَفَالَتِهِ أَبَدًا، أَوْ مَا عَاشَتْ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 عَامًّا، فَكَذَا هُنَا وَلَوْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَلَكِنَّ إضَافَةَ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الزَّوْجَ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفَقَةِ أَمْ لَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِدَيْنٍ آخَرَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ وَلَا يَتْرُكَ لِي نَفَقَةً أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ، أَوْ يُعْطِيَهَا كَفِيلًا بِنَفَقَةِ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهَا فَيُجِيبَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ النَّظَرِ. (قَالَ:) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةً مَعْلُومَةً كُلَّ شَهْرٍ فَمَضَتْ أَشْهُرٌ لَمْ يُعْطِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ مَاتَتْ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَاتِ لَا اسْتِحْقَاقَ الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَالصِّلَاتُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَشَبَّهَهُ فِي الْكِتَابِ بِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ إذَا مَاتَ لَمْ تُسْتَوْفَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِهَذَا وَلِأَنَّ السَّبَبَ قِيَامُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا وَتَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهَا كَمَا إذَا زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ رَدِّ الْمُشْتَرَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُرَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَعْجَلَتْ النَّفَقَةَ لِمُدَّةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ تَرِكَتِهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا صِلَةٌ وَحَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الصِّلَاتِ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتْرُكُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةَ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ مَوْتِهَا وَيَسْتَرِدُّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ لِمَقْصُودٍ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْمُدَّةِ شَهْرًا، أَوْ دُونَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فِي تَرِكَتِهَا، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ تَرَكَ لَهَا مِقْدَارَ نَفَقَةِ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا وَيَسْتَرِدُّ مِنْ تَرِكَتِهَا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيهَا النَّفَقَةَ شَهْرًا فَشَهْرًا عَادَةً فَفِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ شَهْرٍ هِيَ مُسْتَوْفِيَةٌ حَقَّهَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَعْجِلَةٌ (قَالَ:) وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْكَارِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي الْقَضَاءِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِإِثْبَاتِهَا ذَلِكَ. (قَالَ:) وَإِذَا بَعَثَ إلَيْهَا بِثَوْبٍ فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَّةٌ وَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْكِسْوَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ لِلثَّوْبِ مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَعَثَ بِهِ هَدِيَّةً، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 حَقِّهَا مِنْ الْكِسْوَةِ، أَوْ الْمَهْرِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْآخَرِ بِمَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَضَاءِ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ فَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إنْ بَعَثَ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ: هِيَ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ هَدِيَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ:) وَإِذَا أَعْطَاهَا كِسْوَةً فَعَجَّلَتْ تَمْزِيقَهَا، أَوْ هَلَكَتْ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَتَمْزِيقِهَا فَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِحَقِيقَةِ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ الْوَقْتُ مُقَامَهُ تَيْسِيرًا فَمَا لَمْ يَأْتِ الْوَقْتُ لَا تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ فَلَا يَتَجَدَّدُ سَبَبُ الْوُجُوبِ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ إنْ صَانَتْهَا وَلَبِسَتْ غَيْرَهَا فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِالْكِسْوَةِ وَالْقَاضِي فِي الِابْتِدَاءِ يُوَقِّتُ مِنْ الْمُدَّةِ مَا يَتَمَزَّقُ فِيهِ الثَّوْبُ بِاللُّبْسِ. الْمُعْتَادِ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ فِي ذَلِكَ التَّوْقِيتِ يَجِبْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْظَرْ إلَى تَعْجِيلِهَا التَّمْزِيقَ وَلَا إلَى صِيَانَتِهَا فَوْقَ الْمُعْتَادِ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَلَمْ تُنْفِقْ حَتَّى جَاءَ الشَّهْرُ الثَّانِي وَهِيَ مَعَهَا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ الشَّهْرِ الثَّانِي بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُعْتَبَرَ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَسْتَوْجِبْ النَّفَقَةَ عَلَى غَيْرِهِ وَالْحَاجَةُ مُرْتَفِعَةٌ بِبَقَاءِ الْمَأْخُوذِ مَعَهُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا فَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا وَلَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ الصُّلْحِ عَنْ التَّرَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي فُرِضَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِمَا مَضَى لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا وَأَوْرَدَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْجَامِعِ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا اسْتَدَانَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ وَأَنْفَقَ مِنْ ذَلِكَ فَتَكُونُ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لِقِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَهُنَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ، أَوْ مِنْ صَدَقَةٍ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَالْحَاجَةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لِعِلْمِهِ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ غَابَ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِهِ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْظُرَ لِلْغَائِبِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُحَلِّفَهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 النَّفَقَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ وَهِيَ تُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي لِتَأْخُذَ ثَانِيًا، وَإِذَا حَلَفَتْ فَأَعْطَاهَا النَّفَقَةَ أَخَذَ مِنْهَا كَفِيلًا لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَوْفَى نَفَقَتَهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَوْفَاهَا، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا أَخَذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكَفِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَأَرَادَتْ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهَا عِنْدَنَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ وَيُعْطِيهَا النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَالٌ يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، فَإِنْ حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَقَرَّ بِالنِّكَاحِ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَلَّفَهَا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ وَلَمْ يَقْضِ لَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرًا لَهَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ فَيُجِيبُهَا الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزَّوْجِيَّةِ (قَالَ:) وَإِنْ أَحْضَرَتْ غَرِيمًا لِلزَّوْجِ أَوْ مُودَعًا فِي يَدِهِ مَالٌ لِلزَّوْجِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمَالِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَدَاءِ نَفَقَتِهَا مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا أَحْضَرَ غَرِيمًا، أَوْ مُودَعًا لِلْغَائِبِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْمَالِ وَبِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ بِمَا يَكُونُ نَظَرًا لَهُ وَحِفْظًا لِمِلْكِهِ عَلَيْهِ وَفِي الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ مَالِهِ حِفْظُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ حِفْظُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بَلْ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ؛ فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا (قَالَ:) وَإِنْ جَحَدَ الْمَدْيُونُ، أَوْ الْمُودَعُ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَوْنَ الْمَالِ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَمَّا عَلَى الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ؛ فَلِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَقُّهَا فِيهِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلزَّوْجِ فِي أَمْوَالِهِ، وَأَمَّا إذَا جَحَدَا الزَّوْجِيَّةَ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبٍ، فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْمُودَعُ وَالْمَدْيُونُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ. وَالِاشْتِغَالُ مِنْ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 بِالزَّوْجِيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا النَّفَقَةَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدَانَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَحُضُورُ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا. (قَالَ:) وَلَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ فِي نَفَقَتِهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَبِعْ الْقَاضِي عُرُوضَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ غَائِبًا أَوْلَى، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ عُرُوضَهُ بَعْدَ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَجْرِ وَإِلْزَامُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ (قَالَ) وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا وَيُعْطِيهَا الْكِسْوَةَ مِنْ الثِّيَابِ إنْ كَانَتْ لَهُ وَالنَّفَقَةَ مِنْ طَعَامِهِ إنْ كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا «قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» فَلَأَنْ يَقْضِيَ لَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى، وَيَأْخُذَ مِنْهَا كَفِيلًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ فَإِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُصُولِ النَّفَقَةِ إلَيْهَا لِهَذَا الْوَقْتِ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا أَخَذَتْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ وَنَكَلَ الْكَفِيلُ لَزِمَهَا وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِذَلِكَ، أَوْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَا لَزِمَهَا رَدُّهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنُكُولِهَا وَلِهَذَا لَزِمَ كَفِيلَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نَفَقَةِ الْعَبْدِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ، أَوْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ قَدْ بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَهُوَ تَسْلِيمُهَا إلَى الزَّوْجِ فِي مَنْزِلِهِ وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ بِالنِّكَاحِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدُّيُونِ إذَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَعَلُّقٌ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْمَوْلَى، وَدَيْنُ النَّفَقَةِ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ النِّكَاحُ كَانَ بِرِضَاهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ يُبَاعُ فِيهِ، ثُمَّ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ فِيهِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دُيُونِ الْعَبْدِ مَا يُبَاعُ فِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَّا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ يَتَجَدَّدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 وُجُوبُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ دَيْنٍ حَادِثٍ وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالسِّعَايَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَ قِيَامِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ كَمَا يُقْضَى بِسَائِرِ دُيُونِهِ فِي كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ، أَوْ الْمُدَبَّرِ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ مِلْكٌ لِمَوْلَاهَا وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهَا يَكُونُ حُرًّا وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْحُرِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ لِمَوْلَاهُ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي كَسْبِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ فِي كَسْبِهِ نَفَقَةُ وَلَدٍ حُرٍّ وَلَا نَفَقَةُ وَلَدٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةً مَعَهُ لِمَوْلًى وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ يَكُونُ لَهَا وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لَهَا، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهَا، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ تَكُونُ عَلَيْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَإِنَّ نَفَقَةَ ذَلِكَ الْوَلَدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَهُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِلْأُمِّ فَالْأُمُّ أَمَةٌ لَهُ أَيْضًا؛ فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِذَا تَبِعَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ نَفْسِهِ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ، أَوْ الْمُدَبَّرُ أَوْ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا مَهْرَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ يَكُونُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَنِكَاحُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ عَتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ نِكَاحُهُ حِينَ يَعْتِقُ لِسُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَالْمُكَاتَبِ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَبَّرَةُ أَوْ الْأَمَةُ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ تَحْتَ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَعَهُ بَيْتًا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يُوجَدُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُقَرِّرٌ لِلْبَدَلِ وَالنَّفَقَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَقَدْ انْعَدَمَ مِنْهَا تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّفَقَةِ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّبْوِئَةِ، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ انْتَزَعَهَا مِنْهُ وَاحْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ عِنْدَ مَوْلَاهَا، وَإِنْ أَعَادَهَا إلَيْهِ وَبَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ كَالْحُرَّةِ إذَا هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ، تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْأَمَةَ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ مَوْلَاهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فِي خِدْمَتِهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الدَّيْنِ وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ بِالدَّيْنِ إذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 كَانَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْهَا، فَإِذَا قَضَتْ الدَّيْنَ وَعَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ تَكُونُ عَلَى مَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكَاتَبَةً وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا، أَوْ لَمْ يُبَوِّئْهَا مِنْهُ فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَهَا النَّفَقَةُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا كَالْحُرَّةِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ هِيَ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا عَنْهُ ظَالِمَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نَفَقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُفْرَضُ عَلَى الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا يُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا كِفَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ وَسَبَبُهَا وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحٌ فَطَلَبَتْ نَفَقَتَهَا مِنْهُ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ فُرِضَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يُفْرَضُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَإِنْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ وَبِرَفْعِ أَحَدِهِمَا لِأَمْرِ الْقَاضِي يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (قَالَ:) وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَامْرَأَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَبَتْ الْإِسْلَامَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ إبَاءُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عُرِضَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَا مَهْرَ لَهَا إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْمَهْرِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ بِتَفْوِيتِهَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَلَى الزَّوْجِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ فَأَمَّا سُقُوطُ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ حَبْسِهَا نَفْسَهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَهُنَاكَ إنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا ظُلْمًا كَالنَّاشِزَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا، فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاصِيَةً فِي ذَلِكَ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَهُوَ إبَاؤُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مِنْهُ تَفْوِيتُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَتَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَالْإِحْسَانُ فِي التَّسْرِيحِ أَنْ يُوفِيَهَا مَهْرَهَا وَنَفَقَةَ عِدَّتِهَا (قَالَ): وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ مُسْلِمًا ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَهُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لَهَا قَالَ: لِأَنَّ الْعِصْمَةَ انْقَطَعَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِ أَوَّلِهِمَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَلَا فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَمَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ يَقْطَعُ مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْخَارِجُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّ الزَّوْجِ فَلَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ] (قَالَ:) وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ وَاحِدَةٍ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ؛ فَلِأَنَّهَا فِي بَيْتِهِ مَنْكُوحَةٌ لَهُ كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَشْرَفَ النِّكَاحُ عَلَى الزَّوَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ آلَى مِنْهَا، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمُضِيِّ شَهْرٍ فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» إلَّا أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامًا؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَ فَاطِمَةَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ إذَا سَمِعَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ رَمَاهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَتَنَتْ الْعَالَمَ، أَيْ بِرِوَايَتِهَا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيًّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ " وَتَأْوِيلُهُ إنْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ وَوَكَّلَ أَخَاهُ بِأَنْ يُنْفِقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 عَلَيْهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ فَأَبَتْ هِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ. (وَالثَّانِي) أَنَّهَا كَانَتْ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي أَحْمَاءَ زَوْجِهَا حَتَّى أَخْرَجُوهَا. فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] فَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا: النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا بِالنِّكَاحِ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَكَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَقِّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَبِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ مِلْكِ الْيَدِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَكَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ نَفَقَةَ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ لِمَالِهِ فِيهِ مِنْ مِلْكِ الْيَدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ مِلْكِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ يَدَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. وَعِنْدَنَا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ النَّصِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا يَبْقَى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا حَتَّى لَوْ أَزَالَهُ مِنْ مِلْكِهِ الْيَوْمَ فَمَضَى الْغَدُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ يَعْتِقُ وَلَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى الْغَدِ يَعْتِقُ أَيْضًا كَيْفَ وَقَدْ قَالَ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ. وَقِرَاءَتُهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَسْمُوعَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ {، وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] لِإِزَالَةِ إشْكَالٍ كَانَ عَسَى أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَطُولُ عَادَةً فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهَا هَلْ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَإِنْ طَالَتْ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ثُمَّ النَّفَقَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَجِبُ لَهَا لَا لِلْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَلَدِ وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى مَوْلَاهُ كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ إذَا حَبِلَتْ لَا تَتَضَاعَفُ نَفَقَتُهَا وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لَتَضَاعَفَتْ نَفَقَةُ الْمَنْكُوحَةِ إذَا حَبِلَتْ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا فَقُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ سِوَى الْعِدَّةِ وَالْحَامِلُ وَالْحَائِلُ فِي هَذَا السَّبَبِ سَوَاءٌ. وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ إبْرَاهِيمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا فَاحِشَةٌ. وَلِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ؛ لَا حَاجَةَ لَهَا إلَى الْخُرُوجِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ؛ فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا. وَالْبَائِنَةُ بِالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَمُجَامَعَةِ أُمِّهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ كُلَّهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحَقُّ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ أَنْ لَا سُكْنَى فِي الْعِدَّةِ وَلَا نَفَقَةَ فَعَلَيْهِ السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِهَا مَعْصِيَةٌ وَاشْتِرَاطُ الْمَعْصِيَةِ فِي الْخُلْعِ بَاطِلٌ؛ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا وَإِسْقَاطُهَا حَقَّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ فَأَمَّا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَإِسْقَاطُ مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ بَاطِلٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ إسْقَاطَهَا لِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى وَرَضِيَتْ أَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ تَلْتَزِمَ مُؤْنَةَ السُّكْنَى مِنْ مَالِهَا كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا (قَالَ:) وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا وَهِيَ أَمَةٌ وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَيْهِ لِخِدْمَتِهِ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ، فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ وَتَرَكَ اسْتِخْدَامَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّلَاقِ فِي بَيْتِ الْمَوْلَى يَسْتَخْدِمُهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَ اسْتِخْدَامُهُ إيَّاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِعَارِضٍ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً هَارِبَةً مِنْ الزَّوْجِ حِينَ طَلَّقَهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ يَبْقَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ ابْتِدَاءٌ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ مُطْلَقًا فَأَمَّا ثُبُوتُ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ اعْتَرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 مُسْقِطٌ، ثُمَّ زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ فَلَوْ جَعَلْنَا لَهَا النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ النَّفَقَةِ لَهَا ابْتِدَاءً فِي الْعِدَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّبْوِئَةِ أَنْ تَتَفَرَّغَ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ وَذَلِكَ فِي قِيَامِ النِّكَاحِ فَإِذَا بَوَّأَهَا بَيْتًا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّبْوِئَةِ فِي الْعِدَّةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ، وَالْقِيَاسُ فِي النَّاشِزَةِ هَكَذَا وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحِقَّةٌ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَالْعَارِضُ الْمُسْقِطُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ وَبَعْدَهَا فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ إذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَمَةِ. وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْصِيَةِ كَالرِّدَّةِ وَمُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إنْ أَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ رَجَعَتْ وَتَابَتْ مِنْ الرِّدَّةِ، أَمَّا السُّكْنَى فَوَاجِبَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَعْصِيَتِهَا، أَمَّا النَّفَقَةُ فَوَاجِبَةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِمَجِيءِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا بِالْمَعْصِيَةِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ قَدْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَعَتَقَتْ وَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا كَانَ سَبَبَ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا (قَالَ:) وَإِذَا لَمْ تُخَاصِمْ الْمُعْتَقَةُ فِي نَفَقَتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ نَفَقَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفَقَةَ النِّكَاحِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ خَرَاجُ رَأْسِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذَا وَنَفَقَةُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ اسْتِدَانَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، صَحِيحٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّمَا اسْتَدَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ بِالْمَرْأَةِ فَالنَّفَقَةُ لَهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ، أَوْ بِالشُّهُورِ عِنْدَ الْإِيَاسِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَائِمٌ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بِبَقَاءِ السَّبَبِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُسَوَّى بَيْنَ أَنْ تَطُولَ مُدَّةُ الْحَيْضِ، أَوْ تَقْصُرَ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلْقَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرَّثَهُ مِنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ مِيرَاثَهَا عَلَيْك. (قَالَ:) وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي رَحِمِهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَتَكُونُ أَمِينَةً فِيهِ مَقْبُولَةَ الْقَوْلِ، هَكَذَا قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَمَّنَ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا فِي رَحِمِهَا وَلِأَنَّهَا مُتَمَسِّكَةٌ بِالْأَصْلِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ، وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهَا فَيَبْقَى مَا لَمْ يَظْهَرْ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَبِقَوْلِ الزَّوْجِ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَرِئَ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهَا بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا جَامَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا مُطَاوِعَةً فِي عِدَّتِهَا لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ نَفَقَتُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: النَّفَقَةُ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَمَا أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِفِعْلِهَا هُنَا فِي الْفُرْقَةِ؛ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قَدْ وَقَعَتْ قَبْلَ فِعْلِهَا وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةً لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَتْ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ بِفِعْلِهَا وَهِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ وَلَكِنْ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ فَلَا تَكُونُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْمَحْبُوسَةُ بِحَقٍّ عَلَيْهَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَابَتْ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ لِزَوَالِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْحَبْسُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا فَإِنَّ هُنَاكَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ تَابَتْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَوْ لَحِقْت بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا جَاءَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ تَائِبَةً أَوْ سُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ، أَوْ لَمْ تُعْتَقْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً وَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ شَبَهَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا يَقُولُ: النَّفَقَةُ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَهَا يَبْقَى الْعِدَّةُ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا لِذِمِّيٍّ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ حَرْبِيَّانِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُتَمَكِّنَانِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمَنْزِلَةِ الصِّلَةِ وَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ لِإِبْقَائِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 فَهُوَ بِهِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْقَتْلِ غَيْرُ مُسْتَوْجِبٍ لِلْإِبْقَاءِ، وَكَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمِ أَبٌ ذِمِّيٌّ مُعْسِرٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعٌ، فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبُوا النَّفَقَةَ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فِي حَقِّ الْأَبِ الذِّمِّيِّ وَالْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَبِاخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُرْمَةِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. (قَالَ:) رَجُلٌ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْعِتْقُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ نَظِيرُ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا الْمُسَمَّى مِنْ الْمَهْرِ وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ فِي حَقِّهَا وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا فَيُجْعَلُ هَذَا فِي حَقِّهَا كَالطَّلَاقِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ (قَالَ:) وَاَلَّتِي زَوَّجَهَا عَمُّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْفُرْقَةُ إذَا جَاءَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَا تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا (قَالَ:) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةَ فَأَعْطَاهَا فَسُرِقَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى مَا لَمْ يَمْضِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوْفَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فَدَخَلَ الْمُسْتَوْفِي فِي ضَمَانِهَا كَمَا إذَا اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ وَيَكُونُ الْهَلَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ وَلَوْ أَرْسَلَ بِهَا إلَيْهَا رَسُولًا فَقَالَ الرَّسُولُ قَدْ أَعْطَيْتهَا إيَّاهَا وَجَحَدَتْ هِيَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ الزَّوْجِ نَائِبُهُ فَدَعْوَاهُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا كَدَعْوَى الزَّوْجِ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَعْطَيْتهَا نَفَقَتَهَا وَأَنْكَرَتْ هِيَ الِاسْتِيفَاءَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرَّسُولُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِاسْتِيفَاءِ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَفِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِرْدَادِ مِنْ التَّرِكَةِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ بِعَيْنِهِ قَائِمًا، أَوْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ حُكْمِ الْوَلَدِ عِنْدَ افْتِرَاقِ الزَّوْجَيْنِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الصِّغَارَ لِمَا بِهِمْ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِمْ؛ جَعَلَ الشَّرْعُ وِلَايَةَ ذَلِكَ إلَى مَنْ هُوَ مُشْفِقٌ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ حَقَّ التَّصَرُّفِ إلَى الْآبَاءِ لِقُوَّةِ رَأْيِهِمْ مَعَ الشَّفَقَةِ وَالتَّصَرُّفِ يَسْتَدْعِي قُوَّةَ الرَّأْيِ وَجَعَلَ حَقَّ الْحَضَانَةِ إلَى الْأُمَّهَاتِ لِرِفْقِهِنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الشَّفَقَةِ وَقُدْرَتِهِنَّ عَلَى ذَلِكَ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُمَّ أَحْفَى وَأَشْفَقُ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ فَتَتَحَمَّلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْأَبُ وَفِي تَفْوِيضِ ذَلِكَ إلَيْهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لِلْوَلَدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ إنَّ وَلَدِي هَذَا قَدْ كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَأَنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَلَمَّا خَاصَمَ عُمَرُ أُمَّ عَاصِمٍ بَيْن يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِيَنْتَزِعَ عَاصِمًا مِنْهَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رِيحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ سَمْنٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك وَفِي رِوَايَةٍ رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ يَا عُمَرُ فَدَعْهُ عِنْدَهَا حَتَّى يَشِبَّ وَفِي رِوَايَةٍ دَعْهُ فَرِيحُ لِفَاعِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ سَمْنٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا فَارَقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَحَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَفِي نَوَادِرِ دَاوُد بْنِ رَشِيدٍ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ فِي ذَلِكَ وَإِذَا اسْتَغْنَيَا يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِمَا؛ لِأَنَّ لِلْأُمِّ حَقَّ الْحَضَانَةِ وَذَلِكَ يَنْتَهِي إذَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ إلَى الْحِفْظِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى الْحِفْظِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَعْجِزُ عَنْ حِفْظِ نَفْسِهَا وَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا عَلَى مَا قِيلَ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذَبَّ عَنْهُنَّ فَكَيْف تَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهَا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فَقُلْنَا الْجَارِيَةُ. وَإِنْ اسْتَغْنَتْ عَنْ التَّرْبِيَةِ فَقَدْ احْتَاجَتْ إلَى تَعَلُّمِ الْغَزْلِ وَالطَّبْخِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَالْأُمُّ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 أَقْدَرُ وَإِذَا دُفِعَتْ إلَى الْأَبِ اخْتَلَطَتْ بِالرِّجَالِ فَيَقِلُّ حَيَاؤُهَا وَالْحَيَاءُ فِي النِّسَاءِ زِينَةٌ وَإِنَّمَا يَبْقَى ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ ذَيْلِ أُمِّهَا فَكَانَتْ أَحَقَّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ فَإِذَا بَلَغَتْ احْتَاجَتْ إلَى التَّزْوِيجِ وَوِلَايَةُ التَّزْوِيجِ إلَى الْأَبِ وَصَارَتْ عُرْضَةً لِلْفِتْنَةِ وَمَطْمَعَةً لِلرِّجَالِ وَبِالرِّجَالِ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فَيَتَمَكَّنُ الْأَبُ مِنْ حِفْظِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَكَّنُ الْأُمُّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ وَهُوَ قُوَّةُ غَيْرَةِ الرِّجَالِ فَإِنَّ الْأُمَّ رُبَّمَا تُخْدَعُ فَتَقَعُ فِي فِتْنَةٍ وَلَا تَشْعُرُ الْأُمُّ بِذَلِكَ وَيُؤْمَنُ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ فَأَمَّا الْغُلَامُ إذَا اسْتَغْنَى فَقَدْ احْتَاجَ إلَى تَعَلُّمِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَاحْتَاجَ إلَى مَنْ يُثَقِّفَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَالْأَبُ هُوَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ صُحْبَةَ النِّسَاءِ مَفْسَدَةٌ لِلرِّجَالِ فَإِذَا تُرِكَ عِنْدَهَا يَنْكَسِرُ لِسَانُهُ وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى طَبْعِ النِّسَاءِ فَرُبَّمَا يَجِيءُ مُخَنَّثًا فَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَى الْأَبِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَيُدْفَعُ إلَى مِنْ اخْتَارَ الْغُلَامُ صُحْبَتَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي هَذَا بِنَاءُ الْإِلْزَامِ وَالْحُكْمِ عَلَى قَوْلِ الصَّبِيِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي الْعَادَةِ يَخْتَارُ مَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ لَا يُؤَدِّبُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ شَهْوَتَهُ وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ الْأَثَرِ فَقَدْ دَعَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ فَبِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالرَّضَاعُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَالِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ} [الطلاق: 6] يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّضَاعِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى إرْضَاعِ الْوَلَدِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ الرَّضَاعَ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهَا دِينًا وَبَعْدَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا وَلَا دُنْيَا وَكَمَا أَنَّ النَّفَقَةَ بَعْدَ الْفِطَامِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْفِطَامِ مُؤْنَةُ الرَّضَاعِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَجِدُ مِنْ يُرْضِعُهُ بِأَقَلَّ مِمَّا تَرْضِعُهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَأْخُذْهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ اسْتَأْجَرَ الظِّئْرَ لِتُرْضِعَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّهَا قَصَدَتْ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ فِي التَّحَكُّمِ عَلَيْهِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ إلَّا أَنَّ الظِّئْرَ تَأْتِي فَتُرْضِعُهُ عِنْدَ أُمِّهِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لَهَا فَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ إبْطَالَ حَقِّهَا وَإِنْ أَخَذَتْهُ الْأُمُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ الظِّئْرِ وَلَبَنُهَا أَوْفَقُ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وَالْأَبُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ حِينَ رَضِيَ بِدَفْعِ مِقْدَارٍ إلَى الظِّئْرِ وَلَا رَضِيَ بِدَفْعِ مِثْلِ ذَلِكَ إلَى الْأُمِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ فَلَا أَجْرَ لَهَا عَلَى الرَّضَاعِ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَرْضِعَ لَمْ تُكْرَهْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الزَّوْجِ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ تُؤْمَرُ بِهِ تَدَيُّنًا وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ نَحْوِ كَنْسِ الْبَيْتِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَكَذَلِكَ إرْضَاعُ الْوَلَدِ (قَالَ:) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ أَبٌ وَكَانَ لَهُ أُمٌّ وَعَمٌّ فَالرَّضَاعُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا إنْ كَانَا مُوسِرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فَقَدْ اُعْتُبِرَ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَا تَخْتَلِفُ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ هَذَا إلَّا سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي النَّفَقَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ الْجَوَابُ هَكَذَا، وَكَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَأَمَّا الرَّضَاعُ فَإِنَّهُ كُلُّهُ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا مُوسِرَةٌ بِاللَّبَنِ وَالْعَمُّ مُعْسِرٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: قُدْرَةُ الْعَمِّ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِمَالِهِ يَجْعَلُهُ مُوسِرًا فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِمَا إثْلَاثًا وَالْأُمُّ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا حَتَّى يَبْلُغَ مَا وَصَفْنَا، فَإِنْ كَانَ الْعَمُّ فَقِيرًا وَالْأُمُّ غَنِيَّةً فَالرَّضَاعُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْعَمِّ مُسْتَحَقَّةٌ فِي مَالِهِ لَا فِي كَسْبِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُعْسِرُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَلْ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ فَإِنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٌّ وَعَمٌّ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ فَالرَّضَاعُ عَلَى الْأُمِّ وَالْأَخِ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ مَعَ الْأَخِ وَالْغُرْمُ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْغُنْمُ لَهُ إذَا مَاتَ الْوَلَدُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْدَ الْأَبِ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى النَّفَقَةِ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ فَهُوَ أَفْضَلُ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ فَقِيرَةً وَلِلْوَلَدِ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ غَنِيَّتَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ الْفَقِيرَةَ كَالْمَعْدُومَةِ وَبَعْدَهَا الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَثْلَاثًا فَكَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ ابْنُ عَمٍّ هُوَ وَارِثُهُ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ كَالْمَعْدُومِ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَثْلَاثًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لِابْنِ الْعَمِّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَصَبَةٍ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِمُجَرَّدٍ مِنْ الْأَقَارِبِ (قَالَ:) وَيُؤْمَرُ الْمُوسِرُ وَالْوَسَطُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِخَادِمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ فَخَادِمَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمْ فِي خِدْمَتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِمْ فَتَكُونُ عَلَى الْأَبِ كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ إلَّا أَنَّ الْمُعْسِرَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فَأَمَّا الْمُوسِرُ وَوَسَطُ الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ. (قَالَ) فَإِنْ تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَقَّ لَهَا إلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ اشْتَغَلَتْ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا فَلَا تَتَفَرَّغُ لِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ فِي الْعَادَةِ يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ وَالْمَذَلَّةُ مِنْ زَوْجِ الْأُمِّ فَكَانَ لِلْأَبِ أَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَيَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا. (قَالَ:) وَأُمُّ الْأُمِّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ وَهِيَ أُمٌّ تُدْلِي بِأُمٍّ فَهِيَ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَقَرَابَةُ الْأُمِّ فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ. (قَالَ:) وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُسْلِمَةً، أَوْ كِتَابِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لَهَا لِلشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى مَا قِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى. وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ كَافِرَةً فَعَقَلَ الْوَلَدُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا جَارِيَةً كَانَتْ، أَوْ غُلَامًا؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ الْأَبِ وَإِنَّهَا تُعَلِّمُهَا الْكُفْرَ فَلَا تُؤْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ إذَا تُرِكَتْ عِنْدَهَا فَلِهَذَا تُؤْخَذُ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ لِأُمِّ الْأُمِّ زَوْجٌ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَدُّ الْوَلَدِ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ جَدَّ الْوَلَدِ يَكُونُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَالْجَفَاءُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ كَالْأُمِّ إذَا تَزَوَّجَتْ أَجْنَبِيًّا. (قَالَ:) وَأُمُّ الْأَبِ بَعْدَهَا أَحَقُّ بِهِمْ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنْ الْأُمِّ، أَوْ الْخَالَةُ أَحَقُّ مِنْ الْجَدَّةِ أَمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَمَنْ سَمَّيْنَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ. وَاسْتِحْقَاقُ الْحَضَانَةِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ. وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ أُمٌّ فِي نَفْسِهَا كَأُمِّ الْأُمِّ، وَالْأُمُّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا فِي الْحَضَانَةِ، ثُمَّ أَصْلُ الشَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ وَذَلِكَ لِلْجَدَّاتِ دُونَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ فَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَدُّ الْوَلَدِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَتْ هِيَ مَيِّتَةً فَحَقُّ الْحَضَانَةِ إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأُمٍّ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا مُسْتَوِيَتَانِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وَلَكِنَّا نَقُولُ قَرَابَةُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَالشَّفَقَةُ بِالْقَرَابَةِ، فَذُو الْقَرَابَتَيْنِ يَكُونُ أَشْفَقَ فَكَانَ بِالْحَضَانَةِ أَحَقَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ بِسَبَبِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَقَرَابَةُ الْأُمِّ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ بِهَا ثُمَّ الْأُخْتُ لِأُمٍّ تُقَدَّمُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَضَانَةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهِيَ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْأُخْرَى إنَّمَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ، ثُمَّ بَعْدَ الْأُخْتِ لِأُمٍّ قَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الْأُخْتُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ قَالَ: الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ اعْتَبَرَ قُرْبَ الْقَرَابَةِ، وَالْأُخْتُ لِأَبٍ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ اعْتَبَرَ الْمُدْلِي بِهِ فَقَالَ: الْخَالَةُ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ تُدْلِي بِالْأَبِ وَالْأُمُّ فِي حَقِّ الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مِنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ، ثُمَّ بَعْدَ الْأَخَوَاتِ بَنَاتُهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْأَخَوَاتِ. وَبَنَاتُ الْأَخَوَاتِ فِي الْحَضَانَةِ أَحَقُّ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدْلِي بِهِ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَعْدَهُنَّ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ بَعْدَهَا الْخَالَةُ لِأَبٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَاتِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَصَمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتُ عَمِّي فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا وَقَالَ جَعْفَرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا عِنْدِي وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْنَةُ أَخِي آخَيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» فَقَالَ الْخَالَةُ أُمٌّ. وَالتَّرْتِيبُ فِي الْخَالَاتِ عَلَى قِيَاسِ التَّرْتِيبِ فِي الْأَخَوَاتِ وَهُنَّ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ الْعَمَّاتِ؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْعَمَّةُ تُدْلِي بِالْأَبِ وَاسْتِحْقَاقُ الْحَضَانَةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَلِهَذَا قُدِّمَتْ الْخَالَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَمَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْخَالَاتِ الْعَمَّاتُ فَاَلَّتِي مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ تُقَدَّمُ، ثُمَّ بَعْدَهَا الَّتِي مِنْ الْأُمِّ، ثُمَّ الَّتِي مِنْ الْأَبِ عَلَى قِيَاسِ الْخَالَاتِ وَبِنْتُ الْأَخِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُدْلِي بِمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ وَلَكِنْ بِنْتُ الْأَخِ أَقْرَبُ وَالْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْأَخِ؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ تُدْلِي بِمَنْ لَهَا حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ وَهِيَ الْأُمُّ وَابْنَةُ الْأَخِ تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أَحَقَّ. (قَالَ:) وَلَيْسَ لِمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ إذَا أَكَلَ وَشَرِبَ وَلَبِسَ وَحْدَهُ جَارِيَةً كَانَتْ، أَوْ غُلَامًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجَارِيَةِ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ لِتَعْلِيمِ أَعْمَالٍ دَاخِلَ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 ذَلِكَ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلِلْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ سَمَّيْنَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ تَعْلِيمِ الْأَعْمَالِ إلَّا بِذَلِكَ فَلِهَذَا أُخِذَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ بَعْدَمَا اسْتَغْنَى الْغُلَامُ، أَوْ حَاضَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ، أَوْ اسْتَغْنَتْ عِنْدَ غَيْرِهِنَّ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْجَدَّاتُ لِأَبٍ، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الضَّمِّ إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ فَمَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا فِي الْعُصُوبَةِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَلَا حَقَّ لِابْنِ الْعَمِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَحِمٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضُمَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا اجْتَمَعَ إخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَفْضَلُهُمْ صَلَاحًا وَوَرَعًا أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَّهُ إلَى أَقْرَبِ الْعَصَبَاتِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ؛ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْأَقْرَبُ. وَضَمُّهُ إلَى أَبْيَنِهِمْ صَلَاحًا أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِ فَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ أَحَقُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكِبَرُ الْكِبَرُ» وَلِأَنَّ حَقَّ أَكْبَرِهِمْ أَسْرَعُ ثُبُوتًا فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَامُ بَعْدَ الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْغُلَامُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا مَخُوفًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا بَلَغَ رَشِيدًا لَا يَبْقَى لِلْأَبِ يَدٌ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَإِذَا بَلَغَ مُبَذِّرًا كَانَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ حِفْظِ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ إمَّا لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ، أَوْ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُعَيَّرُ بِفَسَادِ وَلَدِهِ. فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَبِرْ الرِّجَالَ فَتَكُونُ سَرِيعَةَ الِانْخِدَاعِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ اخْتَبَرَتْ الرِّجَالَ وَعَرَفَتْ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ وَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّ الضَّمِّ فِي الْبِكْرِ؛ لِأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ وَلِلِانْخِدَاعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» يَعْنِي فِي التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الثَّيِّبَ إذَا كَانَتْ مَخُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا لَا يُوثَقُ بِهَا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِبَقَاءِ الْخَوْفِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ الضَّمِّ فِي الْبِكْرِ لِكَوْنِهَا مَخُوفًا عَلَيْهَا فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبِكْرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَكَانَ لَهَا أَخٌ، أَوْ عَمٌّ فَلَهُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُشْفِقٌ عَلَيْهَا فَيَقُومُ بِحِفْظِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْلُغُ شَفَقَتُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 شَفَقَةَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ يَثْبُتُ لِلْعَمِّ وَالْأَخِ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَإِنْ كَانَ أَخُوهَا، أَوْ عَمُّهَا مُفْسِدًا مَخُوفًا لَمْ يُخَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ ضَمَّهَا إلَيْهِ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ ضَمِّهَا إلَيْهِ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فَتَكُونُ وِلَايَةُ النَّظَرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي يَنْظُرُ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً فَيَضَعُهَا عِنْدَهَا وَكَمَا يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي مَالِهَا عِنْدَ عَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْبِكْرُ قَدْ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ فَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيُهَا وَعَقْلُهَا وَأَخُوهَا أَوْ عَمُّهَا مَخُوفٌ عَلَيْهَا فَلَهَا أَنْ تَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَتْ فِي مَكَان لَا يُخَافُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَّ كَانَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ الِانْخِدَاعِ وَفَرْطِ الشَّبَقِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيُهَا وَعَقْلُهَا (قَالَ:) وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فِي الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ لِلْأُمِّ بِاعْتِبَارِ شَفَقَتِهَا عَلَى الْوَلَدِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ، بَلْ شَفَقَتُهُنَّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ أَظْهَرُ مِنْ شَفَقَةِ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ سَبَبَ عِتْقِهَا إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَيْسَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ لِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ مَوْلَاهَا وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَا عَلَى نَفْسِهَا وَحَقُّ الْحَضَانَةِ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ سَائِرُ الْوِلَايَاتِ لِلرَّقِيقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُولُ بِالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي الْحَضَانَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ (قَالَ:) وَالْأَمَةُ إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ لِمَوْلَى الْأَمَةِ يَأْخُذُهُمْ الْمَوْلَى وَهُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعُ الْأُمِّ فِي الْمِلْكِ وَالْمَمْلُوكُ مَالِكُهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا لَمْ يُفَارِقْ أُمَّهُ فَالْمَوْلَى أَوْلَى بِالْوَلَدِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدَهَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ مَتَاعِ الْبَيْتِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ كَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْمَغَازِلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ كَالسِّلَاحِ وَالْقَبَاءِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْمِنْطَقَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْفَرَسِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالْخَادِمِ وَالْعَبْدِ وَالشَّاةِ وَالْفُرُشِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَا حَيَّيْنِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحَيِّ مِنْهَا وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُعْطَى الْمَرْأَةُ جِهَازَ مِثْلِهَا وَالْبَاقِي لِلرَّجُلِ، اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا وَإِنَّمَا لَهَا مَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلرَّجُلِ إلَّا مَا عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إذَا لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي قَوْلٍ آخَرَ الْمُشْكِلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ الْمَرْأَةِ فَالْمَتَاعُ كُلُّهُ لَهَا إلَّا مَا عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ الزَّوْجِ فَالْمَتَاعُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ يَدَ صَاحِبِ الْبَيْتِ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ سَاكِنَةُ الْبَيْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسَمَّى قَعِيدَةً فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ لَهَا فَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ فِي يَدِهَا وَعِنْدَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ وَمَنْ يَقُولُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ قَالَ: لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَمَا فِي بَيْتِهَا يَكُونُ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَأَنَّ الْمَنْزِلَ يُضَافُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ وَهِيَ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْحَانُوتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ إلَّا مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَمَنْ يَقُولُ: الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ يَقُولُ: اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا سَاكِنَانِ فِي الْبَيْتِ فَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِمَا وَلَا مُعْتَبَرَ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَاتِ بِالشَّبَهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إسْكَافًا وَعَطَّارًا لَوْ تَنَازَعَا فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ، أَوْ آلَاتِ الْعَطَّارِينَ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَّخِذُ الشَّيْءَ لِاسْتِعْمَالِهِ وَقَدْ يَتَّخِذُهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُشْكِلَ بَيْنَهُمَا، يَقُولُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ نَوْعُ تَرْجِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّخَذَهُ لِاسْتِعْمَالِهِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ مَعَ سُكَّانِهَا فِي لَوْحٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ وَنَقْشُهُ يُشْبِهُ نَقْشَ الْأَلْوَاحِ الَّتِي فِي السَّقْفِ وَمَوْضِعُهُ مِنْ السَّقْفِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَجْلِ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ فَأَمَّا فِي الْمُشْكِلِ لَا تَرْجِيحَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تُزَفُّ إلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا مَعَ جِهَازِ مِثْلِهَا فَفِي مِقْدَارِ جِهَازِ مِثْلِهَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ لَهَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْقَوْلِ قَوْلُ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي قُلْنَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ حَتَّى لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ، أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَعْمِلِ فَكَانَتْ يَدُ الْمُسْتَعْمِلِ هُنَا أَقْوَى فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لِأَحَدِهِمَا فَأَمَّا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرَّجُلِ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ فَقَدْ كَانَتْ هِيَ مَعَ الْمَتَاعِ فِي يَدِهِ فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَثَةُ الزَّوْجِ يَقُومُونَ مَقَامَ الزَّوْجِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَدُ الْبَاقِي مِنْهُمَا إلَى الْمَتَاعِ أَسْبَقُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يُثْبِتُ يَدَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ لِصَلَاحِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِسَبْقِ الْيَدِ وَلِأَنَّ يَدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَيَدُ الْوَارِثِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ مُوَرِّثِهِ فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّرْجِيحِ كَانَ الْمُشْكِلُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ. وَمَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ التِّجَارَةِ وَالرَّجُلُ مَعْرُوفٌ بِتِلْكَ التِّجَارَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَالْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَجُبَّةُ الْقَزِّ وَالْخَزِّ وَالْبُرْدِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ إذَا كَانَتْ ذَاتَ لَبَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْمُسْتُقَةُ وَالْبُرُّ كَانَ الْمَعْلَمُ مِمَّا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا، أَوْ مُكَاتَبًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ حُرٌّ وَمَمْلُوكٌ فِي مَتَاعٍ فِي يَدِهِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا تَتَرَجَّحُ يَدُ الْحُرِّ بِحُرِّيَّتِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يَدُ الْحُرِّ أَقْوَى فَإِنَّهَا يَدُ مِلْكٍ وَيَدُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ فَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ يَقَعُ بِالْقُرْبِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ، فَكَذَلِكَ يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ بِالْحُرِّيَّةِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ يَدَ الْحُرِّ يَدُ نَفْسِهِ وَيَدَ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهَا يَدُ مَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْجِيحَ هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ نَفْسِهِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَافِرًا وَالْآخَرُ مُسْلِمًا فَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا فِي قُوَّةِ الْيَدِ يَسْتَوِيَانِ فَإِنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدُ مِلْكٍ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَيَسْتَوِي إنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، أَوْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَأُعْتِقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَهُوَ لِلرَّجُلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عِتْقِهَا وَمَا أَحْدَثَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ يَدَهَا بِالْعِتْقِ تَتَقَوَّى فَتَسْتَوِي بِيَدِ الرَّجُلِ فِيمَا أَحْدَثَ بَعْدَ الْعِتْقِ (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، فَإِنْ كُنَّ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَتَاعُ النِّسْوَةِ بَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَقُوَّةُ الْيَدِ بِسَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَا فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا يُشَارِكُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِيمَا فِي بَيْتِ ضَرَّتِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِمَتَاعٍ أَنَّ الرَّجُلَ اشْتَرَاهُ فَهُوَ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَقَدْ أَقَرَّتْ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَقَرَّتْ بِهِ كَالْمُعَايَنِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّتْ هِيَ بِشِرَائِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ لِلْمَرْأَةِ قَدْ كَانَ طَلَّقَك فِي حَيَاتِهِ ثَلَاثًا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهَا الْمُشْكِلَ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْرِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَإِذَا وَقَعَتْ بِالْمَوْتِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَاقِي مِنْهُمَا، ثُمَّ هُنَا الْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ طَلَاقًا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا مَنْعَ مِيرَاثِهَا بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا بَعْدَ مَا تَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّهَا مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالطَّلَاقِ لَزِمَهَا فَإِذَا أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ، أَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً بِهَذَا الطَّلَاقِ وَلَوْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُشْكِلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْمَرَضِ لَا يَجْعَلُهَا أَجْنَبِيَّةً مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إذَا مَاتَ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الْمُشْكِلِ قَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ أَوْ مُكَاتَبَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ فَالْقَوْلُ فِي الْمَتَاعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ. وَالْكُفَّارُ وَالْمَمَالِيكُ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ بِالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] إلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَا تَعُولُوا} [النساء: 3] مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَجُورُوا، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنْ لَا تَمِيلُوا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَكَانَ يَقُولُ: أَنْ لَا تُعِيلُوا. يُقَالُ: عَالَ إذَا مَالَ، وَأَعَالَ إذَا صَارَ مُعِيلًا، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَذَلِكَ أَيْضًا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ وَاِتِّخَاذِ مَا بَيَّنَّا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ عِنْدَ هَذَا الْجَوْرِ، وَمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ يَحْصُلُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا يَحْصُلُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْوِيَةِ فِي الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي: مِنْ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِنَّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ»؛ وَلِأَنَّ النِّسَاءَ رَعَايَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُهُنَّ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ وَكُلُّ رَاعٍ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي رَعِيَّتِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ، أَوْ الْمَمْلُوكِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ، فَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ فَالِاخْتِيَارُ إلَيْهِ، وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ عِنْدَهَا لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى النَّشَاطِ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ الْحَكَمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ دَخَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 بِهَا: إنْ شِئْت سَبَّعْتُ لَك وَسَبَّعْتُ لَهُنَّ»، زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «إنْ شِئْت ثَلَّثْتُ لَك وَثَلَّثْتُ لَهُنَّ»، وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِنْ شِئْت ثَلَّثْتُ لَك، ثُمَّ دُرْت»، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: الْجَدِيدَةُ وَالْقَدِيمَةُ فِي حُكْمِ الْقَسْمِ سَوَاءٌ بِكْرًا كَانَتْ الْجَدِيدَةُ، أَوْ ثَيِّبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَتْ بِكْرًا يُفَضِّلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَثَلَاثُ لَيَالٍ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تُفَضَّلُ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ»، وَلِأَنَّ الْقَدِيمَةَ قَدْ أَلِفَتْ صُحْبَتَهُ وَأَنِسَتْ بِهِ وَالْجَدِيدَةُ مَا أَلِفَتْ ذَلِكَ بَلْ فِيهَا نَوْعُ نَفْرَةٍ وَوَحْشَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ عَنْهَا بِبَعْضِ الصُّحْبَةِ لِتَسْتَوِيَ بِالْقَدِيمَةِ فِي الْإِلْفِ، ثُمَّ الْمُسَاوَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ بِكْرًا فَفِيهَا زِيَادَةُ نَفْرَةٍ عَنْ الرِّجَالِ فَيُفَضِّلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ، وَإِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَهِيَ قَدْ صَحِبَتْ الرِّجَالَ وَإِنَّمَا لَمْ تَصْحَبْهُ خَاصَّةً فَيَكْفِيهَا ثَلَاثُ لَيَالٍ؛ لِتَأْنَسَ بِصُحْبَتِهِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ؛ اجْتِمَاعُهَا فِي نِكَاحِهِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَوْ وَجَبَ تَفْضِيلُ إحْدَاهُمَا كَانَتْ الْقَدِيمَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَحْشَةَ فِي جَانِبِهَا أَكْثَرُ حَيْثُ أَدْخَلَ غَيْرَهَا عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهَا عَادَةً، وَلِأَنَّ لِلْقَدِيمَةِ زِيَادَةَ حُرْمَةٍ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ، كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ وَلِكُلِّ قَدِيمٍ حُرْمَةٌ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ التَّفْضِيلُ بِالْبِدَايَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ، كَمَا ذُكِرَ فِي «حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - إنْ شِئْت سَبَّعْت لَك وَسَبَّعْت لَهُنَّ» وَقَوْلُهُ: «إنْ شِئْت ثَلَّثْت لَك، ثُمَّ دُرْت» أَيْ أَخْبَرْت بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ إنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَدِيدَةِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ اللَّذَّةِ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا. (قَالَ:) وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ وَالْمُرَاهِقَةُ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْبَالِغَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ سَوَاءٌ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يُقِيمُ عِنْدَ الْأُخْرَى، إلَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فِيهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَأَذِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى قُبِضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ وَالْمَرِيضَ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ كَانَ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، ثُمَّ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ وَالْمَرِيضَ سَوَاءٌ وَأَنَّ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ. فَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ تَكُونُ زَوْجَةَ الرَّجُلِ فَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا حُرَّةً فَلِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا رَوَيْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 قَالَ: وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَسْمِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَالرِّقُّ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ قَائِمٌ. (قَالَ:)، وَإِنْ سَافَرَ الرَّجُلُ مَعَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمَّا قَدِمَ طَالَبَتْهُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا مِثْلَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مَعَ الْأُخْرَى فِي السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِأَيَّامِ سَفَرِهِ مَعَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَيَّتِهِمَا مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَصَابَتْنِي الْقُرْعَةُ فِي السَّفْرَةِ الَّتِي أَصَابَنِي فِيهَا مَا أَصَابَنِي». وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسْمِ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَلَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ إذَا سَافَرَ بِبَعْضِهِنَّ لَيْسَ لِلْبَاقِينَ بَعْدَ الرُّجُوعِ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ سَافَرَ بِبَعْضِهِنَّ بِغَيْرِ اقْتِرَاعٍ فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ نَوْبَةَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَدْلُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ سَفَرِ الزَّوْجِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا إذَا سَافَرَ بِهَا بِالْقُرْعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبِدَايَةُ بِإِقْرَاعٍ، أَوْ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ. (قَالَ:) وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا شَهْرًا، ثُمَّ خَاصَمَتْهُ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ قُضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمَا وَمَا مَضَى فَهُوَ هَدَرٌ، غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ فِيهِ آثِمٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ الطَّلَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَمَا مَضَى قَبْلَ الطَّلَبِ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَضَى قَبْلَ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الَّتِي جَدَّدَ نِكَاحَهَا، فَكَذَلِكَ مَا مَضَى قَبْلَ طَلَبِهَا. (قَالَ:) فَإِنْ عَادَ إلَى الْجَوْرِ بَعْدَ مَا نَهَاهُ الْقَاضِي أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً وَأَمَرَهُ بِالْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ وَارْتَكَبَ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجَوْرُ فَيُعَزَّرُ فِي ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ. (قَالَ:) وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَدَخَلَتْ فِي سِنِّهَا أَيْ كَبِرَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا شَابَّةً فَطَلَبَتْ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى وَيُقِيمَ عِنْدَ الَّتِي تَزَوَّجَ أَيَّامًا وَيُقِيمَ عِنْدَهَا يَوْمًا فَتَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَانَ جَائِزًا لَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا، أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [النساء: 128] قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا. وَبَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ طَعَنَتْ فِي السِّنِّ: اعْتَدِّي فَسَأَلَتْهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَيَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ؛ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِكَيْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ فَفَعَلَ.» (قَالَ:) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ عِنْد إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُقِيمُ عِنْدَ الْأُخْرَى إذَا أَذِنَتْ لَهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي مَقَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِإِذْنِهِنَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] قَالَ: هَذَا فِي الْحُبِّ فَأَمَّا فِي الْقَسْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ وَلَا يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا، إلَّا بِإِذْنِ الْأُخْرَى وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الَّتِي رَضِيَتْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تُسْقِطَ حَقَّهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا الرِّضَا لَيْسَ يُلْزِمُهَا شَيْئًا حَتَّى إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ وَتُطَالِبَ بِالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ فَلَهَا ذَلِكَ. (قَالَ:) وَاذَا أَقَامَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ يَوْمًا، ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَمْ يُقِمْ عِنْدَ الْحُرَّةِ الْأُخْرَى، إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ اسْتَوَتْ بِالْحُرَّةِ فِي السَّبَبِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْم وَتُجْعَلُ حُرِّيَّتُهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ النَّوْبَةِ إلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ حُرِّيَّتِهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ النَّوْبَةِ وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ الْحُرَّةِ يَوْمًا، ثُمَّ أَعْتَقَتْ تَحَوَّلَ عَنْهَا إلَى الْمُعْتَقَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوَتْ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْحُرَّةَ بِشَيْءٍ بَعْدَ مَا اسْتَوَتْ الْمُعْتَقَةُ بِهَا. (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ فَاسْتَعْدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيُفْطِرَ لَهَا. وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنَ سَوْرٍ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَرَاهَا إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلَهَا يَوْمُ وَلَيْلَةٌ. وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَوْجُك، فَأَعَادَتْ كَلَامَهَا مِرَارًا، فِي كُلِّ ذَلِكَ يُجِيبُهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذَا، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ سَوْرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهَا تَشْكُو مِنْ زَوْجِهَا فِي أَنَّهُ هَجَرَ مِنْ صُحْبَتِهَا فَتَعَجَّبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ فِطْنَتِهِ وَقَالَ اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَقَضَى كَعْبٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا ذُكِرَ فَوَلَّاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِأَنْ يُرَاعِيَ قَلْبَهَا وَيَبِيتَ مَعَهَا أَحْيَانًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَاشْتَغَلَ عَنْهَا بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، أَوْ بِصُحْبَةِ الْإِمَاءِ فَخَاصَمَتْهُ فِي ذَلِكَ قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِلَيْلَةٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ، وَلِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا عَنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا سِوَاهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَالْعَدْلَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحَمَةَ هُنَا حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ، إلَّا وَاحِدَةٌ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَكَانَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلَا يَشْتَغِلُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ أَبَدًا، حَتَّى لَا يَصُومَ لَا رَمَضَانَ وَلَا غَيْرَهُ، هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُؤْنِسَهَا بِصُحْبَتِهِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ تَلْحَقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمُغَايَظَةُ لِمَقَامِهِ عِنْدَ الْأُخْرَى، فَيُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ. (قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا يَوْمًا وَالْأُخْرَى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ طَلَبَتْ الَّتِي لَهَا الْيَوْمُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ الْعَدْلِ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ فَلَا يُلْزِمُهَا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا، وَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.» (قَالَ:) وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ بَيْنَ النِّسَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ وَالْعَدْلِ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ دُونَ الْمُجَامَعَةِ وَحَالُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا كَحَالِ الْفَحْلِ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ إذَا دَخَلَ بِامْرَأَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ لِحَقِّ النِّسَاءِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَتَوَجَّهُ عَلَى الصِّبْيَانِ عِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْبَالِغِينَ. (قَالَ:) وَإِذَا جَعَلَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ يَزِيدَهَا فِي الْقَسْمِ يَوْمًا فَفَعَلَ لَمْ يَجُزْ، وَتَرْجِعُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا رَشَتْهُ عَلَى أَنْ يَجُورَ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ السُّحْتِ؛ فَلِهَذَا تَسْتَرِدُّ مَا أَعْطَتْ وَعَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْقَسْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّتْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، أَوْ زَادَهَا الزَّوْجُ فِي مَهْرِهَا، أَوْ جَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِفُلَانَةَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ شَيْئًا فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ بِمُقَابِلَتِهِ وَلِأَنَّهَا أَخَذَتْ الرِّشْوَةَ عَلَى أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 تَرْضَى بِالْجَوْرِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، فَكَانَ الْجُعْلُ مَرْدُودًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ] (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُجْبَرُ الرَّجُلُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ إذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] نَهَى عَنْ التَّأْفِيفِ لِمَعْنَى الْأَذَى، وَمَعْنَى الْأَذَى فِي مَنْعِ النَّفَقَةِ عِنْدَ حَاجَتِهِمَا أَكْثَرُ؛ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى فِي الْكَدِّ وَالتَّعَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمِنْ كَسْبِهِ؛ فَكُلُوا مِمَّا كَسَبَ أَوْلَادُكُمْ.» وَإِذَا كَانَ الْأَوْلَادُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا مُوسِرِينَ فَنَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى قِيَاسِ الْمِيرَاثِ وَعَلَى قِيَاسِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَبَوَيْنِ النَّفَقَةَ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ وَحَقُّ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي مَالِ الْوَلَدِ، كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَفِي هَذَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمَا هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ، وَإِنْ انْعَدَمَ التَّوَارُثُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ. (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُعْسِرًا وَهُمَا مُعْسِرَانِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِإِيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ زَمِنًا وَكَسْبُ الِابْنِ لَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ الْأَبَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ضَاعَ الْأَبُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَخْشَى الْهَلَاكَ عَلَى الْوَلَدِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ. (قَالَ:)، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَحَالُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَحَالِ الْأَبَوَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي مَالِ النَّافِلَةِ يَثْبُتُ لِلْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ. (قَالَ:) وَيُجْبَرُ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَالنَّفَقَةُ بَعْدَ الْفِطَامِ بِمَنْزِلَةِ مُؤْنَةِ الرَّضَاعِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَبِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ كَنَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي النَّفَقَةِ أَحَدٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْ الْوَلَدِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا لَا يُشَارِكُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 الْأَبُ فِي مُؤْنَةِ الرَّضَاعِ أَحَدٌ، فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَالْأُمُّ مُوسِرَةٌ أُمِرَتْ بِأَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِهَا عَلَى الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ أَخٌ مُوسِرٌ فَإِنَّ الْأَخَ وَهُوَ عَمُّ الْوَلَدِ يُعْطِي نَفَقَةَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ لَهُ إذَا أَيْسَرَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ وَلَكِنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ فَيُقَامُ مَالُ الْغَيْرِ مَقَامَ مَالِهِ فِي أَدَاءِ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ وَاَلَّذِي قُلْنَا فِي الصِّغَارِ مِنْ الْأَوْلَادِ كَذَلِكَ فِي الْكِبَارِ إذَا كُنَّ إنَاثًا؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ عَاجِزَاتٌ عَنْ الْكَسْبِ؛ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ لِعَجْزِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ عَنْ كَسْبِهِ. وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا بَالِغِينَ لَمْ يُجْبَرْ الْأَبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْكَسْبِ، إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ زَمِنًا، أَوْ أَعْمَى، أَوْ مُقْعَدًا، أَوْ أَشَلَّ الْيَدَيْنِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِمَا، أَوْ مَفْلُوجًا، أَوْ مَعْتُوهًا فَحِينَئِذٍ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ عَنْ الْكَسْبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوسِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ لِلْمُعْسِرِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْمُوسِرِينَ بِإِيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لِتَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لَهُ فَتَسْتَحِقُّ مُوسِرَةً كَانَتْ، أَوْ مُعْسِرَةً فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ مَالُ الْوَلَدِ غَائِبًا أُمِرَ الْأَبُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْوَلَدِ إذَا حَضَرَ مَالُهُ لَكِنَّهُ إنْ أَشْهَدَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إشْهَادٍ لَكِنْ عَلَى نِيَّةِ الرُّجُوعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحُكْمِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَقْصِدُ التَّبَرُّعَ بِمِثْلِ هَذَا، وَالْقَاضِي يَتَّبِعُ الظَّاهِرَ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي ضَمِيرِهِ. (قَالَ:)، وَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الزَّمَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْنِي عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ دُونَ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 النَّفَقَةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَحُمِلَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] عَلَى نَفْيِ الْمُضَارَّةِ دُونَ النَّفَقَةِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُمَا قَالَا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ، ثُمَّ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَارِثُ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَارِثِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ تَكُونُ عَنْ الْأَبْعَدِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَقْرَبُ يُقَالُ هَذَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ النِّعْمَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تَقُولُ النِّعْمَةُ: كُفِرْت وَلَمْ أُشْكَرْ، وَتَقُولُ الْأَمَانَةُ: خُوِّنْت وَلَمْ أُرَدَّ، وَيَقُولُ الرَّحِمُ: قُطِعْت وَلَمْ أُوصَلْ.» وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ} [النساء: 52] وَمَنْعُ النَّفَقَةِ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفِقِ وَصِدْقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ إذَا بَعُدَتْ لَا يُفْرَضُ وَصْلُهَا؛ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُوسِرَةُ تُجْبَرُ عَلَى مَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْعِتْقِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ. (قَالَ:) وَلَا يُجْبَرُ الْمُعْسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ، إلَّا عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّهُمْ أَجْزَاؤُهُ فَكَمَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِعُسْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ اسْتِحْقَاقُهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَتَكُونُ عَلَى الْمُوسِرِينَ دُونَ الْمُعْسِرِينَ كَالزَّكَاةِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَلَى حَاجَتِهِ مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ إلَّا أَنَّهُ يَرْوِي هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ كَسْبُهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَيَكْفِيه لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ يُؤْمَرُ بِصَرْفِ الْفَضْلِ إلَى أَقَارِبِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْمُؤَدِّي لِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ وَتَيْسِيرُ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ كَسْبُهُ يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا امْتَنَعَ الْأَبُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ حُبِسَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّ الْوَالِدَ غَيْرُ مَحْبُوسٍ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِحَاجَةِ الْوَقْتِ فَهُوَ بِالْمَنْعِ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى إتْلَافِهِ وَالْأَبُ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ عِنْدَ قَصْدِهِ إلَى إتْلَافِ وَلَدِهِ، كَمَا لَوْ عَدَا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا لَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 لَا تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَالنَّفَقَةُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَيَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا إنَّ مَنْ جَارَ فِي الْقَسْمِ يَوْجَعُ عُقُوبَةً وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ آخَرَ لَا يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَمَا جَارَ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ لَا يَصِيرُ دِينًا فَيَوْجَعُ عُقُوبَةً لِيَمْتَنِعَ مِنْ الْجَوْرِ. (قَالَ:) وَمَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ، أَوْ خَادِمٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ فَعَلَى الْمُوسِرِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُ وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ مَا رَوَى هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ بِعْ مَسْكَنَك وَخَادِمَك وَأَنْفِقْ عَلَى نَفْسِك؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَنْزِلٍ يُكْرَى فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْعَدِمُ بِمِلْكِهَا حَاجَتُهُ. (قَالَ:) وَلَا يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ غَائِبًا، أَوْ مَفْقُودًا مَا خَلَا الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةَ فَإِنِّي أَقْضِي لَهُمْ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَلَا يَتَقَوَّى، إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوجِدَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَأَمَّا مَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَهُوَ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فَيَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا وَالسَّبَبُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِهِنْدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَهُوَ كَانَ غَائِبًا وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ وَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ فَحَسَنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ النَّفَقَةَ، أَوْ بَعَثَ الْغَائِبُ بِنَفَقَتِهِ فَيَقْصِدُ الْأَخْذَ ثَانِيًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ الْغَائِبُ عَاجِزًا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ نَظَرَ الْقَاضِي لَهُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ كَفِيلًا فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا خَصْمٌ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَخْذَ الْكَفِيلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِ الْخَصْمِ. (قَالَ:) فَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَالٌ فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَجَزْتُهُ وَلَمْ أُضَمِّنْهُ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي حَتَّى أَنْفَقُوا كَانَ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ. وَدَفْعُهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُنْفِقَ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ فَيَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا ضَامِنًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَرَادَ الْمُودَعُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَ الْمُودِعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ ضَامِنًا إنْ فَعَلَهُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. (قَالَ:)، وَإِنْ بَاعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَتَاعَ الْغَائِبِ لِلنَّفَقَةِ أَبْطَلْتُ بَيْعَهُ مَا خَلَا الْأَبَ الْمُحْتَاجَ فَإِنِّي أُجِيزُ بَيْعَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْغَائِبِ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يُنْفِقُهُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَقَارِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ. (قَالَ)، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْمَفْقُودِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَبِ أَيْضًا عَلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فِي الْعَقَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهِ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ قَدْ زَالَتْ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ عَنْ عَقْلٍ فَيَكُونُ هُوَ فِي بَيْعِ أَمْوَالِهِ كَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ وَلَدِهِ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأُمِّ النَّفَقَةَ كَاسْتِحْقَاقِ الْأَبِ، ثُمَّ الْأُمُّ لَا تَبِيعُ عُرُوضَ الْوَلَدِ فِي نَفَقَتِهَا فَكَذَلِكَ الْأَبُ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: وِلَايَةُ الْأَبِ، وَإِنْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ وَلَكِنْ بَقِيَ أَثَرُهَا وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ الِاسْتِيلَادُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ فَلِبَقَاءِ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعُرُوضِ مِنْ الْحِفْظِ، فَإِنَّ الْعُرُوضَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْهَلَاكِ، وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ، وَوِلَايَةُ الْحِفْظِ تَثْبُتُ لِمَنْ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ كَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَبَيْعُ الْعُرُوضِ، فَكَذَلِكَ لِلْأَبِ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ النَّفَقَةِ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَقَارِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ مُحَصَّنٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، إلَّا بِمُطْلَقِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ عِنْدَ صِغَرِ الْوَلَدِ أَوْ جُنُونِهِ وَإِذَا بَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْ الثَّمَنِ نَفَقَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَبِخِلَافِ الْأُمِّ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ لِيَبْقَى أَثَرُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ حِفْظِ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ بَيْعُ الْعُرُوضِ. (قَالَ:) وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفَقَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَلَا الْكُفَّارُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِعِلَّةِ وِلَايَةِ الْوِرَاثَةِ شَرْعًا وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ التَّوَارُثُ، إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدَ وَالزَّوْجَةَ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الزَّوْجَةِ لِلنَّفَقَةِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الذِّمِّيَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَيَدَعَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا وَالنَّوَافِلُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ الْأَبَوَيْنِ. (قَالَ:) وَإِذَا مَاتَ الْأَبُ وَلِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ أُمٌّ وَجَدٌّ أَبُ الْأَبِ فَنَفَقَتُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا أَثْلَاثًا بِخِلَافِ الْأَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي النَّفَقَةِ أَحَدٌ لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْجَدِّ فَإِنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَاتِّصَالِ الْأَخِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْأَخِ وَالْأُمِّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَدِّ وَالْأُمِّ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ. (قَالَ:)، وَإِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ خَالٌ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ مُوسِرٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لِابْنِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَالْخَالُ مَحْرَمٌ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا. (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ زَمِنًا مُعْسِرًا وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ صَغِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ زَمِنٌ وَلِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ أَهْلُ يَسَارٍ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ تَكُونُ عَلَى أَخِيهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْهُ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ فَعَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ لَهُ مِيرَاثَ الْوَلَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَا يَرِثُ مَعَهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ بَعْدَهُ عَلَى مَنْ يَكُونُ وَارِثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا كَانَتْ نَفَقَةُ الْأَبِ وَالْبِنْتِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً، أَمَّا نَفَقَةُ الْبِنْتِ؛ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْوَارِثَ هُنَا هُوَ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأَخُ لِأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ تُجْعَلَ الْبِنْتُ كَالْمَعْدُومَةِ وَلَكِنْ تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ مَعَ بَقَائِهَا بِخِلَافِ الِابْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمُعْدِمِ وَإِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ فَمِيرَاثُ الْأَبِ بَيْنَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ. (قَالَ:)، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ أَخَوَاتٌ مُتَفَرِّقَاتٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى أَخَوَاتِهِ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ الِابْنُ كَالْمَعْدُومِ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَمْسَةٌ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَخَمْسَةٌ لِلْأُخْتِ لِأُمٍّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَالرَّدِّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ خَاصَّةً فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ إذَا مَاتَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَالِدِ لِلْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً دُونَ الْعَمَّةِ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ. أَمَّا فِي قَوْلِ مَنْ يُوَرِّثُ الْعَمَّاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ كَمَا يُوَرِّثُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا أَخْمَاسًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمِيرَاثِ قَالَ: نَفَقَةُ الْأَبِ تَكُونُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 السُّدُسُ مِنْ ذَلِكَ وَالْبَاقِي أَرْبَاعٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَعَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ رُبْعُهُ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ مَعَ الْبَنَاتِ فَإِنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ فَلَا تُجْعَلُ الْبِنْتُ كَالْمَعْدُومِ هُنَا وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْأَبُ كَانَ نِصْفُ مِيرَاثِهِ لِلْبِنْتِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْبِنْتِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، إلَّا فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْعَمَّاتِ أَخْمَاسًا فَنَفَقَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا أَيْضًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا مِيرَاثُ الْبِنْتِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كُلُّهُ لِلْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا أَيْضًا، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى وَارِثِ الْأَبِ فَإِنْ كَانَ يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ جَعَلْته كَالْمَيِّتِ، ثُمَّ نَظَرْت إلَى مَنْ يَرِثُهُ فَجَعَلْت النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَرِثُهُ لَا يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ جَعَلْت النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ يَرِثُ مَعَهُ. (قَالَ:) امْرَأَةٌ مُعْسِرَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ مُوسِرٌ وَأُمٌّ مُوسِرَةٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ نَفَقَتُهُ عَلَى ابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ لِلتَّأْوِيلِ الثَّابِتِ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَالِدِ وَلَا فِي حَقِّ الْأُمِّ وَكَمَا لَا يُشَارِكُ الْوَالِدَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ أَحَدٌ، فَكَذَلِكَ لَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَحَدٌ مِنْ أُمٍّ وَلَا أَبٍ وَلَا جَدٍّ. (قَالَ:) وَيُجْبَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ، كَمَا يُجْبَرُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ يَتَوَارَثُونَ مَعَ اخْتِلَافِ النِّحَلِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ مِنْ قَرَابَتِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ كَسْبِ الْقُوتِ عَادَةً وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ دُونَ النَّادِرِ، إلَّا فِي الْوَالِدَيْنِ خَاصَّةً وَفِي الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ إذَا مَاتَ أَبُو الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَلْحَقُهُ لِلْكَدِّ وَالتَّعَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (قَالَ:) وَلَا يُجْبَرُ الْمَمْلُوكُ وَالْمُكَاتَبُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَمْلُوكِ لِمَوْلَاهُ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ لَهُ فِي كَسْبِهِ مِلْكٌ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ، إلَّا وَلَدَهُ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ وَكَسْبِهِ لَهُ لِتَكُونَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ. (قَالَ:) وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ عَلَى النَّفَقَةِ لِوَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْحَرْبِيِّ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ عَلَى مَنْ هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَإِنْ كَانَا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ (قَالَ:) وَنَفَقَةُ الْمَعْتُوهِ عَلَى ابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ لِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ لَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ دُونَ مَالِ أَبِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُعْسِرًا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الِابْنِ دُونَ الْأَبِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْتُوهًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 [كِتَابُ الطَّلَاقِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الطَّلَاقِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً الطَّلَاقِ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ الْقَيْدِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِطْلَاقِ يَقُولُ الرَّجُلُ أَطْلَقْت إبِلِي وَأَطْلَقْت أَسِيرِي وَطَلَّقْت امْرَأَتِي فَالْكُلُّ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى فَفِي الْمَرْأَةِ يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ، وَإِذَا تَمَّ رَفْعُ الْقَيْدِ بِتَكَرُّرِ الطَّلَاقِ لَا يَأْتِي تَقْيِيدُهُ ثَانِيًا فِي الْحَالِ فَفِي التَّفْعِيلِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ؛ فَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمَرْأَةِ طَلُقَتْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ حِصَانٌ وَحِصَانٌ لَكِنْ يُقَالُ فِي الْفَرَسِ حِصَانٌ أَيْ بَيِّنُ التَّحَصُّنِ، وَفِي الْمَرْأَةِ حَصَانٌ أَيْ بَيِّنَةُ الْحِصْنِ، وَكَذَا يُقَالُ عَدْلٌ وَعَدِيلٌ وَكِلَاهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَلَكِنْ يَخْتَصُّ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآدَمِيِّ لِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَمُوجِبُ الطَّلَاقِ فِي الشَّرِيعَةِ رَفْعُ الْحِلِّ الَّذِي بِهِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ ثَلَاثًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَيُوجِبُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْيَدِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَانْعِدَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَالِاعْتِيَاضِ عِنْدَ الْخُلْعِ. فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ مُبْغَضًا فِي الْأَصْلِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ نُشُوزٍ فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ فِي الرَّجُلِ يَخْلَعُ امْرَأَتَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] الْآيَةَ وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ رَفْعُ النِّكَاحِ الْمَسْنُونِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ إمَّا كِبَرُ السِّنِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا طَعَنَتْ فِي السِّنِّ طَلَّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِمَّا لِرِيبَةٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه طَلِّقْهَا فَقَالَ إنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْسِكْهَا إذَنْ». وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْتَضِي كُلُّهُ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ «وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ» وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كِبَرُ سِنٍّ وَلَا رِيبَةَ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ تُمَاضِرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَقَامَهُنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ صَفًّا وَقَالَ أَنْتُنَّ حِسَانُ الْأَخْلَاقِ نَاعِمَاتُ الْأَرْدَافِ طَوِيلَاتُ الْأَعْنَاقِ اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ طَلَاقٌ وَأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَكْثَرَ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ بِالْكُوفَةِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمِنْبَرِ إنَّ ابْنِي هَذَا مِطْلَاقٌ فَلَا تُزَوِّجُوهُ فَقَالُوا إنَّا نُزَوِّجُهُ ثُمَّ نُزَوِّجُهُ وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَيَكُونُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ كَالْإِعْتَاقِ، وَفِيهِ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ مِنْ وَجْهٍ وَمَعْنَى إزَالَةِ الرِّقِّ مِنْ وَجْهٍ فَالنِّكَاحُ رِقٌّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ». وَرُوِيَ «بِمَ يَرِقُّ كَرِيمَتَهُ» وَلِهَذَا صَانَ الشَّرْعُ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ عَنْ هَذَا الرِّقِّ حَيْثُ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «وَإِنَّ أَبْغَضَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ» فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الرِّقِّ وَمُبْغِضٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ ثُمَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَاسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ سَبَبٌ لِامْتِدَادِ الْمُنَازَعَاتِ فَكَانَ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا مُبَاحًا لِلتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ. ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ نَوْعَانِ سُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَسُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ فَالسُّنَّةُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ مَا بَدَأَ بِبَيَانِهِ الْكِتَابُ، وَهُوَ نَوْعَانِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي وَقْتِ السَّنَةِ، وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مُبْغَضٌ شَرْعًا لَكِنَّهُ مُبَاحٌ لِمَقْصُودِ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الْحِلُّ الَّذِي هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 نِعْمَةٌ فَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَحْسَنُ وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا أَعْرِفُ الْمُبَاحَ مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا وَاحِدَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ». يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وَلَمَّا قَابَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ، وَالطَّلَاقُ ذُو عَدَدٍ وَالْعِدَّةُ ذَاتُ عَدَدٍ تَنْقَسِمُ آحَادُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَعْطِ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ الثَّلَاثَةَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلِأَنَّ عَدَمَ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ لِعَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّهُ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِيهَا طَبْعًا وَشَرْعًا فَلَا يَخْتَارُ فِرَاقَهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ وَمَتَى قَامَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا. وَهَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُتَكَرِّرٌ فَتَتَكَرَّرُ إبَاحَةُ الطَّلَاقِ بِتَكَرُّرِهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حُكْمًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا تَحِيضُ وَتَطْهُرُ ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فَكَانَتْ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَبَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً بِدْعَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا أَعْرِفُ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةً وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةً بَلْ الْكُلُّ مُبَاحٌ وَرُبَّمَا يَقُولُ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً سُنَّةٌ حَتَّى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعَ الْكُلُّ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ قَالَ وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ نَوَى وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً يَقَعُ جُمْلَةً وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُنَّةٌ لَمَا عَمِلْت نِيَّتُهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْمَلْفُوظِ بَاطِلٌ وَاسْتُدِلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ «الْعَجْلَانِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً» وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَتْ «فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ شَهْبَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثَلَاثًا حِينَ هَنَّأَتْهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَيَكُونُ مُبَاحًا مُطْلَقًا جَمَعَ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 فَرَّقَ كَالْعِتْقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَهُ جُمْلَةً كَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُنَاكَ الْإِيقَاعُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ وَالتَّحْرِيمُ فِيهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ كَالظِّهَارِ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ وَصْفُ كَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَالْإِيلَاءُ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى قَطْعِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ مُبَاحُ الْإِيقَاعِ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنًى مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَتَلْبِيسِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي أَنَّهَا حَامِلٌ فَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ حَائِلٌ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ سَوَاءٌ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ أَوْ الْوَاحِدَةَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا طَلَاقٌ صَادَفَ زَمَانَ الِاحْتِسَابِ مَعَ زَوَالِ الِارْتِيَابِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] مَعْنَاهُ دَفْعَتَانِ كَقَوْلِهِ أَعْطَيْته مَرَّتَيْنِ وَضَرَبْته مَرَّتَيْنِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ فِي دَفْعَتَيْنِ وَدَفْعَةٍ ثَالِثَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أَوْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَفِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا فَقَالَ أَتَلْعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» وَاللَّعِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فَدَلَّ أَنَّ مَوْقِعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مُخَالِفٌ لِلْعَمَلِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] تَفْرِيقُ الطَّلْقَاتِ عَلَى عَدَدِ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَاطَبَ الزَّوْجَ بِالْأَمْرِ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ وَفَائِدَتُهُ التَّفْرِيقُ فَإِنَّهُ قَالَ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أَيْ يَبْدُو لَهُ فَيُرَاجِعُهَا وَذَلِكَ عِنْدَ التَّفْرِيقِ لَا عِنْدَ الْجَمْعِ، وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا إنَّ أَبَانَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَانَتْ امْرَأَتُهُ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ وِزْرًا فِي عُنُقِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» «وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلُّ لِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَانَتْ مِنْك» وَهِيَ مَعْصِيَةٌ. وَبِهَذِهِ الْآثَارِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَى الْعَجْلَانِيِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَفَقَةً عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ فَيُكَفِّرُ فَأَخَّرَ الْإِنْكَارَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ «اذْهَبْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا» أَوْ كَرَاهَةُ إيقَاعِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ التَّلَافِي مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْعَجْلَانِيِّ لِأَنَّ بَابَ التَّلَافِي بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مُنْسَدٌّ مَا دَامَا مُصِرَّيْنِ عَلَى اللِّعَانِ وَالْعَجْلَانِيُّ كَانَ مُصِرًّا عَلَى اللِّعَانِ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَرَاهَةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ كَمَا أُمِرُوا لَمَا فَارَقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ إلَيْهَا حَاجَةٌ إنَّ أَحَدَكُمْ يَذْهَبُ فَيُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَعْصِرُ عَيْنَيْهِ مَهْلًا مَهْلًا بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيكُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ فَمَاذَا بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إلَّا الضَّلَالُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ لَا أَعْرِفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا إنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَكْرُوهٌ إلَّا قَوْلَ ابْنِ سِيرِينَ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَأَنَّ الْحَسَنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا قَالَ لِشَهْبَاءَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا كَالظِّهَارِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ إزَالَةِ الْمِلْكِ، وَفِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ مَعَ إزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهَا تَحْرِيمُ الْبُضْعِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى مَا يَكُونُ مُحَرِّمًا لِلْبُضْعِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَاحَ أَصْلًا. وَلَكِنْ أُبِيحَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَطْهَارِ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حُكْمًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَلِأَنَّ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ قَطْعُ بَابِ التَّلَافِي وَتَفْوِيتُ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ، وَفِيهِ مَعْنَى مُعَارَضَةِ الشَّرْعِ فَالْإِسْقَاطَاتُ فِي الْأَصْلِ لَا تَتَعَدَّدُ كَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّرْعُ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدًا لِمَعْنَى التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بَعْدَ مَا نَظَرَ الشَّرْعُ لَهُ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ حَالَةُ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهَا وَكَوْنُهُ مَمْنُوعًا شَرْعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْدَمُ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ فَيُكْرَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ ثُمَّ أُخْرَى فِي الْحَيْضِ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَلَيْسَ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَيْضِ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا مَعْنَى اشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَدَلَّ أَنْ مَعْنَى كَرَاهَةِ الْإِيقَاعِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ وَهَذَا فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْمَدْخُولُ بِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَعْنَى تَحْرِيمِ الْبُضْعِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ يَحْصُلُ فِي الْحَالَتَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ يَسْتَوِي فِي الْكَرَاهَةِ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَإِيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنَى عَدَمِ الْحَاجَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الثَّانِيَةِ كَوُجُودِهِ فِي الثَّالِثَةِ وَلِأَنَّ إيقَاعَ الثِّنْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهِ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ فَإِنَّهُ يَقْرُبُ مِنْهُ وَهَذَا الْقُرْبُ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ يَجِبُ ثُلُثَا الْأَلْفِ وَكَمَا أَنَّ سَدَّ بَابِ التَّلَافِي حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَكَذَلِكَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتِ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا فِيهِ قَالَ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ يَا ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا» الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنَّ ابْنَك أَخْطَأَ السُّنَّةَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَجَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ يُطَلِّقُهَا طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْإِيقَاعِ حَالَةَ الْحَيْضِ لِأَنَّهَا حَالُ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهَا وَكَوْنُهُ مَمْنُوعًا عَنْهَا شَرْعًا فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ مِنْهَا فَنَقَلَ رَغْبَتَهُ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الْإِيقَاعُ دَلِيلَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَّا فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِيهَا فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا لِعَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ؛ فَلِهَذَا اخْتَصَّتْ إبَاحَةُ الْإِيقَاعِ بِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ يُكْرَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَعْنَى نَفْرَةِ الطَّبْعِ وَالْمَنْعِ شَرْعًا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِهَا مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَمَعْنًى آخَرُ فِيهِ أَنَّ فِي الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ إضْرَارًا بِهَا مِنْ حَيْثُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيْضَةَ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ الْعِدَّةِ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]. وَفِي الْإِيقَاعِ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ إضْرَارٌ بِهَا مِنْ حَيْثُ اشْتِبَاهِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَا بَأْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِيهَا كَانَتْ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَقِلُّ ذَلِكَ بِحَيْضِهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا فَكَانَ الْإِيقَاعُ دَلِيلَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَلَ مِنْهَا وَإِنَّمَا رَغْبَتُهُ فِيهَا فِي الطُّهْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ مِنْ غَشَيَانِهَا وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ؛ تَوْضِيحُهُ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ النَّدَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وَفِي الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ وَالرَّغْبَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ فِي الْإِيقَاعِ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظْهَرُ بِهَا حَبَلٌ فَتَحْمِلُهُ شَفَقَتُهُ عَلَى الْوَلَدِ عَلَى تَحَمُّلِ سُوءِ خُلُقِهَا وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَعَلَّ شَفَقَةَ الْوَلَدِ تُنْدِمُهُ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ الْإِيقَاعُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَأْخِيرَ الْإِيقَاعِ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَظَاهِرُ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْإِيقَاعَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا وَمِنْ قَصْدِهِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ فَلِهَذَا طَلَّقَهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَاحْتَسَبَ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا فَإِذَا حَاضَتْ الثَّالِثَةَ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ آخِرِ التَّطْلِيقَاتِ إذَا تَكَرَّرَ الْإِيقَاعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ كَالْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ إذَا تَكَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ الدُّخُولُ وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي الْعِدَّةِ حِينَ يَصِيرُ الزَّوْجُ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ تُقَرِّرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا تُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّ بِالرَّجْعَةِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرِيدًا لَهَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَكَرُّرِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكَرُّرِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّه عَنْهُمْ. . (قَالَ) وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يَدْخُلُ بِهَا وَالطَّلَاقُ مَحْصُورٌ بِعَدَدِ الثَّلَاثِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ بَيَانَ التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 فِي الثَّالِثَةِ فَقِيلَ هِيَ فِي قَوْلِهِ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا رَزِينٍ الْعُقَيْلِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَرَفْنَا التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]» وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ بَيَانَ الثَّالِثَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] لِأَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا ذَكَرَ مَا هُوَ حُكْمُ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمَحِلِّ إلَى غَايَةٍ وَمَعْنَاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ شَرْطُ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّخُولَ بِهَا شَرْطٌ أَيْضًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ شَرْطُ الْعَقْدِ فَقَطْ وَلَا زِيَادَةَ بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِهَا» وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ مَا وَجَدْت مَعَهُ إلَّا مِثْلَ هَذِهِ وَأَشَارَتْ إلَى هُدْبَةِ ثَوْبِهَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ضَبَطَ نَفْسَهُ فَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك وَتَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْعُمَيْصَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَلَمَّا خَلَا بِهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو ضَعْفَ حَالِهِ فِي بَابِ النِّسَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَصَابَك فَقَالَتْ لَا فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لَا تَحِلِّينَ لِعَمْرٍو حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك». وَقَبْلُ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ الدُّخُولَ إشَارَةً فَإِنَّهُ أَضَافَ فِعْلَ النِّكَاحِ إلَى الزَّوْجِ وَإِلَيْهَا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِعْلُ النِّكَاحِ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ وَذَلِكَ الْوَطْءُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ فَفِيهِ مُغَايَظَةَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَدُخُولُ الثَّانِي بِهَا بِالنِّكَاحِ مُبَاحٌ مُبْغَضٌ عِنْدَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الطَّلَاقِ مُبْغَضٌ شَرْعًا لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ الْعَمَلِ. (قَالَ) فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي عَلَى قَصْدِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ صَحَّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ إذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَفَارَقَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْأَوَّلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيُكْرَهُ هَذَا الشَّرْطُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النِّكَاحُ فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَعَقْدُ النِّكَاحِ سُنَّةٌ وَنِعْمَةٌ فَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْءُ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شَرْطِ التَّوْقِيتِ وَشَرْطُ التَّوْقِيتِ مُبْطِلٌ لِلنِّكَاحِ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ هَذَا لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ فِي النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُ اسْتِعْجَالٌ لِمَا هُوَ مُؤَخَّرٌ شَرْعًا فَيُعَاقَبُ بِالْحِرْمَانِ كَمَنْ قَتَلَ مُورِثَهُ يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هَذَا الشَّرْطُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ شَرْعًا مُوجِبٌ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ إذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي بِحُكْمِ هَذَا النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. (قَالَ)، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً مَتَى شَاءَ حَتَّى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِأَنَّ كَرَاهَةَ الْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَخَوْفِ النَّدَمِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلِأَنَّ الْحَبَلَ يَزِيدُ فِي رَغْبَتِهِ فِيهَا فَيَكُونُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ ظُهُورِهِ دَلِيلُ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَفْصِلُ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ الْحَامِلُ لِلسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ فَقِيهًا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِفَصْلٍ مَحْسُوبٍ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْآيِسَةِ وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ بِفَصْلٍ مَحْسُوبٍ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فَلَا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُقَابَلٌ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ بِحَيْضَتَيْنِ مَلَكَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَإِنْ بِسَبَبِ عَدَمِ الدُّخُولِ لَمَّا انْعَدَمَتْ فُصُولُ الْعِدَّةِ انْعَدَمَ مِلْكُ التَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ النِّكَاح يُعْقَدُ لِلدُّخُولِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِهَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ بِاعْتِبَارِ فُصُولِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةُ الْحَبَلِ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ بِمَنْزِلَةِ فَصْلٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَتَقَدَّرُ بِهَا. وَفِي الْفَصْلِ الْوَاحِدِ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الطَّلْقَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وَلِأَنَّ هَذَا شَهْرٌ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ كَمَا فِي الْمُمْتَدَّةِ طُهْرُهَا بِخِلَافِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا نَوْعُ عِدَّةٍ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِتَفْرِيقِ الطَّلْقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَالْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَحَلَّ إيقَاعِ الطَّلْقَاتِ الْعِدَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَعِدَّةُ الْحَامِلِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِدَّةِ بَلْ هِيَ الْأَصْلُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِدَّةِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعِدَّةِ. وَفِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فُصُولُ الْعِدَّةِ إنَّمَا تَقَعُ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرُ تَجَدُّدُ زَمَانِ الرَّغْبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُضِيِّ حَيْضَةٍ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إبَاحَةِ التَّفْرِيقِ فِي عِدَّتِهَا فَأَقَمْنَا الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا مَقَامَ الْحَيْضَةِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْحَامِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إبَاحَةِ التَّفْرِيقِ فِي عِدَّتِهَا فَأَقَمْنَا الشَّهْرَ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شَهْرٌ فِي عِدَّةٍ لَا حَيْضَ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَقَعَتْ أُخْرَى، وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَقَعَتْ أُخْرَى ثُمَّ إذَا حَاضَتْ يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ وَالتَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَحِيضُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَلَكِنْ هُنَا فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجَدْنَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الشَّهْرِ، وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ، وَفِي حَقِّ التَّفْرِيقِ بِالطَّلَاقِ لَمْ نَجِدْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الشَّهْرِ فَبَقِيَ الشَّهْرُ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْحَبَلَ يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ إيقَاعٍ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْمَنْعِ مِمَّا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا قُلْنَا إذَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حَمْلِهَا يَوْمٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمًا إلَّا أَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حِينَ أَخَّرَ الْإِيقَاعَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُدَّةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدَّةِ قَابِلًا لِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حِينَ أَخَّرَ الْإِسْلَامَ. وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ كَحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثِ حِيَضٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهَا الْعِدَّةُ وَلَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ إنَّمَا لَا يُقَدَّرُ بِبَعْضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 مُدَّةِ الْحَبَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْوَضْعِ فَزِيدَ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى لَا أَنْ تَجْعَلَ مُدَّةَ الْحَبَلِ كَحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ لَزِمَهَا صِفَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلْحَيْضِ حَتَّى أَنَّهَا وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا بِخِلَافِ الْمُمْتَدَّةِ طُهْرُهَا. (قَالَ)، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ لَا تَحِيضُ مِنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً مَتَى شَاءَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ حَتَّى بِمُضِيِّ الشَّهْرِ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْجِمَاعِ بِمَا يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ فِي عِدَّةٍ هِيَ ذَاتُ فُصُولٍ كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ هُنَا يَفْصِلُ بَيْنَ طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ فَكَذَلِكَ يَفْصِلُ بَيْنَ طَلَاقِهَا وَجِمَاعِهَا بِشَهْرٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ فِي أَنَّهَا لَا حَيْضَ فِي عِدَّتِهَا فَيُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ كَمَا يُبَاحُ الْإِيقَاعُ عَلَى الْحَامِلِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إنَّمَا كُرِهَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَكَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ مُبَاحًا. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ آخَرَ ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ آخَرَ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مِنْ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وَالْمُرَادُ الصَّغِيرَةُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيقَاعَ إذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ نَاقِصَةً أَوْ كَامِلَةً فَإِنْ كَانَ الْإِيقَاعُ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَفِي حَقِّ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ يُعْتَبَرُ كُلُّ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَيَّامِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ شَهْرٌ وَاحِدٌ بِالْأَيَّامِ وَشَهْرَانِ بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ هِيَ الْأَصْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ عَنْهَا فَفِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فَاعْتُبِرَ الْبَدَلُ، وَفِي الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فَدُخُولُ الشَّهْرِ الثَّانِي وَسَطُ الشَّهْرِ الثَّانِي أَيْضًا وَكَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ فَيَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْكُلِّ بِالْأَهِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَيَّامِ وَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا بِتَمَامِ تِسْعِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَيُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْقُرْءِ الْحَيْضُ وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ الْحَيْضُ إلَّا بِتَخَلُّلِ الطُّهْرِ، وَفِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 الشُّهُورِ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّهْرُ قَائِمًا مَقَامَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَهُوَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ فَإِنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِالطَّلَاقِ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ كَالْعِتْقِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ حَقَّ الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ لِلتَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] مَعْنَاهُ قُرْبَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وَالْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ الْمُرَاجَعَةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَعِدَّةُ الَّتِي تَحِيضُ ثَلَاثُ حِيَضٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وَهُوَ حُكْمٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَقَالَ الْقُرْءُ هِيَ الْحَيْضُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ الْأَطْهَارُ حَتَّى أَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَعِنْدَنَا مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ بِضْعَة عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ الْحَبْرِ فَالْحَبْرِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالُوا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَطْهُرَ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْقُرْءِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا قَالَ الْقَائِلُ. يَا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ وَقَالَ الْأَعْشَى مُورِثَةُ مَالٍ وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا وَالْمُرَادُ الْأَطْهَارُ لِأَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ يَضِيعُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْوَقْتُ قَالَ الْقَائِلُ إذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الطُّهْرِ بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاجْتِمَاعِ يُقَالُ مَا قَرَأَتْ النَّافَّةُ سُلًّا قَطُّ أَيْ مَا جَمَعَتْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا قَطُّ وَاجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الْحَيْضِ بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عَارِضٌ لِلنِّسَاءِ فَوَقْتُ الطُّهْرِ أَصْلٌ وَوَقْتُ الْحَيْضِ عَارِضٌ مَعَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الدَّمِ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 فَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ الْوَقْتُ قُرْءًا بِاعْتِبَارِ الدَّمِ الْمُجْتَمِعِ ثُمَّ إنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ رَجَّحُوا لُغَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا اُكْتُبُوا بِالتَّاءِ وَالْقُرْءُ فِي لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَيْضُ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ إذَا أَتَاك قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» وَالْقُرْءُ وَالْأَقْرَاءُ كِلَاهُمَا جَمْعٌ كَمَا يُقَالُ فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَنُزُلٌ وَأَنْزَالٌ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَجَّحَ الْأَطْهَارَ بِاعْتِبَارِ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَقَالَ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ يُؤَنَّثُ وَالطُّهْرُ هُوَ الْمُذَكَّرُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِعْرَابُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى يُقَالُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ وَثَلَاثُ دَوَابَّ وَقَالَ أَيْضًا الْقُرْءُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ يُقَالُ قَرَأَ النَّجْمَ إذَا انْتَقَلَ وَكَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ وُجِدَ ثَلَاثُ انْتِقَالَاتٍ مِنْ الطُّهْرِ وَلَكِنْ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فَالِانْتِقَالُ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ أَيْضًا قُرْءٌ فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَأَحَدٌ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَمْعًا مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ اقْتَضَى الْكَوَامِلَ مِنْهُ وَالطَّلَاقُ هُوَ الْمُبَاحُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْءَ الْأَطْهَارَ لَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي جَمْعٍ غَيْرِ مَقْرُونٍ بِالْعَدَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَأَمَّا فِي جَمْعٍ مَقْرُونٍ بِالْعَدَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَوَامِلِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الْحَيْضِ فَيَكُونُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] مَعْنَاهُ فِي عِدَّتِهِنَّ وَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ وَقَدْ فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ فَهُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْقُرُوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الْآيَةَ وَإِنَّمَا نَقَلَ إلَى الْأَشْهُرِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَالنَّقْلُ إلَى الْبَدَلِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ كَمَا يُقَالُ زَيَّنْتُ الدَّارَ لِقُدُومِ الْحَاجِّ وَتَوَضَّأْتُ لِلصَّلَاةِ أَيْ قَبْلَهَا، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ عِدَّةُ الْإِيقَاعِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ عِدَّةَ الْإِيقَاعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 بِالْأَطْهَارِ. فَأَمَّا عِدَّةُ الِاعْتِدَادِ بِالْحِيَضِ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ يَقُولُ الطَّلَاقُ السُّنِّيُّ يَسْتَعْقِبُ جُزْءًا مَحْسُوبًا مِنْ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَطْهَارِ وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَالْحَيْضِ؛ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ دُونَ الطُّهْرِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ أَوْلَى ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَتَّصِلُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَمَا فِي الْحَجِّ. وَفِيمَا يَكُونُ مُتَّصِلُ الْأَرْكَانِ يَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ كَالصَّلَاةِ وَالْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ مُتَّصِلَةُ الْأَرْكَانِ فَيَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ مُنْفَصِلَةُ الْأَرْكَانِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِلَ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ بِالنَّصِّ وَالْمَقْصُودُ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ. (قَالَ) وَعِدَّةُ الْحَامِلِ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَوْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَدَلُّ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادُ ارْتِيَابُهَا فِي حَالِ نَفْسِهَا أَنَّهَا هَلْ تَحِيضُ بَعْدَ هَذَا أَوْ لَا حَتَّى قَالَ إذَا ارْتَابَتْ تَرَبَّصَتْ سَنَةً ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قَالَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ وَارْتَابُوا فِي ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]، وَفِي قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ الْقُرْءِ الْحَيْضَ. (قَالَ) وَالْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِمُرَاعَاةِ وَقْتِ السُّنَّةِ الزَّوْجُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَفِي الْعِدَّةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا حَقُّ الزَّوْجِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ. (قَالَ) وَالْأَمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِمُرَاعَاةِ وَقْتِ السُّنَّةِ الزَّوْجُ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَلِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَلَوْ اسْتَطَعْت لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا بَيَّنَ أَنَّ التَّنْصِيفَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَثْبُتُ فِي الْعِدَّةِ وَلَكِنْ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَالْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 وَنِصْفٌ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِأَنَّ الشَّهْرَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّنْصِيفِ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الرِّقُّ يُنَصِّفُ ذَوَاتَ الْأَعْدَادِ بِمَنْزِلَةِ الْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ وَعِدَّتُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ تَبَيُّنَ فَرَاغِ الرَّحِمِ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ ذَلِكَ. (قَالَ)، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا عَنْ امْرَأَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ كَتَبَ إلَيْهَا إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ فَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ امْتَدَّ طُهْرُهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ فَلَوْ كَتَبَ إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ؛ فَلِهَذَا قُيِّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَفِي الرُّقَيَّاتِ زَادَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ وَعَلِمْتِ مَا فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ لَا تَقْرَأَ كِتَابَ زَوْجِهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ الْمُغَيَّبَةَ لَا تَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى قِرَاءَةِ كِتَابِ زَوْجِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ. . (قَالَ) فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا كَتَبَ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَاءَ أَوْجَزَ فَكَتَبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فَيَقَعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ كَتَبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ أَهَلَّ شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَخْلُ بِهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَتَى شَاءَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَتْلُوّ لَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ الْمَتْلُوُّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الْآيَةَ وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ وَتَرَكَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فَطَلَاقُهَا وَعِدَّتُهَا مِثْلُ الَّتِي دُخِلَ بِهَا لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ وَمُرَاعَاةُ وَقْتِ السُّنَّةِ فِي الطَّلَاقِ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ فَتُقَامُ الْخَلْوَةُ فِيهِ أَيْضًا مَقَامَ الدُّخُولِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا وَعَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ لَا يَقَعُ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ بَابًا رَدًّا عَلَيْهِمْ فَيُؤَخَّرُ الْكَلَامُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْقَدْرُ الَّذِي نَذْكُرُهُ هُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» وَالْمُرَاجَعَةُ تَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فَلْيَرْجِعْهَا وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهَا مِنْ بَيْتِهِ فَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى بَيْتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ الْكَلَامِ فَقَدْ قِيلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ احْتَسَبْت بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ فَقَالَ وَمَالِي لَا أَحْتَسِبُ بِهَا وَإِنْ اسْتَحْمَقْتُ أَوْ اسْتَجْهَلْتُ أَكَانَ لَا يَقَعُ طَلَاقِي وَلَمَّا ذُكِرَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشُّورَى ابْنُهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ أُقَلِّدُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُحْسِنْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ. . (قَالَ) ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ مَحْظُورٍ وَيَنْدَفِعُ عَنْهَا ضَرَرُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ مَحْظُورٍ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا. (قَالَ) فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ لَا يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ثُمَّ طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَقِيلَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ وَقْتَ السُّنَّةِ الطُّهْرُ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ وَقَدْ وُجِدَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رُوِيَ بِرِوَايَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ «مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ» فَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِهِمَا وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ «مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ» وَهَذَا يَحْتَمِلُ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْحَيْضَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. (قَالَ) وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِلسُّنَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ شَرْطُ الْفَصْلِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ الْحَيْضَةُ الْكَامِلَةُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلْيُطَلِّقْهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» وَلِأَنَّ إيقَاعَ تَطْلِيقَةٍ فِي طُهْرٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ كَالْجِمَاعِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْفَصْلُ بِالْحَيْضَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ تَقَعُ فِي الْعِدَّةِ وَبِالْمُرَاجَعَةِ قَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِدَّةُ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ وَقَدْ حَصَلَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ثُمَّ الرَّجْعَةُ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْعِدَّةِ وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ مَا يُسْقِطُ بَعْضَ الْعِدَّةِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَإِذَا تَخَلَّلَ مَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 لَوْ رَاجَعَهَا بِالتَّقْبِيلِ أَوْ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا كَانَ أَخَذَ بِيَدِ امْرَأَتِهِ عَنْ شَهْوَةٍ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ فِي الْحَالِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا لِأَنَّ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا فَتَقَعُ أُخْرَى فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي هَذَا الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ طُهْرٌ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ وَإِنْ رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فَحَبِلَتْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَاحِدَةً وَالطُّهْرُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِأَكْثَرَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى قَدْ سَقَطَتْ وَالطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي الطُّهْرِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا حَبِلَتْ وَظَهَرَ الْحَبَلُ بِهَا. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً بَائِنَةً فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَفِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ قَالَ التَّطْلِيقَةُ الْبَائِنَةُ تَقَعُ بِصِفَةِ السُّنَّةِ كَالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ «ابْنَ رُكَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ» فَلَوْ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْوَاقِعُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ بَائِنًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخُلْعُ فَإِنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى زِيَادَةِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فَكَانَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ كَزِيَادَةِ الْعَدَدِ ثُمَّ لَا مَقْصُودَ لَهُ فِي ذَلِكَ سِوَى رَدِّ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ بِقَطْعِ خِيَارِ الرَّجْعَةِ وَسَدِّ بَابِ التَّلَافِي عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِاسْتِرْدَادِ مَا سَاقَ لَهَا مِنْ الصَّدَاقِ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا وَاَلَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا لَيْسَتْ نَظِيرَ الَّتِي دُخِلَ بِهَا بِدَلِيلِ الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ رُكَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِأَيِّ لَفْظٍ أَوْقَعَ يَكُونُ بَائِنًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ الْإِنْكَارَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لِفَرْطِ الْغَيْظِ لَا يَقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 [بَابُ الرَّجْعَةِ] (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ أَوْ فِي الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْجِمَاعِ فَهُوَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَّقَ سَوْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا» «وَطَلَّقَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْوَطْءِ» وَيَسْتَوِي إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا بَاقٍ مَا بَقِيَتْ الْعِدَّةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلْقَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهَا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ مِيرَاثَهَا عَلَيْك فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الرَّجْعَةِ وَبَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُ، وَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ يَتَزَوَّجُهَا بِرِضَاهَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَحْسَنُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَغْشَاهَا حَتَّى يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجْعَتِهَا وَالْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ شَرْطًا وَيَجْعَلُ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَرْطًا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ وَالْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا، وَهُوَ مَنْعٌ لِلْمُزِيلِ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا شَرْطًا كَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِاسْتِحْبَابُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ الْإِشْهَادُ عَلَى الْفُرْقَةِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ثُمَّ الْبَيْعُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ وَلَيْسَ فِي الرَّجْعَةِ عِوَضٌ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ فَلَا يَسْتَدْعِي عِوَضًا وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَاهَا وَلَا رِضَى الْمَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّوْجَ أَحَقَّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ إذَا اسْتَبَدَّ بِهِ وَالْبَعْلُ هُوَ الزَّوْجُ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بَعْلًا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ دَلِيلُ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَالْمُبَاعَلَةُ هِيَ الْمُجَامَعَةُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَطْأَهَا حَلَالٌ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا إنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَلَكِنْ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْرُمُ عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 وَطْؤُهَا مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَلِهَذَا شُرِطَ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا} [البقرة: 228] وَالْإِصْلَاحُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَكُّنِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْفَسَادُ هُنَا بِزَوَالِ أَصْلِ الْمِلْكِ عَرَفْنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْفَسَادُ بِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ حُرْمَةَ الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَمَنْ كَاتَبَ أَمَتَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَإِنْ بَقِيَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ مَهْرٌ جَدِيدٌ بِالْوَطْءِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلِأَنَّ هَذَا طَلَاقٌ وَاقِعٌ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ كَالْوَاقِعِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَقْرَاءَ يُحْتَسَبُ بِهَا مِنْ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَمَعَ بَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ مُطْلَقًا لَا يُحْتَسَبُ بِالْأَقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ وَصَوْنُ الْمَاءِ بِالنِّكَاحِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْعِدَّةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مَشْغُولَةً بِمَا يُبَيِّنُ فَرَاغَ رَحِمِهَا وَيَكُونُ الزَّوْجُ مُسَلَّطًا عَلَى شُغْلِ رَحِمِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ إلَى سَنَتَيْنِ يُجْعَلُ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَوْ بَقِيَ الْحِلُّ بَيْنَهُمَا لَكَانَ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا وَذَلِكَ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ فَدَلَّ أَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا مِلْكَ الْحِلِّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنَهَا وَلَا مَنَافِعَهَا فَبَقَاءُ مِلْكِ النِّكَاحِ مُطْلَقًا يَكُونُ دَلِيلَ بَقَاءِ حِلِّ الْوَطْءِ إلَّا بِعَارِضٍ يَحْرُمُ بِهِ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ كَالْحَيْضِ وَالظِّهَارِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَبِكَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ بِالْخُلْعِ وَمِلْكُ الِاعْتِيَاضِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ الرَّجْعَةُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالرَّجْعَةُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِحِلِّ الْوَطْءِ مَقْصُودًا حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْمَهْرُ وَلَا رِضَاهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الطَّلَاقِ زَوَالَ الْمِلْكِ بِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمُزَالَ لَا يُزَالُ وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ وَاقِعٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ الْمِلْكُ بِهِ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلطَّلَاقِ رَفَعَ الْحِلَّ عَنْ الْمَحَلِّ إذَا تَمَّ ثَلَاثًا. فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ مُعَلَّقٌ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبْلِهِ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةَ رَدًّا وَإِصْلَاحًا لِأَنَّهُ يُعِيدُهَا بِالرَّجْعَةِ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى حَتَّى لَا تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا لِأَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَى الْمِلْكِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَيْسَ نَظِيرَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ صِفَةَ الْحِلِّ هُنَاكَ تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَهُنَا صِفَةُ الْحِلِّ تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً مَعَ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا بِمَا الْتَزَمَتْ مِنْ الْعِوَضِ وَهُنَا الزَّوْجُ أَحَقُّ بِهَا وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ أَنْ لَوْ طَلَّقَهَا بِعِوَضٍ. وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا لَا يَكُونُ دَلِيلَ حُرْمَةِ الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَبْقَى وَاقِعًا وَالْوَطْءُ حَلَالٌ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْإِزَالَةَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يُتَصَوَّرُ إعَادَتُهُ وَالِاحْتِسَابُ بِالْأَقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا بِالطَّلَاقِ وَكَمَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَهَا يَسْتَبْرِئُهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ وَاسْتِنَادِ الْعُلُوقِ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ فَإِنَّا لَوْ أَسْنَدْنَا الْعُلُوقَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَجَعَلْنَاهُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالشَّكِّ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ جِمَاعَهُ إيَّاهَا فِي الْعِدَّةِ رَجْعَةٌ مِنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَاعْتُبِرَ الرَّجْعَةُ بِأَصْلِ النِّكَاحِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ أَصْلُ النِّكَاحِ بِالْفِعْلِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَهُ الرَّجْعَةَ سَبَبٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَرَفْعِ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَوْلِ. وَالْجِمَاعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَعِنْدَنَا الرَّجْعَةُ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ وَالْفِعْلُ الْمُخْتَصُّ بِهِ يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ مِنْ الْقَوْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ فَإِنَّهُ مَنْعٌ لِلْمُزِيلِ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ وَنَقُولُ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَلَكِنَّ الْمُزِيلَ مَتَى ظَهَرَ وَأَعْقَبَ خِيَارَ الِاسْتِبْقَاءِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَكُونُ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ بِالْوَطْءِ كَمَنْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ وَطِئَهَا صَارَ بِالْوَطْءِ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ يُحْتَاجُ إلَى فَسْخِ السَّبَبِ الْمُزِيلِ وَهُنَا لَا يُحْتَاجُ إلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ كَالْوَطْءِ فَتَكُونُ مُبَاشَرَتُهُ دَلِيلَ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ وَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى غَشِيَهَا فَقَالَ طَلَّقَهَا لِغَيْرِ السُّنَّةِ وَرَاجَعَهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ وَلْيُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ. (قَالَ) وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا سِوَى الْفَرْجِ رَجْعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ إمَّا لِحُسْنِهِ أَوْ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَلَيْسَ فِي الْفَرْجِ مَعْنَى الْحُسْنِ فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ اسْتِمْتَاعًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يَكُون رَجْعَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ فَإِنَّ الْقَابِلَةَ تَنْظُرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 وَالْحَافِظَةُ كَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ بِهِ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ الزَّوْجِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهَا رَجْعَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا فِعْلُهَا بِهِ كَفِعْلِهِ بِهَا فَإِنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَفِعْلُهَا بِهِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ كَفِعْلِهِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الرَّجْعَةِ ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخِيَارِ فَقَالَ الْأَمَةُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِالْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً مِنْهَا لِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ قَدْ يَحْصُلُ بِفِعْلِهَا، وَهُوَ مَا إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ بِفِعْلِهَا قَطُّ وَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَقَالَ لَا يَسْقُطُ هُنَاكَ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ إلَيْهَا ذَلِكَ وَهُنَا لَيْسَ فِي الرَّجْعَةِ فَسْخُ السَّبَبِ وَلَا إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَلَكِنْ إنَّمَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِفِعْلِهَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ فَأَمَّا إذَا ادَّعَتْ هِيَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا وَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ. (قَالَ) وَتَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ حَتَّى إذَا قَالَ رَاجَعْتُك غَدًا أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَأَصْلِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَلَا يَحْلِفُ بِالرَّجْعَةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ وَالتَّوْكِيلُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَرَفْعٌ لِلْقَيْدِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ صَدَقَ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْإِخْبَارِ وَلَمْ يُصَدَّقْ إذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِذَا كَانَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ فِي الْحَالِ تَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ خَبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَالَ قَبْلَ الْعَزْلِ كُنْت بِعْته مِنْ فُلَانٍ يُصَدَّقُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي إخْبَارِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ مُصَدَّقًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا وَتَصَادُقُهُمَا عَلَى الرَّجْعَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 كَتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَغْتَسِلْ فَالرَّجْعَةُ بَاقِيَةٌ لَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَمْ نَتَيَقَّنْ بِذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَيَكُونَ ذَلِكَ حَيْضًا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ وَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَحِلُّ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِالِاغْتِسَالِ، وَإِذَا أَخَّرَتْ الْغُسْلَ حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ أَدْنَى الصَّلَاةِ إلَيْهَا انْقَطَعَ حَقُّ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَلَا يَنْقَطِعُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَلًا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَلِبَقَاءِ تَوَهُّمِ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ وَكَوْنُ ذَلِكَ حَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ ذَلِكَ إلَى الِانْقِطَاعِ تَقْوَى بِهِ كَالِاغْتِسَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ بَعْدَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ أَيْ تَحِلَّ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ بِأَنْ تَلْزَمَهَا بِذَهَابِ الْوَقْتِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أَيْ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ أَرَأَيْت لَوْ أَخَّرَتْ الِاغْتِسَالَ شَهْرًا طَمَعًا فِي أَنْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ أَكَانَ تَبْقَى الرَّجْعَةُ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ هَذَا قَبِيحٌ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي عِدَّتِهَا قَدْ رَاجَعْتهَا أَوْ أَنَّهُ قَالَ قَدْ جَامَعْتهَا كَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ إقْرَارَ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لِلْحَالِّ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَكَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهَا فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي الرَّجْعَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرَى ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا تُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَوْ نَكَلَتْ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا قُلْنَا ذَلِكَ اسْتِحْلَافٌ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا نَكَلَتْ بَقِيَتْ الْعِدَّةُ وَهِيَ مَحَلُّ الرَّجْعَةِ وَهَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي نَفْسِ الرَّجْعَةِ وَالْخَلْوَةُ بِالْمُعْتَدَّةِ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ. (قَالَ) وَلَوْ كَتَمَهَا الطَّلَاقَ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَتَمَهَا الرَّجْعَةَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ هُوَ مُسْتَبِدٌّ بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الرَّجْعَةِ فَإِنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِمِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهَا بِهِ شَيْءٌ فَلَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِهَا فِيهِ وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ حِينَ تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ قَالَ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا حَتَّى يُشْهِدَ. (قَالَ)، وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ لَهَا قَدْ رَاجَعْتُكِ فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ فَإِنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُخْبِرْ بِالِانْقِضَاءِ وَقَدْ سَبَقَتْ الرَّجْعَةُ خَبَرَهَا بِالِانْقِضَاءِ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ وَسَقَطَتْ الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْإِخْبَارِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ لَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ أَخْبَرَتْ وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَّهَمَةً فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ عَزَلْتُك فَقَالَ الْوَكِيلُ كُنْت بِعْته وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ مُطْلَقًا وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةِ مُطَلَّقَةٍ وَبَيَانُهُ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُخْبِرَ إلَّا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ مُجِيبَةً لِلزَّوْجِ عَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الِانْقِضَاءَ سَابِقٌ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حِلُّ قَوْلِ الزَّوْجِ رَاجَعْتُك بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَتْ سَاعَةً فَإِنَّ أَقْرَبَ الْأَحْوَالِ لِلِانْقِضَاءِ هُنَاكَ حَالُ سُكُوتِهَا وَلَا يُقَالُ مُصَادِفَةُ الرَّجْعَةِ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ نَادِرٌ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَافِقَ حَالَةً فَتَارَةً يُوَافِقُ كُلَّهَا وَتَارَةً يَوْمَهَا وَتَارَةً قَوْلَ الزَّوْجِ رَاجَعْتُك وَإِنْ تَمَكَّنَ مَا هُوَ نَادِرٌ، وَهُوَ رَجْعَةُ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَّهَمَةً إذَا فَرَّطَتْ فِي الْإِخْبَارِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا تَفْرِيطَ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ إلَّا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي الْإِخْبَارِ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَانَ قَبْلَ الْعَزْلِ لَا مَعَ الْعَزْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوُقُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كُنْت طَلَّقْتُك فِي الْعِدَّةِ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ. (قَالَ) وَالتَّوَارُثُ قَائِمٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا انْتَهَتْ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ سَبَبُ التَّوَارُثِ وَيَسْتَوِي فِيهِ التَّطْلِيقَةُ وَالتَّطْلِيقَتَانِ وَيَمْلِكُ مُرَاجَعَةَ الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ فِي عِدَّتِهَا مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ كَمَا قُلْنَا وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ لِبَقَاءِ الرِّقِّ الْمُنْصِفِ لِلْحِلِّ فِيهِنَّ وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهَا كَالْمُكَاتَبَةِ. (قَالَ)، وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي قَوْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ بِضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَيَنْزِلُ الْمَوْلَى فِيهَا مَنْزِلَةَ الْحُرَّةِ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا وَإِقْرَارُهُ بِالنِّكَاحِ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالرَّجْعَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْحُرَّةِ عَلَى نَفْسِهَا بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الرَّجْعَةُ تَنْبَنِي عَلَى سَبَبٍ لَا قَوْلٍ لِلْمَوْلَى فِيهِ، وَهُوَ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا فِي الْبَقَاءِ وَالِانْقِضَاءِ دُونَ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْبُضْعِ وَلَا تَصَرُّفَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهَا بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي صَدَّقَتْ الزَّوْجَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ بُضْعَهَا فِي الْحَالِ خَالِصٌ حَقُّ الْمَوْلَى فَإِنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ؛ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ. (قَالَ) وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ لَهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَنْدُوبٌ عَلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَشَوُّفُهَا لَهُ يُرَغِّبُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا فَأَحْسَنُ ذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ عَلَيْهَا بِالتَّنَحْنُحِ وَخَفْقِ النَّعْلِ كَيْ تَتَأَهَّبَ لِدُخُولِهِ لَا لِأَنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الِاسْتِئْذَانِ حَرَامٌ وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا فَرُبَّمَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَإِذَا صَارَ مُرَاجِعًا وَلَيْسَ مِنْ قَصْدِهِ إمْسَاكُهَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ فَيَكُونُ إضْرَارًا بِهَا مِنْ حَيْثُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلِهَذَا قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً إذَا كَانَ لَا يُرِيدُ رَجْعَتَهَا وَإِنْ رَآهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ مَا فَوْقَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ الْغَشَيَانُ حَلَالٌ لَهُ. (قَالَ)، وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ أَوْ فُرْقَةٍ بِخُلْعٍ أَوْ إيلَاءٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ اخْتِيَارِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ بِالْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الطَّلَاقِ فَبَقِيَ الطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَهَا مُطَلَّقَةً حُكْمُ مُطْلَقِ الطَّلَاقِ وَهَذَا لَا يُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ كَمَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَكَوْنُهَا مُبَانَةً أَوْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا يُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ انْتَفَى النِّكَاحُ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْخُلْعِ إنَّمَا الْتَزَمَتْ الْعِوَضَ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ الزَّوْجِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَحَقِّ الرَّجْعَةِ. (قَالَ)، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، وَهُوَ يَقُولُ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْبَيْنُونَةِ وَسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الرَّجْعَةِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ تَسْلِيمًا فِي حَقِّ الْمَهْرِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا وَذَلِكَ الْمَعْنَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 لَا يُوجَدُ فِي الرَّجْعَةِ لِأَنَّهَا حَقُّ الزَّوْجِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ غَشَيَانِهَا. . (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ حِينَ خَلَا بِهَا حَائِضًا أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فَاسِدَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَإِذَا كَانَ حَقُّ الرَّجْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَبِالْفَاسِدَةِ أَوْلَى وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ جَمِيعُ الْمَهْرِ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْعِدَّةِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ وَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْمَهْرُ حَقُّهَا فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فُصُولَ الْخَلْوَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. (قَالَ)، وَإِذَا كَانَ عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ خَصِيًّا فَخَلَى بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَحْلًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ الدُّخُولِ ظَاهِرًا فِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِدَّةِ. (قَالَ)، وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الدُّخُولَ بِهَا وَقَدْ خَلَا بِهَا وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْفَحْلِ أَنَّهُ مَتَى خَلَى بِالْأُنْثَى الَّتِي تَحِلُّ لَهُ نَزَا عَلَيْهَا فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالزَّوْجُ إنَّمَا يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ الزَّوْجُ إنَّمَا يَسْتَبْقِي مِلْكَهُ بِمَا يَقُولُ وَيَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَهَا نَفْسَهَا وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا وَادَّعَى الدُّخُولَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَارِضًا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ إنْكَارَهَا سَبَبَ الْعِدَّةِ كَإِنْكَارِهَا أَصْلَ الْعِدَّةِ وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْعِدَّةِ. (قَالَ)، وَإِذَا قَالَتْ إنَّ عِدَّتِي قَدْ انْقَضَتْ وَذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَا تَحِيضُ فِيهِ ثَلَاثَ حِيَضٍ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمِينَ إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا أَوْ مُسْتَنْكَرًا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ أَوْ مُسْتَنْكَرٌ لَمْ تُصَدَّقْ فِي خَبَرِهَا ثُمَّ بَيَّنَ أَدْنَى الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا، وَهُوَ شَهْرَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا فِي قَوْلِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَيْضِ. (قَالَ) فَإِنْ قَالَتْ قَدْ أَسْقَطْت سَقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضَ الْخَلْقِ صُدِّقَتْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا فِي رَحِمِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَمَّنَ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا فِي رَحِمِهَا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَكَانَ مُحْتَمَلًا وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ اتَّهَمَهَا الزَّوْجُ حَلَّفَهَا. (قَالَ) وَكُلُّ سَقْطٍ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ بَلْ هُوَ كَالدَّمِ الْمُتَجَمِّدِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُمْتَحَنُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَإِذَا ذَابَ فِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 فَهُوَ دَمٌ وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ لَا مِنْ بَابِ الْفِقْهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. (قَالَ)، وَإِذَا قَالَتْ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرَيْنِ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَمْسِ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ شَيْئًا فَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَقَدْ ظَهَرَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِخَبَرِهَا وَإِنْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّصَادُقِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَبَعْدَ مَا أَخْبَرَتْ أَمْسِ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ شَيْئًا فَإِخْبَارُهَا فِي الْيَوْمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُسْتَحِيلٌ وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا. (قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إيَاسٍ فَحَاضَتْ اُنْتُقِضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ وَكَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أَمَّا فِي الْآيِسَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ مُمْتَدًّا طُهْرُهَا وَأَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ فَلِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِ وَلَا يَكْمُلُ مَعَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَقِيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالشَّهْرِ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَيْضِ. . (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً ثُمَّ أَيِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَيْضَةِ لِأَنَّ إكْمَالَ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ وَإِيَاسُهَا أَنْ تَبْلُغَ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا لِأَنَّهُ مَعْنًى فِي بَاطِنِهَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَإِذَا بَلَغَتْ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَا تَرَى الدَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ وَلَمْ يُقَدَّرْ السِّنُّ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقْدِيرُ بِخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ سَنَةً وَفَصَلَ فِي رِوَايَةٍ بَيْنَ الرُّومِيَّاتِ وَالْخُرَاسَانِيَّات فَفِي الرُّومِيَّاتِ التَّقْدِيرُ بِخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْهَرَمَ يُسْرِعُ إلَيْهِنَّ، وَفِي الْخُرَاسَانِيَّات التَّقْدِيرُ بِسِتِّينَ سَنَةً وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى التَّقْدِيرِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إذَا جَاوَزَتْ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ تَرَ فِي بَطْنِهَا قُرَّةَ عَيْنٍ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطُّهْرِ وَتَرَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ الثَّالِثَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطُّهْرِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ لِمُصَادَفَتِهَا الْعِدَّةَ فَإِذَا طَلَّقَهَا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ لِأَنَّهُ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] أَنَّهُ نَزَلَ فِيمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَا إذَا خَطَبَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَأَبَى أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يَتْرُكُوهَا. (قَالَ)، وَإِذَا اغْتَسَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ غَيْرَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا عُضْوٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَوْ بَقِيَ مَا دُونَ الْعُضْوِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ قَالَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنِّي أَسْتَحْسِنُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ نَصًّا مَوْضِعَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فِي الْقِيَاسِ يَنْقَطِعُ لِأَنَّهَا مُغْتَسِلَةٌ وَقَدْ غَسَلَتْ أَكْثَرَ الْبَدَنِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ وَرَدَ الْخِطَابُ بِتَطْهِيرِهِ شَرْعًا فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ لَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ عَادَةً فَلَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ عَادَةً بِخِلَافِ مَا دُونَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ فِي الْقِيَاسِ يَبْقَى حُكْمُ الرَّجْعَةِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ» وَلِأَنَّهُ لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ فَكَانَ هَذَا وَبَقَاءُ عُضْوٍ كَامِلٍ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِقِلَّتِهِ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ إصَابَةِ الْمَاءِ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ. (قَالَ) وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي الِاغْتِسَالِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِبَقَاءِ عُضْوٍ كَامِلٍ وَتَنْقَطِعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الِاغْتِسَالِ سُنَّةٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي قَطْعِ الرَّجْعَةِ. (قَالَ)، وَإِذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ مَا طَهُرَتْ وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَتْ مَكْتُوبَةً أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا حِينَ جَوَّزْنَا صَلَاتَهَا بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُنَاكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنْ وَجَدَتْ الْمَاءَ بَعْدَ هَذَا اغْتَسَلَتْ وَلَمْ يُعَدَّ حَقُّ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ صَلَاتَهَا تِلْكَ بَقِيَتْ مُجْزِئَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ لِأَنَّ بِمُعَاوَدَةِ الدَّمِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِانْقِطَاعَ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا وَبِوُجُودِ الْمَاءِ لَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ فَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقُّ الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاغْتِسَالِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فِيمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ بِدَلِيلِ حِلِّ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَهَا وَحِلِّ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْحُكْمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَ عَلَى بَدَنِهَا لَمْعَةٌ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ عَنْهَا احْتِيَاطًا وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَهُنَا أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَمْ تَجِدْ غَيْرَهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ احْتِيَاطًا وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ وَقَدْ حَلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فَإِذَا أَتَتْ بِهِ لَمْ تَبْقَ مُخَاطَبَةً بِالتَّطْهِيرِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ تَحْتَ مُسْلِمٍ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِنَفْسِ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالتَّطْهِيرِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا التَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ فَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ كَنَفْسِ الِانْقِطَاعِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ إلَّا بِيَقِينٍ حَتَّى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ كَانَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَلْوِيثٌ وَتَغْيِيرٌ وَهَذَا ضِدُّ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً حُكْمًا لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ فَكَانَ طَهَارَةً فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَهُوَ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ لِمَقْصُودٍ، وَهُوَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لَا رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ وَلِهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَفِي الْوَقْتِ أَيْضًا يُنْتَظَرُ آخِرَ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِمَقْصُودٍ فَقَبْلَ انْضِمَامِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ إلَيْهِ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ كَشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ فَمَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا يَكُونُ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ عَلَى بَدَنِهَا لَمْعَةٌ لِأَنَّ قَطْعَ الرَّجْعَةِ هُنَاكَ لِتَوَهُّمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَسُرْعَةِ الْجَفَافِ فَكَانَتْ طَهَارَةً قَوِيَّةً فِي نَفْسِهَا وَالِاغْتِسَالُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا طَهَارَةٌ قَوِيَّةٌ لِكَوْنِهَا اغْتِسَالًا بِالْمَاءِ وَلَكِنَّهَا تُؤْمَرُ بِضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِ حِلِّ الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِاشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةَ وَلِهَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ آخَرَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ أَيْضًا لِكَوْنِهَا طَهَارَةً قَوِيَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّهَارَةَ قَوِيَّةٌ جَاءَ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ احْتِيَاطًا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِمَاءٍ آخَرَ أَوْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْمَاءِ احْتِيَاطًا وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا اغْتِسَالٌ أَصْلًا فَكَانَ نَفْسُ الِانْقِطَاعِ كَطَهَارَةٍ قَوِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا وَهُنَا الِاغْتِسَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ وَلَمْ يَذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا تَيَمَّمَتْ وَشَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَنْقَطِعُ مَا لَمْ تَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْحَالَ بَعْدَ شُرُوعِهَا فِي الصَّلَاةِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا رَأَتْ الْمَاءَ لَا يَبْقَى لِتَيَمُّمِهَا أَثَرٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهَا وَإِنْ رَأَتْ الْمَاءَ تَبْقَى صَلَاتُهَا مُجْزِئَةً وَتَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَحِلَّ الصَّلَاةُ لَهَا وَحِلُّ الصَّلَاةِ بِالِاغْتِسَالِ فَإِنَّهُ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ شَهْرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْعِدَّةِ وَخُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا] قَدْ بَيَّنَّا عِدَّةَ ذَاتِ الْقُرُوءِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً حَتَّى إذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ فَعِدَّتُهَا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَقَوْلُهُ {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] بَيَانُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجِيَّةِ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الِاسْمِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَحْضُ حَقِّ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالْمَوْتِ يَنْتَهِي فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ وَمُضِيُّ مُدَّةِ الْعُمْرِ يُنْهِيهِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَبَيَّنَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ خِلَافًا فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهَا عِدَّتَانِ الْأَطْوَلُ، وَهُوَ الْحَوْلُ وَالْأَقْصَرُ وَهُوَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] أَيْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240] فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْعِدَّةَ الْكَامِلَةَ هُوَ الْحَوْلُ وَأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا رُخْصَةٌ لَهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَهَذَا حُكْمٌ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُوصِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى إلَى الْحَوْلِ، وَقَدْ انْتَسَخَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمَّا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَأْذِنُهُ فِي الِاكْتِحَالِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَعَدَتْ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا حَوْلًا ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَمَتْ كَلْبَةً بِبَعْرَةٍ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا». (وَالثَّانِي) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ الشَّهْرِ الْخَامِسِ عِنْدَنَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَشْرُ لَيَالٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ لِظَاهِرٍ قَوْله تَعَالَى وَعَشْرًا فَإِنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ يُذَكَّرُ وَجَمْعَ الْمُذَكَّرِ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ فَلَمَّا قَالَ هُنَا وَعَشْرًا عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيَالِيَ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ إمَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] يُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وقَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] يُوجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادَ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا وَلَوْ وَضَعَتْ قَبْلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَنَّ أَمْرَ الْعِدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَلَكِنْ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] قَاضِيَةٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] حَتَّى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ شَاءَ بِأَهِلَّتِهِ إنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْوَى {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ «سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَإِنَّهَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ هَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فَقَالَ لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ أَبُو السَّنَابِلِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ فَقَدْ بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ إذَا أَرَدْت النِّكَاحَ فَادْأَبِي» وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَفِي التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَا عِبْرَةَ بِشُغْلِ الرَّحِمِ حَتَّى تَسْتَوِيَ فِيهَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَصْلُ الْعِدَّةِ مَشْرُوعٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَفِي حَقِّ الْحَامِلِ لَا يُعْتَبَرُ شَيْءٌ آخَرُ بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. (وَالرَّابِعُ) أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ وَقْتِ الزَّوْجِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مِنْ حِينِ تَعْلَمُ بِمَوْتِهِ حَتَّى إذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي السَّفَرِ فَأَتَاهَا الْخَبَرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَلْزَمُهَا عِدَّةُ مُسْتَأْنَفَةٍ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْحِدَادُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ سَنَةِ الْحِدَادِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهَا بِالسَّبَبِ لِتَكُونَ مُؤَدِّيَةً لِلْعِبَادَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعِدَّةُ مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ عِلْمِهَا فَهُوَ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ سَنَةَ الْحِدَادِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ عَالِمَةً بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ تَبَعٌ لَا مَقْصُودٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالْعِبَادَاتِ. (قَالَ) وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْعِدَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ لَا تَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ إبْرَاهِيمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَاحِشَةُ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَاحِشَةُ أَنْ تَزْنِيَ فَتَخْرُجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْفَاحِشَةُ نُشُوزُهَا وَأَنْ تَكُونَ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ تَبْذُو عَلَى إحْمَاءِ زَوْجِهَا وَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفَاحِشَةَ غَايَةً وَالشَّيْءُ لَا يُجْعَلُ غَايَةً لِنَفْسِهِ وَمَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا فَاحِشَةً كَمَا يُقَالُ لَا يَسُبُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَلَا يَزْنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَعَلَى هَذَا لَا تَخْرُجُ لِسَفَرِ الْحَجِّ وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْخُرُوجِ مُوَقَّتٌ بِالْعِدَّةِ يَفُوتُ بِمُضِيِّهَا وَالْخُرُوجُ لِلْحَجِّ لَا يَفُوتُهَا فَتَقَدَّمَ مَا يَفُوتُ عَلَى مَا لَا يَفُوتُ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِالنَّهَارِ لِحَوَائِجِهَا وَلَكِنَّهَا لَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَنِي خُدْرَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُك» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا خُرُوجَهَا لِلِاسْتِفْتَاءِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ اللَّاتِي تَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ شَكَوْنَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْوَحْشَةَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَاوَرْنَ بِالنَّهَارِ وَلَا يَبِتْنَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِهِنَّ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَوَائِجِهَا فِي النَّهَارِ وَتَحْصِيلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 مَا تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا. بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ فَإِنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ وَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَى الْخُرُوجِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْخُلْعِ فَهِيَ الَّتِي أَضَرَّتْ بِنَفْسِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهَا الْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا وَالْبَيْتُوتَةُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا. (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ فِي حَالِ النِّكَاحِ وَالْمَنْعُ فِي الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي، وَهَذَا لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ مَوْلَاهَا وَالْمَنْعُ عَنْ الْخُرُوجِ إمَّا لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْمُكَاتَبَةُ إنَّمَا تَخْرُجُ لِلِاكْتِسَابِ، وَفِي كَسْبِهَا حَقُّ الْمَوْلَى إمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَوْ يَخْلُصَ لَهُ إذَا عَجَزَتْ وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمٍ. أَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ عَنْ الْخُرُوجِ فَلَهُ ذَلِكَ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَلِكَيْلَا تُلْحِقَ بِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أَيْ وَلَدًا وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَمْنَعُهَا الزَّوْجُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ، وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَهَا أَنْ تَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَقَالَ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّهَا لَا تُخَاطَبُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحُدُودِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ وَلَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ قَالُوا إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرَاهِقَةً يُتَوَهَّمُ أَنْ تَحْبَلَ فَحِينَئِذٍ هِيَ كَالْكِتَابِيَّةِ فَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ هِيَ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِبَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا. (قَالَ)، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِ مُكْرًى فَطَلَّقَهَا فِيهِ فَالْكِرَاءُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِأَنَّ السُّكْنَى عَلَيْهِ وَالْكِرَاءُ مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَتَكُونُ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فِي مَنْزِلِهِمْ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَ الْإِخْرَاجِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا فِي التَّحَوُّلِ كَمَا إذَا انْهَدَمَ الْمَنْزِلُ فَأَمَّا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَجْرُ الْمَنْزِلِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَى زَوْجِهَا السُّكْنَى كَمَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فَإِنْ مَكَّنَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ مِنْ الْمُقَامِ بِكِرَاءٍ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجِدُ ذَلِكَ فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِأَنَّ سُكْنَاهَا فِي ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 الْمَنْزِلِ حَقُّ الشَّرْعِ فَإِذَا قَدَرْت عَلَيْهِ بِعِوَضٍ لَزِمَهَا كَالْمُسَافِرِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ الثَّمَنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الثَّمَنُ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ زَوْجُ الْمُطَلَّقَةِ غَائِبًا فَأَخَذَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ بِكِرَاءٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَ الْأَجْرَ وَتَسْكُنَ إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا فَمَاتَ الزَّوْجُ إنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ يَكْفِيهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي نَصِيبِهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا يَخْلُو بِهَا مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا مِنْ وَرَثَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا فَإِنْ رَضِيَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ أَنْ تَسْكُنَ فِيهِ سَكَنَتْ وَإِنْ أَبَوْا كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِلْعُذْرِ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلٍ مَخُوفٍ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا وَلَيْسَ مَعَهَا رَجُلٌ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّحْلَةِ لِأَنَّ الْمُقَامَ مَعَ الْخَوْفِ لَا يُمْكِنُ، وَفِي الْمُقَامِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الشَّرْعِ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ وَلَوْ كَانَتْ بِالسَّوَادِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْخَوْفُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ إلَى الْمِصْرِ لِأَنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْخَوْفِ هُنَا بِالتَّحَوُّلِ إلَى الْمِصْرِ وَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْخَوْفِ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَنْزِلٍ إلَى مَنْزِلٍ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ السَّوَادِ إلَى الْمِصْرِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ زَائِرَةً كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا حَتَّى تَعْتَدَّ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلٍ مُضَافٍ إلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَالْإِضَافَةُ إلَيْهَا بِكَوْنِهَا سَاكِنَةً فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلٍ كَانَتْ سَاكِنَةً فِيهِ إلَى وَقْتِ الْفُرْقَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي هِيَ فِيهِ زَائِرَةٌ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَيْهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ سَاكِنَةً فِيهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ حَقِّ الشَّرْعِ. (قَالَ) وَلَوْ سَافَرَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهِيَ لَا تُفَارِقُ زَوْجَهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَقْطَعُ النِّكَاحَ فَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيلَ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِهَا رَجْعَةٌ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ دَلِيلُ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ كَالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ السَّفَرُ بِهَا رَجْعَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ كَالْخَلْوَةِ وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَهُوَ يَقُولُ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هِيَ مُعْتَدَّةٌ وَالْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ إنْشَاءِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا كَمَا تُمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ السَّفَرِ مَعَ الْمَحْرَمِ وَرُبَّمَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي الطَّرِيقِ فَتَبْقَى بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَبَيْنَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وَبَيْنَ مَنْزِلِهَا كَذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهَا لِأَنَّهَا كَمَا رَجَعَتْ تَصِيرُ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ تَكُونُ مُسَافِرَةً مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَقْصِدِ. فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ اسْتِدَامَةِ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْزِلِهَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَقْصِدِهَا وَلَمْ تَرْجِعْ لِأَنَّهَا إذَا مَضَتْ لَا تَكُونُ مُنْشِئَةً سَفَرًا وَلَا سَائِرَةً فِي الْعِدَّةِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَإِذَا رَجَعَتْ تَكُونُ مُنْشِئَةً سَفَرًا؛ فَلِهَذَا مَضَتْ إلَى مَقْصُودِهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ أَوْ مَوْتُ الزَّوْجِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ كَالْمَفَازَةِ تَوَجَّهَتْ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَقْرَبَ الْجَانِبَيْنِ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَاَلَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِنَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّهَا خَائِفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا وَدِينِهَا فَهَذِهِ فِي الْمَفَازَةِ كَذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ لِأَنَّهَا غَرِيبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْغَرِيبُ يُؤْذَى وَيُقْصَدُ بِالْجَفَاءِ وَمَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فَكَانَتْ مُضْطَرَّةً إلَى الْخُرُوجِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الْمَفَازَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ وَجْهِ إنْشَاءِ سَفَرٍ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَرَمُ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرِيقَانِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا إلَى الْآنَ كَانَتْ تَابِعَةً لِلزَّوْجِ فِي السَّفَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِيَّةُ الزَّوْجِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ لَا نِيَّتُهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَتَكُونُ هِيَ مُنْشِئَةٌ سَفَرًا مِنْ مَوْضِعِ أَمْنٍ وَغِيَاثٍ وَالْعِدَّةُ تَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَلَا تَكُونُ هِيَ فِي التَّحَوُّلِ مُنْشِئَةً سَفَرًا وَقَالُوا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا كَانَتْ سَافَرَتْ مَعَ الْمَحْرَمِ بِغَيْرِ زَوْجٍ فَأَتَاهَا خَبَرُ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ الطَّلَاقُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُقَامُ فِيهِ لِأَنَّهَا مَاضِيَةٌ عَلَى سَفَرِهَا لَا مُنْشِئَةٌ (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ) أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ الْمَحْرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ الْمَحْرَمِ مَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا فِي عِدَّتِهَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ فَقْدُ الْمَحْرَمِ هُنَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَأَنْ تَمْنَعَهَا الْعِدَّةُ مِنْ الْخُرُوجِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْمَفَازَةِ فَإِنَّ فَقْدَ الْمَحْرَمِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَرَارِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 لَوْ وَصَلَتْ إلَى مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَالَ) وَلِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَى الدَّارِ وَتَبِيتَ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ شَاءَتْ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَنْزِلٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهَا أَنْ تَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي أَيِّ بَيْتٍ بَاتَتْ وَبِالْخُرُوجِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ لَا تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَنَازِلُ غَيْرِهِمْ فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ إلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ لِأَنَّ صَحْنَ الدَّارِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ السِّكَّةِ وَبِالْوُصُولِ إلَيْهِ تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا وَلَيْسَ لَهُ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سِتْرًا وَحِجَابًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَيَتَّخِذُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سُتْرَةً حَتَّى يَكُونَ فِي حُكْمِ بَيْتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْوَفَاةِ إذَا كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ رِجَالٌ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا هُمْ وَسَّعُوا عَلَيْهَا وَخَرَجُوا عَنْهَا أَوْ سَتَرُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا حِجَابًا فَلْتَقُمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَلْتَنْتَقِلْ مَعْنَاهُ إذَا أَخْرَجُوهَا وَكَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا أَوْ كَانَتْ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُمْ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُقِيمَ مَعَهُمْ لِأَنَّ أَوْلَادَهُ مَحْرَمٌ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا. . (قَالَ) بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَقَلَ أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ قُتِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ قُتِلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. (قَالَ)، وَإِذَا انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ إلَى أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَتْ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِي الْمَنْزِلِ الْمَهْدُومِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّحَوُّلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي اخْتِيَارِ الْمَنْزِلِ إلَيْهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا إلَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ إلَى الزَّوْجِ فِي اخْتِيَارِ الْمَنْزِلِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ أَحَبَّ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ عِنْدَ الْعُذْرِ فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ لَهُ عَلَيْهَا بَاقٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحْصِنَهَا حَتَّى لَا تُلْحِقَ بِهِ مَا يَكْرَهُ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ إلَيْهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَحُجَّ وَلَا تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ وَغَيْرِ مَحْرَمٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ قَصْرِ النَّجَفِ وَكُنَّ قَدْ خَرَجْنَ حَاجَّاتٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلُقَتْ الْأَمَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَارَتْ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا مِنْ عِدَّةِ الْإِمَاءِ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ وَهَكَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ يَرْفَعُ الْحِلَّ فَالْعِتْقُ بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْعِدَّةُ كَمَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لِتَنَصُّفِ الْحِلِّ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، ثُمَّ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ فَإِذَا أُعْتِقَتْ كَمُلَ مِلْكُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا بِكَمَالِ حَالِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْعِدَّةُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ تَتَقَدَّرُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَتَكَامَلُ بِالْعِتْقِ الْمِلْكُ الزَّائِلُ عَنْ الْحِلِّ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِعَرْضِ التَّغَيُّرِ حَتَّى تَتَغَيَّرَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الشُّهُورِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ بِعِتْقِهَا تَتَغَيَّرُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَانَتْ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَغَيَّرُ بِعِتْقِهَا تَوْضِيحُهُ أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِثَلَاثِ حِيَضٍ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَبِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْعِدَّةُ مَأْخُوذٌ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفُرْقَةِ كَالطَّلَاقِ فِي هَذَا وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَزُولُ بِالْمَوْتِ وَمَذْهَبُنَا فِي الْفَصْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ) وَإِذَا مَاتَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا وَمَوْلَاهَا وَلَا يَعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَبَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ آخِرِهِمَا مَوْتًا احْتِيَاطًا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحَيْضِ فِيهَا لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ مَاتَ أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ مِنْ الْمَوْلَى بِزَوَالِ فِرَاشِهِ عَنْهَا وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا هُنَا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى آخِرًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الزَّوْجِ فَلَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَلَكِنْ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ آخِرًا فَقُلْنَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا احْتِيَاطًا وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَا صَارَتْ فِرَاشًا وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ ثُمَّ عَلَيْهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَالْعِدَّةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ؛ فَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْعِدَّتَيْنِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا وَلَا أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَا حَيْضَ فِيهَا وَعِنْدَهُمَا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَفِي الْعِدَّةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَالْوَجْهُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِوُجُوبِهَا لِلِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسَائِلِ الْعَقْدِ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ احْتِيَاطًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ لَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ زَوَالُ فِرَاشِ الْمَوْلَى عَنْهَا وَالِاحْتِيَاطُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مَنْكُوحَةُ الزَّوْجِ وَإِنْ مَاتَ آخِرًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الزَّوْجِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ مُضِيَّ الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ مُحْتَمَلٌ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ مُضِيَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ حَتَّى يُؤْخَذَ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَلَا سَبَبَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فَلَا يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا مَعًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِأَنَّ هُنَا أَحْوَالًا ثَلَاثَةً إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَهُنَاكَ نِكَاحٌ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ قَبْلَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَهُنَاكَ عِدَّةٌ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَالْحَالَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُعَارِضُ الْحَالَتَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَقْدِ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ حَالَتَانِ إمَّا حَالُ صِحَّةِ النِّكَاحِ أَوْ حَالُ فَسَادِهِ وَالتَّعَارُضُ يَقَعُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ هُنَاكَ وَكَذَلِكَ إذَا عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَهُنَا حَالَتَانِ إمَّا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بِالْحَيْضِ مِنْ الْمَوْلَى فَلِتَعَارُضِ الْحَالَتَيْنِ أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ فَهُوَ وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ أَمَةٌ وَالْأَمَةُ لَا تَرِثُ مِنْ الْحُرِّ شَيْئًا وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا تَرِثُ وَالْإِرْثُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ وَشَرْطُ إرْثِهَا مِنْهُ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَمَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 الشَّرْطِ لَا تَرِثُ مِنْهُ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا بَطَلَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَنْهَا وَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَكَانَ مُنْتَهِيًا بِالْمَوْتِ وَانْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ يُلْزِمُهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِالْحَيْضِ لِيَزُولَ الْمِلْكُ بِهَا وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَهِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً عَنْهُ فِي الصِّحَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا انْتَهَى بِالْوَفَاةِ هُنَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَيَذَرُونِ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ حَتَّى لَا تَرِثَ مِنْهُ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا فَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ أَيْضًا. (قَالَ) وَإِذَا أَتَى الْمَرْأَةَ خَبَرُ وَفَاةِ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ مَوْتِهِ لَا وَقْتُ عِلْمِهَا بِهِ وَإِنْ شَكَّتْ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ اعْتَدَّتْ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَيْقِنُ فِيهِ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْيَقِينِ، وَفِي الْوَقْتِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا يَقِينَ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْتَدُّ إلَّا مِنْ الْوَقْتِ الْمُتَيَقَّنِ. (قَالَ) وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَفِي الْعِدَّةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِهَا لَا بِحَالِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْتَدَّةُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا وَكَوْنُهَا حَامِلًا أَوْ حَائِلًا فَكَذَلِكَ بِرِقِّهَا وَحُرِّيَّتِهَا. فَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْتَبِرُ بِمَنْ رَقَّ مِنْهُمَا حَتَّى لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَالِكِ كَمِلْكِ الْيَمِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِلْكَ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الطَّلَاقِ اعْتِبَارُ عَدَدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ عُقَدٍ وَمَنْ يَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ يَمْلِكُ عَلَيْهَا عُقْدَتَيْنِ وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ فِي مِلْكِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَالْعَبْدُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الطَّلَاقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وَالْعِدَّةِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالرِّجَالِ قِيلَ إنَّهُ كَلَامُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ. وَمَا رُوِيَ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ الثَّالِثَةَ أَوْ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَابَلَ الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ وَالْمُقَابَلَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَبِالِاتِّفَاقِ فِي الْعِدَّةِ الْمُعْتَبَرِ حَالُهَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَمَنْ مَلَكَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَدَدًا مِنْ الطَّلَاقِ يَمْلِكُ إيقَاعَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ السَّنَةِ وَبِهَذَا أَفْحَمَ عِيسَى بْنَ أَبَانَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ أَيُّهَا الْفَقِيهُ إذَا مَلَكَ الْحُرُّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَيْفَ يُطَلِّقُهَا فِي أَوْقَاتِ السَّنَةِ فَقَالَ يُوقِعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَالَ حَسْبُك فَإِنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ فَلَمَّا تَحَيَّرَ رَجَعَ فَقَالَ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةٌ وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةٌ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ فِي النِّكَاحِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَبِدُّ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى رِضَا الْمَوْلَى فَيَكُونُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ وَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ يُخْرِجُ الرَّقِيقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِهِ كَالْمَالِ وَلَمَّا بَقِيَ أَهْلًا لِمِلْكِ الطَّلَاقِ عَرَفْنَا أَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الرِّقَّ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَلَكِنَّ مِلْكُ النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ الْحِلِّ وَالْحِلُّ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرِّ أَزْيَدَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَّسِعُ لِتِسْعِ نِسْوَةٍ كَرَامَةً لَهُ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ عَدَدِ النِّكَاحِ فَلَا مَعْنَى فِيهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ الْعَقْدِ مَا لَا يُحْصَى حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِرَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا فَهَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ الْحُرُّ عَلَى النِّسَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُقْدَةً فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَيَمْلِكُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ عُقَدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ نِصْفَ ذَلِكَ وَذَلِكَ سِتُّ عُقَدٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّتَيْنِ فَيَمْلِكُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ عُقَدٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فَأَمَّا الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرِّفُ هُوَ الزَّوْجُ ثُمَّ هُوَ مُقَابَلٌ بِصِفَةِ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لَا حَالُ الرَّجُلِ. (قَالَ) وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُجْزِئُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 وَمَا سَبَقَ الطَّلَاقُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا مِنْ الْعِدَّةِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الِاحْتِسَابُ بِمَا بَقِيَ وَلَوْ احْتَسَبَ بِمَا بَقِيَ وَجَبَ إكْمَالُهَا بِالْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ فَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ مِنْ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَجَبَ كُلُّهَا. (قَالَ) وَلَوْ اعْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بِحَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَعَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَفِيهِ إشْكَالٌ فَإِنَّ بِنَاءَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَصْلِ يَجُوزُ كَالْمُصَلِّي إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَيَمَّمُ وَيَبْنِي، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُومِئُ وَيَبْنِي وَلَكِنَّا نَقُولُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ إنَّمَا الْبَدَلِيَّةُ فِي الطَّهَارَةِ وَلَا تَكْمُلُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى قَطُّ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ فَهِيَ بَدَلٌ عَنْ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِكْمَالُ الْبَدَلِ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ قَالَ إذَا أَيِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَاعْتَدَّتْ - شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ ثُمَّ حَاضَتْ اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ وَهَذَا يَجُوزُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا بَعْدَ مَا أَيِسَتْ لَا تَحِيضُ وَإِنَّمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَكِنَّهَا حِينَ حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ مُمْتَدَّةً طُهْرُهَا فَلَهَا أَنْ تَعْتَبِرَ مَا مَضَى مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَيَّامِهَا إذَا حَاضَتْ. (قَالَ)، وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَلِدَ الْآخَرَ هَكَذَا نَقَلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَذَلِكَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَضَعْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا. (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الطَّلَاقِ بِرَجُلٍ وَدَخَلَ بِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخَرُ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا لِأَنَّ الْعِدَّتَيْنِ إذَا وَجَبَتَا يَتَدَاخَلَانِ وَيَنْقَضِيَانِ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَدَاخَلَانِ وَلَكِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ وَطِئَ مُعْتَدَّتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالشُّبْهَةِ فَلَا شَكَّ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَنْقَضِيَانِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِسَبَبِ الثَّانِي أَصْلًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا حَقَّانِ وَجَبَا لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَالْمَهْرَيْنِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فَرْضُ كَفٍّ لَزِمَهَا فِي الْمُدَّةِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْكَفَّانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَصَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ كَفٌّ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَالْخُرُوجِ فَتَكُونُ عِبَادَةً كَالْكَفِّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ فِي الصَّوْمِ وَأَدَاءُ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ. وَلَوْ جَازَ الْقَوْلُ بِالتَّدَاخُلِ فِي الْعِدَّةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَقْرَاءَ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِدَّةَ مُجَرَّدُ أَجَلٍ وَالْآجَالُ تَنْقَضِي بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَآجَالِ الدُّيُونِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْعِدَّةَ أَجَلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَسَمَّاهُ تَرَبُّصًا وَالتَّرَبُّصُ هُوَ الِانْتِظَارُ وَالِانْتِظَارُ يَكُونُ سَبَبَ الْأَجَلِ كَالِانْتِظَارِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودِ فِي الْأَجَلِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُنَا مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعِدَّةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَائِهِ ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ تَبَعٌ لَا مَقْصُودٌ وَإِنَّمَا رُكْنُ الْعِدَّةِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ رُكْنَ الْعِدَّةِ بِعِبَارَةِ النَّهْيِ فَقَالَ تَعَالَى وَلَا يَخْرُجْنَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] وَمُوجَبُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَالْحُرُمَاتُ تَجْتَمِعُ فَإِنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحَرَمِ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَالْخَمْرُ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَلِكَوْنِهِ خَمْرًا وَلِيَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا بِخِلَافِ رُكْنِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَعَرَفْنَا أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الْفِعْلُ ثُمَّ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ وَتَنْقَضِي وَإِنْ لَمْ تَكْفِ نَفْسَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا وَلِأَنَّ بِوَطْءِ الثَّانِي قَدْ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ وَالشُّرُوعُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ حَالٍ تَقَرَّرَ عَنْ سَبَبِ الْوُجُوبِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ شُرُوعُهَا فِيهِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَالْعِدَّةُ الْأُولَى أَثَرُ النِّكَاحِ وَأَصْلُ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ شُرُوعَهَا فِي الْعِدَّةِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَأَثَرُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَبِمُضِيِّ الْعِدَّةِ الْأُولَى يُتَيَقَّنُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شُرُوعُهَا فِي الْعِدَّةِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّيَقُّنِ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ الشُّهُورَ فِي الْأَجَلِ الْوَاحِدِ لَا تَتَدَاخَلُ وَالْجَلَدَاتُ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ لَا تَتَدَاخَلُ وَيَتَدَاخَلُ الْحَدَّانِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَةَ لِحُرْمَةِ النِّكَاحِ وَالثَّالِثَةَ لِفَضِيلَةِ الْحُرِّيَّةِ فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ فِي أَقْرَاءِ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُمَا أَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ وَهِيَ حَامِلٌ وَعِدَّةُ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِسُقُوطِ الْأَقْرَاءِ إذَا حَبِلَتْ وَالْعِدَّةُ بَعْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 مَا سَقَطَتْ لَا تَعُودُ فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ مِنْ الْأَوَّلِ حَيْضَةً ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ حَيْضَتَانِ تَمَامُ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْ الثَّانِي وَالْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ لِإِكْمَالِ عِدَّةِ الثَّانِي حَقٌّ لَوْ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ جَازَ لِأَنَّ عِدَّتَهَا مِنْهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ حَتَّى تَمْضِيَ هَذِهِ الْحَيْضَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ وَعِدَّةُ الْغَيْرِ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ كَمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ بِالشُّهُورِ. (قَالَ) وَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَدَخَلَ الثَّانِي بِهَا ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهَا مِنْ الْمَيِّتِ تَمَامُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ تَحْتَسِبُ بِمَا حَاضَتْ بَعْدَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ مِنْ عِدَّةِ الْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الشُّهُورِ وَالْحِيَضِ فَتَكُونُ شَارِعَةً فِي الْعِدَّتَيْنِ تَحْتَسِبُ بِالْمُدَّةِ مِنْ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَبِمَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ الْحَيْضِ مِنْ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ. (قَالَ) وَاذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَهُ امْرَأَتَانِ وَقَدْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا طَلَاقًا بَائِنًا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهمَا هِيَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ وَلَا يَدْرِي أَدْخُلُ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ الطَّلَاقُ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ قَبْلَ ظُهُورِ السَّبَبِ وَهُنَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعْلُومٌ إنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي مَحَلِّهِ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ احْتِيَاطًا. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ بِالْفِرَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِالطَّلَاقِ وَسَبَبُ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ فَإِذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 لَمْ يُوجَدْ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي صِحَّتِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَتْ الْمِيرَاثَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَرِثُهُ زَوْجَتُهُ الْمُسْلِمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ كَانَ بِرِدَّتِهِ لَا بِمَوْتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا أَخَذَتْ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ بِالْوَفَاةِ فَيَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا أَعْطَيْنَاهَا الْمِيرَاثَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ وَبِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعِدَّةِ مَقَامَ أَصْلِ النِّكَاحِ حُكْمًا إذْ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ. وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ تَجِبُ بِالشَّكِّ فَإِذَا جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ النِّكَاحُ كَالْمُنْتَهَى بِالْمَوْتِ حُكْمًا فَفِي حُكْمِ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِالْحَيْضِ مُتَقَرِّرٌ حُكْمًا فَأَلْزَمْنَاهَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا امْرَأَةُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ أَشَارَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: هُنَاكَ مَا اسْتَحَقَّتْ الْمِيرَاثَ بِالْوَفَاةِ لِأَنَّ عِنْدَ الْوَفَاةِ هِيَ مُسْلِمَةٌ وَالْمُسْلِمَةُ لَا تَرِثُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَكِنْ يَسْتَنِدُ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ إلَى وَقْتِ الرِّدَّةِ وَبِذَلِكَ السَّبَبِ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَهُنَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ. (قَالَ)، وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَبَلِ وَأَكْثَرِهَا فَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَرْجُمَهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَمَا أَنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَخَصَمَتْكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَإِذَا ذَهَبَ لِلْفِصَالِ عَامَانِ لَمْ يَبْقَ لِلْحَبَلِ إلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَرَأَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدَّ وَأَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ الزَّوْجِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْوَلَدَ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الْحَدِيثَ إلَخْ وَبَعْدَ مَا تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ يَتِمُّ خَلْقُهُ بِشَهْرَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الْفِصَالُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُسْتَوَى الْخَلْقِ فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَبَلِ سَنَتَانِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْبَعُ سِنِينَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ وَهِيَ حَامِلٌ فَهَمَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَجْمِهَا فَقَالَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ يَكُ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 ثَنِيَّتَاهُ يُشْبِهُ أَبَاهُ فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ قَالَ ابْنِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَعْجَزُ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ مُعَاذٍ لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ وَضَعَتْ هَذَا الْوَلَدَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ أَثْبَتَ نَسَبَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَقِيلَ أَنَّ الضَّحَّاكَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَوَلَدَتْهُ بَعْدَ مَا نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَسُمِّيَ ضَحَّاكًا وَعَبْدَ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي نِسَاءِ مَاجِشُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُنَّ يَلِدْنَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ» وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْبَنِي عَلَى الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَبَقَاءُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِمَا يُحْكَى فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الضَّحَّاكَ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ مَا كَانَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الرَّحِمِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ النَّسَبَ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ وَبِهِ نَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَتَيْنِ أَيْ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ مَتَى كَانَ الْحِلُّ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إثْبَاتُ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ أَوْ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ فَحِينَئِذٍ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ لَا يُحْكَمُ بِهِمَا بِالشَّكِّ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الْحِلُّ قَائِمًا بَيْنَهُمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ. (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ. (قَالَ) وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بَلْ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّا نُسْنِدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَإِنَّا لَوْ أَسْنَدْنَاهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا لِأَنَّ حَمْلَ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَلَوْ جَعَلْنَا كَأَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَحَبِلَتْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَلَوْ جَعَلْنَا كَانَ غَيْرُهُ وَطِئَهَا كَانَ فِيهِ حَمْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ إسْنَادِ الْعُلُوقِ إلَى مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَسَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَلُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ الزَّوْجِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِ الزَّوْجِ عَلَى الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَثُبُوتُ فِرَاشِهِ الْقَائِمِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ لَا يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ كَفِرَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى امْرَأَتِهِ ثُمَّ يَلْزَمُهَا أَنْ تَرُدَّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ الِانْقِضَاءِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلِانْقِضَاءِ هُنَا سَبَبٌ سِوَى الْوِلَادَةِ وَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِزَوْجٍ آخَرَ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهَا أَخَذَتْ مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ زَوْجِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ حُكْمًا بِنِكَاحٍ لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْوَلَدَ مِنْ عُلُوقٍ فِي الْعِدَّةِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الزِّنَا وَلَوْ جَعَلْنَا كَأَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَلِقَتْ مِنْهُ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ فَتَعَيُّنُ هَذَا الْجَانِبِ ثُمَّ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ أَقْوَى فَتَبِينُ أَنَّهَا أَخَذَتْ النَّفَقَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَعَلَيْهَا رَدُّهَا وَهَذَا الْيَقِينُ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ وَلَا يَلْزَمُهَا الرَّدُّ إلَّا بِالْيَقِينِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّ فِي ذَلِكَ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ دُونَ الزِّنَا فَإِنَّ الْمَالَ بَذْلُهُ يُبَاحُ بِالْإِذْنِ وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا بِالْأَخْذِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِالزِّنَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَلَئِنْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النُّشُوزِ مِنْهَا حِينَ جَعَلَتْ رَحِمَهَا مَشْغُولًا بِمَاءِ غَيْرِ الزَّوْجِ. وَمَقْصُودُ الزَّوْجِ مِنْ الْعِدَّةِ صِيَانَةُ رَحِمِهَا فَإِذَا فَوَّتَتْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ نُشُوزِهَا وَهُرُوبِهَا مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ فَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَخَذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَزِمَهَا الرَّدُّ. (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ كَانَتْ طَالِقًا بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ شَرْطِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ ثُمَّ تَصِيرُ مُعْتَدَّةً فَلَمَّا وَضَعَتْ الْوَلَدَ الثَّانِي حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا وَالْوَلَدُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ لِأَنَّ أَوَانَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي هِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ وَلَوْ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكَرُّرَ نُزُولِ الْجُزْءِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَبِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي تَكَرَّرَ الشَّرْطُ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا آخَرَ فَيَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً أُخْرَى ثُمَّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّالِثِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَلَدٍ فِي بَطْنٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِتَوْأَمَيْنِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ فَلَمَّا وَلَدَتْ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الزَّوْجِ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ فَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ الْوَلَدَ الثَّالِثَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً ثَالِثَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ مَا صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا فَصَارَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ. (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَحَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَإِنْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا وَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ إسْنَادَ الْعُلُوقِ إلَى حَالَةِ حَيَاتِهِ مُمْكِنٌ، وَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَالصِّحَّةِ وَلَوْ لَمْ تَدَعْ حَبَلًا وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ مَاتَ الزَّوْجُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَقَدْ حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا بِالنَّصِّ وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّ آيَةَ الْحَبَلِ قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ التَّرَبُّصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَحْكُمُ بِانْقِضَائِهَا وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ حَبَلًا ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا كَانَتْ وِلَادَتُهَا مُعَايَنَةً أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْوَرَثَةُ. فَأَمَّا إذَا جَحَدُوا ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْقَابِلَةُ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرَّجُلُ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فَكَانَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِيهِ حُجَّةً تَامَّةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِرَاشٌ قَائِمٌ أَوْ إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا لِأَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَادَتُهَا هَذَا الْوَلَدَ ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرِيقَانِ. (أَحَدُهُمَا) مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ يَرِثُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ مُعَلَّقٌ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِعِلَّةٍ ذَاتَ وَصْفَيْنِ يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا. وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ شُهُودُ النَّسَبِ وَقَدْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَمِنُوا الْمِيرَاثَ وَآخِرُ الْوَصْفَيْنِ هُنَا النَّسَبُ فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى تَمَامِ عِلَّةِ الْإِرْثِ وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لِلْحَالِ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَنَسَبُ وَلَدِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْوِلَادَةُ بِالشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَاكَ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ فَثُبُوتُ النَّسَبِ بِظُهُورِ الْحَبَلِ فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْوِلَادَةُ بِالشَّهَادَةِ فَقَطْ وَلِذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَاكَ بِإِقْرَارِهِ وَهُنَا لَا سَبَبَ لِلنَّسَبِ سِوَى الشَّهَادَةِ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَوْضِيحُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْمَالِ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ تَضْمَنْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً فِي الْوِلَادَةِ لِلضَّرُورَةِ فَكَانَتْ ضَعِيفَةً فِي نَفْسِهَا وَالضَّعِيفُ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ لَا يَجُوزُ فَصْلُ الْحُكْمِ بِهِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْمَالِ وَالْمُؤَيِّدُ الْفِرَاشُ أَوْ الْحَبَلُ الظَّاهِرُ أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ فَإِنْ تَأَيَّدَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 شَهَادَتُهَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهَا أَبْطَلَتْ فِيمَا قَالَتْ فَإِنَّهَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ فَكَانَ إقْرَارُهَا بَاطِلًا. (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوِلَادَةَ وَالْحَبَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَيَلْزَمُهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِهِمَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا لِلْحَالِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعْتَدَّةُ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً أَوْ أَمَةً فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ لَا يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْحَبَلَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الْوِلَادَةِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَانِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى أَنَّ الْمَالَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَسَقَطَ لِلضَّرُورَةِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ شَهَادَةً اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إبَاحَةُ النَّظَرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَحِلُّ لِلثَّانِيَةِ النَّظَرُ لِأَنَّكُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْوَاحِدَةِ تَقُولُونَ الْمُثَنَّى أَحْوَطُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورَةِ لِلتَّعَذُّرِ هُنَا فَيَبْقَى الْعَدَدُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَالنِّسَاءُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ وَمَا زَادَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ حَرَامٌ فَلَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ نَظَرُ الْجِنْسِ أَهْوَنُ مِنْ نَظَرِ الذُّكُورِ وَلَمَّا سَقَطَتْ صِفَةُ الذُّكُورَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْعَدَدِ لِأَنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ مِنْ نَظَرِ الْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ نَظَرَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ سَوَاءٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّ الْمَثْنَى أَحْوَطُ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حِلَّ نَظَرِ الثَّانِيَةِ وَلَكِنْ إنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ كَانَ أَحْوَطَ فَأَمَّا مَنْ يَشْتَرِطُ الْعَدَدَ يُوجِبُ نَظَرَ الْجَمَاعَةِ وَنَظَرُ الْوَاحِدَةِ أَهْوَنُ ثُمَّ هَذَا خَبَرٌ مِنْ وَجْهٍ شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِاعْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالْخَبَرِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الذُّكُورَةُ وَالْعَدَدُ فَإِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا الْوِلَادَةَ وَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوِلَادَةِ وَهُوَ عَيْنُ الْوَلَدِ ثُمَّ النَّسَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ الْقَائِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِوِلَادَتِهَا وَقَالَ لَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ. (قَالَ)، وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمُطَلَّقَةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْحَيْضِ فِي مُدَّةٍ يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إقْرَارِهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ثُمَّ تَأْتِي بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَحِقَ الْوَلَدِ وَقَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَكَانَ وُجُودُ إقْرَارِهَا كَعَدَمِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي النَّسَبِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي مِنْ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا فِي رَحِمِهَا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهُوَ مُمْكِنٌ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهَا ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ. (قَالَ) وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَخْلُ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَحَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَيُجْعَلُ هَذَا الْعُلُوقُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالطَّلَاقِ ارْتَفَعَ لَا إلَى عِدَّةٍ وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالطَّلَاقِ قَدْ ارْتَفَعَ إلَى عِدَّةٍ وَلَمَّا جَعَلْنَا الْخَلْوَةَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ لِإِيَاسِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَاعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ لِأَنَّهَا إنَّمَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَلَمَّا وَلَدَتْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَلِطَتْ فِيمَا قَالَتْ لِأَنَّ الْآيِسَةَ لَا تَلِدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ مُمْتَدَّةٌ طُهْرُهَا لَا آيِسَةٌ فَلَا تَكُونُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 بِالشُّهُورِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا فَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِأَنَّهَا بَالِغَةٌ وَقَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ فَكَانَتْ هِيَ كَالْكَبِيرَةِ فِي نَسَبِ وَلَدِهَا وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِإِقْرَارِهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ. فَأَمَّا إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ طَلَّقَهَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَبَلَ فِي الْمُرَاهِقَةِ مَوْهُومٌ وَالْحُكْمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ شَرْطُهُ أَنْ لَا تَكُونَ حَامِلًا وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يَكْفِي لِلنَّسَبِ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَمُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مُرَاجِعًا لَهَا وَهُمَا يَقُولَانِ عَرَفْنَاهَا صَغِيرَةً وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالِاحْتِمَالِ وَصِفَةُ الصِّغَرِ مُنَافِيَةٌ لِلْحَبَلِ فَإِذَا بَقِيَ فِيهَا صِفَةُ الصِّغَرِ حُكِمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْحَبَلَ فَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ عَدَمُ الْحَبَلِ لِأَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ فَأَمَّا النِّكَاحُ لَا يُعْقَدُ إلَّا لِلْإِحْبَالِ. وَعَلَى هَذَا الصَّغِيرَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ مَاتَ الزَّوْجُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَهَذَا وَالْأَوَّلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 سَوَاءٌ. (قَالَ)، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ وَالْفَاسِدُ مِنْ الْفِرَاشِ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ فِي حُكْمِ النَّسَبِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الْآخَرُ لَمْ نُلْزِمْهُ الْأَوَّلَ وَلَا الْآخَرَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ عَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الْآخَرُ وَدَخَلَ بِهَا فَهُوَ لِلْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْأَوَّلِ هُنَا فِي النَّسَبِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ بَعْدَ طَلَاقِهِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلْآخَرِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ. (قَالَ)، وَإِذَا مَاتَ الصَّبِيُّ عَنْ امْرَأَتِهِ فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْحَبَلِ لِأَنَّهُ مِنْ زِنًا حَادِثٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْعِدَّةِ الْوَاجِبَةِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ فِي امْرَأَةِ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ وَمَتَى كَانَ الْحَبَلُ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مِنْ زِنًا فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الْعِدَّةِ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي امْرَأَةِ الْكَبِيرِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ حَتَّى يُحْكَمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْحَبَلَ لَيْسَ بِحَادِثٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِي امْرَأَةِ الصَّغِيرِ لَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا ظَهَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ يُجْعَلُ هَذَا حَبَلًا حَادِثًا. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حُبْلَى عِنْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عِدَّتَهَا بِالشُّهُورِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُهُ أَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ هَذَا الْحَبَلَ مِنْ زِنًا فَلَا يَتَقَدَّرُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي الْعِدَّةِ لِحُرْمَةِ الْمَاءِ وَصِيَانَتِهِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي. وَلِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ حَقًّا لِنِكَاحِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَبَلٌ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ التَّرَبُّصِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا تَجِبَ الْعِدَّةُ عَلَى الْحَامِلِ إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَهُوَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ حَامِلٌ فَيَتَقَدَّرُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ كَامْرَأَةِ الْكَبِيرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعَةٌ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جَانِبِهَا هُنَا وَإِنَّمَا انْعَدَمَ اشْتِغَالُ رَحِمِهَا بِمَاءِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ الشَّرْطُ فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الزَّوْجِ كَالشُّهُورِ وَالْحَيْضِ وَكَمَا لَوْ نَفَى حَبَلَ امْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ وَحَكَمَ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَالدَّلِيلُ الْحُكْمِيُّ كَالدَّلِيلِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِفَرَاغِ رَحِمِهَا عِنْدَ ذَلِكَ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَأَلْزَمْنَاهَا الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ حَقًّا لِلنِّكَاحِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِحُدُوثِ الْحَبَلِ مِنْ زِنًا بَعْدَهُ. (قَالَ) وَالْخَصِيُّ كَالصَّحِيحِ فِي الْوَلَدِ وَالْعِدَّةِ لِأَنَّ فِرَاشَهُ كَفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَالْوَطْءُ مِنْهُ يَتَأَتَّى مَعَ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَطْءِ مِنْهُ فِي حُكْمِ النَّسَبِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَبِدُونِ الصَّلَاحِيَّةِ لَا تَعْمَلُ الْعِلَّةُ. . (قَالَ) وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ إذَا كَانَ يُنْزِلُ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَالْإِعْلَاقُ بِالسُّحْقِ مِنْهُمْ مُتَوَهِّمٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ لَا يُنْزِلُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ إذَا جَفَّ مَاؤُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ أَوْ دُونَهُ لِأَنَّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ يَنْعَدِمُ الْمَاءُ فِي الْحَالِ إلَى تَوَهُّمِ ظُهُورِهِ فِي الثَّانِي عَادَةً، وَفِي حَقِّ هَذَا يَنْعَدِمُ الْمَاءُ لَا إلَى تَوَهُّمِ الظُّهُورِ فِي الثَّانِي فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ تَنْعَدِمُ الصَّلَاحِيَّةُ فَهُنَا أَوْلَى. (قَالَ) وَلَا يَكُونُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ طَلَاقًا حَتَّى يَبْلُغَ لِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا ثُمَّ بُلُوغُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالسِّنِّ وَالْعَلَامَةُ فِي ذَلِكَ الْإِنْزَالُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ قَالُوا وَأَدْنَى الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَا عَشَرَ سَنَةً، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَأَمَّا بُلُوغُهُمَا بِالسِّنِّ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَارِيَةِ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي الْغُلَامِ بِتِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَفِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ذَكَرَ فِي الْغُلَامِ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فِي مَوْضِعٍ، وَفِي مَوْضِعٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ وُفِّقَ فَقَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَطْعَنُ فِي التَّاسِعَ عَشْرَةَ وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إذَنْ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ يَتَقَدَّرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي» وَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ هَذَا هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِ الْبَالِغِ وَكَتَبَ بِهِ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ صِفَةُ الصِّغَرِ فِيهِمَا مَعْلُومَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَلَا يَقِينَ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ أَدْنَى الْمُدَّةِ لِبُلُوغِ الْغُلَامِ اثْنَا عَشَرَ سَنَةً وَقَدْ وَجَبَ زِيَادَةُ الْمُدَّةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُزَادُ سَبْعُ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ أَمْرِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا» وَبَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ اخْتِلَافٌ فِي تَفْسِيرِ الْأَشَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشَدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُدَّةِ الْبُلُوغِ بِهِ وَلَكِنَّ الْأُنْثَى أَسْرَعُ نُشُوءًا عَادَةً فَيَنْقُصُ فِي حَقِّهَا سَنَةٌ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ مَا أَجَازَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَكَمَ بِبُلُوغِهِ بَلْ لِأَنَّهُ رَآهُ قَوِيًّا صَالِحًا لِلْقِتَالِ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيزُ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ كَانَ صَالِحًا لِلْقِتَالِ» عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ فَرَدَّهُ فَقِيلَ إنَّهُ رَامٍ فَأَجَازَهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيَّانِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا وَرَدَّ الْآخَرَ فَقَالَ الْمَرْدُودُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجَزْته وَرَدَدْتنِي وَلَوْ صَارَعْته لَصَرَعْته فَصَارَعَهُ فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». (قَالَ) وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَإِنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ يُجَامِعُ وَيُحْبِلُ وَقَدْ ثَبَتَ الْفِرَاشُ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا. (قَالَ) وَاذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ إيَاسٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَعَلَيْهَا مِنْهُ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا فِرَاشُهُ بَعْدَ مَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِهَا ثَبَتَ مِنْهُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِ وَالْحُكْمُ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَيَتَحَقَّقُ زَوَالُ الْفِرَاشِ إلَيْهَا بِالْعِتْقِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ أَعْتَقَهَا لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى فِرَاشِهِ فِرَاشُ الزَّوْجِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ فَيَنْعَدِمُ الضَّعِيفُ بِالْقَوِيِّ، وَإِذَا انْعَدَمَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْعِتْقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ زَوَالُ فِرَاشِهِ إلَيْهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 مِنْ زَوْجٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ ادَّعَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ فِرَاشًا لَهُ أَصْلًا. (قَالَ) وَلَوْ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أَعْتَقَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِرَاشَ زَالَ بِالْعِتْقِ إلَى عِدَّةٍ، وَهُوَ نَظِيرُ فِرَاشِ النِّكَاحِ فِي أَنَّهُ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ وَلَكِنْ لَوْ نَفَاهُ الْمَوْلَى لَا يَنْتَفِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ بِالْعِتْقِ يَتَقَوَّى حَتَّى لَا يَمْلِكَ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَيَلْزَمُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ وَقَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ نَقْلَ فِرَاشِهَا إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسَبِ السَّبَبِ. فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ أَعْتَقَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَالْحَقُّ لَهُمَا وَمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فِي عِدَّتِهَا. (قَالَ) رَجُلٌ تَوَفَّى عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ فَأَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمٍ أَقَرَّتْ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي حَقِّهَا كَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَإِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهَا فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّا نَسْنُدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي حَقِّهَا لِإِثْبَاتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ كَمَا فِي الْحُرَّةِ. (قَالَ) وَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ لَزِمَتْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَيَتَقَدَّرُ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ هُنَا لَا غَيْرُ. (قَالَ) وَلَوْ مَاتَ عَنْ أَمَةٍ كَانَ يَطَؤُهَا أَوْ عَنْ مُدَبَّرَةٍ كَانَ يَطَؤُهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهَا لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَبِدُونِ الْفِرَاشِ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ مَا وَطِئَهَا لَمْ تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ وَالِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِعِدَّةٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَيْهَا وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي. (قَالَ) وَلَوْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا جَازَ وَوُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَيْهَا هُنَاكَ كَوُجُوبِهِ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ اشْتَرَاهَا وَهِيَ بِكْرٌ. (قَالَ) وَلَوْ دَخَلَ بِامْرَأَةٍ عَلَى وَجْهِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثَلَاثُ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً وَحَيْضَتَانِ إنْ كَانَتْ أَمَةً وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِالدُّخُولِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ بِزَوَالِهِ بِالتَّفْرِيقِ وَيَسْتَوِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 إنْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ حَيٌّ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ إلَّا لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ كَعِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّرَبُّصَ بِالْأَشْهُرِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ. وَلِهَذَا يَجِبُ مِنْ غَيْرِ تَوَهُّمِ الدُّخُولِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَلَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرٌ وَنِصْفٌ اعْتِبَارًا لِلْفِرَاشِ الْفَاسِدِ بِالْفِرَاشِ الصَّحِيحِ إذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ. (قَالَ)، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِنْتَ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَهَا عَلَيْهِ الصَّدَاقُ وَتَرِثُهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ رَقَبَتِهِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِقِيَامِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَمَوْتِ الْمُكَاتَبِ عَنْ وَفَاءٍ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا بَلْ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ مُنْتَهِيًا بَيْنَهُمَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ. وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَتَرِثُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّةِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الصَّدَاقُ دَيْنًا فِي عُنُقِهِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَانَ دَيْنًا فِي عُنُقِهِ وَيَبْطُلُ عَنْهُ مِقْدَارُ نَصِيبِهَا فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَمَلَكَتْ جُزْءًا مِنْ رَقَبَةِ زَوْجِهَا إرْثًا مِنْ أَبِيهَا وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الصَّدَاقَ كُلَّهُ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ وَلَكِنْ بِقَدْرِ نَصِيبِهَا يَسْقُطُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى عَبْدِهَا كَصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا وَهَبَ لَهُ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ وَبِقَدْرِ نَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ يَبْقَى فَتَسْتَوْفِي ذَلِكَ مِمَّا تَرَكَ مِنْ كَسْبِهِ وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ مَلَكَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَيْهَا، وَهُوَ مِلْكُهَا جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ. (قَالَ)، وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ فِي كَسْبِهِ حَقُّ الْمِلْكِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً تُؤَدَّى كِتَابَتُهُ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إمَّا إسْنَادًا لِلْعِتْقِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ إبْقَاءً لَهُ حَيًّا حُكْمًا إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلَمَّا حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ ثُمَّ مَلَكَ رَقَبَتَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَارْتَفَعَ النِّكَاحُ وَعَتَقَتْ. وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ مَوْلَاهَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا فَكَانَ النِّكَاحُ مُنْتَهِيًا بِالْمَوْتِ وَعَلَى الْأَمَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا مِنْ الْعِدَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ كَالْحُرِّ إذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ حَيْضَتَانِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَهَا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ فِي حَقِّهِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْ مِنْهُ فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا فَلَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ رَقَبَتِهَا وَإِنَّمَا كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مُنْتَهِيًا بِالْمَوْتِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَهِيَ أَمَةٌ لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ] (قَالَ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشِّيعَةِ عَلَى فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَعِنْدَهُمْ لَا يَقَعُ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا وَالزَّيْدِيَّةُ مِنْ الشِّيعَةِ يَقُولُونَ تَقَعُ وَاحِدَةً وَالْإِمَامِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الثَّلَاثَ جُمْلَةً تَقَعُ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَشُبْهَتُهُمْ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَالْمَأْمُورُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَهُوَ الْوَكِيلُ إذَا أَوْقَعَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ فَكَذَلِكَ الْمَأْمُورُ شَرْعًا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ أَمْرَ الشَّرْعِ أَلْزَمُ وَلِأَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِهِ بِالْإِذْنِ شَرْعًا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَا يَكُونُ نَافِذًا كَطَلَاقِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَرْفَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ النَّهْيَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا لَا يَتَحَقَّقُ لَا يَكُونُ فَإِنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْمَنْهِيُّ فِيهِ مُخْتَارًا حَتَّى يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ إذَا انْتَهَى وَيَسْتَوْجِبَ الْعِقَابَ إذَا أَقْدَمَ وَمَا لَمْ يَكُنْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَحَقِّقًا فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فِي الِانْتِهَاءِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَعْدَمُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُ نُفُوذَهُ شَرْعًا كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ عِنْدِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُنَا النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وَاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَوْ سَدِّ بَابِ التَّلَاقِي عِنْدَ النَّدَمِ فَلَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ فِي الْكِتَابِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِهِ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَإِذَا خَالَفَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يَنْفُذُ وَهُنَا تَصَرُّفُ الزَّوْجِ بِحُكْمِ مِلْكِهِ، وَهُوَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ صَارَ مَالِكًا لِلتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ وَالْمِلْكُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِنُفُوذِ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا وَلَا مَأْذُونًا فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ غَيْرُ مُتَحَقَّقَةٍ فِيهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَا تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهُمَا وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الرَّجُلِ فِي حَيْضِ الْمَرْأَةِ وَبِهَذَا وَنَظَائِرِهِ اسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ اللُّبْسِ وَالتَّطَيُّبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ فِي عِدَّتِهَا، وَفِيهِ لُغَتَانِ حِدَادٌ وَإِحْدَادٌ يُقَالُ أَحَدَّتْ الْمَرْأَةُ تَحِدُّ وَحَدَّتْ تَحِدُّ وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ صَحِيحَةٌ وَهَذَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا أَتَاهَا خَبَرُ مَوْتِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَعَتْ بِطِيبٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمَسَّتْهُ عَارِضَيْهَا وَقَالَتْ مَا بِي حَاجَةٌ إلَى الطِّيبِ وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِاكْتِحَالِ قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» الْحَدِيثَ عَلَى مَا رَوَيْنَا فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَعَلَيْهَا الْحِدَادُ فِي عِدَّتِهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ لِتَعْرِفَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ فَلَا حِدَادَ عَلَيْهَا كَالْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَهَذَا لِأَنَّ الْحِدَادَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى مَوْتِ الزَّوْجِ الَّذِي وَفَى لَهَا حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ جَفَاهَا وَآثَرَ غَيْرَهَا عَلَيْهَا فَإِنَّمَا تُظْهِرُ السُّرُورَ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ دُونَ التَّأَسُّفِ. (وَلَنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ» فَإِنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْتَدَّةٍ وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَهِيَ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْحِدَادَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ الْحَلَالِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 مَوْجُودٌ فِي الْمَبْتُوتَةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَعَيْنُ الزَّوْجِ مَا كَانَ مَقْصُودًا لَهَا حَتَّى يَكُونَ التَّحَزُّنُ بِفَوَاتِهِ بَلْ كَانَ مَقْصُودُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ يَفُوتُهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهَا نِعْمَةٌ بَلْ تَخَلَّصَتْ مِنْ الْحَرَامِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. وَصِفَةُ الْحِدَادِ أَنْ لَا تَتَطَيَّبَ وَلَا تَدَّهِنَ وَلَا تَلْبَسَ الْحُلِيَّ وَلَا الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ التَّزَيُّنُ، وَهُوَ ضِدُّ إظْهَارِ التَّحَزُّنِ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ رَغْبَةِ الرِّجَالِ فِيهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً وَلَا ثَوْبَ عَصَبٍ وَلَا خَزٍّ لِتَتَزَيَّنَ بِهِ قِيلَ هُوَ الْبُرْدُ الْيَمَانِيُّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ الْقَصَبُ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِأَنْ تَلْبَسَ الْقَصَبَ وَالْخَزَّ الْأَحْمَرَ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ إذَا لَبِسَتْ ذَلِكَ لَا عَلَى قَصْدِ التَّزَيُّنِ بِهِ فَأَمَّا عَلَى قَصْدِ التَّزَيُّنِ بِهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَلَا تَدْهُنُ رَأْسَهَا لِزِينَةٍ فَإِنَّ الدُّهْنَ أَصْلُ الطِّيبِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِيهِ فَيَصِيرُ غَالِيَةً وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْ الدُّهْنَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي بِأَنْ اشْتَكَتْ رَأْسَهَا فَصَبَّتْ عَلَيْهِ الدُّهْنَ جَازَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَمْنَعُ التَّدَاوِي وَإِنَّمَا تَمْنَعُ مِنْ التَّزَيُّنِ. وَلَا تَكْتَحِلُ لِلزِّينَةِ أَيْضًا فَإِنْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَكْتَحِلَ بِالْكُحْلِ الْأَسْوَدِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِاكْتِحَالِ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بَلَغَتْ الْبَابَ دَعَاهَا فَقَالَ قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْحَدِيثَ». وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا تَقْصِدُ الزِّينَةَ بِالِاكْتِحَالِ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَذِنَ لَهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهَا الزِّينَةَ فَمَنَعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إلَّا ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَلْبَسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرِيدَ الزِّينَةَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ سِتْرِ عَوْرَتِهَا، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ سِوَى هَذَا الثَّوْبَ فَمَقْصُودُهَا السِّتْرُ لَا الزِّينَةُ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَتَطَيَّبَ وَتَتَزَيَّنَ بِمَا أَحَبَّتْ مِنْ الثِّيَابِ لِأَنَّ نِعْمَةَ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ مَا فَاتَتْ بَعْدُ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَالتَّزَيُّنُ مِمَّا يَبْعَثُهُ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا فَتَكُونُ مَنْدُوبَةً إلَيْهِ أَيْضًا. فَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمٍ إذَا فَارَقَهَا أَوْ تَوَفَّى عَنْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَّقِيَ فِي عِدَّتِهَا شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ لِأَنَّ الْحِدَادَ فِي الْعِدَّةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَهِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالشَّرَائِعِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ لِأَنَّ الَّذِي فِيهَا مِنْ الشِّرْكِ وَاَلَّذِي تَتْرُكُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. (قَالَ) وَتَتَّقِي الْمَمْلُوكَةُ الْمُسْلِمَةُ فِي عِدَّتِهَا مَا تَتَّقِي مِنْهُ الْحُرَّةُ إلَّا الْخُرُوجَ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحَقِّ الشَّرْعِ كَالْحُرَّةِ وَإِنَّمَا لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ لِحَقِّ مَوْلَاهَا فِي خِدْمَتِهِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 فِي تَطَيُّبِهَا وَتَزَيُّنِهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا. (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيَّةِ أَنْ تَتَّقِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هِيَ كَالْبَالِغَةِ وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّطَيُّبِ وَالتَّزَيُّنِ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحُرْمَتُهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَصْلُ الْعِدَّةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا فَرَاغَ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ الْحِدَادُ فِي الْعِدَّةِ يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هِيَ لَا تُخَاطَبُ بِحَقِّ الشَّرْعِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْحِدَادِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحِدَادُ فِي مَعْنَى شُكْرِ النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ إظْهَارُ التَّحَزُّنِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا ذَلِكَ شَرْعًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْعِدَّةِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالِاعْتِدَادِ وَلَكِنَّ الْوَلِيَّ يُخَاطَبُ بِأَنْ لَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّ الْعِدَّةَ مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَثُبُوتُهَا فِي حَقِّهَا لَا يُؤَدِّي إلَى تَوَجُّهِ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْحِدَادِ فِيهَا. (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي عِدَّتِهَا اتِّقَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ السَّيِّدِ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْعِتْقِ وَفِيهِ تَخَلُّصُهَا مِنْ الرِّقِّ وَوُصُولُهَا إلَى نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَفُوتُهَا بِهَا شَيْءٌ مِنْ النِّعْمَةِ لِتَأْسَفَ عَلَى ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِنْ حَالِ الْوَطْءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْلَى فَقَدْ كَانَ بِسَبَبٍ هُوَ عُقُوبَةٌ فِي حَقِّهَا، وَهُوَ الرِّقُّ فَلَا يُعَدُّ نِعْمَةً وَكَرَامَةً وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ فَعِدَّتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُمَا لَا يُمْنَعَانِ مِنْ الْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهِمَا فَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ التَّزَيُّنِ أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ رَجُلٍ لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رُدَّتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَشَوَّفَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْآخَرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ. (قَالَ) رَجُلٌ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَسَدَ النِّكَاحُ وَقَدْ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالْمِلْكِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ وَتَتَطَيَّبَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَثَرُ النِّكَاحِ وَكَمَا أَنَّ الْمِلْكَ يُنَافِي أَصْلَ النِّكَاحِ يُنَافِي أَثَرَهُ وَلِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَتَطَيَّبَ لَهُ وَتَتَزَيَّنَ لِيَزْدَادَ رَغْبَةً فِيهَا وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَتَيْنِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عِدَّةٍ فَجَعَلْنَاهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ فَإِنْ أَعْتَقَهَا فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حِينَ اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا وَلَدَتْ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ وَعَلَى أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ بَعْدَ الْعِتْقِ ثُمَّ تَتَّقِي الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي الْحَيْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ النِّكَاحِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ عَلَيْهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْحِدَادَ لَا يَلْزَمُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ فَكَيْفَ يَلْزَمُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 بَعْدَ ذَلِكَ وَبِالْعِتْقِ إنَّمَا يَفُوتُهَا الْحِلُّ الَّذِي كَانَ قَائِمًا قَبْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِالْفُرْقَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لِكَوْنِهَا حَلَالًا لَهُ بِالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَظَهَرَتْ تِلْكَ الْعِدَّةُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْعِدَّةُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ يَجِبُ فِيهَا الْحِدَادُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَطَيَّبُ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْمَوْلَى عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ حِينَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَأَمَّا الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ فَلَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ بَلْ بِسَبَبِ الْعِتْقِ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَلَا حِدَادَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. . [بَابُ الْمُتْعَةِ وَالْمَهْرِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُتْعَةِ فِي فُصُولٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُتْعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَكُونُ حَتْمًا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَغَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَلَمَّا أَمَرَ شُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمُطَلِّقَ بِأَنْ يُمَتِّعَهَا قَالَ لَيْسَ عِنْدِي مَا أُمَتِّعُهَا بِهِ فَقَالَ إنْ كُنْت مِنْ الْمُحْسِنِينَ أَوْ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَمَتِّعْهَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ مُسْقِطً لَا مُوجِبٌ وَلَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَبِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَزَالَ الْمِلْكَ لَا إلَى أَثَرٍ فَكَيْف تَجِبُ الْمُتْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ. (وَلَنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْمُتْعَةَ إلَيْهِنَّ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ ثُمَّ قَالَ حَقًّا وَذَلِكَ دَلِيلُ وُجُوبِهِ وَقَالَ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَكَلِمَةُ عَلَى تُفِيدُ الْوُجُوبَ وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أَمَرَ بِهِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا تَنْفَكُّ عَنْ الْوَاجِبِ لَهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي النِّكَاحِ مُسَمًّى. ثُمَّ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الْمَسِيسِ إذَا كَانَ مَهْرُهَا مُسَمًّى فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَنَا لَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُتْعَةٌ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مُتْعَةٌ وَاجِبَةٌ لِعُمُومِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 قَوْله تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] إلَّا أَنَّا خَصَصْنَا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بَعْدَ الْفَرْضِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَجَعَلَ كُلَّ الْوَاجِبِ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتْعَةِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهَا بِالدُّخُولِ فَتَبْقَى الْمُتْعَةُ لَهَا بِحَقِّ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ بَعْدَ الْفَرْضِ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ لَهَا بِحَقِّ النِّكَاحِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ سِوَى النِّكَاحِ وَهُنَا بَيْنَهُمَا سَبَبٌ سِوَى النِّكَاحِ، وَهُوَ الدُّخُولُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمُتْعَةِ هُنَا. . (وَلَنَا) أَنَّهَا إنَّمَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ عَلَى زَوْجِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ مَعَ ذَلِكَ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ مُعَاوَضَةٍ وَبَعْدَ تَقَرُّرِ الْفَرْضِ لَا حَاجَةَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُجَامِعُ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ بَعْدَ الْفَرْضِ فَلَأَنْ لَا تُجَامِعَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى أَوْلَى وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ خَلَفًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنَّ أَوَانَ وُجُوبِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا أَصْلًا بِسَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِالْمِلْكِ أَصْلًا لَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُهُ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا وَجَبَتْ خَلَفًا لِأَنَّ بِالْخَلَفِ يَبْقَى مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْحُكْمِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ بِحَالٍ. وَإِذَا وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ فَهِيَ لَا تَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ الْأَصْلِ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَلِكَ كُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَتْ وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَا مِنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ الْمُسَمَّى فَكَمَا أَنَّ فِي النِّكَاحِ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ لَا يَجِبُ مِنْ الْمُسَمَّى شَيْءٌ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. (قَالَ) وَأَدْنَى مَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ شَيْءٌ نَفِيسٌ يُعْطِيهَا الزَّوْجُ تَذْكِرَةً لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] وَاسْمُ الْمَتَاعِ لَا يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ وَتَقْدِيرُ الْمُتْعَةِ بِالثِّيَابِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ أَرْفَعُ الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ وَأَوْسَطُ الْمُتْعَةِ الْكِسْوَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وَأَدْنَاهَا النَّفَقَةُ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمُتْعَةِ حَالَةُ الرَّجُلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ هَذَا فِي الْمُسْتَحَبَّةِ فَأَمَّا فِي الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ يُعْتَبَرُ حَالُهَا لِأَنَّهَا خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ حَالُهَا فَكَذَلِكَ فِي الْمُتْعَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِ أَوْ بِحَالِهَا فِيمَا يَكُونُ وَاجِبًا. وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَفِي الْمُسْتَحَبِّ هَذَا لَا يَكُونُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ. فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا وُجُوبُ جَمِيعِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي فَوَّتَ الْمِلْكَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَادَ إلَيْهَا كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهَا وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْبَدَلِ كَمَا إذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِخِيَارٍ أَوْ بِإِقَالَةٍ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ لِمَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الطَّلَاقَ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْمُسَمَّى كَمَا يُسْقِطُ جَمِيعَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنَّمَا لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ بِالطَّلَاقِ هُنَا لَا يَسْقُطُ إلَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ مُتَأَكَّدٌ بِالْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى إبِلٍ سَائِمَةٍ وَحَال الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَيْهَا نِصْفُ الزَّكَاةِ وَلَوْ سَقَطَ جَمِيعُ الْمُسَمَّى ثُمَّ وَجَبَ النِّصْفُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ لَمَا لَزِمَهَا شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْمُسَمَّى وَإِنْ تَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَاَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عِنْدَنَا هُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَلِيُّهَا حَتَّى إنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُسْقِطَ نَصِيبَهَا يُنْدَبُ الْوَلِيُّ إلَى إسْقَاطِ ذَلِكَ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ لَهَا أَوْ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ لَهَا فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ إسْقَاطَ حَقِّهَا عَنْهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تُنْدَبُ إلَى الْعَفْوِ بِأَنْ تَقُولَ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِي شَيْئًا فَلَا آخُذُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَهُوَ الزَّوْجُ بِأَنْ يَقُولَ اخْتَرْت فِرَاقَهَا فَلَا أَمْنَعُهَا شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا فَيُعْطِيهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَنَا وَنِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ هُنَا بِالِاتِّفَاقِ فَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وَلَكِنَّا نَقُولُ تَنَصُّفُ الْمُسَمَّى ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُسَمَّى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّمَا لَهَا الْمُتْعَةُ بِالنَّصِّ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ أَوْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِلدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتْعَةِ إمَّا لِمُرَاعَاةِ حَقِّ النِّكَاحِ أَوْ لِيَكُونَ خَلَفًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ خَلَفَهُ. وَالْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهِمَا، وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ فَرَضَ لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا وَلَمْ يَفْرِضْ لِلْأُخْرَى وَاَلَّتِي سَمَّى لَهَا مَهْرًا لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا وَمَهْرُ مِثْلِهِمَا سَوَاءٌ فَلَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا سَوَاءً لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ عَلَى الَّتِي سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلِلْأُخْرَى مَهْرٌ كَامِلٌ لِتُقَرَّرْ نِكَاحِهَا بِالْمَوْتِ وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ عَلَى الَّتِي لَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرًا فَيَسْقُطُ جَمِيعُ مَهْرِهَا فَمَهْرٌ وَاحِدٌ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ الْوَاجِبُ مَهْرًا وَرُبْعَ مَهْرٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لَهُمَا مِنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُجَامِعُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ مَعْرُوفَةً فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنْ كَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ وَقَعَ عَلَى صَاحِبَتِهَا فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ فَأَعْطَيْنَاهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ وَلِلْأُخْرَى نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنْ وَقَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَقَعَ عَلَيْهَا كَانَ لَهَا جَمِيعُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَأَعْطَيْنَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنْ وَقَعَ عَلَيْهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمُتْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمُتْعَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُجَامِعُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا خَلَفٌ عَنْهُ وَقَدْ اسْتَحَقَّتْ نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُتْعَةِ. وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا فَلَا يُجَامِعُهَا بَدَلٌ آخَرُ كَقِيمَةِ الْمَبِيعِ إذَا وَجَبَتْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ مَعَهُ بَدَلٌ آخَرُ كَذَا هُنَا (قَالَ)، وَإِذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مَهْرَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَبَضَتْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا بِنِصْفِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 بِالْهِبَةِ اسْتَهْلَكَتْ الصَّدَاقَ فَكَأَنَّهَا قَبَضَتْهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَتْهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ سَلَامَةُ نِصْفِ الصَّدَاقِ لَهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا آخَرَ عِنْدَ الطَّلَاقِ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَهُ لَمْ يَجِبْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ شَيْءٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِمَقَاصِدِهَا فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا حَاصِلًا فَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وُهِبَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ الْقِيَاسُ أَنَّ هَذَا وَهِبَتُهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ فَعِنْدَ الطَّلَاقِ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ مَقْصُودُ الزَّوْجِ قَدْ حَصَلَ بِعَوْدِ الصَّدَاقِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وُهِبَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ هُنَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَقْبُوضِ وَلَكِنَّ الْخِيَارَ إلَيْهَا تُعْطِيهِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَتْ فَهِبَتُهَا هَذَا الْمَقْبُوضَ مِنْهُ كَهِبَتِهَا مَالًا آخَرَ، وَفِي الْأَوَّلِ حَقُّ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ عَادَتْ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ وَحُكِيَ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فَقَبَضَتْهَا ثُمَّ وُهِبَتْهَا مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ النُّفُوذَ فِي الْعُقُودِ يَتَعَيَّنُ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ زُفَرَ إحْدَاهُمَا مِثْلُ جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَخْرُجُ هَذَا عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ. (قَالَ) وَلَوْ قَبَضَتْ مِنْهُ النِّصْفَ وَوَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى - صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هِبَةَ نِصْفِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَطٌّ مِنْهُ وَالْحَطُّ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَخْرُجُ بِهِ الْمَحْطُوطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا بَقِيَ وَقَبَضَتْ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ فِيمَا وَهَبَتْ، وَفِيمَا قَبَضَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَوْ قَبَضَتْ النِّصْفَ وَلَمْ تَهَبْ مِنْهُ الْبَاقِيَ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْهِبَةِ إنَّمَا يَرْجِعُ بِسَبَبِ الْهِبَةِ وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فِيمَا تَبَرَّعَ بِهِ وَلِأَنَّ مِلْكَهَا فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ قَوِيٌّ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ الْمَقْبُوضُ مِمَّا قَوَّى مِلْكَهَا فِيهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ مُقَرِّرٌ لِلْمِلْكِ. وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ مِلْكُهَا فِي الْمَقْبُوضِ إذَا تَعَيَّنَ فِيهِ النِّصْفُ الَّذِي سَلِمَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَهَبَتْ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ سَلِمَ لَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ مَجَّانًا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبَضَتْ سِتَّمِائَةٍ وَوَهَبْت لَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمِائَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي كَانَ يَسْلَمُ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ سَلِمَ لَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ مَجَّانًا لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنَّمَا بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ. وَعِنْدَهُمَا يَرْجِع عَلَيْهَا بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ. (قَالَ) وَلَوْ قَبَضَتْ الصَّدَاقَ كُلَّهُ وَوَهَبَتْهُ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ وُهِبَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ سَلَامَةُ نِصْفِ الصَّدَاقِ لَهُ مِنْ جِهَتِهَا عِنْدَ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا سَلِمَ لَهُ مَالٌ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِالْهِبَةِ وَتَبَدُّلِ الْمَالِكِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ فَكَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لِلصَّدَاقِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بَاعَتْ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَحْصُلْ فَإِنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ بِبَدَلِ عَقْدِ ضَمَانٍ (قَالَ) وَلَوْ وَهَبَتْ الصَّدَاقَ لِأَجْنَبِيٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَبَضَ الْأَجْنَبِيُّ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَجْنَبِيِّ بِتَسْلِيطِهَا كَقَبْضِهَا بِنَفْسِهَا. (قَالَ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَقُضِيَ لِلزَّوْجِ بِنِصْفِهِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى اعْوَرَّ أَخَذَ نِصْفَهُ وَضَمَّنَهَا نِصْفَ الْعَوَرِ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْمِلْكُ فِي النِّصْفِ إلَيْهِ، وَهُوَ مِلْكٌ مَضْمُونٌ لَهُ فِي يَدِهَا فَكَانَ كَالْمَغْصُوبِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَطَلَّقَهَا فَلَمْ تَقْبِضْ نِصْفَهُ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَاحِشٌ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ نِصْفَهُ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَتْ ضَمَّنَتْ الزَّوْجَ نِصْفَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا لِأَنَّ مِلْكَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ كَمِلْكِهَا فِي جَمِيعِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى تَعَيَّبَ فِي يَدِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْكُلَّ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَتْ ضَمَّنَتْهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ فِي النِّصْفِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الزَّوْجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ جَازَ عِتْقُهُ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ عَادَ الْمِلْكُ فِي نِصْفِهِ إلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَهُوَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَوَاحِدَةٌ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُنَّ بِوَاحِدَةٍ ثُمَّ مَاتَ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ بِأَنْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مَعَ الثَّلَاثِ فَيَجِبُ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ثُمَّ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ مَهْرٍ وَأَقَلُّ مَالِهِنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَيَجِبُ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ثُمَّ يَسْقُطُ نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ فَقَدْرُ مَهْرَيْنِ وَنِصْفٌ لَهُنَّ بِيَقِينٍ، وَمَهْرٌ وَاحِدٌ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ إلَّا سُدُسَ ثُمُنِ مَهْرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 لِأَنَّ نِكَاحَ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ بِيَقِينٍ. فَإِنْ صَحَّ مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ لِأَنَّ السَّاقِطَ بِالطَّلَاقِ نِصْفُ مَهْرٍ حِصَّتُهَا رُبْعُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُمُنُ الْمَهْرِ وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَهْرِ لِأَنَّ السَّاقِطَ بِالطَّلَاقِ نِصْفُ مَهْرِ حِصَّتِهَا مِنْ ذَلِكَ ثُلُثُ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَهُوَ سُدُسُ مَهْرٍ انْكَسَرَ الْمَهْرُ بِالْأَسْدَاسِ وَالْأَثْمَانِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ السِّتَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لَهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى سَبْعَةُ أَثْمَانٍ وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَمِقْدَارُ أَرْبَعِينَ لَهَا بِيَقِينٍ وَالسُّهْمَانُ تَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَتَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهَا وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ إلَّا سُدُسَ ثُمُنِ مَهْرٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَثُمُنَا مَهْرٍ وَنِصْفُ ثُمُنِ مَهْرٍ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ إنْ صَحَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ أَصَابَهُنَّ بِالطَّلَاقِ مِنْ الْحِرْمَانِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ النِّصْفِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ فَيَبْقَى لَهُنَّ مَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَثْمَانٍ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَهْرٌ وَثُمُنَا مَهْرٍ وَنِصْفُ ثُمُنِ مَهْرٍ وَلِلثِّنْتَيْنِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَهْرٍ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَقَدْ كَانَ لَهُمَا مَهْرَانِ وَأَصَابَهُمَا حِرْمَانُ ثُلُثَيْ النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ فَيَبْقَى لَهُمَا مَهْرٌ وَثُلُثَانِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَكَانَ لَهُمَا خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ لِلْوَاحِدَةِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِمَا لِلثَّلَاثِ مِنْ الْبَاقِي تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلثِّنْتَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَأَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ مَاتَ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ بِأَنْ كَانَ السَّابِقُ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ فَوَجَبَ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ثُمَّ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ نِصْفُ مَهْرٍ وَأَقَلُّ مَا لَهُنَّ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بِأَنْ كَانَ السَّابِقُ نِكَاحَ الثِّنْتَيْنِ فَوَجَبَ مَهْرَانِ ثُمَّ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ نِصْفُ مَهْرٍ فَمَهْرٌ وَنِصْفٌ لَهُنَّ بِيَقِينٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ مُهُورٍ وَنِصْفٍ وَذَلِكَ مَهْرَانِ يَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ فَأَمَّا مَهْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَا دَعْوَى فِيهِ لِلثِّنْتَيْنِ، وَالْفَرِيقَانِ الْآخَرَانِ يَدَّعِيَانِهِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ فِي مَهْرٍ وَنِصْفٍ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا فَيُسَلَّمُ لِلثِّنْتَيْنِ نِصْفُ مَهْرٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَلِلْأَرْبَعِ مَهْرٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَخْرِيجُهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 النِّكَاحِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ وَنِكَاحُهُنَّ يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَهْرٌ وَسُدُسُ مَهْرٍ وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ وَنِكَاحُهُنَّ يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَهْرٍ وَالثِّنْتَانِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَنِكَاحُهُمَا صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرٍ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثُهُ رُبْعًا كَانَ أَوْ ثُمُنًا لِأَنَّ حَالَهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِامْرَأَتَيْنِ لَا يُعْرَفَانِ بِأَعْيَانِهِمَا ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ وَاحِدَةً وَطَلَّقَ الْأُخْرَى مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعْنَاهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ ثُمَّ مَاتَ كَانَ لِلْمَرْأَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ وَإِقْدَامُهُ عَلَى النِّكَاحِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِفَسَادِ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَبَعْدَ مَا صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مِنْهُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ فَاسِدٌ وَالْبَيَانُ يَكُونُ تَارَةً بِالنَّصِّ وَتَارَةً يَكُونُ بِالدَّلِيلِ فَلَا مَهْرَ لِلْأَرْبَعِ وَلَا مِيرَاثَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ وَلِلْوَاحِدَةِ جَمِيعُ مَهْرِهَا لِأَنَّهُ مَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهَا، وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ كَانَ لَهَا أَرْبَعَةٌ وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ كَانَ لَهَا سِتَّةٌ فَلِهَذَا أَعْطَيْنَاهَا خَمْسَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلثَّلَاثِ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا الْمَهْرِ ثَمَانِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ وَلِلثِّنْتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا سِتَّةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِثَلَاثٍ مَهْرٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَعَلَى الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ عِدَّةُ النِّسَاءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِتَوَهُّمِ الدُّخُولِ وَالطَّلَاقِ بَعْدَهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَهَذَا الْجَوَابُ كُلُّهُ غَلَطٌ غَيْرُ صَحِيحٍ أَمَّا فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ فَجَوَابُهُ فِي الْمِيرَاثِ غَلَطٌ لِأَنَّ نِكَاحَهَا إنْ صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقَانِ عَلَى الثِّنْتَيْنِ وَهُمَا مُتَعَيِّنَتَانِ وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا فَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْوَاحِدَةِ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ نِكَاحُ الثَّلَاثِ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ فَمِقْدَارُ الثَّلَاثِ لَهَا بِيَقِينٍ وَالثُّلُثَانِ ثَابِتَانِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 الْمِيرَاثِ، وَفِي الثَّلَاثِ جَوَابُهُ كَذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ صَحِيحٌ، وَفِي الْمَهْرِ غَلَطٌ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَهْرِ فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَقَدْ تَقَرَّرَ مَهْرَانِ بِالدُّخُولِ لِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ وَالثَّالِثَةُ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَلَهَا نِصْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ فَجُمْلَةُ مَا لَهُنَّ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ مَهْرَانِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَهْرٌ وَثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ لَا مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَفِي حَقِّ الثِّنْتَيْنِ جَوَابُهُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرِ جَمِيعًا غَلَطٌ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا فَإِنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، وَفِي الْمَهْرِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ لَا مَهْرٌ وَنِصْفٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ غَيْرُ سَدِيدٍ. (قَالَ) وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ شَيْئًا وَكَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أُمَّ إحْدَى الْأَرْبَعِ وَالْحَالُ عَلَى مَا وَصَفْت لَك فَإِنَّ الْأُمَّ وَالْبِنْتَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ مَهْرٍ وَلَا مِيرَاثٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي مَعَهَا نِكَاحُهُنَّ وَنِكَاحُهَا جَائِزٌ أَوْ فَاسِدٌ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ؛ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءً. (قَالَ) وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَى الثَّلَاثِ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ هُنَّ الْأُوَلُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ إحْدَاهُنَّ أَوْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُنَّ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ صَحِيحٌ فَهَذَا وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَيَانِ سَوَاءٌ ثُمَّ تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَمَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَا مِنْ الْمَهْرِ شَيْءٌ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِفَسَادِ نِكَاحِهَا إمَّا بِتَأَخُّرِ الْعَقْدِ أَوْ بِالضَّمِّ إلَى الْحَرَائِرِ، فَإِذَا فَسَدَ نِكَاحُهَا بَقِيَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ، فَإِنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَوَجَبَ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ثُمَّ سَقَطَ نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ. وَأَقَلُّ مَا لَهُنَّ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ فَقَدْرُ مَهْرٍ وَنِصْفٍ يَقِينٍ وَمَهْرٌ وَاحِدٌ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ لَا مُنَازَعَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِيهِ لِيَكُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فِي مَهْرٍ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا تَخْرِيجُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حِدَةٍ وَيَتَّضِحُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ مِمَّا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ مُحْتَمِلٍ لِمَعَانٍ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ مَحْمُولٌ عَلَى مُرَادِهِ وَمُرَادُهُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَإِنَّهُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ عَلَيْهِ وَحُرْمَتُهَا عَلَيْهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الطَّلَاقِ ثُمَّ إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ فَقَدْ نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْحُرْمَةِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ نَوَى الْحُرْمَةَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّطْلِيقَةِ الْبَائِنَةِ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِبَانَةَ وَإِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَلَا عَدَدٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اثْنَتَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَلِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ بَعْضُ الثَّلَاثِ فَإِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَنِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ يَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ فِي حَقِّهَا بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ فِيهِ عَدَدٌ وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا احْتِمَالُ التَّعَدُّدِ وَالنِّيَّةُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ لَا تَعْمَلُ. فَأَمَّا صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَوَى حُرْمَةً وَهِيَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ حُرْمَةٌ لَا تَثْبُتُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِالْوَاحِدَةِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ الثِّنْتَيْنِ فِي حَقِّهَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى اثْنَتَيْنِ حَيْثُ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ لَا تَحْصُلُ بِهِمَا بَلْ بِهِمَا وَبِمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ هَذَا مُجَرَّدَ نِيَّةِ الْعَدَدِ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ قَدْ صَحَّتْ فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ وَلَكِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [التحريم: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ «كَانَ حَرَّمَ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ عَلَى نَفْسِهِ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ» وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرِيبًا مِنْهُ وَعَنْ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَكِنْ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ خَاصَّةً وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالطَّلَاقِ وَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ فَكَانَ يَمِينًا إنْ قَرْبَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِلْحِنْثِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ فَهُوَ وَنِيَّةُ الْيَمِينِ سَوَاءٌ وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَهُوَ كَذِبٌ لَا حُكْمَ لَهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ كَذِبٌ فَإِنَّهُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ قَالُوا هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَلَا يُدَيَّنُ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَمَلِ بِهِ شَرْعًا فَلَا يُلْغَى مَعَ إمْكَانِ الْإِعْمَالِ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْكَذِبِ إلْغَاؤُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا لَوْ قَالَ نَوَيْت بِهِ الظِّهَارَ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ كَمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ مَا نَوَى مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فَبِدُونِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ الْكَافُ لَا يَثْبُتُ الظِّهَارُ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ مِنْ الْكِنَايَاتِ وَهِيَ ثَلَاثٌ لَا يُدَيَّنُ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ. وَالْحُرْمَةُ لَا تَثْبُتُ صِفَةً لِلْمَحَلِّ إلَّا بِزَوَالِ صِفَةِ الْحِلِّ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَصِفَةُ الْحِلِّ لَا تَزُولُ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُوجِبًا لِهَذَا اللَّفْظِ حَقِيقَةً فَلَا يُدَيَّنُ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ وَالْحُرْمَةُ أَنْوَاعٌ، وَلَهَا أَسْبَابٌ فَإِذَا نَوَى نَوْعًا أَوْ سَبَبًا كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِذَا نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ وَلَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِهَا فَإِذَا لَمْ يَنْوِ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَاصَّةً، وَفِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا يَفْرُغُ مِنْ يَمِينِهِ يَحْنَثُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّ فَتَحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْقُعُودَ وَالْقِيَامَ حِلٌّ دَاخِلٌ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ فَكَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ عَقِيبَ التَّحْرِيمِ مَوْجُودًا وَلَكِنَّا نَقُولُ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْعُمُومَ لِأَنَّ الْبِرَّ مَقْصُودُ الْحَالِفِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلْبِرِّ إذَا حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعُمُومِ فِيهِ حُمِلَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا لِأَنَّ إدْخَالَهَا بِدُونِ النِّيَّةِ لِمُرَاعَاةِ الْعُمُومِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ. وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 قُصِدَتْ بِالتَّحْرِيمِ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ فَإِنْ نَوَاهَا دَخَلَتْ فِيهِ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَرُبَ امْرَأَتَهُ حَنِثَ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا يُدَيَّنُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِذَا حَنِثَ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَزِمَتْهُ وَارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالْيَمِينِ أَدْنَى الْحُرُمَاتِ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعِنْدَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ فَلَا يَسَعُ فِيهِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالطَّلَاقُ غَيْرُ الْيَمِينِ فَإِذَا عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِي الطَّلَاقِ سَقَطَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْيَمِينِ. وَعَلَى هَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي فِي إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ، وَفِي الْأُخْرَى الْيَمِينَ أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا فِيهِمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى فِي إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ ثَلَاثًا، وَفِي الْأُخْرَى وَاحِدَةً يَكُونُ ثَلَاثًا فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَهُوَ كَذِبٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَدْ حَرَّمْتُك عَلَيَّ أَوْ قَدْ حَرَّمْتُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي عَلَيْك أَوْ أَنَا عَلَيْك مُحَرَّمٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ مُحَرَّمَةٌ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي الْحَرَامِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَى نَفْسِهِ كَمَا يَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَيْهَا وَذِكْرُ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ حَرَّمْتُك بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْوَصْفِ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ إلَّا بِفِعْلِهِ. . وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الْإِيلَاءَ فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ مَا وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنَّ مَتَاعَ فُلَانٍ لَيْسَ عَيْنُهُ بِحَرَامٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ لَا يَحِلُّ لِحَقِّ الْمَالِكِ لَا لِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ مُحْتَرَمًا بِأَنْ كَانَ حَرْبِيًّا كَانَ تَنَاوُلُهُ مُبَاحًا. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَالدَّمِ أَوْ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْخَمْرِ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمِ الْعَيْنِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] الْآيَةَ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِهَا عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ فَصْلُ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ لَوْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَوْ شَبَّهَهَا بِأُمِّهِ يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْأُمَّ تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُحْتَمَلٍ فَالْبَيْنُونَةُ تَارَةً تَكُونُ مِنْ الْمَنْزِلِ وَتَارَةً تَكُونُ فِي الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ وَتَارَةً مِنْ النِّكَاحِ وَاللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 يَتَعَيَّنُ فِيهِ بَعْضُ الْجِهَاتِ بِدُونِ النِّيَّةِ أَوْ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَنَّ بِدُونِ النِّيَّةِ مَعْنَى الطَّلَاقِ مَشْكُوكٌ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَنْزِلُ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ كَمَا نَوَى إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّهُ نَوَى أَتَمَّ أَنْوَاعِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّ الْبَيْنُونَةَ تَارَةٌ تَكُونُ مَعَ احْتِمَالِ الْوَصْلِ عَقِيبَهُ وَتَارَةٌ تَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْلَ عَقِيبَهُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَعَمِلَتْ نِيَّتَهُ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْكَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ نَوَى الطَّلَاقَ فَقَطْ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ يُشْبِهُ الْفُرْقَةَ إذَا أُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَقَدْ خَلَّيْت سَبِيلَك وَلَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَالْحَقِي بِأَهْلِك وَاخْرُجِي وَاسْتَتِرِي وَتَقَنَّعِي وَقَدْ وَهَبْتُك لِأَهْلِك إنْ قَبِلُوهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَقَدْ أَبَنْت نَفْسَك مِنِّي أَوْ أَبَنْت نَفْسِي مِنْك فَالْجَوَابُ فِي كُلِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك أَنَّهُ طَلَاقٌ إذَا نَوَى وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ احْتِمَالُ مَعْنَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنَّ مَنْ سَيَّبَ نَاقَتَهُ يَجْعَلُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا، وَفِي قَوْلِهِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْمِلْكِ، وَفِي قَوْلِهِ الْحَقِي بِأَهْلِك إلْزَامُهَا الِالْتِحَاقَ بِأَهْلِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلِهِ اُخْرُجِي وَاسْتَتِرِي وَتَقَنَّعِي إلْزَامُهَا مَا صَرَّحَ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ هِبَتُهَا لِأَهْلِهَا تَكُونُ أَمْرًا بِالِالْتِحَاقِ بِهِمْ بِإِزَالَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ عَنْهَا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا كَلَفْظَةِ الْبَيْنُونَةِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتٍ وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّ عِنْدَنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَعْمَلُ فِي حَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا وَلِهَذَا يَقَعُ بِهِ التَّطْلِيقَةُ الْبَائِنَةُ. وَالْكِنَايَةُ مَا يُسْتَعَارُ لِشَيْءٍ آخَرَ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْأَصْلُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَةً عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ رَجْعِيًّا وَكَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلَامٍ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ مِمَّا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ ثُمَّ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُ إزَالَةَ الْمِلْكِ بَعْدَ الدُّخُولِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ إلَّا بِاشْتِرَاطِ الْبَدَلِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ وَعِنْدَنَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ كَإِيقَاعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا تَقَعُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَعِنْدَهُ تَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَاسْتَدَلَّ فَقَالَ إنَّ خِيَارَ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ثَابِتٌ شَرْعًا فِي الْعِدَّةِ لَا بِإِيجَابٍ مِنْ الزَّوْجِ فَلَا تَصَرُّفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 لَهُ فِي إسْقَاطِهِ شَرْعًا، وَفِي وَصْفِ التَّطْلِيقَةِ بِالْبَيْنُونَةِ إسْقَاطُ خِيَارِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الرَّجْعَةِ فَهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ إزَالَةَ مِلْكِ النِّكَاحِ مُعْتَبَرٌ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ تَارَةً يَكُونُ بِالْمُعَاوَضَةِ فَيَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِجِهَةِ التَّبَرُّعِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَرَادَ تَغْيِيرَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَالَ وَهَبْتُ مِنْكِ هِبَةً تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ كَانَ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ تَارَةً يَكُونُ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْخُلْعُ فَيَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ بِتَنْصِيصِهِ لِأَنَّ هَذَا التَّنْصِيصَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ دُونَ لَفْظِ الصَّرِيحِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَعْمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ. فَإِذَا كَانَ الصَّرِيحُ الَّذِي هُوَ أَقْوَى لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ فَهَذَا أَوْلَى وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَةٌ عَنْ الطَّلَاقِ غَيْرُ عَامِلَةٍ بِحَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا فَإِنَّ حَقِيقَةَ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْحُرْمَةُ الَّتِي تَثْبُتُ بِالطَّلَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إيقَاعَ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ تَصَرُّفٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا كَإِيقَاعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالنِّكَاحِ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ، وَمَا صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا لِحَاجَتِهِ إلَى التَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ إزَالَةُ الْمِلْكِ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ وَبِالدُّخُولِ يَتَأَكَّدُ لَهُ مِلْكُهُ فَلَا يَبْطُلُ مَا كَانَ ثَابِتًا لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ وِلَايَةِ الْإِزَالَةِ وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَانَةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَكَانَ وَصْفُهُ الطَّلَاقَ الَّذِي أَوْقَعَ بِالْبَيْنُونَةِ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ مَا أَمْكَنَ وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَزُولَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ بَعْدَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى صَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يُجَامِعُ النِّكَاحَ أَلَا تَرَى أَنَّهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ وَمَنْكُوحَةٌ وَلَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُبَانَةٌ وَمَنْكُوحَةٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ الْمُبِينَ وَغَيْرَ الْمُبِينِ فَكَانَ قَوْلُهُ بَائِنًا لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ كَمَا نَقُولُ النَّاسُ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَإِذَا قَالَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْت يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ وَالْبَيْعَ الْبَاتَّ فَإِذَا قَالَ بَيْعًا بَاتًّا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ لِضَعْفِهَا فِي نَفْسِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 حَتَّى تَتَأَيَّدَ بِمَا يُقَوِّيهَا، وَهُوَ الْقَبْضُ وَبِشَرْطِهَا لَا تَتَقَوَّى. وَهُنَا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ لَا لِضَعْفِهِ لِأَنَّهُ قَوِيٌّ لَازِمٌ بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ فَإِذَا قَالَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَ صَرَّحَ بِمَا هُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَعْمَلُ فِي حَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا فَإِنَّ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ تَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُؤَبَّدَةً عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ كَمَا أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالطَّلَاقِ يَثْبُتُ مُؤَبَّدًا وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بَعْدَهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ مُوجِبِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ إلَّا بِالطَّلَاقِ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ إعْمَالُ نِيَّتِهِ فِي الطَّلَاقِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى إزَالَةُ الْمِلْكِ فَإِنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ وَحُرِّيَّتُهَا عَنْهُ تَكُونُ بِإِزَالَتِهِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ اعْتَدِّي فَهَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةٌ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اعْتَدِّي نِعَمَ اللَّهِ أَوْ نِعَمِي عَلَيْك أَوْ اعْتَدِّي مِنْ النِّكَاحِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْحِسَابِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةُ تُجَامِعُ النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ عِدَّتِهَا مِنْ النِّكَاحِ تَقَدُّمُ الطَّلَاقِ فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ فِي كَلَامِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ طَلَّقْتُك فَاعْتَدِّي، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ عَامِلٍ فِي حَقِيقَتِهِ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ فِيهِ مُضْمَرٌ يَظْهَرُ عِنْدَ نِيَّتِهِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَوْدَةِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا اعْتَدِّي»، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ اعْتَدِّي لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاحِدَةً نَعْتًا لَهَا أَيْ وَاحِدَةً عِنْدَ قَوْمِك أَوْ مُنْفَرِدَةً عِنْدِي لَيْسَ مَعَكِ غَيْرُكِ أَوْ وَاحِدَةَ نِسَاءِ الْعَالَمِ فِي الْجَمَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِتَطْلِيقَةٍ أَيْ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا نَوَى يَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَا هُوَ الْمُضْمَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدَةً نَعْتٌ لَهَا وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَالِ مَعْنَى الطَّلَاقِ أَصْلًا وَلَكِنَّا نَقُولُ كَلَامُ الْعَاقِلِ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا هُوَ مُفِيدٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ النِّكَاحِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ وَلَا يُذْكَرُ لَفْظُ الطَّلَاقِ إلَّا مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِهِنَّ الْإِطْلَاقُ وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ النِّكَاحُ فَتَعَيَّنَ الطَّلَاقُ عَنْ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 مُشْتَقًّا مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالنِّسَاءِ وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ عِنْدَنَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ مَا نَوَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنْ الْكِنَايَةِ فَإِذَا صَحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ فَلَأَنْ يَصِحَّ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ مُحْتَمِلٌ لِلْعَدَدِ حَتَّى يُفَسَّرَ بِهِ فَتَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ وَإِذَا قِيلَ إنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَصِحُّ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ الْعَدَدِ، فَيُقَالُ كَمْ طَلَّقَهَا؟ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَيْ طَالِقٌ طَلَاقًا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا وَنَوَى الثَّلَاثَ يَصِحُّ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ طَلَّقْتُكِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ «ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا» وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ إنَّك أَرَدْت الثَّلَاثَ أَمْ لَا وَلَمْ يُحَلِّفْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تِسْعًا فِي هَذَا اللَّفْظِ لَحَلَّفَهُ كَمَا حَلَّفَ ابْنَ رُكَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي لَفْظِ الْبَتَّةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا حُجِّي أَوْ زُورِي أَبَاك أَوْ اسْقِينِي مَاءً مِنْ خَارِجٍ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ اللَّفْظِ وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ نَعْتُ فَرْدٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمَثْنَى طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقُ فَيَكُونُ نَعْتًا لِلنِّسَاءِ لَا لِلطَّلَاقِ وَقَوْلُهُ طَلَّقْتُكِ فِعْلٌ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ كَقَوْلِهِ قُمْتُ وَقَعَدْتُ، وَأَحَدٌ لَا يُخَالِفُ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ عِنْدَهُ بِمَا قَالَ إنَّهَا لَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا الطَّلَاقَ، وَلَكِنْ هَذَا ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ حَتَّى لَوْ صَحَّ بِدُونِ الْمُقْتَضَى لَا يَثْبُتُ الْمُقْتَضَى وَيَصِحُّ بِدُونِ صِفَةِ الْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضَى، وَلِأَنَّ ذِكْرَ النَّعْتِ يَقْتَضِي وَصْفًا ثَابِتًا لِلْمَوْصُوفِ لُغَةً فَأَمَّا الْوَصْفُ الثَّابِتُ لِلْوَاصِفِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ يَكُونُ ثَابِتًا شَرْعًا لَا لُغَةً، وَالطَّلَاقُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْإِيقَاعِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُك فَإِنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِهِ، وَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِمَعْنَى الْعَدَدِ وَلَا لِمَعْنَى الْعُمُومِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّ نِيَّةَ الْعَدَدِ لَا تَعْمَلُ هُنَاكَ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ. وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ، وَالتَّفْوِيضُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَالْمُفَوَّضُ إلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ طَلَاقٌ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي هَذَا اللَّفْظِ لُغَةً وَالطَّلَاقُ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الْعُمُومِ، وَلَسْنَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ ثَلَاثًا أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ حَرْفِ الْخَافِضِ عَنْهُ مَعْنَاهُ بِثَلَاثٍ كَقَوْلِهِ {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَعْنَاهُ طَلَاقٌ ثَلَاثًا، وَبِأَنْ صَحَّ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ الْعَدَدِ فِي الْحِكَايَةِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ كَمَا يَصِحُّ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ الشَّرْطِ وَالْبَدَلِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَعْمَلُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُذْكَرُ لِتَأْكِيدِ الْكَلَامِ يُقَالُ أَكَلْت أَكْلًا وَقُمْت قِيَامًا فَلَا تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ثُمَّ وَلَئِنْ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَلَا تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14]، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُضَارِعُ الِاسْمَ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ سَوَاءً، وَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مُحْتَمِلٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فِيمَا لَا مَعْهُودَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ الطَّلَاقُ فَمَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ حَتَّى تَسَعَ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ يُقَالُ إنَّمَا هُوَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ عَلَى سَبِيلِ النَّعْتِ لِلْمُقْبِلِ وَالْمُدْبِرِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ الطَّلَاقُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْكِسَائِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعَثَ إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفَتْوَى فَدَفَعَهَا إلَيَّ فَقَرَأْتهَا عَلَيْهِ مَا قَوْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ فِيمَنْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ ... وَإِنْ تَخْرِقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ... ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرِقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ كَمْ يَقَعُ عَلَيْهَا. فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ إنْ قَالَ ثَلَاثٌ مَرْفُوعًا تَقَعُ وَاحِدَةً وَإِنْ قَالَ ثَلَاثًا مَنْصُوبًا يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَهُ مَرْفُوعًا كَانَ ابْتِدَاءً فَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَتَقَعُ وَاحِدَةً وَإِنْ قَالَ ثَلَاثًا مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى التَّفْسِيرِ يَقَعُ بِهِ ثَلَاثٌ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ سَرَّحْتُك أَوْ فَارَقْتُك وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقَعُ الطَّلَاقُ وَهُمَا صَرِيحٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ بِهِمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَسَرِّحُوهُنَّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الصَّرِيحُ مَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْإِضَافَةِ إلَى النِّسَاءِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ غَرِيمِي أَوْ صَدِيقِي فَهُمَا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ اذْهَبِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الذَّهَابُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي ثَوْبَك، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ عَامِلَةٌ فِي قَوْلِهِ اذْهَبِي، وَقَوْلُهُ بِيعِي ثَوْبَك مَشُورَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَعْنَى كَلَامِهِ اذْهَبِي لِتَبِيعِي ثَوْبَك فَكَانَ مُصَرِّحًا بِخِلَافِ الْمَنْوِيِّ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الْوُقُوعَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا مِنْك بَائِنٌ، أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَقَعُ وَلَفْظُ الصَّرِيحِ أَقْوَى مِنْ لَفْظِ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى سُمِّيَا مُتَنَاكِحَيْنِ وَيُبْتَدَأُ فِي النِّكَاحِ بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَنْتَهِي النِّكَاحُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَمَحَلُّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمَرْأَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا كَمَا فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا لَوْ كَانَ إلَيَّ مَا إلَيْك لَرَأَيْتَ مَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ جَعَلْتُ إلَيْكِ مَا إلَيَّ فَقَالَتْ طَلَّقْتُكَ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ فَضَّ اللَّهُ فَاهَا هَلَّا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي مِنْك، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ فَقَالَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَكُونُ طَالِقًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَمَعْنَى الطَّلَاقِ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَالْإِرْسَالُ وَقَيْدُ الْمِلْكِ فِي جَانِبِهَا لَا فِي جَانِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهِ وَالزَّوْجُ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِرْسَالُ فِي جَانِبِهِ، وَلِهَذَا يَكُونُ الْوُقُوعُ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هُوَ مُطَلِّقٌ لَهَا كَمَا يَكُونُ الْمَوْلَى مُعْتِقًا لِعَبْدِهِ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ أَنَا حُرٌّ مِنْك لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَبِهِ فَارَقَ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ لِأَنَّ الْبَيُونَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ، وَالْوَصْلَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ بَانَتْ عَنْهُ وَبَانَ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحُرْمَةِ يُقَالُ حُرِّمَ عَلَيْهَا وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَعْمَلْ بِحَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا وَاَلَّذِي يَقُولُ الْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ بَلْ الْمِلْكُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا خَاصَّةً حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ الْكِتَابِيَّةَ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكِتَابِيُّ الْمُسْلِمَةَ، وَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَوْلَى أَنْ نَقُولَ مَا ثَبَتَ لَهَا بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 لَا يَقْبَلُ الطَّلَاقَ وَمَا ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْحِلِّ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْبَدَلُ وَالطَّلَاقُ مَشْرُوعٌ لِرَفْعِهِ وَإِنَّمَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ عَنْ الْمَحَلِّ الْوَارِدِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ الْمِلْكُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي جَانِبِهَا تَبَعٌ لِلْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ، وَمَا يَكُونُ تَبَعًا فِي النِّكَاحِ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ عِنْدَنَا كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي قَوْلِهِ يَدُك طَالِقٌ وَرِجْلُك طَالِقٌ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِذَا نَوَى تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلْبَتَّةَ نَعْتٌ لِلطَّلَاقِ أَيْ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ فَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ بَائِنَتَيْنِ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَتَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى بِلَفْظَةِ أَلْبَتَّةَ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَلَوْ قَالَ عَنَيْتُ بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي أَلْبَتَّةَ اثْنَتَيْنِ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْعَدَدِ لَا تَسَعُ فِي لَفْظِ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلَامٍ يُشْبِهُ الطَّلَاقَ ضَمَّهُ إلَى الطَّلَاقِ إلَّا قَوْلَهُ اعْتَدِّي فَإِنَّهُ رَجْعِيٌّ لَا تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ بِإِضْمَارِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِمَّا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي وَقَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ إذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْ ضَمِيرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ ابْنَ رُكَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي لَفْظِ أَلْبَتَّةَ» لَمَّا كَانَ الثَّلَاثُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ. وَلَوْ قَالَ اعْتَدِّي فَاعْتَدِّي أَوْ قَالَ اعْتَدِّي وَاعْتَدِّي أَوْ قَالَ اعْتَدِّي اعْتَدِّي وَقَالَ نَوَيْت الطَّلَاقَ فَهِيَ تَطْلِيقَتَانِ فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ عَنَيْتُ وَاحِدَةً دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الْقَضَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ فَاعْتَدِّي كَذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ وَاعْتَدِّي أَوْ اعْتَدِّي تَطْلِيقَتَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ كَرَّرَ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلزِّيَادَةِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْفَاءُ لِلْوَصْلِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فَاعْتَدِّي بِذَلِكَ الْإِيقَاعِ لَا إيقَاعًا آخَرَ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَمُوجِبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فَيَكُونُ الثَّانِي إيقَاعًا كَالْأَوَّلِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ نِيَّةِ الْإِيقَاعِ كَالصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ فَطَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ طَالِقٌ كَانَ تَطْلِيقَتَيْنِ فَكَذَلِكَ هُنَا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي، وَهُوَ يَنْوِي تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِهِنَّ جَمِيعًا فَهُوَ كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 إيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ تَكْرَارُ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ إذَا سَمِعَتْ ذَلِكَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ كَالْقَاضِي، وَلَوْ قَالَ نَوَيْت بِالْأُولَى الطَّلَاقَ وَبِالْآخِرَتَيْنِ الْعِدَّةَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِدَادِ يَسْتَقِيمُ بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَةِ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِي الْحَاصِلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فَاعْتَدِّي وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ فَاعْتَدِّي الْعِدَّةَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِدَادِ مُسْتَقِيمٌ بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ أَرَادَ تَطْلِيقَةً أُخْرَى أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ أُخْرَى لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بَعْدَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّ نِيَّةَ الْعَدَدِ لَا تَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاعْتَدِّي (قَالَ) وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي فَقَالَ اعْتَدِّي ثُمَّ قَالَ لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ قَبْلَ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ لَمْ يُعْمَلْ إلَّا بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِهَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَفْظُ الزَّوْجِ وَلَفْظُهُ لَا يَخْتَلِفُ بِسُؤَالِهَا وَعَدَمِ سُؤَالِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اعْتَدِّي نِعْمَتِي عَلَيْك وَلَا تَشْتَغِلِي بِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا الطَّلَاقُ عَادَةً وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، ثُمَّ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَدْحًا، وَقَدْ يَكُونُ ذَمًّا، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْمُقَدِّمَةِ. وَدَلَالَةِ الْحَالِ فَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ دَلَالَةُ الْحَالِ لَا يَتَمَيَّزُ الْمَدْحُ مِنْ الذَّمِّ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ حَالُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَحَالُ الْغَضَبِ وَحَالُ الرِّضَا فَأَمَّا فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَابِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي سُؤَالِهَا وَيَكُونُ مَا تَقَدَّمَ فِي السُّؤَالِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا يُدَيَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ اعْتَدِّي وَاخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَحْتَمِلُ مَعْنَى السَّبِّ وَالْإِيعَادِ وَعِنْدَ الْغَضَبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ السَّبَّ أَوْ الطَّلَاقَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالُ مَعْنَى السَّبِّ تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ مُرَادًا بِهِ، وَفِي خَمْسَةِ أَلْفَاظٍ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ بَائِنٌ حَرَامٌ بَتَّةٌ خَلِيَّةٌ بَرِّيَّةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ مَعْنَى السَّبِّ أَيْ أَنْتِ بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ بَرِّيَّةٌ مِنْ الْإِسْلَامِ خَلِيَّةٌ مِنْ الْخَيْرِ حَرَامُ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ بَتَّةٌ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ مُرَادًا بِهِ. فَإِذَا قَالَ أَرَدْت السَّبَّ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 مَدِينًا فِي الْقَضَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ أُخَرُ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ فَارَقْتُكِ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ مَعْنَى السَّبِّ أَيْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنَّك أَدْوَنُ مِنْ أَنْ تُمْلَكِي لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِشَرِّك وَسُوءِ خُلُقِك وَفَارَقْتُك اتِّقَاءً لِشَرِّك وَخَلَّيْت سَبِيلَك لِهَوَانِك عَلَيَّ. وَأَمَّا فِي حَالَةِ الرِّضَا فَهُوَ مُدَيَّنٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ. (قَالَ)، وَإِذَا قَالَ لَهَا اعْتَدِّي ثَلَاثًا وَقَالَ نَوَيْت تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً تَعْتَدُّ لَهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الثَّلَاثَ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَعَدَدٌ لِأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ أَيْضًا وَالْعِدَّةُ فِي لَفْظِهِ وَالطَّلَاقُ فِي ضَمِيرِهِ. فَإِذَا صَلُحَ قَوْلُهُ ثَلَاثًا بَيَانًا لِمَا فِي ضَمِيرِهِ فَلَأَنْ يَصْلُحَ بَيَانًا لِمَا تَلَفَّظَ بِهِ أَوْلَى؛ فَلِهَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْقَضَاءِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهُوَ كَمَا وَصَفْتُ لَك فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ إذَا سُئِلَ الرَّجُلُ أَلَكَ امْرَأَةٌ فَقَالَ لَا فَإِنَّمَا هِيَ كِذْبَةٌ وَهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ نَفَى نِكَاحَهَا وَنَفْيُ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا بَلْ يَكُونُ كَذِبًا مِنْهُ لَمَّا كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومَةً كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ أَوْ مَا لِي امْرَأَةٌ، أَوْ قَالَ لَمْ أَتَزَوَّجْكِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَإِنْ نَوَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ قَوْلُهُ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ أَيْ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي فَارَقْتُك أَوْ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنَّك لَمْ تَكُونِي فِي نِكَاحِي وَمُوجِبُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ يَتَبَيَّنُ بِنِيَّتِهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ طَلَاقًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ تَعْمَلُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ. فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ فَيَمِينُهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَذَلِكَ يَمْنَعُ احْتِمَالَ مَعْنَى الطَّلَاقِ فِيهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَمْ أَتَزَوَّجْك فَهُوَ جُحُودٌ لِلنِّكَاحِ مِنْ الْأَصْلِ. وَالطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ، وَجُحُودُ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّصَرُّفِ فِيهِ. ، وَإِذَا قِيلَ أَلَكَ امْرَأَةٌ فَقَالَ لَا فَالسَّائِلُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ نِكَاحٍ مَاضٍ وَكَلَامُهُ جَوَابٌ فَيَكُونُ نَفْيًا لِلنِّكَاحِ فِي الْمَاضِي، وَهُوَ كَذِبٌ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَسْتُ. نَفْيٌ لِلنِّكَاحِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي فَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ مَا لِي امْرَأَةٌ فَحَرْفُ مَا لِلنَّفْيِ فِيمَا مَضَى فَهُوَ كَحَرْفِ إذْ لِلْمَاضِي وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك إذْ دَخَلْت الدَّارَ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَلَوْ قَالَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَدْخُلَ فَأَمَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 إذَا قَالَ لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَهُوَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي فَتَسَعُ فِيهِ نِيَّةَ الطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ طَالِقًا مِنْ الْوَثَاقِ أَوْ طَالِقًا مِنْ الْإِبِلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَكِنْ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْإِطْلَاقُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبِلِ وَالْوَثَاقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِبَارَةً عَنْهُ مَجَازًا فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ كَلَامَهُ مَوْصُولًا مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْبَيَانُ الْمُغَيِّرُ صَحِيحًا مَوْصُولًا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ. وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِقَوْلِي طَالِقًا مِنْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُنَاكَ لَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا إلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ مَوْصُولًا فَيَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ عَمَلِ كَذَا فَحِينَئِذٍ هِيَ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيَانٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَكُلُّ مَا لَا يُدَيِّنُهُ الْقَاضِي فِيهِ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا سَمِعَتْ مِنْهُ أَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَا عَدْلٍ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُدَيِّنَ الزَّوْجَ فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إلَّا الظَّاهِرَ كَالْقَاضِي. (قَالَ)، وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ وَهِيَ مِنْهُ بَائِنٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ وَصْفٌ وَلَكِنْ يُجْعَلُ إيقَاعًا لِيَتَحَقَّقَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِمَا يَقَعُ، وَالْوَصْفُ هُنَا مُتَحَقِّقٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ إيقَاعًا. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَعْمَلُ بِحَقَائِقِهَا مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَالْبَيْنُونَةِ بِهَا وَالثَّابِتُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَإِنَّمَا تَعْمَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ، أَوْ رَفْعِ النِّكَاحِ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ فِي عِدَّتِهَا وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نَجَّزَ قَوْلَهُ أَنْتِ بَائِنٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا كَمَا لَوْ نَجَّزَ الظِّهَارَ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارِي ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عَلَيْهَا كَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 لَوْ نَجَّزَ التَّخْيِيرَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ قَدْ صَحَّ وَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَنْزِلُ مَا تَعَلَّقَ كَمَا لَوْ وُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنَّمَا تُخَالِفُ الصَّرِيحَ فِي الْحَاجَةِ إلَى نِيَّةِ الْفُرْقَةِ أَوْ رَفْعِ النِّكَاحِ بِهَا وَالْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ النِّيَّةِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهَا. فَإِذَا كَانَ التَّلَفُّظُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ النِّيَّةُ، وَإِذَا كَانَ قَبْلَ الْبَيْنُونَةِ صَحَّتْ النِّيَّةُ وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ ثُمَّ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا كَلَفْظِ الصَّرِيحِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ إلَى وُجُودِ الْمَحَلِّ وَبِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ هِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَبِهِ فَارَقَ الظِّهَارَ فَإِنَّهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَمُوجِبُهُ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى التَّكْفِيرِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ هُنَاكَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لَا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ وَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى شَاهِدَيْ الِاخْتِيَارِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا فَأَمَّا هُنَا الْوُقُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالْيَمِينِ السَّابِقِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى شَاهِدَيْ الْيَمِينِ دُونَ شَاهِدَيْ الشَّرْطِ وَالْيَمِينُ قَدْ صَحَّتْ كَمَا قَرَّرْنَا (قَالَ) فِي الْكِتَابِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةُ الْإِيلَاءِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُخَالِفُ فِي هَذَا أَيْضًا وَلَكِنْ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ. وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا بَائِنُ يَعْنِي مِنْك وَلَمْ يَقُلْ مِنْك فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَإِنْ عَنَى بِهِ الطَّلَاقَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنَا حَرَامٌ وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْك بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَا وَصْلَةَ فِي حَقِّهَا إلَّا الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحَانِ فَعِنْدَ إضَافَةِ الْبَيْنُونَةِ إلَيْهَا تَتَعَيَّنُ الْوَصْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَإِنْ لَمْ يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا فِي جَانِبِهِ فَالْوَصْلَةُ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مَعَ قِيَامِ الْوَصْلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَإِذَا قَالَ أَنَا بَائِنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَصْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَقُلْ مِنْك، وَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا لَهُ خَاصَّةً فَإِذَا قَالَ أَنْتِ حَرَامٌ يَتَعَيَّنُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَهُمَا لِلرَّفْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِذَا قَالَ أَنَا حَرَامٌ لَا يَتَعَيَّنُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَمَا لَمْ يَقُلْ عَلَيْكِ لَا يَتِمُّ كَلَامُهُ إيجَابًا (قَالَ) وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْخُلْعِ أَوْ التَّطْلِيقَةِ الْبَائِنَةُ لَهَا فِي عِدَّتِهَا أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ الصَّرِيحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 كَمَا لَا يَلْحَقُهُ بَائِنٌ حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ أَنْتِ بَائِنٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ بَائِنٌ مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ بِالْخُلْعِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ هُنَا لِحُرْمَةِ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَكُونَ كَالْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ أَثَرَ النِّكَاحِ فَهُوَ أَثَرٌ يَبْقَى بَعْدَ فَسَادِ الْمِلْكِ، وَهُوَ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ وَبِمِثْلِ هَذَا الْأَثَرِ لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ كَالنَّسَبِ فَإِنَّهُ أَثَرُ النِّكَاحِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَبْقَى بَعْدَ نَفَاذِ مِلْكِ الطَّلَاقِ لَا تَصِيرُ بِهِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يَعْنِي الْخُلْعَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بِالْإِيقَاعِ بَعْدَ الْخُلْعِ، وَفِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ «وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي حَلَفْت بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَنْ لَا أُكَلِّمَ أَخِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلِّقْهَا وَاحِدَةً وَاتْرُكْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلِّمْ أَخَاك ثُمَّ تَزَوَّجْهَا» وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْخُلْعِ لَأَرْشَدَهُ إلَى الْخُلْعِ لِيَرْتَفِعَ الْهِجْرَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فِي الْحَالِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَتَلْحَقُهَا التَّطْلِيقَاتُ الْمَمْلُوكَةُ لِلزَّوْجِ بِإِيقَاعِهِ كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مُوجِبَهُ لَيْسَ هُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ الْمِلْكَ يَبْقَى مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَطْلُقُ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ مُوجِبُهُ زَوَالَ الْمِلْكِ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْإِيقَاعُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ مُزِيلًا فَلَا مُوجِبَ لِلثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مُزِيلًا، فَكَذَلِكَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَبْقَى الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَلَا يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الثَّانِي وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ إذَا خَلَتْ عَنْ مُوجِبَاتِهَا كَانَتْ لَغْوًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ الطَّلَاقِ لَيْسَ هُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ لِصِحَّتِهِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ لِصِحَّتِهِ وَلَكِنَّ مُوجِبَهُ الْأَصْلِيَّ رَفْعُ الْحِلِّ الَّذِي صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَذَلِكَ الْمَحَلُّ بَاقٍ بَعْدَ الْخُلْعِ فَكَانَ الْإِيقَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفِيدًا لِمُوجَبِهِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْإِيقَاعَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمَحَلِّ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحُرْمَةِ وَرَفْعِ الْحِلِّ فَلَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ مِلْكٍ لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ لِيَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ، وَذَلِكَ إمَّا مِلْكُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 النِّكَاحِ أَوْ مِلْكُ الْيَدِ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا فِي سُكْنَاهُ، وَفِي نَفَقَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَمِلْكُ الْيَدِ فِي التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَصَرَّفُ بِمِلْكِ الْيَدِ لَهُ فِي كَسْبِهِ وَالْمَضَارِبَ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا يَتَصَرَّفُ، وَإِنْ نَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ لِمِلْكِ الْيَدِ لَهُ. فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْيَدِ وَبِهَذَا الْحَرْفِ فَارَقَ الْعِدَّةُ النَّسَبَ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْوَلَدِ لَا يَبْقَى مِلْكُ الْيَدِ عَلَيْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَائِنٌ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ وَقَدْ طَوَّلَهُ وَحَاصِلُ مَا قَالَ أَنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ، أَوْ رَفْعِ النِّكَاحِ وَبَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فَأَمَّا قَوْلُهُ طَالِقٌ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ فُرْقَةٍ، أَوْ رَفْعِ نِكَاحٍ فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمَحَلِّ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ عَامِلٌ فِي حَقِيقَةِ مُوجَبِهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَوَصْلَةُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا اللَّفْظِ فِي قَطْعِ وَصْلَةِ الْعِدَّةِ فَخَلَّى عَنْ مُوجَبِهِ فَأَمَّا مُوجِبُ الطَّلَاقِ فَهُوَ رَفْعُ الْحِلِّ كَمَا بَيَّنَّا وَالْإِيقَاعُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ عَامِلٌ فِي مُوجَبِهِ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ بِهِ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ ثَلَاثًا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ بِتِلْكَ الْعِدَّةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْيَدِ حَتَّى لَا تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى وَلَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ اعْتَدِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ بِهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ بَلْ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بَائِنٌ، وَفِي ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ قَالَ هَذَا اللَّفْظُ عَامِلٌ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ الْفُرْقَةِ أَوْ فَسَادِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الْوَاقِعَ بِهِ رَجْعِيٌّ كَالصَّرِيحِ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَ هَذَا اللَّفْظِ لَا بِحَقِيقَةِ مُوجَبِهِ بَلْ بِإِضْمَارِ الطَّلَاقِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ قَبْلَ الدُّخُولِ فَكَانَ الْمُضْمَرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَنْوِي الثِّنْتَيْنِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَفِي الْكِتَابِ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَعْمَلُ لِأَنَّهُ نَوَى بِهَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الثِّنْتَيْنِ إلَّا فِي حَقِّ الْأَمَةِ فَأَمَّا الْحُرَّةُ إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ بَائِنٌ فَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ نَوَى الْعَدَدَ وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا وَقَعَ عَلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ ثِنْتَانِ لِأَنَّ نِيَّتَهُ قَدْ صَحَّتْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَوَى نَوْعًا مِنْ الْبَيْنُونَةِ فَيَقَعُ مَا تَثْبُتُ بِهِ تِلْكَ الْبَيْنُونَةُ، وَذَلِكَ بِالتَّطْلِيقَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 [بَابُ طَلَاقِ أَهْلِ الْحَرْبِ] (قَالَ) وَإِذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ كَانَ حُكْمًا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَهُوَ مُنَافٍ لِعِصْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِسَبَبِ الْمُنَافِي لِلنِّكَاحِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ؛ وَفِقْهُهُ أَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَكُلُّ سَبَبٍ يَتِمُّ بِهَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هَذَا لَا يَقَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ فَإِنَّهُ إنْ سُبِيَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ وَإِنْ سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالنَّصِّ فَإِنْ سُبِيَ الْآخَرُ بَعْدَهُ لَمْ يَعُدْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا؛ لِارْتِفَاعِهِ بِالسَّبَبِ الْمُنَافِي، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سُبِيَا أَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهَا إنْ سُبِيَتْ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِيَّةِ الْمَالِ وَإِنْ سُبِيَ الزَّوْجُ فَالدَّيْنُ عَلَى الْحُرِّ لَا يَبْقَى بَعْدَ السَّبْيِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لَا يَجِبُ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَحِينَ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَالًا فَلَا تَشْتَغِلُ مَالِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ، وَإِنْ لَمْ يُسْبَيَا وَلَكِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ هَذَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، أَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ؛ فَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عِدَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ، فَهَذِهِ الْعِدَّةُ لَا تُوجِبُ مِلْكَ الْيَدِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَيْهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهَا. وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا وَخَرَجَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرُ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْآخَرِ يَقَعُ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَتْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 الْأَوَّلِ أَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَبَعْدَمَا زَالَ الْمِلْكُ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَوْ عَدَمُ ظُهُورِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ حِينَ اشْتَرَاهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ أَعْتَقَهَا، وَحِينَ خَرَجَ إلَى دَارِنَا مُسْلِمًا، وَهِيَ فِي عِدَّتِهِ بَعْدُ فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْإِبَاءِ مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، ثُمَّ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا أَنْ تُؤَاخِذَهُ بِمَهْرِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ فَيَبْقَى بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ أَوَّلًا مُسْلِمَةً فَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَالُ بِالْفُرْقَةِ عَلَى جَانِبِ الزَّوْجِ حِينَ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا مُسْلِمًا، فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِذَا سُبِيَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِعَدَمِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَمَجَّسَتْ، انْتَقَضَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَجُّسَهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ بِمَنْزِلَةِ رِدَّتِهَا، وَطَلَاقُهُ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ، وَهُوَ الْمُنَافِي لِلْعِصْمَةِ وَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِنْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ إلَى دَارِنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مِنْهُمَا، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصِرَّ مِنْهُمَا عَلَى شِرْكِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؟ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَأَبَى الْآخَرُ، فَالْحُكْمُ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ الْفُرْقَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ قَدْ بَيَّنَّا شَرْحَهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 [بَابُ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَرْأَةِ] (قَالَ): وَإِذَا اشْتَرَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ مَلَكَتْهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الْمُنَافِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ يَمْلِكُ امْرَأَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ رَقَبَتِهَا مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مَشْرُوعٌ؛ لِإِثْبَاتِ الْحِلِّ بِهِ وَهِيَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِي بِتَقَرُّرِهِ مِلْكُ النِّكَاحِ ثُمَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ رَقَبَتَهَا كَمَا يُنَافِي أَصْلَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَبِهِ كَانَتْ مَحَلًّا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُجَامِعُهَا أَبُو زَوْجِهَا أَوْ ابْنُهُ أَوْ جَامَعَ الزَّوْجُ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ بِالْمُصَاهَرَةِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الطَّلَاقِ حُرْمَةٌ تَرْتَفِعُ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَرْتَفِعُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ هَذَا ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَرْتَفِعُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَمَتَى خَلَا السَّبَبُ عَنْ مُوجِبِهِ كَانَ لَغْوًا. (قَالَ) وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِلَّةٌ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ أَهْلُهَا فِي دِينِهِمْ فَيُخَلَّى عَنْهُمْ وَمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِيِّ يَتَزَوَّجُ أُمَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يُتْرَكُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَرَامِ فِي النِّكَاحِ وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَجْرِي عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ اخْتَصَمُوا أَوْ لَمْ يَخْتَصِمُوا وَهَذَا الْقَوْلُ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مَعَ سَائِرِ مَا فِي الْبَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابٌ مِنْ الطَّلَاقِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ فَتَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ وَقَوْلُهُ، ثَلَاثًا يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يَقَعُ بِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الطَّلَاقُ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ فَالْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ: لِأَنَّ الْمُوَقَّعَ هُوَ الْعَدَدُ فَإِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَانَ هُوَ الْعَامِلَ دُونَ ذِكْرِ الْوَصْفِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا، لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لَا يَتَأَتَّى بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ مِنْ هَذَا، وَالْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يُفْصَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَكَانَتْ الثِّنْتَانِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَجْعَلُهَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ كَلِمَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَا تَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ فَإِذَا بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ، لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلْوُقُوعِ عَلَيْهَا ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبِينُ بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي لِجَوَازِ أَنْ يُلْحِقَ بِآخِرِ كَلَامِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ، فَأَمَّا بِدُونِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ الشَّرْطُ وَالِاسْتِثْنَاءُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا: رَأْسُكِ طَالِقٌ، كَانَتْ طَالِقًا لَا بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الرَّأْسِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: الرَّأْسُ مِنْكِ طَالِقٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهَا وَقَالَ: هَذَا الْعُضْوُ مِنْكِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّأْسَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يُقَالُ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَمَعَ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّخْصِ أَيْضًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَمْرِي حَسَنٌ مَا دَامَ رَأْسُك أَيْ مَا دُمْتَ بَاقِيًا وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَالرَّقَبَةُ وَالْعُنُقُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وَكَذَلِكَ الْفَرْجُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» وَكَذَلِكَ الرُّوحُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى جَمِيعِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَدُكِ طَالِقٌ أَوْ رِجْلُكِ طَالِقٌ أَوْ أُصْبُعُكِ طَالِقٌ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ مُسْتَمْتَعٍ بِهِ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّلَاقِ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْهَا، يَسْرِي إلَى جَمِيعِهَا كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى السِّرَايَةِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ عِنْدِي إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْمَحَلِّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا، يَقَعُ مُؤَبَّدًا وَلَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ شَهْرًا، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فَيُجْعَلُ ذِكْرُ جُزْءٍ مِنْهَا كَذِكْرِ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِضَافَةِ النِّكَاحِ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّهُ تَبَعٌ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَلِهَذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أُصْبُعٌ وَيَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْأُصْبُعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ يَرِدُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ الْأَطْرَافُ فِيهِ تَبَعًا كَمَا فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ شِرَاءً وَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَبَعٌ، فَبِذِكْرِ الْأَصْلِ، يَصِيرُ التَّبَعُ مَذْكُورًا، فَأَمَّا بِذِكْرِ التَّبَعِ، لَا يَصِيرُ الْأَصْلُ مَذْكُورًا وَإِذَا كَانَ تَبَعًا، لَا يَكُونُ مَحَلُّ الْإِضَافَةِ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ، وَالسِّرَايَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِضَافَةِ إلَى مَحَلِّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ أَنَّ الْوُقُوعَ لَيْسَ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا ذُكِرَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ عُرْفًا. ظَاهِرُ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْيَدَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ نَقُولُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي حَقِّهِمْ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِيقَاعَ عَلَى الْبَدَنِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَقِيمًا، لَصَحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى الْيَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى تَبَعٌ لِلْمُقْتَضِي، وَجَعْلُ الْأَصْلِ تَبَعًا لِلْأُصْبُعِ مُتَعَذِّرٌ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالصِّنْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ لَيْسَ بِتَبَعٍ وَهُوَ مَحَلٌّ لِإِضَافَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَيْهِ فَإِذَا صَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَحَلِّهَا، ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ أَوْ بِطَرِيقِ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَذِكْرُ جُزْءِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ وَلِهَذَا صَحَّتْ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَنَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ صَحَّتْ إلَى مَحَلِّهَا، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَلَا يَنْعَدِمُ بِذِكْرِ التَّوْقِيتِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَبِالتَّوْقِيتِ يَنْعَدِمُ فِيمَا وَرَاءَ الْوَقْتِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مُوَقَّتًا. وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَوْ قَالَ: بُضْعُكِ طَالِقٌ، يَقَعُ وَهَذَا تَصْحِيفٌ إنَّمَا هُوَ بَعْضُكِ طَالِقٌ أَوْ نِصْفُكِ طَالِقٌ فَأَمَّا الْبُضْعُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ: ظَهْرُكِ طَالِقٌ أَوْ بَطْنُك طَالِقٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النِّكَاحُ بِدُونِهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 هَذَا فِي بَابِ الظِّهَارِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: ظَهْرُكِ أَوْ بَطْنُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلِأَجْنَبِيَّةٍ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت امْرَأَتِي، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ امْرَأَتِهِ وَعَنْ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى فَكَانَ هَذَا كِنَايَةً مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ وَكَمَا أَنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ لَا تَعْمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الْكِنَايَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَنِيَ امْرَأَتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْكِنَايَاتِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ، وَرُبْعُ التَّطْلِيقَةِ كَمَالُهَا فَإِنَّ التَّطْلِيقَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَتَجَزَّأُ وُقُوعُهَا، وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُوقِعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ مَا لَمْ يَنْوِ، لَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ، وَالْقِسْمَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ إذَا عَنِي قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ فَقَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ أَرْبَعُ تَطْلِيقَاتٍ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْتُ أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ فَحِينَئِذٍ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ، تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا تَطْلِيقَةٌ وَرُبْعٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٌ وَإِنْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُصِيبُهَا بِالْقِسْمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُكُنَّ فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَفْظُ الْإِشْرَاكِ وَلَفْظُ الْبَيْنِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لِثَالِثَةٍ: أَشْرَكْتُكِ فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا، يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْرِكًا لَهَا فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، فَهِيَ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مَعْنَاهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى هُنَا ثِنْتَانِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَلَكِنَّا نَقُولُ طَرِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَشَرْطُ صِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ حَتَّى يَجْعَلَ كَلَامَهُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ النَّحْوِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبِأَنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِهِمْ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ كَمْ يَقَعُ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ كَمَا لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْإِيقَاعِ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا وَاحِدَةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ ثَلَاثًا: لِأَنَّ فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ لِمَعْنًى فِي الْمُوقِعِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَجَزَّأُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ، صَارَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ ثَلَاثًا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى جَمِيعَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، لَا يَبْقَى بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ شَيْءٌ؛ لِيَكُونَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِنْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ، فَذَلِكَ لَا يَعُمُّ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا، وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَمَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْكُلِّ بَاطِلٌ، وَهَذَا وَهْمٌ فَقَدْ بَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا وَاحِدَةً، تَطْلُقُ ثَلَاثًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ فَرَّقَ الْكَلَامَ، فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَثْنِيًا جَمِيعَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي آخِرِ كَلِمَاتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَوْ قَالَ، أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ وَعِنْدَ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَثْنِيًا لِلْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ؛ إلَّا ثَلَاثًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، صَارَ مُسْتَثْنِيًا لِلِاثْنَتَيْنِ، فَكَانَ صَحِيحًا فَإِنَّمَا بَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ فَقَطْ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إلَّا نِصْفَهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهَا تَطْلِيقَةٌ تَامَّةٌ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَنَّ التَّطْلِيقَةَ تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا تَتَجَزَّأُ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ لِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثِنْتَيْنِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَتَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَحَدَ الْكَلَامَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِتَصْحِيحِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ كَلَامٍ تَطْلِيقَةً، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ لَوْ قَالَ: ثِنْتَيْنِ وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثَلَاثًا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَحَدَ الْكَلَامَيْنِ وَبَعْضَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ بَعْضِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ دُونَ الْبَعْضِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ كَلَامٍ تَطْلِيقَةً وَنِصْفًا، فَالتَّطْلِيقَةُ عِنْدَهُ تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ ثِنْتَانِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، فَطَلَاقُهُ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ، وَإِنْ قَذَفَهَا، لَاعَنَهَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَا؛ لِبَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ظِهَارٌ وَلَا إيلَاءٌ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا تَشْبِيهُ الْمُحَرَّمَةِ بِالْمُحَلَّلَةِ، وَالْمَوْلَى مُضَارٌ مُتَعَنِّتٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَبَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَهَا، لَمْ يُلَاعِنْهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ؛ لِقَطْعِ النِّكَاحِ وَقَدْ انْقَطَعَ النِّكَاحُ بِالْبَيْنُونَةِ. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ، لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْمِلْكِ قَدْ صَحَّ، وَالشَّرْطُ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ طَلَاقٌ فَكَانَ غَيْرُ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ غَيْرُ وَاصِلٍ إلَى الْمَحَلِّ، فَلَا يُعْتَبَرُ؛ لِبَقَائِهِ مُتَعَلِّقًا قِيَامَ الْمَحَلِّ. وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مَحَلًّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهَا، إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ إصَابَةِ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ، تَطْلُقُ ثَلَاثًا، فَإِذَا كَانَ وُقُوعُ بَعْضِ الطَّلْقَاتِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ التَّعْلِيقِ فِي الثَّلَاثِ، فَكَذَلِكَ فِي وُقُوعِ الْكُلِّ، وَحُجَّتُنَا مَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ ذَهَبَ تَطْلِيقَاتُ ذَلِكَ الْمِلْكِ كُلِّهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ انْعِقَادَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ هُنَا، فَكَانَ انْعِقَادُهَا بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ بِالثَّلَاثِ، وَقَدْ أَوْقَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَالْكُلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَدُّدُهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ الْمُعَلَّقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 بِالشَّرْطِ طَلَاقًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ. وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِ الْجَزَاءِ، لَا يَبْقَى بِدُونِ الْجَزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تِسْعًا كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ، لَمْ يَقَعْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ. وَلَكِنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُخَالِفُ فِي جَمِيعِ هَذَا وَيَقُولُ: مَا يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا لَا يَقَعُ إلَّا الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَسَعُ إلَّا ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْعَقْدِ، يَقَعُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا، يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ هُوَ الثَّلَاثَ، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنْ نَقُولَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ؛ لِرَفْعِ الْحِلِّ، وَقَدْ ارْتَفَعَ الْحِلُّ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَفَوْتُ مَحَلُّ الْجَزَاءِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ كَفَوْتِ مَحَلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا، أَوْ بُسْتَانًا لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فَلِهَذَا مَثَّلَهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِصِفَةِ الرِّقِّ كَانَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ. وَبِالْبَيْعِ لَمْ تَفُتْ تِلْكَ الصِّفَةُ حَتَّى لَوْ فَاتَ الْعِتْقُ، لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ بَاقٍ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحِلِّ وَهِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ، فَيَبْقَى الْيَمِينُ. ثُمَّ قَدْ اسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ إلَّا دِرْهَمًا مِنْهُ، يَبْقَى عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْكُلِّ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ وَرَبِحَ يَحْصُلُ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي الظِّهَارِ فَإِنَّ الْمَحَلِّيَّةَ هُنَاكَ لَا تَنْعَدِمُ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ تِلْكَ حُرْمَةٌ إلَى وُجُودِ التَّكْفِيرِ، وَهَذِهِ حُرْمَةٌ إلَى وُجُودِ مَا يَرْفَعُهَا، وَهُوَ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا حِلَّ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَالظِّهَارُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهَا. وَمَا قَالَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا إلَى الْمَحَلِّ. وَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ إيجَابًا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ، فَلَا بُدَّ لِبَقَائِهِ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مِنْ بَقَاءِ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حِضْتِ فَبَانَتْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا، إنْ حَاضَتْ شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ إنْ آلَى مِنْهَا فَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَبَانَتْ أَيْضًا حَتَّى بَانَتْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِهَذَا الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَكِنْ إنْ قَرِبَهَا، كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ فَإِنَّ انْعِقَادَهَا وَبَقَاءَهَا لَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، فَإِذَا قَرُبَهَا، تَحَقَّقَ حِنْثُهُ فِي الْيَمِينِ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. (قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ عِنْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَخَذَ الشُّبَّانُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الْمَشَايِخِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الشُّبَّانِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِالثَّلَاثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَكَلِمَةُ حَتَّى لِلْغَايَةِ حَقِيقَةً، وَبِالتَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ. وَبِبَعْضِ أَرْكَانِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ، فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي غَايَةً؛ لِأَنَّ غَايَةَ الْحُرْمَةِ قَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، فَوَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا حَتَّى أَسْتَشِيرَ فُلَانًا ثُمَّ اسْتَشَارَهُ قَبْلَ مَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ، لَا يُعْتَبَرُ هَذَا: لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالْيَمِينِ فَلَا تُعْتَبَرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ، كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ، أَوْ قَبْلَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُلْحِقَ الْمُطَلَّقَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالطَّلَاقِ كَمَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ تَصِيرُ مُحَرَّمَةً وَمُطَلَّقَةً ثُمَّ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَرْتَفِعُ الْوَصْفَانِ جَمِيعًا وَتَلْتَحِقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَتَزَوَّجْهَا قَطُّ، فَبِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، فَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ لَا مُنْهٍ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يَكُونُ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا حُرْمَةَ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي فَدَلَّ أَنَّهُ رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ، فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَإِنَّمَا كَانَ مُحَلِّلًا؛ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْحِلِّ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنَّهُ يَكُونُ رَافِعًا لِلْحُرْمَةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ جَعْلَهُ غَايَةً مَجَازٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، وَالِاغْتِسَالُ مُوجِبٌ لِلطَّهَارَةِ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ لَا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْجَنَابَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ مُتَأَبِّدَةً لَا إلَى غَايَةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 وَلَكِنْ تَرْتَفِعُ بِوُجُودِ مَا يَرْفَعُهَا كَحُكْمِ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ مُؤَقَّتًا وَلَكِنْ يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ مَا يَرْفَعُهُ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ فَإِنَّمَا يُوجِبُ حَلَالًا يَرْتَفِعُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ فَيَثْبُتُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ رَافِعًا لِلْحُرْمَةِ إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فَلَأَنْ يَرْفَعَهَا وَهُوَ بِعَرْضِ الثُّبُوتِ أَوْلَى، وَلَأَنْ يَمْنَعَ ثُبُوتَهَا إذَا اقْتَرَنَ بِأَرْكَانِهَا أَوْلَى وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي؛ حَتَّى لَا تَعُودَ مَنْكُوحَةً لَهُ، وَبَقَاءُ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْحُرْمَةِ وَلَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ النِّكَاحِ الثَّانِي فِي حُرْمَتِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ لِغَيْرِهِ وَسَمَّاهُ مُحَلِّلًا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْحِلِّ لَا؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّاهُ مَلْعُونًا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَحُرْمَةِ الْمُعْتَدَّةِ، وَحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَجَعَلْنَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ؛ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ كَلِمَةِ حَتَّى الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ» وَمَسْأَلَةٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -؛ لِغَوْرِ فِقْهِهَا يَصْعُبُ الْخُرُوجُ مِنْهَا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَدَخَلَتْ الدَّارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ بِالدُّخُولِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَيْهِ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا عَادَتْ إلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الطَّلْقَاتِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ كُلَّمَا تَزَوَّجَ بِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي نُزُولَ الْجَزَاءِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ. وَانْعِقَادُ هَذِهِ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الَّتِي يَمْلِكُهَا عَلَيْهَا بِالتَّزَوُّجِ، وَتِلْكَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ فَلِهَذَا بَقِيَتْ الْيَمِينُ بَعْدَ وُقُوعِ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَإِنَّ انْعِقَادَ تِلْكَ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى الْمِلْكِ عَمَّ أَوْ خَصَّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الظِّهَارِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ إنْ تَزَوَّجْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَلَا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وَقَالَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلَا طَلَاقَ قَبْلَهُ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ خَصَّ امْرَأَةً وَقَبِيلَةً، انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ. وَإِنْ عَمَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لَا تَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ». وَرُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَطَبَ امْرَأَةً، فَأَبَى أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا مِنْهُ، فَقَالَ إنْ نَكَحْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فَلَا يَمْلِكُ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ لَمْ تَطْلُقْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ فِي تَأْخِيرِ الْوُقُوعِ إلَى وُجُودِهِ، وَمُنِعَ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ طَلَاقًا، وَهَذَا الْكَلَامُ لَوْلَا الشَّرْطُ لَكَانَ لَغْوًا لَا طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةً فِي الْمُوقِعِ وَمِلْكًا فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ قَبْلَ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ مُضَافًا إلَى حَالَةِ الْأَهْلِيَّةِ كَالصَّبِيِّ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا بَلَغْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ مِلْكِ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ مُضَافًا. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَإِيجَابُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ يَكُونُ لَغْوًا كَمَا لَوْ بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمِينٌ فَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَحَلِّ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْحَالِفِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ الْبِرَّ، وَالْمَحْلُوفُ بِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالْوُصُولِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَمَا دَامَتْ يَمِينًا لَا يَكُونُ وَاصِلًا إلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوُصُولُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَقِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ. وَلَكِنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَا سَيَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِوُصُولِهِ إلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الرَّمْيُ عَيْنُهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ، وَالتُّرْسُ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَمَّا هُوَ قَتْلٌ وَلَا مُؤَخِّرًا لَهُ، بَلْ يَكُونُ مَانِعًا عَمَّا سَيَصِيرُ قَتْلًا، إذَا وَصَلَ إلَى الْمَحَلِّ. وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ مَانِعًا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ، وَالتَّصَرُّفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ فَكَمَا أَنَّهُ بِدُونِ رُكْنِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، فَكَذَلِكَ بِدُونِ مَحَلِّهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ هُنَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مَالِكٌ لِطَلَاقِهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. أَمَّا هُنَا نَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ بِهِ مَوْجُودًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَوْلَى أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ، وَبِأَنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ كَمَنْ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ الْمَعْدُومِ. وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحَائِضِ: إذَا طَهُرْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ هَذَا طَلَاقًا لِلسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ تَنْجِيزَهُ فِي الْحَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَصَرُّفِ الْيَمِينِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَصَرُّفِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا فِي الْمَحَلِّ مُعْتَبَرٌ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ أَحَدُ شَطْرَيْ الْبَيْعِ، وَتَصَرُّفُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْمِلْكِ لَغْوٌ. فَأَمَّا الْإِيجَابُ هُنَا تَصَرُّفٌ آخَرُ سِوَى الطَّلَاقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: «كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ؛ تَنْجِيزًا، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ طَلَاقًا فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ». وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَإِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ نَكَحْتُهَا أَيْ وَطِئْتُهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً لِلْوَطْءِ، وَبِهَذَا لَا يَحْصُلُ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْمِلْكِ عِنْدَنَا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا مَا تَزَوَّجْتُك أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ مَتَى مَا تَزَوَّجْتُك فَهَذَا كُلُّهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ فَإِنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ، وَإِذَا، وَمَتَى لِلْوَقْتِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ بِالتَّزَوُّجِ مَرَّةً وَلَكِنْ كُلَّمَا تَزَوَّجَهَا، يَصِيرُ عِنْدَ التَّزْوِيجِ كَالْمُنْجِزِ لِلطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَطْلُقَ ثَلَاثًا بِخِلَافِ إنْ وَإِذَا وَمَتَى فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ أُكَلِّمُكِ، أَوْ يَوْمَ تَدْخُلِينَ الدَّارَ، أَوْ يَوْمَ أَطَؤُكِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُكِ فَإِنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَصِيرُ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى التَّزَوُّجِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ الْمَحْلُوفُ بِهِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ. فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنْ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ، يَصِلُ إلَى الْمَحَلِّ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا بَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِ الْمَحْلُوفِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فَبِدُونِ ذَلِكَ، وَإِنْ صَارَ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 إلَيْهِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا كَانَتْ مُنْعَقِدَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ إذَا جَاءَ غَدٌ. وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ: عَنَيْت الْأُولَى، صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَهُمَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ إيقَاعٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْكَلَامِ الثَّانِي كَصِيغَةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ قَصْدِ تَكْرَارِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ يُكَرَّرُ لِلتَّأْكِيدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ طَلَّقْتُك قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: مَاذَا قُلْتَ فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا، أَوْ قَالَ: قُلْتُ هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، وَالسَّائِلُ إنَّمَا يَسْأَلُهُ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَا عَنْ إيقَاعٍ آخَرَ فَيَكُونُ جَوَابُهُ بَيَانًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ دَخَلَ بِهَا؛ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فِي الْقَضَاءِ إحْدَاهُمَا بِالْإِيقَاعِ وَالْأُخْرَى بِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا طَلَّقْتُك شَرْطٌ، وَقَوْلَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ جَزَاءٌ لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَيَانًا لِحُكْمِ الْإِيقَاعِ لَا جَزَاءً لِشَرْطِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مَتَى مَا طَلَّقْتُك، أَوْ إنْ طَلَّقْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ، يُوجَدُ الشَّرْطُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةُ الْيَمِينِ ثُمَّ بِوُقُوعِ هَذِهِ التَّطْلِيقَةِ، وُجِدَ الشَّرْطُ مَرَّةً أُخْرَى، وَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فَتَقَعُ عَلَيْهَا الثَّالِثَةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُك، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَقَعُ عَلَيْهَا أُخْرَى فَقَطْ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنْهُ بَعْدَ يَمِينِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ؛ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ الْوُقُوعُ لَا الْإِيقَاعُ، وَالْوُقُوعُ يَحْصُلُ بِالثَّانِيَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا قُلْت أَنْتِ طَالِقٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلَّمَا تَكَلَّمْت بِطَلَاقٍ يَقَعُ عَلَيْك، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقَعُ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ الْيَمِينِ بِمَا وَقَعَ بِالْيَمِينِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ - يَمِينًا بِالطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ: فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ يَمِينًا بِالْعِتْقِ. وَالشَّرْطُ وَاحِدٌ وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْيَمِينُ بِاخْتِلَافِ الْجَزَاءِ وَأَصْلٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 آخَرُ أَنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَا سَبَقَ الْيَمِينَ لَا يَكُونُ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْيَمِينِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُ، وَالْيَمِينُ يَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ عَمْرَةُ وَزَيْنَبُ فَقَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ، إذَا طَلَّقْت عَمْرَةَ، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْت عَمْرَةَ ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إذَا طَلَّقْت زَيْنَبَ ثُمَّ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى زَيْنَبَ بِالْإِيقَاعِ تَطْلِيقَةٌ، وَيَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ أَيْضًا تَطْلِيقَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ يَمِينًا بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، وَكَلَامَهُ الثَّانِيَ كَانَ يَمِينًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَإِنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ طَلَاقُ عَمْرَةَ، وَالشَّرْطُ طَلَاقُ زَيْنَبَ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ بِإِيقَاعِهِ عَلَى زَيْنَبَ فَلِهَذَا يَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ تَطْلِيقَةٌ بِالْيَمِينِ وَيَعُودُ إلَى زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ طَلُقَتْ بِيَمِينٍ بَعْدَ يَمِينِهِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَيَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَلِهَذَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى؛ هَكَذَا فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: وَلَا يَعُودُ عَلَى زَيْنَبَ وَهُوَ غَلَطٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْ زَيْنَبَ وَلَكِنَّهُ طَلَّقَ عَمْرَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالْإِيقَاعِ، وَعَلَى زَيْنَبَ تَطْلِيقَةٌ بِالْيَمِينِ ثُمَّ وَقَعَتْ أُخْرَى عَلَى عَمْرَةَ بِالْيَمِينِ؛ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى عَمْرَةَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ زَيْنَبَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِالْيَمِينِ السَّابِقَةِ عَلَى الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: إذَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِعَمْرَةَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ الدَّارَ؛ تَطْلُقُ بِالدُّخُولِ، وَتَطْلُقُ زَيْنَبُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِكَلَامٍ بَعْدَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لِعَمْرَةَ أَوَّلًا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِزَيْنَبِ: إنْ طَلَّقْتُ عَمْرَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتْ عَمْرَةُ الدَّارَ؛ طَلُقَتْ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ عَمْرَةَ إنَّمَا طَلُقَتْ بِيَمِينِ قَبْلَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ. وَبِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ جَوَابَهُ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَقَعَ عَلَى الْقَلْبِ. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، لَا يَحْلِفُ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ ثُمَّ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ، لَا يَحْلِفُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، كَانَتْ عَمْرَةُ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ حَلَفَ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْحَلِفُ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ وَبِالْكَلَامِ الثَّانِي صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ زَيْنَبَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ طَلَاقُ زَيْنَبَ فَوُجِدَ فِيهِ شَرْطُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ بَعْدَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَتْ عَمْرَةُ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَقَدْ وُجِدَ فَصَارَ بِهِ حَانِثًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ لَمْ تَطْلُقْ عَمْرَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ بَلْ هُوَ تَفْوِيضُ الْمَشِيئَةِ إلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِك وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَلِفًا بِالطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ نِسَاءَهُ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ». وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّخْيِيرِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، وَالشَّرْطُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْفِيٌّ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ مَنْعَ الشَّرْطِ بِيَمِينِهِ وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ لَا يَقْصِدُ مَنْعَهَا عَنْ الْمَشِيئَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَيْنَبِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَلِهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ عِنْدَنَا وَلَا يَحْنَثُ بِهِ فِي الْيَمِينِ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ فَإِنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ تَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْحَيْضَةِ الْكَامِلَةِ، وَطَلَاقُ السُّنَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى حَالَةِ الطُّهْرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا يَمِينٌ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ طَلُقَتْ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ فَطَهُرَتْ لَمْ تَطْلُقْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ، أَوْ إذَا حِضْت ثَلَاثَ حِيَضٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَلِفًا بِطَلَاقِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَهَذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهَا حَتَّى تَطْلُقَ عَمْرَةُ؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ قَبْلَ الطُّهْرِ فَلَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِطَلَاقِ السُّنَّةِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا. (قُلْنَا): لَيْسَ كَذَلِكَ، فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَيْضِ، وَهَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَكُلَّمَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلُقَتْ وَاحِدَةً حَتَّى تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ أَيْ لِوَقْتِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ اللَّامَ لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. وَكُلُّ طُهْرٍ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلسُّنَّةِ فَلِهَذَا طَلُقَتْ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً، وَلَا يَحْتَسِبُ الْحَيْضَةَ الْأُولَى مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَوَى أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا فِي الْحَالِ، فَهُوَ كَمَا نَوَى عِنْدنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً خِلَافُ السُّنَّةِ، وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ خِلَافُ السُّنَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا كَانَتْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ لَا فِيمَا كَانَ مِنْ ضِدِّهِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْت فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَنَوَى الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَذَلِكَ، إذْ كَوْنُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّامَ لِلْوَقْتِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَهِيَ ثَلَاثٌ، كُلَّمَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَةٍ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ أَوْقَاتَ السُّنَّةِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، فَهُوَ إنَّمَا نَوَى التَّعْمِيمَ فِي أَوْقَاتِ السُّنَّةِ؛ حَتَّى يَقَعَ فِي كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْمِيمِ صَحِيحَةٌ فِي كَلَامِهِ، فَلِهَذَا طَلُقَتْ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ، طَلُقَتْ سَاعَةَ تَكَلَّمَ بِهِ وَاحِدَةً، وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى، وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لِلسُّنَّةِ هَكَذَا تَقَعُ عَلَيْهَا، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّهَا كَالْحَيْضِ فِي حَقِّ ذَاتِ الْقُرُوءِ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعْنَ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَمَا نَوَى؛ لِمَا بَيَّنَّا. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ إذَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، طَلُقَتْ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ، إذَا حَاضَتْ أُخْرَاوَيْنِ، طَلُقَتْ أُخْرَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَيَحْتَسِبُ بِهَاتَيْنِ الْحَيْضَتَيْنِ مِنْ عِدَّتِهَا، فَإِذَا حَاضَتْ أُخْرَى، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ لَهَا أَيْضًا: كُلَّمَا حِضْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا وُجُودُ الْحَيْضِ لَا الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْحَيْضَةُ الْكَامِلَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ بَعْدَهَا، وَلَا يَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَإِذَا حَاضَتْ الثَّانِيَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَكَلِمَةُ كُلَّمَا تُوجِبُ تَكْرَارَ الشَّرْطِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ أَيْضًا: إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ حَيْضَةً وَطَهُرَتْ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِالْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ وُجِدَتْ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى، طَلُقَتْ أُخْرَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضَتَيْنِ بَعْدَهَا فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الْأُولَى كَمَالُ الشَّرْطِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 فِي الْيَمِينِ الْأُولَى وَنِصْفُ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ. ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ وَيُحْتَسَبُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَاضَتْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً وَاحِدَةً، طَلُقَتْ وَاحِدَةً ثُمَّ لَا تَطْلُقُ أُخْرَى مَا لَمْ تَحِضْ حَيْضَتَيْنِ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ حَيْضَتَيْنِ سِوَى الْحَيْضَةِ الْأُولَى فَإِنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ دَخْلَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا دَخَلْتِهَا دَخْلَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا دَخَلْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ دَخْلَةً وَاحِدَةً، وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْيَمِينِ الدُّخُولُ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِدَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ دَخْلَتَانِ بَعْدَ الدَّخْلَةِ الْأُولَى فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا حِينَ حَاضَتْ الْأُولَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ حِينَ حَاضَتْ الْأُخْرَى؛ لِتَمَامِ الشَّرْطِ بِهَا فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ أَرْبَعَ حِيَضٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا كُلَّ حَيْضَةٍ وَاحِدَةً؛ لِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْأُولَى لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا سَبَقَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا الدَّمُ، وَتَغْتَسِلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَضَى حَيْضَةً كَامِلَةً وَلَا يَتَيَقَّنُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِطُهْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَبِنَفْسِ الِانْقِطَاعِ يَتَيَقَّنُ بِطُهْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِطُهْرِهَا إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ ذَهَبَ وَقْتُ صَلَاةٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ؛ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت حَيْضَةً لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْقِيَاسِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وُجُودَ شَرْطِ الطَّلَاقِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرْطُ دُخُولَهَا الدَّارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا شَرْطَ الطَّلَاقِ كَدَعْوَاهَا نَفْسَ الطَّلَاقِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كُنْتِ تُحِبِّينَنِي أَوْ تُبْغِضِينَنِي، وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ مَادَامَ فِي الْمَجْلِسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ شِئْت إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَقْدِرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ فَبِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ تَصِيرُ مُفَرِّطَةً، وَهُنَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ تَرَ الدَّمَ، فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا مَتَى أَخْبَرَتْ بِهِ. (قَالَ): وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 الْقِيَاسِ مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْحَيْضِ، صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ بِجَعْلِهِ. وَقَوْلُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ كَحُرْمَةِ وَطْئِهَا إذَا أَخْبَرَتْ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، وَحِلِّ الْوَطْءِ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ يُقْبَلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّطَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهِ يَصِيرُ مُسَلَّطًا لَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَإِذَا قَالَ: إذَا حِضْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَك فَقَالَتْ: حِضْتُ فَقِيَاسُ الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى فُلَانَةَ كَمَا يَقَعُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَيَكُونُ ثُبُوتُ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهَا كَثُبُوتِ شَرْطٍ آخَرَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ، وَنَقُولُ: لَا يَقَعُ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَقَّ الضَّرَّةِ وَهِيَ مَا سَلَّطَتْهَا وَلَا رَضِيَتْ بِخَبَرِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا ثُمَّ قَبُولُ قَوْلِهَا فِيمَا مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهَا خَاصَّةً كَمَا فِي حِلِّ الْوَطْءِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَإِنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ وَرَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ فَلِهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِذَا وَلَدْت جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ بِوِلَادَتِهَا الْجَارِيَةَ ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا الْغُلَامَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلًا، لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّيَقُّنَ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ شَكٌّ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِتَطْلِيقَتَيْنِ حَتَّى إذَا كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ هَذَا وَاحِدَةً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثًا، وَلَأَنْ يَتْرُكَ امْرَأَةً يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَتَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا، فَهِيَ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَتَطْلِيقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ ثُمَّ الْجَارِيَةَ، طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَالثَّالِثَةَ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ كَانَتْ الْوِلَادَةُ فَنَقُولُ فِي وَجْهٍ: هِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَفِي وَجْهَيْنِ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفِي الْقَضَاءِ لَا تَطْلُقُ الِاثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ فِيهَا، وَفِي التَّنَزُّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ احْتِيَاطًا وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِيَقِينٍ بِوِلَادَةِ الْآخَرِ مِنْهُمْ. وَإِذَا قَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ: إذَا وَلَدْت غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ جَارِيَةً، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ وَلَدٌ فَيَقَعُ بِهَا تَطْلِيقَةٌ بِحُكْمِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهَا غُلَامًا فِي ذَلِكَ الْبَطْنِ، انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا. وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الْوُقُوعِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ بَعْدَ وِلَادَةِ الْغُلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَقَعَ بِهِ تَطْلِيقَتَانِ أَحَدُهُمَا بِالْغُلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ غُلَامٌ، وَكَذَلِكَ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ وَغُلَامٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: إذَا كَلَّمْت إنْسَانًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْسَانٌ وَفُلَانٌ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ، فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ، تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فُلَانَةُ وَامْرَأَةٌ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْحِنْثِ فِي أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا وَلَدْت غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا، وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْغُلَامِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ، إذَا عَلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ آخِرًا، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ، فَعَلَيْهِمَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ حُكْمٍ فَيَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا ثُمَّ انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضَ الْخَلْقِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّقْطِ وَلَدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدٍ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِمَّا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا. فَإِنَّ قَوْلَ الْقَابِلَةِ يُقْبَلُ فِي الْوَلَدِ فَلَا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَشْهَدْ الْقَابِلَةُ بِهِ، وَالْحَيْضُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَإِنْ شَهِدَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ، ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِشَهَادَتِهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وِلَادَتُهَا، وَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِهِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَغَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ: إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى وِلَادَتِهَا، صَارَتْ هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ: هُوَ لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي وَلَدْته أَمْ لَا فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ، حُكِمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي حُكْمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ، فَلَأَنْ تُجْعَلَ حُجَّةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ أَوْلَى. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: شَرْطُ الطَّلَاقِ إذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ كَنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ. وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوَاضِعَهَا، وَالضَّرُورَةُ فِي نَفْسِ الْوِلَادَةِ وَمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ، وَالْوِلَادَةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَالْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِالْوِلَادَةِ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ، وَاللِّعَانُ عِنْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِالْوِلَادَةِ وَلَا أَثَرَ لِلْوِلَادَةِ فِيهِ بَلْ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ مَعَ أَنَّ النَّسَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِعَيْنِ الْوَلَدِ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَبِأَنْ يَجْعَلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ حُجَّةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةُ مَعَك. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حُبْلَى ثُمَّ قَالَ لَهَا: إذَا وَلَدْت، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ قَدْ وَلَدْت، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ وِلَادَتُهَا، وَذَلِكَ مَا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَسَبَ الْوِلَادَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِبُرُوزٍ مَوْجُودٍ فِي بَاطِنِهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهَا كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَبَلِ بِهَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 فَلَمَّا جَاءَتْ الْآنَ، وَهِيَ فَارِغَةٌ، وَتَقُولُ: قَدْ وَلَدْتُ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهَا، أَوْ يَتَيَقَّنُ بِوِلَادَتِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهَا يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنُ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ غَيْرَ هَذَا مِنْ وَالِدٍ مَيِّتٍ ثُمَّ تُرِيدُ حَمْلَ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ إلَّا بِشَهَادَةِ الْوَالِدِ. فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ أَيِّ وَلَدٍ كَانَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَبَعْدَ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ يَتَيَقَّنُ بِالْوِلَادَةِ، إذَا جَاءَتْ وَهِيَ فَارِغَةٌ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْتِ وَلَدَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا آخَرَ، فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِوِلَادَةِ الْوَلَدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ لِتَمَامِ الشَّرْطِ بِهِمَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوَلَدِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ الرَّابِعَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ التَّوْأَمَ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ حَبَلٍ تَامٍّ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الرَّابِعِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ لَا يَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ، وَفِي النُّزْهَةِ قَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ، ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا، وَتَعْتَدَّ بِعِدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ فِي الْحُكْمِ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ إلَى إيقَاعٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعِدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدَيْنِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي بَطْنَيْنِ، فَهُوَ سَوَاءٌ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِالْوَلَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِهِ وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْطِ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَا مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الثَّانِيَ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيقِ السَّابِقِ، وَقَدْ صَحَّ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ، تَطْلُقُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: أَوْ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ. وَبِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ جُنُونِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا يُعْدِمُ الْمَحَلِّيَّةَ إنَّمَا يُعْدِمُ الْأَهْلِيَّةَ لِلْإِيقَاعِ، وَالْإِيقَاعُ بِكَلَامِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ أَبَانَهَا فَوَلَدَتْ الْأَوَّلَ فِي غَيْرِ نِكَاحِهِ وَعِدَّتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَوَلَدَتْ، عِنْدَنَا، يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ وِلَادَةَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ لِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي. ، فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلْوُقُوعِ عِنْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ عِنْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْمَحَلُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ بِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، فَأَمَّا فِي حَالِ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِحَالِ التَّعْلِيقِ وَلَا حَالِ نُزُولِ الْجَزَاءِ إنَّمَا هُوَ حَالُ بَقَاءِ الْيَمِينِ. وَمِلْكُ الْمَحَلِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ الدَّارَ، عَتَقَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي رَجَبٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إذَا جَاءَ يَوْمُ الْأَضْحَى، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَجَاءَ يَوْمُ الْأَضْحَى، طَلُقَتْ، وَمَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الشَّرْطِ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْأَضْحَى ثُمَّ لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمَحَلِّ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَتَيْنِ فَحَاضَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَالثَّانِيَةَ فِي مِلْكٍ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِسَاعَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِسَاعَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَمَّ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتِ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَكَلَتْ عَامَّةَ الرَّغِيفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَأَكَلَتْ مَا بَقِيَ مِنْهُ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ شَرْطٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْحِنْثُ بِهِ يَحْصُلُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَصْلِ: إذَا قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَحَاضَتْ الثَّانِيَةَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ فِي قَوْلِهِ كُلَّمَا حِضْت، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِ إذَا حِضْت؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ لَا تَطْلُقُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ تَطْلُقُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْرَارِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَكُلَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ مَرَّةً ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى، وَانْعَقَدَتْ يَمِينٌ أُخْرَى فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَحَلِّ شَرْطٌ عِنْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ فِي مِلْكِهِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا نُزُولُ الْجَزَاءِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 فَكُلَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ طَلُقَتْ، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ الْجَامِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ حَيْضُهَا، وَالنِّفَاسُ لَيْسَ بِحَيْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ قَالَ: إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَوَطِئَهَا مَرَّةً فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا ثَانِيَةً حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَبِلَتْ فَطَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ عَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تَحْبَلْ، فَإِنْ تَبَيَّنَ فَرَاغُ رَحِمِهَا يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذَا حَالُهُ وَحَالُهَا مَادَامَ عِنْدَهُ، وَهُوَ جَوَابُ النُّزْهَةِ. فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ لَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَبَلٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَ النِّكَاحِ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَقِينٌ، وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ شَكٌّ، وَإِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ هَذَا الْحَبَلَ كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَشَرْطُ الْحِنْثِ حَبَلٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا إذَا لَوْ حَبِلَتْ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَلَدِ وَجَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَكِنْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ أَيْضًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ حَبَلٍ قَبْلَ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ. وَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَالْحِلُّ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بَيْنَهُمَا يَسْنُدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا وَضَعْت مَا فِي بَطْنِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِآخِرِهِمَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " مَا " يُوجِبُ التَّعْمِيمَ، فَشَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَنْ تَضَعَ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَلَدِ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُك هَذَا جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلَّا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا. فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ حَمْلِهَا غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي هَذَا الْجُوَالِقِ حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ مَا فِيهِ شَعِيرًا فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَإِذَا فِيهِ شَعِيرٌ وَحِنْطَةٌ لَمْ يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ امْتَحَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِطْنَةَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا تَقُولُ فِي عَنْزٍ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ لَا ذَكَرَيْنِ وَلَا أُنْثَيَيْنِ، وَلَا أَسْوَدَيْنِ وَلَا أَبْيَضَيْنِ؟ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَأَحَدُهُمَا أَسْوَدُ، وَالْآخَرُ أَبْيَضُ فَتَعَجَّبَ مِنْ فِطْنَتِهِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ كَمَا حَبَلَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَ الْحَبَلِ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ رَجْعِيًّا، وَالْوَطْءُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ يَكُونُ رَجْعَةً، فَإِنْ حَبَلَتْ مَرَّةً أُخْرَى، طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَلِدِي فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ سَكَتَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا طَالِقًا فِي وَقْتٍ لَا تَلِدُ فِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَكَمَا سَكَتَ فَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَحْبَلِي، وَفِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَحِيضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهَا مَعَ سُكُوتِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقَعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِحَيْضٍ بِزَمَانٍ، وَهُوَ مَا بَعْدَ كَلَامِهِ وَقَدْ جَعَلَهَا طَالِقًا إلَى غَايَةٍ وَهُوَ أَنْ تَحِيضَ أَوْ تَحْبَلَ أَوْ تَلِدَ. فَإِذَا وُجِدَتْ الْغَايَةُ مُتَّصِلًا بِسُكُوتِهِ فَقَدْ انْعَدَمَ الزَّمَانُ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَايَةً لِنَفْسِهِ فَلَا تَطْلُقُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مَعَ سُكُوتِهِ فَقَدْ وُجِدَ الزَّمَانُ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الطَّلَاقَ فَتَطْلُقُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَحْبَلِي، أَوْ مَا لَمْ تَحِيضِي وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ لِحَبَلٍ وَحَيْضٍ حَادِثٍ، يُقَالُ حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ وَحَاضَتْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِسُكُوتِهِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا فِيهِ مِنْ الْحَبَلِ وَالْحَيْضِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْحَيْضِ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً وَمَا يَبْرُزُ مِنْهَا حَادِثٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي الْحَبَلِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ الْحَبَلُ فِي مُدَّتِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يَكُونُ لِاسْتِدَامَتِهِ اسْمَ الِابْتِدَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: حَاضَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يُقَالُ: حَبِلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا يُقَالُ حَبِلَتْ وَوَضَعَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ نَافِيًا لِلْوُقُوعِ عَلَيْهَا لَا مُثْبِتًا؛ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي، أَوْ تُخْلَقِي، أَوْ قَبْلَ أَنْ أُولَدَ أَوْ أَنْ أُخْلَقَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك أَمْسِ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَمْسِ طَلُقَتْ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى وَقْتٍ كَانَ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ كَلَامُهُ مُعْتَبَرًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 فِي الْإِيقَاعِ ثُمَّ إنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَنِدًا إلَى أَمْسِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ الْإِسْنَادَ فَلِهَذَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك وَأَنَا صَغِيرٌ، أَوْ قَالَ: وَأَنَا نَائِمٍ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ الْإِيقَاعِ، فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْإِيقَاعِ لَا مُقِرًّا بِهِ. وَلَوْ قَالَ: وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَإِنْ عُرِفَ بِالْجُنُونِ قَبْلَ هَذَا لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ الْإِيقَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْجُنُونِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا، وَأَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ لَمْ تُعْرَفْ تِلْكَ الْحَالَةُ مِنْهُ؛ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الْإِضَافَةِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ. ، وَإِنْ قَالَ: قُلْت لَك أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، وَقَالَتْ هِيَ: طَلَّقْتنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ غَيْرُ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ فَهِيَ تَدَّعِي عَلَيْهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ، فَقَدْ جَعَلَ عَدَمَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا، وَلَا يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ مَا بَقِيَا حَيَّيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ حِينَ وَقَعَ الثَّلَاثُ بِإِيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ، وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ أَيْضًا قَبْلَ مَوْتِهَا. وَفِي النَّوَادِرِ يَقُولُ: لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَا لَمْ تَمُتْ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، لَوَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مِنْ حِكْمَةِ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ الْوُقُوعُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِك فَيَقَعُ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ. وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك طَلُقَتْ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ كَمَا سَكَتَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك. فَأَمَّا إذَا قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك. فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِإِذَا الشَّرْطَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ مَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا سَكَتَ يَقَعُ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فَالْكُوفِيُّونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ إذَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُجَازَى بِهِ مَرَّةً وَلَا يُجَازَى بِهِ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ فِيهِ مَعْنَى الْوَقْتِ أَصْلًا كَحَرْفِ أَنْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْبَصْرِيُّونَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: إذَا لِلْوَقْتِ، وَلَكِنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مَجَازًا، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَعْنَى الْوَقْتِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَهُمَا يَقُولَانِ: إذَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَ {إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]. وَيُقَالُ الرَّطْبُ إذَا اشْتَدَّتْ الْحَرُّ، وَالْبَرْدُ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ، وَالشَّرْطُ مَا هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لِلْوَقْتِ حَقِيقَةً فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَخْرُجْ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَتَى شِئْت بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْت. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: " إذَا " قَدْ تَكُونُ لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً يَقُولُ الرَّجُلُ: إذَا زُرْتَنِي، زُرْتُك، وَإِذَا أَكْرَمْتَنِي، أَكْرَمْتُك، وَالْمُرَادُ الشَّرْطُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ شِعْرٌ: اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْكَ حُصَاصَةٌ فَتَحَمَّلْ مَعْنَاهُ وَإِنْ تُصِبْك، فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ هُنَا، إنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا. وَإِنْ جُعِلَ بِمَعْنَى مَتَى، طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَلَا نُوقِعُهُ بِالشَّكِّ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا " إذَا " بِمَعْنَى الشَّرْطِ، خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بِمَعْنَى مَتَى، لَمْ يَخْرُجْ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَقَدْ عَرَفْنَا كَوْنَ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا نَخْرُجُهُ مِنْ يَدِهَا بِالشَّكِّ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا سَكَتُّ عَنْ طَلَاقِك، فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ كَمَا سَكَتَ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ سَكَتُّ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ سَكَتَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا. وَعَقِيبَ سُكُوتِهِ يُوجَدُ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، بَعْضُهَا عَلَى أَثَرِ الْبَعْضِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بِطَرِيقِ الْإِتْبَاعِ وَلَا يَقَعْنَ مَعًا حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَالَ: مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ مُوصِلًا بِكَلَامِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةٌ. وَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً يُوجَدُ وَقْتٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، وَإِنْ لَطَّفَ، وَذَلِكَ يَكْفِي شَرْطًا لِلْحِنْثِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْبَرُّ مُرَادُ الْحَالِفِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْبَرُّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى، وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، يُجْعَلُ عَفْوًا. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ رَكِبْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَهُوَ رَاكِبُهَا فَأَخَذَ فِي النُّزُولِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، فَقَدْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً، وَهَذَا: لِأَنَّ السُّكُوتَ فِيمَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَا لَمْ أَقُمْ مِنْ مَقْعَدِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، إنْ قَامَ كَمَا سَكَتَ لَمْ تَطْلُقْ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ سَكَتَ هُنَيْهَةً طَلُقَتْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حِينَ لَمْ أُطَلِّقَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا سَكَتَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " لَمْ " عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَدْ مَضَى حِينَ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، فَكَانَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ مَوْجُودًا كَمَا سَكَتَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَمَانَ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ يَوْمَ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ حَيْثُ لَمْ أُطَلِّقْكِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " حَيْثُ " عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَكَمْ مِنْ مَكَان لَمْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: حِينَ لَا أُطَلِّقُك لَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " لَا " لِلِاسْتِقْبَالِ، وَإِنْ نَوَى بِحِينَ وَقْتًا يَسِيرًا أَوْ طَوِيلًا، تَعْمَلْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ حِينَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى سَاعَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أَيْ وَقْتَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ. وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43]، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] فَإِذَا نَوَى شَيْئًا، كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، كَانَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا حِينًا قَالَ: هُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ النَّخْلَةَ يُدْرَكُ ثَمَرُهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] وَلِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِهِ سَاعَةً، لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْحِينِ عَادَةً، وَمَتَى أَرَادَ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ قِيَامَ السَّاعَةِ، اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْأَبَدِ فَتَعَيَّنَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُرَادًا بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَمَانَ لَا أُطَلِّقُك فَإِنَّ لَفْظَةَ حِينٍ وَزَمَانٍ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَكَ مُنْذُ حِينٍ، وَلَمْ أَلْقَك مُنْذُ زَمَانٍ. وَلَوْ قَالَ: يَوْمَ لَا أُطَلِّقُك فَإِذَا مَضَى بَعْدَ يَمِينِهِ يَوْمٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ، طَلُقَتْ حَتَّى إذَا قَالَ هَذَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى يُقَدَّرَ الصَّوْمُ بِالْإِمْسَاكِ فِيهِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: يَوْمَ أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]، وَمَنْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، يَلْحَقْهُ هَذَا الْوَعِيدُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ أَيْ وَقْتَ إقْبَالِهِ، أَوْ إدْبَارِهِ. فَإِذَا قُرِنَ بِمَا لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ وَلَا يَكُونُ مُمْتَدًّا، كَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ، وَإِذَا قُرِنَ بِمَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ كَالصَّوْمِ، كَانَ بِمَعْنَى بَيَاضِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُرِنَ بِمَا يَكُونُ مُمْتَدًّا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا قَالَ فِي الطَّلَاقِ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَيْلَةَ أَدْخُلُهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَ نَهَارًا، لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ خَاصٌّ لِسَوَادِ اللَّيْلِ وَهُوَ ضِدُّ النَّهَارِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ بِالشَّيْءِ ضِدَّهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ إلَى قَرِيبٍ، فَإِنْ نَوَى فِيهِ شَيْئًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَرِيبٌ، فَالْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَفِي الْحِينِ وَالزَّمَانِ هِيَ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفِي الْقَرِيبِ إلَى مُضِيِّ مَا دُونَ الشَّهْرِ حَتَّى إذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ شَهْرٌ إلَّا يَوْمًا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ فَمَا فَوْقُهُ آجِلٌ، وَمَا دُونَ الشَّهْرِ عَاجِلٌ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَالْعَاجِلُ مَا يَكُونُ قَرِيبًا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ. فَإِنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، طَلُقَتْ وَلُغِيَ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَمِلُ الْأَجَلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَى شَهْرٍ؛ لِبَيَانِ الْأَجَلِ، وَالْأَجَلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَصْلِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أَصْلِهِ كَالْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْأَجَلِ هُنَا فِيمَا أَوْقَعَهُ لَا يَنْفِي الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يَلْغُو الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْوَاقِعُ لَا يَحْتَمِلُ الْأَجَلَ، وَلَكِنَّ الْإِيقَاعَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ، وَالْإِيقَاعُ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ. وَلَوْ جَعَلْنَا حَرْفَ " إلَى " دَاخِلًا عَلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ كَانَ عَامِلًا فِي تَأْخِيرِ الْوُقُوعِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ، كَانَ لَغْوًا، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَهْمَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ فَجَعَلْنَاهُ دَاخِلًا عَلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ، وَقُلْنَا بِتَأْخِيرِ الْوُقُوعِ إلَى مَا بَعْدَ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، تَطْلُقُ كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ لِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُدَنْ بِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ، فَنِيَّتُهُ التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ الطَّعَامَ، وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ طَلُقَتْ كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَيْضًا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ آخِرَ النَّهَارِ، صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَهُمَا، ذُكِرَ الْخِلَافُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ قَوْلِهِ غَدٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي غَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، فَإِذَا عَنَى جُزْءًا خَاصًّا مِنْهُ، كَانَ هَذَا كُنْيَةَ التَّخْصِيصِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: حَرْفُ " فِي " لِلظَّرْفِ، وَالظَّرْفُ قَدْ يَشْغَلُ جَمِيعَ الْمَظْرُوفِ، وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: فِي الْجُوَالِقِ حِنْطَةٌ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوءًا مِنْ الْحِنْطَةِ. فَإِذَا ذَكَرَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْوَقْتِ حَرْفَ الظَّرْفِ؛ كَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمَلًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، أَوْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَالنِّيَّةُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ فِي الْقَضَاءِ. وَالْوَقْتُ إنَّمَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِيهِ لَا أَنْ يَكُونَ شَاغِلًا لَهُ، وَالْوُقُوعُ يَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى الظَّرْفِ، وَإِذَا قَالَ: غَدًا، فَلَمْ يُدْخِلْ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْوَقْتِ حَرْفَ الظَّرْفِ، فَكَانَ حَقِيقَتُهُ الْوَصْفَ لَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي التَّخْصِيصِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا رَأَى الْهِلَالَ فَقَدْ وُجِدَ جُزْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِلْوُقُوعِ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ آخِرَ رَمَضَانَ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا فَهِيَ طَالِقٌ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ وَقْتَيْنِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَفِي مِثْلِهِ الْوُقُوعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا، وَهُوَ الْيَوْمُ، وَلَوْ قَالَ: غَدًا الْيَوْمَ، طَلُقَتْ غَدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ تَنْجِيزٌ وَقَوْلَهُ: غَدًا إضَافَةٌ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ، وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ؛ فَكَانَ قَوْلُهُ غَدًا لَغْوًا، وَإِذَا قَالَ: أَوَّلًا غَدًا، كَانَ هَذَا إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ، فَلَوْ نَجَّزَ بِذِكْرِهِ الْيَوْمَ لَمْ يَبْقَ مُضَافًا، وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحُكْمِ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ فَكَانَ لَغْوًا، وَإِنْ قَالَ: الْيَوْمَ وَغَدًا؛ طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فَقَدْ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِالطَّلَاقِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا. وَإِنْ قَالَ: غَدًا وَالْيَوْمَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً الْيَوْمَ عِنْدَنَا، وَالْأُخْرَى غَدًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ فَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ فَإِنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ وَصْفٌ وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ غَدًا؛ طَلُقَتْ لِلْحَالِ، وَكَانَ قَوْلُهُ غَدًا حَشْوًا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ الْغَدِ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ تَنْجِيزٌ، وَهُوَ يُرِيدُ بِنِيَّتِهِ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ الْمَنْوِيِّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا جَاءَ غَدٌ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، وَبِذِكْرِ الشَّرْطِ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ يَخْرُجُ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا كَلَّمْتَ فُلَانًا، أَوْ إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا، لَمْ تَطْلُقْ قَبْلَ الْكَلَامِ وَيَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ الشَّرْطِ أَنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: الْيَوْمَ غَدًا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِذِكْرِ الشَّرْطِ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوعِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ، كَانَتْ طَالِقًا أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتَيْنِ فَيَقَعُ عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ ذِكْرًا. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ، فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ رَمَضَانَ يَجِيءُ، هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْلُومُ بِالْعَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ الْأَجَلَ فِي الْيَمِينِ إلَى رَمَضَانَ، أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ إلَى رَمَضَانَ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ الثَّانِيَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ كَلَامِهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالطَّلَاقِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ يَجِيءُ بَعْدَ يَمِينِهِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ السَّبْتِ فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ سَبْتٍ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الثَّانِيَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي مَكَان مَوْجُودٍ، وَالطَّلَاقُ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا فِي مَكَان تَتَّصِفُ بِهِ فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ إذَا أَتَيْت مَكَّةَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَكَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَوْبِ كَذَا وَعَلَيْهَا غَيْرُهُ طَلُقَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 لِأَنَّ وَصْفَهُ إيَّاهَا بِالطَّلَاقِ لَا يَخْتَصُّ بِثَوْبٍ دُونَ ثَوْبٍ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ إذَا لَبِسَتْ ذَلِكَ الثَّوْبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الثَّوْبِ كِنَايَةً عَنْ فِعْلِ اللُّبْسِ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي الدَّارِ أَوْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الظِّلِّ أَوْ فِي الشَّمْسِ، وَإِنْ قَالَ: فِي ذَهَابِك إلَى مَكَّةَ أَوْ فِي دُخُولِ الدَّارِ أَوْ فِي لُبْسِك ثَوْبَ كَذَا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " فِي " لِلظَّرْفِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاغِلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ يَسْبِقُ الظَّرْفَ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يَسْبِقُ الْجَزَاءَ وَيَجْعَلُ حَرْفَ " فِي " بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَيْ مَعَ عِبَادِي وَيُقَالُ: دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فِي جُنْدِهِ أَيْ مَعَهُمْ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِك الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَعَ الدَّارِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ الطَّلَاقَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ تُصَلِّينَ طَلُقَتْ لِلْحَالِ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْتِ تُصَلِّينَ ابْتِدَاءٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ إذَا صَلَّيْتُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْجَزَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْحَالِ تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ اشْتِغَالِك بِالصَّلَاةِ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ مَا نَوَى، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مُصَلِّيَةً فِي الْقَضَاءِ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت إذَا صَلَّيْتِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَالِ. وَأَهْلُ النَّحْوِ يَقُولُونَ إنْ قَالَ: مُصَلِّيَةٌ بِالرَّفْعِ لَا يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: مُصَلِّيَةً بِالنَّصْبِ حِينَئِذٍ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِك أَوْ فِي وَجَعِك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ إمَّا؛ لِأَنَّ حَرْفَ " فِي " بِمَعْنَى مَعَ أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْوَجَعَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ ظَرْفًا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ مَجَازًا لِتَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ فَقَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ وَهُوَ أَوَّلُ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ فَيُرَاعَى وُجُودُ هَذَا الْوَقْتِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ قَدْ تَيَقَّنَ مُضِيُّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْجِيزًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ. فَأَمَّا إذَا قَدِمَ فُلَانٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 أَوْ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ صَارَ مُرَاجِعًا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَفِي الْبَائِنِ يَلْزَمُهُ مَهْرٌ بِالْوَطْءِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فِي الشَّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ مَهْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي الْقُدُومِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَا، وَفِي الْمَوْتِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِإِيقَاعِهِ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ أَوْ مَوْتُهُ فَيَقَعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَنَا مَا لَمْ يُوجَدْ الْقُدُومُ وَالْمَوْتُ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَنَا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا كَمَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا عِنْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِك غُلَامٌ؛ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يُحْكَمُ بِالْوُقُوعِ حَتَّى تَلِدَ، فَإِذَا وَلَدَتْ غُلَامًا تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أُوقِعَ عِنْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَذَلِكَ إذَا أُوقِعَ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ تَطْلُقْ. وَلَوْ انْتَصَبَ التَّزَوُّجُ شَرْطًا وَكَانَ أَوَانُ الْوُقُوعِ بَعْدَهُ لَطَلُقَتْ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ تَوَقَّفَ بِكَلَامِهِ عَلَى وُجُودِ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ مَعْنًى، وَالْجَزَاءُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الشَّرْطِ ثُمَّ هَذَا فِي الْقُدُومِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَفِي الشَّرْطِ مَعْنَى الْخَطَرِ وَالْمَوْتِ. وَإِنْ كَانَ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ مَضَى الشَّهْرُ بَعْدَ كَلَامِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ كَائِنًا عِنْدَ يَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ؛ فَكُلُّ شَهْرٍ يَمْضِي بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ الْمَوْتُ بِآخِرِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ كَمَا فِي الْقُدُومِ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدُمَ أَصْلًا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِشَهْرٍ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا لَغْوٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَ إلَيْهِ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِضَافَةِ. وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَيْضِ الشَّرْطُ يُوجَدُ بِرُؤْيَةِ قَطْرَةٍ مِنْ الدَّمِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ تَمَامِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ هُنَاكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَبَلِ كَلَامُهُ تَنْجِيزٌ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ يَكُونُ تَنْجِيزًا فَلَمْ يَكُنْ الْوُقُوعُ مَوْقُوفًا عَلَى أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ، وَلَكِنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: إنَّ مَوْتَ فُلَانٍ حَقٌّ كَائِنٌ، وَقُدُومُهُ لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ شَرْطًا بِذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ فِيهِ، أَوْ وُجُودِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَكِنْ وُجِدَ مَعْنَى الشَّرْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى خَطَرٍ وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَهَذَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ الشَّرْطِ. فَإِذَا تَوَقَّفَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى وُجُودِهِ وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، انْتَصَبَ شَرْطًا، فَأَمَّا الْمَوْتُ فَلَا خَطَرَ فِي وُجُودِهِ بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مَنْعَ الْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، كَانَ مُعَرِّفًا لِلْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ شَعْبَانَ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ يَصِيرُ مَعْلُومًا قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَهُنَا لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَنَا، تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِآخِرِهِ قُدُومُ فُلَانٍ أَوْ مَوْتُهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ هَذَا الِاتِّصَالُ لَا يَقَعُ أَصْلًا إلَّا بَعْدَ الْقُدُومِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَا يَقْدَمُ أَصْلًا، وَبِدُونِ هَذَا الِاتِّصَالِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا، أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، هَذَا الِاتِّصَالُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ فَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ فِي الشُّهُورِ الَّتِي تَأْتِي شَهْرًا مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَكِنْ لَا يُدْرَى أَيُّ شَهْرٍ ذَاكَ فَلَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ مَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا لَنَا، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ الْوَقْتَ الْمُضَافَ إلَيْهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا قَبْلَ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ صَارَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْلُومًا فَلِهَذَا لَا يَتَأَخَّرُ الطَّلَاقُ عَنْ الْمَوْتِ. وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مَعْلُومًا مَا لَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةُ الْقُدُومِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدَمَ فَلِهَذَا تَأَخَّرَ الطَّلَاقُ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِك بِشَهْرٍ فَمَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ الْيَمِينِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 أَوَّلِ الشَّهْرِ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الشَّهْرِ، فَعَلَيْهِ مَهْرٌ آخَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَامَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَتْ أَوْ غَرِقَتْ فَهَذَا مَوْتٌ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ ثُمَّ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ عِنْدَهُمَا لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَتَّى إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ الْأَضْحَى بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ يَنْسَلِخُ ذُو الْقِعْدَةِ؛ لِعِلْمِنَا بِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمُضَافَ إلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ يُوجَدْ: فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ طَلُقَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَعِنْدَهُمَا طَلُقَتْ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ فَقَدِمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَقْدَمَ الْآخَرُ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ فَرْقُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْقُدُومَ يَنْتَصِبُ شَرْطًا، وَالْمَوْتُ لَا يَنْتَصِبُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ قَبْلَ قُدُومِهِمَا بِشَهْرٍ وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِقُدُومِ أَحَدِهِمَا؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْدَمَ الْآخَرُ أَصْلًا. فَأَمَّا فِي الْمَوْتِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْآخَرِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْوَقْتَ إنَّمَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا بِشَهْرٍ إذَا مَاتَا مَعًا، فَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَبَقِيَ الْآخَرُ زَمَانًا، فَأَوَّلُ هَذَا الشَّهْرِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِشَهْرٍ، وَقَبْلَ الْآخَرِ بِسَنَةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَوْتُهُمَا مَعًا نَادِرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ، فَأَوَّلُ هَذَا الشَّهْرِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا بِشَهْرٍ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ كَمَا يُقَالُ: رَمَضَانُ قَبْلَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْأَضْحَى بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَ (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ فُلَانًا يَقْدَمُ إلَى شَهْرٍ فَقَدِمَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ طَلُقَتْ بَعْدَ الْقُدُومِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَمَا أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا طَرِيقَ لِلْحَالِفِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنَّمَا تَنْبَنِي الْأَحْكَامُ عَلَى مَا يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ إلَى شَهْرٍ فَلِهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 تَأَخَّرَ الْوُقُوعُ إلَى الْقُدُومِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَطْوَلُكُمَا حَيَاةً طَالِقٌ السَّاعَةَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى تَمُوتَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ طُولُ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي حَتَّى إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا بِنْتَ عَشْرِ سِنِينَ، وَالْأُخْرَى بِنْتَ سِتِّينَ سَنَةً لَمْ تَطْلُقْ الْعَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ طُولَ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُرَادٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَا مَعًا، فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى فِي الْحَالِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَلُقَتْ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ أَطْوَلُهُمَا حَيَاةً، وَأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَعْنَى كَلَامِ الزَّوْجِ الَّتِي تَبْقَى مِنْكُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْأُخْرَى طَالِقٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ قَبْلَ مَوْتِ إحْدَاهُمَا بَلْ هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَا مَعًا فَلِهَذَا انْتَصَبَ شَرْطًا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ، فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ؛ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ الَّتِي أَجَابَتْهُ، لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعَ الْجَوَابَ فَيَصِيرُ مُخَاطِبًا لِلْمُجِيبَةِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت زَيْنَبَ قُلْنَا تَطْلُقُ زَيْنَبُ بِقَصْدِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَتَطْلُقُ عَمْرَةُ أَيْضًا بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ تَطْلُقُ، فَإِنْ قَالَ: لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى بِهَذَا الِاسْمِ تَزَوَّجْتهَا سِرًّا، وَإِيَّاهَا عَنَيْت قُلْنَا تَطْلُقُ تِلْكَ بِنِيَّتِهِ، وَالْمَعْرُوفَةُ بِالظَّاهِرِ، وَلَوْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ طَلُقَتْ زَيْنَبُ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعَ النِّدَاءَ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمُنَادَى وَهِيَ زَيْنَبُ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يُشِيرُ إلَيْهَا: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا هِيَ عَمْرَةُ طَلُقَتْ عَمْرَةُ، إنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ، لَمْ تَطْلُقْ زَيْنَبُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِالِاسْمِ لَا، فَكَانَ هَذَا أَقْوَى، وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ؛ فَكَانَ هُوَ مُخَاطِبًا بِالْإِيقَاعِ لِمَنْ أَشَارَ إلَيْهَا خَاصَّةً، وَإِنْ قَالَ: يَا زَيْنَبُ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُشِرْ إلَى شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا فَظَنَّهَا زَيْنَبَ، وَهِيَ غَيْرُهَا طَلُقَتْ زَيْنَبُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَى الْإِيقَاعَ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ هُنَا فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسَمَّاةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ. فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ هِيَ وَلَا الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ عَنَاهَا بِقَلْبِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْإِيقَاعُ عَلَى زَيْنَبَ الَّتِي لَمْ يَعْنِهَا بِقَلْبِهِ، وَعَلَى الَّتِي عَنَاهَا بِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهَا بِلِسَانِهِ حِينَ أَتْبَعَ الْخِطَابَ النِّدَاءَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ أَشَارَ بِأُصْبُعَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَشَارَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْعَدَدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 فِي الثَّالِثَةِ» فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. ثُمَّ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّهَا تَقَعُ بِالْأَصَابِعِ الْمَنْشُورَةِ لَا بِالْأَصَابِعِ الْمَعْقُودَةِ، وَالْعُرْفُ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَشَرَ مِنْ الْأَصَابِعِ دُونَ مَا عَقَدَ حَتَّى لَوْ قَالَ: عَنَيْت الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعَيْنِ اللَّتَيْنِ عَقَدْت لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِ مَا قَالَ مُحْتَمَلًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَنَيْت الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ دُونَ الْأَصَابِعِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ إنْ جَعَلَ ظَهْرَ الْكَفِّ إلَيْهَا، وَالْأَصَابِعَ الْمَنْشُورَةَ إلَى نَفْسِهِ، دِينَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ جَعَلَ الْأَصَابِعَ الْمَنْشُورَةَ إلَيْهَا، لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِلُ بِإِشَارَتِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ: هَكَذَا فَإِذَا لَمْ يَقُلْ كَانَ وُجُودُ الْإِشَارَةِ كَعَدَمِهَا فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا فَأَمْسَكَ رَجُلٌ عَلَى فِيهِ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِهِ لَا بِقَصْدِهِ، وَهُوَ مَا تَلَفَّظَ إلَّا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ، فَلَفْظُ الطَّلَاقِ هُنَا لَمْ يَتَّصِلْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ، طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِمَا قُلْنَا أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا إيقَاعٌ عَامِلٌ فِي الْوُقُوعِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا صَادَفَهَا وَهِيَ حَيَّةٌ دُونَ مَا صَادَفَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَمَاتَتْ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْكَلَامِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْطُوفَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إذَا اتَّصَلَ الشَّرْطُ بِآخِرِهِ؛ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا كَمَا إذَا اتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ اتِّصَالُ الشَّرْطِ بِالْكَلَامِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَإِنْ قَالَ: إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَذَلِكَ إلَيْهِ يُوقِعُهَا عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ فَإِنَّ إيجَابَ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ نُفَاةُ الْقِيَاسِ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ الْحَدِيثُ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ»، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ يَصِحُّ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُعَلَّقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ، وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 الْبَيْعُ يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ إذَا كَانَ لَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَفِيمَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السِّعَةِ؛ لَأَنْ يَصِحَّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَانَ أَوْلَى. وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِالْبَيَانِ كَمَا يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت هَذِهِ حِينَ تَكَلَّمْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فَيَصِحُّ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا نَوَيْت وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا يُقَالُ لَهُ: أَوْقِعْ الْآنَ عَلَى أَيَّتِهِمَا شِئْتَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى مُنَكَّرٍ، وَأَحْكَامُ الطَّلَاقِ تَتَقَرَّرُ فِي الْمُنَكَّرِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ فَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: أَوْقِعْ عَلَى أَيَّتِهِمَا شِئْت. وَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ طَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي إحْدَاهُمَا لِمُزَاحَمَةِ الْأُخْرَى مَعَهَا وَقَدْ زَالَتْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الَّتِي مَاتَتْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، وَتَعْيِينُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ، فَإِذَا خَرَجَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الْمَيِّتَةَ حِينَ تَكَلَّمْتُ صُدِّقَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُبْطِلَ مِيرَاثَهُ عَنْهَا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِ الطَّلَاقِ عَنْ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ فِيهَا شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَاطَّلَعَتْ إحْدَاهُنَّ، فَقَالَ الزَّوْجُ الَّتِي اطَّلَعَتْ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّتُهُنَّ هِيَ، وَقَدْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّهَا كَانَتْ إحْدَاهُنَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ هُنَا عَلَى الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ. وَلَا طَرِيقَ إلَى التَّحَرِّي فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْجِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَيَانُ بِالْإِيقَاعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ هُنَا، وَقَدْ تَمَّ بِخِلَافِ الْأَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِاخْتِلَاطِ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَوْلَى، فَالْإِبْهَامُ هُنَاكَ مِنْهُ، فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، وَيَتْرُكَهُنَّ حَتَّى يَبِنَّ، وَلَا يَتَزَوَّجَ شَيْئًا مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّتُهُنَّ صَاحِبَةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْفَرْجِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي هَذَا. (قَالَ): فَإِنْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ فَخَاصَمَتْهُ فِي الطَّلَاقِ يَحْلِفُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَانَ يَحْلِفُ لَهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، فَإِنْ حَلَفَ أَمْسَكَهَا؛ لِأَنَّا عَرَفْنَاهَا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا فَحِينَ حَلَفَ؛ بَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا قَبْلَ هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ، وَتَزَوَّجْنَ بِأَزْوَاجٍ غَيْرِهِ، وَدَخَلَ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، ثُمَّ فَارَقُوهُنَّ نَكَحَ أَيَّتَهنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 شَاءَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ قَدْ حَلَّتْ لَهُ بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ. وَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا، وَجَحَدَ الزَّوْجُ يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ جَمِيعًا بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا مُجَازَفَتَهُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِيهِنَّ، وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَا تَرْفَعُ الْحُرْمَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ تَعَيَّنَتْ لِلطَّلَاقِ الرَّابِعَةُ، وَلَا يَحْلِفُ لَهَا وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُنَّ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ: أَيَّتُكُنَّ أَكَلَتْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهِيَ طَالِقٌ فَأَكَلْنَهُ؛ طَلُقْنَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيَّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، وَحَرْفُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَصَارَ مُعَلِّقًا طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِتَنَاوُلِهَا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلْنَهَا؛ طَلُقْنَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَيَّتُكُنَّ شَاءَتْ فَهِيَ طَالِقٌ فَشِئْنَ جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ بَشَّرَتْنِي بِكَذَا، فَهِيَ طَالِقٌ فَبَشَّرْنَهُ جَمِيعًا مَعًا؛ طَلُقْنَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنْ بَشَّرَتْهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى طَلُقَتْ الْأُولَى وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْبَشِيرَةُ فَإِنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ صِدْقٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ عِلْمُهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ خَبَرٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ بِهِ عِلْمُهُ، إذَا كَانَ صِدْقًا، فَهُوَ بِشَارَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِشَرِّهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْخَبَرُ بِشَارَةً؛ لِتَغَيُّرِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْزِنًا يَتَغَيَّرُ إلَى الصُّفْرَةِ، وَإِنْ كَانَ سَارًّا إلَى الْحُمْرَةِ، وَلَكِنْ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخَبَرِ السَّارِّ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ. فَأَمَّا الثَّانِيَةُ أَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ، فَكَانَتْ مُخْبِرَةً لَا بَشِيرَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» فَاسْتَبَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يُخْبِرَاهُ فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: بَشَّرَنِي بِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَخْبَرَنِي بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (قَالَ): قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الدَّارِ، أَوْ مِلْءَ الْجُبِّ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِلَّا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَمْلَأُ الْوِعَاءَ الْعَظِيمَةَ فِي نَفْسِهِ تَارَةً؛ وَلِكَثْرَةِ عَدَدِهِ أُخْرَى، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ الْعَدَدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الْعَدَدِ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْفَ بِعِظَمِ التَّطْلِيقَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَدَّ حُكْمُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ يَقِينًا، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكًّا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مُجَرَّدُ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ لَا يَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ قَالَ: وَاحِدَةٌ تَمْلَأُ الدَّارَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَا تَسَعُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْوَاحِدَةِ فَيَبْقَى مَعْنَى الْوَصْفِ بِالْعِظَمِ فَتَكُونُ بَائِنَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يُوصَفُ بِهِ فَكَانَ لَاغِيًا فِي وَصْفِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: تَطْلِيقَةٌ تَصِيحُ، أَوْ تَطِيرُ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ لَغْوًا، ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَتَى صَرَّحَ بِلَفْظِ الْعِظَمِ يَكُونُ الْوَاقِعُ بَائِنًا سَوَاءٌ شَبَّهَهَا بِعَظِيمٍ، أَوْ صَغِيرٍ حَتَّى إذَا قَالَ: عِظَمَ الْجَبَلِ أَوْ عِظَمَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ أَوْ الْخَرْدَلَةِ تَكُونُ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ بِالْعِظَمِ، وَلَكِنْ قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ تَكُونُ رَجْعِيَّةً، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ بَائِنًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا شَبَّهَ التَّطْلِيقَةَ بِمَا يَكُونُ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ كَالْجَبَلِ، تَقَعُ بَائِنَةً، وَإِذَا شَبَّهَهَا بِمَا يَكُونُ حَقِيرًا كَالْخَرْدَلَةِ تَكُونُ رَجْعِيَّةً. وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً عَظِيمَةً، أَوْ كَبِيرَةً، أَوْ شَدِيدَةً، أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ عَرِيضَةً فَوَصَفَهَا بِشَيْءٍ يُشَدِّدُهَا بِهِ؛ فَهِيَ بَائِنَةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مَعْنَى الشِّدَّةِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِهَا، وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّدَارُكِ بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى الصِّينِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْهَا بِعِظَمٍ، وَلَا كِبَرٍ إنَّمَا مَدّهَا إلَى مَكَان، وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ نَفْسَهُ، وَلَا حُكْمَهُ وَلِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَصَرَ حُكْمَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ تَكُونُ وَاقِعَةً مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ زِيَادَةُ شِدَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى الشِّتَاءِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً بَعْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي إلَى شَهْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَى الصَّيْفِ، وَمَعْرِفَةُ دُخُولِ الشِّتَاءِ بِلُبْسِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَرْوَ، وَالثَّوْبَ الْمَحْشُوَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَدُخُولِ الصَّيْفِ بِإِلْقَاءِ أَكْثَرِ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِمَّنْ يُرَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرَّبِيعُ فِي آخِرِ الشِّتَاءِ قَبْلَ دُخُولِ الصَّيْفِ إذَا كَانَ النَّاسُ بَيْنَ لَابِسٍ لِلْمَحْشُوِّ، وَغَيْرِ لَابِسٍ لَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْخَرِيفُ فِي آخِرِ الصَّيْفِ قَبْلَ دُخُولِ الشِّتَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقِيلَ: الرَّبِيعُ إذَا نَبَتَ الْعُشْبُ، وَالصَّيْفُ إذَا احْتَرَقَ الْعُشْبُ وَجَفَّ، وَالْخَرِيفُ إذَا أَخَذَ النَّاسُ فِي التَّأَهُّبِ لِلشِّتَاءِ، وَالشِّتَاءُ إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَمَّا أَوْقَعَهُ وَلَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ أُخْرَيَيْنِ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَلَا عَلَى إقَامَةِ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَهَا بِإِيقَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ فَلُغِيَ آخِرُ كَلَامِهِ، وَإِنْ قَالَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا: نَوَيْت بِالِاثْنَتَيْنِ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ، وَأُخْرَى مَعَهَا لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ إيقَاعُ مُبْتَدَأٌ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَدِينٌ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: قَدْ كُنْتُ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً، لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ اثْنَتَيْنِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ فَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَاحِدَةِ بَاطِلٌ، وَإِقْرَارُهُ بِالثِّنْتَيْنِ صَحِيحٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ الْإِقْرَارُ إخْبَارٌ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِخِلَافِ الْإِيقَاعِ، وَالْعَادَةِ. الظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذَا اللَّفْظِ يُرَادُ تَدَارُكُ الْغَلَطِ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مَعَ إعَادَتِهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً، لَا، بَلْ حَجَّتَيْنِ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ حَجَّتَيْنِ، وَإِذَا قَالَ: سِنِّي سِتُّونَ سَنَةً لَا، بَلْ سَبْعُونَ، يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ سَبْعِينَ لَا غَيْرُ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، لَا بَلْ فُلَانَةُ طَلُقَتَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الثَّانِيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا خَبَرًا فَيَكُونُ خَبَرُ الْأُولَى خَبَرًا لَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا، بَلْ فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا، بَلْ فُلَانَةُ، أَوْ قَالَ، بَلْ فُلَانَةُ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَا بَلْ فُلَانَةُ طَالِقٌ طَلُقَتْ الْأُولَى ثَلَاثًا، وَالثَّانِيَةُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلثَّانِيَةِ خَبَرًا فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِذَلِكَ عَنْ جَعْلِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ خَبَرًا لَهَا. وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، أَوْ فُلَانَةُ طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ كَلِمَةِ " أَوْ " إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، بَيَانُهُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إحْدَاهُمَا طَالِقٌ، وَمَنْ يَقُولُ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّشْكِيكِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّشْكِيكَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِيُوضَعَ لَهُ حَرْفٌ، وَلَكِنَّ حَقِيقَتَهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَالْخِيَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ " أَوْ " بَيْنَ عَدَدَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا، وَالْبَيَانُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكُلَّمَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَبِلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، وَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا حِينَ حَبِلَتْ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا يَقَعُ بِهِ عَلَيْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، وَهِيَ حُبْلَى، فَذَلِكَ مِنْهُ رَجْعَةٌ، ثُمَّ تَطْلُقُ بِالْوِلَادَةِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَجْعَتِهَا، فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 حَبِلَتْ، وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ عَلَيْهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، ثُمَّ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ، إنْ تَزَوَّجْتُك، أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك، أَوْ مَتَى تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، حُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ بِشَرْطِ التَّزَوُّجِ فَيَقَعْنَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مَعًا كَمَا لَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ، بَيَانُهُ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ بِهِ فَرْضِيَّةُ الطَّهَارَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَيَكُونُ مُخْبِرًا بِمَجِيئِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجِيءِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، فَالْمَذْكُورُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] مَعْنَاهُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَهُنَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا جُمْلَةً، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَبِأَنْ كَانَ لَوْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتَفَرَّقُ الْوُقُوعُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَلَّقَ يَتَفَرَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ؛ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَلَوْ نَجَّزَ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُنَجَّزَ طَلَاقٌ فَتَبِينُ بِالْأُولَى قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ جُمْلَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَيَقَعْنَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَبَعْدَهَا أُخْرَى، وَبَعْدَهَا أُخْرَى، فَإِذَا وَقَعْنَ مُتَفَرِّقَاتٍ، بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي اللُّغَةِ لِعَطْفٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَضِيَ جَمْعًا، وَلَا تَرْتِيبًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، لَا يَقْتَضِي جَمْعًا حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَنْ يَقُولَ وَعَمْرٌو بَعْدَهُ كَمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ: وَعَمْرٌو مَعَهُ، فَإِذَا كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّطْلِيقَةُ الْأُولَى تَعَلَّقَتْ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالثَّانِيَةُ بِوَاسِطَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا كَالْقِنْدِيلِ إذَا عُلِّقَ بِحَبْلٍ بِحَلَقٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَقَةِ الْأُولَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَبِالْحَلَقَةِ الثَّانِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْأُولَى، وَكَعِقْدِ لُؤْلُؤٍ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا تَعَلَّقَ وَهَبْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا يَوْمئِذٍ فَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا كَمَا تَعَلَّقَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعَادَ الشَّرْطَ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ هُنَاكَ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِنَّمَا التَّفَرُّقُ فِي أَزْمِنَةِ التَّعْلِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا فِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا، بَلْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَا، بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ فَتَعَلَّقَ الثِّنْتَانِ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأُولَى، وَهُنَا حَرْفُ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ نَجَّزَ بِقَوْلِهِ لَا، بَلْ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكَلُّمُ بِالثِّنْتَيْنِ، لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، وَأَمَّا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ فَنَقُولُ: أَوَّلُ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَهُنَا فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ إيقَاعٌ وَبِآخِرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ، فَإِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَيْسَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ، كَانَ هَذَا، وَالتَّنْجِيزُ سَوَاءً، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ نِكَاحًا مَوْقُوفًا، فَقَالَ الْمَوْلَى: أَعْتَقَتْ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ كَعِتْقِهِمَا مَعًا، وَلَوْ زَوَّجَ أُخْتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فِي عُقْدَتَيْنِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ نِكَاحُهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَزْتهمَا؛ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَإِنْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مَا عَطَفَ الثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ عَلَى الْأُولَى فَتَتَعَلَّقُ الْأُولَى بِالشَّرْطِ وَتَلْغُو الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ. وَلَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَسَقَطَ عَنْهُ الظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ تَعَلَّقَهُمَا بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ الطَّلَاقِ فَبِسَبْقِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ تَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مُولِيًا بَعْدَ مَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مُطَلِّقٌ مُظَاهِرٌ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ تَعَلَّقَ بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَهُمَا جُمْلَةً، وَلَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهَا، أَمَّا عِنْدَهُمَا لَا إشْكَالَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْإِيلَاءُ، وَتَكُونُ بَعْدَهُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ فَيَصِيرُ مُظَاهِرًا، ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَهُمَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُ، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ ثَلَاثًا نَصَّ عَلَى قَوْلِهِمَا رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ إذَا كَلَّمْتُ فُلَانًا فَكَلَّمَ فُلَانًا؛ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْعَطْفِ كَحَرْفِ الْوَاوِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَهُمَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا لِعَطْفٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَإِذَا كَانَ لِلتَّعْقِيبِ، فَفِي كَلَامِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تَعْقُبُ الْأُولَى فَتَبِينُ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ بِخِلَافِ الْوَاوِ. وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ وَيَلْغُو مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ مَا عَطَفَ التَّطْلِيقَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالْكَلَامِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالْكَلَامِ وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ لَغْوٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ فِي الْحَالِ اثْنَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، تَقَعُ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ، وَيَلْغُو مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ، فَقَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالشَّرْطِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا تَعَلَّقَتْ الْأُولَى بِالشَّرْطِ، وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ فِي الْحَالِ، وَالثَّالِثَةُ لَغْوٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَ تَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: كَلِمَةُ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَإِذَا أَدْخَلَهُ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا يَقُولَانِ حَرْفُ " ثُمَّ " لِلْعَطْفِ، وَلَكِنْ بِقَيْدِ التَّرَاخِي، فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْعَطْفِ يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ؛ وَلِمَعْنَى التَّرَاخِي يَقَعُ مُرَتَّبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَدَخَلَ بِهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعَلَيْهِ لَهَا أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ، ذَكَرَهُ فِي الرُّقَيَّاتِ. وَجْهُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَزِمَهُ نِصْفُ مَهْرٍ فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ، ثُمَّ لَمَّا تَزَوَّجَهَا، وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَلَكِنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ وَبِنَفْسِ التَّزَوُّجِ وَجَبَ مَهْرٌ آخَرُ، وَذَلِكَ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 بِالدُّخُولِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَالتَّزَوُّجُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لَغْوٌ فَهِيَ عِنْدَهُ بِتَطْلِيقَةٍ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَتَخْرِيجُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بِالتَّزَوُّجِ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ، وَوَجَبَ نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ، وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ بِالتَّزَوُّجِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ، وَإِنْ حَصَلَ التَّزَوُّجُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَخْرُجُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِكُلِّ تَزَوُّجٍ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فِي الْعِدَّةِ كَمَا وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَجَبَ مَهْرٌ تَامٌّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ بِكُلِّ دُخُولٍ مَهْرٌ تَامٌّ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كَانَ خَمْسَةَ مُهُورٍ وَنِصْفًا، وَإِذَا: قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا أَبَدًا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلُقَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيَةً لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " كُلِّ " تَقْتَضِي جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ لَا تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَجَدُّدِ الِاسْمِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِعَقْدَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ كَلِمَةِ كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَلِمَةِ كُلِّ الْجَمْعُ فِيمَا يَتَعَقَّبُهَا، وَاَلَّذِي يَتَعَقَّبُ الْكُلَّ الِاسْمُ دُونَ الْفِعْلِ يُقَالُ: كُلُّ رَجُلٍ وَكُلُّ امْرَأَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ ضَرَبَ، وَكُلٌّ دَخَلَ وَاَلَّذِي يَتَعَقَّبُهُ كَلِمَةُ كُلَّمَا الْفِعْلَ دُونَ الِاسْمِ يُقَالُ، كُلَّمَا ضَرَبَ، وَكُلَّمَا دَخَلَ، وَلَا يُقَالُ: كُلَّمَا زَيْدٌ، وَكُلَّمَا عَمْرٌو. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ، ثُمَّ وَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْفَرْدِيَّةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُزَاحِمَةٌ لِلْأُخْرَى فِي الْعَقْدِ وَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ السَّبْقِ فِي الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهَا امْرَأَتَانِ فَلَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الْأَوَّلِيَّةِ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ قَالَ مَعَ هَذَا: وَآخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ الثَّالِثَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مُتَأَخِّرٌ لَا يَعْقُبُهُ غَيْرُهُ، وَنَحْنُ لَا نَدْرِي أَنَّ الثَّالِثَةَ هَلْ هِيَ آخِرٌ أَمْ لَا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا غَيْرَهَا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا حَتَّى لَا يَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفُ نِصْفِ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَطْلُقُ الثَّالِثَةُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ إذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ سِوَى مَهْرِ النِّكَاحِ، وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَالطَّلَاقِ جَمِيعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 الثَّالِثَةَ إنَّمَا اسْتَحَقَّتْ صِفَةَ الْآخِرِيَّةِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وَعَجَزَ عَنْ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهَا فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك أُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّمَا تَطْلُقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ، وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ آخِرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا غَيْرَهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا أَخَذَتْ الْمِيرَاثَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ لَزِمَهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مَعَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَإِنْ وَرِثَتْهُ بِالْفِرَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمَّا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْأُولَيَيْنِ فَقَدْ اتَّصَفَتْ بِصِفَةِ الْآخِرِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِعَرْضِ أَنْ تَزُولَ عَنْهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ لِهَذَا، فَإِذَا لَمْ يَتَزَوَّج غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَ تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ فِيهَا مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا فَتَطْلُقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ: لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ اسْتَمَرَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ الدَّمِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ التَّزَوُّجِ شَرْطًا مُفْصِحًا بِهِ لِلطَّلَاقِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ الْفَصْلَانِ؛ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَعَ التَّقَارُبِ فِي الْمَعْنَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَشَأْ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَشَاءُ لَا تَطْلُقُ مَادَامَ حَيًّا وَلَوْ قَالَ: إنْ أَبَيْتُ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَبَيْتُ طَلَاقَك تَطْلُقُ، وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ لَفْظِ الشَّرْطِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً لَمْ يَتَزَوَّجْ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فَلَا تَكُونُ آخِرَ امْرَأَةٍ فَإِنَّ صِفَةَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالْآخِرِيَّةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي مَخْلُوقٍ وَاحِدٍ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّضَادِّ فِي الْمَعْنَى فِي الْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لِمَعْنَى السَّبْقِ، وَالْآخَرَ لِمَعْنَى التَّأَخُّرِ فِي الزَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ، وَإِحْدَاهُمَا مُعْتَدَّةٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّزَوُّجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ، وَنِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ نِكَاحُ الْأُخْرَى فَهِيَ فَرْدٌ سَابِقٌ فِي نِكَاحِهِ فَكَانَتْ أَوَّلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ طَلُقَتْ هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمَّا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي كَلَامِهِ الثَّانِيَةُ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا فَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ بِهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّزَوُّجِ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 الْمُسْتَقْبَلِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّزَوُّجِ الْحِلُّ، وَالْعِفَّةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ حِينَ تَزَوَّجَهَا إنْ مَاتَ أَوْلَمَ يَمُتْ؛ لِأَنَّهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّتْ اسْمَ الْأَوَّلِيَّةِ بِصِفَةِ الْفَرْدِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ الْوَاقِعِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَهْرٌ بِالدُّخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَإِنْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَإِحْدَاهُمَا طَالِقٌ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ فَإِنَّ فِي الْمَرْأَتَيْنِ امْرَأَةً فَلِهَذَا طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُزَاحِمُ الْأُخْرَى فِي الِاسْمِ الَّذِي أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِالتَّزَوُّجِ طَلَاقَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا طَلَاقَ امْرَأَتَيْنِ فَلِهَذَا تَطْلُقُ إحْدَاهُمَا، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى امْرَأَةً وَحْدَهَا لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَةٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدَهَا بِنِيَّتِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وَحْدَهَا، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ. وَإِنْ كَانَ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَحْدَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ هُنَا بِنَصِّ كَلَامِهِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَمْ تَتَّصِفْ مِنْهُمَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي الشَّرْطِ؛ لِانْضِمَامِ الْأُخْرَى إلَيْهَا فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْرَى بَعْدَهُمَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّهَا امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا وَحْدَهَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ بَيْضَاوَيْنِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ سَوْدَاءَ تَطْلُقُ الثَّالِثَةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَصٌّ فِي الشَّرْطِ عَلَى وَصْفَيْنِ: الْفَرْدِيَّةُ، وَالسَّبْقُ، وَقَدْ انْعَدَمَ فِي الثَّالِثَةِ صِفَةُ السَّبْقِ، وَهُنَا الشَّرْطُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْفَرْدِيَّةُ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ؛ فَلِهَذَا تَطْلُقُ. وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ مُعَبِّرٌ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاشَرَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى تَتَعَلَّقَ بِهِ الْعُهْدَةُ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ عَاقِدًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ عَنِيَ فِي النِّكَاحِ مَا وَلِيَ عَقْدَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نِيَّةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ فَإِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةَ الْغَيْرِ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُطَلِّقُ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالطَّلَاقِ مُعَبِّرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ أَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُطَلِّقَ لَهَا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت أَنْ أُطَلِّقَهَا بِلِسَانِي لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ بَانَتْ بِالْأُولَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَجَمْعُهُ بَيْنَ التَّطْلِيقَاتِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَلَا يَقْتَضِي جَمْعًا، وَلَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَهُوَ وَاقِعٌ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ، أَوْ لَمْ يُوقِعْ فَتَبِينُ بِالْأُولَى كَمَا تَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ قَدْ تَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا، أَوْ اسْتِثْنَاءً فِي آخِرِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى، أَوْ قَبْلَ أُخْرَى فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الْمَسَائِلِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ النَّعْتَ بَيْنَ اسْمَيْنِ فَإِنْ أَلْحَقَ بِهِ حَرْفَ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ حَرْفُ الْهَاءِ كَانَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْ كَانَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو فَيَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ، وَإِذَا قُلْتَ: قَبْلَهُ عَمْرٌو كَانَ نَعْتًا لِمَجِيءِ عَمْرٍو. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ سَابِقٍ يَكُونُ ذَلِكَ إيقَاعًا مِنْهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْتِنَادِ الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْإِسْنَادِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ أُخْرَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْأُولَى، وَمَعْنَاهُ قَبْلَ أُخْرَى تَقَعُ عَلَيْك فَتَبِينُ بِالْأُولَى، وَلَوْ قَالَ قَبْلَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَبْلَهَا أُخْرَى وَقَعَتْ عَلَيْك، وَهَذَا مِنْهُ إسْنَادٌ لِلثَّانِيَةِ إلَى وَقْتٍ مَاضٍ فَيَكُونُ مُوقِعًا لَهَا فِي الْحَالِ مَعَ الْأُولَى. وَلَوْ قَالَ: بَعْدَ أُخْرَى تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ نَعْتٌ لِلْأُولَى فَيَكُونُ مَعْنَاهُ بَعْدَ أُخْرَى وَقَعَتْ عَلَيْك، وَلَوْ قَالَ: بَعْدَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ بَعْدَهَا هُنَا نَعْتٌ لِلثَّانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَهَا أُخْرَى تَقَعُ عَلَيْك فَتَبِينُ بِالْأُولَى. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: مَعَ أُخْرَى، أَوْ مَعَهَا أُخْرَى تَطْلُقُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَقَدْ قَرَنَ إحْدَى التَّطْلِيقَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَأَوْقَعَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ مَعَ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِمَا قُلْنَا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفًا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَتْ طَالِقًا اثْنَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَةِ كَمَالُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كُلُّهُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ لِوَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ عِبَارَتَيْنِ، إمَّا هَذِهِ، وَإِمَّا اثْنَتَانِ إلَّا نِصْفٌ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ أَوْلَى الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامًا وَاحِدًا مَعْنَى لَا يُفْصَلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً فَكَأَنَّهُمَا عِبَارَتَانِ؛ لِأَنَّ لِلِاثْنَتَيْنِ عِبَارَةً أَوْجَزَ مِنْ هَذِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ اثْنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْعَدَدِ عِبَارَةٌ أَوْجَزُ مِنْ هَذِهِ فَكَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا مَعْنًى، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُمَا كَلَامَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى. وَإِنْ قَالَ: إحْدَى عَشْرَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَكَانَ الْكُلُّ وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ: إحْدَى وَعَشْرَةً، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَرْفَ الْعَطْفِ كَانَ كَلَامَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَمِائَةً، عِنْدَنَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحِدَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هُنَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ لِهَذَا الْعَدَدِ مِائَةٌ وَوَاحِدَةٌ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ تَفَرَّقَ كَلَامُهُ فَتَبِينُ بِالْأُولَى. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، أَوْ قَالَ: الْبَائِنُ يَنْوِي ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ أَلْبَتَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَطْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ نَوْعَانِ، فَهُوَ بِنِيَّةِ الثَّلَاثِ يَنْوِي أَحَدَ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فَيَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامًا يَنْوِي ثَلَاثًا، فَهُوَ كَمَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَالِقٌ الْحَرَامَ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا سَوَاءٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ أَوْ طَلَاقًا، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنْ عَنَى بِطَالِقٍ تَطْلِيقَةً، وَبِالطَّلَاقِ أُخْرَى فَهِيَ ثِنْتَانِ رَجْعِيَّتَانِ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ لَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَى بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَطْلِيقَةً كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ فَتَبِينُ بِالْأُولَى. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ كُلَّهُ فَهِيَ طَالِقٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 ثَلَاثًا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِيقَاعِ كُلِّ الطَّلَاقِ، وَهُوَ ثَلَاثٌ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَشَدَّ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْظَمَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْعِظَمِ، وَالْكِبَرِ، وَالشِّدَّةِ يَظْهَرُ فِي الْحُكْمِ فَهَذَا، وَقَوْلُهُ طَالِقٌ بَائِنٌ سَوَاءٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لَا يَدِينُ فِيهَا إذَا قَالَ: نَوَيْتُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ، وَالْقِلَّةَ فِي الْعَدَدِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِإِيقَاعِ أَكْثَرِ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ: أَسْوَأَ الطَّلَاقِ، أَوْ شَرَّهُ، أَوْ أَفْحَشَهُ، فَهُوَ وَقَوْلُهُ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ قَالَ: أَكْمَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَتَمَّ الطَّلَاقِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعِظَمِ، وَالشِّدَّةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طُولَ كَذَا، أَوْ عَرْضَ كَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الطُّولَ، وَالْعَرْضَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ إذَا اشْتَدَّ عَلَى إنْسَانٍ يَقُولُ: كَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ فَتَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَلَا تَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَاهَا؛ لِأَنَّ الطُّولَ، وَالْعَرْضَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً طُولُهَا وَعَرْضُهَا كَذَا، وَهَذَا لَا تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَيْرَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْدَلَ، وَالْأَحْسَنَ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ حَتَّى يَقَعَ بِهَذَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ، أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ رَكِبْتِ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَاعَةً طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ مُسْتَدَامٌ حَتَّى تُضْرَبَ لَهُ الْمُدَّةُ يُقَالُ: رَكِبَتْ يَوْمًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ إنْشَاءٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68] أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَعَدْتِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ، أَوْ إنْ قُمْت، وَهِيَ قَائِمَةٌ، أَوْ إنْ مَشَيْتِ، وَهِيَ مَاشِيَةٌ، أَوْ إنْ اتَّكَأْتِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَاعَةً يَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَهِيَ فِي الدَّارِ فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَخْرُجَ وَتَدْخُلَ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ فَإِنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ، فَلَا يُقَالُ: دَخَلَ يَوْمًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ وَسَكَنَ يَوْمًا، وَالْخُرُوجُ نَظِيرُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ لِاسْتِدَامَتِهِ حُكْمُ إنْشَائِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ إلَى ثَلَاثٍ، أَوْ مِنْ تَطْلِيقَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُولَى، وَالثَّالِثَةَ غَايَةً، وَالْغَايَةُ حَدٌّ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ مِنْكَ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ، فَيَكُونُ الْوَاقِعُ مَا بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي ذَوِي الْمِسَاحَاتِ، فَأَمَّا فِي عُرْفِ اللِّسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ دُخُولُ الْكُلِّ، فَإِنَّ الرَّجُلُ يَقُولُ: خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُ الْعَشَرَةِ، وَيَقُولُ: كُلْ مِنْ الْمِلْحِ إلَى الْحُلْوِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْمِيمَ الْإِذْنِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَلَكِنْ فِي إدْخَالِ الْأُولَى ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ، وَلَا ثَانِيَةَ قَبْلَ الْأُولَى، وَلَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ ابْتِدَاءٍ. فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ الْأُولَى؛ تَصِيرُ الثَّانِيَةُ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهَا أَيْضًا فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ أَدْخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْتُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَقُلْتُ: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي الْكَلَامُ إلَيْهَا قَدْ لَا تَدْخُلُ كَاللَّيْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وَقَدْ تَدْخُلُ كَالْمَرَافِقِ، وَالْكَعْبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ، فَإِنْ: قَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ مَا نَوَى، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى أُخْرَى فَفِي الْقِيَاسِ قَوْلُ زُفَرَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَايَةَ نَفْسِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إلَى وَاحِدَةٍ لَغْوًا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ "؛ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيمَا يَتَخَلَّلُهُمَا، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ هُنَا قَوْلُهُ: وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا اللَّفْظِ، وَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَقَدْ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ لَا يَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَأَحَدُهُمَا مَوْجُودٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ، وَقَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، أَوْ هَذِهِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ ذِكْرُ الْعَدَدِ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ لَا قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ خَرَجَ ذِكْرَ الْعَدَدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 بِحَرْفِ " أَوْ " فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا شَيْءَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ الْوَاوِ بَيْنَ طَلَاقٍ وَغَيْرِ طَلَاقٍ فَتَخْرُجُ بِهِ كَلِمَةُ الْإِيقَاعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَهُوَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّلَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ. وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ يَقَعُ ثَلَاثٌ أَيْضًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ " فِي " يُذْكَرُ بِمَعْنَى " مَعَ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَيْ مَعَ عِبَادِي، وَيُقَالُ: دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فِي جُنْدِهِ، أَيْ مَعَ جُنْدِهِ، وَإِنْ نَوَى حِسَابَ الضَّرْبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ أَنَّ وَاحِدًا إذَا ضُرِبَ فِي اثْنَيْنِ يَكُونُ اثْنَيْنِ فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِمَا إذَا نَوَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ الضَّرْبُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الطَّلَاقِ، وَتَأْثِيرُ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ، وَالتَّطْلِيقَةُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَهَا وَثُلُثَهَا لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ عِنْدَنَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ يَكُونُ أَرْبَعَةً، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ الْإِقْرَارِ، إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى حِسَابَ الضَّرْبِ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ عِنْدنَا، وَمِائَةٌ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ نَوَى عَشَرَةً وَعَشَرَةً فَعَلَيْهِ عِشْرُونَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ، أَوْ كُرُّ حِنْطَةٍ فِي كُرِّ شَعِيرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْمَذْكُورُ أَوَّلًا عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْتُ الْوَاوَ، أَوْ حَرْفَ مَعَ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ مَا أَرَدْتَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ كُلِّهِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْخَصْمُ مُدَّعِيًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَفُلَانَةُ، أَوْ فُلَانَةُ فَالْأُولَى طَالِقٌ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يُوقِعُ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّخْيِيرِ إنَّمَا ذُكِرَ بَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ فَكَانَ كَلَامُهُ عَزِيمَةً فِي الْأُولَى فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَيُخَيَّرُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ طَالِقٌ، وَإِحْدَى هَاتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا أَوْ فُلَانًا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ، وَاسْتَوْضَحَ فِي الْكِتَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَدْ اسْتَقْرَضَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَلْفِ يُقِرُّ بِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 لِأَحَدِهِمَا، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّخْيِيرِ إنَّمَا ذُكِرَ فِي الْإِقْرَارِ لَا فِي الْإِيقَاعِ فَيَبْقَى مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ عَلَى امْرَأَتِهِ عَزْمًا. وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ فُلَانَةُ وَفُلَانَةُ طَلُقَتْ الثَّالِثَةُ، وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ، وَابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ عَلَى الْأُولَى، وَالْأُخْرَيَيْنِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا طَالِقٌ أَوْ هَاتَانِ وَجَعَلَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدْ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ فِي الْجَامِعِ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَفُلَانَةُ مَعَهَا يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ خَبَرًا لِلثَّانِي؛ كَمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَطْفِ؛ وَلِأَنَّهُ ضَمَّ الثَّانِيَةَ إلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ: مَعَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الضَّمُّ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا وَقَعَ عَلَى الْأُولَى، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت أَنَّ فُلَانَةَ مَعَهَا شَاهِدَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ لِلثَّانِيَةِ خَبَرًا آخَرَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: أَشْرَكْتُ فُلَانَةَ مَعَهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَعَ عَلَى الْأُخْرَى ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاشْتِرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْأُمِّ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ، وَالْإِنَاثُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِمَّا وَقَعَتْ عَلَى الْأُولَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ حَيْثُ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ وُقُوعُ شَيْءٍ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَتَنْقَسِمُ الثَّلَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَهُنَا قَدْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بِإِشْرَاكِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ الثَّانِيَةَ بِهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ: أَشْرَكْتُكُمَا فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لَمْ يَقَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَّا اثْنَتَانِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَكَلَامُهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ إشْرَاكٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثًا. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَنْتُمَا طَالِقَانِ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِ الْمَنْوِيِّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُنَّ كَانَ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: أَكَلْنَ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَكَلَتْ رَغِيفًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فِي الْوَصْفِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَتَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِيقَاعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ مِنْ الزَّوْجِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، فَكَانَ هُوَ مُوقِعًا تَطْلِيقَةً كَامِلَةً بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِيقَاعُ التَّطْلِيقَةِ مَشْرُوعٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ سَمَّاهُ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَ أَجْزَاءَ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ، وَرُبُعَ تَطْلِيقَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مِنْ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ جُزْءٌ فَإِنَّهُ نَكَّرَ التَّطْلِيقَةَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ إلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُنَا: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّكَ إذَا جَمَعْت هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ الْمَذْكُورَةَ إلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ تَصْنَعِي كَذَا وَكَذَا لِعَمَلٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَصْنَعُهُ أَبَدًا نَحْوُ: أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ تَمَسِّي السَّمَاءَ بِيَدِكِ، أَوْ إنْ لَمْ تُحَوِّلِي هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا فَهِيَ طَالِقً سَاعَةَ تَكَلَّمَ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَمُوتَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فَوَاتُ الدُّخُولِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّ الدُّخُولَ مِنْهَا يَتَأَتَّى مَا دَامَتْ حَيَّةً، فَأَمَّا هُنَا الشَّرْطُ عَدَمُ مَسِّ السَّمَاءِ مِنْهَا، أَوْ تَحْوِيلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِانْتِظَارِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ عَجْزٌ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَوْ وَقَّتَ وَقْتًا، فَقَالَ أَنْتَ طَالِقٌ إنْ لَمْ تُمْسِي السَّمَاءَ الْيَوْمَ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ فَوْتَ الشَّرْطِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ؛ وَلِأَنَّ الْوَقْتَ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتِ كَالْعُمْرِ فِي الْمُطْلَقِ فَكَمَا لَا يُنْتَظَرُ هُنَاكَ مَوْتُهَا؛ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُنْتَظَرُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْوَقْتِ الشَّرْطُ عَدَمُ الْفِعْلِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّهَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّهُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ قَصَدَ التَّرْفِيهَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا ذَهَبَ هَذَا الْيَوْمُ، فَمَا لَمْ يَذْهَبْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا مُطَلَّقَةُ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ حِينَ نَادَاهَا بِهِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ سَوَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ كَانَ قَاذِفًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ زَوْجٍ لَهَا قَبْلِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَى كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمُحَالَ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ فَهُوَ مَدِينٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ النِّدَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَصْفٍ مَوْجُودٍ، وَذَلِكَ مِنْ طَلَاقِ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ الْوَصْفُ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِيقَاعِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُك أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ كَانَتْ طَالِقًا فِي الْقَضَاءِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ إلَّا أَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ فَحَمَلْنَا كَلَامَهُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الصِّدْقِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ صِدْقًا؛ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا بَائِنُ، أَوْ يَا حَرَامُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُشْبِهُ الْفُرْقَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُسَمِّيَهَا تَسْمِيَةً، وَلَا يَنْوِي الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُبْهَمٌ مُحْتَمِلٌ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَا بَائِنُ، فَإِذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ مُدَيَّنًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ يُرِيدُ أَنْ يُسَمِّيَهَا بِذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَسِعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ يَكُونُ بِعَيْنِهِ لَا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إلَّا أَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَنَيْتُ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا حُرُّ يُرِيدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يُعْتَقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِي فَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِلْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وَفِي الْقَبِيلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] وَبِالْمُحْتَمِلِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ: هَذَا أَخِي كَانَ صَادِقًا وَلَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ قَالَ هَذِهِ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ قَالَ هِيَ عَمَّتِي أَوْ خَالَتِي مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَالَ: كَذَبْتُ أَوْ تَوَهَّمْتُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ وَلِزَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا أُمَّاهُ، أَوْ يَا بِنْتَاهُ، أَوْ يَا عَمَّتَاهُ، أَوْ يَا خَالَتَاهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 أَوْ يَا أُخْتَاهُ، أَوْ يَا جَدَّتَاهُ كَانَ هَذَا بَاطِلًا، وَلَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ الْمُرَادَ إحْضَارُهَا لَا تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُنَادِيهَا بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا فِي مَوْضِعِ الْإِهَانَةِ كَالْكَلْبِ، وَالْحِمَارِ، وَفِي مَوْضِعِ الْإِكْرَامِ كَحُورِ الْعِينِ وَنَحْوِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ التَّحْقِيقَ وَبِدُونِ قَصْدِ التَّحْقِيقِ لَا عَمَلَ لِهَذَا الْكَلَامِ فِي قَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ. (قَالَ): قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ وَهَبْتُ لَكِ طَلَاقَكِ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا طَلَّقْتُك بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ هِبَةَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ جَعْلُهُ لَهُ مَجَّانًا. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ طَلَاقَكَ بِكَذَا، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ طَلُقَتْ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَهَبْت لَك طَلَاقَك تَطْلُقُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قَبُولِهَا لِأَجْلِ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ يَنْوِي بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي يَدِهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ مِلْكَ الْوَاهِبِ عَنْ الْمَوْهُوبِ، وَبِجَعْلِ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الطَّلَاقِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ تَمْلِيكٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ؛ فَيَكُونُ هَذَا تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَهِيَ امْرَأَتُهُ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِآخَرَ: أَخْبِرْ امْرَأَتِي بِطَلَاقِهَا فَهِيَ طَالِقٌ سَوَاءٌ أَخْبَرَهَا بِهِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَخْبِرْهَا بِمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ مَوْصُولًا بِالْإِيقَاعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إيقَاعًا سَابِقًا لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: احْمِلْ إلَيْهَا طَلَاقَهَا، أَوْ بَشِّرْهَا بِطَلَاقِهَا فَهِيَ طَالِقٌ بَلَغَهَا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَشِّرْهَا بِمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا، أَوْ احْمِلْ إلَيْهَا مَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَخْبِرْهَا أَنَّهَا طَالِقٌ أَوْ قُلْ لَهَا: إنَّهَا طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ فَالْأَصْلُ فِيهِ الصِّدْقُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ إيقَاعِهِ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْتُ لَك عِتْقَك، أَوْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْك بِعِتْقِك، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَخْبِرْهُ أَنَّهُ حُرٌّ، أَوْ بَشِّرْهُ بِأَنَّهُ حُرٌّ أَوْ قُلْ لَهُ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ حُرًّا لِمَا بَيَّنَّا. (قَالَ): وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي هَبْ لِي طَلَاقِي، فَقَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكِ طَلَاقَك يُرِيدُ بِذَلِكَ لَا أُطَلِّقُك فَهِيَ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهَا، وَهِيَ إنَّمَا سَأَلَتْهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْإِيقَاعِ، وَقَدْ أَظْهَرَ بِكَلَامِهِ أَنَّهُ أَجَابَهَا إلَى مَا سَأَلَتْهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إيقَاعًا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِك، أَوْ صَفَحْت عَنْ طَلَاقِك يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى ضِدَّ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الشَّيْءِ بِتَرْكِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِيقَاعِ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُ طَلَاقَك، أَوْ قَدْ خَلَّيْت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 طَلَاقَك، أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلَ طَلَاقِك، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ تَرْكَهَا بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرَكْتُهَا بِأَنْ أَخْرَجْتُهَا مِنْ يَدِي بِالْإِيقَاعِ فَيَنْوِي فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَاتِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ، وَكَلِمَةَ كُلٍّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَذَلِكَ بِتَجَدُّدِ الْوُقُوعِ حَتَّى تَطْلُقَ ثَلَاثًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَلَامُهُ صِفَةٌ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَتَّصِفُ بِهِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا كَلَامَهُ إيقَاعًا لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " فِي " لِلظَّرْفِ، وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ فِيهِ فَمَا يَكُونُ الْيَوْمُ ظَرْفًا لَهُ لَا يَصْلُحُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ فَيَتَجَدَّدُ الْإِيقَاعُ؛ لِتَحْقِيقِ مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ فِي، وَفِي قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ إنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أُخْرَى فَهُوَ كَمَا نَوَى، وَتَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إمَّا؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ حَرْفَ " فِي " أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ التَّطْلِيقَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً. (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا تَتَّصِفُ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ كَمَا نَوَى، وَهِيَ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً حَتَّى تَسْتَكْمِلَ ثَلَاثًا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إمَّا؛ لِإِضْمَارِ حَرْفِ " فِي " أَوْ؛ لِإِضْمَارِ التَّطْلِيقَةِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْك مِنْ الطَّلَاقِ، أَوْ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْك مِنْ الطَّلَاقِ فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لَغْوٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ مَوْصُوفٌ بِمَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَقَعْنَ عَلَيْك، أَوْ ثَلَاثًا لَا يَجُزْنَ عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُبْحَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّلَاقُ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ الْقُبْحُ بِالْإِيقَاعِ فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ فَلَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْبَيْنُونَةِ بِالشَّكِّ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَأَنَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا لِلْمَنْعِ عَنْ الْوُقُوعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَلْغُو شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اذْهَبِي فَتَزَوَّجِي، فَإِنْ كَانَ نَوَى طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الطَّلَاقِ فِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهَا الذَّهَابَ مِنْ بَيْتِهِ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: افْلَحِي أَوْ اسْتَفْلِحِي يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اذْهَبِي؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَفْلِحْ بِخَيْرٍ أَيْ اذْهَبْ بِخَيْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اسْتَفْلِحِي؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اُطْلُبِي فَحْلًا فَكَانَ هَذَا، وَقَوْلُهُ تَزَوَّجِي سَوَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ طَلَاقِ الْأَخْرَسِ] (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ فِي كِتَابٍ، وَهُوَ يَكْتُبُ جَازَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكِتَابِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ فِي الْكِتَابِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيَانَ بِالْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مَفْهُومٍ كَالْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَلَّغَ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ، ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَكْتُبَ طَلَاقًا، أَوْ عَتَاقًا عَلَى مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْخَطُّ كَالْهَوَاءِ، وَالْمَاءِ، وَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكِتَابَةِ كَصَوْتٍ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ حُرُوفٌ، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (الثَّانِي) أَنْ يَكْتُبَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْخَطُّ، وَلَكِنْ لَا عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرِّسَالَةِ فَهَذَا يَنْوِي فِيهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكِتَابَةِ قَدْ تَكُونُ لِلْإِيقَاعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِتَجْرِبَةِ الْخَطِّ، وَالْقَلَمِ، وَالْبَيَاضِ، وَفِيهِ يَنْوِي كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُشْبِهُ الطَّلَاقَ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا تَبِينُ نِيَّتُهُ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ تَبِينُ نِيَّتُهُ بِكِتَابِهِ. (وَالثَّالِثُ) أَنْ يَكْتُبَ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرِّسَالَةِ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ أَوْ عَتَاقَ عَبْدِهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِهَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ تَجْرِبَةَ الْخَطِّ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: عَنَيْت الطَّلَاقَ مِنْ وَثَاقٍ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْمَكْتُوبِ، فَإِنْ كَانَ كَتَبَ: امْرَأَتَهُ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ سَوَاءٌ بَعَثَ الْكِتَابَ إلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَبْعَثْ، وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ: إذَا وَصَلَ إلَيْك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 بِمَا كَتَبَ، فَإِنْ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَمَحَى ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِهِ، وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ إلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ إذَا وَصَلَ إلَيْهَا الْكِتَابُ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَمَحْوُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ مَحَى الْخُطُوطَ كُلَّهَا، وَبَعَثَ بِالْبَيَاضِ إلَيْهَا لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ فَإِنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهَا لَيْسَ بِكِتَابٍ، وَلَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ الْكِتَابَ، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَتَبَهُ بِيَدِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ، وَكَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي طَلَاقِهِ وَنِكَاحِهِ وَشِرَائِهِ وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِإِشَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِإِشَارَتِهِ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ؛ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ قَصْدِهِ الْإِيقَاعَ، وَبِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ أَشَارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بِإِشَارَتِهِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: الْإِشَارَةُ مِنْ الْأَخْرَسِ كَالْعِبَارَةِ مِنْ النَّاطِقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْعِبَادَاتِ جُعِلَ هَكَذَا حَتَّى إذَا حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقُرْآنِ جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَةِ مِنْ النَّاطِقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ وَهَذَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاطِقُ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ إشَارَتَهُ كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ أَدَّى إلَى أَنْ يَمُوتَ جُوعًا، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تَتَأَتَّى فِي حَقِّ النَّاطِقِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: الْمَرِيضُ. وَإِنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِشَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ نُطْقِهِ، وَإِقَامَةُ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ النُّطْقِ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إشَارَةٌ مَعْرُوفَةٌ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ يُشَكُّ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مُرَادِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ؛ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْفَارِسِيَّ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هسته، أَوْ قَالَ: از زَنَى هسته، يَنْوِي فِي ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ قَالَ: هِسَته، يَنْوِي فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: ازْ زِنِي هِسَته فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: بهستمت، أَوْ ازْ زني بهستمت، أَنَّهُ طَلَاقٌ، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا اللَّفْظَ تَفْسِيرًا لِلتَّخْلِيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ الْوَاقِعُ بِهِ بَائِنًا، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ؛ فَيَكُونُ الْوَاقِعُ بِهِ بَائِنًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى لَفْظٍ آخَرَ، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نَحْنُ أَعْرَفُ بِلُغَتِنَا مِنْهُمْ، وَالْوَاقِعُ بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَنَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ سَوَاءٌ نَوَى الطَّلَاقَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ، أَوْ نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 فِي لِسَانِنَا صَرِيحٌ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ التَّخْلِيَةِ بَلَّهُ كَرَدْمِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ فَهُوَ صَرِيحٌ، وَكُلُّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النِّسَاءِ، وَغَيْرِ النِّسَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ يَنْوِي فِيهِ، فَقَوْلُهُ: بَلَّهُ كَرَدْمِ، يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي النِّسَاءِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: هِسَته أَوْ بهستمت لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النِّسَاءِ فَيَكُونُ صَرِيحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الطَّلَاقِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِعَيْنِهَا، وَقَالَا: قَدْ سَمَّاهَا لَنَا لَكِنَّا نَسِينَاهَا، فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إذَا شَهِدَا بِالثَّلَاثِ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا، وَقَالَ: قَدْ نَسِيتُهَا أُمِرَ أَنْ لَا يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى، إذَا لَمْ يَعْرِفَا الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا بِقَدْرِ مَا حَفِظَا مِنْ كَلَامِ الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْغَفْلَةِ وَبِأَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إمَّا أَنْ يَقْضِيَ بِطَلَاقِ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَكُونُ هَذَا قَضَاءً بِغَيْرِ مَا شَهِدَا، أَوْ يَقْضِيَ بِطَلَاقِ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُوجِبَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ إقْرَارِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ فَكَانَ مُلْزِمًا إيَّاهُ الْبَيَانَ. وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ مَجْهُولٌ، وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَيُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَشْهُودِ لَهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ لِعَيْنِهَا بَلْ؛ لِانْعِدَامِ الدَّعْوَى فَإِنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ تُقْبَلُ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَهُمَا أَثْبَتَا بِشَهَادَتِهِمَا قَوْلَ الزَّوْجِ إحْدَاهُمَا طَالِقٌ فَكَأَنَّ الْقَاضِيَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوْجِ فَيُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يُوقِعَ عَلَى إحْدَاهُمَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ، وَسَمَّى امْرَأَتَهُ وَنَسِيَهَا، ثُمَّ قَالَ: عَنَيْت بِذَلِكَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَقْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِيقَاعِ عَلَى امْرَأَتِهِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ إلْغَاءِ كَلَامِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ فُلَانَةَ طَالِقٌ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِيقَاعِ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَلَا يَسَعُ امْرَأَتَهُ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ كَالْقَاضِي، فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَنَيْتُهَا امْرَأَتِي وَصَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِ الطَّلَاقِ عَنْ الْمَرْأَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلطَّلَاقِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْهَا فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى نِكَاحِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، أَوْ عَلَى إقْرَارِهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا دُونَ الْمَعْرُوفَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ مَعْرُوفَتَانِ عَلَى اسْمٍ وَنَسَبٍ وَاحِدٍ فَطَلَّقَ بِذَلِكَ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ؛ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَةَ مُتَّهَمَةٌ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الْجَانِبَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى النِّكَاحِ ابْتِدَاءً ثَبَتَ فِي الْحُكْمِ بِتَصَادُقِهِمَا فَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَذَلِكَ اسْمُ امْرَأَتِهِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيقَاعٌ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِيقَاعِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ فَتَعَيَّنَتْ زَوْجَتُهُ لِهَذَا، وَالْعَتَاقُ فِي هَذَا قِيَاسُ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَادَّعَى الْمَالَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ عَنَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمُقِرِّ تَصَرُّفٌ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حَيْثُ الِالْتِزَامُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلتَّعَيُّنِ، وَذَلِكَ إشَارَتُهُ إلَيْهِ، وَإِقْرَارُهُ أَنَّهُ عَنَاهُ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمَحَلِّ بِالْإِيقَاعِ وَزَوْجَتُهُ وَمَمْلُوكَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ لِذَلِكَ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الِاسْمِ لَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ وَجَهَالَةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْمُعْتَقَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيقَاعِ وَلِأَنَّ الْمَالَ بِالشَّكِّ لَا يُسْتَوْجَبُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْمُقَرُّ لَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا كَمَا فِي الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةُ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ اسْمِ جَدِّهِ أَوْ بِنَسَبِهِ إلَى فَخِذٍ، أَوْ يُشِيرُ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 مَعْلُومًا وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بِالْإِقْرَارِ. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَجَحَدَ الزَّوْجُ، وَالْمَرْأَةُ ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ حُرْمَتُهَا عَلَيْهِ، وَالْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْر دَعْوَى كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَالْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا بَعْدَ هَذَا زِنًا، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَكَذَلِكَ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الزِّنَا، وَعَلَى هَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ اخْتِلَافٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ): وَإِذَا كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ إحْدَاهُمَا نِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَالْأُخْرَى نِكَاحُهَا فَاسِدٌ وَاسْمُهُمَا وَاحِدٌ وَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: عَنَيْت الَّتِي نِكَاحُهَا فَاسِدٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَمْ تَصِرْ مَحَلًّا لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَاَلَّتِي نِكَاحُهَا صَحِيحٌ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا فَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهَا، وَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِهِ عَنْهَا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: نَوَيْت أَجْنَبِيَّةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَهِيَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تَصِيرُ هِيَ امْرَأَتَهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ: إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى اللَّتَيْنِ خَاطَبَهُمَا، وَأَشَارَ إلَيْهِمَا، وَإِحْدَاهُمَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِطَلَاقِهِ فَلَا تَتَعَيَّنُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ، وَقَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدَانِ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً صَحِيحًا، وَاشْتَرَى الْآخَرَ شِرَاءً فَاسِدًا، فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْقَبْضِ، وَصَارَ مَحَلًّا لِعِتْقِهِ كَالْمُشْتَرَى شِرَاءً صَحِيحًا فَكَانَ كَلَامُهُ إيقَاعًا سَوَاءٌ قَالَ: أَحَدُ عَبْدَيَّ، أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمَا فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْأُولَى، فَإِنَّ الَّتِي نِكَاحُهَا فَاسِدٌ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِطَلَاقِهِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ: فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ فَسَمَّى امْرَأَتَهُ، وَنَسَبَهَا إلَى غَيْرِ أَبِيهَا لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ مَا أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ بِالنِّكَاحِ، وَمَا أَشَارَ إلَيْهَا، وَلَا عَرَّفَهَا بِذِكْرِ نَسَبِهَا، إنَّمَا ذَكَرَ امْرَأَةً أُخْرَى، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ فَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ امْرَأَتَهُ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى أَجْنَبِيَّةٍ، وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فُلَانَةُ الْهَمْدَانِيَّةُ طَالِقٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وَامْرَأَتُهُ تَمِيمِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فُلَانَةُ الْعَمْيَاءُ طَالِقٌ، وَامْرَأَتُهُ صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ، فَإِنْ نَوَى امْرَأَتَهُ بِهَذَا كُلِّهِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِيقَاعَ عَلَيْهَا بِذِكْرِ اسْمِهَا، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ، وَفِي هَذَا تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ. وَإِنْ كَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ يَعْنِي امْرَأَتَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فُلَانَةُ، وَلَمْ يُسَمِّهَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْنِهَا لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِذِكْرِ مُطْلَقِ الِاسْمِ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ كَمَا يَتَنَاوَلُهَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِيقَاعِ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُبْهَمًا مُحْتَمَلًا، وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى تَطْلِيقَتَيْنِ، وَشَاهِدٌ عَلَى ثَلَاثٍ، وَالزَّوْجُ يَجْحَدُ ذَلِكَ، أَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِتَطْلِيقَةٍ، وَالْآخَرُ بِتَطْلِيقَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدٌ بِتَطْلِيقَةٍ، وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ، وَالْآخَرُ بِالتَّخَلِّي تُقْبَلُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مَوْجُودٌ فِي الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَقَلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَضَرَّتَهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى طَلَاقِهَا؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَافَقَةَ كَمَا تُرَاعَى بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ تُرَاعَى بَيْنَ الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ. ثُمَّ لَوْ ادَّعَى أَلْفَيْنِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ عَلَى الْأَقَلِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَالْآخَرُ: إنَّهُ قَالَ: لَهَا أَنْتِ بَرِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِالْوَاحِدَةِ، وَالْآخَرُ بِثِنْتَيْنِ أَوْ بِثَلَاثٍ، وَالْوَاحِدَةُ أَصْلُ الْعَدَدِ لَا تَرَكُّبَ فِيهَا، وَالِاثْنَانِ، وَالثَّلَاثُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ فَكَانَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ غَيْرُ التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُدَّعِيَ الِاثْنَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْوَاحِدِ، إذْ لَوْ كَانَ مُقِرًّا بِالْوَاحِدِ لَكَانَ مُرْتَدًّا بِالشِّرْكِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ، وَلِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ اسْمٌ وَاحِدٌ، وَالتَّطْلِيقَةُ كَذَلِكَ، وَبِزِيَادَةِ حَرْفٍ يَتَغَيَّرُ الِاسْمُ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ وَزِيَادٌ، وَنَصْرٌ وَنَاصِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الْأَلْفِ مَعَ الْأَلْفِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُمَا اسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: طَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فُلَانَةُ وَفُلَانَةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّعْوَى مَعَ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ هُنَاكَ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فَأَمَّا بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُوَافَقَةُ فِي اللَّفْظِ شَرْطٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ، أَوْ الْقَتْلَ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَصْبِ، وَالْآخَرُ بِإِقْرَارٍ بِهِ لَا تُقْبَلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ اللَّفْظَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَقُلْ: أَشْهَدُ، وَاَلَّذِي يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمَا مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ، لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِتَطْلِيقَةٍ، وَشَاهِدَانِ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ رَجَعُوا، كَانَ ضَمَانُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى شَاهِدَيْ الثَّلَاثِ دُونَ شَاهِدَيْ الْوَاحِدَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا قَالَا أَنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ؛ لَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا، وَأَنَّهَا قَدْ كَلَّمَتْ فُلَانًا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ مَا أَوْقَعَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنَّمَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَعْلِيقٍ آخَرَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الثَّلَاثَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ كَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِنْدَنَا تَعْمَلُ بِحَقَائِقِ مُوجِبَاتِهَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا بِالتَّخْلِيَةِ، وَالْآخَرُ بِالْبَرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي مَقَادِيرِ الشُّرُوطِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقَ، وَفِي التَّعْلِيقِ، وَالْإِرْسَالِ، وَفِي مَقَادِيرِ الْجُعْلِ وَصِفَاتِهَا، وَفِي اشْتِرَاطِهَا وَحَذْفِهَا، كُلُّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَيَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ، وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَحْدَهَا، وَقَدْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ فَهِيَ طَالِقٌ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ دُخُولُهَا، وَاتَّفَقَا أَنَّ الْجَزَاءَ طَلَاقُهَا، إنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جَزَاءٍ مَعْطُوفٍ عَلَى طَلَاقِهَا، فَيَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا. (قَالَ): وَتَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى طَلَاقِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ. (قَالَ): وَالطَّلَاقُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا شَهِدَ بِالطَّلَاقِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ شَهِدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 بِهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ. (قَالَ): وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ بِطَلَاقِ أُمِّهِ إذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ أُمُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهَا، وَالْوَلَدُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ أُمِّهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا مُعْتَبَرَ بِدَعْوَاهَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَتْ الدَّعْوَى مِنْهَا فَفِي شَهَادَتِهِ إظْهَارُ صِدْقِ دَعْوَاهَا، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ هِيَ تَجْحَدُ ذَلِكَ مَعَ الْأَبِ، كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ الْأَبُ عَلَى طَلَاقِ ابْنَتِهِ لَا تُقْبَلُ إذَا ادَّعَتْهُ، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَبِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ عَلَى ابْنِهِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِأُمِّهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ تُقْبَلُ مِنْ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُمَا وَتُقْبَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (قَالَ): وَإِذَا زَوَّجَ رَجُلٌ أُخْتَهُ، ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ عَلَى الزَّوْجِ بِطَلَاقِهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَخِ لِلْأُخْتِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مَقْبُولَةٌ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَادِثٌ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا صُنْعَ لِلْأَخِ فِيهِ؛ فَلَا يَمْتَنِعُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِ لِلنِّكَاحِ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ أَجَازَتْهُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُزَوِّجُ، وَقَدْ قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ تَتْمِيمَ فِعْلِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَذَا. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى لَهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلزَّوْجِ ذَلِكَ إمَّا؛ لِأَنَّهُ مَا قَرَّرَا عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِمَجِيءِ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِهَا، وَالْمُقَرَّرُ كَالْمُوجَبِ؛ أَوْ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ فَهُمَا بِإِضَافَةِ السَّبَبِ إلَى الزَّوْجِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ مَنَعَا الْعِلَّةَ الْمُسْقِطَةَ مِنْ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَهَا فِي النِّصْفِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْإِيجَابِ مِنْهُمَا فَيَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ الرُّبُعَ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ فَعَلَيْهَا ثَمَنُ الْمَهْرِ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ رُبْعُ الْمَهْرِ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ ثُمُنُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ضِعْفُ مَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الرُّجُوعِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ حَتَّى لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ بِحَقٍّ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يُثْبِتُ جَمِيعَ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالطَّلَاقِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ كَانَ عَلَيْهِمَا ثُمُنُ الْمَهْرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَقُومُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْحَقِّ بِهِ، فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي قَدْرِ الرُّبُعِ فَلِهَذَا ضَمِنَا ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 الْقَدْرَ أَثْلَاثًا. فَإِنْ رَجَعَتْ الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى أَيْضًا لَزِمَهَا مَعَ الرَّاجِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ رُبُعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ رَجُلٌ، وَهُوَ يَقُومُ بِنِصْفِ الْحَقِّ، ثُمَّ نِصْفُ هَذَا الرُّبُعِ عَلَى الرَّجُلِ الرَّاجِعِ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ سُدُسُ الْمَهْرِ، وَعَلَى الرَّجُلَيْنِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ كُلِّ رَجُلٍ مِثْلُ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ بِالدُّخُولِ وَرَجُلَانِ بِالطَّلَاقِ فَأَلْزَمَ الْقَاضِي الزَّوْجَ كَمَالَ الْمَهْرِ، ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الطَّلَاقِ فَلَا شَيْء عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ ثَابِتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَأَنَّ الدُّخُولَ ثَابِتٌ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ فَبَقِيَتْ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا إذَا رَجَعَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَإِتْلَافُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا وَعِنْدَهُ الْبُضْعُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الْمَهْرِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ، وَهُمَا ثَابِتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاجِعَانِ شَيْئًا، وَإِنْ رَجَعَ شَاهِدَا الدُّخُولِ، وَلَمْ يَرْجِعْ شَاهِدُ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ شَاهِدَا الدُّخُولِ كَانَ الْقَاضِي يَقْضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ بِرُجُوعِهِمَا فِي نِصْفِ الْمَهْرِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَاهِدِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ، وَهُوَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَاهِدُ الطَّلَاقِ شَيْئًا وَيَضْمَنُ شَاهِدُ الدُّخُولِ رُبُعَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ انْعَدَمَتْ فِي قَدْرِ الرُّبُعِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فَالنِّصْفُ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِشَهَادَتِهِمْ قَدْ بَقِيَ كَمَالُ الْحُجَّةِ فِيهِ بِبَقَاءِ اثْنَيْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالنِّصْفُ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ، وَانْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِهِ فَلِهَذَا ضَمِنَ شَاهِدُ الدُّخُولِ رُبُعَ الْمَهْرِ، وَإِنْ رَجَعَ شَاهِدَا الطَّلَاقِ مَعَ أَحَدِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ كَانَ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ نِصْفِ هَذَا النِّصْفِ عَلَى شَاهِدِ الدُّخُولِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 الدُّخُولِ، وَقَدْ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ نِصْفُهُ عَلَى الْآخَرِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ بَقِيَ وَاحِدٌ عَلَى الشَّهَادَةِ فَيَبْقَى نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِبَقَائِهِ، وَتَنْعَدِمُ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا. وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَعَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ رُبُعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا إذَا رَجَعَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعًا نِصْفُهُ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَنِصْفُهُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى الطَّلَاقِ فَسَأَلَتْ الْمَرْأَةُ الْقَاضِيَ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، وَدَفَعَهَا إلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَأْتِيَ بِبَقِيَّةِ شُهُودِهَا؛ لِأَنَّ قِيَامَ النِّكَاحِ، وَالْحِلِّ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهَا شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَيَتَمَسَّكُ الْقَاضِي بِمَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْعَارِضُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، أَوْ بَائِنًا وَادَّعَتْ أَنَّ بَقِيَّةَ شُهُودِهَا فِي الْمِصْرِ، وَشَاهِدَهَا هَذَا عَدْلٌ حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ وَأَجَّلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَنْظُرَ مَا تَصْنَعُ فِي شَاهِدِهَا الْآخَرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: لِلشَّهَادَةِ طَرَفَانِ الْعَدَدُ، وَالْعَدَالَةُ، وَلَوْ وُجِدَ تَمَامُ الْعَدَدِ تَثْبُتُ بِهِ الْحَيْلُولَةُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ شَهِدَ رَجُلَانِ مَسْتُورَانِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ الْعَدَالَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْعَدْلَ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ، وَبَابُ الْفَرْجِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَيْلُولَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْقَاضِي، بَلْ إنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَدَفَعَهَا إلَى الزَّوْجِ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِهِ لَمْ تَتِمَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى تَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ عَلَى تَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَالدَّلِيلُ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ يَقُولَانِ: تَفَرُّدُ أَحَدِهِمَا بِالْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ كَتَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْبَيْنُونَةِ الْخَفِيفَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الطَّلَاقُ إذَا قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ بِالْوُقُوعِ بِلَفْظٍ آخَرَ هُنَاكَ، فَأَمَّا هُنَا، وَإِنْ أَلْحَقَ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ يَكُونُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ لَفْظًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ لَا يَتَغَيَّرُ أَصْلُ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ يَنْقَلِبُ الرَّجْعِيُّ بَائِنًا. فَأَمَّا بِانْضِمَامِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 يَتَغَيَّرُ حُكْمُ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى تَطْلِيقَةٍ، وَالْآخَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَوَاحِدَةٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْوَاحِدَةِ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَعِشْرِينَ، أَوْ وَاحِدَةً وَنِصْفًا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي لَفْظِهِمَا، وَتَكَلَّمَا بِهَا إنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ مَعْطُوفٍ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، فَيَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِوَاحِدَةٍ، وَالْآخَرُ بِأَحَدَ عَشَرَ قَالَ: هُنَاكَ أَحَدَ عَشَرَ اسْمٌ وَاحِدٌ؛ لِانْعِدَامِ حَرْفِ الْعَطْفِ، فَالشَّاهِدُ بِهَا لَا يَكُونُ شَاهِدًا بِالْوَاحِدَةِ لَفْظًا، فَأَمَّا وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمَانِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، فَالشَّاهِدُ بِهَا شَاهِدٌ بِالْوَاحِدَةِ لَفْظًا. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا نِصْفَ وَاحِدَةٍ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ وَاحِدَةٍ، وَالْآخَرُ عَلَى ثُلُثِ وَاحِدَةٍ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَتُقْبَلُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمَا الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَةِ وَثُلُثَهَا كَمَالُهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَبَيْنَ النِّصْفِ، وَالْكُلِّ مُغَايَرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، وَكَذَلِكَ النِّصْفُ غَيْرُ الثُّلُثِ فَلَمْ يُوجَدْ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا؛ فَلِهَذَا قَالَ: لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ لَا، بَلْ فُلَانَةُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ يُسَمِّي الْأُولَى فَقَدْ جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى طَلَاقِ الْأُولَى؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ لَمْ يَثْبُتْ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَنْت طَالِقٌ الطَّلَاقَ كُلَّهُ. وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ طَالِقٌ بَعْضَ الطَّلَاقِ فَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا مَعْنًى وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا لَفْظًا، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْكُلِّ، وَالْبَعْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَوْلٌ، وَصِيغَةُ الْإِقْرَارِ، وَالْإِنْشَاءِ فِيهِ وَاحِدَةٌ، فَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ فَبِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ لَفْظًا بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ كَالْغَصْبِ، وَالْقَتْلِ. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْكُوفَةِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً لَا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِمَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَإِذَا كَانَتْ تُهْمَةُ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى، وَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 يُقَالُ: هَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ لَا يَجْحَدُ مَا أَوْقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ؛ وَلِأَنَّا نَبْنِي الْأَحْكَامَ عَلَى الظَّاهِرِ. (قَالَ): وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عَلَى يَوْمَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَيَّامِ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ؛ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَكَانُ مَا شَهِدَا بِهِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ. (قَالَ): وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ عَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَيْنَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَشَهَادَتُهُمْ جَمِيعًا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ الْكَاذِبِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا. (قَالَ): فَإِنْ جَاءَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَأَكَّدَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتَعَيَّنَ الْكَذِبُ فِي الْأُخْرَى إذْ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْقَضَاءِ بِالشَّكِّ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ وَاسْتَوَيَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَقَضَى لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَيَّتُكُمَا أَكَلَتْ هَذَا الطَّعَامَ فَهِيَ طَالِقٌ فَجَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا أَكَلَتْهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَةٌ؛ لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَالشَّرْطُ أَكْلُ جَمِيعِ الطَّعَامِ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَأْكُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ الطَّعَامِ. فَإِنْ جَاءَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ بِقَضَائِهِ تَعَيَّنَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتَا أَكَلَتَاهُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَكْلُ الْوَاحِدَةِ جَمِيعَ الطَّعَامِ فَإِنَّ كَلِمَةَ أَيُّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُخَاطَبَتَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ، وَالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. [بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَرِثُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ مَاتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 بَعْدَ مَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِارْتِفَاعِهِ بِالتَّطْلِيقَاتِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ كَمَا لَوْ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ تَارَةً وَبِالزَّوْجِيَّةِ أُخْرَى، وَلَوْ انْقَطَعَ النَّسَبُ لَا يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ فِي مَرَضِهِ فَكَذَلِكَ إذَا انْقَطَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا؛ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: جَاءَ عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ إلَى شُرَيْحٍ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِخَمْسِ خِصَالٍ، مِنْهُنَّ إذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَرِثَتْهُ إذَا مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ كَانَتْ تَحْتَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفَارَقَهَا بَعْدَ مَا حُوصِرَ، فَجَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا قُتِلَ، وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ، فَقَالَ: تَرَكَهَا حَتَّى إذَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ فَارَقَهَا، وَوَرَّثَهَا مِنْهُ، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ آخِرَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَرَضِهِ فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: مَا اتَّهَمْتُهُ، وَلَكِنِّي أَرَدْت السُّنَّةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةَ الْفَارِّ تَرِثُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ فَرَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُدَّ إلَيْهِ يَعْنِي هَذَا الْحُكْمَ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنْ قِيلَ: لَا إجْمَاعَ هُنَا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ تُمَاضِرَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ لَمَا وَرَّثْتُهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا طَلَّقْتهَا ضِرَارًا وَلَا فِرَارًا، قُلْنَا: مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا وَرَّثْتهَا، أَيْ؛ لِجَهْلِي بِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَمَعْنَى قَوْلِهَا: مَا وَرَّثَهَا؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَكِنَّ تَوْرِيثَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاهَا بَعْدَ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُوَرِّثُهَا قَبْلَهُ، وَقَدْ قِيلَ: مَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَهَا: إذَا طَهُرْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ، وَبِهَذَا لَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهَا، وَابْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُنْكِرْ التَّوْرِيثَ إنَّمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ تُهْمَةَ الْفِرَارِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَادَهُ، فَقَالَ: لَوْ مِتَّ وَرَّثْتُهَا مِنْك، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ ذَلِكَ مَا طَلَّقْتُهَا ضِرَارًا وَلَا فِرَارًا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا عَنْ الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ: فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ كَمَا لَوْ وَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ مِنْ إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِمَرَضِ الْمَوْتِ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ؛ وَلِهَذَا يُمْنَعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِالسَّبَبِ، وَالْمَحَلِّ. فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَحَلِّ يُجْعَلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا؛ إبْقَاءً لِحَقِّ الْوَارِثِ، فَتَصَرُّفُهُ بِالسَّبَبِ بِالرَّفْعِ يُجْعَلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا، بَلْ، أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الْمَحَلِّ، وَإِذَا صَارَ كَالْمُضَافِ، كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنَّ عِدَّتَهَا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ لَا تَنْقَضِي حَتَّى إنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَهِيَ الَّتِي رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَلَهَا ذَلِكَ كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ حُكْمِيٌّ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ النِّكَاحُ حُكْمًا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَهُوَ نَظِيرُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يُجْعَلُ كَأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ بَقَاءِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَرِثُ مِنْ زَوْجَيْنِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَمَا قَالَهُ يُؤَدِّي إلَى هَذَا، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهَا بِعِوَضٍ، فَإِنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ فَتَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمَرِيضِ كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَكُونُ هَذَا إبْطَالًا لِحَقِّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّزَوُّجِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، إنَّمَا يَنْقَطِعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِاللِّعَانِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، ثُمَّ النَّسَبُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِنَفْيِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ بَعْدَ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ إمَّا بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ يَتَعَذَّرُ إبْقَاءُ النِّكَاحِ حُكْمًا، وَلَكِنْ يُجْعَلُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَبَقَاءِ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ هَذَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا لَا فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا حِينَ طَلَّقَهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَقَمْنَا الْعِدَّةَ مَقَامَ النِّكَاحِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِسُؤَالِهَا فَقَدْ رَضِيَتْ هِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ. (قَالَ)، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً، أَوْ كِتَابِيَّةً حِينَ أَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارًّا مِنْ مِيرَاثِهَا يَوْمَ طَلَّقَ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهَا بِمَالِهِ فِي الْمَرَضِ، فَلَوْ وَرِثَتْ كَانَ فِيهِ إقَامَةُ الْعِدَّةِ مَقَامَ النِّكَاحِ فِي ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ. (قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ؛ لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفِرَارِ حِينَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّهَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا تَخَلَّى بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فِي مَرَضِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّهَا إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَرَضٍ يُعْقِبُهُ بُرْءٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الصِّحَّةِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي مَاتَتْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَرِثْهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ السَّبَبَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِهَا فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ؛ لِيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يُعَلِّقَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، وَالثَّالِثُ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ، وَالرَّابِعُ بِفِعْلِهَا، وَكُلُّ فَصْلٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَرَضِ أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَقَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ. أَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَرَضِ فَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْفِرَارِ، وَالْقَصْدِ إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ عِنْدَهُ تَقَعُ فَقَدْ صَارَ قَاصِدًا إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الشَّرْطُ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْفِعْلِ بُدٌّ فَقَدْ كَانَ لَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ. فَأَمَّا إذَا عَلَّقَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إبْطَالَ حَقِّهَا عَنْ مَالِهِ فَهَذَا وَالتَّنْجِيزُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْأَجْنَبِيُّ فِي مَرَضِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ مِنْ الْمُعَلَّقِ فَيَصِيرُ عِنْدَ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ كَأَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرِيضٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ قَصْدُ الْفِرَارِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَلَّقَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صُنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ التَّعْلِيقِ وَلَا عَلَى مَنْعِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ إيجَادِ الشَّرْطِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 بِأَنْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ؛ لِوُجُودِ قَصْدِهِ إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْهُ عِنْدَنَا؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَرِثُهُ، وَهَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَدًا، ثُمَّ مَرِضَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ فَأَمَّا إذَا عَلَّقَ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ، وَالْفِعْلُ فِعْلٌ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ أَجْنَبِيٍّ فَفَعَلَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَقْدَمَتْ عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا عَنْهُ فَقَدْ صَارَتْ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا عَنْ مَالِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى إيجَادِ هَذَا الشَّرْطِ؛ فَلَا تَصِيرُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا مِنْ مَالِهِ، وَتُقَاضِي دَيْنَهَا مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ، إذَا كَانَتْ تَخَافُ فَوْتَ حَقِّهَا بِتَرْكِ التَّقَاضِي، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ فَفَعَلَتْ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْ الْفِعْلِ بُدٌّ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ الْفِعْلِ بُدٌّ فَلَهَا الْمِيرَاثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مِيرَاثَ لَهَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي مَالِهِ حَقٌّ؛ فَلَا يُتَّهَمُ بِقَصْدِهِ الْفِرَارَ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ صُنْعٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَنْعَدِمَ رِضَاهَا، أَوْ فِعْلُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْهُ بُدًّا؛ فَيَكُونَ هَذَا كَالتَّعْلِيقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا تَرِثُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهُمَا يَقُولَانِ: هِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ؛ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُقْدِمْ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا، أَوْ تَخَافُ الْعُقُوبَةَ، وَإِنْ أَقْدَمَتْ سَقَطَ حَقُّهَا فَكَانَتْ مُضْطَرَّةً مُلْجَأَةً، وَهُوَ الَّذِي أَلْجَأَهَا إلَى ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُلْجَأَ يَصِيرُ آلَةً لِلْمُلْجِئِ، وَالْفِعْلُ فِي الْحُكْمِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُلْجِئِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَبِهَذَا الْمَعْنَى تَصِيرُ كَأَنَّ الْفِعْلَ وُجِدَ مِنْ الزَّوْجِ حُكْمًا فَلَهَا الْمِيرَاثُ. (قَالَ): وَإِذَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِيلَاءِ فِي صِحَّتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي الْمَعْنَى يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ أَقْرَبِك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَتْ، أَوْ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا فَكَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ، أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 اخْتَلَعَتْ مِنْهُ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَجَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ وَتَمَّتْ الْمُدَّةُ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ فَكَأَنَّهُ نَجَّزَ طَلَاقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا، وَهُوَ صَحِيحٌ: إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ مَرَضَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ بِمَرَضِهِ يَتَعَلَّقُ حَقُّهَا بِمَالِهِ فَقَدْ قَصَدَ الْفِرَارَ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ يَقُولُ: لَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ لَا يَكُونُ صَاحِبَ فِرَاشِ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْوَارِثِ بِمَالِهِ مَا يُضْنِيه وَيَجْعَلُهُ صَاحِبَ فِرَاشٍ، وَإِنْ قَالَ فِي مَرَضِهِ: قَدْ كُنْتُ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي صِحَّتِي وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا سَاعَةَ أَقَرَّ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْفِرَارِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، كَمَا يَكُون مُتَّهَمًا بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْنَادِ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُهَا؛ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ فِي حَقِّهَا. (قَالَ): وَإِنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ قَدْ جَامَعَ أُمَّ امْرَأَتِهِ فِي الصِّحَّةِ، أَوْ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا، أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَوْ فِي عِدَّةِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ مِيرَاثِهَا؛ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَإِنْشَاءِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ مِنْهُ (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي مَرَضِهِ: إذَا صَحَحْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا إنْ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ؛ فَلَا يَكُونُ هُوَ قَاصِدًا الْفِرَارَ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ أُقْتَلَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ مِنْ مَرَضِ كَذَا، وَكَذَا بِشَهْرٍ فَمَاتَ مِمَّا قَالَ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ الْوَقْتُ بِهِ لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قُدُومِ فُلَانٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، لَوَقَعَ بَعْدَهُ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا قُتِلَ؛ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ، وَلَهَا الْمِيرَاثَ فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ فَمَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَهُ فَجْأَةً، أَوْ مَرِضَ، ثُمَّ مَاتَ؛ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَبْلَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعِنْدَهُمَا لَا تَطْلُقُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا الْمَوْتُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مُعَرِّفٌ لِلْوَقْتِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَكِنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي بِمَا دُونَ الشَّهْرَيْنِ، فَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 لَا يَقَعُ مَا لَمْ يُشْرِفْ عَلَى الْمَوْتِ وَيَتَعَلَّقُ حَقُّهَا بِمَالِهِ. وَإِنْ كَانَ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرَيْنِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَضَافَ إلَيْهِ الطَّلَاقَ يُوجَدُ بَعْدَ كَلَامِهِ، وَإِنْ عَاشَ مِثْلَ مَا سَمَّى، أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ مَاتَ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَا سَمَّى، وَلَا مِيرَاث لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرَيْنِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَرِيضًا، إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ آيِسَةً فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مِنْ الْوَقْتِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ وَقَّتَ سَنَةً، وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْمَوْتُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ بَعْدَهُ (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا، وَهُوَ صَحِيحٌ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتَى بِشَهْرٍ، ثُمَّ مَاتَ فَجْأَةً بِغَيْرِ مَرَضٍ فَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَوْتَ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ بِهِ فَارًّا مِنْ مِيرَاثِهَا، وَإِنْ اسْتَنَدَ الْوُقُوعُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدُّخُولَ السَّابِقَ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ بَعْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَالْمِيرَاثُ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ فِي الصِّحَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَتُتِمُّ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي حَصَلَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ عِنْد مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهَا الْعِدَّةَ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَحُكْمُ الْفِرَارِ لَا يَثْبُتُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا فِي مَرَضِهِ، أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِفِعْلِهَا إمَّا بِقَبُولِهَا الْبَدَلَ، أَوْ بِإِيقَاعِهَا الطَّلَاقَ عَلَى نَفْسِهَا، وَهَذَا أَبْيَنُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثَلَاثًا، وَقَالَ الْمَوْلَى لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ غَدًا فَجَاءَ الْغَدُ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ مَعًا، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَقْصِدْ الْفِرَارَ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ يَوْمئِذٍ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْعَتَاقَ يَقَعَانِ مَعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إلَى الْغَدِ، ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ فَكَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 الطَّلَاقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ قَبْلَ كَلَامِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِقَوْلِ الْمَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا تُعْتَقُ غَدًا فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوعَ يُصَادِفُهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ، فَلَوْ ثَبَتَ حَقُّهَا فِي مَالِهِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْعِتْقِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: إذَا أُعْتِقْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَ فَارًّا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَا إنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَبَعْدَ مَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهَا بِمَالِهِ فَقَدْ قَصَدَ إسْقَاطَ حَقِّهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا الْمَوْلَى: أَنْتِ حُرَّةٌ غَدًا، وَقَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْدَ الْغَدِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ فَارٌّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِفَارٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي مَالِهِ حِينَ عَلَّقَ الزَّوْجُ؛ لِكَوْنِهَا رَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ إذَا أَضَافَ إلَى وَقْتٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ حُرَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّ حَقَّهَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ فَقَدْ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا إسْقَاطَ حَقِّهَا فَلِهَذَا لَا تَرِثُهُ. وَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْعِتْقِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهَا فِي مَالِهِ، فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِإِيقَاعِهِ الثَّلَاثَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِمِيرَاثِهَا مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ، وَجَهْلُ الزَّوْجِ بِالْعِتْقِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الزَّوْجِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْدَ غَدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا حَقَّ لَهَا فِي مَالَهُ حِينَ تَكَلَّمَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَ طَلَاقَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَرِثْ، فَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مُسْقِطًا حَقًّا ثَابِتًا لَهَا، وَلَكِنْ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاق إلَى وَقْتِ يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ قَصْدًا مِنْهُ الْإِضْرَارَ بِهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى إضْرَارِهَا فَلَا يَكُونُ فَارًّا لِهَذَا. (قَالَ): وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً كِتَابِيَّةً، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَدًا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْغَدِ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَكَلَّمَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ، لَوْ نَجَّزَ الثَّلَاثَ لَمْ تَرِثْ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْإِضْرَارَ بِهَا بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُسْلِمُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ فَلَمْ يَكُنْ فَارًّا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا أَسْلَمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَ فَارًّا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا حِينَ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَا لَهُ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا قَالَ الصَّحِيحُ لِامْرَأَتِهِ إذَا جَاءَ: رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ مَرِضَ قَبْلَ مَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ فَارًّا، وَلَوْ قَالَ: إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَ فَارًّا، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِإِسْلَامِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ كَانَ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَجَهْلُ الزَّوْجِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ. (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْكَافِرِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ، أَوْقَعَ الثَّلَاثَ قَبْلَ إسْلَامِهِ فَهُوَ غَيْرُ فَارٍّ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِيرَاثٌ مِنْهُ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِإِسْلَامِهَا، أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ هُنَاكَ إنَّمَا، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ عَتَقَ وَأَصَابَ مَالًا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارًّا حِينَ طَلَّقَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَإِذَا قَالَ: إذَا أُعْتِقْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهُوَ فَارٌّ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهِ قَاصِدٌ الْإِضْرَارَ بِهَا. (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَمَةً، فَقَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ: إذَا عَتَقْتُ أَنَا وَأَنْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ أُعْتِقَا جَمِيعًا فَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِإِضَافَتِهِ الطَّلَاقَ إلَى مَا بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثَلَاثًا، ثُمَّ أُعْتِقَا الْيَوْمَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مِيرَاثِهِ، وَمَا كَانَ يَدْرِي أَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، فَلَا يَكُونُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ قَاصِدًا الْإِضْرَارَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا الْمَوْلَى: أَنْتُمَا حُرَّانِ غَدًا، وَقَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَدًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ التَّوْرِيثِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ حُكْمَ التَّوْرِيثِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ يَقْتَرِنُ بِالْعِتْقِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْدَ الْغَدِ فِي الْقِيَاسِ لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَوَارُثٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِعِتْقِهِمَا بَعْدَ الْغَدِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُمَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى فَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى أَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَجِيءِ الْغَدِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُمَا فِي مِلْكِهِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ، فَهُوَ بِإِضَافَةِ الثَّلَاثِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى يَكُونُ قَاصِدًا الْإِضْرَارَ بِهَا فَيَكُونُ فَارًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى، لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا الْإِضْرَارَ بِهَا. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ، أَوْ الْمُرْتَدَّةِ، وَهُوَ حُرٌّ مَرِيضٌ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إذَا مَضَى شَهْرٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ ذَلِكَ فَعَتَقَتْ، ثُمَّ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مِيرَاثٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ لَمْ يَقْصِدْ الْإِضْرَارَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْلَى يَمُوتُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَعَتَقْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ قَصْدَهُ الْإِضْرَارَ بِهَا. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الْمُكَاتَبُ فِي مَرَضِهِ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ، أَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ، أَوْقَعَ الثَّلَاثَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي كَسْبِهِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ، وَمَا كَانَ يَدْرِي أَنَّهُ يُعْتَقُ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ يَتْرُكُ وَفَاءً فَلَمْ يَكُنْ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً، إنْ أَدَّيَا عَتَقَا، وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا رَقِيقَيْنِ فَطَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ، وَتَرَكَ وَفَاءً فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي مَالِهِ حَقٌّ حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ حَيْضَتَانِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَمَةٌ وَيَرْجِعُونَ عَلَيْهَا بِمَا أَدَّى مِنْ تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ عَنْهَا كَمَا لَوْ كَانَ أَدَّى بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ. (قَالَ): وَإِذَا خَرَجَتْ الْأَمَةُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً، ثُمَّ خَرَجَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا مُسْلِمًا، وَهُوَ مَرِيضٌ فَطَلَّقَهَا، أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، ثُمَّ مَاتَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. (قَالَ): وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ، وَلَهُ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بَعْدُ فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَالتَّوْرِيثُ يَسْتَنِدُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ مِيرَاثِهِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ الرَّجُلِ كَالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ قَتْلُهُ بِهَا، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا بَيْنَهُمَا يَوْمئِذٍ فَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً بَعْدَ الرِّدَّةِ مَا لَمْ يُقْتَلْ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى وَقَعَتْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْحِيَضِ فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرِيثِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ حَيٌّ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَرِثُ الْحَيُّ مِنْ الْمَيِّتِ لَا مِنْ الْحَيِّ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْوَارِثِ وَقْتَ مَوْتِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَرِثْهُ؛ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قِيَامُ عِدَّتِهَا وَقْتَ مَوْتِهِ فَإِذَا انْعَدَمَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِيرَاثٌ. (قَالَ): وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي ارْتَدَّتْ، ثُمَّ مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِرِدَّتِهَا فِي زَوَالِ مِلْكِهَا؛ وَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً بِسَبَبِ الرِّدَّةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ. فَإِذَنْ، قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِهَا. (قَالَ): وَإِذَا ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ، ثُمَّ مَاتَتْ، أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فِي الْقِيَاسِ لَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ فِي جَانِبِ الزَّوْج، وَتَوْرِيثُ الْبَاقِي مِنْ الْمَيِّتِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَرَضِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: لَهُ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَالِهَا بِمَرَضِهَا فَكَانَتْ بِالرِّدَّةِ قَاصِدَةً إبْطَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 حَقِّهِ فَارَّةً عَنْ مِيرَاثِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا قَصْدُهَا كَمَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً حِينَ ارْتَدَّتْ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْعِدَّةِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَهِيَ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ يَوْمَ مَاتَتْ، وَلَوْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ يَوْمَ مَاتَتْ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَته ثَلَاثًا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ صَارَتْ مُبْطِلَةً حَقَّهَا؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ بِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِلْمِيرَاثِ؛ فَلَا يَعُودُ حَقُّهَا بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى ابْتِدَاءِ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فِي الْعِدَّةِ فَجَامَعَهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مِيرَاثُهَا؛ لِأَنَّهَا بِهَذِهِ الطَّوَاعِيَةِ لَمْ تُبْطِلْ حَقَّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِفِعْلِهَا تَأْثِيرٌ فِي الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ تَخْرُجْ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِلْإِرْثِ فَبَقَاءُ مِيرَاثِهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ بِفِعْلِهَا، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِمِيرَاثِهَا؛ وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ يَوْمِئِذٍ كَانَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَفِعْلُهَا مُؤَثِّرٌ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ بِهِ مِيرَاثُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَكْرَهَهَا الِابْنُ عَلَى ذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَى نَفْسِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ مِنْ جَانِبِهَا بِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حُكْمًا؛ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْفِرَارِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَمَرَ ابْنَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا حِينَ أَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدَّ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَبْطُلُ مِيرَاثُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا يُسْقِطُ حَقَّهَا، وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ سَبَبُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّوْجِ، وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ حَقُّهَا فَلَا يَسْقُطُ. (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يُسْلِمَ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي مَرَضِ الزَّوْجِ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ إذْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ؛ فَبَعْدَ التَّفْرِيقِ، أَوْلَى. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ وَلَاعَنَهَا وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ مَاتَ فَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ قَذْفُهُ إيَّاهَا بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَهِيَ لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا، فَلَا تَصِيرُ بِذَلِكَ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهَا فِي مَرَضِهِ، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. (قَالَ): وَلَوْ كَانَ قَذَفَهَا فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَرِضَ فَلَاعَنَهَا، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْمِيرَاثُ أَيْضًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ فِي صِحَّتِهِ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي مَرَضِهِ. (قَالَ): وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا حِينَ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَكَانَتْ تَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا الِاخْتِيَارِ بِأَنْ تَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ الزَّوْجُ فَتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقَةُ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ وَهَذَا، أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَا إنَّمَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُضْطَرَّةٍ إلَى ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ الْآخَرُ، فَلَا مِيرَاثَ لِلْبَاقِي مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا فَإِنْ أَسْلَمَا مَعًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مُرْتَدًّا وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ إسْلَامِهَا كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ حَتَّى تُجْعَلَ هَذِهِ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى فِعْلِ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهُمَا مُرْتَدَّانِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ طَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ حَقُّهَا مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ لِرِدَّتِهَا فَلَا يَصِيرُ هُوَ فَارًّا، فَلَوْ ثَبَتَ حَقُّهَا إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إسْلَامِهَا ابْتِدَاءً، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إسْلَامِهِمَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي صِحَّتِي، وَانْقَضَتْ عِدَّتُك وَصَدَّقَتْهُ بِذَلِكَ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ كَالْمُعَايَنِ، أَوْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمِيرَاثِ لَهَا، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهَا، فَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ، أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهُوَ جَائِزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يَجُوزُ لِأَجْنَبِيَّةٍ أُخْرَى الْإِقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهَا وَمِمَّا أَقَرَّ، أَوْ أَوْصَى بِهِ. هُمَا يَقُولَانِ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْحَالِ، فَإِقْرَارُهُ لَهَا كَإِقْرَارِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ التُّهْمَةُ لَاعْتُبِرَتْ فِي حَقِّ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ، وَالْحُرْمَةَ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تُهْمَةَ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَالْوَصِيَّةِ لَهَا كَوْنُهَا وَارِثَةً لَهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْحُكْمِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِيَقِينٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمَّا مَرِضَ، وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ، فَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ، وَالْوَصِيَّةِ لَهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَاضَعَهَا عَلَى أَنْ تُقِرَّ بِالطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ، وَبِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَتُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِتَصْحِيحِ إقْرَارِهِ وَوَصِيَّتِهِ لَهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، فَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الْمِيرَاثِ لَا تُهْمَةَ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا لَهَا الْأَقَلَّ، وَأَبْطَلْنَا الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ كَمَا لَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 سَأَلَتْهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَفَعَلَ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ، أَوْ، أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي الْأَقَلِّ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ فِي الزِّيَادَة عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ لَا فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَحِلُّ التَّزَوُّجِ حَقُّ الشَّرْعِ؛ فَلِهَذَا صُدِّقَا عَلَى ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: قَدْ كَانَ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، وَمَاتَ وَأَنَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ الْوَرَثَةُ: بَلْ طَلَّقَك فِي صِحَّتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَدَّعُونَ عَلَيْهَا سَبَبَ الْحِرْمَانِ، وَهِيَ جَاحِدَةٌ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي مَرَضِهِ لَا يَحْرِمُهَا، فَلَا تَكُونُ هِيَ مُقِرَّةً بِالْحِرْمَانِ كَمَا لَوْ قَالَتْ: طَلَّقَنِي فِي حَالَةِ نَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَدَّعُونَ الطَّلَاقَ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ، وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ التَّارِيخَ، وَلَوْ أَنْكَرَتْ أَصْلَ الطَّلَاقِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا، فَكَذَا إذَا أَنْكَرَتْ التَّارِيخَ. . (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً، فَقَالَتْ: أُعْتِقْتُ قَبْلَ مَوْتِ زَوْجِي، وَصَدَّقَهَا الْمَوْلَى، وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: أُعْتِقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ، وَهُوَ الرِّقُّ كَانَ ظَاهِرًا فِيهَا، فَإِذَا ادَّعَتْ زَوَالَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَنْكَرَهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَرَثَةِ؛ وَلِأَنَّهَا تَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا لِعِتْقِهَا؛ فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ لَا يَمْلِكُ إسْنَادَ عِتْقِهَا إلَى حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَادَّعَتْ الْإِسْلَامَ قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي زَوَالَ سَبَبِ الْحِرْمَانِ بَعْدَ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كُفْرُهَا وَلَا رِقُّهَا فَادَّعَتْ الْوَرَثَةُ أَنَّهَا كَافِرَةٌ، أَوْ رَقِيقَةٌ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَقَالَتْ: مَا زِلْتُ عَلَى هَذِهِ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ النِّكَاحُ ظَاهِرٌ، وَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ عَلَيْهَا سَبَبَ الْحِرْمَانِ، وَهِيَ تُنْكِرُ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنِّكَاحِ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا هَذَا دَفْعُ الْمَانِعِ بِالظَّاهِرِ. (قَالَ): وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ كَافِرًا فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً تَدَّعِي مِيرَاثَهَا، فَقَالَتْ: أَسْلَمْتُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ تَدَّعِي الْمِيرَاثَ وَمَا يَحْرِمُهَا قَائِمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، وَالْمُسْلِمَةُ لَا تَرِثُ الْكَافِرَ فَمَعَ ظُهُورِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ لَا مِيرَاثَ لَهَا إلَّا أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الِاشْتِبَاهَ إذَا وَقَعَ فِيمَا سَبَقَ يُحَكَّمُ الْحَالُ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَ صَاحِبُ الرَّحَى مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا فِي الْحَالِ يُجْعَلُ جَارِيًا فِيمَا مَضَى، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ مُسْلِمَةً فِي الْحَالِ، تُجْعَلُ مُسْلِمَةً فِيمَا مَضَى أَيْضًا، وَالْمُسْلِمَةُ لَا تَرِثُ الْكَافِرَ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ: قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَكَذَّبَتْهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا، أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا، ثُمَّ مَاتَ فَالْقَوْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 قَوْلُهَا، وَالْمِيرَاثُ لَهَا دُونَ الْأَرْبَعِ، وَالْأُخْتِ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ حَقِّهَا، وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا كَمَا فِي نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْمِيرَاثِ لَهَا بِالنِّكَاحِ أَنْ لَا تَرِثَ أُخْتُهَا، أَوْ أَرْبَعٌ سِوَاهَا بِهَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ ثَلَاثًا سِوَاهَا إحْدَاهُنَّ أُخْتُهَا، فَلَا مِيرَاثَ لِأُخْتِهَا، وَلِلِاثْنَتَيْنِ مَعَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مِيرَاثِهَا، وَلَوْ لَمْ يُخْبِرْ حَتَّى تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ كَانَتَا وَارِثَتَيْنِ مَعَهَا بِخِلَافِ أُخْتِهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ تَطَاوُلِ ذَلِكَ، وَهِيَ تَقُولُ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ، وَمُدَّةُ الْعِدَّةِ قَدْ تَطُولُ وَتَقْصُرُ، وَلَكِنْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ مَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا إذَا طَلَبَتْ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عَلَيْهَا مَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ لَزِمَهَا، فَإِذَا أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهَا الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ بِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي قَدْرِ مَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهِ الْعِدَّةُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا دَلَالَةً، فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ تُبَاشِرُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ دُونَ الْبَاطِلِ، وَلَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ وَقَالَتْ: قَدْ آيَسْتُ مِنْ الْحَيْضِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَحُرِمَتْ الْمِيرَاثَ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجٍ غَيْرِهِ فَنِكَاحُ الْآخَرِ فَاسِدٌ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهَا فَإِنَّ الْآيِسَةَ لَا تَلِدُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُمْتَدًّا طُهْرُهَا لَا آيِسَةً، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَتْ فِي الْعِدَّةِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ؛ لِأَنَّ الْآيِسَةَ لَا تَحِيضُ إلَّا أَنَّهَا إنْ ادَّعَتْ الْحَيْضَ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى زَوْجِهَا الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ فَلَا تُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهَا الْبُطْلَانَ، وَإِنْ صَدَّقَهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُصَدَّقَا عَلَى وَرَثَةِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ إيَّاهَا بِمَا تَقُولُ. . (قَالَ): وَإِذَا كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ مُسْتَحَاضَةً، وَكَانَ حَيْضُهَا مُخْتَلِفًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهَا تَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ، فَفِي الصَّلَاةِ وَالرَّجْعَةِ تَأْخُذُ بِالْأَقَلِّ، وَفِي الْحِلِّ لِلْأَزْوَاجِ تَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ، وَفِي الْمِيرَاثِ تَأْخُذُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالشَّكِّ لَا يُسْتَوْجَبُ، وَبَقَاءُ الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ شَرْطٌ لِمِيرَاثِهَا فَمَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا مَعْلُومًا، وَانْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا فِي آخِرِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 يَذْهَبَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، وَكَذَلِكَ إنْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَ عُضْوٌ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي مَعَ بَقَاءِ عُضْوٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الرَّجْعَةِ. (قَالَ): وَإِذَا بَقِيَ الزَّوْجُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا الْمِيرَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي النَّفَقَةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَرُدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هَذَا مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ مِنْ زَوْجٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ يَتَبَيَّنُ بِهَا انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُجْعَلُ مُعْتَدَّةً إلَى أَنْ وَلَدَتْ، فَلِهَذَا لَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ فَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَرَضِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: لَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَلَمَّا مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَإِنَّ حَقَّهَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ يَوْمِئِذٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِمَرَضِهِ حِينَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَوْتِ سَبَبَانِ فَلَا يُتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَأَنَّ حَقَّهَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي مَاله، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إرْثَهَا مِنْهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هُنَا. . (قَالَ): وَإِذَا قُرِّبَ الرَّجُلُ؛ لِيُقْتَلَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرِيضَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ، فَكُلُّ سَبَبٍ يَعْتَرِضُ مِمَّا يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهِ الْهَلَاكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ، وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ، وَقَدْ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ أَيْضًا فَلَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ، فَاَلَّذِي قُرِّبَ؛ لِيُقْتَلَ فِي قِصَاصٍ، أَوْ رَجْمٍ فَالظَّاهِرُ فِيهِ هُوَ الْهَلَاكُ، وَالسَّلَامَةُ بَعْدَ هَذَا نَادِرٌ، فَأَمَّا الْمَحْبُوسُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِيُقْتَلَ، فَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيلَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ فَارًّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْعَدُوِّ، فَمَا دَامَ فِي الصَّفِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ، فَإِذَا خَرَجَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يُبَارِزُ قِرْنَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَالْمَحْصُورُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِهِ السَّلَامَةُ، فَإِنْ خَرَجَ يُقَاتِلُ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فَإِنْ تَلَاطَمَتْ الْأَمْوَاجُ، وَخِيفَ الْغَرَقُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ كَالصَّحِيحَةِ، فَإِنْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضَةِ فَإِذَا قَتَلَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ مِيرَاثِهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ كَبَقَاءِ الْمِيرَاثِ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وَإِنْ قَتَلَتْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَمْ تَرِثْهُ لِلْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ» بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُقْعَدُ، وَالْمَرِيضُ، وَالْمَفْلُوجُ مَادَامَ يَزْدَادُ مَا بِهِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، وَإِنْ صَارَ قَدِيمًا لَا يَزْدَادُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَادَامَ يَزْدَادُ عِلَّتُهُ فَالْغَالِبُ أَنَّ آخِرَهُ الْمَوْتُ، وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَزْدَادُ، فَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ وَصَاحِبُ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحَةٍ، أَوْ وَجَعٍ لَمْ يُصَيِّرْهُ عَلَى الْفِرَاشِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ. وَحَدُّ الْمَرَضِ الَّذِي يَكُون بِهِ فَارًّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ فِرَاشٍ قَدْ أَضْنَاهُ الْمَرَضُ، فَأَمَّا الَّذِي يَجِيءُ وَيَذْهَبُ فِي حَوَائِجِهِ، فَلَا يَكُونُ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ يَشْتَكِي وَيُحَمُّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ مَرَضٍ فِي بَاطِنِهِ، وَلَا يُجْعَلُ بِذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ، بَلْ الْمَرِيضُ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِي أَنَّ الصَّحِيحَ يَكُونُ فِي السُّوقِ، وَيَقُومُ بِحَوَائِجِهِ، وَالْمَرِيضُ يَكُونُ صَاحِبَ فِرَاشٍ فِي بَيْتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّبَبُ الظَّاهِرُ، وَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ تَيْسِيرًا، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ: إذَا كَانَ بِحَالٍ يَخْطُو ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَالْمَرِيضُ جِدًّا لَا يَعْجَزَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إذَا تَكَلَّفَ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ فِرَاشٍ. وَمَنْ قُرِّبَ؛ لِيُقْتَلَ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، أَوْ حُبِسَ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا صَحَّ بَعْدَ مَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. [بَابُ الْوَلَدِ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فِي الْفُرْقَةِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا تَكُونُ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ عِنْدَهَا أَنْفَعُ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا، أَوْ مَوْلَاهَا، فَلَا مَنْفَعَةَ لِلْوَلَدِ فِي كَوْنِهِ عِنْدَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ بِالشَّرْطِ. (قَالَ): وَإِذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمًا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَبِغَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هِيَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرٍ آخَرَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ بِقَطْعِ وَلَدِهِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ قُرْبٌ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الزَّوْجُ؛ لِمُطَالَعَةِ الْوَلَدِ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَحِينَئِذٍ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ فِي مِصْرٍ، وَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ، وَنَقَلَهَا إلَى هَذَا الْمِصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ، فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي مِصْرٍ؛ لِيُقِيمَ مَعَهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا سَاعَدَتْهُ عَلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَجْلِ النِّكَاحِ فَإِذَا ارْتَفَعَ كَانَ لَهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مِصْرِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُقَامِ فِي الْغُرْبَةِ نَوْعُ ذُلٍّ وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا بِأَصْلِ النِّكَاحِ اسْتَحَقَّتْ الْمُقَامَ بِوَلَدِهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ، فَإِنَّمَا تَسْتَوْفِي مَا اسْتَحَقَّتْ لَا أَنْ تَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ مَا كَانَ فِي مِصْرِهَا، وَاخْتِيَارُهَا الْغُرْبَةَ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرِهَا، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهَا: اُتْرُكِي الْوَلَدَ، وَاذْهَبِي حَيْثُ شِئْت، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى مِصْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ غَرِيبَةٌ كَمَا هُنَا، فَلَا تَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِ دَفْعَ وَحْشَةِ الْغُرْبَةِ، إنَّمَا تَقْصِدُ قَطْعَ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ. وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي كَانَ تَزَوَّجَهَا فِيهِ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا غَرِيبَةٌ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: اُنْظُرْ إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَيْنَ وَقَعَ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِالْوَلَدِ إلَى مَوْضِعِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي مِصْرِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ لَا دَفْعَ الْوَحْشَةِ عَنْ نَفْسِهَا بِالْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَا أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْغُرْبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مِصْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي رُسْتَاقٍ لَهُ قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ، فَلَهَا ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْقُرَى قَرِيبَةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَطْعُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَعُودَ إلَى قَرْيَتِهَا، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ مِنْ الْقَرْيَةِ إلَى الْمِصْرِ. وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ مِصْرٍ جَامِعٍ إلَى قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَتَخْرُجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّتْ الْمُقَامَ فِي قَرْيَتِهَا بِوَلَدِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ النِّكَاحِ فِيهَا، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ بِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّ فِي أَخْلَاقِ أَهْلِ الرُّسْتَاقِ بَعْضَ الْجَفَاءِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَهْلُ الْكُفُورِ هُمْ أَهْلُ الْقُبُورِ» فَفِي خُرُوجِهَا بِوَلَدِهَا إلَى الْقَرْيَةِ مِنْ الْمِصْرِ إضْرَارٌ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ هُنَاكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ هُنَاكَ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ نُهْبَةٍ وَغَارَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَتُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. (قَالَ): وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِوَلَدِهَا أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُ وَتَبِيعَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ، فَأَمَّا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لِلْأَبِ، أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ وَصِيَّةَ أَبِيهِ فَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ لَا بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ. (قَالَ): وَكُلُّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنْ تَرْتَدَّ، فَحِينَئِذٍ إنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْحَضَانَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ إلَّا أَنْ تَتُوبَ، فَإِنْ تَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ. (قَالَ): وَإِذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ فَلَا سَبِيلَ لِأَبِيهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ وَكَانَ مَأْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلِي عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ الْأَبُ إلَى نَفْسِهِ؛ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ فُصُولِ النَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْخُلْعِ] (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ فَسْخٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى أَنْ قَالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] إلَى أَنْ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فَلَوْ جَعَلْنَا الْخُلْعَ طَلَاقًا صَارَتْ التَّطْلِيقَاتُ أَرْبَعًا فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ حَتَّى يُفْسَخَ بِخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَخِيَارِ الْعِتْقِ، وَخِيَارِ الْبُلُوغِ عِنْدَكُمْ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَيْضًا، وَذَلِكَ بِالْخُلْعِ، وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةَ الْمُحْتَمِلَةَ لِلْفَسْخِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي جَوَازِ فَسْخِهَا بِالتَّرَاضِي. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَسْخَ بِسَبَبِ عَدَم الْكَفَاءَةِ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ، وَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَالْعِتْقِ، فَأَمَّا الْخُلْعُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ لَفْظُ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: خَلَعْت الْخُفَّ مِنْ رِجْلِي يُرِيدُ بِهِ الْفَصْلَ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا بَعْد تَطْلِيقَتَيْنِ عِنْدَنَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَعِنْدَهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَسَعُ هُنَاكَ؛ فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اثْنَتَانِ كَمَا فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ، وَالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَلَاقٍ بِجُعْلٍ فَهُوَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ هِيَ بِمُقَابَلَتِهِ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهَا مِنْ الْتِزَامِ الْبَدَلِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَعْنِ بِالْخُلْعِ طَلَاقًا، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ جُعْلًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْجُعْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ، وَلَا يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ إلَّا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى قَصْدِهِ الطَّلَاقَ مِنْ حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي سِرِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إلَّا الظَّاهِرَ كَالْقَاضِي. (قَالَ): وَالْمُبَارَأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقُّ مِنْ الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى قَطْعِ الْوُصْلَةِ مِنْ الْخُلْعِ، وَإِذَا جُعِلَ الْخُلْعُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، فَالْمُبَارَأَةُ، أَوْلَى وَلِلْمُخْتَلِعَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْخُلْعُ، وَالْبَرَاءَةُ الْعَامَّةُ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ إلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ. . (قَالَ): فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا الْبَرَاءَةَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا، وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْفُرْقَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَعْدُ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهَا، وَلَكِنْ فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ تَبَعًا لَهُ حَتَّى لَوْ أَسْقَطَتْ نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ بِإِبْرَاءِ الزَّوْجِ عَنْهَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَهِيَ تَجِبُ شَيْئًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 فَشَيْئًا بِحَسْبِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهَا عَنْ السُّكْنَى فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ مَعْصِيَةٌ، قَالُوا: وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى بِأَنْ سَكَنَتْ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ الْتَزَمَتْ مُؤْنَةَ السُّكْنَى مِنْ مَالِهَا صَحَّ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا. (قَالَ): وَالْخُلْعُ جَائِزٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَعْتَمِدَ التَّرَاضِيَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ، وَلِلزَّوْجِ وِلَايَةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَلَهَا وِلَايَةُ الْتِزَامِ الْعِوَضِ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ خَالَعْتُكِ، أَوْ بَارَأْتُك، أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْقَبُولُ إلَيْهَا فِي مَجْلِسِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إيجَابَ الْخُلْعِ مِنْ الزَّوْجِ فِي الْمَعْنَى تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ قَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ طَلَاقٌ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً حَتَّى إذَا بَلَغَهَا فَقَبِلَتْ فِي مَجْلِسِهَا، ثُمَّ وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ بَطَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَتَمْلِيكِ الْأَمْرِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي مَجْلِسِهَا فَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا، فَكَذَلِكَ تَقْدِرُ عَلَى الْقَبُولِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِهَا فِي الْخُلْعِ الْتِزَامُ الْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ حَتَّى إذَا بَدَأَتْ فَقَالَتْ: اخْلَعْنِي، أَوْ بَارِئْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ بِقِيَامِ الزَّوْجِ عَنْ الْمَجْلِسَ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا يَبْطُلُ إيجَابُ الْبَيْعِ بِقِيَامِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حِينَ قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ، إذَا بَلَغَهُ كَمَا لَا يَتَوَقَّفُ إيجَابُ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ غَائِبًا. (قَالَ): فَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَبْدَالَ، وَالْأَعْوَاضَ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ، فَهِيَ لَمَّا الْتَمَسَتْ الثُّلُثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ جَعَلَتْ بِإِزَاءِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ ثُلُثَ الْأَلْفِ، ثُمَّ فِيمَا صَنَعَ الزَّوْجُ مَنْفَعَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِوُجُوبِ جَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَيْهَا بِمُقَابَلَةِ التَّخَلُّصِ مِنْ زَوْجِهَا فَتَكُونُ أَرْضَى بِوُجُوبِ ثُلُثِ الْأَلْفِ عَلَيْهَا إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَبِالْوَاحِدَةِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ لَوَقَعَتْ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالزَّوْجُ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْأَلْفِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، وَهَذِهِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ إحْدَاهُمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ رَاضٍ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا لَا يَتَّصِلُ بِنِكَاحِ الْأُخْرَى. (قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ، يَلْزَمُهَا ثُلُثَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَزِمَهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، فَهُوَ بِإِيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا عِوَضًا آخَرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، وَيَجْعَلُهَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُهَا جَمِيعُ الْأَلْفِ. (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَك عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَلْفِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَحَرْفُ " عَلَى " فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَحَرْفِ الْبَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الْمَتَاعَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ حَرْفِ الْبَاءِ تَتَوَزَّعُ الْأَلْفُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ " عَلَى " يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَفُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَحْدَهَا كَانَ عَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الْتَمَسَتْ بِحَرْفِ الْبَاءِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ حِصْنٍ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الصُّلْحُ بِحَرْفِ الْبَاءِ يَلْزَمُهُ رَدُّ ثُلُثَيْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَحَرْفُ " عَلَى " لِلشَّرْطِ فَجَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ مَجَازًا يُصَارُ إلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ لَا يَحْصُلُ هُنَاكَ فَمَقْصُودُهُمْ أَنْ يَتَحَصَّنُوا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلِهَذَا حَمَلْنَا حَرْفَ عَلَى عَلَى الشَّرْطِ، وَهُنَا مَقْصُودُهَا يَحْصُلُ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْبَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حَرْفُ " عَلَى " لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ حَرْفُ الِالْتِزَامِ، وَلَا مُقَابَلَةَ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَ، بَلْ بَيْنَهُمَا مُعَاقَبَةٌ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ، فَكَانَ مَعْنَى الشَّرْطِ فِيهِ حَقِيقَةً، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعُدُولِ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ. فَإِذَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً، وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءً، فَإِنَّمَا شَرَطَتْ لِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهَا إيقَاعَ الثَّلَاثِ، فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ لَهَا فِي ذَلِكَ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ؛ حَتَّى لَا تَصِيرَ فِي وَثَاقِ نِكَاحِهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهَا عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْأَمَانِ نَادِرٌ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الْغَالِبُ فِيهِ الْإِيقَاعُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَيْعَ، وَالْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرْطِ هُنَاكَ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا حَرْفَ " عَلَى " بِمَعْنَى حَرْفِ الْبَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ " حَرْفَ " عَلَى لِلشَّرْطِ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]، أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَقُولَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]، أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَلِّقْنِي وَفُلَانَةَ عَلَى كَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهَا فِي طَلَاقِ فُلَانَةَ؛ لِتَجْعَلَ ذَلِكَ كَالشَّرْطِ مِنْهَا وَلَهَا فِي اشْتِرَاطِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَفَرِّقَاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ الْبَدَلِ لَمْ يَجِبْ بِإِيقَاعِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي حَرْفِ الْبَاءِ. (قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى جُعْلٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْجُعْلُ، وَكَذَلِكَ الْبَائِنَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ يَعْنِي إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا عَلَى جُعْلٍ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْعِدَّةِ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ تَعْلِيقًا مِنْ الزَّوْجِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَقَدْ قَبِلَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ زَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَكِنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْمَقْبُولِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبُولِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا بِبَدَلٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ: خَلَعْتُك يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْبَيْنُونَةِ، وَالْحُرْمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخُلْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ يَكُونُ بَائِنًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ هَذِهِ الْمُبَانَةُ إلَّا أَنْ يَعْنِيهَا، فَإِنْ عَنَاهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ، أَوْقَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ هِيَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ مِلْكًا وَيَدًا، فَأَمَّا الْمُبَانَةُ تُضَافُ إلَيْهِ يَدًا لَا مِلْكًا، فَكَانَتْ مُقَيَّدَةً فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنْ يَعْنِيهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ لَا يَدْخُلُ الْمُكَاتَبُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَعْنِيه، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ وَلَا يَدٌ، وَبِدُونِهِمَا لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى الْمَحَلِّ فَيَسْتَدْعِي وِلَايَتَهُ عَلَى الْمَحَلِّ. (قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى جُعْلٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ جَازَ وَلَزِمَهَا الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلَ مِلْكَ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَعْتَاضُ عَنْ مِلْكٍ قَائِمٍ لَهُ فَيَصِحُّ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ. (قَالَ): وَخُلْعُ السَّكْرَانِ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّكْرَانِ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَالْإِيقَاعُ يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ الْبَنْجِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ؛ وَلِأَنَّ غَفْلَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَوْقَ غَفْلَةِ النَّائِمِ، فَإِنَّ النَّائِمَ يَنْتَبِهُ إذَا نُبِّهَ وَالسَّكْرَانُ لَا يَنْتَبِهُ، ثُمَّ طَلَاقُ النَّائِمِ لَا يَقَعُ، فَطَلَاقُ السَّكْرَانِ، أَوْلَى، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ غَفْلَتُهُ هُنَا بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ لَا لِلتَّخْفِيفِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَوْ ارْتَدَّ تَصِحُّ رِدَّتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لَحُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَحُجَّتُنَا مَا رَوَيْنَا كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٍ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ؛ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ، فَإِذَا صَادَفَ تَصَرُّفُهُ مَحَلَّهُ نَفَذَ كَالصَّاحِي، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا بِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ فَهُوَ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ قَبْلَ سُكْرِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي حَالِ سُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ بِاعْتِدَالِ الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلِ مَقَامِهِ؛ تَيْسِيرًا، وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ قُلْنَا غَفْلَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ شَيْءٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ؛ لِأَنَّ بِالسُّكْرِ لَا يَزُولُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَعْجِزُ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِغَلَبَةِ السُّرُورِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَنْجِ، فَإِنَّ غَفْلَتَهُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَمَا يَعْتَرِيهِ نَوْعُ مَرَضٍ لَا أَنْ يَكُونَ سُكْرًا حَقِيقَةً، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ، وَبِخِلَافِ النَّائِمِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ؛ فَلِانْعِدَامِ الْإِيقَاعِ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَقَعُ، وَالسُّكْرُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ أَنَّ الْغَفْلَةَ بِسَبَبِ النَّوْمِ لَمْ تَكُنْ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ فِيهَا الِاعْتِقَادُ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ، فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، لِانْعِدَامِ رُكْنِهَا لَا لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ. (قَالَ): وَخُلْعُ الْمُكْرَهِ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُ فِي إلْغَاءِ عِبَارَةِ الْمُكْرَهِ كَتَأْثِيرِ الصَّبِيِّ، وَالْجُنُونِ. وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ الرِّضَا لَا فِي إهْدَارِ الْقَوْلِ حَتَّى تَنْعَقِدَ تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ، وَلَكِنْ مَا يَعْتَمِدُ لُزُومُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 تَمَامَ الرِّضَا كَالْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَيْنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ وَإِثْمُهُ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَعْتَمِدُ سَبَبُهَا الْقَوْلَ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ كَالرِّدَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا، إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْقَصْدُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ أَيْضًا فَيَفْسُدُ قَصْدُهُ شَرْعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ كَانَ إقْرَارُهُ لَغْوًا؛ لِهَذَا يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِلْإِقْدَامِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَإِعْدَامِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ، كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِالْإِيقَاعِ فَيَكُونُ لَغْوًا. أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ إبْقَاءِ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ جُعِلَ كَالْآلَةِ؛ حَتَّى يَكُونَ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا قِيمَةَ عَبْدِهِ عِنْدَكُمْ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا نِصْفَ الصَّدَاقِ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ فِي إبْقَاءِ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ آلَةً لَهُ، وَحُجَّتنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ، فَقَالَتْ: لِتُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا، أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ»، وَاسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى رَوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدِيدٌ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي مَحَلِّهِ فَيَقَعُ كَالطَّائِعِ، وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ، أَمَّا فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَا إشْكَالَ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ حَتَّى تُنَوَّعَ عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ فَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ، وَتَارَةً يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَتَارَةً يُحَرَّمُ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، ذَلِكَ إنَّمَا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِهِ، وَالرِّضَا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّضَا بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ، وَلَا يَمْنَعُ لُزُومَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ مَا بَاشَرَهُ وَلَكِنْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْهَازِلِ يَكُونُ قَاصِدًا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ لِلْعَبَثِ لَا لِعَيْنِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ثُمَّ الْهَزْلُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَلِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا دَلِيلُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اعْتِقَادِهِ مُكْرَهٌ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِخِلَافِ الْهَازِلِ، فَإِنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَقِيَامُ السَّبَبِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَالْمَخْبَرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا؛ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا وَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ آلَةً فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَفِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ رَفْعُ الْإِثْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ لَا رَفْعُ الْعَيْنِ، وَالْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يُجَامِعَ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ. . (قَالَ): وَخُلْعُ الصَّبِيِّ وَطَلَاقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَهَذَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْقَصْدِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبِيهِ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ؛ وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ. (قَالَ): وَالْمَعْتُوهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِانْعِدَامِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ مِنْهُمَا. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الصَّبِيَّةُ مِنْ زَوْجِهَا الْكَبِيرِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْ أَهْلِ الْإِيقَاعِ وَإِيجَابُ الْخُلْعِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ قَبُولِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا فَيَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَكَلَّمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَكَلَّمَتْ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْ الصَّبِيَّةِ لَا يَصِحُّ خُصُوصًا فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ كَالِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ الْقَبُولَ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَلَا تُؤَاخَذُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا دُونَ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَإِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى سَعَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَالْأَمَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَتُؤَدِّي الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهَا إذَا الْتَزَمَتْ بِإِذْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ سَوَاءٌ اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهَا الْمَالَ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْكِتَابَةِ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْ الْتِزَامِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْخُلْعِ؛ فَلِهَذَا تُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. (قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَبِيًّا، أَوْ مَعْتُوهًا، أَوْ مَمْلُوكًا بِالْقِيَامِ مَقَامَهُ بِالْخُلْعِ وَالِاخْتِلَاعِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِهَذَا الْعَقْدِ سَفِيرٌ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَلِهَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهِمْ أَيْضًا. (قَالَ): وَإِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى صَدَاقِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهَا بِهَذَا السَّبَبِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ بِإِزَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ فَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَالَ جَازَ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ، وَاشْتِرَاطُ الْقَبُولِ فِي الْخُلْعِ؛ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُلْتَزِمَ لِلْمَالِ بِضَمَانِهِ يُتِمُّ الْخُلْعَ كَمَا لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى مَالٍ، وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ مِثْلَ الصَّدَاقِ، فَأَمَّا إذَا خَالَعَهَا عَلَى الصَّدَاقِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهَا. ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ إخْرَاجِ عَيْنٍ عَنْ مِلْكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا مُعْتَبَرٌ بِضَمَانِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ، وَإِنْ سَمَّى الصَّدَاقَ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدُ مِثْلَهُ، فَضَمَانُ الْأَبِ إيَّاهُ صَحِيحٌ، وَإِسْقَاطُهُ حَقَّهَا فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَاطِلٌ فَيَغْرَمُ الزَّوْجُ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ إبْطَالَ حَقِّهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ بِالصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، أَوْ تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ هُنَا وَبِنِصْفِ الصَّدَاقِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَصِيرُ كَالْمُعَاوِضِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا ضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ مِمَّا لَهَا عَلَيْهِ (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَ خُلْعُ الْأَبِ بِإِذْنِ الْبِنْتِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَقَدْ ضَمِنَ الْأَبُ لِلزَّوْجِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَتَرْجِعُ هِيَ بِالصَّدَاقِ عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُعَارَضَةِ فِي مَالِهَا. (قَالَ): وَكُلُّ خُلْعٍ كَانَ بِجُعْلٍ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ الْجُعْلِ؛ إمَّا لِفَسَادِهِ كَالْخَمْرِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كَالصَّغِيرَةِ فَالْوَاقِعُ بِهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 الْفُرْقَةَ كَالْبَيْنُونَةِ، وَالْحُرْمَةِ وَكُلُّ تَطْلِيقَةٍ، أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ بِجُعْلٍ أَبْطَلْتُ الْجُعْلَ وَأَمْضَيْتُ فِيهِ الطَّلَاقَ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِصَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ. (قَالَ): وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ بِصَدَاقِهَا وَضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ إجَازَتَهَا فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَعَهَا بِالنَّفَقَةِ وَضَمِنَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهَا، فَإِنْ أَجَازَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَهَا أَنْ تَتْبَعَ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهَا كَالصَّدَاقِ، فَلَا يَعْمَلُ إسْقَاطُ الْأَبِ لِحَقِّهَا وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ، وَالْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ فَهُوَ، وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ لَمْ تَحْصُلْ بِمَا الْتَزَمَتْ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ الْتِزَامُهَا صَحِيحًا، وَإِقْدَامُهَا عَلَى الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالتَّنَاقُضُ مِنْهَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرْمَةٍ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اخْلَعْنِي، وَلَك أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْمَالُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاوَ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْبَاءِ مَجَازًا كَمَا فِي الْقَسَمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاَللَّهِ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ فَقَوْلُهَا وَلَك أَلْفٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، أَوْ بِعْنِي طَلَاقِي بِأَلْفٍ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يُعْطَفُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إنَّمَا يُلْصَقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى بَيْتِي وَلَك دِرْهَمٌ كَانَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: احْمِلْهُ بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ حَتَّى يَجِبَ الْمَالُ إذَا حَمَلَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْوَاوَ بِمَعْنَى وَاوِ الْحَالِ، كَقَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَوْلِ الْغَازِي لِلْمَحْصُورِ: افْتَحْ الْبَابَ، وَأَنْتَ آمِنٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ كَانَتْ هِيَ مُلْتَزِمَةٌ الْمَالَ لَهُ حَالَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِوَضًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلْفَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الطَّلَاقِ، وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهَا عَلَى الْبَاءِ، أَوْ وَاوِ الْحَالِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الطَّلَاقِ نَادِرٌ، وَالْمُعْتَادُ فِيهِ الْإِيقَاعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَالْعِوَضُ فِيهِ أَصْلٌ لَا تَصِحُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 الْإِجَارَةُ بِدُونِهِ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ هُنَاكَ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا إلَّا بِآخِرِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَهُنَا أَوَّلُ الْكَلَامِ إنْ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ، بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إيقَاعًا مُفِيدًا دُونَ آخِرِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنْهَا فَهُوَ الْتِمَاسٌ مُفِيدٌ أَيْضًا؛ فَلِهَذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاوِ الْحَالِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْعَطْفِ، فَمَعْنَاهُ وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي بَيْتِك، أَوْ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ وَعْدًا مِنْهَا إيَّاهُ بِالْمَالِ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْوَاوِ مُحْتَمِلًا لِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، فَالْمَالُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ. . (قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ الَّتِي سَمَّيْتِ. فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ عَلَيْهَا قَبِلَتْ، أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُلْتَزِمَةٌ لِلْمَالِ عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَمْ تَكُنْ مُلْتَزِمَةً لِلْمَالِ، فَبَقِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِمَالٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ لَا يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ لَك عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَزِمَهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِحَرْفِ عَلَى، وَهُوَ لِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ قَبْلَ هَذَا، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ لَك أَلْفًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَزِمَهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ بِإِزَاءِ مَا يَصِحُّ فِيهِ الْتِمَاسُهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ إيقَاعُ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ، وَهِيَ التَّطْلِيقَةُ الثَّالِثَةُ، فَأَمَّا إيقَاعُ مَا هُوَ وَاقِعٌ لَا يَتَحَقَّقُ، فَكَانَ تَكَلُّمُهَا بِهِ لَغْوًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ وَلِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ؛ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ لَهَا، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ الثَّالِثَةِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: طَلَّقْتُك أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي، وَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ بِقَبُولِهَا، فَالزَّوْجُ أَقَرَّ بِالتَّعْلِيقِ وَأَنْكَرَ وُجُودَ الشَّرْطِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَ بِدُخُولِهَا، فَقَالَتْ قَدْ دَخَلْت وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذْ قَالَ: قَدْ بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ قَبِلْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَإِقْرَارُهُ بِالْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارًا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَعْمَلُ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إيجَابُ الطَّلَاقِ بِمَالٍ يَكُونُ تَصَرُّفًا عِنْدَ الْإِيقَاعِ، وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ؛ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ قَبْلَ قَبُولِهَا، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُقِرًّا بِالْإِيقَاعِ أَصْلًا فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ لِهَذَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: قَدْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلَتْ، وَقَالَتْ هِيَ: إنَّمَا سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنَّمَا طَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً، فَإِنَّمَا لَك ثُلُثُ الْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي الْمَالِ، فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ تُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: سَأَلْتُك: أَنْ تُطَلِّقَنِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ بِأَلْفٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ فِي حَقِّهِ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْإِثْبَاتِ فَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: خَلَعْتَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ بِأَلْفٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ: لِمَا قُلْنَا. (قَالَ): وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهَا سَأَلَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي وَاحِدَةً، وَقَالَ الزَّوْجُ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ فِي الْمَجْلِسِ يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي خَبَرِهِ. (قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ، فَإِنْ كَانَا قَدْ افْتَرَقَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، لَزِمَهَا الطَّلَاقُ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَالِ مُتَّهَمٌ فِي خَبَرِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَعَلَيْهِ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلِّقْنِي وَاحِدَةً، وَلَا شَيْءَ لَك، وَقَالَ هُوَ: بَلْ سَأَلْتِنِي وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ، وَقَدْ طَلَّقْتُكَهَا، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ قَالَتْ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تُطَلِّقْنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالثَّلَاثُ وَاقِعَاتٌ عَلَيْهَا؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا، وَالْقَوْلُ فِي الْمَال قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا: إمَّا لِإِنْكَارِهَا وُجُوبَ الْمَالِ، أَوْ لِإِنْكَارِهَا الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ، إنْ أَقَرَّتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ قَالَتْ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي أَنَا وَصَاحِبَتِي فُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقْتَنِي وَحْدِي، وَقَالَ الزَّوْجُ طَلَّقْتُهَا مَعَكِ، وَقَدْ افْتَرَقَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، وَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْمَالِ، وَالزَّوْجُ مُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي حَقِّ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَى الْأُخْرَى بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ لَمْ تُطَلِّقْنِي، وَلَا صَاحِبَتِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِإِنْكَارِهَا أَصْلَ الْمَالِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُثْبِتَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ. (قَالَ): وَإِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَيْهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 الْأَلْفَ تَنْقَسِمُ عَلَى مَهْرَيْهِمَا الَّذِي تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْأَلْفَ بِمُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمَهْرُ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةَ نَفْسِهِ بَعْدَمَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مِلْكُ الْيَدِ، وَالْمَكَاسِبُ لَيْسَتْ بِمُقَوَّمَةٍ، فَيُصَارُ إلَى قِيمَةِ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْخُلْعِ أَنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ الزَّوْجِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا بِإِزَاءِ الطَّلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] إلَى أَنْ قَالَ: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا بِالْخُلْعِ مِقْدَارَ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَا سَاقَ إلَيْهَا، فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي رِوَايَةِ الطَّلَاقِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ جُمَيْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتْ لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أَخْشَى الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ بُغْضِي إيَّاهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِثَابِتٍ: اخْلَعْهَا بِالْحَدِيقَةِ، وَلَا تَزْدَدْ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا، إنَّمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَدْرَ مَا سَاقَ إلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَاشِزَةً أُتِيَ بِهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَحَبَسَهَا فِي مَزْبَلَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ دَعَاهَا، وَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ مَبِيتَك، فَقَالَتْ: مَا مَضَتْ عَلَيَّ لَيَالٍ هُنَّ أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي؛ لِأَنِّي لَمْ أَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَلْ يَكُونُ النُّشُوزُ إلَّا هَكَذَا اخْلَعْهَا، وَلَوْ بِقُرْطِهَا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَوْلَاةً اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَأَجَزْتُ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْمَالِ هُنَا بِطَرِيقِ الزَّجْرِ لَهَا عَنْ النُّشُوزِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ إذَا كَانَ النُّشُورُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ. فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْمَالُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] إلَى أَنْ قَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ، وَالِاعْتِدَاءُ يَكُونُ ظُلْمًا، وَالْمَالُ لَا يَجِبُ بِالظُّلْمِ، وَلَكِنَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 نَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ فِي الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ، لَا فِي مَنْعِ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ. . (قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: إنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: نَعَمْ سَأُطَلِّقُك، فَلَا شَيْءَ لَهُ حَتَّى يَفْعَلَ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الْإِيقَاعِ دُونَ الْوَعْدِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا الْتِزَامُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْبَيْعِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْل الْإِيقَاعِ فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الصُّورَةِ فَفِي الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إنْ عَمِلْت لِي هَذَا الْعَمَلَ فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ الْتِزَامًا لِلْعِوَضِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، أَوْ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا حَتَّى تُعْطِيَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْمَالِ، فَلَا يَقَعُ بِدُونِهِ، وَمَتَى أَعْطَتْهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ " إذَا " وَ " مَتَى " لِلْوَقْتِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتِنِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْطِينَنِي، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ إذَا أَتَتْهُ بِهِ لَا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَكِنْ إذَا وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلُقَتْ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَقْبَلَهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَصْلُهُ فِي الْعَتَاقِ، إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَالِفَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَلَامَهُ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ صُورَةً، وَإِيجَابٌ لِلطَّلَاقِ بِعِوَضٍ مَعْنَى حَتَّى إذَا قَبِلَ الْمَالَ كَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا، وَلَوْ وَجَدَهُ زُيُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ، وَيَسْتَبْدِلَ، وَهَذَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُلْتَزِمُ لِلْعِوَضِ، إذَا خَلَّى بَيْنَ صَاحِبَهُ، وَبَيْنَ الْمَالِ يَصِيرُ قَابِضًا، فَبِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ قُلْنَا: إذَا وَضَعَتْ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلُقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا. (قَالَ): وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: إنْ جِئْتِنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُ بِهِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، فَيَتِمُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَبُولِهَا، وَلَكِنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ، فَقِيَامُهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ يَكُونُ مُبْطِلًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا بِعِوَضٍ، فَكَمَا يَبْطُلُ هُنَاكَ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ يَبْطُلُ هُنَا بِقِيَامِهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ سَوَاءٌ، فَإِنْ قَبِلَتْ فِي ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 الْمَجْلِسِ، وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا تُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ إيجَابٌ لِلطَّلَاقِ بِجُعْلٍ، وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بِشَرْطِ الْإِعْطَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ يَكُونُ إيجَابًا، لَا تَعْلِيقًا، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ جِئْتنِي، أَوْ إذَا أَعْطَيْتنِي، فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ صَرَّحَ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ أَلْفٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى جَعْلِ الْأَلْفِ قِصَاصًا بِمَا عَلَيْهِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَهُنَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْإِعْطَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، وَبِالْقَبُولِ يَثْبُتُ حُكْمُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِ الْمَالِ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ حَتَّى قَامَتْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ لَمَّا كَانَ الْإِعْطَاءُ شَرْطًا فَبِجَعْلِهِ قِصَاصًا بِمَا عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ الشَّرْطُ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِعْطَاءِ، وَالْمُقَاصَّةُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ وَاجِبَيْنِ فَفِي قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتنِي الْمَالَ، الْمَالُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا، فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْمَالَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِالْقَبُولِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قِصَاصًا فِي قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتنِي، فَرَضِيَ الزَّوْجُ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهَا عَلَيْهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا قَبِلَتْ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ لَهَا إيجَابًا مُبْتَدَأً. (قَالَ): وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَسَأَلَتَاهُ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا عَلَى أَلْفٍ، أَوْ بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَزِمَ الْمُطَلَّقَةَ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ، أَمَّا فِي حَرْفِ الْبَاءِ، فَلِأَنَّهُمَا جَعَلَتَا الْأَلْفَ بَدَلًا عَنْ طَلَاقِهَا، فَإِذَا طَلَّقَ إحْدَاهُمَا، فَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا، وَكَذَلِكَ فِي حَرْفِ " عَلَى "؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ حَتَّى يُجْعَلَ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَتْ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَ صَاحِبَتَهَا، وَإِذَا أَبَى كَانَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا لَزِمَتْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، فَكَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ افْتَرَقُوا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بَطَلَ إيجَابُهُمَا بِالِافْتِرَاقِ، فَإِذَا طَلَّقَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ. . (قَالَ): وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، فَأَقَامَتْ شَاهِدَيْنِ: شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُلْعِ بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، فَتَكُونُ مُكَذِّبَةً لِلشَّاهِدِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا قِيَاسُ الْبَيْعِ، وَشُهُودُ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي مِقْدَارِهِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ، فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الْجُعْلِ كَالْعَرَضِ، وَالْعَبْدِ، أَوْ كَالْعَرَضِ وَالدَّرَاهِمِ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِالطَّلَاقِ لِعِوَضٍ آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ عَلَيْهَا، فَلَوْ حَكَمَ بِالطَّلَاقِ لَحَكَمَ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ اتَّفَقَا أَنَّ الزَّوْجَ مَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ. (قَالَ): وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِيَ لِلْخُلْعِ، وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ فَشَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفِ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بَقِيَ مِنْهُ دَعْوَى الْمَالِ، وَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ: شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنَى، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ الْأَلْفَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شَاهِدَهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُكَذِّبٌ لِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ. فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِاخْتِلَافِهِمَا لَفْظًا وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ، إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْأَلْفَ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى مِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ مَعْنًى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الْخُلْعِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مَالٌ يَلْتَزِمُهُ لَا بِمُقَابَلَةِ مَالٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، فَالْخُلْعُ قِيَاسُهُ إلَّا فِي فُصُولٍ يَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهَا حَتَّى إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى دَارٍ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا أَلْفًا مَعَ ذَلِكَ، فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْخُلْعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَلَا رَدٌّ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكُلَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتِهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمَحَلِّ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّ الزَّوْجَ بِتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ فِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ لَغْوٌ مِنْ الزَّوْجِ، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُنَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ خَلَعَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتهَا مِنْ مَتَاعٍ، فَلَهُ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا مُنْتَفَعًا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهَا، وَلِلْمَغْرُورِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَتَاعِ؛ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الْجِنْسِ، وَالْقَدْرِ، وَلَا بِقِيمَةِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا، إنَّمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْهَا، فَكَانَ، أَوْلَى الْأَشْيَاءِ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ الْغَرَرَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ بِذَلِكَ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَلَيْسَ لِأَقْصَاهُ نِهَايَةٌ، فَأَوْجَبْنَا الْأَدْنَى وَفِي الصَّدَاقِ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ، فَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالْأَدْنَى، وَفِي مُعَاوَضَةِ الْمُتَقَوِّمِ بِالْمُتَقَوِّمِ يَجِبُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي تَعْيِينِ الْأَدْنَى تَرْكُ النَّظَرِ لَهَا؛ فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهُنَا الزَّوْجُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا مُتَقَوِّمًا فَيَتَعَيَّنُ أَدْنَى الْجَمْعِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَلْتَزِمُ لَا بِعِوَضٍ مُتَقَوِّمٍ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهَا قِيَاسُ الْإِقْرَارِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا دِرْهَمَانِ تُؤْمَرُ بِإِتْمَامِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِيمَا الْتَزَمَتْ ذَكَرَتْ لَفْظَ الْجَمْعِ، وَفِي الْمَثْنَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ غَيْرُ الْجَمْعِ. (فَإِنْ قِيلَ): قَدْ ذَكَرَتْ فِي كَلَامِهَا حَرْفَ " مِنْ "، وَهُوَ لِلتَّبْعِيضِ، وَالدِّرْهَمَانِ بَعْضُ الْجَمْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْزِمَهَا إلَّا مَا فِي يَدِهَا كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَّا ثَلَاثَةً، فَعَبْدُهُ حُرٌّ، وَفِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ كَانَ حَانِثًا. (قُلْنَا): نَعَمْ حَرْفُ " مِنْ " قَدْ يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَدْ يَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِ حَرْفِ " مِنْ " كَانَ حَرْفُ مِنْ فِيهِ صِلَةً لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي دَرَاهِمَ كَانَ الْكَلَامُ مُخْتَلًّا، وَحَرْفُ مِنْ صِلَةٌ؛ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَيَبْقَى مِنْهَا لَفْظُ الْجَمْعِ، فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرُ، وَالْفُلُوسُ فِي هَذَا قِيَاسُ الدَّرَاهِمِ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي نَخْلِهَا مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا يُثْمِرُ نَخْلَهَا الْعَامَ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ أَثْمَرَتْ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهَا، أَوْجَبَتْ لَهُ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهَا الْعَامَ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ، أَوْصَى بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَلْتَزِمُ بَدَلَ الْخُلْعِ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ، وَالثِّمَارُ الْمَعْدُومَةَ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، فَيَبْقَى مُجَرَّدَ تَسْمِيَةِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغُرُورِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا أَعْطَاهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ ثَابِتٌ هُنَا مَعْنًى لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى لَهُ شَرْعًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ الْغُرُورُ مِنْهَا صُورَةً؛ بِأَنْ سَمَّتْ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي يَدِهَا، وَلَيْسَ فِي يَدِهَا مَتَاعٌ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا بِخِلَافِ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ فِي مَسْأَلَتِهِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هُوَ مَالٌ بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ التَّسْمِيَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَوْ التَّعْلِيقِ بِالِانْفِصَالِ، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ، وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَسْمِيَةِ مَا فِي الْبَطْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا مَا غَرَّتْهُ، فَمَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ رِيحٍ، أَوْ وَلَدٍ مَيِّتٍ، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَى بِحُكْمِ الْغُرُورِ، وَمَا وُجِدَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ، فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْمَوْجُودَ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْخُلْعِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ الْحَادِثُ نَمَاءُ مِلْكِهَا فَيَكُونُ لَهَا. . (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ بِحُكْمِهَا، أَوْ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمِعْيَارُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُنَا الْمِعْيَارُ مَا أَعْطَاهَا، فَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِحُكْمِهِ، فَحَكَمَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا أَعْطَاهَا، أَوْ بِأَقَلَّ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْقِطٌ بَعْضَ حَقِّهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ إلَّا أَنْ تَرْضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِهَا، فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ، أَوْ أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النُّقْصَانُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ، فَلَهُ مَا أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَى الزَّوْجِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الزِّيَادَةِ، فَلَا يَنْفُذُ بِدُونِ رِضَاهَا. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ خَادِمٌ وَسَطٌ، أَوْ قِيمَتُهُ، أَيُّهُمَا أَتَتْ بِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 تَكْتَسِبُ الْعَامَ مِنْ مَالٍ، أَوْ بِمَا تَرِثُهُ، أَوْ بِمَا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا تَحْمِلُ جَارِيَتَهَا، أَوْ غَنَمَهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ كَانَ لَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ النُّقُودِ: إمَّا لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا، أَوْ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ، فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الْخُلْعِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ مَا تَحْمِلُ جَارِيَتُهَا، أَوْ نَعَمُهَا مِنْ وَلَدٍ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْغَيْرِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ، الْوَصِيَّةُ وَغَيْرُهَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَ عَنْهُ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ فِي الْمُسَمَّى، وَلَكِنَّ الْغُرُورَ يَتَمَكَّنُ لِتَسْمِيَةِ الْإِمْهَارِ، فَعَلَيْهَا رَدُّ الْعِوَضِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، أَوْ النَّبَاتِ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَلَى دَارٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِدَابَّةٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ، فَإِنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مُسَمًّى، وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَزِمَهَا مَا سَمَّتْ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهَا مِمَّا سُمِّيَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ، إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَيُنَصَّفُ الْمَهْرُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَخَذَتْ الْمَهْرَ، ثُمَّ خَلَعَهَا قَبْلَ الدُّخُول عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِلَفْظَةِ الْمُبَارَأَةِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُبَارَأَةِ: الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخُلْعَ، وَالْمُبَارَأَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُوجِبَانِ بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُوجِبَانِ إلَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كَالْفُرْقَةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ بِالطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْخُلْعِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْمُبَارَأَةِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيَجِبُ بِهِ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ، أَوْ عَيْنٌ فِي يَدِهِ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ، فَكَذَلِكَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ عِدَّتِهَا لَا تَسْقُطُ، وَهِيَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، فَلِإِتْمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ يَتَعَدَّى حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ إلَى الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النُّشُوزِ، وَسَبَبُ النُّشُوزِ الْوَصْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَتَمَامُ انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَالنُّشُوزِ، إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ. وَفِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُبَارَأَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ، وَالْخُلْعُ مِنْ الْخَلْعِ، وَهُوَ الِانْتِزَاعُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: خَلَعْت الْخُفَّ مِنْ الرِّجْلِ إذَا قَطَعْت مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْقِطُ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ أَيْضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِإِتْمَامِ الْمَقْصُودِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ، فَأَمَّا سَائِرُ الدُّيُونِ فَوُجُوبُهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَالنُّشُوزُ، وَالْمُنَازَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْخُلْعِ، إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْخُلْعُ، وَالْمُبَارَأَةُ إسْقَاطُ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ فِي الْمُبَارَأَةِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ. وَفِي الْخُلْعِ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، فَجَعَلَ لَفْظَ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَهْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ غَيْرُ الْمِائَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهَا، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ دِرْهَمٍ، فَوَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ، وَقَبَضَتْ النِّصْفَ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ لَا بِالْأَلْفِ الَّتِي كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ بِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْغُرُورِ لِدَفْعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ إذَا رَجَعَ بِمَا سَاقَ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ لِزَوْجِهَا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ قَبْضِهَا، وَلَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَالرُّجُوعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ مُنْدَفِعٌ هُنَا حِينَ سُلِّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْهِبَةِ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْل أَنْ تُسَلِّمَهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهَلَاكِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَاسْتُحِقَّ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ لَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، فَعَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهَا قِيمَتُهُ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا لَا يَحِلُّ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ مِنْهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، فَصَارَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَبِهَذَا فَارَقَ الصَّدَاقَ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ هُنَاكَ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَلَكِنْ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ، وَلَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ، وَإِنْ غَرَّتْهُ، فَقَالَتْ: أَخْتَلِعُ مِنْك بِهَذَا الْخَلِّ، فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الْمَأْخُوذَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْلِ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ، وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ. (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ فِي بَدَلِهِ كَسَائِرِ الْمُعَوَّضَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُسْتَتِمَّةً مِثْلُ الْمَيْسَرَةِ، أَوْ مَوْتِ فُلَانٍ، أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ، فَالْمَالُ عَلَيْهَا حَالٌّ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُنْتَظَرٍ، وَلَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ مَوْتُ فُلَانٍ، أَوْ قُدُومُهُ، وَالْمَيْسَرَةُ بِالْعَقْدِ، فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْخُلْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ، فَكَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إلَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ إلَى الدِّيَاسِ، أَوْ النَّيْرُوزِ، أَوْ الْمِهْرَجَانِ فَالْمَالُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ مَا هُوَ أَجَلٌ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ مُنْتَظَرٌ، فَإِنَّ وَقْتَ الشِّتَاءِ لَيْسَ بِزَمَانِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ بِيَقِينٍ، وَلَكِنْ فِي آخِرِهِ بَعْضُ الْجَهَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَتَقَدَّمُ إذَا تَعَجَّلَ الْحَرَّ، وَيَتَأَخَّرُ إذَا تَطَاوَلَ الْبَرْدُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَجَلِ خُصُوصًا فِي الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوَسُّعِ كَالْكَفَالَةِ، وَالْخُلْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَتَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْآجَالِ، فَإِنْ ذَهَبَتْ الْغَلَّةُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَكُنْ حَصَادٌ وَلَا جَزَازٌ، فَالْأَجَلُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فِي مِثْلِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْعَطَاءُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَطَاءِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ وَقْتِهِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَقْتُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ إذَا كَانَ دَيْنًا، فَهُوَ فِي حُكْمِ أَخْذِ الرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ حَتَّى إذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ، وَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْفَضْلِ. (قَالَ): وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى وَصِيفٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِقِيمَتِهِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ صَالَحَهَا مِنْ الْوَصِيفِ عَلَى دَرَاهِمَ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ الْعُرُوض، أَوْ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. (قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا الَّذِي كَانَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَمِنْ الْمَهْرِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا مَهْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ سِوَى ذَلِكَ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، وَمِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَهُ الْمَهْرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا، فَبَدَلُ الْخُلْعِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَاعْتُبِرَ الْخُلْعُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقِ مِثْلِهَا اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهَا لِتَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ أَذَى الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَتَقَوَّمُ حَتَّى إنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ امْرَأَةً بِمَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا، وَالْخُلْعُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهَا، فَكَانَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لِلزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ عِنْدَنَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْتَبَرُ هُنَا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ، فَلَا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِمَعْنَى الصِّلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ مِمَّا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا، إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ إذَا مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسَبَبُ مِيرَاثِهِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهَا بِهَذَا الْخُلْعِ إيصَالَ الْمَنْفَعَةِ الْمَالِيَّةِ إلَى الزَّوْجِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَأَمَّا فِي الْأَقَلِّ، فَلَا تُهْمَةَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِمَّا سَمَّتْ لَهُ، وَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ عِنْدَ مَوْتِهَا، فَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 مَا لَوْ، أَوْصَتْ لَهُ، أَوْ أَقَرَّتْ بِشَيْءٍ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا، فَنَقُولُ: أَمَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ، إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِهَا، فَنِصْفُ الْمَهْرِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مَعَ الزِّيَادَةِ لِلزَّوْجِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، فَإِنْ بَرِئَتْ مِنْ مَرَضِهَا، فَلَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَالَعَهَا فِي صِحَّتِهَا. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ بِالْمُسَمَّى قَلَّ، أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَانَ صَحِيحًا، فَبِالْعِوَضِ الْقَلِيلِ، أَوْلَى، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِقَبُولِهَا، فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا. (قَالَ): وَإِنْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ فِي مَرَضِهِ بِاخْتِلَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَالٍ ضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ، فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الْتَزَمَ الْمَالَ فِي مَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا حِينَ فَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ هَذَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَيَكُونُ الزَّوْجُ فَارًّا فِي حَقِّهَا. (قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ، فَقَامَ الْوَكِيلُ مِنْ مَجْلِسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلَعَهَا، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتْهُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْوَكِيلِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَالْمَجْلِسُ وَمَا بَعْدَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَهَذَا إنَابَةٌ لَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْخُلْعِ، فَيَصِيرُ نَائِبًا عَنْهُ مَا لَمْ يَعْزِلْهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا. (قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُلْعِ فَخَلَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمَثْنَى وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ طَلِّقَاهَا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا، جَازَ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى سَوَاءٌ، وَمَا هُوَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ يَحْصُلُ بِإِيقَاعِ أَحَدِهِمَا. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت، فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا إلَّا بِقَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسَمَّى مِلْكُ الزَّوْجِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً، فَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت، فَإِذَا قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 يَدِهَا فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا لَمْ تُوجَدْ؛ وَلِأَنَّهُ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى خَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَإِنْ قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فَقَدْ شَاءَتْ، وَالْعَبْدُ عَبْدُ الزَّوْجِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت عَلَى عَبْدِك الَّذِي فِي يَدِي، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهَا، أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَلَهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْعَقْدِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا، وَقَدْ بَطَلَ فَيَبْقَى الزَّوْجُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ تَسْلِيمٌ قَائِمٌ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ. (قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَقَبِلَتْ، فَإِذَا فِي يَدِهِ جَوْهَرَةٌ لَهَا، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَضَرَّتْ بِنَفْسِهَا حِينَ قَبِلَتْ الْخُلْعَ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ جَائِزًا، وَلَا خِيَارَ لَهَا فَالْخُلْعُ، أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِقِصَاصٍ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ، عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ، وَأَخْذُ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ يَكُونُ فِي يَدِهَا بِالْعَبْدِ وَعِنْدَهُمَا عَيْبُ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ عِنْدَ الزَّوْجِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (قَالَ): وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ عَبْدٌ لَهُ امْرَأَةٌ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ يَقِلُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ كَالصَّدَاقِ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ وَمَهْرُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَذَلَتْ الْعَبْدَ بِإِزَاءِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفِ الَّتِي قَبَضَتْ، وَالْخُلْعِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ الْعَبْدُ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ بِيعَ مِنْ الزَّوْجِ بِالْأَلْفِ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الْمَدْفُوعِ، وَنِصْفُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ؛ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا مَكَانَ الْأَلْفِ خَادِمًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَخَذَ الْخَادِمَ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ كَانَ بَيْعًا لَهُ بِالْخَادِمِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَيَرْجِعُ بِالْخَادِمِ وَالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْعَبْدِ جُعْلًا فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ. (قَالَ): وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ أَعْطَتْهُ دِرْهَمًا قَدْ نَظَرَ إلَيْهِ فِي يَدِهَا، فَإِذَا هُوَ زَيْفٌ، أَوْ سَتُّوقٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا جَيِّدًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْجِيَادَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الزَّيْفَ وَالسَّتُّوقَ وَيُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ مِنْ الْعَقْدِ. (قَالَ): وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي الْعَبْدِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ فِي الْخُلْعِ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسِيرًا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَا تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِدَرَاهِمَ جِيَادٍ فِي ذِمَّتِهَا حَتَّى إنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَتُعْطِيَهُ آخَرَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ هُنَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا، وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالْجَيِّدِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا بِرَدِّهِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَبَيْنَ عَيْنِهِ مَعَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ. (قَالَ): وَلَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ فِي يَدِهَا أَصْفَرَ، فَقَالَتْ هُوَ هَرَوِيٌّ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ، فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ مَعْدُومٌ، فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ، وَالْخُلْعُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ. (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً مَرِيضَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهَا، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ بِهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَلِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَلِوَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، فَالزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ، وَمِقْدَارُ صَدَاقِ مِثْلِهَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرِيضَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، وَالثَّالِثُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ شَرْعًا، ثُمَّ وَجْهُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ الْمِائَةُ لَا وَصِيَّةَ مِنْ الزَّوْجِ لَهَا، وَقَدْ عَادَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُهُ إلَيْهِ بَقِيَ لَهَا خَمْسُونَ، وَقَدْ أَوْصَتْ بِذَلِكَ لِلزَّوْجِ حِينَ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِهِ، فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَالِ الزَّوْجِ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَقَدْ حَابَاهَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَانَتْ تِسْعَمِائَةٍ، وَلَكِنْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ إلَى الزَّوْجِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 نِصْفُهَا فَبَقِيَتْ الْمُحَابَاةُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَتُعْتَبَرُ مُحَابَاتُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ لَهَا ثُلُثُ هَذَا الْمِقْدَارِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ هَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّا لَوْ نَفَّذْنَا فِي ثُلُثِهَا رَجَعَ ثُلُثُ ذَلِكَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ بِالْخُلْعِ، فَيَزْدَادُ مَالُهُمْ وَتَجِبُ الزِّيَادَةُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لَهَا بِحَسْبِهِ، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِقَطْعِ الدَّوْرِ قَالَ: تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالسِّهَامِ أَنَّك تَحْتَاجُ إلَى مَالٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ تِسْعَةٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَالُ الزَّوْجِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، وَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ إلَّا أَنَّ سَهْمًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ بِالْخُلْعِ وَصِيَّةً مِنْهَا لَهُ، فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَحَاجَتُهُمْ إلَى سِتَّةٍ، وَهَذَا السَّهْمُ الزَّائِدُ هُوَ الدَّائِرُ الَّذِي يَسْعَى إلَى الْفَسَادِ، فَالسَّبِيلُ طَرْحُ هَذَا السَّهْمِ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَجَ الدَّوْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: سَهْمُ الدَّوْرِ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ هَذَا الدَّوْرُ مِنْ جَانِبِ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةِ حَقِّهِمْ، فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ سَهْمًا، فَيَبْقَى حَقُّهُمْ فِي خَمْسَةٍ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا مَالَ الزَّوْجِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ لَهَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَعُودُ سَهْمٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْخُلْعِ فَيَصِلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، ثُمَّ وَجْهُ التَّخْرِيجِ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمِ أَنَّ مَالَ الزَّوْجِ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا قَسَّمْتَ ذَلِكَ أَثْمَانًا، فَكُلُّ ثُمُنٍ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ تَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَسُدُسٌ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَثِمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفٍ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَحَصَلَ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَبِالْوَصِيَّةِ مِائَتَانِ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا تَعُودُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ، فَيُؤَخَّرُ تَخْرِيجُ سَائِرِ الطُّرُقِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ] (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ إلَيْهَا مَادَامَ فِي مَجْلِسِهَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِمَشِيئَتِهَا وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ قَلْبِهَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهَا وَقَدْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 أَنَّ لِلْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارَ مَادَامَ فِي مَجْلِسِهَا فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي يُوجِبُهُ الزَّوْجُ لَهَا مُعْتَبَرٌ بِمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ الْخِيَارِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِهَا غَيْرَ أَنَّهَا إنْ شَاءَتْ هُنَا فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الزَّوْجِ وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِانْقِطَاعِ مَجْلِسِهَا بِالْقِيَامِ أَوْ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا مِنْ الْمَشِيئَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْمَشِيئَةِ يَتَحَقَّقُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِهَا، وَقِيَامُ الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَا يُبْطِلُ مَشِيئَتَهَا؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَيَكُونُ كَصَرِيحِ الرُّجُوعِ وَلَوْ رَجَعَ عَمَّا قَالَ كَانَ رُجُوعُهُ بَاطِلًا بِخِلَافِ قِيَامِهَا فَإِنَّهُ دَلِيلُ الرَّدِّ وَلَوْ رَدَّتْ الْمَشِيئَةَ صَحَّ مِنْهَا وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ يَبْطُلُ إيجَابُهُ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْمَعْنَى تَتَقَارَبُ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوُقُوعِ بِاخْتِيَارِهَا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا تُفَارِقُهَا كَمَشِيئَتِهَا فَيَتَحَقَّقُ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَا مَا لَمْ تَقُلْ طَلَّقْت نَفْسِي لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت صَارَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ مَا لَمْ تُوقِعْ، وَهُنَاكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت يَتَنَجَّزُ. وَإِنْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي أَوْ تَبْغُضِينَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَبْلِهَا غَيْرُهَا فَذَلِكَ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إذَا أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي شَرْطَ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ مِنْهَا كَدَعْوَى نَفْسِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الشَّرْطِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بِحَسَبِ الْمُمَكِّنِ فِي كُلِّ فَصْلٍ وَلَمَّا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ بِمَا فِي قَلْبِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا صَارَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِإِخْبَارِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّك تُحِبِّينَنِي وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا أَقَمْنَا نَفْسَ الْخَبَرِ مُقَامَ حَقِيقَةِ مَا فِي قَلْبِهَا لِلتَّيْسِيرِ اسْتِحْسَانًا لِهَذَا وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَشِيئَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشِيئَةِ لَهَا ذَلِكَ مَادَامَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْإِيقَاعِ مِنْهَا. وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا لَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 قَالَ لِأَجْنَبِيِّ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ وَالتَّوْكِيلُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ وَفِي جَانِبِهَا لَيْسَ بِتَوْكِيلٍ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ وَكِيلًا وَلَا رَسُولًا فِي الْإِيقَاعِ عَلَى نَفْسِهَا فَبَقِيَ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ثَلَاثًا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا مَا كَانَ إلَيْهِ وَالتَّفْوِيضُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَنِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ نِيَّةُ الْعُمُومِ وَبَعْدَ مَا صَارَتْ الثَّلَاثُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا يَكُونُ إيقَاعُهَا الثَّلَاثَ كَإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَلَوْ قَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ هُمَا يَقُولَانِ أَوْقَعَتْ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَزَادَتْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مَوْجُودَةٌ فِي الثَّلَاثِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَتْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَكَمَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَضَرَّتَهَا وَكَمَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ نَفْسَك فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ أَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيِّ بِعْ عَبْدِي هَذَا فَبَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْوَاحِدَةِ فِي الثَّلَاثِ أَنَّ الثَّلَاثَ آحَادٌ مُجْتَمِعَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً يَقَعُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إيقَاعُهَا إذَا كَانَ مَا أَوْقَعَتْ مَوْجُودًا فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَبَنْت نَفْسِي يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَبِمَا زَادَتْ مِنْ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ لَا تَنْعَدِمُ الْمُوَافَقَةُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الثَّلَاثِ الْبَيْنُونَةُ الْغَلِيظَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُبْتَدِئَةً فَيَتَوَقَّفُ إيقَاعُهَا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَطَلَّقَتْ ضَرَّتَهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ فِيمَا سَبَقَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُمْتَثِلَةً لِمَا فَوَّضَ وَفِي الْكَلَامِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ تَكُونُ مُبْتَدِئَةً وَكَذَلِكَ إنْ أَوْقَعَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَضَرَّتِهَا. (فَإِنْ قِيلَ) فَكَذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي تَكُونُ مُمْتَثِلَةً لَوْ اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا تَكُونُ مُبْتَدِئَةً فِي قَوْلِهَا ثَلَاثًا فَتَلْغُو هَذِهِ الزِّيَادَةُ. (قُلْنَا) الطَّلَاقُ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ فَالْوُقُوعُ بِالْعَدَدِ لَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَإِذَا كَانَتْ مُبْتَدِئَةً فِي كَلِمَةِ الْإِيقَاعِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ بِدُونِ إجَازَتِهِ وَبِهِ فَارَقَ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 أَبَنْت نَفْسِي أَيْ طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَأَصْلُ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَا بِذِكْرِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلَةٌ أَمْرُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَلَكِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا فِي الثَّلَاثِ وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بِإِيقَاعِهَا فَإِنَّهَا بَعْضُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لَهَا فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِيمَا مَلَكَتْ وَهُنَا إنَّمَا صَارَتْ الْوَاحِدَةُ فِي يَدِهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ صَيْرُورَةُ الثَّلَاثِ فِي يَدِهَا فَهِيَ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَةٍ فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا مُمْتَثِلَةٍ أَمْرَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مَتَى زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ كَانَ مُبْتَدِئًا كَمَا لَوْ قَالَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَعَبْدُهُ كَذَا كَانَ مُبْتَدِئًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَتَغَدَّى حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَمَتَى نَقَصَ لَا يَكُونُ مُبْتَدِئًا وَالْمُخَاطَبَةُ بِالْوَاحِدَةِ إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ فَقَدْ زَادَتْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَالْمُخَاطَبَةُ بِالثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ لَمْ تَزِدْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ إذَا فَوَّضَ الثَّلَاثَ إلَيْهَا فَأَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ فَعَلَتْ كَانَتْ مُمْتَثِلَةً لَا مَحَالَةَ فَبِتَرْكِهَا إيقَاعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُمْتَثِلَةً فِي الْأُولَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ وَقَدْ أَمَرَهَا بِالْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ بَعْدَ هَذَا لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِ مَا أَمَرَهَا بِهِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت أَيْ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ وَإِذَا جَعَلْنَاهُ بِنَاءً يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا الثَّلَاثَ فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا الْوَاحِدَةَ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْت اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَتُهَا الْوَاحِدَةَ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَزِيَادَةً وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِآخِرِ كَلَامِهَا فَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَلِهَذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ جُمْلَةً سَوَاء دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْطُوفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، وَبِآخِرِهِ تَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ شِئْت ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا تَفَرَّقَ بِسُكُوتِهَا وَهِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ شَاءَتْ غَيْرَ مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا الثَّلَاثَ وَقَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَاشْتِغَالُهَا بِمَشِيئَةٍ أُخْرَى يَكُونُ رَدًّا لِلْمَشِيئَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الزَّوْجُ شَرْطًا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا لَا أَشَاءُ وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَشِيئَةٌ بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ كَلَامَهَا مَوْصُولٌ هُنَاكَ وَبِتَأَخُّرِهِ يَبِينُ أَنَّهُ إيجَادٌ لِلشَّرْطِ لَا رَدٌّ لِلْمَشِيئَةِ وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ أَبِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَمَا أَتَتْ بِهِ إنَّمَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ أَبِيهَا وَالتَّعْلِيقُ غَيْرُ التَّنْجِيزِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا تَنْجِيزُ الطَّلَاقِ لَا تَمْلِيكُ التَّعْلِيقِ ثُمَّ اشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا فِي خُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَتَى شِئْت كَانَ لَهَا أَنْ تَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ مَتَى شَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا وَمَتَى لِلْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيَّ وَقْتٍ شِئْت فَيَكُونُ مُوجِبُ هَذَا الْحَرْفِ تَعَدِّي الْمَشِيئَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا التَّكْرَارَ فَكَانَ لَهَا الْمَشِيئَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت كَانَ لَهَا ذَلِكَ أَبَدًا كُلَّمَا شَاءَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَإِنْ شَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَصَارَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ لَهَا الْمَشِيئَةُ أَيْضًا لِبَقَاءِ بَعْضِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَلَوْ شَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَفِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَوْ أَنَّهَا شَاءَتْ مَرَّتَيْنِ وَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ تَعُودُ بِثَلَاثٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ عَقْدُهُ وَاسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُ ذَلِكَ الْعَقْدِ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَشَأْ حَتَّى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَلَوْ لَمْ تَشَأْ شَيْئًا وَرَدَّتْ الْمَشِيئَةَ كَانَ رَدُّهَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ رَدَّهَا إعْرَاضٌ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ وَفِي لَفْظِ كُلَّمَا لَا تَبْطُلُ مَشِيئَتُهَا بِقِيَامِهَا فَكَذَلِكَ بِرَدِّهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِهَا الدَّارَ فَرَدَّتْ كَانَ رَدُّهَا بَاطِلًا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ جُعِلَ هَذَا فِي اللُّزُومِ وَالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ سَوَاءً. (قَالَ) وَلَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 قَالَ لَهَا كُلَّمَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ كُلَّمَا شِئْت الثَّلَاثَ وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ قَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدَةً فَشَاءَتْ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت أَمْسِ تَطْلِيقَةً وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَشِيئَةٍ كَانَتْ مِنْهَا أَمْسِ وَلَا يَبْقَى لَهَا ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ أَمْسِ. (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهَا لَوْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ يَصِحُّ مِنْهَا فَقَدْ أَخْبَرَتْ بِمَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَالْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَشِيئَةٍ فِي الْأَمْسِ، وَكُلُّ مَشِيئَةٍ شَرْطُ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ إنَّمَا تَمْلِكُ إنْشَاءَ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا غَدًا فَقَالَتْ فِي الْغَدِ قَدْ كُنْت دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ بِأَنْ تُكَلِّمَ فُلَانًا، وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت أَنْ أَكُونَ طَالِقًا غَدًا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَلَا تَمْلِكُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ كَمَا لَا تَمْلِكُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَ بَاطِلًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَطْلُقُ الَّتِي شَاءَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاوِلًا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا خَاطَبَهَا بِطَلَاقٍ مُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَةِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ إذَا شِئْتُمَا أَيْ شِئْتُمَا طَلَاقَكُمَا فَبِمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا وُجِدَ بَعْضُ الشَّرْطِ وَبِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَمَا إذَا قَالَ إذَا دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتُمَا فُلَانًا فَفَعَلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَعَلَى هَذَا لَوْ شَاءَتَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا طَلَاقَهُمَا فَبِمَشِيئَتِهِمَا طَلَاقُ إحْدَاهُمَا يُوجَدُ بَعْضُ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ شَاءَتْ الْأُخْرَى الطَّلَاقَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ فَوَاتُ بَعْضِ الشَّرْطِ بِمَوْتِ إحْدَاهُمَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْمَحَبَّةِ إذَا قَالَ إنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ أُطَلِّقَكُمَا فَأَحَبَّتَا طَلَاقَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ. (قَالَ) قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ شَائِي طَلَاقَك يَنْوِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَشِيئَتَهَا مِنْ عَمَلِ قَلْبِهَا كَاخْتِيَارِهَا وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت وَهُنَاكَ إنْ نَوَى الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ يَقَعُ فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اخْتَارِي الطَّلَاقَ لِأُطَلِّقكِ أَوْ اخْتَارِي فَتَكُونِي طَالِقًا فَاعْتُبِرَ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ فِيهِ فَكَذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 فِي الْمَشِيئَةِ وَإِنْ قَالَ أَحِبِّي الطَّلَاقَ أَوْ أَرِيدِي الطَّلَاقَ أَوْ اهْوَيْ الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْهَوَى مِنْ الْعِبَادِ نَوْعُ تَمَنٍّ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا تَمَنِّي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ تَمَنَّيْت لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ شَائِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ شَائِي الطَّلَاقَ وَاجِبَةٌ فَيَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا وَأَحِبِّي وَأَرِيدِي وَاهْوَيْ لَمْ يُمَلِّكْهَا فِيهِ شَيْئًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَلْزَمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَا تُذْكَرُ مُضَافَةً إلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَقَدْ تُذْكَرُ الْإِرَادَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وَلَيْسَ إلَى الْجِدَارِ مِنْ الْإِرَادَةِ شَيْءٌ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُوقِعُ وَلِهَذَا شُرِطَ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ مِنْهُ وَلَفْظُ الْمَشِيئَةِ يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا شِئْتُ طَلَاقَك بِنِيَّةِ الْإِيقَاعِ يَقَعُ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّضَ إلَيْهَا يَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ فَأَمَّا لَفْظُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْبَبْت طَلَاقَك أَوْ هَوَيْت طَلَاقَك أَوْ أَرَدْت طَلَاقَك لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا جَعَلَهُ شَرْطًا بَلْ بِأَقْوَى عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا أَقْوَى مِنْ الْمَحَبَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ أَحْبَبْت أَوْ هَوِيت أَوْ أَرَدْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِدُونِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ إيقَاعَهَا عَلَى نَفْسِهَا مَشِيئَةٌ مِنْهَا وَزِيَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ الْمَشِيئَةِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ كَانَتْ طَالِقًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّنْجِيزِ يَمْلِكُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كُنْت زَوْجِي كَانَ ذَلِكَ مَشِيئَةً مِنْهَا وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شِئْت فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا عَلَّقْت مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةٍ مُنْتَظَرَةٍ وَهِيَ مَشِيئَةُ الزَّوْجِ فَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْهَا كَمَا لَوْ عَلَّقْت بِمَشِيئَةِ رَجُلٍ آخَرَ. (فَإِنْ قِيلَ) يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِ الزَّوْجِ شِئْت؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ. (قُلْنَا) إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِمَشِيئَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ شَاءَ مَشِيئَتَهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَابَهَا حَتَّى لَوْ قَالَ شِئْت الطَّلَاقَ نَقُولُ يَقَعُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَهُوَ رَسُولٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّسُولَ سَوَاءٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 لِأَنَّهُ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَالرِّسَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِيقَاعَ بَعْدَ قِيَامِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يُطَلِّقُهَا إذَا شَاءَ فَتَغْلُو هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ طَلِّقْهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ بِآخِرِ كَلَامِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ تَمْلِيكُ أَمْرِهَا مِنْهُ لَا الرِّسَالَةَ وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ خَاطَبَهَا بِهِ، وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ فِي حَقِّهَا لَا تَتَحَقَّقُ الرِّسَالَةُ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ رَسُولًا إلَى نَفْسِهَا فَيَكُونُ تَمْلِيكًا سَوَاءٌ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك أَوْ قَالَ إنْ شِئْت وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ تَتَحَقَّقُ الرِّسَالَةُ وَالتَّمْلِيكُ جَمِيعًا فَإِذَا قَالَ طَلِّقْ كَانَ رِسَالَةً وَإِذَا قَالَ إنْ شِئْت كَانَ تَمْلِيكًا لِأَمْرِهَا مِنْهُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إذَا قَالَ طَلِّقْهَا فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ قَبْلَ الْإِيقَاعِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْأَمْرَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعِبَارَةِ يَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ هِيَ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَقَالَ قَدْ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَقَالَ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَقُولَ هِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِكَلِمَةِ الْإِيقَاعِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي التَّمْلِيكِ مِنْهَا فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَقَالَ قَدْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ هَذَا جَوَابُ الْكَلَامِ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ فَعَلْت غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مُعَادًا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلَتْ مَا قُلْت مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ طَلِّقَاهَا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فَيَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِعِبَارَتِهِ لَا بِعِبَارَةِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ رَسُولًا فِي الْإِيقَاعِ لَا فِي الْإِرْسَالِ وَإِنْ قَالَ طَلِّقَاهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ اثْنَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِعْلِهِمَا وَلَوْ أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ ثُمَّ الِاثْنَتَيْنِ كَانَتْ طَالِقًا ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ طَلِّقَاهَا جَمِيعًا وَلَا يُطَلِّقُ وَاحِدٌ مِنْكُمَا دُونَ صَاحِبِهِ فَطَلَّقَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ عَزْلُهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ وَلَوْ عَزَلَهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ أَصْلًا صَحَّ عَزْلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا عَزَلَهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِيقَاعِ وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَمَكُّنَ لَهُ مِنْ الِامْتِثَالِ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَعَلَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ فَطَلَّقَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّفْوِيضِ إلَيْهِ لَمْ يَقَعْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت كَانَ لَهُ مَجْلِسٌ عَلِمَهُ فَمَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ وَلَكِنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْمُوقِعُ لِلطَّلَاقِ مُعَبِّرٌ لَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهِ عَلَى عِلْمِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِيقَاعِهِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ نَهَاهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا تَمْلِيكٌ لَا إرْسَالٌ وَتَوْكِيلٌ وَكَمَا يَتِمُّ الطَّلَاقُ بِالزَّوْجِ إذَا أَوْقَعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ فَكَذَلِكَ يَتِمُّ التَّمْلِيكُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ أَوْ هَذَا فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَتِهَا أَوْ تَخْيِيرِهِ لَهَا فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ نَعَمْ كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَقَوْلُهَا نَعَمْ لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ مِنْهَا لِلطَّلَاقِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بِقَوْلِهَا شِئْت لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ قَدْ قَبِلْت؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ لِلطَّلَاقِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ إذَا شِئْتُمَا فَفُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا الثَّلَاثُ وَلَمْ يَشَأْ أَحَدٌ مِنْهُمَا الثَّلَاثَ وَبِدُونِ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت وَشَاءَ فُلَانٌ فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ فُلَانٌ قَدْ شِئْت كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْلِيقِ لَا يَكُونُ مَشِيئَةً مِنْهَا وَبِمَشِيئَةِ فُلَانٍ إنَّمَا وُجِدَ بَعْضُ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ ثُمَّ شَاءَتْ تِلْكَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ وَطَلُقَتْ هَذِهِ مَعَهَا ثَلَاثًا إنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَ الْأُولَى بِمَشِيئَتِهَا فَقَوْلُهُ لِلْأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ فِي مِلْكِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بِمَشِيئَةِ الْأُولَى وَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ مَدِينًا فِي الْقَضَاءِ لِكَوْنِ كَلَامِهِ مُحْتَمَلًا وَإِنْ قَالَ إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى أَنْتِ طَالِقٌ إذَا طَلَّقَتْ فُلَانَةُ ثُمَّ شَاءَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 فُلَانَةُ الطَّلَاقَ طَلَقَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ تَطْلُقْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْأُولَى عِنْدَ مَشِيئَتِهَا بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَإِيقَاعُهُ سَبَقَ يَمِينَهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ وَشَرْطُ الْحِنْثِ يُرَاعَى وُجُودُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا إنْ طَلَّقْت فُلَانَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِفُلَانَةَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ فَشَاءَتْ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا عَلَى فُلَانَةَ بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ وَعَلَى الْأُخْرَى بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُطَلِّقًا فُلَانَةَ بِإِيقَاعٍ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا وَذَلِكَ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّهَا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَتَزَوَّجَهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ حِينَ تَعْلَمُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ جَزَاءً وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجِّزِ فَكَأَنَّهُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا قَالَ هِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَلِهَذَا تُوقَفُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَإِنْ شَاءَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَتِلْكَ الْمَشِيئَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَقَبْلَ التَّزَوُّجِ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلِهَذَا تَلْغُو مَشِيئَتُهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَفِي كُلِّ فَصْلٍ تَتَوَقَّفُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَمْ تَبْطُلْ مَشِيئَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَقَامَتْ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْقُعُودِ أَجْمَعُ عَلَى الرَّأْيِ مِمَّا قَبْلَ الْقُعُودِ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يُفْرِغُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ إلَى الْقُعُودِ لِلتَّرَوِّي وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إعْرَاضًا مِنْهَا فَإِذَا قَامَتْ فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ السَّاعَةُ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا وَإِنَّمَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَنَوَى السَّاعَةَ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَإِنَّ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت شَرْطٌ وَقَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا جَزَاءً فَقَدْ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ طَلَاقًا مُضَافًا إلَى الْغَدِ وَلَوْ عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ طَلَاقًا مُنَجَّزًا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَالِ حَتَّى إذَا قَامَتْ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِهَا طَلَاقًا مُضَافًا وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بَدَأَ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا فَيُرَاعَى وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُرَاعَى وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَتِهَا فِي الْمَعْنَى كَالتَّنْجِيزِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَفِي الْفَصْلَيْنِ الْوُقُوعُ فِي الْغَدِ فَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْغَدِ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت شَرْطٌ وَالشَّرْطُ وَإِنْ تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَكَأَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ إنَّمَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إذَا قَالَتْ شِئْت أَنْ أَكُونَ غَدًا طَالِقًا وَإِنْ قَالَتْ شِئْت أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ الْيَوْمَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشِيئَةُ بَاطِلَةً وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الْيَوْمَ وَلَا غَدًا؛ لِأَنَّهَا شَاءَتْ غَيْرَ مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ مُفَوِّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا فَإِنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ فِي الْغَدِ مُفَوَّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا فَإِذَا شَاءَتْ أَنْ يَقَعَ الْيَوْمَ فَقَدْ اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَكَانَ ذَلِكَ كَقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَهُمَا مَشِيئَتَانِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْمَجْلِسِ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت وَالْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ بِقَوْلِهِ إذَا شِئْت وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ الْمُؤَقَّتَةِ فَإِذَا قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ شِئْت أَنْ أَكُونَ طَالِقًا إذَا شِئْت فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَصَارَتْ الْمَشِيئَةُ الْمُطْلَقَةُ مُنَجَّزَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَمَتَى شَاءَتْ بَعْدَ هَذَا طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ لَمْ يُوجَدْ وَالْمَشِيئَةَ الْمُقَيَّدَةُ بَطَلَتْ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَيَسْتَوِي إنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ السَّاعَةِ فَقَالَ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالسَّاعَةِ وَنَوَاهَا قَالَ لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ لَهُ وَجْهَانِ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَوَى مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَإِنْ نَوَى بَعْدَهُ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَمُرَادُهُ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَنْ وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَتَى فَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى أَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ تَكْرَارًا وَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى مَتَى كَانَ تَصْرِيحًا بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُعْتَبَرُ هُنَا الْمَشِيئَةُ الْمُطْلَقَةُ فَسَوَاءٌ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ طَلُقَتْ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ أَعَمُّ فَلَا تَظْهَرُ بَعْدَهَا الْمَشِيئَةُ الْمُؤَقَّتَةُ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَالْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَتْ الْبَائِنَةُ وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَتْ بَائِنَةً وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَتْ طَالِقًا ثَلَاثًا وَإِنْ شَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ فَإِذَا شَاءَتْ فَالتَّفْرِيعُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْف شِئْت عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا مَشِيئَةَ لَهُ وَلَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا مَا لَمْ يَشَأْ هُمَا يَقُولَانِ الزَّوْجُ تَكَلَّمَ بِطَلَاقِ الْمَشِيئَةِ فَلَا يَقَعُ بِدُونِ مَشِيئَتِهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَشَأْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ كَيْفَ وَإِنْ كَانَ اسْتِخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ وَالْحَالِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَوْجُودًا فَيُقَامُ الْأَصْلُ مَقَامَ الصِّفَةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ كَلَامِهِ فَلِهَذَا تَعَلَّقَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّمَا يَتَأَخَّرُ إلَى مَشِيئَتِهَا مَا عَلَّقَ الزَّوْجُ بِمَشِيئَتِهَا دُونَ مَا لَمْ يُعَلِّقْ وَكَيْفَ لَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ مُنَجِّزًا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَمُفَوِّضًا لِلصِّفَةِ إلَى مَشِيئَتِهَا بِقَوْلِهِ كَيْفَ شِئْت إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَفِي الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لَهَا فِي الصِّفَةِ بَعْدَ إيقَاعِ الْأَصْلِ فَيَلْغُو تَفْوِيضُهُ الْمَشِيئَةَ فِي الصِّفَةِ إلَيْهَا أَيْضًا وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ أَنْ تَجْعَلَهَا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا أَمْلَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إلَيْهَا فَإِنْ شَاءَتْ فِي مَجْلِسِهَا أَنْ تَكُونَ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا جَازَ إذَا نَوَى الزَّوْجُ مَا شَاءَتْ. وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الْوَاحِدَةَ الْبَائِنَةَ فَشَاءَتْ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى فَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ وَحَالِهِ لَمَّا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ أَصْلِهِ تَقَدَّمَ وُقُوعُ أَصْلِ الطَّلَاقِ فِي ضِمْنِ تَفْوِيضِهِ الْمَشِيئَةَ فِي الصِّفَةِ إلَيْهَا فَإِنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ. يَقُولُ خَلِيلِي كَيْفَ صَبْرُك بَعْدَنَا ... فَقُلْت وَهَلْ صَبْرٌ فَيُسْأَلُ عَنْ كَيْفَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَمْ شِئْت؛ لِأَنَّ الْكَمِّيَّةَ اسْتِخْبَارٌ عَنْ الْعَدَدِ فَيَقْتَضِي تَفْوِيضُ الْعَدَدِ إلَى مَشِيئَتِهَا وَأَصْلُ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ الْوَاحِدُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ حَيْثُ شِئْت وَأَيْنَ شِئْت؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَكُونُ وَاقِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقَ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنْبِئُ عَنْ الْوَقْتِ فَيَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ إنْ شِئْت وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ زَمَانَ شِئْت أَوْ حِينَ شِئْت فَقَامَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَبْطُلْ الْمَشِيئَةُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ وَحِينَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت (قَالَ) وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ إنْ شِئْت فَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ إنْ شِئْت كَانَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ وَكَانَ قَوْلُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 أَمْسِ لَغْوًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ شِئْت يَكُونُ كَلَامُهُ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ بِمَشِيئَتِهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ كُلَّمَا شِئْت فَذَلِكَ إلَيْهَا مَتَى شَاءَتْ اعْتِبَارًا لِلطَّلَاقِ بِالْجُعْلِ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ يُعْتَبَرُ قَبُولُهَا وَهِيَ بِالْمَشِيئَةِ تَكُونُ قَابِلَةً وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ إذَا وَمَتَى لِلْوَقْتِ فَقَدْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِجُعْلٍ بِقَبُولِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يَكُونُ فَسَوَاءٌ قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ بِمَشِيئَتِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ وَإِنْ قَالَ إنْ شِئْت فَهَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ قَدْ شِئْت وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ وَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا إذَا شَاءَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ أَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ سَاعَتئِذٍ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ أَمَّا إذَا كَانَ حَيًّا فَمَاتَ فُلَانٌ. الشَّرْطُ مَشِيئَتُهُ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ وَبِفَوَاتِ الشَّرْطِ يَمْتَنِعُ نُزُولُ الْجَزَاءِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ لَا كَوْنَ لَهُ فَيَكُونُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ هَذَا الْجِدَارُ أَوْ إنْ تَكَلَّمَتْ الْمَوْتَى أَوْ إنْ تَكَلَّمَتْ هَذِهِ الْحَصَاةُ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ لَا إيقَاعًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إذَا شَاءَ الْجِنُّ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ خَلْقٍ لَا يُرَى وَلَا يَظْهَرُ وَلَا تُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ هَذَا تَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ وَتَأْثِيرُهُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَلَوْ قَالَ إذَا شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ فَمَاتَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تَطْلُقْ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَكَلَّمَ فُلَانٌ بِطَلَاقِك فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ كَذَا لِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُحِبُّهُ أَوْ لَا تُحِبُّهُ مِثْلَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ فَقَالَتْ أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ فَهِيَ طَالِقٌ إذَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُحِبُّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ الْعَذَابَ فِي النَّارِ وَلَا الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فَعِنْدَ التَّيَقُّنِ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا مَحَبَّتُهَا تَكُونُ بِقَلْبِهَا وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ خَبَرُهَا بِذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ تَيْسِيرًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا إنْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّك تُحِبِّينَ الْمَوْتَ وَالْعَذَابَ وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِي خَبَرِهَا احْتِمَالَ الصِّدْقِ وَقَدْ يَبْلُغُ ضِيقُ الصَّدْرِ بِالْمَرْءِ وَسُوءُ الْحَالِ دَرَجَةً يُحِبُّ فِيهَا الْمَوْتَ وَقَدْ تَحْمِلُهَا شِدَّةُ بُغْضِهَا لِلزَّوْجِ عَلَى أَنْ تُؤْثِرَ الْعَذَابَ وَالْمَوْتَ عَلَى صُحْبَتِهِ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ وَقَدْ تَحْمِلُهَا شِدَّةُ الْبُغْضِ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 الْغَيْرَةِ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَهَا وَهَلْ فِي ذَلِكَ إلَّا إيثَارُ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ عَلَى صُحْبَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت تُبْغِضِينَ كَذَا لِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُحِبُّهُ مِثْلَ الْجَنَّةِ وَالْغِنَى فَقَالَتْ أَنَا أُبْغِضُهُ فَهُوَ كَالْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ كَذَا فَقَالَتْ لَسْت أُحِبُّهُ وَهِيَ كَاذِبَةٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ وَهُوَ الْإِخْبَارُ قَامَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كُنْت أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ لَسْت أُحِبُّ ذَلِكَ وَهُوَ كَاذِبٌ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَيَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسَعُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا فِي قَلْبِهَا حَقِيقَةً يَعْرِفُ مَا فِي قَلْبِهِ وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ وَمَا فِي قَلْبِهَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ فَإِذَا أَخْبَرَ بِخِلَافِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ الْمَحَبَّةُ وَالْبُغْضُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت أُحِبُّ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَسْت أُحِبُّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ طَلَاقِهَا إخْبَارُهُ بِمَحَبَّةِ طَلَاقِهَا فَإِذَا لَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَإِنْ قَالَ لَسْت أُحِبُّهُ فَقَدْ أَخْبَرَ بِضِدِّ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت تُحِبِّينَ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَرْطُ الْوُقُوعِ إخْبَارُهَا بِمَحَبَّةِ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى إذَا قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا لَمْ تَطْلُقْ وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ ذَلِكَ بِقَلْبِهَا لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخَبَرُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ لَا أُحِبُّهُ وَهِيَ كَاذِبَةٌ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِضِدِّ مَا هُوَ شَرْطُ الطَّلَاقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِك أَوْ تَهْوَيْنَهُ أَوْ تُرِيدِينَهُ أَوْ تَشْتَهِينَهُ بِقَلْبِك دُونَ لِسَانِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَالَتْ لَا أَشَاءُ وَلَا أُحِبُّ وَلَا أَهْوَى وَلَا أُرِيدُ وَلَا أَشْتَهِي فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِضِدِّ مَا هُوَ شَرْطُ الطَّلَاقِ وَلَا تُصَدَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إمَّا لِلتَّنَاقُضِ أَوْ؛ لِأَنَّ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ قَدْ تَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ وَبَعْدَ تَمَامِ شَرْطِ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ لَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ وَإِنْ سَكَتَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ إخْبَارُهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا خِلَافُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسَعُهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَحَبَّتَهَا بِقَلْبِهَا حِينَ صَرَّحَ بِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِخَبَرِهَا بِخِلَافِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَأَمَّا أَنْ يَقُومَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 خَبَرُهَا مُقَامَ حَقِيقَةِ مَا فِي قَلْبِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهَا لِسَانُهَا أَوْ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً كَانَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ نَظَائِرِهِ فِيمَا سَبَقَ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَتَا جَمِيعًا فَهُمَا طَالِقَانِ وَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا وَسَكَتَتْ الْأُخْرَى فَاَلَّتِي شَاءَتْ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيُّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي وَيُقَالُ أَيُّكُمْ فَعَلَ كَذَا وَلَا يُقَالُ فَعَلُوا وَلَا فَعَلْتُمْ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ صَارَتْ مَشِيئَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ شِئْتُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنْ شَاءَتَا وَقَالَ الزَّوْجُ إنَّمَا عَنَيْت أَحَدًا كَمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ فَإِنْ كَانَ عَنَى وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا فَارَقَ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ عَنَى بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَمْسِكُ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى وَلَا يَسَعُ امْرَأَتَيْهِ أَنْ تُقِيمَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَتْبَعَانِ الظَّاهِرَ فَكَمَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُهُمَا أَنْ يُصَدِّقَاهُ وَإِنْ قَالَ أَشَدُّكُمَا حُبًّا لِي أَوْ لِلطَّلَاقِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَشَدُّكُمَا بُغْضًا لِي أَوْ لِلطَّلَاقِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أَشَدُّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمَا الزَّوْجُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي شَرْطَ الطَّلَاقِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا يُحِبَّانِ وَلَا يَبْغُضَانِ (فَإِنْ قِيلَ) لِمَاذَا لَا يُقَامُ هُنَا إخْبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقَامَ حَقِيقَةِ كَوْنِهَا أَشَدَّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا. (قُلْنَا) لَا طَرِيقَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي قَلْبِ صَاحِبَتِهَا وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهَا أَشَدُّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا فَتَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ مُجَازَفَةً فَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْخَبَرُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ تَوْضِيحُهُ أَنَّا لَمَّا أَقَمْنَا هُنَا الْخَبَرَ مُقَامَ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ جَعَلْنَاهُمَا طَالِقَيْنِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ طَلَّقَهُمَا إنَّمَا طَلَّقَ أَشَدَّهُمَا حُبًّا لَهُ أَوْ بُغْضًا لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارِ] (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا فِي الرَّجُلِ يُخْبِرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهُمْ أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكَ أَنْ يُسَوِّيَهَا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَيِّرَهَا «وَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]» ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ الزَّوْجِ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ مُتَأَبِّدٌ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الطَّارِئَ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ بِالْخِيَارِ الطَّارِئِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هَذَا لَهَا الْخِيَارُ مَا بَقِيَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَطَاوَلَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لَمَّا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ أَوْ يَقْصُرَ فَإِذَا قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْلِسَ يَكُونُ مَجْلِسَ مُنَاظَرَةٍ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَجْلِسَ أَكْلٍ إذَا اشْتَغَلُوا بِهِ ثُمَّ مَجْلِسَ الْقِتَالِ إذَا اقْتَتَلُوا وَلِأَنَّ الذَّهَابَ عَنْ الْمَجْلِسِ إنَّمَا كَانَ مُبْطِلًا لِخِيَارِهَا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ بِقِيَامِهَا وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ وَبِهِ فَارَقَ الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ قَبْلَ الذَّهَابِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِدَلِيلِ الْإِعْرَاضِ ثَمَّ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاضْطَجَعَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضْطَجِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُرَوِّيَ النَّظَرَ فِي أَمْرٍ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاسْتَوَتْ قَاعِدَةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا حَزَبَهَا مِنْ الْأَمْرِ. وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ نَوْعُ جِلْسَةٍ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَبِّعَةً فَاحْتَبَتْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ بِمَنْزِلَةِ الِاضْطِجَاعِ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَإِذَا خَيَّرَهَا وَقَالَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَارِي كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اخْتَارِي نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً أَوْ دَارًا لِلسُّكْنَى وَفِي الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ مَعَ يَمِينِهِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِهَا مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ وَإِزَالَةَ الْإِبْهَامِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ اخْتَرْت أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي كَلَامِ أَحَدِهِمَا تَنْصِيصٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ النِّيَّةِ ثُمَّ الْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ يَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَكَأَنَّهُ جَعَلَ عَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا فَقَالَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْوَاقِعُ بِهِ طَلَاقٌ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا بَلْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَهَذَا لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا» وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ وَكَأَنَّهُ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَمَلَا عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَهُوَ التَّطْلِيقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ فِي هَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا زَالَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا وَصَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَالِكِيَّتِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْعَدَدِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ اخْتَارِي أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعَدَدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ فَنِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَوَى بِهِ نَوْعًا مِنْ الْبَيْنُونَةِ وَهُنَا الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ فَبَقِيَ هَذَا مُجَرَّدَ نِيَّةِ الْعَدَدِ. (قَالَ) وَالتَّخْيِيرُ فِي السَّفِينَةِ كَالتَّخْيِيرِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ فِي حَقِّ رَاكِبِهَا كَالْبَيْتِ لَا يَجْرِ بِهَا بَلْ هِيَ تَجْرِي بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42]. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَلَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَسَارَتْ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْخِيَارِ شَيْئًا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى رَاكِبِهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَكَانَ ذَلِكَ كَمَشِيئَتِهَا فِي حُكْمِ تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِسُكُوتِهَا بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ أَوْ كَانَا فِي مَحْمِلٍ وَاحِدٍ وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ إنْ اتَّصَلَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ سَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَتَمَّتْ صَلَاتَهَا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ قَبْلَ إتْمَامِهَا فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ مَا لَمْ تَفْرُغْ وَدَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِتَرْكِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالْوَتْرُ فِي هَذَا كَالْمَكْتُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ قَطْعِهَا قَبْلَ تَمَامٍ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَأَتَمَّتْ ذَلِكَ الشَّفْعَ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاَللَّهِ مَا أَجَزْت رَكْعَةً قَطُّ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَاشْتِغَالُهَا بِالشَّفْعِ الثَّانِي دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَا خَيَّرَهَا الزَّوْجُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ حِينَ خَيَّرَهَا فَأَتَمَّتْ أَرْبَعًا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَ تُؤَدَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً. وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَدَعَتْ بِطَعَامٍ فَطَعِمَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهَا تَبَدَّلَ حِينَ دَعَتْ بِطَعَامٍ فَقَدْ صَارَ مَجْلِسُهَا مَجْلِسَ الْأَكْلِ وَهَذَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِالطَّعَامِ فَذَلِكَ الْقَدْرُ لِقِلَّتِهِ لَا يُبَدِّلُ الْمَجْلِسَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا لِمَا حَزَبَهَا وَكَذَلِكَ إنْ شَرِبَتْ مَاءً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا شَرِبَتْ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الْكَلَامِ فَفِي حَالَةِ الْمُشَاجَرَةِ قَدْ يَجِفُّ فَمُ الْمَرْءِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ مَا لَمْ يَشْرَبْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا وَلَوْ نَامَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ لِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الِاخْتِيَارِ وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَهَا فَتَمْكِينُهَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى إعْرَاضِهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَهَا مِنْ مَجْلِسِهَا إمَّا لِأَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ الِاخْتِيَارَ حَتَّى أَقَامَهَا فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَكَذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لِتَوَقُّتِهِمَا بِالْمَجْلِسِ وَإِنْ لَبِسَتْ ثِيَابَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْبَسُ لِتَكُونَ مُسْتَتِرَةً مِنْهُ إذَا اخْتَارَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 نَفْسَهَا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْ شُهُودًا؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ إشْهَادَهُمْ عَلَى اخْتِيَارِ أَمْرِ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ اُدْعُوا إلَيَّ أَبِي وَأُمِّي؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ تَسْتَشِيرَهُمَا فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَالِاسْتِشَارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَسَنٌ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تُحْدِثِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ وَخَيَّرَهَا فَقَالَتْ أَفِي هَذَا أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ أَنَا أَخْتَارُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ» وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ آيَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ لِلِاسْتِخَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا صَارَ فِي يَدِهَا مِنْ الْخِيَارِ وَالْأَمْرِ وَالْمَشِيئَةِ. (قَالَ) وَإِذَا خَيَّرَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُك فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ) وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ بِهَذَا كُلِّهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا جَوَابٌ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ وَالتَّرْتِيبُ بِحَرْفِ ثُمَّ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبًا فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ يَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إيجَابًا بَلْ إخْبَارًا عَنْ حَالِهَا أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ كَلَامَهُ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَ نَفْسِهَا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت بِالْأُولَى الطَّلَاقَ وَبِالْأُخْرَيَيْنِ أَنْ أُفْهِمَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَبَانَتْ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ قَدْ يُكَرَّرُ لِلتَّأَكُّدِ وَتَفْهِيمِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَلَمَّا قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَالَتْ عَنَيْت نَفْسِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ خَرَجَ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ أَرَدْت نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهَا لِبَقَائِهَا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ سَكَتَتْ حَتَّى الْآنَ ثُمَّ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ قَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حِينَ تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا وَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَرَدْت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 نَفْسِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ وَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ جَوَابَهَا بِنَاءً عَلَى خِطَابِ الزَّوْجِ فَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِذَا خَيَّرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ هَذَا فِي غَضَبٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي فُصُولِ الْكِنَايَاتِ وَكَمَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا بِمَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ تَخْتَارُ أَمْرَ نَفْسِهَا لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت سَقَطَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ الْخِيَارُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الطَّلَاقِ لَا تَصِيرُ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي إذَا شِئْت أَوْ أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْت ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْقَعَ بِنَفْسِهِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْرَاجًا لِلْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَانَتْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ لِكَوْنِهَا مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا أَوْقَعَهُ الزَّوْجُ لِمَا فَوَّضَهُ إلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ثُمَّ بَاعَ بِنَفْسِهِ قَفِيزًا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْأَزْوَاجَ أَوْ اخْتَارِي أَهْلَك أَوْ أَبَوَيْك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الْأَزْوَاجَ أَوْ أَبِي أَوْ أَهْلِي وَقَدْ عَنِيَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهَا مَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي أَصْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَمَا سِوَى ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا وَأَهْلِهَا إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي أُخْتك أَوْ أَخَاك أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْك فَاخْتَارَتْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ أَخْتَارُ نَفْسِي فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا وَعْدٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ وَعْدٌ صُورَةً وَإِيجَابُ مَعْنًى وَالْعَادَةُ الظَّاهِرُ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ فُلَانٌ يَخْتَارُ كَذَا وَأَنَا أَخْتَارُ كَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ وَالْمُؤَذِّنُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الْعَادَةِ فِي قَوْلِهَا أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي فَلِهَذَا يُؤْخَذُ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ فَعَلْت فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ أَزْيَدُ مِنْ قَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت طَلُقَتْ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَشِيئَةً وَزِيَادَةً وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهَا بِإِزَاءِ الْبَيْنُونَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَالْبَيْنُونَةُ قَدْ حَصَلَتْ هُنَا وَقَدْ أَوْجَبَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَهَا بِعِوَضٍ وَفِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ مِنْهَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِنْ كُنْت زَوْجِي أَوْ إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ فَهَذَا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي سَوَاءٌ فَإِنْ اشْتَرَطَتْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّعْلِيقِ وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَاشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ يَكُونُ إعْرَاضًا عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ دُونَ لَفْظِ الِاخْتِيَارِ فَالْأَضْعَفُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَقْوَى وَالْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَوْ كَانَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ عَامِلًا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ لَغْوًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَفْوِيضِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ غَيْرُ التَّخْيِيرِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ اكْتِسَابَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَيَصِحُّ مِنْهَا فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 إلَيْهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُثْبِتَ الْخِيَارَ لَهَا فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ بَاطِلًا مِنْهَا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَجُلٍ خَيِّرْ امْرَأَتِي أَوْ قُلْ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فَمَا لَمْ يُخَيِّرْهَا ذَلِكَ الرَّجُلِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّهُ أَنَابَ ذَلِكَ الرَّجُلَ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي تَخْيِيرِهَا وَمَا أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ قُلْ لَهَا أَنَّ الْخِيَارَ بِيَدِهَا أَوْ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ أَنَّهَا طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَذَلِكَ بِيَدِهَا أَخْبَرَهَا الرَّجُلُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْمُخَاطَبَ رَسُولًا إلَيْهَا فِي إعْلَامِهَا ذَلِكَ فَسَوَاءٌ أَعْلَمَهَا أَوْ عَلِمَتْ بِنَفْسِهَا بِسَمَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ فَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّخْيِيرِ مَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا عَلَى عِلْمِهَا بِهِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ وَكَمَا فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى عِلْمِهَا بِهِ وَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا خِيَارًا مُمْتَدًّا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ وَقْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ فَلَا مُوجِبَ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ سَوَاءٌ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ هَذَا الشَّهْرَ وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا ذَلِكَ وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا ذَلِكَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَقَالَ إذَا قَالَ لَهَا الْخِيَارُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَنْ يَقُولُ لَهَا ذَلِكَ قَالَ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجِهَا وَمَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ وَقَدْ أَبْطَلَتْهُ حِينَ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ إبْطَالِهَا خِيَارٌ حَتَّى تَخْتَارَ بِهِ نَفْسَهَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَوْمَ أَتَزَوَّجك فَاخْتَارِي أَوْ مَتَى أَتَزَوَّجْك فَاخْتَارِي أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك أَوْ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّ لَهَا الْخِيَارَ كُلَّمَا تَزَوَّجَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إذَا أَهَلَّ الشَّهْرُ أَوْ إذَا كَمُلَتْ السَّنَةُ أَوْ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ إذَا عَلِمَتْ فَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ وَلَوْ خَيَّرَهَا مُطْلَقًا عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي عَلِمَتْ بِهِ كَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ كَذَا أَوْ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الْأُولَى فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلِّهِ وَوَقْتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ كُلِّهِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ لَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَرَأْسُهُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَيَوْمُهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمُضِيِّ هَذَا الْوَقْتِ إنْ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ مُؤَقَّتًا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَوْ قَدِمَ بِالنَّهَارِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَوَقَّتُ فَذَكَرَ الْيَوْمَ فِيهِ لِلتَّوَقُّتِ بِهِ فَيَتَنَاوَلُ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَذِكْرُ الْيَوْمِ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْتهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَطْلِيقَةً بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ يَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَيَصِيرُ مُفَوِّضًا إلَيْهَا الطَّلَاقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ كَانَ هَذَا تَفْسِيرَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت وَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ اثْنَتَيْنِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ إنْ شِئْتهمَا فَاخْتَارَتْ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهَذَا جَوَابٌ مِنْهَا تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ اخْتِيَارَةٍ فَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ أَوْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا اخْتَرْت الْأُولَى مَا صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى تَطْلِيقَةٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّطْلِيقَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 فَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَّةَ أَوْ الِاخْتِيَارَ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَنْزِلُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ وَلَكِنَّ النَّعْتَ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْعُوتٍ مَذْكُورٍ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَ إمْكَانِ صَرْفِهِ إلَى الْمَذْكُورِ وَالْمَذْكُورُ الِاخْتِيَارُ دُونَ الطَّلَاقِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ الْأُولَى أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى وَلَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَحَرْفٌ آخَرُ لَهُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَيَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي مِلْكِهَا حَتَّى يَقَعَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَالْمُجْتَمِعُ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ الْمُجْتَمِعُ فِي الْمِلْكِ لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ يَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ أَيْضًا فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ (فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ هُنَاكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لُغِيَ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ بَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْت وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَقُلْ اخْتَرْت نَفْسِي. (قُلْنَا) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الطَّلَاقِ وَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْمَحْصُورُ بِعَدَدِ الثَّلَاثِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك فَقَالَتْ اخْتَرْت كَانَ جَوَابًا فَكَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَاخْتَارِي فَقَالَتْ بَعْدَ قُدُومِهِ بِأَيَّامٍ لَمْ أَعْلَمْ إلَّا السَّاعَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إنْ نَازَعَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْقُدُومِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا مَا يُسْقِطُ خِيَارَهَا بَعْدَ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لَهَا وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَكِنْ لَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى خَاصَمَتْ فِيهِ الزَّوْجَ وَذَهَبَتْ إلَى الْقَاضِي فَلَا خِيَارَ لَهَا لِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ مَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ. (قَالَ) وَإِذَا خَيَّرَهَا فِي مَجْلِسِهَا فَقَالَتْ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْهُ قَدْ كُنْت اخْتَرْت نَفْسِي فِيهِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تُخْبِرُ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِتَصْدِيقِ الْخَصْمِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْيَوْمَ وَاخْتَارِي غَدًا فَرَدَّتْ الْخِيَارَ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ لَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَهَا الْخِيَارُ غَدًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاخْتَارِي غَدًا تَخْيِيرٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتٍ آتٍ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُنْجَزِ فَإِنَّهَا إنَّمَا رَدَّتْ الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ فِي الْيَوْمِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 فَيَبْقَى خِيَارُهَا فِي الْغَدِ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي الْيَوْمَ وَغَدًا فَرَدَّتْ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْغَدَ عَلَى الْيَوْمِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ امْتِدَادَ الْخِيَارِ إلَى مُضِيِّ الْغَدِ لَا تَجْدِيدَ الْخِيَارِ الْمُضَافِ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ وَاحِدًا وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِرَدِّهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَاخْتَارِي غَدًا فَهُوَ خِيَارٌ آخَرُ أَوْجَبَهُ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْغَدِ خَبَرًا فَلَا يُجْعَلُ الْخَبَرُ الْأَوَّلَ خَبَرًا لَهُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْيَوْمَ نَفْسَهَا فَبَانَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكْت أَمْرَ نَفْسِهَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَذَلِكَ يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُضَافَ كَمَا يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الْمُضَافَ إلَى الْغَدِ لَا يَتَضَمَّنُ تَطْلِيقَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي فِي ضِمْنِ الْخِيَارِ الْمُنْجَزِ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْغَدِ مَا لَمْ تَقَعْ فَإِذَا وَقَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسِهَا فِي الْيَوْمِ لَمْ يَبْقَ حَتَّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ بِهَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي غَدًا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ الْيَوْمَ اخْتَرْت غَدًا الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الزَّوْجَ فَاخْتِيَارُهَا الْيَوْمَ بَاطِلٌ وَلَهَا الِاخْتِيَارُ غَدًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَضَافَ التَّخْيِيرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاخْتِيَارُهَا قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ فِي الْغَدِ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي لَا بَلْ نَفْسِي كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي بَطَلَ خِيَارُهَا فَبِقَوْلِهَا لَا بَلْ نَفْسِي اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ مَا بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي بَانَتْ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَلَا تَرْفَعُ الْبَيْنُونَةَ بِقَوْلِهَا لَا بَلْ زَوْجِي بَعْدَ ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَشِئْت الطَّلَاقَ كَانَتْ طَالِقًا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي جَوَابُ التَّخْيِيرِ وَقَوْلُهَا شِئْت الطَّلَاقَ إيجَادٌ لِلشَّرْطِ فِي طَلَاقِ الْمَشِيئَةِ وَالصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلَا يَكُونُ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي عَمَلًا هُوَ ضِدَّ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ طَلَاقُ الْمَشِيئَةِ مِنْ يَدِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اخْتَارِي إنْ هَوَيْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ أَرَدْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَقَدْ هَوِيت ذَلِكَ وَأَحَبَّتْ وَأَرَادَتْ حِينَ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا (قَالَ) وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ (مَا) لِلتَّعْمِيمِ وَ (مِنْ) قَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَقَدْ تَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ليَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] وقَوْله تَعَالَى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] فَكَانَتْ مُرَاعَاةُ جَانِبِ التَّعْمِيمِ بِكَلِمَةِ مَا أَوْلَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّعْمِيمِ صَارَتْ الثَّلَاثَةُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا فَكَانَتْ كَلِمَةُ مِنْ لِتَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهَا أَوْ هُوَ صِلَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ كَلِمَةُ مَا لِلتَّعْمِيمِ كَمَا قَالَا وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُتْرَكُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ فَيُعْمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَتَيْنِ وَيَقُولُ يُزَادُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِحَرْفِ التَّعْمِيمِ وَيُنْقَصُ عَنْ الثَّلَاثِ لِحَرْفِ التَّبْعِيضِ فَيَصِيرُ بِيَدِهَا ثِنْتَانِ فَإِذَا أَوْقَعْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ أَوْقَعَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِاثْنَتَيْنِ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ صَارَتْ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا وَفِي الْكِتَابِ اسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِمَا بِمَا لَوْ قَالَ كُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا شِئْت جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هُنَاكَ قَامَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَهُوَ الْعُرْفُ وَلِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَنْبَنِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّوَسُّعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ كُلِّ لَفْظٍ وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى قَالَ الزَّوْجُ لَك أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَخْتَارِينِي فَاخْتَارَتْهُ كَانَتْ قَدْ أَبْطَلَتْ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الزَّوْجَ بِإِسْقَاطِهَا خِيَارَهَا شَيْئًا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ (أَوْ) يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتِغَالُهَا بِالْكَلَامِ الْمُبْهَمِ يَكُونُ إبْطَالًا مِنْهَا لِلْخِيَارِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْعَلْ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا عَزِيمَةً فِي كَلَامِهَا وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَزَوْجِي طَلَقَتْ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَقَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَزَوْجِي لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي وَنَفْسِي فَقَدْ سَقَطَ اخْتِيَارُهَا بِقَوْلِهَا اخْتَرْت زَوْجِي فَقَوْلُهَا وَنَفْسِي بَعْدَ ذَلِكَ لَغْوٌ وَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ] (قَالَ) وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْخِيَارِ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِأَمْرِهَا فَإِنَّمَا يُمَلِّكُهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِالْأَمْرِ ثَلَاثًا كَانَ كَمَا نَوَى، حَتَّى إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 لِلْأَمْرِ إلَيْهَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اخْتَارِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ ثَلَاثٌ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا قَالَ نَوَيْت وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ جِنْسَ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّفْوِيضُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا نَوَى الْوَاحِدَةَ فَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضًا خَاصًّا وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهِيَ لَا تَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَتَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهِيَ بَائِنٌ بِتَطْلِيقَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا جَوَابٌ لِلْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا وَأَحَدُهُمَا بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَإِنَّمَا يَقَعَانِ مَعًا عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِجُعْلٍ يُصَادِفُهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ كَاَلَّتِي هِيَ بِغَيْرِ جُعْلٍ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك فِي يَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَبِلَتْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِالْخِيَارِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهَا لَازِمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ قَدْ صَارَا أَمْرًا وَاحِدًا مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا الثَّلَاثَ وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ بِجُعْلٍ هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ قَبِلَتْ ذَلِكَ وَأَوْقَعَتْ فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ ذِكْرَهَا التَّرْتِيبَ لَغْوٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكَلَامَيْنِ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا بِالِاخْتِيَارِ أَوْقَعَتْ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَقَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْيَوْمِ فَقَالَ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا لِوُجُودِ حَرْفِ فِي فَإِنَّ الْمَظْرُوفَ قَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ فِي جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِالْخِيَارِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ ضَعِيفٌ وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَوْقِيتُ الْخِيَارِ بِالْيَوْمِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ جَعَلْت أَمْرَك بِيَدِك أَمْسِ فَلَمْ تَخْتَارِي شَيْئًا وَقَالَتْ هِيَ بَلْ قَدْ اخْتَرْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَتَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَالزَّوْجُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّخْيِيرِ فَقَطْ وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا. (قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَهُوَ بِيَدِهِ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا التَّفْوِيضِ صِحَّةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْهُمَا وَذَلِكَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهِ وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ كَالْبَالِغِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِقِيَامِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ مِنْ مَجْلِسِهِ. (قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلَيْنِ فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَمْرَ مِنْهُمَا فَأَحَدُهُمَا لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ فِي أَيْدِيهِمَا لِيُرَوِّيَا النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا وَنَظَرُ الْوَاحِدِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَظَرِ الْمَثْنَى بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَتَمَّ النَّظَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَنَابَهُمَا مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْعِبَارَةِ وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى سَوَاءٌ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ أَمْرُك بِيَدِك يُرِيدُ اثْنَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ فَالِاثْنَتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَنِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الْعَدَدِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْحُرَّةُ عِنْدَهُ فِي ثِنْتَيْنِ فَهَذَا فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ النِّكَاحِ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا فَلَا يَكُونُ هَذَا فِي حَقِّهَا إلَّا نِيَّةَ الْعَدَدِ فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ إنْ رَدَّتْهُ الْيَوْمَ بَطَلَ كُلُّهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا غَدًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْغَدِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَرَأْسَ الشَّهْرِ زُفَرُ يَقُولُ عَطَفَ أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَلَكِنَّا نَقُولُ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ الثَّانِي امْتِدَادَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ إيجَابِ أَمْرٍ آخَرَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَغَدًا فَأَحَدُ الْوَقْتَيْنِ مُتَّصِلٌ بِالْوَقْتِ الْآخَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَدِ لِامْتِدَادِ حُكْمِ الْأَمْرِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ إذْ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الظِّهَارِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُؤَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الْآيَةُ وَسَبَبُ نُزُولِهَا «قِصَّةُ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ كُنْت تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سَاءَ خُلُقُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ فَرَاجَعْته فِي بَعْضِ مَا أَمَرَنِي بِهِ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي فَقُلْت وَاَلَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَصِلُ إلَيَّ قَدْ قُلْت مَا قُلْتَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي ذَلِكَ فَوَقَعَ عَلَيَّ فَدَفَعْته بِمَا تَدْفَعُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَقَدْ خَرَجْت إلَى بَعْضِ جِيرَانِي فَأَخَذْت ثِيَابًا وَلَبِسْتهَا فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَجَعَلَ يَقُولُ لِي: زَوْجُك وَابْنُ عَمِّك وَقَدْ كَبِرَ فَأَحْسِنِي إلَيْهِ فَجَعَلْت أَشْكُو إلَى اللَّهِ مَا أَرَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَغْشَاهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيك وَفِي زَوْجِك بَيَانًا وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلَى آخِرِ آيَاتِ الظِّهَارِ ثُمَّ قَالَ مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً فَقُلْت لَا يَجِدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرِيهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْت هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْت مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا سَنُعِينُهُ بِفَرْقٍ وَقُلْت أَنَا أُعِينُهُ بِفَرْقٍ أَيْضًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْعَلِي وَاسْتَوْصِي بِهِ خَيْرًا». ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُرَادُ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ وَقَالَ دَاوُد الْمُرَادُ تَكْرَارُ الظِّهَارِ حَتَّى إنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالظِّهَارِ مَرَّةً حَتَّى يُعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ الظِّهَارَ إنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ «سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ كُنْت لَا أَصْبِرُ عَنْ الْجِمَاعِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْت مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتهَا وَخَرَجْت إلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتهمْ بِذَلِكَ فَشَدَّدُوا الْأَمْرَ عَلَيَّ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتَ بِذَاكَ فَقُلْت أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا بَيْنَ يَدِكَ فَأَمْضِ فِي حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتِقْ رَقَبَةً» الْحَدِيثَ كَمَا رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرَارُ الظِّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ كَمَا سَكَتَ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ فَقَدْ صَارَ مُمْسِكًا لَهَا فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أَنْ يَأْتِيَ بِضِدِّ مُوجَبِ كَلَامِهِ وَمُوجَبُ كَلَامِهِ التَّحْرِيمُ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ فَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ ضِدَّهُ بَلْ ضِدُّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ اسْتِحْلَالٌ وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عِنْدَنَا لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا بَعْدَ هَذَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعْنَى الْعُقُوبَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَتَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهَا بِأَنْ يَصِلَ الطَّلَاقَ بِكَلَامِهِ شَرْعًا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ تَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَنَا فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهَا وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَصِيرَ السَّبَبُ بِهِ مُتَرَدِّدًا وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ الْحَرَامَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ كَفَّارَةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُكَفِّرَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَعُودَ حَتَّى يُكَفِّرَ» وَلَوْ جَامَعَهَا فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ لَمْ يَجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْإِعْتَاقِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ وَإِخْلَاؤُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَهَذَا التَّفْرِيعُ لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَلَمَّا أَعْتَقَ بَعْضَهُ عَتَقَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ شَرْطُ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَلَا مُدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَتَصِيرُ كَفَّارَتُهُ بِذَلِكَ فَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ قَدْ مَسَّهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّ شَرْطَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 الْإِخْلَاءِ عَنْ الْمَسِيسِ مِنْ ضَرُورَةِ شَرْطِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَثُبُوتُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ. (قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَبِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا ظِهَارٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقْرَبَكُنَّ ثُمَّ قَرِبَهُنَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا أَضَافَ إلَى مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ كَالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً بِزَوْجٍ فَإِذَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِزَوْجٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ هُنَاكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ النِّسَاءِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَتَكْرَارِ الْيَمِينِ فَكَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ ظِهَارٍ. (فَإِنْ قِيلَ) فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ كَيْفَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. (قُلْنَا) بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمَحَلِّ فَيَتَحَقَّقُ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَأَسْبَابُ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِإِحْرَامِهِ وَلِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ وَالْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا وَالْكَفَّارَةُ الثَّانِيَةُ غَيْرُ كَفَّارَةِ الْأُولَى فَالْحُرْمَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ الْأُولَى أَيْضًا وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَنَوَى بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ تَكْرَارَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ وَالْكَلَامَ الْوَاحِدَ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَلَا يَجِبُ بِهِ إلَّا مَا يَجِبُ بِالْأَوَّلِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَبَطْنِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ بَطْنَ الْأُمِّ عَلَيْهِ فِي الْحُرْمَةِ كَظَهْرِهَا وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنْ يُشَبِّهَ مَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحِلِّ بِمَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ جُزْءًا مِنْ امْرَأَتِهِ شَائِعًا أَوْ عُضْوًا جَامِعًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ عُضْوًا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَهَذَا وَالتَّشْبِيهُ بِظَهْرِ الْأُمِّ سَوَاءٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي إنَّهُ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ قَالَ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَنْفُذُ عِنْدِي لِكَوْنِهِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَاعَنَهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ عِنْدِي فَهُوَ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَمَسَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ نَظَرٍ إلَى فَرْجِهَا مِنْ شَهْوَةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ حَتَّى يَنْفُذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارِ إذَا شَبَّهَهَا بِهِ وَإِنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَاتِ رَحِمٍ مِنْهُ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلَةً بِمُحَلَّلَةٍ فَإِنَّ الْأُخْرَى تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَكَذَلِكَ لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ فَهُوَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ وَمَسُّهُ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا. (قَالَ) وَإِنْ ظَاهَرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُوجَبَهُ التَّحْرِيمُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ كَالطَّلَاقِ وَلَيْسَ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ لِلظِّهَارِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا وَالْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّحْرِيمِ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ مَكَّنَتْهُ. (قَالَ) وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ وَلَا مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ مُدَبَّرَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ ظِهَارُهُ مِنْهُنَّ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارُ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ دُونَ الْمَمْلُوكَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَقَلَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُؤَقَّتِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ أَيْضًا وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ مِنْ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْأَمَةُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا تَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّمَا شَبَّهَ مُحَرَّمَةً بِمُحَرَّمَةٍ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَفَرْجِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِهَا كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَ الْأُمِّ وَفَخِذَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَظَهْرِهَا فَيَتَحَقَّقُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَلَا مَسُّهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَدُك أَوْ رِجْلُك لِأَنَّ هَذَا الْعُضْوَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ عَادَةً؛ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ظُفْرُك مَكَانَ قَوْلِهِ ظَهْرُك وَهُوَ غَلَطٌ فَالظَّهْرُ مِنْ الْجَنْبِ أَلْيَقُ مِنْ الظُّفْرِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي فَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لِأَنَّ الْكَافَ لِلتَّشْبِيهِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْبِرَّ وَالْكَرَامَةَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ وَمَعْنَاهُ أَنْتِ عِنْدِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ كَأُمِّي وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَإِذَا شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ ظِهَارٌ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَالِي إذَا كَانَ هَذَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الْبِرَّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ظِهَارٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إيلَاءٌ لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَقَلُّ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ وَبِنَحْوِ هَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَكِنَّهُ يَقُولُ هُوَ ظِهَارٌ لِكَافِ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الظِّهَارَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْحَرْفِ وَمَتَى كَانَ مُرَادُهُ الْبِرَّ يَقُولُ أَنْتِ عِنْدِي كَأُمِّي وَلَا يَقُولُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْبِرَّ أَقَمْنَا حَرْفَ عَلَى مُقَامَ عِنْدَ لِتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بَقِيَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَانَ ظِهَارًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يَحِلُّ شَرْعًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَحْرُمُ شَرْعًا، وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبِرِّ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الظِّهَارِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِالشَّكِّ لَا تَثْبُتُ كَمَا لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ مَعْنَى الْبِرِّ هُنَا لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ فَبَقِيَ احْتِمَالُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ طَلَاقًا بِالنِّيَّةِ فَقَوْلُهُ كَأُمِّي لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا بِالنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ دُونَ الظِّهَارِ فَهُوَ طَلَاقٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحْرِيمَ فَقَطْ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا قُصِدَ التَّحْرِيمُ هُنَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ حُرْمَةً تُنَافِي الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِالتَّحْرِيمِ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِأُمِّهِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ دُونَ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ بِالطَّلَاقِ تُزِيلُهُ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ إنَّمَا كَانَ ظِهَارًا بِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ فَالتَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ يُؤَكِّدُ حُكْمَ الْكَلَامِ وَلَا يُغَيِّرُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنِيَّتِهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّصْرِيحِ بِالظِّهَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى وَإِيَّاهَا عَنَيْت يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى تِلْكَ بِنِيَّتِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالظَّاهِرِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَفْظِ الظِّهَارِ بَعْدَ مَا بَانَتْ وَالظِّهَارُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَصِحُّ. (فَإِنْ قِيلَ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 الظِّهَارُ مَعَ الطَّلَاقِ اثْنَتَانِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. (قُلْنَا) اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ هُوَ التَّحْرِيمُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الظِّهَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ ظَاهَرْت مِنْك فَإِنَّ صِيغَةَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الطَّلَاقِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ عِنْدِي وَمَعِي فَهُوَ ظِهَارٌ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ. (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ الْحَرَامِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالتَّكْفِيرِ وَتُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِالظِّهَارِ فَوَّتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهَا بِالنِّكَاحِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ عِنْدَ طَلَبِهَا لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا وَلَا يُقَبِّلَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ إلَّا فِي حُكْمِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالِارْتِفَاعِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْحُرْمَةُ مَتَى ثَبَتَتْ بِالطَّلَاقِ تُوجِبُ تَحْرِيمَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ بِالظِّهَارِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ فَيَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمِلْكِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلَقَتْ وَبَطَلَ الظِّهَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّلَاقِ فَتَبِينُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُظَاهِرًا وَعِنْدَهُمَا يَقَعَانِ مَعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَزِمَ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّزْوِيجِ هُنَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَعِنْدَ التَّزْوِيجِ يَقَعَانِ مَعًا. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَبِالْبَيْنُونَةِ تَثْبُتُ حُرْمَةٌ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ مَعَ الْقَوِيِّ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ. وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فَإِذَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا. (قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحُرِّ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْأَمَةُ وَالصَّبِيَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ كَالْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي كَوْنِهَا مُحَلَّلَةً بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذِمِّيًّا فَظِهَارُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظِهَارُ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَكَذَلِكَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ بِالصَّوْمِ وَبِهَذَا لَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الظِّهَارِ كَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَكَانَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عِنْدَهُ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ وَفِي الْحَدِّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا» ثُمَّ يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلْحُرْمَةِ فَيُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ كَمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إيلَاءَ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ وَكَلَامُنَا فِي الْمَجُوسِيِّ يَتَّضِحُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِي أُمِّهِ وَأُخْتِهِ فَإِنَّمَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِيهَا بِالنِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا كَالْمُسْلِمِ إذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الذِّمِّيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ كَالصَّبِيِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ التَّكْفِيرُ وَالتَّطْهِيرُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ الظِّهَارِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْخِزْيُ وَالنَّكَالُ وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي حَقِّ مَنْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ عِبَادَةٍ وَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَيُفْتَى بِهِ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ كُرْهًا وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ تِلْكَ الْحُرْمَةِ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ لَثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهَذَا لَيْسَ بِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَبِهِ فَارَقَ حُرْمَةَ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ حُرْمَةٌ بِزَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ بِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ عَتَقَ وَأَصَابَ مَالًا كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْمَالِ وَبِهِ فَارَقَ الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ تَكُونُ مُطْلَقَةً لَا مُؤَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 الْحِنْثِ. (قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَا فَهُوَ عَلَى ظِهَارِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى يُكَفِّرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَقَطَ الظِّهَارُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ وَهُوَ بِالرِّدَّةِ قَدْ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الظِّهَارُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ انْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ وَبَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ بَقِيَ إنَّمَا يَبْقَى حُرْمَةً مُطْلَقَةً وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَ ظِهَارِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ ظِهَارُهُ قَدْ صَحَّ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ الْمُسْلِمُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَكَذَلِكَ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى كُفْرِهِ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ فَيُمْكِنُ إبْقَاءُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِالْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَ إسْلَامِهِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ لِيَتَقَرَّرَ مُوجِبًا وَعِنْدَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لِيَصِحَّ الْأَدَاءُ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْأَهْلِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُنَّ بَعْدَ مَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَفَاقَ بَقِيَ ظِهَارُهُ حَتَّى يُكَفِّرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ فِي رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَشَاءَتْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا لَزِمَهُ الظِّهَارُ وَهَذَا وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لَا يَقْرَبُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُكَفِّرَ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الظِّهَارُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَاسَ هَذَا بِالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّوْقِيتِ كَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ وَحُرْمَةُ الْبَيْعِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَحُرْمَةُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَى أَنْ يَحِلَّ وَالْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِذَا احْتَمَلَ التَّوْقِيتَ صَحَّ تَوْقِيتُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ لِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ لِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا. (قَالَ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَتَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ الظِّهَارُ عَلَى حَالِهِ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 لِأَنَّ ظِهَارَهُ قَدْ صَحَّ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ فَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَإِذَا بَقِيَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ (قَالَ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ أَوْ هَذِهِ حُرْمَةٌ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ كَالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالْحَائِضُ لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ وَمَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. (قَالَ) وَظِهَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بَاطِلٌ كَطَلَاقِهِمَا لِأَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا وَلَا مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ. (قَالَ) وَظِهَارُ السَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ لَازِمٌ كَطَلَاقِهَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالسُّكْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ وَلَا فِي اكْتِسَابِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا (قَالَ) وَظِهَارُ الْأَخْرَسِ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ إشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ صَحِيحٌ كَطَلَاقِهِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إيلَاءٌ وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْغَشَيَانِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا بِالظِّهَارِ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا شَرْعًا إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِي الْإِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ مَعَ أَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ فِي الظِّهَارِ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَفِي الْإِيلَاءِ بَعْدَهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُولِيًا إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَزِمَهُ الظِّهَارُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ وَمَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهَا وَإِذَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَقَرِبَهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ. (قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 لِأَنَّهُ شَبَّهَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَلِأَنَّ قَصْدَ التَّشْبِيهِ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَهَذَا قَصْدٌ صَحِيحٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ فِي وَجْهٍ خَاصٍّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ رَجُلٌ آخَرُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ عَلَيْهِ يَنْوِي الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الظِّهَارَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ أَوْ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ. (قَالَ) وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُك فِي ظِهَارِ فُلَانَةَ كَانَ مُظَاهِرًا أَيْضًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالظِّهَارِ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَإِنْ قَالَ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَالْمَشِيئَةُ إلَى فُلَانٍ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا يُنَجَّزُ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهِ غَيْرَهَا. (قَالَ) وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَلَى الْعَبْدِ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَعَجْزُهُ أَبْيَنُ مِنْ عَجْزِ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَمَلَكَ مَالًا فَكَفَّارَتُهُ بِالْعِتْقِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَاتِ حَالَةُ الْأَدَاءِ لَا حَالَةُ الْوُجُوبِ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا كَمَا فِي الْحُدُودِ حَتَّى إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ عَتَقَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ لَا حَدُّ الْأَحْرَارِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَنَا الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْعِتْقِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ وَحَدُّ الْعَبِيدِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لَيْسَ لِلْعَجْزِ فَبَدَنُ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ مِنْ الضَّرْبِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ بَدَنُ الْحُرِّ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَالَ) وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ فِي رِقِّهِ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي فِيهِ فَإِنَّ الْمُتَنَافِيَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا إطْعَامُهُ الْمَسَاكِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 سَوَاءٌ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى. (قَالَ) حُرٌّ ظَاهِرٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْعِتْقُ لِأَنَّ جَوَازَ تَكْفِيرِهِ بِالصَّوْمِ كَانَ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ قَبْلَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] الْآيَةَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 [بَابُ الْعِتْقِ فِي الظِّهَارِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الْعِتْقِ فِي الظِّهَارِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَجُوزُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ الْعَوْرَاءِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِنُقْصَانٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَتْ كَالْعَمْيَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ: أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ يَكُونُ فَاحِشًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ بِهِ وَكُلَّ عَيْبٍ يُرْجَى زَوَالُهُ يَكُونُ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ بِهِ كَالْحُمَّى وَالشَّجَّةِ وَنَحْوِهَا وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي قِيَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْقَائِمُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَالْعَمْيَاءُ مُسْتَهْلَكَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ وَهُوَ الْبَصَرُ فَإِنَّ بَقَاءَ الْآدَمِيِّ بِمَنَافِعِهِ مَعْنِيٌّ فَفَوَاتُ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَوَرِ فَوَاتُ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ تَفُوتُ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ، وَبِقَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ لَا تَفُوتُ، وَكَذَلِكَ أَشَلُّ الْيَدَيْنِ لَا يُجْزِي لِفَوْتِ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ، وَمَقْطُوعُ الرِّجْلَيْنِ أَوْ أَشَلُّهُمَا لَا يُجْزِي لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ، وَمَقْطُوعُ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ يُجْزِي لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ لَا تَفُوتُ بِهِ وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَشْيِ بِالْعَصَا، وَمَنْفَعَةُ الْبَطْشِ بَاقِيَةٌ أَيْضًا فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَهْلَكَةً، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمَعْتُوهُ لَا يُجْزِي لِفَوَاتِ الْعَقْلِ بِهِ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُجْزِي؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَقْلِ غَيْرُ فَائِتَةٍ، بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ تَسْتَتِرُ تَارَةً، وَتَظْهَرُ أُخْرَى، وَالْخَرْسَاءُ لَا تُجْزِي لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَلَامِ مَقْصُودَةٌ وَالْآدَمِيُّ إنَّمَا بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِالْبَيَانِ فَفَوَاتُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ وَتُجْزِي الرَّقَبَةُ الصَّغِيرَةُ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا فَائِتَةُ الْمَنَافِعِ مِنْ الْبَطْشِ وَالْمَشْيِ وَالْعَقْلِ وَالْكَلَامِ لِأَنَّهَا عَدِيمَةُ الْمَنَافِعِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ عَيْبًا وَلِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَضْلًا عَنْ الِاسْتِهْلَاكِ (قَالَ): وَتُجْزِي الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ عِنْدَنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 وَلَا تُجْزِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَلَا خُبْثَ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَقَبَةٍ سَوْدَاءَ، وَقَالَ: عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَفَتُجْزِينِي هَذِهِ فَامْتَحَنَهَا بِالْإِيمَانِ فَوَجَدَهَا مُؤْمِنَةً فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَامْتِحَانُهُ إيَّاهَا بِالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُؤْمِنَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَلَا يُجْزِي فِيهِ غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مُطْلَقَةٌ هُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْمُطْلَقِ، وَقِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي عَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ اسْتِدْلَالًا بِهِ، وَالْكَفَّارَاتُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَالتَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي بَعْضِهَا يُوجِبُ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِيمَانِ فِي جَمِيعِهَا كَالتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ فِي بَعْضِ الشَّهَادَاتِ أَوْجَبَ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْكُلِّ وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي هَدْي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْهَدَايَا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَالْمَنْصُوصُ اسْمُ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادُ النَّقْصِ فِيمَا تَوَلَّى اللَّهُ بَيَانَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ شُرُوطُ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ كَأَصْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ هُنَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ عُمُومٌ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْعَامِّ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ وَنَظَائِرِهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُسْتَهْلَكَةً مِنْ وَجْهٍ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ لَفْظٌ، وَالصِّفَةُ فِي الرَّقَبَةِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ وَلَا يُقَالُ: بَيْنَ صِفَةِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَضَادٌّ فَإِذَا جَوَّزْنَا الْمُؤْمِنَةَ انْتَفَى جَوَازُ الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ لَا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ، وَكَذَلِكَ نُجَوِّزُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ. وَلَكِنَّ الْجَوَازَ بِاسْمِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ الْوَصْفُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَأَمَّا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» مَعَ قَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ»، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا فِي حَادِثَةٍ، وَلَا فِي حَادِثَتَيْنِ حَتَّى جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّيَمُّمَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَلَمْ يُحْمَلْ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَهَذَا لِأَنَّ لِلْمُطْلَقِ حُكْمًا وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إبْطَالُ حُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ، وَامْتِنَاعُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ لَيْسَ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ بِأَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْعَوَامِلِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَاتِ لَيْسَ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَكَذَلِكَ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي جَمِيعِ الْهَدَايَا لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحَادِثَتَيْنِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْقَتْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مُخَاطَبَةً بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ أَسْبَابِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَفِيهَا مِنْ التَّغْلِيظِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا مِنْ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاشْتِرَاطُ صِفَةِ التَّتَابُعِ عِنْدَنَا فِي الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِطَرِيقِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ لَازِمَةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ صِفَةَ التَّتَابُعِ فِيهَا لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا مُقَيَّدٌ بِالتَّفَرُّقِ وَهُوَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالتَّفَرُّقِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ بِحَرْفِ إذَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَوْ عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ عَلَيْهِ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَلِهَذَا امْتَحَنَهَا بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ كَلَامًا فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ» وَلَا نَظُنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ تَعَالَى جِهَةً وَلَا مَكَانًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ، وَالْمَصْرُوفُ إلَى الْكَفَّارَةِ لَيْسَ هُوَ الِاعْتِقَادُ إنَّمَا الْمَصْرُوفُ إلَى الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ هُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ. (قَالَ): وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي النَّوَادِرِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّمْعِ مَقْصُودَةٌ، وَبِالصَّمَمِ يَفُوتُ ذَلِكَ؛ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ بِالصَّمَمِ لَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ أَصْلًا حَتَّى أَنَّهُ يَسْمَعُ إذَا صَاحَ إنْسَانٌ فِي أُذُنِهِ وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَ لَا يَجُوزُ مَحْمُولٌ عَلَى صَمَمٍ أَصْلِيٍّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْخَرَسُ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ لِيَتَكَلَّمَ وَهَذَا لَا يُجْزِي، وَمُرَادُهُ مِنْ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ لَا يُجْزِي إذَا كَانَ الصَّمَمُ عَارِضًا فَلَا يَكُونُ مَعَهُ الْخَرَسُ وَيَسْمَعُ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ (قَالَ): وَيُجْزِي الْخَصِيُّ وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ وَمَقْطُوعُ الْمَذَاكِيرِ عِنْدَنَا، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهَا مُسْتَهْلَكَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِفَوَاتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ: السَّمْعُ بَاقٍ وَإِنَّمَا يَفُوتُ مَا هُوَ زِينَةٌ وَجَمَالٌ فَلَا تَصِيرُ الرَّقَبَةُ بِهِ مُسْتَهْلَكَةً كَفَوَاتِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ، وَفِي الْخَصِيَّ وَمَقْطُوعِ الْمَذَاكِيرِ إنَّمَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَمَالِيكِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَائِتَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَشْيِ بِعَصَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ كُلِّ يَدٍ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ مَقْطُوعَةً لَمْ يَجُزْ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَقَطْعُ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ فِي هَذَا كَقَطْعِ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ كُلِّ يَدٍ أُصْبُعًا أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ يُجْزِي؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامِ مِنْ كُلِّ يَدٍ فَمَنْفَعَةُ الْبَطْشِ فَائِتَةٌ، فَلِهَذَا لَا يُجْزِي، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْمَفْلُوجُ الْيَابِسُ الشِّقِّ لِفَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ، وَذَلِكَ اسْمٌ لِلذَّاتِ حَقِيقَةً وَلِلذَّاتِ الْمَرْقُوقِ عُرْفًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الرِّقِّ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فَيَقْتَضِي قِيَامَ الرِّقِّ مُطْلَقًا، وَبِالِاسْتِيلَادِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بِحَالٍ؛ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] يَقْتَضِي إنْشَاءَ الْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ تَعْجِيلٌ لِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهَا مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ، وَالْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّدْبِيرُ الْفَسْخَ وَيَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ. (قَالَ): وَلَا يُجْزِي إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِعِوَضٍ وَالْكَفَّارَةُ بِهِ لَا تَتَأَدَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ مَا لَمْ يَبْتَغُوا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ الدُّنْيَا»، وَدَلِيلُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عِوَضٌ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ زُيُوفًا رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِالْجِيَادِ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اخْتَلَفُوا فِي رِقِّهِ بَعْدَ أَدَائِهِ بَعْضَ الْبَدَلِ فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ نَفْسِهِ يُعْتَقُ، وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي رِقِّهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ رِقَّهُ لَمْ يُنْتَقَصْ بِمَا أَدَّى مِنْ الْبَدَلِ، وَلِهَذَا احْتَمَلَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْبَدَلِ كَمَا احْتَمَلَ قَبْلَهُ فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 يُؤَدِّيَ شَيْئًا جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَوْقَ مَا يَثْبُتُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَلِهَذَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: يَتَمَكَّنُ بِهَذَا السَّبَبِ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ، أَوْ يَكُونَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ. وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يَغْرَمُ الْعُقْرَ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الزَّوَالِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ التَّكْفِيرِ وَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْكِتَابَةِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَقَعَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلِهَذَا يَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ وَالْعِتْقُ عِنْدَ الْكِتَابَةِ لَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَوْلَى إعْتَاقُ صُورَةٍ فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى هُوَ إبْرَاءٌ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ مَالُ الْكِتَابَةِ، وَيَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ، وَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُجْزِي عَنْ كَفَّارَتِهِ بِالِاتِّفَاقِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَفِيهَا أَمْرٌ بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، وَالتَّحْرِيرُ تَصْيِيرُ شَخْصٍ مَرْقُوقٍ حُرًّا وَقَدْ حَصَلَ. وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِذَاتِ مَرْقُوقٍ عُرْفًا وَالْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي رِقِّهِ، وَلَا يَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَكَذَلِكَ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ، وَبِهَذَا الشَّرْطِ لَا يُمْنَعُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ لَمَا تُصُوِّرَ فَسْخُهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَكَذَلِكَ ثُبُوتُهُ مِنْ وَجْهٍ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابَةِ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ، وَبِذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي رِقِّهِ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فَكٌّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَهَذَا فَكٌّ بِعِوَضٍ فَيَكُونُ لَازِمًا وَلَكِنْ، مَعَ هَذَا، الْمَنَافِعُ وَالْمَكَاسِبُ غَيْرُ الرَّقَبَةِ فَبِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لَازِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ، وَالْمِلْكُ كَالْإِعَارَةِ مَعَ الْإِجَارَةِ وَبِسَبَبِ اللُّزُومِ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفُ فِيهِ. وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْعُقْرِ وَالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ؛ وَالْمَكَاسِبُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ وَلَكِنْ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ لَا تَصِيرُ الرَّقَبَةُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَ أَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى إيَّاهُ يَكُونُ تَحْرِيرًا مُبْتَدَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 لَتَقَرَّرَ بِهِ الْبَدَلُ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمُعَوَّضِ يُوجِبُ تَقْرِيرَ الْبَدَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إعْتَاقُهُ إبْرَاءً لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ بِالشَّرْطِ وَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ يُعْتِقُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ نِصْفِ الْبَدَلِ لَا يُوجِبُ عِتْقَ شَيْءٍ مِنْهُ فَأَمَّا سَلَامَةُ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ فَلِأَنَّهُ عَتَقَ وَهُوَ مُكَاتَبٌ لَا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، كَمَا لَوْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَاءِ، وَسَلَّمَ لَهَا الْأَوْلَادَ وَالْأَكْسَابَ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَاحِدٌ، وَالْإِعْتَاقُ مِنْ الْمَوْلَى تَخْتَلِفُ جِهَاتُهُ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ جُعِلَ هَذَا ذَلِكَ الْعِتْقَ لِكَوْنِهِ مُتَّحِدًا وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى يُجْعَلُ إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا وُهِبَتْ الصَّدَاقُ مِنْ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَتُجْعَلُ هِبَتُهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَفِي حَقِّهَا تُجْعَلُ تَمْلِيكًا بِهِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ. (قَالَ): فَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِهِ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فَأَعْتَقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبَهُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَنِصْفُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِيهِ، وَهَذَا النُّقْصَانُ فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ غَيْرُ مُجْزٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَبِالضَّمَانِ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا بَقِيَ مِنْهُ فَإِذَا أَعْتَقَهُ كَانَ هَذَا فِي الْمَعْنَى إعْتَاقُ عَبْدٍ إلَّا شَيْئًا وَعِنْدَ الضَّمَانِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِيمَا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ، فَإِعْتَاقُهُ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ تِلْكَ السِّعَايَةِ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَتَقَ كُلُّهُ إلَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ هَذَا إعْتَاقًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَكُونُ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ عِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِغَيْرِ سِعَايَةٍ وَيَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْتَقُ نِصْفُهُ وَلَا يَجُوزُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِيهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِي؛ لِأَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ هُنَا، فَالنُّقْصَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ إنَّمَا يَحْصُلُ فِي مِلْكِهِ فَيُمْكِنُ تَحْرِيرُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا أَكْمَلَهُ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَعْتَقَ النِّصْفَ وَزِيَادَةً ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ فِيمَنْ أَضْجَعَ أُضْحِيَّتَهُ لِيَذْبَحَهَا فَأَصَابَتْ السِّكِّينُ عَيْنَ الشَّاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حُصُولَ هَذَا الْعَيْبِ بِسَبَبِ فِعْلِ التَّضْحِيَةِ. (قَالَ): وَلَا يُجْزِيهِ الْعِتْقُ بِمَا فِي الْبَطْنِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْأُمِّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَكُونُ رَقَبَةً مُطْلَقَةً؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ مَا يَكُونُ نَفْسًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ خُصُوصًا فِي حُكْمِ الْعِتْقِ، وَالْجَنِينُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا. (قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ، وَالشِّرَاءُ غَيْرُ التَّحْرِيرِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِجْلَابٌ لِلْمِلْكِ، وَالْعِتْقَ إبْطَالٌ لَهُ، فَكَانَتْ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَعْتِقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اقْتِرَانُ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا ادَّعَى سَبَبَهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ أُمَّ هَذَا الْوَلَدِ اسْتَحَقَّتْ حَقَّ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ مَانِعُ إعْتَاقِهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ ظِهَارِي لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ. فَالِابْنُ الَّذِي اسْتَحَقَّ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ الْأَبُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ مُجَازَاةٌ لِلْأُبُوَّةِ وَمُجَازَاةُ الْأُبُوَّةِ فَرْضٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ وَاجِبٌ آخَرُ وَصَرْفُ مَنْفَعَةِ الْكَفَّارَةِ إلَى أَبِيهِ لَا يَجُوزُ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَفِيهَا الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيرِ وَهُوَ تَصْيِيرُ شَخْصٍ مَرْقُوقٍ حُرًّا كَالتَّسْوِيدِ تَصْيِيرُ الْمَحَلِّ أَسْوَدَ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يُجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» أَيْ بِالشِّرَاءِ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ، وَسَمَّاهُ بِالشِّرَاءِ مَجَازِيًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَجَازِيًّا بِالْإِعْتَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ قَرِيبِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَالضَّمَانُ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ إعْتَاقٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا، وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ يَكُونُ بِهِ مُعْتَقًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمُوجِبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 فِي كَوْنِ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، أَنَّ عِتْقَ الْقَرِيبِ يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ صِلَةٌ، وَلِلْمِلْكِ تَأْثِيرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ شَرْعًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ صِلَةً لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا أَنَّ لِلْقَرَابَةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا عِلَّةٌ، وَمَتَى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ، فَالْحُكْمُ لِآخِرِهِمَا وُجُودًا لِأَنَّهُ تَمَامُ الْعِلَّةِ بِهِ وَآخِرُ الْوَصْفَيْنِ هُنَا الْمِلْكُ فَيَكُونُ بِهِ مُعْتَقًا وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَسَبَ نَصِيبِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا الْقَرَابَةُ هُنَا فَيَصِيرُ بِهِ مُعْتِقًا وَهُوَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ مَا أَثْبَتَهُ الشُّهُودُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِهِمَا مَعًا. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ كَمَالِ الْعِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الشِّرَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَحْلُولِ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا شَرْطٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ مُعْتَقًا بِيَمِينِهِ، وَلَمْ تَقْتَرِنْ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِهَا حَتَّى لَوْ اقْتَرَنَتْ جَازَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ فَرْضٌ، قُلْنَا: إنَّمَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، وَيَكُونُ مُجَازَاةً لَهُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْكَفَّارَةَ كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ فَصَرَفَ إلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ جَازَ، ثُمَّ تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ حُكْمًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا الْفِقْهُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ أَنَّ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ الْعِتْقُ وَاحِدٌ، فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ نَوَاهُ الْمُعْتِقُ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ تَكْثُرُ جِهَاتُهُ، فَيَكُونُ عَمَّا نَوَى لِيَصِحَّ قَصْدُهُ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا»، فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهَا شَرْطًا لِلْعِتْقِ لَا إكْمَالًا لِلْعِلَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ: إنَّ هَذَا صَرْفُ مَنْفَعَةِ الْكَفَّارَةِ إلَى أَبِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ إلَى عَبْدِهِ جَازَ صَرْفُهَا إلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ، وَالْكِسْوَةِ فَصَرْفُهُ إلَى عَبْدِهِ لَا يَجُوزُ فَإِلَى أَبِيهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَهُوَ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَحْصُلُ بِصُنْعِهِ، وَهُوَ الْقَبُولُ فَأَمَّا إذَا وَرِثَ أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، وَبِدُونِ الصُّنْعِ لَا يَكُونُ مُحَرِّرًا، وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّحْرِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 إذَا وَرِثَ نِصْفَ قَرِيبِهِ وَإِذَا قَالَ فُلَانٌ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَنَوَى عَنْ ظِهَارِهِ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتِقُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ حُرٌّ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيهِ عَنْ ظِهَارِي أَجْزَأَهُ لِاقْتِرَانِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْتَاقِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ إذَا اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ إذَا اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي فَاشْتَرَاهُ لَا يُجْزِي عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَلَا تَغْيِيرَهُ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْعِتْقِ عِنْدَ الشِّرَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ، وَلَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ. (قَالَ): وَلَا يُجْزِي أَنْ يُعْتِقَ عَنْ ظِهَارٍ وَاحِدٍ نِصْفَ رَقَبَةٍ، وَيَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، وَإِكْمَالُ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ إكْمَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ؟. (فَإِنْ قِيلَ) إنْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَيْنِ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَبْدَانِ، (قُلْنَا): لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَتَيْنِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، وَالشَّرِكَةُ فِي كُلِّ رَقَبَةٍ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ذَبَحَا شَاتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَنْ أُضْحِيَّتِهِمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ كَمَا فِي الْبَدَنَةِ (قَالَ): وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَيُجَامِعَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالْإِطْعَامُ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِانْعِدَامِ نِيَّةِ التَّعْيِينِ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتِقًا عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ رَقَبَةٍ إذْ لَيْسَ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَلَا تُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْجِنْسَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ فَنَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ، أَوْ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. (قَالَ): وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْره لَمْ يُجْزِهِ عَنْ ظِهَارِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ عَنْ الْمُعْتِقِ، وَنِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ وَلَاءً بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ، فَإِنْ كَانَ بِجُعْلٍ بِأَنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ ظِهَارِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عَنْ ظِهَارِهِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَوَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتِقُ عَنْ الْمُعْتِقِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِ الْآمِرِ، وَلَا مَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْهُ مُحَالًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ فَكَانَ إعْتَاقُ زَيْدٍ مِلْكَهُ عَنْ عَمْرِو مُحَالًا، وَلَا يَجُوزُ إضْمَارُ التَّمْلِيكِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ لِتَصْحِيحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ لَا لِإِبْطَالِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 وَإِذَا أَضْمَرْنَا التَّمْلِيكَ صَارَ مُعْتِقًا عَنْ الْآمِرِ لَا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَعْنَى كَلَامِهِ مَلِّكْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ كُنْ وَكِيلِي فِي إعْتَاقِهِ عَنْ ظِهَارِي؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْهُ إعْتَاقَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ الْتِمَاسِهِ إلَّا بِهَذَا الْإِضْمَارِ، وَتَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُصَحَّحُ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَحَلِّ شَرْطُ الْعِتْقِ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعُهُ فَيَصِيرُ كَالْمَذْكُورِ بِذِكْرِ أَصْلِهِ، كَمَنْ نَذَرَ صَلَاةً تَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ. وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمَذْكُورِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ حُرٌّ يَعْتِقُ مِنْ جِهَتِهِ، وَيَصِيرُ الْقَبُولُ وَالتَّمْلِيكُ ثَابِتًا بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَبْدُكَ: يَعْنِي الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ مِلْكٌ لَك لِلْحَالِ لَا عِنْدَ مُصَادَفَةِ الْعِتْقِ إيَّاهُ، فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الْعَبْدِ لَا إضَافَتُهُ إلَيْهِ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي. وَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ بِأَنْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنْ ظِهَارِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَأْمُورُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِ الْآمِرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْوَلَاءُ لِلْآمِرِ، وَيُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِهِ بِاعْتِبَارِ إضْمَارِ التَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَجُوزُ عَنْ كَفَّارَتِهِ إذَا أَعْتَقَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ هُنَاكَ لِكَوْنِ الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ هُنَا، أَوْ يَجْعَلُ الْقَبْضَ مُدْرَجًا فِي كَلَامِهِ حُكْمًا كَمَا يَنْدَرِجُ الْقَبُولُ فِي كَلَامِهِ، أَوْ يَجْعَلُ الْعَبْدَ قَابِضًا نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْلَى لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ أَطْعِمْ عَنْ ظِهَارِي سِتِّينَ مِسْكِينًا يَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَ الْفَقِيرُ لَهُ ثُمَّ لِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عَنْ الْآمِرِ، وَيَنْدَرِجُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُنَا، وَالْمِلْكُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ: مُسْتَوْهِبٌ أَمَرَ بِالْعِتْقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يُجْزِي عَنْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوْهَبَهُ الْعَبْدُ نَصًّا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ قَبْضِهِ: أَعْتِقْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِحَالٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي مَحَلِّهِ، لَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبِ بِعَشْرَةٍ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ مَعَ الْقَبُولِ قَدْ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْبَيْعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وَهُوَ عِنْدَ التَّعَاطِي فَمُجَرَّدُ الْقَبُولُ أَوْلَى أَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ فِي الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالْجَائِزِ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ نَظِيرُ الْقَبُولِ هُنَا فِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَبْضَ مُدْرَجًا فِي كَلَامِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ - وَالْقَوْلُ لَا يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ - إنَّمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلَهُ مِثْلَهُ. وَالْقَبُولُ قَوْلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي كَلَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ قَابِضًا نَفْسَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْبِضُ مَا يَسْلَمُ لَهُ دُونَ مَا لَا يَسْلَمُ لَهُ، وَبِهِ فَارَقَ الطَّعَامَ، فَإِنَّ الْمِسْكِينَ يَقْبِضُ عَيْنَ الطَّعَامِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِلْآمِرِ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْدَرِجُ فِيهِ أَدْنَى الْقَبْضِ، وَلَكِنَّ أَدْنَى الْقَبْضِ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا يَكْفِي فِي الْهِبَةِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَمَعَ الِاتِّصَالِ فِي الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ يَكْفِي لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ دُونَ الْهِبَةِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ. (قَالَ): وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ عَبْدَهُ عَلَى جُعْلٍ لَمْ يَجُزْ قَلَّ الْجُعْلُ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِمَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَمَلُهُ فِي الْعِتْقِ بِجُعْلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِوَضَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا، وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ.» وَإِنْ وَهَبَ لَهُ الْجُعْلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصِّيَامِ فِي الظِّهَارِ] قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ عَنْ ظِهَارِهِ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِالنَّصِّ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا يَوْمًا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصِّيَامِ، لِفَوَاتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِفِطْرِهِ. - وَالْوَاجِبُ الْمُقَيَّدُ بِوَصْفٍ شَرْعًا لَا يَتَأَدَّى بِدُونِهِ - وَكَذَلِكَ إنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّوْمِ انْتَقَضَ صِيَامُهُ، وَعَلَيْهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، وَهُوَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالطَّارِئُ مِنْ الْيَسَارِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَالْمُقْتَرِنِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ انْتَقَضَ صَوْمُهُ فِي حُكْمِ جَوَازِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا أَصْلُ الصَّوْمِ بَاقٍ فَيُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ إنَّمَا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ. (قَالَ): وَلَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا - شَهْرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِمَا لِلْمَرْءِ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ صَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُسَافِرِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ الظِّهَارِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي حَقِّ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ صَوْمُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِتَخَلُّلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ. (قَالَ): وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ لِمَنْ لَهُ خَادِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْأَصْلُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ بِخِلَافِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمَسْكَنِ فَجُعِلَ مِلْكُهُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ مِلْكَ الْمَسْكَنِ يَزِيدُ فِي حَاجَتِهِ، وَالْخَادِمَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَجِدُ بِهَا رَقَبَةً لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء: 92]، وَالْوَاجِدُ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ، الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْمَاءِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّيَسُّرِ دُونَ الْغِنَى، وَبِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَا يَعْتِقُ، وَيَسَارُ التَّيَسُّرِ يَنْفِي الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ. (قَالَ): وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ، ثُمَّ مَرِضَ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَنْوِ فِي ذَلِكَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَجْزَأَهُ عَنْهُنَّ اسْتِحْسَانًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ أَعْتَقَ حِينَ وَجَدَ ثُمَّ صَامَ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ ثُمَّ أَطْعَمَ حِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِمَرَضِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْعُذْرِ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، ثُمَّ فِيمَا أَدَّى وَفَاءً بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِيهِ. (قَالَ): وَإِذَا بَانَتْ مِنْ الْمُظَاهِرِ امْرَأَتُهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ مُرْتَدَّةٌ لَاحِقَةٌ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّزَوُّجِ. وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ صَحَّ إسْقَاطُهُ بِأَدَائِهِ. وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا مُرْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ يَرْفَعُ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 وَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْمَحَلِّ. (قَالَ): وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَجْزَى عَنْهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ عِنْدَهُ، وَطَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِعِتْقٍ هُوَ قُرْبَةٌ خَالِصَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالْعِتْقِ بِجُعْلٍ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَكَمَا تَوَقَّفَ أَصْلُ عِتْقِهِ تُوقَفُ نِيَّتُهُ فَيَصِيرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حُكْمُ النِّيَّةِ كَمَنْ أَبْهَمَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً لِتَعْيِينِهِ فِي الثَّانِي، وَيُجْعَلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ كَأَنَّهُ جَدَّدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ يَبْطُلُ حُكْمُ رِدَّتِهِ، وَلِهَذَا يُعَادُ إلَيْهِ مِنْ أَمْلَاكِهِ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ مَا يَنْبَنِي عَلَى رِدَّتِهِ، وَهُوَ فَسَادُ نِيَّتِهِ (قَالَ): وَإِنْ أَكَلَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَمْ يَضُرَّ، وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَ غَيْرَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْفِعْلِ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، فَيَخْتَلِفُ بِالنِّسْيَانِ، وَالْعَمْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَيْسَ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فَيَسْتَوِي فِيهِ النِّسْيَانُ، وَالْعَمْدُ؛ ثُمَّ إنْ صَامَ الْمُظَاهِرُ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَهْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ صَامَ لِغَيْرِ الْأَهِلَّةِ ثُمَّ أَفْطَرَ لِتَمَامِ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ، وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» فَعِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ -، وَهِيَ الْأَهِلَّةُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْأَيَّامِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فَلَا يَتِمُّ الشَّهْرَانِ إلَّا بِسِتِّينَ يَوْمًا، فَإِنْ صَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ يُعْتَبَرُ كُلُّهُ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي، وَعِنْدَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فِيمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَهِلَّةِ، وَهُوَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ فَقَطْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الظِّهَارِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَيُجْزِيهِ أَنْ يَدْعُوَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَيُغَدِّيَهُمْ، وَيُعَشِّيَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا أَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ فَقَطْ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]- وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ - وَلَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ، وَذَلِكَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ فَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ الطَّعَامُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ، وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ. أَيْ: مَلَّكْتُك، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ خَلَّةِ الْمِسْكِينِ، وَإِغْنَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْكِينِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ، كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَاسَ بِالْكِسْوَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا فَلَبِسُوا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ التَّمْكِينُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَفِي التَّمْلِيكِ تَمَامُ ذَلِكَ فَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا بِالتَّمْلِيكِ؛ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَصْرِفَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى، فَيُقَامُ هَذَا التَّمْلِيكُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ لِمُرَاعَاةِ عَيْنِ النَّصِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ يُشَبِّهُهُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ فَقَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ تَارَةً، وَبِالتَّمْكِينِ أُخْرَى فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِ حُكْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَيْنُ الثَّوْبِ فَأَمَّا الْفِعْلُ بِفَتْحِ الْكَافِ كِسْوَةٌ، وَهُوَ الْإِلْبَاسُ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِعَيْنِ الثَّوْبِ لَا بِمَنَافِعِهِ، وَالْإِعَارَةُ، وَالْإِلْبَاسُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، فَأَمَّا فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ الْمِسْكِينُ طَاعِمٌ لِلْعَيْنِ وَبِالتَّمْكِينِ يَحْصُلُ الْإِطْعَامُ حَقِيقَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ بِالنَّصِّ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْوَاجِبِ فِعْلُ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ فِقْهُ الرَّجُلِ. ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْكِينِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، إمَّا الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، وَإِمَّا غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً وَيَسْتَوِي فِي خُبْزِ الْبُرِّ أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ، وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ الْخُبْزَ، وَمُرَادُهُ خُبْزُ الْبُرِّ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِسْكِينَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَاجَتَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْدُومًا بِخِلَافِ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ تَمَامَ حَاجَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْدُومًا، وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ بِسَوِيقٍ، وَتَمْرٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 قَالُوا: وَهَذَا فِي دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ عَادَةً، وَيَسْتَوْفُونَ مِنْهُ حَاجَتَهُمْ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا بُدَّ مِنْ الْخُبْزِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ طَعَامِ الْأَهْلِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَكْلَتَانِ الْمُشْبِعَتَانِ مِمَّا يَكُونُ مُعْتَادًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. فَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَعْلَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَاللَّحْمَ، وَأَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَاللَّبَنَ، وَأَدْنَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَالْمِلْحَ. (قَالَ): وَإِنْ اخْتَارَ التَّمْلِيكَ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ دَقِيقٍ، أَوْ سَوِيقٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ «لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ: فَرِّقْهَا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثَيْنِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ - وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ بَلْ بِمَا قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَرِّقْهَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا ثُمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ لَا يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ أَمْنَاءَ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ كُلَّ مِسْكِينٍ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَهُوَ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ. (قَالَ): وَإِنْ أَعْطَى مِنْ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّيْنَاهُ وَهُوَ يُسَاوِي كَمَالَ الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ مِقْدَارِهِ، مَعْنَاهُ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْمُؤَدَّى، وَهُوَ كَإِعْطَاءِ الْقِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا فِي كَفَّارَةٍ جَازَ عَنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُؤَدَّى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ بَلْ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاكْتِسَاءُ وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَدَّى مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ الْمَعْنَى فِيهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ صِنْفٍ مَقَامَ صِنْفٍ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ، وَكُلُّ تَعْلِيلٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ النَّصِّ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْكِسْوَةِ تَقْدِيرٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الطَّعَامِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِالطَّعَامِ فَلِلْمُغَايَرَةِ يَجُوزُ إقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَالْمَقْصُودُ بِأَصْنَافِ الطَّعَامِ وَاحِدٌ فَاعْتِبَارُ عَيْنِ الْمُؤَدَّى فِيهِ أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ الْمُؤَدَّى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُدٍّ آخَرَ لِيَصِلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ نَصًّا. (قَالَ): وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا آخَرِينَ مُدًّا مُدًّا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إيصَالُ نِصْفِ صَاعٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ لِيَحْصُلَ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ. وَزَوَالُ الْحَاجَةِ فِي يَوْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِ نِصْفِ الْوَظِيفَةِ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ. (قَالَ): وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ نِصْفِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَهُوَ زَوَالُ حَاجَتِهِ فِي يَوْمِهِ. وَلَوْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ كُلَّهُ مِسْكِينًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَفْرِيقُ الْفِعْلِ بِالنَّصِّ فَإِذَا جَمَعَ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، كَالْحَاجِّ إذَا رَمَى الْحَصَيَاتِ السَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَعْطَاهُ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَكْرَارِ الْأَيَّامِ لَا يَصِيرُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ وَشُبِّهَ هَذَا بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ وَإِنْ كَرَّرَ شَهَادَتَهُ فِي مَجْلِسَيْنِ لَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى شَاهِدَيْنِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فِي مَعْنَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فَكَانَ هُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْمَعْنَى مِسْكِينًا آخَرَ لِتَجَدُّدِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ يَقْتَضِي طَعَامًا لَا مَحَالَةَ فَمَعْنَى الْآيَةِ فَالطَّعَامُ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ، وَبِهِ فَارَقَ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ هُنَاكَ، وَبِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ فَرَّقَ الْفِعْلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا إشْكَالَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَوْفِي فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. فَأَمَّا فِي التَّمْلِيكِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ، فَإِذَا فَرَّقَ الدَّفَعَاتِ جَازَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَيَّامِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: أَنَّهُ لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ لِتَفَرُّقِ الْفِعْلِ، وَإِنْ انْعَدَمَ تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ وَظِيفَتَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ صَرَفَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَعَامَ مِسْكِينٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ طَعَامَ مِسْكِينٍ، آخَرَ؛ وَبَعْضُهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 قَالُوا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ طَاعِمٌ بِمِلْكِهِ، وَإِطْعَامُ الطَّاعِمِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَبَعْدَ مَا اسْتَوْفَى وَظِيفَتَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا يَحْصُلُ سَدُّ خَلَّته بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِي فِي حُكْمِ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَعْدُومِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ فَيُقَامُ تَجَدُّدُ الْأَيَّامِ فِيهِ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا. (قَالَ): وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ مِنْ ظِهَارَيْنِ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يُجِزْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَيُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِي الْمُؤَدَّى وَفَاءً بِوَظِيفَةِ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحَلُّ الْكَفَّارَتَيْنِ فَيُجْزِئُهُ. كَمَا لَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى حِدَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ إحْدَاهُمَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَالْأُخْرَى كَفَّارَةُ الْفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا بِالنِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُمَا يَقُولَانِ زَادَ فِي الْوَظِيفَةِ، وَنَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِقَدْرِ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ أَعْطَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَمَحَلُّ إطْعَامِ الظِّهَارَيْنِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا، وَقَدْ نَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ وَزَادَ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَقَدْ أَدَّى صَاعًا، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي التَّمْيِيزِ لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْعَدَدِ، فَنِيَّتُهُ عَنْ ظِهَارَيْنِ وَعَنْ ظِهَارٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ لِيَكُونَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمُؤَدَّى (قَالَ): وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إلَّا فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفُقَرَاءُ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلَا يَجْزِيهِ أَنْ يُعْطِيَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ بِتَمَامِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرِهِ يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُهُ إلَّا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالزَّكَاةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَالَ): فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرِقٌّ بِيَدِهِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِرْقَاقِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَنْفُذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الذِّمِّيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ عَنْ ظِهَارِهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُجْزِي بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ عَنْ الظِّهَارِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَمَا عَلَيْهِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ التَّكْفِيرِ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَدْيُونًا أَوْ مَرْهُونًا. (قَالَ): وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَدْيُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا وَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّعَايَةِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا أَيْسَر فَلَا يَكُونُ هَذَا عِتْقًا بِجُعْلٍ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ مَرَضِ الْمَوْتِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ، وَتِلْكَ السِّعَايَةُ بَدَلُ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِجُعْلٍ. (قَالَ): وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَقَرَّرَنَا طَرِيقَ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمِسْكِينَ نَائِبًا فِي الْقَبْضِ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَإِنْ صَامَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ. لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ - [بَابُ الْإِيلَاءِ.] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْإِيلَاءُ - فِي اللُّغَةِ - هُوَ الْيَمِينُ قَالَ الْقَائِلُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ، - وَفِي الشَّرِيعَةِ - عِبَارَةٌ عَنْ يَمِينٍ يَمْنَعُ جِمَاعَ الْمَنْكُوحَةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.} [البقرة: 226] وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ أَبَدًا فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ وَبَعْدَمَا صَارَ مُولِيًا إنْ جَامَعَهَا قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 الْيَمِينِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَقَدْ سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا بِالْجِمَاعِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ أَوْفَاهَا حَقَّهَا، وَهُوَ الْفَيْءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ إذَا رَجَعَ وَقَدْ رَجَعَ عَمَّا قَصَدَ مِنْ الْإِضْرَارِ حِينَ جَامَعَهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةَ.، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا، وَكَانَ مَعْنَى الْإِيلَاءِ إنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ أُجَامِعْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - قَالُوا: عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ الْمُدَّةِ حَتَّى يَفِيءَ إلَيْهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ تَفْرِيقُهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً. وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ عِنْدَهُ الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، وَالتَّضْيِيقُ بَعْدَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُطَالَبًا بِالْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ. عَرَفْنَا أَنَّ الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعِنْدَنَا الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ). وَقِرَاءَتُهُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّقْسِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ وَعَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْمُجَامَعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ بِتَرْكِهَا حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا التَّرَبُّصُ مَشْرُوعٌ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلزَّوْجِ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى مَكَّنَهُ مِنْ التَّدَارُكِ فِي الْمُدَّةِ وَجَعَلَ الطَّلَاقَ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) أَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَهُ، لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَوْ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]. وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بِمَا هُوَ مَسْمُوعٌ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ تَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا عِنْدَ فَوْتِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي كَفُرْقَةِ الْعِنِّينِ، فَإِنَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 هُنَاكَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ مَعْذُورٌ وَهُنَا هُوَ ظَالِمٌ مُتَعَنِّتٌ، وَالْقَاضِي مَنْصُوبٌ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا، أَوْ يُفَارِقَهَا، فَإِنْ أَبِي نَابَ عَنْهُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227] فَذَكَرَ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» وَقَدْ أَضَافَ إلَى الزَّوْجِ فَدَلَّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتِمُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ عَلِيمٌ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مُدَّةُ تَرَبُّصٍ بَعْدَمَا أَظْهَرَ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَرِيدٍ لَهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّهَا كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَةَ صُحْبَتِهَا فَيَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَهُنَا هُوَ بِيَمِينِهِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَتَهَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْوَاقِعَةَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّطْلِيقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْعِدَّةَ هُنَا تَجِبُ هُنَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ، وَهُنَاكَ الطَّلَاقُ كَانَ وَاقِعًا فَجَعَلْنَا الْأَقْرَاءَ مَحْسُوبَةً مِنْ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَتَى ذُكِرَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ عَنْ الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ هُنَا، وَلَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْجِمَاعِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ فَفِيمَا نَوَى بِهِ مِمَّا سِوَى الْجِمَاعِ هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقَالَ: لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَالزِّيَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَنْوِيُّ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ، وَحَرْفُ الصِّلَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ " عَلَى " فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِمَاعُ يُقَال: دَخَلَ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَغِيظَنَّهَا أَوْ لَيَسُؤَنَّهَا، أَوْ لَا يَجْمَعُ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا شَيْءٌ، أَوْ لَا يَمَسُّهَا، وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَوْ لَا يُلَامِسُهَا فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُطْلَقُ فِي الْجِمَاعِ، وَغَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ نَوَى بِهَا الْجِمَاعَ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ إضْرَارُهُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ جِلْدُهُ جِلْدَهَا وَعَنَى بِهِ حَقِيقَةَ الْمَسِّ، فَالْحِنْثُ هُنَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجِمَاعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 فَلَا يَكُونُ إيلَاءً وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بِأَنْ يَلُفَّ آلَتَهُ فِي حَرِيرَةٍ، ثُمَّ يَدُسَّهُ فِيهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا وَعَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، وَيُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ أَوْ الضَّرْبُ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْشَاهَا فَهُوَ مَدِينٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْغِشْيَانَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْجِمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ.} [لقمان: 32] وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا فَلَفْظُ الْقُرْبِ إضَافَةٌ إلَى فِرَاشِهَا لَا إلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ عَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ إمَّا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِأَنْ تَدْخُلَ هِيَ فِرَاشَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَبَ هُوَ فِرَاشَهَا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يُبَاضِعُهَا فَهُوَ مُولٍ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ لِلْجِمَاعِ، فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ إدْخَالُ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْهَا مِنْ جَنَابَةٍ؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً فَأَمَّا الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَكُونُ اغْتِسَالًا مِنْ الْإِنْزَالِ لَا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ لِلْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُولِيًا بِمَنْعِهِ حَقَّهَا بِيَمِينِهِ. فَإِنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَا فِيمَا دُونَهُ. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ مُولٍ، إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالتَّطْلِيقَةِ. وَهَكَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمَّا بَلَغَهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: (لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَابْنُ أَبِي لَيْلَى اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَالْإِيلَاءُ: هُوَ الْيَمِينُ. فَتَقْيِيدُ الْيَمِينِ بِمُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَكُونُ زِيَادَةً. وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُولِي مَنْ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَإِذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى شَهْرٍ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا فِي تَرْكِ مُجَامَعَتِهَا مُدَّةً بِغَيْرِ يَمِينٍ. (قَالَ): وَكُلُّ مَا حَلَفَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا مِمَّا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ تَضْيِيقَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَنْتَهِي الْيَمِينُ بِمُضِيِّهَا فَلَا يُمْكِنُ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَكْثَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ، وَعِنْدَنَا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَتِمُّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِهِ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّهِ ثُمَّ الْيَمِينُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ: وَالثَّانِي - الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَالْأَوَّلُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَإِذَا قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ أَحْلِفُ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَكِنَّهُ وَعْدٌ أَنْ يَحْلِفَ بِهَذَا اللَّفْظِ. (وَلَكِنَّا) نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ، سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الظَّاهِرِ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ أَشْهَدُ لَا يَكُونُ يَمِينًا، بَلْ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ لِلشَّهَادَةِ، فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ يَمِينًا. وَلَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يَمِينٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] إلَى قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] فَقَدْ سَمَّى شَهَادَتَهُمْ يَمِينًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]. وَاللِّعَانُ يَمِينٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلِهَذَا عَظُمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَقَوْلِهِ أَحْلِفُ. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الْعَزْمَ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَهْدِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَيَّ فَالْعَهْدُ يَمِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» وَأَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ، أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَكُونُ مُولِيًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَ عِنْدَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 لَوْ قَالَ: هُوَ مُسْتَحِلٌّ الْمَيْتَةَ إنْ قَرُبْتُك وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَنَا يَمِينٌ فَتَحْلِيلُ الْحَرَامِ، كَذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ بَاتَّةٌ مُصْمِتَةٌ، فَاسْتِحْلَالُهَا يَمِينٌ لِمَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ بِخِلَافِ اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ بِبَاتَّةٍ وَلَكِنَّهَا تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ. - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعَظَمَةِ اللَّهِ أَوْ وَعِزَّةِ اللَّهِ أَوْ وَقُدْرَةِ اللَّهِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ وَاَللَّهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: وَاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَاَللَّهِ الْعَزِيزِ، وَاَللَّهِ الْقَادِرِ وَسَنُقَرِّرُ حُكْمَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَلْزَمُهُ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ) فَقَدْ سَمَّاهُ حَالِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِحَجٍّ أَوْ هَدْيٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إنْ قَرُبَهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا مَنْعُ الْقُرْبَانِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ عَادَةً وَتَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي أَدَائِهِ. وَإِذَا قَالَ وَالْقُرْآنِ لَا أَقْرَبُك لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ، فَكُلُّ لَفْظٍ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ فَلِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْحَلِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَمِينًا؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَتُهُ وَلَكِنَّ الْحَلِفَ بِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ. عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْأَيْمَانِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْقُرْآنِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك، وَإِنْ قَالَ: وَالْكَعْبَةِ أَوْ الصَّلَاةِ، أَوْ الزَّكَاةِ لَا أَقْرَبُك أَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سَمِعَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: وَأَبِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ فَلْيَذَرْ» فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا شَرْعًا، وَإِنْ قَالَ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ، وَحُرُوفُ الْيَمِينِ ثَلَاثَةٌ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَّاءُ. فَأَعَمَّهَا الْبَاءُ، حَتَّى تَدْخُلَ فِي اسْمِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْمُضْمَرِ، وَالْمُظْهَرِ. وَالْوَاوُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّاءُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُظْهَرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَأَيْمُ اللَّهِ، أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 لَعَمْرِو اللَّهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلُهُ وَأَيْمُ اللَّهِ أَيْ وَأَيْمُنُ اللَّهِ فَيَكُونُ جَمْعُ الْيَمِينِ، وَلِعَمْرِو اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ الْبَاقِي، وَفِي قَوْلِهِ لَعَمْرُكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ، وَإِنْ قَالَ آللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا وَالْكَسْرَةُ فِي الْهَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْقَسَمُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيلَاءَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ قَوْلًا لَا يَقْرَبُهَا وَلَمْ يَحْلِفْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَبِدُونِ يَمِينِهِ كَانَ كَلَامُهُ وَعْدًا، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ فِي مِصْرِ كَذَا أَوْ قَالَ فِي أَرْضِ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِيَمِينِهِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْيَمِينُ إذَا وُقِّتَتْ بِمَكَانٍ تَوَقَّتَتْ بِهِ، فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ. (قَالَ): وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْتَدُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا حَقَّهَا بِهَذِهِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ مُدَّةُ الْحَيْضِ فَيَبْقَى يَمِينُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ ثَابِتَةً بِالْمَعْنَى، وَثُبُوتُهَا بِالنَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِالرَّأْيِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَقْدُمَ فُلَانٌ، أَوْ حَتَّى يَفْعَلَ هُوَ شَيْئًا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ: لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجَامِعَهَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا بِتَرْكِ الْمُجَامَعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُجَامَعَةَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَفْعَلَ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُولٍ مَعْنَاهُ حَتَّى يَمَسَّ السَّمَاءَ أَوْ يُحَوِّلَ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَقْدُورِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ جَعْلِهِ غَايَةَ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَهُوَ مُولٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَهُ غَايَةً يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ مَقْصُودُ الزَّوْجِ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ لَا التَّوْقِيتُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الْإِيلَاءِ. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ آخِرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 السَّنَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَالْآجَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ سَنَةً بِنُقْصَانِ يَوْمٍ كَانَ مُولِيًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إلَّا يَوْمًا. وَلَكِنَّا نَقُولُ: اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا فَمَا مِنْ يَوْمٍ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَّا وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى فَيَقْرَبُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَالَ إنَّ الْيَوْمَ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرٌ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ مُنَكَّرًا، وَتَغْيِيرُ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْآجَالِ وَالْإِجَارَةِ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْيَوْمَ مُنَكَّرًا فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْمُطَالَبَةِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرًا كَمَا نَكَّرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِنُقْصَانِ يَوْمِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى آخِرَ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُولٍ عِنْدَنَا قُلْنَا إذَا قَرُبَهَا فِي يَوْمٍ فَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ الْيَوْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ مُولٍ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ ارْتَفَعَ وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا مَرَّةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قُرْبَانِهَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ شَيْءٌ فَإِذَا قَرُبَهَا مَرَّةً ارْتَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجِمَاعِ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ، فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَإِنْ وَصَلَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِنْ اشْتَرَطَ مَشِيئَتَهَا وَمَشِيئَةَ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الظِّهَارِ. (قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ مُولٍ وَعَنَى الْإِيجَابَ فَهُوَ مُولٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ لَفْظَهُ إلَى مَحَلِّهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَإِنْ قَالَ عَنَيْت الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ إيجَابٌ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْإِخْبَارِ فِي الْإِيلَاءِ وَاحِدٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا. (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَا يَقْرَبُهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ، إنْ تَرَكَهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِنَّ بِالْإِيلَاءِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 قُرْبَانَ الرَّابِعَةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُتِمُّ شَرْطَ الْحِنْثِ بِقُرْبَانِهَا فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ، فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ. (وَجْهُ قَوْلِنَا) أَنَّهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَمَا لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِقُرْبَانِ بَعْضِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ فَلَا تَجِبُ مَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَلَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِقُرْبَانِ الْآخِرَةِ فَقَطْ بَلْ بِقُرْبَانِهِنَّ جَمِيعًا فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ الْبِرِّ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَهُنَا بِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ فَوَاَللَّهِ، لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْحَالِ بَلْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِنْ جَامَعَ بَعْضَهُنَّ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ سَقَطَ عَمَّنْ جَامَعَ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَإِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ الَّتِي لَمْ يُجَامِعْهَا؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ فِي حَقِّهَا لَمْ يُوجِبْ فَبَقِيَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ، وَلَكِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ مُنْتَظِرٌ، إنْ جَامَعَهُنَّ حَنِثَ إذْ لَيْسَ فِي يَمِينِهِ تَقْيِيدُ الْجِمَاعِ بِمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ وَلَكِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ بَطَلَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِجِمَاعِ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا وَلَا بِجِمَاعِ الْمَيِّتَةِ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ. (قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ فَإِنْ مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ بِنَّ جَمِيعًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَكُونُ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَنْبَنِي عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُنَّ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاحِدَةَ مُنَكِّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَنْفِيٌّ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ بِخِلَافِ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي نَفْيَ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي مَحَلِّ الْفَيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّعْمِيمِ فَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى نَفْيِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَتَنَاوَلُهُنَّ كَلَامُهُ جَمِيعًا وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى وُجُودِ الْقُرْبَانِ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 يَتَنَاوَلُ كَلَامُهُ إحْدَاهُنَّ فَلِهَذَا إذَا قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ فَإِنَّ مَعْنَى التَّعْمِيمِ هُنَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ إحْدَاكُنَّ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ جَمِيعًا، وَهُنَا لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ تَنَاوَلَهُنَّ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ التَّنْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا خَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. (قَالَ): وَإِذَا آلَى مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يُسَمِّيهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ فَتَبِينُ بِهِ وَحْدَهَا وَلَوْ أَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَمْلِكْ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْيِينِ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ وَاحِدَةٍ أَيَّتُهُنَّ قَرُبَ، وَبَعْدَ التَّعْيِينِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْبَوَاقِي وَكَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حُكْمِ الْيَمِينِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ، فَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مَلَكَ تَعْيِينَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ الْيَمِينِ، وَلَكِنَّهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ وَذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ ثُمَّ إذَا عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُنَّ لَا يَتَعَيَّنُ يَمِينُهُ فِيهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. (قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ إنْ فَاءَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ يَكُونُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَيْءِ حُكْمَانِ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، وَامْتِنَاعُ حُكْمِ الْفُرْقَةِ ثُمَّ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ، فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ فَكَانَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ أَصْلًا وَبِاللِّسَانِ بَدَلًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ فَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَامِعَهَا وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْإِضْرَارَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِإِيحَاشِهَا بِلِسَانِهِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُرْضِيَهَا بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ تَارَةً يَكُونُ بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَتَارَةً بِالْمَرَضِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ فَيَكُونُ فَيْؤُهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إنْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْجِمَاعِ لِمَرَضِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِالْإِيلَاءِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا حِينَ آلَى وَبَقِيَ صَحِيحًا بَعْدَ إيلَائِهِ مِقْدَارَ مَا يَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ يُجَامِعَهَا ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، وَقَالَ زُفَرُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ آخِرُ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى عَدِمَ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ جِمَاعِهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ، وَالتَّعَنُّتُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُهُ إلَّا بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ صَحَّ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ لَمْ يَفِئْ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَإِنَّ تَمَامَ الْمَقْصُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْبَدَلِ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ مَرِضَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ صَحَّ الزَّوْجُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ مَرَضِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجِمَاعِ كَتَأْثِيرِ مَرَضِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ فَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ قَدْ زَالَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ بِالْحَجِّ أَوْ أَحَدُهُمَا فَآلَى وَقْتَ أَدَاءِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا حِسًّا بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَلَى بِامْرَأَتِهِ وَأَحَدُهُمَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ لَمْ تَصِحَّ الْخَلْوَةُ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ وَمَتَى وَطِئَهَا بَعْدَ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَتَى جَامَعَهَا. (قَالَ): وَإِيلَاءُ النَّائِمِ وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَهْذِي بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَنْعَقِدُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اللُّزُومِ (قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ لِنَفَاذِ مِلْكِ الطَّلَاقِ فَقَدْ بَقِيَتْ الْيَمِينُ فَإِذَا قَرُبَهَا تَمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْيَمِينِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَإِنْ تَمَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُولِي فِي الْمَعْنَى كَالْمُعَلِّقِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إلَّا فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا تَمَّتْ الْعِدَّةُ وَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ لَمْ تَطْلُقْ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا وَتَسْتَأْنِفُ شُهُورَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا، وَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَا تَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَبْقَى حُكْمُ الْمُدَّةِ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ أَكَانَ يَبْقَى حُكْمُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ. (قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ آلَى مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ مَا بَانَتْ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِيلَاءِ إزَالَةُ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ فِي الْأَصْلِ إيلَاءً لَا يَصِيرُ إيلَاءً وَإِنْ تَزَوَّجَهَا كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَلَامِهِ هُنَاكَ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَإِنْ بَطَلَتْ الْمُدَّةُ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فَصْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فَبَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هَلْ تَنْعَقِدُ مُدَّةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَمْ لَا وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ تَنْعَقِدُ حَتَّى إذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهِنَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا بَيَّنَّا. وَفِقْهُهُ أَنَّ انْعِقَادَ الْمُدَّةِ مِنْ حُكْمِ بَقَاءِ الْيَمِينِ هُنَا، وَابْتِدَاءُ الْيَمِينِ لَا يَنْعَقِدُ إيلَاءً بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَكِنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 ثُمَّ زَوَّجَهَا وَلِيُّهُ مِنْهُ انْعَقَدَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْيَمِينِ مِنْ الْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا تَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِ الْمُدَّةِ ابْتِدَاءً لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْمُدَّةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا. (قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْمُولِي، وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِيلَاءَ بِالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ إلَّا فِي أَرْضِ كَذَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَكَانٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ فَلِهَذَا كَانَ مُولِيًا (قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهُوَ فِي سِجْنٍ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَيْءٌ إلَّا الْجِمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ إلَيْهِ لِيُجَامِعَهَا فَإِنَّ السِّجْنَ مَوْضِعٌ لِلْمُجَامَعَةِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا عِبْرَةَ لِلْبَدَلِ (قَالَ): وَإِنْ أَصَابَ الْمُولِي مِنْ امْرَأَتِهِ مَا دُونَ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا دُونَهُ وَالْفَيْءُ مَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّهَا وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَإِنْ ادَّعَى فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ مَتَى أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَقَالَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ كَذِبَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِذَا عَلِمَتْ هِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِأَنْ تَهْرَبَ أَوْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا جَدِيدًا. (قَالَ): وَلَوْ آلَى مِنْهَا بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهَا لَهُ حَلَالٌ، فَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا يَسْتَقْبِلُ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. . (قَالَ): وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ تَكْرَارَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 يَمِينٍ وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا قَرُبَهَا، وَلَا يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِوَاحِدٍ قَدْ يُكَرَّرُ وَلَا يُرَادُ حُكْمُهُ بِالتَّكْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ التَّغْلِيظَ وَالتَّجْدِيدَ فَإِنْ قَرُبَهَا فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ تَجَدُّدُ عَقْدِ الْيَمِينِ فَكَانَ حَالِفًا بِثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ وَبِالْقُرْبَانِ مَرَّةً يَتِمُّ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْ الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَفِي الْإِيلَاءِ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ الْمُدَّةِ فَقَدْ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ مُدَّةً فَيَقَعُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ مُدَّةٍ تَطْلِيقَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْيَمِينِ إلَى حَالِ افْتِرَاقِهِمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ بَقِيَا فِي الْمَجْلِسِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَتَمَّتْ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ حَلَفَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَجْلِسَ وَالْمَجَالِسَ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَمَا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَجْعَلُهَا كَالْمَوْجُودِ جُمْلَةً بِدَلِيلِ الْقَبُولِ مَعَ الْإِيجَابِ إذَا وُجِدَا فِي الْمَجْلِسِ يَجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جَعَلَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً حَتَّى يَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا: حَالَةُ الْمَجْلِسِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا مُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْأَيْمَانُ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ ثَانِيًا، وَثَالِثًا ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ، وَمُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْآخَرِ وَعَلَى عَكْسِ هَذَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَدَخَلَ الدَّارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَ إيلَاءَاتٍ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَا يَجْمَعُ الْأَحْوَالَ فَاعْتَبَرْنَا كُلَّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَانْعَقَدَتْ مُدَّةٌ جَدِيدَةٌ لِتَجْدِيدِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ حَالَةٍ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَلَيَّ يَمِينٌ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنَّ مُوجِبَ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ (قَالَ): وَإِيلَاءُ الْحُرَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَاَلَّذِينَ يَتَنَاوَلُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، وَإِيلَاءُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُدَّةَ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِقِّهَا وَلَا بِحُرِّيَّتِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ التَّرَبُّصِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ مَعْنَى الْفُسْحَةِ لِلزَّوْجِ خُصُوصًا مِنْ عِدَّةٍ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ ثُمَّ تُنَصَّفُ بِرِقِّهَا (قَالَ): وَالْمَرِيضُ الَّذِي يَهْذِي فِي الْإِيلَاءِ كَالنَّائِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (قَالَ): وَإِيلَاءُ الْأَخْرَسِ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكُنْيَةَ وَالْإِشَارَةَ مِنْهُ إذَا كَانَتْ تُعْرَفُ بِمَنْزِلَةِ عِبَارَةِ النَّاطِقِ (قَالَ): وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ بِذَلِكَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِطَلَاقٍ يَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ يَنْوِي الْيَمِينَ فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يُقِرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عِنْدَ إرَادَةِ الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى لَوْ أَرْسَلَهُ كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الْحَالِ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا إلَّا بَعْدَ الْقُرْبَانِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: صَارَ مَمْنُوعًا عَنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُوجِبُهُ التَّحْرِيمِ إلَى وَقْتِ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ يَعْنِي التَّحْرِيمَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةِ الْعَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَامْرَأَةِ فُلَانٍ وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةِ فُلَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي وَصْفٍ خَاصٍّ فَإِذَا نَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ الْإِيلَاءَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيَكُونُ مُولِيًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. (قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي إيلَاءِ هَذِهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يُغَيِّرُ حُكْمَ يَمِينِهِ فَإِنَّ قَبْلَ الْإِشْرَاكِ كَانَ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى، وَبَعْدَ الْإِشْرَاكِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى مَا لَمْ يَقْرَبْهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ مَعَ بَقَائِهِ، وَلَوْ صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْإِشْرَاكَ لَكَانَ يُشْرِكُ أَجْنَبِيَّةً مَعَ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ الظِّهَارَ؛ لِأَنَّ إشْرَاكَ الثَّانِيَةِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 الْإِيلَاءِ لِلْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ هَذِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ فِيهَا فَبِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْأُولَى، وَيَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ. (قَالَ): وَإِذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ شَهْرَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ آلَى؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ نَظِيرُ مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقِ رَجْعِيٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَائِهَا، وَالْمُعْتَقَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ تَمَّ عَلَيْهَا لَمَّا تَمَّ حِلُّهَا بِالْعِتْقِ، وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ التَّامُّ إلَّا بِمُدَّةٍ تَامَّةٍ. (قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الشَّهْرَيْنِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِيهِمَا كَانَتْ عِدَّتُهَا لِلطَّلَاقِ عِدَّةَ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُعْتِقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَمُدَّةُ إيلَائِهَا مُدَّةُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً حِينَ آلَى مِنْهَا سَوَاءٌ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابَ فَقَالُوا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ إيلَائِهَا شَهْرَيْنِ كَمَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي شَيْءٍ فَالْبَائِنُ وَالرَّجْعِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ رَجْعِيًّا صَارَتْ مُدَّةُ إيلَائِهَا بِالْعِتْقِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَائِنَةً بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَعْقُبُ الطَّلَاقَ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا صِفَةُ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِالْعِتْقِ إضْرَارًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَزْوَاجِ فِي الْعِدَّةِ وَلَيْسَ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ بِالْعِتْقِ إضْرَارٌ بِهَا فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ الْعِتْقِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ. (قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ وَامْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مَعَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمُولٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ قُرْبَانُ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ اعْتَبَرَ حَالَ امْرَأَتِهِ وَحْدَهَا وَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ لَا أَقْرَبُكُمَا لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هُنَاكَ فَيُجْعَلَانِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهُمَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ، فَإِنْ جَامَعَ الْأَجْنَبِيَّةَ صَارَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي جَامَعَ فِيهَا تِلْكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ فِي حَقِّهَا الْآنَ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا أَتَيْتُ مَكَانَ كَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا جَامَعْت هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ فَإِذَا جَامَعَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ. (قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا إنْ مَضَى شَهْرَانِ مِنْ يَوْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 تَزَوَّجَهَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْطُلُ بِلَحَاقِهَا فَإِنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ. وَأَصْلُ كَلَامِهِ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا مَعَ بَقَاءِ تِلْكَ الْيَمِينِ كَانَ مُولِيًا مِنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ أَمَةٌ، وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ. (قَالَ): وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهَا عَلَيْهَا، وَمُوجِبُ الْمُدَّةِ الْمُنْعَقِدَةُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّهَا فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ سَقَطَ حُكْمُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، كَمَا لَوْ أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا، وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ تَنْقَطِعُ بِالْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ لَهُ عَلَيْهَا، وَمِلْكُ الْيَمِينِ كَمَا يُنَافِي أَصْلَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا. (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَمُرَادُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ يَلْتَزِمَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَالَ فَيَكُونُ الْتِزَامُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ لَغْوًا. (قَالَ): وَإِنْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ، فَإِذَا عَلَّقَهَا بِالْقُرْبَانِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ الصَّدَقَةِ فِي ذِمَّتِهِ. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ الذِّمِّيُّ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِيلَاءَ مِنْهُ بِالْحَجِّ صَحِيحٌ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حُكْمِ الْتِزَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَأَمَّا إيلَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَنْعَقِدُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِيلَاءِ، وَهُوَ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَمَعَ الشِّرْكِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا التَّعْظِيمُ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا الِالْتِزَامُ الْتِزَامُ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ حَتَّى تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ أَيْمَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: 12] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ صَارَ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْحِنْثِ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ يَنْفَصِلُ عَنْ حُكْمِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: لَا أَقْرَبُكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ كَانَ لَوْ قَرُبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ لِهَذِهِ الْيَمِينِ حُكْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا الطَّلَاقُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَالْآخَرُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ مَقْصُودٌ بِهَذَا الْيَمِينِ فَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الثَّانِي مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ مُولٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، بِأَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا، وَلَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيهِ مِنْهُ فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَإِنْ اشْتَرَاهُ لَزِمَهُ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْأُولَى قَدْ بَطَلَتْ فَيَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَمَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ فَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى إيلَاءِ هَذِهِ بِطَلَاقِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَتْ تِلْكَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ هَذِهِ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى تَطْلِيقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ هَذِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا ثَلَاثًا سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ إيلَاءَهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَكِنَّهُ جَامَعَهَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا وَارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَكِنَّهُ طَلَّقَ الْأُخْرَى، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا وَبَيْعُهُ الْعَبْدَ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمُوتَ هُوَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ وَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدُهُمَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا أَقْرَبُكِ مَا دُمْتِ فِي نِكَاحِي وَيَتِمُّ بِهَذَا مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْقُرْبَانِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى يَمُوتَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ مَوْتَ فُلَانٍ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَوْهُومٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَإِنْ قَالَ حَتَّى الْقِيَامَةِ، فَهُوَ مُولٍ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَهَذَا وَقَوْلُهُ أَبَدًا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً، بِخِلَافِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ. (قَالَ): وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَفْطِمَ صَبِيًّا لَهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بَعْدَ الْفِطَامِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا كَانَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ يُوجَدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي أَقَلَّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ يَنْوِي ذَلِكَ الْفِطَامَ لَا يَنْوِي دُونَهُ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْغَايَةِ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ لِفَوَاتِ الْغَايَةِ، وَلَوْ بَقِيَ فُلَانٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَكُنْ قَرُبَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إذَا أَذِنَ لَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا فَلَيْسَ مُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ شَيْءٌ، وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِيَمِينٍ بِالْعِتْقِ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَهَذَا الْمُدَبَّرُ حُرٌّ، إنْ دَخَلَ الدَّارَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ كَمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَانِعًا حَقَّهَا: يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ، كَالْمِيرَاثِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ حَجَّةٌ بَعْدَمَا أَقْرَبُك بِسَنَةٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَك بِيَوْمٍ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِحَجَّةٍ تَلْزَمُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا (قَالَ): وَإِذَا قَالَ: إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ يَسْقُطُ الْيَمِينُ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الصَّوْمِ مُضَافًا إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ، وَذَلِكَ لَغْوٌ وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ، أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ هَدْيٌ، فَهُوَ مُولٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالَ: فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فَيَكُونُ مُولِيًا كَمَا فِي الْحَجِّ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَمَالِي: وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِمَالٍ وَيَتَوَصَّلُ إلَى الصَّلَاةِ بِدُونِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَهُمَا، وَهُوَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَا الْتَزَمَ إلَّا بِالْمَالِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَحَقَّقُ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ فِي أَدَائِهَا مَشَقَّةٌ، وَلَا خُسْرَانٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقُرَبِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ فَهُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةَ، وَالصَّوْمَ وَكَذَلِكَ الْهَدْيَ وَالْحَجَّ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِمَالٍ. وَالتَّكْفِيرُ بِالْمَالِ مُوجِبٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْحِنْثِ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْيَمِينَ بِالْقُرْبَانِ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ لَيْسَتْ بِمُوجِبٍ الْيَمِينَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَاءِ الْمَنْذُورِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، وَقَدْ ظَاهَرَ أَوْ لَمْ يُظَاهِرْ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَتَنَجَّزُ فِي الْعَبْدِ، وَتَنَجُّزُ الْعِتْقِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلظِّهَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فُلَانًا عَنْ ظِهَارِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 وَهُوَ مُظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ وُجُوبَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عَنْ الظِّهَارِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا بِالْقُرْبَانِ شَيْئًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اللِّعَانِ.] اعْلَمْ بِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ كَانَ هُوَ الْحَدُّ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ أَنْصَارِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ.» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاء: ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ عَلَى ظَهْرِك»، وَقَالَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْحَدُّ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ - اللِّعَانُ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مُوجِبُهُ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ اللِّعَانِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَعِنْدَنَا يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]. ثُمَّ فِي آيَةِ اللِّعَانِ بَيَانُ الْمَخْرَجِ لِلزَّوْجِ بِأَنْ تُقَامَ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ مَقَامَ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَهِيَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ، مُزَكَّاةٌ بِاللَّعْنِ، مُؤَكَّدَةٌ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُلَوِّثُ الْفِرَاشَ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا وَلِهَذَا قُلْت بِلِعَانِهِ يَجِبُ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا ثُمَّ تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهَا بِلِعَانِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِعَانُهَا مُعَارِضًا لِحُجَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ، مُزَكَّاةٌ بِالْتِزَامِ الْغَضَبِ، مُؤَيِّدَةٌ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ تَمْتَنِعُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أَيْ يَسْقُطُ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ جَمِيعَ مُوجِبِ قَذْفِ الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ مُوجِبَ هَذَا الْقَذْفِ مَعَ اللِّعَانِ، وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَكَلِمَاتُ اللِّعَانِ قَذْفٌ أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مُسْقِطًا لِمُوجِبِ الْقَذْفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ اللَّعْنِ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ؛ لِأَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدٌّ بِلِعَانِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَكَيْف تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْ وَاحِدٍ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَمِنْ الْخَصْمِ أَوْلَى. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَجِبُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ اللِّعَانَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُبِسَتْ. وَالْمُرَادُ مَنْ قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] الْحَبْسُ لَا الْحَدُّ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: مِنْ شَرَائِطِ اللِّعَانِ عِنْدَنَا - كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، وَهَذَا مِنْهُ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهَا ثُمَّ لَا يَشْتَرِطُ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: اللِّعَانُ مِنْ كَلَامِ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا بَدَأَ بِهِ الْبَابَ فَقَالَ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَامْرَأَتِهِ»، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا بِلَفْظٍ آخَرَ وَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُشَافَهَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ (أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ وَالْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَالْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ) فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا وَفِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ) وَالْمُرَادُ بِالشُّهَدَاءِ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] وَهَذَا شَأْنُ شَهَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَمَا أَنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ بِأَنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَقَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ قَذْفُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلِّعَانِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُوجِبًا حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الْقَاذِفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 كَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ إقَامَةَ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِ، وَمُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي جَانِبِهَا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ مُوجِبٌ لِلِّعَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ وَلَكِنْ امْتَنَعَ جَرَيَانَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَدَقَتْ الزَّوْجَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَحْدُودُ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَكَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذْ هِيَ مُحْصَنَةٌ. وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِّعَانِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ امْتِنَاعُ جَرَيَانِ اللِّعَانِ هُنَا لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَذْفِ يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْمَانِعِ فِي جَانِبِهَا بَعْدَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَأَمَّا بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ فِي جَانِبِهِ لَا مُعْتَبَرَ بِحَالِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقْذِفُ الْحُرَّةَ الْمَحْدُودَةَ تَحْتَهُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ وَإِنْ قَذَفَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ مَمْلُوكَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ يَقْذِفُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ، أَوْ مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةٌ أَوْ مُسْتَسْعَاةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ، وَلَكِنَّهُ يُعْذَرُ لِذَلِكَ أَسْوَاطًا؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمَمْلُوكِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لِمَعْنَى هَتْكِ السِّتْرِ، وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَالْعَبْدُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِّعَانِ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِكَوْنِهَا مُحْصَنَةً. (قَالَ): إذَا قَذَفَ الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ، وَهِيَ عَمْيَاءُ وَالْفَاسِقُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ ظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ، وَالتَّثَبُّتُ غَيْرُ الرَّدِّ. بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ، كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً لَكَانَتْ مَقْبُولَةً بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِنُقْصَانٍ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي إذَا تَحَمَّلَ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ أَدَّى بَعْدَ الْعَمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ أَيْضًا. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ زَنَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ إنْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا يُرِيدُ بِهِ الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يُلَاعِنُهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَوَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: وَطْءُ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَالشُّبْهَةُ تَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدَّ وَاللِّعَانَ كَانَ فِيهِ إيجَابُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ حُكْمَ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ هُوَ صَغِيرٌ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَقَوْلُهُ هَدَرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا أَوْ مَعْتُوهًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْأَخْرَسُ فَقَذْفُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَا اللِّعَانَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ؛ لِأَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الزِّنَا لِيَكُونَ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، أَوْ اللِّعَانِ، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّصْرِيحُ فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ، فَإِنَّ إشَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ بِالْكِتَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ حَتَّى أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ قَالَ: أَحْلِفُ مَكَانَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْتَكِبُونَ هَذَا، وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، فَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِيَ خَرْسَاءُ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْخَرْسَاءِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِجَوَازِ أَنْ تَصْدُقَهُ لَوْ كَانَتْ تَنْطِقُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ هَذَا التَّصْدِيقِ بِإِشَارَتِهَا، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ لَا يَجُوزُ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ بِالزِّنَا، فَإِنْ كَفَّتْ عَنْ مُرَافَعَتِهِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ زِنَاهَا لَا يُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَالنَّسَبُ إلَى الزِّنَا أَوْلَى، وَاللِّعَانُ هُنَا كَالْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ بَدَأَ الْإِمَامُ بِالرَّجُلِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُلَاعِنَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. يَقُومُ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ تَقُومُ الْمَرْأَةُ فَتَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا أَمَّا قِيَامُهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا يَضُرُّهُ اللِّعَانُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ أَوْ يَمِينٌ فَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ فِيهِ سَوَاءٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَهِيَ تَقُولُ أَنْتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظَةِ الْغَائِبَةِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَاحْتِمَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْخِطَابِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشِيرُ إلَى صَاحِبِهِ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ أَسْبَابَ التَّعْرِيفِ فَإِذَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ، فَرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ فَقَالَ الْعَجْلَانَيْ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُفَارِقَهَا» فَكَانَتْ سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ عِنْدَنَا إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَقَعُ بِنَفْسِ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِهِمَا فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: سَبَبُ هَذِهِ الْفُرْقَةِ قَوْلٌ مِنْ الزَّوْجِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَتِمُّ بِهِ كَالطَّلَاقِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» فَنَفْيُ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ التَّلَاعُنِ تَنْصِيصٌ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَإِنَّ الْعَجْلَانِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا (قُلْنَا) ذَاكَ مُنْصَرِفٌ إلَى طَلَبِهِ رَدَّ الْمَهْرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهُوَ لَهَا بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَابْعُدْ اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا»؛ وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ فَذَلِكَ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ، وَكَانَ التَّفْرِيقُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ فَسْخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ التَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ ثُمَّ هُنَاكَ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللِّعَانِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ، وَلَا هُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ إلَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَالْخُصُومَةِ، وَفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالنِّكَاحِ مَعَ إصْرَارِهِمَا عَلَى كَلَامِهِمَا فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ حَالَ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ كَالْمُتَقَاتَلِينَ وَالْمُتَضَارَبِينَ فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوَافِقُنَا، أَنَّ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: اللِّعَانُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَإِذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ عَنْ نَفْسِهِ جُلِدَ الْحَدَّ وَكَانَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 فَقَالَا: الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ تَكُونُ فُرْقَةً بِالطَّلَاقِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ بِاللِّعَانِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ: حَجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَالطَّلَاقُ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ فَمَا يَشْتَرِكُ الزَّوْجَانِ فِيهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا. وَمِثْلُ هَذَا السَّبَبِ مَتَى كَانَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً كَالْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ هُنَا بِاللِّعَانِ نَظِيرُ حُرْمَةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ يَتَأَبَّدُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَلَوْ أَثْبَتنَا بِهِ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ خُصُوصًا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْعُقُوبَاتُ، ثُمَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا يَتَقَرَّرُ سَبَبُهُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِاللِّعَانِ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ. فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فَيَكُونُ فِعْلُ الْقَاضِي كَفِعْلِ الزَّوْجِ وَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ، وَالْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الطَّلَاقِ لَا تَتَأَبَّدُ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ حَالَ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَجَازِ إنَّمَا يُسَمَّيَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ مَا بَقِيَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا وَعِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَا بَقِيَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَبْقَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْحَدِّ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بُطْلَانُ اللِّعَانِ، وَلَا يَبْقَى أَهْلًا لِلِّعَانِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِلِّعَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَتْ رَجُلًا فَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِلَّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا إثْبَاتُ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. (قَالَ): وَإِذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْقَذْفَ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَجَبَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُلَاعِنُ وَيُحَدُّ، أَمَّا اللِّعَانُ؛ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْكَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْكَارُهُ نَفْيُ الْقَذْفِ وَإِكْذَابُهُ نَفْسَهُ تَقْرِيرُ الْقَذْفِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ إقَامَةَ إنْكَارِهِ مُقَامَ إكْذَابِهِ نَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ. (قَالَ): وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ حَبَلَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ هُوَ مَنْ زِنًا فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَلَا حَدَّ قَبْلَ الْوَضْعِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 يُلَاعِنُهَا لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِنَفْيِ الْحَمْلِ وَقَدْ لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْحَبَلَ يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعًا نَحْوُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ بِهِ وَلَهُ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ اللِّعَانِ بِنَفْيِهِ. (وَحُجَّتُنَا) مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ نَفْيَ الْحَبَلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ رِيحٌ، وَاللِّعَانُ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْإِرْثُ وَالْوَصِيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى انْفِصَالِ الْوَلَدِ وَلَا تَتَقَرَّرُ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا نَصًّا فَإِنَّهُ قَالَ: وَجَدْت شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بِهَا، ثُمَّ نَفْيُ الْحَبَلِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَعِنْدَنَا إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا نَصًّا يُلَاعِنُهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهَا حُبْلَى حَتَّى قَالَ «إنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ عَلَى نَعْتِ كَذَا، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا حَمَالِيًا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ النَّفْيِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ نُفِيَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَاعَنَ، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْحَبَلَ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا وَنَفْيُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ السَّبَبِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَصْلُ هَذَا الْقَذْفِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَذْفٍ مُضَافٍ، وَالْقَذْفُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، وَلَا التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ وَالْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ: يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ يُحْكَمُ عَلَى الْحَبَلِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الزَّوْجِ، إذْ النَّسَبُ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ، وَإِلْزَامُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ فَإِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ النَّسَبِ عِنْدَ النَّفْيِ لَا يَصِيرُ مُحْتَمَلًا لِلنَّفْيِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ لَاعَنَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لَنُفِيَ النَّسَبُ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ النَّسَبِ يَتَعَذَّرُ اللِّعَانُ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا، وَإِذَا لَاعَنَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَلِهَذَا كَانَ طَلَاقًا فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 أَنَّ الْعُلُوقَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لَزِمَهُ الْوَلَدُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَمَا لَوْ وَقَعْت الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَوْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ لَمْ يَجْرِ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَقْصُودًا، وَلِهَذَا قَالَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَقْصُودًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ، وَاللِّعَانُ مَشْرُوعٌ لِحَاجَتِهِ فَأَمَّا عِنْدَنَا حُكْمُ اللِّعَانِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فِي الزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَلَا زَوْجِيَّةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَجْرِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ حِينَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا يُتَصَوَّرُ نَفْيَهُ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ تَبَعٌ لِقَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقِيَامِ التَّبَعِ بِالْمَتْبُوعِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِقَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْتَنِعُ جَرَيَانُ اللِّعَانِ بَيْنَهَا. (قَالَ): وَإِذَا لَاعَنَهَا بِوَلَدٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّنَتَيْنِ لَزِمَهُ هَذَا الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ مَوْهُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ. (قَالَ): وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِيَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ وَيُلَاعِنَانِ فَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ، وَأَقَرَّ بِالثَّانِي لَزِمَاهُ وَيُحَدُّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ أَحَدِهِمَا إقْرَارٌ بِنَسَبِهِمَا، فَإِنَّهُمَا تَوْأَمٌ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ كَانَ هَذَا كَإِقْرَارِهِ بِهِمَا ثُمَّ فِي نَفْيِ الثَّانِي هُوَ قَاذِفٌ لَهَا بِالزِّنَا فَيُلَاعِنُهَا، وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا وَحِينَ أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَنَسَبُ الْوَلَدَيْنِ ثَابِتٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِأَحَدِهِمَا كَإِقْرَارِهِ بِهِمَا وَإِنْ نَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُمَا وَلَدَاهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ لَزِمَهُ نَسَبُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْ دِيَتِهِ. وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ حُكْمٌ بِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا فَلَا يُحْتَمَلُ النَّفْيُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ نَسَبَ هَذَا الْحَيِّ مِنْهُ قَطَعَ نَسَبَ الْمَيِّتِ أَيْضًا وَالنَّسَبُ كَمَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالدَّعْوَةِ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ عَنْهُ فَإِنَّ الْأَخَ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ أَخِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ جَرَيَانُ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ قَطْعُ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ إنَّمَا لَزِمَهُ حُكْمًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فِي مَنْعِ جَرَيَانِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا فَنَفَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 حَتَّى لَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ كَانَ لِلْوَالِدِ مِنْهُ الْمِيرَاثُ، وَإِذَا لَزِمَهُ نَسَبُ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ نَسَبُهُمَا. (قَالَ): وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ بِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْ الْغَدِ وَلَدًا آخَرَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا، وَاللِّعَانُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الَّذِي كَانَ فِي الْبَطْنِ لَمْ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْحُكْمِ عَلَى الْحَمْلِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الِانْفِصَالِ فَإِذَا انْفَصَلَ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهُمَا تَوْأَمٌ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ حَبَلٍ تَامٍّ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الَّذِي كَانَ مُنْفَصِلًا وَقْتَ اللِّعَانِ يُوجِبُهُ نَفْيُ النَّسَبِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْآخَرِ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنَّمَا يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ لَا لِنَفْيِهِ فَإِنْ قَالَ هُمَا ابْنَايَ كَانَ صَادِقًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا مِنْهُ يَثْبُتُ شَرْعًا، فَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ يُخْبِرُ عَمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ إكْذَابًا مِنْهُ نَفْسَهُ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمِلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِكْذَابَ بِدَعْوَى النَّسَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِخْبَارَ بِمَا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَا بِابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا لَزِمَهُ حُكْمًا فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَرَّرَ الْقَذْفَ الَّذِي لَاعَنَهَا بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ حَدٌّ. وَلَوْ قَالَ كَذَبْتُ فِي اللِّعَانِ وَفِيمَا قَذَفْتُهَا بِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ. (قَالَ): وَلَوْ نَفَى وَلَدَ زَوْجَةٍ مَحْدُودَةٍ، أَوْ كِتَابِيَّةٍ، أَوْ مَمْلُوكَةٍ وَالزَّوْجُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ كَانَ نَفْيُهُ بَاطِلًا وَيَلْزَمُ الْوَلَدُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتٌ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَيَبْقَى النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ، وَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا لِعَانَ وَقَدْ أَجْمَلَ هَذَا الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ فِي السُّؤَالِ ذَكَرَ الزَّوْجَ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ الْمَحْدُودَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْمَحْدُودَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَيُحْمَلُ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا مُسْلِمًا حَتَّى يَمْتَنِعَ جَرَيَانُ اللِّعَانِ مِنْ قِبَلِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَا اللِّعَانُ. (قَالَ): وَإِذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حُكْمُهُ بِخِلَافِ السُّنَّةِ بَاطِلٌ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِخِلَافِ النَّصِّ، فَإِنَّ اللِّعَانَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ خَمْسُ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةٍ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي حَدِّ الزِّنَا أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالْمَالِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيَجُوزُ وَيَنْفُذُ كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَنَحْوِهَا وَبَيَانَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ وَاحِدٍ فَقَدْ يُقَامُ الْأَكْثَرُ مِنْهُ مَقَامَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 الْكُلِّ. وَالثَّانِي - أَنَّ تَكْرَارَ اللِّعَانِ لِلتَّغْلِيظِ وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ يَحْصُلُ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ كَأَعْلَاهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْقَاضِي وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى هَذَا الْحُكْمِ نَفَذَ حُكْمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَبَعْدَ مَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ أَوْلَى. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ، وَمَحَلَّهَا غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي النَّصِّ وَهَذَا الِاجْتِهَادُ فِي مَحَلِّ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَضَاءَ يَقُولُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَإِنْ أَتَمَّتْ الْمَرْأَةُ اللِّعَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَإِنْ أَتَمَّ الزَّوْجُ اللِّعَانَ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا الْتَعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّتَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ أَكْثَرِ اللِّعَانِ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِ فَهَذَا حُكْمٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ أَقَلَّ الشَّيْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ كَمَالِهِ. (قَالَ): وَلَوْ فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَنَا لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّمَا انْتَهَى النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ (قَالَ): وَلَوْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَأَمَرَ الْمَرْأَةَ فَبَدَأَتْ بِاللِّعَانِ ثُمَّ الْتَعَنَ الرَّجُلُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَرْأَةَ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا الْتَعَنَتْ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَإِنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ فِي جَانِبِهَا لِمُعَارَضَةِ لِعَانِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِلِعَانِهَا شَيْءٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَمَا حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَيَأْمُرُهَا بِاسْتِقْبَالِ اللِّعَانِ فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهَا بِذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ فِيمَا طَرِيقُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْبِقَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، وَفِي بَابِ التَّحَالُفِ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَلَاعِنَانِ سَوَاءٌ بَدَأَتْ هِيَ أَوْ هُوَ وَحُكْمُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ نَافِدٌ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَقَذَفَهَا فَرَافَعَتْهُ فِيهِمَا جُلِدَ الْحَدَّ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِهِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ الْحَدُّ، وَمُوجِبَ قَذْفِهِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ اللِّعَانُ، وَلَكِنْ مَتَى اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ عِنْدَ الْإِمَامِ - وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ - بُدِئَ بِمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْآخَرِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَلَوْ بَدَأَ بِاللِّعَانِ هُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ وَلَوْ بَدَأَ بِالْحَدِّ يَسْقُطُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِالْحَدِّ، وَلَوْ أَخَذَتْهُ بِالْآخَرِ وَتَرَكَتْ الْأَوَّلَ لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ صَارَ الْقَذْفُ الْأَوَّلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا الْخُصُومَةُ فِي الثَّانِي فَيُلَاعِنُهَا فَإِنْ أَخَذَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَوَّلِ ضُرِبَ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ بِتَرْكِ الطَّلَبِ زَمَانًا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمُوجِبِ لِحَدِّ الْقَذْفِ. وَإِنْ بَدَأَتْ بِالْأَوَّلِ حُدَّ لَهَا فَإِنْ أَخَذَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْآخَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الثَّانِيَ كَانَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إقَامَتُهُ حِينَ صَارَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يُقَامُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أُقِيمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَذْفَيْنِ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ مَرَّاتٍ فَعَلَيْهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي كَوْنِهِ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالْحَدُّ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقَذْفِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّاتٍ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ دَفْعُ عَارِ الزِّنَا عَنْهُنَّ وَهُنَا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي بَعْضِهِنَّ دُونَ الْبَعْضِ، وَالْمَقْصُودُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ مَعَ بَعْضِهِنَّ فَلِهَذَا يُلَاعِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ كَانَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِهِ لَهُنَّ الْحَدُّ هُنَا وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ. (قَالَ): وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ قَذَفَ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِعَانٌ، وَعَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ إيَّاهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ، فَإِنَّ بِإِقَامَةِ بَعْضِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إكْمَالِ الْحَدِّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِهِ إسْقَاطُ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَيُبْدَأُ بِإِكْمَالِ الْحَدِّ الْأَوَّلِ لِهَذَا. وَلَوْ كَانَ قَذْفُهُ إيَّاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يَجِبْ إلَّا كَمَالُ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيًّا آخَرَ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِاللِّعَانِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بَعْدِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا مَعْنَى لِلِّعَانِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ كَانَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ، وَالْقَذْفُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّيْنِ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يُضْرَبْ الْحَدَّ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَمَا لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ اللِّعَانِ هُنَاكَ بِأَصْلِ الْقَذْفِ، وَالْحَدُّ بِكَلِمَاتِ اللِّعَانِ فَقَدْ نَسَبَهَا فِيهَا إلَى الزِّنَا وَانْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ الشُّهُودِ بِالزِّنَا، فَأَمَّا هُنَا لَمْ تُوجَدْ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةً كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنَّمَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَوْ قَالَ يَا زَانِيَةً - أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ، ثُمَّ أَبَانَهَا بِالتَّطْلِيقَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَمَا قَذَفَهَا إذَا أَبَانَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ كَلَامَهُ عَلَى سَبِيلِ النِّدَاءِ فَقَدْ نَسَبَهَا بِهِ إلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِلتَّعْرِيفِ، وَتَعْرِيفُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ نِسْبَتُهَا إلَيْهِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 قَالَ): وَإِذَا عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ، وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا فِي الْحَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا تَكُونُ زَانِيَةً قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ لَا تَكُونُ زَانِيَةً بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُك، فَأَنْتِ زَانِيَةٌ أَوْ أَنْتِ زَانِيَةٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا. (قَالَ): وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَدْ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، فَهُوَ قَاذِفٌ الْيَوْمَ وَعَلَيْهِ اللِّعَانُ، لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَتُهَا إلَى الزِّنَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ قَذَفْتُك بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ قَذْفٌ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْتِ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ فَإِنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يَكُونُ زِنًا شَرْعًا فَقَدْ نَسَبَهَا إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَسَبَهَا إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقِي فَأَمَّا مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا شَرْعًا؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يَلْحَقُهَا الْعَارُ وَلَا الْإِثْمُ شَرْعًا، وَالْقَذْفُ بِالزِّنَا يَتَعَيَّرُ بِهِ الْمَقْذُوفُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ آثِمًا شَرْعًا، وَإِنْ قَالَ لَهَا فَرْجُك زَانٍ أَوْ جَسَدُك زَانٍ أَوْ بَدَنُك زَانٍ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الرِّجْلِ، وَالْيَدِ، وَبِأَيِّ لُغَةٍ رَمَاهَا بِالزِّنَا، فَهُوَ قَاذِفٌ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْعَارِ وَالشَّنَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَإِذَا قَالَ وَجَدْتُ رَجُلًا مَعَهَا يُجَامِعُهَا لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَدْ يَكُونُ حَلَالًا وَشُبْهَةً وَبِدُونِ التَّصْرِيحِ بِالزِّنَا لَا يَكُونُ الْقَذْفُ مُوجِبًا كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ. (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهَا تُحَدُّ لَهُ وَيُدْرَأُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهَا لَا بَلْ أَنْتَ الزَّانِي، وَقَذْفُهَا إيَّاهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَفِي الْبِدَايَةِ بِهِ إسْقَاطُ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِ الْحَدَّيْنِ إسْقَاطُ الْآخَرِ يُبْدَأُ بِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِي فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهَا وَإِنْ أَسْقَطَ الْهَاءَ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ لِلتَّرْخِيمِ عَادَةَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحُدُودِ، وَقَذْفُ الْأَصَمِّ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ وَلَوْ قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ رَجُلٍ فَقَالَ الزَّوْجُ: صَدَقْتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَصْرِيحٍ بِالنِّسْبَةِ لَهَا إلَى الزِّنَا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مُرَادَهُ صَدَقْتَ، هِيَ امْرَأَتُهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَكُونُ قَذْفًا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ زَنَيْتُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 بِكَ، فِي الْقِيَاسِ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالزِّنَا مِنْهَا فَإِنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ زِنًا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ، وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّهَا بِأَوَّلِ كَلَامِهَا صَارَتْ مُصَدِّقَةً لَهُ حِينَ قَالَتْ زَنَيْت؛ وَلِأَنَّ كَلَامَهَا مُحْتَمِلٌ: لَعَلَّهَا أَرَادَتْ زَنَيْت بِك قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَسْقُطُ اللِّعَانُ، وَلِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تَكُونُ هِيَ قَاذِفَةً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنِّي، وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ الْأَجْنَبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ أَوْ أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتِ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا أَوْ أَكْثَرُ شَبَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ نِسْبَتُهَا إلَى الزِّنَا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِذَا قَذَفَهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا فَصَدَّقَتْهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّهَا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِيمَا نَسَبَهَا إلَيْهِ مِنْ الزِّنَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً، وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قَذَفَ امْرَأَةَ رَجُلٍ فَقَالَ الرَّجُلُ: صَدَقْت هِيَ كَمَا قُلْت كَانَ قَاذِفًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ التَّصْدِيقِ أَوَّلُ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ هِيَ زَانِيَةٌ كَمَا قُلْت بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مُطْلَقًا صَدَقْت، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةً بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا وَلِأُمِّهَا، وَقَذْفُهُ أُمَّهَا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَقَذْفُهُ إيَّاهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ فَإِذَا رَفَعَتْهُ هِيَ وَأُمُّهَا بُدِئَ بِالْحَدِّ لِمَا فِي الْبِدَايَةِ بِهِ مِنْ إسْقَاطِ اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَيِّتَةً فَلِلْبِنْتِ أَنْ تُخَاصِمَ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهَا بِزِنَا أُمِّهَا فَإِذَا خَاصَمَتْ فِي ذَلِكَ حُدَّ لَهَا، وَدُرِئَ اللِّعَانُ، وَإِنْ قَالَ زَنَيْت مُسْتَكْرَهَةً أَوْ زَنَى بِك صَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ لَا تَكُونُ زَانِيَةً شَرْعًا فَإِنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ مِنْهَا، وَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْإِكْرَاهِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ زِنًا شَرْعًا وَهِيَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ غَيْرِ الزِّنَا لَا تَكُونُ زَانِيَةً، فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهَا وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا سَقَطَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ. (قَالَ): وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدًا ثُمَّ نَفَى الْوَلَدَ بَعْدَ سَنَةٍ لَاعَنَهَا وَلَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ إنَّمَا اسْتَحْسَنَ إذَا نَفَاهُ حِينَ يُولَدُ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِيَ بِاللِّعَانِ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَمْ يَكُنْ وَقَّتَ فِيهِ وَقْتًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: الْوَقْتُ فِيهِ أَيَّامُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ كَحَالَةِ الْوِلَادَةِ. بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ فِيهِ، وَلَا تُصَلِّي وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مِنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ سُكُوتُهُ عَنْ النَّفْيِ دَلِيلُ الْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ يُهَنَّى بِالْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبُولُهُ بِالتَّهْنِئَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَشْتَرِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِ الْوَلَدِ عَادَةً وَبَعْدَ وُجُودِ دَلِيلِ الْقَبُولِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَفْيُهُ إلَّا عَلَى فَوْرِ الْوِلَادَةِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْوِيَ النَّظَرَ لِئَلَّا يَكُونَ مُجَازِفًا فِي النَّفْيِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ»، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْوِيَ النَّظَرَ إلَّا بِمُدَّةٍ فَجَعَلْنَا لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَسْتَعِدُّ لِلْعَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعَقِيقَةُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ نَصْبَ الْمِقْدَارَ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ. (قَالَ): وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حِينَ وَلَدَتْهُ فَحَضَرَ بَعْدَ مُدَّةٍ يُجْعَلُ مِنْ حَقِّهِ فِي حُكْمِ النَّفْيِ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُ الْآنَ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ حَضَرَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ إلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ وَلَوْ حَضَرَ بَعْدَ الْفِصَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ الَّذِي خَلَفَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْفِصَالِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا، وَهَذَا قَبِيحٌ. هَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يَقْبَلْ التَّهْنِئَةَ فَأَمَّا إذَا هُنِّئَ فَسَكَتَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ التَّهْنِئَةِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِنَسَبِهِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا هُنِّئَ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ قَبُولًا بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِدَعْوَةٍ فَأَمَّا نَسَبُ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَسُكُوتُهُ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي النَّفْيِ. (قَالَ): وَإِذَا لَاعَنَ بِوَلَدٍ وَلَزِمَ أُمَّهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالِ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى النَّسَبِ، وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْمِيرَاثِ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ لَكِنْ يُضْرَبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَاذِفًا لَهَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنًا لَهُ فَمَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي، وَوَرِثَ الْأَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْبَاقِي مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَمَاتَتْ عَنْ وَلَدٍ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ، فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ هُنَا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ الْقَائِمِ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ لَا مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ قَالَ الْقَائِلُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ، وَهَذَا، وَمَا لَوْ مَاتَتْ لَا عَنْ وَلَدٍ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوَلَدُ يَتَعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أُمِّهِ كَمَا يَتَعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أَبِيهِ فَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ نَسَبِ أُمِّهِ لِيَصِيرَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، فَيَكُونُ بَقَاؤُهُ كَبَقَائِهَا كَمَا لَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ ذَكَرًا، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَالْمِيرَاثُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمًا. (قَالَ): وَلَوْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ فَقَالَ الزَّوْجُ لَمْ تَلِدْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وِلَادَتَهَا وَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَهَا إلَى الزِّنَا، وَلَوْ شَهِدْت امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ثَبَتَ نِسْبَةٌ مِنْهَا لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَهَا، وَإِنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا مِنِّي، وَلَا مِنْك لَمْ يَكُنْ بِهَذَا قَاذِفًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وِلَادَتَهَا هَذَا الْوَلَدِ بِهَذَا اللَّفْظِ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالرِّدَّةِ، وَلَوْ بَانَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَا لِعَانٌ فَإِذَا بَانَتْ بِالرِّدَّةِ أَوْلَى (قَالَ): وَإِذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مُحْصَنَةً بَعْدَ اللِّعَانِ وَالتَّفْرِيقِ فَإِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مُحْصَنَةً فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً. (قَالَ): وَإِنْ لَاعَنَهَا بِوَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ، أَوْ غَيْرُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهَا فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ فَإِنَّ فِي حِجْرِهَا وَلَدًا لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ، فَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ الْوَلَدَ فَجُلِدَ الْحَدَّ، وَأُلْزِمَ الْوَلَدُ ثُمَّ قَذَفَهَا قَاذِفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ حِينَ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَالَ وُجُودِ السَّبَبِ فِي الْحُدُودِ مُعْتَبَرُ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَ الْقَذْفِ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ. (قَالَ): وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ بِالدَّعْوَى، وَضُرِبَ مَنْ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بَعْدَهُ الْحَدَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَضُرِبَ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، وَمَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضُرِبَ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ. (قَالَ): وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَرَافَعَتْهُ فَأَقَامَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ. (قَالَ): وَإِذَا رَجَعَ الْمُلَاعِنَانِ إلَى حَالٍ لَا يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفْرِيقِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَحَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا وَالْحُرْمَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَكْرَارِ اللِّعَانِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَ صَارَ إلَى حَالٍ لَا يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ أَبَدًا (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الذِّمِّيِّ فَقَذَفَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً حِينَ قَذَفَهَا فَكَانَ اللِّعَانُ مُمْتَنِعًا بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بَعْدَمَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ. (قَالَ): وَلَوْ قَذَفَ الْحُرُّ امْرَأَتَهُ الذِّمِّيَّةَ، أَوْ الْأَمَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، أَوْ أُعْتِقَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلَا لِعَانٌ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَرَيَانِ اللِّعَانِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا عِنْدَ الْقَذْفِ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ، وَإِنْ ارْتَفَعَ الْمَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ الْأَمَةُ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ، فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا بَعْدَ مَا عَتَقَتْ فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَطَلَ اللِّعَانُ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اخْتَارَتْ حَتَّى يُلَاعِنَهَا وَيُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مُحَالٌ بِهَا عَلَى جَانِبِ الزَّوْجِ هُنَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: اللِّعَانُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ، وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَأُمْضِيَ عَلَيْهَا الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ طُعِنَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا لَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا الْجِنَايَةَ فِي أَمَانَتِهِ فَالْفِرَاشُ أَمَانَةُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُدَّعِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِحَقِّ آخَرَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ بِالزِّنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ هُنَا أَظْهَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتُرُ الزِّنَا عَلَى امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهُ وَمَعْنَى الْغَيْظِ الَّذِي قَالَ يَبْطُلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 بِالْأَبِ إذَا شَهِدَ عَلَى ابْنَتِهِ بِالزِّنَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إنَّهُ خَصْمٌ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ خَصْمًا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلْحَدِّ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا فِي الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطَ اللِّعَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْحَدُّ الْوَاجِبُ بِزِنَاهَا يُخَلِّصُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا إذَا قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ إثْبَاتَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ حَقٍّ لَهُ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِأَنْ لَمْ يُعَدَّلُوا لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْأَجَانِبِ لِتَكَامُلِ عَدَدِ الشُّهُودِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ جَاءَ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَلَمْ يُعَدَّلُوا لَاعَنَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ اللِّعَانَ بِقَذْفِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَأَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُحَدَّ، وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ. وَلَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْعُمْيَانِ بِالزِّنَا عَلَيْهَا يُحَدُّ الْعُمْيَانُ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ الْعُمْيَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، فَإِنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَيْسَ لِلْعُمْيَانِ تِلْكَ الْآلَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمْ، وَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ بِقَذْفِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي الزِّنَا شَهَادَةً؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِمْ فِيهِ. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَاهَا عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأُمِّهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَبُ الْمَرْأَةِ، وَابْنٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لَهَا رَجُلٌ، وَامْرَأَتَانِ بِالْقَذْفِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَكِنْ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَمِينٌ فِيهِ مَعْنَى الْحَدِّ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْحُكْمُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْتَقْبِلُهُ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي مَعْنَى الْحَدِّ، وَالْيَمِينُ، وَالْحَدُّ إذَا أَمْضَاهُمَا الْقَاضِي لَا يَسْتَقْبِلُهُمَا قَاضٍ آخَرَ. وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي، وَلَهَا شَأْنٌ»؛ وَلِأَنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ قَوْلُهُ بِاَللَّهِ، وَهَذَا يَمِينٌ وَيَسْتَوِي فِي اللِّعَانِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَلَا مُسَاوَاةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ شَهَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِينًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (لَوْلَا الشَّهَادَاتُ الَّتِي سَبَقَتْ) وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ، وَاحِدَةٍ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَهُنَا كَذَلِكَ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا التَّعْلِيلُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ فِي اللِّعَانِ مَعْنَى الْحَدِّ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهَا: هَذَا مِنْ الزِّنَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى فَإِنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالزِّنَا غَيْرُ قَذْفِهَا بِالزِّنَا، وَالْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا: زَنَى بِك فُلَانٌ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا زَنَى بِك فُلَانٌ لِرَجُلٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا بِالزِّنَا هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ إذَا كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ زِنًا فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِمَا إلَى ذِكْرِهِ وَلَوْ كَانَ قَذْفُهَا بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ حَدَّهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْإِمَامِ حَدَّانِ فَإِنَّ قَذْفَهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَفِي حَقِّهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ، وَمَتَى اجْتَمَعَ حَدَّانِ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرُ يُبْدَأُ بِذَلِكَ. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ بِالْقَذْفِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَكْفُلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْحَدِّ، فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ، وَاحِدَةٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ فِي حَقِّ أُمِّهِمَا فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لَهَا، وَمَتَى بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ فِي بَعْضِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ بَطَلَ فِي كُلِّهَا، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَاهُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى قَذْفِهِ إيَّاهَا، وَأُمُّهُمَا عِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعِ أُمِّهِمَا، فَإِنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ فَيَخْلُصُ الْفِرَاشُ لِأُمِّهِمَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا قَالَ إلَّا أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَا يُضْرَبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْحَدِّ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأُمِّهِمَا. (قَالَ)، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ فَعُدِّلَا، ثُمَّ غَابَا أَوْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِاللِّعَانِ فَإِنَّ الْمَوْتَ، وَالْغَيْبَةَ لَا تَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 عَمِيَا أَوْ ارْتَدَّا أَوْ فَسَقَا، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا خَلَا الرَّجْمَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ، وَذَلِكَ يَفُوتُ. (قَالَ): وَيُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَمَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَقْذُوفِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ فَإِذَا جَاءَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ. (قَالَ): وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ الْقَاذِفُ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهَا، وَبِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ مَرَّةً، وَاحِدَةً فَإِنَّ الْأَقَارِيرَ الْأَرْبَعَةَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا، وَتَمْتَنِعُ الْإِقَامَةُ بِإِنْكَارِهَا بَعْدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ، وَامْرَأَتَانِ بِذَلِكَ دَرَأْتُ اللِّعَانَ أَيْضًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي بَابِ الزِّنَا، فَلَا يَكُونُ لَهُنَّ شَهَادَةً أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ هُنَا دَرْءُ الْحَدِّ لَا إثْبَاتُهُ، وَدَرْءُ الْحَدِّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلَوْ عَفَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْقَذْفِ كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُطَالِبَ بِاللِّعَانِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ عِنْدَنَا. (قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ لِلزَّوْجِ ابْنَاهُ مِنْهَا أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِإِسْقَاطِ اللِّعَانِ عَنْهُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ: أَنَّهُ قَذَفَهَا، وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قَبْلَهُ فِي كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا مُدَّعِيَانِ، وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ شَاهِدَانِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَفَرِّقًا فَبُطْلَانُ شَهَادَتِهِمَا فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لَا يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا فِي الْكَلَامِ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي كَلَامٍ، وَاحِدٍ (قَالَ): وَإِذَا صَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عِنْدَ الْإِمَامِ فَقَالَتْ صَدَقَ، وَلَمْ تَقُلْ زَنَيْت فَأَعَادَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا: صَدَقَ - كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ، وَمَا لَمْ تُفْصِحْ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَلَكِنْ يَبْطُلُ اللِّعَانُ، وَلَا يُحَدُّ مِنْ قَذْفِهَا بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ إحْصَانِهَا. (قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْقَذْفِ فَقَالَ الزَّوْجُ: يَوْمئِذٍ كَانَتْ أَمَةً أَوْ كَافِرَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ اللِّعَانِ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَدَّعِي وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحْلِفَ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ لِيُتَوَصَّلَ إلَى اللِّعَانِ بِنُكُولِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْأَصْلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ فَعَرَفَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَدَّعِي، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ: الْمَرْأَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 وَإِسْلَامِهَا، وَالزَّوْجُ عَلَى كُفْرِهَا، وَرِقِّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ اللِّعَانَ بِبَيِّنَتِهَا، وَالزَّوْجُ يَنْفِي ذَلِكَ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهَا أَوْلَى إلَّا أَنْ يُثْبِتَ شُهُودُ الزَّوْجِ رِدَّتَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهَا، فَحِينَئِذٍ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ أَظْهَرُ. (قَالَ): وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ أَوْ قَدْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ إحْصَانَهَا مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ. وَالزَّوْجُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَوْ عَلِمَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهَا وَإِسْلَامَهَا، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا كَمَا قَالَ، أُجِّلَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا لَاعَنَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ اللِّعَانِ قَدْ ظَهَرَ، وَلَكِنْ يُمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الدَّفْعِ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي، وَلَا يُؤَجِّلُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا. (قَالَ): وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ قَذَفْتهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ مَا أَدْرَكَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَذَفَهَا مَرَّتَيْنِ. (قَالَ): وَإِذَا ادَّعَتْ عَلَى الزَّوْجِ الْقَذْفَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ. وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ، وَأَرَادَ يَمِينَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالزِّنَا، وَلَا يَمِينَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا. (قَالَ): فَإِنْ ادَّعَتْ قَذْفًا مُتَقَادِمًا، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شُهُودًا جَازَ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ كَالْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُعَايَنِ. وَالْفُرْقَةُ بَعْدَ الْقَذْفِ مُسْقِطَةٌ لِلِّعَانِ فَيَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فُرْقَةٍ بِرِدَّتِهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، وَقَدْ نَفَاهُ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَإِذَا نَفَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَثْبَتَ وِلَادَتَهَا يَكُونُ هُوَ بِنَفْيٍ الْوَلَدِ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا فَإِنْ قِيلُ: لَا كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ، وَلَدُهَا مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ قُلْنَا الْوَلَدُ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ، وَاَلَّذِي لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَحَدٍ لَا يَكُونُ مِنْ زِنَا، وَلَا نَسَبَ لِهَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ فَإِذَا نَفَاهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِهَا هَذَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا، ثُمَّ كَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: أَشْهَدُ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِهَا، وَهِيَ تَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 رَمَانِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يَقُولُ الزَّوْجُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ وَلَدِي، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا نَفَى، وَلَدَهَا فَقَطْ. (قَالَ): وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ يَلْزَمُ الْوَلَدُ أُمَّهُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي: فَرَّقْت بَيْنَكُمَا، وَقَطَعْت نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ حَتَّى، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّفْرِيقِ بِاللِّعَانِ نَفْيُ النَّسَبِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ، وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُصَرِّحَ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ لِهَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا آخِرُ شَرْحِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِالْمُؤْثَرَةِ مِنْ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ، أَمْلَاهُ الْمَحْصُورُ عَنْ الِانْطِلَاقِ، الْمُبْتَلَى بِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ، مُصَلِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْبُرَاقِ وَآلِهِ، وَصَحْبِهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالسِّبَاقِ، صَلَاةً تَتَضَاعَفُ وَتَدُومُ إلَى يَوْمِ التَّلَاقِ كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْبَرِيُّ مِنْ النِّفَاقِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 [كِتَابُ الْعِتْقِ.] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ). كِتَابُ الْعَتَاقِ. (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً هُوَ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ يُقَالُ: عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ فَطَارَ عَنْ، وَكْرِهِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إحْدَاثِ الْمَالِكِيَّةِ وَالِاسْتِبْدَادِ لِلْآدَمِيِّ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ، انْتِفَاءُ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالرِّقِّ وَلِهَذَا يَتَعَقَّبُهُ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ كَالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ سَبَبٌ لِإِيجَادِ، وَلَدِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ. وَالْعِتْقُ مُسَبِّبٌ لِإِحْدَاثِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي اخْتَصَّ الْآدَمِيُّ بِهَا فَصَارَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَيْهِ بَيَانَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ»، وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدَ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتِقَ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ وَالتَّحْرِيرُ لُغَةً التَّخْلِيصُ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ - أَيْ خَالِصٌ عَمَّا يَشُوبُهُ - وَأَرْضٌ حُرَّةٌ - أَيْ خَالِصَةٌ - لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، وَلَا عُشْرَ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الرَّقَبَةِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] وَلِهَذَا شُرِعَ التَّحْرِيرُ فِي التَّكْفِيرِ لِأَجْلِ التَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَئِنْ أَوْجَزْت الْخُطْبَةَ فَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، فَكُّ الرَّقَبَةِ وَعِتْقُ النَّسَمَةِ. قَالَ: أَوْ لَيْسَا وَاحِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا». «وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» فَهَذِهِ الْآثَارُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ، وَالْإِرْفَاقِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعَزُّهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَعِبِ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ {، وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]»، وَقَالَ عَمْرٌو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ أَيْ نَافِذٌ لَازِمٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ جَدٌّ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثُ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ» وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَكُونُ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الصِّبْيَانِ لَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَنُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِوُجُودِ التَّكَلُّمِ بِهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ الْقَصْدِ إلَى الْحُكْمِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قُرِنَ بِهَا شَرْطُ الْخِيَارِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] الْأَحْكَامُ، وَالْهُزْءُ اللَّعِبُ فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا لَعِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَخُوك، وَمَوْلَاك فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ شَرٌّ لَهُ، وَخَيْرٌ لَك، وَإِنْ مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ، وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ. فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً، وَهُوَ تَرْغِيبُ الْغَيْرِ فِي شِرَائِهِ، وَالرَّجُلُ تَفَرَّسَ فِيهِ خَيْرًا حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاوَمَ بِهِ فَلِهَذَا اشْتَرَاهُ، وَأَعْتَقَهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَخُوك أَيْ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ شَكَرَك أَيْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى مَا صَنَعْت إلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَزَلْت إلَيْهِ نِعْمَةً فَلِيَشْكُرْهَا، وَشَرٌّ لَك؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْك بَعْضُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا فَيُنْتَقَصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِك فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَشَرٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ مَذْمُومٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ يَكُونُ عَصَبَةً لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ، وَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مَنْ يُؤَخِّرُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَعْنَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 الْحَدِيثِ لَمْ يَتْرُكْ، وَارِثًا، هُوَ عَصَبَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ التَّوْثِيقُ فَلْيَكْتُبْ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ، وَيَتَحَرَّزْ فِيهِ عَنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهِ أَنِّي أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُعْتِقُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ: أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الشَّيْطَانِ نَفَذَ الْعِتْقُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُذْكَرُ هَذَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ ، وَكَذَلِكَ يَكْتُبُ وَلِي وَلَاؤُك، وَوَلَاءُ عِتْقِك مِنْ بَعْدِك؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَيَذْكُرُهُ فِي الْكِتَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا، ثُمَّ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِتْقُ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْعِتْقِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْوَلَاءِ وَيَسْتَوِي إنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، أَوْ الْوَصْفِ، أَوْ النِّدَاءِ، إمَّا بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ هُنَا مُتَعَيَّنٌ، وَهُوَ الْإِنْشَاءُ، وَصِيغَةُ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْعِتْقِ، وَاحِدٌ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ أَنْتَ عَتِيقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهُ بِمَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فِيهِ جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ مِنْهُ لِتَحْقِيقِ وَصْفِهِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْكَذِبَ، وَالْخَبَرَ بِالْبَاطِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الظَّاهِرِ مَوْضُوعٌ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّ مَا، وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى، وَذَلِكَ بِذَكَرِ، وَصْفٍ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَهَذَا، وَوَصْفُهُ إيَّاهُ بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذَا مَوْلَايَ أَوْ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ مَوْلَاتِي؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، وَلَكِنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى ابْنِ الْعَمِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] وَلَكِنَّ نَسَبَ الْعَبْدِ مَعْرُوفٌ فَلَا احْتِمَالَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ نَوْعُ مَجَازٍ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِهَذَا عَتَقَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْوِلَايَةَ فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنْ قَالَ يَا مَوْلَايَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ يُقَالُ: يَا سَيِّدِي، وَيَا مَوْلَايَ وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَيَا مَالِكِي لَا يَعْتِقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ يَا مَوْلَايَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ يَا مَوْلَايَ لَا يَكُونُ إلَّا بِوَلَاءٍ لَهُ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ مُتَعَيَّنٌ لِذَلِكَ فَهَذَا، وَقَوْلُهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي، وَيَا مَالِكِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَخْتَصُّ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ، وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالصَّرِيحِ هُنَا قَوْلُهُ لِمَمْلُوكِهِ، وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ إزَالَةُ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ يَكُونُ مُزِيلًا لِمِلْكِهِ إلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ. وَإِذَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ مُزِيلًا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا إلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ. فَأَمَّا بَيَانُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ: قَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فِي اللَّوْمِ، وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّك وَفَيْت بِمَا أَمَرْتُك بِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي كَاتَبْتُك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك، وَالْمُحْتَمَلُ لَا تَتَعَيَّنُ جِهَةٌ فِيهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك يُحْتَمَلُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَدْ خَرَجْت مِنْ مِلْكِي يُحْتَمَلُ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ، وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ قَالَ لَهُ أَطْلَقْتُك يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّحْرِيرِ يُقَالُ: أَطْلَقْتُهُ مِنْ السِّجْنِ، وَحَرَّرْته إذَا خَلَّى سَبِيلَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِطْلَاقَ مِنْ الرِّقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا رِقَّ لِي عَلَيْك فَأَمَّا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك، وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تَعْتِقْ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعْتِقْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ قَدْ بِنْتِ مِنِّي أَوْ حُرِّمْت عَلَيَّ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُغْرُبِي، أَوْ اسْتَبْرِي، أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اذْهَبِي أَوْ قُومِي أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، فَهُوَ كُلُّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَرِيحَ مَا يَسْرِي كِنَايَةٌ فِيمَا يَسْرِي كَلَفْظِ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ مَعْنَى صَرِيحِ مَا يَسْرِي مَا وُضِعَ لِمَا يَسْرِي بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ كِنَايَةً لِمَا هُوَ وَصْفٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ حُرًّا لِمَعْنَى آخَرَ هُوَ مُسَمًّى لِلَفْظٍ آخَرَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَى طَرِيقٍ صَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ وَلِلشُّجَاعِ أَسَدٌ لِلِاتِّصَالِ مَعْنًى، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْبَلَادَةُ، وَبَيْنَ الْمِلْكَيْنِ اتِّصَالٌ مِنْ حَيْثُ الْمُشَابَهَةِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ مَعْنَى الرِّقِّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النِّكَاحُ رِقٌّ». وَلِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي مَحَلِّهِ، وَبَيْنَ الْإِزَالَتَيْنِ الِاتِّصَالُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 بِالشَّرْطِ، وَهُوَ يُنَبِّئُ عَنْ السِّرَايَةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى، وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِذَا ثَبَّتَتْ الْمُشَابَهَةُ مَعْنًى قُلْنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ لَفْظُ التَّحْرِيرِ كَانَ كِنَايَةً فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كِنَايَةً صَحِيحَةً فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيرِ فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا أَعْتَقَتْ حُرِّمَتْ عَلَى مَوْلَاهَا وَذِكْرُ الْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ الْمُوجِبِ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ اعْتَدِّي بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلِي، وَاشْرَبِي وَنَوَى الْعِتْقَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الِانْطِلَاقِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ حُرَّةٌ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ فَبِالْفُرْقَةِ - يَزُولُ الْمَانِعُ مِنْ الِانْطِلَاقِ. وَالْإِعْتَاقُ إحْدَاثُ قُوَّةِ الِانْطِلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الرَّقِيقِ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ وَبِالْعِتْقِ يَحْدُثُ لَهُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْدَاثِ الْقُوَّةِ، وَبَيْنَ إزَالَةِ الْمَانِعِ كَمَا لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ رَفْعِ الْقَيْدِ عَنْ الْمُقَيَّدِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْمَعْنَى طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَكِنْ لَا فِي كُلِّ وَصْفٍ بَلْ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَّا دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعَارُ الْأَسَدُ لِلْجَبَانِ، وَالْحِمَارُ لِلذَّكِيِّ، وَبَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي أَوْصَافٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيَوَانٌ مَوْجُودٌ، وَلَكِنْ لَمَّا انْعَدَمَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لَمْ تَجُزْ الِاسْتِعَارَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِلْمُشَابِهَةِ مَعْنًى بَلْ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْمُتْعَةَ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي مَحَلِّ الْمُتْعَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فَمَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْهُ فَأَمَّا مَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي طَرَفِ الِاسْتِجْلَابِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ لَفْظُ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ لَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ لَفْظُ الْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا بَاعَ سُكْنَى دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَبَتَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا: الْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْحُرَّ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا يَكُونُ إجَارَةً صَحِيحَةً فَأَمَّا بَيْعُ السُّكْنَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِلتَّمْلِيكِ، وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ. وَلِهَذَا لَوْ أَضَافَ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَقَالَ أَجَّرْتُك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا أَضَافَ لَفْظَ الْبَيْعِ إلَى عَيْنِ الدَّارِ فَهُوَ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَابِلٌ لِلْبَيْعِ فَلَا تُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ الْإِجَارَةِ لِهَذَا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ: إنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ، وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ؛ لِأَنَّ الْمُوجَبَ حُكْمٌ، وَالْحُكْمُ لَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ بِدُونِ السَّبَبِ، وَالسَّبَبُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْحُكْمُ كَالتَّبَعِ، وَالْأَصْلُ يُسْتَعَارُ لِلتَّبَعِ، وَلَا يُسْتَعَارُ التَّبَعُ لِلْأَصْلِ لِافْتِقَارِ التَّبَعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عَنْ التَّبَعِ. وَفِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي، وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَذَلِكَ اللَّفْظُ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ عِنْدَنَا لَا أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً بِطَرِيقِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّ حُرْمَةَ الْأَمَةِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً كَمَا فِي الْمَجُوسِيَّةِ، وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ سُلْطَانِهِ عَنْهُ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ، كَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا: سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ السَّبِيلِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ - الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا مِنْ حَيْثُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حَتَّى إذَا انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَتَقَ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ لِلَّهِ لَمْ يَعْتِقْ، وَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ. فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَعْتِقُ بِهِ إذَا نَوَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنْتَ خَالِصٌ لِلَّهِ بِانْتِفَاءِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا بُنَيَّ، أَوْ لِأَمَتِهِ يَا بُنَيَّةُ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ، وَلُطْفٌ مِنْهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى وَإِكْرَامُهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ يَا بُنَيَّ تَصْغِيرُ الِابْنِ، وَلَوْ قَالَ يَا ابْنٌ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ ابْنٌ لِأَبِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ يَا ابْنِي وَلَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ يَا حُرُّ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى وَتَفْهِيمِهِ لِيَحْضُرَ، وَذَلِكَ بِصُورَةِ اللَّفْظِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَوُقُوعُ الْعِتْقِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبُنُوَّةِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ بِهِ عِنْدَ النِّدَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ اسْمَ عَبْدِهِ حُرًّا، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ نَادَاهُ بِهِ فَقَالَ يَا حُرُّ لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 يَعْتِقْ أَيْضًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمِ مَعْرُوفًا لَهُ يَعْتِقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ يَمْلِكُ إيجَابَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي فَإِنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ لَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فِيهِ، وَهُوَ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ قَالَ هَذَا ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَتَقَ، وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى فِي مَمْلُوكِهِ. فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ مَحَلًّا قَابِلًا لِلنَّسَبِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكَ وَلَدَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا جَلِيبًا، أَوْ مُوَلَّدًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْمَوْلَى شَرْعًا بِوَصْلَةِ الْمِلْكِ وَحَاجَةِ الْمَمْلُوكِ إلَى النَّسَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا أَبِي أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَقَالَ: هَذِهِ أُمِّي، وَمِثْلُهُمَا يَلِدُ مِثْلَهُ عِتْقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ مَعْرُوفَانِ، وَصَدَّقَاهُ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا فَقَدْ اُعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُمَا فِي دَعْوَى الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي دَعْوَى الْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَشْرُفُ بِهِ فَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَحْمُولِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا، وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ شَيْئًا بِدُونِ الْحُجَّةِ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا؛ وَلِأَنَّ مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِمَا، وَهُوَ غَيْبٌ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِمَا، وَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَقَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَاقِلًا عِنْدَ عُلُوقِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْغُلَامِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِيمَا قَالَ شَرْعًا حِينَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّكْذِيبِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا قَالَ هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي، وَكَذَّبَاهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَكْذِيبِهِمَا فِي حُكْمِ النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّسَبِ إذَا كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَيَثْبُتُ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَمْلُوكُ دُونَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُكَذَّبًا فِي حُكْمِ النَّسَبِ شَرْعًا، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: غَلِطْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَهُنَا لَوْ أَكْذَبَ الْمَوْلَى نَفْسَهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ كَانَ الْعِتْقُ ثَابِتًا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي النَّسَبِ شَرْعًا. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ ابْنَتِي غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 الْمَحَلِّ بِصِفَةِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ثُمَّ يَنْتَفِي بِهِ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَلَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارَهُ فِي حُرْمَةِ الْمَحَلِّ هُنَا لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لِلْبُنُوَّةِ مُوجَبًا فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عِتْقُهُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِ الْمَوْلَى فَقَالَ: هَذَا ابْنِي لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَلَامَهُ مُحَالٌ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَبَيَانُ الِاسْتِحَالَةِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي أَيْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي، وَابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَبِهِ فَارَقَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ فَإِنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ هُنَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا أَوْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالشُّبْهَةِ وَقَدْ اشْتَهَرَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ هُنَاكَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُكَذِّبُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَيَلْغُو خَبَرُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ فِي يَدِهِ هَذَا جَدِّي أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي، أَوْ لِأَمَتِهِ هَذَا غُلَامِي، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ لَوْ قَالَ: قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ، وَلَهُ عَلَيَّ الْأَرْشُ فَأَخْرَجَ فُلَانٌ يَدَهُ صَحِيحَةً لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُكَذِّبُهُ هُنَاكَ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَمْلُوكِهِ طَائِعًا فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ: هَذَا ابْنِي وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَهُ مَجَازٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبٌ لِهَذَا فَإِنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ هَذَا السَّبَبُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا، وَتَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ، وَلِلْعَرَبِ لِسَانَانِ: حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحُ بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ. ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ يُجْعَلُ إبْرَاءً مِنْهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ خَلَفًا عَنْهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ، وَهُنَا لَا تَصَوُّرَ لِلْأَصْلِ بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرٌ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي إقَامَةِ كَلَامٍ مَقَامَ كَلَامٍ وَالْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْحِيحِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 الْمَجَازِ تَصَوُّرُ الْحُكْمِ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِحُرَّةٍ: اشْتَرَيْتُك بِكَذَا كَانَ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَالْحُرَّةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِأَصْلِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا صَارَ مَجَازًا لِغَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا مَجَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِهَذَا اللَّفْظِ مُوجِبٌ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَمِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلْمُسَمَّى كَمَا لَوْ بَاعَ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالذُّكُورُ، وَالْإِنَاثُ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إيجَابًا، وَلَا إقْرَارًا فِي الْمَعْدُومِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ هَذَا جَدِّي فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ هُنَا وَقَدْ مَنَعُوهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: لَا مُوجِبَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ، وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَبِدُونِهَا لَا مُوجِبَ لِكَلَامِهِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا، فَأَمَّا لِلْبُنُوَّةِ، وَالْأُبُوَّةِ مُوجَبٌ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَطَعْت يَدَك؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْجُرْحِ بَعْدَ الْبُرْءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ عَلَى أَنْ يُجْعَل كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَغْوًا. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لِلْإِخْوَةِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا، وَهُوَ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأُخُوَّةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ: الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِاتِّحَادُ فِي الْقَبِيلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأُخُوَّةُ فِي النَّسَبِ. وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْبَيَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذَا أَخِي لِأَبِي أَوْ لِأُمِّي نَقُولُ: يَعْتِقُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ قِيلُ: فَالْبُنُوَّةُ وَالْأُبُوَّةُ قَدْ تَكُونُ بِالرَّضَاعَةِ ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْعِتْقَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ الرَّضَاعِ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ. فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ مُشْتَرَكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوَرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ، وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، وَلَا مُوجِبَ لِهَذِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 الْكَلِمَةِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ. فَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ رَأْسُك حُرٌّ يَعْتِقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ إنْ ذَكَرَ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، كَذِكْرِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ فَهُوَ فِي الْعَتَاقِ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْكَذِبَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، أَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ أَوْ مَا أَنْتِ إلَّا حُرَّةٌ، فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ اشْتَمَلَ عَلَى النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، دَلِيلُهُ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْمُشَابَهَةِ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَدَنُك حُرٌّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ. وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ لَوْ نَوَى فَقَالَ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِيجَابِ لَا لِلتَّشْبِيهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَتَخْصِيصُهُ وَقْتًا أَوْ عَمَلًا لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ مَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ الْعِتْقَ، فَهُوَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا أُكَلِّفُك الْيَوْمَ هَذَا الْعَمَلَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ صِفَةً لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ. [بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ] ذِكْر عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ». وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ قَرِيبَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ جَزَاءً لِقَوْلِهِ مَنْ مَلَكَ مَعَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْمَالِكِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: عَتَقَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَعْنَى بَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، أَوْ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ إعْتَاقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ، وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً فَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَلَا تَرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فَقَدْ نَفَى الْبُنُوَّةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْبُنُوَّةُ مُتَقَرِّرَةً انْتَفَتْ الْعُبُودِيَّةُ، وَمُرَادُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءُ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ، وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ صِلَةٌ، وَمُجَازَاةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ. فَأَمَّا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمِلْكِ الْحِلِّ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، وَالْأُمُّ وَالِابْنَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَصَوُّرَ لِلْمَلِكِ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا هَذَا مِلْكُ مَالٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ، فَيَثْبُتُ لَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِهِ - الِاسْتِدَامَةُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا مَلَكَ أَخَاهُ، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَعْتِقُ إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالْعِتْقُ هُنَاكَ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَالْجُزْئِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ زَكَاةِ مَالِهِ فِي صَاحِبِهِ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ، وَيَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلِيلَةُ صَاحِبِهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَا يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاكَحَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ، وَالْبِنْتِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَيْته، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَعْتَقَهُ اللَّهُ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ عِلَّةُ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَيِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 جَعَلَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 23] وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ، مِنْهَا الرَّحِمُ يَقُولُ: قُطِعْت، وَلَمْ تُوصَلْ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا، فَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِذْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ مِنْ الْقَطِيعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَافَرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَمَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ أَكْثَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ: أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وَبَعْدَ هَذَا لَا يَضُرُّ انْتِفَاءُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَا دُونَ الْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ مُسْتَقِيمٌ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ فِي مَعْنَى الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْجَدِّ، وَالنَّافِلَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِالْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِالْجَدِّ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلِهَذَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ. وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْغُصْنِ غُصْنٌ وَالْأَخَوَيْنِ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرٌ، وَمِنْ النَّهْرِ جَدْوَلٌ، وَالْأَخَوَيْنِ بِنَهْرَيْنِ تَشَعَّبَا مِنْ وَادٍ فَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبِ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمَا بِشِعْبٍ، وَاحِدٍ، وَالْأَوَّلُ بِشِعْبَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْجَدِّ مَعَ النَّافِلَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْأَخُ كَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشَّفَقَةُ مَعَ الْقَرَابَةِ، وَشَفَقَةُ الْأَخِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ الْجَدِّ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَبِهِ فَارَقَ بَنِي الْأَعْمَامِ فَالْوَاسِطَاتُ هُنَاكَ قَدْ كَثُرَتْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعِيدَةً بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَلَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ مَعَ الْمِلْكِ عِلَّةٌ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَإِذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ حَقِيقَةً، وَحَقُّ الْآبَاءِ، وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبِيهِ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا. فَأَمَّا حَقُّ الْأَخِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ الزَّمِنَ إذَا كَانَ هُوَ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا فَإِنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ عِلَّةِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْغِنَى بِمِلْكِهِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا وَالْمَمْلُوكُ مُسْلِمًا، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْقَرَابَةِ يَتَحَقَّقُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبِهِمَا تَمَامُ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْوِرَاثَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] مَعْنَاهُ: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالِاسْتِحْقَاقُ هُنَاكَ بِالْوِلَادِ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا يَنْعَدِمُ الْوِلَادُ، فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّجُلُ مَعَ آخَرَ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَسَعَى الْعَبْدُ لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَلِهَذَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَى قَرِيبُ الْعَبْدِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّرِيكِ مَعَهُ رِضًا مِنْهُ بِاَلَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعِتْقُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ وُجُوبَ مِثْلِ هَذَا الضَّمَانِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ، وَفِي إثْبَاتِ الرِّضَا هُنَا نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ قَبُولَ شَرِيكِهِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِعِتْقِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَهُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَيْضًا لِمَا سَاعَدَهُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّبَبِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ إلَّا أَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي الْحَقِّ الْقَرِيبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ لَا تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْقَرِيبُ مُعْتِقًا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 وَلَكِنْ بِمُعَاوَنَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ لَمَّا عَاوَنَهُ عَلَى السَّبَبِ، وَفِي هَذَا يَتَّضِحُ الْكَلَامُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّرَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ قَرِيبِهِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إيجَابَ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي يُحَالُ بِهِ عَلَى إيجَابِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْمَهْرُ، وَهُوَ الْبَائِعُ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كِلَاهُمَا أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ: قَبُولُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ صَحِيحٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ قَرِيبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ، أَوْ مُعَاوَنَةً عَلَى السَّبَبِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبْته الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ سَوْطًا فَإِنَّ الْحَالِفَ يَضْمَنُ لِلضَّارِبِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَوْضُوعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ قَالَ أَيْضًا إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الضَّرْبِ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْعِتْقِ عَنْ نَصِيبِهِ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ، وَذَلِكَ تَمَّ بِالْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ رِضًا كَانَ مِنْ الضَّارِبِ فَأَمَّا الضَّرْبُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ، وَالرِّضَا بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالسَّبَبِ حِينَ شَارَكَهُ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِرَارِ، فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّرْطِ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ. وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ دَفْعًا لِقَصْدِ الزَّوْجِ الْإِضْرَارَ بِهَا، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا بِالشَّرْطِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا مِنْ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَعَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ فَأَكَلَهُ الْمُخَاطَبُ فَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ: أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ عَالِمًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نَصِيبَهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ، وَقَبُولُهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ شَرِيكَهُ مُعْتِقٌ، وَبِدُونِ تَمَامِ الْقَبُولِ لَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي التَّضْمِينِ بِالْإِذْنِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ عِنْدَهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قَوْلِهِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ سَبَبُهُ الْإِفْسَادُ، وَالْإِتْلَافُ فَسَقَطَ بِالْإِذْنِ كَضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا، وَرِثَ مَعَ قَرِيبِهِ غَيْرَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ وَرِثَهَا مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَوْلِدَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ هُنَاكَ وَلَوْ مَلَكَ مَحْرَمًا لَهُ بِرَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، وَالْعِتْقُ صِلَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ، وَالرَّضَاعُ إنَّمَا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْعِتْقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ كَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ؛ وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ يَرْتَفِعُ بِالْمِلْكِ، وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ أَبِيهِ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَخَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ، وَهَذَا الْوَلَدُ يَصِيرُ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلِابْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْلِدَ أَبُوهُ، وَلَا يَصِيرُ الْأَبُ مُتَمَلِّكًا لَهَا عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلِابْنِ حِينَ عَلِقَتْ مِنْ الْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانه، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابٌ لِوُجُوهٍ مِنْ الْعِتْقِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذُكِرَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَا مَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 لَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُلُثَهُ، وَاسْتَسْعَاهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ: أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ يَكُونُ وَصِيَّةً وَأَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ يُسْتَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ يُسْتَدَامُ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَسْأَلَةٍ تَجْزِيءِ الْعِتْقِ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَرَدَّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ» وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْنَا فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَقِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَزِّئُهُمْ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَيُعْتِقُ اثْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ، وَيَرُدُّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ مِنْ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَهُ تَعَجَّلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَتَأَخَّرَ اتِّصَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ، بَلْ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ فِي مَعْنَى التَّاوِي فَإِنَّ الْمَالَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَكُونُ تَاوِيًا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ جَمِيعُ الْعِتْقِ فِي شَخْصَيْنِ وَتَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَكَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، وَقَالَ: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] «، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ»، وَالْقَاضِي إذَا قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِمَارِ تَعْلِيقُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقَدَحِ وَفِي هَذَا تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ فَأَمَّا أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ بِإِيجَابِ الْمُعْتِقِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَبِيدَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْبَعْضِ، وَحِرْمَانُ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِرِقَابِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِكُلِّ رَجُلٍ بِرَقَبَةٍ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ مِنْ الْمُوصِي وَالرَّدَّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ الْبَعْضِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، ثُمَّ فِيمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ضَرَرُ الْإِبْطَالِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ وَفِيمَا قُلْنَا ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ مَتَى قُوبِلَ بِضَرَرِ الْإِبْطَالِ كَانَ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ أَهْوَنَ، وَإِذَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ نَوْعِ ضَرَرٍ رَجَّحْنَا أَهْوَنَ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَعْظَمِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَعْجِيلُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْوَرَثَةِ السِّعَايَةُ. وَعَلَى قَوْلِهِمَا، وَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 تَعَجَّلَ الْعِتْقَ لِلْعَبِيدِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنَّا بَلْ بِإِعْتَاقِ الْمُوصِي، وَلُزُومِ تَصَرُّفِهِ شَرْعًا، وَلَوْ أَبْطَلْنَا حَقَّ بَعْضِ الْعَبِيدِ كَانَ ذَلِكَ بِإِيجَابٍ مِنَّا، ثُمَّ كَلَامُهُ يُشْكَلُ بِمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ فَأَوْصَى بِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نَصِيبُهُ، وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْمَجْهُولِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفِعْلُ فِيهِ بِغَيْرِ الْقُرْعَةِ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ. فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَيِّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ فَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ يُقْرِعُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ سَفَرًا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسَمِ فِي حَالِ سَفَرِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عَرَفَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ كَيْ لَا يُنْسَبَ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَحَقَّ بِضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْأَحْبَارِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُعْجِزَةً لَهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَقْلَامَهُمْ كَانَتْ مِنْ الْحَدِيدِ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ طَفَا قَلَمُهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَصَبِ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ اسْتَقْبَلَ قَلَمُهُ جَرْيَ الْمَاءِ، وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بَقِيَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا مِنْ أَنْدَرِ مَا يَكُونُ. وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ أَوْصَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتِقَهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتِقَ أَيَّ الِاثْنَيْنِ شَاءَ مِنْهُمْ فَأَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ أَيْ قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّا إذَا أَعْتَقْنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثِهِ فَقَدْ أَعْتَقْنَا قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَأَقْرَعَ أَيْ دَقَّقَ النَّظَرَ يُقَالُ: فُلَانٌ قَرِيعُ دَهْرِهِ أَيْ دَقِيقُ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقَّقَ الْحِسَابَ بِأَنْ جَعَلَ قَدْرَ الرَّقَبَتَيْنِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا، هَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ، وَعَنْ إسْمَاعِيل بْنِ خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَالَ عَامِرٌ: قَالَ مَسْرُوقٌ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ لَا أَرُدُّهُ، وَقَالَ شُرَيْحٌ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ فَقُلْت لِعَامِرٍ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ: فُتْيَا مَسْرُوقٍ، وَقَضَاءُ شُرَيْحٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَفِي هَذَا إشَارَةٌ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّهُ يَجِبُ إتْمَامُهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَا هُوَ فَتْوَى مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ»، وَالْمُرَادُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: تَسْعَى الْأَمَةُ فِي ثَمَنِهَا يَعْنِي فِي قِيمَتِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِقِيَامِ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالرِّقُّ بَعْدَ سُقُوطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ وَصِيَّةٌ، وَعِتْقٌ بُدِئَ بِالْعِتْقِ، وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ أَصْلٌ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بُجَيْسُ، وَقَالَ: لَوْ كُنْت عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْتَاقَ النَّصْرَانِيِّ قُرْبَةٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: مُرْ كَاتِبَك لِيَكْتُبَ لَنَا كَذَا قَالَ: إنَّ كَاتِبِي لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَالَ أَجُنُبٌ هُوَ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ {: لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا فَمَاتَ الْعَبْدُ فَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، وَإِنْ مَاتَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ فَحِصَّةُ مَالِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ أَمَةً فَجَرَتْ فَوَلَدَتْ مِنْ الزِّنَا فَأَعْتَقَهَا ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَعْتَقَ وَلَدَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أَوْصَى بِوَلَدِ الزِّنَا خَيْرًا، وَأَوْصَى بِهِمْ أَنْ يُعْتَقُوا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِآبَائِهِمْ كَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا لَا يُجْزِئُ وَلَدُ الزِّنَا فِي النَّسَمَةِ الْوَاجِبَةِ، وَكَأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا فِي ذَلِكَ «قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، وَأَكْثَرُ الْمَمَالِيكُ لَا تُعْرَفُ آبَاؤُهُمْ عَادَةً، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ: شَرُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 الثَّلَاثَةِ نَسَبًا فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ أَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي، وَلَدِ زِنًا بِعَيْنِهِ نَشَأَ مَرِيدًا فَكَانَ أَخْبَثَ مِنْ أَبَوَيْهِ. وَإِذْ قَالَ الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك يَعْنِي فِي الْعِتْقِ فَإِنْ أَعْتَقَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا عَتَقَتْ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ نَفْسَهَا فَهِيَ أَمَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا، وَأَهَمُّ أُمُورِهَا الْعِتْقُ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الْعِتْقِ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا لَمْ يَنْوِ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَمْرَهَا فِي يَدِ غَيْرِهَا، وَإِنْ قَالَ لَهَا أَعْتِقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، وَالْمَوْلَى مَا خَيَّرَهَا، إنَّمَا مَلَّكَهَا أَمْرَهَا، وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَصْلُحُ لِلتَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي، أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي مِنْك لَا تَعْتِقُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتِقِي نَفْسَك إقَامَةٌ مِنْهُ إيَّاهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي إيقَاعِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِاللَّفْظِ الَّذِي كَانَ الْمَوْلَى مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شِئْت فَإِنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا قَدْ شِئْت كَانَتْ حُرَّةً، وَلَوْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا، فَهِيَ أَمَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ إلَى مَشِيئَتِهَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهَا فَتَقْتَصِرُ عَلَى الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ أَرَدْت، أَوْ هَوَيْت، أَوْ أَحْبَبْت، أَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي، أَوْ تَبْغَضِينَنِي فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا كَمَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا إلَّا بِإِخْبَارِهَا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ. وَإِنْ قَالَتْ فِي ذَلِكَ لَسْت أُحِبُّك ثُمَّ قَالَتْ: أَنَا أُحِبُّك لَمْ تُصَدَّقْ لِلتَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا قَوْلٌ مَقْبُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ الْعِتْقَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إذَا حِضْت كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْحَيْضِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ صَادِقَةً فِيهِ إلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَمَتَى قَالَتْ حِضْت عَتَقَتْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ، وَفُلَانَةُ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت نَفْسِي لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا عِتْقَ نَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: أَنْتُمَا حُرَّتَانِ إنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ شِئْتُمَا عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا وَلَا بِمَشِيئَتِهِمَا عِتْقَ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ الْعِتْقَ فَهِيَ حُرَّةٌ فَشَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 الِانْفِرَادِ فَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ الَّتِي شَاءَتْ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَرْطُ عِتْقِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ، وَلَمْ يَقُلْ شَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت إحْدَاهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَوَى إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا عَتَقَتْ هِيَ، وَإِنْ نَوَى إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا فَيُعْتِقَهَا، وَيُمْسِكَ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ، وَلَهُ عَبِيدٌ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ وَمُدَبَّرُونَ، وَمُكَاتَبُونَ عَتَقُوا جَمِيعًا إلَّا الْمُكَاتَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ التَّعْمِيمَ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ لِي، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَبِيدِ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا، وَيَدًا حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِغْلَالَهُمْ وَاسْتِكْسَابَهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُكَاتَبِينَ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا لَا يَدًا بَلْ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إكْسَابَهُ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، فَإِنْ نَوَاهُمْ فَنَقُولُ: الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ مَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ نَوَيْت السُّودَ مِنْهُمْ دُونَ الْبِيضِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَلَا عُمُومَ لِمَا لَا لَفْظَ لَهُ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ وَهُنَا نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ حَقِيقَةٌ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَإِنَّ الْأُنْثَى يُقَالُ لَهَا: مَمْلُوكَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ التَّذْكِيرِ عَادَةً فَإِذَا نَوَى الذَّكَرَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَعْمَلِ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قِيلُ: لَوْ قَالَ: نَوَيْت النِّسَاءَ دُونَ الرِّجَالِ كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا. (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَفِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ يَقُولُ: إذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يَدِنْ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِي الْقَضَاءِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِمَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَالْيَدِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْمَوْلَى بِرِقِّهِ، وَالتَّدْبِيرُ يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ نُقْصَانٍ فِي رَقِّهِ، وَلِهَذَا قِيلُ: الْمُدَبَّرُ مِنْ، وَجْهٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 كَالْحُرِّ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ الْبَيْعَ فَكَانَ هُوَ كَالْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْمَوْلَى بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ، وَالرِّقِّ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ هُنَا فِي الْإِضَافَةِ بِمَعْنًى خَفِيٍّ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْكَلَامِ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَفِي الْمُكَاتَبِ النُّقْصَانُ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ لَهُ فِي مَكَاسِبِهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْشَاءُ الْعِتْقَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ نَوَى مَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ، وَجْهٍ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي ضَمِيرِهِ خَاصَّةً فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ أَنْتُمْ أَحْرَارٌ إلَّا فُلَانًا كَانَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِعَبْدَيْنِ أَنْتُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا، وَهُوَ اسْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ سَالِمٌ عَبْدًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا، وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ بَقِيَ سِوَى الْمُسْتَثْنَى عَبْدٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: سَالِمٌ حُرٌّ، وَمَرْزُوقٌ حُرٌّ إلَّا سَالِمًا عَتَقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بِمَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الْخَبَرِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا سَالِمًا اسْتِثْنَاءً لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ أَحَدُ كَلَامَيْهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لِلتَّحْصِيلِ، وَالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَبْقَى سِوَى الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْكَلَامُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَالِمٌ، وَمَرْزُوقٌ حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ هُنَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ هُنَا مَعْنًى حِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْخَبَرِ حَتَّى عَطَفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَكَرَ مَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلْمُسْتَثْنَى فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهُ قَالَ هُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَبَدًا وَلَيْسَ لِلْأَبَدِ نِهَايَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى مَوْتِهِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَمْلِكُ الْمَمْلُوكَ مِنْ شِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ أَوْ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ عِنْدَ، وُجُودِهِ كَالْمُنْجِزِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْحُكْمِ صَحِيحٌ فَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَرِي مَمْلُوكًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ شِرَاءً بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَالْعَاقِدُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ هُوَ، وَلَا غَيْرُهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ نَوَى الْحُكْمَ، وَهُوَ الْمِلْكَ بِمَا ذَكَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 مِنْ سَبَبِهِ، وَهُوَ الشِّرَاءُ قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ مَنَعَ نَفْسَهُ عَمَّا يُبَاشِرُهُ عَادَةً، فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الشِّرَاءُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا، وَلَيْسَ لَهُ مَمْلُوكٌ ثُمَّ اشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا، وَأَنَا أَمْلِكُ كَذَا يَعْنِي فِي الْحَالِ فَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَالِ لَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ، وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُنَجَّزُ فَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الْمُنَجِّزُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ فَكَذَا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ فَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَإِنْ كَانَ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمئِذٍ حُرٌّ عَتَقُوا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْكَلَامِ، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ، وَقْتَ الْيَمِينِ، وَمَا اسْتَحْدَثَ الْمِلْكُ فِيهِ مَوْصُوفٌ؛ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَيَعْتِقُونَ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أُكَلِّمُهُ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا حُرٌّ فَيَصِيرُ عِنْدَ وُجُودِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ الْكَلَامِ دُونَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الْكَلَامِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْكَلَامِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إيجَابُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا، وَهُوَ يُرِيدُ مَا يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَمْلِكُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنْ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَ لَهُ فِي الْحَالِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ مَا نَوَى مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ الْمَنْوِيُّ خِلَافَ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ، وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا، وَالْمَمْلُوكُ اسْمٌ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِلَى شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ، فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُسَمَّى عَبْدًا، وَلَا مَمْلُوكًا فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الْمَلْفُوظِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ جُزْءٌ مِنْ الْعَبْدِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ كَالْكُلِّ، وَلِهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 صَحَّ إضَافَةُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَبِدُونِ نِيَّتِهِ إنَّمَا لَمْ نُدْخِلْهُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ اسْمٌ لِلْعَبْدِ الْكَامِلِ عُرْفًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الْعُرْفِ حِينَ نَوَى بِخِلَافِهِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكِ مُضَافٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ يَدْخُلُ بِنِيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ تَاجِرٌ لَهُ مَمَالِيكٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَتَقَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً، وَيَدًا فَيَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ فَأَمَّا مَمَالِيكُهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ نَوَاهُمْ، أَوْ لَمْ يَنْوِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ نَوَاهُمْ عَتَقُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِمْ لَا يَعْتِقُونَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُمْ بِنِيتَةِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ وَالثَّانِي - فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَكُونُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارَ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلْمِلْكِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَعِنْدَهُمَا: الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى مَجَازٌ، وَإِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَنْفِيَ عَنْ الْمَوْلَى فَيُقَالُ: هَذِهِ لَيْسَتْ بِدَارِهِ بَلْ هِيَ دَارُ عَبْدِهِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْإِضَافَةِ لَا لِلْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ عَارِيَّةً، أَوْ إجَارَةً كَانَ حَانِثًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ، وَإِنْ نَوَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَعْتِقُ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مَالِكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِضَافَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَعْتِقُ بِإِيجَابِهِ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ بِنِيَّةٍ فَيَعْمَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمُضَافَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مُضَافٌ إلَيْهِ مِلْكًا، وَلَكِنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَبْدِهِ كَسْبًا، أَوْ نَوَى تَخْصِيصَ لَفْظِهِ الْعَامِّ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الَّذِي أَجَابَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ الْجَوَابَ فَيَصِيرُ مُخَاطِبًا لِلْمُجِيبِ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَ سَالِمٌ بِنِيَّتِهِ لِكَوْنِ الْمَنْوِيِّ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْعِتْقِ عَنْ مَرْزُوقٍ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ تَنَاوَلَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: يَا سَالِمٌ أَنْتَ حُرٌّ، وَأَشَارَ إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ سَالِمًا، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِهِ عَتَقَ عَبْدُهُ سَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ النِّدَاءَ فَتَنَاوَلَ الْمُنَادَى خَاصَّةً، وَلَا مُعْتَبَرَ لِظَنِّهِ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ، أَوْ أَمَتَهُ ثُمَّ جَحَدَ الْعِتْقَ حَتَّى أَصَابَ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْغَلَّةِ مَا أَصَابَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ أَوَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْخِدْمَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَتَقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ إلَّا بِعَقْدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ حُرًّا فَاسْتَخْدَمَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَأْثَمِ عِنْدَنَا فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ عَيْنُهُ. ؛ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً حِينَ اسْتَخْدَمَهَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَا أَصَابَ مِنْ غَلَّتِهَا، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَجَّرَتْ نَفْسَهَا، أَوْ اكْتَسَبَتْ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً مَالِكَةً لِكَسْبِهَا فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَجَّرَهَا فَمَا أَخَذَ مِنْ الْغَلَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بَعْدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَعَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ لَهَا - مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ فِي حَدٍّ، أَوْ مَهْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ يَوْمئِذٍ فِي الظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْمَهْرُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا يَخْتَصُّ إبَاحَةُ تَنَاوُلِهِ بِالْمِلْكِ، وَلَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إلَّا مُؤَبَّدًا وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ جَنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى إلْزَامِ الْجَانِي حُكْمَ أَرْشِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْجَانِي، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَمَا وَجَبَ مِنْ أَرْشِ الْمَمَالِيكِ يَكُونُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَوَّلَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ إلَيْهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مُقِرًّا بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَزِمَ الْجَانِي حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ بِهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً عَلَى الْحُرِّ. وَلَمْ يَجُزْ عِتْقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَدَرَ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُمَا، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِقَوْلٍ مُلْزِمٍ لَا أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمَا غَيْرُ مُلْزِمٍ شَرْعًا، وَإِنْ أَعْتَقَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ وَإِنْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدِي، وَأَنَا صَبِيٌّ، وَأَنَا نَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إقْرَارَهُ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي إعْتَاقَهُ فَكَانَ إنْكَارًا لِلْعِتْقِ مَعْنًى، وَإِقْرَارًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْته قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي تَصَوُّرَ الْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي الْإِعْتَاقَ شَرْعًا، وَإِذَا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى وَإِذَا قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت، أَوْ كُلَّمَا شِئْت، أَوْ مَا شِئْت فَقَالَ الْعَبْدُ إلَّا أَشَاءُ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ شَاءَ الْعِتْقَ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِوُجُودِ مَشِيئَتِهِ فِي عُمْرِهِ، وَلَمْ يَفُتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ لَا أَشَاءُ كَسُكُوتِهِ، أَوْ قِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ لَا أَشَاءُ رَدًّا لِأَصْلِ كَلَامِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْعَبْدِ، وَإِذَا بَقِيَ التَّعْلِيقُ نَزَلَ الْعِتْقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِمَشِيئَتِهِ. (قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهَا، وَبِالْبَيْعِ زَالَ مِلْكُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمِلْكُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ، وُجُودُ الْمَحْلُوفِ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ، وَالْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ الْعِتْقُ وَمَحَلِّيَّةُ الْعَبْدِ لِلْعِتْقِ بِصِفَةِ الرِّقِّ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ بَقَاءُ الْيَمِينِ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ وَبَقَاءُ الْمَحْلُوفِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ حَيْثُ شِئْت فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ بَطَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَيْثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فِي أَيِّ مَكَان شِئْت فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ تَعْمِيمًا فِي الْوَقْتِ فَيَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ، إنْ شِئْت وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت عَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِهِمَا مَا لَمْ يَشَأْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُهُ، وَقَوْلُهُ كَيْفَ شِئْت فِي الْعِتْقِ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ بَعْدَ نُزُولِ الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لِأَحَدٍ فِي تَغْيِيرِهِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ، وَلِهَذَا لَوْ شَاءَ الْعَبْدُ عَتَقَا عَلَى مَالٍ، أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ شَاءَ التَّدْبِيرَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ كُلُّهُ، وَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ، وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ مَا لَا يَتِمُّ إيجَابُهُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ لَهُ فَإِنْ قَالَ لِي عَبْدٌ آخَرُ، وَإِيَّاهُ عَنَيْت لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الَّذِي ظَهَرَ مِلْكُهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ هُوَ مُتَّهَمًا فِي صَرْفِهِ عَنْهُ إلَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك عَبْدًا بِكَذَا، وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ فِي مَجْهُولٍ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ هَذَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ، وَالْمُنَازَعَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَكَانَ بَيَانُهُمَا فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ قَالَ: أَبِيعُك عَبْدِي بِكَذَا، وَلَمْ يُسَمِّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ إلَى مَكَانِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ إلَّا وَاحِدٌ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. (قَالَ): وَلَيْسَ هَذَا كَالْعِتْقِ وَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مُرَادُهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ هُوَ الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ إيجَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدًا، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ يَعْتِقُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ تَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ، وَالْبَيَانُ مِنْ الْمَوْلَى مَقْبُولٌ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ: أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ، وَاحِدٌ عَتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِإِيجَابِهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُ كَمَا حُرٌّ عَتَقَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْإِيجَابُ فِي الْمَجْهُولِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قُتِلَ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِإِيقَاعِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالنَّازِلِ عِنْدَ الْبَيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءٍ لِمَحَلٍّ؛ لِيَبْقَى خِيَارُهُ فِي الْبَيَانِ، وَعَدَمُ التَّعَيُّنِ فِي الْبَاقِي مِنْهُمَا كَانَ لِمُزَاحَمَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْآخَرِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْهَالِكِ، وَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْقَائِمِ قَالَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ: وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ حِينَ أَشْرَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهَلَاكِ تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا قَبَضَ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ حَيٌّ لَا مَيِّتٌ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِ تَعَيَّنَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ لَيْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْقَائِمِ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا أَوْ وَهَبَهُ؛ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ فِيهِ سَبَبَ التَّمْلِيكِ، وَالْمُعْتَقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ فَمِنْ ضَرُورَةِ اكْتِسَاب سَبَبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ نَفْيُ الْعِتْقِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ هَذَا، انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْ هَذَا الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا صَحَّ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَاهُ فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ لَا يُدَبَّرُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَالْعِتْقُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَنَجُّزِهِ، بُطْلَانُ التَّعَلُّقِ بِالْمَوْتِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ انْتِفَاءُ تَنَجُّزِ الْعِتْقِ فِيهِ قَبْلَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ، وَلَدٍ لَهُ فَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بِهَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ عَنْهَا، وَإِذَا انْتَفَى عَنْ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ فِي الْأُخْرَى لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَوْ، وَطِئَ إحْدَاهُمَا، وَلَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ فِي الْبَيَانِ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَطْءَ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ فِي إحْدَاهُمَا دَلِيلُ تَعْيِينِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْهَا فَتَعَيَّنَ فِي الْأُخْرَى، وَقَاسَا بِمَا بَيَّنَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ وَبِمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِلِّ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ، وَدِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْحَرَامِ، وَوَطْؤُهُمَا جَمِيعًا لَيْسَ بِحَلَالٍ لَهُ حَتَّى لَا يُفْتَى لَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ فِي إحْدَاهُمَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ، وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَصِيرُ فَاسِخًا لِلْبَيْعِ، وَهُنَاكَ الْجَارِيَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَوَطْؤُهَا حَلَالٌ لَهُ ثُمَّ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ انْتِفَاءُ سَبَبِ الْمُزِيلِ عَنْهَا فَهُنَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَيْعَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهَا لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ لِفِعْلِهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ، وَطْؤُهُمَا جَمِيعًا مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ فِي الْوَطْءِ إلَّا اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ فِي الْمِلْكِ الْوَطْءُ نَظِيرُ الِاسْتِخْدَامِ، وَبَيَانُ أَنَّ وَطْأَهُمَا مَمْلُوكٌ لَهُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ؛ فَلِأَنَّهُمَا لَوْ وَطِئَهُمَا بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَقْرَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ الْأَصْلُ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ؛ فَلِأَنَّهُمَا كَانَتَا مَمْلُوكَتَيْنِ لَهُ قَبْلَ إيجَابِ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْعِتْقَ فِي نَكِرَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا مَعْرِفَةٌ، وَالْمُنْكَرُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِ فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْمُعَيَّنِ قَبْلَ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ، وَلَا يَقُولُ هُوَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ فِي الذِّمَّةِ وَلَكِنْ يَقُولُ هُوَ فِي الْمُنْكَرِ كَمَا أَوْجَبَهُ، وَعَدَمُ التَّعَيُّنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْ هَذَا مَعْنًى حَتَّى لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْإِيجَابِ هُنَا أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمُنْكَرِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إلَى الْمَحَلِّ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْبَيْعِ الْمُعْتَبَرِ انْتِفَاءُ مَعْنَى الْمُنَازَعَةِ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ، فَإِذَا بَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكَةً لَهُ عَيْنًا بَقِيَ، وَطْءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لَهُ وَلَكِنْ لَا يُفْتَى بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْعِتْقُ فِيهِمَا، وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا لَا يُفْتَى بِحِلِّ، وَطْئِهِمَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُمَا مَمْلُوكًا لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا مِلْكُ الْحِلِّ. وَالطَّلَاقُ مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْوَصْفَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بَاقِيًا لَهُ فِي الْمَوْطُوءَةِ انْتِفَاءُ التَّطْلِيقَاتِ عَنْهَا فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، وَأَمَّا الْعِتْقُ يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّ انْتِفَاءِ الْعِتْقِ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَلَا يُقَالُ: هُنَا لَا سَبَبَ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إلَّا مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ انْتِفَاءُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ الثَّابِتِ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْجُمْلَةُ، لَا الْأَحْوَالُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقُطِعَتْ يَدُ الْوَلَدِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَحُكِمَ بِحُرْمَةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ، وَبَقِيَ الْأَرْشُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي، وَلَا سَبَبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمِلْكِهِ الْأَرْشَ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ نُظِرَ إلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْأَحْوَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ هُنَا مِلْكُ الْعَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ حِلُّ التَّنَاوُلِ يَثْبُتُ فِي الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ نُظِرَ إلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ حِلِّ الْوَطْءِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ فِي مَحَلِّ، وَاحِدٍ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً فِي الْجُمْلَةِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ دَلِيلُ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ مُنَافَاةَ الْحُرِّيَّةِ عَنْهُ ضَرُورَةً: تَوْضِيحُهُ أَنَّ وَطْءَ إحْدَاهُمَا دَلِيلُ الْحُرْمَةِ فِي الْأُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 بِالْحُرْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ بِأَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي الْأُخْرَى يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ فَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَنْزِلُ بِهِ الْعِتْقُ فَكَذَلِكَ الْبَيَانُ لَا يَحْصُلُ بِمَا يَكُونُ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ فِي إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ كَالْإِيجَابِ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ فَاسِخًا لِلْبَيْعِ بِالْوَطْءِ لَكَانَ إذَا جَازَ الْبَيْعُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ، وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ بَيَانًا وَهُنَا لَوْ عَيَّنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَوْطُوءَةِ لَا يَتَبَيَّنُ انْعِدَامُ مِلْكِهِ فِيهَا سَابِقًا عَلَى الْوَطْءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ الْأَرْشُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى، وَإِنْ عَيَّنَ الْعِتْقَ فِيهَا مَعَ أَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُنَا لَا يَحْصُلُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى إحْدَاهُمَا بِالْبَيَانِ فَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إحْدَاهُمَا إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْبَيْعَ فِيهَا بَعْدَ الْوَطْءِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا، أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ كَالْوَطْءِ، وَلَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ قَالَ: إيَّاهَا كُنْت عَنَيْت بِذَلِكَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ كَانَ مُصَدَّقًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَازِلًا حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَوْقِعْ، فَكَانَ هَذَا إيقَاعًا لِذَلِكَ الْعِتْقِ فِي الْعَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ نَازِلٌ فِي إحْدَاهُمَا حَتَّى يُقَالَ لَهُ: بَيِّنْ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ فِي الْإِيقَاعِ، وَالْبَيَانِ يَتَقَارَبُ، وَالْبَيَانُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ. وَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِهِ الْإِيقَاعَ ابْتِدَاءً صَحَّ إيقَاعُهُ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ مَحَلًّا قَابِلًا لِتَصَرُّفِهِ، وَبِتَقَرُّرِ إيقَاعِهِ تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى كَمَا لَوْ دَبَّرَ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ إحْدَاهُمَا فَالْمَوْلَى عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُوءَ عَيْنُهَا مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ كَالْأُخْرَى وَسَوَاءٌ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى الْأُخْرَى فَالْوَاجِبُ عَلَى الْفَاقِئِ أَرْشُ عَيْنِ الْأَمَةِ لِلْمَوْلَى، أَمَّا إذَا أَوْقَعَ عَلَى الْأُخْرَى فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَ عَلَى الْمَفْقُوءِ عَيْنُهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً حِينَ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَصَارَ أَرْشُ عَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ مُسْتَحَقًّا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ إيقَاعُ الْعِتْقِ عَلَيْهَا يَعْمَلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا دُونَ مَا فَاتَ، وَنَظِيرُهُ أَرْشُ الْيَدِ فِي، وَلَدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ أَنَّهُ يَبْقَى سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ قَالَ: كُنْت عَنَيْتهَا حِينَ أَوْقَعْت الْعِتْقَ، أَوْ قَالَ: كُنْت أَوْقَعْت الْعِتْقَ عَلَيْهَا قَبْلَ فَقْءِ الْعَيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَرْشُ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ بِهَذَا الْكَلَامِ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَرْشُ عَيْنِ حُرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْأَرْشُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأَرْشِ ظَاهِرًا، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ لَهَا، فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قَتَلَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأُولَى لِلْمَوْلَى، وَدِيَةُ الْأُخْرَى لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ بِقَتْلِ إحْدَاهُمَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتَلَهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَمَةٍ، وَدِيَةُ حُرَّةٍ إنْ اسْتَوَتْ الْقِيمَتَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَنِصْفُ دِيَةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَتَلَ حُرَّةً، وَأَمَةً. وَقَتْلُ الْحُرِّ يُوجِبُ الدِّيَةَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَنِصْفُ دِيَتِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فَاتَ حِينَ قُتِلَتَا، وَعِنْدَ فَوْتِ الْبَيَانِ يَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا: (فَإِنْ قِيلُ): إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ نَازِلًا فِي إحْدَاهُمَا كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ حُرَّةٍ؟ (قُلْنَا): هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي الذِّمَّةِ، وَنَحْنُ قُلْنَا: إنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي الْمُنَكَّرِ وَذَلِكَ الْمُنَكَّرُ فِيهِمَا لَا يَعْدُوهُمَا فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْقَاتِلِ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَاتِلٌ لِلْمُنَكَّرِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْعِتْقُ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ : لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَأَعْتَقَهُمَا الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ عَيَّنَ الْوَارِثُ، وَصِيَّتَهُ فِي إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَلِهِ ثُمَّ نِصْفُ مَا وَجَبَ فِي بَدَلِ نَفْسِ كُلِّ، وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَكُونُ لِمَوْلَاهَا، وَالنِّصْفُ لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَبَدَلُ نَفْسِهَا لِوَارِثِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَبَدَلُ نَفْسِهَا لِمَوْلَاهَا فَيَتَوَزَّعُ نِصْفَيْنِ لِلْمُسَاوَاةِ وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ إحْدَاهُمَا فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ قِيمَةُ الْأُولَى لِمَوْلَاهَا، وَعَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي دِيَتُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ تَعَيَّنَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةُ أَمَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ إنَّمَا قَتَلَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا، وَالْعِتْقُ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكَةً عَيْنًا، وَإِنَّمَا نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمُنَكَّرِ، وَلَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ لِذَلِكَ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَوْ لِوَرَثَتِهَا، وَقِيلُ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ النِّصْفُ لِلْمَوْلَى مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالنِّصْفُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي إحْدَاهُمَا فَلَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَ نَفْسِهَا فَيَتَوَزَّعُ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ لِهَذَا، وَلَوْ قَطَعَ أَيْدِيَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ جَمِيعًا مَعًا، أَوْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى، أَوْ فَعَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 ذَلِكَ رَجُلَانِ كَانَ الْوَاجِبُ أَرْشَ يَدَيْ مَمْلُوكَتَيْنِ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ يَبْقَى خِيَارُ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْعِتْقِ، وَمَا بَقِيَ خِيَارُ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ الْعِتْقُ نَازِلًا فِي عَيْنِ إحْدَاهُمَا فَإِنَّمَا أُبِينَتْ يَدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ بِخِلَافِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى خِيَارُ الْمَوْلَى فِي الْبَيَانِ بَعْدَمَا قُتِلَتْ أَوْ إحْدَاهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ خِيَارُهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْحُكْمِ بِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا. وَإِذَا كَانَ قَاتِلُهُمَا وَاحِدًا نَتَيَقَّنُ، بِأَنَّهُ قَتَلَ حُرَّةً، وَأَمَةً، وَإِنْ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ، عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَسَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فَاتَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى مُرَادِهِ؛ وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخِيَارِ لَا يُورَثُ، وَلَمَّا فَاتَ الْبَيَانُ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَبَعْدَمَا عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجِبُ إخْرَاجُ النِّصْفِ الْبَاقِي إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى عِنْدَ الْمَوْتِ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ كُلُّهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ ثُلُثُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ كَانَ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ فِي حَقِّهِ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْكِيرَ فِي جَانِبِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ قَدْ بَانَتْ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَا تَنْكِيرَ فِي جَانِبِهِ، وَلَوْ جَنَتْ إحْدَاهُمَا جِنَايَةً قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى ثُمَّ اخْتَارَ إيقَاعَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ عَلَى الْأُخْرَى فَإِيقَاعُهُ عَلَى هَذِهِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ دَفْعُهَا فَيَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُ كَانَ أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْعِتْقِ السَّابِقِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى، وَكَانَ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الَّتِي جَنَتْ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ دَفْعُهَا حِينَ عَتَقَ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا بَلْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى مَاتَ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَانِيَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْجِنَايَةِ. وَلَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْبَيْعِ فِي إحْدَاهُمَا نَافِذٌ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِهِ خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا، وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهَا فَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنِ الْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى، وَلَكِنْ قِيلُ: لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ فَفِي قَوْلِهِ بِعْت هَذَا بِكَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْبَيْعِ تُعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِذَا بَاعَ إحْدَاهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْبَيَانِ مِمَّنْ لَهُ خِيَارٌ كَصَرِيحِ الْبَيَانِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَا خَيَّرَ بَرِيرَةَ قَالَ لَهَا: إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك» وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عَتَقَتْ الْبَاقِيَةُ وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ أَعْتَقَهَا عَتَقَتْ مِنْ قِبَلِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُزَاحِمَةً فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ يُوجِبُ لَهَا مِلْكَ الْيَدِ فِي نَفْسِهَا، وَمَكَاسِبِهَا بِعِوَضٍ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعِتْقِ فَكَانَ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا مِنْ ضَرُورَةِ تَصَرُّفِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي مَالِيَّتِهَا بِتَصَرُّفِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، وَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا لَمْ تَعْتِقْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِخْدَامِهِ إيَّاهَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَسْتَخْدِمُ الْحُرَّةَ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مَوْلَاةً لَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا بِرِضَاهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلُ الْبَيَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا احْتَلَمْت فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلٍ مُلْزِمٍ وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ قَوْلٌ مُلْزِمٍ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ، وَإِذَا قَالَ الصَّحِيحُ: عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْتُوهٌ عَتَقَ عَبْدُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ، وَالْمَعْتُوهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَتَهُ لَا يُعْدِمُ مِلْكَهُ، وَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ مِنْهُ إنَّمَا يُهْدَرُ قَوْلُهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ بِذَلِكَ التَّعْلِيقِ السَّابِقِ، وَقَدْ صَحَّ مِنْهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ صَارَ ذِمِّيًّا، أَوْ أَسْلَمَ، وَعَبْدُهُ مَعَهُ فِي يَدِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ وَعِتْقُهُ، وَتَدْبِيرُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عِتْقُهُ نَافِذٌ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ فَيَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ مِلْكُ الْحَرْبِيِّ أَضْعَفُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِ فَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْعِتْقِ مَعَ تَأَكُّدِهِ بِالْإِحْرَازِ، فَمِلْكُ الْحَرْبِيِّ أَوْلَى، وَهُمَا يَقُولَانِ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِرْقَاقِ. وَالدَّارُ دَارُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 الْقَهْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا. وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إحْدَاثُ قُوَّةٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ حَرْبِيًّا لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى إحْدَاثُ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: أَهْلُ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ لَا خِلَافَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِمْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْمُعْتِقُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتَقِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي إثْبَاتِ الْوَلَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُعْتَقِ، وَلَهُ أَنْ يُوَالِي مَنْ شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْمَنُ لِغِلْمَانٍ فِي يَدِهِ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي أَوْ لِجِوَارٍ فِي يَده هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَبْطُلُ. وَهُمَا يَقُولَانِ: ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَثَرُ مِلْكٍ مُحْتَرَمٍ، وَلَا حُرْمَةَ لِمِلْكِ الْكَافِرِ ثُمَّ لَوْ أَحْرَزَ الْمَمْلُوكُ نَفْسَهُ بِدَارِنَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالْأَصْلُ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سِتَّةً مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ خَرَجُوا حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَاصِرًا لَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ مَوَالِيهِمْ يَطْلُبُونَ وَلَاءَهُمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ» إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوَالِي اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا زَالَ مِلْكُهُمْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَهُنَا مِنْ الْمَوْلَى قَدْ وُجِدَ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْعِتْقِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُنْكِرَةً؛ لِأَنَّ هَذَا فَرْجٌ مَعْنَاهُ أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ فَرْجِهَا عَلَى الْمَوْلَى، وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، وَفِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الشَّهَادَةُ تُقْبَلُ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ (قُلْنَا) خَبَرُ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ إذَا لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَى الْتِزَامِ الْمُنْكِرِ، وَهُنَا الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا إزَالَةَ الْمِلْكِ، وَالْمَالِيَّةِ عَنْ الْمَوْلَى، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ رَجُلَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 فَإِنْ قِيلَ) فَإِذَا كَانَتْ هِيَ أُخْتُهُ فِي الرَّضَاعَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهَا مَعَ جُحُودِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْفَرْجِ هُنَا (قُلْنَا) بَلْ فِيهِ مَعْنَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَوْلَى بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا عَنْ، وَطْئِهَا لِلْمَحْرَمِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا، وَإِنْ بَدَّلَ بَعْضَهَا يَكُونُ لَهُ فَيَزُولُ ذَلِكَ الْمِلْكُ بِإِعْتَاقِهَا، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ فِي إنْكَارِ الْعِتْقِ مُتَّهَمَةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الْحَظِّ فِي الصُّحْبَةِ مَعَ مَوْلَاهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ لِإِنْكَارِ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ فِي إنْكَارِهِ فَجَعَلْنَاهَا كَالْمُدَّعِيَةِ لِهَذَا. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مَعَ جُحُودِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَتُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَعَدَمُ الدَّعْوَى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ كَعِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الزَّوْجَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْعِتْقُ، وَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَإِنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَإِنَّمَا يَحْلِفُ بِمَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ وَإِنَّ إيجَابَهُ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، وَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الْحَقِّ لِلْمَجْهُولِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُرْمَةُ اسْتِرْقَاقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ الشَّرْعِ قَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِمْ مَنْ اسْتَرَقَّ الْحُرَّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ تَكْمِيلِ الْحُدُودِ، وَوُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَالْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَاتِ ثُمَّ الِاسْتِرْقَاقُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ عُقُوبَةٌ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لَهُمْ حِينَ أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ فَجَازَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ فَإِزَالَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ يَكُونُ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَلِهَذَا كَانَتْ قُرْبَةً تَتَأَدَّى بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّنَاقُضَ فِي الدَّعْوَى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ثُمَّ ادَّعَى حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَالتَّنَاقُضُ يُعْدِمُ الدَّعْوَى، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ يَفْشُوَا الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَقَدْ جَعَلَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ مِنْ أَمَارَاتِ الْكَذِبِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ إلَّا حَيْثُ خُصَّ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إزَالَةَ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى تَحْرِيمِ الْفَرْجِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إلَّا بِالدَّعْوَى كَالْبَيْعِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إحْدَاثُ قُوَّةِ الْمِلْكِيَّةِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَيَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ ذُلِّ الْمِلْكِيَّةِ، وَالرِّقِّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَأَمَّا مَا، وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْعِتْقِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَشْهُودُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ فِي السَّبَبِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 فِيهِ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ الْعَبْدُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجْحَدُ الْحُرِّيَّةَ لِيَسْتَكْسِبَهُ غَيْرُهُ فَيُنْفِقَ عَلَيْهِ بَعْضَ كَسْبِهِ، وَيَجْعَلَ الْبَاقِي لِنَفْسِهِ فَصَحَّ إنْكَارُهُ، وَصَارَ بِهِ مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قُلْنَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُتَّهَمًا بِأَنْ كَانَ لَزِمَهُ حَدُّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ فِي طَرَفٍ فَأَنْكَرَ الْعِتْقَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: التَّنَاقُضُ إنَّمَا يُعْدِمُ الدَّعْوَى فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَنْقُضُ آخِرَهُ، وَآخِرُهُ يَنْقُضُ أَوَّلَهُ فَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّنَاقُضِ كَمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ فَإِنَّ الْمُلَاعِنَ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ. وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَنَاقُضِهِ فِي الدَّعْوَى، وَلَا نَاقِضَ لِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فِي دَارِنَا فَالتَّنَاقُضُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُعْدِمًا لِلدَّعْوَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّهُ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِنَسَبِ، وَالِدِ أَمَتِهِ لِغَيْرِهِ وَلَوْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ لِلتَّنَاقُضِ، وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُسْلَكَ فِيهِ طَرِيقَةُ الشَّبَهَيْنِ فَنَقُولُ: مِنْ حَيْثُ السَّبَبُ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ الزَّوْجَةِ، وَعَتَاقِ الْأَمَةِ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالسَّبَبِ هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا بَيَّنَّا، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الشَّبَهَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشِبْهِهِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ قُلْنَا: الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ بِدُونِ الدَّعْوَى وَلِشِبْهِهِ بِحَقِّ الشَّرْعِ قُلْنَا: التَّنَاقُضُ فِي الدَّعْوَى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا، وَلَا يَعْرِفُونَ سَالِمًا، وَلَهُ عَبْدٌ وَاحِدٌ وَاسْمُهُ سَالِمٌ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَعَيَّنٌ لِمَا أَوْجَبَهُ فَبَانَ لَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ الْعَبْدَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْعِتْقِ إذَا سَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَعْرِفُ الْعَبْدَ، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ فِي الْبَيْعِ أَبْطَلْته لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ الْعَبْدَ فَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ لِأَجْلِهِ بِالشَّهَادَةِ. وَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ، أَوْ اللَّفْظِ، أَوْ اللُّغَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَوْلٌ يُعَادُ، وَيُكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ وَلَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي اللُّغَةِ، وَصِيغَةِ الْإِقْرَارِ، وَالْإِنْشَاءِ فِي الْعِتْقِ، وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْهَدُ بِعِتْقٍ يَتَنَجَّزُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ، وَالْآخَرُ بِعِتْقٍ يَتَنَجَّزُ عِنْدَ كَلَامِ فُلَانٍ، وَالْكَلَامُ غَيْرُ الدُّخُولِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ الْمَوْلَى إنَّمَا قُلْت لَهُ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَيُّهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 فَعَلَ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطِ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَبِكَلَامِ فُلَانٍ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِجُعْلٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْهَدُ بِعِتْقٍ مُتَعَلِّقٍ بِقَبُولِ الْبَدَلِ، وَالْآخَرُ بِعِتْقٍ بَاتٍّ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِجُعْلٍ يُخَالِفُ الْعِتْقَ بِغَيْرِ جُعْلٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْجُعْلِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ ادَّعَى الْعَبْدُ أَقَلَّ الْمَالَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْهَدُ بِعِتْقٍ مُتَعَلِّقٍ بِقَبُولِ أَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِقَبُولِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُدَّعِي، وَالْعَبْدُ مُنْكِرٌ فَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ عَتَقَ الْعَبْدُ لِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِحُرِّيَّتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ ادَّعَى الْعِتْقَ بِأَلْفٍ، وَخَمْسِمِائَةٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا لَا تَقُومُ عَلَى الْعِتْقِ فَالْعَبْدُ قَدْ عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمَالِ، وَمَنْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِأَلْفٍ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ إنْ دَخَلَ الدَّارَ، وَآخَرَانِ إنْ كَلَّمَ فُلَانًا فَأَيُّهُمَا وُجِدَ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيقَيْنِ ثَبَتَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. وَإِنْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِأَلْفٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى بِأَلْفَيْنِ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنَّهُ قَدْ أَدَّاهَا، وَأَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ لَهُ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْعَبْدُ حُرٌّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْأَلْفِ الَّذِي أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ تَنَجُّزَ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَهُوَ حَقُّهُ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ عَايَنَّا وُجُودَ الْكَلَامَيْنِ مِنْ الْمَوْلَى تَخَيَّرَ الْعَبْدُ، وَعَتَقَ بِأَدَاءِ أَيِّ الْمَالَيْنِ اخْتَارَهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفٍ فَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفَيْنِ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَنَجَّزُ بِالْقَبُولِ هُنَا فَكَانَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي بَيِّنَةِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. (قَالَ) فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا مِنْ مَالِ الْمَوْلَى كَانَ حُرًّا، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَالْعِتْقُ هُنَا حَصَلَ بِالْقَبُولِ لَا بِأَدَاءِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْفَصْلُ فِيمَا إذَا عَلَّقَهُ بِالْأَدَاءِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مَسْرُوقًا أَوْ مَغْصُوبًا مِنْ الْمَوْلَى ثُمَّ رُدَّ هَذَا الْمَالُ عَلَى الْمَوْلَى كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَقَعُ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. وَإِنْ شَهِدَ لِلْعَبْدِ ابْنَاهُ أَوْ أَبُوهُ، وَأُمُّهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ، وَهَؤُلَاءِ مُتَهَاوِنُونَ فِي حَقِّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ، وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْعِتْقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْطُلْ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِ الْحُكْمِ، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَكِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّتَهُ عَلَى الْمَوْلَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِعِتْقِهِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا لِلتُّهْمَةِ ثُمَّ مَلَكَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ، وَذَلِكَ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَإِذَا، وَجَدَ الْمِلْكَ عَمِلَ، وَكَانَ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ بَعْدَمَا مَلَكَهُ فَيَكُونُ حُرًّا مِنْ مَالِهِ. وَإِذَا شَهِدَا بِعِتْقِهِ فَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ فَضَمِنَا قِيمَتَهُ ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةُ غَيْرِهِمْ، بِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا هُوَ لَغْوٌ فَإِنَّهُ عَتَقَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْمُعْتِقُ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَرْجِعُوا بِمَا ضَمِنُوا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا ضَمِنُوا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُدَّعِيًا لِذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُتْلِفُوا عَلَى الْمَوْلَى شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّهُ أَخَذَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى، وَلَا مُدَّعَى لِمَا يَشْهَدُ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعِتْقَ، وَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَمَّا شَهِدُوا بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي، وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا عِتْقًا فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ لِلتَّنَاقُضِ فَلِانْعِدَامِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى رَدُّ شَيْءٍ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ قَيَّدَ رَجُلٌ عَبْدَهُ ثُمَّ قَالَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةُ أَرْطَالِ حَدِيدٍ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ حَلَّ قَيْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ خَمْسَةَ أَرْطَالِ حَدِيدٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ ثُمَّ حَلَّ الْقَيْدَ فَإِذَا فِيهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشُّهُودُ يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَضْمَنُونَ لَهُ شَيْئًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ بِالْعِتْقِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفُذُ ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا فِي الْبَاطِنِ، وَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 الْعَبْدَ إنَّمَا عَتَقَ بِحَلِّ الْقَيْدِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فَلَا يَضْمَنَانِ عِنْدَهُمَا شَيْئًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا عَتَقَ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِنُفُوذِ قَضَائِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَضَاءُ الْقَاضِي كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا فَلِهَذَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُمَا شَهِدَ بِالْبَاطِلِ (فَإِنْ قِيلَ) هُمَا إنَّمَا شَهِدَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِوَزْنِ الْقَيْدِ أَنَّهُ دُونَ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْعِتْقِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ شَهِدَا بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ، وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا حَتَّى يَمْلِكَهُ الْوَكِيلُ بِالتَّنْجِيزِ، وَشُهُودُ الْعِتْقِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ. (فَإِنْ قِيلَ) قَضَاءُ الْقَاضِي إنَّمَا يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِبُطْلَانِهِ فَأَمَّا بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِبُطْلَانِهِ لَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ، أَوْ كُفَّارٌ، وَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ الْحُجَّةِ حِينَ كَانَ، وَزْنُ الْقَيْدِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ، وَبَعْدَمَا عَلِمَ كَذِبَهُمْ بِيَقِينٍ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا فَإِنَّمَا عَتَقَ بِحَلِّ الْقَيْدِ. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ نُفُوذُ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ صِدْقِ الشُّهُودِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ عَلَى مَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ كُفْرُهُمْ، وَرِقُّهُمْ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَى الْقَاضِي هُنَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ، وَزْنِ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّهُ وَإِذَا حَلَّهُ عَتَقَ الْعَبْدُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَقِيقَةُ مَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْعِتْقِ بِشَهَادَتِهِمَا ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا. (فَإِنْ قِيلَ) لَا كَذَلِكَ فَقَدْ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ وَزْنِ الْقَيْدِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّهُ، بِأَنْ يَضَعَ رِجْلَيْ الْعَبْدِ مَعَ الْقَيْدِ فِي طَسْتٍ، وَيَصُبَّ فِيهِ الْمَاءَ حَتَّى يَعْلُوَا الْقَيْدُ، ثُمَّ يَجْعَلَ عَلَى مَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةً، ثُمَّ يَرْفَعَ الْقَيْدَ إلَى سَاقِهِ، وَيَضَعَ حَدِيدًا فِي الطَّسْتِ إلَى أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ إلَى تِلْكَ الْعَلَامَةِ ثُمَّ يَزِنَ ذَلِكَ الْحَدِيدَ فَيَعْرِفُ بِهِ وَزْنَ الْقَيْدِ. (قُلْنَا) هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْمُهَنْدِسِينَ، وَلَا تَنْبَنِي أَحْكَامُ الشَّرْعِ عَلَى مِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ وَزْنُ الْقَيْدِ بِهَذَا الطَّرِيق إذَا اسْتَوَى الْحَدِيدَانِ فِي الثِّقَلِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا، وَلَهُ عَبْدَانِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَالِمٌ، وَالْمَوْلَى يَجْحَدُ ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، وَالدَّعْوَى لَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ الشُّهُودُ مِنْ تَعْيِينِهِ فَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِهَذَا وَإِنْ قَالَا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا فَنَسِينَا اسْمَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْغَفْلَةِ، وَبِأَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا، وَحُكِيَ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ وَيُقَالُ لِلْمَوْلَى: بَيِّنْ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ كَلَامَ الْمَوْلَى فَثَبَتَ بِشَهَادَتِهَا أَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَ عَبْدًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 لَهُ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِتْقِ فَكَانَ الْمَوْلَى مُجْبَرًا عَلَى الْبَيَانِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَالْمَوْلَى يَجْحَدُ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْعِتْقِ عِنْدَهُ، وَالدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ عِتْقٌ فِي مُنْكَرٍ لَا فِي مُعَيَّنٍ فَلَا تُقْبَلُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ: تُقْبَلُ، وَيُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعِتْقِ عِنْدَهُمَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوًى فَيَثْبُتُ بِهِ أَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِهَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ أَمَتَيْهِ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْفَصْلِ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَشْتَرِطُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ (قُلْنَا) نَعَمْ إنَّمَا لَا يَشْتَرِطُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ أَمَةٍ بِعَيْنِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْفَرْجِ فَأَمَّا الْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَا يَكُونُ الْوَطْءُ بَيَانًا، فَلِهَذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ، وَالْأَمَةِ سَوَاءً هُنَا، إلَّا إنْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْقَبُولِ، وَهُوَ الدَّعْوَى كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَالِاسْتِحْسَانُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ يَشِيعُ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ حَتَّى يَعْتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَتَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالثَّانِي - أَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَوُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمُوصَى فَتَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مِنْ وَصِيِّهِ، أَوْ وَارِثِهِ هُنَا فَلِهَذَا قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعْتَقَ عَبْدَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِنْكَارُ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ ادَّعَى الْعَبْدُ، أَوْ الْأَمَةُ الْعِتْقَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لَمْ يُحَلْ بَيْنَ الْمَوْلَى، وَبَيْنَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَبَيْنَ الْكَذِبِ، وَالْمُخْبِرُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ فِيهِ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَظِّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفِي قَوْلِهِ لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَالْيَدُ حَقٌّ لِلْمَوْلَى فِي مَمْلُوكِهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ الْيَدِ بِالْحَيْلُولَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ، فَأَمَّا فِي الْأَمَةِ الْحَيْلُولَةُ تَثْبُتُ إذَا ادَّعَتْ أَنَّ شَاهِدَهَا الْآخَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 حَاضِرٌ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْفَرْجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الشَّاهِدَيْنِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْلَاهُ فَاسِقًا، أَوْ مَخُوفًا عَلَيْهِ عَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْجَامِعِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُجَّةَ هُنَا تَمَّتْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ حَتَّى لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَتُهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ فَثَبَتَ بِهِ الْحَيْلُولَةُ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا. فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ لَهُ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ، وَهَبَهُ لِنَفْسِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، فَإِنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الْعِتْقِ، وَضْعًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَالْإِعْتَاقُ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ أَوْ إبْطَالُ الْمِلْكِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ شَهِدَا جَمِيعًا أَنَّهُ، وَهَبَ عَبْدَهُ لِنَفْسِهِ فَالْعَبْدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ، وَمَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ يُعْتَقُ كَالْمُرَاغِمِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ إعْتَاقًا كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ، وَهَبَهُ مِنْ قَرِيبِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِعِتْقِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الْعِتْقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ. وَإِذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ فَعَلْت كَذَا، وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ وَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَقَالَ الْعَبْدُ: فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يُقِرَّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَتَنَجَّزُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْعَبْدُ بِدَعْوَاهُ وُجُودَ الشَّرْطِ يَدَّعِي تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ كُنْت تُحِبُّنِي، أَوْ تَبْغَضُنِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ (فَإِنْ قِيلَ) فَالصَّوْمُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ هُوَ الْكَفُّ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يَقِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ بِوُقُوفِهِمْ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ الْأَكْلُ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَعْتِقْ أَيَّ عَبِيدِي شِئْت فَأَعْتَقَهُمْ جَمِيعًا لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُمْ إلَّا وَاحِدٌ وَالْأَمْرُ فِي بَيَانِهِ إلَى الْمَوْلَى بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَيُّكُمْ شَاءَ الْعِتْقَ فَهُوَ حُرٌّ فَشَاءُوا جَمِيعًا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ فِيهَا مَعْنَى الْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَإِذَا أَضَافَ الْمَشِيئَةَ بِهَا إلَى عَامٍّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْخُصُوصِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَإِذَا أَضَافَ الْمَشِيئَةَ بِهَا إلَى عَامٍّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْعُمُومِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إنَّمَا تُوجِبُ التَّعْمِيمَ فِيمَنْ دَخَلَ تَحْتَهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ وَالدَّاخِلُ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - الْعَبِيدُ دُونَ الْمُخَاطَبِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِذَا قَالَ شِئْت فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْعِتْقِ إلَّا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِالْمَشِيئَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ شَاءَ إنَّمَا أَضَافَ الْمَشِيئَةَ إلَى الْعَبِيدِ، وَكَلِمَةُ أَيٍّ اقْتَضَتْ التَّعْمِيمَ فِي الْعَبِيدِ فَصَارَتْ مَشِيئَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَرْطًا لِعِتْقِهِ فَلِهَذَا عَتَقُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 ثُمَّ الْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى دُونَ الْمُخَاطَبِ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ قَدْ انْتَهَى بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ مِنْهُ بَقِيَ الْعِتْقُ، وَاقِعًا عَلَى أَحَدِهِمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِإِيقَاعِ الْمَوْلَى فَالْبَيَانُ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: أَيُّكُمْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ فَدَخَلُوا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ دُخُولُ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ كَلِمَةِ أَيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيُّكُمْ بَشَّرَنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا: لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْبِشَارَةِ مِمَّنْ دَخَلَ تَحْتَ كَلِمَةِ أَيٍّ فَيَتَعَمَّمُ بِتَعْمِيمِهِ، وَإِنْ قَالَ: عَيَّنْت وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ بَشَّرَهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْبَشِيرُ، وَلَا يَعْتِقُ غَيْرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: أَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ صِدْقٍ غَابَ عَنْ الْمُخْبَرِ عِلْمُهُ. وَإِذَا قَالَ لِآخَرَ: أَخْبِرْ عَبْدِي بِعِتْقِهِ، أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ، أَوْ بَشِّرْهُ بِعِتْقِهِ، فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ تَكَلَّمَ بِهِ الْمَوْلَى أُخْبِرَ الْعَبْدُ بِهِ، أَوْ لَمْ يُخْبَرْ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقُ الْإِخْبَارِ بِعِتْقٍ مَوْجُودٍ مِنْهُ لَا مَعْدُومٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ حَتَّى يَكُونَ خَبَرُهُ حَقًّا فَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهِ، وَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقْهُ فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَهُ فَيُعْتَقُ سَوَاءٌ أَخْبَرَهُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ. وَإِذَا قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ: يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ، وَهُوَ يَعْنِي إنْسَانًا بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرَ سَالِمٍ فَإِنَّ سَالِمًا حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعَ النِّدَاءَ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُنَادَى. وَإِذَا قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ عَبِيدِي فَهُوَ حُرٌّ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ حَيٌّ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ الْحَيُّ، قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِالْمَيِّتِ وَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ أَوَّلًا، وَآخِرًا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْإِدْخَالَ عَلَيْهِ لِلْإِكْرَامِ، أَوْ الْإِهَانَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ فَتَصِيرُ الْحَيَاةُ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ حَيٍّ مِنْ عَبِيدِي؛ وَلِأَنَّهُ جَازَاهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي بِهِ الْحَيَّ دُونَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِيهِ وَالثَّابِتُ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. وَإِنْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدَانِ حَيَّانِ جَمِيعًا مَعًا لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَتَّصِفْ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْفَرْدِيَّةِ عِنْدَ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ أُدْخِلَ بَعْدَهُمَا عَبْدٌ آخَرُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ اتَّصَفَ بِالْفَرْدِيَّةِ فَلَمْ يَتَّصِفْ بِالسَّبْقِ فَقَدْ تَقَدَّمَهُ عَبْدَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ عَبْدَيْنِ مَعًا لَمْ يَعْتِقْ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِفْ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْفَرْدِيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ مَلَكَ بَعْدَهُمَا آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِفْ بِالسَّبْقِ. وَلَوْ قَالَ: آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ عَبْدَيْنِ ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مُتَأَخِّرٍ، وَقَدْ اتَّصَفَ بِهِ الثَّالِثُ حِينَ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ حِينَ مَاتَ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتِقُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا كَانَ تَمَلَّكَهُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْآخِرِيَّةِ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ حِينِ تَمَلَّكَهُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَهُمَا، وَقْتَ الْمَوْتِ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلٌ، وَصِفَةُ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالْآخِرِيَّةِ لَا يَجْتَمِعُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بَعْدَهُ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا اتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ لِيَكُونَ آخِرًا، وَالْعَبْدَانِ لَمْ يَتَّصِفْ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْفَرْدِيَّةِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا آخِرًا. وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ مِنْ مَالِي فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إذَا مَلَكْتُك؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ لَا يَصِيرُ مُضِيفًا لِلْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ، وَلَا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مَالِهِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، وَلَوْ قَالَ: إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ، أَوْ إنْ جَامَعْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَاشْتَرَاهَا، وَتَسَرَّاهَا، أَوْ جَامَعَهَا لَمْ تَعْتِقْ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّسَرِّي وَالْجِمَاعُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى إضَافَةِ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ اشْتَرَيْتُك، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجِمَاعُ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ التَّسَرِّي فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّحْصِينِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا كَلَّمْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُلُّ جَارِيَةٍ أَتَسَرَّى بِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ فَاشْتَرَى جَارِيَةً بَعْدَ يَمِينِهِ وَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ، وَلَوْ تَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَقْتَ يَمِينِهِ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي حَقِّهَا يَصِحُّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِيجَابِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كُلُّ جَارِيَةٍ أَمْلِكُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ثُمَّ تَسَرَّى فَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتًا، وَيُحَصِّنَهَا، وَيُجَامِعَهَا، وَطَلَبُ الْوَلَدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا إلَّا بِطَلَبِ الْوَلَدِ مَعَ هَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ الْأَوْلَادَ مِنْ السَّرَارِي، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَهُمَا يَقُولَانِ: لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ التَّسَرِّي إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ التَّسَرُّرِ كَالتَّقَضِّي وَذَلِكَ الْإِخْفَاءُ، أَوْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ السِّرَارِ، وَمَعْنَاهُ التَّحْصِينُ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ، أَوْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ السِّرِّ الَّذِي هُوَ الْجِمَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنْبِئُ عَنْ طَلَبِ الْوَلَدِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، وَكَيْفَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَبِحُصُولِ الْوَلَدِ تَخْرُجُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 مِنْ أَنْ تَكُونَ سُرِّيَّةً؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَطَلَبُهُ يُخْرِجُهُ حَقِيقَةً مِنْ أَنْ تَكُونَ سُرِّيَّةً فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا لِتَحْقِيقِ التَّسَرِّي، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةً فَعَلِقَتْ مِنْهُ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ التَّسَرِّي بِالتَّحْصِينِ، وَالْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَيُّكُمَا أَكَلَ هَذَا الرَّغِيفَ فَهُوَ حُرٌّ فَأَكَلَاهُ جَمِيعًا لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَكْلُ الْوَاحِدِ لِجَمِيعِ الرَّغِيفِ، وَلَمْ يُوجَدْ إنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَكَلَهُ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكَلَهُ لَمْ يُعْتِقْهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَوَّلَ آكِلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَهُ كَوْنُ الثَّانِي آكِلًا لَهُ إذْ الرَّغِيفُ الْوَاحِدُ لَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ فِعْلُ الْأَكْلِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْبَيِّنَةُ لِإِبْطَالِ الْقَضَاءِ لَا تُقْبَلُ: تَوْضِيحَهُ إنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالْقَضَاءِ فَتَعَيَّنَ مَعْنَى الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَإِنْ جَاءَتْ الْبَيِّنَتَانِ مَعًا لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ الْكَاذِبِ، وَإِذَا كَانَتْ تُهْمَةُ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ سَرِيعًا يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ جَاءَتْ الْبَيِّنَتَانِ مَعًا لَمْ تُقْبَلْ، وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَهَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَإِنْ رَدَّهُمَا ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ فَأَعَادَ الْآخَرُ بَيِّنَتَهُ تِلْكَ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا لِلتُّهْمَةِ فَلَا يَقْبَلُهَا أَبَدًا كَمَا لَوْ رَدَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ ثُمَّ تَابَ فَأَعَادَهَا وَإِنْ لَمْ تَمُتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ حَتَّى جَاءَ أَحَدُ الْغُلَامَيْنِ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى، وَجَاءَ الْآخَرُ بِشُهُودِهِ الَّذِينَ كَانُوا شَهِدُوا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَكُونَا شَهِدَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرِيقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَدْ بَطَلَتْ لِلتَّعَارُضِ، وَصَارَتْ كَالْمَعْدُومَةِ وَإِنَّمَا بَقِيَ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي لِأَحَدِهِمَا، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ فَثَبَتَ الْمَشْهُودُ بِهِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ بِمَا أَعَادَهُ الْعَبْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تِلْكَ شَهَادَةٌ حُكِمَ بِبُطْلَانِهَا، وَكَمَا لَا تَقُومُ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ لَا تَثْبُتُ بِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ عِتْقِ الْعَبْدِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ] أَكْثَرُ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 يَتَجَزَّأُ حَتَّى إنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَمَا لَمْ يُؤَدِّ السِّعَايَةَ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتِقُ كُلُّهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدِهِ فَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ»، وَفِي الْكِتَابِ ذُكِرَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِتْقَ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ، وَالرِّقُّ لَا يَتَجَزَّأُ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً فَإِسْقَاطُهُ بِالْعِتْقِ لَا يَتَجَزَّأُ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الْحِلَّ لَمَّا كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً فَإِبْطَالُهُ بِالطَّلَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ فِعْلَهُ إعْتَاقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْفِعَالِ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ، وَبَعْدَ انْفِعَالِ الْعِتْقِ فِي بَعْضِ الشَّخْصِ لَوْ بَقِيَ الرِّقُّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ كَانَ فِي ذَلِكَ تَجَزِّي الرِّقُّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْعِتْقِ مِنْ الْأَحْكَامِ يُضَادَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ مِنْ تَكْمِيلِ الْحُدُودِ، وَالْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَاتِ، وَالْإِرْثِ، وَالْوِلَايَاتِ وَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ اتِّصَالِ الْجَنِينِ بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِغَرَضِ الْفَصْلِ، ثُمَّ إعْتَاقُ الْأُمِّ يُوجِبُ عِتْقَ الْجَنِينِ لَا مَحَالَةَ فَإِعْتَاقُ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ لَأَنْ يُوجِبَ عِتْقَ النِّصْفِ الْآخَرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَحَقِيقَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مَا عَتَقَ، وَرَقَّ مَا رَقَّ»، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعْتِقُ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ مَا شَاءَ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ سَيَصِيرُ حُرًّا كُلُّهُ بِإِخْرَاجِ الْبَاقِي إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانًا أَنَّهُ لَا يُسْتَدَامُ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَيُجْزِئُ فِي الْمَحَلِّ كَالْبَيْعِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلْمَالِيَّةِ دُونَ الرِّقِّ فَالرِّقُّ اسْمٌ لِضَعْفٍ ثَابِتٍ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مُجَازَاةً وَعُقُوبَةً عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ كَالْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِبَقَاءِ صِفَةِ الرِّقِّ فِي الْمَحَلِّ كَمَا لَا يَكُونُ حَيًّا إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِي الْمَحَلِّ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَالِيَّةَ، وَمِلْكُ الْمَالِيَّةِ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّمَا يَزُولُ بِقَدْرِ مَا يُزِيلُهُ، وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِإِعْتَاقِ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى كَانَ مُعْتَقُ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ. وَهَذَا إذَا عَجَزَ عَنْ السِّعَايَةِ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 سَبَبَهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لَا إلَى أَحَدٍ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى فِعْلُهُ إعْتَاقًا مَجَازًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا تَمَّ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ يَعْقُبُهُ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُزِيلُ مُلَاقِيًا لِلرِّقِّ، كَالْقَاتِلِ فِعْلُهُ لَا يَحِلُّ الرُّوحَ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ الْبِنْيَةَ، ثُمَّ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ تُزْهَقُ الرُّوحُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ قَتْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَئِنْ كَانَ فِعْلُهُ إعْتَاقًا فَالْعِتْقُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْإِعْتَاقُ فِي نَفْسِهِ مُنَجَّزٌ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْ جَمَاعَةٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَالْعِتْقُ لِلْبَعْضِ إنَّمَا يُوجَدُ شَطْرُ الْعِلَّةِ فَيَتَوَقَّفُ عِتْقُ الْمَحَلِّ إلَى تَكْمِيلِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ إبَاحَةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ تَنْبَنِي عَلَى غَسْلِ أَعْضَاءٍ هِيَ مُتَجَزِّئَةٌ فِي نَفْسِهَا حَتَّى يَكُونَ غُسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مُطَهِّرًا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ إبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى إكْمَالِ الْعَدَدِ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ لَا تَتَجَزَّى، وَإِنْ كَانَ يَنْبَنِي عَلَى طَلْقَاتٍ هِيَ مُتَجَزِّئَةٌ حَتَّى كَانَ الْمُوَقِّعُ لِلتَّطْلِيقَةِ، وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ مُطَلِّقًا، وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَدِ، فَهُنَا أَيْضًا نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ بِإِعْتَاقِ مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقُ الْبَعْضِ مُعْتَقًا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَقْتَضِي انْفِعَالَ الْعِتْقِ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِي الِاتِّصَالَ بِالْإِعْتَاقِ بَلْ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْإِعْتَاقِ، وَيَتَأَخَّرُ ثُبُوتُهُ فِي الْمَحَلِّ إلَى إكْمَالِ الْعِلَّةِ فَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَقَدْ قِيلَ يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي حَتَّى لَوْ فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً، وَرَأَى الصَّوَابَ فِي أَنْ يَسْتَرِقَّ أَنْصَافَهُمْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْقَهْرُ لَا يَتَجَزَّأُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ قَهْرُ نِصْفِ الشَّخْصِ دُونَ النِّصْفِ، وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِيلَادُ سَبَبُهُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ فَأَمَّا عِتْقُ الْجَنِينِ عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ لَيْسَ لِأَجْلِ الِاتِّصَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إعْتَاقَ الْجَنِينِ لَا يُوجِبُ إعْتَاقَ الْأُمِّ وَالِاتِّصَالُ مَوْجُودٌ، وَلَكِنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا كَيَدِهَا، وَرِجْلِهَا، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ ثُبُوتُهُ فِي الْمَتْبُوعِ وَأَحَدُ النِّصْفَيْنِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلنِّصْفِ الْبَاقِي فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ إعْتَاقُ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ مُوجِبًا لِلْعِتْقِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ جَازَ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَلِلسَّاكِتِ ثَلَاثُ خِيَارَاتٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ فَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ إلَيْهِ عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِلسَّاكِتِ خِيَارَانِ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ تَضْمِينِ الشَّرِيكِ إلَّا عَلَى قَوْلِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَالْقِيَاسُ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ يُفْسِدُ عَلَى الشَّرِيكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 نَصِيبَهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ، وَضَمَانُ الْإِفْسَادِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ، وَالْعُسْرَةِ، أَوْ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُعْتِقِ ضَمَانٌ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَرَرُ تَصَرُّفِهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، كَمَنْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ أَوْ أَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فِي أَرْضِهِ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ مِلْكِ جَارِهِ. وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ لِلْآثَارِ فَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ فِي الْمَمْلُوكِ: إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَسْعَى فِي حِصَّةِ الْآخَرِ» وَهَكَذَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ شُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَرَفَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَمَّنَهُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ، وَحَبَسَهُ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ فِي ذَلِكَ»، وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَبْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَسْعَى الْعَبْدُ فِي النِّصْفِ لِصَاحِبِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ وَلِإِخْوَةٍ لَهُ صِغَارٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ يُسْتَأْنَى بِالصِّغَارِ حَتَّى يُدْرِكُوا فَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الْقِيمَةَ فَلِهَذِهِ الْآثَارِ قُلْنَا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ دُونَ الْعُسْرَةِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ يَسَارُ الْيُسْرِ، لَا يَسَارُ الْغِنَى حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْرُ قِيمَةِ الْمَمْلُوكِ - فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ذَلِكَ»، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ التَّقَرُّبَ، وَالصِّلَةَ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِعِتْقِ مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إتْمَامِهِ بِمِلْكِهِ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّيه إلَى شَرِيكِهِ كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ هَذَا الضَّمَانِ بِالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى النَّظَرِ لَلشَّرِيكِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ يَتَأَخَّرُ وُصُولُ حَقِّهِ إلَيْهِ، وَإِذَا ضَمَّنَ شَرِيكَهُ يَتَوَصَّلُ إلَى مَالِيَّةِ نَصِيبِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا إذَا كَانَ مُوسِرًا لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَار لِلسَّاكِتِ، وَإِنَّمَا لَهُ تَضْمِينُ الشَّرِيكِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَاسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ. وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ عِنْدَهُمَا كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إلَّا فِي حَرْفٍ، وَاحِدٍ يَقُولُ إذَا سَعَى الْعَبْدُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 بِفِعْلِهِ، وَقَاسَ بِالْعَبْدِ الْمَرْهُونَ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا كَانَتْ عُسْرَةُ الْمُعْتِقِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلسَّاكِتِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَسْعَى الْعَبْدُ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ، وَمَالِيَّتِهِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَمَنْ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى قَضَاءِ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْ جِهَتِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَيْهِ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُوسِرًا يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الرِّقَّ فِي نَصِيبِهِ، وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا شَاءَ، وَقَالَ لَا أَعْرِفُ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عُسْرَةَ الْعَبْدِ أَظْهَرُ مِنْ عُسْرَةِ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل مِلْكِ الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ لِعُسْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ مُعْسِرٌ جَانٍ وَالْعَبْدُ مُعْسِرٌ غَيْرُ جَانٍ، وَهَذَا لَوْ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ إنَّمَا تَلْزَمُهُ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ. ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ إلْزَامِهِ الْمَالَ بَدَلًا عَنْ رَقَبَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ، أَوْلَى. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ بِشْرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا قِيمَةَ عَدْلٍ، وَلَا يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نَصِيبِهِ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ عَلَيْهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ بَعْدَ إعْتَاقِ الْبَعْضِ يَمْتَنِعُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيمَا بَقِيَ لِوُجُوبِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَالَةُ الْيَسَارِ فَإِنَّ حُكْمَ الْمَحَلِّ لَا يَخْتَلِفُ بِيَسَارِ الْمُعْتِقِ، وَعُسْرَتِهِ، وَمَنْ احْتَبَسَ مِلْكَ الْغَيْرِ عِنْدَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا وُجِدَ مِنْهُ الصُّنْعُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَمَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ، وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ إنْسَانٍ فَانْصَبَغَ كَانَ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ صَبْغِهِ إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الثَّوْبِ إمْسَاكَ الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا لِاحْتِبَاسٍ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عِنْدَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِعَقْدِ التَّرَاضِي، وَوُجُوبَ السِّعَايَةِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِلِاحْتِبَاسِ، وَذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ فَأَمَّا بَيَانُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَنَقُولُ: عِنْدَهُ الْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْمُعْتِقِ فَقَطْ وَبَقِيَ نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 يَعْتِقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِذَا أَعْتَقَهُ كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَاهُ مَعًا، وَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْعَبْدِ حِينَ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِ، وَإِذَا اسْتَسْعَاهُ فَأَدَّى السِّعَايَةَ عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ ثُمَّ بِالتَّضْمِينِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَيَلْتَحِقُ بِمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ حَتَّى يَتَخَيَّرَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَهُ، وَأَنْ يَسْتَسْعِيَهُ؛ وَلِأَنَّهُ بِالتَّضْمِينِ يُقِيمُ الْمُعْتَقَ فِي نَصِيبِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَهُ، أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ فَيَثْبُتَ ذَلِكَ لِلْمُعْتَقِ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَلِهَذَا قَالَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ فِي حَقِّهِ، وَالسِّرَايَةُ عِنْدَهُمَا إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ مُصَادَفَةِ الْعِتْقِ مَحَلَّهُ، وَإِذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ كَانَ لَغْوًا. وَلَوْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: التَّدْبِيرُ يَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فَيَبْقَى بَعْدَ تَدْبِيرِ الْمُدَبِّرِ نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ وَلِلْمُدَبِّرِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي نَصِيبِهِ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْبَيْعُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ إلَى مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ فَيُضَمِّنُهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنَّمَا يُضَمِّنُهُ مُدَبِّرًا؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهُ، وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِنُقْصَانِ التَّدْبِيرِ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَنْ ضَمَّنَهُ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبِّرًا، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ اسْتَحَقَّ وَلَاءَ نَصِيبِهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ، وَإِنْ ضَمِنَ شَرِيكَهُ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ دَبَّرَهُ الْأَوَّلُ صَارَ الْكُلُّ مُدَبَّرًا لَهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْعِتْقِ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ ثُمَّ إعْتَاقُ الثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الثَّانِي وَهُمَا مُوسِرَانِ فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا، وَالْأَوَّلِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ صَارَ الْكُلُّ مُدَبَّرًا لَهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ، وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَالْإِعْتَاقُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ لَغْوٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَدْبِيرُ الْمُدَبَّرِ يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ. وَالْإِعْتَاقُ مِنْ الثَّانِي صَحِيحٌ لِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَلَّ ثُمَّ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبَّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ صَارَ نَصِيبُهُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَّا إلَى الْمُدَبَّرِ بِالضَّمَانِ فَلَوْ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْمُدَبَّرُ دُونَ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ، وَإِذَا ضَمَّنَ الْمُدَبَّرَ فَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى لَهُ فِيهِ، وَلِلْمُدَبَّرِ أَيْضًا أَنْ يُضَمِّنَ الَّذِي أَعْتَقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ بِإِعْتَاقِ الْمُعْتِقِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ مَا أَدَّى إلَى السَّاكِتِ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ السَّاكِتَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ فَكَذَلِكَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلِأَنَّ صُنْعَهُ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وُجِدَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمُدَبَّرُ نَصِيبَ السَّاكِتِ فَلِهَذَا لَا يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ هَذَا الثُّلُثِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتِقِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبَّرِ وَثُلُثُهُ لِلْمُعْتَقِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَشَهِدَ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَصَاحِبُهُ مُنْكِرٌ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ مُوسِرَيْنِ، أَوْ مُعْسِرَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. فَأَمَّا فَسَادُ رِقِّ الْعَبْدِ فَلِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ ثُمَّ يَسَارُ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَهَادَتِهِ عَلَى شَرِيكِهِ يَدَّعِي السِّعَايَةَ لِنَفْسِهِ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ إلَّا أَنَّ الضَّمَانَ لَمْ يَثْبُتْ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ فَتَبْقَى السِّعَايَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْعَبْدِ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ يُعْتَقُ نَصِيبُ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى حُرِّيَّتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ جِهَةِ السِّعَايَةِ، وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ، وَمَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّمَانِ عَلَى شَرِيكِهِ لَمْ يَثْبُتْ لِإِنْكَارِ شَرِيكِهِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ هُنَا فَإِنَّهُ يَقُولُ شَرِيكِي مُعْتِقٌ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَمْ يَسْعَ لِلْمُعْسِرِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ يَدَّعِي السِّعَايَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ شَرِيكِي مُعْتِقٌ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلِي اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ فِي قِيمَةِ نَصِيبِي، وَأَمَّا الْمُعْسِرُ يَتَبَرَّى مِنْ السِّعَايَةِ، وَيَقُولُ شَرِيكِي مُعْتِقٌ وَهُوَ مُوسِرٌ فَحَقِّي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 فِي الضَّمَانِ قِبَلَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ بِالتَّبَرِّي مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِجُحُودِهِ وَالْوَلَاءُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِي الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الْمُعْتِقُ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْوَلَاءُ، وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ، وَاخْتَارَ الْآخَرُ تَضْمِينَهُ فَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا نَظَرَ إلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ حَتَّى إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا فِيمَا مَضَى يُقَوَّمُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِفْسَادِ أَوْ الْإِتْلَافِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ وَقْتَ تَقَرَّرَ السَّبَبُ، وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْعِتْقِ فَلِهَذَا يُقَوَّمُ فِي الْحَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ السَّاعَةَ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ السَّاعَةَ، وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ هَذَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ حَتَّى إذَا انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ فَإِنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَى الشَّرِيكِ هُوَ الْعِتْقُ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ. ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِهِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَحْرَقَ الْبِنَاءَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ، وَيَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ هُنَاكَ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْعَرْصَةَ فَهُوَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي حَقَّ التَّمَلُّكِ بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَهُنَا السَّاكِتُ يُمَلِّكُ الْمُعْتِقَ نَصِيبَهُ بِالضَّمَانِ، فَهُوَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقَّ التَّمْلِيكِ فِيهِ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ، وَالْمُعْتِقُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا كَانَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْخِيَارِ مَا كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَوْرِيثُ الْخِيَارِ بَلْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُعْتِقَ فَإِنْ ضَمَّنُوهُ فَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ إلَيْهِمْ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَهُمْ كَمَا كَانَ يَتَمَلَّكُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ اخْتَارُوا الْإِعْتَاقَ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَالْوَلَاءُ فِي هَذَا النَّصِيبِ لِلذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَيِّتِ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا تُورَثُ عَيْنُهُ، وَإِنْ كَانَ يُورَثُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَلَاءُ يَكُونُ لَهُ فَيَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ الْإِنَاثِ إذْ الْوَلَاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 لَا يُورَثُ. وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ السِّعَايَةَ، وَبَعْضُهُمْ الضَّمَانَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اخْتَارَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا نَالَهُ قَامَ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ يَثْبُتُ حُكْمًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ بِالضَّمَانِ فَكَمَا أَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالضَّمَانِ مِنْ الْمُعْتِقِ فَكَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّضْمِينِ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَصِيبَ السَّاكِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّهُمْ خَلَفُ الْمُوَرَّثِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوَرَّثِ أَنْ يَخْتَارَ التَّضْمِينَ فِي الْبَعْضِ، وَالسِّعَايَةَ فِي الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ ذَلِكَ، وَفَرَّعَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ نَصِيبَهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إعْتَاقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يُعْتِقُهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرَّثِ لَا يَعْتِقُ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ السَّاكِتُ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالضَّمَانُ غَيْرُ مُتَقَرَّرٍ عَلَى الشَّرِيكِ مَا لَمْ يَخْتَرْ ضَمَانَهُ فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَرِّرَ الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ، وَهُوَ فَسَادٌ قَدْ تَحَقَّقَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَمَوْتُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ مِنْ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَضْمَنُهُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ، وَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ عِنْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الْحُكْمُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْحَالِ فَإِذَا ضَمِنَ الْمُعْتِقُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ فِي تَرِكَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فِيمَا ضَمِنَ فَإِذَا مَاتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا رَجَعَ الشَّرِيكُ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ فِي تَرِكَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُسْتَحَقَّةٌ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَسْتَوْفِيَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَكَ مَالًا قَدْ اكْتَسَبَ بَعْضَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَبَعْضَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَمَا اكْتَسَبَ قَبْلَ الْعِتْقِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمَا حِينَ اكْتَسَبَ هَذَا الْمَالَ، وَالْكَسْبُ لِمَالِكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 الْأَصْلِ، وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ تَرِكَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ يَرْجِعُ فِيهِ السَّاكِتُ، أَوْ الْمُعْتِقُ إذَا ضَمِنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ فَكَانَ الْوَلَاءُ فِي الْكُلِّ لَهُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا مِمَّا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَهُوَ بَيْنَنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: اكْتَسَبَ بَعْدَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا اكْتَسَبَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، وَالْمُعْتِقُ مُوسِرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَيِّتٌ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ فِي الْحَالِ لِيُسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى قِيمَتِهِ فِيمَا مَضَى، فَيَتَعَيَّنُ ظَاهِرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ، وَالسَّاكِتُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ زِيَادَةً، وَالْمُعْتِقُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، وَلَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فَنِصْفُ الْقِيمَةِ دَيْنٌ لِلسَّاكِتِ عَلَى الْعَبْدِ إنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ يُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ مَدِينٍ هَلَكَ مُفْلِسًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا فَصَالَحَهُ السَّاكِتُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَهُوَ بِالصُّلْحِ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ، وَذَلِكَ يَسْتَقِيمُ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ بِذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ، فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ شَرْعًا فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ رِبًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ عِنْدَ أَدَاءِ نِصْفِ الْقِيمَةِ شَرْعًا، فَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالصُّلْحِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ الْمُعْتِقُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَالْفَضْلُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ يَتَقَدَّرُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ يَكُونُ رِبًا، ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَغْصُوبِ الْهَالِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: هُنَاكَ الْمَغْصُوبُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ تَمْلِيكَهُ مِنْ الْغَاصِبِ حَتَّى إنَّ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الضَّمَانِ لِيَبْقَى هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ شَرْعًا فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا، وَهُنَا السَّاكِتُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ اسْتِبْقَاءِ نَصِيبِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إزَالَتَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ إمَّا سِعَايَةً عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ ضَمَانًا يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ الشَّرِيكِ فَإِذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَانَ فِي هَذَا الصُّلْحِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ شَرْعًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُعْتِقَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا يَضْمَنُ فَلَوْ صَحَّحْنَا هَذَا الصُّلْحَ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِالزِّيَادَةِ وَكَمَا لَيْسَ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُلْزِمَ الْعَبْدَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ بِالصُّلْحِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ مَنْ يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 عَرُوضٍ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى الذَّهَبِ، أَوْ الْوَرِقِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ هُنَاكَ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَفْوٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِالزِّيَادَةِ. (قَالَ)، وَإِنْ صَالَحَ الْعَبْدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ قَالَ عِيسَى: هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَإِذَا صَالَحَ عَلَى حَيَوَانٍ كَانَ ذَلِكَ بَدَلًا عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ، وَلَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْ مَا هُوَ مَالٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ الْعَبْدُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا صَالَحَ عَلَى حَيَوَانٍ إلَى أَجَلٍ فَكَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصُّلْحِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ بِمَا يَصِحُّ الْعِتْقُ عَلَيْهِ، وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ. وَإِذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْيَسَارِ فِي الْعِتْقِ تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ فَإِذَا انْعَدَمَ، وَقْتَ الْإِعْتَاقِ تَقَرَّرَ الْعِتْقُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ وَإِنْ قَالَ الْمُعْتِقُ أَعْتَقْت، وَأَنَا مُعْسِرٌ وَقَالَ الشَّرِيكُ بَلْ أَعْتَقْت، وَأَنْتَ مُوسِرٌ نُظِرَ إلَى حَالِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ إمَّا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ فِي الْحَالِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا مَضَى يَحْكُمُ الْحَالُ فَإِذَا كَانَ الْحَالُ مُوسِرًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْيَسَارَ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْعُسْرَةَ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ كَشُرْبِ الرَّحَا مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ يَحْكُمُ الْحَالُ فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ سَابِقًا مِنْهُ فِي مُدَّةٍ قَدْ يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ فِي إنْكَارِ يَسَارِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ أَصْلَ الْإِعْتَاقِ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ أَعْتَقَهُ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ ضَمَانَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ، وَيَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالضَّمَانِ، أَوْ رَضِيَ بِهِ الْمُعْتِقُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَهُ ذَلِكَ. قِيلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ وَقِيلَ بَلْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُخْبِرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 أَحَدِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ التَّضْمِينَ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتِقِ حَتَّى يَكُونَ، وَلَاؤُهُ لَهُ وَالْوَلَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَمْلِيكِهِ مِنْهُ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ قِبَلَ الْعَبْدِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ، أَوْ الرِّضَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا شَرْعًا كَالتَّمْلِيكِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَحَقُّهُ فِي الضَّمَانِ لَا يَتَقَرَّرُ مَا لَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ بِنَاءً عَلَى تَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْغَاصِبِ، وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَقَبِلَ الْقَضَاءَ، أَوْ الرِّضَا مِمَّنْ اخْتَارَ ضَمَانَهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيُضَمِّنَهُ الْآخَرَ، فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّرِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ أَحَدٍ بَلْ فِيهِ تَقْرِيرٌ لِمِلْكِهِ، وَإِبْرَاءٌ لِلْمُعْتِقِ عَنْ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ وَلَوْ أَنَّ الْمُعْتِقَ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ ثُمَّ أَحَالَ السَّاكِتَ عَلَيْهِ وَوَكَّلَهُ بِقَبْضِ السِّعَايَةِ مِنْهُ اقْتِضَاءً مِنْ حَقِّهِ كَانَ جَائِزًا وَالْوِلَايَةُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِلْمُعْتِقِ وَالْمَوْلَى إذَا أَحَالَ غَرِيمًا لَهُ بِدَيْنِهِ عَلَى مُكَاتَبِهِ لِيَقْبِضَهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَانَ صَحِيحًا، وَكَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى جَرَحَهُ إنْسَانٌ كَانَ الْأَرْشُ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ إمَّا لِلسَّاكِتِ أَوْ لِلْمُعْتِقِ. وَمَنْ جَنَى عَلَى مُكَاتَبِهِ، أَوْ عَلَى مُكَاتَبِ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ يَقْبِضُهُ فَيَسْتَعِينُ بِهِ فِي سِعَايَتِهِ، وَلَا تَكُونُ جِنَايَتُهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِالِاسْتِسْعَاءِ، أَوْ تَضْمِينِ الشَّرِيكِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ السِّعَايَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اغْتَصَبَ مِنْهُ مَالًا فِيهِ، وَفَاءً بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ أَقْرَضَ الْعَبْدَ، أَوْ بَايَعَهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالِاسْتِسْعَاءِ، وَالتَّضْمِينِ وَلَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ، أَوْ شِقْصًا مِنْهُ، أَوْ بَعْضَهُ فَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْبَيَانُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مِنْهُ فَأَيُّ مِقْدَارِ عُنِيَ مِنْهُ يُعْتَقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْتَسْعِيهِ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ أَعْتَقَ سَهْمًا مِنْهُ فَالسَّهْمُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: السُّدُسُ كَمَا قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِقْرَارِ فَيَسْتَسْعِيَهُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ. وَإِذَا أَعْتَقَ أَمَةً بَيْنَهُ، وَبَيْنَ آخَرَ ثُمَّ وَلَدَتْ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ يَوْمَ أَعْتَقَ وَلَا يُضَمِّنَهُ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 حِينَ وَلَدَتْ، وَالْمُكَاتَبَةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا كَمَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهَا. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، وَدَبَّرَ الْآخَرُ، وَكَاتَبَ الْآخَرُ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ أَوَّلُ، فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عِتْقُ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِهِ نَافِذٌ وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ تَقَدَّمَ تَصَرُّفُهُ، أَوْ تَأَخَّرَ، وَتَدْبِيرُ الْمُدَبَّرِ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا نَافِذٌ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ فَإِذَا اخْتَارَ التَّضْمِينَ ضَمَّنَهُ سُدُسَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَرَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِسُدُسِ قِيمَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ مِنْهُ إنْ سَبَقَ فَلَهُ حَقُّ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ تَضْمِينِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ تَدْبِيرَهُ مَانِعٌ مِنْ تَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ شَرْطُ التَّضْمِينِ إذَا سَبَقَ الْعِتْقُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ اُعْتُبِرَ الْأَحْوَالُ فَقَالَ مِنْ وَجْهٍ: هُوَ قِيَاسٌ لَهُ ثُلُثُ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّدْبِيرُ سَابِقًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا فَيُضَمِّنُهُ سُدُسَ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ وَجْهٍ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِيمَا بَقِيَ، وَهُوَ سُدُسُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ السِّعَايَةَ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ مَضَى الْعَبْدُ عَلَى كِتَابَتِهِ يُؤَدِّي إلَيْهِ مَالَ الْكِتَابَةِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ عَجَزَ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ، وَالْمُدَبَّرَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ نِصْفَيْنِ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَا وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ. وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَدَبَّرَهُ الْآخَرُ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَتَرَجَّحُ الْعِتْقُ عَلَى التَّدْبِيرِ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ، وَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ فِيمَا إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا ثُمَّ يَغْلِبُ الْعِتْقُ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْكِتَابَةُ مِنْ الثَّالِثِ أَوَّلٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْبِقُ الْعِتْقُ فَيَكُونُ لِلْمُكَاتَبِ، وَالْمُدَبَّرِ ضَمَانُ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُكَاتَبُ يُضَمِّنُ الْمُدَبَّرَ وَالْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا، وَقِيلَ بَلْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ الْعِتْقُ أَقْوَى مِنْ تَدْبِيرٍ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ خَمْسَةِ رَهْطٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ، وَدَبَّرَ الْآخَرُ، وَكَاتَبَ الثَّالِثُ نَصِيبَهُ، وَبَاعَ الرَّابِعُ نَصِيبَهُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَتَزَوَّجَ الْخَامِسُ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَمْ يُعْلَمُ أَيُّهُمْ أَوَّلٌ فَنَقُولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَحُكْمُ الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ، وَالِاسْتِسْعَاءَ هُنَاكَ فِي الثُّلُثِ، وَهُنَا فِي الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَبَّرِ الْخُمُسُ هُنَا فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَ بَعْدَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ لَا يُبَاعُ فَالْمُبْطِلُ لِلْبَيْعِ ظَاهِرٌ فِي الْحَالِ، أَوْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَاسْتَسْعَاهُ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ وَالْمُدَبَّرَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ إذَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَيَرْجِعَانِ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ، أَوْ التَّدْبِيرِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَلَهَا خُمُسُ قِيمَتِهِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنْ هُوَ كَالْمُكَاتَبِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَلَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغَيُّرِ إنْ شَاءَتْ تَرَكَتْ الْمُسَمَّى، وَضَمَّنَتْ الزَّوْجَ خُمُسَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَجَازَتْ، وَأَعْتَقَتْ، وَاسْتَسْعَتْ الْعَبْدَ فِي خُمُسِ قِيمَتِهِ، وَوَلَاءُ خُمُسِهِ لَهَا وَإِنْ شَاءَتْ ضَمَّنَتْ الْمُعْتِقَ وَالْمُدَبِّرَ خُمُسَ قِيمَتِهِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ لَا تَتَصَدَّقُ هِيَ بِالزِّيَادَةِ إنْ كَانَتْ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِمَالٍ فَيَتَصَدَّقُ بِرِبْحٍ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَمَلَّكَتْ ذَلِكَ لَا بِأَدَاءِ مَالٍ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي حَقِّهَا. فَأَمَّا نَصِيبُ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إنْ أَدَّى الْبَدَلَ إلَيْهِ عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ وَإِنْ عَجَزَ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبَّرَ، وَالْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ نِصْفَيْنِ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَالْجَوَابُ فِي الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ عَلَى مَا قُلْنَا، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ الْبَيْعُ أَوَّلًا ثُمَّ الْعِتْقُ ثُمَّ التَّدْبِيرُ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَإِذَا اخْتَارَ إمْضَاءَ الْبَيْعِ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ خُمُسَ قِيمَتِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا لَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ الْبَيْعُ ثُمَّ التَّدْبِيرُ ثُمَّ الْعِتْقُ وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْإِمْضَاءَ لِلتَّدْبِيرِ ضَمِنَ الْمُدَبَّرُ خُمُسَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا لَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ التَّزْوِيجُ ثُمَّ الْعِتْقُ ثُمَّ التَّدْبِيرُ فَاخْتَارَتْ الْإِجَازَةَ ضَمَّنَتْ الْمُعْتِقَ خُمُسَ الْقِيمَةِ لَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَتْ الْغُلَامَ فِي خُمُسِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّزْوِيجُ ثُمَّ التَّدْبِيرُ ثُمَّ الْعِتْقُ ضَمَّنَتْ الْمُدَبَّرَ خُمُسَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا لَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِخُمُسِ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرٍّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اخْتِلَافَهُمَا فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ. فَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا كَمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُضَمِّنَهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ وَمِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُكَاتَبِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا، وَلَوْ كَانَ فِي الْعَبْدِ شَرِيكٌ سَادِسٌ، وَهَبَ نَصِيبَهُ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَا يَعْلَمُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ، أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَإِنْ قَالَ: الْهِبَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ: الْهِبَةُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ الْأَبُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ مَقَامَ الِابْنِ إنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا فِي التَّضْمِينِ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْإِعْتَاقِ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ، وَالْمُدَبَّرُ مُوسِرَيْنِ ضَمَّنَهُمَا سُدُسَ قِيمَتِهِ لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ الْكِتَابَةِ فِي مَالِ وَلَدِهِ. وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، وَلَا يَهَبَهُ، وَلَا يُمْهِرَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ طَرَحَ الْفَضْلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِسْعَاءِ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ اسْتَسْعَاهُ وَصَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ فَالْفَضْلُ مَرْدُودٌ وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عُرُوضٍ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ جَازَ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ مِنْ السِّعَايَةِ عَلَى عُرُوضٍ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكِتَابَةِ سَقَطَ عَنْهُ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعُرُوضِ وَيُجْبَرُ عَلَى السِّعَايَةِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّرِيكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِسْعَاءِ مِنْهُ، وَاخْتِيَارُهُ السِّعَايَةَ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الشَّرِيكِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ فَيُضَمِّنَهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ قَدْ اخْتَرْت السِّعَايَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّرِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْخِيَارُ فِي هَذَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ لِلسَّاكِتِ شَرْعًا فَمَنْ يَخْتَارُ بِنَفْسِهِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا إيَّاهُ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى يَمُوتَ الْمُعْتِقُ كَانَ لِلسَّاكِتِ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّضْمِينِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِالْعِتْقِ فِي الصِّحَّةِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِهِ وَإِذَا بَاعَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتِقِ، أَوْ وَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ أَخَذَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا وَاخْتِيَارَ الضَّمَانِ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِنَصِيبِهِ مِنْهُ بِعِوَضٍ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ، وَالتَّضْمِينُ لَيْسَ إلَّا هَذَا غَيْرَ أَنْ هَذَا فُحْشُهُمَا؛ لِأَنَّ فِي التَّضْمِينِ تَمْلِيكًا حُكْمًا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِتْقِ، وَفِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ تَمْلِيكٌ مُبْتَدَأٌ بِسَبَبٍ يَنْشَآنِهِ فِي الْحَالِ، وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 ذَلِكَ فَبِاعْتِبَارِ السَّبَبِ كَانَ هَذَا أَفْحَشُ وَبِاعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبَبِ كَانَ هَذَا، وَالتَّضْمِينُ سَوَاءٌ، وَالْمَقْصُودُ الْحُكْمُ دُونَ السَّبَبِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعِوَضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّنَانِيرِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الصُّلْحِ، وَإِنْ دَبَّرَ السَّاكِتُ نَصِيبَهُ فَتَدْبِيرُهُ اخْتِيَارٌ لِلسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ التَّضْمِينِ تَمْلِيكُ نَصِيبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ فَوَّتَ ذَلِكَ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَ نَصِيبِهِ فَكَانَ ذَلِكَ إبْرَاءً لِلْمُعْتِقِ عَنْ الضَّمَانِ، وَاخْتِيَارًا لِلسِّعَايَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ نِصْف قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا إنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ بِإِعْتَاقِ الْمُعْتِقِ، وَكَانَ نَصِيبُهُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ مُدَبَّرًا فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْقِيَاسِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ رُبُعَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ، وَعَلَى الْعَبْدِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْمُدَبَّرِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ فَأَعْتَقَهُ الْكَبِيرُ، وَهُوَ غَنِيٌّ وَلِلصَّغِيرِ أَبٌ، أَوْ وَصِيٌّ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الْوَلَدِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَلَا وَصِيٌّ أَسْتُؤْنِيَ بِهِ بُلُوغُهُ لِيَخْتَارَ إمَّا الضَّمَانَ، أَوْ الْإِعْتَاقَ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا قَاضِيَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ نَصَبَ الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا يَخْتَارُ التَّضْمِينَ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِ الصَّبِيِّ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَانَ الصَّبِيِّ مُكَاتَبٌ، أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الضَّمَانِ، وَالسِّعَايَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَا يَحْتَمِلُهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَأْذُونِ فَأَمَّا التَّضْمِينُ، وَالِاسْتِسْعَاءُ فَلَهُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُكَاتِبَ، وَالِاسْتِسْعَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ فَأَمَّا فِي الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتِبَ، وَلَكِنْ قَالَ سَبَبُ الِاسْتِسْعَاءِ قَدْ تَقَرَّرَ، وَهُوَ عِتْقُ الشَّرِيكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاسْتِسْعَاءُ أَنْفَعَ مِنْ التَّضْمِينِ فَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ ابْتِدَاءً، وَإِذَا اخْتَارَ الْمُكَاتَبُ، أَوْ الْمَأْذُونُ التَّضْمِينَ، أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ، فَوَلَاءُ نَصِيبِهِمَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ فَثَبَتَ الْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى كَمَا يَكُونُ بَيْنَ حُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَإِذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْعَبْدِ: إنْ دَخَلْت الْمَسْجِدَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ: لَهُ الْآخَرُ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الْمَسْجِدَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 الْيَوْمُ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَنِثَ صَاحِبِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ نِصْفُ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ شَاهِدٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَبْدَانِ سَالِمٌ، وَبُزَيْغٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ دَخَلْت الْمَسْجِدَ الْيَوْمَ فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الْيَوْمَ فَبُزَيْغٌ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ، وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِحِنْثِ أَحَدِهِمَا وَسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِوُجُوبِ مَا تَيَقَّنَ سُقُوطَهُ، كَمَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهَا مِنْهُنَّ مَجْهُولًا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ مَعْلُومًا جَازَ الْقَضَاءُ بِهِ فَهُنَا أَيْضًا الْمَقْضِيُّ لَهُ بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ عَنْهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ الْعَبْدُ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ جَمِيعًا فَيَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَهُنَا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمَوْلَيَيْنِ حَانِثٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ مُوسِرَيْنِ كَانَا، أَوْ مُعْسِرَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَيَسَارُ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَيَتَوَزَّعُ السَّاقِطُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَمْ يَسَعْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَيَتَبَرَّى مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرٌ يَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ يَتَبَرَّأُ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالْمُوسِرُ يَقُولُ شَرِيكِي مُعْتِقٌ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلِي حَقُّ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرَّأَ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا، وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ السِّعَايَةِ، وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ. رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَمْرُ الْعَبْدِ مَوْقُوفٌ فِي جِنَايَتِهِ، وَشَهَادَتِهِ، وَنِكَاحِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ، وَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ فِي مَرَضِهِ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ نُفُوذِهِ فَهُوَ نَافِذٌ مِنْ الْمَرِيضِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ، وَالْهِبَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ نُفُوذِهِ يَتَوَقَّفُ مِنْ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَبْرَأَ فَيَكُونَ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَوْ يَمُوتَ فَيَكُونَ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ بِالْإِبْطَالِ بَعْدَ النُّفُوذِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ فِي الثَّانِي، وَالْعِتْقُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَيُوقَفُ مِنْهُ حَتَّى إذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ نَافِذًا، وَأَنَّ فِي الْجِنَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ كَحَالِ الْحُرِّ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ، وَصِيَّةٌ لَا تَنْفُذُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَمَادَامَ يَسْعَى فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ سِعَايَتَهُ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ يَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ مَادَامَ يَسْعَى بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ يُعْتِقُهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنَّ السِّعَايَةَ هُنَاكَ لَيْسَ فِي بَدَلِ الرَّقَبَةِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ فَلَا يَمْنَعُ سَلَامَةَ الرَّقَبَةِ لَهُ، وَهُنَا السِّعَايَةُ فِي بَدَلِ الرَّقَبَةِ فَلَا تَسْلَمُ لَهُ رَقَبَتُهُ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا. وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَضْمَنْ حِصَّةَ شَرِيكِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَا هُوَ ضَامِنٌ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ تُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِتْلَافِ، وَالْإِفْسَادِ فَإِذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ هُوَ، وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، كَضَمَانِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُتْلَفَاتِ، وَهَذَا ضَمَانُ التَّمَلُّكِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّحِيحُ، وَالْمَرِيضُ كَالضَّمَانِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ثُمَّ الْمُكَاتَبُ لَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَالْمَرِيضُ أَوْلَى. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلُ: أَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ يَعْنِي أَنَّ تَرِكَتَهُ تَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَوْفَى ضَمَانَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَسْتَوْفِي مِنْ مَالِ الْوَارِثِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 وَلَا سَبَبَ لِوُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ عَلَى الْوَارِثِ. (فَإِنْ قِيلَ) لَا كَذَلِكَ بَلْ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَهُ فَيَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمَالِ إلَى وَارِثِهِ. (قُلْنَا) مَا لَزِمَهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ ضَمَانَهُ، وَلَوْ لَزِمَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ يَتَقَرَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُسْرَةَ تَمْنَعُ وُجُوبَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ ثُمَّ تَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ هَذَا فِي الصُّورَةِ دَيْنٌ وَفِي الْمَعْنَى صِلَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِإِكْمَالِ الصِّلَةِ، وَهُوَ الْعِتْقُ وَالصِّلَةُ، وَإِنْ تَقَرَّرَ سَبَبُهَا فِي حَيَاتِهِ يُجْعَلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ مِنْ الثُّلُثِ وَلِهَذَا الْحَرْفِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنْ كَانَ الضَّمَانُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يَجِبُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الصِّلَاتِ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْفَى لِلضَّمَانِ مِنْ الْفَقْرِ حَتَّى أَنَّ الْفَقْرَ لَا يَمْنَعُ ضَمَانَ الْكَفَالَةِ، وَالْمَرَضُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ يَنْفِي وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْعِتْقِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَنْفِيَهُ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ أَصْلًا أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ يَجِبُ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ يَدًا، وَتَصَرُّفًا إنَّمَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ، وَالْغِنَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْغِنَى فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْعِتْقِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْيُسْرُ، وَالْأَدَاءُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مُتَيَسِّرٌ هُنَاكَ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْمُكَاتَبُ فِيمَا يَتَقَرَّرُ مِنْهُ مِنْ أَسْبَابِ الصِّلَةِ كَالْحُرِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَابَاةَ الْيَسِيرَةَ تَصِحُّ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَمِنْ الْمَرِيضِ تُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ تَقَرَّرَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي الصِّلَاتِ فَيَتَقَرَّرُ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِمَالٍ فِي صِحَّتِهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ فِي مَرَضِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْته، وَأَنَا مُعْسِرٌ عَامَ أَوَّلٍ ثُمَّ أَصَبْت مَالًا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَعْتَقْته عَامَ أَوَّلٍ، وَأَنْتَ مُوسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ يَتَبَدَّلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ السَّاكِتِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْيَسَارَ، وَالضَّمَانَ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِهِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ ضَرَبْته سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ سَوْطَيْنِ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمَا فَفِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْعِتْقِ، وَحُكْمُ الْجِنَايَةِ أَمَّا حُكْمُ الْعِتْقِ أَنَّهُ يُعْتِقُ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَضْرِبْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ حِنْثِهِ حِينَ ضَرَبَهُ سَوْطًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِلضَّارِبِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا سَوْطًا وَبَيْنَ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُعْتِقًا لَهُ، وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِضَرْبِ السَّوْطِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إيجَادَ الشَّرْطِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 مِنْ الضَّارِبِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي الضَّمَانِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا سَوْطًا، وَأَمَّا حُكْمُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ الضَّارِبَ يَضْمَنُ نِصْفَ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بِضَرْبِ السَّوْطِ الْأَوَّلِ لَاقَى مِلْكًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَدْ انْقَطَعَتْ سِرَايَةُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَهَا، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ نِصْفَ النُّقْصَانِ بِالسَّوْطِ الْأَوَّلِ فِي مَالِهِ ثُمَّ يَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الْآخَرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ؛ حِينَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى مُكَاتَبِهِ، وَعَلَى مُكَاتَبِ غَيْرِهِ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ بَعْدَ السَّوْطَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ السَّوْطَيْنِ جَمِيعًا وَأَحَدُهُمَا صَارَ هَدَرًا، وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ مَعَ نُقْصَانِ السَّوْطِ الثَّانِي فَيَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ صَارَتْ نَفْسًا فَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهَذَا تَرِكَةُ الْعَبْدِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الشَّرِيكُ مَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ فَيَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَهُ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ قَدْ صَارَ لَهُ فِي الْكُلِّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَغْرَمُ نُقْصَانَ السَّوْطِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِعِتْقِ الْبَعْضِ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَلَكِنْ يَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِوَارِثِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمُعْتِقِ، وَلَا يَرْجِعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مِمَّا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَإِنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ نُقْصَانِ السَّوْطِ الْآخَرِ، وَمِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِسَوْطَيْنِ بَلْ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَ الشَّرِيكِ، وَالْمُعْتِقِ، وَبَيْنَ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الضَّارِبِ مِنْ الْعَصَبَةِ. لِأَنَّ الْوَلَاءَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّ الضَّارِبَ قَاتِلٌ فَيَكُونُ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ، وَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَيَقُومُ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الضَّارِبُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَهُوَ السِّعَايَةُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ فِي الْكُلِّ لَهُ عِنْدَهُمَا وَإِذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا مَعَ غَيْرِهِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عِتْقِهِ أَنْ يَمْلِكَ مَمْلُوكًا مُطْلَقًا، وَنِصْفُ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ فَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَمَّ حِينَ صَارَ الْمِلْكُ فِي الْكُلِّ لَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ الْمَمْلُوكَ جُمْلَةً، أَوْ مُتَفَرِّقًا، وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهِ مَمْلُوكٌ تَامٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْمِلْكَ التَّامَّ. وَلَوْ قَالَ لِمَمْلُوكٍ بِعَيْنِهِ: إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 نِصْفَهُ ثُمَّ بَاعَ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَمَّ حِينَ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَالْمَوْجُودُ فِي مِلْكِهِ هَذَا النِّصْفُ يَعْتِقُ، وَالْقِيَاسُ فِي الْمُعَيَّنِ، وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُعَيَّنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْمِلْكِ، وَصْفٌ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُعَيَّنِ (وَالثَّانِي) الْعَادَةُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ مَا مَلَكْت قَطُّ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ مُجْتَمِعًا لَا مُتَفَرِّقًا، وَفِي الْمُعَيَّنِ لَا يَقُولُ مَا مَلَكْت هَذِهِ الْمِائَةَ دِرْهَمٍ إذَا كَانَ مِلْكُهَا مُتَفَرِّقًا. وَإِنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَمَّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ حِينَ اشْتَرَاهُ عَتَقَ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَنُوبَ، قَبَضَهُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَيَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِذَا جَنَى الْمُسْتَسْعَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِ بَاقٍ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ فِي جِنَايَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْأُولَى حُكِمَ فِي الثَّانِيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى بِالْقَضَاءِ تَحَوَّلَتْ إلَى كَسْبِهِ فَتَتَعَلَّقُ الثَّانِيَةُ بِرَقَبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكِمَ بِالْأُولَى تَحَاصَّا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا تَعَلَّقَا بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِهِمَا إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ. وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَجِنَايَتِهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ آخَرُ اشْتَرَكُوا فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِاسْتِنَادِ الْجِنَايَتَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحَفْرُ، وَلَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلٌ سَعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي حِفْظِ دَارِهِ إلَيْهِ فَكَانَ حُكْمُ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا كَحُكْمِ الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ بِيَدِهِ، وَمَا أَفْسَدَ مِنْ الْأَمْوَالِ فَهُوَ عَلَيْهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ. وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ، وَهِيَ حَامِلٌ ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ نِصْفَ قِيمَةَ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ بِإِعْتَاقِ الْجَنِينِ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ وَلَوْ اكْتَسَبَ سَبَبَ الْوَلَاءِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِ الشَّرِيكِ؛ وَلِأَنَّهُ مَنَعَ تَمْلِيكَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ الشَّرِيكِ بِالضَّمَانِ فَلِهَذَا صَارَ بِهِ مُخْتَارًا لِلسِّعَايَةِ، وَلَوْ أَعْتَقَا جَمِيعًا مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا الْأُمَّ، وَهُوَ مُوسِرٌ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إعْتَاقِ الْجَنِينِ كَانَا يَتَمَكَّنَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَقَدْ امْتَنَعَ عَلَى السَّاكِتِ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ شَاءَ، وَالْحَبَلُ نُقْصَانٌ فِي بَنَاتِ آدَمَ لَا زِيَادَةٌ فَإِنَّمَا يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا حَامِلًا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا، وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي عِتْقِ الشُّرَكَاءِ] (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَلَا يَدْرُونَ أَيُّهُمَا هُوَ وَجَحَدَ الْمَوْلَيَانِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبَيِّنَا الْمُعْتِقَ مِنْهُمَا وَالْحُجَّةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ فَمَا لَا تَكُونُ مُبَيِّنَةً لَا تَكُونُ حُجَّةً وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْإِيجَابِ عَلَى الْمَجْهُولِ فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَدَّعِي إمَّا الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ أَوْ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ فِي نَصِيبِهِ وَلَكِنَّ الرِّقَّ يَفْسُدُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إفْسَادِ الرِّقِّ بِإِعْتَاقِهِ فَإِذَا أَقَرَّ بِفَسَادِ الرِّقِّ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ فَالشَّاهِدُ مِنْهُمَا يَقُولُ: شَرِيكٌ مُعْتِقٌ وَلِي حَقُّ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ مَعَ يَسَارِهِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَقُولُ: الشَّاهِدُ كَاذِبٌ وَلَا ضَمَانَ لِي عَلَيْهِ وَلَكِنْ لِي حَقُّ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِي عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَسْعَى لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْعَى لِلشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَدَّعِي السِّعَايَةَ مَعَ يَسَارِ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَيْسَ بِمُعْتِقٍ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا مَعَ يَسَارِهِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ تَبَرَّأَ مِنْ السِّعَايَةِ عِنْدَ يَسَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ هُوَ مُعْتِقٌ ضَامِنٌ لِنَصِيبِي وَيَدَّعِي السِّعَايَةَ عِنْدَ عُسْرَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَسْعَى لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَرِيكِهِ بِاسْتِيفَاءِ السِّعَايَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ شَهِدَ لِعَبْدِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَهُمَا مَا دَامَ يَسْعَى وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَلَعَلَّهُ قَصَدَ اسْتِخْلَاصَ كَسْبِهِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ شَيْءٍ يَجِبُ بِهِ عَلَيْهِ مَالٌ فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ لِعَبْدِهِ. عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَحُكِمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى لَهُمْ فِي قِيمَتِهِ فَأَدَّى إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 ذَلِكَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ السِّعَايَةَ وَجَبَتْ لَهُمْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْمُسْتَوْفَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ الِاخْتِصَاصُ بِشَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ حِصَّتَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَنْفَعَةً حَتَّى يَأْخُذَا مِنْهُ ثُلُثَيْ مَا اسْتَوْفَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَالَ كُلَّهُ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَبْرَأُ الْعَبْدُ مِنْ حِصَّتِهِمَا لِإِقْرَارِهِمَا فِيهِ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ، فَإِنْ قَبَضَ وَكِيلُهُمَا فِي بَرَاءَةِ الْمَدْيُونِ كَقَبْضِهِمَا وَيَسْتَوْفِي الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ الشَّاهِدَانِ لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا حَقَّهُمَا بِالشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ وَلِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُ ظَالِمٌ فِي هَذَا الِاسْتِيفَاءِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَا لَهُمَا وَإِنْ شَهِدَا بِدَيْنٍ لِهَذَا الْعَبْدِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِمَا مَا دَامَ يَسْعَى وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّ شَرِيكَهُ الْغَائِبَ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى بِعِتْقِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ يَشْهَدَانِ عَلَى الْحَاضِرِ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْغَائِبِ خَاصَّةً وَلَيْسَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالشَّهَادَةِ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ، وَيُوقَفُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُحَالُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيْلُولَةُ تَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ، قَالَ: هُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى الْغَائِبِ بِالْعِتْقِ وَعَلَى الْحَاضِرِ بِقِصَرِ يَدِهِ عَنْهُ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ وَالْحَاضِرُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ قِصَرِ يَدِهِ عِنْدَهُ فَتُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وَكَّلَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِقِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى فَتُعَادُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ لِلْحُكْمِ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَامَتْ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ، فَإِنْ كَانَا غَائِبَيْنِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إلَّا بِخُصُومَةٍ تَقَعُ مِنْ قِبَلِ قَذْفٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ إذَا قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَيَيْنِ أَعْتَقَاهُ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْتَقَهُ وَاسْتَوْفَى الْآخَرُ السِّعَايَةَ مِنْهُ لِأَنَّ الْخَصْمَ الْحَاضِرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُرِّيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ حُرِّيَّتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا عَلَى الْغَائِبَيْنِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَشْكُلُ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِعِتْقٍ يَبْرَأُ فِيهِ مِنْ نَصِيبِ زَيْدٍ إلَى نَصِيبِ عَمْرٍو، وَالْآخَرُ شَهِدَ بِعِتْقٍ يَبْرَأُ فِيهِ مِنْ نَصِيبِ عَمْرٍو إلَى نَصِيبِ زَيْدٍ وَلَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِمُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ شَهِدَ نَصْرَانِيَّانِ عَلَيْهِمَا بِالْعِتْقِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي نَصِيبِ النَّصْرَانِيِّ خَاصَّةً فَهَذَا وَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ سَوَاءٌ حَتَّى يُخَيَّرَ الْمُسْلِمُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ لَهُمَا عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ النَّصْرَانِيُّ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ بِفَسَادِ الرِّقِّ، وَالْإِقْرَارُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا تُوجِبُ شَيْئًا إلَّا بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ وَلَوْ شَهِدَ نَصْرَانِيَّانِ عَلَى شَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ أَعْتَقَهُ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ شَهَادَةَ الْمُسْلِمَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي وَكَمَا لَا يَثْبُتُ قَضَاءُ الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمَيْنِ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ نَصْرَانِيًّا فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ ادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَلَى أَلْفٍ وَشَهِدَ لَهُ شَرِيكَاهُ عَلَى الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ قَدْ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ وَإِنَّمَا بَقِيَ دَعْوَاهُ الْمَالَ عَلَيْهِ فَالْآخَرَانِ يَشْهَدَانِ بِالْمَالِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا أَحَدِ الشُّرَكَاءِ أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بِغَيْرِ جُعْلٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا، وَشَهَادَةُ ابْنِ الْعَبْدِ بِالْعِتْقِ تُقْبَلُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَالْمَوْلَى يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا بِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بَعْدَ ظُهُورِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَلَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْعَبْدُ أَعْتَقَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَشَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ بِمَا ادَّعَى وَأَقَامَ الْأَبُ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لَهُ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمَالُ بِبَيِّنَةٍ وَالْعَبْدُ يَنْفِي الْمَالَ بِمَا يُقِيمُ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِذَا كَانَتْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَشَهِدَ ابْنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّرِيكِ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا لِأَمَةِ أَبِيهِمَا وَلِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ التَّضْمِينِ لَهُ قَبْلَ الشَّرِيكِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَى أَبِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا ثُمَّ مَاتَتْ الْخَادِمَةُ وَتَرَكَتْ مَالًا وَقَدْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَدًا فَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي حَيَاةِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى اسْتِسْعَاءِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا إذَا خَلَّفَتْ مَالًا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّرِيكُ كَمَا كَانَ يَضْمَنُهُ فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّرِيكُ بِمَا يَضْمَنُ فِي تَرِكَتِهَا كَمَا كَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلِابْنِ لِأَنَّ بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ يُحْكَمُ بِعِتْقِهَا وَعِتْقِ وَلَدِهَا مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ لَمْ تَدَعْ مَالًا رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّ الِابْنَ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَبَقَاؤُهُ كَبَقَائِهَا وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِأَدَاءِ مَا عَلَى أُمِّهِ، وَإِنْ لَمْ تَمُتْ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ فِي تِلْكَ السِّعَايَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْدَ مَوْتِهَا لَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْوَلَدِ وَفِي حَالِ حَيَاتِهَا لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ بِاعْتِبَارِ احْتِبَاسِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عِنْدَهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي وَلَدِهَا فَلِهَذَا لَا يَسْتَسْعِيهَا بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْوَلَدِ وَلَا بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّرِيكُ، وَأَمَّا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فَقَدْ تَقَرَّرَ احْتِبَاسُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عِنْدَهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ مَا دَامَتْ تَسْعَى حَتَّى لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَإِنْ وَلَدَتْ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا وَإِنْ اشْتَرَتْ أَبَاهَا أَوْ أُمَّهَا أَوْ وَلَدَهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَبِيعَهُمْ وَلَوْ اشْتَرَتْ أَخَاهَا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا فَلَهَا أَنْ تَبِيعَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتِحْسَانًا وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْقِيَاسُ. أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُكَاتَبِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحُرَّ لَوْ اشْتَرَى أَخَاهُ يَصِيرُ فِي مِثْلِ حَالِهِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا اشْتَرَى أَخَاهُ يَصِيرُ فِي مِثْلِ حَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَبَيْنَ الْحُرِّ حَتَّى يَصِيرَ فِي مِثْلِ حَالِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بِهَا وَهَذَا لِأَنَّ مَا لِلْمُكَاتَبِ مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهِ يَحْتَمِلُ الْكِتَابَةَ حَتَّى لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ صَحَّ كَمَا أَنَّ مَا لِلْحُرِّ مِنْ الْمِلْكِ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَإِذَا سَوَّى هُنَاكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْآبَاءِ فِي إثْبَاتِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِلْكُ الْحُرِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 فَكَذَلِكَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا هُنَا فِي إثْبَاتِ مَا يَحْتَمِلُهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ تَكَاتَبَ عَلَيْهِ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِبَدَلٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَبَعٌ وَمَعْنَى الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ لِأَجْلِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَتَكَاتَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ فَأَمَّا مَعْنَى الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَلَا يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَسَائِرِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ بَعْدَ ظُهُورِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الِابْنَ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا يُقْضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ أَبِيهِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ بِالِاكْتِسَابِ فَيُؤَدِّي، فَكَذَلِكَ هُنَا ثَبَتَ حَقُّ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فِي الْكَسْبِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْعِتْقِ عَتَقَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهُمْ لِهَذَا، وَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْإِخْوَةِ فِي الْكَسْبِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ مِنْ الْمِلْكِ إذَا ظَهَرَ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْإِخْوَةِ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُمْ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالنَّفَقَةِ لِآبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْكَسْبِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ مِنْ الْمِلْكِ وَهُنَا لَوْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَالَهُ مِنْ الْحَقِّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَحْتَمِلُ الصِّلَةَ التَّامَّةَ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَقَارِبَ يَكْثُرُونَ فَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَيْعُهُمْ إذَا دَخَلُوا فِي مِلْكِهِ أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَالِ لِيُؤَدِّيَ فَيَعْتِقَ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآبَاءِ فَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحَ وَلَهَا أَنْ تَبِيعَهُ كَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمِلْكِ فِي رَقَبَةِ الزَّوْجِ وَحَقُّ الْمِلْكِ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ وَالضَّعِيفُ لَا يَرْفَعُ الْقَوِيَّ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَاشْتَرَى امْرَأَتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا إنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَاشْتَرَى وَلَدَهَا مَعَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَتِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْأُمِّ تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْمَتْبُوعِ وَقَدْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ بَيْعُ الْوَلَدِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْأُمِّ أَيْضًا، وَإِنْ كَفَلَ عَنْ الْمُسْتَسْعَى رَجُلٌ بِسِعَايَتِهِ لِمَوْلَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ السِّعَايَةَ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ فَلَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ دَيْنُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا حَاضِرًا وَتَرَكَ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَخْتَصِمُوا فِي أَمْرِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّيْنُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْحَاضِرِ يُؤَدَّى مِنْهُ سِعَايَتُهُ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا وَالْوَلَدُ الْحُرُّ وَالْمَوْلُودُ فِي السِّعَايَةِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْكُلَّ يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهِ ثُمَّ يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَدِهِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ أَصْلٌ كَمَا فِي النَّسَبِ وَإِنَّمَا كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِعَدَمِ الْوَلَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 فِي جَانِبِ الْأَبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْوَلَاءُ فِي جَانِبِهِ انْجَرَّ إلَيْهِ وَلَاءُ أَوْلَادِهِ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ حَتَّى جَنَى وَلَدُهُ الْحُرُّ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عَاقِلَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ، فَإِنْ اخْتَصَمَ مَوَالِي الْأُمِّ وَمَوَالِي الْأَبِ فِي وِلَايَتِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّيْنِ فَقُضِيَ بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ ثُمَّ خَرَجَ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الدَّيْنُ لِمَوَالِي الْأَبِ كُلُّهُ لَا يَكُونُ لِلِابْنِ فِيهِ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَدَعُ الْعَتَاقَيْنِ وَنَجْعَلُ السِّعَايَةَ لِلْمَوْلَى وَمَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِلِابْنِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا حَكَمَ بِوَلَائِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَقَدْ حَكَمَ بِرِقِّ الْأَبِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالرَّقِيقُ لَا يَرِثُهُ الْحُرُّ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ قَطَعَهُ عَنْ جَانِبِ الْأَبِ حِينَ قَضَى بِوَلَائِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ وَقَضَى بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُعْتَقَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَبْقَى بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي حُكْمُ الْكِتَابَةِ فِيهِ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا خَرَجَ مَالُهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّتِهِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا وَالْحُرُّ يَرِثُهُ ابْنُهُ الْحُرُّ وَالْقَاضِي مَا قَضَى بِقَطْعِ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي سِعَايَةٍ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أَبِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ وَأَمَةٌ زَوْجَيْنِ لِرَجُلٍ وَأَعْتَقَ نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَضَى عَلَيْهِمَا بِالسِّعَايَةِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِمَا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقُتِلَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَدِيَتُهُ وَمَالُهُ لِأُمِّهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أُمِّهِ يَتْبَعُهَا فِي الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَلَمْ يَعْتِقْ فَكَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ دَاخِلًا فِي سِعَايَتِهَا فَلِهَذَا كَانَ بَدَلُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لَهَا وَلَوْ جَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً سَعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَوْ مَاتَ أَبَوَاهُ سَعَى فِيمَا بَقِيَ عَلَى أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ دُونَ الْأَبِ فَيَقُومُ مَقَامَهَا فِي السِّعَايَةِ فِيمَا عَلَيْهَا وَلَوْ مَاتَتْ أُمُّهُ عَنْ مَالٍ أَدَّى مِنْهُ سِعَايَتَهَا وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلِابْنِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مُكَاتَبٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ السِّعَايَةَ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ عَنْ مَالٍ يُؤَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ سِعَايَتِهِ، وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِمُعْتِقِهِ لَا يَرِثُ ابْنُهُ وَلَا امْرَأَتُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَيْنِ مَا لَمْ تُؤَدِّ الْأُمُّ سِعَايَتَهَا وَهَذَا وَمَا لَوْ كُوتِبَ الزَّوْجَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ مُعْتَقَ النِّصْفِ إذَا جَنَى فَنِصْفُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالنِّصْفُ عَلَيْهِ وَإِذَا جُنِيَ عَلَيْهِ فَأَرْشُ نِصْفِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَرْشَ الْعَبِيدِ، وَأَرْشُ النِّصْفِ الْآخَرِ أَرْشَ الْأَحْرَارِ وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيْنَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ مُوسِرٌ جَازَ ذَلِكَ وَثُبُوتُ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِسَمَاعِ الْقَاضِي مِنْهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا نِصْفَ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُلَامِ وَالْوَلَاءُ لَهُ إنْ كَانَ جَاحِدًا لِلْعِتْقِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ زَعْمِهِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي سَقَطَ اعْتِبَارُ زَعْمِهِ بِخِلَافِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ كُلُّهُ لَهُ فَشَهِدَا عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ عَتَقَ وَلَا وَلَاءَ لَهُ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْمُقِرِّ بِمَا يُقِرُّ بِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُ حَقٌّ، وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لَا تَعْقُبُ الْوَلَاءَ وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الَّذِي بَاعَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ عَتَقَ كَمَا لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ مِمَّنْ كَانَ مَالِكًا لَهُ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ: أَنَا مَا أَعْتَقْته وَإِنَّمَا عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَالْمُشْتَرِي: يَقُولُ بَلْ أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ فَالْوَلَاءُ لَهُ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ وَلَاؤُهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ فَيَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّكْذِيبِ أَصْلًا وَلَكِنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا فَإِذَا صَدَّقَهُ ثَبَتَ مِنْهُ وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ أَوْ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مِلْكِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا بِالشِّرَاءِ وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْبَائِعِ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِهِ وَلَا يَعْتِقَانِ حَتَّى يَمُوتَ الْبَائِعُ فَإِذَا مَاتَ عَتَقَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِتَعَلُّقِ عِتْقِهِمَا بِمَوْتِ الْبَائِعِ وَالْبَائِعُ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِمَا نَافِذٌ لَأَنْ يَمْلِكَهُمَا فَعِنْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ يَحْصُلُ التَّصَادُقُ مِنْهُمَا عَلَى الْحُرِّيَّةِ إذَا كَانَ الْمُدَبَّرُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْبَائِعِ فَلِهَذَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا كَالْجِنَايَةِ عَلَى مَمْلُوكَيْنِ قَبْلَ مَوْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْتِقَانِ إلَّا بِمَوْتِهِ وَتُوقَفُ جِنَايَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ السِّعَايَةُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِمَا وَأَرْشُ جِنَايَتِهِمَا، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَمُوجِبُ جِنَايَتِهِمَا عَلَى الْبَائِعِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَجِنَايَتُهُمَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِمَا وَيُخَاطَبُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ وَمَعَ جَهَالَةِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ فَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ جِنَايَتُهُمَا وَلَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فَقَالَا هُمَا بِمَنْزِلَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 الْمُكَاتَبَيْنِ فِي الْحَالِ حَتَّى يَكْتَسِبَانِ وَيُنْفِقَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْ كَسْبِهِمَا وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَخْذِ الْكَسْبِ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا قُلْنَا عَلَيْهِمَا السِّعَايَةُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِمَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَكَذَلِكَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ الْآخَرِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ذَلِكَ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ تَخْدِمُ الْمُنْكِرَ يَوْمًا وَيُرْفَعُ عَنْهَا يَوْمٌ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُقَرِّ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمُنْكِرِ لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِهِمَا عَلَى شَرِيكِهِ بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ يَسْعَى لِلْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هُنَاكَ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهَا مُمْتَنِعًا فَلِهَذَا تَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ وَهُنَا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَكُنْ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهَا مُمْتَنِعًا فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا لِلْمُنْكِرِ وَلَكِنْ فِي زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَتْ وَأَنَّ شَرِيكَهُ كَاذِبٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا يَوْمًا مِنْ كُلِّ يَوْمَيْنِ كَمَا قَبْلَ هَذَا الْأَوَانِ وَلَيْسَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ وَأَنَّ حَقَّهُ فِي الضَّمَانِ قَبْلَ شَرِيكِهِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَجِنَايَتُهَا وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ تَسْعَى فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِأَخْذِ الْأَرْشِ فَتَسْتَعِينُ بِهَا، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمَّا قَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ فِي نَصِيبِ الْجَاحِدِ كَانَتْ كَالْمُكَاتَبِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةَ الْحَالِ لَا يُقْضَى فِيهَا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ حُكْمُ جِنَايَتِهَا وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نِصْفُ جِنَايَتِهَا عَلَى الْجَاحِدِ لِأَنَّ نِصْفَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْتَخْدِمَهَا بِقَدْرِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ جِنَايَتُهَا عَلَيْهَا تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ كَسْبِهَا وَلَوْ جَعَلْنَاهَا مَوْقُوفَةً فَمَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ أَحَقَّ بِكَسْبِهَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهَا فِي كَسْبِهَا كَالْمُكَاتَبَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 [بَابُ عِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ] (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِجَارِيَتِهِ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَا وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ مِلْكَ الْأُمِّ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْجَنِينَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ وَقِيَامُ سَبَبِ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْيَمِينِ الْمُضَافِ جُعِلَ التَّعْلِيقُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الشِّرَاءُ كَالتَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ مَوْجُودًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ مَوْجُودًا وَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ تَلِدْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ الْوِلَادَةَ وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَهِيَ حُبْلَى ثُمَّ وَلَدَتْهُ لَمْ تَعْتِقْ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ فَإِنَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُعْتِقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى وَهِيَ حُبْلَى جَازَ بَيْعُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهَا وَإِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَعْتِقْ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْحَالِفِ وَإِنْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا كَانَ فِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ مَادَامَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ رَقِيقٌ وَلَوْ كَانَ قَالَ كُلُّ وَلَدٍ تَحْبَلِينَ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ كَانَ فِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرِّ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ هُنَا وُجُودُ الْحَبَلِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الضَّرْبِ فَإِنَّمَا وُجِدَتْ جِنَايَةُ الضَّارِبِ عَلَى جَنِينٍ هُوَ حُرٌّ وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ حُرٌّ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْوَلَدِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَحُرِّيَّتِهِ فَإِنَّمَا بَاعَهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ حُرٌّ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ أَوَّلُ مَا وَلَدَتْ فَهُوَ حُرٌّ وَالْبَاقُونَ أَرِقَّاءُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أَوَّلُ مَا وَلَدَتْ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ وَالْبَاقُونَ مَعَ الْأُمِّ أَحْرَارٌ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى عَتَقَتْ الْأَمَةُ وَإِنَّمَا عَتَقَتْ بَعْدَ انْفِصَالِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ عَنْهَا فَكَانَتْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ وَالْبَاقُونَ أَحْرَارٌ لِأَنَّهُمْ انْفَصَلُوا مِنْهَا بَعْدَ حُرِّيَّتِهَا وَالْوَلَدُ لَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْحُرَّةِ إلَّا حُرًّا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ أَوَّلٌ يَعْتِقُ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُهَا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَتُرَقُّ فِي حَالٍ وَيَعْتِقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغُلَامَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ فَإِنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَهَذَا الْغُلَامُ حُرٌّ وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَالْغُلَامَانِ يَعْتِقَانِ بِعِتْقِ الْأُمِّ فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ يَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ، ثُمَّ حُرِّيَّةٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَعْتِقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَيَسْعَى فِي رُبْعِ قِيمَتِهِ وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَارِيَتَيْنِ رُبْعُهَا لِأَنَّ إحْدَاهُمَا أَمَةٌ بِيَقِينٍ وَالْأُخْرَى تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَإِنَّهَا إنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَالْجَارِيَتَانِ مَمْلُوكَتَانِ وَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا فَهَذِهِ مَمْلُوكَةٌ وَالْأُخْرَى حُرَّةٌ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ يَعْتِقُ نِصْفُهَا وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَكَانَ نِصْفُ الْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبْعُ حُرِّيَّةٍ وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ وَإِنْ تَصَادَقَ الْأُمُّ وَالْمَوْلَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ أَوَّلٌ عَتَقَ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ وَالْبَاقُونَ أَرِقَّاءُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ فِيمَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي رَقِّهِ وَحُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ هُوَ الْمَوْلَى فَكَانَ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ مَنْ عَتَقَ مَقْبُولًا مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَتْ الْأُمُّ خِلَافَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِهَا وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ وَإِذَا قَالَ لَهَا إنْ كَانَ حَمْلُك غُلَامًا فَأَنْتَ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَكَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يَعْتِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ قَالَ تَعَالَى {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَالْعِدَّةُ لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ فَإِنَّمَا جُعِلَ شَرْطُ عِتْقِهَا كَوْنَ جَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ غُلَامًا وَشَرْطُ عِتْقِ الْجَارِيَةِ كَوْنَهَا جَمِيعَ مَا فِي الْبَطْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا فِي بَطْنِهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ فِي الْكَلَامَيْنِ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ عِتْقِهَا وُجُودَ الْغُلَامِ فِي بَطْنِهَا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا فَعَلِمْنَا أَنَّهَا عَتَقَتْ قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدَيْنِ عَنْهَا فَيَعْتِقُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا وَإِذَا قَالَ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ أَوَّلٌ عَتَقَتْ هِيَ مَعَ ابْنَتِهَا وَالْغُلَامِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ وَالْأُمُّ مَعَ الْغُلَامِ رَقِيقَانِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَاتَّفَقَ الْأُمُّ وَالْمَوْلَى عَلَى شَيْءٍ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا وَإِنْ قَالَا لَا نَدْرِي فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ وَالِابْنَةُ حُرَّةٌ وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَهِيَ حُرَّةٌ وَالْغُلَامُ رَقِيقٌ وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ وَالْغُلَامُ وَالْأُمُّ رَقِيقَانِ فَالْأُمُّ تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَالْغُلَامُ عَبْدٌ بِيَقِينٍ وَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ إمَّا أَنْ تَعْتِقَ بِنَفْسِهَا أَوْ بِعِتْقِ الْأُمِّ وَلَوْ كَانَ قَالَ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ وَالْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ حُرَّتَانِ وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَهُمْ أَرِقَّاءُ فَالْأُمُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ رَقِيقٌ بِيَقِينٍ وَذُكِرَ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمَوْلَى بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ وَإِنْ حَلَفَ فَهُمْ أَرِقَّاءُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ بَعْضِهِمْ، وَاعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْحُرِّيَّةِ صَحِيحٌ وَهُنَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لِجَوَازِ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ شَرْطَ الْعِتْقِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ فَوَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَتَقَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي بَطْنِهَا وَإِذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ نَتَيَقَّنْ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَالْعُلُوقُ يُضَافُ إلَى أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَإِنْ وَلَدَتْ وَاحِدًا لِأَقَلَّ مِنْهَا بِيَوْمٍ وَالْآخَرَ لِأَكْثَرَ مِنْهَا بِيَوْمٍ عَتَقَا لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْأَوَّلِ فِي بَطْنِهَا وَقْتَ الْيَمِينِ حِينَ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُمَا تَوْأَمٌ وَاحِدٌ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَالْحُكْمُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَطْنِ فِي وَقْتٍ حُكْمٌ بِوُجُودِهِمَا وَإِذَا أَعْتَقَ أُمَّتَهُ وَلَهَا زَوْجٌ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ الْعِتْقِ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ لَاعَنَ وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ لِأَنَّ الْحِلَّ قَائِمٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي حَالٍ هُمَا أَهْلُ اللِّعَانِ فَيُقْطَعُ النَّسَبُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَ أَبَاهُ وَلَاعَنَ، أَمَّا اللِّعَانُ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَأَمَّا لُزُومُ الْوَلَدِ أَبَاهُ فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فَلَزِمَهُ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ بَعْدَهُ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أَعْتَقَ الْأُمَّ فَصَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ وَلَهُ وَلَاءُ نَفْسِهِ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كُنْت حُبْلَى فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهِيَ حُرَّةٌ وَوَلَدُهَا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُنْجِزًا عِتْقَهَا بِالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَعْتِقْ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ وَمَا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَلَوْ قَالَ لَهَا مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ فَضَرَبَ رَجُلٌ بَطْنَهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا حِينَ قَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ حُكِمَ بِعِتْقِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 فَإِنْ قِيلَ) فَلَعَلَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَإِعْتَاقُ الْمَيِّتِ بَاطِلٌ (قُلْنَا) قَدْ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبٌ وَهُوَ الضَّرْبُ فَيُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ وَلَمَّا حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الضَّارِبِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ فَعَلَى الْجَانِي مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ كَانَ أَوَّلُ مَا تَلِدِينَهُ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ فَوَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَرُبْعُ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا ثُمَّ الْجَارِيَةَ فَالْأُمُّ حُرَّةٌ وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ فَالْأُمُّ رَقِيقَةٌ فَهِيَ تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَأَحَدُ الْغُلَامَيْنِ رَقِيقٌ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ يَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ رُبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا يُقَالُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الْجَارِيَتَيْنِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ وِلَادَةِ الْغُلَامِ أَوَّلًا ثُمَّ الْجَارِيَةِ، وَإِذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَيْنِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وِلَادَةِ الْجَارِيَةِ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامِ لِأَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ الْغُلَامِ بَعْدَ وِلَادَةِ الْجَارِيَةِ وَقَدْ وُجِدَ سَوَاءٌ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا وِلَادَةُ جَارِيَةٍ أُخْرَى أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فِي بَطْنٍ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَنِصْفُ الْغُلَامِ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ فَيَعْتِقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالِابْنَةُ أَمَةٌ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا ثُمَّ الْجَارِيَةَ فَإِنَّمَا عَتَقَتْ الْأُمُّ بَعْدَ انْفِصَالِ الْجَارِيَةِ فَهِيَ أَمَةٌ وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَهِيَ أَمَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ رِقَّهَا مُتَعَيَّنٌ وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَتْ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ كَالْحَيِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَالْمَرْأَةَ تَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ فَيَتِمُّ شَرْطُ عِتْقِهَا بِوِلَادَتِهِ وَلَوْ كَأَنْ قَالَ هُوَ حُرٌّ لَا يَنْحَلُّ يَمِينُهُ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ الْوَلَدُ الْحَيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ انْحِلَالَ شَرْطِ الْيَمِينِ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْحِلَالِ الْيَمِينِ نُزُولُ الْجَزَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَمْ يَعْتِقْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا وَقَعَ الطَّلَاقُ ثُمَّ عِنْدَكُمْ وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ يَعْتِقُ الْحَيُّ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنْ صَارَ مَوْجُودًا بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَوْجُودًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ ثَانِي وَلَدٍ حَتَّى لَوْ قَالَ ثَانِي وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ يَعْتِقُ هَذَا وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ أَوَّلًا وَثَانِيًا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا حُكِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ وَلَدٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ حَتَّى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ وَالْجَارِيَةُ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ بِوَلَدٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عِتْقَ الْأُمِّ أَوْ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ كَانَ الْمَيِّتُ وَلَدًا فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عِتْقَ الْوَلَدِ لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ وَلَدًا فِيهِ وَلَكِنْ هَذَا تَشَهٍّ وَمَعَ أَنَّهُ تَشَهٍّ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ وَلَدًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى يَنْحَلَّ يَمِينُهُ بِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ وَلَدًا فِي حَقِّ الْوَلَدِ الثَّانِي حَتَّى لَا يَعْتِقَ فَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ جَازَى بِكَلَامِهِ مَا لَا يُجَازَى بِهِ إلَّا الْحَيُّ فَتَصِيرُ الْحَيَاةُ مُدْرَجَةً فِي كَلَامِهِ وَيَكُونُ الْمُضْمَرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ إلَّا بِإِضْمَارِ الْحَيَاةِ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ فَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ " فَهُوَ حُرٌّ " أَنَّ حَيَاةَ الْوَلَدِ مُضْمَرٌ فِي كَلَامِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَهُوَ حُرٌّ كَانَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَبِهِ فَارَقَ الطَّلَاقَ وَعِتْقَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ الْكَلَامِ إلَى إضْمَارِ الْحَيَاةِ فِي الْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِمَوْتِ الْوَلَدِ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا ثُمَّ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يُجْعَلُ ثَابِتًا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَفِيمَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ يُجْعَلُ مَدْرَجًا فِي كَلَامِهِ وَفِيمَا لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ لَا يُجْعَلُ مُدْرَجًا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ وَاحِدًا ثُمَّ يُحْكَمَ بِوُجُودِهِ فِي بَعْضِ الْجَزَاءِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَك فَقَالَتْ حِضْت تُصَدَّقُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا دُونَ ضَرَّتِهَا وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ مُدْرَجَةٌ فِي كَلَامِهِ فَاَلَّذِي وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْمَيِّتِ أَوَّلُ وَلَدٍ حَيٍّ وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ ثَانِي وَلَدٍ وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِتْقَ يَنْفُذُ فِيهِ مِنْ مِلْكِهِ وَمِنْ الْمُشْتَرِي مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إضْمَارِ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَهَهُنَا الْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ أَصْلًا فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْحَيَاةَ مُدْرَجَةً فِي كَلَامِهِ وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَكَذَّبَهَا الْمَوْلَى وَقَالَ هَذَا عَبْدِي مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يَعْتِقْ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْتِقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ مَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْعِتْقُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْخُصُوصِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِي حَقِّ نَسَبِ الْوَلَدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 فَكَذَلِكَ تُقْبَلُ فِيمَا جُعِلَ بِنَاءً عَلَى الْوِلَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ كَانَ بِهَا حَبْلٌ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ جَاءَتْ امْرَأَةٌ تَشْهَدُ عَلَى الْوِلَادَةِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ بِيَوْمٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَبِالِاسْتِيلَادِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ الِاسْتِيلَادُ مِنْ أَحْكَامِ نَسَبِ الْوَلَدِ فَأَمَّا هَذَا الْعِتْقُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوِلَادَةِ وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِيمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْوِلَادَةِ وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ حُبْلَى فَإِذَا وَلَدْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ عَتَقَتْ لَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِأَنَّهَا حُبْلَى فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ وُقُوعِ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ظُهُورَ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي بَطْنِهَا وَقَدْ ظَهَرَ بِقَوْلِهَا كَمَا إذَا قَالَ لَهَا إذَا حِضْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَإِذَا قَالَ لَهَا إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فَيَنْبَغِي لَهُ فِي الْوَرَعِ وَالتَّنَزُّهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَحَامِلٌ هِيَ أَمْ لَا لِأَنَّ سَبَبَ الْحَبَلِ هُوَ الْوَطْءُ فَبَعْدَ مَا وَطِئَهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا قَدْ حَبِلَتْ وَقَدْ عَتَقَتْ فَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ وَاجِبٌ فَلِهَذَا نَأْمُرُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِذَا حَاضَتْ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ فَيَطَأَهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ مَا تَطْهُرُ وَهَكَذَا دَأْبُهُ وَدَأْبُهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَتَيَقَّنَّا بِأَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ مَا عَلِقَتْ فَإِنَّمَا وَطِئَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ بِالشُّبْهَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تَعْتِقْ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْحَبَلُ بَعْدَ الْيَمِينِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ عُلُوقٍ كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ (فَإِنْ قِيلَ) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنْ يَسْتَنِدَ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؟ (قُلْنَا) نَعَمْ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالشَّكِّ لَا يَنْزِلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ وَإِذَا قَالَ لِأَمَتَيْهِ مَا فِي بَطْنِ إحْدَاكُمَا حُرٌّ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ كَالْمُنْفَصِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُنْفَصِلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ الْعِتْقَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا فِي الْبَطْنِ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَ أَحَدِهِمَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ الْأُخْرَى لِأَنَّ الَّذِي انْفَصَلَ مَيِّتًا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ وَمُزَاحِمًا لِلْآخَرِ فِيمَا أَوْجَبَ فَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ ضَرُورَةً وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ مَعًا فَأَلْقَتَا جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنِينَيْنِ كَانَ مَمْلُوكًا يَقِينًا وَبَعْدَ إيجَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ بَقِيَا كَذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُنْفَصِلَيْنِ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ قِيمَةُ مَمْلُوكٍ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنْ قَالَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ حُرٌّ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ حُرٌّ أَوْ سَالِمٌ عَتَقَ مَا فِي الْبَطْنِ الْأُولَى وَالْخِيَارُ بَيْنَ سَالِمٍ وَمَا فِي بَطْنِ الثَّانِيَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَا فِي بَطْنِ الْأُولَى بِعَيْنِهَا وَخَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ عِتْقِ مَا فِي بَطْنِ الثَّانِيَةِ وَسَالِمٍ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ " أَوْ " وَذَلِكَ لِلتَّخْيِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ حُرٌّ وَأَحَدُ الْآخَرَيْنِ فَيَعْتِقُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْآخَرَيْنِ يُوقِعُ الْعِتْقَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَإِذَا قَالَ لِأَمَتَيْهِ مَا فِي بَطْنِ إحْدَاكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَتْ إحْدَاهُمَا وَجَاءَتْ أُخْرَى فَقَالَ مَا فِي بَطْنِ إحْدَاكُمَا حُرٌّ ثُمَّ وَلَدْنَ كُلُّهُنَّ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَبِيدِ ذَكَرَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكُتُبِ، وَالتَّخْرِيجُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ فَنَقُولُ رَجُلٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ الثَّالِثُ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَالْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِيهَامَ كَانَ مِنْهُ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْكَلَامَيْنِ يَخْتَلِفُ بِبَيَانِهِ، فَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الثَّابِتَ أَوْ أَعْنِيهِ الْآنَ وَاخْتَارَهُ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يَنْوِ الْعَبْدَ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَصَحَّ الْكَلَامُ الثَّانِي لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ عَنَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي الثَّابِتَ تَعَيَّنَ الْخَارِجُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّابِتَ خَرَجَ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْخَارِجِ فِي مُوجِبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ حِينَ أَنْشَأَ عِتْقَهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الثَّانِي الدَّاخِلَ عَتَقَ الدَّاخِلُ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ مُرَادَهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ عَتَقَ مِنْ الْخَارِجِ نِصْفُهُ وَمِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَمِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرُبْعُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ حُرِّيَّةٌ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ وَقَدْ فَاتَ الْبَيَانُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَيَشِيعُ فِيهِمَا فَلِهَذَا يَعْتِقُ مِنْ الْخَارِجِ نِصْفُهُ وَمِنْ الثَّابِتِ نِصْفُهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الثَّابِتَ، وَيَجِبُ بِهِ حُرِّيَّةٌ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ فَأَوْجَبْنَا بِهِ نِصْفَ حُرِّيَّةٍ بِاعْتِبَارِ التَّرَدُّدِ ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ فَيَكُونُ نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبْعُ لِلثَّابِتِ فَاجْتَمَعَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ حُرِّيَّةٍ وَحَصَلَ لِلدَّاخِلِ رُبْعُ حُرِّيَّةٍ بِالْكَلَامِ الثَّانِي فَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتِقُ مِنْهُ رُبْعُهُ وَلِأَنَّهُ شَرِيكُ الثَّابِتِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي فَلَا يُصِيبُ إلَّا قَدْرَ مَا يُصِيبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 الثَّابِتُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَشَبَّهَ هَذَا بِمَنْ لَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ قَالَ لِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَخَرَجَتْ إحْدَاهُمَا وَدَخَلَتْ الثَّالِثَةُ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ يَسْقُطُ مِنْ مَهْرِ الْخَارِجَةِ رُبْعُهُ وَمِنْ مَهْرِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ ثُمُنُهُ لِلطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْكَلَامُ الثَّانِي صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الثَّابِتَ عَتَقَ بِهِ عَلَى مَا بَقِيَ وَهُوَ النِّصْفُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الدَّاخِلَ عَتَقَ بِهِ كُلُّهُ فَالدَّاخِلُ يَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَا يَعْتِقُ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ، وَبَيَانُ هَذَا الْكَلَامِ إمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْأُولَى لَمَّا شَاعَتْ فِيهِمَا كَانَ الثَّابِتُ مُعْتَقَ الْبَعْضِ، وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ أَهْلٌ لِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَصِحُّ الْكَلَامُ الثَّانِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَاقِعًا عَلَى الثَّابِتِ حِينَ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي فَصَحَّ الْكَلَامُ الثَّانِي، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَسْقُطُ مِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ رُبْعُهُ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْفَرْقُ وَاضِحٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَالْكَلَامُ الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يُوجَدُ شَخْصٌ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَيَكُونُ مَحَلًّا لِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ وَالثَّابِتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حِينَ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَمَّا الطَّلَاقُ لَا يُوجَدُ شَخْصٌ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً وَمَنْكُوحَةً ثُمَّ يَصِحُّ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ الثَّانِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (قُلْنَا) إنْ كَانَ صَحِيحًا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ مَهْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ شَيْءٌ، فَسَقَطَ بِهِ رُبْعُ مَهْرٍ ثُمَّ يَتَرَدَّدُ هَذَا الرُّبْعُ بَيْنَ الثَّابِتَةِ وَالدَّاخِلَةِ فَيُصِيبُ الدَّاخِلَةَ نِصْفُ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ فَلِهَذَا سَقَطَ ثُمُنُ مَهْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ فَإِنَّهُمْ يَقْتَسِمُونَ الثُّلُثَ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمْ فَيُضْرَبُ الْخَارِجُ فِي الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ وَالثَّابِتُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَالدَّاخِلُ بِسَهْمَيْنِ فِي قَوْلِهِمَا فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ كُلُّ رَقَبَةٍ سَبْعَةٌ، فَيَسْتَسْعِي الْخَارِجُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِهِ، وَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ وَالْمُقِيمُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الدَّاخِلُ إنَّمَا يُضْرَبُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَسْعَى الْخَارِجُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَالثَّابِتُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَالدَّاخِلُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ. إذَا عَرَفْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 هَذَا التَّخْرِيجُ فِي الْعَبِيدِ فَكَذَلِكَ فِيمَا فِي بَطْنِ الْجَوَارِي لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ كَالْمُنْفَصِلِ وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ قَدْ أَعْتَقْت مَا فِي بَطْنِك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْك فَقَبِلَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ غُلَامًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِقَبُولِهَا الْمَالَ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا الْقَبُولُ وَالْمَالُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْجَنِينِ لِأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَهُ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْجَنِينِ وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى الْجَنِينِ فِي إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهُ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ وَإِعْتَاقُ شَخْصٍ بِبَدَلٍ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِمَالٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَقَبِلَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِمَالٍ أَجْنَبِيٍّ وَقَبِلَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُنْتَفِعٌ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ فِي الْعُقْبَى وَالْوَلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ انْتَفَعَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ بَدَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِالشَّرْطِ كَمَنْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ بِبَدَلٍ عَلَى غَيْرِهِ فَأَمَّا الزَّوْجُ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِالطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ لِمِلْكِهِ فَإِذَا شَرَطَ بَدَلًا عَلَى غَيْرِهِ وَالْتَزَمَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ كَانَ صَحِيحًا كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ غُلَامًا ثُمَّ كَاتَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَجَزْت ذَلِكَ وَالْتَزَمَهُ إنْ كَبِرَ أَوْ عَقَلَ فَرَضِيَ، وَفَرْضُ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ فَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَجُوزُ وَتَلْزَمُ الْأُمَّ، وَلَا يَلْزَمُ الْغُلَامَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى الْوَلَدِ فِي إلْزَامِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إيَّاهُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَاتَبَ لَهُ عَبْدًا حَاضِرًا وَعَبْدًا لَهُ غَائِبًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ عَلَى إجَازَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ الْعَقْدُ وَتَكُونُ الْأَلْفُ كُلُّهَا عَلَى الْحَاضِرِ بِقَبُولِهِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ الْبَدَلَ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَ عِتْقَ الْآخَرِ مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِدُونِ الْقَبُولِ مِنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (قَالَ) وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةَ أَلْفٍ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ فَكَاتَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَوْ عَلَيْهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا كَاتَبَتْ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمِّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ دَاخِلَةً فِي الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْقَبُولِ مِنْ الِابْنِ إذَا كَبِرَ أَوْ عَقَلَ وَمَقْصُودُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالَةِ الِاجْتِنَانِ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 الْبَطْنِ وَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنَّ حَالَةَ الِاجْتِنَانِ فِي الْبَطْنِ لَا يَتَوَقَّفُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الِاجْتِنَانِ وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَدْ تَوَلَّى عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ وَإِذَا كَبِرَ أَوْ عَقَلَ فَرَضِيَ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ مَتَى مَا أَدَّى إلَيَّ أَلْفًا فَوَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَتَى مَا أَدَّى فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ فِي تَنْجِيزِ الْعِتْقِ كَالْمُنْفَصِلِ فَكَذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِأَدَائِهِ الْمَالَ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ فِيهَا إلْزَامَ الْمَالِ إيَّاهُ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيقِ إلْزَامُ الْمَالِ إيَّاهُ بَلْ التَّعْلِيقُ يَتِمُّ بِالْمُعَلَّقِ وَحْدَهُ وَكَلَامُهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ مَتَى أَدَّى هَذَا الْمَوْلُودُ أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ صَحَّ وَعَتَقَ إذَا أَدَّى فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ. وَلَوْ قَالَ لِثَلَاثِ إمَاءٍ لَهُ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ حُرٌّ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ أَوْ فِي بَطْنِ هَذِهِ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِ الْأُولَى وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْبَاقِيَتَيْنِ لِإِدْخَالِهِ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِي غُلَامٌ فَأَعْتِقُوهُ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَعْتِقُوهَا ثُمَّ مَاتَ فَكَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُعْتِقَهُمَا مِنْ ثُلُثِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ أَنْ لَا يُعْتِقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامًا أَوْ جَمِيعُ مَا فِي بَطْنِهَا جَارِيَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي التَّخْيِيرِ وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اُعْتُبِرَ مَقْصُودُ الْمَوْلَى وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِإِعْتَاقِ الْغُلَامِ عَنْهُ وَبِإِعْتَاقِ الْجَارِيَةِ، وَكَلَامُهُ هَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْتِقُوا مَا فِي بَطْنِهَا غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً أَوْ كِلَاهُمَا فَيَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ أَوْ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِمَا مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا فَهُمَا حُرَّانِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَتَيْنِ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْغُلَامِ أَوَّلًا وَلَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْجَارِيَةِ أَوَّلًا فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَنِصْفُ الْغُلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ ثُمَّ الْغُلَامَ فَالْغُلَامُ حُرٌّ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ، قَالَ وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَارِيَتَيْنِ رُبْعُهَا وَتَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا (قَالَ) أَبُو عِصْمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَتَسْعَى فِي الرُّبْعِ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَإِنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَتَانِ تَعْتِقَانِ بِعِتْقِهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامَ عَتَقَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ وَالْأُخْرَى تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا فَيَكُونُ السَّالِمُ لَهُمَا حُرِّيَّةٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 مَنْ تَكَلَّفَ لِتَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ فَقَالَ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ مَقْصُودَةٌ بِالْعِتْقِ فِي حَالٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ هَذَا جَانِبُ التَّبَعِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ جَانِبِ التَّبَعِيَّةِ فَإِحْدَاهُمَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَإِنَّمَا يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا وَلَكِنْ هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي التَّخْرِيجِ لِلْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ إذًا فَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ أَبُو عِصْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا وَهُوَ غَنِيٌّ ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ غُلَامًا مَيِّتًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ لِأَنَّ نُفُوذَ عِتْقِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ حَيَاةِ الْجَنِينِ وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا حِينَ انْفَصَلَ مَيِّتًا وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَى الضَّارِبِ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ غُلَامًا وَعُشْرُ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِ الْمُعْتِقِ مِنْ الْجَنِينِ وَيَبْقَى الرِّقُّ فِيهِ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ نِصْفُ ذَلِكَ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا وَجَبَ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الضَّارِبِ فَيَتَقَدَّرُ حُكْمُ الضَّمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ نِصْفُ ذَلِكَ لِشَرِيكِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ فِيمَا أَدَّى الضَّارِبُ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَرِكَةً لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا ضَمِنَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ فِيمَا تَرَكَهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ الْبَاقِي مِيرَاثٌ عَنْهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَقْرَبُ مِنْهُ مِنْ أَخٍ أَوْ نَحْوِهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ فِي جَمِيعِهِ لِلْمُعْتِقِ حِينَ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ مِيرَاثًا بِوَلَائِهِ وَيَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ مُعْتَبَرًا بِوَقْتِ الِانْفِصَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِوَقْتِ الْعَتَاقِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُجْتَنًّا فِي الْبَطْنِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِأَقْرَبِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ بَطْنَهَا أَحَدٌ وَلَكِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ بِيَوْمٍ وَلَدًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْمُعْتِقِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مُعْتَبَرًا بِوَقْتِ الِانْفِصَالِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ لَمْ تَلِدْ حَتَّى أَعْتَقَ الْآخَرُ الْأُمَّ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ وَلَدَتْ فَاخْتَارَ شَرِيكُهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَعْدَ إعْتَاقِ الْجَنِينِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِي الْأُمِّ وَقَدْ أَفْسَدَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ حِينَ أَعْتَقَهَا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَيَرْجِعَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمَةِ، وَوَلَاءُ الْأَمَةِ لِلَّذِي أَعْتَقَهَا وَوَلَاءُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 لِأَنَّهُمَا أَعْتَقَاهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَاءُ الْوَلَدِ كُلُّهُ لِمُعْتِقِ الْوَلَدِ. وَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْبَطْنِ ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ الْأُمَّ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَنِيٌّ ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ فَإِنَّ الَّذِي أَعْتَقَ الْأُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهَا وَيَكُونُ وَلَاءُ الْأُمِّ لِلَّذِي أَعْتَقَهَا لِمَا بَيَّنَّا وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْمُدَبَّرِ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ وَلَاءِ الْوَلَدِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الْوَلَدِ إنَّمَا عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ الَّذِي أَعْتَقَ الْأُمَّ فَلِهَذَا كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّدْبِيرُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلَّذِي دَبَّرَهُ وَاسْتَحَقَّ وَلَاءَ جَمِيعِهِ وَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، ثُمَّ الشَّرِيكُ بِإِعْتَاقِ الْأُمِّ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَوَلَاءُ الْأُمِّ لِمَنْ أَعْتَقَهَا وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِلْمُدَبِّرِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأُمِّ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وَلَاءُ الْوَلَدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْعِتْقِ عَلَى الْمَالِ] (قَالَ) رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ أَوْ وَهَبَ لَهُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ وَإِذَا قَبِلَهُ الْعَبْدُ فَهُوَ حُرٌّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِقَبُولِ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ الْعِتْقِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِقَبُولِهِ وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ مَالِيَّةَ نَفْسِهِ فَيَبْطُلَ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى وَتَحْدُثَ الْقُوَّةُ لِلْعَبْدِ بِإِيجَابِ الْمَوْلَى وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْوَلَاءِ بِعِوَضٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِقَبُولِهِ وَقَدْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلِالْتِزَامِ فِيهَا وَتَأَيَّدَتْ بِالْعِتْقِ، وَيَجُوزُ وُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِقَبُولِ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْقَاتِلِ بِقَبُولِ الصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ وَلِهَذَا كُلُّ مَا يَصْلُحُ الْتِزَامُهُ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ يَصْلُحُ الْتِزَامُهُ عِوَضًا هُنَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَالِ فِي جِنْسِهِ أَوْ مِقْدَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِاتِّفَاقِهِمَا وَالْمَالُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى إمَّا لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ أَوْ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى أَعْتَقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تُقْبَلْ وَقَالَ الْعَبْدُ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِقَبُولِهِ الْمَالَ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى وَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 غَائِبًا، ثُمَّ الْعَبْدُ يَدَّعِي وُجُودَ الشَّرْطِ بِقَبُولِهِ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ قُلْت لَك أَمْسِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت فَلَمْ تَشَأْ وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَدْ شِئْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَقَالَ الْمُشْتَرِي قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ إلَّا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَإِذَا أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِذَلِكَ الْمَالِ مِنْهُ مَا بَدَا لَهُ يَدًا بِيَدٍ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَالْأَثْمَانِ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّتَهُ عَلَى مَالٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَلَمْ تَدَعْ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهَا بَعْدَ حُرِّيَّتِهَا فَكَانَ حُرًّا وَلَيْسَ عَلَى الْحُرِّ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ مُوَرِّثِهِ إذَا مَاتَ وَلَوْ أَعْطَتْهُ فِي حَيَاتِهَا كَفِيلًا بِالْمَالِ الَّذِي أَعْتَقَهَا عَلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَثَبَتَ الْمَالُ دَيْنًا عَلَيْهَا بِصِفَةِ الْقُوَّةِ وَالْكَفَالَةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الدُّيُونِ صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ مُكَاتَبًا وَلَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يُؤَدِّيَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُوجِبُ الْمَالَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْقَبُولِ فَيَثْبُتُ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمَكَاسِبِ، وَهُنَا الْمَالُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمَكَاسِبِ، وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ الْمَوْلَى تَعْلِيقٌ لِعِتْقِهِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى بَيْعُهُ وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ بِالْمَالِ عَتَقَ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ لَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمَوْلَى نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ وَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ جَاءَ بِالْمَالِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ مَالٍ مَعْلُومٍ إلَى الْمَوْلَى فَإِذَا خَلَّى بَيْنَ الْمَالِ وَالْمَوْلَى يَعْتِقُ كَالْمُكَاتَبِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ تَعْلِيقٌ وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصُودِ كِتَابَةٌ لِأَنَّهُ حَثَّهُ عَلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَرَغَّبَهُ فِي الْأَدَاءِ بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنْ الْعِتْقِ وَلَيْسَتْ الْكِتَابَةُ إلَّا هَذَا وَهَذَا الْمَالُ عِوَضٌ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي زَوْجَتِهِ الطَّلَاقَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ بَائِنًا وَأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ وَجَدَ الْمَالَ زُيُوفًا فَرَدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ بِالْجِيَادِ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَوَفَّرْنَا عَلَيْهِ التَّعْلِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ لِمُرَاعَاةِ لَفْظِ الْمَوْلَى وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَوَفَّرْنَا عَلَيْهِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ فِي الِانْتِهَاءِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ فَقُلْنَا كَمَا وَضَعَ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى يَعْتِقُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَلَا أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت فَشَاءَ الْعَبْدُ فِي الْمَجْلِسِ يَعْتِقُ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالْمَالِ يَعْتِقُ وَهَذَا وَمَا قَبْلَ الْبَيْعِ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ، وَالْعُذْرُ وَاضِحٌ فَإِنَّ مَعْنَى التَّعْلِيقِ لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَلَكِنْ مَعْنَى الْكِتَابَةِ يَبْطُلُ بِنُفُوذِ الْبَيْعِ فِيهِ وَإِجْبَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَانَ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِنُفُوذِ الْبَيْعِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ بَعْدَهُ فَأَمَّا قَبْلَ الْبَيْعِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ بَاقٍ كَمَا بَيَّنَّا وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ الْإِجْبَارَ حِسًّا وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ يَعْتِقُ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهُ وَإِذَا أَحْضَرَ الْعَبْدُ الْمَالَ لَا يُمْكِنُ الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنْ الْمَالِ دِرْهَمٌ فَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ وَلِمَوْلَاهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا. إلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّرُ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَكَمَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ إذَا قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت فَكَذَلِكَ هَذَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ فِي الْكِتَابَةِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْأَدَاءُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ هُنَاكَ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْأَدَاءِ فِي الْمَجْلِسِ هُنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ كَمَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ فِي الْكِتَابَةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ تَمَّ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ فَإِنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ عَتَقَ بِالْقَبُولِ فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُنَا لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْأَدَاءِ فَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْعِتْقُ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى فِيهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا فَأَيُّ الشَّرْطَيْنِ أَتَى بِهِ الْعَبْدُ يَعْتِقُ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِلْزَامِ وَفِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَإِنَّمَا إذَا قُبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ وَلَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْمَوْلَى إلْزَامٌ فَإِنَّهَا وَإِنْ قُبِلَتْ لَا يُجْبَرُ الْعَبْدُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ. وَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ أَدَّتْ لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا مَعَهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا عَتَقَتْ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَقَدْ انْفَصَلَ الْوَلَدُ عَنْهَا قَبْلَ هَذَا فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ ذَلِكَ الْعِتْقُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَبَقِيَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا وَإِنْ أَدَّتْ الْأَلْفَ مِنْ مَالِ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى لَمْ يَحْصُلْ بِهَا فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَحُثَّهَا عَلَى الِاكْتِسَابِ لِتُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهَا فَيَمْلِكَ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكًا قَبْلَ هَذَا، وَبِأَدَاءِ مَالِ الْمَوْلَى إلَيْهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمِثْلِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّتْ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَسْبَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَلَوْ أَدَّتْهُ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَتْهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَرْجِعْ الْمَوْلَى عَلَيْهَا بِشَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ قَدْ تَمَّ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْمَقْبُوضُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى لَمْ يَبْطُلْ الْعِتْقُ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَمَّ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَقِّ وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهَذَا الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى مَرِيضًا حِينَ قَالَ لَهَا إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَاكْتَسَبَتْ وَأَدَّتْ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ مَرَضِهِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ ثُلُثِهِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ كَسْبَهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ مِلْكُهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى فِي حُكْمِ الْعِوَضِ حَتَّى إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا اسْتَبْدَلَهُ بِالْجِيَادِ وَلِأَنَّ الضَّرَرَ مُنْدَفِعٌ عَنْ الْوَرَثَةِ حِينَ اسْتَوْفَى الْمَوْلَى مِنْهَا مِقْدَارَ مَالِيَّتِهَا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ فِيهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَقَبِلَتْ فَهَذِهِ مُكَاتَبَةٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَإِنْ كَسَرَتْ شَهْرًا وَاحِدًا ثُمَّ أَدَّتْ إلَيْهِ ذَلِكَ الشَّهْرَ كَانَ جَائِزًا هَكَذَا فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا تَكُونُ مُكَاتَبَةً وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ وَلَوْ كَسَرَتْ شَهْرًا ثُمَّ أَدَّتْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي لَمْ تَعْتِقْ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَبِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ سَوَاءٌ كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِوُجُودِ أَدَاءِ الْمِائَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 فِي عَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ عَلَّقَهُ بِأَدَاءِ الْأَلْفِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَمْ تَكُنْ مُكَاتَبَةً وَلَا تَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِ صُورَةِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَهُ بِالْأَدَاءِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ حِينَ جَعَلَ الْمَالَ مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا عَلَيْهِ وَالتَّأْجِيلُ وَالتَّنْجِيمُ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَلَّكْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا كَانَ بَيْعًا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ وَالتَّنْجِيمَ لِلتَّيْسِيرِ وَذَلِكَ فِي الْمَالِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيجَابَ الْمَالِ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَالُ إلَّا بِالْكِتَابَةِ وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَلَمْ تُؤَدِّهَا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَأَدَّتْهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تَعْتِقْ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا وَبِهَذَا اسْتَشْهَدَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْكِتَابَةِ مِنْ التَّنْجِيمِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ فِيهِ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِ أَدَاءِ الْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ كِتَابَةً وَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالتَّنْجِيمِ وَإِذَا قَالَ مَتَى أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْوَارِثِ فَلَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُ الشَّرْطِ بَعْدَ هَذَا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لِتَعْتِقَ بِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِكِيَّةِ يَدًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَلَكِنْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى حَتَّى يَعْتِقَ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ إنْ أَدَّيْت أَلْفًا بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِمَالٍ وَالْعِتْقُ بِغَيْرِ مَالٍ فِي صِحَّةِ إيجَابِهِ مِنْ الْمَوْلَى سَوَاءٌ لَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إذَا أَدَّيْت أَلْفًا بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ، إذَا جَاءَتْ بِالْمَالِ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهَا وَيُعْتِقَهَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ فَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْفَضْلُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ إذَا أَدَّيْتُمَا إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ أَدَاؤُهُمَا جَمِيعًا الْمَالَ، وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءًا وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّى أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْأَلْفِ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَدَاؤُهُمَا فَلَا يَتِمُّ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَالَ الْمُؤَدِّي خَمْسُمِائَةٍ مِنْ عِنْدِي وَخَمْسُمِائَةٍ بَعَثَ بِهَا صَاحِبِي لِأُؤَدِّيَهَا إلَيْك عَتَقَا لِأَنَّ أَدَاءَ الرَّسُولِ كَأَدَاءِ الْمُرْسَلِ فَيَتِمُّ الشَّرْطُ بِهَذَا وَهُوَ أَدَاؤُهُمَا جَمِيعًا الْمَالَ، فَإِنْ أَدَّاهَا عَنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ لَمْ يَعْتِقَا لِأَنَّ الشَّرْطَ أَدَاؤُهُمَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ هُنَاكَ بَرَاءَتُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 عَنْ الْمَالِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَبِلَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا لِيَعْتِقَا بِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، فَإِنْ قَالَ أُؤَدِّيهَا إلَيْك عَلَى أَنَّهُمَا حُرَّانِ أَوْ عَلَى أَنْ تُعْتِقَهُمَا فَقَبِلَ عَلَى ذَلِكَ عَتَقَا وَيَرْجِعُ الْمَالُ إلَى الْمُؤَدِّي، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ قَبُولَ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الْمَوْلَى إيَّاهُمَا، وَأَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ فَلِأَنَّ عِوَضَ الْعِتْقِ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِذَا أَدَّاهَا وَقَالَ هُمَا أَمَرَانِي أَنْ أُؤَدِّيَهَا إلَيْك عَنْهُمَا فَقَبِلَهَا عَتَقَا لِأَنَّهُ رَسُولٌ عَنْهُمَا فِي الْأَدَاءِ وَأَدَاءُ الرَّسُولِ كَأَدَاءِ الْمُرْسِلِ، وَقَوْلُهُ لِعَبْدِهِ مَتَى أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ أَدَّيْت أَوْ إذَا أَدَّيْت إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِذْنِ فَإِنَّهُ حَثَّهُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ فَيَكُونُ هَذَا تَرْغِيبًا لَهُ فِي الِاكْتِسَابِ لِيُؤَدِّيَ الْمَالَ وَلَمْ يُرِدْ الِاكْتِسَابَ بِالتَّكَدِّي لِأَنَّهُ يُدْنِي الْمَرْءَ وَيُخَسِّسُهُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الِاكْتِسَابُ بِالتِّجَارَةِ، وَدَلَالَةُ الْإِذْنِ كَصَرِيحِ الْإِذْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ كَذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَإِنْ اكْتَسَبَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَدَّى إلَيْهِ أَلْفًا عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا سَلَّمَ الْفَضْلَ لَهُ وَهُنَا مَا ثَبَتَ لِلْعَبْدِ حُكْمُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَكَاسِبِهِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الْكِتَابَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ وَالْغُرُورُ عَنْ الْعَبْدِ وَذَلِكَ فِي قَدْرِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَأَثْبَتْنَا حَقَّهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَإِنْ قَالَ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى حُطَّ عَنِّي مِنْهَا شَيْئًا أَوْ اقْبَلْ مِنِّي مَكَانَهَا مِائَةَ دِينَارٍ فَحَطَّ عَنْهُ الْمَوْلَى مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَدَّى تِسْعَمِائَةٍ لَمْ يَعْتِقْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَعْتِقْ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ أَدَاءِ الْأَلْفِ فَلَا يَتِمُّ بِأَدَاءِ تِسْعِمِائَةٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَيَتَحَقَّقُ إبْرَاؤُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ حَطَّ بَعْضَهُ وَهُنَا لَا مَالَ عَلَى الْعَبْدِ فَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ بَاطِلٌ وَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ إذَا خَدَمْتنِي سَنَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَخَدَمَهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَتَجَاوَزَ الْمَوْلَى عَمَّا بَقِيَ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتِمَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْخِدْمَةِ عَلَى مَالٍ كَانَ بَاطِلًا وَلَا يَعْتِقُ بِهَا لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بِعَيْنِهِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْخِدْمَةُ بِهَذَا الصُّلْحِ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لَهُ عِنْدَ الصُّلْحِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ أَدَّيْت هَذَا. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا مِنْ الْعُرُوضِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّاهَا إلَيْهِ عَتَقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 لِوُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْكِتَابَةِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْفِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْكِتَابَةِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ وَلَكِنْ إنْ قَبِلَهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ عَلَى الْقَبُولِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَلَوْ قَالَ اخْدِمْنِي وَوَلَدِي سَنَةً ثُمَّ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ إذَا خَدَمْتنِي وَإِيَّاهُ سَنَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَمْ يَعْتِقْ بِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتِمَّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَقَدْ فَاتَ شَرْطُ الْعِتْقِ بِمَوْتِهِ فَلَا يَعْتِقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي سَنَةً فَقَبِلَ فَهُوَ حُرٌّ وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ بِهَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ الْعِتْقَ هُنَا بِقَبُولِ الْخِدْمَةِ وَفِي الْأَوَّلِ أَوْجَبَ لَهُ الْعِتْقَ بِوُجُودِ الْخِدْمَةِ ثُمَّ الْخِدْمَةُ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ دَيْنًا بِمُقَابَلَةِ الْعِتْقِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ قِيمَتِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمَا بَقِيَ بِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ قَالَ عِيسَى وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا هُنَا يَأْخُذُونَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ خِدْمَةِ السَّنَةِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيَخْلُفَهُ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَى بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُنَّهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخِدْمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّرْطُ أَنْ يَخْدُمَ الْمَوْلَى فَيَفُوتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ قِيمَةِ الْخِدْمَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الْخِدْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ فَلَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنْ يَقُولَ الْخِدْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تُوَرَّثُ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ عَيْنِ الْخِدْمَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ أَوْ قِيمَةَ الْخِدْمَةِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 [بَابُ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَدَاوُد وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - يُجَوِّزُونَ بَيْعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْمَحَلِّيَّةَ لِلْبَيْعِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مَعْلُومٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا الْكَلَامِ لَمَّا حَبِلَتْ مِنْ الْمَوْلَى امْتَنَعَ بَيْعُهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَلَا يَقِينَ بَعْدَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ (فَإِنْ قَالَ) إنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا وَقَدْ عَلِمْنَا انْفِصَالَهُ عَنْهَا (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَعْلَقُ مِنْ الْمَاءَيْنِ حُرَّ الْأَصْلِ وَمَاؤُهَا جُزْءٌ مِنْهَا وَثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لِجُزْءٍ مِنْهَا مَانِعٌ مِنْ بَيْعِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَرْتَفِعُ بِالِانْفِصَالِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَبَعْدَ مَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ. أَوْ إنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ: يُقَال أُمُّ وَلَدِهِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ تُوجِبُ الْعِتْقَ فَيَمْتَنِعُ الْبَيْعُ ضَرُورَةً وَبِالِانْفِصَالِ يَتَقَرَّرُ هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَرْتَفِعُ ثُمَّ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْهُ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» «وَلَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهَا وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا تَعْتِقُهَا قَالَ قَدْ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلُ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ لَهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَفِي حَدِيث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» فَفِيهِ دَلِيلُ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ وَانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهَا حِينَ لَمْ يَجْعَلْ عِتْقَهَا مِنْ الثُّلُثِ وَلَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِيهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِحَاجَةِ الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَحَدِيثُ «سَلَامَةَ بِنْتَ مَعْقِلٍ قَالَتْ اشْتَرَانِي الْحُبَابُ بْنُ عَمْرٍو فَوَلَدْت مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ فَجِئْتُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي وَلَدْتُ مِنْ الْحُبَابِ فَقَالَ مَنْ وَارِثُ الْحُبَابِ فَقَالَ أَبُو بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ أَعْتِقُوا هَذِهِ فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتُونَا حَتَّى نُعَوِّضَكُمْ» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ وَارِثَ الْحُبَابِ كَانَ يُنْكِرُ وِلَادَتَهَا مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتِقَهَا احْتِيَاطًا وَوَعَدَهُ الْعِوَضَ مِنْ عِنْدِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إذَا كَانَ ظَاهِرًا ثَبَتَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَحَدِيثُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اسْتَشَارَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَاجْتَمَعْت أَنَا وَهُوَ عَلَى عِتْقِهِنَّ ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أُرِقَّهُنَّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَأْيُ ذَوِي عَدْلٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِ ذِي عَدْلٍ وَحْدَهُ فَدَلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ لَهَا فِي الِابْتِدَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) فَكَيْفَ جَوَّزَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ (قُلْنَا) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِانْقِرَاضِ ذَلِكَ الْعَصْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أُرِقَّهُنَّ إلَى أَدَاءِ السِّعَايَةِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْهُ خِلَافًا فِي أَصْلِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بَلْ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُنَادِي عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا إنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَرَامٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَسْقَطَتْ سَقْطًا اسْتَبَانَ خَلْقُهُ كَانَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ هَكَذَا رَوَى عَنْهُ حَمَّادٌ وَرَوَى عَنْهُ الْحَكَمُ إذَا أَسْقَطَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً كَانَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَبَرَ نَفْسَ اخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ كَمَا فِي حَدِيث عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ حَمَّادٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السَّقْطَ الَّذِي لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ بِوَلَدٍ فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ بِخِلَافِ السَّقْطِ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ وَلَدٌ فِي الْأَحْكَامِ فَيَتَحَقَّقُ نِسْبَتُهَا إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ حَمْلَ أَمَته مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَهُ خِدْمَتُهَا وَوَطْؤُهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ مِلْكَهَا إلَى غَيْرِهِ أَمَّا إذَا ظَهَرَ وِلَادَتُهَا بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ ثَبَتَ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ مُصَادِفٌ مَحَلَّهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَظْهَرْ وِلَادَتُهَا وَزَعَمَ الْمَوْلَى أَنَّهُ كَانَ رِيحًا فِي بَطْنِهَا وَصَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِلْوَلَدِ وَقَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْعِتْقِ بِإِقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِهِ كَمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ مَا فِي بَطْنِك مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي وَلَوْ كَانَ قَالَ مَا فِي بَطْنِك مِنِّي ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ رِيحًا فِي بَطْنِهَا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ تَصْرِيحٌ بِوُجُودِ الْوَلَدِ فِي بَطْنِهَا فَلَا يَكُونُ مُقِرًّا لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ وَإِنْ قَالَ إنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فَوَلَدَتْ وَلَدًا أَوْ أَسْقَطَتْ سَقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَإِنْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِهِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ وِلَادَتَهَا هَذَا الْوَلَدَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَوُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ دَعْوَاهُ مَعْلُومٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ جَازَ ذَلِكَ وَثَبَتَ النَّسَبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 لِأَنَّ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ النَّسَبُ وَأُمِّيَّةُ الْوَلَدِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى لَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ مِنْ السَّيِّدِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ بَعْدَ ثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ لَهَا فِي الْحَالِ وَتَعَلَّقَ التَّنَجُّزُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالِاسْتِيلَادِ أَقْوَى حَتَّى يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابِلَةِ الْقَوِيِّ فَلِهَذَا قَالَ: وَقَدْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ. وَإِذَا أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ أَنَّ أُمَّتَهُ هَذِهِ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ لَهَا فِي حَالٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ عِتْقِهَا مُطْلَقًا وَالْمُقِرُّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّمَا أُقِرَّ بِهِ حَقٌّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ حَقٌّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ كَانَ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي مَرَضِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ ثَبَتَ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ وَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ شَاهِدٌ لَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ وَلَوْ نَجَّزَ عِتْقَهَا كَانَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَرَضِهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ نَسَبِ وَلَدِهِ مِنْهُ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسْلُهُ، وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا صَرَفَهَا مَعَ وَلَدِهَا إلَى حَاجَتِهِ فَكَانَتْ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَهُوَ بِكَلَامِهِ مَا صَرَفَهَا إلَى حَاجَتِهِ بَلْ أَقَرَّ بِعِتْقِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ. وَإِذَا زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ مِنْ رَجُلٍ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ الثَّابِتَ لَهُ عَلَيْهَا سَبَبُهُ مِلْكُ الْيَمِينِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْزَمٍ لِلْمَوْلَى فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَرْوِيجِهِ إيَّاهَا فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ فَلِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِهَذَا الْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا بِصِفَتِهَا وَكَمَا أَنَّهَا تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ وَلَا تَسْعَى لِأَحَدٍ فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِ الْمَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْحُرِّ إلَّا حُرًّا وَعَلَى الْمَوْلَى فِي جِنَايَةِ أُمِّ الْوَلَدِ قِيمَتُهَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ مَنَعَ دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَجْنِي، وَلَوْ كَانَتْ مَحَلَّ الدَّفْعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا دَفْعُهَا بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهَا فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَحَلَّ الْبَيْعِ لَكَانَتْ تُبَاعُ فِيهِ وَيَصْرِفُ كَسْبَهَا وَرَقَبَتَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 إلَى دُيُونِهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ بَيْعُهَا بِالِاسْتِيلَادِ وَجَبَ قَضَاءُ دُيُونِهَا مِنْ كَسْبِهَا بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا تَتَبَاعَدُ مِنْ الْجَانِي وَتَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَيْنَ الْمَمْلُوكِ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ وَلَا تَبْقَى الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ أَوْ عِتْقِهِ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَنْفِهِ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَلَكِنْ يَنْتَفِي عَنْهُ بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ يَلْزَمُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا لَا يَلْزَمُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأُمِّ وَلَدٍ سَوَاءٌ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: أَنَّ عِنْدَهُ الْأَمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا أَيْضًا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الدَّعْوَى فَإِذَا صَارَتْ عِنْدَهُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ هَذَا الْفِرَاشِ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ هَذَا الْفِرَاشِ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَإِنْ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ فَقَدْ انْعَدَمَ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِهَا كَانَ اشْتِغَالُ رَحِمِهَا بِمَائِهِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَعِنْدَنَا لَهُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشٌ مُعْتَبَرٌ وَلِهَذَا لَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ بَعْدَ الْعِتْقِ فَثَبَتَ النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَلَكِنَّ هَذَا الْفِرَاشَ غَيْرُ مُلْزِمٍ فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَكَمَا يَنْفَرِدُ بِنَقْلِ الْفِرَاشِ إلَى غَيْرِهِ يَنْفَرِدُ بِنَفْيِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ مَا لَمْ يَقْضِ بِهِ الْقَاضِي أَوْ يَتَطَاوَلْ ذَلِكَ. فَأَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ لَزِمَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّطَاوُلِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ التَّطَاوُلِ قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ اللِّعَان مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ وَلَدُهُمَا وَإِنْ حَصَّنَهُمَا وَطَلَبَ وَلَدَهُمَا مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ عِنْدَنَا وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْفِرَاشِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَحَصَّنَهَا فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَ وَلَدِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ فَأَمَّا إذَا عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرُ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّ مَا يَظْهَرُ عَقِيبَ سَبَبِهِ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ النَّسَبَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتِقَ الْوَلَدَ وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيَعْتِقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ نَسَبٍ لَيْسَ مِنْهُ لَا يَحِلُّ شَرْعًا فَيَحْتَاطُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَدَّعِيَ النَّسَبَ وَلَكِنْ يَعْتِقُ الْوَلَدَ وَيَعْتِقُ الْأُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّ وَلَدِهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا مِنْ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ تَزْوِيجُهَا صَحِيحًا وَلَكِنَّ هَذَا التَّوَهُّمَ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَلَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ فَتَزْوِيجُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ زَوَّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مِنْ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ سَبَقَ النِّكَاحَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْلَى وَإِنْ زَوَّجَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَمَنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ أَحَدٍ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا وَإِنْ وَلَدْته لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ وَنَسَبُهُ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ. وَإِذَا حُرِّمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ عَلَى مَوْلَاهَا بِوَطْءِ ابْنِهِ إيَّاهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا اعْتَرَضَ عَلَى فِرَاشٍ آخَرَ فَيَكُونُ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِهَذَا السَّبَبِ كَثُبُوتِهَا بِالْحَيْضِ وَذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الْفِرَاشَ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَاجِبٌ فَلَوْ أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ لَكَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ تُوجَدَ الدَّعْوَى مِنْهُ فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الْحُرْمَةِ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ لِلِاحْتِمَالِ. وَإِذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أَعْتَقَهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا بِالْحُرْمَةِ مَا صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ لِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِ لَا لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ حَتَّى إذَا ادَّعَى يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، فَإِذَا أَعْتَقَهَا فَقَدْ زَالَ الْفِرَاشُ إلَيْهَا بِالْعِتْقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ لِهَذَا. وَإِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمَ أَعْتَقَهَا فَنَفَاهُ فَنَفْيُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا قَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 تَأَكَّدَ بِحُرِّيَّتِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَكَانَتْ كَالْمَنْكُوحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَة وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ مَتَى جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ النَّفْيَ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ. وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَوْ مَلَكَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَفِي الْمَغْرُورِ إذَا مَلَكَ الْجَارِيَةَ لَهُ وَجْهَانِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَشَرَطَ لِثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا أَنْ تَلِدَ مِنْ سَيِّدِهَا وَهَذِهِ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجِهَا لَا مِنْ سَيِّدِهَا» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِالزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ إذَا عَلِقَتْ مِنْ سَيِّدِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ يَعْلَقُ حُرَّ الْأَصْلِ مِنْ الْمَاءَيْنِ وَمَاؤُهَا جُزْءٌ مِنْهَا فَثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لِذَلِكَ الْجُزْءِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لِجَمِيعِهَا. إلَّا أَنَّ اتِّصَالَ الْوَلَدِ بِهَا بِعَرْضِ الِانْفِصَالِ وَجَعْلِ الْوَلَدِ كَشَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَلِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاتِّصَالِ أَثْبَتْنَا حَقَّ الْعِتْقِ لِمَا بَقِيَ مِنْهَا وَلِكَوْنِهِ بِعَرْضِ الِانْفِصَالِ وَبِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْحَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ إذَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ، وَحَقُّهَا فِي أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَى حَقِّ الْوَلَدِ فِي الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الِاسْتِيلَادُ بِالزِّنَا فَمِلْكُهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْأُمّ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُونَ فِي الْمَغْرُورِ أَنَّ الْجَارِيَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إذَا مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِحُرٍّ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ مُوجِبَ الِاسْتِيلَادِ ثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا فَإِذَا حَصَلَ قَبْلَ الْمِلْكِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا فِي الْمِلْكِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ كَالتَّدْبِيرِ وَحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِي الْمَغْرُورِ يَقُولُونَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ فَتَكُونُ أُمَّ وَلَدِهِ كَمَا اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَالْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ شَرْطٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ السَّبَبُ قَبْلَ الْمِلْكِ تَوَقَّفَ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ لَمَّا تَقَرَّرَ السَّبَبُ قَبْلَ الْمِلْكِ وَهُوَ النَّسَبُ تَوَقُّفٌ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ حَتَّى إذَا مَلَكَهُ يَعْتِقُ فَكَذَلِكَ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَابِعٌ الْوَلَدَ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَإِنَّ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 لَغْوٌ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ بَعْدَ الْمِلْكِ وَهَذَا السَّبَبُ مُتَقَرِّرٌ شَرْعًا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ لِأُمِّ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ لِلْجُزْئِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي النِّسْبَةِ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا فَتَصِيرُ هِيَ مَنْسُوبَةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ حَتَّى يُقَالَ: أُمُّ وَلَدِهِ، وَهَذَا مُتَقَرِّرٌ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِنِكَاحٍ كَانَ أَوْ بِمِلْكٍ وَلَا، مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَهُ الْخَصْمُ مِنْ حُرِّيَّةِ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حَقُّ الْعِتْقِ وَلَا حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ وَالْجُزْئِيَّةِ لَثَبَتَ هُنَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْجُزْءِ وَالثَّابِتُ لِلْوَلَدِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْقُبُ الْوَلَاءَ وَالثَّابِتُ لَهَا حَقُّ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ مَا قُلْنَا وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ مَوْلَاهَا ثُمَّ مَلَكَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ. فَأَمَّا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِالزِّنَا وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ مَلَكَهَا فِي الْقِيَاسِ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ وَلِلْوَلَدِ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ ثُمَّ فِي حَقِيقَة الْعِتْقِ لِلْوَلَدِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ أَوْ الزِّنَا فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا إنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِحَقِّ الْعِتْقِ لَهَا صَيْرُورَتُهَا مَنْسُوبَةً إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ بِالزِّنَا وَهِيَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ فَلِهَذَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَأَمَّا الْوَلَدُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَقَدْ وُجِدَ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ لَا تَنْعَدِمُ حَقِيقَةً بِسَبَبِ أَنَّ الْوَلَدَ بِالزِّنَا، وَالْإِنْسَانُ كَمَا لَا يَسْتَدِيمُ الْمِلْكَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَدِيمُ الْمِلْكَ عَلَى جُزْئِهِ فَلِهَذَا يُعْتِقُ الْوَلَدَ إذَا مَلَكَهُ. يُقَرِّرُهُ أَنَّ حَالَ الْأُمِّ فِي حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ كَحَالِ الْأَخِ فَإِنَّهُ يَنْسِبُهُ إلَى أَخِيهِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ ثُمَّ مَنْ مَلَكَ أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يَعْتِقُ الْأَخُ؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ قَدْ انْعَدَمَتْ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِالزِّنَا فَكَذَلِكَ الْوَاسِطَةُ هُنَا قَدْ انْعَدَمَتْ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَلَدِهَا بِالزِّنَا فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبَده فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى يَعْتِقُ الْوَلَدُ وَتَكُونُ أُمُّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَهُ وَهُنَا نَسَبُ الْوَلَدِ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ الْمَوْلَى وَمَعَ ذَلِكَ الْجَارِيَةُ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى بِعُلُوقٍ سَبَقَ النِّكَاحَ، وَالشُّبْهَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ النَّسَبِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الزَّوْجِ وَاسْتِغْنَائِهِ بِهِ عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالِاسْتِيلَادِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ لِلنَّسَبِ هُنَاكَ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِالزِّنَا وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدَهُمْ فَإِنْ كَانُوا وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُمْ جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ النَّسَبِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا نَسَبُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْبَاقِيَانِ رَقِيقَانِ وَيَبِيعُهُمَا إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَتَكُونُ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمْ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا ذَاكَ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمْ. وَلَوْ وُلِدُوا فِي مِلْكِهِ بِأَنْ وَلَدَتْ أَمَةُ رَجُلٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ادَّعَى الْأَصْغَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْآخَرَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ ادَّعَى الْأَكْبَرَ ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ مِنْهُ وَالْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا مِنْهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ حِينَ عَلِقْت بِالْأَكْبَرِ وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَنْفِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَخْصِيصُ الْأَكْبَرِ بِالدَّعْوَةِ دَلِيلُ النَّفْيِ فِي حَقِّ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ يَحِقُّ عَلَيْهِ شَرْعًا الْإِقْرَارُ بِنَسَبِ وَلَدٍ وَهُوَ مِنْهُ وَلَمَّا خَصَّ الْأَكْبَرَ بِالدَّعْوَةِ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ هَذَا شَرْعًا كَانَ هَذَا نَفْيًا لِلْآخَرَيْنِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قِيلَ السُّكُوتُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَكِنَّ السُّكُوتَ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيَانِ يُجْعَلُ دَلِيلَ النَّفْيِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الدَّعْوَةِ كَالتَّصْرِيحِ فَدَلِيلُ النَّفْيِ كَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَلَوْ نَفَى الْآخَرَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُمَا وَكَانَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِمَا وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ابْنَ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ فَارَقَهَا فَزَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ مَعَ الْوَلَدَيْنِ فَالْجَارِيَةُ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ، فَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَعْتِقُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَلَدْته بَعْدَ تَمَامِ سَبَبِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ أُمِّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وَلَدْته بَعْدَ مَا مَلَكَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَانَ الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا (وَحُجَّتُنَا) أَنَّ السَّبَبَ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلِّهِ وَالْمَحَلُّ فِي مِلْكِهِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ بِذَلِكَ النَّسَبِ، وَكُلُّ وَلَدٍ انْفَصَلَ قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا لَا يَسْرِي حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَقَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ الْوَلَدُ فَكَذَلِكَ لَا يَسْرِي حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ إلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهَا بِخِلَافِ مَا تَلِدُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهَا وَإِذَا وَلَدَتْ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَعَاهُ أَحَدُهُمَا فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهَا وَقِيَامُ مِلْكِهِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي جَمِيعِهَا فِي صِحَّةِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ مِلْكِهِ يُثْبِتُ النَّسَبَ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ مِلْكِ شَرِيكِهِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَيُغَلَّبُ الْمُثْبِتُ لِلنَّسَبِ احْتِيَاطًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَجِبُ الْعُقْرُ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ وَبَعْضُهُ فِي مِلْكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ نَسَبِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مِنْهُ بِدَعْوَتِهِ وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ احْتِمَالِ الِاسْتِيلَادِ لِلتَّجَزِّي وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ يَوْمَ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ ثَبَتَ لَهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَصِيرُ مُمْتَلِكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا يَمْتَلِكُهَا إلَّا بِعِوَضٍ فَلِهَذَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَطْءِ حَصَلَ مِنْهُ وَنِصْفُهَا مِلْكٌ لِشَرِيكِهِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَجِبُ الْعُقْرُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ تَمَلُّكَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ هُنَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ لَا شَرْطُهُ فَإِنَّ قِيَامَ مِلْكِهِ فِي نِصْفِهَا يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا وَقْتَ الْعُلُوقِ وَلِأَنَّهُ حِينَ عَلِقَ كَانَ مَاءً مَهِينًا لَا قِيمَةَ لَهُ فَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِلشَّرِيكِ شَيْئًا وَضَمَانُ نِصْفِ قِيمَتِهَا عَلَيْهِ فِي حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ إلَّا أَنَّهُ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُعْسِرًا تُؤْمَرُ هِيَ بِالسِّعَايَةِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا فَنَصِيبُ الشَّرِيكِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ احْتَبَسَ عِنْدَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا نَسَبَ الْوَلَدِ وَأَعْتَقَ الْآخَرُ الْوَلَدَ وَأَعْتَقَهَا الْآخَرُ وَخَرَجَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا فَعِتْقُ الْآخَرِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا نَسَبَ الْوَلَدِ وَأَعْتَقَهَا الْآخَرُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَكُونُ سَابِقًا مَعْنًى وَإِنْ اقْتَرَنَ بِالْعِتْقِ صُورَةً، وَلَمَّا ثَبَتَ بِهِ لِلْوَلَدِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فَإِعْتَاقُ الْآخَرِ إيَّاهُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ الْأُمُّ لَمَّا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي النَّسَبِ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ فَقَدْ أَعْتَقَهَا الْآخَرُ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَلِهَذَا كَانَ الْعِتْقُ بَاطِلًا وَدَعْوَةُ الْآخَرِ أَوْلَى كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَةِ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْعُلُوقِ، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُكَاتَبٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 وَعَبْدٍ فَوَلَدَتْ فَادَّعَوْا جَمِيعًا فَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ أَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ فَلَيْسَ لَهُمَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَلَا تُعَارِضُ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ مَنْ لَهُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فَزُفَرُ يَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكٌ فِي نَصِيبِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَصِحَّةُ الدَّعْوَى بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَلَا يَتَرَجَّحُ الْمُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ مَا تَسَاوَيَا فِي السَّبَبِ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ تُوجِبُ الْإِسْلَامَ لِلْوَلَدِ وَدَعْوَةُ الْكَافِرِ تُوجِبُ الْكُفْرَ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ وَالْحُكْمِ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ بِهِ وَبَعْدَ مَا حَكَمَ بِذَلِكَ فَقَوْلُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَتِهِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ مِلْكِهِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا إذْ لَا مُعْتَبَرَ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى وَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شُرَكَائِهِ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ وَالْعُقْرُ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ حِصَّةُ شُرَكَائِهِ مِنْ الْعُقْرِ لِإِقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ حِينَ ادَّعَى النَّسَبَ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّيْنِ لَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مُدَبَّرٌ مُسْلِمٌ كَانَ الْوَلَدُ وَلَدَ الذِّمِّيِّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ شُرَكَائِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّعْوَةَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَا تُعَارِضُهُ الدَّعْوَةُ بِحَقِّ الْمِلْكِ ثُمَّ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَةِ الْكَافِرِ هُنَا إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُ وَلَا يُقَالُ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَةِ الْمَمْلُوكِ إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَالِ مَنْفَعَتُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أُمُورِ الدُّنْيَا أَظْهَرُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ الْحُرِّيَّةَ لِنَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُسْلِمَ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْحُرِّيَّةِ وَجَعَلْنَا الْوَلَدَ وَلَدَ الذِّمِّيِّ الْحُرِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ كَانَ ابْنَ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ ذَلِكَ فَلَا تُعَارِضُ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ الْمُكَاتَبِ. يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَالِكٌ يَدًا وَلَوْ رَجَّحْنَا دَعْوَتَهُ ثَبَتَ لِلْوَلَدِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا دَعْوَتَهُ عَلَى دَعْوَةِ الْمُدَبَّرِ وَالْعَبْدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُكَاتَبٌ لَمْ تَجُزْ دَعْوَى الْمُدَبَّرِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مِلْكُ الْمَوْلَى وَدَعْوَى النَّسَبِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ فَكَيْف يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ وَبِنَحْوِهِ عَلَّلَ، فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يُزَوِّجْهُمْ. وَلَوْ صَدَّقَهُمَا الْمَوْلَى بِالْوَلَدِ وَقَالَا كُنَّا وَطِئْنَاهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَذَكَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ دَعْوَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةٍ مِنْ كَسْبِهِ تَكُونُ صَحِيحَةً كَدَعْوَةِ الْمُكَاتَبِ لِمَا لِلْمَأْذُونِ مِنْ الْيَدِ فِي كَسْبِهِ، فَقَالُوا: تَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَوَهَبَ لَهُ جَارِيَةً وَهُوَ فَارِغٌ عَنْ الدَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ كَسْبُهُ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ الرَّجُلِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ وَآخَرُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا وَيَضْمَنُ لِصَاحِبِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، فَالرِّضَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَرِثَاهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ بِالْإِرْثِ إنَّمَا يَنْعَدِمُ الصُّنْعُ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِاحْتِبَاسِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عِنْدَ الْمُسْتَوْلِدِ مِلْكًا وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَقَرَّرُ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنْ وَرِثَا مَعَهَا الْوَلَدَ وَكَانَ الشَّرِيكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَلَدِ عَتَقَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْقَرَابَةُ تَمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ أَجْنَبِيًّا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ وَسَعَى لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْعِتْقِ يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ وَالْمِيرَاثُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَيَا أَوْ وَهَبَ لَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ عَرَفَ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ شَرِيكَهُ أَبُوهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْأَبُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ. أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَدْ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجٍ حُرٍّ فَاشْتَرَى الزَّوْجُ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ حِينَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَشَرِيكُهُ فِي الْوَلَدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ مِنْ الْوَلَدِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ الشَّرِيكُ عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ وَلَوْ أَنَّ أَمَةً غَرَّتْ رَجُلًا مِنْ نَفْسِهَا فَادَّعَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهَا وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَالْعُقْرُ عَلَى الْوَاطِئِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ وَلَدِ الْمَغْرُورِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى ثُمَّ إذَا عَتَقَتْ رَجَعَ عَلَيْهَا الْأَبُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَالْمَمْلُوكُ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنْ اشْتَرَى أَبُ الْوَلَدِ نِصْفَهَا مِنْ مَوْلَاهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا ثَبَتَ مِنْهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِمَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَادِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَدَ جَارِيَةٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَيَرِثُهُمَا وَيَرِثَاهُ وَحُكْمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ رَجُلَيْنِ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِتَمَامِهِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 شَرْحِ الدَّعْوَى وَمَقْصُودُهُ هُنَا بَيَانُ حُكْمِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَنَقُولُ الْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا لِثُبُوتِ سَبَبِ وَلَدِهَا مِنْهُمَا وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فِي الْمَحَلِّ وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ لِاثْنَيْنِ لَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ فِي الْمَحَلِّ كَمِلْكِ الْقِصَاصِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِاثْنَيْنِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ وَالْعِتْقُ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ إذَا بَاشَرَهُ رَجُلَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتِقًا لِلنِّصْفِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا قُلْنَا تَخْدُمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قَبْلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاسْتِيلَادِ فِي إبْطَالِ مِلْكِ الْخِدْمَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لَلشَّرِيكِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِعِتْقِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَلشَّرِيكِ الْحَيِّ فَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا فِي حَيَاتِهِ عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ لَلشَّرِيكِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ مُعْسِرًا وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى قَوْلِهِمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمَالِكٍ مُحْتَرَمٍ فَتَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْدَامَهَا وَاسْتِكْسَابَهَا وَوَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تَدْخُلُ أُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ مِلْكِ الْيَمِينِ فَصِفَةُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ فِي الْآدَمِيِّ لَيْسَ إلَّا عِبَارَةً عَنْ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِكَوْنِ الْمَالِكِ مُحْتَرَمًا وَلِأَنَّ بِالِاسْتِيلَادِ تَعَلَّقَ عِتْقُهَا بِمَوْتِهِ فَتَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْمُدَبَّرَةِ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى حَاجَتِهِ فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ مِنْ حَوَائِجِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ كَحَاجَتِهِ إلَى الْجِهَازِ وَالْكَفَنِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَالْآدَمِيُّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِيَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَلَا يَصِيرُ مَالًا وَلَكِنْ مَتَى صَحَّ إحْرَازُهُ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَيَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ تَبَعًا فَإِذَا حَصَّنَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ إحْرَازَهُ لَهَا كَانَ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إلَّا لِقَصْدِ التَّمَوُّلِ فَصَارَ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ كَأَنَّ الْإِحْرَازَ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَنْفَصِلُ عَنْ مِلْكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 الْمَالِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ دُونَ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ أَنَّهَا لَا تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَمَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَيَاتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ وَحَاجَتُهُ إلَى النَّسَبِ فَنَقُولُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ثُبُوتُ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا حَتَّى تَجْعَلَ حَاجَتَهُ مُسْقِطًا حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا إنَّمَا لَا تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا صِفَةُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ فَإِنَّ إحْرَازَهَا لِلْمَالِيَّةِ حِينَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدٌ إلَى إحْرَازِهَا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَلِهَذَا تَقَوَّمَتْ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا الْأَصْلَ فَنُخَرِّجُ الْمَسَائِلَ عَلَيْهِ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مِنْهَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَلْزَمُهَا بَدَلُهُ وَإِذَا أُبْرِئَتْ عَنْ السِّعَايَةِ عَتَقَتْ لِبَرَاءَتِهَا عَنْ السِّعَايَةِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مِنْهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ كَمَا فِي الْأَمَةِ إذَا أَعْتَقَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الشَّرِيكِ بِالْإِفْسَادِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ لَلشَّرِيكِ إنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَنْزِلَةِ الْقِنَّةِ. وَمِنْهَا: أُمُّ الْوَلَدِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ وَعَتَقَ وَلَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى لَهُ الْوَلَدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَمِنْهَا: أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا فَمَاتَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْقَتْلِ فَإِنَّ الْحُرَّ يُضْمَنُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْغَصْبِ وَعِنْدَهُمَا أُمُّ الْوَلَدِ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرَّقَبَاتِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أُمَّ الْوَلَدِ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عَلَى نَحْوِ مَا يُضْمَنُ بِهِ الصَّبِيُّ الْحُرُّ حَتَّى لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا وَلَوْ قَرَّبَهَا إلَى مَسْبَعَةٍ فَافْتَرَسَهَا السَّبُعُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا ضَمَانُ الْغَصْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ بِمِثْلِهِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْمَوْلَى عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ مِلْكُ الْخِدْمَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُتْعَةِ وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَا بِالْغَصْبِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ فَالْبَاقِي عَلَيْهَا مِلْكُ الْمَالِيَّةِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ مَالِيَّتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْمَالُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَيَدْخُلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَصْلُ أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ وَفَصْلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 الْمَغْرُورِ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَسَنُبَيِّنُ عُذْرَ كُلِّ فَصْلٍ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ خَالِصَةً فَأَعْتَقَ نِصْفَهَا عَتَقَ جَمِيعُهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا بِحَالٍ وَبَرَاءَتُهَا عَنْ السِّعَايَةِ تُوجِبُ عِتْقَهَا وَعِنْدَهُمَا هِيَ كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ (قَالَ) أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ الْأَكْبَرَ وَالْآخَرُ الْأَصْغَرَ مَعًا فَإِنْ كَانَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَهُمَا ابْنَاهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَدَعْوَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا تَكُونُ دَعْوَةً لَهُمَا وَإِنْ كَانَا فِي بَطْنَيْنِ فَالْأَكْبَرُ وَلَدُ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا وَقَدْ حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِمَا فَتَسْتَنِدُ دَعْوَتُهُ إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ، فَأَمَّا الْأَصْغَرُ فِي الْقِيَاسِ عَبْدٌ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِمُدَّعِيهِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِ الْمُدَّعِي الْأَكْبَرِ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِهِ فَمُدَّعِي الْأَصْغَرِ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَضْمَنُ جَمِيعَ الْعُقْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْءِ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَصْغَرِ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ مِنْ مُدَّعِيهِ بِالدَّعْوَةِ، وَقِيَامُ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا ظَاهِرًا عِنْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ وَنَسَبُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَكُونُ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَامِلَةً لِشَرِيكِهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلَا يَشْكُلُ؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ أَتْلَفَهُ بِالدَّعْوَةِ عَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْعُذْرُ أَنْ يَقُولَ سُقُوطُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْ أُمِّهِ قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا بِدَعْوَةِ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ فِي الْأُمِّ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَلِهَذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِشَرِيكِهِ، أَوْ عُذْرُهُ هُنَا نَظِيرُ عُذْرِهِ فِي الْمَغْرُورِ بِأُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حُرَّ الْأَصْلِ وَثُبُوتُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الرِّقِّ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الرِّقُّ فِيهِ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) وَيَضْمَنُ الْعُقْرَ لِشَرِيكِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى يَضْمَنُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّ مُرَادَهُ هُنَا بَيَانُ جَمِيعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمُرَادُهُ ثَمَّ بَيَانُ حَاصِلِ مَا يَبْقَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ نِصْفُ الْعُقْرِ، فَنِصْفُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 الْعُقْرِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ قِصَاصٌ، يَبْقَى لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفُ الْعُقْرِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ ذِمِّيًّا وَمُدَّعِي الْأَصْغَرِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ فِيمَا ادَّعَى وَالتَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ تَصِحُّ دَعْوَى الذِّمِّيِّ كَمَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ. (قَالَ) أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا حَيٌّ وَالْآخَرُ مَيِّتٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمَيِّتَ وَنَفَى الْحَيَّ لَزِمَهُ الْحَيُّ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ وَدَعْوَتُهُ أَحَدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَتِهِمَا فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْحَيِّ مِنْهُ وَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ) الْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلدَّعْوَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَلَدٌ حَيٌّ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ تُصَادِفْ دَعْوَتُهُ مَحَلَّهُ كَانَ لَغْوًا (قُلْنَا) إنَّمَا لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ نَسَبَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْبَطْنِ وَلَدٌ حَيٌّ وَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُوَ ابْنِي أَيْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي حَتَّى تَصِيرَ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ حَيٌّ فَإِقْرَارُهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ إقْرَارٌ بِأَنَّ الْحَيَّ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا نَسَبَ الْحَيِّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَيِّتَ أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْحَيِّ مِنْهُمَا جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّاهُ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ فَهُوَ مِنِّي وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَلَيْسَتْ مِنِّي وَقَالَ الْآخَرُ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ مِنِّي وَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَلَيْسَ مِنِّي وَالْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا فَمَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ فِي ذَلِكَ الْبَطْنِ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ لِمَا فِي بَطْنِهَا وَالتَّقْسِيمُ الَّذِي ذَكَرَاهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ وَتَقْسِيمٌ فِيمَا هُوَ فِي رَحِمٍ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا لَغَى هَذَا التَّقْسِيمُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَةِ إذَا كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا فَالْوَلَدُ وَلَدُهُ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَةِ مِنْهُ قَدْ صَحَّ وَالتَّقْسِيمُ بَطَلَ وَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالدَّعْوَةُ مِنْ الْآخَرِ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ الْمِلْكِ وَفِي وَلَدٍ ثَابِتِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ بَاطِلًا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ فَهُوَ مِنِّي إلَى سَنَتَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ إنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ فَهِيَ مِنِّي إلَى سَنَتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِمَا لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ قَالَا ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ فَهُمَا رَقِيقَانِ لَهُمَا؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِمَا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَقَوْلُ الْمُدَّعِيَيْنِ إلَى سَنَتَيْنِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ مِنْهُمَا فَلَا طَرِيقَ لَهُمَا إلَى مَعْرِفَةِ مُدَّةِ بَقَاءِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ وَإِنْ جَاءَتْ بِآخَرِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَجَاءَتْ بِالْأَوَّلِ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُمَا وَلَدَا الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِمَا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 الْبَطْنِ حِينَ ادَّعَى الْأَوَّلُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَقْتَ دَعْوَتِهِ وُجُودُ الْآخَرِ كَذَلِكَ وَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إقْرَارِ الثَّانِي وَلِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إقْرَارِ الْأَوَّلِ فَهُمَا وَلَدَا الْآخَرِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِمَا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ دَعْوَةِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فَبَطَلَتْ دَعْوَتُهُ وَتَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِمَا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ دَعْوَةِ الْآخَرِ فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ يَلْزَمُ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ (قَالَ) أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ مِنْ رَجُلٍ قَالَ زَوَّجْتُمَانِيهَا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا فِيهِ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ بِعْنَاكَهَا فَإِنَّ نِصْفَهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مُدَّعِي الْبَيْعِ قَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَ اسْتَوْلَدَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَإِقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فِي الظَّاهِرِ قَالَ وَنِصْفُهَا رَقِيقٌ لِلَّذِي قَالَ زَوَّجْنَاك؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ فِي نَصِيبِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ (قَالَ) وَيُعْتِقُ نِصْفَ الْوَلَدِ حِصَّةُ الَّذِي أَقَرَّ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَإِقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي أَنْكَرَ الْبَيْعَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَسْعَى لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي السِّعَايَةَ وَهُنَا لَا يَسْعَى الْوَلَدُ لِلْمُقِرِّ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ السِّعَايَةِ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْوَلَدَ حُرُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْوَاطِئِ الْعُقْرُ لَهُمَا، نِصْفُهُ لِلْمُقِرِّ بِالنِّكَاحِ يَأْخُذُهُ بِحِسَابِ الْمَهْرِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهُ لِمُدَّعِي الْبَيْعِ يَأْخُذُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَى؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ عَلَى وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ لَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ هُوَ مَهْرٌ وَمُدَّعِي الْبَيْعِ يَقُولُ هُوَ ثَمَنٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا يَسْتَوْفِيه مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيه فَأَمَّا إذَا مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ سَعَتْ الْجَارِيَةُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمُقِرِّ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مُدَّعِي الْبَيْعِ يَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِأَبِ الْوَلَدِ وَأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ زَعْمُهُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِمُدَّعِي النِّكَاحِ وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَمْ تَثْبُتْ فِي هَذَا النِّصْف عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَلَوْ كَانَ الْأَبُ ادَّعَى الشِّرَاءَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ الثَّمَنِ لِلَّذِي صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ لِأَبِ الْوَلَدِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِلَّذِي كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَثْبُتْ فَهِيَ كَأَمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَسْتَوْلِدُهَا أَحَدُهُمَا (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مَجْهُولَةً لَا تُعْرَفُ لِمَنْ كَانَتْ فَقَالَ أَبُ الْوَلَدِ زَوَّجْتُمَانِي وَقَالَا بِعْنَاكَهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَابْنُهَا حُرٌّ؛ لِأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكَتُهُ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا يُصَدَّقُ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا وَيَكُونُ عَلَى الْوَاطِئِ الْقِيمَةُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهَا عَلَيْهِمَا فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِهَذَا وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهُمَا عَنْ هَذِهِ الْقِيمَةِ إقْرَارُهُمَا بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَثْبُتْ حِينَ كَذَّبَهُمَا وَلِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِرْدَادِ لَمْ يَكُنْ بِإِقْرَارِهِمَا بِالْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا وَإِنْ جَحَدَا الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ثُمَّ قَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِأَنَّهَا لَهُمَا وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ وَلَوْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِأَنَّهَا لَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ وَهَذَا لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِرْدَادِ هُنَا بِإِقْرَارِهِمَا بِالْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَنْكَرَا الْبَيْعَ وَالتَّزْوِيجَ كَانَتْ أَمَةً قِنَّةً لَهُمَا فَيَكُونُ إقْرَارُهُمَا بِالْبَيْعِ مَانِعًا لَهُمَا مِنْ الِاسْتِرْدَادِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يُضَمِّنَاهُ قِيمَتَهَا وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِإِقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِدَعْوَى النِّكَاحِ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ (قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْوَاطِئُ الْهِبَةَ وَادَّعَيَا هُمَا بِالْبَيْعِ وَالْجَارِيَةُ مَجْهُولَةٌ لَا يُدْرَى لِمَنْ كَانَتْ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِإِنْكَارِهِمَا وَالْبَيْعُ لَمْ يَثْبُتْ بِإِنْكَارِهِ إلَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِرْدَادِ مَا كَانَ بِإِقْرَارِهِمَا بِالْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بَلْ بِاسْتِهْلَاكِهِ جَارِيَةً زَعَمَ أَنَّهَا لَهُمَا فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لَهُمَا. (قَالَ) وَإِنْ قَالَا غَصَبْتهَا وَقَالَ صَدَقْتُمَا وَهِيَ مَجْهُولَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهَا بَعْدَ الَّذِي دَخَلَهَا مِنْ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهَا مِنْهُمَا وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَيْهِمَا بِمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ (قَالَ) وَإِنْ صَدَّقَتْهُمْ بِذَلِكَ صُدِّقَتْ وَكَانَتْ أَمَةً لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَإِنْ تَصَادَقُوا عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ ذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهِشَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ لَا تُصَدَّقُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَكَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ بَعْدَ مَا حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعِتْقِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا أَخَذَاهَا وَوَلَدُهَا رَقِيقٌ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ غَاصِبٌ زَنَى بِجَارِيَةٍ مَغْصُوبَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ لَمْ يَدَّعِ الشُّبْهَةَ وَإِنْ ادَّعَى بَيْعًا أَوْ هِبَةً أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 نِكَاحًا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ، وَالْحَدُّ بِمِثْلِهِ يَسْقُطُ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ وَثُبُوتُ النَّسَبِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ مَلَكَهَا يَوْمًا مَعَ وَلَدِهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَكَانَ الْوَلَدُ وَلَدُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ لِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ فَإِذَا زَالَ بِمِلْكِهِ إيَّاهَا كَانَ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ مُحْتَمَلٍ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ مُكَاتَبَةِ أُمِّ الْوَلَدِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى خِدْمَتِهَا أَوْ عَلَى رَقَبَتِهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يُرَدُّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مِلْكِ الْيَدِ وَالْمَكَاسِبِ فِي الْحَالِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَحَاجَةُ أُمِّ الْوَلَدِ إلَى هَذَا كَحَاجَةِ غَيْرِهَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ مُوجِبَ الْكِتَابَةِ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَكَاسِبِ لِلْمُكَاتَبِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى يَدًا وَكَسْبًا فَيَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا بِالْبَدَلِ ثُمَّ كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي كِتَابَةِ الْقِنِّ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي كِتَابَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِذَا أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ عَتَقَتْ لِفَرَاغِ ذِمَّتِهَا عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ بَاقٍ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَمِنْ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ عِتْقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. (قَالَ) وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدِّي لِتَعْتِقَ وَقَدْ عَتَقَتْ فَصَارَتْ مُسْتَغْنِيَةً عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَيُسَلَّمُ الْكَسْبُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَبِالْعِتْقِ تَتَأَكَّدُ الْمَالِكِيَّةُ الثَّابِتَةُ لَهَا بِالْكِتَابَةِ. (قَالَ) وَإِنْ بَاعَهَا نَفْسَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِهَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ وَإِسْقَاطُهُ الْمِلْكَ بِبَدَلٍ عَلَيْهَا صَحِيحٌ كَالطَّلَاقِ بِجُعْلٍ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْهُ بِقَبُولِهَا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ الدَّيْنُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ بَطَلَ بِعِتْقِهَا فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا الْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لِلِاسْتِيلَادِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْنَعَ مِنْ وَطْئِهَا وَلَوْ وَطِئَهَا يَغْرَمُ عُقْرًا خَارِجًا مِنْ مِلْكِهِ وَالْفِرَاشُ يَنْعَدِمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى لِتَيَقُّنِنَا أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ حُرٌّ وَقَدْ عَتَقَتْ هِيَ أَيْضًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَادَّعَاهُ فَهُوَ ابْنُهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَا صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ وَحُرْمَتُهَا عَلَى الْمَوْلَى إذَا كَانَتْ بِسَبَبٍ لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا وَلَا تَجْعَلُهَا فِرَاشًا لِغَيْرِهِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ بِجِمَاعِ ابْنِ الْمَوْلَى إيَّاهَا وَلِأَنَّا قَبْلَ الدَّعْوَةِ إنَّمَا لَا نُثْبِتُ النَّسَبَ مِنْهُ تَحَرُّزًا عَنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَوُجُوبِ الْعُقْرِ وَيَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ هَذَا التَّحَرُّزِ إذَا أَقَرَّ هُوَ بِالْوَلَدِ، فَإِنْ جَنَتْ فِي كِتَابَتِهَا جِنَايَةً سَعَتْ فِيهَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهَا كَانَ عَلَى الْمَوْلَى قَبْلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهَا لِلْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا صَارَتْ أَحَقَّ بِكَسْبِهَا أَوْ كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهَا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيلَادِ كَانَ مَانِعًا دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلدَّفْعِ فَهِيَ وَالْقِنَّةُ إذَا كُوتِبَتْ سَوَاءٌ (قَالَ) وَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا كَانَ الْأَرْشُ لَهَا؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ وَهِيَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهَا. (قَالَ) وَإِنْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدًا وَلَدَتْهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْلَى سَعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَقَدْ كَانَتْ فِي حَيَاتِهَا تَسْعَى عَلَى النُّجُومِ لِحَاجَتِهَا إلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِنَفْسِهَا بِالْأَدَاءِ وَحَاجَةِ هَذَا الْجُزْءِ إلَى ذَلِكَ لِحَاجَتِهَا فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ بِبَقَاءِ هَذَا الْجُزْءِ. (قَالَ) وَلَوْ اشْتَرَتْ ابْنًا لَهَا عَبْدًا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهَا فَإِنَّ الْكِتَابَةَ ثَبَتَ لَهَا نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ لِوَلَدِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يُكَاتَبُ عَلَيْهَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى حَتَّى إذَا أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ وَابْنُهَا وَأَبَوَاهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهَا إذَا مَاتَتْ عَنْ هَذَا الِابْنِ الْمُشْتَرَى فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْعَى عَلَى هَذِهِ النُّجُومِ كَالِابْنِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِيَاسِ يُبَاعُ هَذَا الْوَلَدُ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا فَلَمْ يَثْبُتْ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِهَذَا الْوَلَدِ وَإِنْ مَلَكَتْهُ فَيُبَاعُ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ كَسَائِرِ أَكْسَابِهَا بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ مُكَاتَبَةٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ جَاءَ بِالْمُكَاتَبَةِ حَالًا قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَبِعْ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ جُزْءٌ مِنْهَا فَيَقُومُ فِي أَدَاءِ الْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ مُكَاتَبَةٍ فَلَا يَبْقَى الْأَجَلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 بِبَقَائِهِ وَلَكِنْ يَأْتِي بِالْمَالِ حَالًا فَيَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ السِّرَايَةَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْجُزْءِ الْمُتَّصِلِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ فَيَثْبُتُ حَقِيقَةُ سِرَايَةِ الْعَقْدِ إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ وَلَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ سِرَايَةِ الْعَقْدِ إلَى الْوَلَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَثْبُتُ النُّجُومُ فِي حَقِّهِ وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، حُكْمُ هَذَا الْجُزْءِ وَحُكْمُ الْأَصْلِ سَوَاءٌ فَإِذَا جَاءَ بِالْمَالِ حَالًا يُقْبَلُ مِنْهُ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَتْ اشْتَرَتْ أَبَاهَا أَوْ أُمَّهَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيُبَاعَانِ فِي الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ لَيْسَا بِجُزْءٍ مِنْ الْوَلَدِ وَامْتِنَاعُ بَيْعِهِمَا عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَ لِمَالِهِمَا مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهَا وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَوْتِهَا؛ لِأَنَّ حَاجَتَهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ أَبَوَيْهَا فَلِهَذَا يُبَاعَانِ فِي مُكَاتَبَتِهَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَيُجْعَلُ بَقَاءُ هَذَا الْجُزْءِ كَبَقَائِهَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ مِنْ الْقَرَابَاتِ أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا بَيْعُهُمْ إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ الْجَلِيلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِخْوَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ نَصَّ هُنَا فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْأَبِ، وَالْأُمُّ فِي الْقِيَاسِ لَهَا أَنْ تَبِيعَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتْبَعَانِهَا فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِيهِمَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُمَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا بَيْعُهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ وَلَهَا كَسْبٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. (قَالَ) وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ قُوِّمَتْ قِيمَةَ عَدْلٍ فَبِيعَتْ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَيَدِهِ بَعْدَ إسْلَامِهَا وَإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَتَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ كَمَا بَيَّنَّا فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الذِّمِّيِّ مُحْتَرَمٌ فَلَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ مَجَّانًا وَهُوَ إشْكَالٌ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَأَنَّ وَرَاءَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا شَيْءٌ آخَرُ فَإِنَّ مِلْكَهُ الْمُتْعَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُزَالُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الذِّمِّيَّ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ وَيُحْرِزُهَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ جَوَازَ بَيْعِهَا وَإِنَّمَا يَنْبَنِي فِي حَقِّهِمْ الْحُكْمُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَمَا فِي مَالِيَّةِ الْخَمْرِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا مُحْتَرَمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا عِنْدَ الِاحْتِبَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ثُمَّ إذَا احْتَبَسَ نَصِيبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ الْآخَرِ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ قِيمَتِهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ تُبَاعُ فَلَا نُقْصَانَ فِي قِيمَتِهَا وَلَكِنْ قِيلَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرَةِ قَدْرُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا قِنَّةً وَقِيمَةُ أُمِّ الْوَلَدِ قَدْرُ ثُلُثِ قِيمَتِهَا قِنَّةً؛ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ فِي مَمْلُوكِهِ ثَلَاثُ مَنَافِعَ الِاسْتِخْدَامُ وَالِاسْتِرْبَاحُ بِالْبَيْعِ وَقَضَاءُ دُيُونِهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بَعْدَهُ فَبِالتَّدْبِيرِ يَنْعَدِمُ أَحَدُ هَذِهِ الْمَعَانِي وَهُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَيَبْقَى مَنْفَعَتَانِ، وَبِالِاسْتِيلَادِ يَنْعَدِمُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ فَتَتَوَزَّعُ الْقِيمَةُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَا تَعْتِقُ مَا لَمْ تُؤَدِّ السِّعَايَةَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعْتِقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ إزَالَةَ ذُلِّ الْكَافِرِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَفِي اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ذُلٌّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الذُّلُّ فِي الِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَذَلِكَ يَزُولُ بِالِاسْتِسْعَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَمَكَاسِبِهَا فَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَذَا وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الذِّمِّيِّ وَاجِبُ وَلَوْ قُلْنَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا فِي الْحَالِ بِبَدَلٍ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ وَالْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ تَاوٍ لَأَدَّى إلَى الضِّرَارِ بِهِ وَكَانَ هَذَا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ إزَالَتِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلِهَذَا لَا تَعْتِقُ مَا لَمْ تُؤَدِّ السِّعَايَةَ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُعْجِزَ نَفْسَهَا إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَعْتَقَتْ وَسَقَطَ عَنْهَا السِّعَايَةُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَخَارَجَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَتُؤْمَرُ بِأَنْ تَكْتَسِبَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا إلَى أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى فَحِينَئِذٍ تَعْتِقُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى السِّعَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِحَالٍ فَجَعَلَ طَرِيقَ إزَالَةِ الذُّلِّ إخْرَاجَهَا مِنْ يَدِ الْمَوْلَى كَمَا قُلْنَا وَلَوْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ صَارَتْ مُسْتَسْعَاةً لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ وَلَوْ مَاتَتْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ (قَالَ) وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَالَفَانِ وَتَنْفَسِخُ الْمُكَاتَبَةُ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّحَالُفِ فِي الْبَيْعِ ثَابِتٌ أَيْضًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَالْبَيْعُ مَشْرُوعٌ لِلِاسْتِرْبَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ وَالْمُمَاكَسَةِ، وَالْكِتَابَةُ لِلْأَرِقَّاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْكِتَابَةُ بَعْد تَمَامِهَا بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَفِي الْحَالِ مُوجِبُ الْعَقْدِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ يَدًا فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَكَاسِبِ، فَمَا مَضَى فَائِتٌ لَا يَتَحَقَّقُ رَدُّهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَوْ أُلْحِقَ بِهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ كَانَ قِيَاسًا وَالثَّابِتُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَالُفِ فِيهِ مُفِيدًا حَتَّى إذَا نَكَلَ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ مَا قَالَ صَاحِبُهُ وَفِي الْكِتَابَةِ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فَإِنَّهَا لَوْ نَكَلَتْ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ وَكَانَ لَهَا أَنْ تُعْجِزَ نَفْسَهَا فَإِذَا انْعَدَمَ التَّحَالُفُ وَجَبَ اعْتِبَارُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا لِإِنْكَارِهَا الزِّيَادَةَ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ إلَّا أَنَّهَا إنْ ادَّعَتْ مِقْدَارَ مَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ تَعْتِقُ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْحُرِّيَّةَ لِنَفْسِهَا عِنْدَ أَدَاءِ هَذَا الْمِقْدَارِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهَا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مَتَى أَدَّتْ خَمْسَمِائَةٍ عَتَقَتْ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا كَمَا لَوْ أَدَّتْ الْكِتَابَةَ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ تَعْتِقُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا بِحَالِهِ (قَالَ) وَإِذَا كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا وَصِيفًا وَسَطًا فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَتُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا وَعَلَى قِيمَةِ وَصِيفٍ وَسَطٍ، فَتَكُونُ مُكَاتَبَةً بِمَا يَخُصُّهَا وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي الْوَصِيفِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مُشْتَرِيَةً لِلْوَصِيفِ مِنْ مَوْلَاهَا وَشِرَاءُ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بَاطِلٌ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَلْفَ مَذْكُورٌ بِمُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَصِيفُ بِعَيْنِهِ فَاسْتَحَقَّهُ إنْسَانٌ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي حَقِّهَا بِمَا يَخُصُّهَا مِنْ الْبَدَلِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ هَذَا الْعَقْدِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِ الْوَصِيفِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ كَمَا لَوْ كَاتَبَهَا عَلَى وَصِيفٍ وَسَطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَصِيفِ الْوَسَطِ مَعْلُومٌ فَإِذَا قَسَمَ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَصِيفٍ وَسَطٍ تَتَبَيَّنُ حِصَّتُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ الْحَيَوَانُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ أَصْلًا وَانْقِسَامُ الْبَدَلِ مِنْ حُكْمِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الْوَصِيفُ فِي الْعَقْدِ كَانَ هَذَا كِتَابَةً بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَالْكِتَابَةُ بِالْحِصَّةِ لَا تَصِحُّ كَمَا لَوْ كَاتَبَهَا عَلَى مَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ إذَا قَسَمَ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ عَبْدٍ آخَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ خَاطَبَ عَبْدَيْنِ بِالْكِتَابَةِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ كَانَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا صَحَّ الْقَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي الْحَاجَةِ إلَى تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَفَسَادُهَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي نَتَمَكَّنُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 صُلْبِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ يَبْطُلُ فَكَذَا الْكِتَابَةُ وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى وَصِيفٍ فَإِنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَصِيفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ إذَا قَسَمَ عَلَى مَهْرِ فُلَانَةَ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَعَيُّنَ صِفَةِ النَّبَطِيَّةِ فِي الْوَصِيفِ بِاعْتِبَارِ اسْتِحْقَاقِهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ إذَا سَمَّى الْوَصِيفُ بَدَلًا فِي الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لَمَّا لَمْ يَصِرْ الْوَصِيفُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ (قَالَ) وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ الْمُكَاتَبَةَ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْقِنَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى مَا لَمْ تَعْتِقْ فَلَا يَكُونُ مَالُ الْكِتَابَةِ دَيْنًا مُتَقَرِّرًا عَلَيْهِ. (قَالَ) وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَكَاتَبَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ إخْرَاجُهَا مِنْ يَدِ الْكَافِرِ (فَإِنْ قِيلَ) الْبَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا يُقَدَّرُ بِالْقِيمَةِ شَرْعًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ (قُلْنَا) هُنَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَوْلَى اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ مِلْكُهُ فِيهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِزَالَةِ بِبَدَلٍ مُقَدَّرٍ لَمْ يَتَقَرَّرْ هُنَا بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ فَإِنْ عَجَزَتْ هُنَا رُدَّتْ فِي الرِّقِّ وَتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْعَجْزِ هُنَا مُفِيدٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْتَسْعَاةً فِي قِيمَتِهَا (قَالَ) مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ أُمَّ وَلَدٍ ذِمِّيٍّ فَوَلَدَتْ لَهُ سَعَى الْوَلَدُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى الذِّمِّيِّ فَيَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاسْتِسْعَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَافِرًا فَأَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَا دَامَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ (قَالَ) مُكَاتَبٌ ذِمِّيٌّ اشْتَرَى أَمَةً مُسْلِمَةً فَأَوْلَدَهَا كَانَتْ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَثَبَتَ لَهَا نَوْعُ حَقٍّ تَبَعًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ تَمَّ مِلْكُهُ فِيهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلذِّمِّيِّ فَتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا فَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ رَقِيقًا أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى بَيْعِهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ تَقَرَّرَ فِيهَا لِلْمَوْلَى فَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى كَافِرٌ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا (قَالَ) حَرْبِيٌّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا مُسْتَأْمَنًا وَمَعَهُ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِنَا فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا وَكَمَا لَا يُمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ ابْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَوْ أَسْلَمَتْ سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْتَأْمَنِ مُحْتَرَمٌ كَمِلْكِ الذِّمِّيِّ فَيَتَعَذَّرُ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهَا مَجَّانًا فَلِهَذَا سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 [بَابُ دَعْوَى الرَّجُلِ رِقَّ الْغُلَامِ فِي يَدِهِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلَامٌ صَغِيرٌ لَا يَنْطِقُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ هَذَا عَبْدِي فَهُوَ كَمَا قَالَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ خِلَافَهُ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَلَا قَوْلَ فَيَتَقَرَّرُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ عَلَيْهِ وَمَا فِي يَدِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَإِذَا ادَّعَى مَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَابَّةٌ أَوْ ثَوْبٌ فَقَالَ هَذَا لِي. (قَالَ) وَإِنْ أَدْرَكَ الصَّغِيرُ فَقَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي إبْطَالَ مِلْكٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ لِذِي الْيَدِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. (قَالَ) وَإِنْ كَانَ حِينَ ادَّعَاهُ الَّذِي فِي يَدِهِ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فَلَا تَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ يَدُ ذِي الْيَدِ مَعَ ذَلِكَ بَلْ يَدُ نَفْسِهِ تَكُونُ دَافِعَةً لِيَدِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْغُلَامُ أَنَا لَقِيطٌ لِأَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالدَّارِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنَا حُرٌّ فَإِنْ أَقَامَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ بِبَيِّنَتِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمِلْكِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ وَالْمِلْكَ يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْإِثْبَاتَ فِي بَيِّنَةِ الْحُرِّيَّةِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّيَّةِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَلِأَنَّ فِي بَيِّنَتَهُ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَتَهُ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمِلْكِ وَإِنْ قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ هَذَا عَبْدِي وَقَالَ الْغُلَامُ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ فَهُوَ عَبْدُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ وَلَا قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ بَلْ تَتَقَرَّرُ يَدُ ذِي الْيَدِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ يُنْكِرُ رِقَّهُ أَصْلًا. وَقَوْلُهُ فِي دَفْعِ الرِّقِّ عَنْ نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَفِي تَعْيِينِ مَالِكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُحَوِّلُ بِهِ مِلْكًا ثَابِتًا لِذِي الْيَدِ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَهُ فَقَالَ هُوَ: أَنَا عَبْدُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ تَقَرَّرَتْ يَدُهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطِقُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ قُضِيَ بِهِ لِلَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةَ إثْبَاتِ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فَتَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَدُ عَبْدِهِ وَوَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا قَبْلَ وَقْتِ الْأُخْرَى قُضِيَ بِهِ لِلْأَوَّلِ إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْمِيلَادِ. مَعْنَاهُ إذَا كَانَ سِنُّ الْغُلَامِ مُوَافِقًا لِلْوَقْتِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ظَهَرَ عَلَامَةُ الصِّدْقِ فِي شَهَادَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 شُهُودِهِ وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ شُهُودِ الْآخَرِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمِيلَادِ قُضِيَ بِهِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا فَإِنْ كَانَ يُشَكُّ فِيهِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْحُجَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ مِنْ حِينِ وُلِدَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَسْبِقُ الْوِلَادَةَ وَلَا يُعْتَبَرُ سَبْقُ التَّارِيخِ مَعَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلًا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي مَعْنَى الِاحْتِمَالِ وَصَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوَقِّتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَقْتًا غَيْرَ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ شَهِدَتْ أَنَّ هَذَا الْمَوْلَى أَعْتَقَ أُمَّهُ قَبْلَ أَنْ تَلِدَهُ أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ أَعْتَقَ الْغُلَامَ وَأُمُّهُ حَامِلٌ بِهِ أَوْ دَبَّرَهُ قُضِيَ بِهِ لِصَاحِبِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةُ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْغُلَامِ إمَّا مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ قَبْضٌ مِنْ الْمُعْتِقِ فَبِإِثْبَاتِهِ الْعِتْقَ أَوْ التَّدْبِيرَ يَثْبُتُ أَنَّ الْيَدَ لَهُ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تَتَرَجَّحُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ غَيْرَ أَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ شَهِدُوا أَنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَلْبَتَّةَ يُقْضَى بِهِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ، وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ وَلَوْ كَانَ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ زِيَادَةُ إثْبَاتِ النَّسَبِ تَرَجَّحَتْ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. (قَالَ) صَبِيٌّ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُوَ حُرٌّ وَابْنُ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ صَحِيحٌ وَثُبُوتُ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الْبَعْضِ يَنْفِي الرِّقَّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهمَا يَتَجَاذَبَانِهِ فَمَاتَ مِنْ عَمَلِهِمَا بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَتَلَاهُ خَطَأً بَعْدَ مَا حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَنَسَبِهِ لِمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ بَعْدَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ فَيَكُونُ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ وَإِذَا صَارَ مَحْرُومًا كَانَ كَالْمَيِّتِ وَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ لِأَمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَمَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَهِيَ مُقِرَّةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ فَالْأَمَةُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ وَقَدْ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ فِي الْأَمَةِ وَاسْتَوَيَا فِي الْيَدِ فِي الْوَلَدِ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْأَمَةِ لِأَحَدِهِمَا وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِالْوَلَدِ لَهُ (قُلْنَا) ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْأَمَةِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَالْيَدُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا مُوجِبَةٌ لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْ الْوَلَدِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 الصَّبِيُّ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْأُمُّ فِي يَدِ الْآخَرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ جَدَّتُهُ فِي يَدِ الْآخَرِ أَكَانَ يَدْفَعُ إلَى الصَّبِيِّ مَنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ فِي يَدِهِ؟ هَذَا بَعِيدٌ. (قَالَ) وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ بَلْ تُبَيِّنُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ ذَا الْيَدِ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُعْتِقُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ عِنْدَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَحِينَئِذٍ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ لِمَا قُلْنَا. (قَالَ) وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَدَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةَ الْعِتْقِ وَاسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ وَلِأَنَّ حُجَّةَ ذِي الْيَدِ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ وَوَلَاؤُهُ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ وَلِأَنَّهُ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ كَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ يَكُنْ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ لَا تَصِحُّ كَالْإِعْتَاقِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ فَيُصَدَّقُ عَلَى النَّسَبِ حِينَئِذٍ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ يَثْبُتُ لَهُ بِالْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ دُونَهُ فِي احْتِمَالِ النَّقْضِ، وَهَذِهِ زُفَرِيَّةٌ مَوْضِعُهَا كِتَابُ الْبُيُوعِ وَالدَّعْوَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الصَّبِيَّ أَدْرَكَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حُرِّيَّتَهُ بِالْحُجَّةِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا مُقِرًّا بِالْمِلْكِ وَأَمَرَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ عَبْدٌ لِلْبَائِعِ فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ عَتَقَ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لَا نَاقِضَ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ الْمُشْتَرِي عَلَى الَّذِي بَاعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ كَانَ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا حُرٌّ مَا كَانَ يَشْتَرِيه أَحَدٌ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِيهِ، وَالْغُرُورُ مَتَى تَمَكَّنَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ مُثْبِتٌ حَقَّ الرُّجُوعِ لِلْمَغْرُورِ عَلَى الْغَارِّ وَصَارَ كَأَنَّهُ الْتَزَمَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ نَفْسِهِ أَوْ رَدَّ الثَّمَنَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ حَاضِرًا فَرُجُوعُهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الثَّمَنَ حَقِيقَةً وَالْمُشْتَرِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ مُخْتَارًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ حِينَ ضَمِنَ لَهُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ بَحْرِيَّته عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ أُمَّتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْ الْعَبْدِ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا وَإِذَا اسْتَوْلَدَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ غَيْرِهِ وَادَّعَى شُبْهَةً بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهَا لَمْ يَثْبُت نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ فِي حَقِّ مَوْلَاهَا حِينَ عَارَضَهُ بِالتَّكْذِيبِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ فَإِنْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمَحَلِّ فِي حَقِّهِ تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّ خَبَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِهِ لِلْمُعَارَضَةِ مِنْ مَوْلَاهَا وَحَقُّ الْمُعَارَضَةِ كَانَ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ سَقَطَتْ مُعَارَضَتُهُ وَخَلَصَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي حِينَ مَلَكَهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْإِقْرَارُ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ مَالِكُهُ فَهُوَ مَوْلَاهُ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغُلَامُ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي نَسَبِهِ خَلَصَ لَهُ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالتَّصْدِيقِ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ تَعَرُّضٌ لِلْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِلْمَوْلَى إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (فَإِنْ قِيلَ) قَبْلَ الْعِتْقِ لَيْسَ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ أَيْضًا تَعَرُّضٌ لِلْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمَوْلَى (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى مَعَ قِيَامِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَأَمَّا دَعْوَاهُ عِنْدَ تَصْدِيقِ الْغُلَامِ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ يَكُونُ حُجَّةً. (قَالَ) وَإِذَا اسْتَوْلَدَ الْأَبُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ غَصْبًا وَالْوَلَدُ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ أَوْ مُرْتَدٌّ وَقَدْ عَلِمَ الْأَبُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ وَادَّعَاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ كَذَّبَهُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ أَوْ صَدَّقَهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ، أَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ فَلِلتَّأْوِيلِ الثَّابِتِ لَهُ فِي مَالِ الْوَلَدِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَأَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُ فَلِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ ثَابِتٌ إلَّا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ كَالنَّفَقَةِ يَتَمَلَّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ يَتَمَلَّكُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ هُنَا إلَى صِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الضَّيَاعِ فَيَتَمَلَّكُهَا بِضَمَانِ الْقِيمَة سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 فُرُوعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الدَّعْوَى وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ كَافِرًا وَالْوَالِدُ مُسْلِمًا أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ الْمَغْرُورِ وَبَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَيْضًا أَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ وَالْأَبُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَمَلُّكِهَا فِي ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهِ فَإِنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ تَكْفِي لِذَلِكَ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ يَعْنِي لَا يَتَمَلَّكُهَا وَلَكِنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ الْغُرُورِ كَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ غَيْرَ أَنِّي أَخَذْت مِنْ الْأَوَّلِ بِالِاسْتِحْسَانِ يَعْنِي أَنَّ تَمَلُّكَهَا عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ بِهَذَا السَّبَبِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ لِتَحَقُّقِ صِيَانَةِ مَائِهِ وَلِإِثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ وَحَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا. (قَالَ) وَلَوْ وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ وَلَدًا وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَأَبُوهُ مَعًا فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَتِهِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَصِحَّةَ دَعْوَةِ الْأَبِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِ الْمِلْكِ وَتَأْوِيلُ الْمِلْكِ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ثُمَّ دَعْوَةُ الْوَلَدِ تَمْنَعُ الْأَبَ مِنْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجَارِيَةَ بِدَعْوَتِهِ وَبِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ. (قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةً لِمُكَاتَبِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ وَصَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ وَلَدُهُ بِالْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فَكَمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ هُنَاكَ وَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ فَكَذَلِكَ هُنَا إلَّا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ تَصْدِيقُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ التَّصَرُّفَ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، وَالدَّعْوَةُ تَصَرُّفٌ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْوَلَدِ ثُمَّ عِنْدَ التَّصْدِيقِ فِي الْمُكَاتَبِ لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ ثَابِتٌ لَهُ فِي كَسْبِهِ وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بِعَجْزِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةُ مِلْكٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّمَلُّكِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ فِي مَالِ الْوَلَدِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلِلْأَبِ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْوَلَدِ فَإِذَا مَلَكَ الْمَوْلَى الْجَارِيَةَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ كَانَ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ مِنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ دَعْوَتِهِ إلَّا أَنَّ بِمُعَارَضَةِ الْمُكَاتَبِ إيَّاهُ بِالتَّكْذِيبِ امْتَنَعَ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ حِينَ مَلَكَهُ. (قَالَ) وَإِنْ وَطِئَ مُكَاتَبُهُ مُكَاتَبَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ وَصَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 الْأَخِيرَةُ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا فَتَصْدِيقُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ حِينَ كَانَتْ أَمَةً لَهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَالْغُلَامُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْغُلَامُ هُنَاكَ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ بُعْدِهَا مِنْ الْمَوْلَى هُنَاكَ وَاحِدٌ وَقَدْ تَعَدَّدَ هُنَا سَبَبُ بُعْدِهَا مِنْ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْكِتَابَةَ الثَّانِيَةَ تُوجِبُ بُعْدَهَا مِنْ الْمَوْلَى كَالْأُولَى فَيَمْنَعُ تَعَدُّدُ أَسْبَابِ الْبُعْدِ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْوَلَدَ هُنَا حُرًّا كَانَ حُرًّا بِغَيْرِ قِيمَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ لِلْأُمِّ فَإِنَّهَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ هُنَا لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا بَعْدَ مَا كَاتَبَهَا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ قِيمَةٍ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَعْجِزُ فَتَخْلُصُ لِلْمُكَاتَبِ وَحَقُّهُ فِيهَا وَفِي وَلَدِهَا مَرْعِيٌّ فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ هُنَا وَفِي الْأَوَّلِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بِالْقِيمَةِ مُمْكِنٌ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَاهُ فَإِنْ عَجَزَتْ هِيَ أَخَذَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الثَّانِيَةَ انْفَسَخَتْ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَإِنْ كَانَتْ كَذَّبَتْهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِنْ عَجَزَتْ لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى وَهُوَ التَّصْدِيقُ مِمَّنْ الْحَقُّ لَهُ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهُ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَهُ فَكَأَنَّهُ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ الْآنَ. (قَالَ) وَإِنْ ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ وَقَدْ انْعَدَمَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت بِالْحُرْمَةِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ ظَنَّ بَعْضَ مَا يُظَنُّ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَلَالًا لِي فَكَذَلِكَ جَارِيَتُهَا وَلَمَّا كَانَتْ جَارِيَةُ الْأَبِ حَلَالًا لَهُ فَكَذَلِكَ لِي لِأَنِّي جُزْءٌ مِنْهُ وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ مُعْتَبَرَةٌ فِي إسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ فِي حَقِّ مَنْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ فَإِذَا مَلَكَهُ يَوْمًا عَتَقَ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالزِّنَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةَ نِكَاحٍ فَحِينَئِذٍ إذَا مَلَكَهَا مَعَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. (قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ رَجُلٍ فَقَالَ أَحَلَّهَا لِي وَالْوَلَدُ وَلَدِي وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فِي الْإِحْلَالِ وَكَذَّبَهُ فِي الْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ مَوْلَاهَا وَيَكُونُ تَكْذِيبُهُ إيَّاهُ فِي الدَّعْوَةِ مُعَارِضًا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ دَعْوَتِهِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِسُقُوطِ الْمُعَارَضَةِ بِالدَّعْوَةِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا صَدَّقَهُ فِي الْإِحْلَالِ وَالدَّعْوَةِ جَمِيعًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلزَّوْجِ إلَّا مِلْكَ الْحِلِّ وَالتَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ شَرْعًا، وَالْإِحْلَالُ تَمْكِينٌ مِنْ ذَلِكَ حِسًّا، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ الْإِحْلَالُ يَكُونُ مُثْبِتًا حِلَّ التَّنَاوُلِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلَكِنَّهَا شُبْهَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ مِنْ الْمَوْلَى بِأَنَّ الْوَلَدَ وَلَدُهُ أَوْ خُلُوصُ الْمِلْكِ فِي الْوَلَدِ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ إذَا ادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا أَحَلَّهَا لِي، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَتَى ثَبَتَ النَّسَبُ بِالتَّصْدِيقِ عَتَقَ لِقَرَابَتِهِ مِنْ الْمَوْلَى أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا. (قَالَ) وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ وَوَلَدُهَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَنَقَدَ الثَّمَنَ وَقَبَضَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ هَذَا الْوَلَدَ فَإِنْ عُلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَالْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا وَالْوَلَدُ وَلَدُهُمَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ وَفِي نَسَبِ الْوَلَدِ وَفِي حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُتَأَيِّدٌ بِالْقَبْضِ وَشِرَاءُ الْآخَرِ مُتَجَرِّدٌ عَنْ الْقَبْضِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ الْقَابِضُ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَسْبَقُ التَّارِيخَيْنِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْمُدَبَّرِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَمْلُوكِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَالِكِ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ مَأْخُوذٌ مِنْ «قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» وَصُورَةُ الْمُدَبَّرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا يَتَعَلَّقُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنَّا لَا نَأْخُذُ بِهَذَا وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَ الْمُدَبَّرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ خِلَافَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَتَقَدَّرُ حَقُّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحَقُّ الْمَوْلَى بَعْدَ الْمَوْتِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ فَيُعْتَبَرُ خِلَافَتُهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ مِنْ ثُلُثِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ إنَّمَا يَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِسُقُوطِ قِيمَةِ مَالِيَّتِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْإِحْرَازَ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ لِقَصْدِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا لِقَصْدِ الْمَالِيَّةِ وَبِدُونِ الْإِحْرَازِ لَا تَثْبُتُ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَقَرَّرُ بِالتَّدْبِيرِ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِقَصْدٍ إلَى الْإِحْرَازِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَيَبْقَى الْإِحْرَازُ بَعْدَهُ لِلتَّمَوُّلِ، وَإِذَا بَقِيَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بَيْعُهُ عَطَاءٍ «لِحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ ثُمَّ احْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا دَبَّرَتْ أَمَةً لَهَا فَسَحَرَتْهَا وَعَلِمَتْ بِذَلِكَ فَقَالَتْ مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ فَقَالَتْ حُبِّي الْعَتَاقَ فَبَاعَتْهَا مِنْ أَسْوَإِ النَّاسِ مُلْكَةً وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ أَوْ مَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَالتَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ الْمُوصِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَمْنَعُ الْإِضَافَةَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ. (وَحُجَّتُنَا) حَدِيثُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَطَاءٍ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ لَا رَقَبَتَهُ» يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ أَجْرُهُ وَالْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةٍ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا أَوْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ جَائِزًا عَلَى مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَاعَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سَرَقَ فِي دَيْنِهِ» ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَا لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تَعَالَى عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ سَيِّدِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمُ التَّعْلِيقِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا بِهِ عَلَّقَ السَّيِّدُ وَهُوَ إنَّمَا عَلَّقَهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْخِلَافَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ يَكُونُ مُثَبِّتًا لِلْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ الْخِلَافَةَ فِي رَقَبَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ إيجَابًا فِي ثَانِي الْحَالِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ سَبَبِهِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ مَحْجُورًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 عَنْ إبْطَالِهِ كَمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا الْخِلَافَةَ لِلْوَارِثِ فِي تَرِكَتِهِ وَسَبَبُهُ الْمَرَضُ ثَبَتَ نَوْعُ حَقٍّ لَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ الْمَرِيضُ مَحْجُورًا عَنْ التَّبَرُّعِ، وَهَذِهِ الْخِلَافَةُ فِي الْعِتْقِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَتَقَوَّى هَذَا السَّبَبُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْخِلَافَةِ، وَلِهَذِهِ الْقُوَّةِ قُلْنَا لَا يُحْتَمَلُ الْإِبْطَالُ وَالْفَسْخُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَهَذَا الشَّرْطُ أَوْلَى وَلِهَذِهِ الْقُوَّةِ يَجِبُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَهُ فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ بَيْعَهُ وَيَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ لِلْمَوْلَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ وَالتَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ أَيْضًا وَالتَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْخِلَافَةِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَقُّ بِنَفْسِهِ، وَتَقَرَّرَ بِهَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّ الْمُدَبَّرَ فِي مَعْنَى أُمِّ الْوَلَدِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَعْنَيَيْنِ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا وُجُوبُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَبِالْآخَرِ سُقُوطُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمُ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ هَهُنَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْمَعْنَى حُكْمُ ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ إلَى الْمُدَبَّرِ وَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لِانْعِدَامِ مَعْنَاهُ هُنَا فَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، عَلَى هَذَا نَقُولُ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَهَا فِي الْحَالِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَمْنَعُونَ سِرَايَتَهُ إلَى الْوَلَدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مِثْلُ أُمِّهِ وَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ فَقَضَى بِأَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ يُبَاعُ وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِثْلُهَا لَا يُبَاعُ وَعَنْ شُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ. رَجُلٌ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ إذَا مِتُّ أَوْ إنْ مِتُّ أَوْ مَتَى مِتُّ أَوْ إذَا حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَهَذَا كُلُّهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْحَدَثَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْتُ عَادَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَمُوتُ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِالْيَوْمِ مَا لَا يَمْتَدُّ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَيَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ وَقْتَ مَوْتِي فَإِنْ نَوَى بِالْيَوْمِ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ صَحَّتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَا لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَوْتُهُ بِالنَّهَارِ وَرُبَّمَا يَمُوتُ بِاللَّيْلِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا. وَلَوْ قَالَ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فِي مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَا لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَيَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّا إنَّمَا نُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِالتَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى قَصْدِهِ الْقُرْبَةَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَهَذَا الْقَصْدُ مِنْهُ يَنْعَدِمُ إذَا عَلَّقَهُ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْقُرْبَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَلِانْعِدَامِ هَذَا الْقَصْدِ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ فَإِنَّ الْقَصْدَ إلَى إيجَابِ الْقُرْبَةِ هُنَاكَ مُتَحَقِّقٌ حِينَ عَلَّقَهُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ إنْ مَاتَ كَمَا قَالَ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ مَعَ انْعِدَامِ الْقَصْدِ إلَى إيجَابِ الْقُرْبَةِ وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ عِتْقَهُ بِهِ قَدْ انْعَدَمَ. وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ مَوْتَ فُلَانٍ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْخِلَافَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْمَوْلَى، وَوُجُوبُ حَقِّ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْخِلَافَةِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ فُلَانًا لَوْ مَاتَ وَالْمَوْلَى حَيٌّ عَتَقَ الْعَبْدُ وَلَا خِلَافَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ حَيٌّ صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَكَيْف يَكُونُ مُدَبَّرًا وَتَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ أَوْ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ وَمَوْتِي فَهَذَا لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَحَسْبُ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَوْتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ فُلَانٍ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتِمَّ وَصَارَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ الْمَوْلَى فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُدَبَّرًا عِنْدَنَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَحَسْبُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَوْتَيْنِ كَمَا عَلَّقَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ مَوْتُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ مُتَمِّمًا لِلشَّرْطِ لَا أَنَّهُ كَمَالُ الشَّرْطِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الشَّرْطِ مُعْتَبَرًا حَتَّى اعْتَبَرَ وُجُودَ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الطَّلَاقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى حَتَّى أَنَّهُ مَتَى مَاتَ عَتَقَ وَصُورَةُ الْمُدَبَّرِ هَذَا فَكَانَ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ إذَا كَلَّمْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَكَلَّمَهُ أَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ كَلَامِكَ فُلَانًا وَبَعْدَ مَوْتِي فَإِذَا كَلَّمَ فُلَانًا كَانَ مُدَبَّرًا فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت لَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بَلْ بِهِ وَمَشِيئَتِهِ ثُمَّ قَوْلُ الْمَوْلَى إنْ شِئْت مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَشِيئَةَ فِي الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَشِيئَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِالْمَشِيئَةِ السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ لَمَّا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ فِي الْمَجْلِسِ يَصِيرُ عِتْقُهُ مُتَعَلِّقًا بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى بَعْدَهُ فَيَكُونُ مُدَبَّرًا وَإِنْ كَانَ نَوَى بِالْمَشِيئَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَشَاءَ الْعَبْدُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا بِاعْتِبَارِ التَّدْبِيرِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الصَّحِيحُ أَنْ لَا يَعْتِقَ هُنَا مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ مِيرَاثًا فَلَا يَعْتِقُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مِنْهُمْ وَيَكُونُ هَذَا وَصِيَّةً يَحْتَاجُ إلَى تَنْفِيذِهَا كَمَا لَوْ قَالَ أَعْتِقُوهُ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شَاءَ وَجُعِلَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ أَنْتِ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ بَعْدَ شَهْرٍ، هَكَذَا ذَكَره ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْ الْعَبْدِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا يَتَقَيَّدُ بِهَذَا اللَّفْظ مَشِيئَتَهُ بِالْمَجْلِسِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْوَصِيَّةِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مَا تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ بَلْ بِمُضِيِّ يَوْمٍ بَعْدَهُ فَإِنْ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَمَّى حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَمَّا أَخَّرَ الْعِتْقَ عَنْ مَوْتِهِ بِزَمَانٍ مُمْتَدٍّ فِي يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ وَمِلْكُ الْوَارِثِ يَتَقَرَّرُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْأَمْرُ بِإِعْتَاقِهِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ تَتَّصِلُ مَشِيئَةُ الْعَبْدِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى قَبْلَ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فَيَعْتِقُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى وَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْتَاقِ الْوَارِثِ إيَّاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ فَهَذَا وَمَا أَوْجَبَ لِلْمَمْلُوكِ بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَمَا كَانَ فِي مِلْكِهِ حِينَ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَمَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا وَلَكِنْ إنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ مَعَ الْمُدَبَّرِينَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ مَا يَسْتَحْدِثُ الْمِلْكُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا مِتُّ فَهُوَ حُرٌّ، فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: التَّعْلِيقُ مُعْتَبَرٌ بِالتَّنْجِيزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعِتْقُ إلَّا مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إذَا عُلِّقَ بِالْمَوْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 وَهَذَا فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ. فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحَالُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ يُقَيَّدُ بِالسِّينِ أَوْ سَوْفَ فَيُقَالُ سَأَمْلِكُهُ أَوْ سَوْفَ أَمْلِكُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَسْتَحْدِثُ الْمِلْكَ فِيهِ لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ تَنَاوَلَهُ هَذَا اللَّفْظُ لَصَارَ مُدَبَّرًا كَالْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ عَلَّقَ عِتْقَ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاَلَّذِي اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ مَمْلُوكٌ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَالْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَفِي الْوَصِيَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِينُ مِنْ الْمُوصِي عِنْدَ الْإِيصَاءِ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ يَتَنَاوَلُ هَذَا مَا يَكُونُ مَالَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ التَّدْبِيرَ إيجَابُ الْعِتْقِ كَمَا قَرَّرْنَا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ فَفِي حَقِّ الْمَوْجُودِينَ فِي مِلْكِهِ وُجِدَ الْمِلْكُ فَيَصِحُّ إيجَابُ حَقِّ الْعِتْقِ لَهُمْ وَفِي حَقِّ الَّذِينَ يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمْ لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ فِي الْمِلْكِ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ إنَّمَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُمْ حَقُّ الْعِتْقِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى بَقَاؤُهُمْ فِي مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُهُمْ كَلَامُهُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ وَإِذَا لَمْ يَبِعْهُمْ حَتَّى مَاتَ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُمْ وَصِيَّتُهُ فَيَعْتِقُونَ مِنْ الثُّلُثِ لِهَذَا. (قَالَ) وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْمُدَبَّرَةَ وَيَسْتَغِلَّهَا وَيَطَأَهَا وَيُزَوِّجَهَا وَمَهْرُهَا لَهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا بَاقِيَتَانِ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَهُمَا حَقُّ الْعِتْقِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُبْطِلِ لِحَقِّهِمَا دُونَ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يُبْطِلُ حَقَّهُمَا كَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُنَا الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ مُبْطِلٌ لِحَقِّهِمَا فَيُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِحَقِّهِمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَلَا مَالِيَّةَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الْمُدَبَّرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ. (قَالَ) وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ مُنِعَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي جِنَايَتِهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا بِمُبَاشَرَةٍ وَبَعْضُهَا يَتَسَبَّبُ؛ لِأَنَّهُ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا غُرْمُ الْمُسْتَهْلِكَاتِ فَدَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُدَبَّرِ مَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ قَالَ قَدْ دَبَّرْتُكَ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فَلَا فَرْقَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَهُ بِصِيغَةِ الْإِنْشَاءِ أَوْ بِصِيغَةِ الْوَصْفِ. (قَالَ) أَرَأَيْت لَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لَا يُفْصِحُ بِالتَّدْبِيرِ فَقَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إمَّا يَكُونُ مُدَبَّرًا فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حُكْمِ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَهُوَ مُدَبَّرٌ فِي الْحَالِ، وَجُعِلَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي سَوَاءٌ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ. (قَالَ) وَتَدْبِيرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بَاطِلٌ أَطْلَقَا أَوْ أَضَافَا إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْتَاقِ مِنْهُمَا بَاطِلَةٌ فَإِيجَابُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِالْقَوْلِ كَذَلِكَ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلٌ أَنَّ تَدْبِيرَ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ وَصِيَّةٌ وَهُوَ يُجَوِّزُ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ يَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ فِيهِ وَفِي حَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَوَّزَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَعٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ وَقَوْلُ الصَّبِيِّ فِي التَّبَرُّعَاتِ هَدَرٌ وَقَدْ تَنَاقَضَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُصَحِّحُ إسْلَامَهُ وَقَبُولَهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ فَأَمَّا السَّكْرَانُ وَالْمُكْرَهُ فَتَدْبِيرُهُمَا جَائِزٌ عِنْدَنَا كَإِعْتَاقِهِمَا وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُمَا يَسْتَدْعِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ إذَا عَتَقْتُ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ بَعْدَ مَا أُعْتَقُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَقَدْ صَرَّحَ بِإِضَافَةِ الْعِتْقِ إلَى مَا بَعْدَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَهُ فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ وَيَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ كَالْمُنْجِزِ لَهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ أَوْ إلَى خَمْسِينَ سَنَةٍ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَوْعَيْ مِلْكٍ: مِلْكٌ لَا يَقْبَلُ الْعِتْقَ وَهُوَ حَالَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ، وَمِلْكٌ يَقْبَلُ الْعِتْقَ وَهُوَ مَا بَعْدَ عِتْقِهِ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ إلَيْهِمَا وَيَصِيرُ كَالْمُنْجِزِ عِنْدَ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَقَاسَا هَذَا بِالْحُرِّ إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا يَشْتَرِيه لِنَفْسِهِ لَا مَا يَشْتَرِيه لِغَيْرِهِ حَتَّى يَعْتِقَ مَا يَشْتَرِيه لِنَفْسِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مِلْكُهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ مَجَازٍ وَبَعْدَ الْعِتْقِ حَقِيقَةٍ وَلَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعَارٌ وَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُسْتَعَارَةٍ، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ عَلَى إنْسَانٍ مِلْكًا وَعَارِيَّةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْمَجَازُ هُنَا مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ إذَا مَلَكْت مَمْلُوكًا فِيمَا اُسْتُقْبِلَ فَمَلَكَ فِي حَالَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ يَنْحَلُّ يَمِينُهُ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 فَإِذَا صَارَ الْمَجَازُ فِي مُرَادٍ تُنَحَّى الْحَقِيقَةُ. وَهَذَا الْمَجَازُ مُسْتَعْمَلٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي قَوْلِهِ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ لِلْغَيْرِ لَيْسَ بِمَجَازٍ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ كَالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْمُعْتِقِ وَالْمَحَلِّيَّةَ فِي الْمُعْتَقِ، ثُمَّ لَوْ انْعَدَمَتْ الْمَحَلِّيَّةُ لَمْ يَصِحَّ الْإِيجَابُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ فِي الْحَالِ لَا يَصِحُّ الْإِيجَابُ إلَّا مُضَافًا إلَى حَالَةِ الْأَهْلِيَّةِ صَرِيحًا وَهُوَ مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ إيجَابًا لِلْعِتْقِ. (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِأَمَةِ الْغَيْرِ إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ دُونَ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ إنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِمَا بَعْدَ الْمِلْكِ وَقَدْ انْفَصَلَ الْوَلَدُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا سِرَايَةَ إلَى الْمُنْفَصِلِ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ دَبِّرْ عَبْدِي فَأَعْتَقَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا لَا مُمْتَثِلًا (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ دَبِّرْ عَبْدِي إنْ شِئْت فَدَبَّرَهُ جَازَ وَهَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْمَشِيئَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. (قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَ عَبْدِهِ فِي التَّدْبِيرِ إلَى رَجُلَيْنِ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُمَا هَذَا التَّصَرُّفَ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ دَبِّرَا عَبْدِي هَذَا فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مُعَبِّرَيْنِ عَنْهُ وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدَبِّرَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ (قَالَ) وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، وَقَالَتْ هِيَ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقَّ الْعِتْقِ لِوَلَدِهَا وَلَوْ ادَّعَتْ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى إذَا أَنْكَرَ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ لِوَلَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ إثْبَاتِ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا (قَالَ) وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ مَحْسُوبٌ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ بَعْدَ الدَّيْنِ حَتَّى إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَعَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ وَالْعِتْقُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمَوْلَى وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَبَّرَهُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَالِيَّةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ يَمُوتُ. (قَالَ) وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ صَحَّ فِي حَالِ قِيَامِ عَقْلِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِجُنُونِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَوْمَ أَدْخُلُ الدَّارَ فَعَبْدِي هَذَا مُدَبَّرٌ ثُمَّ جُنَّ فَدَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَحَّ مِنْهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا مِتُّ أَوْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ. عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى حَتَّى يَعْتِقَ إذَا مَاتَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مَاتَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ مَوْتًا فَالْمَوْتُ لَيْسَ بِقَتْلٍ وَتَعْلِيقُهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فِي أَحَدِهِمَا خَاصَّةً فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتُّ وَغُسِّلْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَوْتِ وَبِشَيْءٍ آخَرَ بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ غُسِّلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْمَوْتِ انْتَقِلْ إلَى الْوَارِثِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إنْ مِتُّ وَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ يُغَسَّلُ عَقِيبَ مَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَارِثِ فِيهِ فَهُوَ نَظِيرُ تَعْلِيقِهِ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ يَعْتِقُ مِنْ ثُلُثِهِ بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارِ فَذَلِكَ لَا يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْوَارِثِ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ تَدْبِير الْعَبْد بَيْنَ اثْنَيْنِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَدَبَّرُ نَصِيبُهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ عِنْدَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلْآخَرِ خَمْسُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ دَبَّرَ نَصِيبَهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ صَارَ كَالْمُحْتَبِسِ عِنْدَ الْمُدَبِّرِ حَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُدَبِّرِ بَاقٍ فِي نَصِيبِهِ فَيَتَمَكَّنُ الشَّرِيكُ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُعْسِرًا فَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ حَقُّ التَّضْمِينِ وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَعْتَقَ السَّاكِتُ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلِلْمُدَبِّرِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْغُلَامُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَرْجِعَ هُوَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغُلَامِ، وَأَيَّ ذَلِكَ اخْتَارَ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 السَّابِقِ اسْتَحَقَّ وَلَاءَ نَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَهُوَ وَإِنْ ضَمِنَ شَرِيكُهُ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِهِ إلَى الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَرُجُوعُ الضَّامِنِ عَلَى الْغُلَامِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنهمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْتِقُهُ الثَّانِي وَلَكِنْ ضَمِنَ الْمُدَبَّرُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ صَارَ الْغُلَامُ كُلُّهُ لِلْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ غَيْرُ مُدَبَّرٍ فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ وَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ مِنْ دَبَّرَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ نِصْفُهُ مُدَبَّرٌ وَنِصْفُهُ غَيْرُ مُدَبَّرٍ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَكِنْ اسْتَسْعَاهُ فَأَدَّى إلَيْهِ السِّعَايَةَ عَتَقَ نَصِيبُهُ حُكْمًا بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ فَيَكُونُ الْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ شَرِيكَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ كَانَ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ فَهَذَا عِتْقٌ حَصَلَ بِسَبَبِ رِضَى الْمُدَبِّرِ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْعِتْقُ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُدَبَّرِ فَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ إنْ شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا كَانَ مُدَبِّرًا كُلَّهُ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ الْمُدَبَّرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ سِعَايَةَ مِلْكٍ لَا سِعَايَةَ ضَمَانٍ وَفِي هَذَا أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ كَمَا رَوَيْنَا فِي نَظِيرِ هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ السِّعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ سِعَايَةُ ضَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي دُيُونِ مَوْلَاهَا وَأَمَّا السِّعَايَةُ عَلَى الْمُدَبَّرِ سِعَايَةُ مِلْكٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِي دَيْنِ مَوْلَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا دَبَّرَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخِرِ بَيْعُ حِصَّتِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْآخَرُ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ عَرَفْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَصِيبِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ بِالتَّدْبِيرِ يَجِبُ حَقُّ الْعِتْقِ فِي بَعْضِهِ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ بَيْعِهِ كَحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا إذَا دَبَّرَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخِرُ فَالتَّدْبِيرُ بَاطِلٌ وَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَبْطُلُ بِهِ تَدْبِيرُ الْمُدَبَّرِ فَيَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِلْمُدَبِّرِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُدَبِّرُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَ نَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْآخَرِ. (قَالَ) أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَا جَمِيعًا لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِنَا لَمْ تَصِرْ مُدَبَّرَةً؛ لِأَنَّ عِتْقَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 بَلْ تَعَلَّقَ بِمَوْتِهِمَا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا وَلَكِنْ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُ الْآخِرِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ عِتْقُ نَصِيبِهِ بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ الْآنَ، وَنَصِيبُ الَّذِي مَاتَ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عِتْقِهِ لَمْ يَتِمَّ بِمَوْتِهِ ثُمَّ الْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إنْ كَانَ الشَّرِيكُ مُوسِرًا بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ تَدْبِيرَ نَصِيبِهِ فِي الْحَالِ (فَإِنْ قِيلَ) كَيْف يَكُونُ ضَامِنًا وَإِنَّمَا تَدَّبَّرَ نَصِيبُهُ بِسَبَبٍ كَانَ سَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ (قُلْنَا) نَعَمْ الْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ فِيمَا كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ وَالتَّدْبِيرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ بَعْدَ مَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى وَرَثَتِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَضْمَنُوهُ. (قَالَ) مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَسَعَتْ لِلْآخَرِ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ وَلَا ضَمَانَ لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ الَّذِي رَضِيَا بِهِ إلَّا أَنَّ نَصِيبَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ بَقِيَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهَا فَتَسْعَى لَهُ. (قَالَ) فَإِنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ تَسْعَى لَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ أَيْضًا إنْ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ تُؤَدِّ السِّعَايَةَ فَتَعْتِقُ بِمَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهَا السِّعَايَةُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهَا بِمَوْتِ الْأَوَّلِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى. (قَالَ) مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ نَسُبَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مِنْ الْوَلَد مُدَبَّرٌ وَبِالتَّدْبِيرِ يَجِبُ حَقُّ الْعِتْقِ فَلَا يَمْلِكُ الْآخَرُ إبْطَالَهُ بِالدَّعْوَةِ وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ الِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ مِلْكِهِ فِي النِّصْفِ كَافٍ لِصِحَّةِ دَعْوَتِهِ وَالْوَلَدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَوْلَدَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَعْلَقُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَهُنَا لَا يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مُدَبَّرَةٌ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهُ مُدَبَّرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ وَهِيَ حُبْلَى فَوَلَدَتْ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ فَهُوَ كَالْمُنْفَصِلِ فَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَيِّتًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَإِتْلَافُ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَإِنْ ضَرَبَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا بَعْدَ الدَّعْوَةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَى الْجَانَّيْ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ غُلَامًا وَعُشْرِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ جَارِيَةً لِأَبِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ فَلَمْ يَعْتِقْ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مِنْهُ وَأَرْشُ الْجَنِينِ الْمَمْلُوكِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَعَلَى أَبِ الْوَلَدِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ جَارِيَةً لِشَرِيكِهِ. وَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَرُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْشِ هَذَا، وَبِاعْتِبَارِ سَلَامَةِ الْأَرْشِ لِأَبِ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى حَيَاتِهِ إلَّا ذَلِكَ فَيَتَقَدَّرُ الضَّمَانُ بِقَدْرِهِ لِهَذَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا وَالْمُدَبَّرَةُ عَلَى حَالِهَا فِي خِدْمَتِهَا لَهُمَا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَادَّعَاهُ أَبُ الْوَلَدِ أَيْضًا فَهُوَ ابْنُهُ لِمَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِإِتْلَافِهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ فِيهِ مَقْصُودًا بِالدَّعْوَةِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ أَيْضًا مِنْ قَبْلِ الْوَطْءِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مِنْهَا بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَوَطْؤُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصِلْ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا فَاسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَاءَ نَصِيبِهِ حَتَّى أَنَّهُ إنْ جَنَى جِنَايَةً كَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لَهُمَا إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَلَوْ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَادَّعَاهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ كَانَ ابْنَهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهِ وَحَاجَتِهِ إلَى النَّسَبِ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ الثَّانِي لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهَا مَا صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَوَطْؤُهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشَّرِكَةِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْآخَرِ وَكَانَ ضَامِنًا لِنِصْفِ الْعُقْرِ وَنِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَجَوَابُهُ فِي ضَمَانِ نِصْفِ الْعُقْرِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، فَأَمَّا فِي ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ مِنْ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأُمِّ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا قِيمَةَ لِرِقِّ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ بِالدَّعْوَةِ لَهُ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ عِنْدَهُ، ثُمَّ الْجَارِيَةُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَوْلِدْهَا فَصَحَّ اسْتِيلَادُهَا فِي نَصِيبِهِ مِنْهَا فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لِلْحَيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا تَسْعَى لَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا. (قَالَ) مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا مِنْ ثُلُثِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَعَتَقَ نَصِيبُ أَبِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ صَارَ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ وَإِنْ مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَعَتْ لَلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا مُدَبَّرَةً؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ مُدَبَّرٌ وَلَيْسَ بِأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرُ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَالَ) مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَشَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ وَأَنْكَرَاهُ فَالْغُلَامُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ وَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ سِعَايَتِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَالْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا تَخْدُمُهُمَا عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُدَبَّرَةً بَيْنَهُمَا وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ بَعْدَ إقْرَارِهِمَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَسَعَتْ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الَّذِي مَاتَ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ أَمَةً غَيْرَ مُدَبَّرَةٍ فَإِنَّ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا تَسْعَى لِلْآخِرِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يَتَبَرَّأُ مِنْ سِعَايَتِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَلشَّرِيكِ الْمَيِّتِ قَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، وَحَقُّهُ فِي الضَّمَانِ قَبْلَهُ فَلِهَذَا لَا يَسْتَسْعِيهَا هُنَاكَ. (قَالَ) جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ دَبَّرَهَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَهَا بِشَهَادَتِهِ شَيْءٌ حَتَّى لَا تُبَاعَ وَلَا تُوهَبَ وَلَا تُمْهِرَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ فِي حَقِّهِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ التَّدْبِيرُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعْلُومًا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنْ مَاتَ الشَّاهِدُ فَهِيَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّاهِدِ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِاتِّفَاقِهِمَا فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَتَقَتْ وَسَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُقِرٌّ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَفْسُدُ رِقُّهَا بِزَعْمِهِ، ثُمَّ وَرَثَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَقُولُونَ الشَّاهِدُ كَاذِبٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَيْهِ (قُلْنَا) لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا فِي قِيمَةِ نَصِيبِهَا، وَالشَّاهِدُ يَقُولُ عَتَقَ نَصِيبُ شَرِيكِي بِمَوْتِهِ وَلِي حَقُّ اسْتِسْعَائِهَا فِي نَصِيبِي فَلِهَذَا سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالتَّدْبِيرِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا كَالْمُدَبَّرَةِ لِاعْتِبَارِ زَعْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَتِهِ وَلِلْحَيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ وَيَزْعُمُ أَنَّ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَتَقَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ (قَالَ) وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَتَدْبِيرُهُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَتَدْبِيرُهُ يَكُونُ إبْرَاءً لِلْمُعْتَقِ عَنْ الضَّمَانِ وَاخْتِيَارًا لِلسِّعَايَةِ فَيَسْعَى لَهُ الْغُلَامُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ حَصَلَ بِمُبَاشَرَتِهِ وَاكْتِسَابِهِ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا (قَالَ) عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ دَبَّرَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ نِصْفَ نَصِيبِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ فَقَدْ أَبْرَأ الْمُدَبِّرَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 لَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ كَانَ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْبَعْضَ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ فِي بَعْضِ نَصِيبِهِ دُونَ الْبَعْضِ، ثُمَّ يَسْعَى لَهُ الْعَبْدُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ كَامِلٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فَيُضَمِّنُهُ الْمُدَبِّرُ إنْ شَاءَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ بِإِعْتَاقِ الْمُعْتِقِ بَعْضَ نَصِيبِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِ بِإِعْتَاقِ الْمُعْتِقِ جَمِيعَ نَصِيبِهِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ قَدْ اكْتَسَبَ سَبَبَ الضَّمَانِ لِلثَّالِثِ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ نَصِيبُهُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَّا إلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَالسَّبَبُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِإِعْتَاقِ الثَّانِي فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ وَلَكِنْ يُضَمِّنُ الْمُدَبِّرَ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُدَبِّرُ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيه فِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَسْتَسْعِيه فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ عَلَى الثَّالِثِ نَصِيبَهُ بِالضَّمَانِ. (قَالَ) وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ الثَّانِي حَتَّى ضَمَّنَ الثَّالِثُ الْمُدَبَّرَ نَصِيبَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الثَّانِي وَهُوَ مُوسِرٌ كَانَ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ: ثُلُثٌ مُدَبَّرٌ وَثُلُثٌ غَيْرُ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ نَصِيبَ الثَّالِثِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ ثُمَّ صُنْعُ الْمُعْتِقِ فِي الْإِعْتَاقِ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الصُّنْعِ قِيمَةَ جَمِيعِ نَصِيبِهِ كُلُّ ثُلُثٍ بِصِفَتِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ صُنْعَ الْمُعْتِقِ هُنَاكَ وُجِدَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمُدَبِّرُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالضَّمَانِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِ الثَّالِثِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الصُّنْعِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَهُ لِلْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ ثُلُثَا قِيمَتِهِ، وَثُلُثُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ الَّذِي أَعْتَقَ وَثُلُثَا الْوَلَاءِ لِلْمُدَبِّرِ، أَمَّا مِقْدَارُ نَصِيبِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَأَمَّا نَصِيبُ الثَّالِثِ فَلِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَّا إلَيْهِ وَبَعْدَ النَّقْلِ إلَيْهِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُعْتِقِ وَإِنْ ضَمِنَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلثَّالِثِ حَقُّ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ نَقْلُ هَذَا النَّصِيبِ إلَيْهِ بِحَالٍ لَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ فَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْمُدَبِّرِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وَلَاءُ الثُّلُثَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَدَبَّرَ أَحَدُهُمَا ثُلُثَ نَصِيبِهِ وَأَعْتَقَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ كُلَّهُ وَهُوَ مُوسِرٌ كَانَ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُلُثُهُ مُدَبَّرٌ وَثُلُثَاهُ غَيْرُ مُدَبَّرٍ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُدَبِّرِ قَدْ دَخَلَهَا عِتْقٌ حِينَ دَبَّرَ بَعْضَهُ فَلَا يَنْتَقِلُ شَيْءٌ مِنْ نَصِيبِهِ إلَى الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَإِذَا قَالَ إنْ مَلَكْت شَيْئًا مِنْ هَذَا الْعَبْدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي ثُمَّ مَلَكَهُ مَعَ آخَرَ صَارَ نَصِيبُهُ مِنْهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ وَلَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالتَّدْبِيرُ فِي هَذَا وَتَنْجِيزُ الْعِتْقِ سَوَاءٌ وَهَذَا فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا عَبْدًا وَهُوَ قَرِيبُ أَحَدِهِمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَا شَرْطُ الْعِتْقِ لَا عِلَّتُهُ وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلشَّرْطِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي الضَّمَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ ضَرْبِ السَّوْطِ فَمُعَاوَنَتُهُ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ أَوْ رِضَاهُ بِهِ كَيْف يَكُونُ مُسْقِطًا؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ وَهَذَا شَرْطٌ فِي مَعْنَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلتَّعْلِيقِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ هَذَا الْمَمْلُوكِ أَوْ تَدْبِيرَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ كَانَ بَاطِلًا وَإِذَا كَانَ مُصَحَّحًا لِمَا هُوَ السَّبَبُ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُتَمِّمِ لِلسَّبَبِ فَمُعَاوَنَتُهُ إيَّاهُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الضَّمَانِ بِخِلَافِ ضَرْبِ السَّوْطِ (فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَجُوزَ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَجُوزُ (قُلْنَا) هَذَا الشَّرْطُ مُصَحِّحٌ لِلْيَمِينِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِتْقِ بَلْ الْمُوجِبُ لِلْعِتْقِ هُوَ الْيَمِينُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَقْتَرِنَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ فَأَمَّا الرِّضَا بِمَا يُصَحِّحُ الْيَمِينَ كَالرِّضَا بِالْيَمِينِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي التَّضْمِينِ وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فَقَالَ: لِأَنَّهُمَا لَمْ يَمْلِكَاهُ جَمِيعًا. مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ وَصُنْعُهُ اتَّصَلَ بِالْمَمْلُوكِ قَبْلَ مِلْكِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ صُنْعَهُ الشِّرَاءَ وَالْمِلْكَ حُكْمُ الشِّرَاءِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُ السَّبَبَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِصُنْعٍ سَبَقَ مِلْكَهُ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَوْلَاهُ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاطِعَ شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الطَّرِيقُ يَسْتَقِيمُ هُنَا وَفِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ تَدْبِيرِ مَا فِي الْبَطْنِ] بَابُ تَدْبِيرِ مَا فِي الْبَطْنِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا جَازَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالشَّرِيكُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ كَالْمُنْفَصِلِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 حِينَ دَبَّرَ لَعَلَّهَا حَبِلَتْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَثْبُتُ التَّدْبِيرُ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَقَالَ الْآخَرُ أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ النُّطْقِ الْأَوَّلِ فَالْوَلَدُ مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ دَبَّرَهُ الْأَوَّلُ فَتَدَبَّرَ نَصِيبُهُ بِتَدْبِيرِهِ، وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ بِتَدْبِيرِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأُمِّ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا وَحِصَّةُ الَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ مُدَبَّرٌ مَعَ الْأُمِّ وَشَرِيكُهُ فِيهَا بِالْخِيَارِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْوَلَدُ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ عِنْدَ تَدْبِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ التَّدْبِيرِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ مِنْ جِهَةِ الَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ وَثُبُوتُ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي هَذَا لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مِنْ الْوَلَدِ هُنَاكَ صَارَ مَقْصُودًا يَنْفَرِدُ التَّدْبِيرُ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ، ثُمَّ نِصْفُ الْأُمِّ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَهَا وَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَالْوَلَدُ لِلْمُدَبِّرِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا لَزِمَهُ مِنْ حِينِ دَبَّرَ، وَعُلُوقُ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الشَّرِيكِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ ازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ لَلشَّرِيك الْآخَرِ تَضْمِينُ نِصْفِ الْقِيمَةِ إلَّا وَقْتَ التَّدْبِيرِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَسْعَاةِ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ حَقُّ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا بِذَلِكَ التَّدْبِيرِ وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ تَكُونُ أَحَقَّ بِوَلَدِهَا فَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَبِّرِ شَيْءٌ مِنْ ضَمَانِ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ اسْتَسْعَاهَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَلَا يَسْعَى الِابْنُ فِي شَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ كَالْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَثْبُتُ لِمَوْلَاهَا فِيمَا يَحْدُثُ لَهَا مِنْ الْوَلَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ حَقٌّ يُمَكِّنُهُ مِنْ اسْتِسْعَائِهِ الْوَلَدَ، فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرٍ فَالْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ مِنْ الْوَلَدِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَرْجِعُ الَّذِي ضَمِنَ بِهِ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِمَا فَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ مَا لَوْ كَانَ تَصَرُّفُهُمَا فِي الْوَلَدِ بَعْدَ الِانْفِصَالَ سَوَاءً (قَالَ) وَإِذَا دَبَّرَ الرَّجُلُ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا وَلَا يُمْهِرَهَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ إذَا أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَتَمْلِيكُهَا دُونَ مَا فِي بَطْنِهَا بِالْهِبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ هِبَتُهَا وَوَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ نَصًّا، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ فِي الْجَارِيَةِ بِاسْتِثْنَاءِ مَا فِي الْبَطْنِ نَصًّا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ فَنَقُولُ بَعْدَ مَا أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ وَهَبَ الْأُمَّ جَازَ كَمَا ذُكِرَ هُنَاكَ وَبَعْدَ مَا دَبَّرَ مَا فِي الْبَطْنِ لَوْ وَهَبَ الْأُمَّ لَا يَجُوزُ كَمَا ذُكِرَ هُنَا وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا فِي الْبَطْنِ فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَالْمَوْهُوبُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى هِبَةِ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَالْمَوْهُوبُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا ابْنُ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ تَتِمُّ الْهِبَةُ. فَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْوَلَدُ مُدَبَّرٌ وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ رَقِيقًا لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ التَّدْبِيرِ وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ فَهُمَا مُدَبَّرَانِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَقْتَ التَّدْبِيرِ وَهُمَا تَوْأَمٌ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وُجُودُ الْآخَرِ. (قَالَ) وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ ثُمَّ كَاتَبَهَا جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُعْقَدُ لِلْعِتْقِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْعِتْقِ فِي الْأُمِّ، وَإِنْ وَضَعَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْوَلَدِ صَحِيحًا وَلَكِنْ يَثْبُتُ أَيْضًا فِي الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ تَبَعًا لِلْأُمِّ فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَا جَمِيعًا وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ عَتَقَ الْوَلَدُ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الثُّلُثِ وَعَلَى الْأُمِّ السِّعَايَةُ فِي الْمُكَاتَبَةِ عَلَى حَالِهَا وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الْمَوْلَى حَتَّى مَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَالْوَلَدُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ أَحَدُهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالْآخَرُ بِأَدَاءِ كِتَابَةِ الْأُمِّ فَيَخْتَارُ أَنْفَعَ الْوَجْهَيْنِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ قَدْ حَصَلَ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ وَلَدُكِ الَّذِي فِي بَطْنِك وَلَدُ مُدَبَّرَةٍ أَوْ وَلَدُ حُرَّةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَذَا عِتْقًا لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ وَلَيْسَ بِتَحْقِيقٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتَ مِثْلُ الْحُرَّةِ أَوْ الْمُدَبَّرَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْمُدَبَّرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْمُكَاتَبَةُ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَإِنَّمَا يَعْتِقُ ثُلُثَهُ بِالتَّدْبِيرِ ثُمَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْقُطُ عَنْهُ ثُلُثُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ ثُلُثَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَلَوْ عَتَقَ كُلُّهُ سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ إذَا عَتَقَ ثُلُثَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ثُلُثَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَمَّا عَتَقَ عَلَيْهِ ثُلُثَهُ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَذَلِكَ إذَا سَبَقَ التَّدْبِيرُ الْكِتَابَةَ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالتَّدْبِيرِ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ عَقْدُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حَيَاتِهِ يَعْتِقُ كُلُّهُ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ لَمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَهُ بِالتَّدْبِيرِ كَاسْتِحْقَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ جَمِيعِهَا بِالِاسْتِيلَادِ ثُمَّ لَوْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ وَوَجَبَ الْمَالُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ وُرُودَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْكِتَابَةِ ثُبُوتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ لَا بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ لِيَكُونَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ كَانَ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِإِزَاءِ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ نَفْسِهِ بِالتَّدْبِيرِ بِأَنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ، وَكَذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى حَتَّى تَقَرَّرَ اسْتِحْقَاقُهَا فِي جَمِيعِ نَفْسِهَا بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ الْكِتَابَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَا قَبْلَ الْمَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ بِالتَّدْبِيرِ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْعَبْدِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ عَنْهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ فَإِذَا عَتَقَ بَعْضُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّدْبِيرِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ التَّدْبِيرَ الْآخَرَ وَصِيَّةٌ بِالرَّقَبَةِ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ لَا تَنْفُذُ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِحَالٍ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَهُ أَوْ قُتِلَ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا مِنْ ثَمَنِهِ فَلَوْ أَسْقَطْنَا شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَانَ فِيهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ التَّدْبِيرِ هُنَاكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 حَقَّهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا بَدَلُ الْكِتَابَةِ إنْ أَدَّى أَوْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ إنْ عَجَزَ فَيَكُونُ مُوصِيًا لَهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ فَلِهَذَا يَنْفُذُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا دَبَّرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ كَاتَبَهُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ سَعَى فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْعِتْقَ يَتَجَزَّى وَقَدْ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ. أَمَّا السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِجِهَةِ الْعَقْدِ فَيَخْتَارُ أَيَّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدُهُ لَا يَتَجَزَّأَ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ وَالْمَالُ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَقَلُّ الْمَالَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ قَدْ سَقَطَ وَلَا يَتَجَدَّدُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَلَوْ كَانَ كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ وَرُبَّمَا يَكُونُ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا لِمَنْفَعَةٍ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْعَى فِي أَقَلِّ الْمَالَيْنِ بِلَا خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ (قَالَ) وَإِذَا كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهَا فَيَبْقَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ بِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ كُلَّهُ مِنْ سِعَايَتِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَدَّى عَنْ الْأُمِّ فَإِنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ كَسْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِكَسْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَسْتَعِينَ بِهِ فِي أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ أَدَاءُ أَحَدِهِمَا مِنْ كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ مِنْ مَالِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ مُدَبَّرَيْنِ لَهُ جَمِيعًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَحَدُهُمَا وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَإِنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِأَبِيهِ وَلِنَفْسِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَبِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّدْبِيرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِهِ قَالَ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَوْتِ فُلَانٍ وَقَالَ الْآخَرُ بَعْدَ مَوْتِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الشَّرْطِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ دَبَّرَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْعِتْقِ الْبَاتِّ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعُوا إلَى الْقَاضِي ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَسْتَحِبُّ أَنْ أُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُنَجَّزُ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ وَلِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ مَعْنَى حَقِّ الْمُوصَى. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشُّهُودَ قَالُوا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ وَفِي حُكْمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ. قَالُوا ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُولُوا فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا الْقَيْدُ لِمَقْصُودٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَا شَهِدَا بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَأَبْطَلَهَا الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِرَدِّ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكُلُّ شَهَادَةٍ حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّهَا لَا يَقْبَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي لَا بَلْ هَذَا عَتَقَا جَمِيعًا مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْ تَدْبِيرِ الْأَوَّلِ وَيَصِحُّ تَدْبِيرُهُ فِي الثَّانِي فَكَانَا شَاهِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَلْبَتَّةَ لَا بَلْ هَذَا مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا لِلْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَلِلثَّانِي بِعَيْنِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا مُدَبَّرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمَا مَا شَهِدَا لِلْمُعَيَّنِ بِشَيْءٍ فَإِنَّ حَرْفَ أَوْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالشَّهَادَةُ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالْعِتْقِ أَوْ التَّدْبِيرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ هَذَا مُدَبَّرٌ أَوْ هَذَا جَازَتْ الشَّهَادَةُ لِلْأَوَّلِ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ سَمِعْنَاهُ مِنْ الْمَوْلَى ثَبَتَ بِهِ التَّدْبِيرُ لِلْأَوَّلِ وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي الْبَاقِينَ فَكَانَا شَاهِدَيْنِ لِلْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ مُدَّعٍ لِذَلِكَ فَيَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْآخَرِينَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَهُمَا كَلَامَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَبُطْلَانُ أَحَدِهِمَا لَا يُبْطِلُ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ مُدَبَّرٌ لَا بَلْ هَذَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ صَارَ الَّذِي عَيَّنَهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا لَهُ بِعَيْنِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ بِاَللَّهِ مَا عَنَاهُ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَإِذَا حَلَفَ كَانَ عَبْدًا لَهُ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا أَنَّهَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ وَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فِعْلِهَا وَهُوَ مَا ادَّعَتْ مِنْ وِلَادَتِهَا بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَإِذَا شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ثُمَّ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي صِحَّتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ جَمِيعًا فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا الْمَشْهُودَ لَهُ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَهَا فِي التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِحْسَانِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ حَقَّ الْمُوصِي دُونَ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ وَالتَّدْبِيرِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا أَلْبَتَّةَ فِي صِحَّتِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْعِتْقِ الْبَاتِّ بَاطِلَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِهِ لِغَيْرِ الْمُدَّعِي الْمُعَيَّنِ إذْ الْمُدَبَّرُ وَالْقِنُّ فِي الْمَحَلِّيَّةِ لِلْعِتْقِ الْبَاتِّ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ بِذَلِكَ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُهُمَا عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي الصِّحَّةِ تَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا فَيَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ وَيَعْتِقُ مِنْ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ فَكَانَ السَّالِمُ لَهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي سُدُسِ قِيمَتِهِ وَالْآخَرُ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِنْ أَقَرُّوا أَنَّ الْعِتْقَ الْبَاتَّ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنَّمَا سَلِمَ لِلْآخَرِ نِصْفُ رَقَبَتِهِ فَيَضْرِبُ هُوَ فِي الثُّلُثِ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ وَالْمُدَبَّرُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَالْمَالُ عَلَى تِسْعَةٍ، إلَّا أَنَّ الْمَالَ رَقَبَتُهُمَا وَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ رَقَبَةٍ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا لَانْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ فَيَضْعُفُ وَنَجْعَلُهُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى تِسْعَةٍ وَقَدْ كَانَ لِلْمُدَبَّرِ سَهْمَانِ فَبِالتَّضْعِيفِ صَارَ أَرْبَعَةً فَلِهَذَا سَلِمَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِهِ، وَلِلْقِنِّ نِصْفُ ذَلِكَ سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي سَبْعَةِ أَتْسَاعِهِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً (فَإِنْ قِيلَ) لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ لِلْقِنِّ كُلِّهِ لِيَكُونَ كَلَامُهُ مَحْمُولًا عَلَى الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مُوصًى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَمَا يَصْرِفُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ لَغْوًا (قُلْنَا) إنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ هَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ جَمِيعًا وَبَقَاءُ الْمَحَلِّيَّةِ فِيهِ يَمْنَعُ تَعَيُّنَ الْآخَرِ لِلْعِتْقِ الْبَاتِّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَيَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ فَلِهَذَا ضَرَبَ فِي الثُّلُثِ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 [بَابُ الْمُكَاتَبِ إذَا دَبَّرَهُ مَوْلَاهُ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلٌ دَبَّرَ مُكَاتَبًا لَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ وَكَانَ مُدَبَّرًا لَهُ وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ آجِلٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْمُكَاتَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُكَاتَبُ بِالتَّدْبِيرِ حَتَّى أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ كُلَّهَا فَقَدْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ وَالْمَالُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى وَلَا خِيَارَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ بَطَلَ بِعِتْقِهِ، وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ ثُمَّ عَلِمَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِيهِ وَإِذَا اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى حَلَالٌ لَهُ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ. (قَالَ) وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ثُمَّ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِهِ وَسَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ عَنْ أَدَائِهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ وَأَخَذَ الْوَرَثَةُ بِحِصَّةِ الْآخَرِ أَيِّهِمَا شَاءُوا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الثَّانِيَ أَصِيلٌ فِي حِصَّتِهِ وَالْمُدَبَّرُ كَانَ كَفِيلًا مُطَالَبًا فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْمُطَالَبَةُ بِعِتْقِهِ، فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُدَبَّرُ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ عِتْقِهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ مُنْتَفِعٌ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِذَلِكَ وَالْآنَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْأَدَاءِ بَلْ إنَّمَا أَدَّاهَا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ الْمَحْضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ ثُلُثٍ وَسَعَى فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَمُكَاتَبَتُهُمَا أَلْفٌ بَطَلَ حِصَّةُ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَاعْتَبَرَ قِيمَتَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى هُوَ الْأَقَلُّ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالَ ثَلَاثُمِائَةٍ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّةُ الْآخَرِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ ثُلُثُهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ يُسَلَّمُ لِلْمُدَبَّرِ مِنْ قِيمَتِهِ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ ثُمَّ يُؤْخَذُ الْمُدَبَّرُ بِمَا بَقِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِهِ وَلَا يُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ بِمَا عَلَى الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَلَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ مِنْ قَبْلِ التَّدْبِيرِ وَالْمُكَاتَبُ لَمْ يَكُنْ كَفِيلًا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمُكَاتَبَتُهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الْمُدَبَّرُ أَنْ يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَنْفَعُهُ عَسَى يَكُونُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ مُنَجَّمًا مُؤَجَّلًا، وَإِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ يَسْقُطُ ثُلُثُ الْمُكَاتَبَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 لِأَنَّهُ عَتَقَ ثُلُثَا رَقَبَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةُ كَانَتْ لَهُ بِمَا هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى فَلِهَذَا يَسْقُطُ ثُلُثُ الْمُكَاتَبَةِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَا الْمُكَاتَبَةِ عَلَيْهِمَا يَأْخُذُونَ بِذَلِكَ أَيَّهمَا شَاءُوا، فَإِنْ أَدَّى الْمُدَبَّرُ رَجَعَ عَلَى الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ذَلِكَ مِقْدَارِ حِصَّتِهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ رَجَعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ بِرُبْعِ ذَلِكَ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَاخْتَارَ الْمُكَاتَبُ أَنْ يَسْعَى فَهُوَ عَلَى حَالِهِ وَسِعَايَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُنَافِي الْكِتَابَةَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَالْمُدَبِّرُ غَيْرُ مُفْسِدٍ عَلَى شَرِيكِهِ شَيْئًا مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ، فَإِنْ عَجَزَ فَاَلَّذِي لَمْ يُدَبِّرْ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ تَدْبِيرِهِ فِي الْإِفْسَادِ قَدْ ظَهَرَ بَعْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ حُكْمُ هَذَا كَحُكْمِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتَيْنِ إذَا مَلَكْتُكُمَا فَأَنْتُمَا حُرَّتَانِ بَعْدَ مَوْتِي فَاشْتَرَى إحْدَاهُمَا فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأُخْرَى فَقَدْ صَارَتَا مُدَبَّرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مِلْكُهُمَا فَإِنَّمَا تَمَّ عِنْدَ شِرَاءِ الثَّانِيَةِ وَوَلَدُ الْأُولَى رَقِيقٌ يُبَاعُ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ فِيهَا فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَصِلُ إلَى الْمَحِلِّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ كَمَالِ الشَّرْطِ (قَالَ) وَإِذَا أَسْلَمَ مُدَبَّرٌ ذِمِّيٌّ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ فِي قِيمَتِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ عِنْدَهُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ وَعِنْدَنَا هُوَ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، فَإِنْ أَدَّى السِّعَايَةَ عَتَقَ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ وَسَقَطَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ الْمَوْلَى عَلَى قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُحَاكَمَةٍ فَهَذَا وَاسْتِسْعَاءُ الْقَاضِي سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِسْعَاءِ قَائِمٌ بَعْدَ عَجْزِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَالِ الصُّلْحِ فَضْلٌ عَلَى قِيمَتِهِ يُبْطِلُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْفَضْلَ عَنْهُ إذَا عَجَزَ وَيُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ (قَالَ) وَإِذَا دَبَّرَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ خَرَجَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ لَغْوًا، وَإِنْ دَبَّرَهُ بَعْدَ مَا خَرَجَا بِأَمَانٍ فَتَدْبِيرُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهِمَا فِي دَارِنَا فِيمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَإِنْ أَسْلَمَ هَذَا الْمُدَبَّرُ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْتَأْمَنِ مُحْتَرَمٌ بِالْأَمَانِ وَبَيْعُهُ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ مُتَعَذِّرٌ، فَإِنْ لَحِقَ الْمَوْلَى بِدَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ يَسْعَى ثُمَّ قُتِلَ الْمَوْلَى أَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ أَوْ أُسِرَ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ، أَمَّا إذَا قُتِلَ الْمَوْلَى فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ، وَإِنْ أُسِرَ فَلِأَنَّ مِلْكَهُ عَنْهُ قَدْ بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ وَالْمُدَبَّرُ لَيْسَ يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْمَمْلُوكُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 مَتَى زَالَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا إلَى أَحَدٍ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ لَمْ يَبْقَ لِمِلْكِهِ حُرْمَةٌ وَالسِّعَايَةُ كَانَتْ لِحُرْمَةِ مِلْكِهِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ خَرَجَ بِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَحِيحٌ تَبَعًا لِلنَّسَبِ، فَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَوْلَى، فَإِنْ أَدَّتْ السِّعَايَةَ عَتَقَتْ، وَإِنْ عَجَزَتْ رُدَّتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا قَدْ ارْتَفَعَ بِإِسْلَامِهِ فَلَوْ أَسْلَمَتْ وَبَاعَهَا مِنْ نَفْسِهَا بِمَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ جَازَ وَكَانَتْ حُرَّةً بِالْقَبُولِ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ فَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالْقَبُولِ فَمَوْتُ الْمَوْلَى وَحَيَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ. (قَالَ) وَإِذَا دَبَّرَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَدْبِيرُهُ بَاطِلٌ وَالْعَبْدُ رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ وَرَجَعَ إلَى دَارِنَا وَوُجِدَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ فَأُخِذَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْأَخْذِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ اللَّحَاقِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي حَقِّهِ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا وَأَصْلُ مِلْكِهِ بَاقٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ التَّوَقُّفُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ حِينَ عَادَ مُسْلِمًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِهِ لِلْوَرَثَةِ وَبَاعُوهُ فَبَيْعُهُمْ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ يَوْمَئِذٍ فَمَتَى حَصَلَ الْمِلْكُ لَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ كَانَ مُدَبَّرًا، وَإِنْ اسْتَوْلَدَ فِي رِدَّتِهِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَلَا حَجْرَ عَلَى الْمُرْتَدِّ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِي كَسْبِهِ أَظْهَرُ مِنْ مِلْكِ الْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ فَإِذَا كَانَ يَصِحُّ الِاسْتِيلَادُ مِنْ الْأَبِ فَمِنْ الْمُرْتَدِّ لَأَنْ يَصِحَّ أَوْلَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّدْبِيرُ مِنْهُ صَحِيحٌ كَالِاسْتِيلَادِ فَإِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي مِنْ ثُلُثِهِ كَمَا يَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ الَّذِي دَبَّرَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمَا فِي نُفُوذِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ. وَتَمَامُ بَيَانِهِ فِي السِّيَرِ (قَالَ) وَإِذَا دَبَّرَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ اشْتَرَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَسْلَمَ رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ بِالتَّدْبِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بِرِدَّتِهِ وَلِحَاقِهِ كَمَا لَا تَبْطُلُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ، وَالْمُدَبَّرُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَلَا الْمُسْلِمُونَ لِلْوَلَاءِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ وَلِهَذَا رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 [بَابُ الْأَمَةِ الْحَامِلِ إذَا بِيعَتْ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ بَاعَ أَمَةً وَسَلَّمَهَا أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَنَقُولُ إذَا كَانَ الْبَائِعُ سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَيَقُّنًا إنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَبِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ كَالنَّسَبِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ دُونَهُ فِي احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ وَالضَّعِيفُ لَا يُبْطِلُ الْقَوِيَّ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يُصَدَّقْ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ سَوَاءٌ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ حَصَلَتْ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ لِاسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ عَنْهُ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الِاسْتِلْحَاقِ وَالضَّعِيفُ لَا يَبْقَى بِطَرَيَانِ الْقَوِيِّ، وَإِذَا ادَّعَيَاهُ مَعًا فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ ابْنُ الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ هُوَ ابْنُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ فَيَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَةُ الْبَائِعِ أَسْبَقُ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ فَإِنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الدَّعْوَى، وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرِ وَالْآخَرُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فِي مِلْكِهِ فَيَتْبَعُ الشَّكُّ الْيَقِينَ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْأُمَّ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَمْ تُرَدَّ رَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَفَذَ فِيهَا لِقِيَامِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ فَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِنَقْضِ الْبَيْعِ فِيهَا وَلِأَنَّا لَوْ نَقَضْنَا الْبَيْعَ وَالْعِتْقَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ فَيَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِحُرِّيَّتِهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. إلَّا أَنَّ الْوَلَدَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ بَعْدَ عِتْقِهَا وَحَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ لِلْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ بَاقٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْدَادِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ يَرُدُّهُ الْبَائِعُ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ثُبُوتُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي الْأُمِّ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ، وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ قَدْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ لِلْبَائِعِ فَلَا يَبْقَى الضَّعِيفُ بَعْدَ طَرَيَان الْقَوِيِّ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ وَلَمْ يُصَدَّقْ الْبَائِعُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ فَكَذَلِكَ فِي التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْتِقْهُ وَلَكِنَّهُ مَاتَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ ابْتِدَاءً، وَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَدٌ حَيٌّ لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ أَيْضًا بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ النَّسَبُ كَانَ ثَابِتًا اسْتَتَرَ بِاللِّعَانِ فَيَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ بِبَقَاءِ وَلَدٍ يَخْلُفُهُ حَتَّى يَظْهَرَ بِدَعْوَتِهِ وَهُنَا النَّسَبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ابْتِدَاءَ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ وَلَدِ الْوَلَدِ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَتِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي الدَّعْوَى (قَالَ)، وَإِذَا بَاعَ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ دَعْوَتِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمَا فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَلِدْ حَتَّى بَاعَهَا الْمُشْتَرِي وَتَنَاسَخَهَا رِجَالٌ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَادَّعُوهُ جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَتَكُونُ دَعْوَتُهُ فِي الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَتُفْسَخُ الْبُيُوعُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْبُيُوعَ فِي احْتِمَالِ الْفَسْخِ كَبَيْعٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ وَلَدًا وُلِدَ عِنْدَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ وَالْوِلَادَةِ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَحَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَظْهَرُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّعْوَى لِخَفَاءِ أَمْرِ الْعُلُوقِ فَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ فَيَتَدَارَكُ ذَلِكَ بِالدَّعْوَةِ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ فِي يَدَيْ رَجُلٍ صَبِيٌّ لَا يَنْطِقُ وُلِدَ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يُولَدْ عِنْدَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَعْتَقَهُ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقِيَاسِ لِلتَّنَاقُضِ وَصَدَقَ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِخَفَاءِ أَمْرِ الْعُلُوقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَى النَّسَبِ وَهُوَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ كَانَ لَقِيطًا فِي يَدِهِ فَادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا كَبِيرًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ ثُمَّ صَدَّقَهُ الْغُلَامُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُعَبِّرٌ عَنْ نَفْسِهِ فَتَتَوَقَّفُ صِحَّةُ دَعْوَةِ نَسَبِهِ عَلَى تَصْدِيقِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 مُصَدَّقًا فِي دَعْوَةِ نَسَبِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ فِي الصَّغِيرِ كَمَا اُسْتُحْسِنَ فِي الْمُدَبَّرَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ مِنْهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَنِصْفِ عُقْرِ أُمِّهِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ بِالْعِتْقِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَالْوَلَاءُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيَبْطُلُ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فِي الْقِيَاسِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ بَيْنَهُمَا لَمَّا ثَبَتَ نِصْفُ الْوَلَاءِ لِشَرِيكِهِ لَمْ تُصَدَّقْ فِي الدَّعْوَةِ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْوَلَاءِ لَلشَّرِيك وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّغِيرِ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ هُنَا وَوَلَاءُ الْوَلَدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، وَبِنَحْوِهِ أَجَابَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَالَ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ نِصْفُ وَلَاءِ الْوَلَدِ لَلشَّرِيك وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَمَعْنَى هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْوَلَاءَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِلْأَبِ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّسَبِ إلَّا عِنْدَ جِنَايَةِ الْوَلَدِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْأُمُّ فَنَصِيبُ الْأَبِ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ مِنْهَا مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالضَّمَانِ فَأَمَّا إذَا تَعَذَّرَ تَمَلُّكُهُ عَلَيْهِ اقْتَصَرَ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا كَبِيرًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ دَبَّرَاهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمَا وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْعَبْدِ يَدٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالدَّعْوَةِ اسْتِحْسَانًا كَمَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُمَا بِالتَّدْبِيرِ اسْتَحَقَّا وَلَاءَهُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ (قَالَ) وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَبَاعَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا مَعَ الْأُمِّ فَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْبَائِعِ عَبْدٌ لَهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ فَإِنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّوْأَمُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْإِعْتَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ أَعْتَقَهُ مَعَ الْأُمِّ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا مِنْهُ لِمَا قُلْنَا وَثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَالتَّوْأَمُ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ لِأَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ لِلْآخَرِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَ الْمُشْتَرِي الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ حُرَّ الْأَصْلِ لَا يَعْتِقُ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ بُطْلَانُ عِتْقِ الْأُمِّ إذْ الِاسْتِيلَادُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَسَبِ الْوَلَدِ فَلِهَذَا رَدَّ الْبَائِعُ حِصَّةَ الِابْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ، وَلِأَنَّا لَوْ نَقَضْنَا عِتْقَهُ فِي الْوَلَدِ إنَّمَا نَنْقُضُهُ لِإِثْبَاتِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ حُرِّيَّةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 الْأَصْلِ وَلَوْ نَقَضْنَا عِتْقَهُ فِي الْأُمِّ نَنْقُضُهُ لِمَا هُوَ أَضْعَفُ وَهُوَ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَيُؤَدِّي إلَى أَنْ تُوطَأَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (قَالَ) وَإِذَا بَاعَ أَمَةً حَامِلًا فَخَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا فَارَاد أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحَبَلَ مِنْ عَبْدٍ كَانَ لَهُ قَدْ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِهَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدَّعِيَهُ أَبَدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّعِيَهُ إنْ أَنْكَرَ الْعَبْدُ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ لِلْعَبْدِ يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْعَبْدِ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ مِنْ الْأَصْلِ وَشَبَّهَا هَذَا بِالْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ ثُمَّ لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ أَنَّ الْبَائِعَ أَعْتَقَهُ فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ وَلَاءَهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِبُطْلَانِ إقْرَارِهِ بِتَكْذِيبِ الْبَائِعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إقْرَارُهُ تَضَمَّنَ حُكْمَيْنِ: انْتِفَاءُ النَّسَبِ عَنْهُ، وَثُبُوتُهُ مِنْ الْعَبْدِ، فَبِإِنْكَارِ الْعَبْدِ يَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِالْحُكْمِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ وَلَا يَبْطُلُ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ انْتِفَاؤُهُ مِنْ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُلَاعِنِ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ دَعْوَةِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ حُكْمٌ بِنَفْيِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَبَعُدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبْطَلْنَا بِاللِّعَانِ حُكْمَ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْمُلَاعِنِ يَبْقَى مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَلَيْسَ النَّسَبُ كَالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ الِانْتِقَالُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ بِخِلَافِ النَّسَبِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْبُيُوعِ (قَالَ) أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَهَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا فَهُوَ وَلَدُهُمَا وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ أَصْلُهُ كَانَ فِي مِلْكِهِمَا فَاسْتَوَيَا فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَإِذَا جَازَ إبْطَالُ الْبَيْعِ فِي جَمِيعِهَا بِدَعْوَةِ الْوَلَدِ فَفِي نِصْفِهَا أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي مَعًا كَانَتْ الدَّعْوَةُ أَحَقَّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ فَقِيَامُ مِلْكِهِ فِي نِصْفِهَا وَقْتَ الْعُلُوقِ كَقِيَامِ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِهَا فِي ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ أَسْبَقَ وَثَبَتَ بِهَا حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ كَانَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بَاطِلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ الْمُكَاتَبِ] بَابُ الْمُكَاتَبِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي وَقْتِ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ كَمَا أَخَذَ الصَّحِيفَةُ مِنْ مَوْلَاهُ يَعْتِقُ يَعْنِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيفَةَ عِنْدَ ذَلِكَ تُكْتَبُ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْكِتَابَةَ وَارِدًا عَلَى الرَّقَبَةِ كَالْعِتْقِ بِجُعْلٍ يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَرِيمٌ لِلْمَوْلَى فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ نَفْسِهِ عَتَقَ وَهُوَ غَرِيمٌ لِلْمَوْلَى فِي الْفَضْلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ وُصُولُ قَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْلَى لِيَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرَرُ عَنْهُ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى فَكَأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِهِ يُعْتِقُ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ مَا شَاءَ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ وَهَذَا لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فِي حَقِّ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا يَدًا وَرَقَبَةً فَهُوَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَالِكِيَّةَ الْيَدِ مِنْ كَرَامَاتِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الْكَرَامَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَمَالِكِيَّةُ الْيَدِ تَنْفَصِلُ عَنْ مَالِكِيَّةِ الرَّقَبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُثْبِتُ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكَ الْيَدِ وَأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ فَكَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فَأَمَّا الْعِتْقُ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى حَطُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] قَالَ رُبْعُ الْمُكَاتَبَةِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَطَّ عَنْ مُكَاتَبٍ لَهُ أَوَّلَ نَجْمٍ حَلَّ عَلَيْهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّدْبِ فَبِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ دُونَ الْحَتْمِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ حَطُّ رُبْعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدُ إرْفَاقٍ يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ وَلَا يَقْصِدُ الْمَوْلَى بِهِ التِّجَارَةَ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ إيصَالَهُ بِهِ إلَى الْعِتْقِ فَيَكُونُ إرْفَاقًا وَيَسْتَحِقُّ بِكُلِّ عَقْدٍ مَا كَانَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَشْرُوعًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 لِلْإِرْفَاقِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ مَا هُوَ مَحْضُ الْإِرْفَاقِ وَهُوَ حَطُّ بَعْضِ الْبَدَلِ (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْبَدَلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْبَدَلِ إذْ الشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ وَالْقِيَاسُ لَنَا فَإِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ إذْ يُعْتَبَرُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ بِالْآخَرِ فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ النَّدْبُ دُونَ الْحَتْمِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَذَلِكَ نَدْبٌ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] لِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَى الْمُكَاتَبِينَ فَيَكُونُ هَذَا خِطَابًا لِلنَّاسِ بِصَرْفِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمُكَاتَبِينَ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الْمُكَاتَبَةِ كَمَا قَالَ فِي بَيَانِ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمُرَادُ الْمُكَاتَبُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَالْمَالُ الْمُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا هُوَ الصَّدَقَةُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مُكَاتَبًا لَهُ عَجَزَ فَكَسَرَ مُكَاتَبَتَهُ فَرَدَّهُ فِي الرِّقِّ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ وَيَرُدَّهُ فِي الرِّقِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطٌ عَقَدَهُ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ فِي الْعُقُودِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ مَا لَمْ يَكْسِرْ نَجْمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمَانِ فَدَخَلَا رُدَّ فِي الرِّقِّ وَكَانَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرْفَاقِ وَفِي رَدِّهِ فِي الرِّقِّ عِنْدَ كَسْرِهِ نَجْمًا وَاحِدًا تَضْيِيقٌ عَلَيْهِ فَلِمَعْنَى التَّوَسُّعِ وَالْإِرْفَاقِ شُرِطَ أَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ هَذَا إذَا كَانَتْ النُّجُومُ مُسْتَوِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فَكَسَرَ نَجْمًا وَاحِدًا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَقَلِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ أَدَاءً عَنْ الْأَكْثَرِ أَعْجَزُ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ عِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَجَعَلَ هَذَا الْعَجْزَ نَظِيرَ عَجْزِ الْعِنِّينِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى امْرَأَتِهِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ هُنَاكَ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَقْدُ تَمَّ بِتَرَاضِيهِمَا وَالْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِلُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِشَرْطٍ فَإِذَا فَاتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّرْطُ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ لِانْعِدَامِ رِضَاهُ بِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 لِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ أَصْلٌ لَنَا فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ بِالْقَبْضِ وَبَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ لِحَاجَتِهِ إلَى نَقْضِ الْقَبْضِ التَّامِّ وَنَقْلِ الضَّمَانِ إلَى الْبَائِعِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيُحْكَمُ بَحْرِيَّته حَتَّى يَكُونَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِهِ وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحْتَجَّ فِيهِ وَقَالَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَاتَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ سَلَامَتِهِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ كَهَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرَّقَبَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ يُضَافُ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَرْجِعُ إلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ، وَالرُّجُوعُ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ إلَى قِيمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَبَقِيَ لِيَعْتِقَ بِوُصُولِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى. وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ ابْتِدَاءً لِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ إحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَيِّتِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْعِتْقُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَسْبِقُ الشَّرْطَ وَفِي إسْنَادِهِ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ عَاقِدٌ وَالْعَقْدُ يَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِمَوْتِ الْعَاقِدِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ وَصَارَ الْمَوْلَى مُعْتِقًا لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُعْتِقًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِك كَانَ لَغْوًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَبْدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ صَحِيحًا فَإِذَا أُعْتِقَ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُعْتِقُ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ وَالْفِقْهُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ يَبْقَى مِلْكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمًا لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ فَإِذَا بَقِيَ مِلْكُهُ صَارَ مُعْتَقًا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مَمْلُوكًا بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَبْقَ الْمَمْلُوكِيَّةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقًا بَعْدَ مَوْتِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْآخَرِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ قَضِيَّةَ مُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْخَصْمُ لَا يُنَازَعُ فِي هَذَا، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ فِي مَوْتِ الْمُكَاتَبِ فَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يُسَلَّمُ لِلْعَاقِدِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَالرَّقَبَةُ لَا تُسَلَّمُ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا السَّالِمُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَقَدْ سُلِّمَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَى الرَّقَبَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 عَلَيْهِ هُوَ الرَّقَبَةُ كَمَا تُضَافُ الْإِجَارَةُ إلَى الدَّارِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَالرُّجُوعُ عِنْدَ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الرَّقَبَةِ لَيْسَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرَّقَبَةُ، وَلَكِنْ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا يَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فَيُصَارُ إلَى قِيمَةِ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْخُلْعِ يُصَارُ إلَى رَدِّ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، ثُمَّ إذَا جَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَوْلَى بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْحَيِّ حُكْمًا حَتَّى يَصِيرَ مُعْتِقًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الْمُكَاتَبُ حَيًّا حُكْمًا حَتَّى يُؤَدِّيَ كِتَابَتَهُ فَيَصِيرُ حُرًّا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ وَالْمَالِكِيَّةُ ضَرْبُ قُوَّةٍ وَالضَّعِيفُ بِحَالِ الْمَيِّتِ أَلْيَقُ مِنْ الْقُوَّةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ إبْقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِحَاجَتِهِ أَنَّ كَفَنَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ سِوَى الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ نَحْنُ إنَّمَا نُبْقِي الْمَالِكِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فِي مَكَاسِبِهِ وَبِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَتَبْقَى تِلْكَ الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ فَوْقَ حَاجَةِ مَوْلَاهُ إلَى الْوَلَاءِ. فَإِذَا جَازَ بَقَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى الْوَلَاءِ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ صِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ثُمَّ بَقَاءُ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَكُونُ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ لَا نَجْعَلُهُ حُرًّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّا نُسْنِدُ حُرِّيَّتَهُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَالدَّيْنُ بِالْمَوْتِ يَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْقَى مَحَلًّا صَالِحًا لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِهَذَا حَلَّ الْأَجَلُ بِالْمَوْتِ فَإِذَا تَحَوَّلَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى التَّرِكَةِ فَرَغَتْ الذِّمَّةُ مِنْهُ وَفَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ مُوجِبٌ حُرِّيَّتَهُ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ الْمَالُ إلَى الْمَوْلَى فَإِذَا وَصَلَ الْمَالُ إلَيْهِ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ عِنْدَكُمْ وَلَوْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَحُدَّ قَاذِفُهُ (قُلْنَا) هَذَا شَيْءٌ نُثْبِتُهُ حُكْمًا لِلِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابَةِ وَلِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِيهِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ مُطْلَقًا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَا يَصِيرُ مُحْصَنًا بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةٍ ثَبَتَتْ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ حُرًّا أَنْ يَكُونَ مَا بَقِيَ مِنْ كَسْبِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ (قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَطَ الرَّجُلُ عَلَى مُكَاتَبِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا بِإِذْنِهِ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِنَّ مَالِكِيَّةَ الْيَدِ تُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الِاسْتِبْدَادِ بِالْخُرُوجِ إلَى حَيْثُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 شَاءَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ تَمَكُّنُهُ مِنْ ابْتِغَاءِ الْمَالِ وَذَلِكَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20] الْآيَةَ. فَكُلُّ شَرْطٍ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَالْمَقْصُودِ بِهِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَعِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ كَالْمُودِعِ إذَا قَالَ لِلْمُودَعِ احْفَظْهَا فِي بَيْتِك دُونَ بَيْتِ غَيْرِك صَحَّ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْكِتَابَةِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِهِ وَإِنَّمَا يُفْسِدُ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِهِ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فِي الِابْتِدَاءِ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِالْأَدَاءِ فَيُوَفِّرُ حَظَّهَا عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهَا بِالْبَيْعِ تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِهَا وَلِشَبَهِهَا بِالنِّكَاحِ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهَا وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِهِ الْفَسْخَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَلِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّوَسُّعِ قُلْنَا الشَّرْطُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ يَكُونُ لَغْوًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ، وَلِمَعْنَى التَّوَسُّعِ قُلْنَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي الْكِتَابَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ (قَالَ) وَإِنْ أَخَذَ كَفِيلًا بِالْمُكَاتَبَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّةِ حُرٍّ مِنْ صَدَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ لَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذِمَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهَا لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَقْوَى مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ وَجَعَلَ نُجُومَهُمَا وَاحِدَةً وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَهَذَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَالَةِ، وَلَكِنَّا نُجَوِّزُ هَذَا الْعَقْدَ اسْتِحْسَانًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْإِرْفَاقِ وَقَدْ يَكُونُ اعْتِمَادُ الْمَوْلَى عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلِأَنَّهُ بِهَذَا الْعَقْدِ يَجْعَلُهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا إذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ جَمِيعَ الْمَالِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَعَلَّقَ بِهِ عِتْقَ صَاحِبِهِ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا صَحَّ ثَبَتَ مُوجَبُهُ وَهُوَ انْقِسَامُ الْبَدَلِ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا فَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عَمَّا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَبْقَى مَطْلُوبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ شَرْطُ الْمَوْلَى وَمَقْصُودُهُ مُعْتَبَرٌ وَقَدْ شَرَطَ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ فَلِمُرَاعَاةِ شَرْطِهِ قُلْنَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَلَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ: الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمَوْلَى لَهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَا إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ مَوْلَاهُمَا. وَإِنَّمَا يَكْتُبُ هَذَا لِلتَّوَثُّقِ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ لِتَحْقِيقِ ثُبُوتِ مَالِكِيَّةِ الْيَدِ لَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ (قَالَ) وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى وَصِيفٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ بَعْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ كَمَا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَطَ خِدْمَتَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِنْ الْخِدْمَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ حَتَّى يَصِحَّ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَكُونُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مَالًا مَعْلُومًا يُوَفِّيهِ مِنْ كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً مَعْلُومَةً يُوَفِّيهَا مِنْ مَنَافِعِهِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً مَجْهُولَةً بِغَيْرِ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ أَنْ تَخْدُمَهُ أَبَدًا أَوْ يُجَامِعَهَا أَبَدًا فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَا شُرِطَ مَعَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَالْمَجْهُولُ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ يَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا وَهَذَا الْمُفْسِدُ يَتَمَكَّنُ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ مُوجَبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ إثْبَاتُ مَالِكِيَّةِ الْيَدِ لَهُ حَتَّى يَصِيرَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ وَاشْتِرَاطُ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِ أَبَدًا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْوَطْءِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَاسْتِثْنَاءُ مُوجَبِ الْعَقْدِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ يَقُول: فَإِنْ أَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ. قَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْزِلُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَقَدْ شَرَطَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ مَعَ الْأَلْفِ شَيْئًا آخَرَ فَكَيْف يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْأَلْفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ وَاشْتِرَاطُ الْخِدْمَةِ وَالْوَطْءِ عَلَيْهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ إبْقَاءِ مِلْكِ نَفْسِهِ فِي الْخِدْمَةِ وَالْوَطْءِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَأَمَّا الْبَدَلُ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ هُوَ الْأَلْفُ فَإِذَا أَدَّاهُ يَعْتِقُ وَيَسْتَوِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إنْ كَانَ قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْتهَا إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يَقُلْ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ إنْ أَدَّيْتهَا إلَيَّ فَأَنْتَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ فَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَعْتِقُ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ مَعَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْفَسَادِ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ فَلَا يُعْدَمُ أَصْلُهُ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ثُمَّ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ عَلَى الْأَلْفِ إلَى مُكَاتَبَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَعَ الْأَلْفِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً فَإِذَا لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ مُكَاتَبَةُ مِثْلِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا وَدَخَلَ بِهَا كَانَ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ عَلَيْهِ فَضْلُ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقَبَةَ هُنَا أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِبَارِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَيَلْزَمُهُ تَمَامُ قِيمَةِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِسَبَبِ الْفَسَادِ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْمَبِيعِ وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْأَلْفِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَوْلَى مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنْ الْأَلْفِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِعِتْقِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ إلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ جَمِيعِ الْأَلْفِ لَهُ وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى فَإِذَا كَانَ يَئُولُ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ (قَالَ) وَشِرَاءُ الْمُكَاتَبِ مِنْ مَوْلَاهُ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ وَمَا اسْتَهْلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكَاسِبِ فَاخْتَصَّ بِمِلْكِ التَّصَرُّفِ فِي مَكَاسِبِهِ فَكَانَ حَالُ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَحَالِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ يَسْعَى عَلَى النُّجُومِ بَعْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَهُمَا كُلُّ مَنْ تَكَاتَبَ عَلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي السِّعَايَةِ عَلَى النُّجُومِ ثُمَّ كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ إذَا أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ عِنْدَنَا كَمَا فِي رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَكَاتَبَ عَلَيْهِ كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَالْأَصْلُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَكَذَا مَا يَتْبَعُهُ وَزُفَرُ يَقُولُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْمُكَاتَبَةِ وَفِي تَنْفِيذِ عِتْقِ الْمَوْلَى فِيهِمْ إبْطَالُ حَقِّهِ عَنْ كَسْبِهِمْ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثُمَّ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُكَاتَبِ مِنْ كَسْبِهِ حُكْمًا لِثُبُوتِ حُرِّيَّتِهِ لَا أَنْ يَكُونَ بِتَصَرُّفِ الْمَوْلَى وَقَصْدِهِ (قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهَا لَا يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ لِقِيَامِ الرِّقِّ الْمُنَافِي فِيهِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْيَدِ وَبِمِلْكِ الْيَدِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَا لَمْ تَلِدْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِسَبَبٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 لِاسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَقَدْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ تَشْتَرِي زَوْجَهَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكُ رَقَبَتَهُ حَقِيقَةً (قَالَ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ لَهُ وَلَا عِتْقُهُ لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِيهِ وَهُوَ مُنَافٍ لِوِلَايَةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّمْلِيكِ حَقِيقَةً وَبِاعْتِبَارِهِ يَصِحُّ التَّبَرُّعَاتُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ وَالْعِتْقُ بِغَيْرِ جُعْلٍ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ حَقِيقَةً وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ مِلْكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ مَآلَ هَذَا الْعَقْدِ عِتْقٌ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَلِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ لِيَكْتَسِبَ الْمَالَ بِهَا فَيُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ عِنْدَ تَمَامِهِ بِالْأَدَاءِ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكِتَابَةُ مِنْ عُقُودِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تِجَارَةً فَكَذَلِكَ يُكَاتِبُ وَرُبَّمَا تَكُونُ الْكِتَابَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِنَفْسِهِ وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَمْلُوكِ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لَهُ وَلِأَنَّهُ يُسَوِّي غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ لِمَمْلُوكِهِ مِثْلَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ إعْتَاقُ مَمْلُوكِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِمَالٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يُوجِبُ لِغَيْرِهِ فَوْقَ مَالِهِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ (قَالَ) وَلَا يَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَيْسَ مِنْ عُقُودِ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي شَيْءٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ مُفَاوِضَهُ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ وَلَا وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَالِاسْتِبْدَادُ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَالرِّقُّ يَنْفِي الْوِلَايَةَ وَلِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ سُرِقَ مِنْهُ يَجِبُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ تَتِمُّ مِنْهُ جِنَايَةُ السَّرِقَةِ وَحَقُّهُ فِي كَسْبِهِ كَمِلْكِ الْحُرِّ فِي مَالِهِ فَيُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْهُ كَذَلِكَ وَهُوَ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ (قَالَ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ مُرَابَحَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ، وَكَذَلِكَ مَوْلَاهُ فِيمَا اشْتَرَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَامِحُ صَاحِبَهُ فِي الْمُعَامَلَةِ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ وَلِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَمَا يَغْرَمُهُ لِلْمُكَاتَبِ بِالشِّرَاءِ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهُ وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَقَلِّ الشَّيْئَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَبَعْدَ الْبَيَانِ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ وَالْغُرُورُ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 مُكَاتَبِهِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحُ الرِّبَا وَالْمُكَاتَبُ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا كَمَا قَرَّرْنَا فَصَرِيحُ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى احْتِيَاطًا (قَالَ) وَإِذَا أَخَذَ بِالْمُكَاتَبَةِ رَهْنًا فِيهِ وَفَاءٌ بِهَا فَهَلَكَ الرَّهْنُ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُثْبِتُ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَدَيْنُ الْكِتَابَةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْفًى بِهَلَاكِ الرَّهْنِ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً (قَالَ) وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصِيفٍ فَأَتَاهُ الْمُكَاتَبُ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا ثَمَنَ الْوَصِيفِ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى قَبُولِهَا لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْحَيَوَانَ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الْوَصِيفِ وَأَنَّ قِيمَةَ الْوَصِيفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْبَعُونَ دِينَارًا (قَالَ) وَإِذَا كَاتَبَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحِلُّ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمَوْلَى بِالتَّسْمِيَةِ، فَإِنْ أَدَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي وَقَدْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ إذَا أَدَّيْته أَوْ لَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ الْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ فَيَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَذَكَر فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ هُوَ الْقِيمَةُ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيُّهُمَا أَدَّى الْمَشْرُوطَ أَوْ قِيمَةَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ صُورَةً هُوَ الْمَشْرُوطُ وَالْعِتْقُ مُعَلَّقٌ بِأَدَائِهِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْبَدَلُ الْقِيمَةُ فَأَيَّهُمَا أَدَّى يَعْتِقُ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ فِي جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ (قَالَ) وَإِنْ جَاءَ الْمُكَاتَبُ بِالْمَالِ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَأَبَى الْمَوْلَى أَنْ يَقْبَلَهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ يَسْقُطُ، وَإِنْ صَالَحَهُ الْمَوْلَى عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ الْمُكَاتَبَةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا لِيَحُطَّ مَا بَقِيَ فَهَذَا جَائِزٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ هَذَا التَّصَرُّفِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ الرِّبَا فَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى عَبْدٍ مِثْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ وَهُوَ خَيَّاطٌ أَوْ شَبَهُ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْلُومُ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ خَيَّاطٍ أَجَزْتُ ذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 اسْتِحْسَانًا وَمُرَادُهُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَ تَرْكِ بَيَانِ الْوَصْفِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ فَإِنَّ فِي الْقِيَاسِ الْكِتَابَةُ كَالْبَيْعِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هِيَ كَالنِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ بِالْبَدَلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِرْفَاقُ دُونَ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْآجَالُ الْمَجْهُولَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْعَطَاءِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الصَّدَاقِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ الْمَالُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ حَلَّ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ أَجَلُ الْعَطَاءِ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الْوَصْفِ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِ الْعَطَاءِ، وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَابَّةِ فُلَانٍ هَذِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى مُعْتَبَرٌ لِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ مِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيمَا يُقَابِلُهُ ثُمَّ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصِيفٍ أَبْيَضَ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَصِيفَيْنِ أَبْيَضَيْنِ أَوْ حَبَشِيَّيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا فَمُبَادَلَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالْمَثْنَى يَدًا بِيَدٍ صَحِيحٌ وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا بَأْسَ بِبَيْعِ النَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ وَالْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً» وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ مَالِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَلَهُ أَوْلَادٌ أَحْرَارٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ مِنْ أَمَتِهِ وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ بُدِئَ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ مَتَى اجْتَمَعَتْ فِي الْمُعَيَّنِ وَتَفَاوَتَتْ فِي الْقُوَّةِ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى كَمَا يُبْدَأُ فِي التَّرِكَةِ بِالْجِهَازِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وَالدَّيْنُ أَقْوَى مِنْ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا مُتَقَرِّرًا فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِفَوْتِ الدَّفْعِ بِمَوْتِهِ وَالْمَالُ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهِ فَمَا كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أَسْبَقَ تَعَلُّقًا بِذِمَّتِهِ وَكَانَ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ أَقْوَى ثُمَّ الْجِنَايَةُ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ مُتَقَرِّرٍ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَالضَّعِيفُ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ فَلِهَذَا قُدِّمَتْ الْجِنَايَةُ ثُمَّ بَعْدَهَا الْكِتَابَةُ، وَإِذَا أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَحُرِّيَّةِ كُلِّ مَنْ كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِجَمِيعِ أَوْلَادِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ مُكَاتَبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَتُسْنَدُ حُرِّيَّةُ هَذَا الِابْنِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي اُسْتُنِدَ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَرِث مِنْهُ شَيْئًا إذَا أَدَّى مُكَاتَبَتَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَاءِ مُكَاتَبَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأَبِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الِابْنِ إذَا كَانَ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ بَلْ تَقْتَصِرُ حُرِّيَّتُهُ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ هُوَ رَقِيقًا عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَلَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَهْرٌ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ كَانَ دَيْنُهَا بَعْدَ قَضَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مَهْرَهَا مُتَأَخِّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّ سَبَبَهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَالْمَرْأَةُ رَاضِيَةٌ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا حِينَ زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَا لَمْ يُسْقِطْ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ كَسْبِهِ لَا يُظْهِرُ الْمَهْرَ، فَلِهَذَا كَانَ بَعْدَ دَيْنِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الرِّضَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ. وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَسْعَى وَلَدُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ فِيهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَمَّنْ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كَمَوْتِهِ عَمَّا يُؤَدِّي بِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمَالُ، فَإِذَا أَدَّوْا عَتَقَ كُلُّ مَنْ كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّجُومَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَبْقَى إلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَعِنْدَهُمَا يَبْقَى بِبَقَاءِ كُلِّ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْأَوْلَادُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فَإِنَّهُمْ يُبَاعُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْمَالَ حَالًا، وَيَكُونُ ثَمَنُهُمْ تَرِكَةً لَهُ تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ وَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ لَمْ يُبَعْ هَؤُلَاءِ لِبَقَاءِ النُّجُومِ بِاعْتِبَارِهِ يَسْعَوْنَ بِهِ، فَإِنْ حَلَّ عَلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ أَوَّلُ نَجْمٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ يُنْتَظَرُ رُدُّوا جَمِيعًا فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَلَوْ كَسَرَ أَبُوهُ نَجْمًا رُدَّ فِي الرِّقِّ، فَكَذَلِكَ هُوَ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً بَعْضُهُمْ غَائِبٌ وَعَجَزَ الشَّاهِدُ لَمْ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَجَزَ جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ فَيَبْقَى النُّجُومُ بِبَقَاءِ الْغَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ عَجْزُهُ عَنْ الْأَدَاءِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مَوْلُودٍ فِي الْكِتَابَةِ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْتِقُونَ بِأَدَاءِ أَحَدِهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 سَوَاءٌ أَدَّى الْغَائِبُ أَوْ الشَّاهِدُ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَجْزُهُمْ لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ، وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ وَتَرَكَ وَلَدًا حُرًّا فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ مَا لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ فَيُؤَدِّي الْكِتَابَةَ، أَمَّا بَقَاءُ الْكِتَابَةِ فَلِمَالِهِ الْمُنْتَظَرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ بِاعْتِبَارِ مَالِهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكِتَابَةَ وَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ لَا يَظْهَرُ لِوَلَدِهِ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ فَيَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ فَإِذَا أُدِّيَتْ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ فَيُنَجَّزُ وَلَاؤُهُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَلَا يَرْجِعُ مَوَالِي الْأُمِّ بِمَا عَقَلُوا مِنْ جِنَايَتِهِ فِي حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ الْأَبِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى أَوَّلِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ مَوَالِي الْأُمِّ عِنْدَ جِنَايَتِهِ مَوَالِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ بِمَا عَقَلُوا عَلَى مَوَالِي الْأَبِ وَيَرْجِعُونَ بِمَا عَقَلُوا مِنْ جِنَايَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ قَبْلَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْأَبِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَلَاءَهُ كَانَ لِمَوَالِي الْأَبِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَوَالِي الْأُمِّ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَى الْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا كَالْمُلَاعِنِ إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ بَعْدَ مَا جَنَى الْوَلَدُ وَعَقَلَ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ رَجَعُوا بِهِ عَلَى قَوْمِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّيْنِ فَاخْتَصَمَ مَوَالِي الْأَبِ وَمَوَالِي الْأُمِّ فِي مِيرَاثِهِ قُضِيَ بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ بَعْدُ، وَإِذَا قُضِيَ بِذَلِكَ بَطَلَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ إذْ لَوْ لَمْ تَبْطُلْ لَكَانَ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ وَلَاءَهُ لِقَوْمِ الْأَبِ فَيَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِبْطَالُ الْكِتَابَةِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي بَقَائِهَا أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِلْكِتَابَةِ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ حِلِّ الْمَالِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَالْمَنْفِيُّ وَهُوَ قُدْرَتُهُ بِخُرُوجِ الدَّيْنِ مَوْهُومٌ وَالظَّاهِرُ إذَا تَأَيَّدَ بِحُكْمِ الْحَاكِم لَا يُعْتَبَرُ الْمَوْهُومُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ فَقَدْ بَقِيَ النُّجُومُ بِبَقَائِهِمْ فَمَتَى مَا خَرَجَ دَيْنُ الْمُكَاتَبِ أُدِّيَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَجَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا، وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ فَجَاءَ رَجُلٌ بِوَدِيعَةٍ فَقَالَ هَذِهِ لِلْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مِنْهُ الْمُكَاتَبَةَ وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِفَسْخِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ أَوْ يَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ وَهَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي نَوَادِرِهِ ثُمَّ إقْرَارُ الرَّجُلِ الْوَدِيعَةِ لِلْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ فَيُؤَدِّي مِنْهُ الْكِتَابَةَ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى جَرِّ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأُمِّ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْقَصْدِ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ فِي جَرِّ وَلَاءِ الْوَلَدِ (قَالَ) أَرَأَيْت لَوْ قَالَ الْمَوْلَى نَفْسُهُ هَذِهِ وَدِيعَةٌ عِنْدِي لِلْمُكَاتَبِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ مِثْلِ الْكِتَابَةِ أَوْ قَالَ قَدْ كُنْت اسْتَوْفَيْت الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَكَانَ يُصَدَّقُ فِي جَرِّ وَلَاءِ الْوَلَدِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ عَنْهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بِالْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خَلَفٍ يَبْقَى بِاعْتِبَارِهِ وَالْخَلَفُ مَالُهُ دُونَ أَمْوَالِ النَّاسِ عَادَةً فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ الْخَلَفِ، وَإِذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ وُجُودُ الْخَلَفِ وَقْتَ مَوْتِهِ فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأُمِّ وَيُجْعَلُ الْمُقِرُّ الْوَدِيعَةِ كَالْمُتَبَرِّعِ بِالْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُكَاتَبُ أُمَّ وَلَدٍ لَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ سَعَتْ فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كَانَ وَلَدُهَا أَوْ كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالًا لَمْ يُؤَخَّرْ إلَى أَجَلِهِ وَصَارَ حَالًّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَالُ أُمِّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ الْوَلَدِ كَحَالِهَا مَعَ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْعَى فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بَيْعُ أُمِّ وَلَدِهِ إذَا مَلَكَهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْهُ سَوَاءٌ مَلَكَ الْوَلَدَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَمْلِكْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا مَلَكَ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَوَاءٌ مَلَكَ الْوَلَدَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَمْلِكْ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَلَمَّا كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَا يَكُونُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا مَلَكَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ مَعَ الْوَلَدِ يَمْتَنِعُ بَيْعُهَا، وَإِذَا مَلَكَهَا بِدُونِ الْوَلَدِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَابِعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ التَّبَعُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ لَهَا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَتْ هِيَ أَمَةً قِنَّةً لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ يَثْبُتُ لَهَا وَبِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ لَا تَصِيرُ دَاخِلَةً فِي كِتَابَتِهِ تَبَعًا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِنَاعَ الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهَا تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَلَدِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ الْوَلَدُ مَعَهَا لَا يَثْبُتُ فِيهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 الْمَوْتِ، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَقَاءِ الْأَجَلِ بِوُجُودِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الْوَلَدُ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهَا تَبَعًا وَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا الْوَلَدُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهَا فَتُبَاعُ فِي الْمُكَاتَبَةِ ثُمَّ الْوَلَدُ خَلَفٌ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً فَأَمَّا كَسْبُ الْوَلَدِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فِي أَدَاءِ الْبَدَلِ مِنْهُ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَالُ إذَا خَلَفَ مَالًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ لَا يَبْقَى الْأَجَلُ حَالًّا وُجِدَ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَيِّتِ وَلَا لِوَلَدِهِ فِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَيَنْتَفِعُونَ بِبَقَاءِ الْأَجَلِ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِيَكْتَسِبَ وَلَدُهُ فَيُؤَدِّي، وَإِذَا تَرَكَ الْمُكَاتَبُ وَلَدَيْنِ وُلِدَا لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَمُكَاتَبَةٌ سَعَيَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الْأَبِ وَأَيُّهُمَا أَدَّاهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِأَبِيهِ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ فَيُجْعَلُ أَدَاؤُهُ مِنْ كَسْبِهِ كَأَدَائِهِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ، وَأَيُّهُمَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى عَتَقَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَعَلَى الْآخَرِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي عَتَقَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ وَالْآخَرُ مُحْتَاجٌ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يَخْلُفْ إلَّا إيَّاهُ فَيَسْعَى فِي جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مَالُ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ عَجَزَا جَمِيعًا بُدِئَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا وَإِعْتَاقُ الْمَوْلَى أَحَدِهِمَا مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ كَسْبِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَرْجِعُ الَّذِي يُؤَدِّي مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ حُكْمًا فَكَأَنَّهُ أَدَّى مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ جِنَايَةِ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ رَجُلًا خَطَأً قِيلَ لِلْمُكَاتَبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَالْحُرِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ بَيْعَهُ فَكَذَلِكَ يُخَاطَبُ بِدَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُ بَيْعَهُمْ فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي كِتَابَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ بِالْجِنَايَةِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُمْ وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ كَنَفْسِهِ وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا عَمْدًا فَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيه لِتَسْلَمَ لَهُ نَفْسُهُ كَمَا لِلْحُرِّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِهِ وَإِنْ عَجَزَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 الْتَزَمَهُ بِتَصَرُّفٍ مَمْلُوكٍ بِهِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيُؤْخَذُ لَهُ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَلْتَزِمُهُ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ جَنَتْ أَمَتُهُ جِنَايَةً خَطَأً فَبَاعَهَا أَوْ وَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهَذَا مِنْهُ اخْتِيَارٌ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الدَّفْعَ بِالْبَيْعِ وَالِاسْتِيلَادِ وَمَنْ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَالْحُرِّ وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ لَهُ عَمْدًا فَالْعَبْدُ فِي قَتْلِ مَوْلَاهُ عَمْدًا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ إذَا قَتَلَهُ عَبْدُهُ فَالْمُكَاتَبُ مِثْلُهُ. ثُمَّ الْمُكَاتَبُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ حِينَ مَاتَ عَاجِزًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنْ قَاتِلِهِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ يَسْتَوْفِيهِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَمُوتُ حُرًّا فَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِوَارِثِهِ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُمْكِنُ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً، وَمَعَ انْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ يَحْصُلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي فَلَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا، وَإِنْ قُتِلَ وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَوْلَاهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ مُشْتَبَهٌ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ إنْ انْفَسَخَتْ كَمَا قَالَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ بِالْمِلْكِ، وَإِنْ بَقِيَتْ كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ بِالْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ وَاشْتِبَاهُ السَّبَبِ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي. أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ إنْسَانٍ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَقَالَ ذُو الْيَدِ زَوَّجْتَنِيهَا بِكَذَا وَقَالَ الْمَوْلَى بَلْ بِعْتهَا مِنْك بِكَذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأهَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي سَبَبِ ثُبُوتِ حِلِّ الْوَطْءِ لَهُ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَهُ حَلَالٌ، وَلَكِنْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَاشْتِبَاهُ السَّبَبِ يَكُونُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ كَمَا لَوْ قُتِلَ عَاجِزًا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِإِحْكَامِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ غَصْبًا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ قَرْضًا وَجَبَ الْمَالُ وَلَا يُنْظَرُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ فَكَذَا هُنَا لَا يُعْتَبَرُ الِاشْتِبَاهُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ مَا تَعَيَّنَ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ كَانَ، بِخِلَافِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 مَا إذَا تَرَكَ وَارِثًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَوْفِيًا مَعَ اشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ هُنَاكَ بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَاذِبًا فِيمَا يَدَّعِي مِنْ السَّبَبِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ حُكْمِيٌّ وَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ السَّبَبَيْنِ بِقَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَعَ تَكْذِيبِ صَاحِبِهِ وَبِدُونِ ثُبُوتِ سَبَبِ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ وَهُنَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ وَهُوَ الْعَمْدُ الْمَحْضُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَثُبُوتُ حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْمَوْلَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ أَيْضًا، إمَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْوَلَاءِ فَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَإِذَا اسْتَهْلَكَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ مَالًا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يُبَاعُ فِيهِ لِظُهُورِ سَبَبِهِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ عَجَزَ فَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِعَجْزِهِ تَقَرَّرَ لِلْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ كَمَا يُخَيَّرُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرَّثِ فِي جِنَايَةِ عَبْدِ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ وَامْرَأَتُهُ مُكَاتَبَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَهُ الْمَوْلَى وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الْكِتَابَةِ فَقِيمَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُمَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْكِتَابَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ لَوْ قَتَلَ الْمُكَاتَبَ فَالْمَالُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ قَدْ حَلَّتْ قَاصَّهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَاجِبَةٌ لِلْأُمِّ فَإِنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا حَتَّى يَكُونَ كَسْبُهُ لَهَا فَكَذَلِكَ بَدَلُ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ وَقَدْ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمَتَى الْتَقَى الدَّيْنَانِ تَقَاصَّا إذَا اسْتَوَيَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ عَلَى الْمَوْلَى أَدَاءُ فَضْلِ الْقِيمَةِ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِقَدْرِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَرَجَعَتْ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ بِمَا أَدَّتْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ قَاضِيَةً بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِالْمُقَاصَّةِ فَكَأَنَّهَا أَدَّتْ بِنَفْسِهَا فَتَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِحِصَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ لَمْ تَحِلَّ أَدَّى الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقَعُ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا حَلَّ وَهُوَ الْقِيمَةُ لِتَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهَا إذَا حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا مَعَهَا فَقَتَلَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ حَلَّتْ الْقِيمَةُ اقْتَصَّ مِنْهَا بِقَدْرِ الْكِتَابَةِ إنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَقْتُولَ هُنَا مَقْصُودٌ بِالْكِتَابَةِ وَقَدْ كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ عِنْدَ حِلِّهِ وَالْأَجَلُ لَا يَبْقَى فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا تَرَكَ وَفَاءً فَإِذَا حَلَّتْ الْقِيمَةُ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْوَفَاءُ فَصَارَ قِصَاصًا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ، وَيُؤَدِّي الْمَوْلَى إلَى الْوَرَثَةِ فَضْلَ الْقِيمَةِ وَالْأَبُ وَالْأُمُّ حِصَّتُهُمَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 لَوْ أَدَّى جَمِيعَ الْبَدَلِ فِي حَيَاتِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِحِصَّتِهَا مِنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُؤَدَّيَا بِبَدَلِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَيْنَ وَرَثَةِ الِابْنِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَرِثُ أَبَوَاهُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ اسْتَنَدَ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُهُمَا لِاتِّحَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمْ (فَإِنْ قِيلَ) فَلِمَاذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الدِّيَةُ (قُلْنَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِنَادَ الْحُرِّيَّةِ إلَى حَالِ الْحَيَاةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ حُرٍّ لَا تَجِبُ دِيَتُهُ وَلِأَنَّ الِاسْتِنَادَ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ وَلَا يَسْتَنِدُ الْعِتْقُ إلَى وَقْتِ جِنَايَتِهِ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدٍ لِمُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى فَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى لَا تَعْتِقَ بِعِتْقِهِ فَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى. تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ فَأَمَّا فِي إعْتَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ تَفْوِيتُ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ يَطَؤُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا وَفِي الْعِتْقِ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَقْصُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ أَبَ مَوْلَاهُ أَوْ ابْنَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ رَقِيقَ الْمُكَاتَبِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمْ فَلَا يَعْتِقُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُمْ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ أَبَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنَ نَفْسِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ بَيْعُهُمْ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ كَمَا لِلْمُكَاتَبِ، وَلَكِنْ قَالَ الْبَيْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَفِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ أَجْنَبِيٌّ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِتْقَ أَبِ الْمُكَاتَبِ وَابْنِهِ مِنْ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ وَكَسْبِهِ مَحَلٌّ لِمَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِهِ فَكَانَ فِي إدْخَالِهِمْ فِي كِتَابَتِهِ لِيَعْتِقُوا بِعِتْقِهِ مَعْنَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَعِتْقُ أَبِ الْمَوْلَى وَابْنِ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إدْخَالِهِمْ فِي كِتَابَتِهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا لَا يَتَكَاتَبُونَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ، وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الدَّفْعِ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمَا، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى بَعْدَ مَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى يَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 فَتَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بِرَقَبَتِهِ وَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ كَالْجِنَايَةِ الْأُولَى. وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ لِوَلِيِّ كُلِّ جِنَايَةٍ قِيمَةٌ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ جِنَايَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بَلْ مُوجَبُهُ الْقِيمَةُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُتَعَذِّرٌ فَكَانَ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ، يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ كُلِّ جِنَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ عِنْدَ كُلِّ جِنَايَةٍ وَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ جِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مَوْهُومٌ فَإِنَّهُ إنْ عَجَزَ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجِنَايَاتُ فِي رَقَبَتِهِ قَبْلَ قَضَاءٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُمْ إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بِرَقَبَتِهِ حَتَّى يَدْفَعَ بِهَا إذَا عَجَزَ فَلِهَذَا يَقْضِي لَهُ بِقِيمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا هُوَ أَوْ ابْنٌ لَهُ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ صَالَحَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَالِ جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ تَبَعٌ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ جِنَايَةِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ جِنَايَةِ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ أَعْطَى الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى الْمَالَ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْمَالِ حَتَّى يَعْتِقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ فَيُبَاعُ فِيهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا بَعْدَ الْعَجْزِ قَبْلَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعَجْزِ الْحَقُّ فِي مَالِيَّتِهِ لِمَوْلَاهُ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَكَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ لَيْسَ بِمَالٍ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ يَلْتَزِمُ مَالًا لَا بِإِزَاءِ مَالٍ فَهُوَ وَمَا يُقِرُّ بِهِ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ فَيُبَاعُ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الدِّيَاتِ وَإِذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ حَفَرَ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا آخَرُ بَعْدَ مَا قَضَى لِلْأَوَّلِ شَرِكَهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكَاتَبِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْحَفْرُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ فَإِنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ لَهُ مَائِلٌ قَدْ شَهِدَ فِيهِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَإِذَا تَرَكَهُ بَعْدَ مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ جُعِلَ كَالدَّفْعِ لَهُ عَلَى مَنْ سَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلٌ أُخِذَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي دَارِهِ إلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْحُرِّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْحُرِّ جُعِلَ كَالْقَاتِلِ لَهُ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَنْقُصُ حِينَئِذٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَا تُوجَبُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا عَنْ أَلْفٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْجِنَايَةِ مِنْهُ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ يُبَاعُ بِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُقْضَ بِهَا عَلَيْهِ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ الْوَاجِبُ قِيمَتُهُ يُبَاعُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ الْقِيمَةُ ابْتِدَاءً وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ بِهَذَا مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَتِهِ لِتَوَهُّمِ إمْكَانِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الذِّمَّةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بَقِيَتْ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَكَأَنَّهُ جَنَى ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَجْزِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ أَرْشُ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَذَلِكَ لِلْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَمْدُ قَوَدٌ وَالرَّقِيقُ فِي حُكْمِ الْقَوَدِ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ» وَإِنْ قُتِلَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ أَوْ عَبْدُهُ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ، أَمَّا الِابْنُ فَلِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُكَاتَبِ حَتَّى يَكُونَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَأَمَّا عَبْدُهُ فَلِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِعَجْزِهِ يَتِمُّ فِيهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَتِمَّ مِلْكُهُ فِيهِ إذَا أَعْتَقَ فَيَشْتَبِهُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا صَارَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ لَهُ أَيْضًا وَمَعَ الِاشْتِبَاهِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْتَصَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ لَمَّا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ وَهُوَ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ، وَإِنْ عَفَوْا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ وَإِنْ قَتَلَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَقْضِي بِهِ كِتَابَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ كَانَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَبِنَفْسِهِ فَلَمَّا جُعِلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ وَإِنْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِجِنَايَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ مَادَامَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَإِقْرَارُهُ فِي كَسْبِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَطَلَتْ عَنْهُ قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُقْضَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا يُؤْخَذُ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ مِنَّا خَاصَّةً وَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الْعَجْزِ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ مَهْرٌ مِنْ نِكَاحٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ حَتَّى يَعْتِقَ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَعْنِي إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ يَغْرَمُ عُقْرَهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ هُنَاكَ كَانَ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَهُوَ عَقْدُ تِجَارَةٍ فَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الضَّمَانِ يَكُونُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَفِي النِّكَاحِ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَمَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَعْتِقَ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي الشِّرَاءِ فَفِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِهِ يَلْتَحِقُ بِالْحُرِّ وَلَمْ يَصِرْ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنْ نِكَاحِ نَفْسِهِ فَفِيمَا يَجِبُ بِسَبَبِهِ هُوَ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ. وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ فِي التَّزَوُّجِ اكْتِسَابُ الْمَالِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا يُثْبِتُ لَهُ يَدًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكُلُّ عَقْدٍ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ حُكْمَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ هُوَ كَالْعَبْدِ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ بِاكْتِسَابٍ لِلْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْبَاقِيَ فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ بِالْقَرَابَةِ وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي ابْنِهِ أَبْعَدُ عَنْهُ مِنْ عَبْدِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَلِهَذَا لَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ فِي كِتَابَتِهِ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَلَا يُزَوِّجُهَا بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ اكْتِسَابٌ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهَا وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي عُقُودِ الِاكْتِسَابِ (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ ابْنَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 وَأَمَتُهُ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُ الْمَوْلَى فِي ابْنَتِهِ دُونَ أَمَتِهِ وَلَوْ عَجَزَ وَقَدْ حَاضَتْ ابْنَتُهُ حَيْضَةً لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي أَمَتِهِ وَمُكَاتَبَتِهِ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِكِتَابَتِهَا ثَبَتَ لَهَا الْحَقُّ فِي نَفْسِهَا دُونَ إذْنِ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَوْلَى وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمُكَاتَبَةُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَهْرِ فِي حَقِّهَا، وَلَكِنَّ رَقَبَتَهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَمْنَعُ ذَلِكَ ثُبُوتَ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ لَهَا بِالتَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِيهَا وَرُبَّمَا تَعْجُزُ فَيَبْقَى هَذَا الْعَيْبُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى. تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّكَاحَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِلتَّحْصِينِ وَالنَّفَقَةِ وَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ فِي عُقُودِ اكْتِسَابِ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مِنْ تَزْوِيجِ نَفْسِهَا شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْمَالِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى عَتَقَتْ جَازَ النِّكَاحُ وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ بِالْعِتْقِ، وَنُفُوذُ الْعَقْدِ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا. وَإِذَا وَقَعَ الْمُكَاتَبُ عَلَى بِكْرٍ فَافْتَضَّهَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا الْمَحْضِ مِنْهُ وَهُوَ مُخَاطَبٌ، فَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَجْهُ شُبْهَةٍ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ إذَا حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ فَوَجَبَ الْمَهْرُ. إلَّا أَنَّهَا إذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِذَا لَمْ تُطَاوِعْهُ فَلَمْ تَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْأَرْشِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قَالَ تَزَوَّجْتهَا فَصَدَّقَتْهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ إذَا عَتَقَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا، وَإِنْ قَالَ اشْتَرَيْتهَا أَوْ وُهِبَتْ لِي أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الشِّرَاءِ الْوَاجِبَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمَالِ فَهُوَ نَظِيرُ الشِّرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ بَعْدَ الْمِلْكِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الْغَيْرِ فِي الرِّضَا بِالتَّأْخِيرِ بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا مِنْ نَفْسِهَا فَيُعْتَبَرُ رِضَاهَا وَتَمْكِينُهَا مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهَا. وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَلَا صَدَقَتُهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا عَتَقَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى عَلَى أَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا إذَا عَجَزَ فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 مِنْهُ فِي الْحَالِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّبَرُّعَاتِ لِكَوْنِهِ عَبْدًا وَلِأَنَّ صِحَّةَ التَّبَرُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ إذَا أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلِأَنَّ بِالْعِتْقِ يَتِمُّ مِلْكُهُ فِي الْكَسْبِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يَنْفُذُ التَّبَرُّعُ السَّابِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ وَهَبَ كَسْبَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ حَتَّى مَلَكَ الْمَوْلَى لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَا يَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ كَتَبَرُّعِهِ فِي حَيَاتِهِ (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ حُرًّا وَلَوْ عَتَقَ فِي حَالَ حَيَاتِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ بِمَالٍ مُرْسَلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ فَكَذَلِكَ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ (قُلْنَا) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِنَادَ حُرِّيَّتِهِ إلَى آخِرِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ وَوَصِيَّتُهُ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَلِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ إنَّمَا تَسْتَنِدُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَتِلْكَ الْحَالَةُ لِلَطَافَتِهَا لَا تَتَّسِعُ لِلْوَصِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ وَلَا كَفَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. إلَّا أَنَّ كَفَالَتَهُ كَكَفَالَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ بِالْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَقَدْ يَفْعَلُهُ التَّاجِرُ لِإِظْهَارِ الْمُسَامَحَةِ حَتَّى يَمِيلَ النَّاسُ إلَيْهِ وَيُحَابِي فِي تَصَرُّفٍ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى تَصَرُّفٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ حَطَّ شَيْئًا بَعْدَ الْبَيْعِ بِعَيْبٍ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَوْ زَادَ فِي ثَمَنِهِ شَيْئًا اشْتَرَاهُ فَهَذَا مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ فِيمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَإِنْ أَعَارَ دَابَّةً أَوْ أَهْدَى هَدِيَّةً أَوْ دَعَا إلَى طَعَامٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ هَذَا كُلُّهُ تَبَرُّعٌ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إيجَادِ الدَّعْوَةِ لِلْمُجَاهِرِينَ أَوْ الْإِهْدَاءِ إلَيْهِمْ أَوْ إعَارَةِ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْهُ مِنْ بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَلِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ قُلْنَا يَمْلِكُهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسُوَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِ الثَّوْبِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالتَّاجِرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَادَةً، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطِي دِرْهَمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ فَالتُّجَّارُ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَوَسَّعُونَ فِي الْأَعْيَانِ فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ دُونَ الدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَادَةً فَإِنَّ مُجَاهِرَهُ إذَا شَرِبَ الْمَاءَ مِنْ سِقَاءٍ عَلَى بَابِ حَانُوتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إعْطَاءِ فَلْسٍ لِأَجْلِهِ وَمَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ يَتَوَسَّعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِهَذَا يَمْلِكُهُ اسْتِحْسَانًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ اسْتِحْسَانًا، فَإِنْ أَدَّى الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ مُعْتَقًا فَيَخْلُفُهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ بَعْدُ فَيَخْلُفُهُ فِيهِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَهُوَ مَوْلَاهُ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَمْلِكُهُ مَوْلَاهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ خَلَفَهُ فِي الْمِلْكِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَوْلَى، فَإِنْ عَتَقَ الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ كَمَا لَا يَرْجِعُ الْمِلْكُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ إلَيْهِ بَعْدَ مَا يَعْتِقُهُ مَوْلَاهُ، وَإِنْ سَبَقَ الْأَوَّلُ بِالْأَدَاءِ ثُمَّ أَدَّى الثَّانِي فَوَلَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَعْقُبُ الْعِتْقَ وَإِنَّمَا عَتَقَ الثَّانِي بَعْدَ مَا تَمَّ الْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ لِحُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ قَتَلَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَ مُكَاتَبِهِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمُكَاتَبُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ مِائَةٌ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. يُقْتَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْمِائَةُ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ مُكَاتَبَةِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ وَحَلَّ مَا عَلَى الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ فَيَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ وَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ ثُمَّ يُعْطِيهِ الْمَوْلَى أَرْبَعَمِائَةٍ تَمَامَ مُكَاتَبَةِ الثَّانِي، وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ مِيرَاثٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي وَارِثٌ فَهُوَ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ الْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ وَالْأَوَّلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُكَاتَبًا فَيَكُونُ وَلَاءُ الثَّانِي لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى قَاتِلٌ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ فَكَانَ ذَلِكَ لِأَقْرَبِ عَصَبَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ أَلْفًا وَلَمْ يَحِلَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِنْ نُجُومِهِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُؤَدِّي جَمِيعَ الْقِيمَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِمُكَاتَبَتِهِ فَيَسْتَوْفِي الْأَوَّلُ مُكَاتَبَتَهُ مِنْ قِيمَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْمَوْلَى، وَلَكِنْ قَتَلَهُ الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ وَقِيمَةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ يُسْتَوْفَى مِنْ ذَلِكَ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ أَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمَوْلَى حِينَ عَتَقَ قَبْلَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 مَا فَضَلَ مِيرَاثًا مُكَاتَبٌ كَاتَبَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ عَنْ ابْنٍ حُرٍّ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا مَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ عَنْ ابْنٍ وُلِدَ لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى ابْنِهِ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ كِتَابَةِ الْأَوَّلِ بَاقٍ بِبَقَاءِ دَيْنِهِ عَلَى الْمُكَاتَبِ الثَّانِي فَيُؤَدِّي مِنْهُ مُكَاتَبَتَهُ وَمَا فَضَلَ عَنْهَا فَهُوَ مِيرَاثٌ لِابْنِ الْأَوَّلِ عَنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَوَلَاءُ الِابْنِ الْآخَرِ لِابْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَاتَبَيْنِ يَسْتَنِدُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَإِنَّمَا حُكِمَ بِحُرِّيَّةِ الثَّانِي بَعْدَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّةِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ وَوَلَاءُ وَلَدِهِ لِلْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ يَخْلُفُهُ فِيهِ ابْنُهُ. مُكَاتَبٌ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ وَلَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ كَاتَبَهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ مَعَهَا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَقَدْ صَارَتْ هِيَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ عَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْأَوَّلِ لَمَّا أُدِّيَتْ فَقَدْ حُكِمَ بِعِتْقِهِ وَصَارَتْ الْمُكَاتَبَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَتَعْتِقُ بِالِاسْتِيلَادِ هِيَ وَأَوْلَادُهَا وَأَخَذَ أَوْلَادُهَا مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِهِ بَعْدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا فِي حَالِ حَيَاتِهِ حِينَ تَمَّ مِلْكُهُ فِيهِمْ وَهُمْ أَوْلَادُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَالْمَرْأَةُ وَوَلَدُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا سَعَوْا فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ لِيَعْتِقُوا بِعِتْقِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءُوا سَعَوْا فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَفِيدُونَ الْعِتْقَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَدَّوْا إلَى الْمُكَاتَبِ فِي حَيَاتِهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لِرِفْقٍ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا وَالرِّفْقُ فِي اخْتِيَارِ الْأَقَلِّ دُونَ الْأَكْثَرِ. وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي كِتَابَتِهِ تَبَعًا وَالْمُكَاتَبُ لَا يُكَاتِبُ، وَلِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَمْلُوكَيْنِ لِلْمَوْلَى حَتَّى لَا يَبِيعَهُمْ وَكَمَا لَا يُكَاتِبُ نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُكَاتِبُهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ إلَّا أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ، وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِوَلَدِهَا فَلَمْ تَدْخُلْ فِي مُكَاتَبَتِهِ حَتَّى لَا تَعْتِقَ بِعِتْقِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى حَتَّى لَا يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا وَالْمُكَاتَبَةُ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا فَإِذَا كَاتَبَهَا يَحْصُلُ لَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهَا. وَإِذَا كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُ ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَتْرُكْ وَفَاءً فَالِابْنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَعَى فِيمَا بَقِيَ عَلَى أُمِّهِ لِيَعْتِقَ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَجَّزَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ أَحَدُهُمَا بِبَدَلٍ يُؤَدِّيهِ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ بَدَلٍ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ لِأَبِيهِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَإِذَا كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا لَهُ وُلِدَ عِنْدَهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ كَانَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ ثُمَّ الِابْنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُضِيِّ عَلَى الْكِتَابَةِ وَبَيْنَ الْعَجْزِ لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ قِيلَ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 لَمَّا كَانَ لَا يُكَاتِبُهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْقَى مُكَاتَبَتُهُ أَيْضًا (قُلْنَا) مِثْلُهُ لَا يَمْتَنِعُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَشْتَرِي امْرَأَتَهُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْوَلَدِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا لَا يُخَيَّرُ الْوَلَدُ. وَإِذَا كَاتِب الْمُكَاتَبُ عَبْدًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ وَابْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي مَكَاسِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَالْكِتَابَةُ مِنْ الْحُرِّ صَحِيحَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُكَاتَبِ. وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَنْ ابْنٍ وَابْنَةٍ وَلَهُ مُكَاتَبٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُوَرَّثُ كَمَا لَا يُمْلَكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مَعَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَفِي جَعْلِ رَقَبَتِهِ مِيرَاثًا إبْطَالُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَوْلَى فَالْمُعْتِقُ مِنْهُمَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَنْفُذُ مِنْهُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حِصَّتُهُ مِنْ الْبَدَلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّصَرُّفَ إلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِيمَا يَمْلِكُهُ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ يَكُونُ لَغْوًا مِنْهُ وَلَا يَفْسُدُ الرِّقُّ فِي نَصِيبِهِ. وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبُ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُمْ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِإِضَافَتِهِمْ التَّصَرُّفَ إلَى مَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُمْ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَعْتِقُ وَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى بِإِيفَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَوْلُهُمْ هُوَ حُرٌّ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُمْ بِمَا تَحْصُلُ بِهِ الْحُرِّيَّةُ لَهُ وَهُوَ إيفَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِإِيفَاءِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِتْقَ جَمِيعِ الْمُكَاتَبِ مُسْقِطٌ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ فَيُمْكِنُ إعْمَالُ كَلَامِهِمْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إسْقَاطًا مِنْهُمْ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَتَى تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ يُعْمَلُ بِمَجَازِهِ إذَا أَمْكَنَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إذَا أُعْتِقَ نِصْفُهُ بِالتَّدْبِيرِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ كُلَّهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ وَمَجَازِهِ فِي مِلْكِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَغْوًا ثُمَّ وَلَاؤُهُ لِلِابْنِ دُونَ الِابْنَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ وَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَخْلُفُهُ ابْنُهُ فِي وَلَائِهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْمَالِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مِيرَاثًا لَهُمَا فَإِنَّمَا أَضَافَ الْوَاهِبُ تَصَرُّفَهُ إلَى مِلْكِهِ وَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ الْبَدَلِ وَلَا مُوجِبَ لِذَلِكَ فِي الْعِتْقِ كَمَا لَوْ أَوْفَى بَعْضَ الْبَدَلِ، فَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 فِي الرِّقِّ فَنَصِيبُ الْوَاهِبِ فِي الرَّقَبَةِ مِلْكٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ بِالْعَجْزِ وَصَارَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلَيْسَ لِهِبَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ تَأْثِيرٌ فِي انْتِقَالِ مِلْكِهِ عَنْ الرَّقَبَةِ وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مِيرَاثَهُمْ كَانَ هُوَ الرَّقَبَةُ دُونَ الْمَالِ فَكَانَ هِبَتُهُ لِنَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ لَغْوًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ رَجُلَانِ عَبْدًا لَهُمَا ثُمَّ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبَدَلِ فَإِنَّ هُنَاكَ يَعْتِقُ نَصِيبُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِنَصِيبِهِ حَتَّى يَمْلِكَ إعْتَاقَهُ فَيَجْعَلَ هِبَتَهُ لِنَصِيبِهِ مِنْ الْبَدَلِ كَإِعْتَاقِهِ وَهُنَا أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهُ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِهِبَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ مِنْهُ، وَإِنْ وَهَبَ مِنْهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ الْمَالَ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ حِينَ وَهَبُوهُ لَهُ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ. وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ إلَى الْوَرَثَةِ دُونَ الْوَصِيِّ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يُحِيطُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْهُ مَادَامَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَأَدَاؤُهُ إلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَدَائِهِ إلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَإِنْ أَدَّاهَا إلَى الْوَصِيِّ عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْغَرِيمِ وَالْوَارِثِ أَوْ لَمْ يَصِلْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَالْأَدَاءُ إلَيْهِ كَأَدَاءٍ إلَى الْمُوصِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ حِينَ قَبَضُوا مِنْهُ دَفَعُوا إلَى الْمُوصِي فَهُوَ كَدَفْعِ الْمُكَاتَبِ بِنَفْسِهِ إلَى الْوَصِيِّ، وَإِذَا أَدَّاهَا إلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا أَنْ يُوَصِّلَ الْوَارِثُ إلَى الْآخَرِينَ أَنْصِبَاءَهُمْ إنْ كَانُوا كِبَارًا أَوْ إلَى الْوَصِيِّ نَصِيبَ الصَّغِيرِ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْقَابِضِ عَلَى الْآخَرِينَ فَلَا يَعْتِقُ بِقَبْضِهِ مَا لَمْ يُوَصِّلْ إلَيْهِمْ أَنْصِبَاءَهُمْ وَلَهُمْ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمُكَاتَبَ بِحِصَصِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْوَارِثَ الْقَابِضَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ إذَا اقْتَضَاهَا الْغَرِيمُ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَقَعَ فِي يَدِ كُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِذَلِكَ وَلَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ إلَى الْوَرَثَةِ وَهُمْ صِغَارٌ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ بِقَبْضِهِمْ فَإِنَّ قَبْضَ الصَّبِيُّ دَيْنَهُ مِنْ غَرِيمِهِ بَاطِلٌ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى وَصِيِّهِ لَا يَعْتِقُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْمُكَاتَبَةِ فَأَعْطَاهَا الْمُكَاتَبُ إلَى الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَخَذَ كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَعْطَاهَا الْوَرَثَةُ وَهُمْ كِبَارٌ فَاقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الْغُرَمَاءُ. وَإِذَا أَوْصَى بِمَا عَلَى مُكَاتَبِهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَأَدَّاهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِمَا عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الْمُوصَى لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَدَّاهَا إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَقِّهِ فَكَانَ لِلْوَصِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 أَنْ يَقْبِضَ لَيُنَفِّذَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ فَلِهَذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَصَلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ أَوْ لَمْ يَصِلْ، وَإِنْ أَدَّاهَا إلَى الْوَارِثِ لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَمْ يَعْتِقْ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَارِثِ حَتَّى يَصِلَ الثُّلُثُ إلَى الْمُوصَى لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ الْمَرِيضِ وَالْمُرْتَدِّ] (قَالَ) وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى مُكَاتَبَةِ مِثْلِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُكَاتَبِ عَجِّلْ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَالثُّلُثُ عَلَيْك إلَى الْأَجَلِ، فَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ رُدَّ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَالتَّبَرُّعُ فِي مَرَضِهِ بِالتَّأْخِيرِ كَتَبَرُّعِهِ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي ثُلُثِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ فِي صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَهُ هُنَاكَ صَحِيحٌ مُطْلَقًا لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلتَّبَرُّعِ بِالْإِسْقَاطِ فِي صِحَّتِهِ وَلَا يَبْطُلُ الْأَجَلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَضْعَافًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - تَأْجِيلُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ فِي قَدْرِ ثُلُثِ قِيمَتِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَدْرَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ فَقَدْ كَانَ لِلْمَرِيضِ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَهُ أَصْلًا وَلَا يَثْبُتُ حَقُّ وَرَثَتِهِ فِيهِ بِأَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ، فَإِنْ تَمَلَّكَهُ مُؤَجَّلًا صَحَّ تَأْجِيلُهُ مُطْلَقًا كَالْمَرِيضَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ صَحَّ تَأْجِيلُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ لَا تَتَمَلَّكَ ذَلِكَ أَصْلًا بِأَنْ لَا تُزَوِّجَ نَفْسَهَا أَصْلًا وَهُمَا يَقُولَانِ: جَمِيعُ الْبَدَلِ مُسَمًّى فِي الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّأْخِيرُ إلَّا فِي ثُلُثِهِ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ إلَّا فِي ثُلُثِهِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْوَارِثِ فِيهِ ابْتِدَاءً فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُمْ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى مُكَاتَبَةِ مِثْلِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهَا لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ فِي الْمَرَضِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ وَاضَعَهُ عَلَى هَذَا لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَا لَهُ لَا يُصَدَّقُ فِي شَيْءٍ. إلَّا أَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 الْعَبْدَ يَعْتِقُ وَيُؤْخَذُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ فِي الْمُكَاتَبَةِ لِلْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَحِينَئِذٍ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ إنَّمَا تَمَكَّنَتْ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَلَا تَتَمَكَّنُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَائِهِ وَيُجْعَلُ هَذَا وَإِعْتَاقُهُ فِي مَرَضِهِ ابْتِدَاءً سَوَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كَاتَبَهُ فِي صِحَّتِهِ وَاسْتَوْفَى؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ فِي الْمَرَضِ إلَّا بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَتَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَاتَبَهُ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ صَدَقَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ حِينَ بَاشَرَ الْعَقْدَ فِي صِحَّتِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إعْتَاقِهِ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ الْمُكَاتَبُ يَسْتَحِقُّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ فِي إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَانَ مُصَدَّقًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بَاعَهُ فِي مَرَضِهِ. وَلَوْ أَنَّ مُكَاتَبًا أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ فُلَانًا وَاسْتَوْفَى مُكَاتَبَتَهُ لَمْ يَجُزْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ أَصْلًا وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْحُرِّ صَحِيحٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ ثُلُثٌ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْآخَرِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مُحَابَاتَهُ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ الْمُكَاتَبِ بَاطِلَةٌ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مُكَاتَبَةِ مِثْلِهِ أُمِرَ الْآخَرُ أَنْ يُعَجِّلَ مُكَاتَبَتَهُ كُلَّهَا وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَهُ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَالْمُكَاتَبُ الْمَرِيضُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ فَهُوَ كَحَالَةِ الصِّحَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ فَقَالَ كَاتِبُوا عَبْدِي عَلَى كَذَا إلَى أَجَلِ كَذَا إنْ حَدَثَ بِي الْمَوْتُ وَذَلِكَ كِتَابَةُ مِثْلِهِ أَجَزْت ذَلِكَ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا هُوَ مِنْ حَاجَتِهِ وَقَصَدَ بِهِ اسْتِحْقَاقَ وِلَايَةٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَرَضْت عَلَيْهِ أَنْ يُعَجِّلَ الثُّلُثَيْنِ وَيُؤَخِّرَ الثُّلُثَ إنْ قَبِلَ الْكِتَابَةَ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ أَبَى لَمْ يُكَاتَبْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتِمَّ بِدُونِ رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ حَطَّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْئًا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبٌ أَوْصَى بِهَذَا فِي عَبْدِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُوصِيَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً. وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ فِي حَيَاتِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ الْإِجَازَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَصَايَا وَهَذَا لِأَنَّهُمْ أَجَازُوا قَبْلَ تَقَرُّرِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَلِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِلِاسْتِحْيَاءِ مِنْهُ فَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُمْ وَإِنَّمَا دَلِيلُ الرِّضَا الْإِجَازَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ (قَالَ) وَإِنْ كَاتَبَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ فَكِتَابَتُهُ مَوْقُوفَةٌ إنْ أَسْلَمَ جَازَ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَتُهُ جَائِزَةٌ. إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ جَوَازَهَا مِنْ الْأَصِحَّاءِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْمَرِيضِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ. وَإِذَا قَسَّمَ الْقَاضِي مَالَ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ثُمَّ كَاتَبَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِ ثُمَّ تَابَ الْمُرْتَدُّ وَرَجَعَ فَوَجَدَ الْمُكَاتَبَ فَهُوَ مُكَاتَبٌ لَهُ يُؤَدِّي إلَيْهِ وَيَعْتِقُ وَوَلَاءَهُ لَهُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَاتَبَهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ بِتَصَرُّفِهِ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَلَا يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ مِلْكِ الْوَارِثِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَالْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ لَا يَتَمَلَّكُ مَالَهُ عَلَى الْوَارِثِ، وَلَكِنَّهُ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَمَا كَانَ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ ثُمَّ عَجَزَ الْأَوَّلُ كَانَ الثَّانِي مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي مُكَاتَبَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُجْعَلُ الْوَارِثُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ. وَكِتَابَةُ الْمُرْتَدَّةِ وَعِتْقُهَا وَبَيْعُهَا جَائِزٌ كَمَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ مِلْكُهَا بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَاتَبَتْ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَإِنِّي أُبْطِلُ ذَلِكَ وَلَا أُجِيزُ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَجُوزُ مِنْهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُجْبَرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بَاقِيًا فِي حَقِّهَا. وَإِذَا ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ فَكَاتَبَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ تَوَقُّفُ مِلْكِهِ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ وَلِأَنَّهُ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ، فَإِنْ قُتِلَ وَتَرَكَ مَالًا أُخِذَتْ الْكِتَابَةُ مِنْ مَالِهِ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ وَالْمُرْتَدُّ الْحُرُّ يَرِثُهُ الْوَرَثَةُ الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ يَسْعَى فِيمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ عَمَّنْ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَمَوْتِهِ عَمَّا يُؤَدِّي بِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ. وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا فَأُخِذَ أَسِيرًا فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيَسْتَوْفِي مَوْلَاهُ مِنْ كَسْبِهِ مُكَاتَبَتَهُ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِمَوْلَاهُ إنْ كَانَ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ رِدَّتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقُولُ بِتَوْرِيثِ كَسْبِ الرِّدَّةِ عَنْ الْمُرْتَدِّ إذَا كَانَ حُرًّا، وَلَكِنْ يُجْعَلُ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ هُنَا فَقَالَ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقٌّ لِمَوْلَاهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ كَانَ كَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ فَقِيَامُ حَقِّهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ فَيْئًا فَلِهَذَا يُجْعَلُ هَذَا وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً يُؤَدِّي مِنْهُ بَدَلَ كِتَابَتِهِ وَيَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. وَإِذَا لَحِقَ الْمُكَاتَبُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَخَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ابْنًا لَهُ وُلِدَ فِي كِتَابَتِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَى ابْنِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِابْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً سَعَى الِابْنُ فِيمَا عَلَى أَبِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتْرُكْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَدًا، وَلَكِنَّهُ خَلَّفَ مَالًا لَمْ أُقَسِّمْ مَالَهُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُؤَدِّي مُكَاتَبَتَهُ مِنْ مَالِهِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ يُجْعَلُ هَذَا كَالْمَوْتِ فِي قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمَوْتٍ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِيرُ حَرْبِيًّا وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَوْتَى يُجْعَلُ مَيِّتًا حُكْمًا وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهِ بَاقٍ وَقِيَامُ مِلْكِ الْمُسْلِمِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ حَرْبِيًّا فَإِذَا لَمْ يَصِرْ حَرْبِيًّا كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحُكْمُ فِيهِ إذَا كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا بَيَّنَّا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ لِحَاقِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْتَحِقْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَسَرُوهُ فَبَاعُوهُ مِنْ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْأَسْرِ مَا مَلَكُوهُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْأَسْرِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فَكَانَ إعْتَاقُهُ إيَّاهُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ فَيَصِحُّ أَمْرُهُ الْمُشْتَرِي بِشِرَائِهِ فِي كَسْبِهِ كَمَا يَصِحُّ أَمْرُ الْحُرِّ الْأَسِيرِ بِذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ نَفْسِهِ فِي تَخْلِيصِهِ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْأَسْرِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ. وَإِنْ كَاتَبَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ عَبْدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ، فَإِنْ مَاتَ عَنْ مَالٍ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِلْحَرْبِيِّ إنْ جَاءَ بِالْعَبْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ حَرْبِيٌّ مِثْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالْحَرْبِيُّ يَرِثُ الْحَرْبِيَّ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ كَانَ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُعَاهَدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 وَالْعَبْدُ الْكَافِرُ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَاهَدِ حَتَّى لَوْ عَتَقَ كَانَ مُعَاهَدًا لَا يُتْرَكُ لِيَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَرِثُهُ الْحَرْبِيُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ عَتَقَ فَهُوَ حَرْبِيٌّ عَلَى حَالِهِ فَيَرِثُهُ الْحَرْبِيُّ، فَإِنْ لَحِقَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْمُكَاتَبُ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِيمَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَعَثَ بِمَا عَلَيْهِ إلَيْهِ عَتَقَ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَقُتِلَ الْحَرْبِيُّ أَوْ أُسِرَ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمَوْلَى وَلَا لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ بَعْدَ مَا قُتِلَ أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَخْلُفْهُ السَّابِي فِي مِلْكِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْقَهْرِ عَلَيْهِ وَالْمِلْكُ لِلسَّابِي بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُكَاتَبِ فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ أَسْبَقُ فَيَمْلِكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُكَاتَبَةُ فَلِهَذَا عَتَقَ، وَكَذَلِكَ إنْ أُسِرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ بِالْأَسْرِ قَدْ تُبَدَّلُ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ وَلَمْ يَخْلُفْهُ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ لِبَقَائِهِ حَيًّا فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ فَأَمَّا إذَا قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَالْكِتَابَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ إلَى وَرَثَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ فِيمَا كَانَ لِمَوْلَاهُ حِينَ لَمْ يَقَعْ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ وَكَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْأَمَانِ فِيمَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَقِّهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ. حَرْبِيٌّ كَاتَبَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَا جَمِيعًا أَوْ صَارَ ذِمَّةً أَجَزْتُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَكَمَا يَبْقَى بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ، فَإِنْ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ وَالْعَبْدُ فِي يَدَيْهِ عَلَى حَالِهِ فَخَاصَمَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ أَبْطَلْتهَا كَمَا أُبْطِلُ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ إذَا خَرَجُوا بِأَمَانٍ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ لَوْ قَهَرَ رَجُلًا فَأَسَرَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَهُوَ فِي يَدَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَاهِرِ لِمَوْلَاهُ فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ فَلِهَذَا بَطَلَتْ الْمُكَاتَبَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَاهِرًا حِينَ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَبْدُهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ ثُمَّ قَهَرَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ عَبْدًا لَهُ وَلَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ خَرَجَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَ لِمَوْلَاهُ حِينَ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ عَبْدٌ مَلَكَ نَفْسَهُ حَتَّى يَعْتِقَ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مُكَاتَبٌ يَمْلِكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ وَيَكُونُ حُرًّا. مُسْلِمٌ تَاجِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَاتَبَ عَبْدَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ كَانَ جَائِزًا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ حَيْثُ لَا يَجْرِي حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَنْفِيذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مُسْلِمٌ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 حَقِّ الْعِتْقِ أَوْ حَقِيقَتِهِ، فَوُجُودُ هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَوُجُودِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا قَدْ اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاسْتِرْقَاقِ كَالْمُسْلِمِ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا قَدْ اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَكَاتَبَهُ فَأَدَّى وَعَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أَجَزْتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ عَبْدٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقٌ لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْبَدَلِ فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَصْدًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إعْتَاقَ الْمُسْلِمِ الْعَبْدَ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِاسْتِرْقَاقُ فَلَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَنْفُذُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِيِّ وَلِلِاسْتِحْسَانِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ ضَمِنَ لَهُ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ بَعْدَ مَا يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّرَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ سِرًّا فَلِلْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ جَعَلْنَاهُ حُرًّا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِالْقَهْرِ إذَا أَحْرَزَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْهُ هُنَا؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارٍ لَهُ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْقَهْرِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الِاسْتِحْسَانُ فِي الْكِتَابَةِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْمُكَاتَبَةِ تَلِدُ مِنْ مَوْلَاهَا] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ مَوْلَاهَا خُيِّرَتْ، فَإِنْ شَاءَتْ أَبْطَلَتْ الْكِتَابَةَ وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ آجِلٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَتَخْتَارُ أَيَّهمَا شَاءَتْ وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى بِالدَّعْوَةِ وَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِلْإِعْتَاقِ فِي وَلَدِهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ مَوْلَاهَا لِإِقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَتَرَكَتْ مَالًا يُؤَدِّي مُكَاتَبَتَهَا مِنْهُ وَمَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثٍ لِابْنِهَا، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَلَا سِعَايَةَ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَإِنَّمَا السِّعَايَةُ عَلَى وَلَدٍ هُوَ تَبَعٌ لَهَا فِي الْكِتَابَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَنَفَاهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَدَّعِهِ فَإِنَّ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ لَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى وَطْؤُهَا فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، وَإِذَا مَاتَتْ سَعَى هَذَا الْوَلَدُ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ الْوَلَدُ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ كَأُمِّهِ فَيَعْتِقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى. فَإِنْ ادَّعَى الْمَوْلَى حَبَلَ مُكَاتَبَتِهِ فَضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا بِيَوْمٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَإِنَّ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 الْوَلَدِ غُرَّةٌ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِدَعْوَتِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَبَدَلُ الْجَنِينِ الْحُرِّ الْغُرَّةُ وَكَانَ مِيرَاثًا لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُكَاتَبَةٌ بَعْدُ فَلَا تَرِثُ شَيْئًا، وَلَكِنَّهَا تَأْخُذُ الْعُقْرَ مِنْ الْمَوْلَى إذَا اخْتَارَتْ الْمُضِيَّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْمَوْلَى وَمَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا فَوَلَدَتْ هَذِهِ الِابْنَةُ بِنْتًا ثُمَّ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الِابْنَةَ السُّفْلَى عَتَقَتْ هِيَ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي كِتَابَةِ الْجَدَّةِ وَمَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهَا، وَإِنْ أَعْتَقَ الِابْنَةَ الْأُولَى عَتَقَتْ هِيَ وَالِابْنَةُ السُّفْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لَا تَعْتِقُ السُّفْلَى، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ مَعَ الْجَدَّةِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ السُّفْلَى تَبَعٌ لِلْجَدَّةِ فِي الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ آخَرَ لَهَا وَلَوْ كَانَ لَهَا وَلَدَانِ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا لَمْ يَعْتِقُ الْآخَرُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْجَدَّةَ لَوْ مَاتَتْ كَانَ عَلَى الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى السِّعَايَةُ فِيمَا عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِذَا أَدَّتْ السِّعَايَةَ إحْدَاهُمَا لَمْ تَرْجِعْ عَلَى الْأُخْرَى بِشَيْءٍ وَأَنَّ الْجَدَّةَ فِي حَالِ حَيَاتِهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهَا لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُلْيَا تَبَعٌ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدَيْنِ مِنْ الْجَدَّةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَعَ هَذَا السُّفْلَى جُزْءٌ مِنْ الْعُلْيَا كَمَا أَنَّ الْعُلْيَا جُزْءٌ مِنْ الْجَدَّةِ، ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْجَدَّةَ عَتَقَتْ الْعُلْيَا فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْعُلْيَا عَتَقَتْ السُّفْلَى وَالسُّفْلَى تَبَعٌ لِلْجَدَّةِ كَمَا قَالَا، وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعُلْيَا وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ إلَّا بَعْدَ جَعْلِ السُّفْلَى تَبَعًا لِلْعُلْيَا وَلَوْ أَعْتَقَ الْعُلْيَا قَبْلَ انْفِصَالِ السُّفْلَى مِنْهَا بِلَا شَكٍّ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ بِالِانْفِصَالِ لَا يَنْقَطِعُ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهَا أَمَةٌ لِفُلَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا وَاسْتَحَقَّ الْمَوْلَى وَلَاءَهَا فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِهِ. فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي بِعْتُك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَنْقُدْ الثَّمَنَ، وَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتنِي وَالْأَمَةُ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُدَّعِي فَعَلَى الْمَوْلَى الْمَهْرُ يَسْتَوْفِيه الْمُدَّعِي قِصَاصًا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِرْدَادِهَا كَانَ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي بِبَيْعِهَا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا لِكَوْنِهَا مَعْرُوفَةً أَنَّهَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً أَنَّهَا لِلْمُدَّعِي ضَمِنَ لَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِرْدَادِهَا لَمْ يَكُنْ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ، وَلَكِنْ كَانَ بِالِاسْتِيلَادِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الْبَيْعَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا وَقَدْ أَقَرَّ الْمُسْتَوْلِدُ أَنَّهَا مِلْكُ الْمُقِرِّ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 احْتَبَسَتْ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ بِمَا يَدَّعِي مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ لَزِمَهُ الثَّمَنُ فَإِذَا أَنْكَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَيْمَانِ فِي الْعِتْقِ] (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ أَوَانَ نُزُولِ الْعِتْقِ الْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ هُوَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَيَعْتِقُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ فَلَا يَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ إذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ يَعْتِقُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ قَدْ صَحَّ فِي الْمِلْكِ فَيَنْزِلُ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ جُنَّ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَعْتِقَ مِنْ جِهَتِهِ وَالْأَهْلِيَّةُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِصِحَّةِ التَّكَلُّمِ وَتَكَلُّمُهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجِّزِ لِلْعِتْقِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الَّذِي صَحَّ مِنْهُ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ هَذَا فَدَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْحِلَالِ الْيَمِينِ نُزُولُ الْجَزَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ بَعْدَ الْبَيْعِ حَتَّى اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ عَتَقَ عِنْدَنَا لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بِزَوَالٍ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَعْتِقُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِبُطْلَانِ الْيَمِينِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْيَمِينَ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُ إلَّا فِي الْمِلْكِ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ. فَإِنْ قَالَ إذَا دَخَلْتَ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الْأُخْرَى عَتَقَ لِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ قِيَامَ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ نَفْسِ الشَّرْطِ كَمَا يَعْتَبِرُهُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيْعِ ثُمَّ بَاعَهُ فَدَخَلَ الْأُخْرَى لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَمَّ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَأَوَانُ نُزُولِ الْجَزَاءِ مَا بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ إذَا دَخَلْتَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ إذَا كَلَّمْتَ فُلَانًا فَبَاعَهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَكَلَّمَ فُلَانًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ الْكَلَامَ وَعَلَّقَ ذَلِكَ الْيَمِينَ بِدُخُولِ الدَّارِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجِّزِ فَيَصِيرُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ إذَا كَلَّمَتْ فُلَانًا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَإِنْ كَلَّمَ فُلَانًا فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْحَالِ وَجَعَلَ دُخُولَ الدَّارَيْنِ شَرْطًا لِلْعِتْقِ وَقَدْ وُجِدَ الْمِلْكُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ وَعِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ إذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَبَاعَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَعْتِقْ إنْ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِدُخُولِ الدَّارِ فَيَصِيرُ كَالْمُنَجِّزِ لَهُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالتَّدْبِيرُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ لَمْ يَصِرْ مُدَبَّرًا فَلَا يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ. وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْتَ دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ فُلَانٌ وَآخَرُ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَصَاحِبُ الدَّارِ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْعَبْدِ كَغَيْرِهِ فَيَثْبُتُ الشَّرْطُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ فُلَانٌ وَآخَرُ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ كَلَامَ فُلَانٍ قَوْلُهُ بِاللِّسَانِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى الشَّرْطِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الشَّرْطُ، فَإِنْ شَهِدَ ابْنَا فُلَانٍ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَ أَبَاهُمَا، فَإِنْ جَحَدَ الْأَبُ ذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْكَلَامِ وَعَلَى الْمَوْلَى بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُمَا يَدَّعِي ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَبِيهِمَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ الْمَنْفَعَةَ لِلتُّهْمَةِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ الدَّعْوَةَ وَالْإِنْكَارَ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا وَيُظْهِرَانِ صِدْقَهُ فِيمَا يَدَّعِي وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَا يَدْخُلُ دَارًا ثُمَّ اشْتَرَى نَصِيبَ الْآخَرِ فَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ لِوُجُودِ الْمِلْكِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ فَيَصِيرُ كَالْمُنَجِّزِ لِلْعِتْقِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ كُلُّهُ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَ بَاعَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَ شَرِيكِهِ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ التَّعْلِيقُ وَهُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا فِي النِّصْفِ الَّذِي اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ بَعْدَ التَّعْلِيقِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ أَوْ حِمَارٍ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا عَتَقَ عَبْدُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا عَيَّنَ عَبْدَهُ فِي كَلَامِهِ بَلْ رَدَّدَ الْكَلَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَبْدُهُ إلَّا بِنِيَّةٍ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ إلَيْهِ مَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِتْقُ صَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوَّلًا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى يَقُولُ وَصَفَ أَحَدَهُمَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَبْدُ مَحَلٌّ لِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ الْأُسْطُوَانَةِ وَالْحِمَارِ فَيَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ وَيَلْغُوَا ضَمُّ الْأُسْطُوَانَةِ إلَيْهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ إيجَابٌ لِلْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْمَحَلُّ الَّذِي يَصْلُحُ بِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِيهِ وَهُوَ الْحَيُّ دُونَ الْمَيِّتِ وَالْأُسْطُوَانَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ بِخِلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ مَحَلٌّ بِأَنْ يُوصَفَ بِالْعِتْقِ وَمَحَلُّ الْإِيجَابِ الْعِتْقُ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَصِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَبْدُهُ هُنَاكَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأُسْطُوَانَةٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيجَابٌ لِلْحُرِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ الْأَصْلِ بَابًا مِنْ كِتَابِ الْوَلَاءِ، وَشَرْحُ ذَلِكَ يَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ. انْتَهَى شَرْحُ كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، أَمْلَاهُ الْمُسْتَقْبِلُ لِلْمِحَنِ بِالْإِعْتَاقِ الْمَحْصُورِ فِي طَرَفٍ مِنْ الْآفَاقِ حَامِدًا لِلْمُهَيْمِنِ الرَّزَّاقِ وَمُرْتَجِيًا إلَى لِقَائِهِ الْعَزِيزِ بِالْأَشْوَاقِ وَمُصَلِّيًا عَلَى حَبِيبِ الْخَلَّاقِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الصَّحْبِ وَالرِّفَاقِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 [كِتَابُ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَةُ لُغَةً هُوَ الضَّمُّ، وَالْجَمْعُ يَقُولُ كَتَبَ الْبَغْلَةَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ شُفْرَيْهَا بِحَلْقَةٍ، وَمِنْهُ فِعْلُ الْكِتَابَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرُوفِ فَسُمِّيَ الْعَقْدُ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ كِتَابَةً إمَّا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ كِتْبَةِ الْوَثِيقَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا سُمِّيَ مُكَاتَبَةً عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكْتُبُ لِمَوْلَاهُ كَمَا يَكْتُبُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ لِيَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَتَوَثَّقُ بِهِ أَوْ سُمِّيَ كِتَابَةً لِأَنَّ الْمَوْلَى بِهِ يَضُمُّ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ يَدًا فَإِنَّ مُوجِبَ هَذَا الْعَقْدِ ثُبُوتُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْعَبْدِ يَدًا فِي نَفْسِهِ، وَكَسْبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرْبِ قُوَّةٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الْقُوَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ وَيَذْهَبَ لِلتِّجَارَةِ حَيْثُ شَاءَ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُهُ الْمَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ لِلسَّفَرِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِضَرُورَةِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ. مَقْصُودُ الْمَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ بِالتَّكَسُّبِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ بَلْدَةٍ إلَى بَلْدَةٍ وَمُوجِبُ الْعَقْدِ مَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ثُمَّ عِتْقُهُ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ لَا تَمَامِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَاوَضَةٌ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَأَصْلُ الْبَدَلِ يَجِبُ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ مِلْكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِسَبَبِ الرِّقِّ فَإِنَّ صَلَاحِيَّةَ الذِّمَّةِ لِوُجُوبِ الْمَالِ فِيهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ يُنْتَقَضُ بِالرِّقِّ كَالْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا مُتَعَلِّقًا بِمَالِكِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَقُّهُ فَلِهَذَا كَانَ مَا يَجِبُ لَهُ ضَعِيفًا فِي ذِمَّتِهِ فَثَبَتَ لِلْعَبْدِ بِمُقَابَلَتِهِ مَالِكِيَّةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا. ثُمَّ إذَا تَمَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى بِالْقَبْضِ تَتِمُّ الْمَالِكِيَّةُ لِلْعَبْدِ أَيْضًا وَتَمَامُ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعِتْقِ فَيَعْتِقُ لِضَرُورَةِ إتْمَامِ الْمَالِكِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ يَقُولُ دَاوُد وَمَنْ تَابَعَهُ إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ وَقَدْ عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وَقَوْلِهِ {إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] مَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا شَيْئًا، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَلَكِنْ نَقُولُ الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدَبِ، وَالْإِبَاحَةُ ثَابِتَةٌ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، وَالنَّدْبُ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّمَا نَدَبَ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُكَاتِبَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا. ثُمَّ الْكِتَابَةُ قَدْ تَكُونُ بِبَدَلٍ مُنَجِّمٍ مُؤَجَّلٍ وَقَدْ تَكُونُ بِبَدَلٍ حَالٍّ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَالتَّنْجِيمُ، وَالتَّأْجِيلُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالرَّأْيِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ تَرْفِيهٌ، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا أَقَلُّهُ نَجْمَانِ قَالَ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَلْتَزِمُ الْأَدَاءَ بِالْعَقْدِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْتِزَامِ التَّسْلِيمِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مُفْلِسًا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِالتَّأْجِيلِ، وَالِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا كَانَ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَيَصِحُّ وَإِذَا كَانَ حَالًّا فَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ صِفَةَ الْحُلُولِ تُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالْعَبْدُ عَاجِزٌ عَنْ الْأَدَاءِ وَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكُلُّ وَصْفٍ يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّنْجِيمِ، وَالتَّأْجِيلِ. قَالَ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَعَرَفْنَا قُدْرَتَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُنَا الْعَبْدُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَيُتَيَقَّنُ بِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ وَلِأَنَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ يَدْخُلُ مِلْكَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَدَلٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ وَهُنَا بِالْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ شَيْءٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فِي الْحَالِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَدَلَ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَتُشْرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ لَهُ. وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْأَجَلَ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِمِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا لِيُثْبِتَ قُدْرَتَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّحْصِيلِ فِي الْمُدَّةِ. وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ إرْفَاقٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا يُطَالِبُهُ بِالْأَدَاءِ مَا لَمْ يَعْلَمْ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْأَجَلَ لِيَكُونَ مُتَفَضِّلًا فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ مُنْعِمًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ الْعَقْدُ وَلْيَمْتَحِنْهُ بِمَا تَفَرَّسَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهُ تَمَكَّنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ وَبِهِ فَارَقَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ، وَالْمُمَاكَسَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ عَنْهُ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُ اخْتِيَارًا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِذِكْرِ الْأَجَلِ لِيُثْبِتَ بِهِ قُدْرَتَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ. ثُمَّ يَعْتِقُ الْمُكَاتَبَ بِأَدَاءِ الْمَالِ سَوَاءٌ قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضْمِرَ هَذَا بِقَلْبِهِ، وَيُظْهِرَ بِلِسَانِهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ حُكْمُ الْعَقْدِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ السَّبَبِ، وَالْقَصْدُ إلَى الْحُكْمِ، وَالتَّكَلُّمُ بِهِ بَعْدَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ إضْمَارَ التَّمْلِيكِ بِالْقَلْبِ وَإِظْهَارَهُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَوَّلِ نَجْمٍ مِنْهَا أَوْ كَانَتْ حَالَّةً فَلَمْ يُؤَدِّهَا حِينَ طَالَبَهُ بِهَا رُدَّ فِي الرِّقِّ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ وَتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِ الْمَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَيَسْتَوِي إنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: هَذَا إذَا شَرَطَ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الرِّقِّ إذَا كَسَرَ نَجْمًا فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَمَا لَمْ يَكْسِرْ نَجْمَيْنِ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ مَقْصُودُ الْعَاقِدِ يُمَكِّنُهُ مِنْ الْفَسْخِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوُجُودِ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ وَبِدُونِهِ يَنْعَدِمُ تَمَامُ الرِّضَا وَانْعِدَامُ تَمَامِ الرِّضَا فِي الْعَقْدِ الْمُحْتَمِلِ لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ اللُّزُومِ، وَالْعَاقِدُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَازِمًا مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْفَسْخِ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ مُنَجَّمَةٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ فَمُكَاتَبَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ كَالْبَيْعِ. وَفِي بَابِ الْبَيْعِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِكَوْنِهَا مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَهَذَا فِي مَعْنَى صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ فِيهِ تَعْلِيقُ وُجُوبِ بَعْضِ الْبَدَلِ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ تَمَكَّنَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْبَدَلُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَقَدْ قَرَرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْعَتَاقِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلِلْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ رِبًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ»، ثُمَّ مَقْصُودُ الْمَوْلَى الْإِرْفَاقُ بِعَبْدِهِ وَاشْتِرَاطُ مَالِ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ فِي الْكِتَابَةِ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَقْصُودَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَسْبِ إلَّا بِمَنَافِعِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ إلَّا بِرَأْسِ مَالٍ لَهُ فَلِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْإِرْفَاقِ صَحَّ اشْتِرَاطُ مَالِهِ لَهُ، وَالرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَالْمُقَابَلَةِ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِرْفَاقِ كَمَا قَرَرْنَا لَا يَكُونُ رِبًا فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالُ سَيِّدِهِ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ فِي الْعَقْدِ مَالًا مُضَافًا إلَيْهِ وَإِضَافَةُ الْمَالِ إلَى الْمَرْءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ أَوْ لِكَوْنِهِ كَسْبًا لَهُ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَسْبًا لَهُ بَلْ يَدُهُ فِيهِ يَدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدِ الْمَوْلَى. وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ كَسْبُهُ مِنْ مَالٍ وَرَقِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ شَرْعًا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» وَكَذَلِكَ مَا كَانَ سَيِّدُهُ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَسْبُهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِقَبُولِهِ وَعَدَمُ عِلْمِ الْمَوْلَى لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ. ثُمَّ مُوجِبُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَاشْتِرَاطُ مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا الْإِيجَابِ، فَأَمَّا مَالُ الْمَوْلَى الَّذِي لَيْسَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِجِنْسِ مَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَفِيمَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا، ثُمَّ خِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِمَوْلَاهُ بِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ إذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: أَصْلُ الْخِدْمَةِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَمِقْدَارُهُ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ فِي الْكِتَابَةِ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، ثُمَّ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ يَسْتَخْدِمُهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَبِتَسْمِيَتِهِ فِي الْعَقْدِ يَصِيرُ وَاجِبًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِمَوْلَاهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ ذَلِكَ الْكَسْبِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ وُجُوبُهُ فِي الذِّمَّةِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ صَحَّ الْعَقْدُ بِتَسْمِيَتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا قَدْ سَمَّى طُولَهَا وَعَرْضَهَا وَأَرَاهُ مَكَانَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ لَهُ دَارًا قَدْ أَرَاهُ آجُرَّهَا وَجِصَّهَا وَمَا يَبْنِي بِهَا فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قُلْنَا، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدِمَ رَجُلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِدْمَةَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ غَيْرَهُ نَائِبًا فِي الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ وَاشْتِرَاطُهُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً لِذَلِكَ الرَّجُلِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِقَبُولِهِ بِالْعَقْدِ، فَأَمَّا خِدْمَتُهُ لِمَوْلَاهُ وَحَفْرُ الْبِئْرِ وَبِنَاءُ الدَّارِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمِلْكِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ الْمِلْكُ يَبْقَى بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَى غَرِيمٍ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَالَ لِنَفْسِهِ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَجَعَلَ الْغَرِيمَ نَائِبًا فِي قَبْضِهِ مِنْهُ وَقَبْضُ نَائِبِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنُهَا لِرَجُلٍ عَنْ سَيِّدِهِ فَالْكِتَابَةُ، وَالضَّمَانُ جَائِزَانِ وَهَذَا لَيْسَ بِضَمَانٍ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ إلَى مَنْ أَمَرَهُ الْمَوْلَى بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْأَدَاءَ إلَى الْمَوْلَى وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْأَدَاءَ إلَى مَنْ أَمَرَهُ الْمَوْلَى بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مَالًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ سِوَى الْكِتَابَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ الْمَالَ لِيُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ فَكَذَلِكَ الْتِزَامُهُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ لِيُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَبْدًا بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ فَإِذَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ لَمْ يَكُنْ شَغَلَ كَسْبَهُ فَلَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِلْحَالِّ وَكَذَلِكَ إنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ بِكَسْبِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِي ذَلِكَ وَبِهِ فَارَقَ الْقِنَّ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِلتَّبَرُّعِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ يَثْبُتُ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ ضَمِنَ عَنْ السَّيِّدِ لِغَرِيمٍ لَهُ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ أَوْ قَبْلَ الْحَوَالَةِ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ طَالَبَهُ بِهِ الْمَوْلَى أَوْ الْمَضْمُونُ لَهُ؛ وَلِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ شَاغِلًا لِكَسْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَمَا يُلْتَزَمُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْكِتَابَةِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ فَلِهَذَا صَحَّ هَذَا الضَّمَانُ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى مَالِ مُنَجَّمٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَهَا وَيَحُطَّ عَنْهُ مَا بَقِيَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ، وَمَعْنَى الْإِرْفَاقِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُقَابَلَةَ الْأَجَلِ بِبَعْضِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ إرْفَاقٌ مِنْ الْمَوْلَى بِحَطِّ بَعْضِ الْبَدَلِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَمُسَاهَلَةٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ فِي تَعْجِيلِ مَا بَقِيَ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَرَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ حُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَغْلِبُ عَلَى مَعْنَى الْإِرْفَاقِ فَيَكُونُ هَذَا مُبَادَلَةَ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ، وَمُبَادَلَةَ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ رِبًا وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ بِالْإِبْرَاءِ وَقَبْضُهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ صَحِيحٌ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِبْدَالِ إسْقَاطَ الْقَبْضِ بِعِوَضٍ وَإِذَا جَازَ إسْقَاطُ الْقَبْضِ بِمَا هُوَ إبْرَاءٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَذَلِكَ بِالْعِوَضِ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَفْسُدْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُنَجَّمَةٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ مَعَ كُلِّ نَجْمٍ ثَوْبًا قَدْ سَمَّى جِنْسَهُ أَوْ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَعَ كُلِّ نَجْمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا ضَمَّهُ إلَى الْمُسَمَّى فِي كُلِّ نَجْمٍ يَكُونُ بَدَلًا مَشْرُوطًا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَالثَّوْبُ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْجِنْسِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ صَحِيحٌ يَتَّضِحُ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ مَعَ مُكَاتَبَتِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِذًا ثَبَتَ أَنْ جَمِيعَ ذَلِكَ بَدَلٌ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ حَلِّهِ رُدَّ فِي الرِّقِّ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى فَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْأَدَاءُ وَإِنْ بَطَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ؛ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَمْ تَقَعْ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا يُؤَدِّيهِ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْتَضَى بِأَمْثَالِهِ لَا بِأَعْيَانِهَا وَبَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى بِالْقَبْضِ، وَالْمُكَاتَبُ قَابِضٌ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ وَإِنْ كَانَ بَدَلُهُ مُسْتَحَقًّا، وَمَنْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ حُرًّا وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ السَّيِّدُ بِأَلْفٍ مَكَانَهَا؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَدْ انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ أَوْ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا فَرَدَّهُ فَلِهَذَا رَجَعَ بِأَلْفٍ مَكَانَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 [بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ، وَالْقَدْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ الْقِيمَةُ بَعْدَ تَمَامِهَا فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ الْقِيمَةَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مَعَ الْفَسَادِ فَيَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفَسَادِ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِهِ فَإِنَّ قِيَامَ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تَبَعٌ وَبِانْعِدَامِ التَّبَعِ لَا يَنْعَدِمُ الْأَصْلُ، ثُمَّ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُفِيدَةً لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي وَلَا يُمْكِنُ تَعَرُّفُ حُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْإِذْنِ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُتَعَرَّفَ حُكْمُهُ مِنْ الْجَائِزِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ لَا إلَى صِفَةِ الْجَوَازِ وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْجَوَازِ لُزُومُ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْفَسَادِ. فَأَمَّا حُكْمُ الْعِتْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ مُضَافٌ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ. وَأَصْلُ الْعَقْدِ مُنْعَقِدٌ وَقَدْ وُجِدَ أَدَاءُ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمُسَمَّى فَهُوَ الْقِيمَةُ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْوَاجِبِ شَرْعًا عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَهُوَ الْقِيمَةُ فَلِهَذَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ لَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَمَا هُوَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ ثَوْبًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ بِأَدَاءِ الْمَشْرُوطِ حَقِيقَةً فَاسْمُ الثَّوْبِ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَا أَدَّى يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ وَلَمْ يُوجَدْ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَيْضًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ هُوَ الْقِيمَةُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَبِأَدَاءِ الثَّوْبِ لَا يَصِيرُ مُؤَدِّيًا الْقِيمَةَ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ (فَإِنْ قِيلَ) الْمُسَمَّى ثَوْبٌ وَهَذَا الِاسْمُ حَقِيقَةٌ لِمَا أَدَّى فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْبَدَلُ حُكْمًا كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى (قُلْنَا) نَعَمْ الْمُسَمَّى ثَوْبٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ الثِّيَابُ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ هَذَا الثَّوْبِ مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ سُلِّمَ لَهُ وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا مُسَمًّى وَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ وَفِي الْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَيَّنُ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ وَلَا عُمُومَ لِلِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الثَّوْبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ دَارٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْبُلْدَانِ، وَالْمَحَالِّ فِي الدَّارِ كَاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الثِّيَابِ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دَارٍ لَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ. وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّتَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُكَاتَبَةً لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فَإِنْ وَطِئَهَا السَّيِّدُ، ثُمَّ أَدَّتْ الْكِتَابَةَ فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْكِتَابَةِ الْجَائِزَةِ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّتْ الْكِتَابَةَ، فَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبَائِعِ عُقْرٌ فِي الْوَطْءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَحْصُلُ عِنْدَ الْقَبْضِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ ضَعِيفٌ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ حَتَّى يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي أَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بَلْ كَانَ وَطْؤُهُ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا غَيْرُ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْبَائِعِ. وَلَوْ اكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا إذَا تَمَّتْ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لَهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا وَلَوْ اكْتَسَبَتْ كَانَتْ الِاكْتِسَابَاتُ كُلُّهَا لَهَا فَلِهَذَا يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمَوْلَى بِوَطْئِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ مُوجِبَ الْكِتَابَةِ إثْبَاتُ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا فِي الْيَدِ، وَالْمَكَاسِبِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمُسْلَمِ إلَيْهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا لَهَا مِنْ الْيَدِ فِي نَفْسِهَا إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَسْخِ وَالِاسْتِرْدَادِ لِفَسَادِ السَّبَبِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ تَقَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَوِزَانُهُ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ وَيَتَمَكَّنُ الْبَائِعُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ لِفَسَادِ السَّبَبِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ. وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ مُكَاتَبَةً فَاسِدَةً، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبَةَ إلَى الْوَرَثَةِ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لِكَوْنِهِ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَمِنْ ضَرُورَةِ انْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ بُطْلَانُ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَلَوْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ فَإِنَّمَا يَعْتِقُ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ، وَالْوَارِثُ لَمْ يُكَاتِبْهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسَلَّمٌ إلَى الْعَبْدِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَبِمَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ وَإِنْ تَمَكَّنَ الْوَارِثُ مِنْ إبْطَالِهِ لِفَسَادِ السَّبَبِ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا مَاتَ لَا يَمْلِكُهُ وَارِثُهُ وَلَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ وَتَمَلُّكِهِ لِفَسَادِ السَّبَبِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ عِتْقُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَبْقَى الْعَقْدُ مَا لَمْ يَفْسَخْهُ الْوَارِثُ وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ أَدَاءُ الْبَدَلِ إلَى الْوَارِثِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ كَأَدَائِهِ إلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 الْمُوَرِّثَ فِي حَيَاتِهِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ بِهِ. وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّتَهُ مُكَاتَبَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ عَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إذَا تَمَّ لَهَا بِالْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِثُبُوتِهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ كَمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَسْبِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ فَلَيْسَ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمِّهِ وَمَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى وَلَدِهَا، فَإِنْ اسْتَسْعَاهُ فِي مُكَاتَبَةِ الْأُمِّ فَأَدَّاهُ لَمْ يَعْتِقْ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ، وَالِاسْتِحْقَاقَ بِهِ ضَعِيفٌ، وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ فِي الْأُمِّ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَعْتِقُ هُوَ وَأُمُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهَا اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا وَكَانَ أَدَاؤُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمِّ كَأَدَائِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ أَدَاؤُهُ كَأَدَائِهَا، وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ أَوْ عَلَى أَنْ تَخْدِمَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَلِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ تَصِيرُ أَحَقَّ بِأَوْلَادِهَا وَأَكْسَابِهَا، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ الْأَلْفِ شَيْئًا مَجْهُولًا مِنْ كَسْبِهَا لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ مَعَ الْأَلْفِ مَا تَلِدُهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ، ثُمَّ إنْ أَدَّتْ مُكَاتَبَتَهَا تَعْتِقُ وَفِيهِ طَعَنَ بِشْرٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ الدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْحَصَادِ أَوْ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ مِنْ الْأَجَلِ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ كَالْبَيْعِ وَهَذِهِ الْآجَالُ الْمَجْهُولَةُ إذَا شُرِطَتْ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ فَسَدَ بِهَا الْعَقْدُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ الْكِتَابَةُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ كَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةُ فِي الْأَجَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّدَاقِ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُسْتَدْرَكَةَ فِي الْأَجَلِ نَظِيرُ الْجَهَالَةِ الْمُسْتَدْرَكَةِ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ جَهَالَةُ الصِّفَةِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ الْجِنْسِ فَكَمَا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ الْمَالُ إذَا جَاءَ أَجَلُ الْعَطَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَقْتُ الْعَطَاءِ لَا عَيْنُهُ فَإِنَّ الْآجَالَ تُقَدَّرُ بِالْأَوْقَاتِ. وَلَهَا أَنْ تُعَجِّلَ الْمَالَ وَتَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهَا فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهَا وَلَهَا فِي هَذَا التَّعْجِيلِ مَنْفَعَةٌ أَيْضًا، وَهُوَ وُصُولُهَا إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَلَوْ كَاتَبَهَا عَلَى مَيْتَةٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأُمَّ لَمْ يُعْتَقْ وَلَدُهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا فَإِنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالْمَيْتَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِهِ لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ، وَإِذَا لُغِيَ الْعَقْدُ يَبْقَى إعْتَاقُ الْأُمِّ بَعْدَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ عَنْهَا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ عِتْقَ وَلَدِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُكَاتَبَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأُمَّ عَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ مُنْعَقِدٌ مَعَ الْفَسَادِ فَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي الْوَلَدِ اعْتِبَارًا لِلْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ، ثُمَّ عِتْقُ الْأُمِّ بِإِعْتَاقِ السَّيِّدِ إيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ عِتْقِهَا بِأَدَاءِ الْبَدَلِ فَيَعْتِقُ وَلَدُهَا مَعَهَا. وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ قِيمَتُهَا عَلَى أَنَّهَا إذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ فَعَلَيْهَا أَلْفٌ أُخْرَى جَازَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهَا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَإِذَا أَدَّتْ الْأَلْفَ عَتَقَتْ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ الْأُخْرَى كَمَا كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مُطَالَبَةً بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَدَلُ بَعْدَ مَا أَدَّتْ إلَى الْمَوْلَى تَبْقَى مُطَالَبَةً بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ، وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِهَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَا سَمَّى فِي الْعَقْدِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَحُكْمُهُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْمَالِ كَمَا يَكُونُ بِالْمَالِ فَإِذَا أَدَّتْ قِيمَتَهَا لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَهَذَا، وَالْكِتَابَةُ عَلَى الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ مَا عَيَّنَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَجُوزُ حَتَّى إنَّهُ إنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْعَيْنَ فَأَدَّاهُ إلَى الْمَوْلَى عَتَقَ أَوْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ رُدَّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِمَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ مِلْكٍ فِيهِ مَوْهُومٌ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إذَا سَمَّى عَبْدَ غَيْرِهِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ بِأَنَّ الْعِتْقَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَقُدْرَةُ الْعَاقِدِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِلْكُ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمَقْدُورِ التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَوْلَى. ثُمَّ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْعَيْنَ فَأَدَّى لَمْ يَعْتِقْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ بِحُكْمِ التَّعْلِيقِ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ مَعَ الْفَسَادِ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ وُجِدَ الْأَدَاءُ فَيَعْتِقُ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ لَمْ يَصِرْ بَدَلًا مِنْ هَذَا الْعَقْدِ بِتَسْمِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ لَهُ إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا آخَرَ مَعَهُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا فَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِتْقُ بِاعْتِبَارِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقِ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ. وَإِنْ قَالَ كَاتَبْتُكِ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ لِغَيْرِهَا جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِأَلْفٍ هِيَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهَا أَلَا تَرَى أَنْ تِلْكَ الْأَلْفَ لَوْ كَانَتْ مِنْ كَسْبِهَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى أَدَائِهَا بِعَيْنِهَا وَإِذَا أَدَّتْ غَيْرَهَا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: كَاتِبْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهَا مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ تَجِبُ فِي ذِمَّتِهَا فَالتَّدْبِيرُ فِي أَدَاءِ مَا فِي ذِمَّتِهَا إلَيْهَا. وَإِذَا كَاتَبَهَا وَاشْتَرَطَ فِيهَا الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُمَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَيُعْتَمَدُ تَمَامُ الرِّضَا فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ فِي حُكْمِ شَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ يَنْعَدِمُ بِهِ تَمَامُ الرِّضَا بِاللُّزُومِ فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَسْقَطَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ، فَالْوَلَدُ مُكَاتَبٌ مَعَهَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَيْعِ تُسَلَّمُ الزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ، وَالْمُتَّصِلَةُ لِلْمُشْتَرِي إذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِالْإِجَازَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ. وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَالْخِيَارُ لَهُ أَوْ مَاتَتْ الْأَمَةُ، وَالْخِيَارُ لَهَا فَالْخِيَارُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهَا، وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا قَبْلَ أَنْ يُسْقِطَ خِيَارَهُ فَهَذَا مِنْهُ فَسْخُ الْكِتَابَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَهَا وَإِذَا انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ وَلَدَهَا كَانَ هَذَا فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا فَإِعْتَاقُهُ الْوَلَدَ كَإِعْتَاقِ بَعْضِهَا. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فَالْوَلَدُ يَعْتِقُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ. وَإِنْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ تُؤَدِّيهَا إلَيْهِ نُجُومًا وَاشْتَرَطَ أَنَّهَا إنْ عَجَزَتْ عَنْ نَجْمٍ فَعَلَيْهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ سِوَى النَّجْمِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِ بَعْضِ الْبَدَلِ بِشَرْطٍ فِيهِ خَطَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْعَبْدَيْنِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْأَلْفِ عَتَقَا لِوُصُولِ جَمِيعِ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى؛ وَلِأَنَّ أَدَاءَ أَحَدِهِمَا كَأَدَائِهِمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْبَى قَبُولَ الْمَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ حَتَّى إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً رَجَعَ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، بِخِلَافِ مَالٍ عَلَى حُرَّيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا هُنَاكَ النِّصْفَ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ، وَالْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى الْكَفِيلِ وَصَرْفُ الْمُؤَدَّى إلَى الْأَقْوَى مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِهِ قَبْلَ بَرَاءَةِ الْآخَرِ. وَهُنَا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُؤَدَّى مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا جُعِلَ كَذَلِكَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ فَيَعْتِقُ، وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ وُصُولِ جَمِيعِ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى مُتَعَذِّرٌ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَنْهُمَا فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ جَمِيعَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ كَفِيلًا فِي النِّصْفِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْحَيِّ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ فَيَبْقَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِبَقَاءِ كَفِيلِهِ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ مِنْهُمَا مُحْتَاجٌ إلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ فَلِحَاجَتِهِ بَقِيَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ أَدَّى يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا تَسْقُطُ حِصَّتُهُ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ يَصِيرُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ أَوْ يَجْعَلُ إعْتَاقَهُ كَقَبْضِ حِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلِ مِنْهُ بِطَرِيقِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِتَصَرُّفِهِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ الْآخَرُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلِ. وَلَوْ كَانَتَا أَمَتَيْنِ فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَأَعْتَقَ السَّيِّدُ وَلَدَهَا لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ، وَالْمَوْلَى بِإِعْتَاقِهِ لَا يَكُونُ مُبْرِئًا وَلَا يَكُونُ قَابِضًا لِشَيْءٍ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 أَنْ يُكَاتِبَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا وَفِي هَذَا إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ أَوْجَبَ الْعَقْدَ لَهُمَا بِبَدَلٍ وَاحِدٍ فَقَطْ شَرَطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ وَكَذَلِكَ هُمَا بِالْقَبُولِ إنَّمَا يَلْتَزِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَبِالْأَدَاءِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ وَلَا يَذْكُرُ كَفَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ كَجَوَابِ الثَّانِي يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْتَزِمْ بِالْقَبُولِ إلَّا حِصَّتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ أَحَدَهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أَدَّى جَمِيعَ الْمَالِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ كَفَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ جَمِيعُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ الْمَوْلَى فِي الْعَقْدِ يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا شَرْعًا وَقَدْ شَرَطَ الْعِتْقَ عِنْدَ أَدَائِهِمَا جَمِيعَ الْمَالِ نَصًّا فَلَوْ عَتَقَ إحْدَاهُمَا بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْطِهِ؛ وَلِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ وَلَوْ عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْمَوْلَى إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فَائِدَةٌ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَمْنُوعٌ فَإِنَّ عِنْدَنَا هَذَا كَالْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا قُلْنَا مَا لَمْ يَصِلْ جَمِيعُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عَبْدٍ لَهُ غَائِبٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ الْحَاضِرُ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُكَاتَبًا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ إذَا قُسِّمَ عَلَى قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ وَفِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ قَبُولُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ مِنْ الْبَدَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ خَاصَّةً وَجَمِيعُ الْبَدَلِ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ مِنْ الْبَدَلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ لِلْعِتْقِ وُصُولَ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ فَقَطْ وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ كَاتَبَ الْحَاضِرَ عَلَى الْأَلْفِ وَعَلَّقَ عِتْقَ الْغَائِبِ بِأَدَائِهِ وَهَذَا التَّعْلِيقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَوْلَى أَوْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ كَأَنَّهُ بِقَبُولِ الْحَاضِرِ مُنْعَقِدًا فِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْغَائِبِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ انْعِدَامِ الْوِلَايَةِ لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ لَا فِي مَنْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْعَقْدِ بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ سَبَبًا تَامًّا قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَضُرُّ بِالْمَالِكِ، وَهُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 إزَالَةُ مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا ضَرَرَ عَلَى الْغَائِبِ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي عِتْقِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْحَاضِرِ إنَّمَا الضَّرَرُ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِقَبُولِ الْحَاضِرِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنْ أَدَّى الْحَاضِرُ الْمَالَ عَتَقَا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمَا وَوُصُولِ جَمِيعِ الْبَدَلِ إلَى الْمَوْلَى سَوَاءٌ قَالَ فِي الْكِتَابَةِ إذَا أَدَّيْتَ فَأَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ لَمْ يَقُلْ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا وَأَدَّى هَذَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَأَوْلَى وَإِنْ مَاتَ الْغَائِبُ لَمْ يُرْفَعْ عَنْ الْحَاضِرِ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ عَلَى الْغَائِبِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ بَقِيَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ الْحَاضِرُ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ شَيْئًا وَلِهَذَا كَانَ لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ فِي حَيَاةِ الْحَاضِرِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنْ إنْ قَالَ الْغَائِبُ أَنَا أُؤَدِّي جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ وَجَاءَ بِهَا وَقَالَ الْمَوْلَى لَا أَقْبَلُهَا فَفِي الْقِيَاسِ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا يَقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَبَقِيَ الْغَائِبُ عَبْدًا قِنًّا لِلْمَوْلَى وَكَسْبُهُ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْمُؤَدَّى مِنْهُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُ وَيَعْتِقَانِ جَمِيعًا بِأَدَاءِ هَذَا الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَيَكُونُ الْحَاضِرُ مَعَ الْغَائِبِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ اشْتَرَى وَلَدَهُ، ثُمَّ مَاتَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ لَا يُطَالَبُ بِالْبَدَلِ وَلَكِنْ إنْ جَاءَ بِهِ حَالًّا فَأَدَّى عَتَقَا جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَاضِرَ مَاتَ عَمَّنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ وَيَخْتَارُ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْغَائِبُ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ بِبَقَائِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى إذَا اخْتَارَ الْأَدَاءَ يَكُونُ أَدَاؤُهُ كَأَدَاءِ الْحَاضِرِ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْغَائِبِ. وَإِذَا كَانَا حَيَّيْنِ فَأَرَادَ الْمَوْلَى بَيْعَ الْغَائِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِقَبُولِ الْحَاضِرِ تَمَّ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِيمَا لَا يَضُرُّهُ وَامْتِنَاعُ بَيْعِهِ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَضُرُّهُ فَيُجْعَلُ قَبُولُ الْحَاضِرِ عَنْهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَقَبُولِهِ بِنَفْسِهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصَحَّ هَذَا الطَّرِيقُ دُونَ طَرِيقِ تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِأَدَاءِ الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الْمَوْلَى فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ. رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ قَدْ كَاتَبْتُ عَبْدِي فُلَانًا الْغَائِبَ عَلَى كَذَا عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا عَنْهُ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْحَاضِرُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ هُنَا مَمْلُوكٌ قِنٌّ لَمْ يُدْخِلْهُ الْمَوْلَى فِي الْكِتَابَةِ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِقَبُولِ الْحَاضِرِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْغَائِبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وَجَوَازُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْبَدَلِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ هُنَا عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ هُنَاكَ عَلَى الْحَاضِرِ لَمَّا صَارَ مُكَاتَبًا وَلَكِنْ إنْ أَدَّى الْحَاضِرُ هُنَا الْمَالَ إلَى الْمَوْلَى عَتَقَ الْغَائِبُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَارَ لَغْوًا حِينَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْبَدَلِ عَلَى أَحَدِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ الْمَوْلَى إمَّا أَنْ يُجْعَلَ كَتَعْلِيقِهِ عِتْقَ الْغَائِبِ بِأَدَاءِ الْحَاضِرِ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ أَوْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى وَقَبُولِ الْحَاضِرِ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِ وَعِتْقُهُ عِنْدَ أَدَاءِ الْحَاضِرِ يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ الْمُوجِبِ لِعِتْقِ الْعَبْدِ لَا فِي إلْزَامِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْأَدَاءُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَبَرِّعُ. وَإِنْ كَاتَبَ الْحُرُّ عَلَى عَبْدٍ لِرَجُلٍ عَلَى إنْ ضَمِنَ عَنْهُ الْمُكَاتَبَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ بِقَبُولِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْحُرِّ ابْتِدَاءً بِقَبُولِهِ وَلِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَضْمَنُ عَنْهُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَوْ ضَمِنَ عَنْهُ لِسَيِّدِهِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا ضَمِنَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ ابْنًا لِهَذَا الْحُرِّ، وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحُرِّ عَلَى وَلَدِهِ الْمَمْلُوكِ فِي إلْزَامِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَبْدٌ وَابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ كَاتَبَ الْأَبَ عَلَى ابْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكِتَابَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الِابْنِ فِي إلْزَامِ الْبَدَلِ إيَّاهُ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا إلَّا أَنَّهُ إنْ أَدَّى الْأَبُ عَنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا. رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَكَاتَبَاهُمَا مَعًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ كِتَابَةً وَاحِدَةً إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ قَالَ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا بِحِصَّتِهِ لِصَاحِبِهِ حَتَّى إذَا أَدَّى حِصَّتَهُ مِنْ الْبَدَلِ إلَى مَوْلَاهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْبَدَلَ عَلَى مَمْلُوكِهِ وَيُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي حَقِّ مَمْلُوكِهِ لَا فِي حَقِّ مَمْلُوكِ الْغَيْرِ فَإِنَّمَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَمْلُوكِهِ بِقَبُولِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَلْفِ فَإِذَا أَدَّى فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَعْتِقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَوْلَى فِي حَقِّهِمَا مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ شَرَطَ أَنَّهُمَا لَا يَعْتِقَانِ إلَّا بِوُصُولِ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هُنَاكَ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ. وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ صَغِيرًا يَعْقِلُ وَيُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَقَوْلُهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْجَبَ لَهُ الْكِتَابَةَ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبُولِ فَيُعْتَبَرُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 صَغِيرًا وَلَا يَعْقِلُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَبُولِهِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِدُونِ الْقَبُولِ. حُرٌّ كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ لِرَجُلٍ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُكَاتَبَةَ يَعْتِقُ وَلَا يَرْجِعُ الْحُرُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمَوْلَى أَمَّا عَلَى الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ وَلَا أَمَرَ الْحُرَّ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ وَأَمَّا عَلَى الْمَوْلَى فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ رَشَاهُ حَيْثُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ أَعْتِقْ عَبْدَكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَعْطَاهَا إيَّاهُ فَأَعْتَقَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَاهُ وَيَضْمَنَهُ إنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمَالَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ فَضَمِنَهُ عَنْهُ الْحُرُّ لِلسَّيِّدِ وَأَدَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِدَّ مِنْهُ مَا أَدَّى إلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ عَلَى الْعَبْدِ أَوْلَى وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ إنَّهُ تَبَرُّعٌ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ أَدَّى حُرٌّ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ لَمْ يَرْجِعْ بِالْمُؤَدَّى عَلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا كَانَ هُوَ الْقَابِلُ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ كَقَبُولِ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ صَارَ الْمَوْلَى مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِقَبُولِهِ وَأَدَائِهِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَالْغَرُورِ وَاجِبٌ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُتَبَرِّعًا بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ كِتَابَةً وَاحِدَةً إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا، ثُمَّ عَجَزَ أَحَدُهُمَا فَرَدَّهُ الْمَوْلَى فِي الرِّقِّ أَوْ قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي فَرَدَّهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمُكَاتَبَةِ الْمَوْلَى الْآخَرِ مَعَهُ، ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَعْتِقَانِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ مَعًا وَكَمَا جُعِلَا فِي حَقِّ الْعِتْقِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْعَجْزِ فَبِعَجْزِ أَحَدِهِمَا لَا يَتَحَقَّقُ تَغَيُّرُ شَرْطِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمَوْلَى مَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُ الْآخَرِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِرَدِّهِ فِي الرِّقِّ وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْقَضَاءِ إضْرَارًا بِالْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حِصَّةَ الْغَائِبِ مِنْ الْبَدَلِ لَا مَحَالَةَ إذَا نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعَجْزِهِ، وَالْغَائِبُ لَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ فَيَتَضَرَّرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَسْعَى الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَجْمٍ أَوْ نَجْمَيْنِ، ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّهُ هُوَ أَوْ الْقَاضِي فَبِهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْأَوَّلِ فِي الرِّقِّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَعْدُومِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِهَذَا الْآخَرِ لِتَوَهُّمِ قُدْرَةِ الْأَوَّلِ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْعَجْزِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رَدُّهُمَا فِي الرِّقِّ إلَّا مَعًا. وَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا وَاحِدًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَغَابَ أَحَدُهُمَا وَقَدَّمَ الْآخَرُ الْعَبْدَ إلَى الْقَاضِي وَقَدْ عَجَزَ لَمْ يَرُدَّهُ فِي الرِّقِّ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ الْمَوْلَيَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ بِاتِّحَادِ الْقَابِلِ وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِعَجْزِهِ فِي نَصِيبِ الْحَاضِرِ الْحُكْمَ بِعَجْزِهِ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ أَيْضًا، وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فَلَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا فَمَاتَ عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 وَرَثَةٍ كَانَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الرِّقِّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إمَّا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَرَدُّهُ فِي الرِّقِّ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْوَلَاءِ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ بَعْضٍ فِيمَا هُوَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ إذَا أَثْبَتَ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ بِالْبَيِّنَةِ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَكِنْ لَوْ رَدَّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لِلْآخَرِينَ رَأْيًا فِي الْمُسَامَحَةِ وَالْمُهْلَةِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ بِقَطْعِ رَأْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الْمَيِّتُ عَنْ وَلَدَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا فِي الرِّقِّ حَتَّى يَجْتَمِعَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ كَافٍ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بِاعْتِبَارِهِ فَبِعَجْزِ أَحَدِهِمَا لَا يَظْهَرُ عَجْزُ الْمَيِّتِ كَمَا لَا يَظْهَرُ عَجْزُهُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ وُجُودِ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ أَحَدُهُمَا وَأَدَّى الْآخَرُ عَتَقَا جَمِيعًا فَلِهَذَا لَا يَرُدُّهُمَا فِي الرِّقِّ حَتَّى يَجْتَمِعَا. وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَقُتِلَ الْآخَرُ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ مُرَاعَاةً لِشَرْطِ الْمَوْلَى كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْآخَرِ وَإِنْ أَدَّى عَتَقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْحَيُّ فَلِهَذَا عَتَقَا بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ حِينَ قُتِلَ تَرَكَ لَهُ كَسْبًا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالَ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَيَبْقَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ فَلِهَذَا أَخَذَ الْمَوْلَى جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيَعْتِقَانِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْحَيِّ بِحِصَّتِهِ كَمَا لَوْ أَدَّاهُ فِي حَيَاتِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْأَدَاءِ حَيْثُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْعِتْقِ إلَّا بِهِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَحَدَهُمَا إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّ عِنْدَنَا يَرْجِعُ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْكَسْبِ مِيرَاثٌ لَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ أَنَّ قِيَامَ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ يَمْنَعُنَا أَنْ نَجْعَلَ كَسْبَ رِدَّتِهِ فَيْئًا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أُخِذَ الْبَاقِي بِجَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ لِحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ، وَالْآخَرُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْعِتْقِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ فَإِذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَدِّ بِحِصَّتِهِ إذَا رَجَعَ كَمَا يَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ أَنْ لَوْ مَاتَ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى مَاتَ فِي دَارِ الشِّرْكِ عَنْ مَالٍ وَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَالِهِ لَمْ يَرْجِعْ هَذَا الْمُؤَدِّي فِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ صَارَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ إذْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ لِلْمَوْلَى حَقٌّ حِينَ حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ، وَالدَّيْنُ لَا يَبْقَى فِي الْمَالِ الَّذِي صَارَ فَيْئًا وَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَلَا تَرَى أَنْ حُرًّا لَوْ اسْتَدَانَ دَيْنًا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَالًا هُنَا فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِهِ فَقَتَلُوهُ لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ عَلَى مَالِهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فَيْئًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبْيَ يُوجِبُ صَفَاءَ الْحَقِّ فِي الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي وَلَا يَصْفُو لَهُ الْحَقُّ إذَا بَقِيَ الدَّيْنُ فِيهِ. وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ الْحَاضِرُ، وَالْآخَرُ مُرْتَدٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ لِحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَتِمَّ لَمَّا بَقِيَ حَقُّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا لَا يُحْكَمُ بِعَجْزِ الْحَاضِرِ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ رَدَّ الْقَاضِي هَذَا فِي الرِّقِّ لَمْ يَكُنْ رَدَّا لِلْآخَرِ حَتَّى إذَا رَجَعَ مُسْلِمًا لَمْ يُرَدَّ إلَى مَوْلَاهُ رَقِيقًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ وَإِنْ عَجَزَ الْغَائِبُ لَمْ يَظْهَرْ بِعَجْزِ الْحَاضِرِ فَلِهَذَا لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ وَامْرَأَتَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقُتِلَ الْوَلَدُ فَقِيمَتُهُ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةِ فَيَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ بَدَلُ نَفْسِهِ لَهَا وَكَسْبُهُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كُلُّهُ لَهَا وَإِنْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكَانَ قِصَاصًا بِالْكِتَابَةِ إنْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ أَوْ رَضِيَتْ هِيَ بِالْقِصَاصِ إنْ لَمْ تَكُنْ حَلَّتْ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهَا فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهَا كَمَا لَوْ عَجَّلَتْ الْمَالَ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِحِصَّتِهِ إذَا حَلَّتْ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُؤَدِّيَةً جَمِيعَ الْبَدَلِ بِالْمُقَاصَّةِ فَتَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِحِصَّتِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنَّ رِضَاهَا بِسُقُوطِ الْأَجَلِ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهَا دُونَ حَقِّ الزَّوْجِ فَلِهَذَا لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ حِلِّ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلٌ عَلَى الْكِتَابَةِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ وَمَا تَرَكَ الْوَلَدُ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قُتِلَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ وَقَدْ كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ فَكَسْبُهُ وَمَا فَضَلَ مِنْ قِيمَتِهِ يَكُونُ لَهَا خَاصَّةً. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ جَارِيَةً فَكَبِرَتْ وَوَلَدَتْ ابْنَةً، ثُمَّ قُتِلَتْ الِابْنَةُ السُّفْلَى كَانَتْ قِيمَتُهَا لِلْجَدَّةِ؛ لِأَنَّ السُّفْلَى كَالْعُلْيَا فِي أَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْجَدَّةِ دَاخِلَةٌ فِي كِتَابَتِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ الْجَدَّةُ وَبَقِيَ الْوَلَدَانِ، وَالزَّوْجُ كَانَ عَلَى الْوَلَدَيْنِ مِنْ السِّعَايَةِ مَا كَانَ عَلَى الْجَدَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا فَيَسْعَيَانِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهَا وَإِنْ أَدَّى أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْ الْجَدَّةِ وَكَسْبُهُ فِي حُكْمِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْجَدَّةِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ لِهَذَا وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِحِصَّتِهِ كَمَا لَوْ أَدَّتْ الْجَدَّةُ فِي حَيَاتِهَا جَمِيعَ الْبَدَلِ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِحِصَّتِهِ، ثُمَّ يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْجَدَّةِ مِنْ كَسْبِهِ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا فَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لِلْمُكْتَسِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَعَ بِهِ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهَا فَيَكُونُ لِلْمُكْتَسِبِ خَاصَّةً -. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ مَا أَدَّى عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ قَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ مُقَرِّرٌ لِحَقِّهِ لَا مُبْطِلٌ لَهُ، ثُمَّ يُرْفَعُ عَنْ الْآخَرِ نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ بَقَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ صَارَ كَالْقَابِضِ لِلنِّصْفِ أَوْ كَالْمُبْرِئِ لَهُ عَنْ النِّصْفِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَاقِي هُنَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ أَحَدِهِمَا كَأَدَائِهِمَا فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ عِتْقِهِمَا وَأَيُّهُمَا عَتَقَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى حَالِهِ بِمُكَاتَبَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ عَنْهُ وَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ تَبَعًا لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ حِينَ كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْمَالِ قَبْلَ عِتْقِ صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ يَبْقَى مُطَالَبًا بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِذَا أَدَّى رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ صِحَّةِ كَفَالَتِهِ ابْتِدَاءً بِمَا يَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ امْتِنَاعُ بَقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبَاقَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ، وَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ بَقَاءَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يُكَاتِبَ اسْتِحْسَانًا فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ كَمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي إعْتَاقِهِ وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ نِصْفَ الْمُكَاتَبَةِ أَوْ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُكَاتِبُ لِعَبْدِهِ: إذَا أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا بَاطِلٌ وَلَوْ أَدَّى لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّنْجِيزِ كَالصَّبِيِّ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ أَوْ أَنْفَعُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا احْتَمَلَ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْفَسْخَ. مُكَاتِبٌ كَاتَبَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ بَقَاؤُهَا وَإِذَا اخْتَارَتْ ذَلِكَ أَخَذَتْ عُقْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُقْرِ بِالْوَطْءِ كَالْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرَّ إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يَلْزَمُهُ عُقْرُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسُهَا فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ وَلَدِهِ لَا يَبِيعُهَا كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ الْمُكَاتِبُ جَارِيَتَهُ فَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جَارِيَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى فَأَمَّا الْأُمُّ لَمْ تَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ بِعِتْقِهِ وَلَكِنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ يَطَأهَا وَيَسْتَخْدِمُهَا فَلَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْمَوْلَى لِضَرُورَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْكِتَابَةِ وَامْتِنَاعُ بَيْعِهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْكِتَابَةِ وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يَبِيعَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْبَيْعِ فِيهَا كَانَ تَبَعًا لِحَقِّ الْوَلَدِ وَحَقُّ الْوَلَدِ بِمَوْتِهِ لَا يَبْطُلُ فَكَذَلِكَ حَقُّ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. مُكَاتَبٌ كَاتَبَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا، وَالْوَلَدُ مَعَ أُمِّهِ بِمَنْزِلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّةِ وَلَدِهَا مَجَّانًا وَلَا بِالْقِيمَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ أَخَذَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ بِالْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهَا بِالْعَجْزِ صَارَتْ أَمَةً قِنَّةً لِلْمُكَاتَبِ، وَالْمَوْلَى إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةً مُكَاتَبَةً يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا، وَالْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ بِاعْتِبَارِ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْبَدَلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَفَاءَ بِمَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَهُ مُعْتَبَرٌ كَالْوَفَاءِ بِالْمَالِ الْعَيِّنِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ خُيِّرَتْ فَإِنْ شَاءَتْ رَفَضَتْ مُكَاتَبَتَهَا وَسَعَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا فِي مُكَاتَبَةِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ إمَّا أَدَاءِ كِتَابَةِ نَفْسِهَا لِتَعْتِقَ مَعَ وَلَدِهَا بِهِ أَوْ أَدَاءِ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ رَفْضِ مُكَاتَبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ وَمَعَهَا وَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ سَعَتْ هِيَ مَعَ وَلَدِهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَيَعْتِقَانِ بِالْأَدَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَرَكَ مَالًا فِيهِ وَفَاءٌ بِالْمُكَاتَبَةِ أُدِّيَتْ مُكَاتَبَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَحُرِّيَّةِ وَلَدِهِ وَتَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُكَاتَبِ فَعَتَقَ بِمَوْتِهِ حِينَ حَكَمْنَا بِحُرِّيَّتِهِ وَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ لَهَا عَنْ أَدَاءِ مُكَاتَبَتِهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ هِيَ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْمُدَّعِي لِلْوَلَدِ، وَالْمُكَاتِبُ الْأَوَّلُ مَيِّتٌ فَالْوَلَدُ حُرٌّ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْوَفَاءِ بِهَا وَبِوَلَدِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا لَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ أَخَذَ الْمَوْلَى ابْنَهُ بِالْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ كَانَ بِالْقِيمَةِ وَفَاءً بِالْمُكَاتَبَةِ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بِالْمُقَاصَّةِ وَكَانَتْ الْأُمُّ مَمْلُوكَةً لِوَرَثَةِ الْمُكَاتَبِ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَارَتْ لِلْمَوْلَى بِالْإِرْثِ وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ. مُكَاتَبٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ، ثُمَّ كَاتَبَ عَبْدُهُ أَمَتَهُ فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُكَاتَبُ الْأَوَّلُ أَخَذَتْ مِنْهُ عُقْرَهَا لَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِشُبْهَةِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا بَعْدَ عَجْزِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 وَعَجْزِ مَنْ كَاتَبَهَا وَمَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَمَكَاسِبِهَا وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَإِنْ عَجَزَتْ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتِبِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ كَحَقِّ الْحُرِّ، فَإِنَّ الثَّابِتَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، وَفِي حَقِّ الْمِلْكِ الْمُكَاتَبُ، وَالْحُرُّ سَوَاءٌ فَكَمَا أَنَّ الْحُرَّ يَأْخُذُ وَلَدَهُ بِالْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنَّ الْحُرَّ إذَا أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ كَانَ حُرًّا مِثْلَهُ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ كَانَ مِثْلَهُ أَيْضًا دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ يَحْتَمِلُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَحْتَمِلُ الْحُرِّيَّةَ فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى هَذَا الْوَلَدَ نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى. فَإِنْ كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدَهُ، ثُمَّ كَاتَبَ الثَّانِي أَيْضًا عَبْدًا لَهُ، ثُمَّ عَجَزَ الْأَوْسَطُ فَالْمُكَاتَبُ الْآخَرُ يَصِيرُ لِلْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ الْأَوْسَطَ صَارَ عَبْدًا قِنًّا لَهُ وَمُكَاتِبُهُ أَيْضًا يَصِيرُ مُكَاتَبًا لَهُ وَلَا يَكُونُ عَجْزُ الْأَوْسَطِ عَجْزًا لِلْآخَرِ فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ وَإِنْ عَجَزَ كَانَ عَبْدًا لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْعَتَاقِ إذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ ابْنَتًا، ثُمَّ وَلَدَتْ الِابْنَةُ ابْنَتَا، ثُمَّ وَلَدَتْ الِابْنَةُ ابْنَتَا ثُمَّ أَعْتَقَ الْمَوْلَى إحْدَاهُنَّ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِتَمَامِهِ هُنَاكَ. رَجُلٌ كَاتَبَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَوْلَدَ إحْدَاهُمَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَالْأُمُّ مَعَ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى مُكَاتَبَةً كَمَا كَانَتْ وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ مُكَاتَبَةً وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَهَا أَنْ تُعَجِّزَ نَفْسَهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ وَتَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ وَهُنَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَعْجِزَ نَفْسُهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ وَتَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِحَقِّ الْأُخْرَى فَإِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَا يَظْهَرُ الْعَجْزُ فِي حَقِّ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُخْرَى لَوْ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ بَعْدَ مَا عَجَزَتْ هَذِهِ نَفْسُهَا عَتَقَا فَلِهَذَا لَا تُخَيَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدَتْ بِنْتًا فَاسْتَوْلَدَ السَّيِّدُ الْبِنْتَ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ بِغَيْرِ قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهَا، وَفِي هَذَا تَحْصِيلُ مَقْصُودِهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ عَجْزُهَا كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ حُرًّا بِغَيْرِ قِيمَةٍ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ عَجْزِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ الِابْنَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ عَنْهَا حُكْمُ تَبَعِيَّةِ الْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأُمِّ فِي حَقِّهَا لَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِيلَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجْنَاهَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَجَعَلْنَاهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى لَمْ تَعْتِقْ بِأَدَاءِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَفْوِيتَ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا أَبْقَيْنَا حُكْمَ الْكِتَابَةِ فِيهَا حَتَّى تَعْتِقَ الْأُمُّ بِالْأَدَاءِ. مُكَاتَبَةٌ كَاتَبَتْ عَبْدًا، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَتْ وَلَمْ تَدَعْ شَيْئًا قَالَ يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي إسْقَاطِ السِّعَايَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ كِتَابَتِهَا مِنْهُ قَبْلَ حَلِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا عَلَى حُرٍّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ قَضَى عَلَى الْوَلَدِ بِالسِّعَايَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ إلَى سَنَةٍ فَقَضَى عَلَى الْوَلَدِ بِالسِّعَايَةِ فَعَجَزَ عَنْهَا عِنْدَ حَلِّهِ قَبْلَ حُلُولِ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ أَوْ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ وَلَوْ عَجَزَتْ هِيَ فِي حَيَاتِهَا عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ حَلَّ عَلَيْهَا رُدَّتْ فِي الرِّقِّ وَلَا يُلْتَفَت إلَى مَا لَهَا مِنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ حِلِّهِ فَقَبْلَ الْحُلُولِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ فِي تَحَقُّقِ عَجْزِهَا حَتَّى تُرَدَّ فِي الرِّقِّ فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِنْ رُدَّ فِي الرِّقِّ، ثُمَّ خَرَجَ الدَّيْنُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لَهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا قَدْ بَطَلَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِرَدِّ الْوَلَدِ فِي الرِّقِّ فَهَذَا الْمَالُ كَسْبُ أَمَتِهِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى مَعَ وَلَدِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ قَالَ هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا حَاضِرًا نَفْسَهُ أَوْ عَلَى غَائِبٍ جَازَ إذَا قَبِلَ الْغَائِبُ فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ أَوْ بَعْدَهُ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا لِلْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ صِغَارٌ عَاجِزُونَ عَنْ الْكَسْبِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ إنَّمَا الْمَالُ عَلَى الْأَبِ وَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ وَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَيْنِ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْآخَرَ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ فَبِعَجْزِ أَحَدِهِمَا لَا يَظْهَرُ الْعَجْزُ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَهُنَا الْأَوْلَادُ لَا يُطَالِبُونَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَمْلُوكٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهُمْ فَلِهَذَا يَتِمُّ الْعَجْزُ بِهِ كَمَا تَمَّ الْعَقْدُ بِقَبُولِهِ فَإِنْ أَدْرَكَ وَلَدُهُ فَقَالُوا نَحْنُ نَسْعَى فِي الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ قَدْ سَقَطَتْ بِرَدِّ الْأَبِ فِي الرِّقِّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا بَالِغِينَ حِينَ عَجَزَ الْأَبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَقُدْرَتُهُمْ عَلَى السِّعَايَةِ وَعَجْزُهُمْ عَنْهَا سَوَاءٌ وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا سَعَوْا فِي الْمُكَاتَبَةِ عَلَى النُّجُومِ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَثْبُتَ النُّجُومُ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنْ إنْ جَاءُوا بِالْمَالِ حَالًّا وَإِلَّا رُدُّوا فِي الرِّقِّ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ إذَا مَاتَ الْحَاضِرُ وَلَكِنْ قَالَ هُنَا قَبُولُ الْأَبِ الْكِتَابَةَ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِ صَحِيحٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَقْصُودِهِ وَعِتْقُ الْأَوْلَادِ مِنْ مَقَاصِدِهِ كَعِتْقِ نَفْسِهِ فَكَمَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ وَيَبْقَى بِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ لِتَحْصِيلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 مَقْصُودِهِ فَكَذَلِكَ يَبْقَى بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَقَاصِدِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْغَائِبِ فَإِنَّهُ لَا مَقْصُودَ لِلْحَاضِرِ فِي عِتْقِهِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ حَالَ الْأَوْلَادِ هُنَا كَحَالِ وَلَدٍ مَوْلُودٍ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدُ كَمَا حَدَثَ حَدَثَ مُكَاتَبًا وَهَذَا الْوَلَدُ كَمَا عَقَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ صَارَ مُكَاتَبًا، ثُمَّ ذَلِكَ الْوَلَدُ يَسْعَى عَلَى النُّجُومِ فَهَذَا الْوَلَدُ مِثْلُهُ يُقَرِّرُهُ أَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ، وَهُوَ الْأُبُوَّةُ ثَابِتٌ هُنَا حَتَّى إذَا تَمَّ سُقُوطُ حَقِّ الْمَوْلَى بِعِتْقِهِمَا كَانَ لَهُ الْوِلَايَةُ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ أَيْضًا فِيمَا يَنْفَعُهُمَا وَلَا يَضُرُّ بِالْمَوْلَى، وَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَلَدَ يَسْعَى فِي النُّجُومِ مَنْفَعَةً لَهُمَا فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى السِّعَايَةِ رُدُّوا فِي الرِّقِّ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فِي حَقِّ الْأَبِ حِينَ لَمْ يُخْلِفْ مَا يُؤَدِّي بِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَلَا مَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا فَسَعَى بَعْضُهُمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَأَدَّاهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى إخْوَتِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى عَنْهُمْ إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَإِنَّمَا أَدَّى عَنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي حَيَاةِ الْأَبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى إخْوَتِهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ ظَهَرَ لِلْأَبِ مَال كَانَ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ لِاسْتِنَادِ حُرِّيَّتِهِمْ إلَى مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ حُرِّيَّةُ أَبِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَدَّى إذْ لَمْ يَكُنْ مُطَالَبًا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّمَا يُؤَدِّي لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِنَفْسِهِ وَكَسْبُهُ فِيمَا يُؤَدِّي بِهِ الْبَدَلَ كَكَسْبِ أَبِيهِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْمُؤَدَّى فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبِ كَانَ قَبُولُهُ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ لَا يُرْفَعُ عَنْ بَقِيَّتِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْدُومًا فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَاحِدَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَفِي حَقِّ الْأَبِ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِوُصُولِ جَمِيعِ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَهُمْ رُفِعَ عَنْهُمْ بِحِصَّةِ قِيمَةِ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى بَعْضَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ مِنْهُ لِحِصَّتِهِ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَنْفَعَتِهِمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةٌ مِنْ الْبَدَلِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الْقَابِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُضَافٌ إلَى الْكُلِّ قَصْدًا بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ وَشَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ لَا يُقَابِلُ التَّبَعَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ جَارِيَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا السَّيِّدُ أَخَذَتْ عُقْرَهَا، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ عَلَى حَالِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُعْجِزَ نَفْسَهَا لِمَكَانِ إخْوَتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْا عَتَقَتْ هِيَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ كِبَارًا حِينَ كَاتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ وَأَدَّى الْكِتَابَةَ عَتَقُوا وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 فِي هَذَا الْوَجْهِ وَلَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ بِقَبُولِهِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَكَانَ هُوَ مُؤَدِّيًا الْمَالَ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْهُمْ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ وَامْرَأَتَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَوْلَادِهِمَا وَهُمْ صِغَارٌ، ثُمَّ إنَّ إنْسَانًا قَتَلَ الْوَلَدَ فَقِيمَتُهُ لِلْأَبَوَيْنِ جَمِيعًا يَسْتَعِينَانِ بِهَا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا الْكِتَابَةَ عَلَيْهِمْ وَحَالُهُمَا فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ إذْ لَا وِلَايَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ مُكَاتَبًا لِقَبُولِهِمَا فَلَا يَبْقَى لِلْمَوْلَى سَبِيلٌ عَلَى كَسْبِهِ وَلَا قِيمَةَ رَقَبَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُؤْخَذَ الْقِيمَةُ مِنْهُ فَتَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يُنْفِقَانِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَانَا أَحَقَّ بِحَضَانَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ قِيمَتَهُ لِلْأُمِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْكِتَابَةِ فِي الْوَلَدِ هُنَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَجَانِبُ الْأُمِّ يَتَرَجَّحُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُنَا ثُبُوتُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ غَابَ الْأَبُ فَأَرَادَ الْمَوْلَى سِعَايَةَ الْوَلَدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِقَبُولِهِمَا كَانَا عَلَيْهِمَا دُونَ الْوَلَدِ فَمَا بَقِيَا حَيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ لِلْمَوْلَى مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ مَعَهُمَا وَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُمِّ فَكَانَتْ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِلْأَبَوَيْنِ مِثْلُ قِيمَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُكَاتَبٌ مَعَهُمَا فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَالِهِ وَلَكِنَّهُمَا يَأْخُذَانِ مَالَهُ فَيَسْتَعِينَانِ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ رُفِعَتْ حِصَّتُهُ عَنْ الْأَبَوَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ مَقْصُودًا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْبَدَلِ حِصَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ لِانْعِدَامِ الْقَبُولِ مِنْ جِهَتِهِ، وَصَارَ الْمَوْلَى قَابِضًا بِعِتْقِهِ حِصَّتَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُمَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْإِلْزَامِ وَالْأَبَوَانِ هُمَا الْأَصْلَانِ فِي وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا بِالْقَبُولِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْخَلْفِ فَإِذَا مَاتَا قُلْنَا إنْ وَقَعَتْ الْكِتَابَةُ وَالْوَلَدُ صَغِيرٌ سَعَى فِيهَا عَلَى النُّجُومِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا كَمَا يَسْعَى الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ وَإِنْ وَقَعَتْ، وَهُوَ كَبِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبَةَ حَالَّةً وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ الْكَبِيرِ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّهِمَا فَلَا يَبْقَى الْأَجَلُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ لِانْعِدَامِ الْقَبُولِ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فَقُلْنَا إنْ جَاءَ بِالْمَالِ حَالًّا وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْوَصِيِّ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ الْيَتِيمِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إرْفَاقٌ لِلْحَالِ وَإِعْتَاقٌ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْيَتِيمِ فِيمَا فِيهِ النَّظَرُ لَهُ وَالْكِتَابَةُ أَنْظَرُ لَهُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ قَبْلَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِ وَبِالْكِتَابَةِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَإِذَا تَعَذَّرَ وُصُولُ الْمَالِ إلَيْهِ بِعَجْزِهِ تُفْسَخُ الْكِتَابَةِ فَكَانَ عَبْدًا لَهُ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الْكِتَابَةَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنْ وَهَبَ الْمَالَ لَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَصِحُّ مِنْ جِهَتِهِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ مَقَامَهُ فِي التَّبَرُّعِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ صَدَقَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ قَبْضِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ هِبَتُهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ بِعَقْدِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (قُلْنَا)؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ هُوَ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِهِ وَلِهَذَا كَانَ قَبْضُ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ فَأَمَّا فِي الْكِتَابَةِ هُوَ مُعَبِّرٌ عَنْ الْيَتِيمِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ قَبْضَ الْبَدَلِ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ فَيَكُونُ هُوَ بِالْهِبَةِ مُتَبَرِّعًا بِمَا لَا يَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ هِبَةَ الْبَدَلِ مِنْ الْمُكَاتَبِ إعْتَاقٌ لَهُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ وَلَكِنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ كُنْتُ كَاتَبْتُهُ وَأَدَّى إلَيَّ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْكِتَابَةِ وَقَبْضَ الْبَدَلِ إعْتَاقٌ لَهُ (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ وَاسْتِيفَاءَ الْبَدَلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ إقْرَارُهُ بِهِ؟ (قُلْنَا): إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ الْيَتِيمِ ظَاهِرًا مِثْلُ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ (فَإِنْ قِيلَ) فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ بَعْدَ مَا بَاشَرَ الْكِتَابَةَ (قُلْنَا): هُنَاكَ بِمُبَاشَرَةِ الْكِتَابَةِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا مِثْلَ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ لَيْسَ يُخْرِجُ مِنْ مِلْكِهِ شَيْئًا إنَّمَا يُقَرِّرُ مِلْكَهُ فِي الْبَدَلِ بِقَبْضِهِ، وَلَوْ وَكَّلَ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْقَبْضِ بِوِلَايَتِهِ فَيَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِهِ غَيْرَهُ كَالْأَبِ فَإِنْ كَاتَبَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْيَتِيمُ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ فَالْكِتَابَةُ مَاضِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ نَفَذَ مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ فَلَا يَمْلِكُ الْيَتِيمُ إبْطَالَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي حَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 بَقَاءِ وِلَايَتِهِ كَفِعْلِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لَهُ كَانَ بِطَرِيقِ نِيَابَتِهِ عَنْ الْيَتِيمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَهُوَ كَدَيْنٍ وَجَبَ لِيَتِيمٍ لَا بِعَقْدِ الْوَصِيِّ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ قَبْضَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْكِتَابَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَقْبِضُ الْبَدَلَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ أَيْضًا وَلَكِنَّ الْقَبْضَ إلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَلَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَاضِي عَزَلَ الْوَصِيَّ الَّذِي كَانَ كَاتَبَ وَجَعَلَ غَيْرَهُ وَصِيًّا كَانَ قَبْضُ الْبَدَلِ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ حَتَّى وَلَوْ أَدَّى إلَى الْأَوَّلِ أَوْ أَدَّى إلَى الْيَتِيمِ لَمْ يَعْتِقْ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ عَبْدَ الْيَتِيمِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَ رَأْيَهُمَا مَقَامَ رَأْيِ نَفْسِهِ، وَرَأْيُ الْمُثَنَّى لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْوَاحِدِ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْتِقَ عَلَى مَالٍ كَمَا لَا يُعْتِقُ بِغَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَالْبَدَلُ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ كَالتَّاوِي، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ بِجُعْلٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا صَحَّ عِتْقٌ بِنَفْسِ الْقَبُولِ قُبِلَ أَدَاءُ الْمَالِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا غُيَّبًا كَانُوا أَوْ حُضُورًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْكِبَارِ وِلَايَةٌ وَإِنَّمَا لَهُ حِفْظُ الْمَالِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا صِغَارًا فَأَدْرَكُوا، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانُوا كِبَارًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَاتَبُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ صَحَّ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْوِلَايَةُ لِلْوَصِيِّ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَكَذَا إنْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ كِبَارًا فَأَبَوْا أَنْ يُجِيزُوا كِتَابَةَ الْوَصِيِّ لَمْ تَجُزْ مُكَاتَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ وَالصَّغِيرُ لَوْ كَانَ بَالِغًا فَكَاتَبَ نَصِيبَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ الْوَصِيُّ وَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يُحِيطُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ إلَى الْوَارِثِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كِتَابَتِهِ لِلْغَرِيمِ إذْ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ وَلَا لِلْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَلَا لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَيَتَأَخَّرُ ذَلِكَ فِي كِتَابَتِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عَقْدُهُ إلَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْغَرِيمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 حَقَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ فَحِينَئِذٍ تَنْفُذُ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِيَامُ حَقِّ الْغَرِيمِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِوُصُولِ دَيْنِهِ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَانَ الدَّيْنِ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى الْمُوصَى لَهُ فِي كِتَابَةِ نَصِيبِهِ وَثُلُثُ الْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ صَارَ لَهُ فَلَا تَنْفُذُ الْكِتَابَةُ مِنْ الْوَصِيِّ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ كِبَارًا. رَجُلٌ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ عَبِيدٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ وَتَرَكَ يَتَامَى صِغَارًا فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ بَعْضَ الرَّقِيقِ فَأَدَّى إلَيْهِ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّهُ يُعْتِقُ حِصَّةَ الْوَرَثَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ الْمُكَاتَبِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَلَوْ كَانُوا بَالِغِينَ فَكَاتَبُوا وَاسْتَوْفَوْا الْبَدَلَ عَتَقَ نَصِيبُهُمْ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ الْوَصِيُّ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ حِصَّتَهُ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْعَبْدِ بِمَوْتِ الْوَصِيِّ صَارَ لَهُ وَإِنَّمَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبِهِ وَثُلُثُ الْكَسْبِ حَقُّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَرَثَةَ حِصَّتَهُ مِنْ الْعَبْدِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ مُعْتِقُونَ لَهُ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ، وَهُوَ مُوسِرٌ يَكُونُ ضَامِنًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالصِّبَا لَا يَنْفِي الْيَسَارَ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْعِتْقِ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْعِتْقِ فَالصِّبَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَالصِّبَا لَا يُنَافِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَصِيَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ نَائِبٌ عَنْ الْوَرَثَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ مُعْتِقًا وَإِنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْأَمَةِ الْحَامِلِ.] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: رَجُلٌ كَاتَبَ أَمَةً لَهُ حَامِلًا فَمَا فِي بَطْنِهَا دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ كَمَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَلِأَنَّهَا لَوْ حَبِلَتْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَوَلَدَتْ كَانَ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهَا فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْلَى فَإِنْ اسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَشْتَرِطُ مَا فِي بَطْنِهَا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُتَمَكِّنٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ بِهِ الْكِتَابَةُ كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى وَطْأَهَا أَوْ خِدْمَتَهَا لِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَاتَبَ مَا فِي بَطْنِهَا دُونَهَا لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا فِي الْبَطْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهَا فَلَا يَحْتَمِلُ الْكِتَابَةَ مَقْصُودًا وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ مِنْ الْجَنِينِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَبُولِ الْأُمُّ وَغَيْرُهَا فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَائِبًا فَإِنَّ نِيَابَةَ الْغَيْرِ شَرْعًا فِيمَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا مِنْ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَإِنْ كَاتَبَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 فَوَلَدَتْ، ثُمَّ مَاتَتْ سَعَى الْوَلَدُ فِي مُكَاتَبَتِهَا عَلَى نُجُومِهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا انْفَصَلَ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِيهَا وَالنُّجُومُ تَبْقَى بِبَقَاءِ مِثْلِ هَذَا الْجُزْءِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ سَعَى فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ قَائِمٌ مَقَامَهَا، وَهِيَ فِي حَيَاتِهَا كَانَتْ تَسْعَى فِي الدَّيْنِ وَالْكِتَابَةِ جَمِيعًا فَإِنْ أَدَّى الْوَلَدُ الْمُكَاتَبَةَ قَبْلَ الدَّيْنِ عَتَقَ وَأَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ بِالدَّيْنِ حَتَّى يَسْعَى لَهُمْ فِيهِ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَتِهَا كَكَسْبِهَا وَإِنَّمَا يَبْدَأُ مِنْ كَسْبِهَا بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِالْعَجْزِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الْوَلَدُ قَائِمٌ مَقَامَهَا، وَهِيَ فِي حَيَاتِهَا لَوْ أَدَّتْ الْكِتَابَةَ قَبْلَ الدَّيْنِ عَتَقَتْ وَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُطَالِبُوهَا بِالدَّيْنِ فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ إذَا أَدَّى وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْوَلَدِ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهَا وَلِهَذَا بَقِيَتْ النُّجُومُ بِبَقَاءِ الْوَلَدِ فَهُمَا دَيْنَانِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا قَضَى أَحَدَهُمَا مِنْ كَسْبِهِ صَحَّ قَضَاؤُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ذِمَّتِهِ فَيُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يَسْعَى لَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَدَّتْ الْكِتَابَةَ فِي حَيَاتِهَا. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ رَدَّهُ الْقَاضِي رَقِيقًا وَبِيعَ فِي الدَّيْنِ لِلْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ عَجَزَتْ هِيَ فِي حَيَاتِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الرَّقِيقِ يَثْبُتُ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَيُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَخَذَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَرِيمٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ وَيُسَلِّمَ الْمَقْبُوضَ لِلْقَابِضِ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ عَجَزَ؛ لِأَنَّهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ كَالْحُرِّ وَإِذَا قُتِلَ الْوَلَدُ خَطَأً أُخِذَتْ الدِّيَةُ مِنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فَيَبْدَأُ مِنْهَا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَذَلِكَ فِي حَاجَتِهَا بِمَنْزِلَةِ مَالِهَا فَيَبْدَأُ مِنْهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمَّا خَرِبَتْ تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِالْمَالِ فَيُبْدَأُ بِالْأَقْوَى، وَالدَّيْنُ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ تُقْضَى الْكِتَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْبَاقِي يَكُونُ لِوَرَثَةِ الِابْنِ دُونَ وَرَثَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهَا وَعِتْقِ الْوَلَدِ بِأَدَاءِ الْمُكَاتَبَةِ وَلَا حَقَّ لَهَا فِيمَا كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهَا مِنْ بَدَلِ نَفْسِ الْوَلَدِ وَكَسْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ الْفَضْلُ سَالِمًا لَهُ فَكَذَا يُسَلَّمُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَسْتَوِي إنْ كَاتَبَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ فِي كِتَابَتِهَا وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَتَرَكَتْ مَالًا وَفَاءً بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهَا فَقَبَضَ الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابَةِ تَعْتِقُ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ إذَا كَانَ الْوَلَدُ هُوَ الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْهَا فَأَدَاؤُهُ كَأَدَائِهَا إلَّا أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَحَقُّ بِذَلِكَ الْمَالِ يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ غُرَمَاءِ الْحُرِّ بِمَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَحَقُّهُمْ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى وَلَيْسَ لِلِابْنِ وِلَايَةُ إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَلِهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 أَخَذُوا الْمَالَ مِنْهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الِابْنِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْبَدَلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَتْرُكْ مَالًا وَأَدَّى الْوَلَدُ الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي ذِمَّتِهِ كَحَقِّ الْمَوْلَى، وَهُوَ مُكَاتَبٌ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ فَيَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي قَبَضَ مَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَدَاءِ الْوَلَدِ إلَيْهِ لَمْ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالُ الْغُرَمَاءِ فَالْمَوْلَى غَاصِبٌ فِي أَخْذِهِ لَا مُسْتَوْفٍ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمَالٍ هُوَ حَقُّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهَا مَالٌ مَغْصُوبٌ لِإِنْسَانِ فَغَصَبَ الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَمْ تَعْتِقْ وَلَوْ أَدَّتْ إلَيْهِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهَا دَيْنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَابِ الْأَوَّلِ تَعْتِقُ هِيَ وَوَلَدُهَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْقَاضِي كَأَدَاءِ الْوَلَدِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَهُ وِلَايَةُ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَكُونُ لِمَنْ يَخْلُفُهُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى وَلَدَهَا فِي حَيَاتِهَا عَتَقَ وَلَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَقْتَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ وَلَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ جَازَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا وَلَوْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى جَازَ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ وَبَقِيَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي ذِمَّتِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ وَلَدَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَائِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْوَلَدِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ، وَبِالْعِتْقِ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِمْ فَلَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا يَفُوتُ الْغُرَمَاءَ شَيْءٌ مِنْ مَحِلِّ حَقِّهِمْ وَلَا يَضْمَنُ لِلْغُرَمَاءِ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْوَلَدَ يَسْعَى لَهُمْ فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ. رَجُلٌ كَاتَبَ أُمَّتَهُ، وَهِيَ حُبْلَى أَوْ حَبِلَتْ مِنْ بَعْدُ، ثُمَّ أَعْتَقَ نِصْفَهَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَ عَتَقَ مِنْ الْوَلَدِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ تَبَعٌ لَهَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا، وَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ سَعَتْ فِي نِصْفِ الْمُكَاتَبَةِ. وَإِنْ شَاءَتْ سَعَتْ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَقَدْ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةِ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ فَتَخْتَارُ أَيَّتَهُمَا شَاءَتْ فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ السِّعَايَةَ فِي نِصْفِ الْمُكَاتَبَةِ أَوْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَالْوَلَدُ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهَا فَيَسْعَى فِيمَا عَلَيْهَا وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي نِصْفِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مَقْصُودًا فِيمَا كَانَ فِيهِ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ يَسْعَى الْوَلَدُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا فِيمَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ وَالْكِتَابَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 إلَّا بِعِتْقِهَا فَكَانَ هَذَا وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ سَوَاءٌ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ سِعَايَتِهِ بِاعْتِبَارِ خِلَافَتِهِ عَنْهَا فَلَا يَبْطُلُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهَا وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ جَارِيَةً فَعَلِقَتْ مِنْ الْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ كَالْمُكَاتَبَةِ لِلْمَوْلَى وَسَعَتْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى أُمِّهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ تَسْعَ فِي الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ سِعَايَتَهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ كَانَ لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِنَفْسِهَا وَقَدْ عَتَقَتْ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لَهَا عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أُمَّهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَ مُبَرِّئًا لَهَا عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ وَيَسْتَوِي إنْ أَعْتَقَهَا قَصْدًا أَوْ بِالِاسْتِيلَادِ. وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أَمَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَجَنَى عَلَى الْوَلَدِ جِنَايَةً أَوْ اكْتَسَبَ مَالًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا فِي الْكِتَابَةِ فَكَسْبُهُ وَأَرْشُ طَرَفِهِ لَهَا وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَإِنْ عَتَقَا، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَذَلِكَ مِيرَاثٌ عَنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَأْخُذْ بِخِلَافِ مَا يَكْتَسِبُهُ الْوَلَدُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَالَ بَقَاءِ الْأَصْلِ لَا عِبْرَةَ لِلتَّبَعِ فَكَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ كَكَسْبِهَا وَلَوْ اكْتَسَبَتْ، ثُمَّ عَتَقَتْ وَمَاتَتْ كَانَ كَسْبُهَا مِيرَاثًا عَنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهَا فَكَذَلِكَ كَسْبُ وَلَدِهَا فَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَاتَ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَلَكِنْ بَقِيَ الْوَلَدُ خَلَفًا عَنْهَا فِيمَا كَانَ مِنْ حَاجَتِهَا وَحَاجَتُهَا إلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ لِتَعْتِقَ بِهِ فَلِهَذَا كَانَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِ الْوَلَدِ لَهُ وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ كَانَ جَمِيعُ قِيمَتِهِ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ صَارَ قَاتِلًا لَهُ فَإِنَّ بِالْعِتْقِ لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ هُنَا حِينَ لَمْ يَتَبَدَّلْ الْمُسْتَحَقُّ وَإِذَا صَارَ قَاتِلًا لَهُ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ وَقْتَ جِنَايَتِهِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ وَيَكُونُ ذَلِكَ سَالِمًا لِلْأُمِّ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالٍ وَوَرَثَةٍ أَحْرَارٍ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَهُ وَلَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا فَذَلِكَ الْمَالُ مَالُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ تَمَّ لَهَا فِي حَيَاتِهَا فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا بِمَوْتِهَا وَلَكِنَّ الْقِيمَةَ مَالُهَا وَيَأْخُذُ الْمَوْلَى مِنْهُ الْمُكَاتَبَةَ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ عَنْهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ مُكَاتَبَ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ لَهَا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ سَعَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَسْعَى فِي حَيَاتِهَا فَإِنْ اكْتَسَبَ مَالًا قَضَى مِنْهُ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ وَسَعَى فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ لُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ، هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيَسْعَى فِي جَمِيعِ مَا عَلَيْهَا وَإِنْ مَاتَ بُدِئَ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّتِهِ أَقْوَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا وَأَنَّهُ أَصِيلٌ فِيهِ لِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فَيُبْدَأُ مِنْ كَسْبِهِ بِدَيْنِهِ، ثُمَّ بِدَيْنِ أُمِّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَوْ أَذِنَتْ لِعَبْدِهَا فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ مَاتَتْ كَانَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ أَحَقَّ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مِنْ غُرَمَائِهَا فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَهَا بَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْ حَاجَتِهِ فَإِنَّ حَاجَةَ الْمُكْتَسِبِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ. مُكَاتَبَةٌ وَلَدَتْ بِنْتًا فَكَبِرَتْ وَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِالدَّارِ، ثُمَّ أُسِرَتْ لَمْ تَكُنْ فَيْئًا؛ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ تَبَعٌ لِأُمِّهَا وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تُمْلَكُ بِالْأَسْرِ فَتُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْ ذَلِكَ وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ أَحَدًا لَا يَتَكَاتَبُ عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الِابْنَةَ لَوْ لَمْ تَصِرْ مُكَاتَبَةً حَقِيقَةً لَصَارَتْ فَيْئًا بِالْأَسْرِ فَإِنْ مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَنْ غَيْرِ وَفَاءٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُ الِابْنَةَ مِنْ الْحَبْسِ حَتَّى تَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهَا؛ لِأَنَّ حَبْسَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَقُّ الْأَمَةِ وَالْمَوْلَى فِيهَا، وَفِي سِعَايَتِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمَةَ إذَا ارْتَدَّتْ لَمْ تُحْبَسْ وَلَكِنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى يَسْتَخْدِمُهَا وَيَحْبِسُهَا فَكَذَلِكَ الِابْنَةُ هُنَا تَخْرُجُ لِتَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهَا مُكَاتَبَةٌ وَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ قَتَلَهَا الْوَلَدُ فَقَتْلُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَتِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَكَأَنَّهَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ لَهَا فَلَوْ وَجَبَ لَهَا بِجِنَايَتِهِ شَيْءٌ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهَا فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَإِنْ جَنَتْ الْأُمُّ جِنَايَةً عَلَى إنْسَانٍ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهَا بِشَيْءٍ سَعَى الْوَلَدُ فِي الْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا، وَهِيَ فِي حَيَاتِهَا كَانَتْ تَسْعَى فِيهَا فَإِنْ عَجَزَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْقِيمَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَلَدِ يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِشَيْءٍ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ بِعَجْزِهِ كَمَا لَوْ عَجَزَتْ فِي حَالِ حَيَاتِهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ مَاتَتْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهَا وَإِنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْقَضَاءِ بَطَلَ حَقُّهُ لِفَوَاتِ مَحِلِّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الرَّجُلَيْنِ] (قَالَ): وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدَهُمَا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ نَصِيبَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ غَيْرُ سَالِمٍ لِلْقَابِضِ بَلْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ لَهُمَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ أَدَاؤُهُ إلَى أَحَدِهِمَا كَأَدَائِهِ إلَيْهِمَا وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إعْتَاقِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 بَعْدَ الْكِتَابَةِ كَمَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِهِ كَانَ مُعْتِقًا لَهُ بِإِبْرَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِبَعْضِهِ كَانَ مُعْتِقًا لِحِصَّتِهِ بِإِبْرَائِهِ إيَّاهُ عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَوْفَى حِصَّتَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا أَسْقَطَ بِالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ نَصِيبُهُ خَاصَّةً فَيَتَحَقَّقُ بِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ عَنْ نَصِيبِهِ فَأَمَّا الْمُسْتَوْفِي لَيْسَ بِنَصِيبِهِ خَاصَّةً حَتَّى كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَلَا يَتِمُّ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نَصِيبِهِ بِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ أَوْ كَانَ قَبَضَ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ سَلَامَةُ الْمَقْبُوضِ لَهُ بِهَذَا أَيْضًا حَتَّى لَوْ عَجَزَ الْغُلَامُ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ الْمَقْبُوضَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا فَاتَ شَرْطُهُ بِالْعَجْزِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ كَالْمُحَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، ثُمَّ الْمُكَاتَبُ بِالْخِيَارِ بَعْدَ إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ إنْ شَاءَ عَجَزَ وَيَكُونُ الشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالسِّعَايَةِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَالْعِتْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالسِّعَايَةِ إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ وَكَذَلِكَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ عِنْدَ عُسْرَةِ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ وَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِإِيجَابِ الْأَقَلِّ كَأَنَّ حَقَّهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ كَانَ فِي الْأَقَلِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ بِاتِّصَالِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَالضَّرَرُ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِاتِّصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ بِحُكْمِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَحِينَ عَجَزَ نَفْسُهُ فَقَدْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَكَانَ حَقُّ السَّاكِتِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ عَيْنًا وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ إلَّا بِاتِّصَالِ نِصْفِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، ثُمَّ مَاتَ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ أَخَذَ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ نِصْفَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ مَالِهِ كَمَا كَانَ يُطَالِبُهُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ. وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدَيْنِ بَيْنَهُمَا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا عَلَى حِدَةٍ بِحِصَّتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَتِهِمَا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا بِحِصَّتِهِ وَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ إلَيْهِمَا عَتَقَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُلْتَزِمًا لِجَمِيعِ الْبَدَلِ، الْبَعْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَالْبَعْضُ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ مُرَاعَاةً لِشَرْطِ الْمَوْلَى، وَالْمَالِكُ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمَا كَفَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَأَمَّا هُنَا نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَالِكٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ كَانَ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فِي الْبَعْضِ، وَفِي نِصْفِ ذَلِكَ كَفَالَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَمْلُوكٍ هُوَ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ فَيَكُونُ كَفَالَةً حَقِيقَةً وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَلَا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِحِصَّتِهِ خَاصَّةً يَعْتِقُ بِأَدَاءِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّ الْمُكَاتَبَةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَاتَبِ لَاقَى خَالِصَ مِلْكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، وَفِي إبْقَائِهِ ضَرَرٌ عَلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ، أَمَّا فِي الْحَالِ فَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بَيْعُ نَصِيبِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ فَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ عَقْدِ شَرِيكِهِ وَإِذَا جَازَ فَسْخُ الْكِتَابَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَأَنْ يَجُوزَ فَسْخُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ بِعَقْدِهِمَا أَوْلَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلَاقِيَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ، ثُمَّ لِلْغَيْرِ أَنْ يَفْسَخَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ أَوْ الْآجِرِ يَبِيعُ الْمُؤَاجَرَ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ حَتَّى يُنْظَرَ مَاذَا يَصْنَعُ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَضَمِنَ الَّذِي كَاتَبَهُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ وَإِنْ عَجَزَ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَتَجَزَّى وَأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ فَإِذَا صَارَ الْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ وَلَائِهِ لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ إبْطَالَهُ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ إعْتَاقِهِ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ تَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ كَانَ مُنْتَقِلًا إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ وَإِنْ عَجَزَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِهِ فَأَمَّا عِنْدَنَا: نَصِيبُ الشَّرِيكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرَ مُكَاتَبٍ وَعِنْدَهُمَا مُكَاتَبٌ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ فَيَعْتِقُ نَصِيبُهُ بِإِعْتَاقِهِ وَإِذَا أُعْتِقَ فَالْمُكَاتَبُ بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْكِتَابَةِ وَأَدَّى الْبَدَلَ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُمَا، وَإِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ شَاءَ عَجَّزَ نَفْسَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُخَيَّرُ الَّذِي كَاتَبَهُ بَيْنَ عِتْقِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 وَاسْتِسْعَائِهِ، وَتَضْمِينِ شَرِيكِهِ لِمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ كُلُّهُ بِإِعْتَاقِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَلِلْآخَرِ حَقُّ التَّضْمِينِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْآخَرِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ كَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَنْفُذُ مِنْهُ وَعِنْدَنَا يَنْفُذُ وَيَكُونُ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الثَّانِي وَإِنْ بَاشَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ لِمَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ هُنَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُكَاتَبٌ، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ وَيَسْتَوْفِي الْبَدَلَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الشَّرِيكُ الْكِتَابَةَ فَنَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتِقُ نَصِيبُهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلسَّاكِتِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُكَاتَبِ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى كَسْبُهُ وَكَسْبُهُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ ذَلِكَ مِنْهُ وَنِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْكَسْبِ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَيْضًا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُ شَرِيكُهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ كَانَ بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِهِ وَقَدْ سَلَّمَ نَصِيبَهُ لِلْعَبْدِ أَيْضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لِلْمَوْلَى نِصْفَ الْبَدَلِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ مُسْتَحِقٌّ آخَرُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ خِيَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَإِذَا اخْتَارَ التَّضْمِينَ يَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ أَوْ الْإِعْتَاقَ أَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُعْسِرًا فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ شَرِيكُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمَا صَارَ الْكُلُّ مُكَاتَبًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ الْكَسْبِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمَوْلَى مِنْ جِهَتِهِ نِصْفَ الْبَدَلِ أَيْضًا، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُوسِرًا فَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ إلَّا التَّضْمِينُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الِاسْتِسْعَاءُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُكَاتِبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا اسْتَوْفَى الْبَدَلَ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ أَيْضًا وَبِنِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكَسْبِ فِي يَدِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِذْنُهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي قَبْضِ الْبَدَلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْكِتَابَةِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ الْبَدَلِ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْفَصْلُ وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ إلَّا فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ حَقُّ فَسْخِ الْكِتَابَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكَاتَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِالسَّبَبِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا إذْنُهُ فِي كِتَابَةِ نَصِيبِهِ يَكُونُ إذْنًا فِي كِتَابَةِ الْكُلِّ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُكَاتِبًا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَقْبِضَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْبَدَلِ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْآخَرِ نَصِيبُهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 الْمُكَاتَبَ فِي نَصِيبِهِ كَانَ وَكِيلًا وَالْوَكِيلُ بِالْكِتَابَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ لِلْبَدَلِ فَإِنْ وَصَلَ إلَى الْآخَرِ نَصِيبُهُ حِينَئِذٍ يَعْتِقُ وَمَا بَقِيَ مِنْ الْكَسْبِ كُلُّهُ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ وَيَقْبِضَ الْبَدَلَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا قَبَضَ الْمَكَاتِبُ الْبَدَلَ فَلَيْسَ لَلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِرِضَاهُ وَصَارَ هُوَ آذِنًا لِلْعَبْدِ فِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِكَسْبِهِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ شَيْءٍ مِنْ الْقَابِضِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْتِقُ كُلُّهُ بِقَبْضِ الْمَكَاتِبِ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى الشَّرِيكِ نَصِيبُهُ أَوْ لَمْ يَصِلْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِ فِي قَبْضِ الْبَدَلِ فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَا سَبِيلَ لَلشَّرِيكِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ نَصِيبُهُ مِمَّا قَبَضَهُ الْمَكَاتِبُ أَوْ لَمْ يَصِلْ بِأَنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ نَصِيبِهِ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ كَاتَبَ جَمِيعَ الْعَبْدِ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا كَقَوْلِهِمَا حَتَّى إذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ هُنَا بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَكَاتِبِ إلَّا النِّصْفُ وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمَكَاتِبِ نِصْفَ الْبَدَلِ أَيْضًا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ وَيَقْبِضَ الْبَدَلَ، ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ مَا قَبَضَ بَعْضَهُ صَحَّ نَهْيُهُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ لِلْمُكَاتَبِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْكَسْبِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا إيَّاهُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُشَارِكَهُ فِيمَا يَقْبِضُ بَعْدَهُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيمَا كَانَ قَبَضَ قَبْلَ النَّهْيِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَإِنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ شَرِيكُهُ حَتَّى كَاتَبَهُ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَلِمَ بِكِتَابَةِ الْأَوَّلِ فَأَرَادَ رَدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِهِ صَارَ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ فَإِنَّ الْخِيَارَ لَهُ كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَقَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ الضَّرَرَ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَعْدَ هَذَا مِنْهُ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُكَاتَبًا بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ شَرِكَةً كَمَا لَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَاهُ مَعًا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ وَجَبَ لَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ كِتَابَةِ الثَّانِي كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْ كَسْبِهِ بِكِتَابَةِ نَفْسِهِ فَيَقْتَصِرُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي مُكَاتَبَةِ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 فِي الْقَبْضِ وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا فِيمَا قَبَضَ الْآخَرُ وَلَا يُشَارِكُهُ. وَقَوْلُهُ وَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي الْقَبْضِ تَجَوُّزٌ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ وَلَكِنْ إنَّمَا لَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ كَسْبِهِ، وَنُصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَدَلِ وَاجِبٌ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ. وَإِنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقَبْضِ فَقَبَضَ بَعْضَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ عَجَزَ الْغُلَامُ فَفِي الْقِيَاسِ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ لِيُعْتِقَ نَصِيبَهُ بِهِ وَلَمْ يُعْتِقْ حِينَ عَجَزَ الْغُلَامُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ الْآذِنُ بِأَنْ يَقْضِيَ الْعَبْدُ دَيْنَهُ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْكَسْبِ وَبَعْدَ الْعَجْزِ لَا دَيْنَ فَبَقِيَ هُوَ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَبَضَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْ الْمَقْبُوضِ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَلَا يَعُودُ حَقُّهُ فِيهِ بِعَجْزِ الْغُلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَاءِ بَعْضِ الْبَدَلِ عَنْ الْمُكَاتَبِ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَمَّا بَقِيَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَبَرِّعِ اسْتِرْدَادُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِذَا كَاتَبَ أَحَدُهُمَا كُلَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ وَهَبَ لِلْعَبْدِ نِصْفَ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى نِصْفٍ شَائِعٍ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ حِصَّةُ نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ. وَإِنْ قَالَ وَهَبْتُ لَكَ جَمِيعَ حِصَّتِي مِنْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ عَتَقَ إمَّا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ وَجَبَ بِعَقْدِهِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ وَهَبْتُ لَكَ الْمُكَاتَبَةَ كُلَّهَا سَوَاءٌ أَوْ؛ لِأَنَّهُ بَرِيءَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلِ حِينَ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَاتَبَاهُ، ثُمَّ وَهَبَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ حِصَّتِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُنَا لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ إلَيْهِ فَعَلِمَ أَنَّ هِبَةَ جَمِيعِ حِصَّتِهِ تَكُونُ هِبَةً لِجَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ مُكَاتَبَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلِقَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ فَإِنْ شَاءَ عَجَزَتْ فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ بَيْنَهُمَا وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَأَخَذَتْ عُقْرَهَا فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، ثُمَّ عَلِقَتْ مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ عَجَزَتْ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ، وَالْوَلَدُ الثَّانِي لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا فِي الظَّاهِرِ مُكَاتَبٌ لَهُ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ الثَّانِي مِنْهُ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ حَقَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِهَا إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَانَ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْعَجْزِ وَقَدْ ارْتَفَعَ هَذَا الْمَانِعُ بِالْعَجْزِ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ فِي الْبَيْعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الزَّوَائِدَ وَإِذَا صَارَتْ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلثَّانِي وَعَلَى الثَّانِي جَمِيعُ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَ مَمْلُوكَةَ الْغَيْرِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَجَبَ نِصْفُ الْعُقْرِ عَلَى الثَّانِي وَنِصْفُ الْعُقْرِ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُ جَمِيعِ الْعُقْرِ عَلَى الثَّانِي، ثُمَّ يَكُونُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ قِصَاصًا وَيَبْقَى لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الْعُقْرِ عَلَى الثَّانِي، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّهُ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا صَارَ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَلَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَى. مُكَاتَبَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ بِنْتًا، ثُمَّ وَطِئَ أَحَدُهُمَا الِابْنَةَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ قَالَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ بِمَنْزِلَةِ أَمَةٍ مُكَاتَبَةٍ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ أَحَدِهِمَا بِالدَّعْوَى كَمَا ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ وَالِابْنَةُ عَلَى حَالِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُخْرِجَ نَفْسَهَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ لِتَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَمْلِكُ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا مَقْصُودًا وَلَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ أُمِّهَا وَلِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا كَانَتْ تُعْجِزُ نَفْسَهَا عَمَّا عَلَيْهَا مِنْ الْبَدَلِ وَلَيْسَ عَلَى الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَقَدْ كَانَ لِلْأُمِّ مَنْفَعَةٌ فِي التَّخْيِيرِ فَخَيَّرْنَاهَا وَلَا مَنْفَعَةَ لِلِابْنَةِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْمُسْتَوْلِدِ عُقْرُهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَلَكِنَّ عُقْرَهَا لِلْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا وَأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ صَارَتْ الِابْنَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا قَدْ ارْتَفَعَ بِعَجْزِ الْأُمِّ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ مِنْهُ فَلِهَذَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا يَوْمَ عَلِقَتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تُعْجِزْ فَأَعْتَقَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الِابْنَةَ بَعْدَ عُلُوقِهَا مِنْ الْأَوَّلِ عَتَقَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الِابْنَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ فِيهَا فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُعْتَقِ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ وَنَصِيبَ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِلْمُسْتَوْلِدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَنْزِلَةِ أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَوَلَدُهَا حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ وَقَدْ عَتَقَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ إعْتَاقِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الشَّرِيكِ نَصِيبَهُ مِنْ الْأُمِّ يَكُونُ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ عِتْقِ السُّفْلَى بِإِعْتَاقِ الْعُلْيَا عَلَى أَصْلِهِ وَالْمُكَاتَبَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا تَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ أَوْ تَعْجِزُ فَتَكُونُ أَمَةً بَيْنَهُمَا. مُكَاتَبَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ فَأَعْتَقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِنَصِيبِهِ بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي مُكَاتَبَةِ الْأُمِّ، وَهُوَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى تَعْجِزَ الْأُمُّ أَوْ تَعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَنْقَلِبُ مَقْصُودًا مَا بَقِيَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ وَلِأَنَّ الْأُمَّ لَهَا حَقٌّ فِي كَسْبِ الْوَلَدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُعْتِقُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهَا فِي كَسْبِهِ فَإِنْ عَتَقَتْ عَتَقَ مَعَهَا لِبَقَاءِ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي النِّصْفِ الَّذِي بَقِيَ رَقِيقًا مِنْهُ فَإِنْ عَجَزَتْ فَقَدْ زَالَ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَصَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يُعْتِقُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَإِذَا اخْتَارَ التَّضْمِينَ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَقْتَ إعْتَاقِهِ لَا وَقْتَ عَجْزِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ ذَلِكَ كَمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ وَقْتَ الْغَصْبِ. مُكَاتَبَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ بِنْتًا فَوَطِئَا الِابْنَةَ فَعَلِقَتْ فَوَلَدَتْ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَا فَالِابْنَةُ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا فَتَعْتِقُ بِمَوْتِهِمَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَاهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا اسْتَغْنَتْ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأُمِّ لِمَا ظَهَرَ لَهَا مِنْ سَبَبِ الْعِتْقِ مَجَّانًا وَتَبْقَى الْأُمُّ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ فِي التَّبَعِ لَا يُوجِبُ عِتْقَ الْأَصْلِ وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَا عَتَقَتْ هِيَ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ وَعَتَقَ وَلَدُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا وَثُبُوتُ الْعِتْقِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ عِتْقَهَا بِالِاسْتِيلَادِ كَعِتْقِهَا بِإِعْتَاقٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا إذَا أَعْتَقَاهَا عَتَقَ الْوَلَدُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُمَا إيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَإِنْ عَجَزَتْ، ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ بِعَجْزِهَا انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَصَارَ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ رَقِيقًا، ثُمَّ يَثْبُتُ فِيهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ بَعْدَ انْفِصَالِ هَذَا الْوَلَدِ عَنْهَا وَحَقُّ الْعِتْقِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ كَحَقِيقَةِ الْعِتْقِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ عَلِقَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ عِنْدَهُ لَمْ يَصِرْ مُكَاتَبًا فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ حَفِظَ جَوَابَهُمَا وَلَمْ يَحْفَظْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُنَافِي الِاسْتِيلَادَ سَابِقًا وَلَا طَارِئًا وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرِهَا لَلشَّرِيكِ وَهَذِهِ إجَازَةٌ لِلْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِتَحَوُّلِ نَصِيبِهِ إلَى الْمُسْتَوْلِدِ قَالَ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ كَاتَبَهَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي حُكْمِ لُزُومِ الْكِتَابَةِ. فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ الْمُسْتَوْلِدُ ضَامِنٌ نِصْفَ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ نَافِذًا وَمَنْ اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لَهَا وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 وَطِئَ الَّذِي كَاتَبَهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ شَرِيكُهُ بِالْمُكَاتَبَةِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْمُكَاتَبَةُ جَائِزَةٌ وَيَضْمَنُ الْوَاطِئُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرَهَا لَلشَّرِيكِ، وَنِصْفُ الْعُقْرِ لَهَا وَلِلْمُكَاتَبَةِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْكِتَابَةَ أَخَذَتْ نِصْفَ الْعُقْرِ مِنْهُ وَإِنْ اخْتَارَتْ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِصْفُ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا نِصْفَ الْعُقْرِ لِكَوْنِهَا أَحَقَّ بِنَفْسِهَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ اخْتَارَتْ الِاسْتِيلَادَ فَإِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهَا دَيْنًا وَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ الْمُكَاتَبَةَ بَعْدَ مَا عَلِقَتْ مِنْهُ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ عَقْدًا بَاطِلًا وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَكَاتِبِ بِالِاسْتِيلَادِ وَإِنَّمَا كَانَ يُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَإِنْ وَطِئَهَا الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَعَلِقَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ مِنْهَا فَصَحَّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا وَالْمُكَاتَبَةُ عَلَى حَالِهَا جَائِزَةٌ حَتَّى يَرُدَّهَا الْوَاطِئُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْرَأُ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَكُنْ إقْدَامُهُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ إبْطَالًا مِنْهُ لِلْكِتَابَةِ وَلَكِنَّهُ لَوْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ انْتِقَالِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ بِالِاسْتِيلَادِ هُوَ الْكِتَابَةُ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ وَإِنْ كَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا الْآخَرُ فَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ، وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدِ الْمُسْتَوْلِدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا وَأَخَذَتْ مِنْهُ نِصْفَ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ لَازِمَةٌ حِينَ بَاشَرَهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَتَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي ذَلِكَ النِّصْفِ فَإِذَا أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ عَتَقَتْ وَلَمْ تَسْعَ لِلْمُسْتَوْلِدِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِلْمُسْتَوْلِدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَإِنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَاكْتَسَبَتْ مَالًا وَقَضَتْ مِنْهُ الْكِتَابَةَ فَعَتَقَتْ، ثُمَّ اكْتَسَبَتْ مَالًا، ثُمَّ حَضَرَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَلَهُ نِصْفُ مَا اكْتَسَبَتْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلَهَا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَكَاتِبِ مِنْهَا مُكَاتَبٌ، وَنُصِيبَ الشَّرِيكِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَالْكَسْبُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَمَا اكْتَسَبَتْهُ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا تَعْتِقُ كُلُّهَا بِعِتْقِ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمَكَاتِبِ وَنُصِيبُ الشَّرِيكِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِمَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ شَيْءٌ مِمَّا اكْتَسَبَتْ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَيْئًا وَتَرَكَتْ مَالًا فَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ؛ لِأَنَّهُ كَسَبَ نَصِيبَهُ مِنْهَا وَيَأْخُذُ الَّذِي كَاتَبَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ فِي الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ نَصِيبِهِ مِنْهَا وَالْمُكَاتَبَةُ كَانَتْ نَافِذَةً فِي نَصِيبِهِ فَيَأْخُذُ بَدَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 الْكِتَابَةِ فِي تَرِكَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ نِصْفَ قِيمَتِهَا مِمَّا بَقِيَ إنْ كَانَ شَرِيكُهُ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِسْعَائِهَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ إنْ كَانَتْ حَيَّةً وَقَدْ مَاتَتْ عَنْ مَالٍ فَيَأْخُذُ تِلْكَ السِّعَايَةَ مِنْ مَالِهَا وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهَا الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِعِتْقِهَا بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ غَيْرَهُمَا كَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهِيَ مَوْلَاةٌ لَهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّهُ مُوسِرًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَكَاتِبَ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَكَاتِبُ فِي مَالِهَا كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً وَيَكُونُ وَلَاؤُهَا وَمِيرَاثُهَا لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالضَّمَانِ. وَإِنْ كَانَتْ مَاتَتْ بَعْدَ مَا أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ وَقَدْ تَرَكَتْ مَالًا لَا يُدْرَى مَتَى اكْتَسَبَتْهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ حَادِثٌ فَيُحَالُ حُدُوثَهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ اكْتِسَابُهَا، وَاسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ لِشَرِيكِهِ لَمْ يُعْلَمْ سَبَبُهُ، وَهُوَ كَوْنُ نَصِيبِهِ قِنًّا حِينَ اكْتَسَبَ وَلَا يُقَالُ قَدْ عَرَفْنَا نَصِيبَهُ مَمْلُوكًا قِنًّا لَهُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ عُلِمَ زَوَالُهُ بَعْدَ مَا أَدَّتْ الْكِتَابَةَ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مَعْلُومًا فِي الْحَالِ. جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَأَدَّتْ إلَيْهِ الْكِتَابَةَ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَعَلِقَتْ مِنْهُ قَالَ تَسْعَى لَهُ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتِبِ لِمَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ لَمَا نَفَذَ فِيهَا مِنْ الْعِتْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَكَاتِبِ وَإِنَّمَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إذَا عَجَزَتْ عَنْ السِّعَايَةِ وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ هَهُنَا حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلِدُ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ عَتَقَ نَصِيبُهُ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا السِّعَايَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. رَجُلٌ كَاتَبَ جَارِيَةً، ثُمَّ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ بِالْعَجْزِ فَصَارَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا إرْثًا قَدْ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا وَأَخَذَتْ عُقْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُورَثُ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةِ حَقِّ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ فِيهَا بِانْعِقَادِ سَبَبِهِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ لَهَا. وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ جَارِيَةً بَيْنَهُمَا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ قُتِلَ مُرْتَدًّا قَالَ لَا تَعْتِقُ وَلَيْسَ أَدَاؤُهَا إلَى الْمُرْتَدِّ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَقَبْضِ الْمُسْلِمِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمَا فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ تَتَوَقَّفُ وَتَبْطُلُ بِقَتْلِهِ فَكَذَلِكَ قَبْضُهُ نَصِيبَهُ مِنْ الْبَدَلِ كَانَ مَوْقُوفًا وَبِالْقَتْلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَقَّ الْوَارِثِ فَكَانَ قَبْضُهُ بَاطِلًا وَتَرْجِعُ الْوَرَثَةُ عَلَى الشَّرِيكِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ أَخَذَ نَصِيبَهُ وَحْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مِنْهَا أَيْضًا، ثُمَّ يَسْتَسْعُونَهَا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَإِنْ عَجَزَتْ رُدَّتْ فِي الرِّقِّ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبَةٍ أَدَّتْ نِصْفَ الْبَدَلِ إلَى الْمَوْلَيَيْنِ، ثُمَّ عَجَزَتْ، ثُمَّ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَاتَبَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ كَانَ جَائِزًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ صَارَ مَالُهُ كَأَنَّهُ لِلْوَارِثِ وَالْعَاقِدُ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الْبَدَلِ بِعَقْدِهِ إذَا كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْعَاقِدِ فِي بَابِ الْبَيْعِ فَإِنَّ حَقَّ قَبْضِ الثَّمَنِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لِغَيْرِهِ وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ فِي كَسْبِ إسْلَامِهِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمْ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي الثَّمَنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا هَذَا الْفَرْقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ وَالْكِتَابَةُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَيَجُوزُ قَبْضُهُ الثَّمَنَ بِحَقِّ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا لَحِقَهُ الْحَجْرُ بِالرِّدَّةِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا بَاعَ شَيْئًا، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ كَانَ قَبْضُهُ الثَّمَنَ صَحِيحًا وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَدَّتْ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ نَصِيبَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ وَإِنْ أَدَّتْ إلَى الشَّرِيكِ الْبَاقِي وَإِلَى وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عَتَقَتْ إذَا كَانَ قَدْ قَضَى بِلَحَاقِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ فَدَفَعَتْ الْكِتَابَةَ إلَى الشَّرِيكِ الْحَيِّ وَإِلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَإِنْ عَجَزَتْ بَعْدَ مَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَرَدَّهَا فِي الرِّقِّ، ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ فَهِيَ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَكِتَابَتِهِ وَالْكِتَابَةُ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ غَائِبًا فَعَجَزَتْ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي الْعَقْدَ بِخُصُومَةِ الشَّاهِدِ مِنْهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ. وَإِذَا ارْتَدَّ الشَّرِيكَانِ مَعًا، ثُمَّ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ فَرَدَّاهَا فِي الرِّقِّ فَإِنْ أَسْلَمَا فَهِيَ أَمَةٌ قِنَّةٌ بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُتِلَا عَلَى الرِّدَّةِ فَهِيَ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا. وَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَلَدَتْ بِنْتًا، ثُمَّ إنَّ أَحَدَ الْمَوْلَيَيْنِ وَطِئَ الِابْنَةَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ وَوَطِىءَ الْآخَرُ الْأُمَّ فَعَلِقَتْ مِنْهُ فَقَالَتَا نَحْنُ نَعْجِزُ فَذَلِكَ لَهُمَا وَمُرَادُهُ أَنَّ لِلْأُمِّ أَنْ تُعْجِزَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 فَإِذَا اخْتَارَتْ الْأُمُّ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُقْرَهَا مِنْ الْوَاطِئَ، وَعُقْرُ الِابْنَةِ يَكُونُ لِلْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ وَإِنْ عَجَزَتْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُمَّ وَلَدٍ لِلَّذِي وَطِئَهَا وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ وَلَا يَرُدَّهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ وَمَوْلَاهُ الَّذِي كَاتَبَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ لِلْآخَرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِخَ إنَّمَا يَفْسَخُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَالْعَاقِدُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ أَيْضًا فَإِذَا اسْتَوَتْ الْأَقْدَامُ كَانَ الْفَصْلُ إلَى الْقَاضِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الرَّجُلِ شِقْصًا مِنْ عَبْدِهِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ نِصْفَ عَبْدِهِ جَازَ ذَلِكَ وَصَارَ كُلُّهُ مُكَاتَبًا بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ كَالْعِتْقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقْتَصِرُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي كَاتَبَ مِنْهُ فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ عَتَقَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَهُ بِالسِّعَايَةِ فِي الْحَالِ وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ مُنَجَّمًا عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُطِيقُ أَدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ فَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ بِالنَّصِّ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَكْمِيلُ الْعِتْقِ دُونَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَنِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَالْكَسْبُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْأَدَاءِ لَيْسَ لِلْمَوْلَى مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ يُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ كَسْبِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ. وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ تَمْكِينُهُ مِنْ التَّقَلُّبِ وَالتَّكَسُّبِ لِيُؤَدِّيَ بِهِ الْبَدَلَ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُكَاتَبِ بِكِتَابَةِ النِّصْفِ لَازِمًا فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِلْكَهُ مِنْ السَّفَرِ وَلَا يَتَأَتَّى السَّفَرُ فِي قَدْرِ مَا صَارَ مُكَاتَبًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 مِنْهُ وَحْدَهُ فَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ مِلْكِهِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا هُوَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ هُوَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَاللُّبْسَ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ فَيَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَمْنُوعًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَلَكِنَّهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ التَّقَلُّبِ وَالتَّكَسُّبِ وَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْمِصْرِ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمِصْرِ لِلطَّلَبِ طَرِيقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَصِيرُ مُثْبِتًا لَهُ ذَلِكَ الْحَقَّ حِينَ كَاتَبَ نِصْفَهُ فَلَا يَمْنَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ بِالْأَخْذِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ الْإِرْفَاقُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ يَوْمًا وَيُخَلِّيَ عَنْهُ يَوْمًا لِلْكَسْبِ فَلَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ كَكَسْبِهِ فَكَمَا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نِصْفَ خِدْمَتِهِ لِنَفْسِهِ بِالتَّهَايُؤِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَعْرِضُ لَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَعْجِزَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ التَّقَلُّبِ وَالتَّكَسُّبِ وَذَلِكَ بِمَنَافِعِهِ يَكُونُ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ لَهُ لَازِمًا أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ بِالْأَخْذِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إرْفَاقٌ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ إذَا اكْتَسَبَ بِمَنَافِعِهِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ فَيَكُونَ هَذَا تَحْوِيلًا لِحَقِّهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْكَسْبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لَوْ جَعَلْنَا الْمُكَاتَبَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ نِصْفِ الْكَسْبِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ الْإِرْفَاقُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ جَارِيَتِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا كَانَ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا وَنِصْفُ كَسْبِهِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ كَنِصْفِ الْأُمِّ وَنِصْفُ كَسْبِهِ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا فَتَأْخُذُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَ نِصْفُهَا وَنِصْفُ الْوَلَدِ مَعَهَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَقَدْ احْتَبَسَ مَا بَقِيَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي هَذِهِ السِّعَايَةِ فَإِذَا اكْتَسَبَ الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الْكَسْبُ لَهُ دُونَ أُمِّهِ وَمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُكَاتَبِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ السِّعَايَةِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ مَقْصُودًا، وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا يَسْعَى الْوَلَدُ فِي الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ تَبَعٌ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ فَيَقُومُ مَقَامَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فِي السِّعَايَةِ، وَفِي الْمُكَاتَبَةِ فَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ نِصْفُهَا كَمَا لَوْ أَدَّتْ فِي حَالِ حَيَاتِهَا وَيَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ فِي السِّعَايَةِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ وَلَا تَبَعِيَّةَ هُنَا فِي حَقِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 ذَلِكَ النِّصْفِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ جَارِيَتِهِ وَنِصْفَ وَلَدِهَا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَلَوْ كَانَ أَعْتَقَ نِصْفَ أَمَتِهِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ حَبِلَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهَذَا الْوَلَدُ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ إذَا مَاتَتْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْوَلَدِ تَبَعٌ لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ مَقْصُودًا فَيَسْعَى فِيمَا عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ أَمَتِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ وَتَرَكَتْ مَالًا وَعَلَيْهَا دَيْنٌ قُضِيَ الدَّيْنُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا مُكَاتَبٌ وَنِصْفَهَا مَأْذُونٌ وَدَيْنُ الْمَأْذُونِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى نِصْفُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مِلْكُهُ وَكَسْبُ ذَلِكَ النِّصْفِ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ وَنِصْفَ الْمُكْتَسِبِ لَهَا فَيُؤَدِّي مِنْ ذَلِكَ كِتَابَتَهَا فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَخَذَ الْمَوْلَى نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَسْعِيهَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ لَوْ كَانَتْ حَيَّةً فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِمَوْتِهَا حُرَّةً وَلَا يَرِثُ هَذَا الْوَلَدُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ اسْتِنَادَ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ إلَى حَالِ حَيَاتِهَا كَانَ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لَهَا، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي الْوَلَدُ مَقْصُودٌ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ سِعَايَتِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَإِنْ لَمْ تَدَعْ الْأُمُّ شَيْئًا سَعَى الْوَلَدُ فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ الْوَلَدُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ كَوَلَدِ الْمَأْذُونَةِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ النِّصْفِ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لَهَا فِي هَذَا النِّصْفِ فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ عَتَقَ نِصْفُهُ وَنِصْفُ أُمِّهِ كَمَا لَوْ أَدَّتْ فِي حَيَاتِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ الْغُرَمَاءُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ لَكِنَّهُمْ يُتْبِعُونَ الْوَلَدَ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا، فَأَخْذُهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْهُ كَأَخْذِهِ مِنْهَا وَإِذَا أَخَذَ مِنْهَا كَانَ الْمَأْخُوذُ سَالِمًا وَالْغُرَمَاءُ يُتْبِعُونَهَا بِدُيُونِهِمْ فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ وَمَا اكْتَسَبَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ فَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى نِصْفَ مَا بَقِيَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي نِصْفِهَا فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ أَمَتِهِ فَاسْتَدَانَتْ دَيْنًا سَعَتْ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ النِّصْفِ مِنْ الْمَوْلَى يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَهَا مِنْ التَّقَلُّبِ وَالتَّكَسُّبِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ كَانَ جَمِيعُ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 فَتُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لِشَرِيكَيْنِ وَكَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَاسْتَدَانَتْ دَيْنًا ثُمَّ عَجَزَتْ فَالدَّيْنُ فِي جَمِيعِ رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ رِضَا الشَّرِيكِ بِالْكِتَابَةِ يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لَهَا فِي التِّجَارَةِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ ضَرُورَةً. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَدَانَ دَيْنًا فَهُوَ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْآذِنَ رَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِنَصِيبِهِ وَلَا بِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِذْنِ فِي نَصِيبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ بِإِذْنِهِ فَإِنْ اشْتَرَى الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ فَالدَّيْنُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ شِرَائِهِ وَكَذَلِكَ مَا اسْتَدَانَ بَعْدَ هَذَا بِغَيْرِ عِلْمِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ شِرَائِهِ وَهَذَا النِّصْفُ كَانَ مَحْجُورًا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَتَأْثِيرُ الشِّرَاءِ فِي رَفْعِ الْإِذْنِ الثَّابِتِ لَا فِي إثْبَاتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ فَلَمْ يَنْهَهُ فَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ وَبَيْعَهُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِي نِصْفِهِ وَتَأْثِيرِ سُكُوتِ الْمَوْلَى فِي إثْبَاتِ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ لِيَنْفُذَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْغُرُورِ عَمَّنْ عَامَلَهُ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَلَا يُجْعَلُ سُكُوتُهُ إذْنًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ مَحْجُورًا فَرَآهُ الْمَوْلَى يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ صَارَ الْكُلُّ مَأْذُونًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النِّصْفُ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَإِنْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ حَقُّ التَّكَسُّبِ وَالتَّقَلُّبِ لَازِمًا، وَفِي بَيْعِ الْبَاقِي إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَ النِّصْفُ الَّذِي بَاعَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ النِّصْفِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ وَكِتَابَةُ الْبَعْضِ لَا تَمْنَعُ إعْتَاقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ تَقْرِيرَ حَقِّهِ لَا إبْطَالَهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ عَجَزَ وَسَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِنْ مَضَى عَلَى الْكِتَابَةِ وَأَدَّى بَعْضَهَا ثُمَّ عَجَزَ حُسِبَ لَهُ مَا أَدَّى مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَسَعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بِعِتْقِ النِّصْفِ صَارَ هُوَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ كَسْبِهِ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا الْكِتَابَةُ وَإِمَّا نِصْفُ الْقِيمَةِ فَمَا سَبَقَ فِيهِ يَكُونُ مَحْسُوبًا مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ أَوْ نِصْفِ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَمَا كَانَ كَسَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ فَلَهُ نِصْفُهُ وَلِلْمَوْلَى نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى حِينَ اكْتَسَبَ هَذَا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ أَدَّى إلَى الْمَوْلَى شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ فَقَالَ الْمَوْلَى اطْرَحْ نِصْفَ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّ لِي نِصْفَ الْكَسْبِ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ أَدَّاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 مِنْ شَيْءٍ اكْتَسَبَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ مِنْ دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مَأْذُونٌ لَهُ وَلَا يُسَلَّمُ كَسْبُهُ لِلْمَوْلَى إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ. وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ اشْتَرَى السَّيِّدُ مِنْ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا جَازَ الشِّرَاءُ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَالنِّصْفَ مَأْذُونٌ، وَشِرَاءُ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ مُفِيدٌ وَشِرَاؤُهُ مِنْ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْمُشْتَرِي لِلسَّيِّدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلسَّيِّدِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ مِنْ مَوْلَاهُ عَبْدًا فَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ شِرَاؤُهُ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَالنِّصْفَ مَأْذُونٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا فِي النِّصْفِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَالنِّصْفَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَشِرَاءُ الْمَمْلُوكِ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ وَيَجُوزُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ فَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِعَيْنِهَا بَلْ لِفَائِدَتِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُرَمَاءُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى حَقِّهِمْ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ وَهُنَا لَا يَتَوَصَّلُونَ إلَى حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مُنَجَّمٌ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْبَيْعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْكِتَابَةَ أَوْلَى فَإِنْ أَخَذَ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ أَوْ بَعْضَهَا ثُمَّ عَلِمَ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ مَا بَقِيَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ قَدْ عَتَقَ إنْ كَانَ أَدَّى جَمِيعَ الْكِتَابَةِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ كَانَ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يَبِيعُوهُ فِي دَيْنِهِمْ وَقَدْ أَبْطَلَ الْمَوْلَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ ثُمَّ يُتْبِعُونَ الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَبِالْعِتْقِ تَقْوَى ذِمَّتُهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِالْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَاتَبَهُ لِيُؤَدِّيَ الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ كَانَ عَالِمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ كَسْبَهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ الْبَدَلِ مَشْغُولًا وَلِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 الْبَدَلَ لِلْمَوْلَى بِمَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُ الْحَقَّ فِي كَسْبِهِ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ فَإِذَا سَلَّمَ الْبَدَلَ لِلْمَوْلَى مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَةَ وَلَمْ يَرُدَّهَا الْغُرَمَاءُ حَتَّى قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ دَيْنُهُمْ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِوُصُولِ دَيْنِهِمْ فَجَازَتْ الْكِتَابَةُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثُمَّ قَضَى الدَّيْنَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِوُصُولِ دَيْنِهِمْ إلَيْهِمْ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِلْكُهُ بِمَا أَدَّى فَهُوَ كَمَا إذَا أَدَّى الْفِدَاءَ عَنْ الْعَبْدِ الْجَانِي وَلِأَنَّهُ أَصْلَحَ مُكَاتَبَتَهُ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ هَذَا الدَّيْنِ وَكَانَ هُوَ فِي الْأَدَاءِ كَمُتَبَرِّعٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ إنْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ فَأَدَّاهُ الْغُلَامُ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ حَقُّهُمْ بِوُصُولِ دَيْنِهِمْ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ. رَجُلٌ كَاتَبَ أُمَّتَهُ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَأَدَّتْ الْمُكَاتَبَةَ ثُمَّ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُكَاتَبَةَ مِنْ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهَا وَيُضَمِّنُونَهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالِيَّتَهَا عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ وَيَرْجِعُونَ بِفَضْلِ الدَّيْنِ إنْ شَاءُوا عَلَى الْجَارِيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّةِ الْوَلَدِ لَمَّا انْفَصَلَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ فِي دُيُونِهِمْ وَقَدْ احْتَبَسَتْ تِلْكَ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ فَيَبِيعُونَهُ بِدَيْنِهِمْ إنْ شَاءُوا وَلَكِنْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ فَيَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ شَاءُوا رَجَعُوا عَلَى الْجَارِيَةِ بِجَمِيعِ دُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهَا تَأَكَّدَتْ بِالْعِتْقِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا عَتَقَ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْأُمِّ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَلَى الْوَلَدِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا. أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ لَهُمَا أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَدَانَتْ دَيْنًا ثُمَّ كَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَأَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا بَيْعَ نَصِيبِ الْآذِنِ، وَفِي دُيُونِهِمْ، وَفِي لُزُومِ الْكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَ الْبَعْضِ لَا يُبَاعُ وَلِأَنَّ إذْنَ الشَّرِيكِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي نَصِيبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ فَيُجْعَلُ وُجُودُ إذْنِهِ كَعَدَمِهِ فَإِنْ رَضَوْا بِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْغُرَمَاءُ حَتَّى أَخَذَ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ عَتَقَ نَصِيبُهُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَيَأْخُذُ الْغُرَمَاءُ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ كَسْبِهِ وَنِصْفَ حِصَّةِ نَصِيبِ الْآذِنِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِدُيُونِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الَّذِي كَاتَبَهُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْكَسْبِ قَدْ سَلِمَ لَهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 مِنْ جِهَتِهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمَا اسْتَحَقَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ. أَمَةٌ مَأْذُونٌ لَهَا فِي التِّجَارَةِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا وَكَاتَبَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأُمِّ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُبَاعَ بِهِ فِي دُيُونِهِمْ، وَفِي الْكِتَابَةِ إبْطَالُ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ مَالِيَّةِ الْأُمِّ بِبَيْعِهَا فِي دُيُونِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ، وَالْوَلَدَ تَبَعٌ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ التَّبَعِ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي كَسْبِهَا وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهَا فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ لَا يُبَاعُ وَلَدُهَا فِيهِ فَلِهَذَا جَازَتْ الْكِتَابَةُ فَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ أَتْلَفَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ فَيَضْمَنُ لَهُمْ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا فَلَهُمْ أَنْ يَسْتَسْعَوْا الِابْنَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ وَقَدْ احْتَبَسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْعِتْقِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَسْعُوهُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِمَّا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَشَبَّ الْوَلَدُ وَبَاعَ وَاشْتَرَى وَلَزِمَهُ دَيْنٌ ثُمَّ جَاءَ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ فَرَدُّوا الْمُكَاتَبَةَ فَقَدْ بَطَلَتْ الْمُكَاتَبَةُ بِرَدِّهِمْ لِقِيَامِ حَقِّهِمْ فِي مَالِيَّةِ الْأُمِّ تُبَاعُ الْأُمُّ لِغُرَمَائِهَا وَيُبَاعُ الْوَلَدُ لِغُرَمَائِهِ خَاصَّةً دُونَ غُرَمَاءِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ فَهُوَ آكَدُ مِنْ دَيْنِ غُرَمَاءِ الْأُمِّ إذْ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ دُيُونِهِمْ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ وَدَيْنَ الْمَوْلَى إذَا اجْتَمَعَا فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى يُقَدَّمُ دَيْنُهُ عَلَى دَيْنِ الْمَوْلَى. (فَإِنْ قِيلَ) هُنَاكَ دَيْنُهُ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ وَهُنَا دَيْنُ غُرَمَاءِ الْأُمِّ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّةِ الْوَلَدِ (قُلْنَا) التَّرْجِيحُ بِالسَّبْقِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَيْنَ الْوَلَدِ أَقْوَى حَتَّى يَبْقَى كُلُّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ وَلَا مَعْنَى لِلتَّرْجِيحِ بِالسَّبْقِ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ كَاتَبَ الْأُمَّ وَلَكِنَّهُ أَذِنَ لِلْوَلَدِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ يَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِيهِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ تَاجِرَيْنِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَغَابَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ جَاءَ الْغُرَمَاءُ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْحَاضِرَ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهُمَا وَاحِدَةٌ فَلَا يُرَدَّانِ فِي الرِّقِّ إلَّا مَعًا وَالْحَاضِرُ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَكَانَ غَيْبَةُ أَحَدِهِمَا كَغِيبَتِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رُدَّ الْحَاضِرُ فِي الرِّقِّ وَبِيعَ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ أَدَّى الْغَائِبُ الْبَدَلَ عَتَقَا جَمِيعًا، وَبَطَلَ الْبَيْعُ فَعَرَفْنَا أَنَّ رَدَّ الْحَاضِرِ فِي الرِّقِّ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ يَسْتَسْعَوْنَهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ ثَابِتَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 فِي ذِمَّتِهِ فَيَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ وَمَا أَدَّى مِنْ الْمُكَاتَبَةِ فَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَتْلَفَ مَالِيَّتَهُمَا عَلَى الْغُرَمَاءِ وَلَا كَسْبَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ حَضَرَا رُدَّا فِي الرِّقِّ وَبِيعَا لِلْغُرَمَاءِ فِي الدَّيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ يَكُونُ بِثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الرَّقَبَةِ أَوْ حَقِّ الْعِتْقِ وَبِمُجَرَّدِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا احْتَمَلَ الْكِتَابَةَ الْفَسْخُ أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَوْ كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَلشَّرِيكُ الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ الْغُرَمَاءُ وَلَكِنَّهُمْ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ قِيمَةَ هَذَا الْعَبْدِ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِهِ بِتَصَرُّفِهِ وَالتَّأْخِيرُ كَالْإِبْطَالِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَلَوْ أَبْطَلَ حَقَّ الْبَيْعِ بِتَصَرُّفِهِ بِالتَّدْبِيرِ كَانَ ضَامِنًا لَهُمْ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَهُ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَةَ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ بَيْعِهِ لَيْسَ بِتَصَرُّفِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ تَمَكَّنُوا مِنْ بَيْعِهِ. وَلَوْ حَضَرَ الْعَبْدَانِ فَأَجَازَ الْغُرَمَاءُ مُكَاتَبَةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْآخَرَ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُمَا وَاحِدَةٌ فَإِجَازَتُهُمْ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إجَازَةً فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ): وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ وَصَايَا مِنْ تَدْبِيرٍ وَغَيْرِهِ وَتَرَكَ وَلَدًا حُرًّا وَوَلَدًا وُلِدَ فِي الْمُكَاتَبَةِ مِنْ أَمَتِهِ بُدِئَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِدُيُونِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى حَتَّى يَبْقَى دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ دُونَ دَيْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ بِدَيْنِ الْمَوْلَى إنْ كَانَ ثُمَّ بِالْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى أَقْوَى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إذْ لَيْسَ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حُكْمُ الدَّيْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ فَيُسْقِطُهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى الْمُكَاتَبَةِ ثُمَّ بِالْمُكَاتَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ أُدِّيَتْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَبَطَلَتْ وَصَايَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِنَادَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ دُونَ وَصَايَاهُ وَوَصَايَا الْمُكَاتَبِ فِي الْحَاصِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يُوصِيَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ كَسْبِهِ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَدَّى الْكِتَابَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ يُرَاعَى قِيَامُ مِلْكِ الْمُوصِي وَقْتَ الْإِيصَاءِ وَمِلْكُهُ وَقْتَ الْإِيصَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصِيَّةَ. (وَالثَّانِي) أَنْ يَقُولَ إذَا عَتَقْتُ فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ لَكَ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 مَاتَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. (وَالثَّالِثُ) أَنْ يَقُولَ ثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ ثُمَّ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَتَاقِ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اسْتَقْبَلَ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا فَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ أَلْفًا وَعَلَيْهِ لِلْمَوْلَى أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ بُدِئَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ قَبَضَ هَذَا الْمَالَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَلَوْ قَبَضَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّيْنِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ إذَا قَبَضَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ سَلَّمَ الْمَالَ لَهُ وَوَصَلَ الْمُكَاتَبُ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ وَإِذَا قَبَضَ بِجِهَةِ الدَّيْنِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا ذَلِكَ الْمَالُ أَيْضًا وَلَا تَحْصُلُ الْحُرِّيَّةُ لِلْعَبْدِ فَكَانَ قَبْضُهُ مِنْ جِهَةٍ يَحْصُلُ بِهَا لِلْعَبْدِ الْحُرِّيَّةُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا إلَّا دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَاسْتَسْعَى الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ سِوَاهَا فَعَجَزَ عَنْهُ وَقَدْ أَيِسَ مِنْ الدَّيْنِ أَنْ يَخْرُجَ فَإِنَّهُ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَأْيُوسَ تَاوٍ فَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ وَبِدُونِهِ قَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْوَلَدِ وَلَوْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْأُمِّ فِي حَيَاتِهَا لَكَانَتْ تُرَدُّ فِي الرِّقِّ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّيْنِ الْمَأْيُوسِ عَنْ خُرُوجِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْوَلَدِ فَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ أَمَتِهِ. وَإِذَا مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَنْ وَفَاءٍ وَوَلَدٍ قَدْ كُوتِبَ عَلَيْهِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ أَوْ عَنْ وَلَدٍ مَوْلُودٍ فِي مُكَاتَبَتِهَا وَرِثَهُ بَعْدَ قَضَاءِ مُكَاتَبَتِهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْوَلَدِ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ عِتْقُ الْأَبِ إمَّا؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ مَعَهُ مَضْمُومٌ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُنْفَرِدًا بِكِتَابَتِهِ فَأَدَّاهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ قَبْلَ قَضَاءِ مُكَاتَبَةِ الْأَبِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّمَا يُعْتَقُ مِنْ وَقْتِ أَدَاءِ الْبَدَلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ هُنَا فَإِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ عِتْقُهُ كَانَ هُوَ عَبْدًا عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ. وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَنْ مُكَاتَبِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ فَيَكُونُ مِيرَاثًا لَهُمْ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَمَا فَضَلَ عَنْهَا فَلِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتَبِ وَارِثٌ سِوَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِأَدَاءِ مُكَاتَبَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ وَلَاءَهُ بِكِتَابَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِيرَاثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 بِالْوَلَاءِ الذُّكُورُ مِنْ عَصَبَتِهِ دُونَ الْإِنَاثِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَمُتْ الْمُكَاتَبُ حَتَّى أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ إلَيْهِمْ أَوْ وَهَبُوهَا لَهُ أَوْ أَعْتَقُوهُ ثُمَّ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِلذُّكُورِ مِنْ وَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنَّهُ عَتَقَ وَهُوَ مُكَاتَبٌ وَالْمُكَاتَبُ لَا يُورَثُ فَلِهَذَا كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الصَّغِيرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا صَغِيرًا لَمْ يَعْقِلْ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ أَلَا تَرَى أَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ فَكَاتَبَهُ ثُمَّ أَدَّاهَا عَنْهُ رَجُلٌ فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْبَدَلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ حِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ فَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ بِالْأَدَاءِ. كَمَا لَوْ كَاتَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَدَّى عَنْهُ الْمَالَ لَمْ يُعْتَقْ ثُمَّ يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُ لِمَقْصُودٍ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ وَلِأَنَّهُ أَدَّاهُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ بَاطِلٍ. وَإِذَا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَعْقِلَانِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَهُمَا كَالْكَبِيرَيْنِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي يَعْقِلُ مِنْ أَهْلِ قَبُولِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ كَالْكَبِيرِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَفَالَةِ لَا تَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ إذَا كَانَ الْعَبْدَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَالصَّغِيرَانِ فِيهِ كَالْكَبِيرَيْنِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ لِرَجُلٍ رَضِيعٍ رَضِيَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْقَابِلِ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ بِالْقَبُولِ فِي كِتَابَةِ الْغَيْرِ وَلَكِنْ إنْ أَدَّى إلَيْهِ الْمُكَاتَبَةَ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْتَقُ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الرَّجُلِ عَلَى الرَّضِيعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ هُنَا فَقَالَ يُعْتَقُ وَقَالَ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ: أَجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ خَاطَبَ الْأَجْنَبِيَّ هُنَا بِالْعَقْدِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَفِي الْأَوَّلِ مَا خَاطَبَ الْأَجْنَبِيَّ بِعَقْدٍ إنَّمَا خَاطَبَ بِهِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ هُنَا مُنْعَقِدٌ لِقَبُولِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ لَمْ يَلْزَمْ مُرَاعَاةٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَمْ يَجِبْ لَهُ الْبَدَلُ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ الْمُكَاتَبَةَ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ حَقُّهُ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يُعْتَقُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ حُرًّا عَلَى عَبْدٍ لَهُ غَائِبٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 ثُمَّ رَجَعَ الْغَائِبُ فَأَجَازَ كَانَ الْعَقْدُ جَائِرًا وَلَوْ أَدَّى الْقَابِلُ قَبْلَ رُجُوعِ الْغَائِبِ عَتَقَ الْغَائِبُ وَلَوْ أَدَّى الْبَدَلَ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ رَجَعَ الْغَائِبُ فَأَجَازَ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الدَّرَاهِمِ الْبَاقِي وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى فَبِهَذَا تَبَيَّنَ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ فِي الرَّضِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ عَبْدِهِ عَلَى نَفْسِهِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عَبْدٍ لَهُ آخَرَ غَائِبٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَهَا الْحَاضِرُ فَإِنَّ مُكَاتَبَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ جَائِزَةٌ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْإِلْزَامِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الْحَاضِرِ يَصِيرُ مُكَاتَبًا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلِ وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ يَصِيرُ مُكَاتَبًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِيمَا لَا يَضُرُّهُ حَتَّى يَمْتَنِعَ بَيْعُهُ وَيُعْتَقَ بِأَدَاءِ الْحَاضِرِ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ وَلَا كَانَ هُوَ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ عَنْهُ، وَإِنْ عَجَزَ الْحَاضِرُ رُدَّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ وَلَا قَوْلَ لِلْغَائِبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبُولٍ وَلَا رَدٍّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ بَلْ قَدْ نَفَذَ حِينَ وَجَبَ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى الْحَاضِرِ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ تَبَعًا وَلَا قَوْلَ لِلتَّبَعِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَإِنْ أَدَّى الْحَاضِرُ حِصَّتَهُ لَمْ تُعْتَقْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ جَمِيعَ الْبَدَلِ وَالْمَوْلَى غَيْرُ رَاضٍ بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَفَاءٍ فَإِنْ عَجَّلَ الْآخَرُ جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ قُبِلَ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ الْعَقْدُ مَعَ هَذَا وَالْآخَرُ حَاضِرٌ سَاكِتٌ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ لَا يَكُونُ الْتِزَامًا لِلْبَدَلِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَحُضُورُهُ وَغَيْبَتُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدٌ لَهُ صَغِيرٌ إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى وَلَدِهِ فِي إلْزَامِ الْبَدَلِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ إنْ مَاتَ الْوَالِدُ سَعَى الْوَلَدُ فِي الْمُكَاتَبَةِ عَلَى نُجُومِهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذَا. رَجُلٌ كَاتَبَ جَارِيَةً لَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى جَارِيَةٍ أُخْرَى ثُمَّ اسْتَوْلَدَ السَّيِّدُ الْمُكَاتَبَةَ فَاخْتَارَتْ الْعَجْزَ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمَالُ كُلُّهُ عَلَيْهَا وَقَدْ تَلْقَاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ اسْتَوْلَدَ الْأُخْرَى فَعَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْكِتَابَةِ وَتَسْعَى الْمُكَاتَبَةُ فِي حِصَّتِهَا مِنْ الْمَالِ وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ تَكُونُ عَلَى حَالِهَا حَتَّى يَنْظُرَ مَا تَصْنَعُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 قَدْ تَنَاوَلَهَا تَبَعًا وَلِهَذَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِ لَا يُعْتَبَرُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ حَقٌّ عَتَقَ لِجِهَةٍ أُخْرَى فَإِذَا أَدَّتْ الْأُخْرَى عَتَقَا جَمِيعًا، وَإِنْ عَجَزَتْ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ دَبَّرَ لَمْ يَرْفَعْ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ شَيْءٌ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْكِتَابَةِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهَا فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حِصَّتَهَا مِنْ الْبَدَلِ لِتَغَيُّرِ حُكْمِ الْعَقْدِ فِيهَا بِالْإِعْتَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْحَاضِرَةَ مِنْهُمَا سَقَطَ حِصَّتُهَا وَجُعِلَ كَالْقَابِضِ لِلْمَالِ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْأُخْرَى يُجْعَلُ كَالْقَابِضِ لِحِصَّتِهَا مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى إنَّمَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ عَنْهُمَا وَلَوْ أَدَّتْ الْغَائِبَةُ وَجَبَ الْقَبُولُ مِنْهَا فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ حِصَّتُهَا بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهَا، وَإِنْ لَمْ يُدَبِّرْهَا وَلَكِنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ وَلَدَهَا وَأَكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ امْتَنَعَ بَيْعُهَا فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ. وَإِنْ قَتَلَتْ فَأَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتُهَا، وَفِيهَا وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ عَتَقَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ نَفْسِهَا كَكَسْبِهَا وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ كَسْبٍ كَانَ يُوَفِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبِهَا وَيَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهَا فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بِمَا أَخَذَ مِنْ قِيمَتِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً فَأَدَّتْ الْكِتَابَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ مِنْ خَلْفِهَا وَهُوَ الْوَلِيُّ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِشَيْءٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ] (قَالَ) رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ عَلَى وَصَيْفٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَلَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ هَذَا عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ مَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ مِنْ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ثُمَّ قِيمَةُ الْوَصِيفِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَإِنْ جَاءَ بِوَصِيفٍ وَسَطٍ أَوْ قِيمَتِهِ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذَا فِي النِّكَاحِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ الْجِنْسَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ وَمَعَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قَالَ يَأْخُذُهَا الْمُسْتَحِقُّ وَعَلَى الْمَوْلَى عُقْرُهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ فَإِنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ دُونَ الْعُقْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ الْغُرُورِ مِنْ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ابْتَاعَ مُكَاتَبٌ لَهُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ أَخَذَهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ثُمَّ لَمْ يَبْطُلْ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ بِتَسْلِيمِ الْجَارِيَةِ إلَى الْمَوْلَى وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْجَارِيَةِ الَّتِي كَاتَبَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ عَلَى دَرَاهِمَ فَاسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى دَارٍ قَدْ سَمَّاهَا وَوَصَفَهَا أَوْ عَلَى أَرْضٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الدَّارَ وَالْأَرْضَ لَا تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ وَهُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الدَّارَ فَقَدْ كَاتَبَ عَلَى شَيْءٍ لَا يُعْرَفُ وَإِذَا عَيَّنَهَا فَقَدْ كَاتَبَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَلَوْ كَاتَبَهَا عَلَى يَاقُوتَةٍ أَوْ لُؤْلُؤَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْيَاقُوتَةَ وَاللُّؤْلُؤَةَ لَا تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْيَوَاقِيتِ وَاللُّؤْلُؤِ عَظِيمٌ فِي الْمَالِيَّةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فَوْقَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ فِي مَعْنَى التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ وَهُوَ مَقْصُودٌ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ جَازَ وَلَهُ الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمُسَمَّى مَعْلُومٌ وَجَهَالَةُ الصِّفَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصِيفٍ فَأَعْطَاهُ وَصِيفًا، وَعَتَقَ بِهِ ثُمَّ أَصَابَ السَّيِّدُ بِهِ عَيْبًا فَاحِشًا رَدَّهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَالصَّدَاقِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُكَاتَبُ رَقِيقًا بَعْدَ مَا عَتَقَ وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْوَصِيفِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فَاحِشٌ يُرَدُّ الصَّدَاقُ بِهِ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ فَيَرُدُّهُ إنْشَاءً وَيُطَالِبُهُ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَهُوَ وَصِيفٌ وَسَطٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 [بَابُ كِتَابَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذِمِّيٌّ ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا فَكَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَإِنَّمَا كَاتَبَ مِلْكَهُ وَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِ لِيَزُولَ بِهِ ذُلُّ الْكُفْرِ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ مُسْلِمٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ الْخَمْرَ بِالْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ إنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْعَقَدَتْ مَعَ الْفَسَادِ فَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ الْمَشْرُوطِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ سَلِمَتْ لَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْلِمَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا أَوْلَى. ذِمِّيٌّ كَاتَبَ عَبْدًا كَافِرًا عَلَى خَمْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ فِي حَقِّهِمْ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالْعَصِيرِ فِي حَقِّنَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَالْمُكَاتَبَةُ جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَمْلُوكٌ بِالْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَيُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ قَدْ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ بِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ يَدًا فَبِإِسْلَامِهِ يَتَأَكَّدُ مِلْكُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إسْلَامُهُ مُبْطِلًا مَالِكِيَّتَهُ وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْخَمْرِ بِإِسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَاكَ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ مُمْكِنٌ فَيُجْعَلُ الْإِسْلَامُ الطَّارِئُ كَالْمُقَارَنِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْعَقْدِ مَعَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا فَتَبْقَى التَّسْمِيَةُ مُعْتَبَرَةً أَيْضًا، فَلِهَذَا يَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَالَ فِي الْكِتَابَةِ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ أَدَّاهُ وَقَبِلَهُ السَّيِّدُ فَيُعْتَقُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ لَا بِالْأَدَاءِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ السَّيِّدُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى انْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ فِي الْمَيْتَةِ يَعُمُّهُمَا. وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ أُمَّ وَلَدِهِ فَأَدَّتْ بَعْضَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ عَجَزَتْ فَرَدَّهَا الْقَاضِي وَقَضَى عَلَيْهَا بِالْقِيمَةِ لِتَعَذُّرِ بَيْعِهَا بِسَبَبِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِمَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا بِهَذِهِ الْقِيمَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّتْهُ بَعْدَ إسْلَامِهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 رُدَّتْ فِي الرِّقِّ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَصَارَ هُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ مَكَاسِبِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهَا وَكَسْبُهَا سَالِمٌ لَهُ فَإِنَّمَا قَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ بَعْدَ مَا صَارَ هَذَا الْمَالُ لِلسَّيِّدِ فَلِهَذَا لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْقِيمَةِ. ذِمِّيٌّ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ عُقْرَهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ نَفْسُهَا قُضِيَ عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا أَسْلَمَتْ وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ وَلَا عُقْرَ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ عُقْرَهَا كَكَسْبِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْكَسْبِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ هُنَا. عَبْدٌ كَافِرٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَكَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ عَلَى خَمْرٍ تَجُوزُ الْمُكَاتَبَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْكِتَابَةَ لَا تَتَجَزَّى وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا فِي نَصِيبِ الْمُسْلِمِ بِالْخَمْرِ فَكَذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْكَافِرِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكِتَابَةُ تَتَجَزَّى فَيُقْتَصَرُ الْعَقْدُ عَلَى نَصِيبِ الْكَافِرِ خَاصَّةً وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ كَافِرٍ بِخَمْرٍ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ وَلَا يَضْمَنُ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ الْخَمْرِ سَوَاءٌ كَاتَبَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْعَبْدُ قَضَى بِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَضْمَنُ الْخَمْرَ لِلْمُسْلِمِ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَإِنْ كَاتَبَاهُ جَمِيعًا عَلَى خَمْرٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ وَلَوْ كَانَ دَرَاهِمَ وَقَدْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ فِي نَصِيبِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ الْبَدَلُ خَمْرًا فَلَا يَصِحُّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَيْضًا إذْ لَوْ صَحَّحْنَاهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ الْخَمْرِ إلَيْهِ وَذَلِكَ خِلَافُ شَرْطِهِمَا فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي نَصِيبِهِ فَاسِدٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْأَدَاءِ مَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ وَلِلذِّمِّيِّ نِصْفُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ قَدْ زَالَ فِي نَصِيبِهِ حِينَ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ وَتَسْمِيَةُ الْخَمْرِ فِي حَقِّهِ كَانَ صَحِيحًا وَقَدْ سَلِمَ لَهُ نِصْفُ الْخَمْرِ كَمَا شَرَطَ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيَّيْنِ كَاتَبَا عَبْدًا عَلَى خَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَهُمَا جَمِيعًا قِيمَةُ الْخَمْرِ يَوْمَ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ فَيُجْعَلُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي تَعَذُّرِ قَبْضِ الْخَمْرِ كَإِسْلَامِهِمَا وَلَوْ أَسْلَمَا تَحَوَّلَ الْخَمْرُ قِيمَةً عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُسْلِمِ تَحَوَّلَ إلَى الدَّرَاهِمِ بِإِسْلَامِهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَوَّلَ نَصِيبُ الْآخَرِ إلَى الدَّرَاهِمِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي نَصِيبِهِمَا وَاحِدٌ فَلِهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 لَا يُعْتَقُ نَصِيبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَدَاءِ الْخَمْرِ وَإِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ كَانَ الْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْبَاقِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا الْخَمْرَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ. وَإِذَا مَاتَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ فَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ وَقَدْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَعَلَيْهِ كَفَنُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ حَضَرَ مَوْلَاهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَهُ. حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَكَاتَبَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ فَإِنْ أَدْخَلَهُ مَعَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ أَدْخَلَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ وَإِدْخَالُهُ إيَّاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ دَبَّرَهُ فَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ فِي قِيمَتِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا دَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ وَتَسْقُطُ السِّعَايَةُ عَنْهَا وَعَنْ الْمُدَبَّرِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيًّا أَوْ الْأَمَةُ ذِمِّيَّةً؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَكَاتَبَهُمَا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِأَحَدِهِمَا فَاَلَّذِي أَدْخَلَهُ مَعَهُ دَارَ الْحَرْبِ حُرٌّ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَصْدًا وَالْآخَرُ لَا يُعْتَقُ بِإِعْتَاقِ أَحَدِهِمَا قَصْدًا وَلَكِنَّهُ عَلَى مُكَاتَبَتِهِ يَسْعَى فِي حِصَّتِهِ مِنْهَا فَإِنْ رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَدَّاهَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَأَدَّاهَا إلَى الْقَاضِي عَتَقَ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرْبِيٌّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ فِي قَبْضِ دُيُونِ الْمَيِّتِ فَلِهَذَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ إلَى الْقَاضِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَالُ لِلْحَرْبِيِّ إذَا جَاءَ أَخَذَهُ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانِ لَهُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَفَهُ فِي دَارِنَا وَوَلَاءُ الْعَبْدِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ حِينَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ وَلَاءَ الْعَبْدِ يَكُونُ لَهُ. حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِنَا اشْتَرَى عَبْدًا فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ حِينَ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ سَقَطَتْ حُرْمَةُ مِلْكِهِ وَبَقِيَ الْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَيَدُهُ مُحْتَرَمَةٌ فَيُعْتَقُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَهَرَ مَوْلَاهُ صَارَ هُوَ مَالِكًا وَالْمَوْلَى مَمْلُوكًا فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 وَمَتَى كَانَ عِتْقُ الْعَبْدِ لِتَمَلُّكِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ كَالْمُرَاغَمِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَوْ يَهْرَبَ مِنْهُ إلَيْنَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَبْدًا مُسْلِمًا فَالْعِتْقُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِالْقَهْرِ فَإِنَّ حُرِّيَّتَهُ تَتَأَكَّدُ بِإِسْلَامِهِ فَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِمَّنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، وَقَدْ بَاشَرَ الْحَرْبِيُّ هُنَا اكْتِسَابَ سَبَبِ الْوَلَاءِ وَهُوَ إعْتَاقُهُ إيَّاهُ وَكُلُّ مُعْتَقٍ يَجْرِي عَلَيْهِ السَّبْيُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْمَوْلَى حَرْبِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمُعْتَقِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَنْفُذُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّ الطَّحَاوِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ هَذَا الْخِلَافَ فِي الْوَلَاءِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ نَصَّ هُنَا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوَلَاءِ أَنَّ لِلْمُعْتَقِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَاؤُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَعَلَ ذَلِكَ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُسْلِمِ خَاصَّةً يُعْتَقُ الْحَرْبِيُّ أَنَّ لَهُ وَلَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّيْنِ يُعْتِقُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمَوْلَى إذَا كَانَ مُسْلِمًا حُكْمُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَفِي التَّعْلِيلِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى مُسْلِمًا. وَفِي قَوْلِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّيْنِ يُعْتِقُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا أَشَارَ إلَى الِاسْتِحْسَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَاشْتَبَهَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلَيْنِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حَرْبِيٌّ فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِلْزَامُ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ خَرَجَ إلَيْنَا فَقَدْ خَرَجَ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ ضَمَانِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَالِ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَاصْطِنَاعُ مَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ لِلْغُرَمَاءِ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 التُّجَّارِ عَادَةً بَلْ يَحْتَرِزُونَ عَنْهَا وَكَذَلِكَ كَفَالَتُهُ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْبَسُ إذَا غَابَ الْمَطْلُوبُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ فَوُجُودُ إذْنِهِ فِيمَا هُوَ تَبَرُّعٌ كَعَدَمِهِ وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمَوْلَى فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْتِزَامِ الْمَالِ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْكَفَالَةِ فَإِنْ كَفَلَ بِمَالٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ عَجَزَ لَمْ تَلْزَمْهُ تِلْكَ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ضَمَانِهِ كَانَ بَاطِلًا فِي حَالَةِ رِقِّهِ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ مَعَ الرِّقِّ وَبِالْعَجْزِ يَتَأَكَّدُ رِقُّهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ حِينَ كَفَلَ، وَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ صَحِيحٌ فِي ذِمَّتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلُ مُلْزِمٍ وَلَا يَكُونُ هُوَ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ أَدْوَنَ مِنْ الْعَبْدِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا مَحْجُورًا كَفَلَ بِكَفَالَةٍ ثُمَّ عَتَقَ لَزِمَتْهُ فَالْمُكَاتَبُ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَفَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ يُطَالَبُ بِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ إلْزَامِ الْمَالِ فِي رَقَبَتِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ صَغِيرًا حِينَ كَفَلَ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَا، وَإِنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي التَّبَرُّعَاتِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ، وَأَبُوهُ وَقَرَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَحَالُهُ كَحَالِ الْمُكَاتَبِ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ. وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَفَلَ لَهُ سَيِّدُهُ بِمَالٍ عَلَى إنْسَانٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى يَشْتَرِيَ مِنْهُ وَيَبِيعَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ وَكَفَالَةُ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِالْمَالِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ لَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ كَفَالَةُ الْمَوْلَى فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ رَجَعَ السَّيِّدُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بَطَلَ الْمَالُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ وَكَسْبُهُ بِالْعَجْزِ يَصِيرُ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ فَكَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى الْمَالَ الْمَكْفُولَ بِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَمِلْكِهِ وَالْهِبَةُ مِنْهُ وَهُنَاكَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إذَا كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَ أَدَّى السَّيِّدَ الْمَالَ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ رَجَعَ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الَّذِي ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُكَاتَبُ الْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَمَا أَنَّ عَوْدَ مَالِهِ إلَى الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 فَكَذَلِكَ عَوْدُ هَذَا الْمَالِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَّتْ الْمُكَاتَبَةُ فَصَارَتْ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَ الْكَفَالَةِ لِلْمُكَاتَبِ أَوْ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ. وَلَا تَجُوزُ مُكَاتَبَةُ مَا فِي الْبَطْنِ، وَإِنْ قَبِلَتْهَا الْأُمُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي الْقَبُولِ وَالْقَبُولُ مِنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كِتَابَةَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ بَاطِلٌ فَمَا فِي الْبَطْنِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ إنْ تَوَلَّى قَبُولُ ذَلِكَ حُرٌّ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ وَضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْقَبُولِ وَمَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْكِتَابَةِ وَالْعَقْدِ مَتَى أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَبُولُ الْغَيْرِ كَقَبُولِ مَنْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ الْقَبُولُ فِيهِ مِمَّنْ هُوَ الْمَقْصُودُ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ قَالَ لِلْحُرِّ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَأَدَّاهُ عَتَقَ إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ يَوْمَئِذٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ مَحَلُّ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ وَيَعْتِقُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَالِ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لَمْ يَمْلِكْهُ مِنْ الْمَوْلَى بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَعِتْقُ الْجَنِينِ كَانَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ هُوَ الْأَدَاءُ إلَى الْمَوْلَى دُونَ التَّمْلِيكِ مِنْهُ فَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَدِّي؛ فَلَهَدَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَتَقَ الْجَنِينُ. وَإِذَا وَهَبَ الْمُكَاتَبُ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ رُدَّتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ كَانَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمَا صَنَعَ وَلَا كَانَ كَسْبُهُ مُحْتَمِلًا لَهُ فَلَغَا فِعْلَهُ وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ فَيَأْخُذُهُ حَيْثُ مَا يَجِدُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِخِلَافِ كَفَالَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْتِزَامٌ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ بِاسْتِهْلَاكِهِ مَالًا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ وَيَسْتَوْفِيهِ الْمَوْلَى بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي كَسْبِهِ خَلَصَ لَهُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ عَبْدًا مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ فِي حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ كَالْحُرِّ وَالْمَوْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ عَجَزَ ثُمَّ وَجَدَ السَّيِّدُ بِهِ عَيْبًا وَقَدْ اشْتَرَاهُ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَخْلُصُ لَهُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ كَمَا يَخْلُصُ لِلْمُكَاتَبِ بِعِتْقِهِ ثُمَّ لَا يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الْعَجْزِ وَالْمَوْلَى يَخْلُفُ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ، وَلِلْوَارِثِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِيمَا اشْتَرَاهُ مُوَرِّثُهُ فَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُكَاتَبَ هُوَ الَّذِي يَلِي رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ خَاصَّةً مَا بَقِيَ حَيًّا وَهُوَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ يَشْتَرِي شَيْئًا ثُمَّ يَحْجُرُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ. مُكَاتَبٌ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ سَيِّدِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَوَجَدَ بِهِ السَّيِّدُ عَيْبًا لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ مِنْ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَامَلَهُ بِشَيْءٍ وَلَا كَانَ مِلْكُهُ مُسْتَفَادًا بِذَلِكَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْتَفَادُ بِعَقْدِهِ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ فَمَا لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ الْمِلْكُ لَا تُتَصَوَّرُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ فِي الْعَيْبِ وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الْعَجْزِ ثُمَّ وَجَدَ السَّيِّدُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ لِلْمُكَاتَبِ مُتَعَذِّرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ عَاجِزًا عَمَّا كَانَ مُتَعَذِّرًا بَعْدَ عَجْزِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ وَدَيْنٌ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ دَيْنُ الْمَوْلَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّتَهُ، وَمَالِيَّتُهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ فِي مِلْكِهِ، وَيُبَاعُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ وَبَقِيَ بَعْدَ الْعَجْزِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَجْزَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لِلْأَجْنَبِيِّ ابْتِدَاءً إذَا وُجِدَتْ سَبَبُهُ فَكَذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَهُ وَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ فَيُبَاعُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ وَلَكِنَّهُ مَاتَ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ بُدِئَ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى ثُمَّ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبَتِهِ، وَفِي هَذَا أَشَارَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُكَاتَبَةِ وَالدَّيْنِ الْآخَرِ لِلْمَوْلَى وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا مُفَسَّرًا أَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى مُقَدَّمٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ. وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، وَفِي رَقَبَتِهِ دَيْنٌ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَبْدٍ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يُرِيدُ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَجْزِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْعَجْزِ فَإِنْ رَدَّهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَالْعَبْدُ الْمَرْدُودُ كَسْبُهُ فَيُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الرَّادِّ وَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمْ فِي كَسْبِهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّادُّ: لَا أَرُدُّهُ حَتَّى آخُذَ ثَمَنَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ عِنْدَ الرَّدِّ كَحَالِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الرَّدِّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ وَبِاعْتِبَارِ بَقَاءِ يَدِهِ هُوَ أَحَقُّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَيُبَاعُ لَهُ خَاصَّةً. وَإِذَا سُبِيَ الْمُكَاتَبُ فَاسْتَدَانَ دَيْنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا اسْتَدَانَهُ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْلَكُ بِالْأَسْرِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ مُكَاتَبًا سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَاسْتَدَانَ فِي رِدَّتِهِ أَيْضًا عُلِمَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْمَرَضِ حَتَّى يَبْدَأَ بِمَا اسْتَدَانَهُ فِي حَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 الْإِسْلَامِ مِنْ إكْسَابِهِ ثُمَّ مَا بَقِيَ لِلَّذِي أَدَانَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - الْكُلُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ مَا نَزَلَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ لِكَوْنِهِ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْحُرَّ بِالرِّدَّةِ تَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ وَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمُكَاتَبُ إنَّمَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مَوْلَاهُ فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَجَرِ مُتَقَرِّرٌ فَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ وَيُقَدَّمُ دَيْنُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي فِي هَذَا كَسْبُ الْإِسْلَامِ وَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي الْكَسْبَانِ فِيهِ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ وَأَدَاءِ مُكَاتَبَتِهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ قِيَامَ حَقِّ الْمَوْلَى يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَسْبُ رِدَّتِهِ فَيْئًا فَيَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ كَكَسْبِ إسْلَامِهِ. وَلَوْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ثُمَّ اسْتَدَانَ فِي رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَمِيعُ ذَلِكَ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إذْنِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَإِذَا أَسْلَمَ صَارَ كَأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ فَيَكُونُ هَذَا وَمَا اسْتَدَانَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا عَنْ مَالٍ كَانَ غُرَمَاؤُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانُوا أَحَقَّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا سَعَى وَلَدُ الْمُكَاتَبِ الْمَوْلُودُ فِي مُكَاتَبَتِهِ وَقَضَى مُكَاتَبَتَهُ وَعَتَقَ ثُمَّ حَضَرَ غُرَمَاءُ أَبِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ وَلَكِنَّهُمْ يُتْبِعُونَ الْوَلَدَ بِدَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَالْمُكَاتَبُ فِي حَيَاتِهِ لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ أَوَّلًا عَتَقَ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ وَلَدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا، نَقُولُ فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ تَرَكَ مَالًا فَأَدَّاهُ الِابْنُ إلَى السَّيِّدِ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكُ الْوَلَدُ إبْطَالَ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ وَيَعُودُ الِابْنُ مُكَاتَبًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُ لَمَّا بَطَلَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا فِي الْفَصْلِ بِعَيْنِهِ إنَّهُ يَكُونُ حُرًّا وَهَكَذَا يُذْكَرُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَيُضِيفُهُ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ابْنَ الْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى مِنْ تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ مَالًا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلَحِقَهُ دَيْنٌ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَوْلَى مَا أُخِذَ وَيَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عِتْقِهِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْأَدَاءُ فَيُعْتَقُ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُسْتَحَقًّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 لِلْغُرَمَاءِ وَلَكِنْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ هُوَ لَا يَخْلُفُ أَبَاهُ فِي كَسْبِهِ مَا بَقِيَ الرِّقُّ فِيهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَدَائِهِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ فِيمَا يَكْتَسِبُهُ بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ أَدَاؤُهُ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى مَا يَقْبِضُهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وُجُوهُ وَصِيَّةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ أَوْصَى لِعَبْدٍ لَهُ، فَقَالَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي نَسَمَةً فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ نَسَمَةٌ يَكُونُ لِلْعِتْقِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرْغَبُ فِيهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ لَوْ أَوْصَى بِهَذَا يَحُطُّ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يَرْغَبُ فِي الشِّرَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَوَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ بِالثُّلُثِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كَسْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ فَإِنْ أَجَازُوا بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ إلَى صَاحِبِهِمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ لَغْوًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا تَعْمَلُ الْإِجَازَةُ فِي لُزُومِهِ بِخِلَافِ وَرَثَةِ الْحُرِّ إذَا أَجَازُوا وَصِيَّتَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ نُفُوذُهُ لَحِقَ الْوَرَثَةَ فَإِجَازَتُهُمْ تَكُونُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِمْ فَلِهَذَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَهُنَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا تَعْمَلُ الْإِجَازَةُ فِيهِ وَلَكِنَّهُمْ لَوْ دَفَعُوهُ إلَى صَاحِبِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُمْ الِاسْتِرْدَادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا الْعَقْدُ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ أَجَازَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَانَ لَغْوًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ دَفْعُهُمْ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ تَمْلِيكٌ مِنْهُ لِذَلِكَ الْمَالِ وَتَمْلِيكُهُمْ صَحِيحٌ بَعْدَ مَا خَلَصَ الْمَالُ لَهُمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَ تَمْلِيكُهُ فَلِهَذَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ. وَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِصَدَقَةٍ فَقَضَى مِنْهَا الْكِتَابَةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ فَعَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي يَدِهِ فَهِيَ طَيِّبَةٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمَّتْ وَصَارَ الْمَقْبُوضُ كَسْبًا لِلْمُكَاتَبِ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى إمَّا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ أَوْ بِجِهَةِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ فَيَكُونُ طَيِّبًا لَهُ كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ بَرِيرَةَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ». وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى عَبْدِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ الصَّدَقَةِ كَالْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ وَيَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَى عَبْدِ الْفَقِيرِ بِزَكَاةِ الْمَالِ وَيَحِلُّ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَكَاتِبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى مَعَ الْمُكَاتَبِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَالَ) إذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ كَاتَبْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمَوْلَى: عَلَى أَلْفَيْنِ فَجَعَلَ الْقَاضِي الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُكَاتَبِ مَعَ يَمِينِهِ وَأَلْزَمَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ، ثُمَّ أَقَامَ السَّيِّدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَبَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ زِيَادَةِ الْمَالِ، وَهُوَ حَقُّهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا بَعْدُ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَدَّى أَلْفًا وَأَمْضَى الْقَاضِي عِتْقَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ، فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْحُجَّةِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَلْفَانِ، وَأَنَّ الْقَاضِي مُخْطِئٌ فِي إمْضَاءِ عِتْقِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِعِتْقِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، ثُمَّ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ عَلَى إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى نَفْيِ الْعِتْقِ الْمَقْضِيِّ بِهِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بُطْلَانُ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْبَدَلَ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي وَقْتِ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُعْتَقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُعْتَقُ بِأَدَاءِ قَدْرِ قِيمَتِهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِعِتْقِهِ صَادَفَ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ نَافِذًا فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُخَاصِمْهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى أَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَلْفَيْنِ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَلْفَانِ فَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْمَالِ، وَلَمَّا لَمْ يُخَاصِمْهُ إلَى الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ لَهُ مُحَالًا بِهِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْضِ بِشَيْءٍ فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ. وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: كَاتَبْتَنِي عَلَى أَلْفٍ إذَا أَدَّيْتَ فَأَنَا حُرٌّ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ فَيُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمَوْلَى عَلَى الْمَالِ وَبِبَيِّنَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعِتْقِ فَإِذَا أَدَّى أَلْفًا عَتَقَ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عِتْقِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ حِين شَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّهُ قَالَ إذَا أَدَّى أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ أَبْهَمَ الْجَوَابَ وَهُنَا فَسَّرَ وَفَرَّقَ بَيْنَمَا إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْعَبْدِ أَنَّهُ قَالَ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ وَلَكِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ وَنَجَمَهَا عَلَيْهِ نُجُومًا فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ هُنَا حَتَّى يُؤَدِّيَ أَلْفًا أُخْرَى، وَهَذَا الْفَرْقُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عِتْقُهُ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ الْمَوْلَى أَنَّ الْبَدَلَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ أَلْفَانِ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ، ثُمَّ جَدَّدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 الْكِتَابَةَ عَلَى أَلْفَيْنِ أَوْ زَادَهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ أَلْفًا أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْعَبْدُ: كَاتَبْتَنِي عَلَى نَفْسِي وَمَالِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمَوْلَى: بَلْ كَاتَبْتُكَ عَلَى نَفْسِكَ دُونَ مَالِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَوْلَى: كَاتَبْتُكَ عَلَى نَفْسِكَ خَاصَّةً، وَقَالَ الْعَبْدُ: بَلْ عَلَى نَفْسِي وَوَلَدِي. فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى: كَانَ هَذَا الْمَالُ فِي يَدِكَ حِينَ كَاتَبْتُكَ فَهُوَ مَالِي، وَقَالَ الْعَبْدُ: أَصَبْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِحُكْمِ يَدِهِ، وَالْمَوْلَى يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلِأَنَّ الْكَسْبَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى إثْبَاتِ التَّارِيخِ السَّابِقِ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا فَسَادًا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْعَقْدِ يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمَا عَلَى مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَقْدُ فَإِنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلِأَنَّ الْمُفْسَدَ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى مَا بِهِ تَتِمُّ الْمُكَاتَبَةُ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ بِبَيِّنَتِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ، وَقَالَ الْعَبْدُ إلَى سَنَتَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْأَجَلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ زِيَادَةً فِي الْأَجَلِ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَاتَبَهُ نُجُومًا عَلَى أَلْفٍ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةٌ، وَقَالَ الْمَوْلَى: نُجُومُكَ مِائَتَانِ كُلَّ شَهْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فِي فَصْلِ الْأَجَلِ الْعَبْدُ يَدَّعِي أَنَّ الْأَجَلَ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَالْمَوْلَى يَدَّعِي أَنَّ الْأَجَلَ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: كَاتَبْتَنِي عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَقَالَ الْمَوْلَى: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتَبِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى، وَبَيِّنَتُهُ عَلَى إثْبَاتِ حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَةِ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّهِ. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِمُكَاتَبَتِهِ: وَلَدْتِ هَذَا الْوَلَدَ قَبْلَ أَنْ أُكَاتِبَكِ فَهُوَ عَبْدِي، وَقَالَتْ: بَلْ وَلَدْتُهُ فِي مُكَاتَبَتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ فِي يَدِهِ الْوَلَدُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَالْآخَرُ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. (فَإِنْ قِيلَ): إذَا كَانَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَلِمَاذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَوِلَادَتُهَا الْوَلَدَ حَادِثٌ وَيُحَالُ بِالْحَادِثِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّ هَذَا نَوْعٌ ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَالْمُكَاتَبُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْوَلَدِ، وَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكْفِي فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُكَاتَبَةِ أَمَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِبَيِّنَتِهَا، وَالْمَوْلَى يَنْفِي ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقَ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّهَا بِبَيِّنَتِهَا تُثْبِتُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فِي الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ عِنْدَ أَدَائِهَا، وَالْمَوْلَى يَنْفِي ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ فَكَانَ الْمُثْبَتُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي وَلَدِهَا هَذَا الِاخْتِلَافَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْجَارِيَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الْعِتْقِ لِلْوَلَدِ. وَإِذَا مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ وَلَدُهَا، وَالْمَوْلَى فِي الْمُكَاتَبَةِ فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمَوْلَى، وَالْأُمِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَامَ مَقَامَ الْأُمِّ فَاخْتِلَافُهُ مَعَ الْمَوْلَى فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأُمِّ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الْوَلَدُ أَنَّهُ أَدَّى الْبَدَلَ أَوْ أَنَّ الْأُمَّ أَدَّتْ الْبَدَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ الْأُمُّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهَا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُكَاتَبَةِ وَابْنِ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى. وَلَوْ كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدًا لَهُ مُسْلِمًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ وَأَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً مِنْ النَّصَارَى لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُسْلِمٌ وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ. حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا وَكَاتَبَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ دَخَلَ مَعَهُ بِأَمَانٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا لَا تَكُونُ حُجَّةً كَشَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ، وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ الْمَرِيضِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَرِيضٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ نَجَّمَهَا عَلَيْهِ نُجُومًا وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنَّهُ يُخَيِّرُ الْعَبْدُ إنْ شَاءَ عَجَّلَ مَا زَادَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ بِتَأْجِيلِ الْمَالِ عَلَيْهِ أَخَّرَ حَقَّ الْوَرَثَةِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ التَّأْجِيلِ كَضَرَرِ الْإِبْطَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَيْلُولَةَ تَقَعُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ حَقِّهِمْ عَقِيبَ مَوْتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَجَّلَ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ يُعْتَبَرُ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ، وَأَنَّ شُهُودَ التَّأْجِيلِ فِي الدَّيْنِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا كَشُهُودِ الْإِبْرَاءِ فَإِنْ عَجَّلَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حُسِبَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيمَ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 عَجَّلَ شَيْئًا عِنْدَ اعْتِرَاضِ الْوَرَثَةِ يَشِيعُ الْمُعَجَّلُ فِي جَمِيعِ النُّجُومِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ بِحِصَّتِهِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ النُّجُومِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَجَّلَ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ عَجِّلْ ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقَالُ لَهُ عَجِّلْ ثُلُثَيْ قِيمَتِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ مَالَ الْمَوْلَى بَدَلُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا زَادَ عَلَى ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ كَانَ الْمَرِيضُ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَهُ أَصْلًا فَإِذَا تَمَلَّكَهُ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَجَلِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قِيلَ لَهُ عَجِّلْ ثُلُثَيْ قِيمَتِكَ وَأَنْتَ حُرٌّ وَإِلَّا رَدَدْنَاكَ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَالْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِ ثُلُثِهِ وَإِذَا اسْتَغْرَقَتْ الْمُحَابَاةُ لِلثُّلُثِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ التَّأْجِيلِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَيُؤْمَرُ بِأَنْ يُعَجِّلَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ وَيُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ مِنْهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ لَا يُبْطِلُ الِاسْتِحْقَاقَ الثَّابِتَ لِلْمُكَاتِبِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَدْرِ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّ هُنَا بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إيصَالِ الْمَالِ إلَيْهِ ظَاهِرًا لِيَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، ثُمَّ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ هُنَا أَنَّهُ قَصَدَ بِتَصَرُّفِهِ تَحْصِيلَ الْعِتْقِ لَهُ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ كَأَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهُ مَكَانَ الْكِتَابَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَقَلِّ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِأَنَّهُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَعْجِزَ نَفْسَهُ فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ إلَّا فِي الْقِيمَةِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ فِي الْأَقَلِّ وَهُوَ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَلِأَنَّ إعْتَاقَهُ إيَّاهُ إبْطَالٌ لِلْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُبْتَدَأَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ الْمُعْتَقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا إبْطَالًا لِلْكِتَابَةِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُكَاتِبْهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ حُرٌّ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُوَ الْأَقَلُّ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ بِالْهِبَةِ مِنْ الثُّلُثِ فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقُّهُ وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ إنَّهُ مَتَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 أَدَّى ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَتَقَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ وَمُرَادُهُ قَوْلَ يَعْقُوبَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعِتْقِهِ وَجْهَانِ سَعَى فِي الْأَقَلِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ جِهَةِ السِّعَايَةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبَةِ وَلَا يُخَيِّرُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَاتَبَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ مَا عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ قَبَضَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَلَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا أَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَ بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ بَطَلَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَمَا أَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْكِتَابَةِ، وَالسِّعَايَةِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. (قَالَ): وَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ وَهَبَ لَهُ الْبَاقِيَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ هُنَا أَقَلُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَالَ الْمَوْلَى الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ الْأَقَلُّ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ هُنَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا وَاشْتَرَتْ وَلَدًا آخَرَ لَهَا، ثُمَّ مَاتَتْ سَعَيَا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى النُّجُومِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ فِي بَقَاءِ النُّجُومِ بِبَقَائِهِ وَهُوَ الْمُطَالَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ حُلُولِ كُلِّ نَجْمٍ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَا يُطَالَبُ بِالْمَالِ عَلَى النُّجُومِ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ حَالًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا يُبَاعُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ مَقَامَهَا، وَإِنَّمَا الْقَائِمُ مَقَامَهَا هُوَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَحْدَهُ كَانَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَصَارَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ الْآخَرِ كَالْأُمِّ وَفِي حَالِ حَيَاتِهَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُطَالَبُ بِالْمَالِ وَتَلِي الْأَدَاءَ دُونَ الْوَلَدِ فَكَذَا هُنَا فَإِنْ سَعَى الْوَلَدُ فِي الْكِتَابَةِ وَأَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ أُمِّهِ وَلِأَنَّ كَسْبَهُ فِي أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ تَرِكَتِهَا وَعِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ التَّرِكَةِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا أَدَّى مِنْ كَسْبِهِ. وَلَوْ اكْتَسَبَ هَذَا الِابْنُ الْمُشْتَرَى كَسْبًا فَلِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أُمِّهِ وَكَانَ لَهَا فِي حَيَاتِهَا أَنْ تَأْخُذَ كَسْبَهُ فَكَذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ الْأَجَلُ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَلَا يَبْقَى الْأَجَلُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَنْ هُوَ أَصْلٌ عَرَفْنَا أَنَّهُ أَصْلٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَالْمُشْتَرَى تَبَعٌ لَهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي عَمَلٍ لِيَأْخُذَ كَسْبَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أَوْ يَأْمُرُ أَخَاهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ حَيَّةً كَانَ لَهَا أَنْ تُؤَاجِرَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي إذَا أَبَى أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِيُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ إجَارَتِهِ وَمَا اكْتَسَبَ الْمَوْلُودُ فِي الْمُكَاتَبَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَمَا اكْتَسَبَ أَخُوهُ حُسِبَ مِنْ تَرِكَتِهَا فَقَضَى مِنْهُ الْكِتَابَةَ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا فَيَكُونُ كَسْبُهُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَتْهُ يَقْضِي مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ عَنْهَا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَأَمَّا الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ قَدْ انْتَصَبَ أَصْلًا فَإِذَا حَكَمَ بِعِتْقِهِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ عِتْقِ أُمِّهِ كَانَ مَا اكْتَسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ وَكُلُّ مَنْ تَكَاتَبَ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ السِّعَايَةِ عَلَى النُّجُومِ سَوَاءٌ فَلَا يَكُونُ لِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا يَتْبَعُ لِصَاحِبِهِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ كَاتَبَ الصَّحِيحُ بِإِذْنِهِ جَازَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ إبْطَالُهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوَرِّثِ إبْطَالُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِوَارِثِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْإِذْنِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إسْقَاطِ خِيَارٍ ثَبَتَ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَ بَعْضَ الْمُكَاتَبَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، مِنْ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ قَالَ هَذَا غَلَطٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَبْضِ رِضًا مِنْهُ بِأَنْ يَقْضِيَ الْمُكَاتَبُ دَيْنَهُ بِنِصْفِ الْكَسْبِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْمَرِيضِ، وَهَذَا تَبَرُّعٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَرِيضُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ وَرَثَتِهِ عَنْ كَسْبِهِ بِأَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى الْكِتَابَةِ فَيُعْمَلُ رِضَاهُ أَيْضًا بِقَضَاءٍ بَدَلُ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ سَبِيلٌ عَلَى إبْطَالِ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَتَبَرُّعُهُ بِمَنْفَعَةِ نَصِيبِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ فَكَذَلِكَ تَبَرُّعُهُ مِنْ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّتَهُ مِنْ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْيِيبًا لَهُمَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ جَمِيعًا، وَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعَقْدِ نَفَقَتُهَا عَنْهُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ أَيْضًا فَكَانَ هَذَا ضَرَرًا فِي حَقِّ الْمَكَاتِبِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ. وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَيَقْصِدُ بِهِ اكْتِسَابَ الْمَالِ، وَالْمُكَاتَبُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي مِثْلِهِ وَلِأَنَّ الْفَكَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابَةِ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالْإِذْنِ وَإِذَا جَازَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمُكَاتَبِ أَوْلَى فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْمَكَاتِبُ وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 الدَّيْنَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ تَنَاوَلَهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ، وَالْمُكَاتَبُ فِي مِثْلِهِ كَالْحُرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِنَفْسِهِ جُعِلَ كَالْحُرِّ لِهَذَا فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، وَقَدْ لَحِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ بِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَيْنِ نَفْسِهِ لَا أَنْ يَفْدِيَهُمَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى فَيَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُمَا الدَّيْنَ أَوْ يُبَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَيْنِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ لَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ بَلْ الْمُكَاتَبُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فَكَمَا لَا يَقْضِي دَيْنَ الْعَبْدِ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي مِنْ ثَمَنِ الْمُكَاتَبِ. وَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ شَيْءٌ صُرِفَ فِي دَيْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَسْبُهُ وَحَقُّ غُرَمَائِهِ ثَبَتَ فِي كَسْبِهِ إلَّا أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ كَانَ مُقَدَّمًا فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْ دَيْنِهِ صُرِفَ فِي دَيْنِ الْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ قَضَى الْمَوْلَى بَعْضَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ دَيْنَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى مَنْ اقْتَضَى دَيْنَهُ سَبِيلٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا قَضَى مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُتَبَرِّعٍ آخَرَ يَتَبَرَّعُ بِقَضَاءِ بَعْضِ دَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْبَاقِينَ عَلَى الْمُقْتَضِي سَبِيلٌ وَلَكِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْعَبْدَ بِدَيْنِهِمْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا يُخَاصِمُهُمْ الْمَوْلَى بِمَا قَضَى مِنْ دَيْنِهِ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ وَلَا فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ هُوَ فِي الْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مُتَبَرِّعٍ آخَرَ وَعَجَزَ الْمُكَاتَبُ حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِذْنِ بِاعْتِبَارِ الْفَكِّ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ فَيَكُونُ عَجْزُهُ كَمَوْتِ الْحُرِّ وَبِمَوْتِ الْحُرِّ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَقَدْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَهُوَ كَمَوْتِ الْحُرِّ فَيَكُونُ حَجْرًا عَلَى الْعَبْدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ إذْنُهُ؛ لِأَنَّ غُرَمَاءَ الْعَبْدِ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ إنَّمَا يَخْلُفُ أَبَاهُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ، فَأَمَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَلَا فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إذْنُهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَإِذَا أَذِنَ الْمُكَاتَبُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَدَانَ دَيْنًا فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى الْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِمْ جَازَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْلَى هُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ، وَالْمُكَاتَبُ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَالْحُرِّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْفَكُّ وَدَفْعُ الْعَبْدِ إلَى الْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِمْ يَجُوزُ مِنْ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمَكَاتِبِ. وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْذَنُ الْعَبْدُ فِيهِ، وَإِنْ أَذِنَ لِأَمَتِهِ فِي التَّزْوِيجِ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَهْرَهَا وَيُسْقِطُ نَفَقَتَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَيْسَ مِنْ صُنِعَ التُّجَّارِ عَادَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الْكِتَابَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَجُوزُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْكِتَابَةِ مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ نُفُوذِهِ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ فِيهَا الْخِيَارَ ثَلَاثًا فَاكْتَسَبَ الْعَبْدُ كَسْبًا أَوْ كَانَتْ جَارِيَةٌ فَوُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَجَازَ الْكِتَابَةَ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ مِنْ حِينِ عُقِدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا أَجَازَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ وَلِأَنَّ وَلَدَهَا فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا وَهِيَ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ فَكَذَلِكَ بِمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا، وَالْكَسْبُ بَدَلُ مَنَافِعِهَا وَهِيَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابَةِ كَمَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَ أَوْ أَعْتَقَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ رَدٌّ لِلْمُكَاتَبَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ أَوْ بَاعَهُ كَانَ رَدًّا لِلْبَيْعِ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا وَلَوْ بَاشَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ فِيهَا كَانَ رَدًّا لِلْمُكَاتَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي جُزْءٍ مِنْهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُسَلِّمُ لَهَا بِنُفُوذِ الْكِتَابَةِ بِالْإِجَازَةِ وَمَقْصُودُ الْمَوْلَى تَصْحِيحُ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ فَجَعَلْنَاهُ فَاسِخًا لِهَذَا، وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الْإِشْكَالِ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عِتْقِ الْوَلَدِ، وَبَيْنَ نُفُوذِ الْكِتَابَةِ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَلَدَهَا بَعْدَ نُفُوذِ الْكِتَابَةِ وَلُزُومِهَا كَانَ عِتْقُهُ صَحِيحًا نَافِذًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ إعْتَاقُهُ الْوَلَدَ رَدًّا لِلْكِتَابَةِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ صِغَارٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ بَعْضُ وَلَدِهِ، ثُمَّ أَجَازَ الْكِتَابَةَ جَازَتْ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلُّهُ عَلَيْهِ دُونَ الْوَلَدِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ فِي إلْزَامِ الْبَدَلِ إيَّاهُ فَكَذَلِكَ مَوْتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي كِتَابَتِهِ وَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ. وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّتَهُ عَلَى أَنَّهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَوَلَدَتْ فَأَعْتَقَ السَّيِّدُ الْوَلَدَ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ عِتْقِ السَّيِّدِ الْوَلَدَ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ فِيهَا مُمْكِنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَلَدَهَا بَعْدَ لُزُومِ الْكِتَابَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 نَفَذَ عِتْقُهُ، ثُمَّ لَا يُحَطُّ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلَ بَعْضِ مَقْصُودِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ نُفُوذِ الْكِتَابَةِ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ لَمْ يُحَطَّ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْكِتَابَةِ إذَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى فَإِنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْعِتْقِ هُنَاكَ فَسْخٌ مِنْهُ لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ كَانَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ الْوَلَدُ مَعَهَا فَكَذَلِكَ إعْتَاقُهُ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ بِخِيَارِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فَالْعَقْدُ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَكُنْ فَاسِخًا لِلْكِتَابَةِ حَتَّى يُعْتِقَ الْوَلَدَ مَعَهَا وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ وَلَدَهَا فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَالْخِيَارِ لِلْمَوْلَى فَلَهُ الْإِجَازَةُ، ثُمَّ الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ الْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَبِالْقِيَاسِ يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ أَوَانَ لُزُومِ الْعَقْدِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ مَنْ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ عِنْدَ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا عَلَى الْوَلَدِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُودُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ الْأَصْلُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْخَلَفِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا فَبَقَاؤُهُ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ كَبَقَائِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ نُفُوذِ الْعَقْدِ لَوْ مَاتَتْ جَعَلَ الْوَلَدَ قَائِمًا مَقَامَهَا فِي السِّعَايَةِ عَلَى النُّجُومِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ إذَا مَاتَتْ بِجَعْلِ الْوَلَدِ قَائِمًا مَقَامَهَا فِي تَنْفِيذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ لِحَاجَتِهَا وَلِحَاجَةِ وَلَدِهَا إلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يُورَثُ مِمَّنْ هُوَ حُرٌّ فَكَيْفَ يُورَثُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَلَكِنَّهَا لَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ وَعَجَزَتْ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ سَقَطَ خِيَارُهَا، فَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَرَتْ وَبَاعَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، ثُمَّ رَدَّ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَةَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِمَّا صَنَعَتْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بَطَلَتْ بِفَسْخِ الْمَوْلَى قَبْلَ تَمَامِهَا، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ الْكِتَابَةِ وَلُزُومِهَا فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَأْذُونَةً فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى رَآهَا فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهَا فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ إجَازَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَاسْتَدَانَ دَيْنًا، ثُمَّ رَدَّ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَأَمَّا إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَصَرُّفِهِ يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ إجَازَةً مِنْهُ لِلْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُكَاتَبِ كَانَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ رِضًا مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْهُ فَيَتَضَمَّنُ الْإِجَازَةَ لِلْعَقْدِ مِنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْمُشْتَرِي فِي التِّجَارَةِ كَانَ هَذَا رِضًا مِنْهُ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. [بَابُ مُكَاتَبَةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَجُلٌ بَاعَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ خِدْمَتَهَا مِنْ نَفْسِهَا جَازَ ذَلِكَ وَهُمَا حُرَّتَانِ، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ رَقَبَتَهُمَا مِنْ نَفْسِهِمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِمَا الْخِدْمَةُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْهُمَا بِعِوَضٍ وَمُضِيفًا لِتَصَرُّفِهِ إلَى مَا هُوَ الْمَمْلُوكُ لَهُ عَلَيْهِمَا فَيَصِحُّ وَيَجِبُ الْبَدَلُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ. أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ كَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ كَمَا لَوْ كَانَتْ قِنَّهُ وَلَا يُقَالُ هُنَا لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَبِيعَاهَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَلِمَاذَا ثَبَتَ لِلسَّاكِتِ حَقُّ فَسْخِ كِتَابَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَخْدِمَاهَا وَيُؤَاجِرَاهَا؛ وَلِأَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَدِيمَا الْمِلْكَ فِيهَا وَإِذَا رُدَّتْ الْكِتَابَةُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ وَأَمَةً لَهُ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، ثُمَّ أَعْتَقَ أُمَّ الْوَلَدِ أَوْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ فَالْأُخْرَى تَسْعَى فِي نِصْفِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَتَوَزَّعُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ وَبِإِعْتَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهَا مِنْ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ مُدَبَّرًا لَهُ وَقِنًّا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنْ خَرَجَ الْمُدَبَّرُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نِصْفُ الْبَدَلِ وَسَعَى الْآخَرُ فِي نِصْفِ الْبَدَلِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مُدَبَّرًا أَوْ قِيمَتُهَا أُمَّ وَلَدٍ مِثْلَ قِيمَةِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ فِي الِانْقِسَامِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ دَعْوَةِ الْمُكَاتَبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جَارِيَةٌ بَيْنَ مُكَاتَبٍ وَحُرٍّ وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ فَالْوَلَدُ وَلَدُهُ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا لِلْحُرِّ يَوْمَ عَلَقَتْ مِنْهُ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَالِهِ مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ يَمْلِكُ الدَّعْوَةَ كَالْحُرِّ فَبِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا هُنَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَثَبَتَ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي حَقِّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ تَبَعًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 لِثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ وَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْهَا مِنْ حِينِ عَلَقَتْ فَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ وَنِصْفَ قِيمَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْحُرُّ فِي نَظِيرِ هَذَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْجَنِينَ تَبَعٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةً إذَا كَانَتْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَهِيَ حُبْلَى فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْهَا كَانَ مَا فِي بَطْنِهَا أَيْضًا لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ ضَمِنَ ذَلِكَ ثُمَّ عَجَزَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا كَسْبُهُ، وَقَدْ خَرَجَا مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ بِعَجْزِهِ فَكَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يُخَاصِمْهُ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا حَتَّى عَجَزَ كَانَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ وَنِصْفُ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ بِعَجْزِهِ وَنِصْفُهُمَا عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ الْحُرِّ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الضَّمَانُ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَبَقَاءِ الْمِلْكِ لِلشَّرِيكِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ بِالضَّمَانِ هُنَاكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ، وَالضَّمَانُ كَانَ وَاجِبًا مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعَجْزِ وَصَارَ الْحُرُّ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ مِنْهَا وَلَكِنْ عَلَيْهِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً بَيْنَهُمَا فَادَّعَى الْمُكَاتَبُ وَلَدَهَا جَازَتْ الدَّعْوَةُ لِبَقَاءِ حَقِّ مِلْكِهِ فِي نِصْفِهَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ، وَضَمِنَ الْمُكَاتَبُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ لَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحُرُّ هُوَ الْمُدَّعِي وَاخْتَارَتْ أَنْ تُعْجِزَ نَفْسَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَإِذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الْمُدَّعِي فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فِي امْتِنَاعِ بَيْعِهَا وَلَكِنْ لَا تَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ فِيهَا حَقِيقَةً مَا لَمْ يُعْتَقْ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَا ادَّعَيَا الْوَلَدَ فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي نِصْفِهَا وَحَقُّ الْمِلْكِ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَةِ الْحُرِّ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فِي الْحَالِ وَحَقِيقَةُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي دَعْوَةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْحُرُّ سَقَطَ نَصِيبُ الْحُرِّ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ فَكَأَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ وَسَعَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي مُكَاتَبَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يُعْتِقُهَا أَحَدُهُمَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْعَجْزَ سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَمْ تَثْبُتْ فِي نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ بَعْدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ كَانَ نَصِيبُهُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا بَقِيَ قِيمَةُ رِقِّهَا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَالسِّعَايَةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ نَصِيبَ الْمُكَاتَبِ بِالضَّمَانِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ أُمِّ وَلَدِهِ عَتَقَ كُلُّهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ وَطِئَهَا أَوَّلًا فَوَلَدَتْ لَهُ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْحُرُّ فَوَلَدَتْ لَهُ فَادَّعَيَا الْوَلَدَيْنِ مَعًا، وَلَمْ يُعْلَمْ إلَّا بِقَوْلِهَا فَوَلَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ وَيَغْرَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهَا الصَّدَاقَ وَبِهَذَا اللَّفْظِ تَبَيَّنَ أَنَّ عُقْرَ الْمَمْلُوكَةِ هُوَ الصَّدَاقُ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَسْتَعْمِلُ لَفْظَ الْعُقْرِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الصَّدَاقَ وَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْعَجْزِ، وَالْمُضِيِّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْحُرِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمَا الْتَقَتْ فِيهَا بِالْوَلَدَيْنِ وَلَوْ الْتَقَتْ دَعْوَتُهُمَا فِيهَا فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ كَانَ الْحُرُّ أَوْلَى بِهَا؛ لِأَنَّ فِي دَعْوَتِهِ إثْبَاتَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ الْمُكَاتَبِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ فِيهَا حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْمُكَاتَبِ بَعْدُ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ نِصْفُهَا مَمْلُوكًا لَهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِلْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ مَقْصُودًا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ بِالدَّعْوَةِ حِينَ لَمْ يَتَمَلَّكْ نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْ الْأُمِّ فَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْوَلَدِ لَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنْ عَجَزَتْ وَعَجَزَ الْمُكَاتَبُ مَعَهَا كَانَ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ رَقِيقًا بَيْنَ مَوْلَاهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِلْحُرِّ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِهِ إيَّاهُ بِالِاسْتِتْبَاعِ فِي الْكِتَابَةِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ وَطْءُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ وَطْءِ الْحُرِّ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْحُرِّ كَمَا بَيَّنَّا وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَ أُمَّ وَلَدِ الْحُرِّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اُسْتُحْسِنَ إنْ أُثْبِتَ نَسَبُهُ، وَهُوَ لِلْحُرِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ نِصْفُهَا مَمْلُوكًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَالزِّيَادَاتِ فِي الْحُرَّيْنِ لَا أَنَّ هُنَاكَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ إذْ عَلَّقَ حُرَّ الْأَصْلِ وَهُنَا لَا يُعْتَقُ الْأَصْغَرُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيَبْقَى مَمْلُوكًا لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فِي النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَا ظَنَّهُ الْمُكَاتَبُ هُنَا لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ حُرًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 [بَابُ كِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مُرْتَدٌّ كَاتَبَ عَبْدَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَإِنْ رَفَعَ الْمُكَاتَبُ إلَى الْقَاضِي فَرَدَّهُ فِي الرِّقِّ فَالْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى مُكَاتَبَتِهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَطَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَادَ الْمِلْكُ إلَيْهِ. وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَوْلَى فَهُوَ عَلَى مُكَاتَبَتِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا كَمَوْتِهِ وَبِمَوْتِ الْمَوْلَى لَا تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بَعْدَ مَا صَحَّتْ وَلَكِنْ يُؤَدِّي الْمُكَاتَبَةَ إلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ قَبَضَ مِنْهُ مُكَاتَبَتَهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ عَلَى حَالِهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ قَوْلًا فَيَبْطُلُ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَخْذُهُ لِلدَّيْنِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي كُلِّ مَا وَلِيَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِثَمَنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَلَطٌ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَبِيعِ حَقُّ الْقَبْضِ فِيهِ لِلْعَاقِدِ فَأَمَّا فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَقُّ الْقَبْضِ لَيْسَ لِلْعَاقِدِ وَلَكِنَّهُ لِلْمَالِكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْكِتَابَةِ لَا يَقْبِضُ الْبَدَلَ فَكَانَ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ لَهُ لَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فِي بَرَاءَةِ الْمَدْيُونِ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ هُنَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ بَاشَرَ الْعَقْدَ فِي مِلْكِهِ فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ وَلَاءَهُ، وَإِنْ قَبَضَ وَرَثَتُهُ الْبَدَلَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لَهُ بِالْعَقْدِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَسْتَحِقُّ الْحُرِّيَّةَ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ وَرِدَّتُهُ لَا تُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْمُكَاتَبِ. (فَإِنْ قِيلَ) لِمَاذَا لَا يَقُولُ فِي الْإِقْرَارِ هَكَذَا اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ قِيمَتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِ (قُلْنَا) إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِقَبْضِ مِلْكِهِ مِنْهُ، وَالْمِلْكُ هُنَا صَارَ لِوَرَثَتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُخْرِجٌ لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ مِلْكِ وَرَثَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَالْقَبْضُ مُقَرِّرٌ حَقَّ وَرَثَتِهِ فِي الْمَقْبُوضِ فَيُمْكِنُ تَنْفِيذُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا حَتَّى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَجَعَلَ الْقَاضِي مَالَهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَأَخَذُوا الْمُكَاتَبَةَ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْعَبْدِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَإِذَا رَجَعَ مُسْلِمًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 كَانَ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ دُونَ الْوَرَثَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَيُعَادُ إلَيْهِ مَا يَجِدُ مِنْ مِلْكِهِ قَائِمًا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا قَبَضُوهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إنْ وَجَدَ بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ قَبَضُوا جَمِيعَ الْبَدَلِ أَوْ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ شَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ وَشُفْعَتِهِ] (قَالَ): وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُشَارِكَ حُرًّا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي التَّصَرُّفِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ، وَالْمُكَاتَبِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَظْهَرُ فَإِنَّ عِنْدَهُ كَفَالَةَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ تَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَلَوْ صَحَّحْنَا الْمُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ إذَا كَفَلَ الْحُرُّ بِمَالٍ يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمُكَاتَبَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْمَالُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْحُرَّ شَرِكَةَ عَنَانٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَوْكِيلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ، وَالْمُكَاتَبُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ ذَلِكَ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ صَارَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ شَرِيكُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ فَلِهَذَا تَبْطُلُ الشَّرِكَةَ. (قَالَ): وَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمَوْلَى وَلِلْمَوْلَى فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ الْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَرِي مِنْ صَاحِبِهِ فَيَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ. (قَالَ): وَلَوْ أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ شَرِكَةِ الْعَنَانِ بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَأَكَّدَ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ قُدْرَتَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَيَبْقَى شَرِيكُهُ عَلَى وَكَالَتِهِ. (قَالَ) وَإِنْ شَارَكَ الْغَيْرَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ عَتَقَ لَمْ تَصِحَّ تِلْكَ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ، وَالْعَقْدُ إذَا بَطَلَ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَصِحُّ بِحُدُوثِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ انْقَطَعَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ كَانَ ثَابِتًا لَهُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالْإِمْضَاءِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْعَجْزِ لَهُ لِمَا صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ كَمَا لَوْ مَاتَ وَلَا يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 لِأَنَّ رَأْيَ الْإِنْسَانِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الدَّارَ بِعَجْزِهِ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِ وَصَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِخِيَارِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرِي فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَا اشْتَرَى حَتَّى يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ وَأَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ إسْقَاطًا مِنْهُ لِخِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ بِهِ مِلْكُهُ فِي الْمُشْتَرَى حِينَ حَصَّلَ ثَمَرَةَ ذَلِكَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا بِالشُّفْعَةِ حَتَّى رَدَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّهُ زَالَ جِوَارُهُ بِرَدِّ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَارًا حِينَ بِيعَتْ هَذِهِ الدَّارُ. (قَالَ): وَلَا يُقْطَعُ الْمُكَاتَبُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدْخُلُ بَيْتَهُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فَلَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْمَالِ عَنْهُ، وَالْقَطْعُ لَا يَجِبُ إلَّا بِسَرِقَةِ مَالٍ مُحْرَزٍ قَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ سَرَقَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ سَرَقَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْلَى لَمْ يُقْطَعْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَدْخُلُ دَارَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةَ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ يَدْخُلُ عَادَةً فِي كُلِّ بَيْتٍ يَدْخُلُ فِيهِ مَالِكُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْلَى لَمْ يُقْطَعْ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَهُ فِي كَسْبِهِ حَقُّ الْمِلْكِ. (قَالَ) فَإِنْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ رُدَّ فِي الرِّقِّ فَاشْتَرَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي مِثْلِهِ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَكَذَلِكَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ إذَا مَلَكَ السَّارِقَ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ. (قَالَ): وَإِنْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ رَجُلٍ وَلِذَلِكَ الرَّجُلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَى السَّارِقِ فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَطَلَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ دَيْنَهُ فَقَضَى الْقَاضِي أَنْ يُبَاعَ لَهُ فِي دَيْنِهِ، وَقَدْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِأَنْ يُبَاعَ فِي دَيْنِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ، وَقِيلَ فِي الِاسْتِحْسَانِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ صَارَتْ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَيْهِ فَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ الْمِلْكُ لَهُ فِي رَقَبَتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَلَكِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ ضَعِيفٌ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. (قَالَ): وَإِنْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مُكَاتَبٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ ذَلِكَ الْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ لِمَوْلَاهُ أَوْ يُجْعَلُ سَرِقَةُ الْمُكَاتَبِ كَسَرِقَةِ مَوْلَاهُ وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ فَكَذَلِكَ مُكَاتَبُهُ وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ مِنْ عَبْدٍ كَانَ بَيْنَ مَوْلَاهُ وَبَيْنَ آخَرَ، وَقَدْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نَصِيبَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَالْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيكَ إذَا اخْتَارَ ضَمَانَ الْمَوْلَى رَجَعَ الْمَوْلَى بِهِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَهُ. (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مُضَارِبِ مَوْلَاهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمَوْلَى لَوْ سَرَقَهُ مِنْهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مِنْ مُضَارِبِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِمَوْلَاهُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي السَّرِقَةِ كَفِعْلِ الْمَوْلَى وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى هَذَا الْمَالَ لَمْ يُقْطَعْ وَكَيْفَ يُقْطَعُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ عُرُوضًا وَقُطِعَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ لَهُ حَقًّا وَلَا شُبْهَةً فِيمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ فَلِهَذَا يُقْطَعُ الْمَوْلَى، وَالْمُكَاتَبُ بِسَرِقَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ، وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ. (قَالَ) شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الزَّاهِدُ: انْتَهَى شَرْحُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ بِإِمْلَاءٍ الْمَحْصُورِ الْمُعَاتَبِ، وَالْمَحْبُوسِ الْمُعَاقَبِ وَهُوَ مُنْذُ حَوْلَيْنِ عَلَى الصَّبْرِ مُوَاظِبٌ وَلِلنَّجَاةِ بِلَطِيفِ صُنْعِ اللَّهِ مُرَاقِبٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 [كِتَابُ الْوَلَاءِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَلَاءَ نَوْعَانِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، فَوَلَاءُ النِّعْمَةِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَالْآيَةُ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقُولُونَ: سَبَبُ هَذَا الْوَلَاءِ الْإِعْتَاقُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ مَوْلًى لَهُ ، وَلَا إعْتَاقَ هُنَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ. يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَلَا يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةَ. وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاصَرُونَ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْحَلِفُ وَالْمُحَالَفَةُ. فَالشَّرْعُ قَرَّرَ حُكْمَ التَّنَاصُرِ بِالْوَلَاءِ حَتَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ»، فَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ بِالْحَلِفِ، وَلِمَعْنَى التَّنَاصُرِ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ التَّعَاقُدِ بِالْوَلَاءِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمَ الْإِرْثِ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ تَفَاوُتٌ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ، أَمَّا ثُبُوتُ أَصْلِ الْمِيرَاثِ بِالسَّبَبَيْنِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. وَالْمُرَادُ الْمُوَالَاةُ وَفِيهِ تَحْقِيقُ مُقَابَلَةِ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ وَيَرِثُ مَالَهُ، إلَّا أَنَّ الْإِرْثَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُعْتِقِ فِي مُعْتَقِهِ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَدَعْ وَارِثًا كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتُهُ»، فَقَدْ شَرَطَ لِتَوْرِيثِهِ عَدَمَ الْوَارِثِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 الْوَرَثَةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وَمَا أَشْبَهَ الشَّيْءَ لَا يُزَاحِمُهُ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، بَلْ يَخْلُفُهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَكِنَّا نَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْتَقَتْ عَبْدًا فَمَاتَ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ بِنْتًا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ الْمَالِ لِلْبِنْتِ وَنِصْفَهُ لِبِنْتِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَالْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْفَرْضِ لِلْعَصَبَةِ»، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتِقَ عَصَبَةٌ وَرَدَّ الْبَاقِي عَلَى صَاحِبِ الْفَرْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ ذَوِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَقِيَ عَلَى الْبِنْتِ بَلْ جَعَلَهُ لِلْمُعْتِقَةِ، عَرَفْنَا أَنَّهَا عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَفِي حَدِيثِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتُهُ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ مُرَادَهُ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا هُوَ عَصَبَةٌ. وَقَوْلُهُ: «وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ» دَلِيلُنَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُضَافُ إلَى الْمُعْتِقِ بِالْوَلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقُّ تَلَفٌ حُكْمًا، فَكَانَ كَالْأَبِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِإِيجَادِ الْوَلَدِ فَتُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ، كَمَا تُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِالْأُبُوَّةِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الْإِضَافَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُضَافُ إلَى عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ الْوَلَاءِ، وَكَانَ الْوَلَاءُ خَلَفًا عَنْ الْأُبُوَّةِ فِي حُكْمِ الْإِضَافَةِ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْعُصُوبَةُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ كَمَا تُسْتَحَقُّ الْعُصُوبَةُ بِالْأُبُوَّةِ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الْوَرَثَةُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ مُؤَخَّرٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ أَصْلًا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ فِيمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ عِنْدَنَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ الْمَالِ وَعِنْدَهُ يَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ ذَلِكَ الْحَقِّ بِعَقْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ وَعِنْدَنَا الْمَالُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ لَا لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَارِثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُوجِبَهُ بِعَقْدِهِ لِمَنْ شَاءَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السَّائِبَةُ يَضَعُ مَالَهُ حَيْثُ أَحَبَّ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا وَفَائِدَةُ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 الِاخْتِلَافِ أَنَّ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ بِالْوَلَاءِ بَعْدَ الْمُعْتِقِ يَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ دُونَ بِنْتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. هُوَ يَقُولُ: الْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَكَمَا أَنَّ أَصْلَ مِلْكِ الْأَبِ فِي هَذَا الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ بِالْعِتْقِ يَزُولُ بَعْضُ الْمِلْكِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ. وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَالنَّسَبُ لَا يُورَثُ وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ. فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ بِإِحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَقِ وَنَفْيِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَلَاءُ جُزْءًا مِنْ الْمِلْكِ؟ وَمَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ لِلْقُرْبِ وَالْكِبَرُ بِمَعْنَى الْعِظَمِ وَبِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَدَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22]. وَتَفْسِيرُهُ، رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ أَقْرَبُ إلَى الْمُعْتِقِ مِنْ ابْنِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ فَكَذَلِكَ بِالْإِرْثِ بِوَلَائِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ عَيْنُهُ لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا بَيْنَ الِابْنَيْنِ حَتَّى يَخْلُفَ الِابْنُ أَبَاهُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَكِنَّهُ لِلْأَبِ عَلَى حَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَقَ يُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَى الْمُعْتِقِ دُونَ أَوْلَادِهِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَخْلُفُهُ فِيهِ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ كَمَا يَخْلُفُهُ فِي مَالِهِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ، فَيَكُونُ لِابْنِهِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ، وَدُونَ ابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ. وَالْبِنْتُ لَا تَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَكُونُ عَصَبَةً بِالِابْنِ، فَعِنْدَ وُجُودِهِ لَا تُزَاحِمُهُ وَعِنْدَ عَدَمِهِ هِيَ لَا تَكُونُ عَصَبَةً، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النُّصْرَةُ كَمَا بَيَّنَّا. وَالنُّصْرَةُ لَا تَحْصُلُ بِالنِّسَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَ حَمْلِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِرْثِ بِوَلَاءِ الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِالْوَلَاءِ طَرِيقُهُ الْعُصُوبَةُ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ مُقَدَّمٌ، فَلِهَذَا يُعْطِي نَصِيبَ بِنْتِ الْمُعْتِقِ أَوَّلًا وَكَذَلِكَ نَصِيبُ زَوْجَتِهِ إنْ كَانَتْ، ثُمَّ حُكْمُ الْبَاقِي هُنَا كَحُكْمِ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَيَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الِابْنُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَتْ بِنْتُ الْمُعْتِقِ فَمِيرَاثُهَا لِابْنَيْ الْمُعْتِقِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِأَبِيهَا فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ حَقِيقَةً لَهُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهِ فَكَانَ مِيرَاثُهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ ابْنَا ابْنِهِ كَمَا فِي مَالِهِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ. وَكَذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 هَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ عَصَبَةٍ لِلْمُعْتِقِ وَقَدْ طَوَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَقْرَبَ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ يَخْلُفُهُ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ (قَالَ): فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الِابْنَيْنِ ابْنَانِ وَلِلْآخَرِ ابْنٌ وَاحِدٌ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَوْ مَاتَ الْآنَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الْمُعْتَقِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَلَاءِ الْمُدَبَّرِ وَمِيرَاثِهِ وَوَلَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَمِيرَاثِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَالْمُسْتَوْلَدَ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُمْ لِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْعِتْقِ بِهَذَا السَّبَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَبِعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ بِمَا أَوْصَى بِهِ وَفِعْلُ وَصِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ الْمُعْتَقِ مَاتَتْ عَنْ بِنْتٍ ثُمَّ مَاتَتْ ابْنَتُهَا فَلَيْسَ لِابْنَيْ ابْنِ الْمُعْتَقِ مِنْ مِيرَاثِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَرِثْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْلًى لَهَا إنَّمَا هُوَ مَوْلًى لِأُمِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ فِي النَّسَبِ لَا يَتْبَعُ أُمَّهُ إذَا كَانَ لَهُ نَسَبٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَعَنْ شُرَيْحٍ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ شَيْءٌ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، وَبِهَذِهِ الْآثَارِ نَأْخُذُ فَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ أَوْ جَرَّهُ وَلَاءُ مُعْتَقِ مُعْتَقِهِنَّ». وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فَقَدْ تَأَكَّدَ بِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَيْنَا «أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَعْتَقَتْ مَمْلُوكًا فَمَاتَ، وَتَرَكَ بِنْتًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَهُ النِّصْفَ وَبِنْتَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» النِّصْفَ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عَصَبَةً لِمُعْتِقِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ لِلْوَلَاءِ إحْدَاثُ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ سَبَبَهُ الْفِرَاشُ، وَالْفِرَاشُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ صَاحِبَةَ فِرَاشٍ؛ وَلِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي هَذَا الْوَلَاءِ لِمُبَاشَرَتِهَا سَبَبَهُ وَكَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِلْكِ الْمَالِ تُسَاوِي الرَّجُلَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْفِرَاشُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فِي الْأَصْلِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ مَمْلُوكَةٌ نِكَاحًا فَلَا تَكُونُ مَالِكَةً نِكَاحًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي هَذَا الْوَلَاءِ كَانَ مِيرَاثُ مُعْتِقِهَا لَهَا فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ مُعْتَقِ مُعْتِقِهَا لِأَنَّ مُعْتَقَ الْمُعْتِقِ يُنْسَبُ إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ، وَهِيَ مِثْلُ الرَّجُلِ فِي الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتِقُ الْأَوَّلُ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَ مُعْتَقِ الْمُعْتِقِ يَكُونُ لِمُعْتَقِهِ بِالْعُصُوبَةِ وَمُعْتِقُهُ مُعْتِقُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَتَخْلُفُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمَا تَخْلُفُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْعُصُوبَةِ لَوْ مَاتَ الْأَبُ، وَعَلَى هَذَا مُكَاتَبُهَا وَمُكَاتَبُ مُكَاتَبِهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ كَالْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا جَرَّ وَلَاءُ مُعْتَقِ مُعْتِقِهَا لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَتَسْتَوِي هِيَ بِالرَّجُلِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ (قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَابْنٍ وَبِنْتٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ، فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا إذْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا فِي الْعُصُوبَةِ حَظٌّ، وَالْبِنْتُ لَا تَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا، فَكَانَ أَقْرَبَ عَصَبَتِهَا الِابْنُ فَيَخْلُفُهَا مِنْ مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ أَعْتَقَتْهُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لَهَا بِإِحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَقِ وَفِي هَذَا يَسْتَوِي الْعِتْقُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ. (قَالَ): وَإِذَا اشْتَرَتْ امْرَأَتَانِ أَبَاهُمَا فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا مَعَ الْأَبِ أَخًا لَهَا مِنْ الْأَبِ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَابْنَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُمَا مِنْ مِيرَاثِهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَاهُ لِأَبٍ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثُمَّ لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَخَ مَعَ الْأَبِ بِالْوَلَاءِ نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهَا مُعْتِقَةٌ نِصْفَهُ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ الْقَرِيبَ إعْتَاقٌ وَهِيَ الْمُشْتَرِيَةُ لِنِصْفِ الْأَخِ وَلَهُمَا جَمِيعًا نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بِوَلَاءِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ هُوَ الْمُعْتِقُ لِهَذَا النِّصْفِ مِنْ الْأَخِ بِشِرَائِهِ، وَهُمَا كَانَتَا مُعْتِقَتَيْنِ الْأَبَ بِشِرَائِهِمَا إيَّاهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِ مُعْتَقِهَا كَالرَّجُلِ، وَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ أَبِيهِمَا. (قَالَ): امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَبَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لِأَبِيهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأُبُوَّةَ تُسْتَحَقُّ بِهَا الْعُصُوبَةُ كَالْبُنُوَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ عَصَبَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ يَنْبَنِي عَلَى الْعُصُوبَةِ، وَوُجُودُ الِابْنِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا حِرْمَانَ الْأَبِ أَصْلًا عَنْ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ مِيرَاثِهَا بِهَذَا، فَكَذَلِكَ عَنْ مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ بَيْنَهُمَا كَمِيرَاثِهِمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 لَوْ مَاتَتْ الْآنَ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرٌ فِي نَفْسِهِ وَيَتَّصِلُ بِهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْجُوبًا بِالْآخَرِ، فَهَذَا شِبْهُ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ أَقْرَبَ عَصَبَةِ الْمُعْتَقِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ، وَالِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ دُونَ الْأَبِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَبِ السُّدُسَ مِنْهَا بِالْفَرِيضَةِ دُونَ الْعُصُوبَةِ، فَهُوَ كَاسْتِحْقَاقِ الْبِنْتِ نِصْفَ مَا لَهَا بِالْفَرِيضَةِ مَعَ الْأَبِ. وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُزَاحَمَتِهَا مَعَ الْأَبِ فِي مِيرَاثِ مُعْتِقِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا. (قَالَ): رَجُلٌ أَعْتَقَ أَمَةً ثُمَّ غَرِقَا جَمِيعًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَشَرْطُ اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ الْغَيْرِ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ هُنَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَوْ عَلِمْنَا مَوْتَهُمَا مَعًا لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَكِنْ مِيرَاثُهَا لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَرِثْهَا جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ مَيِّتًا قَبْلَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثُهَا لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا مِنْ أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأَمَةُ، فَمِيرَاثُهَا لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ وَلَيْسَ لِلْأَخِ لِأُمٍّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَخَ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ أَوْ أَخًا لِابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ وَأَخُ ابْنِ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَأَخُ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ إنَّمَا هُوَ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ وَلَا يَخْلُفُ الْمُعْتِقَ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِهِ إلَّا مَنْ كَانَ عَصَبَةً لَهُ. (قَالَ): امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُمَا، فَالْمِيرَاثُ لِلِابْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا، يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ بِالْإِرْثِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ فِي الْخِلَافَةِ فِي مِيرَاثِ مُعْتَقِهَا وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَعَقْلُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَخِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ مُعْتِقِهَا كَجِنَايَتِهَا وَجِنَايَتِهَا عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا، فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مُعْتَقِهَا. وَابْنُهَا لَيْسَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي مَوْلًى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَاتَ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَمَّتِي وَأَنَا أَرِثُ مَوْلَاهَا، وَأَعْقِلُ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أُمِّي وَأَنَا أَرِثُ مَوْلَاهَا فَقَضَى عُمَرُ بِالْمِيرَاثِ لِلزُّبَيْرِ وَبِالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: شَهِدْتُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ ذَهَبَ بِمَوَالِي صَفِيَّةَ، وَشَهِدْتُ عَلَى جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِمَوَالِي أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَ ابْنًا لَهَا، فَخَاصَمَهُ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 مِيرَاثِ مَوْلَاهَا، فَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَثْبُتُ أَنَّ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ يَكُونُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ، وَإِنْ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابُ جَرِّ الْوَلَاءِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُوهُمْ جَرَّ الْوَلَاءَ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَيَنْفَصِلُ الْوَلَدُ مِنْهَا حُرًّا ثُمَّ الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ بِالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ أَبُوهُ، وَالْأَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ يُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَى مُعْتِقِهِ فَكَذَلِكَ وَلَدُهُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ جَرِّ الْوَلَاءِ بِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَبْصَرَ بِخَيْبَرَ فِتْيَةً لُعْسًا أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ الْحُرْقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ لِبَعْضِ أَشْجَعَ فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ قَالَ انْتَسَبُوا إلَيَّ وَقَالَ رَافِعٌ: بَلْ هُمْ مُوَالِيَّ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْوَلَدَ مَنْسُوبٌ إلَى مَوَالِي أُمِّهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ بِالْعِتْقِ جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوَالِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي النَّسَبِ الْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مِنْ أَبِيهِ لِلضَّرُورَةِ، كَالْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ بَعْدَمَا انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ النَّسَبُ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ بِأَنْ أَكْذَبَ الْمَلَاعِنُ نَفْسَهُ صَارَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِتْيَةٌ لُعْسًا بَيَانٌ لِمَلَاحَتِهِمْ فَهُوَ حُمْرَةٌ تَضْرِبُ إلَى السَّوَادِ قَالَ الشَّاعِرُ لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةُ لُعْسٍ ... وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَنِي ظُرْفُهُمْ أَيْ مَلَاحَتُهُمْ وَقِيلَ كِيَاسَتُهُمْ فَمَنْ كَانَ بِهَذَا اللَّوْنِ فَهُوَ كَيِّسٌ عَادَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ قَالَ: إذَا أَعْتَقَ الْجَدُّ جَرَّ الْوَلَاءَ وَهَكَذَا يَرْوِي الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَدُّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: جَرُّ الْوَلَاءِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، وَدُخُولُ الْجَدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ رِوَايَتَانِ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ هُنَاكَ، وَاسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَ مَنْ يَقُولُ النَّافِلَةُ بِإِسْلَامِ الْجَدِّ يَصِيرُ مُسْلِمًا. فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ بَنُو آدَمَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَلَا يُسْبَى صَغِيرٌ أَبَدًا، وَهَذَا بَاطِلٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وَكَذَلِكَ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ بِعِتْقِ الْجَدِّ لَوْ أُعْتِقَ الْأَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَبَ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوَالِيهِ، وَالْجَدُّ أَبٌ وَبَعْدَمَا ثَبَتَ جَرُّ الْوَلَاءِ بِالْأُبُوَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ. (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ، ثُمَّ أُسِرَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ، فَإِنَّ الِابْنَ يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، فَكَأَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَحَدٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِابْنُ مُعْتِقَ إنْسَانٍ فَأَعْتَقَ أَبَاهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَرُّ وَلَاءُ الِابْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَى الِابْنِ مِثْلُ الْوَلَاءِ الَّذِي ظَهَرَ لِلْأَبِ وَهُوَ فِي هَذَا مَقْصُودٌ فَبَعْدَمَا صَارَ مَقْصُودًا فِي حُكْمٍ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا فِي عَيْنِ ذَلِكَ. (قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَأَوْلَادُهَا مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأُمِّ مُعْتَقَةً كَانَتْ أَوْ مُوَالِيَةً، فَمَتَى أُعْتِقَ أَبُوهُمْ جَرَّ وَلَاءَهُمْ إلَى مَوْلَاهُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُوَالِيَةً؛ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ كَانَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِظُهُورِ وَلَاءِ الْعِتْقِ لِلْأَبِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ تَبَعًا، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً فَلِأَنَّ الْوَلَدَ هُنَا تَبَعٌ فِي الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْوَلَاءِ لِلْأَبِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةَ إنْسَانٍ وَالْأَبُ حُرٌّ مُسْلِمٌ نَبَطِيٌّ لَمْ يَعْتِقْهُ أَحَدٌ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ وَالِيَ رَجُلَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَلَكِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ. قَالَ: وَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ، وَأَبُوهُ حُرٌّ لَهُ عَشِيرَةٌ وَمَوَالٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَاؤُهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِمَائِهِ لِاتِّصَالِهِ بِرَحِمِهَا فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِيهَا حَتَّى يُعْتَقَ الْأَبُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا عَرَبِيًّا كَانَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي أُمِّهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ سَوَاءٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الرِّقَّ تَلِفَ حُكْمًا فَإِذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا، كَانَ حَالُ هَذَا الْوَلَدِ فِي الْحُكْمِ كَحَالِ مَنْ لَا أَبَ لَهُ، فَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى مَوْلَى الْأُمِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَهُوَ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بِالِاسْتِرْقَاقِ بِخِلَافِ حُرِّيَّةِ الْعَرَبِ؛ وَلِأَنَّ الْعَجَمَ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 أَلَا تَرَى أَنَّ تَفَاخُرَهُمْ لَيْسَ بِالنَّسَبِ وَلَكِنَّ تَفَاخُرَهُمْ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالدِّينِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ قَالَ سَلْمَانُ ابْنُ مَنْ قَالَ سَلْمَانُ ابْنُ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الضَّعْفُ فِي جَانِبِ الْأَبِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا سَوَاءً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا فَلَهُ نَسَبٌ مُعْتَبَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ بِالنَّسَبِ تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَرَبِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ. وَالْأَصْلُ فِي النِّسْبَةِ النَّسَبُ. فَإِذَا كَانَ فِي جَانِبِ الْأَبِ نَسَبٌ مُعْتَبَرٌ أَوْ وَلَاءٌ قَوِيٌّ كَانَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِعَرَبِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ قَوْمِ أُمِّهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا عَرَبِيَّةً وَكَوْنَهَا مُعْتَقَةً سَوَاءٌ، كَمَا سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَقَالَا فِي الْفَرْقِ: إنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ تُجِزْ عَلَيْهَا نِعْمَةَ عَتَاقٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِهَا بِالْوَلَاءِ وَالنِّسْبَةُ بِالْوَلَاءِ أَقْوَى لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً فَلَوْ انْتَسَبَ الْوَلَدُ إلَى قَوْمِهَا إنَّمَا يُنْسَبُ بِالنَّسَبِ، وَالِانْتِسَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ ضَعِيفٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْأُمِّ إلَى أَبِيهَا حَتَّى لَا تَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ بِمِثْلِ هَذَا النَّسَبِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَيْهِ بِالنَّسَبِ وَإِذَا كَانَ نَسَبُهُ ضَعِيفًا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُصُوبَةَ. (قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَةً وَوَلَدَهَا، أَوْ كَانَتْ حُبْلَى حِينَ أَعْتَقَهَا، أَوْ أُعْتِقَتْ وَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ، كَانَ الْوَلَدُ مَوْلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ مَعَ أُمِّهِ دُونَ مَنْ أَعْتَقَ أَبَاهُ. أَمَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ مُنْفَصِلًا عَنْهَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَالِك الْأُمِّ فَتَنَاوَلَهُ الْعِتْقُ مَقْصُودًا وَالْوَلَدُ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِوَلَاءِ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حُبْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ بِإِعْتَاقِهَا يُعْتَقُ مَقْصُودًا فَإِنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ كَشَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يُفْرَدَ بِالْعِتْقِ، فَهُوَ وَالْمُنْفَصِلُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ؛ لِأَنَّ التَّوْأَمَ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّيَقُّنِ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا حِينَ أُعْتِقَتْ التَّيَقُّنُ بِوُجُودِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ حِينَ أُعْتِقَتْ فَكَانَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ تَبَعًا. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ إذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 يُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي الْإِسْنَادِ إلَى مَا وَرَاءَهُ إلَّا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مُنْذُ يَوْمِ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ مَوْتٍ، فَيُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لِأَنَّا لَا نُثْبِتُ الرَّجْعَةَ بِالشَّكِّ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ مُرَاجِعًا الْحُكْمُ بِأَنَّ الْعُلُوقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ فَصَارَ مُرَاجِعًا لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَ، فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّا عَلِمْنَا مُجَازَفَتَهَا فِي الْإِقْرَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ وَهِيَ حَامِلٌ فَيُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا إلَّا أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُرَاجِعًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَ لَغْوًا حِينَ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ، فَكَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَلَا يَصِيرُ مَقْصُودًا بِالْوَلَاءِ إلَّا بِذَلِكَ. (قَالَ): أَمَةٌ مُعْتَقَةٌ وَلَدَتْ مِنْ عَبْدٍ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي أُمِّهِ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْوَلَدُ وَأُمُّهُ فَمُوَالَاتُهُ مُوَالَاةٌ لِمَوَالِي الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ مُوَالَاةِ الْأُمِّ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْوَلَدِ رَجُلٌ وَوَالَاهُ فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ أَيْضًا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيَرِثُونَهُ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا كَنَفْسِهَا وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهَا وَوَالَاهَا كَانَ مَوْلًى لِمَوَالِيهَا فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ جَرَّ وَلَاؤُهَا وَلَاءَ كُلِّهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْأُمِّ انْجَرَّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ وَلَاءِ مُعْتَقِهِ وَمَوْلَاهُ وَهَذَا لِأَنَّ نِسْبَةَ مُعْتَقِهِ وَمَوْلَاهُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ كَانَ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ حِينَ صَارَ هُوَ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ الْأَبِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ وَلَدُ الْمُعْتَقَةِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ تَبِعَ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ لِمُعْتِقِ أُمِّهِ وَبَقَاءُ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ بَقَاءِ التَّبَعِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا غَرِمُوا مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُمْ غَرِمُوا ذَلِكَ حِينَ كَانَ مَوْلًى لَهُمْ حَقِيقَةً فَإِنَّ حُكْمَ جَرِّ الْوَلَاءِ فِي الْوَلَدِ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ عِتْقُ الْأَبِ مَقْصُورٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الْمَلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَدْ عَقَلَ جِنَايَةَ الْوَلَدِ قَوْمُ أُمِّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ حِينَ عَلِقَ وَقَوْمُ الْأُمِّ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْشِ فَلَا يَكُونُونَ مُتَبَرِّعِينَ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ الْأَبُ فَأَرَادَ الْمَوْلَى الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى مِلْكِ أَبِيهِ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ مَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ مَعَ الِابْنِ تَأَكَّدَ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَفِي التَّحَوُّلِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْأَبَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَحَوُّلِ وَلَائِهِ إلَى مَوَالِي الْأَبِ فَسْخُ ذَلِكَ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا التَّحَوُّلَ يَثْبُتُ حُكْمًا لِضَرُورَةِ اتِّبَاعِ التَّبَعِ الْأَصْلَ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ مِنْهُ وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ حُكْمًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ] (قَالَ) إبْرَاهِيمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ وَوَالَاهُ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ وَسَوَاءٌ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ أَتَاهُ مُسْلِمًا وَعَاقَدَهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ كَانَ مَوْلًى لَهُ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ لَا وَلَاءَ إلَّا لِذِي نِعْمَةٍ يَعْنِي الْعَتَاقَ وَبِهِ يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنَّمَا أَخَذْنَا فِيهِ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَدِيثِ أَبِي الْأَشْعَثِ حَيْثُ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَوَالَاهُ فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِيرَاثُهُ لَكَ فَإِنْ أَبَيْتَ فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلِحَدِيثِ زِيَادَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَتَاهُ بِوَالِيهِ فَأَبَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَالَاهُ وَلِحَدِيثِ مَسْرُوقٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالَى ابْنَ عَمٍّ لَهُ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فَمَاتَ، وَتَرَكَ مَالًا فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مِيرَاثِهِ فَقَالَ هُوَ لِمَوْلَاهُ وَأَيَّدَ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ، مَا السُّنَّةُ فِيهِ؟ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ»، وَأَيَّدَ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُوَالِهِ، لَمْ يُعْقَلْ عَنْهُ، وَلَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 يَرِثْهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ مَوْلًى لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَالْمَوْتَى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْيَاهُ بِالْعِتْقِ، وَعَلَى هَذَا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّاسَ مَوَالِي عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ السَّيْفَ كَانَ بِيَدِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ أَسْلَمُوا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْإِسْلَامِ بِأَنْ هُدَاهُ لِذَلِكَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى. وَقَالَ تَعَالَى {: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُنْعِمَ بِالْإِسْلَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ مُبَاشِرٌ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مَوْلًى لَهُ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ، ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ هَذَا التَّحَكُّمَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَسْلَمُوا مِنْ هَيْبَةِ عَلِيٍّ وَهُوَ كَانَ صَغِيرًا حِينَ أَسْلَمَ الْكِبَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا مُقَدَّمَيْنِ عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أُمُورِ الْقِتَالِ وَغَيْرِ الْقِتَالِ، لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَأَمَّلُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ الرَّوَافِضَ قَوْمٌ بُهْتٌ لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ الْكَذِبِ، بَلْ بِنَاءُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَإِنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَى رَجُلَانِ آخَرَ، فَهُوَ مَوْلَى هَذَا الَّذِي وَالَاهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِرْ مَوْلًى لَهُ وَلَوْ كَانَ مَوْلًى بِأَنْ عَاقَدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ عَاقَدَ مَعَ الثَّانِي فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلًى لِلْأَوَّلِ؟ فَإِنْ مَاتَ عَنْ عَمَّةٍ أَوْ خَالَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْقَرَابَةِ كَانَ مِيرَاثُهُ لِقَرَابَتِهِ دُونَ الْمَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ عَنْ مَالِهِ بِعَقْدِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَهُ وَارِثٌ وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ. قَالَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِعَقْدِهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ سَبَبَ ذِي الرَّحِمِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْإِرْثِ بِهِ، وَعَقْدُ الْوَلَاءِ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، (فَإِنْ قِيلَ): يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى الثُّلُثُ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ يَمْلِكُ وَضْعَهُ فِيمَنْ شَاءَ. (قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّهُ بِعَقْدِ الْوَلَاءِ مَا وَضَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَارِثًا مِنْهُ وَفِي سَبَبِ الْوِرَاثَةِ ذُو الْقَرَابَةِ يَتَرَجَّحُ فَلَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْلَى مَعَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمَالِ مَقْصُودًا. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ التَّمَلُّكَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرُ التَّمَلُّكِ بِالْإِرْثِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي بِخِلَافِ الْوَارِثِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثُّلُثِ لَهُ، لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 لِتَرَجُّحِ اسْتِحْقَاقِ الْقَرِيبِ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ وَالَتْ رَجُلًا، فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، فَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَاءٌ هُوَ مُسَاوٍ لِلْوَلَاءِ الَّذِي فِي جَانِبِ الْأُمِّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ، كَمَا فِي وَلَاءِ الْعِتْقِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنَّهَا إذَا أُعْتِقَتْ وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، وَكَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ، فَإِنَّ الْجَنِينَ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ مَقْصُودًا، وَهُنَا الْجَنِينُ لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَبُولِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا فَاتِّبَاعُهُ الْأَبَ أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ حِينَ وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا، وَقَدْ وَالَتْ الْأُمُّ قَبْلَ ذَلِكَ آخَرَ، فَالْأَوْلَادُ مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ وِلَايَةُ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، أَمَّا مَعَ وُجُودِ الْأَبِ فَلَا، وَلَئِنْ كَانَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ فَهِيَ مَا عَقَدَتْ عَلَيْهِمْ إنَّمَا عَقَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا خَاصَّةً، وَلَئِنْ جُعِلَ عَقْدُهَا عَلَى نَفْسِهَا عَقْدًا عَلَى الْأَوْلَادِ فَعَقْدُ الْأَبِ كَذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدٌ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَقْبَلُ التَّحَوُّلَ، فَيُجْعَلُ الْأَبُ مُحَوَّلًا لِوَلَائِهِمْ إلَى مَنْ وَالَاهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَادُ مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأَبِ فَإِنْ جَنَى الْأَبُ جِنَايَةً فَعَقَلَ الَّذِي وَالَاهُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْأَبِ تَأَكَّدَ بِعَقْدِ الْجِنَايَةِ، وَيَتَأَكَّدُ التَّبَعُ بِتَأَكُّدِ الْأَصْلِ وَكَمَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَمَا عَقَلَ جِنَايَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَلَدِهِ ذَلِكَ إذَا كَبُرَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هَذَا الْوَلَدُ جَنَى، أَوْ جَنَى بَعْضُ إخْوَتِهِ فَعَقَلَ عَنْهُ مَوْلَاهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَعَ أَوْلَادِهِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ، فَبِعَقْلِ جِنَايَةِ أَحَدِهِمْ بِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وَلَاؤُهُمْ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَإِنَّ تَأَكُّدَ الْعَقْدِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْعَقْدُ مُتَأَكِّدًا قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بَلْ أَحَدُهُمَا مُتَبَرِّعٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْقِيَامِ عَلَى نُصْرَتِهِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ، وَالْآخَرُ مُتَبَرِّعٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي جَعْلِهِ إيَّاهُ خَلِيفَتَهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعَاوَضَةً بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا صُورَةً، فَيَكُونُ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 حِينَ وَالَى الْأَبَ فَأَسْلَمَ الِابْنُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ، فَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ أَبِيهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَبَ إنْسَانٌ، وَالِابْنَ إنْسَانٌ آخَرُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلًى لِمَنْ أَعْتَقَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الِابْنُ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ. نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي وَلَائِهِ وَالصَّغِيرِ عِنْدَ عَقْدِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَلَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى الْإِسْلَامِ عَادَةً، وَالِابْنُ الْكَبِيرُ لَا يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْمَوْلُودِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَيُجْعَلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ، أَمَّا الْكَبِيرُ أَصْلٌ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ هَذَا الْوَلَاءِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْوَلَاءِ بِدُونِ إذْنِ أَبِيهِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي الْحُكْمِ وَتَبَعًا فِيهِ مُنَافَاةٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ أَبُوهُ. وَإِذَا أَسْلَمَتْ الذِّمِّيَّةُ وَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ مِنْ رَجُلٍ ذِمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسَ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْأُمِّ عَلَى وَلَدِهَا الصَّغِيرِ حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْوَلَدِ خِيَارُ الْبُلُوغِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ بِنَفْسِهِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْأُمِّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَاكَ، وَكَذَلِكَ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَلَى حِدَةٍ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ حُكْمَ الْوَلَاءِ يَثْبُتُ بِعَقْدٍ فَيَسْتَدْعِي عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَالْوَلَدُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْمُبَاشَرَةِ لِهَذَا الْعَقْدِ كَعَقْدِ الْكِتَابَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَادَةً، أَوْ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْإِسْلَامِ فَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَذَا فِي هَذَا الْوَلَاءِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَمَوْلَاهُ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِ وَيَعْقِلُ جِنَايَتَهُ، وَإِذَا بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ جِنَايَتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إنْ شَاءَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَيَصِحُّ مِنْ الْأُمِّ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ فِيهِ إلْزَامُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّهِ. وَإِذَا أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدَيْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 رَجُلٍ وَوَالَاهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ عَلَى يَدَيْ آخَرَ وَوَالَاهُ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى الَّذِي وَالَاهُ، وَلَا يَجُرُّ بَعْضُهُمْ وَلَاءَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَتَاقِ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي سَبَبِ الْوَلَاءِ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودًا فِي سَبَبِ وَلَاءِ الْعِتْقِ أَيْضًا لَمْ يَجُرَّ أَحَدُهُمَا وَلَاءَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَلَدَ الْكَبِيرَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الثَّانِي لَا يَصِيرُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبُ الْوَلَاءِ الْعَقْدُ لَا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ. حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنَاصُرُ، وَالْمُسْلِمُ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ، أَوْ يُعْتَبَرُ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَوْلًى لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُوَالَاةِ، فَإِنْ سَبَى ابْنَهُ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يَتْبَعُ وَلَدَهُ فِي الْوَلَاءِ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَالِدُ لَا يُنْسَبُ إلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهُ وَالْأَصْلُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْفَرْعِ، فَلِهَذَا لَا يَجُرُّ الِابْنُ وَلَاءَ الْأَبِ، وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ، فَكَانَ الِابْنُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ، فَيَجُرُّ الْأَبُ وَلَاءَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ الْأَبُ وَوَالَى رَجُلَانِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الِابْنِ هُنَا مُسَاوٍ لِوَلَاءِ الْأَبِ، فَيَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلًى لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ لَمْ يُسْبَ وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ ثُمَّ سُبِيَ الْجَدُّ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُرَّ وَلَاءَ نَافِلَتِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ، فَإِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ جَرُّهُ وَلَاءَ ابْنِهِ فِيمَا إذَا سُبِيَ أَبُوهُ فَاشْتَرَاهُ هَذَا الْجَدُّ حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ ابْنُهُ مَوْلًى لِمَوَالِيهِ، وَيَنْجَرُّ إلَيْهِ وَلَاءُ النَّافِلَةِ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الِابْنُ غَيْرَهُ فَالْجَدُّ لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ؛ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ وَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَدِهِ أَيْضًا (قَالَ): وَمُوَالَاةُ الصَّبِيِّ بَاطِلَةٌ، يَعْنِي إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ صَبِيٍّ وَوَالَاهُ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ يَلْتَزِمُ نُصْرَتَهُ فِي الْحَالِ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَاقِلَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ امْرَأَةٍ وَوَالَاهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ بِالْعَقْدِ وَإِنْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا لَمْ نُجِزْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَوْلًى لَهُ لِأَنَّهُ عَقْدُ الْتِزَامِ النُّصْرَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 إذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَقْدُهُ كَعَقْدِ مَوْلَاهُ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ النُّصْرَةُ وَالْمِيرَاثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَنُصْرَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ بِالْإِرْثِ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْمَوْلَى خَلَفًا عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِنْ وَالَى صَبِيًّا بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ، وَالْتِزَامُهُ بِالْعَقْدِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ صَحِيحٌ فِيمَا لَا يَكُونُ مَحْضُ مَضَرَّةٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ عَلَيْهِ هَذَا الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْوَلَاءَ لِوَلَدِهِ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْوَلَدُ بِإِذْنِ أَبِيهِ ثُمَّ يَكُونُ مَوْلًى لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوَلَاءِ بِنَفْسِهِ إذَا صَحَّ سَبَبُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ قَرِيبَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْلًى لَهُ فَكَذَا حُكْمُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُكَاتَبٍ وَوَالَاهُ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ، وَإِذَا أَدَّى مُكَاتَبَتَهُ فَيُعْتَقُ قَبْلَ أَدَائِهِ كَانَ مَوْلًى لِمَوْلَاهُ، فَكَذَا هُنَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمُوجِبِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَيَخْلُفُهُ مَوْلَاهُ فِيهِ. وَلَوْ وَالَى ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا جَازَ وَهُوَ مَوْلَاهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ كَالْمُسْلِمِ، وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ فَإِسْلَامُ الْأَسْفَلِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَّةً وَيَبْقَى مَوْلًى لَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ وَوَالَاهُ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ. وَأَصْلُهُ هُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيَرِثُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ فِي حَقِّ الْعَرَبِ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّهُ يُضَاهِي وَلَاءَ الْعِتْقِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرِّقُّ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ إذَا أُعْتِقَ كَانَ مَوْلًى لِمُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ قَوِيٌّ كَالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَيَظْهَرُ مَعَ وُجُودِهِ، وَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ، فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ لَا يَتَقَرَّرُ سَبَبُهُ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَرَبِيِّ. وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ. ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا ثُمَّ أَسْلَمَ آخَرُ عَلَى يَدَيْهِ وَوَالَاهُ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَقْصُودِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَهُوَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَقْصُودِ بِالْوَلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدِ حَرْبِيٍّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْلَاهُ وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى لَهُ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الَّذِي يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى غَيْرِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 وَيُلَقِّنُهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُلَقِّنُ غَيْرَهُ شَيْئًا لَا يَكُونُ مُبَاشِرًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَاَلَّذِي يُلَقِّنُ غَيْرَهُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَعِتْقَ عَبْدِهِ. (قَالَ): رَجُلٌ وَالَى رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْتَقِضُ الْعَقْدُ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِهِمَا وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَفْسَخُهُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَعَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِنَفْسِهِ، فَفِي فَسْخِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْآخَرِ حُكْمَ الْفَسْخِ فِي عَقْدٍ كَانَ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَسْخِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ عِلْمِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْخِطَابِ بِالشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْأَعْلَى تَبْرَأَ مِنْ وَلَاءِ الْأَسْفَلِ صَحَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِنْ وَالَى الْأَسْفَلُ رَجُلًا آخَرَ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَقْدِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ هُنَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي وَفِي الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لَهُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ مَقْصُودًا، وَهُوَ نَظِيرُ عَزْلِ الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَتِهِ لَا يَصِحُّ مَقْصُودًا وَيَصِحُّ حُكْمًا لِعِتْقِ الْعَبْدِ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ. (فَإِنْ قِيلَ): فَلِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبًا فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَوْ وَالَاهُمَا جُمْلَةً صَحَّ؟ (قُلْنَا): لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ صِحَّتِهِ مُعْتَبَرٌ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْأَسْفَلُ عَبْدًا وَوَالَاهُ رَجُلٌ فَوَلَاءُ مُعْتِقِهِ وَوَلَاؤُهُ لِلْأَعْلَى الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْأَعْلَى ثُمَّ مَاتَ الْأَسْفَلُ فَإِنَّمَا يَرِثُهُ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِ الْأَعْلَى دُونَ الْإِنَاثِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي وَلَاءِ الْعِتْقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ بَيْعِ الْوَلَاءِ] (قَالَ): ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ». وَبِهَذَا نَأْخُذُ دُونَ مَا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 مَوْلًى لِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَوَهَبَتْ وَلَاءَهُ لِابْنِ الْعَبَّاسِ وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَسْتَدْعِي شَيْئًا مَمْلُوكًا يُضَافُ إلَيْهِ عَقْدُ الْهِبَةِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى مُعْتَقِهِ شَيْءٌ مَمْلُوكٌ وَعَلَى هَذَا لَوْ تَصَدَّقَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَوْ أَوْصَى بِهِ لِإِنْسَانٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْوَلَاءَ نَفْسُهُ لَا يُورَثُ، إنَّمَا يُورَثُ بِهِ كَالنَّسَبِ، وَالْإِرْثُ قَدْ يَثْبُتُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ كَالْقِصَاصِ، فَإِذَا كَانَ لَا يُورَثُ فَلَأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ فِيهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ كَانَ أَوْلَى، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ قِيَاسُ وَلَاءِ الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا هِبَتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ، وَالْأَسْفَلُ غَيْرُ رَاضٍ بِأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِغَيْرِ مَنْ عَاقَدَهُ، وَوَلَاءُ الْعِتْقِ لَا يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّحْوِيلُ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَسْلَمَ وَوَالَى هُوَ الَّذِي بَاعَ وَلَاءَهُ مِنْ آخَرَ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْوَلَاءِ الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً مَعَ هَذَا الثَّانِي إنْ لَمْ يَكُنْ عَقَلَ عَنْهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِتَصَرُّفِهِ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِلثَّانِي، فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِمْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ مَعَ الثَّانِي بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا مِنْهُ لِلْوَلَاءِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْأَعْلَى، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَقْضَ وَلَائِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ بِحَالٍ، وَلَكِنْ بَيْعُ الْأَسْفَلِ مِنْ الثَّانِي بَاطِلٌ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا قَبَضَ مِنْ الثَّانِي مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ مُضَافًا إلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ لَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِالْقَبْضِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ عِتْقِ الرَّجُلِ عَبْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ] (قَالَ): ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا فِي مُكَاتَبَتِهَا. فَقَالَتْ لَهَا: أَشْتَرِيك فَأُعْتِقُكِ وَأُوَفِّي عَنْك أَهْلَكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: إلَّا أَنْ نَشْتَرِطَ الْوَلَاءَ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ: اعْتِقْ يَا فُلَانُ وَالْوَلَاءُ لِي، إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَلَا يَأْمُرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَاطِلٍ وَلَا بِغُرُورٍ، وَهُوَ شَاذٌّ مِنْ الْحَدِيثِ، لَا يَكَادُ يَصِحُّ إنَّمَا الْقَدْرُ الَّذِي صَحَّ مَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَهُوَ بَيَانٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي بُعِثَ لِأَجْلِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ هِشَامٌ فَهُوَ وَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْمُرُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالشِّرَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ الثَّقَفِيَّةِ جَارِيَةً، وَشَرَطَ لَهَا أَنَّهَا لَهَا بِالثَّمَنِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا فَسَأَلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَطَأَهَا وَلَا حَدَّ فِيهَا شُرِطَ فَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي الْبَيْعِ مَعَ الشَّرْطِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبَةِ بِرِضَاهَا يَجُوزُ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِمَنْ حَصَلَ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ لَا لِمَنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ بِدُونِ مِلْكِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ؛ وَلِأَجْلِهِ رُوِيَ الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِذَا أُعْتِقَ الرَّجُلُ عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَنْ الْمُعْتِقِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ دُونَ الْمُعْتَقِ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ قَوْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ إدْخَالِ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِ الْمُعْتِقِ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَصَدَّقَ الْوَارِثُ عَنْ مُورِثِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الصَّدَقَةِ لَا يَسْتَدْعِي مِلْكَ مَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ؛ وَلِأَنَّهُ بِالتَّصَدُّقِ عَنْهُ يَكْتَسِبُ لَهُ الثَّوَابَ وَلَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا، وَبِالْعِتْقِ يَلْزَمُهُ الْوَلَاءُ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُلْزِمَ مُوَرِّثَهُ الْوَلَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الظِّهَارِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَضْمَنُهَا لَك فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ عَنْ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّمْلِيكَ يَنْدَرِجُ فِيهِ، وَذَلِكَ يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي، فَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْتِمَاسِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ، فَلَا يَنْدَرِجُ فِيهِ التَّمْلِيكُ، وَبِدُونِهِ يَكُونُ الْعِتْقُ عَنْ الْمُعْتِقِ دُونَ الْآمِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 عَلَى أَحَدٍ؛ وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ لَهُ مَالًا بِانْتِفَاعِهِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَتَحْصِيلِهِ الْوَلَاءَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَإِنْ كَانَ أَدَّى الْمَالَ رَجَعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَدَّى بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا فَفَعَلَ فَالْوَلَاءُ لِلزَّوْجِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أَبَاهَا عَنْهَا، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهَا يَنْدَرِجُ هُنَاكَ فَيَتَقَرَّرُ فِيهَا رَقَبَةُ الْأَبِ صَدَاقًا لَهَا، وَهُنَا لَا يَنْدَرِجُ التَّمْلِيكُ حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَيَبْقَى النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. (قَالَ): وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ، يَعْنِي أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى أَنْ تُعْتِقَ أَبَاهُ فَالْعِتْقُ عَنْهَا، وَالْأَبُ مَوْلًى لَهَا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهَا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الزَّوْجَ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا سَاقَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهَا مَنْفَعَةَ الْوَلَاءِ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنَلْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى خَمْرٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا فَلِهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَهُوَ حُرٌّ عَلَى الْآمِرِ، وَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، وَفِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآمِرُ بِذَلِكَ امْرَأَةَ الْعَبْدِ فَسَدَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ الرَّقَبَةَ وَذَكَرَ حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَفَعَ عَلَيْهَا حَتَّى كَلَّمَتْهُ فَأَعْتَقَ عَنْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَمْسِينَ رَقَبَةً فِي كَفَّارَةِ يَمِينِهَا. وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ الْبَدَلَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فِي الْحَدِيثِ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ، وَبِالِاتِّفَاقِ بِدُونِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ الْعِتْقُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهَا كَفَّرَتْ يَمِينَهَا وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا أَعْتَقَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى حَيْثُ كَلَّمَتْهُ وَذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا أَعْتَقَتْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَبِيدًا مِنْ تِلَادِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ وَجَعَلَ إلَيْهَا ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَلَاءِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَلَا وَارِثَ لَهُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ وَارِثُهُ بِالْوَلَاءِ، فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ وَوَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يُفَسِّرَا الْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى ابْنِ الْعَمِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5]. وَقَدْ يَكُونُ بِالْعِتْقِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُوَالَاةِ، فَمَا لَمْ يُفَسِّرُوا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَى هَذَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى الْعَتَاقَةُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَيَتَنَاوَلُ الْأَسْفَلَ، فَلَا يَدْرِي الْقَاضِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ يَقْضِي، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَعْتَقَ صَاحِبَهُ (فَإِنْ قِيلَ): هَذَا الِاحْتِمَالُ يَزُولُ بِقَوْلِهِمَا وَوَارِثُهُ فَإِنَّ الْأَسْفَلَ لَا يَرِثُ مِنْ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ (قُلْنَا): بِهَذَا لَا يَزُولُ الِاحْتِمَالُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى تَوْرِيثَ الْأَسْفَلِ مِنْ الْأَعْلَى، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ اعْتَقَدَا ذَلِكَ وَقَصَدَا بِهِ التَّلْبِيسَ عَلَى الْقَاضِي يَعْلَمُهُمَا أَنَّهُمَا لَوْ فَسَّرَا لَمْ يَقْبِضْ الْقَاضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَوْلَى عَتَاقَةٍ لَهُ بِإِعْتَاقٍ مِنْهُ، وَبِإِعْتَاقٍ مِنْ أَبِيهِ أَوْ بَعْضِ أَقَارِبِهِ، وَبَيْنَ النَّاسِ كَلَامٌ فِي الْإِرْثِ بِمِثْلِ هَذَا الْوَلَاءِ يَخْتَصُّ بِهِ الْعَصَبَةُ، أَمْ يَكُونُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَلِهَذَا لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا مَا لَمْ يُفَسِّرَا فَإِنْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْحَيَّ أَعْتَقَ هَذَا الْمَيِّتَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَهُوَ وَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَرُّوا مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ تُهْمَةُ التَّلْبِيسِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى النَّسَبِ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ نَسَبًا وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الشَّرْطُ إلَّا بِشَهَادَتِهِمْ وَقَوْلُهُمْ: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ إنَّمَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا يَعْلَمُونَ وَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدُوا عَلَى عِتْقٍ كَانَ مِنْ أَبِيهِ، وَفَسَّرُوا عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ وِرَاثَتُهُ مِنْهُ فَإِنْ قَالَا لَمْ نُدْرِكْ أَبَاهُ هَذَا الْمُعْتِقَ، وَلَكِنَّا قَدْ عَلِمْنَا هَذَا، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى هَذَا إمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَلَاءِ بِالتَّسَامُعِ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ ذَلِكَ. وَلَكِنْ إذَا أَطْلَقَا الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَمَّا إذَا بَيَّنَا أَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا، وَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ بِالتَّسَامُعِ فَالْقَاضِي لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ، وَبَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَ أُمَّ هَذَا الْمَيِّتِ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ مِنْ عَبْدِ فُلَانٍ، وَأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَبْدًا أَوْ مَاتَتْ أُمُّهُ، ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ وَارِثُهُ فَقَدْ فَسَرُّوا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ (قَالَ): فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَ أَبَاهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَأَنَّهُ وَارِثُهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 سَبَبَ جَرِّ الْوَلَاءِ إلَيْهِ، وَهُوَ عِتْقُ الْأَبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِالْمِيرَاثِ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إذَا أَثْبَتَ الثَّانِي خَطَأَ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ بِهِ لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ مَا قَضَى بِهِ، وَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَ مَيِّتٍ بِالْعِتْقِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ جَعَلْت مِيرَاثَهُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ إرْثُ رَجُلَيْنِ بِالْوَلَاءِ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ أَعْتَقَا عَبْدًا بَيْنَهُمَا، وَالْبَيِّنَاتُ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ وَقَّتَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَكَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا، فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْوَلَاءَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْغَيْرُ فِيهِ، فَهُوَ كَالنَّسَبِ إذَا أَقَامَ رَجُلَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ تَارِيخًا؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْعِتْقُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَّخَ شُهُودُهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِلْكُ الثَّانِي فِيهِ حَتَّى يُعْتِقَهُ، فَتَبَيَّنَ بِشَهَادَةِ الَّذِينَ أَرَّخُوا تَارِيخًا سَابِقًا بُطْلَانَ شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، فَصَاحِبُ الْعَقْدِ الْآخَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَعَ الْأَوَّلِ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَقْدُ مَعَ الثَّانِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْوَلَاءِ الْأَوَّلِ فَشُهُودُ الْآخَرِ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ مَا يَفْسَخُ الْوَلَاءَ، فَالْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ عَقَلَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ قَدْ تَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالْعَقْدِ مَعَ الْآخَرِ، بَلْ يَبْطُلُ الثَّانِي وَيَبْقَى الْأَوَّلُ بِحَالِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَقَضَى لَهُ الْقَاضِي بِوَلَائِهِ وَمِيرَاثِهِ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي ذَلِكَ كَمَا فِي النَّسَبِ إذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ بِتَقَدُّمِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَاضِي بِبَيِّنَتِهِ، لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ كَذِبَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ تَأَكَّدَتْ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْكَذِبِ عَلَى شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي، إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، فَحِينَئِذٍ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ، وَيَبْطُلُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا سَبَبَ كَوْنِهِ مُخْطِئًا فِي الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا حِينَ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. رَجُلٌ مَاتَ، وَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لِأَبِيهِ وَلَا لِهَذَا الْمَيِّتِ غَيْرَهُ، وَجَاءَ بِابْنَيْ أَخِيهِ فَشَهِدَا عَلَى ذَلِكَ قَالَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِجَدِّهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، وَالْإِرْثُ بِهِ كَانَ لِلْمُعْتِقِ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ فِي ذَلِكَ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ، وَشَهَادَةُ النَّافِلَةِ لِلْجَدِّ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْمُعْتِقِ بِذَلِكَ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا وَإِذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 ادَّعَى رَجُلٌ وَلَاءَ رَجُلٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا حُرُّ الْأَصْلِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَوَالَاهُ، وَالْغُلَامُ يَدَّعِي أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ يَقْضِي بِهِ لِلَّذِي وَالَاهُ دُونَ الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ تَثْبُتُ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لَا نَاقِضَ لَهَا، فَبَعْدَ ثُبُوتِهَا تَنْدَفِعُ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ انْتَفَى الْمِلْكُ بِثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا قَضَى بِوَلَائِهِ لِلَّذِي وَالَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَيِّتًا عَنْ تَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ تَقُومُ عَلَى رِقَّةٍ، وَالْأُخْرَى عَلَى حُرِّيَّتِهِ فَالْمُثْبِتُ لِلْحُرِّيَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْمُوَالَاةِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ عَاقَدَهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ حُرٌّ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، فَثُبُوتُ هَذَا الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ أَنْ لَوْ كَانَ حَيًّا أَوْ ادَّعَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَأَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلَى عَتَاقَةٍ لِهَذَا أَجَزْت بَيِّنَةَ الْعَتَاقَةِ، وَكَانَ هَذَا نَقْضًا مِنْ الْغُلَامِ لِلْمُوَالَاةِ لَوْ كَانَ وَالَى هَذَا الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَذِّبٌ لِلَّذِينَ شَهِدُوا بِحُرِّيَّتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَمُدَّعِي الْمُوَالَاةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِإِقْرَارِهِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ عَلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ نَاقِضًا لِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَافَاةِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نَقْضِ وَلَائِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ خَصْمٌ يَدَّعِي حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لَهُ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمِلْكِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ، فَيَثْبُتُ لَهُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بِحُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِإِقْرَارِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ عِنْدَهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْعَتَاقَةِ تُعَارِضُ بَيِّنَةَ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فِيمَا لِأَجْلِهِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ إثْبَاتُ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَتَرَجَّحُ بِخَصْمٍ يَدَّعِيهَا أَوْ لَمَّا انْتَفَى وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَهَذَا حُرٌّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مَوْلَى هَذَا الَّذِي يَدَّعِي وَلَاءَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ إقْرَارُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ النَّسَبَ لِإِنْسَانٍ وَلَا نَسَبَ لَهُ. رَجُلٌ مَاتَ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَشَهِدَ ابْنَا الْمَيِّتِ عَلَى ذَلِكَ، وَادَّعَى آخَرُ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ بِنْتُ الْمَيِّتِ، فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ وَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الِابْنَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْوَلَاءِ وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ ثُمَّ الْإِقْرَارُ لَا يُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَعْدُو الْمُقِرَّ، وَالشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَيِّتَ مُعْتَقُ أَبِ الْمُدَّعِي، وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذَا الْقَضَاءِ تَكْذِيبُ الِابْنَةِ فِيمَا أَقَرَّتْ بِهِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِمَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَابْنَيْنِ وَابْنَةٍ، وَادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى الْمَيِّتِ، وَشَهِدَ لَهُ ابْنَا الْمَيِّتِ وَادَّعَى آخَرُ دَيْنًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّتْ ابْنَةُ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إقْرَارِهَا، وَيُجْعَلُ الْمَالُ كُلُّهُ لِلَّذِي أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَ لِلْآخَرِ ابْنٌ لَهُ وَابْنَتَانِ وَلَمْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحُجَّتَيْنِ، فَإِنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْوَلَاءِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرِّجَالِ وَلَا تَرْجِيحَ مِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ، فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي فَادَّعَى عَلَى عَرَبِيٍّ أَنَّهُ مَوْلَاهُ، وَأَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ أَبَاهُ وَجَاءَ بِأَخَوَيْهِ لِأَبِيهِ يَشْهَدَانِ بِذَلِكَ، وَالْعَرَبِيُّ يُنْكِرُهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا مِنْهُمْ دَعْوَى، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ مَعَ أَخَوَيْهِ فِي هَذَا الْوَلَاءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا مَالًا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْعَرَبِيُّ مُنْكِرًا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الِابْنُ الَّذِي يَدَّعِي الْوَلَاءَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ أَبِيهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَبَ حَيٌّ يَدَّعِيهِ وَشَهَادَةُ الِابْنَيْنِ لِأَبِيهِمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَإِنْ ادَّعَى الْعَرَبِيُّ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ الْمَوْلَى جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الِابْنِ كَإِنْكَارِ أَبِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْوَلَاءِ لِلْعَرَبِيِّ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ وَلَاءَ رَجُلٍ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ عَنْ دُبُرِ مَوْتِهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُنْجَزِ فِي الْمَرَضِ، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ قَدْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَقَدْ دَخَلَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِكَلَامِ فُلَانٍ وَقَدْ فَعَلَ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ كَاتَبَهُ وَاسْتَوْفَى الْبَدَلَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِمَالٍ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ غَيْرُ الْعِتْقِ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْعِتْقَ فَكَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، بِخِلَافِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ حَيْثُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَوْلٌ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إذْ الْقَوْلُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ، وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُعَارِضُهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ خَاصَمَهُ فِيهِ إنْسَانٌ سَأَلْتَهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَالِ وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يُؤْخَذُ الْمَالُ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ، فَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَيِّتَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْمَالُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتَ بِالْوَلَاءِ وَالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَلَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 وَإِنَّمَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي ذَلِكَ، فَيُقْضَى بَيْنَهُمَا بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ): لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ وَأَحَدُهُمَا فِيهَا صَاحِبُ الْيَدِ وَالْآخَرُ خَارِجٌ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا كَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ، أَوْ يُجْعَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَتَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى. (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ بَلْ الْوَلَاءُ حَقٌّ مَقْصُودٌ يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَالٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى إقَامَتِهِمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَلَاءِ أَوَّلًا، وَهُمَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَيَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ حَتَّى لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ، فَذُو الْيَدِ يُثْبِتُ شِرَاءً مُتَأَكِّدًا بِالْقَبْضِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى، وَهُنَا الْوَلَاءُ مُتَأَكِّدٌ بِنَفْسِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْيَدِ عَلَى الْمَالِ فِي تَأْكِيدِ السَّبَبِ، فَلِهَذَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ أَقَامَ مُسْلِمٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ مُسْلِمٌ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الذِّمِّيُّ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلِلْمُسْلِمِ نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَنِصْفُ الْمِيرَاثِ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ قَرَابَةٌ جَعَلْته لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ الْحُجَّتَانِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ شُهُودَ الذِّمِّيِّ مُسْلِمُونَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ كَشُهُودِ الْمُسْلِمِ، فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ تُوجِبُ كُفْرَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْأُخْرَى تُوجِبُ إسْلَامَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَاَلَّذِي يُثْبِتُ إسْلَامَهُ أَوْلَى وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا فَالْمُسْلِمُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْإِرْثَ بِحَسَبِ السَّبَبِ، وَلِلْمُسْلِمِ نِصْفُ وِلَايَةٍ فَلَا يَرِثُ بِهِ إلَّا نِصْفَ الْمِيرَاثِ، وَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِلذِّمِّيِّ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَرِثَهُ، فَيُجْعَلَ كَالْمَيِّتِ، وَيَكُونُ هَذَا النِّصْفُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةٍ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ الذِّمِّيُّ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَالْوَلَاءُ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّسَبِ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ بِحَالٍ فَيَتَكَامَلُ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَرِثُهُ فَلِلْآخَرِ جَمِيعُ الْمَالِ لِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا الْوَلَاءُ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ رَجُلَانِ عَبْدًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ وَلَائِهِ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ إلَّا نِصْفَ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ نَصَارَى لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَيِّتِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُجَّةُ فِي الْوَلَاءِ تَقُومُ عَلَيْهِ، وَشَهَادَةُ النَّصَارَى لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَثْبَتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 دَعْوَاهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ، وَالذِّمِّيَّ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ يُقْضَى بِوَلَائِهِ لِلْمُسْلِمِ وَبِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ لَهُ، فَإِنْ وَقَّتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا فِي الْعِتْقِ، وَهُوَ حَيٌّ وَالشُّهُودُ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَثْبَتَ عِتْقَهُ مِنْ حِينِ أَرَّخَ شُهُودَهُ فَلَا تَصَوُّرَ لِلْعِتْقِ مِنْ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَتَى كَانَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ طَاعِنَةً فِي الْأُخْرَى دَافِعَةً لَهَا فَالْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى. ذِمِّيٌّ فِي يَدَيْهِ عَبْدٌ أَعْتَقَهُ فَأَقَامَ مُسْلِمٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ عَبْدُهُ، وَأَقَامَ الذِّمِّيُّ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَمْضَيْت الْعِتْقَ وَالْوَلَاءَ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الْعِتْقِ، وَفِي بَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ مُسْلِمًا، وَإِذَا كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ كُفَّارًا قَضَيْت بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ، وَبَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا، وَأَقَامَ الذِّمِّيُّ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ، فَبَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حَقَّ الْعِتْقِ، وَالذِّمِّيَّ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ، وَحَقُّ الْعِتْقِ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ، وَلَوْ قَبِلْنَا بَيِّنَةَ الْمُسْلِمِ وَطِأَهَا بِالْمِلْكِ بَعْدَمَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا، وَذَلِكَ قَبِيحٌ. وَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدَيْ ذِمِّيٍّ، وَقَدْ وَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا أَمَتُهُ غَصَبَهَا هَذَا مِنْهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا مِنْهُ فِي مِلْكِهِ قَضَيْت بِهَا وَبِوَلَدِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ طَاعِنَةٌ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ دَافِعَةٌ لَهَا، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ إذْ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً سِوَى الْيَدِ، وَقَدْ أَثْبَتَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَنَّ يَدَهُ كَانَتْ يَدَ غَصْبٍ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَدَ مِلْكٍ، فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى، وَإِذَا قَضَى بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي قَضَى لَهُ بِالْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَوِلَادَتُهَا فِي يَدَيْ الْآخَرِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهَا، لَا يُوجِبُ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهَا أَمَتُهُ أَجَّرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَعَارَهَا مِنْهُ، أَوْ وَهَبَهَا مِنْهُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَثْبُتُ أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَنَّ يَدَهُ فِيهَا لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ فَهَذَا وَفَصْلُ الْغَصْبِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ قَضَيْت بِهَا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي هُنَا مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ وِلَادَتَهَا فِي مِلْكِهِ لَا يَنْفِي مِلْكَ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَبْقَى التَّرْجِيحُ لِذِي الْيَدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ لِلْوَلَدِ وَحَقَّ أُمِّيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 الْوَلَدِ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ أَنَّهَا أَمَتُهُ أَعْتَقَهَا، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَبَيِّنَةُ الْمُعْتِقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتُ حُرِّيَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ بِالْمِلْكِ بَعْدَمَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا، وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ ذَلِكَ بِالْغَصْبِ عَلَى الْآخَرِ كَانَ شُهُودُ الْعِتْقِ أَيْضًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَافِعَةٌ لِلْأُخْرَى طَاعِنَةٌ فِيهَا، وَلِلْمُعَارَضَةِ لَا تَنْدَفِعُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، ثُمَّ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ زِيَادَةُ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لَهَا، وَاسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ عَلَيْهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَقْوَى مِنْ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إثْبَاتُ حَقٍّ قَوِيٍّ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْأُخْرَى تَتَرَجَّحُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ وَلَاءِ الْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا كَافِرًا، ثُمَّ إنَّ الْمُكَاتَبَ كَاتَبَ أَمَةً مُسْلِمَةً، ثُمَّ أَدَّى الْأَوَّلُ فَعَتَقَ فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَنَسَبُ الْكَافِرِ قَدْ يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَأَصْلُ الْمِلْكِ يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَرِثُهُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لَهُ فِي الْمِلَّةِ، وَشَرْطُ الْإِرْثِ الْمُوَافَقَةُ فِي الْمِلَّةِ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ جِنَايَتَهُ؛ لِأَنَّ عَقْلَ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَنْصُرُ الْكَافِرَ، فَإِذَا أَدَّتْ الْأَمَةُ فَعَتَقَتْ فَوَلَاؤُهَا لِلْمَكَاتِبِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُ لِكَوْنِهِ حُرًّا، وَكَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، أَوْ يُعْتَبَرُ بِالنَّسَبِ، وَنَسَبُ الْمُسْلِمِ قَدْ يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ الْكَافِرِ فَإِنْ مَاتَتْ فَمِيرَاثُهَا لِلْمَوْلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ جَنَتْ فَعَقْلُ جِنَايَتِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهَا وَهُوَ الْمَكَاتِبُ الْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَرِثَهَا، وَلَا أَنْ يَعْقِلَ جِنَايَتَهَا فَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ مُعْتَقُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي وَلَاءِ مُعْتَقِهِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ وَعَقْلِ الْجِنَايَةِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. (فَإِنْ قِيلَ): فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي إثْبَاتِ الْوَلَاءِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَلِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ لَا يَرِثُهُ وَلَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. (قُلْنَا): أَمَّا فَائِدَتُهُ النِّسْبَةُ إلَيْهَا بِالْوَلَاءِ كَالنَّسَبِ، مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يُسْلِمُ فَيَرِثُهُ وَيَعْقِلُ جِنَايَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ ظَهَرَتْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْمَوْلَى الْمُسْلِمَ مُعْتِقُهُ فَيَرِثُهُ وَيَعْقِلُ جِنَايَتَهَا عَاقِلَتُهُ. رَجُلٌ بَاعَ مُكَاتَبًا فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِالْكِتَابَةِ، وَفِي بَيْعِهِ إبْطَالُ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ، وَقَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا فَلَا يَقْدِرُ الْمَوْلَى عَلَى تَسْلِيمِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ صَارَ كَالتَّاوِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ دُونَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَبْضُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ كَالْحُرِّ وَالْبَيْعُ لَا يَنْفُذُ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا، فَلِهَذَا كَانَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي بَاطِلًا، وَإِنْ قَالَ الْمُكَاتَبُ قَدْ عَجَزْت، وَكَسَرَ الْمُكَاتَبَةَ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ، فَإِنَّمَا صَادَفَهُ الْبَيْعُ مِنْ الْمَوْلَى وَهُوَ قِنٌّ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمُكَاتَبُ بِرِضَاهُ يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ؛ وَلِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ الْبَيْعِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا بِتَقْدِيمِ فَسْخِ الْكِتَابَةِ فَيَتَقَدَّمُ فَسْخُ الْكِتَابَةِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفٍ وَهِيَ حَالَّةٌ فَكَاتَبَ الْعَبْدُ أَمَةً عَلَى أَلْفَيْنِ، ثُمَّ وَكَّلَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ بِقَبْضِ الْأَلْفَيْنِ مِنْهَا عَلَى أَنَّ أَلْفًا مِنْهَا قَضَاءٌ لَهُ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ فَفَعَلَ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْأَمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى وَكِيلُ عَبْدِهِ فِي قَبْضِ الْأَلْفَيْنِ مِنْهَا فَتُعْتَقُ هِيَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ، ثُمَّ الْمَوْلَى يَقْبِضُ إحْدَى الْأَلْفَيْنِ لِنَفْسِهِ بَعْدَمَا يَقْبِضُهُ لِلْمُكَاتَبِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ عِتْقَهَا يَسْبِقُ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ، وَلَوْ أَدَّتْ إلَى الْمُكَاتَبِ فَعَتَقَتْ قَبْلَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ كَانَ وَلَاؤُهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْوَلَاءُ فَيَخْلُفُهُ مَوْلَاهُ فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ؛ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمْ يُعْتَقْ قَبْلَهَا، وَمَا لَمْ يُعْتَقْ قَبْلَهَا لَا يَكُونُ هُوَ أَهْلًا لِوَلَائِهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يُعْتَقَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِيهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُعْتِقَ كَسْبَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أَوْ يُنِيبَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ وَإِنْ فَعَلَ، وَالدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ فَفِي نُفُوذِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى هَلْ يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمَأْذُونِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ ذَلِكَ مِنْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مَالِهِ، فَيَمْلِكُ أَنْ يُنِيبَ الْعَبْدَ مَنَابَ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فَإِنْ كَاتَبَ عَبْدًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْمُكَاتَبَةَ عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ كَالْوَكِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْهُ فَإِنَّمَا عَتَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ مُكَاتَبِ الْمَكَاتِبِ إذَا أَدَّى بَعْدَمَا أَعْتَقَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُكَاتَبٌ مِنْ جِهَةِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْمِلْكِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 الَّذِي لَهُ فِي كَسْبِهِ وَقَدْ انْقَلَبَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ حَقِيقَةَ مِلْكٍ، وَكَانَ حَقُّ قَبْضِ الْبَدَلِ لَهُ فَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ فَكَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ مِلْكٌ وَلَا حَقٌّ، وَبَعْدَ عِتْقِهِ يَكُونُ كَسْبُهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ لِمَوْلَاهُ، وَلِلصَّبِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ وَلِيَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْكِتَابَةِ فِي عَبْدِهِ دُونَ الْعِتْقِ بِمَالٍ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ إذْنُهُ فِي الْكِتَابَةِ دُونَ الْعِتْقِ بِمَالٍ، وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَيْهِ الْبَدَلَ فَوَلَاؤُهُ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَقْبَلَ وَلَاءَ مَنْ يُوَالِيهِ بِإِذْنِ وَصِيِّهِ أَوْ أَبِيهِ، وَلَهُمَا أَنْ يَقْبَلَا عَلَيْهِ هَذَا الْوَلَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْوَلَاءِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ فِيهِ أَظْهَرُ وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ، وَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَيَّدُ رَأْيُهُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَيْهِ كَمَا فِي التِّجَارَاتِ. وَإِنْ أَسْلَمَ صَبِيٌّ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ لَمْ يَجُزْ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِبْدَادِ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ يَثْبُتُ فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ لَهُ دُونَ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَالْإِسْلَامُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لَهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَأَمَّا عَقْدُ الْوَلَاءِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ رَأْيُ وَلِيِّهِ إلَى رَأْيِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ مِنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِمَا فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ فِي إيجَابِ الْعَقْدِ وَلَا فِي قَبُولِهِ، وَبِدُونِهِ لَا يَثْبُتُ عَقْدُ الْوَلَاءِ فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَوْجُودِ فِي الْبَطْنِ هَذَا فَفِي الْمَعْدُومِ أَصْلًا أَوْلَى. رَجُلٌ أَعْطَى رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ابْنِ الْمُعْطِي وَهُوَ صَغِيرٌ فَفَعَلَ فَالْعِتْقُ عَنْ الْمَوْلَى الَّذِي أَعْتَقَ، وَلَا يَكُونُ عَنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعِتْقِ فِي مِلْكِهِ، وَلَا لِوَلِيِّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ إضْمَارُ التَّمْلِيكِ مِنْ الصَّبِيِّ فِي هَذَا الِالْتِمَاسِ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ لِتَصْحِيحِ مَا صَرَّحَ بِهِ إنْ أَعْتَقَهُ، فَيَكُونُ الْعِتْقُ عَنْهُ وَيَرُدُّ الْأَلْفَ إنْ كَانَ قَبَضَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْإِضْمَارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِضْمَارِ تَصْحِيحُ مَا صَرَّحَ بِهِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ إضْمَارُ التَّمْلِيكِ مِنْ الْمُعْطِي لِلْمَالِ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَمَسَ إعْتَاقَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالتَّمْلِيكُ فِي ضِمْنِ هَذَا الِالْتِمَاسِ فَظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ إلَى أَنْ أَعْتَقَهُ فَيَكُونُ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَيَرُدُّ الْأَلْفَ إنْ كَانَ قَبَضَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآمِرُ بِذَلِكَ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا تَاجِرًا بِأَنْ قَالَ لِحُرٍّ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إضْمَارِ التَّمْلِيكِ هُنَا تَصْحِيحُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 مَا صَرَّحَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ لَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الْعِتْقِ فِي كَسْبِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلصَّبِيِّ فَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ: أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَهُ الْأَبُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلِّكًا الْعَبْدَ مِنْ الْمُلْتَمِسِ بِالْأَلْفِ، ثُمَّ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْعِتْقِ وَلِلْوَلِيِّ حَقُّ هَذَا التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ لِمُكَاتَبٍ أَوْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ عَبْدٌ فَقَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلِّكًا الْعَبْدَ مِنْهُ بِأَلْفٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ فِي كَسْبِهِمَا، ثُمَّ يَنُوبُ عَنْ الْمُلْتَمِسِ فِي الْعِتْقِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُمَا أَيْضًا، وَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ مُكَاتَبٌ لِمُكَاتِبٍ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ إضْمَارَ التَّمْلِيكِ إنَّمَا يَجُوزُ لِتَصْحِيحِ مَا صَرَّحَ بِهِ، وَالْمُكَاتَبُ الْمُلْتَمِسُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِتْقِ، فَلَمَّا ثَبَتَ التَّمْلِيكُ مِنْهُ بِهَذَا الِالْتِمَاسِ بَقِيَ الْمَأْمُورُ مُعْتِقًا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ فَيَكُونُ الْإِعْتَاقُ بَاطِلًا. وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا، ثُمَّ شَهِدَ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ إذَا جَحَدَ ذَلِكَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَالِكٌ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ بِعِتْقٍ نَفَذَ فِيهِ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ، وَلَوْ أَنْشَأَ فِيهِ عِتْقًا نَفَذَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِي الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَائِعُ يَقُولُ: الْمُشْتَرِي كَاذِبٌ وَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: عَتَقَ عَلَى الْبَائِعِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ إلْزَامِ صَاحِبِ الْوَلَاءِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ وَرَدُّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ كَانَ حُرًّا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ بَاعَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ رَدِّ الثَّمَنِ؛ فَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ مِنْ التَّرِكَةِ، وَالتَّرِكَةُ حَقُّهُمْ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَلَاءِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُلْزِمُونَ الْمَيِّتَ وَلَاءً قَدْ أَنْكَرَهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْوَلَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَعْتَقُوا عَنْهُ عَبْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: وَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي حُقُوقِهِ فَيَكُونُ تَصْدِيقُهُمْ كَتَصْدِيقِهِ فِي حَيَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي النَّسَبِ يُجْعَلُ إقْرَارُ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا عَدَدًا كَإِقْرَارِ الْمُورِثِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّدْبِيرِ فَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ لَا يَخْدُمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرَّأَ عَنْ خِدْمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكْتَسِبُ فَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ أَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 مُدَبَّرُ الْبَائِعِ قَدْ عَتَقَ بِمَوْتِهِ، وَالْبَائِعُ كَانَ مُقِرًّا أَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ نَافِذٌ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَرَثَةُ لَزِمَ الْوَلَاءُ الْبَائِعَ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا. أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ، فَإِنَّهَا تَبْقَى مَوْقُوفَةً لَا تَخْدُمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ عَنْهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى صَاحِبِهِ فَتَبْقَى مَوْقُوفَةً حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ مِنْهُمَا مُقِرٌّ بِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَيِّتِ، وَقَدْ أُعْتِقَتْ بِمَوْتِهِ، وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ الْحَيِّ، وَأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهَا نَافِذٌ فَيُعْتَقُ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ. أَمَةٌ لِرَجُلٍ مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا لَهُ، وَلَدَتْ مِنْ آخَرَ، فَقَالَ رَبُّ الْأَمَةِ: بِعْتُكهَا بِأَلْفٍ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا، فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ وَالِدِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِمَوْلَى الْأَمَةِ، فَإِنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ، وَمَوْلَى الْأَمَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ أَبِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْلَدَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيُثْبِتُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ إقْرَارِ مَوْلَى الْأَمَةِ بِهِ، وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْأَمَةِ يَنْفِي وَلَاءَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقُولُ هُوَ حُرُّ الْأَصْلِ عَلَقَ فِي مِلْكِ أَبِيهِ، وَالْجَارِيَةُ مَوْقُوفَةٌ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَطَؤُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَا يَسْتَخْدِمُهَا وَلَا يَسْتَغِلُّهَا؛ لِأَنَّ أَبَ الْوَلَدِ يَتَبَرَّأُ عَنْهَا لِإِنْكَارِهِ الشِّرَاءَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا، وَمَوْلَاهَا يَقُولُ: هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِأَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنِّي قَدْ بِعْتهَا مِنْهُ، فَتَبْقَى مَوْقُوفَةً بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهَا أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَأَبُ الْوَلَدِ مُقِرٌّ بِأَنَّ إقْرَارَ مَوْلَاهَا فِيهَا نَافِذٌ، فَإِذَا مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهَا مُقِرٌّ بِأَنَّهَا عَتَقَتْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِ الْوَلَدِ؛ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَأَبُ الْوَلَدِ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ إقْرَارَ مَوْلَاهَا فِيهَا نَافِذٌ، فَلِهَذَا عَتَقَتْ، وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ الْعُقْرَ مِنْ أَبِ الْوَلَدِ قِصَاصًا مِنْ الثَّمَنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَ الْوَلَدِ يَزْعُمُ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِالنِّكَاحِ فَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا لِمَوْلَاهَا، وَمَوْلَاهَا يَزْعُمُ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَبَعْدَ مَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُهُمَا فِي السَّبَبِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ مَنْ عَلَيْهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَيَقْبِضُهُ الْآخَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ. رَجُل أَقَرَّ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ فِي الْقِيَاسِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ وَلَاءَهُ أَبَاهُ بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ أَبِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَبِإِقْرَارِ الْوَارِثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 إذَا كَانَ وَاحِدًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ عَنْ أَبِيهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ الْوَلَاءَ لَهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَأَلْزَمَ وَلَاءَهُ الْأَبَ إذَا كَانَ عَصَبَتُهُمَا وَاحِدًا، وَقَوْمُهُمَا مِنْ حَيٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ، وَإِقْرَارُهُ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ كَإِقْرَارِ الْأَبِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي أَثَرِهِ ثُمَّ الْإِرْثُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْوَلَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَقْدُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ عَلَى قَوْمِهِ. فَإِذَا كَانَا مِنْ حَيٍّ وَاحِدٍ فَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ قَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ عِتْقَهُ بِنَفْسِهِ يَلْزَمُهُمْ عَقْلُ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ أَعْتَقَهُ قَوْمٌ، وَالِابْنَ آخَرُونَ فَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمُ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأَبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ عَقْلَ جِنَايَتِهِ بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهَذَا الْفَصْلُ نَظِيرُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْأَبِ وَقَوْمِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ آخَرُ فَكَذَّبَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ كَاذِبًا، وَلَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ ضَامِنًا كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ بَلْ احْتَبَسَ نَصِيبَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَاءُ هَذَا النِّصْفِ لِلَّذِي اسْتَسْعَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ، وَوَلَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ وَلَاءَ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا وَلَاءَ حِصَّتِهِ لِلْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَوْمُهُمَا وَاحِدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ لِلْمَيِّتِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَوَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي اسْتَسْعَاهُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ، فَاَلَّذِي اسْتَسْعَاهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْوَلَاءِ وَيَقُولُ: إنَّمَا عَتَقَ هَذَا النِّصْفُ بِإِقْرَارِ شَرِيكِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَالْعِتْقِ فَالْوَلَاءُ فِي الْكُلِّ لَهُ، وَالْمُقِرُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَلْ هُوَ لِلْمَيِّتِ، فَيَتَعَارَضُ قَوْلُهُمَا فِي نَصِيبِ الَّذِي اسْتَسْعَاهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا حَتَّى يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ فَأَقَرَّتْ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، (فَإِنْ قِيلَ): عَلَى قَوْلِهِمَا لَمَّا أَقَرَّ الْمُسْتَسْعَى بِوَلَاءِ نَصِيبِهِ لِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِهِ لِلْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَلَاءُ الْعَبْدِ كُلُّهُ مِنْ الْمَيِّتِ. (قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ كُلِّ الْوَلَاءِ مِنْ الْمَيِّتِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْتَسْعَى فِي السِّعَايَةِ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ جَعَلْنَا وَلَاءَ هَذَا النِّصْفِ مَوْقُوفًا. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، قَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ أَمْسِ الْمَسْجِدَ فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ كَانَ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ. قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 فِي الْإِسْقَاطِ نِصْفُ السِّعَايَةِ عَنْ الْمَمْلُوكِ أَعَادَهَا لِبَيَانِ حُكْمِ الْوَلَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ مَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَمَا سَقَطَ بِإِسْقَاطِهِ، لَا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَاءُ نَصِيبِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ حَانِثٌ، وَأَنَّ الْكُلَّ عِتْقٌ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ مَوْقُوفًا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ كَامِلَةً لَهُمَا، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَجَزَّأُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ حَانِثٌ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ كُلَّهُ لَهُ، فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ الْوَلَاءُ، وَكُلُّ وَلَاءٍ مَوْقُوفٌ فَمِيرَاثُهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لِصَاحِبِ الْوَلَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالْمَالُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَا يَرِثُ مَالَهُ إنَّمَا يُوقَفُ الْمَالُ فِيهِ لِيَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ، فَلَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَيْضًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ مَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ عَلَيْهِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ، فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ [بَابٌ آخَرُ مِنْ الْوَلَاءِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاللَّقِيطُ حُرٌّ يَرِثُهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَيَعْقِلُ عَنْهُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ تَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ، فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ يَرِثُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ جِنَايَتَهُ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُعْتِقِ، وَهَذَا غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَوْ وَالَى اللَّقِيطُ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ جِنَايَتَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حِينَ عَاقَدَهُ وَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ تَأَكَّدَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُوَالِي أَحَدًا. (فَإِنْ قِيلَ): الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِلْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِعَقْدِهِ كَوَلَاءِ الْعِتْقِ. (قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّ ثُبُوتَهُ لِمَعْنَى ذَلِكَ الْمَعْنَى يَزُولُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ، بِخِلَافِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى لَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، وَحُكْمُ مَوَالِي اللَّقِيطِ كَحُكْمِ اللَّقِيطِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ أَوْ الْمُوَالَاةِ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ وَلَاءُ مَوَالِيهِ كَمَا فِي مُعْتِقِ الْمُعْتَقِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ أَسْلَمَ وَلَا يُوَالِي أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَاللَّقِيطِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ عَبْدٌ فَأَعْتَقَاهُ فَجَنَى جِنَايَةً كَانَ نِصْفُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَرَبِيِّ؛ لِأَنَّ نِصْفَ وَلَائِهِ لَهُ وَنِصْفَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ وَلَائِهِ لِمَنْ هُوَ مَوْلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَيَا وَلَدًا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ وَلَدُهُمَا، وَنِصْفُ جِنَايَتِهِ عَلَى قَبِيلَةِ الْعَرَبِيِّ، وَنِصْفُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ اللَّقِيطِ وَالْعَرَبِيِّ جَمِيعًا. (قَالَ): ذِمِّيٌّ أَعْتَقَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى الْكَافِرُ وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَعَقْلُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ عَقْلِ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْصُرُ الْمُسْلِمَ فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ، كَانَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى بَيْتِ الْمَالِ. (قَالَ): وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُعْتِقِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلذِّمِّيِّ عَشِيرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةً مِنْ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ وَالَى هَذَا الْمُعْتِقُ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ لِكَافِرٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ الْمُعْتِقُ وَوَالَى رَجُلًا صَارَ هَذَا الْمُعْتِقُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ وَقَدْ صَارَ مَوْلًى لِمَنْ عَاقَدَهُ. نَصْرَانِيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ مُسْلِمًا كَانَ وَلَاؤُهُ لِقَبِيلَةِ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ إنْ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، فَهُوَ تَغْلِبِيٌّ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَيَرِثُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى مَوْلَاهُ عَصَبَةً؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِث لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لَهُ فِي الدِّينِ، فَيَقُومُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ، وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى قَبِيلَةِ مَوْلَاهُ كَعَقْلِ جِنَايَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ وَكُلُّ مُعْتِقٍ جَرَى عَلَيْهِ الرِّقُّ بَعْدَ الْعِتْقِ اُنْتُقِضَ بِهِ الْوَلَاءُ الْأَوَّلُ، وَكَانَ حُكْمُ الْوَلَاءِ لِلْعِتْقِ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُنْتَقَضُ الْأَوَّلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَرُبَّمَا يَقُولُ لَا يَسْتَرِقُّ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُسْلِمِ فِي الْوَلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ كَالْحُرِّيَّةِ الْمُتَأَكِّدَةِ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالرِّقِّ. (وَلَكِنَّا) نَقُولُ: سَبَبُ الْوَلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ انْعَدَمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَهُوَ الْعِتْقُ، وَقُوَّةُ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لِلْحُكْمِ بَعْدَ بُطْلَانِ السَّبَبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ الِاسْتِرْقَاقُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا لِمَانِعٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 وَهِيَ الْعِصْمَةُ، وَلَا عِصْمَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَلَاءِ كَمَا لَا عِصْمَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ الْحَرْبِيِّ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ مُسْلِمٌ، وَإِذَا صَارَ رَقِيقًا لِلثَّانِي فَأَعْتَقَهُ فَقَدْ اكْتَسَبَ سَبَبَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا كَانَ مَوْلًى لَهُ حَرْبِيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَلِّ سَبِيلَهُ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَلَّى سَبِيلَهُ كَانَ عِتْقُهُ نَافِذًا، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجْرِي عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَئِنْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ فَهُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَلَا حُرْمَةَ لِمِلْكِهِ، فَكَذَلِكَ لَا حُرْمَةَ لِأَثَرِ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ بِإِحْرَازِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْطُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ. حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا جَاءَ بِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُسِرَ وَجَرَى عَلَيْهِ الرِّقُّ فَمُعْتِقُهُ مَوْلَاهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ الْعِتْقُ وَإِحْدَاثُ الْقُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَمَا صَارَ رَقِيقًا وَضَعُفَ حَالُهُ بِسَبَبِ الرِّقِّ، لَا يَكُونُ فَوْقَ ضَعْفِ حَالِهِ بِالْمَوْتِ، وَالْوَلَاءُ الثَّابِتُ لِلْمُعْتِقِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَكَذَلِكَ بِرِقِّهِ. (فَإِنْ قِيلَ): الرِّقُّ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُكَاتَبِ، فَكَذَلِكَ يُنَافِي بَقَاءَهُ (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الرَّقَّ مُنَافٍ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ الْعِتْقُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْوَلَاءُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي إبْقَاءِ الْوَلَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْتِ فِي أَنَّهُ يُنَافِي الْمِلْكَ وَابْتِدَاءَ الْوَلَاءِ لِلْمَيِّتِ، وَلَا يُنَافِي بَقَاءَهُ فَإِنْ مَاتَ مُعْتِقُهُ كَانَ مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ رَقِيقٌ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ عَشِيرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَيُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبُ كُلِّ مَالٍ ضَائِعٍ وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ فَإِنْ أُعْتِقَ هَذَا الْحَرْبِيُّ صَارَ مَوْلًى لِمُعْتِقِهِ، وَكَذَلِكَ مُعْتِقُهُ يَكُون مَوْلًى لَهُ بِوَاسِطَةِ أُمِّ وَلَدٍ لِحَرْبِيٍّ خَرَجَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً، فَهِيَ حُرَّةٌ تُوَالِي مَنْ شَاءَتْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا أَحْرَزَتْ نَفْسَهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَتْ قِنَّةً فَأَحْرَزَتْ نَفْسَهَا بِالدَّارِ كَانَتْ تُعْتَقُ لِمِلْكِهَا نَفْسَهَا، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُوَالِيَ مَنْ شَاءَتْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ سِتَّةً مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ خَرَجُوا مُسْلِمِينَ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَاصِرًا لَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مَوَالِيهِمْ يَطْلُبُونَ وَلَاءَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ». مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، أَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ هُنَاكَ ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُهُ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى هَذَا الْمُعْتِقِ الْحَرْبِيِّ وَلَاءٌ حِينَ أَسْلَمَ، فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَجْعَلُهُ مَوْلَاهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ مِنْ «عِتْقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ»، وَعِتْقِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبْعَةً مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَّةَ مِنْهُمْ صُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَكَانَ وَلَاؤُهُمْ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ، وَقَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مَكَّةُ دَارَ حَرْبٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ بَعْدَمَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا، وَأُمِرَ بِالْقِتَالِ فَجَرَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعْتَقِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ، وَالْمُسْلِمُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ. حَرْبِيٌّ اشْتَرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُسِرَ وَاسْتُرِقَّ، فَاشْتَرَاهُ مُعْتِقُهُ وَأَعْتَقَهُ فَوَلَاءُ الْأَوَّلِ لِلْآخَرِ، وَوَلَاءُ الْآخَرِ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ فِي صَاحِبِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوِلَاءَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَجُوزُ نِسْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ بِالْأُخُوَّةِ إلَى صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ نِسْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعْتَقَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ بِالْوَلَاءِ. حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي أَدْخَلَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَزَوَالُ الْعِصْمَةِ عَنْ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ وَثُبُوتُ الْوَلَاءِ بِاعْتِبَارِ عِصْمَةِ الْمِلْكِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِمِلْكِهِ عِصْمَةٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَعْتَقَهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ بِالْعِتْقِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّمَا عَتَقَ لِمِلْكِهِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَلَّ لَهُ قَتْلُ مَوْلَاهُ وَأَخْذُ مَالِهِ، وَهُوَ قَاهِرٌ لِمَوْلَاهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُعْتَقُ بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْتَقْ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ هَذَا وَمِلْكُهُ نَفْسَهُ بِالْإِحْرَازِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ كَانَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِإِدْخَالِ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ دَارَ الْحَرْبِ، فَإِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ مِثْلِهِ، فَهُوَ حُرٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ زَالَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ، وَمِلْكَ الْحَرْبِيِّ مَتَى زَالَ عَنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرَاغَمًا وَعِنْدَهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَخْلُفُ الْبَائِعَ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ السَّيْرِ فَإِنْ غَنَمَهُ الْمُسْلِمُونَ عَتَقَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي نَفْسِهِ أَقْرَبُ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ فَيَصِيرُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِمَنْعِهِ الْجَيْشَ. حَرْبِيٌّ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا فِي تِجَارَةٍ لِمَوْلَاهُ فَأَسْلَمَ لَمْ يُعْتَقْ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُهُ وَيُمْسِكُ ثَمَنَهُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْحَرْبِيِّ فِيهِ صَارَ مَعْصُومًا بِالْأَمَانِ فَلَا يُعْتَقُ، وَلَكِنْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْمُسْلِمِ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى بَيْعِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ لِيَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَعَهُ نَابَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ، وَيُمْسِكُ ثَمَنَهُ عَلَى مَوْلَاهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا فِي تِجَارَةٍ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِالْخُرُوجِ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَلَى مَوْلَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ فِي تِجَارَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مُرَاغَمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَنْ مَوْلَاهُ فَكَانَ حُرًّا يُوَالِي مَنْ شَاءَ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ تَأَكَّدَ بِعَقْدِ جِنَايَتِهِ. رَجُلٌ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ مَوْلًى لَهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْل رِدَّتِهِ، فَوَرِثَهُ الرِّجَالُ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ النِّسَاءِ ثُمَّ خَرَجَ ثَانِيًا أَخَذَ مَا وُجِدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا وُجِدَ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حِينَ مَاتَ مَوْلَاهُ؛ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ، وَإِنَّمَا يُعَادُ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا قَطُّ لَا يُعَادُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَانَ هَذَا مَالِكًا مُبْتَدِئًا لَهُ، وَبِسَبَبِ إسْلَامِهِ لَا يَسْتَحِقُّ تَمَلُّكَ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ مَاتَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَلَا يَرِثَ الْمُسْلِمَ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمَيِّتِ فِي إرْثِ مَوْلَاهُ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةٍ مِنْهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا فِي رِدَّتِهَا، أَوْ قَبْلَ رِدَّتِهَا، ثُمَّ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَأَعْتَقَهَا، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ عَنْ الْعَبْدِ بَنُو أَسَدٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَتَرِثُهُ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ رِدَّتِهَا كَانَ عَقْلُ جِنَايَةِ هَذَا الْمُعْتِقِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ بِاعْتِبَارِ نِسْبَةِ الْمُعْتَقَةِ إلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ السَّبْيِ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَنْقَطِعُ بِالسَّبْيِ وَبَعْدَ مَا عَتَقَتْ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ أَيْضًا، فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ السَّبْيِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَلَا يَزْدَادُ بِالْعِتْقِ إلَّا وَكَادَةً، ثُمَّ رَجَعَ يَعْقُوبُ عَنْ هَذَا وَقَالَ: يَعْقِلُ عَنْهُ هَمْدَانُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ لَمَّا سُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ صَارَتْ مَنْسُوبَةً بِالْوَلَاءِ إلَى قَبِيلَةِ مُعْتِقِهَا، فَكَذَلِكَ مُعْتِقُهَا يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِمْ بِوَاسِطَتِهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 الْحُكْمِ أَقْوَى مِنْ النَّسَبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْلَ جِنَايَتِهَا يَكُونُ عَلَى قَوْمِ مُعْتِقِهَا، وَلَوْ أَعْتَقَتْ بَعْدَ هَذَا عَبْدًا كَانَ مَوْلًى لِقَوْمِ مُعْتِقِهَا، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَقَبْلَ الرِّدَّةِ إنَّمَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ لِانْعِدَامِ وَلَاءِ الْعِتْقِ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ وَلَاءُ الْعِتْقِ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ كَمَا يُنْسَبُ الْوَلَدُ بِالْوَلَاءِ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَقَةً لِلْأَوَّلَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَيْهَا لِلْأَوَّلَيْنِ قَدْ بَطَلَ حِينَ سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ، فَكَذَلِكَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مِنْ وَلَاءِ مُعْتِقِهَا. رَجُلٌ ذِمِّيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، ثُمَّ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِهِ، وَإِنْ صَارَ حَرْبِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ صَيْرُورَتَهُ حَرْبِيًّا كَمَوْتِهِ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ بَيْتُ الْمَالِ عَمَّنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا وَرَثَةَ. وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ أَبُوهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ كَافِرًا فَأَعْتَقَهُ رَجُلٌ لَمْ يَجْرِ وَلَاءُ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَلَا تَصِيرُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي عَلَى الْحَرْبِيَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يَنْجَرُّ وَلَاءُ مُعْتَقِهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ بِوَاسِطَتِهَا، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ فِي حَقِّهِمْ لَا يَنْجَرُّ إلَيْهِمْ الْوَلَاءُ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهُ مُسْلِمًا فَجَنَى جِنَايَةً، فَعَقْلُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَعْتَقَتْ الْعَبْدَ كَانَ وَلَاؤُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَنَتْ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ مَوْلَاهَا، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهَا كَمَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهَا لَوْ مَاتَتْ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَيِّتِ. امْرَأَةٌ مِنْ الْعَجَمِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ سُبِيَ أَبُوهَا فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ فَأَعْتَقَهُ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمَرْأَةِ وَوَلَاءَ مَوْلَاهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَيَنْجَرُّ بِوَاسِطَتِهَا وَلَاءُ مُعْتَقِهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ أَيْضًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تُوَالِيَ إنْسَانًا، فَلَا يُمْنَعُ جَرُّ وَلَائِهَا إلَى قَوْمِ الْأَبِ بَعْدَ مَا عَتَقَ الْأَبُ. حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَأُسِرَ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ وَأَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَوَلَاءُ الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ، وَالْوَلَاءُ الثَّابِتُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَشِيرَةٌ كَانَ عَقْلُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَشِيرَةٌ فَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَقْلُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ عَقْلِ جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ جُعِلَ عَلَى نَفْسِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْوَلَاءِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلَى فُلَانٍ مَوْلَى عَتَاقَةٍ مِنْ فَوْقُ أَوْ مِنْ تَحْتِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَهُوَ مَوْلًى لَهُ، وَيَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْفَلَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَعْلَى بِالْوَلَاءِ، وَالْأَعْلَى يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ نُصْرَتَهُ، وَإِقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ نَافِذٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ كِبَارٌ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَبُونَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ لِفُلَانٍ آخَرَ، فَالْأَبُ يُصَدِّقُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَوْلَادُ مُصَدِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَمْلِكُونَ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَكَذَلِكَ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي النِّسْبَةِ وَالنُّصْرَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ صِغَارًا كَانَ الْأَبُ مُصَدِّقًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِمْ بِوِلَايَةِ الْأُبُوَّةِ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْ الْأَوْلَادِ يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمٌّ فَقَالَتْ أَنَا مَوْلَاةُ فُلَانٍ، وَصَدَّقَهَا مَوْلَاهَا بِذَلِكَ، فَالْوَلَدُ مَوْلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَصْلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ وَلَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْرُوفًا كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ، وَلَوْ قَالَتْ الْأُمُّ لِلْأَبِ: أَنْتَ عَبْدُ فُلَانٍ. وَقَالَ: كُنْتُ عَبْدَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ بِتَصَادُقِهِمَا ظَهَرَ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَاءٌ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِمَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: هُمْ وَلَدِي مِنْ غَيْرِك؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَفِرَاشُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ فَلَا تُصَدَّقُ فِيمَا تَدَّعِي مِنْ فِرَاشٍ آخَرَ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ عِتْقِي بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِيَّ وَقَالَ الزَّوْجُ: وَلَدْتِيهِ بَعْدَ عِتْقِكِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي النَّسَبِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ لِظُهُورِ فِرَاشِهِ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ لِظُهُورِ وَلَاءِ الْأَبِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مُوجِبٌ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ. امْرَأَةٌ فِي يَدِهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ أَقَرَّتْ أَنَّهَا مُعْتَقَةُ هَذَا الرَّجُلِ، وَصَدَّقَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى الِابْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى وَلَدِهَا، وَيَتْبَعُهَا الْوَلَدُ فِي الْإِسْلَامِ فَتُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ بِالْوَلَاءِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: كَانَ زَوْجِي رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ أَوْ كَانَ عَبْدًا صُدِّقَتْ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ وَهِيَ لَا تَعْرِفُ فَأَقَرَّتْ أَنَّهَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ لِرَجُلٍ صُدِّقَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَا لَهُ مِنْ النَّسَبِ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْوَلَاءِ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهَا عَلَيْهِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْمَنْفَعَةُ هُنَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَالْإِقْرَارُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَالْوَلَاءِ سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَرَضِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَاءِ. وَإِذَا قَالَ: فُلَانٌ مَوْلًى لِي قَدْ أَعْتَقْتُهُ. وَقَالَ فُلَانٌ: بَلْ أَنَا أَعْتَقْتُك لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلْوَلَاءِ بِالسَّبَبِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مَوْلًى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَعْتَقَانِي، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَحَلَفَ مَا أَعْتَقْته، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ قَالَ: أَنَا مَوْلَى فُلَانٍ أَعْتَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ أَعْتَقَنِي فُلَانٌ فَهُوَ مَوْلًى لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَلَاءِ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِلْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْوَلَاءِ لِلثَّانِي، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ وَادَّعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا، فَيُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَيِّهِمَا شَاءَ أَوْ لِغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَوْلَاهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ. رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ أَعْتَقَتْهُ فَقَالَتْ: لَمْ أُعْتِقْكَ وَلَكِنَّك أَسْلَمْت عَلَى يَدِي وَوَالَيْتنِي فَهُوَ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِ الْوَلَاءِ، وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ، وَالْأَسْبَابُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِقْدَارُ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّصْدِيقُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمُقِرُّ يُعَامَلُ فِي إقْرَارِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ عَلَيْهِ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ لَهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهَا وَوَالَاهَا، وَقَالَتْ: بَلْ أَعْتَقْتُك فَهُوَ مَوْلَاهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ قَوْمُهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ التَّصْدِيقِ مِقْدَارُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِوَلَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 الْمُوَالَاةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَهُ، وَقَالَ فُلَانٌ: مَا أَعْتَقْتُك وَلَا أَعْرِفُك فَأَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلًى لِآخَرَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا لِلْوَلَاءِ بِالنَّسَبِ، وَفِي النَّسَبِ فِي نَظِيرِهِ خِلَافٌ ظَاهِرٌ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ. وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَصَدَّقَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَحَدَهُمَا، وَصَدَّقَ الْبَاقُونَ الْآخَرَ، فَكُلُّ مَوْلًى لِلَّذِي صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ الْبَالِغِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصْلٌ فِي مُبَاشَرَةِ الْوَلَاءِ عَلَى نَفْسِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَكَذَلِكَ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوَلَاءِ لِلَّذِي صَدَّقَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ عِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: إنْ حَبِلْتِ فَسَالِمٌ حُرٌّ فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِيجَابِ، فَإِنَّمَا يُعْتَقُ هَذَا، أَوْ كَانَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ فَإِنَّمَا يُعْتَقُ سَالِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْيَقِينُ؛ لِأَنَّ بِالشَّكِّ لَا يَزُولُ وَهُنَا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ أَحَدِهِمَا فَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمَوْلَى، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ. فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِعِتْقِ الْوَلَدِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ حَبَلٌ مُسْتَقْبَلٌ عَتَقَ سَالِمٌ لِإِقْرَارِهِ بِهِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ عَتَقَ سَالِمٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ. رَجُلٌ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِرَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ وَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَكَمَا أَنَّ الْجَنِينَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَعِتْقُ الْمُوصَى لَهُ فِي مِلْكِهِ نَافِذٌ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِمَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ، وَأَبَوَاهُ مَمْلُوكَانِ فَكَانَ مِيرَاثًا لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَأَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأَمَةَ، وَأَعْتَقَ مَوْلَى الزَّوْجِ زَوْجَ الْأَمَةِ فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِلْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مِيرَاثًا لِأَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا حُرَّانِ عِنْدَ وُجُوبِ بَدَلِ نَفْسِ الْجَنِينِ فَإِنْ كَانَا أَعْتَقَا بَعْدَ الضَّرْبَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 قَبْلَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ، فَالْغُرَّةُ لِلَّذِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْجَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبَةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَا مَمْلُوكِينَ فَلَا يَرِثَانِهِ وَإِنْ عَتَقَا بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ الْمِيرَاثُ لِلْمُعْتَقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْجَنِينِ لِلْمُعْتَقِ إذَا كَانَ عِتْقُ مَا فِي الْبَطْنِ أَوَّلًا، أَوْ كَانَا سَوَاءً، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأُمَّ أَوَّلًا فَإِنَّ الْجَنِينَ يُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ الْوَارِثُ ضَامِنًا لِلْمُوصَى لَهُ قِيمَةَ الْجَنِينِ يَوْمَ تَلِدُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْجَنِينِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاؤُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَتْ لِلْمَوْلَى: قَدْ أَقْرَرْتَ أَنِّي حَامِلٌ بِقَوْلِكِ: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ. وَقَالَ الْمَوْلَى: هَذَا حَبَلٌ حَادِثٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِإِنْكَارِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِوُجُودِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ يَوْمئِذٍ، بَلْ مَعْنَاهُ مَا فِي بَطْنِكِ حُرٌّ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ سَابِقًا عَلَى إعْتَاقِهِ إيَّاهَا حِينَ أَثْبَتْنَا نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ الْوَلَدُ لِمَوَالِي الْأَبِ هُنَا، وَكَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ قَالَ: أَتْبِعْ الشَّكَّ الْيَقِينَ وَهُمَا يُتْبِعَانِ الثَّانِي الْأَوَّلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ. وَلَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ ادَّعَى الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ الْيَمِينُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَعَ نَظَائِرِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا جَحَدَ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِالْعِتْقِ، ثُمَّ الْوَلَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرْأَةِ تُسْتَحْلَفُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَّةُ رَجْعَةِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَرَبِيٌّ عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ قَدْ تَرَكَ ابْنَةً وَمَالًا أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ، وَلَهُ نِصْفُ مِيرَاثِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الِابْنَةِ فِي الْوَلَاءِ، وَلَكِنْ تَحْلِفُ أَنَّهَا مَا تَعْلَمُ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِيهَا حَقًّا وَلَا إرْثًا؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي الْمَالِ، وَالْمَالُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى مِيرَاثًا بِنَسَبٍ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النَّسَبِ عِنْدَهُ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَإِنْ ادَّعَى عَرَبِيٌّ عَلَى نَبَطِيٍّ أَنَّهُ وَالَاهُ، وَجَحَدَهُ النَّبَطِيُّ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي هَذَا كَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهِ فَهُوَ مَوْلَاهُ، وَلَا يَكُونُ جُحُودُهُ نَقْضًا لِلْوَلَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْجَاحِدُ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالرَّفْعِ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَإِنْكَارِ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ كَإِنْكَارِ الزَّوْجِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَإِنْ ادَّعَى نَبَطِيٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَالْعَرَبِيُّ غَائِبٌ، ثُمَّ ادَّعَى النَّبَطِيُّ ذَلِكَ عَلَى آخَرَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ فَإِنَّهُ لَا حَلِفَ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي الْوَلَاءِ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ قَدْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ الثَّانِي لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ فَادَّعَى الْوَلَاءَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَهُوَ مَوْلًى لِلثَّانِي. رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَادَّعَى وَرَثَتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَرَادُوا اسْتِحْلَافَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُمْ، وَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ مَالًا بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَكَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمَوَالِي فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْقَاتِلِ عَلَى الْوَلَاءِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْقَتْلِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ لِهَذَا فِي دِيَةِ فُلَانٍ الْمُسَمَّى عَلَيْك حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدِّيَةِ إلَيْهِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَأَمَّا أَصْلُ الْوَلَاءِ فَلَا يَمِينَ فِيهِ عَلَى مِنْ يَدَّعِيهِ فَكَيْفَ عَلَى غَيْرِهِ. وَوَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ قَوْمِ أُمِّهِ، وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ وَلَا وَلَاءَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ، فَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ الْأُمِّ بِالنَّسَبِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَبِالْوَلَاءِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوَالِي، فَإِنْ أَعْتَقَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عَبْدًا فَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى مِنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمُعْتِقُ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ عَلَيْهِمْ عَقْلُ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُعْتَقُهُ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الِابْنِ وَأُمِّهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَرِثَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ الْأُمِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهَا كَانَتْ هِيَ فِي حَقِّهِ كَالْأَبِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَ مِيرَاثُ مُعْتَقِهِ لِأَقْرَبِ عُصْبَةِ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأُمِّ، وَهُوَ أَخٌ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ، فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ أَخُ الْمُعْتِقِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الِابْنَ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْأُمِّ فِي نِسْبَةِ الْمُعْتِقِ إلَيْهَا كَالْأَبِ، فَكَذَلِكَ ابْنُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ كَابْنِ الْأَبِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ أَخٌ وَأُخْتٌ كَانَ مِيرَاثُ الْمَوْلَى لِلْأَخِ دُونَ الْأُخْتِ لِهَذَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ أُمِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ النِّسَاءِ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهَا مِنْ الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَرِثْ شَيْئًا كَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَهُوَ حَيٌّ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ اسْتَتَرَ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ، وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ، فَإِذَا ادَّعَاهُ فِي حَالِ قِيَامِ حَاجَتِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَرَجَعَ وَلَاءُ مَوَالِيهِ الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا عَقَلُوا عَنْهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ، وَمَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي هَذَا الْأَدَاءِ بَلْ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ الْوَلَدِ بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ مَوَالِي الْأُمِّ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ أَدَّوْا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ الْأَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ لَهُ وَلَدٌ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَدَعْوَى الْأَبِ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بَلْ تَكُونُ دَعْوَى لِلْمِيرَاثِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنْ خَلَفَ الْوَلَدُ ابْنًا فَحَاجَةُ ابْنِ الِابْنِ كَحَاجَةِ الِابْنِ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَى الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَمَاتَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدًا، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ جَازَتْ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا عَنْ وَلَدٍ كَمَوْتِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ عَنْ وَلَدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وَلَدَهَا مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ نَسَبَ أُمِّهِ لِيَصِيرَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ فَلَا مُعْتَبِرَ بِوُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إلَيْهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ أَعْتَقَ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ لَاعَنَ وَلَدٌ فَادَّعَى الْأَبُ نَسَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَلَوْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ الْمِلْكِ عَلَى الْعَبْدِ لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ فِي الدَّعْوَةِ بِاعْتِبَارِهِ، فَبَقَاءُ الْوَلَاءِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ إذَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ، وَالْمَوْلَى لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ، وَإِذَا لَاعَنَ بِوَلَدَيْ تَوْأَمٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا وَمَاتَ فَادَّعَى الْأَبُ الْحَيُّ مِنْهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَبَقَاءُ أَحَدِهِمَا مُحْتَاجًا إلَى النِّسْبَةِ كَبَقَائِهِمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ مُعْتَقِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ حِينَ أَعْتَقَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ انْتَهَى شَرْحُ كِتَابَ الْوَلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ مِنْ الْمُمْتَحَنِ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ. يَسْأَلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَبْدِيلَ الْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ بِالْعِزِّ وَالْعَلَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 [كِتَابُ الْأَيْمَانِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ السَّلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]، وَقَالَ الْقَائِلُ: رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو ... إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ فَمَا يُسْتَعْمَلُ بِالْعُهُودِ وَالتَّوْثِيقِ وَالْقُوَّةِ يُسَمَّى يَمِينًا، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْجَارِحَةُ فَلَمَّا كَانَتْ يُسْتَعْمَلُ بَذْلُهَا فِي الْعُهُودِ سُمِّيَ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْعَقْدُ بِاسْمِهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ قَسَمًا إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَفِي الشَّرْعِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِذَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ بِحَالٍ. وَالنَّوْعُ الْآخَرُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْإِيجَابُ، وَلَكِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُرْوَى عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَرِدْ عَدَدُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ فِي أَحْكَامِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: يَمِينٌ يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ لَا يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ يَرْجُوا أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، فَأَمَّا الَّذِي يُكَفَّرُ فَهُوَ يَمِينٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِإِيجَادِ فِعْلٍ، أَوْ نَفْيِ فِعْلٍ، وَهَذَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَفِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ، وَهِيَ فِي وُجُوبِ الْحِفْظِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ مِنْهَا يَجِبُ إتْمَامُ الْبَرِّ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ أُمِرَ بِهِ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَبِالْيَمِينِ يَزْدَادُ وَكَادَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ حِفْظُهَا وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ». وَنَوْعٌ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ خَيْرٌ مِنْ الْبَرِّ فَيُنْدَبُ فِيهِ إلَى الْحِنْثِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ». وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَنَوْعٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ فِي الْإِبَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. وَحِفْظُ الْيَمِينِ يَكُونُ بِالْبَرِّ بَعْدَ وُجُودِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حِفْظُ الْبَرِّ، وَمَنْ حَنِثَ فِي هَذَا الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِعْتَاقِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى حَرْفِ أَوْ؛ وَلِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْأَخَفِّ وَالْخَتْمَ بِالْأَغْلَظِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَغْلَظِ. وَاَلَّتِي لَا تُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ كَاذِبَةً يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ، وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْيَمِينُ فِيمَا هُوَ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهَا تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فَمِنْ أَصْلِهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَشَرْطُ انْعِقَادِهَا الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَنَا مَحَلُّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبَرِّ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلْفٌ عَنْهُ عِنْدَ فَوْتِ الْبَرِّ، فَالْخَبَرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الصِّدْقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْيَمِينِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ، وَحُجَّتُهُ قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]. فَاَللَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَلْبِ مَقْصُودَةٌ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. مَعْنَاهُ بِمَا قَصَدْتُمْ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ النِّيَّةُ عَقِيدَةً، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مَوْصُولَةً بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ {: فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89]؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ {: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَالْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْحَلِفِ إنَّمَا تَجِبُ بِالْغَمُوسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحَلِفِ فَإِنَّ بَعْدَ الْحَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ الْبَرِّ وَحِفْظُ الْيَمِينِ يُذْكَرُ لِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ. قَالَ الْقَائِلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 : قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتْ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَالَفَ فِعْلَهُ فِي يَمِينٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودٍ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَقْرَبُ مَا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ، أَوْ لَيُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِمَعْنَى الْحَظْرِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سَاتِرَةً، وَهَذَا الْحَظْرُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْغَمُوسِ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ إنَّمَا يُخَالِفُ الْمَعْقُودَةَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَوَهُّمِ الْبَرِّ، وَالْبَرُّ مَانِعٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَانْعِدَامُ مَا يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ يُحَقِّقُ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ فِيهَا، وَلِأَنَّ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْيَمِينِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي مُوجِبِهِ، فَكَذَلِكَ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، فَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَهَا؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ لَرَفْعِ هَذَا الْوَعِيدِ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَقَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعُ» أَيْ خَالِيَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كُنَّا نَعُدُّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُودَةٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِلْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي، وَالْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ كَالْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِخُلُوِّهِ عَنْ مُوجِبِ الْبَيْعِ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُحِلُّهَا وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا يَرْفَعُهَا فَإِذَا قَارَنَهَا مَنَعَ انْعِقَادَهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَارِنْهَا مَا يَحِلُّهَا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا يَحِلُّهَا انْعِدَامُ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّتُ تِلْكَ الْيَمِينُ بِالتَّوْقِيتِ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَسَبَبُهَا مُبَاحٌ مَحْضٌ، وَعُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ كَالْمَحْدُودِ وَسَبَبُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ الْأَجْزَاءُ تُشْبِهُ الْعُقُوبَةَ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفْتَى بِهَا فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَتَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ كَالصَّوْمِ تُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ مُبَاحٌ وَبِاعْتِبَارِ هَتْكِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَأَمَّا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ قَائِمٌ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ فَاتَ الْأَصْلُ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِيَكُونَ خَلَفًا، وَيَصِيرَ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّهُ عَلَى بَرَّةٍ. وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي خَبَرٍ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ، وَفِي مَسِّ السَّمَاءِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَلِتَصَوُّرِ الْبَرِّ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ لِفَوَاتِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَصَوُّرَ لِلْبَرِّ فَلَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا بَلْ يَكُونُ وَاجِبًا ابْتِدَاءً، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْكَفَّارَةِ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً بَلْ تَكُونُ سَبَبَ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ مَا هُوَ مُضْمَرٌ فِي الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] فَأَفْطَرَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَعْقُودَةَ، وَكَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَقَدْتُهُ فَانْعَقَدَتْ، كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْعِقَادُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ قَالَ الْقَائِلُ: وَلِقَلْبِ الْمُحِبُّ حَلٌّ وَعَقْدٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] الْمُؤَاخَذَةُ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ الْآخِرَةُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا قَدْ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ ابْتِدَاءً، وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِفَصْلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَاضِي يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: أَمْرُ الْغَمُوسِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْبَأْسُ فِيهِ شَدِيدٌ. مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْكَفَّارَةِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ يَمِينُ اللَّغْوِ فَنَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا فَعِنْدَنَا صُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي كَانَ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْيَمِينُ اللَّغْوُ يَمِينُ الْغَضَبِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ» وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ مِنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَ لَغْوًا، فَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجَدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ «، وَلَمَّا أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاسْتَحْلَفُوهُ أَنْ لَا يَنْصُرَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ لَهُمْ بِعُهُودِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ». وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَتَأْوِيلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» رُفِعَ الْأَثِمُ. وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: اللَّغْوُ هُوَ الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْيَمِينَ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ عَلَى اللَّغْوِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْبَطَةٌ بِالْكَفَّارَةِ أَيْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَعْصِيَةً لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالظِّهَارِ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، ثُمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ اللَّغْوُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ. (قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّ صُورَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّعْلِيقُ بِالرَّجَاءِ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّعْظِيمَ وَالتَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا مَرَّ بِالْمَقَابِرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ.» وَمَا ذُكِرَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الشَّكِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {: إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَلَكِنْ مَعْنَى ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِذَلِكَ وَقْتًا فَهُوَ عَلَى يَمِينِهِ حَتَّى يَهْلِكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ حِينَئِذٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَبَدًا، أَوْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ كَالْبَيْعِ، وَمُؤَقَّتَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا الْيَوْمَ، فَيَتَوَقَّتُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَيَتَوَقَّتُ بِتَوْقِيتِهِ، وَمُؤَبَّدٌ لَفْظًا مُؤَقَّتٌ مَعْنًى كَيَمِينِ الْفَوْرِ إذَا قَالَ: تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى يَتَوَقَّتُ يَمِينُهُ بِذَلِكَ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِهِ حِينَ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ، فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ، ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْنَثَا وَبَنَاهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَبْتَنِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وَالْمُرَادُ الْإِمْكَانُ وَالْإِقْدَارُ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْبَرِّ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ الْبَرُّ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَوْتِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ فَفَوْتُ الْبَرِّ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا قَالَ: وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ وَغَضَبِ اللَّهِ، وَسَخَطِ اللَّهِ، وَعَذَابِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضَاهُ وَعِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا. وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ الْيَمِينُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى حُرُوفِ الْقَسَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوَّلًا فَنَقُولُ: حُرُوفُ الْقَسَمِ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ، أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ فِي الْأَصْلِ، وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ فَمَعْنَى قَوْلِهِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 56]، أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ} [الأنعام: 109]؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ اقْتِرَانُهَا بِالْكِتَابَةِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: بِهِ وَبِك ثُمَّ الْوَاوُ تُسْتَعَارُ لِلْقَسَمِ بِمَعْنَى الْبَاءِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً؛ فَلِأَنَّ مَخْرَجَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَفِي الْعَطْفِ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ الْوَاوِ بِأَنْ يَقُولَ: أَحْلِفُ وَاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَاتِ الِاسْمِ لَا لِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مَعَ إظْهَارِ الْفِعْلِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ حَرْفُ الْوَاوِ مَعَ الْكِنَايَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْرِيحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 بِالِاسْمِ سَوَاءٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: وَأَبِيكَ وَأَبِي، ثُمَّ التَّاءُ تُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْوَاوِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ تُرَاثُ وَوَارِثُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَةِ الْقَسَمِ بِاَللَّهِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ التَّاءِ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِاَللَّهِ حَتَّى لَا يُقَالَ: بِالرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ بِاَللَّهِ خَاصَّةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] {وتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، ثُمَّ الْحَلِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَمِينٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَكُون يَمِينًا، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّحْمَنِ: إنْ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْقُرْآنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُفِيدُ دُونَ مَا لَا يُفِيدُ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُجْعَلَ يَمِينًا، وَيَسْتَوِي إنْ قَالَ: وَاَللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اللَّهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ حَذْفَ بَعْضِ الْحُرُوفُ لِلْإِيجَازِ، قَالَ الْقَائِلُ: قُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ ... لَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي نَسِيتُ الْإِلْحَافْ أَيْ وَقَفْت إلَّا أَنَّ عِنْدَ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ عِنْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ يُذْكَرُ مَنْصُوبًا بِانْتِزَاعِ حَرْفِ الْخَافِضِ مِنْهُ، وَعِنْدَ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يُذْكَرُ مَخْفُوضًا؛ لِتَكُونَ كَسْرَةُ الْهَاءِ دَلِيلًا عَلَى مَحْذُوفِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ، فَإِنَّ الْبَاءَ وَاللَّامَ يَتَقَارَبَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ إذَا قَالَ لَهُ، وَعَنَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِهَنِّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لِوَسِيمَةٍ ... عَلَى هَنَوَاتِ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا مَعْنَاهُ لِلَّهِ إنَّكَ. وَلَوْ قَالَ: وَأَيْمُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَمَعْنَاهُ أَيْمُنُ فَهُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَذْهَبُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَأَيْمُ صِلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ صَهٍ وَمَهْ، وَمَا شَاكَلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَعَمْرُو اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ النَّصِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، وَالْعَمْرُو هُوَ الْبَقَاءُ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْبَاقِي، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالصِّفَاتِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: الْحَلِفُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَمِينٌ، وَالْحَلِفُ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالُوا: صِفَاتُ الذَّاتِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ كَالْقُدْرَةِ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ، يُقَالُ: رُحِمَ فُلَانٌ، وَلَمْ يُرْحَمْ فُلَانٌ، وَغَضِبَ عَلَى فُلَانٍ، وَرَضِيَ عَنْ فُلَانٍ. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَكَ، وَيُقَالُ: عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْ مَعْلُومُهُ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ اللَّهِ. (فَإِنْ قِيلَ): وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ الْمَقْدُورُ، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينٌ. (قُلْنَا): مَعْنَى قَوْلِهِ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامُهُ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تُعَايَنُ وَلَكِنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ فَيَقُولُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْجَنَّةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]، وَإِذَا كَانَتْ الرَّحْمَةُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ، فَالسُّخْطُ وَالْغَضَبُ بِمَعْنَى النَّارِ، فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ عِنْدَنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ الْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا، وَمَا لَمْ يُتَعَارَفْ، الْحَلِفُ بِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَبِرَحْمَتِهِ وَبِغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ: وَعِلْمِ اللَّهِ يَمِينًا، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ: أَنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ، فَقَالَ لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وُجِدَ الْعَرَبُ يَحْلِفُونَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَهِيَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ أَمَانَةُ اللَّهِ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الصِّفَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْأَمِينِ فَإِنْ قَالَ، وَوَجْهِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الذَّاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ هُوَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ أَبُو شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ يَمِينًا. وَإِنْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الطَّاعَاتُ، كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ يَمِينًا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَعْنَى وَحَقِّ اللَّهِ وَاَللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 6]، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَالْحَقِّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَنَّهُ يَمِينٌ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71]، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ هَذَا لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَلْفَاظَ الْقَسَمِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، كَقَوْلِهِمْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي الثَّانِي الْكَلَامُ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا لِلْمَاضِي بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَفِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذَا اللَّفْظُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَفِي الْمَاضِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَمُوسِ أَيْضًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَصِيرُ كَافِرًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ، وَالْيَمِينُ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ، فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ هُوَ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ؟ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ - عَيْنُ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، أَوْ الْيَمِينُ يَتَنَوَّعُ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 نَفْسِهِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا أَوْ لِمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْجَوَارِي يَكُونُ يَمِينًا، فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ التَّحْرِيم، فَكَذَلِكَ فِي الْجَوَارِي، ثُمَّ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي هَذَا اللَّفْظِ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ إلَى الْمَنْعِ أَوْ إلَى الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ عَلَامَةَ فِعْلِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ يَمِينًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ مُصْمَتَةٌ كَهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا جَعَلَ فِعْلَهُ عَلَامَةً لِذَلِكَ كَانَ يَمِينًا، فَأَمَّا إذَا قَالَ: هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّهَا أَوْ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إنْ فَعَلَ كَذَا، فَهَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ بِحُرْمَةٍ تَامَّةٍ مُصْمَتَةٍ، حَتَّى أَنَّهُ يَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هُوَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ أُلْحِقَ بِهِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ لَكَانَ قِيَاسًا، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ أَمَانَةُ اللَّهِ، أَوْ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِالنَّارِ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11]؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ يَقُولُ: وَسُلْطَانِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا، مَنْ حَلَفَ بِهَذَا فَقَدْ أَشَارَ إلَى عَدَمِ الْعُرْفِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ فَهُوَ يَمِينٌ، كَقَوْلِهِ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ، وَلَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجِبْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ رَدَّ غَائِبِي لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ عَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَجَعَ إلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ خَالِدٍ التِّرْمِذِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْتُ الْكُوفَةَ قَرَأْتُ كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تُوُفِّيَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: يَتَخَيَّرُ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ أَيْضًا لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي زَمَانِنَا، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ فِي النَّذْرِ إلَّا الْوَفَاءَ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نُجِّزَ النَّذْرُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَفِي الِالْتِزَامِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُون مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِمَعْنَى الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ لَا يُوجَدُ هُنَا، وَفِي الْقَوْلِ بِالْخِيَارِ لَهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسِ وَاحِدٍ، حَتَّى إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ طَعَامُ أَلْفُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ يَقُولُ بِالْخِيَارِ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَبَيْنَ إطْعَامِ أَلْفِ مِسْكِينٍ، وَكَذَا الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ، وَإِنْ قَالَ الْمُعْسِرُ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، يُخَيِّرُهُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ قَوْلُهُ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَمَا رَوَوْهُ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِمَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ؛ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ هَذَا مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بِالنَّذْرِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَفِيَ بِهَا، فَيَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] إلَى قَوْلِهِ {: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، فَإِذَا جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ، يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ يُسَمَّى يَمِينًا. يُقَالُ: حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَلِوُجُودِ اسْمِ الْيَمِينِ، وَمَعْنَاهَا قُلْنَا يَخْرُجُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِوُجُودِ مَعْنَى النَّذْرِ قُلْنَا: يَخْرُجُ عَنْهُ بِعَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ الْمُرْسَلِ، فَاسْمُ الْيَمِينِ وَمَعْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إلَى الْمَنْعِ بَلْ قَصْدُهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا، يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْحَظْرِ يَتَحَقَّقُ هُنَا؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ قِرْبَةٌ بِشَرْطِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ، فَأَمَّا بِدُونِ الْوَفَاءِ يَكُونُ مَعْصِيَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الْآيَةَ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَفِي بِهَذَا أَوْ لَا يَفِي فَيَكُونُ مُتَرَدِّدًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَة، (فَإِنْ قِيلَ): هَذَا فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ مَوْجُودٌ. (قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ اسْمِ الْيَمِينِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَاسْمُ الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ يَمِينٌ يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا كَانَتْ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ هُنَا، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ كَانَتْ مَشْرُوعَةً خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَّ عَلَى بِرِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ الْمَشْيُ، فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَوْلَى وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَفِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، فَجَعَلْنَا هَذَا عِبَارَةً عَنْ الْتِزَامِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِإِظْهَارِ مَا فِي بَاطِنِهِمْ، فَإِذَا صَارَ اللَّفْظُ فِي شَيْءٍ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا يُجْعَلُ كَالْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْحَجِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا النُّسُكَانِ الْمُتَعَلِّقَانِ بِالْبَيْتِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ، وَإِلَّا بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا»؛ وَلِأَنَّ النُّسُكَ بِصِفَةِ الْمَشْيِ يَكُونُ إثْمٌ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ {: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]، فَإِذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدْخَلَ فِيهِ نَقْصًا، وَنَقَائِصُ النُّسُكِ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَمَانِ فُصُولٍ فِي ثَلَاثٍ يَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ، وَفِي ثَلَاثٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ الرُّكُوبَ وَفِي فَصْلَيْنِ خِلَافٌ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَأْخُذُ فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ، وَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ. وَلَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَصَارَتْ مُعَدَّةٌ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عُمِلَتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَيْهَا شَيْءٌ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمُلْتَزِمُ بِالْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَصُّ أَدَاؤُهُمَا بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا أُحْرِمُ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أَهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعُدَّ مِنْ نَفْسِهِ عُدَّةً وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَعْدٌ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَالْوَعْدُ فِيهِ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِيجَابُ لَزِمَهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَإِذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِنِيَّتِهِ، وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيجَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودُ الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْوُجُوبُ دُونَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وَعَدَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِيجَابَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْمَنَاسِكِ. وَإِذَا حَلَفَ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا يَمْلِكُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ»، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الشَّاةَ، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَهْدِيَنَّ هَذِهِ الشَّاةَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ، وَذَلِكَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُمْكِنًا، وَمَحِلُّ النَّذْرِ فِعْلٌ وَهُوَ قُرْبَةٌ، وَإِهْدَاءُ شَاةِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ فَحِينَئِذٍ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ فِي النَّذْرِ مَعْنَى الْيَمِينِ حَتَّى ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَعَنَى بِهِ الْيَمِينَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا، كَانَ يَمِينًا، وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ؛ لِقَوْلِهِ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي، أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّهُ إنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْهَدْيِ، فَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَفِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ إمَّا أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِإِرَاقَةِ دَمٍ مَحْقُونٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبِي أَوْ أُمِّي؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي سَمَّاهُ مَعْصِيَةً وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ كَشَاةِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِذَا نَذَرَ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَلَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: أَرَى عَلَيْك مِائَةُ بَدَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: ائْتِ ذَلِكَ الشَّيْخَ فَاسْأَلْهُ، وَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَرَى عَلَيْكَ شَاةً فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ: وَأَنَا أَرَى عَلَيْك ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ بَدَنَةً أَوْ مِائَةَ بَدَنَةٍ. وَسَأَلَتْ امْرَأَةٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَتْ إنِّي جَعَلْتُ وَلَدِي نَحِيرًا. فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ. فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي بِقَتْلِ وَلَدِي، فَقَالَ: نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِ الْوَلَدِ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ إنْ تَمَّ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ عَاشِرَهُمْ، فَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ بِعَبْدِ اللَّهِ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَقْرَع بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَشْرٍ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 الْإِبِلِ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشْرًا عَشْرًا، وَالْقُرْعَةُ تَخْرُجُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ الْإِبِلُ مِائَةً، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَحَرَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَرَى عَلَيْك مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَالصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَخْرُج بِهِ، فَاسْتَدْلَلْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُ بَعْضُ الْكِبَارِ مِنْهُمْ، وَلَا يَظْهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ قَدْ اُشْتُهِرَ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ أَخْطَأَ الْفُتْيَا لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَ مَرْوَانَ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ قَوْلِهِ إلَّا عَلَى السَّمَاعِ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، ثُمَّ أَخَذْنَا بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ فِي إيجَابِ الشَّاةِ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَدَنَةً أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ؛ أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ الشَّاةَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَمَنْ أَوْجَبَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْأَخْذُ بِفِعْلِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْفِقْهِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الشَّاةَ مَحَلٌّ لِوُجُوبِ ذَبْحِهَا بِإِيجَابِ ذَبْحٍ مُضَافٍ إلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ إلَى الْوَلَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الشَّاةِ، فَيَكُونُ مَلْزَمَةً. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَلِيلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ {: إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] أَيْ أُمِرْتُ بِذَبْحِك، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ {: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]؛ وَلِأَنَّهُمَا اعْتَقَدَا الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَيْثُ اشْتَغَلَا بِهِ فَأُقِرَّا عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُ الرُّسُلِ عَلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ، خُصُوصًا فِيمَا لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ مِنْ إرَاقَةِ دَمِ نَبِيٍّ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 104] {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] أَيْ حَقَقْتَ، وَإِنَّمَا حُقِّقَ ذَبْحُ الشَّاةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا سَمَّاهُ مُصَدِّقًا رُؤْيَاهُ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، مَعْنَاهُ وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ إنَّمَا أَتَى بِمُقَدَّمَاتِ ذَبْحِ الْوَلَدِ مِنْ تَلِّهِ لِلْجَبِينِ وَإِمْرَارِهِ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَبِهِ لَمْ يَحْصُلْ الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَبْحٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الِامْتِثَالُ بِهِ لَمْ تَكُنْ الشَّاةُ فِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الشَّاةِ بِأَمْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ أَمْرٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ غَيْرُ مُمَكَّنٍ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِدَاءً. وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّاةَ فِدَاءً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَكْرُوهَ الذَّبْحِ عَنْ الْوَلَدِ بِالشَّاةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِمُقَدِّمَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشَّاةُ فِدَاءً عَنْ وَلَدٍ وَجَبَ ذَبْحُهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحَ الْوَلَدِ حَتَّى جُعِلَتْ الشَّاةُ فِدَاءً، إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَأَدَّى بِالْفِدَاءِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فِي يَدِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِصْمَةُ حِسًّا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّفْرَةَ كَانَتْ تَنْبُو وَتَنْفُلُ وَلَا تَقْطَعُ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الذَّبْحِ مُنَافَاةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ بَلْ أُضِيفَ الْإِيجَابُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَنْحَلَّ الْوُجُوبُ بِالشَّاةِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ الِابْتِلَاءُ فِي حَقِّ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ فِيمَا لَا يَضْطَلِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَلِلْوَلَدِ بِالِانْقِيَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُجَاهَدَةِ بَذْلِ الرُّوحِ إلَى مُكَاشَفَةِ الْحَالِ؛ وَلِيَكُونَ لَهُ ثَوَابُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» وَمَا ذُبِحَا بَلْ أُضِيفَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ فُدِيَا بِالْقِرَابَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: قَدْ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، ثُمَّ تَحَوُّلَ وُجُوبُ ذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى الشَّاةِ بِانْتِسَاخِ الْمَحَلِّيَّةِ فَتَكُونُ الشَّاةُ وَاجِبَةً بِذَلِكَ الْأَمْرِ كَالدَّيْنِ يُحَالُ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، فَيَفْرُغُ الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فِيهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي بِذَلِكَ السَّبَبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَحَوَّلَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَبْقَى الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ صَالِحًا لِمِثْلِهِ كَالدَّيْنِ إذَا حُوِّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، وَلَمْ يَبْقَ الْوَلَدُ مَحَلًّا صَالِحًا لِذَبْحٍ هُوَ قُرْبَانٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا، وَأَنَّ الْوُجُوبَ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِيجَابِ حَلَّ بِالشَّاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً. نَظِيرُهُ مِنْ الْحَيَاةِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ فَيَفْدِيَهُ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ لِيَنْفُذَ السَّهْمُ فِيهِ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَى الْمَحَلِّ، وَيَقُولُ لِغَيْرِهِ: فَدَتْك نَفْسٌ عَنْ الْمَكَارِهِ. وَالْمُرَادُ هَذَا وَمِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْخُفِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّجْلِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْحَدَثِ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْخُفِّ مَا حَلَّ بِالرِّجْلِ مِنْ الْحَدَثِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ، وَلِهَذَا صَارَ مُحَقِّقًا رُؤْيَاهُ بِالْفِدَاءِ وَفِي مِثْلِ هَذَا إيجَابُ الْأَصْلِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ يَكُونُ إيجَابًا لِلْفِدَاءِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ الصَّوْمَ يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ شَرْعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ نَذَرَ الذَّبْحَ لِأَوَّلِ وَلَدٍ يُولَدُ لَهُ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ فَذُكِّرَ فِي الْمَنَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَصٌّ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 خُصُوصًا شَرِيعَةُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَ {اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]. فَأَمَّا إذَا نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا، وَقَالَ أَيْضًا: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَسْبُهُ وَمِلْكُهُ، فَإِذَا صَحَّ إضَافَةُ النَّذْرِ إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ كَسْبًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلَأَنْ يَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَى كَسْبِهِ، وَهُوَ مِلْكُهُ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ فِدَاءً عَنْ الْوَلَدِ لِكَرَامَةِ الْوَلَدِ، وَالْعَبْدُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ لَيْسَ بِنَظِيرِ الْوَلَدِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَإِنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنَ ابْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَيْسَ نَظِيرَ الِابْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ كَالِابْنِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ كَالِابْنِ فِي حَقِّهِ. وَإِنْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا كَالْأَجَانِبِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ، وَفِي الْهَارُونِيَّاتِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ، وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالطَّرَفِ الْآخَرَ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْمَنَاسِكِ بَيْنَ النَّذْرِ بِالْهَدْيِ وَالْبَدَنَةِ وَالْجَزُورِ. وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»؛ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَالْحَلِفُ فِي مِثْلِهِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ سَاتِرَةً لِلذَّنْبِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِالنَّذْرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ، أَوْ الْوَفَاءِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دَخَلَ عَلَى الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مَعْصِيَةٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَلَيْسَ أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِيهِ فَتَحَيَّرَ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ أَنْتَ مِنْ الْآرَائِيِّينَ، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ، وَهُوَ يَنْوِي صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَدْنَى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الصِّيَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ إذَا نَوَى صَدَقَةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْمَنَاسِكِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ فَيَقُولُ: وَأَبِيك وَأَبِي فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِجَدٍّ مِنْ جُدُودِهِ، وَمِنْ الْحَلِفِ بِالطَّوَاغِيتِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ: (أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «تَبِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ، فَمَا حَلَفْت بَعْدَ ذَلِكَ لَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَعَالَ أُفَاخِرْك فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ». وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمُ الْكَلَامُ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {: سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصْبِرْ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنَيَاهُ». وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ»، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، يَعْنِي إذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا فَاسْتَثْنِ مَفْصُولًا، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ صَحِيحًا لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَسْتَثْنِي إذَا نَدِمَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُحَلِّلِ، وَفِي تَصْحِيحِ الِاسْتِثْنَاءِ مَفْصُولًا إخْرَاجُ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ، وَالْأَنْكِحَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزَمَةً. (قَالَ): وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ عَاتَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَقَالَ أَبَلَغَ مِنْ قَدْرِكَ أَنْ تُخَالِفَ جَدِّي؟ قَالَ: فَفِيمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَفْصُولِ. قَالَ: إنَّمَا خَالَفْته مُرَاعَاةً لِعُهُودِكَ، فَإِذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِي عُهُودِكَ إذَنْ، فَإِنَّهُمْ يُبَايِعُونَك وَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَيَسْتَثْنُونَ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ لُزُومُ طَاعَتِك، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ: اُسْتُرْ هَذَا عَلَيَّ. وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، أَيْ إذَا لَمْ تَذْكُرْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِك فَاذْكُرْهُ فِي آخَرِ كَلَامُك مَوْصُولًا بِكَلَامِكَ، ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُبْطِلٌ لِلْكَلَامِ، وَمَخْرَجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 أَيْمَانِ الْجَامِعِ. وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَحَنِثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ؛ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ بِأَوْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُطْلَقٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] وَلَكِنَّا نَشْتَرِطُ صِفَةَ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ وَرَدَ هُنَاكَ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ». وَالثَّانِي قَوْلُهُ: «أَدُّوا مِنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَتَّى أَوْجَبْنَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبْدِ الْكَافِرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ هُنَاكَ فِي السَّبَبِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَالتَّقْيِيدُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلنَا أَنْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُنَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَبَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ مُنَافَاةٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا. (قَالَ): وَيَجُوزُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ الرِّقَابِ مَا يُجْزِي فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الرَّقَبَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الرَّقَبَةِ، سَوَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الظِّهَارِ. رَجُلٌ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، فَذَلِكَ لَا يُجْزِي عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْعِتْقِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ وَالْوَاجِبُ هُوَ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ، وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا فِيمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ لِمَعْنَى حُصُولِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ بِهِ فِي يَوْمِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْأَدَاءِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَمِنْ نَوْعَيْنِ، وَهُنَا الرَّقَبَةُ فِي التَّحْرِيرِ وَعَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي الْإِطْعَامِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ إخْلَالًا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَأَخَّرَ الصَّوْمَ حَتَّى أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إذَا صَامَ الْمُكَفِّرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 الثَّالِثِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُوهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، فَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ، وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْوُجُودِ بِقَوْلِهِ {: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89]، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ لِتَصْحِيحِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ مِنْ الْوَاجِدِ لِلْمَالِ، وَلَكِنَّهُ شُرِطَ لِيَكُونَ الصَّوْمُ كَفَّارَةً يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ كَفَّارَةً لَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا، وَقَوْلٍ آخَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الْوُجُوبِ فِي الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ، وَمَا وَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَاعْتَبَرَهُ بِالْحُدُودِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْوُجُوبِ بِالتَّنَصُّفِ بِالرِّقِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ لَا مَا يُكَفَّرُ بِهِ، كَالْوَاجِبِ بِالْحَدَثِ الطَّهَارَةُ دُونَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمُنْعِمِ بِالْجِنَايَةِ وَالنِّعْمَةُ تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ لَا بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَإِذَا وَجَبَ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ لَا يَتَكَامَلُ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ مِنْ بَعْدُ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ عَنْ ضَرُورَةٍ مَحْضَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مُوسِرًا فِي إحْدَى الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يُعْسِرَ مُفَرِّطٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيطِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ فَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ لِلْأَدَاءِ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ، وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ نَافِذٌ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ بِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِيمَا يَمْلِكُ. وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتُ أَيْمَانٍ مُتَفَرِّقَةٌ فَأَعْتَقَ رِقَابًا بِعَدَدِهِنَّ، وَلَا يَنْوِي لِكُلِّ يَمِينٍ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا، أَوْ نَوَى فِي كُلِّ رَقَبَةٍ عَنْهُنَّ أَجْزَتْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ إحْدَاهُنَّ، وَأَطْعَمَ عَنْ الْأُخْرَى، وَكَسَا عَنْ الثَّالِثَةِ، كَانَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي كُلِّهَا سَوَاءً، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّ إعْتَاقَ الْجَنِينِ لَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 كَانَ مَوْجُودًا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْإِجْزَاءِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَكَفَّارَةُ الْمَمْلُوكِ بِالصَّوْمِ مَا لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ مِنْ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ، وَلَا يُجْزِي أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُطْعِمَ، وَيَكْسُوَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ حَتَّى يَتَسَرَّى بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرِّ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِأَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَافِيَ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ مَالًا وَالْمَمْلُوكِيَّة مَالًا مُغَايِرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ، وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ. وَإِنْ صَامَ الْمُعْسِرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا يُعْتِقُ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ جَوَازِ الْبَدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا وَالصَّوْمُ الْمَظْنُونُ سَوَاءٌ. ذِمِّيٌّ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] فَقَدْ جَعَلَ لِلْكَافِرِينَ يَمِينًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَمِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ إنْ حَنِثَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ، وَنَظِيرُهُ الْعَبْدُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالتَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الطُّهْرَةِ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا كَفَّارَاتٌ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ثُمَّ تُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّائِبِ تَطَهُّرًا وَعَلَى الْكَافِرِ عُقُوبَةً». (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيُّ حَيْثُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي حَلَفْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ قَالَ: نَذَرْتَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ»؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِصْرَارِهِ عَلَى الشِّرْكِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 وَعَقْدُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِيجَابِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12]. وَالِاسْتِحْلَافُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَقْصُودِهَا، وَهُوَ النُّكُولُ أَوْ الْإِقْرَارُ وَانْعِقَادُ يَمِينِهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا مُجِيزًا، فَأَمَّا هَذِهِ الْيَمِينِ مُوجِبُهَا الْبِرُّ لِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْدَ الْحِنْثُ مُوجِبُهَا الْكَفَّارَةُ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ صُورَةً فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْحُكْمُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ كُرْهًا، وَأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ، وَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا التَّطَهُّرُ كَمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تُقَامُ خِزْيًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا، وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِهَا إذَا جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلِهَذَا يَسْتَقِيمُ إقَامَتُهَا عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. رَجُلٌ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ يَنْوِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَيَتَأَدَّى بِهِ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِيهَا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَهُ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجْهَانِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89]. وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ الْوَصْلِ فَيَقْتَضِي جَوَازَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ مَوْصُولًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيُكَفِّرْ، ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يُفِيدَ الْجَوَازَ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ عَلَى يَمِينٍ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْتِزَامَ السَّبَبِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ الْوَاجِبِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْيَمِينُ دُونَ الشَّرْطِ، حَتَّى يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ أَدَاءُ الْحَقِّ الْمَالِيِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ تَوَقَّفَ وُجُوبُهَا عَلَى مَعْنًى، فَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَهُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ وَالصَّيْدِ إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا، ثُمَّ كَفَّرَ بِالْمَالِ قَبْلَ زَهُوقِ الرُّوحِ، أَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ يَجُوزُ بِالْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَقِيقَةً، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُكَفِّرْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ التَّكْفِيرِ، وَلَا يَجُوزُ مُطْلَقُ التَّكْفِيرِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، أَمَّا قَبْلَ الْحِنْثِ يَجُوزُ عِنْدَهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ مَا يُكَفَّرُ بِهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْمَلْفُوظِ الَّذِي لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى حَدِّ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى الشَّيْءِ طَرِيقًا لَهُ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ مُحَرِّمَةٌ لَهُ فَكَيْفَ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمَا يَجِبُ بَعْدَ الْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ كَمَالِ النِّصَابِ، فَإِنَّهُ تَحَقُّقُ الْغِنَى الْمُؤَدِّي إلَى النَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْمَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ بِالْحِنْثِ الْيَمِينُ يَرْتَفِعُ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّيْءِ فَالْوُجُوبُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقَرُّرِهِ لَا عَلَى ارْتِفَاعِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْيُمْنَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الْأَدَاءُ جَائِزٌ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ مُتَأَخِّرًا إلَى أَنْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ، كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ، فَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ لِيَصِيرَ عِنْدَ أَدَائِهَا كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْخَلَفِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ بَاقٍ وَهُوَ الْبِرُّ، فَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا كَمَا لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَوْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ {: تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} [النساء: 92]، وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ الذَّنْبِ لَا تَكُونُ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُعَظِّمٌ حُرْمَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الذَّنْبُ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ جَزَاءُ جِنَايَتِهِ، وَجِنَايَتُهُ فِي الْجَرْحِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ الْمَالُ دُونَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، فَكَانَ حَوْلَانُ، الْحَوْلِ تَأْجِيلًا فِيهِ، وَالتَّأْجِيلُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، فَكَيْفَ يَنْفِي تَقَرُّرَ السَّبَبِ؟ (قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ عَنْ ثُلُثِهِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ مِنْ الْعِتْقِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، فَقَدْ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَكَانَ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِمَالٍ لَا يَتَمَحَّضُ قُرْبَةً، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِتْقِ وَقَعَ غَيْرَ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ أَرَقًا وَفِي رِوَايَةٍ (1) بَرَقًا: إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ أَنْ لَا أُعْطِيَهُمْ، ثُمَّ يَبْدُوَ لِي فَأُعْطِيَهُمْ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَشَفِّعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ {: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا رَأَى الْحِنْثَ خَيْرًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُحَمِّلَنَا، ثُمَّ رَجَعَ قَوْمٌ عِنْدَهُ بِخَمْسِ ذَوْدٍ، وَقَالُوا: حَمَلَنَا عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ. قَالَ: إنِّي أَحْلِفُ ثُمَّ أَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَأَتَحَلَّلُ يَمِينِي، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ أَوَانَ التَّكْفِيرِ مَا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 مَا رُوِيَ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، أَيْ وَكَانَ {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46]، أَيْ وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّكْفِيرِ جَائِزٌ. بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّهُ لَا تَوْكِيلَ فِي الْعِبَادَةِ أَصْلًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ {: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ فِيمَا هُوَ مَالِيُّ الِابْتِدَاءِ بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنَّائِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْوَظِيفَةَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذُكِرَ بَعْدَهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مِثْلُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ بِهِمَا مَعَ سُقُوطِ مُؤْنَةِ الطَّحْنِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، سَوَاءٌ كَانَ خُبْزُ الْبُرِّ مَعَ الطَّعَامِ أَوْ بِغَيْرِ إدَامٍ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ إنْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ الْعَشَاءِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَتَى مِنْ كُلِّ وَظِيفَةٍ بِنِصْفِهِ، وَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ، وَفِيهِمْ صَبِيٌّ فُطِمَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُجْزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَمَالَ الْوَظِيفَةِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ الْبَالِغُ، وَعَلَيْهِ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَكَانَهُ، فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مُدًّا مُدًّا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِيصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يُعَشِّيَهُمْ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِاتِّصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ، وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَطْعَمَ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا صَنَعَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ، وَكَانَ بَقَاؤُهُمْ إلَى أَنْ يُعَشِّيَهُمْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً فَمَاتُوا فَإِنَّهُ يُعَشِّي عَشَرَةً أُخْرَى، وَيَكْفِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ أَكْلَتَانِ فَقَطْ دُونَ إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ بِهِمَا، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الظِّهَارِ أَنَّ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَالْمَسَاكِينِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ تَفْرِيقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، فَكَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ إطْعَامَ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ فَقَالَ: إذَا نَذَرَ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إنَّمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ فِي الْكَفَّارَةِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ اعْتِبَارًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِالزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إلَى مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ. وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ، إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يُجْزِئْ مَا لَا يُجْزِئُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، فَلَوْ جَوَّزْنَا إطْعَامَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ كَانَ نَوْعًا رَابِعًا، فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ، وَهُوَ سَدُّ الْجَوْعَةِ، فَلَا يَصِيرُ نَوْعًا رَابِعًا، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الطَّعَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تُجْزِئُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا، ثُمَّ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْكِينِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ فَوْقَ التَّمْكِينِ، وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ أَمْكَنَ إكْمَالُ التَّمْكِينِ بِالتَّمْلِيكِ، فَتَجُوزُ الْكِسْوَةُ مَكَانَ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَفِي الْكِسْوَةِ التَّمْلِيكُ مُعْتَبَرٌ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْكِسْوَةِ مَقَامَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ، فَأَمَّا إذَا مَلَّكَ الطَّعَامَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ تُقَامُ الْكِسْوَةُ مَقَامَ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ، يُقَامُ الطَّعَامُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ فِيهَا، إلَيْهِ أَشَارَ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ بَعْدَ هَذَا. وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّ إكْمَالَ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَسَاكِينِ الْخَمْسَةِ مَا أَعْطَاهُمْ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ قَدْ تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِ الْمَسَاكِينِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ، وَلَا يَجِدُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْكَنَ وَالثِّيَابَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ وَاجِدًا لِمَا يُكَفِّرُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يَخْدُمُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَيَّشُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 غَيْرِ خَادِمٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الرَّقَبَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَمَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْأَمَالِي، أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَاضِلُ مِنْ حَاجَتِهِ دُونَ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، فَلَا يَكُونُ مُوسِرًا وَلَا غَنِيًّا، فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ مِقْدَارَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] وَهَذَا وَاجِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِعْتَاقِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِلْكُهُ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّي بِهِ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْيَسَارُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، وَبَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عَنْ ظِهَارَيْنِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ كِسْوَتُهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا، وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ مُكْتَسِيًا، وَيُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ الثَّوْبُ يُسَاوِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْكِسْوَةَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ، وَهُوَ إنَّمَا نَوَاهُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَاوٍ لِلتَّكْفِيرِ بِهِ وَذَلِكَ يَكْفِيهِ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يُجْزِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: الدَّرَاهِمُ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ قَصْدًا إلَى الْبَدَلِ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ أَصْلٌ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ قَصْدًا إلَى جَعْلِهَا بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ عُشْرُ الثَّوْبِ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي الْكِسْوَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَهُوَ وَأَدَاءُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ. مُسْلِمٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَحَنِثَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]. وَكَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ. وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَكَيْلِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَأَدْنَى ذَلِكَ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ قَالَ فِي نَذْرِهِ: إطْعَامُ الْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 يَصْرِفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جُمْلَةً، وَإِنْ قَالَ: طَعَامُ الْمَسَاكِينِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَلْتَزِمُ مِقْدَارًا مِنْ الطَّعَامِ، وَبِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَلْتَزِمُ الْفِعْلَ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ عَشَرَةٍ، وَيُعْطِي مِنْ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَهُ الدَّارُ وَالْخَادِمُ؛ لِأَنَّهُمَا يَزِيدَانِ فِي حَاجَتِهِ فَالدَّارُ تُسْتَرَمُّ، وَالْخَادِمُ يُسْتَنْفَقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى مِثْلِهِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ يَمِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهُوَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ، ثُمَّ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْكِسْوَةِ] (قَالَ): - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْكِسْوَةُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {: أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]. أَنَّهُ الْإِزَارُ فَصَاعِدًا مِنْ ثَوْبٍ تَامٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَيُعْطِي فِي الْكِسْوَةِ الْقَبَاءَ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ التَّبَرُّعَ بِأَحَدِهِمَا، فَأَمَّا الْوَاحِدُ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَدْنَاهُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَأَعْلَاهُ مَا شِئْت وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ بِهِ مُكْتَسِيًا، وَبِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مُكْتَسِيًا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُكْتَسِيًا لَا عَارِيًّا وَالْمُرَادُ بِالْإِزَارِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ كَالرِّدَاءِ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَتِمُّ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يُجْزِي، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ سَرَاوِيلَ، ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُكْتَسِيًا شَرْعًا حَتَّى تَجُوزَ صَلَاتُهُ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا لَا مُكْتَسِيًا، إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الطَّعَامَ، فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا نَوَاهُ، وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا يَحْصُلُ، وَلَكِنَّهُ يُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفُ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً، أَوْ أَعْطَاهُ نَعْلَيْنِ أَوْ خُفَّيْنِ لَا يُجْزِيهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا يَحْصُلُ، وَإِنْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِمَامَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْلُغُ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ كِسْوَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تُسَاوِي قِيمَةَ الطَّعَامِ. وَلَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ، يُصِيبُ كُلُّ مِسْكِينٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعِ حِنْطَةٍ، وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُدُّ مِنْ الْحِنْطَةِ يُسَاوِي ثَوْبًا كَانَ يُجْزِئُ مِنْ الْكِسْوَةِ دُونَ الطَّعَامِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِمَا أَبْهَمَهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ التَّمْكِينُ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا فِي الطَّعَامِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَوْبًا حَتَّى اسْتَكْمَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ كَمَا فِي الطَّعَامِ. (فَإِنْ قِيلَ): الْحَاجَةُ إلَى الطَّعَامِ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِسْوَةِ لَا تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. (قُلْنَا): نَعَمْ الْحَاجَةُ إلَى الْمَلْبُوسِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّا أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَهُ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ، وَالتَّمْلِيكُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِذَا أَقَامَ الشَّيْءَ مَقَامَ غَيْرِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمِلْكِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، إلَّا أَنَّا لَا نُجَوِّزُ أَدَاءَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ بِتَفْرِيقِ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَحْصُلُ أَيْضًا بِتَفَرُّقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ، فَقَدَّرْنَا بِالْأَيَّامِ، وَجَعَلْنَا تَجَدُّدَ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ كَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا. وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً قِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ أَجْزَأَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ، وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهِ عَنْهُ، فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ، وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَخَذَهُ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمِسْكِينِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَلَوْ كَسَا عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ عَنْهُ ثَمَنًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمِسْكِينُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الطَّعَامِ مِثْلَهُ فِي الظِّهَارِ، وَلَوْ كَسَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَدِّي، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَلَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةِ أَيْمَانِهِ فِي أَكْفَانِ الْمَوْتَى، أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، أَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنِ مَيِّتٍ، أَوْ فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ إلَى الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 لَا يُجْزِئُهُ. (فَإِنْ قِيلَ) فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ: التَّمْلِيكُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ عِنْدَكُمْ حَتَّى يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. (قُلْنَا): لَا يُعْتَبَرُ التَّمْلِيكُ عَنْ وُجُودِ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْإِطْعَامِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهَا ابْنَ السَّبِيلِ مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ مَنْ هُوَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ يَمِينَانِ، فَكَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ عَنْهُمَا أَجْزَأَهُ عَنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الطَّعَامِ. وَإِذَا كَسَا مِسْكِينًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمِسْكِينُ، فَوَرِثَهُ هَذَا مِنْهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَفْسُدْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَأَدَّى بِوُصُولِ الثَّوْبِ إلَى يَدِ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الزَّكَاةِ نَظِيرَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، وَتُهْدِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَقُولُ: هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ»، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَفِي حَدِيثِ «أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ بِحَدِيقَةٍ لَهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَكَ، وَرَدَّ عَلَيْكَ حَدِيقَتَكَ». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصِّيَامِ] (قَالَ): وَإِذَا حَنِثَ الرَّجُلُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ مُفْطِرًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ صَوْمُ يَوْمٍ تَوَقَّفَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّيَّةَ تَسْتَنِدُ إلَيْهِ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ عَيْنًا فِي الْوَقْتِ دُونَ مَا يَكُونُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَإِذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ فِي هَذَا الصَّوْمِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً عَنْ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، فَلَا تُعْذَرُ فِيهَا بِالْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ، بِخِلَافِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ، وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ عَنْ هَذَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمُعْسِرِ مَالٌ غَائِبٌ عَنْهُ، أَوْ دَيْنٌ، وَهُوَ لَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 وَلَا مَا يُعْتِقُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، فَمَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّكْفِيرِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ الْغَائِبِ عَبْدٌ، فَحِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا، وَهُوَ يَعْلَمُ حَيَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَالٍ يُكَفِّرُ بِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِالْمَالِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَسْتَدِلُّ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى، وَمَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ بِالْمَالِ، فَهُوَ وَاجِدٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ، فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ صَامَ الْعَبْدُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، فَعَتَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ، وَأَصَابَ مَالًا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْحُرِّ الْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ كَانَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءً. وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ شَرْعًا مَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ أَنْوَاعٌ، فَلَا يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَأَمَّا كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ فِيمَا بَيْنَهُمَا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ تَعْيِينِ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ مِنْ حَيْثُ إنْ يَكُونَ هُنَاكَ، لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا أَوْ ثَوْبَيْنِ عَنْ يَمِينَيْنِ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُنَا الصَّوْمُ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ، لَا يُتَصَوَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُتَصَوَّرُ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا جَازَ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فِعْلَ الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ إحْدَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 الْكَفَّارَتَيْنِ، فَصَامَ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ أَطْعَمَ لِلْأُخْرَى لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ يَمِينٍ فَقَدْ صَارَ غَيْرَ وَاجِدٍ فِي حَقِّ الْيَمِينِ الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ مُحْدِثَيْنِ فِي سَفَرٍ، وَجَدَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمَا، فَتَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ الْآخَرُ بِهِ، فَعَلَى مَنْ تَيَمَّمَ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ بِهِ الْآخَرُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الصَّوْمِ الِابْتِدَاءُ بِمَا هُوَ شَاقٌّ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ زَيْدٍ بِأَدَاءِ عَمْرٍو. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابٌ مِنْ الْأَيْمَانِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى أَمْرٍ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا، ثُمَّ حَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا، ثُمَّ فَعَلَهُ، كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ يُبَاشِرُهُ بِمُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَهُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَالثَّانِي فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَهُمَا عَقْدَانِ، فَبِوُجُودِ الشَّرْطِ مَرَّةً وَاحِدَةً يَحْنَثُ فِيهِمَا، وَهَذَا إذَا نَوَى يَمِينًا أُخْرَى، أَوْ نَوَى التَّغْلِيظَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِيغَةُ الْكَلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْكَفَّارَاتُ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ خُصُوصًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا تَتَدَاخَلُ، وَأَمَّا إذَا نَوَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي الْيَمِينَ الْأَوَّلَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّكْرَارَ، وَالْكَلَامُ الْوَاحِدُ قَدْ يُكَرَّرُ فَكَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْنَا مِنْهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ هَذَا إيجَابُ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، فَكَانَ الثَّانِي إيجَابًا كَالْأَوَّلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ دُونَ الْإِيقَاعِ وَالْإِيجَابِ، وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ بِحَجَّةٍ، وَالْأُخْرَى بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَحَجَّةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَكْرَارِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ هُنَا فَانْعَقَدَتْ يَمِينَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 وَقَدْ حَنِثَ فِيهِمَا بِإِيجَادِ الْفِعْلِ مَرَّةً فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا إلَى وَقْتِ كَذَا، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْصِيَةٌ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَرْتَفِعُ النَّهْيُ بِيَمِينِهِ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ فَإِذَا ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ فِيهَا بِفَوْتِ شَرْطِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَى أَنْ يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ، وَشَرْطُ الْبَرِّ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي عُمْرِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِتُقْضَى بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِسَائِرِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا. وَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ مُتَّصِلَةٍ مَعْطُوفَةٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاسْتَثْنَى فِي آخِرِهَا كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إبْطَالِهَا كُلِّهَا اعْتِبَارًا لِلْأَيْمَانِ بِالْإِيقَاعَاتِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمَا لِإِبْطَالِ الْكَلَامِ، وَحَاجَةُ الْيَمِينِ الْأُولَى كَحَاجَةِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاسْتِثْنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى تَامَّةٌ بِمَا ذَكَرَ لَهَا مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَلَا يَنْصَرِفُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ آخِرًا إلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَامِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَإِيجَابًا، وَإِنْ قَالَ: إلَّا أَنْ لَا أَسْتَطِيعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي قَدْ اسْتَثْنَى بِهَا لَمْ تُوجَدْ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ ارْتِفَاعَ الْمَوَانِعِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَنَا مُسْتَطِيعٌ لِكَذَا وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ هَذَا، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ لَا يُدِينُهُ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا يَعْرِضُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 مِنْ الْبَلَايَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ يَمِينُهُ مَا لَمْ يَعْرِضْ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ عَلَى أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُتَعَارَفُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا رَجُلًا آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الْيَمِينَيْنِ جَمِيعًا، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُخْرَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ، وَلَكِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، أَوْ يَجْعَلُ الْوَاوَ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي لِلْعَطْفِ دُونَ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، وَعَلَيَّ عُمْرَةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، عَبْدِي الْآخَرُ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ كَلَّمَهُ عَبْدُهُ الْأَوَّلُ حُرٌّ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ حَرْفَ الْعَطْفِ، فَانْعِدَامُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا، وَوُجِدَ الِاتِّصَالُ صُورَةً حِينَ لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِمَا كَانَ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ وَلَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْكَلَامِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَهَذِهِ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ عِتْقُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِك فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّ عَبْدَهُ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، يَذْكُرُ الشَّرْطَ، وَالْجَزَاءُ طَلَاقُهَا فَوُجِدَ بِهِ الشَّرْطُ فِي الْيَمِينِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِهَا، وَمَا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْيَمِينِ لَا يَكُونُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ سَابِقًا عَلَى يَمِينِهِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً، ثُمَّ بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَتَطْلُقُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجَدُ بِالْيَمِينِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ، فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً. وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينٍ، وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ صُورَةً بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوْ اخْتَارِي، فَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ - مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَ يَمِينًا لَمْ يَتَوَقَّفْ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ طَهُرَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ، قُلْنَا: هُوَ سُنِّيٌّ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَحْنَثُ بِالْحَيْضِ وَتَطْلُقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَتَقَ عَبْدُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَقُ قَالَ: لِأَنَّ الْحَالِفَ يَكُونُ مَانِعًا نَفْسَهُ مِنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ يَمِينًا بِذِكْرِ شَرْطٍ يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ، فَأَمَّا بِذِكْرِ شَرْطٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا فَلَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِصِيغَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ صِيغَةُ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانَ يَمِينًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا؛ لِأَنَّهُ مَا ذَكَرَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ، إنَّمَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَوْ إذَا حِضْت حَيْضَةً؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ كَمَا بَيَّنَّا، وَبِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَنْعُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا، كَمَا لَوْ جَعَلَ الشَّرْطَ فِعْلَ إنْسَانٍ آخَرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْمُسَاكَنَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ، فَشَرْطُ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى مَعَ فُلَانٍ، وَالسُّكْنَى الْمُكْثُ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، فَتَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ بِوُجُودِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَذَلِكَ إذَا سَكَنَا بَيْتًا وَاحِدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 أَوْ سَكَنَا فِي دَارٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَحُجَرُ، فَكُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسَاكِنًا فُلَانًا فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَنَا فِي مَحَلَّةٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَقَاصِيرِ، كُلُّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ مَقْصُورَةٍ، فَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ مَنْ يَسْكُنُ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى يُقْطَعُ، وَالدَّارُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ، وَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ لَا يُقْطَعُ، وَمَنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الدُّخُولِ فِي أَحَدِ الْبُيُوتِ مِنْ الدَّارِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَا يُقْطَعُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ كَبِيرَةً نَحْوَ دَارِ الْوَلِيدِ بِالْكُوفَةِ، وَنَظِيرُهُ دَارُ نُوحٍ بِبُخَارَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقَاصِيرَ، أَوْ عَلَى بُيُوتٍ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ هَذَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُعَدُّ الْحَالِفُ مُسَاكِنًا لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَقْصُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي حُجْرَةٍ أَوْ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَا فِيهِ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُسَاكِنَهُ فِيمَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، (فَإِنْ قِيلَ): الْمَسْكَنُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، فَكَيْفَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي تَخْصِيصِ الْمَسْكَنِ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا لَفْظَ لَهُ بَاطِلٌ؟ (قُلْنَا): نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ تَخْصِيصَ الْمَسْكَنِ حَتَّى لَوْ نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ، لَا تُعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي الْمَصْدَرَ لَا مَحَالَةَ، فَبِذِكْرِ الْفِعْلِ يَصِيرُ الْمَصْدَرُ كَالْمَذْكُورِ لُغَةً، وَهُوَ إنَّمَا نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ أَكْمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَجْمَعَهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ، وَمَا دُونَ هَذَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِهَذَا يَكُونُ قَاصِرًا، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ نِيَّةَ نَوْعٍ مِنْ السُّكْنَى، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، نَظِيرُهُ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ: إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى نَوْعًا مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَذْكُورِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ فِي نَوْعٍ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَسَمَّى ذَلِكَ، فَإِنْ سَاكَنَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ، وَلَا تَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَسْكُنَا بَيْتًا وَاحِدًا أَوْ دَارًا وَاحِدَةً مِنْ دَارِ الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْبَلْدَةَ أَوْ الْقَرْيَةَ إخْرَاجُ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ عَنْ يَمِينِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 فِي هَذَا الْفَصْلِ يَحْنَثُ إذَا جَمَعَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي سَمَّى فِي السُّكْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَجْلِ الْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يُسَاكِنُ فُلَانًا قَرْيَةَ كَذَا وَبَلْدَةَ كَذَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا، وَأَقَامَ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ إنَّمَا الْمُسَاكَنَةُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ بِمَتَاعِهِ وَثُقْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا، وَلَا يُسَمَّى سَاكِنًا فِيهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَيَكُونُ فِي دَارِهِ يَوْمًا، وَلَا يُسَمَّى مُسَاكِنًا لَهُ فِي دَارِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا لَا يَكُونُ سَاكِنًا مَعَهُ فِيهِ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ فِي نِيَّتِهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَامِلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمُرُّ بِالْقَرْيَةِ فَيَبِيتُ فِيهَا، وَيَقُولُ: مَا سَاكَنْتهَا قَطُّ فَيَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فِيهَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ الْمُدَّةَ، وَيُقَالُ: سَكَنَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68]. أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا، فَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ السُّكْنَى بَعْدَ يَمِينِهِ كَإِنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَامُ كَالسُّكْنَى، فَأَمَّا إذَا أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ فِي نَزْعِ الثَّوْبِ أَوْ فِي النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ عَنْهُ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، وَهُوَ الْبَرُّ دُونَ الْحِنْثِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْبَرُّ إلَّا بِهَذَا؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ، وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ، فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ مَا هُوَ ضِدُّ السُّكْنَى حِينَ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِ الْأَمْتِعَةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى سُكْنَاهُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْعَدِمُ بِخُرُوجِهِ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، قَالَ: خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ، وَخَلَّفْت فِيهَا دُفَيْتِرَاتٍ أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ؟ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِيهَا بِثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ، فَمَا لَمْ يَنْقُلْهُمْ فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالثَّقَلِ وَالْمَتَاعِ، وَالْعُرْفُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ فَإِنَّك تَسْأَلُ السُّوقِيَّ، أَيْنَ تَسْكُنُ؟ فَيَقُولُ: فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ فِي تِجَارَتِهِ يَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 فِي السُّوقِ، ثُمَّ يُشِيرُ إلَى مَوْضِعِ ثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ وَمَتَاعِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ السُّكْنَى بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدُّفَيْتِرَاتِ، فَإِنَّ السُّكْنَى لَا تَتَأَتَّى بِهَا، مَعَ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ بَلْدَةَ كَذَا فَخَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ خَلَّفَ ثَقَلَهُ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ السُّكْنَى فِي الدَّارِ، فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فِي السُّوقِ يُسَمَّى سَاكِنًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا ثَقَلُهُ وَمَتَاعُهُ وَعِيَالُهُ، فَأَمَّا الْمُقِيمُ بِأُوزَجَنْدَ لَا يُسَمَّى سَاكِنًا بِبُخَارَى، وَإِنْ كَانَ بِهَا عِيَالُهُ وَثَقَلُهُ، وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عِنْدَهُ الْعِبْرَةَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَالْعَادَةُ بِخِلَافِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ وَعِنْدَنَا الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ عَلَى حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: وَاَللَّهِ لَأُجْرِيَنَّكَ عَلَى الشَّوْكِ فَيُحْمَلُ عَلَى شِدَّةِ الْمَطْلِ دُونَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: أَلْفَاظُ الْيَمِينِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْتَضِيءُ بِالسِّرَاجِ فَاسْتَضَاءَ بِالشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا. وَمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ وَتَدًا، فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَوْتَادًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا، فَإِنْ نَقَلَ بَعْضَ الْأَمْتِعَةِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَرَكَ بَعْضَ أَمْتِعَةٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنًا فِيهَا بِجَمِيعِ الْأَمْتِعَةِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ بَقَاءَ صِفَةِ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهَا السُّكْنَى، أَمَّا بِبَقَاءِ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ فِيهَا، فَيَبْقَى سَاكِنًا فِيهَا فَلَا يَحْنَثُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَالَ: إنْ بَقِيَ فِيهَا مَا يَتَأَتَّى لِمِثْلِهِ السُّكْنَى بِهِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ نَقَلَ إلَى الْمَسْكَنِ الثَّانِي مَا يَتَأَتَّى لَهُ السُّكْنَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ بِهَذَا صَارَ سَاكِنًا فِي الْمَسْكَنِ الثَّانِي فَلَا يَبْقَى سَاكِنًا فِي الْمَسْكَنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ، فَبَقِيَ فِي ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِهِ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَيَّامًا لِكَثْرَةِ أَمْتِعَتِهِ وَلِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، وَلَمْ يَسْتَأْجِرْ لِذَلِكَ جَمَّالًا بَلْ جَعَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 يَنْقُلُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَهْرًا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْتِعَةِ ضِدُّ الِاسْتِقْرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَاشْتِغَالُهُ بِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهِ فَلَا يَحْنَثُ لِهَذَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ قَدْ سَمَّاهَا بِعَيْنِهَا، وَاقْتَسَمَا وَضَرَبَا بَيْنَهُمَا حَائِطًا، وَفَتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ سَكَّنَ الْحَالِفُ طَائِفَةً، وَالْآخَرُ طَائِفَةً لَزِمَهُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَاكَنَهُ فِيهَا بِعَيْنِهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِعْلُ السُّكْنَى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ كَمَا قَبِلَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَنْزِلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ صَارَ كُلُّ جَانِبٍ مَنْزِلًا عَلَى حِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ، وَفِي الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْعَيْنُ دُونَ الْوَصْفِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ شَابًّا فَكَلَّمَ شَيْخًا، كَانَ شَابًّا وَقْتَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَحْنَثُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ أَظْهَرَ بِيَمِينِهِ التَّبَرُّمَ مِنْهَا لَا مِنْ فُلَانٍ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إنَّمَا أَظْهَرَ التَّبَرُّمَ مِنْ مُسَاكَنَةِ فُلَانٍ، وَلَا يَكُونُ مُسَاكِنًا لَهُ إذَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ، وَهُوَ يَنْوِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَسَاكَنَهُ فِي مَنْزِلٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَيَصِيرُ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارًا بِعَيْنِهَا، فَهُدِمَتْ وَبُنِيَتْ بِنَاءً آخَرَ فَسَكَنَهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ، وَرَفْعُ الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ، وَإِحْدَاثُ بِنَاءٍ آخَرَ يُغَيِّرُ الْوَصْفَ، وَفِي الْعَيْنِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَصْفِ، وَاسْمُ الدَّارِ يَبْقَى بَعْدَ هَدْمِ الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا، كَذَلِكَ صَارَ حَانِثًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ أَمَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تُطَلِّقُ اسْمَ الدَّارِ عَلَى الْخَرَابَاتِ الَّتِي لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلَّا الْآثَارُ، قَالَ الْقَائِلُ: عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا وَقَالَ آخَرُ: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا عَيَّنَهُ، فَهُدِمَ حَتَّى تُرِكَ صَحْرَاءَ، ثُمَّ بُنِيَ بَيْتٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسَكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَزُولُ بِهَدْمِ الْبِنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهُ حِينَ كَانَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَالصَّحْرَاءُ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ. وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ بِاسْمٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ، ثُمَّ إنَّمَا حَدَثَ اسْمُ الْبَيْتِ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْبِنَاءِ الَّذِي أُحْدِثَ، فَكَانَ هَذَا اسْمًا غَيْرَ مَا عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ، وَوِزَانُهُ مِنْ الدَّارِ أَنْ لَوْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا، ثُمَّ بَنَى دَارًا فَسَكَنَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ زَالَ. جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا ثُمَّ حَدَثَ اسْمُ الدَّارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَبَاعَهَا فَسَكَنَ الْحَالِفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالثَّوْبُ، وَكُلُّ مَا يُضَافُ إلَى إنْسَانٍ بِالْمِلْكِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْإِضَافَةِ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِضَافَةِ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، وَالْإِضَافَةُ لَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا أَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ صَدِيقِ فُلَانٍ هَذَا، فَكَلَّمَ بَعْدَمَا عَادَاهُ، وَفَارَقَهَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ، فَكَلَّمَ بَعْدَ مَا بَاعَ الطَّيْلَسَانَ يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ يُضَافُ إلَى مَالِكٍ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَطْلَقَ دَارَ فُلَانٍ، وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الدَّارَ لَا يُقْصَدُ هَجْرُهَا لِعَيْنِهَا، بَلْ لِأَذًى حَصَلَ مِنْ مَالِكِهَا، وَالْيَمِينُ تَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ فَصَارَ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَادَامَ لِفُلَانٍ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُ لِعَيْنِهِ لَا لِطَيْلَسَانِهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ. (فَإِنْ قِيلَ) فِي الْعَبْدِ: هُوَ آدَمِيٌّ، فَيُقْصَدُ هِجْرَانُهُ لِعَيْنِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قُلْتُمْ: إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا بَاعَهُ لَا يَحْنَثُ. (قُلْنَا): ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ بِهَذَا فِي الْعَبْدِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ سَاقِطُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْهُ لَا يُقْصَدُ هِجْرَانُهُ بِالْيَمِينِ، فَلَا يُجْعَلُ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَحْلِفُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْ مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ إضَافَةَ الْمَمْلُوكِ إلَى الْمَالِكِ حَقِيقَةً كَالِاسْمِ، ثُمَّ لَوْ جَمَعَ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالْعَيْنِ، وَزَالَ الِاسْمُ لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا، فَجُعِلَتْ بُسْتَانًا فَدَخَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ الِاسْمِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ فَزَالَتْ الْإِضَافَةُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، فَالْإِضَافَةُ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعْرِيفٌ كَالنِّسْبَةِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعَيْنِ دُونَ النِّسْبَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الْإِضَافَةِ، فَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَلَهُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ فَلَهُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ. وَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارَ فُلَانٍ أَوْ دَارًا لِفُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا فَسَكَنَ دَارًا لَهُ قَدْ بَاعَهَا بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: زَوْجَةُ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى مَقْصُودِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَوَجَّهَ أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِالْإِضَافَةِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ يَبْقَى الْيَمِينُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا إذَا سَكَنَ دَارًا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ إلَى وَقْتِ السُّكْنَى، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ، أَوْ لَا يُشْرِبُ شَرَابَ فُلَانٍ، فَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا اسْتَحْدَثَهُ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِمَاعَةَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً وَقْتَ الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ، فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَعَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَ الْحَالِفِ وُجُودُ الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ وَقْتَ التَّنَاوُلِ، فَأَمَّا الدَّارُ وَالْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فَلَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى الْمَالِكِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ كَانَ حَانِثًا كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْيَمِينِ أَذًى دَخَلَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ، وَمَا اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَسْكُنُ دَارًا هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكِهِ دُونَ مَا يَسْتَحْدِثُهُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ: إذَا قَالَ: دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ تَمَامَ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فُلَانًا كَانَ كَلَامًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 مُخْتَلًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ الْيَمِينِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ. الْكَلَامُ تَامٌّ بِدُونِ ذِكْرِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أَسْكُنُ دَارًا كَانَ مُسْتَقِيمًا، فَذِكْرُ فُلَانٍ لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ، قَلَّ نَصِيبُ الْآخَرِ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ، وَالْمَمْلُوكُ لِفُلَانٍ بَعْضُ هَذِهِ الدَّارِ، وَبَعْضُ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ، فَسَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا رَتَّبَ الْحَالِفُ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ دُونَ الْمِلْكِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً، لَمْ يَحْنَثْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَحَنِثَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ، وَالْيَمِينُ يَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، فَأَهْلُ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمَبْنِيَّةَ عَادَةً، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الشَّعْرِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بَدْوِيًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مَقْصُودُهُ بِيَمِينِهِ، فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَاسْمُ الْبَيْتِ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً، فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يُسَمُّونَ الْبَيْتَ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً. أَفَتُجْزِي الْبَقَرُ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي رِيَاحٍ. قَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رِيَاحٍ الْبَقَرَ؟ إنَّمَا وُهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ. فَدَلَّ أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ الْكَلَامِ يُعْتَبَرُ عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَتَقَيَّدُ بِهِ كَلَامُهُ. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ صُفَّةً لَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بَيْتٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِّ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِبَيْتٍ يَسْكُنُونَهُ يُسَمَّى صَفًّا، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا يُسَمَّى كَشَأْنِهِ، فَأَمَّا الصِّفَةُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا غَيْرُ الْبَيْتِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ، بَلْ يُنْفَى عَنْهُ، فَيُقَالُ: هَذَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْتٍ فَلَا يَحْنَثُ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَةُ مَا نُسَمِّيهِ الصِّفَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الصِّفَةِ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهُ أَوْسَعُ مِنْ مَدْخَلِ الْبُيُوتِ الْمَعْرُوفَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 فَكَانَ اسْمُ الْبَيْتِ مُتَنَاوِلًا لَهُ، فَيَحْنَثُ بِسُكْنَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الدَّارِ هَكَذَا تَكُونُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي دَارِ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ فِي بَعْضِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ تَحْتَ السُّوَرِ، وَعَلَى الْغُرَفِ وَالْحُجَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَسْكُنَهَا كُلَّهَا، فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَسْكُنَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَنِيَّةُ الْحَقِيقَةِ تَصِحُّ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى الْوَقْتِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ بَيَاضِ النَّهَارِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ، وَهُوَ يَنْوِي بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً، وَسَكَنَهَا عَلَى غَيْرِ مَا عُنِيَ، وَلَمْ يَجْرِ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَمَا نُوِيَ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلَ السُّكْنَى، وَهُوَ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ السُّكْنَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَذَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ اسْتَعَارَهُ فَأَبَى فَحَلَفَ، وَهُوَ يَنْوِي الْعَارِيَّةَ، ثُمَّ سَكَنَ بِأَجْرٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الدُّخُولِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ سَاكِنٌ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ حَقِيقَةٌ وَبِالسُّكْنَى مَجَازٌ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَتَنَحَّى الْمَجَازُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ أَيْضًا. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ، وَمَا يَسْكُنُهُ فُلَانٌ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً مُضَافٌ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْكُنُهُ بِالْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: بَيْتُ فُلَانٍ وَمَنْزِلُ فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَكَذَلِكَ مَعَ حَرْفِ اللَّامِ «، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ؟ فَقَالَ: لِي اسْتَأْجَرْتُهُ»، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بِحَرْفِ اللَّامِ، وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتًا هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ بِالْمِلْكِ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ بِالسُّكْنَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَفِي ذَلِكَ الْمِلْكُ وَالْمُسْتَعَارُ سَوَاءٌ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا، يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الدُّخُولُ دُونَ حَقِيقَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ، (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَكُونُ لِلْمَجَازِ عُمُومٌ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؟ (قُلْنَا): الْعُمُومُ لِلْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، بَلْ بِدَلِيلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَجَازِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجَازَ كَالْمُسْتَعَارِ، وَيَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَمَا يَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمَمْلُوكِ، وَلَا يُقَالُ: بِأَنَّ الْمَجَازَ يُصَارُ إلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ بَلْ هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا وَحَقِيقَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى أَنْ تَلْحَقَهُ الضَّرُورَةُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ يُعْتَبَرُ فِي الْمَجَازِ، كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، فَدَخَلَ بَيْتًا أَجَّرَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالسُّكْنَى دُونَ الْآجِرِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ حَانُوتًا أَجَّرَهُ، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا، لَا يَحْنَثُ بِهَذَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ حَانُوتًا، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتَ الْأَمِيرِ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ حَانُوتٌ يَمْلِكُهُ الْأَمِيرُ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، أَوْ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ أَوْ فِي صِفَةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ عَلَى فُلَانٍ. فَإِنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ يَبِيتُ هُوَ فِيهِ، أَوْ يَجْلِسُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ تَارَةً وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ أُخْرَى، وَالصِّفَةُ فِي هَذِهِ كَالْبَيْتِ، فَيَحْنَثُ لِهَذَا، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ لَا لِلْبَيْتُوتَةِ وَالْجُلُوسِ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ظُلَّةٍ أَوْ سَقِيفَةٍ، أَوْ دِهْلِيزِ بَابِ دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ أَنَّ جُلُوسَهُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَادِرًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا الْجُلُوسُ عَادَةً يَكُونُ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْبَيْتِ، فَهُوَ وَإِنْ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي فُسْطَاطٍ أَوْ خَيْمَةٍ، أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَقَوْلُهُ: لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا سَوَاءً لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْكَعْبَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُصَلًّى، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ الْمُعَدِّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ. (فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا بِقَوْلِهِ {: إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا فِي قَوْلِهِ {: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ} [النور: 36]؟ (قُلْنَا): قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سُمِّيَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا، فَقَالَ {: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]. ثُمَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُهُ. (قَالَ): وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاكِنِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْتٍ حَنِثَ فِيهِ، وَإِنْ دَخَلَ، وَمُرَادُهُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَادَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الدُّخُولُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ زِيَارَتَهُ، أَوْ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ بِأَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ إذَا لَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقَّاءَ يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يُقَالُ: دَخَلَ عَلَى الْأَمِيرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ بِأَنْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ، وَالْحَالِفُ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ قَدْ وُجِدَ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِاعْتِبَارِ جَهْلِهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا، وَلَمْ يَنْوِهِ فَدَخَلَ دَارًا هُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ مِنْهَا لَا يَرَاهُ الدَّاخِلُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ، أَرَأَيْت أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا مَنَازِلُ، فَدَخَلَ مَنْزِلًا مِنْهَا، وَفُلَانٌ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ كَانَ يَحْنَثُ، إنَّمَا يَقَعُ الْيَمِينُ فِي هَذَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتًا أَوْ صِفَةً؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ دَارًا، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ دَارِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعُرْفِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى دَارًا؛ لِأَنَّهُ يُشَدِّدُ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا وَهُوَ فِيهِ دَاخِلٌ فَمَكَثَ فِيهِ أَيَّامًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَعْدَ يَمِينِهِ. إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ يُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ فَتَكُونُ لِلِاسْتِدَامَةِ فِيهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: دَخَلَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، إنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ وَمَكَثَ فِيهِ يَوْمًا وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لِأَدْخُلَنَّهُ غَدًا، فَأَقَامَ فِيهِ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ وُجُودُ فِعْلِ الدُّخُولِ فِي غَدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ فَإِذَا نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الدُّخُولَ لِمَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الدُّخُولِ كِنَايَةً عَمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا لِيَقْعُدَ فِيهَا، أَوْ يَعُودَ مَرِيضًا، أَوْ يُطْعِمَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّخُولِ، وَاسْتَثْنَى دُخُولًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَابِرَ سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازًا وَمَارَّ طَرِيقٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. وَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ، وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 دَخَلَهَا مُجْتَازًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَكَثَ فِي الدَّارِ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ نَوَى بِكَلَامِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا لَا يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَابِرُ سَبِيلٍ يَكُونُ مُجْتَازًا فِي مَوْضِعٍ، وَلَا يَكُونُ نَازِلًا فِيهِ، فَجُعِلَ هَذَا مُسْتَثْنًى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مَنْعُ نَفْسِهِ مِمَّا هُوَ ضِدُّهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ لِلنُّزُولِ فَإِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ، وَإِذَا دَخَلَهَا يُرِيدُ أَنْ يُطْعَمَ أَوْ يَقْعُدَ لِحَاجَةٍ، وَلَا يُرِيدُ الْمَقَامَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ دُخُولٌ بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلسُّكْنَى وَالْقَرَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ مَسْجِدًا، وَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ قَالَ: لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا، وَلَمْ يُرِدْ تَغَيُّرَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَغْيِيرَ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الدَّارِ، وَالْبُسْتَانُ وَالْمَسْجِدُ وَالْحَمَّامُ غَيْرُ الدَّارِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الِاسْمُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَارًا صَغِيرَةً فَجَعَلَهَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَأَشْرَعَ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إلَى دَارٍ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَصَارَتْ بَيْتًا، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ غَيْرُ اسْمِ الدَّارِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ اسْمِ الْبَيْتِ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ زَوَالُ اسْمِ الدَّارِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا بِعَيْنِهِ فَهُدِمَ سَقْفُهُ، وَبَقِيَتْ حِيطَانُهُ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ بَيْتٌ، وَإِنْ انْهَدَمَ سَقْفُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] أَيْ سَاقِطَةً سَقْفُهَا؛ وَلِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَمَا بَقِيَتْ الْحِيطَانُ فَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْقَفًا بِخِلَافِ مَا لَوْ انْهَدَمَتْ الْحِيطَانُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ صَحْرَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْبَيْتُوتَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبَيْتِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ، فَاحْتَمَلَهُ إنْسَانٌ فَأَدْخَلَهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُدْخَلٌ لَا دَاخِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَدْخُلُ الدَّارَ، وَفِعْلُ الدُّخُولِ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ بِأَمْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ رَاضٍ بِقَلْبِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ بِهِ، وَإِدْخَالُهُ مُكْرَهًا إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ عَنْهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يُغَيِّرُهُ أَمْرُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ لَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ حُكْمًا إلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، أَمَّا بِتَرْكِ الْمَنْعِ وَالرِّضَا بِالْقَلْبِ فَلَا، وَإِنْ دَخَلَهَا عَلَى دَابَّةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ يُضَافُ إلَى رَاكِبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ ضَامِنٌ لِمَا تَطَأُ دَابَّتُهُ، وَأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهِ مَتَى شَاءَ، فَكَانَ هَذَا وَالدُّخُولُ مَاشِيًا سَوَاءً. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِيهَا فَدَخَلَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا عَلَيْهِ حِذَاءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ عَرْفًا، فَإِذَا نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا، فَإِنَّ الْقَائِمَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ أُخِذَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمَعَهُ الْمَالُ لَمْ يُقْطَعْ، كَمَا لَوْ أُخِذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَيَكُونُ الْحَائِطُ دَاخِلًا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ، فَقَامَ عَلَى السَّطْحِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَامَ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ يَسْتَخِيرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ: بِتُّ اللَّيْلَةَ فِي دَارِي، وَلَوْ قَامَ فِي طَلْقِ بَابِ الدَّارِ، وَالْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ خَارِجًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ دَاخِلًا، فَهَذَا قَدْ دَخَلَهَا فَيَحْنَثُ. وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَامَ فِي مَقَامٍ يَكُونُ الْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا أُغْلِقَتْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْفِصَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا خَارِجًا وَلَا دَاخِلًا، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَعَدَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَعَلَّمَهُ بَعْدَ مَا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ»، وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِوَعْدِهِ. مِنْ أَصْحَابنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ مُسْتَوِيَانِ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَسْفَلَ مِنْ الْخَارِجِ فَبِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ دَاخِلًا؛ لِأَنَّ عَامَّةَ بَدَنِهِ تَمَايَلَ إلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَسْفَلَ مِنْ الدَّاخِلِ فَبِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ خَارِجًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ حَقِيقَةً، فَلَا يَحْنَثُ، وَاعْتِبَارُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَانِثًا، وَالرِّجْلُ الْأُخْرَى تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ حَائِطٍ لَهَا حَتَّى قَامَ عَلَى سَطْحٍ مِنْ سُطُوحِهَا، فَقَدْ دَخَلَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّطْحَ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهَا، وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا مِنْ تِلْكَ الدَّارِ قَدْ شَرَعَ السِّكَّةَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَهَذَا إذَا كَانَ لِذَلِكَ الْبَيْتِ بَابٌ فِي الدَّارِ وَبَابٌ فِي السِّكَّةِ، وَإِنْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، أَوْ دَخَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 كَنِيفًا مِنْهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ حَنِثَ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهِ، فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا كَانَ دَاخِلًا فِي الدَّارِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْخُرُوجِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا تَخْرُجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهَا فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً سَقَطَتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.} [القدر: 5] وَالْيَمِينُ يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ، وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا انْتَهَتْ الْيَمِينُ بِالْإِذْنِ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُشَدِّدًا الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَلَوْ قَالَ: إلَّا بِإِذْنِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ لِكُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى إذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى خُرُوجًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَكُلُّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا مُسْتَأْذِنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] أَيْ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ، وَنَظِيرِهِ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ أَوْ إلَّا بِمَلَاءَةٍ، فَإِذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَوْ بِغَيْرِ مَلَاءَةٍ حَنِثَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: إلَّا أَنْ آذَنَ لَهَا. فَهَذَا بِمَنْزِلَتِهِ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ مَرَّةً لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فِيهِ؛ لِأَنَّ إلَّا أَنْ بِمَعْنَى حَتَّى فِيمَا يَتَوَقَّفُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أَيْ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ: إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُسْتَثْنِي، وَهُنَا لَوْ قَالَ إلَّا خُرُوجًا إنْ آذَنَ لَك كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّوْقِيتِ، وَفِيهِ طَعَنَ الْفَرَّاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتْ إلَى الدَّارِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الْخُرُوجَ مِنْ الْبَيْتِ نَصًّا، وَالْبَيْتُ غَيْرُ الدَّارِ فَبِالْوُصُولِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ صَارَتْ خَارِجَةً مِنْ الْبَيْتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَا الْخُرُوجُ إلَى السِّكَّةِ، وَالْوُصُولُ إلَى مَوْضِعٍ يَرَاهَا النَّاسُ فِيهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا إلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ بَيْتَهُ، فَدَخَلَ دَارِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ سَمَّى الْبَيْتَ نَصًّا، وَالدَّارُ غَيْرُ الْبَيْتِ، فَالدَّاخِلُ فِي الدَّارِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي دُخُولِ دَارِهِ وَلَا يَأْذَنُ فِي دُخُولِ بَيْتِهِ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ، فَخَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِتَسْمِيَةِ الْبَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 فَإِنْ قِيلَ): مَقْصُودُهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْبَابِ وَغَيْرِ الْبَابِ. (قُلْنَا): اعْتِبَارُ مَقْصُودِهِ يَكُونُ مَعَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ قَدْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْبَابِ؛ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْجَارُ الْمُحَاذِي، وَرُبَّمَا يَتَّهِمُهَا بِإِنْسَانٍ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَابِ رَآهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَرَهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى الْبَابِ كَلْبٌ عَقُورٌ، فَكَانَ تَقْيِيدُ الْبَابِ مُفِيدًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى بَابٍ بِعَيْنِهِ، فَخَرَجَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِأَوْلَادِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - {: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ.} [يوسف: 67] وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِمَا هُوَ مُفِيدٌ. وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَأَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ، لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ إذْنٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِعْلُ الْأَذَانِ يَتِمُّ بِهِ كَالرِّضَا، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِرِضَاهُ فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَسْمَعْ فَخَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْإِذْنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، أَوْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْأَذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]. وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، بِخِلَافِ الرِّضَا فَإِنَّهُ بِالْقَلْبِ، يَكُونُ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا تَتَجَاسَرَ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ تَسْمَعْ بِإِذْنِهِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَيْهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ إلَّا فِي كَذَا فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ مَرَّةً، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَ عَنَى لَا تَخْرُجُ هَذِهِ الْمَرَّةَ إلَّا فِي كَذَا، فَخَرَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِذَلِكَ ثُمَّ بَدَا لَهَا فَانْطَلَقَتْ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ تَنْطَلِقْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا بِالصِّفَةِ الْمُسْتَثْنِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَ مِنْهَا الذَّهَابَ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى لَا الْخُرُوجَ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْخُرُوجُ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مَعَ فُلَانٍ مِنْ الْمَنْزِلِ، فَخَرَجَتْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا، ثُمَّ لَحِقَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَ فُلَانٍ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ، فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ لَحِقَهَا فُلَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ عَلَيْهَا بَيْتًا فَدَخَلَ فُلَانٌ أَوَّلًا، ثُمَّ دَخَلَتْ هِيَ فَاجْتَمَعَا فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فُلَانٍ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ دُخُولُ فُلَانٍ عَلَيْهَا، وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَدَخَلَتْ بَيْتًا أَوْ كَنِيفًا فِي عُلُوِّهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا إلَى هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 الْمَوْضِعِ خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الدَّارِ، فَلَا تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ الدَّارِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْأَكْلِ] (قَالَ): وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، أَوْ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا، فَذَاقَ شَرَابًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْهُ حَلْقَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالذَّوْقُ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، فَإِنَّ الْأَكْلَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى جَوْفِهِ بِفِيهِ مَهْشُومًا، أَوْ غَيْرَ مَهْشُومٍ، مَمْضُوغًا أَوْ غَيْرَ مَمْضُوغٍ، مِمَّا يَتَأَتَّى فِيهِ الْهَشْمُ وَالْمَضْغُ، وَالشُّرْبُ أَيْضًا إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى جَوْفِهِ بِفِيهِ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْهَشْمُ وَالْمَضْغُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ، وَالذَّوْقُ مَعْرِفَةُ طَعْمِ الشَّيْءِ بِفِيهِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ عَيْنِهِ فِي حَلْقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ذَاقَ شَيْئًا لَمْ يُفْطِرْهُ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مُفْطِرٌ لَهُ، وَمَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ، فَأَتَى بِمَا هُوَ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَتَى بِمَا هُوَ فَوْقَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَزِيَادَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: لَا أَذُوقُ حَنِثَ لِوُجُودِ الذَّوْقِ حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْهُ حَلْقَهُ، إلَّا إذَا تَمَضْمَضَ بِمَاءٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ التَّطْهِيرُ لَا مَعْرِفَةُ طَعْمِ الْمَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَوْقًا، وَإِنْ عُنِيَ بِالذَّوْقِ الْأَكْلَ فِي الْمَأْكُولِ وَالشُّرْبَ فِي الْمَشْرُوبِ لَمْ يَحْنَثْ، مَا لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ. وَفِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: مَا ذُقْت الْيَوْمَ شَيْئًا، أَيْ مَا أَكَلْت، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَفَرَّقُونَ إلَّا عَنْ ذَوْقٍ، فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيَمِينُهُ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْأَكْلُ، لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَأْكُلْ بِأَنْ قَالَ: تَغَدَّ مَعِي فَحَلَفَ أَنْ لَا يَذُوقَ طَعَامَهُ، فَيَمِينُهُ عَلَى الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فَوْقَ نِيَّتِهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَذَاقَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25]، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ كَذَا وَلَا كَذَا، أَوْ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ حَرْفُ أَوْ بِمَعْنَى وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يَعْنِي وَلَا كَفُورًا، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ بِانْفِرَادِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَر حَرْفَ الْوَاوِ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُعِدْ حَرْفَ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ فِي الْمَعْنَى جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَلَا يَتِمُّ الْحِنْثُ إلَّا بِوُجُودِهِمَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ سَمَكًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 طَرِيًّا أَوْ مَالِحًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْأَيْمَانَ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْدُ هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثُ، وَقَدْ قَالَ {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55]، ثُمَّ مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ نَاقِصٌ فِي السَّمَكِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّمِ وَلَيْسَ فِي السَّمَكِ دَمٌ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ لَا يُسْتَعْمَلُ السَّمَكُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ فِي اتِّخَاذِ الْبَاحَاتِ مِنْهُ، وَبَائِعُ السَّمَكِ لَا يُسَمَّى لَحَّامًا، وَالْعُرْفُ فِي الْيَمِينِ مُعْتَبَرٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى السَّمَكَ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ طَالِقٌ لَا تَدْخُلُ الْمُخْتَلِعَةُ فِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ: وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ أَكَلَ رِئَةً أَوْ كَبِدًا لَمْ يَحْنَثْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ طِحَالًا، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ أَوْ طَيْرٍ مَشْوِيٍّ أَوْ مَطْبُوخٍ أَوْ قَدِيدٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمَأْكُولَ لَحْمٌ مُطْلَقٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْغِذَاءِ تَامٌّ فِيهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حَتَّى لَوْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ إنْسَانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فِيهِ، فَإِنَّ كَمَالَ مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ بِتَوَلُّدِهِ مِنْ الدَّمِ، وَمَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ فِيهَا دَمٌ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الرُّءُوسِ فَإِنَّمَا عَلَى الرَّأْسِ لَحْمٌ لَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهِ سِوَى أَكْلِ اللَّحْمِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى رَأْسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الشِّرَاءِ لَا يَتِمُّ بِهِ بِدُونِ الْبَائِعِ، وَبَائِعُ الرَّأْسِ يُسَمَّى رَآَّسًا لَا لَحَّامًا، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيًا لِلَّحْمِ بِشِرَاءِ الرَّأْسِ، فَأَمَّا الْأَكْلُ يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْمَأْكُولِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الْبُطُونِ كَالْكِرَاشِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ ذَلِكَ مَعَ اللَّحْمِ فَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ عَادَةً، لَا يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: بَلْ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ لِاِتِّخَاذِ الْمَرَقَةِ، وَاللَّحْمُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّمِ وَالْكَبِدِ، وَالطِّحَالُ عَيْنُهُ دَمٌ فَمَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ فَإِنَّهُ لَحْمٌ، إلَّا أَنَّهُ سَمِينٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى سَمِينَ اللَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ اسْمَ اللَّحْمِ، وَيُقَالُ: إنَّهُ شَحْمٌ، وَلَيْسَ بِلَحْمٍ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ فِي اتِّخَاذِ الْبَاحَاتِ وَالْأَلْيَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ بَلْ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ، وَفِيهِ مَقْصُودٌ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تُعْمَلُ فِيهِ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إدَامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَالْإِدَامُ الْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالزُّبْدُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَصْطَبِغُ الْخُبْزُ بِهِ، وَيَخْتَلِطُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 بِهِ فَأَمَّا الْجُبْنُ وَالسَّمَكُ وَالْبَيْضُ وَاللَّحْمُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ إدَامٌ كَالْجُبْنِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ، وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا»، أَيْ يُوَفَّقَ فِيمَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا، فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فَيَكُونُ إدَامًا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيِّدُ إدَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ، وَأَخَذَ لُقْمَةً بِيَمِينِهِ وَتَمْرَةً بِشِمَالِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ»، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا يُوَافِقُ الْخُبْزَ فِي الْأَكْلِ، فَهُوَ إدَامٌ، إلَّا أَنَّا خَصَّصْنَا مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ كَالْبِطِّيخِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْإِدَامَ تَبَعٌ فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدُهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ تَبَعًا، فَأَمَّا الْجُبْنُ وَالْبَيْضُ وَاللَّحْمُ لَا يُؤْكَلُ وَحْدُهُ غَالِبًا فَكَانَ إدَامًا، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: الْإِدَامُ تَبَعٌ وَلَكِنْ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فِيمَا يَخْتَلِطُ بِالْخُبْزِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُحْمَلَ مَعَهُ كَالْخَلِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ»، فَمَا يَصْطَبِغُ بِهِ فَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ يُحْمَلُ مَعَ الْخُبْزِ فَلَا يَكُونُ إدَامًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤْكَلُ مَعَهُ كَالْعِنَبِ، تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْإِدَامَ مَا لَا يَتَأَتَّى أَكْلُهُ وَحْدَهُ كَالْمِلْحِ، فَإِنَّهُ إدَامٌ، وَالْخَلُّ وَاللَّبَنُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ شَرَابًا لَا أَكْلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إدَامٌ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ يَتَأَتَّى الْأَكْلُ فِيهَا وَحْدَهَا، فَلَمْ تَكُنْ إدَامًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ فَتُعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، يَنْوِي طَعَامًا بِعَيْنِهِ، أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، يَنْوِي لَحْمًا بِعَيْنِهِ، فَأَكَلَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطَّعَامَ مُنْكَرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وَإِنْ قَالَ: لَا آكُلُ وَعَنِيَ طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ، لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا، فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ الطَّعَامِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الثَّابِتَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ كَالْمَلْفُوظِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا لَا عُمُومَ لَهُ، فَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ الْفِعْلَ، وَنَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْمَفْعُولِ، أَوْ الْحَالِ أَوْ الصِّفَةِ كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ مَا لَا لَفْظَ لَهُ، أَمَّا نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَفْعُولِ كَمَا بَيَّنَّا، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ، وَهُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَوَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 حَالَ قِيَامِهِ فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ الْقَائِمُ، وَهُوَ يَنْوِي حَالَ قِيَامِهِ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ تَعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْصِيصُ الصِّفَةِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً، وَهُوَ يَنْوِي كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً، فَإِنَّ نِيَّتَهُ لَغْوٌ، وَلَوْ نَوَى عَرَبِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْجِنْسِ، وَذَلِكَ فِي لَفْظِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً مَا لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُطْلِقُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى اللَّحْمِ عَادَةً دُونَ الْفُجْلِ وَالْجَزَرِ الْمَشْوِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّوَّاءَ اسْمٌ لِمَنْ يَبِيعُ اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ، فَمُطْلَقُ لَفْظِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِلْعُرْفِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ مَا يُشْوَى مِنْ بَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا. قَالَ: فَهَذَا عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهَذَا لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ رَأْسَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ رَأْسَ الْجَرَادِ وَالْعُصْفُورِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا، وَهُوَ رَأْسٌ حَقِيقَةً فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْحَقِيقَةَ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ، وَهُوَ الرَّأْسُ الَّذِي يُشْوَى فِي التَّنَانِيرِ، وَيُبَاعُ مَشْوِيًّا، فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا: يَدْخُلُ فِيهِ رَأْسُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى عَادَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الرُّءُوس الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ تَرَكُوا هَذِهِ الْعَادَةَ، فَرَجَعَ وَقَالَ: يَحْنَثُ فِي رَأْسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى شَاهَدَا عَادَةَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا فِي رَأْسِ الْغَنَمِ خَاصَّةً، فَقَالَا: لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ وَبَيَانٍ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا، فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الطَّيْرِ مِنْ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ وَنَحْوُهُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا بَيْضُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ بِيضَ الدُّودِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْضِ، وَيُؤْكَلُ عَادَةً، وَهُوَ كُلُّ بَيْضٍ لَهُ قِشْرٌ كَبَيْضِ الدَّجَاجَةِ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا، فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً مَا لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِي اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَطْبُوخٌ، وَلَكِنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ يَفْحُشُ، فَإِنَّ الْمُسَهَّلَ مِنْ الدَّوَاءِ مَطْبُوخٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْبَخُ فِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ الطَّبِيخَ فِي الْعَادَةِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى مُتَّخِذُ ذَلِكَ طَبَّاخًا، فَأَمَّا مَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ لَا يُسَمَّى طَبَّاخًا. قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ، فَأَمَّا الْمَقْلِيَّةُ الْيَابِسَةُ فَلَا، وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ، إذَا أَكَلَ الْمَرَقَةَ مَعَ الْخُبْزِ يَحْنَثُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ عَيْنَ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ اللَّحْمِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَقَةَ تُسَمَّى طَبِيخًا. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 فَاكِهَةً، فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُطَبًا أَوْ رُمَّانًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ مَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَكُّهِ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ، وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ مَا يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدِي الضِّيفَانِ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ لَا لِلشِّبَعِ، وَالرُّمَّانُ وَالرُّطَبُ مِنْ أَنْفَسِ ذَلِكَ كَالتِّينِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْفَاكِهَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ.} [الرحمن: 68] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، فَتَارَةً عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَتَارَةً عَطَفَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ، وَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ ذِكْرُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ بِلَفْظَيْنِ، ثُمَّ الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّفَكُّهِ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] أَيْ مُتَنَعِّمِينَ، وَذَلِكَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى مَا بِهِ الْقَوَامُ وَالْبَقَاءُ، وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقَوَامُ، وَقَدْ يُجْتَزَى بِهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَالرُّمَّانُ كَذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْفَاكِهَةِ، أَلَا تَرَى أَنْ يَابِسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ مِنْ الْفَوَاكِهِ، فَإِنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ قُوتٌ، وَحَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ التَّوَابِلِ دُونَ الْفَوَاكِهِ، وَمَا يَكُونُ رَطْبُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ فَيَابِسُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ أَيْضًا كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ، وَمَا لَا يَكُونُ يَابِسُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ، فَرَطْبُهُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفَوَاكِهِ كَالْبِطِّيخِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَعَ الْفَوَاكِهِ بَيْنَ يَدَيْ الضِّيفَانِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْفَاكِهَةِ، وَأَمَّا الْقِثَّاءُ وَالْفُولُ وَالْجَزَرُ، لَيْسَ مِنْ الْفَوَاكِهِ، إنَّمَا هِيَ مِنْ الْبُقُولِ وَالتَّوَابِلِ، بَعْضُهَا يُوضَعُ عَلَى الْمَائِدَةِ مَعَ الْبَقْلِ، وَبَعْضُهَا يُجْعَلُ فِي الْقِدْرِ مَعَ التَّوَابِلِ. قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي الْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ اللَّوْزُ وَالْجَوْزُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجْعَلُ الْجَوْزَ الْيَابِسَ مِنْ الْإِدَامِ دُونَ الْفَاكِهَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِهِ عَادَةً، إنَّمَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ كَالْجُبْنِ، أَوْ يُجْعَلُ مَعَ التَّوَابِلِ فِي الْقِدْرِ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: رَطْبُ الْجَوْزِ مِنْ الْفَوَاكِهِ، فَكَذَلِكَ يَابِسُهُ لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا، فَأَكَلَ خُبْزًا أَوْ فَاكِهَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَنِثَ، وَمُرَادُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى طَعَامًا عَادَةً، دُونَ مَا لَهُ طَعْمٌ حَقِيقَةً، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّقَمُونْيَا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَهُ طَعْمٌ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ طَعَامًا، وَيُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَعُّمِ، وَلَوْ حَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ الْيَوْمَ، فَأَكَلَهُ غَيْرُهُ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَحْنَثُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ، فَانْعِقَادُهَا مُوجِبًا لِلْبِرِّ فِي آخِرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 ذَلِكَ الْيَوْمِ، إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وُجُودُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ، حَتَّى إذَا قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ، وَلَا مَاءَ فِيهِ، تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ هُنَا انْعِدَامُ الطَّعَامِ فِي آخِرِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ، لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ، وَتَحَقَّقَ فَوْتُ شَرْطِ الْبِرِّ حَنِثَ فِيهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى انْعِدَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشُّرْبِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ هُنَا لَمَّا انْعَدَمَ الطَّعَامُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكُ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَبْقَ الطَّعَامُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِدُونِ تَوَهُّمِ الْبِرِّ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ فِيهِ وَقْتًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي الْحَالِ لِتَوَهُّمِ الْبِرِّ فِيهَا لِكَوْنِ الطَّعَامِ قَائِمًا فِي الْحَالِ، ثُمَّ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ بِأَكْلِ الْغَيْرِ إيَّاهُ، فَيَحْنَثُ (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَالطَّعَامُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ قَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَهُوَ حَيٌّ، وَالطَّعَامُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِعْلُ الْأَكْلِ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَوْتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، فَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ غَدًا، فَقَضَاهُ الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَمَا جَاءَ الْغَدُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ كَمَا جَاءَ الْغَدُ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، فَإِنَّ عَدَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ عِنْدَهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ آخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ طَعَامٌ، وَقَدْ أَكَلَهُ، فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الطَّعَامِ يُسَمَّى طَعَامًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ، فَسَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى فِي الطَّعَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ هُوَ وَحْدُهُ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، فَإِنَّ شِرَاءَ الطَّعَامِ قَدْ يَكُونُ وَحْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ فُلَانٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لِفُلَانٍ، أَوْ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لِلْكُلِّ، وَبَعْضُ الثَّوْبِ لَيْسَ بِثَوْبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا الثَّوْبُ لِفُلَانٍ، وَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، كَانَ كَذِبًا، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ لِفُلَانٍ وَهُوَ يَعْنِي نِصْفَهُ كَانَ صِدْقًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ شَيْئًا، فَأَكَلَ خُبْزَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَا لَوْ أَكَلَ عَيْنَ الدَّقِيقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الدَّقِيقَ حَقِيقَةً، وَالْعُرْفُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ، فَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْقُطُ بِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ مَأْكُولٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ، وَلَمَّا انْصَرَفَتْ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ لِلْعُرْفِ، يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ كَمَنْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: إنْ نَكَحْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَزَنَى بِهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ لَمْ يَتَنَاوَلْ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ، وَإِنْ كَانَ عَنِيَ أَكْلَ الدَّقِيقِ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا، فَإِنْ نَوَى يَأْكُلُهَا حَبًّا، كَمَا هُوَ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ، فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكِتَابِ: يَمِينُهُ عَلَى مَا يَصْنَعُ مِنْهَا، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا لَوْ أَكَلَ مِنْ عَيْنِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِتَنَاوُلِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنْ أَكَلَ الْحِنْطَةَ فِي الْعَادَةِ هَكَذَا يَكُونُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَكَلْنَا أَجْوَدَ حِنْطَةٍ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُ الْخُبْزَ، وَيُقَالُ: أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ، وَأَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ، وَالْمُرَادُ الْخُبْزُ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: عَيْنُ الْحِنْطَةِ مَأْكُولٌ عَادَةً، فَإِنَّهَا تُقْلَى فَتُؤْكَلُ، وَتُغْلَى فَتُؤْكَلُ، وَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْهَرِيسَةُ، وَمَنْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْلِ عَيْنٍ مَأْكُولَةٍ، يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى أَكْلِ عَيْنِهِ دُونَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لِكَلَامِهِ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً وَمَجَازًا مُتَعَارَفًا، وَلَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعَارٌ، وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَّةً، فَإِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً هُنَا يَتَنَحَّى الْمَجَازُ، وَهُمَا لَا يُنْكِرَانِ هَذَا الْأَصْلَ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ: إذَا أَكَلَ الْحِنْطَةَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي وَضْعِ الْقَدَمِ وَغَيْرِهِ. (قَالَ): وَإِذَا أَكَلَ مِنْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْحِنْطَةِ لُبُّهَا، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِالطَّحْنِ دَقِيقًا، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّوِيقَ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الدَّقِيقِ، وَلِهَذَا جَوَّزَا بَيْعَ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا، فَمَا تَنَاوَلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِنْطَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا فَلَا يَحْنَثُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَمِينُهُ تَنَاوَلَتْ الْحَقِيقَةَ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّوِيقِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّلْعِ شَيْئًا، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ بُسْرًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الطَّلْعَ عَيْنُهُ مَأْكُولٌ، وَمَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَكْلِ مَا تُؤْكَلُ عَيْنُهُ، لَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ، ثُمَّ الْبُسْرُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّلْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْبُسْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 بِالطَّلْعِ يَجُوزُ كَيْف مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ رُطَبًا؛ لِأَنَّ الْبُسْرَ عَيْنُهُ مَأْكُولٌ، وَلِأَنَّ الرُّطَبَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْبُسْرِ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْبُسْرِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِ الرُّطَبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى عَيْنٍ بِوَصْفٍ، يَدْعُو ذَلِكَ الْوَصْفَ إلَى الْيَمِينِ، يَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا صَارَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَنَاوُلِ الرُّطَبِ دُونَ التَّمْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّابِّ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا السَّوِيقِ، فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ غَيْرُ الْأَكْلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {: كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 60]، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَهُ، أَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ، فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَأَكْلُ اللَّبَنِ بِأَنْ يُثْرَدَ فِيهِ الْخُبْزُ، وَشُرْبُهُ أَنْ يَشْرَبَهُ كَمَا هُوَ، وَلَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا يُصْنَعُ مِنْهُ كَالْجُبْنِ وَالْأَقِطِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَأْكُولٌ، وَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذَا الْخَمْرِ، فَذَاقَهُ بَعْدَ مَا صَارَ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا السَّوِيقَ، فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إلَّا حَبَّةً مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ أَكْلٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَكْلُ كُلِّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي حَبَّةً فِي الْإِنَاءِ، وَبَيْنَ لَهَوَاتِهِ وَأَسْنَانِهِ، فَتُحْمَلُ يَمِينُهُ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْبِرُّ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ، فَأَكَلَهَا كُلَّهَا إلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً، كَانَ قَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ أَكْلَ الرُّمَّانَةِ هَكَذَا يَكُونُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَبَّةً، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّةِ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ، وَلَوْ مَصَّ مَاءَهَا وَرَمَى بِالْحَبِّ لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ حَلَفَ عَلَى أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، وَلَكِنَّهُ مَصٌّ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَيَّتُكُمَا أَكَلَتْ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَأَكَلَتَا جَمِيعًا لَمْ تَطْلُقَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيِّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَشَرْطُ الطَّلَاقِ أَكْلُ الْوَاحِدَةِ جَمِيعَ الرُّمَّانَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلَنَّ سَمْنًا، فَأَكَلَ سَوِيقًا، قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ، وَأَوْسَعَ حَتَّى يَسْتَبِينَ فِيهِ طَعْمَهُ، وَيَرَى مَكَانَهُ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ سَمْنٌ يُوجَدُ طَعْمُهُ، وَيَسْتَبِينُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ طَعْمُهُ، وَلَا يُرَى مَكَانُهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 عَلَى أَكْلِ عَيْنِ السَّمْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ عَيْنِهِ عِنْدَ الْأَكْلِ لِيَحْنَثَ وَقِيَامِ عَيْنِ الْمَأْكُولِ بِذَاتِهِ أَوْ طَعْمِهِ، فَإِذَا كَانَ يُرَى مَكَانُهُ، وَيَسْتَبِينُ فِيهِ طَعْمُهُ، فَقَدْ عَلِمْنَا وُجُودَ شَرْطِ حِنْثِهِ، زَادَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يُمْكِنُ عَصْرُ السَّمْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُرَى مَكَانُهُ، وَلَا يَسْتَبِينُ طَعْمُهُ فِيهِ، فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى مَائِعٍ فَاخْتَلَطَ بِمَائِعٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا، فَصَبَّ الْمَاءَ فِي اللَّبَنِ وَشَرِبَهُ، فَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ فِيمَا شَرِبَ لَوْنَ اللَّبَنِ، وَيُوجَدُ طَعْمُهُ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَحْنَثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ الْمَاءِ فِيهِ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ مَغْلُوبٌ مُسْتَهْلَكٌ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَوَّلِ: لَبَنٌ مَغْشُوشٌ، وَلِلثَّانِي مَاءٌ خَالَطَهُ لَبَنٌ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي نَسْخِ الْأَصْلِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يَحْنَثْ فِي الْقِيَاسِ لِلشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَغْلُوبًا بِمَا سِوَاهُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ هُنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكْثُرُ بِجِنْسِهِ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ، فَاخْتَلَطَتْ بِتَمْرٍ فَأَكَلَ ذَلِكَ التَّمْرَ كُلَّهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ تِلْكَ التَّمْرَةَ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ تَمْرَةً تَمْرَةً، وَجَهْلُهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ حِنْثَهُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا، فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ السَّمْنِ، إذَا كَانَ يُرَى مَكَانُهُ فِي السَّوِيقِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَأْكُلُ الْكُلَّ جُمْلَةً، فَمَا يَأْكُلُهُ مِنْ السَّمْنِ مُسْتَهْلَكٌ إذَا كَانَ لَا يُرَى مَكَانُهُ، وَهُنَا إنَّمَا يَأْكُلُ حَبَّةً حَبَّةً، فَإِذَا أَكَلَ حَبَّةَ الشَّعِيرِ وَحْدَهَا، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي الْكُلَّ جُمْلَةً، وَمُشْتَرِي الْحِنْطَةِ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيًا لِلشَّعِيرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَبَّاتُ الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ بَائِعَهَا لَا يُسَمَّى بَائِعَ الشَّعِيرِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، فَإِنْ أَكَلَ شَحْمَ الْبَطْنِ، فَهُوَ حَانِثٌ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا يُخَالِطُهُ شَحْمُ الْبَطْنِ، فَهُوَ حَانِثٌ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا يُخَالِطُهُ شَحْمٌ، يَعْنِي شَحْمَ الظَّهْرِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ شَحْمٌ بِذَاتِهِ، وَيَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الشَّحْمُ، فَكَانَ كَشَحْمِ الْبَطْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.} [الأنعام: 146] وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا لَحْمٌ عِنْدَ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَحْنَثُ بِهَذَا، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: سَمِينُ اللَّحْمِ وَبِالْفَارِسِيَّةِ فربهن، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ يَمِينَهُ لَوْ كَانَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، ثُمَّ سَمِينُ اللَّحْمِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ فِي اتِّخَاذِ الْقَلَايَا وَالْبَاحَاتِ كَاسْتِعْمَالِ الشُّحُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَفِي الْآيَةِ اسْتِثْنَاءُ الْحَوَايَا أَيْضًا، وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُولُ: أَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ يَكُونُ شَحْمًا. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ بَعْضُ الْبُسْرِ، فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا، حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ رُطَبًا، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُذَنِّبُ لَا يُسَمَّى رُطَبًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بُسْرًا حَتَّى يَحْنَثَ بِأَكْلِهِ، لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْبُسْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ رُطَبًا وَبُسْرًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْجَانِبُ الَّذِي أَرْطَبَ مِنْهُ رَطُبَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَيَّزَ ذَلِكَ، وَأَكَلَهُ وَحْدَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْلِ الْبُسْرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ بُسْرٌ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَإِنْ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ الْأَقَلُّ مُسْتَهْلَكًا بِالْأَكْثَرِ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ شَيْئًا، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ دَاعٍ إلَى الْيَمِينِ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْعِنَبِ دُونَ الزَّبِيبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الرُّطَبِ مَعَ التَّمْرِ؛ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ غَيْرُ الْعِنَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عِنَبًا، فَجَعَلَهُ زَبِيبًا انْقَطَعَ حَقُّ صَاحِبِهِ عَنْهُ، وَيَمِينُهُ عَلَى عَيْنٍ مَأْكُولٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جَوْزًا، فَأَكَلَ مِنْهُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ وَالتِّينُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي عُقِدَ بِهِ الْيَمِينُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 الْيُبْسِ لَا يَتَجَدَّدُ لِلْعَيْنِ اسْمٌ آخَرُ بِخِلَافِ الزَّبِيبِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ الْحُلْوِ، فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُلْوِ أَكَلَهُ مِنْ خَبِيصٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ سُكَّرٍ أَوْ نَاطِفٍ حَنِثَ، وَالْحُلْوُ اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ حُلْوٍ، لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ غَيْرُ حُلْوٍ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا أَوْ بِطِّيخًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ حُلْوًا؛ لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهِ حَامِضٌ غَيْرُ حُلْوٍ خُصُوصًا بِأُوزَجَنْدَ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَبِيصًا، فَأَكَلَ مِنْهُ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ خَبِيصٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا. وَإِنْ حَلَفَ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا سَمَّاهُ، فَأُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَهُ حَنِثَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدِمُ الْقَصْدَ، وَلَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ، وَبَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ شَرْطُ حِنْثِهِ الْأَكْلُ، وَذَلِكَ فِعْلٌ مَحْسُوسٌ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ، وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الْأَكْلُ، وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَعْدِمُ فِعْلَ الْأَكْلِ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ لَا بِالْحِنْثِ، وَهُوَ كَانَ صَحِيحًا عِنْدَ الْيَمِينِ، فَيَحْنَثُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنْ أُوجِرَ أَوْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا، وَقَدْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ، بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَكِنْ لَوْ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا سَبَقَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَادِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَلَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ بِهِ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهَا بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا سَمَّاهُ، فَمَضَغَهُ حَتَّى دَخَلَ جَوْفَهُ مِنْ مَاؤُهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ عَيْنُ الطَّعَامِ، وَلَا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ وَالْهَشْمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذَا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا، فَأَكَلَ قَسْبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَسْبَ يَابِسُ الْبُسْرِ، وَلَوْ أَكَلَهُ رَطْبًا لَمْ يَحْنَثْ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهُ يَابِسًا، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ بُسْرًا مَطْبُوخًا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَبًّا، فَأَيُّ حَبٍّ أَكَلَ مِنْ سِمْسِمٍ أَوْ غَيْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَبِّ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي يَمِينِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ كَالسَّوِيقِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ، فَإِنْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى أَكْلِهِ، لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى شُرْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحِلُّ وَاحِدًا، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْفِعْلُ دُونَ الْمَحِلِّ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا، فَأَكَلَ خُبْزَ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ خُبْزٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ غَيْرِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 مُطْلَقًا، وَلَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ عَادَةً فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ، وَإِنْ أَكَلَ خُبْزَ قَطَائِفَ لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى قَطَائِفَ، وَإِنْ نَوَاهُ فَالْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى خُبْزًا مُقَيَّدًا، وَإِنْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ ذَلِكَ طَعَامُهُمْ كَأَهْلِ طَبَرِسْتَانَ فَهُوَ حَانِثٌ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ أَكْلَ خُبْزِ الْأُرْزِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي دِيَارِنَا، وَلَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا، فَأَكَلَ حَيْسًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّمْرُ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْحَيْسَ تَمْرٌ يُنْقَعُ فِي اللَّبَنِ حَتَّى يَنْتَفِخَ فَيُؤْكَلَ. دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَدَعَاهُ إلَى الْغَدَاء فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَغَدَّى، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِكَلَامِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِمَا سَبَقَ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، حَتَّى لَوْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ، فَقَالَ لَهَا: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى تِلْكَ الْخَرْجَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ، فَقَالَ: إنْ تَغَدَّيْت مَعْنَاهُ الْغَدَاءُ الَّذِي دَعَوْتَنِي إلَيْهِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَتَغَدَّى، وَلَا إذَا تَغَدَّى عِنْدَهُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الشَّرَابِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا فَأَيُّ شَرَابٍ شَرِبَهُ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الشُّرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّهُ، وَالْمَاءُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ شَرَابٌ طَهُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا.} [الإنسان: 21] فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ شَرَابٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَإِنْ عَيَّنَ شَرَابًا بِعَيْنِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا، فَأَيُّ نَبِيذٍ شَرِبَهُ حَنِثَ، وَالنَّبِيذُ الزَّبِيبُ أَوْ التَّمْرُ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ، فَتُسْتَخْرَجُ حَلَاوَتُهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ شَرَابًا مَأْخُوذًا مِنْ النَّبْذِ، وَهُوَ الطَّرْحُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.} [آل عمران: 187] فَإِنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَوْ فَضِيخًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيذٍ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيذِ عَادَةً، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا بِالْفَارِسِيَّةِ اسْمُ النَّبِيذِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، وَالْأَيْمَانُ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً، فَشَرِبَ نَبِيذًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 طُبِخَ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَعَ فُلَانٍ شَرَابًا، فَشَرِبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ مِنْهُ مُخْتَلِفًا، فَإِنْ شَرِبَ الْحَالِفُ مِنْ شَرَابٍ، وَالْآخَرُ مِنْ شَرَابٍ غَيْرِهِ، وَقَدْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ مُنَادَمَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا جَمَعَهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرَابُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا، وَالْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ فِيهِ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مَعَ الْغَيْرِ هَكَذَا يَكُونُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِيرَ مَعَ نُدَمَائِهِ يَشْرَبُ، ثُمَّ إنَاؤُهُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ غَيْرُ إنَائِهِمْ، وَرُبَّمَا يَشْرَبُ الصَّرْفَ، وَيَمْزُجُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا حِينَ حَلَفَ فَحِينَئِذٍ قَدْ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الشُّرْبِ مَعَ فُلَانٍ، وَنِيَّتُهُ لِذَلِكَ صَحِيحٌ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، فَأَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِذَا عَنِيَ الْمَاءَ كُلَّهُ وَالطَّعَامَ، لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ اسْمُ جِنْسٍ، فَإِذَا عَنِيَ الْكُلَّ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ كُلَّهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ شَرَابًا، وَهُوَ يَعْنِي لَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ خَاصَّةً، فَأَكَلَهُ أَكْلًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّرَابَ، وَالشَّرَابُ يُشْرَبُ، فَنِيَّةُ الشُّرْبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الذَّوْقِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الشُّرْبِ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْأَكْلِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَكَلَهُ، أَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ دِجْلَةَ، فَغَرَفَ مِنْهَا بِقَدَحٍ وَشَرِبَهُ، لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إلَّا أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى دِجْلَةَ بِعَيْنِهَا فَيَشْرَبَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ دِجْلَةَ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَشْرَبُونَ مِنْ دِجْلَةَ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الِاغْتِرَافِ فِي الْأَوَانِي، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ يَكُونُ بِالْكُرَاعِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، جَاءَ فِي «حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عِنْدَهُمْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا؟» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً، فَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَجَازِ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَرَعَ يَحْنَثُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى بَعْضِ دِجْلَة، وَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَلِهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 مِنْ مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ عِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ، إنَّمَا يَحْنَثُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ. (قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْجُبِّ، فَغَرَفَ مِنْهُ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ مَلْآنًا، فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآنًا، فَحِينَئِذٍ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَرْعَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ، وَإِنْ تَكَلَّفَ لِلْكَرْعِ مِنْ الْبِئْرِ، فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّقِيقِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 [بَابُ الْكِسْوَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَاشْتَرَى كِسَاءَ خَزٍّ أَوْ طَيْلَسَانًا أَوْ فَرْوًا أَوْ قَبَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْبَسُ النَّاسُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ حَقِيقَةٌ لِهَذَا وَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عُرْفًا، وَإِنْ اشْتَرَى مِسْحًا أَوْ بِسَاطًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَادَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَلْبُوسِ بَنِي آدَمَ، وَفِي الْأَيْمَانِ لِلْعَادَةِ عِبْرَةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى قَلَنْسُوَةً لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَوْبٍ فَالثَّوْبُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى خِرْقَةً لَا تَكُونُ أَيْ لَا تَبْلُغُ نِصْفَ ثَوْبٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِنْ اشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَكْثَرِ الثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى ثَوْبًا صَغِيرًا حَنِثَ وَمُرَادُهُ مَا يَكُونُ إزَارًا أَوْ سَرَاوِيلَ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَلَوْ سَمَّى ثَوْبًا بِعَيْنِهِ وَلَبِسَ مِنْهُ طَائِفَةً يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَابِسًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ الرِّدَاءَ وَبَعْضُ جَوَانِبِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَاِتَّخَذَ مِنْهُ جُبَّةً وَحَشَاهَا وَلَبِسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ لُبْسُ الْعَيْنِ وَعَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الثَّوْبِ وَالثَّوْبُ بَاقٍ بَعْدَ مَا اتَّخَذَ مِنْهُ الْجُبَّةَ فَإِنَّ لَابِسَ الْجُبَّةِ يُسَمَّى لَابِسًا لِلثَّوْبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَبَدًا فَجَعَلَ مِنْهُ قَبَاءً فَلَبِسَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الْقَمِيصِ وَلَا يَبْقَى هَذَا الِاسْمُ بَعْدَ مَا جَعَلَهُ قَبَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَ الْقَبَاءِ لَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَمِيصِ؟ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ شَيْئًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْغَزْلِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ غَيْرُ الْغَزْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ كَانَ الثَّوْبُ لَهُ؟ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَلُفُّ الْغَزْلَ عَلَى نَفْسِهِ هَكَذَا، وَلَوْ فَعَلَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا ثَوْبًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْغَزْلِ، وَإِنْ نَوَى الْغَزْلَ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَجَ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَبِسَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 يَعْنِي ثَوْبًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ غَزْلِهَا بَعْضُ الثَّوْبِ، وَيَسْتَوِي إنْ نُسِجَ غَزْلُهُمَا مُخْتَلَطًا أَوْ غَزْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ شِرَاءِ فُلَانٍ وَهَذَا إذَا كَانَ فُلَانٌ ذَلِكَ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ وَالنَّسْجَ بِيَدِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَنْسِجُ لَهُ غِلْمَانُهُ وَأُجَرَاؤُهُ فَهُوَ حَانِثٌ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا نَسَجُوهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَزًّا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيه النَّاسُ الْخَزُّ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ طَرَأَ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا فَلَبِسَ ثَوْبَ خَزٍّ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَإِبْرَيْسَمٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يُنْسَبُ إلَى سَدَاهُ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى لُحْمَتِهِ فَإِنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ دُونَ السَّدَا، أَلَا تَرَى أَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ ثُمَّ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْعَتَّابِيِّ وَالْمُصْمَتِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا؛ لِأَنَّ لُحْمَتَهُ غَزْلٌ؟ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمٌ أَوْ حَرِيرٌ حَنِثَ عِنْدنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ حَرِيرًا كُلَّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ؟ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ اللَّوْنَ وَالْبَرِيقَ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ بَرِيقَ الْإِبْرَيْسَمِ وَلِينَهُ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَزِّ وَلَا مَعْنًى لِلْفَرْقِ سِوَى الْعُرْفِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْخَزِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لُحْمَتُهُ خَزًّا وَلَا يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْحَرِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرِيرًا كُلَّهُ أَوْ يَكُونَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا. (قَالَ) إلَّا أَنْ يَعْنِيَ سَدَا الثَّوْبِ أَوْ لُحْمَتَهُ أَوْ عَلَمَهُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا لَبِسَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قُطْنًا فَلَبِسَ ثَوْبَ قُطْنٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ، وَإِنْ لَبِسَ قَبَاءً لُبِسَ بِقُطْنِ وَلَكِنَّهُ مَحْشُوٌّ بِقُطْنٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ يُنْسَبُ إلَى الظِّهَارَةِ لَا إلَى الْحَشْوِ، وَلَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا لِلْحَشْوِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَبَاءِ الْمَحْشُوِّ فَلَا يَحْنَثُ لِكَوْنِ حَشْوِهِ قُطْنًا إلَّا أَنْ يَعْنِيَهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَبِسَ الْكَتَّانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ كَتَّانٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الثَّوْبَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ كَتَّانًا وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا سَمَّى الْكَتَّانَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ وَهُوَ لُبْسُ الْكَتَّانِ قَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا ثَوْبُ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ فَإِنَّ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ يَسْتَوِيَانِ فِي إضَافَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِمَا فَلَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْخَزِّ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الْإِبْرَيْسَمِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 إلَيْهِ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَيْسَمِ مَعَ الْغَزْلِ فَإِنَّ الْإِبْرَيْسَمَ يَغْلِبُ عَلَى الْغَزْلِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِ حَتَّى يُسَمَّى مُلْحَمًا وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ قُطْنًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ فَجَعَلَهُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بَنَى هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَشْكُلُ عَلَى مَنْ يَتَأَمَّلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَاتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى أَوْ اشْتَمَلَ بِهِ حَنِثَ، وَالْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا فَاتَّزَرَ بِقَمِيصٍ أَوْ ارْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُعْتَبَرٌ وَفِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِوَصْفِهِ، ثُمَّ لُبْسُ الْقَمِيصِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَعَارَفٌ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْقَمِيصَ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى اللُّبْسِ بِالصِّفَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِذَا اتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَبِسْت الْيَوْمَ قَمِيصًا كَانَ صِدْقًا؟ وَأَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ لَبِسَهُ كَانَ حَانِثًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَا لَبِسْت هَذَا الْقَمِيصَ وَقَدْ اتَّزَرَ بِهِ كَانَ كَاذِبًا؟ وَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَمِيصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُمٌّ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ كَالدِّرْعِ وَقَدْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ لِدِرْعِهِ كُمَّيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَمِيصَ وَالدِّرْعَ يُنْسَبُ إلَى الْبَدَنِ فَلَا يَنْعَدِمُ الِاسْمُ بِعَدَمِ الْكُمَّيْنِ، كَالرَّجُلِ يُسَمَّى رَجُلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدَانِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْلَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ حَافِظٌ لَا مُسْتَعْمِلٌ لَابِسٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَمَانَةِ لَمْ يَضْمَنْ؟ وَإِنْ نَوَى نَوْعًا مِنْ الثِّيَابِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثَوْبِ فُلَانٍ شَيْئًا وَهُوَ يَنْوِي مَا عِنْدَهُ فَاشْتَرَى فُلَانٌ ثِيَابًا فَلَبِسَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ وَنَوَى حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ فِي الْحَالِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيُجْعَلُ مَا نَوَى كَالْمَلْفُوظِ بِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمْلِيكِ وَمَا مَلَكَهُ شَيْءٌ فَيَتِمُّ شَرْطُ حِنْثِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَإِنَّ الثَّوْبَ مَا يَكُونُ سَاتِرًا لِبَدَنِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخُفِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَلِهَذَا لَا تَتَأَدَّى بِهِمَا الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَسَاهُ الثَّوْبَ وَإِنَّمَا وَهَبَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا وَإِنْ شَاءَ غَيْرَهُ فَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِثَوْبِ كِسْوَةٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَإِنَّ فِعْلَ رَسُولِهِ كَفِعْلِهِ فَإِنْ نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سِلَاحًا فَتَقَلَّدَ سَيْفًا أَوْ تَنَكَّبَ قَوْسًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى مُتَقَلِّدًا لِلسَّيْفِ أَوْ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ أَوْ مُعَلِّقًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ لَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لَابِسًا لِلسِّلَاحِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ دِرْعًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدِّرْعِ تَنَاوَلَهُمَا حَقِيقَةً وَعَادَةً فَإِنْ عَنِيَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِلُبْسِ مَا عَنِيَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ اللُّبْسِ فِي مَحَلٍّ هُوَ شَيْءٌ وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَفِعْلُ اللُّبْسِ يُوجَدُ فِي كُلِّهَا فَلِهَذَا حَنِثَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْيَمِينِ] (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمُهَا كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ جُزْءٌ مِنْ الزَّمَانِ يَشْتَمِلُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهُ، فَأَوَّلُ اللَّيْلَةِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ الشَّهْرِ يَكُونُ رَأْسَ الشَّهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: الْيَوْمُ رَأْسُ الشَّهْرِ وَإِنَّمَا أَهَلَّ الْبَارِحَةَ، وَعِنْدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ وَذِكْرُهُ فِي الْمَعْنَى وَذِكْرُ الرَّأْسِ سَوَاءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ حَقَّهُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا» وَالْمُرَادُ الْوَقْتُ، وَلِأَنَّ الْإِعْطَاءَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ لَا فِي الصَّلَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَقْتُ. وَإِنْ قَالَ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَهُوَ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهْي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ النَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ. وَإِنْ قَالَ: ضَحْوَةً فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ. وَإِنْ قَالَ: مَسَاءً فَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ. وَإِنْ قَالَ: سَحَرًا فَوَقْتُ السَّحَرِ مِمَّا بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ الَّذِي سَمَّاهُ حَنِثَ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ. وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ كَذَا فَلَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ كُلُّهُ فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى بِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ الْمُؤَقَّتَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ مُوجَبًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكُ فِعْلِ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ بَرَّ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ كَدَفْعِهِ إلَى الطَّالِبِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيَهُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْإِعْطَاءِ وَجَعَلَ لِذَلِكَ غَايَةً وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ فَبِمَوْتِ فُلَانٍ تَفُوتُ الْغَايَةُ وَذَلِكَ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْيَمِينِ مُطْلَقَةً لِإِطْلَاقِهَا وَإِذْنُ فُلَانٍ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ فَبِفَوَاتِهِ يَتَحَقَّقُ اتِّحَادُ شَرْطِ الْحِنْثِ وَلَا يَنْعَدِمُ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الدَّفْعِ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ وَقَدْ فَاتَ إذْنُهُ بِمَوْتِهِ فَيَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْعَقْدُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الدَّفْعِ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا وَهَذَا الْمُطْلَقُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَمِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكَ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفُوتُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِ فُلَانٍ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حِنْثٌ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ حِينَ حَلَفَ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنَّهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَحَلِّهَا فَانْعَقَدَتْ، ثُمَّ شَرْطُ الْبِرِّ فَاتَ مِنْهُ، وَفَوَاتُ شَرْطِ الْبِرِّ يُوجِبُ الْحِنْثَ كَمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ أَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِي الْمُسْتَقْبِلِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَالِفُ قَادِرًا عَلَيْهِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ؟ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَاجِزًا عَنْ إيجَادِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: مَحَلُّ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْحَظْرِ أَوْ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ فَلَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ ثُمَّ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ وَقْتَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 الْيَمِينِ وَلَا تَصَوُّرَ لِهَذَا إذَا كَانَ مَيِّتًا، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إذَا أَحْيَاهُ، وَذَلِكَ مُتَوَهَّمٌ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَمَّا هُوَ شَرْطُ الْبِرِّ ظَاهِرًا، وَعَلَى هَذَا: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى خَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ وَاَللَّهِ تَعَالَى إنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ فَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا. وَوِزَانُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ إنْ لَوْ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْمَيِّتَ فَإِنَّ يَمِينَهُ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِيهِ فِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ مَيِّتًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَوَهَّمُهُ بِجَعْلِهِ كَالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ فَهُوَ آثِمٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَمِينِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِاسْتِعْمَالِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ. وَلَوْ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صُعُودِ السَّمَاءِ يَصْعَدُ وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ لِوُجُودِهِ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ فِي الْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَذَلِكَ كَافٍ لِلْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَلَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ الْمَوْتِ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجْزَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَلَا يُقَالُ: إعَادَةُ الزَّمَانِ الْمَاضِي فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا وَقَدْ فَعَلَهُ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْتُمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلٍ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا كَوْنَ لَهُ وَاَللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ أَعَادَ الزَّمَانَ الْمَاضِيَ لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْحَالِفِ حَتَّى يَفْعَلَهُ وَفِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ لَوْ وَقَّتَ يَمِينَهُ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَمْضِ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّتُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ إذَا كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ كَانَ تَوْقِيتُهُ لَغْوًا فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَهَكَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ حَنِثَ فِي الْحَالِ. وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ طَلُقَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ إتْيَانُ الْبَصْرَةِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ حَنِثَ حَتَّى إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَعْتَدُّ إلَى أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْفَارِّ، فَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِهَا. وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ هِيَ فَمَاتَتْ فَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهَا عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ الْمَوْجُودَ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الْكَلَامِ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ مَمْلُوكٌ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ. وَلَوْ قَالَ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَ أُكَلِّمُهُ حُرٌّ فَهُوَ كَمَا قَالَ، إذَا مَلَكَ مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ. وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَاشْتَرَى رَقِيقًا ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرِينَ عَتَقَ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْتِقْ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا جَزَاءً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ الْجَزَاءَ عِتْقًا مُعَلَّقًا بِالْكَلَامِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ. وَلَوْ تَنَاوَلَ كَلَامُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ لَعَتَقُوا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي عَلَّقَهُ بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إنْ لَمْ يُكَلِّمْ فُلَانًا فَمَاتَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ فَوْتُ الْكَلَامِ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ الْكَلَامُ مَعَ فُلَانٍ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ، فَإِنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُوقِعَ لِلطَّلَاقِ هُوَ الزَّوْجُ وَلَكِنْ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ أَوْ بِعِبَارَتِهَا وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي الطَّلَاقِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعَبَّرٌ عَنْ الْآمِرِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَحِينَئِذٍ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَعَهَا وَقَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَقَصَدَهُ بِيَمِينِهِ قَدْ أَتَى بِهِ. وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِهِ مَوْجُودًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ شَرْعًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَفِي الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ هُنَا: لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مُبَاشِرًا لِلطَّلَاقِ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِيهِ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ وَقَعَ لَهُ دُونَ مَنْ بَاشَرَهُ. فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَلَا يَصِيرُ الْحَالِفُ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ عَاقِدًا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ فَحِينَئِذٍ قَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِالْآمِرِ دُونَ الْعَاقِدِ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُضِيفُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ بِالْقَوْلِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ الْعَاقِدُ لَيْسَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 بِمُعَبَّرٍ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَتِهِ وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ النِّكَاحِ وَهُوَ الشُّهُودُ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؟ فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ بِالْفِعْلِ بِحَالٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُجِيزُ بِالْفِعْلِ عَاقِدًا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا إنَّمَا يَكُونُ رَاضِيًا وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْعَقْدُ دُونَ الرِّضَا. وَإِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً قَبْلَ الْكَلَامِ وَأُخْرَى بَعْدَهُ تَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَ قَبْلَ الْكَلَامِ خَاصَّةً؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ، وَالطَّلَاقُ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الَّتِي تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْكَلَامِ دُونَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ بِنَفْسِ التَّزَوُّجِ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ شَرْطِهِ وَفِيهِ اخْتِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ فَقَالَ: إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُوَقِّتْ وَبَيْنَ مَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ، أَوْ أَخَّرَ وَقَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِنَّمَا تَطْلُقُ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ وَقَّتَ يَمِينَهُ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ لِرَجُلٍ شَيْئًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَبَاعَهُ لِآخَرَ طَلَبَهُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَبِيعُ لِفُلَانٍ أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ، وَمَا بَاعَ لِأَجْلِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا بَاعَهُ لِأَجْلِ مَنْ أَمَرَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا أَبِيعُ ثَوْبًا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَا أَبِيعُ ثَوْبًا هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ وَإِيضَاحُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ هِبَةً فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ فُلَانٌ أَوْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ كَالْبَيْعِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَيْعِ: لَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْهِبَةُ تَبَرُّعٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي جَانِبِ الْمُتَبَرِّعِ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَالْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَإِيجَابٌ يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: وَهَبْت لِفُلَانٍ فَرَدَّ عَلَيَّ هِبَتِي، وَأَهْدَيْت إلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ هَدِيَّتِي وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ هُوَ تَبَرُّعٌ كَالصَّدَقَةِ وَالْقَرْضِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ فُلَانًا شَيْئًا فَأَقْرَضَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ حَنِثَ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: فِي الْقَرْضِ لَا يَحْنَثُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ ضَمَانٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَبْضِهِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُفَرِّقُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا طَلَبَ الْقَرْضَ مِنْ آخَرَ. وَإِنْ لَمْ يُقْرِضْهُ؛ لِأَنَّ السِّينَ فِي قَوْلِهِ اسْتَقْرَضْت لِمَعْنَى السُّؤَالِ فَإِنَّمَا شَرْطُ حِنْثِهِ طَلَبُ الْقَرْضِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ أَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ أَوْ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى دَابَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهَا بِالْعَاقِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا؟ وَإِنَّمَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ، أَوْ لَيَخِيطَنَّ ثَوْبَهُ، أَوْ لَيَبْنِيَنَّ دَارِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ فَإِنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: بَنَى فُلَانٌ دَارًا أَوْ خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بَنَّاءً وَلَا خَيَّاطًا إلَّا أَنْ يَكُونَ عُنِيَ أَنْ يَبْنِيَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ الْمَنْوِيُّ حَقِيقَةً فِعْلِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَحْسُنُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ فَعَلْته وَقَدْ فَعَلَ وَكِيلُهُ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى حُرٍّ لَيَضْرِبَنَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْحُرِّ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلضَّارِبِ حِلُّ الضَّرْبِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ؟ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِضَرْبِهِ مُعْتَبَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّارِبَ يَسْتَفِيدُ بِهِ حِلَّ الضَّرْبِ؟ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ مِنْ ضَرْبِ عَبْدِهِ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْحُرِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ السُّلْطَانَ أَوْ الْقَاضِيَ فَحِينَئِذٍ يَبَرُّ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ عَادَةً. وَضَرْبُ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ: الْأَمِيرُ الْيَوْمَ ضَرَبَ فُلَانًا وَضَرَبَ الْقَاضِي فُلَانًا الْحَدَّ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخِدْمَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمًا قَدْ كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَجَعَلَتْ الْخَادِمُ تَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهَا بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا لِلْخِدْمَةِ فَمَا دَامَ مُسْتَدِيمًا لِلْمِلِكِ فِيهَا فَهُوَ دَلِيلُ اسْتِخْدَامِهَا وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ الْيَمِينِ بِاسْتِخْدَامٍ كَانَ مِنْهُ فَإِذَا جَعَلَتْ تَخْدُمُهُ عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَنْهَهَا فَهُوَ مُسْتَخْدِمٌ لَهَا بِمَا سَبَقَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ نَهَاهَا ثُمَّ خَدَمَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّهْيِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الِاسْتِخْدَامِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 السَّابِقِ وَلِأَنَّ إدَامَةَ الْمِلْكِ دَلِيلُ الِاسْتِخْدَامِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى خَادِمٍ لَا يَمْلِكُهَا أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِانْعِدَامِ الِاسْتِخْدَامِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِيَكُونَ طَالِبًا خِدْمَتَهَا بِاسْتِدَامَةِ ذَلِكَ الْمِلْكِ أَوْ لِيَجْعَلَ الِاسْتِخْدَامَ السَّابِقَ بِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْدُمَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَادِم وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ طَلَبُ الْخِدْمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ بَيْتِهِ فَإِنَّهُ خِدْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَّخِذُ الْخَادِمَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهَا وَضُوءًا أَوْ شَرَابًا، أَوْ أَشَارَ، أَوْ أَوْمَأَ إلَيْهَا بِذَلِكَ فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ ظَاهِرٌ مِمَّنْ تَرَفَّعَ عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ خَدَمَهُ بِالْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِهَا فَأَشَارَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ إنْ أَعَانَتْهُ أَوْ لَمْ تُعِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ طَلَبُ الْإِعَانَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ تَفْعَلَهُ فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى تُعِينَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعَانَةُ دُونَ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ السَّبَبَ وَعُنِيَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ. فَإِذَا حَلَفَ لَا يَخْدُمُهُ خَادِمُ فُلَانٍ فَجَلَسَ عَلَى مَائِدَةٍ مَعَ قَوْمٍ يَطْعَمُونَ، وَذَلِكَ الْخَادِمُ يَقُومُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَدَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَوُجِدَ بِهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْحَالِفِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنَّ جِوَارِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْدُمْنَ الضِّيفَانَ كَاشِفَاتِ الرُّءُوسِ مُضْطَرِبَاتِ الثَّدْيِ. وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَخْدَمَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَادِمِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَالِاسْتِخْدَامُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا وَهُوَ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلِهَذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الرُّكُوبِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ حِمَارًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا أَوْ بَغْلًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ رَكِبَ غَيْرَهَا مِنْ الدَّوَابِّ كَالْبَعِيرِ وَالْفِيلِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً وَعُرْفًا فَإِنَّ الدَّابَّةَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] الْآيَةَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّعْمِيمَ فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ الرُّكُوبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 فَيَتَنَاوَلُ مَا يَرْكَبُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوبَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] وَبِأَنْ كَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَالْبَعِيرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَتَنَاوَلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَامُوسَ يُرْكَبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؟ ثُمَّ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ رَكِبَ دَابَّةَ الْبَقَرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَنِي الْخَيْلَ وَحْدَهُ لَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَرْكَبُ وَعَنِيَ الْخَيْلَ وَحْدَهَا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلُ الرُّكُوبِ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ دُونَ مَا لَا لَفْظَ لَهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْفَرَسُ اسْمُ الْعَرَبِيِّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْلِ فَرَكِبَ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي السَّهْمَ بِالْبِرْذَوْنِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَحُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرُّكُوبِ وَهُوَ مَا رَكِبَهَا بَلْ حُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ كَالْجَمَادَاتِ. وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً عُرْيَانًا أَوْ بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ رَكِبَهَا وَالرُّكُوبُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُعْتَادٌ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً لِفُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ حَانِثًا بِهِ، وَكَوْنُهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ كَكَوْنِهَا فِي يَدِ أَجِيرِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى فُلَانٍ وَهَذِهِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اكْتَسَبَهَا وَعُرْفًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَالُ: دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَشَرْعًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» فَقَدْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النِّسْبَةُ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَبِرَقَبَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ نَوَاهَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا نَوَاهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إضَافَةَ الْمِلْكِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ نَوَاهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ اسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ إضَافَةُ الْمِلْكِ وَاسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى. وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً لِمُكَاتَبِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالثَّوْبُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إضَافَةَ الْمِلْكِ فَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَا بَقِيَ مُكَاتَبًا، وَإِنْ اعْتَبَرَ إضَافَةَ النِّسْبَةِ فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمَوْلَى. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَرَكِبَ سَفِينَةً أَوْ مَحْمَلًا أَوْ دَابَّةً حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَرْكَبَ هُنَا وَكُلُّ هَذَا مَرْكَبٌ وَالْمَرْكَبُ مَا يُرْكَبُ، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ تُسَمَّى السَّفِينَةُ مَرْكَبًا، وَكَذَلِكَ شَرْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41]. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِهَذَا السَّرْجِ فَزَادَ فِيهِ شَيْئًا أَوْ نَقَصَ مِنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ذَلِكَ السَّرْجُ الَّذِي عَيَّنَهُ وَقَدْ رَكِبَ بِهِ وَالنُّقْصَانُ وَالزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ لَا يُبَدِّلُ أَصْلَهُ. وَلَوْ بَدَّلَ السَّرْجَ نَفْسَهُ وَتَرَكَ اللِّبْدَ وَالصُّفَّةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّرْجِ لِلْحَنَا أَصْلٌ وَاللِّبْدُ وَالصُّفَّةُ وَصْفٌ فِيهِ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ الْوَصْفِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى الْيَمِينِ ضِيقُ السَّرْجِ وَسَعَتُهُ وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْحَنَا دُونَ اللِّبْدِ وَالصُّفَّةِ. وَإِذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَالِهِ مَالٌ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى مُفْلِسٍ أَوْ عَلَى مَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً فَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ، وَتَمَوُّلُ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَالْمَالُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ وَهُوَ بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ غَصَبَهُ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ وَأَقَرَّ بِهِ أَوْ جَحَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ أَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ إذَا كَانَ جَاحِدًا لَهُ فَهُوَ تَاوٍ فِي حَقِّ الْحَالِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِاعْتِبَارِهِ؟ وَالتَّاوِي لَا يُمْكِنُ تَمَوُّلُهُ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مَالًا لَهُ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ إنْسَانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عَيْنُ مَالِهِ وَيَدُ مُودَعِهِ كَيَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا مَتَى شَاءَ، وَأَنَّهُ تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهَا مُطْلَقًا؟ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَالْغَاصِبُ مُقِرٌّ بِهِ قِيلَ هُنَا: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، لَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا بِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ يَنْفُذُ فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا كَانَ قَاهِرًا فَالظَّاهِرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا وَفِي الْعُرْفِ إذَا صُودِرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قَدْ افْتَقَرَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَنْ صَادَرَهُ مُقِرًّا وَفِي بَابِ الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ. وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ مَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَجِبُ فِي النُّقُودِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ؟ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ النِّصَابِ هُنَاكَ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا، أَمَّا هُنَا اسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَكَذَلِكَ مَالُ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ كَانَ ذَلِكَ مَالًا حَقِيقَةً وَشَرْعًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَإِنْ نَوَى الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ خَاصَّةً لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ أَوْ حَيَوَانٌ غَيْرُ السَّائِمَةِ لَمْ يَحْنَثْ وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا وَلَا يُعَدُّ صَاحِبُهَا مُتَمَوِّلًا بِهَا وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ لَهُ مَالٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْوَقْتِ فِي الْيَمِينِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ إذَا صَلَّى الْأُولَى فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ وَالْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ فِي لِسَانِ النَّاسِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَقَدْ حَلَفَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ يَدْخُلُ فِي يَمِينِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ فِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي الشَّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي فِيهِ أَقْرَبُ الشُّهُورِ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ، كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ نُجُومًا عِنْدَ انْسِلَاخِ كُلِّ شَهْرٍ فَحَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ النُّجُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ الَّذِي حَلَّ فِيهِ النَّجْمُ فَمَتَى أَعْطَاهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ فَقَدْ بَرَّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْبِرِّ إعْطَاءَ كُلِّ نَجْمٍ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي الشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ مِنْ حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ فَإِذَا أَعْطَاهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي آخِرِهِ فَقَدْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 تَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَالْعَاجِلُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ الشَّهْرُ؛ لِأَنَّ الْآجَالَ فِي الْعَادَةِ تُقَدَّرُ بِالشُّهُورِ، وَأَدْنَى ذَلِكَ شَهْرٌ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا عَاجِلًا، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مَلِيًّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعِيدُ، قَالَ تَعَالَى {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى وَإِلَّا كَانَ عَلَى الشَّهْرِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ وَالْأَجَلَ سَوَاءٌ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْهُ نِصْفُهُ، وَإِنْ مَضَى مِنْهُ نِصْفُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ لِلشَّهْرِ أَوَّلًا وَآخِرًا، فَأَوَّلُهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ، وَالْآخِرُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْآخَرَ. وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ أَنَّ يَمِينَهُ يَتَنَاوَلُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ مَالَهُ عَلَيْهِ حِينًا فَأَعْطَاهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وَالْمُرَادُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَمَا نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينَ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يُدْرَكَ التَّمْرُ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ السَّاعَةَ فَإِنَّهُ إذَا قَصَدَ الْمُمَاطَلَةَ سَاعَةً وَاحِدَةً لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَبَدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالزَّمَانُ فِي هَذَا كَالْحِينِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: لَمْ أَلْقَك مُنْذُ حِينٍ، لَمْ أَلْقَك مُنْذُ زَمَانٍ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ ذِكْرُهُ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مُنَكَّرًا؛ لِأَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَمَّا صَارَ مَعْهُودًا فِي الْحِينِ وَالزَّمَانِ فَالْمُعَرَّفُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ. وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا وَقَالَ: دَهْرًا، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] فَقَدْ جَعَلَ الْحِينَ مِنْ الدَّهْرِ جُزْءًا فَيَبْعُدُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّقْدِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الدَّهْرُ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ دَهْرٍ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ حِينٍ وَفِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 أَلْفَاظِ الْيَمِينِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعُرْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: قَدْ عَلِمْت بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِينَ بَعْضُ الدَّهْرِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي تَقْدِيرِ الدَّهْرِ شَيْئًا نَصًّا وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ وَلَا عَيْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حِينَ لَمْ يَحْضُرْهُ جَوَابٌ ثُمَّ قَالَ: طُوبَى لِابْنِ عُمَرَ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي؟ وَقِيلَ إنَّمَا قَالَ: لَا أَدْرِي؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ لِسَانَهُ عَنْ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقُ الدَّهْرِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ: اسْتَقْرَضْت مِنْ عَبْدِي فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي، وَهُوَ يَسُبُّنِي وَلَا يَدْرِي فَسَبَّ الدَّهْرَ وَيَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا الدَّهْرُ» حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ فَلِهَذِهِ الْآثَارِ الظَّاهِرَةِ حَفِظَ لِسَانَهُ وَقَالَ لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ. وَهُوَ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ خَيْرِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي، فَصَعِدَ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ نَزَلَ وَقَالَ: سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَخَيْرُ أَهْلِهَا مَنْ يَكُونُ أَوَّلَ النَّاسِ دُخُولًا وَآخِرُهُمْ خُرُوجًا» فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَمَالِ لَا مِنْ النُّقْصَانِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ فِيمَا فِيهِ مَعْهُودٌ وَالْمَعْهُودُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الشُّهُورُ وَالسِّنِينُ كُلَّمَا دَارَتْ عَادَتْ، وَفِي الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَلَيْسَ فِي السِّنِينَ مَعْهُودٌ فَيُسْتَغْرَقُ الْعُمْرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْكَثْرَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَأَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ الْعَشَرَةَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى الْعَشَرَةِ مِمَّا سَمَّى. وَإِنْ قَالَ: أَيَّامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ وَأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ قَالَ أَيَّامًا أَوْ قَالَ الْأَيَّامُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثَمَّةَ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ غَدًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِذَا أَعْطَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ بَرَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ لِلنَّهَارِ أَوَّلًا وَآخِرًا كَمَا لِلشَّهْرِ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ مَعَ حِلِّ الْمَالِ أَوْ عِنْدَ حِلِّهِ أَوْ حِينَ يَحِلُّ الْمَالُ أَوْ حَيْثُ يَحِلُّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهَذَا يُعْطِيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِنْ أَخَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَعَ لِلضَّمِّ، وَعِنْدَ لِلْقُرْبِ، وَحِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ السَّاعَةُ عَادَةً فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَجَأَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ قَرَصَهُ أَوْ مَدَّ شَعْرَهُ أَوْ عَضَّهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِعْلٌ مُوجِعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ أَوْ التَّأْدِيبِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُوجِعٌ مُوَصِّلٌ الْأَلَمَ إلَى قَلْبِهِ فَكَانَ ضَرْبًا، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةِ الْقَاصِدُ إلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَيُسَمَّى فِعْلُهُ ضَرْبًا وَمَنْ يُعَايِنُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُسَمِّيه ضَارِبًا عَبْدَهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بَرَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ أَصْلُ الضَّرْبِ دُونَ نِهَايَتِهِ وَالْخَفِيفُ كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَمُطْلَقُ الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ نِهَايَةَ الشَّيْءِ وَإِنْ جَمَعَهَا جَمَاعَةٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِهَا لَمْ يَبَرَّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ضَارِبًا لَهُ بِمَا يَصِلُ إلَى بَدَنِهِ وَالْوَاصِلُ إلَى بَدَنِهِ بَعْضُ السِّيَاطِ حِينَ جَمَعَ الْكُلَّ جَمْعًا فَلِهَذَا لَا يَبَرُّ. وَلَوْ ضَرَبَهُ بِهِ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الشُّعْبَتَانِ بَرَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ شُعْبَةٍ سَوْطٌ وَاقِعٌ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا فَيَصِيرُ بِكُلِّ إيقَاعٍ ضَارِبًا لَهُ سَوْطَيْنِ فَإِذَا ضَرَبَهُ خَمْسِينَ فَقَدْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَهُوَ شَرْطُ بِرِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَصِيرُ مُقِيمًا حَدَّ الزِّنَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ؟ فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْبِشَارَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي بَشَّرَنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ وَاحِدٌ ثُمَّ آخَرُ عَتَقَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَشِيرٌ وَالْآخَرَ مُخْبِرٌ فَإِنَّ الْبَشِيرَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَتَتَغَيَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بَشَرَةُ وَجْهِهِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخْبَرَهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَالْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ بِهِ يَتَعَقَّبُ الْخَبَرَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَوْله تَعَالَى وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ. وَلَوْ بَعَثَ أَحَدَ غِلْمَانِهِ مَعَ رَجُلٍ بِالْبِشَارَةِ فَقَالَ: إنَّ غُلَامَك يُبَشِّرُك بِكَذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَالْبَشِيرُ هُوَ الْمُرْسَلُ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 45] وَإِنَّمَا سَمِعْت مِنْ رُسُلِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ كَانَ بِشَارَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ كِتَابًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ بِالْكِتَابِ كَالْبَيَانِ بِاللِّسَانِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْمُشَافَهَةَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةً مِنْهُ إذَا سَمِعَهُ بِعِبَارَتِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْكَاتِبُ وَالْمُرْسِلُ يَعْتِقُونَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُمْ فَقَدْ يُخْبَرُ الْمَرْءُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ كَمَا يُخْبَرُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ الْمُشَافَهَةَ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِعْلَامَ يَحْصُلُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالْأَخْبَارِ فَأَمَّا الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ إيقَاعُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا يَقُولُ أَعْلَمَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ؟ وَإِذَا قَالَ: أَيُّ غِلْمَانِي حَدَّثَنِي فَهُوَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كَلَّمَنِي، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِكَذَا بِكِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَلَا نَقُولُ: حَدَّثَنَا اللَّهُ وَلَا كَلَّمَنَا اللَّهُ؟ وَإِنْ حَلَفَ إنْ عَلِمَ بِمَكَانِ فُلَانٍ لَيُخْبِرَنَّكَ بِهِ ثُمَّ عَلِمَا جَمِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهُ لِيَبَرَّ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبَرُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَيُعْلِمَنَّكَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُمَا إذَا عَلِمَا جَمِيعًا بِهِ فَمَا هُوَ شَرْطُ بِرِّهِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ فَائِتٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَفَعَلَهُ لَيْلًا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا} [الأنفال: 16] وَالرَّجُلُ يَقُولُ: أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ وَيُذْكَرُ، وَالْمُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ فَقُلْنَا: إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَإِذَا قُرِنَ بِهِ مَا لَا يَمْتَدُّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ وَإِنَّمَا قَرَنَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ هُنَا فِعْلًا لَا يَمْتَدُّ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ. وَإِنْ قَالَ: لَيْلَةَ أَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ ضِدُّ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] وَكَمَا أَنَّ النَّهَارَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الضِّيَاءِ فَاللَّيْلُ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيتُ فِي مَكَانِ كَذَا فَأَقَامَ فِيهِ وَلَمْ يَنَمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ هُوَ الْمُكْثُ وَالْقَرَارُ بِاللَّيْلِ فِي مَكَان وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الْمَرْءُ فِيهِ بِاللَّيْلِ مَبِيتًا، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ فَيَحْنَثُ نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، إلَّا أَنْ يَعْنِيَ النَّوْمَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِهِ وَالْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ يَشْهَدُ لَهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهِ. وَإِذَا سُئِلَ أَيْنَ بَاتَ قَالَ: فِي مَنْزِلِي، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ وَالْأَقَلُّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ، فَإِذَا أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ جَمِيعَ اللَّيْلِ فَيَحْنَثُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 وَإِنْ حَلَفَ لَا يُظِلُّهُ ظِلُّ بَيْتٍ فَدَخَلَ بَيْتًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي عُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُظِلُّهُ ظِلُّ الْبَيْتِ إذَا دَخَلَ تَحْتَ سَقْفِهِ، وَإِنْ أَقَامَ فِي ظِلِّهِ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْوِيهِ بَيْتٌ فَآوَاهُ بَيْتٌ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ وَالْبَيْتُوتَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، إلَّا أَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي اللَّيْلِ خَاصَّةً، يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَ لَيْلًا، وَظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، فَأَمَّا الْإِيوَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، ثُمَّ الْبَيْتُوتَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ الْإِيوَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا دَخَلَ سَاعَةً حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ بِالْحُصُولِ فِي مَكَان، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} [هود: 43] أَيْ أَلْتَجِئُ إلَيْهِ فَأَكُونُ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَيْ: لَا أَجْتَمِعُ مَعَك، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا آوَاهُ الْحِرْزُ فَفِيهِ الْقَطْعُ» فَإِذَا أَوَاهُ الْحِرْزُ أَيْ: حَصَلَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ سَاعَة فَقَدْ وُجِدَ الْإِيوَاءُ فَيَحْنَثُ. وَلَوْ أَدْخَلَ إحْدَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي الْبَيْتِ بِإِدْخَالِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ جَسَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَمْ يُدْخِلْ رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَ الْقَائِمِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَالْجَسَدُ تَبَعٌ لِلرِّجْلَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُدْخِلْهُمَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْبَيْتِ فَلَا يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَفَالَةِ] (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ بِكَفَالَةٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ بِدَرَكٍ فِي بَيْعٍ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ مِنْ تَسْلِيمِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُسَمَّى بِهِ فِي النَّاسِ كَفِيلًا، وَالْمُتَحَرِّزُ مِنْ الْكَفَالَةِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ، وَالضَّمَانُ وَالْقَبَالَةُ قِيَاسُ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ إنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ صِلَةَ عَنْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ فَأَمَّا الصِّلَةُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ الْبَاءُ يُقَالُ: كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَكَفَلَ عَنْ فُلَانٍ بِكَذَا مِنْ الْمَالِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَاشْتَرَى لَهُ بِأَمْرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 الْغَيْرِ وَالثَّمَنُ بِالشِّرَاءِ هُنَا فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ كَفِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ بَلْ يَكُونُ هُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْهُ وَحَبَسَ الْمَبِيعَ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ. وَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ عَنْ الْآمِرِ شَيْئًا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَكِنْ بِمَسْأَلَةِ الْآمِرِ فَكَانَ كَفِيلًا عَنْ الْمَطْلُوبِ دُونَ الْآمِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْرَأُ بِبَرَاءَةِ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ؟ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِسُؤَالِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى فُلَانٍ وَبِهِ كَفِيلٍ فَأَمَرَ فُلَانٌ الْحَالِفَ فَكَفَلَ بِهَا عَنْ كَفِيلِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ غَيْرُ الْأَصِيلِ وَهُوَ إنَّمَا كَفَلَ عَنْ الْكَفِيلِ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ الثَّانِي، وَإِنْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ لَهُ فَكَفَلَ لِغَيْرِهِ وَالدَّرَاهِمُ أَصْلُهَا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ مُطَالَبَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ دُونَ مَنْ يَمْلِكُ أَصْلَ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِلْمَوْلَى إنَّمَا الْتَزَمَهَا لِلْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى، وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِ الْحَالِفِ فِي بِرِّهِ وَحِنْثِهِ. وَإِنْ كَفَلَ لِفُلَانٍ وَأَصْلُ الدَّرَاهِمِ لِغَيْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِفُلَانٍ وَمَتَى كَانَ وُجُوبُ الْمَالِ بِعَقْدِهِ فَفِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ كَانَ الْوَاجِبُ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ فَضَمِنَ عَنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَالْهِبَةِ مَعَ التَّخَلِّي وَالْعُمْرَى، وَإِنْ كَانَ عَنِيَ اسْمَ الْكَفَالَةِ أَنْ لَا يَكْفُلَ وَلَكِنْ يَضْمَنُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الْفَصْلَ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ فُلَانٍ وَأَحَالَ فُلَانٌ عَلَيْهِ بِمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ هُنَا إنَّمَا وَكَّلَ فُلَانٌ الْمُحْتَالُ لَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْحَالِفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَفَالَةً عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَهُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ لِلْمُحْتَالِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ مَالٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ مَالٌ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَالِالْتِزَامُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ أَبْلُغُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَإِذَا كَانَ يَحْنَثُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُلْتَزِمِ إنَّمَا الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالْكَفَالَةُ لَا تُوجِبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 [بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ] (قَالَ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ثُمَّ صَلَّى لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُتَكَلِّمٌ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَيْسَ إلَّا تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَتَصْحِيحُ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَانِثًا؟ فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ: فُلَانٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: حُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْأَذْكَارُ، وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَكَانَ كَلَامًا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَوْ تَكَلَّمَ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَنَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَلِّمًا فُلَانًا بِإِيقَاعِ صَوْتِهِ فِي أُذُنِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَقَدْ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي إذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ عَنْهُ وَاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِهِ فَيَحْنَثُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى هَاذِيًا وَالثَّانِيَ يُسَمَّى مُنَادِيًا لَهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقَظَهُ حَنِثَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ بِنِدَائِهِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي أُذُنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِمَانِعٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَلَا يَكُونُ حَانِثًا، وَإِذَا انْتَبَهَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ صَوْتَهُ فَيَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ، بَيَانُهُ فِيمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ حَيًّا ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ. وَإِنْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ فِيهِمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَوْمُ دُونَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ إذَا قَصَدَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُخَاطِبٌ لَهُمْ. وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ: كَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ أَتَانَا كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْمَى أَوْ أَشَارَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ كَلَامًا وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَأَلَنِي هَارُونُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ فَقُلْت: نَعَمْ إذَا كَانَ مِثْلُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ عَادَةً إنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا لِفُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ: سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ هَذَا وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ نَدِمَ وَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَذَكَرَ هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنُ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اللَّفْظَ مُرَاعًى وَلَفْظُهُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ لِيَفْهَمَ لَا يَكُونُ قِرَاءَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَإِنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ مَوْلَاك وَلَهُ مَوْلَيَانِ أَعْلَى وَأَسْفَلُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِأَيِّهِمَا كَلَّمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ جَدَّك وَلَهُ جَدَّانِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْمٌ مُشْتَرَكٌ وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّعْمِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ ثُمَّ فَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُفَارَقَةِ وَهُوَ مَا فَارَقَ غَرِيمَهُ إنَّمَا الْغَرِيمُ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَابَرَهُ حَتَّى انْفَلَتَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ. (قَالَ): وَلَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحَالَ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ وَأَبْرَأَهُ الطَّالِبُ مِنْهُ ثُمَّ فَارَقَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ غَايَةً وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَالِهِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ حِينَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَوَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوْتَ الْغَايَةِ عِنْدَهُمَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ لَا إلَى حِنْثٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى يَأْذَنَ لِي فُلَانٌ فَإِنْ نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الطَّالِبُ إلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 الْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِالتَّوَى وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَسُقُوطُ الْيَمِينِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلِهَذَا لَا يَعُودُ الْيَمِينُ بِانْفِسَاخِ الْحَوَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِالْمَالِ وَلَكِنَّهُ قَضَاهُ وَفَارَقَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْفِضَّةُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ بِالْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ؟ فَتَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالرَّدِّ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ حُكْمُ الْبِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ النُّحَاسُ كَالسَّتُّوقَةِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِالْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَهُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ؟ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ حُصُولِ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْطُ الْبِرِّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ. وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ حَقَّهُ عَنْ قَرِيبٍ فَهُوَ وَقَوْلُهُ عَاجِلًا سَوَاءٌ، وَإِنْ نَوَى وَقْتًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَرِيبٌ عَاجِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْبِسَ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ سَاعَةَ حَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّأْخِيرِ فَإِنْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ بَعْدَ الْحَلِفِ لَمْ يَكُنْ حَابِسًا، وَإِنْ أَخَّرَهُ كَانَ حَابِسًا وَلَكِنَّ الْحَبْسَ قَدْ يَطُولُ وَيَقْصُرُ فَإِنْ حَاسَبَهُ فَأَعْطَاهُ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ عِنْدَهُ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ الطَّالِبُ ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ فَقَالَ: بَقِيَ لِي عِنْدَك كَذَا مِنْ قَبْلِ كَذَا فَذَكَرَ الْمَطْلُوبَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ نَسِيَا ذَلِكَ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَعْطَاهُ سَاعَتَئِذٍ، أَوْ قَالَ لَهُ: خُذْهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُمَا وَبَعْدَ التَّذَكُّرِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ أَعْطَاهُ بِالْمُنَاوَلَةِ أَوْ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَقَعَدَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يُبَاشِرُ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَفِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ فُلَانٌ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ وَفُلَانٌ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ. وَإِنْ قَعَدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلِبَاسُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي النَّاسِ قَاعِدًا عَلَى الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبِعَ اللَّابِسَ فَلَا يَصِيرُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ لِكَيْ لَا تَضُرَّ بِهِ وَهَذَا يُوجَدُ، وَإِنْ كَانَ ذَيْلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلَا يُوجَدُ إذَا جَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الْأَرْضِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 وَإِنْ مَشْي عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَاشٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوْ مَشْي عَلَى ظَهْرِ إجَارٍ حَافِيًا أَوْ بِنَعْلَيْنِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ ظَهْر الْإِجَارِ يُسَمَّى أَرْضًا عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ يَقُولُ لَهُ غَيْرُهُ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الْفُرَاتِ فَمَرَّ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ دَخَلَ سَفِينَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ دَخَلَ الْمَاءَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فِي الْعُرْفِ دُخُولُ الْفُرَاتِ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَاءِ، وَالْجِسْرُ وَالسَّفِينَةُ مَا اُتُّخِذَ لِلْعَاجِزِينَ عَنْ الشُّرُوعِ فِي الْفُرَاتِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَاصِلَ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ السَّفِينَةِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْفُرَاتِ عُرْفًا وَفِي النَّوَادِرِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ فِي الدِّجْلَةِ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ فَجَاءَ مِنْ الْمَوْصِلِ فِي السَّفِينَةِ فِي دِجْلَةَ حَتَّى دَخَلَ بَغْدَادَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ الْمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ بَغْدَادَ فَيَكُونُ حَانِثًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مُرَادُ الْحَالِفِ دُخُولُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَطَّنُ فِيهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ فَإِنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُطْلَقًا لَهُ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ، وَالْمُتَيَقَّنُ ذَلِكَ الْيَوْمُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقِينَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ. (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا (قُلْنَا) وَهُنَا لَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُلْ يَوْمًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ السَّاعَةُ، وَالْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ أَوْ إلَى الْحَصَادِ فَقَدِمَ أَوَّلُ قَادِمٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ وَقْتُ الْقُدُومِ وَوَقْتُ الْحَصَادِ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِدُخُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى الْغَدِ فَكَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ فَأَمَّ بَعْضَهُمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْمُ جِنْسٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى الشِّتَاءَ فَجَاءَ أَوَّلُ الشِّتَاءِ سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ الصَّيْفُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْتَعِيرُ مِنْ فُلَانٍ فَاسْتَعَارَ مِنْهُ حَائِطًا يَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ طَلَبُ الْعَارِيَّةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمَا اسْتَعَارَ مِنْ حَائِطِهِ لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ بَيْتًا أَوْ دَارًا أَوْ دَابَّةً، وَلَوْ سَارَ إلَيْهِ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَاسْتَقَى مِنْ بِئْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُسْتَعِيرًا شَيْئًا فَإِنَّ مَوْضِعَ جُلُوسِ الضَّيْفِ وَمَا جَلَسَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُضِيفِ وَمَنْ اسْتَقَى مِنْ بِئْرٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الرَّشَا فَلَا يَكُونُ مُسْتَعِيرًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَلَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّك إذًا لَا تَعْرِفُهُ» إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَإِنْ عَنِيَ ذَلِكَ فَقَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِمَا نَوَى، وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ اسْمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ بِأَنْ وُلِدَ مِنْ رَجُلٍ فَرَأَى الْوَلَدُ جَارَهُ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ بَعْدُ فَحَلَفَ الْجَارُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْوَلَدَ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُ نَسَبَهُ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِيَشْتَرِطَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَكَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ] (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ أَيْ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَلَا تَكُونُ طَالِقًا، وَإِنَّمَا لَا تَكُونُ طَالِقًا عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ إذَا كَانَ الْوُقُوعُ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُدُومِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ، فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَشَرْطُ الْوُقُوعِ قَدْ انْعَدَمَ وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ فَقَدْ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْوُقُوعِ الْآنَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَإِنَّهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا قَبْلَ الْقُدُومِ طَلُقَتْ، وَإِنْ سَبَقَ الْقُدُومُ لَمْ تَطْلُقْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا يَمِينٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْيَمِينُ قَابِلَةٌ لِلتَّوْقِيتِ، فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ تَوْقِيتٌ - لِيَمِينِهِ بِمَعْنَى حَتَّى وَإِذَا كَلَّمَتْ قَبْلَ الْقُدُومِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَطْلُقُ. وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ بِوُجُودِ غَايَتِهَا، وَإِذَا كَلَّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَلَا يَمِينَ، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ بِمَعْنَى حَتَّى كَانَ لَغْوًا وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ فَجَعَلْنَا قَوْلَهُ " إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ " بِمَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَرَى فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا إلَيْهِ عَلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي يُعْلَمُ فِيهِ فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ لَمْ يَرَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: إنْ رَأَى فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ كَأَنْ يَتَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ يَرَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِفُلَانٍ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ. وَلَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ إلَّا أَنْ أَشَاءَ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي فَهُوَ إلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى تَمْلِيكِ الْأَمْرِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِأَمْرِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّرْطِ، وَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتَحَقَّقُ، وَالْحَالُ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي حَقِّهِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ أَحَبَّ أَوْ رَضِيَ أَوْ هَوِيَ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ بِهِ. وَلَوْ أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ عَلَى الْأَبَدِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يُجْعَلُ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَمْلِيكًا فَيَبْقَى حَقِيقَةُ الشَّرْطِ مُعْتَبَرًا وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَشَأْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَشَاءُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ مَشِيئَةِ طَلَاقِهَا فِي عُمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: إنْ أَبَيْت طَلَاقَك أَوْ كَرِهْت طَلَاقَك ثُمَّ قَالَ: لَسْت أَشَاءُ طَلَاقَك وَقَدْ أَبَيْته طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ هُنَا وُجُودَ فِعْلٍ هُوَ إبَاءٌ مِنْهُ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا أَشَاءُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: أَبَيْت، وَفِي الْأَوَّلِ جَعَلَ الشَّرْطَ عَدَمَ الْمَشِيئَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ سَكَتُّ عَنْ مَشِيئَةِ طَلَاقِك حَتَّى أَمُوتَ فَلَا يَصِيرُ الشَّرْطُ مَوْجُودًا بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ ذَلِكَ، فَقَالَ فُلَانٌ: لَا أَشَاءُ طَلُقَتْ لَا بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ وَلَكِنْ بِخُرُوجِ الْمَشِيئَةِ عَنْ يَدِهِ، فَقَوْلُهُ لَا أَشَاءُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَقَّتَ كَلَامَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ فَقَالَ إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ الْيَوْمَ فَقَالَ فُلَانٌ لَا أَشَاءُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّتُ بِالْيَوْمِ دُونَ الْمَجْلِسِ وَبِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ لَا تَنْعَدِمُ الْمَشِيئَةُ مِنْهُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَنَفْسَجٍ حَنِثَ عِنْدَنَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 وَلَمْ يَحْنَث عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ وَمَا اشْتَرَى غَيْرَ الْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى الدُّهْنِ رَائِحَةُ الْبَنَفْسَجِ لَا عَيْنَهُ وَلَكِنَّا نَعْتَبِرُ الْعُرْفَ فَإِنَّهُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْبَنَفْسَجِ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الدُّهْنُ وَيُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ فَيَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهِ مُشْتَرِيًا لِلْبَنَفْسَجِ أَيْضًا وَلَوْ اشْتَرَى وَرَقَ الْبَنَفْسَجِ لَمْ يَحْنَثْ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ أَيْضًا، وَهَذَا شَيْءٌ يَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَائِعُ الْوَرَقِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَائِعَ الدُّهْنِ فَبَنَى الْجَوَابَ فِي الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ شَاهَدَ الْكَرْخِيُّ عُرْفَ أَهْلِ بَغْدَادَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بَائِعَ الْوَرَقِ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ أَيْضًا، فَقَالَ: يَحْنَثُ بِهِ، وَهَكَذَا فِي دِيَارِنَا، وَلَا يَقُولُ: اللَّفْظُ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مَجَازٌ وَلَكِنْ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ أَوْ يَحْنَثُ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَالْخَيْرِيُّ كَالْبَنَفْسَجِ فَأَمَّا الْحِنَّا وَالْوَرْدُ فَقَالَ: إنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْوَرْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ. وَإِنْ اشْتَرَى دُهْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُ بَنَى الِاسْتِحْسَانَ عَلَى الْعُرْفِ وَأَنَّ الْوَرْدَ وَالْحِنَّا تُسَمَّى بِهِ الْعَيْنُ دُونَ الدُّهْنِ، وَالْبَنَفْسَجُ وَالْخَيْرِيُّ يُسَمَّى بِهِمَا مُطْلَقًا وَالْيَاسَمِينُ قِيَاسُ الْوَرْدِ يُسَمَّى بِهِ الْعَيْنُ فَإِنَّ الدُّهْنَ يُسَمَّى بِهِ زَنْبَقًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بِزْرًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بِزْرٍ حَنِثَ وَإِنْ اشْتَرَى الْحَبَّ لَمْ يَحْنَثْ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دُهْنًا فَهَذَا عَلَى الدُّهْنِ الَّذِي يَدَّهِنُ بِهِ النَّاسُ عَادَةً حَتَّى لَوْ اشْتَرَى زَيْتًا أَوْ بِزْرًا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدَّهِنُ فَادَّهَنَ بِزَيْتٍ حَنِثَ وَلَوْ ادَّهَنَ بِسَمْنٍ أَوْ بِزْرٍ لَمْ يَحْنَثْ وَالزَّيْتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلْقَى فِيهِ الْأَرَايِحُ وَيُطْبَخُ ثُمَّ يُدْهَنُ بِهِ يَكُونُ دُهْنًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُدْهَنُ بِهِ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ دُهْنًا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الِادِّهَانِ يَحْنَثُ بِهِ، وَأَمَّا السَّمْنُ وَالْبِزْرُ لَا يُدْهَنُ بِهِمَا فِي الْعَادَةِ بِحَالٍ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَزًّا فَاشْتَرَى فَرْوًا أَوْ مِسْحًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الطَّيَالِسَةُ وَالْأَكْيِسَةُ؛ لِأَنَّ بَائِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى بَزَّازًا وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقِ الْبَزَّازِينَ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْبَزَّ بِشِرَائِهَا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا فَاشْتَرَى تَمْرًا أَوْ فَاكِهَةً حَنِثَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِمَا يَطْعَمُهُ النَّاسُ، وَالْفَاكِهَةُ وَالتَّمْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْأَكْلِ حَنِثَ بِهِمَا؟ فَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالْخُبْزِ وَالدَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالشِّرَاءُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِالْبَائِعِ، وَمَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الطَّعَامِ أَوْ يُبَاعُ فِي سُوقِ الطَّعَامِ يَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهِ مُشْتَرِيًا لِلطَّعَامِ، وَبَائِعُ الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ لَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهَا مُشْتَرِيًا لِلطَّعَامِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِالْآكِلِ وَحْدَهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي سِلَاحًا فَاشْتَرَى حَدِيدًا غَيْرَ مَعْمُولٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى حَدَّادًا وَكَذَلِكَ يُبَاعُ فِي سُوقِ الْحَدَّادِينَ وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقِ الْأَسْلِحَةِ. وَإِنْ اشْتَرَى سِكِّينًا لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى سَكَّانًا، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى سَيْفًا أَوْ دِرْعًا أَوْ قَوْسًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ سِلَاحٌ يُبَاعُ فِي سُوقِ السِّلَاحِ وَبَائِعُهُ يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ فَيَصِيرُ هُوَ مُشْتَرِيًا السِّلَاحَ بِشِرَائِهِ. (قَالَ) وَإِذَا سَأَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: أَكَانَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَسِعَهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ صَادِقًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَوَابِهِ نَعَمْ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ كَالْمُعَادِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ صَكًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ أَشْهَدُ عَلَيْك بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: نَعَمْ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ طِيبًا فَدَهَنَ بِهِ لِحْيَتَهُ فَوَجَدَ رِيحَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ مِنْهُ يُسَمَّى شَمَّ الطِّيبِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا وَصَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ إلَى دِمَاغِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَرَّ عَلَى سُوقِ الْعَطَّارِينَ فَدَخَلَ رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي أَنْفِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَوْ ادَّهَنَ قَبْلَ إحْرَامِهِ ثُمَّ وَجَدَ رِيحَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؟ وَهُوَ مَمْنُوعُ مِنْ شَمِّ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ الدُّهْنُ بِطِيبٍ إذَا لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ طِيبٌ إنَّمَا الطِّيبُ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ وَنَحْوُهُمَا؛ لِأَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَلَيْسَ لِلدُّهْنِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الدُّهْنُ لِتَلْيِينِ الْجِلْدِ وَدَفْعِ الْيُبُوسَةِ لَا لِلطِّيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَيِّبًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ دُهْنًا أَوْ لَا يَدَّهِنُ فَالزَّيْتُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَالشِّرَاءِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ آسًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الرَّيَاحِينِ حَنِثَ، وَإِنْ شَمَّ الْيَاسَمِينَ أَوْ الْوَرْدَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْجَارِ، وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَيْسَ لَهُ شَجَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] قَدْ جَعَلَ الرَّيْحَانَ غَيْرَ الشَّجَرِ عَرَفْنَا أَنَّ مَا لَهُ شَجَرٌ فَلَيْسَ بِرَيْحَانٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الرَّيْحَانِ عَلَى الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ بِزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ، وَقِيلَ: الرَّيْحَانُ مَا يَكُونُ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَشَجَرُ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ إنَّمَا الرَّائِحَةُ لِلْوَرْدِ خَاصَّةً فَلَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّيَاحِينِ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ أَنْ لَا تَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَتْ خَاتَمَ الْفِضَّةِ لَمْ تَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحُلِيِّ وَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَصُوغًا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ الرِّجَالِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ مِمَّا لَهُ فُصُوصٌ فَهُوَ مِنْ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ، وَالسِّوَارُ وَالْخَلْخَالُ وَالْقِلَادَةُ وَالْقُرْطُ مِنْ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا حَتَّى يَخْتَصَّ بِلُبْسِهَا مَنْ يَلْبَسُ الْحُلِيِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى وَعَدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] فَأَمَّا اللُّؤْلُؤُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ حُلِيًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَصَّعًا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ حُلِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] وَلِقَوْلِهِ {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ، فَالْمَرْأَةُ قَدْ تَلْبَسُ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ لِلتَّحَلِّي بِهَا وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَاهَدَ الْعُرْفَ فِي عَصْرِهِ وَأَنَّهُمْ يَتَحَلَّوْنَ بِاللُّؤْلُؤِ مُرَصَّعًا بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَلَا يَتَحَلَّوْنَ بِاللُّؤْلُؤِ وَحْدَهُ فَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تُبْنَى مَسَائِلُ الْأَيْمَانِ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمَا أَظْهَرُ وَأَقْرَبُ إلَى عُرْفِ دِيَارِنَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْطَعُ بِهَذَا السِّكِّينِ فَكَسَرَهُ فَجَعَلَ مِنْهُ سِكِّينًا آخَرَ ثُمَّ قَطَعَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَسَرَهُ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ الَّذِي عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الدَّارِ إذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ حَنِثَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ وَالْفَسَادُ وَالْجَوَازُ صِفَةٌ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْعَقْدِ بِانْعِدَامِهَا كَالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ: مَا تَزَوَّجْت كَانَ عَلَى الْفَاسِدِ وَالْجَائِزِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَيْف وَقَدْ نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ شُهُودٍ حَيْثُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ وَهُوَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ إذَا تَأَكَّدَ بِالْقَبْضِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ تَدَبَّرَ الْكَلَامَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي مِنْ النِّكَاحِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْحِلَّ وَالْعِفَّةَ وَإِنَّمَا يَمِينُهُ فِي الْمَاضِي عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ يَتَحَقَّقُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْجَائِزِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا حَنِثَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ نَظِيرُ الْقَبُولِ فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: شَرْطُ حِنْثِهِ الْعَقْدُ وَبِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَالْمِلْكُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَحْقِيقِ شَرْطِ الْحِنْثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ حَنِثَ؟ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ قَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَعُودُ إلَى الْقِيَاسِ فِي النِّكَاحِ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَتَقَ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ هُنَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ هُنَاكَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّاهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ وَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ الْعِبَادَةُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» (قَالَ) وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَسَجْدَةً اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ فِعْلٌ يَكُونُ بِهِ مُصَلِّيًا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مُصَلِّيًا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ: مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالسُّجُودُ، وَالرُّكُوعُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَكُلُّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الصَّلَاةِ فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا مُطْلَقًا مَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى مُصَلِّيًا بَعْدَ التَّكْبِيرِ مَجَازًا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْأَرْكَانِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُصَلِّيًا، فَإِذَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ فَقَدْ أَتَى بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ فِي إتْمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَأَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَشَرْطُهُ النِّيَّةُ فَلَمَّا أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ حِنْثِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ يَوْمًا فَحِينَئِذٍ إذَا أَفْطَرَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِدَادِ الْإِمْسَاكِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِنْ حَلَفَ لَيُفْطِرَنَّ عِنْدَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَفْطَرَ عَلَى مَاءٍ وَتَعَشَّى عِنْدَ فُلَانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ بِرِّهِ الْفِطْرَ عِنْدَ فُلَانٍ وَقَدْ تَعَشَّى عِنْدَ فُلَانٍ وَمَا أَفْطَرَ عِنْدَهُ فَالْفِطْرُ الْحُكْمِيُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَحَقِيقَتُهُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ فُلَانًا، وَإِنْ كَانَ نَوَى حِينَ حَلَفَ الْعَشَاءَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ يُذْكَرُ فِي الْعَادَةِ وَالْمُرَادُ الْعَشَاءُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَفْطَرْت عِنْدَ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يُفْطِرُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ وَالْمُرَادُ التَّعَشِّي وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ بِكُوزِ فُلَانٍ فَصَبَّ فُلَانٌ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ كُوزِهِ فَتَوَضَّأَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ لَا يُغَيِّرُ الْكُوزَ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْكُوزِ غَيْرُهُ، وَكُوزُ الصُّفْرِ وَالْإِدَامِ وَغَيْر ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى كُوزًا عَادَةً فَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَ بِإِنَاءٍ لِفُلَانٍ غَيْرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 الْكُوزِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ هُوَ الَّذِي وَضَّاهُ وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّوَضُّؤُ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ بِقَدَحِ فُلَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ وَارِثُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُورَثِ سَبَبٌ لِانْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ وَأَوَانُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَقْتَرِنُ الطَّلَاقُ بِحَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا إذَا قَالَ: إذَا بَاعَك مِنِّي فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ تَطْلُقْ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي النِّكَاحِ الْمُسْتَقِرِّ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي حَالِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ كَانَ قَالَ: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ لَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَقِرِّ، وَبِنَفْسِ مَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ وَلَكِنَّ أَوَانَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكَتْك؛ لِأَنَّ أَوَانَ الْعِتْقِ هُنَاكَ مَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: وُجِدَ شَرْطُ الطَّلَاقِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ بَعْدُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ وَارِثًا لَهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَوْتَ الْمَوْلَى سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَفْسُدُ النِّكَاحُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ قَبْلَ هَذَا بِدَرَجَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَقْتَرِنُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَزَوَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي دَفْعِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ حُرَّةٌ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُقُوعِ الْعِتْقِ مَعَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَمِلْكُ الْوَارِثِ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ الْمِلْكُ الَّذِي يَتَأَخَّرُ لِلْوَارِثِ فِي تَصْحِيحِ عِتْقِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمِلْكَ بِقَوْلِهِ: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك وَقَعَ الْعِتْقُ دُونَ الطَّلَاقِ؟ فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِلْكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ دُونَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنَفِّذٌ لِلْعِتْقِ مَانِعٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ رَجُلٌ: قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَعْتِقُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ الْعَتَاقُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا الْعَتَاقُ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَقَدْ عَلَّقَهُمَا الْحَالِفُ بِمَوْتِ فُلَانٍ وَاَلَّذِي ثَبَتَ بِمَوْتِ فُلَانٍ زَوَالُ مِلْكِهِ ثُمَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَوَانُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَعَ وُقُوعِ الْمِلْكِ، وَحَالُ وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلزَّوْجِ فِي رَقَبَتِهَا لَيْسَ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَرِنُ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ، وَأَوَانُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مَا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَأَمَّا زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لَيْسَ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَلَفَ بِالْعِتْقِ فِي الْمِلْكِ وَالشَّرْطِ ثُمَّ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْمُورَثِ وَكَمَا مَاتَ الْمُورَثُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ. وَلَا يُعْتَبَرُ تَخَلُّلُ زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ أَوَانَ نُزُولِهِ بَعْدَ الْمِلْكِ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَوَرِثْتُك وَلَا يُدْرَجُ مِثْلُ هَذَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الطَّلَاقَ، وَالْإِدْرَاجُ لِلتَّصْحِيحِ لَا لِلْأَبْطَالِ أَوْ يُدْرَجُ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَقَعَ الْعِتْقُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زُفَرَ. وَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إذَا بَاعَك فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَبَاعَهَا مِنْ فُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ بَيْعُ فُلَانٍ إيَّاهَا وَبَيْعُ فُلَانٍ مِنْ الْحَالِفِ سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَأَمَّا وُقُوعُ الْمِلْكِ لِلْحَالِفِ بِشِرَائِهِ لَا بِبَيْعِ فُلَانٍ فَلِهَذَا لَا تَعْتِقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا وَهَبَك لِي فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَبَاعَهَا مِنْ فُلَانِ وَسَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ لِلْبَائِعِ: هَبْهَا لِي فَقَالَ: هِيَ لَك أَنَّهَا لَهُ؟ وَهَذَا قَبُولٌ وَلَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْهِبَةَ وَقَعَا وَهِيَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ فَكَانَ الْعِتْقُ مُتَّصِلًا بِزَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ أَوْ مُقْتَرِنًا بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْحَالِفِ، وَلَا يُنَفَّذُ الْعِتْقُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ. وَإِنْ قَالَ: إذَا وَهَبَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَهَبَهَا مِنْهُ وَهُوَ قَابِضٌ لَهَا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذَا بَاعَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتِ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ وَإِضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ كَإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِ الْمِلْكِ رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: يَا فُلَانٌ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَاَللَّهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 لَا أُكَلِّمُك ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ حَنِثَ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُخَاطِبًا لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْيَمِين الْأُولَى وَبِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ صَارَ مُخَاطِبًا لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ الثَّالِثَةُ حَتَّى إنْ كَلَّمَهُ فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَيَّامِ حَنِثَ أَيْضًا وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ حَنِثَ مَرَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ الثَّالِثَةُ إنْ كَلَّمَهُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ حَنِثَ أَيْضًا. رَجُلٌ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ طَالِقٌ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ، وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ مَا حَلَفْت عَلَى يَمِينِك مِنْ هَذِهِ الْأَيْمَانِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَدَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِي صَرَّحَ بِكَلِمَةِ عَلَيَّ وَهِيَ كَلِمَةُ الْتِزَامٍ فَكَانَتْ عَامِلَةً فِيمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهِ الدَّارَ وَعِنْدَ الدُّخُولِ يَصِيرُ كَالْمُنَجِّزِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ وَلَكِنْ لَا يَتَنَجَّزُ فِي الْمَحَلِّ بِدُونِ التَّنْجِيزِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ مَمْلُوكُهُ وَلَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ إذَا دَخَلَ الدَّارَ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَقَالَ آخَرُ عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي امْرَأَتِي مِنْ الطَّلَاقِ إنْ دَخَلْتُهَا فَدَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَطَلُقَتْ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فِي امْرَأَتِهِ مِنْ الطَّلَاقِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَوَّلُ وَالْأَوَّلُ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ لَا لُزُومَ الطَّلَاقِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّانِي. (قَالَ) فِي الْكِتَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَهَذَا يَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلٍ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَاقُك عَلَيَّ وَاجِبٌ أَوْ طَلَاقُك لِي لَازِمٌ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ " عَلَيَّ وَاجِبٌ ": لَا يَقَعُ وَفِي قَوْلِهِ " لِي لَازِمٌ ": يَقَعُ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَاللُّزُومَ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَالطَّلَاقُ لَا يُلْتَزَمُ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ لِالْتِزَامِهِ فِي الذِّمَّةِ عَمَلٌ فِي الْوُقُوعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ لِي لَازِمٌ يَقَعُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ لِي لَازِمٌ وَجَعْلُ السَّبَبِ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْوِي فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لُزُومُ الْحُكْمِ إيَّاهُ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ وَقَعَ فَأَمَّا الْعِتْقُ فَقَدْ جَعَلَ الثَّانِي بِهَذَا اللَّفْظِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 عَلَيْهِ عِتْقُ مَمَالِيكِهِ فَيُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي هَذَا لَمْ يَعْتِقْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ إنْ بَقِيَ بِهِ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ نَذْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ عَبْدُهُ سَالِمٌ حُرٌّ إنْ دَخَلَ الدَّارَ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَلْتَزِمُ بِالدُّخُولِ عِتْقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ فَإِنْ عَنِيَ بِهِ عِتْقَ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ وَهُوَ آثِمٌ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ لِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الْآيَةَ، وَأَمَّا الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالنَّذْرُ وَالصِّيَامُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ فَإِذَا قَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ مَا حَلَفْت بِهِ إنْ فَعَلْت فَفَعَلَهُ الثَّانِي فَإِنَّهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْأَوَّلُ عَلَيَّ عِتْقُ نَسَمَةٍ إنْ فَعَلْت كَذَا فَفَعَلَ فَعَلَيْهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ وَالْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ يُؤْمَرُ بِهِ النَّاذِرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 [كِتَابُ الْحُدُودِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحُدُودِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً : الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ وَسُمِّيَ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الشَّيْءِ وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ الْعُقُوبَاتُ حُدُودًا؛ لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا. وَفِي الشَّرْعِ، الْحَدُّ: اسْمٌ لِعُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى بِهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا يُسَمَّى بِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّ الْعِبَادِ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ فَأَمَّا مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمَنْعُ مِنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ لِيُحْتَاجَ فِي حَقِّهِ إلَى الْجُبْرَانِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ فَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ نَوْعَيْنِ: مِنْهَا حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا، وَسَبَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ لِتَيْسِيرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْعِبَادِ لَا أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ هِيَ الْمُوجِبَةُ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا نَوْعَانِ: رَجْمٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ، وَجَلْدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ. وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ الْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ وَالتَّعْيِيرُ وَالْأَذَى بِاللِّسَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] وَقَالَ {فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ النُّورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا لَقَالَ خُذُوا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَى الْجَلْدِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَأَمَّا الْجَلْدُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا الرَّجْمُ فَهُوَ حَدٌّ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الرَّجْمَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الْأَخْبَارَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا بَعْدَ مَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ، وَحَدِيثُ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمِنْبَرِ: وَإِنَّ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْخَ وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ وَسَيَأْتِي قَوْمٌ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ حَدًّا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ هُمَا حَدُّ الْمُحْصَنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِالسُّنَّةِ. (وَحُجَّتنَا) حَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قَدْ رَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا، وَقَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ عَنْ ارْتِكَابِ السَّبَبِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الزَّجْرِ بِعُقُوبَةٍ تَأْتِي عَلَى النَّفْسِ بِأَفْحَشِ الْوُجُوهِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا إلَى الْجَلْدِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا حَدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَدْ انْتَسَخَ وَقِيلَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ الْجَلْدُ فِي حَقِّ ثَيِّبٍ هُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَالرَّجْمُ فِي حَقِّ ثَيِّبٍ هُوَ مُحْصَنٌ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إحْصَانَهَا ثُمَّ عَلِمَ إحْصَانَهَا فَرَجَمَهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ ثُمَّ سَبَبُ هَذَا الْحَدِّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى فَبَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ فَقَالَ وَالزِّنَا مُخْتَصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ كَمَا يُثْبِتُ فِعْلَ الْوَاحِدِ يُثْبِتُ فِعْلَ الِاثْنَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَى ذَلِكَ نَدَبَ وَذَمَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى السَّتْرِ شُرِطَ زِيَادَةُ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَإِلَيْهِ «أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَنَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالزِّنَا فَقَالَ لِزِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ بِمَ تَشْهَدُ فَقَالَ: أَنَا رَأَيْت أَقْدَامًا بَادِيَةً وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً وَأَمْرًا مُنْكَرًا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا تَحْتَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 لِحَافٍ وَاحِدٍ يَنْخَفِضَانِ وَيَرْتَفِعَانِ وَيَضْطَرِبَانِ اضْطِرَابَ الْخَيْزُرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَجُلًا أَقْعَى وَامْرَأَةً صَرْعَى وَرِجْلَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ وَإِنْسَانًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ أَرَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِي هَذَا بَيَانُ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ لِإِبْقَاءِ سَتْرِ الْعِفَّةِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَتْ الْأَرْبَعَةُ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ؟ وَكَيْف هُوَ؟ وَمَتَى زَنَى؟ وَأَيْنَ زَنَى؟ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ، أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ أَنَّهُ زِنًى وَلِأَنَّ الشَّرْعَ سَمَّى الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ زِنًى قَالَ «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُ» وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا حَتَّى فَسَّرَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرَّشَا فِي الْبِئْرِ؟ وَقَالَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ: لَعَلَّك قَبَّلْتهَا، لَعَلَّك مَسِسْتهَا حَتَّى إذَا ذَكَرَ الْكَافَ وَالنُّونَ قَبْلَ إقْرَارِهِ. وَالزِّنَا لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ الضِّيقُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَكَيْفِيَّتِهِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَكَانِ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ مَاعِزًا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعَةً فَبِمَنْ زَنَيْت وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِكَاحٌ أَوْ شُبْهَةُ نِكَاحٍ فِي الْمَفْعُولِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلشُّهُودِ فَإِذَا فَسَّرُوا تَبَيَّنَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَى الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَلَقَّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ أَسَرَقَ مَا إخَالُهُ سَرَقَ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ يَعْنِي الَّذِينَ يُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَمِنْ أَسْبَابِ احْتِيَالِ الدَّرْءِ أَنْ يَسْتَقْصِيَ مَعَ الشُّهُودِ وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَسْتَقْضِي لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا وَجْهَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ. (فَإِنْ قِيلَ) الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ (قُلْنَا) حَبْسُهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 فَيَحْبِسُهُ تَعْزِيرًا وَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ فِي الدُّيُونِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ هُنَاكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْحَقُّ لَا يُعَاقِبُهُ إلَّا بِالْحَبْسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِذَا ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ نَظَرَ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رَجَمَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ جَلَدَهُ وَالْإِحْصَانُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الرَّجْمُ لَهُ شَرَائِطُ فَالْمُتَقَدِّمُونَ يَقُولُونَ شَرَائِطُهُ سَبْعَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَالْإِسْلَامُ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ اثْنَانِ الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ، فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِالْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا أَنْ تَكُونَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ فَأَمَّا الدُّخُولُ شَرْطٌ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» وَالثُّيُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الثُّيُوبَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ حَالِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ سِوَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَغْلِيظُ الْجَرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ أَفْحَشُ الْعُقُوبَاتِ فَيَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْجِنَايَاتِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ إصَابَةِ الْحَلَالِ يَكُونُ أَغْلَظَ وَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا فِي هَذَا الْإِحْصَانِ بِخِلَافِ إحْصَانِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الزِّنَا أَغْلَظُ فِي الْجَرِيمَةِ مِنْ الزِّنَا بَعْدَ الْعِفَّةِ. فَأَمَّا الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِّي عَنْهُمَا رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا» وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أُحْصِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ حُرْمَةَ سَبَبِهَا فَيُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقَدُ حُرْمَةُ سَبَبِهِ وَتَأْثِيرُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا اُشْتُرِطَ فِي الْإِحْصَانِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِمَعْنًى تَغَلُّظِ الْجَرِيمَةِ، وَغِلَظُ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي دِينِهِ مُعْتَقِدًا لِلْحُرْمَةِ كَالْمُسْلِمِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ بِهِ مُحْصَنًا، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ يَكُونُ فِي حِصْنٍ وَمُنِعَ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ بِاعْتِقَادِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ الزِّنَا، وَقَدْ أُنْذِرَ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ فِي دِينِهِ فَكَانَ مُحْصَنًا ثُمَّ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ سَائِرُ الْفَضَائِلِ مِنْ الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَلْيَقُ بِهَذَا مِنْ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 لِلتَّخْفِيفِ وَالْعِصْمَةِ وَالْكُفْرُ مِنْ دَوَاعِي التَّغْلِيظِ فَإِذَا كَانَ تُقَامُ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى. (وَحُجَّتُنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» مَعْنَاهُ لَيْسَ بِكَامِلِ الْحَالِ فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ، وَالرَّجْمُ لَا يُقَامُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ وَالِاعْتِمَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالثُّيُوبَةِ فَإِنَّ الثُّيُوبَةَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ شَرْطٌ لِإِيجَابِ الرَّجْمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ شَهْوَتِهِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِالْإِصَابَةِ بِمُلْكِ الْيَمِينِ كَمَا يَتِمُّ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ بِالنِّكَاحِ فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى النِّعْمَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ الرَّجْمِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ فَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ وَذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ إنَّمَا انْعَدَمَ نِهَايَتُهَا، وَأَصْلُ النِّعْمَةِ مُنْعَدِمٌ هُنَا فِيمَا يَعْتَقِدُهُ الْكَافِرُ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْجَرِيمَةَ كَمَا تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ الْمَوَانِعِ تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ النِّعَمِ وَلِهَذَا هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُنَّ وَبِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ غَيْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِنَّ وَعُوتِبَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الزَّلَّاتِ بِمَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ غَيْرُهُمْ لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْحُرُّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ وَلَا يُقَامُ عَلَى الْعَبْدِ لِزِيَادَةِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ، فَبَدَنُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْحَدِّ مِنْ بَدَنِ الْحُرِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ يَزْدَادُ تَغْلِيظُ الْجَرِيمَةِ؛ لِمَا فِي ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ مِنْ كَفْرَانِ النِّعْمَةِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْفَضَائِلِ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ بِالرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَنَحْنُ قُلْنَا مَا يَكُونُ شَرْطًا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ اسْتِدْلَالًا بِالثُّيُوبَةِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يُعْرَفْ شَرْطًا لَوْ أَثْبَتْنَاهُ لَأَثْبَتْنَاهُ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَسَائِرُ الْفَضَائِلِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] فَأَمَّا الْعِفَّةُ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ انْزِجَارٌ عَنْ الزِّنَا، وَالِانْزِجَارُ عَنْ الزِّنَا مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ مُقْتَرِنًا بِالزِّنَا وَلَا سَابِقًا عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَغَلَّظُ بِهِ الْجَرِيمَةُ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الزِّنَا أَفْحَشُ فِي الْجَرِيمَةِ مَعَ أَنَّ الْعِفَّةَ الْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِ الدِّينِ، فَإِذَا شَرَطْنَا أَصْلَ الدِّينِ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ دَعَا بِالتَّوْرَاةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وَبِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ وَنَاشَدَهُ بِاَللَّهِ حَتَّى اعْتَرَفَ بِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِهِمْ الرَّجْمُ فَرَجَمَهُمَا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا، وَإِحْيَاءُ سُنَّةٍ أُمِيتَتْ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهَا فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ وَقَدْ أُحْصِنَا شَاذٌّ وَلَوْ ثَبَتَ فَمُرَادُهُ الْإِحْصَانُ مِنْ حَيْثُ الْحُرِّيَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إحْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى إنَّ الْمَمْلُوكَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَطْءٌ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَالَةِ الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَا لَا يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ عِنْدَنَا، وَكَذَلِكَ الْكَافِرَانِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا مُحْصَنَانِ. وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً وَدَخَلَ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً وَدَخَلَ بِهَا أَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْكَافِرُ فَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً بِهَذَا الدُّخُولِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ تَمَّ وَهُوَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقٍ هُوَ نِهَايَةٌ فِي النِّعْمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك»، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ» وَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْبِيءُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ فَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ زَوْجُ نَعْلٍ زَوْجُ خُفٍّ، وَقَدْ صَارَتْ الزَّوْجِيَّةُ هُنَا شَرْطًا فَتُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِهِ ثُمَّ بِسَبَبِ الرِّقِّ يُنْتَقَصُ مِلْكُ الْحِلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَكُونَ الثُّيُوبَةُ بَعْدَ كَمَالِ مِلْكِ الْحِلِّ، وَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الصِّغَرِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفِعْلِ نُقْصَانٌ فَإِنَّ تَمَامَ مَيْلِ طَبْعِ الْمَرْءِ إلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ نَاقِصَةُ الْحَالِ لَا يَتِمُّ سُكُونُهُ إلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجْمَ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ، وَفِي شَرَائِطِهِ يُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ أَيْضًا احْتِيَالًا لِدَرْءِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّانِي بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَفْسِرُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ يُسَمَّى بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْت بِمُحْصَنٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُحْصَنٌ اسْتَفْسَرَهُمَا عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ فَإِذَا بَيَّنَا ذَلِكَ رَجَمَهُ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْإِحْصَانِ رَجُلَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِحْصَانِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ النِّكَاحَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مِنْ حُقُوقِ مَا هُوَ مَالٌ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْكَلَامُ هُنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ فَحُجَّته - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِحْصَانِ هُنَا تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَمِّلَ لِلْعُقُوبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ أَصْلُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. فَكَذَلِكَ تَكْمِيلُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الزَّانِيَ لَوْ كَانَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِذِمِّيٍّ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا وَقَدْ اسْتَجْمَعَ سَائِرَ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى الذِّمِّيِّ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ. يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ شَرْطُهَا. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبُ إلَيْهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَلَا هُوَ شَرْطٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ وَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ بَعْدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ وَإِنْ صَارَ مُحْصَنًا بَعْدَ الزِّنَا لَمْ يُرْجَمْ وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ فِي الزَّانِي يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْحَالِ ثُبُوتًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ: الْعِتْقُ هُنَاكَ يَثْبُتُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَارِيخٌ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَضَرَّرُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلَهَا الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ الْخُصُوصُ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ وَاَلَّذِي يُقَامُ هُنَا الْحَدُّ الْكَامِلُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ، فَأَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ دَخَلَهَا الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبُولُهَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ أَوْ شَرْطًا مُؤَثِّرًا فِي الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْإِحْصَانِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ هُنَا. (قَالَ) فَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ حِينَ اسْتَفْسَرَهُمْ الْقَاضِي: إنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا فَذَلِكَ كَافٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِمَاعِ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا مَا تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ مِنْ الْأَحْكَامِ شَرْعًا إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، وَالْمُبَاضَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ إدْخَالِ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ فَأَمَّا إذَا قَالُوا دَخَلَ بِهَا فَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَكْفِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الدُّخُولُ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُلَاقَاةُ. وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مُبْهَمٍ يَذْكُرُ الشُّهُودُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ لِيَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ عَنْ بَصِيرَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: أَتَاهَا أَوْ قَرِبَهَا لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إنَّهُمْ ذَكَرُوا الدُّخُولَ مُضَافًا إلَيْهَا وَالدُّخُولَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ بِحَرْفِ الْبَاءِ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْجِمَاعُ، وَالِاسْمُ مُشْتَرَكٌ بِدُونِ الصِّلَةِ، وَأَمَّا مَعَ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْإِضَافَةِ فَلَا وَهُوَ كَاسْمِ الْوَطْءِ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ، ثُمَّ إذَا قَالُوا: وَطِئَهَا كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: قَدْ يُقَالُ: دَخَلَ بِهَا وَالْمُرَادُ مَرَّ بِهَا أَيْ خَلَى بِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ مَجَازٍ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ. (قَالَ) وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى التَّزْوِيجِ فَقَطْ غَيْرَ أَنَّ لَهُ مِنْهَا وَلَدًا فَهُوَ إحْصَانٌ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْصَانُ بِشَيْءٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَقَدْ حَكَمْنَا بِالدُّخُولِ بِهَا وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّهُ جَامَعَهَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ بِالدُّخُولِ بِهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَوْلَادٌ فَوْقَ مَا يَقَعُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ. (قَالَ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْخَلْوَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْخَلْوَةُ تَسْلِيمًا لِلْمُسْتَحِقِّ بِالْعَقْدِ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْخَلْوَةِ؟ فَكَذَلِكَ الْإِحْصَانُ (قَالَ) وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَلَا بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ أَمَّا فِي حَقِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْبِكْرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَجْلِدُ مِائَةً وَيُغَرِّبُ سَنَةً، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ «بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَاشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ: النَّفْيُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّعْزِيرُ فَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُ الْجُهَّالِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ وَتَكْمِيلَهَا بِالْقِيَاسِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ الْحَرْفُ لَهُمْ أَنَّ الزِّنَا قَبْلَ أَنْ تَتَّخِذَهُ الْمَرْأَةُ عَادَةً تَكْتَسِبُ بِهِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ، وَالْفَرَاغُ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِهَذَا السَّبَبِ وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ فَمَا يَكُونُ قَاطِعًا لِلسَّبَبِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُود فَيَكُونُ حَدًّا. أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ مَشْرُوعٌ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِالْمَشْيِ وَالْبَطْشِ فَقَطْعُ الْآلَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْبَاطِشَةِ مَانِعٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ كَيْفَ تَنْفِي مَعَ الْمَحْرَمِ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ هِجْرَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَالْهِجْرَةِ فِي الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَمَّا كَانَ حَدًّا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقَامَتِهِ كَالْجَلْدِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَقَدْ جَعَلَ الْجَلْدَ جَمِيعَ حَدِّ الزِّنَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ التَّغْرِيبَ كَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَذَلِكَ يَعْدِلُ النَّسْخَ، وَرُوِيَ «أَنْ مُحَدَّجًا سَقِيمًا وُجِدَ عَلَى بَطْنِ أَمَةٍ مِنْ إمَاءِ الْحَيِّ يَفْجُرُ بِهَا فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اضْرِبُوهُ مِائَةً، فَقَالُوا: إنَّ بَدَنَهُ لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا عُثْكَالًا عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّغْرِيبِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَتَكَلَّفَ لَهُ كَمَا تَكَلَّفَ لِلْحَدِّ، وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي دَارِهِ عَلَى الزِّنَا، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَكْتُمَ فَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ لَمَا أَمَرَهَا بِالْكِتْمَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وَلَمَّا نُفِيَ شَارِبُ الْخَمْرِ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي أَحَدًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا حَدًّا لَمَا حَلَفَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَمَا يَكُونُ فِتْنَةً لَا يَكُونُ حَدًّا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَلَفَا فِي أُمِّ وَلَدٍ زَنَتْ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُجْلَدُ، وَلَا تُنْفَى، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُنْفَى وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ وَمَعْنَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَالَ أَرَأَيْت شَابَّةً زَنَتْ أَكُنْتُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 أَنْفِيهَا؟ أَيْ فِي نَفْيِهَا تَعْرِيضٌ لَهَا لِمِثْلِ مَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبَوَيْهَا تَكُونُ مَحْفُوظَةً فَفِي دَارِ الْغُرْبَةِ تَكُونُ خَلِيعَةَ الْعَذَارِ، وَالنِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُنَّ، وَإِنَّمَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحْفُوظَةً بِالْحَافِظِ وَالِاسْتِحْيَاءِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّغْرِيبِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا لَهَا لِلْإِقْدَامِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ بِرَفْعِ الْمَانِعِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ يَكُونُ مَكْتُومًا، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُوَاقَحَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا، فَإِنَّ فِي هَذَا قَطْعًا لِسَبَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ مَكْتُومٌ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلزِّنَا بِطَرِيقِ الْوَقَاحَةِ وَهُوَ أَفْحَشُ ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْت أَمَةً زَنَتْ أَكُنْت أَنْفِيهَا؟ فَأَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْلَاهَا وَبَيْنَ خِدْمَتِهَا وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مَرْعِيٌّ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُنْفَى فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِصْفَ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ثَبَتَ أَنَّ كَمَالَهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تُنْفَى الْحُرَّةُ مَعَ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ لَمْ يَزْنِ فَكَيْف يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ وَبِدُونِ الْمَحْرَمِ هِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُسَافَرَةِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِطَرِيقٍ فِيهِ إبْطَالُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا. فَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ لَا تَقْصِدُ السَّفَرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ التَّخَلُّصَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمِنَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّغْرِيبِ الْحَبْسُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]: إنَّهُ الْحَبْسُ، وَقَالَ الْقَائِلُ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أَيْ: مَحْبُوسٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِحَبْسٍ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَإِنْ ثَبَتَ النَّفْيُ عَلَى أَحَدٍ فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ كَمَا نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيتَ الْمُخَنَّثَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَنَفَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَوْ هَلْ سَبِيلٌ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ فَنَفَاهُ وَالْجَمَالُ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَك وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْك، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّفْيِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ يَنْفِي إلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فَجَرَ فِيهِ وَلَكِنْ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ النَّفْيُ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ. (قَالَ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَلَا يُتِمُّ بِهِ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 وَلَا يَسْتَفِيدُ كَمَالَ الْحَالِ، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجِمَاعُهُ إيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ بِهَذَا الْفِعْلِ كَمَالُ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُسْلِمَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَدَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ (قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَ الزَّانِيَ: أَمُحْصِنٌ أَنْتَ؟ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ اسْتَغْنَى الْقَاضِي عَنْ طَلَبِ إحْصَانِهِ بِالْحُجَّةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ إحْصَانَهُ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ وَلَا بِشَرْطِهَا، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ ثَابِتٌ بِبَقَاءِ شُهُودِ الزِّنَا عَلَى شَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ الرَّجْمِ وَأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ كَشُهُودِ السَّبَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ حَقِيقَةً مَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُ السَّبَبِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ فِي الزَّانِي فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَرُبَّمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْإِحْصَانُ يَغْلُظُ جَرِيمَتُهُ وَالرَّجْمُ عُقُوبَةُ جَرِيمَةٍ مُغَلَّظَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِشُهُودِ الْإِحْصَانِ تَغَلَّظَتْ جَرِيمَتُهُ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَصْلَ الْجَرِيمَةِ فَصَارُوا فِي الْمَعْنَى كَسِتَّةِ نَفَرٍ شَهِدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالنِّكَاحَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إلَيْهِمَا الْجَرِيمَةُ وَلَا تَغْلِيظُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ، مَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَرْبَعَةٍ فَلَوْ كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ كَشُهُودِ الزِّنَا لَتَمَّتْ الْحُجَّةُ هُنَا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا أَوْ بَعْضُهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا كَمَا لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحَدُّ إلَّا الرَّاجِعُ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ بِاجْتِمَاعِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَمَامُ الْحُجَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، ثُمَّ الرَّاجِعُ فَسَخَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنَّ لَهُ وِلَايَةَ فَسْخِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَبْقَى كَلَامُ الْبَاقِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 شَهَادَةً وَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ هُنَاكَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا شَرْعًا فَلَمَّا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ هُنَاكَ بَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ وَلَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ هُنَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، ثُمَّ حُكْمُ فَسْخِ الشَّهَادَةِ بِرُجُوعِ الرَّابِعِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ الْعَارِضَ بِالشُّهُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْأَدَاءِ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَبِدَلِيلِ الْمَالِ، فَإِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ هُنَاكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْحُجَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَتِهِمْ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا، فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ إنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَكَانَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً. (قُلْنَا) هَذَا مَوْقُوفٌ مُرَاعًى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً مُوجِبَةً مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ هُنَا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا بِالزِّنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ حُجَّةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَامَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ كَلَامَ الرَّاجِعِ قَذْفٌ بِالزِّنَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ شُهِدَ مَعَ الْقَاذِفِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ هُنَا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْعَارِضِ قَبْلَهُ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ تَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِ أَحَدِهِمْ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا حَدَّ الْقَذْفِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ رُجُوعَ الشَّاهِدِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ. وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ بِدَلِيلِ الْمَالِ، فَإِنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَالرُّجُوعِ قَبْلَهُ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُمْ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْحُجَّةَ تَعْتَمِدُ الْقَضَاءَ وَبَعْدَ مَا تَمَّتْ الْحُجَّةُ لَا يَكُونُ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ثُمَّ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمْ يَبْطُلُ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ وَلَا عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَيَبْقَى كَلَامُ الْبَاقِينَ حُجَّةً غَيْرَ قَذْفٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 رُجُوعِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ: رُجُوعُ أَحَدِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِ الْحُكْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَانَ هَذَا وَمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ سَوَاءً، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَمَامُ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّهِ أَوْ لِتَمْكِينِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ بَلْ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّى فَاسْتِيفَاؤُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَإِنَّهُ يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا حَدَّ عَلَى الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَالْحُكْمَ تَأَكَّدَ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ يُبْطِلُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ لِإِقْرَارِهِ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْمُتَأَكَّدَةِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا فَعِنْدَنَا يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحَدُّ الرَّاجِعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِالرُّجُوعِ فَإِنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا فَيَقُولُ: كَانَ عَفِيفًا وَلَمْ يَكُنْ زَانِيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِالشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ كَانَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا مِثْلُهُ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَتَحْقِيقُهُ وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ بَلْ يَصِيرُ قَاذِفًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِكَلَامِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا وَإِنَّمَا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ السَّابِقُ الْآنَ قَذْفًا، كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ طَلَاقًا لَا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ طَلَاقًا بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ، وَوُصُولُهُ إلَى الْمَحَلِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ كَلَامُهُ فِي الْحَالِ قَذْفًا، وَالْمَقْذُوفُ فِي الْحَالِ مَيِّتٌ وَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ (فَإِنْ قِيلَ) هُوَ فِي الْحَالِ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فَكَيْف يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ (قُلْنَا) هُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْقَاذِفِ، فَإِنَّ قَذْفَهُ لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ حُجَّةٌ. (فَإِنْ قِيلَ) أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ كَانَ عَفِيفًا، وَلَوْ قَذَفَهُ إنْسَانٌ بِالزِّنَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَالَ إنَّهُ كَانَ عَفِيفًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا (قُلْنَا) نَعَمْ الْقَاذِفُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَالْحُجَّةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْإِحْصَانِ بَقِيَتْ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الشُّهُودِ لَا تَبْقَى الْحُجَّةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْإِحْصَانِ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا بِشَهَادَتِهِمْ وَكُلُّ شَاهِدٍ عَلَى الزِّنَا مُتْلِفٌ رُبْعَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ شَهِدَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَوَّهْ أُودِيَ رُبْعُ الْمُغِيرَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَقُومُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي رُبْعِ الْحَقِّ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا. (قَالَ) وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ وَغَرِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ الدِّيَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتِلُونَ لَهُ، فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِإِبَاحَةِ دَمِهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ مَعَ أَنَّ الرَّجْمَ يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ، وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَنَا، وَالشُّهُودُ مُتَسَبِّبُونَ عِنْدَنَا، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشُّهُودِ بَعْدَ الرَّجْمِ: كُنْت يَوْمَ شَهِدْت عَلَيْهِ كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ حُجَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِقَوْلِهِ إنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِنَّ هُنَاكَ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّونَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَا يُحَدُّونَ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ كَانَ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ وَلِهَذَا لَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ وَالْأَعْمَى لَيْسَتْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَيْسَ لِلْأَعْمَى ذَلِكَ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُكَاتَبِ، فَإِذَا كَانَ ظُهُورُ هَذَا بَعْدَ الرَّجْمِ فَدِيَةُ الْمَرْجُومِ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ اللَّهِ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ فِي هَذَا عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ فِيهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ كَانَ خَصْمًا وَفِيمَا هُوَ خَصْمٌ لَا يَكُونُ قَاضِيًا كَمَا فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ قُلْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُ فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَالْمَالِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ (قَالَ) فَإِنْ رَجَمَهُ الْإِمَامُ بِشَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُمْ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةَ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ فِي شَهَادَتِهِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ، وَلِهَذَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِظُهُورِ فِسْقِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا تَابُوا، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَالْكُفَّارُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَسْلَمُوا وَالْعَبِيدُ إذَا أُعْتِقُوا، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا قُلْنَا [وُجِدَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا بَعْدَ مَا رُجِمَ] (قَالَ) فَإِنْ وُجِدَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا بَعْدَ مَا رُجِمَ فَعَلَى الشُّهُودِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا فَكَيْف يَزْنِي، وَظُهُورُ كَذِبِهِمْ هُنَا فَوْقَ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِيمَا إذَا رَجَعُوا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِكَذِبِهِمْ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ قَدْ يُصَدَّقُ، وَلَكِنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فَكَانَ خَطَأً مِنْ الْإِمَامِ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَنَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بَعْدَ الرَّجْمِ، وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ بِقَوْلِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تَكُونُ حُجَّةً تَامَّةً فِي إلْزَامِ ضَمَانِ الْمَالِ وَلَا مَقْصُودَ هُنَا سِوَى إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ عَلَى الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْجَبِّ فَذَلِكَ مُعَايَنٌ يُتَيَقَّنُ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ النِّسَاءِ، لَكِنْ إنْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ يُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَتَمَكَّنُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ وَلَا شُبْهَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا فَمَعَ الرَّتْقِ لَا يُتَصَوَّرُ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، وَبَعْدَ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ وَمَاتُوا أَوْ غَابُوا أَوْ عَمُوا أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يُرْجَمْ، أَمَّا مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِالشَّهَادَةِ مَنَعَتْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَتْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 بِالشُّبُهَاتِ وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ وَالْعَدَدُ مُتَكَامِلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ ذَلِكَ أَحَدُ الشُّهُودِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَصَابَهُمْ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَأَمَّا فِي مَوْتِ الشُّهُودِ وَغَيْبَتِهِمْ فَنَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْحُجَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا، إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَأَكَّدُ عَدَالَتُهُمْ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُبْطِلُ عَدَالَتَهُمْ، وَكَذَلِكَ غَيْبَتُهُمْ لَا تَكُونُ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ فَلَا يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ وَمَوْتِهِمْ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّجْمِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمْ وَغَيْبَتِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُنَا، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْمِ بِدَايَةُ الشُّهُودِ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ قَالَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ فَارَقُوا سَائِرَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَإِقَامَةُ الرَّجْمِ لَيْسَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَّ لَوْ كَانَ جَلْدًا لَا يُؤْمَرُ الشُّهُودُ بِالضَّرْبِ؟ فَكَذَا الرَّجْمُ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ قَالَ الرَّجْمُ رَجْمَانِ رَجْمُ سِرٍّ وَرَجْمُ عَلَانِيَةٍ فَرَجْمُ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَعْتَرِفَ بِذَلِكَ فَيَبْدَأَ فِيهِ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَرَجْمُ السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَيَبْدَأَ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَلِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِبِدَايَةِ الشُّهُودِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَجْتَرِئُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَاذِبًا ثُمَّ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الْحُدُودِ بِالِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الضَّرْبَ، فَلَوْ أَمَرْنَا الشُّهُودَ بِذَلِكَ رُبَّمَا يَقْتُلُونَهُ بِخِرَقِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الرَّجْمِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الرَّمْيَ وَقَدْ صَارَ الْإِتْلَافُ مُسْتَحَقًّا هُنَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يُؤْمَرُ الشُّهُودُ بِالْبِدَايَةِ إذَا كَانُوا حَاضِرِينَ حَتَّى إذَا امْتَنَعُوا لَا يُقَامُ الرَّجْمُ فَإِذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا يُقَامُ الرَّجْمُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْبِدَايَةُ بِهِمْ بِسَبَبٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ تُهْمَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ الرَّجْمِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ مَرْضَى أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحُضُورِ بِخِلَافِ مَا لَوْ امْتَنَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُتَّهَمِينَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ حِين كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ تُسْتَحَقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ لِلتَّعَذُّرِ، فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اُسْتُحِقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ لِتَيَسُّرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُكْمِ فَإِذَا تَعَذَّرَ بِالْمَوْتِ أَوْ الْغَيْبَةِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بِامْتِنَاعِهِمْ (قَالَ) وَلَا يُحْفَرُ لِلْمَرْجُومِ وَلَا يُرْبَطُ بِشَيْءٍ وَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنْ يُنْصَبُ قَائِمًا لِلنَّاسِ فَيُرْجَمُ «؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ وَلَا رَبَطَهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ لَمَا مَسَّهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 هَرَبَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ لَمَّا أُخْبِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَهَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضِ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ»، وَلَوْ كَانَ مَرْبُوطًا أَوْ فِي حَفِيرَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْهَرَبِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ حُفِرَ لَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ بِرَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ أَمَرَ بِأَنْ يُحْفَرَ لَهَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ فَجُعِلَتْ فِيهَا فَلَمَّا رَجَمُوهَا وَمَاتَتْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَفَرَ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إلَى قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ ثُمَّ لَفَّهَا فِي ثِيَابِهَا وَجَعَلَهَا فِيهَا ثُمَّ رَمَاهَا وَكَانَ مُصِيبَ الرَّمْيَةِ فَأَصَابَ أَصْلَ أُذُنِهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى السِّتْرِ وَالْحَفْرُ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ إذَا مَسَّتْهَا الْحِجَارَةُ فَرُبَّمَا يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْحَفْرِ لَيْسَ مِنْ الْحَدِّ فِي شَيْءٍ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُهُ فَأَمَّا مَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الظُّهُورِ فَيَنْصِبُ قَائِمًا عِنْدَ الرَّجْمِ وَلَا يُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي الْحَفْرِ لَهُ وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا وَلَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهَا صِفَةَ الطَّوَاعِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ إنْكَارِهَا أَصْلَ الْفِعْلِ وَلَا يَنْفَعُهَا ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِهِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ إنْ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: كَذَبَتْ بَلْ زَنَيْت بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الصَّدَاقَ وَلَوْ سَاعَدَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ فَإِذَا أَنْكَرَ كَانَ لَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَكَلَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ وَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ وَلَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ الْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ بِالْحَلِفِ وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِالْأَيْمَانِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا بِدَعْوِي الْإِكْرَاهِ لَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْمُكْرَهَةِ لَا يُوجِبُ الصَّدَاقَ لَهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخَالِفُنَا فِي الْفَصْلَيْنِ فَيَقُولُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمَا أَوْ دَعْوَى أَحَدِهِمَا النِّكَاحَ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ زَانٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ دَعْوِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْحَدَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ كَمَا أُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْئِهَا بِالشُّبْهَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَتَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ دَعْوَى أَحَدِهِمَا النِّكَاحَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ وَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ إقَامَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 الْحَدِّ فِي الْإِقْرَارِ. فَأَمَّا إذَا زَنَى بِمُكْرَهَةٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ دُونَ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا وَهِيَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي السَّرِقَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُنَا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مُتَقَوِّمٌ لِحَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِالْعَقْدِ وَالشُّبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهَا عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَقَدْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا فَيَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ فِعْلُهُ بِالْمُكْرَهَةِ زِنًى وَالْوَاجِبُ بِالزِّنَا الْحَدُّ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بُضْعُهَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الزَّانِي لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ بِرِضَاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَتَقَوَّمُ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطْ بِرِضَاهَا بِأَنْ طَاوَعَتْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ وَتُقَوَّمُ بُضْعُهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا وَلَكِنْ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْمَالِ بِالزِّنَا الْمَحْضِ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ أَوْ بِشُبْهَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِدَعْوَاهَا النِّكَاحَ وَجَبَ الصَّدَاقُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ فَإِذَا جُعِلَ مَا ادَّعَتْ مِنْ النِّكَاحِ كَالثَّابِتِ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ يُجْعَلُ كَالثَّابِتِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ [يَطَأُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي] (قَالَ) وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَطَأُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي، أَوْ يَطَأُ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ وَيَقُولُ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الزِّنَا قَدْ تَقَرَّرَ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ قَالَا عَلِمْنَا بِالْحُرْمَةِ يَلْزَمُهُمَا الْحَدُّ وَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ تَمَكَّنَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يُشْتَبَهُ، فَإِنَّ مَالَ الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ لِلزَّوْجِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ، وَلَمَّا جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ عَبْدِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي، فَقَالَ: مَالُكَ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلِأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّ حَالَ جَارِيَتِهَا كَحَالِهَا، وَفِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ. كَذَلِكَ قَدْ يُشْتَبَهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَّصِلَةٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْمَنَافِعُ دَائِرَةٌ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَصْلِ تَكُونُ حَلَالًا لِلْجُزْءِ أَيْضًا وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَالْقَوْمِ عَلَى مَائِدَةٍ فَسُقُوا خَمْرًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَمْرٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يُحَدُّ وَالْأَصْلُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا تَضَيَّفَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْيَمَنِ فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّهُ زَنَى بِرَبَّةِ الْبَيْتِ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عُمَرُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا فَحُدُّوهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَحُدُّوهُ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ فَلَأَنْ يَكُونَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ مُورِثًا شُبْهَةً أَوْلَى فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَإِذَا سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ وَجَبَ الْمَهْرُ [شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَزَنَى بِهَا] (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَزَنَى بِهَا حُدَّ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ وَهِيَ مُنْزَجِرَةٌ حِينَ أَبَتْ التَّمْكِينَ حَتَّى اسْتَكْرَهَهَا، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ جِهَتِهَا يُعْتَبَرُ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَ إذَا أُكْرِهَتْ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ، وَالْحَدُّ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ مِنْ الْإِثْمِ فَإِذَا سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهَا فَالْحَدُّ أَوْلَى، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا التَّامَّ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَتِهِ إذَا طَاوَعَتْهُ. وَلَا يُقَالُ قَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِدَعْوِي النِّكَاحِ تَتَمَكَّنُ فِي الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا كَوْنُهَا مُكْرَهَةً لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَلَا يَخْرُجُ فِعْلُ الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًى مَحْضًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلَا تَنْعَدِمُ الْمَحَلِّيَّةُ بِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً، وَهُوَ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ نَائِمَةٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ مَجْنُونًا أَكْرَهَ عَاقِلَةً حَتَّى زَنَى بِهَا لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ طَوْعًا، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّهُ مَجْنُونٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا دَعَتْ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا إلَى نَفْسِهَا فَزَنَى بِهَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا الْحَدُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنَّصِّ، وَبَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّ الزِّنَا لَيْسَ إلَّا وَطْءٌ مُتَعَرٍّ عَنْ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ وَشَبَهِهِمَا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ أَحَدِهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَعْنًى فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ عَلَى الْآخَرِ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ وَهِيَ فِي التَّمْكِينِ زَانِيَةٌ كَالرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَبَدَأَ بِذِكْرِهَا وَأَنَّ مَنْ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا مُبَاشَرَةُ الزِّنَا لَمْ يَحُدَّ قَاذِفُهَا بِهِ كَالْمَجْبُوبِ وَلِأَنَّهَا بِهَذَا التَّمْكِينِ تَقْضِي شَهْوَتَهَا كَالرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ فَإِذَا ثَبَتَ كَمَالُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُرَاعَى حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يُحْرَجْ فَلَا يَلْزَمْهَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ وَالْحَرَجَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ وَهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ بِدَلِيلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 تَصَوُّرِ الْفِعْلِ فِيهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْفِعْلِ زِنًى فَهِيَ لَا تَصِيرُ زَانِيَةً؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زِنًى لُغَةً، وَلَكِنْ لَيْسَ بِزِنًا شَرْعًا؛ لِأَنَّ الزِّنَا شَرْعًا فِعْلٌ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُ لِخِطَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَإِذَا انْعَدَمَ الزِّنَا شَرْعًا فِي جَانِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا وَالْحَدُّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَسْتَدْعِي ثُبُوتَ سَبَبِهِ شَرْعًا وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى زَانِيَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَزْنِيٌّ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أَيْ مَرْضِيَّةٍ وَقَالَ تَعَالَى {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أَيْ مَدْفُوقٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا لِنِسْبَتِهَا إلَى مَا تَتَعَيَّرُ وَتَسْتَوْجِبُ بِهِ الْحَدَّ وَتَقْضِي بِهِ شَهْوَتَهَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ فَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِأَصْلِ الْفِعْلِ وَفِعْلُهُ زِنًى لُغَةً وَشَرْعًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ وَالْمَحَلِّيَّةُ مُشْتَهَاةٌ وَذَلِكَ بِاللِّينِ وَالْحَرَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِيهِ بِجُنُونِهَا وَصِغَرِهَا فَقَدْ تَمَّ فِعْلُهُ زِنًى لِمُصَادَفَةِ مَحَلِّهِ، فَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا نَفْسُ الْآلَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا يَكُونُ زِنًى شَرْعًا إلَّا إذَا كَانَ وَاجِبَ الْكَفِّ عِنْدَ الْخِطَابِ وَذَا بِصِفَةِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَهَذَا فِقْهٌ دَقِيقٌ وَفَرْقٌ حَسَنٌ وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ: ذَكَرُ الصَّبِيِّ كَأُصْبُعِهِ، مَعْنَاهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا مَعْدُومٌ فِي آلَةِ الصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ بِهَذِهِ الْآلَةِ زِنًى وَالْمَعْتُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا الْمُحْصَنَةُ إذَا زَنَى بِهَا غَيْرُ الْمُحْصَنِ فَعَلَيْهَا الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِ الْمُحْصَنِ زِنًى فَتَصِيرُ هِيَ زَانِيَةً بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ حَالُهَا فِيمَا يُقَامُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَكُلُّ رَجُلٍ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ مِثْلُ الْخَرْسَاءِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ هُنَا وَالْخَرْسَاءُ لَوْ كَانَتْ تَنْطِقُ رُبَّمَا تَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ وَقَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ مَا فِي نَفْسِهَا بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَإِنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا فَادْرَءُوا عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ [زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ] (قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا، أَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا فَهُوَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّمِّيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيُمْنَعُ مِنْ الرِّبَا وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ إذَا اشْتَرَاهُ كَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ صِيَانَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ قُلْنَا لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ لِيَسْتَخِفَّ بِخِلَافِ حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ إبَاحَةَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] فَتَبْلِيغُ الْمُسْتَأْمَنِ مَأْمَنَهُ وَاجِبٌ بِهَذَا النَّصِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ تَفْوِيتُ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَا الْتَزَمَ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا دَخَلَ تَاجِرًا لِيُعَامِلَنَا ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى دَارِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؟ وَلَوْ كَانَ مُلْتَزِمًا شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ حُقُوقَ الْعِبَادِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ بَعْضُ حَقِّ الْعِبَادِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَالْإِجْبَارُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ نَوْعُ إذْلَالٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ فِي اسْتِخْفَافِهِ بِالْمُصْحَفِ وَأَمَّا الرِّبَا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَهْدٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ». فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَالتَّمْكِينِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ عِنْدَنَا، وَمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْخِطَابُ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ قَاصِرٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَاسَ هَذَا بِمَا لَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِعْلُ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَصَارَتْ هِيَ زَانِيَةً بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ فِعْلَهُمَا لَيْسَ بِزِنًا شَرْعًا حَتَّى لَوْ قَذَفَهُمَا قَاذِفٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا الْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْحُرُمَاتُ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ وَكَانَ فِعْلُ الْمُسْتَأْمَنِ وَاجِبَ الْكَفِّ عَنْهُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 فَيَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ وَأَمَّا إذَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَإِنْ ضَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرِّوَايَةَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْت أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُكْرَهِ شَيْئًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مَمْنُوعٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُهُ زِنًى وَتَصِيرُ هِيَ بِالتَّمْكِينِ زَانِيَةً تَبَعًا فَيَلْزَمُهَا الْحَدُّ (قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدَّانِ. أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمُسْتَأْمَنَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَتَعَذُّرُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ فَلَا يَمْنَعُ إقَامَتَهُ عَلَى الرَّجُلِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُقَامُ وَلَكِنَّهُ يُدْفَعُ إلَى أَهْلِ دِينِهِ لِيُقِيمُوا عَلَيْهِ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا سُئِلَا عَنْ ذِمِّيِّينَ زَنَيَا فَقَالَا: يُدْفَعَانِ إلَى أَهْلِ دِينِهِمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجْمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ وَكَانَا ذِمِّيَّيْنِ وَلَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الزِّنَا كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَهُوَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حُكْمًا حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي أَوْ شَبَّهْتهَا بِامْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا قَدْ تَحَقَّقَ عَنْهُ وَظَنُّهُ هَذَا لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ لَغْوًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ بَصِيرًا وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَاقَعَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ التَّمْيِيزِ وَهُوَ الْبَصَرُ فَبُنِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى فِرَاشِهِ إلَّا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْبَصِيرِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَعْنَى فِيهِ إنْ اعْتَمَدَ مُجَرَّدَ الظَّنِّ فَإِنَّ الْمَوْجُودَةَ عَلَى فِرَاشِهِ قَدْ تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ وَقَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ زَوْجَتَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهَا كَتَمَكُّنِ الْبَصِيرِ مِنْ أَنْ يَرَاهَا. فَأَمَّا إذَا دَعَا الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَتَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ فَوَاقَعَهَا، إنْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ أَنَا زَوْجَتُك فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَجَابَتْ أَوْ أَتَتْهُ سَاكِتَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك فَقَدْ اعْتَمَدَ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّ امْرَأَتَهُ هَذِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَيَطَأَهَا؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ امْرَأَتِهِ كَانَ الثَّابِتُ حُكْمَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَكَذَلِكَ هِيَ إذَا أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تُخْبِرْهُ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إجَابَتُهَا أَوْ إتْيَانُهَا بَعْدَ مَا دَعَا زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهَا أَنِّي زَوْجَتُك وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ أَجَابَتْهُ إلَى الْفِرَاشِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا نَائِمَةً عَلَى فِرَاشِهِ وَكَمَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ هُنَاكَ بِظَنِّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا [اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا فَزَنَى بِهَا] (قَالَ) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا فَزَنَى بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَيْهِمَا الْحَدُّ لِتَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، فَإِنَّ الِاسْتِئْجَارَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ شَرْعًا فَكَانَ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ أَوْ الْخَبْزِ ثُمَّ زَنَى بِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعَقْدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا، فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ كَانَ هُوَ وَالْإِذْنُ سَوَاءً. وَلَوْ زَنَى بِهَا بِإِذْنِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ ذَكَرَهُمَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَدَرَأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدَّ عَنْهُمَا، وَالثَّانِي أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَجُلًا مَالًا فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَدَرَأَ الْحَدَّ وَقَالَ: هَذَا مَهْرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا دَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً تَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ سَائِلَةً مَالًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَعَ أَنَّهُ عَلَّلَ فَقَالَ إنَّ هَذَا مَهْرٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَهْرَ وَالْأَجْرَ يَتَقَارَبَانِ قَالَ تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا. وَلَوْ قَالَ: أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِك لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُسَمُّونَ الْوَطْءَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ زِنًى وَلَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا شَرْعِيٌّ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا لُغَةً وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُخْتَلِسِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ لُغَةً، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَلَا إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُوجِبُ الشُّبْهَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ [الْإِكْرَاه عَلَى الزِّنَا] (قَالَ) رَجُلٌ أُكْرِهَ حَتَّى زَنَى بِامْرَأَةٍ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَزْنِي مَا لَمْ تَنْتَشِرْ آلَتُهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَهُوَ مُنْزَجِرٌ عَنْ الزِّنَا وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَالْمَرْأَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ قَدْ يَكُون طَبْعًا وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا انْتِشَارُ الْآلَةِ دَلِيلُ الْفُحُولِيَّةِ، فَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يُشْبِهُ إكْرَاهَ السُّلْطَانِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَانَ مُطَاعًا فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَرَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى الْإِكْرَاهِ، فَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، ثُمَّ فِي عَصْرِهِمَا قَدْ ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَقَالَا: يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْمُكْرِهَ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، بَلْ خَوْفُ التَّلَفِ هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَلِّبَ يَكُونُ مُسْتَعْجِلًا لِمَا قَصَدَهُ لِخَوْفِهِ مِنْ الْعَزْلِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ ذُو أَنَاةٍ بِمَا يَفْعَلُهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ بِالتَّهْدِيدِ فَمِنْ الْمُتَغَلِّبِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ نَادِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَالْمُبْتَلَى بِهِ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ عَنْهُ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ فَأَمَّا الْمُبْتَلَى بِالسُّلْطَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِهِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ (قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِأَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ ثُمَّ قَالَ اشْتَرَيْتهَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى سَبَبًا مُبِيحًا فَإِنَّ الشِّرَاءَ فِي الْأَمَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ وَفِي الْحُرَّةِ النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ فَكَانَ دَعْوَاهُ الشِّرَاءَ كَدَعْوَى النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَى النِّكَاحِ يُسْقِطُ الْحَدَّ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزَكَّاهُمْ الْمُزَكُّونَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ فَإِنْ ثَبَتَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 الْمُزَكُّونَ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ أَمَّا عَلَى الشُّهُودِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إذْ لَا شَهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُزَكِّينَ فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ وَإِنَّمَا زَكُّوهُمْ بِقَوْلِ النَّاسِ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ الْقَاضِيَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَأَمَّا إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ، وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَلَكِنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا، فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ، إلَّا أَنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا مَحْمُودَةً فِي الزَّانِي لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خِصَالًا فِي الشَّاهِدِ لَا يُقَامُ الرَّجْمُ إلَّا عِنْدَهَا، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُزَكُّونَ جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ مُوجِبًا فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ سَبَبَ الْإِتْلَافِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ، وَسَبَبُ الْإِتْلَافِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُوجِبَةً بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبِ مُوجِبًا وَأُمًّا الشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّينَ كَشُهُودِ الزِّنَا. وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ الْمُزَكُّونَ قَالُوا هُمْ عُدُولٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَالْعَبْدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَيَكُونُ الْقَاضِي جَهِلَ حِينَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ [زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا] (قَالَ) وَإِذَا زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا، إنْ قَتَلَهَا بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَضَمَانُ الْقِيمَةِ، الْحَدُّ لِلزِّنَا وَالْقِيمَةُ لِإِتْلَافِ النَّفْسِ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِحُرَّةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَةِ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ فَأَذْهَبَ بَصَرَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهَا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ بَدَلُ النَّفْسِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْجِنَايَةِ بِالْمَوْتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْمُلْكِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 بَعْدَ الْمَوْتِ (قَالَ) وَإِذَا زَنَى بِأَمَةٍ هِيَ رَهْنٌ عِنْدَهُ فَإِنْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُثْبِتُ مِلْكَ الْيَدِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ وَبِمُلْكِ الْيَدِ تَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ خُلْعٍ أَوْ مِنْ تَطْلِيقَاتٍ إذَا وَطِئَهَا، وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْيَدِ لَهُ فِيهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِيَّةِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَلْحِلِّ بِحَالٍ وَهُوَ نَظِيرُ الْغَرِيمِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ التَّرِكَةِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَتْ الْمَالِيَّةُ حَقًّا لَهُ فَإِنَّهَا تُبَاعُ فِي دَيْنِهِ [اسْتَأْجَرَ أَمَةً لِتَخْدُمَهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَزَنَى بِهَا] (قَالَ) وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَمَةً لِتَخْدُمَهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَزَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لِانْعِدَامِ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مِلْكِ الْمَحَلِّ بِحَالٍ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ فِي الْمَكَانِ أَوْ فِي الْوَقْتِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ نَسَبَاهُ إلَى زِنًى آخَرَ فَكَانَا قَاذِفَيْنِ لَهُ، وَشَرْطُ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ بِزِنًا وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَسَكَتَ الرَّابِعُ حُدَّ الثَّلَاثَةُ؟ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى زِنَا آخَرَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَثْنَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ اجْتَمَعَ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، وَذَلِكَ مَنْعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالزِّنَا عَلَى رَجُلٍ تَوْضِيحُهُ أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ فِي الْمَكَانِ أَوْ فِي الزَّمَانِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَامْتَنَعُوا مِنْ بَيَانِ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِيهِ، فَقَالَ اثْنَانِ: فِي مُقَدَّمِهِ وَقَالَ اثْنَانِ: فِي مُؤَخَّرِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي مُؤَخَّرِ الْبَيْتِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي بَيْتَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ، وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ كَمَا لَوْ اخْتَلَفُوا فِي ثِيَابِهَا حِينَ زَنَى بِهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ لَمْ يَسْأَلْهُمْ الْقَاضِي إنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِهِ أَوْ فِي مُؤَخَّرِهِ، وَبَيَانُ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كَانَ فِي مُقَدِّمِ الْبَيْتِ وَانْتِهَاءَهُ كَانَ فِي مُؤَخَّرِهِ لِاضْطِرَابِهِمَا أَوْ كَانَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَظَنَّ اثْنَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ مُقَدَّمِ الْبَيْتِ وَاثْنَانِ أَنَّهُ مِنْ مُؤَخَّرِ الْبَيْتِ فَشَهِدُوا عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ الْبَيْتَيْنِ وَالْقَبِيلَتَيْنِ فَالتَّوْفِيقُ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، ثُمَّ هَذَا الِاسْتِحْسَانُ مِنَّا لِتَصْحِيحِ الشَّهَادَةِ لَا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَلَمْ يُذْكَرْ إذَا تَقَارَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الزَّمَانِ، وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْمَكَانِ إذَا تَقَارَبَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي الثَّوْبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حِينَ زَنَى بِهَا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ بَيَانِ ثَوْبِهِ حِينَ زَنَى لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ وَقَعَ بَصَرُ اثْنَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَبَصَرُ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَأَحَدُهُمْ وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ ثُمَّ يَرِثُ الْوَلَدُ مِنْ وَالِدِهِ وَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَتِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِالْبِدَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مَانِعٌ لِلْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِوَالِدِهِ بِالْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ: يَكْفِيكَ ذَلِكَ غَيْرُك»، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخًا أَوْ جَدًّا أَوْ وَاحِدًا مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ حُرْمَتَانِ الْإِسْلَامُ وَالْقَرَابَةُ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْقَتْلِ كَمَا فِي الْعَادِلِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْبَاغِيَ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْكَافِرَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ هُنَاكَ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقَرَابَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ. (قَالَ) فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودُ حُرْمَتَانِ الْوِلَادُ يَعْنِي بِهِ الْجُزْئِيَّةَ وَالْقَرَابَةَ فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ مَقْتَلَهُ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِحَقٍّ، وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءٌ عَلَى الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ عُقُوبَةً فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي الْقَتْلِ بِحَقٍّ [امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ مِنْ الْبِدَايَةِ بِالرَّجْمِ] (قَالَ) وَلَوْ امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ مِنْ الْبِدَايَةِ بِالرَّجْمِ فَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِحَقٍّ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَعَدَلُوا فَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ حَتَّى قَتَلَهُ إنْسَانٌ بِالسَّيْفِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا بَعْدَ عَدَالَتِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ وَلَمْ يَضْمَنُوا لِلْمَشْهُودِ لَهُ شَيْئًا وَلَوْ وَجَبَ حَقُّ الْمَشْهُودِ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ لَصَارُوا مُتْلِفِينَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنُوا لَهُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَتْ النَّفْسُ مَعْصُومَةً عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ بِرُجُوعِهِمْ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِرَجْمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ إنْسَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُبَاحَ الدَّمِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْفِعْلُ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا يَكُونُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْجَانِي فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَإِنْ وَجَدَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَبْدًا بَعْدَ مَا قَتَلَهُ الرَّجُلُ عَمْدًا فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَحْقُونَ الدَّمِ حِينَ ظَهَرَ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ لَمْ يَتَكَامَلْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى قَتْلِهِ إيَّاهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي كَانَ بَاطِلًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَأَبْطَلَ عَنْهُ الْقِصَاصَ وَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، وَصُورَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكْفِي لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ مُبِيحًا لِلدَّمِ، فَصُورَتُهُ تَمَكُّنُ شُبْهَةٍ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُجْعَلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا. وَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَتَلَهُ رَجْمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْقَاضِي فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْقَاضِي فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَكِنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِيمَا عَمِلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا امْتَثَلَ أَمْرَ الْقَاضِي فِي قَتْلِهِ إيَّاهُ بِالسَّيْفِ وَلِهَذَا يُؤَدِّبُهُ الْقَاضِي هُنَاكَ عَلَى مَا صَنَعَ وَلَا يُؤَدِّبُهُ هُنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَجْهَزُوا عَلَيْهِ حَتَّى ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ عَبْدٌ فَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ أَيْضًا فِي بَيْتِ الْمَالِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ الْخَطَأَ مِنْ الْإِمَامِ فِي الْوَجْهَيْنِ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ وَضَرَبَهُ الْإِمَامُ الْحَدَّ ثُمَّ وَجَدَ أَحَدَهُمْ عَبْدًا وَقَدْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ أَوْ لَمْ يَمُتْ فَلَا شَيْءَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ وَقَدْ جَرَحَتْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 السِّيَاطُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ أَرْشَ الْجِرَاحَاتِ وَالدِّيَةَ إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ. (وَحُجَّتُنَا) أَنَّ الْجَلَدَاتِ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ، فَالشَّاهِدُ يُجْعَلُ كَالْمُبَاشِرِ لِمَا أَوْجَبَهُ بِشَهَادَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، وَكَمَا أَنَّ شُهُودَ الْقِصَاصِ وَشُهُودَ الْقَتْلِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا مَا أُتْلِفَ بِشَهَادَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ بَاشَرُوا ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَالْمُبَاشِرِينَ تَلَفًا وَمَنْ ضَرَبَ إنْسَانًا بِسَوْطٍ فَجَرَحَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ وَلَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعُوا هُنَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ فَقَدْ ظَهَرَ الْخَطَأُ مِنْ الْإِمَامِ، فَذَلِكَ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّمَا أَوْجَبُوا بِشَهَادَتِهِمْ ضَرْبًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَمُتْلِفٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ هَذَا الْحَدُّ الشَّدِيدُ عَلَى الْمَرِيضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْتَارُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوْطًا لَا ثَمَرَةَ لَهُ كَيْ لَا يَجْرَحَهُ، وَيُفَرَّقَ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْجِرَاحَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَجْرَحْهُ يَتِمُّ إقَامَةُ الْحَدِّ حَتَّى لَا يُعَادَ عَلَيْهِ فَيَثْبُتَ أَنَّهُمْ إذَا أَوْجَبُوا بِشَهَادَتِهِمْ ضَرْبًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ، وَلَكِنَّ الْجِرَاحَةَ وَالْإِتْلَافَ أَفْضَتْ إلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا يَضْمَنُ مَا أَفْضَى إلَيْهِ شَهَادَتُهُ كَالشَّهَادَةِ بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ إذَا رَجَعَ بَعْدَ مَا مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَوَرِثَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِنِسْبَةٍ. وَكَمَا أَنَّ الْجِرَاحَةَ وَالْإِتْلَافَ لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ الشَّهَادَةِ فَكَذَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا كَانَ وَاجِبًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا تَبَيَّنَ فِيهِ الْخَطَأُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَلَّادِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْقَاضِي وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْحَدِّ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ أَحَدٌ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاشَرَ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرْبِهِ مِنْ مُوجِبَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ فَكَانَ مُؤَاخَذًا بِضَمَانِهِ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ فَعَزَّرَهُ الْإِمَامُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلْإِتْلَافِ، فَإِذَا أَدَّى إلَى الْإِتْلَافِ كَانَ خَطَأً مِنْ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا نَقُولُ فِي الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّيَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِمَامُ مُحِقٌّ فِيمَا أَقَامَ وَهُوَ مُسْتَوْفٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ كَأَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَمَاتَهُ بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ شَرْعًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ، وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطٍ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَأَمَّا تَعْزِيرُ الزَّوْجِ مُبَاحٌ لَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَالْمُبَاحَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ (قَالَ) وَإِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالرَّجْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَقَالَ لِلنَّاسِ اُرْجُمُوهُ وَسِعَهُمْ أَنْ يَرْجُمُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسَعُهُمْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عَدْلٌ آخَرُ عِنْدَهُمْ، أَوْ يُعَايِنُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَاقِي، وَمَنْ يَكُونُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ مُلْزِمًا الْأَنْبِيَاءُ الْمَعْصُومُونَ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْقَاضِي لَا تَبْلُغُ دَرَجَتُهُ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَسَعُهُمْ الْإِقْدَامُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَلَوْ عَايَنُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَسِعَهُمْ أَنْ يَرْجُمُوهُ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ مَعْصُومِينَ عَنْ الْكَذِبِ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُمْ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ هِيَ الِاكْتِفَاءُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ بِقَاضٍ وَاحِدٍ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ حُكْمِهِ حُجَّةً لَكَانَ يُتَّخَذُ قَاضِيَانِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِقَاضٍ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ حُجَّةٌ يُطْلِقُ لَهُمْ الْإِقْدَامَ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ قَتْلًا حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَوْ قَطْعًا فِي السَّرِقَةِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّابِعُ لَمْ أَرَ مَا قَالُوا وَلَكِنِّي رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّابِعَ مَا شَهِدَ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَتَكَامَلْ عَدَدُ شُهُودِ الزِّنَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِالزِّنَا حَيْثُ لَمْ يَتَكَامَلْ عَدَدُ الشُّهُودِ وَلَا يُحَدُّ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا بِقَوْلِهِ رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ حِين امْتَنَعَ زِيَادٌ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى صَرِيحِ الزِّنَا وَلَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَى زِيَادٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَصِفْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَوْلِهِ إنَّهُ زَانٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا بِهَذَا وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ قَالَ هَذَا زَانٍ كَانَ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُسْتَوْجِبًا الْحَدَّ فَهُنَا أَوْلَى، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّابِعَ إذَا قَالَ: هَذَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ سِوَى الْمَجْلِسِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَأَبَى بَعْضُهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 أَنْ يُفَسِّرَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا فَسُئِلُوا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَمَاهِيَّتِه وَقَالُوا لَا نَزِيدُ لَك عَلَى هَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَيِّنُوا مُبْهَمَ كَلَامِهِمْ وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ فَإِنَّ تَكَامُلَ عَدَدِ الشُّهُودِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ فِي أَصْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، وَامْتِنَاعُ بَعْضِهِمْ عَنْ الْبَيَانِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُقَامُ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا كَمَا فِي فِسْقِ الشُّهُودِ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ زَنَوْا بِهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ عُدُولٌ شَهِدُوا عَلَى الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالزِّنَا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِسْقُهُمْ لِظُهُورِ زِنَاهُمْ بِالْحُجَّةِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ، وَبَقِيَتْ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنْ قَصَدَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إبْطَالَ شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَشْهَدُوا إلَى أَنْ شَهِدَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ قَاصِدِينَ إلَى إبْطَالِ شَهَادَتِهِمْ أَوْ كَانُوا صَادِقِينَ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَارُوا السَّتْرَ فَلَمَّا شَهِدَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ حَمَلَتْهُمْ الضَّغِينَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْحِسْبَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَلِأَنَّ فِي لَفْظِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَهُمْ الْمُجَازَاةُ دُونَ الْحِسْبَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ يَقُولُونَ زَنَوْا وَهُمْ زُنَاةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هُمْ الَّذِينَ زَنَوْا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّهَاتُرِ فَرُبَّمَا يَشْهَدُ فَرِيقٌ ثَالِثٌ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ [شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَامْرَأَتَانِ بِالزِّنَا] (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَامْرَأَتَانِ بِالزِّنَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ «لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي حَدِّ الزِّنَا» فَكَانُوا جَمِيعًا قَذَفَةً (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ تُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ مَنْصُوبَةٌ لِلْحَاجَةِ وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَلَا حَدَّ عَلَى الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا نَسَبُوا الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إلَى الزِّنَا إنَّمَا حَكَوْا شَهَادَةَ الْأُصُولِ بِذَلِكَ وَالْحَاكِي لِلْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ قَاذِفًا، فَإِنْ قَدِمَ الْأُصُولُ فَشَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 الرَّجُلِ بِالزِّنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ قَدْ تَطَاوَلَ وَالثَّانِي أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ بِرَدِّ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ نَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأُصُولِ أَيْضًا فَفِي الْمَوْضِع الَّذِي تُرَدُّ أَيْضًا يَتَعَدَّى رَدُّهُ إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ، وَلِأَنَّا إنَّمَا لَا نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَالشُّبْهَةُ تَصْلُحُ لِدَرْءِ الْحَدِّ بِهَا لَا لِإِيجَابِ الْحَدِّ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي نَشْهَدُ أَنَّكُمَا زَانِيَانِ وَقَدَّمُوهُمَا إلَى الْقَاضِي وَشَهِدُوا عَلَيْهِمَا وَقَالَا: إنَّهُمْ قَدْ قَالُوا لَنَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعُونَا إلَيْك، وَلَنَا بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَسْقُطْ شَهَادَتُهُمْ بِهِ وَحُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُمْ عُدُولٌ. (فَإِنْ قِيلَ) صَارُوا قَاذِفِينَ لَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا إسْقَاطَ الْحَدِّ. (قُلْنَا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكَامُلَ الْعَدَدِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِعْلِهِمَا النَّدَمُ مَعْنَاهُ أَنَّ مَقْصُودَ الشُّهُودِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي أَنَّكُمَا زَانِيَانِ لِيَظْهَرَ النَّدَمُ لِيَسْتُرُوا عَلَيْهِمَا أَوْ الْإِصْرَارُ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِمَا، وَالشَّاهِدُ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ الْأَوَّلَ مَوْقُوفٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَذْفًا (قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا فَقَالَ: اثْنَانِ طَاوَعَتْهُ، وَقَالَ آخَرَانِ: اسْتَكْرَهَهَا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ الرَّجُلُ وَحْدَهُ لَهُمَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ تَمَّتْ مُوجِبَةً لِلْحَدِّ فَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي حَالِهَا، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِعْلِ فِي جَانِبِهِ فَإِنَّ الْكُلَّ لَوْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا كَانَتْ طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلَانِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ شَهِدَا بِفِعْلٍ آخَرَ فَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ شَهِدَا بِفِعْلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً كَانَتْ شَرِيكَةً لَهُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى تُشَارِكَهُ فِي إثْمِ الْفِعْلِ وَشَاهِدَا الْإِكْرَاهِ شَهِدَا بِفِعْلٍ تَفَرَّدَ بِهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَرْأَةِ فِي الْفِعْلِ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً حَتَّى لَا تُشَارِكَهُ فِي إثْمِ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ الْمُشْتَرَكُ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الرَّجُلُ، وَقَوْلُنَا إنَّ الزِّنَا فِعْلَانِ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 الْفِعْلُ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَوْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْآخَرِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ صَارُوا قَاذِفِينَ لَهَا مُلْتَزِمِينَ حَدَّ الْقَذْفِ لَوْلَا شَهَادَةُ الْآخَرِينَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ فَكَانَا خَصْمَيْنِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَإِنَّمَا لَا يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَةِ آخَرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا زَنَتْ، وَهِيَ مُكْرَهَةٌ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى سُقُوطِ إحْصَانِهَا؛ لِأَنَّ زِنَا الْمُكْرَهَةِ لَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهَا بِحَالٍ، وَسُقُوطُ الْإِحْصَانِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. وَبَيَانُ هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ قَالَ: لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ وَوَاحِدٌ أَنَّهَا مُكْرَهَةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَامُ عَلَى الثَّلَاثَةِ حَدُّ الْقَذْفِ بِخُصُومَتِهَا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا قَاذِفِينَ لَهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَى سُقُوطِ إحْصَانِهَا وَاحِدٌ وَبِشَهَادَةِ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَا فِعْلَ لَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ. (قَالَ) وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ: أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا وَوَاحِدٌ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْوَاحِدِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا بِشَهَادَةِ الْبَاقِي بِسُقُوطِ إحْصَانِهَا هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا بِفِعْلِهَا. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مُمَكِّنَةٌ مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُعْدِمُ لَهَا الْفِعْلَ خُصُوصًا فِيمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ الْمُكْرَهَةُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَلِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ إحْصَانِهَا (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ فِي مَكَان آخَرَ وَالْبَيِّنَتَانِ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَالشَّخْصَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَا فِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ الْكَاذِبِ فَيَمْتَنِعُ لِلتَّعَارُضِ أَوْ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ كُلِّ فَرِيقٍ أَوْ لِعَدَمِ ظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَإِنْ شَهِدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الْآخَرِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَحُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَتَانِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى الرَّجُلِ فِعْلَانِ وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَيُقِيمُ الْقَاضِي الْحَدَّ عَلَيْهِمْ إذْ الزِّنَا بَعْدَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ فِي وَقْتَيْنِ وَمَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِامْرَأَةٍ وَامْرَأَتَيْنِ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ الْعَبْدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ قَتَلَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ فُلَانًا لَمْ تُقْبَلْ وَاحِدَةٌ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا حَدَّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يُقَالُ لَا تُنْكَرُ كَرَامَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ لَا يَزْنِي وَلَا يَجْحَدُ مَا فَعَلَهُ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ، فَإِنْ حَضَرَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ وَشَهِدُوا فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ شَهِدَ الْآخَرُونَ فَشَهَادَةُ الْآخَرِينَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ ثَبَتَ فِي شَهَادَةِ الْأَوَّلِينَ حِينَ اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِهَا فَيَبْقَى الْكَذِبُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ (قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى رَجُلٍ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ مُحْصَنٌ أَوْ غَيْرُ مُحْصَنٍ، فَلَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ هَرَبَ فَطَلَبَهُ الشُّرَطُ فَأَخَذُوهُ فِي فَوْرِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْهُرُوبَ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدٍّ هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَامُ وَاعْتَبَرَهُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ فَاعْتُبِرَ الْبَيِّنَةُ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَكَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ، قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَدِيثِهِ: لَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَالْمُغْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْهَدَ فَلَمَّا أَخَّرَ الشَّهَادَةَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَالَ إلَى السَّتْرِ ثُمَّ حَمَلَتْهُ الْعَدَاوَةُ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّتْرَ وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَقْذُوفِ وَطَلَبِهِ الْحَدَّ فَإِنَّمَا أَخَّرُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَقْذُوفِ وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ حَقِّ الْعِبَادِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ فَمَتَى أَقَامَ الْحُجَّة عَلَيْهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ السَّرِقَةُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ وَلَكِنَّ خُصُومَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ هُنَاكَ فِي الْمَالِ لَا فِي الْحَدِّ وَبَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا فِيهِ الْخُصُومَةُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ هُنَاكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا صَحَّ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَحَدُّ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ إلَى الدَّرْءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ خُسْرَانٌ أَوْ ضَرَرٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْمِلُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حَدَّ التَّقَادُمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: جَهَدْتُ بِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلَّ الْجَهْدِ فَأَبَى أَنْ يُؤَقِّتَ فِي التَّقَادُمِ وَقْتًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْبُعْدِ مِنْ الْقَاضِي وَالْقُرْبِ وَبِاخْتِلَافِ عَادَةِ الْقَاضِي فِي الْجُلُوسِ، وَالتَّوْقِيتُ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا أَبَى أَنْ يُوَقِّتَهُ بِشَيْءٍ، وَجَعَلَهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ سَنَةٍ لَا تُقْبَلُ وَأَشَارَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ الْحِينُ، وَالْأَصَحُّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا قَدَّرَا ذَلِكَ بِشَهْرٍ فَقَالَا: مَا دُونَ الشَّهْرِ قَرِيبٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ آجِلٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْإِيمَانِ، فَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ شَهْرٍ لَا تُقْبَلُ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ الْأَدَاءُ لِبُعْدِهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ حِينَ جَاءَ الشُّهُودُ إلَى الْمَدِينَةِ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ سَلِّمْ عَمَلَك إلَى أَبِي مُوسَى وَالْحَقْ بِي، ثُمَّ لَمَّا حَضَرَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ بَعْدَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ: أَوَّهْ أُودِيَ رُبْعُ الْمُغِيرَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّقَادُمَ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَكُونُ قَدْحًا بِالشَّهَادَةِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا إذَا هَرَبَ فَوُجِدَ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ بَقِيَّةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ وَهُوَ هَرَبُهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ الْعَارِضُ فِي هَذِهِ الْحُدُودُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ هُنَا كَانَ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ الْهَرَبِ مِنْهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَالُوا إلَى اكْتِسَابِ سَبَبِ دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ ثُمَّ حَمَلَتْهُمْ الْعَدَاوَةُ عَلَى الْجَدِّ فِي طَلَبِهِ فَكَانَ هَذَا وَالضَّغِينَةُ فِي الشُّهُودِ سَوَاءً (قَالَ) وَلَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يَضْرِبْ تَمَامَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِكَذِبِهِ يَتَحَقَّقُ وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّى فَمَا دُونَهُ يَكُونُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلشَّهَادَةِ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَالثَّانِيَةُ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَدِّ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَالثَّالِثَةُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ إقَامَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْحَدِّ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 الثَّلَاثَةُ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (قَالَ) وَإِذَا أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ لَمْ يُضْرَبْ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطَ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْمُغَلَّبُ عِنْدَنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَقَدْ اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ هُنَا؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ، فَلِهَذَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ وَلَا يُقَامُ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْعَارُ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي حَقِّهِمَا بِإِقَامَةِ السَّوْطِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ (قَالَ) وَضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا وَضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الزَّجْرُ وَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ فَلَوْ قُلْنَا بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ أَيْضًا فَاتَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ الْأَلَمَ مَا لَمْ يَخْلُصْ إلَيْهِ لَا يَنْزَجِرُ، وَلِهَذَا قُلْنَا يُجَرَّدُ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ ثِيَابِهِ وَيُعْذَرُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ، فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ التَّعْزِيرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُرَادُ الْحَدُّ الْكَامِلُ وَهُوَ حَدُّ الْأَحْرَارِ وَأَدْنَاهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَيَنْقُصُ التَّعْزِيرُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ وَقِيلَ كَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْرِبُ بِالْخَمْسِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَنَقَصَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فِي التَّعْزِيرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا يُزَادُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَوْطًا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ حَدٌّ فَنَقَصَ التَّعْزِيرُ عَنْهُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهَذَا بَيَانُ أَقْصَى التَّعْزِيرِ، فَأَمَّا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ يُعَزِّرُهُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ جَرَائِمِهِمْ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقَرِّبُ كُلِّ شَيْءِ مِنْ بَابِهِ فَالتَّعْزِيرُ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ أُقَرِّبُهُ مِنْ الزِّنَا، وَالتَّعْزِيرُ فِي الشُّبْهَةِ بِغَيْرِ الزِّنَا أُقَرِّبُهُ مِنْ الشُّبْهَةِ بِالزِّنَا فَاعْتُبِرَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ فِيمَا أُقِيمَ مِنْ التَّعْزِيرِ، ثُمَّ الضَّرْبُ فِي الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ الضَّرْبِ فِي الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَذَابًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وَحَدُّ الشُّرْبِ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ وَدُعَاءُ الطَّبْعِ إلَى الزِّنَا عِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 غَلَبَةِ الشَّبَقِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى الشُّرْبِ، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ أَشَدُّ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ جَرِيمَةَ الشَّارِبِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا بِخِلَافِ جَرِيمَةِ الْقَاذِفِ فَالْقَذْفُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ مَعَ صِدْقِهِ، فَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ أَخَفَّ مِنْ حَدِّ الشُّرْبِ حَتَّى يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، إلَّا أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ لِيَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهِ وَسَائِرُ الْحُدُودِ تُقَامُ عَلَى الرَّجُلِ فِي إزَارٍ، إلَّا أَنَّهُ رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ كَانَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الْجَلْدِ فِي عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ فَيَمُوتُ فَأُحِبُّ أَنْ أَدِيَهُ إلَّا حَدَّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ بِآرَائِنَا، وَلِضَعْفِهِ قَالَ: لَا يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِتَحَقُّقِ جَرِيمَتِهِ يُجَرَّدُ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا (قَالَ) وَلَا يُمَدُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَالتَّعْزِيرُ قِيلَ: مُرَادُهُ الْمَدُّ بَيْنَ الْعِقَابَيْنِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّ الْجَلَّادَ لَا يَفْصِلُ عَضُدَهُ عَنْ إبْطِهِ وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَوْقَعَ السَّوْطَ عَلَى بَدَنِ الْمَجْلُودِ لَا يَمُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ شَرْعًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِتْلَافَ شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِحَسْمِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَيُعْطِي كُلَّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَالَ اللَّذَّةَ فِي كُلِّ عُضْوٍ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْجَلَدَاتِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَالْإِتْلَافُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ، أَمَّا الْفَرْجُ فَلَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَالضَّرْبُ عَلَى الْفَرْجِ مُتْلِفٌ، وَأَمَّا الْوَجْهُ «فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا أَمَرَهُمْ بِرَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ أَخَذَ حَصَاةً كَالْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا قَالَ لِلنَّاسِ: ارْمُوهَا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ» فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْإِتْلَافُ مُسْتَحَقًّا فَفِي مَوْضِعٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْإِتْلَافُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ فَفِي الضَّرْبِ عَلَيْهِ إذْهَابُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ عَنْهُ وَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِمَا مُتْلِفٌ. (قَالَ) وَلَا يَضْرِبُ الرَّأْسَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ إيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ الرَّأْسَ وَالْفَرْجَ وَلِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ فَفِي الضَّرْبِ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ. (قَالَ) وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهَا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ لِيَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهَا وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَحْصُلُ بِالْمَلْبُوسِ عَادَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الْحَشْوِ وَالْفَرْوِ عَلَيْهَا. (قَالَ) وَتُضْرَبُ وَهِيَ قَاعِدَةٌ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ الْمَرْأَةَ الْحَدَّ وَهِيَ قَائِمَةٌ كَالرَّجُلِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ يُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الرَّجُلِ عَلَى الِانْكِشَافِ وَالظُّهُورِ وَمَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ فَإِنْ حَفَرَ لَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ «لِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمَّا أَقَرَّتْ أَنَّ بِهَا حَبَلًا مِنْ الزِّنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَك»، وَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين هَمَّ بِرَجْمِ الْمُغَنِّيَةِ " إنْ يَكُنْ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا " وَهُوَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ مَاءِ الزِّنَا لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْعَهْدِ مَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ وَلَوْ رُجِمَتْ كَانَ فِيهِ إتْلَافُ الْوَلَدِ، وَلَوْ تُرِكَتْ هَرَبَتْ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَيِّعَ الْحَدَّ بَعْدَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ إنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ رَجَمَهَا؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا مُسْتَحَقٌّ وَإِنَّمَا تُؤَخَّرُ لِحَقِّ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ الْوَلَدُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ تُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَتَعَافَى مِنْ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّ النُّفَسَاءَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضَةِ وَالْحُدُودُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا تُقَامُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ إذَا انْضَمَّ أَلَمُ الْجَلْدِ إلَى أَلَمِ الْوِلَادَةِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَتَعَافَى مِنْ نِفَاسِهَا. (قَالَ) وَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَادَّعَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ فَمُجَرَّدُ قَوْلِهَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يُؤَخِّرُ الْحَدَّ عَنْهَا كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْمُسْقِطِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُرِيهَا النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ، وَمَا يُشْكِلُ عَلَى الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَنْ لَهُ بَصَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَإِنْ قُلْنَ هِيَ حُبْلَى حَبَسَهَا إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَلِدْ رَجَمَهَا لِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِهِنَّ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ فَنَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَقُلْنَ هِيَ كَذَلِكَ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ بِقَوْلِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ دُرِئَ الْحَدُّ وَلَمْ يُحَدَّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يَزْنِي وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْعَارُ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَكَذِبُهُ ظَاهِرٌ هُنَا، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الْعَارُ الْقَاذِفَ هُنَا دُونَ عِفَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَذْفُ الْمَجْبُوبِ كَقَذْفِ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْجَلْدَ عَلَى الْقَاذِفِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ جَرِيمَةٌ، وَفِيمَا يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ يُكْتَفَى بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُثَنَّى أَحْوَطُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ الزَّانِي: أَنَا عَبْدٌ فَشَهِدَ نَصْرَانِيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ عَتَقَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَكِنْ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّصْرَانِيِّ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ، فَيُجْعَلُ فِيمَا يُقَامُ عَلَيْهِ وُجُودُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ الْكَامِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْصَانِ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَصَارَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِالزِّنَا فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ أَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِضَ مِنْ قِبَلِ إقَامَةِ الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ وَأَسْلَمَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَقَدْ تَمَّ الْقَضَاءُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْحَقِّ عَنْهُ كَالْمَالِ إذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ فَأَسْلَمَ يُسْتَوْفَى مِنْهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيُجْعَلُ الْمُعْتَرِضُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ شُبْهَةً مَانِعَةً كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ فِي الْعُقُوبَاتِ الِاسْتِيفَاءُ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ امْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَمَامُ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَمَا يَعْتَرِضُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ إسْلَامِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَاتِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَا نُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى (قَالَ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، فَإِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ شَهِدَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِخِلَافِ الْعَبْدِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ لَمْ يَسْتَفِدْ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً، وَقْتَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ عَدْلٌ فِي دِينِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الشَّهَادَاتِ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ثُمَّ أَقَرُّوا عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْبَاطِلِ فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنْ لَمْ يَحُدَّهُمْ الْقَاضِي حَتَّى شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أُخَرُ غَيْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَرُجُوعَهُمْ فِي حَقِّ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ، وَيُدْرَأُ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ زَانٍ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَذْفِهِ بِالزِّنَا، وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعَايِنُوا الزِّنَا مِنْهُ فَحَالُهُمْ كَحَالِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي قَذْفِهِ وَالْقَاذِفُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا (قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ عَلَى الْكَافِرِ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ إسْلَامُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ قَدْ تَقَادَمَ فَحِينَئِذٍ يُدْرَأُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ (قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَكْرَهَةٍ فَأَفْضَاهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِلزِّنَا فَإِنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهَا عُضْوًا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا يُسْتَمْسَكُ بِهِ الْبَوْلُ وَفِي ذَلِكَ كَمَالُ الدِّيَةِ وَمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ بَدَلَ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ حَتَّى يُقَالَ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ بَلْ هُوَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ بِالْجِنَايَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ وَالْإِفْضَاءُ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهَا فَإِنَّ إذْنَهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ الْأَرْشِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صَبِيَّةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا إلَّا أَنَّ رِضَاهَا هُنَاكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي إسْقَاطِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إسْقَاطِ حَقِّهَا (قَالَ) وَإِنْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَأَفْضَاهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا يَعْتَمِدُ كَمَالَ الْفِعْلِ، وَكَمَالُ الْفِعْلِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَلِّ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِهَذَا الْفِعْلِ حِينَ أَفْضَاهَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا وَلَمْ يُفْضِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ حِين احْتَمَلَتْ الْجِمَاعَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الزَّجْرُ فِيمَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهِ، وَطَبْعُ الْعُقَلَاءِ لَا يَمِيلُ إلَى وَطْءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى وَلَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ فَلِهَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 لَهُ شَرْعًا ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالْمَهْرُ، أَمَّا ثُلُثُ الدِّيَةِ لِجُرْحِ الْجَائِفَةِ وَالْمَهْرُ لِلْوَطْءِ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ لِشُبْهَةِ النُّقْصَانِ فِي الْفِعْلِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَالْوَطْءُ لَيْسَ إلَّا إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ تَارَةً بِالْعَقْدِ وَتَارَةً بِالْوَطْءِ ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُوجِبُ الْمَهْرَ؟ فَكَذَلِكَ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِإِفْسَادِ الْعُضْوِ الَّذِي كَانَ اسْتِمْسَاكُ الْبَوْلِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ مَهْرٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ مِنْهُ فَكَمَا لَا يَدْخُلُ الْمَهْرُ فِي بَعْضِ الدِّيَةِ فَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا وَالْمَهْرَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا فَكَيْفَ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ وَهُمَا يَقُولَانِ: الْفِعْلُ وَاحِدٌ، فَإِذَا وَجَبَ بِهِ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ، كَمَا لَوْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَقَطَ جَمِيعُ شَعْرِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ دَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ الْمُتْلَفُ بِالْجِنَايَةِ، وَعِنْدَ اتِّحَادِ الْمُسْتَوْفَى لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ بَعْضُ بَدَلِ النَّفْسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ مَعَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْ أَمَةِ إنْسَانٍ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْجُثَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ الْعَيْنَيْنِ وَضَمِنَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْجُثَّةَ. (قَالَ) وَإِذَا جَامَعَ صَبِيَّةً فَأَفْضَاهَا وَمِثْلُهَا لَا يُجَامَعُ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْرُمُ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ بِوُجُودِ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَالْوَطْءُ عِلَّةٌ لِإِيجَابِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ جُعِلَ حُكْمًا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَيَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبَابُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِلِاحْتِيَاطِ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ وَبِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ بِحَرْثٍ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْحَرْثَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَحَلٍّ مُنْبِتٍ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ فِي الْمَحَلِّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُشْتَهَى مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَحَلِّ مَنْبِتًا حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ كَوْنُهَا مُشْتَهَاةً مُقَامَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَلَالٌ شَرْعًا لِمَعْنَى الْحَرْثِ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 ثُمَّ يَحِلُّ وَطْءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُشْتَهَى بِالنِّكَاحِ وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَمَنْ قَذَفَ هَذَا الَّذِي جَامَعَ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِارْتِكَابِهِ وَطْئًا حَرَامًا فَإِنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُسْقِطًا لِلْإِحْصَانِ، وَالصُّورَةُ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَسَرَ فَخِذَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْأَرْشُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمْدِ، وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الْعَمْدَ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْإِفْضَاءِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ عَمْدٌ فَيَسْتَقِيمُ إدْخَالُ الْمَهْرِ فِيهِ (قَالَ) وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى الزَّانِيَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَذَا النَّظَرِ صِحَّةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَرَوْا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ وَإِنْ تُعُمِّدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالْخَتَّانُ وَالْحَافِظَةُ كَذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا: رَأَيْنَا ذَلِكَ وَلَمْ نَتَعَمَّدْ النَّظَرَ (قَالَ) وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَزْنِيُّ بِهَا أَنَّهَا صَارَتْ مُفْضَاةً لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَى الْإِفْضَاءِ وَمَا لَمْ يُفَسِّرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْأَرْشِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ [أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا] (قَالَ) وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّعْزِيرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ اللِّوَاطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عَلَيْهِمَا، وَعِنْدَهُمَا يُحَدَّانِ حَدَّ الزِّنَا يُرْجَمَانِ إنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ وَيُجْلَدَانِ إنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ قَالَ: يُقْتَلَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «اُرْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي حَقِّ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ لِذَلِكَ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ «مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ الْحَائِضَ أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» يَعْنِي إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ. (وَحُجَّتُهُمَا) أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ زِنًى فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا بِالنَّصِّ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الِاسْمُ فَلِأَنَّ الزِّنَا فَاحِشَةٌ، وَهَذَا الْفِعْلُ فَاحِشَةٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَهُ غَرَضٌ وَهُوَ إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ مَحْظُورٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَإِنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْجٌ يَجِبُ سَتْرُهُ شَرْعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَهًى طَبْعًا حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يَصِيرُ مُشْتَهًى طَبْعًا لِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَلِهَذَا وَجَبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَا شُبْهَةَ فِي تَمَحُّضِ الْحُرْمَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَيُتَصَوَّرُ هَذَا الْفِعْلُ مَمْلُوكًا فِي الْقُبُلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الدُّبُرِ فَكَانَ تَمَحُّضُ الْحُرْمَةِ هُنَا أَبَيْنَ، وَمَعْنَى سَفْحِ الْمَاءِ هُنَا أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْقُبُلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلُّ مَنْبَتٌ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَرْثًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الزَّانِي ذَلِكَ، وَلَا تَوَهُّمَ هُنَا فَكَانَ تَضْيِيعُ الْمَاءِ هُنَا أَبَيْنَ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ فَالْحَدُّ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ وَلَكِنَّ هَذَا إيجَابُ الْحَدِّ بِالنَّصِّ وَمَا كَانَ اخْتِلَافُ اسْمِ الْمَحَلِّ إلَّا كَاخْتِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْحَدِّ فِي حَقِّ مَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الْغَيْرِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْفِعْلَ فِي مَحَلٍّ هُوَ قُبُلٌ فَإِيجَابُهُ عَلَى الْمُبَاشِرِ فِي مَحَلٍّ هُوَ دُبُرٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ قِيَاسًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ بِزِنًا لُغَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ هَذَا الِاسْمُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ؟ فَيُقَالُ: لَاطَ وَمَا زَنَى، وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا قَالَ الْقَائِلُ: مِنْ كَفِّ ذَاتِ حُرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ ... لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ فَقَدْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ اسْمِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ. وَاَلَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ» مَجَازٌ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ اللُّغَةِ بِهِ وَالْمُرَادُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «وَإِذَا أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» وَالْمُرَادُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ الْحَدِّ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الْفِعْلَ فَاحِشَةً فَقَدْ سَمَّى كُلَّ كَبِيرَةٍ فَاحِشَةً فَقَالَ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] ثُمَّ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ الْفِعْلِ فِي الْقُبُلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَأَجْلِهِ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ زَجْرًا وَطَبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ فِي الْقُبُلِ وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الدُّبُرِ كَانَ الْمَفْعُولُ بِهِ مُمْتَنِعًا مِنْ ذَلِكَ بِطَبْعِهِ فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي دُعَاءِ الطَّبْعِ إلَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّ الزِّنَا مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْفِرَاشِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي الْقُبُلِ مُفْسِدٌ لِلْفِرَاشِ وَيَتَخَلَّقُ الْوَلَدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَا وَالِدَ لَهُ لِيُؤَدِّبَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ جُرْمًا يَفْسُدُ بِسَبَبِهِ عَالَمٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «وَوَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ». وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الدُّبُرِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى فَسَادِ الْفِرَاشِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ هَذَا النُّقْصَانُ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُقَايَسَةً، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمَا يُحْرَقَانِ بِالنَّارِ وَبِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 أَمَرَ فِي السَّبْعَةِ الَّذِينَ وُجِدُوا عَلَى اللِّوَاطَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: يُجْلَدَانِ إنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ وَيُرْجَمَانِ إنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: يُعَلَّى أَعْلَى الْأَمَاكِنِ مِنْ الْقَرْيَةِ ثُمَّ يُلْقَى مَنْكُوسًا فَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] الْآيَةَ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا نَتْنًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُمَا أَنْفُسُهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ عُقُوبَتِهِمَا فَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَرَجَّحْنَا قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَدِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا؛ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا نَصَّ الزِّنَا وَمَعَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ هَذَا الْفِعْلِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ الِاجْتِهَادُ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ الزِّنَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ حَدِّ الزِّنَا بِغَيْرِ الزِّنَا بَقِيَتْ هَذِهِ جَرِيمَةٌ لَا عُقُوبَةَ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ فِيهِ يَقِينًا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ السِّيَاسَةِ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي حَقٍّ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ شَرْعًا (قَالَ) وَالنَّاسُ أَحْرَارٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ: فِي الشَّهَادَةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ. يَعْنِي بِالشَّهَادَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا طَعَنَ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ عَبْدٌ فَمَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِ، وَبِالْعَقْلِ أَنَّ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ خَطَأٌ إذَا زَعَمُوا أَنَّهُ عَبْدٌ فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يَعْقِلُونَ جِنَايَتَهُ وَبِالْحُدُودِ إذَا ادَّعَى الزَّانِي أَنَّهُ عَبْدٌ، فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الْأَحْرَارِ، وَبِالْقِصَاصِ إذَا قَطَعَ يَدَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَبْدٌ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لِمَجْهُولِ الْحَالِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ الْإِسْلَامُ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ كُلِّ مَنْ هُوَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ أَوْ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّاسَ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَهُمَا كَانَا حُرَّيْنِ، وَهَذَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ. وَكَذَلِكَ الْعَاقِلَةُ تُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ فَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْيَدِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ لَدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِهِ حَتَّى إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فِي الْجَارِيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ أَوْلَادَهَا عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِفُلَانٍ أَعْتَقَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى الْغَائِبُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةٌ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ وَهُوَ الْمُنْكِرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 لِحُرِّيَّتِهِ فَإِنَّهُ خَصْمٌ عَنْ الْغَائِبِ لِاتِّصَالِ حَقِّهِ بِحَقِّ الْغَائِبِ فَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْهِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ (قَالَ) وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ وَأَمْضَاهُ ثُمَّ قَالَ: قَضَيْتُ بِالْجَوْرِ وَأَنَا أَعْلَمُ ذَلِكَ ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ وَعُزِّرَ وَعُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا جَارَ فِيهِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ بِغَيْرِ حَقٍّ إنَّمَا قَضَاؤُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُ بِالْجَوْرِ وَهُوَ فِيمَا يُتْلِفُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَغَيْرِهِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَيُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَصْدًا وَيُعْزَلُ عَنْ الْقَضَاءِ لِظُهُورِ خِيَانَتِهِ فِيمَا جُعِلَ أَمِينًا فِيهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْجَوْرِ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَزْلَهُ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ عِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَقْلِيدِهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْجَوْرِ، وَإِنَّ تَقْلِيدَ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ بِالْفِسْقِ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ اسْمُ ذَمٍّ وَاسْمَ الْإِيمَانِ اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَجْتَمِعَانِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْن الْمَنْزِلَتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوَافِقُهُمْ فِي أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ بِالْفِسْقِ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ مِمَّنْ قَلَّدَهُ كَانَ عَلَى ظَنِّ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ بَعْدَ الْخِيَانَةِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ يَقُولُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْوُلَاةَ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْقُضَاةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَلَّ مَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ وَجَوْرٍ، فَفِي الْقَوْلِ بِمَا قَالُوا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ سُدًى لَا وَالِيَ لَهُمْ، وَأَيُّ قَوْلِ أَفْحَشُ مِنْ هَذَا، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ قَضَى بِالْجَوْرِ وَقَدْ فَعَلَهُ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ مَوْضُوعٌ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] فَكَانَ هُوَ قَاضِيًا عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّرْعِ ظَاهِرًا غَيْرَ جَانٍ فِيمَا فَعَلَ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ الْخَطَأُ أَخَذَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِغُرْمِ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: الْقَاضِي إذَا أَخْبَرَ عَنْ قَضَائِهِ بِشَيْءٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِرَجْمٍ أَوْ قَتْلٍ بِنَاءً عَلَى قَضَائِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا وَرِعًا وَسِعَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفْسِرُوهُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا غَيْرَ وَرِعٍ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَفْسِرُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَرِعًا غَيْرَ عَالِمٍ؛ لِأَنَّ الْوَرِعَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ قَدْ يُخْطِئُ لِجَهْلِهِ، وَالْعَالِمُ الَّذِي لَيْسَ بِوَرِعٍ قَدْ يَعْتَمِدُ الْجَوْرَ وَيَمِيلُ إلَى الرِّشْوَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا وَرِعًا فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ الْخَطَأَ لِعِلْمِهِ وَالْجَوْرَ لِوَرَعِهِ فَيَسَعُهُمْ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ (قَالَ) وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 تَعَالَى إذَا عَايَنَ سَبَبَهُ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِذَا ثَبَتَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى مِمَّنْ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ، إنْ كَانَ إمَامًا وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُحِدَّهَا إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ». وَالْجَلْدُ مَتَى ذُكِرَ عِنْدَ حُكْمِ الزِّنَا يُرَادُ بِهِ الْحَدُّ دُونَ التَّعْزِيرِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالتَّطْهِيرِ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَتَهُ بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ كَالتَّعْزِيرِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ إصْلَاحٌ لِلْمُلْكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَتَعَيَّبُ بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ فَمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَنْهَا يَكُونُ إصْلَاحًا لِمِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّزْوِيجِ، وَفِي التَّطْهِيرِ إصْلَاحُ مِلْكِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا لِلتَّطْهِيرِ كَالْخِتَانِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ السُّلْطَانِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، أَوْ هُوَ أَقْوَى حَتَّى تَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى ضَرَبَهُ حَنِثَ كَالسُّلْطَانِ فِي حَقِّ الرَّعِيَّةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا يُقِيمُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ لَا يُقِيمُ، فَكَذَلِكَ بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوِلَايَتِهِ السَّلْطَنَةِ لَا يُقِيمُ بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُقِيمُ التَّعْزِيرَ عَلَيْهِ دُونَ الْحَدِّ جَمْعًا بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْحَدِّ بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِزِنَاهُ عَزَّرَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْلُهُ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَاسْتِيفَاءُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ مَا عَلَى الْإِمَاءِ مِنْ نِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا ضَمِنَ الْإِمَامُ أَرْبَعَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعَةٌ إلَى الْوُلَاةِ: الْحُدُودُ وَالصَّدَقَاتُ، وَالْجُمُعَاتُ، وَالْفَيْءُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْوِلَايَةُ فِي مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِيفَاؤُهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ لَا يَسْتَوْفِيه إلَّا هُوَ أَوْ نَائِبُهُ وَالْإِمَامُ مُتَعَيَّنٌ لِلنِّيَابَةِ عَنْ الشَّرْعِ، فَأَمَّا الْمُوَلَّى بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ لَا يَصِيرُ نَائِبًا عَنْ الشَّرْعِ، وَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي اسْتِيفَائِهِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّأْدِيبُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُعَزِّرُ مَنْ لَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ اللَّهِ كَالصِّبْيَانِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّأْدِيبِ فِي الدَّوَابِّ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ الْخِتَانُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَصِيِّ فِي الدَّوَابِّ لِإِصْلَاحِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَنِ وَالنَّفَقَاتِ فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى حَقِّ الْمِلْكِ مُرَجَّحًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَلَكَ الْمَوْلَى إقَامَتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً كَانَ لَهُ إقَامَةُ التَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِيمَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْوِلَايَةُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَالتَّزْوِيجِ وَبِالِاتِّفَاقِ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ شَاءَ الْمَوْلَى أَوْ أَبَى، عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ إقَامَتِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ. وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْحُدُودِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ إذْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِ بِحَالٍ، وَالْعَبْدُ فِي مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَوِلَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِيَّةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ؟ فَذَلِكَ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ نَظِيرُ الضَّرْبِ فِي الدَّوَابِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ السُّلْطَانِ لَمَلَكَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ بِالضَّرْبِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ. وَقَوْلُهُ «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ كَقَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَمَالِيكِ أَنْ لَا تَحْمِلَهُمْ الشَّفَقَةُ عَلَى مِلْكِهِمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ الْمُرَادُ السَّبَبُ وَالْمُرَافَعَةُ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى الْمُبَاشِرِ تَارَةً وَإِلَى الْمُسَبِّبِ أُخْرَى، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَ الزِّنَا وَإِنَّمَا أُضِيفَ إلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُرَادُ التَّعْزِيرُ. وَلَا يَبْعُدُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ كَالزَّانِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ لِتَعَمُّدِ الْإِفْطَارِ وَيُحَدُّ لِلزِّنَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى مُكَاتَبًا يُعَزَّرُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الزِّنَا، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إلَى الْإِمَامِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ (قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، وَأَنَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةً بِذَلِكَ أَمْهَلْته مَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُتَمَثِّلٍ فَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعُ الْحَدِّ الَّذِي ظَهَرَ سَبَبُهُ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ وَالِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ فَلِهَذَا لَا يُخَلَّى عَنْهُ وَلَكِنْ يُمْهِلُهُ إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ شُهُودِ بَيَانِهِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 شُهُودَهُ لَيْسَ بِحُضُورٍ فِي الْمِصْرِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ أَيَّامًا لَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فَلَيْسَ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْمَعْنَى كَالتَّضْيِيعِ فَكَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ إقَامَتَهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ هُنَاكَ تَأْخِيرُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ فِيهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» «وَلِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ فَلَا يُقَامُ فِيهَا حَدٌّ» وَلِأَنَّ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ حَرَامٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ». وَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى التَّلْوِيثِ فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى بَعْضِ الشُّهُودِ أَنَّهُ قَذَفَهُ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ وَيَسْأَلُ عَنْ شُهُودِ الْقَذْفِ، فَإِذَا زُكُّوا وَزُكِّيَ شُهُودُ الزِّنَا بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَدُرِئَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ فَيَبْدَأُ بِذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِحَدِّ الْقَذْفِ صَارَ شَاهِدُ الزِّنَا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ وَالْمُعْتَرِضُ فِي الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، وَفِيهِ دَرْءُ حَدِّ الزِّنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي، فَإِنْ حَضَرَ الْمَقْذُوفُ وَطَالَبَ بِحَدِّهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْمَقْذُوفُ لِيُطَالِبَ بِحَدِّهِ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ. فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ جَاءَ الْمَقْذُوفُ وَطَلَبَ حَدَّهُ يُحَدُّ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ حَقَّهُ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْخُصُومَةِ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الزَّانِي سَارِقٌ أَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهَذَا الْقَذْفُ مِنْ الشَّاهِدِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ يَبْدَأُ بِقَسَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنْ أَقَامُوا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فَلَا يَقْضِي بِهَا فَلَوْ بَدَأَ بِقَطْعِ السَّارِقِ أَوْ بِالْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ وَسِعَهُ وَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي قَضَائِهِ الْحُجَّةَ (قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَ آكِلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 رِبًا أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ أَنَّهُ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَجَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذَا جَرْحٌ فِي الشَّاهِدِ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا أَوْ الشَّاهِدُ أَقَرَّ بِهِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَهُ الْخَصْمُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ يُثْبِتُ شَيْئًا إنَّمَا يَنْفِي شَهَادَتَهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رَجُلٍ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالْقَتْلِ فِي مَكَان فِي يَوْمٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ. وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى التَّهَاتُرِ فَقَالَ: لَوْ قَبِلْتُ هَذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَحَدٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ يَأْتِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَنْقَطِعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْبَاتُ وَصْفٍ لَازِمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَحْدُودًا لَازِمٌ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَبُولُ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى التَّهَاتُرِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُهُمْ مِنْ حَدَّهُ وَمَا لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِهِ كَذَا حَدَّهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِدُهُ كُلُّ خَصْمٍ، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي مَالٍ فَيَجِيءُ بِالْبَيِّنَةِ، أَنَّ الشَّاهِدَ شَرِيكٌ فِيهِ قَدْ ادَّعَى شَرِكَتَهُ، أَوْ يَقُولُ: أَخَذَ مِنِّي كَذَا مِنْ الْمَالِ رِشْوَةً لِكَيْ لَا يَشْهَدَ عَلَى الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِرْدَادَ ذَلِكَ الْمَالِ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَظْهَرُ بِهِ فِسْقُ الشَّاهِدِ. (قَالَ) فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ حَدَّهُ فُلَانٌ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَا آتِيك بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إقْرَارِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّنِي، أَوْ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ حَدَّنِي فِيهِ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ بِهَذَا شَيْئًا إنَّمَا يَنْفِي شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنَا آتِي بِالْبَيِّنَةِ أَنِّي كُنْت غَائِبًا ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي أَرْضِ كَذَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مَشْهُورٍ، فَيُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ فِي النَّفْيِ حُجَّةٌ كَمَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالْقَاضِي عَالِمٌ بِكَذِبِ الشُّهُودِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ عِنْدَ تَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فَعِنْدَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِمْ أَوْلَى (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَحُدَّهُ فَافْتَرَى رَجُلٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى بَعْضِهِمْ فَخَافَ الْمَقْذُوفُ إنْ طَلَبَ بِحَقِّهِ فِي الْقَذْفِ أَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ فَلَمْ يُطَالِبْ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الزِّنَا وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ فَنَفْسُهُ لَا يَكُونُ جَرِيمَةً وَرُبَّمَا يَكُونُ حَسَنَةً إذَا عُلِمَ إصْرَارُهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 وَإِنَّمَا الْجَرِيمَةُ فِي هَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْقَذْفِ عِنْدَنَا شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ. (قَالَ) وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالرَّجْمِ عَلَيْهِ ثُمَّ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجُمَهُ وَوُلِّيَ آخَرُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ فَهُوَ كَنَفْسِ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَلَيْسَ لِلَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ قَالَ، وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ قَاضٍ قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالرَّجْمِ، ثُمَّ إنَّهُ أُتِيَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْعَمَلِ بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ وَطِئَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، وَلَمْ يَقُولُوا: زَنَى بِهَا فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ الزِّنَا، وَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَالْوَطْءُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ يَكُونُ حَلَالًا بِشُبْهَةٍ وَغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَالزِّنَا نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ الْوَطْءِ، وَبِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَا يَثْبُتُ مَا هُوَ خَاصٌّ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ مَا صَرَّحُوا بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا [زَنَى الذِّمِّيُّ فَقَالَ عِنْدِي هَذَا حَلَالٌ] (قَالَ) وَإِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ فَقَالَ: عِنْدِي هَذَا حَلَالٌ لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِكَذِبِهِ فَالزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّا مَا أَعْطَيْنَاهُ الذِّمَّةَ عَلَى اسْتِحْلَالِ الزِّنَا بِخِلَافِ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَصْلِ اعْتِقَادِهِمْ، فَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الزِّنَا فِسْقٌ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ كَاسْتِحْلَالِ الرِّبَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الرَّبَّا، وَلَا يُعْتَبَرُ اسْتِحْلَالُهُمْ لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الزِّنَا (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ الْمُسْلِمَةِ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، فَكَانُوا قَاذِفِينَ لَهَا فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ إمَّا لِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِمْ أَوْ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمْ كَوْنُ الْمُسْلِمَةِ مَحَلًّا لِذَلِكَ (قَالَ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَدَخَلَ بِهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ عَالَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَكُلِّ امْرَأَةٍ إذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. (وَحُجَّتُهُمَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا زِنًى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22] وَالْفَاحِشَةُ اسْمُ الزِّنَا، وَفِي «حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 لِوَاءٌ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ نَكَحَ مَنْكُوحَةَ أَبِيهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَهُ»، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُهُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَمَحَلُّ النِّكَاح هُوَ الْحِلُّ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمِلْكِ الْحِلِّ، فَالْمَحْرَمِيَّةُ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحِلِّ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ لَغْوًا كَمَا يَلْغُوَا إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى الذُّكُورِ وَالْبَيْعُ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ لَوْ ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ، فَاَلَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا أَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» فَمَعَ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أُسْقِطَ الْحَدُّ بِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْعَقْدِ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَاخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْمُعْتَدَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَهْرُ لَهَا، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ وَلِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا لُغَةً؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى عَقْدٍ لَا يَكُونُ زِنًى لُغَةً فَكَذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كَانَ حَلَالًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، وَالزِّنَا مَا كَانَ حَلَالًا قَطُّ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَى هَذَا، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى الزِّنَا بَلْ يُحَدُّونَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنْسَبُ أَوْلَادُهُمْ إلَى أَوْلَادِ الزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا وَحَدُّ الزِّنَا لَا يَجِبُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقِيَاسِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ مَحَلٌّ لِلنِّكَاحِ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ لِمَا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مِنْ الْمُنَافَاةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْرٍ فَإِنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ، عِنْدَنَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ جُعِلَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي مَحَلٌّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَأَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فِي حَقِّهِ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْيَمِينِ، فَإِنَّ مَنْ وَطِئَ أُمَّتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَالنِّكَاحُ فِي كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحِلِّ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي مَحَلٍّ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ بِحَالٍ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَعَقْدُ النِّكَاحِ أَوْلَى وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا بَعْدَ الرَّفْعِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ لِلْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الْفَاحِشَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالزِّنَا بَلْ هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا هُوَ حَرَامٌ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرَّجُلَ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَكَانَ مُرْتَدًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَرَنِي أَنْ أُخَمِّسَ مَالَهُ [تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إلَيْهِ أُخْرَى فَوَطِئَهَا] (قَالَ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إلَيْهِ أُخْرَى فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ، وَفِيهِ قَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسُقُوطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ إحْصَانَهُ، إلَّا فِي رِوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَإِنَّمَا يَبْقَى اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَبِالشُّبْهَةِ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ (قَالَ) وَلَوْ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ فَقَالَ: حَسِبْتُهَا امْرَأَتِي فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحُسْبَانَ وَالظَّنَّ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ بِخِلَافِ الزِّفَافِ وَخَبَرِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ فَيَكُونُ مُورِثًا شُبْهَةً (قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا شِرَاءً فَاسِدًا، أَوْ عَلَى أَنْ لِلْبَائِعِ خِيَارًا فِيهِ، أَوْ ادَّعَى صَدَقَةً أَوْ هِبَةً وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ ادَّعَى نِكَاحًا أَوْ شِرَاءً صَحِيحًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا أَوْ اسْتَحْلَفَ مَوْلَى الْأَمَةِ، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ السَّبَبِ مُورِثٌ شُبْهَةً، وَإِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي؛ لِأَنَّهُ مَتَى آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا، وَشَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقَالَ لَسْتُ أَمْلِكُ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ ادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي هِبَةً أَوْ بَيْعًا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِمَا قُلْنَا [وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ شِقْصٌ فِيهَا] (قَالَ) وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ شِقْصٌ فِيهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَوُجُودُ جُزْءٍ مِنْهَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نِسْبَةً ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَصَارَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؟ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ؟ وَلَكِنْ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ مِنْ الْعُقْرِ إذَا لَمْ تَلِدْ. (قَالَ) وَمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَقَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ لِشَرِيكِهِ فَوَطِئَهَا الشَّرِيكُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ شَرِيكُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا، وَلَوْ ضَمِنَ شَرِيكُهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْمُعْتِقُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَسْعِيهَا فِيمَا ضَمِنَ فَتَكُونُ كَالْمُكَاتَبَةِ لَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا الشَّرِيكُ بَعْدَ مَا ضَمِنَ شَرِيكُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةُ غَيْرِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ وَطِئَهَا، الْمُعْتِقُ وَالسَّاكِتُ فِيهِ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّى، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَعَارِضَةٌ فِي تَجَزِّي الْعِتْقِ، وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَكِنْ يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُ الْوَاطِئِ حَتَّى لَا يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْءَ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَإِنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْوَاطِئِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ (قَالَ) رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَفِي الْأَصْلِ أَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً وَالْمُرَادُ الْخُلْعُ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الْبَيْنُونَةِ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْدَ الْخُلْعِ وَالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ هِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَبِسَبَبِ الْعِدَّةِ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْيَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ مُعْتَبَرٌ فِي الِاشْتِبَاهِ فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِلَّا فَلَا. (فَإِنْ قِيلَ) بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جُمْلَةً هَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ أَمْ لَا؟ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ. (قُلْنَا) هَذَا خِلَافٌ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهِ حَتَّى لَا يَسَعَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَلَوْ قَضَى لَا يُنَفَّذُ قَضَاؤُهُ، أَرَأَيْتُ لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَكُنَّا نُسْقِطُ الْحَدَّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ عَنْ فِرَاشٍ صَحِيحٍ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةِ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِارْتِكَابِهِ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ. (قَالَ) وَإِذَا حَرُمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِرِدَّتِهَا أَوْ مُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ مَعَ أُمِّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْخُلْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ؟ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي عِدَّتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَتَوَقَّفُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ وَمَنْ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ الْحَرَامُ» وَهَذَا خِلَافٌ ظَاهِرٌ لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَانَهَا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٍ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذَا اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً حُكْمِيَّةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ يَنْوِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 ذَلِكَ هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ مُسْقِطَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ أَوْ يَعْلَمُ كَالْأَبِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَمْ يَعْرِفُوهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا، وَالزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ بِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَتَحَقَّقُ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَأَوْهَا يَفْعَلُ بِهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: الَّتِي رَأَوْهَا مَعِي لَيْسَتْ لِي بِامْرَأَةٍ وَلَا خَادِمٍ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ حِينَ لَمْ يُبَيِّنُوا الشَّهَادَةَ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالزِّنَا، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا فَحَدُّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً، وَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ بِهَا لَا يَكُونُ زِنًى، فَلَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِفِعْلِ الزِّنَا فِي مَحَلِّهِ، وَأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِذَلِكَ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ غَيْرُ عُدُولٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ، أَمَّا عَلَيْهِ فَلِأَنَّ ظُهُورَ الزِّنَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَشَهَادَةُ الْفُسَّاقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا فِيهَا بِالتَّوَقُّفِ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا عَلَيْهِمْ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ شَهَادَةٌ عِنْدَنَا حَتَّى إنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ يَسْقُطُ بِهِ - الْحَدُّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَهَذَا أَتَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا شَهَادَةَ لَهُمْ بَلْ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْقَاذِفِ بِقَذْفِهِ، وَإِنْ كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبِيدًا حُدُّوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فَكَانَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فِي الْأَصْلِ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ وَحَكَمَ بِكَذِبِهِ، وَالْعُمْيَانُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَلَيْسَ لِلْأَعْمَى هَذِهِ الْآلَةُ فَكَانَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا مِنْ الْأَصْلِ. وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ زَوْجُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تُقْبَلُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ اللِّعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الثَّلَاثَةُ كُفَّارًا وَالزَّوْجُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 مُسْلِمًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَقَذْفُ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلِّعَانِ (قَالَ) وَإِنْ جَاءَ شُهُودُ الزِّنَا فَشَهِدُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَجَالِسِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ الزِّنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ فَاشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَامْتَنَعَ زِيَادٌ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ مَجِيءَ رَابِعٍ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَانْتَظَرَ مَجِيءَ رَابِعٍ لِيَدْرَأَ بِهِ الْحَدَّ عَنْ الثَّلَاثَةِ وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَوْ جَاءَ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ فُرَادَى حَدَدْتُهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا قَذْفٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ بِتَكَامُلِ الْعَدَدِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا فَيَصِيرُ حُجَّةً لِلْحَدِّ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمُغَيَّرِ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي الْمَجْلِسِ كَالْقَبُولِ مَعَ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ لَيْسَ بِعَقْدٍ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبُولُ يَصِيرُ عَقْدًا فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَصِيرَ الْإِيجَابُ بِهِ عَقْدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَذْفٌ مُفْتَرِقٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُجَّةٌ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَلِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ فِي جَمْعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْ الْكَلَامِ فَإِذَا كَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا جُعِلَ كَلَامُهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا تَفَرَّقَتْ الْمَجَالِسُ، وَإِنْ كَانُوا فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ عَلَى بَابِ الْقَاضِي فَقَامَ إلَى الْقَاضِي وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْلِسُوا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَيَشْهَدُوا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ اجْتَمَعَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مِنْ الْقَاضِي مُبَالَغَةٌ فِي الِاحْتِيَاطِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُمْ هَلْ يَتَّفِقُونَ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا لَمْ يَسْمَعْ بَعْضُهُمْ كَلَامَ بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّفَرُّقِ وَجَبَ اعْتِبَارُ تَفَرُّقِ الْأَدَاءِ، وَإِنْ جَلَسُوا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُمْ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ: زَنَى بِهَا فِي دَارِ فُلَانٍ آخَرَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا حَدَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 عَلَى الشُّهُودِ لِاجْتِمَاعِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا عَلَيْهِمَا (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ نَصَارَى عَلَى نَصْرَانِيَّيْنِ بِالزِّنَا فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ، قَالَ: يَبْطُلُ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الطَّارِئَ مِنْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقَارِنِ لِلسَّبَبِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الشُّهُودُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ أَعَادُوا الشَّهَادَةَ أَوْ لَمْ يُعِيدُوهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ أَبْطَلَهَا حِينَ دَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُمَا فَلَا يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. (قَالَ) وَإِنْ كَانُوا شَهِدُوا عَلَى رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ بِالزِّنَا فَلَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ أَسْلَمَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَوْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْ الَّذِي أَسْلَمَ وَعَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُدْرَأُ عَنْ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَأَنَّهُمْ تَفَرَّدُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدُّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ ابْنُ لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَأَنَّ «الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: إنَّ بِي حَبَلًا مِنْ الزِّنَا، قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَك ثُمَّ رَجَمَهَا»، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْأَقَارِيرَ الْأَرْبَعَةَ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَقُّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ فَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالشَّهَادَةِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْعَدَدَ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَدَالَةُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الذُّكُورَةُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْكَلَامِ مِنْ وَاحِدٍ، وَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ سُقُوطُ حَدٍّ عَنْ الْقَاذِفِ يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا، ثُمَّ فِي الشَّهَادَةِ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ دُونَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 حَدِيثُ «مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «قَالَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا لِلْآخَرِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «الْآنَ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، قَالَ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَهَا أَوْ لَمَسْتَهَا بِشَهْوَةٍ، لَعَلَّك بَاشَرْتَهَا فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا فَقَالَ: أَبِكَ خَبَلٌ؟ أَبِكَ جُنُونٌ؟»، وَفِي رِوَايَةٍ «بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ هَلْ يُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَوَجَدَهُ مُحْصَنًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ». فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَحَكَمَ بِالرَّابِعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَنْبَغِي لِوَالٍ عِنْدَهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ أَلَّا يُقِيمَهُ»، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ لَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ كَيْفَ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ؟ وَلَكِنَّهُ قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا وَاشْتَغَلَ بِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ فَحِينَ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَغَلَ بِالْإِقَامَةِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَسَّ بِهِ الْجُنُونَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثَائِرَ الرَّأْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ: " أَبِك خَبَلٌ؟ " ثُمَّ لَمَّا رَأَى إصْرَارَهُ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ أَنَّ الْإِعْرَاضَ قَبْلَ هَذَا لِعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا دَلِيلَ جُنُونِهِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ بِهِ عَنْهُ الْحَدَّ، كَمَا لَقَّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ، أَسَرَقْتِ؟ قَوْلِي لَا، وَإِنَّمَا كَانَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا عَلَامَةَ الْأَبْرَارِ فَقَالَ «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرِينَ لَا يُؤْبَهُ بِهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا وَيَقُولُ الْمَذْكُورُ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ دُونَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ وُجِدَ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَدَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ رَجَعَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «، قَالَ: اذْهَبْ وَيْلَك فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ فَذَهَبَ حَتَّى غَابَ عَنْ بَصَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعَ» فَالْمُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي، حَتَّى إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكْفِي هَذَا لِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ أَقَرَّ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى إقْرَارَيْنِ كَانَا مِنْهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَانَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ أَقْرَرْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: إيَّاكَ وَالرَّابِعَةَ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا لَوْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ ثَلَاثًا مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ مَنْ يَرْجُمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَقَارِيرِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» الِاعْتِرَافُ الْمَعْرُوفُ فِي الزِّنَا، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ هَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنَّ الْأَقَارِيرَ مِنْهَا كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ مَا طَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا وَبَعْدَ مَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَتَّفِقْ الرِّوَايَةُ عَلَى نَقْلِ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثِهَا، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي، كَمَا رَدَدْت مَاعِزًا لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تَرْدِيدَ مَاعِزٍ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا جَاءَتْ لِطَلَبِ التَّطْهِيرِ ثُمَّ تَعْتَرِضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ بَاطِلٌ، فَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ التَّغْلِيظِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النِّسْبَةَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَمُوجِبٌ لِلِّعَانِ إذَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ. وَيُشْتَرَطُ فِي إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْعَدَدِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّغْلِيظِ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ الْعَدَدَ فِي الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدُونِ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْإِقْرَارِ حُكْمًا إلَّا بِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا تَكَرَّرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ يُجْعَلُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ لَا فِي الْإِقْرَارِ الْمُسْقِطِ لِلْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ دُونَ الْمُسْقِطِ؟ وَكَذَلِكَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ بِالشُّهُودِ حَتَّى إذَا قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَا فَشَهِدَ عَلَيْهَا شَاهِدَانِ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا سَقَطَ حَدٌّ عَنْ الْقَاذِفِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ الْمُعْتَرَفَ بِالزِّنَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: اُطْرُدُوا الْمُعْتَرَفِينَ بِالزِّنَا، فَإِذَا عَادَ الرَّابِعَةَ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ، وَكَيْفَ هُوَ وَبِمَنْ زَنَى وَأَيْنَ زَنَى لِمَا بَيَّنَّا فِي الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَسْأَلُهُ مَتَى زَنَى؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ، وَإِنَّمَا لَا يُقَامُ بِالْبَيِّنَةِ، فَلِهَذَا يُسْأَلُ الشُّهُودُ مَتَى زَنَى، وَلَا يُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا وَصَفَهُ وَأَثْبَتَهُ قَالَ لَهُ فَلَعَلَّك تَزَوَّجْتَهَا أَوْ وَطِئْتَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا فِي مَعْنَى تَلْقِينِ الرُّجُوعِ وَالْإِمَامُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَاعِزٍ لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا»، فَإِنْ، قَالَ: لَا نَظَرَ فِي عَقْلِهِ وَسَأَلَ أَهْلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَاعِزٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ هَدَرٌ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِمُعَايَنٍ فَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ يَسْأَلُ عَنْ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ يَخْتَلِفُ بِإِحْصَانِهِ وَعَدَمِ إحْصَانِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَعَسَى يُقَرِّبُهُ وَلَا يَطُولُ الْأَمْرُ عَلَى الْقَاضِي فِي طَلَبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إحْصَانِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَحْصَنْت اسْتَفْسَرَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِحْصَانِ يَنْطَلِقُ عَلَى خِصَالٍ، وَرُبَّمَا لَا يَعْرِفُ الْمُقِرُّ بَعْضَهَا فَيَسْأَلُهُ لِهَذَا، فَإِذَا فَسَّرَهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَإِذَا رُجِمَ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى. «وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِ مَاعِزٍ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَلَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ رَأَيْته يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَا فِيمَا بَيْنَهُمَا: مَا رَكَنَتْ نَفْسُهُ حَتَّى جَاءَ وَاعْتَرَفَ فَقُتِلَ كَمَا يُقْتَلُ الْكِلَابُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَكَتَ حَتَّى مَرُّوا بِحِمَارٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: انْزِلَا فَكُلَا فَقَالَا: إنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَقَالَ: تَنَاوُلُكُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ» (قَالَ) فَإِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ دُرِئَ حَدٌّ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُدْرَأُ عَنْهُ حَدٌّ بِرُجُوعِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ حَدٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتُبِرَ هَذَا الْإِقْرَارُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ فِي هَذَا كُلِّهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَّنَ الْمُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ الرُّجُوعَ»، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ لَمَا لَقَّنَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا هَرَبَ انْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَثَرِهِ فَرَجَمُوهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ»، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِوُجُودِ خَصْمٍ يُصَدِّقُهُ فِي الْإِقْرَارِ وَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَعَارَضُ كَلَامَاهُ الْإِقْرَارُ وَالرُّجُوعُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالشُّبْهَةُ تَثْبُتُ بِالْمُعَارِضَةِ (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ يُرْجَمُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، وَلَا يُجْعَلُ إنْكَارُهُ لِلْإِحْصَانِ رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالْتِزَامُ الْعُقُوبَةِ مَعَ إنْكَارِ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ بَعْدَ إنْكَارِهِ كَانَ يُرْجَمُ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ [الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا غَائِبَةً] (قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا غَائِبَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ رُبَّمَا ادَّعَتْ شُبْهَةَ نِكَاحٍ مُسْقِطَةٍ لِلْحَدِّ عَنْهَا فَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ، وَقِيلَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ السَّرِقَةِ إذَا قَالَ: سَرَقْت أَنَا وَفُلَانٌ مَالَ فُلَانٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ «لِحَدِيثِ مَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحْضِرْ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَلَكِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ»، وَفِي «حَدِيثِ الْعَسِيفِ أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى ابْنِ الرَّجُلِ ثُمَّ قَالَ: اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَدَلَّ أَنَّ حُضُورَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا مِنْ شُبْهَةٍ تَدَّعِيهَا إذَا حَضَرَتْ فَالرَّجُلُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَتَوَهُّمُ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِي الشُّبْهَةَ كَتَوَهُّمِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ. فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ حَدٍّ عَلَى الْمُقِرِّ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا حُدَّ الرَّجُلُ فَادَّعَتْ النِّكَاحَ وَطَلَبَتْ الْمَهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ زِنًى بِهَا حِينَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَهِيَ تَدَّعِي إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِقَوْلِهَا (قَالَ) أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَأَقَرَّ هُوَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ أَوْ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَلَا يُقَالُ: إقْرَارُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْدِيلٌ مِنْهُ لِلشُّهُودِ وَتَصْدِيقٌ لَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَحِقُوا بِالْعُدُولِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ، فَإِنَّ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ إقْرَارُهُ مَانِعٌ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ إلَّا إنَّهُ إذَا كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا يُجْعَلُ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ كَالْمَعْدُومِ لَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ سَبَبُ حَدٍّ فَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِإِقْرَارِهِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ لَا عَلَى الْمُقِرِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ عُدُولٌ فَاسْتَغْنَى عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ يَثْبُتُ الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَرَّرَ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ الْمَهْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْتُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي السَّرِقَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ إنَّ الزِّنَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ فَإِنْ تَمَّ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، كَمَا أَنَّهُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِقْرَارِ إنْ رَجَعَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ (قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ الَّتِي تَمَكَّنَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ، وَمَالُك لِأَبِيك» وَكَيْف يَجِبُ الْحَدُّ؟ وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ امْرَأَتِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَانِ بِحُرْمَةِ الْفِعْلِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إذَا لَمْ يُشْتَبَهْ، فَأَمَّا إذَا قَالَ الْوَاطِئُ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، أَوْ قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي، لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مُعْتَبَرٌ بِالشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ أُمِّهِ فَقَالَ لَهُ: أَوَطِئْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ الْحَدَّ. وَخَطَّأَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْقَضَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِإِقْرَارِهِ بِلَفْظِ الْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ مَا لَمْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْإِقْرَارَ فِي هَذَا الْبَابِ بِقَوْلِهِ: أَفَعَلْت، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَلْقِينِ الرُّجُوعِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ مَا لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَهُ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ (قَالَ)، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْأَجْنَبِيِّ. (قَالَ) فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا سَرَقَ مَالَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ ثُمَّ أَجَابَ وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ حَدَدْته، وَلَوْ سَرَقَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ أَقْطَعْهُ؟ وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا بُدَّ مِنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَالْإِحْرَازُ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا [وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ] (قَالَ) وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ إذَا كَذَّبَهُ وَلَدُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِيلَادِ تُبْنَى عَلَى وِلَايَةِ نَقْلِ الْجَارِيَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْجَدِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ وَلَكِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 إنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَدُ الْوَلَدِ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْجَدِّ، وَأَنَّهُ عَمُّهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَسَقَطَ حَدٌّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهُوَ الْبُنُوَّةُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ عِنْدَ ذَلِكَ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الدَّعْوَةِ، صَدَّقَهُ ابْنُ الْأَبِ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ إنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى نَفْسِهِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ [شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى زِنًى قَدِيمٍ] (قَالَ)، وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى زِنًى قَدِيمٍ لَمْ أُحِدَّ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَلَمْ أُحِدَّهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَإِنْ أَقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أُقِيم عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُقَامُ اعْتِبَارًا لِحُجَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ كَمَا نَدَبُوا إلَى السَّتْرِ فَالْمُرْتَكِبُ لِلْفَاحِشَةِ أَيْضًا مَنْدُوبٌ إلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ»، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِآخِرِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ «وَمَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَةً أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ»، وَهَذَا قَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التُّهْمَةَ تَنْتَفِي عَنْ إقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى هَتْكِ سِتْرِهِ بَلْ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ النَّدَمُ وَإِيثَارُ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، فَبِتَقَادُمِ الْعَهْدِ هُنَاكَ تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَدَاوَةَ حَمَلَتْهُمْ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا اخْتَارُوا السَّتْرَ عَلَيْهِ وَهُنَا كَانَ إصْرَارُهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ ثُمَّ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ حَمَلَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ (قَالَ) وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَحُرْمَةُ الزِّنَا ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ أَيْضًا كَإِقْرَارِ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ بِالزِّنَا يَصِحُّ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَبِهَذَا الْإِقْرَارُ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنْتَقِصُ مَالِيَّتُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَحْجُورًا، فَكَذَلِكَ بِالْحَدِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ هُوَ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى فَلِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ (قَالَ) وَلَا يُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِحَدِّ الزِّنَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِإِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ شَهِدْت بِهِ عَلَيْهِ شُهُودٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُؤْخَذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ فَهُوَ كَالْأَعْمَى أَوْ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إذَا أَقَرَّ بِهِ بِالْإِشَارَةِ فَالْإِشَارَةُ بَدَلٌ عَنْ الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِالْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظَةِ الزِّنَا فِي الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ إنَّمَا الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ إشَارَتِهِ الْوَطْءُ، فَلَوْ أَقَرَّ النَّاطِقُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَرَدَّدُ وَالْكِتَابَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَوْ أَقَمْنَا عَلَيْهِ كَانَ إقَامَةَ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إظْهَارِ دَعْوَى الشُّبْهَةِ. وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَصِحَّاءِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِالزِّنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ. وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت فِي حَالِ جُنُونِي لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِكَوْنِهِ مَرْفُوعٌ الْقَلَمُ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْبَالِغِ إذَا قَالَ: زَنَيْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِالزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَلَا كَانَ مُلْتَزِمًا حُكْمَ الْإِسْلَامِ [أقر الْمَجْبُوب بِالزِّنَا] (قَالَ)، وَإِنْ أَقَرَّ الْمَجْبُوبُ بِالزِّنَا لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فَالْمَجْبُوبُ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا فَالتَّيَقُّنُ بِكَذِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ (قَالَ) وَإِنْ أَقَرَّ الْخَصِيُّ بِالزِّنَا أَوْ شَهِدَتْ بِهِ عَلَيْهِ الشُّهُودُ حُدَّ؛ لِأَنَّ لِلْخَصِيِّ آلَةُ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالْخَصِيِّ الْإِنْزَالُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إتْمَامِ فِعْلِ الزِّنَا فَيَلْزَمُهُ مِنْ حَدٍّ مَا يَلْزَمُ الْفَحْلَ وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ: زَنَيْت وَأَنَا عَبْدٌ لَزِمَهُ حَدُّ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي إضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةِ الرِّقِّ لِكَوْنِهَا حَالَةً مَعْهُودَةً فِيهِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ زَنَى فِي حَالَةِ رِقِّهِ ثُمَّ عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ، وَقَالَتْ كَذَبَ مَا زَنَى بِي، وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ يُحَدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ»، وَلِأَنَّ الزِّنَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 فِعْلَانِ مِنْ الزَّانِيَيْنِ وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنْكَارُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِإِنْكَارِهَا ظُهُورُ الزِّنَا فِي حَقِّهَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً سَاكِتَةً أَوْ غَائِبَةً، وَكَمَا لَوْ قَالَتْ: زَنَى بِي مُسْتَكْرَهَةً يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: فِعْلُ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَبِإِنْكَارِهَا قَدْ انْتَفَى فِي جَانِبِهَا فَيَنْتَفِي فِي جَانِبِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى صِفَةُ الزِّنَا فِي جَانِبِهَا بِدَعْوِي النِّكَاحِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا؟ فَإِذَا انْتَفَى أَصْلُ الْفِعْلِ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا بِهَا مَعَ إنْكَارِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَبْقَى مُحْصَنَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ، وَبِدُونِ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ. وَفِي الْغَائِبَةِ قِيَاسُ اسْتِحْسَانٍ وَالْفَصْلُ الْمُسْتَحْسَنُ لَا يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ ثُمَّ بِغَيْبَتِهَا وَاسْتِكْرَاهِهَا لَا يَنْتَفِي الْفِعْلُ فِي جَانِبِهَا وَبِإِنْكَارِهَا يَنْتَفِي، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ بَطَلَ إقْرَارُهُ؟ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا سَاكِتًا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْإِقْرَارُ حَتَّى إذَا صَدَّقَهُ عَمِلَ بِتَصْدِيقِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ زَنَى بِي مُسْتَكْرَهَةً؛ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ وَأَصْلَ الْفِعْلِ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّهَا، وَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا بِهِ وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ وَطَالَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا لَا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فُلَانٌ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ فَلَا يَثْبُتُ أَصْلُ الْفِعْلِ مَعَ إنْكَارِهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ صَدَقَتْ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ (قَالَ) الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي هَذَا فِي الْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، وَعَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ) وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَزَنَى هُنَاكَ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّ بِهِ لَمْ يُحَدَّ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا كَانَ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَ بَاشَرَ السَّبَبَ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا (قَالَ) وَكَذَلِكَ سَرِيَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَزَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ هُنَاكَ أَوْ كَانُوا عَسْكَرًا؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ إنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْحَرْبِ، وَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ غَزَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَ أَمِيرُ مِصْرٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا غَزَا بِجُنْدِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ جُنْدِهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ فَمَنْ ارْتَكَبَ مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، كَمَا يُقِيمُهَا فِي دَارِ - الْإِسْلَامِ هَذَا إذَا زَنَى فِي الْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (قَالَ)، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْهُمْ، وَلَا مَنْ كَانَ تَاجِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأُمَرَاؤُهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ لِمَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَوِلَايَتُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مُنْقَطِعَةٌ لِقُصُورِ يَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ لِلِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي امْتَنَعَ الْوُجُوبُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَدْرَأُ الْعُقُوبَةَ إذَا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ (قَالَ) وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ فِي مَحَلٍّ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ النَّفْسِيَّةِ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقَانِ بَيْنَ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْآبِقِ (قَالَ) وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ فِي زِنًى أَوْ شُرْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ لِمَا رُوِيَ عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَمَةٍ فَرَأَى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ فَرَجَعَ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ أَثَرَ الدَّمِ بِهَا كَانَ نِفَاسًا لَا حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَالنُّفَسَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الْمَرِيضِ رُبَّمَا يَنْضَمُّ أَلَمُ الْجَلْدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 إلَى أَلَمِ الْمَرَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ وَالْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَرِيضٍ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بُرْئِهِ وَاسْتَحْكَمَ ذَلِكَ الْمَرَضُ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ تَطْهِيرًا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ رَجْمًا فَأَمَّا الرَّجْمُ يُقَامُ عَلَى الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ نَفْسِهِ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ (قَالَ) رَجُلٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْفَقْءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّ الْعِبَادِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَإِذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى وَيُجْعَلُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ آخِرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ. وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَالَى إقَامَةَ هَذِهِ الْحُدُودِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ رُبَّمَا يَهْرُبُ فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مُضَيِّعًا لِلْحَدِّ وَالْإِمَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَضْيِيعِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ رَجَمَهُ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا نَفْسٌ قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الزَّجْرِ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا دُونَهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَلِهَذَا رَجَمَهُ وَدَرَأَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا يُضَمِّنُهُ السَّرِقَةَ وَيَأْمُرُ بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ (قَالَ)، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا قَوَدٌ، وَلَا تَعْزِيرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ وَهْمِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْمَجْلُودَ قَدْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 أَصْوَاتِكُمْ»، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا أَرَادَ إقَامَةَ الْحَدِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا لِيُقَامَ بِحَضْرَتِهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَاعِزٍ (قَالَ) وَإِذَا زَنَى الرَّجُلُ مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ مَرَّاتٍ أَوْ سَرَقَ مَرَّاتٍ أَوْ شَرِبَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الزَّجْرُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ [وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ] (قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ حَدٌّ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِحَدِيثِ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ»، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ، ثُمَّ لَيْسَ لِفَرْجِ الْبَهِيمَةِ حُكْمُ الْفَرْجِ حَتَّى لَا يَجِبُ سِتْرُهُ وَالْإِيلَاجُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيلَاجِ فِي كُوزٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَمِيلُ طَبْعُ الْعُقَلَاءِ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ يَكُون مِنْ غَلَبَةِ الشَّبَقِ أَوْ فَرْطِ السَّفَهِ، كَمَا يَحْصُلُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْكَفِّ وَالْأَلْيَةِ، وَلَكِنَّهُ يُعَذَّرُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ. (قَالَ) فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَلَمْ يُحِدَّهُ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَنَا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَيْ لَا يُعَيَّرَ الرَّجُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً (قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ قَاذِفٌ رَجُلًا بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ إذَا نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِمُبَاشَرَتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ أَوْ تَقْبِيلِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ [قَذَفَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ] (قَالَ) وَإِنْ قَذَفَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ لَمْ يُحَدَّ إلَّا أَنْ يُفْصِحَ مَعْنَاهُ إذَا قَالَ: يَا لُوطِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، فَأَمَّا إذَا أَفْصَحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعَزَّرُ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ الْفِعْلِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ يَسْتَوْجِبُ بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَدَّ عِنْدَهُمَا (قَالَ) وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحِ فَاسِدٍ ثُمَّ قَذَفَهُ رَجُلٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَيَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ (قَالَ)، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ الشُّهُودَ مَا تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِقَامَتِهِ، وَفِي هَذَا احْتِيَالٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا سَأَلُوهُ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِحَقٍّ، وَلَا يَتَّصِلُ إلَى ذَلِكَ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسُّؤَالِ فَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ فِي رَأْيِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يُبْصِرُ وُجُوهَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَهُ. وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَهُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَدْ يَسْبِقُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي حَادِثَةٍ لِإِنْسَانٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ كَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقَاوِيلِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ نَوْعُ اجْتِهَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَادِثَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ عِنْدَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ اجْتِهَادَ مِثْلِهِ، وَهُنَا أَيْضًا إذَا قَدَّمَ رَأْيَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ عَلَى رَأْيِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فَكَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ] (قَالَ)، وَإِذَا شَهِدَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا كُلُّ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنُوا، وَلَمْ يُحَدُّوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الرُّجُوعِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاجِعُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ مَا بَقِيَتْ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى زِنَاهُ، فَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْآخَرِينَ أَيْضًا فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي الرُّبْعِ فَعَلَى الرَّاجِعِينَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمِيعًا وَيُحْدَوُنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحَدُّونَ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ وَيُحَدُّونَ عِنْدَهُمَا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَرْبَعَةٍ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ زِنًى آخَرَ فَالزِّنَا بِزَيْنَبِ غَيْرُ الزِّنَا بِعَمْرَةِ فَفِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الْإِحْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا لَوْ رَجَعُوا وَقَذَفَ الْمَرْجُومَ إنْسَانٌ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؟ وَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ سِوَاهُمْ أَنَّهُ كَانَ زَانِيًا بَعْدَ رُجُوعِهِ لَا يُحَدُّونَ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إهْدَارِ الدَّمِ وَيُعْتَبَرُ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَنْدَرِئُ الشُّبُهَاتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: هُمْ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ جُعِلُوا كَالشَّاهِدِينَ بِزِنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلُوا كَذَلِكَ لَضَمِنُوا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَشَاهِدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أُخْرَى، وَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِهَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُعِلُوا كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ. (قَالَ)، وَلَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ حُدُّوا جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا، فَقَدْ حَكَمْنَا فِي حَقِّهِمْ بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ مَقْتُولٌ ظُلْمًا حَتَّى غَرَّمْنَاهُمْ الدِّيَةَ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُ عَفِيفٌ، وَأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِغَيْرِ حَقٍّ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ خَمْسَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ غَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النَّفْسِ وَيُحَدَّانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ. (فَإِنْ قِيلَ) الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَرُجُوعِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ الْحَدَّ. (قُلْنَا) لَمْ يَجِبْ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ بَقَاءُ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، فَإِذَا زَالَ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرِّرِ فِي حَقِّهِ لَا بِزَوَالِ الْمَانِعِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ (قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا فَعَلَ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ شَيْئًا مِمَّا هُوَ إلَى السُّلْطَانِ فَلَيْسَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا الْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ إلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَ مَنْ عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ إقَامَتَهُ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ نَائِبُهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ فَانْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي قُلْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَيَجْتَمِعُ الصُّلَحَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَدَّ، وَأَهْلُ الزَّيْغِ يُعَلِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ بِالزِّنَا قَدْ انْعَزَلَ فَكَانَ زِنَاهُ فِي وَقْتٍ لَا إمَامَ فِيهِ، وَلَوْ زَنَى فِي مَكَان لَا إمَامَ فِيهِ، وَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا زَنَى فِي زَمَانٍ لَا إمَامَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ بِالْفِسْقِ لَا يَنْعَزِلُ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ وَاسْتِيفَاؤُهُ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ (قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: السُّكْرُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَحَدُّ سُكْرِهِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ جَدُّهُ مِنْ هَزْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ يُسَمَّى فِي النَّاسِ سَكْرَانَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ السُّكْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ أَقْصَى النِّهَايَةِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالْفَرْوَ مِنْ الْقَبَاءِ وَالذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ قَذَفَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ إنَّمَا يَكُونُ بَدَلًا وَالْبَدَلُ لَا يَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ أَوْ يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسْتَحْلَفُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ رُجُوعَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فَلَا يَكُونُ اسْتِحْلَافُهُ مُفِيدًا، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ فَالِاسْتِحْلَافُ فِيهِ يَكُونُ مُفِيدًا كَالْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا حَدٌّ يُدْرَأُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. (قَالَ) إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ضَمِنَ الْمَالَ، وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ، فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِمُوجِبِ الْأَخْذِ، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ يَثْبُتُ الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ فَإِنْ جَاءَ الْمَقْذُوفُ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَهُ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ فَالْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا عَنْ بَيَانِ مَا شَهِدَا بِهِ. فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ يَا زَانٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ الْقَاذِفُ إنْ كَانَا عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، فَإِنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» (قَالَ) وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي شُهُودَ الْقَذْفِ بِالْعَدَالَةِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ هَتْكِ السِّتْرِ وَأَذَى النَّاسِ بِالْقَذْفِ فَيُحْبَسُ لِذَلِكَ، وَلَا يُكَفِّلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُكْفَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ الْكَفِيلَ فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ، وَلَا خِلَافَ لَهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي إيفَائِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مَقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 يَأْمُرُهُ بِمُلَازَمَتِهِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا حَقِيقَةُ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَبِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَالَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ بِمَنْزِلَةِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْأَمْوَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، وَلِهَذَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ إثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْكَفَالَةُ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ فَلَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُ الْخَصْمَ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَكِنْ إنْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ فَأَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ وَمَا لَمْ يُقِمْ الشَّاهِدُ سَوَاءٌ لَا يَحْبِسُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ بِالْعَدَالَةِ فَادَّعَى أَنَّ شَاهِدَهُ الْآخَرَ حَاضِرٌ حَبَسَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: قَدْ تَمَّ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ، فَلَوْ تَمَّ الْعَدَدُ حَبَسَهُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ صِفَةُ الْعَدَالَةِ قُلْنَا: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ وَيُمْهِلُهُ فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَحْبِسُهُ هَذَا الْمِقْدَارَ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحَدِّ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَذَفَهُمَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأُدِّيَتْ مُكَاتَبَتُهُ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ يُرِيدُ بِهِ إنَّهُ إذَا زَعَمَ الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالظَّاهِرِ لَا تَكْفِي لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 وَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَمَا لَمْ يُقِمْ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهُ اكْتَفِي بِمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْحَدِّ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي بِالْحُرِّيَّةِ هُنَا بِعِلْمِهِ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْحَدِّ فَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَكُونُ قَوْلًا مَحْضًا كَالْبُيُوعِ وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا فَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ بِالتَّسْلِيمِ وَلَكِنْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُقْرِضِ أَقْرَضْتُك، وَذَلِكَ قَوْلٌ فَأَلْحَقَهُ بِالْإِقْرَارِ لِهَذَا، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ وَالْغَصْبُ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْأَفْعَالِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ وَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَحُضُورُ الشُّهُودِ فِعْلٌ فَأُلْحِقَ بِالْأَفْعَالِ لِهَذَا، وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْفِعْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ نَذْكُرُهُ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ. فَأَمَّا الْقَذْفُ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِيهِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا وَأُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْأَفْعَالِ؟ فَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالتَّنَاوُلِ مِنْ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْقَذْفُ قَوْلٌ قَدْ تَكَرَّرَ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، قَالَ: إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ بِالْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ لَاعَنَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ الْإِبَانَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ حُدَّ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْقَذْفِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الشُّهُودِ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ (قَالَ)، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ ثُمَّ عَفَى الْمَقْذُوفُ عَنْهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ عِنْدَنَا وَذَكَرَ ابْنُ عِمْرَانَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك»، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَدُّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَخُصُومَتُهُ هُنَاكَ بِالْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ مَنْ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَلَمَ الْجَلْدَاتِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَإِذَا فُوِّضَ إلَى مَنْ لَهُ رُبَّمَا لَا يَقِفُ عَلَى الْحَدِّ لِغَيْظِهِ فَجُعِلَ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ، فَإِذَا جَاوَزَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ذَلِكَ الْحَدَّ يُعْلَمُ ذَلِكَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِحْصَانُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالرَّجْمِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ، وَالزَّوَاجِرُ مَشْرُوعَةٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا يَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَائِزٌ فَمَا أُوجِبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ، وَمَا أُوجِبَ بِاسْمِ الْحَدِّ فَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الِاسْمِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الزَّجْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِسْبَةِ الزِّنَا وَبَيْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 لِتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا وَحُرْمَةُ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْوَاجِبِ بِمُبَاشَرَةِ الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِإِبْقَاءِ السِّتْرِ وَتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا وَاعْتِبَارُ الْإِحْصَانِ لِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَنْفِي مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي عِرْضِهِ حَقَّهُ وَحَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي دَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا دَلَّ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ فِيهِ، قُلْنَا بِأَنَّ الْمُغَلَّبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِبَارِ حَقِّ الْعَبْدِ فِيهِ أَيْضًا لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّفَاوُتَ لَكِنَّ التَّعْزِيرَ لَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ حَقًّا لَهُ لَا يُنْظَرُ إلَى تَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ كَمَا تُتَوَهَّمُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ، وَيُمْنَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، كَمَا يُمْنَعُ الْجَلَّادُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الْحَقِّ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ هَذَا الْحَدُّ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ لِانْعِدَامِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، لَا لِأَنَّ بَدَنَهُ دُونَ بَدَنِ الْحُرِّ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ فَاحْتِمَالُ بَدَنِ الْعَبْدِ لِلْمَهَانَةِ وَالضَّرْبِ أَكْثَرُ، وَإِنَّمَا يَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ النِّعَمِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ حَقٌّ لِلْمُنْعِمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ مُتَمِّمًا لِهَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْحَدِّ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ أَيْضًا، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُ وَطَلَبُهُ، وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُصَدِّقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ مُكَذِّبٌ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا كَانَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلِهَذَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الشُّهُودِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَلَا يَصِيرُونَ مُتَّهَمِينَ بِالضَّغِينَةِ، وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْعَبْدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ بِهِ وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ بِعَفْوِهِ لَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ مَا يَتَمَحَّضُ حَقًّا لَهُ فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ. وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ كَالْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنَّ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِعَفْوِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعَافِي لَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَقَدْ تَرَكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 الطَّلَبَ إلَّا أَنَّهُ إذَا عَادَ فَطَلَبَ فَحِينَئِذٍ يُقِيمُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ كَانَ لَغْوًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْ إلَى الْآنَ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ أَوْ قَالَ: شُهُودِي شَهِدُوا بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ كَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَإِذَا صَدَّقَهُ، فَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا وَانْعَدَمَ بِهِ إحْصَانُهُ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَبِإِقْرَارِهِ يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ فَأَمَّا بِعَفْوِهِ لَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ، وَمَا أَسْقَطَهُ حَقُّ الشَّرْعِ فَكَانَ إسْقَاطُهُ لَغْوًا لِهَذَا (قَالَ) وَيُسْتَحْسَنُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ اُتْرُكْ هَذَا وَانْصَرِفْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بَعْدُ، وَهَذَا نَوْعُ احْتِيَالٍ مِنْهُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَهَكَذَا فِي السَّرِقَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ اُتْرُكْ دَعْوَى السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ نُثْبِتَ السَّرِقَةَ بِالْبَيِّنَةِ (قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ بَعْضُهُمْ لِلْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْبَعْضُ فَأُقِيمَ الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ حَضَرَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَخَاصَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَجْلِهِ أَيْضًا، وَعِنْدَنَا لَا يُقَامُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ، وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحُكْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ (قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ الْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَلَوْ ثَبَتَ قَبْلَ كَمَالِ الْجَلْدِ لَمْ يَكُنْ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَلْدَاتِ وَالْمَعْطُوفُ لَا يَسْبِقُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ مُسْتَكْرَهَةً، أَوْ قَالَ: جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا، أَوْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ بِنِسْبَةِ الْمَقْذُوفِ إلَى فِعْلٍ مُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُسْتَكْرَهَةُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَقَوْلُهُ جَامَعَك جِمَاعًا حَرَامًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَقَوْلُهُ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يَكُونُ زِنًى شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ بِهَذَا الْكَلَامِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ دُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 الْمَقْذُوفِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ أَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، وَقَدْ أُعْتِقْت فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّ فِعْلَ الذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ زِنًى وَيُحَدَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا بِهَذَا الْكَلَامِ بَلْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ عَلِمْنَا مِنْهُ الْقَذْفَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ لَا مُقِرًّا بِهِ. وَيُضْرَبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ضَرْبًا لَيْسَ بِشَدِيدٍ مُبَرِّحٍ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِعْلٌ مُؤْلِمٌ لَا مُتْلِفٌ فَالشَّدِيدُ الْمُبَرِّحُ مُتْلِفٌ فَعَلَى الْجَلَّادِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ [قَذَفَ مَيِّتًا بِالزِّنَا] (قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا بِالزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ إحْصَانَهُ وَلَا يَنْفِيهِ، ثُمَّ الْخُصُومَةُ فِي هَذَا الْقَذْفِ إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِالْوِلَادِ أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ بِالْوِلَادِ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الشَّيْنُ بِذَلِكَ وَحَقُّ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْعَارِ فَمَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. (قَالَ) وَلَيْسَ لِأَخِيهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْأَخِ عَلَقَةً فِي حُقُوقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَلَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْقِصَاصِ يَخْلُفُهُ فَكَذَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُصُومَةُ هُنَا لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ لِيَخْلُفَ الْوَارِثُ الْمُوَرِّثَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخُصُومَةُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَخُ لَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا نِسْبَةُ زِنَا الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ. (قَالَ) وَلِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ، كَمَا لِلْوَلَدِ ذَلِكَ قَالَ، وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ يَرِثُ وَيُورَثُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلَدِ الِابْنَةِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي هَذَا الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ قَذَفَ أُمَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ أَبَا أُمِّهِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 الْحَدُّ بِخُصُومَتِهِ بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ (قَالَ) وَلِوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ، كَمَا يَأْخُذَ بِهِ الْوَلَدُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْمَمْلُوكَ لَوْ قُذِفَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَإِذَا قُذِفَ فِي أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْحَدُّ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصُومَةُ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْخِلَافَةُ إرْثًا بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُذِفَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْعَبْدِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، أَمَّا هُنَا تَمَّ سَبَبُ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَهُوَ قَذْفُ الْمُحْصَنِ إذْ الْمَيِّتُ مُحْصَنٌ فَكُلُّ مَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِهَذَا الْقَذْفِ فَهُوَ خَصْمٌ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْغَائِبُ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ خُصُومَتَهُ تَتَعَذَّرُ لِغَيْبَتِهِ، كَمَا هُوَ مُتَعَذَّرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يَنُوبُ أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلًا لِيُخَاصِمَ وَالْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ أَصْلٌ فَمَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْهُ لَا يُعْتَبَرُ بِالْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ، وَفِي الْمَيِّتِ الْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ مَأْيُوسٍ عَنْهُ فَيُقَامُ الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْغَائِبُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لَمْ يَأْخُذْ وَلِيُّهُ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ عِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ مَوْرُوثًا عَنْ الْمَقْذُوفِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ، وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُورَثُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى»، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ خِلَافَةُ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَقِّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. (فَإِنْ قِيلَ) فَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ. (قُلْنَا) لَا نَقُولُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ فَالشَّرْطُ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي خُصُومَتِهِ أَوْ وَصِيُّهُ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ إلَى إنْسَانٍ. (قُلْنَا) شَرْطُ الْحَدِّ مُعْتَبَرٌ بِسَبَبِهِ فَكَمَا أَنَّ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ سَبَبُ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَرْطُ الْحَدِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ خُصُومَةُ وَلَدِهِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَتِهِ، وَكَيْف يُقَالُ ذَلِكَ وَلَا يُورَثُ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ خَصْمٌ عَنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ الْمَوْتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَامِ مَقَامَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ [وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَطْلُبُ بِحَدِّهِ] (قَالَ) وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَطْلُبُ بِحَدِّهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ الْوَكَالَةَ فِي حَدٍّ، وَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِثْبَاتُ مِنْ جُمْلَةِ مَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ فِيهِ وَتَلَافِيهِ وَالتَّوْكِيلُ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ قَدْ عَفَى، وَأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَهَذَا لَا يُسْتَوْفَى بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ (قَالَ) فَإِنْ مَاتَ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْقَاذِفُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ غَابَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ لَمْ يَتِمَّ إلَّا، وَهُوَ حَاضِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَمِيَ الشُّهُودُ أَوْ فَسَقَوْا بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضُ الْحَدِّ دُرِئَ عَنْهُ مَا بَقِيَ (قَالَ) وَالْقَذْفُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسُنِ ، رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْإِيجَازَ وَالتَّرْخِيمَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ: أَصَاحِ تُرَى بَرْقًا أُرِيَك وَمِيضَهُ مَعْنَاهُ يَا صَاحِبُ وَقُرِئَ وَنَادَوْا يَا مَالِ أَيْ مَالِكُ، وَهَذَا أَيْضًا حَذْفُ آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّرْخِيمِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ امْرِئِ الْقِيسِ: " أَفَاطِمُ مَهْلًا " أَيْ يَا فَاطِمَةُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ التَّذْكِيرُ وَإِلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَصْلِ، وَالْفَصْلُ هُنَا حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا وَاسْتَدَلَّ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30]. فَأَمَّا إذَا قَالَ: يَا زَانِيَةُ، فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَزَادَ حَرْفَ الْهَاءِ فَتَلْغُو الزِّيَادَةُ وَيَبْقَى قَاذِفًا لَهُ مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِآخِرِ الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَسَّابَةٌ وَعَلَامَةٌ وَرَاوِيَةٌ لِلشَّعْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 تَعَالَى يَقُولَانِ: هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِعِلْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِالزِّنَا أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالزِّنَا، وَهَكَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ثُمَّ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ الْمُمَكِّنَةُ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِذَلِكَ فَقَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ نَظِيرُ قَذْفِ الْمَجْبُوبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانٍ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا بِأَنْ تَسْتَدْخِلَ فَرْجَ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا (قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ أُجِّلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسْتَأْنَى بِهِ وَيُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيُحْضِرَ شُهُودَهُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى دَفْعًا أَوْ طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيَأْتِيَ بِهِ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِقَامَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ وَلَكِنْ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ إلَى شُهُودِك وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُحْضِرُ شُهُودَهُ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ نَائِبًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْضِرْ الشُّهُودَ بَقِيَ سِتْرُ الْعِفَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ (قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَالَ تَعَالَى {، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فَإِنْ جَاءَ بِهِمْ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِزِنًى مُتَقَادِمٍ دَرَأْتُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِتُوهِمَ الضَّغِينَةَ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَقَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا رَابِعُهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَلَامِهِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ مُلْتَزِمٌ لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا وَبِالثَّلَاثَةِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فَكَانُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ جَمِيعًا (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَعَنْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إثْبَاتِ الْإِقْرَارِ هُنَا إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَإِنْ كَثُرَ الشُّهُودُ، فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ مُنْكِرٌ، وَلَوْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ إسْقَاطُ الْحَدِّ وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ تِلْكَ الشَّهَادَةِ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي إذَا تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمُثَنَّى شَهَادَةٌ فِي ذَلِكَ [قَذَفَ الزَّانِي بِالزِّنَا] (قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ الزَّانِي بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًى آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ فَفِي مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقُ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ رَمْيُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَالْمُحْصَنُ لَا يَكُونُ زَانِيًا فَقَاذِفُ الزَّانِي بِالزِّنَا قَاذِفٌ غَيْرَ الْمُحْصَنِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي نِسْبَتِهِ إلَى أَصْلِ فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ (قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطْئًا حَرَامًا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ هَذَا فِي الْمِلْكِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، أَمَّا فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَالْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ الْمُحْرِمَةِ أَوْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَوْ هِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ، وَهُوَ نَظِيرُ وَطْءِ امْرَأَتِهِ الْمَرِيضَةِ إذَا كَانَتْ تَسْتَضِرُّ بِالْوَطْءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْيِيدِ كَأَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِوَطْئِهَا إحْصَانَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُبِيحٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ انْتِفَاءُ الْحِلِّ فَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ إحْصَانُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَطْئًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِوَطْئِهَا وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مَمْلُوكَةٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 لَهُ رِقًّا لَا يَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَوَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ قَائِمٌ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَبِأَنْ يَلْزَمَهُ الْعُقْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالزَّوْجَةِ (قَالَ) فَإِنْ وَطِئَ أُمَّتَهُ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِوَطْءِ أَبِيهِ إيَّاهَا أَوْ بِوَطْئِهِ أُمَّهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْمُصَاهَرَةِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً فَهُوَ نَظِيرُ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ فَأَمَّا إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ أَمَةٍ بِشَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا فَقَذَفَهُ رَجُلٌ حُدَّ قَاذِفُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْيِيدِ، فَإِنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيلَ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ أَبَاهُ لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ فَوَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيلَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ نَصٌّ ظَاهِرٌ بَلْ نَوْعُ احْتِيَاطٍ أَخَذْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْوَطْءِ مَقَامَ الْوَطْءِ وَبِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الْمَزْنِيِّ بِهَا، فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ نَصًّا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَمَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مَسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَبِ يَطَأُ جَارِيَةَ ابْنِهِ (قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ وَوَطِئَهَا سَقَطَ بِهِ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ أَوْ امْرَأَةً وَعَمَّتَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَبِالْوَطْءِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ عَالِمًا عِنْدَ الْوَطْءِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ سَقَطَ إحْصَانُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِي الظَّاهِرِ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِجَهْلِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِإِحْصَانِهِ [مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَهُمَا] (قَالَ) وَإِنْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَهُمَا حُدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ إحْدَاهُمَا عَنْ مِلْكِهِ حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى وَبِمِثْلِ هَذَا الْوَطْءِ لَا يَسْقُطُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 الْإِحْصَانُ فَإِنْ وَطِئَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً مُسْتَكْرَهَةً لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَلَا قَاذِفُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنْهَا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ زِنًى، فَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنَتِهِ أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهِ أَوْ أُخْتِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا بَاعَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، فَإِنْ زَنَى فِي حَالِ كُفْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ قَاذِفُهُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ وَإِنْ بَاشَرَ امْرَأَةً حَرَامًا وَبَلَغَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى الْجِمَاعِ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْإِحْصَانِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّ الْمُسْقِطَ لِلْإِحْصَانِ الزِّنَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَاللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا (قَالَ) مَجْنُونٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُطَاوِعَةٍ أَوْ مُسْتَكْرَهَةٍ ثُمَّ قَذَفَ الْمَجْنُونَ أَوْ الْمَرْأَةَ قَاذِفٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِوُجُودِ الْوَطْءِ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، وَإِنْ قَذَفَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَقَاذِفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ فَأَوَّلُ ذَلِكَ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَالشَّيْنُ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ هُوَ الْقَاذِفَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ لِلْآيَةِ (قَالَ)، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَعَلَى الذِّمِّيِّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ حَدٌّ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُحْصَنٌ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِقَذْفِهِ وَالْقَاذِفُ مَعَ كُفْرِهِ حُرٌّ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُحْصَنٌ [قَاذِفُ الْأَخْرَسِ] وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الْأَخْرَسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْطِقُ رُبَّمَا يُقِرُّ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَاذِفِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ (قَالَ) وَالْقَاذِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مَتَى قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِهِمْ أَوْ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ رَجُلًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 مِنْهُمْ لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ، وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْإِمَامِ إذَا اُرْتُكِبَ السَّبَبُ، وَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْحَدُّ (قَالَ) وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَيُحَدُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ (قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهَا فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُنْت قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِكَلَامِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ بِكَلَامِهِ قَذْفٌ كَانَ قَبْلَ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ لَهَا وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ فَصَارَتْ قَاذِفَةً لِلرَّجُلِ بِقَوْلِهَا: زَنَيْتُ بِك فَعَلَيْهَا الْحَدُّ لَهُ. (قَالَ) وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ فَلَا لِعَانَ، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ بِتَصْدِيقِهَا، وَلَمْ تَصِرْ قَاذِفَةً لَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ زِنًى (قَالَ) وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مُبْتَدِئَةً: زَنَيْتُ بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ؛ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرِ أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلَا أُمَّهُ إلَى صَرِيحِ الزِّنَا فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ فَلَا يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِهِ الْحَدَّ إنَّمَا يُوجَبُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ يَا آكِلَ الرِّبَا أَوْ يَا خَائِنُ أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَلِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا ثَوْرُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَعْنَى الْبَلَادَةِ أَوْ الْحِرْصِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ؟ فَيُقَالُ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَلِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الْقَاذِفَ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ وَلَيْسَ بِحِمَارٍ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا كَلْبُ، وَحُكِيَ عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُعَزَّرُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِينَا يُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّلَبِ وَقِلَّةِ الِاسْتِحْيَاءِ، فَقَدْ يُسَمُّونَ بِهِ كَالْكَلْبِيِّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَالشَّيْنُ يَلْحَقُهُ دُونَ الْمَقْذُوفِ (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهُ: فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ وَجَامَعْتَهَا أَوْ فَعَلْتَ بِهَا فَسَمَّى الْفُحْشَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَفِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ فَمَا لَمْ يَقْذِفْهُ بِصَرِيحِ الزِّنَا لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ (قَالَ) وَإِذَا عَرَّضَ بِالزِّنَا فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدُّ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَقُولُ فِي حَالِ الْمُخَاصَمَةِ مَعَ الْغَيْرِ: مَقْصُودُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ نِسْبَةُ صَاحِبِهِ إلَى الشَّيْنِ وَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لِلْغَيْرِ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ تُصُوِّرَ مَعْنَى الْقَذْفِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ (قَالَ) فَإِنْ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا إنَّمَا حَكَى خَبَرَ مُخْبِرٍ، وَالْخَبَرُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ يَكُونُ كِذْبًا، فَالْمُخْبِرُ يَكُونُ حَاكِيًا لِلْقَذْفِ عَنْ الْغَيْرِ لَا قَاذِفًا وَإِنْ قَالَ: اذْهَبْ فَقُلْ لِفُلَانٍ إنَّكَ زَانٍ فَالْمُرْسَلُ لَا يَكُون قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرُ الْغَيْرِ أَنْ يَقْذِفَهُ وَبِالْأَمْرِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا، كَمَا أَنَّهُ بِالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ قَاتَلَا فَإِنْ ذَهَبَ الرَّسُولُ وَحَكَى كَلَامَ الْمُرْسِلِ عَلَى وَجْهِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ كَلَامَ الْغَيْرِ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَنْتَ زَانٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُ بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدَنِي رَجُلٌ عَلَى شَهَادَتِهِ بِأَنَّك زَانٍ فَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ شَهَادَةَ الْغَيْرِ إيَّاهُ فَيَكُونُ قَاذِفًا (قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِلْعَبْدِ: يَا زَانٍ، فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ، حُدَّ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ أَنْتَ مَعْنَاهُ بَلْ أَنْتَ الزَّانِي، فَإِنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا تَقَدَّمَ مُعَادًا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاذِفًا لِصَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِقَذْفِ الْعَبْدِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَدُّ لِصَاحِبِهِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: يَا زَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: صَدَقْتَ لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَتَصْدِيقُهُ إيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا وَلَكِنْ هَذَا الظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا لَا حَدَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ زَنَى فَرْجُك فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا يَكُونُ بِالْفَرْجِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ زَنَى يَدُك أَوْ رِجْلُك (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَطَعَ كَلَامَهُ: وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ فَقَالَ: زَنَيْت وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ حُكْمَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ زَنَيْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ فَهُوَ قَاذِفٌ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْعَطْفُ لِلْإِشْرَاكِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَعَك، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَفُلَانٌ مَعَكَ عَتَقَا جَمِيعًا؟ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنَّ فُلَانًا مَعَك شَاهِدٌ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ خَبَرًا آخَرَ لِلثَّانِي، وَمُوجِبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إضْمَارِ خَبَرٍ آخَرَ لِلثَّانِي فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عَنْهُ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَنْ تَكُونُ أُمُّهُ زَانِيَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَذْفَ الْمَيِّتَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلِوَلَدِهَا أَنْ يُطَالِبَ بِحَدِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إثْبَاتُ إحْصَانِ الْأُمِّ وَمَوْتِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَإِذَا كَانَتْ حَيَّةً فَلَا خُصُومَةَ لِلْوَلَدِ مَعَ قَاذِفِهَا (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ، فَأَمَّا الْوَطْءُ إذَا لَمْ يَكُنْ زِنًى يَكُونُ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ قَذَفَ أُمَّهُ، فَإِذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلِأَنَّهَا إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فَوَلَدُهَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ هِيَ زَانِيَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ: إنَّكَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ أَبِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي حَالَةِ الْمُسَابَّةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ وَنِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ بَيْنَ أُمِّهِ وَبَيْنَ فُلَانٍ الَّذِي نَسَبَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 إلَيْهِ سَبَبَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الرِّضَا أَنَّ أَخْلَاقَك تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ فَكَأَنَّك ابْنُهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الْأَدْنَى حَقِيقَةً وَنِسْبَتُهُ إلَى الْجَدِّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُ اسْمِ الْأُبُوَّةِ عَنْ جَدِّهِ فَيُقَالُ: إنَّهُ جَدُّهُ وَلَيْسَ بِأَبِيهِ، فَإِنْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ، كَمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ حَقِيقَةً يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ مَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: بَنُو آدَمَ وَآدَمُ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ، فَإِنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ قَالَ تَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، وَهُوَ كَانَ عَمَّا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّجُلُ صِنْوُ أَبِيهِ»، وَكَذَلِكَ الْخَالَةُ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمًّا فَيَكُونُ الْخَالُ أَبًا أَيْضًا، قَالَ الْقَائِلُ: وَخَالُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالْخَالُ كَالْأَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهُ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ قَالَ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَفِي الْعَادَةِ زَوْجُ الْأُمِّ يَقُولُ لِوَلَدِ امْرَأَتِهِ: هُوَ وَلَدِي بِاعْتِبَارِ أَنِّي أُرَبِّيهِ وَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ ابْنًا لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ مَتَى كَانَ صَادِقًا فِي كَلَامِهِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهُ وَإِنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك وَأُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ وَقَدْ مَاتَتْ، فَإِنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لِكَافِرٍ قَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ لِعَبْدٍ، وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْذُوفَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأُمُّ، وَالْمُعْتَبَرُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ مَنْ يُطَالِبُ بِالْحَدِّ فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى ذَلِكَ لِعَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَدِّهِ، وَإِنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا عَلَيْهِ الْحَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ [قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ] وَعَلَى هَذَا إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ فَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يُضَافُ إلَى أَبِيهِ كَالْعَبْدِ إلَى سَيِّدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفِهِ فِي نَفْسِهِ؟ فَكَذَلِكَ فِي قَذْفِهِ فِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْتَوْجَبًا عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ حَقِيقَةُ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قَذْفًا، فَإِنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لِامْرَأَةِ مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِ الْقَبِيلَةُ وَهِيَ كَانَتْ كَافِرَةً غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: جَدُّك زَانٍ أَوْ جَدَّتُك زَانِيَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا بِهَذَا؛ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا لَا يَكُونُ قَاذِفَ مُحْصَنٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ ابْنِ الزَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ الْأَدْنَى وَهِيَ كَانَتْ مُحْصَنَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 أَوْ يَا ابْنَ جَلَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ النَّاسِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْقَذْفِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ هَؤُلَاءِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ أَوْ الْجُودِ أَوْ الْجَلَادَةِ، فَقَدْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ فِيهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ قَاذِفًا مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ وَإِذَا نَسَبَ رَجُلٌ رَجُلًا إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي غَيْرِ غَضَبٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْغَضَبِ وَالسَّبِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ مُحْتَمِلٍ وُجُوهًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا مَقْصُودُهُ الْمَدْحُ بِنِسْبَتِهِ إلَى جَوَادٍ أَوْ مُبَارِزٍ أَوْ مُتَبَحِّرٍ فِي الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ الْحَسَنُ وَيَقُولُ يَا شَبِيهَا بَعْلَهُ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ إلْحَاقُ الشَّيْنِ بِهِ فِي ذِكْرِ نِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا، فَإِذَا كَانَ يُعْتَبَرُ الْحَالُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا قَالَ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَ إنْسَانٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: لَسْت بِعَرَبِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إذَا قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ: لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْقَذْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِلْآخَرِ أَنْتَ رُسْتَاقِيٌّ أَوْ خُرَاسَانِيٌّ أَوْ كُوفِيٌّ، وَلَا يُرِيدُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْقَذْفَ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ [قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ] (قَالَ) وَإِذَا قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ بِالتَّنَاوُلِ مِنْ عِرْضِهِ (قَالَ) وَإِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مُحْصَنٌ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْقَاذِفُ قُتِلَ بِهِ فَيُحَدُّ بِإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِقَذْفِهِ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِابْنِهِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ فَجَاءَ يَطْلُبُ الْحَدَّ يُضْرَبُ الْقَاذِفُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الْأُمَّ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُ الْقَاذِفِ وَالِابْنُ لَا يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْمَقْذُوفِ يَبْقَى الْآخَرُ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ ابْنَانِ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ مِمَّنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَتَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا ابْنَانِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ لَهَا مِنْ الْقَاتِلِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ مِيرَاثًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا، إمَّا بِإِسْقَاطِهِ أَوْ لِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْآخَرِ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ، فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لِلِابْنَيْنِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحَقُّ الْخُصُومَةِ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ هُنَا مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْحَدِّ لَا مُسْقِطٌ لَهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْآخَرُ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْحُجَّةِ اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ بِخِلَافِ الْعَفْوِ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْذُوفِ إلَّا ابْنٌ وَاحِدٌ فَصَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا بِخُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَلَوْ كَانَ لِلْمَقْذُوفِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ حَاضِرًا كَانَ الْآخَرُ أَوْ غَائِبًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خُصُومَتَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا وَحَالُ الِابْنَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ رَجُلًا قُدَّامَ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَقَعُ لَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَثْبُتُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَالْقَاضِي يَقْضِي فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ اسْتَقْضَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ وَقَبْلَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ، وَهُوَ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَهُ، وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ اسْتَقْضَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ السَّبَبَ فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ عَايَنَ السَّبَبَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَأَيْت لَوْ لَقِيتَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا مَا كُنْت أَصْنَعُ بِهِ فَقَالَ شَهَادَتُك عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ صَدَقْت وَرُوِيَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْخَصْمَ، وَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْخَصْمِ لَا يَكْفِي لِلْقَضَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الِاسْتِيفَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ جَحَدَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالْمُعَايِنِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِذَا اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ (قَالَ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا فَوَطِئَهَا ثُمَّ قَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ السَّبَبِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ مُبِيحٌ لِلْوَطْءِ وَالْحُرْمَةُ بَعْدَهُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، فَإِنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلِ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَخَاصَمَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَا مَيِّتَيْنِ فَخَاصَمَهُ الِابْنُ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت لِفُلَانٍ، وَلَا لِفُلَانَةَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ وِلَادَةِ الْأُمِّ إيَّاهُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ فَنَفْيُ وِلَادَتِهَا لَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا إنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًى، فَإِنَّمَا يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَسْت لِأَبِيك، وَلَا لِأُمِّك لَا يَنْدَرِجُ قَذْفَ الْأُمِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ وِلَادَتَهَا إيَّاهُ مُعَايِنٌ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ فِي نَفْسِ مَا هُوَ مُعَايَنٌ، وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ شَيْنٌ بِهَذَا الْقَذْفِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْت لِأَبِيك، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِنَفْيِ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ وَإِذَا قَالَ: لَمْ يَلِدْك فُلَانٌ لِأَبِيهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنَّمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَا أَبُوهُ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِبَعِيرٍ أَوْ بِثَوْرٍ أَوْ بِحِمَارٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى التَّمْكِينِ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى فَاعِلِهِ لَا يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَلَوْ قَالَ: زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ بِثَوْبٍ أَوْ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ زَنَيْت بِدِرْهَمٍ بَدَلٌ لَك، وَهَذَا أَفْحَشُ مَا يَكُونُ مِنْ الزِّنَا أَنْ تَكْتَسِبَ الْمَرْأَةُ بِفَرْجِهَا (فَإِنْ قِيلَ) بَلْ مَعْنَى كَلَامِهِ زَنَيْت بِدِرْهَمٍ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ. (قُلْنَا) هَذَا مُحْتَمَلٌ وَالْبَدَلُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ فَتَقَابُلُ الْمُحْتَمَلَانِ يُبْقِي قَوْلَهُ زَنَيْت، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَى الزِّنَا بِدِرْهَمٍ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُحَقِّقُ تَمْكِينَهَا مِنْهُ جَعَلَ كَلَامَهُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ ذَلِكَ جَعَلَ بِمَعْنَى الْبَدَلِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتَ بِبَعِيرٍ أَوْ بِنَاقَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ قَالَ: بِأَمَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ أَوْ يَا ابْنَ الْمُقْعَدِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ وَصْفُ الْأَبِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ كَمَنْ يَقُولُ لِبَصِيرٍ يَا أَعْمَى أَوْ يُشَبِّهُ بِهِ فِي الْحِرْفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ السِّنْدِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيرُهُ لَا قَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ يَا عَبْدُ أَوْ يَا مَوْلَى لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لَهُ بِقَوْلِهِ يَا مَوْلَى قَالَ تَعَالَى {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] وَالْمُرَادُ الْوَرَثَةُ وَبَنُو الْأَعْمَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا دِهْقَانُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَلَفْظُ الدِّهْقَانِ فِينَا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَذْفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُسَمُّونَ بِهِ إلَّا الْعُلُوجَ فَلِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، فَإِنَّ الدِّهْقَانَ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ ضِيَاعٌ وَأَمْلَاكٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ دُونَ الْقَذْفِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ يَا أَخِي وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ عَبْدِي أَوْ مَوْلَايَ فَهَذِهِ دَعْوَى الرِّقِّ وَالْوَلَاءُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْقَذْفِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ قَالَ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالْكُفْرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَشِينُ الْمَقْذُوفَ إذَا كَانَ إسْلَامُهُ مَعْلُومًا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُسْلِمِ إلَى الْكُفْرِ حَرَامٌ وَبِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ: يَا زَانٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْهَمْزَةَ وَقَالَ: عَنِيت أَنَّهُ يَصْعَدُ عَلَى الْجَبَلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ لُغَةً بِالْهَمْزَةِ فَذِكْرُ الْهَمْزَةِ يُقَرِّرُهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا (قَالَ) وَإِنْ قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنِيت الصُّعُودَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ مَهْمُوزًا عِنْدَ ذِكْرِ الْجَبَلِ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصُّعُودَ قَالَ الْقَائِلُ: وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَالْعَامَّةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 لَا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَّا الزِّنَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلْحَقُ الْمَقْذُوفَ الشَّيْنُ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ كَانَ قَاذِفًا مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ بِأَنْ قَالَ زَنَأْت فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِ الْجَبَلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْت لَا يَفْصِل بَيْنَ قَوْلِهِ زَنَيْت فِي الْجَبَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِدُونِ ذِكْرِ الْجَبَلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوا الْكَلِمَةَ لِمَعْنَى الصُّعُودِ يَصِلُونَ بِهِ حَرْفَ فِي لَا حَرْفَ عَلَى، وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَوِيًّا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَادَةِ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا (قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، فَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ زَالَ إحْصَانُهُ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بِالرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَارَ مَعْتُوهًا ذَاهِبَ الْعَقْلِ أَوْ أَخْرَسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ وَبِالْخَرَسِ لَا يَزُولُ إحْصَانُهُ وَلَكِنْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يُصَدِّقُهُ، وَلِهَذَا شُرِطَ بَقَاءُ الْخَرَسِ حَتَّى إذَا زَالَ الْخَرَسُ وَطَالَبَ بِالْحَدِّ فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ يَبْرَأُ [قَذَفَ وَلَدَ مُلَاعَنَةٍ أَوْ وَلَدَ زِنًى فِي نَفْسِهِ] (قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ مُلَاعَنَةٍ أَوْ وَلَدَ زِنًى فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِأَبَوَيْهِ وَفِعْلُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْصَانُهُ، وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، أَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَلِأَنَّ قَاذِفَ أُمِّهِ صَادِقٌ؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنَّ أُمَّهُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ وَمِثْلُهُ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ (قَالَ) وَإِنْ اخْتَلَفَا شَاهِدَا الْقَذْفِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي قُذِفَ بِهَا مِنْ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالنَّبَطِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُعْتَبَرٌ فِي الْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَسْت لِأَبِيك، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِحُكْمِ نِكَاحٍ يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَعَلَى قَاذِفِهِمْ الْحَدُّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنْكِحَتِهِمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعِنْدَهُمَا كُلُّ نِكَاحٍ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَاعْتِقَادُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْقَاذِفِ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى عَبْدٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَةِ الزِّنَا وَالْعِتْقِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مَالِيَّتَهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَبِالزِّنَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُضْرَبُونَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِمْ أَنَّهُ كَانَ عَفِيفًا وَبُطْلَانُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَا مَعَ آخَرَيْنِ عَلَى الزِّنَا عَلَيْهِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْعِتْقِ عَنْ الْعِتْقِ، وَلَمْ يَرْجِعَا عَنْ الزِّنَا وَرَجَعَ الْآخَرَانِ عَنْ الزِّنَا فَعَلَى شَاهِدَيْ الْعِتْقِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِيَّةِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَعَلَى الْآخَرَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ النَّفْسِ، فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَإِنْ شَهِدَ الرَّجُلَانِ عَلَى عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ مَعَ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرَجَمَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الْعِتْقِ جَمِيعًا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى، وَلَمْ يَضْمَنَا مِنْ دِيَةِ الْمَرْجُومِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ. (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَفِي زَعْمِهِمَا أَنَّهُ عَبْدٌ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَى الزِّنَا. (قُلْنَا) وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ عَبْدٌ لَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ ضَمَانِ النَّفْسِ عَلَيْهِمَا مِنْ أَجْلِ شَهَادَتِهِمَا بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رُجِمَ لِعِتْقِهِ، وَإِنَّمَا رُجِمَ لِزِنَاهُ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمُزَكِّي لِلشُّهُودِ إذَا رَجَعَ ضَمِنَ وَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا بِحُرِّيَّةِ الشَّاهِدِ صَارَا مُزَكِّيَيْنِ لَهُ، وَقَدْ رَجَعَا عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَلَكِنْ الْأَصَحُّ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الزِّنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُزَكِّيًا لِلشَّاهِدِ مَعَهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ شَهَادَتِهِمَا بِالْعِتْقِ تَزْكِيَةً لِلشَّاهِدِ مَعَهُمَا عَلَى الزِّنَا، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِمَا فَتَبْقَى الْحُجَّةُ عَلَى الزِّنَا تَامَّةٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا مِنْ دِيَةِ الْمَرْجُومِ شَيْئًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا زَنَى بِصَبِيَّةٍ مُطَاوِعَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ فِيهِمَا وَعَلَى الصَّبِيِّ الْمَهْرُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْفِعْلِ وَالصَّبِيُّ أُسْوَةُ الْبَالِغِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِضَمَانِ الْفِعْلِ بِحَقِّ الْعِبَادِ إنَّمَا لَا يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (قَالَ) وَلَوْ زَنَى الصَّبِيُّ بِامْرَأَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا وَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَعَتْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 إلَى نَفْسِهَا فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا وَرِضَاهَا مُعْتَبَرٌ لِكَوْنِهَا بَالِغَةً، وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَعْمِلَةً لِلصَّبِيِّ وَمَنْ اسْتَعْمَلَ صَبِيًّا فِي شَيْءٍ لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ ثَبَتَ لِوَلِيِّهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ لَهَا إذَا طَاوَعَتْهُ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الرِّضَى بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْأَمْرِ غَيْرُ مُثَبِّتٍ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا لِإِهْدَارِ قَوْلِهَا (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ الزَّانِي أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِفِعْلِ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَزْنَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي النَّاسِ زَانٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَزْنَى الزُّنَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ (قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِخَرْسَاءَ، أَوْ أَخْرَسُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً يُسْقِطُ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ وَالْخَرَسُ يَمْنَعُهُ مِنْ إظْهَارِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَدَّعِيَ الشُّبْهَةَ وَامْتِنَاعُ وُجُوبِ الْحَدِّ لِمَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ الْجُنُونُ لَا لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ فَهُوَ نَظِيرُ الزِّنَا بِمُسْتَكْرَهَةٍ (قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ رَجُلَانِ سَرِقَةً وَاحِدَةً وَأَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَوْ مَجْنُونٌ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ هُنَا وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَى الْآخَرِ فَأَمَّا فِي الزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ مُبَاشِرٌ لِفِعْلٍ آخَرَ إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْإِيلَاجُ وَفِعْلَهَا التَّمْكِينُ فَجُنُونُهَا لَا يَعْدَمُ التَّمْكِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَكُونُ فِعْلُ الرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ مَخْصُوصًا بِكَمَالِ الزِّنَا، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَغْوٌ فِي إيجَابِ حُكْمِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ جُحُودِهِ الرُّجُوعُ عَنْ إقْرَارِهِ، وَلِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَشَهِدَ اثْنَانِ بِالْفِعْلِ وَالْآخَرَانِ بِالْقَوْلِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ مَا نَسَبَاهُ إلَى الزِّنَا وَالْآخَرَانِ، وَإِنْ نَسَبَاهُ إلَى الزِّنَا فَشَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْإِقْرَارِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ وَالتَّصْدِيقُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَوَاحِدٌ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِالزِّنَا وَلَيْسَ عَلَى التَّصْدِيقِ إلَّا شَاهِدٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 وَاحِدٌ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَا تُثْبِتُ التَّصْدِيقَ (قَالَ) وَإِذَا ضُرِبَ الْعَبْدُ حَدَّ الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ أَبَدًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْحَدُّ فِي حَقِّهِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ جَرْحٌ فِي عَدَالَتِهِ وَحُكْمٌ بِكَذِبِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ فَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَبِالْعِتْقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ تَتْمِيمًا لِحَدِّهِ وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَمْ يَزِدْهُ إلَّا شَرًّا، وَإِذَا صَارَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَبِالرِّدَّةِ لَا يَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فَإِنْ ضُرِبَ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَلَكِنْ يَزُولُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ وَيَسْتَفِيدُ بِالْإِسْلَامِ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَيَتِمُّ بِهِ حَدُّهُ، ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ شَهَادَةً حَادِثَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ (قَالَ) أَرْبَعَةٌ كُفَّارٌ شَهِدُوا عَلَى كَافِرٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ كَافِرَتَيْنِ فَلَمَّا قُضِيَ بِالْحَدِّ عَلَيْهِمْ أَسْلَمَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَتَانِ بَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ وَبَقِيَ الْحَدُّ عَلَى الْأُخْرَى لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ فِي حَقِّهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الزِّنَا بِاَلَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ بَاقٍ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدُوا عَلَى كَافِرَيْنِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهَا وَعَنْ الرَّجُلَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ خَاصَّةً وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ فِي زِنَاهُ بِهَا (قَالَ) وَإِذَا جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ، وَلَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقَّ التَّمَلُّكِ إنْ شَاءَ، وَهَذَا قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يُتْلِفَ مَالِيَّتَهُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْلَفَ بِتَمْلِيكِ الْوَلِيِّ أَيَّاهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَلِيِّ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ أَوْ تَمَلَّكَهَا فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِذَا صَارَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 إتْلَافُ الْكُلِّ حَقًّا لَهُ شَرْعًا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إتْلَافِهِ جُزْءًا مِنْهَا وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْحَدِّ أَوْ عُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِ، وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ مَالٌ فَيَكُونُ لِمَوْلَاهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلِيِّ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِيهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَكُونُ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ الْجَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْحُرِّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْمَمْلُوكِ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ؟ وَلِهَذَا خُيِّرَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَقَدْ وَصَلَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقُّهُ وَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الشُّغْلُ إنَّمَا لَحِقَنِي بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْ أَدْفَعَهَا لِأُخَلِّصَ نَفْسِي مِنْ هَذَا الشُّغْلِ فَكَانَ هَذَا مِلْكًا حَادِثًا لِلْوَلِيِّ فِيهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ عَنْ الرَّقَبَةِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ يَسْقُطُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي مَحَلِّهِ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الدَّفْعَ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَطِئَهَا وَلَهُ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، كَمَا فِي الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فِيهَا وَحَيْثُ وَجَبَ الْحَدُّ هُنَا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصْلًا، وَهُوَ أَنَّهُ زَنَى بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنْ كَانَ جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ هَكَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْحَادِثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْوَلِيِّ بِدَفْعِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْفَصْلِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي النَّوَادِرِ فَذَكَر أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَوَادِرِهِ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ عَلِيٌّ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى بِحُرَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَحَلِّ لَوْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ كَانَ مَانِعًا وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ كَمِلْكِ السَّارِقِ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَالْعَمَى وَالْفِسْقُ فِي الشُّهُودِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهِ إنَّمَا أَقَامَ بِوَطْئِهِ امْرَأَةً هِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى وَالْمُسْتَوْفَى مَثَلًا شَيْءٌ فَبِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُسْتَوْفَى فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، وَقَدْ مَلَكَ تِلْكَ الْعَيْنَ فَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا وَمِلْكُ الْعَيْنِ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْحِلِّ فَيُجْعَلُ الطَّارِئُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ كَمَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ، فَأَمَّا بِالنِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا يُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا، فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 [كِتَابُ السَّرِقَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ السَّرِقَةِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: السَّرِقَةُ لُغَةً أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسَارِقُ عَيْنَ حَافِظِهِ وَيَطْلُبُ غُرَّتَهُ لِيَأْخُذَهُ، أَوْ يُسَارِقُ عَيْنَ أَعْوَانِهِ عَلَى الْحِفْظِ بِأَنْ يُسَامِرَهُ لَيْلًا؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ بِاللَّيْلِ قَلَّ مَا يَلْحَقُهُ. وَهِيَ نَوْعَانِ: صُغْرَى وَكُبْرَى، فَالْكُبْرَى هِيَ قَطْعُ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ فِي مَكَان لَا يَلْحَقُ صَاحِبُهُ الْغَوْثَ وَيَطْلُبُ غَفْلَةَ مَنْ الْتَزَمَ حِفْظَ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ السُّلْطَانُ، وَالْعُقُوبَةُ تُسْتَحَقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي الْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ فَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ مِنْهُمَا بِالنَّصِّ. أَمَّا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى الْوَاجِبُ بِالنَّصِّ قَطْعُ الْيَدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ} [المائدة: 38] وَالْوَاجِبُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدَّيْنِ عُقُوبَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى أَحَدَهُمَا نَكَالًا وَالْآخَرَ خِزْيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ مُوجِبِ الْفِعْلِ، فَقَدْ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْكَمَالِ، يُقَالُ: خَزَى أَيْ قَضَى وَجَزَأَ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: كَفَى، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَمِيعُ مُوجِبِ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقًّا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْعِبَادِ يَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُوجَبِ الْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: الْمُسْتَحَقُّ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ الرُّسْغِ، وَقَالَ الْخَوَارِجُ: إلَى الْمَنْكِبِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْمُسْتَحَقُّ قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بَطْشَهُ كَانَ بِالْأَصَابِعِ فَتُقْطَعُ أَصَابِعُهُ لِيَزُولَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَطْشِ بِهَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْمَنْصُوصُ قَطْعُ الْيَدِ وَقَطْعُ الْيَدِ قَدْ يَكُونُ مِنْ الرُّسْغِ، وَقَدْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 يَكُونُ مِنْ الْمِرْفَقِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَنْكِبِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ زَالَ بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الرُّسْغِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، فَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُحَارِبُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ يُحَارِبُ اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمَفَاوِزِ فِي أَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظِهِ، فَالْمُتَعَرِّضُ لَهُ كَأَنَّهُ يُحَارِبُ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُشَاقِقْ اللَّهَ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّ رَادَّ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يُشَاقِقْ اللَّهَ تَعَالَى. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي الْمُرْتَدِّينَ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ وَسَاقُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِهِمْ وَجِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسَمْلِ أَعْيُنِهِمْ» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي الَّذِينَ قَطَعُوا الطَّرِيقَ مِنْ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ بَيَانَ عُقُوبَةٍ تُسْتَحَقُّ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: الْمُرْتَدُّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ قَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ لَمْ يَقْطَعْ، وَإِنَّمَا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ قَطَعُوا الطَّرِيقَ وَمَا بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. (قَالَ) «وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بُرْدَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٌ الْأَسْلَمِيَّ فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ أَبِي بُرْدَةَ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ». فَقَوْلُهُ: وَادَعَ، يَحْتَمِلُ الْمُؤَقَّتَةَ وَهِيَ الْأَمَانُ وَيَحْتَمِلُ الْمُؤَبَّدَةَ وَهِيَ الذِّمَّةُ، فَأَجْرَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكَلِمَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَقَالَ: يُقَامُ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْمُرَادُ الْمُوَادَعَةُ الْمُؤَبَّدَةُ وَهِيَ عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَأْمَنَهُمْ، وَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْعُقُوبَةِ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِالنَّصِّ فَفِي حَقِّ كُلِّ مَنْ تَقَرَّرَ السَّبَبُ ثَبَتَ الْحُكْمُ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُحَارِبًا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْمُسْتَأْمَنُ مُحَارِبٌ وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الطَّرِيقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 وَالْمُحَارِبُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَقَوْلُهُ: فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ قِيلَ مَعْنَاهُ: قَدْ أَسْلَمُوا فَجَاءُوا يُرِيدُونَ الْهِجْرَةَ لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقِيلَ: بَلْ جَاءُوا عَلَى قَصْدِ أَنْ يُسْلِمُوا، وَمَنْ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ فَوَصَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَدُّ يَجِبُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، كَمَا يَجِبُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ مَشْرُوعٌ عَلَى التَّرْتِيبِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ بِظَاهِرِ حَرْفِ أَوْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ الْجِنَايَةُ تَخْتَلِفُ مِنْهُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَوْ إخَافَةِ النَّاسِ، وَالْعُقُوبَةُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ غِلَظِ الْجِنَايَةِ يُعَاقَبُ بِأَخَفِّ الْأَنْوَاعِ، وَعِنْدَ خِفَّتِهَا بِأَغْلَظِ الْأَنْوَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ دَلِيلٌ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَشْتَغِلُ بِقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمُرَادُ بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ مُبَيَّنٌ فِي الْحَدِيثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ فَأَقُولُ: الْإِمَامُ يَتَخَيَّرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ وَيَصْلُبَهُ أَوْ يَقْتُلَهُ وَيَصْلُبَهُ ثُمَّ يَطْعَنَ تَحْتَ ثُنْدُوَتِهِ الْيُسْرَى فَيَقْتُلَهُ عَلَى خَشَبَةٍ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَصْلُبَهُ حَيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ ثُمَّ يَصْلُبَهُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُبُهُ قَبْلَ الْقَتْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْخِزْيِ فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَتْرُكُهُ عَلَى خَشَبَتِهِ أَبَدًا إلَى أَنْ يَسْقُطَ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْخِزْيِ وَلِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالْمُرَادُ عِنْدَنَا الْحَبْسُ فِي حَقِّ مَنْ خَوَّفَ النَّاسَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مَا دَامَ حَيًّا، أَوْ الْمُرَادُ نَفْيَهُ مِنْ بَلْدَتِهِ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى وَبِهِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ دَفْعُ أَذِيَّتِهِ عَنْ النَّاسِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الرِّدَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَى مَوْضِعِ حَبْسِهِ، فَإِنَّ الْمَحْبُوسَ يُسَمَّى خَارِجًا مِنْ الدُّنْيَا قَالَ الْقَائِلُ: خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُرَادُ إتْبَاعُهُ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَرَارِ فِي مَوْضِعٍ فَذَلِكَ نَفْيُهُ مِنْ الْأَرْضِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، وَفِيهِ كَلَامٌ نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ قُدْرَةِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ مُسْقِطَةٌ لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ»، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ فِي الْمَسْرُوقِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَقُولُونَ لَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] يَعْنِي بِالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ، وَالْفِعْلُ الَّذِي اشْتَقَّ مِنْهُ الِاسْمُ يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، وَلَكِنَّ السَّرِقَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة وَالْحِرْزِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْمَالِ الْمُبَاحِ يُسَمَّى اصْطِيَادًا أَوْ احْتِطَابًا لَا سَرِقَةً، وَكَذَلِكَ مَا لَيْسَ بِمَحْرَزٍ مَحْفُوظٍ فَأَخْذُهُ لَا يَكُونُ سَرِقَةً لِانْعِدَامِ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْحَافِظِ فَشَرَطْنَا مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُ السَّرِقَةِ وَلَيْسَ فِي اسْمِ السَّرِقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّصَابِ فَالسَّرِقَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ النَّسْخَ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» وَالْبَيْضَةُ قَدْ لَا تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ فَلْسٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بَيْضَةَ الْحَدِيدِ وَحِبَالَ السُّفُنِ وَاللُّؤْلُؤَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حَقَارَةِ السَّارِقِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مَا قُلْتُمْ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا كَانَ فِي اسْمِ السَّرِقَةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةِ الْإِحْرَازِ صَارَ كَوْنُ الْمَالِ مُحْرَزًا شَرْطًا بِالنَّصِّ، وَشَرَائِطُ الْعُقُوبَةِ يُرَاعَى وُجُودُهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ، وَالْإِحْرَازُ إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمَالِ الْخَطِيرِ دُونَ الْحَقِيرِ فَالْقَلِيلُ لَا يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ إحْرَازَهُ عَادَةً وَإِلَيْهِ أَشَارَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي قَوْلِهَا «كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» فَصَارَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْإِحْرَازُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ خَطِيرًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ بَيْضَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 الْحَدِيدِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ لِإِظْهَارِ حَقَارَةِ السَّارِقِ، فَقَدْ أَضْمَرَ فِي كَلَامِهِ هَذَا الْمَعْنَى لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ وَيَكُونَ كَلَامُهُ حَقًّا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يُمَازِحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا»، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ بِاعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي الْمَسْرُوقِ [النِّصَابِ فِي الْمَسْرُوقِ] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»، وَلِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَاخْتُلِفَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِيمَةِ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ فِي ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَلِهَذَا قَدَّرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النِّصَابَ بِهِ. وَقَدْ كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَيْ عَشْرَ دِرْهَمًا فَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ يَكُونُ رُبْعَ دِينَارٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إلَّا بِخَمْسَةٍ يَعْنِي الْيَدُ الَّتِي عَلَيْهَا خَمْسَةُ أَصَابِعَ لَا تُقْطَعُ إلَّا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَمَنْ اعْتَبَرَ بِأَرْبَعِينَ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ فَكَانَتْ تُقْطَعُ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَهُوَ كَانَ يَوْمَئِذٍ ذَا ثَمَنٍ»، وَهَذَا مِنْهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ مَالًا خَطِيرًا وَالْخَطِيرُ مَا يَكُونُ مِقْدَارًا يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَأَدْنَى ذَلِكَ الْأَرْبَعُونَ فِي نِصَابِ الشِّيَاهِ. وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَهَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ، وَلَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَعَنْ أَيْمَنَ بْنِ أَبِي أَيْمَنَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ الْمِجَنَّ الَّذِي قُطِعَتْ الْيَدُ فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» وَالرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُلَّةِ الْغُزَاةِ فَكَانُوا أَعْرَفَ بِقِيمَةِ السِّلَاحِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ إنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَكْثَرِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى دَرْءِ الْحَدِّ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ ثَوْبًا فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ سَرِقَتَهُ لَا تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ بِتَقْوِيمِهِ فَقُوِّمَ بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ فَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ النِّصَابَ يَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَيُعْتَبَرُ نِصَابُ الْحَدِّ بِنِصَابِ الْمَهْرِ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ أَدْنَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالْمُسْتَحَقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ خَطَرٌ، وَهُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِمَالٍ خَطِيرٍ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اضْطَرَبَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا سَمِعَ مَنْ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا رَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ وَكَانَتْ تُقْطَعُ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهَا نَصٌّ لَمَا اشْتَغَلَتْ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمُبْهَمِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَكُونَ النَّاسِخُ أَخَفَّ مِنْ الْمَنْسُوخِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ النَّقْرَةِ الْمَضْرُوبَةِ حَتَّى رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا سَرَقَ نَقْرَةً لَا تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ النَّقْدِ الْغَالِبِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ، وَأَمَّا مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ فَهُوَ مِنْ الْفُلُوسِ لَا مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الْعُقُوبَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مَغْشُوشَةً فَالْغِشُّ لَيْسَ مِنْ الْفِضَّةِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْقَطْعَ عَلَيْهِ كَانَ إيجَابُ الْقَطْعِ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ، فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ النَّقْرَةِ الْمَضْرُوبَةِ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْإِفْرَارِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - قَالُوا: إذَا أَصَابَ مِنْ الْحُدُودِ فِيهَا الْقَتْلَ قُتِلَ وَأُلْغِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ مَعْنَاهُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مُقَدَّمًا لِمُرَاعَاةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَتْلُ أَهَمُّ، وَفِي مَعْنَى الزَّجْرِ أَتَمُّ فَيَبْدَأُ بِهِ ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجَلْدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 وَالْقَطْعِ بَعْدَهُ بِهَذَا اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا اسْتَحَقَّ قَتْلَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ الْمُرَادَ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ وَحَدُّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَاحِدٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي أَجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَدِيثِهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى خُصُومَةٍ فِي الْحَدِّ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ فَلَا يُمْتَنَعُ قَبُولُهَا بِتَقَادُمِ الْعَهْدِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلٍ أَخَذَ، وَقَدْ نَقَبَ الْبَيْتَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَتَاعَ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ مَا لَمْ يَتِمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَتَمَامُ السَّرِقَةِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ حَدُّ الزِّنَا إلَّا بِالْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ، وَالْمَقْصُودُ فِي السَّرِقَةِ إخْرَاجُ الْمَالِ دُونَ هَتْكِ الْحِرْزِ، فَإِنْ أَخَذَ قَبْلَ إخْرَاجِ الْمَالِ، فَقَدْ انْعَدَمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا فِي كَثَرٍ»، وَبِهِ نَقُولُ فَالثَّمَرُ اسْمُ الرُّطَبِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَهُوَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَلَا قَطْعَ عِنْدَنَا فِي سَرِقَةِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ. (فَإِنْ قِيلَ) الْمُرَادُ ثِمَارُ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ وَهِيَ لَا تَكُونُ مُحْرِزَةً لِقَصْرِ الْحِيطَانِ. (قُلْنَا) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَانِعِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَسْرُوقِ ثَمَرًا، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْتُمْ تَعْطِيلُ هَذَا السَّبَبِ وَإِحَالَةُ الْحُكْمِ إلَى سَبَبٍ آخَرَ، فَأَمَّا الْكَثَرُ، فَقَدْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجُمَّارُ هَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْوَدِيُّ، وَهُوَ النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِ مَوْلَاهُ فَأُتِيَ بِهِ مَرْوَانَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَجَاءَ مَوْلَاهُ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ مَرْوَانُ فَقَامَ إلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا فِي كَثَرٍ» فَدَرَأَ الْحَدَّ مَرْوَانُ، وَعَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ»، وَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَنَحْوُهَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهَا الْقَطْعُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقَطْعُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ حَرِيسَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 الْجَبَلِ فَقَالَ هِيَ وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ، وَإِذَا جَمَعَهَا الْمُرَاحُ فَفِيهَا الْقَطْعُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَفِيهَا غُرْمُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ «، فَإِذَا آوَاهَا الْجَرِينُ وَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهَا الْقَطْعُ»، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا قَطْعَ فِي عَامِ السَّنَةِ وَهِيَ زَمَانُ الْقَحْطِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ التَّنَاوُلَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا قَطْعَ فِي مَجَاعَةِ مُضْطَرٍّ» وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: رَأَيْت رَجُلَيْنِ مَكْتُوفَيْنِ وَلَحْمًا فَذَهَبْت مَعَهُمْ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ صَاحِبُ اللَّحْمِ كَانَتْ لَنَا نَاقَةٌ عُشَرَاءُ نَنْتَظِرُهَا، كَمَا يُنْتَظَرُ الرَّبِيعُ فَوَجَدْت هَذَيْنِ قَدْ اجْتَزَرَاهَا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ يُرْضِيك مِنْ نَاقَتِك نَاقَتَانِ عُشَرَاوَانِ مُرْبِعَتَانِ؟ فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ فِي الْعِذْقِ، وَلَا فِي عَامِ السَّنَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ السَّنَةِ، وَالْعُشَرَاءُ هِيَ الْحَامِلُ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا عَشْرَةُ أَشْهُرٍ وَقَرُبَ وِلَادَتُهَا فَهِيَ أَعَزُّ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا يَنْتَظِرُونَ الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ بِلَبَنِهَا، كَمَا يَنْتَظِرُونَ الرَّبِيعَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ فِي الْعِذْقِ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي فِي الْعِرْقِ، وَهُوَ اللَّحْمُ وَالْأَشْهَرُ الْعِذْقُ، وَهُوَ الْكِبَاسَةُ وَمَعْنَاهُ لَا قَطْعَ فِي عَامِ السَّنَةِ لِلضَّرُورَةِ وَالْمَخْمَصَةِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَامِ السَّنَةِ يَضُمُّ إلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَهْلَ بَيْتٍ آخَرَ وَيَقُولُ لَنْ يَهْلَكَ النَّاسُ عَلَى إنْصَافِ بُطُونِهِمْ فَكَيْف نَأْمُرُ بِالْقَطْعِ فِي ذَلِكَ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْخِلْسَةِ قَالَ تِلْكَ الدَّعَارَةُ الْمُغَالَبَةُ لَا قَطْعَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْغَالِبَةِ فَهَذَا مِنْهُ مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ السَّرِقَةِ وَالْخِلْسَةُ لَا تَكُونُ سَرِقَةً، فَإِنَّ الْمُخْتَلِسَ يَسْتَدِيرُ صَاحِبَ الْمَتَاعِ، وَلَا يُسَارِقُ عَيْنَهُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ، وَإِنْ سَرَقَ مَمْلُوكًا قُطِعَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ، وَفِي الصَّغِيرِ يَتَحَقَّقُ فِعْلُ السَّرِقَةِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نُبَيِّنُهُ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّارِقِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَإِنْ عَادَ اسْتَوْدَعْته السِّجْنَ إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ عَرَضَ السُّجُونَ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَقَدْ سَرَقَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِيهِ، قَالَ: بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَسْتَنْجِي وَيَرْفَعُ لُقْمَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ: رِجْلُهُ الْيُمْنَى فَقَالَ: مَا ذَاكَ عَلَيْهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إلَى حَاجَتِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَقْطَعُهُ حَتَّى أَتِيَ عَلَى قَوَائِمِهِ كُلِّهَا يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَقْطَعُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ثُمَّ أَحْبِسُهُ يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 هَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْقَطْعَ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَفِي تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ إتْلَافٌ حُكْمِيٌّ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ، وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ أَضَافَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ قَطَعَك فَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَيْلُك بِلَيْلِ سَارِقٍ ثُمَّ أَغَارَ عَلَى حُلِيٍّ لِأَسْمَاءِ فَسَرَقَهُ ثُمَّ أَصْبَحَ يَدْعُو مَعَ الْقَوْمِ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَهْلَ الْبَيْتِ الصَّالِحِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ فَلَمْ يَقُمْ الْقَوْمُ حَتَّى أُتِيَ بِصَائِغٍ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَهُ الْحُلِيُّ فَقَالَ أَتَانِي بِهِ هَذَا الْأَقْطَعُ وَاعْتَرَفَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَعِزَّتُهُ بِاَللَّهِ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَرِقَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَجْهَلَك بِاَللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى يُقْطَعَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَلَيْسَ لِحِكَايَةِ الْحَالِ عُمُومًا فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ يَضْعُفُ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالْإِشْكَالُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالضَّيْفُ إذَا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمُضِيفِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ بَيْتَ الضِّيَافَةِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَيْتِ الْعِيَالِ فَلَمْ يَكُنْ الضَّيْفُ مَأْذُونًا فِي بَيْتِ الْعِيَالِ فَلِهَذَا قَطَعَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الرَّجُلِ فِي دُعَائِهِ وَصَلَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثُمَّ كَانَ مَقْصُودُهُ السَّرِقَةَ لَا الصَّلَاةَ وَتَمَامُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ نُبَيِّنُهُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَارِقٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت مَا إخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: تُبْ إلَى اللَّهِ، فَقَالَ: تُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إلَى الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَتَلْقِينِ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ أَوْ بِسَارِقَةٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت قُولِي لَا، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِسَوْدَاءَ يُقَالُ لَهَا سَلَّامَةُ فَقَالَ: أَسَرَقْت قُولِي لَا، قَالُوا: أَتُلَقِّنُهَا؟ قَالَ: جِئْتُمُونِي بِأَعْجَمِيَّةٍ لَا تَدْرِي مَا يُرَادُ بِهَا حِينَ تُفَسِّرُ فَأَقْطَعُهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ إذَا رَجَعَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْحَدَّ لَا بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ لِلزَّجْرِ لَا لِلْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْحَسْمِ بَعْدَ الْقَطْعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 وَهُوَ دَوَاءٌ وَإِصْلَاحٌ يَتَحَرَّزُ بِهِ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَحْصُلُ بِالْحَدِّ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ خِزْيٌ وَنَكَالٌ، وَإِنَّمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّكْفِيرُ بِهِ فِي حَقِّ التَّائِبِ، فَإِنَّهُ دَعَاهُ إلَى التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُبْ إلَى اللَّهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ بِقَوْلِهِ تُبْت، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» وَتَمَامُ التَّوْبَةِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ مَعَ الْوَجَلِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا؛ لِأَنَّ مُبْهَمَ الِاسْمِ مُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ مَنْ يَسْتَمِعُ كَلَامَ الْغَيْرِ سِرًّا يُسَمَّى سَارِقًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وَيُقَالُ: سُرِقَ لِسَانُ الْأَمِيرِ، وَمَنْ لَا يَعْتَدِلُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُسَمَّى سَارِقًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً مَنْ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» فَيَسْتَفْسِرهُمَا عَنْ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ لَهَا، وَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَالٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْرَزًا أَوْ غَيْرَ مُحْرَزٍ، وَقَدْ يَكُونُ نِصَابًا وَمَا دُونَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُمَا عَنْ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا مَتَى سَرَقَ؟ وَأَيْنَ سَرَقَ؟ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَسْأَلُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ مِمَّنْ سَرَقَ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ حَاضِرٌ يُخَاصَمُ وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا بَيَّنُوا جَمِيعَ ذَلِكَ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُ الشَّاهِدَيْنِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ فَيُحْبَسُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّوَثُّقُ بِالْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ، فَلِهَذَا حَبَسَهُ فَإِنْ زَكَّيَا وَقِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابٌ كَامِلٌ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ إلَّا بِحَضْرَتِهِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَحَبَسَهُ كَالزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدٌّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِقَطْعِهِ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى فِي الْمَالِ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَعِنْدَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ فِعْلِ السَّرِقَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، فَإِذَا قَطَعَ قَبْلَ حُضُورِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 كَانَ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَرُدَّ إقْرَارُهُ فَيَبْقَى الْمَالُ مَمْلُوكًا لِمَنْ فِي يَدِهِ أَوْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَهُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِحُضُورِ وَكِيلِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْغَيْرِ (قَالَ) وَإِذَا حَضَرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَالشَّاهِدَانِ غَائِبَانِ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يَحْضُرَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ بَعْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ وَمَوْتِهِمْ إلَّا الرَّجْمَ خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي كُلِّ عُقُوبَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مَعَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ أَوْ اُبْتُلِيَا بِمَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُمَا وَرُجُوعُ الشَّاهِدِ فِي الْعُقُوبَاتِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مَانِعٌ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ الْغَيْبَةُ وَالْمَوْتُ لَا تَقْدَحُ فِي عَدَالَةِ الشَّاهِدِ وَالشَّرْطُ بَعْدَ الْأَدَاءِ عَدَالَتُهُ، فَلِهَذَا لَا يُمْتَنَعُ الْإِقَامَةُ لِغَيْبَتِهِ وَمَوْتِهِ إلَّا الرَّجْمُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْبِدَايَةُ بِالشُّهُودِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعَارِضَ فِي شُهُودِ السَّرِقَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مَانِعٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اسْتِرْدَادِ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ فَتَتَأَكَّدُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْحَدِّ، وَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ الرَّجُلُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشْرَةً مِنْ رَجُلَيْنِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ كَامِلٌ فَلَا يَخْتَلِفُ مَقْصُودُ السَّارِقِ بِتَعَدُّدِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَوْ اتِّحَادِهِ. (قَالَ)، وَإِنْ سَرَقَ رَجُلَانِ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشْرَةً مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُقْطَعَا؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النِّصَابِ، فَإِنَّ عِنْدَ تَعَدُّدِ السُّرَّاقِ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ قَلَّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ السَّارِقَ وَاحِدٌ وَالنِّصَابَ كَامِلٌ يَرْغَبُ الْوَاحِدُ فِي أَخْذِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّارِقَيْنِ مِنْهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّعَاوُنَ مِمَّا يَزِيدُ رَغْبَةَ السَّارِقِ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ فَالْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَظْهَرُ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّدَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى ثَوْبٍ يُسَاوِي نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشْرَةً فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الثَّوْبِ وَخَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ لَا يَتَمَلَّكُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا بِنِصَابٍ كَامِلٍ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يُقْطَعُ الْيَدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ تَبْلُغْ سَرِقَتُهُ نِصَابًا كَامِلًا (قَالَ) وَيُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُرْتَهِنِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ لِهَؤُلَاءِ حَقَّ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ جُحُودِ مَنْ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ يَقُولُ خُصُومَةُ هَؤُلَاءِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَةِ الْمَالِكِ فَلَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بِمِثْلِهِ، كَمَا لَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةِ وَكِيلِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ إذَا حَضَرَ رُبَّمَا يُقِرُّ بِالْمِلْكِ لَهُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِي الْأَخْذِ مِنْ جِهَتِهِ، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَسْتَوْفِي مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةِ الْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ لِهَذَا الْمَعْنَى؟ فَأَمَّا الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ، فَقَدْ قِيلَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بِخُصُومَتِهِمَا أَيْضًا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى النِّيَابَةِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمَكُّنُ الشُّبْهَةِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ إقْرَارَ الصَّغِيرِ بِالْمِلْكِ لِلسَّارِقِ لَغْوٌ، وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَبُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا وَمَلَكَ الْوَصِيُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَالَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّارِقِ، وَفِي اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ إسْقَاطُ الضَّمَانِ وَصَاحِبُ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ الضَّمَانِ فَلَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بِخُصُومَتِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بِخُصُومَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ كَالْمَالِكِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إنْ سَلَّمَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَالِكَ لَوْ حَضَرَ وَخَاصَمَ يَسْتَوْفِي الْقَطْعَ بِالِاتِّفَاقِ وَتَأْثِيرُهُ أَنْ يُعَدَّ تَمَامُ الْفِعْلِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ، الشَّرْطُ ظُهُورُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَقَدْ ظَهَرَ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَاحِبُ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ إذَا أُزِيلَتْ يَدُهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ؟ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَّا بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَامِنًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِيَدِهِ فَكَانَتْ الْيَدُ مَقْصُودَةً لَهُ، وَلَا شَكَّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ إزَالَةِ يَدِهِ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْإِزَالَةِ، كَمَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ حَتَّى إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْبَيْعَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ كَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ سَبَبِهِ، وَسَبَبُ الْإِزَالَةِ هَاهُنَا السَّرِقَةُ فَيَظْهَرُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ بِلَا شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا يُخَاصِمُ بِاعْتِبَارِ حَقِّهِ لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْخُصُومَةِ إلَى غَيْرِهِ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَرَقَ مِنِّي وَأَزَالَ يَدِي بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ بِلَا شُبْهَةٍ اسْتَوْفَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُمْتَنَعُ الِاسْتِيفَاءُ لِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِ إقْرَارٍ مِنْ الْمَالِكِ إذَا حَضَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِكَ إذَا حَضَرَ وَغَابَ الْمُودَعُ يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَحْضُرَ الْمُودَعُ فَيُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَهُ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ شُبْهَةٌ يُتَوَهَّمُ وُجُودُهَا فِي الْحَالِ، فَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ اعْتِرَاضُهَا لَا يُعْتَبَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَطْعَ يُسْتَوْفَى بِالْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ اعْتِرَاضُ الرُّجُوعِ مِنْ الْمُقِرِّ، وَصَاحِبُ الْيَدِ بِهَذِهِ الْخُصُومَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ إحْيَاءَ حَقِّ الْمَالِكِ لَا إسْقَاطَهُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ إذَا اسْتَوْفَى الْقَطْعَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْمُودَعُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ بَلْ الْقَطْعُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، فَإِذَا عَلِمَ السَّارِقُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمُودِعِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَالِكِ يَجْتَرِئُ عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ فَلِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بِخُصُومَتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ حُكْمًا. كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقِصَاصَ بِأَنَّهُ حَيَاةٌ، وَهُوَ إمَاتَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ إنَّمَا لَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةِ الْمُودِعِ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ عَفْوٍ مِنْ الْمَالِكِ فِي الْحَالِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ فِيمَا تَنَاوَلَهُ مِنْ الْإِيدَاعِ لَهُ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ فِي السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَالِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ الْمُودِعُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْحِرْزَ الَّذِي هُوَ الْمُودِعُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ فَكَانَ الْمُودِعُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى كَالْمُودِعِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَحَدِ وَصْفَيْ السَّبَبِ فَكَمَا أَنَّ الْمَالِكَ أَصْلٌ فِي الْخُصُومَةِ الْمُظْهِرَةِ لِلسَّرِقَةِ بِلَا شُبْهَةٍ، فَكَذَلِكَ الْمُودِعُ [السَّرِقَة مِنْ السَّارِق] وَأَمَّا إذَا سَرَقَ مِنْ السَّارِقِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ يُقْطَعُ الثَّانِي بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَالسَّرِقَةُ بَعْدُ لَمْ تَتِمَّ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِيَدِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَدُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَدِ أَمَانَةٍ، وَلَا يَدِ ضَمَانٍ، وَلَا يَدِ مِلْكٍ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَطْعَ مِنْ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْكَافِرِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ تَظْهَرْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا حُجَّةٌ فِي فِعْلٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْكَافِرُ لَا فِي فِعْلٍ يُشَارِكُهُ الْمُسْلِمُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا نَظِيرُهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الثَّوْبِ فَنِصْفُهُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ فَشَهَادَتُهُمَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِيهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ الْكَافِرِ فَشَهَادَتُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَيَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْكَافِرِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ لِلْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الثَّوْبِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَرِدَّهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا فِي مِلْكِ الثَّوْبِ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ (قَالَ) وَيُسْتَحَبُّ لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ أَنْ لَا يَشْهَدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِيَنْدَرِئَ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يَقْصِدُ إبْقَاءَ السِّتْرِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا رَدَّ السَّارِقُ الْمَتَاعَ فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ: إذًا يَذْهَبُ مَتَاعِي وَسِعَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهُ مَتَاعُ هَذَا أَخَذَهُ هَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَا السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّهُمَا نُدِبَا إلَى السَّتْرِ عَلَيْهِ وَنُهِيَا عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِ فَالطَّرِيقُ الَّذِي يُعْتَدَلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَا بِلَفْظِ الْأَخْذِ دُونَ السَّرِقَةِ لِيَكُونَ الْآخِذُ مُجْبَرًا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا وَعَلَى رَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهَا فَيَتَوَصَّلُ صَاحِبُ الْمَتَاعِ إلَى حَقِّهِ وَلَا يَنْتَهِكُ سِتْرَ الْآخِذِ وَهُمَا صَادِقَانِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَالسَّارِقُ أَخَذَ الْمَتَاعَ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ وَسِعَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهُ لِفُلَانٍ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْمِلْكِ إلَّا الْيَدَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ عَايَنَ الشِّرَاءَ فَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يَعْرِفُ مِلْكَهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ الِاحْتِطَابُ وَالِاحْتِشَاشُ وَسَائِرُ الْأَسْبَابِ إنَّمَا يُوجَبُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِالْيَدِ وَبِالْإِحْرَازِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَلَوْ رَآهُ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَرَاهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِي قَدْ تَتَنَوَّعُ قَدْ تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وَقَدْ تَكُونُ يَدَ أَمَانَةٍ وَقَدْ تَكُونُ يَدَ غَصْبٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَالْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ تَتَنَوَّعُ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 وَالْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ؟ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: الشَّاهِدُ يَبْنِي عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ مَا وَرَاءَهُ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا؟ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَشُهُودُ الدَّيْنِ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَانٍ وَلَعَلَّ الْبَرَاءَةَ وَقَعَتْ عَنْهُ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ (قَالَ) وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخَذَ الْمَتَاعَ وَذَهَبَ بِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مُحَرَّزًا عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَخْذُ الْمَالِ لَا دُخُولُ الْحِرْزِ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْجُوَالِقِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ قُطِعَتْ يَدُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْتِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اللِّصُّ إذَا كَانَ ظَرِيفًا لَا يُقْطَعُ، قِيلَ: وَكَيْف ذَلِكَ؟ قَالَ أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ فَيُدْخِلَ يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَلِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ مُعْتَبَرٌ لِإِيجَابِ الْقَطْعِ وَشَرْطُ الْحَدِّ وَسَبَبُهُ يُرَاعَى وُجُودُهُ بِأَكْمَلِ الْجِهَاتِ وَأَكْمَلُ جِهَةِ هَتْكِ الْحِرْزِ فِي الْبُيُوتِ أَنْ يَدْخُلَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْجُوَالِقِ فَالدُّخُولُ فِيهِ لَا يَتَأَتَّى، وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ أَيْضًا فَيَتِمُّ هَتْكُ الْحِرْزِ بِإِدْخَالِ الْيَدِ وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْهُ، وَكَمَالُ أَخْذِ الْمَالِ مَقْصُودٌ فَدُخُولُ الْحِرْزِ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِصَاحِبِ الْحِرْزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَصْدٌ إلَى أَخْذِ مَالِهِ (قَالَ) وَإِنْ دَخَلَ الْحِرْزَ وَجَمَعَ الْمَتَاعَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ حَتَّى أَخَذَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّرِقَةِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ فَمَقْصُودُ السَّارِقِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَقَبْلَ تَتْمِيمِ السَّبَبِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِأَخْذِ الْمَالِ الْمُحْرَزِ وَالْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ تَتْمِيمَ فِعْلِ السَّرِقَةِ بَلْ لِلنَّجَاةِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ كَحَدِّ الزِّنَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ، وَإِنْ أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُنَاكَ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فِي الْإِيلَاجِ وَهَا هُنَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فِي صَرْفِ الْمَسْرُوقِ إلَى شَهَوَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَلَا يُقْطَعُ إذَا أَخَذَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ. (قَالَ) فَإِنْ نَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ عَلَى الْبَابِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي وَقَفَ خَارِجَ الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ الْحِرْزَ وَالْآخَرُ لَمْ يُخْرِجْ الْمَالَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَلَيْسَ مَعَهُ فِي يَدِهِ مَالٌ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا؟ إذْ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ مِنْهُ فَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ كَانَ الْخَارِجُ أَدْخَلَ يَدَهُ حَتَّى تَنَاوَلَ الْمَتَاعَ فَالْقَطْعُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَخْرَجَ يَدَهُ مَعَ الْمَتَاعِ حَتَّى أَخَذَ الْخَارِجُ مِنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ قَدْ تَمَّ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَصَارَ الْمَالُ مَخْرَجًا بِفِعْلِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَأَمَّا الْخَارِجُ، فَإِنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ وَلَكِنْ أَخْرَجَ الْآخَرُ يَدَهُ إلَيْهِ، فَإِنَّمَا أَخَذَ مَتَاعًا هُوَ غَيْرُ مُحْرَزٍ فَلَا يُقْطَعُ (قَالَ) فَإِنْ رَمَى بِالثِّيَابِ إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهَا مِنْ الطَّرِيقِ قُطِعَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ، وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ فَهُوَ، كَمَا لَوْ نَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ مِنْ خَارِجٍ، فَإِنَّمَا فَارَقَ هَذَا الْأَوَّلَ فِي الْأَخْذِ مِنْ السِّكَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ خَرَجَ وَالْمَالُ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَتَتِمُّ سَرِقَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بَيَانُهُ أَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالرَّمْيِ إلَى الطَّرِيقِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ مَالٌ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حُكْمًا فَرَدُّهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ حُكْمًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ مُسْتَوْجِبًا الْقَطْعَ فَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحِيلَةِ مِنْ السَّارِقِ لِيَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِدَفْعِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فِي بَيْتِهِ أَنْ يُدْرِكَهُ فَلَا يَشْغَلُ يَدَهُ بِالْمَتَاعِ، وَقَدْ يَحُولُ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّفْعِ وَاكْتِسَابُهُ زِيَادَةُ حِيلَةٍ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَطْعِ عَنْهُ، فَأَمَّا إذَا نَاوَلَ غَيْرَهُ، فَقَدْ زَالَتْ يَدُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِاعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحِرْزِ، فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ (قَالَ) وَلَوْ رَمَى بِهِ إلَى السِّكَّةِ ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْهُ بِأَنْ كَانَ أَخَذَهُ غَيْرُهُ وَذَهَبَ بِهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ لَا تَتْمِيمًا لِفِعْلِ السَّرِقَةِ، وَكَمَا ثَبَتَتْ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ زَالَتْ يَدُهُ حُكْمًا، فَقَدْ خَرَجَ وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْتِ نَهْرٌ جَارٍ وَرَمَى بِالْمَتَاعِ فِي النَّهْرِ حَتَّى أَخْرَجَهُ الْمَاءُ ثُمَّ خَرَجَ فَأَخَذَهُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِهِ الْمَاءُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِالرَّمْيِ بِهِ إلَى الْخَارِجِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ جَرْيَ الْمَاءِ بِهِ كَانَ بِسَبَبِ إلْقَائِهِ فِي النَّهْرِ فَيَصِيرُ الْإِخْرَاجُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ حِيَلِهِ مِنْهُ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ (قَالَ) وَلَوْ حَمَلَ الْمَتَاعَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ وَسَاقَ الدَّابَّةَ حَتَّى أَخْرَجَهَا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى سَائِقِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ فَضَمَانُهُ عَلَى سَائِقِ الدَّابَّةِ فَتَتِمُّ سَرِقَتُهُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ. (قَالَ) وَإِنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ الدَّارَ فَجَمَعُوا الْمَتَاعَ وَحَمَلُوهُ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 مِنْهُمْ فَكَانَ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بِهِ، وَقَدْ خَرَجُوا مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي فَوْرِهِ أَوْ خَرَجُوا قَبْلَهُ ثُمَّ خَرَجَ هُوَ فِي فَوْرِهِمْ فَفِي الْقِيَاسِ يُقْطَعُ الْحَمَّالُ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِمْ الْقَطْعُ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ إنَّمَا يَتِمُّ مِنْ الْحَمَّالِ بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ، فَأَمَّا الْآخَرُونَ لَمْ يُوجَدْ إخْرَاجُ الْمَتَاعِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْقَطْعُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا وَلَا شَيْءَ فِي أَيْدِيهِمْ حَقِيقَةً، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْمَتَاعُ فِي يَدِ الْحَمَّالِ حَتَّى لَوْ نَازَعُوهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَدُهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْيَدِ بِعَيْنِهَا فِي إيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى الْآخَرِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلُوهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدْرٌ فَيَبْقَى الْإِخْرَاجُ مُضَافًا إلَى سَوْقِ الدَّابَّةِ فَكَانُوا مُخْرِجِينَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلدَّابَّةِ عَلَى الْمَتَاعِ فَيَبْقَى فِي يَدِ الْأَخِذِينَ حُكْمًا إلَى أَنْ أَخْرَجُوهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَصَارَ الْمَالُ مُخْرَجًا بِمُعَاوَنَتِهِمْ فَيَلْزَمُهُمْ الْقَطْعُ كَمَا لَوْ أَخْرَجُوهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةُ حِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ بَيْنَ السُّرَّاقِ أَنْ يُبَاشِرَ حَمْلَ الْمَتَاعِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَصْحَابُهُ يَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِدَفْعِ صَاحِبِ الْبَيْتِ عَنْهُ وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُمْ. وَالْمَسْأَلَةُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى الرِّدْءِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ هَلْ تَلْزَمُهُ الْعُقُوبَةُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ؟ فَإِنَّ الْآخَرِينَ كَالرِّدْءِ لِلْحَمَّالِ إلَّا أَنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِسَبَبِ الْمُحَارَبَةِ، وَالرِّدْءُ مُبَاشِرٌ لِلْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ فِي الْعَادَةِ هَكَذَا تَكُونُ، فَإِنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا جَمِيعًا بِالْقِتَالِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ لَا تَسْتَقِرُّ قَدَمُهُمْ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ رِدْءًا، فَإِذَا وَقَعَتْ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُبَاشِرِينَ لِلْحَرْبِ الْتَجَئُوا إلَى الرِّدْءِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَالْحَدُّ هَاهُنَا إنَّمَا يَجِبُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ فِي إخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، فَإِذَا كَانَ الْمُخْرِجُ مَنْ يُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى غَيْرِهِ (قَالَ) وَإِنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَعَلَيْهِمْ التَّعْزِيرُ، وَلَا يَقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ إنَّمَا تَمَّ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِعَيْنِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ السَّارِقُ هَذَا مَتَاعِي كُنْت اسْتَوْدَعْته فَجَحَدَنِي أَوْ اشْتَرَيْته مِنْهُ أَوْ قَالَ هُوَ أَمَرَنِي بِهِ دُرِئَ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ قَدْ صَارَ خَصْمًا لَهُ، فَإِنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ طَلَبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 يَمِينَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَيْهِ وَبَعْدَمَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ لَا يُسْتَوْفَى الْحَدُّ الْوَاجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ حَلَفَ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُقْطَعُ كَانَ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِالْيَمِينِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ هَذَا الْحَدِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ أُمِرْنَا بِدَرْءِ الْحَدِّ عِنْدَ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ تَتَمَكَّنُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ بِدَلِيلِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُقِرِّ إذَا رَجَعَ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَمَا مِنْ مُقِرٍّ إلَّا وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ [سَرَقَ بَابَ دَارٍ أَوْ مَسْجِدٍ] (قَالَ) وَإِنْ سَرَقَ بَابَ دَارٍ أَوْ مَسْجِدٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ، وَلِأَنَّ بِالْبَابِ يَصِيرُ مَا فِي الْبَيْتِ مُحْرَزًا فَسَارِقُ الْبَابِ يَكُونُ سَارِقًا لِلْحِرْزِ دُونَ الْمُحْرَزِ دُونَ الْمُحْرَزِ فَهُوَ كَسَرِقَةِ الْحَارِسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا قَدْ سَقَطَ عَلَى حَائِطٍ إلَى السِّكَّةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، فَإِنَّ الْحَائِطَ غَيْرُ مُحْرَزٍ بَلْ بِهِ يُحْرَزُ مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ فَمَا عَلَى ظَاهِرِ الْحَائِطِ لَا يَكُونُ مُحْرَزًا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ خَشَبَةً أَوْ سَاجَةً فِي السِّكَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ بَيْتِ إنْسَانٍ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ أَوْ حَانُوتِ تَاجِرٍ فِي السُّوقِ قَدْ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ. وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَالَ يَكُونُ مُحْرَزًا بِالْمَكَانِ تَارَةً وَبِالْحَائِطِ أُخْرَى، وَكُلُّ مَكَان هُوَ مُعَدٌّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ فَهُوَ حِرْزٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا مَبْنِيًّا لِذَلِكَ لَا يَكُونُ حِرْزًا، وَالْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْرَزٍ بِالْمَكَانِ، فَأَمَّا فِيمَا كَانَ مُحْرَزًا بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ مُحْرَزٌ، فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْرَازُ فِيمَا لَيْسَ مُحْرَزًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْحَانُوتُ حِرْزٌ حَتَّى لَوْ سَرَقَ مِنْهُ لَيْلًا اسْتَوْجَبَ الْقَطْعَ، وَإِذَا فَتَحَ التَّاجِرُ بَابَ الْحَانُوتِ بِالنَّهَارِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُ فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ كَانَ دَاخِلًا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَاخِلٍ بِحُكْمِ الْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ فَيَنْعَدِمُ هَتْكُ الْحِرْزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ صَاحِبُ الْحَانُوتِ هُنَاكَ يَحْفَظُ مَتَاعَهُ أَوْ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْحَافِظَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا هُوَ مُحْرَزٌ بِالْمَكَانِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الْمَأْذُونُ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَوْ الدَّارُ الْوَاحِدَةُ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِي بَعْضِ بُيُوتِهَا وَيَسْتَوِي إنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ بَيْتِ آخَرَ فِيهَا أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ مَا لَمْ يُخْرِجْ الْمَسْرُوقَ مِنْ الدَّارِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَطْعَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أُمِرَ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فِي دَارٍ فَحَفِظَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى فَهَلَكَتْ كَانَ ضَامِنًا؟ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ بِحِفْظِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي دُخُولِ بَيْتٍ مِنْهَا تَنْعَدِمُ الْحِرْزِيَّةُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُقْطَعُ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ هُنَاكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ، فَإِنَّهُ حِرْزٌ فِي نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ سَرَقَ مِنْهُ لَيْلًا يُقْطَعُ وَبِالنَّهَارِ هُوَ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمَالُ مُحْرَزًا فِيهِ بِالْحَافِظِ، فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ وَإِلَّا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ، فَإِنَّهُ مَا بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ بِهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَتَاعُ فِيهِ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمَالِ حَافِظٌ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ سُرِقَ مِنْهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ لِحَدِيثِ صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، فَإِنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَجَاءَ سَارِقٌ فَسَرَقَهُ فَاتَّبَعَهُ حَتَّى أَخَذَهُ وَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ» (قَالَ) وَلَوْ كَابَرَ إنْسَانًا لَيْلًا حَتَّى سَرَقَ مَتَاعَهُ لَيْلًا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ قَدْ تَمَّتْ حِينَ كَابَرَهُ لَيْلًا، فَإِنَّ الْغَوْثَ بِاللَّيْلِ قَلَّ مَا يَلْحَقُ صَاحِبَ الْبَيْتِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمَكُّنُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالنَّاسِ وَالسَّارِقُ اسْتَخْفَى فِعْلَهُ مِنْ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَابَرَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا حَتَّى أَخَذَ مِنْهُ مَالًا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ فِي الْمِصْرِ بِالنَّهَارِ يَلْحَقُهُ عَادَةً فَالْآخِذُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ غَيْرُ مُسْتَخْفٍ لَهُ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي السَّرِقَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قَطْعَ عَلَى مُخْتَلِسٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا خَائِنٍ» (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا أَبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَمَّا الْأَبُ فَلِلتَّأَوُّلِ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك»، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عَادَةً فَلَا يَكُونُ بَيْتُهُ حِرْزًا فِي حَقِّهِ وَالسَّرِقَةُ فِعْلٌ مِنْ السَّارِقِ، فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلشُّبْهَةِ يُمْتَنَعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ الْوَلَدِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا (قَالَ) وَمَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ كَذَلِكَ، وَفِي غَيْرِهِمْ يَجِبُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وِلَادٌ وَلَا جُزْئِيَّةَ، فَلَا تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ لِأَحَدِهِمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَجَوَازُ وَضْعِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ بِحَالٍ وَلَا اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْله تَعَالَى {، وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الْآيَةَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْجُنَاحَ عَلَى الدَّاخِلِ فِي بَيْتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَالْأَكْلِ مِنْهُ فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَالظَّاهِرُ وَإِنْ تُرِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ يَبْقَى شُبْهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ بُيُوتَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ عَلَى بُيُوتِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَةَ لَا تَبْقَى مَعَ السَّرِقَةِ فَلِانْعِدَامِ السَّبَبِ عِنْدَ السَّرِقَةِ تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ هُنَاكَ، فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ تَبْقَى مَعَ السَّرِقَةِ كَالْأُبُوَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً مُحَرِّمَةً لِلنِّكَاحِ فَكَانَتْ كَالْوِلَادِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ بَيْتَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ. وَلِهَذَا ثَبَتَ حِلُّ النَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ كَمَا فِي الْوِلَادِ فَيُنْتَقَصُ مَعْنَى الْحِرْزِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِنَا مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ وَالْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْمِلْكِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَدْنَى الشُّبْهَةِ تَكْفِي لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ السَّارِقَيْنِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَوْ شَرِيكًا لَهُ يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ وَيُدْرَأُ عَنْ الْآخَرِ لِلشُّبْهَةِ لِلشَّرِكَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَكُونُ بَعْضُهَا مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَبَعْضُهَا غَيْرَ مُوجِبٍ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ [سَارِقِ الْمُصْحَفِ] (قَالَ) وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَإِنَّ الْجِلْدَ وَالْبَيَاضَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ قَبْلَ أَنْ يُكْتَبَ فِيهِ الْقُرْآنُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَمَا كُتِبَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ؟ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ لَمْ تُنْتَقَصْ مَالِيَّتُهُ، فَإِذَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوْلَى، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ وَقَالَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْقُرْآنَ فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِي الْمَصَاحِفِ قُرْآنًا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَأْوِيلًا فِي أَخْذِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ وَالنَّظَرِ لِإِزَالَةِ إشْكَالٍ وَقَعَ فِي كَلِمَةٍ فَالْقَطْعُ لَا يَجِبُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي الْمُصْحَفِ لَا عَيْنِ الْجِلْدِ وَالْبَيَاضِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَطْعِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً مِنْ خَمْرٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَتْ الْآنِيَةُ تُسَاوِي نِصَابًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 إنْ كَانَ الْمُصْحَفُ مُفَضَّضًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْفِضَّةِ لَيْسَ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُنْفَصِلِ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي الْمُصْحَفِ دُونَ مَا عَلَى جِلْدِهِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ كَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا خَلَقًا قَدْ صُرَّ فِي الثَّوْبِ دِينَارٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ السَّارِقُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَيْسَ بِنِصَابٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ (قَالَ)، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالْبُقُولِ وَالرَّيَاحِينِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ شَجَرِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ شَجَرِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَدَلِيلُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ جَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى غَاصِبِهَا وَمُتْلِفِهَا، وَدَلِيلُ الْحِرْزِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ يُقْطَعُ وَكُلُّ مَكَان هُوَ حِرْزٌ مُعْتَادٌ لِمَالٍ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ إحْرَازُهُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ. (وَحُجَّتُنَا) ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا فِي كَثَرٍ» وَبِالْإِجْمَاعِ الْمُرَادُ بِالثِّمَارِ الرَّطْبَةُ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهَا الْفَسَادُ، وَلِأَنَّ فِي مَالِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نُقْصَانًا؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ بِالتَّمَوُّلِ، وَذَلِكَ بِالصِّيَانَةِ وَالِادِّخَارِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي مَالِيَّتِهَا، وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَلِأَنَّهُ تَافِهٌ جِنْسًا، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيُلْتَحَقُ بِالتَّافِهِ قَدْرًا، وَهُوَ مَا دُونَ النِّصَابِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَتْ لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ فِي الْحَرَضِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُوجِدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ كُلِّ مَالٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا إلَّا التُّرَابَ وَالسِّرْجِينَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَقَرَّرْنَا هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَبِأَنْ كَانَ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةٌ بَعْدَ الْإِحْرَازِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْفَيْرُوزَجِ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ سَرِيرًا أَوْ كُرْسِيًّا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ وَالْخَشَبُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ يُوجَدُ مُبَاحًا ثُمَّ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ لَا بِاعْتِبَارِ الصَّنْعَةِ، وَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الصَّنْعَةِ وَمَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ»، وَقَدْ أُثْبِتَ بَيْنَ النَّاسِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِهَا، وَإِنْ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ بِإِحْرَازِهَا، وَإِذَا عُلِمَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ تُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَافِهٌ جِنْسًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ؟ فَيَكُونُ نَظِيرَ التَّافِهِ قَدْرًا يُقَرِّرُهُ أَنَّ التَّافِهَ لَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَشَبَ تَكُونُ مَطْرُوحَةً فِي السِّكَكِ عَادَةً؟ وَكَذَلِكَ الْجِصُّ وَالزِّرْنِيخُ وَالنُّورَةُ، وَالنَّاسُ لَا يُحْرِزُونَهَا كَمَا يُحْرِزُونَ سَائِرَ الْأَمْوَالِ لِتَفَاهَتِهَا، وَالنُّقْصَانُ فِي الْحِرْزِيَّةِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ. فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَرُ، فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا سَرَقَهَا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي تُوجِدُ مُبَاحًا لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ الْمُخْتَلَطُ بِالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَافِهٍ جِنْسًا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ لَا يَتْرُكُهُ عَادَةً، وَكَذَلِكَ إحْرَازُهُ يَتِمُّ عَادَةً، فَأَمَّا الْمَصْنُوعُ مِنْ الْخَشَبِ فَهُوَ لَا يُوجَدُ بِصُورَتِهِ مُبَاحًا فَلَمْ يَكُنْ تَافِهًا جِنْسًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِعَيْنِ الشَّيْءِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَصْنُوعِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ هُوَ فِي التُّرَابِ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ الْمَصْنُوعِ مِنْهُ مِنْ الطَّوَابِقِ وَالْكِيزَانِ وَنَحْوِهِمَا (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ النَّبِيذِ وَاللَّبَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَكَذَلِكَ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالسَّكَرِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرَامٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَأَوَّلَ أَخْذَهُ لِلْإِرَاقَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَانْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ يَصِيرُ شُبْهَةً وَالْقَطْعُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (قَالَ) وَلَا قَطْعَ فِي الدُّفِّ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْمَلَاهِي، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى آخَرَ فِيهِ سِوَى اللَّهْوِ وَالْمَقْصُودُ التَّلَهِّي بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ لِلْآخِذِ تَأْوِيلًا فِي أَخْذِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّلَهِّي فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً (قَالَ) وَلَا قَطْعَ فِي الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَسَائِرِ الطُّيُورِ، وَلَا فِي الْوُحُوشِ مِنْ الصَّيُودِ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَلَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ فِي النَّاسِ عَادَةً، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ اصْطِيَادٌ مِنْ وَجْهٍ وَالِاصْطِيَادُ مُبَاحٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» يُورِثُ شُبْهَةً وَالْقَطْعُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ الْفَهْدُ وَالْكَلْبُ، فَإِنَّ الْفَهْدَ مِنْ جِنْسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 الصَّيُودِ وَالْكَلْبُ صَيَّادٌ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الصَّيْدِ، فَكَذَلِكَ بِسَرِقَةِ الصَّيَّادِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ وَظَاهِرُ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ (قَالَ) فَإِنْ سَرَقَ التَّمْرَ مِنْ رُءُوسِ النَّخْلِ فِي حَائِطٍ مُحْرَزٍ أَوْ حِنْطَةٍ فِي سُنْبُلِهَا لَمْ تُحْصَدْ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ»، وَلِأَنَّ الثِّمَارَ مَا دَامَتْ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، فَإِنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهَا الْفَسَادُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ كَذَلِكَ فَسَدَتْ، وَلَا يَتِمُّ مَعْنَى الْإِحْرَازِ فِيهَا، وَلَا فِي الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا، فَإِنَّهَا زُرِعَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِمَقْصُودٍ آخَرَ سِوَى الْإِحْرَازِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ»، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الثِّمَارَ مَا لَمْ تُجَذَّ وَالزَّرْعُ مَا لَمْ يُحْصَدْ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَرَقَ النَّخْلَةَ بِأُصُولِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَلَا كَثَرٍ» وَالْمُرَادُ صِغَارُ النَّخْلِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي الصِّغَارِ مِنْ الْأَشْجَارِ، فَكَذَلِكَ فِي الْكِبَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِنْبَاتِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُقْصَدُ إحْرَازُهُ، فَإِنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ لَا يَتِمُّ فِيهِ عَادَةً، فَإِنَّ إحْرَازَ الثَّمَرِ فِي حَظِيرَةٍ عَلَيْهَا بَابٌ أَوْ حُصِدَتْ الْحِنْطَةُ وَجُعِلَتْ فِي حَظِيرَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ لِلْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ قَدْ تَمَّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِيَكُونَ مُحْرَزًا مَحْفُوظًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ وَصَاحِبُهَا يَحْفَظُهَا؛ لِأَنَّ الصَّحْرَاءَ لَيْسَ يُحْرَزُ بِنَفْسِهِ فَيَتِمُّ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْحَافِظُ مُنْتَبِهًا أَوْ نَائِمًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ فِي الصَّحْرَاءِ كَذَلِكَ يَكُونُ عَادَةً وَالْآخِذُ يُسَارِقُ عَيْنَ الْحَافِظِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ يَنْزِلُ فِي الصَّحْرَاءِ فَيَجْمَعُ مَتَاعَهُ وَيَبِيتُ عَلَيْهِ فَيَسْرِقُ مِنْهُ قُطِعَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ فِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْغَائِبِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرْزُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْإِحْرَازُ الْمُعْتَادُ لَا أَقْصَى مَا يَتَأَتَّى وَالْإِحْرَازُ الْمُعْتَادُ يَتَأَتَّى بِهَذَا الْمِقْدَارِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَ النَّائِمَ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودَعَ وَالْمُسْتَعِيرَ لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ وَهُمَا يَضْمَنَانِ بِالتَّضْيِيعِ وَمَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا يَكُونُ مُضَيَّعًا (قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي فُسْطَاطٍ قَدْ جَمَعَ مَتَاعَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْفُسْطَاطِ فِي الصَّحَارَى كَبِنَاءِ الْبُيُوتِ فِي الْأَمْصَارِ وَيَكُونُ مَا فِي الْفُسْطَاطِ مُحْرَزًا بِالْفُسْطَاطِ وَبِالْحَافِظِ عِنْدَهُ. (قَالَ) وَإِنْ سَرَقَ الْفُسْطَاطَ بِعَيْنِهِ لَمْ أَقْطَعْهُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَلَمْ يُحْرِزْهُ صَاحِبُهُ إنَّمَا أَحْرَزَ صَاحِبُهُ الْأَمْتِعَةَ بِهِ وَوُجُوبُ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ الْمُحْرَزِ لَا بِسَرِقَةِ الْحِرْزِ، وَهَذَا لَوْ كَانَ الْفُسْطَاطُ مَنْصُوبًا فَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 كَانَ مَلْفُوفًا بَيْنَ يَدَيْهِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَاعٌ مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَعَ مَا فِي الْجُوَالِقِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْرَزٍ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجُوَالِقِ يُحْرِزُ بِالْجُوَالِقِ مَا فِيهِ، وَلَا يَقْصِدُ إحْرَازَ الْجُوَالِقِ فَإِنْ شَقَّ الْجُوَالِقَ وَسَرَقَ مَا فِيهِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحْرَزًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِحْرَازِ مَا هُوَ الْمُعْتَادُ، فَإِذَا اعْتَادَ إحْرَازُ الْمَتَاعِ بِالْجُوَالِقِ كَانَ الْجُوَالِقُ حِرْزًا لَهُ، فَإِذَا شَقَّهُ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، فَقَدْ تَمَّ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ وَأَخْذُ الْمَالِ فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ، فَإِذَا أَخَذَ السَّارِقُ كَمَا أَخَذَ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ مُحْرَزًا بِالْمَكَانِ، فَإِذَا أَخَذَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْمُحْرَزِ بِالْحَافِظِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَهُوَ إزَالَةُ الْيَدِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، فَأَمَّا الْمُحْرَزُ بِالْمَكَانِ فَلَا تَتِمُّ سَرِقَتُهُ فِيهِ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَتَاعُ مِنْهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ (قَالَ) وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ رُدَّتْ السَّرِقَةُ إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ وَاجِدٌ عَيْنَ مَالِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ السَّارِقُ صَاحِبَ مَالٍ يُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْآخِذِ ضَمَانَ الْمَأْخُوذِ إلَى غَايَةِ الرَّدِّ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْأَخْذُ هَاهُنَا فَيَكُونُ ضَامِنًا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ - حَقٍّ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ كَالْغَاصِبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِالْأَخْذِ ضَامِنٌ حَتَّى إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ. فَلَوْ سَقَطَ الضَّمَانُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ وَالْقَطْعُ حَدٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاسْتِيفَاؤُهُ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَوُجُوبَ الْقَطْعِ بِإِتْمَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ بِالْإِخْرَاجِ وَالْحَقَّانِ إذَا وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ فَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لَا يُسْقِطُ الْآخَرَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا وَمَزَّقَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الثِّيَابِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ اخْتَلَفَا مَحَلًّا وَمُسْتَحَقًّا وَسَبَبًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعِ الْيَدُ وَمُسْتَحِقُّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُهُ السَّرِقَةُ وَمَحَلُّ الضَّمَانِ الذِّمَّةُ وَمُسْتَحِقُّهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَسَبَبُهُ إدْخَالُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ كَالدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ وَالْجَزَاءِ مَعَ الْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ وَشُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ عَلَى أَصْلِكُمْ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 وَالضَّمَانُ لِلذِّمِّيِّ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ جَمِيعُ مُوجِبِ فِعْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْجَزَاءِ إشَارَةً إلَى الْكَمَالِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ جَمِيعَ مُوجِبِ الْفِعْلِ فَكَانَ نَسْخًا لِمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَدُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِيهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ لَمْ يَغْرَمْ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالضَّمَانُ غَرَامَةٌ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْقِصَاصِ مَعَ الدِّيَةِ وَتَأْثِيرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ صَارَ بِكَمَالِهِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهُ لِيُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَبِدُونِ الْفِعْلِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ فِعْلَانِ الْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَتْمِيمٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ فَلَا يَأْخُذُ حُكْمَ فِعْلٍ آخَرَ وَالْإِخْرَاجُ بِدُونِ الْأَخْذِ لَا يَتَحَقَّقُ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا سَرَقَ الثَّوْبَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِ نَائِمٍ وَالْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ وَاحِدٍ ثُمَّ الْفِعْلُ، وَإِنْ تَعَدَّدَ صُورَةً فَالْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ بِالسَّرِقَةِ مَا هَتَكَ إلَّا حُرْمَةً وَاحِدَةً هِيَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ إلَّا بِسَرِقَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْرَزٍ وَالْقَطْعُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ جَعْلِ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَطْعُ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ عُقُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَرَامَةً كَالْقِصَاصِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْقَطْعُ لِلَّهِ تَعَالَى عَرَفْنَا أَنَّهُ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا صَارَتْ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ فَالْتَحَقَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَمَامُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ حُكْمُ الْأَخْذِ مُرَاعًى إنْ اسْتَوْفَى بِهِ الْقَطْعَ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ كَانَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا تَجِبُ إلَّا بِفِعْلِ حَرَامٍ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلُ السَّارِقِ حَرَامًا لِعَيْنِهِ إذَا لَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ مُحْتَرَمًا لَحِقَ الْعَبْدِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حُرْمَةُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لِحَقِّ الْعَبْدِ فَأَخْذُهُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حَقُّ الْمَالِكِ وَمِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ لَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ كَشُرْبِ عَصِيرِ الْغَيْرِ إنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ فِعْلٌ هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِجَعْلِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، وَإِذَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ لَمْ يَبْقَ فِيهِ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ لِحَقِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 الْعَبْدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّهَا جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَحَلِّ فَيَبْقَى الْمَحَلُّ مُحْتَرَمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا هُوَ حَرَامُ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْخَطَأِ؟ وَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ مَعَ الْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِ صَيْدِ نَفْسِهِ وَالْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ عَبْدِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ خَمْرَ نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْمَحَلِّ حَقًّا لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ مَعَ بَقَائِهِ الْفِعْلَ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ بِمَا حَدَثَ مِنْ صِفَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمَحَلِّ. فَأَمَّا الْمِلْكُ صِفَةُ الْمَالِكِ وَالْفِعْلُ يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَهُ فِي شُرْبِ خَمْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ؟ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ انْعِدَامُ الْمِلْكِ كَالشَّاةِ إذَا مَاتَتْ بَقِيَ مِلْكُ صَاحِبِهَا فِي جِلْدِهَا وَإِنْ لَمْ تَبْقَ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ صَارَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ وَجَبَ الْقَطْعُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحَقٍّ وَاحِدٍ كَالْقِصَاصِ مَعَ الدِّيَةِ، ثُمَّ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ إذَا تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ حَقًّا لِلْعَبْدِ إنَّمَا كَانَ فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ لَا فِيمَا سِوَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهِبَتَهُ الْعَيْنَ مِنْ السَّارِقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ؟ وَالْإِتْلَافُ فِعْلُ آخَرَ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْفِعْلِ حَتَّى يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونًا وَكَيْفَ مَا كَانَ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِتْلَافَ إتْمَامٌ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ فَكَمَا لَا تَبْقَى الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ حَقًّا لِلْعَبْدِ فِي أَصْلِ السَّرِقَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ إتْمَامًا لِلْمَقْصُودِ بِهِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَهِبَتُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِتْمَامٍ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ آخَرُ ابْتِدَاءً، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّارِقَ لَا يَضْمَنُ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يُفْتَى بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ قَدْ لَحِقَهُ النُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ مِنْ جِهَتِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ لَمَّا اعْتَبَرَ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ فَلَا يَقْضِي بِالضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ يُفْتِي بِرَفْعِ النُّقْصَانِ وَالْخُسْرَانِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ) وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْطَعُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعُمَرُ وَعَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - قَالُوا بِوُجُوبِ الْقَطْعِ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ اتَّفَقَ مَنْ بَقِيَ فِي عَهْدِ مَرْوَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ نَبَّاشًا أُتِيَ بِهِ مَرْوَانُ فَسَأَلَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنُوا لَهُ فِيهِ شَيْئًا فَعَزَّرَهُ أَسْوَاطًا، وَلَمْ يَقْطَعْهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْآيَةِ لِإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اسْمَ السَّرِقَةِ لَوْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقًا لَمَا احْتَاجَ مَرْوَانُ إلَى مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ النَّصِّ وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، فَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا كَامِلَ الْمِقْدَارِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيُقْطَعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ لِبَاسَ الْحَيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَبَيَانُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ النَّبَّاشِ، وَهَذَا الثَّوْبُ كَانَ مَالًا قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَهُ الْمَيِّتُ فَلَا تَخْتَلُّ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِ بِلُبْسِ الْمَيِّتِ، فَأَمَّا الْحِرْزُ فَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا مُنْذُ وُلِدُوا إحْرَازَ الْأَكْفَانِ بِالْقُبُورِ، وَلَا يُحْرِزُونَهُ بِأَحْصَنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَكَانَ حِرْزًا مُتَعَيِّنًا لَهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا يَبْقَى فِي إحْرَازِهِ شُبْهَةٌ لِمَا كَانَ لَا يُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهُ عَادَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَيَّعٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ إذَا كَفَّنَّا الصَّبِيَّ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا يَكُونُ مُضَيَّعًا. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي»، وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «مِنْ اخْتَفَى مَيِّتًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَهُ»، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ زِيَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ أَنْفَهُ جَدَعْنَاهُ؟» وَلَئِنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ نَبَّاشًا أَوْ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُحْرَزٍ مَمْلُوكٍ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ اخْتَلَّتْ فِي الْكَفَنِ، فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَهُوَ اسْمُ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ يُسَارِقُ عَيْنَ صَاحِبِهِ، وَلَا تُتَصَوَّرُ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يَخْتَفِي النَّبَّاشُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ كَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْفِي هَذَا الِاسْمَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ نَبَشَ وَمَا سَرَقَ، فَأَمَّا الْمَالِيَّةُ، فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 التَّمَوُّلِ وَالِادِّخَارِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَفُوتُ فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّ الْكَفَنَ مَعَ الْمَيِّتِ يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ لِلْبِلَى، وَلِهَذَا يُوضَعُ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْبَلَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبَيْ هَذَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ وَالْحَيُّ مِنْ الْمَيِّتِ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ. فَأَمَّا انْعِدَامُ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَالِكٍ وَالْكَفَنُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَشْغُولَ بِحَاجَةِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْكَفَنِ وَهُوَ الدَّيْنُ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ؟ فَالْكَفَنُ أَوْلَى، وَلَيْسَ بِمِلْكٍ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُنَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ الْمِلْكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَيَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَصْفَ مُخْتَلٌّ أَيْضًا. فَأَمَّا الْحِرْزِيَّةُ فَنَقُولُ الْكَفَنُ غَيْرُ مُحْرَزٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالْحَافِظِ وَالْمَيِّتُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ غَيْرَهُ وَالْمَكَانُ حُفْرَةٌ فِي الصَّحْرَاءِ فَلَا يَكُونُ حِرْزًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ حِرْزًا لِثَوْبٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ حِرْزَ الثَّوْبِ أَنْ يَكُونَ حِرْزُ الثَّوْبِ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حِرْزًا قَبْلَ وَضْعِ الْمَيِّتِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: إنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إحْرَازَ الْكَفَنِ فِي الْقَبْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يَدْفِنُونَ الْمَيِّتَ لِلْمُوَارَاةِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَمَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ السِّبَاعِ لَا لِلْإِحْرَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّفْنَ يَكُونُ فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ، وَمَنْ دَفَنَ مَالًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَازِ، فَإِنَّهُ يُخْفِيهِ عَنْ النَّاسِ، وَإِذَا فَعَلَهُ فِي مَلَإٍ مِنْهُمْ عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَازِ يُنْسَبُ إلَى الْجُنُونِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ مُضَيِّعٌ، وَلَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَتِهِ وَصَرْفُ الشَّيْءِ إلَى الْحَاجَةِ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا، وَلَا إحْرَازًا كَتَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا، وَلَا إحْرَازًا. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ سَوَاءٌ نَبَشَ الْكَفَنَ أَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْقَبْرِ فِيهِ اخْتَلَّتْ صِفَةُ الْحِرْزِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ تَأْوِيلًا لِلدُّخُولِ فِيهِ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ فِي شَرَائِطِ الْقَطْعِ مُعْتَبَرٌ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا أَخَذَ الْكَفَنَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا آخَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْقَافِلَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي الْكَفَنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا (قَالَ) وَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ، وَلَا يُسَارِقُ عَيْنَ صَاحِبِهِ وَأَمَّا الطِّرَارُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي دَاخِلِ الْكُمِّ أَوْ فِي ظَاهِرِ الْكُمِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً فِي دَاخِلِهِ فَإِنْ طَرَّ الصُّرَّةِ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ يَبْقَى الْمَالُ فِي الْكُمِّ حَتَّى يُخْرِجَهُ، وَإِنْ حَلَّ الرِّبَاطَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَّ الرِّبَاطَ يَبْقَى الْمَالُ خَارِجًا مِنْ الْكُمِّ فَلَمْ يُوجَدْ إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ الْكُمِّ وَالْحِرْزُ، وَإِنْ كَانَ مَصْرُورًا ظَاهِرًا، فَإِنَّ طُرًّا لَمْ يُقْطَعْ لِانْعِدَامِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، وَإِنْ حَلَّ الرِّبَاطَ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يَبْقَى فِي الْكُمِّ بَعْدَ الرِّبَاطِ حَتَّى يُدْخِلَ يَدَهُ فَيُخْرِجَهُ وَتَمَامُ السَّرِقَةِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَقْطَعَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُحْرَزٌ بِصَاحِبِهِ وَالْكُمُّ تَبَعٌ لَهُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ فَقَالَا: اخْتِصَاصُ الطَّرَّارِ بِهَذَا الِاسْمِ لِمُبَالَغَةٍ فِي سَرِقَتِهِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يُسَارِقُ عَيْنَ حَافِظِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ الْحِفْظِ وَالطَّرَّارَ يُسَارِقُ عَيْنَ الْمُنْتَبِهِ فِي حَالِ إقْبَالِهِ عَلَى الْحِفْظِ فَهُوَ زِيَادَةُ حِذْقٍ مِنْهُ فِي فِعْلِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِعْلَهُ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ السَّرِقَةِ فَيَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، فَأَمَّا النَّبَّاشُ لَا يُسَارِقُ عَيْنَ الْمُقْبِلِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ أَوْ الْقَاصِدِ لِذَلِكَ بَلْ يُسَارِقُ عَيْنَ مَنْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ إلَى حِفْظِ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى النُّقْصَانِ فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ (قَالَ) وَإِنْ سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَوُجُوبُ الْقَطْعِ يَخْتَصُّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ كَثِيرٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُلِيِّ نِصَابٌ كَامِلٌ لَوْ سَرَقَهُ وَحْدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ فَكَذَا مَعَ الصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحُلِيُّ دُونَ الصَّبِيِّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُلِيَّ تَبَعٌ لِلصَّبِيِّ وَالْأَصْلُ يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ فَالتَّبَعُ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا فِي أَخْذِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: كَانَ يَبْكِي فَأَخَذْته لِأُسْكِتَهُ أَوْ أَحْمِلَهُ إلَى مَوْضِعِ أَهْلِهِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَصْرُورَةً لَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَمْ أَقْطَعْهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ قَدْ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّارِقُ إنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَ مَا يَعْلَمُ بِهِ دُونَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ أَخْذَ الثَّوْبِ نُظِرَ إلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ، وَهُوَ لَيْسَ بِنِصَابٍ كَامِلٍ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالدَّرَاهِمِ فَقَصْدُهُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ (قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ جِرَابًا فِيهِ مَالٌ أَوْ جُوَالِقًا فِيهِ مَالٌ أَوْ كِيسًا فِيهِ مَالٌ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ وِعَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَالُ فَمَقْصُودُ السَّارِقِ الْمَالُ دُونَ الْوِعَاءِ، فَأَمَّا الْقَمِيصُ وَنَحْوُهُ مِنْ الثِّيَابِ لَيْسَ بِوِعَاءٍ لِلْمَالِ فَكَانَ قَصْدُهُ سَرِقَةَ الثَّوْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَالِ الْمَصْرُورِ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ أَنَّ قَصْدَهُ الْمَالُ دُونَ الثَّوْبِ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الثِّيَابِ مَعَ الْعِلْمِ (قَالَ) وَإِنْ سَرَقَ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 صَبِيًّا يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ هَذَا خِدَاعٌ لَا سَرِقَةٌ، وَلِأَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ تَقْرِيرِ يَدِ السَّارِقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَكَلَّمُ قُطِعَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا أَقْطَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ مِنْ جِنْسِ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْجِنْسِيَّةَ لَا تَتَبَدَّلُ بِالرِّقِّ، وَإِذَا كَانَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ جِنْسِهِ مِنْ الْأَحْرَارِ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَلِأَنَّ إحْرَازَهُ لَمْ يَتِمَّ، فَإِنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ يَخْرُجُ إلَى السِّكَّةِ، وَقَدْ يُوضَعُ فِي السِّكَّةِ وَيُتْرَكُ حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا وَمَا لَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ عَادَةً فَهُوَ تَافِهٌ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَا يَدَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ وَالْكَارَّةِ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَالتَّافِهُ مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَمَالِيكِ خُصُوصًا فِي الصِّغَارِ مِنْهُمْ (قَالَ) فَإِنْ سَرَقَ شَاةً مِنْ مَرْعَاهَا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَرْكِهَا فِي الْمَرْعَى الرَّعْيُ دُونَ الْإِحْرَازِ، وَإِنْ سَرَقَهَا مِنْ دَارٍ قُطِعَ؛ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ بِالدَّارِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْفَرَسُ وَالْحِمَارُ وَالْبَغْلُ فَإِنْ كَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إلَى حَائِطٍ قَدْ بُنِيَ لَهَا عَلَيْهِ بَابٌ يُغْلَقُ عَلَيْهَا وَمَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ لَيْسَ مَعَهَا حَافِظٌ فَكَسَرَ الْبَابَ وَدَخَلَ وَسَرَقَ مِنْهُ بَقَرَةً فَآوَاهَا أَوْ سَاقَهَا أَوْ رَكِبَهَا حَتَّى أَخْرَجَهَا قَالَ: يُقْطَعُ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ إذَا جَمَعَهَا الْمُرَاحُ فَفِيهَا الْقَطْعُ»، وَلِأَنَّهَا بِاللَّيْلِ تُجْمَعُ فِي الْمَرَاحِ لِلْإِحْرَازِ وَالْحِفْظِ ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ حِرْزٌ لِمَالٍ يَكُونُ حِرْزًا لِمَالٍ آخَرَ حَتَّى لَوْ سَرَقَ ثِيَابَ الرَّاعِي مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ يُقْطَعُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَرَاحُ حِرْزٌ لِلدَّوَابِّ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إحْرَازِ كُلِّ مَالٍ مَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَمُعْتَادٌ إحْرَازُ الدَّوَابِّ بِالْمُرَاحِ دُونَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَابُهُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَمْنَعُ خُرُوجَ الدَّوَابِّ، وَلَا يَمْنَعُ دُخُولَ النَّاسِ فِيهِ؟ فَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْهُ مَالًا آخَرَ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بَيْضَاءُ وَقَالَ الْآخَرُ: سَوْدَاءُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي لَوْنَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَشَابَهُ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ فَهُمَا يَقُولَانِ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، كَمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْرًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ أُنْثَى أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ بَعِيرًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْغَصْبِ لَوْ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 فِي لَوْنِ الْبَقَرَةِ لَمْ تُقْبَلْ مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الضَّمَانُ فَفِي السَّرِقَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَعَلَّهُ كَانَ أَحَدُ شِقَّيْ الْبَقَرَةِ أَبْيَضَ وَالْآخَرُ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ بَلْقَاءُ لَا سَوْدَاءُ وَلَا بَيْضَاءُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: اخْتَلَفَا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفَا نَقْلُهُ وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ شُهُودُ الزِّنَا فِي الزَّانِيَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ لَوْنِ الْبَقَرَةِ لَمْ يُكَلِّفْهُمَا الْقَاضِي بَيَانَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وَهَا هُنَا التَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا أَبْيَضَ وَالْآخَرُ أَسْوَدَ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ تُسَمَّى بَلْقَاءُ نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ اللَّوْنَيْنِ، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا أَحَدَهُمَا فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ اللَّوْنِ، وَشُهُودُ السَّرِقَةِ يَتَحَمَّلُونَ الشَّهَادَةَ مِنْ بَعِيدٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَقْتَرِبُوا مِنْ السَّارِقِ لِيَتَأَمَّلُوا فِي جَانِبِ الْبَقَرَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْغَصْبَ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ مُجَاهِرٌ بِمَا يَصْنَعُ فَالشَّاهِدُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِيَقِفَ عَلَى صِفَةِ الْمَغْصُوبِ، فَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّوْفِيقِ هُنَاكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَبِخِلَافِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَإِنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا بَعْدَ الْقُرْبِ مِنْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُشْتَبَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْفِيقِ (قَالَ) وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَرَوِيٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: مَرْوِيٌّ، فَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْهَرَوِيَّ وَالْمَرْوِيَّ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَبَيَانُ الْجِنْسِ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ فَكَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ فِي وَقْتٍ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يُمْتَنَعُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا - كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَمَا شَقَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ تَمَامِ السَّرِقَةِ وَتَمَامُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ نِصَابًا عِنْدَ الْإِخْرَاجِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَقَّةَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ النِّصَابِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ ثُمَّ التَّعَيُّبُ تَفْوِيتُ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ، فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَ جُزْءًا مِنْهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِخْرَاجِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي الْحِرْزِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ، فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَ جُزْءًا مِنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا اسْتَهْلَكَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إتْمَامُ فِعْلِ السَّرِقَةِ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ إتْمَامَ فِعْلِ السَّرِقَةِ بِالْإِخْرَاجِ، وَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تُنْتَقَصْ الْعَيْنُ بِفَوَاتِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ النِّصَابِ بِنُقْصَانِ السِّعْرِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ فَالنُّقْصَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ كَالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَمَا أَنَّ النِّصَابَ يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الْقَطْعِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ كَالثِّيَابِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ فُتُورُ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَيْنِ فَقَطْ وَقِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَيْنِ فِيمَا صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ نِصَابٌ كَامِلٌ، فَأَمَّا إذَا شَقَّ الثَّوْبَ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، وَهُوَ يُسَاوِي عَشْرَةً فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَيْبُ يُمْكِنُ نُقْصَانًا يَسِيرًا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي تَضْمِينِ النُّقْصَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ إذَا كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ وَبِتَضْمِينِ النُّقْصَانِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَسَلَّمَ لَهُ الثَّوْبَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْخِلَافَ عَلَى قَلْبِ هَذَا، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَصَحُّ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ فِي الثَّوْبِ قَبْلَ إتْمَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ وَانْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ يُمْكِنُ شُبْهَةً، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ لِلْمَالِكِ خِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ إيَّاهُ وَالْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ انْعَقَدَ لَهُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَقُولَانِ تَمَّتْ سَرِقَتُهُ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ كَمَا لَوْ كَانَ النُّقْصَانُ يَسِيرًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ شَقَّ الثَّوْبِ مِنْ السَّارِقِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبُ الْمِلْكِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وَهُوَ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ شَرْطًا لِتَقَرُّرِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ سَبَبَ الْمُمَلَّكِ فَلَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ فَقَدْ صَارَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 مُمَلَّكًا لِلثَّوْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْقَطْعِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ اسْتِرْدَادَ الثَّوْبِ فَلَمْ يُحْدِثْ السَّارِقُ فِيهِ مِلْكًا وَلَا سَبَبَ مِلْكٍ فَيَبْقَى الْقَطْعُ عَلَيْهِ (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا فِي الدَّارِ وَأَخْرَجَهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ لَحْمًا وَاللَّحْمُ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِتْمَامُ فِعْلِ السَّرِقَةِ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلِثُبُوتِ حَقِّ التَّضْمِينِ لِلْمَالِكِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الشَّاةِ وَيُمَلِّكَهُ ذَلِكَ اللَّحْمَ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ عَنْهُ (قَالَ) وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ وَرَدَّ الْمَتَاعَ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا كَامِلَ الْمِقْدَارِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَبِهَذِهِ الْأَوْصَافِ قَدْ لَزِمَهُ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَتَاعِ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَهَذِهِ الْعَيْنُ فِي حَقِّ السَّارِقِ كَعَيْنٍ أُخْرَى فِي حُكْمِ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ غَصَبَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ كَانَ ضَامِنًا، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مِنْ إنْسَانٍ فَسَرَقَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ ثَانِيًا يُقْطَعُ؟ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ غَزْلًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ نَسَجَهُ الْمَالِكُ ثُمَّ سَرَقَهُ ثَانِيًا يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا طَحَنَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بَقَرَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ثُمَّ سَرَقَ وَلَدَهَا يُقْطَعُ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ جُزْءٍ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ بِسَرِقَتِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ فَخَرِبَ ثُمَّ أُعِيدَ ذَلِكَ الْحِرْزُ فَسَرَقَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى قُطِعَ، فَكَذَلِكَ الْمَالُ، وَلِأَنَّ هَذَا حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَحَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا مَرَّةً أُخْرَى لَزِمَهُ الْحَدُّ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ حَقُّ الْمَقْذُوفِ عِنْدِي وَخُصُومَتُهُ فِي الْحَدِّ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ: أَحَدُهُمَا، مَا بَيَّنَّا أَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لَمْ يَبْقَ فِي هَذَا الْعَيْنِ حَقًّا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ، فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ ظَهَرَتْ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّهِ بِالِاسْتِرْدَادِ يَبْقَى مَا سَبَقَ مُورِثًا شُبْهَةً وَالْقَطْعُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا أَحْرَزَهُ إنْسَانٌ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ السَّارِقُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَهَذَا مِثْلُهُ، فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَقَدْ قِيلَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ أَيْضًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ السَّبَبِ وَالْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَجُعِلَ مُتَجَدِّدًا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هَذَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا وَهِيَ تُهْدِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» وَالْمُشْتَرِي إذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَدَلَّ أَنْ تَبَدُّلَ سَبَبِ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ، فَأَمَّا الْغَزْلُ إذَا نَسَجَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ عَيْنِ آخَرَ، فَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ كَانَ الثَّوْبُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَإِنَّمَا سَرَقَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَيْنًا أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا الْحِرْزِ فَإِنَّهُ إذَا أُعِيدَ الْحِرْزُ كَانَ هَذَا حِرْزًا مُتَجَدِّدًا غَيْرَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ لَيْسَ بِعِبَارَةٍ عَنْ عَيْنِ الْجِدَارِ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّحَفُّظِ وَالتَّحَصُّنِ. وَكَذَلِكَ حَدُّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى فَالْمُسْتَوْفَى مَثَلًا شَيْءٌ وَالْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ مَعَ أَنَّ هُنَاكَ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ لَا تَسْقُطُ فِي حَقِّهِ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ مِنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِخِلَافِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ مِنْ السَّارِقِ، وَلِأَنَّ هَذَا حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ فَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخُصُومَةِ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِالِاتِّفَاقِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ فِي خُصُومَتِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ نَوْعَ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بِخُصُومَتِهِ مَرَّةً مَا هُوَ جَزَاءُ سَرِقَةِ هَذَا الْعَيْنِ فَيُمْكِنُ شُبْهَةً فِي خُصُومَتِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْقَطْعِ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ فِيهِ (قَالَ) وَالسَّارِقُ تُقْطَعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى يَدُهُ الْيُمْنَى فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ يُحْبَسُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ يُقْتَلُ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَاسْمُ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْيُسْرَى، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْيُمْنَى بِدَلِيلِ آيَةِ الطَّهَارَةِ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِدْلَالِكُمْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ عِنْدَكُمْ إذَا سَرَقَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ مَقْطُوعُ الْإِبْهَامِ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَبِالْقِرَاءَتَيْنِ وَبِالْإِجْمَاعِ صَارَ قَطْعُ الْيُمْنَى مُسْتَحَقًّا مِنْ السَّارِقِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالرَّأْيِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ إلَى أَنْ قَالَ فِي الْخَامِسَةِ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ مُفَسِّرًا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ذَكَرَ «الْيَدَ الْيُمْنَى، وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجْلَ الْيُسْرَى، وَفِي الثَّالِثَةِ الْيَدَ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ الرِّجْلَ الْيُمْنَى» وَرَوَى الْمُعَلَّى «أَنَّهُ قَطَعَ مِنْ السَّارِقِ هَكَذَا»، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى يَدٌ بَاطِشَةٌ فَتُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ كَالْيُمْنَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ بِالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ يَتَأَتَّى فَقُطِعَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لِلزَّجْرِ لِتَفْوِيتِ مَا بِهِ تَتَأَتَّى السَّرِقَةُ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَرُبَّمَا يَقُولُونَ الْمُتَنَاوِلُ لِلسَّرِقَةِ مُتَنَاوِلٌ فِيهَا كَالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكُلُّ عُقُوبَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى تَتَعَلَّقُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى كَالْقِصَاصِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ الْحَدَّادُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى مَكَانَ الْيُمْنَى لَمْ يَضْمَنْ وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْحَدِّ حَتَّى لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ وَاسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْيُسْرَى مَحَلٌّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي شَرْعِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ زَاجِرًا لَهُ بِالتَّنْقِيصِ لَهُ مِنْ بَطْشِهِ وَمَشْيِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الِانْزِجَارُ بِهِ فَالزَّجْرُ بِالتَّفْوِيتِ يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْزِجَارُ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاقْطَعُوا إيمَانَهُمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إنَّ مِنْ قِرَاءَتِنَا وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ الْمُطْلَقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا مِنْ الْأَيْدِي فَلَا يَتَنَاوَلُ الرِّجْلَ أَصْلًا وَلَا يَتَنَاوَلُ الْيُسْرَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَمَعَ بَقَاءِ الْمَنْصُوصِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِلْيَدِ الْيُسْرَى لَمْ يَجُزْ قَطْعُ الرِّجْلِ مَعَ بَقَاءِ الْيَدِ وَالْأَيْدِي، وَإِنْ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ تُذْكَرُ تَثْنِيَتُهُ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يُقَالُ: مُلِئَتْ بُطُونُهُمَا، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ إلَى الْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يُقَالُ رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ فَاقْطَعُوا يَدًا مِنْ كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ. وَكَانَ يَنْبَغِي بِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ لَا يُقْطَعَ الرِّجْلَ الْيُسْرَى مِنْهُمَا، وَلَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ، فَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، فَقَدْ كَانَ فِي الْحُدُودِ تَغْلِيظًا فِي الِابْتِدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ الْعُرَنِيِّينَ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَارِ الْحُدُودِ؟ وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُرْتَدًّا عَلَى مَا قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 بِسَارِقٍ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ، فَقِيلَ: إنَّمَا سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَكَذَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى أَنْ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ اُقْتُلُوهُ؟» فَقَدْ عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْوَحْيِ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَلَمَّا خَافَ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ مُوجِبَ السَّرِقَةِ الْقَتْلُ أَمَرَ بِقَطْعِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ يُبَاحُ قَطْعُ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً، ثُمَّ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ حَاجَّهُمْ بِالْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَفِي اسْتِيفَاءِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ إتْلَافٌ حُكْمًا أَوْ شُبْهَةَ الْإِتْلَافِ، الشُّبْهَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الْإِتْلَافِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَلَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ؟ وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحَسْمِ بَعْدَ الْقَطْعِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ، وَأَنَّهُ يَقْطَعُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ الرِّجْلَ الْيُسْرَى وَالْيَدَ إلَى الْيَدِ أَقْرَبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الرِّجْلِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْيَدَيْنِ. وَإِنَّمَا شُرِعَ التَّرْتِيبُ هَكَذَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ فَدَلَّ أَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَفِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ إتْلَافٌ لِلشَّخْصِ حُكْمًا، فَإِنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عَلَى الْكَمَالِ، وَبَقَاءُ الشَّخْصِ حُكْمًا بِبَقَاءِ مَنَافِعِهِ، فَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ كُلُّ قِيمَةِ النَّفْسِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا، وَفِيهِ شُبْهَةُ الْإِتْلَافِ وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَالْمُسْتَحَقُّ هُنَاكَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ دُونَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِتْلَافَ الْحَقِيقِيَّ يَسْتَحِقُّ بِهِ إذَا كَانَ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَمَّا الْحَدَّادُ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ إذَا قَطَعَ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ مِنْ جِنْسِ مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا ضَمَانَ الْمَسْرُوقِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعْوِيضِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّادَ مُجْتَهِدٌ فَاعْتَمَدَ ظَاهِرَ النَّصِّ فِيمَا صَنَعَ فَنَفَذَ اجْتِهَادُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُسْرَى فِي الِابْتِدَاءِ عِنْدَكُمْ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى قُلْنَا الْيَدُ الْيُمْنَى مَحَلُّ بِالنَّصِّ، وَلَكِنْ لِلِاسْتِيفَاءِ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ إذَا كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ لَا تُقْطَعُ الْيُمْنَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إذَا كَانَ مَرِيضًا لَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى مَعَ وُجُودِ الْمَحَلِّ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ فَرُبَّمَا يَنْضَمُّ أَلَمُ الْقَطْعِ إلَى أَلَمِ الْمَرَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَتَيَا بِإِنْسَانٍ آخَرَ وَقَالَا هَذَا السَّارِقُ الَّذِي شَهِدْنَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا أَخْطَأْنَا بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى هَذَا وَضَمِنَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أَتَيَا بِآخَرَ فَقَالَا: وُهِمْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا فَقَالَ: لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى الثَّانِي وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ الْيَدِ وَلَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ كَذِبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْغَفْلَةِ وَتَنَاقَضَ كَلَامُهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الثَّانِي، فَقَدْ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لِمَا اسْتَوْفَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا، وَلَكِنَّهُمَا وَجَدَا عَبْدَيْنِ كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ لِمَا اسْتَوْفَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالسَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ أَوْ قَالَا شَكَكْنَا فِي شَهَادَتِنَا دُرِئَ الْحَدُّ، وَلَكِنَّ السَّرِقَةَ تُسَلَّمُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ مُبْطِلٌ لِلْقَضَاءِ فِيمَا كَانَ عُقُوبَةً لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ أَوْ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَأَمَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ تَتَأَكَّدُ بِنَفْسِ الْقَضَاءِ وَالرُّجُوعُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْمَالُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِرُجُوعِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلَكِنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِمَا بِالرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَطْعِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ مُعْتَبَرٌ بِالشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا تُوجِبُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ، فَإِنَّمَا شَهِدَ هَذَيْنِ عَلَى رُجُوعٍ بَاطِلٍ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ مَالٍ لَمْ يُقْطَعْ وَأَخَذَ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِنَّ الضَّلَالُ وَالنِّسْيَانُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا مَا كَانَ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 وَلَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهِ رَدُّ الْعَيْنِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ، وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسُنُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا سَرَقَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ قُطِعَ الْحَاضِرُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَا يُقْطَعُ، ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مَعَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ يُقْطَعْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُقْطَعُ الْمُقِرُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحُدُودِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِغَائِبَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْغَائِبَ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً يَدْرَأُ بِهَا الْقَطْعَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْحَاضِرِ، فَلَوْ قَطَعْنَا الْحَاضِرَ قَطَعْنَاهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَذَا لَا يَجُوزُ كَقِصَاصٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ لَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ السَّرِقَةَ ظَهَرَتْ عَلَى الْحَاضِرِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ فَيَسْتَوْفِي الْإِمَامُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السُّرَّاقَ يَحْضُرُونَ وَقَلَّ مَا يَحْضُرُونَ بَلْ فِي الْعَادَةِ يَهْرُبُونَ وَبَعْضُهُمْ يُوجَدُ وَبَعْضُهُمْ لَا يُوجَدُ، فَلَوْ لَمْ يُقْطَعْ الْحَاضِرُ أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ هَذَا الْحَدِّ وَمَا مِنْ شُبْهَةٍ يَدَّعِيهَا الْغَائِبُ إلَّا وَالْحَاضِرُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي يُتَوَهَّمُ اعْتِرَاضُهَا لَا يُمْتَنَعُ الِاسْتِيفَاءُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَالشُّبْهَةُ هُنَاكَ تُوهِمُ عَفْوَ مَوْجُودٍ مِنْ الْغَائِبِ فِي الْحَالِ فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ بِالشَّهَادَةِ الْأُولَى حَتَّى تُعَادَ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهَا فَيُقْطَعُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ قَامَتْ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ إمَّا؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ لَا تَجْرِي أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَاضِرِ ثُبُوتُهَا عَلَى الْغَائِبِ، فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِيُقْطَعَ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفَ شُهُودَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَدَالَتَهُمْ، وَلَا يَطْعَنُ فِيهِمْ السَّارِقُ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ فَيُحْبَسُ، وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَوْ وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَلَافِيهِ فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُتَمَكِّنَةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ وَمَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لَا يَقْدُمُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَالْقَاضِي يَقْضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 يَسْتَرِيبَ فِيهِمْ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقْضِي مَا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ الْعَادِلَةِ فَمَا لَمْ تَظْهَرْ الْعَدَالَةُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ شَرْعًا، كَمَا فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَنْهِيٌّ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْفِسْقُ عَنْهُمْ بِالتَّزْكِيَةِ فَمَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالسُّؤَالِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ؛ لِأَنَّ قَبْلَ السُّؤَالِ ثُبُوتُ عَدَالَتِهِمْ بِالظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا كَتَبَ بِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ مُسْلِمٍ بِإِسْلَامِهِ فَتَعْدِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ فَهُوَ أَيْضًا مُعَدَّلٌ بِإِسْلَامِهِ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلِلتَّعَارُضِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى السُّؤَالِ، وَلِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَضَاءٍ بِالظَّاهِرِ بَلْ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ، وَهُوَ إسْلَامُهُ فَالْمُسْلِمُ يَكُونُ مُنْزَجِرًا عَنْ ارْتِكَابِ مَا يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ ثُمَّ الْمُسْتَحَقُّ بِشَهَادَتِهِمَا مَالٌ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ بِالرَّدِّ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ لِلْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الشُّهُودِ هُنَاكَ لِحَقِّ الْمُدَّعِي، فَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِهِ عِنْدَ طَلَبِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ الطَّلَبِ لَوْ اشْتَغَلَ الْقَاضِي بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إنْشَاءً لِخُصُومَةٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا بِإِنْشَائِهَا فَكَانَ ذَلِكَ إعَانَةً مِنْهُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِحَدٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَذَكَرْنَا حَدَّ التَّقَادُمِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَأَمَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَدُّ التَّقَادُمِ زَوَالُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يُقَامَ عَلَيْهِ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ زَوَالِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ أَوْ أَقَرَّ هُوَ بِذَلِكَ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هَذَا حَدٌّ ظَهَرَ سَبَبُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهِ بَقَاءُ أَثَرِ الْفِعْلِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الرَّائِحَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا، فَقَدْ يَتَكَلَّفُ لِزَوَالِ الرَّائِحَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ الْخَمْرِ فِي بَطْنِ الشَّارِبِ، وَقَدْ تُوجَدُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ أَكْلِ السَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ قَالَ الْقَائِلُ: يَقُولُونَ لِي إنَّكَ شَرِبْت مُدَامَةً ... فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا فَكَانَ هَذَا شَاهِدَ زُورٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ لِوُجُودِ الرَّائِحَةِ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 أَوْ يُقِرَّ بِهِ وَهُمَا احْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ الْخَمْرِ قَالَ مَزْمِزُوهُ وَتَرْتِرُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَحُدُّوهُ، فَقَدْ شَرَطَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وُجُودَ الرَّائِحَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ فَلَا يُقَامُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ كَانَ الْخَمْرُ فِي بَطْنِهِ وَلِوُجُودِ الْخَمْرِ فِي بَطْنِهِ عَلَامَةٌ، وَهُوَ وُجُودُ الرَّائِحَةِ مِنْهُ فَلَا يَقْضِي إلَّا بِظُهُورِ تِلْكَ الْعَلَامَةِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ادَّعَتْ الْوِلَادَةَ مَا لَمْ تَشْهَدْ الْقَابِلَةُ بِذَلِكَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ زَوَالُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ بَعْدَ الشُّرْبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُضِيِّ زَمَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي حَقِّ التَّقَادُمِ فَفِيمَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ التَّقَادُمِ لِمَعْنًى فِي الْفِعْلِ كَانَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْمَصِيرِ إلَى غَيْرِهِ. وَوُجُودُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ نَادِرٌ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَدَامًا أَيْضًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُ فَجَاءُوا بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ تَفْرِيطٌ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّارِبَ تَكَلَّفَ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ) وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ، وَقَدْ قَطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصًا، وَلَمْ يَخِطْهُ أَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ أَوْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَهُوَ بِعَيْبِهِ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ نُقْصَانٌ، وَكَذَلِكَ السَّوَادُ فِي الثَّوْبِ نَقْصٌ وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ مِنْ السَّارِقِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَكَمَا يَكُونُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا وَجَدَهُ فِي يَدِ السَّارِقِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَإِنْ كَانَ خَاطَ الثَّوْبَ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِمَا اتَّصَلَ بِالثَّوْبِ مِنْ وَصْفٍ مُتَقَوِّمٍ هُوَ حَقُّ السَّارِقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ الثَّوْبِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَكُونُ الْغَاصِبُ ضَامِنًا لِلثَّوْبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ وَهَا هُنَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ، فَكَذَلِكَ إذَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْوَصْفِ حَقًّا لَهُ، فَأَمَّا إذَا صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْقَطِعُ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّوْبَ وَيُعْطِي السَّارِقَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ قَائِمٌ بَعْدَ الصَّبْغِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالنَّصِّ ثُمَّ الصَّبْغُ لَوْ حَصَلَ مِنْ الْغَاصِبِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، فَكَذَلِكَ مِنْ السَّارِقِ إلَّا أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الصَّبْغِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْ الصَّبَّاغِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 وَهُوَ وَصْفٌ وَالثَّوْبُ أَصْلٌ وَالْوَصْفُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، كَمَا فِي الْغَاصِبِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الثَّوْبَ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ لَهُ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الْمَغْصُوبُ حَقِيقَةً كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الْمَسْرُوقُ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْجَانِبِ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْأَخْذِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ وَأَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّهِ بِأَدَاءِ قِيمَةِ الصَّبْغِ إلَيْهِ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ فِي قَطْعِ حَقِّ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْ الثَّوْبِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اتَّصَلَ بِالثَّوْبِ مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلسَّارِقِ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَالْخِيَاطَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ضَعِيفٌ لَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى بَدَلِ الْعَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ؟ وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ يَبْطُلُ بِالصَّبْغِ كَحَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ وَتَرْجِيحُ الْأَصْلِ عِنْدَ مُسَاوَاةِ الْحَقَّيْنِ فِي الْقُوَّةِ، فَأَمَّا الضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَوِيٌّ يَسْرِي إلَى بَدَلِ الْعَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ التَّرْجِيحُ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَالِي بِحَرْفٍ آخَرَ فَقَالَ: لَوْ بَقِيَ الثَّوْبُ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بَعْدَ الصَّبْغِ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ مِنْ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الْعَيْنِ بِمِلْكِهِ فِي الصَّبْغِ، وَاقْتِرَانُ الشَّرِكَةِ بِالسَّرِقَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ فَاعْتِرَاضُهَا بَعْدَ السَّرِقَةِ يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ وَبِالْإِجْمَاعِ يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ مِنْ السَّارِقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الثَّوْبِ. (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ السَّارِقَ مُتَمَلِّكًا لِلثَّوْبِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ مِنْهُ أَيْضًا. (قُلْنَا) نَعَمْ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ الثَّوْبُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، فَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَا قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فِي الْحَالِ، كَمَا إذَا خَاطَ الثَّوْبَ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُسْتَهْلَكًا فَيَتَقَرَّرُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ لَوْ صَبَغَهُ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَدُهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الِاسْتِرْدَادُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلشَّرِكَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ أَنَّ فِي الْمَغْصُوبِ لَوْ اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَيْعَ الثَّوْبِ اسْتَقَامَ ذَلِكَ وَضَرَبَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ وَالْآخَرُ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَبِيعِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ؛ لِأَنَّ السَّمْنَ زِيَادَةٌ فِي السَّوِيقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُبَدِّلًا لِلْعَيْنِ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ بِهِ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَهُوَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَرَاهِمَ فَسَبَكَهَا أَوْ صَاغَهَا قُلْنَا كَانَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا تَتَقَوَّمُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِاعْتِبَارِهَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْغَصْبِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ، فَكَذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يُفَرِّقُ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيَقُولُ هُنَاكَ لَوْ اعْتَبَرْنَا حَقَّ الْغَاصِبِ فِي الصَّنْعَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ يُضَمِّنُهُ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ وَهَا هُنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ بَطَلَ بِهِ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَضْمِينِ السَّارِقِ وَالْعَيْنُ مُتَقَوِّمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالصَّنْعَةُ تَتَقَوَّمُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَقَوَّمُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ فَكَانَ إبْقَاءُ حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ صُفْرًا فَجَعَلَهَا قُمْقُمَةً أَوْ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ دِرْعًا لَمْ يَأْخُذْهُ؛ لِأَنَّ لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالَ الرَّبَّا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا حَقًّا لِلسَّارِقِ ثُمَّ هَذِهِ الصَّنْعَةُ لَوْ وُجِدَتْ مِنْ الْغَاصِبِ انْقَطَعَ بِهَا حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ مِنْ السَّارِقِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ قَدْ غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ بِالنُّقْصَانِ فَلِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ، كَمَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يُضَمِّنُ الْغَاصِبَ النُّقْصَانَ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ اعْتِبَارًا لِإِتْلَافِ الْجُزْءِ بِإِتْلَافِ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ زِيَادَةً فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ حَصَلَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ شَاةً فَوَلَدَتْ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ زِيَادَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَكَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ قَبْلَ انْفِصَالِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ لَا يَنْقَطِعُ فِي الرُّجُوعِ بِالْوِلَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّمْنِ وَالصَّبْغِ فَالزِّيَادَةُ هُنَاكَ فِي مِلْكِ السَّارِقِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَهَا هُنَا الزِّيَادَةُ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهَا لِلسَّارِقِ شَرِكَةٌ (قَالَ) وَإِذَا قَطَعَ فِي صُوفٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ فَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَصَنَعَ مِنْهُ ثَوْبًا ثُمَّ سَرَقَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَتَبَدَّلُ بِالصَّنْعَةِ وَالثَّوْبُ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بِالنَّسْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْغَاصِبِ كَانَ الثَّوْبُ مَمْلُوكًا لَهُ؟ فَسَرِقَتُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 صَنْعَتِهِ بِمَنْزِلَةِ سَرِقَتِهِ مَالًا آخَرَ (قَالَ) فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةٌ قُطِعَتْ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْيُمْنَى لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَجَبَ قَطْعُهَا بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، فَإِذَا كَانَتْ شَلَّاءَ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ، فَإِنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَوِّتًا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَفِي قَطْعِ الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ الْيُسْرَى شَلَّاءَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَلَا تُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ، فَإِنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى إذَا كَانَتْ شَلَّاءَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ بِعِصِيٍّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً. (فَإِنْ قِيلَ) التَّفْوِيتُ لَا يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْيَدِ الْيُمْنَى بَلْ بِالشَّلَلِ فِي الْيُسْرَى. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ إذَا كَانَ ثَابِتًا بَعْلَةٍ ذَات وَصْفَيْنِ يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَآخِرُهُمَا قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى هَاهُنَا فَكَانَ التَّفْوِيتُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْمَشْيُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ بَعْدَهُ بِعِصِيٍّ فَإِنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتٌ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَشْيِ بِعِصِيٍّ إذَا كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً (قَالَ) وَإِذَا حُبِسَ السَّارِقُ لِيُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ فَقَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ الْيُمْنَى عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا لَا تَسْقُطُ حُرْمَةُ يَدِهِ فَالْقَاطِعُ اسْتَوْفَى يَدًا مُتَقَوِّمَةً مِنْ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَقَدْ بَطَلَ الْحَدُّ عَنْ السَّارِقِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ ضَامِنُ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بَعْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ (قَالَ) فَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَقَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ قِيمَةُ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَالْقَاطِعُ اسْتَوْفَى يَدًا لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ حِينَ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِهِ، وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْحَدَّادَ بِقَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى فَأَخْطَأَ وَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ بِالْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى لَمْ تَخْرُجْ الْيَدُ الْيُسْرَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْتَرَمَةً مُتَقَوِّمَةً فَقَطْعُهَا خَطَأً قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ مِنْ السَّارِقِ، وَقَدْ قَطَعَ الْيَدَ وَاجْتَهَدَ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ يُوضِحُهُ أَنَّهُ، وَإِنْ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْيُسْرَى، فَقَدْ عَوَّضَ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى بَعْدَ هَذَا وَمَا عَوَّضَهُ مِنْ جِنْسِ مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا فَوَّتَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى أَظْهَرُ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَخْرَجَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَقَالَ: اقْطَعْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْيَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُسْتَحَقًّا بِالسَّرِقَةِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا؟ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَا بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا وَقَالَا: يَضْمَنُ الْحَدَّادُ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِيمَا صَنَعَ مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ أَنْفَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَدَّادَ مُجْتَهِدٌ وَفِعْلُهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ أَنْفَهُ، وَلِأَنَّهُ عَوَّضَهُ مِنْ جِنْسِ مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتَعَدِّي كَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَالٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، فَأَمَّا إذَا قَطَعَ أَنْفَهُ فَلَمْ يُعَوِّضْهُ مِمَّا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْيَدِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَلَمْ يُعَوِّضْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِهَذَا، وَإِنْ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَلَمْ يُعَوِّضْهُ مِنْ جِنْسِ مَا فَوَّتَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ (قَالَ) وَإِذَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ بِشُهُودٍ فِي السَّرِقَةِ ثُمَّ انْفَلَتَ، وَلَمْ يَكُنْ حُكِمَ عَلَيْهِ حَتَّى انْفَلَتَ فَأُخِذَ بَعْدَ زَمَانٍ لَمْ يُقْطَعْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا تُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْعَارِضِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ اتَّبَعَهُ الشَّرْطُ وَأَخَذُوهُ مِنْ سَاعَتِهِ قُطِعَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْهَرَبِ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ لِلْحَدِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ هَاهُنَا تُهْمَةُ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الطَّلَبِ مِنْ أَحَدٍ (قَالَ) وَإِذَا رُدَّتْ السَّرِقَةُ إلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ السَّارِقُ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِرَدِّ الْمَالِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ قُدْرَةِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ فَفِي الصُّغْرَى أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ السَّرِقَةِ عِنْدَهُ، وَلَا تَظْهَرُ إذَا رَدَّ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَهُ إلَّا بِالْخُصُومَةِ فِي الْمَالِ، وَلَا خُصُومَةَ بَعْدَ اسْتِرْدَادِ الْمَالِ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ وَانْعِدَامُ الشَّرْطِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ وَإِذَا كَانَتْ أُصْبُعَانِ مِنْ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأُصْبُعَيْنِ يُنْقِصُ مِنْ الْبَطْشِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ يُفَوِّتُ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 الشَّلَلِ فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَفْوِيتًا لِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ أَنْ كَانَتْ الْإِبْهَامُ وَحْدَهَا مَقْطُوعَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ مِنْهَا تَفُوتُ بِقَطْعِهَا، كَمَا تَفُوتُ بِالشَّلَلِ، وَإِذَا كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَاهَا مَقْطُوعَةً قُطِعَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَا يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ مِنْ الْيُسْرَى فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ، وَإِنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْمَشْيَ عَلَيْهَا قُطِعَتْ يَدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهَا لَمْ تُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ رِجْلِهِ الْيُسْرَى أُصْبُعَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ (قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ دَرَأْت فِيهِ الْحَدَّ ضَمَّنْته السَّرِقَةَ إنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً، وَإِذَا قَطَعْت لَمْ أُضَمِّنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً رَدَدْتهَا لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فِيهَا لِصَاحِبِهَا (قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَمَعْنَى الزَّجْرِ يَتِمُّ بِقَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا قُطِعَتْ يَدُهُ بِخُصُومَتِهِمْ، وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِنْ السَّرِقَاتِ الْمُسْتَهْلَكَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ اُسْتُوْفِيَ الْحَدُّ بِخُصُومَتِهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمْ قُطِعَتْ يَدُهُ بِخُصُومَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ سَرِقَاتِهِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا إلَّا السَّرِقَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَصَحُّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَخْذَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى لَوْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ كَانَ ضَامِنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالَهُ، فَإِنَّمَا سَقَطَ الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الَّذِي خَاصَمَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ السَّرِقَاتِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ الْخُصُومَةُ الْمُظْهِرَةُ لِلسَّرِقَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ مَا خَاصَمَ إلَّا فِي سَرِقَتِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ تَعَذَّرَ إقَامَةُ الْحَدِّ لِلشُّبْهَةِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَهُمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي حَقِّ السَّارِقِ حُضُورُ أَحَدِهِمْ كَحُضُورِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَكَمَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لَوْ حَضَرُوا، فَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ بَعْضُهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ شَيْءٍ سَرَقَهُ وَالْمُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا ضَمَانَ السَّرِقَاتِ كُلِّهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ فَاجْتَهَدَ الْإِمَامُ وَقَطَعَ يَدَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ حَضَرَ فَصَدَّقَهُ (قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ نَقَبَ بَيْتَ هَذَا وَأَخْرَجَ مِنْهُ كَارَةً لَا يَدْرِيَانِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 مَا فِيهَا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ وَشَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَدِّ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْمَجْهُولَةِ لَا تَثْبُتُ، وَلَمْ يَشْهَدُوا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِالْمِلْكِ فِي شَيْءٍ أَيْضًا فَالْمَخْرَجُ مِنْ بَيْتِهِ قَدْ يَكُونُ مَالُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَالَ الْمُخْرِجِ، وَإِنْ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ هَذَا الْمَتَاعَ، فَإِذَا هُوَ ثِيَابٌ مُخْتَلِفَةٌ تُسَاوِي مَالًا عَظِيمًا قُطِعَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِفِعْلِ السَّرِقَةِ فِي مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْإِعْلَامَ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِعْلَامِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَتَمَكَّنُ عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ مِنْ أَنْ يَقْتَصَّ مَا سَرَقَهُ لِيَتَأَمَّلَ كُلَّ ثَوْبٍ مِنْهُ، وَلَا يُكَلَّف أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ [لِلسَّارِقِ دَيْنٌ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ] (قَالَ) وَإِنْ كَانَ لِلسَّارِقِ دَيْنٌ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ الْقَطْعُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لَهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ كَالْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ وَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ يُورِثُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَحَلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِ خُصُوصًا فِي حَالِّ صِحَّةِ الْمَدْيُونِ حَتَّى يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ كَيْف شَاءَ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ، وَإِنَّمَا تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْمَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يَكُونُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا حَقَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ مَا أَخَذَهُ كَانَ فِعْلُهُ اسْتِيفَاءً، وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جِنْسَ حَقِّهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَفِعْلُهُ لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ، وَلَكِنَّهُ سَرِقَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَنْ آخُذَهُ رَهْنًا بِحَقِّي أَوْ قَضَاءً لِحَقَّيَّ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ، وَإِنْ ظَفِرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَخْذُهُ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يَأْخُذُهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ وَالِاخْتِلَافُ الْمُعْتَبَرُ يُمْكِنُ شُبْهَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَةٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ عِنْدَنَا (قَالَ) وَإِنْ سَرَقَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْطَعْ، وَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ يُقْطَعُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ (قَالَ) وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَى الْإِمَامِ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَدْنَيْ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطٌ يُرَاعَى وُجُودُهُ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدِيثَ عُمَرَ حِينَ قَضَى بِالْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرَقَتُهُ لَا تُسَاوَيْ إلَّا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ فَدَرَأَ الْقَطْعَ عَنْهُ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ أَرَاهَا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَالَ هِيَ تُسَاوِي عَشَرَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 دَرَاهِمَ لَمْ يَقْطَعْهَا حَتَّى يُرِيَهَا لِآخَرَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ الْحُكْمِيَّةَ لَا تَتِمُّ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَشَرْطُ الْقَطْعِ يُعْتَبَرُ ثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ الْحُكْمِيَّةِ، فَلِهَذَا لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَرَاهَا غَيْرُهُ فَإِنْ اجْتَمَعَ اثْنَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَهَا أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَطَعَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، فَكَذَلِكَ شَرْطُهُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِمَا فِي الْحُكْمِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ إلَّا أَنْ يَقُولَ آخَرُ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لِلْمُعَارِضَةِ تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ (قَالَ) فَإِنْ سَرَقَ دِينَارًا أَوْ مِثْقَالَ ذَهَبٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يُقْطَعْ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ نِصَابَ السَّرِقَةِ يَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَغَيْرُ الْمَنْصُوصِ يُقَامُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْقَطْعِ، وَلَا يُقَالُ الدِّينَارُ كَانَ مُقَوَّمًا بِعَشَرَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ يُخْتَلَفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فِي قِلَّةِ الْوُجُودِ وَكَثْرَةِ الْوُجُودِ وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لِيُصَارَ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ) وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا سَرَقَ، وَلَمْ يَعْرِفُوا اسْمَهُ قُطِعَ، وَلَمْ يَضُرَّهُمْ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اسْمَهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَرِ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ بِهِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ أَنْ لَا يَعْرِفُوا اسْمَهُ (قَالَ)، وَإِنْ قَالَ السَّارِقُ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَذِنَ لِي فِي دُخُولِي أَوْ قَالَ كُنْت ضَيْفًا عِنْدَهُ دُرِئَ عَنْهُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ فَبِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى مِلْكَ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ فَلَا يُسْتَحْسَنُ إقَامَةُ الْقَطْعِ مَعَهُ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَقْصُورَةٍ وَبَابٌ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ دُونَ مَقْصُورَةِ صَاحِبِهِ فَنَقَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ فَسَرَقَ مِنْهُ قَالَ لَا يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَكُونَ دَارًا عَظِيمَةً فَيُقْطَعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ الْعَظِيمَةَ كَالْمَحَلَّةِ فَكُلُّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، وَمَنْ يَسْكُنُ بَعْضَ الْمَقَاصِيرِ يَتِمُّ مِنْهُ فِعْلُ السَّرِقَةِ فِي مَقْصُورَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ دَارًا صَغِيرَةً فَبُيُوتُ هَذِهِ الدَّارِ كُلِّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ يُغْلِقُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا بَابٌ فَمَنْ يَسْكُنُ بَعْضَ هَذِهِ الْبُيُوتِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ شَرْعًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الدَّارِ الصَّغِيرَةِ لَوْ أَخَذَ مَعَ الْمَتَاعِ فِي صَحْنِ الدَّارِ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى السِّكَّةِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ إذَا أَخَذَ مِنْ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا إذَا أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يُقْطَعُ (قَالَ) وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَهُوَ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ فَسَرَقَ الْمُؤَاجِرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مَتَاعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُطِعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْحِرْزِ وَوُجُوبِ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ ثُمَّ لَوْ سَرَقَ الْعَيْنَ الَّذِي أَجَّرَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يُقْطَعْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي أَجَّرَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لَهُ نَوْعُ تَأْوِيلٍ فِي الدُّخُولِ لِيَنْظُرَ هَلْ اسْتَرَمَّ شَيْءٌ مِنْهُ فَيُرَمُّ ذَلِكَ أَوْ هَلْ خَرَّبَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْهُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: سَرَقَ مِلْكَ الْغَيْرِ مِنْ حِرْزِ صَاحِبِ الْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلَهُ ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ مَتَاعَ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ لَيْسَ بِعِبَارَةٍ عَنْ عَيْنِ الْجِدَارِ، وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّحَفُّظِ بِهَا، وَذَلِكَ صَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ خَالِصًا لَا حَقَّ لِلْآجِرِ فِيهِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْمَالِ الَّذِي آجَرَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ الْمِلْكُ لِلسَّارِقِ فِي الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَلَوْ حَدَثَ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إذَا سَرَقَ مَتَاعَ الْآجِرِ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَفِي بَعْضِ النَّوَادِرِ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَنْزِلُ الْمُؤَاجَرُ حِرْزًا عَلَى حِدَةٍ وَالْمَنْزِلُ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمُؤَاجِرُ حِرْزًا عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي مَنْزِلِ الْمُؤَاجِرِ، وَلَا شُبْهَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَجَّرَ مَنْزِلًا مِنْهَا مِنْ إنْسَانٍ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ حِرْزٍ وَاحِدٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنْ إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ هَذَا، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَمَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلًا مِنْهَا مِنْ إنْسَانٍ فَهَذَا فَصْلٌ مُشْتَبَهٌ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ فِيهِ مَا بَيَّنَّا [مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ مِنْ الْأَعْيَانِ] ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِمَا فَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي الرُّطَبِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ صَاحِبُهُ إحْرَازًا تَامًّا وَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ هَاهُنَا فِي الْيَابِسِ مِنْهُ فَهُوَ نَظِيرُ الثِّمَارِ لَا يُقْطَعُ فِي الرَّطْبِ وَيُقْطَعُ فِي الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا لَا يُقْطَعُ فِي رَطْبِهِ لَا يُقْطَعُ فِي يَابِسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْيُبْسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مِنْ الْأَحْجَارِ، وَلَا قَطْعَ فِي الْحَجَرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَا يُقْطَعُ فِي الْحَجَرِ لِمَعْنَى التَّفَاهَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ يَرْغَب فِيهِ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَكُونُ تَافِهًا (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ فِي الزُّجَاجِ، أَمَّا جَوْهَرُ الزُّجَاجِ فَلِأَنَّهُ يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 مَرْغُوبٍ فِيهِ، فَأَمَّا الْمَعْمُولُ مِنْهُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْمُولِ مِنْ الْخَشَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ بِصُورَتِهِ مُبَاحًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَلِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَا تَغْلِبُ عَلَى الْأَصْلِ عَادَةً وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ لَا يُقْطَعُ فِي الْبَوَارِي وَالْقَصَبِ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ ثُمَّ الصَّنْعَةُ لَا تَغْلِبُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَتَضَاعَفُ قِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ وَيَكُونُ تَافِهًا بَعْدَ الصَّنْعَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْبَسْطِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُحَرَّزَةِ وَغَيْرِ الْمُحَرَّزَةِ بِخِلَافِ الْمَعْمُولِ مِنْ الْخَشَبِ فَالصَّنْعَةُ هُنَاكَ تَغْلِبُ عَلَى الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِيمَةَ تَزْدَادُ بِالصَّنْعَةِ أَضْعَافًا وَذَكَرَ أَنَّ فِي الْعَاجِ يَجِبُ الْقَطْعُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَبَنُوسِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَافِهًا، فَإِنَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ لَا يَتْرُكُهُ عَادَةً وَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي الصَّنْدَلِ وَالْعَنْبَرِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ شُبْهَةً فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى الْإِبَاحَةِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ كَذَا وَكَذَا يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لَهُ فِي مَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَا شُبْهَةَ وَالسَّرِقَةُ بِخُصُومَةِ الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ عِنْدَ الْإِمَامِ بِلَا شُبْهَةَ [السَّارِقُ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ] (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَالَهُ مُحْرَزٌ بِدَارِنَا، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، كَمَالِ الذِّمِّيِّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعِصْمَةَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَإِحْرَازُ الْمُسْتَأْمَنُ لَا يَتِمُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ إحْرَازَ الْمَالِ تَبَعٌ لِإِحْرَازِ النَّفْسِ، وَلَا يَتِمُّ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ مَالِهِ، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ حَرْبِيًّا حُكْمًا حَتَّى يَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَالُ الْحَرْبِيِّ مُبَاحُ الْأَخْذِ إلَّا أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ إبَاحَةُ الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْأَمَانِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ عَنْ السَّارِقِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (قَالَ) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَغَارَ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْلًا فَسَرَقَ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَالًا فَجَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ قَالَ لَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى أَيْ وَجْهٍ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُمْسِكُوهُ إلَى أَنْ يَتُوبُوا أَوْ يَمُوتُوا فَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَتِهِمْ فَتَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ فِي أَخْذِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَغَارَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 الْعَدْلِ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَتَأْوِيلُهُمْ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْبَاغِي مَا أَتْلَفَ مِنْ مَالِ الْعَادِلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؟ فَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ (قَالَ)، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْعَدْلِ سَرَقَ مَالًا مِنْ آخَرَ، وَهُوَ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ وَدَمَهُ قَطَعْته؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّأْوِيلِ بِدُونِ الْمَنَعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْقَطْعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيَتَمَكَّنُ إمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ مِنْهُ بِخِلَافِ الَّذِي هُوَ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّ يَدَ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إلَيْهِ، فَلِهَذَا افْتَرَقَا [أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً] (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً قُطِعَتْ يَدُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْإِقْرَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَذَكَرَ بِشْرٌ رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَهُ مَرَّتَيْنِ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَيُعْتَبَرُ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ شَرَطَ إقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ فَقَالَ: سَرَقَتْهُ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ» وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَدَدَ الْإِقْرَارِ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ يَثْبُتُ بِإِقْرَارٍ وَاحِدٍ كَالْقِصَاصِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّنَا مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ نَظَائِرِهِ، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَقْطَعْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ أَقْطَعْهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَهُوَ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي يُرِيدُ إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رَدَدْته بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ رَدِّ الْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالشَّهَادَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بَعْدَ رَدِّ الْمَالِ فَبِالْإِقْرَارِ أَوْلَى؟ وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ دُرِئَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَنْ يَرُدُّ جُحُودَهُ إذْ الْقَطْعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ يُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ وَالْمَالُ حَقُّهُ (قَالَ) فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ أَوْ هُوَ سَاكِتٌ لَا يُقِرُّ، وَلَا يُنْكِرُ لَمْ أَقْطَعْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرَ مُلْزِمٍ إيَّاهُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهُ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَسُكُوتُهُ كَإِنْكَارِهِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُنْكِرِ، وَإِنْكَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 الرُّجُوعِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَكِنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ فِي حَقِّ الضَّمَانِ بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ إنْكَارُهُ [أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ] (قَالَ)، وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسْتَهْلَكًا أَوْ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ تُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرُدُّ الْمَالَ وَلَا يَقْطَعُ يَدَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَالِ يُلَاقِي حَقَّهُ، فَإِنَّهُ يُلَاقِي كَسْبَهُ أَوْ ذِمَّتَهُ، وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْقَطْعِ يُلَاقِي نَفْسَهُ وَالْفَكُّ بِحُكْمِ الْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا؟ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ يَكُونُ بَاطِلًا. وَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا كَالْحُرِّ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ، فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَالطَّلَاقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ عِنْدَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ (قَالَ) فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ فِيمَا كَانَ الْعَبْدُ مُبْقِيًا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، أَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إقْرَارُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ وَمَا فِي يَدِهِ كَأَنَّهُ فِي يَدِ الْمَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ فِيهِ بِالْغَصْبِ لَا يَصِحّ؟ فَكَذَلِكَ بِالسَّرِقَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْطَعَ فِي هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ، وَلَا فِي مَالٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ فِيهِ وَالْمَالُ أَصْلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ قَالَ: أَبْغِي الْمَالَ تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَبْغِي الْقَطْعَ وَلَا أَبْغِي الْمَالَ لَا تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ؟ وَكَذَلِكَ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمَالُ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَمْ يَصِحَّ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ بِالْقَطْعِ وَالْمَالِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ فَيَثْبُتُ مَا كَانَ إقْرَارُهُ فِيهِ حُجَّةً؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ؟ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَا نَقْبَلُ إقْرَارَهُ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَالِ فَيَبْقَى الْمَسْرُوقُ مُسْتَهْلَكًا وَيَجُوزُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ فِي تَعْيِينِ الْمَالِ كَالْحُرِّ إذَا قَالَ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ أَنَا سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو فَقَالَ زَيْدٌ هُوَ ثَوْبِي، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُ الْمُقِرِّ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْعَيْنِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ هُوَ الْأَصْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْقَطْعِ إذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ؟ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ كَوْنُ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ مَوْلَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقْطَعَ الْعَبْدُ فِي مَالٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَبِثُبُوتِ الشَّيْءِ يَثْبُتُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَ وَلَدَيْ التَّوْأَمِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ مِنْهُ وَيَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ لِغَيْرِ السَّارِقِ، وَهُوَ ذُو الْيَدِ وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا هَاهُنَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقْطَعَ الْعَبْدُ فِي مَالٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ، فَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَاكَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ إنْسَانٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هُوَ مَالُكَ لَا حَقَّ لِي فِيهِ أَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هَذَا الْمَالُ لِمَوْلَاك لَا حَقَّ لِي فِيهِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا فَيُقْضَى بِرَدِّ الْمَالِ عَلَى الْمُقِرِّ لَهُ بِالسَّرِقَةِ [إقْرَارُ الصَّبِيِّ بِالسَّرِقَةِ] (قَالَ) وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ بِالسَّرِقَةِ بَاطِلٌ ثُمَّ بُلُوغُهُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَلَامَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ بِالْعَلَامَةِ فَالْغُلَامُ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِالْإِحْبَالِ وَأَقَلُّ الْمُدَّةِ فِي ذَلِكَ اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالْحَبَلِ أَوْ الِاحْتِلَامِ وَأَدْنَى الْمُدَّةِ فِي ذَلِكَ تِسْعُ سِنِينَ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِمَا إذَا بَلَغَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقْدِيرُ فِي الْجَارِيَةِ بِسَبْعِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي الْغُلَامِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِتِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَادَ عَلَى أَدْنَى الْمُدَّةِ سَبْعَ سِنِينَ وَأَدْنَى الْمُدَّةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا»، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْوَكَالَةِ (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ الْعَذَابِ أَوْ عِنْدَ الضَّرْبِ أَوْ عِنْدَ التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمِينٍ إنْ جَوَّعْت أَوْ خَوَّفْت أَوْ أَوْثَقْت وَقَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَيْدُ كُرْهٌ وَالسِّجْنُ كُرْهٌ وَالْوَعِيدُ وَالضَّرْبُ كُرْهٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ فَلَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ حَتَّى هُدِّدَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَفْتَوْا بِصِحَّةِ إقْرَارِ السَّارِقِ بِالسَّرِقَةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّرَّاقَ لَا يُقِرُّونَ فِي زَمَانِنَا طَائِعِينَ وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيَحِلُّ ضَرْبُ السَّارِقِ حَتَّى يُقِرَّ فَقَالَ: مَا لَمْ يُقْطَعْ اللَّحْمُ وَلَا يَتَبَيَّنْ الْعَظْمُ، وَأَفْتَى مَرَّةً بِجَوَازِ ضَرْبِهِ ثُمَّ نَدِمَ وَاتَّبَعَ السَّائِلَ إلَى بَابِ الْأَمِيرِ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَ السَّارِقَ وَأَقَرَّ بِالْمَالِ وَجَاءَ بِهِ فَقَالَ مَا رَأَيْت جَوْرًا أَشْبَهَ بِالْحَقِّ مِنْ هَذَا وَإِنْ أَقَرَّ طَائِعًا ثُمَّ قَالَ: الْمَتَاعُ مَتَاعِي أَوْ قَالَ: اسْتَوْدَعَنِيهِ أَوْ قَالَ أَخَذْته رَهْنًا بِدَيْنٍ لِي عَلَيْهِ دَرَأْت الْقَطْعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ، فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا سَرَقَ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ الرَّهْنِ بِحَقِّهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَيْنُهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ جِنْسَ حَقِّهِ وَالدَّيْنَ مُؤَجَّلٌ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يُقْطَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ الْمَالِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ التَّأْجِيلُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ إنَّمَا يُؤَخَّرُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ شُبْهَةً (قَالَ) وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ السَّارِقَ حَتَّى لَا يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا احْتِيَالٌ مِنْ الْإِمَامِ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ إنْ قَطَعَهُ حَبَسَهُ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يُسْتَوْفَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْقَطْعُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَإِذَا كَانَ لَا يَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ إنْ قُطِعَ لَمْ يُؤَخَّرْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَنْبَغِي لِوَالٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَدُّ أَنْ لَا يُقِيمَهُ»، وَإِنْ حُبِسَ إلَى فُتُورِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ فَضَمَانُ الْمَسْرُوقِ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ (قَالَ) وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي يَدِهِ قَطْعٌ فِي السَّرِقَةِ وَالْقِصَاصِ بُدِئَ بِالْقِصَاصِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ يُقْتَلُ وَيُتْرَكُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْيَدِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى وَالْآخَرُ لِلْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ فِي الرِّجْلِ الْيُمْنَى أَوْ فِي الرِّجْلِ الْيُسْرَى يُبْدَأُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا اُسْتُوْفِيَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ فَيَضْمَنُ الْمَسْرُوقُ فَإِنْ قُضِيَ بِالْقِصَاصِ فَعَفَا عَنْهُ صَاحِبُهُ أَوْ صَالَحَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ كَانَ مُسْتَحَقًّا، وَقَدْ سَقَطَ مَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يُصَالِحْهُ حَتَّى مَضَى زَمَانٌ وَهُمَا يَتَرَاضَيَانِ فِيهِ عَلَى الصُّلْحِ ثُمَّ صَالَحَهُ دَرَأْت الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ الْيُسْرَى بُدِئَ بِالْقِصَاصِ ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي السَّرِقَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي شَجَّةٍ فِي رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ وَالَى فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالضَّرْبِ رُبَّمَا يَمُوتُ لِتَضَاعُفِ الْآلَامِ عَلَيْهِ فَلْيَتَحَرَّزْ عَنْ ذَلِكَ بِجَهْدِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (قَالَ) وَإِذَا حُكِمَ عَلَى السَّارِقِ بِالْقَطْعِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ ثُمَّ قَالَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ: هَذَا مَتَاعُهُ، أَوْ قَالَ: لَمْ يَسْرِقْهُ مِنِّي إنَّمَا كُنْت أُودِعْته، أَوْ قَالَ: شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ، أَوْ قَالَ: أَقَرَّ هُوَ بِالْبَاطِلِ بَطَلَ الْقَطْعُ عَنْهُ لِانْقِطَاعِ خُصُومَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَقَاءَ الْخُصُومَةِ إلَى وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ شَرْطٌ وَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ رَدِّ الْمَالِ بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَالِ مِنْهُ لِلْخُصُومَةِ فَالْمَقْصُودُ بِالْخُصُومَةِ اسْتِرْدَادُ الْمَالِ، وَالْمُنْتَهِي يَكُونُ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَتْ خُصُومَتُهُ قَائِمَةً بِاعْتِبَارِ قِيَامِ يَدِهِ فِي الْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَفَوْت لَمْ يَبْطُلْ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْقَطْعُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا حَقٌّ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِيهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَجَافُوا الْعُقُوبَةَ بَيْنَكُمْ، فَإِذَا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا عَنْهُ» فَأَمَّا إذَا وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْمَالَ مِنْ السَّارِقِ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقَطْعِ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ لِانْقِطَاعِ خُصُومَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحَجَّتُهُمَا حَدِيثُ صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَإِنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَجَاءَ سَارِقٌ وَسَرَقَ رِدَاءَهُ فَاتَّبَعَهُ حَتَّى أَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَقَالَ: أَتَقْطَعُهُ بِسَبَبِ رِدَائِي؟ وَهَبْتُهَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ، وَلِأَنَّ هَذَا حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَإِذَا وَجَبَ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ لَا يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاؤُهُ لِمِلْكٍ عَارِضٍ فِي الْمَحَلِّ كَحَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ وَقْتَ السَّرِقَةِ وَالْهِبَةِ تُوجِبُ مِلْكًا حَادِثًا، وَلَا أَثَرَ لَهَا فِيمَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلسَّارِقِ؛ لِأَنَّ فِي إقْرَارِهِ احْتِمَالُ الصِّدْقِ وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِلسَّارِقِ عِنْدَ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ مَانِعُ تَقَرُّرِ فِعْلِ السَّرِقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَأَمَّا الْآنَ، فَقَدْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ عِنْدَهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ بِاعْتِرَاضِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ بِاعْتِرَاضِ الْمِلْكِ فِي الْحِرْزِ أَوْ بِرَدِّ الْمَالِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ انْتِفَاءَ مِلْكِ السَّارِقِ عَنْ الْمَسْرُوقِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ وَمَا يَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ يُرَاعَى قِيَامُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَالْفِسْقِ فِي الشُّهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ انْتِفَاءَ الْأُبُوَّةِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ مِنْ الْأُبُوَّةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مَانِعٌ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا هَاهُنَا فَالْعَيْنُ الَّذِي وُجِدَ فِعْلُ السَّرِقَةِ فِيهِ عَيْنُ ذَلِكَ وَلَوْ اتَّحَدَ الْمِلْكُ بِأَنْ أَقَرَّ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَهُ بِالْمِلْكِ أَوْ أَثْبَتَ السَّارِقُ مِلْكَهُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُقْطَعْ، فَكَذَلِكَ إذَا اتَّحَدَتْ الْعَيْنُ وَاخْتَلَفَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْعُذْرُ وَاضِحٌ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى مَثَلًا شَيْءٌ وَهَا هُنَا وُجُوبُ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَمِلْكُهُ حَدَثَ فِي ذَلِكَ الْعَيْنِ وَبِخِلَافِ الْحِرْزِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّحَرُّزِ وَالتَّحَصُّنِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا حَدَثَ الْمِلْكُ لَهُ فِي حِرْزٍ آخَرَ وَبِخِلَافِ رَدِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْهُ لِلْخُصُومَةِ، فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ وَالْمُنْتَهِي فِي حُكْمِ الْمُتَقَرِّرِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ تَقْطَعُ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُخَاصِمُ لِيَهَبَ مِنْهُ، وَمَا يَفُوتُ الْمَقْصُودَ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُنْهِيًا لَهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «عَفَوْت عَنْهُ» وَالْحَدِيثُ حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهُ ثُمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» كَيْ لَا يُنْتَهَكَ سِتْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا رُوِيَ «أَنَّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغَيَّرَ فَقَالَ صَفْوَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْك ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَكَيْفَ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ وَكَأَنَّكُمْ أَعْوَانُ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَخِيكُمْ الْمُسْلِمِ؟» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَرِهَ هَتْكَ السِّتْرِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُرْوَ مَشْهُورًا أَنَّهُ قَطَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 يَدَهُ بَعْدَ هِبَتِهِ، وَإِنْ رُوِيَ ذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ وَلَمَّا انْتَهَكَ سِتْرَهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يُطَهِّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ الْهِبَةَ لِذَلِكَ، وَعِنْدَنَا إذَا لَمْ يَقْبَلْ الْهِبَةَ السَّارِقُ لَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ [أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ] (قَالَ) فَإِنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ فَفِي الْقِيَاسِ يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ مِنْهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تُقْطَعْ لِلشُّبْهَةِ، فَإِنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ إذَا حَضَرَ رُبَّمَا يُكَذِّبُهُ فِي الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا [السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ] (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شَرِكَةً أَوْ شُبْهَةَ شَرِكَةٍ، فَإِنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَحَدُهُمْ، فَإِنَّهُ إذَا احْتَاجَ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَفِي الْكِتَابِ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ وَقَالَ إنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْمَالِ مَالِكٌ مُتَعَيِّنٌ وَوُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ لِصِيَانَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ امْرَأَةِ ابْنِهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ أَوْ امْرَأَةِ أَبِيهِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْمَنْزِلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَنْزِلَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمَنْزِلِ ابْنِهِ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَا حِشْمَةٍ فَلَا يَتِمُّ مَعْنَى الْحِرْزِيِّةِ فِي حَقِّهِ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُمْ الْقَطْعُ، فَأَمَّا إذَا سَرَقَ مَالَ هَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِ مَنْزِلِ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ سَرَقَ مِنْ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ مِنْ أَبَوَيْهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتِحْسَانًا، وَفِي قَوْلِهِمَا يُقْطَعُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ الْخِلَافُ فِي الْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُمَا يَقُولَانِ لَا شُبْهَةَ لِلْبَعْضِ فِي مِلْكِ الْبَعْضِ وَلَا تَأْوِيلَ، وَلَا فِي حِرْزِهِ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةً ثَابِتَةً بِالْمُصَاهَرَةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَحْرَمِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالرَّضَاعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: بَيْنَ الْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ مُبَاسَطَةٌ فِي دُخُولِ بَعْضِهِمْ فِي مَنْزِلِ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ فِي الْحِرْزِيِّةِ وَأَدْنَى الشُّبْهَةِ تَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَنْزِلِ أَبِيهِ مَالَ امْرَأَتِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إقَامَةَ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَامْرَأَةُ الِابْنِ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَلَوْ سَرَقَ الْأَبُ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ لَا يُقْطَعُ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُضَافِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِابْنَ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ، وَلَوْ سَرَقَ الِابْنُ مَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَنْزِلِهَا لَمْ يُقْطَعْ، فَكَذَلِكَ أَبُوهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا سَرَقَ مَالَ الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ وَالشَّافِعِيُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ يَسْكُنَانِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ آخَرَ لِصَاحِبِهِ يُقْطَعُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِيمَا وَرَاءَ حُقُوقِ النِّكَاحِ هُمَا كَالْأَجَانِبِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ يَثْبُتُ مَعْنَى الِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، وَتَبَاسُطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ كَتَبَاسُطِ الْوَلَدِ فِي مَالِ وَالِدِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا (قَالَ) وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مَعَ صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلشُّبْهَةِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَاكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهَا لِتَحَقُّقِ الشَّرِكَةِ فِي الْفِعْلِ بَلْ هُوَ الْفَاعِلُ وَهِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنْ كَانَ الصَّبِيُّ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْمَتَاعَ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ لِلْمَتَاعِ هُوَ الْبَالِغُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ فَإِنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أَدْرَأَ الْقَطْعَ لِهَذَا فَيَتَطَرَّقُ السُّرَّاقُ بِهِ إلَى إسْقَاطِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَسْتَصْحِبَ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا مَعَ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ أَخْرَسَ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً يَدْرَأُ بِهَا الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا النَّاطِقُ فَلِأَجْلِ الشَّرِكَةِ (قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ خَمْرًا فِي ظَرْفٍ وَقِيمَةُ الظَّرْفِ نِصَابٌ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخَمْرُ وَهِيَ حَرَامٌ إلَّا أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ يُخْرِجَ الظَّرْفَ، وَهُوَ مِمَّا يُقْطَعُ فِي جِنْسِهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ لِإِيضَاحِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا كَانَ أَحَدُ الْعَيْنَيْنِ مِمَّا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُ الْفَاعِلَيْنِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ (قَالَ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةِ الْغَائِبِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي حَضَرَ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُقْطَعُ السَّارِقُ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِهِ إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ بِخُصُومَتِهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا قِيلَ مُرَادُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا حَضَرَا جَمِيعًا، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ بِهَا يَحْيَى مِلْكُهُ وَحَقُّهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِغِيبَةِ غَيْرِهِ مَعَ حُضُورِهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ غَيْرُهُ وَالشَّرْطُ حُضُورُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةِ وَكِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْمَالِكُ هَاهُنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 إذَا حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَهُ، فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّبْهَةِ لَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ وَكَاسِبُ الرِّبَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْهُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكْسُوبِ، وَهُوَ مِلْكٌ مَعْصُومٌ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ مِنْ الْمُودَعِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ بِخُصُومَتِهِ، وَلَا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مَالَ الْمُودَعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلْحَدِّ عَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الشُّبْهَةُ فِي الْحِرْزِ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْضَهُمْ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ، وَلَا اسْتِئْذَانٍ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ بَيْنَ أَنْ يَسْرِقَ مَالَهُ أَوْ مَالَ أَجْنَبِيٍّ وَدِيعَةً عِنْدَهُ (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمَبْتُوتَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْهُ فِي مَنْزِلٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَتَعْمَلُ عَمَلَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا إذَا أَتَاهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَيْهَا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَصِيرُ السُّكْنَى كَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا حَقٌّ وَلَا عَلَاقَةٌ فَصَارَتْ فِي حَقِّهِ كَمَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَمَا يُقْطَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا سَرَقَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ مِنْ أَبَوَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ دُخُولُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عَادَةً، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ (قَالَ) وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ سَرِقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا وَقْتَ السَّرِقَةِ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ تُزَفَّ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ النِّكَاحُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ خُصُومَتَهَا فِي حُكْمِ الْحَدِّ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ، فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْنَهَا لَا تَمْنَعُ الْقَطْعَ بَلْ مَعْنَى الشُّبْهَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي زَوْجِيَّةٍ مُعْتَرَضَةٍ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ (قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْحِرْزِيَّةِ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ ثُمَّ لَا يَصِيرُ مُوجِبًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ مِنْ أُخْتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ بَيْنَهُمَا سِوَى الْمَحْرَمِيَّةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَحْرَمِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ أَوْ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا أَوْ بِالتَّقْبِيلِ مِنْ شَهْوَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عَادَةً بِخِلَافِ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْأُمِّيَّةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَوْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 الْقَطْعِ لَكَانَتْ الَأُخْتِيَّةُ مُؤْثَرَةً فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِالنَّسَبِ [أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ هَرَبَ] (قَالَ) وَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ هَرَبَ لَمْ يُطْلَبْ، وَإِنْ كَانَ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَرَبَهُ دَلِيلُ رُجُوعِهِ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ لَمْ يُقْطَعْ، فَكَذَلِكَ إذَا هَرَبَ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِمَاعِزٍ حِينَ أُخْبِرَ بِالْهَرَبِ فَقَالَ: هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ»، وَلَكِنَّهُ إذَا أُتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ، كَمَا لَوْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِهِ دُونَ الضَّمَانِ (قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا مِائَةً ثُمَّ قَالَ: وَهَمْت إنَّمَا سَرَقْت مِنْ هَذَا الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْأَوَّلِ وَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْآخَرِ، وَالتَّنَاقُضُ كَالرُّجُوعِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ بِالرُّجُوعِ وَالتَّنَاقُضِ يَبْطُلُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ دُونَ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَدَّقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ الشُّهُودُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِقَطْعٍ، وَلَا مَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْأَوَّلِ وَتَنَاقَضَ كَلَامُهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الثَّانِي حِينَ شَهِدُوا أَوَّلًا بِسَرِقَةِ هَذِهِ الْمِائَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ الْأَوَّلِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَالتَّنَاقُضُ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ وَالْحَدِّ جَمِيعًا (قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً فَثَبَتَ اثْنَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلْأَوَّلِ بِهِ وَرَجَعَ اثْنَانِ فَشَهِدُوا عَلَى هَذَا الْآخَرِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّاجِعِينَ شَهِدُوا بِسَرِقَةِ ذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِشَهَادَةِ الثَّابِتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الثَّابِتَيْنِ لِلْمُعَارَضَةِ وَبِشَهَادَةِ الرَّاجِعَيْنِ لِلتَّنَاقُضِ وَيُقْضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ لِبَقَاءِ حُجَّةٍ كَامِلَةٍ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمَالِ وَتَأْثِيرُ الْمُعَارَضَةِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَلَكِنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلَا يُقْضَى لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ لِلتَّنَاقُضِ مِنْ الشُّهُودِ فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ (قَالَ) رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ يَسْرِقْهَا هَذَا، وَلَكِنِّي أَنَا سَرَقْتهَا فَقَالَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ كَذَبْت، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ الْأَوَّلُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ، فَأَمَّا إقْرَارُ الثَّانِي، فَقَدْ بَطَلَ بِتَكْذِيبِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إيَّاهُ فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ، فَإِنْ قَالَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ: لَمْ يَسْرِقْهَا الْأَوَّلُ، فَقَدْ عَلِمْت وَذَكَرْت أَنَّ هَذَا الْآخَرَ هُوَ الَّذِي سَرَقَهُ لَمْ يُقْطَعْ الْآخَرُ، وَلَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ بَرَاءَةٌ مِنْهُ لِلْآخَرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 وَدَعْوَاهُ عَلَى الْآخَرِ بَرَاءَةٌ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَالْخُصُومَةُ مِنْ الْمُنَاقِضِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ وَشَرْطُ الْقَطْعِ الْخُصُومَةُ، فَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَا يَضْمَنُ الْأَوَّلُ السَّرِقَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأهُ مِنْهَا بِالدَّعْوَى عَلَى الْآخَرِ مُكَذِّبًا لَهُ فِي إقْرَارِهِ، وَقَدْ كَذَبَ الْآخَرُ فِي إقْرَارِهِ قَبْلَ هَذَا فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: كَذَبْت، ثُمَّ قَالَ لَهُ: صَدَقَتْ أَنْتَ سَرَقْتهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا؟ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: كَذَبْت وَلَكِنَّهُ قَالَ: صَدَقْت، ثُمَّ قَالَ آخَرُ: أَنَا سَرَقْتهَا فَقَالَ لَهُ: صَدَقْت لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِمَعْنَى التَّنَاقُضِ وَيَضْمَنُ الْآخَرُ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْآخَرِ صَارَ مُكَذِّبًا لِلْأَوَّلِ مُبَرِّئًا لَهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَكَذَلِكَ هُوَ بِتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ صَارَ مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ وُجِدَ مِنْ الْآخَرِ الْإِقْرَارُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ فَيَصِحُّ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ، كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ فَكَذَّبَهُ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ ثَانِيًا بِهِ فَصَدَّقَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَهَادَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا إلَّا إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ خُصُومَتِهِ لِلتَّنَاقُضِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا كُلَّ فَرِيقٍ بِتَصْدِيقِ الْآخَرِ كَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شَاهِدَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لَهُ (قَالَ) رَجُلٌ قَالَ: لِآخَرَ سَرَقْت مِنْك كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كَذَبْت لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي وَلَكِنَّك غَصَبْته غَصْبًا، وَإِنَّمَا أَرَدْت بِذِكْرِ السَّرِقَةِ أَنْ تَبْرَأَ مِنْ الضَّمَانِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبًا مُبْتَدَأً فَبَطَلَ إقْرَارُهُ بِالتَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَوْصُولٌ، وَفِي آخِرِهِ بَيَانُ أَنَّ مُرَادَهُ التَّكْذِيبُ فِي جِهَةِ السَّرِقَةِ لَا فِي أَصْلِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ وَالْبَيَانُ الْمُغَيِّرُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُوصِلًا بِالْكَلَامِ ثُمَّ الْمُقَرُّ لَهُ انْتَدَبَ بِمَا صَنَعَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ إبْقَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: سَرَقْت مِنْك كَذَا فَقَالَ الطَّالِبُ: غَصَبْته غَصْبًا فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ أَصْلِ الْمَالِ لَهُ، فَقَدْ صَدَّقَهُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَمَعَ التَّصْدِيقِ فِي الْحُكْمِ لَا يُعْتَبَرُ التَّكْذِيبُ فِي السَّبَبِ، وَإِنْ قَالَ غَصَبْتُك كَذَا فَقَالَ سَرَقْته مِنِّي فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ وَادَّعَى زِيَادَةَ جِهَةِ السَّرِقَةِ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِدَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ قَوْلُ الضَّامِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الطَّالِبُ وَإِنْ قَالَ: سَرَقْت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَلَكِنْ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِ الثَّوْبِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ مِنْ الْغَائِبِ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِذَا حَضَرَ رُبَّمَا يُكَذِّبُهُ فَيَبْقَى نِصْفُ الثَّوْبِ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْ قَطَعْنَاهُ لَقَطَعْنَا فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ إحْدَاهُمَا وَصَدَّقَتْهُ الْأُخْرَى يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ فِعْلِهِ بِالْأُخْرَى، وَهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فِي ثَوْبٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ السَّرِقَةُ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالسَّرِقَةِ فِي نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ فِي نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا لَا يَتَحَقَّقُ مُنْفَرِدًا عَنْ النِّصْفِ الْآخَرِ، فَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ. فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ ظَهَرَ حُكْمُ الْمَالِ فَيُقْضَى لِلْحَاضِرِ بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الثَّوْبِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَنِصْفُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَقَالَ: أَحَدُهُمَا كَذَبْتَ لَمْ تَسْرِقْهُ، وَلَكِنَّك غَصَبْته أَوْ اسْتَوْدَعْنَاكَهُ أَوْ أَعَرْنَاكَهُ أَوْ قَالَ: هُوَ ثَوْبُك لَا حَقَّ لَنَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إمَّا لِلشَّرِكَةِ لَهُ فِي الثَّوْبِ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا لَهُ بِالْمِلْكِ أَوْ لِانْتِفَاءِ فِعْلِ السَّرِقَةِ عَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِتَكْذِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِعْلُ السَّرِقَةِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ الثَّوْبِ مُنْفَرِدًا، وَلَكِنْ يُقْضَى بِنِصْفِ الْآخَرِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ الثَّانِي يَنْبَنِي الْقَضَاءُ عَلَى مَا أَقَرَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَقُضِيَ لِلْحَاضِرِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ وَادَّعَى السَّرِقَةَ يُقْضَى لَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ، وَلَكِنْ لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِنِصْفِ الثَّوْبِ لِلْأَوَّلِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، فَقَدْ دَرَأَ الْقَطْعَ عَنْهُ فِي نَصِيبِهِ إذْ الْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِالضَّمَانِ إلَّا بَعْدَ دَرْءِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ ذَلِكَ النِّصْفَ، وَاعْتِرَاضُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ كَاعْتِرَاضِهِ فِي الْجَمِيعِ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ حَاضِرًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ فَقَالَ: الثَّوْبُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ لَنَا عِنْدَك لَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ بِإِكْذَابِهِ شُهُودَهُ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الضَّمَانِ وَبَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ مُشَارَكَةِ الْآخَرِ فِيمَا يَقْبِضُ (قَالَ) رَجُلَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا سَرَقَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ يَدَّعِي ذَلِكَ فَلَمَّا أَمَرَ الْحَاكِمُ بِقَطْعِهِمَا قَالَ أَحَدُهُمَا: الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ قَالَ يُدْرَأُ الْقَطْعُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَالَ: سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَالَ الْآخَرُ: كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ، وَلَكِنَّهُ لِفُلَانٍ قَالَ: يُقْطَعُ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقْنَاهُ وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ أَسْرِقْ مَعَك، وَلَا أَعْرِفُك، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُقِرَّ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَطْعِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِإِنْكَارِهِ فَصَارَ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ أَصْلُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِتَكْذِيبِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ الثَّابِتِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ، وَلَا فِي مُوجِبِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: قَتَلْتُ أَنَا وَفُلَانٌ فُلَانًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَا قَتَلْت فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُقِرِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَيْت أَنَا وَفُلَانٌ بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ عَلَى الْمُقِرِّ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْآخَرُ الْمِلْكَ، فَإِنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ ثَبَتَ هُنَاكَ مُشْتَرَكًا لِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلشُّبْهَةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ، كَمَا فِي الْمُقِرِّينَ بِالْقَتْلِ إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَكَذَّبَتْهُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَيَقُولُ: تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: هُنَاكَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهَا هُنَا لَا يُقَامُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا فِي الزِّنَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ إيلَاجٌ وَفِعْلَهَا تَمْكِينٌ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَالْمُبَاشِرُ هُوَ الرَّجُلُ فَانْتِفَاؤُهُ فِي جَانِبِهَا بِتَكْذِيبِهَا لَا يُمَكِّنُ شُبْهَةَ الرَّجُلِ وَهَا هُنَا الْفِعْلُ مِنْ السَّارِقَيْنِ وَاحِدٌ وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا تَتَحَقَّقُ فَانْتِفَاؤُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِنْكَارِهِ يُمْكِنُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ إذَا اشْتَرَكَ الْخَاطِئُ مَعَ الْعَامِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَيَقُولُ هُنَاكَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُنَا يُقَامُ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 بِدُونِ الْمَحِلِّ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْمَحِلُّ بِتَكْذِيبِهَا، فَأَمَّا فِعْلُ السَّرِقَةِ مِنْ الْمُقِرِّ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْآخَرِ فَانْتِفَاءُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِإِنْكَارِهِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرِ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَالَ: يَقْطَعُ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ الْيُمْنَى وَأَرْجُلَهُمْ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُصَلِّبَهُمْ إنْ شَاءَ، وَإِنَّمَا شَرْطُنَا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا؛ لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبُونَ بِالنَّصِّ، وَالْمُحَارَبَةُ عَادَةً مِنْ قَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَقْوَوْنَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ إلَّا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَشَرْطُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا فَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ خِلَافٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَشَرْطُ أَنْ يَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً فِي مَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لِانْعِدَامِ الْعِصْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فِي مَالِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى فَهُوَ مِثْلُهُ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى التَّرْتِيبِ بِحَسَبِ جِنَايَتِهِمْ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ نَأْخُذْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قَدْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ أَغْلَظُ الْعُقُوبَاتِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ عَلَى مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُبَاشِرْ، وَالْقَطْعُ جَزَاءُ أَخْذِ الْمَالِ، كَمَا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى إلَّا أَنَّ ذَاكَ دَخَلَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخْفِي فِعْلَهُ، وَهَذَا يَغْلُظُ بِالْمُجَاهَرَةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ أَعْضَائِهِ ثُمَّ مَنْ هَمَّ بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، فَكَذَلِكَ مَنْ هَمَّ بِأَخْذِ الْمَالِ هَاهُنَا وَلَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِمَامُ فِيهِمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ قَتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامُ يَصْلُبُهُمْ أَخْذًا فِيهِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 الْعُقُوبَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، كَمَا إذَا اجْتَمَعَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالرَّجْمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ فَلَا فَائِدَةَ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَرْفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَبْنَى هَذَا الْحَدِّ عَلَى التَّغْلِيظِ لِغِلَظِ جَرِيمَتِهِمْ وَالْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ أَقْرَبُ إلَى التَّغْلِيظِ فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ هَذَا الْحَدُّ، وَالثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ السَّبَبِ وَالْكُلُّ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الزِّنَا إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ. (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَدَعَ الْقَطْعَ. (قُلْنَا) لَا بِطَرِيقِ التَّدَاخُلِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي أَجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْقَطْعِ بَعْدَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ كَالزَّانِي إذَا ضُرِبَ خَمْسِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الصَّلْبِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَاكْتَفَى بِالْقَتْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَ الصَّلْبَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِشْهَارُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ فَيَنْزَجِرَ فَلَا يَتْرُكُهُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ يَتِمُّ بِالْقَتْلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَبَ أَحَدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْعُرَنِيِّينَ مَعَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي عُقُوبَتِهِمْ حَتَّى سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ. (قَالَ) وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْلُبَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ يَطْعَنُ تَحْتَ ثَنْدُوَتِهِمْ الْأَيْسَرِ لِيَمُوتُوا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا صَلَبَهُمْ أَحْيَاءَ لَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ فَبِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِي قَتْلِهِمْ ثُمَّ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاشْتِهَارِ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ يَتْرُكُهُمْ عَلَى الْخَشَبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُمْ كَذَلِكَ تَغَيَّرُوا وَتَأَذَّى بِهِمْ الْمَارَّةُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيُنْزِلُوهُمْ فَيَدْفِنُوهُمْ (قَالَ) وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُمْ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجِرَاحَاتِ فِي تَعَلُّقِ الْأَرْشِ وَالْقِصَاصِ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْجَبُوا أَتَمَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَعَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ يُقَامُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِسْقَاطُ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 وَيَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِمْ أَوْ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِمْ، فَأَمَّا مَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا عَفْوَ فِيهِ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ نَائِبٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ فِي الْعَفْوِ كَغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا «لَا يَنْبَغِي لِوَالِي حَدٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَقَامَهُ» ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَتْلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ مُتَحَتِّمٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ عَفْوُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتْلٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَتْلِ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ يَكُونُ قِصَاصًا إلَّا أَنَّهُ تَأَكَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِسْقَاطُ كَالْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ثُمَّ الْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ الْقَتْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ هَذَا الْقَتْلِ مَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَمَا يَجِبُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ خِزْيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى (قَالَ) فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُحَارِبٌ، وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى يَسْتَوِي بِالْحُرِّ، فَكَذَلِكَ فِي الْكُبْرَى، وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَتْلٌ وَقَطْعٌ، وَفِي الْقَطْعِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالسَّرِقَةِ، وَفِي الْقَتْلِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالرَّجْمِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُحَارَبَةُ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ بِهِمْ وَالْمَرْأَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَتْ بِمُحَارِبَةٍ كَالصَّبِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَأَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ ثُمَّ يُسَاوِيهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحَدِّ، وَفِي الصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الرِّجَالِ الطَّرِيقَ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ فَبَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقَتْلَ وَأَخَذَتْ الْمَالَ دُونَ الرِّجَالِ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَامُ عَلَيْهَا، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُدْرَأُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 عَنْهُمْ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِيهِمْ وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ فِيهِمْ كَالصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَا يُقَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الرِّدْءُ تَبَعٌ لِلْمُبَاشِرِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالرِّجَالُ لَا يَصْلُحُونَ تَبَعًا لِلنِّسَاءِ فِي التَّنَاصُرِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِمَا جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الرِّجَالِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا الْفِعْلُ مِنْهَا بِقُوَّتِهِمْ، فَإِنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِدُونِ الرِّجَالِ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا مَعْنًى فِيهَا لَا فِي فِعْلِهَا، وَهُوَ أَنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصِحُّ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْفِعْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ (قَالَ) وَالْمُبَاشِرُ وَغَيْرُ الْمُبَاشِرِ فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْفِعْلَ كَحَدِّ الزِّنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَفِي حَقِّ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَأْخُذُوا. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحَارَبَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ كَاسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْغَنِيمَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا مُبَاشِرُونَ السَّبَبَ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا جَمِيعًا بِالْقِتَالِ خَفِيَ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ لِكَثْرَةِ الزَّحْمَةِ، وَلَا يَسْتَقِرُّونَ إنْ زَلَّتْ قَدَمُهُمْ فَانْهَزَمُوا، فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ رِدْءًا لَهُمْ الْتَجَئُوا إلَيْهِمْ وَتَنْكَسِرُ شَوْكَةُ الْخُصُومِ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَتَوَلَّى أَخْذَ الْمَالِ الْأَصَاغِرُ مِنْهُمْ وَالْأَكَابِرُ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ يَكُونُ بِهِمْ جَمِيعًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ مُبَاشِرُونَ لِلسَّبَبِ، فَأَمَّا أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلُ شَرْطٌ فِيهِ وَإِذَا صَارَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا بِقُوَّتِهِمْ وَبَاشَرُوا السَّبَبَ بِأَجْمَعِهِمْ قُلْنَا: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ (قَالَ) وَإِنْ أَصَابُوا الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَلَمْ يُقَتَّلُوا؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا أَخْذَ الْمَالِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ جَزَاؤُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ (قَالَ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا طُلِبُوا إلَى أَنْ يُوجَدُوا أَوْ يَنْقَطِعَ أَذَاهُمْ وَيَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ مِنْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ، وَذَلِكَ نَفْيُهُمْ مِنْ الْأَرْضِ فِي تَأْوِيلِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ قَتَلُوا، وَلَمْ يُصِيبُوا مَالًا قُتِلُوا، وَلَمْ تُقْطَعْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ أَخْذِ الْمَالِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ (قَالَ) فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ثُمَّ تَابُوا فَرَدُّوا الْمَالَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ الْإِمَامَ لَمْ يَقْطَعْهُمْ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ تَوْبَتِهِ فِي رَدِّ الْمَالِ لِيَنْقَطِعَ بِهِ خُصُومَةُ صَاحِبِ الْمَالِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ إلَّا بِخُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْجَرِيمَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُمْ أَوْ يُصَالِحُونَهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي التَّوْبَةِ إنَّمَا يَسْقُطُ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَلِأَوْلِيَائِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]، وَقَدْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ مُتَقَرِّرًا مِمَّنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ حَدًّا كَانَ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ الْقَوَدِ، فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ زَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْقَوَدِ وَالْقَوَدُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ دُونَ الرِّدْءِ (قَالَ) وَلِلْوَلِيِّ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِوَلِيِّ الْقَتْلِ أَتَعْفُو فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَقْتُلُ فَقَالَ نَعَمْ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَاشَرَ مِنْهُمْ الْجِرَاحَاتِ فَفِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ بِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْجِرَاحَاتِ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَالَ سَقَطَ حُكْمُ التَّضْمِينِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقَطْعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ ظَهَرَ حُكْمُ التَّضْمِينِ (قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا حُبِسُوا حَتَّى يَتُوبُوا بَعْدَ مَا يُعَزَّرُونَ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ عُوقِبُوا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِمَا فِي التَّعْزِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] يَعْنِي يُحْبَسُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرَادَ الطَّلَبُ لِيَهْرُبُوا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فَالْأَخْذُ بِمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُطَالَبُونَ بِمُوجَبِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ أَرْشٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْجِرَاحَاتِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ تَابُوا، وَفِيهِمْ عَبْدٌ قَدْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ دَفَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ فَدَاهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَبْقَى حُكْمُ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 وَالنِّسَاءِ فِي الْأَطْرَافِ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَمْدًا لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ فِي مَالِهَا (قَالَ) وَإِذَا أَخَذَهُمْ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا، وَقَدْ أَصَابُوا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْمَالِ الْمُصَابِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ قَطْعَ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهَا هُنَا الْمُسْتَحَقُّ قَطْعُ عُضْوَيْنِ، وَلَا يُقْطَعُ عُضْوَانِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا حَدٌّ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي مَالًا خَطِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ خَطِيرٌ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ إقَامَةُ الْحَدِّ، كَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ تَغَلُّظُ الْحَدِّ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ تَغَلُّظِ فِعْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ فَفِي النِّصَابِ هَذَا الْحَدُّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَكَذَا مَذْهَبُهُ فِي الصُّغْرَى، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا كَامِلًا سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَاحِدُ أَوْ الْجَمَاعَةُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطِيرًا فِي نَفْسِهِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ فِي نَفْسِهِ تَافِهًا ثُمَّ يَضْمَنُونَ الْمَالَ إذَا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَالْأَمْرُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَغَيْرِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ شَاءُوا اسْتَوْفَوْا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا لَا قِصَاصًا وَالرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذُوا مَعَ الْقَتْلِ مَالًا يَبْلُغُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا إمَّا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَمَا يُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَكِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَخْذَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقَتْلِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَهُمْ لَمْ يَكُنْ الْمَالَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَتْلَ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ قَتْلًا بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمْ كَانَ أَخْذَ الْمَالِ وَأَنَّ إقْدَامَهُمْ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا دُونَ النِّصَابِ، فَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَيَبْقَى حُكْمُ الْقِصَاصِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى قَوْمٍ مُسَافِرِينَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَأُخِذُوا بِرَدِّ الْمَالِ وَأُدِيرُوا وَحُبِسُوا وَالْأَمْرُ فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ جُرِحَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ وَجَرِيمَتُهُمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَغْلَظُ مِنْ جَرِيمَتِهِمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ تَغَلُّظَ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَالَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ، وَهَذَا فِي الْمِصْرِ أَظْهَرُ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَدُّ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْمِصْرِ، وَفِي الْمَفَازَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنْ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ لَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَ الْقُرَى فَالنَّاسُ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّطَرُّقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَعْدَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمَفَازَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَسِيرُ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَمِدًا عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالنَّاسِ عَادَةً، وَهُوَ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ بِالتَّطَرُّقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِهِ مَعْنَى النُّقْصَانِ فِي فِعْلِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مُحَارَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُخْتَلِسِ مِنْ السَّارِقِ فِي أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا جَاهَرَ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمِصْرِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَثَبَتَ مَعَ ذَلِكَ تَمَكُّنُ دَفْعِ الْقَاصِدِ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى نَادِرٍ، وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ كَانَ يَنْدُرُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعُمْرَانِ وَاتِّصَالِ عُمْرَانِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ هَذِهِ الْعَادَةَ وَهِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ فِي الْأَمْصَارِ فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي الْأَمْصَارِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ قَصَدَهُ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْقُرَى بِالسِّلَاحِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ قَصَدَهُ بِالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ يُقَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ، فَأَمَّا الْخَشَبُ وَالْحَجَرُ لَا يَكُونُ مِثْلَ السِّلَاحِ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَوْثَ يَلْحَقُ بِالنَّهَارِ فِي الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي اللَّيْلِ الْغَوْثُ يُبْطِئُ فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ وَيَخْرُجُوا قَدْ أَتَى عَلَيْهِ، فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ (قَالَ) وَإِنْ بَيَّتُوا عَلَى مُسَافِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي غَيْرِ مِصْرٍ، وَلَا فِي مَدِينَةٍ فَكَابَرُوهُمْ وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِينَ قَطَعُوا الطَّرِيقَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلُوا فِي مَشْيِهِمْ أَوْ فِي حَالِ نُزُولِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ نَزَلَ الْمُسَافِرُونَ مَنْزِلًا فِي قَرْيَةٍ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْقَرْيَةَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُغِيثُ الْبَعْضَ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ أَغَارَ بَعْضُ النَّازِلِينَ فِي الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَعْضِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، فَإِنْ نَزَلَ رَجُلٌ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي فُسْطَاطٍ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ وَضَمَّ إلَيْهِ مَتَاعَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَسَرَقَ مِنْ فُسْطَاطِهِ أَوْ بَيْتِهِ شَيْئًا فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي السَّارِقِ فِي الْمِصْرِ (قَالَ) وَمَا قَتَلَ بِهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ عِصِيٍّ أَوْ سَوْطٍ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَنْبَنِي عَلَى الْمُحَارَبَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِالْغَنِيمَةِ وَثُبُوتِ صِفَةِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ الْعَمْدِيَّةَ وَالْمُمَاثَلَةَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ (قَالَ) وَإِذَا أَخَذَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ وَيَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةٌ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ لِمَا بَيَّنَّا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي السَّرِقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاسْتِهْلَاكِ الْحُكْمِيِّ أَوْ شُبْهَةِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ إتْلَافَهُ حَقِيقَةً قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لِشَلَلٍ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعَ هَذَا الْقَطْعِ جَزَاءُ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُسْتَوْفَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُتْلِفًا لَهُ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ؟ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ حُكْمًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ إتْلَافًا ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ إتْلَافًا مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْيُمْنَى مِنْهُ مَقْطُوعَةً قُطِعَتْ الرِّجْلُ الْيُسْرَى وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ، وَإِنْ كَانَ أَشَلَّ الْيُمْنَى قَطَعَهَا مَعَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (قَالَ)، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْقُطَّاعِ أَوْ شَرِيكٌ لَهُ مُفَاوِضٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِلشُّبْهَةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ لِلشَّرِكَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ شَرِكَةٌ لِلْجَمِيعِ وَلِلشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ؛ لِأَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فِي حُكْمِ الْعُقُوبَةِ، كَمَالِهِ فَشَرِكَتُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ أَحَدِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ، فَأَمَّا إذَا أَخَذُوا مَعَ ذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ يَلْزَمُهُمْ الْقِطَاعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَالِ، كَمَا لَوْ سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالًا وَمِنْ حِرْزِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَاكَ فِي الْحِرْزِ. وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِرْزِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حَافِظٌ لِمَالِهِ مُحْرِزٌ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَالَ جَمِيعِ الْقَافِلَةِ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا أَخْذَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي حَقِّهِمْ، فَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي جَمِيعِهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ثُمَّ مِنْ حِرْزٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ هُنَاكَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ ثُمَّ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ أَجَانِبَ وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْقَتْلِ حَتَّى لَوْ قَتَلُوا أَحَدَهُمْ يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْقَتْلِ (قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمْ بِمُعَايَنَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِالْقَطْعِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ، وَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْنَا وَعَلَى أَصْحَابِنَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَأَخَذُوا الْمَالَ مِنَّا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى وَالِدِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ خُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَفِيمَا كَانَ الْخَصْمُ أَبَ الشَّاهِدِ أَوْ ابْنَ الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِأَبِيهِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ أَوْ لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ إلَّا إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى خُصُومَةِ الْخَصْمِ (قَالَ) فَإِنْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى تُجَّارٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يُمْضِ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا السَّبَبَ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ، وَفِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ إذَا كَانُوا فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ يَدُهُ (قَالَ) وَإِذَا رُفِعَ قَوْمٌ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إلَى الْقَاضِي فَرَأَى تَضْمِينَهُمْ الْمَالَ وَسَلَّمَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَوَدِ فَصَالِحُوهُمْ عَلَى الدِّيَاتِ ثُمَّ رُفِعُوا بَعْدَ زَمَانٍ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إمَّا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ أَوْ لِانْعِدَامِ الْخَصْمِ، وَقَدْ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُمْ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لِقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِمْ بِمَا قَضَى، فَإِنَّ ذَلِكَ نَافِذٌ لِحُصُولِهِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبُ الْقَوَدِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ (قَالَ) وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَحُبِسُوا لِذَلِكَ فَذَهَبَ رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَلَّ دَمَهُمْ حِينَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ، وَمَنْ قَتَلَ حَلَالَ الدَّمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ سُقُوطَ حُرْمَةِ أَطْرَافِهِ ضَرُورَةً وَيَتِمُّ بَقِيَّةُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَإِنْ افْتَاتَ فِيهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَدِّ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ حِينَ قُدِّمَ إلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا عِصْمَةَ فِي طَرَفِهِ، وَلِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيمَا صَنَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَدَّادِ [أَقَرَّ الْقَاطِعُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَرَّةً وَاحِدَةً] (قَالَ)، وَإِذَا أَقَرَّ الْقَاطِعُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَرَّةً وَاحِدَةً أُخِذَ بِالْحَدِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَمَا فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَأُخِذَ بِالْمَالِ وَالْقَوَدِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ بَاطِلٌ (قَالَ) وَإِذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَخَذَ الْمَالَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ زَمَانًا لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُقَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَزِمَهُ بِارْتِكَابِ سَبَبِهِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِتَوْبَتِهِ وَتَحَوُّلِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ قَطَعَ الطَّرِيقَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَتَابَ فَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَرَكَ وَتَحَوَّلَ عَنْهُ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ (قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحَدُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ فِي مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ قَائِمٌ، وَهُوَ كَوْنُ مَالِكِهِ حَرْبِيًّا، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ الْمَالَ وَدِيَةَ الْقَتْلَى لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ بِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا مُسْقِطٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يُوجَعُونَ عُقُوبَةً لِتَخْوِيفِهِمْ النَّاسَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، كَمَا إذَا لَمْ يُصِيبُوا مَالًا، وَلَا نَفْسًا (قَالَ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَمُسْتَأْمَنُونَ أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَقَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَاصَّةً فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْقَافِلَةِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ الْحَدِّ كَمَالِهِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي فِعْلِهِمْ، فَأَمَّا مَالُ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَيْسَ كَمَالِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالِهِمْ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْتَأْمَنَيْنِ بِشَيْءٍ (قَالَ) وَإِذَا أَحْرَمَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ حِينَ يَأْتِي بِهِ الْإِمَامُ لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَوْ اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ، وَهَذَا الْحَدُّ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْحُدُودِ حُكْمًا، وَكَمَا أَنَّ إحْرَامَهُ وَإِسْلَامَهُ لَا يَمْنَعُ إقَامَةَ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدُّ (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَهُ رَجُلٌ فِي حَبْسِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَا صَنَعَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَالتَّقَوُّمَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِحِلِّ دَمِهِ، فَإِنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَةً فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِحِلِّ دَمِهِ بَعْدَ مَا قَتَلَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَوُجُودِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ كَعَدَمِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الَّذِي قَتَلَهُ هَذَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبِ الْمُوجِبَ لِلْقَوَدِ قَدْ تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُهُ إذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ حَدًّا، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْوَلِيُّ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 [كِتَابُ السِّيَرِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ السِّيَرِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنَّ السِّيَرَ جَمْعُ سِيرَةٍ وَبِهِ سُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ سِيرَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَعَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ بِالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ الَّذِينَ حَالُهُمْ دُونَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَفِي التَّأْوِيلِ مُبْطِلِينَ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ دُعَاؤُهُمْ إلَى الدِّينِ وَقِتَالُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ صِفَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهَا كَانُوا خَيْرَ الْأُمَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةُ وَرَأْسُ الْمَعْرُوفِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ دَاعِيًا إلَيْهِ وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ الشِّرْكُ فَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ لِمَا فِيهِ إنْكَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا فِي الِابْتِدَاءِ بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ فَقَالَ تَعَالَى {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلَمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ثُمَّ أَمَرَ بِالْبِدَايَةِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فَرْضٌ قَائِمٌ إلَى قِيَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 السَّاعَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدْيِ السَّاعَةِ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَالذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَتَفْسِيرُهُ مَنْقُولٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعَةِ سُيُوفٍ سَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ بِنَفْسِهِ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَجُوسَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ قَالَ «أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ثُمَّ فَرِيضَةُ الْجِهَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَيْنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وَقَالَ تَعَالَى {مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] إلَى قَوْلِهِ {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] وَنَوْعٌ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازُ الدِّين لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ فَرْضًا فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِذَا اشْتَغَلَ الْكُلُّ بِالْجِهَادِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَارَةً يَخْرُجُ وَتَارَةً يَبْعَثُ غَيْرَهُ حَتَّى قَالَ وَدِدْتُ أَنْ لَا تَخْرُجَ سَرِيَّةٌ أَوْ جَيْشٌ إلَّا وَأَنَا مَعَهُمْ وَلَكِنْ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِّي وَلَوَدِدْتُ أَنْ أُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى أُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَصِفَةَ الشَّهَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ بِأَعْلَى النِّهَايَةِ حَتَّى تَمَنَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ دَرَجَةِ الرِّسَالَةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَالصَّائِمِ الْقَائِمِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ الشَّاهِدِ» وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَالْآثَارُ فِي فَضِيلَةِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ " وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَامَ الدِّينِ " وَعَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثَ الْجُيُوشَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 وَالسَّرَايَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَثِقُ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] فَإِذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ بِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُهُمْ وَتَتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ وَبِذَلِكَ يُنْصَرُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] وَإِنَّمَا يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَكُونُ صَالِحًا لِذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرِعًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ سَخِيًّا شُجَاعًا وَيُحْكَى عَنْ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: اجْتَمَعَ عُظَمَاءُ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ قَائِدَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ الْبَهَائِمِ شَجَاعَةٌ كَشَجَاعَةِ الدِّيكِ وَتَحَنُّنٌ كَتَحَنُّنِ الدَّجَاجَةِ وَقَلْبٌ كَقَلْبِ الْأَسَدِ وَرَوَغَانٌ كَرَوَغَانِ الثَّعْلَبِ أَيْ صَاحِبُ مَكْرٍ وَحِيلَةٍ وَغَارَةٌ كَغَارَةِ الذِّئْبِ وَحَذَرٌ كَحَذَرِ الْغُرَابِ وَحِرْصٌ كَحِرْصِ الْكُرْكِيِّ وَصَبْرٌ عَلَى الْجِرَاحِ كَالْكَلْبِ وَحَمْلَةٌ كَالْجَبْهَةِ وَسِمَنٌ كَمَا يَكُونُ لِدَابَّةٍ بِخُرَاسَانَ لَا تَهْزِلُ بِحَالٍ وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِهِمْ كَمَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ. وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ» فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ فَالسَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ وَالْجَيْشُ هُوَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَجِيشُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَر أَلْفًا عَنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً» وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ بِالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ تَحْتَ أَمْرِهِ وَوِلَايَتِهِ فَيُوصِيهِ بِهِمْ وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْوَصِيَّةِ بَيَانٌ أَنَّ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْإِمَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنَّمَا يُوصِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِالتَّقْوَى يَنَالُ النُّصْرَةَ وَالْمَدَدَ مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 125] وَبِالتَّقْوَى يَجْتَمِعُ لِلْمَرْءِ مَصَالِحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرِعُ» وَقَالَ: «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ سِرًّا حَتَّى لَا يَقِفَ عَلَى جَمِيعِ مَا يُوصِيهِ بِهِ غَيْرُهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُوصِيهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَنَفْسُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 إلَيْهِ أَقْرَبُ فَكَأَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنْ الْمَهَالِكِ وَحِفْظِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَرْضَى لَهُمْ إلَّا بِمَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّأَلُّفُ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ ثُمَّ قَالَ: «اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ» أَيْ: اُخْرُجُوا وَاقْصِدُوا، وَالْغَزْوُ: الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ كَانُوا غُزًّى} [آل عمران: 156] وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْطَعُ» قَالَ: «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَيْ لِيَكُنْ خُرُوجُكُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِطَلَبِ الْمَالِ فَالْمُجَاهِدُ يَبْذُلُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فَإِنَّمَا يَرْبَحُ عَلَى عَمَلِهِ إذَا قَصَدَ بِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَهُوَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. ثُمَّ قَالَ: «قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ» فِيهِ دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ الْقِتَالِ وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَدَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ وَهَذَا عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَالْمُرَادُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُقَاتِلِينَ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ثُمَّ قَالَ «وَلَا تَغُلُّوا» وَالْغُلُولُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَيُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِهِ وَكُلُّ مَا انْتَهَى إلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ يَرْجِعُ فِي قَعْرِهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْغُلُولُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ» «وَالْأَسْوَدُ الَّذِي كَانَ يُرْحِلُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرِبٌ فَمَاتَ قَالَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَلًّا فَإِنَّ الْعَبَاءَةَ الَّتِي غَلَّهَا مِنْ الْمَغْنَمِ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَالْغُلُولُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: «وَلَا تَغْدِرُوا» وَالْغَدْرُ الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ يُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتُبُ فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ» قَالَ: «وَلَا تُمَثِّلُوا» وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ كَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا خَطِيبًا بَعْدَ مَا مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ إلَّا وَيَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَخُطْبَةٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ فِيهِ قَالَ: «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» وَالْوَلِيدُ الْمَوْلُودُ فِي اللُّغَةِ وَكُلُّ آدَمِيٍّ مَوْلُودٌ وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّغَارِ عَادَةً فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ الصِّغَارِ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شُرُوخَهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الْبَالِغِينَ وَبِالشُّرُوخِ الْأَتْبَاعُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءُ الِاسْتِرْقَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر: 25] وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: لَا تَقْتُلْ شَيْخًا ضَرِعًا وَلَا صَبِيًّا ضَعِيفًا يَعْنِي شَيْخًا فَانِيًا وَصَغِيرًا لَا يُقَاتِلُ. قَالَ: «وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ أَنْ يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَرُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لُصُوصٌ قَصَدُوا أَمْوَالَهُمْ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ رُبَّمَا أَجَابُوا وَانْقَادُوا لِلْحَقِّ فَلِهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَالْجِدُّ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْذَارِ رُبَّمَا يَنْفَعُ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ وَعَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ إلَى الْقِتَالِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ» وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ وَبَيَّتُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَلَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ رُبَّمَا تَحَصَّنُوا فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا» وَفِي رِوَايَةٍ «ابْنَانِ صَبَاحًا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]. (قَالَ): اُدْعُوهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دِيَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَهَذَا فِي وَقْتٍ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي قَبِيلَتِهِ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَيَنْضَمَّ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الْآيَةَ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَإِنَّمَا هُوَ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ» قَالَ: «فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِلَّا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 وَهَذَا كَانَ الْحُكْمَ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْلِمُوهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِالْتِزَامِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ لِدِينِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمُصَابِ بِالْقِتَالِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَالْفَيْءُ اسْمٌ لِلْمُصَابِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] الْآيَةُ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَالْمُرَادُ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] أَيْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ يَجِبُ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ أَصْلُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وَبِقَبُولِ ذَلِكَ يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيُدْعَوْنَ إلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْقَبُولُ وَالِالْتِزَامُ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْزَالُ الْمُحَاصَرِينَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَاَلَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا لَا يَدْرُونَ مَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ وَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُشْرِكِينَ الدُّعَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ إنْ أَجَابُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَإِنْ أَبَوْا فَالدُّعَاءُ إلَى الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَبَوْا فَقَتْلُ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْمٍ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي قَوْمٍ مَحْصُورِينَ مُمْتَنِعِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَدْرِي أَنَّ الْحُكْمَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَكَانَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ بِالِاجْتِهَادِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 لَا مَحَالَةَ. (فَإِنْ قِيلَ): فَقَدْ قَالَ: أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ. (قُلْنَا): نَعَمْ، نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ وَهُوَ آتٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ بِاجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحُكْمُنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ ذَلِكَ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَهَذَا فَائِدَةُ هَذَا اللَّفْظِ. (قَالَ): وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ أُعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْعَهْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] أَيْ عَهْدًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مَحِلُّ الِالْتِزَامِ مِنْ الْآدَمِيِّ ذِمَّةٌ وَالِالْتِزَامُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ عَهْدَ اللَّهِ وَلَا عَهْدَ رَسُولِهِ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَعَهْدِ رَسُولِهِ لَا يَحِلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ يَعْنِي: عَهْدَكُمْ وَعَهْدَ آبَائِكُمْ مِنْ الْمُمَالَحَةِ وَالصُّحْبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْحُرْمَةَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ أَيْ تَنْقُضُوا يُقَالُ: أَخْفَرَ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَخَفَرَ أَيْ عَاهَدَ وَمِنْهُ الْخَفِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَسِيرُ النَّاسُ فِي أَمَانِهِ سُمِّيَ خَفِيرًا لِلْمُعَاهَدَةِ مَعَ الَّذِينَ فِي أَمَانِهِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ فِي أَنْ لَا يَقْصِدُوا مَنْ كَانَ فِي أَمَانِهِ وَهَذَا بَيَانُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ سَهْمٌ وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمُرَادُهُ بَيَانُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ وَمِفْتَاحُ الْكَلَامِ وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: الْغَنِيمَةُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهَا وَإِلَى عِمَارَةِ الْجَامِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ هِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا السَّهْمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 الْبِقَاعِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ خَالِصًا وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِلِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِتَشْرِيفِ هَذَا الْمَالِ لِأَنَّ إضَافَةَ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ لِمَعْنَى التَّشْرِيفِ كَالْمَسَاجِدِ وَالنَّاقَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَأَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَيَاتِهِ وَسَقَطَ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ بَاقٍ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ خَلِيفَةٍ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ السَّهْمَ فِي حَيَاتِهِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي جَوَائِزِ الْوُفُودِ وَالرُّسُلِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَللَّهِ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» وَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ مُحْتَاجٌ إلَى مِثْلِ مَا كَانَ هُوَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيُصْرَفُ هَذَا السَّهْمُ إلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ لَمْ يَرْفَعُوا هَذَا السَّهْمَ لِأَنْفُسِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِدَرَجَةِ الرِّسَالَةِ لَا بِالْقِيَامِ بِأُمُورِ النَّاسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَمَّا اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِيَفْرِضُوا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْرَ كِفَايَتِهِ لَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ ثَلَاثُ حُظُوظٍ خُمُسُ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ وَالسَّهْمُ ثُمَّ الْخَلِيفَةُ لَا يُقَامُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّفِيِّ فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ نَفِيسٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَارِيَةٍ. كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ» وَكَانَ سَيْفًا لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ لِرَأْسِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُصُولُ فَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ وَهُمْ صُلْبِيَّةُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ» وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ يُجْمَعُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا سَقَطَ بِمَوْتِهِ هَذَا السَّهْمُ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَالطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ سَقَطَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَذَا السَّهْمُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَرَابَةِ بَلْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ» وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِمْ سَهْمًا فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ أَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ وَأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ بِخِلَافِ سَهْمِ الْيَتَامَى فَفِي اسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ لِفُقَرَائِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا كُلُّ عَبْدٍ يَتَّجِرُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لِقَرَابَتِهِ وَسَهْمًا لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَكَانَتْ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهَا» فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقِيَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَمَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَبَيْنَ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ تَتَدَاوَلُهُ أَيْدِيهِمْ وَاسْمُ ذَوِي الْقُرْبَيْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فَيَخُصُّهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ. وَمَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا قَالَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَيَانُ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا بَيَانُ وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَكَانَ هَذَا مُشْكِلًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِبَيَانِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا لِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ هَذَا النَّصُّ وَلَا أَنَّهُمْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَعَرَفْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الِاسْتِحْقَاقُ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا إجْمَاعَ وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يَتَحَرَّزُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً. وَإِنَّمَا كَرِهَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذِهِ الْمُخَالِفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ لِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْعَبَّاسُ: كَبِرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي وَرَكِبَتْنِي الْمُؤَنُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِكَذَا وَسْقًا مِنْ طَعَامٍ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانِي مِنْكَ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِمِثْلِ مَا أَمَرْتَ بِهِ لِعَمِّكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضًا فَكُنْتَ أَزْرَعُهَا وَأَعِيشُ بِهَا ثُمَّ أَخَذْتَهَا مِنِّي فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهَا عَلَيَّ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا: إنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي الْقِسْمَةَ فِيمَا هُوَ حَقُّنَا كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: هَلَّا سَأَلْتَ كَمَا سَأَلَ ابْنُ أَخِيكَ فَقَالَ: إلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ مَسْأَلَتِي. فَكُنْتُ أُقَسِّمُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَتَّى أَتَاهُ مَالٌ عَظِيمٌ فَدَعَانِي لِآخُذَ مَا كُنْتُ آخُذُهُ وَأُقَسِّمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ فَقُلْتُ لَهُ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ فَاصْرِفْهُ إلَيْهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي الْعَبَّاسُ: لَقَدْ حُرِمْنَا الْيَوْمَ شَيْئًا لَا يَعُودُ إلَيْنَا أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا فَكَانَ كَمَا قَالَ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلِمَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ لِلْحَاجَةِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ حِينَ رَدَّ بِقَوْلِهِ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ الْخُمُسِ أَيِّمَنَا وَأَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَنْ مَغْرَمِنَا فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ السَّهْمِ لَهُمْ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ إلَى نَجْدَةَ وَكَتَبْتَ إلَى أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنَّا لَنَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا وَيَأْبَى عَلَيْنَا ذَلِكَ غَيْرُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فِي هَذَا كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْعَوْلِ وَغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا لِنَتَوَلَّى صَرْفَهُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنَّا لَا لِنَصْرِفَهُ إلَى أَنْفُسِنَا وَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُعْرَفُ بِمَنْعِ الْحَقِّ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بَلْ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرَ فَالْحَقُّ مَعَهُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَسَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 فَكَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَا نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي النَّسَبِ إلَيْك سَوَاءٌ فَأَعْطَيْتَهُمْ دُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا لَمْ نَزَلْ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَا: لَا يُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَإِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ إلَيْك فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَمْ نَزَلْ مَعَهُمْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَاعْتِمَادُنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبَى قُرْبُ النُّصْرَةِ حِينَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ هَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ أَوْلَادِ هَاشِمٍ فَإِنَّهُ مُحَمَّدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَكَانَتْ بَنُو هَاشِمٍ أَوْلَادَ جَدِّهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ كَانَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَوَلَدُ جَدِّ الْإِنْسَانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِ أَخِ جَدِّهِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ فَأَمَّا بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا مَعَ بَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ أُسْوَةٌ. وَقِيلَ: بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ نَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ كَانَا أَخَوَيْ هَاشِمٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْمُطَّلِبُ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلِذَلِكَ سَأَلَاهُ ثُمَّ أَزَالَ إشْكَالَهُمَا بِبَيَانِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّهُ النُّصْرَةُ دُونَ الْقَرَابَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نُصْرَةَ الْقِتَالِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ نُصْرَةَ الِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ لِلْمُؤَانَسَةِ فِي حَالِ مَا هَجَرَهُ النَّاسُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرَأَتْ قُرَيْشٌ آثَارَ الْخَيْرِ فِيهِمْ حَسَدُوهُمْ وَتَعَاقَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوا بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ حَتَّى يَدْفَعُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَقْتُلُوهُ وَتَعَاقَدَ بَنُو هَاشِمٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَدَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ فِي عَهْدِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى دَخَلُوا مَعَهُمْ الشِّعْبَ فَكَانُوا فِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ مِنْ جَهْدِ الْقِصَّةِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّا لَمْ نَزَلِ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا» وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتِلْكَ النُّصْرَةِ وَلَا تَبْقَى تِلْكَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ لَا لِلِانْتِسَاخِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى تِلْكَ النُّصْرَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَافِئُ كُلَّ مَنْ نَصَرَهُ يَوْمًا حَتَّى قَالَ يَوْمًا لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ الْأَسَارَى: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا لَوَهَبْت هَؤُلَاءِ السَّبْيِ مِنْهُ» مُجَازَاةً لَهُ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَدْ كَانَ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَلَكِنَّهُ قَامَ بِنُصْرَتِهِ يَوْمًا وَفِيهِ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْ نَقُولُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَبِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ وَمَا كَانَ يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحَيٌّ يُوحَى فَصَارَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ الْقَرَابَةُ وَالنُّصْرَةُ وَانْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا انْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ وَتَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالنُّصْرَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَالُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِنَفْسِ الْقَرَابَةِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّجُلِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ. فَأَمَّا مَالُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ وَلِأَنَّ دَرَجَةَ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مَعْنَى لِمَا يَقُولُ الْخَصْمُ أَنَّ هَذَا السَّهْمَ لَهُمْ عِوَضٌ عَنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا سَهْمًا مِنْ الْخُمُسِ» وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ لِكَرَامَتِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِمْ نُقْصَانٌ يُحْتَاجُ إلَى جَبْرِهِ بِالتَّعْوِيضِ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا السَّهْمُ عِوَضًا مِنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى نَحْوِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لِلصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَذَا السَّهْمُ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَأَيَّدَ جَمِيعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 مَا قُلْنَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ فِي حَيَاتِي وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِي» وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فَقَدْ تَأَكَّدَ بِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْ الْخُمُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُصْرَفُ مِنْ الْخُمُسِ إلَى ذَوِي الْقُرْبَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَرَأَوْا أَنْ يُجْعَلَ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لِلنُّصْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَصْرِفَهُ آلَةَ النُّصْرَةِ وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ، وَقَوْلُهُ وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ: ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ أَيِّمَنَا وَيَقْضِيَ مِنْهُ عَنْ مُغْرَمِنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْغُزَاةُ أَيْ يُعْطِي مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى مُحْتَاجٍ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ وَقَوْلُهُ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ لَا يَصْرِفُهُ فِي وَقْتِهِ يَعْنِي كَثْرَةَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ فَمَعَ كَثْرَةِ الْمَالِ لَا يَصِلُ إلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَالِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا فِي الْمَغْنَمِ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شِئْت» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَهَا فَخَاصَمَ فِيهَا مَالِكُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ شِئْت أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ» وَفِي الْحَدِيثَيْنِ حُجَّةٌ لَنَا أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْرَازِ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَمْلِكُوا لَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَالِكِ مَجَّانًا بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكُفَّارِ مَالَهُمْ لَا مَالَ الْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَمْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ مَالَهُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَعَلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمِلْكُ فِيهِ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّ الْغُزَاةِ فَكَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الظُّلْمُ عَنْ صَاحِبِهِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ قَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلِمُرَاعَاةِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا: تُعَادُ إلَيْهِ الْعَيْنُ بِالْقِيمَةِ لِيَصِلَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ وَيَصِلَ الْآخَرُ إلَى حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَدَلِيلُ أَنَّ حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ بَيْعَ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَمُرَادُهُ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةُ فَالْقِيمَةُ ثَمَنُ التَّعْدِيلِ وَالْمُسَمَّى ثَمَنُ التَّرَاضِي وَلِهَذَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِيمَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُنْظَرُ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ فِي إعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ أَهْلَ السَّوَادِ ذِمَّةً الْمُرَادُ سَوَادُ الْعِرَاقِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَقَهْرًا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهَا ذِمَّةً وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ افْتَتَحَ السَّوَادَ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي وَفِيهِ أَشْعَارٌ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْعَجَمِ رُسْتُمَ بْنَ فَرْخٍ هُرْمُزَانَ وَقُتِلَ فِي الْحَرْبِ وَأَنْشَدَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي حَمَيْت الذِّمَارَ ... وَأَبْقَيْت مَكْرُمَةً فِي الْأُمَمْ غَدَاةَ الْهَزِيمَةِ إذْ رُسْتُمُ ... يَسُوقُ الْفَوَارِسَ سَوْقَ النَّعَمْ رَمَانِي بِسَهْمٍ وَقَدْ نِلْتُهُ ... فَصَّك الرِّكَابَ بِبَطْنِ الْقَدَمْ وَأَضْرِبُ بِالسَّيْفِ يَافُوخَهُ ... فَكَانَتْ لَعَمْرِي فَتْحُ الْعَجَمْ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ قَدْ خَرَجَ بِهِ دَمَامِيلُ فَلَمْ يَحْضُرْ الْحَرْبَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصِمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُنْكِرُونَ فَتْحَ السَّوَادِ عَنْوَةً. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ: لَا أَدْرِي مَاذَا أَقُولُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلًا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إلَى عِلْمٍ وَهَذَا جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ مِنْ قَائِلِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمًا وَفَتْحُ السَّوَادِ عَنْوَةً وَقَهْرًا أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ وَرُبَّمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَلَّكَ الْأَرَاضِيَ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرَقَّهُمْ ثُمَّ تَرَكَهُمْ لِيَعْمَلُوا فِي أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 الضَّرِيبَةِ كَالْمَوْلَى يُسَاوِي عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُ وَرُبَّمَا يَقُولُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَتَمَلَّك الْأَرَاضِيَ ثُمَّ أَجَّرَهَا مِنْهُمْ وَالْخَرَاجُ الَّذِي جَعَلَ عَلَيْهِمْ أُجْرَةٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ جِزْيَتَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى وَقَدْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَوَارَثُونَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فِي رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ فِي أَرْضِهِمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ مِرَارًا ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَقَالَ: أَمَّا إنِّي تَلَوْت آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْنَيْت بِهَا عَنْكُمْ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلَى قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] هَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثُمَّ قَالَ أَرَى لِمَنْ بَعْدَكُمْ فِي هَذَا الْفَيْءِ نَصِيبًا وَلَوْ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَكُمْ نَصِيبٌ فَمَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْهُمْ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى خِلَافِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَيْ مَاتُوا جَمِيعًا. وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَسْأَلُهُ هَلْ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ سَهْمٌ؟ وَهَلْ كَانَتْ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَمَتَى يَجِبُ لِلصَّبِيِّ سَهْمٌ فِي الْمَغْنَمِ؟ وَعَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ الْحَدِيثُ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ بِالْكِتَابِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيهِمْ فَإِنَّ نَجْدَةَ كَانَ حَرُورِيًّا وَهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَسْأَلُونَ سُؤَالَ التَّعَمُّقِ فَكَانَ كَثِيرًا مَا يَكْتُبُ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى رُبَّمَا كَانَ يَضْجَرُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَيَقُولُ: لَا يَزَالُ يَأْتِينَا بِأُحْمُوقَةٍ مِنْ خَاطِرِهِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يُجِيبُهُ فِيمَا كَتَبَ إلَيْهِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْحُرِّ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِلْحُرِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا يُسَوَّى بَيْنَ الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ بِحَسْب جُرْأَتِهِ وَغَنَائِهِ وَكِفَايَتِهِ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ وَخُرُوجُ النِّسَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَشْهُورٌ فِي الْآثَارِ وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ مَعَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ قَاتَلَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ شَادَّةً عَلَى بَطْنِهَا وَكَانَتْ حَامِلًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ» يَعْنِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا نُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ الْفَرَّارِينَ كَمَا قَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ لَنَا» وَأُمُّ أَيْمَنَ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَبَعْضُ الْعَجَائِزِ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَسَقْيِ الْمَاءِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ مَعَ الْجَيْشِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ يُرْضَخُ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ أَتْبَاعٌ كَالْعَبِيدِ وَلِأَنَّهُنَّ عَاجِزَاتٌ عَنْ الْقِتَالِ بِنْيَةً وَالْعَبِيدُ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْمَوَالِي فَاسْتَوَيَا فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا يُرْضَخُ لِلْفَرِيقَيْنِ وَكَتَبَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلصَّبِيِّ فِي الْمَغْنَمِ حَتَّى يَحْلُمَ وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّهْمَ الْكَامِلَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ اسْمُهُ فِيمَنْ يُسْهَمُ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ وَبِهِ نَأْخُذُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي» وَلَكِنْ يُرْضَخُ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّبِيَّانِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ فَرَدَّهُ فَقِيلَ: إنَّهُ رَامٍ فَأَجَازَهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيَّانِ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا وَأَجَازَ لِآخَرَ فَقَالَ الْمَرْدُودُ: أَجَزْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ فَقَالَ: صَارِعْهُ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ فَأَجَازَهُمَا» وَالْمُرَادُ الْإِجَازَةُ فِي الْمُقَاتِلِينَ لِيُرْضَخَ لَهُمَا لَا لِيُسْهَمَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ السَّهْمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمُرَادُ: السَّهْمُ الْكَامِلُ، فَأَمَّا الرَّضْخُ ثَابِتٌ لَهُ إذَا قَاتَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ الْمُرَادُ الْآبِقُ الْخَارِجُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا لَا حَقَّ لَهُ بَلْ يُؤَدَّبُ عَلَى فِعْلِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ» وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِالسَّيْرِ شِعْبٌ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ وَالصَّفْرَاءُ مِنْ بَدْرٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ بَلْ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَسَّمَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى «طَلَبَ مِنْهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَضْرِبَ لَهُ فِيهَا بِسَهْمٍ فَفَعَلَ قَالَ: وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَجْرُك» وَكَانَ خَلَّفَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيَّةَ يُمَرِّضُهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ قَدِمَ عَلَيْنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بَشِيرًا بِفَتْحِ بَدْرٍ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ يَعْنِي التُّرَابَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 عَلَى قَبْرِهَا «وَسَأَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَضْرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَوَافَقَ قُدُومُهُ قِسْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ قَالَ: وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَجْرُك» وَتَكَلَّمُوا فِي ضَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا بِالسَّهْمِ وَلَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَذَكَر الْوَاقِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ضَرَبَ لِثَمَانِيَةِ نَفَرٍ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا بِالسَّهْمِ فَقِيلَ: إنَّمَا ضَرَبَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُمَرِّضَ ابْنَتَهُ وَكَانَتْ تَحْتَهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَرَاغُ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْتَحَقَ هُوَ بِمَنْ شَهِدَ بَدْرًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَعَدَ لَهُ الْأَجْرَ وَطَلْحَةُ كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَجَسَّسَ خَبَرَ الْعِيرِ فَكَانَ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ كَمَنْ شَهِدَ بَدْرًا وَقِيلَ: بَلْ كَانَ أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا كَالْمَدَدِ أَمَّا طَلْحَةُ فَقَدْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَازِمًا عَلَى اللُّحُوقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَالْمَدِينَةُ إنَّمَا كَانَ لَهَا حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ فَقَدْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ فِيهَا لِلْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ. وَقِيلَ: إنَّمَا أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ كَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مِنْ يَشَاءُ؛ أَمَّا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِمَنْعَةِ السَّمَاءِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَثُرَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِيهَا عَلَى مَا رُوِيَ «عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَاءَتْ أَخْلَاقُنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَحُرِمْنَا ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: كُنَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ فِرْقَةٌ كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِرْقَةٌ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ وَفِرْقَةٌ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ فَجَعَلَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ تَقُولُ: الْغَنِيمَةُ لَنَا فَارْتَفَعَتْ أَصَوْتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاكِتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]» فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِهَذَا أَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ الطَّائِفِ بِالْجِعْرَانَةِ» وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْجِعْرَانَةِ وَكَانَتْ حُدُودَ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْجِعْرَانَةُ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابَ طَالِبُوهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَقْسِمْ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا حَتَّى أَلْجَئُوهُ إلَى سُمْرَةَ وَجَذَبَ بَعْضُهُمْ رِدَاءَهُ فَتَخَرَّقَ فَقَالَ: اُتْرُكُوا لِي رِدَائِي فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِضَاهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 إبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونَنِي جَبَانًا وَلَا بَخِيلًا، فَمَعَ كَثْرَةِ مُطَالَبَتِهِمْ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (قَالَ) وَأَمَّا خَيْبَرُ فَإِنَّهُ افْتَتَحَ الْأَرْضَ وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَدِينَةِ وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا افْتَتَحَ بَلْدَةً وَصَيَّرَهَا دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا، وَقَدْ طَالَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَجْرَى أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَكَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِسْمَةُ فِيهَا كَالْقِسْمَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ): وَقَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ وَكَانَ قَدْ افْتَتَحَهَا يَعْنِي صَيَّرَهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ قَالَ: «مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَائِمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَّفِقَةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِكَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا يَوْمَ بَدْرٍ» وَإِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسَانِ وَسَبْعُونَ بَعِيرًا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَهَائِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْهَابَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْخَيْلِ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ قَالَ: السَّهْمُ الْوَاحِدُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ لِاتِّفَاقِ الْآثَارِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ الْآثَارِ فَلَا أُعْطِيَنَّهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنَ وَلَا أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ وَسَنُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي جَعْلِ الْقَاعِدِ لِلشَّاخِصِ: مَا جُعِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا صَنَعَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَاعُلِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْتَعِلَ مِنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَدُوا فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْجِهَادِ فَلَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ الْغَنِيمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِكَمْ اُسْتُؤْجِرَتْ قَالَ بِدِينَارَيْنِ قَالَ: إنَّمَا لَك دِينَارَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَنَقُولُ: الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَجُوزُ وَالتَّجَاعُلُ لَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 بِاسْتِئْجَارٍ وَلَكِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى السَّيْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَجِهَادٌ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُتَفَاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ بِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِصِحَّةِ بَدَنِهِ وَيَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ لِفَقْرِهِ وَالْآخَرُ يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَرَضٍ أَوْ آفَةٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ فَيُجَهِّزُ بِمَالِهِ مَنْ يَخْرُجُ فَيُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ مُجَاهِدًا بِالنَّفْسِ وَالْقَاعِدُ الْمُعْطِي الْمَالَ مُجَاهِدًا بِالْمَالِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِهَذَا كَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِقَابِضِ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ بِهِ وَذَلِكَ فِي اسْتِعْدَادِهِ لَهُ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَنَا إنْ قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَك فَاغْزُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ الْمَال ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْجِهَادِ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَإِنْ قَالَ اُغْزُ بِهَذَا الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَتَاعِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِهِ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَجِّ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُغْزِي الْعَزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ وَيُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ وَأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فَمِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ هَذَا أَنَّ ذَا الْحَلِيلَةِ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَلَا يُطِيلُ الْمَقَامَ فِي الثَّغْرِ وَالْعَزَبُ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ وَرَاءَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فَلِهَذَا كَانَ يَأْمُرُ الْعَزَبَ بِالْخُرُوجِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي الْأَعْزَبَ، وَكَانَ يُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ لِيَكُونَ صَاحِبُ الْفَرَسِ مَعَ زَوْجَتِهِ يَحْفَظُهَا، وَيَكُونُ مُجَاهِدًا بِفَرَسِهِ، وَالْخَارِجُ يَكُونُ مُجَاهِدًا بِبَدَنِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَى مَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يُجَهِّزُ الْغَازِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَإِنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَذُبُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يُجَهَّزْ الْجَيْشَ لِلدَّفْعِ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَأْخُذُونَ الْمَالَ وَالذَّرَارِيَ وَالنُّفُوسَ فَمِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَأْمَنُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ بَعْثًا عَلَى أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَفَعَ عَنْ جَرِيرٍ وَعَنْ وَلَدِهِ وَقَالَ جَرِيرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَجْعَلُ أَمْوَالَنَا لِلْغَازِي وَمَعْنَى ضَرْبِ الْبَعْثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 التَّحَكُّمُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ فَكَأَنَّهُ مَنَّ عَلَى جَرِيرٍ وَوَلَدِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَنْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانَ مُوَقَّرًا فِيهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَقِّرُهُ حَتَّى قَالَ جَرِيرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا نَظَرَ إلَيَّ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ فِي صَلَاتِهِ لَكِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَرِيرٌ هَذِهِ الْمِنَّةَ مِنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ فِي الْجِهَادِ بِالْمَالِ مَعْنَى الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤْمِنِ التَّوْقِيرَ بِكَوْنِهِ مُسْتَبِقًا إلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ قَالَ: لَا أُعْطِي الْمَالَ إلَيْك بَلْ أَدْفَعُ بِنَفْسِي إلَى مَنْ أَخْتَارُهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مَا يُعْطِي وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُشَارِكَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّائِبَةِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يُوجَدُ أَكْثَرُ النَّوَائِبِ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْطَاءَ فَلْيُعْطِهِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لِفَقْرِهِ حَتَّى يَسْتَعِينَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنَالُ الْمُعْطِي الثَّوَابَ بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ افْتَتَحَ قَرْيَةً بِالْمَغْرِبِ فَخَطَبَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُكُمْ إلَّا بِمَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُسْقِيَن مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلَا يَتَّبِعْ الْمَغْنَمَ حَتَّى يُقَسَّمَ وَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخَلْقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ عِنْدَ الْفَتْحِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْطُبَ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ فِي خُطْبَتِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَمِمَّا ذُكِرَ عِنْدَهُ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ وَبِهِ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» وَفِي وَطْءِ الْحَامِلِ سَقْيُ مَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ قُوَّةَ سَمْعِ الْجَنِينِ وَبَصَرِهِ وَشَعْرِهِ بِمَاءِ الْوَاطِئِ فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَكُونُ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَعْضِهِمْ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّ الْغَنِيمَةِ وَثِيَابِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَدْ سَمَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِبَا الْغُلُولِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَنَهَى عَنْهُ وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 الْحَاجَةِ فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُشْتَرَطُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ فَمَاتَ فَأَعْطَى الْمُسْلِمُونَ بِجِيفَتِهِ مَالًا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْمَيِّتَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَالٍ فَإِنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ دَلِيلُ فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ: إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَوْضِعُ الْخَنْدَقِ كَانَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا مَعَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنْ نَقُولَ: إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا عَرَفَ فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ لِطَلَبِ الْمَالِ بَلْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَزِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنِّي قَدْ أَمْدَدْتُك بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَمَنْ أَتَاك مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى فَأَشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَةِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِقَوْمٍ أُخَرَ لِيَزْدَادُوا بِهِمْ قُوَّةً وَأَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْد إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمُصَابِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ مُرَادَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. إذَا كَانَتْ الْوَقْعَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَمَنْ حَصَّلَ مِنْ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ شَاهِدًا لِلْوَقْعَةِ مَعْنًى وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى. قِيلَ: مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَتَشَقَّقَ الْقَتْلَى بِطُولِ الزَّمَانِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يُمَيِّزَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ وَالتَّفَقُّؤُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَقِيهُ لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَفَقَّأَ فَوْقَهُ الْقَلَعُ السَّوَارِي ... وَجُنَّ الْخَازِبَازِ بِهِ جُنُونًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي تَتَقَفَّى الْقَتْلَى الْقَافُ قَبْلَ الْفَاءِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَجْعَلُوا الْقَتْلَى عَلَى قَفَاكُمْ بِالِانْصِرَافِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ أَبِي قُسَيْطٍ قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ مَدَدًا لِزِيَادِ بْنِ لِبِيدٍ الْبَيَاضِيِّ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ إلَى الْيَمَنِ فَأَتَوْهُمْ حَتَّى افْتَتَحُوا النُّجَيْرَ فَأَشْرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَجْعَلُ لِلْمَدَدِ شِرْكَةً وَإِنْ لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِالْفَتْحِ قَدْ صَارَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ دَارَ إسْلَامٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ فَتَحُوا وَلَمْ تَجْرِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا بَعْدُ وَبِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ «أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْتَحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا فَتَحَ خَيْبَرَ» وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ مَعَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدِمُوا مِنْ الْحَبَشَةِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَوْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَدْرَكُوا بَعْدَ تَصَيُّرِ الْبُقْعَةِ دَارَ إسْلَامٍ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، مَعَ أَنَّ غَنَائِمَ خَيْبَرَ كَانَتْ عِدَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] وَهُمَا مَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْمَدَدِ شِرْكَةً إذَا لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِأَلْفَيْ فَارِسٍ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَدْرَكُوهُمْ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ فَطَلَبَ عَمَّارٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشِّرْكَةَ وَكَانَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ مِنْ عُطَارِدَ فَقَالَ: يَا أَجْدَعُ أَتُرِيدُ أَنْ تُشْرِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا فَقَالَ عَمَّارٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خَيْرَ أُذُنَيَّ سَبَبْتَ وَكَانَ قَدْ قُطِعَتْ إحْدَى أُذُنَيْهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غُزَاةٍ ثُمَّ رَفَعَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَ لَهُمْ الشِّرْكَةَ فِي الْغَنِيمَةِ فَبِهَذِهِ الْآثَارِ يَأْخُذُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَانَ بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا» وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا: فِعْلُ الْمُشْرِكِينَ لَا يَكُونُ جِهَادًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِالْجِهَادِ مَا لَيْسَ بِجِهَادِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: لَا يَغْزُ مَعَنَا إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَأَسْلَمَا»، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ: زِيَادَةُ كَبْتٍ وَغَيْظٍ لَهُمْ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُسْلِمَانِ إذَا أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ «فَأَسْلَمَا» وَقِيلَ: كَانَ يَخَافُ الْغَدْرَ مِنْهُمَا لِضَعْفٍ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 تَعَالَى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وَإِذَا خَافَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ، وَأَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِذَا كَتِيبَةٌ حَسْنَاءُ، أَوْ قَالَ: خَشْنَاءُ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يَهُودُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَا نَسْتَعِينُ بِالْكُفَّارِ»، أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَزِّزِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَنَا إنَّمَا يَسْتَعِينُ بِهِمْ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِرَايَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» يَعْنِي: إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ تَحْتَ رَايَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَعَنْ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَتَبَ إلَيْهِ فِي أَسِيرَيْنِ مِنْ الرُّومِ أَنْ لَا تَفَادَوْهُمَا وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ الذَّهَبِ، وَلَكِنْ اُقْتُلُوهُمَا أَوْ يُسْلِمَا، فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْفِدَاءُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ»، إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِنُزُولِ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى قَوْلِهِ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُشِيرُ بِالْقَتْلِ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِحَاجَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نُجِّيَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عُمَرَ» فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُفَادَاةِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَمِمَّنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدِّمْهُ وَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَوْفِ بِنَذْرِ نَبِيِّك» «وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَاعِرًا فَوَقَعَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ طَلَبَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُحَدِّثْ الْعَرَبَ أَنِّي خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ وَلَكِنْ يُفَادَى أَوْ يُمَنُّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُمَا اعْتَمَدَا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ قَدْ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ لِأَنَّ سُورَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ قَدْ انْتَسَخَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا عَرَفَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً كَمَا رُوِيَ «أَنْ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ سَيِّدَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَسَرَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: مَا وَرَاءَك يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ: إنْ عَاقَبْت عَاقَبْت ذَا ذَنْبٍ وَإِنْ مَنَنْت مَنَنْت عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ أَرَدْت الْمَالَ فَعِنْدِي مِنْ الْمَالِ مَا شِئْت فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قَحَطُوا». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمْ يُخَمَّسْ طَعَامُ خَيْبَرَ وَكَانَ قَلِيلًا فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ. وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُخَمِّسُ الْغَنِيمَةَ إلَّا الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ» وَكَتَبَ صَاحِبُ جَيْشِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّامِ إلَيْهِ: إنَّا افْتَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ فَكَرِهْت أَنْ أُمْضِيَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِك فَكَتَبَ إلَيْهِ: دَعْ النَّاسَ لِيُصِيبُوا مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعُوا فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ خُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَبِهَذِهِ الْآثَارِ نَأْخُذُ التَّسَاهُلَ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ بِالنَّاسِ وَلِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْحَمْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ إذَا أَمْعَنُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: دُلِّيَ عَلَيَّ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ مِنْ بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَاحْتَضَنْتُهُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيَّ وَيَتَبَسَّمُ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، وَالْمُرَادُ بِالْيَدِ النُّصْرَةُ يَعْنِي النُّصْرَةَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وَفِي قَوْلِهِ «تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» دَلِيلٌ لَنَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَلَا مَعْنَى لِاسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ التَّسَاوِي فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 لَا نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ دِمَائِهِمْ وَدِمَاءِ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَبِقَوْلِهِ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ فَإِنَّ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبِيدُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَاهُ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَنْ يَسْكُنُ الثُّغُورَ مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ لَا مِنْ الدَّنَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَقَلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْقِلَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} [المجادلة: 7] فَيَكُون ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْوَاحِدِ، أَوْ الْمُرَادُ بِهِ الْفَاسِقُ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْسُبَ الْعَبْدَ الْوَرِعَ إلَى الدَّنَاءَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ عَقْدُ الذِّمَّةِ دُونَ الْأَمَانِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا. وَعَنْ أَبِي عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُقَسِّمُ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لِي: تَقَلَّدْ هَذَا السَّيْفَ فَتَقَلَّدْتُهُ فَجَرَرْتُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَعْطَانِي مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعَ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ يَأْبَى اللَّحْمَ فَسُمِّيَ بِآبِي اللَّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى صِغَرِهِ لِأَنَّ جَرَّ السَّيْفِ عَلَى الْأَرْضِ لِصِغَرِهِ وَقِيلَ: لَا بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْخُيَلَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعِ يَعْنِي الشَّفَقَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّضْخِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحَرَّمِ لِمُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفَتَحَهَا يَعْنِي الطَّائِفَ فِي صَفَرٍ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْمُحَاصَرَةَ مِنْ الْقِتَالِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ فَفِعْلُهُ بَيَانُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَدْ انْتَسَخَ، وَكَانَ الْكَلْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: النَّهْيُ عَنْ الْقَنَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى {فاُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَانْتَسَخَ بِهِ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الْآيَةُ. (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الْآيَةُ. (قُلْنَا): الْمُرَادُ بِهِ مُضِيُّ مُدَّةِ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وَوَافَقَ مُضِيُّ ذَلِكَ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] إلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] قِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْكُمْ بَلْ قَاتِلُوهُمْ كَافَّةً لِتَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ وَتَكُونَ النُّصْرَةُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الْأَصْلِ عَنْ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عَانَةٌ فَاقْتُلُوهُ وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَانَةٌ فَخَلُّوا عَنْهُ فَكُنْت مِمَّنْ لَا عَانَةَ لَهُ فَخُلِّيَ عَنِّي» قُلْت: وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ عَانَةٌ فَالْعَانَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَجُعِلَ اسْمُ الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنْهُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ نَبَاتَ الشَّعْرِ دَلِيلَ الْبُلُوغِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ فَنَبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْهُنُودِ يُسْرِعُ وَفِي الْأَتْرَاكِ يُبْطِئُ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ نَبَاتَ الشَّعْرِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ أَوْ أَرَادَ تَنْفِيذَ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فِيهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ مَعَ سَهْمِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ عَلَى الْعُرَفَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ كُلُّ عَرِيفٍ عَلَى مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِاسْمِ نَفْسِهِ سَهْمًا وَلَكِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَ رَايَةِ غَيْرِهِ وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ السِّهَامِ خَرَجَ يَوْمئِذٍ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ لِكَوْنِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. وَذُكِرَ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَللَّهِ مَا يَصْلُحُ إلَيَّ مِنْ فَيْئِهِمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ أَخْذُهَا مِنْ سَنَامِ بَعِيرِهِ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ: أَخَذْت هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَك فَقَالَ: أَمَّا إذَا بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا» وَفِيهِ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْغُلُولِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْحَدِيثِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فَقَدْ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصِيبَهُ مِنْ الرَّجُلِ وَكَانَ مُشَاعًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَقْصُودُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْغُلُولِ يَعْنِي أَنَّك تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَجْعَلَ لَك هَذِهِ الْكُبَّةَ وَلَا وِلَايَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 لِي إلَّا عَلَى نَصِيبِي مِنْهَا فَقَدْ جَعَلْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك إنْ جَازَ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْكُبَّةَ مِنْ الشَّعْرِ لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ لِكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ إذَا قُسِّمَتْ وَعِنْدَنَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَكُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ» وَإِنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُرْبِي بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ يَوْمئِذٍ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا خُصُومَةَ فِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وَإِنَّمَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِبَا الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِيُبَيِّنَ أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى نَهْجِ الْمُلُوكِ فَالْمُلُوكُ فِي الْأَوَامِرِ يَبْدَءُونَ بِالْأَجَانِبِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَمِّهِ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ. وَذَكَرَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَفِّلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ:» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ التَّنْفِيلَ فِي الرَّجْعَةِ يَكُونُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ الْأُولَى الرُّبُعَ وَالسَّرِيَّةَ الثَّانِيَة الثُّلُثَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا بَعْدَهَا وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ وَالْجَيْشُ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ يَنْشَطُونَ فِي الْقِتَالِ مَا لَا يَنْشَطُونَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا قَلَّلَ نَفْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى وَزَادَ فِي نَفْلِ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَلِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ فَلِهَذَا زَادَ فِي النَّفْلِ لَهُمْ. وَذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَعْقِرْ الْخَيْلَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْعَقْرَ فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّوَابِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ جَعْفَرَ الطَّيَّارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا اُسْتُقْتِلَ يَوْمَ مَوْتِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهُمْ عَقَرَ فَرَسَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 وَتَقَدَّمَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْعَقْرِ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» وَلَعَلَّ فِعْلَ جَعْفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ فَانْتَسَخَ بِهِ. وَعَنْ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ» وَقَدْ بَيَّنَّا حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي أُمِنَ مِنْ قِتَالِهِ بِنَفْسِهِ وَرَأْيِهِ وَلَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ وَلَكِنَّهُمْ أَحْضَرُوهُ لِيَسْتَعِينُوا بِرَأْيِهِ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَرْفَعُوا الثِّقَلَ إلَى عُلْيَا بِلَادِهِمْ وَيَلْقَوْا الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ بِسُيُوفِهِمْ فَخَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ يَقُولُ أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تَدْخُلَ الْمَصَاحِفُ أَرْضَ الْعَدُوِّ» وَالْمَشْهُورُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِي الْعَدُوِّ وَيَسْتَخِفُّوا بِهِ فَعَلَى هَذَا النَّهْيِ فِي سَرِيَّةٍ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ قَوِيَّةٌ فَأَمَّا إذَا كَانُوا جُنْدًا عَظِيمًا كَالصَّائِفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَبَرَّكَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَقْرَأَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ مِنْ ذَلِكَ لِقُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ. (فَإِنْ قِيلَ): أَهْلُ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقِرُّونَ أَنَّهُ كَلَامٌ حَكِيمٌ فَصِيحٌ فَكَيْفَ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، (قُلْنَا) إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْقَرَامِطَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ اعْتِقَادَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رِزَامٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَصَاحِفِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ كَثُرَتْ الْمَصَاحِفُ وَكَثُرَ الْحَافِظُونَ لِلْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ فَوْتُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ الْمَصَاحِفِ فِي أَيْدِيهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى نَجْدَةَ كَتَبْت إلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَإِنَّ عَالِمَ مُوسَى قَتَلَ وَلَيَدًا وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ» فَلَوْ كُنْت تَعْلَمُ فِي الْوِلْدَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَجْدَةَ كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُؤَالَ التَّعَمُّقِ حَتَّى سَأَلَهُ يَوْمًا لِمَاذَا طَلَبَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْهُدْهُدَ قَالَ: لِيُخْبِرَهُ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ إلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُبْصِرُ الْفَخَّ تَحْتَ التُّرَابِ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا جَاءَ الْقَضَا عَمِيَ الْبَصَرُ وَمِمَّا سَأَلَهُ هَذَا لِذَا رَوَاهُ وَجَوَابُهُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ عَالِمَ مُوسَى كَانَ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ مَا أَظْهَرَهُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ بَالِغًا فَقَدْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا وَالْبُلُوغُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ؟ فَإِذَا احْتَلَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ وَيُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ وَهَذَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ قَدْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ يَتِيمٌ قِيلَ هَذَا لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ يَتِيمًا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَتِيمًا وَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ مُذَمَّمًا وَيَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَهُوَ كَانَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. . [بَابُ مُعَامَلَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْكُفَّارِ] بَابُ مُعَامَلَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْكُفَّارِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا غَزَا الْجَيْشُ أَرْضًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ لِيَعْرِفُوا أَنَّهُمْ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَلَوْ قَاتَلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ كَانُوا آثِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِمَّا أَتْلَفُوا مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْحَقْنِ وَالْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ مِنْهُمْ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَبْلُغَهُمْ الدَّعْوَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ تَكُونُ بِالْإِحْرَازِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمْ وَلَئِنْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بِالدِّينِ كَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا وَالْقِتَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَارِبَةِ كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لِلشِّرْكِ كَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّ شَرْطَ الْإِبَاحَةِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ فَبِدُونِهِ لَا يَثْبُتُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وَمُجَرَّدُ حُرْمَةِ الْقَتْلِ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنْهُمْ وَكَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُثْلَةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِنْ هُمْ دَعَوْهُمْ فَحَسَنٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ مُعَاذًا فِي سَرِيَّةٍ وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُكُمْ فَإِنْ بَدْؤُكُمْ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا ثُمَّ أَرَوْهُمْ ذَلِكَ الْقَتِيلَ وَقُولُوا لَهُمْ هَلْ إلَى خَيْرٍ مِنْ هَذَا سَبِيلٌ؟ فَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْك خَيْرٌ لَك مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِنْذَارِ قَدْ تَنْفَعُ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَا يَقْوَوْنَ عَلَيْهِمْ إذَا قَدَّمُوا الْإِنْذَارَ وَالدُّعَاءَ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ غَافِلُونَ وَيَعُمُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِسَقْيٍ وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَبْنَا صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرَّقَ» «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ صَبَّحَهُمْ وَاسْتَمَعَ النِّدَاءَ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ صَبَّحَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجَ الْعُمَّالُ وَمَعَهُمْ الْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، وَالْخَمِيسُ: الْجَيْشُ وَقَدْ كَانُوا وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْزُوهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَظْفَرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ»، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا حُصُونَهُمْ وَيُغْرِقُوهَا وَيُخَرِّبُوا الْبُنْيَانَ وَيَقْطَعُوا الْأَشْجَارَ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَصِيَّةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَقْطَعُوا شَجَرًا وَلَا تُخَرِّبُوا وَلَا تُفْسِدُوا ضَرْعًا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الْآيَةُ وَتَأْوِيلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الشَّامَ تُفْتَحُ لَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: إنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ» فَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى ذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَمُمَكِّنٌ لَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْكُمْ أَنَّكُمْ تَأْتُونَهَا تَلَهِّيًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِهَ الْقَطْعَ وَالتَّخْرِيبَ لِهَذَا. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِ بَنِي النَّضِيرِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَادَوْهُ مَا كُنْت تَرْضَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 بِالْفَسَادِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَمَا بَالُ النَّخِيلِ تُقْطَعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: 5]» الْآيَةُ وَاللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ «وَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ بِخَيْبَرَ حَتَّى أَتَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَلَيْسَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ لَك خَيْبَرَ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إذًا تَقْطَعُ نَخِيلَك وَنَخِيلَ أَصْحَابِك فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ» «وَلَمَّا حَاصَرَ ثَقِيفًا أَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ الْحُبْلَةُ لَا تَحْمِلُ إلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا عَيْشَ بَعْدَ هَذَا» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ يُذَلُّونَ بِذَلِكَ وَأَنَّ فِيهِ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] «وَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوْطَاسٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ فَأَمَرَ بِأَنْ يُحَرَّقَ» وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ مُبَاحٌ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ الْفَرْضُ أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالظُّهُورُ عَلَيْهِمْ وَالْحُصُونُ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ أَسِيرٍ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ تَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ بِكَوْنِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْأَسِيرِ فِيهَا وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ. وَلَا تُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيُحْرِزُوهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا بَأْسَ بِقِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا تَمَّ انْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَجُوزُ قِسْمَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَالصَّيْدِ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْأَخْذُ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَقِيَامُ مُنَازَعَةِ الْمُشْرِكِينَ لِكَوْنِ الْغُزَاةِ فِي دَارِهِمْ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ مِلْكِهِمْ لِقِيَامِ مُنَازَعَتِهِمْ فِي ثِيَابِ الْغُزَاةِ وَدَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَكَّنُوا مِنْ الْكَرِّ عَلَيْهِمْ أَخَذُوا جَمِيعَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ يُعَارِضُ الِاسْتِيلَاءَ بِالنَّقْضِ وَالْأَمْنُ عَمَّا يَنْقُضُ سَبَبَ الْمِلْكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَيَّرَ الْإِمَامُ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ فِيهَا وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاقٍ وَلِأَنَّهُمْ إنْ كَرُّوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 فَالْمُسْلِمُونَ وَاثِقُونَ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ يَنْصُرُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا نَصَرَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَأَمَّا عِنْدَنَا الْحَقُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَتَأَكَّدُ الْإِحْرَازُ وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا وَهَذَا لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ وَلَمَّا بَقِيَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِمْ عَرَفْنَا أَنَّ الْقُوَّةَ فِيهَا لَهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّمَا حَلَّ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعَرَفْنَا أَنَّا نُحْسِنُ الْعِبَارَةَ فِي قَوْلِنَا إنَّهُ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْهَزِمُ مِنْهُمْ حِينَ تَرَكَ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي أَيْدِيهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الْأَرَاضِيَ كَمَا يَمْلِكُ الْأَمْوَالَ ثُمَّ لَا يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا إذَا لَمْ يُصَيِّرْهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْقَصْدُ إلَى التَّمَلُّكِ وُجِدَ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا قَاصِدًا لِمِلْكِ الْأَرَاضِيِ وَالْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ نَفْسُ الْأَخْذِ بَلْ هُوَ قَهْرٌ يَحْصُلُ بِهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَابُ غَنِيمَةً يُخَمَّسُ وَهَذَا الْقَهْرُ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَلَا بِقَهْرِ الْمُلَّاكُ بَلْ بِقَهْرِ جَمِيعِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ لِيَكُونَ حِينَئِذٍ جَمِيعُ دَارِهِمْ مُقَابَلًا بِجَمِيعِ دَارِنَا فَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَازِ يُقَابِلُ جَمِيعَ دَارِهِمْ بِالْجَيْشِ وَلَيْسَ بِهِمْ قُوَّةُ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُرَاغَمَ إذَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ أَهْلِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى قَهْرِ مَوْلَاهُ فَقَطْ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْجَيْشِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِي رَقَبَتِهِ. وَإِذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِنَفْسِ الْأَخْذِ يَصِيرُ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالدَّارِ فَيَتِمُّ الْقَهْرُ وَإِذَا صَيَّرَ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ فَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ الْمَالُ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الْحَقَّ يَتَأَكَّدُ فِي الْأَرَاضِيِ أَيْضًا وَبِهِ فَارَقَ الصَّيْدَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُنَاكَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْقَهْرُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ فِي نَفْسِهِ وَهُنَا الِامْتِنَاعُ فِي الْمَالِ بَلْ فِيمَنْ يُقَاتِلُ دُونَهُ وَذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يَتِمُّ قَهْرُ جَمِيعِهِمْ إلَّا بِالْإِحْرَازِ حُكْمًا نَقُولُ: فَإِنْ قَسَّمَهَا جَازَ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ وَقَضَاءُ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَبَيَانُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ أَنَّهُ هَلْ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ أَمْ لَا فَإِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ كَانَ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى أَوْ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 وَقِيلَ: مِنْ مَذْهَبِنَا كَرَاهَةُ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَتَقِلُّ بِهِ رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَّمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكْثُرُ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حُمُولَةً لَهَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا فَلْيُقَسِّمْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَسِّمْهَا يَحْتَاجُ إلَى تَرْكِهَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا فَكَانَ تَقْرِيرُ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ أَنْفَعَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَطْعُ شَرِكَةِ الْمَدَدِ وَكَمَا لَا يُقَسِّمُهَا لَا يَبِيعُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْبَنِي عَلَى تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ كَالْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ فَاحْتَاجَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَنَاوَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ. وَقَوْلُهُ فَاحْتَاجَ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ دُونَ الشَّرْطِ فَلِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوٍ طَعَامًا وَعَسَلًا فَلَمْ يُخَمِّسْ ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى كِسْرَى ظَفِرُوا بِمَطْبَخِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْكَتْ الْقُدُورَ وَظَنَّ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنَّ ذَلِكَ طِيبٌ فَهَمُّوا أَنْ يَصْبُغُوا بِهِ لِحَاهُمْ فَقِيلَ: إنَّهُ مَأْكُولٌ فَوَقَعُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى اتَّخَمُوا وَأَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ بِسَلَّةٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ: افْتَحْهَا فَإِنْ كَانَ فِيهَا طَعَامٌ أَصَبْنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَالٌ رَدَدْنَاهُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَإِذَا فِيهَا خُبْزٌ وَجُبْنٌ وَسِكِّينٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْجُبْنِ وَيَصِفُ لَهُمْ كَيْفَ يَتَّخِذُ الْجُبْنَ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ الرُّخْصَةُ فِي الطَّعَامِ وَالْعَلَفُ نَظِيرُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقُوتِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِمْ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَلَا يَجِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَشْتَرُونَ مِنْهُ وَمَا يَأْخُذُونَ يَكُونُ غَنِيمَةً فَلِلْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ مَا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ بِالشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْهَا. [سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ] وَكَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مِنْ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ ثُمَّ يَرُدُّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ لِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 فِي السِّلَاحِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْتَصْحِبَ السِّلَاحَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصِيرُ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ الشَّرِكَةِ وَنَفْيُ الْمُبِيحِ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يُكْرَهُ الِاسْتِعْمَالُ وَإِذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَمَالَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا بِأَنْ يَسْقُطَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ فَيُعَالِجُ قِرْنَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ سَيْفَهُ فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ غَنِيمَةً لَهُ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِنُشَّابَةٍ فَرَمَاهُمْ بِهَا أَوْ انْتَزَعَ سَيْفًا مِنْ بَعْضِهِمْ فَضَرَبَهُ أَكَانَ يُكْرَهُ ذَلِكَ هَذَا وَنَحْوُهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَأَمَّا الْمَتَاعُ وَالثِّيَابُ وَالدَّوَابُّ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ النَّهْيِ قَبْلَ هَذَا وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَخْتَصَّ بِالِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا لِلْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَسَّمَهَا الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَدَدِ وَلَا يَدْرِي أَيَلْحَقُ بِهِمْ الْمَدَدُ أَمْ لَا يَلْحَقُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ كُرِهَتْ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ لَا فِي الْجَوَازِ. (قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّ جَيْشًا آخَرَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ شَرَكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا شِرْكَةَ لِلْمَدَدِ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَمَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا السَّبَبُ هُوَ الْقَهْرُ وَتَمَامُ الْقَهْرِ بِالْإِحْرَازِ فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ لِلْجَيْشِ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ السَّبَبُ يُشَارِكُونَهُمْ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا إذَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ بَعْدَمَا أَخَذُوا بَعْضَ الْأَمْوَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمُحَارِبِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْمُحَارِبَةِ سَبَبُ الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّدْءَ يَسْتَوِي بِالْمُبَاشِرِ لِلْقِتَالِ وَقَدْ سَأَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَكُونُ حَامِيَةً لِقَوْمٍ وَآخَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ أَيَشْتَرِكَانِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذُلُّوا وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ فِي الثَّوَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} [التوبة: 120] الْآيَةُ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ يَجْعَلُ الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ عَلَى قَصْدِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 مِنْهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لَهُمْ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ وَالْأَسِيرُ الْمُنْقَلِبُ مِنْهُمْ وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْجَيْشِ لِأَنَّ قَصْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الْحَرْبَ بَلْ قَصْدُ بَعْضِهِمْ التِّجَارَةُ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ التَّخَلُّصُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشِّرْكَةَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ هُوَ الْقِتَالُ. وَإِنْ احْتَاجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَتَاعِ حَاجَةً يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهَذَا بِغَيْرِ ضَمَانٍ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَ وَلَا يُقَسِّمُ السَّبْيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُخْرِجُوهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَبِيعُهُمْ كَمَا لَا يَفْعَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَلَكِنْ يُمَشِّيهِمْ حَتَّى يُحَرِّزَهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَطَاقُوا الْمَشْيَ فَإِنْ لَمْ يُطِيقُوهُ وَكَانَ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحُمُولَةَ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَالسَّبْيُ كَذَلِكَ فَمِنْ النَّظَرِ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ حَقَّهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ وَلَكِنْ كَانَ مَعَ بَعْضِ الْغَانِمِينَ فَضْلُ حُمُولَةٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُمْ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّ الْحُمُولَةَ لِلْخَاصِّ وَالسَّبْيُ حَقُّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي إحْرَازِ حَقِّ الْجَمَاعَةِ حُمُولَةَ الْخَاصِّ مِنْهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ أَرَأَيْت لَوْ أَطَاقَ بَعْضُهُمْ حَمْلَ بَعْضِ السَّبْيِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ عَلَى عَاتِقِهِ أَكَانَ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَقْتُلُ الرِّجَالَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ قَبْلَ تَعَيُّنِ الْمِلْكِ فِيهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُمْ احْتَاجَ إلَى تَرْكِهِمْ فَيَرْجِعُونَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ وَيَتْرُكُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَصِلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَصِلُ إلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِمْ وَبِتَرْكِهِ إيَّاهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ مُتْلِفًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ الْمُهْلِكَةِ وَإِنْ رَأَى أَنْ يُقَسِّمَ لِيَتَكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمْلَ نَصِيبِهِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ التَّرْكِ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْمَتَاعُ فَيُحَرِّقُهُ بِالنَّارِ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إخْرَاجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَطْعِ قُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَقَدَرَ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ كَيْ لَا تَصِلَ إلَيْهِ يَدُ الْمُشْرِكِينَ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ قَالَ هَذَا فِيمَا يَحْتَرِقُ، فَأَمَّا مَا لَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 يَحْتَرِقُ كَالْحَدِيدِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ فَيَسْتَعِينُوا بِهِ وَأَمَّا الدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِرُهَا خِلَافًا لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَا يَتْرُكُهَا كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ تَقَوِّي الْمُشْرِكِينَ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَذْبَحُهَا ثُمَّ يُحَرِّقُهَا لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا الْعَدُوُّ فَالذَّبْحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُبَاحٌ شَرْعًا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَعْدَ الذَّبْحِ رُبَّمَا يَتَقَوَّوْنَ بِلَحْمِهَا فَيَقْطَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَفِي هَذَا كَبْتٌ وَغَيْظٌ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ التَّخْرِيبِ وَالْإِحْرَاقِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الْكَبْتُ وَالْغَيْظُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَمَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَالْإِمَامُ فِيهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَتَرَكَهُمْ أَحْرَارَ الْأَصْلِ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْأَرَاضِيُ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عِنْدَنَا كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالسَّوَادِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهُ ذَلِكَ فِي الرِّقَابِ، فَأَمَّا فِي الْأَرَاضِيِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيَصْرِفَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ، وَيَنْبَنِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي السَّوَادِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَقَدْ بَيَّنَّا، وَالثَّانِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا عِنْدَنَا وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسِّيَرِ وَالْفُتُوحِ لَا يَقُولُ بِهَذَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعِينَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ عَنْوَةً وَقَهْرًا حَتَّى حَدَثَ قَوْلٌ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ لَهُمْ الْأَرَاضِيَ وَالنَّخِيلَ الَّتِي هِيَ حَوْلَ مَكَّةَ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا فِي إجْرَاءِ مَذْهَبِهِ مِنْ هَذَا، (قَالَ): وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ دَخَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا»، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَخَلَهَا بِذَلِكَ الصُّلْحِ وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَظِيفَةً وَفِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً وَقَهْرًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَرَاضِيِ لَهُمْ بِغَيْرِ وَظِيفَةٍ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي خُزَاعَةَ دَخَلُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ وَبَنِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَاتَلَ بَنُو بَكْرٍ بَنِي خُزَاعَةَ وَأَرْدَفَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْأَسْلِحَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 وَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَهُمْ مُسْتَخْفِيًا بِاللَّيْلِ حَتَّى جَاءَ وَافِدُ بَنِي خُزَاعَةَ عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَنْصِرُهُ وَيَقُولُ لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حَلِفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا أَنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَبَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نُصِرْت يَا عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ: إنَّهَا تَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي خُزَاعَةَ إلَى أَنْ نَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُلْت وَا صَبَاحَا قُرَيْشٍ لَوْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَسْتَأْمِنُوا لَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ فَرَكِبْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلْت الْأَرَاكَ لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابِينَ فَأُخْبِرُهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيت أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - يَتَرَاجَعَانِ الْحَدِيثَ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا هَذِهِ النِّيرَانُ فَيَقُولُ الْآخَرُ: نِيرَانُ خُزَاعَةَ وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ فَقُلْت: يَا حَنْظَلَةُ مَا شَأْنُك قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَا تَفْعَلُ هَهُنَا فَقُلْت: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ: وَمَا الْحِيلَةُ؟ قُلْت: لَا أَعْرِفُ لَك حِيلَةً وَلَكِنْ ارْكَبْ عَجُزَ دَابَّتِي فَأَرْدَفْتُهُ فَمَا مَرَرْت بِنَارٍ إلَّا قِيلَ هَذِهِ بَغْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا عَمُّهُ حَتَّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَرَفَهُ فَأَخَذَ السَّيْفَ وَعَدَا خَلْفَهُ لِيَقْتُلَهُ فَسِرْت بِالدَّابَّةِ حَتَّى اقْتَحَمْت مَضْرِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك إنَّ اللَّهَ مَكَّنَك مِنْ عَدُوِّك مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا صُلْحٍ فَدَعْنِي لِأَقْتُلَهُ فَقُلْت: مَهْلًا فَإِنِّي أَجَرْتُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قَتَلْتَهُ فَبَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ سُرُورِي بِإِسْلَامِك يَوْمَ أَسْلَمْت أَكْثَرُ مِنْ سُرُورِي بِإِسْلَامِ الْخَطَّابِ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَحْمِلَهُ إلَى رَحْلِي فَغَدَوْت بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنِّي أَقُولُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ لَجَازَ أَنْ يَنْصُرُونَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ فِي النَّفْسِ بَعْدُ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا فَقُلْت: أَسْلِمْ فَإِنَّ السَّيْفَ فِي قَفَاك فَأَسْلَمَ فَقُلْت: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ «فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَ: وَكَمْ تَسَعُهُمْ دَارِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ أَغْلَقَ الْبَابَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ وَيَعِيشَ بْنَ صَبَابَةَ وَقَيْنَتَيْنِ لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَحْبِسَهُ فِي مَضِيقِ الْوَادِي لِتَمُرَّ عَلَيْهِ الْكَتَائِبُ فَكُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ كَتِيبَةٌ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟» الْحَدِيثُ إلَى أَنَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا أَلْفَا رَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ السِّلَاحُ وَالْحِلَقُ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلَّا الْحَدَقَ فَلَمَّا حَاذَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَكَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ هَزَّ اللِّوَاءَ، وَقَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُهْتَكُ فِيهِ الْحُرْمَةُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنَّ ابْنَ أَخِيك أَصْبَحَ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ فَقُلْت: لَيْسَ بِمُلْكٍ إنَّمَا هُوَ نُبُوَّةٌ قَالَ: أَوْ ذَاكَ ثُمَّ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرْت بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِك مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدْ قَالَ سَعْدٌ كَذَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ الْيَوْمَ تُحْفَظُ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَبَعَثَ إلَى سَعْدٍ لِيُسَلِّمَ اللِّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ» الْحَدِيثُ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَهْدِ «وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ جَانِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ جَانِبٍ وَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا» وَفِيهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ يُخَاطِبُ زَوْجَتَهُ: إنَّكِ لَوْ شَهِدَتْ يَوْمَ خَنْدَمَهْ ... إذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ لَمْ يَنْطِقْ الْيَوْمَ بِأَدْنَى كَلِمَةْ ، «وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَنْشُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيَذْهَلُ الْخَلِيلُ عَنْ خَلِيلِهِ لَاهُمَّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَنْشُدُ الشِّعْرَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ حَتَّى جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقَدْ انْتَدَبَ حَضَرَا قُرَيْشٍ فَلَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ وَقَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ مَلَكْت فَاسْجَحْ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ أَخِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] أَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ» وَصَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» فَذَلِكَ دَلِيلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا مُقَاتِلًا «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَإِنَّمَا مُرَادُهُ حَلَّ الْقِتَالَ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّهُ دَخَلَهَا مُقَاتِلًا وَفِي قَوْله تَعَالَى {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا وَنُزُولُ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} [الفتح: 24] فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وَإِنَّمَا لَمْ يَضَعْ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ تَابِعَةٌ لِلرِّقَابِ وَلَمْ يَضَعْ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا رِقَّ فَكَذَلِكَ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا فُتِحَتْ قَهْرًا اتَّضَحَ مَذْهَبُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قُلْنَا وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الْأَرَاضِيِ أَمَّا عِنْدِي فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَعِنْدَكُمْ تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَتْ مُحَرَّزَةً بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَمَّا تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْوَالِ بِدُونِ الْأَرَاضِيِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ عَنْهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الرِّقَابِ فَالْحَقُّ فِي رِقَابِهِمْ لَمْ يَتَأَكَّدْ. بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى رِقَابِهِمْ بِجِزْيَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَقُّ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قُلْت أَمَّا تَخْمِيسُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ مِنْ الرِّقَابِ كَانَ حَقًّا لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي بَدَلِ ذَلِكَ وَهُوَ الْجِزْيَةُ وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ: تَصَرُّفُ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَأَنَّهُ نُصِّبَ لِذَلِكَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَيَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَأَدَّوْا الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْجِهَادِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُمْ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْجَلَ فَمَنْفَعَةُ الْخَرَاجِ أَدْوَمُ وَلِأَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهَا لِلَّذِينَ أَصَابُوا ثَبَتَ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وَفِي الْقِسْمَةِ إبْطَالُ حَقِّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ أَصْلًا وَفِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا «قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ لِحَاجَةٍ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 يَوْمَئِذٍ» وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ الْأَوْلَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالسَّوَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَلَا قَوْلَ أَبْعَدَ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الْجِزْيَةِ الْخُمُسَ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَالْحُلَلَ مِنْ بَنِي نَجْرَانَ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا وَلَمْ يُخَمِّسْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» فَدَلَّ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي الْجِزْيَةِ. وَإِذَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ ضَرَبَ لِلْفَارِسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ بِسَهْمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفِي قَوْلِهِمَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُضْرَبُ لِلْفَارِسِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعُمَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» «وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ وَبِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ» فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ سَهْمَ الْفَرَسِ ضِعْفَ سَهْمِ الرَّجُلِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ فَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثُمَّ مُؤْنَةُ الْفَرَسِ أَعْظَمُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّجُلِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ» وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَفِي حَدِيثِ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا الْمِقْدَادِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْهَمَ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ». وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ يَوْمَ خَيْبَرَ سَهْمَيْنِ» وَمَا رَوَوْا «أَنَّهُ قَسَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا» صَحِيحٌ لَكِنْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ ثَلَثَمِائَةٍ وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَوْا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ الْخَيْلُ بِفُرْسَانِهَا وَالرِّجَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَيْ الرَّجَّالَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ} [الإسراء: 64] أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك وَقَالَ تَعَالَى {يَأْتُوك رِجَالًا} [الحج: 27] أَيْ رَجَّالَةً فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ فَإِذَا كَانَ بِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ كَانَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَمَا رَجَحَ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارِضٌ فَفِيمَا رَوَيْنَا إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي نَصِيبِ الرَّاجِلِ ثُمَّ فِي هَذَا تَفْضِيلُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 بِالْقِتَالِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ وَحْدَهُ وَالْفَرَسُ لَا تُقَاتِلُ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرَسِ وَالرَّجُلِ وَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِالْفَرَسِ شَيْئًا لِأَنَّهُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْآلَاتِ، وَلَكِنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ فَأَخَذْنَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَأَبْقَيْنَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ فَصَاحِبُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ يَلْتَزِمُ الْمُؤْنَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا وَصَاحِبُ الْفِيلِ وَالْبَعِيرِ مُؤْنَتُهُ أَكْثَرُ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا شَيْئًا مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ أَكْثَرُ فَإِنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَرَسُ مِنْ الْعَلَفِ يُوجَدُ مُبَاحًا وَمَطْعُومُ بَنِي آدَمَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِثَمَنٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَاحِبُ الْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ وَالْمُقْرِفُ كَصَاحِبِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ وَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ لَهُمْ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْخَيْلَ أَغَارَتْ بِالشَّامِ وَعَلَى الْقَوْمِ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي خَمْصَةَ الْوَدَاعِيُّ فَأَدْرَكَتْ الْعِرَابَ الْيَوْمَ وَالْبَرَاذِينَ ضُحَى الْغَدِ فَلَمْ يُسْهِمْ الْمُنْذِرُ لِلْبَرَاذِينِ وَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ أَدْرَكَ كَمَنْ لَا يُدْرِكُ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَبِلَتْ الْوَدَاعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَتْ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ أَذَكَرَتْهُ أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْخَيْلِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الْآيَةُ وَالْإِرْهَابُ يَحْصُلُ بِالْبِرْذَوْنِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ الْعَرَبِيُّ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى وَالْبِرْذَوْنُ أَقْوَى عَلَى الْحَرْبِ وَأَصْبَرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا عِنْدَ اللِّقَاءِ فَفِي كُلِّ جَانِبٍ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَمَعْنَى الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ يَجْمَعُهُمَا وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُنْذِرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَأَمْضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتِهَادَهُ وَهَكَذَا نَقُولُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَسْتَحِقُّ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ سَهْمَانِ وَبِمَا سِوَى ذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِيَّ فَرَسُ الْعَرَبِ وَكَمَا يُسَوِّي بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَيْلِ وَالْهَجِينِ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَالْمُقْرِفُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَقَدْ ذَكَتْ بِهِ أَتَتْ بِهِ ذَكِيًّا وَقَوْلُهُ أَذَكَرَتْهُ أَتَتْ بِهِ ذَكَرًا جَلْدًا. (قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الْغَازِي دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجَيْشِ فَارِسًا ثُمَّ نَفَقَ فَرَسُهُ أَوْ عَقَرَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَقَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا وَلِأَنَّ سَبَبَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 الِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذُ وَعِنْدَ الْأَخْذِ هُوَ رَاجِلٌ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّاجِلِ كَمَا لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَهْمِ صَاحِبِهِ. [مَاتَ الْغَازِي بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ] وَلَوْ مَاتَ الْغَازِي بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَإِذَا نَفَقَ الْفَرَسُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ بِفَرَسِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ بِعَبْدِهِ وَلَوْ مَاتَ عَبْدُهُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ الْفَرَسُ (وَحُجَّتُنَا) أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا لَوْ كَانَ فَرَسُهُ قَائِمًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْفَرَسِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ وَالْجَيْشُ إنَّمَا يَعْرِضُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَمَنْ كَانَ فَارِسًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ فَقَدْ حَصَلَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِفَرَسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ دَخَلَ كَذَا وَكَذَا فَارِسٍ وَقَلَّ مَا يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْقَهْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إعْزَازُ الدِّين وَذَلِكَ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَإِذَا كَانَ هُوَ عِنْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْفَرَسِ إلَى حَالِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ بَعْدَ الْقِتَالِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْفَارِسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ وَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَالْعَبْدُ آدَمِيٌّ كَالْحُرِّ ثُمَّ الرَّضْخُ لَيْسَ نَظِيرَ السَّهْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ السَّهْمِ بِمَا دُونَهُ. وَلَوْ بَاعَ فَرَسَهُ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الدَّرْبَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْبَيْعِ أَنَّهُ مَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ الْقِتَالَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ التِّجَارَةَ وَبِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَرَسُهُ وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ بِهِ مُسْقِطًا حَقَّهُ وَبِالْمَوْتِ مَا أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ هُوَ مُصَابٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ عَدَمَ الْقِتَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْبَيْعِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 تَعَالَى فِيمَا إذَا بَاعَهُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْفَرَسِ عِنْدَ الْقِتَالِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدُ الْقِتَالِ يَطْلُبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَرَسًا لِيَهْرُبَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ بَيْعَهُ الْفَرَسَ لِإِظْهَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ أَنَّهُ يُرِي الْعَدُوَّ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِرَارِ أَصْلًا (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ بَيْعَ الْفَرَسِ إلَى وَقْتِ الْقِتَالِ يُحَقِّقُ قَصْدَ التِّجَارَةِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْغَبُ وَالتَّاجِرُ يَحْبِسُ مَالَ تِجَارَتِهِ إلَى وَقْتِ عَزَّتِهِ وَكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ بِبَيْعِ الْفَرَسِ. فَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَهُ سَهْمَ الْفُرْسَانِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ إعْزَازُ الدِّينِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَإِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا فَالْقِتَالُ عَلَى الْفَرَسِ أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُدَوِّنُ الدَّوَاوِينَ وَيُثْبِتُ أَسَامِيَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الرَّجَّالَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ رَاجِلًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْفَرَسِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِمَوْتِ الْفَرَسِ. وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا، ثُمَّ قَاتَلَ رَاجِلًا بِأَنْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ حِصْنٍ أَوْ فِي السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَهُ فَرَسٌ مُعَدٌّ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرِّدْءَ السَّهْمَ مَعَ الْمُبَاشِرِ. وَإِذَا مَاتَ الْغَازِي أَوْ قُتِلَ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُوَرَّثْ سَهْمُهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُوَرَّثُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَمَوْتُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ نَصِيبِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ كَالشُّرَكَاءِ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَلَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُوَرَّثُ كَحَقِّ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا مَاتَ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبُولِهِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْقَبُولِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ الْحَقُّ يَتَأَكَّدُ وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِي الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِنَا فِي الشُّفْعَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُوَرَّثُ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 ضَعْفِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِإِبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَضَمَانٍ وَبِامْتِنَاعِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبِقَبُولِ شَهَادَةِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَامْتِنَاعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ ضَعِيفٌ كَحَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - رُبَّمَا لَا يُسَلِّمُونَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعَ مَوْلَاهُ فَقَاتَلَ بِإِذْنِهِ يَرْضَخُ لَهُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُكَاتَبُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ»، وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْضَخُ لِلْمَمَالِيكِ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ»؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُجَاهِدٍ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَهْلٌ لِلْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِمَعْنَى التَّحْرِيضِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَ لَهُمَا قُوَّةُ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهُمَا فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، وَالرِّقُّ فِي الْمُكَاتَبِ قَائِمٌ وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَعْجِزَ فَيَمْنَعُهُ الْمَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يُقَاتِلُ لَا يُرْضَخُ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّ مَوْلَاهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَا لِلْقِتَالِ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِلْقِتَالِ بِهِ وَنَظِيرُهُ مَا قَرَرْنَاهُ مِنْ بَيْعِ الْفَرَسِ، وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ وَلَا يُرْضَخُ لِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَإِعْزَازُ الدِّينِ فَإِنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ الْقِتَالُ وَمَعْنَى التِّجَارَةِ تَبَعٌ لِذَلِكَ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَفْرَاسٍ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِفَرَسَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِكُلِّ فَرَسٍ» وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ فِي الْقِتَالِ إلَى فَرَسَيْنِ حَتَّى إذَا كَلَّ أَحَدُهُمَا قَاتَلَ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمُبَارِزِينَ، فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ فَرَسَيْنِ لِلْقِتَالِ فَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لَهُمَا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ فَكَانَ مِنْ الْجَنَائِبِ وَهُمَا اسْتَدَلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 بِمَا رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسْهِمْ لِصَاحِبِ الْأَفْرَاسِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ» وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ وَلِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَمَا أَسْهَمَ لَهُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآثَارِ يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْفَرَسِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَيُحْمَلُ مَا يُرْوَى مِنْ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَهْمَيْنِ وَكَانَ رَاجِلًا» وَلَكِنْ أَعْطَاهُ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لِجِدِّهِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَخَيْرُ فُرْسَانِنَا أَبُو قَتَادَةَ»، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِخَادِمَيْنِ. وَمَنْ مَرِضَ أَوْ كَانَ جَرِيحًا فِي خَيْمَتِهِ حَتَّى أَصَابُوا الْغَنَائِمَ فَلَهُ السَّهْمُ كَامِلًا لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ». وَإِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَاءَتْ بِغَنَائِمَ وَقَدْ أَصَابَ الْجَيْشُ غَنَائِمَ أَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُشَارِكُ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ؛ وَلِأَنَّ الْجَيْشَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ كَالرِّدْءِ لَهُمْ حَتَّى يَلْجَئُونَ إلَيْهِمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرِّدْءِ أَنْ يُشَارِكَ الْجَيْشَ فِي الْمُصَابِ وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ أُسِرَ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ غَنِيمَةً ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْهُمْ فَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ الَّذِي أُسِرَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ فِيمَا تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِهِ وَهُوَ الْإِحْرَازُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَارِضُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ مَرِضَ أَوْ جُرِحَ وَإِنْ الْتَحَقَ هَذَا الْأَسِيرُ بِعَسْكَرٍ آخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِ أَنَّ قَصْدَهُ الْقِتَالُ مَعَهُمْ وَيَجْعَلُ قِتَالَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُصَابِ كَقِتَالِهِ لِلْإِصَابَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ، أَوْ الْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ فَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ أَوْ التَّاجِرُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ إنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. وَفِي الْأَصْلِ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ الْجِنَايَةُ تَبْطُلُ عَنْهُ، وَالدَّيْنُ يَلْحَقُهُ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يَجِبُ شَاغَلَا لِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَدُوُّ مَالِيَّتَهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ كَمَا أَسَرُوهُ وَلِهَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَالدَّيْنَ يَلْحَقَانِهِ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ بِالْأَخْذِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ قِصَاصًا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. (قَالَ): وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ أَحَدًا مِمَّا قَدْ أَصَابَهُ إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِغْرَاءِ عَلَى الْقِتَالِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِالْقَتْلِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارِزَةِ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَظَاهِرُهُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِذَلِكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَوْلَةً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَاهَا اللَّهُ أَيَعْمَدُ أَسَدٌ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ فَيَقْتُلُ عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ قَبْلَ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَعْطَاهُ سَلَبَهُ»، فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَتْلِ لَا بِالتَّنْفِيلِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَظْهَرَ فَضْلَ عِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَيَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْفَارِسِ مَعَ الرَّاجِلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَارِزَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ عَنَاءٍ وَمُخَاطَرَةٍ بِالنَّفْسِ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الْعَنَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وَالسَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَالٌ يُصَابُ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَعِنْدَكُمْ لَا يَجِبُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: السَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَفِيهِ الْخُمُسُ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بُلْقِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِمَنْ الْمَغْنَمُ؟ قَالَ: لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَقَالَ: هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِك فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيك» وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثِ أَسْنَانِهِمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا: أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْت: وَمَا شَأْنُك بِهِ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُ مَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا وَعُمَرُ بِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَلَقِيتُ أَبَا جَهْلٍ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْت: ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ وَاخْتَصَمَا فِي سَلَبِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَالسَّلَبُ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالَا: لَا فَقَالَ: أَرَيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَأَرَيَاهُ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ» وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَتْلِ لَمَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ». (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَهُ قُلْنَا: هُمَا أَثْخَنَاهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُهُ صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ فَفَتْحَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا رُوَيْعِي الْغَنَمَ لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا لِمَنْ الدَّبْرَةُ قُلْت: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ قُلْت: أَحُزُّ رَأْسَك قَالَ: لَسْت بِأَوَّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيِّدَهُ وَلَكِنْ خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا تُرِيدُ وَأَقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلٍ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ وَإِذَا لَقِيت مُحَمَّدًا فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْتُ قَبْلَ هَذَا فَقَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْت: هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي شَرُّهُ عَلَى أُمَّتِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 أَكْثَرُ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَفَلَنِي سَيْفَهُ» فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسَّيْفِ مَنْ أَثْخَنَهُ فَمَا كَانَ يَنْفُلُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ مَرْزُبَانَ الرَّازَةِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَقَوَّمَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا لَا نُخَمِّسُ الْأَسْلَابَ وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَمَا أَرَانِي إلَّا خَامِسَهُ قَالَ أَنَسٌ: فَبَعَثْنَا بِالْخُمُسِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ مِنْهُ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَهُ فِي الْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ وَقَدْ كَانُوا أَذِلَّةً يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ، وَعِنْدَنَا بِالتَّنْفِيلِ يَسْتَحِقُّ. وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ وَأَخْذِ سَلَبِهِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَسِيرًا أَوْ أَصَابَ مَالًا آخَرَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَمَا يَكُونُ مِنْهُ فَضْلُ عَنَاءٍ فِي الْقَتْلِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْأَسِيرِ وَاسْتِلَابِ سَلَبِ الْحَيِّ ثُمَّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ». وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ بِحَسَبِ مَا يَرَى الصَّوَابَ فِيهِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وَلِأَنَّ بِالنَّفْلِ يُعِينُهُ عَلَى الْبِرِّ وَهُوَ بَذْلُ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَكِنْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يَجُوزُ النَّفَلُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ» وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ نَفَلَ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْغَنَائِمِ كَانَ إلَيْهِ كَمَا رَوَيْنَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ إلَّا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فِي التَّنْفِيلِ إبْطَالُ حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَإِبْطَالُ حَقِّ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَهُوَ سَبَبٌ لِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّنْفِيلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَلَفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَفَضُلَ مِنْهُ فَضْلَةً بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَعَادَهَا فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمْ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِي الْغَنِيمَةِ لَهُمْ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ وَإِنْ كَانَتْ الْغَنَائِمُ قَدْ قُسِّمَتْ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِاللُّقَطَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّنَاوُلُ لِلْحَاجَةِ وَالْمُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَعَادَ الثَّمَنَ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ لَمْ تُقَسَّمْ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِّمَتْ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ أَقْرَضَهُ رَجُلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْجُنْدِ لَمْ يَسْعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ فِي حَقِّ إبَاحَةِ تُنَاوِلِهِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْآخِذَ كَانَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَإِذَا زَالَ مَا بِيَدِهِ إلَى الْآخَرِ سَقَطَ حَقُّهُ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. [أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الْجُنْدِ جَارِيَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ] وَإِذَا أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الْجُنْدِ جَارِيَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقِسْمَةِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْقِسْمَةُ لِتَمَيُّزِ الْمِلْكِ لَا لِابْتِدَاءِ الْمِلْكِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَسْتَدْعِي مِلْكًا قَائِمًا فِي الْمِحَنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُ الثَّمَنَ وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ مَا هُوَ شَرْطُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مُنْعَدِمًا، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْأَبِ يَسْتَوْلِدُ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ هُنَاكَ فَيَتَمَلَّكُهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ لِثُبُوتِ حَقٍّ مُتَأَكِّدِ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عَقْرٍ فَكَانَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِيلَادُهُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ. [سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ] وَإِنْ سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُقْطَعْ لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ وَيُؤَدِّبُ وَلَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْرَقُ رَحْلُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِأَنْ يُحْرَقَ رَحْلُ الْغَالِّ» وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْجَيْشِ أَعْرَابٌ جُهَّالٌ يَكُونُ مِنْهُمْ الْغُلُولُ فَلَوْ كَانَ يَسْتَحِقُّ إحْرَاقُ رَحْلِ الْغَالِّ لَاشْتُهِرَ ذَلِكَ وَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي رَحْلِهِ مَصَاحِفُ كَانَتْ تُحْرَقُ وَاسْتُكْثِرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَمَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا سَرَقَ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدُهُ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي السَّرِقَةِ كَفِعْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. وَإِذَا قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ فَوَقَعَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ أَوْ عَرَافَةٍ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، قَالَ: يَجُوزُ إذَا قَلَّ الشُّرَكَاءُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِقِسْمَةِ الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَدَمِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْإِفْرَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِمَامِ رَأْيُ الْبَيْعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا رَأَى الْقَتْلِ فِي الْأَسَارَى فَكَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الْعَرَافَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِتْقُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ نَافِذٌ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا قَلُّوا حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ خَاصَّةً فَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَالشَّرِكَةُ عَامَّةً وَبِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْعَتَاقِ كَشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ: وَالْقَلِيلُ إذَا كَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ وَلَسْت أُوَقِّتُ فِيهِ وَقْتًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ حُكِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ فَقَالَ: قَدْ قِيلَ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَقِيلَ: مِائَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ} [الأنفال: 66] وَقِيلَ: إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى كِتَابٍ وَحِسَابٍ وَقِيلَ: إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ فَهُمْ قَلِيلٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْي الْإِمَامِ فِي اسْتِقْلَالِ عَدَدِهِمْ وَاسْتِكْثَارِهِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. وَإِذَا سَبَى الْجُنْدُ امْرَأَةً ثُمَّ سَبَوْا زَوْجَهَا بَعْدَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَقَدْ حَاضَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَيْضَتَيْنِ أَوْ لَمْ تَحِضْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى سَبَوْا زَوْجَهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهَا وَأَيُّهُمَا سُبِيَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَام ثُمَّ سُبِيَ الْآخَرُ وَأُخْرِجَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا فَصْلٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا السَّبْيُ فَإِذَا انْعَدَمَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا سَوَاءٌ سُبِيَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَإِذَا أُخْرِجَ الْمَسْبِيُّ مِنْهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وُجِدَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَارْتَفَعَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ سُبِيَ الْآخَرُ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 [بَابُ مَا أُصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بُنِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ إذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ عِنْدَنَا وَلَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وَالتَّمَلُّكُ بِالْقَهْرِ أَقْوَى جِهَاتِ السَّبِيلِ وَلَمَّا أَغَارَ عُتَيْبَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى سَرَحَ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَضْبَاءُ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ: فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرِ الْأَرْغِيِّ حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَضْبَاءِ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتُهَا وَقُلْت: لَئِنْ نَجَّانِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لَأَنْحَرَنَّهَا وَلَآكُلَنَّ مِنْ سَنَامِهَا وَكَبِدِهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَصْت عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ «بِئْسَمَا جَازَيْتَهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «رُدِّيهَا فَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِنَا وَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلِأَنَّ الْمَعْصُومَ بِالْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ كَالرِّقَابِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْعِصْمَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي الْمَالِ وَالرِّقَابِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» فَذَلِكَ دَلِيلُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ حَتَّى لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ وَلَا يَمْلِكُ صَيْدَ الْحَرَمِ بِالِاسْتِيلَاءِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحِلِّ وَالسَّبَبُ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا صَادَفَ الِاسْتِيلَاءَ مَحَلًّا مَعْصُومًا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُهَاجِرِينَ فُقَرَاءَ وَالْفَقِيرُ حَقِيقَةً مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ الْكُفَّارُ أَمْوَالَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ: أَلَا تَنْزِلُ دَارَك قَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبْعٍ» وَقَدْ كَانَ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ وَرِثَهَا مِنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 فَيَمْلِكُ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَالِ إذَا تَمَّ بِالْإِحْرَازِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُسَاوَاةٌ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا بَلْ حَظُّهُمْ أَوْفَرُ مِنْ حَظِّنَا لِأَنَّ الدُّنْيَا لَهُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَخْذِ سِوَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَنَحْنُ لَا نَقْصِدُ بِالْأَخْذِ اكْتِسَابَ الْمَالِ ثُمَّ جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِدُونِ الْقَصْدِ فَلَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُفَارِقُونَنَا فِيمَا يَكُونُ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِوِفَاقِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ فِي تَمَلُّكِ رِقَابِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ خَلْقٌ مَالِكًا لَا مَمْلُوكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ تَكُونُ بِوَاسِطَةِ إبْطَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى جَازَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ إبْطَالَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالتَّقَرُّبِ فَإِبْطَالُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ الْجَزَاءُ وَالْعُقُوبَةُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ فِي رِقَابِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ مِنْهُمْ حَتَّى أَنَّ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ عَبِيدَنَا بِالْأَخْذِ؛ وَالْمُفَارَقَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِكْسَابَ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْكَافِرَ سَبَبٌ مُبَاحٌ لِلْمِلْكِ وَاسْتِكْسَابُ الْكَافِرِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَكُونُ عُدْوَانًا فِي مَالٍ مَعْصُومٍ وَالْعِصْمَةُ بِالْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدِّينِ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ مِنْ حَيْثُ مُرَاعَاةُ حَقِّ الشَّرْعِ، وَالْإِثْمُ فِي مُجَاوَزَةِ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِينَ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْرَازُ فِي حَقِّهِمْ بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ دَافِعَةٌ لِشَرِّهِمْ حِسًّا وَمَا بَقِيَ الْمَالُ مَعْصُومًا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالْأَخْذُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِدْوَانٍ مَحْضٍ وَالْمَحَلُّ غَيْرُ مَعْصُومٍ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمْ فَصْلُ الضَّمَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ؛ وَتَأْثِيرُ الْعِصْمَةِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ ثُمَّ لِمَا لَمْ يَبْقَ لِلْعِصْمَةِ بِالدِّينِ اعْتِبَارٌ فِي حَقِّهِمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ بَعْدُ فَلَمْ يَمْلِكُوهَا وَلَا مَلَكَتْ هِيَ فَلِهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 اسْتَرَدَّهَا وَجَعَلَ نَذْرَهَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُكْمُ الْأَخْذِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُمْ يُفَارِقُونَنَا فِي دَارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْنَا فِي دَارِ الْجَزَاءِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ هَذَا الْمَالُ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَحْرَزُوهُ فَإِنْ وَجَدَهُ مَالِكُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ وَجَدْتَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَتْهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت». فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُمْ قَدْ مَلِكُوهَا وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْأَخْذِ مَجَّانًا بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَقَدْ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِنُصْرَةِ الدَّارِ وَهُمْ الْغُزَاةُ أَنْ يَدْفَعُوا الظُّلْمَ عَنْهُ بِأَنْ يَتْبَعُوا الْمُشْرِكِينَ لِيَسْتَنْفِذُوا الْمَالَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَقُّ لِعَامَّةِ الْغُزَاةِ فَعَلَيْهِمْ دَفْعُ الظُّلْمِ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ وَلَكِنْ لَا بِطَرِيقِ إبْطَالِ حَقِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِيَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ثُبُوتَ حَقِّ الْغُزَاةِ فِيهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَلَى شَيْءٍ بَلْ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَهُمْ ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ فِي أَخْذِ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ إيَّاهُ مَجَّانًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ عِوَضٍ كَانَ حَقًّا لَهُمْ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْعَيْنَ عِوَضًا عَنْ سَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ مَا يُعْطِي مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الْعِوَضَ الَّذِي كَانَ حَقًّا لَهُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا لَا مِثْلَ لَهُ فَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْفُلُوسُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فَإِنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ شَرْعًا إنَّمَا ثَبَتَ لَهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ هُوَ مُفِيدٌ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَوْ أَخَذَهَا بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَلِهَذَا جَرَى الرَّبَّا فِيهَا فَلِكَوْنِ الْأَخْذِ غَيْرَ مُفِيدٍ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ مُفِيدًا لِمَا فِي الْعَيْنِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ لِلنَّاسِ. وَإِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 وَجَدَ عَبْدًا كَانَ لَهُ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيَّةِ فَخَاصَمَ فِيهِ الْمَالِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ: إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت» وَعَنْ الْأَزْهَرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَمَةً لِقَوْمٍ أُبْقِيَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا مَوْلَاهَا فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَرَدَّ جَوَابَهُ إنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ مَضَتْ الْقِسْمَةُ وَلِأَنَّ الْآبِقَ يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ كَالدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورِثِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَيَمْلِكُ بِالضَّمَانِ حَتَّى إذَا كَانَ مَغْصُوبًا فَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ وَيَمْلِكُ بِالْهِبَةِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِالْبَيْعِ مِمَّنْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتَّمْلِيكِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا فَإِنَّمَا نَمْلِكُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَكَذَا آبِقُنَا إلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا وَعَلَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ: لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ وَيَعْنِي أَنَّهُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَتَكُونُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ كَيَدِ الْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى زَالَتْ عَنْهُ حَقِيقَةً بِالْإِبَاقِ وَحُكْمًا بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُسْلِمِ يَدٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا كَمَا لَا يَثْبُتُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْيَدُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَخْلُفْهُ الْآخَرُ إمَّا لِأَنَّهُ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْتِي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَلَا تَثْبُتُ يَدُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ لِأَنَّ يَدَ أَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ حِسًّا لَا حُكْمًا فَمَا لَمْ يَأْخُذُوهُ لَا تَثْبُتُ يَدُهُمْ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْيَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَوَكَّلَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ بِالثَّمَنِ لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ يَدُ الْمَوْلَى فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْيَدُ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ تَثْبُتُ الْيَدُ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ يَبْقَى هُوَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْيَدِ. وَمَا بَقِيَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 الْمَالُ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ صَارَ قَابِضًا لَهُ فَبَقَاءُ الْمَانِعِ حُكْمًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَأَمَّا الْآبِقُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا حَتَّى لَوْ وَهَبَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهَا الْيَدُ فِي نَفْسِهَا وَبِخِلَافِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا لِأَنَّ يَدَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ وَبِخِلَافِ التَّمَلُّكِ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ فَإِنَّهُ تَمَلُّكٌ حُكْمِيٌّ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ قَصْدًا بِسَبَبِهِ كَالْخَمْرِ وَالْقِصَاصِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالدَّيْنُ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازُ قَدْ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَلَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْآبِقَ لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وَأَحْرَزُوهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْإِمَامُ يُعَوِّضُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ اسْتَحَقَّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ فَيُعَوِّضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قَسْمُهُ كَالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ يُوضَعُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ غُرْمٌ يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُقَابَلُ بِالْغُنْمِ وَهَكَذَا يُقَالُ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ. إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ مُكَاتِبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَقَ إلَيْهِمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْفِدَاءِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْسُورًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِالْتِزَامِ الْخُسْرَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ هَذَا الْعَبْدُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ فَيَبْقَى حَقُّهُ مَرْعِيًّا فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَدْ وَهَبُوهُ لِرَجُلٍ أَخَذَهُ مِنْهُ مَوْلَاهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهُوَ مِلْكٌ مَرْعِيٌّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مَجَّانًا لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَأْسُورِ مِنْهُ وَلَكِنَّ فِي ذَلِكَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ. (فَإِنْ قِيلَ): هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ فَالْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ فِي الْهِبَةِ مَقْصُودٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ إذَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَضَ فَجُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَبِمِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَمِلْكُهُ مَرْعِيٌّ كَمِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يُبْطِلَ الْعَقْدَ الثَّانِي لِيَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ فِي نَقْضِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَائِدَةً لِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقَّ نَقْضِ الْقِسْمَةِ لِيَأْخُذَهُ مَجَّانًا وَفَائِدَتُهُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحَقِّ الشَّفِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ وَرُبَّمَا يَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ وَالشُّفْعَةُ تَثْبُتُ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْهِبَةِ فَلِإِبْقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الْعَيْنِ مَكَّنَاهُ مِنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَهُنَا لَيْسَ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي إبْطَالُ حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ حَقَّ الْآخِذِ يَبْقَى سَوَاءٌ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلِهَذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ حَقُّ الشَّفِيعِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ فَيُنْتَقَضُ تَصَرُّفُهُ بِحَقِّ مَنْ سَبَقَ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَا لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِمَا يُقِرُّ هُوَ لَهُ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَيَعْلَمُ بِهِ مَوْلَاهُ فَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ زَمَانًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ فَلَهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ جُعِلَ مُبْطِلًا حَقَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغَرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِالسُّكُوتِ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُبْطِلَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ مُبْطِلًا لِحَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى أَسَرُوهُ ثَانِيًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرَ مِنْهُمْ ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ حَقَّ الْآخِذِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ دُونَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الْآخِذِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا إنْ شَاءَ وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ فَقَدْ ظَهَرَ مَحَلُّ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَمْ يَظْهَرْ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِهَذَا الْمَعْنَى. (فَإِنْ قِيلَ): إنَّمَا كَانَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي اسْتَفَادَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ وَهَذَا مِلْكٌ آخَرَ اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَكَيْف يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ. (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَمَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِدَاءٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ كَالْمَوْلَى يَفْدِي عَبْدَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا أَنْ يَتَمَلَّكهُ بِالْفِدَاءِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِوَضُ الَّذِي أَدَّى مِنْ مَالِهِ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ أَدَّاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى أَخْذَهُ مَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَمِيعَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا غَرِمَهُ مَرَّتَيْنِ. وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةُ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ دَيْنِ إنْسَانٍ فَإِنْ رَجَعَ إلَى مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فِي عُنُقِهِ كَمَا كَانَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِالْأَخْذِ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ أَصْلًا وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ أَوْ رَجَعَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ مُسْتَأْنَفٍ بَطَلَتْ جِنَايَةُ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَمَا لَوْ زَالَ الْعَبْدُ الْجَانِي عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْعِتْقِ وَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ وَالدَّيْنِ فَهُمَا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُؤْخَذُ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ ذِمَّتُهُ وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى. أَلَا تَرَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ لَا يَبْطُلُ الْقِصَاصُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَلِهَذَا أُخِذَ بِهِ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَلْحَقُهُ الْجِنَايَةُ وَالدَّيْنُ يَبْدَأُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ بَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ دَفَعَ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ. فَإِنْ وَقَعَ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ هَذَا الرَّجُلُ أَوْ دَبَّرَهُ جَازَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ تَامٌّ مَعَ قِيَامِ حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لِمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ عَلَيْهِ قَدْ لَزِمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ بِعَرْضِ الْإِبْطَالِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا أُعْتِقَ أَوْ دُبِّرَ يَبْطُلُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدُهَا لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ ضَعِيفُ الْعَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُعَدُّ وَمَحَلُّهُ وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ - الْعَيْنِ فَفِي الْمَالِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرَ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى هَهُنَا قَوِيٌّ يَتَأَكَّدُ فِي الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَبْطُلُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَ عَقْرَهَا أَوْ أَرْشَ جِنَايَةٍ جَنَى عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ وَالْأَرْشِ وَالْعَقْرِ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْعَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ السَّبَبُ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَقْرَ وَالْأَرْشَ أَخَذَهُمَا بِمِثْلِهِمَا فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْتَقَصُ عَنْ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْعَقْرِ وَالْأَرْشِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَسِيرٍ أَوْ فَاحِشٍ لَمْ يُنْتَقَصْ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُعْطَى فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ فِي حَقِّهِ وَالْفِدَاءُ لَا يُقَابَلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ قِصَّتَهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةً مِلْكًا صَحِيحًا وَقِيَامُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي الْأَخْذِ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ كَالْجَارِيَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 الْمَوْهُوبَةِ يَحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ لِلْوَاهِبِ فِيهَا حَقُّ الرُّجُوعِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ يَتِيمًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ نَظَرًا لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَسْرَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ. فَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ رَهْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا فَأَسَرَهَا الْعَدُوُّ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ مَوْلَاهَا أَحَقَّ بِهَا بِالثَّمَنِ لِأَنَّهَا أُسِرَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَحَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ تَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَاوِيَةً وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أُعْطِي مِنْ الْأَلْفِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا بِرَدِّ الْأَلْفِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا لِيَسْتَوْفِيَ أَلْفًا مِنْ مَالِيَّتِهَا فَلَا يُفِيدُهُ إعْطَاءُ الْأَلْفِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ أَلْفًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً يَبْلُغُ أَرْشَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَهَا فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ الْمَوْلَى فَيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهَا مُفِيدٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ الْخَمْسَمِائَةِ لِيُحْيِيَ بِهِ حَقَّهُ فِي الْأَلْفِ وَهُوَ نَظِيرُ الْجِنَايَةِ إذَا كَانَ أَرْشُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْف فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءَ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فَكَانَتْ تَاوِيَةً فِي حَقِّهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ لِلْمُشْتَرِي فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَى أَخْذِهَا سَبِيلٌ وَكَانَ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا لِمَوْلَاهَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِلْمَوْلَى دُونَ ذِي الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْغَاصِبِ فَالْغَصْبُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَالْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حِفْظِ مِلْكِهِ فَيُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْحِفْظِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَيَخْرُجُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَوْدِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ وَلَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي التَّمَلُّكِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ وَبِهِ فَارَقَ الْفِدَاءَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ لَوْ فَدَاهَا مِنْ الْجِنَايَةِ صَحَّ وَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَنَظِيرُهَا بِالْفِدَاءِ يُقَرِّرُ حِفْظَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَإِنْ أُخِذَ بِالثَّمَنِ يَكُونُ إعَادَةً لِلْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ حِفْظًا لِلْمَلَكِ وَهُوَ مَا أَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ. فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 أَنْ تُؤْسَرَ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ حُكْمًا فَإِنَّهَا مُسْلِمَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَأْسُورَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صُورَةً وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً لَا حُكْمًا لَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَبِالْإِحْرَازِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ كَبَيْعِ الْمَوْلَى إيَّاهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنِّكَاحِ. فَإِنْ غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ وَهُنَاكَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ مُسْتَأْمَنٌ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ فَيَأْكُلُ الطَّعَامَ مِنْ ذَلِكَ وَيَطَأُ الْجَارِيَةَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ بِأَمَانٍ فَسَرَقَ مِنْهُمْ جَارِيَةً وَأَخْرَجَهَا لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَحْرَزَهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَدْرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَدْرٌ بِأَمَانِ نَفْسِهِ لَا بِأَمَانِ الْإِمَامِ فَأَمَّا هَهُنَا هَذَا الْمِلْكُ تَامٌّ لِلَّذِي أَحْرَزَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَتْ سَالِمَةً لَهُ وَلَا يُفْتِي بِرَدِّهَا فَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ وَطْؤُهَا وَهَذَا لِلْفِقْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَنْعَدِمُ عِنْدَ تَمَامِ إحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِالْإِحْرَازِ فَلَا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُمْ وَلَا أَنْ يَطَأَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَتَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ حُرًّا أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَالْحُرُّ عَلَى حَالِهِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَا يُمْلَكَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فَدَاهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ نَفْسِهِ فِي تَخْلِيصِهِمَا وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا بِأَمْرِهِمَا وَهَذَا فِي الْحُرِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِ الْيَدِ وَالْمَكَاتِبِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ فَبَاعَهُ مِلْكَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعْتَقَهُ فَهُوَ حُرٌّ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَأَعْتَقَهُ وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَا بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ يُعْتِقُ فَهَذَا أَيْضًا عَبْدٌ مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ وَيَدُهُ بِبَيْعِهِ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ وَعِنْدَهُمَا بِالْبَيْعِ لَا يُعْتِقُ وَإِنَّمَا يُعْتِقُ بِالْإِعْتَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْإِعْتَاقُ مِنْ الْحَرْبِيِّ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِمْ مُنِعَ الْمُعْتِقُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتِقِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ هَهُنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فَلِهَذَا يُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهِ وَقِيلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا يَقُولُ يُعْتِقُ بِالْبَيْعِ فِي عَبْدٍ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَفِي هَذَا الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ حَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى مِلْكِهِ مَجَّانًا أَوْ بِفِدَاءٍ فَلَا يُعْتَقُ بِالْبَيْعِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ مَالِكُهُ. وَإِذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى مَالِ أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَصَارُوا ذِمَّةً فَهُوَ لَهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ وَبِهِ كَانَ يَقُولُ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ فِي الَّذِي وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ وَالسُّنَّةُ هَهُنَا جَاءَتْ بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ لِلَّذِي أَسْلَمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ هُنَاكَ وُجُوبُ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ عَلَى هَذَا الْحَرْبِيِّ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ حِينَ أَحْرَزُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ شَرْعًا وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالنُّصْرَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَا كَانَ يَوْمئِذٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي مِلْكِهِ وَإِذَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْبِيُّ بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَالْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ فِيهِ وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا وَلَمْ يَكُنْ حَقُّ الْمَوْلَى ثَابِتًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَكَّنَاهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ كَانَ غَدْرًا بِالْأَمَانِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُسْتَأْمَنُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ اسْتِذْلَالِهِ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ وَإِعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَإِذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» وَلَا تَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ عِنْدَ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُونَ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَلَكِنَّهُ فِي الدَّارِ لَا مِنْ الدَّارِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِلْأَبَوَيْنِ أَصْلًا وَالدَّارُ فِي حُكْمِ الْخَلْفِ فَلَا يَظْهَرُ الْخَلْفُ مَعَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَتِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّةَ إذَا وَلَدَتْ مِنْ زِنًا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُهَا فِي الدِّينِ وَلَا أَبَا هُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ يَكْفِي فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ دِينُهُ فَإِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 لِلسَّابِي وَطْؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا تَبَعًا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِأَنَّهُ يَقْرَبُ مِنْ التَّابِعِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبَوَيْنِ انْقَطَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ وَيَصِيرُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ كَاللَّقِيطِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ الْأَبُ مِنْ نَاحِيَةٍ وَالِابْنُ مِنْ نَاحِيَةٍ مَعًا فَمَاتَ الصَّبِيُّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي دَارِنَا إلَّا وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ دُونَ الدَّارِ وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْأَبُ أَوَّلًا ثُمَّ الصَّبِيُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ أَوَّلًا ثُمَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ حِينَ خَرَجَ أَوَّلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجَ أَبَوَاهُ. (فَإِنْ قِيلَ): إذَا خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ كُفْرَهُ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الدَّارِ يُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ الْمُوجِبُ لِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ قُلْنَا: الِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فَأَمَّا الدَّارُ خَلَفٌ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَظْهَرُ الْخُلْفُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالتَّرْجِيحِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَبُوهُ كَافِرًا فِي دَارِنَا لِأَنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ وَإِنْ مَاتَتْ آبَاؤُهُمْ وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ثُمَّ جَعَلْنَا الْوَلَدَ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا نَجْمُلُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ نَقُولُ: الْمَوْتُ لَا يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَبْقَى حِلُّ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا يُنَافِي الْعِصْمَةَ وَالتَّبَعِيَّةَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفْتَرِقَانِ. [بَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ] وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَكِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيُسْلِمُوا عَسَى وَيُكْرَهُ بَيْعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يُبَاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِيُعِيدُوهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَقَوَّوْا بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ صَارَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ مِنْ صِغَارِهِمْ يُكْرَهُ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ الْأَسَارَى وَلَهُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُمْ وَيُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْجُنْدِ يَنْظُرُ أَيُّ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَسَّمَ سَبَايَا أَوْطَاسٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْإِمَامُ نَصَّبَ نَاظِرًا فَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ لِمَعْنَى الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْعَدُوِّ وَلِيَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ فِتْنَتَهُمْ وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قِسْمَتِهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَيَخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ لِأَنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى رَأْيِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ الْآسِرُ فِتْنَةً فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلُهُ» وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَا لَمْ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ مُبَاحُ الدَّمِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتْلُ مُبَاحِ الدَّمِ لَا يُوجِبُ ضَمَانَهُ فَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ يُقَسِّمُهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقِسْمَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْأَخْذِ وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الرِّقِّ وَالْقِسْمَةُ لِتَعْيِينِ الْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِسْلَامُهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَمَانًا فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: قَدْ كُنَّا أَمِنَّاهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ فَلَا يُصَدَّقُونَ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُمْ هَذَا إقْرَارٌ لَا شَهَادَةَ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ أُخْبِرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ كَانَ مُتَّهَمًا فِي خَبَرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَسَرُوهُمْ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا مِنْ الْجُنْدِ فَفِي شَهَادَتِهِمْ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْجُنْدِ فَلَيْسَ فِي شَهَادَتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ فَالثَّابِتُ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. وَلَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَلَا الْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ مِنْ الْأَسَارَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ يُقَاتِلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ: هاه مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ يُقَاتِلُ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ لَا يُقَاتِلُونَ أَحَدًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَارِضًا فَقَدْ انْدَفَعَ بِالْأَسْرِ فَلَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ مِنْهُمْ إذَا قَاتَلَتْ فَأُسِرَتْ لَا تُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَا بَأْسَ بِإِرْسَالِهِ الْمَاءَ إلَى مَدِينَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَطْفَالٌ أَوْ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى أَوْ تُجَّارٌ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهَذَا الصُّنْعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكَ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ فَلَوْ اعْتَبِرْنَا هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ فَإِنَّ حُصُونَهُمْ وَمَدَائِنَهُمْ قَلَّ مَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِمَكَانِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ فَكَذَلِكَ لِمَكَانِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ هَذَا وَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ وَأَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنْ يُحَرِّقَ وَحَرَّقَ حِصْنَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ» وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّامِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَرْكُ الرَّمْيِ إلَيْهِمْ جَائِزٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِتَالُ مَعَهُمْ فَرْضٌ وَإِذَا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوا أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَلِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الرَّمْيِ لِمَا أَنَّهُمْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْتَرِئُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرُبَّمَا يُصِيبُونَ مِنْهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ الدُّنُوِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ الرَّامِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْحَرْبِيَّ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِعْلًا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ بِقَصْدِهِ لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ فِيمَا أَصَابَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إصَابَةٌ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْمُبَاحُ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَلَا دِيَةً وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقُولُ هَذَا قَتْلُ خَطَأٍ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْكَافِرَ فَيُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَهَذَا هُوَ صُورَةُ الْخَطَأِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ حَالِ مَنْ يُصِيبُهُ عِنْدَ الرَّمْي لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ خَطَأً بَلْ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا. وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَلَهُ فِي أَيْدِيهِمْ جَارِيَةٌ مَأْسُورَةٌ كَرِهْتُ لَهُ غَصَبَهَا وَوَطْأَهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ فَلَوْ غَصْبَهَا مِنْهُمْ أَوْ سَرَقَهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ وَقَدْ ضَمِنَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا عَلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يُعِيدُ مِلْكَهُ إلَى يَدِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمِلْكِهِمْ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَانَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَأْسُورًا فِيهِمْ لِمَ أُكْرِهْ لَهُ أَنْ يَغْصِبَ أَمَتَهُ أَوْ يَسْرِقَهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ فِيهِمْ مَظْلُومٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَنْ يَسْرِقَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِخِلَافِ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ تُرِكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَرَقِيقِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّ أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا فَلَا يُسْتَرَقُّونَ وَالْمَنْقُولَاتُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ لِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا فَلَا يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِتَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ لَا إبْطَالَ مِلْكِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ يَدَهُ إلَى أَمْتِعَتِهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا عَقَارُهُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَقَارَهُ لَهُ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى «أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَسْلَمُوا حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَاصِرًا لَهُمْ فَأَحْرَزُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» قَالَ: وَعَامَّةُ أَمْوَالِهِمْ الدُّورُ وَالْأَرَاضِي وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ غَنِيمَةً بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ وَلَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ يَدٌ فَهُمْ كَسَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ الْحُبْلَى لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ زَوْجِهَا فَتَكُونُ فَيْئًا وَيَدُهُ عَلَيْهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الِاغْتِنَامَ كَالْيَدِ عَلَى الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ أَبَدًا كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَنِينُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا وَكَمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَ مَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بَلْ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ يَظْهَرُ فِي التَّبَعِ فَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الرِّقِّ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَأَهْلُهُ وَمَالُهُ وَأَوْلَادُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 أَجْمَعُونَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي دَارِنَا فَوَلَدُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُنَافٍ لِلتَّبَعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا خَلَفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ دُونَهُ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ مَالِهِ فَيْءٌ إلَّا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ التَّبَعِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَائِمَةً وَبَعْدَ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ لَا يُسْتَرَقُّونَ فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ فِيهَا بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَتَكُونَ مَانِعَةً إحْرَازَ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهَا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُودِعِ وَإِذَا لَمْ تَصِرْ غَنِيمَةً كَانَتْ يَدُ الْمُودِعِ فِيهَا كَيَدِ الْمُودَعِ فَيَصِيرُ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ حَرْبِيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ فَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ فَجُعِلَتْ يَدُهُ بَاقِيَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ حُكْمًا بِيَدِ مَنْ يَخْلُفُهُ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَدَ الْمُودِعِ فِي هَذَا الْمَالِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَافِعَةً لِاغْتِنَامِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ مُعْتَبَرَةً كَانَ هَذَا وَالْمَالُ الَّذِي لَمْ يُودِعْهُ أَحَدًا سَوَاءً. وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا بِأَمَانٍ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا وَدُورًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ إلَّا الدُّورَ وَالْأَرَضِينَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُحْرِزُ بِيَدِهِ لِأَمْوَالِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا الدُّورُ وَالْأَرَضِينَ فَهِيَ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ مَغْنُومَةً كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْوَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَقْوَى إذَا ثَبَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ فَالْيَدُ عَلَيْهَا تَبْقَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِحْرَازُ فِي الْمَنْقُولَاتِ بِأَنْ يَخْرُجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ أَيْضًا مُحْرِزًا لَهَا بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ فَأَمَّا الْعَقَارُ لَا يَتَحَوَّلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ إحْرَازُهُ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا تَصِيرُ مُحْرِزَةً بِالْغَانِمِينَ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ كِبَارِ عَبِيدِهِ فَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَمْنَعُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 عَبْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ حَقِيقَةً كَانَ فَيْئًا كَسَائِرِ عَبِيدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حُبْلَى فَهِيَ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَتْ بِفَيْءٍ أَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَلِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَدُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى تِلْكَ الْوَدِيعَةِ بِاعْتِبَارِ يَدِ مُودِعِهِ وَكَوْنُهُ حَافِظًا لَهُ فَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْعَطْفُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ الْفَرْقُ أَنَّ التَّاجِرَ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ مَالُهُ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا أَمَرَ بِهِ فَإِذَا بَقِيَ الْمَالُ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِغْنَامِ فَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَالُهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِغْنَامِ إلَّا مَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ يَدٌ صَحِيحَةٌ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِغْنَامِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْوَدِيعَةَ فَاقْتَسَمُوهَا فِي الْغَنِيمَةِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِغَيْرِ قِيمَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ لَمْ يُحْرِزْهُ الْمُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَتَلُوا هَذَا الْمُسْلِمَ فِي دَارِهِمْ وَأَخَذُوا مَالَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَقَدْ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُ فَيَمْلِكُونَهُ ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ يَمْلِكُونَهُ عَلَيْهِمْ بِالِاغْتِنَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَحْرَزُوهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ فَكَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُقُوقُ مِلْكِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ كَانَ لِحَقِّ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ فَيَقُومُ فِيهِ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَأْسُورِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ دُونَ ذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا اقْتَسَمُوهُ ثُمَّ حَضَرَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ أَخَذُوا الْأَمْتِعَةَ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَرِّثُ حَيًّا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَسْلَمُوا عَلَى دَرَاهِمِ وَصَالَحُوا لَمْ يُؤْخَذُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ إسْلَامَهُمْ يُقَرِّرُ مِلْكَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي دَمِهِ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ حِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ دَمِهِ يَوْمئِذٍ ثُمَّ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمْ. وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَأَعْتَقَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ فَكَبِرَا هُنَاكَ كَافِرَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَهُمَا فَيْءٌ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إيَّاهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ كَانَ ذَلِكَ إعْتَاقًا صَحِيحًا فَهُمْ كَسَائِرِ أَحْرَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُفَّارِ فَيَكُونُونَ فَيْئًا وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ نَظِيرَ الْوِلَادِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُعْتَقُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ مُعْتِقِهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا يَتْبَعُ مَوْلَاهُ فِي الدِّينِ فَبِاعْتِبَارِ أَثَرِ الْمِلْكِ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَاجِرًا أَوْ أَسِيرًا أَوْ أَسْلَمَ هُنَاكَ فَأَمِنَهُمْ فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ جِهَتِهِمْ وَلِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِالْأَمَانِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُؤَمِّنَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ الْأَمَانَ يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ وَلَا خَوْفَ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ عَقْدُهُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَإِنَّ مَنْ أَمِنَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ جَازَ أَمَانُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ وَقَالَ: يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أُولَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى تَعْقِدُ الْأَمَانَ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى تُنْبَذُ إلَيْهِمْ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْجَيْشِ إنَّمَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَيَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّى أَيْضًا فَيَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ لِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ كَالتَّزْوِيجِ بِوِلَايَةِ الْقَرَابَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّنَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْحَرْبِ جَازَ أَمَانُهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا» وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَدَخَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرِيدُ قَتْلَهُمَا وَقَالَ: أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقُلْت: لَا إلَّا أَنْ تَبْدَأَ بِي قَبْلَهُمَا وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ الْبَيْتِ وَأَغْلَقْتُ الْبَابَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَاخِتَةً: قُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي وَأَرَادَ قَتْلَهُمَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت» وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَإِنَّهَا تُجَاهِدُ بِمَالِهَا وَكَذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْخُبْزِ وَذَلِكَ جِهَادٌ مِنْهَا. [الْعَبْدُ إذَا أَمِنَ أَهْلَ الْحَرْبِ] فَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَمِنَ أَهْلَ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَأَمَانُهُ صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَتَبَ عَلَى سَهْمٍ بِالْفَارِسِيَّةِ مترسيت وَرَمَى بِذَلِكَ إلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَ أَمَانَهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِعْلُ الْمُقَاتِلِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ مَوْلَاهُ فَهُمْ يَخَافُونَهُ فَعَقْدُهُ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الْغَيْرِ وَقَوْلُ الْعَبْدِ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَمَا فِي شَهَادَتِهِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ وَلَا يُقَالُ قَرَابَتُهُ فِيهِمْ فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ أَمَانُهُ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِ إيثَارُ الْقَرَابَةِ عَلَى الدِّينِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ فَأَمَّا الذِّمِّيُّ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ سَبَبُ وِلَايَةِ الْأَمَانِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ. [أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِتَالِ] فَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِتَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَأَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبْدُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَانُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا تُهْمَةَ فِي أَمْرِهِ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ وَبَيَانُ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْجِهَادِ إعْزَازُ الدِّينِ وَدَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ أَهْلًا لَهُ ثُمَّ الْجِهَادُ يَكُونُ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى فَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَنَافِعِهِ وَتَعْرِيضُ مَالِيَّتِهِ لِلْهَلَاكِ فَأَمَّا الْأَمَانُ جِهَادٌ بِالْقَوْلِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ صِحَّةُ أَمَانِهِ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقَتْلِ وَتَأْثِيرُ الْإِذْنِ فِي رَفْعِ الْمَانِعِ لَا فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِذْنِ لَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَنُزُولُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ الْأَمَانُ تَرْكُ الْقِتَالِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَبَعْدَ الْإِذْنِ هُوَ فِي الْأَمَانِ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دِينُهُ لَا دِينَ الْمَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ أَهْلًا لِكَوْنِهِ مُسْلِمًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 وَلِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ وَقَوْلُهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مُعْتَبَرٌ مُلْزِمٌ فَكَذَلِكَ فِي فُرُوعِهِ وَلِهَذَا صَحَّ إحْرَامُهُ وَصَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالذِّمَّةُ أَقْوَى مِنْ الْأَمَانِ فَيُسْتَدَلُّ بِصِحَّةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (وَحُجَّتُنَا) قَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَالْأَمَانُ شَيْءٌ وَهَذَا عَامٌّ لَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْأَصْنَامِ وَاحِدُهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْجِهَادِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ بِنَفْسِهِ كَالذِّمِّيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْجِهَادَ يَكُونُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ وَنَفْسُهُ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَمَان مِنْ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْأَمَانُ خَيْرًا لَهُمْ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْقِتَالَ حِفْظُ قُوَّةِ النَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ وَلَكِنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ مُجَاهِدًا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ الْقِتَالَ لَا يَعْرِفُ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَلَا يَكُونُ أَمَانُهُ جِهَادًا بِالْقَوْلِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ عَرَفَ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ أَمَانِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ أَمَانِ الْأَسِيرِ لِأَنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَسِيرُ خَائِفٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي الْمُقَيَّدِ بِالْأَسْرِ فَفِي الْمُقَيَّدِ بِالرِّقِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَالِكٌ لِلْقِتَالِ وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ حِسًّا وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْقِتَالِ أَصْلًا وَلِأَنَّ عَقْدَ الْعَبْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْقِتَالِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَإِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْعَبْدُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ وَهُوَ يَخَافُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَمِنْتُكُمْ وَلَا يَقُولُ: أَمِنْت نَفْسِي وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَانًا وَلِأَنَّهُ نَوْعُ وِلَايَةٍ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَيَّدُ الْقَوْلُ عَلَى الْغَيْرِ بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ نَظِيرَ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْأَمَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْأَمَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ ضَرُورَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ الْقِتَالِ مَعْنَى فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِلْقِتَالِ وَالْآثَارُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» فَأَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ افْتَرَضَ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ فَلَوْ اعْتَبَرَ مَا سَبَقَ مِنْ الْعَبْدِ احْتَسَبَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ كَانَ ابْتِدَاءَ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَالِ فَلِكَوْنِهِ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَقَبُولِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا الْأَمَانُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْتَرَضُ إجَابَةُ الْكُفَّارِ إلَيْهِ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ تَوَهُّمُ الضَّرَرِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى خَاصَّةً كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَوْلَى فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ أَمَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَمَانُهُ بَاطِلٌ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِصِحَّةِ أَمَانِهِ كَمَا يَقُولُ بِصِحَّةِ إيمَانِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا يَضُرُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ. وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَطَأَهَا وَلَا يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْمُسْلِمِ يَشْتَرِي جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ سَبَبُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِ حِينَ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَهَذَا بِخِلَافِ اللِّصِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً وَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ الْتَحَقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمُنَفَّلِ الْقَهْرُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ فِي حَقِّ الْجَيْشِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ قَاهِرٌ يَدًا مَقْهُورٌ دَارًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إتْمَامِ الْقَهْرِ إنَّمَا تَأْثِيرُ التَّنْفِيلِ فِي قَطْعِ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْمُنَفَّلِ لَهُ فَأَمَّا سَبَبُ الْمِلْكِ لِلْمُنَفَّلِ لَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ لَوْلَا التَّنْفِيلُ وَهُوَ الْقَهْرُ فَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا أَخَذَهُ اللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ بِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْحِلِّ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا تَمَّ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا لِأَنَّ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَانِعُ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَمَّا نَفَذَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 الْقِسْمَةُ مِنْ الْإِمَامِ تَصِيرُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ تَمَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَإِذَا خَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ مُسَلَّحَةٍ أَوْ عَسْكَرٍ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهَا تُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْخَارِجِينَ فَإِنَّ الْمُصَابَ صَارَ مُحْرِزًا بِالدَّارِ بِقُوَّتِهِمْ جَمِيعًا إذْ هُمْ الرِّدْءُ لَهُمْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ لِيَنْصُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْإِمَامُ أَذِنَ لَهُمْ فِي أَنْ يَأْخُذُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِهَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ بَعَثَ الْإِمَامُ رَجُلًا طَلِيعَةً فَأَصَابَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ رِدْءٌ لَهُ وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلَ الْمِصِّيصَةِ وَمَلَطْيَةَ بَعَثَهُمْ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْهَا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُونَ رِدْءًا لِلْمُقَاتِلِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَطُّنَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْمَقَامِ فِي أَهَالِيِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَإِنَّ تَوَطُّنَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ لِلْقِتَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِلسَّرِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَوَى مِنْهُمْ الْإِقَامَةَ فِي الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ سَاكِنِ الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ هَهُنَا حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ خَاصَّةً وَهُنَاكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ ثُمَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُمْ مَنْعَةٌ أَوْ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَنْعَةٌ فَسَوَاءٌ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّ مَا أَصَابُوهُ غَنِيمَةً حَتَّى يُخَمَّسَ وَيَقْسِمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الْمُصِيبُ وَغَيْرُ الْمُصِيبِ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ لَا يَخْفَى عَلَى الْإِمَامِ عَادَةً وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيَمُدَّهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أُصِيبُوا مَعَ مَنْعَتِهِمْ كَانَ فِيهِ وَهْنًا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ نُصْرَتُهُمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الدَّاخِلِينَ بِإِذْنِهِ وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ الْمُصِيبِينَ أَهْلُ مَنْعَةٍ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ جَهَارًا فَأَمَّا إذَا كَانُوا قَوْمًا لَا مَنْعَةَ لَهُمْ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُمَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَمُدَّهُ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْذَنُ لِلْوَاحِدِ فِي الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ قُوَّتَهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ لِأَجْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْوَاحِدُ سَرِيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَرِيَّةً وَحْدَهُ» «وَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 يَوْمَ الْخَنْدَقِ طَلِيعَةً» وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ هَذَا الْوَاحِدُ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ إعْزَازِ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يُجَاهِرُ بِمَا يَأْخُذُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ سِرًّا إذْ هُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَالدَّاخِلِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَلَا خُمْسَ فِيمَا أَصَابُوا عِنْدَنَا وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَإِنْ أَصَابُوا جَمِيعًا قَسَّمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَفْضُلُ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَالْغَنِيمَةُ اسْمُ مَالٍ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكَفَرَةِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا لِلْمُحَارَبَةِ وَالْقَهْرِ لِأَنَّ الْقَهْرَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقُوَّةِ جِهَارًا وَتَارَةً يَكُون بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ سِرًّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ». أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَا يَأْخُذُونَ غَنِيمَةً وَصِفَةُ أَحَدِهِمْ لَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِ إذْنِ الْإِمَامِ وَعَدَمِهِ. (وَحُجَّتُنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا ابْنًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو مَا يَلْقَى مِنْ الْوَحْشَةِ «فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ الِابْنُ عَنْ قَلِيلٍ بِقَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا» وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَالٍ مُصَابٍ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ وَلِهَذَا جُعِلَ الْخُمُسُ مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَيَتَمَحَّضُ فِعْلُهُ اكْتِسَابًا لِلْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ وَشَوْكَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ مَنْعَةٌ لَوْ أَمِنَهُمْ صَحَّ أَمَانُهُ وَاللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ أَمِنَهُمْ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيمَا إذَا كَانَ دُخُولُ الْوَاحِدِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَإِنْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا هُنَاكَ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَمَّ بِتَمَامِ سَبَبِهِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ فِي كَوْنِهِ سَبَبَ الْمِلْكِ تَامٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ جَارِيَةً فَإِنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ هُنَاكَ لَمْ يَتِمَّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي دَارِهِمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَّصِلُ بِجَيْشٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُشَارِكُونَهُ فِيهَا إذَا شَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ. (قَالَ): وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ أُمَّتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَسْلٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّوَطُّنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 وَإِذَا خَرَجَ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَخَلَّقُ وَلَدُهُ بِأَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ مَوْطُوءَتَهُ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ مَلَكُوهَا مَعَ مَا فِي بَطْنِهَا فَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ. [يُعْطِي الْإِمَامُ أَبَا الْغَازِي شَيْئًا مِنْ الْخُمُسِ] وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِي الْإِمَامُ أَبَا الْغَازِي شَيْئًا مِنْ الْخُمُسِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ حَاجَةَ الْغَازِي إلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِيهِ فَفِي أَبِيهِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ فِعْلُ الْإِيتَاءِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِقَطْعِ مَنْفَعَتِهِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَهُنَا الْخُمُسُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْغُزَاةِ بَلْ خُمُسُ مَا أَصَابُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَازِي وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ. وَإِذَا غَزَا أَمِيرُ الشَّامَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي الْعَسْكَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ الْحَرْبَ خَاصَّةً. فَإِنْ حَاصَرَ أَمِيرُ الشَّامِ مَدِينَةً مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجْمَعْ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُحَارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْإِقَامَةُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوَطُّنِ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمَ عَدُوَّهُ فَيُقِرُّ أَوْ يَنْهَزِمُ فَيَفِرُّ. وَإِذَا أَرَادَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَا أَرْضَ الْحَرْبِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا مَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَهِّزَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُجْعَلَ الْقَاعِدُ لِلشَّاخِصِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى وَالْقَادِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَالٍ كَثِيرٍ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْخُرُوجِ وَصَاحِبُ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى مُجَاهِدٍ يَقُومُ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَعَنْ مَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا وَالتَّنَاصُرِ لِيَكُونَ الْقَاعِدُ مُجَاهِدًا بِمَا لَهُ وَالْخَارِجُ بِنَفْسِهِ «وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ثُمَّ دَافِعُ الْمَالِ إلَى الْخَارِجِ لِيَغْزُوَ بِمَا لَهُ يُعِينُهُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ أَوْ عِنْدَ الْإِمَامِ كَرِهْتُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَذَلِكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْإِمَامِ مُعَدٌّ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَيْهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَازِي صَاحِبَ مَالٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَمَامُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا فَعَمَلُهُ فِي الصُّورَةِ كَعَمَلِ مَنْ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 الْأَجِيرِ بِكَمْ اُسْتُؤْجِرْت؟ قَالَ: بِدِينَارَيْنِ قَالَ: «إنَّمَا لَك دِينَارُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَنْفِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ «مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» فَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُ الْإِشْرَاكُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْحَرَسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَاعَةٌ أَمَّا الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحَرَسُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لَا تَمَسُّهَا نَارُ جَهَنَّمَ عَيْنٌ غَضَّتْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَتَدْفَعُ الْخَوَاطِرَ الرِّدْيَةَ وَتَمْنَعُ اللَّغْوَ فَالِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَرَسِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالْحَرَسُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَرَسِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا هُوَ مُتَعَيَّنٌ أَوْلَى وَهُوَ كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَإِذَا طُعِنَ الْمُسْلِمُ بِالرُّمْحِ فِي جَوْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ إلَى صَاحِبِهِ وَالرُّمْحُ فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْبَرُ مِنْ بَذْلِ النَّفْسِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ مِنْ قَرْنِهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ حَمَلَ الْوَاحِدُ عَلَى جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ بَعْضَهُمْ أَوْ يَنْكِي فِيهِمْ نِكَايَةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَلَا تَلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسَ: أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى فَقَالَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ وَهْبٌ: أَنَا لَهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ لَهَا وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ» فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يَنْكِي فِعْلُهُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَأُلْقِيَتْ إلَيْهِمْ النَّارُ لَمْ يُضَيَّقْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى النَّارِ أَوْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ أَمَّا إذَا كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 يَرْجُو النَّجَاةَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْمَيْلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَرْجُو النَّجَاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي الْجَانِبَيْنِ يُخَيَّرُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْمَاءِ فَوْقَ مَا يَصْبِرُ عَلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ صَبْرُهُ عَلَى الدُّخَانِ وَالنَّارِ أَكْثَرُ عَلَى غَمِّ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَخَيَّرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَى النَّارِ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ الْعَدُوِّ وَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ الْمَاءَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ وَذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ النَّجَاةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ أَنَّ طَبَائِعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ غَمَّ الْمَاءِ عَلَى أَلَمِ النَّارِ فَهُوَ بِالْإِلْقَاءِ يَدْفَعُ أَلَمَ النَّارِ عَنْ نَفْسِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ هُوَ وَإِنْ أَلْقَى نَفْسَهُ مَدْفُوعٌ بِفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ أَلْجَئُوهُ إلَى ذَلِكَ وَأَفْسَدُوا عَلَيْهِ اخْتِيَارَهُ فَلَا يَبْقَى فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ فِي تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ] بَابٌ فِي تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْكُفَّارِ أَهْلَ ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ وَعَلَى الْأَرَضِينَ بِقَدْرِ الِاحْتِمَالِ أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَأَمَّا السُّنَّةُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَأَخَذَ الْحُلَلَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ» وَكَانَتْ جِزْيَةً وَقَالَ: «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» يَعْنِي فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ قَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَافِرِ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ جَازَ تَقْرِيرُ الزَّانِي عَلَى الزِّنَا يُؤْخَذُ مِنْهُ؟ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ ثُمَّ نَقُولُ: الْمَقْصُودُ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يُتْرَكُ الْقِتَالُ أَصْلًا وَلَا يُقَاتَلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُ ثُمَّ يَسْكُنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الدِّينِ وَيَعِظُهُ وَاعِظٌ فَرُبَّمَا يُسْلِمُ إلَّا أَنَّهُ إذَا سَكَنَ دَارَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 الْإِسْلَامِ فَمَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ لَا يُخَلَّا عَنْ صَغَارٍ وَعُقُوبَةٍ وَذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى ذُلِّ الْكَافِرِ وَعِزِّ الْمُؤْمِنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِنُصْرَةِ الدَّارِ وَأَبْدَانُهُمْ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ لِأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِيَةِ فَيُشَوِّشُونَ عَلَيْنَا أَهْلَ الْحَرْبِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْمَالُ لِيُصْرَفَ إلَى الْغُزَاةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الدَّارِ. وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ النُّصْرَةِ وَالْفَقِيرُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا كَأَنْ يَنْصُرَ الدَّارَ رَاجِلًا وَوَسَطُ الْحَالِ كَأَنْ يَنْصُرَ الدَّارَ رَاكِبًا وَالْفَائِقُ فِي الْغِنَى يَرْكَبُ وَيَرْكَبُ غُلَامًا فَمَا كَانَ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْحَالِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَنَصْبُ الْمَقَادِيرَ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذْنَا بِهِ وَقُلْنَا: الْمُعْتَمِلُ الَّذِي يَكْتَسِبُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّ سَنَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَالْمُعْتَمِلُ الَّذِي لَهُ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي بِمَالِهِ عَنْ الْعَمَلِ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَالْفَائِقُ فِي الْغِنَى وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرَ فِي الْمَالِ بِتَقْدِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَبِالْعِرَاقِ مَنْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ أَلْفًا يُعَدُّ وَسَطَ الْحَالِ وَفِي دِيَارِنَا مَنْ يَمْلِكُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يُعَدُّ غَنِيًّا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ يَقُولُ: إنَّمَا يُؤْخَذُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِمَّنْ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ الشَّهْبَاءَ وَيَتَخَتَّمُ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بَدَلٌ عَنْ السُّكْنَى لِأَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْغَيْرِ إلَّا بِكِرَاءٍ فَالْفَقِيرُ يَكْفِيهِ لِمُؤْنَةِ السُّكْنَى فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ وَوَسَطُ الْحَالِ يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْفَائِقُ فِي الْغِنَى وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَتَقَدَّرُ الْجِزْيَةُ بِدِينَارٍ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ بِحَقْنِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِفَقْرِهِ وَغِنَاهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا» وَلَكِنَّا نَقُولُ: ثُبُوتُ الْحَقْنِ لَيْسَ بِالْمَالِ بَلْ بِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْقِتَالُ وَلِصِحَّةِ إحْرَازِهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِنَا لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِحَالٍ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَالٍ كَانَ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ دُونَ الْجِزْيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ. وَأَمَّا خَرَاجُ الْأَرْضِ فَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ وَضَعَ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ عَلَى الْجَرِيبِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَاعْتَمَدَ فِي مَا صَنَعَ السُّنَّةَ أَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنَعْت الْعِرَاقَ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا» فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَفَاوَتَ الْوَاجِبُ بِتَفَاوُتِ رَيْعِ الْأَرَاضِي وَلِأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ الرَّيْعِ فَإِنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَيَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّيْعِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ لِذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَلَمَّا رَجَعَا إلَيْهِ قَالَ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا: لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَقُولُ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُمَا قَالَا: لَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ فَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّهُ فِيمَا وَظَّفَ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ فَإِذَا كَانَتْ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ لَا تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رَيْعِهَا تَنْقُصُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ لِكَثْرَةِ رَيْعِهَا؛ يُزَادُ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ ثُمَّ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْأَرَاضِي النَّامِيَةِ وَهُمْ فِي حُصُولِ النَّمَاءِ لَهُمْ سَوَاءٌ. فَأَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَنُصْرَةُ الْقِتَالِ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ فِي حَقِّهِمْ الْوُجُوبُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يُقْتَلُ الرِّجَالُ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حِينَ كَانُوا حَرْبِيِّينَ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَلَئِنْ كَانَ مُؤْنَةَ السُّكْنَى فَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي السُّكْنَى تَبَعٌ وَأُجْرَةُ السُّكْنَى عَلَى مَنْ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُقْعَدِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ أَصْلُ النُّصْرَةِ بِبَدَنِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدَ إذَا كَانَ صَاحِبَ مَالٍ وَرَأْيٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُقَاتَلُ بِرَأْيِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ بِبَدَنِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَعَجْزُهُ لِنُقْصَانٍ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانَ فِي مَالِهِ فَيُؤْخَذَ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا مَالَ لَهُ وَالْعَاجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ خَرَاجًا فِي الشَّرْعِ وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لِمَا هُوَ صِلَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا} [الكهف: 94] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] وَالصِّلَةُ الْمَالِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَجِدُ لِلْمَالِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَجِدُ يُعَانُ بِالْمَالِ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا خَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّهُ خَلْفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ نُصْرَةَ الْقِتَالِ فِي نَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ ثُمَّ هُوَ أَعْسَرُ مِنْ الْحُرِّ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ أَصْلًا ثُمَّ الْمَمْلُوكُ فِي السُّكْنَى تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ وَلَا خَرَاجَ فِي الِاتِّبَاعِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا صَدَقَةَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ السَّوَائِمِ وَمَالُ التِّجَارَةِ فِي أَوْطَانِهِمْ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي الْبَابِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَمْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَا أَنْ يَمُرُّوا عَلَى الْعَاشِرِ فَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الزَّكَاةَ أَحَدَ أَرْكَانِ الدِّينِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ فَالْأَخْذُ مِنْ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا جَازَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَافِرِ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الصَّغَارِ وَهُوَ الْخَرَاجُ. وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كَمَالِ السَّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ وَحَجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ دَيْنٌ اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِأَدَائِهِ مُجْبَرٌ عَلَى ذَلِكَ مَحْبُوسٌ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ أَوْ أَقْوَى حَتَّى إذَا بَعَثَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ وَبِأَنْ كَانَ لَا تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ فَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَخَرَاجِ الْأَرَاضِي فَالْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يُبْقِي وَكَذَلِكَ الرِّقُّ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ ثُمَّ يَبْقَى رَقِيقًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَبْقَى إذَا اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي اسْتِيفَاءَهُ كَالْأُجْرَةِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا وَهَذَا بَدَلُ حَقْنِ الدَّمِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهُ إذَا حَصَلَ لَهُ الْحَقْنُ بِهِ فِيمَا مَضَى وَلَكِنْ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ حَقَنَ دَمَهُ بِالْإِسْلَامِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذِمِّيًّا طُولِبَ بِالْجِزْيَةِ فَأَسْلَمَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَقَالَ: إنْ أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَفِي الْإِسْلَامِ لَمُتَعَوَّذٍ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ فَقَالَ: صَدَقَ فَأَمَرَ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا قَرَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ الدُّيُونِ وَعُقُوبَاتُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ كَالْقَتْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ الْقَتْلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُ عَلَى كُفْرِهِ حَتَّى لَا يُوجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبِهِ فَارَقَ خَرَاجَ الْأَرَاضِي وَالِاسْتِرْقَاقِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ حِينَ اُسْتُرِقَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ وَوِزَانُهَا جِزْيَةٌ اُسْتُوْفِيَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْمَالُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ فَيَسْقُطُ مَا هُوَ خَلَفٌ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْخَلَفِ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ بَلْ يُكَلَّفُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ وَفِي رِوَايَةٍ يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ فَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُوَقَّرُ لِإِيمَانِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ امْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ غَيْرَ الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ إذَا اُسْتُوْفِيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَمَا افْتَقَرَ يَسْتَوْفِي بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ ارْتَدَّ نَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يُبْقِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ وَلَا بَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى وَلَا بَدَلٍ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْحَقْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى وَقَدْ اسْتَفَادَ الْحَقْنَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَوْفِي الْجِزْيَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَعِنْدَهُ يَسْتَوْفِي اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ. وَطَرِيقُنَا مَا قَرَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَالنَّفَقَاتِ وَدَلِيلُ أَنَّهَا صِلَةً مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَإِنَّمَا يَسْكُنُ دَارَ نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَقَوْلُنَا دَارُ الْإِسْلَامِ نِسْبَةٌ لِلْوِلَايَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِهِ الْأُجْرَةَ وَلَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ مَحْقُونُ الدَّمِ وَالْإِبَاحَةُ بِعَارِضِ الْقِتَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ عَادَ الْحَقْنُ الْأَصْلِيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 وَلِأَنَّ قَتَلَ الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِمَالٍ أَصْلًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ شَيْءٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَفِي الصِّلَاتِ الْمُعْتَبَرُ الْفِعْلُ دُونَ الْمَالِ وَالْأَفْعَالُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّمَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ فَمَاتَ الْخَيَّاطُ بَطَلَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْفِعْلُ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ. وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَمَرَّتْ عَلَيْهِ سُنُونَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ خَرَاجُ رَأْسِهِ لَمْ يُؤْخَذْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا بِاعْتِبَارِ السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَيُؤْخَذُ فِي قَوْلِهِمَا بِجَمِيعِ مَا مَضَى إذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ وَتُلَقَّبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْمَوانِيذِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَوَانِيذُ فِي خَرَاجِ الرَّأْسِ كَالْمَوَانِيذِ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ ثُمَّ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا بَقِيَ حَيًّا مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ فَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ إسْلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَرْفَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ وَفِي حَقِّنَا خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتِمُّ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِيفَاءِ مَا مَضَى وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ الْمَقْصُودُ اسْتِذْلَالُ الْكَافِرِ وَاسْتِصْغَارُهُ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الشِّرْكِ فِي دَارِ التَّوْحِيدِ جِنَايَةٌ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ صَغَارٍ يَجْرِي عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَوْ أَخَذْنَاهُ بِالْمَوانِيذِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِمَقْصُودِ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِسْلَامِهِ. ثُمَّ أَوَانُ أَخْذِ خَرَاجِ الرَّأْسِ مِنْهُ آخِرَ السَّنَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ بِقِسْطِ ذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ شَهْرًا فَشَهْرًا لِيَكُونَ أَشَدَّ عَلَيْهِ وَأَقْرَبَ إلَى تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْحَوْلُ كَمَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَخَرَاجِ الْأَرَاضِيِ. وَلَا يُؤْخَذُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا مَرَّاتٍ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ مَا أَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ رَيْعَ عَامَّةِ الْأَرَاضِيِ فِي السَّنَةِ يَكُونُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِ الْغَالِبِ وَالْأَرَاضِي يَكُونُ فِيهَا الشَّجَرُ الْكَبِيرُ يُوضَعُ عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا وَظَّفَهُ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا عَطَّلَ أَرْضَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَ تَرْكَ الِاسْتِغْلَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا وَقَصَدَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ حَقِّ مَصَارِفِ الْخَرَاجِ فُرِّدَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 بِخِلَافِ الْعُشْرِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ جُزْءٌ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْإِيجَابُ بِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَتَحَقَّقُ وَهَهُنَا الْوَاجِبُ مَالٌ فِي ذِمَّتِهِ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ فَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِتَعْطِيلِهِ الْأَرْضَ. وَإِنْ زَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَذَهَبَ لَمْ يُؤْخَذْ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ مُصَابٌ فَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ وَلَوْ أَخَذْنَاهُ بِالْخَرَاجِ كَانَ فِيهِ اسْتِئْصَالٌ وَمِمَّا حُمِدَ مِنْ سَيْرِ الْأَكَاسِرَةِ إذَا اصْطَلَمَ الْأَرْضَ آفَةٌ يَرُدُّونَ عَلَى الدَّهَاقِينِ مِنْ خَزَائِنِهِمْ مَا أَنْفَقُوا فِي الْأَرْضِ وَيَقُولُونَ: التَّاجِرُ شَرِيكٌ فِي الْخُسْرَانِ كَمَا هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِنْ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِقَدْرِ مَا كَانَ الْأَرْضُ مَشْغُولًا بِالزَّرْعِ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الْمَنْفَعَةِ فَبِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ يَصِيرُ الْأَجْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرَاضِي فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا بَعْدَمَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِغْلَالِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَطَّلَهَا. وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ عَلَى أَرْضِهِ كَانَ عَلَيْهِ خَرَاجُهَا كَمَا كَانَ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَسْقُطُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَاعْتَبَرَ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ فَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ إسْلَامِهِ خَرَاجُ الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْخَرَاجُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْعُشْرِ وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْمُؤْنَةَ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُخْلِي أَرْضَهُ عَنْ مُؤْنَةٍ فَإِبْقَاءُ مَا تَقَرَّرَ وَاجِبًا أَوْلَى لِأَنَّا إنْ أَسْقَطْنَا ذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى إيجَابِ الْعُشْرِ بِخِلَافِ خَرَاجِ الرَّأْسِ فَإِنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا نَحْتَاجُ إلَى إيجَابِ مُؤْنَةٍ أُخْرَى عَلَيْهِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَدَاءُ خَرَاجِ الْأَرْضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ أَرْضُونَ بِالسَّوَادِ يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُعَدُّ مِنْ الصَّغَارِ وَإِنَّمَا الصَّغَارُ خَرَاجُ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ: مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا» ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ الذُّلُّ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ كَرَّ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ فَجَعَلُوهُمْ أَذِلَّةً. تَغْلِبِيٌ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ كَمَا كَانَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضَعَّفُ عَلَيْهِ مَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ هَكَذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَلَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَوْ أَسْلَمُوا طَوْعًا يُجْعَلُ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرُ دُونَ الْخَرَاجِ فَلِهَذَا لَا يُضَعَّفُ الْخَرَاجُ عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 الْعُشْرَ يُبْتَدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَيُضَعَّفُ عَلَى التَّغْلِبِيِّ كَالزَّكَاةِ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّضْعِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرَاضِيِ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا فَأَمَّا فِيمَا اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَا تَتَغَيَّرُ الْوَظِيفَةُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ كَمَا لَا تَتَغَيَّرُ وَظِيفَةُ الْخَرَاجِ إذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً وَكَمَا لَا تَتَغَيَّرُ وَظِيفَةُ الْعُشْرِ إذَا اشْتَرَاهَا مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ. (قَالَ): أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ أَرْضًا بِمَكَّةَ فِي الْحَرَمِ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ أَوْ تَغْلِبِيُّ كَانَتْ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَتَحَوَّلُ عَنْ الْعُشْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا لِأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِامْرَأَتِهِ فِي السُّكْنَى فَهُوَ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِرْ رَاضِيًا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَإِنَّمَا اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا لِلتِّجَارَةِ وَالتَّاجِرُ قَدْ يَتَزَوَّجُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْصِدُ التَّوَطُّنَ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامِ وَأَوْطَنَ فَحِينَئِذٍ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَيَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ وَفِي التَّقَدُّمِ إلَيْهِ إنْ بَيَّنَ مُدَّةً فَقَالَ: إنْ خَرَجْت إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا جَعَلْتُك ذِمِّيًّا فَإِنْ خَرَجَ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ تَرَكَهُ لِيَذْهَبَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا لِأَنَّ مُقَامَهُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَوْلُ فَإِذَا أَقَامَ فِي دَارِنَا بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ هَذَا لَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ لِذَلِكَ حَسَنٌ كَمَا فِي أَجَلِ الْعِنِّينِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا يُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَالرَّأْسِ أَمَّا خَرَاجُ الْأَرْضِ فَلِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ حِينَ اسْتَغَلَّ الْأَرْضَ ثُمَّ بِالْتِزَامِ خَرَاجِ الْأَرْضِ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالِالْتِزَامُ تَارَةً يَكُونُ نَصًّا وَتَارَةً يَكُونُ دَلَالَةً. وَالْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي السُّكْنَى تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْخُرُوجَ إلَّا بِإِذْنِهِ فَجَعْلُهَا نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ مِنْ دَارِنَا رَضِيَ بِالتَّوَطُّنِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَرِضَاهَا بِذَلِكَ دَلَالَةٌ كَالرِّضَا بِطَرِيقِ الْإِفْصَاحِ فَلِهَذَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 [بَابُ صُلْحِ الْمُلُوكِ وَالْمُوَادَعَةِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ هُمْ عَبِيدٌ لَهُ يَبِيعُ مِنْهُمْ مَا شَاءَ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ ذِمَّةً لَهُمْ، فَإِنَّ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا يَبِيعُهُمْ أَنَّى شَاءَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِ الْإِحْرَازِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَانُوا عَبِيدًا لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ ذِمِّيًّا، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ بِيَدِهِ الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ، وَازْدَادَتْ وَكَادَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي أُولَئِكَ، فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ عَلَى هَذَا الْمَلِكِ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْمَلِكُ وَأَهْلُ أَرْضِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ أَرْضِهِ دُونَهُ فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْرِزًا لَهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَزْدَادُ ذَلِكَ قُوَّةً بِإِسْلَامِهِ، وَإِسْلَامُ مَمْلُوكِهِ الذِّمِّيِّ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ طَلَب الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُتْرَكَ يَحْكُمُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ صَلْبٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُجَبْ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ عَلَى الظُّلْمِ مَعَ إمْكَانِ الْمَنْعِ مِنْهُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَنْ يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَشَرْطُهُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْدِ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْتَكِبَ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِشَرْطِ أَنْ لَا نَنْحَنِيَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ تَعْلُونَا أَسْتَاهُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ، وَلَا خَيْرَ فِي صَلَاةٍ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ»، فَإِنْ أُعْطِيَ الصُّلْحَ، وَالذِّمَّةَ عَلَى هَذَا بَطَلَ مِنْ شُرُوطِهِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»، فَإِنْ رَضِيَ بِمَا يُوَافِقُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ أُبْلِغَ مَأْمَنَهُ هُوَ، وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يَعْتَمِدُ الرِّضَى، وَمَا تَمَّ رِضَاهُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا أَبَى أَنْ يَرْضَى بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ، فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الْعُهُودِ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ فِيهِ» بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَحِيحٌ بِدُونِ تَمَامِ الرِّضَى كَمَا لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا، وَلَا يُتْرَكُ بَعْدَ صِحَّةِ إسْلَامِهِ لِيَرْتَدَّ فَيَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ. فَإِنْ صَارَ ذِمَّةً ثُمَّ وُقِفَتْ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقْرِي عُيُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَلَكِنْ يُعَاقَبُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 عَلَى هَذَا وَيُحْبَسُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ بِمَا صَنَعَ فَيُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَزَالُ يَغْتَالُ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ نَقْضٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَنْ يَنْقَادُ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيَكُونُ مَقْهُورًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ يَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُبَاشَرَةُ مَا كَانَ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ فَعَلَ هَذَا مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِإِيمَانِهِ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي، وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وَقِصَّتُهُ فِيمَا صَنَعَ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمَغَازِي، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا مَعَ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ، وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27]، وَقِصَّتُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ بَنِي قُرَيْظَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ، وَلَا لِلذِّمَّةِ، وَلَكِنْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْقَاتِلُ، وَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ كَمَا «قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بِخَيْبَرَ» فَيَحْلِفُ الْمَلِكُ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْت، وَلَا عَرَفْت قَاتِلَهُ ثُمَّ يَغْرَمُ الدِّيَةَ، وَلَا يَحْلِفُ بَقِيَّةُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ، وَالْعَبِيدُ لَا يُزَاحِمُونَ الْأَحْرَارَ فِي الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ، فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَالسُّكْنَى فِي الْقَرْيَةِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ. وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ سِنِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَآهُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] «، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» فَكَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِمُوَاطِئَةٍ كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَهْلِ خَيْبَرَ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَمِنْ النَّظَرِ حِفْظُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا، فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُوَادَعَةِ إذَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكَيْنِ شَوْكَةٌ أَوْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُمْعِنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى قَوْمٍ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُوَادِعَ مَنْ عَلَى طَرِيقِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمُوَادَعَةُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]، وَلِأَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ، وَتَرْكُ مَا هُوَ الْفَرْضُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ رَأَى الْمُوَادَعَةَ خَيْرًا فَوَادَعَهُمْ ثُمَّ نَظَرَ فَوَجَدَ مُوَادَعَتَهُمْ شَرًّا لِلْمُسْلِمِينَ نَبَذَ إلَيْهِمْ الْمُوَادَعَةَ وَقَاتَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِي الِانْتِهَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُوَادَعَةِ فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمُوَادَعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بِالنَّبْذِ جَائِزٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أُولَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ»، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ، وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِيَعُودُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّحَصُّنِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. فَإِنْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مَعْلُومًا كُلَّ سَنَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الدِّينَةِ وَالذِّلَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَرَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ خَيْرٌ لَهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحَاطُوا بِالْخَنْدَقِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَنْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ سَنَةٍ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَأَبِي إلَّا النِّصْفَ فَلَمَّا حَضَرَ رُسُلُهُ لِيَكْتُبُوا الصُّلْحَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ سَيِّدَا الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ هَذَا عَنْ وَحْيٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَهُمْ دِينٌ فَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِي ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ فِينَا رَسُولَهُ نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ فَإِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ وَأُولَئِكَ اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ» فَقَدْ مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصُّلْحِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمَّا أَحَسَّ الضَّعْفَ بِالْمُسْلِمِينَ فَحِينَ رَأَى الْقُوَّةَ فِيهِمْ بِمَا قَالَهُ السَّعْدَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْد خَوْفِ الضَّرَرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ إنْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا جَمِيعَ الْأَمْوَالِ، وَسَبَوْا الذَّرَارِيَّ، فَدَفْعُ بَعْضِ الْمَالِ لِيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ أَهْوَنُ وَأَنْفَعُ. وَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَادَعَةَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَهْلُ الْحَرْبِ الْخَرَاجَ إلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ لَا تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي بِلَادِهِمْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَنْفَعَةً فِي ذَلِكَ فَصَالَحَهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلَادِهِمْ فَمَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا، وَيُقَسِّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهَا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْفَتْحِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ مَعَ الْجَيْشِ بِسَاحَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ، وَادَعُوهُ عَلَى هَذَا فَمَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ، بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ لَا خُمُسَ فِيهَا بَلْ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِائَةُ الرَّأْسُ يُؤَدُّونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فَكَانُوا جَمِيعًا مُسْتَأْمَنِينَ، وَاسْتِرْقَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجُوزُ. أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَأَكَّدَتْ بِهَا. وَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوَّلَ السَّنَةِ، وَقَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَكُمْ، وَنُصَالِحُكُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِنَا فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنِينَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَا تَتَنَاوَلُهُمْ الْمُوَادَعَةُ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ فَإِذَا جَعَلُوهُمْ مُسْتَثْنِينَ مِنْ الْمُوَادَعَةِ بِجَعْلِهِمْ إيَّاهُمْ عِوَضًا لِلْمُسْلِمِينَ صَارُوا مَمَالِيكَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْمُوَادَعَةِ ثُمَّ شَرَطُوا فِي السِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَرَقِيقُهُمْ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ بِالْبَيْعِ فَكَذَا بِالْمُوَادَعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي نَفْسِهَا، وَاشْتِرَاطُ الْحَيَوَانِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى هَذَا ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ مُسْلِمٌ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَالُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمْلَكُ بِالسَّرِقَةِ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَمْ يَحِلَّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَا صَنَعَهُ غَدْرٌ يُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ إذَا عَلِمَهُ مِنْهُ، وَفِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إغْرَاءٌ لَهُ هَذَا الْغَدْرُ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، فَإِنَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ بِالْإِحْرَازِ، وَلَوْ تَمَلَّكُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ شِرَاؤُهَا مِنْهُمْ فَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْلَى، ثُمَّ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَجَّانًا، وَلَا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ حِينَ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِمْ، وَبِهِ فَارَقَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلَ الذِّمَّةِ، وَلَا يَمْنَعُ التُّجَّارَ مِنْ حَمْلِ التِّجَارَاتِ إلَيْهِمْ إلَّا الْكُرَاعَ، وَالسِّلَاحَ، وَالْحَدِيدَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 وَإِنْ كَانُوا مُوَادِعِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَعُودُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَا يُمْنَعُ التُّجَّارُ مِنْ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ بِالتِّجَارَاتِ مَا خَلَا الْكُرَاعَ، وَالسِّلَاحَ، فَإِنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِذَلِكَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ حَمْلِهِ إلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدَ، فَإِنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]. وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ جَدِيدٍ سِوَى الْمُوَادَعَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فِي دَارِهِ فَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَدِينَةَ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ذِمِّيٍّ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ عَبِيدِهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ لَمْ يُتْرَكْ لِيَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يُتْرَكُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ لِيَسْتَذِلَّهُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يُسْلِمُ عَبْدَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الذِّمِّيُّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِذَلِكَ (قُلْنَا) الْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ تَرْكَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، إلَّا مَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ لِيَسْتَذِلَّ الْمُسْلِمَ إذْ لَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى هَذَا، فَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَدَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأُودِعَ وَدُبِّرَ ثُمَّ أُسِرَ وَظَهَرَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ وَقُتِلَ، فَنَقُولُ: أَمَّا مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ فَهُمْ أَحْرَارٌ إنْ قُتِلَ فَغَيْرُ مُشْكِلٌ، وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُرِقَّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا، وَالرِّقُّ إتْلَافٌ لَهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مِلْكِهِ لِوُجُودِ الْمُنَافِي، وَلَا يَصِيرُونَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ حُرًّا، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ يَسْقُطُ عَمَّنْ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْقَهْرَ لِيَصِيرَ مَمْلُوكًا لِلسَّابِي إذْ هُوَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَيَدُهُ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُحْرِزًا لَهُ، وَالْوَدَائِعُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ، وَيَدُ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حِينَ سُبِيَ كَانَ ذَلِكَ فَيْئًا فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي يَدِ مُودَعِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُودِعِينَ؛ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهَا أَسْبَقُ حِينَ سَقَطَ عَنْهَا يَدُ الْحَرْبِيِّ بِالْأَسْرِ فَصَارُوا مُحْرِزِينَ لَهَا دُونَ الْغَانِمِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ حُكْمِ الْأَمَانِ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ الْمُنَافِي، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حِينَ أُسِرَ، وَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ. وَإِنْ دَخَلَ بِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ الَّذِي اشْتَرَاهُ أَوْ أَسْلَمَ فِي يَدِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ أَوْ يَخْرُجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاهِرًا لَهُ فِي دَارِنَا حُكْمًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ حِسًّا بِقُوَّتِهِ فَيَبْقَى مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ قَاهِرًا لَهُ، وَذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا أَوْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حِينَ أَسْلَمَ عَبْدُهُ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَفِيهِ طَرِيقٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ هَهُنَا، وَهُوَ أَنَّهُ حِينَ انْتَهَى بِهِ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَمَانِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَبَقَاءُ مِلْكِهِ بَعْدَ إسْلَامِ الْعَبْدِ كَانَ بِحُكْمِ الْأَمَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ، وَحَصَلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَتَكُونُ دَافِعَةً لِقَهْرِهِ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَهْرِ الْمِلْكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ (فَإِنْ قِيلَ) بِارْتِفَاعِ الْأَمَانِ زَالَ صِفَةُ الْحَظْرِ لَا أَصْلُ الْمِلْكِ كَمَنْ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا لَا يَزُولُ أَصْلُ مِلْكِهِ بِهِ فَمِلْكُهُ الْمُبَاحُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إبْقَاءُ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لَا إثْبَاتَ مِلْكٍ لَهُ فِيهِ ابْتِدَاءً. (قُلْنَا) مَا كَانَ مِلْكُهُ بَعْدَ إسْلَامِ الْعَبْدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَظْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْمَنًا لَكَانَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ قَاهِرًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ حُرًّا، فَإِذَا زَالَ الْحَظْرُ بِزَوَالِ الْأَمَانِ زَالَ أَصْلُ الْمِلْكِ (قَالَ). أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ قَتَلَ مَوْلَاهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَخَرَجَ إلَيْنَا كَانَ حُرًّا، وَكَانَ مَا خَرَجَ بِهِ مِنْ الْمَالِ لَهُ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ فِي نَفْسِهِ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَأَدْخَلَهُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ يَدًا مُحْتَرَمَةً فِي نَفْسِهِ كَمَا لِلْمُسْلِمِ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَالْعَبْدُ حُرٌّ لِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ بِإِسْلَامِ الْعَبْدِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ حِينَ أَسْلَمَ عَبْدُهُ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَهُوَ حُرٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مَتَى زَالَ مِلْكُ الْحَرْبِيِّ عَنْهُ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرَاغِمًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ ثُمَّ زَالَ قَهْرُهُ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَهْرُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَيَدُهُ دَافِعَةٌ لِلْقَهْرِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَيَدَهُ كَمِلْكِ الْبَائِعِ وَيَدِهِ، وَقَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 الْمَسْأَلَةَ مَعَ أَخَوَاتِهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَالِ، وَوَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وُقِفَ مَالُهُ حَتَّى يَقْدُمَ وَرَثَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَمْلَاكِهِ، وَبِمَوْتِهِ فِي دَارِنَا لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ ثَبَتَ لَهُ بَلْ ذَلِكَ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُوقَفُ لِحَقِّهِ حَتَّى يَقْدُمَ وَرَثَتُهُ، وَإِذَا قَدِمُوا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ لِيَأْخُذُوا الْمَالَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَارِثًا غَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَالَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنَّ الْمَالَ مَوْقُوفٌ لِحَقِّهِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ عَلَى وِرَاثَتِهِمْ عَادَةً فَإِنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِمَا أَدْرَكَ فِي الْمَالِ مِنْ دَرَكٍ، قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمَا دُونَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِمْ بِحُجَّةٍ ضَعِيفَةٍ فَلَا يُدْفَعُ إلَّا بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ بِكَفِيلٍ، وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَلِكَهُمْ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ، وَلَوْ شَهِدَ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ يُقْبَلُ كِتَابُهُ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتَمَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَوَامّ أَوْ دُونَهُ، وَكِتَابُهُ وَخَتْمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَإِذَا أَرَادَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُتْرَكْ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ كُرَاعًا وَسِلَاحًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَقِيقًا اشْتَرَاهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا كَمَا لَا يُتْرَكُ تُجَّارُ الْمُسْلِمِينَ لِيَحْمِلُوا إلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ لَهُ لِيَكْتَسِبَ بِهِ مَا يَكُونُ قُوَّةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْعَبِيدِ لَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُتْرَكُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ لِيَعُودُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَبِإِعَادَتِهِ لَا يَزْدَادُونَ قُوَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بِخِلَافِ مَا اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّا أَمَّنَّاهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، وَكَمَا لَا يُمْنَعُ هُوَ مِنْ الرُّجُوعِ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْأَمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ. فَإِنْ كَانَ جَاءَ بِسَيْفٍ فَبَاعَهُ، وَاشْتَرَى مَكَانَهُ قَوْسًا أَوْ رُمْحًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يُتْرَكْ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ مَكَانَ سَيْفِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 لِأَنَّ مَعْنَى الْقُوَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْلِحَةِ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِمَا صَنَعَ أَنْ يَزْدَادَ قُوَّةً عَلَيْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ، وَيَعِزُّ نَوْعٌ آخَرُ خَيْرٌ فَيَقْصِدُونَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ لَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَبْدَلَ بِسَيْفِهِ سَيْفًا آخَرَ خَيْرًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ يَزْدَادُونَ قُوَّةً، وَلَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ حِينَ أَمَّنَّاهُ فَيُمْنَعُ مِنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْ إدْخَالِهِ هَذَا السَّيْفَ بِأَصْلِهِ دَارَهُمْ، وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّيْفُ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ شَرًّا مِنْهُ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ لَهُمْ، وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَاحِدٌ فَكَمَا لَوْ أَعَادَ الْأَوَّلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَعَادَ مِثْلَهُ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَمْتِعَةِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا كَمَا لِلتَّاجِرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ مَا شَاءَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ لِلتِّجَارَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ قُوَّةً بِمَا يَحْمِلُ طَعَامًا كَانَ أَوْ ثِيَابًا أَوْ سِلَاحًا، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى إلَى أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَمْرَ عَجْوَةٍ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ حَرْبِيًّا، وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا» «، وَبَعَثَ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَحَطُوا لِتُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ»، وَلِأَنَّ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِهَا يُحْمَلُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا مَنَعْنَا تُجَّارَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَيْهِمْ مَا سِوَى السِّلَاحِ فَهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى. وَإِذَا بَعَثَ الْحَرْبِيُّ عَبْدًا لَهُ تَاجِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ فِيهَا بِيعَ، وَكَانَ ثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ لَهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ حِينَ خَرَجَ الْعَبْدُ بِأَمَانٍ مُنْقَادًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى مَعَهُ فَأَسْلَمَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ، وَكَانَ ثَمَنُهُ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَعَهُ، قُلْنَا: يُبَاعُ لِإِزَالَةِ ذُلِّ الْكُفْرِ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَيَكُونُ ثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ لِلْأَمَانِ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَالِيَّةِ. وَإِذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَنَا رَسُولٌ، فَإِنْ أَخْرَجَ كِتَابًا عُرِفَ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ كَانَ آمِنًا حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَزَلْ آمِنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ الصُّلْحِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّسُلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمَانِ الرُّسُلِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ «، وَلَمَّا تَكَلَّمَ رَسُولٌ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَرِهَهُ قَالَ لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْتُكَ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَوْ كَلَّفْنَاهُ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِالْعَلَامَةِ، وَالْعَلَامَةُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فَإِذَا أَخْرَجَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ كِتَابًا أَوْ أَخْرَجَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُفْتَعَلُ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ بِخَتْمٍ وَتَوْقِيعٍ مَعْرُوفٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ افْتَعَلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لِصٌّ مُغِيرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَحِينَ أَخَذْنَاهُ احْتَالَ بِذَلِكَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِينَا، وَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا مَعَ مَا مَعَهُ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَخَلَ بِأَمَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ، وَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حِينَ تَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ ظَاهِرٍ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ هُوَ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمْ. وَإِذَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ لَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ فِيمَا كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُدَايَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالدُّخُولِ بِأَمَانٍ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ فَلَا يَسْمَعُ الْإِمَامُ الْخُصُومَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُخِذُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حِينَ جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَمَّنَّاهُمْ لِيَظْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَلْ الْتَزَمْنَا لَهُمْ أَنْ نَمْنَعَ الظُّلْمَ عَنْهُمْ فَلِهَذَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي دَارِنَا كَمَا لَوْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سَبَقَتْ إلَيْهِ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي دَارِنَا فَمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ صَارَ مُحْرَزًا لَهُ فَاخْتَصَّ بِمِلْكِهِ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالرِّكَازِ الَّذِي يَجِدُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَ دَارَنَا فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مَأْخُوذًا مَقْهُورًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ كَانَ حُرًّا، فَإِنَّمَا صَارَ مَقْهُورًا بِالْأَخْذِ فَكَانَ لِلْآخِذِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَوَاحِيَ دَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَدُهُ يَدُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ صَارَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ حُكْمًا فَصَارَ مَأْخُوذًا، وَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْيَدُ حُكْمِيَّةٌ فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ فَلِهَذَا إذَا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ كَانَ حُرًّا حَرْبِيًّا عَلَى حَالِهِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِيهِ ضَعِيفٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُنَاكَ مَنْ عَادَ مِنْ الْأَسْرَى إلَى مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ يَكُونُ حُرًّا فَهُنَا مَنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ يَكُونُ حُرًّا، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْجَمَاعَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَانُ مِثْلُهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا صَارَ قَاهِرًا لَهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ السَّرِيَّةِ مَعَ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ السَّرِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَا أَخَذَتْ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُمْ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْمُسْلِمُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْآخِذِ، وَتَأَكُّدُ الْحَقِّ بِالْأَخْذِ وَالْإِحْرَازِ، وَقَدْ شَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ، وَإِنَّ اخْتَصَّ هُوَ بِالْأَخْذِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدَدَ يُشَارِكُونَ الْجَيْشَ إلَّا أَنَّ الْإِحْرَازَ هُنَاكَ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَهَهُنَا الْإِحْرَازُ سَبَقَ الْأَخْذَ، فَإِذَا شَارَكُوهُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْإِحْرَازِ بَعْدَ الْأَخْذِ، فَلَأَنْ يُشَارِكُوهُ بِالْإِحْرَازِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِ أَوْلَى، وَبِهِ فَارَقَ الصَّيْدَ وَالْحَطَبَ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَكُنْ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ لَا دَفْعَ فِي الْمَالِ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ رَقِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَخْذِ فَحُرِّيَّتُهُ تَتَأَكَّدُ بِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ صَارَ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ لَكَانَ حُرًّا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ وَعِنْدَهُمَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّقِّ فِيهِ الْأَخْذُ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ فَكَانَ حُرًّا. وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ حُرٌّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، ثُمَّ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ إذَا أُخِذَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ: الْمَأْخُوذُ بِمَنَعَةِ الدَّارِ كَالْمَأْخُوذِ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمَّسُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: الْخُمُسُ فِيمَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَهُنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لَا خُمُسَ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُصْرَفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ جَعَلَهُ كَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أُصِيبَ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَازِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ إنَّمَا أَخَذَهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي مِثْلِهِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ اخْتَصَّ بِهِ، وَكَانَ فِيهِ الْخُمُسُ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُؤْخَذُ، وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ فَهُوَ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِ بَيْتِ الْمَالِ دَخَلَ الْحَرَمَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ كَانَ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَاسْتِرْقَاقُهُ فَبِدُخُولِهِ الْحَرَمَ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَتْلِ فَيَبْقَى حُكْمُ الرِّقِّ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا عِنْدَهُمَا فَهُوَ حُرٌّ مُبَاحُ الدَّمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْحَرَمِ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ. فَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَهُوَ حُرٌّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ فَتَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَايَنَهُمْ أَوْ دَايَنُوهُ أَوْ غَصَبَهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبُوهُ لَمْ يُحْكَمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا إذَا غَصَبَهُمْ، فَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ فِي حَقِّنَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمُسْتَأْمَنُ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ، وَإِنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ دُونَ أَمَانِ الْإِمَامِ فَيُفْتَى بِالرَّدِّ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ غَصَبُوهُ فَقَدْ غَدَرُوا بِأَمَانِهِمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَتَلُوهُ لَمْ يَضْمَنُوا فَإِذَا أَتْلَفُوا مَالَهُ أَوْ غَصَبُوهُ شَيْئًا أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ حِينَ فَارَقَ مَنَعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي الْمُدَايَنَةِ فَهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا بِأَمَانٍ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُدَايِنَةٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ، وَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ. وَإِنَّ بَايَعَهُمْ الْمُسْتَأْمَنُ إلَيْهِمْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَوْ بَايَعَهُمْ فِي الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، وَمِنْ حُكْمِ - الْإِسْلَامِ حُرْمَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُمَا يَقُولَانِ هَذَا أَخَذَ مَالَ الْكَافِرِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ فَهُوَ يَسْتَرْضِيهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ، وَالْأَخْذُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ حَرَامٌ، وَتَمَامُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ. وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِنَا حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ حُكْمًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ تَثْبُتُ مُوجِبَةً لِلتَّقَوُّمِ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُتَقَوِّمَةَ تَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِحْرَازِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى، وَصَارَ حَالُهُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ كَحَالِ الذِّمِّيِّ فَكَمَا يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدُخُولِ التُّجَّارِ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَرْبِيٌّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَرْبِيَّةً لَهَا زَوْجٌ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَخَرَجَا إلَى دَارِنَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَغْوٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ يَوْمَئِذٍ، وَنِكَاحُ الْمَنْكُوحَةِ لَا يُحِلُّهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ فَكَانَا أَجْنَبَيْنِ حِينَ أَسْلَمَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ الْعَقْدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْحَرْبِيُّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ثُمَّ سُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ أَوْ فِي عُقَدٍ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُعْتَرِضَ فِي الزَّوْجِ يُنَافِي نِكَاحَ الْأَرْبَعِ بَقَاءً وَابْتِدَاءً، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا، وَلَا فَرْقَ فَالْمُنَافِي هُنَاكَ عَارِضٌ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، وَهُوَ الْأُخْتِيَّةُ، وَهَهُنَا عَارِضٌ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ امْرَأَتَانِ مِنْهُنَّ فَنِكَاحُ الْبَاقِيَتَيْنِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اُسْتُرِقَّ فَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا اثْنَتَيْنِ، وَرِقُّهُ لَا يُنَافِي نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي النِّكَاحِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ كَرَاهَةُ النِّكَاحِ لِمَعْنَى كَرَاهَةِ التَّوَطُّنِ فِيهِمْ أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ إذَا سُبِيَتْ، وَالْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الذَّبَائِحِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْسَانًا مِنْهُمْ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُ ذَلِكَ إذَا خَرَجُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمٌ فَكَذَلِكَ إذَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ فِي دِينِهِ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَدْرَ حَرَامٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ»، فَإِنَّ غَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ مَالَهُمْ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَرِهْتُ لِلْمُسْلِمِ شِرَاءَهُ مِنْهُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَصَّلَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَفِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إغْرَاءٌ لَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلْمُسْلِمِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِين قَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَجَاءَ بِمَالِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ، وَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَمِّسَ مَالَهُ فَقَالَ «أَمَّا إسْلَامُكَ فَمَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَالُكَ فَمَالُ غَدْرٍ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ أَجَزْتُهُ»؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلْمَالِ بِالْإِحْرَازِ. وَالنَّهْيُ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الشِّرَاءِ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً كَرِهْتُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ، وَكَانَ يُكْرَهُ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا فَكَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي جَازَ لِلثَّانِي وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي، وَهَهُنَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنَى الْغَدْرِ وَكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ دِينًا، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الثَّانِي كَهُوَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَصَابَ أَهْلُ هَذِهِ الدَّارِ سَبَايَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَسِعَ هَذَا الْمُسْلِمُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِمَنَعَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ نُهْبَةٌ يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ بِالْإِحْرَازِ فَحَلَّ لِلْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ شِرَاءُ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ سُبِيَ أَهْلُ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ مِنْ السَّابِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ إنَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ فِي شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَادَعُوا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ أَهْلُ حَرْبٍ لَهُمْ فَلِهَذَا الْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ السَّبْيَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَغْدِرَ بِهِمْ، وَقَدْ صَارُوا مَمْلُوكِينَ لِلسَّابِي بِالْإِحْرَازِ فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَدَرُوا بِأَهْلِ الْمُوَادَعَةِ لَمْ يَسَعْ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، وَإِنْ اشْتَرَوْا رَدَدْت الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَمَانَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ رِقَابَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْإِحْرَازِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ رَجُلٌ بِأَمَانٍ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْلِمُ مَا أَمَّنَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، وَكَيْفَ يُقَالُ قَدْ أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ مَقْهُورٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ فَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ سَبْيُهُمْ، وَهَهُنَا هُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ مَنْ لَهُ مَنَعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَغَارَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَحِلَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ؛ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ إلَّا عَلَى، وَجْهِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاعَزَازِ الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ أَهْلِ الشِّرْكِ غَالِبَةٌ فِيهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَحْكُمُوا بِأَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ قِتَالُهُمْ فِي الصُّورَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ لِلدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ قَاتَلَ بِالْحَبَشَةِ مَعَ الْعَدُوِّ الَّذِي كَانَ قَصَدَ النَّجَاشِيَّ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ آمِنًا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْخَوْفِ. وَإِنْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِي فِيهِمْ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْتَأْمَنُونَ عَلَى دَارٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسَرُوا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْرَازِ فَهُمْ ظَالِمُونَ فِي اسْتِرْقَاقِهِمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ مَا ضَمِنُوا لَهُمْ التَّقْرِيرَ عَلَى الظُّلْمِ فَلَا يَسَعُهُمْ إلَّا قِتَالُهُمْ لِاسْتِنْفَاذِ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهمْ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا أَغَارُوا عَلَى الْخَوَارِجِ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَلَا تُمْلَكُ ذَرَارِيُّهُمْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَغَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْحَرْبِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَسَعْهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ مُسْلِمُونَ فَفِي الْقِتَالِ مَعَهُمْ إعْزَازُ الدِّينِ، وَلِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْقِتَالِ يَدْفَعُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَدَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا لَا يَسَعُهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُرْتَدِّينَ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ، وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ أَغْلَظُ مِنْهُمْ جِنَايَةً، فَإِنَّهُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَلَمْ يُرَاعُوا حَقَّ ذَلِكَ حِينَ أَشْرَكُوا، وَهَذَا الْمُرْتَدُّ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ عَرَفَ مَحَاسِنَ شَرِيعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّ فَكَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا السَّيْفَ أَوْ الْإِسْلَامَ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ ارْتَدَّ لِأَجْلِهَا فَعَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، أَوْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 التَّفَكُّرِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمُهْلَةٍ، فَإِنْ اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي الْخِيَارِ فَلِهَذَا يُمْهِلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ التَّأْجِيلَ يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ.؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتُمْ بِهِ.؟ قَالَ: قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، فَقَالَ: هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ الْبَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَمَيْتُمْ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِرَغِيفٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَشْهَدْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ وُلِّيتُ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ لَاسْتَتَبْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْتُهُ، فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ، وَتَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ طَلَبَ التَّأْجِيلَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لَهُ شُبْهَةٌ وَيَتُوبُ إذَا رُفِعَتْ شُبْهَتُهُ، فَلِهَذَا كُرِهَ تَرْكُ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِتَابَةِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الدِّينِ، وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فَالْإِشْرَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ تَعَنُّتًا، وَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ قَدْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَتَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ فِي حَقِّ مِثْلِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهَذَا كَذَلِكَ، فَإِنْ اُسْتُتِيبَ فَتَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَيَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَتَبَرَّى عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَإِنَّ تَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِيِّ التَّبَرِّي عَنْ الْيَهُودِيَّةِ، وَمِنْ النَّصْرَانِيِّ التَّبَرِّي عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمِنْ الْمُرْتَدِّ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ مِلَّةُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. فَإِنَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِذَا أَسْلَمَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولَانِ إذَا ارْتَدَّ رَابِعًا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ، وَلَيْسَ بِتَائِبٍ، وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ ازْدَادَ كُفْرًا لَا فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْخُشُوعَ فَحَالُهُ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]. وَرُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَنْ لَكَ بِلَا إلَهٍ إلَّا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا، فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَتَبَيَّنُ لِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِهِ لِسَانُهُ» إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا لِجِنَايَتِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَخُشُوعَهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً، وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ. وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ. فَإِنْ أَبَى الْمُرْتَدُّ أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَالُهُ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»، وَالْمُرْتَدُّ كَافِرٌ فَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا فَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ كَالرَّقِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُوَاقِفُهُ فِي الْمِلَّةِ، وَالْمُوَافَقَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ التَّوْرِيثِ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ الْحِرْمَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَرِثْهُ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْمِلَّةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ التَّوْرِيثِ فَلَأَنْ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْمِلَّةِ أَوْلَى، وَإِذَا انْتَفَى التَّوْرِيثُ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ هُوَ مَالٌ ضَائِعٌ فَمُصِيبُهُ بَيْتُ الْمَالِ كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَالْمُرْتَدُّ هَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً اسْتَحَقَّ بِهَا نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَالِكًا «، وَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ»، وَهُوَ كَانَ مُرْتَدًّا، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137]، وَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ عَلَى الرِّدَّةِ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مَالِكًا لِمَالِهِ فَإِذَا تَمَّ هَلَاكُهُ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرِّدَّةَ هَلَاكٌ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ حَرْبًا، وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَوْتَى إلَّا أَنَّ تَمَامَ هَلَاكِهِ حَقِيقَةٌ بِالْقَتْلِ أَوْ الْمَوْتِ، فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ اسْتَنَدَ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ، وَقَدْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ ذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ هَذَا تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِهِ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ. (فَإِنْ قِيلَ:) زَوَالُ مِلْكِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ بَلْ يَعْقُبُهُ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ هُوَ كَافِرٌ (قُلْنَا) نَعَمْ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ رِدَّتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُزِيلَ لِلْمِلْكِ مَوْتُ الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْمَوْتُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْحَيِّ لَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَكَمَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُزِيلُ مِلْكَهُ فَكَذَلِكَ تُزِيلُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْعِصْمَةَ عَنْ مَعْصُومٍ لَا عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْكُفَّارُ؛ لِأَنَّ التَّوْرِيثَ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ، وَهُوَ دَلِيلُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ تَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهِ حُكْمَانِ: حِرْمَانُ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ، وَتَوْرِيثُ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَقِيَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْقِي عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا لِجِنَايَتِهِ، فَهُوَ كَالْقَاتِلِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ لِجِنَايَتِهِ، وَيَرِثُهُ الْمَقْتُولُ لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَعْلِ مَالِهِ فَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِرِدَّتِهِ حَتَّى لَا يَغْنَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمَالُ الْمُحْرَزُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ثُبُوتُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَغْنَمُ فِي حَيَاتِهِ لَا لِحَقِّهِ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ بَلْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ قَالَ: يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ (قُلْنَا) الْمُسْلِمُونَ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَوَرَثَتُهُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَتُرَجَّحُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَذُو السَّبَبَيْنِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي سَبَبٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى. فَأَمَّا مَا اُكْتُسِبَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ يُوقَفُ عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي بِجَمْعِ الْكَسْبَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ صَارَ بِهِ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ كَالْمَرِيضِ، وَالْمُكْتَسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْمُكْتَسَبِ فِي الصِّحَّةِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوِرَاثَةُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ فَتُنَافِي ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَمَا اكْتَسَبَ فِي إسْلَامِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ إذَا تَمَّ انْقِطَاعُ حَقِّهِ عَنْهُ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ لِقِيَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 الْمُنَافِي عِنْدَ الِاكْتِسَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ، وَالْوَارِثُ لَا يَخْلُفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَقِّ فَبَقِيَ هَذَا مَالًا ضَائِعًا بَعْدَ مَوْتِهِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ: إسْنَادُ التَّوْرِيثِ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَعْمَلُ فِي الْمَحَلِّ، وَالْمَحَلُّ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ، فَأَمَّا إسْنَادُ التَّوْرِيثِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ عِنْدَ السَّبَبِ فِي هَذَا الْكَسْبِ، فَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ التَّوْرِيثِ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ كَافِرٌ بَعْدً الِاكْتِسَابِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ. فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهَذَا كَسْبُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ، وَبَقِيَ إلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، وَمَنْ حَدَثَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرِثُهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ، أَوْ وُلِدَ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ الرِّدَّةُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ تَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ السَّبَبُ، ثُمَّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ يَبْطُلُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَوْقُوفِ يَتِمُّ الْمِلْكُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَ السَّبَبُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ، وَقْتَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ، وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ، وَارِثُهُ فِيهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَهُنَا أَيْضًا مَنْ يُحْدِثُ قَبْلَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ بَعْدَ الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَدٌ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ لَكِنَّا نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ، فَأَمَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ بِالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 يُتَصَوَّرُ فَيُجْعَلُ الْحَادِثُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَكَانَ لِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ لِحَاقِهِ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ قَبْلَ لِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ نَوْعُ غِيبَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ مَالِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ حَيَاةَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حِينَ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مَسْأَلَةِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لِمَوْتِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقْتُلَهُ وَيُقَسِّمَ مَالَهُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ مَوَّتَهُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَحَكَمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَبِحُلُولِ آجَالِهِ ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتَ لِحَاقِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِالرِّدَّةِ، وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، فَإِنَّمَا زَوَالُ مِلْكِهِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ عِنْدَ لِحَاقِهِ فَيُعْتَبَرُ وَارِثُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلِحَاقُهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَهُوَ كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: اللِّحَاقُ فِي الْحَقِيقَةِ غِيبَةٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَوْتًا حُكْمًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاللِّحَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ تَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ ارْتَفَعَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا. وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ السَّبَبَ التَّوْرِيثُ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ، وَتَبْطُلُ وَصَايَاهُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصَايَا لِحَقِّ الْمُوصِي، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ قَدْ ثَبَتَ لَلْمُدَبَّرِ فَيَكُونُ عِتْقُهُ كَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ حَقُّهُ كَحَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ: رِدَّتُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ كَانَ لِحَقِّهِ فَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ وَصَايَاهُ، وَلَا يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ تَدْبِيرِهِ فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمُرْتَدُّ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَبِمَوْتِهِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً إنْ لَمْ يُسْلِمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ مَالَهُ، وَإِنَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا قَدْ مَضَى جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَخَذَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَالْخَلْفُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا ظَهَرَ الْأَصْلُ، وَلَمَّا جَاءَ تَائِبًا فَقَدْ صَارَ حَيًّا حُكْمًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ خِلَافَةُ الْوَارِثِ إيَّاهُ فِي هَذَا الْمِلْكِ كَمَوْتِهِ حُكْمًا، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَ الْوَارِثُ كَاتَبَ عَبْدًا يُعَادُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ مُنْتَقِلًا مِنْ الْخَلْفِ إلَى الْأَصْلِ، وَتَأْثِيرُ الْكِتَابَةِ فِي مَنْعِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ يَنْعَدِمُ الْخَلْفُ بِظُهُورِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْبَقَاءِ، وَلَا يُعَادُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا بَاعَهُ وَارِثُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْخَلْفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ لِيَكُونَ عَامِلًا، وَمَا تَصَرَّفَ الْوَارِثُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ مِنْهُ لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَفِعْلُهُ فِيمَا خَلَصَ حَقًّا لَهُ لَا يَكُونُ سَبَبَ الضَّمَانِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ تَائِبًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ اللِّحَاقَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فَهُوَ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. (قَالَ) وَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ بَاطِلٌ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهَا نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَوَرِثَ هَذَا الْوَلَدُ مَعَ وَرَثَتِهِ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ، وَاسْتِيلَادُ الْأَبِ صَحِيحٌ فَاسْتِيلَادُ الْمُرْتَدِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَحَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، وَهُنَاكَ يَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَهَهُنَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ فِي الْحَالِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِهِمَا يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ، وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ فَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ، فَإِنَّهُ إذَا شَارَكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَوَقُّفِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ بَيْنَ أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَبْطُلَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَهُمَا نَافِذٌ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ حَتَّى يُعْتَبَرَ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرِيضِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَاقَى تَصَرُّفُهُ مِلْكَهُ فَيَنْفُذُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ قَوْلٌ، وَالْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ شَرْعًا، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ إنَّمَا تَأْثِيرُ رِدَّتِهِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِكِيَّةِ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ الرِّدَّةِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَحَالُ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فَوْقَ حَالِ الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِي مِلْكَ الْحُرِّ وَتَصَرُّفَهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: هُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي التَّصَرُّفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَرِثُهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمَرِيضِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ، كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ لَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ كَالْمَرِيضِ مَا دَامَ فِي السِّجْنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ شُبْهَةٍ فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْمَالِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، وَتَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِصْمَةُ نَفْسِهِ تَزُولُ بِالرِّدَّةِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هَالِكٌ حُكْمًا، وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ، وَلَا يُنَافِي تَوَقُّفَ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ، كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ الْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ الْمَالِكِيَّةِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الرِّقِّ، فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ، وَلَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، فَهُنَاكَ لَمْ يَزُلْ مَا بِهِ عِصْمَةُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ فَيَبْقَى مَالِكًا حَقِيقَةً لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هَهُنَا مَا بِهِ كَانَتْ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْعِصْمَةِ، وَبِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَالرِّدَّةِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَلَاكَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَالْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ أَوْلَى، وَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ فَكَذَلِكَ قَبْلَ لِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِرِدَّتِهِ لَا بِلِحَاقِهِ، وَكَذَلِكَ التَّوْرِيثُ بِاعْتِبَارِ رِدَّتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 أَنَّهُ يَسْتَنِدُ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ حَرْبِيًّا، وَلِهَذَا يُقْتَلُ، وَالْحَرْبِيُّ الْمَقْهُورُ فِي أَيْدِينَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ كَالْمَأْسُورِينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَوَقُّفُ حَالِهِمْ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ وَالْمَنِّ، وَهَهُنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَوَقُّفُ تَصَرُّفِهِمْ هُنَاكَ لِتَوَقُّفِ حَالِهِمْ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ أَيْضًا، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا عِتْقُ الْمُرْتَدِّ فَكَانَ مَوْقُوفًا فَبِمَوْتِهِ يَبْطُلُ، وَأَمَّا عِتْقُ الْوَارِثِ فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا مِلْكَ لِلْوَارِثِ فِي مَالِهِ بَلْ الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَدِّ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْهَا ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَاكَ قَدْ تَمَّ، وَالتَّوَقُّفُ لَحِقَ الْغُرَمَاءَ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ تَمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَتَوَقَّفُ، وَهَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ لِقِيَامِ الْأَصْلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْخِلَافَةُ تَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتٌ لِوَارِثٍ، وَإِنْ مَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ مُعْتَقٌ وَالْأَبُ مُرْتَدٌّ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَهُ مُعْتَقٌ كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِمُعْتَقِهِ دُونَ مُعْتَقِ الِابْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ، وَإِنْ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ بَطَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ شَرْطٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِكَسْبِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِكَسْبِ رِدَّتِهِ أَوْ رَهْنَهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ كَسْبُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ فَقَالَ: تَصَرُّفُهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْمِلْكَ، فَأَمَّا فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَوَقُّفَ مِلْكِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي الْكَسْبَيْنِ جَمِيعًا، وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْضِي دُيُونَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ وَرِيثِهِ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ بَلْ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إذَا قُتِلَ فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا نَقُولُ: عَقْدُ الرَّهْنِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ أَوْ رَهْنَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ فَعَلَ عَيْنَ مَا كَانَ يَحِقُّ فِعْلُهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ نَافِذًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 مِلْكِ الْمَدْيُونِ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلِهَذَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَفَاءٌ بِذَلِكَ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيَقْضِي كُلَّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ، وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. [جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً] وَإِنَّ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النُّصْرَةِ، وَهُوَ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ، أَوْ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْجَانِي لِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَالْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ الْأَرْشُ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ مَا غَصَبَ وَأَتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَذَلِكَ كُلُّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْعِصْمَةُ بِرِدَّتِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ هَدَرًا. مُسْلِمٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ كَانَتْ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْيَدِ فَقَطْ، وَإِنَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ زَائِلَةً، فَحُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ لَا يَعُودُ، وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ، وَمَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ ثَانِيًا فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ اللُّحُوقِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ لَحِقَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ بِالرِّدَّةِ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمُبْرَإِ عَنْ سِرَايَةِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ أَوْ بَاعَهُ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ السِّرَايَةِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ، وَبَعْدَ مَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إعَادَةِ حَقِّهِ فِي السِّرَايَةِ فَكَانَ وُجُودُ إسْلَامِهِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ كَعَدَمِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ حَقُّهُ تَوَقَّفَ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ التَّوَقُّفُ فَصَارَ مَا اعْتَرَضَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَقَدْ تَمَّ زَوَالُ مِلْكِهِ هُنَاكَ، وَاعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ كَانَ لِمِلْكِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فِي الْمَمَالِيكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْمَالِيَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ أَصْلًا، وَبِالْبَيْعِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ الْجُزْءِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ شَرْطٌ، فَإِنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ لِيَنْعَقِدَ مُوجِبًا، وَعِنْدَ تَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ لِتَقَرُّرِ الْحُكْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلِحَاقِهِ فَقَدْ صَارَ مَيِّتًا حُكْمًا، وَبَقَاءُ حُكْمِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ النَّفْسِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمًا إذْ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَقَالَ: بِنَفْسِ اللِّحَاقِ صَارَ حَرْبِيًّا، وَالْحَرْبِيُّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تُسْتَرَقُّ كَسَائِرِ الْحَرْبِيَّاتِ فَيَتِمُّ بِهِ انْقِطَاعُ حُكْمِ السِّرَايَةِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ عَارِضٌ، فَإِذَا زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى إذَا تَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ تَخَلَّلَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ كَمَا فِي الْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ، فَقَضَى الْقَاضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ ثُمَّ تَخَلَّلَ، وَبِاللِّحَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ خُصُوصًا إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي فَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ اللِّحَاقِ. وَإِنَّ كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَقُتِلَ، وَمَاتَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ مُسْلِمًا، وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَبَيَّنَ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَلِهَذَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ. وَلَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُقْتَلُ إنْ لَمْ تُسْلِمْ، وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ أَنَّهُ الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تَخْرُجُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ، وَتُعَذَّرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا ثُمَّ تُعَادُ إلَى الْحَبْسِ إلَى أَنْ تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ تَبْدِيلُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ تَبْدِيلُ الدِّينِ مِنْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ»، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ فُرْقَةَ، وَلِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ دِينًا بَاطِلًا بَعْدَ مَا اعْتَرَفَتْ بِبُطْلَانِهِ فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءٌ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ، وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَكُونُ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ فَهُوَ جَزَاءٌ، وَفِي أَجْزِيَةِ الْجَرَائِمِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَوَاءٌ كَحَدِّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالرِّدَّةِ أَغْلَظُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ الْإِصْرَارِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِنْكَارِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَبِأَنْ كَانَتْ لَا تُقْتَلُ إذَا لَمْ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا ثُمَّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا بِأَنْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ سَاحِرَةً أَوْ مَلِكَةً تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ تُقْتَلُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُحْبَسُ، وَتُعَزَّرُ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَكَذَلِكَ الشُّيُوخُ، وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالرُّهْبَانُ يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَذَوُو الْأَعْذَارِ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الرِّقُّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ يَمْنَعُ الْقَتْلَ، وَهُوَ مَا إذَا اُسْتُرِقَّ الْأَسِيرُ، وَفِي الرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُمَّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا تَسْلَمُ لَهَا نَفْسُهَا حَتَّى تَسْتَرِقَّ لِيَنْتَفِعَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقُلْنَا أَنَّهَا تُقْتَلُ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ»، وَفِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا مَا رَوَاهُ رَبَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ قَوْمًا مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا يَنْظُرُونَ إلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ لِوَاحِدٍ: أَدْرِكْ خَالِدًا وَقُلْ لَهُ: لَا يَقْتُلْنَ عَسِيفًا وَلَا ذُرِّيَّةً»، وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ مَنْ قَتَلَ هَذِهِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْدَفْتهَا خَلْفِي فَأَهْوَتْ إلَى سَيْفِي لِتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا، فَقَالَ: مَا شَأْنُ قَتْلِ النِّسَاءِ وَارِهَا وَلَا تَعُدْ» «وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ: هَا مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ بِعِلَّةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُقْتَلْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ لَا يُقَاتِلْنَ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُجْرَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالتَّبْدِيلُ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَنَخُصُّهُ وَنَحْمِلُهُ عَلَى الرِّجَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُرْتَدَّةُ الَّتِي قُتِلَتْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً، فَإِنَّ أُمَّ مَرْوَانَ كَانَتْ تُقَاتِلُ وَتُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَانَتْ مُطَاعَةً فِيهِمْ، وَأُمُّ فُرْقَةَ كَانَ لَهَا ثَلَاثُونَ ابْنًا، وَكَانَتْ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي قَتْلِهَا كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَالسِّيَاسَةِ كَمَا أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ضَرَبْنَ الدُّفَّ لِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِظْهَارِ الشَّمَاتَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَلَا تُقْتَلُ كَالْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِجَزَاءٍ عَلَى الرِّدَّةِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ يَسْقُطُ لِانْعِدَامِ الْإِصْرَارِ، وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا جَزَاءً لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهَا عِنْدَ الْإِمَامِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بَلْ تَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَظْهَرُ السَّبَبُ عِنْدَ الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ، وَلَكِنَّهَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا مُؤَخَّرٌ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ، وَمَا عُجِّلَ فِي الدُّنْيَا سِيَاسَاتٌ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ، وَحَدِّ الزِّنَا لِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ وَالْفُرُشِ، وَحَدِّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ، وَحَدِّ الْخَمْرِ لِصِيَانَةِ الْعُقُولِ، وَبِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ لِدَفْعِ الْمُحَارَبَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، وَعَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ الشِّرْكُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَلَا تُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَلَا فِي الْكُفْرِ الطَّارِئِ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ فَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ، وَالِاسْتِرْقَاقُ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهَا، ثُمَّ الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكُفْرِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ، وَمَا يُدَّعَى مِنْ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ لَا يَقْوَى، فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فِي الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِصْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَالشَّيْءُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا تَغَلُّظَ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَنْ يُغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ الْمُشْرِكَةُ الْعَرَبِيَّةُ، فَكَمَا لَا تُقْتَلُ تِلْكَ فَكَذَلِكَ لَا تُقْتَلُ هَذِهِ، وَإِذَا كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ مَلِكَةً أَوْ سَاحِرَةً فَقَتْلُهَا الدَّفْعُ، وَبِدُونِ الْقَتْلِ هَهُنَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إذَا حُبِسَتْ وَأُجْبِرَتْ كَمَا بَيَّنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الرِّقُّ لَا يَمْنَعُ الْقَتْلَ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنَّهُ تُقْتَلُ عَبِيدُهُمْ كَأَحْرَارِهِمْ، وَإِنَّمَا الِاسْتِرْقَاقُ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ، وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ كَمَا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْمُرْتَدُّونَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَلِهَذَا لَا يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّهِمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالشَّيْخُ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَالرِّدَّةُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ، وَالتَّرَهُّبُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» وَبِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَوِي الْأَعْذَارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْآفَةِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ الْقِتَالُ، فَمَنْ لَا يَسْقُطُ الْقِتَالُ عَنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ بِحُلُولِ الْآفَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَوُو الْأَعْذَارِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُقْتَلُونَ، وَقِيلَ حُلُولُ الْآفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنُوثَةِ؛ لِأَنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ نِيَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَا لَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ قُلْنَا تُسْتَرَقُّ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ بَنِي حَنِيفَةَ لَمَّا ارْتَدُّوا اسْتَرَقَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِسَاءَهُمْ، وَأَصَابَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَارِيَةً مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ حَنَفِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي النِّسَاءِ إذَا ارْتَدَدْنَ يُسْبَيْنَ وَلَا يُقْتَلْنَ، وَهَذَا لِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ، وَالِاسْتِرْقَاقُ مَشْرُوعٌ فِي الْحَرْبِيَّاتِ، وَمَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُسْتَرَقُّ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا الْمُتَأَكِّدَةَ بِالْإِحْرَازِ لَمْ تَبْطُلْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَهِيَ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِرْقَاقِ، وَإِنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِدَارِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ؛ لِأَنَّا لَمَّا جَعَلْنَا الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ لَا أَمَانَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيَّةٍ مَقْهُورَةٍ لَا أَمَانَ لَهَا فَتُسْتَرَقُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِنَا. [تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ] فَإِنْ تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ مِلْكِهَا، بِخِلَافِ الرَّجُلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ قَالَ: الْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ، وَالرَّجُلُ يُقْتَلُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَبَعٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، فَبِالرِّدَّةِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ نَفْسِهَا حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا اسْتَوَتْ بِالرَّجُلِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ اللُّحُوقِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهَا تَزُولُ بِلِحَاقِهَا حَتَّى تُسْتَرَقَّ، وَالِاسْتِرْقَاقُ إتْلَافٌ حُكْمًا فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا. فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْحَبْسِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 قُسِّمَ مَالُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَسْبُ إسْلَامِهَا وَكَسْبُ رِدَّتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ رِدَّتِهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ مِلْكَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهَا، وَلَا مِيرَاثَ لِزَوْجِهَا مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ فَلَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَارَّةِ الْمَرِيضَةِ، وَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا بَعْدَ لِحَاقِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حَرْبِيَّةً فَكَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ فِي حَقِّهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ الزَّوْجِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لَهُ، فَإِنْ سُبِيَتْ أَوْ عَادَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ نِكَاحُ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا سَقَطَتْ الْعِدَّةُ عَنْهَا لَا تَعُودُ مُعْتَدَّةً، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِهَا؛ لِأَنَّهَا فَارِغَةً عَنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ، وَإِنْ سُبِيَتْ أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ تُجْبَرُ عَلَيْهِ قَبْلَ لِحَاقِهَا. وَإِنْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ، وَمَعَهَا وَلَدُهَا كَانَ وَلَدُهَا فَيْئًا مَعَهَا؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا، وَهِيَ حَرْبِيَّةٌ تُسْتَرَقُّ فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا. وَإِذَا رَفَعَتْ الْمُرْتَدَّةُ إلَى الْإِمَامِ فَقَالَتْ مَا ارْتَدَدْت، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ بِالْإِقْرَارِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالتَّبَرِّي عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ بِالْإِنْكَارِ يَحْصُلُ نِهَايَةُ التَّبَرِّي فَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا. وَيُقْتَلُ الْمَمْلُوكُ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ كَالْحُرِّ، وَكَسْبُهُ إذَا قُتِلَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ، وَلَا تُقْتَلُ الْمَمْلُوكَةُ وَتُحْبَسُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ كَالْحُرَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى خِدْمَتِهَا دَفَعْتُهَا إلَيْهِمْ، وَأَمَرَتْهُمْ بِإِجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْمَحَلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَاجَةِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَوْلَاهَا يَنُوبُ فِي ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ لِيَسْتَخْدِمَهَا، وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَجِنَايَةُ الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الرِّدَّةِ كَجِنَايَتِهِمْ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ بَاقٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ يَدًا وَتَصَرُّفًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ أَمَّا فِي الذُّكُورِ مِنْهُمْ فَلِاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِمْ بِالرِّدَّةِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى قَتْلًا مُسْتَحَقًّا يَكُونُ مُحْسِنًا لَا جَانِيًا، وَفِي الْإِنَاثِ قَتْلُ الْمَمْلُوكَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَقَتْلِ الْحُرَّةِ، وَمَنْ قَتَلَ حُرَّةً مُرْتَدَّةً لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَإِنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمَةُ قَالَ: لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى عَلَيْهَا الْقَتْلَ، وَلِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ، وَالْحَرْبِيَّةُ لَا تُقْتَلُ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ. (فَإِنْ قِيلَ) فَلِمَاذَا لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِنَا.؟ قُلْنَا: لِبَقَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 الْإِحْرَازِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَأَكُّدِ الْحُرْمَةِ بِالْإِحْرَازِ مَنْعُ الِاسْتِرْقَاقِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَقَوُّمُ الدَّمِ كَمَا فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ، وَإِذَا كَانَ هَدَرُ الدَّمِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الْإِحْرَازِ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ فَكَانَتْ فِيهِ كَالْحَرْبِيَّةِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الْمُرْتَدَّ أَوْ أُمَّتَهُ الْمُرْتَدَّةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالرِّقُّ فِيهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ. (فَإِنْ قِيلَ) جَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ قَاتِلُهُمَا. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمَالِيَّةُ فِي الْآدَمِيِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْإِحْرَازِ وَهُوَ بَاقٍ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ الضَّمَانُ لِعَارِضٍ وَهُوَ الرِّدَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ غَاصِبَهُمَا يَكُونُ ضَامِنًا وَأَنَّ الرِّدَّةَ عَيْبٌ فِيهِمَا، وَالْعَيْبُ لَا يَعْدَمُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَعْلَمَ الْمُشْتَرِيَ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ التَّدْلِيسِ حِينَ أَعْلَمَهُ الْعَيْبَ. مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ مَوْلَاهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُخِذَتْ أَسِيرَةً فَهِيَ فَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُسِرَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا يَمْنَعُ نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَإِذَا عَتَقَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ مُرْتَدَّةٌ أُسِرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَتَكُونُ فَيْئًا. عَبْدٌ ارْتَدَّ مَعَ مَوْلَاهُ، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ الْمَوْلَى هُنَاكَ وَأُسِرَ الْعَبْدُ فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ فَقَدْ أَحْرَزَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَيَكُونُ فَيْئًا، وَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ لِرِدَّتِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ذَهَبَ بِهِ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ فَهُوَ فَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُغِيرًا فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِ قَدْ قُسِّمَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَذَهَبَ بِهِ ثُمَّ قُتِلَ مُرْتَدًّا، وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْمَالُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بِغَيْرِ قِيمَةِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ، وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ الْمَالَ حِينَ قَسَّمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ فَهَذَا حَرْبِيٌّ أَحْرَزَ مَالَ الْمُسْلِمِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ. وَلَوْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَأَخَذَ مَالَ مَوْلَاهُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا، وَيُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبَقَ مِنْهُ غَيْرَ مُرْتَدٍّ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبَقَ مُرْتَدًّا، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَيُرَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ هَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْآبِقِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَأْخُذُوهُ، وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُمَا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ بِالْأَخْذِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ. قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَارَبُوا الْمُسْلِمِينَ، وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 مَدَائِنِهِمْ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَمَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ تُقْتَلُ رِجَالُهُمْ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ التُّرْكِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَالْقُوَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْمُشْرِكِينَ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُحْرَزَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالشِّرْكِ فَأَهْلُهَا مَقْهُورُونَ بِإِحَاطَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنٌ فَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ، ثُمَّ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ الْعَارِضِ كَالْمَحَلَّةِ إذَا بَقِيَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخِطَّةِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ. وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ دَارَ إسْلَامٍ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ: إذَا اشْتَدَّ الْعَصِيرُ، وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا لِبَقَاءِ صِفَةِ السُّكُونِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مُعْتَبَرٌ بِمَا حَوْلَهُ فَإِذَا كَانَ مَا حَوْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ كُلُّهُ دَارَ إسْلَامٍ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الشِّرْكِ فِيهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوْلَى الْمُرْتَدُّونَ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِرْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا قَتَلُوا الرِّجَالَ، وَأَجْبَرُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُسَبّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَارَ دَارَ حَرْبٍ فَالنِّسَاءُ، وَالذَّرَارِيُّ، وَالْأَمْوَالُ فَيْءٌ فِيهِ الْخُمُسُ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِرِدَّتِهِمْ فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ وَقَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُرْتَدَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مُتَهَوِّدَةً أَوْ مُتَنَصِّرَةً؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْحِلَّ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَنْ يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَدْ بَطَلَ بِالسَّبْيِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً، وَمَا كَانَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى حُرَّةٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ أَمَةً؛ لِأَنَّ بِالرِّقِّ تَتَبَدَّلُ نَفْسُهَا، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَادِثَةٌ بِالسَّبْيِ فَتَخْلُصُ لِلسَّابِي؛ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهَا. وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ، وَذَهَبَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِوَلَدِهِمَا الصَّغِيرِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ فَالْوَلَدُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حِينَ لَحِقَا بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لِلصَّغِيرِ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ فَقَدْ انْعَدَمَ كُلُّ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ فَيْئًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَمَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذَهَبَ بِهِ وَحْدَهُ، وَالْأُمُّ مُسْلِمَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأُمِّهِ. (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَتْبَعُهَا بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ (قُلْنَا) تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الِاتِّبَاعَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ حَتَّى إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَلَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهَهُنَا قَدْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بِبَقَاءِ الْأُمِّ مُسْلِمَةً، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ إسْلَامَهَا يَتَأَكَّدُ بِمَوْتِهَا وَلَا يَبْطُلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ نَصْرَانِيَّةً ذِمِّيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَكَمَا يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دِينِنَا يَتْبَعُهَا إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَرْبِيًّا، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ، وَإِذَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً فَلَا يُسْتَرَقُّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ ذِمِّيًّا نَقَضَ الْعَهْدَ فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ يَرْتَدُّ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِهِمْ. وَإِذَا وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَدٌ ثُمَّ وُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، أُجْبِرَ وَلَدُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُجْبَرْ وَلَدُ وَلَدِهِمَا عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَ لِوَلَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَالْوَلَدُ تَابِعٌ لَهُمَا فَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا وَلَدُ الْوَلَدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبِيهِ فِي الدِّينِ لَا لِجَدِّهِ، وَأَبُوهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا قَطُّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الْجَدُّ لَا يَصِيرُ وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ إسْلَامُ جَدِّهِ فِي حَقِّ النَّافِلَةِ كَانَ الْجَدُّ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُرْتَدِّينَ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِمْ آدَمَ أَوْ نُوحٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُمَا إذَا ارْتَدَّا أَوْ لَحِقَا بِوَلَدٍ صَغِيرٍ لَهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَوُلِدَ لِذَلِكَ الْوَلَدُ بَعْدَمَا كَبِرَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ فَهُوَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا كَانَ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ تَبَعًا فَهُوَ وَالْمَوْلُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا سَوَاءٌ، وَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الدِّينِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا فِي وَقْتٍ يَثْبُتُ لِوَلَدِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا قَطُّ. وَإِذَا نَقَضَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ، وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يُسْتَرَقُّونَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَصَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ الَّذِينَ كَانَ نَقَضُوا الْعَهْدَ إلَى الصُّلْحِ وَالذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ الْتَحَقُوا بِالْحَرْبِيِّينَ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا انْقَادُوا لِلذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ جَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ يَنْتَهِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقِينَ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إذَا عَادُوا إلَى الذِّمَّةِ أَخَذُوا بِالْحُقُوقِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ لِبَقَاءِ نُفُوسِهِمْ وَذِمَمِهِمْ عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ كَانَ عَارِضًا، فَإِذَا انْعَدَمَ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا أَصَابُوا فِي الْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ حِينَ بَاشَرُوا السَّبَبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ إذَا تَرَكُوا الْمُحَارَبَةَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ فِي هَذَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ وَالرِّدَّةِ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ لَا يُنَافِيهِمَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا لِقُصُورِ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَّنْ عَلَيْهِ، وَالْمَالُ كَذَلِكَ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ. وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَلَحِقَا بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَا عَلَى الذِّمَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَايَنْ بِهِمَا دِينٌ وَلَا دَارٌ، وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُسْلِمَانِ ثُمَّ أَسْلَمَا كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَالذِّمِّيَّانِ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً بَانَتْ مِنْهُ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَاَلَّتِي بَقِيَتْ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ الْمُرْتَدَّةَ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً فَقَدْ تَبَايَنَتْ بَيْنَهُمَا الدَّارُ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا مَنَعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 الْمُرْتَدُّونَ دَارَهُمْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ ثُمَّ لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْهُمْ، وَأَصَابُوا مَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَيْهِمْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُمْلَكُونَ بِالْإِحْرَازِ لِتَأَكُّدِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا فِيهِمْ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَصَابُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي حَرْبِهِمْ مَالًا أَوْ ذُرِّيَّةً فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى الْغَنِيمَةِ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَمَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَصَابُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ أَنْ يَجْعَلُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدِّينَ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ جُنَاةٌ عَلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَؤُلَاءِ عَلَى دِينِهِ، وَكَمَا لَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ مُدَّةً لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ طَاقَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبْهَةُ، وَيَزُولُ ذَلِكَ إذَا نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ يُؤَجَّلُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِتَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِهِ، وَهَهُنَا لَا طَاقَةَ بِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُمْهِلُوهُمْ مِقْدَارَ مَا طَلَبُوا مِنْ الْمُدَّةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يُطِيقُونَهُمْ، وَكَانَ الْحَرْبُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ الْمُوَادَعَةِ حَارَبُوهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ مَعَهُمْ فَرْضٌ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَتِهِ، فَإِذَا وَادَعُوهُمْ لَمْ يَأْخُذْ الْإِمَامُ مِنْهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ خَرَاجًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ خَرَاجٌ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ زَالَتْ عَنْ مَالِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ مَلَكُوا ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذُوا مِنْهُمْ. (قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الصُّلْحُ وَالذِّمَّةُ، وَلَكِنْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا، وَإِلَّا قُوتِلُوا، وَتُسْتَرَقُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا فِي حُكْمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ وَذَرَارِيَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَيُجْبَرُونَ عَلَى الْعَوْدِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَى النِّسَاءَ، وَالذَّرَارِيَّ بِأَوْطَاسٍ، وَقَسَّمَهُمْ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَفِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْلَى، وَأَمَّا الرِّجَالُ مِنْهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسْتَرَقُّونَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَازَ الِاسْتِرْقَاقُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْكُفَّارِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمِيٌّ، وَمَنْ جَازَ فِي حَقِّهِ الْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ يَجُوزُ الْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ كُلِّ كَافِرٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ فَقُلْنَا لَا يُتْرَكُ إقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ كَانَتْ مُتَأَكِّدَةً بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُحْتَمَلُ النَّقْضُ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قِيلَ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَالْآيَةُ فِيمَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ»، وَقَالَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ «لَوْ جَرَى رِقٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ لَكَانَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ»، وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَادَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِغَاءُ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالذِّمَّةُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ إبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ عَمَلٍ، وَفِي الْجِزْيَةِ مَعْنَى الصِّغَارِ، وَالْعُقُوبَةُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ بَلْ أَظْهَرُ، وَالِاسْتِرْقَاقُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاءُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى الشِّرْكِ بِالْجِزْيَةِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ فِي تَغَلُّظِ جِنَايَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ، فَكَمَا لَا يُسْتَرَقُّ الْمُرْتَدُّونَ فَكَذَلِكَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْعَرَبِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ تَوَطَّنُوا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ بَلْ هُمْ فِي الْأَصْلِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَئِنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ مِنْ الْعَرَبِ فَجِنَايَتُهُمْ فِي الْغِلَظِ لَيْسَتْ كَجِنَايَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ، وَلِهَذَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَتَجُوزُ مُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ بِخِلَافِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ يَهُودَ تَيْمَاءَ، وَوَادِي الْقُرَى، وَكَذَلِكَ مِنْ بَهْزٍ، وَتَنُوخِ، وَطِيء وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يُوَظِّفَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَعَّفَةِ، وَقَالَ هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ. فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِحُكْمِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ أَنَّهُ فِيهِ أَثَرًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَ إلَى أَنْ وَاقَعَ مَلِكُهُمْ ابْنَتَهُ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أَسْرَى بِكِتَابِهِمْ. حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمَجُوسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا كِتَابَ لَهُمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وَلَوْ كَانَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَالْأَثَرُ بِخِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَثَبَتَ أَنْ لَا كِتَابَ لِلْمَجُوسِ، وَمَعَ ذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ يزدان واهر مِنْ، وَلَيْسَ الشِّرْكُ إلَّا هَذَا، فَإِذَا جَازَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ»، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بَلْ لِبَيَانِ جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ. قَوْمٌ غَزَوْا أَرْضَ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَاعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُمْ، وَحَارَبُوا، وَنَابَذُوهُمْ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، وَأَصَابَ أُولَئِكَ الْمُرْتَدُّونَ غَنِيمَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ لَمْ يُشَارِكْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ فِيمَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ رِدْءًا لِلْبَعْضِ، فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَنْصُرُونَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُرْتَدِّينَ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ، وَإِنَّ مُصَابَ الْمُرْتَدِّينَ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ إعْزَازَ الدِّينِ، وَالْمُرْتَدُّونَ فِي حَقِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا وَالْتَحَقُوا بِالْجَيْشِ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ بِهَذَا الْقِتَالِ، وَاشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهِ بِالدَّارِ، فَيُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ هَذَا فِيمَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ مُشْكِلٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ إذَا لَقُوا قِتَالًا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ، وَمَا أَصَابَ الْمُرْتَدُّونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ بِهَذَا الْقِتَالِ كَالْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ مَالًا ثُمَّ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مُصَابَهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُخَمَّسَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ كُفَّارٍ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، فَإِنْ جَدَّدُوهَا فَحَسَنٌ، وَإِنَّ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ فَحَسَنٌ. [ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ] (قَالَ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ، وَهُنَا فَصْلَانِ إذَا أَسْلَمَ الْغُلَامُ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ فَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»، وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعَ الْقَلَمِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا لُقِّنَ فَتَكَلَّمَ بِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِعَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي حُكْمٍ، وَتَبَعًا فِيهِ بِعَيْنِهِ مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَرْضًا لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِاتِّفَاقٍ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَصْلِ تُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي التَّبَعِ كَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَالِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ، فَفِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَلَوْ صَارَ عَقْلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الدِّينِ لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 يَصِفَ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا تَنْبِي عَلَى قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا أَوْ شَهَادَةً، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ، وَالشَّهَادَاتِ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا يَقُولُ: فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، وَقَدْ أَعْرَبَ هُنَا لِسَانُهُ شَاكِرًا شَكُورًا فَلَا نَجْعَلُهُ كَافِرًا كَفُورًا، وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ حَتَّى افْتَخَرَ بِهِ فِي شِعْرِهِ قَالَ: سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِينَ أَسْلَمَ، وَحِينَ مَاتَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَسْلَمَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ، وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَى بِمَوْتِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِذَا ضَمَمْتَ خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ، وَقَالَ الْعُتَيْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا، وَقَالَ الْجَاحِظُ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَالْبَالِغِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَاقَرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ، وَمَنْ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلتَّوْحِيدِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اعْتِقَادِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ أَبَوَيْهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ، وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِعِبَارَةٍ مَفْهُومَةٍ، وَنَحْنُ نَرَى صَبِيًّا يُنَاظِرُ فِي الدِّينِ، وَيُقِيمُ الْحُجَجَ الظَّاهِرَةَ حَتَّى إذَا نَاظَرَ الْمُوَحِّدِينَ أَفْهَمَ، وَإِذَا نَاظَرَ الْمُلْحِدِينَ أَفْحَمَ، فَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَعَ الصِّبَا أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً أَنَّهُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ هَهُنَا، وَالنَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ، وَالْحَجْرُ عَنْ الْإِسْلَامِ كُفْرٌ أَوَّلًا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فَيَكُونُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ حُرِّمَ مِيرَاثُ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَافِرَةُ، فَإِنَّمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 يُحَالُ بِذَلِكَ عَلَى خُبْثِهَا لَا عَلَى إسْلَامِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَثْبُتُ إذَا جُعِلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَالتَّبَعِيَّةُ فِيمَا يَتَمَحَّضَ مَنْفَعَةٌ لَا فِيمَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، وَإِنَّمَا جُعِلَ تَبَعًا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَفِي اعْتِبَارِ مَنْفَعَتِهِ مَعَ إبْقَاءِ التَّبَعِيَّةِ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابُ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِطَرِيقَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ، فَأَمَّا إذَا تَأَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَنَوَتْ السَّفَرَ فَهِيَ مُسَافِرَةٌ بِنِيَّتِهَا مَقْصُودًا، وَتَبَعًا لِزَوْجِهَا أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ عِنْدَ إسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ إذَا أَسْلَمَ مَعَ كُفْرِهِمَا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا أَدَّى بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُجْعَلُ الْخِطَابُ كَالسَّابِقِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ كَالْمُسَافِرِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا أَدَّى يُجْعَلُ ذَلِكَ فَرْضًا مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إذَا أُدْرِجَ الْخِطَابُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ تَتَوَفَّرُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصِفَتِهِ، وَإِنَّمَا لَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَصِفَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لِبَقَاءِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَلِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَوْلِ بِسَائِرِ الْأَقَاوِيلِ، أَلَا نَجْعَلُهُ فِيهَا كَاذِبًا أَوْ لَاغِيًا، وَإِذَا أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ أَوْ لَاغٍ بَلْ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ فَجَرَيْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ هَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَضُرُّهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ، وَعَقْلُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَالرَّدُّ بَاطِلٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ اسْتِحْسَانًا لِعِلَّتِهِ لَا لِحُكْمِهِ، فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ اعْتِبَارِ مَعْرِفَتِهِ وَالْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى عِلَّتِهِ اعْتِبَارَ رِدَّتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ مِنْهُ بِخَالِقِهِ، وَجَهْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى لَا يُجْعَلَ عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِهِ فَكَذَلِكَ جَهْلُهُ بِرَبِّهِ، وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِرَفْعِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالصَّلَاةِ كَانَ أَهْلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ رَدُّ الْهِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ضَرَرَ الرِّدَّةِ يَلْحَقُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَضَرَرُ رَدِّ الْهِبَةِ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 رِدَّتِهِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهَا كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارُ دَمِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ اسْتِحْقَاقُ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا فِي الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِارْتِدَادِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا. وَالثَّانِي: إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ. وَالثَّالِثُ: إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ. وَالرَّابِعُ: الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَانَتْ مِنْهُ، وَلَوْ بَاعَ أَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ كَانَ صَحِيحًا مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَقَالَ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُو سَكْرَانُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ سُكْرِهِ عَادَةً، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ وَاحِدًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سَكِرَ حِينَ كَانَ الشُّرْبُ حَلَالًا، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدِي وَعَبِيدُ آبَائِي وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كُفْرًا» وَقَرَأَ سَكْرَانُ سُورَةَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَتَرَكَ اللاءات فِيهِ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. [وَالْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ] فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْ سِرِّهِ مَا نَعْلَمُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا نَسْمَعُ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا، وَلَا أَثَرَ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَالرِّدَّةُ نَنْبَنِي عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 الِاعْتِقَادِ، وَبِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُنَاكَ بِمُقَابِلَةِ هَذَا الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءٌ سَبَبُهُ التَّكَلُّمُ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُنَافِي الْإِنْشَاءَ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ فَوْزٌ أَنَّهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ. وَإِذَا طَلَبَ وَرَثَةُ الْمُرْتَدِّ كَسْبَهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ، وَقَالُوا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَعَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمْ ظَاهِرٌ، وَهُوَ رِدَّتُهُ عِنْدَ اكْتِسَابِهِ فَهُمْ يَدَّعُونَ عَارِضًا مُزِيلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ إسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. [نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ] وَإِنْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ عَمِلَ فِي تَرِكَتِهِ وَرَثَتُهُ مَا يُعْمَلُ فِي تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَكُونُ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [بَابُ الْخَوَارِجِ] (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْفِتْنَةِ «كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِكَ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ أَوْ قَالَ عِنْدَ اللَّهِ» مَعْنَاهُ كُنْ سَاكِنًا فِي بَيْتِكَ لَا قَاصِدًا. فَإِنَّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى وَاحِدٍ، وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ، وَالسَّبِيلُ آمِنَةً فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْخَارِجِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9]، وَالْأَمْرُ حَقِيقَةً لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْخَارِجِينَ قَصَدُوا أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَإِمَاطَةَ الْأَذَى مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ، وَخُرُوجُهُمْ مَعْصِيَةٌ، فَفِي الْقِيَامِ بِقِتَالِهِمْ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرْضٌ، وَلِأَنَّهُمْ يُهَيِّجُونَ الْفِتْنَةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» فَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه يُقَاتِلُ مَعَهُ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرَهُ لَزِمَ بَيْتَهُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى مَنْ يُطِيقُهُ، وَالْإِمَامُ فِيهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قَامَ بِالْقِتَالِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ، وَالنَّاكِثِينَ، وَالْقَاسِطِينَ، وَلِهَذَا بَدَأَ الْبَابَ بِحَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ حَيْثُ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتُمُونَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقُولُ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ فَتَعَلَّقْتُ بِهِ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ قَالَ: إذَنْ وَيْحَكَ مَنْ أَنْتَ قَالَ: أَنَا سِوَارُ الْمُنْقِرِيُّ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَلِّ عَنْهُ. فَقُلْتُ: أُخَلِّي عَنْهُ، وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ يَقْتُلْنِي. قُلْتُ: وَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَكَ. قَالَ: فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْتَ أَوْ دَعْهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خُرُوجٌ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ، فَإِذَا بَلَغَهُ عَزْمُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ فَيَحْبِسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ لِعَزْمِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُغَلِّبِينَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِهِ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُ، فَيَقُولُ: يَا فَتَّانُ يَا شِرِّيرُ لِقَصْدِهِ إلَى الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. (قَالَ)، وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ أَيْ نَادَوْا الْحُكْمُ لِلَّهِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالْحُكْمَيْنِ، وَتَفْوِيضِهِ الْحُكْمَ إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَرْءِ الْحُكْمُ لِلَّهِ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ، فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الْخُرُوجِ عِنْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا قَالَ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالشَّتْمِ لَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَزِّرْهُمْ، وَقَدْ عَرَّضُوا بِنِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ، وَالشَّتْمُ بِالْكُفْرِ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ تَحْتَ رَايَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ دَفْعًا لِقِتَالِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. (قَالَ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَلَا تُدَفِّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: إذَا قَاتَلَ أَهْلُ الْعَدْلِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا؛ لِأَنَّا قَاتَلْنَاهُمْ لِقَطْعِ بَغْيِهِمْ، وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا، فَإِنَّ بَقِيَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنَّهُ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا قَصْدَهُمْ لِهَذَا حِينَ وَلَّوْا مِنْهُمْ مُنْهَزِمِينَ بَلْ تَحَيَّزُوا إلَى فِئَتِهِمْ لِيَعُودُوا فَيُتْبَعُونَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا يُتْبَعُ الْمُدْبِرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِبَقَاءِ الْفِئَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْتُلُونَ الْأَسِيرَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْلِفُ مَنْ يُؤْسَرُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَطُّ ثُمَّ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا انْدَفَعَ شَرُّهُ، وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ، وَلَوْ تَخَلَّصَ انْحَازَ إلَى فِئَتِهِ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ كَسْرُ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَوْلُهُ لَا يُكْشَفُ سِتْرٌ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُسْبَى الذَّرَارِيُّ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ، وَبِهِ نَقُولُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يُتَمَلَّكُ أَمْوَالُهُمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ فِيهَا بِكَوْنِهَا مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ بِالْقَهْرِ يَخُصُّ بِمَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ عِصْمَةُ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَدْلِ مِنْ كُرَاعِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ احْتَاجُوا إلَى سِلَاحِ أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَقَدْ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ حَيْثُ قَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ»، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سِلَاحِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ فَفِي سِلَاحِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُرَدُّ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَمَلَّكْ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ، وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ. (قَالَ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا لِإِنْسَانٍ قَدْرَ حَدِيدٍ فَأَخَذَهَا، وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ، أَلَا تُقَسِّمُ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَالَ: فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا لِكَلَامِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخَطَئِهِمْ فِيمَا طَلَبُوا. [أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ] وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا تُقْتَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ عَلَى رِدَّتِهَا فَكَيْفَ تُقْتَلُ إذَا كَانَتْ بَاغِيَةً، وَفِي حَالِ اشْتِغَالِهَا بِالْقِتَالِ إنَّمَا جَازَ قَتْلُهَا دَفْعًا، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أُسِرَتْ كَالْوَلَدِ يَقْتُلُ وَالِدَهُ دَفْعًا إذَا قَصَدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا انْدَفَعَ قَصْدُهُ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ لِارْتِكَابِهَا الْمَعْصِيَةَ، وَيَمْنَعُهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ. وَإِذَا أُخِذَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ كَانَ يُقَاتِلُ، وَكَانَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى حَالِهِ قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ قَتْلِ الْأَسِيرِ إذَا بَقِيَتْ لَهُ فِئَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَخْدِمُ مَوْلَاهُ، وَلَمْ يُقَاتِلْ حُبِسَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقْتُلْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُقَاتِلًا، وَالْقَتْلُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ لِلدَّفْعِ، فَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ مَالُ الْبَاغِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ الْعَبْدُ بِحَبْسِهِ لِكَيْ لَا يَهْرَبَ فَيَعُودَ إلَى مَوْلَاهُ. وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: أَمَّا الْكُرَاعُ فَيُبَاعُ، وَيُحْبَسُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ الْبَاغِي، وَلِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ حَبْسِ الْكُرَاعِ فَلِهَذَا يَبِيعُهُ، وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ فَيُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَّا السِّلَاحُ فَيَمْسِكُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الرَّدِّ فِي الْحَالِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يُوقَفُ لِتَفَرُّقِ الْجَمْعِ. [طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ] فَإِنَّ طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إنْ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ إذَا لَمْ يَقْوَوْا عَلَى قِتَالِهِمْ، وَكَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أُخِذُوا مُلِكُوا؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَهَهُنَا إنْ أُخِذُوا لَا يُمْلَكُونَ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ لَا تُغْنَمُ بِحَالٍ. وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَدَخَلُوا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُؤْخَذُوا بِشَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا، يَعْنِي بِضَمَانِ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمُرَادُهُ إذَا أَصَابُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَجَمَّعُوا، وَصَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَمَّا مَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ ضَامِنُونَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 فِي حَقِّهِمْ بِالْمُحَاجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ الْبَاطِلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَقَدْ انْقَطَعَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا فَيُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَأَنْفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهمْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَنَّا لَا نَمْلِكُ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يُفْتِي أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الطَّائِفَتَيْنِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَصَابُوا فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْبُغَاةِ فَحُكْمُهُمْ فِيمَا فَعَلُوا كَحُكْمِ الْبُغَاةِ. وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ حَتَّى نَاظَرَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالرَّمْيِ بِالنَّبْلِ، وَالْمَنْجَنِيقِ، وَارِسَالِ الْمَاءِ، وَالنَّارِ عَلَيْهِمْ، وَالْبَيَاتِ بِاللَّيْلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 لِأَنَّ قِتَالَهُمْ فَرْضٌ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمُرْتَدِّينَ. وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ بَيْنَهُمْ فَأَعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ أَيُّهُمَا غَدَرَ فَقَتَلَ الرَّهْنَ فَدِمَاءُ الْآخَرِينَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَقَتَلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ فِينَا، إمَّا بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِأَنْ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُؤَاخَذُونَ بِذَنْبِ الْغَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَلَكِنَّهُ لَا يُخَلِّي سَبِيلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فِتْنَتَهُمْ، وَإِنْ يَعُودُوا إلَى فِئَتِهِمْ فَيُحَارِبُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَلِهَذَا حُبِسُوا إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَغَدَرَ الْمُشْرِكُونَ حُبِسَ رَهْنُهُمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَإِنْ أَبَوْا فَهُمْ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِغَدْرٍ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ اُحْتُبِسُوا فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا رَهْنَنَا فَقُلْنَا: إنَّهُمْ يُحْتَبَسُونَ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ لَا يُتْرَكُ فِي دَارِنَا مُقِيمًا إلَّا بِجِزْيَةٍ فَتُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَيُحْكَى أَنَّ الدَّوَانِيقِيَّ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهَذَا الصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ لِيَسْتَشِيرَهُمْ فِي رَهْنِهِمْ فَقَالُوا يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ. قَالَ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ فَإِنَّكَ شَرَطْتَ لَهُمْ مَالًا يَحِلُّ، وَشَرَطُوا لَكَ مَا لَا يَحِلُّ «، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَاغْلُظْ عَلَيْهِ الْقَوْلِ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَالَ: مَا دَعَوْتُكَ لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتَنِي بِمَا أَكْرَهُ ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ، وَقَالَ قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْتَ فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ فَقَالَ: لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَوْتُ ذَلِكَ فَكَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَرَدَّهُ إلَى بَيْتِهِ بِمَحْمَلٍ. وَإِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْبَاغِي لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ ثُمَّ هُنَاكَ يَصِحُّ أَمَانُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنَاظِرَهُ فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَكَذَا إنْ قَالَ: لَا سَبِيلَ عَلَيْكَ أَوْ أَمَّنَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَيُّمَا مُسْلِمٍ قَالَ لِكَافِرٍ مُبَرَّسٍ أَوْ لَا يُذْهِلُ أَوْلَادَهُ فَهُوَ أَمَانٌ، وَكُلُّ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْحَرْبِيِّ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْبَاغِي كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الَّذِي يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَأَمَانُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى الْخِلَافِ. وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ لِلْكُفَّارِ. [قَاتَلَ النِّسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَهْلَ الْعَدْلِ] وَإِذَا قَاتَلَ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَسِعَهُمْ قَتْلُهُنَّ دَفْعًا لِقِتَالِهِنَّ، فَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ لَمْ يَسْعَهُمْ قِتَالُهُنَّ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ بَلْ أَوْلَى، فَهَذَا الْقِتَالُ دَفْعُ مَحْضٍ، فَإِذَا قَاتَلْنَ قُتِلْنَ لِلدَّفْعِ، وَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِهِنَّ. وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي يَدِي أَهْلِ الْبَغْيِ تُجَّارٌ أَوْ أَسْرَى فَجَنَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يُقْتَصَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَصِلْ إلَيْهِمْ يَدُ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ فَسَقَةٌ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ اعْتِقَادٍ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا خَرَجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ التَّعَاطِي، فَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْفَاسِقِ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، فَرُبَّمَا حَكَمَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مِصْرٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَالْقِصَاصَ، وَالْأَحْكَامَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَلِكَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوا مِنْ جِهَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ، وَدَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إلْزَامِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّةِ مَنْ قَلَّدَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ قَلَّدَهُ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا، فَإِنَّ شَرْطَ التَّقْلِيدِ التَّمَكُّنُ وَقَدْ حَصَلَ، فَإِنَّ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ هَذَا الْقَاضِي الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ يَعْرِفُ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَلَ الْقَاضِي بِكِتَابِهِ شَهَادَتَهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُجِيزُ كِتَابَهُ كَمَا لَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ مَنْ يَسْكُنُ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْهُمْ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالظَّاهِرِ. (قَالَ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا وَيُحَارِبُوا ثُمَّ صَالَحُوا بَعْدَ الْخُرُوجِ عَلَى إبْطَالِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَأَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُمْ لِلْعِبَادِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَانَ شَرْطُهُمْ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَرْطًا بَاطِلًا فَلَا يُوَفِّي بِهِ. وَيُصْنَعُ بِقَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ فَلَا يُغَسَّلُونَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ هَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ أَوْصَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ اُسْتُشْهِدُوا، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. [قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ] وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَا يُغَسَّلُونَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُمْ يُدْفَنُونَ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى النَّهْرَوَانِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وَقَدْ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِغُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ نَوْعُ مُوَالَاةٍ مَعَهُمْ، وَالْعَادِلُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَيَاةِ الْبَاغِي فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا إذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْعَادِلِ بِأَنْ يُغَسِّلَ قَرِيبَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْقَرَابَةِ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ. (قَالَ) وَأَكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رُءُوسُهُمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَنَعَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوبِهِ، وَهُوَ الْمُتَّبَعُ فِي الْبَابِ، وَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُ يَبَابَ الْبِطْرِيقِ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرِهَهُ فَقِيلَ: إنَّ الْفُرْسَ، وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَسْنَا مِنْ الْفُرْسِ، وَلَا الرُّومِ يَكْفِينَا الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ، وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ كَانَ فِيهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ أَوْ طُمَأْنِينَةُ قَلْبِ أَهْلِ الْعَدْلِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ». وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ فِي الْحَرْبِ أَبَاهُ الْبَاغِي وَرِثَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ فِي قِصَاصٍ، وَهَذَا لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ شُرِعَتْ جَزَاءً عَلَى قَتْلِ مَحْظُورٍ فَالْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ الْعَادِلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ تَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ، وَلَا عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ يُعْتَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ النَّفْسِ، وَالْمَالِ لَا فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ إذْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: الْمُقَاتَلَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْآثَامِ كَمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَكَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ الْبَاغِي مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ كَذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، حَتَّى إذَا جَرَحَ الْكَافِرُ مُوَرِّثَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَرِثَهُ، وَكَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَادِلِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَكِنْ قِيلَ: لَمَّا انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِانْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَى التَّأْوِيلِ جُعِلَ الْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ كَالصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ. وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَلِيَ قَتْلَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْأَبِ لَا يُشْكِلُ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] فَالْمُرَادُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ كَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] «وَلَمَّا اسْتَأْذَنَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ يَكْفِيكَ ذَلِكَ غَيْرُكَ»، وَكَذَلِكَ «لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ»، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ أَخِيهِ إذَا كَانَ مُشْرِكًا، وَيُكْرَهُ إذَا كَانَ بَاغِيًا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْبَاغِي اجْتَمَعَ حُرْمَتَانِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، وَحُرْمَةُ الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ، وَفِي حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا وُجِدَ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الدِّينِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. فَإِنَّ قَصَدَهُ أَبُوهُ الْمُشْرِكُ أَوْ الْبَاغِي لِيَقْتُلَهُ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَيَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَتْلَ أَبِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ قَصْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي صَفِّهِمْ فَقِتَالُهُ حَلَالٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 وَالْقِتَالُ الْحَلَالُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَإِذَا دَخَلَ الْبَاغِي عَسْكَرَ أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا، وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حِينَ كَانَ دُخُولُهُ بِأَمَانٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ لِيَعُودَ حَرْبًا، فَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ لِلْعِصْمَةِ، وَالتَّقَوُّمُ فِي دَمِهِ لِلْحَالِ. (قَالَ) وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فِي الْمُحَارَبَةِ فَقَالَ: قَدْ تُبْتُ وَأَلْقَى السِّلَاحَ كُفَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَاتِلُهُ لِيَتُوبَ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ دَفْعًا لِبَغْيِهِ وَقِتَالِهِ، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أَلْقَى السِّلَاحَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي فَلَعَلِّي أُتَابِعُكَ، وَأُلْقِي السِّلَاحَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ رَجَاءً أَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِدُونِ الْقِتَالِ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْمُحَارَبَةِ هُنَاكَ شِرْكُهُ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، وَهَهُنَا أَهْلُ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُونَ لِدَفْعِ قِتَالِهِمْ، فَإِذَا أَلْقَى السِّلَاحَ وَاسْتَمْهَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَلَوْ قَالَ أَنَا عَلَى دِينِكَ، وَمَعَهُ السِّلَاحُ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُغَاةَ مُسْلِمُونَ، وَقَدْ كَانَ الْعَادِلُ مَأْمُورًا بِقِتَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ إيَّاهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ فَهُوَ قَاصِدٌ لِلْقِتَالِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ فَيَقْتُلُهُ دَفْعًا لِقِتَالِهِ. وَإِذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَقَاتَلَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَسَعْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ الذَّرَارِيِّ؛ لِأَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُسْبَوْنَ، فَإِنَّ الْبُغَاةَ ظَالِمُونَ فِي سَبْيِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِي الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا». [وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ] وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَسَعْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَغْزُوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ غَدَرَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ فَسَبَوْهُمْ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُوَادَعَةٍ وَأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاَلَّذِينَ غَدَرُوا بِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤَمَّرُونَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى إذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ أُمِرُوا بِرَدِّهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ الَّذِينَ وَادَعُوهُمْ. وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَتَّى أَلْجَؤُهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ مَنَعَةٌ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَلَى تَأْوِيلٍ يُقَاتِلَانِ ثُمَّ يَسْتَأْمِنَانِ أُخِذَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمَا مُعْتَقِدَانِ الْإِسْلَامَ فَيَكُونَانِ كَاللِّصَّيْنِ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابَا. وَإِذَا اشْتَدَّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَوْ قَتَلَهُ بِهِ قَتَلَهُ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ وَالْعَصَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا مَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرِ، ثُمَّ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَتْلِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ أَوْ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا الْحَجَرُ الْكَبِيرُ كَالسِّلَاحِ فَنَقُولُ: الشَّادُّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فَبِمُجَرَّدِ قَصْدِهِ يُهْدَرُ دَمُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَدَرَ الدَّمِ وَابَاحَةَ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا حَتَّى كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ إذَا قَصَدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ إذَا قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ بِالسِّلَاحِ يُبَاحُ قَتْلُهُ دَفْعًا، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، ثُمَّ مَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمَا آلَةَ الْقَتْلِ كَالسِّلَاحِ، فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ دَفْعُ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَصَا وَالْحَجَرُ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَبِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْأَذَى لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ الشَّادَّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، فَبِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَيْضًا لَا يُهْدَرُ دَمُهُ. (فَإِنْ قِيلَ) إنْ كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَتْلِ بِخِلَافِ الْجُرْحِ، وَحُرْمَةُ أَطْرَافِهِ لَا تَكُونُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِهِ، وَلَوْ قَصَدَ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَهُنَا أَوْلَى. (قُلْنَا) بِنَاءُ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى قَصْدِهِ، وَقَصْدُهُ هَهُنَا النَّفْسُ لَا الطَّرَفُ، وَالْمَشْدُودُ عَلَيْهِ لَا يَخَافُ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمِصْرِ بِالنَّهَارِ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلِهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 لَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِالْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ بِالْبُعْدِ مِنْهُ عَادَةً، فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ، وَيَخْرُجُوا رُبَّمَا يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ هُوَ دَافِعًا شَرَّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ السِّلَاحِ فَإِنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَارِحٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ فَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ قَصْدِهِ إلَى الْمَالِ أَوْ إلَى النَّفْسِ بَلْ هُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا سَوَاءٌ أَرَادَ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللُّصُوصِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّ فِي حَقِّ اللُّصُوصِ الْمَنَعَةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَنَّهُ إذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ، وَالْعَبْدُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْحُرِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ لُصُوصًا غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ. وَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهَا قَاضِيًا فَقَضَى بِأَشْيَاءَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهَا احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهَا، وَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى بِمَا رَآهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ فَلَا يَنْقُضُ ذَلِكَ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قَضَايَا مَنْ تَقَلَّدَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَنِمُوا غَنِيمَةً اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَالِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَفِي إحْرَازِ الْفَيْءِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَيَأْخُذُ خُمُسَهَا أَهْلُ الْعَدْلِ لِيَصْرِفُوا ذَلِكَ إلَى الْمَصَارِفِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَتَكَلَّفُوا لِتَكُونَ الرَّايَةَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَخَذُوا الْخُمُسَ، وَكَذَلِكَ إنْ غَنِمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رِدْءُ الْبَعْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ. وَكَذَلِكَ إذَا غَزَا الْإِمَامُ بِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فَمَاتَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَاخْتَلَفَ الْجُنْدُ فِيمَنْ يَسْتَخْلِفُونَهُ، ثُمَّ غَنِمُوا أَوْ غَنِمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمُصَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَيْشًا لَهُمْ مَنَعَةٌ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إذْن الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا أَصَابُوا وَقُسِّمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 فَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ قَاتَلُوا بَعْدَ مَا مَاتَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا غَيْرَهُ. وَإِذَا اسْتَعَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ قَالَ يُسْبَى أَهْلُ الْحَرْبِ، وَلَيْسَتْ اسْتِعَانَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ بِهِمْ بِأَمَانٍ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ، وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ تَجَمَّعُوا، وَقَصَدُوا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَاجَزُوهُمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْأَمَانِ، فَلَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا ثُبُوتَ الْأَمَانِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ إذَا دَعَوْا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ يَسْبُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ فَهُمْ بِالْقَصْدِ إلَى مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ صَارُوا نَاقِضِينَ لِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، وَالْتَحَقُوا بِمَنْ لَا مُوَادَعَةَ لَهُمْ، مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ السَّبْيِ مَنْ لَحِقَ بِعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَارَبَ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ حَتَّى لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِمَّنْ الْتَحَقَ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِهِ بِمَنْ خَالَفَ، وَلَمَّا قَالَ لِلَّذِي أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَاصِمُ فِي زَوْجَتِهِ: أَنْتَ الْمُمَالِئُ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا. قَالَ: أَوْ يَمْنَعُنِي ذَلِكَ عَدْلَكَ. فَقَالَ: لَا، وَقَضَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَمَنَعَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ كُلُّهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ آخَرُ فِي الْغَنِيمَةِ] (قَالَ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَقْطُوعُ فِي الْحَرْبِ وَصَاحِبُ الدُّيُونِ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْغَنِيمَةِ قَالَ: «لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَهَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ.؟ قَالَ: لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِكَ فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ صَاحِبِكَ»، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ، وَالْمُتَطَوِّعُ فِي ذَلِكَ كَصَاحِبِ الدُّيُون. وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ مَا كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 قَصْدُهُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْقِتَالَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ التِّجَارَةَ فَلَا يَكُونُ هُوَ مِنْ الْغُزَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ بِفِعْلِهِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْقِتَالُ، وَمَعْنَى التِّجَارَةِ تَبَعٌ فَلَا يَحْرُمُهُ ذَلِكَ سَهْمَهُ، وَقِيلَ: نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحِجِّ فَكَذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْغَزْوِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ، وَاَلَّذِينَ بِهِمْ زَمَانَةٌ لَا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً هَا مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَمَنْ بِهِ زَمَانَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، قَالُوا: وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يُقَاتِلُ بِرَأْيِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يُقَاتِلُ بِرَأْيِهِ فَفِي قَتْلِهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَقَدْ عَمِيَ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ. (قَالَ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَالرُّهْبَانِ فَرَأَى قَتْلَهُمْ حَسَنًا، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا يُخَالِطُونَ النَّاسَ يُقْتَلُونَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ، وَهُمْ الَّذِينَ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا طَيَّنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْبَابَ، وَلَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ بِالْفِعْلِ، وَلَا بِالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَهُمَا اسْتَدَلَّا بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ: وَسَتَلْقَى أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَالرُّهْبَانِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعِبَادَةِ فَدَعْهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، وَالْقَتْلُ لِدَفْعِ الْقِتَالِ فَكَانُوا هُمْ فِي ذَلِكَ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُمْنَعُ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فَهُمْ يَحْثُونَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ فِعْلًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَحُثُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلًا، وَلِأَنَّهُمْ بِمَا صَنَعُوا لَا تَخْرُجُ بِنِيَّتِهِمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْمُحَارَبَةِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْمُحَارَبَةِ كَالْمَشْغُولِينَ بِالتِّجَارَةِ وَالْحِرَاثَةِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. [الرَّجُلِ يَأْسِرُ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدُوِّ هَلْ يَقْتُلُهُ] (قَالَ) وَسَأَلْته عَنْ الرَّجُلِ يَأْسِرُ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدُوِّ هَلْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْتِي بِهِ الْإِمَامَ.؟ قَالَ: أَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ بِالْأَسْرِ مَا تَسْقُطُ الْإِبَاحَةُ مِنْ دَمِهِ حَتَّى يُبَاحَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِمَنْ أَسَرَهُ كَمَا قَبْلُ أَخْذُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وَلَمَّا قُتِلَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بَعْدَ مَا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ أُتِيَ بِهِ الْإِمَامُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْإِمَامِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى إظْهَارِ الشِّدَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ أَنْفَعَ وَأَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ. (قَالَ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يَقْتُلُهُ الْمُسْلِمُونَ هَلْ يَبِيعُونَ جِيفَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ: لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَنْهَى عَنْهُ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي عُقُودِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى هَهُنَا فَقَالَ: أَمْوَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَصْبِ فَبِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ أَوْلَى، مَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ فِي الْمَالِ الَّذِي جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا أَخْذًا بِسَبَبِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِهَذَا يُخَمَّسُ وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْغَنِيمَةِ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَعِينُونَ بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الشِّرْكِ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لِأُولَئِكَ، وَلَا يُسْهَمُ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ لِلْغُزَاةِ، وَالْمُشْرِكُ لَيْسَ بِغَازٍ، فَإِنَّ الْغَزْوَ عِبَادَةٌ، وَالْمُشْرِكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا الرَّضْخُ لِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِعَانَةِ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّضْخِ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ. [الْأَسِيرِ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى] (قَالَ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْأَسِيرِ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى قَالَ لَا يُفَادَى، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُجْعَلُ فَيْئًا أَيُّ ذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ الْإِمَامُ. وَالْكَلَامُ هَهُنَا فِي فُصُولٍ: (أَحَدُهَا:) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُسَارَى بِدَلِيلِ أَوَّلِ الْآيَةِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ «، وَلَمَّا شَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْمُفَادَاةِ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ذَلِكَ» لَمَّا رَأَى مِنْ حَاجَةِ أَصْحَابِهِ إلَى الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَسِيرِ جَائِزٌ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِ، فَإِذَا فَادُوهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ فَمَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَفِيهِ إبْطَالُ الْغَانِمِينَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَأَنْ يَجُوزُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ الْمَالُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 الَّذِي يُفَادَى بِهِ كَانَ أَوْلَى. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] عَلَى مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرَ»، فَإِنَّهُ كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85] فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَفَائِدَتُنَا أَنْ لَا نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأَسِيرِ حَيْثُ قَالَ لَا تُفَادُوهُ، وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يَجُوزُ إعَادَتُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِرْقَاقَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا لَا لِمَقْصُودِ الْمَالِ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْلِيَةَ سَبِيلِ الْمُشْرِكِ لِيَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ فَرْضٌ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي هَذَا تَقْوِيَةَ الْمُشْرِكِينَ بِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْقِتَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْهُمْ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْقِتَالِ بِالْمُقَاتِلِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِآلَةِ الْقِتَالِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ، وَلَا رَأْيَ لَهُ فِي الْحَرْبِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَيْسَ فِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ الْقَتْلِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَا تَقْوِيَةُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعَادَةِ الْمُقَاتِلِ إلَيْهِمْ فَهُوَ كَبَيْعِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ. فَأَمَّا مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ لَا يَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْمُشْرِكِينَ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ فِي أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذْ اُبْتُلِيَ الْأَسِيرُ الْمُسْلِمُ بِعَذَابٍ أَوْ فِتْنَةٍ مِنْ جِهَتِهِمْ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا خَلَّيْنَا سَبِيلَ الْمُشْرِكِ لِيَعُودَ حَرْبًا لَنَا فَذَلِكَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَيْنَا فَمُرَاعَاةُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ لِنَتَوَصَّلَ إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 قَتْلِهِمْ، فَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلْخَوْفِ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ أَسِيرَهُمْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إعَادَةُ الذِّمِّيِّ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ بِأَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ بِأَسِيرِهِمْ، وَيَسْتَوِي إنْ طَلَبَ مُفَادَاةَ أَسِيرٍ أَوْ أَسِيرَيْنِ بِأَسِيرٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ لِقُوَّةِ قِتَالِ ذَلِكَ الْأَسِيرِ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَقْوِيَتُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأَسِيرِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] كِنَايَةً عَنْ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ الْمُفَادَاةَ بِالْأَسِيرِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَاجَةُ إلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّهُمْ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَقَالَ: لَوْ انْفَلَتَتْ إلَيْهِمْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ فَأَخَذُوهَا فِي دَارِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا أَخَذَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلدَّابَّةِ فِي نَفْسِهَا فَتَحَقَّقَ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا بِالْأَخْذِ فِي دَارِهِمْ، بِخِلَافِ الْآبِقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِ أَصَابَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَبِيعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ، وَفِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ حَيْثُ مَا وَجَدَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ. وَإِذَا أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ فَأَحْرَزُوهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فِدَاءً، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ، وَالْفِدَاءُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ إذَا عَمِيَ عِنْدَ مَوْلَاهُ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ بِالشِّرَاءِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهَا، فَإِنَّ مَوْلَاهَا يَأْخُذُهَا دُونَ الْأَرْشِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ، وَدَنَانِيرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 وَهِيَ لَا تُفْدَى، فَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْأَرْشِ لَا يَثْبُتُ كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ، وَمَا لَوْ سَقَطَتْ الْيَدُ بِآفَةٍ سَوَاءٌ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ عَنْ الْمَوْلَى بِسَلَامَةِ الْأَرْشِ لِلْمُشْتَرِي. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَهَا أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا لَمْ يَنْتَقِصُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ بِاعْتِبَارِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْبَدَلِ كَسَلَامَةِ الْأَصْلِ، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ يَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بَدَلُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ الشَّفِيعُ بَدَلٌ، وَمَا صَارَ مَقْصُودًا مِنْ الْأَوْصَافِ يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ فَقَأَ الْبَائِعُ عَيْنَ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ أَوْ الْوَلَدَ أَخَذَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْوَلَدَ فَاخْتَارَ الْأَخْذَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ كَإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَإِذَا بَقِيَ الْوَلَدُ فَبَقَاءُ الْجُزْءِ فِي حُكْمِ الْفِدَاءِ كَبَقَاءِ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ هَهُنَا فِيمَا إذَا أَتْلَفَ الْأُمَّ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ أَمَةً مِنْ رَجُلٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى أَسَرَهَا أَهْلُ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهَا سَبِيلٌ حَتَّى يَأْخُذَهَا الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْأَسْرِ كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا لِيَحْبِسَهَا بِالثَّمَنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْأَسْرِ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ لِيُعِيدَ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ، وَإِذَا أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَالثَّانِي الَّذِي افْتَكَّهَا بِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ إحْيَاءُ حَقِّهِ، وَكَانَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّى. وَكُلُّ حُرٍّ أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْأَسْرِ فَكَانُوا ظَالِمِينَ فِي حَبْسِهِ فَيُؤْمَرُونَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ لِمَا ثَبَتَ فِيهِمْ مِنْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ لِلْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُونَ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ بِالْأَسْرِ، وَلَوْ أَنَّ الْحُرَّ أَمَرَ تَاجِرًا فِي دَارِهِمْ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُعْطِيَ مَالَ نَفْسِهِ فِي عَمَلٍ يُبَاشِرُهُ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عِيَالِهِ، وَالْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ، وَأَمْرُهُ بِالْفِدَاءِ صَحِيحٌ فِي كَسْبِهِ كَأَمْرِ الْحُرِّ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِالثَّمَنِ إذَا أَعْتَقَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مِلْكُ مَوْلَاهُمَا، وَأَمْرُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 كَفَالَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مِنْهُمَا بِمَالٍ فَيُؤْخَذَانِ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَمْ يَمْلِكْهُمْ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُمْ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُمْ، وَبَطَلَ مَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا فَدَى بِهِ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا، وَلَا مَأْمُورَ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى عِيَالِ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حُرًّا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ حُرًّا مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِعَيْنِهِ بِمَالِ سَمَّاهُ فَاشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمَا فَعَلَ، وَكَانَ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ إنْ كَانَ ضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ قَالَ اشْتَرِهِ لِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَضَمِنَ لَهُ مَا يُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ اشْتَرِهِ لِنَفْسِهِ، وَاحْتَسِبْ فِيهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ تَبَرُّعٌ، وَإِحْسَانٌ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ وَلَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ. وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبْدًا كَانُوا أَسَرُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَهَنَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ حَتَّى يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مَالِيَّتِهِ، وَصَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ بِمُصَادَفَةِ تَصَرُّفِهِ مِلْكَهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُ، وَلَا مِنْ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْفِكَاكِ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْهُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُعْطِيَ الرَّاهِنَ الثَّمَنَ فَذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَى الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ فَادَى مِلْكَ الْغَيْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ يَدًا، وَإِنَّمَا فَادَى حَقًّا لَهُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ فَلَا يُجْعَلُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، وَهَهُنَا لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ طَرِيقٌ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفْتَكَّ الرَّاهِنُ فَيَأْخُذُهُ حِينَئِذٍ (قَالَ)، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى افْتِكَاكِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْعَيْنِ فِي الْحَالِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْأَخْذِ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى افْتِكَاكِهِ، وَلَوْ كَانَ أَجَّرَهُ الْمُشْتَرِي إجَارَةً كَانَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ، وَيُبْطِلَ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُنْقَضُ بِالْعُذْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُنْقَضُ بِالرَّدِّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَكَذَلِكَ تُنْقَضُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ بِالثَّمَنِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ. وَإِذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَاِتَّخَذُوهُمْ عَبِيدًا لِلْمَلِكِ، ثُمَّ إنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَرْضِهِ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً فَأُولَئِكَ الْمَغْلُوبُونَ عَبِيدٌ لَهُ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ نُهْبَةٌ، فَالْمَقْهُورُونَ مِنْهُمْ صَارُوا مَمْلُوكِينَ لِلْقَاهِرِ بِإِحْرَازِهِ إيَّاهُمْ بِمَنَعَتِهِ؛ لِأَنَّ قَهْرَهُ بِاَلَّذِينَ هُمْ جُنْدُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 يُطِيعُونَهُ كَقَهْرِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا جُنْدُهُ الَّذِينَ غَلَبَ بِهِمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاهِرًا بِهِمْ لَا لَهُمْ فَكَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَحْرَارًا، وَبِالْإِسْلَامِ تَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُمْ، وَلَا تَبْطُلُ، وَإِنْ حَضَرَ الْمَلِكَ الْمَوْتُ فَوَرَّثَ مَالَهُ بَعْضُ بَنِيهِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ صَنَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمَّةً ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَدُهُ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا صَنَعَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي مَلَكَهُ أَبُوهُ صَارَ قَاهِرًا مَالِكًا لِمَا أَعْطَاهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِقُوَّتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ أَتْبَاعِهِ كَانَ يَتِمُّ مِلْكُهُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِقُوَّةِ أَبِيهِ وَمَنَعَتِهِ، وَمَا كَانَ هُوَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَبِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ مِلْكُهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَعَلَهُ وَهُوَ مُوَادِعٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِالْمُوَادَعَةِ لَا تَخْرُجُ أَمْوَالُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ نُهْبَةً تُمْلَكُ بِالْقَهْرِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَخْذُهُ لِمَعْنَى الْغَدْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمُوَادَعَةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ، فَإِنَّ دَارِهِ لَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْهُ كَالْمَفْعُولِ قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ، وَلِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْعُ مِنْ إيثَارِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَام، وَإِنْ كَانَ جَعَلَهُ لِابْنِهِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ ابْنٌ آخَرُ لَهُ بَعْدَهُ فَقَتَلَهُ أَوْ نَفَاهُ، وَغَلَبَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ كَانَ لِلِابْنِ الْقَاهِرِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِالْقَهْرِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالَ لِبَقَائِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّ مَا بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ فَعَلَ ذَلِكَ هَذَا الِابْنُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ الِابْنُ الْمَقْهُورُ أَوْ صَارَ ذِمَّةً غَلَبَهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَخَاهُ، فَإِنَّ صَنَعَهُ وَهُوَ مُحَارِبٌ فَجَمِيعُ مَا غَلَبَهُ عَلَيْهِ لَهُ إنْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً؛ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْرَازُهُ لِمَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فَيَمْلِكُهُ، وَيَتَأَكَّدُ مِلْكُهُ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ صَنَعَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُمِرَ بِرَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْقَهْرِ. وَإِنْ صَنَعَ وَهُوَ مُحَارِبٌ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَهُ الِابْنُ الْأَوَّلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَحْرَزُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ صَنَعَ ذَلِكَ، وَهُمَا مُسْلِمَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ أَخَذَهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَكُونُ مَالِكًا بَلْ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْمَالِكِ مَجَّانًا، وَإِنْ ارْتَدَّ هَذَا الِابْنُ الْقَاهِرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنَعَ الدَّارَ، وَأَجْرَى حُكْمَ الشِّرْكِ فِي دَارِهِ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ، وَصَارَتْ دَارُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 دَارَ حَرْبٍ عِنْدَهُمَا بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الشِّرْكِ فِيهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الِابْنُ الْمَقْهُورُ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ أَحْرَزَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ بِدَارِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى شَرْحُ السِّيَرِ الصَّغِيرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَعْنًى أَثِيرٍ بِإِمْلَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَقِّ الْمُنِيرِ الْمَحْصُورِ لِأَجْلِهِ شَبَهُ الْأَسِيرِ الْمُنْتَظِرِ لِلْفَرَجِ مِنْ الْعَالِمِ الْقَدِيرِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْمُصَلِّي عَلَى الْبَشِيرِ الشَّفِيعِ لِأُمَّتِهِ النَّذِيرِ، وَعَلَى كُلِّ صَاحِبٍ لَهُ وَوَزِيرٍ، وَاَللَّهُ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 [كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ] (قَالَ): الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ: الِاسْتِحْسَانُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ لِلنَّاسِ وَقِيلَ: الِاسْتِحْسَانُ طَلَبُ السُّهُولَةِ فِي الْأَحْكَامِ فِيمَا يُبْتَلَى فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقِيلَ: الْأَخْذُ بِالسَّعَةِ وَابْتِغَاءُ الدَّعَةِ وَقِيلَ: الْأَخْذُ بِالسَّمَاحَةِ وَابْتِغَاءُ مَا فِيهِ الرَّاحَةُ وَحَاصِلُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ» «وَقَالَ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حِينَ وَجَّهَهُمَا إلَى الْيَمَنِ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا قَرِّبَا وَلَا تُنَفِّرَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا إنَّ الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضُوا عِبَادَ اللَّهِ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ ضَعِيفٌ أَثَرُهُ فَسُمِّيَ قِيَاسًا وَالْآخَرُ خَفِيٌّ قَوِيٌّ أَثَرُهُ فَسُمِّيَ اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا فَالتَّرْجِيحُ بِالْأَثَرِ لَا بِالْخَفَاءِ وَالظُّهُورِ كَالدُّنْيَا مَعَ الْعُقْبَى فَإِنَّ الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ وَتَرَجَّحَتْ بِالصَّفَاءِ وَالْخُلُودِ وَقَدْ يَقْوَى أَثَرُ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الْفُصُولِ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ الطَّرْدِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُؤَثِّرِ أَقْوَى مِنْهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ ثُمَّ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا عَوْرَةٌ هُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ» ثُمَّ أُبِيحَ النَّظَرُ إلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِكَوْنِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ كَمَا قُلْنَا وَالْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ وَسَمَّاهُ كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَلَوْ سَمَّاهُ كِتَابَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ كَانَ مُسْتَقِيمًا لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ غَضَّ الْبَصَرِ وَمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَهَذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 هُوَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِمَسَائِلِ النَّظَرِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا بَيَانُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ إلَّا إلَى عَوْرَتِهِ وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتِهِ» وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَنَّهُ أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَيَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالرُّكْبَةِ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاشْتِهَاءِ فَوْقَ الرُّكْبَةِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا اتَّزَرَ أَبْدَى عَنْ سُرَّتِهِ «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِلْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَرِنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يُقَبِّلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك فَأَبْدَى عَنْ سُرَّتِهِ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» وَالتَّعَامُلُ الظَّاهِرُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا اتَّزَرُوا فِي الْحَمَّامَاتِ أَبْدَوْا عَنْ السُّرَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَأَمَّا مَا دُونَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إلَى مَوْضِعِ نَبَاتِ الشَّعْرِ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ الْعُمَّالِ فِي الْإِبْدَاءِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ الِاتِّزَارِ وَفِي النَّزْعِ عَنْ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ نَوْعُ حَرَجٍ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّعَامُلَ بِخِلَافِ النَّصِّ لَا يُعْتَبَرُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَأَمَّا الْفَخِذُ عَوْرَةٌ عِنْدَنَا وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَقُولُونَ: الْعَوْرَةُ مِنْ الرَّجُلِ مَوْضِعُ السُّرَّةِ وَأَمَّا الْفَخِذُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَدْ دَلَّى رُكْبَتَهُ فِي رَكِيَّةٍ وَهُوَ مَكْشُوفُ الْفَخِذِ إذْ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَتَزَحْزَحْ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَتَزَحْزَحْ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَزَحْزَحَ وَغَطَّى فَخِذَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» فَلَوْ كَانَ الْفَخِذُ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمَا كَشَفَهُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ جَرْهَدٌ وَهُوَ يُصَلِّي مَكْشُوفَ الْفَخِذِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَارِ فَخِذَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ فِيهِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ مَكْشُوفَ الرُّكْبَةِ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ دَخَلَا جَلَسَا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَقَعْ بَصَرُهُمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَكْشُوفًا مِنْهُ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَبْقَ إلَّا مَوْضِعٌ لَوْ جَلَسَ فِيهِ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى رُكْبَتِهِ فَلِهَذَا غَطَّاهُ فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِالسَّوْأَةِ الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ هِيَ السَّوْأَةُ وَلَكِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ ثَبَتَ فِيمَا حَوْلَ السَّوْأَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِيهِ أَخَفَّ فَأَمَّا الرُّكْبَةُ فَهِيَ مِنْ الْعَوْرَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَا أَبْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكْبَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ قَطُّ» وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا ذِكْرَ الشَّمَائِلِ فَلَوْ كَانَتْ الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الشَّمَائِلِ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ وَلِأَنَّهُ حَدُّ الْعَوْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «حَتَّى تُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّكْبَةَ مِنْ الْعَوْرَةِ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ وَعَظْمُ الْفَخِذِ عَوْرَةٌ وَعَظْمُ السَّاقِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الرُّكْبَةِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا عَوْرَةً وَكَوْنِهَا غَيْرَ عَوْرَةٍ فَتَرَجَّحَ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا عَوْرَةً احْتِيَاطًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْمَرْوِيُّ «مَا مَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ قَطُّ» وَهَذَا مِنْ الشَّمَائِلِ وَإِبْدَاءُ الرُّكْبَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كِنَايَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ثُمَّ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ لِتَعَارُضِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا مَنْ رَأَى غَيْرَهُ مَكْشُوفَ الرُّكْبَةِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَلَا يُنَازِعُ عَلَيْهِ إنْ لَجَّ وَإِنْ رَآهُ مَكْشُوفَ الْفَخِذِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بِعُنْفٍ وَلَا يَضْرِبُهُ إنْ لَجَّ وَإِنْ رَآهُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ أَمَرَهُ بِسَتْرِهَا وَأَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ إنْ لَجَّ؛ وَمَا يُبَاحُ إلَيْهِ النَّظَرُ مِنْ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ الْمَسُّ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ يَجُوزُ مَسُّهُ كَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَأَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا يُغَسِّلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حَتَّى لَا يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ بِمِئْزَرٍ وَبِغَيْرِ مِئْزَرٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: امْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ وَلْتَدْخُلْ مُسْتَتِرَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ وَبِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ وَبِهِ نَقُولُ وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ بِبِنَاءِ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ وَتَمْكِينِهِنَّ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَحَاجَةُ النِّسَاءِ إلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ فَوْقَ حَاجَةِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الزِّينَةِ وَالْمَرْأَةُ إلَى هَذَا أَحْوَجُ مِنْ الرَّجُلِ وَيَتَمَكَّنُ الرَّجُلُ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ [نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ] فَأَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّرَّةَ وَمَا فَوْقَهَا وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْ الرَّجُلِ وَمَا لَا يَكُونُ عَوْرَةً فَالنَّظَرُ إلَيْهِ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا وَأَشَارَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى إلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: الْخُنْثَى أَلَّا يَنْكَشِفَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَا بَيْنَ النِّسَاءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ النَّظَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ غِلَظٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ فِي النَّظَرِ كَالرَّجُلِ لَجَازَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي إنْ نَظَرَ وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَهِي أَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِأَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ نَوْعُ زِنًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُ» وَالزِّنَا حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّظَرُ عَنْ شَهْوَةٍ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الشَّيْطَانِ» [نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ] فَأَمَّا نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ فَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ نَظَرُهُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ وَنَظَرُهُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَنَظَرُهُ إلَى إمَاءِ الْغَيْرِ وَنَظَرُهُ إلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَمَّا نَظَرُهُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ فَهُوَ حَلَالٌ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ زَوْجَتِك وَأَمَتِك «وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي وَهُوَ يَقُولُ بَقِّ لِي» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ مُبَاحًا مَا تَجَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ النَّظَرِ وَهُوَ الْمَسُّ وَالْغَشَيَانُ حَلَالٌ بَيْنَهُمَا قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] الْآيَةُ إلَّا أَنَّ مَعَ هَذَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَأَى مِنِّي مَعَ طُولِ صُحْبَتِي إيَّاهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ» وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ وَفِي شَمَائِلِ الصِّدِّيقِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا نَظَرَ إلَى عَوْرَتِهِ قَطُّ وَلَا مَسَّهَا بِيَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عَوْرَةِ نَفْسِهِ فَمَا ظَنُّك فِي عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ فَأَمَّا نَظَرُهُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَنَقُولُ: يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةُ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الزِّينَةِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَرَاهَا الْأَجَانِبُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَوْضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ الرَّأْسُ وَالشَّعْرُ وَالْعُنُقُ وَالصَّدْرُ وَالْعَضُدُ وَالسَّاعِدُ وَالْكَفُّ وَالسَّاقُ وَالرِّجْلُ وَالْوَجْهُ فَالرَّأْسُ مَوْضِعُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ وَالشَّعْرُ مَوْضِعُ الْقِصَاصِ وَالْعُنُقُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ وَالصَّدْرُ كَذَلِكَ فَالْقِلَادَةُ وَالْوِشَاحُ قَدْ يَنْتَهِي إلَى الصَّدْرِ وَالْأُذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ وَالْعَضُدُ مَوْضِعُ الدُّمْلُوجِ وَالسَّاعِدُ مَوْضِعُ السِّوَارِ وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ وَالْخِضَابِ وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ وَالْقَدَمُ مَوْضِعُ الْخِضَابِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَا عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ فَلَمْ تَسْتَتِرْ وَلِأَنَّ الْمَحَارِمَ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا تَكُونُ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً وَلَا تَكُونُ مُسْتَتِرَةً فَلَوْ أَمَرَهَا بِالتَّسَتُّرِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَكَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُبَاحُ الْمَسُّ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَيَقُولُ: أَجِدُ مِنْهَا رِيحَ الْجَنَّةِ وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِهَا فَعَانَقَهَا وَقَبَّلَ رَأْسَهَا» وَقَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَبَّلَ رِجْلَ أُمِّهِ فَكَأَنَّمَا قَبَّلَ عَتَبَةَ الْجَنَّةِ» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِتّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي وَبَاتَ أَخِي أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ الْمَسُّ وَالنَّظَرُ إذَا كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ يَخَافُ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ نَوْعُ زِنًا وَحُرْمَةُ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَغْلَظُ وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْحَرَامِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهَا لِلْحَرَامِ فَإِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا فَلْيَجْتَنِبْ ذَلِكَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ مِنْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَدِيمِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَجَعَلَ حَالَهُمَا كَحَالِ الْجِنْسِ فِي النَّظَرِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِ الْأُمِّ حَلَالًا لَهُ لَكَانَ هَذَا تَشْبِيهَ مُحَلَّلَةٍ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّهْرِ يَثْبُتُ فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَأْتَى وَإِلَى أَنْ يَكُونَ مُشْتَهًى مِنْهَا وَالْجَنْبَانِ كَذَلِكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ بِالنَّسَبِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهَا وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالرَّضَاعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَلِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فِي ثِيَابِ فَضْلٍ فَقَالَ لِيَلِجَ عَلَيْك أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ» وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقُرُونِ رَأْسِهَا وَيَقُولُ أَقْبِلِي عَلَيَّ وَكَانَتْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ لَمَّا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ فَكَذَلِكَ فِي حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا كَانَ ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الزَّانِي لَا بِطَرِيقِ النِّعْمَةِ وَلِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ مَرَّةً فَظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ فَلَا يُؤْمَنُ ثَانِيًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَاسِنِهَا كَمَا لَوْ كَانَ ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالنِّكَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ هُنَاكَ لِأَنَّا إنَّمَا نُثْبِتُ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ فَإِذَا جَعَلْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحُرْمَةَ. وَإِثْبَاتُ الْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ؛ ثُمَّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَؤُلَاءِ وَأَنْ يُسَافِرَ بِهِنَّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» مَعْنَاهُ لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ لَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مَذْعُورًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خَلَوْت بِابْنَتِي فَخَشِيت عَلَى نَفْسِي فَخَرَجْت وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ مَعَ الْمَحْرَمِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُعَالِجَهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّهَا وَرَاءَ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ بِظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَدْخَلَ يَدَهُ فِي هَوْدَجِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِيَأْخُذَهَا مِنْ الْهَوْدَجِ فَوَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى صَدْرِهَا فَقَالَتْ: مَنْ الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعٍ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَنَا أَخُوك» وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أُمِّي كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ فَغَضِبَ وَقَالَ: أَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ حِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 حَمَلَتْك أَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ حِينَ أَرْضَعَتْك حَوْلَيْنِ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْت لَوْ حَمَلْتهَا عَلَى عَاتِقِي وَحَجَجْت بِهَا أَكُنْت قَاضِيًا حَقَّهَا فَقَالَ لَا وَلَا طَلْقَةَ» وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ رَجُلًا قَدْ حَمَلَ أُمَّهُ عَلَى عَاتِقِهِ يَطُوفُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ارْتَجَزَ فَقَالَ: أَنَا لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلْ ... إذَا الرِّكَابُ ذَعَرَتْ لَمْ أَذْعَرْ حَمَلْتهَا مَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرْ ... فَهَلْ تَرَى جَازَيْتهَا يَابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَا وَلَا طَلْقَةَ يَا لُكَعُ وَلِأَنَّ بِسَبَبِ السَّتْرِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْعَوْرَةِ وبالْمَحْرَمِيَّةِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الشَّهْوَةِ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِهَا وَمَسّهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ كَمَا فِي حَقِّ الْجِنْسِ وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى إمَاءِ الْغَيْرِ وَالْمُدَبَّرَاتِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُكَاتَبَاتِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] الْآيَةُ وَقَدْ كَانَتْ الْمُمَازَحَةُ مَعَ إمَاءِ الْغَيْرِ عَادَةً فِي الْعَرَبِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَائِرَ بِاِتِّخَاذِ الْجِلْبَابِ لِيُعْرَفْنَ بِهِ مِنْ الْإِمَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِمَاءَ لَا تَتَّخِذُ الْجِلْبَابَ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَأَى أَمَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ: أَلْقِ عَنْك الْخِمَارَ يَا دِفَارِ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْأَمَةَ أَلْقَتْ قُرُونَهَا مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ أَيْ لَا تَتَقَنَّعُ قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّ جِوَارِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْدُمْنَ الضِّيفَانَ كَاشِفَاتِ الرُّءُوسِ مُضْطَرِبَاتِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَوَائِجِ مَوْلَاهَا وَإِنَّمَا تَخْرُجُ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا وَحَالُهَا مَعَ جَمِيعِ الرِّجَالِ فِي مَعْنَى الْبَلْوَى بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ كَحَالِ الرَّجُلِ فِي ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: لَا يُنْظَرُ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا إلَّا إلَى مَوْضِعِ الْمِئْزَرِ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَتَّزِرُ عَلَى الصَّدْرِ فَهُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكُلُّ مَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا يُبَاحُ مَسُّهُ مِنْهَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ تُبَاعُ فَضَرَبَ فِي صَدْرِهَا وَمَسَّ ذِرَاعَهَا ثُمَّ قَالَ: اشْتَرُوا فَإِنَّهَا رَخِيصَةٌ فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ أَوْ لَا يُرِيدُ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي حُكْمِ الْمَسِّ وَلِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ يَحْتَاجُ إلَى الْمَسِّ لِيَعْرِفَ لِينَ بَشَرَتِهَا فَيَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا وَتَحِلُّ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَالِجَهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَوْرَةِ وَإِنْ انْعَدَمَ بِالسَّتْرِ فَمَعْنَى الشَّهْوَةِ بَاقٍ فِيهَا فَإِنَّهَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ يَبْعَثُهَا فِي حَاجَتِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَلَا تَجِدُ مَحْرَمًا لِيُسَافِرَ مَعَهَا وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرَكِّبُهَا وَيُنَزِّلُهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا بِأَنْ يَخْلُوَ بِهَا كَالْمَحَارِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ جَارِيَةَ الْمَرْأَةِ قَدْ تَغْمِزُ رِجْلَ زَوْجِهَا وَتَخْلُو بِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِنَّ وَالْمُسْتَسْعَاةُ فِي بَعْضِ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا بَلَغَتْ الْأَمَةُ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ تُعْرَضَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تُجَامِعَ وَتَشْتَهِيَ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ مِنْهَا عَوْرَةٌ لِمَعْنَى الِاشْتِهَاءِ فَإِذَا صَارَتْ مُشْتَهَاةً كَانَتْ كَالْبَالِغَةِ لَا تُعْرَضُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ [النَّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ] فَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ فَنَقُولُ: يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاطِنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إحْدَى عَيْنَيْهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خُفُّهَا وَمِلَاءَتُهَا وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ بِهِنَّ يَصِيدُ الرِّجَالُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» «وَجَرَى فِي مَجْلِسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمٌ مَا خَيْرُ مَا لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا خَيْرُ مَا لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى بَيْتِهِ أَخْبَرَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِذَلِكَ فَقَالَتْ: خَيْرُ مَا لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ أَنْ لَا يَرَاهُنَّ وَخَيْرُ مَا لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ أَنْ لَا يَرَيْنَهُنَّ فَلَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ قَالَ هِيَ بِضْعَةٌ مِنِّي» فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ وَعَامَّةُ مَحَاسِنِهَا فِي وَجْهِهَا فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَبِنَحْوِ هَذَا تَسْتَدِلُّ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَلَكِنَّهَا تَقُولُ: هِيَ لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَهَا لِتُبْصِرَ الطَّرِيقَ فَيَجُوزَ لَهَا أَنْ تَكْشِفَ إحْدَى عَيْنَيْهَا لِهَذَا الضَّرُورَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَدْ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ فِي الرُّخْصَةِ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا فَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً» وَلَمَّا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي أَصْدِقَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 النِّسَاءِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ: أَنْتَ تَقُولُهُ بِرَأْيِك أَمْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا تَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَبَقِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَاهِتًا وَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ فِي الْبُيُوتِ فَذَكَرَ الرَّاوِي أَنَّهَا كَانَتْ سَفْعَاءَ الْخَدَّيْنِ. وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْفِرَةً عَنْ وَجْهِهَا «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّ امْرَأَةٍ غَيْرَ مَخْضُوبٍ فَقَالَ: أَكَفُّ رَجُلٍ هَذَا» وَلَمَّا نَاوَلَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَحَدَ وَلَدَيْهَا بِلَالًا أَوْ أَنَسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْت كَفَّهَا كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفِّ فَالْوَجْهُ مَوْضِعُ الْكُحْلِ وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ وَالْخِضَابِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ قَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى ثِيَابِهَا أَيْضًا قَالَ الْقَائِلُ وَمَا غَرَّنِي الْإِخْضَابُ بِكَفِّهَا ... وَكُحْلٌ بِعَيْنَيْهَا وَأَثْوَابُهَا الصُّفْرُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ثِيَابِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ خَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى قَدَمِهَا أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ لِأَنَّهَا كَمَا تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ وَجْهِهَا فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ وَبِإِبْدَاءِ كَفِّهَا فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ قَدَمَيْهَا إذَا مَشَتْ حَافِيَةً أَوْ مُتَنَعِّلَةً وَرُبَّمَا لَا تَجِدُ الْخُفَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذُكِرَ فِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا لِأَنَّهَا فِي الْخَبَرِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا قِيلَ: وَكَذَلِكَ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ثَنَايَاهَا أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْدُو مِنْهَا فِي التَّحَدُّثِ مَعَ الرِّجَالِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ عَنْ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ اشْتَهَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ بَعْدَ النَّظْرَةِ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالْأُخْرَى عَلَيْك» يَعْنِي بِالْأُخْرَى أَنْ يَقْصِدَهَا عَنْ شَهْوَةٍ. «وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَظَرْت إلَى امْرَأَةٍ فَاشْتَهَيْتُهَا فَأَتْبَعْتُهَا بَصَرِي فَأَصَابَ رَأْسِي جِدَارٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا» وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ اشْتَهَى لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَكَذَلِكَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ إذَا كَانَتْ تَشْتَهِي أَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وَحَفْصَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَهُمَا: احْتَجِبَا فَقَالَتَا: أَنَّهُ أَعْمَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَوَأَعْمَيَانِ أَنْتُمَا» وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَلَا كَفَّهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ فِي كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ» وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ حَتَّى أَنَّ الْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لَا يُثْبِتُ وَالصَّوْمُ يَفْسُدُ بِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ وَلَا يَفْسُدُ بِالنَّظَرِ فَالرُّخْصَةُ فِي النَّظَرِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسِّ وَالْبَلْوَى الَّتِي تَتَحَقَّقُ فِي النَّظَرِ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَسِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمَسَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى. فَإِذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تَشْتَهِي فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسَّ يَدِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا يُصَافِحُ الشَّوَابَّ وَلَكِنْ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ فِي قَصْعَةِ مَاءٍ ثُمَّ تَضَعُ الْمَرْأَةُ يَدَهَا فِيهَا فَذَلِكَ بَيْعَتُهَا» إلَّا أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَّ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ فِي خِلَافَتِهِ يَخْرُجُ إلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهَا فَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ وَلَمَّا مَرِضَ الزُّبَيْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَكَّةَ اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ فَكَانَتْ تَغْمِزُ رِجْلَيْهِ وَتُفَلِّي رَأْسَهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُشْتَهَى فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ مَعْدُومٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُوَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَافِحَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ تَشْتَهِيَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُصَافِحَهَا فَيُعَرِّضَهَا لِلْفِتْنَةِ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا النَّظَرُ إلَيْهَا عَنْ شَهْوَةٍ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ مَا إذَا دُعِيَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا أَوْ كَانَ حَاكِمًا يَنْظُرُ لِيُوَجِّه الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ النَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَكِنْ عِنْدَ النَّظَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَلَا يَقْصِدَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّحَرُّزِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ بِالنِّيَّةِ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّحَرُّزِ فِعْلًا كَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى مَنْ يَرْمِيهِمْ أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا دُعِيَ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ إلَيْهَا اشْتَهَى فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ عَلَى قَصْدِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ فَقَدْ يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ وَلَا يَشْتَهِي بِخِلَافِ حَالَةِ الْأَدَاءِ فَقَدْ الْتَزَمَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ بِالتَّحَمُّلِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِأَدَائِهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً: أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» «وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُمِّ سَلَمَةَ يُطَالِعُ بُنَيَّةً تَحْتَ إجَارٍ لَهَا فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا أَلْقَى اللَّهُ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فِي قَلْبِ رَجُلٍ أُحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا» وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا مَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثِيَابٌ فَلَا بَأْسَ بِتَأَمُّلِ جَسَدِهَا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ إلَى ثِيَابِهَا لَا إلَى جَسَدِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى جُدْرَانِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى امْرَأَةً عَلَيْهَا شَارَةٌ حَسَنَةٌ فَدَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الِاغْتِسَالِ فَقَالَ: إذَا هَاجَتْ بِأَحَدِكُمْ الشَّهْوَةُ فَلْيَضَعْهَا فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ» وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهَا بِحَيْثُ تَلْصَقُ فِي جَسَدِهَا وَتَصِفُهَا حَتَّى يَسْتَبِينَ جَسَدُهَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْكَتَّانَ وَلَا الْقَبَاطِيَّ فَإِنَّهَا تَصِفُ وَلَا تَشِفُّ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ ثِيَابُهَا رَقِيقَةً لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ» يَعْنِي الْكَاسِيَاتِ الثِّيَابَ الرِّقَاقَ اللَّاتِي كَأَنَّهُنَّ عَارِيَّاتٌ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ السِّيَاطُ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُتَمَايِلَاتٌ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ لَا يَسْتُرُهَا فَهُوَ كَشَبَكَةٍ عَلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا وَمَنْ مَسِّهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَدَنِهَا حُكْمُ الْعَوْرَةِ وَلَا فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ مَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ زُبَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَهُمَا صَغِيرَانِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَجُرَّهُ وَالصَّبِيُّ يَضْحَكُ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ تَرْكُ التَّكَلُّفِ لِسَتْرِ عَوْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ نِصْفَيْنِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ أَوْ يَنْظُرَ أَحَدٌ إلَى عَوْرَتِي «وَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَعِيدَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ» «وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ فَرَأَى رَاعِيَهَا تَجَرَّدَ فِي الشَّمْسِ فَعَزَلَهُ وَقَالَ: لَا يَعْمَلُ لَنَا مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إذَا جَاءَ الْعُذْرُ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَاتِنَ يَنْظُرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَالْخَافِضَةُ كَذَلِكَ تَنْظُرُ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْفِطْرَةِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ وَهُوَ مَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ الْمَرْأَةُ تَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَابِلَةٍ تَقْبَلُ الْوَلَدَ وَبِدُونِهَا يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَقَدْ «جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ» فَذَاكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمَّا عِنْدَ الْمَرَضِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالِاحْتِقَانُ مِنْ الْمُدَاوَاةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَخَلَقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا الْهَرَمَ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ هُزَالٌ فَاحِشٌ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ الْحُقْنَةَ تُزِيلُ مَا بِك مِنْ الْهُزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُبْدِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِلْمُحْتَقِنِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْهُزَالَ الْفَاحِشَ نَوْعُ مَرَضٍ يَكُونُ آخِرُهُ الدِّقَّ وَالسُّلَّ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا قِيلَ لَهُ أَنَّ الْحُقْنَةَ تُقَوِّيكَ عَلَى الْمُجَامَعَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهَذَا وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَعْنَى الشَّهْوَةِ لَا يَجُوزُ وَإِذَا أَصَابَ امْرَأَةً قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُعْلِمُ امْرَأَةً دَوَاءَهَا لِتُدَاوِيهَا لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا دُونَ الرَّجُلِ وَكَذَلِكَ فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُلْنَ: هِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ إبَاحَةِ النَّظَرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِبَكَارَتِهَا وَثِيَابَتِهَا لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ مَتَى تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ كَانَتْ حُجَّةً وَالْبَكَارَةُ فِي النِّسَاءِ أَصْلٌ فَإِذَا قُلْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ تَأَيَّدَتْ شَهَادَتُهُنَّ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ تَجَرَّدَتْ شَهَادَتُهُنَّ عَنْ مُؤَيِّدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَحْلَفَ الزَّوْجُ حَتَّى يَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى شَهَادَتِهِنَّ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَقَبَضَهَا وَقَالَ: وَجَدْتُهَا ثَيِّبًا فَإِنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ قَدْ تَأَيَّدَتْ بِأَصْلِ الْبَكَارَةِ وَبِمُقْتَضَى الْبَيْعِ وَهُوَ اللُّزُومُ؛ وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 يُسْتَخْلَفُ الْبَائِعُ لِتَجَرُّدِ شَهَادَتِهِنَّ عَنْ مُؤَيِّدٍ فَإِذَا انْضَمَّ نُكُولُ الْبَائِعِ إلَى شَهَادَتِهِنَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِي تِلْكَ الْقُرْحَةَ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى امْرَأَةٍ تَعْلَمُ ذَلِكَ إذَا عُلِّمَتْ وَخَافُوا أَنْ تَهْلِكَ أَوْ يُصِيبَهَا بَلَاءٌ أَوْ وَجَعٌ لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتُرُوا مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ ثُمَّ يُدَاوِيهَا رَجُلٌ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إلَّا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَيْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ إلَّا بِقَدْرِ مَا تَرْتَفِعُ الضَّرُورَةُ بِهِ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ لَا يَحِلُّ بِسَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَكَانَ الْمَحْرَمُ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ فِيهِ سَوَاءٌ [وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ مِنْ سَيِّدَتِهِ] (قَالَ) وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ مِنْ سَيِّدَتِهِ كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَّا وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ: نَظَرُهُ إلَيْهَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُشْكَلُ لِأَنَّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَوْلَاتِهَا كَمَا لِلْأَجْنَبِيَّاتِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْبَيَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مُكَاتَبٌ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى آخِرِ النُّجُومِ قَالَتْ لَهُ: أَتَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَاحْتَجَبَتْ وَقَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَأَدَّى آخِرَ النُّجُومِ فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبَ مَحْرَمٍ لِلنِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِبَاحَةُ النَّظَرِ عِنْدَ الْمَحْرَمِيَّةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ دُخُولُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةَ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاتِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: لَا يَغُرَّنكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ وَمُرَادُهُمَا قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ لِأَنَّ حَالَ الْأَمَةِ يَقْرَبُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ حَتَّى تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَانَ يُشْكَلُ أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهَا الْكَشْفُ بَيْنَ يَدَيْ أَمَتِهَا؟ وَلَمْ يَزُلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ وَلَا مَحْرَمِيَّةٌ وَحِلُّ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَحُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَتْ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ أَوْ مُعْتَدَّتِهِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ السَّتْرِ عَلَيْهَا وَحُرْمَةَ الْخَلْوَةِ بِالرَّجُلِ لِمَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ فَأَمَّا الْمِلْكُ لَا يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ بَلْ يَحْمِلُهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 عَلَى رَفْعِ الْحِشْمَةِ وَمَعْنَى الْبَلْوَى لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْعَبِيدِ لِلِاسْتِخْدَامِ خَارِجَ الْبَيْتِ لَا دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى مَا قِيلَ مَنْ اتَّخَذَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ دَاخِلَ بَيْتِهِ فَهُوَ كَشْخَانُ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِجَابِ لِمَعْنَى زَوَالِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَاجُ إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَتُبْدِي وَجْهَهَا وَكَفَّهَا لَهُ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْأَدَاءِ فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ؛ ثُمَّ خَصِيًّا أَوْ فَحْلًا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ الْخُصَى مُثْلَةٌ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ وَلِأَنَّ الْخَصِيَّ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَاتِ وَالْمَوَارِيثِ كَالْفَحْلِ وَقَطْعُ تِلْكَ الْآلَةِ مِنْهُ كَقَطْعِ عُضْوٍ آخَرَ وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ لَا يَنْعَدِمُ فَالْخَصِيُّ قَدْ يُجَامِعُ وَقَدْ قِيلَ هُوَ أَشَدُّ النَّاسِ جِمَاعًا فَإِنَّهُ لَا تَفْتُرُ آلَتُهُ بِالْإِنْزَالِ وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ فَيُنْزِلُ. وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا قَدْ جَفَّ مَاؤُهُ فَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي حَقِّهِ بِالِاخْتِلَاطِ بِالنِّسَاءِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} [النور: 31] وَبَيَّنَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَلَامًا فِي مَعْنَى هَذَا فَقِيلَ: هُوَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ وَقِيلَ: هُوَ الْمُخَنَّثُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ وَالْكَلَامُ فِي الْمُخَنَّثِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُخَنَّثًا فِي الرَّدَى مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ بَلْ مِنْ الْفُسَّاقِ يُنَحَّى عَنْ النِّسَاءِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَفِي لِسَانِهِ تَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ وَلَا يَكُونُ مُخَنَّثًا فِي الرَّدَى مِنْ الْأَفْعَالِ فَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي تَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ يَدْخُلُ بَعْضَ بُيُوتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً فَاحِشَةً» «قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ الطَّائِفَ عَلَى رَسُولِهِ لَأَدُلَّنَّكَ عَلَى مَاوِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كُنْت أَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا أَخْرِجُوهُ» وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ التَّابِعِينَ} [النور: 31] الْأَبْلَهُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إنَّمَا هَمُّهُ بَطْنُهُ وَفِي هَذَا كَلَامٌ عِنْدَنَا فَقِيلَ: إذَا كَانَ شَابًّا يُنَحَّى عَنْ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ مَاتَتْ شَهْوَتُهُ فَحِينَئِذٍ يُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ قَوْله تَعَالَى أَوْ التَّابِعِينَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وقَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30] مُحْكَمٌ فَنَأْخُذُ بِالْمُحْكَمِ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ مَوْضِعَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] [جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ] فَأَمَّا جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ وَيَفْسُقُ مُبَاشِرُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَمْتَدُّ إلَى الطُّهْرِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا أَوْ أَتَاهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ سِوَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنْ وَطِئَهَا فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ وَإِنْ وَطِئَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا وَلَكِنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: إنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَبُولُ دَمًا فَقَالَ: أَتَصْدُقُنِي قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنَّك تَأْتِي امْرَأَتَك فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى وَذَلِكَ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَرُوِيَ فِي الْكِتَابِ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ سَأَلْت عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَتْ: يَتَجَنَّبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ يَعْنِي الْجِمَاعَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ بَاقٍ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى فَهُوَ حَلَالٌ مُطْلَقٌ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَيْضِ وَقَاسَهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْآثَارُ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ «أَنَّ وَفْدًا سَأَلُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبُيُوتِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: أَسَحَرَةٌ أَنْتُمْ لَقَدْ سَأَلْتُمُونِي عَمَّا سَأَلْت عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ نُورٌ فَنَوِّرْ بَيْتَك مَا اسْتَطَعْت وَذَكَرَ الِاغْتِسَالَ مِنْ الْجَنَابَةِ» وَفِي حَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ: كُنْت فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِضْت فَانْسَلَلْت مِنْ الْفِرَاشِ فَقَالَ مَالَك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 أَنَفِسْت قُلْت: نَعَمْ قَالَ: ائْتَزِرِي وَعُودِي إلَى مَضْجَعِك فَفَعَلْت فَعَانَقَنِي طُولَ اللَّيْلِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَإِذَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُوَاقِعَ الْحَرَامَ فَلْيَجْتَنِبْ مِنْ ذَلِكَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَكَانَ هَذَا نَوْعَ احْتِيَاطٍ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَمُحَمَّدٌ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاتِّزَارِ حَقِيقَةَ الِاتِّزَارِ بَلْ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الْكُرْسُفِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ اخْتِلَافٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالسُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا وَكَانَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْمُرَادُ: أَنْ يَتَدَفَّأَ بِالْإِزَارِ وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَ فِرَاشَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَرُوِيَ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَعَلَ ذَلِكَ فَبَلَغَ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُضَاجِعُنَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ» وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَإِنْ اشْتَهَى لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَصِيرُ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلِلْحَاجَةِ جَازَ النَّظَرُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ إنْ اشْتَهَى أَوْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْمَسِّ فَمِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ كَمَا قَرَرْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حُكْمَ غُسْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَحُكْمُ غُسْلِ أُمِّ الْمَوْلَى لِمَوْلَاهَا وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا امْرَأَةَ مَعَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهَا وَإِنْ كَانُوا مَحَارِمَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لِابْنِهَا أَوْ أَبِيهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي حَقِّ الْمَحْرَمِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْجِنْسِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الظَّهْرُ وَالْبَطْنُ عَوْرَةٌ فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ وَبِالْمَوْتِ تَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَلَا تَرْتَفِعُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُغَسِّلُهَا الْمَحْرَمُ وَلَا غَيْرُ الْمَحْرَمِ وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ قَالَ تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ» وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَنْ يُغَسِّلُهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَا تُغَسَّلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يُيَمِّمُهَا مَحْرَمًا لَهَا يَمَّمَهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْرَمٍ لَهَا يَمَّمَهَا بِخِرْقَةٍ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمَسَّهَا فِي حَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 حَيَاتِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهَا بِخِلَافِ الْمَحْرَمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَيَعْرِضَ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا دُونَ ذِرَاعَيْهَا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ زَوْجُهَا لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي امْرَأَةٍ لَهُ هَلَكَتْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً فَأَمَّا إذْ مَاتَتْ فَأَوْلِيَاؤُهَا أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ مَعَ نِسَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ يَمَّمْنَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَنْ تُيَمِّمُهُ إذَا كَانَتْ حُرَّةً تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْأَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَأَمَتُهُ وَأَمَةُ غَيْرِهِ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ الْغُسْلَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ أَمَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ لِتُغَسِّلَهَا لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ سُنَّةَ غُسْلِ الْمَوْتَى فَيُعَلَّمُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُنَّ صِبْيَةٌ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ عَلَّمُوهُمْ غُسْلَ الْمَوْتَى لِيُغَسِّلُوهَا وَهَذَا عَجِيبٌ فَالرِّجَالُ قَدْ يَعْجِزُونَ عَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَيْهِ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَكِنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بَيَانُ الْحُكْمِ أَنْ تُصُوِّرَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ فَجَرَبِهَا ابْنُهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ وَالْغُسْلِ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَبِمَا اعْتَرَضَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَارِضُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الْحِلَّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِهَذَا الْعَارِضِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ: إنَّ رِدَّتَهَا وَفِعْلَ ابْنِ الزَّوْجِ بِهَا لَوْ صَادَفَ حِلًّا مُطْلَقًا كَانَ رَافِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَادَفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْحِلِّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَا نَقُولُ أَنَّ هَذَا الْحِلَّ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ لَا يُفِيدُ حِلَّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ أَسْلَمَ وَمَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَ زُفَرَ وَلَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَزُفَرُ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْمَوْتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأُخْتِ وَقَاسَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهَا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ أُعْتِقَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْحِلُّ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وَطْءِ الْأُخْتِ وَلَكِنَّ عِدَّتَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 مَانِعَةٌ وَلَوْ زَالَ هَذَا الْمَانِعُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَبَتَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَبَتَ مِنْ الْحِلِّ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ إذَا مَاتَ مَعَ النِّسَاءَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلْنَهُ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِعَوْرَتِهِ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى لَا يَجِبَ سُتْرَةٌ وَيُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَعْتُوهَةُ كَالْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا تُشْتَهَى وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرَ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذِرٌ وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَجُوزُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وُجُوبُ الْقَبُولِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْقَبُولِ مِنْهُ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] وَاسْمُ الطَّائِفَةِ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا «وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ لِيَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى كِسْرَى وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابٌ» فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُلْزِمًا لَمَا اكْتَفَى بِبَعْثِ الْوَاحِدِ «وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إلَى الْيَمَنِ» وَالْآثَارُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا بَعْضَهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا يُخْبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى يُكْتَفَى فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالِاتِّفَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ دِينِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ الْكَذِبَ وَارْتِكَابِهِ مَا يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي خَبَرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ فَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَتَوَضَّأُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْأَخْذُ فِيهَا بِخَبَرِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَاكَ تَتَحَقَّقُ - فَالْعَدْلُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا دَلِيلَ هُنَاكَ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُنَا لَا ضَرُورَةَ وَمَعَنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ. (فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ لَا يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ سِوَى الْخَبَرِ. (قُلْنَا): الضَّرُورَةُ هُنَاكَ لَا تَتَحَقَّقُ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ الَّذِينَ يَرْوُونَ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَثْرَةٌ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُلْزِمٍ فَيَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ شَرْطِ الْعَدَالَةِ وَفِي الدِّيَانَاتِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا فَأُلْحِقَ الْمَسْتُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِالْفَاسِقِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْمَسْتُورُ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَالْعَدْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ قُلْنَا مَا كَانَ شَرْطًا لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِهِ ظَاهِرًا كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَقَالَ الْمَوْلَى: دَخَلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ شَرْطٌ فَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لِنُزُولِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَبْدًا لِأَنَّ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَبَرَ الْعَبْدِ كَخَبَرِ الْحُرِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ نَفْسَهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَبِالرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَأَمَّا فِيمَا هُوَ إلْزَامٌ يُسَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهَا تَلْتَزِمُ كَالرَّجُلِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا وَرِوَايَةُ النِّسَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَتْ مَقْبُولَةً كَرِوَايَةِ الرِّجَالِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَأْخُذُونَ شَطْرَ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ أَنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَالْيَقِينِ وَإِنْ أَرَاقَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ. (فَإِنْ قِيلَ): كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ احْتِيَاطًا لِمَعْنَى التَّعَارُضِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا قُلْنَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ. (قُلْنَا): حُكْمُ التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ هُنَا عُمِلَ بِخَبَرِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَلَمَّا ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بَقِيَ أَصْلُ الطَّهَارَةِ لِلْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ وَرَدَ مَاءَ حِيَاضٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ: أَخْبِرْنَا عَنْ السِّبَاعِ أَتَرِدُ مَاءَكُمْ هَذَا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ فَلَوْلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 أَنَّ خَبَرَهُ عُدَّ خَبَرًا لِمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَمْرُو بْنِ الْعَاصِ بِالسُّؤَالِ قَصَدَ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَقَدْ كَرِهَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِوُجُودِ دَلِيلِ الطَّهَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ هَذَا الدَّلِيلُ فَلَا حَاجَةَ إلَى احْتِيَاطٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ لَا لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي مَعْنَى الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُمْ السَّعْيُ فِي إفْسَادِ دِينِ الْحَقِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لِمَعْنَى التُّهْمَةِ يَقُولُ: فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُرِيقَ الْمَاءَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَفِي خَبَرِ الْفَاسِقِ قَالَ: وَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ وَلِهَذَا نَفَذَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ يُلْزِمُ الْمُسْلِمَ ابْتِدَاءً بِخَبَرِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُسْلِمُ يَلْتَزِمُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: مُرَادُهُ بِهَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَنْ سَمِعَ فِي صِغَرِهِ وَلَوْ رَوَى كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ وَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْبُلُوغِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فِي هَذَا كَخَبَرِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَزِمَانِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُلْزِمَانِ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ خَبَرُهُمَا فِي مَعْنَى خَبَرِ الْكَافِرِ رَجُلٌ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَأْكُلُونَ طَعَامًا وَيَشْرَبُونَ شَرَابًا فَدَعَوْهُ إلَيْهِ فَقَالَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ قَدْ عَرَفَهُ: هَذَا اللَّحْمُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ وَهَذَا الشَّرَابُ قَدْ خَالَطَهُ الْخَمْرُ وَقَالَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى ذَلِكَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ وَهُوَ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمْ فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ وَلَا يَشْرَبُونَ مَا خَالَطَهُ الْخَمْرُ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِهِمْ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ أُخِذَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِخَبَرِهِمْ لِفِسْقِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِهِ وَلِأَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ بِالْحُرْمَةِ يُرِيبُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْحُرْمَةِ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ بَابِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ فِي الْقَوْمِ رَجُلَانِ مَرْضِيَّانِ أُخِذَ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْأَحْكَامِ تَتِمُّ بِخَبَرِ الْمَثْنَى فَلَا يُعَارِضُ خَبَرُهُمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ثِقَةٌ وَاحِدٌ عُمِلَ فِيهِ عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ لِاسْتِوَاءِ الْخَبَرَيْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ وَاسْتَوَى الْحَالَانِ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ ذَلِكَ وَشُرْبِهِ وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَمَّا الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ فَلِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلتَّرْجِيحِ أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ. (فَإِنْ قِيلَ): لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفِي الْحُرْمَةَ وَالْآخَرَ يُثْبِتُ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ (قُلْنَا): هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ فَأَمَّا فِي الْأَخْبَارِ الْمُعَارَضَةُ تَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مَقْبُولٌ. (فَإِنْ قِيلَ): لَا كَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ إذَا زَكَّاهُ أَحَدُ الْمُزَكِّينَ وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى لِأَنَّ الْجَرْحَ مُثْبِتٌ وَالْآخَرَ نَافٍ. (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ فِي خَبَرِهِ تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ فَهُنَا النَّافِي مُعْتَمِدٌ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَنَجَاسَتَهُ تُعْلَمُ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ حِلُّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتُهُ فَلِهَذَا تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ وَاَلَّذِي زَكَّى الشَّاهِدَ لَا يُعْتَمَدُ دَلِيلًا فِي خَبَرِهِ لِأَنَّ نَفْيَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً فَلِهَذَا يُرَجَّحُ الْمُثْبِتُ هُنَاكَ عَلَى النَّافِي فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَاحِدٌ حُرٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الْمَمْلُوكَ وَالْحُرَّ سَوَاءٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ مَا لَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ حُرٌّ وَاحِدٌ ثِقَةٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَبْدٌ ثِقَةٌ وَبِالْآخِرِ حُرٌّ ثِقَةٌ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ فِيهِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بِخَبَرِ حُرٍّ وَاحِدٍ وَمِنْ حَيْثُ الدِّينِ خَبَرُ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ سَوَاءٌ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَبِالْأَمْرِ الْآخَرِ حُرَّانِ ثِقَتَانِ أَخَذَ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَتِمُّ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ وَلَا تَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَإِنَّ الْإِلْزَامَ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 اعْتِقَادًا وَالْإِلْزَامُ فِي قَوْلِ الْحُرَّيْنِ لَا يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ اعْتِقَادًا حَتَّى كَانَ مُلْزَمًا فِيمَا لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُعْتَقِدًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي خَبَرِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ قَالَ: أَلَا تَرَى «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ عِنْدَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ السُّدُسَ فَقَالَ: ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَجَاءَ بِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَشَهِدَ عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ فَأَعْطَاهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّدُسَ وَهَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ» «وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَشَهِدَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ» قَالَ مُحَمَّدٌ: فَهَذَا إنَّمَا فَعَلَاهُ لِلِاحْتِيَاطِ وَالْوَاحِدُ يُجْزِي وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: بَلْ إنَّمَا طَلَبْنَا شَاهِدًا آخَرَ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْمَثْنَى دُونَ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضَرُورَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْأَصَحُّ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمَا طَلَبَا ذَلِكَ لِلِاحْتِيَاطِ وَكَانَا يَقْبَلَانِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدٌ آخَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبْ شَاهِدًا آخَرَ وَأَجَازَ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الطَّاعُونِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ وَبِهَا الطَّاعُونُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِالدُّخُولِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا وَقَعَ هَذَا الرِّجْزُ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فَأَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ وَرَجَعَ» وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ دَخَلَ فَابْتُلِيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِدُخُولِهِ وَلَوْ خَرَجَ فَنُجِّيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ نُجِّيَ بِخُرُوجِهِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ. وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا بِحَدِيثِ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْمَرْأَةَ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى شَهِدَ عِنْدَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 «وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ بِكِتَابِهِ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ» فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَانَ مُلْزَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ الْيَوْمُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْت إذَا لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا فَحَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَيُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَيُحَلِّفُ الرَّاوِيَ وَلَمْ يُتَّبَعْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَنَّ خَبَرَهُ يَصِيرُ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ كَالشَّهَادَاتِ فِي بَابِ اللِّعَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى تَصِيرَ مُزَكَّاةً بِالْيَمِينِ وَمَنْ لَمْ يُعْصَمْ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً مَا لَمْ يَصِرْ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ إلَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ تَسْمِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ الصِّدِّيقَ كَافٍ فِي جَعْلِ خَبَرِهِ مُزَكًّى وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاسْتِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ وَبِطَلَبِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ فَاشْتِرَاطُ الْيَمِينِ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وَقَعَتْ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ حَلَّفَ أَحَدًا مِنْ الشُّهُودِ وَلَا حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا نَقْلَهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يُظَنُّ بِهِمْ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى فَقَدْ نَقَلُوا كُلَّ مَا دَقَّ وَجَلَّ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. (قَالَ): وَبَلَغَنَا «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أَبُو طَلْحَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ شَرَابًا لَهُمْ مِنْ الْفَضِيخِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا: أَنَسُ قُمْ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْت إلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا حَتَّى أَهْرَاقَ مَا فِيهَا» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً مَا وَسِعَهُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَتَأْوِيلُ كَسْرِ الْجِرَارِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ تُشْرَبُ فِيهَا فَلَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِوَجْهٍ آخَرَ وَكَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ وَتَحْقِيقِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الرَّوَايَا» وَذَكَرَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ رَآهُ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَصُومُوا بِشَهَادَتِهِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ مَقْبُولَةٌ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِذَا قَبِلْت شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرْت بِالصَّوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوْا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 الْهِلَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَهَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ بِتَبْدِيلِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا فَيُقَالُ: الْفِطْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَيْهِ شَهَادَتُهُ كَمَا لَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالنَّسَبِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْمَالُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُفْطِرُونَ وَإِنْ صَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهِلَالُ الْأَضْحَى كَهِلَالِ الْفِطْرِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ الْأَضْحَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَاجِّ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هَذَا فِي مَعْنَى هِلَالِ الْفِطْرِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ هُنَا مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّعِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ كَمَا فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ قَوْلُ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَيْنِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِلتُّهْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مَقْبُولٌ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْتُورِ وَقِيلَ: بَلْ مُرَادُهُ الْفَاسِقُ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ خَبَرِهِ هَذَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ فَأَمَّا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةٌ فَشَهَادَتُهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالْأَحْرَارَ وَالْمَمَالِيكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْضًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ هُنَا فَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْمَحْدُودِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَقْبُولٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَانَتْ تُعْتَمَدُ رِوَايَتُهُ وَهَذَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ لِحَقِّ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُ بِإِهْدَارِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ الْمَحْدُودُ فِيهِ كَغَيْرِهِ يَقُولُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي شَهِدَ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ عَدَدَ الْخَمْسِينَ عَلَى قِيَاسِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَفِيمَا ذُكِرَ هُنَاكَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَيْضًا أَوْ جَاءَ مِنْ مَكَان آخَرَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُ يَتَّفِقُ مِنْ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّحَارِي مَا لَا يَتَّفِقُ فِي الْأَمْصَارِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْغُبَارِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يَتَّفِقُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَوْقِفِ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا ارْتَضِعَا مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَحَبُّ إلَيَّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا فَيُطَلِّقُهَا وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَالْآخَرُ فِي التَّنَزُّهِ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَالْحُرْمَةُ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِلْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَكِنْ نَقُولُ الْإِرْضَاعُ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بِالْإِيجَارِ وَذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَجَانِبُ، وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ: يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بْنِ عُقْبَةَ «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - تَزَوَّجَ بِنْتَ إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا جَمِيعًا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْقَدْرُ» ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ «فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا» فَهُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ وَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فِيهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّنَزُّهِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ وَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِخَبَرِهَا لَمَا أَشَارَ إلَى التَّنَزُّهِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ضَعْفِهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجْت بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبَيْنَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ مِنْ الْغَدِ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ» وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عَنْ ضِغْنٍ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَأَمَّا بَيَانُ وَجْهِ التَّنَزُّهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً فَاَلَّذِي يَقَعُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ فَصُحْبَتُهَا تَرِيبُهُ وَمُفَارَقَتُهَا لَا تَرِيبُهُ وَلَوْ أَمْسَكَهَا رُبَّمَا يَطْعَنُ فِيهِ أَحَدٌ وَيَتَّهِمُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 التُّهَمِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكْرًا تُطِيقُ أَنْ تُوسِعَهُ عُذْرًا» وَلَأَنْ يَدَعَ وَطْئًا حَلَالًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى وَطْءٍ حَرَامٍ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِأَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ فِي الْحُكْمِ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ فَتَبْقَى مُعَلَّقَةً ثُمَّ يُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِأَنَّهَا اسْتَوْجَبَتْ فِي الْحُكْمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا بِنَظَرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَأْخُذَ شَيْئًا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ صَادِقًا وَالنِّكَاحُ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَأْخُذَ مِقْدَارَ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَأْخُذَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ تُبْرِيهِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا فِي الْحُكْمِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْدَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مَا قُلْنَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ نَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى الْعَفْوِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَيُخْبِرُهُ عَدْلٌ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ وَطْئِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَسِعَهُ ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَثْبَتَ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا لِأَنَّ حِلَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَثْبُتُ بِالْإِذْنِ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ طَعَامِي هَذَا أَوْ تَوَضَّأْ بِمَائِي هَذَا أَوْ اشْرَبْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ طَأْ جَارِيَتِي هَذِهِ فَقَدْ أَذِنْت لَك فِيهِ أَوْ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ حُرَّةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ فِيمَا سِوَى الْبُضْعِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لِمَا كَانَ يَثْبُتُ بِدُونِ مِلْكِ الْحِلِّ وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ هَذَا خَبَرًا بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ مُلْزِمٌ فَأَمَّا فِي الْوَطْءِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَلْكِ وَزَوَالُهُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْوَطْءِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِلزَّوْجِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ وَالْمَمْلُوكَةُ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِمَوْلَاهَا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ فَأَمَّا حِلُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ حَقٍّ عَلَى أَحَدٍ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ مُسْلِمٌ اشْتَرَى لَحْمًا فَلَمَّا قَبَضَهُ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 يَأْكُلَهُ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَكَمَا لَا يَأْكُلُهُ لَا يُطْعِمُهُ غَيْرَهُ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي نَظِيرِهِ أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» وَلَا يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَكَمَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَفْسَخُهُ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَنْعَ الْبَائِعِ ثَمَنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَهُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ بَقِيَ مَمْلُوكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا لِأَنَّ نَقْضَ الْمِلْكِ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ (فَإِنْ قِيلَ) الْحِلُّ هُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَالِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ إلَّا بِمَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ ثُبُوتُ حِلِّ التَّنَاوُلِ بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبَيْعِ إذْنُ الْمُشْتَرِي فِي التَّنَاوُلِ مُسَلَّطًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ كَافٍ لِثُبُوتِ الْحِلِّ فِي هَذَا الْعَيْنِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَبِنَحْوِهِ عَلَّلَ فِي الْبُيُوعِ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَقَالَ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَمَامُ الْبَيْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ لِي عَلَيْك فَأَكَلَهُ كَانَ هَذَا بَيْعًا وَكَانَ قَدْ أَكَلَهُ حَلَالًا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَوْ قَالَتْ طَأْنِي بِكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ فَعَلَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْأَحْوَالِ وَإِذَا كَانَ حِلُّ الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ مِلْكٍ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ هَذَا الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّنَاوُلِ فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَبْلَ الْبَيْعِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْبَيْعُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ حُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ لِلْعَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِذْنِ أَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِذْنِ فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ مَلَكَ ذَلِكَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَجَاءَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَشَهِدَ أَنَّ هَذَا لِفُلَانٍ الْفُلَانِيِّ غَصَبَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَيِّتُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ وَوَطْءِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُمَكِّنُ رِيبَةً فِي قَلْبِهِ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ هُنَا لَمْ يُخْبِرْ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَهُوَ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَرْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ صَاحِبَ الْيَدِ مَالِكًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا لَوْ أَذِنَ لَهُ ذُو الْيَدِ فِي تَنَاوُلِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي يَدِهِ غَصْبٌ مِنْ فُلَانٍ وَذُو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 الْيَدِ يُكَذِّبُهُ وَهُوَ مُتَّهَمٌ غَيْرُ ثِقَةٍ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ وَفِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ وَضُوءًا غَيْرَهُ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُخْبِرُ إنَّمَا أَخْبَرَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ وَخَبَرُهُ فِي هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَهُنَاكَ أَخْبَرَ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْمَحَلِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ حُجَّةٌ. (فَإِنْ قِيلَ) الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا (قُلْنَا) هَذَا شَيْءٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ غَلَطٌ عَظِيمٌ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً ثُمَّ تُوصَفُ الْعَيْنُ بِهِ مَجَازًا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ وَلَكِنْ نَقُولُ الْحُرْمَةُ صِفَةُ الْعَيْنِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَرَجَ شَرْعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْحَلَالِ وَكَذَلِكَ حَقِيقَةً مُوجِبُهُ النَّفْيُ وَالنَّسْخُ ثُمَّ يَنْتَفِي الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْمَحَلِّ كَالْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَيِّتِ وَكَانَ هَذَا إقَامَةَ الْعَيْنِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي أَنَّ صِفَةَ الْحُرْمَةِ تَثْبُتُ لَهُ حَقِيقَةً وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَالِ الْغَيْرِ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] إلَى قَوْلِهِ {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 188] فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ وَفِي الْمَيْتَةِ قَالَ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَقَدْ جَعَلَ الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا قُلْنَا: الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ صِفَةً لِلْعَيْنِ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَحُرْمَةُ التَّنَاوُلِ فِي طَعَامِ الْغَيْرِ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِذْنِهِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَيْضًا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَهِيَ مُقِرَّةٌ لَهُ بِالرِّقِّ أَمَةٌ لِفُلَانٍ غَصَبَهَا وَاَلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ اشْتَرَاهَا وَوَطِئَهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ شَرْعًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ فَيَشْتَرِيَهَا وَإِنْ احْتَاطَ فَلَمْ يَشْتَرِهَا كَانَ أَوْلَى لَهُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِغَيْرِهَا وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ فِي مِثْلِهِ: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ وَلَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً لِهَذَا الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 فِي يَدِهِ فَأَعْتَقَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ شَرْعًا وَإِنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِذِي الْيَدِ حُجَّةٌ شَرْعًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتَمِدَ الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالتَّنَزُّهُ أَفْضَلُ لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَخْبَرَ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ حِينَ زَعَمَ أَنَّهَا مُعْتَقَةٌ أَوْ حُرَّةٌ فَلَوْ جَعَلْت هَذَا نَظِيرَ مَا سَبَقَ (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ فَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ هُنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَمَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحَلِّ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ الَّذِي يُشْهَدُ فِيهِ بِالرَّضَاعِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِلْكٍ وَالْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ شَرْعًا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِرَجُلٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ آخَرُ وَأَرَادَ بَيْعَهَا لَمْ يَنْبَغِ لِمَنْ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ هَذَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ ذِي الْيَدِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ عِنْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ النَّقْلَ إلَيْهِ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي مَا عَلِمَهُ هُوَ كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُهُ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُثْبِتَ الثَّانِي سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَهُ هَذَا الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ فَإِنْ سَأَلَ ذَا الْيَدِ فَقَالَ: إنِّي قَدْ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا فَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَيَطَأَهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ فَيَكُونَ خَبَرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُعَارِضُ إنْكَارُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ لِيَسْأَلَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ حَرَجٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا أَوْ مُخْتَفِيًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ فِيهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي كُلِّ خَبَرٍ لِمَعْنَى الْحَرَجِ وَالضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَرْعًا مَعَ أَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ إذَا انْضَمَّ إلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ تَأَيَّدَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ وَلَوْ تَيَقَّنَ بِكَذِبِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك وَاسْتَفْتِ قَلْبَك فِيمَا حَاكَ فِي صَدْرِك فَهُوَ السَّالِمُ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ بِهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِثْمُ حَزَّازُ الْقُلُوبِ» أَيْ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتْرُكَ مَا حَزَّ فِي قَلْبِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِثْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 بِبَيْعِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَيْرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ شَرْعًا فَهَذَا فِي حَقِّ السَّامِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِأَنْ عَايَنَهُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً صَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي بَيْعِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ صَدَّقَهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِ هِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ شَرْعًا ثَابِتٌ لَهُ وَهُوَ الْيَدُ وَالْفَاسِقُ وَالْعَدْلُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ سَوَاءٌ حَتَّى إذَا نَازَعَهُ غَيْرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَحِلُّ لِمَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ كَمَا لَا يُصَارُ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ. (قَالَ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَتَمَلَّكُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَيْنِ فَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ كَدُرَّةٌ يَرَاهَا فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَوْ رَأَى كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهٍ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَاَلَّذِي سَبَقَ إلَى قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ سَارِقٌ لِذَلِكَ الْعَيْنِ فَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شِرَائِهِ مِنْهُ أَفْضَلَ وَإِنْ اشْتَرَى أَوْ قَبِلَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ شَرْعًا فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَذَلِكَ وَاسِعٌ لَهُ إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَبُتَّ الْجَوَابَ وَعَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ وَلِمَا سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَقْبَلَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ فِيهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلًا مُطْلَقًا لِلتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ مَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَالِمٌ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَالْيَدُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ لِلتَّصَرُّفِ وَإِنَّ الرِّقَّ مَانِعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ ثِقَةً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَهُوَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ صَدَّقَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُعْرَضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا رَأْيَ لَهُ فِيمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَاجِزَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ظَاهِرٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ مَا لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِنَوْعِ دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا فِيمَا يُخْبِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ أَوْ أَنَّ فُلَانًا بَعَثَ مَعَهُ إلَيْهِ هَدِيَّةً أَوْ صَدَقَةً فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَهَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِي بَعْثِ الْهَدَايَا عَلَى أَيْدِي الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ وَفِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 التَّوَرُّعِ عَنْهُ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ (قَالَ): وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الصَّبِيُّ إذَا أَتَى بَقَّالًا بِفُلُوسٍ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ طَلَبَ الصَّابُونَ وَنَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ مِنْهُ وَإِنْ طَلَبَ الزَّبِيبَ وَمَا يَأْكُلُهُ الصِّبْيَانُ عَادَةً فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ وَقَدْ عَثَرَ عَلَى فُلُوسِ أُمِّهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا حَاجَةَ نَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ الصَّبِيُّ: هَذَا لِي وَقَدْ أَذِنَ لِي أَبَى فِي أَنْ أَهَبَهُ لَك أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْك لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْإِذْنِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ لِوَلَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَبِي بَعَثَهُ إلَيْك عَلَى يَدَيَّ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لِأَنَّ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ مَا أَخْبَرَهُ مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا أَتَاهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلِمَ أَنَّ جَارِيَةً لِرَجُلٍ يَدَّعِيهَا ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ رَجُلٍ آخَرَ يَبِيعُهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ لِي وَإِنَّمَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ خُفْيَةً وَصَدَّقَتْهُ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ وَالرَّجُلُ ثِقَةٌ مُسْلِمٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ مُحْتَمَلٍ وَلَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ حِينَ كَانَتْ فِي يَدِهِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ هَذَا الرَّجُلِ مِنْهُ أَنَّهَا لَهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ الْمُخْبِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حِينَ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ: ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي وَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشِرَاءٍ وَلَا قَبُولٍ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ فَإِنَّ الظُّلْمَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْهُ عَقْلُهُ وَدِينُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِخَبَرِهِ غَصْبُ ذَلِكَ الرَّجُلِ بَقِيَ قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَهَذَا أَخْذٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يَدَّعِيهِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ بَقِيَ دَعْوَاهُ الْمِلْكَ فِيمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ كَمَا قَرَرْنَا فَإِنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّلْجِئَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِلْزَامِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فِي غَصْبِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَاسْتِرْدَادِ هَذَا فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُسَالَمَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ظُلْمِهِ فَأَقَرَّ لِي بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيَّ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مُسَالَمَةٍ وَهُوَ إقْرَارُهُ لَهُ بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَضَى بِالْمِلْكِ لَهُ فَيَجُوزُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَفِي الْأَوَّلِ لَوْ عَايَنَ الْقَاضِي أَخْذَهَا مِنْهُ قَهْرًا أَوْ أَمَرَهُ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ كَانَ غَصَبَنِي وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خَاصَمْتُهُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لِي بِهَا بِبَيِّنَةٍ أَقَمْتُهَا عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ إثْبَاتُهُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ ثُمَّ الْأَخْذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْأَخْذِ بِتَسْلِيمِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ إلَيْهِ بَعْدَ إقْرَارِهِ لَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِي هَذَا كَالْيَقِينِ. وَإِنْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا الْقَاضِي وَأَخَذَهَا مِنْهُ فَدَفَعَهَا إلَيَّ أَوْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا وَأَخَذْتُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَخْذَهُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْمُسَالَمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنْ قَالَ: قَضَى لِي بِهَا فَجَحَدَنِي قَضَاهُ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْقَضَاءَ فَقَدْ جَاءَتْ الْمُنَازَعَةُ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْأَخْذِ فِي حَالَةِ الْمُنَازَعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي هَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ سَبَبٌ مُطْلَقٌ لِلْأَخْذِ لَهُ كَالشِّرَاءِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتهَا وَنَقَدْته الثَّمَنَ ثُمَّ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: جَحَدَنِي الْقَضَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَاحِدِ فَيَكُونُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ عِنْدَ جُحُودِ الْآخَرِ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ بِالْبَيِّنَةِ يَبْقَى قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ وَقَبَضْتُهَا بِأَمْرِهِ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ وَكَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ مَأْمُونًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ: إنَّ فُلَانًا جَحَدَ هَذَا الشِّرَاءَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ مِنْهُ شَيْئًا وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا أَيْضًا ثِقَةٌ مَأْمُونٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِشِرَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَحَدَ الشِّرَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْقَبْضِ وَعَدَمِ الْأَمْرِ وَالْجُحُودِ وَالْإِقْرَارِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجُحُودُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الثَّانِي غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَيَّدُ بِأَكْبَرِ رَأْيِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 أَنَّهُ كَاذِبٌ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ كَانَ مَقْبُولًا لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ لَا بِطَرِيقِ الْيَقِينِ فَإِنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَانَ خَبَرُهُ كَخَبَرِ الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الثَّانِيَ صَادِقٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الثَّانِي ثِقَةً وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ أُمُورُ النَّاسِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ مُعْتَقِدٌ لِمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الثِّقَةِ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ مِنْ السَّامِعِ اعْتِقَادًا وَالتَّعَامُلُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ اعْتِمَادُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ لَمْ يُعْمَلْ فِي مِثْلِ هَذِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ يُعْتَمَدُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةً تَامَّةً لِدَفْعِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ (قَالَ): أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ تَاجِرًا قَدِمَ بَلَدًا بِجَوَارٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ فَقَالَ: أَنَا مُضَارِبُ فُلَانٍ أَوْ أَنَا مُفَاوِضُهُ وَسِعَ النَّاسَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقْدَمُ بَلَدًا بِتِجَارَةٍ وَيَدَّعِي أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيُعَامِلُونَهُ وَلَوْ لَمْ يُطْلِقْ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ عَامِلًا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْدَى إلَيْهِ جَارِيَةً فَسَأَلَهَا أَفَارِغَةٌ أَنْتِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَكَتَبَ إلَى عَامِلِهِ أَنَّك بَعَثْت بِهَا إلَيَّ مَشْغُولَةً قَالَ: أَفَتَرَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ شَاهِدَانِ أَنَّ عَامِلَك أَهْدَى هَذِهِ إلَيْك وَقَدْ سَأَلَهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا صَدَّقَهَا وَكَفَّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا لَوْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا فَارِغَةٌ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِوَطْئِهَا (قَالَ): وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ مُجَوِّزٌ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَرَهَا فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إذَا كَانَ ثِقَةً أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيَغْشَاهَا وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا وَهُوَ شَاهِرٌ سَيْفَهُ أَوْ مَادٌّ رُمْحَهُ يَشْتَدُّ نَحْوُهُ وَلَا يَدْرِي صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ لِصٌّ أَوْ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَيَقْتُلَهُ إنْ مَنَعَهُ وَخَافَهُ إنْ زَجَرَهُ أَوْ صَاحَ بِهِ أَنْ يُبَادِرَهُ بِالضَّرْبِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالسَّيْفِ فَيَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتُلَهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا تَقَدَّرَ أَنَّ أَهَمَّ الْأُمُورِ الدِّمَاءُ وَالْفَرْجُ فَإِنَّ الْغَلَطَ إذَا وَقَعَ فِيهِمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ ثُمَّ جَازَ الْعَمَلُ فِيهِمَا بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِي حَقِّ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُحَكِّمَ رَأْيَهُ وَهَيْئَتَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْجُلُوسِ مَعَ أَهْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ وَإِنْ عَرَفَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَ السُّرَّاقِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَارِقٌ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي بِبَيْعِ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَدَفَعَهَا إلَى مُشْتَرِيهَا فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا مِنْ مَنْزِلِ مَوْلَاهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ إذَا أَوْفَاهُ ثَمَنَهَا وَكَانَ الْبَائِعُ ثِقَةً أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ جَازَ شِرَاؤُهَا مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ بَلْ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْمِرَ مَوْلَاهَا فِي أَمْرِهَا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الشِّرَاءِ وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ يَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِهِ أَيْضًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الْبَائِعَ كَذَبَ فِيمَا قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ ظَنِّهِ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُ وَطْأَهَا حَتَّى يَتَعَرَّفَ خَبَرَهَا لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ الْوَاطِئِ وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ هَذَا قَبْلَ الْوَطْأَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَهَا وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ مَا لَمْ يَجِئْ التَّجَاحُدُ مِنْ الَّذِي كَانَ يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَقْرَبْهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِيهَا ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمْ وَتَوْكِيلُهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ الْبَائِعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَتْبَعُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ جُحُودِ التَّوْكِيلِ وَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الْعُقْرَ إلَى مَوْلَى الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ اشْتَرَاهَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّ مَوْلَاهَا قَدْ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهَا فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا فَالْمُشْتَرِي فِي سَعَةٍ مِنْ إمْسَاكِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى يُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى جُحُودِ الْمَالِكِ وَقَضَى بِالْوَكَالَةِ وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِذَا خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لَهُ بِهَا لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي أَنْفَذُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَمْ يُقْضَ بِهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكُنْ مُلْزِمَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي يُلْزِمُهُ بِنَفْسِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى غَابَ عَنْهَا فَأَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّهَا قَدْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ حِلُّ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَكَّدُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا وَالْمُعْتَبَرُ فِي مِثْلِهِ التَّمْيِيزُ دُونَ الْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي خَبَرٍ مُلْزِمٍ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِمُعَارَضَةِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ بِخِلَافِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ أَخْبَرَ الْمَرْأَةَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ ارْتَدَّ فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ قَالَ: لِأَنَّ رِدَّةَ الزَّوْجِ أَغْلَظُ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ بِخِلَافِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَمَا ذُكِرَ هُنَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لَا إثْبَاتَ مُوجِبِ الرِّدَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ أَنَّهَا قَدْ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادِ عَقْدٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْأَوَّلِ مَا أَخْبَرَ بِفَسَادِ أَصْلِ النِّكَاحِ بَلْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا مُسْتَنْكَرٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ عَادَةً فَأَمَّا إخْبَارُهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ غَيْرِ مُسْتَنْكَرٍ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ الزَّوْجِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَخْبَرَهَا مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ وَلَوْ أَتَاهَا فَأَخْبَرَهَا أَنَّ أَصْلَ نِكَاحِهَا كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ وَقَدْ أَلْزَمَهَا الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا فَلَهَا أَنْ تَعْتَمِدَ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَتَتَزَوَّجَ وَهِيَ نَظِيرُ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 عِدَّتِي وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِقَوْلِهَا وَكَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ: حَلَلْت لَك لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَا لَمْ يَسْتَفْسِرْهَا لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِي حِلِّهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُطْلَقَ خَبَرِهَا بِالْحِلِّ حَتَّى تُفَسِّرَهُ وَلَوْ أَنَّ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبِرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ: أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِذِي الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ فِيمَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِخْبَارُهَا بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ وَإِنْ قَالَتْ: كُنْت أَمَةً لَهُ فَأَعْتَقَنِي وَكَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لَمْ أَرَ بَأْسًا بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ خِلَافَهُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ نَفْسُهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا ثُمَّ أَتَتْ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ نِكَاحَهَا الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْبَغِ لِهَذَا أَنْ يُصَدِّقَهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ يَعْلَمُ هُوَ خِلَافَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالَتْ: إنَّهُ طَلَّقَنِي بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ فَمَتَى أَقَرَّتْ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حِينَ تَزَوَّجَنِي أَوْ أَنِّي كُنْت أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَعْتَمِدُ خَبَرَهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْلُومِ وَإِذَا أَخْبَرَتْ بِالْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ ثِقَةً مَأْمُونَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لِلْغَيْرِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِهَا وَقِيَامُ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَلَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَأَمَّا صِحَّةُ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي عَايَنَهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «بَرِيرَةَ أَنَّهَا أَتَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِهَدِيَّةٍ إلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَأْكُلَهُ حَتَّى تَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» فَقَدْ صَدَّقَ بَرِيرَةُ بِقَوْلِهَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهَا وَصَدَّقَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِقَوْلِهَا أَيْضًا حِينَ تَنَاوَلَ مِنْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الرَّجُلِ يَرَى الرَّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ أَوْ يَرَهُ] بَابُ الرَّجُلِ يَرَى الرَّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ أَوْ يَرَهُ (قَالَ): وَإِذَا رَأَى الرَّجُلُ رَجُلًا يَقْتُلُ أَبَاهُ مُتَعَمِّدًا فَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ أَوْ قَالَ لِابْنِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إنِّي قَتَلْتُهُ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ فُلَانًا عَمْدًا أَوْ لِأَنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمْ الِابْنُ مِمَّا قَالَ الْقَاتِلُ شَيْئًا وَلَا وَارِثَ لِلْمَقْتُولِ غَيْرُهُ فَالِابْنُ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِحِلِّ دَمِهِ لِلْقَاتِلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَعَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا إذَا عَايَنَ قَتْلَهُ وَالثَّانِي إذَا أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَهَذَا وَمُعَايَنَةُ الْقَتْلِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُقِرُّ الرُّجُوعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَهَذَا وَمُعَايَنَةُ السَّبَبِ سَوَاءٌ وَالثَّالِثُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ فَيَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِالْقَوَدِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مُلْزِمٌ فَيَثْبُتُ بِهِ السَّبَبُ الْمُطْلَقُ لِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ لَهُ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَتَلَ أَبَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ الْحَقَّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَضَاءُ الْقَاضِي فَلَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ السَّبَبُ الْمُطْلَقُ لِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الِابْنِ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ إذَا عَايَنَ الْقَتْلَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَ الْقَاتِلِ بِهِ أَوْ عَايَنَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يُعِينَ الِابْنَ عَلَى قَتْلِهِ لِأَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى قَتْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ عِنْدَ الِابْنِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَتَلَ أَبَا هَذَا الرَّجُلِ عَمْدًا فَقَتَلَهُ بِهِ لَمْ يَنْبَغِ لِلِابْنِ أَنْ يُعَجِّلَ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيمَا شَهِدَا بِهِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ لِمَا قُلْنَا أَوْ بِأَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَتَثَبَّتُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ نِسْوَةٌ عُدُولٌ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ أَوْ فَاسِقَانِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ قَتْلِهِ بَلْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ. وَإِنْ تَثَبَّتَ فِيهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَقَالَ الْقَاذِفُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقَاتِلُ إذَا أَقَامَ فَاسِقَيْنِ عَلَى الْعَفْوِ أَوْ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ بِحَقٍّ لَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ لَمْ يَتَقَرَّرْ فَإِنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الْعَجْزُ لِأَنَّ لِلْفُسَّاقِ شَهَادَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً وَالْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ هُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْعَفْوُ بَعْدَهُ مُسْقِطٌ وَهَذَا الْمُسْقِطُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ وَفِي بَابِ الْقَتْلِ أَوْجَبَ الْقَوَدَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَقَالَ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثُمَّ قَالَ {: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَفْوَ مُسْقِطٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ لَا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْعَفْوِ مُقَرِّرًا سَبَبَ الْوُجُوبِ وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ عَدْلٌ مِمَّنْ يَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَقَالَ الْقَاتِلُ: عِنْدِي شَاهِدٌ آخَرُ مِثْلُهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُعَجِّلُ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيَأْتِيهِ بِآخَرَ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَ عَدْلٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَادَّعَى أَنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ حَاضِرًا أَمْهَلَهُ إلَى آخِرِ مَجْلِسِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ يُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ وَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ فِي سَعَةٍ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّهِ مُقَرَّرٌ وَالْمَانِعُ لَمْ يَظْهَرْ وَعَلَى هَذَا مَالٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ لِأَبِيك غَصَبَهُ هَذَا الرَّجُلُ مِنْهُ وَلَا وَارِثَ لِلْأَبِ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْمَالَ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَيَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ وَفِي الْأَخْذِ قَصْرُ يَدِ الْغَيْرِ وَلَيْسَ فِي الدَّعْوَى إلْزَامُ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ مُزَاحِمٌ لَهُ بِيَدِهِ وَلَا تَزُولُ مُزَاحَمَتُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ غَيْرَ الْوَارِثِ أَنْ يُعِينَ الْوَارِثَ عَلَى أَخْذِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ عَايَنَ أَخْذَهُ مِنْ أَبِيهِ وَسِعَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الْآخِذُ عِنْدَهُ بِالْأَخْذِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُلْزِمٌ فَهُوَ كَمُعَايَنَةِ السَّبَبِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِهِ وَيَسَعُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَسَعُ مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ إعَانَتُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ إذَا امْتَنَعَ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى سُلْطَانٍ يَأْخُذُ لَهُ بِحَقِّهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَكَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ دَفْعًا عَنْ مِلْكِهِ إذَا قَصَدَ الظَّالِمُ أَخْذَهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ فِي اسْتِرْدَادِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ امْرَأَةٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَا أَوْ غَابَا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَمْ يَسَعْ امْرَأَتَهُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِهَا لَوْ سَمِعَتْهُ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِهَذَا عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَمَّا التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ لَا تَكُونُ إلَّا مُوجِبَةً لِلْحُرْمَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا (قُلْنَا) هَذَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا أَوْ تَكُونَ غَيْرَ امْرَأَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الشُّبْهَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) احْتِمَالُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمَا وَالْآخَرُ كَوْنُ الْقَتْلِ بِحَقٍّ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ وَهُنَا الشُّبْهَةُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَأَمَّا إذَا كَانَا صَادِقَيْنِ فَلَا مَدْفَعَ لِلطَّلَاقِ وَبِظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا عِنْدَهَا يَنْعَدِمُ هَذَا الِاحْتِمَالُ حُكْمًا كَمَا يَنْعَدِمُ عِنْدَ الْقَاضِي. (فَإِنْ قِيلَ) كَمَا أَنَّ فِي شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ احْتِمَالَ الْكَذِبِ فَفِي إقْرَارِ الْمُقِرِّ ذَلِكَ وَقَدْ قُلْتُمْ يَسَعُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا سَمِعَ إقْرَارَهُ (قُلْنَا) هَذَا الِاحْتِمَالُ يَدْفَعُهُ عَقْلُ الْمُقِرِّ فَالْإِنْسَانُ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِسَفْكِ دَمِهِ كَاذِبًا إذَا كَانَ عَاقِلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَضَاعٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسَعْهَا الْمَقَامُ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهَا فَإِنْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ وَجَحَدَ الزَّوْجُ وَحَلَفَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا أَوْ تَهْرُبَ مِنْهُ وَلَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ تَمْكِينٌ مِنْ الزِّنَا وَكَانَ إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ تُسْقِيهِ مَا تَنْكَسِرُ بِهِ شَهْوَتُهُ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قَتَلَتْهُ إذَا قَصَدَهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ أَخْذَ مَالِهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ دَفْعًا عَنْ مَالِهَا فَإِذَا قَصَدَ الزِّنَا بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهَا وَلَوْ هَرَبَتْ مِنْهُ لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ كَانَتْ مُمَكِّنَةً مِنْ الْحَرَامِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يُشْتَبَهُ مَا وَصَفْت لَك قَضَاءُ الْقَاضِي فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِمَّا يَرَى الزَّوْجُ فِيهِ خِلَافَ مَا يَرَى الْقَاضِي وَبَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَالْمَرْأَةُ لَا تَرَى ذَلِكَ فَاخْتَصَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْقَاضِي يَرَاهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا جَازَ قَضَاؤُهُ وَوَسِعَ الرَّجُلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 أَنْ يُرَاجِعَهَا فَيُمْسِكَهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَرَاهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَرَاجَعَهَا الزَّوْجُ وَحَكَمَ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَسِعَهَا الْمَقَامُ بِذَلِكَ مَعَهُ وَلَمْ يَسَعْهَا أَنْ تُفَارِقَهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي هُنَا اعْتَمَدَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَفِي الْأَوَّلِ قَضَى بِالنِّكَاحِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ فَكَانَ إبْقَاءً لِمَا كَانَ لَا قَضَاءً بِالْحِلِّ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً ثُمَّ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ إذَا كَانَ غَائِبًا لَا رَأْيَ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ قَضَاءَ الْقَاضِي سَوَاءٌ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْحِلِّ أَوْ بِالْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيَدَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ رَأْيُ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ لِلْكَافَّةِ وَرَأْيُهُ لَا يَعْدُوهُ وَإِنْ قَضَى لَهُ بِالْحِلِّ وَهُوَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَأْخُذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ الْقَضَاءَ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَقْضِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ وَالْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَقْضِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَالْقَضَاءُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ مَعَ الْقَوِيِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: اجْتِهَادُهُ مُلْزِمٌ فِي حَقِّهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فَمِنْ حَيْثُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مَا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي أَقْوَى وَمِنْ حَيْثُ حَقِيقَةُ الِاجْتِهَادِ يَتَرَجَّحُ مَا عِنْدَهُ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» يُوَضِّحُهُ أَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَيْسَ بِصَوَابٍ وَلَوْ كَانَ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِالْحِلِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْحِلَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الْآيَةُ فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ لِلْمَرْءِ مَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْحُرْمَةَ وَعَلَى هَذَا الْأَمْوَالُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْمِيرَاثِ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ وَالْأَخُ فَقِيهٌ يَعْتَقِدُ فِيهِ قَوْلَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالْمُقَاسَمَةِ عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَخُ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وَعَلَى هَذَا الطَّلَاقُ الْمُضَافُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَعْتَقِدُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي أَوْ قَضَى بِخِلَافِ اعْتِقَادِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَفْتَى الْعَامِّيُّ أَقْوَى الْفُقَهَاءِ عِنْدَهُ فَأَفْتَى لَهُ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ ثُمَّ فِيمَا يَقْضِي الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَّمْنَا فَقِيهًا فَحُكْمُهُ كَفَتْوَاهُ لِأَنَّ سَبَبَهُ تَرَاضِيهِمَا لَا وِلَايَةً ثَابِتَةً لَهُ حُكْمًا فَكَانَ تَرَاضِيهِمَا عَلَى تَحْكِيمِهِ كَسُؤَالِهِمَا إيَّاهُ وَالْفَتْوَى لَا تُعَارِضُ قَضَاءَ الْقَاضِي فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَكَمِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ غَيْرُهُ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَلَوْ قَضَى بِهِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا حُكْمُ الْحَكَمِ فِي حَقِّهِمَا كَفَتْوَاهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ جَارِيَةٍ أَنَّ مَوْلَاهَا أَعْتَقَهَا أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا إنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ لِأَنَّ حُجَّةَ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ تَمَّتْ عِنْدَهَا فَهُوَ وَالطَّلَاقُ سَوَاءٌ وَلَا يَسَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إذَا كَانَ الْمَوْلَى يَجْحَدُ الْعِتْقَ وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِعِتْقِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى يَجْحَدُ لَمْ يَسَعْ الْعَبْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ فِي الْحُكْمِ فَلَوْ تَزَوَّجَا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَا مُرْتَكِبَيْنِ لِلْحَرَامِ عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ النَّاسِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [كِتَابُ التَّحَرِّي] كِتَابُ التَّحَرِّي (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ التَّحَرِّيَ لُغَةً هُوَ الطَّلَبُ وَالِابْتِغَاءُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ أَتَحَرَّى مَسَرَّتَك أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَك قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] وَهُوَ وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّحَرِّي فِي الْعِبَادَاتِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ إلَيْهِ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا وَلْيُحَلِّلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِبَادَاتِ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ» وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالتَّحَرِّي لِأَنَّهُ نَوْعُ ظَنٍّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يَنْتَفِي الشَّكُّ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: التَّحَرِّي غَيْرُ الشَّكِّ وَالظَّنِّ فَالشَّكُّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ وَالظَّنُّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالتَّحَرِّي أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ تَحَرِّيًا، فَالْحَرُّ اسْمٌ لِجَبَلٍ عَلَى طَرَفِ الْمَفَاوِزِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا الْكِتَابُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَذَلِكَ بِالتَّحَرِّي وَغَالِبِ الرَّأْيِ فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِرَاسَةُ الْمُؤْمِنِ لَا تُخْطِئُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك فَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي قَلْبِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ» وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ لِلْعَمَلِ بِهِ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ ثُمَّ جُعِلَ مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ التَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحُرُوبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ الْمُحْتَرِمَةِ لِلْهَلَاكِ. (فَإِنْ قِيلَ): ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَنَحْوِهَا وَنَحْنُ إنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (قُلْنَا): فِي هَذَا أَيْضًا مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَيَّ إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ التَّحَرِّيَ لِمَعْرِفَةِ حُدُودِ الْأَقَالِيمِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَفِي الزَّكَاةِ التَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعَبْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ الرَّأْيِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَيْهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِمَسَائِلِ الزَّكَاةِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ أَوْ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ نَصًّا وَهُوَ حَدِيثُ يَزِيد السُّلَمِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فَبَدَأَ بِمَا وَجَدَ فِيهِ النَّصَّ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَمَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِهِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ وَلَا سُؤَالٍ فَهَذَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصِحُّ شَرْعًا وَعَلَى مَا يَصِحُّ فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ وَعَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَإِنَّ الْفَقْرَ فِي الْقَابِضِ أَصْلٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُولَدُ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ جَائِزٌ شَرْعًا، فَالْمُعْطِي فِي الْإِعْطَاءِ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا فَيَقَعُ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَإِذَا، عَلِمَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْجَوَازَ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالظَّاهِرِ إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ هَيْئَةُ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فَقِيرٌ، لِأَنَّ بَعْدَ الشَّكِّ لَزِمَهُ التَّحَرِّي. فَإِذَا تَرَكَ التَّحَرِّيَ بَعْدَمَا لَزِمَهُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ كَانَ لِمَقْصُودٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ بِدُونِهِ فَسَقَطَ وُجُوبُ التَّحَرِّي كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ لِمَقْصُودٍ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ حُمِلَ إلَى الْجَامِعِ مُكْرَهًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ السَّعْيِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَحَرَّى بَعْدَ الشَّكِّ وَيَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَدَفَعَ إلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِفَقْرِهِ فَإِذَا عَلِمَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَلَى قِيَاسِ مَا نُبَيِّنُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ فَإِنْ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَكُونُ طَاعَةً فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ صَحِيحٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِفِعْلِهِ هَذَا إذَا تَبَيَّنَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّيهِ بِظُهُورِ فَقْرِ الْقَابِضِ، وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخِرِ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَالِسًا فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ يَصْنَعُ صَنِيعَهُمْ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ أَوْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرِّي. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ اجْتِهَادِهِ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا أَوْ الْقَاضِي قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى يُوقَفُ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً فَإِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ بِهِمَا أَحْكَامًا مِنْ النَّفَقَةِ وَضَمَانِ الْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَصْفُ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوصِلْهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ صَارَ اجْتِهَادُهُ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ، لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي حَقِّهِ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَالزَّكَاةُ صِلَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِعُذْرٍ فِي جَانِبِهِ إذَا لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَبِهِ فَارَقَ الصَّلَاةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فَيُمْكِنُ إقَامَةُ الِاجْتِهَادِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ حَالِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ لَا إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً فَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَكَيْف يَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكْلِيفُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى فَقْرِهِ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ هَيْئَةٍ عَلَيْهِ أَوْ جُلُوسٍ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ لِمَعْنَى الضَّرُورَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِظُهُورِ حَالِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْقَابِضِ وَلَا أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ضَاعَ مَالُهُ فَلِبَقَاءِ الضَّرُورَةِ قُلْنَا: يُجْعَلُ الْمُؤَدَّى مُجْزِيًا عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ غِنَاهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ وَمَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ وَتَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْغِنَى لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ صِفَةَ الْغَنِيِّ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْبَنِي عَلَى مَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى صِدْقِ الشُّهُودِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَبِهِ فَارَقَ النَّصَّ لِأَنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مُطَالَبًا بِالْوُصُولِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَذَّرَ إذَا كَانَ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي طَلَبِهِ فَإِذَا ظَهَرَ بَطَلَ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَيَبْطُلُ بِظُهُورِ النَّجَاسَةِ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بَلْ هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَقِيرُ مَصْرِفٌ لَا مُسْتَحِقٌّ كَالْكَعْبَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ جِهَةٌ تُسْتَقْبَلُ عِنْدَ أَدَائِهَا وَالصَّلَاةُ تَقَعُ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ هُنَاكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبُ إذَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَلَا مُعْتَبِرَ بِالتَّبَيُّنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ كَانَ أَبَا الدَّافِعِ أَوْ ابْنَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ هُنَا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِلصَّدَقَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُعْرَفُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَسْت لِأَبِيك لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَكَانَ ظُهُورُ النَّسَبِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ «عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَاصَمْت أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى لِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبِي أَعْطَى صَدَقَتَهُ لِرَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَأَتَيْتُهُ فَأَعْطَانِيهَا ثُمَّ أَتَيْت أَبِي فَعَلِمَ بِهَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّ مَا إيَّاكَ أَرَدْت بِهَا فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت» وَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْسَارِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: «صَدَقَةُ مَالِهِ». وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْوَاجِبِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلٌ هُوَ قُرْبَةٌ فِي مَحَلٍّ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضَّنُّ وَهُوَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ مَصْرِفٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلَادٌّ ثُمَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَالْحَاجَةِ أَقَامَ الشَّرْعُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ لِتَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْوَلَدِ وَلِهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ فَيُقَامُ أَكْثَرُ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوَازِ ثُمَّ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْبُنُوَّةِ الِاجْتِهَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ إنِّي بِنُبُوَّتِهِ أَعْرَفُ مِنَى بِوَلَدِي فَإِنِّي أَعْرِفُهُ نَبِيًّا حَقًّا وَلَا أَدْرِي مَاذَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدِي، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ الِاجْتِهَادَ كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الِاجْتِهَادُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جَوَازِ صَرْفِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ مَعَ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ قُرْبَةٌ فَهُوَ وَفَصْلُ الْأَبِ سَوَاءٌ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَيَصِيرُ كَالْمَعْلُومِ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِهَاشِمِيٍّ: لَسْت بِهَاشِمِيٍّ فَإِنَّهُ يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَفِي الْأَمَالِي رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كُفَّارٌ بَطَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: مَا يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: أَعْطَى ذِمِّيًّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَحْكِيمُ السِّيمَا فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] وَقَالَ تَعَالَى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا مُسْلِمٌ أَيْ مُنْقَادٌ لِلْحَقِّ مُسْتَسْلِمٌ وَكُلُّ أَحَدٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْمَجُوسِيُّ إذَا قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَشَاءَمُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ مُسْتَأْمَنٌ حَرْبِيٌّ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَقَالَ: قَدْ نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ مَعَ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي دِينِنَا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً وَبِدُونِ فِعْلِ الْقُرْبَةِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا قَالَ تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ قُرْبَةً يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِئُهُ لِقُصُورِ فِعْلِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْإِيتَاءُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُ جَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدٌ لِغَنِيٍّ أَوْ مُكَاتَبٌ لَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَفِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَعَ الْعِلْمِ أَيْضًا وَلَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْمَوْلَى لِأَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ هُنَاكَ فَصَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَأَمَّا فِي عَبْدِ نَفْسِهِ وَمُكَاتَبِهِ لَمْ يَتِمَّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ وَالْأَصْلُ فِي فَرِيضَةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لِلصَّلَاةِ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ اُضْطُرَّ إلَى اسْتِدْبَارِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتَهُ كَمَا كَانَتْ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَسَأَلَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] الْآيَةُ» ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ التَّوَجُّهَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ فَقَدْ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْبُعْدِ، وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَقُولُ: الْوَاجِبُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَكَّةَ التَّوَجُّهُ إلَى الْجِهَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ. وَمَعْرِفَةُ الْجِهَةِ إمَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ فَمِنْ الدَّلِيلِ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَحُوا الْعِرَاقَ وَجَعَلُوا الْقِبْلَةَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ثُمَّ فَتَحُوا خُرَاسَانَ وَجَعَلُوا قِبْلَةَ أَهْلِهَا مَا بَيْنَ الْمَغْرِبَيْنِ مَغْرِبِ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبِ الصَّيْفِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَلَمَّا مَاتُوا جُعِلَتْ قُبُورُهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 إلَيْهَا أَيْضًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَقَدْ كَانَتْ عِنَايَتُهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَظْهَرَ مِنْ عِنَايَةِ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ الدَّلِيلِ السُّؤَالُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَوْضِعٍ أَعْرَفُ بِقِبْلَتِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ عَادَةً وَقَالَ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وَمِنْ الدَّلِيلِ النُّجُومُ أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْكُوفَةِ يَجْعَلُونَ الْجَدْيَ خَلْفَ الْقَفَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْجَدْيَ خَلْفَ الْأُذُنِ الْيُمْنَى، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُول: السَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِهَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الصَّيْفِ فِي أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ الشِّتَاءِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَدَعُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى يَمِينِهِ وَالثُّلُثَ عَلَى يَسَارِهِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ إذَا وَاجَهَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَلَا مَعْنَى لِلِانْحِرَافِ إلَى جَانِبِ الشَّمَالِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا مَالَ بِوَجْهِهِ يَكُونُ إلَى حَدِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ وَلَا لِلْحَرَمِ أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْحَرَمَ مِنْ جَانِبِ الشَّمَالِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا. وَقِيلَ: قِبْلَةُ أَهْلِ الشَّامِ الرُّكْنُ الشَّامِيُّ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْضِعُ الْحَطِيمِ وَالْمِيزَابُ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ إلَى الْحِجْرِ قِبْلَةُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا وَقِبْلَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ الْبَابُ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِذَا انْحَرَفَ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ قَلَّ انْحِرَافُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ، وَعِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ فَرْضُهُ التَّحَرِّي، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهِ إلَيْهَا تُحْرِيه تَكُونُ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَفِيهِ قَوْلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَكِنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَ الْجِهَةِ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ لَيْسَ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَلَا جِهَةَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّا لَوْ قُلْنَا: يَتَوَجَّهُ إلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ انْعَدَمَ الِابْتِلَاءُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فَإِنَّمَا نُوجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّيَ لِرَجَاءِ الْإِصَابَةِ لِتَحْقِيقِ الِابْتِلَاءِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا لِلْجِهَةِ حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هَذَا مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُصَلِّينَ بِالتَّحَرِّي إذَا أَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ فَصَلَاةُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 فِي الْجِهَةِ فَاسِدَةٌ، وَلَوْ انْتَصَبَ مَا ظَنَّ الْإِمَامُ إلَيْهِ قِبْلَةً حَقِيقَةً يَصِحُّ اقْتِدَاءُ هَذَا الرَّجُلِ بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِهَةِ كَمَا إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا نَقُولُ: مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاحْتَاجَ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعِ أَوْجُهٍ: فَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ، أَوْ يَشُكَّ ثُمَّ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، أَوْ يَتَحَرَّى فَيُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، أَوْ يُعْرِضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَيُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا بَيَانُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ بِأَنْ ذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَكُلُّ مَنْ قَامَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ يُجْعَلُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ فِي أَدَائِهَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَحُمِلَ أَمْرُهُ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا تَبَيَّنَ الْحَالُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ هُنَا لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ لَا لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُجَوِّزِ فَإِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ الْمُفْسِدُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ كَالْيَقِينِ خُصُوصًا فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ صَلَّى إلَى جِهَةٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ فَقَدْ لَزِمَهُ التَّحَرِّي لِأَجْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَصَارَ التَّحَرِّي فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْفَرْضَ لَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إذَا شَكَّ وَلَمْ يَشُكَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَ فَرِيضَةُ التَّحَرِّي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ فَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفْتِي بِالْجَوَازِ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ فَرْضَ التَّحَرِّي لَزِمَهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُجْعَلُ كَالْيَقِينِ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ هُنَا فِي الْإِعَادَةِ فَأَمَّا إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى وَصَلَّى إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 فِي اجْتِهَادِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ اجْتِهَادِهِ كَالْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إذَا ظَهَرَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ وَالْمُتَوَضِّئِ بِمَاءٍ إذَا عَلِمَ بِنَجَاسَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ فَإِنَّ وَجْهَ الْمَرْءِ مُقَوَّسٌ فَإِنَّ عِنْدَ التَّيَامُنِ أَوْ التَّيَاسُرِ يَكُونُ أَحَدُ جَوَانِبِ وَجْهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَمَّا عِنْدَ الِاسْتِدْبَارِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ وَجْهِهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَيَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ بِهِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الْآيَةُ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ طَحْيَاءَ مُظْلِمَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَخَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا الْخُطُوطُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ» وَفِي حَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ فِي يَوْمٍ ذِي ضَبَابٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إلَى جِهَةٍ فَلَمَّا انْكَشَفَ الضَّبَابُ فَمِنَّا مَنْ أَصَابَ وَمِنَّا مَنْ أَخْطَأَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ مَعْنَاهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ إذَا تَوَجَّهَ إلَى جِهَةِ قَصْدِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ مَا قَرَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الْجِهَةِ لَيْسَتْ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِطَلَبِ الْجِهَةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِابْتِلَاءُ قَدْ تَمَّ بِتَحَرِّيهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْعِلْمِ يُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ عِنْدَ التَّحَرِّي لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِدْبَارِ، وَإِيضَاحُ مَا قُلْنَا فِيمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ قَالَ: قِبْلَةُ الْبَشَرِ الْكَعْبَةُ، وَقِبْلَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْكُرَوِيِّينَ الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ الْعَرْشُ، وَمَطْلُوبُ الْكُلِّ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ أَوْ فِي الْمَاءِ لِمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِهِ بِحَالٍ فَأَمَّا الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قُرْبَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ يَتَطَوَّعُ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ اخْتِيَارًا وَيُؤَدِّي الْفَرْضَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ أَيْضًا وَبِنَحْوِ هَذَا فُرِّقَ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَبِ وَعَلَى الْغَنِيِّ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا قَرَّرْنَا فَأَمَّا إذَا أَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا يَكْفِيهِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ لُزُومَ التَّحَرِّي كَانَ لِمَقْصُودٍ وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ بِغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَصَابَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءً، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي فَكَأَنَّهُ صَلَّى إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاتِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْفَسَادَ فِيهِ كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ جِهَتِهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ إذَا عَلِمَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ عَمَلًا حَتَّى لَوْ صَلَّى إلَيْهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَصَارَ هُوَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مُعَايِنًا الْكَعْبَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَتَكُونُ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً وَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ مَا انْتَصَبَتْ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَإِنْ انْتَصَبَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ تَبَيُّنُ الْحَالِ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ أَمَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَإِذَا تَبَيَّنَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْلَى وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافُ هَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ قَوِيَ حَالُهُ بِالتَّيَقُّنِ بِالْإِصَابَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْبَنِي الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ كَالْمُومِي إذَا قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُصَلِّيًا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ إلَى جِهَةٍ تِلْكَ الْجِهَةُ قِبْلَةٌ فِي حَقِّهِ عَمَلًا فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ «أَهْلِ قِبَا حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إلَى الْكَعْبَةِ فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَهُمْ رُكُوعٌ ثُمَّ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُمْ» وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يَبْنِي عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ جِهَاتٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ أَيْضًا فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ هَذَا وَيَقُولُ: إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَيْضًا فَأَمَّا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا حَتَّى لَا يُحْكَمَ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا عَلِمَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ، فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ وَنَظِيرُهُ فِي الْمُومِي وَالْمُتَيَمِّمِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَزُولُ مَا بِهِمْ مِنْ الْعُذْرِ إذَا كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِقْبَالُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ افْتَتَحَهَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَتَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَهَذَا الْفَصْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ الْخَطَأُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ الصَّوَابُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَلَاتَهُ هُنَا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ فَبِالتَّبَيُّنِ لَا تَزْدَادُ الْقُوَّةُ حُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الشَّكِّ لِأَنَّ هُنَاكَ صَلَاتَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ إلَّا بِالتَّيَقُّنِ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ حُكْمًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ رَجُلٌ دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ فِيهِ وَقِبْلَتُهُ مُشْكِلَةٌ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ فَتَحَرَّى الْقِبْلَةَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ حَصَلَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَإِنَّ أَوَانَ التَّحَرِّي مَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَقَدْ بَقِيَ هُنَا دَلِيلٌ لَهُ وَهُوَ السُّؤَالُ فَكَانَ وُجُودُ التَّحَرِّي كَعَدَمِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ التَّحَرِّي فَلَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَكَذَا هَذَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَاسْتُشْهِدَ لِهَذَا بِمَنْ أُتِيَ مَاءً مِنْ الْمِيَاهِ أَوْ حَيًّا مِنْ الْأَحْيَاءِ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ فَإِنْ كَانَ فِي الْحَيِّ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ عِنْدَهُ خَبَرَ الْمَاءِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ خَبَرِ الْمَاءِ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ هَذِهِ الْفُصُولَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءَ فَلَمْ يُخْبِرْهُ حَتَّى صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَأَمْرُ الْقِبْلَةِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الِاشْتِبَاهَ لَوْ كَانَ لَهُ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَصَلَّى بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْيَسُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتٍ وَقَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ فَفَرْضُهُ التَّحَرِّي وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ بِالتَّحَرِّي فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجَ مَكَّةَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ هُنَا: تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالْخَطَأِ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ بِالْمَدِينَةِ مَقْطُوعٌ بِهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا نَصَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِقَاعِ وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ بِمَكَّةَ يَنْدُرُ وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ فَلَا يَنْدُرُ تَحَرِّيهِ لِلْحُكْمِ بِالْجَوَازِ هُنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فَإِنَّ الِاشْتِبَاهَ يَكْثُرُ فِيهَا وَالْأَصْلُ فِي الْمَسَائِلِ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، وَالْمُسْتَهْلَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ لِلْغَالِبِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ اسْمُ الْحِنْطَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي قَرْيَةٍ عَامَّةُ أَهْلِهَا الْمَجُوسُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَفِي الْقَرْيَةِ الَّتِي عَامَّةُ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ يَحِلُّ ذَلِكَ بِنَاءً لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ وَيُبَاحُ لِكُلِّ أَحَدٍ الرَّمْيُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى كُلِّ مَنْ يَرَاهُ مِنْ بُعْدٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ دَخَلُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَلَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الْحَرْبِ جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ ثُمَّ الْمَسَائِلُ نَوْعَانِ: مُخْتَلِطٌ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ وَمُخْتَلِطٌ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ؛ فَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ؛ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ أَوْ لِلْحَرَامِ، أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ وَفِيهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَحَالَةُ الِاخْتِيَارِ فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ لَهُ شَرْعًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِصَابَةُ الْحَلَالِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ كَانَ أَوْلَى، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ بِأَنْ كَانَتْ الْمَسَالِيخُ ثَلَاثَةً أَحَدُهَا مَيْتَةٌ جَازَ لَهُ التَّحَرِّي أَيْضًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 لِأَنَّ الْحَلَالَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا إلَّا مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يُوقِعَ تَحَرِّيَهُ عَلَى أَحَدِهَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَيَتَجَنَّبَهَا وَيَتَنَاوَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ لَا بِالتَّحَرِّي بَلْ بِغَلَبَةِ الْحَلَالِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ غَالِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْحَلَالِ فِيهَا وَيَرْجُو إصَابَتَهُ بِالتَّحَرِّي فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَيْتَةِ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ جِهَاتِ الْخَطَأِ هُنَاكَ تَغْلِبُ عَلَى جِهَاتِ الصَّوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ الْعَمَلِ بِالتَّحَرِّي فَهَذَا مِثْلُهُ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْحَرَامُ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ الْحَلَالَ فَإِنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ هُنَاكَ لَيْسَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ، فَوِزَانُهُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا بِأَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ قُرْبَةٌ جَائِزَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الِاخْتِيَارِ بِحَالٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ هُنَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ إنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ هَذَا وَإِنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْمُبَاحِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْفَرْضِ وَهُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْحَلَالَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَلَامَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَمِنْ الْعَلَامَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ إذَا أُلْقِيَتْ فِي الْمَاءِ تَطْفُو لِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّمِ فِيهَا وَالذَّكِيَّةُ تَرْسُبُ، وَقَدْ يَعْرِفُ النَّاسُ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ النَّشِيشِ وَبِسُرْعَةِ الْفَسَادِ إلَيْهَا، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْحَرَامُ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ أَوْ ذَبِيحَةَ مُسْلِمٍ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الدُّهْنِ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ وَدَكُ الْمَيْتَةِ أَوْ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وَدَكَ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَا بِأَكْلٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ هَذَا مُحَرَّمُ الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ الْكُلُّ وَدَكَ الْمَيْتَةِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ نَفَرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إنَّ لَنَا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ وَقَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 احْتَاجَتْ إلَى الدُّهْنِ فَوَجَدْنَا نَاقَةً كَثِيرَةَ الشَّحْمِ مَيِّتَةً أَفَنَدْهُنُهَا بِشَحْمِهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ فَكَانَ هَذَا كَالْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الزَّيْتُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ وَدَكَ الْمَيْتَةِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جُزْءًا مِنْ الْحَلَالِ إلَّا بِتَنَاوُلِ جُزْءٍ مِنْ الْحَرَامِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِصْبَاحُ وَدَبْغُ الْجُلُودِ بِهَا فَإِنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَلَالُ فَالِانْتِفَاعُ إنَّمَا يُلَاقِي الْحَلَالَ مَقْصُودًا، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَانْتَفَعُوا بِهِ دُونَ الْأَكْلِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَيَانِ الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّجَاسَةُ لِلْجَارِ لَا لِعَيْنِ الزَّيْتِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ إلَى الْعِبَادِ إحْدَاثَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ لَا تَقْلِيبَ الْأَعْيَانِ، وَإِنْ كَانَ التَّنَجُّسُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ عَرَفْنَا أَنَّ عَيْنَ الطَّاهِرِ لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ حِينَ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ وَإِنْ دَبَغَ بِهِ الْجِلْدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ لِيَزُولَ بِالْغُسْلِ مَا عَلَى الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ وَمَا يُشْرَبُ فِيهِ فَهُوَ عَفْوٌ وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْمَوْتَى إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَيْضًا: فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَالِبُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى مَنْ يَرْمِيهِمْ أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَلَبَةُ لِلْكُفَّارِ هُنَا، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، وَيَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ مَا هُوَ الْأَوْجَبُ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَرِّي هُنَا عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ هُنَا وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ فِي حُكْمِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ جُعِلَ كَأَنَّهُمْ كُفَّارٌ كُلَّهُمْ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّفْنِ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعَلَّى وَدَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَقِيلَ: بَلْ يُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَا مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَيُدْفَنُونَ فِيهَا، وَأَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَمَاتَتْ وَهِيَ حُبْلَى فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا لِكُفْرِهَا ثُمَّ تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْمُسْلِمِ بِالْعَلَامَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَجَبَ التَّمْيِيزُ، وَمِنْ الْعَلَامَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلُبْسُ السَّوَادِ، فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْخِتَانَ» إلَّا أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يُخْتَتَنُ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ إذَا اخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُخْتَتَنُونَ، وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْتَضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي رَأَيْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهَا ضِرَامُ عَرْفَجٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عُمْرِهِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَخْتَضِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ قَرْنِهِ، وَأَمَّا مَنْ اخْتَضَبَ لِأَجْلِ التَّزَيُّنِ لِلنِّسَاءِ وَالْجَوَارِي فَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا، وَأَمَّا السَّوَادُ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا لَبِسَتْ أُمَّتِي السَّوَادَ فَابْغُوا الْإِسْلَامَ» وَمِنْهُمْ مِنْ رَوَى فَانْعَوْا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 بَشَّرَ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِانْتِقَالِ الْخِلَافَةِ إلَى أَوْلَادِهِ بَعْدَهُ وَقَالَ: مِنْ عَلَامَاتِهِمْ لُبْسُ السَّوَادِ»، وَالْكُفَّارُ لَا يَلْبَسُونَ السَّوَادَ فَإِنْ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا كَمَا إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الثِّيَابِ إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُ هَذِهِ الثِّيَابِ وَلَا مَا يَغْسِلُهَا بِهِ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلثِّيَابِ النَّجِسَةِ أَوْ لِلثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَسَالِيخِ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا فَرْقَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا وَالضَّرُورَةُ هُنَا قَدْ تَحَقَّقَتْ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا ثَوْبَ مَعَهُ سِوَى هَذِهِ الثِّيَابِ فَجَوَّزْنَا لَهُ التَّحَرِّيَ لِلضَّرُورَةِ، ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِنَابُ عَنْهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ صِفَةَ الْعَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ أَيَّ هَذِهِ الثِّيَابِ شَاءَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَتَحَرَّى لِمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَكَانَ هَذَا وَالتَّحَرِّي لِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَوَاءً بِخِلَافِ الْمَسَالِيخِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَرَامِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهُ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَإِصَابَةُ الطَّاهِرِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ أَوْلَى وَفِي الْمَسَالِيخِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَرَامِ كَانَ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ أَيْضًا. وَإِذَا وَقَعَ تُحْرِيه فِي ثَوْبَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ ثُمَّ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا حِينَ حَكَمْنَا بِجَوَازِ الظُّهْرِ فِيهِ حَكَمْنَا بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَلَا يَعْتَبِرُ أَكْبَرَ رَأْيِهِ بَعْدَ مَا جَرَى الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى الْعَصْرَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ جِهَةُ الْكَعْبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَانَ تَحَرِّيهِ عِنْدَ الْعَصْرِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُصَادِفًا مَحَلَّهُ، وَهُنَا مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الظُّهْرِ تَعَيُّنُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ، وَالْأَخْذُ بِالدَّلِيلِ الْحُكْمِيِّ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ، فَإِنْ اسْتَيْقَنَ أَنَّ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ هُوَ النَّجِسُ أَعَادَ صَلَاةَ الظُّهْرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ فِيمَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ التَّحَرِّي وَلَكِنَّهُ أَخَذَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ فَهَذَا وَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْفَسَادُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الطَّاهِرَ هَذَا الثَّوْبُ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةً حَتَّى صَلَّى وَهُوَ سَاهٍ فِي أَحَدِهِمَا الظُّهْرَ وَفِي الْآخَرِ الْعَصْرَ وَفِي الْأَوَّلِ الْمَغْرِبَ وَفِي الْآخَرَ الْعِشَاءَ ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخَرُ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ وَبِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ مَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَغْرِبِ لِمَكَانِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الْعَصْرِ وَالتَّرْتِيبُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ يَسْقُطُ وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْأَوَانِي إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي بَعْضِهَا مَاءٌ طَاهِرٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ فَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي النَّجِسَةِ أَوْ كَانَا سَوَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ فِي تَحَرِّيهِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ سَوَاءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَنَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَوَانِي لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا يُضْطَرُّ إلَى اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ عِنْدَ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ لِمَا أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ الضَّرُورَةُ مَسَّتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّتْرِ بَدَلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَمَّا كَانَ تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَعَدَمِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَأَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 يَجُوزَ التَّحَرِّي وَإِصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ بِتَحَرِّيهِ أَوْلَى. يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَوَانِي لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهَا وَلَوْ فَعَلَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ نَجِسَةً يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي بَعْضِهَا وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجَاسَةِ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ النَّجِسِ يُرِيقُ الْكُلَّ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ إنْ أَرَاقَ فَهُوَ أَحْوَطُ لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ وَإِنْ لَمْ يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: يَخْلِطُ الْمَاءَيْنِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْوَطُ لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْخَلْطِ يَسْقِي دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَهُوَ أَوْلَى، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي كَانَ يَقُولُ: يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ الْحَدَثَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَقَاسُوا بِمَنْ كَانَ مَعَهُ سُؤْرُ الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَتَتَنَجَّسُ أَعْضَاؤُهُ أَيْضًا خُصُوصًا رَأْسَهُ فَأَنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ يُنَجَّسُ وَإِنْ مَسَحَهُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ لَا يَطْهُرُ، فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلِهَذَا لَوْ غَمَسَ الثَّوْبَ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ التَّحَرِّيَ فِي الْفُرُوجِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، أَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّحَرِّي نَوْعُ ضَرُورَةٍ، وَالْفَرْجُ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَمَنْ خَافَ الْهَلَاكَ مِنْ فَرْطِ الشَّبَقِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ الْفَرْجُ بِالتَّحَرِّي بِحَالٍ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ جَوَارٍ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوَطْءِ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ بِعَيْنِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُحَرَّمَةَ بِعَيْنِهَا وَهَذَا لِأَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ لِلْحِلِّ وَبِتَحَرِّيهِ لَا يَصِيرُ هَذَا الشَّرْطُ مَعْلُومًا بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُنَكَّرِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُعَيَّنِ إلَّا بِالْبَيَانِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ فِي الْمَحَلِّ، وَكَمَا لَا يَتَحَرَّى لِلْوَطْءِ هُنَا لَا يَتَحَرَّى لِلْبَيْعِ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ وَإِبَاحَتَهُ شَرْعًا لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ شَرْعًا وَلَا يُخَلِّي الْحَاكِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَةِ لِيَرْتَكِبَ الْحَرَامَ بِوَطْئِهَا فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ. وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ نَسِيَهَا وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ لَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ إنْ مُتْنَ كُلُّهُنَّ إلَّا وَاحِدَةً لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لِأَنَّ بِمَوْتِ الثَّلَاثِ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الرَّابِعَةِ وَهُنَا الطَّلَاقُ وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ فَلَا يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَحَالُ هَذِهِ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَ مَوْتِ ضَرَائِرِهَا كَحَالِهَا قَبْلَ مَوْتِهِنَّ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِحِلِّهَا وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَحْلِفُهُ مَا طَلَّقَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا أَمَّا إذَا كَانَتْ تَدَّعِي هِيَ الثَّلَاثَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَا تَدَّعِي فَفِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي إذَا اتَّهَمَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي يَمِينِهِ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ وَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ حَلَّفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُنَّ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ بَقِيَ حُكْمُ الْحَيْلُولَةِ كَمَا كَانَ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الرَّابِعَةِ ضَرُورَةً فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا وَقَعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ الْبَيَانُ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ لِبَعْضِهِنَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِيقَاعُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ بَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثَلَاثًا مِنْ الْجَوَارِي فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ بَيْعِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ هِيَ الْمُعْتَقَةُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ مِمَّا بَاعَ شَيْءٌ بِشِرَاءٍ أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا مُعْتَبِرَ لِلْقَضَاءِ عَنْ جَهْلٍ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي قَضَائِهِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ لَا يُعْرَفُ فِيهِ الْمِلْكُ بِيَقِينٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي شَخْصٍ مُتَرَدِّدِ الْحَالِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِجَوَازِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 بَيْعِ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ شَيْئًا مِنْهُنَّ بِالْمِلْكِ إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَلَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالْمِلْكِ فَهِيَ إمَّا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ جَارِيَتَهُ ثُمَّ لَمْ يَعْرِفُوا الْمُعْتَقَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ بِعَيْنِهَا لِأَنَّا عَلِمْنَا قِيَامَ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جَارِيَتِهِ وَحِلَّ وَطْئِهَا لَهُ وَلَمْ نَتَيَقَّنْ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا هُنَاكَ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوْلَى فِي بَعْضِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ خَارِجَةٌ عَنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ يَصِحُّ عَلَى الْمَعْلُومِ دُونَ الْمَجْهُولِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَهُوَ مَعْلُومٌ فَالْجَهَالَةُ فِي جَانِبِ الْجَوَارِي لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِحُرْمَةٍ هِيَ حَقُّ الشَّرْعِ وَهُنَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوَالِي مَجْهُولٌ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكَ فِي جَارِيَتِهِ بِالْحِلِّ الَّذِي تَيَقَّنَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا وَإِنْ قَرِبَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَامًا حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلَوْ اشْتَرَاهُنَّ جَمِيعًا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُعْتَقَةَ أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُنَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ وَبَيْعَ الْكُلِّ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ اشْتَرَاهُنَّ بِعُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنَقُولُ: لَمَّا اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ وَاحِدًا سَوَاءً لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ هُنَا وَلَوْ اشْتَرَاهُنَّ إلَّا وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْحُرْمَةِ فِيمَا اُشْتُرِيَ فَلَعَلَّ الْمُعْتَقَةَ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا فَلَا يَصِيرُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا بِهَذَا فَإِنْ وَطِئَهُنَّ ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِيَةَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ شَيْءٍ مِنْهُنَّ وَلَا بَيْعُهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْوَطْءِ تَأْثِيرٌ فِي تَمْيِيزِ الْمُعْتَقَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِذَلِكَ إلَّا التَّذَكُّرُ وَالْوَطْءُ لَيْسَ مِنْ التَّذَكُّرِ فِي شَيْءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ أَصْحَابِ الْجَوَارِي لِأَنَّهُنَّ قَدْ اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ فَصَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لِإِيضَاحِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ فِي الْفُرُوجِ فَقَالَ: لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَمَا أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وَلَا يَأْمُرُ الْوَرَثَةَ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي تَعْيِينِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى لَا يَقُولَ لَهُمْ أَعْتِقُوا الَّتِي أَكْبَرُ رَأْيِكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَأَعْتِقُوا أَيَّتَهنَّ شِئْتُمْ وَكَيْف يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْعِتْقُ الْوَاقِعُ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ إلَى شَخْصٍ آخَرَ بِحَالٍ وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ فُلَانَةَ بِعَيْنِهَا أَعْتَقَهَا وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ فِي الْبَاقِيَاتِ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمُوَرِّثِ وَخَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْمُوَرِّثِ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ هَذِهِ إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِخْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَعْتَقَهُنَّ جَمِيعًا وَأَبْطَلَ مِنْ قِيمَتِهِنَّ قِيمَةَ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُنَّ بِالْحِصَصِ وَيَسْعَيْنَ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِنَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَيَخْرُجْنَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيَّةِ أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُنَّ مَا يَتَيَقَّنُ بِسُقُوطِهِ وَهُوَ قِيمَةُ وَاحِدَةٍ ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ بِهَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذَكَرَ بَابًا مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَكَأَنَّهُ تَذَكَّرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ حِينَ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ فَأَثْبَتَهَا لَكِيلَا يَفُوتَ فَقَالَ رَجُلٌ أَجَّرَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْخِدْمَةِ فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَالْعِتْقُ نَافِذٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْيَدِ إلَّا فِي عَجْزِ الْمَوْلَى عَنْ تَسْلِيمِهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ فِي الْآبِقِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْعَبْدُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ الْإِجَارَةُ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ إلَّا بِرِضَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ لَازِمًا بَعْدَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْعَقْدُ وَإِنْ انْعَقَدَ جُمْلَةً فَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ قَدْ تَحَقَّقَ هُنَا لِأَنَّ لُزُومَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ وَقُلِّدَ الْقَضَاءَ أَكَانَ يُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ كَدًّا وَتَعَبًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ إلَّا فِي مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى وَالْمَنَافِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بِظُهُورِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ لَهُ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا أُعْتِقَتْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِمِلْكِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ زِيَادَةِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَأَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ اُسْتُوْفِيَ عَلَى مِلْكِهِ بِعَقْدِهِ وَإِنْ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ فَلِلْعَبْدِ أَجْرُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَالصَّدَاقُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً وَاسْتَحَقَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 الْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَهُنَا الْأَجْرُ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ هُنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِرِضَاهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْعَبْدِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِعَقْدِهِ. وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ أَنْ يَقْبِضَهَا إلَّا بِوَكَالَةِ الْمَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْمُضِيَّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَسْقَطَ خِيَارَهُ كَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا لِلْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ شَيْئًا فِي أَوَّلِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا خَصْلَةً وَاحِدَةً إذَا اخْتَارَ الْعَبْدُ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَجْرَ بِالْقَبْضِ وَمَا مَلَكَهُ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ هُنَاكَ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ فَسَخَ الْعَبْدُ الْإِجَارَةَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَعَلَى الْمَوْلَى رَدُّ حِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى أَكْسَبَ سَبَبَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ مِنْ الْعَبْدِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَإِذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا بَاشَرَ الْمَوْلَى وَالْمِلْكُ فِي جَمِيعِ الْأَجْرِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى بِذَلِكَ الْعَقْدِ فَيَبْقَى وَلَا يَتَحَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَمَّا كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تُمْلَكُ قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَلَا تَجِبُ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا وَلَا حَالًّا وَفِي الْأَجْرِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَلَامٌ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حِصَّةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ فَهُنَا أَوْلَى [الْعَبْدِ إذَا وَلِيَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى.] (قَالَ) وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ إذَا وَلِيَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَلِي الْقَبْضَ هُنَا إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَهُوَ الَّذِي يُطَالَبُ بِرَدِّ مَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمَوْلَى بِهِ عَيْنًا كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمَوْلَى أَوْ مُسْتَهْلَكًا لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ وَهُوَ مَنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ لَزِمَهُ هَذَا الدَّيْنُ بِسَبَبٍ كَانَ هُوَ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَامِلًا لِمَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ سُؤَالًا فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهَا؟ ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: لِأَنَّهَا تَمَّتْ فِي حَالِ رِقِّهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعَقْدَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ أَمَةً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا أَجَرَهُ الْوَصِيُّ فِي عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ مَبْلَغَ الرِّجَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُضِيِّ عَلَى الْإِجَارَةِ وَفَسْخِهَا وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا أَجَرَ ابْنَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ الِابْنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ كَدًّا وَتَعَبًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ يَصِيرُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَرَ دَارِهِ أَوْ عَبْدَهُ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَأَدْرَكَ الْغُلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْإِجَارَةَ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: نَفَذَ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ مَعْنَى الْكَدِّ وَالْعَارِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ إذَا أَدْرَكَ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِخِلَافِ إجَارَةِ النَّفْسِ، وَالثَّانِي أَنَّ إجَارَةَ الدَّارِ وَالْعَبْدِ يَمْلِكُ بِالْوِلَايَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ مِنْ الْقَرَابَاتِ مِمَّنْ يَعُولُ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إجَارَةِ دَارِهِ وَعَبْدِهِ فَإِذَا نَفَذَ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَتِهِمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَاشَرَاهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِالْوِلَايَةِ فَأَمَّا صِحَّةُ إجَارَةِ النَّفْسِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْوَلَدِ فِي ذَلِكَ لِيَتَأَدَّبَ وَيَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَعُولُ الْيَتِيمَ بِمِلْكِ ذَلِكَ مِنْهُ وَبِبُلُوغِهِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِذَا أَجَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْخِدْمَةِ فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَالْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إذَا سَلِمَ الْعَبْدُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ الْأَجْرَ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ فَإِنَّ الضَّمَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ. وَبِهِ فَارَقَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ وَمَاتَ فِي خِلَالِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَجْرِ فِيمَا مَضَى وَإِنْ هَلَكَ الصَّبِيُّ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ غَرِمَ دِيَتَهُ وَإِذَا سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى وَجَبَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى يَقْبِضُهُ الْعَبْدُ فَيَدْفَعُهُ إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَلَكِنْ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَى الْمَوْلَى وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ لِلْعَبْدِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا نَفَذَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ بِغَيْرِ إجَارَةِ الْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى نَفَذَ الْعِتْقُ وَلَا خِيَارَ لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَقْدُهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ هُنَا إنْ كَانَ قَبَضَ الْأَجْرَ فِي حَالِ رِقِّهِ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ حِصَّةَ مَا بَقِيَ وَلِلْمَوْلَى حِصَّةَ مَا مَضَى بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ كَانَ نَافِذًا فَالْأَجْرُ كُلُّهُ بِالْقَبْضِ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَهُنَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا لِأَنَّ مُبَاشِرَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً فَحِصَّةُ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَمْلُوكًا مِنْ الْآجِرِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى وَحِصَّةُ مَا لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ إبْقَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا أُوفِيَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلِهَذَا كَانَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 [كِتَابُ اللَّقِيطِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ اللَّقِيطِ. (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اللَّقِيطُ لُغَةً اسْمٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ وَالْجَرِيحِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وَالْمَجْرُوحِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ، مُضَيِّعُهُ آثِمٌ، وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ لِمَا فِي إحْرَازِهِ مِنْ إحْيَاءِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ، وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وَلِهَذَا كَانَ رَفْعُهُ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ تَرْكِ التَّرَحُّمِ عَلَى الصِّغَارِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرًا، وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرًا فَلَيْسَ مِنَّا»، وَفِي رَفْعِهِ إظْهَارُ الشَّفَقَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى مَا قِيلَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ. وَرَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ هُوَ حُرٌّ، وَلَأَنْ أَكُونَ وَلِيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلِيتَ مِنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَقَدْ اسْتَحَبَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ. (فَإِنْ قِيلَ): مَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ؟ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنْ إحْيَاؤُهُ كَانَ فِي الْتِقَاطِهِ حِينَ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ حَافِظٌ وَمُتَعَهِّدٌ فَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ حُرِّيَّةٌ، وَإِسْلَامٌ فَمَنْ كَانَ فِيهَا فَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَسْكُنُ دَارَ الْإِسْلَامِ الْأَحْرَارُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَالنَّاسُ أَوْلَادُ آدَمَ، وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَكَانَا حُرَّيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 فَلِهَذَا كَانَ اللَّقِيطُ حُرًّا، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَضَ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِلصَّرْفِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَلَاؤُهُ وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ عَقْلَ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْغُنْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا، قَالَ: اللَّقِيطُ حُرٌّ، وَوَلَاؤُهُ، وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذُكِرَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ سِنِينَ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا عَلَى بَابِي فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا هُوَ حُرٌّ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْنَا، وَمَعْنَى الْمَنْبُوذِ الْمَطْرُوحُ قَالَ تَعَالَى {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، وَهُوَ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ لِلْمَوْجُودِ لِأَنَّهُ مَطْرُوحٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ لَقِيطًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَتَفَاؤُلًا لِاسْتِصْلَاحِ حَالِهِ فَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا مَثَلٌ مَعْرُوفٌ لِمَا يَكُونُ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ الزَّبَّاءُ الْمَلِكَةُ حِينَ رَأَتْ الصَّنَادِيقَ فِيهَا الرِّجَالُ، وَقَدْ أُخْبِرَتْ أَنَّ فِيهَا الْأَمْوَالَ فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِذَلِكَ أَنْشَأَتْ تَقُولُ مَا لِلْجَمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدًا ... أَجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا أَمْ صَرَفَانًا بَارِدًا شَدِيدَا ... أَمْ الرِّجَالُ جُثَّمًا قُعُودَا ثُمَّ قَالَتْ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا فَطَارَ كَلَامُهَا مَثَلًا، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظَنَّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ جَاءَ إلَيْهِ بِوَلَدِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَقِيطٌ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نَفَقَتَهُ فَلِهَذَا ذُكِرَ هَذَا الْمِثْلُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِاللَّقِيطِ إلَى الْإِمَامِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ نَفَقَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَقَتُهُ عَلَيْنَا، وَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ فِي نَفَقَتِهِ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى اللَّقِيطِ إذَا كَبِرَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى مَا صَنَعَ شَرْعًا، وَالْمُتَطَوِّعُ مَنْ يَكُونُ مُخَيَّرًا غَيْرَ مُجْبَرٍ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ شَرْعًا. وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى وَلَدٍ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى اللَّقِيطِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالِالْتِقَاطِ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ اللَّقِيطُ، وَهُوَ الْحِفْظُ وَالتَّرْبِيَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ مُثْبِتٌ لِلْوِلَايَةِ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَنَّهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَتَبَرَّعُونَ، وَفِي الرُّجُوعِ لَا يَطْمَعُونَ، وَمُطْلَقُ الْفِعْلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ فَإِنْ أَمَرَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 الْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَبَ نَاظِرًا، وَمَعْنَى النَّظَرِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، وَأَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فَتَمَامُ النَّظَرِ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً، وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ وَلِيُّ كُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ يَثْبُتُ وِلَايَتُهُ بِحَقِّ الدَّيْنِ، وَمِنْ وَجْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَوْقَ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأُبُوَّةِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ. وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ الْقَاضِي بِهِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَأْمُرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ فَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِهِ فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا، وَصَدَّقَهُ اللَّقِيطُ فِي ذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمِينًا فِيمَا يَنْفِي بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ. [وَشَهَادَةُ اللَّقِيطِ بَعْدَمَا أَدْرَكَ] جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ فَيَكُونُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إذَا ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ فِي النَّاسِ مُتَّهَمٌ بِأَنَّهُ وَلَدُ الزِّنَا فَيُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ بِشَهَادَتِهِ إلْحَاقَ عَارِ الزِّنَا بِغَيْرِهِ لِيُسَوِّيَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الزَّانِيَ بَعْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا، وَالسَّارِقُ كَذَلِكَ ثَمَّ تُهْمَةُ الْكَذِبِ كَمَا تُنْفَى عَنْهُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عِنْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا. وَجِنَايَتُهُ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ وَحُدُودُهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ كَمَا قَرَّرْنَا رَجُلٌ الْتَقَطَ لَقِيطًا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ صَدَّقْته اسْتِحْسَانًا، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي الْتَقَطَ لَوْ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْمُلْتَقِطُ إذَا ادَّعَاهُ فِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ فِي يَدِهِ، وَابْنُهُ لَا يَكُونُ لَقِيطًا فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ النِّسْبَةُ إلَيْهِ إذَا بَلَغَ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ يَقُولُهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ اللَّقِيطُ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ لِيَتَشَرَّفَ بِهِ، وَيَنْدَفِعَ الْعَارُ عَنْهُ فَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ يَكْتَسِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، وَبِالِالْتِقَاطِ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمِقْدَارُ يُوَضِّحُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 أَنَّهُ يَلْتَزِمُ حِفْظَهُ، وَنَفَقَتَهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، وَهَذَا الِالْتِزَامُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ثُمَّ التَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ كَالْمُلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ خَفِيٌّ فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَقِيطٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ. وَإِنْ ادَّعَاهُ غَيْرُ الْمُلْتَقِطِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَهَذَا قِيَاسٌ آخَرُ سِوَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ، وَحَقُّ الْحِفْظِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ فَلَا يُقْبَلُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ فِي إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اللَّقِيطَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَهُوَ فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ يُقِرُّ لَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ، وَيَلْتَزِمُ حَقًّا لَهُ فَكَانَ دَعْوَاهُ كَدَعْوَى الْمُلْتَقِطِ لِنَسَبِهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ هُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ فِي الْحِفْظِ حُكْمًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إثْبَاتِهِ قَصْدًا كَمَا أَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِشَهَادَتِهَا قَصْدًا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ أَخْذَ اللَّقِيطِ مِنْ يَدِهِ فَإِنَّمَا مُنَازَعَتُهُ فِي عَيْنِ مَا بَاشَرَهُ الْأَوَّلُ فَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ فَمُنَازَعَتُهُ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ بَاشَرَهُ الْمُلْتَقِطُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِ وَلَدِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. وَإِذَا أَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى اللَّقِيطِ، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إنَّهُ لَقِيطٌ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَقُولُ فَلَعَلَّهُ وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَاحْتَالَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ لِيُسْقِطَ نَفَقَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَقِيطٌ قَبِلَ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ إمَّا لِأَنَّهَا تَقُومُ لِكَشْفِ الْحَالِ، وَالْبَيِّنَةُ لِكَشْفِ الْحَالِ مَسْمُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ أَوْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، وَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ ثُمَّ الْقَاضِي مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَكِنْ يُوَلِّيهِ مَا تَوَلَّى فَيَقُولُ لَهُ قَدْ الْتَزَمْتَ حِفْظَهُ فَأَنْتَ وَمَا الْتَزَمْتَ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تُلْزِمَنِي مَا الْتَزَمْتَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا عَلِمَ بِعَجْزِهِ عَنْ حِفْظِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ الْآنَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ، وَالْقَاضِي مَنْصُوبٌ لِذَلِكَ فَإِنْ أَخَذَهُ، وَوَضَعَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى اللَّقِيطِ ثُمَّ إنَّ الَّذِي الْتَقَطَهُ سَأَلَ الْقَاضِيَ إنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرُدَّ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ الِاخْتِصَاصِ فَحَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي طَلَبِ الرَّدِّ. رَجُلٌ الْتَقَطَ لَقِيطًا فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ فَاخْتَصَمَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 ثُمَّ الثَّانِي بِالْأَخْذِ فَوَّتَ عَلَيْهِ يَدًا مُحَقَّةً فَيُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَذَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَخْذِهِ، وَالثَّانِي أَخَذَ مَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْأَوَّلِ فَلَا تَكُونُ يَدُهُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْأَوَّلِ، وَلَا نَاسِخَةً لَهَا. [كَبُرَ اللَّقِيطُ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ] وَإِذَا كَبُرَ اللَّقِيطُ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَذَلِكَ إلَى اللَّقِيطِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ، وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ النِّسْبَةُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ كَلَامِهِ فِي حَقِّهِ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ دَعْوَى كَانَ أَوْ إقْرَارٌ، وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُكَذِّبُهُمَا، وَجِنَايَةُ اللَّقِيطِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ مَطْلُوبٌ لِمَعْنَى التَّنَاصُرِ وَالتَّقَوِّي بِهِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ مَوْلًى مُعَيَّنٌ فَتَنَاصُرُهُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّى بِهِمْ فَإِذَا كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُمْ كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ يُؤَدَّى مَنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَالُهُمْ، وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الَّذِي الْتَقَطَهُ وَرَبَّاهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ بِالْقَرَابَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ) هُوَ بِالِالْتِقَاطِ وَالتَّرْبِيَةِ قَدْ أَحْيَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ كَمَا يَثْبُتُ لِلْمُعْتَقِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءٌ حُكْمًا (قُلْنَا) هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ فِي صِفَةِ مَالِكِيَّةِ الْمَالِ هَالِكٌ، وَالْمُعْتِقُ مُحْدِثٌ فِيهِ لِهَذَا الْوَصْفِ، وَاللَّقِيطُ كَانَ حَيًّا حَقِيقَةً، وَمِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ حُكْمًا فَالْمُلْتَقِطُ لَا يَكُونُ مُحْيِيًا لَهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ بِالْبُلُوغِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْمُلْتَقِطِ مِنْهُ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ فَيَرِثُهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ وَالَى رَجُلًا بَعْدَمَا أَدْرَكَ جَازَ كَمَا لَوْ وَالَى الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَتَأَكَّدْ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا جَنِيَ جِنَايَةً، وَعَقْلُهُ بَيْتُ الْمَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ تَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ عَقَلُوا جِنَايَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَجْنِيَ جِنَايَةً، وَيَعْقِلُهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَا بَيْعٌ، وَلَا شِرَاءٌ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْغَيْرِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ»، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْحِفْظِ وَالتَّرْبِيَةِ لِكَوْنِهِ مَنْفَعَةً مَحْضَةً فِي حَقِّهِ، وَبِهَذَا السَّبَبِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ لَقِيطٌ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَوِّلَ يَدَهُ يَدَ مِلْكٍ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ لِلَّقِيطِ بِمَا يَنْفَعُهُ، وَهَذَا دَعْوَى عَلَيْهِ بِمَا يَضُرُّهُ، وَهُوَ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ لَقِيطًا مَعَهُ مَالٌ فَوَضَعَهُ الْقَاضِي عَلَى يَدِهِ، وَقَالَ أَنْفِقْ عَلَيْهِ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّقِيطِ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ مَعَهُ فَكَانَتْ يَدُهُ أَسْبَقَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَاضِعَهُ وَضَعَ ذَلِكَ الْمَالَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُخْبِرُ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَيُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِمْ، وَمَا اشْتَرَى مِنْ طَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَمَرَهُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَكَذَلِكَ مَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ بِأَمْرِ الْقَاضِي. وَإِذَا مَاتَ اللَّقِيطُ وَتَرَكَ مِيرَاثًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ حُكْمَ النَّسَبِ وُجُوبُ الِانْتِسَابِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الشَّرَفُ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهُوَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ كَلَامُهُ دَعْوَى الْمِيرَاثِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَإِذَا أَدْرَكَ اللَّقِيطُ كَافِرًا، وَقَدْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ حُبِسَ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حُكِمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ مَكَانُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ إذَا أَدْرَكَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا كَالْمَوْلُودِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا. وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ فَيُقْتَلُ عَلَى الرِّدَّةِ كَمَا لَوْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ مِنْهُ فَيَصِيرُ هَذَا شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ كَانَ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْقَتْلِ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَقُولُ فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا أَسْلَمَ يَحْسُنُ إسْلَامُهُ ثُمَّ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُحْبَسُ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ فَإِنْ مَاتَ هَذَا اللَّقِيطُ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ صَلَّيْت عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلْمَكَانِ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ كَالصَّبِيِّ إذَا سُبِيَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ. (قَالَ) وَلَوْ كَانَ وُجِدَ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 فِيهَا إلَّا مُشْرِكٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَافِرًا وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَهُمْ كُفَّارٌ كُلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فِي الْحَاصِلِ أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ فَيَكُونَ مَحْكُومًا بِالْكُفْرِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَالرَّابِعُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْكُفَّارِ فَفِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ يَقُولُ الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْعِبْرَةُ لِلْوَاجِدِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَيُّهُمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْإِسْلَامِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ يُحَكَّمُ زِيُّهُ، وَعَلَامَتُهُ، وَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْمَكَانَ إلَيْهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ السَّابِقُ، وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْبَيْعَةِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ عَادَةً فَيُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ يَدَ الْوَاجِدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ إحْرَازٌ لَهُ، وَالْمُبَاحُ بِالْإِحْرَازِ يَظْهَرُ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْمَكَانِ عِنْدَ عَدَمِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سُبِيَ، وَمَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ مَعَ يَدِ الْوَاجِدِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَكَانِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَ الْوَاجِدِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْإِسْلَامَ، وَاعْتِبَارَ الْآخَرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الزِّيُّ. قَالَ: عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ اعْتِبَارُ الزِّيِّ وَالْعَلَامَةِ أَصْلٌ كَمَا إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ يُعْتَبَرُ الزِّيُّ، وَالْعَلَامَةُ لِلْفَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إذَا فَتَحُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَوَجَدُوا شَيْخًا عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُعَلِّمُ صِبْيَانًا حَوْلَهُ الْقُرْآنَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لِاعْتِبَارِ الزِّيِّ، وَالْعَلَامَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] فَهَذَا اللَّقِيطُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْكُفَّارِ بِأَنْ كَانَ فِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ أَوْ عَلَيْهِ ثَوْبُ دِيبَاجٍ أَوْ هُوَ مَحْرُوزٌ وَسَطَ الرَّأْسِ فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ فَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ، وَكُفَّارٌ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ، وَتَسَاوَيَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَوْتَى الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ إذَا اخْتَلَطُوا، وَاسْتَوَوْا لَمْ يُصَلَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 عَلَيْهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّحَرِّي، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا تَعَارَضَتْ فِي حَقِّ الْمَكَانِ يَتَرَجَّحُ الْإِسْلَامُ بِاعْتِبَارِ الْوَاجِدِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ عُلُوِّ حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ. وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ عَلَى دَابَّةٍ فَالدَّابَّةُ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهَا فَإِنَّ الْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِرَاكِبِهِ، وَهُوَ كَمَالٌ آخَرُ يُوجَدُ مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْ وَضَعَ مَعَهُ الْمَالَ فَإِنَّمَا وَضَعَ لِيُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا لِيُنْفَقَ عَلَيْهِ مَالِيَّةُ تِلْكَ الدَّابَّةِ. وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ فَلَوْ جُعِلَ ابْنُ الْكَافِرِ بِدَعْوَاهُ لَكَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ نَوْعُ وِلَايَةٍ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ بَعْدَمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَمَنَّ ادَّعَى نَسَبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ مُقَرٌّ لَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ صَحِيحًا، وَمُوجَبُ كَلَامِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَنْفَعُهُ، وَالْآخَرُ كُفْرُهُ، وَذَلِكَ يَضُرُّهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ امْتِنَاعُهُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ النَّسَبَ يَنْفَصِلُ عَنْ الدِّينِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْكَافِرِ مِنْ امْرَأَةِ مُسْلِمَةٍ يَكُونُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْكَافِرِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا فَهَذَا مِثْلُهُ. [ادَّعَى مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ] فَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَثُبُوتُ حُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ لَا يُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَا خَصْمَ عَنْ اللَّقِيطِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِيمَا يَضُرُّهُ (قُلْنَا) الْمُلْتَقِطُ خَصْمٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ لِأَنَّهُ لَقِيطٌ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى رِقِّهِ فَلِهَذَا كَانَ خَصْمًا عَنْهُ فَإِنْ أَقَامَ الذِّمِّيُّ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى رِقِّهِ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُعَارَضَةُ بِهَذِهِ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ الْمُسْلِمِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ إذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ ابْتِدَاءَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ، وَلَكِنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ فِي حُكْمِ الدِّينِ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْكُفْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ مُسْلِمِينَ قَضَيْتُ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ مِنْهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فَيَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْمُلْتَقِطُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 فِيمَا فَعَلَ. وَإِذَا وَجَدَ اللَّقِيطَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَتَنَازَعَا فِي كَوْنِهِ عَبْدَ أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَالْكَافِرُ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْكُفْرِ إذَا كَانَ عِنْدَهُ، وَكَوْنُهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنْفَعَ لَهُ حَتَّى يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّقِيطُ يَعْرِفُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ. [ادَّعَتْ امْرَأَةٌ اللَّقِيطَ أَنَّهُ ابْنُهَا] وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ اللَّقِيطَ أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تُصَدَّقْ إلَّا بِشُهُودٍ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ رَجُلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ أَوَّلًا، وَهُوَ الرَّجُلُ فَالْمَرْأَةُ بِالدَّعْوَةِ تَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهَا، وَهُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ مِنْهُ يَثْبُتُ مِنْهَا، وَقَوْلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَالرَّجُلُ يَدَّعِي النَّسَبَ لِنَفْسِهِ ابْتِدَاءً، وَيُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ خَفِيٌّ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْوَطْءُ فَيُقْبَلُ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ، وَسَبَبُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْوِلَادَةُ، وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، وَهُوَ الْقَابِلَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِيهِ حَجَّةً فَإِنْ أَقَامَتْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ. وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ، وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ امْرَأَةً أَنَّهُ ابْنُهَا فَهُوَ ابْنُهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فَكَانَ إقَامَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا امْرَأَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلَيْنِ، وَالْأُخْرَى امْرَأَةً وَاحِدَةً لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةً فِي مُعَارَضَةِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَثْبُتُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ أُخْتِهَا، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فَإِنْ أَقَامَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلَيْنِ، وَالْأُخْرَى امْرَأَتَيْنِ جَعَلَتْهُ ابْنَ الَّتِي شَهِدَ لَهَا الرَّجُلَانِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَشَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالضَّعِيفُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ. وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَوْ الْحَرْبِيُّ لَقِيطًا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 فَقَدْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ أَوْ الْأَصْلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِصِفَةِ الْمُلْتَقِطِ بَعْدَ ذَلِكَ. [وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَكَان غَيْرِ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ] وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَكَان غَيْرِ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَتِلْكَ الْمَحَلَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُحْتَرَمٌ فَإِنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَحُرِّيَّتِهِ كَانَتْ لِنَفْسِهِ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالتَّقَوُّمِ مَا لِسَائِرِ نُفُوسِ الْأَحْرَارِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» أَيْ مُهْدَرٌ ثُمَّ بَدَلُ النَّفْسِ مِيرَاثٌ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ لَقِيطًا فَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَقَالَ الْمَوْلَى كَذَبْت بَلْ هُوَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا هُوَ قَابِضٌ لَهُ بَلْ يَدُهُ يَدُ مَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي كَسْبِهِ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ، وَإِطْلَاقُ الْيَدِ فِي الْكَسْبِ، وَمَنْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي شَيْءٍ فَقَوْلُهُ فِيهِ مَسْمُوعٌ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْعَبْدَ بِقَوْلِهِ هَذَا لَقِيطٌ فِي يَدِي يُخْبِرُ بِسُقُوطِ حَقِّ مَوْلَاهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَالْمَحْجُورُ لَا قَوْلَ لَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ مَوْلَاهُ عَمَّا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَقَوْلُهُ فِيمَا يَدُهُ مَقْبُولٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ أَخْذِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَتَلَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِبَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، وَاللَّقِيطُ حُرٌّ مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا كَانَ خَطَأً، وَالْمُلْتَقِطُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا أَقْتُلُهُ بِهِ، وَالْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا ثُمَّ قَتَلَهُ إنْسَانٌ عَمْدًا فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لِلَّقِيطِ، وَلِيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَصَبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ بَعُدَ إلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَكُونُ إلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً لِلْإِمَامِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِشُبْهَةٍ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ فِي الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِيَشْفِيَ الْغَيْظَ وَدَرْكِ الثَّأْرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ مَا هُوَ حَقٌّ لَهُمْ، وَحَقُّهُمْ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ، وَهُوَ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ إلَى مَصَالِحِهِمْ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ. وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاللَّقِيطُ سَوَاءٌ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْعُمُومَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَوَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَلِيٌّ فَالْإِمَامُ وَلِيُّهُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّلْطَانَ هُوَ الْوَلِيُّ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، وَالْمُرَادُ سُلْطَانُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]، وَهَذَا يَتَّضِحُ فِي الَّذِي أَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ فِي اللَّقِيطِ لِأَنَّ مَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَلِأَنَّ وَلِيَّهُ لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الِاسْتِيفَاءِ نَابَ الْإِمَامُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَا شُبْهَةُ عَفْوٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلِيَّ غَيْرُ مَعْلُومٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ الْعَفْوُ مِنْهُ، وَحَدِيثُ الْهُرْمُزَانِ حُجَّةٌ لَهُمَا أَيْضًا فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَّا قَتَلَهُ بِتُهْمَةِ دَمِ أَبِيهِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - طَلَبَ مِنْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ فَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَقْتُلَهُ الْيَوْمَ، وَإِنَّ الْهُرْمُزَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ، وَأُؤَدِّي الدِّيَةَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ ثُمَّ الْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] الْآيَةَ، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ حَتَّى ضُرَّ إذَا تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ غَيْرَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَيَكُونُ حَيَاةً لَهُمَا جَمِيعًا وَلِهَذَا قِيلَ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي اللَّقِيطِ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ كَتَحَقُّقِهِ فِي غَيْرِهِمَا فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ وَلَهُ أَنْ يَمِيلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى الْمُطَالَبَةِ بِالدِّيَةِ وَلِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ اسْتِيفَاءُ الدِّيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّهُ نُصِّبَ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا لِإِبْطَالِهِ. [قَاذِفُ اللَّقِيطِ] وَيُحَدُّ قَاذِفُ اللَّقِيطِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي أُمِّهِ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ عَفِيفٌ عَنْ الزِّنَا أَوَّلًا مُعْتَبَرٌ بِالنَّسَبِ فِي إحْصَانِ الْقَذْفِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا أُمُّهُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ بَلْ هِيَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ لِأَنَّ لَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي أُمِّهِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 وَالْقِصَاصِ اللَّقِيطُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْرَارِ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ إذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لَهُ فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَمَا أَدْرَكَ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ، وَادَّعَاهُ فُلَانٌ كَانَ عَبْدًا لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِي قَبُولِ إقْرَارِهِ إبْطَالُ حَقٍّ ثَابِتٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الرِّقِّ مُحْتَمِلًا وَلَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ حُرِّيَّتُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِمَا لَا يَقْضِي بِهِ إلَّا عَلَى الْحُرِّ كَالْحَدِّ الْكَامِلِ، وَالْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَتْ حُرِّيَّتُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شَرْعًا وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ حُرًّا فَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ أَوْلَى، وَمَتَى ثَبَتَ الرِّقُّ بِإِقْرَارِهِ فَأَحْكَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَالْحُدُودِ كَأَحْكَامِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالرَّقِّ. وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ، وَادَّعَى ذَلِكَ الرَّجُلُ كَانَتْ أَمَةً لَهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِرِقِّهَا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا ابْنَةُ أَبِي زَوْجِهَا، وَصَدَّقَهَا الْأَبُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ لِتَحَقُّقِ الْمُنَافِي فَإِنَّ الْأُخْتِيَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلَوْ أَعْتَقَهَا الْمُقَرُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ أَيْضًا لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالرِّقِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَلِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالرِّقِّ ثُمَّ يُعْتِقَهَا فَتَخْتَارَ نَفْسَهَا لِتَخْلُصَ مِنْ الزَّوْجِ فَلِهَذَا لَا تُصَدَّقُ فِي حَقِّهِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لَحِقَ الزَّوْجَ فِيهِ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَفِي كُلِّ مَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ تَكُونُ مُصَدَّقَةً فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَ طَلَاقُهَا اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَإِمْسَاكِهَا بِحُكْمِ التَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا طَلَاقَهَا اثْنَتَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا لَحِقَ الزَّوْجَ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا نُصَدِّقُهَا فِي ذَلِكَ، وَكَذَا حُكْمُ الْعِدَّةِ إنْ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَإِنْ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَةٍ فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَبَتَ فِي حَقِّهَا بِإِقْرَارِهَا، وَالْمَمْلُوكَةُ لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً فَلَا يَجِبُ بِقَذْفِهَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ وَلَوْ كَانَتْ دَبَّرَتْ عَبْدًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 أَوْ أَمَةً ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِهِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْتَحَقَّ حَقَّ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ. وَلَوْ اسْتَحَقَّ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ بِأَنْ أَعْتَقَتْهُ لَمْ تَصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِهِ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ فَإِذَا مَاتَتْ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهَا، وَسَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهَا لِأَنَّ السِّعَايَةَ حَقُّهَا، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّ كَسْبَهَا لِمَوْلَاهَا، وَإِقْرَارُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ. وَلَوْ أَنَّ مَوْلَاهَا أَعْتَقَهَا كَانَ الْمُدَبَّرُ عَلَى حَالِهِ غَيْرَ أَنَّ خِدْمَتَهُ لِلْمَوْلَى، وَسِعَايَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَهُ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِقْرَارُهَا بِذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا ثُمَّ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ كَسْبِهَا الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلِهَذَا كَانَتْ خِدْمَةُ مُدَبَّرِهَا، وَسِعَايَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لِمَوْلَاهَا. وَإِذَا أَدْرَكَ اللَّقِيطُ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلِامْرَأَتِهِ عَلَيْهِ صَدَاقٌ فَصَدَاقُهَا لَازِمٌ لَهُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ سَبَبِهِ فَكَانَ هُوَ مُتَّهَمًا فِي قَرَارِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا أَوْ بَاعَ إنْسَانًا أَوْ كَفَلَ بِكَفَالَةٍ أَوْ وَهَبَ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، وَسَلَّمَهَا أَوْ كَاتَبَ عَبْدًا أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ لَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَوُجُودُ إقْرَارِهِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 [كِتَابُ اللَّقِيطَةِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ السَّرَخْسِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَالْمُتَفَلْسِفَة يَقُولُونَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا، فَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ كَانَ يَقُولُ: يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا بَعْدَ مَا يَرْفَعُهَا فَكَانَ فِي رَفْعِهَا مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْفِتْنَةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَفْعَهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تَصِلَ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ فَيَكْتُمَهَا عَنْ مَالِكِهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا هُوَ عَرَّفَهَا حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى مَالِكِهَا، وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْأَمَانَةَ فِي رَفْعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُهَا وَيُعَرِّفُهَا، وَالْتِزَامُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ يُفْرَضُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَى أَدَاءِ مَا يَلْتَزِمُهُ مِنْ الْأَمَانَةِ، فَإِنَّهُ يَمْتَثِلُ فِيهِ الْأَمْرَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ مَا يَجِدُهُ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا يَعْلَمُ أَنَّ مَالِكَهُ لَا يَطْلُبُهُ كَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَالنَّوَى. (وَالثَّانِي) مَا يَعْلَمُ أَنَّ مَالِكَهُ يَطْلُبُهُ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا وَجَدَهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا جَمَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْوَاحِدِ وَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، وَمِلْكُ الْمُبِيحِ لَا يَزُولُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَكِنْ لِلْمُبَاحِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَإِذَا وَجَدَهُ فِي يَدِهِ فَقَدْ وَجَدَ عَيْنَ مِلْكِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَالِكَ مَا أَلْقَاهُ بَعْدَ مَا جَمَعَهُ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَنْ أَلْقَى شَاةً مَيِّتَةً لَهُ فَجَاءَ آخَرُ وَجَزَّ صُوفَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ سَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْجِلْدَ مِنْهُ بَعْدَ مَا يُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ بِالْإِلْقَاءِ، وَالصُّوفُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالِ شَيْءٍ آخَرَ بِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَجَّانًا، فَأَمَّا الْجِلْدُ لَا يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا إلَّا بِالدِّبَاغِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ. فَأَمَّا (النَّوْعُ الثَّانِي) وَهُوَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُهُ فَمَنْ يَرْفَعُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيُعَرِّفَهُ لِيُوَصِّلَهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَبَدَأَ الْكِتَابُ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي اللُّقَطَةِ: يُعَرِّفُهَا حَوْلًا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْفَذَ الصَّدَقَةَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ، وَمَا ذُكِرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ التَّابِعِينَ، وَكَانَ يَقُولُ هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ، وَلَكِنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ إبْرَاهِيمَ فِيمَا كَانَ يُفْتَى بِهِ يَعْتَمِدُ قَوْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّ فِقْهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ دَارَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِقَوْلِهِمَا فَمَا صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمَنْقُولِ عَنْهُمَا، فَلِهَذَا حَشَا الْكِتَابَ مِنْ أَقَاوِيلِ إبْرَاهِيمَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَرِّفَ اللُّقَطَةَ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْحَوْلِ لَيْسَ بِعَامٍّ لَازِمٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُعَرِّفُهَا مُدَّةً يَتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ حَتَّى قَالُوا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا: يُعَرِّفُهَا حَوْلًا؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ خَطِيرٌ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَيُتَمَلَّكُ بِهِ مَا لَهُ خَطَرٌ، وَالتَّعْرِيفُ لِإِيلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ الْكَامِلُ لِذَلِكَ حَسَنٌ قَالَ الْقَائِلُ: إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إلَى ثَلَاثَةٍ يُعَرِّفُهَا شَهْرًا، وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ إلَى الدِّرْهَمِ يُعَرِّفُهَا جُمُعَةً، وَفِي دُونِ الدِّرْهَمِ يُعَرَّفُ يَوْمًا، وَفِي فَلْسٍ أَوْ نَحْوِهِ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَة ثُمَّ يَضَعْهُ فِي كَفِّ فَقِيرٍ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ مُدَّةِ طَلَبِهِ حَقِيقَةً فَيُبْنَى عَلَى غَالِبِ رَأْيِهِ، وَيُعَرِّفُ الْقَلِيلَ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ تَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا عَلَى مَالِكِهَا، وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ عَيْنِهَا إلَيْهِ إنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا فَبِاتِّصَالِ ثَوَابِهَا إلَيْهِ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ التَّصَدُّقُ بِهَا. فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الصَّدَقَةَ فَيَكُونُ ثَوَابُهَا لَهُ وَإِجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَضْمَنُهَا لَهُ، وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ قُلْنَا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 الشَّرْعُ أَبَاحَ لَهُ التَّصَدُّقَ بِهَا وَمَا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِذْنِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ عَنْهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ لِلْغَيْرِ، كَالْإِذْنِ فِي الرَّمْي إلَى الصَّيْدِ، وَالْإِذْنِ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَحَقُّ صَاحِبِ هَذَا الْمَالِ مَرْعِيٌّ مُحْتَرَمٌ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ هَذَا الْعَيْنِ بِهَذَا الْإِذْنِ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إنْ شَاءَ، وَالْإِذْنُ هُنَا دُونَ الْإِذْنِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فِي تَنَاوَلْ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَذَهَبَ صَاحِبُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَخَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالثَّمَنِ فِي صُرَّةٍ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ بِهَا وَيَقُولُ لِصَاحِبِهَا، فَإِنْ أَبَى فَلَنَا وَعَلَيْنَا الثَّمَنُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَكَذَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا بَعْد التَّعْرِيفِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهَا لِصَاحِبِهَا إنْ أَجَازَ، وَإِنْ أَبَى فَلَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ، وَلَيْسَ مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ هَذَا أَنَّ حُكْمَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّقَطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالثَّمَنُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ خَالِصُ مِلْكِهِ، فَأَمَّا عَيْنُ اللُّقَطَةِ فَمَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا وَالْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ فِيهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى اللُّقَطَةِ، وَلَا يُقَالُ: لَعَلَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا بِمَالٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ تَعَيَّنَتْ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كَاللُّقَطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّهُ بِالتَّصَدُّقِ مَا قَصَدَ إسْقَاطَ الثَّمَنِ عَنْ نَفْسِهِ بَلْ قَصَدَ إظْهَارَ الْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاتِّصَالَ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا إنْ رَضِيَ بِصَنِيعِهِ وَإِلَّا فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أُسَيْدٍ قَالَ: وَجَدْتُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْحِرَّةِ وَأَنَا مُكَاتَبٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: اعْمَلْ بِهَا وَعَرِّفْهَا فَعَمِلْتُ بِهَا حَتَّى أَدَّيْتُ مُكَاتَبَتِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: ادْفَعْهَا إلَى خَزَّانِ بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْإِقْرَاضِ فِي اللُّقَطَةِ وَالدَّفْعِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْمَلْ بِهَا وَعَرِّفْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ الْإِقْرَاضِ مُضَارَبَةً، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُضَارَبَةَ حَتَّى لَمْ يَتَبَيَّنْ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَكَانَ مُرَادُهُ الْإِقْرَاضُ مِنْهُ، وَفِي هَذَا مَعْنَى النَّظَرِ لِصَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْهَلَاكِ فَيَهْلَكُ مِنْ صَاحِبِهِ قَبْلَ الْإِقْرَاضِ وَبَعْدَ الْإِقْرَاضِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ يُؤْمَنُ فِيهِ الْتَوَى بِالْهَلَاكِ، وَكَذَلِكَ بِالْجُحُودِ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِعِلْمِ الْقَاضِي؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِقْرَاضِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَرُبَمَا يَكُونُ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُكَاتَبَ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْعَمَلِ فِيهَا فَيُؤَدِّي مُكَاتَبَتَهُ مِنْ رِبْحِهَا فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْبِضَ اللُّقَطَةَ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إلَى خَزَّانِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بَيْتُ مَالِ الصَّدَقَةِ لِيَضَعَهَا مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ سَلْمَانِ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَوَجَدْنَا سَوْطًا فَاحْتَمَاهُ الْقَوْمُ وَكَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ، وَكُنْتُ أَحْوَجَهُمْ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَحَدَّثَنِي بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي وَجَدَهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَجَدْتُ مِائَةَ دِينَارٍ «فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ: اعْرِفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا، فَإِنَّهَا رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْكَ». وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَدْنَا سَوْطًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُكْسَرُ مِنْ السِّيَاطِ وَيُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَلْقَاهُ فَتَرَكَهُ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ وَأَخَذَهُ سُوَيْدُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ يُبَاحُ أَخْذُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَنْ شَاءَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ سَوْطًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاحْتَمَاهُ الْقَوْمُ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ: تَرْكُ اللُّقَطَةِ أَوْلَى مِنْ رَفْعِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَإِذَا تَرَكَهُ وَاحِدٌ يَتْرُكُهُ الْآخَرُ أَيْضًا أَوْ يَأْخُذُهُ لِيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ غَلَبَ أَهْلُ الشَّرِّ إذَا تَرَكَ الْأَمِينُ يَأْخُذُ الْخَائِنُ فَيَكْتُمُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ مُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ صَوَابًا، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلِيلٌ لِمَا قُلْنَا أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ فِي التَّعْرِيفِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنَّهُ يُعَرِّفُهَا بِحَسَبِ مَا يَطْلُبُهَا صَاحِبُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِائَةَ دِينَارٍ لَمَّا كَانَتْ مَالًا عَظِيمًا كَيْفَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُعَرِّفَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ ذَلِكَ لِأُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 وَهُوَ كَانَ غَنِيًّا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى غِنَاهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْلِطْهَا بِمَالِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ لِدُيُونٍ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ وَخَلْطِهَا بِمَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِحَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَجَعَلَهُ أَحَقَّ بِهِ لِهَذَا. وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَالَ: «رِزْقٌ سَاقَهُ إلَيْكَ اللَّهُ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْرِفَ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا احْتِيَاطًا، حَتَّى إذَا جَاءَ طَالِبٌ لَهَا مُحْتَرَمٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ مِمَّا عَلَيْهِ يَدْفَعُ مِثْلَهَا إلَيْهِ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صُبَاحٍ قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ لُقَطَةً أَيَّامَ الْحَاجِّ فَسَأَلَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: عَرِّفْهَا فِي الْمَوْسِمِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الثَّمَنِ يَعْنِي الْقِيمَةَ، فَإِنْ اخْتَارَ الثَّمَنَ فَادْفَعْ إلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَجْرَ، فَلَهُ الْأَجْرُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ، وَأَنْ يُعَرِّفَهَا فِي مَجْمَعِ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَذَلِكَ بِالتَّعْرِيفِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَيَصِلُ الْخَبَرُ إلَى صَاحِبِهَا، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: وَجَدْتُ لُقَطَةً حِينَ أَنْفَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّاسَ إلَى صِفِّينَ فَعَرَّفْتُهَا تَعْرِيفًا ضَعِيفًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِي: إنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا خُذْ مِثْلَهَا فَاذْهَبْ حَيْثُ وَجَدْتَهَا، فَإِنْ وَجَدْتَ صَاحِبَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَتَصَدَّقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَخَيِّرْهُ إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَكَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَعَرَّفْتُهَا تَعْرِيفًا ضَعِيفًا أَيْ عَرَّفْتُهَا سِرًّا وَمَا أَظْهَرْتُ تَعْرِيفَهَا فِي مَجْمَعِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ تَبْقَى لَهُ، وَعَرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ مَا قَالَ إنَّكَ سَلِيمُ الْقَلْبِ تَطْمَعُ فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَهَذَا مِنْ دُعَابَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ كَانَ بِهِ دُعَابَةٌ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ذَكَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْخِلَافَةِ، أَمَا إنَّهُ إنْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضَاءَ لَوْلَا دُعَابَةٌ بِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّعْرِيفَ سِرًّا لَا يَكْفِي بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُظْهِرَ التَّعْرِيفَ كَمَا أَمَرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرَّجُلَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ وَجَدَ لُقَطَةً وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَا بُدَّ مِنْ تَعَرُّفِهَا، وَلَوْ عَرَّفْتُهَا فِي الْمِصْرِ رُبَّمَا يَظْهَرُ صَاحِبُهَا فَخَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ حَتَّى انْتَهَى إلَى رَأْسِ بِئْرٍ فَدَلَّى رَأْسَهُ فِي الْبِئْرِ وَجَعَلَ يَقُولُ: وَجَدْت كَذَا، فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ذَلِكَ فَدَلُّوهُ عَلَيَّ، وَبِجَنْبِ الْبِئْرَ رَجُلٌ يَرْقَعُ شَمْلَةً وَكَانَ صَاحِبَ اللُّقَطَةِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 أَخَذَهَا مِنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مَا الْتَزَمَهُ شَرْعًا، وَهُوَ إظْهَارُ التَّعْرِيفِ، وَبَعْدَ إظْهَارِ التَّعْرِيفِ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا إلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْرِيفِ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ هُوَ الْعَزِيمَةُ وَالتَّصَدُّقُ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا رُخْصَةٌ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الصَّدَقَةَ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُهَا وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الضَّمَانَ، وَإِذَا اخْتَارَ الضَّمَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُلْتَقِطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ مُكْتَسِبٌ سَبَبَ الضَّمَانِ الْمُلْتَقِطُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْمِسْكِينُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْلِيكِ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، أَمَّا الْمِسْكِينُ فَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَهُ ثَوَابُهَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمِسْكِينِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَاتِّصَالِ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا. فَكَانَ لَهُ صَرْفُهَا إلَى نَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ إلَى نَفْسِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَاشْتَرَى بِهِ طَعَامًا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَلَوْ كَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُلْتَقِطِ صَرْفُهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ لَمَّا أَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ، وَمَا يَثْبُتُ لَهُ بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، كَالْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ وَلِصَاحِبِهَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إلَى مَنْفَعَتِهِ بِبَدَلٍ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ، فَكَانَ مَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذَا أَظْهَرَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا بَلْ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ فِي الْأَخْذِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِنَفْسِهِ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 فِي الِانْتِهَاءِ يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إظْهَارِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ حَدِيثِ أُبَيٍّ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قِيلَ: مَا وَجَدَهُ لَمْ يَكُنْ لُقَطَةً، وَإِنَّمَا أَلْقَاهَا مَلَكٌ لِيَأْخُذَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانُوا لَمْ يُصِيبُوا طَعَامًا أَيَّامًا وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، فَلِهَذَا تَنَاوَلُوا مِنْهُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلِهَذَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشِّرَاءَ بِهَا لِحَاجَتِهِ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ اللُّقَطَةَ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَسَمَّى وَزْنَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَصَابَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي فِي يَدِهِ دَفَعَهَا إلَيْهِ. وَإِنْ شَاءَ أَبَى حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ الْعَلَامَاتِ فَالْوَهْمُ الَّذِي سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ صَاحِبُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالظَّاهِرِ يَثْبُتُ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ كَمَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَثْبُتُ وَالْمُلْتَقِطُ غَيْرُ مُنَازِعٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ مَا أَشْهَدَ أَحَدًا عِنْدَ سُقُوطِهَا مِنْهُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا سَقَطَتْ مِنْهُ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِلتَّعَذُّرِ وَتُقَامُ الْعَلَامَةُ مَقَامَ ذَلِكَ كَمَا يُقَامُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إصَابَةُ الْعَلَامَةِ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جُزَافًا، وَقَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَسْمَعُ مِنْ مَالِكِهِ يَنْشُدُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ عَلَامَاتِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ. ثُمَّ الْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ وَيَصِيرُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ ضَامِنًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الضَّمَانِ بِأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِحُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَخَذَ مِنْهُ بِهَا كَفِيلًا نَظَرًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَلَعَلَّهُ يَأْتِي مُسْتَحِقُّهَا فَيُضَمِّنَهَا إيَّاهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُخْفِي شَخْصَهُ فَيَحْتَاطُ فِيهَا بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُلْتَقِطَ، أَمَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعَارَضُ بَيِّنَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً فَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ دَفَعَ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ بِدَفْعِهِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ رَجَعَ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ بِإِصَابَتِهِ الْعَلَامَةَ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ، وَالْمُقِرُّ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا فِي إقْرَارِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي وَكِيلِ الْمُودِعِ إذَا جَاءَ إلَى الْمُودَعِ وَقَالَ: أَنَا وَكِيلُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 فِي اسْتِرْدَادِ الْوَدِيعَةِ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بِخِلَافِ وَكِيلِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ، فَأَمَّا الْمُودِعُ يُقِرُّ لَهُ بِحَقِّ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، فَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي اللُّقَطَةِ كَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: هُنَاكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ ظَاهِرٌ فِي الْوَدِيعَةِ وَهُنَا لَيْسَ فِي اللُّقَطَةِ مِلْكٌ ظَاهِرٌ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إقْرَارُ الْمُلْتَقِطِ مُلْزِمًا إيَّاهُ الدَّفْعَ إلَيْهِ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمَّنَ الْمُودَعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ، وَهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودَعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ؛ لِهَذَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُودِعُ مُنْكِرٌ الْوَكَالَةَ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْمُودَعِ بِالضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَكَالَةِ، فَلَا يَصِيرُ الْمُودَعُ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا، وَهُنَا إنَّمَا يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَيَصِيرُ هُوَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا، فَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ مِمَّا لَا يَبْقَى إذَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ عَرَّفَهَا حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُهَا إلَى صَاحِبِهَا، فَتُقَيَّدُ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ بِالْوَقْتِ الَّذِي لَا يَفْسُدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَسَادِ لَا فَائِدَةَ لِصَاحِبِهَا فِي إيصَالِهَا إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِهَا طَرِيقٌ لِحِفْظِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ فَيَصِيرُ إلَى ذَلِكَ إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدُ الْعَيْنُ، وَإِذَا وَجَدَ شَاةً أَوْ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ حِمَارًا فَحَبَسَهُ، وَعَرَّفَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَأَمَّا أَمْرُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ صَاحِبِهَا لِمَا لِلْقَاضِي عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ وِلَايَةِ النَّظَرِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْحَيَوَانِ بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً، فَإِنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ بَعْدَهَا فِي اللَّقِيطِ. ثُمَّ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرًا مِنْهُ لِصَاحِبِهَا، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا فِي مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ رُبَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 قِيمَتِهَا، فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَظَرٌ لِصَاحِبِهَا، فَأَمَّا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ تَقِلُّ النَّفَقَةُ، وَمَعْنَى النَّظَرِ لِحِفْظِ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا بَاعَ الشَّاةَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ حِفْظُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ حِفْظُ الْعَيْنِ لِعَوَزِ النَّفَقَةِ صَارَ إلَى حِفْظِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، وَأَمَّا الْغُلَامُ وَالدَّابَّةُ فَنُؤَاجِرُهُ وَنُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُتَوَصَّلُ إلَى حِفْظِ عَيْنِ مِلْكِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَبْقَى لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِجَارَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِمَحْضِ نَظَرٍ لَهُ، فَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَاهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا، وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَى لَهُ بِهَا الْقَاضِي، وَقَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ: لَا أَدْفَعُهَا إلَيْكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي النَّفَقَةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّابَّةِ حَيٌّ، وَبَقِيَ تَمَلُّكُ النَّفَقَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَالِيَّةِ الدَّابَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَحْبِسُهَا كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ هَلْ يَأْمُرُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضَمَانِهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَالِكِهَا بِالْأَمْرِ لِمَا قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فِيهِ. وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لُقَطَةً أَوْ وَجَدَ دَابَّةً ضَالَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا حُرًّا ضَالًّا فَرَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جُعْلٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فِي الرَّدِّ، وَوُجُوبِ الْجُعْلِ لِرَدِّ الْآبِقِ حُكْمٌ ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالضَّالُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآبِقِ فَالْآبِقُ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ مِنْ الْمَوْلَى حَتَّى يَفُوتَهُ، وَالضَّالُّ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ عَوَّضَهُ صَاحِبُهُ شَيْئًا فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي إحْيَاءِ مِلْكِهِ وَرَدِّهِ عَلَيْهِ، وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ، وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَزَالَتْ إلَيْهِ نِعْمَةٌ فَلْيَشْكُرْهَا» وَذَلِكَ بِالتَّعْوِيضِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ بَعِيرًا ضَالًّا أَخَذَهُ يُعَرِّفُهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ يَضِيعُ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْكُهُ أَوْلَى لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» فَلَمَّا «سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ غَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: مَالَكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَيْ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ الْغَلَبَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لَا تَصِلُ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ إذَا تَرَكَهَا وَاجِدُهَا، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا لَا يَأْمَنُ وَاجِدُهَا وُصُولَ يَدٍ خَائِنَةٍ إلَيْهَا بَعْدَهُ فَفِي أَخْذِهَا إحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كَمَا قَرَّرْنَا فِي سَائِرِ اللُّقَطَاتِ، وَإِذَا بَاعَ اللُّقَطَةَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ إلَّا الثَّمَنُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْقَاضِي بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ نَفَذَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ كَبَيْعٍ يَنْفُذُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ. وَإِنْ كَانَ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِحُصُولِهِ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، ثُمَّ إنْ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَاللُّقَطَةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ، وَبَيْنَ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا حِينَ بَاعَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَتْ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ الْقِيمَةَ لِوُجُودِ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ مِلْكَهُ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ فَإِنْ قِيلَ: الضَّمَانُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالتَّسْلِيمِ، وَالْبَيْعُ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ كَيْف يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ.؟ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ بَلْ كَمَا رَفَعَهُ لِيَبِعْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي صَارَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ يَبِيعُ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا رَفَعَهَا إلَى الْبَيْعِ صَارَ ضَامِنًا فَيَسْتَنِدُ مِلْكُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّمْلِيكِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي حَالَةِ بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا فِي يَدِهِ، وَقَدْ قَبَضَ الْمُلْتَقِطُ الثَّمَنَ، وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ لِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْمُلْتَقِطُ أَمِينًا فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِذَا أَخَذَ عَبْدًا فَجَاءَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَقَالَ: هَذَا عَبْدٌ آبِقٌ فَقَدْ وَجَبَ لِي الْجُعْلُ عَلَيْكَ، وَقَالَ مَوْلَى الْعَبْدِ: بَلْ هُوَ الضَّالُّ. أَوْ قَالَ: أَنَا أَرْسَلْتُهُ فِي حَاجَةٍ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الرَّادَّ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ الْجُعْلَ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ مِلْكَهُ تَغَيَّبَ بِالْإِبَاقِ، وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِذَا هَلَكَتْ اللُّقَطَةُ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ حِينَ أَخَذَهَا قَالَ: أَخَذْتُهَا لِأَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ فَلَا ضَمَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي أَخْذِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ شَرْعًا، فَكَانَ هَذَا الْأَخْذُ نَظِيرَ الْأَخْذِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا الْأَخْذِ فَيَكُونُ ضَامِنًا كَالْغَاصِبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» أَيْ ضَمَانُ مَا أَخَذَ، وَالْآخِذُ مُطْلَقًا مَنْ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَدَ عِنْدَ الِالْتِقَاطِ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلرَّدِّ وَيَدَّعِي صَاحِبُهَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهَا وَالْمُلْتَقِطُ ضَامِنٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا» وَاَلَّذِي يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا الْأَخْذُ لِلرَّدِّ لَا لِنَفْسِهِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ. (وَالثَّانِي) أَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ، وَهُمَا يَقُولَانِ كُلُّ حُرٍّ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ الْإِشْهَادُ هُنَا، فَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ آخِذًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، هَذَا إذَا وَجَدَهَا فِي مَوْضِعٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِشْهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِشْهَادِ لِعَدَمِ مَنْ يَشْهَدُ أَوْ لِخَوْفِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ذَلِكَ ظَالِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ شَرْعًا، وَالْإِذْنُ شَرْعًا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَالْإِظْهَارِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْمُسْقِطِ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ الضَّمَانِ، كَمَنْ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ صَاحِبَهُ أَوْدَعَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ الْتَقَطْتُ لُقَطَةً أَوْ ضَالَّةً أَوْ قَالَ: عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ، فَلِمَا جَاءَ صَاحِبُهَا قَالَ: قَدْ هَلَكَتْ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهَا بِمَا قَالَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهَا لِلرَّدِّ فَكَانَ أَمِينًا فِيهَا، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يُسَمِّيَ جِنْسَهَا وَلَا صِفَتَهَا فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ الْحِفْظِ عَلَى الْمَالِكِ كَيْ لَا يَسْمَعَ إنْسَانٌ ذَلِكَ مِنْهُ فَيَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ وَيُخَاصِمَهُ إلَى قَاضٍ يَرَى الِاسْتِحْقَاقَ لِمُصِيبِ الْعَلَامَةِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، وَمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ الْحِفْظِ عَلَى الْمَالِكِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ لُقَطَتَيْنِ فَقَالَ: مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: عِنْدِي لُقَطَتَانِ ثُمَّ هَلَكَتَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهُمَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ، فَاللُّقَطَةُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَالَ: عِنْدِي لُقَطَةٌ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتِمُّ مِنْهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ لُقَطَةً لِيُعَرِّفَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا وَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا صَاحِبُهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا رَجُلٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا لِلتَّعْرِيفِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَدُّهَا إلَى مَكَانِهَا؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِفِعْلِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى مَالِكِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ إلَى صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ لَا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْحِفْظِ، فَقَدْ يَأْخُذُهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا لَهُ بِأَنْ كَانَ سَقَطَ مِنْهُ مِثْلُهَا، فَإِذَا تَأَمَّلَهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا، وَقَدْ يَأْخُذُهَا لِيَعْرِفَ صِفَتَهَا حَتَّى إذَا سَمِعَ إنْسَانًا يَطْلُبُهَا دَلَّهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا عَلَى الْمَالِكِ وَهُوَ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِذَا أَحَسَّ بِنَفْسِهِ عَجْزًا أَوْ طَمَعًا فِي ذَلِكَ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا إنْ هَلَكَتْ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا غَيْرُهُ فَلِصَاحِبِهَا الْخِيَارُ يُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا لِنَفْسِهِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ مَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَالْغَاصِبِ، وَإِعَادَتُهَا إلَى مَكَانِهَا لَيْسَ بِرَدٍّ عَلَى الْمَالِكِ، فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ نَسَخَ فِعْلَهُ بِمَا صَنَعَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَكَرَهَا فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ قَالَ: إذَا كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا، وَتَرَكَهَا فِي مَكَانِهَا فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَعَ الْخَاتِمَ مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ بَعْدَ مَا انْتَبَهَ ثُمَّ نَامَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهِ، وَلَوْ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ بَرِئَ بِالِاتِّفَاقِ فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَّى بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَسَخَ فِعْلَهُ حِينَ أَعَادَهُ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَخَذَهُ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَمَّا انْتَبَهَ صَاحِبُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فِي حَالَةِ الِانْتِبَاهِ، فَلَا يَكُونُ نَوْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ ثُمَّ نَزَعَهُ وَأَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، هَذَا إذَا لَبِسَهُ كَمَا يَلْبَسُ ذَلِكَ الثَّوْبَ عَادَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَمِيصًا فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ فَلَا يَصِيرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 بِهِ ضَامِنًا، وَكَذَلِكَ الْخَاتِمُ إنْ لَبِسَهُ فِي الْخِنْصَرِ فَهُوَ اسْتِعْمَالٌ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا الْيَدُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَلْبَسُونَ الْخَاتِمَ فِي الْخِنْصَرِ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى لِلتَّزَيُّنِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَإِنْ لَبِسَهُ فِي أُصْبُعٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا الْحِفْظُ دُونَ التَّزَيُّنِ بِهِ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ لَبِسَهُ عَلَى خَاتِمٍ فِي خِنْصَرِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِفْظُ دُونَ التَّزَيُّنِ بِهِ قَالَ هِشَامٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقُلْتُ: لَهُ مِنْ السَّلَاطِينِ مَنْ يَتَخَتَّمُ بِخَاتِمَيْنِ لِلتَّزَيُّنِ فَقَالَ: يَكُونُ أَحَدُهُمَا لِلْخَتْمِ لَا لِتَزَيُّنٍ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى أَتَأَمَّلَ فِي هَذَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ يَلْبَسُ خَاتِمَيْنِ لِلتَّزَيُّنِ فَهَذَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا مِنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ حِفْظٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَيْفًا فَتَقَلَّدَ بِهِ فَهَذَا اسْتِعْمَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يَتَقَلَّدُ بِسَيْفَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَلِّدًا بِسَيْفَيْنِ فَحِينَئِذٍ تَقَلُّدُهُ بِهَذِهِ اللُّقَطَةِ يَكُونُ حِفْظًا وَلَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ إذَا رَدَّ الدَّابَّةَ إلَى دَارِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ لَهَا، فَإِذَا رَدَّهَا إلَى دَارِ صَاحِبِهَا فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي الرَّدِّ، فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا، فَأَمَّا الْغَاصِبُ ضَامِنٌ لَهَا فَحَاجَتُهُ إلَى رَدٍّ مُسْقِطٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدْفَعْهَا إلَى صَاحِبِهَا. رَجُلٌ جَاءَ إلَى دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ لِرَجُلٍ فَحَلَّهَا وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ الدَّابَّةُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي حَلَّهَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ فَتَحَ بَابَ الْقَفَصِ فَطَارَ الطَّيْرُ أَوْ فَتْحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ فَفَرَّتْ الدَّابَّةُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الَّذِي حَلَّ الرِّبَاطَ أَوْ فَتَحَ الْبَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مُزِيلٌ لِلْمَانِعِ مُوجِدٌ شَرْطَ الذَّهَابِ، إلَّا أَنَّ مَا هُوَ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ هُنَا وَهُوَ فِعْلُ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، وَفِي مِثْلِهِ يُحَالُ الْإِتْلَافُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ أَوْجَدَ شَرْطَ السُّقُوطِ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ عَنْ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ ثِقَلُ الْمَاشِي فِي نَفْسِهِ وَمَشْيِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ مُضَافًا إلَى الْحَافِرِ حَتَّى يَكُونَ ضَامِنًا، وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فَسَالَ مِنْهُ مَائِعٌ كَانَ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَعَمَلُهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ فَقَطْ، فَأَمَّا عِلَّةُ السَّيَلَانِ كَوْنُهُ مَائِعًا، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى مَا هُوَ الْعِلَّةُ كَانَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَ حَبْلَ قِنْدِيلٍ فَسَقَطَ فَعَمَلُ الْقَاطِعِ فِي إزَالَةِ الْمَانِعِ فَكَانَ ضَامِنًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: عَمَلُهُ فِي اتِّحَادِ الشَّرْطِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُعْتَبَرٌ حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَيُحَالُ بِالتَّلَفِ عَلَى هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 الْفِعْلِ الْمُعْتَبَرِ، قَوْلُهُ بِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدَرٌ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ فِي سَيْرِ إرْسَالِهِ مَالًا أَوْ نَفْسًا كَانَ الْمُرْسِلُ ضَامِنًا، وَلَوْ تَيَامَنَتْ أَوْ تَيَاسَرَتْ ثُمَّ أَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ الْمُرْسِلُ، وَاعْتُبِرَ فِعْلُهَا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْمُرْسَلِ بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهَا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الَّذِي حَلَّهَا أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ، وَأَلْقَى فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا، وَفِعْلُ الْحَرْبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْحَافِرِ بِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الزِّقِّ وَالْحَبْلِ، فَإِنَّهُ مَا طَرَأَ عَلَى فِعْلِهِ مَا يَنْسَخُهُ حَتَّى إذَا كَانَ مَا فِي الزِّقِّ جَامِدًا، ثُمَّ ذَابَ بِالشَّمْسِ فَسَالَ لَمْ يَضْمَنْ الشَّاقُّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ بِأَنَّ عَمَلَهُ فِي اتِّحَادِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ لَا يَسْبِقُهَا قُلْنَا: هَذَا شَرْطٌ فِي مَعْنَى السَّبَبِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، إلَّا أَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ، وَالشَّرْطَ يَتَأَخَّرُ، فَهَذَا التَّقَدُّمُ فِي مَعْنَى السَّبَبِ، وَلِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمَانِعِ هُوَ شَرْطٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ آبِقٍ فَذَهَبَ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِمَا قُلْنَا، قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنُونًا فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الذَّهَابِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فَيَبْقَى الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِحَلِّ الْقَيْدِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَجْنُونُ مُقَيَّدًا فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ فَحَلَّ إنْسَانٌ قَيْدَهُ وَفَتَحَ آخَرُ الْبَابَ فَذَهَبَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْفَاتِحِ؛ لِأَنَّ حَلَّ الْقَيْدِ لَمْ يَكُنْ إزَالَةً لِلْمَانِعِ قَبْلَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِتْمَامِ ذَلِكَ بِالْفَاتِحِ لِلْبَابِ فَهُوَ الضَّامِنُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إنْ ذَهَبَ فِي فَوْرِ فَتْحِ الْبَابِ أَوْ حَلِّ الرِّبَاطِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْهَبْ فِي فَوْرِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَابَ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا لَهُ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِقَصْدٍ حَدَثَ لَهُ، وَقَصْدُ الدَّابَّةِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ، وَإِذَا ذَهَبَ فِي فَوْرِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَابَ كَانَ مَانِعًا، وَمَنْ أَزَالَ هَذَا الْمَانِعَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ ضَامِنًا، وَإِذَا كَانَتْ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَوَصَفَهَا فَأَبَى الَّذِي فِي يَدِهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا مِلْكُ الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ يُقْضَى لَهُ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، وَالْمُلْتَقِطُ كَافِرٌ. وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ، ثُمَّ كَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِمُسْلِمٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِكَافِرٍ فَتَقَابَلَ الْمَوْهُومَاتُ مَعَ أَنَّ الْمَوْهُومَ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدَيْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْقِيَاسِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ عَلَى الْكَافِرِ مِنْهُمَا فَيَقْضِي لَهُ بِمَا فِي يَدِ الْكَافِرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ بِلُقَطَةٍ لِرَجُلٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَتْ بِهَا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالْإِقْرَارَ لَيْسَ بِحَجَّةٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَالضَّعِيفَ لَا يُعَارِضُ الْقَوِيَّ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا أَوَّلًا، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ إنْ شَاءَ الدَّافِعَ، وَإِنْ شَاءَ الْقَابِضَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ بِالْحُجَّةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الدَّافِعَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْقَابِضَ أَخَذَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ شَيْئًا، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَابِضَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الدَّافِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَابِضَ إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَقَدْ قَالَ مَرَّةً فِي آخَرِ هَذَا الْكِتَابِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ، وَحَيْثُ قَالَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمَا قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ إذَا قَالَ: هَذَا الْعَيْنُ فِي يَدِي لِفُلَانٍ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ضَمِنَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ سَلَّطَ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّ إنْسَانًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، وَالدَّفْعُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَيْئًا لِمَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْإِبَاقِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِبَاقَ تَمَرُّدٌ فِي الِانْطِلَاقِ وَهُوَ مِنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ، وَرَدَاءَةٌ فِي الْأَعْرَاقِ يُظْهِرُ الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ فِرَارًا لِيَصِيرَ مَالُهُ ضِمَارًا، فَرَدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى مَثْوَاهُ إحْسَانٌ وَامْتِنَانٌ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ، فَالْكِتَابُ لِبَيَانِ الْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ لِلرَّادِّ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فِي الْعُقْبَى بِإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ وَمَنْعِ الْمُعْتَدِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 عَنْ الْعُدْوَانِ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُعْلًا إنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الرَّادَّ مُثَابٌ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَصَابَ أَجْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى مَوْلَاهُ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أَخَذَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَفِي الْقِيَاسِ لَا جُعْلَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ، وَلِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مُنْكَرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ جُعْلًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي مَجْلِسِهِ مَا قَالَ، وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَقَدْ عُرِضَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَالسُّكُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ ثُمَّ هُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الْجُعْلِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَتَى اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَرَجَّحْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مِقْدَارِهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَقَلِّ فِي الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ. (قُلْنَا:) إنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمَكَّنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ كَمَا فَسَّرَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ كِنَايَةً عَمَّا دُونَهُ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ كِنَايَةً عَنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِآرَائِهِمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا طَرِيقَ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ الْفَتْوَى إلَّا الرَّأْيُ أَوْ السَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا هُنَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى مَا قَالَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَالْأَخْذُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ قَامَتْ الشَّرِيعَةُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ إلَّا أَحْسَنَ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَابِحٍ، وَلَا يُصِيبُهُ كُلُّ طَالِبٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى سِوَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَيْ يَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّادَّ يَحْتَاجُ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فِي رَدِّهِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ خَشْيَةً، فَفِي إيجَابِ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ تَرْغِيبٌ لَهُ فِي رَدِّهِ وَإِظْهَارِهِ الشُّكْرَ فِي الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا يُوجِبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَرْضَخَ لِلَّذِي يَجِيءُ بِالْآبِقِ، وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلرَّادِّ دِينَارٌ إذَا أَخَذَهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَنَأْخُذُ بِذَلِكَ، وَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَيَسْتَقِيمُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَلَّدُوهُ الْقَضَاءَ وَسَوَّغُوا لَهُ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُمْ فِي الْفَتْوَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَالَفَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّ مَسْرُوقًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مُوجِبِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى قَوْلِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ اسْتَحْسَنَ بِرَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمَوْلَى خَاطَبَ قَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَدَّ مِنْكُمْ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَهَذَا شَيْءٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْمَجْهُولِ لَا يَنْعَقِدُ، وَبِدُونِ الْقَبُولِ كَذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الثَّابِتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَيْرٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ كَذَا وَلَمْ يُخَاطِبْ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، ثُمَّ هَذَا تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ قِمَارٌ، وَالْقِمَارُ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا، وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا. (وَإِنْ قَالَ:) اُعْتُبِرَ قَوْلُ الْمَالِكِ لِإِثْبَاتِ أَمْرِهِ بِالرَّدِّ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ ثُمَّ الْمَأْمُورُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْمُؤْنَةِ فِي ذَلِكَ. (قُلْنَا:) لَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَ فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ دُونَ الْمُسَمَّى ثُمَّ الْأَمْرُ هُنَا ثَابِتٌ أَيْضًا بِدُونِ قَوْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْهَارِبَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دَامَ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ يُنَادِي مَوْلَاهُ عَلَى أَثَرِهِ خُذُوهُ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَرَدِّهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الثَّابِتِ إفْصَاحًا، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ أَخَذَ غُلَامًا آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: أَخَذَ مَوْلَى لِلْحَيِّ آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ نَحْوَ حَيٍّ فَكَتَبَ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ فَأَقْبَلَ بِالْعَبْدِ فَأَبَقَ مِنْهُ، فَاخْتَصَمُوا إلَى شُرَيْحٍ فَضَمَّنَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ لِلْعَبْدِ الْأَسْوَدِ بِاَللَّهِ مَا أَبِقَ مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالشَّعْبِيِّ فَنَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَخَذَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّادَّ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا حَتَّى لَمْ يَخَفْ عَلَى مَوَالِيهِمْ حِينَ كَتَبَ الْآخِذُ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَالْمُسْتَوْجِبُ لِلْجُعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ كَمَا ذُكِرَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. (وَقَوْلُهُ) يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ يُرِيدُ بِهِ الرَّادَّ سَمَّاهُ أَحْمَرَ لِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِ الْآبِقِ، وَسَمَّى الْآبِقَ أَسْوَدَ لِخُبْثِ فِعْلِهِ، وَهُوَ مِنْ دُعَابَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَإِذَا أُتِيَ الرَّجُلُ بِعَبْدٍ آبِقٍ فَأَخَذَهُ السُّلْطَانُ فَحَبَسَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُ وَلَا وَهِبَتُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إلَيْهِ أَوَّلًا. نَقُولُ: يَنْبَغِي لِلرَّادِّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْآبِقِ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَرَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ لِهَذَا؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ عَلَى إبَاقِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعَزِّرَهُ، وَيَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ لِيَحْبِسَهُ، وَذَلِكَ نَوْعُ تَعْزِيرٍ، ثُمَّ مَنْ يَدَّعِيهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهِ بِالْحُجَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ ذَلِكَ فَيَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَسْتَحْلِفُهُ وَلَيْسَ هُنَا خَصِيمٌ يَدَّعِي ذَلِكَ.؟ (قُلْنَا:) يَسْتَحْلِفُهُ صِيَانَةً لِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْخَطَأِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، أَوْ يَسْتَحِقُّهُ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ، فَإِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَأْخُذْ أَحَبُّ إلَيَّ، هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا وَسِعَهُ ذَلِكَ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَخْذَ الْكَفِيلِ لِلْمَجْهُولِ كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْوَارِثِ، هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَمَا قَالَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجُوزَانِ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَاطَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ مُسْتَحِقٌّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مُزَاحِمًا لَهُ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا لِهَذَا، وَلَكِنَّهُ مَوْهُومٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا. وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَابِتٌ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِهِ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَعْلُومَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي تَرْكُ الْعَمَلِ إلَّا بِحُجَّةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا. أَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا، أَكَانَ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ لَهُ، وَقَدْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ مُحْتَاطٌ مُجْتَهِدٌ فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا. أَمَّا الدَّفْعُ إلَيْهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا فِيمَا قَالَا، وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مِثْلُهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْقَاضِي، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ هُنَاكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّ الْقَاضِي، يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالرِّقِّ فِي تَعْيِينِ مَالِكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ، وَأَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ لِلْقَاضِي بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِحَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى إذَا حَضَرَ مَالِكُهُ وَأَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ لِيُحْضِرَهُ فَيُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقَاضِي، وَلَا يَلْحَقُ الْقَاضِي ضَمَانٌ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ، فَإِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 طَالَ ذَلِكَ بَاعَهُ الْإِمَامُ وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيءَ لَهُ طَالِبٌ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إمْسَاكُهُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ، وَرُبَّمَا يَأْتِي ثَمَنُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْبَقَ مِنْهُ فَكَانَ حِفْظُ ثَمَنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ وَأَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا حَضَرَ أَنْ يَنْقُضَ بَيْعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَفَذَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا، وَلَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ فَيَكْتَسِبَ فَأَبَقَ ثَانِيًا فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلنَّوَائِبِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ النَّوَائِبِ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ إنْ حَضَرَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي نَفَقَةِ الْمُلْتَقَطِ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْآبِقِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِيهِ شُهُودًا نَصَارَى لَمْ تُجْزَ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِحْقَاقُ يَدِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَاعَهُ الْإِمَامُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ نَفَذَ مِنْ الْقَاضِي بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَكَأَنَّ الْمَالِكَ بَاشَرَ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَقَدْ وَلَدَتْهُ فِي مُلْكِهِ فَيَدَّعِي أَنَّهُ وَلَدُهُ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ كَانَ بَاشَرَ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ وَلَدٍ حَصَلَ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِجَارِيَتِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَمَعَهَا وَلَدٌ يَدَّعِي نَسَبَهُ كَانَ مُصَدَّقًا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً آبِقًا بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ فَرَدَّهُ إلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَلَهُ الْجُعْلُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجُعْلِ بِأَرْبَعِينَ إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ثَابِتٍ بِفَتْوَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالرَّأْيِ لَا تَجُوزُ، وَلِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ مَعْلُومٌ وَلَا نِهَايَةَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ شَرْعًا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ وَلَكِنْ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الثَّابِتَ بِالشَّرْعِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِمَا دُونَ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمُقَدَّرِ، وَلِأَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ رَادُّ الْآبِقِ، وَتَمَامُ الْإِبَاقِ بِمَسِيرَةِ السَّفَرِ فَفِيمَا دُونَهُ هُوَ كَالضَّالِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ فِيمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ الْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ وَالْعَنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ وُجُوبَ الْجُعْلِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْمُدَّةِ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ فِي رَدِّهِ، وَقَدْ وَجَدَ بَعْضَ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالٍ مَعْلُومٍ لِيَرُدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ مِقْدَارِ الْجُعْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَلَيْسَ لَهُ سِوَى الْجُعْلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ مَاتَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ أَبَقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ حِينَ وَجَدَهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلرَّدِّ وَلَكِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي اللُّقَطَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْآبِقِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ مِنْ الْأَخْذِ، وَهُوَ أَخْذُهُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُهُ، وَهُوَ الْإِذْنُ شَرْعًا لِكَوْنِ الْعَبْدِ آبِقًا، وَلَوْ ادَّعَى الْإِذْنَ مِنْ الْمَالِكِ لَهُ فِي أَخْذِهِ وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَدَّهُ فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا، فَلَا جُعْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِإِبَاقِهِ، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَجِبُ لَهُ الْجُعْلُ. وَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي إبَاقِهِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى يَنْفُذَ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُؤَاجَرِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ فِي الْآبِقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يُعْجِزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لِلْعَاقِدِ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ تَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ، وَلِأَنَّ فِي بَيْعِهِ مَعْنَى الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً وَلَا عَوْدَةً لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ «، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» فَالْغَرَرُ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعِتْقِ، وَلَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فِي عِيَالِهِ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَإِعْلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ بِالْيَدِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي بَقِيَ لَهُ، وَحَقُّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ لِلصَّغِيرِ إلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالْأُبُوَّةِ، فَلَا تَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي عِيَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا لِلشَّرْطِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ فِي يَدِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ كَانَ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَلَا يَنْعَدِمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 إلَّا بِاعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ، وَبِالْإِبَاقِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاقٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَوْ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ كَمَا رَوَاهُ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. [أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ] وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَا بِهِ صَحَّ إذْنُ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ، فَلَا يُنَافِي الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ مَا دَامَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِهِ بَعْدَ تَمَرُّدِهِ وَإِبَاقِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَيَّدَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِمَا قَبْلَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ أَوْ يَصِيرَ مَحْجُورًا بَعْدَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْحَجْرِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَجَر عَلَيْهِ، وَدَلَالَةُ الْحَجْرِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْحَجْرِ، كَمَا أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَلِهَذَا صَحَّ إذْنُ الْآبِقِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّنَاوُلِ دَلَالَةً، فَإِنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِلتَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَبَسَهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَأْدِيبِهِ فَالشَّرْعُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ. يُمَوِّتُهُ الْإِمَامُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَهُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَيْتًا حُكْمًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَةِ الْآبِقِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَفِي حُدُودِهِ كَالْحُكْمِ فِيهَا فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِ بَاقٍ بَعْدَ الْإِبَاقِ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمٌ فِيهِ، وَبِاعْتِبَارِهِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ، فَإِذَا حَضَرَ قَطَعَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْطَعُهُ، وَلَا يَنْتَظِرُ حُضُورَ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْحُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَفِيمَا كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالطَّلَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فَبَقِيَ هُوَ فِي النَّفْسِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ تَارَةً، ثُمَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ، وَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ طَعْنُهُ مَسْمُوعًا، فَفِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ كَافِرًا وَمَوْلَاهُ مُسْلِمًا لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَكَانَ لَا يُعْتَبَرُ دِينُهُ فِي ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي ذَلِكَ، فَلَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِقْرَارَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِيفَاءِ إتْلَافُ مَالِيَّةِ الْمَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ فِي الْعُقُوبَاتِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَمْتَنِعَ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ تَمَامُ قَضَائِهِ مُتَنَاوِلًا حَقَّ الْمَوْلَى يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَوِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حُضُورُ الْمَوْلَى، وَإِذَا أُخِذَ الْعَبْدُ الْآبِقُ، وَحُبِسَ فِي بَلَدٍ فَتَقَدَّمَ مَوْلَاهُ إلَى قَاضِي بَلْدَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ، وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَذْكُرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الدُّيُونِ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ تُذْكَرُ الْحُدُودُ دُونَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ، وَفِي الْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ لَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي فَلَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِيَثْبُتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ إلَّا بَعْدَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 إحْضَارِهِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَبِيدِ قَالَ: الْعَبْدُ قَدْ يَأْبَقُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ مَوْلَاهُ فِي حَاجَةٍ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَبَيْنَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَدَّى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَكَانَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَكَانَ يَقُولُ مَرَّةً فِي الْجَارِيَةِ أَيْضًا: يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ بَابَ الْفُرُوجِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْوَى تَقِلُّ فِي الْجَوَارِي فَالْمَوْلَى لَا يُرْسِلُهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ عَادَةً، وَالْإِبَاقُ فِي الْجَوَارِي يَنْدُرُ أَيْضًا. ثُمَّ بَيَانُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ عَلَى حِلْيَتِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَحْبُوسٌ، فَإِذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْخَتْمِ، وَوَافَقَ حِلْيَةَ الْعَبْدِ وَصِفَتَهُ مَا فِي الْكِتَابِ دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْمُلْكِ، وَيُخْتَمُ فِي عُنُقِهِ بِالرَّصَاصِ لِلْإِعْلَامِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعِي كَفِيلًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ الْمُدَّعِي إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ شُهُودُهُ، وَيَكْتُبُ مَعَهُ كِتَابًا إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِذَا أَتَى بِهِ إلَى هَذَا الْقَاضِي أَعَادَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ قَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ، وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ. وَفِي الْجَوَارِي عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: لَا يَدْفَعُهَا إلَيْهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَا مَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْئِهَا، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: هَذَا اسْتِحْسَانٌ فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا أَوْ يَسْتَغِلُّهُ فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ إذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَالْحِلْيَةُ وَالصِّفَةُ تُشْتَبَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحِلْيَةِ وَالصِّفَةِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَسْنَاءَ أَكَانَ يَبْعَثُ بِهَا مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ هَذَا قُبْحٌ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي بَاعَ الْعَبْدَ الْآبِقَ حِينَ طَالَ حَبْسُهُ، وَأَخَذَ ثَمَنَهُ، وَهَلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَاهُ الرَّجُلُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عَبْدًا اسْمُهُ كَذَا، وَكَذَا عَبْدُهُ فَوَافَقَ ذَلِكَ صِفَةَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، وَلَا يُدْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ شُهُودَهُ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا فِي يَدِ الْقَاضِي مِنْ الثَّمَنِ، إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى الِاسْمِ وَالْحِلْيَةِ، وَالِاسْمُ يُوَافِقُ الِاسْمَ وَالْحِلْيَةُ تُوَافِقُ الْحِلْيَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْعَبْدَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 الْآبِقَ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ عَبْدُ هَذَا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ الْقَاضِي بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمُلْكِ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى قُتِلَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَقْتُولَ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَالثَّمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ. وَرَجُلٌ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَبَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآخِذَ بَاعَهُ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لَهُ، فَإِنَّ وِلَايَةَ تَنْفِيذِ الْبَيْعِ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بَعْدَ مَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ بِدُونِ إذْنِ الْقَاضِي كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ مِنْ جِهَتِهِ، وَاسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ قِيمَتَهُ نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا فَضَلَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ. رَجُلٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ قَاضِي بَلَدِ كَذَا مِنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَبْدُهُ، وَأَخَذَ كِتَابَهُ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي بَاعَهُ الْآبِقَ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ الْقَاضِي إلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا ثَبَتَ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُرِيدُ أَخْذَ عَيْنِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْقَاضِي قَدْ نَفَذَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ أَخْذِ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ إثْبَاتُ حَقِّ أَخْذِ الثَّمَنِ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يُقِيمُهَا عَلَى الدَّيْنِ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، وَيَقْضِي الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. (فَإِنْ قِيلَ:) الثَّمَنُ عَيْنٌ فِي يَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي كَالْعَبْدِ. (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِذِكْرِ مِقْدَارِهِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ مِنْ الشُّهُودِ إلَى عَيْنِهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً آبِقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخَذِهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا يَغْرَقُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى مَالَهُ يَتْوَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ يَحْتَاجُ فِي رَدِّهِ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَلْتَزِمَهُ، وَلِأَنَّهُ فِي التَّرْكِ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ»، وَقَالَ: «ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ جُهَّالُ أَهْلِ التَّقَشُّفِ، وَحَمْقَى أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسَعَهُ التَّرْكُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. (وَإِذَا) أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ، وَأَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهَلَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ آخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَائِنًا فِي حَقِّهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعَبْدَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا لَا مَالِكًا، وَلِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الثَّانِي بِمَا يَضْمَنُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارٌ مِنْ الدَّافِعِ لِلْقَابِضِ بِالْمِلْكِ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارُهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ حَتَّى شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى أَقَامَهَا صَاحِبُهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِلْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ أَعَادَ الْأَوَّلُ بَيِّنَتِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْيَدِ فِي الْعَبْدِ لَهُ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ، وَمَا يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ الْآبِقُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ بَعْدَ إبَاقِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَسِبُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَمَوْلَاهُ يُخْفِهِ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الَّذِي أَخَذَهُ وَأَخَذَ أُجْرَتَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَجَّرَهُ قَالَ: لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلِأَنَّهُ بِعَقْدِهِ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ إلَّا بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْغَصْبِ، وَمَنْ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مَالًا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ لَهُ كَمَنْ اتَّخَذَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ، وَقَالَ: هَذَا الْمَالُ غَلَّةُ عَبْدِكَ، وَقَدْ سَلَّمْتُهُ لَكَ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا صَنَعَ، وَتَحَرَّزَ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَعِنْدَنَا هُوَ لِلْأَجِيرِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَمْلِيكِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ طَوْعًا، ثُمَّ يَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفَقِيرِ أَثْبَتُ فِيهِ حِينَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْآخِذُ إسْقَاطَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، وَقَالَ: وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِهِ كَانَ لِخُبْثٍ دَخَلَ فِيهِ لِعَدَمِ رِضَى الْمَوْلَى بِهِ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَلْ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمَوْلَى يَزُولُ ذَلِكَ الْخُبْثُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَالْأَجْرُ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَكِنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ: الْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ نَمْحَضُ ذَلِكَ الْعَقْدَ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدَ لَمْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ شَيْءٌ، فَلِهَذَا أَنْفَذْنَا ذَلِكَ الْعَقْدَ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقُّ تَضْمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ الْعَقْدِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ كَانَ حَقُّ قَبْضِ الْأَجْرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ بِأَخْذِهَا فَيَدْفَعُهَا إلَى الْمَوْلَى، وَإِبَاقُ الْمُكَاتِبِ لَا يُبْطِلُ مُكَاتَبَتَهُ وَإِذْنَهُ بِخِلَافِ إبَاقِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُكَاتِبِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتِبِ فِي نَفْسِهِ لَازِمٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَهُ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي الِاكْتِسَابِ إلَى حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ، فَإِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ فِعْلُهُ إبَاقًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآبِقٍ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، وَلِأَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِرَدِّهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّتِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَصِرْ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِإِبَاقِهِ حَتَّى يَكُونَ فِي الرَّدِّ إحْيَاؤُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقُّ الْمَوْلَى، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى التَّوَى بِإِبَاقِهِ فَيَكُونُ الرَّادُّ مُحْيِيًا لَهُ. وَيَجُوزُ عِتْقُ الْآبِقِ عَنْ الظِّهَارِ إذَا كَانَ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْفُذُ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) الْآبِقُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلِكِ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَهْلِكِ حُكْمًا عَنْ الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ كَالْأَعْمَى (قُلْنَا:) الْمُسْتَهْلَكُ مِنْهُ حُكْمًا مَالِيَّتُهُ لَا ذَاتُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِتَحْرِيرِ مُبْتَدَإٍ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِلذَّاتِ حَقِيقَةً، وَالذَّاتُ الْمَرْقُوقُ عُرْفًا، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْرِيضٌ لِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِهِ سَوَاءً، بِخِلَافِ الْأَعْمَى فَالْمُسْتَهْلَكُ هُنَاكَ الذَّوَاتُ حُكْمًا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَعِتْقُهُمَا لَيْسَ بِتَحْرِيرٍ مُبْتَدَإٍ بَلْ هَذَا مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّاهُ مُؤَجَّلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ مِمَّنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُشْتَرِي لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ فَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ مِنْهُ. وَإِذَا أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ فَرَدَّهُ رَجُلٌ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى التَّوَى بِالْإِبَاقِ، ثُمَّ قَدْ حَيَّ بِالرَّدِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، ثُمَّ بَرِئَ فَيَكُونُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 رَهْنًا عَلَى حَالِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الرَّاهِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ مَالِيَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّوَى سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الرَّدِّ عَمَلٌ لَهُ فَكَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ تَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجُعْلُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ لَا لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ، وَيَبْقَى جَمِيعُ دَيْنِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ، وَالْجُعْلُ لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ لَوْ انْتَقَصَتْ بِقُرْحَةٍ خَرَجَتْ بِهِ كَانَ دَوَاءُ ذَلِكَ، وَمُعَالَجَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ جُعْلُ الْآبِقِ، وَلِلَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ فَكَانَ لِمَا يَسْتَوْجِبُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ فَيُحْتَبَسُ بِهِ، كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِإِمْسَاكِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي حَبْسِهِ وَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَائِهِ مَالِيَّتَهُ، وَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ حِينَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدُ مَوْلَاهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَبِيعِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الثَّمَنِ يَسْقُطُ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ، فَهُنَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ بِمَوْتِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ. (عَبْدٌ) أَبَقَ وَذَهَبَ مَعَهُ بِمَالٍ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ مَعَهُ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُصُولَ يَدِهِ إلَى الْعَبْدِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ فِي يَدِ الْعَبْدِ حِينَ أَخَذَهُ، وَالْمَوْلَى يَدَّعِي عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مَالًا وَأَنْكَرَهُ، وَإِنْ اتَّهَمَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ كَمَا لَوْ ادَّعَى؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ حَتَّى يُقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ إقْرَارِهِ. وَلَوْ أَنَّ أَمَةً أَبَقَتْ مِنْ مَوْلَاهَا فَالْتَحَقَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَاطِئُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُمَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا، وَلَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهَا عَلَيْهَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآبِقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْأَخْذِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْضًا، فَمَنْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الشِّرَاءِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعِنْدَهُمَا هُمْ يَمْلِكُونَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَإِذَا مَلَكُوهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي اسْتِرْدَادِهَا، وَالْجُعْلُ وَاجِبٌ فِي رَدِّ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ. (فَإِنْ قِيلَ:) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (قُلْنَا:) نَعَمْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ، وَلَكِنْ لَهُ مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، فَلَا يَكُونُ رَادُّهُ مُحْيِيًا لِلْمَوْلَى مَالِيَّةً بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُمَا الرَّادُّ إلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا عَتَقَا بِمَوْتِهِ، وَرَادُّ الْحُرِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْمُدَبَّرِ سِعَايَةٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتِبِ أَوْ الْحُرِّ، فَأَمَّا إذَا وَصَّلَهُمَا إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا، وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِمَا، وَالْمَالِيَّةُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ، وَرَادُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ آبِقًا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ كَرَادِّ الْكَبِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مِمَّا دُونَ ذَلِكَ يَرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ، وَعَنَاؤُهُ فِي رَدِّ الْكَبِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي رَدِّ الصَّغِيرِ، فَالرَّضْخُ يَكُونُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَإِذَا انْتَهَى الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ إلَى مَوْلَاهُ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ أَعْتَقَهُ فَالْجُعْلُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِإِعْتَاقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ لَمَّا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَلَامَةَ الثَّمَنِ لَهُ بِاعْتِبَارِ رَدِّ هَذَا الرَّادِّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَهُ الرَّادُّ إلَى مَوْلَاهُ فَأَبَقَ مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلَى الْوَلِيِّ جُعْلٌ تَامٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَدْخَلَهُ الْمِصْرَ، ثُمَّ أَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَالْجُعْلُ لِلْآخَرِ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَرْضَخُ لَهُ إنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّبَبِ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى، وَالْأَوَّلُ مَا أَوْصَلَهُ إلَى الْمَوْلَى فَانْتَقَصَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ بِإِبَاقِ الْعَبْدِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَوْلَى فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 أَتَمَّ السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي وَرَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَالْأَوَّلُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا، وَيَرْضَخُ لِلثَّانِي عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ لِأَنَّهُمَا تَمَّمَا السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمَّ فِعْلَهُ الثَّانِي إلَى الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الضَّمِّ يَكُونُ رَادًّا لَهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا، وَالثَّانِي إنَّمَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ، وَإِنْ رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْجُعْلِ، وَهُوَ الْإِيصَالُ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الرَّدِّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَيَسْتَوِيَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّادَّيْنِ عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا فَهُوَ مِثْلُ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ بِطَرِيقٍ هُوَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ لِمُكَاتِبٍ أَوْ عَبْدٍ تَاجِرٍ فَعَلَيْهِمَا الْجُعْلُ لِلرَّادِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي كَسْبِهِمَا بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْحُرِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ التَّصَرُّفِ، وَالرَّادُّ أَحْيَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِالرَّدِّ لَهُمَا فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآبِقُ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ يُؤَدِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ. (عَبْدٌ) جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَبَقَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ إذَا كَانَ قَبْلَ إبَاقِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْجُعْلُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ طَهَّرَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِاخْتِيَارِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ عَمَلٌ لَهُ فِي إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهُ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْجُعْلُ عَلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ اسْتَحَقَّ لَهُمْ بِالْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى شَيْئًا بَطَلَ حَقُّهُمْ فَتَبَيَّنَ بِاخْتِيَارِ الدَّفْعِ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُسْتَوْفَى الْجُعْلُ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْ الْمَوْلَى. (عَبْدٌ) أَبَقَ إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ رَجُلٌ وَجَاءَ بِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى تَمَلُّكِ الْمُشْتَرَى فَيَكُونُ هُوَ غَاصِبًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا عَامِلًا لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ أَوْ وَرِثَهُ، فَإِنْ أَشْهَدَ حِينَ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالشِّرَاءِ فَلَهُ الْجُعْلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِشْهَادِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمَوْلَى فِي الرَّدِّ، وَلَكِنَّهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمَكِّنُهُ فَيَسْتَوْجِبُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَفِي حَقِّ الرَّادِّ هُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ، وَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 أَخَذَ الْآبِقَ رَجُلٌ فَجَاءَ بِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ قَالَ: لَهُ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ أَوْ وَصِيَّهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالرَّدُّ عَلَيْهِ كَالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا اسْتَوْجَبَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَالرَّادُّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ بِيعَ الْعَبْدُ، وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِيَّتِهِ إنَّمَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّادُّ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْجُعْلَ، فَكَذَا يَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَارِثَ الْمَيِّتِ وَقَدْ أَخَذَهُ، وَسَارَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي حَيَاتِهِ وَأَوْصَلَهُ إلَى الْمِصْرِ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَارِثُ الرَّادَّ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَالِكِ، وَكَذَا لَوْ أَبَقَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى الْمَالِكِ، فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَالْإِيصَالُ هُنَا لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجُعْلِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ، وَمَنْ عَمِلَ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلُ بِعَمَلِهِ فِي الرَّدِّ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ إيصَالَهُ إلَى الْمَوْلَى شَرْطٌ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ لَا بِمَا هُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَحِلِّ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْعَمَلِ إلَى غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ هُنَا مُسَلَّمًا إلَى الْمَوْلَى بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ بِالرَّدِّ عَلَى وَرَثَتِهِ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ يَنْفُذُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْجُعْلَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ لَا يُسَاوِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَهُ الْجُعْلُ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ لِلْمَوْلَى، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي حَيِيَتْ لَهُ، ثُمَّ الرَّادُّ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فِي إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ لَا فِي إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَإِيجَابِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا كَانَ فِي إيجَابِ الْأَرْبَعِينَ عَلَى الْمَوْلَى ضَرَرٌ بَيِّنٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةُ عَمَلِهِ لِلْمَوْلَى، وَذَلِكَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 مِنْ الْكُسُورِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ عُرِفَ شَرْعًا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَدَّرُوهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِضُوا لَقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ التَّقْدِيرِ شَرْعًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَكَانَ عَمَلُ الرَّادِّ هُنَا فِي إيجَابِ جُعْلٍ مُقَدَّرٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ بَاشَرَهُ مَعَ الْمَوْلَى. فَكَمَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، وَلَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَالِيَّةُ كَسْبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى قَدْ تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْجُعْلِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ لِتَكْمِيلِ الْجُعْلِ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَجُعْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقْضَى مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَبَى بِيعَ الْعَبْدُ وَاسْتَوْفَى صَاحِبُ الْجُعْلِ جُعْلَهُ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ لِأَصْحَابِ الدُّيُون، وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ - مِمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنُ جِنَايَةٍ - سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُنَا الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ. وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَبْدَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ عَبْدَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ عَبْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٌ أَخَذَتْ عَبْدَ زَوْجِهَا فَالْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَنْ يَكُون لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْك أَحَدهمَا مُنْفَصِل عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقَ مِنْهُ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْل كَسَائِرِ الْأَجَانِب، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ خِدْمَتِهِ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ دَيْنًا؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَسْتَوْجِب الْأَجْر سَوَاء كَانَ فِي عِيَاله أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِب الْجُعْل بِرَدِّ آبِقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مَبْسُوطَةُ الْيَدِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، وَيَعُدُّ خَيْرَهُ خَيْرَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ دِينًا حَتَّى لَا يَسْتَأْجِرُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُ آبِقَ امْرَأَتِهِ عَادَةً. فَأَمَّا إذَا وَجَدَ عَبْد ابْنه، فَإِنْ كَانَ فِي عِيَال ابْنه، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ آبِق الرَّجُل إنَّمَا يَطْلُبُهُ مِنْ فِي عِيَاله عَادَة؛ وَلِهَذَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَوْجِبُ مَعَ ذَلِكَ جُعْلًا آخَرَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَب فِي عِيَال الِابْن فَلَهُ الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْأَبِ دِينًا، وَلَا هُوَ سَائِغٌ لَهُ شَرْعًا؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَبَاهُ لِيَخْدِمَهُ فَخَدَمَهُ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ، وَكَذَلِكَ الْأَخ لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَال أَخِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيَاله فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعُولُهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ لِهَذَا وَنَحْوِهِ، وَإِذَا أَبَقَ عَبْد الْيَتِيم فَجَاءَ بِهِ الْوَصِيُّ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطْلُب آبِق الْيَتِيم عَادَة، وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ عَبْده، فَلَا يَكُون لَهُ الرَّدّ عَلَى نَفْسه، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيم فِي حِجْرِ رَجُلٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 يَعُولُهُ لَهُ فَجَاءَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُهُ عَادَة، وَإِذَا صَالَحَ الَّذِي جَاءَ بِالْآبِقِ مَوْلَاهُ مِنْ الْجُعْلِ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ، وَأَحْسَنُ إلَيْهِ بِحَطِّ بَعْضِ مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا جَازَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ، وَيَطْرَحُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْأَرْبَعِينَ شَرْعًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ رَبًّا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ صَالَحَ الشَّرِيكُ الْمُعْتَقُ شَرِيكَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ كَانَ الْفَضْلُ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا أَبَقَتْ الْأَمَةُ، وَلَهَا صَبِيٌّ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ فَلَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مِنْ الرَّضِيعِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّمَا رَدَّ آبِقًا وَاحِدًا، وَهِيَ الْأَمَةُ، وَإِنْ كَانَ ابْنُهَا غُلَامًا قَدْ قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ جُعْلَانِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا، فَإِنَّمَا أَحْيَا مَالِيَّةَ مَمْلُوكَيْنِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ جُعْلًا كَامِلًا بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ مَا رَدَّ الْعَبْدَ مِنْ إبَاقِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ الْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَالِيَّةَ لَهُ بِالرَّدِّ، وَالْإِيصَالِ إلَيْهِ فَزَوَالُ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الرَّادِّ فِي الْجُعْلِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ [كِتَابُ الْمَفْقُودِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً: الْمَفْقُودُ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ هُوَ حَيٌّ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ حَالِهِ وَلَكِنَّهُ خَفِيُّ الْأَثَرِ كَالْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَأَهْلُهُ فِي طَلَبِهِ يَجِدُّونَ، وَلِخَفَاءِ أَثَرِ مُسْتَقَرِّهِ لَا يَجِدُونَ قَدْ انْقَطَعَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ وَاسْتَتَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرُهُ، وَبِالْجِدِّ رُبَّمَا يَصِلُونَ إلَى الْمُرَادِ وَرُبَّمَا يَتَأَخَّرُ اللِّقَاءُ إلَى يَوْمِ التَّنَادِ وَالِاسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَضْدَادِ يَقُولُ الرَّجُلُ: فَقَدْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَضْلَلْتُهُ، وَفَقَدَتْهُ أَيْ طَلَبْتُهُ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفْقُودِ، فَقَدْ ضَلَّ عَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ، وَحُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ هُوَ إذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرِبَائِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَيَاتِهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّهُ عَلِمَ حَيَاتَهُ فَيَسْتَصْحِبُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَفِي تَوْرِيثِهِ مِنْ الْغَيْرِ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ، وَلِأَنَّ حَيَاتَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مِيرَاثُ غَيْرِهِ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ بِهَذَا الظَّاهِرِ؛ وَلِهَذَا لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ قَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: إنَّهَا امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ إبْرَاهِيمُ كَمَا قَالَ: قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ امْرَأَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ، وَتَرَبُّصُ أَرْبَعِ سِنِينَ كَانَ يَقُولُ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَالِكٌ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوقَفُ عَلَى خَبَرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، خُصُوصًا إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا لِكَيْ لَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ عُذْرَ الْمَفْقُودِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْمُدَّتَانِ فِي التَّرَبُّصِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُجْعَلَ الشُّهُورُ سِنِينَ، فَلِهَذَا تَتَرَبَّصُ وَلَا نَأْخُذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ حَقُّهُ، وَهُوَ حَيٌّ فِي إبْقَاءِ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَكَّنَّا زَوْجَتَهُ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كَانَ فِيهِ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ ضَرُورَةً، إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِلُّ لِزَوْجَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِب قِسْمَةٌ مَالِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مَوْتِهِ دَلِيلٌ مُوجِبٌ لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ بِالْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ لِدَفْعِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظُّلْمِ مِنْ الْمَفْقُودِ فَقُلْنَا: إنَّهَا امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَابْتَلَاهَا بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا. فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ خَبَرُهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ حَيًّا، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ مَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَطَرِيقُهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى أَمْثَالِهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمَهْرُ مِثْلِ النِّسَاءِ وَبَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ أَقْرَانِهِ نَادِرٌ، وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا تَمَّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ مَوْلِدِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ التَّحْسِينِ يَحْصُلُ لِلطِّبَاعِ الْأَرْبَعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضَادّ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ طَبْعَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَيَمُوتُ، وَلَكِنَّ خَطَأَهُمْ فِي هَذَا قَدْ تَبَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي طُولِ عُمْرِ بَعْضِ مَنْ كَانَ قَبْلنَا كَنُوحٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَغَيْرِهِ، فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا مَضَى مِائَةُ سَنَةٍ مِنْ مَوْلِدِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ. وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا قَالَ: أُبَيِّنُهُ لَكُمْ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إذَا كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ يَدُورُ حَوْلَ أَبَوَيْهِ هَكَذَا وَعَقَدَ عَشْرًا، فَإِنْ كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةٍ فَهُوَ بَيْنَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ هَكَذَا وَعَقَدَ عِشْرِينَ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ يَسْتَوِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَثْقَالُ هَكَذَا وَعَقَدَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ يَنْحَنِي مِنْ كُثْرِ الْأَثْقَالِ وَالْأَشْغَالِ هَكَذَا وَعَقَدَ خَمْسِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سِتِّينَ يَنْقَبِضُ لِلشَّيْخُوخَةِ هَكَذَا وَعَقَدَ سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِينَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا هَكَذَا وَعَقَدَ سَبْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ يَسْتَلْقِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَمَانِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ تِسْعِينَ تَنْضَمُّ أَمْعَاؤُهُ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى كَمَا يَتَحَوَّلُ الْحِسَابُ مِنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى. وَهَذَا يُحْمَلُ مِنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى طَرِيقِ الْمُطَايَبَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ الْحُكْمَ بِمِثْلِ هَذَا، وَهُوَ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْعَشْرِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ: لَهْوُ اللَّاهِينَ، فَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْعِشْرِينَ فَقَالَ: لَذَّةُ الْمُعَانِقِينَ، فَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْخَمْسِينَ فَقَالَ: عَجُوزٌ فِي الْغَابِرِينَ، وَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ السِّتِّينَ فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يُفْتِي فِي الْمَفْقُودِ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ سِنِينَ. فَالْأَلْيَقُ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ اعْتِبَارًا لِحَالِهِ بِحَالِ نَظَائِرِهِ. (وَذُكِرَ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ لَقِيتُ: الْمَفْقُودَ نَفْسَهُ فَحَدَّثَنِي حَدِيثَهُ قَالَ: أَكَلْت حَرِيرًا فِي أَهْلِي ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَخَذَنِي نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَمَكَثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي عِتْقِي فَأَعْتَقُونِي، ثُمَّ أَتَوْا بِي قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا أَتَعْرِفُ النَّخْلَ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَخَلُّوا عَنِّي فَجِئْتُ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ أَبَانَ امْرَأَتِي بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَحَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ فَخَيَّرَنِي عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ وَبَيْنَ الْمَهْرِ. وَأَهْلُ الْحَدِيثِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَرَوْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ هَمَّ بِتَأْدِيبِهِ حِينَ رَآهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَغِيبُ أَحَدُكُمْ عَنْ زَوْجَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، وَلَا يَبْعَثُ بِخَبَرِهِ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ لَهُ قِصَّتَهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْجِنَّ قَدْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَأَهْلُ الزَّيْغِ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُسْتَنْكَرُ دُخُولُهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 فِي الْآدَمِيِّ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرُّوحَيْنِ فِي شَخْصٍ لَا يَتَحَقَّقُ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ تَسَلُّطُهُمْ عَلَى الْآدَمِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْمِلُوا جِسْمًا كَثِيفًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نَأْخُذُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ يَدْخُلُ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِهِ» حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا فَنَتَّبِعُ الْآثَارَ، وَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ لَمَّا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَمَّا تَخْيِيرُهُ إيَّاهُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَرْأَةِ إذَا نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ، وَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَتَى الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حَيًّا إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ، وَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَلَا يَقْرَبُهَا الْأَوَّلُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ وَبِهَذَا كَانَ يَأْخُذُ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَبِهِ نَأْخُذُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ وَمَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بَلْ هِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 24] فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَرْكُهَا مَعَ الثَّانِي، وَإِذَا اخْتَارَ الْأَوَّلُ الْمَهْرَ، وَلَكِنْ يَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَفْعُ الْمَهْرِ إلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ بَدَلُ بُضْعِهَا فَيَكُون مَمْلُوكًا لَهَا دُونَ زَوْجِهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً لِغَيْرِهِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجَعَ عَنْ ثَلَاثِ قَضِيَّاتٍ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي كَنَفٍ، وَالْمَفْقُودِ زَوْجُهَا، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا. أَمَّا حُكْمُ الْمَفْقُودِ وَالْمُعْتَدَّةِ فَقَدْ بَيَّنَّا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي كَنَفٍ فَهُوَ مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّ أَبَا كَنَفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَعْلَمَهَا وَرَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ يُعْلِمْهَا، فَجَاءَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ فَأَتَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ: إنْ وَجَدْتهَا لَمْ يُدْخَلُ بِهَا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دُخِلَ بِهَا فَلَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَقَدِمَ وَقَدْ وَضَعَتْ الْقُصَّةَ عَلَى رَأْسِهَا فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ لِي إلَيْهَا حَاجَةً فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَبَاتَ عِنْدَهَا، ثُمَّ غَدَا إلَى الْأَمِيرِ بِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَرَفُوا أَنَّهُ جَاءَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ وَهَذَا كَانَ مَذْهَبُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ فِي حَقِّهَا مَا لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى إذَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إيَّاهَا صَحِيحٌ بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالرَّجْعَةِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ فَكَمَا يَصِحُّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَكَذَلِكَ رَجْعَتُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ إذَا كَانَ يَسْتَبِدُّ بِهِ. وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ بِالنَّصِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وَالْمَالِكُ يَنْفَرِدُ بِإِمْسَاكِ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى عِلْمِ غَيْرِهِ. قَالَ: (وَإِذَا فُقِدَ الرَّجُلُ فَارْتَفَعَ، وَرَثَتُهُ إلَى الْقَاضِي وَأَقَرُّوا أَنَّهُ فُقِدَ، وَسَأَلُوا قِسْمَةَ مَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْسِمُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَالُ الْحَيِّ لَا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يُشْتَغَلُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ لِلْقَضَاءِ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ (قُلْنَا:) بِأَنْ يَجْعَلَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ خَصْمًا عَنْهُ أَوْ يُنَصِّبَ عَنْهُ قَيِّمًا فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ، وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي فِيمَا قَضَى بِمَوْتِهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ مَيِّتًا حُكْمًا لِانْقِطَاعِ خَبَرِهِ فَيُقْسِمُ مَالَهُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ. (قُلْنَا:) هُنَاكَ ظَهَرَ دَلِيلُ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا، وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَلَمْ يَظْهَرْ هُنَا دَلِيلٌ مُوجِبٌ لِمَوْتِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْإِمَامُ مَوَّتَهُ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقْتُلَهُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مَوَّتَهُ حُكْمًا فَقَسَمَ مَالَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا قَالَ: (وَتَفْسِيرُ الْمَفْقُودِ الرَّجُلُ يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ وَلَا يُعْرَف مَوْتُهُ وَلَا حَيَاتُهُ وَلَا مَوْضِعُهُ، وَلَا يَأْسِرُهُ الْعَدُوُّ، وَلَا يَسْتَبِينُ مَوْتُهُ وَلَا قَتْلُهُ) فَهَذَا مَفْقُودٌ لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. [مَنْ كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَفْقُودِ غَنِيًّا] وَمَنْ كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَفْقُودِ غَنِيًّا فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِهِ مَا خَلَا الزَّوْجَةَ لِأَنَّ حَيَاتَهُ مَعْلُومٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْحَيِّ سِوَى الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ أَوْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَفْقُودِ، فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ مَنْ سِوَاهَا فَبِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِغِنَى الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ غَلَّةٌ جَعَلَ الْقَاضِي فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَيُنَصِّبُ الْقَاضِي فِي غَلَّاتِهِ مَنْ يَجْمَعُهَا، وَيَحْفَظُهَا عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ مِنْ مَتَاعِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِي يَبِيعُهُ؛ لِأَنَّ حِفْظَ عَيْنِهِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ فَيَصِيرُ إلَى حِفْظِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 مَالِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْبَيْعِ وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ أَوْ الْكِبَارِ مِنْ الْإِنَاثِ أَوْ الزَّمْنَى مِنْ الذُّكُورِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّبَبُ مَعْلُومًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا قَضَى بِالنَّفَقَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَقْضِي بِذَلِكَ لَهُمْ فِي مَالِهِ أَيْضًا، وَقِيلَ: هَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ تَمْكِينًا لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ أُخِذَ حَقِّهِ، وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيُعِينُهُمْ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَضَاءٌ مِنْهُ، وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِعِلْمِهِ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ غَابَ. ثُمَّ هَذَا نَظَرٌ مِنْهُ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّهُ فِي زَوْجَتِهِ، وَلَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ حِفْظًا لِمِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حِفْظًا لِنَسْلِهِ. وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّظَرُ، وَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ بِكَفِيلٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ كَفِيلًا فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ، أَوْ كَانَ عَجَّلَ لَهَا النَّفَقَةَ لِمُدَّةٍ فَكَانَ تَمَامُ النَّظَرُ فِي الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفِيلِ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ كَفَالَةٌ لِلْمَفْقُودِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَخْذُ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ طَالِبٌ، فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ كَفِيلًا، وَلَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْمَفْقُودِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ مِنْ مَالِهِ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْبَيْعِ لِلنَّظَرِ لَهُ، وَحِفْظُ الْعَيْنِ فِيمَا يَتَأَتَّى حِفْظُهُ نَظَرٌ لَهُ، فَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مُعِينٌ لَهُمْ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا ظَفِرُوا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا عُرُوضًا وَلَا غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا دَارٌ، وَاحْتَاجَ زَوْجَتُهُ وَوَلَدُهُ إلَى النَّفَقَةِ لَمْ يَبِعْ لَهُمْ الدَّارَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ خَادِمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ بَيْعُهُ مَحْضَ الْحِفْظِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهُ بِخِلَافِ مَا يُخَافُ فَسَادُهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُوصِي، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 وَرُبَّمَا يَكُونُ حِفْظُ الثَّمَنِ لِلِاتِّصَالِ إلَى وَرَثَتِهِ أَيْسَرَ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ، وَهُنَا لَا وِلَايَةَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَفْقُودِ إلَّا فِي الْحِفْظِ فَقَطْ، وَحِفْظُ عَيْنِ مِلْكِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ أَنْفَعُ لَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ الْعُرُوضِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُحْتَاجٌ فَلِابْنِهِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي وَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُ عَقَارَهُ لِهَذَا، وَلَا يَبِيعُ عُرُوضَهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا، وَالْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ حُضُورِ الْوَلَدِ وَغِيبَتِهِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ، وَإِنْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهَا حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ اسْتِيلَادُ جَارِيَةِ الِابْنِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ، وَحَاجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لِبَقَاءِ نَفْسِهِ حَاجَتُهُ إلَى الِاسْتِيلَادُ لِبَقَاءِ نَسْلِهِ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ هُنَاكَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، وَهُنَاكَ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ بَيْعِ الْعُرُوضِ دُونَ بَيْعِ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعُرُوضِ مِنْ الْحِفْظِ، وَبَيْعَ الْعَقَارِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ، فَإِنَّ الْعَقَارَاتِ مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَبِيعُ حَالَ حُضُورِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ، فَإِنَّ الِابْنَ حَافِظٌ لِمَالِهِ كَمَا لَا يَبِيعُ الْوَصِيُّ عُرُوضَ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ، وَلَا يَبْعُدُ زَوَالُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِالْبُلُوغِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْمَوْتِ، وَبَقِيَ أَثَرُهُ بِبَقَاءِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ تِبْرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ غَلَّتِهِ وَمَتَاعِهِ فَإِنَّ الْقَاضِي يَبِيعُ ذَلِكَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَإِنْ بَاعَتْهُ زَوْجَتُهُ أَوْ الْوَلَدُ فَبَيْعُهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْحِفْظُ، وَلَيْسَ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّفَقَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِلَيْهِمَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ النَّفَقَةِ دُونَ الْحِفْظِ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَلَهُ حَقُّ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ، وَبَيْعُ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْحِفْظِ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ تَكُونُ لَهُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودَعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْبِ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُودَعُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 مُقِرٌّ بِأَنَّ فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ حَقُّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَيَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ. وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِلْمَفْقُودِ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ فَهُوَ الْوَدِيعَةُ سَوَاءٌ، وَالْكَلَامُ فِي الدَّيْنِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَدْيُونِ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا، وَالْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا اسْتِحْسَانٌ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالنَّسَبِ وَالْمَالِ، فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لِأَحَدِهِمَا لَمْ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ طَالِبِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جَاحِدًا لِلْمَالِ فَطَالِبُ النَّفَقَةِ لَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمَالِ لِنَفْسِهِ، إنَّمَا يُثْبِتُهُ لِلْمَفْقُودِ، حَتَّى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَفْقُودِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّمَا يُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْمَفْقُودِ الْمُودَعُ، وَالْمَدْيُونُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ مَعْلُومِينَ لِلْقَاضِي فَعِلْمُ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِ الْمُودَعِ وَالْمَدْيُونِ، وَإِنْ أَعْطَاهُمَا الْمَدْيُونُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهُمَا الْمُودَعُ مِنْ الْوَدِيعَةِ. فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنَّ أَمْرَ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَفْقُودِ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مِلْكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ مِنْ حِفْظ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَمْرُ الْقَاضِي فِيهِ كَأَمْرِ الْمَفْقُودِ، وَإِنْ طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ وَوَلَدُهُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ وَكِيلًا يَتَقَاضَى دَيْنَهُ، وَيَجْمَعُ غَلَّاتِهِ، وَيُؤَاجِرُ رَقِيقَهُ فَعَلَى الْقَاضِي ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، لِلْغَائِبِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَجَمْعِهِ، وَلِلْحَاضِرِ بِوُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ، وَهِيَ النَّفَقَةُ، وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَاضَى وَيَقْبِضَ وَيُخَاصِمَ مِنْ يَجْحَدُ حَقًّا مِنْ عَقْدٍ يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِعَقْدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِقَبْضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ كَانَ حَقُّ الْقَبْضِ فِي هَذَا الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَهُ، فَأَمَّا كُلُّ دَيْنٍ كَانَ الْمَفْقُودُ تَوَلَّاهُ أَوْ نَصِيبٍ مِنْ عَقَارٍ أَوْ عَرْضٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يُخَاصِمُ فِيهِ مَنْ جَحَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَفْقُودِ، إنَّمَا هُوَ حَافِظٌ لِمَالِهِ فَقَطْ، وَحِفْظُهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، فَأَمَّا الْخُصُومَةُ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ قَطُّ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ، فَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَدْ وَلَّاهُ ذَلِكَ، وَرَآهُ، وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُضَاةُ يَعْنِي بِهَذَا الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنِهِ فِي وَصِيَّتِهِ عَزَلْتَ حَقَّ الْمَفْقُودِ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلْتَهُ عَلَى يَدَيْ وَكِيلِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِهِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَةِ الْمَفْقُودِ وَوَكِيلِهِ فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ، إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْقَاضِي فَيَقْضِيَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) الْمُجْتَهِدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ. (قُلْنَا:) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً، وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ. وَإِنْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ حَقًّا مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالِبٍ بِاسْتِحْقَاقٍ لَمْ يُلْتَفَت إلَى دَعْوَاهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَكِيلُ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ خَصْمًا لَهُ. أَمَّا الْوَكِيلُ فَلِأَنَّهُ نُصِّبَ لِلْحِفْظِ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَلِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ، فَإِنْ رَأَى الْقَاضِي سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِذَا رَجَعَ الْمَفْقُودُ حَيًّا لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ الْقَاضِي أَوْ وَكِيلُهُ بِأَمْرِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَغَلَّتِهِ وَدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَفْقُودِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَنْفَقُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إلَى النَّفَقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ وَسِعَهُمْ أَخْذُهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ طَعَامٌ فَأَكَلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ ثِيَابٌ فَلَبِسُوهَا لِلْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ إنْ بَاعُوا شَيْئًا مِنْهُ كَانُوا ضَامِنِينَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِي لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ. فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ بَيْعَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ الْقَاضِي مَا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ حَجْرًا عَلَى الْغَائِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ فَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ تَعَنُّتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي دَيْنَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ مَهْرُ امْرَأَتِهِ، وَالنَّفَقَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مِلْكِهِ بَلْ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَفْقُودِ مَالٌ، وَطَلَبَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَلْ يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ، وَقَالَ: لَا يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ. فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ هِنْدَ كَمَا رَوَيْنَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ نَفَقَةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 الزَّوْجَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَجِّهَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَيُلْزِمُهُ بِقَضَائِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ عَنْهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ مَعْلُومًا لَهُ، وَإِنْ أَرَادَتْ إثْبَاتَ النِّكَاحِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا عَلَى خَصْمٍ جَاحِدٍ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ خَصْمٌ عَنْهُ لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ، وَيَأْمُرُهَا بِأَنْ تَسْتَدِينَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ كَلَّفَهَا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعَادَتْ قَضَى عَلَى الزَّوْجِ بِمَا أَنْفَقَتْ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ لَمْ تُعِدْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَهَذَا مِنْهُ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا. (وَإِذَا) أَجَّرَ الْمَفْقُودُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْإِجَارَةُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُسْتَأْجِرُ بِدَفْعِ الْأُجْرَةِ إلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. (وَإِذَا) فُقِدَ الرَّجُلُ بِصِفِّينَ أَوْ بِالْجَمَلِ ثُمَّ اخْتَصَمَ وَرَثَتُهُ فِي مَالِهِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ مَاتَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَفْقُودُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَهُوَ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. (وَالْجَمَلُ) حَرْبٌ كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِالْبَصْرَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. (وَصِفِّينَ) كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى وَقْتِ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ كَانَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَالرَّجُلُ الَّذِي فُقِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُحَارِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ظَاهِرًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ مَاتَ زَمَانَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَتَرَكَ أَخًا لِأُمِّهِ وَلِلْمَفْقُودِ عَصَبَةٌ، فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى سِنِّ الْمَفْقُودِ يَوْمَ مَاتَ الِابْنُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ أُوَرِّثْ الِابْنَ مِنْهُ شَيْئًا لِبَقَائِهِ حَيًّا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَلَمْ أُوَرِّثْهُ مِنْ أَبِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِوِرَاثَتِهِ عَنْهُ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَالْحَيُّ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَخْلُفُ الْمَيِّتَ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ لَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ يَبْقَى لَا مُوجِبَ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمَفْقُودَ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ يَكُونُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ لِعَصَبَتِهِ الْحَيِّ بَعْدَ مَا يَمْضِي مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ حِينَ مَاتَ ابْنُهُ جَعَلْتَ الْمِيرَاثَ لِابْنِهِ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مَعْلُومٌ هُنَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ، فَإِذَا صَارَ مَالُ الْمَفْقُودِ مِيرَاثًا لَهُ كَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا عَنْ ابْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ مِنْهُ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِعَصَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ بَعْضُ مَنْ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ قَبْلَ هَذَا فَنَصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ يُوقَفُ إلَى أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 يَتَبَيَّنَ حَالُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَشْتَبِهُ الْحَالُ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ فَيُوقَفُ نَصِيبُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى سِهَامِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْجَنِينِ إذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ فَيَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْ الْمَيِّتِ كَسَائِرِ وَرَثَتِهِ يَوْمَ مَاتَ. [فُقِدَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ وَوَلَدٌ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ] وَإِذَا فُقِدَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ وَوَلَدٌ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وُقِفَ مَالُهُ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ مِنْ مَالِهِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيُحْكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ، وَكَذَلِكَ اسْتِسْعَاءُ أَوْلَادِهِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَسْعَى الْوَلَدُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَقِيقَةً، فَكَيْفَ يُسْتَسْعَى وَلَدُهُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا، وَلَهُ مَالٌ، وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ الصِّغَارِ وَبَنَاتِهِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ فِي كَسْبِهِ أَنْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَكَذَلِكَ يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا كَوَلَدِ الْحُرِّ وَزَوْجَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ هُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمْ فَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ، فَإِنْ مَاتَ ابْنٌ لَهُ وُلِدَ فِي مُكَاتَبَتِهِ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَالُهُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَفْقُودُ حَيًّا حِينَ اكْتَسَبَ هَذَا الْوَلَدُ فَكَسْبُهُ لِلْمَفْقُودِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتَا فَكَسْبُهُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَةُ أَبِيهِ مِنْ مَالِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقِّ بَقِيَ مَوْقُوفًا، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ لَمْ أُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ أَتَعَرَّضْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَالِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذِي الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَهُمْ كِبَارٌ أَنَّ أَبُوهُمْ قَدْ مَاتَ وَمَالُهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ فَأَدَّوْا الْكِتَابَةَ وَقَسَمُوا الْمَالَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَارْتَفَعُوا إلَى الْقَاضِي نَفَّذَ الْقَاضِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَقِسْمَتُهُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَجْحَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِكَلَامِهِ، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمُنَاقِضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَقْتَسِمُوا حَتَّى ارْتَفَعُوا إلَيْهِ، وَأَقَرُّوا بِهِ عِنْدَهُ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ فَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِمْ فِي حَقِّهِمْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرُّوا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ بَدَأَتْ بِهِ قَبْلَ الْمُكَاتَبَةِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْمُكَاتَبَةِ حَتَّى إذَا عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَنْهُ دُونَ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى عُرِفَ ذَلِكَ بِقَضِيَّةِ الْعُقُولِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ. [الْحُرُّ إذَا أَقَرَّ وَرَثَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ] وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا أَقَرَّ وَرَثَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي دَيْنَهُ، وَيَقْسِمُ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِذَلِكَ. وَإِنْ جَحَدَ مَوْتَهُ لَمْ أَنْزِعْهُ مِنْ يَدِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ فِي هَذَا الْمَالِ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ لَا يُخْرِجُ الْقَاضِي الْمَالَ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ. وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ الْمَفْقُودَ ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ حُرٌّ، وَلَهُ إخْوَةٌ أَحْرَارٌ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ، وَالْمِيرَاثُ لَهُ دُونَ الْإِخْوَةِ فَشَرْطُ تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ عَدَمُ أَبٍ هُوَ وَارِثٌ، وَبِالظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الشَّرْطُ فَلِهَذَا لَا يَقْضِي لَهُمْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ الْأَبِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَاتِبُ الْمُكَاتَبَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَفْقُودَ كَإِعْتَاقِهِ الْمُكَاتَبَ الْمَفْقُودَ، وَلَا يُنْفِقْ عَلَى وَلَدِهِ الصِّغَارِ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ، فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ لِلْإِخْوَةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبِ الْمَفْقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ حَقِيقَةً وَقْتَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ. وَلَوْ ادَّعَى مَمْلُوكُ الْمَفْقُودِ الْعِتْقَ، وَأَقَامَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِانْعِدَامِ خَصْمٍ حَاضِرٍ. (قَالَ:) وَلَمْ أَدَعْ أَوْلَادَهُ يَبِيعُونَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ فَبَعْدَهَا أَوْلَى، وَمُرَادُهُ بَعْدُ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَيِّتًا فَالْوَلَدُ خَصْمٌ فِي الْبَيِّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا الْمَمْلُوكُ عَلَى الْعِتْقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَتُهُ الطَّلَاقَ أَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا عَلَى ذَلِكَ لِانْعِدَامِ الْخَصْمِ. [أَوْصَى رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِوَصِيَّةٍ] وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِوَصِيَّةٍ لَمْ أَقْضِ بِهَا لَهُ، وَلَمْ أُبْطِلْهَا وَلَمْ أُنْفِقْ عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَشَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى لَهُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْد مَوْتِ الْمُوصِي كَالْمِيرَاثِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، وَلَا يُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ. (رَجُلٌ) مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنٍ، وَتَرَكَ ابْنًا مَفْقُودًا، وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ فَارْتَفَعُوا إلَى الْقَاضِي، وَأَقَرُّوا أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَالْقَاضِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُوقِفُ شَيْئًا مِنْهُ لِلْمَفْقُودِ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَتَعَرَّضُ لِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَلَا خَصْمَ هُنَا، فَإِنَّ أَوْلَادَ الْمَفْقُودِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَكُونُونَ خَصْمًا عَنْ الْمَفْقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَنَّ الْمَفْقُودَ حَيٌّ فَيَرِثُ أَوْ مَيِّتٌ فَلَا يَرِثُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 فَلِهَذَا لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ أَيْدِيهِمَا بِخِلَافِ مَالِ الْمَفْقُودِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلَادِهِ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النَّفَقَةَ فِي مِلْكِهِ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ الِابْنَتَانِ: قَدْ مَاتَ أَخُونَا، وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ: هُوَ مَفْقُودٌ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ قَدْ أَقَرَّ لِوَلَدِ الِابْنِ بِبَعْضِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهُمْ قَدْ رَدُّوا إقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: أَبُونَا مَفْقُودٌ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَيِّتِ فِي يَدَيْ وَلَدِ الِابْنِ الْمَفْقُودِ، وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ مِيرَاثَهُمَا، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ، فَإِنَّهُ يُعْطَى لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ لَهُمَا، فَإِنَّ الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَخِيهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَهُمَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا الْأَقَلَّ وَهُوَ النِّصْفُ، وَيَتْرُكُ الْبَاقِي فِي يَدِ وَلَدِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَهُمَا، وَلَا لِأَبِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَقَالَتْ الِابْنَتَانِ: مَاتَ أَخُونَا قَبْلَ أَبِينَا، وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ: هُوَ مَفْقُودٌ فَإِنْ أَقَرَّ الَّذِي فِي - يَدِهِ الْمَالُ بِالْمَالِ لِلْمَيِّتِ، وَبِأَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ لَهُمَا، وَالْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى يَظْهَرَ خَصْمُهُ، وَمُسْتَحِقُّهُ بِظُهُورِ حَالِ الْمَفْقُودِ. وَإِنْ قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْع الثُّلُثَيْنِ إلَى الِابْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ لِلِابْنَتَيْنِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ إقْرَارِهِ يَقُولُ أَوْلَادُ الِابْنِ: أَبُونَا مَفْقُودٌ لِأَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَدَّعُونَ شَيْئًا، ثُمَّ يُوقَفُ الثُّلُثُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ خَصْمُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ. وَلَوْ جَحَدَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لِلْمَيِّتِ فَأَقَامَتْ الِابْنَتَانِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا الْمَالَ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمَفْقُودِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَهُوَ الْوَارِثُ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَلَدُهُ الْوَارِثُ مَعَهُمَا، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِأَبِيهِمَا فِي الْمَالِ، وَالْأَبُ مَيِّتٌ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لَهُمَا، وَهُوَ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي يَخْرُجُ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ فَيُوضَعُ فِي يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ جَحَدَهُ وَظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ بِجُحُودِهِ، فَلَا يُؤْتَمَنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُتَحَرَّزُ زَمَنَ تَنَاوُلِ مَا يُزْعَمُ أَنَّهُ مِلْكٌ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَذُو الْيَدِ كَانَ هُنَاكَ مُقِرًّا بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمَيِّتِ، وَقَدْ انْتَفَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فَكَانَ تَرْكُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ أَوْلَى لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ بِالتَّجْرِبَةِ. فَإِنْ ادَّعَى وَلَدُ الْمَفْقُودِ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ لَمْ أَدْفَعْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 إلَيْهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِمْ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ أَبَاهُمْ إنْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْجَدِّ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الثُّلُثَ مِيرَاثًا مِنْ الْجَدِّ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدَّ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النِّصْفَ مِيرَاثًا مِنْ أَبِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ لَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ، وَنَفَقَتُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي مَالِ أَبِيهِمْ، وَالْمِلْكُ لِأَبِيهِمْ فِي هَذَا الْمَالِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ أَرْضًا فِي أَيْدِي الِابْنَتَيْنِ وَوَلَدِ الِابْنِ فَأَقَرُّوا جَمِيعًا أَنَّ الِابْنَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَاقْتَسَمُوا الْأَرْضَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ مَفْقُودٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُمْضِي الْقِسْمَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِتَرَاضِيهِمْ، وَقَوْلُهُمْ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مَقْبُولٌ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مَاضِيَةً، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَفْقُودٌ لِأَنَّهُمْ مُنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمُنَاقِضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي وَلَدِ الِابْنِ رَجُلٌ غَائِبٌ لَمْ يَشْهَدْ الْقِسْمَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ ثُمَّ قَدِمَ فَقَالَ: وَالِدِي مَفْقُودٌ، وَأَرَادَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بِمُقَابِلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْمِلْكَ لِلْمَفْقُودِ، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ، وَلَا وَارِثَ لِأَنَّهُ حَيٌّ، وَنَقْضُ الْقِسْمَةِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ حَقًّا، وَهُوَ إبْقَاءُ يَدِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَقِسْمَتُهُمْ قَبْلَ حُضُورِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَغِيرٌ فَأَدْرَكَ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ قَبْلَ جَدِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ فَيَقْسِمُهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمْ قِسْمَةً مُسْتَقْبَلَةً بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بَعْضَ الْمِلْكِ هُنَا، وَيَدَّعِي بُطْلَانَ قِسْمَتِهِمْ؛ لِأَنَّ تَرَاضِيهِمْ عَلَى الْقِسْمَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ، وَهُمْ مُصَدِّقُونَ لَهُ فِيمَا يَدَّعِي، فَلِهَذَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَسَمَهُ بَيْنَ الْحُضُورِ، وَعَزَلَ نَصِيبَ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ قِسْمَتَهُ فِي حَقِّهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ لِأَنَّ لِلْقَاضِي نَوْعَ وِلَايَةٍ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ تِلْكَ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ، وَلَوْ مَاتَتْ ابْنَةُ هَذَا الِابْنِ الْمَفْقُودِ فَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ أَخِيهَا لَمْ أَتَعَرَّضْ لَهُ، وَلَمْ أَقِفْ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ فَيَكُونُ وَارِثًا أَوْ مَيِّتٌ فَلَا يَكُونُ وَارِثًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِيَدِ ذِي الْيَدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ. وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 أَجْنَبِيٍّ لَمْ أَدْفَعْ إلَى أَخِيهَا مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَوْرِيثِ الْأَخِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَيِّتًا فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الشَّرْطُ مَعْلُومًا بِالْحُجَّةِ لَا يُدْفَعُ إلَى الْأَخِ مِنْ الْمِيرَاث شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا، وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْأَبَ مَفْقُودٌ لَمْ أَقْسِمْ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُبْنَى عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِمْ بِالْمِيرَاثِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِ الْأَبِ الْمَفْقُودِ قَبْلَ مَوْتِ الِابْنَةِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ امْرَأَةٌ فَمَاتَتْ، وَمِيرَاثُهَا فِي يَدِ وَلَدِهَا لَمْ أَقْسِمْ لِلْمَفْقُودِ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبًا؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَمْ أَقِفْ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِيَدِ ذِي الْيَدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِنْ أَرَادَ وَلَدُهَا قِسْمَةَ مِيرَاثِهَا وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ أَقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِ الْمَفْقُودِ، ثُمَّ يُعْزَلُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ، فَيُوقَفُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ. أَمَّا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ فَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا قَضَاءً عَلَى الْمَفْقُودِ، وَهُوَ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَا يُوَجِّهُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ ثَبَتَ لِلْقَاضِي وِلَايَةٌ تُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ لَمَّا ظَهَرَ مَوْتُهُ فَيَعْزِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ بِظُهُورِ مَوْتِهِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ قَضَيْتُ لَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا الْمِقْدَارِ، فَيُسَلَّمُ إلَيْهِمْ وَيُوقَفُ الرُّبْعُ عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَفِي الْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ عَنْ نَصِيبِهِمْ، وَذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَهُنَا الْمَالُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقَضَاؤُهُ لَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ لَا يَمَسُّ الْمَفْقُودَ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ اسْتِحْقَاقَهُ لَهُمْ. وَإِذَا فُقِدَ الْمُرْتَدُّ وَلَمْ يُعْلَمْ أَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا، فَإِنَّهُ يُوقَفُ مِيرَاثُهُ كَمَا يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَكَمَا يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَكَذَلِكَ يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ الْمُرْتَدِّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ قُسِمَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَمْ يُحْبَسْ لِلْمَفْقُودِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْرُومٌ عَنْ الْمِيرَاثِ بِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا، وَإِسْلَامُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُقَلِّلُ الْمَعْلُومَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ الْمَفْقُودَ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُحْبَسْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مِيرَاثِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي يَحْرِمُهُ مَعْلُومٌ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْهُومٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِيرَاثُهُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ أَحَدًا، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يُفْقَدُ، وَلَهُ بَنُونَ مُسْلِمُونَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُوقَفْ لِلْأَبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِ مَعْلُومٌ، فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ. وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فُقِدَ وَلَهُ بَنُونَ كُفَّارٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَسَمْتُ مِيرَاثَهُ بَيْنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 إخْوَتِهِ، وَلَمْ أَوْقِفْ عَلَى أَبِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَسَبَبُ حِرْمَانِهِ مُتَيَقَّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْغَصْبِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً:) (اعْلَمْ) بِأَنَّ الِاغْتِصَابَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِمَا هُوَ عُدْوَانٌ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ لُغَةً فِي كُلِّ بَابٍ مَالًا كَانَ الْمَأْخُوذُ أَوْ غَيْرَ مَالٍ. يُقَالُ: غُصِبَتْ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَوَلَدُهُ، وَلَكِنَّ فِي الشَّرْعِ تَمَامَ حُكْمِ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ مَالًا مُتَقَوِّمًا. ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، وَقَدْ تَأَكَّدَتْ حُرْمَتُهُ فِي الشَّرْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ: «أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا» (فَثَبَتَ) أَنَّ الْفِعْلَ عُدْوَانٌ مُحَرَّمٌ فِي الْمَالِ كَهُوَ فِي النَّفْسِ؛ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَأْثَمُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» إلَّا إنَّ الْمَأْثَمَ عِنْدَ قَصْدِ الْفَاعِلِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخْطِئًا بِأَنْ ظَنَّ الْمَأْخُوذَ مَالَهُ أَوْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنْ اشْتَرَى عَيْنًا ثُمَّ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَالْمُرَادُ الْمَأْثَمُ. فَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَثَابِتٌ سَوَاءٌ كَانَ آثِمًا فِيهِ أَوْ غَيْرَ آثَمْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ لِحَقِّ صَاحِبِهِ وَحَقُّهُ مَرْعِيٌّ، وَإِنَّ الْآخِذَ مَعْذُورٌ شَرْعًا لِجَهْلِهِ وَعَدَمِ قَصْدِهِ، وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الثَّابِتُ بِالْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عَلَى الْمَالِكِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ وُجُوبُ الرَّدِّ عَلَى الْآخِذِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُفَوِّتٌ عَلَيْهِ يَدَهُ بِالْأَخْذِ، وَالْيَدُ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ مَقْصُودٌ بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى التَّصَرُّفِ وَالِانْتِفَاعِ وَيُحَصِّلُ ثَمَرَاتِ الْمِلْكِ، فَعَلَى الْمُفَوِّتِ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ نَسْخُ فِعْلِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرَرُ وَالْخُسْرَانُ عَنْ صَاحِبِهِ. وَأَتَمُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 وُجُوهِهِ رَدُّ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَفِيهِ إعَادَةُ الْعَيْنِ إلَى يَدِهِ كَمَا كَانَ فَهُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ جُبْرَانًا لِمَا فَوَّتَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْيَدِ الْمَقْصُودَةِ كَتَفْوِيتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ. (ثُمَّ) الْمِلْكُ نَوْعَانِ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ، فَالْكَامِلُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى. وَالْقَاصِرُ هُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى أَيْ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هُوَ الْمِثْلُ التَّامُّ إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمِثْلُ الْقَاصِرُ خَلَفًا عَنْ الْمِثْلِ التَّامِّ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَعَلَيْهِ الْمِثْلُ عِنْدَنَا. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: عَلَيْهِ رَدُّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيصَالُ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّةُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَتَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي اعْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مَجَازًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَالْمُجَازَاةُ لَا تَكُونُ سَيِّئَةً، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجُبْرَانُ، وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةَ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ، وَفِي الْقِيمَةِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ، فَكَانَ إيجَادُ الْمِثْلِ أَعْدَلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْمِثْلِ الْقَاصِرِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ لِلضَّرُورَةِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ الْآنَ يَكُونُ، فَإِنَّ الْمِثْلَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ لَهُ حَتَّى لَوْ صَبَرَ إلَى مَجِيءِ أَوَانِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ، فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمِثْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَدَاءِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَمَّا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فَقَدْ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ وَذَلِكَ الْغَصْبُ، فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: أَصْلُ الْغَصْبِ أَوْجَبَ الْمِثْلَ خَلَفًا عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَمَانَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ. وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَالْفُلُوسِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا عَدَدًا، ثُمَّ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمِثْلُ فِيمَا يُؤَدَّى بِهِ الضَّمَانُ مَنْصُوصٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالنَّصِّ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْثَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ قَطْعًا، وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَا يُؤَدَّى بِمَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ لِتَعَذُّرِ أَدَاءِ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُمَاثَلَةُ فِي آحَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ جُبْرَانُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ آحَادَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ. [الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ] وَالْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَنَا وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَانْكَسَرَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ جَاءَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بِقَصْعَةٍ مِثْلِ تِلْكَ الْقَصْعَةِ فَرَدَّتْهَا، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْغَيْرَةِ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَغْرُورِ: يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ، الْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ وَلَكِنَّا نَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لَا عَلَى طَرِيقِ الضَّمَانِ، وَقَدْ كَانَتْ الْقَصْعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ يَعْنِي بِقِيمَةِ الْغُلَامِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ. ثُمَّ بَدَأَ مُحَمَّدٌ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: مَنْ كَسَرَ عَصَى فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: مَنْ كَسَرَ عَصَى فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: مُرَادُهُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ خَاصَّةً وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ أَوْ يُحْمَلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى الْعِصِيّ الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا فِي الْمَالِيَّةِ كَالسِّهَامِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى الْعِصِيّ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهَا كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ آحَادَهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكَسْرِ مَا يَكُونُ فَاحِشًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ التَّقَضِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَسْرُ يَسِيرًا فَلَيْسَ عَلَى الْكَاسِرِ إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَوِّتٍ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَفِي الْكَسْرِ الْفَاحِشِ هُوَ مُسْتَهْلِكٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْعَيْنِ، فَكَانَ لِصَاحِبِهَا حَقُّ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ التَّعْيِيبَ هُنَاكَ فَاحِشًا كَانَ أَوْ يَسِيرًا يُثْبِتُ لِصَاحِبِهَا الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ الْعَيْنَ وَلَا يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ وَيُضَمِّنَهُ مِثْلَهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مُتَعَذِّرٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ قَدْرَ مِلْكِهِ وَزِيَادَةً، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ لِلْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ قِيمَةً كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا قِيمَةً إذَا قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَلَهَا قِيمَةٌ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِصَاحِبِهَا عِنْدَ تَفْوِيتِ الْغَاصِبِ الْجَوْدَةَ، وَمَا لَا يُتَقَوَّمُ شَرْعًا. فَالْجِنْسُ وَغَيْرُ الْجِنْسِ فِيهِ سَوَاءٌ، كَالْخَمْرِ وَالصَّنْعَةِ مِنْ الْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ، ثُمَّ وُجُوبُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَإِنَّ حُكْمَ الرِّبَا يَجْرِي بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا خُصُوصًا عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ عِنْدَهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» يَعْنِي فِي الْمَالِيَّةِ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ هَذِهِ الْجَوْدَةِ حَتَّى لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ، وَمَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ جَائِزٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ حَالَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ عِنْدَنَا لَيْسَ لِفَوَاتِ الْجَوْدَةِ بَلْ لِلتَّغَيُّرِ الْمُتَمَكِّنِ بِفِعْلِهِ فِي الْعَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ قُلْنَا: لَوْ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ كَانَ فِيهِ إقْرَارٌ بِجَوْدَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إقْرَارٌ بِجَوْدَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ مَعَ الْأَصْلِ تَبَعًا، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْمِثْلَ، وَقَوْلُ شُرَيْحٍ هُوَ دَلِيلٌ لَهُ عَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَذُكِرَ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ بَنِي عَمِّكَ عَدَوْا عَلَى إبِلِي فَقَطَعُوا أَلْبَانَهَا، وَأَكَلُوا فِصْلَانَهَا فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذًا نُعْطِيكَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِكَ، وَفِصْلَانًا مِثْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 فِصْلَانِكَ، قَالَ: إذًا تَنْقَطِعُ أَلْبَانُهَا، وَيَمُوتُ فِصْلَانُهَا حَتَّى تَبْلُغَ الْوَادِي، فَغَمَزَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَالَ: بَيْنِي، وَبَيْنَكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَعَمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَى أَنْ يَأْتِيَ هَذَا وَادِيهِ فَيُعْطَى ثَمَّةَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِهِ، وَفِصْلَانًا مِثْلَ فِصْلَانِهِ فَرَضِيَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ وَأَعْطَاهُ وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَمْ يَكُنْ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ بِالتَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِجِنَايَةِ بَنِي عَمِّهِ إلَّا أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَتَبَرَّعُ بِأَدَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمِّهِ، وَيَقُولُ إنَّ قُوَّتَهُمْ وَنُصْرَتَهُمْ بِي، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ فَرْطُ الْمَيْلِ إلَى أَقَارِبِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ذَكَرَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشُّورَى فَقَالَ: إنَّهُ كُلِّفَ بِأَقَارِبِهِ وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ الْأَعْرَابِيُّ يُطَالِبُهُ، وَإِنَّمَا غَمَزَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ بِعَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا كَانَ بَيْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبَيْنَهُ مِنْ النُّفْرَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ يُخَاصِمُهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يُحَكِّمَ بِرِضَى الْخَصْمِ مَنْ يَنْظُرُ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَدَّ مِثْلِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمُسْتَهْلَكِ يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ بِذَلِكَ وَانْقَادَ لَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجُبْرَانُ، وَرَفْعُ الْخُسْرَانِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَأَدَاءِ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ تَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ. وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُسْلِمًا كَسَرَ دِنًّا مِنْ خَمْرٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَضَمَّنَهُ شُرَيْحٌ قِيمَةَ الْخَمْرِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّهِمْ لِتَمَامِ إحْرَازِهَا مِنْهُمْ بِحِمَايَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهَا الْمَالِيَّةَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَالُ مُتَقَوِّمًا بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ الْأَيْدِي الْمُتَعَرِّضَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَتِمُّ إحْرَازُهَا مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. (ثُمَّ) فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْخَمْرِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ الْإِتْلَافِ دُونَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَاجِزٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْمِثْلِ يَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَضْمِينَ قِيمَةِ الدَّنِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّاوِي مَا هُوَ الْمُشْكِلُ، وَهُوَ تَضْمِينُهُ قِيمَةَ الْخَمْرِ. (وَإِذَا) غَصَبَ الرَّجُلُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَازْدَادَتْ عِنْدَهُ فَالزِّيَادَةُ نَوْعَانِ مُنْفَصِلَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 مِنْهَا كَالْوَلَدِ وَالْعُقْرِ، وَمُتَّصِلَةٌ كَالسِّمَنِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ، وَفِي الْكِتَابِ بَدَأَ بِبَيَانِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِبَيَانِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَيَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهَا عِنْدَنَا. (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَحْدُثُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّهَا لَمَّا تَوَلَّدَتْ مِنْ أَصْلٍ مَضْمُونٍ بِيَدٍ مُتَعَدِّيَةٍ فَتَحْدُثُ مَضْمُونَةً كَزَوَائِدِ الصَّيْدِ الْمُخْرَجِ مِنْ الْحَرَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَالْأَصْلِ. (ثُمَّ) لَهُ فِي بَيَانِ الْمَذْهَبِ طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الزِّيَادَةَ مَغْصُوبَةٌ بِمُبَاشَرَةٍ مِنْ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَلَّكُونَ بِهَذِهِ الْيَدِ، وَيُسَمُّونَهُ غَصْبًا، فَالشَّرْعُ أَبْطَلَ حُكْمَ الْمِلْكِ بِهَا فِي كُلِّ مُحْتَرَمٍ، وَأَثْبَتَ الضَّمَانَ، وَبَقِيَ حُكْمُ الْمِلْكِ بِهَا فِي كُلِّ مُبَاحٍ كَالصَّيْدِ، ثُمَّ إنَّمَا يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُثْبِتٌ يَدَهُ عَلَى الْوَلَدِ حَتَّى لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ إنْسَانٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. (وَالثَّانِي) هُوَ أَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْوَلَدِ تَسْبِيبًا، فَإِنَّ غَصْبَ الْأُمِّ وَإِمْسَاكَهَا إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ يُمْسِكُونَ الْأُمَّهَاتِ لِتَحْصِيلِ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا تَسْبِيبٌ هُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَارَةً وَبِالْغَصْبِ أُخْرَى، وَفِي الْإِتْلَافِ الْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا يُجْعَلُ كَالْمُبَاشِرِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَصْبِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ؛ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ، وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ فِي الزِّيَادَةِ تَسْبِيبًا وَلَا مُبَاشَرَةً؛ لِأَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ يَدُهُ مُفَوِّتًا لِيَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، فَلَا يَجِبُ إلَّا بِتَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْغَصْبِ تَفْوِيتُ الْعَيْنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ بِإِزَالَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَمَا كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَالِكِ قَطُّ، وَلَا زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَخْذِهِ لِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْغَاصِبِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ الْغَاصِبُ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ حَتَّى يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ، فَإِذَا مَنَعَهُ يَتَحَقَّقُ التَّفْوِيتُ بِقَصْرِ يَدِهِ عَنْهُ بِالْمَنْعِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالثَّوْبِ إذَا هَبَّتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِيلَاءِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَقْصُودٌ عَلَى الْمَحِلِّ فَيَتِمُّ سَبَبُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحِلِّ، وَالضَّمَانُ جُبْرَانٌ لِحَقِّ الْمَالِكِ، فَلَا يَتِمُّ سَبَبُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ ضَمَانِ صَيْدِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَمَانٌ إتْلَافُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ بِالْحَرَمِ أَمَّنَ الصَّيْدَ، وَمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنْفِيرِهِ وَاسْتِيحَاشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَيْدِي، فَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ يَكُونُ إتْلَافًا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي الْوَلَدِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَمَحْفُوظَةٌ بِالْأَيْدِي، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ إتْلَافًا لِشَيْءٍ عَلَى الْمَالِكِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْحَقَّ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ لِلشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ يُطَالِبُهُ بِرَدِّ الْأَصْلِ مَعَ وَلَدِهِ إلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنَّمَا وُجِدَ الْمَنْعُ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ. وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الرَّدِّ إلَى الْحَرَمِ لَا يَضْمَنُ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ هُوَ ضَامِنٌ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الضَّمَانِ فِي الزِّيَادَةِ بِتَوَلُّدِهَا مِنْ الْأَصْلِ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ فِي الْعَيْنِ بَلْ هُوَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ الْعَيْنُ بِهِ مَجَازًا. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مَغْصُوبٌ عَلَيْهِ، وَالْغَصْبُ صِفَةٌ لِلْغَاصِبِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَحِلِّ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ حَقِيقَةً فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ، وَإِنْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْوَلَدَ وَسَلَّمَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى الْأَمَانَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ. (فَإِنْ قِيلَ:) فَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ فِي الْوَلَدِ. (قُلْنَا:) بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ وَتَسْلِيمِهِ، فَلِوُجُودِ التَّفْوِيتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضَامِنًا، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ، وَلَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَضْمُونَةٌ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عِنْدَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَصِيرُ مَغْصُوبَةً بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ يَدِهِ عَلَى الْأَصْلِ يَدَ غَصْبٍ أَنْ تَكُونَ عَلَى الزِّيَادَةِ يَدَ غَصْبٍ أَيْضًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ هُوَ يَدُ الْغَصْبِ بَلْ الْيَدُ الْغَاصِبَةِ؛ لِأَنَّ لِيَدِ الْغَصْبِ حُكْمَ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ لَا عَلَى حُكْمِهِ فَأَصْلُ السَّبَبِ الْيَدُ الْغَاصِبَةُ الْمُفَوِّتَةُ لِيَدِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ مَنَعَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الزِّيَادَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ قَصْرَ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا يَثْبُتُ بِالْمَنْعِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالرَّدِّ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ لَا تَتَحَقَّقُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 رَدُّهَا بِدُونِ الْأَصْلِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذَا الْمَنْعِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِدُونِ هَذَا الْمَنْعِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي بَدَنِهَا، ثُمَّ هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ إثْبَاتُ الْيَدِ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُسْتَدَامُ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِاسْتِدَامَتِهِ حُكْمَ إنْشَائِهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْغَصْبِ عِنْدَ الْهَلَاكِ. وَعِنْدَنَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ بِابْتِدَاءِ الْغَصْبِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبْضِ الْعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مُتَعَدٍّ بِقَبْضِهَا لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّمَلُّكِ، وَفِي هَذَا الْقَبْضِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ حُكْمًا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهَا مِنْ الْغَاصِبِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي عَلَى طَرِيقِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا حَالَ قَبْضِهِ، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ الْأَوَّلِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ الثَّانِي قِيمَتَهَا وَقْتَ غَصْبِهِ. وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَوْلَى بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الثَّانِي يَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا الْإِبْرَاءِ تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ، وَالْغَاصِبُ الثَّانِي مُفَوِّتٌ لِهَذِهِ الْيَدِ، فَإِذَا صَارَتْ كَيَدِ الْمَالِكِ كَانَ هُوَ ضَامِنًا بِتَفْوِيتِهِ يَدَ الْمَالِكِ حُكْمًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا فِي الْكِتَابِ. (وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَمَانَةً، وَقَدْ تَعَدَّى عَلَيْهَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهَا بِزِيَادَتِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، وَكَمَا لَوْ قَتَلَهَا بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالتَّسْلِيمُ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ الشَّيْئَيْنِ شَاءَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ اسْتِهْلَاكٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ مِنْهُ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْمِلْكِ لَهُ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ، فَهُوَ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بَاشَرَ سَبَبًا لَوْ أَثْبَتَهُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيِّنَةِ قَضَى الْقَاضِي بِالْمِلْكِ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 لِلْمِلْكِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا، وَالِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالِاسْتِهْلَاكِ بِالْقَتْلِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَغْصُوبِ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ، وَالتَّفْوِيتُ بَعْدَ التَّفْوِيتِ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَتَحَقَّقُ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا، وَتَكْرَارُ الْغَصْبِ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا، فَلَا يُعْتَبَرُ كَتَكْرَارِ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَاقٍ بَعْدَ بَيْعِ الْغَاصِبِ كَمَا بَعْدَ غَصْبِهِ. وَالِاسْتِهْلَاكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَفْوِيتِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ بِتَفْوِيتِ الْمِلْكِ فِيهِ حُكْمًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ. (فَإِذَا) ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ: السَّبَبُ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْغَصْبَ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الضَّمَانِ الثَّابِتِ بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ عَنْهُ نَسَخَ فِعْلَهُ بِإِعَادَتِهِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ لَا اكْتِسَابِ غَصْبٍ آخَرَ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا إلَّا بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تُفْرَدُ بِالْغَصْبِ، فَلَا تُفْرَدُ بِضَمَانِ الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْغَصْبِ مَلَكَ الْأَصْلَ بِزِيَادَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ هُنَا، وَبَيْعُ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهَا؛ لِأَنَّ ذَاكَ ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَالزِّيَادَةُ تُفْرَدُ بِالْإِتْلَافِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ السَّبَبِ الثَّانِي هُنَاكَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِالْغَصْبِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ السَّبَبِ الثَّانِي فِي حَقِّ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا، ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْقَتْلِ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَةَ لَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَاسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هَلْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً، ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَجَعَلَ يُفَرِّقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَأَمَّا الْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ فَلَا يَتَحَقَّقُ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ثَمَّةَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ بَيَانَ الْخِلَافِ فِي الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا الْغَاصِبُ وَأَكَلَهَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا، وَحُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الدَّوَابِّ، وَحُكْمُ الْغَاصِبِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ حَالًا، وَيَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِهِ، فَالِاسْتِهْلَاكُ وَإِنْ تَحَقَّقَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ، فَإِنَّ حُكْمَ ضَمَانِ الْقَتْلِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَكَانَ اعْتِبَارُ السَّبَبِ الثَّانِي مُفِيدًا، وَهَذَا بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا بَاعَهَا، وَسَلَّمَهَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّا نُثْبِتُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بَعْدَ الْغَصْبِ، وَهُنَاكَ الزِّيَادَةُ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ، وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا سُلِّمَ لَهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، فَلَا يُسَلَّمُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ أَيْضًا، فَلِهَذَا اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْجَارِيَةِ مَعَ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ فَاتَ جُزْءٌ مَضْمُونٌ مِنْهَا، وَلَوْ فَاتَتْ كُلُّهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا فَعَلَيْهِ رَدُّهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَالِكَ الْأَصْلِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ فِي الْوَلَدِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمُؤْنَةِ الرَّدِّ فِي الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّهُمَا وَفِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ مِنْ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ شَيْئًا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْ النُّقْصَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مَضْمُونٍ مِنْهَا، فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْإِسْقَاطُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ بِرَدِّ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ لَهُ، وَأَدَاءُ الضَّمَانِ مِلْكُ غَيْرِ الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لِجُبْرَانِ مَا فَاتَ عَلَيْهِ، وَمِلْكَهُ لَا يَكُونُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ قَائِمًا مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْفَائِتُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَمَانَةُ خَلَفًا عَنْ الْمَضْمُونِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا عَيْبٌ آخَرُ فِي يَدِهِ، وَفِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِنُقْصَانِ ذَلِكَ الْعَيْبِ لَمْ يَكُنِ الْوَلَدُ جَابِرًا لِذَلِكَ النُّقْصَانِ. وَشَبَّهَ هَذَا بِمَنْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرَةِ إنْسَانٍ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ عَنْ الْقَاطِعِ بِمَا نَبَتَ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَرْشَ فَرَدَّهَا مَعَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مِلْكِ الْمَضْمُونِ لَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ بِهِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَلَعَ سِنَّهَا فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى أَوْ صَارَتْ مَهْزُولَةً ثُمَّ سَمِنَتْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْعَدَمَ سَبَبُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إفْسَادُ الْمَنْبَتِ لَا مُجَرَّدُ الْقَلْعِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ نَبَاتُ السِّنِّ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْغَاصِبِ شَيْءٌ أَيْضًا، وَهُنَا السَّبَبُ وَهُوَ النُّقْصَانُ قَائِمٌ مُشَاهَدٌ، وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِقِيمَتِهِ لَوْ حَصَلَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَتَخَيَّرْ بِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مُنْعَدِمٌ هُنَا حُكْمًا، وَالنَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حِسًّا أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ خَلَفٌ عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْوِلَادَةِ بِطَرِيقِ اتِّحَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ أَنَّ الْوِلَادَةَ أَوْجَبَتْ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ مَالِيَّةِ الْأَصْلِ وَحُدُوثَ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا بَلْ كَانَ عَيْبًا فِي الْأُمِّ أَوْ كَانَ وَصْفًا لَهَا، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا مَقْصُودًا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَالسَّبَبُ الْوَاحِدُ مَتَى أَثَّرَ فِي النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ كَالْبَيْعِ لَمَّا زَالَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَأَدْخَلَ الثَّمَنَ فِي مِلْكِهِ كَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لَهُ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ خَلَفٌ عَنْ مَالِيَّةِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ، فَكَمَا يَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ إذَا رُدَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ بِعَيْنِهِ بِأَنْ غَصَبَ بَقَرَةً فَقَطَعَ جُزْءًا مِنْهَا، ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مَعَ الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ يَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ بِرَدِّ الْخَلَفِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ عَنْ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ فَوَاتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَصْلُ السِّمَنِ وَالسِّنِّ، فَإِنَّ الْحَادِثَ هُنَاكَ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ، وَتَأْثِيرُ السَّبَبِ فِي الْخِلَافَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَحِلِّ، فَإِذَا جُعِلَ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ هُنَاكَ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ حَتَّى يَنْعَدِمَ بِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ فَهَذَا أَوْلَى، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ، فَإِنَّا لَا نَجْعَلُ الْغَاصِبَ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ بِرَدِّ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ نُبَرِّئُهُ بِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ سَبَبُ الضَّمَانِ بِرَدِّ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ مِلْكُهُ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى. (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالْوَلَدُ يَبْقَى مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَعْدَ انْعِدَامِ النُّقْصَانِ. (قُلْنَا:) لِأَنَّهُ فِي الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ خَلَفًا إنَّمَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ، وَإِنَّمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 كَانَ خَلَفًا فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ، فَلَا جَرَمَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ، وَهُوَ كَالتُّرَابِ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ لَا فِي الْمِلْكِ، فَبَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ يَبْقَى التُّرَابُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ خَلَفًا فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ. (وَإِذَا) ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ فِيهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْخِلَافَةِ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ لَمَّا انْعَقَدَ فِيهِ فَالْحَادِثُ فِيهِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يَلْتَحِقُ بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ السَّبَبِ، كَالزَّوَائِدِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَلْتَحِقُ بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ لِيَكُونَ رَدُّ الْخَلَفِ كَرَدِّ الْأَصْلِ، وَهَذَا يَنْتَهِي بِالرَّدِّ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ لَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّبَبِ لِهَذَا كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُعْتَبَرُ فِي انْقِسَامِ الثَّمَنِ، فَأَمَّا فِي السِّنِّ يَتَبَيَّنُ انْعِدَامُ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَادِثَ خَلَفٌ عَنْ الْفَائِتِ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَدَمُ إفْسَادِ الْمَنْبَتِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الرَّدِّ كَمَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَهُ. وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ بِالْقَلْعِ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي ضَمَانِهِ عِنْدَ الْقَلْعِ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بِالنَّبَاتِ بَقَاءُ الْأَصْلِ فِي ضَمَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَفِي قَطْعِ قَوَائِمِ الشَّجَرَةِ الْوَاجِبُ ضَمَانُ عَيْنِ مَا ذَهَبَ بِهِ الْقَاطِعُ وَهُوَ الْجُزْءُ الْمَقْطُوعُ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِنَبَاتِ مِثْلِهِ. ثُمَّ النَّبَاتُ هُنَاكَ لَيْسَ بِسَبَبِ الْقَطْعِ بَلْ بِبَقَاءِ الشَّجَرَةِ الْخَضِرَةِ النَّامِيَةِ، وَالِانْجِبَارُ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ، وَبِالْوَلَدِ وَفَاءً بِقِيمَتِهَا فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُبَرَّأُ بِرَدِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ لِجُبْرَانِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْوَفَاءِ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ قَدْرَ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ، وَيَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تُوجِبُ الْمَوْتَ فَالنُّقْصَانُ يَكُونُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ، فَأَمَّا مَوْتُ الْأُمِّ لَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ كَانَ النُّقْصَانُ مُنْجَبِرًا بِالْوَلَدِ، فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ قِيمَتَهَا، (وَفِي) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ كَامِلَةً لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوِلَادَةَ كَانَتْ مَوْتًا مِنْ أَصْلِهِ كَالْجُرْحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ لَا أَنْ يَكُونَ جُرْحًا، ثُمَّ قَتْلًا بِنَاءً عَلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْوِلَادَةَ مَوْتٌ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ، فَإِذَا انْعَدَمَ هُنَاكَ لَمْ يَكُنِ الْوَلَدُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا قَائِمًا مَقَامَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ اتِّحَادَ السَّبَبِ كَاتِّحَادِ الْمَحِلِّ، وَهُنَاكَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ إذَا كَانَ الْفَائِتُ بَعْضَ الْأَصْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 كَالسِّمَنِ وَالسِّنِّ لَا مَا إذَا كَانَ الْفَائِتُ جَمِيعَ الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ اتِّحَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ إذَا كَانَ الْفَائِتُ بَعْضَ الْأَصْلِ لَا مَا إذَا كَانَ الْفَائِتُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ تَبَعٍ مِثْلِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْأَصْلَ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ مَلَكَ الْأَصْلَ بِالضَّمَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّقْصَانَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يُجْبِرُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالْحَاجَةُ إلَى رَدِّ جَابِرِ النُّقْصَانِ هُنَا مُتَقَرِّرٌ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَاجَةِ يُجْعَلُ الْوَلَدُ خَلَفًا فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ بِهِ. (قَالَ:) وَإِذَا جَاءَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَدَّعِي جَارِيَتَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَأَقَامَ شَاهِدًا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا هَذَا إيَّاهُ، وَأَقَامَ شَاهِدًا آخَرَ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا حِينَ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَوْلِ، وَالْآخَرُ بِالْفِعْلِ، إذْ الْفِعْلُ غَيْرُ الْقَوْلِ، وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْمِلْكِ لَهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنْ شَهِدَا لَهُ بِالْمِلْكِ وَزَادَ أَحَدُهُمَا ذِكْرَ الْغَصْبِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، وَتَفَرَّدَ إحْدَاهُمَا بِالشَّهَادَةِ بِالْغَصْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقْضِي الْقَاضِي بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ جَارِيَتَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ أَبَدًا حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِحَقٍّ، وَلَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَرِثَهَا عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ لَهُ بِمِلْكٍ هُوَ أَصْلٌ فِيهِ مُسْتَفَادٌ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَالْآخَرُ شَهِدَ لَهُ بِمِلْكٍ هُوَ خَلَفٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِيهِ، وَأَحَدُ الْمِلْكَيْنِ مُتَبَايِنٌ عَنْ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَرُدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ مُوَرِّثِهِ، وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ مُوَرِّثِهِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَرُدُّ عَلَى بَائِعٍ بَائِعَهُ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِسَبَبِ شِرَاءِ بَائِعِهِ. (وَإِذَا) اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ حُكْمًا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ، وَالْآخَرُ بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ السَّبَبُ، إمَّا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ غَيْرُ الشِّرَاءِ، أَوْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ زَيْدٍ غَيْرُ الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا إيَّاهُ هَذَا وَقَدْ بَاعَهَا الْغَاصِبُ مِنْ رَجُلٍ فَسَلَّمَ رَبُّ الْجَارِيَةِ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْعَقَدَ مِنْ الْغَاصِبِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَالَهُ مُجِيزٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 حَالَ وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا. (وَقَدْ) ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُقَرِّرَ مِلْكَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ السَّبَبِ الْمُزِيلِ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِلْبَيْعِ بِهَذَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مِلْكٍ ظَاهِرٍ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْبَيْعِ مَوْقُوفًا، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْبَيْعِ إذَا ظَهَرَ بِالْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ هَلَكَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ بِنُفُوذِ الْبَيْعَ صَارَ الْغَاصِبُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ بِالْبَيْعِ بِطَرِيقِ أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَحَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَى الْوَكِيلِ، وَهُوَ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بَعْدَ ابْتِدَاءٍ فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ لِنُفُوذِ الْبَيْعِ بِالْإِجَازَةِ، وَكُلُّ مَا حَدَثَ لِلْجَارِيَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ كَسْبٍ أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ، وَمَا شَابَهَهَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ عِنْدَ إجَازَتِهِ يَنْفُذُ الْبَيْعُ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ هُوَ الْعَقْدُ، وَكَانَ تَامًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِهِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَبِيعَ، وَأَخَذَهَا أَخَذَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِلْكُهُ مُقَرَّرًا فِيهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْكَسْبَ وَالْأَرْشَ وَالْوَلَدَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ عِنْدَنَا. (وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى عِتْقُهُ نَافِذٌ، وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ قِيمَتَهَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ، فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ كَمَا بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً، فَهُنَاكَ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا، فَهُنَا كَذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْحُكْمِيِّ بِالْحَقِيقِيِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حُصُولُ الْقَبْضِ وَالْإِتْلَافِ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ لَا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، وَشَرْطُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مِلْكُ الْمَحِلِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ لَمْ يُعْتَقْ، وَلَا يَصِيرُ قَابِضًا بِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، بِخِلَافِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهُ حِسِّيٌّ يَتَحَقَّقُ فِي الْمِلْكِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 وَغَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَا نَقُولُ: الْمُشْتَرِي بِالْإِتْلَافِ يَصِيرُ مَالِكًا مَتَى كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ، فَإِنْ أَجَازَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيْعَ بَعْدَ مَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ جَازَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، هَكَذَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، (قَالَ) أَبُو سُلَيْمَانَ: وَكُنَّا سَمِعْنَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عِتْقٌ تَرَتَّبَ عَلَى عَقْدٍ تَوَقَّفَ نُفُوذُهُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، فَلَا يَنْفُذُ بِنُفُوذِ الْعَقْدِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَقْوَى مِنْ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَيَتِمُّ بِمَوْتِ الْبَائِعِ وَبِسُكُوتِهِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ. وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ وَبِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَلَا يَتِمُّ بِدُونِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ مَالِكِ ظَاهِرِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَجَازَ الْعِتْقَ عَنْ نَفْسِهِ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ مَنْ يَحْدُثُ لَهُ بِالْمِلْكِ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ إذَا أَعْتَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ رَضِيَ الْمُكْرَهُ بِالْبَيْعِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْعِتْقَ تَوَقَّفَا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، ثُمَّ لَوْ أَجَازَ الْعِتْقَ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَافَاةِ فِي حَقِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ بِالضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُشْتَرِي هُنَا حَتَّى يَنْفُذَ بَيْعُهُ لَوْ كَانَ بَاعَهُ هُنَاكَ، وَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي هُنَا لَوْ كَانَ بَاعَهُ، ثُمَّ هُنَاكَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَهُنَا يُتَقَوَّمُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ أَعْتَقَ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ حَتَّى نَفَذَ بَيْعُهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا عِتْقٌ تَرَتَّبَ عَلَى سَبَبِ مِلْكٍ تَامٍّ فَيَنْفُذُ بِدُونِ السَّبَبِ بِالْإِجَازَةِ، كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ، وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَارِثِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ سَبَبٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، وَانْعِقَادُهُ بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَإِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِصِفَةِ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ، وَكَمَا لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ بِانْعِقَادِ السَّبَبِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَمَامِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إتْمَامِ السَّبَبِ اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِهِ فَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَنْعَقِدُ خَالِيَةً عَنْ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَنْ السَّبَبِ، وَالضَّرَرُ عَلَى الْمَالِكِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالَ مِلْكِهِ فَيَتَأَخَّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْإِجَازَةِ، وَيَبْقَى السَّبَبُ تَامًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 النِّكَاحِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ مَعَ التَّوَقُّفِ، وَمَا يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ فَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَاصِبَيْنِ إذَا تَصَارَفَا وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكَانِ فَمُحَمَّدٌ يُوَافِقُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَمَا يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ لَا يَكُونُ عَفْوًا فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَمَامِ السَّبَبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِزَوَائِدِهِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ. (وَإِذَا) ثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ تَامٌّ فَنَقُولُ: الْعِتْقُ قَبْضٌ حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا، وَالْقَبْضُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ السَّبَبِ، وَيَنْفُذُ بِنُفُوذِهِ كَالْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْغَاصِبِ: أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ نَفَذَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا، فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُنَاكَ مُضْمَرٌ، وَهُنَا مُفْصَحٌ بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ الْتَمَسَ هَذَا مِنْ الْمَالِكِ فَأَجَابَهُ إلَيْهِ كَانَ نَافِذًا فَكَذَلِكَ إذَا الْتَمَسَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَأَجَابَهُ إلَيْهِ وَأَجَازَهُ الْمَالِكُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ مَقْرُونٌ بِالْعَقْدِ نَصًّا، وَتَعْلِيقُ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ سَبَبًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّرْطَ عَلَى السَّبَبِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْعَلُ الشَّرْطُ دَاخِلًا عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَيَنْعَقِدُ أَصْلُ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ عَبْدِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ الْيَوْمَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا فَتَصَدَّقَ بِهِ الْيَوْمَ يَجُوزُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْهُ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يُثْبِتُ مِلْكًا يَلِيقُ بِالسَّبَبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمَوْقُوفُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ، وَيَنْفُذُ بِنُفُوذِهِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ كَمَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ التَّامَّ يَمْنَعُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكٍ فِي الْمَحِلِّ أَصْلًا، وَمَسْأَلَةُ الْمُكْرَهِ قَدْ مَنَعَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ: بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ قَبْلَ الْقَبْضِ ضَعِيفٌ غَيْرُ تَامٍّ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكٌ تَامٌّ وَلَا مَوْقُوفٌ فِي الْمَحِلِّ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي مُخَالِفٌ لِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ بِقَبْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ، وَالْعِتْقُ مِنْ حُقُوقِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَبْضٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبٌ، وَهُوَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ قَاطِعٌ لِلْمِلْكِ، وَالْعِتْقَ مُنْهٍ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ فَلِكَوْنِ الْعِتْقِ مُنْهِيًا لِلْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ حَتَّى إذَا تَمَّ انْتَهَى بِهِ، وَالْبَيْعُ لِكَوْنِهِ قَاطِعًا لِلْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَازَةِ الْعِتْقِ عَنْ نَفْسِهِ يَبْطُلُ مَحَلُّ الْبَيْعِ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ بِهِ، وَبِإِجَازَةِ الْبَيْعِ يَمْتَدُّ مَحَلُّ الْعِتْقِ لِلْمُشْتَرِي، وَهُوَ الْمَالِكُ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا أَعْتَقَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَهُ حُكْمُ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوَائِدَ الْمُنْفَصِلَةَ، وَحُكْمُ الْمِلْكِ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ، كَحُكْمِ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ، وَهَذَا الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الزَّوَائِدَ الْمُنْفَصِلَةَ وَالْمُتَّصِلَةَ. فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ نَفَذَ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْغَاصِبِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ أَيْضًا، هَكَذَا ذَكَرَ هِلَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْوَقْفِ فَقَالَ: يَنْفُذُ وَقْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَالْعِتْقُ يُتَقَوَّمُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ: هُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَكَيْف يَسْتَنِدُ لِمَنْ يَمْلِكُ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَهُنَا إنَّمَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ لَهُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الْمُجِيزِ، وَالْمُجِيزُ كَانَ مَالِكًا لَهُ حَقِيقَةً فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا: فَلِهَذَا نَفَذَ عِتْقُهُ. وَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي حَالٍ يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْبَيْعِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ. وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يُسَلِّمْ رَبُّ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمَالِكِ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْغَاصِبِ إبْطَالٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْغَاصِبِ بِهَذَا الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ حَادِثٌ، وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ إذَا تَمَّ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ مَا تَوَقَّفَ عَلَى حَقِّهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِتَمْلِيكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَعْدَ شِرَاءِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ مِلْكٌ نَافِذٌ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْمَوْقُوفِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَالْبَيْعُ بَعْدَ مَا بَطَلَ لَا يَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا مَوْلَاهَا لِلْغَاصِبِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 عَلَيْهِ أَوْ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهُ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ بِطَرَيَانِ الْمِلْكِ النَّافِذِ فِي الْمَحِلِّ. (رَجُلٌ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَعَيَّبَهَا فَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ غَصَبَ جَارِيَةً لَهُ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، (وَكَانَ) أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْغَصْبِ لَا تُقْبَلُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَغْصُوبِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ صَحِيحَةٌ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ إحْضَارِ الْمَغْصُوبِ عَادَةً، وَحِينَ يَغْصِبُ فَإِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ الشُّهُودِ مُعَايَنَةُ فِعْلِ الْغَاصِبِ دُونَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عِلْمِهِمْ بِالْأَوْصَافِ؛ لِأَجْلِ التَّعَذُّرِ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ فِعْلُ الْغَصْبِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَصَارَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ شَهَادَتِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ: قَدْ مَاتَتْ أَوْ قَدْ بِعْتُهَا وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ زَمَانًا، وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ بِقَضَائِهِ يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، وَفِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِهَا، فَعَيْنُ الْمِلْكِ مَقْصُودٌ لِصَاحِبِهَا كَمَالِيَّتُهَا، وَرُبَّمَا يَتَعَلَّلُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ لِتَسَلُّمِ الْعَيْنِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَجِّلُ بِالْقَضَاءِ بِهَا، وَلَيْسَ لِمُدَّةِ التَّلَوُّمِ مِقْدَارٌ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَهَذَا التَّلَوُّمُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَهُ، فَأَمَّا إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ أَوْ تَلَوَّمَ لَهُ الْقَاضِي فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَارِيَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَا فِي قِيمَتِهَا عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ قِيمَتِهَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهَا. فَإِنْ اُسْتُحْلِفَ فَنَكِلَ كَانَ نُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ، وَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُقِمْ الْمَالِكُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالنُّكُولِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْغَاصِبِ بِمَا ادَّعَى الْمَالِكُ فَالْجَارِيَةُ لَهُ لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ يُخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَرَدَّ مَا قَبَضَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 أَمْسَكَ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا. قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ الْغَاصِبُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْدَادِهَا؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّرُ عَلَيْهِ بَدَلَ مِلْكِهِ بِكَمَالِهِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ مُطْلَقٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قِيمَتِهَا فَقَدْ لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِزَوَالِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْجَارِيَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهَا فَيَسْتَرِدُّهَا إذَا ظَهَرَتْ، وَيَرُدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الْقِيمَةِ. (وَبَعْضُ) الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: سَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا يُقَرِّرُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِكَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ، وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ؛ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُ الْغَاصِبِ وَسُلِّمَ الْكَسْبُ لَهُ. (وَبَعْضُ) الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَقُولُ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَهَذَا أَيْضًا وَهْمٌ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْوَلَدُ. وَلَوْ كَانَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ لِلْمِلْكِ لَكَانَ إذَا تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ يَمْلِكُ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا تَمَّ بِالْإِجَازَةِ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، وَمَعَ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْضُ الشُّنْعَةِ فَالْغَصْبُ هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَالْمِلْكُ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، فَيَكُونُ سَبَبُهُ مَشْرُوعًا مَرْغُوبًا فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبًا لَهُ، فَإِنَّهُ تَرْغِيبٌ لِلنَّاسِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ مِثْلِهِ إلَى الشَّرْعِ، فَالْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ: الْغَصْبُ مُوجِبٌ رَدَّ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ مَقْصُودًا بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ لِلْغَاصِبِ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالْغَصْبِ مَقْصُودًا؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ، وَهُوَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ يَتْبَعُ، فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ، وَالْكَسْبُ كَذَلِكَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ تَبَعًا مَحْضًا، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي الْمَتْبُوعِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ بِالْبَاطِلِ، وَقِسْمٌ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، وَهَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ أَكْلًا بِالْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ كَالْقَتْلِ. وَتَأْثِيرُهُ مَا قُلْنَا: أَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ، فَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْمِلْكَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ جُبْرَانٍ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفَائِتِ بِالْغَصْبِ، وَالْفَائِتُ بِالْغَصْبِ يَدُ الْمَالِكِ لَا مِلْكُهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِ الْغَاصِبِ لَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا قُلْتُمْ: لَوْ هَشَّمَ قُلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ كَانَ صَرْفًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، فَلَا يَكُونُ الْجُبْرَانُ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ قَائِمٌ بَلْ هُوَ بِإِحْيَاءِ مَا هُوَ فَائِتٌ، وَمِلْكُهُ فِي الْعَيْنِ كَانَ قَائِمًا، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ زَائِلًا بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَهُ كَانَ هَذَا تَفْوِيتًا لَا جُبْرَانًا، وَلَا كَانَتْ الْقِيمَةُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فَهُوَ حَلِفٌ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَلِفِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتُوْفِيَ بِهِ حَوْلًا كَامِلًا، ثُمَّ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ فَقَبَضَ، ثُمَّ نَبَتَ سِنُّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْأَرْشِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى فَصْلِ الْمُدَبَّرِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ جَمِيعُ مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَكُمْ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ لَمَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَحَلٍّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، وَإِنْ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ الْمَصْلِيَّةِ: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهَا لَمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ إذَا كَانَ مَالِكُهُ مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ يُحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنُ مِلْكِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُبَاعُ، وَيُحْفَظُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ مُخْتَصٌّ بِمَحِلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا أَمْكَنَ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ. وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ غَصْبَ الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ غَصْبُ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ اخْتِصَاصَ السَّبَبِ بِمَحِلٍّ لَا يَكُونُ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمَحِلِّ، فَالْمَحِلُّ الَّذِي هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَخْتَصُّ بِصِحَّةِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَصَّ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَإِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ لَا تَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ بَدَلُ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْعَيْنَ بِهِ، وَأَنَّهُ يُسَمِّي الْوَاجِبَ قِيمَةَ الْعَيْنِ، وَيَتَقَدَّرُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَقْصُودُ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ الدَّرَاهِمِ لِامْتِلَاءِ كِيسِهِ بِهَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِهَا جُبْرَانًا، وَالْجُبْرَانُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجِيزُ الْفَائِتَ دُونَ الْقَائِمِ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ انْعِدَامُ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ جُبْرَانًا لِمَا هُوَ فَائِتٌ، وَمَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِشَرْطٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ يُقَدَّمُ شَرْطُهُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ، يُقَدَّمُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ مِنْهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْمَحِلِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْتِقْهُ عَنِّي سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودًا. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعُدْوَانِ الْمَحْضِ مَا هُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِهِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ جُبْرَانًا لِحَقِّهِ فِي الْفَائِتِ، ثُمَّ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِهِ هَذَا الْمَشْرُوعُ يَثْبُتُ بِهِ، وَيَكُونُ حَسَنًا بِجِنْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّقَابُضِ فِيمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ مَقْصُودٌ إلَّا فِيمَا يَثْبُتُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي سَبَبِ مِلْكٍ مَقْصُودٍ لَا فِيمَا هُوَ شَرْطٌ لِغَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَغْصُوبَ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودٌ بِسَبَبِهِ لَا شَرْطًا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ فَالْعَيْنُ لَا تَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَى بِهِ، كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا. (فَأَمَّا) الْمُدَبَّرُ فَفِي تَخْرِيجِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ لَا يَقُولُ بِبَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ بَلْ يُجْعَلُ زَائِلًا عَنْ مِلْكِهِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَظَهَرَ لَهُ كَسْبٌ فَذَلِكَ الْكَسْبُ يَكُونُ لِلْغَاصِبِ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْمُدَبَّرُ يُعَادُ إلَيْهِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لَهُ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَنَا. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُهُ وَهُوَ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْمُدَبَّرِ، فَيُجْعَلُ هَذَا خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَفِي كُلِّ مَحَلٍّ يُمْكِنُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فَيُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اتِّحَادُ الشَّرْطِ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ، وَنَظِيرُهُ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا ضَمَانُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يُمْكِنُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 اتِّحَادَ هَذَا الشَّرْطِ كَالْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُمْ لَا يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِالتَّرَاضِي كَانَ الْمَأْخُوذُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ، وَفِي كُلِّ مَحَلٍّ لَا يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ يُجْعَلُ الْمَأْخُوذُ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِيَدِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِيمَا تَلَا مِنْ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ جَائِزٌ لَا أَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ مَقْصُودًا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ يَنْدَرِجُ هُنَا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْمَالِكَ هُنَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَيْنُ فَيَأْخُذَهَا. فَحِينَ طَالَبَ بِالْقِيمَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ رَاضِيًا بِالشَّرْطِ كَمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِمَطْلُوبِهِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا فَادَّعَاهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ذُو الْيَدِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا، وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ تَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَلَا يُصَدِّقُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمَا، وَلَكِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً فِي يَدِهِ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ بِفِعْلِهِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ (قَالَ:) وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعُقْرِ، وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَهِيَ مَغْصُوبَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، كَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَقَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَهُ بِفِعْلِهِ كَالْأُمِّ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ بِالْمَبِيعِ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَعَلَى الْمَغْرُورِ عُقْرُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ عَلَيْهِ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُقِرِّ. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ إلَّا بِمَنْعٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ رَدُّهُ لِحُرِّيَّتِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ رَدُّهُ بِمَوْتِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ الْوَلَدِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا هَذَا مِنْهُ، قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُقْرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْعُقْرِ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ صَارَ إنْكَارُهُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَقَدْ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ غَصَبَهَا وَلَمْ يُقِرَّ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ فَأَرَدْتُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْجَارِيَةِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، هَلْ يَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُ وَلَا أَذِنْتُ لَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَدَّعِ ذُو الْيَدِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (قَالَ:) لَا أَسْتَحْلِفُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِتَهْيِيجِهَا، وَلِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِحْلَافِ، وَإِذَا ادَّعَاهُ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ. (وَرُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْقَاضِي يَسْتَحْلِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ. وَإِنْ أَقَامَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْمَبِيعَ أَخَذَ رَبُّ الْجَارِيَةِ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلِأَنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ تَصَادَقَ الْأَوَّلُ وَالْجَارِيَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِمَا أَثْبَتَ مِنْ الْبَيْعِ وَإِجَازَةِ الْمَالِكِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَتْ الْجَارِيَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا هَذَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ حُرِّيَّتَهَا بِإِعْتَاقِ مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا بِالْحُجَّةِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَهِيَ حُرَّةٌ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهَا بِالْبَيِّنَةِ فَيَنْفَصِلُ الْوَلَدُ عَنْهَا حُرًّا بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا بِالْغُرُورِ، فَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ قِيمَةَ الْوَلَدِ. وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ جَاءَ أَخُوهُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ، وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ هُنَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ لَا بِسَبَبِ مِلْكِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ ابْنُ الْأَخِ عَلَى عَمِّهِ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ، وَهُنَا الْوَلَدُ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي حَتَّى يُجْعَلَ عِتْقُهُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَجْلِ الْغُرُورِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ لَذَّةِ الْوَطْءِ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ جَارِيَةً أَوْ شَاةً أَوْ بَقَرَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ ذَبَحَ الْوَلَدَ أَوْ بَاعَهُ أَوْ اسْتَخْدَمَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ يَوْمَ مَاتَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهُ، وَقَدْ أَتْلَفَهُ بِالذَّبْحِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ، وَصَارَ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 وَالتَّسْلِيمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَالْمُودِعِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْوَدِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَهَا وَيَأْخُذَ الْأَوْلَادَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأُمِّ يَثْبُتُ لِلْغَاصِبِ شَرْعًا لِتَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى الْوَلَدِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ لِلضَّمَانِ هُوَ الْغَصْبُ، وَوُجُوبُهُ حَقِيقَةً بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ، فَأَمَّا قَبْلَ مَوْتِهَا الْوَاجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِهِ كَذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْغَصْبِ إنَّمَا يُثْبِتُ لَهُ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِسَلَامَةِ الْكَسْبِ دُونَ الْوَلَدِ، كَحُكْمِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ بِالْكِتَابَةِ، حَتَّى أَنَّ كَسْبَهُ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى، وَوَلَدُهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ، ثُمَّ قَتَلَهَا رَجُلٌ خَطَأً فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي مَالِهِ حَالًّا، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ فِي حَقِّهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي التَّضْمِينِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، فَإِنَّمَا يُضَمِّنُهُ بِاعْتِبَارِ الْغَصْبِ فَيَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ ذَلِكَ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ يَجِبُ حَالًّا عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَاتِلَ جَانٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، أَوْ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا ضَمَّنَهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَهُوَ لَوْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْقَتْلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ بَدَلُ النَّفْسِ فَيَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا، فَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ لَهُ مِمَّا يَقْبِضُ أَلْفًا قَدْرَ مَا ضَمِنَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَهُوَ الْغَصْبُ الْمُتَقَدِّمُ، وَلِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَالرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ يَوْمَ غَصَبَهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَيَوْمَ قَتَلَهَا الْقَاتِلُ كَذَلِكَ، فَمَوْلَاهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي مَالِهِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا السَّبَبِ بَدَلُ النَّفْسِ، وَبَدَلُ نَفْسِ الْأَمَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ كَبَدَلِ نَفْسِ الْحُرَّةِ، وَيُنْقِصُ لِلرِّقِّ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةً، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، إمَّا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ جِنَايَةَ الْقَاتِلِ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً أَخَذَهَا مَوْلَاهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 وَدَفَعَهَا أَوْ فَدَاهَا؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْغَصْبِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهَا، وَمُوجِبُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ أَنْ يُخَيَّرَ مَوْلَاهَا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَجِنَايَتُهَا فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ كَجِنَايَةِ الْغَاصِبِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ حِينَ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ مُخْتَارٌ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِاخْتِيَارِ الْأَقَلِّ، فَإِنْ كَانَتْ مَاتَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا مِنْ الْغَاصِبِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ فَيَدْفَعُهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ، وَاخْتَلَفَتْ بَدَلًا فَيَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهَا بِاسْتِحْقَاقِهَا، وَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَيْهِمْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَوْ اسْتَرَدَّهَا وَدَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهَا فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّ قِيمَتَهَا، وَدَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ. [رَجُلٌ غَصَبَ دَارَ رَجُلٍ وَسَكَنَهَا] (رَجُلٌ) غَصَبَ دَارَ رَجُلٍ وَسَكَنَهَا، فَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ أَوْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَا انْهَدَمَ بِفِعْلِهِ، وَالْإِتْلَافُ يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ، وَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَقَارِ، وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ وَأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» فَقَدْ أَطْلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ. وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ يُقَالُ: غَصَبَ دَارَ فُلَانٍ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ دَعْوَى الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ تُسْمَعُ حَتَّى لَا تَنْدَفِعَ بِإِقَامَةِ ذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: الْعَقَارُ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ يَدًا فَيُضْمَنُ بِالْغَصْبِ يَدًا كَالْمَنْقُولِ. وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْغُزَاةَ إذَا فَتَحُوا بَلْدَةً يَمْلِكُونَ عَقَارَهُمْ، وَتَأْثِيرُهُ مَا بَيَّنَّا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ التَّعَدِّي بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ جَمِيعًا وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ فَيُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْمَنْقُولِ، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ يَعْتَمِدُ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ بِالنَّقْلِ، وَلَكِنْ فِيمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَأَتَّى يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ بِالسُّكْنَى وَإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ الْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ فِي الْمَنْقُولِ الَّذِي يُمْكِنُ إحْضَارُهُ، ثُمَّ فِي الْعَقَارِ لَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ مَقَامَهُ، وَشَرْطُ تَمَامِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، ثُمَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ تُقَامُ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ فِعْلَهُ فِي الْمَالِكِ هُنَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ فَيَسْكُنُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ، وَهُوَ فَوْتُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ وَثَمَرَاتِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِهَذَا، وَيَجُوزُ إقَامَةُ فِعْلِهِ فِي غَيْرِ الْمَضْمُونِ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَضْمُونِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ فِعْلُهُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْمَارِّ، ثُمَّ يُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَارِّ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ جَزَاءَ غَاصِبِ الْعَقَارِ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّمَانَ فِي الدُّنْيَا، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ جَمِيعُ جَزَائِهِ، وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ أَمَسُّ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَيْعِ عَلَى الْحُرِّ بِقَوْلِهِ: مَنْ بَاعَ حُرًّا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمُوجِبَ لِحُكْمِهِ حَقِيقَةً يُتَصَوَّرُ فِي الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّرِقَةِ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْغَصْبِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِحُكْمِهَا عَلَى أَنَّا نَقُولُ: يَتَحَقَّقُ أَصْلُ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ، وَلَكِنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ جُبْرَانًا لِلْفَائِتِ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ تَفْوِيتُ الْيَدِ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ مَتَى كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى مَالِهِ فِي مَكَان تَبْقَى مَا يَبْقَى الْمَالُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حُكْمًا إلَّا أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ الْغَاصِبُ وَإِنْ سَكَنَ الدَّارَ فَالْمَالِكُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَسْكُنَ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَذَلِكَ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْمِلْكِ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ يَدَهُ عَنْ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا لَوْ حُبِسَ الْمَالِكُ حَتَّى تَلِفَتْ مَوَاشِيهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنْقُولَ بِالتَّخَلِّي بِهِ قَبْلَ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْعَقَارُ. وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ الْآخَرِ مَقَامَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ طَرِيقٌ فِيمَا يَأْذَنُ الشَّرْعُ فِيهِ أَنْ يُوجِبَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 الْحُكْمُ، فَأَمَّا الْغَصْبُ لَا يَأْذَنُ الشَّرْعُ فِيهِ، وَالْحُكْمُ يَمْنَعُ مِنْهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ حُكْمًا، وَلَكِنْ إنْ صَادَفَ الْفِعْلُ مَحِلًّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَإِنْ صَادَفَ مَحِلًّا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ كَمَنْ زَنَى بِرَتْقَاءَ، وَأَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَضَى شَهْوَتَهُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَدُّ فِعْلِ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْمَحِلِّ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَبِهِ فَارَقَ ضَمَانَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُهُ الْحُكْمُ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقٍ حُكْمِيٍّ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يُرَدُّ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ، وَيَأْذَنُ فِيهِ الشَّرْعُ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ فِي بَابِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يَأْذَنُ فِيهِ فَيُصَارُ إلَى إيجَادِهِ بِطَرِيقِ التَّمَكُّنِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ إقَامَةِ الْفِعْلِ فِي الْمَالِكِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي الْمَالِ صَحِيحًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى حِفْظِ الْمَنْقُولِ بِالْيَدِ أَظْهَرُ مِنْهُ إلَى حِفْظِ الْعَقَارِ، وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَ بَلْ بِإِقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ لَمَّا تَعَذَّرَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، وَهُوَ نَقْلُهُ فِي نَفْسِهِ، وَمُسَبِّبُهُ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ، وَالْحَافِرُ أَوْجَدَ شَرْطَ الْوُقُوعِ بِإِزَالَةِ السِّكَّةِ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْإِتْلَافُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ، فَأَمَّا هُنَا الْفِعْلُ فِي الْمَالِكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ تَفْوِيتُ الْيَدِ الثَّابِتَةِ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ مَعَ أَنَّ الْإِتْلَافَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَافِرِ بِالْمُبَاشَرَةِ بِأَنْ يُلْقِيَهُ فِي الْبِئْرِ يُقَامُ الْحَفْرُ مَقَامَهُ، وَهُنَا فِيمَا يَتَأَتَّى الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا يُقَامُ الْفِعْلُ فِي الْمَالِكِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي الْمَالِ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارًا بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْتِعَةِ فَهَلَكَتْ الْأَمْتِعَةُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي جَوَابِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَظَرًا فَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُنَا فِي الْمَنْقُولِ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ قَبْلَ النَّقْلِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. (ثُمَّ) الْعُذْرُ أَنَّ الْوَاهِبَ نَقَلَ يَدَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَيَدُ الْوَاهِبِ فِي الْأَمْتِعَةِ كَانَتْ مُفَوِّتَةً لِيَدِ الْمَالِكِ فَانْتَقَلَتْ بِصِفَتِهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ:) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَنْقُولًا وَخُلِّيَ بَيْنَهُ فَهَلَكَ قَبْلَ النَّقْلِ، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ.؟ (قُلْنَا:) لَا كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ يُوجِبُ الْمِلْكَ، وَالْيَدُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ كَيَدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 الْبَائِعِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاهِبُ بِالتَّسْلِيمِ مُحَوِّلًا يَدَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ غَاصِبَ الْغَاصِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ إلَى نَفْسِهِ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ يَدٌ مُفَوِّتَةٌ لِيَدِ الْمَالِكِ فَتُحَوَّلُ إلَيْهِ بِصِفَتِهِ. وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى حَرْفٍ آخَرَ فَقَالَ: (لَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَسَقَطَ مِنْهَا حَائِطٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَعَطِبَتْ أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا فَاحْتَرَقَ كَانَ ضَامِنًا)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَقَارَ لَوْ كَانَ يُضْمَنُ بِالِاسْتِيلَاءِ لَكَانَ يُضْمَنُ بِأَوَّلِ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ الدُّخُولُ كَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنَّ عُذْرَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ، وَذَلِكَ بِالدُّخُولِ لَا يَحْصُلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّكْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا بِالْمِيرَاثِ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَمَاتَ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا شَيْئًا (وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ، وَهُوَ سَاكِنٌ هَذِهِ الدَّارَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْيَدِ لِلْأَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ) بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ فَبِمُجَرَّدِ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ تَثْبُتُ يَدُهُ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ، وَهُوَ لَابِسٌ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ رَاكِبٌ هَذِهِ الدَّابَّةَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ، وَالْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ، فَظَهَرَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ لِلدَّارِ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ بَيِّنَةٌ، فَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِلْمَالِكِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغَصْبِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ مِنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعُوا ضَمَّنُوا قِيمَتَهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقِيلَ: ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ تَسْلِيطَهُمَا الْغَيْرَ عَلَى الدَّارِ بِالشَّهَادَةِ كَتَسْلِيطِ الْغَاصِبِ عَلَى الدَّارِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ إتْلَافُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَهُنَا إتْلَافُ الْمِلْكِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بَلْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ ضَامِنًا، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْجُحُودِ فِي الْوَدِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: جُحُودُ الْوَدِيعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 فِي الْعَقَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. (رَجُلٌ) غَصَبَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً فَأَجَّرَهُ، وَأَصَابَ مِنْ غَلَّتِهِ فَالْغَلَّةُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِعَقْدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الْغَاصِبُ، فَإِذًا هُوَ الَّذِي جَعَلَ مَنَافِعَ الْعَبْدِ بِعَقْدِهِ مَالًا فَكَانَ بَدَلُهُ لَهُ. وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ.؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي ضَمَانِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَحِينَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَهُوَ الَّذِي الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ بِالْعَقْدِ دُونَ الْمَالِكِ فَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ دُونَ الْمَالِكِ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ بِقِيمَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِتِلْكَ الْغَلَّةِ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَمَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. (فَإِنْ قِيلَ:) الْقِيمَةُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَنْ قَضَى بِمَالِ الصَّدَقَةِ دَيْنَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّ التَّصَدُّقَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ حَتْمًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْغَلَّةَ إلَى الْمَالِكِ مَعَ الْعَبْدِ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ شَيْءٌ آخَرُ فَهُوَ بِمَا صَنَعَ يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمَالِكَ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمَالِكُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْقِيمَةِ بِمَا يَقْبِضُهُ فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقَ بِعِوَضِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ بَاعَ الدَّابَّةَ وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فَاسْتَهْلَكَهُ، وَمَاتَتْ الدَّابَّةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَضَمَّنَ رَبُّ الدَّابَّةِ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بِاسْتِرْدَادِ الْقِيمَةِ مِنْهُ، ثُمَّ لَا يَسْتَعِينُ الْغَاصِبُ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ فِي الْغَلَّةِ مَا كَانَ بِحَقِّ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَزُولُ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْخَبَثَ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَيَزُولُ بِوُصُولِ الْغَلَّةِ إلَى يَدِهِ (قَالَ:) إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْغَاصِبِ مَا يُؤَدِّي بِهِ الثَّمَنَ، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَتَخْلِيصِ نَفْسِهِ عَنْ الْحَبْسِ، وَحَاجَتُهُ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْفُقَرَاءِ، فَإِذَا أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا يَوْمَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ اسْتِهْلَاكِهِ الثَّمَنَ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْغَلَّةَ مَكَانَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِي هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّهِمْ فِي اللُّقَطَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ إنْ شَاءَ. (ثُمَّ) الْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ حُكْمُ هَذِهِ الْغَلَّةِ. وَلَيْسَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 الْغَاصِبِ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَجْرٌ، وَعَلَّلَ فَقَالَ: (لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَالْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهِ؛ وَلِهَذَا تَخْتَلِفُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَنْفَعَتِهِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الْمَنْفَعَةُ لِإِيجَابِ ضَمَانِ الْعَيْنِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِإِيجَابِ ضَمَانِهَا مَقْصُودًا، وَالْمَنْفَعَةُ كَالْكَسْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَسْبِ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَتَقَاعَدُ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ السَّاكِنَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِلدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْأَصَحُّ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ زَوَائِدُ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ مَضْمُونًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ، وَالْيَدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ تَثْبُتُ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَيْنِ، وَعِنْدَنَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِيَدٍ مُفَوِّتَةٍ لِيَدِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ، ثُمَّ انْتِقَالُهَا إلَى يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى تَكُونَ يَدُهُ مُفَوِّتَةً لِيَدِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْغَصْبِ عِنْدَنَا. فَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَيَقُولُ: عِنْدَنَا الْمَنَافِعُ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُضْمَنُ، وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ اسْتَسْخَرَ حُرًّا وَاسْتَعْمَلَهُ عِنْدَهُ يَضْمَنُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَعِنْدَنَا يَأْثَمُ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى مَا صَنَعَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْعَيْنِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ عِنْدَنَا، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ، وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّلَ الْمَنْفَعَةِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ، وَرَأْسُ مَالِهِمْ الْمَنْفَعَةُ، وَقَدْ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْءُ جُمْلَةً وَيُؤَجِّرُ مُتَفَرِّقًا لِابْتِغَاءِ الرِّبْحِ كَمَا يَشْتَرِي جُمْلَةً وَيَبِيعُ مُتَفَرِّقًا، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ يُسْتَأْجَرُ لَهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْمَالِيَّةِ مِثْلُ الْأَعْيَانِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صَدَاقًا، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا، وَهَكَذَا يَقُولُهُ فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ أَنَّهُ مَالٌ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَبَسَ حُرًّا لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَابِسِ إتْلَافُ مَنَافِعِهِ، وَلَا إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَيْهِ بَلْ مَنَافِعُ الْمَحْبُوسِ فِي يَدِهِ كَثِيَابِ بَدَنِهِ، وَكَمَا لَا يَضْمَنُ ثِيَابَ بَدَنِهِ بِالْحَبْسِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ، وَلَئِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَالًا فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُقَوِّمُ الْأَعْيَانَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَكُونَ مُتَقَوِّمَةً بِنَفْسِهَا، وَلِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، وَيُضْمَنُ بِهِ صَحِيحًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ فَاسِدًا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالنُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ، وَبِفَضْلِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَبَيَّنُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ شَرْعًا كَمَا بِالْإِتْلَافِ، وَهَذَا بِخِلَافِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَمَّ مِسْكَ غَيْرِهِ لَا يُضَمَّنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ، وَلَكِنَّهَا بُخَارٌ يَفُوحُ مِنْ الْعَيْنِ كَدُخَانِ الْحَطَبِ؛ وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ مِسْكًا لِيَشُمَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْعَقْدِ أَيْضًا صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُمَا حَكَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَأَوْجَبَا عَلَى الْمَغْرُورِ رَدَّ الْجَارِيَةِ مَعَ عُقْرِهَا وَلَمْ يُوجِبَا قِيمَةَ الْخِدْمَةِ مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّ الْمَغْرُورَ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا، وَمَعَ طَلَبِ الْمُدَّعِي بِجَمِيعِ حَقِّهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ لَمَا حَلَّ لَهُمَا السُّكُوتُ عَنْ بَيَانِهِ، وَبَيَانُ الْعُقْرِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ بَيَانًا لِقِيمَةِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّمَوُّلِ، وَالتَّمَوُّلُ صِيَانَةُ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كَمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلَاشَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّلُ؛ وَلِهَذَا لَا يُتَقَوَّمُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ، وَالْإِحْرَازُ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الْإِتْلَافُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْلَافِ لَا يُحِلُّ الْمَعْدُومَ. وَبَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَبْقَى لِحِلِّهِ فِعْلُ الْإِتْلَافِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا بِالْعَقْدِ يَثْبُتُ لِلْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْإِحْرَازِ، وَالتَّقَوُّمُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْعُدْوَانِ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً، وَبِاعْتِبَارِهَا يَنْعَدِمُ التَّقَوُّمُ وَالْإِتْلَافُ، وَفِي الصَّدَاقِ وَاسْتِئْجَارِ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ التَّمَوُّلِ وَالْإِحْرَازِ، وَكَمَا تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِتَفَاوُتِ الْمَنْفَعَةِ تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الطِّيبِ بِتَفَاوُتِ الرَّائِحَةِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَهُوَ دُونَ الْأَعْيَانِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَا يُضْمَنُ بِالنِّسْبَةِ، وَالدَّيْنُ لَا يُضْمَنُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 بِالْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْعَيْنِ، وَبَيَانُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ يُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ جَوْهَرٌ يُقَوَّمُ بِهِ الْعَرَضُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَالْعَيْنُ تَبْقَى أَوْقَاتًا، وَبَيْنَ مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ، وَالْعَيْنُ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ قَطُّ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ أَيْضًا، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ حَتَّى أَنَّ الْحَجَرَ فِي خَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ لَا تَكُونُ مَنْفَعَةُ إحْدَاهُمَا مِثْلًا لِلْمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْإِتْلَافِ. وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى الْمُرَاضَاةِ، وَكَيْفَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ طَلَبُ الرِّبْحِ. (ثُمَّ) ضَمَانُ الْعَقْدِ مَشْرُوعٌ، وَفِي الْمَشْرُوعِ يُعْتَبَرُ الْوُسْعُ وَالْإِمْكَانُ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ التَّرَاضِي فَاسِدًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ جَائِزًا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِنَا الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي ضَمَانِ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَمَحْظُورٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَضَمَانُهُ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُتْلَفِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ. (فَإِنْ قِيلَ:) يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالزَّجْرِ عَنْ إتْلَافِ مَنَافِعِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مَظْلُومٌ يَسْقُطُ حَقُّهُ إذَا اُعْتُبِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ، وَمُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمَظْلُومِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الظَّالِمِ مِنْ أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ سَقَطَ بِهِ حَقُّ الْمُتْلَفِ عَنْ الصِّفَةِ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ أَسْقَطْنَا حَقَّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ عَنْ أَصْلِ الْمَالِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إهْدَارِ أَحَدِهِمَا فَإِهْدَارُ الصِّفَةِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ الْأَصْلِ (قُلْنَا:) قَدْ أَوْجَبْنَا لِلزَّجْرِ التَّعْزِيرَ وَالْحَبْسَ، فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْجُبْرَانِ، فَيَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَالظَّالِمُ لَا يُظْلَمُ بَلْ يُنْتَصَفُ مِنْهُ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ مَالِهِ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَتْلَفَ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الشَّرْعُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّنَا، وَهُوَ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمِثْلِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ مَعَ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يُهْدَرُ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ. وَلَوْ أَوْجَبْنَا الزِّيَادَةَ صَارَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ هَدَرًا فِي حَقِّ الْمُتْلِفِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ عَنْهُ أَصْلًا، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْكَفِّ عَنْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ أَعْدَلَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: (أَقَامَ رَبُّ الدَّابَّةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ وَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ)؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُثْبِتُ عَلَى الْغَاصِبِ سَبَبَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ، وَالْغَاصِبُ يَنْفِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 مَوْتَ الدَّابَّةِ فِي يَدِ مَالِكِهَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْي. (فَإِنْ قِيلَ:) سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ ظَاهِرٌ فَهُوَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا يُبَرِّئُهُ عَنْ الضَّمَانِ وَهُوَ الرَّدُّ، فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ عَلَى هَلَاكِهَا مِنْ رُكُوبِ الْغَاصِبِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَكِبَهَا بَعْدَ الرَّدِّ فَمَاتَتْ مِنْ رُكُوبِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيِّنَتَهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِهَا أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا أَوْ أَنَّهُ هَدَمَ الدَّارَ، وَشُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَدَمَ الدَّارَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَيَجِبُ قَبُولُ بَيِّنَةِ صَاحِبِهَا فِي إثْبَاتِ سَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ بَيِّنَتُهُ تَنْفِي ذَلِكَ السَّبَبَ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِهَا كَمَا فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ فَصَاحِبُهَا بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ سَبَبَ ضَمَانٍ مُتَجَدِّدٍ، وَهُوَ غَصْبُهُ إيَّاهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقْضِي لَهُ بِالضَّمَانِ لِهَذَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْغَاصِبِ هُنَا لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الرَّدِّ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ بِهِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ صَاحِبِهَا هُنَا إثْبَاتُ سَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إنَّمَا شَهِدُوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ، وَقَدْ عَلِمُوا الْغَصْبَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ، وَشَهِدُوا أَنَّهَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَشُهُودُ الْغَاصِبِ عَلِمُوا الرَّدَّ، وَقَدْ عَلِمُوا الْغَصْبَ فَشَهِدُوا بِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ الْقَتْلَ وَالْهَدْمَ وَالْإِتْلَافَ مِنْ الرُّكُوبِ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَايِنُوهُ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِمْ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ. (وَإِذَا وَهَبَ الْغَاصِبُ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ لِرَجُلٍ فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لَهُ بِالْعَقْدِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَهَبُ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَمَانٌ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْقَبْضِ وَالْأَكْلِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَلَحِقَهُ ضَمَانٌ بِسَبَبِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، فَأَمَّا الْمَغْرُورُ قُلْنَا: مُجَرَّدُ الْغُرُورِ بِالْخَبَرِ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ كَمَنْ أَخْبَرَ إنْسَانًا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ آمِنٌ فَسَلَكَهُ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَالَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ طَيِّبٌ، وَكَانَ مَسْمُومًا فَتَنَاوَلَهُ فَتَلِفَ. وَإِنَّمَا الْغُرُورُ فِي عَقْدِ الضَّمَانِ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلرُّجُوعِ لِمَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 الِاسْتِحْقَاقِ، فَبِفَوَاتِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، فَأَمَّا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ صِفَةَ السَّلَامَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ الْمَوْهُوبُ مَعِيبًا لَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ، فَلَا يَرْجِعُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ أَيْضًا. (وَالثَّانِي) وَهُوَ أَنَّ الْقَابِضَ بِحُكْمِ عَقْدِ الضَّمَانِ عَامِلٌ لِلْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْعِوَضِ، وَهُوَ الثَّمَنُ، فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِسَبَبِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِيَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَبْضِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ، وَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا لَمْ يَرْجِعْ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا، فَإِنَّ هُنَاكَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَطْءِ أَيْضًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: وَجَبَ الْعُقْرُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي نَالَ تِلْكَ اللَّذَّةَ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ بِسَبَبِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ غَاصِبَ الدَّابَّةِ أَجَّرَهَا فَعَطِبَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ، ثُمَّ ضَمَّنَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَتَهَا رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآخَرِ لِيَتَحَقَّقَ الْغُرُورُ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي قَبْضِهَا عَامِلٌ لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ إذَا ضَمَّنَ قِيمَةَ الدَّابَّةِ لِصَاحِبِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَنَا لِانْعِدَامِ عَقْدِ الضَّمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ ضَامِنٌ لِلْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الثَّوْبِ وَالْغَاصِبُ فِي قِيمَتِهِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الثَّوْبِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الثَّوْبِ بَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ أَقَامَ الْغَاصِبُ بَيِّنَةً أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ كَانَ كَذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى بَيِّنَتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ بِهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْقِيمَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا يَدَّعِي رَبُّ الثَّوْبِ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَالشُّهُودُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ أَوْ نَفَوْا تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَلِهَذَا كَانَ لِرَبِّ الثَّوْبِ أَنْ يُحَلِّفَ الْغَاصِبَ عَلَى دَعْوَاهُ. وَفِي الْأَصْلِ يَقُولُ رَبُّ الثَّوْبِ هُوَ الْمُدَّعِي، وَالْغَاصِبُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَقَالَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَظْهَرُ أَنَّ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَجَعْلَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ شَهِدَ لِرَبِّ الثَّوْبِ شَاهِدٌ أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ كَذَا، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَوْلِ، وَالْآخَرُ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ فَأَرَدْت أَنْ تُحَلِّفَ الْغَاصِبَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى رَبّ الثَّوْبِ، وَأُعْطِيهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ شَرْعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى غَيْرِهِ. (قَالَ:) وَلَا أَدْرَأُ الْيَمِينَ، وَلَا أُحَوِّلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وَضَعَهَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْيَمِينَ شَرْعًا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إمَّا لِلنَّفْيِ أَوْ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا حُوِّلَتْ إلَى جَانِبِ الْمُدَّعِي لَمْ يُعْمَلْ إلَّا بِهَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْءِ فِي مَحِلِّهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا بَلْ حَاجَتُهُ إلَى إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ، وَالْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ لِهَذَا. وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ فَتَرَاضِيهِمَا عَلَى مَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ يَكُونُ لَغْوًا، فَإِذَا جَاءَ الْغَاصِبُ بِثَوْبٍ زُطِّيٍّ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي غَصَبْتُكَهُ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: كَذَبْتَ بَلْ هُوَ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ أَوْ مَرْوِيٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مِنْهُمَا فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ يَمِينِهِ، وَقَالَ: (يَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذَا ثَوْبُهُ الَّذِي غَصَبَهُ إيَّاهُ وَمَا غَصَبَهُ هَرَوِيًّا وَلَا مَرْوِيًّا)؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَمَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ شَرْعًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَقُولُ كَالْمُودِعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكِهَا، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ، فَلِهَذَا جَمَعَ فِي الْيَمِينِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ قَضَيْتُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ، وَأَبْرَأْتُ الْغَاصِبَ مِنْ دَعْوَى رَبِّ الثَّوْبِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ. وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يُقْضَى لَهُ بِهَذَا الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي ثَوْبَيْنِ إنَّمَا يَدَّعِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَقَدْ اسْتَحَقَّهُ، فَأَمَّا إذَا حَلَفَ فَهُوَ مَا اسْتَحَقَّ ثَوْبًا سِوَى هَذَا، وَقَدْ كَانَ يَدَّعِي أَصْلَ الثَّوْبِ بِصِفَتِهِ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةَ بِنَفْيِ دَعْوَاهُ أَصْلَ الثَّوْبِ فَيُقْضَى لَهُ بِهَذَا الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، فَإِنْ جَاءَ بِثَوْبٍ هَرَوِيٍّ خَلَقٍ، وَقَالَ: هَذَا الَّذِي غَصَبْتُكَهُ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: بَلْ كَانَ ثَوْبِي جَدِيدًا حِينَ غَصَبْتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ قَبْضَ الثَّوْبِ حِينَ كَانَ جَدِيدًا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَإِنَّ صِفَةَ الثَّوْبِ فِي الْحَالِ مَعْلُومٌ، وَعِنْدَ الْغَصْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْلُومُ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الثَّوْبِ أَنَّهُ غَصَبَهُ جَدِيدًا لِإِثْبَاتِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي غَصْبِهِ، وَضَمَانُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الصِّفَةِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، وَحَلَفَ الْغَاصِبُ، وَأَخَذَ رَبُّ الثَّوْبِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ جَدِيدًا ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِبَيِّنَةٍ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَيَمِينُ الْغَاصِبِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ بَيِّنَةِ رَبِّ الثَّوْبِ بَعْدَ ذَلِكَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَا قَضَى بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ كَانَ خَلَقًا وَقْتَ الْغَصْبِ، وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، فَإِذَا قَامَتْ الْحُجَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا. فَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ، وَكَانَ الثَّوْبُ لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَضَمِنَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِغَصْبِهِ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ مَالِهِ فَأَصْلُ الثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَالصَّبْغُ لِلْغَاصِبِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، وَتَعَذَّرَ اتِّصَالُ مَنْفَعَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ صَاحِبُ الْأَصْلِ، وَالْغَاصِبُ صَاحِبُ الْوَصْفِ فَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَقِيَامُ الْوَصْفِ بِالْأَصْلِ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ بِدُونِ غُرْمٍ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الْغُرْمَ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ كَمَا غَصَبَهُ، وَيَصِيرُ الثَّوْبُ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ لَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ فَيَتَوَصَّلُ الْغَاصِبُ إلَى مَالِيَّةِ حَقِّهِ، وَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الثَّوْبِ عَلَيْهِ هَذَا الصَّبْغَ بِمَا يُؤَدَّى مِنْ الضَّمَانِ، وَالْغَاصِبُ رَاضٍ بِذَلِكَ حِينَ جَعَلَ مِلْكَهُ وَصْفًا لِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَ الثَّوْبَ فَيَضْرِبُ فِي ثَمَنِهِ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ، وَيَضْرِبُ الْغَاصِبُ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ لَا يَمْلِكَ ثَوْبَهُ مِنْهُ بِقِيمَتِهِ، وَأَنْ لَا يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا لَا طَرِيقَ لِتَمْيِيزِ حَقِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِالْبَيْعِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ. إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الصَّبْغِ لِانْعِدَامِ الصَّبْغِ مِنْهُ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُمَا سَوَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الصَّبْغُ نُقْصَانًا فِي هَذَا الثَّوْبِ، وَقَدْ يَكُونُ لَوْنُ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ نُقْصَانًا فِي بَعْضِ الثِّيَابِ. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ، وَتَرَاجَعَ قِيمَتُهُ إلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فِي ثَوْبٍ يَزِيدُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ، وَيَأْخُذَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْغَاصِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ نُقْصَانَ قِيمَةِ ثَوْبِهِ، وَاسْتَوْجَبَ الصَّبَّاغُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّبْغِ خَمْسَةً، وَالْخَمْسَةُ دَرَاهِمُ بِالْخَمْسَةِ قِصَاصٌ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ النُّقْصَانِ وَهُوَ خَمْسَةٌ. فَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ جَارِيَةً صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا حَتَّى أَدْرَكَتْ وَكَبُرَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا رَبُّ الْجَارِيَةِ لَمْ يَضْمَنْ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ فِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا بَيَّنَّا مِنْ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ لَا مِنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهَا بِمَا أَنْفَقَ، وَلِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ بِهَا مِنْ الرَّدِّ وَإِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِذَا غَصَبَ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ سَوِيقِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ سَوِيقَهُ، وَضَمِنَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ السَّمْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّمْنَ فِي السَّوِيقِ زِيَادَةُ وَصْفٍ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ. وَكَذَلِكَ الدُّهْنُ إذَا خُلِطَ بِهِ مِسْكُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ دُهْنًا يُطَيَّبُ بِالْمِسْكِ، فَإِنْ كَانَ دُهْنًا مُنْتِنًا كَدُهْنِ الْبَرْزِ وَنَحْوِهِ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ لِلْغَاصِبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمِسْكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ. وَإِذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَسْوَدَ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ السَّوَادُ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ أَجَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي عَصْرِهِ مِنْ عَادَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْ لُبْسِ السَّوَادِ، وَهُمَا أَجَابَا عَلَى مَا شَاهَدَا فِي عَصْرِهِمَا مِنْ عَادَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلُبْسِ السَّوَادِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمَّا قُلِّدَ الْقَضَاءَ وَأَمَرَ بِلُبْسِ السَّوَادِ، وَاحْتَاجَ إلَى الْتِزَامِ مُؤْنَةٍ فِي ذَلِكَ رَجَعَ وَقَالَ: السَّوَادُ زِيَادَةٌ. وَقِيلَ: السَّوَادُ يُزِيدُ فِي قِيمَةِ بَعْضِ الثِّيَابِ، وَيُنْقِصُ مِنْ قِيمَةِ بَعْضِ الثِّيَابِ كَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا يَنْقُصُ بِالسَّوَادِ مِنْ قِيمَتِهِ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يَزِيدُ السَّوَادُ فِي قِيمَتِهِ فَالْجَوَابُ مَا قَالَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَإِنْ غَصَبَهُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَلَمْ يَخِطْهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ نُقْصَانٌ فَاحِشٌ فِي الثَّوْبِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَطْعِ كَانَ يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ، وَبَعْدَ مَا قُطِعَ قَمِيصًا لَا يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَصْلُحُ قَبْلَ الْقَطْعِ. فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مِنْ وَجْهٍ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ مَالَ صَاحِبُهُ إلَى جَانِبِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جَانِبِ الْبَقَاءِ وَأَخَذَ عَيْنَ الثَّوْبِ، وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَتَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي مِثْلِهِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ جَائِزٌ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَهُ الصَّبْغُ الْأَسْوَدُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ مَا نَقَصَهُ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ الْأَسْوَدَ فِي مِثْلِهِ نُقْصَانٌ فَاحِشٌ، وَهُوَ كَالِاسْتِهْلَاكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إحْدَاثِ أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ فِيهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِذَلِكَ، وَالصَّبْغُ الْأَسْوَدُ مِنْ الثَّوْبِ لَا يُمْكِنُ قَلْعُهُ عَادَةً، وَبِهِ يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَلَوْ اغْتَصَبَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ، فَإِنْ كَانَ خَرْقًا صَغِيرًا ضَمَّنَ الْغَاصِبَ النُّقْصَانَ فَقَطْ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثَوْبَهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَبِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخَرْقِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِمَا كَانَ صَالِحًا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ فِي قِيمَتِهِ نُقْصَانٌ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ النُّقْصَانَ، وَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ كَبِيرًا، وَقَدْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَةَ ثَوْبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَعْدَ هَذَا الْخَرْقِ لِجَمِيعِ مَا كَانَ صَالِحًا قَبْلَهُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ لِكَوْنِهِ قَائِمًا حَقِيقَةً، وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ فِعْلُ الْغَاصِبِ. (وَأَمَّا) الدَّابَّةُ إذَا غَصَبَهَا فَقَطَعَ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَيَقْطَعُ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَهُنَاكَ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لِبَقَائِهِ صَالِحًا لِعَامَّةِ مَا كَانَ صَالِحًا لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالدَّابَّةُ تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ بَعْدَ هَذَا الْقَطْعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا لِلْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بَقَرَةً أَوْ جَزُورًا فَقَطَعَ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا أَوْ كَانَتْ شَاةً فَذَبَحَهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ النَّسْلِ وَاللَّبَنِ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَذْبُوحَ مَسْلُوخًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَسْلُوخٍ، وَضَمَّنَ الْغَاصِبَ النُّقْصَانَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ فِي الشَّاةِ زِيَادَةٌ؛ وَلِهَذَا يَلْتَزِمُ بِمُقَابَلَتِهِ الْعِوَضَ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّقَرُّبِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِاللَّحْمِ، وَلَكِنَّهُ نُقْصَانٌ بِتَفْوِيتِ سَائِرِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلِأَجْلِهِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فَكَانَ هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الثَّوْبِ سَوَاءٌ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ شَاءَ. (وَإِذَا) طَحَنَ الْغَاصِبُ الْحِنْطَةَ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَالدَّقِيقُ لَهُ عِنْدَنَا. وَسِوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: (إحْدَاهُمَا) أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الدَّقِيقِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ، وَلَكِنْ يُبَاعُ فَيَشْتَرِي لَهُ بِهِ حِنْطَةً مِثْلَ حِنْطَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 وَيَدُهُ بِسَبَبٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِسَبَبٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ كَالْبَيْعِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ، وَإِذَا أُزِيلَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِأَنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَنْقَطِعَ حَقُّهُ. (وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى) أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الدَّقِيقَ، وَضَمَّنَهُ حِنْطَةً مِثْلَ حِنْطَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدَّقِيقَ، وَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا. قَالَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ وَأُخَالِفُ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَحَ أَنْ يَأْتِيَ مُفْلِسٌ إلَى كُرِّ حِنْطَةِ إنْسَانٍ فَيَطْحَنَهُ ثُمَّ يَهَبَ الدَّقِيقَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَلَا يَتَوَصَّلُ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ إلَى شَيْءٍ، فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ الدَّقِيقَ، وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِهِ الْعَيْنَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا جَائِزٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الدَّقِيقَ عَيْنُ شَبَهٍ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا قَبْلَ الطَّحْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ لَا لِإِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَتَفْرِيقُ الْأَجْزَاءِ لَا يُبَدِّلُ الْعَيْنَ كَالْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ، وَالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ وَالتَّأْرِيبِ فِي الشَّاةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّقِيقَ جِنْسُ الْحِنْطَةِ؛ وَلِهَذَا جَرَى الرِّبَا بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ. وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إمْلَاءِ الْكَيْسَانِيَّاتِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي مُرَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَأَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يَسِيغُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: كَانَتْ شَاةَ أَخِي، وَلَوْ كَانَتْ أَعَزَّ مِنْهَا لَمْ يَنْفَسْ عَلَيَّ بِهَا، وَسَأُرْضِيهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا إذَا رَجَعَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى». قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْمَحْبُوسِينَ، فَأَمْرُهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْغَاصِبَ قَدْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنُهُ إذَا أَمْكَنَ، وَثَمَنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ عَيْنِهِ، وَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّصَدُّقِ بِهَا دَلَّ أَنَّهُ مَلَكَهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ قَالَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلًا فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الدَّقِيقَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ، وَهُوَ إنَّمَا غَصَبَ الْحِنْطَةَ، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدَّقِيقِ كَمَنْ أَتْلَفَ حِنْطَةً لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدَّقِيقِ. وَبَيَانُ الْمُغَايَرَةِ أَنَّهُمَا غَيْرَانُ اسْمًا، وَهَيْئَةً، وَحُكْمًا، وَمَقْصُودًا. وَكَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ إعَادَةُ الدَّقِيقِ إلَى صِفَةِ الْحِنْطَةِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ تُعْرَفُ بِصُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَتَبَدُّلُ الْهَيْئَةِ وَالِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُغَايَرَةَ صُورَةٌ، وَتَبَدُّلُ الْحُكْمِ وَالْمَقْصُودِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ مَعْنًى، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الثَّانِي انْعِدَامُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 الْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَيْئَيْنِ، وَإِذَا انْعَدَمَ الْأَوَّلُ بِفِعْلِهِ صَارَ ضَامِنًا مِثْلَهُ، وَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيُجْعَلُ هَذَا الدَّقِيقُ حَادِثًا مِنْ مِلْكِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ يُجْعَلُ حَادِثًا بِفِعْلِهِ، وَفِعْلُهُ سَبَبٌ صَالِحٌ لِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَلَكِنْ بَيْنَ الدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ شُبْهَةُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَهُوَ أَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ صُورَةُ تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَبَابُ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَرَى حُكْمُ الرِّبَا بِخِلَافِ الْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ، وَالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ، فَإِنَّ بِالذَّبْحِ لَا يَفُوتُ اسْمُ الْعَيْنِ يُقَالُ: شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ، وَشَاةٌ حَيَّةٌ، فَبَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ بِالسَّلْخِ وَالتَّأْرِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلُ تَبْدِيلِ الْعَيْنِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَأْكُلَ هَذَا الدَّقِيقَ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَادِثٌ بِكَسْبِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ هَذِهِ أَجْزَاءُ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَالْأَكْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَتِمُّ تَحَوُّلُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَى الضَّمَانِ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ فَلِهَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَهُ. (وَإِذَا) اسْتَهْلَكَ قُلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجَوْدَةِ وَالصِّفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ قِيمَةً، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا، وَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّفَةِ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا: يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا. وَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ مَكْسُورًا فَرَضِيَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمَكْسُورِ وَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ لِلصِّفَةِ عِوَضًا كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الْعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ بِالْكَسْرِ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءِ حَقِّهِ فِي الصِّفَةِ إلَّا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ إنَاءٍ مَصُوغٍ كَسَرَهُ رَجُلٌ، فَإِنْ مِنْ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا مَعَ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الصِّفَةِ، فَإِنْ كَسَرَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيَّرَهُ بِصُنْعِهِ، وَلَا يَتِمُّ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 إلَّا بِإِيجَابِ الْمِثْلِ، وَالْمَكْسُورُ لِلْكَاسِرِ إذَا ضَمِنَ مِثْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ مَالِيَّةً انْتَقَصَتْ بِالْكَسْرِ أَوْ لَمْ تَنْتَقِصْ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعَيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إلَّا فِيمَا يَكُونُ زِيَادَةً فِيهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. (وَإِذَا) ادَّعَى دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ، وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ: هُوَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَهُوَ خَصْمٌ لِظُهُورِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ غَيْرِهِ، (وَإِنْ) أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ أَوْ أَعَارَهَا أَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُخَمَّسَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ غَصَبَهُ مِنْهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ دَعْوَاهُ الْخَصْمَ صَحِيحٌ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. إنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ثَوْبُهُ غُصِبَ مِنْهُ فَقَدْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا فِعْلٌ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَإِنَّمَا كَانَ ذُو الْيَدِ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ. وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: هَذَا ثَوْبِي سُرِقَ مِنِّي فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، (قَوْلُهُ:) سُرِقَ مِنِّي ذِكْرُ فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَلَا يَصِيرُ الْفِعْلُ بِهِ مُدَّعًى عَلَى ذِي الْيَدِ إنَّمَا كَانَ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَا: لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ قَوْلَهُ سُرِقَ مِنِّي مَعْنَاهُ سَرَقَهُ مِنِّي إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ انْتِدَابًا إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ إظْهَارِهِ الْفَاحِشَةَ وَالِاحْتِيَالَ لِدَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ يَعُودُ فَيَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلَ السَّرِقَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ تَجَاهَرَ بِمَا صَنَعَ، وَلَا يُنْدَبُ إلَى السِّتْرِ عَلَى مَا تَجَاهَرَ بِفِعْلِهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ السَّارِقَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بِالْبُعْدِ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ أَنَّهُ فُلَانٌ أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: سُرِقَ مِنِّي يَتَحَرَّزُ عَنْ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ، وَلَهُ ذَلِكَ شَرْعًا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سَرَقْتَهُ مِنِّي بِخِلَافِ الْغَصْبِ. وَلِأَنَّ السُّرَّاقَ قَلَّمَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِمْ لِخَوْفِهِمْ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ بِهَذَا كَانَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُدَّعِي لَا تَحْوِيلًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَكُون ظَاهِرًا فَيَكُونُ هَذَا مِنْ ذِي الْيَدِ تَحْوِيلًا لِلْخُصُومَةِ إلَيْهِ لَا إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُدَّعِي. (رَجُلٌ) غَصَبَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَاسْتَهْلَكَهُ فَضَمِنَ إنْسَانٌ عَنْ الْغَاصِبِ قِيمَتَهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الثَّوْبِ بَيِّنَةٌ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 قِيمَتِهِ فَقَالَ الْكَفِيلُ: قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَقَالَ الْغَاصِبُ: عِشْرُونَ، وَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: ثَلَاثُونَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ إلَّا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا قِيمَتُهُ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْكَفَالَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ كَالْغَاصِبِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى فَهُوَ مُصَدِّقٌ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُصَدِّقٍ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ وُجُوبُهَا عَلَى الْكَفِيلِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا قِيمَتُهُ إلَّا عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَشَرَةً أُخْرَى، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ. (رَجُلٌ) غَصَبَ جَارِيَةً شَابَّةً فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَتْ عَجُوزًا، فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَأْخُذُهَا وَمَا نَقَصَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ فَاتَ وَصْفُ مَقْصُودٍ مِنْهَا، وَهُوَ الشَّبَابُ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهُ غُلَامًا شَابًّا فَكَانَ عِنْدَهُ حَتَّى هَرِمَ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ بَعْضُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهُ، وَهُوَ قُوَّةُ الشَّبَابِ، وَالْهَرَمُ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَهُ صَبِيًّا فَشَبَّ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِمَا حَدَثَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ الشَّبَابِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَبَتَ شَعْرُهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ جَمَالًا عِنْدَهُ. فَإِنَّ اللِّحْيَةَ جَمَالٌ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا مِنْ الْحُرِّ عِنْدَ اقْتِبَالِ الْمَنْبِتِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالْغَاصِبُ بِالزِّيَادَةِ عِنْدَهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا. وَلَوْ كَانَ مُحْتَرِفًا بِحِرْفَةٍ فَنَسِيَ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَانَ ضَامِنًا لِلنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَمَا يَزِيدُ فِي مَالِيَّتِهِ (فَإِنْ قِيلَ:) عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحِرْفَةِ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ فِي الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ فِي الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَيَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ بِاعْتِبَارِهِ النُّقْصَانَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ غَصَبَ ثَوْبًا مِنْ رَجُلٍ فَعَفِنَ عِنْدَهُ وَاصْفَرَّ فَقَدْ انْتَقَصَتْ مَالِيَّتُهُ بِمَا حَدَثَ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلنُّقْصَانِ. وَلَوْ غَصَبَ طَعَامًا حَدَثًا فَأَمْسَكَهُ حَتَّى عَفِنَ عِنْدَهُ فَعَلَيْهِ طَعَامُ مِثْلِهِ، وَهَذَا الْفَاسِدُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ يَتَضَمَّنُ النُّقْصَانَ، وَالنُّقْصَانُ هُنَا مُتَعَذِّرٌ فَيُصَارُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ بِتَضْمِينِ الْمِثْلِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَالِكُ بِأَخْذِ الطَّعَامِ الْعَفِنِ فَيَأْخُذُهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ. (رَجُلٌ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا، وَمِنْ آخَرَ عُصْفُرًا فَصَبَغَهُ بِهِ، ثُمَّ حَضَرَا جَمِيعًا فَقَالَ: أَمَّا صَاحِبُ الْعُصْفُرِ فَيَأْخُذُهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ عُصْفُرًا مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ مَا غَصَبَهُ مِنْهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَيْنَ مَالٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ صَارَ وَصْفًا قَائِمًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا، فَعَلَى الْغَاصِبِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 ضَمَانُ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، وَالسَّوَادُ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ السَّوَادَ فِي نَفْسِهِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا ضَمِنَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ عُصْفُرَهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ. وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ صَبَغَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْخِيَارِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ غَصْبُ الثَّوْبِ وَالصَّبْغُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلصَّبْغِ بِمَا صَنَعَ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ هُنَا أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ وَلَا يُعْطِيَ الصَّبَّاغَ شَيْئًا، وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ صِبْغِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ صَارَ وَصْفًا لِمِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَهْلِكًا بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَصْلَ الثَّوْبِ كَانَ مُجِيزًا لِفِعْلِهِ فِي الِانْتِهَاءِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْإِذْنِ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الصَّبْغَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، وَإِذَا ضَمِنَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ مَغْصُوبًا مِنْ إنْسَانٍ، وَالصَّبْغُ مِنْ آخَرَ وَصَبَغَهُ لِلْغَاصِبِ ثُمَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَفِي الْقِيَاسِ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثَوْبَهُ، وَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الصَّبْغِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ صَبْغَهُ مُسْتَهْلَكٌ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ، وَضَمَانُهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَلِلْغَاصِبِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ الصَّبْغِ إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ، فَهَذَا الرَّجُلُ وَجَدَ مَدْيُونَ مَدْيُونِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ خَصْمُهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ ضَمِنَ لَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صَبْغٌ فِيهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصَبْغِ إنْسَانٍ؛ وَلِهَذَا نُوجِبُ السِّعَايَةَ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ احْتَبَسَ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صَبْغٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بَاعَهُ فَضَرَبَ هُوَ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ كَمَا لَوْ صَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ غَصَبَ مِنْ وَاحِدٍ حِنْطَةً، وَمِنْ آخَرَ شَعِيرًا فَخَلَطَهُمَا ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا غَصَبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ مُتَعَسِّرٌ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ، وَالْمُتَعَذِّرُ كَالْمُمْتَنِعِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْمَخْلُوطِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَخْلُوطُ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْخَالِطِ سَوَاءٌ خَلَطَ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُمَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَا الْمَخْلُوطَ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَا الْمَخْلُوطَ، وَضَمَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخَالِطَ مِثْلَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ، أَمَّا فِي الْخَلْطِ بِالْجِنْسِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَلْطِ بِغَيْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 الْجِنْسِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَأَتَّى التَّمْيِيزُ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَيَّبَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ؛ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّضْمِينِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ اعْتَبَرَ بَقَاءَ عَيْنِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً فَيَخْتَارُ الشَّرِكَةَ فِي الْمَخْلُوطِ، وَهُوَ نَظِيرُ غَاصِبِ الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالْخَلْطِ صَارَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى مَا كَانَ قَبْلَ الْخَلْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَدِّلُ اسْمَ الْعَيْنِ، فَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يُسَمَّى قَفِيزًا، وَالْآنَ يُسَمَّى كُرًّا، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ خَاصَّةً، وَالْبَعْضُ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ غَيْرُ كُلِّهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْمَخْلُوطَ حَادِثٌ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حُكْمًا فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ صَيْرُورَةُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّضْمِينِ مَعَ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ مَعَ الصَّبْغِ، وَإِذَا صَارَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَهْلَكًا تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَضْمُونِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَصَلَ الِاخْتِلَاطُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَإِنَّ الْمَخْلُوطَ هُنَاكَ أَيْضًا هَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ لَا ضَامِنَ لَهُ فَيَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُمَا الْمَالِكَانِ قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْخَلْطُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَهُوَ سَبَبٌ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْمِلْكِ إلَيْهِ فِي الْمَخْلُوطِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ الْفِعْلِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمَحِلِّ فَلِهَذَا كَانَ الْمَخْلُوطُ لَهُمَا. وَلَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ كَتَّانًا فَغَزَلَهُ وَنَسَجَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ غَصَبَ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، وَنَسَجَهُ أَوْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلِصَاحِبِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ الْخِيَارُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْحِنْطَةِ إذَا طَحَنَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ هُنَاكَ الْغَاصِبَ فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ الْمُجْتَمِعَةَ بِالطَّحْنِ، وَهُنَا جَمَعَ الْأَجْزَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ بِالنَّسْجِ، فَكَمَا لَا تُبَدَّلُ الْعَيْنُ بِتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَبَدَّلُ بِجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ، وَهُوَ كَمَا غَزَلَ الْقُطْنَ وَلَمْ يَنْسِجْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِ الْقُطْنِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّوْبُ غَيْرُ الْغَزْلِ وَالْقُطْنِ صُورَةً وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَالْغَزْلُ خَيْطٌ مَمْدُودٌ، وَالثَّوْبُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُغَايَرَةِ تَبَدُّلُ الِاسْمِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ الْغَزْلُ وَالْقُطْنُ مَوْزُونٌ، وَهُوَ مَالُ الرِّبَا، وَالثَّوْبُ مَذْرُوعٌ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَبَعْدَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 النَّسْجِ لَا يُتَصَوَّرُ إعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ الثَّانِي انْعِدَامُ الْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَيْئَيْنِ، ثُمَّ هَذَا حَادِثٌ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَالْأَوَّلُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِعَمَلِهِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَأَمَّا الْقُطْنُ إذَا غَزَلَهُ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الْقُطْنِ إذَا غَزَلَهُ، وَبَيْنَ الْغَزْلِ إذَا نَسَجَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْقُطْنُ غَزْلٌ؛ لِأَنَّهُ خُيُوطٌ رَقِيقَةٌ يَبْدُو ذَلِكَ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْإِبْرَيْسَمِ، فَالْغَزْلُ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بِتَرْكِيبٍ وَتَأْلِيفٍ، وَبِإِحْدَاثِ الْمُجَاوَرَةِ لَا تَتَبَدَّلُ الْعَيْنُ؛ وَلِهَذَا بَقِيَ مَوْزُونًا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ بِخِلَافِ الْغَزْلِ إذَا نَسَجَهُ. وَلَوْ غَصَبَ سَاجَةً فَجَعَلَهَا بَابًا أَوْ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ سَيْفًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْحَدِيدِ وَالسَّاجَةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ خَشَبَةً، وَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ آجُرًّا فَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ أَوْ جِصًّا فَبَنَى بِهِ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ قِيمَتُهُ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ نَقْضُ بِنَائِهِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا فَزُفَرُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ زِيَادَةُ وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُسْتَهْلَكًا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَبَيَانُ هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، ثُمَّ زَادَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ، ثُمَّ زَادَ فِي الثَّمَنِ يَجُوزُ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْغَاصِبَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ إيلَامِ حَيَوَانٍ، فَيَجِبُ رَدُّهُ كَالسَّاجَةِ إذَا بَنَى عَلَيْهَا، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَالرَّدُّ جَائِزٌ شَرْعًا، فَإِنَّ بِالِاتِّفَاقِ لَوْ رَدَّهُ الْغَاصِبُ جَازَ، وَلَوْ صَبَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ حَتَّى نَقَضَ الْغَاصِبُ الْبِنَاءَ وَالْخِيَاطَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَرَدُّهُ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا، فَمَا دَامَ الرَّدُّ جَائِزًا يَبْقَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَصَبَ خَيْطًا، وَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ بَطْنَ عَبْدِهِ أَوْ لَوْحًا، وَأَصْلَحَ بِهِ سَفِينَةً، وَالسَّفِينَةُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَنَقْضِ الْبِنْيَةِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، وَمِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ جَوَازِ الرَّدِّ انْعِدَامُ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ شَرْعًا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْوَصْفِ مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلْغَاصِبِ، وَسَبَبُ ظُلْمِهِ لَا يُسْقِطُ قِيمَةَ مَا كَانَ مُتَقَوِّمًا مِنْ حَقِّهِ كَمَا فِي الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الصِّبْغَ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَيُمْكِنُ إبْقَاءُ حَقِّ صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الثَّوْبِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَاصِبِ بِإِيجَابِ قِيمَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 الصِّبْغِ لَهُ، وَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا، وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ فَيَتَعَيَّنُ دَفْعُ الضَّرَرِ هُنَا بِإِيجَابِ الْمَغْصُوبِ حَقًّا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِيَتَوَصَّلَ هُوَ إلَى مَالِيَّةِ مِلْكِهِ، وَيَبْقَى حَقُّ صَاحِبِ الْوَصْفِ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا إلَّا أَنَّ فِي الْإِضْرَارِ بِالْغَاصِبِ إهْدَارُ حَقِّهِ، وَفِي قَطْعِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ تَوْفِيرُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ لَا إهْدَارُ حَقِّهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَضَرَرُ النَّقْلِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ؛ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الرَّدَّ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَاصِبِ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ الْتَزَمَ الضَّرَرَ، (فَإِنْ قِيلَ:) صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبُ أَصْلٍ، وَالْغَاصِبُ صَاحِبُ وَصْفٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى، وَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ صَاحِبِ الْوَصْفِ وَهُوَ جَانٍ. (قُلْنَا:) لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْأَصْلُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَقْصُودًا، وَالْآنَ صَارَ تَبَعًا لِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَالتَّبَعُ غَيْرُ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا صَارَ بِحَيْثُ يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْقُولًا لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَانْعَدَمَ مِنْهُ سَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ سِوَى هَذَا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالْقَائِمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَهْلَكٍ مِنْ وَجْه، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْأَصْلُ إذَا كَانَ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ، فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ صَالِحَةٌ لِمَا كَانَتْ صَالِحَةً لَهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا هُنَاكَ اعْتِبَارَ حَقِّ صَاحِبِ السَّاجَةِ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَصَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِي الثَّوْبِ وَصْفٌ قَائِمٌ مُتَقَوِّمٌ، وَالْقِصَارَةُ تُزِيلُ الدَّرَنَ وَالْوَسَخَ عَنْ الثَّوْبِ، ثُمَّ لَوْنُ الْبَيَاضِ وَصْفٌ أَصْلِيٌّ لِلْقُطْنِ. وَلَا يُقَالُ: أَلَيْسَ أَنَّ الْقَصَّارَ يُحْبَسُ بِالْأَجْرِ.؟ (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ عَمَلِهِ فِي الْمَعْمُولِ لَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْوَصْفِ فِي الْعَمَلِ لِلْمَعْمُولِ بِعَمَلِهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ أَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَدْخَلَ السَّاجَةَ فِي بِنَائِهِ بِأَنْ بَنَى حَوْلَهَا لَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى السَّاجَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ، وَالسَّاجَةُ مِنْ وَجْهٍ كَالْأَصْلِ لِهَذَا الْبِنَاءِ فَيُهْدَمُ لِلرَّدِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ، وَلَكِنْ هَذَا ضَعِيفٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ بَقَرَةً، وَاِتَّخَذَ مِنْهَا عُرْوَةً مُزَادَةً انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْهَا، وَهُوَ فِي الْعَمَلِ هُنَا مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا. وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا وَقَدْ أَدْرَكَ الزَّرْعُ أَوْ هُوَ بَقْلٌ فَعَلَيْهِ حِنْطَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 مِثْلُ حِنْطَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الزَّرْعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الزَّرْعُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مِلْكِهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الزَّارِعِ حَرَكَاتُهُ، وَالْأَجْسَامُ لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْحَرَكَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّوَلُّدَ مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ بِصِفَةِ الْأَصْلِ يَخْتَلِفُ الزَّرْعُ مَعَ اتِّحَادِ عَمَلِ الزَّارِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِحِنْطَةِ إنْسَانٍ، وَأَلْقَتْهُ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَيَنْبُتُ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّرْعَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَطْعُومُ بَنِي آدَمَ، وَالزَّرْعَ بَقْلٌ هُوَ عَلَفُ الدَّوَابِّ، وَهَذَا الزَّرْعُ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْسُدْ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ لَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِأَصْلِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ أَوْ بِعَمَلِ الزَّارِعِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حِنْطَةً لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِبَقَائِهَا كَذَلِكَ حِنْطَةً فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةً لِحُدُوثِ شَيْءٍ آخَرَ. وَقُوَّةُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لَهُمَا، فَلَا يَصْلُحُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا بِنَفْيِ عَمَلِ الزَّارِعِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَذْرِ وَقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ بِعَمَلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْبِئْرِ يُضَافُ هَلَاكُهُ إلَى الْحَافِرِ، وَعَمَلُهُ فِي الشَّرْطِ، وَلَكِنْ مَا كَانَ عِلَّةً، وَهُوَ تَعِلَّةٌ، وَمُشَبَّهٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ لَا يَصْلُحُ عَمَلُهُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ كَانَ هُوَ مُكْتَسِبًا لِلزَّارِعِ، وَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْمُكْتَسِبِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِعَمَلِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: دَخَلَ فِي كَسْبِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي الِاكْتِسَابِ مِلْكَ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ هَذَا مُتَوَلِّدٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ غَيْرُهُ فَلِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ قُلْنَا: لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ نَوَاةً فَأَنْبَتَهَا أَوْ تَالَّةً فَغَرَسَهَا إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي التَّالَّةِ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ، وَفِي الزَّرْعِ وَالنَّوَاةِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ وَالنَّوَاةَ تَفْسُدُ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرَةُ كَسْبَ الْغَاصِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَأَمَّا التَّالَّةُ فَلَا تَفْسُدُ، وَلَكِنَّهَا تَنْمُو، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الشَّجَرَةَ غَيْرَ التَّالَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا طَحَنَهَا. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ بَيْضَةً وَحَضَّنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ لَهُ حَتَّى أَفْرَخَتْ، فَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الزَّرْعِ سَوَاءٌ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْفَرْخِ وَالْبَيْضَةِ لَا تُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ، وَذَلِكَ مَوَاتٌ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا إذَا غَصَبَ شَجَرَةً وَقَلَعَهَا وَكَسَرَهَا؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ نُقْصَانٌ مَحْضٌ لَا يَتَبَدَّلُ بِهِ اسْمُ الْعَيْنِ، ثُمَّ الْكَسْرُ تَحْقِيقُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالشَّجَرَةِ بَعْدَ الْقَلْعِ، وَهُوَ الْحَطَبُ فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا. (مُسْلِمٌ) غَصَبَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَفْسَدَ تَقَوُّمَهُ حِينَ حَرَّمَ تَمَوُّلَهُ، وَإِنْ جَعَلَهَا خَلًّا فَلِرَبِّ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ مَعْنَى التَّمَوُّلِ وَالتَّقَوُّمِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْلِمِ، إذْ الْمِلْكُ صِفَةٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ؛ وَلِهَذَا جَازَ لَهُ إمْسَاكُ الْخَمْرِ لِلتَّخَلُّلِ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ مِنْ غَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا فَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ الْهَيْئَةِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ أَلْقَى فِيهَا مِلْحًا فَالْمِلْحُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَيْضًا، وَإِنْ صَبَّ فِيهَا خَلًّا فَهَذَا خَلْطٌ إلَّا أَنَّ الْخَلْطَ إنَّمَا يُزِيدُ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَإِيجَابُ الضَّمَانِ هُنَا مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يُضْمَنُ لِلْمُسْلِمِ بِالِاسْتِهْلَاكِ؛ فَلِهَذَا كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَخْلُوطِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ قَالُوا هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إذَا أَلْقَى الْجِلْدَ صَاحِبُهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ، وَدَبَغَهُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَلْقَاهُ تَارِكًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُلْقِي النَّوَى وَقُشُورَ الرُّمَّانِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ إنْسَانٌ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ، وَأَمَّا إذَا غَصَبَ الْجِلْدَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ، وَيَأْخُذُهُ، وَلَا يُعْطِي الْغَاصِبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يُحْدِثْ الْغَاصِبُ فِيهِ زِيَادَةَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَنْعَتَهُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ إلَى الضَّمَانِ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا؛ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. وَأَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ كَالشَّبِّ وَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَ جِلْدَهُ وَيَضْمَنَ مَا زَادَ الدَّبَّاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْغَاصِبِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَعَ الْجِلْدَ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ هُنَا، بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ بِدُونِ الصَّبْغِ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالْجِلْدُ قَبْلَ الدِّبَاغِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، حَتَّى ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ لَوْ غَصَبَهُ جِلْدًا ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الْجِلْدِ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ الذَّكِيَّ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَهُوَ وَمَسْأَلَةُ الثَّوْبِ سَوَاءٌ. وَإِنْ غَصَبَهُ عَصِيرًا فَصَارَ عِنْدَهُ خَمْرًا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَبِالتَّخْمِيرِ يَصِيرُ هَذَا الْوَصْفُ مِنْهُ مُسْتَهْلَكًا. وَمُرَادُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 مِنْ قَوْلِهِ: يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ بَعْدَ انْقِطَاعِ أَوَانِ الْعَصِيرِ، فَأَمَّا فِي أَوَانِهِ يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخَلَّ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْهَيْئَةِ، وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ مِنْ صِفَةِ الْحَلَاوَةِ إلَى صِفَةِ الْحُمُوضَةِ. فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا، وَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَالُ الرِّبَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِيَارَ قَبْلَ التَّخَلُّلِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ هُنَاكَ لَكَانَ أَخْذُ الْخَمْرِ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْجَبَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ أَيْضًا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبْرِئًا عَنْ الضَّمَانِ، ثُمَّ يَأْخُذُ خَمْرَهُ لِيُخَلِّلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَصِيرُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ فَتَخَمَّرَ. (رَجُلٌ) لَهُ حِنْطَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَشَعِيرٌ لِآخَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَيْضًا وَدِيعَةً فَخَلَطَهُمَا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْرِفُ. قَالَ: يُبَاعَانِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ الْمَخْلُوطُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْخَالِطِ، وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مِلْكِهِ لِحَقِّهِمَا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَخْلُوطَ، وَإِنْ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْخَالِطِ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُمَا عَنْهُ بَلْ يَتَوَقَّفُ تَمَامُ انْقِطَاعِ حَقِّهِمَا عَلَى وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْخَالِطِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْبَدَلَ إلَيْهِمَا، وَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُمَا فِيهِ قُلْنَا: يُبَاعُ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الضَّمَانِ مِنْ الْخَالِطِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، يُبَاعُ فِي الثَّمَنِ إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي لِغَيْبَتِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ، وَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَنْقُصُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالشَّعِيرِ. وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ، وَالشَّعِيرُ تَزْدَادُ قِيمَتُهُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالْحِنْطَةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ، فَلَا يُسْتَحَقُّ الضَّرْبُ بِهَا مَعَهُ؛ فَلِهَذَا يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ يَعْنِي إذَا تَحَقَّقَ الْخَلْطُ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ أَوْ يَتَعَذَّرُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مَبْلَغِ كَيْلِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَقَدْ بَاعَهُمَا مُجَازَفَةً، وَاسْتَهْلَكَهُمَا الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ فِي الْحِنْطَةِ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّعِيرِ، وَفِي الشَّعِيرِ قَوْلُ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي زِيَادَةً فِي مِقْدَارِ مِلْكِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا صَاحِبُهُ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِإِنْكَارِهِ، وَبَعْدَ مَا حَلَفَ يُقَسَّمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَزْعُمُ صَاحِبُهُ الْمُنْكِرُ مِنْ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (ثَوْبٌ) فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ هَذَا، وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ (فَقَالَ:) أَقْضِي لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبَبَ الْمِلْكِ الْحَادِثِ لِنَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ يَنْفِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا، وَالْهِبَةُ بَعْدَ الْغَصْبِ تَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ بِثَمَنٍ مُسَمَّى أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ثَوْبُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا. (وَإِنْ) كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ الْآخَرُ إيَّاهُ قَضَيْتُ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ غَصَبَ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ، وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَكَانَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ فَلِهَذَا قَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ. فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ اسْتَوْدَعَهُ الْمَيِّتَ الَّذِي هَذَا وَارِثُهُ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ الْمَيِّتُ قَضَيْتُ بِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ الثَّوْبِ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ الْمَيِّتِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَاسْتَوَيَا، وَلَا تَرَجُّحَ لِمُدَّعِي الْغَصْبِ فِي مَعْنَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لِلْآخَرِ ثَابِتٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُودِعَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ يَكُونُ ضَامِنًا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْن، وَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا مَالُهُ غَصَبَهَا إيَّاهُ الْمَيِّتُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مِلْكَ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ إمْسَاكَ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْمِثْلِ، وَحَقُّ الْغَرِيمِ إنَّمَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ فَيَتَعَلَّقُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنْ هَذَا ثَوْبُهُ غَصَبَهُ ذُو الْيَدِ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِهِ لَهُ أَقْضِي بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَثْبَتَ أَنَّ ذَا الْيَدِ كَانَ غَاصِبًا، وَالْآخَرُ إنَّمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الْغَاصِبِ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَإِقْرَارُ الْغَاصِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَالِكِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَأَوْدَعَهُ عِنْدَ آخَرَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ غَيْرُ رَاضٍ بِقَبْضِ الْمُودِعِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَوْدِعُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَانَ عَامِلًا لَهُ، وَكَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمُودَعَ إذَا رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ أَوْ كَانَ غُصِبَ مِنْهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ هَلْ يَبْقَى لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ.؟. (وَالْجَوَابُ) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِكِ بِقَبْضِهِ، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ قَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ، وَيَدُ الْغَاصِبِ لَا تَقُومُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ، فَلَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهُ إلَى يَدِ مَنْ، وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ فَانْعَدَمَ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ، وَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْغَاصِبِ عَلَى مَالِكِهِ. (وَإِذَا) قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: غَصَبْتَنِي هَذِهِ الْجُبَّةَ الْمَحْشُوَّةَ، وَقَالَ الْغَاصِبُ: مَا غَصَبْتُكَهَا، وَلَكِنْ غَصَبْتُكَ الظِّهَارَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنَّهُ ادَّعَى غَصْبَ الْجُبَّةِ، وَالظِّهَارَةُ لَيْسَتْ بِجُبَّةٍ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الْغَصْبَ فِي الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْغَصْبَ فِي الْكُلِّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ إذَا حَلَفَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الظِّهَارَةِ لِإِقْرَارِهِ بِغَصْبِ الظِّهَارَةِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ غَايَتُهُ غَصْبَ الظِّهَارَةِ، وَجَعْلَهَا جُبَّةً. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُكَ الْجُبَّةَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الْبِطَانَةُ، وَالْحَشْوُ لِي لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، فَاسْمُ الْجُبَّةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: غَصَبْتُكَ هَذَا الْخَاتَمَ، ثُمَّ قَالَ: فَصُّهُ لِي، أَوْ هَذِهِ الدَّارَ، ثُمَّ قَالَ: بِنَاؤُهَا لِي، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: شَجَرُهَا لِي، أَوْ أَنَا غَرَسْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَصْبِ فِيهِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رَاجِعًا بِدَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ قَالَ: غَصَبْتُكَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ قَالَ: عُجُولُهَا لِي أَوْ قَالَ: هَذِهِ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَدُهَا لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُنْفَصِلٌ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأُمِّ، فَإِقْرَارُهُ بِالْأَصْلِ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْيَدِ عِنْدَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي الدَّعْوَى، فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ لِنَفْسِهِ مُنَاقِضًا بَلْ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِهِ. (رَجُلٌ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا، ثُمَّ إنَّ الْغَاصِبَ كَسَا الثَّوْبَ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَبَسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ وَهَبَهُ فَأَكَلَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَالْغَاصِبُ بَرِيءٌ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِالرَّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنَّهُ غُرُورٌ مِنْهُ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُ بِالْغُرُورِ، وَالْغَاصِبُ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِالرَّدِّ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ صَارَ ضَامِنًا، وَلِأَنَّهُ مَا أَعَادَ إلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَصِيرُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ، فَكَانَ فِعْلُهُ قَاصِرًا فِي حُكْمِ الرَّدِّ، فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا رَدًّا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إقْدَامٌ عَلَى الْأَكْلِ بِنَاءً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 عَلَى خَبَرِهِ أَنَّهُ أَكْرَمَ ضَيْفَهُ، وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مِلْكُهُ رُبَّمَا لَمْ يَأْكُلْهُ، وَحَمَلَهُ إلَى عِيَالِهِ فَأَكَلَهُ مَعَهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ بَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُ، وَصَلَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ، وَبِهِ يَنْعَدِمُ مَا كَانَ فَائِتًا. وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ غَيْرَ أَنَّهُ جَهِلَ بِحَالِهِ، وَجَهْلُهُ لَا يَكُونُ مُبْقِيًا لِلضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ، كَمَا أَنَّ جَهْلَ الْمُتْلِفِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ إذَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَا يَكُونُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ الْمُضِيفَ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدَّ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَكِنَّ تَنَاوُلَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ كَافٍ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الْغَاصِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إلَى بَيْتِ الْغَاصِبِ، وَأَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُ الْغَاصِبِ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ إيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ نَبَذَ التَّمْرَ، ثُمَّ سَقَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلتَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَّلَ الْعَيْنَ بِمَا صَنَعَ، وَتَقَرَّرَ ضَمَانُ التَّمْرِ فِي ذِمَّتِهِ، فَسَقْيُ النَّبِيذِ إيَّاهُ لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا أَدَاءَ الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُشْبِهُهُ كَالدَّقِيقِ إذَا خَبَزَهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ، أَوْ اللَّحْمِ إذَا شَوَاهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ. (قَالَ:) وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ دِرْعًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِحَدِيدِ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ صُفْرًا فَجَعَلَهُ كُوزًا؛ لِأَنَّهُ غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ، وَصَارَ الْغَاصِبُ مُسْتَهْلِكًا، وَهَذَا الْحَادِثُ حَادِثٌ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَاسْمًا وَحُكْمًا وَمَقْصُودًا؛ فَلِهَذَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَصْنُوعِ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الصَّنْعَةِ لَا يُبَاعُ وَزْنًا، أَمَّا إذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ أَخْذِ الْمَصْنُوعِ إنْ شَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الْبَقَرَةِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الرِّبَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ قَدْ تَبَدَّلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ، بِخِلَافِ الْقُلْبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، فَإِنْ كَسَرَ صَاحِبُ الصُّفْرِ الْكُوزَ بَعْدَ مَا ضَمِنَ لَهُ الْغَاصِبُ قِيمَةَ صُفْرِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْكُوزِ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ الْكُوزَ مَمْلُوكٌ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَيَكُونُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الصُّفْرُ فِي كَسْرِهِ كَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَسَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكُوزَ مَمْلُوكٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَادِثًا بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ الْحَالُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُحَاسِبُهُ بِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصُّفْرِ، وَالْغَاصِبَ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْكُوزِ فَيَتَقَاصَّانِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، فَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ صَاغَهَا إنَاءً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا وَالْحَدِيدُ وَالصُّفْرُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ تَبَدَّلَ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ وَالدَّرَاهِمُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْإِعَادَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ، ثُمَّ جَعَلَ هُنَاكَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ الْإِنَاءَ حَادِثًا بِعَمَلِ الْغَاصِبِ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُنَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَلَا أَجْرَ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَّلَ فَقَالَ: لِأَنَّهُ فِضَّةٌ بِعَيْنِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْوَزْنِ بِخِلَافِ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ. وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَسْتَدِلُّ الْكَرْخِيُّ فِي تَقْسِيمِ الْجَوَابِ هُنَاكَ، ثُمَّ مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ لَا يَتَبَدَّلُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَهُوَ يَبْقَى بَعْدَ الصَّنْعَةِ إنَّمَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ اسْمُ الصَّنْعَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعَيْنِ بَاقٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعَيْنِ أَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، فَأَمَّا صَلَاحِيَّةُ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَهُوَ حُكْمُ الصَّنْعَةِ لَا حُكْمَ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ مَا لَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَإِذَا بَقِيَ اسْمُ الْعَيْنِ وَحُكْمُ الْعَيْنِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَخْذُهُ إنَّمَا يَتَعَذَّرُ لِلصَّنْعَةِ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مُنْفَرِدَةً مِنْ الْأَصْلِ، وَبِهِ فَارَقَ الْحَدِيدَ وَالصُّفْرَ، فَإِنَّ الصَّنْعَةَ هُنَاكَ تُخْرِجُهَا مِنْ الْوَزْنِ، وَمِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الرِّبَا، وَلِلصَّنْعَةِ فِي غَيْرِ مَالِ الرِّبَا قِيمَةٌ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ وَحُكْمَهُ قَدْ تَبَدَّلَ هُنَاكَ كَمَا قَرَّرَنَا. وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ بَاعَهُ بِهَا شَعِيرًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ مِنْ الْعُرُوضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ جَائِزٌ كَيْفَمَا كَانَ، وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ عَيْنًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ مَا يُقَابِلُهَا فِي الْمَجْلِسِ، فَلَا تَنْعَدِمُ الدَّيْنِيَّةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقْرَضَهُ طَعَامًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَدَا لَهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ، فَأَمَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَجُوزَ إسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِ أَصْلًا فِي الْإِبْرَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِهِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ فَأَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِطَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَبَيِّنَةَ الْغَاصِبِ وَافَقَتْ عَلَى أَمْرٍ هُوَ حَادِثٌ، وَهُوَ الرَّدُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. [مُسْلِمٌ غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا] (مُسْلِمٌ) غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ دُونَ حُقُوقِنَا، وَهَذَا لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ إنَّمَا ضَمَنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُتْلِفِ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ، تَحَقُّقُ هَذَا أَنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَكِنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُتْلِفِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمْ؛ وَلِهَذَا لَا نَحُدُّهُمْ عَلَى شُرْبِهَا، وَلَا نَدَعُ أَحَدًا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الْأَنْكِحَةِ أَيْضًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، إنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا، وَلَمْ يُجْعَلْ اعْتِقَادُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ التَّفْضِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ لَا يَضْمَنُ لِلذِّمِّيِّ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي اعْتِقَادِهَا، ثُمَّ لَمْ يَصِرْ اعْتِقَادُهُ حُجَّةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا ضَمِنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخَمْرِ فَقَالُوا: نُعَشِّرُهَا فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، وَلَوْ هَمَّ بِبَيْعِهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا، وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ الثَّمَنِ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ اُقْتُلُوا خَنَازِيرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاحْتَسِبُوا لِأَصْحَابِهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الْجِزْيَةِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ أَفْسَدَ تَقَوُّمَهُ بِخِطَابٍ خَاصٍّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ. هَذَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ وَفَسَادَ التَّقَوُّمِ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَقَصَرَ الْخِطَابُ عَنْهُمْ حِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا الرِّسَالَةَ فِي الْمَبْلَغِ، وَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَالْمُحَاجَّةِ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَيَصِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 شَرِبَ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا نَزَلَ خِطَابُ التَّحْرِيمِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَاتَبًا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ فَرِيضَةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ حِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَهَذَا مِثْلُهُ أَيْضًا وَأَمْرُ الْأَنْكِحَةِ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَوْسِعَةُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بَلْ فِيهِ اسْتِدْرَاجٌ وَتَرْكٌ لَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ، وَتَمْهِيدٌ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَتَحْقِيقٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ مَا قَالَ: أَنَّ اعْتِقَادَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّا لَا نُوجِبُ الضَّمَانَ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ. ثُمَّ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ لَا يَكُونُ بِهِ الْمَحِلُّ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَلَكِنَّ شَرْطَ سُقُوطِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ انْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمَحِلِّ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ مَعَ أَنَّا لَمَّا ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فَقَدْ الْتَزَمْنَا حِفْظَهَا وَحِمَايَتَهَا لَهُمْ، وَالْعِصْمَةُ وَالْإِحْرَازُ تَتِمُّ بِهَذَا الْحِفْظِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ ضَرُورَةِ مَا ضَمِنَّاهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَكَانَ نَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ الرِّبَا، فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي إبْطَالِ عُقُودِ الرِّبَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّا لَمْ نَضْمَنْ لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ مِنْهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَا دِيَانَةَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ الرِّبَا فِي اعْتِقَادِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مَوْقُوذَةِ الْمَجُوسِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَضْمَنُهَا لَهُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَبْنِيَ أَحْكَامَ الْمَجُوسِ عَلَى أَحْكَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» الْحَدِيثَ، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّا فِي حُكْمِ الْأَنْكِحَةِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْمَجُوسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى اعْتِقَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْعُذْرُ عَنْ فَضْلِ الْمِيرَاثِ بِالزَّوْجِيَّةِ بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا عَلَى شَفْعَوِيِّ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَالدَّلِيلُ هُنَا ثَابِتٌ، وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا بِالنَّصِّ أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ حَرَامٌ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ. (وَلَوْ) غَصَبَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ دُونَ النَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُبَايَعَةُ بِالْخَمْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِمِثْلِهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ. وَلَوْ احْتَبَسَ عَيْنَهَا عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ لَهُ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ إذَا احْتَبَسَ مَا صَارَ دَيْنًا مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ بِإِسْلَامِهِ يَكُونُ مُبَرِّئًا لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا مَعًا؛ لِأَنَّ فِي إسْلَامِهِمَا إسْلَامَ الطَّالِبِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ وَحْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ الطَّالِبُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ رِوَايَةُ عَافِيَةَ وَزُفَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ قِيمَةُ الْخَمْرِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الضَّمَانِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ. كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ اقْتِرَانُ إسْلَامِ الْمَطْلُوبِ بِغَصْبِ الْخَمْرِ وَاسْتِهْلَاكِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ إسْلَامِ الطَّالِبِ فَكَذَلِكَ الطَّارِئُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي إسْلَامِ الْمَطْلُوبِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ، وَأَمَّا خَمْرُ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الذِّمِّيِّ فَكَذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ إسْلَامُهُ مُبَرَّئًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَهُ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ أَصْلِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْقِيمَةِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُقَارَنِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْقِيمَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الطَّالِبِ مُبَرِّئٌ مِنْ حَيْثُ تَعَذُّرُ إبْقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَضْمُونًا فِي يَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ إسْلَامِهِمَا، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ عِوَضٌ عَنْ الْبُضْعِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِإِبْقَاءِ اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى، وَقَدْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً حِينَ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا يَوْمئِذٍ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَعَذُّرُ قَبْضِ الْخَمْرِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْخَمْرُ بِالسَّبَبِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ عِوَضًا عَمَّا كَانَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا تَمْلِيكُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِهَا. وَالذِّمِّيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ بِعِوَضِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 لَا يَتَمَلَّكُ الْخَمْرَ بِعِوَضٍ؛ فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ هَشَّمَ قُلْبَ فِضَّةِ إنْسَانٍ، ثُمَّ تَلِفَ الْمَكْسُورُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْقُلْبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَاسِرَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ تَمْلِيكُ الْمَكْسُورِ مِنْهُ، وَذَلِكَ فَائِتٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِسْلَامُ الْمُقَارَنُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْغَصْبُ وَالِاسْتِهْلَاكُ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا الْمِلْكَ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ التَّعَذُّرِ كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ. وَإِنْ غَصَبَ خِنْزِيرًا فَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَسْلَمَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الِاسْتِهْلَاكِ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ هُنَا، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَلَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا فِي الذِّمَّةِ، وَاسْتِيفَاؤُهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمَا أَوْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَجَعَلَهَا خَلًّا، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ خَلٌّ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا خَلًّا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا فَقَدْ اسْتَهْلَكَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ أَمَانَةً كَانَتْ عِنْدَهُ أَوْ مَضْمُونَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغِ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالَ صِفَةِ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ بِفِعْلِهِ بَلْ يَتَمَيَّزُ الْجِلْدُ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغِ هُنَا تَبَعٌ لِلْجِلْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مُنْفَرِدًا عَنْ الْجِلْدِ؛ وَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَارَ أَصْلُ الْجِلْدِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُهُ كَالْخَمْرِ إذَا خَلَّلَهُ، فَأَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ قِيمَةَ الْجِلْدِ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِلْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ضَامِنًا كَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي الثَّوْبِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْغَصْبُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ أَيْضًا، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ، وَهُنَا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ التَّضْمِينُ بِالسَّبَبِ الثَّانِي، وَكَانَ هُوَ فِي هَذَا السَّبَبِ كَغَيْرِهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 غَيْرُهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَهْلِكَ وَيُعْطِيَ الْغَاصِبَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ. (وَالثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ مَضْمُونَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَوَّتَ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَالتَّفْوِيتُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ التَّفْوِيتَ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْتَعَارِ إذَا فَوَّتَ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ أَوْ جَعَلَ الْخَمْرَ خَلًّا، فَلَا يَضْمَنُ إذَا فَوَّتَ الرَّدَّ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَلَا يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ اسْتَفَادَ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِي هَذَا الْجِلْدِ مِنْ الْغَاصِبِ بِبَدَلٍ اسْتَوْجَبَهُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ، وَبَعْدَ الِاتِّصَالِ بَقِيَ حَقًّا لَهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ، وَالْجِلْدُ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبِهِ فَارَقَ الثَّوْبَ، فَإِنَّ الِاسْتِهْلَاكَ فِيهِ بِدُونِ صِفَةِ الصَّبْغِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَا بَقِيَتْ حَقًّا لِلْغَاصِبِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إذَا خَلَّلَهُ. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مِنْ الصِّفَةِ هُنَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ، وَبَقِيَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْلُ الْجِلْدِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَمَا كَانَ مَالًا بِنَفْسِهِ وَمُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ لِلرَّاجِحِ وَاسْتِهْلَاكُهُ فِيهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ، وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ رَجَّحْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ. وَإِذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَالْوَصْفُ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَالْأَصْلُ مَالٌ بَعْدَ الِاتِّصَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْأَصْلِ لِهَذَا، وَلَا يُقَالُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِلْدِ رَجَّحْنَا حَقَّ صَاحِبِ الْأَصْلِ حَتَّى مَكَّنَّاهُ مِنْ أَخْذِهِ. وَيُمْلَكُ الْوَصْفُ عَلَى الْغَاصِبِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا لِأَنَّ أَخْذَ الْعَيْنِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَفِي حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَصْلُ مُرَجَّحٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَبَعْدَهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَصِفَةُ الدِّبَاغِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 أَصْلِ الْجِلْدِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ. يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ فَائِدَةَ وُجُوبِ الضَّمَانِ الِاسْتِيفَاءُ، وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ مَالِيَّةِ الدِّبَاغَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَيْفَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ ظَفِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا، فَإِذَا ظَفِرَ بِعَيْنِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ شَيْئًا، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ هَذَا الْقَدْرِ عَلَيْهِ انْفَصَلَ أَصْلُ الْجِلْدِ عَنْ صِفَةِ الدِّبَاغَةِ حُكْمًا فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا حَقِيقَةً، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْجِلْدِ، وَهُمَا قَدْ اعْتَبَرَا هَذَا حَتَّى قَالَا: لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ. (وَلَوْ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ، ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ زُفَرُ هُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْنِ لَغْوٌ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَالْعَيْنُ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لَهُ إذْ لَا تَسْقُطُ حَقِيقَةً، وَلَا يَسْقُطُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهَا أَيْضًا، وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ لَغْوٌ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ أَيْ عَمَّا وَجَبَ لِي عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ إبْرَاءِ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَإِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ، وَالْوَاجِبُ لَهُ بِسَبَبِ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ، وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ بَقِيَ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ صَحَّ الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ. (وَلَوْ) غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ هَلَكَتْ بِالْوِلَادَةِ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقَوَّمُ حَامِلًا وَغَيْرَ حَامِلٍ، فَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ مَعَ الْحَبَلِ، وَلَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِعَيْبِ الْحَبَلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا هَلَاكُهَا بِسَبَبِ الْآلَامِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّدِّ وَهُوَ الطَّلْقُ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّدِّ، كَمَا لَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ، ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ وَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا. وَكَذَلِكَ الْمَبِيعَةُ إذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، وَهِيَ حُبْلَى فَمَاتَتْ فِي الْوِلَادَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَدَّهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهَا، وَلَمَّا هَلَكَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ جُنَّتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَدُفِعَتْ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا أَصْلًا، بِخِلَافِ الْحُمَّى لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 عِنْدَ الْغَاصِبِ إنَّمَا كَانَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ آثَارِ الْحُمَّى الْمُتَوَالِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِأَوَّلِهِ الْحُمَّى عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا كَانَ بَعْدَهُ. وَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ مَا كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ يُوجِبُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ، وَانْفِصَالُ الْوَلَدِ يُوجِبُ آلَامَ الْوِلَادَةِ، فَمَا يَحْدُثُ بِهِ يَكُونُ مُحَالًا عَلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ جَلْدًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ؛ وَلِهَذَا يَخْتَارُ سَوْطًا لَا ثَمَرَةَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ مُحَالًا بِهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْوِلَادَةِ السَّلَامَةُ، فَإِنَّمَا عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا قَبَضَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا قَطَعَ يَدَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ قَدْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِعَيْبِ الزِّنَا وَالْحَبْلِ جَمِيعًا فَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ أَكْثَرَهُمَا، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا سَلِمَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ يَنْظُرُ إلَى نُقْصَانِ الزِّنَا، وَنُقْصَانِ الْحَبَلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ أَكْثَرِهِمَا، وَلَكِنْ إنْ كَانَ عَيْبُ الْحَبَلِ أَكْثَرَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَدْرُ نُقْصَانِ عَيْبِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ عَيْبُ الزِّنَا أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْبَ الزِّنَا لَا يَنْعَدِمُ بِالْوِلَادَةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَبَلَ عَيْبٌ آخَرُ سِوَى عَيْبِ الزِّنَا لِتَحَقُّقِ انْفِصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ اتِّحَادَ السَّبَبِ وَقَالَ: الْحَبَلُ هُنَا حَصَلَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَبِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا فِي نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ مَعَ الْعُقْرِ الْوَاجِبِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَدِيعَةِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إمْلَاءً -: الْإِيدَاعُ عَقْدٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ، وَالْحَاجُّ يَحْتَاجُ إلَى إيدَاعِ بَعْضِ مَالِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ إذَا رَجَعَ، وَالْمُودَعُ مَنْدُوبٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 إلَى الْقَبُولِ - شَرْعًا -؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ». وَبَعْدَ الْقَبُولِ، عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ - وَهُوَ الْحِفْظُ - حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إلَى صَاحِبِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ: إنَّ الْمُرَادَ رَدُّ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَتَاهُ بِهِ قَالَ: خُذْهُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمَانَةٍ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ائْتَمَنَ أَمَانَةً فَلْيُؤَدِّهَا». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ.» عَلَى الْمُوَحِّدِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا هُوَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ بِهِ مَال نَفْسِهِ؛ فَيَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ صُنْدُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ لِصَاحِبِهَا ذَلِكَ، وَخَلْفُ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ، وَإِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ بَعْدَ غَيْبَةِ صَاحِبِهَا: فَفِيهِ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، وَالْغَرُورُ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا، وَذَلِكَ حَرَامٌ. فَإِنْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ صُنْدُوقِهِ، فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.» وَلِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُودَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ.» فَالْمُرَادُ بِالْمُغِلِّ: الْخَائِنُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ فِي الْإِسْلَامِ». وَالْإِغْلَالُ: الْخِيَانَةُ، وَالْإِسْلَالُ: السَّرِقَةُ. وَقَدْ قِيلَ: الْمُغِلُّ الْمُنْتَفِعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مُغِلٌّ، أَيْ كَثِيرُ الرِّيعِ وَالْغَلَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ: الْمُنْتَفِعُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ. وَقَالَ عُمَرُ: الْعَارِيَّةُ كَالْوَدِيعَةِ، لَا يَضْمَنُهَا صَاحِبُهَا إلَّا بِالتَّعَدِّي. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ، وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُودَعَ مُتَبَرِّعٌ فِي حِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا، وَالتَّبَرُّعُ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ، فَكَانَ هَلَاكُهَا فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ. وَيَسْتَوِي إنْ هَلَكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَعْنَى الْعَيْبِ فِي الْحِفْظِ، وَلَكِنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمُعَاوَضَةِ - دُونَ التَّبَرُّعِ - وَالْمُودَعُ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى بَعْضِ مَنْ فِي عِيَالِهِ - مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَجِيرِهِ - فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَ - مَنْ اسْتَحْفَظَ - مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ الْقِيَاسِ - قَوْله تَعَالَى - {: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5]. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 وَالْمُرَادُ: النِّسَاءُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ مَنْهِيًّا عَنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَى امْرَأَتِهِ، فَمَا ظَنُّك فِي مَالِ غَيْرِهِ؟. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ: حِفْظُ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ، عَلَى مَا قِيلَ: قِوَامُ الْعَالَمِ بِشَيْئَيْنِ: كَاسِبٍ يَجْمَعُ، وَسَاكِنَةٍ تَحْفَظُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ - فِي حَاجَتِهِ - لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَةَ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِذَا خَلَّفَهَا فِي دَارِهِ صَارَتْ فِي يَدِ امْرَأَتِهِ حُكْمًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ عَفْوٌ. وَذُكِرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ: الْأَجِيرُ، وَالْمُرَادُ: التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُشَاهَرَةً، أَوْ مُسَانَهَةً، فَأَمَّا الْأَجِيرُ بِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ - كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ - يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ. فَإِذَا انْشَقَّ الْكِيسُ فِي صُنْدُوقِهِ؛ فَاخْتَلَطَ بِدَرَاهِمِهِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَوْ يُمْكِنُ تَقْصِيرٌ، فَذَلِكَ مِنْ الْمُودَعِ بِأَنْ جَعَلَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ فِي كِيسٍ بَالٍ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَلَطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا، فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا هَلَكَ مِنْ مَالِهَا جَمِيعًا وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَجْعَلَ الْهَالِكَ مِنْ نَصِيبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ: أَنَّ مَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. (وَإِنْ) فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ مِمَّنْ هُوَ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ - مِنْ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ، أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ - فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِانْعِدَامِ الْخَلْطِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَإِنَّ فِعْلَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَفِعْلِهِ فِيمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَلْطِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الَّذِي خَلَطَهَا بِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ. وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ تَحَقَّقَ الْفِعْلُ بِوُجُودِهِ: لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ. ثُمَّ الْخَلْطُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: (خَلْطٌ) يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ - كَخَلْطِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ - فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ. وَخَلْطٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ - كَخَلْطِ السُّودِ بِالْبِيضِ، وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ - فَهَذَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِتَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ - لَيْسَ بِخَلْطٍ -. وَخَلْطٌ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ - كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ - فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ - كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ -. (فَإِنْ قِيلَ): تَمْيِيزُ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ مُمْكِنٌ: بِأَنْ يُصَبَّ مِنْ مَاءٍ فَتَرَسَّبُ الْحِنْطَةُ، وَيَطْفُو الشَّعِيرُ، (قُلْنَا): فِي هَذَا إفْسَادٌ لِلْمَخْلُوطِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ الْحِنْطَةُ لَا تَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ، كَمَا لَا يَخْلُو الشَّعِيرُ عَنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ يَرْسُبُ، وَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ لِصَاحِبِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 الْحِنْطَةِ يَطْفُو، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْجِيَادِ بِالزُّيُوفِ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ، أَوْ يَتَعَسَّرُ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الْخَالِطِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَيَسَّرُ التَّمْيِيزُ، لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، يَقُولُ: فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْخَلْطِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا آخُذُ الْمَخْلُوطَ، وَأَغْرَمُ لِصَاحِبِي مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ، فَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ: جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ قَبْلَ هَذَا الْجَوَابِ. إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْمَخْلُوطِ، بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَخْلُوطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْخَالِطِ، فَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَخْلُوطُ مِلْكٌ لِلْخَالِطِ، وَحَقُّهُمَا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يُبَاعُ مَالُهُ فِي دَيْنِهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا - وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ الْمَخْلُوطِ - فَالْحَقُّ فِيهِ بَاقٍ، مَا لَمْ يَصِلْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلُ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْخَالِطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَخْلُوطِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَلِبَقَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا مِنْ الْمَخْلُوطِ، إمَّا صُلْحًا بِالتَّرَاضِي، أَوْ بَيْعًا وَقِسْمَة الثَّمَنِ، إذَا لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ. وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ - دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ - فَأَنْفَقَ طَائِفَةً مِنْهُمَا فِي حَاجَتِهِ: كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ مِنْهَا - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ - وَلَوْ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لَمَا بَقِيَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَاقِي حَافِظٌ لِلْمَالِكِ، وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبْ الْبَاقِي، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَتَيْنِ، فَأَنْفَقَ إحْدَاهُمَا: لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُخْرَى، فَإِنْ جَاءَ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ، فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي، صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ هَذَا خَلْطًا لِمَا بَقِيَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ حِين أَنْفَقَ بَعْضَهَا وَجَاءَ، بِمِثْلِهِ فَخَلَطَ بِالْبَاقِي أُفْتِي بِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهَا كُلَّهَا، فَبَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ فَضَمَّنَهَا إيَّاهُ، وَفِي الثَّمَنِ فَضْلٌ قَالَ: يَطِيبُ لَهُ حِصَّةُ مَا خَلَطَهُ بِهَا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِحِصَّةِ الثَّانِي مِنْ الْوَدِيعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَهُ، مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ، فَكَانَ هَذَا رِبْحًا حَاصِلًا عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، فَيَطِيبُ لَهُ كَمَا فِي حِصَّةِ مِلْكِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 إمَّا لِبَقَاءِ مِلْكِ الْمُودِعِ - كَمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْخَلْطِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى مَا قُلْنَا - وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عُرْوَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: «كُنَّا نَتَبَايَعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْسَاقِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إنَّ تِجَارَتَكُمْ هَذِهِ يَحْضُرُهَا اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ؛ فَشُوبُوهَا بِالصَّدَقَةِ». فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ شَيْئًا يُبَاعُ. فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ: فَالدَّرَاهِمُ يُشْتَرَى بِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ: إنْ اشْتَرَى بِهَا بِعَيْنِهَا وَنَقَدَهَا، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَصْلُ أَيْضًا، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا، وَنَقَدَ غَيْرَهَا، أَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ، ثُمَّ نَقَدَهَا: يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ هُنَا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّسْلِيمُ. وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا بِالْقَبْضِ يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ تَعَيُّنٍ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ اسْتِرْدَادُ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَائِعِ لِيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا؛ فَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ جَمِيعًا بِالدَّرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمَغْصُوبَةِ، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى بِهَا مَأْكُولًا وَنَقَدَهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ: حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا. وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَغْصُوبَةَ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدِّينَارِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّرَاهِمِ إذَا اسْتَحَقَّ دَرَاهِمَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الدِّينَارِ، فَكَانَتْ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. بِخِلَافِ مَا لَوْ نَقَدَهَا فِي ثَمَنِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الشِّرَاءُ، بَلْ يَبْقَى الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ - كَمَا كَانَ -. وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ لَزِمَهُ رَدُّ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ امْرَأَةً: حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ، لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَلَا التَّسْمِيَةُ. (فَإِنْ) كَانَ أَخَذَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهُ فِي حَاجَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ حِفْظٌ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. بَقِيَ مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْإِنْفَاقِ فِي حَاجَتِهِ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إنْسَانٍ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا، أَوْ يَتَكَلَّمُوا». وَالْعِرَاقِيُّونَ يَقُولُونَ: كَادَ وَلَمَّا. أَيْ: كَادَ يَعْصِي فَعُصِمَ، وَالْمَعْصُومُ لَا يُعَاقَبُ بِعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى، وَلَئِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالرَّفْعِ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ الْعَيْنِ إلَى مَكَانِهِ، وَذَلِكَ يُبْرِئُهُ عَنْ الضَّمَانِ " عِنْدَنَا " - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - بِخِلَافِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَاءَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، فَوَضَعَهُ مَكَانَ مَا أَنْفَقَ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَوْدًا إلَى الْوِفَاقِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، وَهُنَا إنَّمَا جَاءَ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا، فَتَحَقَّقَ عَوْدُهُ إلَى الْوِفَاقِ، وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ " عِنْدِي "؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ مِلْكُهُ بِالضَّمَانِ إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّفْعُ لِلْبَيْعِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، لَمْ يَسْتَنِدْ مِلْكُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ بَيْعُهُ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَفِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْبَيْعَ نَافِذٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَوْجَهَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي. وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِإِنْكَارِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَإِخْبَارِهِ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ - وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا - وَالْمُودِعُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ الْمُسَلَّطِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُرِقَتْ أَوْ ضَاعَتْ، أَوْ ذَهَبَتْ وَقَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ - وَهُوَ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ - فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. (وَاخْتَلَفَ) الْمُتَأَخِّرُونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا قَالَ - ابْتِدَاءً -: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ جَهِلَهَا بِمَا قَالَ، وَالْمُودَعُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ ضَامِنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ذَهَبَتْ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ، يُخْبِرُ بِهَلَاكِهَا، وَيَكْفِيهِ هَذَا الْمِقْدَارُ، فَلَا مُعْتَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي كَيْف ذَهَبَتْ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ بِهَلَاكِهَا، مُحْتَرِزٌ عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الذَّهَابِ مَعْلُومٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ - لَا مَحَالَةَ - وَإِنَّمَا التَّجْهِيلُ فِي كَيْفِيَّةِ الذَّهَابِ. وَالْإِخْبَارُ بِأَصْلِ الذَّهَابِ يَكْفِي فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ. وَإِنْ قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ رَسُولِي، وَسَمَّى بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَدَدْتُهَا عَلَيْك؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمَّا جَعَلَ كَيَدِهِ فِي الْحِفْظِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ: يَدُ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَيَدِهِ؛ فَلَا يَصِيرُ بِهَذَا مُقِرًّا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. (وَإِذَا) قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ أَجْنَبِيٍّ: فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ " عِنْدَنَا ". (قَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ " عِنْدَهُ " لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَهُ، وَقَدْ يُودِعُ الْإِنْسَانُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ، أَوْ يَرُدَّ - كَمَا فِي حَقِّ مَنْ فِي عِيَالِهِ - " وَعِنْدَنَا ": لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ، وَالْمُودِعُ إنَّمَا رَضِيَ بِحِفْظِهِ وَأَمَانَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ، فَقَدْ صَارَ تَارِكًا لِلْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، مُسْتَحْفِظًا عَلَيْهِ مَنْ اُسْتُحْفِظَ مِنْهُ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا، بِخِلَافِ مَنْ فِي عِيَالِهِ: فَإِنَّ الْمُودَعَ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي يَدِهِ، فَمَا فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ: لَا يَكُونُ هُوَ حَافِظًا لَهُ، بَلْ الْأَجْنَبِيُّ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ، وَالْمُودِعُ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ - كَمَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِوُصُولِ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ -. وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ - فِي جَمِيعِ ذَلِكَ -؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ. وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ أَجْنَبِيًّا كَالْمُودَعِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا تَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَفِي الْإِعَارَةِ إيدَاعٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ " عِنْدَنَا " مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ، فَإِعَارَاتُهُ مِنْ الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ - وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ - ثُمَّ يَتَعَدَّى تَسْلِيمُهُ إلَى الْعَيْنِ حُكْمًا؛ لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إيدَاعُهُ مِنْ الْغَيْرِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَالْإِيدَاعِ مِنْ الْمُودِعِ. فَإِنْ قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ هَذَا الْأَجْنَبِيِّ أَوْ اسْتَوْدَعْتهَا إيَّاهُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيَّ، فَضَاعَتْ: " عِنْدِي " لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ عَنْهُ، فَلَا يُصَدَّقُ - كَالْغَاصِبِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْمَغْصُوبِ - فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْبَرَاءَةَ بِالْحُجَّةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ: يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ. " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ": لَا يَبْرَأُ، وَبَيَانُهُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيمَا إذَا لَبِسَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ نَزَعَهُ، فَهَلَكَ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ». وَهُوَ حِين أَخَذَهَا لِلِاسْتِعْمَالِ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: ضَمِنَهَا، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ - وَلَمْ يُوجَدْ - وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْلِ - وَهُوَ الْجُحُودُ - تَارَةً، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أُخْرَى، ثُمَّ إذَا ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ لَمْ يَبْرَأْ بِذَلِكَ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِعْمَالِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَّصِلُ بِالْعَيْنِ، وَالْجُحُود لَا يَتَّصِلُ بِهِ. وَقَاسَ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان: إذَا جَاوَزَهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِينٌ ضَمِنَ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ مُعِيرٌ يَدَهُ مِنْ الْمُودَعِ فِي الْحِفْظِ، فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ اسْتَرَدَّ يَدَ عَارِيَّتِهِ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ بِهِ، ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَقَدْ أَرَادَ إعَادَةَ يَدِهِ ثَانِيًا مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَلِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ، وَبِالْخِلَافِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 يَفُوتُ مُوجَبُ الْعَقْدِ، إمَّا لِتَرْكِهِ الْحِفْظَ أَصْلًا، أَوْ لَتَرْكِهِ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ حِينَ حَفِظَهَا لِنَفْسِهِ؛ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ فَوَاتِ مُوجَبِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْتَمِنُ الْأَمِينَ عَلَى مَالِهِ - دُونَ الْخَائِنِ - وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ - كَالشِّرَاءِ بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ يَتَقَيَّدُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ - وَإِذَا تَقَيَّدَ الْعَقْدُ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ: لَا يَبْقَى بَعْدَهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْإِيدَاعَ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْخِلَافِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَالَ: احْفَظْ مَالِي، أَوْ قَالَ: احْفَظْهُ أَبَدًا. وَلَا يَشْكُلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْحِفْظَ قَبْلَ الْخِلَافِ وَبَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مَوْضِعٌ لِإِبْطَالِهِ، أَوْ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِبْطَالِ الْإِيدَاعِ، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ - ابْتِدَاءً - بِأَنْ يَقُولَ لِلْغَاصِبِ: أَوْدَعْتُك، وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ يَرِدُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ، وَرَدُّ الْقَوْلِ بِقَوْلٍ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ الْخِلَافَ يَكُونُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودَعِ، وَلَوْ قَالَ: رَدَدْت الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَمْ يَرْتَدَّ. وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حِفْظِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا يُوجِبُهُ، وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْأَمْرِ وَصِحَّةِ الْأَمْرِ، كَأَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَهْلًا لَهُ. وَكَوْنُ الْحِفْظِ مَقْصُودًا مِنْ الْمَأْمُورِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - بِخِلَافِ الْجُحُودِ - فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلْأَمْرِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَكُونُ مُتَمَلِّكًا لِلْعَيْنِ. وَالْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَوَامِرُ الشَّرْعِ، فَالْجُحُودُ فِيهَا رَدٌّ، وَالْخِلَافُ لَا يَكُونُ رَدًّا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً: لَمْ يُكَفَّرْ. (وَكَذَلِكَ) فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَسَلَّمَ: لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ مَعَ تَحَقُّقِ الْخِلَافِ، وَمَعَ أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ - كَالْإِيدَاعِ -. وَعُذْرُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ، وَالْحِفْظُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ بِهِ إذَا خَالَفَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ هُنَا وَهُنَاكَ حَتَّى يَصِيرَ ضَامِنًا، وَيَشْكُلُ بِالِاسْتِئْجَارِ لِلْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ. وَعُذْرُهُ عَنْ الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْجُحُودِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ " عِنْدَهُ " بِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيهِ سَوَاءٌ. إنَّمَا يَفْتَرِقُ اللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيمَا هُوَ رَدٌّ، ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ فِي الْمُدَّةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَبِتَرْكِ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَكُونُ بَاقِيًا فِيمَا وَرَاءَهُ كَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَان فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ: لَا يَعُودُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ سَلَّمْنَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 فَنَقُولُ: الْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَبِإِخْرَاجِ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ يَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَهُنَا الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَمْ يَفُتْ جَمِيع الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، إنَّمَا وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي التَّسْلِيمِ فِي بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ فِي الْمِصْرِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ يَتَغَيَّرُ التَّسْلِيمُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ: لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِمْلًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، ثُمَّ نَزَعَ: بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَتَمَكُّن التَّغَيُّرِ كَانَ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ بِالْإِمْسَاكِ لَا فِي الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ فِي الْإِمْسَاكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فِي بَيْتِهِ: كَانَ ضَامِنًا. فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ مِنْهُ بَعْدَ الْخِلَافِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْمُودَعُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِمْسَاكِ، بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ إذَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْإِمْسَاكِ: بَرِئَ بِتَرْكِ الْخِلَافِ، عَلَى مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ: إذَا اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ ثَوْبَ صِيَانَةٍ لِتَلْبَسَهُ أَيَّامًا، فَلَبِسَتْ بِاللَّيْلِ: كَانَتْ ضَامِنَةً، فَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ بَرِئَتْ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ لَيْلًا - دُونَ الْإِمْسَاكِ -. (إذَا) ثَبَتَ بَقَاءُ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ، فَنَقُولُ: يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَالْمُسْتَعْمَلُ مُتَشَبِّثٌ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ: ضُمِنَ وَإِلَّا فَلَا. كَمَا لَوْ تَشَبَّثَ بِثَوْبٍ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الْهَلَاكِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، أَوْ بَعْدَ تَرْكِ الْخِلَافِ: كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا، وَطَرِيقُ صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا تَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَنَزَعَ يَده ضِمْنًا لِلْخِلَافِ. وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَفِيمَا وَرَاءَ زَمَانِ الْخِلَافِ يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ؛ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ، وَالِاسْتِدَامَة فِيمَا يُسْتَدَامُ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ ابْتِدَاءً بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ اسْتِرْدَادَهُ يَدَ عَارِيَّتِهِ كَانَ مَقْصُودًا، عَلَى حَالَةِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا لَهُ وَدَعْوَى تُقَيِّدُ الْأَمْرَ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ كَلَام بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقُولَ: احْفَظْ مَالِي مَا لَمْ تَخُنْ، فَإِذَا خُنْت فَلَا تَحْفَظْ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: احْفَظْ، وَلَا تَخُنْ، فَإِذَا خُنْت فَاتْرُكْ الْخِيَانَةَ، وَاحْفَظْهُ لِي؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحِفْظِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عِنْدَهُ. وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ أَظْهَرُ. وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ، فَجَحَدَهَا الْمُسْتَوْدَعُ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 كَانَ ضَامِنًا لَهَا؛ لِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ مُتَمَلِّكًا؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَتَمَلَّكُ أَحَدٌ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إلَّا بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ حِينَ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ، فَهُوَ بِالْجُحُودِ صَارَ مَانِعًا الْمَالِكَ عَنْ مِلْكِهِ، مُفَوِّتًا عَلَيْهِ يَدَهُ الثَّابِتَةَ حُكْمًا؛ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ: ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ إذَا جَحَدَهَا، لَا فِي وَجْهِ الْمُودَعِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: مَا حَالُ وَدِيعَةِ فُلَانٍ عِنْدَك؟ فَجَحَدَهَا، أَوْ جَحَدَهَا فِي وَجْهِ الْمُودِع، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ بِأَنْ قَالَ لَهُ: مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك؟ لِيَشْكُرَهُ عَلَى حِفْظِهَا، فَجَحَدَهَا. وَذَكَرَ الْفَصْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا ذَكَرَ: أَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُتَمَلِّكٌ لَهَا، وَمُفَوِّتٌ يَد الْمَالِكِ حُكْمًا. (وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ؛ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاقِيًا وَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ، يَدُهُ كَيَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجُحُودَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِدَفْعِ طَمَعِ الطَّامِعِينَ عَنْهَا؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ جُحُودِ الْمُودَعِ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ كَذَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمُسْتَوْدَعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ضَاعَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ ضَامِنًا، وَهَلَاكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ ضَاعَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ، فَجُحُودُهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلِأَنَّ الْمُنَاقِضَ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَوْدَعْتنِي وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الْجُحُودِ يُؤَكِّدُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَيَّامٍ: لَمْ أُعْطِكَهَا، وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ، لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا. وَطَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ، لَوْ تَكَلَّمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، فَبِمَجْمُوعِهِمَا كَيْفَ يَصِيرُ ضَامِنًا؟ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا - لَا مَحَالَةَ - وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جُحُودٌ لِيَكُونَ ضَامِنًا. (وَالثَّانِي): أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ: رَدَدْتُهَا، أَوْ هَلَكَتْ، مُعْتَبَرٌ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ، لَا فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَصِيُّ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِالرَّدِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ فِي يَدِهِ، وَإِخْبَارهُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الرَّدِّ؛ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ كَلَامِهِ لِلتَّنَاقُضِ، فَيَبْقَى سَاكِتًا مُمْتَنِعًا مِنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ مَا طَالَبَ بِهَا، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ ضَامِنًا لِهَذَا. فَإِنْ قَالَ: اسْتَوْدَعْتنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَضَاعَتْ، وَقَالَ الطَّالِبُ: كَذَبْتَ، بَلْ غَصَبْتهَا مِنِّي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ - وَهُوَ الْغَصْبُ - وَالْمُسْتَوْدَعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ وَضَعَ مَالَهُ فِي مَوْضِعٍ، فَضَاعَ، وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: أَخَذْتهَا مِنْك وَدِيعَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ غَصَبْتنِي، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - وَهُوَ الْأَخْذُ -. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ». ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكِ إيَّاهُ فِي الْأَخْذِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ ضَامِنًا، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يَأْتِيَ الْمَالِكُ الْيَمِينَ؛ فَيَقُومَ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَقْرَضْتُكَهَا قَرْضًا، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: بَلْ وَضَعْتَهَا عِنْدِي وَدِيعَةً، أَوْ أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً، وَقَدْ ضَاعَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ. وَالْمَالِكُ يَدَّعِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَقْرَضْتُكهَا، وَالْمُودَعُ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - لِإِنْكَارِهِ - ثُمَّ بَيَّنَ فِي خَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُخَلَّصَ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يَدُقَّ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَتُغَرْبَلَ، فَتَتَمَيَّزَ مِنْ الشَّعِيرِ، فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: كَانَ هَذَا كَخَلْطِ الْبِيضِ بِالسُّودِ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ. (رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ أَلْفٌ قَرْضٌ، فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ الطَّالِبُ: أَخَذْتُ الْوَدِيعَةَ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: أَعْطَيْت الْقَرْضَ وَقَدْ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّافِعُ لِلْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مِنْ أَيْ جِهَةٍ دَفَعَهُ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ فَبَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ بِهِ، وَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهَلَاكِهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَدَاءُ الْأَلْفِ - بَدَلَ الْقَرْضِ - فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ. (رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَالًا، فَاسْتَهْلَكَهُ: لَمْ يَضْمَنْ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ فِعْلٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 لِمَا بَيَّنَّا أَنْ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ بِوُجُودِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَوْ كَانَتْ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً، فَقَتَلَهُمَا الصَّبِيُّ، كَانَ ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ. فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الصَّبِيِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَأَتْلَفَ مَالَهُ. وَاسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ: تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، فَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَتْلَفَهُ صَبِيٌّ كَانَ ضَامِنًا؟ فَكَذَا هَذَا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: لِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ سَلَّطَهُ رَبُّ الْمَالِ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ. (وَفِي) تَفْسِيرِ هَذَا التَّسْلِيطِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ تَسْلِيطٌ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الصِّبْيَانِ إتْلَافُ الْمَالِ؛ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، فَهُوَ لَمَّا مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ - يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ. وَبِقَوْلِهِ: احْفَظْ، لَا يُخْرِجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إذْنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ لَا يَحْفَظُ، فَهُوَ كَمُقَدِّمِ الشَّعِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْحِمَارِ، وَقَالَ: لَا تَأْكُلْ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الصَّبِيَّانِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَهَابُونَ الْقَتْلَ، وَيَفِرُّونَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ إيدَاعُهُ تَسَلُّطًا عَلَى الْقَتْلِ - بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِمْ -. وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إتْلَافَ الدَّوَابِّ، رُكُوبًا، فَيَثْبُتُ التَّسْلِيطُ فِي الدَّابَّةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا صَحَّ أَنْ تَقُولَ: مَعْنَى التَّسْلِيطِ: تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ - بِاعْتِبَارِ يَدِهِ - كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ، فَإِذَا حَوَّلَ يَدَهُ إلَيْهِ، صَارَ مُمَكَّنًا لَهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ - بَالِغًا كَانَ الْمُودَعُ، أَوْ صَبِيًّا - إلَّا أَنَّهُ بِقَوْلِهِ: احْفَظْ، قَصَدَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْوِيلُ مَقْصُورًا عَلَى الْحِفْظِ - دُونَ غَيْرِهِ - وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ، بَاطِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِتَحْوِيلِ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ - بِاعْتِبَارِ يَدِهِ - مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِ الْآدَمِيِّ، فَتَحْوِيلُ الْيَدِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الْمَالِكِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ؛ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ. وَالتَّسْلِيطُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلْ عَبْدِي؛ لِأَنَّ ذَاكَ اسْتِعْمَالٌ، وَالِاسْتِعْمَالُ وَرَاءَ التَّسْلِيطِ، فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ، يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيطِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسَلَّطِ فِي التَّضْمِينِ - لِرِضَاهُ بِهِ - وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْتَهْلِكَ، إذَا ضُمِنَ لِلْمُسْتَحَقِّ، لَا يُرْجَعُ عَلَى الْمُودَعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْهُ، فَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلصَّبِيِّ، وَهَذَا تَسْلِيطٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَبَحْتُ لَك أَنْ تَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ، إنْ شِئْت، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ، لَمْ يَضْمَنْ. وَلَوْ جَاءَ مُسْتَحَقٌّ وَضَمِنَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: احْفَظْهُ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ التَّسْلِيمِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَثْنِي عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ؛ فَلَا يَعْتَبِرُ لِصِحَّتِهِ حَالَ الْمُخَاطَبِ بِهِ، أَوْ ثُبُوتَ وِلَايَةٍ لَهُ عَلَيْهِ، بَلْ بِاسْتِثْنَائِهِ يَخْرُجُ مَا وَرَاءَ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا التَّسْلِيطِ. فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ كَانَ مُسْتَهْلِكًا بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: التَّسْلِيطُ: بِالْفِعْلِ، وَهُوَ نَقْلُ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ: احْفَظْ، كَلَامٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ، بَلْ يَكُونُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَسْلِيطٌ، وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ حُكْمًا؛ لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ، فَيَبْقَى التَّسَلُّطُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَأْخُذُهَا، أَوْ دَلَّهُ عَلَى أَخْذِهَا، وَالْبَائِع يَضْمَنُ - بِمِثْلِهِ -. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ - دُونِ الصَّبِيِّ -. وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْدَعَ عَبْدًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ: لَمْ يَضْمَنْ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْعَقْدِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يُبَاعُ فِيهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَتَصَرَّفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَيَبْقَى الِاسْتِهْلَاكُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَبِيًّا لَمْ يَضْمَنْ " عِنْدَهُمَا " فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ، أَوْ الْعَبْدُ مَأْذُونًا، كَانَ ضَامِنًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّهِمَا، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ فَالْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذَانِ بِضَمَانِ التَّضْيِيعِ. وَعَلَى هَذَا: الْخِلَافُ لَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ تَسْلِيطٌ. وَقَوْلُهُ: أَقْرَضْتُكَ: مُعَارِضُ لِقَوْلِهِ: احْفَظْ فِي الْوَدِيعَةِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا -، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مِنْ صَبِيٍّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَاسْتَهْلَكَهُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِمَا تَسْلِيطٌ. وَقَوْلُهُ: بِعْت، مُعَارِضٌ فَلَا يَعْمَلُ هَذَا الْمُعَارِضُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَصْلًا، وَلَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ. (وَإِنْ) هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِانْعِدَامِ صَنِيعٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ مِنْهُمَا. وَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا مَا يَجِبُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ - عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَخَطَأَهُ سَوَاءٌ - وَعَلَى الْمَمْلُوكِ الْقِصَاصُ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً: يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ فِي الْعَبْدِ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِي الْمُدْبِرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، يَعْنِي الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَقِيمَةِ الْقَاتِلِ. وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ. وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلًا شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ، أَوْ عَبْدٌ: فَعَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 لِأَنَّ قَبُولَهُ الْوَدِيعَةَ يَكُونُ إذْنًا لِمَنْ فِي عِيَالِهِ بِأَنْ يَحْفَظَهَا. وَالصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ. . (رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إلَى آخَرَ، وَادَّعَى أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ بِذَلِكَ: لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. (وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ " عِنْدَهُ ": لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. " فَأَمَّا عِنْدَنَا ": لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ، فَدَفْعُهُ إلَى الثَّانِي سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ الْإِذْنُ -؛ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ إنْسَانٍ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ صَاحِبَهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ بَرِئَ الْمُودَعُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ؛ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ. فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: قَدْ دَفَعْتُهَا، وَقَالَ الرَّجُلُ: لَمْ أَقْبِضْهَا مِنْك، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: لَمْ تَدْفَعْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَنْ أَمَرَ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَالِكِهَا؛ فَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ دُونَ وُصُولِ الْمَالِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَبْضِهِ. . وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ: اخْبَأْهَا فِي بَيْتِك هَذَا، فَخَبَّأَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي دَارِهِ تِلْكَ، فَضَاعَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ نَصًّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: اخْبَأْهَا فِي دَارِك هَذِهِ، فَخَبَّأَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى؛ فَهَلَكَتْ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: احْفَظْهَا بِيَمِينِك دُونَ يَسَارِك، أَوْ: اُنْظُرْ إلَيْهَا بِعَيْنِك الْيُمْنَى دُونَ الْيُسْرَى، لَمْ يُعْتَبَرْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَيْتَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي مَعْنَى الْحِرْزِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ أَحَدِ الْبَيْتَيْنِ إلَى الْبَيْتِ الْآخَرِ، لَمْ يُقْطَعْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحِرْزِ، فَأَمَّا الدَّارَانِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ، فَكَانَ تَقْيِيدُهُ فِي الدَّارِ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ دَارٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: لَا تَخْرُجْ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْمِصْرَيْنِ مُفِيدٌ، فَإِنْ انْتَقَلَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَهَلَكَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ شَرْطَ الْمُودِعِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَمْسِكْهَا بِيَدِك وَلَا تَضَعْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ؛ فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْهَا،؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ - بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ - فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِ. إذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 إذَا هَلَكَتْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا؛ فَإِنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ": لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْمَالِ لِلْهَلَاكِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسَافِرُ وَمَتَاعُهُ وَمَالُهُ عَلَى قَلَتٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ - تَعَالَى -». وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ تَعْرِيضُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُتْلِفِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُضَارَبِ؛ فَإِنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُسَافِرُوا بِالْمَالِ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ. وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ حَقُّ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فِي الْوَدِيعَةِ؛ وَلِهَذَا: لَا يُسَافِرُ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ مَقْصُودَ الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي الْمِصْرِ مَحْفُوظًا، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ الْمُودَعُ بِهِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُرَاعَى أَمْرُهُ فِي شَيْءٍ يُرَاعَى إطْلَاقُ أَمْرِهِ، كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَالْأَمْكِنَةُ كُلُّهَا فِي صِفَةِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ، إنَّمَا الْخَوْفُ مِنْ النَّاسِ - دُونَ الْمَكَانِ - فَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَمْنًا، كَانَ الْحِفْظُ فِيهِ كَالْحِفْظِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ. وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَيَانُ الْحَالَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَا يَأْمَنُونَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ؛ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ الْأَمْرِ بَعْدَهُ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى مَكَّةَ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ - تَعَالَى - وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ مُطْلَقُ أَمْرِهِ بِالْعُرْفِ وَالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ: أَنْ يُحْمَلَ الْمَالُ إلَيْهِ، خُصُوصًا إذَا سَافَرَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ فِي حَاجَتِهِ بِسَبَبِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ، وَإِذَا خَرَجَ: فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِ؛ فَيَكُونَ تَارِكًا لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ مَعَ نَفْسِهِ؛ فَيَكُونَ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَالَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ - بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ - لِمُرَاعَاةِ النَّصِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الْمُؤْنَةِ إيَّاهُ. وَاسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إذَا قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَإِذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْظُمُ الضَّرَرُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهَا عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، إذَا أَرَادَ رَدَّهَا. وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً فَقَالَ: لَا تَدْفَعْهَا إلَى امْرَأَتِك، أَوْ عَبْدِك، أَوْ وَلَدِك، أَوْ أَجِيرِك؛ فَإِنِّي أَتَّهِمُهُمْ عَلَيْهَا، فَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ، فَهَلَكَتْ: فَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ - بِأَنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ أَهْلٌ وَخَدَمٌ -: فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ: لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ هَذَا مُفِيدٌ، وَقَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 يَأْتَمِنُ الْإِنْسَانُ الرَّجُلَ عَلَى مَالِهِ وَلَا يَأْتَمِنُ زَوْجَتَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَإِذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ نَهَاهُ عَنْهُ؛ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِحِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ حَافِظٌ لَهَا - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ: فَلَا يَضْمَنُهَا. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: رَدَدْتُهَا إلَى مَكَانِهَا فَهَلَكَتْ: لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ - مَعْلُومٌ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ تَرْكُ الْخِلَافِ قَبْلَ الْهَلَاكِ - فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهُ إلَى وَضْعِهِ صَحِيحًا، ثُمَّ هَلَكَ: كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَنَا. وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَةً، فَوَطِئَهَا الْمُودَعُ، فَوَلَدَتْ: فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ، وَعَلَى الْمُودَعِ الْحَدُّ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ زِنًا مَحْضٌ، وَكَوْنُهَا وَدِيعَةً عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ فِي شُبْهَةِ الْمُحِلِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ، أَوْ شِرَاءٍ؛ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَيُغَرَّمُ الْعُقْرَ لِلشُّبْهَةِ. (وَإِذَا) اسْتَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ دَوَابَّ، أَوْ عَبِيدٍ، ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حَقَّهُ مِنْهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَا وَلَوْ خَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي، لَمْ يَأْمُرْهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَسِّمَ ذَلِكَ وَيَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً عَلَى الْغَائِبِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - فِي الْأَمَالِي - قَالَ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْسَعُ وَجْهٌ: قَوْلُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُودِعَيْنِ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ حَقِيقَةً؛ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قَبْضُ نَصِيبِهِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْحَاضِرِ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا فِيمَا قُلْنَا: بِأَنْ يَقْسِمَ، فَيَدْفَعَ إلَى الْحَاضِرِ نَصِيبَهُ، لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ، ثُمَّ لَا تَنْفُذُ قِسْمَتُهُ عَلَى الْغَائِبِ، حَتَّى إذَا هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ: كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَاضِرَ فِيمَا قَبَضَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، هَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ شَيْئًا إلَى الْحَاضِرِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْقِسْمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 وَدَفْعُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ يَكُونُ جِنَايَةً؛ فَلَا يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ، وَلَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِهِ. وَالْحَاضِرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهَذَا، فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ حِين سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْإِيدَاعِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ أَخْذِهِ. فَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا طَالَبَ الْمُودَعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ، لَمْ يُؤْمَرْ الْمُودَعُ بِذَلِكَ، وَلَوْ ظَفِرَ بِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي بِالدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَدَفْعُهُ نَصِيبَ الْآخَرِ إلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قِسْمَةٌ عَلَى الْغَائِبِ؛ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (رَجُلٌ) أَوْدَعَ رَجُلًا دَرَاهِمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي إلَيْك صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِتَدْفَعَهَا إلَيَّ، فَصَدَّقَهُ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَأَنْكَرَ الرِّسَالَةَ: فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ. وَبِتَصَادُقِهِمَا: لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذَا أَنْكَرَ؛ فَكَانَ ضَامِنًا، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الرَّسُولِ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أَوْصَلَهَا إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ - فَإِنَّهُ رَسُولٌ أَمِينٌ - وَإِنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَيَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَدَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ فَضَمِنَهُ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا، وَلَكِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ رَسُولُ الْمَالِكِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ غُرْمٌ بِسَبَبِ الدَّفْعِ إلَيْهِ، فَإِذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَضَمِنَهُ يَعْنِي أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لَهُ: إنْ لَحِقَك فِيهِ غُرْمٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ وَضَمِنَهُ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ مُضَافَةٌ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ أَنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ وَأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِلْمُودِعِ، وَالرَّسُولُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ؛ فَلِهَذَا طَالَبَهُ بِهِ. (وَإِذَا) كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ، أَوْ بِضَاعَةٌ، فَغَصَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ، فَهُوَ خَصْمُهُ فِيهَا " عِنْدَنَا "، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -: لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالِكُ. وَلِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يُخَاصَمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَلَا يُخَاصِمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِلْمُودَعِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إلَّا بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنْ الْغَاصِبِ، أَوْ اسْتِرْدَادِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ؛ لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلَالَةً، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُودَعَ لَا يُخَاصِمُهُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودِعِ تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُودَعُ فِيهِ خَصْمًا. وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ - مِنْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِهَا - فَاقْتَسَمَاهَا وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا فِي بَيْتِهِ، فَهَلَكَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ، أَوْ كِلَاهُمَا: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى حِفْظِهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمَا، وَيَجْتَمِعَا فِي مَكَان وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ. وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا - مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ - فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلنِّصْفِ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. وَإِنْ أَبَيَا الْقِسْمَةَ وَأَوْدَعَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَهَلَكَ: ضَمِنَاهُ؛ لِتَرْكِهِمَا مَا الْتَزَمَاهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْمُسْتَبْضَعَانِ وَالْوَصِيَّانِ، وَالْعَدْلَانِ فِي الرَّهْنِ قِيَاسُ الْمُودِعَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا هَلَكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا - مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَمِيعِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ فِي الْحِفْظِ، وَفِي مُدَّةِ الْمُهَايَأَةِ يَتْرُكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ فِي نُوبَتِهِ. فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَتَرَكَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى حِفْظِهِ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُودَعُ الْمُودَعِ. وَمُودَعُ الْمُودَعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضْمَنُ. فَأَمَّا الدَّافِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّهُمَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ؛ لِيَحْفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ائْتَمَنَهُمَا، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَمَانَةِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَمَانَةِ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ الْحِفْظُ مِنْهُمَا يَتَأَتَّى عَادَةً، لَا يَصِيرُ رَاضِيًا بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا لِلْكُلِّ وَحْدَهُ. (وَإِذَا) احْتَرَقَ بَيْتُ الْمُودَعِ وَأَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مَعَ مَتَاعِهِ، وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ، فَهَلَكَ: فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ، وَعُذْرُهُ يُسْقِطُ الْمَأْثَمَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي الضَّمَانِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلِأَنَّ وَضْعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ - مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ الْحَرْقِ عَنْ الْوَدِيعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 الْحَالَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ، فَغَرِقَتْ، فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ إنْسَانًا عَلَى الْجِلْدِ - يُمْسِكُهَا - أَكَانَ ضَامِنًا؟. (وَإِذَا) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ إبِلًا، أَوْ بَقَرًا، أَوْ غَنَمًا، وَصَاحِبُهَا غَائِبٌ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي: يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِلْقَاضِي فِيهِ؛ فَلَا يُصَدِّقُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ: أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ، وَالْمُودَعُ لَا يُنْفِقُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالتَّبَرُّعِ بِهِ، فَيَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي - فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ - كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ: كَانَ مَا يُنْفِقُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمَالِكِ. فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِهِ. فَإِذَا جَاءَ: أَجْبَرَهُ عَلَى رَدِّ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهَا، فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِذَا بَاعَهَا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ تَلَفُ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي الْبَيْعِ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ أَلْبَانِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، يَخَافُ فَسَادَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَمَرَةَ أَرْضٍ فَبَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا إنْ كَانَ فِي مِصْرٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي. وَإِنْ بَاعَهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ الْغَائِبِ فِيمَا يُرْجَعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمَالِكِ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ: لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ، وَكَانَ ضَامِنًا. فَكَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ: لَمْ يَضْمَنْ - اسْتِحْسَانًا -؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ الْآنَ مِنْ الْحِفْظِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا مَا أَتَى بِهِ. (وَحُكِيَ) أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَاتَ رَفِيقٌ لَهُمْ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَبَاعُوا مَتَاعَهُ، وَجَهَّزُوهُ بِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ؛ فَنَتَجَتْ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا أَمَرَ بِذَلِكَ: فَأَوْلَادُهَا لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ خَيْرٌ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْأَصْلِ، يُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمَّهَاتُ بِذَلِكَ، فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ حِينَ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِسَبَبِهِ. (وَلَوْ) أَكْرَى الْإِبِلَ إلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ الْكِرَاءَ كَانَ الْكِرَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَلَيْسَتْ الْغَلَّةُ كَالْوَلَدِ وَلَا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ؛ فَإِنَّ ذَاكَ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ؛ فَيَكُونُ لِلْعَاقِدِ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 فِي الْغَصْبِ. [ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَالِ الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ] (وَإِنْ) ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَالِ الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ، وَصَدَّقَهُ عِيَالُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ لَمْ آمُرْك بِذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَ سَبَبَ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ - وَهُوَ الْإِنْفَاقُ - وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكُ -؛ فَلَا يَصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ يَهَبَهَا لِفُلَانٍ. فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ رَجُلٍ، وَأَخَذَ عُقْرَهَا فَوَلَدَتْ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا، وَلَهُ أَنْ يُفْسِدَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ: أَخَذَ عُقْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَجْرِ، وَيَضْمَنُ الْمُسْتَوْدَعُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا: انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ صَارَ كَالْغَاصِبِ فِيمَا صَنَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحَكَمَ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ. وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُهَا مِنْ غَيْرِ الْوِلَادَةِ - مِنْ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ الزَّوْجُ مِنْ جِمَاعِهَا - فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَ الزَّوْجَ عَلَى ذَلِكَ، وَصَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِالْوَلَدِ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ؛ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي نُقْصَانٍ حَدَثَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ اسْتَهْلَكَ الْوَلَدَ: ضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهُ - كَوَلَدِ الْغَصْبِ عِنْدَ الْغَاصِبِ - فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. (ثُمَّ) رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِهِ فِي انْجِبَارِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ. (رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا: (قَالَ): يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا، وَقِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ مَغْرُورٌ، فَإِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا كَقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي جَمِيعِهَا، فِي صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرًا، كَانَ يَتَحَقَّقُ الْغَرَرُ، فَكَذَلِكَ فِي نِصْفِهَا. وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ. ثُمَّ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِ الْوَلَدِ فِي جَبْرِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ: أُخِذَ تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ غَاصِبًا لَهَا فِي حَقِّ مَالِكِهَا، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا حَدَثَ مِنْ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا مَلَّكَهُ نِصْفَهَا، وَلَوْ مَلَّكَهُ كُلَّهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ، إذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ فَلِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْجَارِيَةِ ضَمِنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 الْبَائِع نِصْفَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نِصْفِهَا، وَقَدْ تَعَدَّى بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ نِصْفَ قِيمَتِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهَا بِالْوِلَادَةِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِهَذَا الَّذِي حَضَرَ إلَّا بِقَوْلِ الْمُسْتَوْدَعِينَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مِنْهُمَا مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ، وَالْآخَر قَدْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِ الْمُسْتَوْلِدُ نَصِيبَهُ أَيْضًا بِالضَّمَانِ؛ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى إبْطَالِ مِلْكٍ ثَابِتٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنْ الْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي، بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرِهَا فَيَدْفَعُهُ إلَى شَرِيكِهِ فِيهَا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَسْتَوْلِدُهَا أَحَدُهُمَا. (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ هُنَا، وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ؟ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ شَرْعًا حِينَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي؛ فَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ زَعْمِهِ. (وَإِذَا) جَحَدَ الْمُسْتَوْدَعُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ أَوْدَعَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الْمُودَعِ مِثْلَ ذَلِكَ: وَسِعَهُ إمْسَاكُهُ قِصَاصًا بِمَا ذَهَبَ بِهِ مِنْ وَدِيعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ بِجُحُودِهِ. وَصَاحِبُ الْحَقِّ مَتَى ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ». (وَقِيلَ) فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْحَقِّ: الْيَدُ وَاللِّسَانُ، أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ جِنْسِ حَقِّهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ مِثْلَهُ، فَأَمَّا إذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ عِنْد اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَنْفَرِدُ هُوَ بِهِ، وَالْأَوَّلُ: اسْتِيفَاءٌ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِلْمُجَانِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ فَالْوَدِيعَةُ عَيْنٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَرْهُونُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ: الْمُرْتَهَنُ يَحْبِسُ الْمَرْهُونَ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ مِلْكَ الْيَدِ لَهُ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ إذَا طَلَبَ الثَّانِي يَمِينَ الْمُودَعِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْك، فَإِنْ قَالَ لِلْقَاضِي: حَلِّفْهُ بِاَللَّهِ مَا اسْتَوْدَعْته كَذَا: فَلَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: قَدْ يُودِعُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْهِ. فَإِنْ أَدَّى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ، فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ - كَمَا طَلَبَ الْخَصْمُ - بِاَللَّهِ مَا أَوْدَعَهُ مَا يَدَّعِي، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ لَهُ: أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 يَعْرِضَ لِلْقَاضِي بِمَا ذَكَرْنَا، أَوْ يَحْلِفَ: مَا اسْتَوْدَعْتنِي شَيْئًا إلَّا كَذَا وَكَذَا، يَسْتَثْنِي ذَلِكَ بِكَلَامِهِ وَيُخْفِيهِ مِنْ خَصْمِهِ وَمِنْ الْقَاضِي، وَيَسَعُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ دَافَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، غَيْرَ قَاصِدٍ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّتِهِ لَا تَكْفِي لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، أَوْ مُعَارِضًا، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا شَرَطَ التَّكَلُّمَ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَجْهُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَرَّبَ إنْسَانٌ أُذُنَهُ مِنْ فَمِهِ سَمِعَ ذَلِكَ، وَفَهِمَهُ. وَأَمَّا إذَا غَابَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ، وَلَا يُدْرَى: أَحَيٌّ هُوَ أَوْ مَيِّتٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا لَهُ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي الْعُهُودِ: وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ. بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فَإِنَّ مَالِكَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ، فَبَعْدَ التَّعْرِيفِ: التَّصَدُّقُ بِهَا طَرِيقٌ لَا يَصِلُهَا إلَيْهِ، وَهُنَا مَالِكُهَا مَعْلُومٌ، فَطَرِيقُ إيصَالِهَا الْحِفْظُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ، أَوْ يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَيَطْلُبَ، وَارِثَهُ، وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ. ، وَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَعِنْدَهُ، وَدِيعَةٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَبِضَاعَةٌ، فَإِنْ عُرِفَتْ بِأَعْيَانِهَا: فَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَدْيُونِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ سَائِرِ النَّاسِ، وَكَمَا كَانُوا أَحَقَّ بِهَا فِي حَيَاةِ الْمَدْيُونِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ بِأَعْيَانِهَا: قُسِمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَأَصْحَابُ الْوَدِيعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْبِضَاعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: الْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمِينَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْأَمَانَةِ؛ فَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ صَارَ مُتَمَلِّكًا لَهَا، فَإِنَّ الْيَدَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ؛ وَلِهَذَا: لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لِلْوَارِثِ وَالْمُودَعِ بِالتَّمْلِيكِ؛ فَيَصِيرُ ضَامِنًا، وَلِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا غُرَمَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ عَلَى أَخْذِهَا. وَالْمُودَعُ بِمِثْلِ هَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَتِهَا، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ، وَمِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ: بَيَانُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَرَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ إذَا طَلَبَ، فَكَمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلَبِ يَضْمَنُ أَيْضًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ إذَا عَلِمَ قِيَامَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا بَقَاءَهَا، وَالتَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ وَاجِبٌ، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَرُبَّمَا يَقُولُ: حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إلَى مَالِهِ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْف يُزَاحِمُونَ الْغُرَمَاءَ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ: صَارَ حَقُّهُمْ أَيْضًا دَيْنًا قَبْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 مَوْتِهِ حِين وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بَيَانِهِ، ثُمَّ حَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ مِنْ وَجْهٍ أَقْوَى، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَيْنِ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ الْعَيْنِ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ - كَالْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ - فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَمَانَةِ التَّرْجِيحَ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْغُرَمَاءَ. (وَإِذَا) رَدَّ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَحَضَرُوا عِنْدَ الْقَاضِي: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ قَدْ انْتَسَخَ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ؛ فَلَا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَيَانُ الِانْتِسَاخِ مِنْ حَيْثُ الْحِسِّ ظَاهِرٌ. وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ: فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ شَرْعًا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَالِكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ غَاصِبًا مَعْرُوفًا فَطَالَبَ الْمُودَعَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ: أَلْزَمَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ سَرِقَةً، أَوْ غَصْبًا: فَالْمُودَعُ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ يَكُونُ نَاسِخًا حُكْمَ فِعْلِهِ فَيَبْقَى لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ حَقٌّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ التَّفْوِيتِ؛ فَإِنَّ بِأَخْذِهِ فَاتَ عَلَى الْمَالِكِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِعَادَةِ إلَى يَدِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُودَعُ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمُودَعِ: رَدُّهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ. (وَإِنْ) كَانَ الْمُودَعُ دَفَعَهَا إلَى إنْسَانٍ بِأَمْرِ الْمُودِعِ، أَوْ بَاعَ، أَوْ وَهَبَ، وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ: كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَضْمَنَ الْمُسْتَوْدَعَ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ فِعْلُهُ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ إنَّمَا سَلَّمَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِدُونِ أَمْرِ الْمُودِعِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا؛ فَكَانَ الْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنًا - بِخِلَافِ الْأَوَّلِ - فَقَدْ رُدَّ هُنَاكَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ. [عَبْدٌ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ غَابَ] (عَبْدٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ غَابَ: لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ تَاجِرًا كَانَ الْعَبْدُ، أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مَا قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ بِشَرْطَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَةِ الدَّافِعِ فِي الْحَالِ. (وَالثَّانِي): فَرَاغُ ذِمَّةِ الدَّافِعِ عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ أَنَّ الْمُودَعَ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِكِ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى الْعَبْدِ إذَا حَضَرَ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا. (وَإِذَا) مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: فَالْوَارِثُ خَصْمٌ فِي طَلَبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 الْمُوَرِّثِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَلَهُ وَصِيٌّ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ بِشَرْطِ فَرَاغِ التَّرِكَةِ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْوَصِيِّ لِيَبِيعَهَا فَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، ثُمَّ يَدْفَع مَا بَقِيَ إلَى الْوَارِثِ. (وَإِنْ) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ ثَوْبًا وَاحِدًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ: فَإِنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ عَلَى حِفْظِهِ؛ فَيُمْسِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهْرًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحِفْظِ - آنَاءً اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - لَا يُتَصَوَّرُ، وَلِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ مِلْكِهِمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظَانِ مَا لَهُمَا. (وَإِنْ) وَضَعَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ، فَهَلَكَ، لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي زَمَانِ الْمُهَايَأَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. (وَإِذَا) قَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: أَوْدَعْتُك عَبْدًا وَأَمَةً، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: مَا أَوْدَعْتَنِي إلَّا الْأَمَةَ، وَقَدْ هَلَكَتْ، فَأَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى: ضَمِنَ الْمُسْتَوْدَعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ فِي الْعَبْدِ؛ فَصَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ الْوَدِيعَةِ فِيهَا، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. (رَجُلَانِ) ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: مَا أَدْرِي لِأَيِّكُمَا هِيَ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهَا لِأَحَدِكُمَا. (قَالَ): يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ الْأَمَةَ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، إنَّمَا أَقَرَّ بِإِيدَاعِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْهُ، وَالْمُنْكِرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ؛ فَلِهَذَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَتَمَامُ بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِبَيَانِ خِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي فَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْأَمَةَ إلَيْهِمَا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا عَلَيْهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ - بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا - أَنَّ التَّجْهِيلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ. " وَعِنْدَنَا ": التَّجْهِيلُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَ مُجْهِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَصِيرُ ضَامِنًا، ثُمَّ بِنُكُولِهِ صَارَ مُقِرًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْرَمَ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا اسْتَوْدَعَنِيهَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْطَأْت، بَلْ هُوَ هَذَا، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِهَا صَحِيحٌ، وَرُجُوعهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَيَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهَا؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا لِلثَّانِي، وَأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا عَلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ بِهَا لِلْأَوَّلِ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهَا. وَهَذَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لَمْ يَفُتْ عَلَى الثَّانِي شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْفَوَاتُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ بِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا مِنْ الثَّانِي، وَالْمُودَعُ إذَا سَلَّطَ الْغَيْرَ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُودِعِ. (رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ غَيْرَهُ، مِنْ غَيْرِ عِيَالِهِ، فَهَلَكَتْ: فَالْأَوَّلُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِحِفْظِهَا مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُودَعِ الْمُودَعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ ضَامِنٌ لَهَا أَيْضًا، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْخِيَارُ، يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ. " وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ": لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: أَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا -. فَأَمَّا هُمَا فَيَقُولَانِ: الْأَوَّلُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي الْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ، كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ. فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مُلِّكَ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ أَوْدَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّمَانُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ. فَإِذَا لَحِقَهُ الضَّمَانُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ، وَالْحِفْظِ كَانَ عَامِلًا لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْأَوَّلُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الثَّانِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا بِحَضْرَتِهِ، فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْأَوَّلُ ضَامِنًا؛ بِتَرْكِ الْحِفْظِ حِينَ غَابَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا إلَى الثَّانِي. فَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتْرُكْ الْحِفْظَ، بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحِفْظِ حِين هَلَكَتْ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ أَصْلَ قَبْضِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صُنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَيَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِدُونِ الصُّنْعِ، إنَّمَا وُجِدَ الصُّنْعُ مِنْ الْأَوَّلِ - وَهُوَ الذَّهَابُ، وَتَرْكُ الْحِفْظُ - وَلَمَّا لَمْ يَصِرْ الثَّانِي ضَامِنًا بِالْقَبْضِ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ، وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ. يُقَرِّرُهُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِ الثَّانِي بَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْيَدِ بِعَيْنِهَا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي كَأَجِيرِ الْقَصَّارِ، إذَا دَقَّ الثَّوْبَ وَتَخَرَّقَ، لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَجِيرِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْءٌ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَيْضًا، وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الشَّخْصَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ: فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِفِعْلِهِ - وَهُوَ غَصْبُهُ - وَغَصْبُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ غَصْبِ الثَّانِي، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتُهُ حِينَ غَصَبَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْعَارِيَّةِ] (كِتَابُ الْعَارِيَّةِ) (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً: الْعَارِيَّةُ: تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، سُمِّيَتْ عَارِيَّةً لِتَعَرِّيهَا عَنْ الْعِوَضِ، فَإِنَّهَا مَعَ الْعَرِيَّةِ اُشْتُقَّتْ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالْعَرِيَّةُ: الْعَطِيَّةُ فِي الثِّمَارِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَالْعَارِيَّةُ فِي الْمَنْفَعَةِ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا أَوْ مَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ مَنَافِعِهَا بِالْعِوَضِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّنَاوُبُ، فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ عَلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ، فَلَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ لِتَكُونَ عَارِيَّةً حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا، وَمَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ يَكُونُ قَرْضًا، (وَكَانَ) الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْعَيْنِ لَا بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ مِقْدَارِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ أَمَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبَاحَةِ؟، وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ، وَمَنْ تَمَلَّكَ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ فَتَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيْضًا كَالْعَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُبِيحَ لِغَيْرِهِ. (وَالْعَارِيَّةُ) تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِأَنْ يَقُولَ: مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَةَ دَارِي هَذِهِ شَهْرًا، أَوْ جَعَلْتُ لَكَ سُكْنَى دَارِي هَذِهِ شَهْرًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَاجِرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُعِيرِ، فَإِنَّهُ مَلَّكَهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَفِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 إضْرَارٌ بِالْآخَرِ، (فَإِنْ قِيلَ:) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمَلِّكَ الْمُسْتَعِيرَ الْإِجَارَةَ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُعِيرِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بَلْ يَصِيرُ قِيَامُ حَقِّ الْمُعِيرِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ، (قُلْنَا:) لَوْ مَلَكَ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الْمُعِيرِ، وَكَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِتَسْلِيطِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَكَانِ فِي الْإِعَارَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ إذَا أَرَادَ الْمُعِيرُ الِاسْتِرْدَادَ، وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا صِفَةُ اللُّزُومِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَعْلُومِ، فَأَمَّا الْعَارِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا صِفَةُ اللُّزُومِ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْمَكَانِ، وَلَا إعْلَامُ الْمُدَّةِ، وَلَا إعْلَامُ مَا يُحْمَلُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَعِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدَّابَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ كَمَا يَنْتَفِعُ بِدَابَّةِ نَفْسِهِ فِي قَلِيلِ الْمُدَّةِ وَكَثِيرِهَا مَا لَمْ يُطَالِبْهُ الْمَالِكُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاجِرُهَا، فَإِنْ آجَرَهَا صَارَ غَاصِبًا، وَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَقَدْ بَيِّنَاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ مَا آجَرَهَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا، فَإِذَا لَمْ يُؤَاجِرْهَا وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - سَوَاءٌ هَلَكَتْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ هَلَكَتْ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ هَلَكَتْ لَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ» فَقَدْ جَعَلَ الضَّمَانَ صِفَةً لِلْعَارِيَّةِ. فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَازِمَةً لَهَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْقَبْضَ صِفَةً لِلرَّهْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً لِلرَّهْنِ «وَاسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ فَقَالَ لَهُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ.؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً مُؤَدَّاةً» «وَكَتَبَ فِي عَهْدِ بَنِي نَجْرَانَ وَمَا تُعَارُ رُسُلِي فَهَلَكَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَضَمَانُهَا عَلَى رُسُلِي» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَالْأَخْذُ إنَّمَا يُطْلَقُ فِي مَوْضِعٍ يَأْخُذُ الْمَرْءُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُسْتَقْرِضِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْعَيْنِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَقَدْ تَعَدَّى الْعَقْدُ هُنَاكَ إلَى الْعَيْنِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَبِخِلَافِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 الْوَدِيعَةُ فَإِنَّ الْمُودَعَ لَا يَقْبِضُ الْوَدِيعَةَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ إنَّمَا يَقْبِضُهَا لِمَنْفَعَةِ الْمَالِكِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَهُمْ، فَإِنَّ قَبْضَ الْعَارِيَّةِ يُوجِبُ ضَمَانَ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ، فَيُوجِبُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَالْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ. يُقَرِّرُهُ أَنَّ ضَمَانَ الرَّدِّ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِالرَّدِّ ضَمَانَ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا لَزِمَهُ ضَمَانُ الرَّدِّ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا لَزِمَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَدَاءُ ذَلِكَ إلَّا بِرَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لِيَصِيرَ بِهِ مُؤَدِّيًا مَا لَزِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّدِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَلِفَ فِي الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَنْقُولٌ إلَى الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ فَيَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ مَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهِ بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْ غَيْرِهِ شَاةً فَقَالَ لَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ: ضَحِّ بِهَا، فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ضَمِنَهَا، وَإِنْ ضَحَّى بِهَا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَلَا يُقَالُ: قَبَضَهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مِنْ يَدِ الْمَالِكَ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ كَفِعْلِ الْمَالِكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لِلْمُسْتَحِقِّ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ، وَلَوْ كَانَ يَدُ الْمُسْتَعِيرِ فِي الْعَيْنِ كَيَدِ الْمُعِيرِ لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالْمُودَعِ، وَحَجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرُ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرُ الْمُغَلِّ ضَمَانٍ» وَالْمُغِلُّ هُوَ الْخَائِنُ فَقَدْ نَفَى الضَّمَانَ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخِيَانَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْجَرِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنْ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَكُونُ لِلْجُبْرَانِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ تَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَى الْمَالِكَ، وَبِالْإِذْنِ الصَّحِيحِ يَنْعَدِمُ التَّفْوِيتُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْإِتْلَافِ، ثُمَّ الْإِتْلَافُ بِالْإِذْنِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَالْقَبْضُ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجِبْ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَا يَكُونُ عَقْدَ ضَمَانٍ كَالْهِبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِهَذَا الْعَقْدِ فَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ، وَهُوَ الْإِجَارَةُ لَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْعَيْنِ، وَتَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي تَقْدِيرِ حُكْمِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مَقْرُونًا بِالْعِوَضِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَالْمُتَعَرِّي عَنْ الْعِوَضِ كَيْفَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ لِلْقَبْضِ وَإِنْ قَالَ بِحُكْمِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَالِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ جَعَلَ اسْتِعْمَالَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 كَاسْتِعْمَالِ الْمَالِكِ، فَبِحُكْمِ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَالْإِعْطَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ قَبْضَهُ كَقَبْضِ الْمَالِكِ أَيْضًا، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَيْسَ لِمَا قَالَ، بَلْ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَتْ لَهُ، وَالرَّدُّ فَسْخٌ لِذَلِكَ النَّقْلِ، فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَى مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَنْفَعَةُ النَّقْلِ؛ وَلِهَذَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ أَيْضًا، فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَيْنُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَوَّتَ شَيْئًا عَلَى الْمَالِكِ بِقَبْضِهِ كَالْغَاصِبِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِهِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْعَقْدِ، وَالْإِذْنُ يُقَرِّرُ ضَمَانَ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ هُنَاكَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ، فَفِيمَا وَرَاءَ الْعَقْدِ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْمُسْتَقْرَضُ كَذَلِكَ، إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْعَقْدِ، وَالْإِذْنُ يُقَرِّرُ ضَمَانَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ أَوْ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ، فَأَمَّا عَقْدُ التَّبَرُّعِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ عِنْدنَا. (وَقَوْلُهُ) بِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ (قُلْنَا:) نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِحَقٍّ، وَالْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ الْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْوِيتِ عَلَى الْمَالِكِ، وَكَمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَالْإِتْلَافُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْإِتْلَافُ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ فَالْقَبْضُ مِثْلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ» ضَمَانُ الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الضَّمَانَ صِفَةً لِلْعَيْنِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِبَقَاءِ الرَّدِّ، وَحَدِيثُ صَفْوَانَ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَخَذَ تِلْكَ الدُّرُوعَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ.؟ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى السِّلَاحِ كَانَ الْأَخْذُ لَهُ حَلَالًا ثَمَّةَ شَرْعًا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَالَ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، (وَقِيلَ:) كَانَتْ الدُّرُوعُ أَمَانَةً لِأَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ صَفْوَانَ فَاسْتَعَارَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا فَكَانَ مُسْتَعِيرًا مِنْ الْمُودَعِ، وَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا (وَقِيلَ:) الْمُرَادُ ضَمَانُ الرَّدِّ. (وَقَوْلُهُ) مُؤَدَّاةٌ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ فَفِيهِ يُعْلَمُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ عِلْمُ الْفِقْهَ. (وَقِيلَ:) كَانَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُسْتَعِيرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَضْمَنُ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ بِالشَّرْطِ كَالْمُودَعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى، وَلَكِنَّ صَفْوَانَ كَانَ يَوْمَئِذٍ حَرْبِيًّا، وَيَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، (وَقِيلَ:) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ صَفْوَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ تِلْكَ الدُّرُوعِ فَقَالَ: «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ، فَقَالَ: لَا، فَإِنِّي الْيَوْمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 أَرْغَبُ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّا كُنْتُ يَوْمَئِذٍ» وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ. (وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) «وَمَا يُعَارُ رُسُلِي فَهَلَكَ عَلَى أَيْدِيهِمْ» أَيْ اسْتَهْلَكُوهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَلَكَ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ عَلَى يَدِهِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ. (وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» يَقْتَضِي وُجُوبَ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ. قَالَ: (وَإِنْ اسْتَعَارَ الدَّابَّةَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ، وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ إذَا هَلَكَتْ)؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنٍ صَحِيحٍ، وَلَكِنْ إنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِقَبْضِهِ إيَّاهَا فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا فَيَضْمَنُهَا كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا طُولِبَ بِالرَّدِّ فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى هَلَكَتْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَمْسَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا مَا لَمْ يُطَالِبْهُ صَاحِبُهَا بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ هُنَاكَ لَيْسَتْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ لِيَأْخُذَهَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْعٌ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا، وَهُنَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الرَّدِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُوجِبُ ضَمَانَ الْمُسْتَعَارِ عَلَيْهِ. (وَإِذَا لَمْ يُؤَقِّتْ الْمَالِكُ وَلَكِنَّهُ أَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا الْحِنْطَةَ فَجَعَلَ يَنْقُلُ عَلَيْهَا الْحِنْطَةَ أَيَّامًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْمَالِكِ مُطْلَقٌ، فَلَا يَنْعَدِمُ حُكْمُهُ إلَّا بِالنَّهْيِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْآجُرَّ أَوْ اللَّبَنَ أَوْ الْحِجَارَةَ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا فَصَارَ غَاصِبًا مُسْتَعْمِلًا بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ الْمَالِكُ، وَلَكِنَّهُ مِثْلُ مَا عَيَّنَهُ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ غَيْرِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا، وَهَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّعْيِينُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، فَإِنَّ حِنْطَتَهُ وَحِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي الضَّرَرِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ. (وَالثَّانِي) أَنْ يُخَالِفَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فِي الْقِيَاسِ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ، أَلَا تُرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ، وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ يَكُونُ أَخَفَّ عَلَى الدَّابَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ تَقْيِيدِهِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا حَتَّى قِيلَ: لَوْ سَمَّى مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ وَزْنًا فَحَمَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَزْنِ مِنْ الشَّعِيرِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ الْحِنْطَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا، فَأَمَّا مِثْلُ ذَلِكَ كَيْلًا مِنْ الشَّعِيرِ لَا يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ الْحِنْطَةِ. (وَالثَّالِثُ) أَنْ يُخَالِفَ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَى الدَّابَّةِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَدِيدًا أَوْ آجُرًّا مِثْلَ وَزْنِ الْحِنْطَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَدُقُّ ظَهْرَ الدَّابَّةِ فَكَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ حَمْلِ الْحِنْطَةِ، وَتَقْيِيدُ الْمَالِكِ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِ الْحِنْطَةِ قُطْنًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَوْقَ مَا تَأْخُذُ الْحِنْطَةُ فَكَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا. (وَالرَّابِعُ) أَنْ يُخَالِفَ فِي الْمِقْدَارِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشْرَ مَخْتُومًا فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ ثُلُثَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ مُوَافِقٌ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَامِلٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ، وَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ تُطِيقُ حَمْلَ خَمْسَةَ عَشْرَ مَخْتُومًا، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهَا بِهَذَا الْحَمْلِ، وَالْمَالِكُ مَا أَذِنَ لَهُ فِي إتْلَافِهَا. وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَى الدَّابَّةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ حِمْلَيْنِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَالْآخَرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَضَرَبَهُ أَحَدَ عَشْرَ سَوْطًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ذَاكَ ضَمَانُ قَتْلٍ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجُنَاةِ لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ، فَقَدْ تَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ أَلَمِ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا تَقْوَى عَلَى دَفْعِ أَلَمِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا عَدَدَ الْجُنَاةِ، وَجَعَلْنَا الضَّمَانَ نِصْفَيْنِ، وَهُنَا تَلَفُ الدَّابَّةِ بِاعْتِبَارِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ، وَثِقَلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ فَوْقَ ثِقَلِ خَمْسَةِ مَخَاتِيمَ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَزَّعَ الضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَعَارَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بِهِ عَشْرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَطَحَنَ أَحَدَ عَشْر مَخْتُومًا فَهَلَكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمَّا طَحَنَ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ انْتَهَى إذْنُ الْمَالِكِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي الطَّحْنِ مُخَالِفٌ فِي جَمِيعِ الدَّابَّةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا فَيَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا، فَأَمَّا الْحَمْلُ يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ فِي الْبَعْضِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَفِي الْبَعْضِ مُخَالِفٌ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي سُمِّيَ لَهُ وَأَخَذَ إلَى مَكَانِ غَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا، فَالتَّقْيِيدُ مِنْ صَاحِبِهَا هُنَا مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الطَّرِيقِ وَبُعْدِهِ، وَالسُّهُولَةِ وَالْوُعُورَةِ. وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ كَذَا وَكَذَا ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ ذَلِكَ مَرْوِيًّا أَوْ فَوَهِيًّا أَوْ نُرْمُقًا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْهَرَوِيِّ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّ سَائِرَ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ كَالْهَرَوِيِّ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَزْنِيَّاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا كُلُّ تَقْيِيدٍ يَكُونُ مُفِيدًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَإِذَا خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ. (وَإِنْ) اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ فَرَكِبَهَا هُوَ وَحَمَلَ مَعَهُ عَلَيْهَا رَجُلًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي نِصْفِهَا مُوَافِقٌ، وَفِي النِّصْفِ مُخَالِفٌ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ. (فَإِنْ قِيلَ:) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا، فَإِذَا رَكِبَهَا مَعَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ أَكْثَرُ. (قُلْنَا:) إذَا حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِي الْكُلِّ، وَإِذَا رَكِبَهَا فَهُوَ مُوَافِقٌ فِيمَا شَغَلَهُ بِنَفْسِهِ مُخَالِفٌ فِيمَا شَغَلَهُ بِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا لِرُكُوبِهِ لَمْ يَجِبُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَوَجَبَ الْأَجْرُ إذَا رَكِبَهَا، وَحَمَلَ مَعَ نَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ بِحَيْثُ تُطِيقُ حَمَلَ رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَهُوَ مُتْلِفٌ لَهَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا، ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ بِأَنْ يَكُونُ الَّذِي حَمَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ أَخَفَّ مِنْهُ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَقْبَحَ وَزْنَ الرِّجَالِ فِي مِثْلِ هَذَا، (فَقَالَ:) أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ يُوزَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ يُوزَنُ قَبْلَ الطَّعَامِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْخَلَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّ الرَّاكِبَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، فَرُبَّ ثَقِيلٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ إذَا رَكِبَهَا لِهِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَرُبَّ خَفِيفٍ يَعْقِرُهَا لِخَرْقِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْمُنَاصَفَةَ. فَإِنْ قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ الدَّابَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ عَطِبَتْ؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ؛ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلَالَةً. وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهَا إلَى عَبْدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِلْ إلَى صَاحِبِهَا كَالْمُودَعِ إذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِلْ إلَى يَدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 صَاحِبِهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ صَاحِبُهَا إنَّمَا يُحْفَظُ بِيَدِ هَذَا السَّائِسِ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَكَانَ يَدْفَعُهَا إلَى السَّائِسِ أَيْضًا فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إذَا فَرَغَتْ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إلَيْهِ دَلَالَةً، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ فِي الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِرْدَادُهَا عَادَةً، وَإِنَّمَا أَوْدَعَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِهَا فِي يَدِ عِيَالِهِ حَتَّى قَالُوا فِي الْمُسْتَعَارِ: لَوْ كَانَ عَقْدُ لُؤْلُؤٍ فَرَدَّهُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ سَائِسُ دَوَابِّ الْمُعِيرِ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَرْضَى بِاسْتِرْدَادِ مِثْلِهِ عَادَةً. وَإِنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ هُوَ فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ، وَلُبْسُ الْقَصَّابِ وَالدَّبَّاغِ لَا يَكُونُ كَلُبْسِ الْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ فَكَانَ هَذَا تَقْيِيدًا مُفِيدًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الثَّوْبِ، فَإِذَا أَلْبَسَهُ الْمُسْتَعِيرُ غَيْرَهُ صَارَ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَرُبَّ رَاكِبٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ، وَآخَرَ يَقْتُلُهَا، فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَأَعَارَهُ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ اللُّبْسِ مِنْ ثَوْبِهِ مُطْلَقًا، فَسَوَاءٌ لَبِسَهُ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَعِيرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا تَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ هُنَا بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ لَا يُبِيحُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُسَوِّي غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّصَرُّفِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَّةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ: (مَنْ أَعَارَكَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلَ لَكَ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ) وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَةَ هَذِهِ الْعَيْنِ كَانَتْ عَارِيَّةً صَحِيحَةً. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَهُوَ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَيَسْتَوِي غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّعَامَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ إلَّا أَنَّ الْعَيْنَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَفِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يُعِيرُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا كَاتَبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 أَنْ يَفْسَخَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا تَصَرَّفَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ يُنْقَضُ تَصَرُّفُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَلَى الشَّفِيعِ. قَالَ: (رَجُلٌ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا فَأَذِنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَلَا يَهْدِمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْبِنَاءِ لَمْ يَرْضَ بِهَدْمِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا مَا لَمْ يَفْرُغْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْأَرْضُ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَالْعَارِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهِ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مِلْكِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَتَى شَاءَ، وَصَاحِبُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَمَّا بَنَى عَلَى بُقْعَةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَازِمٍ لَهُ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِأَنْ يُهْدَمُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ وَغَرْسُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَقَدْ شَغَلَ أَرْضَ الْغَيْرِ بِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا (وَقَالَ:) ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْبِنَاءُ لِلْمُعِيرِ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهَذَا، وَشُبِّهَ هَذَا بِثَوْبِ إنْسَانٍ إذَا انْصَبَغَ بِصِبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِلصَّبَّاغِ قِيمَةَ صِبْغِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: صَاحِبُ الْأَرْضِ غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَفِي إلْزَامِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ إضْرَارٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ رَفْعَ الْبِنَاءِ، وَتَمْيِيزَ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ، فَإِنَّ تَمْيِيزَ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٌ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الصِّبْغِ بِدُونِ رِضَاهُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْبَى الْتِزَامَ الْقِيمَةِ لِيُصَارَ إلَى بَيْعِ الثَّوْبِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ. فَإِنْ كَانَ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْعَارِيَّةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا كَأَصْلِ الْعَقْدِ، فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ بِاعْتِبَارِ مُطْلَقِ الْإِعَارَةِ فَكَذَلِكَ بِالتَّوْقِيتِ مِنْهَا، وَبَيَانُ التَّوْقِيتِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِيرَ بِالتَّوْقِيتِ يَصِيرُ غَارًّا لِلْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى تَرْكِ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ، وَإِقْرَارُ بِنَائِهِ فِيهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي سَمَّى، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِذَلِكَ صَارَ غَارًّا لَهُ، وَلِلْمَغْرُورِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ فَهَلَكَ الْمُعِيرُ لَمْ يَصِرْ غَارًّا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَعِيرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 مُغْتَرٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْغُرُورَ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ يَكُونُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِنَّ الْمُعِيرَ لَمْ يُبَاشِرْ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَإِنْ وَقَّتَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْقِيتِ فِي تَصْحِيحِ الْعَارِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِذِكْرِ الْوَقْتِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ قَبْلَهُ، وَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: ابْنِ لِي فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِنَفْسِكَ عَلَى أَنْ أَتْرُكَهَا فِي يَدِكَ إلَى كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ أَتْرُكْهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ مَا تُنْفِقُ فِي بِنَائِكَ، وَيَكُونُ بِنَاؤُكَ لِي، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي الْإِخْرَاجِ ضَمِنَ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ، وَيَكُونُ كَأَنَّهُ بَنَى لَهُ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهَا، وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهَا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ كَانَ هُوَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ يَرْفَعُهُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِ الْغَيْرِ. (وَقِيلَ:) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِ الْأَشْجَارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِالْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْفَعَهَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ أَعَارَهُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا وَوَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا، فَلَمَّا تَقَارَبَ حَصَادُهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّارِعَ زَرَعَ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَازِمٍ لَهُ فِيهَا، فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ إذَا زَرَعَهَا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا إلَى أَنْ يَحْصُدَ الْمُسْتَعِيرُ زَرْعَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الزِّرَاعَةِ بِجِهَةِ الْعَارِيَّةِ، وَلِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَلَوْ تَمَكَّنَ الْمُعِيرُ مِنْ قَلْعِ زَرْعِهِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُسْتَعِيرِ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، وَلَوْ تُرِكَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُعِيرِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ، وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَحَدِهِمَا تَرَجَّحَ أَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ. بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيَكُونُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَصْلِ عَلَى جَانِبِ صَاحِبِ التَّبَعِ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ فِي الزِّرَاعَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِ التَّعَدِّي إبْقَاءَ زَرْعِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْأَرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الزَّرْعِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ نُقِلَ بَعْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ مَجَّانًا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 تُرِكَ الزَّرْعُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ. (فَإِنْ) رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ غُلَامِهِ فَعَقَرَهَا الْغُلَامُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يُبَاعُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُؤَدِّي عَنْهُ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْحَالِ. (وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوْ الْحُمُولَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ عِنْدَنَا) وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْخِلَافُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ، وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ دَابَّةِ الْغَيْرِ، وَالْمُسْتَعْمِلُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَهُوَ الْإِذْنُ، وَصَاحِبُهَا مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَإِذَا حَلَفَ فَقَدْ انْتَفَى الْمُسْقِطُ، وَيَبْقَى هُوَ ضَامِنًا بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ. وَإِنْ أَعَارَهُ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يُسْكِنَ مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا خَرَجَ فَالْبِنَاءُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، فَهَذَا الشَّرْطُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الْبَانِي، شَرْطُ رَبِّ الْأَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ هَذَا إجَارَةً لَا إعَارَةً، وَهِيَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَبِجَهَالَةِ الْأَجْرِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَعْلُومًا لَهُمَا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَعَلَى السَّاكِنِ أَجْرٌ مِثْلُ الْأَرْضِ فِيمَا سَكَنَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. (وَيَنْقُضُ السَّاكِنُ بِنَاءَهُ إذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهَا بِرَدِّ الْأَرْضِ)؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ. (فَإِنْ قِيلَ:) لِمَاذَا لَا يَتَمَلَّكُ الْبِنَاءَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِاتِّصَالِهِ بِالْأَرْضِ. (قُلْنَا:) كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَبْنِيَ السَّاكِنُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْبِنَاءُ كَانَ مَعْدُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ. [مَاتَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ] وَإِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ انْقَطَعَتْ الْعَارِيَّةُ. أَمَّا إذَا مَاتَ الْمُعِيرُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ انْتَقَلَتْ إلَى وَارِثِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ هَذَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا مِلْكَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُوَرَّثُ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَيَخْلُفُهُ فِيهِ وَارِثُهُ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا هَذِهِ الْخِلَافَةُ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَالَ لَهُ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ سُكْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: سُكْنَاهُ لَكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَكَ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَقَوْلُهُ سُكْنَى يَكُونُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عُمْرِي سُكْنَى كَانَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عُمْرِي، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعَارِيَّةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 بِهَذَا اللَّفْظِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ. (وَإِذَا جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَقَالَ: إنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الَّذِي عِنْدَكَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَهُ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُعِيرُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَالْمُسْتَعِيرُ ضَامِنٌ لَهُ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَى الْمُعِيرِ الْأَمْرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِذَا حَلَفَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) لِمَاذَا لَمْ تَجْعَلْ هَذِهِ إعَارَةً مِنْ الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ (قُلْنَا) الْمُسْتَعِيرُ إذَا أَعَارَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُقِيمُهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الِانْتِفَاعِ وَإِمْسَاكِ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ يَدُ الثَّانِي كَيَدِ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَتَى شَاءَ، وَهُنَا تَسْلِيمُهُ إلَى الثَّانِي لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ مِنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمُعِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا ادَّعَى، فَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ مِنْ الْمَالِكِ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ ظَلَمَهُ حِينَ ضَمِنَهُ، وَمَنْ ظَلَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَ ظَالِمِهِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ فَقَبَضَ الْعَارِيَّةَ مِنْهُ خَادِمَ الْمُعِيرَ، وَأَنْكَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّدَّ عَلَى خَادِمِ الْمُعِيرِ كَالرَّدِّ عَلَى الْمُعِيرِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا وَلَا خَادِمَهُ فَرَبَطَهَا فِي دَارِ صَاحِبِهَا عَلَى مَعْلَفِهَا فَضَاعَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى أَحَدٍ يَحْفَظُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُضَيِّعًا ضَامِنًا فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَبَطَهَا فِي مَوْضِعِهَا الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا لَكَانَ يَرْبِطُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَذَلِكَ إذَا رَبَطَهَا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ الدَّابَّةَ مِنْ مَرْبِطِهَا، وَيَرُدُّهَا إلَى مَرْبِطِهَا فَيَثْبُتُ الْإِذْنُ لَهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا فِي ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ دَلَالَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ مُحْتَاجٌ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِنَسْخِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِرَدِّهَا إلَى مَرْبِطهَا بَعْدَ مَا أَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا، فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهُوَ أَمِينٌ، فَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَهُوَ التَّضْيِيعُ، وَقَدْ انْدَفَعَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْبِطَ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ فَإِعَادَتُهَا إلَى الْمَرْبِطِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ إلَى يَدِ صَاحِبِهَا حُكْمًا. [جَحَدَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ] (وَلَوْ جَحَدَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ كَالْمُودَعِ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ، وَلَكِنْ قَالَ: قَدْ رَدَّدَتْهُ أَوْ ضَاعَ مِنِّي فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ فِي كُلِّ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُودَعُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ قَرْضٌ) لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إذْنٌ فِي الِانْتِفَاعِ، وَلَا يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِالنُّقُودِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: إمَّا الْهِبَةُ أَوْ الْقَرْضُ فَيَثْبُتُ الْأَقَلُّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَلْتَزِمُ رَدَّ الْعَيْنِ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ، وَيَتَعَذَّرُ هُنَا رَدُّ الْعَيْنِ فَيُقَامُ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ، وَالْقَبْضُ الَّذِي يُمَكِّنُهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِ الْمَقْبُوضِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمِثْلِ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ مِثْلُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، قَالَ فِي الْأَصْلِ: أَرَأَيْتَ لَوْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ أَوْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْمَالُ قَرْضٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ سِكِّينًا مُحَلَّى أَوْ سَيْفًا أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً أَوْ خَاتَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا قَرْضًا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَائِهَا مُمْكِنٌ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا. (قَالُوا:) وَلَوْ أَنَّ صَيْرَفِيًّا اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لِيَتَجَمَّلَ بِهَا فِي حَانُوتِهِ أَوْ لِيَعْبُرَ بِهَا صَنَجَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَرْضًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا صَرَّحَا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمَا الِانْتِفَاعُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ دُونَ الْإِذْنِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ. وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَأَخَذَ بِهَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوُصُولِ عَلَيْهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ لَهُ طَرِيقٌ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي أَيِّ طَرِيقٍ ذَهَبَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ. وَإِنْ اسْتَعَارَهَا إلَى حَمَّامٍ أَعْبَرَ فَجَاوَزَ بِهَا حَمَّامَ أَعْبَرَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا حَتَّى يَرُدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا. (قِيلَ:) هَذَا إذَا اسْتَعَارَهَا ذَاهِبًا لَا رَاجِعًا، فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا ذَاهِبًا، وَجَائِيًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَمَّا وَصَلَ إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ انْتَهَى الْعَقْدُ، فَإِذَا جَاوَزَ كَانَ غَاصِبًا، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي الثَّانِي إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا وَرَاءَ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَالْعَقْدُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَمِينًا (وَقِيلَ:) الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ نَفْسِهِ. وَفِي الْوَدِيعَةِ إذَا خَالَفَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ إنَّمَا أَبْرَأْنَاهُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَبَقِيَ ضَامِنًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ عَادَ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُوَصِّلْهُ إلَى الْمَالِكِ، وَالْإِجَارَةُ فِي هَذَا كَالْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقْبِضُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَرُجُوعُهُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَجْلِ الْغَرُورِ الثَّابِتِ بِعَقْدِ ضَمَانٍ لَا؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 الْمُسْتَعِيرَ وَالْمُسْتَأْجِرَ يَضْمَنَانِ بِالْإِمْسَاكِ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَعَارَ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا فَأَمْسَكَهَا فِي الْمِصْرِ أَيَّامًا كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَشْرُوطَ، فَإِنَّمَا ضَمَّنَاهُ بِإِمْسَاكِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ، وَلَا يَنْعَدِمُ الْإِمْسَاكُ إلَّا بِالرَّدِّ، فَأَمَّا الْمُودَعُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالْإِمْسَاكِ، وَقَدْ انْعَدَمَ الِاسْتِعْمَالُ حِينَ عَادَ الْوِفَاقُ. يَقُولُ: فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ تَحْتَهُ فِي دَيْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَأَقَامَ الْمُسْتَعِيرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا أُخِذَتْ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ سَبَبَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاكِبِ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَعِيرِ تَنْفِي ذَلِكَ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ. وَإِذَا نَفَقَتْ الدَّابَّةُ تَحْتَ الْمُسْتَعِيرِ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ لِإِثْبَاتِهِ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ، وَلَا يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ وَلَمْ يَهَبْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ، وَالْقَاضِي نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِإِنْشَائِهَا، فَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَضْمَنَهُ أَوْ قَالَ: أَذِنَ لِي فِي عَارِيَّتِهَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ، فَإِنْ نَكَلَ كَانَ نُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ، فَلَا يُضَمِّنُ الْمُسْتَحِقُّ أَحَدًا، وَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ، الْمُعِيرُ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُعِيرِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعِيرُ لِنَفْسِهِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْأَجْرِ بِمُبَاشَرَتِهِ عَقْدَ الضَّمَانِ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي نَفَقَتْ فِيهِ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِلْأَجْرِ دُونَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنْفَعَةِ كَانَ بِعَقْدِهِ، وَبِهِ وَجَبَ الْأَجْرُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعِيرَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي الْغَلَّةَ الدَّابَّةَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ تَبَرُّعَهُ يَكُونُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْإِعَارَةُ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُعَامِلَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْلِسَهُ فِي حَانُوتِهِ أَوْ يَضَعَ وِسَادَةً لَهُ، وَهُوَ إعَارَةٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمِيزَانُ أَوْ صَنَجَاتُ الْمِيزَانِ، فَإِذَا لَمْ يُعِرْ لَا يُعَارُ مِنْهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ أَيْضًا. وَمَا يَكُونُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كَاِتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ وَالْإِهْدَاءِ إلَى الْمُجَاهِدِينَ بِشَيْءٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ»، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: عَرَّسْتُ، وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَأَجَابُونِي فَدَلَّ أَنَّ لِلْعَبْدِ اتِّخَاذَ الدَّعْوَةِ حَتَّى أَجَابَهُ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَعَ زُهْدِهِ. وَالْعَبْدُ الَّذِي أَمَرَهُ الْمَوْلَى بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، فَأَمْرُ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ يَكُونُ إذْنًا نَالَهُ فِي الِاكْتِسَابِ. (عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ) أَجَرَ دَابَّتَهُ مِنْ رَجُلٍ فَنَفَقَتْ تَحْتَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ، وَضَمِنَ الرَّاكِبُ قِيمَتَهَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِاشْتِرَاطِهِ الْعِوَضَ لِنَفْسِهِ، وَالْمَأْذُونُ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ كَالْحُرِّ؛ وَلِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ضَمَانَ الْغَرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَأَنَّ الْغَارَّ يَصِيرُ كَالْقَائِلِ لِلْمَغْرُورِ: إنْ ضَمَّنَكَ أَحَدٌ بِسَبَبِ رُكُوبِ هَذِهِ الدَّابَّةِ أَوْ اسْتِيلَادِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَيْعِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ الْمَأْذُونُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ أَنَّ مَنْ بَاشَرَ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ لِهَذَا؛ وَلِهَذَا لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُعِيرِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ صِفَةَ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ. ثُمَّ الْعَبْدُ فِي الْتِزَامِ صِفَةِ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ التِّجَارَةُ كَالْحُرِّ. وَإِذَا أَعَارَ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَبْدًا مِثْلَهُ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا غَاصِبٌ لِمِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآخَرِ، وَالْآخَرُ مُسْتَهْلِكٌ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاكِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ لِانْعِدَامِ الْغُرُورِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُعِيرَ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُعِيرَ رَجَعَ بِهِ مَوْلَاهُ فِي رَقَبَةِ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ صَارَتْ كَسْبَ الْمُعِيرِ حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّاكِبَ أَتْلَفَ مِلْكَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِمَوْلَى الْمُعِيرِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الرَّاكِبَ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى فَبَقِيَ الرَّاكِبُ مُسْتَعْمِلًا دَابَّتَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا. وَإِنْ اسْتَعَارَ الرَّجُلُ دَابَّةً نَتُوجًا فَأَلْقَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَنِّفَ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ مِنْ الرُّكُوبِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي بَطْنِهَا أَوْلَى، وَإِنْ ضَرَبَهَا فَفَقَأَ - عَيْنَهَا أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ بِمَا صَنَعَ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي الرُّكُوبِ دُونَ الضَّرْبِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ سِلَاحًا لِيُقَاتِلَ بِهِ فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ فَانْقَطَعَ نِصْفَيْنِ أَوْ طَعَنَ بِالرُّمْحِ فَانْكَسَرَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يَكُونُ إلَّا هَكَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 وَإِنْ ضَرَبَ بِهِ حَجَرًا فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْمُقَاتَلَةِ بِالسِّلَاحِ، وَالْمُقَاتَلَةُ مَعَ الْخَصْمِ لَا مَعَ الْحَجَرِ، وَالضَّرْبُ بِالسَّيْفِ الْحَجَرَ غَيْرُ مُعْتَادٍ أَيْضًا فَكَانَ بِهِ ضَامِنًا. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَعِيرُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ: قَدْ هَلَكَتْ مِنِّي الْعَارِيَّةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ كَالْمُودَعِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ أَمَانَتِهِ بِمَرَضِهِ. (وَإِذَا) كَانَ عَلَى دَابَّةٍ بِإِعَارَةُ أَوْ إجَارَةُ فَنَزَلَ عَنْهَا فِي السِّكَّةِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلِّي فَخَلَّى عَنْهَا فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ الْحِمْلَ فِي بَيْتِهِ، وَخَلَّى عَنْهَا فِي السِّكَّةِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَهَا حِينَ تَرَكَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ لَا حَافِظَ مَعَهَا، مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ هَذَا إذَا لَمْ يَرْبِطْهَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ رَبَطَهَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ لَا يَجِدُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ فَنَزَلَ لِيُصَلِّيَ وَأَمْسَكَهَا فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ لَا يُغَيِّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ لِيَكُونَ حَافِظًا لَهَا، فَأَمَّا بَعْدَ مَا غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ لَا يَكُونُ هُوَ حَافِظًا لَهَا، وَإِنْ رَبَطَهَا بِشَيْءٍ بَلْ يَكُونُ مُضَيِّعًا لَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ فَيَكُونُ ضَامِنًا. وَإِذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا فِي حَاجَتِهِ إلَى نَاحِيَةٍ مُسَمَّاةٍ مِنْ النَّوَاحِي فِي الْكُوفَةِ فَأَخْرَجَهَا إلَى الْفُرَاتِ لِيَسْقِيَهَا، وَالنَّاحِيَةُ الَّتِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا لِإِمْسَاكِهِ إيَّاهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوْ رُكُوبِهِ إيَّاهَا إلَى مَوْضِعِ السَّقْيِ. (وَلَا يُقَالُ:) إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ صَاحِبُهَا، وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي سَقْيِهَا، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْقِيَهَا فِي خُرُوجِهِ إلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. (وَإِذَا) وَجَدَ الْمُعِيرُ دَابَّتَهُ مَعَ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ فَهُوَ خَصْمٌ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي رَقَبَتَهَا، وَذُو الْيَدِ فِي مِثْلِ هَذَا خَصْمٌ لِلْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ قَالَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ: أَوْدَعَنِيهَا فُلَانٌ الَّذِي أَعَرْتُهَا إيَّاهُ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِلْمُدَّعِي لَوْ كَانَ حَاضِرًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَتْ يَدُهُ فِيهَا مَقَامَ يَدِهِ لَا يَكُونُ خَصْمًا، وَلِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّهُ مُودَعٌ حَافِظٌ لَهَا، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ بَاعَهَا وَصِيَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَخَذَهَا صَاحِبُهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَ بِهَا لَهُ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ. وَإِذَا طَلَبَ الْمُعِيرُ ثَوْبَهُ فَأَبَى الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَدْفَعَهُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ صَارَ غَاصِبًا، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: دَعْهُ عِنْدِي إلَى غَدٍ فَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الرِّضَا صَارَ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِعَارَةِ مِنْهُ، فَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 يَكُونُ فِي إمْسَاكِهِ إلَى الْغَدِ مُتَعَدِّيًا. (رَجُلٌ) أَرْسَلَ رَسُولًا يَسْتَعِيرُ لَهُ دَابَّةً مِنْ فُلَانٍ إلَى الْحِيرَةِ فَجَاءَ الرَّسُولُ إلَى صَاحِبِهَا وَقَالَ: إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَكَ أَعِرْنِي دَابَّتَكَ إلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَجَاءَ بِهَا الرَّسُولُ فَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي أَرْسَلَهُ، ثُمَّ بَدَا لِلَّذِي أَرْسَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا إلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَرَكِبَهَا فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، وَإِنْ رَكِبَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ ظَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ إذْنُ الْمَالِكِ، وَقَدْ كَانَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَبَ الرَّسُولُ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُرْسِلُ عَلَى الرَّسُولِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ عَقْدُ ضَمَانٍ إنَّمَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ كَمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْكِرَاءُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْعَارِيَّةِ. وَإِنْ قَالَ: أَعَرْتَنِي دَابَّتَكَ فَنَفَقَتْ، وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ: مَا أَعَرْتُكهَا، وَلَكِنْ غَصَبْتَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَرْكَبْهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْغَصْبُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ. إنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ دَابَّةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْإِذْنُ الْمُسْقِطُ لِلضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَجَرْتُكَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الرُّكُوبَ حَصَلَ بِالْإِذْنِ، ثُمَّ رَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَجْرَ، وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: وَهَبْتَهَا لِي، وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ بِعْتُهَا مِنْكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ مَالِيَّتِهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ، فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ إنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَرَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي ذَلِكَ، وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا. وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَرْضٍ وَنَخْلٍ أَنَّهَا لَهُ، وَقَدْ أَصَابَ ذُو الْيَدِ مِنْ غَلَّتِهَا، وَثَمَرَتِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، (وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مَنْفَعَةُ الْأَشْجَارِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِ عَقْدِ ضَمَانٍ كَمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَرَةُ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ الْمُصِيبُ ضَامِنًا لِمَالِهِ بِالْإِتْلَافِ، كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ، وَالْحَمْلِ فِي الشَّاةِ إذَا أَتْلَفَهَا. [غَصَبَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ وَزَرَعَهَا] وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ وَزَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلِهِ مِنْ بَذْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَحْبَلَهَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْوَلَدِ بِحَضَانَتِهَا فِي رَحِمِهَا لَا بِفِعْلِ الْوَاطِئِ، فَإِنَّ مَاءَ الْفَحْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 يَصِيرُ مُسْتَهْلَكَهَا بِالِاخْتِلَاطِ بِمَائِهَا، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَهِيَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَأَمَّا الزَّرْعُ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِ الزَّارِعِ كَمَا قَرَرْنَاهُ فِي الْغَصْبِ، ثُمَّ الزَّارِعُ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ الْأَرْضَ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ، وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ تَقْلِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّيْعِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ انْتَقَصَ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ بِفِعْلِهِ، وَهُوَ الزِّرَاعَةُ فَكَانَ مُتْلِفًا بِقَدْرِ النُّقْصَانِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَمَا لَوْ هَدَمَ الْأَبْنِيَةَ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ، ثُمَّ يَرْفَعُ مِنْ الزَّرْعِ مِقْدَارَ بَذْرِهِ، وَمَا أَنْفَقَ فِيهِ وَمَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِزِرَاعَتِهِ، وَهُوَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِلِاكْتِسَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً فَزَرَعَهَا سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا صَنَعَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّهُ زَرَعَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بِنَاءً عَلَى الْعَقْدِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ صَاحِبُهَا لِهَذَا، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالدَّلَالَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا. (ثُمَّ) خَتَمَ الْكِتَابَ بِمَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ مَنْ وَجَدَ كَنْزًا فِي دَارِ رَجُلٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِصَاحِبِ الْخُلْطَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلِفَةَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ وَآخِرِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ أُسْتَاذَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَخْتَلِفُ إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفَ عِنْدَهُ أَيْضًا تِسْعَ سِنِينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَ بَعْضَ الْفُصُولِ عَنْ أُسْتَاذَيْهِ جَمِيعًا؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْفُصُولَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. [كِتَابُ الشَّرِكَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 كِتَابُ الشَّرِكَةِ) (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً: الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ السَّائِبَ بْنَ شَرِيكٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ، وَكُنْتَ شَرِيكِي، وَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِي، وَلَا تُمَارِي.» أَيْ: لَا تُدَاجِي، وَلَا تُخَاصِمُ. وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَامَلَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ. (ثُمَّ) الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ الْمِلْكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ. (فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ) أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ فِي مِلْكِ مَالٍ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ: ثَابِتٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا كَالْمِيرَاثِ، وَثَابِتٌ بِفِعْلِهِمَا، وَذَلِكَ بِقَبُولِ الشِّرَاءِ، أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ. وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ. (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ) فَالْجَائِزُ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْمُفَاوَضَةُ، وَالْعَنَانُ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ. وَيُسَمَّى هَذَا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ. (فَأَمَّا الْعَنَانُ) فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِل: عَنَّ لِي كَذَا أَيْ عَرَضَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ ... عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَبَّلِ أَيْ: عَرَضَ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي نَقَاهَا ... وَفِي أَحْسَابِهَا شَرَكُ الْعَنَانِ (وَقِيلَ): هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَانِ الدَّابَّةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ يُمْسِكُ الْعَنَانَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَيَعْمَلُ بِالْأُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَجْعَلُ عَنَانَ التَّصَرُّفِ فِي بَعْضِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ دُونَ الْبَعْضِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لِلدَّابَّةِ عَنَانَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ، وَالْآخَرُ أَقْصَرُ، فَيَجُوزُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 هَذِهِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالرِّبْحِ، أَوْ يَتَفَاوَتَا؛ فَسُمِّيَتْ عَنَانًا (وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ) فَقَدْ قِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ التَّفْوِيضِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ فِي جَمِيعِ مَالِ التِّجَارَةِ. (وَقِيلَ): اشْتِقَاقُهَا مِنْ مَعْنَى الِانْتِشَارِ، يُقَالُ: فَاضَ الْمَاءُ إذَا انْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ الْخَيْرُ يَسْتَفِيضُ إذَا شَاعَ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْتِشَارِ، وَالظُّهُورِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً. (وَقِيلَ): اشْتِقَاقُهَا مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ الْقَائِلُ: لَا تَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا يَعْنِي: مُتَسَاوِينَ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ؛ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ) تُسَمَّى شَرِكَةُ الْمَفَالِيسِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِك الرَّجُلَانِ بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّسِيئَةِ، وَيَبِيعَا. سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا وَجْهُهُمَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ فِي النَّسِيئَةِ مِمَّنْ لَهُ فِي النَّاسِ وَجْهٌ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ فِي تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَبْدَانِهِمَا. وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا صَنْعَتُهُمَا. (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ) فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ بِرَأْسِ مَالٍ يُحْضِرُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، إمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِرَأْسِ مَالٍ غَائِبٍ، أَوْ دَيْنٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ " عِنْدَنَا " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُشْتَرَطُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَنْبَنِي عَلَيْهِ. قَالَ: لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِلَاطِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمِلْكِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَا هُوَ قَضِيَّةُ اسْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ كَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالصَّرْفِ، فَإِذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ؛ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ. فَأَمَّا قَبْلَ الْخَلْطِ فَالشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ لَمْ تَثْبُتْ حَتَّى إذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا، كَانَ هَالِكًا عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَلَا تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاخْتِلَاطِ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا. " وَعِنْدَنَا " مُوجَبُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ بِالْمَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ؛ وَلِهَذَا شَرَطْنَا تَعْيِينَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ بِدُونِ تَعْيِينِ الْمَالِ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ، بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ، وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ الَّذِي تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى بِالْمَالِ وَالرِّبْحِ لَا فِي رَأْسَ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِدُونِ خَلْطٍ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ، وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ، تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 صَحِيحَةً " عِنْدَنَا " خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا، وَالْآخَرِ سُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمِلْكِ لَا تَثْبُتُ هُنَا حِينَ كَانَا لَا يَخْتَلِطَانِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَطَ زُفَرُ الْخَلْطَ: جَوَابُ هَذِهِ الْفَصْلِ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، نَقُولُ: فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَذَلِكَ تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ. " وَعِنْدَنَا " مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ اخْتِلَافِ النَّقْدَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، وَيَشْتَرِي الْآخَرُ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا: كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. (فَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ) فَهِيَ جَائِزَةٌ " عِنْدَنَا ". وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَقْدٌ فَاسِدٌ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ. وَرُبَّمَا قَالَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْقِمَارِ، فَأَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا لُغَةً فَقَدْ بَيَّنَّا اشْتِقَاقَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا شَرْعًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُفَاوَضُوا؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ». وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ». وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ قَطُّ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ؛ فَلِهَذَا أَفْسَدَهَا، وَقَالَ: لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لِلْمَجْهُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ، وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ، فَبِالْمَجْهُولِ أَوْلَى. وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقِمَارِ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَلَسْنَا نَقُولُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ مَقْصُودًا، فَكَذَلِكَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ، فَأَمَّا الْجَهَالَةُ بِعَيْنِهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ، وَلَكِنْ تُمَكِّنُ الْمُنَازَعَةُ سَبَبًا، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ: الْمَضْمُونُ لَهُ، وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءٍ مَجْهُولِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ مَقْصُودًا، ثُمَّ صَحَّتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ. وَمِنْ شُرُوطِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِهِ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ النُّقُودِ، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَضِيَّةَ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ. ثُمَّ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 مِنْ غَيْرِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ، وَالْمَالَانِ لَا يَخْتَلِطَانِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالسُّودِ وَالْبِيضِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ (قَالَ): لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْعَقْدِ. (وَقَدْ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِمَالَيْنِ لَا يَخْتَلِطَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقْوِيمِ. وَطَرِيقُ ذَلِكَ الْحِرْزُ. وَالْمُسَاوَاةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْمُسَاوَاةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي مُبَادَلَةِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ سُودًا، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الصَّرْفِ: لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ. (وَذَكَرَ) إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ». وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، حَتَّى إذَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ الْمُفَاوَضَةِ كَانَ عَنَانًا عَامًّا. وَالْعَنَانُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَتَأْوِيلُ هَذَا: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الرِّضَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِهِ وَيُجْعَلُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمُفَاوَضَةِ قَائِمًا مَقَامَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْرِفَانِ أَحْكَامَ الْمُفَاوَضَةِ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا ذَكَرَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. (فَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ " عِنْدَنَا " وَبَاطِلَةٌ " عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، " وَعِنْدَنَا " شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثَلَاثًا، صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي اشْتِرَاطِ الرِّبْحِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ لَهُ الزِّيَادَةُ لَيْسَ لَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا ضَمَانٍ. فَاشْتِرَاطُ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ لَهُ يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى؛ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثُ، وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَانِ؛ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرِّبْحُ بِقَدْرِ مِلْكِهِ. وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ " عِنْدَنَا " تَجُوزُ عَنَانًا وَمُفَاوَضَةً. إلَّا أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمُشْتَرَى وَالرِّبْحِ جَمِيعًا. (فَأَمَّا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ " عِنْدَنَا "، وَلَا تَصِحُّ " عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ، وَلَا يُوجَدُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الْخَلْطَ فِي الْعَمَلِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ. وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ. وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ. . [اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي طَرِيقِ الشَّرِكَةِ] ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي طَرِيقِ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بِالْمَالِ تَارَةً وَبِالْعَمَلِ أُخْرَى، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِمَالِهِ وَالْمُضَارِبَ بِعَمَلِهِ. وَذَلِكَ الْعَقْدُ شَرِكَةُ الْإِجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ. فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّبْحَ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ أَوْ اخْتَلَفَتْ " عِنْدَنَا ". وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ كَالْقَصَّارَيْنِ وَالصَّبَّاغَيْنِ إذَا اشْتَرَكَا يَجُوزُ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ بِأَنْ يَشْتَرِكَ قَصَّارٌ وَصَبَّاغٌ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَتِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: جَوَازُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِأَعْوَانِهِ، وَأُجَرَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا. (وَهَذَا) النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ قَدْ يَكُونُ عَنَانًا، وَقَدْ يَكُونُ مُفَاوَضَةً عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُفَاوَضَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِمَا يَلْتَزِمُهُ صَاحِبُهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَمَتَى كَانَ عَنَانًا فَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ دُونَ صَاحِبِهِ - كَمَا هُوَ حُكْمُ الْوَكَالَةِ -. (إذَا) عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ، وَأَنَّهُمَا كَيْفَ يَكْتُبَانِ كِتَابَ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَالشَّرِكَةُ عَقْدٌ يَمْتَدُّ فَيُسْتَحَبُّ الْكِتَابُ فِي مِثْلِهِ؛ لِيَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهُمَا فِيمَا يَجْرِي مِنْ الْمُنَازَعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ: التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَى أَوْثَقِ الْوُجُوهِ، وَيُتَحَرَّزَ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ. ثُمَّ بَدَأَ فَقَالَ: (هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ)، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ عَابُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ؛ فَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى الصَّكِّ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَكْتُبَ: هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - اتَّبَعَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِيمَا اخْتَارَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [ص: 53]، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَعْدِ لِلْأَبْرَارِ، وَالْوَعِيدِ لِلْفُجَّارِ. «وَلَمَّا اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا، أَمَرَ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 يُكْتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْغَدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْيَهُودِيِّ». (وَلَمَّا) «أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابِ الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا مَا اصْطَلَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ»؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَقْدُ أَمَانَةٍ، وَالْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْوَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ يَحْصُلُ. (ثُمَّ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ لِيَرْجِعَا إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ. ثُمَّ قَالَ: (وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا). وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ بِغَائِبٍ، وَلَا دَيْنٍ، بَلْ هُوَ عَيْنٌ فِي أَيْدِيهِمَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ شَرَطَ الْخَلْطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا. فَلِلتَّوَثُّقِ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ أَنَّهُمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ، وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا فِي شَيْءٍ، وَيَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِرَأْيِهِ، وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ. " وَعِنْدَنَا ": هَذَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ، مَا لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يُكْتَبُ هَذَا. (ثُمَّ يَذْكُرُ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبِعَةٍ فَكَذَلِكَ). وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ صَحِيحٌ " عِنْدَنَا " خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ. وَإِنَّمَا يَذْكُرُ هَذَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُكْتَبُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا هَكَذَا. ثُمَّ قَالَ: (اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا). وَإِنَّمَا بِتَبْيِينِ التَّارِيخِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ؛ حَتَّى لَا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ. (وَكُتِبَ) التَّارِيخُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي التَّارِيخِ: مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يَعْتَبِرُونَهُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى التَّارِيخِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَتَعَامَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الرِّبْحِ، لَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ، أَوْ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا، أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ. فَأَمَّا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ: إذَا تَسَاوَيَا فِي رَأْس الْمَالِ وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثًا، أَوْ تَفَاوَتَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ، وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ: يَجُوزُ " عِنْدَنَا "، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلٌ، وَفِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ الرِّبْحَ بِالْوَضِيعَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَاشْتِرَاطُهُمَا خِلَافَ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبْحُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ. فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ مِنْ الْآخَرِ فِي وُجُوهِ التِّجَارَةِ؛ فَلَا يَرْضَى بِأَنْ يُسَاوِيَهُ صَاحِبُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ مَعَ حَذَاقَتِهِ، وَخِرَقِ صَاحِبِهِ. ثُمَّ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ بِدُونِ الْمَالِ - وَهُوَ فِي الْمُضَارَبَةِ - فَبِالْعَمَلِ مَعَ الْمَالِ أَوْلَى. (ثُمَّ) الْوَضِيعَةُ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا يَقُولُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ يَشْتَرِطُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِلْآخَرِ بِعَمَلِهِ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا هُنَا، وَالْعَمَلُ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمَا، وَفِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، أَوْ كَوْنُ الْمَالِ فِي يَدِهِ: لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الْمُضَارَبَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ؛ فَيَكُونُ أَمِينًا عَامِلًا فِيهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِهَذَا الشَّرْطِ. فَأَمَّا مُوجَبُ الشَّرِكَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ أَحَدِهِمَا وَالْمَالِ، فَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ مُوجَبِ الشَّرِكَةِ. (ثُمَّ) حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ هُنَا ثَبَتَ تَبْعًا لِلشَّرِكَةِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا كَالْكَفَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْمُفَاوَضَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا يَجُوزُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ " عِنْدَنَا " لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ. قَالَ: (وَالشَّرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا، أَوْ مَرِضَ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَعَمِلَ الْآخَرُ: فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا)؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَنَا أَعْمَلُ فِي السُّوقِ، وَلِي شَرِيكٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَلَّكَ بَرَكَتُكَ مِنْهُ». وَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ - دُونَ مُبَاشَرَتِهِ - وَالتَّقَبُّلُ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 مِنْهُمَا، وَإِنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. أَوَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ يَسْتَوِيَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَعْمَلَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ فِيهِ سَوَاءً، وَرُبَّمَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ رِبْحٍ لِحَذَاقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ مَا بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَمَلِ أَحَدُهُمَا، وَيَسْتَوِي إنْ امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ. قَالَ: (وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ نِصْفَانِ: فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ)، وَمُرَادُهُ أَنَّ شَرْطَ الْوَضِيعَةِ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ شَرَطَ ضَمَانَ شَيْءٍ مِمَّا يَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَلْفَيْنِ فَاسِدٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا أَصْلُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ الشُّرُوطُ وَتَبْقَى الْوَكَالَةُ، فَكَذَا هَذَا. فَإِنْ عَمِلَا عَلَى هَذَا فَوَضَعَا؛ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ بِخِلَافِهِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ رَبِحَا فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ صَحِيحًا، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَإِنْ اشْتَرَطَا الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَمَلِ لَهُ فِي مَالِهِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ كَالْمُسْتَبْضَعِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ. (وَإِنْ) اشْتَرَطَا الرِّبْحَ نِصْفَيْنِ، وَالْوَضِيعَةَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالْعَمَلَ عَلَيْهِمَا: جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ، بِعَمَلِهِ فِيهِ؛ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ لَهُ. إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ تَبَعٌ لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ مُوجَبُ الْأَصْلِ - دُونَ التَّبَعِ - فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُمَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ عَمَلَاهُ، أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا، فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ - بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ - بِالشَّرْطِ لَا بِنَفْسِ الْعَمَلِ. وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمَا، فَلَا يَضُرُّهُمَا تَفَرُّدُ أَحَدِهِمَا بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفِ. وَوَجْهُ الْجَوَازِ هُنَا أَبْيَنُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِسُدُسِ الرِّبْحِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ، ثُلُثُ الرِّبْحِ حِصَّةُ رَأْسِ مَالِهِ، وَسُدُسُهُ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ يُسْتَحَقُّ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمُضَارِبِ يُصَحِّحُ الْمُضَارَبَةَ، وَلَا يُبْطِلُهَا. (فَإِنْ قِيلَ): إذَا كَانَ يَعْمَلُ هُوَ فِي شَيْءٍ شَرِيكٍ، فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ عِوَضَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 عَمَلِهِ عَلَى شَرِيكِهِ؟ (قُلْنَا): اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَسْمِيَةُ مِقْدَارِ الْعَمَلِ، وَلَا بَيَانُ الْمُدَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ. فَإِذًا الْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِصَاحِبِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ، أَوْ عَمَلٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ وَالْمَالِ، أَوْ الْعَمَلِ، أَوْ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ؛ فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لَهُ بَاطِلًا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَطْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ. قَالَ: (وَإِذَا أَقْعَدَ الصَّانِعُ مَعَهُ رَجُلًا فِي دُكَّانِهِ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ)؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ مَنْفَعَةٌ وَالْمَنَافِعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ، إنْ كَانَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ، فَالْعَامِلُ أَجِيرُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُفْسِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَبِّلُ هُوَ الْعَامِلَ، فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ؛ فَأَجَازَ هَذَا لِكَوْنِهِ مُتَعَامَلًا بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ عَمَّا تَعَامَلُوا بِهِ نَوْعُ حَرَجٍ؛ فَلِدَفْعِ هَذَا الْحَرَجِ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ. وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى هَذَا الْعَقْدِ، فَالْعَامِلُ قَدْ يَدْخُلُ بَلْدَةً لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهَا، وَلَا يَأْمَنُونَهُ عَلَى مَتَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْمَنُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ صَاحِبَ الدُّكَّانِ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ. وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ لَا يَتَبَرَّعُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْعَامِلِ فِي الْعَادَةِ. فَفِي تَصْحِيحِ هَذَا الْعَقْدِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِلُ إلَى عِوَضِ عَمَلِهِ، وَالنَّاسُ يَصِلُونَ إلَى مَنْفَعَةِ عَمَلِهِ، وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ يَصِلُ إلَى عِوَضِ مَنْفَعَةِ دُكَّانِهِ؛ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَيَطِيبُ الْفَضْلُ لِرَبِّ الدُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَقْعَدَهُ فِي دُكَّانِهِ وَأَعَانَهُ بِمَتَاعِهِ. وَرُبَّمَا يُقِيمُ بَعْضَ الْعَمَلِ أَيْضًا كَالْخَيَّاطِ يَتَقَبَّلُ الْمَتَاعَ، وَيَلِي قَطْعَهُ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ؛ فَلِهَذَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ. وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ كَجَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِيهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ)، وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ بِالنُّقُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالتِّبْرِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى بِتِبْرٍ بِعَيْنِهِ شَيْئًا، فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ. فَقَدْ جَعَلَ التِّبْرَ كَالنُّقُودِ، حَتَّى قَالَ: لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ فِي كُلِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 مَوْضِعٍ. فَإِنْ كَانَتْ الْمُبَايَعَاتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَلْدَةٍ بِالتِّبْرِ؛ فَهُوَ كَالنُّقُودِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَيَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ؛ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فِيهِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ، كَتَعَيُّنِ الصَّنْجَانِ وَالْقِيمَاتِ. (فَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ) إنْ كَانَتْ نَافِعَةً لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَتَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَذَكَرَ) الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا:، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ قُلْنَا: تَعْيِينُهُ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا يَجُوزُ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ "، وَتَعَيُّنُ الْفُلُوسِ بِالتَّعْيِينِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَا يَجُوزُ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ بِالتَّعْيِينِ كَالنُّقُودِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ. مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً. وَهُمَا يَقُولَانِ: الرَّوَاجُ فِي الْفُلُوسِ عَارِضٌ فِي اصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَلَوْ جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ بِهَا أَدَّى إلَى جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ، وَأَخَذَ النَّاسُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ، وَمَالِيَّةُ الْفُلُوسِ تَخْتَلِفُ بِالرَّوَاجِ وَالْكَسَادِ. (وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ تَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْصُلُ رَأْسُ الْمَالِ أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، وَالْفُلُوسُ رُبَّمَا تَكْسُدُ فَلَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بَعْدَ الْكَسَادِ إلَّا بِالْحَزْرِ، وَالظَّنِّ. وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْمَالِ. فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالضَّرَرِ دُونَ الْآخَرِ. (فَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ: لَا تَصِحُّ " عِنْدَنَا "، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ صَحِيحَةٌ؛ لِلتَّعَامُلِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَلِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِشَرِكَةِ الْمِلْكِ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ لِلْفَسَادِ، فَقَالَ: لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَجْهُولٌ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَعِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ. فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ، فَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، وَلَا يَثْبُتُ التَّيَقُّنُ بِهِ. ثُمَّ الشَّرِكَةُ مُخْتَصَّةٌ بِرَأْسِ مَالٍ يَكُونُ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ شِرَاءً لَا بَيْعًا، وَفِي الْعُرُوضِ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ بَيْعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 رِبْحِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ. فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَكُونُ أَمِينًا، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ هَذَا رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ كَانَ ذَلِكَ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ، وَلِأَنَّ فِي الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ فَلَوْ جَازَ اسْتَحَقَّ الْآخَرُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ لَهُ فِيهِ. وَرُبَّمَا يَخْسَرُ أَحَدُهُمَا بِتَرَاجُعِ سِعْرِ عُرُوضِهِ وَيَرْبَحُ الْآخَرُ؛ فَلِهَذِهِ الْمُعَانِي بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِنْ بَاعَا الْعُرُوضَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ قَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعٌ لِمِلْكِهِ، وَالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الْعُرُوضِ، فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةُ عَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. (وَكَذَلِكَ) لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ عُرُوضًا فِي مُفَاوَضَةٍ وَلَا عَنَانٍ؛ لِجَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْعُرُوضِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، أَوْ مَعْدُودٍ مُتَّفِقٍ فِي الْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطَاهُ؛ فَلَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ لَهُ رِبْحُهُ، وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَتَسْتَحِقُّ أَعْيَانَهَا بِالْعَقْدِ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْعًا لَا شِرَاءً، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا، وَإِنْ خَلَطَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَمَا رَبِحَا فِيهِ فَلَهُمَا، وَمَا وَضَعَا فِيهِ فَعَلَيْهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، فَالْمَخْلُوطُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُمَا سَوَاءً؛ فَالرِّبْحُ وَالْوَضِيعَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ تَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ، أَوْ شَرِكَةَ عَقْدٍ. وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَكُونُ شَرِكَةَ عَقْدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيهِمَا أَنَّهُمَا إذَا اشْتَرَطَا مِنْ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةً عَلَى نَصِيبِهِ: " عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ، " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ": الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا مُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونَ عَرْضٌ مِنْ وَجْهٍ، ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِهِمَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ؛ فَكَانَ ثَمَنًا، وَأَنَّ بَيْعَ عَيْنِهِمَا صَحِيحٌ؛ فَكَانَتْ مَبِيعَةً. وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا. فَلِشَبَهِهِمَا بِالْعُرُوضِ قُلْنَا: لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِشَبَهِهِمَا بِالْأَثْمَانِ قُلْنَا: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا بَعْدَ الْخَلْطِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ تَضْعُفُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 إضَافَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ إلَيْهِمَا، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى مَا يُقَوِّيهَا، وَهُوَ الْخَلْطُ؛ لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ - لَا مَحَالَةَ - فَيَتَأَكَّدُ بِهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ - لَا مَحَالَةَ -. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ - كَالنُّقُودِ -؛ فَكَذَلِكَ مَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْلَ الْخَلْطِ إنَّمَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ، فَتَعَيُّنُ رَأْسِ الْمَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْيَانُهَا مَبِيعَةٌ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهَا يَكُونُ بَيْعًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَعْدَ الْخَلْطِ، بَلْ يَزْدَادُ تَقَرُّرًا بِالْخَلْطِ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ، وَالْمَخْلُوطُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا؛ فَتَقَرُّرُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ لَا يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْعَقْدِ. وَاَلَّذِي يُقَالُ لِمُحَمَّدٍ: إنَّ تَحْصِيلَ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُنَا مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَشْكُلُ بِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا حِنْطَةً، وَرَأْسُ مَالٍ الْآخَرِ شَعِيرًا. فَالشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ هُنَا بَيْنَهُمَا - خَلَطَاهُ أَوْ لَمْ يَخْلِطَاهُ - وَرَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ. وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: عَقْدُ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ، بَعْدَ الْخَلْطِ، بِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوطِ. فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الْمَخْلُوطِ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ هَذَا الْمَخْلُوطَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَالْمَخْلُوطُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهُ. فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ. (ثُمَّ) عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إذَا بَاعَا الْمَخْلُوطَ؛ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ مَخْلُوطًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ، فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْخَلْطِ؛ فَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ، وَلَكِنْ مَخْلُوطًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ؛ فَتُعْتَبَرُ صِفَةُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُهُ الْخَلْطُ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ إذَا خَلَطَاهُ بِالْحِنْطَةِ، وَقِيمَةَ الْحِنْطَةِ تُنْتَقَصُ، فَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهِ مَعَهُ. وَصَاحِبُ الْحِنْطَةِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِعَمَلٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ - وَهُوَ الْخَلْطُ - وَقِيمَةُ مِلْكِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ نَاقِصٌ، فَلَا يَضْرِبُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي الْفَصْلَيْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 جَمِيعًا فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ، غَلَطٌ؛ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطَا، وَلَكِنْ بَاعَا الْكُلَّ جُمْلَةً فَقِسْمَةُ الثَّمَنِ تَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْطِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخَلْطِ وَالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ سَوَاءً. (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " وَعِنْدِي " أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ مِثْلِهِ مِمَّا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوطِ مِثْلٌ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ؛ حَتَّى يُمْكِنَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْوِيمِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مُعْتَبَرًا بِوَقْتِ الْوِلَادَةِ؛ لِتَعَذُّرِ إمْكَانِ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ مُخْتَبِئًا فِي الْبَطْنِ، فَيُصَارُ إلَى تَقْوِيمِهِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ فِيهِ - وَهُوَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ - فَكَذَلِكَ هُنَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ - وَهُوَ عِنْدَ الْخَلْطِ - إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَلْطَ يُزِيدُ فِي مَالِ أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِمَا وَقْتَ الْخَلْطِ؛ لِتَيَقُّنِنَا بِزِيَادَةِ مِلْكُ أَحَدِهِمَا، وَنُقْصَانِ مِلْكِ الْآخَرِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْخَلْطِ مِلْك كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ كَالْبَاقِي فِي الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْلِطْهُ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ. (قَالَ) فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخِرِ مِائَةُ دِينَارٍ فَخُلِطَا أَوْ لَمْ يُخْلَطَا؛ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِطَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْطَ الْمَالَيْنِ فِي النُّقُودِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي رَأْسِ مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ الشَّرِكَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ التَّصَرُّفُ بِهَا، لَا عَيْنُهَا. فَإِذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ يَكُونُ مُبْطِلًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْكَسَادِ فِي الْفُلُوسِ. وَانْعِدَامُ رَأْسِ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا، فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ. وَالْمُشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً، هَكَذَا يَقُولُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقُولُ: إذَا اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرَى عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا نَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ. فَحَيْثُ قَالَ: يَكُونُ الْبَاقِي مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ؛ فَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بِمَالِ أَحَدِهِمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِنْ قَضِيَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ مَالِ أَحَدِهِمَا؛ فَيَكُونُ الْآخَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. وَحَيْثُ قَالَ: الْمُشْتَرَى بِمَالٍ آخَرَ، لَا بَيْنَهُمَا. وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا صَرَّحَا عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِهِ هَذَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ هَذَا التَّصْرِيحِ الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ قَضِيَّةِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ وَكَّلَ صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ نَصًّا عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمُشْتَرَى لَهُ. وَالشَّرِكَةُ وَإِنْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ النِّصْفَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْفَرْقِ، وَمِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فِي الْجَوَابِ. قَالَ: (فَإِنْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا عَلَى الْمَالِ فَنَقَدَا الثَّمَن مِنْ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّنَانِيرُ فَإِنَّهَا تَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا خَاصَّةً)؛ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمُشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ قَائِمَةً بَيْنَهُمَا حِينَ اشْتَرَيَا بِالدَّرَاهِمِ وَصَارَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ عَلَى صَاحِبِ الدَّنَانِيرِ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْقَدْرَ لَهُ بِوَكَالَتِهِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا رَضِيَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ لَهُمَا، وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ رَجَعَ بِمَا نَقَدَ مِنْ ثَمَنِ حِصَّتِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ، (ثُمَّ) لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ شَرِكَتَهُمَا فِي الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى شَرِكَةُ عَقْدٍ أَوْ شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - " فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ شَرِكَةُ عَقْدٍ حَتَّى إذَا بَاعَهُ أَحَدُهُمَا نَفَذَ بَيْعُهُ فِي الْكُلِّ، " وَعِنْدَ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " هِيَ شَرِكَةُ مِلْكٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ قَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا هُوَ حُكْمُ الشِّرَاءِ - وَهُوَ الْمِلْكُ -؛ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِي الْمَتَاعِ شَرِكَةَ مِلْكٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَلَاكَ الدَّنَانِيرِ كَانَ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّرَاهِمِ - وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهَا -؛ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَرِكَةَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ: (فَإِنْ اشْتَرَيَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَمِيعًا مَتَاعًا فَالْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا). وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَفِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَفِي ظُهُورِ الرِّبْحِ فِي نَصِيبِهِمَا أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ رَأْسُ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَيَا بِالْأَلْفِ مَتَاعًا، ثُمَّ اشْتَرَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ مَتَاعًا، فَوَضَعَا فِي أَحَدِ الْمَتَاعَيْنِ وَرَبِحَا فِي الْآخَرِ، فَذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ كَالْمَالِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مَا لَمْ يُغَيَّرْ ذَلِكَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ. (وَكَذَلِكَ) رَجُلَانِ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُرِّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّةِ الْأَلْفِ، وَلِلْآخَرِ بِحِصَّةِ الْكُرِّ، وَدَفَعَا الثَّمَنَ، فَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ؛ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمُبْدَلِ بِقَدْرِ مَا نَقَدَهُ مِنْ الْبَدَلِ. (وَكَذَلِكَ) لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ، فَكَالَ أَحَدُهُمَا كُرَّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ، وَكَالَ الْآخَرُ الشَّعِيرَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ؛ فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَقْتَسِمَا ذَلِكَ عَلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الشِّرَاءِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ الشِّرَاءِ. فَإِنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ. ثُمَّ إذَا بَاعَ ذَلِكَ فَثَمَنُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ لَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِعَرَضَيْنِ أَحْضَرَاهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرَضٌ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَرَاهِمَ اقْتَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا بَاعَا الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً، فَحِينَئِذٍ الثَّمَنُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ رَأْسِ مَالِهِمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى بِالْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ فِي الْمُشْتَرَى بِمَالِهِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعُرُوضِ وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بَعْدَ هَذَا. فَقَالَ: إذَا اشْتَرَيَا بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَبَاعَاهُ مُرَابَحَةً اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ الَّذِي كَالَهُ، أَوْ وَزَنَهُ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى، وَإِنْ بَاعَاهُ بِرِبْحِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسُ مَالِهِ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى مَا بَاعَا لِأَنَّهُمَا إذَا بَاعَا بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ بِصِفَتِهِ، وَإِذَا بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى، فَالرِّبْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. بَيَانُ هَذَا فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ: لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَالرِّبْحُ الْغَلَّةُ، وَلَوْ بَاعَهُ بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ كَأَصْلِ الثَّمَنِ. وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الثَّمَنُ دُونَ الرِّبْحِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاَلَّذِي تَخَايَلَ لِي بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي تَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثَبَتَتْ عِنْدَ خَلْطِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ الْخَلْطَ إذَا كَانَ فِي أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاخْتِلَاطِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. فَأَمَّا الْخَلْطُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَى. وَالْمُشْتَرَى مُخْتَلَطٌ بَيْنَهُمَا - سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ اخْتَلَفَ - فَكَانَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ عَقْدٍ، وَرَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدَّاهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ. فَلِهَذَا قَالَ: يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ لَا تَثْبُتُ بِالْعُرُوضِ بِحَالٍ، وَلَا يَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ عَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيمَةَ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ. قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى رَجُلًا دَنَانِيرَ مُضَارَبَةً فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَا الْقِسْمَةَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَنَانِيرَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَالِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ)؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي إظْهَارِ الرِّبْحِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الْقِسْمَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ فَصْلَ الْمُضَارَبَةِ لِإِيضَاحِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الشَّرِكَةِ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: يَأْخُذُ قِيمَتَهَا يَوْمَ أَعْطَاهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ الْمُخَالِفُ قَبْلَ الْمُخَالَفِ) زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْإِعْطَاءِ. وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهَا عَلَى أَنَّ لَهُ رِبْحَهَا، وَعَلَيْهِ الْوَضِيعَةَ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَالْقَابِضُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ مُقْرِضُ الْمَالِ مِنْهُ حِينَ شَرَطَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لَهُ وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِقْرَاضِ. وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ بِهَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا وَالْوَضِيعَةَ بَيْنَنَا، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ " فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ "؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ بِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ. وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الشَّرِيكِ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْقَرْضِ فِي النِّصْفِ هُنَا بِمُقْتَضَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، فَمَا يُنْقَدُ فِيهِ الثَّمَنُ يَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ؛ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ، " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِهَا لِلْمُعْطَى - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ -؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ شَرَطَ الْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الْإِقْرَاضِ؛ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَضِيعَةِ شَيْءٌ، فَجَعَلْنَاهُ مُقْرِضًا نِصْفَ الْمَالِ مِنْهُ، وَضَمَانُ الْقَرْضِ يَثْبُتُ بِالْقَرْضِ. قَالَ: (وَإِذَا جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا بِهَا وَخَلَطَاهَا، كَانَ مَا هَلَكَ مِنْهَا هَالِكًا مِنْهُمَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ إذْ لَيْسَ صَرْفُ الْهَالِكِ إلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ شَيْءٌ مِنْ الْهَالِكِ أَوْ الْبَاقِي مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا، وَالْآخَرُ مَكْسُورًا، فَمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْ الصِّحَاحِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهَا، وَالْحَالُ فِي هَذَا قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَالِكَ وَالْقَائِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا اخْتَلَطَ مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا لِيَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَاطُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرِكَا بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا مِنْ الرَّقِيقِ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا جَائِزٌ). وَهَذَا يُفْسِدُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ تَكُونُ مُفَاوَضَةً تَارَةً، وَعَنَانًا أُخْرَى، وَالْعَنَانُ مِنْهَا يَكُونُ عَامًّا وَخَاصًّا، كَالْعَنَانِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْمَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ نَوْعٍ خَاصٍّ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا فِي هَذَا الشَّهْرِ لِأَنَّهُ تَوْقِيتٌ فِي التَّوْكِيلِ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فِي الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا. قَالَ: (فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ اشْتَرَيْت مَتَاعًا فَهَلَكَ مِنِّي، وَطَالَبَ شَرِيكَهُ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ لَمْ يَصْدُقْ عَلَى شَرِيكِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ، إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْته وَهَلَكَ فِي يَدِي لَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 فِي ذَلِكَ غَيْرُ أَمِينٍ، وَلَكِنْ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا مِثْلُ مَا لَزِمَهُ صَحَّ إلْزَامُهُ إيَّاهُ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ لَا بِإِقْرَارِهِ. فَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ يَلْزَمُ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا يُدْخِلُهُ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا، فَأَمَّا فِي الْإِقْرَارِ لَا يُدْخِلُ شَيْئًا فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ظَاهِرًا؛ فَلَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ لِإِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ - وَهُوَ شِرَاءُ الْمُدَّعِي - وَالْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ: «يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا». قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ ادَّعَى هَلَاكَ الْمَتَاعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْهَلَاكِ)؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، ثُمَّ هُوَ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْهَلَاكِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَتْبَعُ شَرِيكَهُ فِي نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَا مَتَاعًا وَقَبَضَاهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا لِيَبِيعَهُ، وَقَالَ قَدْ هَلَكَ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فِي نِصْفِ صَاحِبِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ فَالْقَوْلُ فِي هَلَاكِهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَاهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ: فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ. وَلَكِنَّ أَصْلَ الشَّرِكَةِ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا اشْتَرَى، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِي الْمُشْتَرَى. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِأَمْوَالِهِمَا، أَوْ بِوُجُوهِهِمَا، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا مَتَاعًا، فَقَالَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِهِ: هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا. وَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ لِي خَاصَّةً، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته بِمَالِي لِنَفْسِي قَبْلَ الشَّرِكَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَحَدٍ عَامِلًا لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُشْتَرَى ظَاهِرٌ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا. (فَإِنْ قِيلَ): قِيَامُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا النَّوْعِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، فَهُوَ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَيْته قَبْلَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ تَارِيخًا سَابِقًا فِي الشِّرَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّارِيخِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ. (قُلْنَا): نَعَمْ هَذَا نَوْعٌ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِلْآخَرِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا. وَحَاجَةُ الْآخَرِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَكْفِيهِ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْآخَرِ عَمَّا فِي يَدِهِ، فَالظَّاهِرُ يَكْفِيهِ لِذَلِكَ. قَالَ: (رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ، ثُمَّ ذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ، وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً: فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فِي شِرَاءِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَعْزِلُ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ؛ لِمَا فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ عِلْمِهِ - كَخِطَابِ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ الْمُخَاطَبَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ - وَلِأَنَّهُ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ هُنَا فِي امْتِثَالِ أَمْرِ الْآمِرِ، فَإِنَّمَا عَزَلَهُ فِي مُخَالِفَتِهِ أَمْرَهُ لِكَيْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ. وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا: لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمَا الْخُرُوجَ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ: لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآمِرِ. فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ. قَالَ: (رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ، فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ: اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ. ثُمَّ ذَهَبَ الْمَأْمُورُ فَاشْتَرَى الْعَبْدَ، فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْآمِرَ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ، وَقَدْ تَمَّتْ الْوَكَالَةُ بِقَبُولِهِ، وَصَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ، فَيَنْصَرِفُ هَذَا النِّصْفُ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ غَيْرِ النِّصْفِ الَّذِي قَبِلَ الْوَكَالَةَ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ كُلَّ النِّصْفِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ الثَّانِي النِّصْفُ الْآخَرُ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا، يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى حِصَّتِهِ خَاصَّةً. فَهُنَا أَيْضًا يَنْصَرِفُ تَوْكِيلُ الثَّانِي إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ خَاصَّةً؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَكَالَتِهِ، وَخَرَجَ مِنْ الْبَيْنِ. قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ، فَطَلَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ الشَّرِكَةَ؛ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ: فَلَهُ نِصْفُهُ)؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ نِصْفَ مَا مَلَكَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي مَلَكَهُ بِهِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا مَلَكَ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ؛ بِأَنْ وَلَّاهُ الْبَيْعَ: كَانَ صَحِيحًا. فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ نِصْفَهُ. وَبَيَانُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 هَذَا أَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْأُمِّ {: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ.} [النساء: 12] اقْتَضَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا: أَشْرَكْتُك فِيهِ. فَمَعْنَاهُ سَوِيَّتك بِنَفْسِي، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلنِّصْفِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْرَكَ رَجُلَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ سَوَّاهُمَا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ رَجُلًا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ نِصْفَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبْعَهُ)؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ بِطَرِيقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَنْ أَشْرَكَ؛ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اشْتَرَى بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: أَشْرِكْنِي فِيهِ، فَقَالَ: قَدْ أَعْتَقْته». فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ حَتَّى امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْإِعْتَاقِ. وَمُقْتَضَى لَفْظِ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُمَلِّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ حِينَ سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فَيُجْمَعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَكُونُ لَهُ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَقْتَضِي هَذَا اللَّفْظُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْعَبْدِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا صَارَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ مِنْ جِهَة كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ جَعَلَاهُ كَالْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مَعَهُمَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ. قَالَ: (وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ: كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ، وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ)؛ لِأَنَّ إشْرَاكَهُ فِي نَصِيبِهِ نَفَذَ فِي الْحَالِ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى إجَازَةِ الشَّرِيكِ. وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ يَصِيرُ الشَّرِيكُ مُشْرَكًا لَهُ فِي نَصِيبِهِ. فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ. (وَرَوَى) ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُجِيزَ صَارَ رَاضِيًا بِالسَّبَبِ لَا مُبَاشِرًا لَهُ. وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يُسْنَدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ، ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ أَيْضًا فِي نَصِيبِهِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَيَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ، كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِ هَذَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا، فَقَالَ لِرَجُلٍ: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ، كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ - بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي -؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي، كَانَ بَاطِلًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا، لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ الْكُلَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ الْبَعْضَ بِالْإِشْرَاكِ. فَإِنْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا أَشْرَكَهُ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَلَّاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ بَائِعٌ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ لَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرَهُ. (وَالْجَوَابُ): أَنَّهُ يَصِحُّ إشْرَاكُهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. (فَإِنْ قِيلَ): كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إشْرَاكُهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ خَاصَّةً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً. (قُلْنَا): الْإِشْرَاكُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ. ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ. فَأَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى تَمْلِيكِ الْمَقْبُوضِ خَاصَّةً، لَا يَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا، وَتَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْمَلْفُوظَ. فَفِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ هُنَا مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ، فَلَيْسَ فِي تَعْيِينِ نَصِيبِهِ هُنَاكَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي عَبْدٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَاهُ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ، أَوْ قَالَ: فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ. فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ. فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ؛ بِوَكَالَتِهِ. فَإِذَا قَبَضَهُ فَذَلِكَ كَقَبْضِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ. ثُمَّ يَدُ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّل، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ، حَتَّى إذَا مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا جَمِيعًا. (فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا، أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْبَاقِي: كَانَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُمَا إنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَدْ كَانَا اشْتَرِكَا فِيهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ - عَلَى مَا وَصَفْت لَك - فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا، وَنَقَدَ الثَّمَنَ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ، بِحُكْمِ تِلْكَ الْوَكَالَةِ،. فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَاهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّمَا أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالنِّصْفَ عَنْ شَرِيكِهِ بِوَكَالَتِهِ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: (فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ: كَانَ بَائِعًا لِنِصْفِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ فَإِنْ بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ، كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ) فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً. فَيَحْتَاجُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ، وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ. " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ " لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ: بِعْته مِنْك إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ: بِعْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى. فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْت مِنْك نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ لِلْأَوَّلِ؛ فَكَانَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِهِ، وَبِالْمُعَارَضَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِيجَابَ فِي نِصْفِهِ لِلْمُخَاطَبِ، وَفِي نِصْفِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا. أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَشْتَرِي مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا،. فَهُنَا أَيْضًا ضَمُّ نَفْسِهِ إلَى الْمُخَاطَبِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ فِي حَقِّ التَّقْسِيمِ؛ فَلِهَذَا كَانَ بَائِعًا نِصْفَهُ مِنْ الْمُخَاطَبِ بِخَمْسِمِائَةٍ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْبَائِعُ مِنْهُمَا هُنَا بَائِعُ نِصْفِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ. فَإِذَا قَالَ: بِعْته مِنْك عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ، كَانَ إيجَابُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ. ثُمَّ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ مُعَارَضٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَقْسِيمِ الثَّمَنِ، وَفِي إبْقَاءِ نَصِيبِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَبْقَى مُوجِبًا لِلْمُشْتَرِي نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَإِذَا قَالَ: بِعْته إلَّا نِصْفَهُ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: بِعْت نِصْفَهُ بِكَذَا. " فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ " يَنْصَرِفُ إلَى النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ نَصِيبِهِ قَبْلَ الْوَكَالَةِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ، وَبَعْدَ الْوَكَالَةِ تَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ - وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ نَصِيبُهُ - لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ؛ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ. " وَعِنْدَهُمَا " لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَا يَبِيعُ نِصْفَ ذَلِكَ النِّصْفِ، فَيَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِ نَفْسِهِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ الثَّمَنَ عَنِّي، فَفَعَلَ: كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً)؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ بَيْعًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَشَرَطَ فِيهِ أَنْ يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ عَنْهُ «. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».؛ فَيَبْطُلُ هَذَا الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الشَّرْطِ. وَإِنْ نَقَدَ عَنْهُ الرَّجُلُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دِينَهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. قَالَ: (رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ نِصْفَ ذَلِكَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَاهُ - مُسَاوَمَةً - بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ بَاعَاهُ - مُرَابَحَةً - بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ: كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا). وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَّيَاهُ رَجُلًا بِرَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بَاعَاهُ بِوَضِيعَةِ كَذَا: فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ هُوَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا، أَوْ كَانَ مُشْتَرًى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مُسَاوَمَةً. فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي ثَمَنِهِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضِيعَةِ: بِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ، وَفِي الْمُشْتَرَى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ،. وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ الثَّانِي. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الْمِلْكَ فِي قِيمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَضَيْعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبَيْهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ - بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُسَاوِمَةِ -. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فِي تِجَارَةٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَبِيعَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التِّجَارَةِ: فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ. فَإِذَا خَصَّا نَوْعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِرَاءِ مَا سِوَى ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً. فَأَمَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَبَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشِرَاؤُهُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ يَنْفُذُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِذَلِكَ. وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يُصَرِّحَا؛ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ الشَّرِكَةِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالنَّسِيئَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 بِالنُّقُودِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ جَازَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةُ عَنَانٍ، وَلَا لِلْمُضَارِبِ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِدَانَتُهُمَا زَادَ مَالُ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَمَا رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِتَصَرُّفِ صَاحِبِهِ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَا جَعَلَاهُ رَأْسَ الْمَالِ. فَلِهَذَا كَانَ شِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ بِالدَّنَانِيرِ " عِنْدَنَا " يَصِيرُ مُشْتَرِيًا عَلَى الشَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا). وَفِي الْقِيَاسِ " وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْقِيَاسِ جِنْسَانِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ " عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ هُمَا جِنْسَانِ، حَتَّى لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ دَنَانِيرَ. فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ، " وَعِنْدَنَا " هُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بِهِمَا، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ عَلَى شَرِيكِهِ. قَالَ: (فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي تِجَارَتِهِمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ: لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَهُ)؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ - وَكِيلًا كَانَ أَوْ مُبَاشِرًا لِنَفْسِهِ -. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ لَزِمَهُ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي النِّصْفِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبِعَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِإِقْرَارِهِ، فَبَطَلَ إقْرَارُهُ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ صَاحِبَهُ وَلِيَهُ: لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ. فَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ - بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ -. فَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَبِحُكْمِ الْوَكَالَةِ لَا يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لِشَرِيكَيْ الْعَنَانِ، عَلَى رَجُلٍ، دَيْنٌ، فَأَخَّرَهُ أَحَدُهُمَا: لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ) - بِخِلَافِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ -؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ - فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ - كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَالتَّأْجِيلُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ؛ فَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا. وَبِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَا صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ لِصَاحِبِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَجَّلَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهِ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ. وَفِي نَصِيبِ نَفْسِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ. مَوْضِعُ بَيَانِهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا: لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَلِأَنَّ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ أَجْنَبِيٌّ، وَفِي النِّصْفِ مُوَكِّلٌ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُخَاصَمَ فِي الْعَيْبِ مَعَ الْبَائِعِ فِيمَا اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً، فَرَبِحَ فِيهِ: كَانَ الرِّبْحُ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي شَيْءٍ؛ فَعَمَلُهُ فِيهِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ شَرِيكِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ، وَكُلُّ وَضَيْعَةٍ لَحِقَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهِيَ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِشَهَادَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِمَا لَهُ مِنْ النَّصِيبِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يَضَعَ وَأَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ - وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ شَيْءٍ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَ بِالتَّصَرُّفِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ. وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: التَّوْكِيلُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْغَائِبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النَّوْعَيْنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا - وَهُوَ الرِّبْحُ - فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْآذِنِ لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً. وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ، وَلِهَذَا صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى وَصِفَتِهِ. وَفِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ: لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِك؛ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ. (وَكَذَلِكَ) لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَضَعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ لَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ. فَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (وَكَذَلِكَ) لَهُ أَنْ يُودِعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ الشَّرِكَةِ. فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُودِعَ لِيُحْفَظَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْلَى. وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِأَجْرٍ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لَهُمَا. (وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ غَيْرِهِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ. فَكَذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ: أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِعَقْدٍ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ مَا هُوَ دُونَهُ لَا مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ فَوْقَهُ، وَالْمُضَارَبَةُ دُونَ الشَّرِكَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الْوَضِيعَةِ، وَأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الْمُضَارَبَةِ مُسْتَفَادَةً بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، فَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ مَعَ الْغَيْرِ مِثْلَ الْأَوَّل؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ تَوَابِعِهِ مُسْتَفَادًا بِهِ؛ فَهُوَ نَظِيرٌ. مَا يَقُولُ: إنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ دُونَ الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لِغَيْرِهِ مِثْلَ مَالِهِ. وَلِهَذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ [بَابُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ] (رُوِيَ) عَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا تَجُوزُ شَرِكَةٌ بِعُرُوضٍ وَلَا بِمَالٍ غَائِبٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ رَأْسِ الْمَالِ. وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ الْإِحْضَارُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا فَهُوَ وَالْإِحْضَارُ عِنْدَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ، حَتَّى إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ، وَعَقَدَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَحْضَرَ الرَّجُلُ الْمَالَ عِنْدَ الشِّرَاءِ: جَازَتْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّصَرُّفُ - لَا نَفْسُ الشَّرِكَةِ - فَإِذَا وُجِدَ إحْضَارُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَقْصُودِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْضَارِ عِنْدَ الْعَقْدِ. (وَعَنْ) الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: الرِّبْحُ عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ. فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَبِهِ نَأْخُذُ. وَتُعْتَبَرُ الشَّرِكَةُ بِالْمُضَارَبَةِ فَكَمَا أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْوَضِيعَةِ عَلَى الْمَالِ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ. (وَعَنْ) عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ قَاسَمَ الرِّبْحَ ضَمَانٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 وَتَفْسِيرُ هَذَا أَنَّ الْوَضِيعَةَ عَلَى الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، وَهَلَاكُ الْمَالِ فِي يَدِ الْأَمِينِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا بَيَّنَّا فِيهِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا كَذَا وَكَذَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ، فَإِذَا اشْتَرَكَا عَلَى هَذَا فَهُمَا مُتَفَاوِضَانِ)؛ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ رُكْنُ الْمُفَاوَضَةِ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ. وَأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، لَا يَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةً؛ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ. وَلَكِنْ إنْ اُخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ عَرَضٍ أَوْ دَيْنٍ عَلَى إنْسَانٍ، فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَالدِّينُ كَذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِصَاصِ بِالزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ؛ وَذَلِكَ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَنُصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَا لَا يَعْرِفَانِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ، وَبَعْدَ مَا صَارَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَمَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ يُؤْخَذُ بِهِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَالْكَفَالَةَ، فَبِحُكْمِ الْوَكَالَةِ يُجْعَلُ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا، وَبِحُكْمِ الْكَفَالَةِ يُجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا، وَلَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ: فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ). وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ: فِي الْقِيَاسِ لَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً بَيْنَهُمَا قَبْلَ خَلْطِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْمُفَاوَضَةَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُمَا - وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ - وَاخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِمِلْكِ مَالٍ غَيْرِ صَارِفٍ لِلْمُفَاوَضَةِ بِعَيْنِهِ، بَلْ بِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ. فَإِذَا كَانَتْ الْمُسَاوَاةُ مَوْجُودَةً: كَانَ الْخَلْطُ وَعَدَمُ الْخَلْطِ سَوَاءً؛ فَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ يَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ اشْتَرَيَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ: فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى صَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْآخَرُ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ رَأْسِ مَالِهِ، فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْآخَرَ، وَإِنْ مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرَى فَقَدْ صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، وَنِصْفُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ بِهِ لِصَاحِبِهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا، وَلَا يُمْكِنُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 التَّحَرُّرُ عَنْ هَذَا التَّفَاوُتِ عَادَةً. فَقَلَّمَا يَجِدَانِ شَيْئًا وَاحِدًا يَشْتَرِيَانِهِ بِمَالِهِمَا. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ، فَيُجْعَلُ هَذَا عَفْوًا لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا بِيضًا وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ سُودًا: فَهُوَ كَذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السُّودَ وَالْبَيْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ. وَبِتَفَاوُتِ الْوَصْفِ يَنْعَقِدُ الِاخْتِلَاطُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ فِي الصَّرْفِ؛ فَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لِانْعِدَامِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. ثُمَّ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ، وَالْعَنَانُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَهَذَا عَنَانٌ عَامٌّ. وَإِنْ لَقَّبَاهُ بِالْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ لَقَبٌ فَاسِدٌ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ؛ فَإِنْ كَانَ شِرَاءٌ يَوْمَ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ، ثُمَّ صَارَ فِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا: فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ - وَهُوَ التَّفَاوُتُ فِي مِلْكِ الْمَالِ - فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ تَفْسُدُ بِهِ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا، فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ حِينَ اشْتَرَيَا بِالْمَالَيْنِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْعُرْفِ بَعْدَ ذَلِكَ. (فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ، أَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ. (قُلْنَا): لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي مِلْكِ الْمَالِ مُنْعَدِمٌ هُنَاكَ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَهُنَا لَا يَنْعَدِمُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا تَحَوَّلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى الْمُشْتَرَى، وَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. (فَإِنْ قِيلَ): لَا كَذَلِكَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ رَأْسِ مَالِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ رَأْسِ مَالِهِ فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ أَيْضًا بِظُهُورِ الْفَصْلِ فِي النِّصْفِ. (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّ مَا اسْتَوْجَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمُفَاوَضَةِ، كَمَا لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا أَوْ عَرَضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ مِائَةَ دِينَارٍ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِثْلَ الْأَلْفِ: فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةٌ، وَهَذَا فِي التَّفْرِيعِ كَالسُّودِ وَالْبَيْضِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ الْمُفَاوَضَةُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ، وَكَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا حَتَّى لَا يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْكَفَالَةِ الثَّابِتَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 بِالْمُفَاوَضَةِ. قَالَ: (وَإِذَا اقْتَسَمَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ لِإِظْهَارِ الرِّبْحِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِيَقْتَسِمَاهُ بَيْنَهُمَا قَالَ: (وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِعْتُك نَصِفَ مَالِي هَذَا بِنِصْفِ مَالِك هَذَا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَتَقَابَضَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا عَقْدُ صَرْفٍ، وَقَدْ تَمَّ بِالتَّقَابُضِ؛ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ عُرُوضًا، فَبَاعَهُ نَصِفَ الْعُرُوضِ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، أَوْ شَرِكَةَ عَنَانٍ: جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ بِهَذَا الْعَقْدِ صَارَتْ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِمَا، ثُمَّ يَثْبُتُ فِي الشَّرِكَةِ حُكْمُ الْعُرُوضِ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بَيْعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بَيْعًا مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ قَصْدًا - كَالشُّرْبِ. وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمَنْقُولَاتُ فِي الْوَقْفِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْوَقْفِ تَبَعًا، إذَا وَقَفَ قَرْيَةً بِمَا فِيهَا مِنْ الدَّوَابِّ وَالْمَمَالِيكِ وَآلَاتِ الْحِرَاثَةِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَقْفِ فِي الْمَنْقُولَاتِ قَصْدًا، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْحِلَّ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ فِي أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ. قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا، فَهُوَ جَائِزٌ)، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ عَامَّةً. وَمِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ بَيْنِي وَبَيْنَك، لَا يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْمُشْتَرَى أَوْ يُخَصَّ بِذِكْرِ الْوَقْتِ، أَوْ بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ فِي الْعُرُوضِ وَالْقَدْرِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، أَوْ بِتَسْمِيَتِهِ الثَّمَنَ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِدُونِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَمَقْصُودُهُمَا الرِّبْحُ لَا عَيْنُ الْمُشْتَرَى، وَمِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ يَجُوزُ. أَيْضًا لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا اشْتَرَيْنَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَيَقْسِمَ رِبْحَهُ نِصْفَيْنِ. وَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلشَّرِكَةِ، فَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ الْمَقْصُودُ عَيْنُ الْمُشْتَرَى، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْخُصُوصِ فِيهِ لِتَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَكَ خَيَّاطَانِ فِي الْخِيَاطَةِ مُفَاوَضَةً، أَوْ خَيَّاطٌ وَقَصَّارٌ، أَوْ شِبْهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَوْ الْمُتَّفِقَةِ، حَتَّى إذَا تَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا عَمَلًا أَخَذَ الْآخَرُ بِهِ - وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ) -؛ لِأَنَّ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ لَهُ، وَكَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذًا بِمَا يَقْبَلُهُ الْآخَرُ، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ التَّقَبُّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 إقَامَةُ مَا يَقْبَلُ بِبَدَنِهِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ بِأَعْوَانِهِ وَأَحْزَابِهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ لَهُ عَلَى إبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ [بَابُ بِضَاعَةِ الْمُفَاوِضِ] قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِضَاعَةً مَعَ رَجُلٍ، وَأَنْ يَدْفَعَ مُضَارَبَةً، وَأَنْ يُودِعَ)، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِيكَ الْعَنَانِ يَمْلِكُ هَذَا؛ فَالْمُفَاوِضُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعْلَمُ تَصَرُّفًا مِنْهُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ)، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إنَّمَا قَامَ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ دُونَ التَّبَرُّعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ وَلَا الصَّدَقَةَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ،. فَالِاقْتِرَاضُ فِي كَوْنِهِ تَبَرُّعًا كَالصَّدَقَةِ أَوْ فَوْقَهُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ». وَقِيلَ: إنَّمَا جَعَلَ الثَّوَابَ فِي الْقَرْضِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ مُلْتَمِسَ الْقَرْضِ لَا يَأْتِيك إلَّا مُحْتَاجًا، وَالسَّائِلُ لِلصَّدَقَةِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ. (وَذَكَرَ) الْحَسَنُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَقْرِضَ مَالَ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ رَجُلٍ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَتَحَقَّقُهُ بِهِ. " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ": لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْأَدَاءِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ. كَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ مُتَبَرِّعٌ فِي الِالْتِزَامِ، وَلَكِنْ يُرْجِعُ بِمِثْلِ مَا يُؤَدِّي. ثُمَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَيُجْعَلُ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ذَلِكَ رَاجِحًا لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ. " وَعِنْدَهُمَا ": كَفَالَةُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ. وَجَعَلَا مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِيهِ رَاجِحًا لِذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. قَالَ: (فَإِنْ أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ نَصِفَ مَا أَقْرَضَ لِشَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَلَكِنْ لَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمُفَاوَضَةَ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ إنَّمَا اُخْتُصَّ بِمِلْكِ دَيْنٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْمُفَاوَضَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، وَلِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ مُسْتَوْجِبٌ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْتَقْرِضِ؛ فَكَانَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ دَابَّةً بِغَيْرِ رَأْيِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فِي الْقِيَاسِ)؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَبَرُّعٌ بِالْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَهُوَ كَالتَّبَرُّعِ بِالْعَيْنِ بِغَيْرِ بَدَلٍ - كَالْهِبَةِ - وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيه الْمُفَاوَضَةُ. قَالَ: (فَإِذَا فَعَلَ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ تَحْتَ الْمُسْتَعِيرِ؛ كَانَ الْمُعِيرُ ضَامِنًا نَصِفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِشَرِيكِهِ، فِي الْقِيَاسِ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصِيبِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُعِيرَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 لِأَنَّهُ إذَا أَتَاهُ مَنْ يُعَامِلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعِيرَهُ ثَوْبًا؛ لِيَلْبَسَ، أَوْ وِسَادَةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا. وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إعَارَةِ الْمِيزَانِ وَصَنَجَاتِهِ مِنْ بَعْضِ الْجِيرَانِ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يُعِيرُ لَا يُعَارُ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِلتِّجَارَةِ فِي هَذَا الْمَالِ فَيَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ يُعِيرُ، وَالْمُفَاوِضُ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْمَأْذُونِ حَتَّى أَنَّ الْمُفَاوِضَ يُكَاتِبُ وَالْمَأْذُونَ لَا يُكَاتِبُ. وَعَلَّلَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ فَقَالَ: التَّاجِرُ فِي الْمَالِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ - فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَأْذُونَ. فَالتَّاجِرُ الَّذِي يَمْلِكُ النِّصْفَ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْإِعَارَةِ أَوْلَى. قَالَ: (وَلَوْ أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا بِضَاعَةً مَعَ رَجُلٍ لَمْ يُفَرَّقْ الْمُتَفَاوِضَانِ. ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضِعُ بِالْبِضَاعَةِ شَيْئًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَوَفُّرَهُمَا؛ فَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ وَعَلَى شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ تَوْكِيلٌ، وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا فِيهِ حَالَ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا. ثُمَّ افْتِرَاقُهُمَا عَزْلٌ مِنْهُمَا إيَّاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ قَصْدًا، وَحُكْمُ الْعَزْلِ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ، وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا؛ كَانَ مَا اشْتَرَى لِلْآمِرِ خَاصَّةً، لِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كَعَمَلِهِمَا. وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا فَإِنَّمَا وُجِدَ عَمَلُ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا فَإِنَّمَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِنَابَةِ، فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، إلَّا أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ إذَا بَقِيَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى اشْتَرَى الْوَكِيلُ جُعِلَ شِرَاؤُهُ كَشِرَاءِ الْمُوَكِّلِ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ خَاصَّةً. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْوَكِيلِ وَاجِبٌ، وَإِذَا كَانَ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ لَوْ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ خَاصَّةً كَانَ ضَامِنًا لِلْآخَرِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَالِ. فَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرَيًا بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ افْتِرَاقُهُمَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ شَيْئًا - وَإِنْ صَارَ مُشْتَرَيًا لِلْآمِرِ - وَلَكِنْ يَجِبُ الشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ، وَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ حِينَ قَبِلَ الْوَكَالَةَ. قَالَ: (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يُبْضِعُ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ لَزِمَ الْحَيَّ خَاصَّةً)، إلَّا أَنَّ فِي فَضْلِ الْمَوْتِ إذَا كَانَ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَى الْمُسْتَبْضَعِ فَوَرِثَهُ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُسْتَبْضَعَ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْآمِرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْتَ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، وَالْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ - بِخِلَافِ افْتِرَاقِهِمَا - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الَّذِي لَمْ يُبْضِعْ عَزْلَ الْوَكِيلِ فِي نَصِيبِهِ قَصْدًا؛ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ - وَإِنْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ تَضْمِينِ الْمُسْتَبْضَعِ -؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ. ثَمَّ فَلَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ إنْ شَاءُوا، وَإِنْ شَاءُوا الْآمِرَ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ كَانَ بِإِذْنِ الْآمِرِ فَيَكُونُ كَدَفْعِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ ضَمِنُوا الْمُسْتَبْضَعَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لِحَقِّهِ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْمَتَاعِ صَارَ لِلْآمِرِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَقَدْ نَقَدَ نَصِفَ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ وَنِصْفَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. قَالَ: (وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلًا بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى، ثُمَّ إنَّ الْآخَرَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ: فَنَهْيُهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ كَالتَّوْكِيلِ، فَكَمَا جُعِلَ فِعْلُ أَحَدِهِمَا فِي التَّوْكِيلِ كَفِعْلِهِمَا، فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ نَهْيُ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ كَنَهْيِهِمَا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِعَزْلِ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ حَتَّى اشْتَرَاهَا كَانَ مُشْتَرِيًا لَهُمَا جَمِيعًا فَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى أَيُّهَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ كَانَ تَوْكِيلُ أَحَدِهِمَا كَتَوْكِيلِهِمَا جَمِيعًا فَيَسْتَوْجِبُ الْوَكِيلُ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ. وَكَذَا إنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا، وَقَبَضَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكَهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْ الْمُشْتَرِي بِمَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ. وَإِنْ كَانَ بِالْمَتَاعِ عَيْبٌ كَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ التِّجَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ بِالتِّجَارَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِالتِّجَارَةِ، فَكَانَ الْآخَرُ قَائِمًا مَقَامَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ: (أَرَأَيْت لَوْ كَانَا قَصَّارَيْنِ مُتَفَاوِضَيْنِ، فَأَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى أَحَدِهِمَا ثَوْبًا، أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرَ بِعَمَلِهِ ذَلِكَ؟ لَهُ ذَلِكَ.) وَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْأَجْرِ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ. فَحُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا أَبْضَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِضَاعَةً لَهُ وَلِشَرِيكٍ لَهُ شَارَكَهُ شَرِكَةَ عَنَانٍ، فَأَبْضَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ مَعَ رَجُلٍ يَشْتَرِي لَهُ بِهَا مَتَاعًا، فَرَضِيَ الشَّرِيكُ فَمَاتَ الدَّافِعُ، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ بِذَلِكَ مَتَاعًا: فَالْمَتَاعُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا). يَقُولُ: فِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ أَنَّ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ رَجُلٍ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ إلَى الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُفَاوِضِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَنَانَ دُونَ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ تَوَابِعِ الْمُفَاوَضَةِ مُسْتَفَادًا بِهَا كَالْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعَنَانِ. قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تَوَابِعِ الْأَوَّلِ مُسْتَفَادًا بِهِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فَكَذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ؛ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِعْلِهِمَا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْمُسْتَبْضَعُ وَكِيلٌ لِلدَّافِعِ؛ فَيُعْزَلُ بِمَوْتِ الدَّافِعِ - عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ -؛ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. فَإِذَا اشْتَرَى الْمَتَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، فَإِذَا نَقَدَ الثَّمَنَ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَقَدْ قَضَى بِمَالِ الْغَيْرِ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا مِثْلَ ذَلِكَ الْمَالِ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَنِصْفُ هَذَا الْمَالِ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ فَيَضْمَنُ لَهُ ذَلِكَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُفَاوَضِ الْحَيِّ وَلِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَيَضْمَنُ لَهُمَا ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الدَّافِعِ أَمَّا فِي حَقِّهِ لَا يُشْكِلُ، وَفِي حَقِّ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ مِنْ الدَّافِعِ، وَبِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَوْتِهِ، وَاعْتِبَارُ أَمْرِهِ فِي حَقِّهِمَا كَانَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ؛ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْتِقَاضِهَا. وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ حَيًّا وَمَاتَ شَرِيكُ الْعَنَانِ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ؛ كَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ، لِأَنَّ شَرِكَةَ الدَّافِعِ مَعَ شَرِيكِ الْعَنَانِ قَدْ انْتَقَضَتْ بِمَوْتِهِ، وَانْقَطَعَتْ الْوَكَالَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمَتَاعِ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ كَشِرَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، وَالدَّافِعُ لَوْ اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِنَفْسِهِ كَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ. وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ إنْ شَاءُوا عَلَى الْمُسْتَبْضَعِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ إلَى الْبَائِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُسْتَبْضَعُ بِهِ عَلَى أَيِّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ شَاءُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَارَ الدَّافِعُ ضَامِنًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ وَكِيلِهِ بِأَمْرِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ هَذَا وَلَكِنَّ الْمُتَفَاوِضَ الْآخَرَ مَاتَ، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ؛ فَنِصْفُ الْمَتَاعِ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الدَّافِعِ وَبَيْنَ شَرِيكِ الْعَنَانِ، وَلِأَنَّ شِرَاءَ وَكِيلِهِ لَهُ كَشِرَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَنِصْفُ الْمَتَاعِ لِلْآمِرِ لَا شَيْءَ لَهُ مِنْهُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْتَقَضَتْ بَيْنَ الدَّافِعِ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْمُشْتَرَى لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى وَكِيلُهُ. وَلِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمَالِ الْمُفَاوَضِ الْحَيَّ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ وَكِيلِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ الْمُسْتَبْضَعَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُمْ إلَى الْبَائِعِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُسْتَبْضَعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فِيمَا أَدَّى بِأَمْرِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى شَرِيكِهِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَنَانٌ؛ فَلَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ. (قَالَ: وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ رَجُلٍ مَالًا عَلَى بَيْعٍ فَاسِدٍ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ؛ كَانَ الْبَيْعُ لَهُمَا وَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا)؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَمَا وَجَبَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي الْأَحْكَامِ. وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التِّجَارَةِ كَفِعْلِهِمَا فِيمَا يَجِبُ بِهِ عَلَيْهِمَا، وَفِيمَا يَحْصُلُ بِهِ لَهُمَا. (قَالَ: وَإِذَا أَمَرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلَيْنِ بِأَنْ يَشْتَرِيَا عَبْدًا لَهُمَا، وَسَمَّى جِنْسَهُ وَثَمَنَهُ، فَاشْتَرَيَاهُ وَافْتَرَقَا عَنْ الشَّرِكَةِ فَقَالَ الْآمِرُ: اشْتَرَيَاهُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ؛ فَهُوَ لِي خَاصَّةً. وَقَالَ الْآخَرُ اشْتَرَيَاهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ؛ فَهُوَ بَيْنَنَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ حَادِثٌ، فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَجْحَدُ التَّارِيخَ مَعَ يَمِينِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى أَظْهَرُ لِلْآمِرِ؛ فَإِنَّ فِعْلَ وَكِيلِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَالْآخَرُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ التَّارِيخِ، فَإِثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَكِيلَيْنِ لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ فِي ذَلِكَ يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا، فَإِنْ قَالَ الشَّرِيكَانِ: لَا نَدْرِي مَتَى اشْتَرَيَاهُ فَهُوَ لِلْآمِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَالُ بِالشِّرَاءِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِمَا يُعْلَمُ فِيهِ تَارِيخٌ سَابِقٌ. وَإِذَا قَالَ الْآمِرُ: اشْتَرَيَاهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: اشْتَرَيَاهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ لِإِنْكَارِهِ التَّارِيخَ، وَإِنْكَارِهِ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ، وَوُجُوبَ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآمِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. [بَابُ خُصُومَةِ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا] قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَارَكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَاحِدِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ)؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ، وَاسْتِحْقَاقَ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ - وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ - فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ، أَوْ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا: الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ قَالُوا: هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعَى بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَلِأَنَّهُمَا إنْ قَالَا: الْمَالُ الَّذِي فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، أَوْ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَقَدْ صَرَّحَا بِالشَّهَادَةِ لِلْمُدَّعَى بِمِلْكِ نِصْفِ مَا فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَإِنْ قَالَا: هُوَ مُفَاوَضَةٌ فَمُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي مِلْكِ الْمَالِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا مِمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ شُهُودُ الْمُدَّعِي شَهِدُوا بِأَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا؛ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْقَاضِي يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا شَهِدُوا بِمُطْلَقِ الْمُفَاوَضَةِ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ أَيْضًا. وَمُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَنْفِي احْتِمَالَ كَوْنِ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ مِيرَاثًا لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا بَيْنَهُمَا، وَوَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، وَتَبْقَى الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ، وَالظَّاهِرُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافَةِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ فَقَدْ ظَهَرَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فِي هَذَا الْعَيْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالشَّرِكَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِالشَّرِكَةِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ. فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ عَلَى إبْطَالِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَالْبَيَانِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا بِدَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ لِإِنْسَانٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ مِلْكَ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْأَرْضِ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا لَهُ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ مُفَسِّرًا، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ إكْذَابًا مِنْهُ لِشُهُودِهِ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ فَاسْتِحْقَاقُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَصْلَ. وَعِنْدَ التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ اسْتِحْقَاقُهُ الْبِنَاءَ بِالْحُجَّةِ، فَإِذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَا الْيَدِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ لِصَاحِبِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا، وَالْمُفَاوَضَةُ سَبَبٌ، وَحُكْمُهَا الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَعْوَى الْمُفَاوَضَةِ لَا تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا إنَّمَا تُقْبَلُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ الشَّاهِدُ بِالْحُكْمِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 وَبَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْحُكْمِ وَالسَّبَبِ جَمِيعًا بِالشَّهَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ، أَوْ بِالشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ عِنْدَ التَّفْسِيرِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ يَعْتَبِرُونَ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِبْهَامِ. قَالَ: (فَإِنْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَهُ خَاصَّةً، وَهَبَهُ شَرِيكُهُ مِنْهُ حِصَّتَهُ فِيهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ) وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ بِهَذَا عَلَى أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هُنَا بَيِّنَتَهُ مَقْبُولَةٌ - سَوَاءٌ فَسَّرَ شُهُودُ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا -. ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْعَيْنِ بَلْ فِيهَا تَقْرِيرُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْهِبَةُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ مَعَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ هُنَاكَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْقَضَاءُ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِي وَهَبَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، أَوْ أَنَّ رَجُلًا آخَرَ وَهَبَهُ مِنْهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا. فَكَذَلِكَ فِي الْمُفَاوَضَةِ. وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَرَّ لَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْ فُلَانٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ قُبِلَ ذَلِكَ وَقُضِيَ لَهُ بِالْعَبْدِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ ذَا الْيَدِ هُنَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ مُدَّعٍ الْمِيرَاثَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمَا كَانَ يَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ ذُو الْيَدِ جَاحِدٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِيرَاثَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ خَصْمَهُ، فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْمُنْكِرُ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا؛ فَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْإِقْرَارِ فَقَطْ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنْ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ بِالْإِقْرَارِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهُمَا مُقِرَّانِ بِالْمُفَاوَضَةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اُسْتُحْلِفَ صَاحِبُهُ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 لِأَنَّهُ مُنْكِرُهَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ، وَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِالْهِبَةِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً. (وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ قَبْلَ رَجُلٍ شِرْكًا فِي عَبْدٍ لَهُ خَاصَّةً، وَجَحَدَ ذُو الْيَدِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ)؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ ادَّعَى مِيرَاثًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فِي نِصْفِهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْبَاقِي مِنْهُمَا، فَادَّعَى وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْمُفَاوَضَةَ، وَجَحَدَ ذَلِكَ الْحَيُّ، فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ كَانَ شَرِيكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ: لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِ الْحَيِّ)؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِعَقْدٍ قَدْ عَلِمْنَا ارْتِفَاعَهُ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَنْتَقِضُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِيمَا مَضَى لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُمْ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الِاسْتِحْقَاقَ بِالْحُجَّةِ. أَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَقَدْ شَهِدُوا بِالنِّصْفِ لِلْمَيِّتِ، وَوَرَثَتُهُ خُلَفَاؤُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ، فَالْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ كَالْيَدِ الثَّابِتَةِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَذَلِكَ مُوجَبُ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي نِصْفِهِ، وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ يَخْلُفُونَهُ. (فَإِنْ أَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ)؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ فَسَرُّوا، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ لِلْوَرَثَةِ بِشَهَادَتِهِمْ قَالُوا: وَهَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَجَحَدُوا الشَّرِكَةَ، فَأَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَأَقَامَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا: لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّفْيِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الشَّرِكَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَيُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ، وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَقَدْ أَقَرُّوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَبِيهِمْ حَالَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا الْفَصْلُ أَيْضًا حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْحُكْمِ لَا لِلسَّبَبِ، فَالسَّبَبُ قَدْ انْتَقَضَ بِالْمَوْتِ. وَلِهَذَا يُسَوَّى بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ. (وَلَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ: مَاتَ جَدُّنَا وَتَرَكَ مِيرَاثًا لِأَبِينَا، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا لَمْ يُقْبَلْ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقُبِلَتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ حَيًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْمُفَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الْحَيِّ شَهِدُوا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ مِنْ الْمُوَرِّثِ لَوْ كَانَ حَيًّا. قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ شَرِيكَهُ بِالثُّلُثِ، وَادَّعَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ، وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ، فَجَمِيعُ الْمَالِ مِنْ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ)؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي مِلْكِ الْمَالِ. فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْمُفَاوَضَةِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى حُكْمِهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، ثُمَّ مُدَّعِي التَّفَاوُتِ يَكُونُ رَاجِعًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَمُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَقْدِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بَعْدَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ثِيَابِ كِسْوَةٍ، أَوْ مَتَاعِ بَيْتٍ، أَوْ رِزْقِ الْعِيَالِ أَوْ خَادِمٍ يَطَؤُهَا فَإِنِّي أَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونُ فِي يَدَيْهِ، وَلَا أَجْعَلُهُ فِي الشَّرِكَةِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: يَدْخُلُ هَذَا فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّصَرُّفِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لِعِلْمِنَا بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إلَيْهَا مُدَّةَ الْمُفَاوَضَةِ. وَلِهَذَا لَوْ عَايَنَّاهُ اشْتَرَى ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا صَارَ مُسْتَثْنًى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ، فَيُنْفَى ظَاهِرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ؛ لِإِنْكَارِهِ. وَكَذَلِكَ الْخَادِمُ يَطَؤُهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهَا إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِمِلْكِهَا. أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ ذِي الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ. وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا، وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِوُجُودِ الْمَالِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ وَتَأْثِيرِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي نَقْضِ الْعَقْدِ، فَهُوَ وَافْتِرَاقُهُمَا سَوَاءٌ. (وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشَّرِكَةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَلِلَّذِي فِي يَدِهِ الثُّلُثُ؛ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ)، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ إقْرَارٌ بِالْمُنَاصَفَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَالْمُدَّعِي إذَا كَذَّبَ شَاهِدَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ مَقْبُولَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى إتْمَامِ الشَّهَادَةِ إلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَتُلْغَى تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مَعَ التَّفَاوُتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 فِي الْمَالِ تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ. فَلَعَلَّ الشُّهُودَ مِمَّنْ يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ فَفَسَّرُوا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ - لَا عَلَى اعْتِقَادِ الشُّهُودِ - فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَعْفُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَوْ أَبْهَمُوا؛ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُمْ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهُمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَتَاعٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ. بَلْ الْمُبْهَمُ وَالْمُفَسَّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مَيِّتًا وَأَقَامَ وَارِثُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ مُوَرِّثِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ كَذَا قَدْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَسَمُوا الْمَالَ، وَأَنَّهُ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ وَعَلِمْنَا التَّارِيخَ مِنْ الْقَضَاءَيْنِ أَخَذْنَا بِالْآخَرِ، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِقَضَاءِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّمَا يَقْضِي ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ أَوَّلًا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الثَّانِيَ نَقْضًا لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ يُجْعَلُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ قَاضِيَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَضَاءُ الَّذِي لَا نَعُدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، وَأَنَّهُ قَضَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْإِبْطَالِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. (وَإِذَا كَانَ مِنْ قَاضِيَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ نَقْضَ قَضَاءِ الْآخَرِ وَلَا يَقْصِدُ ذَلِكَ، إنَّمَا يَقْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا)؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَيُحَاسِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا عَلَيْهِ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. قَالَ: (وَلَا يَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ مَا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ مَهْرٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْتَزَمٌ لِمَا وَجَبَ لِطَرِيقِ التِّجَارَةِ. وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ؛ فَالْمَهْرُ الْوَاجِبُ بِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ. وَكَفَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ هُوَ بَدَلُ مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ حَتَّى يَكُونَ مَنْفَعَةً مُبَاشَرَةً بِسَبَبِ الِالْتِزَامِ لَهُمَا، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ دُونَ التِّجَارَةِ. فَهُوَ بَدَلُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ. قَالَ: (وَلَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَرِثُ مِنْ مِيرَاثٍ، وَلَا جَائِزَةٍ يُجِيزُهَا السُّلْطَانُ لَهُ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ هَدِيَّةٍ) إلَّا " عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - " فَإِنَّهُ يَقُولُ: مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ الْمُسَاوَاةُ. وَقَدْ بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ مَا هُوَ مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا عَلَى التَّفَاوُتِ يُجَوِّزُ الشَّرِكَةَ، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ، وَسَبَبُ الْإِرْثِ الْقَرَابَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَارِثِ مُمَلَّكًا نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ سَبَبِ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْعَلُ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُجَوِّزُ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ؛ فَإِنَّ مَعَ إضَافَةِ مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَيْهِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ. قَالَ: (وَلَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمُفَاوَضَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَقَدْ قَبَضَهُ) مَعْنَاهُ: لَمْ يَكُنْ دَيْنًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ يَنْعَدِمُ بِهِ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ. قَالَ: (وَكُلُّ وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَهِيَ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ الشَّخْصُ وَاحِدًا فِيمَا يَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ. وَيَقُولُ: الْوَدِيعَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِلْوَدِيعَةِ. فَهَذَا ضَمَانُ مَا أَوْجَبَ بِتَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا صَاحِبَهُ. (فَإِنْ قِيلَ): وُجُوبُ هَذَا الضَّمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْبَيَانِ قَدْ تَحَقَّقَ التَّجْهِيلُ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قَالَ الْحَيُّ: ضَاعَتْ فِي يَدِ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِ صَاحِبِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْمُودِعَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ. فَكَذَلِكَ قَوْلُ شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ مَقْبُولٌ فِيمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ لِنَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ. فَأَمَّا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ هُوَ الْمُسْتَوْدِعُ صَدَقَ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُتَمَلِّكًا وَلَا ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ مَا دَامَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ. فَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا. (فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مَقْبُولُ الْوَدِيعَةِ مِثْلَ صَاحِبِهِ؟ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّ التَّمْلِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ، الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ حَقِيقَةً لَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ. (وَإِنْ قَالَ: أَكَلْتهَا قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِي لَزِمَهُ الضَّمَانُ خَاصَّةً، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَعِنْدَ الْإِقْرَارِ لَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ. وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ " هُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ: " فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " هَذَا نَظِيرُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ، وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ. وَهُمَا قَالَا: ضَمَانُ الْغَصْبِ الِاسْتِهْلَاكُ ضَمَانُ تِجَارَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ، وَلِهَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ. قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ مَالِهِمَا وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيهِ فَإِنَّهُ كَمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِيدَاعِ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِرْدَادِ. فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ جَحَدَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَوْ كَانَ وَصِيًّا فَادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَعْزِمُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت، وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: مَا قَضَيْت شَيْئًا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي بَرَاءَتِهِ، وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى الْمُودِعِ بِحَالِهِ. وَلَكِنْ يَحْلِفُ الشَّرِيكُ الَّذِي ادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ إلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا قَبَضْته؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ نَصِيبِهِ بِجُحُودِهِ الْقَبْضَ، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلِفَهُ عَلَيْهِ. (وَكَذَلِكَ) لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا بَعْدَ مَوْتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْمُودِعِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ. ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ الْوَرَثَةُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْكَرَ الْقَبْضَ اُسْتُحْلِفَ لِشَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْوَرَثَةُ يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُوَرِّثِ بِالْقَبْضِ. فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَكَذَّبُوهُ، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَبَضُوهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حِصَّةِ الْحَيِّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ حَقُّ الدَّفْعِ إلَى وَرَثَتِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً، وَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْقَضَتْ بِالْمَوْتِ، فَهُوَ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ مُقِرٌّ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 لِأَنَّ الْمُودَعَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي وُصُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ النِّصْفُ كَالنَّاوِي، وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا يُنْوَى مِنْهُ يُنْوَى عَلَى الشَّرِكَةِ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ. (وَلَوْ قَالَ: دَفَعْت الْمَالَ إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي يُودِعُنِي، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ)؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الْكُلِّ، فَإِنَّ لِلْمُودَعِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَبَضَ مِنْهُ - مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ - فَرَدُّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا كَرَدِّهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ. وَلَا يَصْدُقُ عَلَى إلْزَامِ الْحَيِّ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ (مَا قَبَضَهُ). فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مَيِّتًا، فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْكُمَا جَمِيعًا، إلَى الْحَيِّ نِصْفَهُ وَإِلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَهُ، وَجَحَدُوا ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ. وَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ. فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِقَبْضِ النِّصْفِ شَرَكَهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ يَثْبُتُ وُصُولُ النِّصْفِ إلَيْهِ، وَبِدَعْوَى الْمُودِعِ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُ النِّصْفِ الْآخَرِ إلَى صَاحِبِهِ فِيمَا يَثْبُتُ الْقَبْضُ فِيهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ نَاوِيًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْهِمَا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَجَحَدَهُ الْآخَرُ: فَالْمُسْتَوْدَعُ بَرِيءٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَصْدِيقِهِمَا، وَلَوْ صَدَّقَاهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ. وَإِنْ افْتَرَقَا، ثُمَّ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: دَفَعْته إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي فَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُودَعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوُصُولَ إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِقِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قَالَ: دَفَعْته إلَى الْآخَرِ وَكَذَّبَهُ ذَلِكَ ضَمِنَ نَصِفَ ذَلِكَ الْمَالِ لِلَّذِي أَوْدَعَهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الْمُودِعِ إلَى شَرِيكِهِ، وَلَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ، فَكَانَ هُوَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُخْبِرًا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَفِي نَصِيبِ الْمُودِعِ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ مَا يَقْبِضُهُ الْمُودِعُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فِي وُصُولِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ لَمَّا كَذَبَهُ، فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّاوِي، فَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الشَّرِيكُ بِذَلِكَ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى شَرِيكٍ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، وَالدَّافِعُ بِغَيْرِ حَقٍّ ضَامِنٌ كَالْقَابِضِ. قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الْمُفَاوِضِ وَأَكْلُ طَعَامِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ فِي الْمَطْعُومِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّاعِي وَلَا عَلَى الْآكِلِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالتِّجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ وَالْإِهْدَاءُ وَاِتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يَدْعُو الْمُجَاهِدِينَ إلَى طَعَامِهِ، وَيُهْدِي إلَيْهِمْ الْمَطْعُومَ لِيَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ، وَالْمَأْذُونُ غَيْرُ مَالِكٍ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ تَاجِرٌ، وَالْمُفَاوَضُ تَاجِرٌ مَالِكٌ لِنِصْفِ الْمَالِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَهْدَيْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ أُكَاتَبَ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي». وَحَدِيثُ الْأَخْرَسِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ». وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَرَّسْت وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْت رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ - فَأَجَابُونِي. قَالَ: (وَلَوْ كَسَا الْمُفَاوَضُ رَجُلًا ثَوْبًا، أَوْ وَهَبَ لَهُ دَابَّةً، أَوْ وَهَبَ لَهُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالْأَمْتِعَةَ، وَالْحُبُوبَ كُلَّهَا لَمْ يَجُزْ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ إهْدَاءُ ذَلِكَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ الْهِبَةُ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إلَى الْعُرْفِ. قَالَ: (وَلَوْ أَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً فَرَكِبَهَا الْمُسْتَعِيرُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي رَكِبَهَا إلَيْهِ، وَقَدْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ فِي الْإِعَارَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبَرِيءَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ضَمَانِهَا) لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ كَإِقْرَارِهِمَا. قَالَ: (وَلَوْ اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ، فَرَكِبَهَا شَرِيكُهُ فَعَطِبَتْ، فَهُمَا ضَامِنَانِ)؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ، وَصَاحِبُهَا إنَّمَا رَضِيَ بِرُكُوبِ الْمُسْتَعِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْآخَرُ فِي رُكُوبِهَا غَاصِبٌ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَتْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِحُكْمِ الْغَصْبِ فَالْآخَرُ مُطَالَبٌ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ رَكِبَهَا فِي حَاجَتِهِمَا، فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِمَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ رُكُوبِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِهِ يَكُونُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. وَإِنْ رَكِبَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُمَا ضَامِنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّهُمَا إنْ أَذِنَاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِيكِ رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الرَّاكِبِ بِنَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ حَصَلَتْ لِلرَّاكِبِ، فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبٍ اغْتَصَبَهُ، أَوْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فَأَكَلَهُ، وَقَدْ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَبَقِيَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا طَعَامًا لَهُ خَاصَّةً لِرِزْقِهِ إلَى مَقَامٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ لِخَاصَّتِهِمَا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّقْيِيدَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. وَالضَّرَرُ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 الدَّابَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِحَمْلِ مَا عُيِّنَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ مِثْلِهِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَمْلِ كَفِعْلِ صَاحِبِهِ. ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَعَامًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً، فَبَعَثَ بِالدَّابَّةِ مَعَ وَكِيلٍ لَهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ، فَحَمَلَ الْوَكِيلُ طَعَامًا لِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ، فَالْمُفَاوَضَةُ أَوْجَبُ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَدْلَ زُطِّيٍّ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدْلِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَيَالِسَةً أَوْ أَكْسِيَةً كَانَ ضَامِنًا؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ. قَالَ: (وَلَوْ حَمَلَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهَا ذَلِكَ ضَمِنَهُ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ) إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَة عِنْدَ الَّذِي حَمَلَ؛ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَ عَنْهُ غَاصِبٌ، وَالْآخَرُ عَنْهُ كَفِيلٌ ضَامِنٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى الَّذِي حَمَلَ بِنِصْفِ ذَلِكَ إذَا أَدَّيَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَمْلِ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَارِ الضَّمَانِ شَيْءٌ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ هَذَا أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَصِيرُ الْحَامِلُ بِهِ مُخَالِفًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ أَوْ شَرِيكُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فَاسْتَعَارَهَا، فَالْجَوَابُ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَمْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً - رِزْقًا لِأَهْلِهِ - فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ شَعِيرًا لَهُ خَاصَّةً؛ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا، وَبِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ الْمُسْتَعِيرِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْوِي عِنْدَ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّهُ يَسْتَعِيرُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَعَدَّهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ خَاصَّةً، وَذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَاهُ بِانْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا. قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بَاعَهُ خَادِمًا، فَجَحَدَ ذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ؛ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ عَلَى الثَّبَاتِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْعِلْمِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا إيَّاهُمَا، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَصَاحِبُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الْعِلْمِ. وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ بِالْجَارِيَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزَمٌ إيَّاهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى تَوْلِيَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ إجَارَةً أَوْ تَسْلِيمَ دَيْنٍ أَوْ تَسْلِيمَ دَارٍ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 التِّجَارَةِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِهِمَا، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْمُدَّعِي؛ فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآنَ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَمْضَى الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ غَائِبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفَاوَضُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَيْضًا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُفَاوَضَ الْمُدَّعِي يَكُونُ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَبَعْدَمَا اسْتَحْلَفَ بِخُصُومِهِ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَحْلِفُ بِخُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ صَحِيحَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُفَاوَضُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَلِفِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْرَى فِي الْيَمِينِ. فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِحْلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ مُفِيدًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُشْتَغَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَاسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَفَ فِي حَادِثَةٍ لِخُصُومَةِ إنْسَانٍ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا وَحَلَفَ أَحَدُهُمَا؛ كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ مُفِيدًا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَا يُبَالِي مِنْ الْيَمِينِ، وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجُرْأَةِ عَلَى الْيَمِينِ. فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْآخَرَ بَعْدَ مَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ. قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ وَاسْتَحْلَفَهُ أَلْبَتَّةَ، فَحَلَفَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ. فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ، وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ. فَذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ وَإِقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى شَرِيكِهِ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحُ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَحَلِفُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَد الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا مِنْ كَفَالَةٍ، وَحَوَّلَهُ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ شَرِيكَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، كَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَأَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ دُونَ التَّبَرُّعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا يَكُونُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْكَفَالَةِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا شَرِيكَهُ. كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ إنْسَانٍ بِشِرَاءِ شَيْءٍ كَانَ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِثَمَنِهِ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهَا إذَا صَحَّتْ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ، وَقَدْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ هُنَا وَاَلَّذِي كَفَلَ صَارَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ، وَلَمَّا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً، وَمَا يُوجَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمُفَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ يُطَالَبُ بِهَا الشَّرِيكُ كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالشِّرَاءِ بِخِلَافِ كَفَالَةِ الْمَدْيُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ مُفَاوَضَةً. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا فِي الِابْتِدَاءِ، مُفَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ؛ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُفَاوَضَةً. وَإِذًا ثَبَتَ أَنَّ كَفَالَةَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: (يَحْلِفُ الشَّرِيكُ عَلَى دَعْوَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا. فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ، لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَيُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ - بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ -. وَإِذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ - بِالِاتِّفَاقِ) -؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ بِحَالٍ، فَحُكْمُهُ مُقْتَصِرٌ عَلَى مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ. [الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ] قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 وَوَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ وَالْكَفَالَةِ الْوَكَالَةُ. فَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَفَاوُتِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالذِّمِّيَّ يَتَصَرَّفُ فِي ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ شَرِيكُ الْمُسْلِمِ مُفَاوَضَةً لَا يَتَصَرَّفُ " عِنْدِي " فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي التَّصَرُّفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، وَالْمَجُوسِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ تَصِحُّ بَيْنَ حَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ وَشَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمُثَلَّثِ النَّبِيذِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَالِيَّةَ. وَشَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ. ثُمَّ هَذَا التَّفَاوُتُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا يَقُولَانِ: مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي مَحَلِّ التَّصَرُّفِ - وَهُوَ الْمَالِ - فَإِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا بَيْعًا وَشِرَاءً وَسَلَمًا، فِي الْخَمْرِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا، وَبِدُونِ الْمُسَاوَاةِ لَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ، قُلْنَا: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ هُوَ اعْتِقَادُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْمُفَاوَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِنُفُوذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ. (فَإِنْ قِيلَ): لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْمَجُوسِيُّ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ. (قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ. وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ صَحِيحٌ يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ - وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتَهُ -. فَأَمَّا بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 بِالْمُحَاجَّةِ لَهُ وَالدَّلِيلِ؛ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ. وَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ الْوَكَالَةَ. وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِالتَّصَرُّفِ لَهُ. [الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ] قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ - وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبَوَاهُمَا -)؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ: فَإِنَّ الْعَبْدَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، وَالصَّبِيَّ يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ، وَالْمُكَاتَبَ يَعْجِزُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ التَّصَرُّفُ وَالِاسْتِرْبَاحُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الشَّرِكَةِ. وَإِنَّمَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ خَاصَّةً؛ فَيَبْقَى الْعَنَانُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَنَانَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا. قَالَ: (وَإِنْ تَفَاوَضَ الذِّمِّيَّانِ جَازَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا -)؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ تَتَحَقَّقُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ؛ فَصَحَّتْ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 الْمُرْتَدَّ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ)؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ، وَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالشَّرِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَصَرُّفَاتِهِ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ رِدَّتِهِ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ مَوْتًا، وَلُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ، وَالْمَوْتُ مُبْطِلٌ لِلشَّرِكَةِ. وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُ أَصْلِ الشَّرِكَةِ " عِنْدَهُمَا " بَلْ الْمُرَادُ تَوَقُّفُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ. فَأَمَّا أَصْلُ الشَّرِكَةِ صَحِيحٌ " عِنْدَهُمَا "، وَإِنَّمَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَرِيضِ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرْتَدُّ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى إسْلَامِهِ. وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي التَّصَرُّفِ إلَّا أَنَّ نَفْسَهُ تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ تَتْلَفَ عَلَيْهِ إذَا أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُ. قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّةَ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ جَازَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَلَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا أَنْ تُسْلِمَ)؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذٌ، فَإِنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ بِالرِّدَّةِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ. فَكَذَلِكَ فِي مَالِهَا إلَّا أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَهِيَ كَالذِّمِّيَّةِ. وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ جَائِزَةً مَعَ الْكَرَاهَةِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ. فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مُفَاوَضَتَهُمَا تَتَوَقَّفُ كَمَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدِّ مَعَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْبَلُ - فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ، وَإِذَا أُلْحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَنَفْسُهَا مَوْقُوفَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَتُهُمَا. قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ؛ فَلِلْمُفَاوِضِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارَ الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ عَلَى الْيَتِيمِ غَيْرُ صَحِيحٍ. ثُمَّ الْكِتَابَةُ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ - صَحِيحَةٌ، فَصِحَّتُهَا مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْمُفَاوِضُ - أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ: فَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرَ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ. أَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بِمَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَجَّلُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يُدْرَى أَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ لَا يَقْدِرُ؟ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُ الْمَالِ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِغَالِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. فَلَا يُمَلَّكُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدُونِ إذْنِهِ. وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ، وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ تَزْوِيجَ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَلَا يَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ عَبْدِ الْيَتِيمِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُكَاتِبَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ) وَمَا يَكُونُ مُعْتَادًا بَيْنَ التُّجَّارِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا تَزْوِيجَ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدٌ تَاجِرٌ فَأَدَانَهُ أَحَدُهُمَا دَيْنًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا؛ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ) لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا. وَمَا أَدَانَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَيْضًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُهُ شَرْعًا. (وَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ) وَالْإِدَانَةُ بَيْعٌ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا. أَمَّا إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ لَهُمَا خَاصَّةً، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنًا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ نَصِفُ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حِصَّةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ فَمَا أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ فِي مِلْكِهِ. وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا، وَنِصْفُهُ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَيَجْعَلُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْعَبْدِ كَعَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ (وَمَنْ أَدَانَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ يَثْبُتُ مِنْ دَيْنِهِ مَا يَخُصُّ عَبْدَ غَيْرِهِ دُونَ مَا يَخُصُّ عَبْدَهُ). قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بَيْنَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ؛ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِأَحَدِهِمَا فَأَذِنَ لَهُ الْآخَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَإِذْنُ صَاحِبِهِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَإِذْنِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَدَانَهُ الْآخَرُ دَيْنًا مِنْ مِيرَاثِهِ خَاصَّةً لَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَإِنْ أَدَانَاهُ مِنْ التِّجَارَةِ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَفِعْلَيْهِمَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَصِيبُ الْإِذْنِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَلْزَمُهُ نَصِيبُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا، أَوْ دَابَّةٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ؛ فَلِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَجْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 أَيَّهُمَا شَاءَ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا لِحَجٍّ إلَى مَكَّةَ، فَحَجَّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكْرِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ، إنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْتِزَامِهِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَاءَ شَرِيكَهُ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ. إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمُؤَدَّى - وَهُوَ النِّصْفُ -. وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ. (وَإِنْ أَدَّى الْعَاقِدُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِتِجَارَتِهِمَا وَأَدَّى الْأَجْرَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ؛ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ، وَقَدْ أَدَّى الْأَجْرَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ - شَرِكَةِ مِلْكٍ - لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ. قَالَ: (وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمَا بِالتِّجَارَةِ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ، وَالْآخَرُ مُطَالَبٌ عَنْهُ بِكَفَالَتِهِ بِمَا يَلْتَزِمُهُ بِالتِّجَارَةِ. وَإِنْ أَجَّرَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً مِنْ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ، وَحُكْمُ الْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ حَتَّى يَقْبِضَهَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إنَّمَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِ دَيْنٍ، وَالدَّيْنُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِأَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ، مِمَّا هُوَ لَهُ خَاصَّةً، بَاعَهُ فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ، فَإِذَا قَبَضَ وَكَانَ مِنْ النُّقُودِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا قُلْنَا. قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِبَعْضِ مَالِ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ - كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ -) وَإِنْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَكَانَتْ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 الْفَصْلِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الَّذِي شَارَكَهُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرِكَةِ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ التُّهْمَةُ فِيهِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ. (وَذَكَرَ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ إذَا شَارَكَ إنْسَانًا آخَرَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ؛ تَصِحُّ مُفَاوَضَتُهُ وَتَبْطُلُ بِهِ شَرِكَتُهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لَمْ تَصِحَّ مُفَاوَضَتُهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْمُفَاوَضَةَ مَعَ الثَّانِي نَقْصٌ مِنْهُ لِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَعَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، وَنَقْضُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ صَحِيحٌ، وَبِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ بَاطِلٌ. قَالَ: (وَإِذَا أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ نَفْسَهُ لِحِفْظِ شَيْءٍ أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ، وَاكْتَسَبَ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِتَقَبُّلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ) فَمَا يَكْتَسِبُ بِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَيُجْعَلُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا - بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ -؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَسْتَوْجِبُهُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَنَفْسُهُ لَيْسَتْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ عَبْدًا لَهُ مِيرَاثًا، وَأَمَّا شَرِيكُ الْعَنَانِ إذَا اكْتَسَبَ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَلِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَتَقَبُّلُ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَكَانَ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَرْهَنَ عَبْدًا مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ بِدَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَبِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ. وَلَهُ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ هَذَا الدَّيْنَ، وَكَذَلِكَ يَرْهَنُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ حَتَّى صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ. فَإِنَّ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُودِعَ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ رَهَنَ بِدَيْنِ الْوَلَدِ عَيْنًا قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوِضُ، وَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً بِدَيْنٍ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فَهَلَكَ؛ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ بِخَالِصِ مِلْكِهِ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ عَنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ دَيْنِهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا عَلَى رَجُلٍ فَارْتَهَنَ أَحَدُهُمَا بِهِ رَهْنًا؛ جَازَ) سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ أَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الِارْتِهَانِ بِهِ. وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً، إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ ذَلِكَ الدَّيْنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لَهُ لَا فِي صَرْفِهِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ عَلَى رَجُلٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ، أَوْ يَأْمُرُ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُمَا) اعْتِبَارًا لِلِارْتِهَانِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ لِمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ الِارْتِهَانُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ إلَى الْعَاقِدِ وَكِيلًا كَانَ أَوْ مَالِكًا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ وَلِيَاهُ جَمِيعًا) لِأَنَّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِ صَاحِبِهِ هُوَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَا يَصِحُّ ارْتِهَانُهُ بِهِ. وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُشَاعًا، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ. فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ الرَّهْنُ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ؛ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَضَمِنَ نِصْفَ الرَّهْنِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الرَّهْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، فَكَمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ. (وَطَعَنَ) عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنْ يَذْهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنَ شَيْئًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَجْنَبِيٌّ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ يَنْبَنِي عَلَى يَدِ الِاسْتِيفَاءِ. فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، كَمَنْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَدْلًا فِيهِ، إنْ أَجَازَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ؛ لَمْ يَضْمَنْ الْقَابِضُ شَيْئًا. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ هُنَا عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَدْلِ بِشَرْطِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَهُ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَتَحَقَّقُ رِضَا صَاحِبِ الرَّهْنِ بِقَبْضِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ. فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ثُمَّ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ مُسْتَوْفًى بِهَلَاكِ الرَّهْنِ. [إقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ] قَالَ: (وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ جَائِزٌ. كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ مَلَكَ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَقِيَامُهُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ بِحُكْمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 الشَّرِكَةِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ إقْرَارُ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِالِارْتِهَانِ فِيمَا تَوَلَّاهُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ فِيمَا تَوَلَّى سَبَبهُ. فَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِارْتِهَانِ، وَفِيمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَيَجُوزُ فِي نَصِيبِهِ - اسْتِحْسَانًا - لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا أَقْبَضَ الثَّمَنَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرَى إلَيْهِ صَحَّ قَبْضُهُ - اسْتِحْسَانًا - وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، أَوْ بِالِارْتِهَانِ يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ. قَالَ (وَمَا غَصَبَهُ الْمُفَاوِضُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ عَقَدَ دَابَّةً، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبًا؛ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ يَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْآخَرُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ قَائِمًا مَقَامَ شَرِيكِهِ، وَلَا مَأْذُونًا لَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ يَتَحَقَّقُ شَرْطُ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ ضَمَانُ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً، وَإِذَا أَدَّى غَيْرَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِهِ ضَمَانُ الْعَقْدِ، وَالْفَاسِدُ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ، فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ بِالصَّحِيحِ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ فَعَمِلَ بِهَا، أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً فَخَالَفَ فِيهَا؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُمَا) لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِمَعْنَى الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ. قَالَ: (وَإِذَا غَصَبَ شَرِيكُ الْعَنَانِ شَيْئًا أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ صَاحِبُهُ) لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ. وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ؛ ضَمِنَهُ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ مِنْ التَّصَرُّفِ. قَالَ: (وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَنْ رَجُلٍ بِمَهْرٍ أَوْ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَتِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُفَاوِضِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ لَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ. وَالْجِنَايَةُ وَالْأَرْشُ وَالْمَهْرُ فِي حَقِّهِمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالْجِنَايَةِ، وَالشَّرِيكُ غَيْرُ مُتَحَمِّلٍ فِيهِ مَا يَجِبُ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 بِنَفَقَةِ امْرَأَةِ شَرِيكِهِ وَلَا مُتْعَتِهَا، وَلَا بِنَفَقَةٍ يَفْرِضُهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِذَوِي أَرْحَامِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِامْرَأَتِهِ غَيْرِ الْمَهْرِ - مِنْ شِرَاءٍ أَوْ قَرْضٍ - لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْهُ شَيْءٌ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ الْمُقِرَّ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِكُلِّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ - مِنْ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَعَبِيدِهِ وَمُكَاتِبِيهِ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا -: إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا مَا خَلَا عَبْدَهُ وَمُكَاتَبَهُ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبِيعُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ، فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ إيجَابِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ - بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَكَتْبُهُ مِلْكُ هَؤُلَاءِ - وَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْكَسْبِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ. وَبِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَاكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُقِرِّ لَهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيطِهِ، فَامْرَأَتُهُ وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُمْ لَا تَصِحُّ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ. وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمَلِّكُ الْحَقَّ لِلْغَيْرِ فِي مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ؛ فَلَا يُمَلِّكُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ - كَمَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ - وَلَكِنْ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي نُفُوذِ إقْرَارِ الْمُفَاوِضِ عَلَى شَرِيكِهِ، لَا فِي نُفُوذِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَزِمَ الْمَالَ الْمُقِرُّ خَاصَّةً. قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ بَائِنَةٌ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَأَصْلُهُ فِي الشَّهَادَةِ. فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ لِلْمُبَايَنَةِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ؛ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِانْقِطَاعِ السَّبَبِ الْمُمَكِّنِ لِلتُّهْمَةِ - وَهُوَ النِّكَاحُ - كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا جُعِلَتْ هَذِهِ الْعِدَّةَ كَالنِّكَاحِ، (وَكَذَلِكَ) فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا، وَفِي امْتِنَاعِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ لَهَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا وَقَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 دَخَلَ بِهَا: فَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِمَهْرِهَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ - فَاسِدًا كَانَ النِّكَاحُ أَوْ صَحِيحًا -). وَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ غَيْرِ الْمَهْرِ؛ لَزِمَهَا جَمِيعًا لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ لِاشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، (وَكَذَلِكَ) لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ؛ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا - وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ - لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالسُّوقِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ - بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ - وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لَهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّهِمَا، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ الْمُفَاوِضَةِ بِالدَّيْنِ لِزَوْجِهَا عَلَى شَرِيكِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا لَهُ) وَيَجُوزُ إقْرَارُهَا بِالدَّيْنِ لِأَبَوَيْ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَلَيْهَا وَعَلَى شَرِيكِهَا، كَمَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا. [أَعْتَقَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا] قَالَ: (وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِ الْمُفَاوِضِ) لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: كُنْت كَاتَبْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ؛ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ لِلْإِنْشَاءِ، وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَإِنْشَاءِ مُكَاتَبَتِهِ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرُدَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُكَاتَبًا، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاتَبَ فِي الْمُفَاوَضَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الشَّرِكَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُ يَصِحُّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَلَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِحْلَافِ الْآخَرِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي حَالِ بَقَاءِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَنْفُذْ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. قَالَ: (فَإِنْ تَفَرَّقَا وَأَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ كُنْت أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ وَقَدْ دَخَلَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا تَرَتَّبَ إلَيْك مَرَّةً، فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي عِتْقِهِ وَقَالَ: كُنْت اخْتَرْت اسْتِسْقَاءَ الْعَبْدِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ) لِأَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّ حَقِّهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 إبْطَالَ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ نِصْفِ الْعَبْدِ عَرَفْنَاهُ حَقًّا لَهُ، وَالْمُقِرُّ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّهِ بِمَا ذَكَرُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَذَلِكَ مُوجَبُ بَرَاءَةِ الْمُعْتَقِ عَنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قَالَ: قَدْ كُنْت اخْتَرْت ضَمَانَك؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ) لِأَنَّهُ حَقُّهُ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ بِزَعْمِهِ، وَبَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَ مُبَرِّئًا شَرِيكَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ. وَإِنْ قَالَ: مَا كُنْت اخْتَرْت شَيْئًا فَأَنَا عَلَى خِيَارِي؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ، وَالِاخْتِيَارُ حَادِثٌ مِنْ قِبَلِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الشَّرِيكَ لِأَجْلِ الْبَرَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَقَرَّرَ ضَمَانُ نَصِيبِهِ فِي ذِمَّتِهِ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ؛ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقِيلَ: تَقَرُّرُ الضَّمَانِ لَأَنْ يَسْتَفِيدَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ أَوْلَى. وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ تَعَيَّنَ فِي اسْتِسْقَاءِ الْعَبْدِ - كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُ - وَإِنْ أَقَامَ الْمُقِرُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اخْتَارَ ضَمَانَهُ جُعِلَ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَبْرَأُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِنْ قَالَ الشَّرِيكُ: لَمْ يُعْتِقْهُ إلَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَادِثٌ، فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِي الْإِسْنَادِ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُعْتَقُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَضَمِنَ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَاخْتَارَ سِقَايَةَ الْعَبْدِ؛ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُعْتَقِ، وَبَرِئَ هُوَ وَالْعَبْدُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَيِّنَتَهُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي الْإِعْتَاقِ، وَأَبْقَى مَا لَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِهِ، وَالشَّرِيكَ بِبَيِّنَتِهِ يَبْغِي ذَلِكَ - وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ - فَيَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ. قَالَ: (وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الشَّرِكَةِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَمَاتَ الْعَبْدُ؛ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا بَرِئْت إلَيْك مِنْهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ كَاتَبْته بَعْدَ الْفُرْقَةِ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ، فَلَا يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، فَإِذَا حَلَفَ يَأْخُذُ نِصْفَ الْأَلْفِ مِنْ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَقَدْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ الْمُكَاتِبُ: كَاتَبْتُهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَأَنَا وَارِثُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَاتَبْته فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْنُ وَارِثَاهُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَرُدَّ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا بَعْدُ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي نِصْفِ الْمُكَاتَبِ كَانَ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي نِصْفِ الْكَسْبِ، فَالشَّرِيكُ بِمَا قَالَ يَدَّعِي بِمِلْكِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ مَاتَ فَيَأْخُذَانِ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ. قَالَ: لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُمَا. قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ الْمُتَفَاوِضَانِ وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ثُمَّ وَجَدُوا مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: كَانَ هَذَا فِي قَسْمِنَا؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ، فَدَعْوَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْيَمِينُ. فَإِذَا حَلَفُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ صُدِّقُوا إنْ كَانُوا قَدْ أَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اخْتِصَاصِهِمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ الْإِشْهَادُ بِالْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ مَا يَحْلِفُ الْآخَرُونَ مَا دَخَلَ هَذَا فِي قَسْمِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْيَدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْ فِيهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، بَلْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ دَعْوَى الْبَعْضِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. وَبَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مُطْلَقًا، فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَالٌ فَقَالُوا: هَذَا لِأَبِينَا قَبْلَ الْمُفَاوَضَةِ؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَوْ ادَّعَى الْمُوَرِّثُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ نِصْفَيْنِ - كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ - فَكَذَلِكَ دَعْوَى الْوَرَثَةِ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ ثُمَّ أَقَرُّوا بِهَذَا، وَلِلْفَرِيقِ الْآخَرِ نِصْفه؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَكَانَ حُكْمُ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ كَمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا. قَالَ: (وَكُلُّ مَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ التِّجَارَةِ، وَغَيْرِهَا فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ) إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي كِسْوَتِهِ وَكِسْوَةِ عِيَالِهِ وَقُوتِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَاصَّةً - دُونَ شَرِيكِهِ - لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا جَمِيعًا، وَالْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ فَقَالَ: هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَضِيَّةِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ شَارَكَ صَاحِبَهُ كَانَ عَالِمًا بِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُفَاوَضَةِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ عِيَالِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 حَاجَتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالشِّرَاءِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنِيًا هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ تَصَرُّفِهِ كَمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ كَالِاسْتِثْنَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ شَرْعًا فِيمَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوِقَايَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا سِوَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ. فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ لَهُ خَاصَّةً، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَاشَرَ سَبَبَ الِالْتِزَامِ، وَالْآخَرُ كَفَلَ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ بِالشِّرَاءِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ. فَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ رَجَعَ الْمُؤَدِّي عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَدْ قُضِيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَشْيَاءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَجَحَدَ الْمُفَاوَضَةَ؛ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِجُحُودِهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَجُحُودُهُ يَكُونُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِالْجُحُودِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى. وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ. فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا - كَالْمُودَعِ إذَا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ -. وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَيِّتِ أَمَانَةٌ، فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا. فَإِنْ مَاتَا وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى رَجُلٍ فَوَصِيُّ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِمَا وَلَّى مُوصِيهِ مُبَايَعَتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِهِمَا، وَلَا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ. فَإِذَا قَبَضَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِالْمُفَاوَضَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَصِّي قَبَضَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ، كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جَارِيَةً لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لِيَطَأَهَا: فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ؛ فَهِيَ بَيْنَهُمَا) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ مَا صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُعْلَمُ وُقُوعُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الشَّرِكَةِ؛ فَيَقَعُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ - وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ - وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَيَحْتَسِبَانِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ حِصَّةِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ. (وَذُكِرَ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَأَيُّهُمَا نَقَدَ الثَّمَنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّيَا الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. فَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 قَوْلُهُمَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِهَا بِالشِّرَاءِ فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ - كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ -؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِ الشَّرِيكِ لِيَصِيرَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الْتَحَقَ بِالْمُسْتَثْنَى بِدُونِ إذْنِهِ - وَهُوَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: صَارَ مُشْتَرِيًا الْجَارِيَةَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَقَدْ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مَعَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلَكِنَّ تَأْثِيرَ إذْنِ شَرِيكِهِ فِي تَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشْتَرَى بَعْدَ الشَّرِكَةِ، فَيَكُونُ وَاهِبًا لِنَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ. وَلَوْ أَنَّهُمَا اشْتَرَيَا جَارِيَةً ثُمَّ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَهُ خَاصَّةً يَطَؤُهَا، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا مِثْلُهُ. يُقَرِّرُهُ: أَنَّ إذْنَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمَا مُعْتَبَرٌ فِيمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ إذْنِهِ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ بِدُونِ إذْنِ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى يَكُونُ لَهُمَا، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ إذْنِ الشَّرِيكِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِهِ فِي الْقَرَارِ الْمُشْتَرَى بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ: إمَّا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِهِبَةِ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ، وَيُجْعَلُ هَذَا الطَّرِيقَ الْمُتَعَيَّنَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا كَتَصْرِيحِهِمَا بِهِ - بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ - لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، فَكَانَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً بِعَقْدِ الشِّرَاءِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَوَطِئَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَقْدِ أَيَّهُمَا شَاءَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ - وَهُوَ الشِّرَاءُ - فَإِنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقْرِ عَلَيْهِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ حَتَّى يُعْتَقَ. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا جَارِيَةً مِنْ تِجَارَتِهِمَا بِنَسِيئَةٍ؛ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا بَائِعٌ وَالْآخَرُ تَبَعٌ لَهُ، وَمَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ؛ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَقْدِ. وَإِنْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ؛ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرَى عَنْ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَانَ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يَجُزْ إبْرَاؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ هَذَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْإِبْرَاءَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ جَازَ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ، فَيَجُوزُ إسْقَاطُ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي. فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الْبَائِعِ: الشَّرِيكُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا عَاقِدٍ؛ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ، وَإِنْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ مِنْ الْمُفَاوِضِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عَنَانٍ. قَالَ: (وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ؛ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِنَسِيئَةٍ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَفِعْلُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَفِعْلِهِمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا عِينَةً عِينَةً، وَصُورَةُ الْعِينَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لِيَبِيعَهُ بِقِيمَتِهِ بِالنَّقْدِ، فَيَحْصُلَ لَهُ الْمَالُ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ بِفِعْلِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِيهِ كَفِعْلِهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ بِالنَّسِيئَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جِنْسُ ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَشِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَوِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ لَا تُسْتَفَادُ بِشَرِكَةِ الْعَنَانِ، وَتُسْتَفَادُ بِالْمُفَاوَضَةِ. قَالَ: (وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَأْسَ مَالٍ أَسْلَمَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي طَعَامٍ؛ كَانَ جَائِزًا عَلَى شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا، وَالتَّوْكِيلُ بِقَبُولِ السَّلَمِ لَا يَصِحُّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ (قُلْنَا): هَذَا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ هَكَذَا، فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ تِجَارَةٍ - وَقَبُولُ السَّلَمِ مِنْ التِّجَارَةِ - يُوَضِّحُهُ: أَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ تَبَعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالْتِزَامُ ضَمَانِ مَا فِي الذِّمَّةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعَمَلٍ - مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ نَحْوِهَا -. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ الْمُفَاوَضِ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ. فَكَذَلِكَ قَبُولُ السَّلَمِ. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ مَاتَ؛ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، فَإِنَّمَا تَبْقَى وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ وَالْخُصُومَةِ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ أَوْ إلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ وَارِثٍ، وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ؛ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ مِلْكُهُ إذَا قَبَضَهُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، فَإِذَا دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ بِنَفْسِهِ؛ بَرِئَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 اسْتِحْسَانًا - كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ اسْتِحْسَانًا. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِنْ الشَّرِكَةِ لِيَقْطَعَهُ؛ جَازَ) لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ مُقَيَّدٌ، فَإِنَّ الثَّوْبَ قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْعِ يَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا لِكِسْوَتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ صَاحِبِهِ. وَالشِّرَاءُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا كَانَ صَحِيحًا - كَالْمَوْلَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ لِنَفْسِهِ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ كَانَ صَحِيحًا -. قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ جَارِيَةً لِيَطَأَهَا، أَوْ طَعَامًا يَجْعَلُهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ؛ فَهَذَا الْبَيْعُ مُقَيَّدٌ يَجِبُ بِهِ الثَّمَنُ)، ثُمَّ نِصْفُ الثَّمَنِ لَهُ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِلتِّجَارَةِ؛ كَانَ بَاطِلًا) لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَالْعَقْدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الشَّرْعِيَّةَ أَسْبَابٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْفَائِدَةِ، فَإِذَا خَلَتْ مِنْهَا كَانَتْ لَغْوًا، وَاللَّغْوُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَبْدٌ مِيرَاثٌ فَاشْتَرَاهُ الْآخَرُ لِلتِّجَارَةِ؛ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الْمُفَاوَضَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَلَا يُفْسِدُ الْمُفَاوَضَةَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمِلْكِ الدَّيْنِ، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَقَدْ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ. (وَكَذَلِكَ) إنْ كَانَتْ أَمَةً لِأَحَدِهِمَا مِيرَاثًا، اشْتَرَاهَا الْآخَرُ مِنْهُ لِيَطَأَهَا. [ارْتَدَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ] قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُقَسِّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ إذَا فَقَدَ مَوْتَهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى، وَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ كَانَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ؛ فَلَا تُقْطَعُ الشَّرِكَةُ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ لِصَاحِبِهِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَلَحَاقِهِ، مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ. فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا؛ فَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا قَدْ انْقَطَعَتْ بِتَمْوِيتِ الْقَاضِي إيَّاهُ حِينَ قَضَى بِلَحَاقِهِ. وَفِي رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ اخْتِلَافٌ وَكَلَامٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَلْتَحِقْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -)؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عِنْدَهُ، وَيَبْطُلُ إذَا قُتِلَ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ شَرِيكَ الْعَنَانِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا: شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ، فَكَذَلِكَ تَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ. وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَتُوقَفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا إذَا بَاشَرَهُ ابْتِدَاءً. وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَوَقَّفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا تِلْكَ الزِّيَادَةُ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ. وَإِنَّمَا بَقِيَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ بَيْنَهُمَا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ. قَالَ: (وَبَيْعُ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَشِرَاؤُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ) وَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا بِدَيْنٍ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَتَوَقَّفَ أَمْرُ الْمُرْتَدِّ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُسْلِمُ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ إلَّا أَنَّ أَصْلَهُ إقْرَار الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا قُتِلَ بَطَلَ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ - وَأَصْلُ إقْرَارِ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ عَلَى إسْلَامِهِ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ بَطَلَ ذَلِكَ، وَيَبْقَى الْمُسْلِمُ مُطَالَبًا بِهِ. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَتَاعًا ثُمَّ افْتَرَقَا، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِافْتِرَاقِهِمَا؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ كُلَّهُ) لِأَنَّ بَيْعَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ مُثْبَتٌ عَلَى حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِصَاحِبِهِ؛ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا، مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى إذَا قَضَى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْفُرْقَةِ؛ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى أَحَدِهِمَا، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا مَا لَمْ يَعْلَم بِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى شَرِيكِهِ، فَهُمَا بِالِافْتِرَاقِ قَصَدَا عَزْلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَعَزْلُ الْوَكَالَةِ قَصْدًا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، حَتَّى إذَا عَلِمَ بِالْفُرْقَةِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ الْمَالِ إلَّا إلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَزْلِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ؛ لَمَّا عَلِمَ بِهِ؛ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا؛ لِتَحَوُّلِ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، - بِخِلَافِ مَا إذَا عَزَلَهُ قَصْدًا -. قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرَى بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ إلَّا الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ خَاصَّةً ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَاقِدُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ كَانَ وَكِيلًا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَحُكِمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، أَوْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ، ثُمَّ افْتَرَقَا؛ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ، فَصَارَ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ. فَافْتِرَاقُهُمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَنْ مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ. قَالَ: (وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْد بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَقَدْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَهَا؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَوْقُوفًا، فَيَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْمُسْتَحَقِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ. فَأَمَّا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَحِيحًا إلَى وَقْتِ الرَّدِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْآخَرَ. قَالَ: (رَجُلٌ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِلْخَيَّاطِ شَرِيكٌ فِي الْخِيَاطَةِ مُفَاوَضَةً؛ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ مَا بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا. (فَإِنْ قِيلَ): عَمَلُ الْخِيَاطَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ الْكَفِيلِ عَنْهُ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ؛ لَمْ تَجُزْ كَفَالَةُ الْغَيْرِ عَنْهُ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِهِ؛ (قُلْنَا): مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ؛ فَلَا تَظْهَرُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَلَا جَرَمَ إذَا تَفَرَّقَا أَوْ مَاتَ الَّذِي قَبَضَ الثَّوْبَ؛ لَمْ يُؤَاخَذْ الْآخَرُ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاتِّحَادِ هُوَ الشَّرِكَةُ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ؛ فَكَانَ الشَّرْطُ عَلَى الْخَيَّاطِ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ. وَإِذَا مَاتَ الَّذِي قَبِلَ؛ بَطَلَ هَذَا التَّقَبُّلُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْخِيَاطَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ بِمَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ صَحِيحٌ، وَبِمَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ بَاطِلٌ. وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ هَذَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهَذَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ؛ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ. وَبَعْدَ صِحَّتِهَا: إذَا مَاتَ الْخَيَّاطُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كِرَاءِ الْإِبِلِ، إذَا مَاتَ الْجَمَّالُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كُرُّ حِنْطَةٍ، وَكُرُّ شَعِيرٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبَيْعِهِ، فَاسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً، فَحَمَلَ عَلَيْهَا الْآخَرُ الشَّعِيرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ كَانَ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ، وَلِحِصَّةِ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ وَلِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الشَّعِيرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّابَّةِ، وَنَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ إذَا تَلِفَتْ بِحَمْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَشَرِيكِ الْعَنَانِ وَالْمُفَاوَضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَمْلِ، كَمَا أَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ فِي الْأَصْلِ بِمَا إذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا، أَوْ يَعْمَلَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الشَّرِكَةِ، كَالْعَنَانِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْعَنَانِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَفِي التَّقَبُّلِ يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ، وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا فَرْقَ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ اشْتَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي التَّقَبُّلِ، فَأَمَّا مَعَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ؛ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا. وَفِي النَّوَادِرِ أَيْضًا أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ لَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ فِي التَّقَبُّلِ هُمَا تَابِعَانِ لِلْعَمَلِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْعَمَلِ، فَيَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ. فَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ: هُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، فَمَعَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا شَرْطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ. وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، فَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَتَقَوَّمُ بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ، بِخِلَافِ عَيْنِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَحَدِهِمَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ، وَلَا ضَمَانٍ. وَإِذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْآخَرَ مُطَالَبٌ بِذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُطْلَقَةً؛ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ - قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا - فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُطَالَبُ إلَّا مَنْ تَقَبَّلَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَنَانٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ لَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقَبُّلَ مَقْصُودٌ بِالشَّرِكَةِ، فَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ. وَعَلَى هَذَا: إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا؛ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَجْرِ - اسْتِحْسَانًا - لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِهِمَا. وَبَيَانُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا: أَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 الشَّرِكَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذَا - بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فِي الدَّيْنِ -. وَذَكَرَ الشَّارِحُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا - اسْتِحْسَانًا أَيْضًا - وَأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ فِيهِ، فَأَقَرَّ بِهِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ - أَيْضًا اسْتِحْسَانًا - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ، فَيَقُولُ: إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ، وَمَا يَتْلَفُ بِجِنَايَةٍ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِهِ وَاسْتِهْلَاكِهِ، وَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ مَا جَنَتْ يَدُهُ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ، وَمَا فِي الْعَمَلِ كَالْمُتَفَاوِضِينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ إلَى أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَحَلَّ الْعَمَلِ، وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُهُمَا عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ] قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يَحْتَطِبَا الْحَطَبَ يَبِيعَانِهِ، فَمَا بَاعَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً)؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، فَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِيهِ. وَلَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِأَنْ يَحْتَطِبَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَانَ الْحَطَبُ الَّذِي لَمْ يَحْتَطِبْ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - فِي الْمَعْنَى - يُوَكِّلُ صَاحِبَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ لَهُ، وَلِأَنَّ الِاحْتِطَابَ اكْتِسَابٌ، وَالِاكْتِسَابُ فِي الْمَحَلِّ الْمُبَاحِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ بَعْضَ كَسْبِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ فِيهِ. أَوْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُفَاوَضِ مَعَ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا يَكْتَسِبُهُ صَاحِبُهُ، وَهَذَا مُفَاوَضَةٌ فِي الْمَجْهُولِ؛ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا احْتَطَبَ وَثَمَنُهُ إذَا بَاعَ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِنْ احْتَطَبَ أَحَدُهُمَا، وَأَعَانَهُ الْآخَرُ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الَّذِي احْتَطَبَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ؛ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: قَدْ رَضِيَ هَذَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى، فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ حِنْطَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا، فَحَمَلَهَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ؛ إذْ الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ الْعَقْدِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَمْ تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ؟ وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَمْ لَا؟. وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا أَوْلَى، بِخِلَافِ حَمْلِ الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ الْقَفِيزَ مِنْهَا مَعْلُومٌ؛ فَاعْتُبِرَ رِضَاهُ بِالْمَعْلُومِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَعَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، نَحْوَ احْتِشَاشِ الْحَشِيشِ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ، وَالْبَرَادِي مِنْ الْجَوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا عَمِلَا ذَلِكَ، وَخَلَطَاهُ ثُمَّ بَاعَا؛ قُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلٍ وَوَزْنٍ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ كَانَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَالِكًا لِمَا أَصَابَهُ. وَالثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يُقْسَمُ عَلَى مَالِيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَالِيَّةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تُعْرَفُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ فَلِهَذَا قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا؛ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَالِيَّةِ، فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، بِمَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ - وَقَدْ كَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ إلَى النِّصْفِ إنَّمَا يَدَّعِي مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَرْءُ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ بِدَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ بِنَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ لَا يَمْلِكَانِهَا، أَوْ الْجِصِّ أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الْكُحْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا يُلْبِنَانِ مِنْ طِينٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ أَوْ يُطَبِّخَانِهِ آجِرًا، أَوْ يُشْرِكَانِ عَلَى طَلَبِ الْكُنُوزِ، أَوْ عَلَى الِاصْطِيَادِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ؛ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مُبَاحًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مِنْ طِينِ النُّورَةِ مَمْلُوكًا، فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا مِنْهُ، وَيَطْحَنَاهُ؛ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا رَأْسُ مَالٍ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي هَذَا النَّوْعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ: إذَا اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ يَشْتَرِيَانِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ جَازَ. وَإِنْ اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيَانِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ؛ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا اشْتَرَكَا فِي الِاصْطِيَادِ - فَنَصَبَا شَبَكَةً أَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 أَرْسَلَا كَلْبًا لَهُمَا -؛ فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ - وَهُوَ الِاصْطِيَادُ -. وَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لِأَحَدِهِمَا فَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا؛ فَالصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبٌ، فَأَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ كَلْبَهُ، فَإِنْ أَصَابَ كُلُّ كَلْبٍ صَيْدًا عَلَى حِدَةٍ؛ كَانَ ذَلِكَ الصَّيْدُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا، فَأَثْخَنَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ، فَأَعَانَهُ؛ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ، حَتَّى جَاءَ الْآخَرُ، فَأَثْخَنَاهُ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ إذَا وُجِدَ مِنْ صَاحِبِ الْكَلْبِ فَقَدْ تَمَّ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ - وَهُوَ الِاصْطِيَادُ - وَالْآخَرُ مُعِينٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ، فَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا فَقَدْ اسْتَوَى الْمَالِكَانِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَحَدُ الْكَلْبَيْنِ، فَأَثْخَنَهُ؛ فَقَدْ تَمَّ أَخْذُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ - بِفِعْلِهِ - مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا، وَإِنْ أَثْخَنَاهُ جَمِيعًا؛ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ؛ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ، وَلِلْآخَرِ بَعِيرٌ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَا ذَلِكَ، فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذَا فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يُؤَاجِرَ دَابَّتَهُ؛ لِيَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لَهُ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَجِّرْ دَابَّتَك عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْرِ لِي؛ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لِي؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ يُعْتَبَرُ بِبَدَلِ الْعَيْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْ دَابَّتَك، عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ ثَمَنِهَا لِي؛ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مُبَاشَرَتَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ، وَالْمَالِكُ يَبِيعُ دَابَّتَهُ وَيُؤَاجِرُهَا قَبْلَ التَّوْكِيلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ عِنْدَ الْمُبَاحِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ؛ فَلِهَذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ نَظَرُ الْغَبْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ، فَإِنْ أَجَّرَهُمَا جَمِيعًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ؛ قُسِمَ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ، وَأَجْرِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لِلدَّابَّتَيْنِ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْمَنْفَعَةِ كَالْقِيمَةِ فِي الْعَيْنِ، فَكَمَا لَوْ بَاعَا الدَّابَّتَيْنِ قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُمَا، وَلَوْ تَقَبَّلَا حُمُولَةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَمْ يُؤْجَرْ الْبَغْلُ، وَالْبَعِيرُ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ بِعَيْنِهِ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَعَانَهُ عَلَى الْحُمُولَةِ وَالنُّقْلَانِ؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الْأَجْرِ الَّذِي أَجَّرَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَهَذِهِ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى سَوَاءٌ. قَالَ: (وَلَيْسَتْ الشَّرِكَةُ فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ بِأَعْيَانِهَا مِثْلَ الشَّرِكَةِ فِي عَمِلَ أَيْدِيهِمَا بِأَدَائِهِمَا)، حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ قَصَّارَانِ، لِأَحَدِهِمَا أَدَاةُ الْقَصَّارِينَ، وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْتِ هَذَا، عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ بِالتَّقَبُّلِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ. وَهُنَا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ؛ لَمْ يَجُزْ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا. قَالَ: (وَلَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ، لِأَحَدِهِمَا دَابَّةٌ، وَلِلْآخَرِ إكَافٌ وَجَوَالِيقُ، عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ بِطَرِيقِ اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ أَجَّرَ الدَّابَّةَ؛ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مَعَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَمَّا الْإِكَافُ، وَالْجَوَالِيقُ يَتَأَتَّى الْحَمْلُ بِدُونِهِمَا، فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ؛ فَكَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَقَدْ أَعَانَهُ الْآخَرُ بِنَفْسِهِ وَأَدَائِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ أَجْرِ الدَّابَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ: (رَجُلٌ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ يُؤَجِّرُهَا عَلَى أَنَّ مَا أَجَّرَهَا بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ)؛ اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِهِ بِالْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الدَّيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ الدَّابَّةَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ وَكِيلُهُ فِي إجَارَتِهَا، وَإِجَارَةُ الْوَكِيلِ كَإِجَارَةِ الْمُوَكِّلِ، وَلِلَّذِي أَجَّرَهَا أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهَا عِوَضًا، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْعَقْدِ؛ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ السَّفِينَةُ وَالْبَيْتُ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً يَبِيعُ عَلَيْهَا الْبُرَّ وَالطَّعَامَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ)؛ فَإِنَّ رَأْسَ مَالِ أَحَدِهِمَا عَرَضٌ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ مَنْفَعَةُ دَابَّتِهِ، فَإِذَا فَسَدَتْ شَرِكَتُهُ فَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْبُرِّ وَالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَإِنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بَدَلَ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ الْعِوَضَ؛ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالسَّفِينَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 فِي هَذِهِ كَالدَّابَّةِ اعْتِبَارًا لِمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصَّيْدِ] (كِتَابُ الصَّيْدِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَأَدْنَى دَرَجَاتِ صِفَةِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْآيَةَ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» فَعَلَى هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَسَبَبُهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَهُوَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فَكَانَ مُبَاحًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّيْدُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لِمَا فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ بِجِلْدِهِ أَوْ دَفْعِ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ. وَالْحَيَوَانَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنْهَا مَا لَا دَمَ لَهُ، فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَنَاوُلِ الْحَيَوَانَاتِ الذَّكَاةُ شَرْعًا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ لَهُ فِيمَا لَا دَمَ لَهُ، إلَّا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مُسْتَثْنَى بِالنَّصِّ مِمَّا شُرِطَ فِيهِ الذَّكَاةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيِّتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» وَمَالَهُ دَمٌ نَوْعَانِ مُسْتَأْنَسٌ، وَمُسْتَوْحِشٌ، فَاَلَّذِي يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ بِالِاتِّفَاقِ الْأَنْعَامُ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالدَّجَاجُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] وَفِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُتَأَنَّسِ نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُسْتَوْحَشُ نَوْعَانِ: مِنْهَا صَيْدُ الْبَحْرِ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى السَّمَكِ، وَمِنْهَا صَيْدُ الْبَرِّ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهَا إلَّا مَا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» وَلِمَعْنَى الْخُبْثِ فِيهِمَا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِهِمَا الِاخْتِطَافَ وَالِانْتِهَابَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَثَرِ ذَلِكَ فِي خُلُقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْغِذَاءِ مِنْ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ، فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي» وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَلِهَذَا حَرَّمَ تَنَاوُلَ الْحَشَرَاتِ، فَإِنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَنَا أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] فَقَدْ أَكْرَمَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ حَيْثُ خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] الْآيَةَ. ثُمَّ شَرَطَ حِلَّ التَّنَاوُلِ مِنْهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا بِالذَّكَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وَزَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الذَّبْحَ وَالتَّذْكِيَةَ مَحْظُورٌ بِالْعَقْلِ لِمَا فِيهَا مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ، وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَنَاوَلُ مِنْ اللَّحْمِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ» وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِاسْمِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَقْلًا كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالسَّفَهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ قَطُّ، ثُمَّ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةِ الْغِذَاءِ لِمَنْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ الْآدَمِيُّ. فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا مُبَاحًا إلَيْهِ، وَأَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَالْإِيلَامُ لِهَذَا الْمَقْصُودِ، فَلَا يَكُونُ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مَنْدُوبٌ، وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ فِي وَقْتِهَا. وَالذَّكَاةُ لُغَةً التَّوَقُّدُ، وَالتَّلَهُّبُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْحَيَوَانِ بِحِدَّةٍ لِأَدِلَّةٍ سُمِّيَتْ الشَّمْسُ ذَكَاءً لِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي خَاطِرِهِ حِدَّةٌ ذَكِيًّا، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الذَّكَاةِ لِتَطْيِيبِ اللَّحْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ نَوْعُ نُضْجٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُذَكَّى أَطْيَبَ لَحْمًا مِنْ الْمَيْتَةِ وَأَبْعَدَ مِنْ النَّسِيسِ وَالْفَسَادِ، وَقِيلَ: الذَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ الْفَاسِدِ النَّجِسِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْحَيَوَانِ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فَكَانَتْ الذَّكَاةُ إزَالَةً لِلْخُبْثِ، وَتَطْيِيبًا بِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ»، وَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْضُ ذَلِكَ بِالْجَرْحِ وَالتَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ مَقْدُورًا لَهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ إلَّا بِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَعَذَّرَ يَقُومُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ. ثُمَّ حِلُّ التَّنَاوُلِ بِالِاصْطِيَادِ مُخْتَصٌّ بِشَرَائِطَ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ مَا يَصْطَادُ بِهِ مُعَلَّمًا. (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ومَّا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة: 4] وَفِي مَعْنَى الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا حَقِيقَةً بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ، (وَالثَّانِي) الْكَوَاسِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أَيْ كَسَبْتُمْ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَوَاسِبِ الَّتِي تَخْرُجُ. (وَالثَّالِثُ) الْإِرْسَالُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَهُوَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: وَإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبُكَ كَلْبَ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ». فَلَمَّا حَرُمَ التَّنَاوُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِرْسَالِ فِي أَحَدِ الْكَلْبَيْنِ دَلَّ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 شَرْطٌ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيَةَ إنَّمَا تَكُونُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ إذَا حَصَلَ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ آلَةِ الصَّيْدِ نَائِبًا عَنْ الْآدَمِيِّ لِيَحْصُلَ الْحِلُّ بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِرْسَالِ، وَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا لِتَحَقُّقِ الْإِرْسَالِ فِيهِ. (وَالرَّابِعُ) التَّسْمِيَةُ. (وَالْخَامِسُ) إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يَجِبُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ. (وَالسَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مِمَّا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ، وَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَمُسْتَوْحِشًا. (وَالسَّابِعُ) أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّ مَوْتَهُ كَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى جُرْحِ مَا أَرْسَلَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِقَوْلِهِ: كُلْ مَا أَمَمْتَ، وَدَعْ مَا أَيْمَنْتَ وَالْإِمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ، وَالْإِيمَاءُ مَا غَابَ عَنْكَ، وَإِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَوْ تَبِعَهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا، وَقَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْمَذْبَحِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي الصَّيْدِ لَعَلَّ وَعَسَى أَنْ لَا يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِلَيْهِ «أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمَكَ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: كَمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا أَرْسَلَهُ الصَّيَّادُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا فَكَذَلِكَ فِيمَا يُرْمَى بِهِ، وَبِهَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا خُرِقَ الْمِعْرَاضُ فَكُلْ، وَإِذَا لَمْ يَخْرِقْ فَلَا تَأْكُلْ، وَالْمِعْرَاضُ سَهْمٌ لَا نَصْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ مُحَدَّدًا، وَقِيلَ: سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ فَرُبَّمَا يُصِيبُ السَّهْمُ عَرْضًا يَنْدَقُّ وَلَا يَخْرُجُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ: - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَجَرَحَ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَلَا تَأْكُلْ» وَالْحَرَقُ هُوَ الْخَرَقُ إلَّا أَنَّ لَفْظَةَ الْحَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا حَيَاةَ لَهُ، كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، وَلَفْظَةُ الْخَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ إذَا خُرِقَ، وَلَا يَحْصُلُ إذَا دُقَّ وَلَمْ يُخْرَقْ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَذُكِرَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَتْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَيِّ نَعَامَةٌ فَضَرَبَهَا إنْسَانٌ فَوَقَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَى كُنَاسَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ فَسَأَلْنَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: ذَكُّوهَا وَكُلُوهَا، وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّ الْمَوْقُوذَةَ إذَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وَلِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَمِنْهُ دَلِيلُ إبَاحَةِ تَنَاوُلِ النَّعَامَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَلْبِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَقَالَ: كُلْ، وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي أَخَذَهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ»، وَلِأَنَّهُ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ دُونَ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ أَوَّلًا فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا وَتَنَاوُلُ الْكَلْبِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ لَا يَحْرُمُ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ فَتَّشَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ وَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْقَدِيدِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ أَوْ مُرَادُهُ إذَا وَلَغَ فِي دَمِ الصَّيْدِ، وَعِنْدَنَا ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُحَرِّمُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِفِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ سَعْيَهُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْعَدَمَ الْإِرْسَالُ أَصْلًا. (ثُمَّ) ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْبَازِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَيَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ: كُلْ، وَقَالَ: تَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَكَ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَضْرِبَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَازِي وَالْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ جُثَّةَ الْكَلْبِ تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِيَدَعَ الْأَكْلَ، وَجُثَّةُ الْبَازِي لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْكَلْبَ أُلُوفٌ، وَعَلَامَتُهُ عِلْمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِطَبْعِهِ، وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِطَبْعِهِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ. بَلْ يَكُونُ عَلَّامَةَ عِلْمِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ طَبْعِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا، وَالشَّرْطُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَالْبَازِي مُنَفِّرٌ فَأَجَابَتْهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ خِلَافُ طَبْعِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَامَةَ عِلْمِهِ دُونَ تَرْكِ الْأَكْلِ، فَهُوَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْحِشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْكَلْبِ يَشْرَبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَحْرُمُ بِذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 لِأَنَّ دَمَ الصَّيْدِ جُزْءٌ مِنْهُ كَلَحْمِهِ فَتَبَيَّنَ شُرْبُهُ مِنْ دَمِهِ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا دَلِيلُ حَذْقِهِ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّمًا؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ رَغْبَتَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ عِلْمِهِ، وَإِمْسَاكه عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ بَازِيهِ يَصِيدُ بِهِ الْمُسْلِمُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّيَّادَ مُرْسِلُ الْكَلْبِ لَا مَالِكُ الْكَلْبِ، وَمُرْسِلُ الْكَلْبِ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ، وَالْكَلْبُ آلَةُ الِاصْطِيَادِ فَاصْطِيَادُ الْمُسْلِمِ بِهِ يُوجِبُ الْحِلَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَجُوسِيِّ فَهُوَ كَاصْطِيَادِهِ بِقَوْسِهِ وَسَهْمِهِ (وَعَنْهُ) فِي الرَّجُلِ يُرْسِلُ كَلْبَهُ فَيَذْهَبُ مَعَهُ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَيَأْخُذُ الصَّيَّادَ مَعَهُ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْكَلْبِ مِنْ شَرَائِطِهِ الْحِلُّ، وَانْعِدَامُهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّيْدُ صَارَ مَأْخُوذًا بِالْكَلْبَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مُوجِبُ الْحِلِّ، وَمُوجِبُ الْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ». [رَمَى صَيْدًا فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ] وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: مَنْ رَمَى صَيْدًا فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَلَا يَأْكُلْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ التَّرَدِّي قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَى طَيْرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَقُ قَتَلَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُكَ» وَلِأَنَّ التَّرَدِّي وَجَبَ لِلْحُرْمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ جُمْلَةَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَرَدِّيَةِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ مَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى طَيْرًا فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، بِخِلَافِ الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي مِنْ مَوْضِعٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ طَيْرُ الْمَاءِ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ طَيْرَ الْمَاءِ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ غَيْرَ مَجْرُوحٍ، فَأَمَّا بَعْدَ الْجُرْحِ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَاتِلًا لَهُ، كَمَا يُتَوَهَّمُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً، وَتَرَدَّى بَعْدَ الذَّبْحِ مِنْ مَوْضِعٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ ذَكَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِنَّهُ يُحَادِي بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ دُونَ مَا يَتَعَرَّضُ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الرَّمْيُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، حَتَّى إذَا وَقَعَ الصَّيْدُ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 يَدِ الرَّامِي حَيًّا لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِالذَّبْحِ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّرَدِّي مِنْ الْجَبَلِ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ مُحَرِّمًا لَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْمِي يَصِفُونَهُ بِالْبَادِيَةِ يَنْصِبُونَ السِّنَانَ فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَتَلَ الضَّبُعَ، فَقَالَ لِي: وَإِنَّكَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ.؟ قُلْتُ: مَا أَكَلْتُهَا قَطُّ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَدَقْتَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الضَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبُعِ «لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ.؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.؟ قَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ: أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.؟ قَالَ: نَعَمْ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» وَلِأَنَّهُ ذُو نَابٍ يُقَاتِلُ بِنَابِهِ، فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالذِّئْبِ، وَتَأْثِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْأَذَى وَالْبَلَادَةِ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِنُزُولِ الْآيَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ شَرْعًا فَمَا يُرْوَى مِنْ الْحِلِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ بِحَسَبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَعِنْدَهُ لِأَنَّهُ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، فَأَمَّا مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْمُرَادُ بِالْخَطْفِ مَا يَخْتَطِفُ بِمِخْلَبِهِ مِنْ الْهَوَاءِ كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالشَّاهِينِ، وَالْمُنْهِبَةُ مَا يَنْتَهِبُ بِنَابِهِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، وَفِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْحُرْمَةِ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إلَى الْأَكْلِ هَذَا الْخُلُقُ الرَّدِيءُ، وَفِي الْمُحَتَّمَةِ رِوَايَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْفَتْحِ مَا يُحْتِمُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَيَقْتُلُهُ غَمًّا لَا جُرْحًا، فَذَلِكَ الصَّيْدُ حَرَامٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِيهِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْكَسْرِ مَا يُحْتِمُ عَلَى الصَّيُودِ كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ «وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» مَا يَقْصِدُ بِنَابِهِ، وَيَدْفَعُ بِهِ، فَأَمَّا أَصْلُ النَّابِ يُوجَدُ لِكُلِّ صَيْدٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا بَيَّنَّا. ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَمَا أَكَلَ الْجِيَفَ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْفِرَاقِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ مُسْتَخْبَثٌ طَبْعًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. (وَعَنْ) هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْغُرَابِ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ مَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسِقًا» يُرِيدُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ «خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلُهُمْ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» وَذَكَرَ الْغُرَابَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَأَمَّا الْغُرَابُ الزَّرْعِيُّ الَّذِي يَلْتَقِطُ الْحَبَّ فَهُوَ طَيِّبٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْبَثٍ طَبْعًا، وَقَدْ يَأْلَفُ الْآدَمِيَّ كَالْحَمَامِ فَهُوَ وَالْعَقْعَقُ سَوَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ، فَإِنْ كَانَ الْغُرَابُ بِحَيْثُ يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ تَارَةً وَالْحَبَّ تَارَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ. (وَعَنْ) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قِيَاسِ الدَّجَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَقَدْ أَكَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهِيَ قَدْ تَخْلِطُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلَحْمُهُ يَنْبُتُ مِنْ الْحَرَامِ فَيَكُونُ خَبِيثًا عَادَةً، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا يَخْلِطُ. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ» وَبِهِ نَأْخُذُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُبَالِغَ الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ حَتَّى يَبْلُغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ، وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّبْغَانِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَلْيَحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَالنَّخْعُ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَرُوِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَجُرُّوا الْعَجْمَاءَ إلَى مَذْبَحِهَا بِرِجْلِهَا، وَأَحِدُّوا الشَّفْرَةَ، وَأَسْرِعُوا الْمَمَرَّ عَلَى الْأَوْدَاجِ، وَلَا تَحُفُّوا. (وَعَنْ) مَكْحُولٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَبَحَ لَمْ يَنْخَعْ، وَلَمْ يَبْدُ بِسَلْخٍ حَتَّى تَبْرُدَ الشَّاةُ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَرْكِ التَّرَحُّمِ فِي شَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ جُهَّالُ الْمُتَقَشِّفَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلذَّابِحِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. (وَعَنْ) عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ قَدْ أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ، وَهِيَ مُلَاحِظَةٌ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرَدْتَ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَضَرَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ رَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالدُّرَّةِ حَتَّى هَرَبَ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 رَجُلًا وَقَدْ أَخَذَ أُذُنَ شَاةٍ، وَهُوَ يَجُرُّهَا إلَى الْمَذْبَحِ فَقَالَ: قُدْهَا إلَى الْمَوْتِ قَوْدًا رَفِيقًا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: خُذْ سَاقَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَا هِبْت الْبَهَائِمَ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ خَالِقِهَا، وَرَازِقِهَا، وَحَتْفِهَا، وَسِفَادِهَا» فَإِذَا كَانَتْ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَفِيهِ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ، وَلَكِنَّ الشَّاةَ لَا تَحْرُمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الذَّكَاةِ، وَهِيَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْهَا قَدْ وُجِدَ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَقَدْ وُجِدَ (وَعَنْ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ آلَةِ الذَّبْحِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا إنْهَارُ الدَّمِ، وَإِفْرَاءُ الْأَوْدَاجِ، وَالْإِنْهَارُ التَّسْيِيلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ فِيهِ، وَالنَّهَارُ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْعِبَادِ، وَالْإِفْرَاءُ الْقَطْعُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْدَاجِ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّكَاةِ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ بِتَسْيِيلِ الدَّمِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْمُرَادُ بِمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ السِّنِّ وَالظُّفْرِ الْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ يَصِيرُ قَاتِلًا لَا ذَابِحًا، فَإِنَّهُمَا مِنْهُ، وَآلَةُ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْقِطَاعِ الْأَوْدَاجِ بِالْقُوَّةِ لَا بِحِدَّةِ الْآلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ، وَهُمْ إنَّمَا يُعْتَادُونَ الذَّبْحَ بِسِنِّ أَنْفُسِهِمْ، وَظُفُرِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا فِي الذَّبْحِ بِالسِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ وَالظُّفُرِ الْمَنْزُوعَةِ وَالْعَظْمِ الْمُنْفَصِلِ إذَا كَانَ مَحْدُودًا اخْتِلَافٌ نُبَيِّنُهُ [ذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ] (وَعَنْ) عَامِرٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ وَتَحْرِيكَهُ الشَّفَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ النَّاطِقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَكُونُ النَّاطِقُ شَارِعًا بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ لِلذَّبْحِ يَكُونُ لِلذَّابِحِ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِ التَّوْحِيدَ، وَالْأَخْرَسُ مُعْتَقِدٌ لِذَلِكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ بَعْدَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْرَاضُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَعُذْرُهُ أَبْلَغُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي، وَإِذَا كَانَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ يَنْعَدِمُ الْإِعْرَاضُ، فَبِعُذْرِ الْخَرَسِ أَوْلَى. (وَعَنْ) عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الرَّجُلِ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ أَوْ الطَّيْرَ فَقَطَعَ رَأْسَهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، (وَعَنْهُ) أَنَّهُ قَالَ تِلْكَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ أَيْ سَرِيعَةٌ. (وَعَنْ) عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ عُنُقَ بَطَّةٍ بِالسَّيْفِ فَسَبَقَ فَأَمَاتَهُ قَالَ: يُؤْكَلُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ بِالْقَطْعِ مِنْ قِبَلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 الْحَلْقِ حَتَّى أَبَانَ رَأْسَهُ، فَلَا يُشَكُّ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ، وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَإِنْ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا، فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ الشَّاةُ حَلَّتْ، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ لَمْ تُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ بِفِعْلٍ لَيْسَ بِذَكَاةٍ شَرْعًا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ (وَعَنْ) سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ بَيَانُ مَحَلِّ الذَّكَاةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْحَلْقِ وَأَوْسَطَهُ وَأَسْفَلَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ بِالذَّكَاةِ سَوَاءٌ. (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا ذَبَحْتَ، فَلَا تَذْكُرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَذْكُرُونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ فَحَرَّمَ ذَلِكَ الشَّرْعُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] وَأَمَرَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ أَوْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَعَ النَّحْرِ لَا يُذْكَرُ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ قَالَ: هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» إنَّمَا قَالَ: بَعْدَ الذَّبْحِ لَا مَعَهُ. (وَعَنْ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ بَعِيرًا مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ قَدْ نَدَّ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَقَتَلَهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ بِهَذَا ثُمَّ كُلُوهُ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحِلِّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ، وَذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ» أَيْ إنَّ لَهَا تَنَفُّرًا وَاسْتِيحَاشًا كَمَا يَكُونُ الْوَحْشُ، إلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِهَا الْإِلْفُ، وَالْوَحْشِيُّ أَغْلَبُ حَالِهِ التَّوَحُّشُ، فَإِذَا صَارَ أَلُوفًا الْتَحَقَ بِمَا هُوَ أَلُوفٌ غَالِبًا، وَإِذَا تَوَحَّشَ الْتَحَقَ بِالْوَحْشِيِّ غَالِبًا، وَالْمُرَادُ بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ مَا يُؤْخَذُ بِالصَّدَقَةِ أَوْ مَا كَانَ يُنْحَرُ لِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ. (وَعَنْ) عَتَّابَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي نَهْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَوُجِئَ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عُسَيْرًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّكَاةِ بِالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ بِتَوَحُّشِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ سُقُوطُهُ فِي مَهْوَى، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ زُهْدِهِ وَتَفَرُّدِهِ رَغِبَ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْعُسَيْرُ تَصْغِيرُ الْعَسِيرِ، وَقَدْ رُوِيَ عُشَيْرَاءُ، وَهُوَ سَوَادُ الْبَطْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْحَرُوهُ فَمِنْ حَيْثُ نُحِرَ فَهُوَ لَهُ ذَكَاةٌ. فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَعِيرِ النَّحْرُ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ، وَبِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَالْمُرَادُ الشَّاةُ، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» مَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ الْعَطْفِ مَعْلُومٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَيْ، وَسَقَيْتُهَا بَارِدًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْلَفُ [ذَكَاةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ] ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذَكَاةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ أَخْذُهُ، وَمُرَادُهُ بَيَانُ أَنَّ الذَّكَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِمَا بَلْ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِمَا بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِكَوْنِ الْآخِذِ مَجُوسِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمُذَكِّي، وَحَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ عَرَفْنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ»، وَسُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ قَالَ: كُلْهُ كُلْهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كُلْهُ كُلَّهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ تَكْرَارٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالثَّانِي بَيَانُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَأَنَّ الْجَرَادَ وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ، فَإِنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ، كَمَا قِيلَ: إنَّ بِيضَ السَّمَكِ إذَا انْحَصَرَ عَنْهُ الْمَاءُ يَصِيرُ جَرَادًا، فَإِذَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ، وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَعَاشِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ مَا رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَأَلَتْ لَحْمًا هَشًّا فَرُزِقَتْ الْجَرَادَ، وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْجَرَادِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ: لَيْتَ لَنَا قَصْعَةً مِنْ جَرَادٍ فَنَأْكُلُهُ، أَوْ قَالَ: نَقْعَةً. (وَعَنْ) عَمْرَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ وَلِيدَةٍ لَنَا فَاشْتَرَيْنَا خِرِّيتَةً بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَوَضَعْنَاهَا فِي زِنْبِيلٍ فَخَرَجَ رَأْسُهَا مِنْ جَانِبٍ، وَذَنَبُهَا مِنْ جَانِبٍ فَمَرَّ بِنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لِي: بِكَمْ أَخَذْتِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَا أَطْيَبَهُ وَأَرْخَصَهُ وَأَوْسَعَهُ لِلْعِيَالِ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مَأْكُولٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخِرِّيتِ فَقَالَ: فَأَمَّا نَحْنُ، فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 فَيَكْرَهُونَهُ، وَأَمَّا الرَّوَافِضُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُحَرِّمُونَ الْخِرِّيتَ، وَيَدَعُونَ قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ دَعْوَاهُمْ مَحَبَّتَهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِرِّيتَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَمْسُوخَاتِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلْ الْخِرِّيتُ نَوْعٌ مِنْ السَّمَكِ، وَالسَّمَكُ مَأْكُولٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْإِمَاءِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَعْنِيهِ، فَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْثَمٌ. (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ مَا أَطْيَبَ إهَابَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَطْيَبَ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمَكِ الذَّنَبُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَتَاهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ فَقَالَ: إنَّنِي فِي غَنَمٍ لِأَهْلِي، وَإِنِّي سَلِيلُ الطَّرِيقِ فَأَسْقِي مِنْ لَبَنِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: إنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ فَأُصْمِيَ وَأُنْمِي قَالَ: كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْإِصْمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ، وَالْإِنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ، وَبِهِ نَأْخُذُ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا تَوَارَى عَنْهُ، وَقَعَدَ فِي طَلَبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ لَا يَحْرُمُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِي مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّاعِيَ أَمَرَ بِالرَّعْيِ وَالْحِفْظِ وَالسَّقْيُ وَمِنْ لَبَنِهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَاعِي الْغَنَمِ فَاسْتَسْقَاهُ اللَّبَنَ» تَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّاعِيَ كَانَ يَرْعَى غَنَمَ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ بِذَلِكَ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ». (وَعَنْ) مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْنَبًا مَشْوِيًّا قَالَ: لِأَصْحَابِهِ كُلُوا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إنِّي رَأَيْتُ دَمًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: إذَنْ فَكُلْ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، قَالَ: صَوْمَ مَاذَا؟ قَالَ: صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَقَالَ: هَلَّا جَعَلْتهَا الْبِيضَ»، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الْأَرْنَبُ مَأْكُولٌ، وَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدِيَّةَ فِيهِ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِذَلِكَ (وَقَوْلُ) الْأَعْرَابِيِّ: إنِّي رَأَيْتُ دَمًا مُرَادُهُ مَا يَقُولُ جُهَّالُ الْعَرَبِ: أَنَّ الْأَرْنَبَةَ تَحِيضُ كَالنِّسَاءِ فَبَيَّنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدِيَّتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ إلَى الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، فَمَا كَانَ يَدْعُو أَحَدًا إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ وَيَقُولَ: إنِّي صَائِمٌ، وَقَدْ قَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَالَ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَوْمَ مَاذَا.؟ قَالَ: صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ «الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ كَصَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا جَعَلْتَهَا الْبِيضَ» وَالْبِيضُ الثَّالِثَ عَشْرَ، وَالرَّابِعَ عَشْرَ، وَالْخَامِسَ عَشْرَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوَّلُهَا الرَّابِعَ عَشْرَ، وَآخِرُهَا السَّادِسَ عَشْرَ، سُمِّيَتْ بِيضًا لِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي لَيَالِيِهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ اللَّيْلَ يَسْتَوِي بِالنَّهَارِ فِي الْبَيَاضِ. (وَقِيلَ:) لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ زَلَّتِهِ اغْبَرَّ جَسَدُهُ صَامَ الرَّابِعَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثُ جَسَدِهِ ثُمَّ صَامَ الْخَامِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثٌ آخَرُ ثُمَّ صَامَ السَّادِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ جَمِيعُ جَسَدِهِ، وَعَادَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ فَسُمِّيَتْ بِيضًا لِذَلِكَ «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهَا ضَبٌّ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ فَكَرِهَهُ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْعِمَهُ إيَّاهُ فَقَالَ: - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الضَّبِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحِلُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَفِي «حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَضْحَكُ» وَاعْتِمَادُنَا عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّ امْتِنَاعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ لِحُرْمَتِهِ لَا لِأَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَهَاهَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَرَاهِيَةُ الْأَكْلِ لِلْحُرْمَةِ لَأَمَرَهَا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، كَمَا أَمَرَهَا بِهِ فِي شَاةِ الْأَنْصَارِيِّ بِقَوْلِهِ: «أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: حُرْمَةُ الضَّبِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَمْسُوخَاتِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ فَرِيقَيْنِ مِنْ عُصَاةِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَخَذَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهُمَا طَرِيقَ الْبَحْرِ، وَالْآخَرُ طَرِيقَ الْبَرِّ، فَمُسِخَ الَّذِينَ أَخَذُوا طَرِيقَ الْبَرِّ ضِبَابًا، وَقِرَدَةً، وَخَنَازِيرَ (وَرُوِيَ) هَذَا الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ الْآنَ لَيْسَ بِمَمْسُوخٍ، وَإِنْ نَسَخَ قَوْمٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ؛ وَلِهَذَا عَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] لِكَوْنِهِ مُسْتَخْبَثًا طَبْعًا كَسَائِرِ الْهَوَامِّ. «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: أَصَبْنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ حُمُرًا أَهْلِيَّةً فَذَبَحْنَاهَا، وَإِنَّ الْقِدْرَ لَتَغْلِي بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكْفِئُوهَا بِمَا فِيهَا، وَنَهَى عَنْ أَكْلِهَا» فَقُلْنَا بَيْنَنَا: إنَّمَا حَرَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يُبِيحُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ رَوَى أَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ. . (وَعَنْ) طَاوُسٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ فِهْرٍ: إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَحْمَ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ حَرَامٌ قَالَ: كَانَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ فَأَتَى ذَلِكَ الْخَبَرُ يَعْنِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفِي حَدِيثِ الْحُرِّ بْنِ غَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ، فَإِنِّي إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ خَوَلِ الْقَرْيَةِ» وَاعْتَبَرُوا الْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ بِالْوَحْشِيِّ، فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلّ حَيَوَانٍ وَحْشِيُّهُ مَأْكُولٌ فَالْأَهْلِيُّ مِنْ جِنْسِهِ مَأْكُولٌ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَمَا لَا يَكُونُ أَهْلِيُّهُ مَأْكُولًا فَوَحْشِيُّهُ لَا يَكُونُ مَأْكُولًا كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَانَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ بَعْدَ مَا صَارَ لَحْمًا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الظَّهْرِ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ، فَإِنَّهُ كَانَ مَأْكُولًا فَلِلْغَانِمِينَ حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ قَبْلَ الْخُمُسِ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا حَوَلُ الْقِرْبَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَوَّالِ مُتَنَاوِلِ الْجِيَفِ كَالْجَلَالَةِ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحِمَارُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَعُرْفُنَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. (وَقَدْ) «رَوَى أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَادَى أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ»، وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ فَتُرَجَّحُ الْآثَارُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ، ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْحَبْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» أَيْ بِعْهُ، وَاسْتَنْفِقْ ثَمَنَهُ فَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ، وَالْمُرَادُ هَذَا، وَقَالَ الْقَائِلُ: إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافًا ... يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافًا ، وَالْمُرَادُ ثَمَنُ الْإِكَافِ، وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] عَلَى مَا تَبَيَّنَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اسْتَدَلَّتْ بِعَامٍ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي هَذَا الْعَامِ، وَاعْتِبَارُ الْأَهْلِيِّ بِالْوَحْشِيِّ سَاقِطٌ، فَإِنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى، وَالْمُشَابَهَةُ صُورَةً لَا تَكُونُ دَلِيلَ الْحِلِّ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْأَثَرِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ تَنَاوُلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ»، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا عَفِيرًا أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ.» ثُمَّ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالْأَمْرِ بِالْإِكْفَاءِ لِلْقِدْرِ فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الضَّبِّ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ، وَنَزَلْنَا فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضِّبَابِ فَأَخَذْنَاهَا، وَأَنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْيِيعَ الْمَالِ لَا يَحِلُّ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحُرْمَةِ. (وَعَنْ) أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»: وَعَنْ الْحُرَيْثِ قَالَ: كُنَّا إذَا نَتَجَتْ فَرَسٌ أَخَذْنَا فَلُوًّا ذَبَحْنَاهُ، وَقُلْنَا الْأَمْرُ قَرِيبٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْنَا أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ فِي الْأَمْرِ تَرَاخِيًا، وَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يُرَخِّصُ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي لَحْمِ الْخَيْلِ، فَأَمَّا أَنَا لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ، وَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قُلْتُ فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُكَ فِيهِ قَالَ: التَّحْرِيمُ، ثُمَّ مَنْ أَبَاحَهُ اسْتَدَلَّ بِالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بِبَيْعِ لَحْمِ الْخَيْلِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ طَاهِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَأْكُولٌ كَالْأَنْعَامِ، وَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 رُوِيَ فِيهِ نَهْيٌ فَلِأَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ قَلِيلَةً فِيهِمْ، وَكَانَ سِلَاحًا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ؛ فَلِهَذَا نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ لَا لِحُرْمَتِهِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] الْآيَةَ، فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فِي الْخَيْلِ، وَلَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَ مَنْفَعَةِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ، وَبِهِ بَقَاءُ النُّفُوسِ، وَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ تَرْكُ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ إظْهَارِ الْمِنَّةِ وَذِكْرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ الْأَكْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] وَلِأَنَّهُ ضَمَّ الْخَيْلَ إلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الذِّكْرِ دُونَ الْأَنْعَامِ، وَالْقُرْآنُ فِي الذِّكْرِ دَلِيلُ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ، وَبِنَحْوِهِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حِينَ كَرِهَ لَحْمَ الْخَيْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَفِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْخَيْلِ». وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ يَتَرَجَّحُ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ الرُّخْصَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ نِتَاجَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَهُوَ الْبَغْلُ؛ لِأَنَّ الْبَغْلَ نِتَاجُ الْفَرَسِ، وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا عَرَفْنَا أَنَّ الْخَيْلَ لَيْسَ بِمَأْكُولٍ. ثُمَّ الْخَيْلُ تُشْبِهُ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهَا ذَوَاتُ خُفٍّ لَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكَرَاهَةَ فِي سُؤْرِ الْفَرَسِ كَمَا فِي لَبَنِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَوْلُهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِمَعْنَى الْبَلْوَى فِيهِ، فَلِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي تَخْفِيفِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ، وَمَنْ قَالَ: الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ قَالَ: إنَّ الْفَرَسَ كَالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِهِ، وَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْآدَمِيُّ غَيْرُ مَأْكُولٍ لِكَرَامَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَالْخَيْلُ كَذَلِكَ كُرِهَ أَكْلُهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنْزِيهِ لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الْخَيْلَ طَاهِرَةَ السُّؤْرِ، وَجَعَلَ بَوْلَهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا بَأْسَ بِثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: بَيْعُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ أَصْلًا مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ» فَلَوْ كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِمَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الْبَيْعِ لَمْ يَفْتَرِقْ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ مِنْهُ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ مِنْ الرُّخْصَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ تَيْسِيرُ انْتِسَاخِ مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ، وَكَانَتْ الْكِلَابُ فِيهِمْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنَهَوْا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنٍ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ، وَهُوَ كَلْبُ الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ، وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ» وَرَوَى أَنَّهُ «قَضَى فِي كَلْبِ الصَّيْدِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَفِي كَلْبِ الْحَرْثِ بِفَرْقٍ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي كَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِشَاةٍ مِنْهُ». (وَعَنْ) عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ أَتْلَفَ كَلْبًا لِامْرَأَةٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَالْحَدِيثُ لَهُ قِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا جَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَبَيَانُ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْهِبَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِالْعِوَضِ أَيْضًا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَحِلُّ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَالْخَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ قَصْدًا بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُعَلَّمَ وَغَيْرَ الْمُعَلَّمِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ حَتَّى ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ بَاعَ جَرْوًا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الْعَقُورُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُؤْذٍ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالذِّئْبِ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْأَسَدِ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُصْطَادُ بِهِ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ عَلَى كُلِّ حَالٍّ فَجَازَ بَيْعُهُمَا كَذَلِكَ. (وَعَنْ) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْقُضُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي السِّنَّوْرِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ مِنْهُ» وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْغِي الْإِنَاءَ لِلْهِرِّ لِيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ أَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 فَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالنَّهْيُ إنْ ثَبَتَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ. . [صَيْدُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ] قَالَ: (وَصَيْدُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْجَوَارِحِ مِنْ السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا يُرْسِلُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْكِتَابِيُّ، وَيُسَمِّي عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ، وَيَقْتُلُهُ جَائِزٌ حَلَالٌ) وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا؛ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحِلِّ كَالذَّبْحِ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلذَّابِحِ شَرْطٌ لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ فَكَذَا فِي الِاصْطِيَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ شَرَائِطَ الِاصْطِيَادِ، وَدَخَلَ هَذَا الشَّرْطُ فِي جُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ نَصًّا؛ لِأَنَّا شَرَطْنَا تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَمَّنْ يَعْتَقِدُ تَوْحِيدَهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَوْ يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ، فَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ يَدَّعِي إلَهَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَصَيْدُهُ. قَالَ (وَإِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا حَرُمَ بِهِ الصَّيْدُ وَالْمَذْبُوحُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَحْرُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَإِنْ تَرَكَ نَاسِيًا لَمْ يَحْرُمْ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: يَحْرُمُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْصِلَانِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ إذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حَجَّةً؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» وَكَوْنُ الذِّكْرِ فِي قَلْبِهِ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا قَالَ: يَحِلُّ تَسْمِيَةُ مِلَّتِهِ، وَفِي إقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ «، وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: إنَّ الْأَعْرَابَ يَأْتُونَنَا بِلُحُومٍ، فَلَا نَدْرِي أَسَمَّوْا أَمْ لَمْ يُسَمُّوا فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمُّوا أَنْتُمْ، وَكُلُوا» فَلَوْ كَانَ التَّسْمِيَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ لَمَا أَمَرَهَا بِالْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهَا، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا، وَفِي الْمَأْمُورَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ كَقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَكَالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي الْمَزْجُورَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ، وَالنَّاسِي يَكُونُ مُنْتَهِيًا اعْتِقَادًا. فَأَمَّا مُوجِبُ الْأَمْرِ الِائْتِمَارُ، وَالتَّارِكُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَا يَكُونُ مُؤْتَمِرًا؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحُ الْأَكْلِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ نَدْبًا لَا حَتْمًا كَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 ثُمَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْأَكْلُ التَّسْمِيَةُ فِيهِ نَدْبٌ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ، فَهَذَا هُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَحِلُّ ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا لَمَا حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مَعْبُودًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلْوًا كَبِيرًا، وَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ مِنْ إلَهٍ لَهُ وَلَدٌ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ مِنْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، وَالْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إنْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْأَكْلِ فَالْفِسْقُ أَكْلُ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ كِنَايَةَ عَنْ الْمَذْبُوحِ فَالْمَذْبُوحُ الَّذِي يُسَمَّى فِسْقًا فِي الشَّرْعِ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِوَصْفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ لِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى إنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] يَعْنِي عِنْدَ النَّحْرِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أَيْ سَقَطَتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الطَّعْنِ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَهِيَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ ثَبَتَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلْ» وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ، فَلَا تَأْكُلْ فَأَنْتَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» فَعَلَّلَ لِلْحُرْمَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ إذَا لَمْ يُسَمِّ عَلَى كَلْبِ نَفْسِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْكِتَابِيِّ تَحِلُّ، وَذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ لَا تَحِلُّ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِالرَّأْيِ سِوَى مَنْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ، وَمَنْ يَدَّعِي الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ أَوْ إنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ دُونَ مَا يُضْمِرُونَ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْمِيَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ مُوجِبَةٌ لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] فَلَوْ اعْتَبَرْنَا مَا يُضْمِرُونَ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُونَ فِي الْمَظَالِمِ بِاَللَّهِ، وَالِاسْتِحْلَافُ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَحِلُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا يُظْهِرُونَ، ثُمَّ إنَّا أُمِرْنَا بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ تَكُونُ وَاجِبَةً أَيْضًا بِخِلَافِ الطَّبْخِ وَالْأَكْلِ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُسَمُّونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَالْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدْبٌ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْوَصْفِ فَالْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوَصْفِ لَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَتِهِمْ فَكَانَ نَدْبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ تُقَامُ مِلَّتُهُ مُقَامَ التَّسْمِيَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ، وَهَذَا التَّخْفِيفُ يَسْتَحِقُّهُ النَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ، وَلِأَنَّ الْعَامِدَ مُعْرِضٌ عَنْ التَّسْمِيَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسَمِّيًا حُكْمًا بِخِلَافِ النَّاسِي، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ بَلْ مَعْذُورٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي الذَّبْحِ وَغَيْرِ الذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي اعْتِبَارِ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَزْجُورِ فَالْأَكْلُ فِي الصَّلَاةِ مَزْجُورٌ، ثُمَّ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَتَى اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ كَهَيْئَةِ الْمُحْرِمِينَ وَالْمُصَلِّينَ لَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، وَمَتَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَالصَّوْمِ، وَهُنَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ، وَقَدْ يَذْبَحُ الْإِنْسَانُ الطَّيْرَ وَقَلْبُهُ مُشْتَغِلٌ بِشُغْلٍ آخَرَ فَيَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ اذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ نَاسِيًا غَيْرَ مُعْرِضٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَحِلَّ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ الْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي التَّسْمِيَةِ، فَذَلِكَ دَلِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَدَعُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ. [التَّسْمِيَةُ فِي الذَّبْحِ] ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي الذَّبْحِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْقَطْعِ، وَفِي الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَفِي وُسْعِهَا التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ مُقَامَهُ، كَمَا يُقَامُ الْجُرْحُ فِي الْمُتَوَحِّشِ مُقَامَ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ فِي الْأَهْلِيِّ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَقْتَرِنُ بِفِعْلِهِ، وَالْقَطْعُ مِنْ فِعْلِهِ، وَفِي الِاصْطِيَادِ فِعْلُهُ الْإِرْسَالُ وَالرَّمْيُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَأَخَذَ السِّكِّينَ وَسَمَّى ثُمَّ تَرَكَهَا وَذَبَحَ شَاةً أُخْرَى، وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا لَا يَحِلُّ، وَلَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ أَوْ أَخَذَ سِكِّينًا، وَسَمَّى ثُمَّ تَرَكَهَا وَأَخَذَ سِكِّينًا أُخْرَى أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى، وَتَرَكَ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 ذَبَحَ تِلْكَ الشَّاةَ ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى بَعْدَهَا فَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تَكْفِيهِ لَا يَحِلُّ، وَالسَّهْمُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ. أَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ حَلَّ الْأَكْلُ، وَجَهْلُهُ لَيْسَ نَظِيرَ النِّسْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْلَ بِالْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْفِطْرِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَظَرَ إلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ وَأَخَذَ السِّكِّينَ وَسَمَّى ثُمَّ أَخَذَ شَاةً مِنْهَا وَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَحِلُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّيُودِ وَسَمَّى فَأَخَذَ أَحَدُهَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الِاصْطِيَادِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَالتَّعْيِينُ فِي الذَّبْحِ فِي وُسْعِهِ. قَالَ: (وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ عَمْدًا ثُمَّ زَجَرَهُ وَسَمَّى فَانْزَجَرَ، وَأَخَذَ الصَّيْدَ لَمْ يَحِلَّ)؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ مَعَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، فَلَا يُنْسَخُ إلَّا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّبَعَ الصَّيْدَ بِغَيْرِ إرْسَالِ صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ وَسَمَّى، فَإِنْ انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ حَلَّ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُعْتَبَرًا، فَإِنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى إرْسَالِ آدَمِيٍّ، فَكَانَ زَجْرُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ، وَقَدْ اقْتَرَبَتْ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الْمُسْلِمِ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ، فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِرْسَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَجُوسِيُّ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ لَمْ يَنْفَعْهُ زَجْرُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ يَحْرُمُ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِزَجْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ دُونَهُ، فَأَمَّا إذَا انْبَعَثَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ إرْسَالٍ ثُمَّ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِزَجْرِ صَاحِبِهِ لَمْ يَحِلَّ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَأْخُذُهُ، وَبِدُونِ الْإِرْسَالِ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ انْزَجَرَ بِزَجْرٍ فِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ زَجْرَهُ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ يَكُونُ مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حِينَ زَجَرَهُ، وَبِدُونِ الْإِرْسَالِ لَا يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَمَّا انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ، وَالصَّيَّادُ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ رُبَّمَا يَرَى الصَّيْدَ وَلَا يَرَاهُ صَاحِبُهُ، فَلَوْ انْتَظَرَ إرْسَالَهُ، فَإِنَّهُ فَيَنْبَعِثُ عَلَى أَثَرِهِ، وَيَنْظُرُ إلَى صَاحِبِهِ لِيَزْجُرَهُ حَتَّى إذَا زَجَرَهُ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ، ثُمَّ انْبِعَاثُهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُعْتَبَرًا، فَالْحَاجَةُ إلَى ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ لَا إلَى فَسْخِ الْفِعْلِ، وَلَمَّا انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ جُعِلَ هَذَا ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى فَسْخِ فِعْلٍ مُعْتَبَرٍ، وَالْفَسْخُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَأَلْقَى إنْسَانٌ حَجَرًا عَلَى شَفِيرِهِ فَيَعْثِرُ إنْسَانٌ فِي الْحَجَرِ حَتَّى هَوَى فِي الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي، وَبِمِثْلِهِ لَوْ ثَنَى حَجَرًا مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 شَفِيرِ الْبِئْرِ أَوْ جَاءَ بِهِ سَيْلٌ فَيَعْثِرُ بِهِ إنْسَانٌ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ بَعْدِ فِعْلِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ فَبَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. قَالَ وَإِذَا تَوَارَى الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ عَنْ الْمُرْسِلِ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ، وَقَدْ قَتَلَهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرُ غَيْرِهِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الطَّلَبَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَالتَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ خُصُوصًا فِي الْقَنَّاصِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالطَّيْرُ بَعْدَ إصَابَةِ السَّهْمِ رُبَّمَا يَتَحَامَلُ، وَيَطِيرُ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ بَصَرِهِ فَيَسْقُطَ، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ الطَّلَبَ إلَى عَمَلٍ آخَرَ حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ اللَّيْلِ طَلَبَهُ فَوَجَدَ الصَّيْدَ مَيِّتًا، وَالْكَلْبُ عِنْدَهُ وَالْبَازِي، وَبِهِ جِرَاحَةٌ لَا يُدْرَى الْكَلْبُ جَرَحَهُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحِلُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبٌ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ إرْسَالِ الْكَلْبِ وَالْبَازِي، وَالرَّمْيُ وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِبَ سَبَبِهِ يُحَالُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَجُعِلَ قَاتِلًا لَهُ، وَلَكِنْ نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَيْدًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا.؟ قَالَ: كُنْتُ رَمَيْتُهُ بِالْأَمْسِ، وَكُنْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ اللَّيْلَ، وَفِيهِ مِنْ بَاقِي فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَعَلَّ بَعْضَ الْهَوَامِّ أَعَانَكَ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ، وَالْإِنْمَاءُ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِكَ إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ جُعِلَ عَفْوًا، فَأَمَّا تَرْكُ الطَّلَبِ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، ثُمَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ يُؤْمَنُ إصَابَةُ آفَةٍ أُخْرَى إيَّاهُ، وَلَا يُؤْمِنُ ذَلِكَ إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْرِي فَلَعَلَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكَ الطَّلَبَ وَجَدَهُ حَيًّا فَذَكَاهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَارِكًا ذَكَاةَ الِاخْتِيَارِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةٌ أُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ تَرَكَ الطَّلَبَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ وَالْآخَرُ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فَيَغْلِبُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ فِي الْمَاءِ. قَالَ: (إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَخَذَ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ أَخَذَ غَيْرَهُ أَوْ أَخَذَ عَدَدًا مِنْ الصَّيُودِ فَهُوَ كُلُّهُ حَلَالٌ مَا دَامَ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ)؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ صَحَّ مِنْ الْمُسْلِمِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فَمَا نَأْخُذُهُ مِنْ وَجْهِ إرْسَالِهِ، وَهُوَ مُمْسِكٌ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ يَحِلُّ، وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ فِي الْإِرْسَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّعْيِينُ شَرْطٌ حَتَّى إذَا تَرَكَ التَّعْيِينَ فَهُوَ كَتَرْكِ الْإِرْسَالِ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: التَّعْيِينُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ إذَا عَيَّنَ اُعْتُبِرَ تَعْيِينُهُ حَتَّى إذَا تَرَكَ ذَلِكَ وَأَخَذَ غَيْرَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 لَا يَحِلُّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الشَّرْطُ مَا فِي وُسْعِهِ اتِّخَاذُهُ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، فَأَمَّا التَّعْيِينُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَازِي، وَالْكَلْبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُعِينُهُ، وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْكَلْبِ، فَإِنَّ الصَّيُودَ كُلَّهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَقْصُودِهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَلْبِ فَقَصْدُهُ إلَى أَخْذِ كُلِّ صَيْدٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ، وَعَلَامَةُ عِلْمِهِ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ، وَمَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا فَسَوَاءٌ أَخَذَ ذَلِكَ الصَّيْدُ أَوْ غَيْرُهُ حَلَّ. قَالَ: (فَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا وَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَأَخَذَهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ فَوْرَ الْإِرْسَالِ قَدْ انْقَطَعَ حِينَ جَثَمَ عَلَى الْأَوَّلِ طَوِيلًا فَقَدْ انْعَدَمَ إرْسَالُ صَاحِبِهِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الثَّانِي، وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْحِلِّ. (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَكُونُ فِعْلُهُ نَاسِخًا لِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ.؟ (قُلْنَا:) إنَّمَا جَثَمَ عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ بِنَاءً عَلَى إرْسَالِ صَاحِبِهِ لِيَأْتِيَهُ فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ مَنَعَهُ انْقَطَعَ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ بِهِ، كَمَنْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَتَرَكَتْ سُنَنَ الْإِرْسَالِ، وَذَهَبَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَأَتْلَفَتْ مَالًا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَهَبَتْ عَلَى سَنَنِ الْإِرْسَالِ. قَالَ: (وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ وَالصَّيْدُ حَيٌّ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ) أَمَّا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ ذَكَاةَ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لِفَقْدِ الْآلَةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْمِلْ آلَةَ الذَّكَاةِ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدنَا. (وَقَالَ) الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَحِلُّ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ بَدَلٌ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ، وَهُنَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَبَقِيَ ذَكَاةُ الِاضْطِرَارِ مُوجِبًا لِلْحِلِّ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذَكَاةُ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا إذَا لَمْ يَقَعْ فِي يَدِهِ حَيًّا، وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَسَقَطَ اعْتِبَارٌ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِيهِ، وَأُلْحِقَ بِمَا كَانَ فِي يَدِهِ كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ إذَا سَقَطَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ فِي الْمَذْبَحِ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ حَيًّا مَعَ الْجُرْحِ الَّذِي جَرَحَهُ الْكَلْبُ، فَأَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَيًّا فَمَاتَ حَلَّ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ فِيهِ فِعْلُ الذَّكَاةِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي يَدِهِ، وَمَا بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ، فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ ذَبَحَ شَاةً فَاضْطَرَبَتْ وَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ لَمْ يَحْرُمْ بِذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا، وَمَوْتُهُ مِمَّا أَصَابَهُ، وَحَيَاتُهُ مَوْهُومٌ، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ وُقُوعُهُ حَيًّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَحِلُّ بِدُونِ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ. قَالَ: (وَالْكَلْبُ الْكُرْدِيُّ وَالْأَسْوَدُ فِي الِاصْطِيَادِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا كَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة: 4] وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاصْطِيَادُ بِالْكِلَابِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَرْخِيَةِ الْآذَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا عِنْدَنَا، وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّمَ شَيْئًا مِنْ السِّبَاعِ حَتَّى جَعَلَ يَصِيدُ بِهِ مِثْلَ عَتَاقِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مُعَلَّمٌ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ: (وَإِذَا كَمَنَ الْفَهْدُ فِي إرْسَالِهِ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْ الصَّيْدِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْفَهْدِ أَنَّهُ يَكْمُنُ وَلَا يَعْدُو عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، وَلِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَا قَصَدَهُ صَاحِبُهُ بِالْإِرْسَالِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَهْدِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ الصَّيْدِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ. (قَالَ:) وَكَانَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لِلْفَهْدِ خِصَالٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ (مِنْ ذَلِكَ) أَنَّهُ يَكْمُنُ لِلصَّيْدِ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ مِنْهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يُجَاهِرَ بِالْخِلَافِ مَعَ عَدُوِّهِ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ الْفُرْصَةَ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ إتْعَابِ نَفْسِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَعْدُو خَلْفَ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْكَبَهُ خَلْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيَّ فَلَا أَذِلُّ لَهُ؛ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّعِظَ بِغَيْرِهِ كَمَا قِيلَ: السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَبِيثَ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهِ اللَّحْمَ الطَّيِّبَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا الطَّيِّبَ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ يَثِبُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الصَّيْدِ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا أَقْتُلُ نَفْسِي فِيمَا أَعْمَلُهُ لِغَيْرِي، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ. قَالَ: (وَإِذَا شَارَكَهُ فِي الصَّيْدِ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «وَإِذَا شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ الصَّيْدَ عَلَيْهِ حَتَّى أَخَذَهُ أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ سَبُعٌ حَتَّى أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ عَلَى أَخْذِ الصَّيْدِ، وَبِهَذِهِ الْإِعَانَةِ تَثْبُتُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، وَالْبَازِي فِي ذَلِكَ كَالْكَلْبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا لَيْسَ بِمُعَلَّمِ يُحَرِّمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 الصَّيْدَ، وَالْبَازِي وَالْكَلْبُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ رَدَّ الصَّيْدَ عَلَى الْكَلْبِ مَجُوسِيٌّ حَتَّى أَخَذَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُشَارَكَةُ بَلْ يَكُونُ الصَّيْدُ مَأْخُوذًا بِأَخْذِ الْكَلْبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ حَلَالًا، فَأَمَّا فِعْلُ الْكَلْبِ الَّذِي لَمْ يُرْسِلْهُ صَاحِبُهُ، وَفِعْلُ السَّبُعِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْمُسْلِمُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ، وَيَجْتَمِعُ فِي الصَّيْدِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ. [أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ] قَالَ: (وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُعَلَّمِ)؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْمُعَلَّمِ فِيهِ تَرْكُ الْأَكْلِ، وَفِي الْبَازِي الْإِجَابَةُ إذَا دَعَاهُ، فَكَمَا أَنَّ الْبَازِيَ إذَا فَرَّ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ إجَابَتِهِ لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا فَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا، وَيَحْرُمُ مَا عِنْدَهُ مِنْ صَيُودِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَحْرُمُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِأَخْذِ تِلْكَ الصَّيُودِ، فَأَمَّا إذَا تَطَاوَلَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِأَنْ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّرَ صَاحِبُهُ صَيُودَهُ لَمْ تَحْرُمْ تِلْكَ الصَّيُودُ؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ يَتَحَقَّقُ النِّسْيَانُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْحِرْفَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ حِينَ اصْطَادَ تِلْكَ الصَّيُودَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا لِلشِّبَعِ لَا لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ حَكَمْنَا بِالْحِلِّ فِي الصَّيُودِ الْمَأْخُوذَةِ، وَأَكْلُهُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ الْجُوعِ مَعَ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، وَقَدْ يَكُونُ لِإِمْسَاكِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّمِ، وَمَا كَانَ مَحْكُومًا بِهِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ جَاهِلًا حَتَّى قُلْنَا: لَا يُؤْكَلُ هَذَا الصَّيْدُ الَّذِي أُكِلَ مِنْهُ، وَلَا مَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهُ مَا لَمْ يَصِرْ مُعَلَّمًا إلَّا أَنَّا إنَّمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ لِنَوْعِ اجْتِهَادٍ مَعَ بَقَاءِ الِاحْتِمَالِ، وَالِاجْتِهَادُ دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ لِنَوْعِ اجْتِهَادٍ مَعَ بَقَاءِ الِاحْتِمَالِ، وَالِاجْتِهَادُ يَصْلُحُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي بَعْضِ مَا مَضَى بِالِاجْتِهَادِ، وَالْحِلُّ فِي الصَّيُودِ الْمُحَرَّزَةِ حُكْمٌ أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ كَالصَّيْدِ الَّذِي أُكِلَ مِنْهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحِرْفَةَ فِي الْكَلْبِ إذَا حَصَلَتْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، فَلَا يُنْسَى أَصْلُهَا، وَلَكِنَّهَا تَضْعُفُ بِالتَّرْكِ زَمَانًا كَالْخِيَاطَةِ وَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْآدَمِيِّ، وَلَمَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَاهِلًا فِي الْحَالِ تَبَيَّنَ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا وَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ لِلشِّبَعِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ حِينَ كَانَ جَائِعًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَكْلَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، وَلَكِنْ تَعَيَّنَ فِيهِ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ حِينَ حَرُمَ تَنَاوُلُ هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 الصَّيْدِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ وَجْهٍ آخَرَ، وَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا) بِأَنْ يَصِيدَ بِهِ ثَلَاثًا، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَيَحِلُّ حِينَئِذٍ الرَّابِعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَلَكِنْ يَقُولُ: إذَا صَارَ عَالِمًا فَكُلْ مِنْ صَيْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي تَعْلِيمِهِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يُجِيبَهُ إذَا دُعِيَ وَيُرْسِلَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَيَصِيدُهُ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقْتًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَرُبَّمَا قَالَ: يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا قَالُوا صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلَّمَ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ قَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا عَلَى الْوَلَاءِ يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ لِإِمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدَّرْنَا ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ حُسْنُ الِاخْتِيَارِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ مُعَلِّمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ قَدَّرَ مُدَّةَ الِاخْتِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلِاخْتِيَارِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا لَمْ يَرْبَحْ أَحَدُكُمْ فِي التِّجَارَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلْيَرْجِعْ إلَى غَيْرِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: نَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَيَكُونُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادَ وَالرُّجُوعَ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَهَذَا لِأَنَّ احْتِمَالَ الشِّبَعِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ يَكُونُ فِي الْمَرَّاتِ، (وَرَوَى) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلَ قَوْلِهِمَا فِي التَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ، وَهُمَا يَقُولَانِ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا حِينَ تَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ الثَّلَاثِ، وَآخِرُهُ لِهَذَا الصَّيْدِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا بِطَرِيقِ تَعْيِينِ إمْسَاكِهِ الثَّالِثَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنْ يُمْسِكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَخَذَهُ بَعْدَ إرْسَالِ صَاحِبِهِ حَلَّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ كَالرَّابِعِ. قَالَ: (وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَانْتَهَشَ مِنْهُ قِطْعَةً وَرَمَى بِهَا صَاحِبُهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا لَمْ يُفْسِدْهُمَا عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى وَصَلَ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ انْتِهَاشُهُ مِنْهُ وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَةِ الصَّيَّادِينَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ يَرْمِي بِقِطْعَةٍ مِنْهُ إلَيْهِ، وَكَأَنَّ الْكَلْبَ طَالَبَهُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ فَهُوَ دَلِيلُ حِذْقِهِ لَا دَلِيلُ جَهْلِهِ، وَإِنْ انْتَهَشَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ قِطْعَةً فِي اتِّبَاعِهِ إيَّاهُ فَأَكَلَهَا ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ أَوْ أَخَذَ غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ الْقِطْعَةَ الَّتِي تَمَكَّنَ مِنْهَا مِنْ الصَّيْدِ عَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ وَأَنَّ سَعْيَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ مِمَّا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ شَبِعَ بِتَنَاوُلِ تِلْكَ الْقِطْعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَلْقَى تِلْكَ الْقِطْعَةَ وَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى أَخَذَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ تِلْكَ الْقِطْعَةَ لَمْ تَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ مَعَ حَاجَتِهِ، وَتَنَاوُلُهُ تِلْكَ الْقِطْعَةَ بَعْدَ وُصُولِ الصَّيْدِ إلَى صَاحِبِهِ كَتَنَاوُلِ قِطْعَةٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ صَاحِبُهُ بَلْ ذَلِكَ دَلِيلُ حِذْقِهِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِتَنَاوُلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرِبَ مِنْ دَمِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ الصَّيْدَ فَكَذَلِكَ هَذَا. [صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتُهُ] قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ، وَلَا ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ»)، وَلِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْحِلِّ فِي الذَّكَاةِ إلَّا فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الذَّكَاةِ مِنْ سَمَكٍ أَوْ جَرَادٍ وَبِيضِهِ بِأَخْذِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحِلَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَحِلَّ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ وَلَا اقْتِرَابِ التَّسْمِيَةِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ لِلْحِلِّ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِيِّ، أَمَّا إذَا ارْتَدَّ لِغَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ، وَإِنْ ارْتَدَّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا مِلَّةَ لَهُ، وَالنِّكَاحُ وَحِلُّ الذَّبِيحَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْمِلَّةِ. [صَيْدِ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ الْمُعَلَّمِ وَبَازِيهِ] قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ الْمُعَلَّمِ وَبَازِيهِ، كَمَا يُذْبَحُ بِسِكِّينِهِ)؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآلَةِ أَنْ تَكُونَ جَارِحًا، فَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَوْنِ مَالِكِهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُسْلِمًا، وَالشَّرْطُ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ، وَالْمُسْلِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ إيجَادِ هَذَا الشَّرْطِ. قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ وَقَتَلَ الصَّيْدَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)، كَمَا لَوْ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ إرْسَالِهِ كَانَ فِعْلًا مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ بِالزَّجْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا الْجِنْسِ إلَى وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَحْرُمْ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 وَسَمَّى فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ هُنَا بِالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ. [صَيْدِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَذَبِيحَتِهِمَا] قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَذَبِيحَتِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْمُرَادُ الذَّبَائِحُ) إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ سِوَاهَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ إلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُسْلِمُ يُسَمِّي عَلَيْهِ الْمَسِيحَ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ لَمْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فَحَالُ الْكِتَابِيِّ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ: يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَصِيرُ مُرْتَدًّا، وَإِنَّمَا لَا يُؤْكَلُ بِرِدَّتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ، وَقَدْ أَحَلَّ الشَّرْعُ ذَبَائِحَهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُعْتَبَرَةَ بِالصِّفَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحُرْمَةِ بِتَسْمِيَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْكِتَابِيُّ، وَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ (وَقَدْ) رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَإِذَا سَمِعْتُمُوهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ الْمَسِيحِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا. قَالَ (فَإِنْ تَهَوَّدَ الْمَجُوسِيُّ أَوْ تَنَصَّرَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ)؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ، فَلَا يَجُوزُ إخْبَارُهُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى دَعْوَى اثْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ مُقِرًّا عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ اُعْتُبِرَ بِمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ تَمَجَّسْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا فِي الْأَصْلِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ غُلَامٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ وَهُوَ يَعْقِلُ الذَّبْحَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَنَا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيَتَغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ الْمُسْلِم وَالْمَجُوسِيُّ فِي الِاصْطِيَادِ وَالذَّبْحِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يَنْصُرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» فَقَدْ جَعَلَ الْعَاقِلَ اتِّفَاقَ الْأَبَوَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ اتِّفَاقُهُمَا فِي التَّمَجُّسِ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَجُوسِيَّةِ فِي حَقِّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 وَلِأَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ تَابِعًا لَهُ، كَمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُقَرَّبُ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُبْعَدُ مِنْ الْمَضَارِّ، وَالنَّصْرَانِيَّة إذَا قُوبِلَتْ بِالْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِلْكِتَابِيِّ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَا فَجَعَلْنَا الْوَلَدَ تَابِعًا لِلْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا. [ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ] قَالَ: (فَأَمَّا ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُكْرَهُ) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ فِي الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يُقِرُّونَ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى، فَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ ذَبَائِحُ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّاتِ وَالْكُتُبَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدِي نَظَرٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ لَا يَعْرِفُونَ فِي جُمْلَةِ الصَّابِئِينَ مَنْ يُقِرُّ بِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِإِدْرِيسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَدَّعُونَ لَهُ النُّبُوَّةَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَيُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الِاسْتِقْبَالِ لَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، كَمَا يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِبْلَةِ فَقَالَ: تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ لَهَا فَأَلْحَقْنَاهُمْ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِكِتْمَانِ الِاعْتِقَادِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ بِإِظْهَارِ الِاعْتِقَادِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا احْتِجَاجُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَوْلَى؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ. قَالَ: (وَلَا تُؤْكَلُ السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ، فَأَمَّا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ أَوْ نَبَذَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِأَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] قِيلَ: الطَّعَامُ مِنْ السَّمَكِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَيِّتًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَالَ: - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا»، وَاعْتَبَرَ السَّمَكَ بِالْجَرَادِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَيَسْتَوِي مَوْتُهُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلْ» وَلَا يُقَالُ هَذَا نَهْيُ إشْفَاقٍ لِمَا قِيلَ: إنَّ الطَّافِيَ يُورِثُ الْبَرَصَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ السَّمَكِ يُورِثُ الْبَرَصَ الطَّافِي وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الطِّبِّ، وَحُرْمَةُ تَنَاوُلِ الطَّافِي مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلسَّمَّاكِينَ لَا تَبِيعُوا الطَّافِيَ فِي أَسْوَاقِنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَكْلُ الطَّافِي حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلَا يُؤْكَلُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، بِخِلَافِ الْجَرَادِ فَمَوْتُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِسَبَبٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَعَاشِهِ، وَمَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ، وَهَذَا سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ فَوِزَانُهُ لَوْ مَاتَ السَّمَكُ بِسَبَبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ مِنْ الْآثَارِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ.» ثُمَّ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ حَلَالٌ الْجِرِّيثُ وَالْمَارِهِيجُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ سِوَى السَّمَكِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤْكَلُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَلَهُ فِي الضُّفْدَعِ قَوْلَانِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْبَحْرِ كُلِّهِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يُؤْكَلُ جِنْسُهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِ لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَقْيِيدُ السَّمَكِ مِنْ بَيْنِ صَيْدِ الْمَاءِ، وَمَيْتَاتِهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَأَلْقَى الْبَحْرُ لَنَا دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: عَنْتَرَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا وَتَزَوَّدْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - هَلْ بَقِيَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونِي» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ «، وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ مُخِّ الضُّفْدَعِ يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضَّفَادِعِ، وَقَالَ: إنَّهَا خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ»، فَإِنْ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الضُّفْدَعَ مُسْتَخْبَثٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَقِيسَ عَلَيْهِ سَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ، وَمَنْ يَقُولُ: يُؤْكَلُ جَمِيعُ صَيْدِ الْبَحْرِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ: يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ، وَهَذَا تَشَنُّعٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَأْكُولَ مِنْ الْمَائِيِّ السَّمَكُ فَقَطْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ طَرِيًّا وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] الْمَالِحُ الْمُقَدَّدُ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 «فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ عَنْبَرُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلسَّمَكِ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ التَّنَاوُلَ لِضَرُورَةِ الْمَجَاعَةِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ أَنَّ مَا مَاتَ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَهُوَ حَلَالٌ كَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَمَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالطَّافِي، فَإِنْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ بَعْضَهَا، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا سَمَكَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا شَيْءٌ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبٍّ؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ، فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ. وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ، فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ» وَكَذَلِكَ لَوْ انْجَمَدَ الْمَاءُ فَبَقِيَتْ بَيْنَ الْجَمْدِ فَمَاتَتْ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ بِحَرِّ الْمَاءِ أَوْ بَرْدِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تُؤْكَلُ لِوُجُودِ السَّبَبِ لِمَوْتِهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَقْتُلُ السَّمَكَ حَارًّا أَوْ بَارِدًا، (وَرَوَى) هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ فَمَاتَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَبَقِيَ ذَنَبُهُ فِي الْمَاءِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُؤْكَلُ. قَالَ: (وَإِذَا أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ، وَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وَأَخَذَهُ، وَقَتَلَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْبَازِي هَذَا أَنْ يَقَعَ عَلَى شَيْءٍ وَيَنْظُرَ إلَى صَيْدٍ لِيَأْتِيَهُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَمِينِ الْفَهْدِ، فَلَا يَحْرُمُ بِهِ صَيْدُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ. قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَأَثْخَنَهُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَرَاحًا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ أَهْلِيًّا فَقَدْ عَجَزَ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَنْ الِاسْتِيحَاشِ وَالطَّيَرَانِ فَذَكَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ لَا بِالرَّمْيِ بَلْ الرَّمْيُ فِي مِثْلِهِ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ إثْخَانَهُ إيَّاهُ كَأَخْذِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَثْخَنَهُ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْخَنَهُ، وَإِنْ رَمَى بِالسَّهْمِ الثَّانِي غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا لِلْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا، وَلَكِنْ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَهُ فَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ لَهُ وَالْحِلِّ لَهُ، وَالثَّانِي بِفِعْلِهِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَهُ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَنِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَاتَ بِفِعْلِهِ، وَالنِّصْفَ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ رَمْيَةُ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّ رَمْيَةَ الثَّانِي لَمْ تَخْرُجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا، فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا. وَإِذَا كَانَ الصَّيْدُ يَتَحَامَلُ وَيَطِيرُ مَعَ مَا أَصَابَهُ مِنْ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ فَرَمَاهُ الْآخِرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا بِفِعْلِهِ، وَالْأَوَّلُ كَالْمُقِرِّ لَهُ، وَالثَّانِي كَالْآخِذِ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ لَا لِمَنْ أَثَارَ (وَإِنْ رَمَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ فَقَتَلَاهُ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا حَلَالٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ وَأَصَابَهُ الرَّمْيَتَانِ جَمِيعًا مَعًا، فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ مُوجِبُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِلْكِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُذَكٍّ لِلصَّيْدِ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ لَهُمَا، وَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَةَ مِنْ الثَّانِي أَصَابَتْهُ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ، وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ بِالشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، أَوْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الصَّيْدِ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَإِحْرَازُ الصَّيْدِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الرَّمْيِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَتَكَسَّرَ الصَّيْدُ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَحِلَّ عِنْدَ زُفَرَ وَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ فَرْخَ صَيْدٍ مِنْ دَارِ رَجُلٍ أَوْ أَرْضِهِ فَهُوَ لَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ» وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ عَلَى فَرْخِ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَفْرَخَ لِيَتْرُكَهُ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ، بِخِلَافِ النَّحْلِ الْعَسَّالَةِ إذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 عَسَّلَتْ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا أَلْقَتْ ذَلِكَ لِلتَّرْكِ وَالْقَرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ طِينٍ مُجْتَمِعٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مِنْ السَّيْلِ يَكُونُ لَهُ. قَالَ: (مَا لَمْ يُحْرِزْهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ أَوْ إغْلَاقِ بَابٍ لِيُحْرِزَهُ بِهِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ بِغَيْرِ صَيْدٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ) ثُمَّ الْآخِذُ إنَّمَا أَخَذَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ ثُمَّ أَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّبَكَةِ. (وَلَوْ تَكَسَّرَ صَيْدٌ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ بَرَاحًا أَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ) لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمِلْكِ إحْرَازٌ لَهُ، وَإِنْ عَجَزَ الصَّيْدُ عَنْ الطَّيَرَانِ بِمَا أَصَابَهُ، وَالْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ. قَالَ: (وَكُلُّ مَنْ اصْطَادَ سَمَكًا مِنْ نَهْرٍ جَارٍ لِرَجُلٍ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ مَا صَارَ مُحْرِزًا لَهُ بَلْ هُوَ صَيْدٌ فِي نَهْرِهِ فَالْمُحْرِزُ لَهُ مَنْ اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَجَمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ صَيْدِهَا إلَّا بِالِاصْطِيَادِ فَصَاحِبُ الْأَجَمَةِ صَارَ مُحْرِزًا لِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ السَّمَكِ، إنَّمَا الْمُحْرِزُ الْآخِذُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَجَمَةِ احْتَالَ لِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَ الْمَاءَ، وَبَقِيَ السَّمَكُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا بِمَا صَنَعَ فَالسَّمَكُ عَلَى الْيَبَسِ لَا يَكُونُ صَيْدًا، فَإِذَا صَارَ بِفِعْلِهِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ صَيْدٍ فَهُوَ مُحْرِزٌ لَهُ. قَالَ: (وَإِذَا عَجَزَ الْمُسْلِمُ عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ وَأَعَانَهُ مَجُوسِيٌّ عَلَى مَدِّهِ لَمْ يَحِلَّ الصَّيْدُ) لِاجْتِمَاعِ الْمُوجِبِ لِلْحَظْرِ، وَالْمُوجِبِ لِلْحِلِّ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَجُوسِيٌّ بِيَدِ الْمُسْلِمِ فَذَبَحَ، وَالسِّكِّينُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَرْمِيَهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى فِي الْهَوَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ وَإِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى جَبَلٍ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَفِي الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ، وَهَذَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَهَذَا مُتَرَدٍّ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ التَّرَدِّي قَتَلَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى مَكَانِهِ الَّذِي يَمُوتُ عَلَيْهِ يَعْنِي وَقَعَ عَلَى شَجَرَةٍ ثُمَّ وَقَعَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 الشَّيْءِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الْأَرْضِ حَيًّا فَهُوَ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّرَدِّي وَالْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِمَوْتِهِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ وَمَاتَ، وَلَوْ عَلَى السَّطْحِ فَمَاتَ حَلَّ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْتُلُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ مِثْلُ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَضِيبَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَحَدِّ الْآجِرِ وَاللَّبِنَةِ الْقَائِمَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ وَهُوَ فِعْلٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الذَّكَاةِ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: إنْ وَقَعَ عَلَى آجِرَةٍ مَوْضُوعَةٍ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ وَيُؤْكَلُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ بَلْ مُرَادُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ سِوَى الذَّكَاةِ، وَمُرَادُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجِرَةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَفْوٌ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. قَالَ: (فَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي سَنَنِهِ فَأَصَابَ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَصَابَهُ وَنَفَذَ إلَى غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ يُذَكِّي لِمَا يُصِيبُهُ فِي سَنَنِهِ، سَوَاءٌ أَصَابَ صَيْدًا أَوْ صَيْدَيْنِ، وَإِنْ عَرَضَ لِلسَّهْمِ رِيحٌ فَرَدَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ. لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِقُوَّةِ الرَّامِي بَلْ بِقُوَّةِ الرِّيحِ فَهُوَ نَظِيرُ سَهْمٍ مَوْضُوعٍ فِي مَوْضِعٍ حَمَلَهُ الرِّيحُ فَضَرَبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَاتَ، وَفِعْلُ الرِّيحِ لَا يَكُونُ ذَكَاةَ الصَّيْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً حَتَّى إذَا أَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ عَنْ جِهَتِهِ حَلَّ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ يَمْضِي فِي سَنَنِهِ فَمُضِيُّهُ مُضَافٌ إلَى قُوَّةِ الرَّامِي، فَأَمَّا إذَا رَدَّهُ الرِّيحُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ لَا يُحِبُّ مُضِيَّ السَّهْمِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الرِّيحِ لَا إلَى الرَّامِي، وَمَا دَامَ يَمْضِي فِي جِهَتِهِ فَالرِّيحُ يَزِيدُهُ فِي قُوَّتِهِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ إضَافَةِ الْقُوَّةِ إلَى الرَّامِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ، وَإِنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً يَحِلُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضِدٍّ لِلْجِهَةِ الَّتِي قَصَدَهَا الرَّامِي، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا كَانَ يَصْطَادُ فِي يَوْمِ رِيحٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أَوْ شَجَرًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فَرَدَّهُ فَهُوَ وَرَدُّ الرِّيحِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مُضِيَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِصَلَابَةِ الشَّجَرِ وَالْحَائِطِ لَا بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عَنْ وَجْهِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ، وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا كَانَ الرَّامِي بِالسَّهْمِ الثَّانِي مَجُوسِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الِاصْطِيَادَ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الرَّمْيَ إلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 ذَلِكَ السَّهْمِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُ الثَّانِي الِاصْطِيَادَ وَسَمَّى، فَإِنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لَهُ وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمٌ أَوْ يَرُدَّ سَهْمًا آخَرَ فَيُصِيبُهُ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَحِلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الرَّامِي، وَجُرْحُ الْآلَةِ وَالسَّهْمِ الَّذِي رَمَاهُ لِلثَّانِي مَا جَرَحَ الصَّيْدَ، وَاَلَّذِي جَرَحَ الصَّيْدَ مَا رَمَاهُ الثَّانِي، وَلَا كَانَ مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ مَنْ رَمَى بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ قَصَبَةً مَحْدُودَةً مَنْصُوبَةً فِي حَائِطٍ، وَأَصَابَتْ تِلْكَ الْقَصَبَةُ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا فَجَرَحَتْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: (وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ وَالْعَصَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ جَرَحَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرِقْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدْ حَدَّدَهُ وَطَوَّلَهُ كَالسَّهْمِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَخَرَقَهُ بِحَدِّهِ حَلَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَرْقِ وَالْبِضْعِ، فَأَمَّا الْجُرْحُ الَّذِي يَدُقُّ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَخْرِقُ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا يَحْصُلُ تَسْيِيلُ الدَّمِ بِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ، وَالْمَوْقُوذَةُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَالْمُثْقَلُ بِالْحَدِيدِ وَغَيْرُ الْحَدِيدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الصَّيْدَ بِالسِّكِّينِ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ وَجَرَحَهُ يُؤْكَلُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السِّكِّينِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْمِزْرَاقُ كَالسَّهْمِ يَخْرِقُ، وَيَعْمَلُ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ وَإِنْ حَدَّدَ مَرْوَة فَذَبَحَ بِهَا صَيْدًا حَلَّ لِحُصُولِ تَسْيِيلِ الدَّمِ بِحَدِّ الْآلَةِ، وَفِي حَدِيثِ «مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَخَذْتُ أَرْنَبَتَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ مُحَدَّدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَوَّزَ لِي أَكْلَهُمَا» قَالَ: (وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ حَلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الصَّيْدُ مِنْ الرَّمْيِ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْخَبَر أَنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ إذْ أَنَّهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَرَمَاهُ إنْسَانٌ حَلَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ نَصِيبًا لَهُ، وَيَخَافُ فَوْتَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ، وَأَمَّا الشَّاةُ إذَا مَدَّتْ فِي الْمِصْرِ فَلَا تَحِلُّ بِالرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا مَدَّتْ خَارِجَ الْمِصْرِ تَحِلُّ بِالرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتُهَا خَارِجَ الْمِصْرِ، فَلِلْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يُكْتَفَى فِيهَا بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ. قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الظِّلْفَ وَالْقَرْنَ فَقَتَلَهُ حَلَّ أَيْضًا بِهِ إذَا أَدْمَاهُ، وَوَصَلَتْ الرَّمْيَةُ إلَى اللَّحْمِ)؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ قَدْ حَصَلَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَأَيْنَمَا وُجِئَ مِنْهُ فَأَدْمَاهُ فَهُوَ ذَكَاةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُقُوعُ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالتَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ فَهُوَ وَمَا نَدَّ سَوَاءٌ. قَالَ: (وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا وَمَاتَ أَكَلَ الصَّيْدَ كُلَّهُ إلَّا مَا بَانَ عَنْهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 تَحْرِيمُ مَا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْأَلْيَةِ مِنْ الشَّاةِ وَرُبَّمَا لَا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْعَجُزِ مِنْهَا فَيَأْكُلُونَهُ فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُبَانِ مَقْصُودًا، وَأَصْلُ الشَّاةِ حَيَّةٌ، وَبِدُونِ الذَّكَاةِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَحُكْمُ الذَّكَاةِ اسْتَقَرَّ فِي الصَّيْدِ بَعْدَ مَا مَاتَ، وَهَذَا الْعُضْوُ مُبَانٌ مِنْ حِينَ مَاتَ، فَلَا يَسْرِي حُكْمُ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الذَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ مَقْصُودًا بِالْإِبَانَةِ، كَمَا لَوْ بَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا؛ فَلِهَذَا لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ الْعُضْوُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْهُ أُكِلَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِاتِّصَالِ يُسْرِي حُكْمَ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيَكُونُ حَلَالًا كَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَلَّقَ مِنْهُ بِجَلْدَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ بَانَ مِنْهُ فَلَا يُؤْكَلُ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ اتِّصَالُهُ بِعِلَاجٍ فَهُوَ وَالْمُبَانُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ، فَهَذَا جُرْحٌ وَلَيْسَ بِإِبَانَةٍ فَيُؤْكَلُ كُلُّهُ، وَإِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَثْمَرَ مَا يَكُونُ مِنْ الذَّكَاةِ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَا قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَأَبَانَهُ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ الثُّلُثَانِ اللَّذَانِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ، وَلَا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ، فَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَأَبَانَهُ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ النِّصْفِ إلَى الْعُنُقِ مَذْبَحٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْأَوْدَاجَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِهَذَا حِينَ لَمْ تُقْطَعْ الْأَوْدَاجُ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا الْجُرْحُ مُبَانٌ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ؛ فَلِهَذَا يُؤْكَلُ كُلُّهُ، فَإِنْ أَبَانَ طَائِفَةً مِنْ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَمْ يُؤْكَلْ مَا بَانَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَذْبَحٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَبَانَ جُزْءًا مِنْ الذَّنَبِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفَ أَوْ أَكْثَرَ أُكِلَ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ الْأَوْدَاجُ بِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَكَاةً بِنَفْسِهِ. قَالَ: (وَلَوْ ضَرَبَ وَسَمَّى وَقَطَعَ ظِلْفَهُ فَإِنْ أَدْمَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْمَاهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الدَّمِ النَّجِسِ لَمْ يَحْصُلْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ بِسَيْفٍ فَأَبَانَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ حِينَ تَرَكَ الْإِحْسَانَ فِي الذَّبْحِ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ ذَبَحَ شَاةً فِي الْمَذْبَحِ فَلَمْ يَسِلْ الدَّمُ مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ قَدْ أَكَلَتْ الْعُنَّابَ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» وَقَدْ يَمْتَنِعُ بَعْضُ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لِحَابِسٍ يَحْبِسُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُرْمَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا مِثْلُهُ لَمْ يُبِنْ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الصَّيُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَا لَا يُؤْكَلُ الْيَرْبُوعَ وَالْقُنْفُذَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الضُّفْدَعِ وَالشَّرْطَانِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَكَذَلِكَ جَمَلُ الْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا السَّمَكَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَمَنٌ، وَمَعْنَى هَذَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ، وَالتَّقَوُّمُ بِهِ يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَسَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهَا سِوَى الْأَكْلِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ ثَمَنٌ كَجُلُودِ الْحُمُرِ وَنَحْوِهَا فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْتَفَعٌ بِهِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِ النَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ) «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ»، فَأَمَّا الْعَقْعَقُ وَالسُّودَانِيَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا لَا مِخْلَبَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْغُرَابِ فِيمَا سَبَقَ. قَالَ: (وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِلْدِ مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنْ ذِي النَّابِ)؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ، وَفِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يُعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْمَلُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَكَذَلِكَ بِالذَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ [لُحُومُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا] ، وَتُكْرَهُ لُحُومُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا، وَتِلْكَ حَالُهَا إلَى أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنْ يُحَجَّ عَلَى الْجَلَّالَةِ وَيُعْتَمَرَ عَلَيْهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا» وَتَفْسِيرُ الْجَلَّالَةِ الَّتِي تَعْتَادُ أَكْلَ الْجِيَفِ وَلَا تُخْلَطُ فَيَتَعَيَّنُ لَحْمُهَا، وَيَكُونُ لَحْمُهَا مُنْتِنًا فَحَرُمَ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا لِتَأَذِّي النَّاسِ بِنَتْنِهَا، وَأَمَّا مَا يَخْلِطُ فَيَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَغَيْرَ الْجِيَفِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ مِنْ لَحْمِهِ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ: لَوْ أَنَّ جَدْيًا غُذِّيَ بِلَبَنِ خِنْزِيرٍ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَحْمُهُ وَمَا غُذِّيَ بِهِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الدَّجَاجَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ؛ لِأَنَّهَا تَخْلِطُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَلَا يَنْتُنُ، وَقِيلَ: هِيَ تَنْقُشُ الْجِيَفَ تَبْتَغِي الْحَبَّ فِيهَا لَا أَنْ تَتَنَاوَلَ الْجِيَفَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُ أَكْلَ الدَّجَاجِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَقَدْ «صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ» وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَدْنَى خَبَثٍ لَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَاَلَّذِي رَوَى أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَذْبَحُهَا، فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الدَّجَاجَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَخْلِطُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْجَلَّالَةِ الَّتِي لَا تَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: تُحْبَسُ أَيَّامًا عَلَى عَلَفٍ طَاهِرٍ قِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَالْأَصْلَحُ أَنَّهَا تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَزُولَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِذَلِكَ، وَهُوَ شَيْءٌ مَحْسُوسٌ، وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي ذَلِكَ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ زَوَالِ الْمُضِرِّ، فَإِذَا زَالَ بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ (تَمَّ الْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشْرَ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي عَشْرَ، وَأَوَّلُهُ كِتَابُ الذَّبَائِحِ) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 [كِتَابُ الذَّبَائِحِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَا يَحِلُّ مَا ذُبِحَ بِسِنٍّ، أَوْ ظُفْرٍ غَيْرِ مَنْزُوعٍ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَتَخْنِيقٌ، وَلَيْسَ بِذَبْحٍ) فَفِي الذَّبْحِ الِانْقِطَاعُ بِحِدَةِ الْآلَةِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِانْقِطَاعُ بِقُوَّتِهِ لَا بِحِدَةِ الْآلَةِ، وَلِأَنَّ آلَةَ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ وَسِنُّهُ وَظُفْرُهُ مِنْهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا عِنْدَنَا، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا خَلَا السِّنِّ وَالظُّفْرِ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ غَيْرُ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ سِنَّهُمْ وَظُفْرَهُمْ قَبْلَ النَّزْعِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا خَلَا الْعَضِّ بِالسِّنِّ وَالْقَرْضِ بِالظُّفْرِ وَالْعَضُّ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَنْزُوعِ عَادَةً، ثُمَّ الْمَنْزُوعُ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ فَكَانَتْ كَالسِّكِّينِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِهَا لِزِيَادَةِ إيلَامٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْحَيَوَانِ. وَلَا يُعَدُّ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبْحِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذَّبْحَ» الْحَدِيثَ. قَالَ (وَمَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُذْبَحَ بِهِ حَدِيدًا كَانَ، أَوْ قَصَبًا، أَوْ حَجَرًا مُحَدَّدًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ «عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ صَادَ أَحَدُنَا صَيْدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ فَذَبَحَهُ بِشِقِّ الْعَصَا، أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَكُلْ»، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِكُلِّ آلَةٍ مُحَدَّدَةٍ ثُمَّ تَمَامُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ فَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ كَقَطْعِ الْجَمِيعِ فِي الْجُلِّ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ ثَلَاثًا مِنْهَا أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ قَطْعِ الْجَمِيعِ. فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ يُتَوَهَّمُ الْبَقَاءُ فَلَا تَتِمُّ الذَّكَاةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ، وَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْوَدَجَيْنِ حَلَّ وَشُرِطَ ثَلَاثَةٌ فِيهَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَرِيءَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْوَدَجَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَبِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ. فَأَمَّا قَطْعُ مَجْرَى النَّفَسِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَإِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَلَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجَسِ وَبِدُونِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ. قَالَ (وَإِذَا ذُبِحَتْ شَاةٌ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا فَقَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ حَلَّتْ) لِتَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْأَكْثَرِ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِالْجَرْحِ لَا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ وَيُكْرَهُ هَذَا الْفِعْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهَا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا حَلَّتْ وَيُكْرَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَبَحَهَا مُتَوَجِّهَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَلَّتْ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الذَّبْحِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ بِأُضْحِيَّتِهِ الْقِبْلَةَ لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَهَا» وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ رُبَّمَا كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ الْأَصْنَامَ فَأَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَكِنَّ تَرْكَهُ لَا يُفْسِدُ الذَّبِيحَةَ بِخِلَافِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي التَّسْمِيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فَرْضٌ. فَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلْكَرَاهَةِ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلذَّبِيحَةِ. [نَحَرَ الْبَقَرَةَ] قَالَ (وَإِنْ نَحَرَ الْبَقَرَةَ حَلَّتْ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَقَرَةِ الذَّبْحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] (بِخِلَافِ الْإِبِلِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا النَّحْرُ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّحْرِ مِنْ الْبَعِيرِ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَلْقِهِ عَلَيْهِ لَحْمٌ غَلِيظٌ فَكَانَ النَّحْرُ فِي الْإِبِلِ أَسْهَلَ. فَأَمَّا فِي الْبَقَرِ أَسْفَلَ الْحَلْقِ وَأَعْلَاهُ فَاللَّحْمُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْغَنَمِ فَالذَّبْحُ فِيهِ أَيْسَرُ وَالْمَقْصُودُ تَسْيِيلُ الدَّمِ وَالْعُرُوقُ مِنْ أَسْفَلِ الْحَلْقِ إلَى أَعْلَاهُ فَالْمَقْصُودُ يَحِلُّ بِالْقَطْعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا حَلَّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ»، وَلَكِنْ تَرْكُ الْأَسْهَلِ مَكْرُوهٌ فِي كُلِّ جِنْسٍ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. قَالَ (وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ فَاضْطَرَبَتْ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ، أَوْ تَرَدَّتْ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَضُرَّهَا شَيْءٌ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِيهَا فَإِنَّمَا انْزَهَقَ حَيَاتُهَا بِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 بِاضْطِرَابِهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الذَّكَاةِ فَهَذَا لَحْمٌ وَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ سَقَطَ مِنْ مَوْضِعٍ. قَالَ (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ عَدَدًا مِنْ الذَّبَائِحِ لَمْ تُجْزِ التَّسْمِيَةُ لِلْأُولَى عَمَّا بَعْدَهَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبْحِ وَذَبْحُهُ لِلشَّاةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ ذَبْحِهِ لِلشَّاةِ الْأُولَى. قَالَ (وَلَوْ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَسَمَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أَلْقَى تِلْكَ السِّكِّينَ وَأَخَذَ أُخْرَى فَذَبَحَ بِهَا تُؤْكَلُ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِنْهُ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ بِخِلَافِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ سَهْمًا وَسَمَّى عَلَيْهِ وَوَضَعَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا آخَرَ جَدَّدَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ التَّسْمِيَةُ عَلَى فِعْلِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ يَحِلُّ وَالسَّهْمُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَهُنَا الشَّرْطُ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبْحِ دُونَ السِّكِّينِ وَفِعْلُ الذَّبْحِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذْبُوحِ لَا بِاخْتِلَافِ السِّكِّينِ فَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ تَرَكَ تِلْكَ الشَّاةَ وَذَبَحَ أُخْرَى بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ. قَالَ (وَلَوْ كَلَّمَ إنْسَانًا، أَوْ شَرِبَ مَاءً، أَوْ حَدَّ سِكِّينًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَكْثُرْ، ثُمَّ ذَبَحَ جَازَ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ فَبِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ لَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ بِخِلَافِ مَا إذَا طَالَ الْحَدِيثُ، أَوْ طَالَ الْعَمَلُ، ثُمَّ ذَبَحَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ وَبِالْيَسِيرِ لَا يَنْقَطِعُ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ. قَالَ (وَإِنْ قَالَ مَكَانَ التَّسْمِيَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ يُرِيدُ بِهِ التَّسْمِيَةَ أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّعْظِيمِ، وَقَدْ حَصَلَ. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا الذِّكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَهُنَاكَ الْمَأْمُورُ بِهِ التَّكْبِيرُ وَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّحْمِيدَ دُونَ التَّسْمِيَةِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبْحِ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ الذِّكْرُ عَلَى الذَّبْحِ وَغَيْرِهِ يَقْصِدُ مِنْهُ التَّسْمِيَةَ. فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّسْمِيَةَ لَا يَحِلُّ حَتَّى إذَا عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ التَّحْمِيدَ عَلَى الْعُطَاسِ لَمْ يَحِلَّ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخَطِيبِ إذَا عَطَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهُنَا الْمَأْمُورُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبْحِ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ، وَقَدْ نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ) وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ الْحَدُّ النُّخَاعَ وَهُوَ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي وَسَطِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ بَلْ لِزِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ الشَّاةَ إلَى مَذْبَحِهَا)، وَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 بَيَّنَّا النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَحُدَّ الشَّفْرَةَ بَعْدَ مَا أَضْجَعَهَا، وَقَدْ رَوَيْنَا النَّهْيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَّا أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ فَلَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا فَيَقُولُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ عِنْدَ الذَّبْحِ قُبِلَ فَمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الذَّبْحِ، أَوْ بَعْدَهُ كَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَالَ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَذْبَحُ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ] قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ)؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ وَيَضْبِطُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ إسْلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَهُوَ شَرْطُ الْحِلِّ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِي ذَبِيحَتِهِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ أَهْلَ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ ذَبَائِحَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. [ذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ] قَالَ (وَذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ حَلَالٌ مُسْلِمًا كَانَ، أَوْ كِتَابِيًّا)؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي. فَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ النَّاسِي تُقَامُ مِلَّتُهُ مَقَامَ تَسْمِيَتِهِ فَفِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَوْلَى. قَالَ (وَمَا أَدْرَكْت مِنْ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَنَظَائِرُ هَذَا فَذَكَّيْته حِلٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ ذُبِحَتْ حَلَّتْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَيَاةُ فِيهَا مُتَوَهَّمَةَ الْبَقَاءِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَهَّمَةِ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ بِفِعْلِ ذَكَاةٍ، وَقَدْ حَصَلَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ تَحِلُّ بِالذَّكَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ تَوَهُّمُ الْبَقَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إذَا نَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَ شَاةٍ وَأَخْرَجَ مَا فِيهَا، ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ تَعِيشَ بَعْدَهَا فَمَا بَقِيَ فِيهَا إلَّا اضْطِرَابُ مَذْبُوحٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. قَالَ (وَمَنْ ذَبَحَ شَاةً، أَوْ غَيْرَهَا فَخَرَجَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ لَمْ يُؤْكَلْ الْجَنِينُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُؤْكَلُ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إذَا أَشْعَرَ وَتَمَّتْ خِلْقَتُهُ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْغَةِ فَلَا يُؤْكَلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] قِيلَ الْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنْ الْأَجِنَّةِ وَالْحَمُولَةُ الْكِبَارُ فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَكْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَفِي الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» مَعْنَاهُ ذَكَاةُ الْأُمِّ نَائِبَةٌ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ كَمَا يُقَالُ لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ وَبَيْعُ الْوَصِيِّ بَيْعُ الْيَتِيمِ. وَرُوِيَ ذَكَاةَ أُمِّهِ بِالنَّصْبِ وَمَعْنَاهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ حَرْفِ الْخَفْضِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أَيْ بِبَشَرٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا إنَّا لِنَنْحَرَ الْجَزُورَ فَيَخْرُجَ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَفَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ حَتَّى يَكُونَ فِي الْأَهْلِيِّ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ. فَإِذَا نَدَّ فَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُسْعُ مِثْلِهِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ فِي الْجَنِينِ ذَبْحُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْبِيًا فِي الْبَطْنِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الذَّبْحِ مَقْصُودًا، وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ لَا يَبْقَى حَيًّا فَتُجْعَلُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لَهُ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الذَّبْحِ فِي الْأُمِّ فِي زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَنْ الْجَنِينِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْجُرْحِ بِحِلِّ رِجْلِ الصَّيْدِ فَالْغَالِبُ هُنَاكَ السَّلَامَةُ وَهُنَا الْهَلَاكُ، ثُمَّ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ فَهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ حَتَّى يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَنْمُو بِنَمَائِهَا وَيَقْطَعُ عَنْهَا بِالْمِقْرَاضِ كَمَا فِي بَيَانِ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَتْبَعُهَا فِي الْأَحْكَامِ تَبَعِيَّةَ الْأَجْزَاءِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِثْنَاءٌ فِي عُنُقِهَا وَبَيْعِهَا كَاسْتِثْنَاءِ يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْبَيْعِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ ذَبْحُ الشَّاةِ الْحَامِلِ، وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ بِذَبْحِ الْأُمِّ لَمَا حَلَّ ذَبْحُهَا حَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافٍ لِلْحَيَوَانِ لَا لِلْمَأْكَلَةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] فَإِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ فَيَمُوتُ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنْخَنِقَةُ «. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا وَقَعَتْ رَمِيَّتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُك» فَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ زَهُوقِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَاتَ بِذَبْحِ الْأُمِّ، أَوْ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ، وَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 يَتَأَتَّى الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُهُ حَيًّا لِيُذْبَحَ. وَعَلَّلَ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ ذَكَاةُ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيَبْقَى، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْجُزْءِ حَيًّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ الْجَنِينِ حَيًّا، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ حَيَاةِ الْجُزْءِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَصْلِ. وَالذَّكَاةُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَيَاةِ. فَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسًا عَلَى حِدَةٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ ذَكَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا نَقُولُ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ الْأُمِّ بَلْ يُبْقِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَطْنِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ غِذَاءٍ، أَوْ يُوَصِّلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْغِذَاءَ كَيْف شَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَدْ يَتَغَذَّى أَيْضًا بِغِذَاءِ الْأُمِّ بِوَاسِطَةِ اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ وَلَمَّا جُعِلَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَقَرُّرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْأُمِّ دُونَهُ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ انْفِصَالُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ. وَلَوْ انْفَصَلَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَحِلَّ عِنْدَهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يُتَّبَعُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ لِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ وَبِذَبْحِ الْأُمِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْجَنِينِ، أَوْ الْمَقْصُودُ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ بِالنُّضْجِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالتَّوَقُّدِ وَالتَّلْهِيبِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الْجَنِينِ بِذَبْحٍ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ. قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ وَكَمَا لَوْ قَتَلَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ غَمًّا، أَوْ اخْتِفَاءً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجُرْحِ وَإِبَاحَةُ ذَبْحِ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْجَنِينُ حَيًّا فَيُذْبَحُ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَحْمُ الْأُمِّ وَذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ حَلَالٌ كَمَا لَوْ ذَبَحَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ لِمَقْصُودِ الْجِلْدِ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ لَا النِّيَابَةُ أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَنِينَ أَوَّلًا. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ النِّيَابَةَ لَذَكَرَ النَّائِبَ أَوَّلًا دُونَ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَمَا قِيلَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي اُسْتُشْهِدَ بِهَا وَمِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّشْبِيهِ يُقَالُ فُلَانٌ شَبَهُ أَبِيهِ وَحَظُّ فُلَانٍ حَظُّ أَبِيهِ. وَقَالَ الْقَائِلُ. وَعَيْنَاك عَيْنَاهَا وَجِيدُك جِيدُهَا ... سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ وَالْمُرَادُ التَّشْبِيهُ وَيَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي الرِّوَايَةِ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَنْزُوعَ حَرْفُ الْكَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وَيُحْتَمَلُ الْبَاءُ أَيْضًا، وَلَكِنْ إنْ جَعَلْنَا الْمَنْزُوعَ حَرْفَ الْكَافِ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَرْفَ الْبَاءِ يَحِلُّ وَمَتَى اجْتَمَعَ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْحَدِيثُ مَعَ الْقِصَّةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَيْ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُوهُ أَيْ اذْبَحُوهُ وَكُلُوهُ وَالْمُرَادُ بِالْفَرْشِ الصِّغَارُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَنِينَ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْجَنِينَ مَأْكُولٌ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيُذْبَحَ فَيَحِلَّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْأُضْحِيَّةِ] (بَابُ الْأُضْحِيَّةِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ بِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ كَالصَّدَقَاتِ وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ كَالْعِتْقِ وَيَجْتَمِعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْنَيَانِ فَإِنَّهُ تَقَرُّبٌ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَهُوَ إتْلَافٌ، ثُمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ. قَالَ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَيَاسِيرِ وَالْمُقِيمِينَ عِنْدَنَا). وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ». وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُصِصْتُ بِثَلَاثٍ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْأُضْحِيَّةُ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالْوِتْرُ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لِيَغْدُوَ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ وَيُرَاحُ فَلَا أُضَحِّي مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً، وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ كَالْعَتِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِطْعَامُ الْغَنِيِّ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بَلْ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأُضْحِيَّةَ بِالنَّذْرِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَيْ وَانْحَرْ الْأُضْحِيَّةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَإِلْحَاقُ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ وَمَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى» وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحُّوا أَمْرٌ وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ طَرِيقَتُهُ فَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْمَكْتُوبُ مَا يَكُونُ فَرْضًا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 مَخْصُوصًا بِكَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ، أَوْ فِي حَالِ السَّفَرِ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ نَقُولُ هَذِهِ قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا، وَفِيهَا فَتَكُونُ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَيْهِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ اسْتِحْقَاقًا. وَلِجَوَازِ الْأَدَاءِ فِيهِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مُضَافًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ يَجُوزُ فِيهَا الصَّوْمُ، ثُمَّ لَا يُسَمَّى شَهْرُ الصَّوْمِ إلَّا رَمَضَانَ فَعَرَفْنَا أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَى الْقُرْبَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ لَا تَلْزَمُهُ كَالْجُمُعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ بِالتَّضْحِيَةِ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58] وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالتَّمْلِيكِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً. فَكَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالْإِتْلَافِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأَدَاءِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عِنْدَنَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا. فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ دُونَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ لَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَتَمْضِي هَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ خَاصَّةً وَالْيَوْمُ الْآخَرُ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَيُجْزِئ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 عَظِيمًا سَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «ضَحُّوا بِالثَّنِيَّاتِ، وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ»، وَلِأَنَّ الْجَذَعَ نَاقِصٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الضَّحَايَا بِالِاسْتِعْظَامِ وَالِاسْتِشْرَافِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ». فَأَمَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُجْزِئُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جَذَعًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِبُوهَا»، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ وَهُوَ الَّذِي تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِي تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِنْ الْإِبِلِ الَّذِي تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَهَكَذَا مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ إذَا تَمَّ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ جَذَعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً. [أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ] ثُمَّ أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ. فَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا تُجْزِئُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فِي الْقُرَى بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ بَشَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنِّي عَجَّلْت نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نَسِيكَتَك فَقَالَ عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - تُجْزِئُك، وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَك». وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ» وَمَنْ يَذْبَحُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ عَادَةً جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ، وَمَا بَقِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعِيدِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ مَا انْصَرَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ. هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ قَالَ (وَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ مَا فَرَغَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا قَدْ أُدِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمِصْرِ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُمْ فَتَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَشْرُوطَ قَدْ وُجِدَ حِينَ ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ فَضَحَّى رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَلَّوْا وَقِيلَ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْجَبَّانَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِمَا ذَكَرْنَا فَهُنَا أَوْلَى. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَبِمَكْسُورِ الْقَرْنِ) أَمَّا الْجَمَّاءُ فَلِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ، وَلَا قَرْنَ لَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمَّاءِ فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَكَذَلِكَ الْخَصِيُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، أَوْ مَوْحُوَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ». وَالْمُرَادُ خَصِيَّانِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ مَا يُزَادُ فِي لَحْمِهِ بِالْخِصَاءِ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا يَفُوتُ بِالْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَرْبَاءِ وَالتَّوْلَاءِ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً) وَالْجَرْبَاءُ الَّتِي بِهَا جَرَبٌ. وَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَالْجَرَبُ فِي جِلْدِهَا لَا فِي لَحْمِهَا «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تُنْقِي». وَالتَّوْلَاءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِي الْقُضَاةِ لَا فِي الشَّاةِ. فَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بَاقٍ وَاشْتِرَاطُ السَّمْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ يَرْعَيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ» وَمَقْصُودُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانُ السَّمْنِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فِي بَقَرَةٍ، أَوْ بَدَنَةٍ). وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اشْتَرَكْنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ قَيِّمُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ عَادَةً. وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَصْدُهُمْ جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ، أَوْ قَصَدَ بَعْضُهُمْ قُرْبَةً أُخْرَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا قَصَدُوا جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ بَعْضِهِمْ لِلَّحْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ. فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الْبَدَنَةِ ثَمَانِيَةً لَمْ تُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ السُّبْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ دُونَ السُّبْعِ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَبَقَرَةً وَضَحَّى بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ هَلْ يَجُوزُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ الثُّمُنُ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ثُمُنُهَا فِي نَصِيبِهَا لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ أَيْضًا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ وَرَضِيَ وَرَثَتُهُ بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ صَارَ مِيرَاثًا وَالتَّضْحِيَةُ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ فَلَا يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِهِ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْعِتْقِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ مُورِثِهِ بِالْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ صَحِيحٌ كَالتَّصَدُّقِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الْعِتْقُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْوَلَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أُمَّ وَلَدٍ ضَحَّى عَنْهَا مَوْلَاهُ، أَوْ صَغِيرًا ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ فَإِنْ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ جَازَ. وَإِذَا جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْبَدَنَةِ فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْأَبُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ يَسَارِهِ. فَكَذَلِكَ عَنْ جُزْئِهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ عَنْ مَمْلُوكِهِ لَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَلَدِهِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ التَّضْحِيَةُ عَنْ أَوْلَادِهِ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُقِلَ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قِيَاسِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْإِتْلَافَ فَالْأَبُ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْوَلَدِ كَالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّصَدُّقَ بِاللَّحْمِ بَعْدَ إرَاقَةِ الدَّمِ فَذَاكَ تَطَوُّعٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَالُ الصَّبِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 لَا يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً، ثُمَّ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مِثْلَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ)؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَهَا، وَبَعْدَ الْإِيجَابِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُكْرَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ تَعَلُّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا، وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ بَيْعَ مَالِ الزَّكَاةِ لِهَذَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَاشْتَرَى شَاةً، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَتِك أَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ شَرًّا مِنْ الْأُولَى، وَقَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُولَى فَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَمَّا جَوَازُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فَلِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَأَمَّا التَّصَدُّقُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْتَفْضَلَ شَيْئًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالتَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ مَا يُضَحِّي بِهِ مَحَلًّا صَالِحًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِالْتِزَامِهِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ بِعَيْنِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ. فَإِذَا اسْتَفْضَلَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا الْتَزَمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْغَنِيِّ فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ فِي مَحَلٍّ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْ حَيْثُ فَرَاغِ الذِّمَّةِ. قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا) وَالْمُرَادُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّ الْمُوسِرِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِقَامَةُ الْمُتَقَوِّمِ مُقَامَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا تَجُوزُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْلِيلِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَرْنَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 بِهَذَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ التَّضْحِيَةُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالتَّصَدُّقِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَقَدْ سَقَطَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ، وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ. وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّبَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَيَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهَا وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَالِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَرَّبُ بِسَبَبَيْنِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ، وَلَا عَنْ امْرَأَتِهِ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ. قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا)؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ثَبَتَ فِي عَيْنِهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مَقْصُودًا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَلِأَنَّ الشَّرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ أَصْلٌ وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ يَثْبُتُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالِيَّتَهُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمْسَكَ وَلَدَهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ «. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا دُونَ هَذَا لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك». [بِيعَ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ] قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ. وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا، وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا» فَكَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ جِلْدَهَا الْجَزَّارَ. فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهَا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ مَتَاعًا لِلْبَيْتِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَبَغَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ يَشْتَرِي بِهِ الْغِرْبَالَ وَالْجِرَابَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَشْتَرِي بِهِ الْخَلَّ وَالْمَرِيَّ وَالْمِلْحَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا يَكُونُ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ بِهِ تَنَاوُلُ الْعَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فَهُوَ نَظِيرُ عَيْنِ الْجِلْدِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَ (وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ فَيَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِصُوفِهَا)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَتَوَلَّدُ مِنْ عَيْنِهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، وَلَكِنَّهُ يَنْضَحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ مِنْهُ اللَّبَنُ، وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا كَانَ يُقَرِّبُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْبُعْدِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا بَعْدَ مَا يَتَقَلَّصُ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ كَالْهَدْيِ إذَا عَطِبَتْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ. قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ اشْتَرَكَ مَعَهُ سِتَّةٌ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاس لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ وَالِاشْتِرَاكُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْ بَعْضِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَوْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَوْا جُمْلَةً جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَشْرَكَهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً فَيَشْتَرِيهَا، ثُمَّ يَطْلُبُ شُرَكَاءَهُ فِيهَا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ. قَالَ (وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ كَانَ أَحْسَنَ)؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ لَا صُورَةً، وَلَا مَعْنًى فَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ. قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْعَوْرَاءُ فِي الْأُضْحِيَّةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ»، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحِّيَ بِأَرْبَعَةٍ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي»، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مَانِعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَالْيَسِيرُ مِنْ الْعَيْبِ غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْجُو مِنْ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ فَالْيَسِيرُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي لَحْمِهَا وَلِلْعَوَرِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَلَفِ مَا يُبْصِرُ بِالْعَيْنَيْنِ، وَعِنْدَ قِلَّةِ الْعَلَفِ يَتَبَيَّنُ الْعَجَفُ، ثُمَّ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مَنْصُوصٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا. فَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ لَمْ تَجُزْ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ مَنْصُوصٍ. وَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الطَّرَفِ. فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بَعْضَ ذَلِكَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ، أَوْ أَقَلَّ يُجْزِئُهُ وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الثُّلُثَ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا دُونَهُ، وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ إذَا كَانَ الذَّاهِبُ الرُّبُعَ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكَمَالِ. كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ أَجْزَأَهُ قَالَ وَذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ قَوْلِي قَوْلُك. قِيلَ هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ. فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ قُلْنَا إذَا قَابَلْتَ الذَّاهِبَ بِالْبَاقِي كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ. وَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ. فَإِذَا قَابَلْتَهُ بِالْبَاقِي كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ. فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ النِّصْفَ قَالَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْمَانِعُ وَالْمُجَوِّزُ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ احْتِيَاطًا. فَأَمَّا الشِّقُّ فِي الْأُذُنِ فَهُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلْعَلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ السِّمَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ لَا يُجَوِّزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ». فَالشَّرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ فِي أُذُنِهَا طُولًا وَالْخَرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا وَالْمُقَابَلَةُ قَطْعٌ فِي مُقَدَّمِ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ فِي مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ بَعْضُ الْأُذُنِ مَقْطُوعَةً وَكَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا الْعَرْجَاءُ إذَا كَانَتْ تَمْشِي فَلَا بَأْسَ بِهِ «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ الْعَرْجَاءِ فَقَالَ إذَا كَانَتْ تَبْلُغُ فَلَا بَأْسَ بِهِ». فَإِذَا كَانَتْ لَا تَقُومُ، وَلَا تَمْشِي لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْلِفُ إلَّا مَا حَوْلَهَا. وَإِذَا كَانَتْ تَمْشِي فَهِيَ تَذْهَبُ إلَى الْعَلَفِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا. ، وَلَا تُجْزِئُ الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي لِلنَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَثَّرَ فِي لَحْمِهَا وَيَسْتَوِي إنْ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ، أَوْ صَارَتْ عِنْدَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ مُوسِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بَلْ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الْعَيْنِ فَيَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ، أَوْ سُرِقَتْ فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَلَى هَذَا قَالُوا الْمُوسِرُ إذَا ضَلَّتْ أُضْحِيَّتُهُ فَاشْتَرَى أُخْرَى، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَاشْتَرَاهَا وَأَوْجَبَهَا فَضَّلَتْ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى فَأَوْجَبَهَا، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَيْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 بِإِيجَابِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ كَالْأُولَى. وَإِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي اضْطِرَابِهَا حِينَ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْأُضْحِيَّةِ لَا بِالْإِضْجَاعِ وَهِيَ مَعِيبَةٌ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ بِهَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَقَدْ يَنْقَلِبُ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ فَتُصِيبُ عَيْنَهَا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لِيَتَقَرَّبَ بِإِتْلَافِهَا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عَمَلِ التَّقَرُّبِ فَلَا يُمْنَعُ الْجَوَازُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِضْجَاعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا أَصَابَهَا ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ ضَحَّى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ وَقْتَ إتْلَافِهَا تَقَرُّبًا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ لَيْسَ لَهَا أُذُنَانِ خُلِقَتْ كَذَلِكَ وَهِيَ السَّكَّاءُ)؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأُذُنِ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْجَوَازِ فَعَدَمُ الْأُذُنِ أَصْلًا أَوْلَى بَعْضٍ. فَأَمَّا صَغِيرَةُ الْأُذُنِ تُجْزِئُ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ مِنْهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَلِفُ، ثُمَّ رَجَعَ. وَقَالَ يَجُوزُ إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْهَتْمَاءَ لَيْسَ لَهَا أَسْنَانٌ، ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْهَتْمَاءَ مَكْسُورَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ. فَإِذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ فَالْبَاقِي مِنْ الْأَسْنَانِ أَكْثَرُ مِنْ الذَّاهِبِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ وَاَلَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي الْبَدَنِ بَلْ السِّنُّ فِي الْأَنْعَامِ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَلِفُ بِالْأَسْنَانِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا وَالْوَاجِبَاتِ بَقَرُ الْوَحْشِ وَحُمُرُ الْوَحْشِ وَالظَّبْيُ)؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ مِنْ الْوَحْشِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا وَالْقُرْبَةُ لَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَهْلِيَّةً جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِالْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ وَحْشِيَّةً لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ فَإِنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِحَضَانَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْمِلْكِ. فَكَذَلِكَ فِي التَّضْحِيَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْ الْفَحْلِ وَهُوَ مَاءٌ غَيْرُ مَحَلٍّ لِهَذَا الْحُكْمِ وَيَنْفَصِلُ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ حَيَوَانٌ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا بِالْأُمِّ. قَالَ (رَجُلٌ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ فَكَانَ ضَامِنًا كَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ الْقَصَّابِ، ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِعَمَلِ الْمُضَحِّي وَبَيْتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ الْغَيْرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ يُجْزِئُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِكُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْإِذْنُ دَلَالَةً كَالْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءٍ فِي السِّقَايَةِ وَنَظَائِرِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْزِئُهُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَكِنَّ الذَّابِحَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ فَالْجَوَازُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً، وَلَوْ وُجِدَ الْإِذْنُ إفْصَاحًا لَمْ يَضْمَنْ. فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ دَلَالَةً وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ غَلَطَا فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَجْزَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْسَانًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَا قَدْ أَكَلَا، ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِئُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ جَازَ ذَلِكَ غَنِيًّا كَانَ، أَوْ فَقِيرًا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَضْمِينُ صَاحِبِهِ قِيمَةَ لَحْمِهِ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ. قَالَ (وَلَوْ أَمَرَ مَجُوسِيًّا فَذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ لَمْ تُجْزِهِ)؛ لِأَنَّ هَذَا إفْسَادٌ لَا تَقَرُّبٌ فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ لَا تُؤْكَلُ، وَلَوْ أَمَرَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّبْحِ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقُرْبَةِ وَفِعْلُهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. قَالَ (فَإِنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ)؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ نَحَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ وَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحِينَ ضَحَّى بِالشَّاتَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِنَفْسِهِ»، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ أَمَا أَنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفًا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَهَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً». قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ كَمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ)؛ لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ مَيَاسِيرَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِينَ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى، وَفِي الْأَصْلِ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ مَا خَلَا الْحَاجَّ وَأَرَادَ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الْمُقِيمِينَ وَبِالْحَاجِّ الْمُسَافِرِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعَلَيْهِمْ الْأُضْحِيَّةُ، وَإِنْ حَجُّوا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى أَنْ يَذْبَحُوا الْأَضَاحِيَّ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ بِانْشِقَاقِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ فَيَلْزَمُهُمْ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَلَا صَلَاةَ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 أَهْلِ الْقُرَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا جُمُعَةَ، وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ»، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ حَتَّى إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِالْمِصْرِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالسَّوَادِ يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ بِالسَّوَادِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالْمِصْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. قَالَ (وَيُجْزِيهِ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُمْ كَرِهُوا الذَّبْحَ فِي اللَّيَالِي)؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَغْلَطَ فَتُفْسِدَ الظُّلْمَةُ اللَّيْلَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ. قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ صَلَاةُ الْعِيدِ)؛ لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ مَشْغُولُونَ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الْعِيدِ. وَيَجُوزُ لَهُمْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقُرَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابٌ مِنْ الصَّيْدِ] (بَابٌ مِنْ الصَّيْدِ أَيْضًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَنْ انْفَلَتَ مِنْ يَدِهِ صَيْدٌ بَعْدَ مَا أَحْرَزَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالِانْفِلَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الثَّانِي بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ لَا الْمَالَ الْمَمْلُوكَ كَمَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ لَا يَمْلِكُهُ وَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَصَاحِبُ الشَّبَكَةِ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آخِذًا لَهُ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّ نَاصِبَ الشَّبَكَةِ يَقْصِدُ الِاصْطِيَادَ فَيَصِيرُ هَذَا آخِذًا لِلصَّيْدِ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ كَانَ ضَامِنًا وَضَارِبُ الْفُسْطَاطِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِفُسْطَاطِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ بَازِيًا، أَوْ شَبَهَهُ فِي مِصْرٍ، أَوْ سَوَادٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ سَيْرٌ، أَوْ جَلَاجِلُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ أَهْلِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِثُبُوتِ يَدِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَيْضَةِ مَعَ الْجَلَاجِلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ انْفَلَتَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ كَمَنْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْغَيْرَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ ظَبْيًا، وَفِي عُنُقِهِ قِلَادَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ حَمَامَةً فِي الْمِصْرِ يَعْرِفُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ بُرْجَ حَمَامٍ فَأَوْكَرَتْ فِيهِ حَمَامُ النَّاسِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ فِرَاخِهَا لَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْخَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ فَقِيرًا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فَقِيرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِشَيْءٍ فَيَتَنَاوَلُ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْحَمَامِ. قَالَ (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ عِنْدَ إحْرَامِهِ فَأَخَذَهُ حَلَالٌ، ثُمَّ حَلَّ الْأَوَّلُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ عَنْ الصَّيْدِ لَا إزَالَةُ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يُحْرِمُ وَلَهُ صَيُودٌ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْإِرْسَالِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَالَ (وَمَنْ قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا، أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ)، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِمَعْنَى الصَّيْدِ فِي يَدِ الْمَقْتُولِ وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَحِّشًا فَلَا يُزَادُ بِهِ قِيمَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْآدَمِيِّ لِكَوْنِهِ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَيَزْدَادُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا؛ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ فَقَتَلَهُ وَرَجُلٌ غَرِمَ قِيمَتَهُ أَيْضًا وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ حَتَّى يَكُونَ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ. ، وَإِنْ كَانَ عَقُورًا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ فَمُتْلِفُهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَدًّى، وَلَيْسَ بِمَالٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ بَيْعِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي اللَّحْمِ سِوَى الْأَكْلِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا مَأْكُولًا لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَجَوَازُ الْبَيْعِ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ثَمَنٌ بِأَنْ كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ لِإِطْعَامِ الْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مُذَكًّى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، وَمَا كَانَ مِنْ جُلُودِهَا إذَا دَبَغَهَا رَجُلٌ وَبَاعَهَا جَازَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُ مَدْبُوغَةٍ لَمْ يَجُزْ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ مَيْتَةً. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُذَكَّاةً يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ الذَّكَاةِ فِي الْحِلِّ وَالطَّهَارَةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَفِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَالدِّبَاغِ. قَالَ (وَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَاءِ سَمَكَةً مَقْطُوعَةً لَا يَدْرِي مَنْ قَطَعَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ يَدٍ إلَيْهَا لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بِهَا سَمَكَةً أُخْرَى، وَإِنْ أَصَابَ فِي وَسَطِهَا، أَوْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا خَيْطًا مَرْبُوطًا لَمْ يَأْكُلْهَا وَيَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ يَدًا أُخْرَى سَبَقَتْ إلَيْهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَيَعْرِفُهَا. قَالَ (وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ، أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَلَا بَأْسَ بِمَا أَصَابَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حِسَّ إنْسَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الْحِسِّ وَالرَّمْيُ إلَى الْأَهْلِيِّ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا وَحِلُّ الصَّيْدِ بِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمْيُهُ وَإِرْسَالُهُ الْكَلْبَ كَانَ اصْطِيَادًا فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ إذَا أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا سَوَاءٌ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنْ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ مُبِيحًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَا قَصَدَهُ لَمْ يَفْدِ الْحِلُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ خِنْزِيرٍ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ أَصَابَ رَمْيُهُ الصَّيْدَ بِخِلَافِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مِنْ الْمُحْتَرَمِ الْعَيْنِ. فَأَمَّا فِي سَائِرِ السِّبَاعِ فَإِنْ فَعَلَهُ مُؤَثِّرٌ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ. فَإِذَا أَصَابَ مَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ مُتَوَحِّشٍ اصْطِيَادٌ. فَأَمَّا حِلُّ التَّنَاوُلِ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ فِي الْمَحِلِّ. فَإِذَا أَصَابَ فِعْلُهُ فِي الِاصْطِيَادِ مَحِلًّا مَأْكُولًا قُلْنَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحِسَّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ لِاجْتِمَاعِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ. وَفِي النَّوَادِرِ إذَا رَمَى طَيْرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الطَّيْرُ فَلَمْ يُعْرَفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا، أَوْ وَحْشِيًّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ فِي الْأَصْلِ وَحْشِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فَلَمْ يَعْرِفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا، أَوْ مُتَوَحِّشًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي الْأَصْلِ وَالتَّوَحُّشُ مِنْهُ نَادِرٌ فَتَمَسَّكْ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ وَإِنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّ أَنَّهُ إنْسَانٌ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ مَا رَمَاهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَيْدًا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ فِعْلِهِ اصْطِيَادٌ وَظَنُّهُ بِخِلَافِ حَقِيقَةِ فِعْلِهِ لَغْوٌ. قَالَ (وَلَوْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ رَمَى شَاةً سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى حَرْبِيًّا مُخْتَفِيًا مُوثَقًا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَأْكُلْهُ؛ لِأَنَّ رَمْيَهُ إلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ، وَلَا هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحِلِّ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ] (بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَإِذَا خَرَجَ الصَّيْدُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِاصْطِيَادِهِ)؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اصْطِيَادِهِ كَانَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، وَقَدْ زَالَ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ فَهُوَ نَظِيرُ مُحْرِمٍ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَفِيهِ نَصٌّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. قَالَ (وَإِنْ رَمَى رَجُلٌ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ)؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَفِعْلُهُ كَانَ مُبَاحًا وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا حِينَ مَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ، أَوْ مُرْتَدٍّ فَأَصَابَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ. فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ وَهُوَ مُذَكًّى وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ لَا فِي حَقِّ الْمُذَكَّى، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ فَاعْتِبَارُ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَاعْتِبَارُ حَالَةِ الْإِصَابَةِ يُبِيحُ فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَبِهِ فَارَقَ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحِلُّ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ثُبُوتِ صِفَةِ الْحِلِّ فِيهِ. قَالَ (وَإِنْ أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ فِي الْحِلِّ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْإِصَابَةِ، وَقَدْ أَصَابَهُ وَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِحَالَةِ الرَّمْيِ فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ دُونَ حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ يُعْتَبَرُ حَالَةُ الْإِصَابَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ لِلْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ فِي الْحِلِّ، وَقَدْ رَمَاهُ مِنْ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ الْحَرَمِ قِيلَ مَحْظُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] قِيلَ مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمَ إذَا دَخَلَ الشَّامَ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ الذَّكَاةُ لَا الْقَتْلُ الْمَحْظُورُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الرَّامِي فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ مُحْرِمٍ يَقْتُلُ صَيْدًا، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرَّمْيِ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِعْلًا مَحْظُورًا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْجَزَاءِ، وَلَوْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي الْحَرَمِ حَتَّى أَصَابَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُبَاحٌ لَهُ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَكَاةً شَرْعًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْحِلِّ، وَفِي الرَّامِي وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ فِعْلُ الرَّامِي وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ رَمَى نَصْرَانِيٌّ مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَمَاتَ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يُبِيحُ الصَّيْدَ. فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا (فَإِنْ قِيلَ) الْمَنْعُ مِنْ الرَّمْيِ صَوْبَ الْحَرَمِ حَقُّ الشَّرْعِ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ (قُلْنَا) حُرْمَةُ الْحَرَمِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ كَمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ وَالتَّبَعُ يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي عِلَّتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ صَبِيٌّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ الْبَالِغِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ وَاجِبًا لِلْحِلِّ. فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالصَّبِيِّ. قَالَ (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ وَإِخْرَاجِهِ وَكَانَ مُطَالَبًا شَرْعًا بِإِعَادَتِهِ إلَى مَأْمَنِهِ وَإِرْسَالِهِ فِيهِ، وَقَدْ فَوَّتَ ذَلِكَ بِذَبْحِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَفِعْلُهُ فِيهِ يَكُونُ قَتْلًا، وَلَا يَكُونُ ذَكَاةً وَهُنَا حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِيهِ ذَكَاةً وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ إلًّا أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ سَبَبَ الْأَخْذِ. فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ شُبْهَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لَهُ حَقَّ التَّنَاوُلِ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ فَيُخْرِجُونَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَيَذْبَحُونَهُ فِي الْحِلِّ، وَفِي ذَلِكَ تَعْلِيلُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا قُلْنَا التَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَادَهُ أَوَّلًا فِي الْحِلِّ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَدْ صَارَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَهُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ. فَإِذَا مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ فِي الْحِلِّ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ لَمْ يَثْبُت لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَعِنْدَنَا حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ إمْسَاكُ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ إمْسَاكُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ. وَكَذَلِكَ حَلَالٌ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ، ثُمَّ حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ وَحِينَ ذَبَحَهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحِلِّ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهُ. قَالَ (مُحْرِمٌ صَادَ صَيْدًا فَدَفَعَهُ إلَى حَلَالٍ فَذَبَحَهُ فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ مُفَوِّتٌ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَلَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ فِي الْحَرَمِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ هَذَا حَالًا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 التَّنَاوُلُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَفِعْلِ الْمُحْرِمِ، أَوْ الَّذِي فِي الْحَرَمِ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً شَرْعًا. فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ حَلَالٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ذَكَاةٌ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِلْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْآخِذِ يَلْحَقُهُ نَوْعُ خَطَرٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ. قَالَ (وَإِنْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ)؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عُهْدَةِ أَخْذِهِ وَذَبْحُ الْحَلَالِ إيَّاهُ كَذَبْحِ صَيْدٍ آخَرَ فِي الْحُكْمِ. قَالَ (وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَأَرْسَلَهُ فَصَادَهُ حَلَالٌ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّهُ بِالْإِرْسَالِ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ وَاَلَّذِي خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنْ الْحَرَمِ سَوَاءٌ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ، وَلَكِنْ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا إعَادَتُهُ إلَى مَأْمَنِهِ فَإِنَّهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْهُ. فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى مَأْمَنِهِ تَقَرَّرَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مَا يَنْسَخُ فِعْلَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ فَيَنْفَسِخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِمُجَرَّدِ إرْسَالِهِ وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَاكَ مَا لَوْ عَادَ الصَّيْدُ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ، ثُمَّ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ هُوَ الَّذِي صَادَهُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ فَذَبَحَهُ لَمْ يَكُنْ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَهُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الثَّانِي وَوُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ؛ فَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي بَقَاءِ مَا وَجَبَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَبَحَهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَدَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِاعْتِبَارِهَا؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهَا. قَالَ (مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ فِي الْحِلِّ فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِهِ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) وَأَضَافَ الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ حَلَالٌ، وَقَدْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ حَلَّ تَنَاوُلُهُ. فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِإِرْسَالِهِ إيَّاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ لِمَنْ بَعُدَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ جَارِحًا مِنْ مَنْزِلِهِ. قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ بَعْضِ أَهْلِهِ فِي الذَّبْحِ كَفِعْلِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 عَلَيْهِمْ لِيَفْعَلُوا لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الذَّابِحُ كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلِهَذَا قَالَ لَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ وَذَبَحَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ وَأَكْرَهُ أَكْلَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ إرْسَالُهُ بَعْدُ فِي حَقِّ نَسْخِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَبِعَهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُحْرِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ هُمَا يَقُولَانِ لَوْ أَرْسَلَهُ خَارِجًا مِنْ مَنْزِلِهِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ إذَا ذَبَحَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ هَكَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ حَيْثُ قَالَ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهِ فَقَدْ طَلَب مِنْهُ دَلَالَةً أَنْ يَتَّبِعَهُ فَيَأْخُذَهُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ نَصًّا كَانَ تَنَاوُلُهُ مَكْرُوهًا. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ طَالِبًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلَالَةً. قَالَ (وَإِنْ انْفَلَتَ مِنْ الْمُحْرِمِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَذَبَحَهُ فَهَذَا كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ)؛ لِأَنَّ بِالْإِرْسَالِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فَلَا يَنْسَخُ بِهِ حُكْمَ فِعْلِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ اصْطِيَادِهِ عَادَةً؛ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ نَدَّتْ شَاةٌ فِي الْمِصْرِ لَمْ تَحِلَّ بِالرَّمْيِ. قَالَ (وَإِذَا انْفَلَتَ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِصَيْدٍ فَرَمَاهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الصَّحْرَاءِ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ حِينَ عَادَ صَيْدًا مُتَوَحِّشًا كَمَا كَانَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ قَطُّ. قَالَ (حَلَالٌ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَتَبِعَهُ الْكَلْبُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَتَلَهُ فِيهِ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِرْسَالِ فِي الْحِلِّ. فَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَأَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ وَذَبَحَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ مِنْ فَمِ الْكَلْبِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ حِينَ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا (فَجَوَابُ) هَذَا الْفَصْلِ كَجَوَابِ مَا لَوْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ. وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْحَرَمِ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاصْطِيَادِ فَإِرْسَالُ الْكَلْبِ عَلَيْهِ وَالرَّمْيُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَقَتَلَهُ كَرِهْته أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ. قَالَ (وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْكَلْبِ حَيًّا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ كَرِهْت لَهُ هَذَا الصُّنْعَ، وَلَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 بَأْسَ بِأَكْلِهِ فِي الْقِيَاسِ)؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ حَيًّا فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ إرْسَالِ الْكَلْبِ حَتَّى لَا يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ أَخْذُهُ وَذَبْحُهُ، وَقَدْ حَصَلَ فِي صَيْدِ الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ هَذَا الصُّنْعُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ حَرَامًا بِكَوْنِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ (ظَبْيٌ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ رَمَاهُ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ وَاعْتِبَارُ مَا فِي الْحَرَمِ مِنْ قَوَائِمِهِ يَجْعَلُهُ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَهَذَا الْجَانِبُ يَتَرَجَّحُ؛ لِأَنَّهُ جَانِبُ الْحَظْرِ وَجَانِبُ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِمْسَاكَهُ عَلَى الْأَرْضِ فِي حَالِ نَوْمِهِ بِاعْتِبَارِ جَمِيعِ بَدَنِهِ. فَإِذَا كَانَ جَانِبٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَنَاسِكِ فِي الشَّجَرَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْضِعُ أَصْلِهَا لَا مَوْضِعُ أَغْصَانِهَا، وَفِي الصَّيْدِ الْوَاقِعِ عَلَى بَعْضِ أَغْصَانِهَا يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الْغُصْنِ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِغُصْنِ الشَّجَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهَ} [النحل: 79]. فَأَمَّا قِوَامُ غُصْنِ الشَّجَرَةِ فَبِأَصْلِهَا فَفِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُحْصَنِ يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ أَصْلِ الشَّجَرَةِ، وَفِي حَقِّ ضَمَانِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الصَّيْدُ فَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ فَهَذَا الصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ. قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَكَ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ فِي رَمْيِ الصَّيْدِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ فِعْلِ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ. قَالَ (رَجُلٌ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ فَقَتَلَهُ كَرِهْتُ أَكْلَهُ)؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ إرْسَالُ الْبَازِي، وَقَدْ كَانَ مَحْظُورًا فَإِنْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُهُ يُثْبِتُ الْكَرَاهَةَ. قَالَ (حَلَالٌ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا، ثُمَّ ذَبَحَهَا وَأَوْلَادَهَا فَلَيْسَ أَكْلُهَا وَأَكْلُ أَوْلَادِهَا بِحَرَامٍ)؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّبْحِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ حَلَالٍ فِي صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، وَلَكِنْ لَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُذِنَ فِي ذَلِكَ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْأَخْذُ حَرَامًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِيهَا، وَفِي أَوْلَادِهَا؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالْإِعَادَةَ إلَى الْمَاءِ مِنْ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي أَوْلَادِهَا. فَإِذَا فَوَّتَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ جَزَاءَ الْأُمِّ لِإِتْلَافِهِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهَا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي وَلَدِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّى الْجَزَاءُ عَنْهَا، ثُمَّ ذَبَحَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِرْسَالِهَا وَإِعَادَتِهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 إلَى الْمَاء مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ. فَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ، وَمَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ جَزَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهَا حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لِيَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِعَادَتِهَا إلَى الْمَاءِ مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ (قُلْنَا) نَعَمْ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْبَدَلِ، وَلَكِنْ لَا يُجْمَعُ الْأَصْلُ وَالْبَدَلُ فَيَبْقَى بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ الْحَقُّ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِرْسَالِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ وَبِاعْتِبَارِ جَانِبِ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ الصَّيْدَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ فَالْوَلَدُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا صَادَ ظَبْيَةً، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَحَالُهَا وَحَالُ أَوْلَادِهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ، أَوْ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى يَشْتَمِلُ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ [كِتَابُ الْوَقْفِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْأَجَلُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَقْفَ لُغَةً الْحَبْسُ وَالْمَنْعُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ أَوْقَفَ يُوقِفُ إيقَافًا وَوَقَفَ يَقِفُ وَقْفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]. وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْمَمْلُوكِ عَنْ التَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَكَانَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لَازِمًا. فَأَمَّا أَصْلُ الْجَوَازِ ثَابِتٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَاقِفَ حَابِسًا لِلْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ صَارِفًا لِلْمَنْفَعَةِ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي سَمَّاهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ وَالْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ لَازِمًا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ نَفَّذَهُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَخُصُوصًا فِيمَا لَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 يَكُونُ تَمْلِيكًا كَالْعِتْقِ كَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا بَاشَرَهُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ فِي الصِّحَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إذَا كَانَ مُؤَبَّدًا وَصَارَ الْأَبَدُ فِيهِ كَعُمْرِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي لُزُومِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْوَقْفُ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُ الْعَيْنَ عَنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ امْتِنَاعُ زَوَالِ مِلْكِهِ فَلِزَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي مِلْكِهِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهُ لَمَّا حَجّ مَعَ الرَّشِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى وُقُوفَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا رَجَعَ فَأَفْتَى بِلُزُومِ الْوَقْفِ فَقَدْ رَجَعَ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ (إحْدَاهَا) هَذِهِ (وَالثَّانِيَةُ) تَقْدِيرُ الصَّاعِ بِثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ (وَالثَّالِثَةُ) أَذَانِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْوَقْفَ وَهُوَ بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ وَقْفُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَعْنِي اتِّخَاذَ الرِّبَاطَاتِ وَالْخَانَاتِ وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ حُجَّةٌ، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ لِهَذَا وَسَمَّاهُ تَحَكُّمًا عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَقَالَ مَا أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَّا بِتَرْكِهِمْ التَّحَكُّمَ عَلَى النَّاسِ. فَإِذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَتَحَكَّمُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ أَثَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ لِمَ يُقَلِّدُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَلَوْ جَازَ التَّقْلِيدُ كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَحْرَى أَنْ يُقَلَّدُوا وَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا قَالَ. وَقِيلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ انْقَطَعَ خَاطِرُهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ حَتَّى خَاضَ فِي الصُّكُوكِ وَاسْتَكْثَرَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ كَالْخَصَّافِ وَهِلَالٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأَحْيَاءِ حِين قَالَ مَا قَالَ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَيْت رَجُلًا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةُ مِنْ ذَهَبٍ لَدَلَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كُلُّ مَجَرِيٍّ بِالْجَلَاءِ يَسُرُّ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ يَلْزَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً بِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا. فَكَذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 فِي الْوَقْفِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَبْسِ عَنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ امْتِنَاعُ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. فَإِذَا جَازَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِخْرَاجِ وَالْحَبْسُ لِمَصْلَحَةِ الْمَعَادِ. فَكَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمَعَاشِ كَبِنَاءِ الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَاِتِّخَاذِ الْمَقَابِرِ، وَلَوْ جَازَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا يَلْزَمُ الْمَسْجِدَ وَتَلْزَمُ الْمَقْبَرَةَ حَتَّى لَا يُورَثَ لِمَا فِي النَّبْشِ مِنْ الْإِضْرَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَ الْوَقْفُ دُونَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَقْفِ، وَإِنْ انْعَدَمَ التَّمْلِيكُ فِي عَيْنِهِ فَلِذَلِكَ يُوجَدُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ هَذَا الْفَرْقُ أَبْعَدَ عَنْ التَّحَكُّمِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا مَعْنَى مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ طَوَّلَهُ فِي الْكِتَابِ. وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْعِتْقِ أَيْضًا فَفِيهِ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَصَحَّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ. فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَك مِنْ مَالِك إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت، أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت، أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ» فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَنْعَدِمُ فِي الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمْضَاهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ. (وَسُئِلَ) الشَّعْبِيُّ عَنْ الْحَبْسِ فَقَالَ جَاءَ مُحَمَّدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيْعِ الْحَبْسِ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِّ وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. (وَاسْتَدَلَّ) بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَقَالُوا مَعْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ لَا يُورَثُ ذَلِكَ عَنَّا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَمْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا تُورَثُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} [النمل: 16]. وَقَالَ تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فَحَاشَا أَنْ يَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْمُنَزَّلِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُمْ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ فَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ ادَّعَتْ فَدَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا ادَّعَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ فَدَكَ لَهَا وَأَقَامَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضُمِّي إلَى الرَّجُلِ رَجُلًا، أَوْ إلَى الْمَرْأَةِ امْرَأَةً فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ جَعَلَتْ تَقُولُ مَنْ يَرِثُك فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوْلَادِي فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَيَرِثُك أَوْلَادُك، وَلَا أَرِثُ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ يَكُونُ صَدَقَةً، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ. وَقَدْ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَتَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَسْلَمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ فِيهِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً قَبْلَ الْوَقْفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَهُ مَمْلُوكَةً وَالْمَمْلُوكُ بِغَيْرِ مَالِكٍ لَا يَكُونُ فَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهَا مَمْلُوكَةً أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَالِكُ، أَوْ غَيْرُهُ وَلَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ، وَبَيَانُ قَوْلِنَا أَنَّهَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالزِّرَاعَةُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ، وَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ مَمْلُوكَةً فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً إلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَبِالْوَقْفِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْعِتْقَ فَالْآدَمِيُّ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِيَكُونَ مَالِكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ عَارِضٌ مُحْتَمِلٌ لِلرَّفْعِ. وَإِذَا رُفِعَ كَانَ مَالِكًا كَمَا كَانَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ انْعِدَامُ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً وَتَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا لِهَذَا الطَّرِيقِ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ فَتِلْكَ الْبُقْعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً مُتَحَرِّزَةً عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ فَأَلْحَقْنَا سَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِهَا وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ بَلْ الْوَقْفُ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَخْرُجُ بِهِ الْعَيْنُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً مُنْتَفَعًا بِهَا. وَلَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ. فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ، أَوْ دَارِهِ. وَإِذَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ فِيهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ حَقٍّ يَسْتَثْنِيهِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الْوَقْفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ تَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لِشَغْلِهِ إيَّاهُ بِحَاجَتِهِ وَالنَّاسُ لَمْ يَأْخُذُوا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا بِاشْتِهَارِ الْآثَارِ. فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَلَامُهُ قَوِيٌّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْآثَارَ عَلَى الْوَقْفِ الْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَإِنَّمَا الْبَيَانُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَ نَخْلًا نَفِيسًا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقَ مِنْ ثَمَرِهِ»، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى مِنْهُ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْأَرْضُ سَهْمُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَيْبَرَ حِينَ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَثَمْغٌ لَقَبٌ لَهَا، وَقَدْ كَانَتْ لِأَمْلَاكِهِمْ أَلْقَابٌ حَتَّى كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةٌ يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ وَبَغْلَةٌ يُقَالُ لَهَا دُلْدُلٌ وَفَرَسٌ يُقَالُ لَهُ السَّكَبُ وَحِمَارٌ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ وَعِمَامَةٌ تُسَمَّى السَّحَابَةُ، ثُمَّ فِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ لِذَلِكَ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِ وَأَطْيَبَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]؛ فَلِهَذَا اخْتَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْفَسَ أَمْوَالِهِ وَأَطْيَبَهَا لَمَّا أَرَادَ التَّصَدُّقَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا السُّؤَالِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ جُهَّالُ الْمُتَقَشِّفَةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَقْفِ بِقَوْلِهِ تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ فَهُوَ مِنْ حُجَّةِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَقْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ لِلْوَالِي شَيْئًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ إنْ اسْتَثْنَى لِلْوَالِي أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ صَوَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ صَوَابٌ أَيْضًا وَلِلْوَالِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ كَمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ فِعْلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلِوَصِيِّ الْيَتِيمِ ذَلِكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَكِّلَ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا لَهُ. (وَقَوْلُهُ) غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مِنْهُ يَعْنِي يَكْتَفِي بِمَا يَأْكُلُ، وَلَا يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَالَ بِالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْغَازِي فِي طَعَامِ الْغَنِيمَةِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَلَا يَتَمَوَّلُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالْإِقْرَاضِ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي، وَفِي قَوْلِهِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ مُحَمَّدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وَلِهَذَا يَأْخُذُ إذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ فِي صِحَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ. وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِأَرْضِي هَذِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَقْفًا بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْإِلْزَامَ فَإِنْ عَيَّنَ إنْسَانًا فَهُوَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ ، وَلَوْ قَالَ وَقَفْتُ أَرْضِي هَذِهِ، أَوْ حَبَسْتُهَا، أَوْ حَرَّمْتُهَا، أَوْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مَحْبُوسَةٌ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُ فَلَعَلَّ مُرَادَهُ وَقَفْتُهَا عَلَى مِلْكِي لِتَكُونَ مَصْرُوفَةً فِي حَاجَتِي، أَوْ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِي فَإِنْ قَالَ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَقَفْتُهَا لَك، أَوْ حَبَسْتُهَا لَك، أَوْ قَالَ هِيَ لَك وَقْفٌ، أَوْ حَبْسٌ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَكُونُ تَمْلِيكًا مِنْهُ يَتِمُّ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَك، وَقَوْلُهُ وَقْفٌ، أَوْ حَبْسٌ بَاطِلٌ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ وَقْفٌ، أَوْ حَبْسٌ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لَك فَيَمْنَعُ ذَلِكَ تَمْلِيكَ الْغَيْرِ مِنْهُ وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَفْسِيرٌ كَانَ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ دَارِي لَك سُكْنَى تَكُونُ عَارِيَّةً فَإِنْ قَالَ هِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ قَيِّمٍ يَقُومُ بِهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا فِي مَرَمَّتِهَا وَإِصْلَاحِ مَجَارِيهَا وَيَزْرَعُهَا وَيَرْفَعُ مِنْ غَلَّتِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَهَذِهِ صَدَقَةٌ جَائِزَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَقْفِ مِنْ الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِخْرَاجِ الْأَصْلِ عَنْ مِلْكِهِ، وَالتَّأْبِيدِ فِي جِهَةِ صَرْفِ الْغَلَّةِ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهَا بِمَرَمَّتِهَا وَإِصْلَاحِ مَجَارِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ وَمَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ جَارِيَةً لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةٌ عِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ فَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ إلَّا سَبْعًا. وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ نَهْرًا أَكْرَاهُ وَخَانًا بَنَاهُ وَمُصْحَفًا سَبَّلَهُ، وَإِنَّمَا يُرْفَعُ مِنْ غَلَّتِهَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ إلَّا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَطِيبُ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إلَّا بِأَدَاءِ الْخَرَاجِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْوَاقِفُ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ عَنْهُ بِأَطْيَبَ الْمَالِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ النَّوَائِبِ؛ فَلِهَذَا يَرْفَعُ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَوْقِيتٍ لَازِمٍ، وَلَكِنْ يُقَسِّمُ عِنْدَ حُصُولِ الْغَلَّةِ، وَمِنْ الْأَرَاضِي مَا يَغُلُّ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَغُلُّ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَكَمَا حَصَلَتْ الْغَلَّةُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّوَائِبِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا يُؤَخِّرُ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ الْآفَاتِ، وَفِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 التَّعْجِيلِ مِنْ الْقُرْبَةِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَلِذَلِكَ إذَا جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَأْذَنُ لَهُمْ أَنْ يَقْبُرُوا فِيهَا فَيَفْعَلُونَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ مَا يُخْلِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا وَيَقْبُرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا، أَوْ أَكْثَرَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ إذَا قَبَرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهَا خَانًا لِلْمُسْلِمِينَ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَدَخَلَهَا بِإِذْنِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَفِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَفِعْلِ الْجَمَاعَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ أَمَانَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ الْجَمَاعَةِ. ثُمَّ النُّزُولُ فِي الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] وَجَوَازُ الْوَقْفِ لِمَعْنَى الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعَاشُ وَالْمَعَادُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّارُ بِمَكَّةَ فَيَجْعَلُهَا سُكْنَى لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا وَيُسْكِنُ فِيهَا مَنْ زَارَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَلَّمَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ. وَالتَّسْلِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ يَكُونُ بِأَحَدِ الطَّرِيقِينَ إمَّا بِإِثْبَاتِ يَدِ الْقَيِّمِ عَلَيْهَا، أَوْ بِأَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِسُكْنَى بَعْضِ النَّاسِ فِيهَا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ دَارًا لَهُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ وَدَفَعَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهَا سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ، أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِمَا صَنَعَ. فَأَمَّا السُّكْنَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ وَالْحَاجُّ، وَكَذَلِكَ نُزُولُ الْخَانِ وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ. فَأَمَّا الْغَلَّةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلْغُزَاةِ فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إلَّا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَالٌ يُمْلَكُ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَمْلِيكِ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَاجِ خَاصَّةً دُونَ الْغَنِيِّ بِخِلَافِ السُّكْنَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْغَنِيَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِمَالِهِ عَنْ الْخَانِ لِيَنْزِلَ فِيهِ وَعَنْ الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُوَ نَظِيرُ مَاءِ السِّقَايَةِ وَالْحَوْضِ وَالْبِئْرِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ عَادَةً، وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَصَدِّقِ بِالْمَالِ. ثُمَّ الْوَاقِفُ وَإِنْ أَطْلَقَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 الْغُزَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمُرَادُهُ التَّقَرُّبُ، وَذَلِكَ بِصَرْفِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ، وَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]، ثُمَّ يَصْرِفُ الصَّدَقَةَ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانُوا يُحْصَوْنَ، أَوْ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا بَيْنَ النَّاسِ لَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ كَالْيَتَامَى فَحِينَئِذٍ إنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَتُصْرَفُ إلَى فُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي جَوَازِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا. قَالَ (وَإِنْ جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَسْجِدًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَنَاهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَأَبَانَهَا مِنْ مِلْكِهِ فَأَذَّنَ فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَصَلَّى النَّاسُ جَمَاعَةً صَلَاةً وَاحِدَةً، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا)؛ لِأَنَّهُ حَرَزَهَا عَنْ مِلْكِهِ وَجَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيمَا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَالصَّدَقَةِ الَّتِي أَمْضَاهَا، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَسْجِدًا إذَا أَبَانَهُ عَنْ مِلْكِهِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِفِعْلِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَى الْمُتَوَلِّي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا مَا لَمْ يُصَلِّ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، بَنَى عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ قَالَ إذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ يَصِيرُ مَسْجِدًا، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ بِالْجَمَاعَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ تَمَامَ التَّبَرُّعِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ بِدَلِيلِ الصَّدَقَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، ثُمَّ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَهُنَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ فَلَا تَصِيرُ مَسْجِدًا قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ بِجَمَاعَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنُوبُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ فَتُجْعَلُ صَلَاةُ الْوَاحِدِ فِيهِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي نُزُولِ الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 وَرُوِيَ) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَقْبِضَ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مُجَرَّدُ الْإِعْلَامِ يَكْفِي لِذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ إذَا أُعْلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ قِيَاسَ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يُزِيلُ الْمُعْتَقَ عَنْ مِلْكِهِ وَيَجْعَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَتِمُّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ، وَلِأَنَّ الْآخِذَ لِلصَّدَقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ أُحُدٍ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا فِي ضِمْنِ الِاتِّصَالِ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ الْفَقِيرُ آخِذًا كِفَايَتَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكِفَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَقَدْ وَعَدَ لَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ فَلَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَالْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا نَفْسَهُ مَعَ أَنَّ الْمُعْتِقَ مُتْلِفٌ لِلْمِلْكِ وَالرِّقِّ فِيهِ وَالْإِتْلَافُ يَتِمُّ بِالتَّلَفِ وَالْمُتَصَدِّقُ غَيْرُ مُتْلِفٍ لِلْمِلْكِ بَلْ جَاعِلُ الْمِلْكِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، وَذَلِكَ فِي ضِمْنِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ فَكَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْفَقِيرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ. فَكَذَلِكَ جَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى. . فَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَلْزَمُ بِالْإِعْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ الْمُتَوَلِّي وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَتَمَامُهُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَصَارَتْ يَدُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فِي غَيْرِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا فِي إزَالَةِ يَدِهِ كَمَا فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ. وَذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَتِمَّ الصَّدَقَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّ جَوَازَ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَفِي جَوَازِ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَلُزُومِهَا خِلَافٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ تِلْكَ الصَّدَقَةُ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَهَذَا أَوْلَى. وَقَالَ فِي الْكِتَابِ مَنْ جَوَّزَ الصَّدَقَةَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَالْمُنَفَّذَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهَا إلَّا مَقْبُوضَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ نَوْعِ التَّحَكُّمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذِهِ إزَالَةُ مِلْكٍ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَتَتِمُّ بِدُونِ الْقَبْضِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 كَالْعِتْقِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُتَمَلِّكِ، أَوْ مِنْ نَائِبِهِ لِيَتَأَكَّدَ بِهِ مِلْكُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ غَيْرِهِ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ لَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُخْتَارُ الْوَاقِفِ فَيَدُهُ تَقُومُ مَقَامَ يَدِ الْوَاقِفِ لَا مَقَامَ يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَيْضًا. فَإِذَا كَانَتْ تَتِمُّ بِيَدِ مَنْ اخْتَارَهُ الْوَاقِفُ فَبِيَدِ الْوَاقِفِ أَوْلَى بِخِلَافِ الْعَدْلِ فِي الرَّهْنِ فَإِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَدْلًا إلَّا بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ وَاخْتِيَارِهِ؛ وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْعَدْلِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ فَتَمَكَّنَ فَيُجْعَلُ الْعَدْلُ نَائِبًا عَنْهُ وَهُنَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُتَوَلِّي نَائِبًا عَنْهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْوَاقِفِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ قَبْضِهِ، وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتِمَّ الْوَقْفُ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ وَخَافَ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ، أَوْ لِيَكُونَ فِي يَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِإِتْمَامِ الْوَقْفِ فَلَا وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى لِمُقَارَبَتِهِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ وَعَلَى هَذَا الْخَانُ وَالرِّبَاطُ يَتِمُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يَتِمُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي، أَوْ بِنُزُولِ النَّاسِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْبَرَةُ وَالسِّقَايَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى قَيِّمٍ يَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ بِأَنْ يَدْفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ رَجُلًا وَاحِدًا، أَوْ يُسْقَى مِنْ السِّقَايَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ تَمَامَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي فِي الْمَسْجِدِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا تَدْبِيرَ فِيهِ لِلْمُتَوَلِّي فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ، أَوْ الِاسْتِغْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ قَدْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا تَدْبِيرَ لِأَحَدٍ فِي سَدِّ بَابِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كُرِهَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْمَسْجِدِ فَكَيْف بِغَيْرِهِمْ؛ فَلِهَذَا يُوقَفُ التَّمَامُ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفِي سَائِرِ الْوَقْفِ لِلْمُتَوَلِّي تَدْبِيرٌ فِي ذَلِكَ فَجُعِلَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي مُتَمِّمًا لِلصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي سَائِرِ الْوَقْفِ مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ يَدِ الْمُتَوَلِّي فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إقَامَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَسْجِدِ خَالِصًا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. قَالَ (وَلَوْ وَقَفَ نِصْفَ أَرْضٍ، أَوْ نِصْفَ دَارٍ مُشَاعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -)؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ فِيمَا يُقْسَمُ بِالْقِسْمَةِ، ثُمَّ أَصْلُ الْقَبْضِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمُوَقْوِقَةِ. فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْوَقْفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَذْهَبِهِ قِيَاسُ الْعِتْقِ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْعِتْقَ. فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْوَقْفَ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ لِمَا فِي التَّجْزِيءِ مِنْ تَضَادِّ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْوَقْفِ فَيَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ وَيَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أَوْقَفَهُ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِتَمَامِ الْوَقْفِ. فَكَذَلِكَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْقَبْضُ وَتَمَامُ الْقَبْضِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْقِسْمَةِ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتِمُّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْهِبَةِ، وَيَتِمُّ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ يَتَلَاشَى فَلَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ فِيهِ حِيَازَةً. فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ، وَعَلَى هَذَا الْخَانُ وَالْمَقْبَرَةُ وَالْمَسْجِدُ وَالسِّقَايَةُ يَعْنِي فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ مِنْ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَأَمَّا الْمَسْجِدُ وَالْمَقْبَرَةُ لَا تَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْبُقْعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْمُهَايَأَةِ فَتُقْبَرُ فِيهِ الْمَوْتَى فِي سَنَةٍ، ثُمَّ تُنْبَشُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى وَيُزْرَعُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَالِكِ وَيُصَلِّي النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذُ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ آخَرَ بِحُكْمِ الْمُهَايَأَةِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الِاسْتِغْلَالُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ مِلْكًا، وَفِيمَا صَارَ مِنْهُ وَقْفًا فَلَوْ جَازَ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بَلْ يُسْتَغَلُّ وَتُقَسَّمُ الْغَلَّةُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ مِنْهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ جَمِيعَ الْأَرْضَ، أَوْ الدَّارَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ مُشَاعًا بَطَل فِي الْكُلِّ وَرَجَعَ الْبَاقِي إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ تَصَدُّقِهِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ يَوْمئِذٍ، وَلَا أَجَازَهُ مَالِكُهُ، وَلَوْ جَازَ فِي الْقَدْرِ الْمَمْلُوكِ لَكَانَ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَأَبْطَلَهُ الْوَارِثُ فِيمَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ بَقِيَ الثُّلُثُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِبْطَالُهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَهُ إبْطَالُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّ رُجُوعَ الْوَارِثِ فِي الْبَعْضِ كَرُجُوعِ الْوَاهِبِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْهِبَةِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ شُيُوعٌ طَارِئٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ مُمَيَّزًا بِعَيْنِهِ كَانَ مَا فَعَلَهُ جَائِزًا فِيمَا بَقِيَ مَاضِيًا لِوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَتَبَيَّنْ الشُّيُوعُ فِيمَا بَقِيَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مُمَيَّزٌ مِمَّا بَقِيَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ وَقَفَهُمَا فَاسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُمَيَّزًا يُقَرِّرُ الصَّدَقَةَ فِيمَا بَقِيَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْهِبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ جُزْءًا شَائِعًا، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ كَثِيرًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ الشُّيُوعُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ قَلَّ ذَلِكَ، أَوْ كَثُرَ. قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَصَدَّقَا بِهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَدَفَعَاهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا)؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ جَائِزٌ إذَا تَصَدَّقَ رَجُلَانِ عَلَى وَاحِدٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الصَّدَقَةِ شُيُوعٌ فِي الْمَحِلِّ، وَلَا شُيُوعَ هُنَا فَقَدْ صَارَ الْكُلُّ صَدَقَةً مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ بِهَا وَالْقَبْضُ لِلْمُتَوَلِّي فِي الْكُلِّ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ وَمَا لَوْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ، وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا شَائِعًا عَلَى حِدَةٍ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً وَجَعَلَ لَهَا وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَدَّقَ بِنَصِيبِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِنَصِيبِهِ وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ وَمِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهَا مُشَاعًا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبْضَةَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا. فَكَذَلِكَ قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِيَيْنِ هُنَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا. قَالَ (وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَا الْوَالِيَ لِذَلِكَ رَجُلًا وَاحِدًا فَسَلَّمَاهَا إلَيْهِ جَمِيعًا جَازَ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ مُجْتَمِعٌ فَقَدْ حَصَلَ قَبْضُ الْكُلِّ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّ عَيْنٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ ذَلِكَ مَعَ رَجُلٍ فِي النِّصْفِ، ثُمَّ فِي النِّصْفِ، ثُمَّ سَلَّمَ الْكُلَّ إلَيْهِ جَازَ، وَلَوْ بَاشَرَهُ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ سَلَّمَ إلَيْهِ النِّصْفَ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَاهَا جَمِيعًا إلَى رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَالِيَيْنِ هُنَا كَوَالٍ وَاحِدٍ حَيْثُ جَعَلَهُمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالِيًا فِي صَدَقَةٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَصَدِّقَيْنِ خَصَّ وَاحِدًا مِنْ الْوَالِيَيْنِ فَجَعَلَهُ وَالِيًا فِي صَدَقَتِهِ فَإِنَّمَا يُلَاقِي قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءًا شَائِعًا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّهْنِ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ رَهَنَا عَيْنًا مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِمَا جَازَ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ أَحَدِ الرَّاهِنَيْنِ رَهْنٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَنَصِيبُ الْآخَرِ عِنْدَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ. وَلَوْ وَهَبَا مِنْ رَجُلَيْنِ، أَوْ تَصَدَّقَا عَلَيْهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 وَلَوْ قَالَا نَصِيبُ أَحَدِ الْوَاهِبَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَنَصِيبُ الْآخَرِ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ، قَالَ (وَلَوْ تَصَدَّقَا بِهَا عَلَى وَاحِدٍ فَوَكَّلَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ رَجُلَيْنِ بِقَبْضِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً فَقَبَضَا ذَلِكَ مَعًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ اثْنَيْنِ)؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا قَبَضَاهَا لِوَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَقَبْضُ الْوَكِيلِ كَقَبْضِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ الْقَبْضُ مُجْتَمِعًا حُكْمًا. وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا صُورَةً (فَإِنْ قِيلَ) فَفِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ الْوَلِيَّانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْوَالِي لِاتِّحَادِ جِهَةِ الصَّرْفِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِيَيْنِ عَامِلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ وَالِيًا فِي صَدَقَتِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَحِقَهُ عَهْدُهُ فِيمَا قَبَضَ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَدَقَتِهِ قَيِّمًا عَلَى حِدَتِهِ كَانَ قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جُزْءٍ شَائِعٍ، وَلَوْ تَصَدَّقَا بِهِ عَلَى رَجُلَيْنِ صَدَقَةً وَاحِدَةً فَوَكَّلَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِمَا رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَقَبَضَ الْوَكِيلَانِ جَمِيعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلَيْنِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبُ وَكِيلِهِ فِي الْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَ الْمُوَكِّلَانِ مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ جَازَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الصَّدَقَةِ فِي جَانِبِ الْمُتَصَدِّقَيْنِ وَتَمَامِهَا عِنْدَ قَبْضِ الْآخَرِ مِنْهُمَا. فَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَقَبَضَ النِّصْفَ، ثُمَّ النِّصْفَ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ قَبَضَ الْكُلَّ جُمْلَةً سَوَاءٌ، وَإِنْ قَبَضَا أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضَا نَصِيبَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِتَمَامِ الْقَبْضِ، وَلَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلَمْ تَتِمَّ بِهِ الصَّدَقَةُ وَكَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ كَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ قَبَضَا نَصِيبَ الْآخَرِ قَبْلَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ فِيهِ فَقَدْ تَمَّتْ الصَّدَقَةُ لِتَمَامِ الْقَبْضِ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى حِدَةٍ وَوَكَّلَا فِيهَا رَجُلًا وَاحِدًا فَقَبَضَ نَصِيبَهُمَا مُجْتَمِعًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا كَانَتْ الصَّدَقَةُ جَائِزَةً؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَ الْكُلَّ فَلَا شُيُوعَ فِي الْمَحِلِّ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَهُ فِي نَصِيبِهِ لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا فَلَا تَتِمُّ بِهِ الصَّدَقَةُ. قَالَ (فَإِنْ بَاعَهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ جَازَ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ تَتِمَّ حِينَ لَمْ يَقْبِضْ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْآخَرِ وَكَانَ وُجُودُ الْقَبْضِ فِي نَصِيبِهِ كَعَدَمِهِ؛ فَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ عَنْهُ فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْآخَرِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ فَقَبْضُهُ بَاطِلٌ وَالصَّدَقَةُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ فِي نَصِيبِهِ وَصَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَلَوْ جَازَتْ الصَّدَقَةُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 بِالْقَبْضِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الثَّانِي، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ مَوْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ تَتِمَّ بِتَمَامِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَبْضِهِ نَصِيبَ الثَّانِي؛ فَلِهَذَا تَمَّتْ الصَّدَقَةُ فِي الْكُلِّ. قَالَ (دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، أَوْ إلَى وَكِيلِهِ، ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، أَوْ إلَى وَكِيلِهِ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ فَإِنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ وَقَبْضُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْأَوَّلِ حَتَّى تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَقَدْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَهُمَا جُمْلَةً جَازَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَانِعَ افْتِرَاقُ الْقَبْضِ، وَقَدْ قَبَضَ الْكُلَّ جُمْلَةً فَكَأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا عَلَيْهِ كَانَتْ جُمْلَةً بِعَقْدٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ وَكِيلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ تَمَّ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْآخَرِ مِنْهُمَا وَقَبْضُ وَكِيلِهِ لَهُ كَقَبْضِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ مَا كَانَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَصْلًا فَتَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ قَبْضِهِ فِي نَصِيبِ الثَّانِي بَعْدَ مَا بَطَلَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ وَبَطَلَ حُكْمُ قَبْضِهِ فِي نَصِيبِ الثَّانِي لِمُلَاقَاتِهِ جُزْءًا شَائِعًا وَهُنَا حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ كَانَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَيَتَوَقَّفُ حُكْمُ تَمَامِ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ عَلَى تَمَامِ الْقَبْضِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِقَبْضِ الثَّانِي. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِ نَصِيبِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ قَبْضِهِ فِيمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ خَاصَّةً وَهُوَ جُزْءُ الشَّائِعِ وَهُنَا حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِ نَصِيبِ الثَّانِي فَيُجْعَلُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ قَبْضِهِ كَالْمُجْتَمِعِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْكُلِّ. قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لِرَجُلٍ، أَوْ رَجُلَيْنِ فَتَصَدَّقَا بِهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً وَسَلَّمَاهَا إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مَوْقُوفًا عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا. فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ وَجَعَلَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي الْحَجِّ يَحُجُّ بِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ وَاحِدًا فَجَعَلَ نِصْفَ الْأَرْضِ مُشَاعًا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَنِصْفَهَا عَلَى الْأَمْرِ الْآخَرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْبِضُهَا وَالٍ وَاحِدٌ فَلَا يَضُرُّهُمْ عَلَى أَيِّ الْوُجُوهِ فَرَّقُوا غَلَّتَهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ. وَإِذَا كَانَ الْوَالِي وَاحِدًا فَهُوَ يَقْبِضُ الْكُلَّ جُمْلَةً فَتَتِمُّ الصَّدَقَةُ بِالْكُلِّ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ بِتَفَرُّقِ جِهَاتِ الصَّدَقَةِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّدَقَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ لَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 كَانَ وَاحِدًا وَفَرَّقَ الْغَلَّةَ سِهَامًا بَعْضُهَا فِي الْحَجِّ وَبَعْضُهَا فِي الْغَزْوِ وَبَعْضُهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَبَعْضُهَا فِي الْمَسَاكِينِ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً جَائِزَةً. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُتَصَدِّقُ اثْنَيْنِ وَعَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَصِيبِهِ مَصْرِفًا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُجَوِّزُهَا غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ. فَكَذَلِكَ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُوَسِّعُ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ غَايَةَ التَّوَسُّعِ. وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ضَيَّقَ فِيهَا غَايَةَ التَّضْيِيقِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ لَا تَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ أَصْلًا وَتَوَسَّطَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَفْتَى عَامَّةُ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِمَّا تَوَسَّعَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ فِيهَا حَتَّى لَوْ وَقَفَهَا عَلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا يَصِحُّ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهَا لِلْمَسَاكِينِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ فِيهَا فَقَالَ إذَا كَانَتْ الْجِهَةُ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ إذَا لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهَا لِلْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَذَلِكَ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ. وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا فَلَمْ يَتَوَفَّرْ عَلَى الْعَقْدِ مُوجِبُهُ وَالتَّوْقِيتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ مُبْطِلًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّم انْقِطَاعُهَا وَتَارَةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةِ لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَصْرِفَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلِابْتِدَاءِ بِالِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا. وَإِذَا انْقَطَعَتْ عَادَتْ الْغَلَّةُ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ فَكَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ. فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْغَلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ». وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ». فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَعَلَهُ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَاشْتِرَاطُ الْغَلَّةِ، أَوْ بَعْضِهَا لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْغَلَّةَ لِإِمَائِهِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ الْغَلَّةَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مُسْتَحْسَنٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 أَهْلِ الْبَصْرَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ وَالْوَقْفُ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ (وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْوَقْفِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْوَقْفِ). وَقَالَ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى الْوَقْفُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْعِتْقِ بَاطِلٌ وَالْعِتْقُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُهُ الْمَسْجِدَ صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ إنَّ تَمَامَ الْوَقْفِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَمَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَقْفِ، ثُمَّ تَمَامُ الْوَقْفِ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْقَبْضِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَسْجِدَ فَالْقَبْضُ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إنَّمَا الشَّرْطُ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَسْجِدًا، ثُمَّ شَرْطُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ وَشَرْطُهُ فِي الْوَقْفِ مُرَاعًى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَالْفَاسِدُ مِنْ الشُّرُوطِ يُبْطِلُهُ. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْوَقْتُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَيَحْتَمِلُ الْفَسْخُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَاشْتِرَاطِ الْخِيَارُ لِلْفَسْخِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَرَوِّي النَّظَرِ فِيهِ. قَالَ (فَإِنْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الثَّانِي، وَلَكِنَّهُ مَسْجِدٌ كَمَا كَانَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعُودُ إلَى مِلْكِ الثَّانِي وَإِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ مِلْكِهِ مَصْرُوفًا إلَى قُرْبَةٍ بِعَيْنِهَا. فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَادَ إلَى مِلْكِهِ كَالْمُحْصَرِ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ، ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَهُ. قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى حُصُرَ الْمَسْجِدِ، أَوْ حَشِيشًا فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا تَمَّ زَوَالُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ بِحَالٍ) كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي قَصَدَهَا لَمْ تَنْعَدِمْ بِخَرَابِ مَا حَوْلَهَا فَإِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 النَّاسَ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا سَوَاءٌ فَيُصَلِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُسَافِرُونَ وَمَارَّةُ الطَّرِيقِ وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَلَكِنْ يُصْرَفُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْكَعْبَةِ فَإِنَّ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَدْ كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى. فَكَذَلِكَ سَائِرُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا. فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا. وَمُحَمَّدٌ يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا. فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ إذَا تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّ بِمَزْبَلَةٍ فَقَالَ هَذَا مَسْجِدُ أَبِي يُوسُفَ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِعَوْدِهِ إلَى مِلْكِ الثَّانِي يَصِيرُ مَزْبَلَةً عِنْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ. وَمَرَّ أَبُو يُوسُفَ بِإِصْطَبْلٍ فَقَالَ هَذَا مَسْجِدُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَعُودُ مِلْكًا فَرُبَّمَا يَجْعَلُهُ الْمَالِكُ إصْطَبْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْجِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَبْعَدَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ بَعْضَ صُكُوكِ الْوَقْفِ وَشَرَحَ مَا هُوَ مِنْ رَسْمِ الصُّكُوكِ فِي ذَلِكَ بِذِكْرِهِ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَّصِلُ بِالْوَقْفِ. فَمِنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَصَارِفِ وَعَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ مَوَالِي فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَمَوْلَيَاتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَسْفَلَ، أَوْ الْأَعْلَى وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا كَانَ فُلَانٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَالْوَقْفُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْأَعْلَى، أَوْ الْأَسْفَلَ عَلَى قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَوَالِي فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَأَعْتَقَهُمْ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْأَسْفَلَ، أَوْ الْأَعْلَى، مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْوَصَايَا فِي الْجَامِعِ. فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَرْفَعَ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ عَامٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِبَذْرِ الْأَرْضِ وَمُؤْنَتِهَا وَأَرْزَاقِ الْوُلَاةِ لَهَا وَوُكَلَائِهَا وَأُجُورِ وُكَلَائِهَا مِمَّنْ يَحْصُدُهَا وَيَدْرُسُهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَوَائِبِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَاقِفِ اسْتِدَامَةُ الْوَقْفِ وَأَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ وَاصِلَةٌ إلَى الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِرَفْعِ هَذِهِ الْمُؤَنِ مِنْ رَأْسِ الْغَلَّةِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ جَهْلُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَرُبَّمَا يَذْهَبُ رَأْيُ الْقَاضِي إلَى قِسْمَةِ جَمِيعِ الْغَلَّةِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ. وَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ يَقَعُ الْأَمْنُ بِالشَّرْطِ وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ التَّوَثُّقُ فَيَنْبَغِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 أَنْ يُكْتَبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ فَيُتَحَرَّزُ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ وَجَهْلِ كُلِّ جَاهِلٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ، وَإِنْ مَاتَ الْقَيِّمُ فِيهِ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْمُوقِفُ يُقِيمُ فِيهِ مَنْ أَحَبَّ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْوَاقِفِ الرَّأْيَ لِنَفْسِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَقْفِ فَفِي نَصْبِ الْقَيِّمِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَرْطُ الِاسْتِبْدَالِ بِالْوَقْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرْطِ إعَادَةِ الْعَيْنِ الْأُولَى إلَى مِلْكِهِ. وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَيِّمَ نَائِبٌ عَنْ الْوَاقِفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ فِي نَصِيبِهِ لِيَعْمَلَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ مَنْفَعَتَهُمْ كَمَنْفَعَتِهِ فَاشْتِرَاطُ رَأْيِهِ فِي نَصْبِ قَيِّمٍ آخَرَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ يُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ بِالْوَقْفِ، وَلَا يُغَيِّرُهُ قَالَ (فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ فَأَوْصَى إلَى غَيْرِهِ فَوَصِيُّهُ بِمَنْزِلَتِهِ)؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ نَصَّبَهُ لِيَكُونَ نَاظِرًا لَهُ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ آذِنًا لَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ كَمَا خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا. قَالَ (وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي)؛ لِأَنَّهُ نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالْوَاقِفُ مَيِّتٌ وَمُصْرِفُ الْغَلَّةِ عَاجِزٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ فَالرَّأْيُ فِي نَصْبِ الْقَيِّمِ إلَى الْقَاضِي، قَالَ (وَلَا يَجْعَلُ الْقَيِّمَ مِنْ الْأَجَانِبِ مَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُوقِفِ وَوَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ أَجْنَبِيًّا إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ وَمَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَوَلَدِهِ إمَّا لِيَكُونَ الْوَقْفُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ظَاهِرًا، أَوْ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ أَشْفَقُ عَلَى وَقْفِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُذْكَرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ لِيُتَحَرَّزَ الْقَاضِي عَنْ خِلَافِ شَرْطِهِ. قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ فَجَعَلَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ صَارَ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ صَرَفَهُ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الشَّرْطِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءُ لَا يُعْتَبَرُ بِالِابْتِدَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ وَالْإِبَاقُ فِي الْمَبِيعِ كَذَلِكَ. فَإِذَا ذَكَرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَجَبَ عَلَيَّ الْقَاضِي، مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] وَكَوْنُهُ فِي يَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَنْفَعُ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يُبْطِلَ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَقْفَهُ وَنَقْضَهُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكْتُبَ فِي صَكِّهِ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ قَاضٍ، أَوْ غَيْرُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه فَهَذِهِ الْأَرْضُ بِأَصْلِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ مَالِ فُلَانٍ تُبَاعُ فَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا عَلَى مَنْ سَمَّيْنَا فِي كِتَابِنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُبْطِلُ عِنْدَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 خُصُومَةِ وَارِثٍ، أَوْ غَرِيمٍ لِاتِّصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِمَا يَذْكُرُهُ الْمُوقِفُ فَلَا يَشْتَغِلُ أَحَدٌ بِإِبْطَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ إثْبَاتُ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَلِيقُ بِهِ. (وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُوقِفَ بَعْدَ إتْمَامِ الْوَقْفِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي يُخَاصِمُ فِيهِ إلَى قَاضٍ يَرَى إجَازَتَهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ إبْطَالَهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِجَازَتِهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ)؛ لِأَنَّهُ قَضَى عَنْ اجْتِهَادٍ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إبْطَالُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إجَازَتُهُ فِي نُسْخَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَيُشْهِدَ الشُّهُودَ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي آخِرِ صَكِّ الْوَقْفِ، وَاَلَّذِي جَرَى الرَّسْمُ بِهِ الْآنَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ إقْرَارَ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ فَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الَّذِي يَرَى إبْطَالَهُ وَرُبَّمَا يَكْتُبُونَ، وَقَدْ رَفَعَ هَذَا إلَى قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ. وَهَذَا كَذِبٌ إنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَ إلَى أَحَدٍ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ. وَالْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ بِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا يَذْهَبُ اجْتِهَادُ قَاضٍ إلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْإِجَارَةَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تُعْتَبَرُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى تَجْهِيزِ الرَّجُلِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالنَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي صَكٍّ)، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ جِهَادٌ بِالْمَالِ وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَهَذِهِ جِهَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ»؛ فَلِهَذَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ فِي الضَّيْعَةِ مَمَالِيكُ وَأَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهَا فَوَقَفَهَا بِمَنْ فِيهَا مِنْهُمْ وَسَمَّاهُمْ جَازَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْغَلَّةُ بِعَمَلِهِمْ يَحْصُلُ وَالْوَقْفُ فَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْمَنْقُولِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، وَعَلَى هَذَا آلَاتُ الْحِرَاثَةِ إذَا ذَكَرَهَا فِي الْوَقْفِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْوَقْفِ تَبَعًا وَهُوَ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا. وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ مَقْصُودًا، ثُمَّ فِي وَقْفِ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. (وَالْجَوَابُ) الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّ مَا جَرَى الْعُرْفُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْوَقْفِ فِيهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ، وَذَلِكَ كَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْقُدُورِ وَالْأَوَانِي فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْمَصَاحِفِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَثُمِائَةِ فَرَسٍ مَكْتُوبٌ عَلَى أَفْخَاذِهَا حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْرُوفٌ أَنَّ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْضَاعَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.» قَالَ (وَإِذَا وَقَفَهَا عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَالِ وَقْفِهِ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَمَّى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي حَيَاةِ فُلَانٍ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَهُوَ جَائِزٌ) وَعَلَى هَذَا أَصْلُ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ جَازَ فَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاشْتِرَاطِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بِمَوْتِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَأَصْلُ الْوَقْفِ إذَا قَالَ فِي حَيَاتِي، وَبَعْدَ مَمَاتِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى فِي ذَلِكَ لِمُدَبَّرِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ بِمَوْتِهِ كَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِنَّ مَا دُمْنَ فِي بَيْتِهِ مَشْغُولَاتٍ بِخِدْمَةِ أَوْلَادِهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّزَوُّجِ، أَوْ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّحَرُّزُ عَنْ ضَيَاعِهِنَّ لِعَجْزِهِنَّ عَنْ التَّكَسُّبِ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَمَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ. قَالَ (فَإِنْ جَعَلَ الرَّأْيَ فِي تَوْزِيعِ الْغَلَّةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ الْقَرَابَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إلَى الْقَيِّمِ جَازَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْقَيِّمِ قَائِمٌ مَقَامَ رَأْيِهِ وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّفْضِيلِ عِنْدَ الْوَقْفِ رَأْيًا فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْقَيِّمِ بَعْدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَصَارِفَ تَتَفَاوَتُ فِي الْحَاجَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ الْغَلَّةُ مَصْرُوفَةً إلَى الْمُحْتَاجِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَالصَّرْفُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إذَا اسْتَغْنَى الْبَعْضُ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا جُوِّزَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّأْيَ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَيِّمِ، وَإِنْ كَتَبَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَجَوَارِيهِ اللَّاتِي جُعِلْنَ حَرَائِرَ بَعْدَ مَوْتِهِ كِتَابًا أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِنَّ فِي حَيَاتِهِ وَجَعَلَ لَهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ سُكْنَى مَنَازِلَ وَسَمَّاهُنَّ وَبَيَّنَ حُدُودَهَا وَمَوَاضِعَهَا تَسْكُنُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهَا مَا عَاشَتْ وَأَيُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَزَوَّجَتْ. أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى وَنَصِيبُهَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلسُّكْنَى بِالْغَلَّةِ فَإِنَّ الْغَلَّةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ هَذَا الشَّرْطُ لَهُنَّ فِي الْغَلَّةِ. فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اتِّصَالُ حَاجَتِهِنَّ إلَيْهِنَّ لِكَيْ لَا يَضِعْنَ بَعْدَهُ وَرُبَّمَا تَكُونُ حَاجَتُهُنَّ إلَى السُّكْنَى دُونَ الْغَلَّةِ، وَقَدْ أَعْطَاهُنَّ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِنَّ، وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَاتِ يَرْجِعْنَ إلَى قَرَابَاتِهِنَّ، وَلَا قَرَابَةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمَسَائِلَ فِيهِنَّ. قَالَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ مِنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ كَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى)، وَلَكِنْ هَذَا الشَّرْطُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَوَسَّعُ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ فَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ زَوَالِ حَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يُفَوِّتُ مُوجِبَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ. فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّأْبِيدُ شَرْطٌ لِلُّزُومِ الْوَقْفِ فِي الْحَيَاةِ فَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْدِمُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ بِسُكْنَى دَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَيَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ إذَا سَمَّاهُنَّ، وَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ وَأَوْصَى لَهُنَّ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِخَدَمِهَا وَمَتَاعِهَا وَحُلِيِّهَا وَثِيَابِهَا وَجَوْهَرِهَا وَسَمَّى مَا جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ قِيمَتَهُ وَوَزْنَهُ وَأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ ذَلِكَ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا وَأَوْصَى لَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُشْكِلُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُنَّ الْأَعْيَانَ هُنَا وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّمْلِيكِ فَلَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ مِنْهُنَّ إلَّا بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّتِهِنَّ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ، وَفِيمَا سَبَقَ لَا يَمْلِكُ بِالْوَقْفِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَلَكِنْ يُخْرِجُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ فَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِنَّ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى السُّكْنَى، وَذَلِكَ يَتِمُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ. فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا حِينَ أَخْرَجَ الْوَقْفَ مِنْ مِلْكِهِ تَمَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَكَذَا يَقُولُ فِيمَا لَا يَعُودُ إلَيْهِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالٍ بِأَنْ جَعَلَ آخِرَ وَقْفِهِ عَلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعُودُ إلَيْهِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا يَتِمُّ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَبْقَى تَمْلِيكُهُ مِنْهُنَّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى تُعْتَبَرُ بِالثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْهِبَةِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وَالْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ: الْعَطِيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ: السَّلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ رُدُّوهَا يَتَنَاوَلُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 ذَلِكَ فِي الْعَطِيَّةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ دَلِيلُ جَوَازِ الْهِبَةِ. وَالسُّنَّةُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ - مَا لَمْ يُثْبَتْ مِنْهَا» -. وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَاكْتِسَابِ سَبَبِ التَّوَدُّدِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا». ثُمَّ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ؛ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِهِ عَلَى الْقَبْضِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، بَلْ: أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» مَعْنَاهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ إذْ الْجَوَازُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا؛ فَقَدْ ذَكَرَ أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ كَالْوَصِيَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ: أَنَّ عَقْدَ التَّبَرُّعِ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ. وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا؛ فَلَا يَزُولُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ: وَهُوَ مَوْتُهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِكَوْنِ الْمَوْتِ مُنَافِيًا لِمِلْكِهِ، وَتَسْلِيمُهُ فِي الْهِبَةِ لِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بَعْدَ إيجَابِ عَقْدِ التَّمْلِيكِ لِغَيْرِهِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ وَمِلْكَ الْيَدِ. فَتَبَرُّعُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِالْهِبَةِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْيَدُ -. وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجَبَ عَلَى الْوَاهِبِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعِ - بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ -، وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ - عِنْدَنَا - فِي أَنَّهُ لَا يُوجَبُ الْمِلْكُ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْقَبْضِ خِلَافًا لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي الصَّدَقَةِ خِلَافٌ بَيْن الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولَانِ: إذَا أَعْلَمْت الصَّدَقَةَ جَازَتْ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقُولَانِ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً. وَعَنْ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْكِتَابِ؛ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَحَمَلْنَا قَوْلَ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى صَدَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ بِالْإِعْلَامِ يَتِمُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَقُولُ ابْنُ آدَم: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَك مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت، أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت، أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ». فَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ يَكُونُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ. ثُمَّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْقَرَابَاتِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ؛ لِمَا فِيهِ مَنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاسِحِ». وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ هِبَةً؛ فَقَبَضَهَا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. وَذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ فَقَبَضَهَا: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا -. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ: قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَفْتَرِضُ صِلَةَ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الْمُتَحَرِّزَةِ عَنْ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَهُوَ كَمَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] أَيْ: اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]. وَالْمُرَادُ: الرَّحِمُ الْمُتَأَبِّدُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ. ثُمَّ إنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَبْضَ لِلْمَنْعِ عَنْ الرُّجُوعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا أَنَّ الْوَالِدَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ هِبَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَالْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ - وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ - أَوْ لِمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادُ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ: مَنْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ هِبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَمْ يُثَبْ، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ: الْعِوَضُ فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْخَصْمِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيْنَمَا دَارَ الْحَقُّ فَعُمَرُ مَعَهُ، وَإِنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ». (وَعَنْ) عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: نَحَلَنِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ، وَلَا حُزْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك، وَأُخْتَاك قَالَتْ: فَقُلْت: فَإِنَّمَا هِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَسْمَاءَ - قَالَ: إنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحَلَهَا أَرْضًا لَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ، وَالْوَلَدُ إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقِسْمَةِ - فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ -؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبْطَلَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 وَالْحِيَازَةِ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ، وَلَا حُزْتِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِيَازَةِ: الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: حَازَ كَذَا، أَيْ: جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِقَبْضِهِ. وَحَازَ كَذَا، أَيْ: جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِالْقِسْمَةِ. وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَبْضِ هُنَا كَانَ تَكْرَارًا، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّكْرَارِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَاشَرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، كَمَا لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا نَقُولُ: الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاطِلَةٌ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَالتَّمْلِيكِ الْمُبْتَدَإِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيثَارِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَلَكِنْ طَيَّبَ قَلْبَهَا بِمَا قَالَ انْتِدَابًا إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ» بَدَأَ كَلَامَهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ - خُصُوصًا فِي وَصِيَّتِهِ - ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى: أَنْتِ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا: أَنْتِ، أَيْ: أَشَدُّهُمْ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُحِبُّ لَهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا: أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجِيدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ». وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، أَوْ أَحَبَّ الْغِنَى لَهَا؛ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى: أَنْتِ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ - وَذَلِكَ اسْمُ مَوْضِعٍ - وَقَدْ كَانَ وَهَبَ لَهَا قَدْرَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَطْيِيبٍ قَلْبِهَا، أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْلَمُ لَك فَلَا يَبْعُدُ عَنْك فَأَشْكَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَوْلُهُ: وَأُخْتَاكِ؛ لِأَنَّهَا مَا عُرِفَتْ لَهَا إلَّا أُخْتًا وَاحِدَةً، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً - يَعْنِي أُمَّ حَبِيبٍ امْرَأَتَهُ، وَكَانَتْ حَامِلًا - وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ذَلِكَ بِفِرَاسَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، فَإِنَّ مَا فِي الرَّحِمِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]. وَلِهَذَا قِيلَ: أَفَرَسُ النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ حَيْثُ تَفَرَّسَ فِي حَبَلِ امْرَأَتِهِ: أَنَّهَا جَارِيَةٌ، فَكَانَ كَمَا تَفَرَّسَ، وَتَفَرَّسَ فِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَهُ. (وَعَنْ) عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: إذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً فَأَعْلَمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ: لِهَذَا الصَّغِيرِ إلَى الْأَبِ - لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ أَجْنَبِيًّا - فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِهِ؛ فَالْوَلَدُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَنْ نَحْلِ أَبِيهِ؟ قَالَ: الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ: الْإِعْلَامُ؛ فَالْإِشْهَادُ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّوَثُّقِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْوَلَدُ مَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ. (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ قَالَ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا وَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هِبَةً: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مَنْ الزَّوْجِيَّةِ نَظِيرُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ؛ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ حَجْبٍ، وَيَمْتَنِعُ قَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْهِبَةِ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ مَعْنَى السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَفِي الرُّجُوعِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَالنَّفْرَةِ. وَالزَّوْجِيَّةُ بِمَعْنَى الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يُضَادُّهُ، وَهَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ فِيمَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ. (وَقَالَ) فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ وَلَدِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَعْلَمَهُ - وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ ذَلِكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَبِهِ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ فَيَقُولُ: إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي عِيَالِهِ فَيَدُهُ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَيَدِهِ كَمَا فِي الصِّغَارِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ؛ لِيَجْعَلَ قَبْضَهُ بِذَلِكَ كَقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ - وَإِنْ كَانَ يَعُولُهُمْ -؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنِيَّ يَعُولُ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِعْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمُهُ إلَيْهِ. (وَعَنْ) عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْحَبِيسِ فَقَالَ: إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي، فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِهِ يَأْخُذُ مَنْ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ، وَهَذَا فَصْلٌ تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فِي الْعِبَادَاتِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُفْتِي لِكَيْ لَا يَقِفُ الْخَصْمُ عَلَى مَذْهَبِهِ؛ فَيَشْتَغِلُوا بِالْحِيَلِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يُفْتِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ - فَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ فَيَشْتَغِلُ بِمَا تَعَيَّنَ لَهُ وَيَدَعُ الْفَتْوَى لِغَيْرِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْضُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ، وَالْقَضَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتْوَى، إلَّا أَنَّهُ فَتْوَى فِيهِ إلْزَامٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرَيْحًا أَفْتَى لَمَّا أَعَادَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيَّنَّاهُ فِي الْوَقْفِ (وَعَنْ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «جَاءَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ» وَهَكَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا - فِيمَا بَيْنَهُمْ - أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ (وَعَنْ) عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَتَصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا، يَقُولُ: إنْ أَنَا مِتّ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ هُوَ رَجَعَتْ إلَيَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَا يَتَصَدَّقُ مِنْكُمْ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَحُزْهَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا، ثُمَّ مَاتَ إلَّا صَارَتْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِيَازَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْقَبْضُ، فَإِنَّهَا قُرِنَتْ بِالْقِسْمَةِ فَلَوْ حَمَلْنَا الْحِيَازَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ: كَانَتْ تَكْرَارًا، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَبْضِ: كُنَّا قَدْ اسْتَفَدْنَا بِكُلِّ لَفْظٍ فَائِدَةً جَدِيدَةً وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ؛ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَرَثَةِ، وَتَأْوِيلُهُ: إذَا كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا يَكُونُ - وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ - فَإِذَا لَمْ يَقْسِمْهَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَلَدِ فَكَانَ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ. (وَعَنْ) عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا هِبَةً، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِيهَا إذَا هِيَ ادَّعَتْ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ وَهَبَ هُوَ لَهَا شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، وَلَيْسَ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ - بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ - وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: أَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً: مَسْمُوعٌ، وَمِنْ الزَّوْجِ: لَا؛ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مَنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَالزَّوْجُ لَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ جِهَةِ امْرَأَتِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْمُكْرَهِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْهِبَةِ تَمَامُ الرِّضَا، وَالْإِكْرَاهُ يَعْدِمُ الرِّضَا. قَالَ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً مَقْسُومَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ وَهَبَهَا لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِذِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَهُمَا فَصْلَانِ، أَحَدُهُمَا: إذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ عِنْدَنَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا فِي الْحُكْمِ - وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّيَّانَة، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ: «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ، فَقَدْ نَفَى الرُّجُوعَ أَوْ حَرَّمَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ شَرْعًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»، وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ: الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ فِيهِ كَالْبَيْعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْلِيكِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا مَا يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - أَوْ أَنَّهُ بَعْضُهُ، فَلَا يَتِمُّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِمَا جَعَلَهَا مُحْرَزَةً، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ بَيْنَ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ حُزُونَةٌ، فَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَهَبُ لِصَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ - مَا لَمْ يُثَبْ» مِنْهَا -. وَالْمُرَادُ: حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَالرَّجُلِ يَقُولُ: أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ: الْعَطِيَّةُ، قَالَ الْقَائِلُ: تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَائِدِ بَيْنَهُمْ يُرِيدُ عَطَايَاهُمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَهَبَ هِبَةً، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فَلِيُوقِفْ وَلِيَعْرِفْ قُبْحَ فِعْلِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: حُسْنَ فِعْلِهِ فَإِنْ أَبَى يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ: حُسْنُ فِعْلِهِ فِي الْهِبَةِ، وَقُبْحُ فِعْلِهِ فِي الرُّجُوعِ (وَعَنْ) فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنِّي وَهَبْت لِهَذَا بَازِيًا؛ لِيُثِيبَنِي وَلَمْ يُثِبْنِي، فَأَنَا أَرْجِعُ فِيهِ. فَقَالَ فَضَالَةُ: لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا النِّسَاءُ وَالشِّرَارُ مِنْ النَّاسِ؛ اُرْدُدْ (وَعَنْ) أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْوَاهِبُونَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ وَهَبَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَرَجُلٌ اُسْتُوْهِبَ فَوَهَبَ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ - وَرَجُلٌ وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ دَيْنٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، فَيَتَمَكَّنُ الْعَاقِدُ مِنْ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ لِلْأَجَانِبِ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَالْمَرْجِعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ. وَالْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ؛ لِيَصُونَهُ بِجَاهِهِ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ؛ لِيَخْدُمَهُ، وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ؛ لِيُعَوِّضَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَمَّا أَتَوْهُ بِشَيْءٍ أَصَدَقَةٌ أَمْ هِبَةٌ؟. فَالصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْهِبَةُ يُبْتَغَى فِيهَا وَجْهُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: لِلْأَيَادِي قُرُوضٌ، وَقَالَ الْقَائِلُ: وَإِذَا جُوزِيت قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْحَمَلُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَنَا، بَلْ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِالتِّجَارَاتِ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ: إظْهَارُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَالتَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي التِّجَارَاتِ مَشْرُوطٌ، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ مَقْصُودٌ، وَمَعْنَى إظْهَارِ الْجُودِ أَيْضًا مَقْصُودٌ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي بَعْضِ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِلْفَسْخِ مَعَ أَنَّ إظْهَارَ الْجُودِ مَقْصُودُ كَرِيمِ الْخُلُقِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: الرَّاجِعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَكُونُ كَرِيمَ الْخُلُقِ فَأَمَّا مَقْصُودُ طِيبَةِ النَّفْسِ الْعِوَضُ، وَمَعْنَى التَّوَدُّدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعِوَضِ - كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا». فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَقْتَضِي، وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمُفَاعَلَةِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا. إلَّا الْوَالِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فَيَنْفَرِدُ بِالْأَخْذِ لِحَاجَتِهِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجُوعًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ. كَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ الْفَرَسَ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكِ». وَالشِّرَاءُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ حُكْمًا، وَالْمُرَادُ: لَا يَحِلُّ الرُّجُوعُ بِطَرِيقِ الدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ إلَى جَنْبِهِ طَاوٍ. أَيْ:» لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْحُكْمِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقَّ وَاجِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ: التَّنْبِيهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَاحِ، وَالِاسْتِقْذَارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ: شُبِّهَ بِعَوْدِ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ، وَفِعْلُ الْكَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ لَا بِالْحُرْمَةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَأَنَّهُ يُسْتَقْبَحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَالزَّوْجَيْنِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ، وَتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا؛ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ، أَوْ الرِّضَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءٍ، أَوْ رِضًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَالْفَصْلُ الثَّانِي): إذَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 فِيهِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ - لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ»، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَمِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَفِي حَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَبَتْ أَمِّي إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْته مِثْلَ هَذَا فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا جَوْرٌ، وَإِنَّا لَا نَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ؛ اُرْدُدْ.» فَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّجُوعِ فِيهِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ أَنْ يُفِيدَ الْإِبَاحَةَ؛ وَلِأَنَّهُ جَادَ بِكَسْبِهِ عَلَى كَسْبِهِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ، قِيلَ: فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2]: وَمَا وَلَدَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَتَأْثِيرُهُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَسْبًا لَهُ، كَالْمَوْهُوبِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ جُزْءًا مِنْهُ، فَلَا يَشْكُل أَنَّهُ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَصَّ الْوَالِدُ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ الْوَلَدُ فِيهِ كَالتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَحُجَّتُنَا: مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَهُوَ الْإِمَامُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ قَدْ تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِلْكًا وَعَقْدًا، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَالِابْنِ إذَا وَهَبَ لِأَبِيهِ أَوْ الْأَخِ لِأَخِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُقُوقِ وَإِنَّمَا أَمَرَ الْوَالِدَ أَنْ يَحْمِل وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ، وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُ الْوَالِدِ أَنْ يَخْدُمَهُ الْوَلَدُ، وَلَمَّا رَجَعَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى خَفِيٌّ لَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَخُصَّهُ بِإِكْرَامٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْكَسْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِمُكَاتَبِهِ، أَوْ لِمُعْتَقِهِ: لَا يَرْجِعُ فِيهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ أَيْضًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ - لَا مِلْكُهُ - بِخِلَافِ عَبْدِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا الْوَالِدَ: وَلَا الْوَالِدَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (إلَّا) تُذْكَرُ بِمَعْنَى (وَلَا). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] أَيْ، وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وقَوْله تَعَالَى {: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} [النساء: 92] أَيْ: وَلَا خَطَأً. أَوْ الْمُرَادُ: إلَّا الْوَالِدَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِأَخْذِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ - عَلَى مَا قَرَّرْنَا -. وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 قَوْلُهُ: وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَوْلُهُ: فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ، لَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَشَاهِيرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا، وَلَمْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، وَعِنْدَنَا: فِي مِثْلِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، وَلَكِنْ كَانَ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَهَبَهُ لَهُ إنْ رَآهُ صَوَابًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اُرْدُدْ أَيْ: أَمْسِكْ مَالَك، وَارْجِعْ إلَى رَحْلِك، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ فِي الصِّحَّةِ، فَلَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَصَّ عَائِشَةَ بِالْهِبَةِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ - كَمَا رَوَيْنَا - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فِي وَصِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ كَلَامٌ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِدِ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ حَتَّى فِي الْقَبْلِ، وَلَوْ كُنْت مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْت الْإِنَاثَ». وَالِاعْتِمَادُ: عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ. وَذُو الرَّحِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَحِرْمَة النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْمَحْرَمُ الَّذِي لَيْسَ بِرَحِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ؛ فَكَانَتْ الْهِبَةُ بَيْنَهُمَا لِمَقْصُودِ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يُنَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً لَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا [الْمَوَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ] ، وَالْمَوَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ: إمَّا أَخْذُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَدْ تَمَّ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَ نَيْلِ الْعِوَضِ، وَأَنْ يَزْدَادَ الْمَوْهُوبُ فِي نَدَمِهِ خَيْرًا، فَإِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْهِبَةُ، وَلَا يَتَأَتَّى الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ فِي سِعْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ فِيهِ، فَأَمَّا الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ. وَمِنْهَا أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْهُوبُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَاد فِي الْهِبَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي ذَلِكَ الْمِلْكُ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي مِلْكٍ آخَرَ. وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْوَاهِبُ فَلَيْسَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، فَلَا يَخْلِفُ مُوَرِّثهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْهُوبِ إلَى وَارِثِهِ، وَلَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِي حَيَاتِهِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْوَاهِبُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ: فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ: بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 وَكَانَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ مَوْتَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ مِلْكَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي الْقِيَاسِ: لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَمْلِكُهُ، نُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الزِّيَادَاتِ). وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَبْضِ - لَا مُتَمَلِّكًا -؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْضًا بِإِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا حَتَّى لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ مَلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَقْبِضُ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يُمَلَّكْ بِالْعَقْدِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنْ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ إيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوجِبِ إتْمَامُ تَبَرُّعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ فِي الْقَبْضِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُسَلَّطًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ. عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ لَهُ فَلِهَذَا لَا يَجْعَلُهُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فَقِيَاسُ الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبُولُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِإِذْنِ الْمُوجِبِ كَانَ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ هُنَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَتَقَوَّى بِهِ السَّبَبُ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَإِذْنُهُ يَحْتَاجُ فِي الْقَبْضِ إلَى إذْنِ الْمَالِكِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً فَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ غَائِبًا لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِقَبْضِهِ دَلَالَةً فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فَإِذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ مُلِّكَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَحَرَ هَدَايَاهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ فَلْيَقْتَطِعْ. وَانْصَرَفَ» فَكَانَ إذْنًا بِالْقَبْضِ لِمَجْهُولٍ يُمَلَّكُهُ بِالْقَبْضِ فَلَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِلْمَعْلُومِ كَانَ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أُذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَمُرَادُهُ التَّفَرُّدُ بِالرُّجُوعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَكَانَ الرَّاجِعُ مُسْتَدِيمًا لِمِلْكِهِ، وَالْمَالِكُ يَنْفَرِدُ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 لِأَنَّ الرَّاجِعَ يُعِيدُ إلَى نَفْسِهِ مِلْكًا هُوَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ يَطْلُبُ لِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ تَمَلُّكهُ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَيْئًا ثُمَّ لَقِيَهُ فَوَهَبَهُ لَهُ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ بِحَضْرَتِهِمَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: قَبِلْت وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ)؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامَةٌ فَاسْتِدَامَتُهَا كَإِنْشَائِهَا بَعْدَ قَبُولِ الْهِبَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ؛ فَيَدُ الْأَمَانَةِ تَنُوبُ عَنْهُ - بِخِلَافِ الشِّرَاءِ - فَإِنَّ الْمُودَع إذَا اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودِعِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِحَاضِرَةٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْقَوِيِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجَر قَبْضُ أَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْمُودَعِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، قَالَ: (، وَالنَّحْلَى وَالْعُمْرَى، وَالْعَطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ لَا الْعِبَارَةُ عَنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى، وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، يَعْنِي: شَرْطَ الْعَوْدِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. أَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالصَّدَقَةِ نِيلُ الثَّوَابِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ فَيَكُونُ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي فِيهِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُتَمَلَّكِ مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا. وَيَسْتَوِي فِي الْهِبَةِ حُكْمُ الرُّجُوعِ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْمَقْصُودُ: الْعِوَضُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ فَالْمَقْصُودُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَفِي هَذَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ سَوَاءٌ. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ عَبْدًا لِأَخِيهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ، وَقَبَضَاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ)؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ: مَقْصُودُهُ: الْعِوَضُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِأَخِيهِ هِبَةً، وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الرُّجُوعِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ لَهُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إذَا كَانَ الْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدَ أَخِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 هِبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمِلْكَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَقَعَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا كَمَا كَانَ وَهَبَ لِلْمَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ فَالْمَقْصُودُ: الْمَوْلَى، وَهُوَ قَرِيبُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ صِلَةُ الرَّحِمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ وَارِثه، أَوْ لِعَبْدِ قَاتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ كَالْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ يُخَاصَمُ الْمَالِك، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ، وَفِي مُخَاصِمَتِهِ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الصِّلَةُ مَا تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عَقْدًا، وَمِلْكًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَ وَهَبَ لِأَخِيهِ، وَهُوَ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ حَتَّى إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً فَلَيْسَ فِيهِ حَقُّ الرُّجُوعِ، وَبَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا رُجُوعَ، وَالْعَقْدُ هُنَا لِلْعَبْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ يُعْتَبَرُ مِنْهُ دُونَ الْمَوْلَى، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهُ: دِينُ الْعَبْدِ حَتَّى إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ خَمْرًا صَحَّتْ الْهِبَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا - وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا - وَالْمِلْكُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ يَقَعُ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ، وَلِهَذَا يُقَدِّمُ فِيهِ حَاجَةَ الْعَبْدِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ اسْتِغْنَاءِ الْعَبْدِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ: الْمِلْكُ يَقَعُ لِلْمَوْلَى، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيَخْلُفُ الْقَاتِلَ فِي ذَلِكَ مَوْلَاهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْعَبْدِ - وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ - فَلَا يَنْفَكُّ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ إذَا لَمْ يُعَوَّضْ. (فَإِنْ قِيلَ): فَإِذَا وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَبْدِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ (قُلْنَا): هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ هَذَا الِانْتِقَالُ كَانَ مَعْلُومًا، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ، (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يُقْصَدُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ الْعِوَضَ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِوَضِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ - أَصْلًا - لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِهِ كَمَا لَا يُرْجَعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ، (قُلْنَا): الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِمَنَافِعِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَمِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِكَسْبِهِ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْهُ: مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْحُرِّ - وَهُوَ الْعِوَضُ - وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ. فَالْبُطْلَانُ هُنَاكَ لِإِيثَارِ بَعْض الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ بِالْمِلْكِ لَا بِالْعَقْدِ فَاعْتَبَرْنَا مِنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ، وَهُنَا الرُّجُوعُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعِوَضَ مَقْصُودٌ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ أَوْ الْمِلْكُ لَهُ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَجْنَبِيًّا ثَبَتَ حَقُّ الرُّجُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 يَنْفَكَّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ عَبْدًا لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ لَا يَرْجِعَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقَرَابَةِ الْعَبْدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ بِدَلِيلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَانَ هَذَا - وَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا - سَوَاءً، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا يَرْجِعُ هُنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ - عِنْدَنَا -؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ بَيْنِ عَبِيدِ مَوْلَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ صِلَةَ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ عِنْدَ هَذَا الْمَوْلَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ صِلَةِ رَحِمِ مَوْلَاهُ، فَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ أَوْ الْمِلْكَ، أَوْ اعْتَبَرْنَاهُمَا، فَالْمَقْصُودُ: صِلَةُ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ. قَالَ: (حَرْبِي دَخَلَ عَلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَلَهُ عِنْدَنَا أَخ مُسْلِمٌ، فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، وَسَلَّمَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسْلِمًا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا؛ وَلِأَنَّ الرَّحِمَ مَعَ الْمَحْرَمِيَّةِ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، كَمَا أَنَّهُ مُوجِبٌ الْعِتْقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمُسْلِمُ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَضْ الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبِيًّا كَمَوْتِهِ، فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَمَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْهِبَةَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ فَيُوقَفُ حَتَّى يَحْضُرَ هُوَ، أَوْ نَائِبُهُ فَيَأْخُذَ، وَلَا يَبْعَثَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فِي دَارِنَا، وَهَذَا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَهُ هُنَا، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَذِنَ لِلْمُسْلِمِ فِي قَبْضِهِ، وَقَبَضَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ: جَازَ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، وَلَا يَبْقَى حُكْمُ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضٍ مُتَمِّمٍ لِلْهِبَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ بَقَائِهِ حَيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَبْضِ بَاقٍ بَعْدَ لَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ إذْنِهِ فِي قَبْضِ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ لَحَاقِهِ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ هَذَا الرَّجُلَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ، فَلَأَنْ يَبْقَى إذْنُهُ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا بَقِيَ إذْنُهُ: يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ: أَنَّ هُنَاكَ الْمَالَ صَارَ حَقًّا لِوَارِثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إذْنٌ مُعْتَبَرٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهَذَا الْمَالُ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ، فَكَانَ إذْنُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا؛ فَلِهَذَا يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِهِ اسْتِحْسَانًا. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِامْرَأَةٍ هِبَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ - حِينَ وَهَبَ لَهَا - عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ، وَلَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 يَنَلْ ذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ): بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ تُزَوِّج نَفْسَهَا مِنْهُ - وَقَدْ فَعَلَتْ -؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، قُلْنَا: هَذَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ فِيمَا شُرِعَتْ الْهِبَةُ لَهُ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ، وَبِالنِّكَاحِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْمِلْكُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ، فَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً، ثُمَّ أَبَانَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِابْنِهِ الْكَبِير عَبْدًا، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ أَوْ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ فِي عِيَالِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَقُومُ قَبْضُهُ لَهُمْ مَقَامَ قَبْضِهِمْ - كَمَا لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا كَانَ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ فَوَهَبَ - هُوَ - لَهُ - أَوْ غَيْرُهُ - هِبَةً، وَقَبَضَهُ مَنْ يَعُولُهُ: تَمَّتْ الْهِبَةُ، وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا سِوَى أَنَّهُ يَعُولُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا وِلَايَة لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ وَلَا عَلَى زَوْجَتِهِ فِيمَا وَرَاءَ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَقَبْضِ الْهِبَةِ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ، فَهُوَ كَالْغَنِيِّ إذَا تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَاكِينِ وَيَعُولُهُمْ، فَلَا يَنُوبُ قَبْضُهُ عَنْ قَبْضِهِمْ فِي إتْمَامِ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، بِخِلَافِ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ وَلِيُّهُ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ يَعُولُ يَتِيمًا: إنَّمَا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ وَلِيٌّ يَقْبِضُ لَهُ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلِيُّ نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ فِي حَقِّهِ، كَمَا إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ، وَلَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ مَنْ يَعُولُهُ فِي إتْمَامِ الْهِبَةِ لَهُ قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ وَأَشْهَد عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْلُومٌ: فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْقَبْضُ فِيهِ بِإِعْلَامِ مَا وَهَبَهُ لَهُ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْإِعْلَامِ. إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَنْ جُحُودِهِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ. أَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَالْهِبَةُ تَامَّةٌ بِدُونِ الْإِشْهَادِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ فِي عِيَالِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ نَوْعَ وِلَايَةٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْفَظُهُ وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِقَبْضِ الْهِبَةِ. وَالصَّدَقَةُ فِي قِيَاسِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبْضِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ أُمِّهِ فَوَهَبَتْ لَهُ عَبْدًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ مَيْتٌ، وَلَا وَصِيَّ لَهُ: جَازَتْ الْهِبَةُ، وَقَبْضُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لَوْ كَانَ حَيًّا)؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ - كَالْحِفْظِ - وَلِلْأُمِّ وِلَايَةُ حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ، فَكَانَتْ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَالْأَبِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ عَمِّهِ، فَقَبَضَهُ الْعَمُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخ، أَوْ أُمٌّ فَقَبَضَ الْعَمُّ لَهُ قَبَضَ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي بِالْأَخِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ لَهُ فِي مَالِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ، وَبِسَبَبِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 قَرَابَتِهِ الْقَرِيبَةِ يَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ كَقَرَابَةِ الْعَمِّ لِقَرَابَةِ الْأَخِ ثُمَّ تَأَيَّدَتْ قَرَابَةُ الْعَمِّ بِكَوْنِ الْيَتِيمِ فِي عِيَالِهِ؛ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ لَهُ بِقَبْضِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ، وَصِيٌّ فَوَهَبَ لَهُ هِبَةً - وَهُوَ فِي عِيَالِهِ - وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ: جَازَ، وَقَبِلَ مُرَادَهُ وَصِيُّ الْأُمِّ أَوْ الْأَخُ فَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ مَا يُوهَبُ لَهُ - سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ -؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ فِي الْوِلَايَةِ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ يَعُولُ يَتِيمًا، وَلَيْسَ بِوَصِيٍّ لَهُ، وَلَا بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَصِيِّ أَحَدٌ سِوَاهُ: جَازَ لَهُ مَا يُوهَبُ لَهُ - اسْتِحْسَانًا -)، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ، فَمَنْ يَعُولُهُ خَلَفٌ عَنْ وَلِيِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ وَتَرْبِيَتِهِ. لَوْ أَرَادَ أَجْنَبِيٌّ آخَر أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ فِي تَعْلِيمِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّهِ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْخِلَافَةَ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّبُ إلَى الْمَنَافِعِ، وَيُبْعِدُ عَنْ الْمَضَارِّ، وَفِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ هِبَةَ الْغَيْرِ لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ فَأَعْمَلَهَا وَأَبَانَهَا: فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَبْضُهُ لَهُ قَبْضٌ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ أَوْ لَا يَعْقِلُ. وَفِيهِ نَوْعُ إشْكَال؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْخُلْفِ هَاهُنَا وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنْ يَقُولَ: يَقْبِضُ لَا بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَالصَّغِيرُ تَبْقَى وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَفِي اعْتِبَارِ قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابَانِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ هُنَاكَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَوِلَايَةُ الْغَيْرِ خَلَفٌ، فَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ. قَالَ: (وَكُلُّ يَتِيمٍ فِي حِجْرِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ يَعُولُهُ فَوَهَبَ لَهُ رَجُلٌ هِبَةً، فَإِنَّمَا يَقْبِضُهَا الَّذِي يَعُولُهُ إذَا كَانَ هُوَ صَغِيرًا لَا يُحْسِنُ الْقَبْضَ)، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَاقِلًا يُحْسِنُ الْقَبْضَ فَقَبَضَ لَهُ مَنْ يَعُولُهُ: جَازَ - لِمَا بَيَّنَّا - وَإِنْ قَبَضَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ خُصُوصًا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ: لِلضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَأَمَّا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَقْلَهُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ وَاعْتَبَرَهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَعْتَبِرُ عَقْلَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ نَظَرُهُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِمَا لَهُ مِنْ الْعَقْلِ النَّاقِصِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ، وَالْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ عَقْلِهِ تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقَتَيْنِ، ثُمَّ الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ التَّصَدُّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ، وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٌ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ كَبِيرٌ؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَبْضِ تُوجَدُ مِنْهُ - وَهُوَ مَحْبُوسٌ - فَإِنَّمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ حُكْمِهِ؛ لِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَهُ. قَالَ: وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ زَوْجَهَا يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَعُولُهَا، (فَإِنْ قِيلَ): الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لِلْأَبِ دُونَ الزَّوْجِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْأَبَ أَقَامَ الزَّوْجَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا، وَحِفْظِ مَالِهَا؛ إذْ زَفَّهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ، وَقَبْض الْهِبَة مِنْ بَابِ الْحِفْظِ؛ فَيَقُومُ الزَّوْجُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ، وَلَكِنْ لِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ وِلَايَةُ الْأَبِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْأَبُ صَحَّ قَبْضه لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ قَبَضَتْ بِنَفْسِهَا: جَازَ؛ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الْقَبْضَ، وَإِنْ قَبَضَ الزَّوْجُ: جَازَ - لِمَا بَيَّنَّا - وَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ الْأَبُ، وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى مَنْ يَعُولُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ وَالزَّوْج فَحُكْمُ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ حَتَّى يَصِيرَ أَوْلَى بِهَا مِنْ أَبِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُزَفَّ إلَى زَوْجِهَا لَمْ يَعْتَبِرْ قَبْضَ الزَّوْجِ لَهَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا، وَإِنَّ لَهُ عَلَيْهَا يَدًا مُسْتَحَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ قَبْلُ. وَإِنْ أَدْرَكْتَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الزَّوْجِ لَهَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا حِينَ بَلَغَتْ عَاقِلَةً. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَخِ وَالْجَدّ عَلَى الصَّغِيرِ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا حَاضِرًا)؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ حَاضِرًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ مَنْ هُوَ خَلَفٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَقَدْ خَرَجَ الصَّغِيرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِ الْأَبِ؛ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ، فَتَكُونُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لِلْأَخِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، وَنَظِيرُ حَقِّ الْحَضَانَةِ وَالْإِنْفَاق مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ مَالَ الْجَدِّ - مَا دَامَ الصَّغِيرُ مُنْتَفِعًا بِمَالِ الْأَبِ - فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بِغَيْبَةِ مَالِهِ: جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ أَصْلًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، فَحَالُ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَالُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ - وَهُوَ الطَّهَارَةُ - لَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِ الْأَخِ وَغَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَكَانَ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَعِيَالِهِ: جَازَ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ. وَلَوْ قَبَضَ الْأَخُ، لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي النَّظَرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 لَهُ، فَكَانَ هُوَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَلَوْ كَانَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ - بِأَنْ كَانَ حَاضِرًا -: لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْأَخِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا - لِمَا بَيَّنَّا - أَنَّ مُجَرَّدَ قَرَابَةِ الْأَخِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِدُونِ الْيَدِ. وَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِ مَنْ اخْتَارَهُ الْأَبُ، فَلَيْسَ لِلْأَخِ عَلَيْهِ يَدٌ مَوْجُودَةٌ وَلَا مُسْتَحَقَّةٌ، حَتَّى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِمَّنْ يَعُولُهُ، فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلِمَنْ يَعُولُهُ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ - مَا لَمْ يَحْضُرْ الْأَبُ - فَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِبَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ] قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ نَصِيبًا مُسَمًّى مِنْ دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومَةٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مُشَاعًا، أَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّارِ: لَمْ يَجُزْ) يَعْنِي: لَا يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ الْمِلْكُ وَتَتِمُّ الْهِبَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، نَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَهُ بَيْنَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ، فَوَهَبَ أَسْعَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصِيبَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَهَبَ الرَّجُلَانِ نَصِيبَهُمَا مِنْهُ - أَيْضًا - فَبَنَى الْمَسْجِدَ» «، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ بِكُبَّةِ مِنْ شَعْرٍ. فَقَالَ: أَخَذْت هَذِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي، أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا: فَهُوَ لَك». فَقَدْ وَهَبَ الْمُشَاعَ، (وَعَنْ) أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَوَّزَ الْهِبَةَ فِي الْمُشَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لِلْمَالِ، فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ كَالْبَيْعِ، وَتَأْثِيرُهُ: أَنَّ الْجُزْءَ الْمُشَاعَ مَحِلٌّ لِمَا هُوَ مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ فِي الْمَحِلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعَقْدُ كَوْنُهُ مَحِلًّا لِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَبِهِ فَارَقَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَصْفًا وَتَبَعًا لَا مَقْصُودًا، وَمُوجِبُ الْهِبَةِ: الْمِلْكُ مَقْصُودًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ؛ وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ، وَمَا يُؤْثَرُ فِيهِ الشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَالرَّهْنِ - عِنْدَكُمْ - وَالنِّكَاحِ - عِنْدِي -؛ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ. وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ فِي الْحَيَاةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْقَرْضَ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهَا قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِفَضْلِ الْقَرْض يَبْطُلُ اعْتِمَادُكُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ. فَأَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْقَرْضِ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْقِسْمَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ مَعَ الشُّيُوعِ يَتِمُّ: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ، وَيُمْلَكُ الْمُشَاعُ عِنْدَكُمْ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْمُشَاعُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ، وَبَدَلَ الصَّرْفِ. وَاعْتِمَادُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ شَرْطَ الْقِسْمَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أَوْ رُبُعَ كَذَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُقَاسِمَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ شَرْطَ الْقَبْضِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ؛ فَيُرَاعَى وُجُودُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ الَّتِي تُمْكِنُ - كَشَرْطِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ - لَمَّا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، يَشْتَرِط ذَلِكَ فِيهِ - حَتَّى لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ - وَالْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا، وَبِدُونِ الْإِطْلَاقِ لَا يَثْبُتُ الْكَمَالُ، ثُمَّ الْقَبْضُ مَعَ الشُّيُوعِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحِيَازَةِ، وَهُوَ: أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ فِي حَيِّزِ الْقَابِضِ، وَالْمُشَاعُ فِي حَيِّزِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي حَيِّز شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِعَيْنِهِ. فَيُقَالُ أَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا دُونَ هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَنْقُضُ قِسْمَةَ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَا يَنْقُضُ قَبْضَهُ، وَلَهُ نَقْضُ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقَبْضِ بِالشِّرَاءِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ، فَبِدُونِهَا لَا يَتِمُّ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْسِمُ الْقِسْمَةَ: لَا يَكُونُ حِيَازَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: الِانْتِفَاعُ. وَبِالْقِسْمَةِ يَتَلَاشَى. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَصْلِ الْقَبْضِ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ هُنَا لِمَعْنًى. ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَصِيرَ عَقْدُ التَّبَرُّعِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ طَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ طَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ طَالَبَهُ بِالْقِسْمَةِ؛ فَيَصِيرُ عَقْدُ التَّبَرُّعِ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّبَرُّعِ بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ. (فَإِنْ قِيلَ): يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْمُهَايَأَةَ (قُلْنَا): الْمُهَايَأَةُ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَاقَى الْعَيْنَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَمَانًا فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا مَا لَوْ أَتْلَفَ الْوَاهِبُ الْمَوْهُوبَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَضَمَان الْمُقَاسَمَةِ هُنَا وَإِنْ كَانَ بِالْمِلْكِ فَذَلِكَ الْمِلْكُ حُكْمُ الْهِبَةِ، فَلَا يَمْنَعُ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَى الْهِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاق، وَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ حُكْمُ الشِّرَاءِ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 الْمُقَاسَمَةِ؛ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَا يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فَذَلِكَ مَا يُتَمِّمُهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ. فَأَصْلُ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْمِلْكِ فَكَذَلِكَ مَا يُتَمِّمُهُ، وَكَمَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ ضَمَانُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمَالِكِ يَسْتَحِقُّ ضَمَانَ الْمُقَاسَمَةِ أَيْضًا. وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ - مِنْ وَجْهٍ - وَمِنْ وَجْهٍ: هُوَ عَقْدُ الضَّمَانِ حَتَّى كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ، وَشَرْطُ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ لِيُرَاعَى وُجُودهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ، ثُمَّ لِشَبَهِهِ بِالتَّبَرُّعِ شَرْطنَا فِيهِ الْقَبْض، وَلِشَبَهِهِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقِسْمَةُ، وَذَلِكَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ فِيمَا لَهُ سَبَبَانِ. وَحَدِيثُ الْكُبَّةِ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْغُلُولِ، أَيْ: لَا أَمْلِكُ إلَّا نَصِيبِي. فَكَيْفَ أُطَيِّبُ لَك هَذِهِ الْكُبَّةَ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَهَبَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ نَصِيبُهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَالْكُبَّةُ مِنْ الشَّعْرِ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى جُنْدٍ عَظِيمٍ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ. وَحَدِيثُ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ الْوَاقِدَيْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَلَئِنْ تَثْبُت الْهِبَةُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَسْعَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَبَ نَصِيبَهُ، وَلَمْ يُسْلِم حَتَّى وَهَبَ الرَّجُلَانِ نَصِيبَهُمَا ثُمَّ سَلَّمُوا جُمْلَةً، وَعِنْدَنَا: هَذَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ الْمُؤْثَرَ: الشُّيُوع عِنْدَ الْقَبْضِ، لَا عِنْدَ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ، وَسَلَّمَ النِّصْفَ: لَا يَجُوزُ. وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ وَسَلَّمَ الْكُلَّ: جَازَ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ مَشَاعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ: لَا يَجُوزُ - عِنْدَنَا أَيْضًا -)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجُوزُ؛ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا كَانَ عَيْنًا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْدَبُ إلَى أَنْ تَتْرُكَ الْكُلَّ لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ يُنْدَب إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةٌ فِي الْمُشَاعِ، (وَعَنْ) أَبِي السِّبَاعِ مَوْلَى عَطَاءٍ قَالَ أَقْرَضْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَانِي فِي كِيسٍ فَوَجَدْته يَزِيدُ عَلَى حَقِّي ثَمَانِينَ فَقُلْت فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ جَرَّبَنِي بِهَذَا فَأَتَيْته، وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ هُوَ لَك فَهَذَا كَانَ مِنْهُ هِبَةً لِلْمُشَاعِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنْ الشَّرِيكِ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ اسْتِحْقَاق ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الشَّرِيكِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقِسْمَةِ فِي الْهِبَةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، وَفِي ذَلِكَ يَسْتَوِي الْهِبَةُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَا يُتِمُّ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَقَبْضُ الشَّرِيكِ لَا يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ مَا لَاقَاهُ فِي الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 لَهُ، وَمَا يُشْتَرَطُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ - دُونَ غَيْرِهِ -. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ قُلْنَا: الْعَفْوُ حَقِيقَتُهُ: إسْقَاطٌ، وَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ - دُونَ الْعَيْنِ - ثُمَّ فِي الْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ بِطَرِيقَةٍ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَمَنْ، وَجَدَ مَا يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ يُمَيِّزُ لَهُ الْفَضْلَ، وَيَأْتِي بِهِ لِيَرُدَّهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعِنْدَنَا: هَذَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ دَارًا لِرَجُلَيْنِ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِمَا فَالْهِبَةُ لَا تَجُوزُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالتَّسْلِيمَ لَاقَى مَقْسُومًا، فَإِنَّهُ حَصَلَ فِي الدَّارِ جُمْلَةً، فَيَجُوزُ، كَمَا لَوْ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَ الشُّيُوعِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الْمَالِكِ، وَالْمِلْكُ هُنَا حُكْمُ الْهِبَةِ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ. فَالشُّيُوعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى مِلْكٍ يَقَعُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُمَا لَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْدِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ بِالنِّصْفِ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى اسْتِحْقَاقُ ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ - وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا -؛ فَالْعَيْنُ تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمُتَبَرِّعِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ مِلْكِهِمَا؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ ثُمَّ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ: جَازَ فَالْهِبَةُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَصِحُّ مَعَ الشُّيُوعِ، ثُمَّ إذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ: يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ مَعَهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ، وَلَا يَتِمُّ قَبْضُهُ مَعَ الشُّيُوعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَانِعَ تَمَكَّنَ الشُّيُوع فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْهِبَةِ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ مِنْ رَجُلٍ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ، وَسَلَّمَ الْكُلَّ جُمْلَةً: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْهِبَةِ. وَلَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ: يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الشُّيُوعِ فِي الْوَاهِبَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ، وَإِنْ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ زَيْدٍ، وَالْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْ عَمْرٍو: لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَانِعَ هَذَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُتَمَلِّكِ دُونَ الْمُمَلَّكِ حُكْمُ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ اشْتَرَيَا دَارًا مِنْ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالشُّفْعَةِ لَتَفَرَّقَ الْمِلْك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 فِي جَانِبِ الْمُتَمَلِّكِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُتَمَلِّكِ لَا جَانِبَ الْمُمَلَّكِ، وَلَا اعْتِمَادَ عَنْ انْتِفَاءِ ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ الْوَاهِبِ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ وَهَبَا مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَنَصِيبُ الْآخَرِ لِلْآخَرِ: لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَاهِبِينَ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمَحِلِّ فَإِنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ، وَالْحَبْسُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَأَتَّى، وَفِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لَا شُيُوعَ فِي الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ دِينَ الْآخِرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُضَايِقَةَ فِي الْحَبْسِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ كُلُّهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ زَيْدٍ وَكُلُّهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ عَمْرٍو فَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَهُنَا مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمِلْكُ، وَلَا يَتَأَتَّى إثْبَاتُهُ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَمَلَّكُ جَزْءًا شَائِعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. فَالْمَانِعُ هُنَاكَ تَعَذُّرُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ مِنْ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الْمَانِعُ اسْتِحْقَاقُ عَوْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى يَدِ الْمُؤَجَّرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِحُكْمِ الْمُهَايَأَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ، وَفِي الْإِجَارَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ، وَلِهَذَا: جَازَتْ إجَارَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ شَرِيكِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِمَا يَقْسِم عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَالْهِبَةِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ لَوْ تَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى فَقِيرَيْنِ: يَجُوزُ. قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ تَكُونُ هِبَةً، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ، وَقَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلَاقِي جُزْءًا شَائِعًا، فَلَا يَتِمُّ بِهِ الصَّدَقَةُ كَمَا لَا تَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، وَلَا يُمَلِّكُهُ الْفَقِيرَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُهُ الْفَقِيرُ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَا تَمَّتْ الصَّدَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَلَا شُيُوعَ فِي الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْعَيْنِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّدَقَةِ حَتَّى إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ صَدَقَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ: يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِقَوْمٍ يُحْصُونَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ لِفُلَانٍ، وَنِصْفُهُ لِفُلَانِ، وَاعْتُبِرَ لِلْفُقَرَاءِ سَهْمٌ وَاحِدٌ بِالِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْفُقَرَاءِ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ دَارًا لِرَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا، وَقَبَضَاهَا لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -)، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَشْكُلُ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ: لَا يَجُوزُ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَعِنْدَ التَّفْصِيلِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ لِهَذَا، وَالنِّصْفِ لِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ حَالَةُ التَّفْصِيلِ مَتَى كَانَتْ لَا تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فَالتَّفْصِيلُ لَغْوٌ، وَمَتَى كَانَتْ تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مُعْتَبَرٌ لِفَائِدَتِهِ لِعَيْنِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ، وَإِذَا نُصَفّ بَيْنَهُمَا فَالتَّفْصِيلُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَالَ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَفْصِيلُهُ، وَإِذَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فَالتَّفْصِيلُ يُخَالِفُ الْإِجْمَالَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فَإِذَا اُعْتُبِرَ بِتَفَرُّقِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي جُزْءٍ شَائِع عَلَى حِدَةٍ، وَقَاسَ الرَّهْنَ، فَإِنَّهُ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ مُطْلَقًا: يَجُوزُ، وَإِذَا فَصَلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بِالتَّفْصِيلِ يَتَفَرَّقُ الْعَقْدُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَسْتَوِي إنْ فَصْلَ، أَوْ سَوَّى فِي التَّفْصِيلِ لِمُخَالِفَةِ حَالَةِ التَّفْصِيلِ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ التَّفْصِيلِ: لَا يَثْبُتُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْعَقْدُ وَالتَّسْلِيمُ مِنْ الْوَاهِبِ جُمْلَةٌ وَإِنْ فُصِّلَ وَفُصِّلَ: يَجُوزُ إذَا أَطْلَقَ أَوْ سَوَّى فِي التَّفْصِيلِ، وَهَذَا لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْهِبَةِ كَالتَّفْصِيلِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ عَيْنًا لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ فَرَّقَ الْعَقْد. وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى كَانَ جُمْلَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَبِالتَّفْصِيلِ لَا يَتَفَرَّقُ فِي عُقُودِ التَّمَلُّكَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ بَاعَ ثَوْبَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَبِلَ فِيهِمَا ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مَا نَقَدَ ثَمَنَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَصْلَ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ بِالتَّفْصِيلِ لَا يَتَفَرَّقُ الْعَقْدَ. فَالشُّيُوعُ بِاعْتِبَارِهِ لَا يُفَرَّقُ الْعَقْد، وَإِنَّمَا يَكُونُ طَارِئًا بَعْدَ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّر فِي الْمَنْعِ مِنْ الْهِبَةِ فَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَالْمَانِعُ تَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمَحِلِّ فِيمَا هُوَ مُوجِب الْعَقْد، وَهُوَ الْحَبْسُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ عَيْنًا بِدَيْنَيْنِ نِصْفَهُ بِأَحَدِ الدَّيْنَيْنِ وَنِصْفُهُ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ: لَا يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتهُ لِتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِيمَا هُوَ مُوجِب الْعَقْد، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ، وَالتَّسْلِيم لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا، وَإِنَّمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 أَوْرَدَ هَذَا الْإِشْكَال، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمُقَاسَمَةِ هُنَالِكَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الشَّرِيكِ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَمَشَّى فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ كَالْهِبَةِ مِنْ الشَّرِيكِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنَّ الْحَرْفَ الَّذِي يَتَمَشَّى: أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا سِتَّمِائَةٍ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَمِائَةٍ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -). وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَةِ الدَّارِ إذَا فَصَلِّ وَفَصْل سَوَاءٌ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِينَارًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ: جَازَ ذَلِكَ - اسْتِحْسَانًا -)، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زَفَرَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ وَلَا مَالَ لَهُ، وَلَهُ دِينٌ عَلَى إنْسَانٍ: لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينه. وَالْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ فَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ كَمَا لَوْ، وُهِبَ مُسْلِمٌ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ، فَالْهِبَةُ مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَقَبْضُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إذَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ عَقْدِ الْهِبَةِ بِقَبْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَالْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَنَابَهُ فِي الْقَبْضِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَجْعَلُ قَبَضَ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَقَبْضِ الْوَاهِبِ، وَلَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ وَهَبَهُ، وَسَلَّمَهُ: جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ لِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: الْمُعْتَبَر وَقْت الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ، دَلِيلُ مَا بَيَّنَّا مِنْ فَصْلِ الشُّيُوعِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ هُوَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِالْهِبَةِ وَالْمَقْبُوضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ هُوَ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِمَا، وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْن بِعِوَضٍ: جَازَ وَلَوْ، وَهَبَهُ مِنْهُ: جَازَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ حُكْمًا، وَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالشَّرْطُ فِي عَقْدِ التَّمْلِيكِ أَنْ يُضَافَ إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُمْ لُزُومَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ هُوَ عَيْنٌ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ. قَالَ: (رَجُلٌ رَهَنَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ فَالْيَدُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَكُونُ الْأَبُ قَابِضًا لِوَلَدِهِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدَهُ غَاصِبٌ فَوَهَبَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 لِابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْمَغْصُوب مِنْهُ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ - بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ إذَا وَهَبَهَا مِنْ أَبِيهِ -؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ فِي الْحُكْمِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِوَلَدِهِ بِالْيَدِ الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إذَا وَهَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودَعِ: جَازَ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِ الْمُودِعِ لَمْ يَكُنْ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ يَدِهِ (قُلْنَا): فِي الْحَقِيقَةِ: الْيَدُ لِلْمُودِعِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَجْعَلُهُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنَّمَا قَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمُودِعِ مَا دَامَ هُوَ فِي الْحِفْظِ عَامِلًا لِلْمُودِعِ، وَذَلِكَ قَبْلَ التَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِتَصَرُّفَاتِهِ، فَإِنَّمَا وَهَبَ مَا لَا يَمْلِكُ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا حِينَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَيْرِ. [هِبَةُ الْمُكَاتَبِ] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ كَمَا لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ)؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى إنَّمَا يُعْمَلُ فِيهَا بِمِلْكٍ الْمَوْلَى أَنْشَأَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَا عَلَى ظَهْرِ غَنَمِهِ مِنْ الصُّوفِ، أَوْ مَا فِي ضُرُوعِ غَنَمِهِ مِنْ اللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ وَصْفُ الْحَيَوَانِ، وَعَقْدُ التَّمْلِيكِ - مَقْصُودًا - لَا يَتِمُّ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ مَقْصُودٍ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ وَقَبْضِ ذَلِكَ: اسْتَحْسَنْت أَنْ أُجِيزَهُ، وَهَذَا لِوَجْهَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَحِلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصُّوفِ، وَتَمَامُ عَقْدِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَإِذَا كَانَ قَبَضَهُ بَعْدَ الْجُزَازِ، وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَتِمُّ فِيهِ الْهِبَةُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ. (وَالثَّانِي): أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ - مَعَ إمْكَانِ الْفَصْلِ - فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّائِعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُشَاعًا ثُمَّ قُسِّمَ، وَسُلِّمَ مَقْسُومًا: تَمَّتْ الْهِبَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ ثَمَرُ الشَّجَرَةِ وَالزَّرْعِ إذَا حَصَدَهُ، فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا،. [هِبَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ، فَإِنْ أَجَازَهُ مَوْلَاهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ: جَازَ)؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّهِ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةً الْهِبَةَ فِيهِ فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دِينٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ لَا يَسْقُطُ بِإِجَازَةِ الْهِبَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ، وَالْمَوْلَى لَا يُمَلَّكُ مُبَاشَرَةً الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ، فَلَا تُعْمَلُ إجَازَتُهُ أَيْضًا. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ لَهُ مَا يُثْمِرُ النَّخِيلَ الْعَام لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 بِنُفُوذِ الْعِتْقِ. وَفِي الْهِبَةِ: لَوْ اسْتَثْنَى مَا فِي الْبَطْنِ قَصْدًا لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ. فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْجَارِيَةَ لَمْ يَجُزْ، وَقِيلَ: فِي الْفَصْلَيْنِ رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَجُوزُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَثْنَى الْوَلَدَ قَصْدًا لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ. فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْك الْمُدْبِرِ، وَالْمَوْهُوبُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَأَمَّا الْعِتْقُ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمُعْتَقِ فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ بَعْدَ إعْتَاق الْجَنِينِ فَالْمَوْهُوبُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا ابْنُ الْوَاهِبِ وَاقِفٌ، وَسَلَّمَهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ تَمَّتْ الْهِبَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ شَيْئًا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ نَائِبًا عَنْ الصَّغِيرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالتَّبَرُّعِ لَا يَحْصُلْ؛ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ. قَالَ: (عَبْدٌ مَأْذُونٌ، عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَهَبَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ لَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ، وَالدَّيْنُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّي عِنْدَ مَوْلَاهُ الَّذِي فِي يَدِهِ). وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَجُزْ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ، وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُبْطِلُوا هِبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ، وَلَكِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّهِ فِي مَالِيَّتِهِ، وَفِي إتْمَامِ الْهِبَةِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَصْلِ التَّمْلِيكِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَشْغُولًا عَنْ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مِلْكِ الرِّقْبَةِ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْمَوْهُوبُ لَهُ دَيْنَهُ كَانَ سَالِمًا لَهُ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْغُرَمَاءِ مِنْ إبْطَالِ مِلْكِهِ لِقِيَامِ دَيْنِهِمْ، وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْغَرِيمِ حَقَّهُ. قَالَ: (فَإِنْ ذَهَبَ الْمَوْهُوب لَهُ بِالْعَبْدِ، وَلَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا الْوَاهِب بِقِيمَتِهِ يَوْم وَهَبَ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَ حَقّهمْ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالتَّسْلِيم فَيَصِير ضَامِنًا قِيمَته لَهُمْ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ لَهُ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ، وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَبَضَهُ لَمْ يَجُزْ)، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هِبَةِ الدَّيْنِ، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ - مِنْ قَبْلُ -: أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، فَإِنَّهُ وَهَبَ لَهُ الْوَلَدَ، وَقَبْلَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ وَلَدًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ دُهْنُ سِمْسِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْتَصِرَ، وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ إذَا عُصِرَ أَوْ وَهَبَ الزَّيْتَ فِي الزَّيْتُونِ، وَالدَّقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ قَبْلَ الطَّحْنِ، وَالسَّمْنَ فِي اللَّبَنِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَخَّضَ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 وَإِضَافَةُ عَقْدِ التَّمْلِيكِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ لَغْوٌ. (فَإِنْ قِيلَ): لَا، كَذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَام صَحِيحٌ (قُلْنَا): الْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِعَقْدِ تَمْلِيكِ مَالٍ، وَإِنَّمَا شُرِّعَتْ لِلْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوصِي ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ، وَهُنَا الْعَقْدُ عَقْدُ التَّمْلِيكِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِيَعْتَبِرُوا الْمِلْك لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَبِهِ فَارَقَ مَا سَبَقَ مِنْ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْحَيَوَانِ، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ بَيْعِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْهِبَةِ، ثُمَّ الْجِزَازُ، وَالْحَلْبُ، وَالْقَبْضُ فِي اللَّبَنِ فِي وُسْعِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل فِيهِ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ ثُمَّ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا الْإِيجَابُ فِي الثِّمَارِ لَيْسَ إلَيْهِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لَهُ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ - وَهِيَ حُبْلَى - أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ) مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: إنْ أَمَرَهُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبَضَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ - اسْتِحْسَانًا - كَمَا فِي الصُّوفِ وَاللَّبَنِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا، وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً؛ وَلِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ، وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ، وَمَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّ فِيمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ - لَوْ جَازَ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ - كَانَ تَعْلِيقًا لِلْهِبَةِ بِالْخَطَرِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَا فِي وُسْعِهِ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِمِلْكِهِ إلَى قَبْضِهِ لَا تَعْلِيقًا لِلْهِبَةِ بِالْخَطَرِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ. قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ، فَإِنْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ جَارِيَتَهُ، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ، وَلَوْ وَهَبَهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا: جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ. أَمَّا مَسْأَلَةُ اسْتِثْنَاءِ مَا فِي الْبَطْنِ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ (قِسْمٌ مِنْهَا) لَا يُجَوَّز أَصْل التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْأَمْرِ دُخُولُ الْوَلَدِ فِيهِ، وَاسْتِثْنَاءُ مُوجِبِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ يُبْطِلُهُ، (وَقِسْمٌ مِنْهَا) يُجَوَّزُ التَّصَرُّف، وَيُبْطِلُ الشَّرْط وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْعُقُودَ بَلْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى. (وَقِسْمٌ) يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَالِاسْتِثْنَاءَ جَمِيعًا، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ مَا فِي الْبَطْنِ كَأَنَّهُ شَخْصٌ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يَجُوزَ إفْرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ، فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى السِّرَايَةِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي الْبَيْعِ لَوْ اسْتَثْنَى مَا فِي الْبَطْنِ قَصْدًا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 الْمَعْدُوم، فَإِنَّ الدُّهْنَ حَادِثٌ بِالْعَصِيرِ، وَالدَّقِيقَ بِالطَّحْنِ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الطَّحْنِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالدَّقِيق غَيْر الْحِنْطَةِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُثَنًّى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُسْتَحِيلٌ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَعْدُومِ، وَكَانَ لَغْوًا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ، وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْمِلْكِ، ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِهَا. وَهَذَا غَلَطٌ فَقَدْ قِيلَ هَذَا فِي الصُّوفِ وَاللَّبَنِ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي الْحَلْبِ، وَالْجَزّ، وَقَبَضَ ذَلِكَ: جَازَ - اسْتِحْسَانًا - وَبِمَا بَيَّنَّا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ نِصْفَ عَبْدٍ، أَوْ ثُلُثَهُ، وَسَلَّمَهُ: جَازَ)؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَسِّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحَةٌ فَإِذَا وَهَبَ جُزْءًا مُسَمًّى، وَسَلَّمَهُ بِالتَّخْلِيَةِ: جَازَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى إيجَابِ التَّبَرُّعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ لِإِبْطَالِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهُ يَتَأَخَّرُ فِيهِ التَّصَرُّفُ إلَى الْقِسْمَةِ، وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلَيْنِ أَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ، أَوْ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِشَرِيكِهِ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْلُومٌ، وَلَا أَثَرَ فِي الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْهِبَةِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِرَجُلٍ: قَدْ وَهَبْت لَك نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ فَاقْبِضْهُ، وَلَمْ يُسَمِّهِ لَهُ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ إيَّاهُ: لَمْ يَجُزْ؛ لِجَهَالَةِ الْمَوْهُوبِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْمَجْهُول لَا يَجُوز تَمْلِيكه بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ قَصْدًا. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ نِصْفَ عَبْدَيْنِ، أَوْ نِصْفَ ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ نِصْفَ عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ نَمَطِيٍّ، وَمَرْوِيٍّ، وَهَرَوِيٍّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: جَازَ)؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الثِّيَابِ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَكَانَ وَاهِبًا لِنَصِيبِهِ مِنْ نِصْفِ كُلِّ ثَوْبٍ، وَكُلُّ ثَوْبٍ لَيْسَ بِمُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ إلَّا مَقْسُومًا؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَالدَّوَابُّ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا وَهَبَ النِّصْفَ مُشَاعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ نَصِيبًا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ طَرِيقٍ، أَوْ حَمَّامٍ، وَسُمِّيَ وَسَلَّطَهُ: فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُسِمَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا هُوَ صِفَةُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ لِرَجُلٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ نِصْفَهَا الْآخَرَ لِرَجُلٍ: لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَوْ تَمَّ إنَّمَا يَتِمُّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَإِنْ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 يُسَلِّمْ النِّصْفَ الْأَوَّلَ حَتَّى وَهَبَ النِّصْفَ الثَّانِي لِلثَّانِي ثُمَّ سَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِمَا: جَازَتْ الْهِبَةُ لَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَ الدَّارَ لَهُمَا جُمْلَةً، (وَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ نِصْفَهَا ثُمَّ قَسَمَهَا، وَدَفَعَ النِّصْفَ إلَيْهِ: جَازَ)؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ: عِنْدَ الْقَبْضِ، وَلَا شُيُوعَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [بَابُ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ] قَالَ: (وَإِذَا عَوَّضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ مِنْ هِبَتِهِ عِوَضًا، وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَلَا لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عِوَضِهِ). وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْهِبَةِ نَوْعَانِ: مُتَعَارَفٌ وَمَشْرُوطٌ. فَبَدَأَ الْبَابُ بِبَيَانِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ الْعِوَضِ غَيْر مَشْرُوطٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعَوِّضَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ حَتَّى يَشْتَرِطَ فِي الْعِوَضِ مَا يَشْتَرِطَ فِي ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ لِلْوَاهِبِ إلَّا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ مُتَبَرِّعٌ مُخْتَارٌ فِي هَذَا التَّمْلِيكِ - كَالْوَاهِبِ - وَبَعْدَ وُصُولِ الْعِوَضِ إلَى الْوَاهِبِ لَا رُجُوعَ لَهُ فِي الْهِبَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا. وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لَهُ فِي الْهِبَةِ كَانَ لِخَلَلٍ فِي مَقْصُودِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ؛ لِوُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي يَجِدُ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَيَزُولُ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعَوِّضُ فِي عِوَضِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِالتَّعْوِيضِ إسْقَاطُ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ؛ وَلِأَنَّهُ مُجَازًى فِي التَّعْوِيضِ، وَبَقَاءُ جُزْءِ الشَّيْءِ بِبَقَاءِ أَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ سَالِمًا لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ سَالِمًا لِصَاحِبِهِ أَيْضًا. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ عَبْدًا لِرَجُلَيْنِ فَعَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَالرُّجُوعُ فِي النِّصْفِ شَائِعًا صَحِيحٌ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَيْسَ يُتَمَلَّكُ بِالرُّجُوعِ بَلْ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَالشُّيُوعُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ، وَبِالرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ لَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ شُيُوعٌ طَرَأَ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ، فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ، فَإِنَّ مَا يُتَمِّمُ الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ. وَعَوْدُ الْمَوْهُوبِ إلَى يَدِ الْوَاهِبِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْهِبَةِ، فَالشُّيُوعُ كَذَلِكَ فَإِنْ عَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَجْنَبِيٌّ، وَالتَّعْوِيضُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْوَاهِبُ فِي الرُّجُوعِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّصَرُّفِ يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَصُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى مَالِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 نَفْسِهِ، يَجُوزُ، وَيَسْقُطُ بِهِ الدَّيْن عَنْ الْمَدْيُونِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ قَدْ حَصَلَ حَتَّى سَقَطَ حَقُّ الْوَاهِبِ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْكُلِّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ أَيْضًا بِشَيْءٍ سَوَاءٌ عَوَّضَهُ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْهِبَةِ شَيْئًا أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَشْكُلُ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَالتَّعْوِيضُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنَّمَا أَمَره بِأَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلتَّعْوِيضِ بِدُونِ أَمْرِهِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَمْرِهِ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ أَمَرَ إنْسَانًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مَعْلُومًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُسْقِط عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِمَالٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنًا بَعُوضٍ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى فِيهِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكٌ فَالْمُعَوَّضُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مِنْهُ، وَلَا هُوَ مُسْقِطٌ عَنْهُ مُطَالَبَةً مُسْتَحَقَّةً؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِوَضَ، إنَّمَا كَانَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فَقَطْ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِ بِدُونِ التَّعْوِيضِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّضُ بِأَمْرِهِ إذَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا هُوَ فَوْقَ هَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْأَمْرِ بِدُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ مَا إذَا قَالَ: كَفِّرْ يَمِينِي مِنْ طَعَامِك، أَوْ أَدِّ زَكَاةَ مَالِي بِمَالِك، فَهَذَا أَوْلَى. قَالَ: (إذَا عَوَّضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ مِنْ هِبَتِهِ عِوَضًا فَقَالَ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك، أَوْ ثَوَابٌ مِنْ هِبَتِك، أَوْ بَدَلَهَا أَوْ مَكَانَهَا: فَهَذَا كُلُّهُ عِوَضٌ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي التَّعْوِيضِ أَنْ يُضِيفَ إلَى الْمَوْهُوبِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْغَرَرُ عَنْ الْوَاهِبِ، وَيَعْلَمَ الْوَاهِبُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ جَزَاءَ صُنْعِهِ، وَإِتْمَامًا لِمَقْصُودِهِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فَالْعِبَارَاتُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الْهِبَةُ كَانَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عِوَضِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَوَّضَهُ لِيُتِمّ سَلَامَة الْمَوْهُوبِ لَهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْهُوبِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْعِوَضِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ كَالْوَاهِبِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمَوْهُوبُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ - بِمُقَابَلَةِ هِبَتِهِ - شَيْءٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَوَّضُ هَالِكًا ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ وَاهِبٌ، وَقَبْضُ الْهِبَةِ لَيْسَ بِقَبْضِ ضَمَانٍ؛ وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ - ابْتِدَاءً - فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورًا عَلَى الْعَيْنِ لِحَقِّ الْوَاهِبِ ابْتِدَاءً. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعَوَّضَ إنَّمَا رَضِيَ بِالتَّعْوِيضِ لِيُتِمّ لَهُ بِهِ سَلَامَة الْهِبَةِ. فَإِذَا اسْتَحَقَّ فَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي رِضَاهُ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْوَاهِبُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاهِبَ عَادَ لَهُ فِي هِبَةِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَوَّضَهُ، وَلِلْمَغْرُورِ أَنْ يَدْفَعَ الْغَرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْخُسْرَانِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ التَّعْوِيضَ لَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْهِبَةِ، وَالتَّمْلِيك مُضَافًا إلَى بَدَلٍ مُسْتَحَقٍّ يَكُونُ فَاسِدًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاهِبَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَكَانَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ عَلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِهِ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا لَمْ تَزْدَدْ خَيْرًا؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ بَطَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ فَظَهَرَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّعْوِيضِ. قَالَ: (وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ كَانَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْعِوَضِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ - وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ، وَيَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ)، وَقَالَ زُفَرُ: إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْهِبَةِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَاعْتِبَارًا لِلْعِوَضِ بِالْهِبَةِ - فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْعِوَضِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُقَابَلًا بِالْآخَرِ فِي حُكْمِ سَلَامَتِهِ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِوَضِ بِالْعِوَضِ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ أَحَدِهِمَا يَكُونُ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا يُقَابِلُهُ. وَجْهُ قَوْلِنَا: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ كَانَ عَوَّضَهُ فِي الِابْتِدَاءِ نِصْفَ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي رِضَاءِ الْوَاهِب فَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي إثْبَاتِ الْخِيَار لَهُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. (فَإِنْ قِيلَ): فِي الِابْتِدَاءِ يَجْعَلُ تَمْلِيك النِّصْفِ عِوَضًا لَهُ عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ قَدْ يَجْعَلُ تَمْلِيك الْكُلِّ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْصِيصًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ النِّصْفَ عَوَّضَ نِصْفَ الْهِبَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفَ عِوَضًا عَنْ الْجَمِيعِ، (قُلْنَا): هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِي الْمُبَادَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْبَعْضِ لِتَحَقُّقِ الْمُقَابِلَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابِلَةِ، فَلَا يَثْبُتُ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ آخِرِ الْعِوَضِ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ مَعَ سَلَامَةِ جُزْءِ الْعِوَضِ لَهُ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ نِصْفِ الْعِوَضِ، وَنِصْفِ الْهِبَةِ بِهَذَا الْحَرْفِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَوَّضَ مَلَكَ الْعِوَض إلَّا جُزْءًا فَيُعْتَبَرُ حُكْمُ الْمُقَابِلَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ فَأَمَّا الْوَاهِبُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 فَقَدْ مَلَكَ الْهِبَةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ ثُمَّ تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ، وَالْجُزْءُ مِنْ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ إذَا تَمَّ رِضَاهُ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْعِوَضِ شَبَهَيْنِ شَبَهُ ابْتِدَاءَ الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِوَضَ مُخْتَارٌ فِيهِ مُتَبَرِّعٌ، وَشَبَهُ الْمُبَادَلَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَلَكَهُ مُضَافًا إلَى الْهِبَةِ فَتَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَنَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَاتِ إذَا اسْتَحَقَّ الْكُلّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ، وَلِشَبَهِهِ بِابْتِدَاءِ الْهِبَةِ إذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ. قَالَ: (وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي قَطْعِ الْحَقِّ، وَفِي الرُّجُوعِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ إذَا بَيَّنَهُ لِلْوَاهِبِ، وَرَضِيَ الْوَاهِبُ بِهِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ أَلْف دِرْهَمٍ، وَالْعِوَضُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا، وَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ)، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا، وَالْعِوَضُ بَيْتٌ مِنْهَا، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ عِوَضًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَدْ تَمَّ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْقَبْضِ، وَالْتَحَقَ الْمَقْبُوضُ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَمَا يَصْلُحُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ عِوَضًا عَنْ الْهِبَةِ - قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ - فَكَذَلِكَ هَذَا وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يَهَبُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهُ، مَا قَصَدَ تَحْصِيلَ دِرْهَمٍ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَالِمًا لَهُ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالْهِبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا بِالتَّرَاضِي فِي الِانْتِهَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا فِي الِانْتِهَاءِ بِخِلَافِ مَالٍ آخَرَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. قَالَ: (وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا وَهَبَ لِلْمُسْلِمِ هِبَةً، فَعَوَّضَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهَا خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ مُمَلَّكٌ ابْتِدَاءً وَتَمْلِيكُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ، أَوْ الْخِنْزِيرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بِالْعَقْدِ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ التَّعْوِيضُ كَانَ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ. قَالَ: (عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي الَّذِي لَهُ)؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْعَبْدِ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِالتَّبَرُّعِ، وَبِالتَّعْوِيضِ الْهِبَةُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي هِبَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِذَا رَجَعَ الْعَبْدُ فِي الْهِبَةِ - لِبُطْلَانِهَا -؛ فَلِلْمُعَوَّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَض؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْهِبَةَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ، قَالَ: (وَكَذَلِكَ وَالِدُ الصَّغِيرِ إذَا وَهَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ شَيْئًا لِرَجُلٍ فَعَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْوِيضٌ عَنْ هِبَةٍ بَاطِلَةٍ، قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ هُوَ الرَّجُلُ فَعَوَّضَهُ الْأَبُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ: لَمْ يَجُزْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 الْعِوَضُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَال الصَّغِيرِ بِالتَّبَرُّعِ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ لِلْأَبِ ذَلِكَ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعَوَّضَ كَالْوَاهِبِ ابْتِدَاءً، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَض لِلْوَاهِبِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ كَمَا قَبْلَ التَّعْوِيضِ. قَالَ: (وَإِذَا تَصَدَّقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ بِصَدَقَةٍ، أَوْ نَحَلَهُ، أَوْ أَعْمَرَهُ فَقَالَ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك فَهُوَ عِوَضٌ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ، وَلَا مُعْتَبَرَ لِاخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَبِأَيِّ لَفْظٍ مَلَّكَهُ الْعِوَضَ، أَوْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ هِبَتِهِ فَهُوَ عِوَضٌ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ عِوَضًا يَوْمًا، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبِضْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ: فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَقَابَضَا: جَازَ ذَلِكَ) بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَإِنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةُ ابْتِدَاءِ بَيْعٍ انْتِهَاءً، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابْتِدَاء وَانْتِهَاء بَيْعٍ. وَفِي أَحَدِ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِيهِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ شَرْطًا، وَكَانَ بَيْعًا فَاسِدًا ابْتِدَاءً كَمَا لَوْ عَقَدَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، أَوْ التَّمْلِيكِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْعُقُودِ يَعْتَبِرُ الْمَقْصُودُ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ صِفَتُهَا كَذَا بِهَذَا الثَّوْبِ، وَبَيْنَ شَرَائِط السَّلَمِ يَكُونُ سَلَمًا، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ: كَانَ نِكَاحًا، وَلَوْ وَهَبَ امْرَأَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا: كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ وَهَبَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ: كَانَ عِتْقًا، وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ: كَانَ إبْرَاءً، فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعَقْدُ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْت مِنْك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِم يَكُونُ إجَارَةً يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعَرْتُك، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَدَلَ: كَانَ إجَارَةً، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ تَمْلِيكُ الْمَوْهُوبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا شَرَطَ الْعِوَضَ: يَكُونُ بَيْعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَوْ بَاعَ: كَانَ مُكْرَهًا، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ - وَلَوْ لَمْ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً - لَمْ يَكُنْ الْمُكْرَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُكْرَهًا عَلَى الْآخَرِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَفْظٍ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ مَعْنَاهُ، فَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِمَعْنَاهُ، كَالْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ بِلَفْظِهِ حَتَّى يَبْطُلَ بِعَدَمِ الْقَبْضِ، وَلَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَانْتِهَاؤُهُ مُعْتَبَرٌ بِمَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ قَوَالِبُ الْمُعَانِي، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ - وَإِنْ وَجَبَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 اعْتِبَارُ الْمَعْنَى - إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِلْمُنَافَاةِ - وَلَا مُنَافَاةَ هُنَا - فَشَرْطُ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ، وَبِحَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ لَا يَنْتَفِي مَعْنَى الْهِبَةِ، فَبِشَرْطِ الْعِوَض أَوْلَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ بَيْن اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَافَاةً، وَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى؛ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ - لِذَلِكَ - ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْحُكْمُ، وَأَوَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ. فَعِنْدَ الِانْعِقَادِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِهِ يَنْعَقِدُ، وَعِنْدَ التَّمَامِ اُعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا. فَالْمُكَاتَبُ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ، وَبِمَنْزِلَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ وَجْهٍ: اُعْتُبِرَ الشَّبَهَانِ. فَأَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ، أَوْ الْهِبَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ قَالَ: كُنَّا فِي تَدْبِيرِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَجَدْت رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ، يَقُولُ: هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً، مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً؛ فَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً - بِخِلَافِ الْعَيْنِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ -. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْإِكْرَاهِ: قُلْنَا: الْمُكْرَهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، وَمَعْنَى الْإِضْرَار فِي حُكْمِ السَّبَبِ لَا فِي نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّهِ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْبَيْع، وَالْهِبَة بِشَرْطِ الْعِوَضِ سَوَاءٌ، إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ، فَنَقُولُ قَبْلَ التَّقَابُضِ: الْعَقْدُ تَبَرُّعٌ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَا يُمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعَ صَاحِبِهِ - مَا لَمْ يَقْبِضْهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَبَعْدَ التَّقَابُضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ بِهِ الشُّفْعَة، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا فِي يَدِهِ بِعَيْبٍ - إنْ وُجِدَ فِيهِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ - وَإِنْ اسْتَحَقَّ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ مَتَاعِهِ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَة الْعِوَضِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ رَجَعَ بِمَتَاعِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِمَالِيَّتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا - وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَجَازَ رَبُّ الثَّوْبِ: جَازَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ رِضَا الْمَالِك بِهَا، ثُمَّ الْعَاقِدُ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ مُعِيرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، وَالْمُجِيزُ يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِعَقْدِ الْهِبَةِ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا لَا يُعَوِّضُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ يَكُون ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَإِنْ عَوَّضَ الرَّجُلُ الَّذِي وَهَبَ لَهُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ رَبَّ الثَّوْبِ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ مُعْتَبَرٌ كَالرَّسُولِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِحَالِهِ، وَإِنَّمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 الْمُعْتَبَرُ حَالُ الْمَالِكِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ مَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَض كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَثَوْبًا، وَقَبَضَ ذَلِكَ الْمَوْهُوب لَهُ، ثُمَّ عَوَّضَهُ الثَّوْبَ أَوْ الدَّرَاهِمَ مِنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ وَاحِدَةٌ)، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الشَّيْءِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ فِي الْهِبَةِ، قَالَ: (وَإِنْ كَانَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ مَجْلِسَيْنِ، فَعَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: فَهَذَا عِوَضٌ نَأْخُذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ). وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا؛ فَقَدْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ. فَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ وَالْعَقْدَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى سَوَاءٌ. وَجْه ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ، وَيَسْتَقِيمُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ شَرْطًا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ مَقْصُودًا، وَقَدْ يَقْصِدُ الْوَاهِبُ هَذَا بِأَنْ يَهَبَ شَيْئًا، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيَنْدَمَ، فَيَسْتَقْبِحَ الرُّجُوعَ فِيهِ، فَيَهَب مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ - عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ الْأَوَّل - فَيَحْصُلَ مِنْهُ مَقْصُودُهُ، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُ مَذَمَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَدَقَةً، وَالْآخَرُ هِبَةٌ فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَةَ عَنْ الْهِبَةِ، أَمَا كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا،، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ، وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهَا وَسَلَّمَ الْكُلَّ: لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَتَفَرُّقِ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيم فَكَأَنَّهُ وَهَبَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ النِّصْف. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّسْلِيمُ حَصَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِعَقْدٍ هُوَ تَبَرُّعٌ كُلُّهُ؛ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ: فِي مَقْصُودِ الْعِوَضِ. فَفِي الصَّدَقَةِ، الْمَقْصُودُ: الثَّوَابُ - دُونَ الْعِوَضِ - وَفِي الْهِبَةِ، الْمَقْصُودُ: الْعِوَضُ. فَأَمَّا فِي إخْرَاج الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ، وَتَمْلِيكِ الْقَابِضِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حِنْطَةً، فَطَحَنَ بَعْضَهَا، وَعَوَّضَ دَقِيقَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ: كَانَ جَائِزًا)؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ حَادِثٌ بِالطَّحْنِ، وَهُوَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ، وَلِهَذَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ، فَكَانَ تَعْوِيضُهُ دَقِيقَ هَذِهِ الْحِنْطَةِ، وَدَقِيق حِنْطَةٍ أُخْرَى سَوَاءً؛ وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ قَدْ انْقَطَعَ بِالطَّحْنِ، فَتَعْوِيضُهُ إيَّاهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا. فَأَمَّا قَبْلَ الطَّحْنِ: حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ثَابِتٌ، وَالرَّدُّ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، إذَا رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ؛ فَيَقَعُ فِعْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ وَهَبَ لَهُ ثِيَابًا، فَصَبَغَ مِنْهَا ثَوْبًا بِعُصْفُرٍ، أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا، ثُمَّ عَوَّضَهُ، أَوْ كَانَ وَهَبَ لَهُ سَوِيقًا فَلَتَّ بَعْضُهُ، ثُمَّ عَوَّضَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ قَدْ انْقَطَعَ بِهَذَا الصُّنْعِ، وَالْتَحَقَ هَذَا بِسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ عَوَّضَهُ مَالًا آخَرَ كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 فَكَذَلِكَ هَذَا الْمَال. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ لِلْوَاهِبِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك، فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضِفْ تَمْلِيكَهُ إلَى هِبَتِهِ، كَانَ فِعْلُهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً - لَا تَعْوِيضًا - فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمْ ذَلِكَ إذَا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عِوَضٌ، وَيَرْضَى بِهِ، فَأَمَّا بِدُونِهِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ كَافِيَتك هَذَا مِنْ هِبَتِك، أَوْ جَازَيْتُك، أَوْ أَثَبْتُكَ: كَانَ عِوَضًا)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْغُرُور يَنْدَفِعُ. قَالَ: (وَإِنْ عَوَّضَ مِنْ نِصْفِ الْهِبَةِ شَيْئًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّحَرِّي فِي الْمَوْهُوبِ فَإِذَا أَضَافَ الْعِوَضَ إلَى بَعْضِ الْهِبَةِ اقْتَصَرَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ - بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَرِّي فِي الْمَحِلِّ - وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ ابْتِدَاءً، كَمَا لَوْ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ، وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ. فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بَقَاء أَوْلَى،. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ، إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَوْهُوب لَهُ؛ فَيَجُوزُ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْهُمْ مَنْ رَأَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى. وَفِي أَصْلِهِ وَهْيٌ فَيَكُونُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ إنْ كَانَ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ مِلْكَهُ، وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لَهُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَالَ: (وَلَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا، فَبَاعَهُ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ الْقَاضِي لِلْوَاهِبِ أَجَازَ مَا صَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ، مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ مُنْفِذٌ لِلْبَيْعِ فِيهِ، وَالْعِتْقُ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ يَنْفُذُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَتَصَرُّفُ ذِي الْيَدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ نَافِذًا، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ، قَالَ: (وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَاهِبُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ)؛ لِأَنَّ أَصْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَمَانَ الْمَقْبُوضِ عَلَيْهِ، وَاسْتِدَامَةُ الشَّيْءِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْعُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي مَنْعٌ بِسَبَبِ مِلْكِهِ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْقَضَاءِ فِي الْمَوْهُوبِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِدُونِ السَّبَبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنِّعْهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ الْوَاهِبُ. فَهَذَا الْمَنْعُ يَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ - وَهُوَ قَصْرُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ بِإِزَالَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ - وَهُوَ حَدُّ الْغَصْبِ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ هَالِكَةً، أَوْ مُسْتَهْلَكَةً، أَوْ خَارِجَةً مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 إلَى أَجْنَبِيٍّ بِهِبَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ زَادَتْ عِنْدَهُ خَيْرًا: فَلَا رُجُوعَ فِيهَا لِلْوَاهِبِ).، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَوَانِعَ، وَالْفَرْق بَيْنَ زِيَادَةِ الْعَيْنِ، وَزِيَادَةِ السِّعْرِ، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَنِ، وَالنُّقْصَان فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا، أَوْ أَرْضًا فَبَنَى فِي طَائِفَةٍ مِنْهَا، أَوْ غَرَسَ شَجَرًا، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً فَكَبِرَتْ، وَازْدَادَتْ خَيْرًا، أَوْ كَانَ غُلَامًا فَصَارَ رَجُلًا، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ فَيَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ - تَبَعًا كَانَ أَوْ أَصْلًا - وَهُنَا الْحَقُّ فِي الْأَصْلِ ضَعِيفٌ، وَحَقُّ صَاحِبِ الزِّيَادَةِ فِي الزِّيَادَةِ قَوِيٌّ. فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا: رَجَّحْنَا أَقْوَى الْحَقَّيْنِ، وَجَعَلْنَا الضَّعِيفَ مَرْفُوعًا بِالْقَوِيِّ. وَالْبِنَاء فِي بَعْضِ الْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ فِي جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي جَانِبٍ مِنْ الْأَرْضِ يُعَدُّ زِيَادَةً فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ مَالِيَّة الْكُلِّ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَا بُنِيَ بِحَيْثُ يُعَدُّ زِيَادَةً، فَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً - كَالْآرِي - أَوْ يُعَدُّ نُقْصَانًا - كَالتَّنُّورِ فِي الْكَاشَانَةُ -؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ، وَهُوَ زِيَادَةُ مَالِيَّة الْمَوْهُوبِ بِزِيَادَةٍ فِي عَيْنِهِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَهَدَمَ بِنَاءَهَا: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَرْضِ) وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الدَّارِ إذَا اُسْتُهْلِكَ بَعْضُ الْهِبَةِ بِبَيْعٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَاقِي - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ -؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ نُقْصَانٌ فِي الْأَرْض، وَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَة ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ أَصْفَرَ، وَخَاطَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ)؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ زِيَادَة وَصْفٍ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَهُ، وَلَمْ يَخِطْهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ قَبْلَ الْخِيَاطِ نُقْصَانٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ (وَالْجَوَابُ): أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُ نُقْصَانٌ، وَعِنْدَهُمَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، فَقَبِلَهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ قَابِضٌ لِلدَّيْنِ بِذِمَّتِهِ، فَيُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ، وَمَنْ مَلَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ: سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَالسَّاقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ فِيهِ - كَمَا لَوْ كَانَ عَيْنًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ - قَالَ: (فَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَكَانَهَا: لَا أَقْبَلُهَا، فَالدَّيْنُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ)، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِبْرَاءِ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَلَكِنْ لِلْمَدْيُونِ حَقُّ الرَّدِّ قَبْلَ مَوْتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْقَبُولِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، أَنَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 يَعْتَبِرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَجْهَيْنِ: الْإِسْقَاطُ دُونَ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلتَّمْلِيكِ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ، وَلَكِنْ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ رَدَّهُ الْمَدْيُونُ صَحَّ رَدُّهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا يَعْمَلُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ، وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَلَا يَتَصَوَّرُ فِيهِ الرَّدَّ، وَقَاسَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الدَّيْنُ مَمْلُوكٌ لِلطَّالِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّمَلُّكِ بِمِلْكِ الْعَيْنِ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ - خُصُوصًا فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ - فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ - وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ - فَإِذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْهِبَةِ، وَجَب اعْتِبَار مَعْنَى التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ بِالْمِلْكِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ إدْخَالَ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، قَصْدًا مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ. وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، وَإِبْرَاء إسْقَاط، إذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ إسْقَاطًا - وَالْإِسْقَاطُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْقِطِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ -؛ فَلِهَذَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ مَمْلُوكٌ فِي ذِمَّتِهِ؛ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ إذَا مُلِّكَهُ، فَلِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا: لَهُ إنْ يَرُدَّهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، حَتَّى إنَّ الْإِبْرَاء لَوْ كَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ أَيْضًا، وَهُوَ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ؛ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ - وَالْهِبَةُ مِنْ الْكَفِيلِ تَمْلِيكٌ مِنْهُ - حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا، وَلَمْ يُعْلَمْ بِالْهِبَةِ، حَتَّى مَاتَ: جَازَتْ الْهِبَةُ، وَبَرِيءَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ. فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ: لَا يَبْرَأُ، فَأَصْلُهُ فِي الْمُوصَى لَهُ، إذَا مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ قَبُولِهِ، فِي الْقِيَاسِ: تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يُمَلَّك وَإِنَّمَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: جَعَلَ مَوْتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ هُنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْعَلُ مَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ، وَهُوَ مَعَهُ قَائِمٌ فَسَكَتَا حَتَّى افْتَرَقَا: جَازَتْ الْهِبَةُ)، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ أَيْضًا فَإِنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِالْهِبَةِ مِنْهُ عُرْفًا، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا؛ أَلَا تَرَى أَنْ السُّكُوتَ مِنْ الْبِكْرِ جُعِلَ إجَازَةً لِعَقْدِ الْوَلِيِّ - اسْتِحْسَانًا -، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَمِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ بَنَى الْجَوَابَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَقُولُ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاء يَتِمُّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فِيهَا، فَالْمَوْتُ قَبْلَ الرَّدِّ يُبْطِلُ حَقّهُ فِي الرَّدِّ وَيَبْقَى تَامًّا فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ بِالسُّكُوتِ حَتَّى افْتَرَقَا يَنْعَدِمُ الرَّدُّ فَتَبْقَى الْهِبَةُ تَامَّةً وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاء مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَصَحُّ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 فِي الْفَرْقِ بَيْنَ إبْرَاءِ الْكَفِيلِ، وَبَيْنَ هِبَةِ الدَّيْنِ مِنْهُ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً، وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا، أَوْ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْآخَرُ فَلِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا). أَمَّا إذَا رَجَعَ فِيهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلِأَنَّ الْقَاضِي يَفْسَخُ بِقَضَائِهِ الْعَقْد الثَّانِي فَيَعُود إلَى الْأَوَّلِ مِلْكُهُ الْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ الرُّجُوعِ ثَابِتًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، وَمَا سَقَطَ بِزَوَالِهِ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ؛ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ فَإِذَا عَادَ الْمَحَلُّ كَمَا كَانَ عَادَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ ثَابِتٌ بِتَرَاضِيهِمَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ أَوْصَى بِهِ لَهُ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي: كَانَ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ: فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقٌّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ الْقَضَاءُ، وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاء كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي، أَنْ لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّرَاضِي مُوجِبًا مِلْكًا مُبْتَدَأً إذَا تَرَاضَيَا عَلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ مِنْهُ: كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَهُنَا تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مُوجِبًا مِلْكًا مُبْتَدَأً - بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ - فَحَقُّ الْمُشْتَرِي لَيْسَ فِي عَيْنِ الرَّدِّ، بَلْ بِالْمُطَالَبَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّابِتِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ. وَهُنَا حَقُّ الْوَاهِبِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ. قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ فِي مَرَضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ - كِلَاهُمَا فِي الْكِتَابِ -)، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ: يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَة فِيهِ الْقِيَاسَ. وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْقِيَاسِ: يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ الرَّادّ فِي مَرَضِهِ بِاخْتِيَارِهِ يَتِمُّ بِالْقَصْدِ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، فَلِرَدِّ قَصْدِهِ جُعِلَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ عَبْدًا لِرَجُلَيْنِ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا هِبَةً، وَنَصِيبَ الْآخَرِ صَدَقَةً: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ -). وَهَذَا فِي الْعَبْدِ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ فَإِنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْهِبَةِ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ. وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ، وَنَحْوِهَا: الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى زُفَرَ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ابْتِدَاءً لَمَا صَحَّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَحَيْثُ صَحَّ، عَرَفْنَا أَنَّهُ فَسْخٌ، وَأَنَّ الْعَقْدَ يَبْقَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ فَيَكُونُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 ذَلِكَ شُيُوعًا طَارِئًا، وَلَا أَثَرَ لِلشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ بِالرَّدِّ بِالتَّرَاضِي يَعُودُ الْمِلْكُ إلَى الْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَابْتِدَاءُ الْهِبَةِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إتْمَامِ الْقَبْضِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ. قَالَ: (فَإِنْ وُهِبَ لِمُكَاتَبٍ رَجُلٌ هِبَةً، ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ عَجَزَ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ)، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذْ أَعْتَقَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا عَجَزَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَالْعَجْز لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَفِيهِ نَوْعُ إشْكَال: فَالْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ، وَالْهِبَةُ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ وَلَا رُجُوعَ فِيهَا، قَالَ: (وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ مِلْكًا، وَلَكِنَّهُ غَنِيّ يَدًا وَكَسْبًا؛ فَالْهِبَةُ مِنْهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ، إمَّا بِمَنَافِعِهِ، أَوْ كَسْبِهِ - كَالْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَضَ)، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ ثَبَتَ لَهُ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ، فَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِعِتْقِهِ. فَأَمَّا إذَا عَجَزَ: فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ: يُقَرِّرُ مِلْك الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَمَا أَنَّ عِتْقَهُ يُقَرِّرُ مِلْكهُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمِلْكِ فِي الْكَسْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَجْزُ الْمُكَاتَبِ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ مِنْ كَسْبِهِ إلَى مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ، فَكَمَا أَنَّ مَوْتَ الْحُرِّ الْمَوْهُوب لَهُ يَقْطَعُ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، فَكَذَلِكَ عَجْزُ الْمُكَاتَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اسْتَبْرَأَ جَارِيَة مُحَيِّضَةً، ثُمَّ عَتَقَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ، وَلَوْ عَجَزَ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَخ الْوَاهِبِ: لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ، وَلَا بَعْدَ عِتْقِهِ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُكَاتَبِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ - وَهُوَ الْأُخُوَّة بَيْنَهُمَا - قَائِمٌ، وَبَعْدَ الْعَجْزِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْجِعُ فِيهَا بَعْدَ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرَّرُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِأَخِيهِ، وَهُوَ عَبْدٌ: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَالْمُكَاتَبُ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ فِي الرُّجُوعِ؛ فَيَقُولُ: قَبْلَ الْعَجْزِ خُصُومَتهُ فِي الرُّجُوعِ مَعَ الْمُكَاتَبِ؛ فَيُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَبَعْدَ الْعَجْزِ خُصُومَتهُ مَعَ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ فِيهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ؛ وَلِأَنَّ هِبَتَهُ تَنْفَكُّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ مَا دَامَ الْحَقُّ فِيهَا لِقَرِيبِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ الْحَقُّ لِأَجْنَبِيٍّ: لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَخَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: لَيْسَ لَك أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا، ثُمَّ هَدَمَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِزَوَالِ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْبِنَاءُ -). وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَحُمَّ الْعَبْدُ فِي الْأَيَّامِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 الثَّلَاثَةِ، وَخَاصَمَهُ فِي الرَّدِّ فَأَبْطَلَ الْقَاضِي حَقَّهُ؛ لِلْحُمَّى، ثُمَّ أَقْلَعَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّهُ فِي الْخِيَارِ بِعَرْضِ السُّقُوطِ، حَتَّى يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ؛ فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَهُنَا: حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَيْسَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ؛ حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ، فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَا يَسْقُطُ بِقَضَائِهِ حَقّهُ فِي الرُّجُوعِ، وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنْ الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ؛ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَحَقُّهُ قَائِمٌ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ لِلْفَسْخِ عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَبِقَضَائِهِ يَصِيرُ لَازِمًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ اللُّزُومِ تَلِيقُ بِالْبَيْعِ، وَهُنَا: السَّبَبُ: كَوْنُ الْعَقْدِ تَبَرُّعًا، وَيُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الْعِوَضُ، وَبِقَضَائِهِ لَا يَرْتَفِعُ هَذَا السَّبَبُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا زَالَ الْمَانِعُ. قَالَ: (رَجُلَانِ وَهَبَا لِرَجُلٍ عَبْدًا، وَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي حِصَّتِهِ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ: فَلَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاشِرٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ - كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِبَةِ نَصِيبِهِ -. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: أَنَا أَخُوك، أَوْ قَالَ: قَدْ عَوَّضْتُك، أَوْ قَالَ: إنَّمَا تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ، وَكَذَّبَهُ الْوَاهِبُ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ظَاهِرٌ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَدَّعِي الْمَانِعَ؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ إذَا قَالَ: " تَصَدَّقْت عَلَيَّ " فَالتَّمْلِيكُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ اتِّفَاقُهُمَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُمَلَّكِ فِي بَيَانِ سَبَبِ التَّمْلِيكِ، وَإِذَا قَالَ: " عَوَّضْتُك " فَهُوَ يَدَّعِي تَسْلِيمَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ. وَإِذَا قَالَ: أَنَا أَخُوك فَالْأُخُوَّة لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصْد الْوَاهِب الْعِوَض. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ خَادِمَةً فَقَالَ: وَهَبْتهَا لِي، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَكَبِرَتْ عِنْدِي، وَازْدَادَتْ خَيْرًا، وَكَذَّبَهُ الْوَاهِبُ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ - عِنْدَنَا -)، وَقَالَ زُفَرُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. كَمَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ أَرْضًا، وَفِيهَا بِنَاءٌ، أَوْ شَجَرٌ، وَقَالَ الْوَاهِبُ: وَهَبْتهَا لَك، وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ وَلَا شَجَرٌ حِينَ وَهَبْتهَا: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَوْهُوبُ لَهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْهِبَةِ، وَالْهِبَةُ حَادِثَةٌ، فَمَنْ يَدَّعِي فِيهَا تَارِيخًا سَابِقًا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحَجَّةٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِهَا، وَحَقُّ الْوَاهِبِ ثَابِتٌ فِي عَيْنِهَا - بِاتِّفَاقِهِمَا - فَكَأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ يَدَّعِي انْتِفَاءَ حَقِّهِ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ - مِثْلَ السِّمَنِ وَالْكِبَرِ - بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يُنْكِرُ تَمَلُّكَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ، وَثُبُوتُ حَقِّهِ فِيهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ وَجْهٍ أَصْلٌ، حَتَّى يَجُوزَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 فَالظَّاهِرُ فِيهِ شَاهِدٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ، وَالسِّمَنُ وَالْكِبَرُ وَصْفٌ، وَهُوَ بَيْعٌ مَحْضٌ، وَثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَاهِبِ. وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا، فَعَلَّمَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْكِتَابَةَ أَوْ الْخَبْزَ؛ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي عَيْنِ الْمَوْهُوبِ، فَهُوَ كَزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَغْيِيرِ السِّعْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَعَلُّمُ الْكِتَابَةِ وَالْخَبْزِ مَعْنِيٌّ فِي الْعَبْدِ تَزْدَادُ بِهِ مَالِيَّتُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّمْنِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ السِّعْرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى كَثْرَةِ الرَّغَائِبِ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنِيٌّ فِي الْعَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ صِفَةَ الْكِتَابَةِ وَالْخُبْزِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ فَوَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ السَّلَامَةِ عِنْدَ إطْلَاق الْعَقْدِ. فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَصْفٌ فِي الْعَيْنِ، وَكُلُّ شَيْءٍ زَادَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ - نَحْوَ الثَّوْبِ يَصْبُغُهُ، وَالسَّوِيق يَلُتُّهُ، وَالثَّوْبِ يَخِيطُهُ - فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ: فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ الْكِبَرِ فِي الْخَادِمِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ - مِنْ زَوْجٍ أَوْ فُجُورٍ - فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا دُونَ الْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى عَيْنِ الْمَوْهُوبِ، وَالْوِلَادَةُ فِي الْجَارِيَةِ نُقْصَانٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لَيْسَتْ كَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الزِّيَادَةِ، لِيَرْجِعَ فِيهَا، وَهُنَا: الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ هُنَاكَ لَوْ رَدَّ الْأَصْلَ رَدَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَيُسَلِّمُ لَهُ الْوَلَد مَجَّانًا بِحُكْمِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ رِبًا، وَفِي الْهِبَةِ يُسَلِّمُ لَهُ الْوَلَد مَجَّانًا، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي التَّبَرُّعَاتِ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ سَالِمًا لَهُ مَجَّانًا. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ، وَهِيَ حُبْلَى، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ ازْدَادَتْ خَيْرًا: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ ازْدَادَتْ شَرًّا: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا). وَالْجَوَارِي فِي هَذَا تَخْتَلِفُ فَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا حُبِّلَتْ سَمِنَتْ وَحَسُنَ لَوْنُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي عَيْنِهَا فَيُمْنَعُ الرُّجُوعُ. وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا حَبِلَتْ اصْفَرَّ لَوْنُهَا، وَرَقَّ سَاقُهَا؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهَا؛ فَلَا يَمْنَعُ حَقّ الْوَاهِبِ مِنْ الرُّجُوعِ. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ جَارِيَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا، فَعَوَّضَهُ الْوَلَد عَنْهُمَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَاهِبِ فِي الْوَلَدِ؛ فَهُوَ كَسَائِرِ أَمْلَاك الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي صَلَاحِيَّة الْعِوَضِ. فَإِذَا عَوَّضَهُ عَنْهُمَا، وَرَضِيَ بِهِ الْوَاهِبُ، فَقَدْ تَمَّ مَقْصُودُهُ. قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حَدِيدًا فَضَرَبَ مِنْهُ سَيْفًا أَوْ غَزْلًا، فَنَسَجَهُ، أَوْ وَهَبَ لَهُ دَفَاتِرَ، فَكَتَبَ فِيهَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا)؛ إمَّا لِتَبَدُّلِ الْعَيْن، أَوْ لِلزِّيَادَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 الْحَادِثَةِ فِي الْعَيْنِ، أَوْ فِي مَالِيَّتِهِ بِفِعْلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرُّقْبَى] قَالَ: (رَجُلٌ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: " دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ ": لَمْ تَكُنْ حَبِيسًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَبِيسٌ " أَيْ: مَحْبُوسٌ، فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول، كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ، وَمَعْنَاهُ: مَحْبُوسٌ عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَسِهَامُ الْوَرَثَةِ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ شُرَيْحٍ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ عَلَى عَقِبِي بَعْدَ مَوْتِي: فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَحْبُوسٌ عَلَى مُلْكِهِمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِالْإِزَالَةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَالِكُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ لَك رُقْبَى: فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ إذَا قَبَضَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَك حَبِيسٌ)، فَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى.» وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: " دَارِي لَك تَمْلِيكٌ " صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: " حَبِيسٌ أَوْ رُقْبَى " بَاطِلٌ. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: دَارِي لَك رُقْبَى، مَلَّكْتُكَ دَارِي هَذِهِ، فَأَرْقُبُ مَوْتَك؛ لِتَعُودَ إلَيَّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى فِي مَعْنَى الِانْتِظَارِ وَالتَّعْلِيق بِالْعَوْدِ إلَيْهِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَيَبْقَى التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ صَحِيحًا. وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى، وَرَدَّ الرُّقْبَى»، وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ: الرُّقْبَى قَدْ تَكُونُ مِنْ الْإِرْقَابِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ التَّرَقُّبِ، حَيْثُ قَالَ: أَجَازَ الرُّقْبَى، يَعْنِي: إذَا كَانَ مِنْ الْإِرْقَابِ، بِأَنْ يَقُولَ: رَقَبَةُ دَارِي لَك. وَحَيْثُ قَالَ: رَدُّ الرُّقْبَى إذَا كَانَ مِنْ التَّرَقُّبِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أُرَاقِبُ مَوْتَك، فَرَاقِب مَوْتِي، فَإِنْ مِتّ فَهِيَ لَك، وَإِنْ مِتُّ فَهِيَ لِي؛ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَوْتُ الْمُمَلَّكِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا، وَالْمِلْك لِذِي الْيَدِ فِيهَا يَقِينًا، فَلَا يُزِيلُهُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ: " دَارِي لَك " تَمْلِيكًا، إذَا لَمْ يُفَسِّرْ هَذِهِ الْإِضَافَة بِشَيْءٍ. أَمَّا إذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ، يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: دَارِي لَكَ سُكْنَى تَكُونُ عَارِيَّةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ، فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ. قَالَ: (رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: عَبْدِي هَذَا لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً، أَوْ حَبِيسٌ عَلَى أَطْوَلِكُمَا حَيَاةً؛ فَهَذَا بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ طُولَ الْحَيَاةِ فِيمَا مَضَى، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا شَابًّا وَالْآخَرُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 شَيْخًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّيْخُ بِالتَّمْلِيكِ مِنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: طُولُ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ. مَعْنَاهُ: لِلَّذِي يَبْقَى مِنْكُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ، فَهُوَ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّقْبَى، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُرَاقِبَ مَوْتَ صَاحِبِهِ؛ لِتَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْهِبَةِ] قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْهِبَةِ وَمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ: جَازَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْقَبْضِ، وَهُوَ يَجْحَدُهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: الشَّهَادَةُ جَائِرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالصَّدَقَةُ وَالرَّهْنُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: إنَّ تَمَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِقَبْضٍ يُوجَدُ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا قَوْلٌ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْمُخْبِرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ الْقَبْضِ، فَبِإِقْرَارِهِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِمَا هُوَ سَبَب مِلْكٍ تَامٍّ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ، ثُمَّ فِعْلُ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مُعَايَنَتِهِ، يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُقِرِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ: قُضِيَ بِالْمِلْكِ لَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَشَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْهِبَةِ، وَالْقَبْضِ: جَازَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَأَقْرٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَخَذَ بِإِقْرَارِهِ)؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ لَا يُنَافِي مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْهِبَةِ، وَقَبْضُ الْمَوْهُوبِ وَالْمُقِرّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - بَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ بِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِسَبَبِ مِلْكٍ تَامٍّ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَوْدَعَ الرَّجُلُ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ وَهَبَهَا لَهُ، ثُمَّ جَحَدَهُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ، وَلَمْ يَشْهَدَا بِالْقَبْضِ: فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَبْضُهُ مَعْلُومٌ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَتِمُّ بِهِ سَبَبُ الْمِلْكِ. قَالَ: (فَإِنْ جَحَدَ الْوَاهِبُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْهِبَةِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ، وَلَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ، وَالْهِبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَوْمَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 تَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي: فَذَلِكَ جَائِزٌ، إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا)؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ قَابِضٌ، وَقَدْ أَثْبَتَ عَقْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ فَيَجْعَلُ قَبْضهُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ، أَوْ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، فَكَمَا يُجْعَلُ الْقَبْضُ هُنَاكَ مُتَمِّمًا لِلسَّبَبِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَشَهَادَتهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ لِلْوَارِثِ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْعَقْدِ عَلَى الْوَاهِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا دَامَ الْوَاهِبُ حَيًّا، إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ بِإِذْنِهِ تَتِمُّ الْهِبَةُ، وَيَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْوَاهِبِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْهِبَةِ وَالْقَبْض: أُبْطِلَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ، وَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ؛ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ وَهَبَ، وَسَلَّمَ مَا لَا يُمَلَّكُ، قَالَ: (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الشِّرَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ: فَهُوَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ ثَابِتٌ، بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُحْتَمَلٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَّخَ شُهُود الشِّرَاءِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مُعَايَنٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدُهُ؛ فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّأْرِيخُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَشْهُودٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ، فَأَقَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ، وَقَبَضَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَقَبَضَهُ: فَالْعَبْدُ لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ أَقْوَى، مِنْ حَيْثُ إنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَعِنْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَتَرَجَّحُ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فَإِنَّ الضَّعِيفَ مَدْفُوعٌ بِالْقَوِيِّ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابِلَةِ بِالْقَوِيِّ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَتَاعًا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا كُنْت اسْتَوْدَعْتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَعَ الْيَمِينِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْعَيْنِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ السَّبَبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَتَاعَ. وَإِنْ وَجَدَهُ هَالِكًا: فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ الْهِبَةَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى التَّمَلُّكِ بِالْهِبَةِ يَكُونُ جَاحِدًا لِلْوَدِيعَةِ، وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْجُحُودِ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُفَوِّتًا لِلْيَدِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُودَعِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ قَابِضٌ لِنَفْسِهِ مُتَمَلِّكٌ فَكَانَ ضَامِنًا الْقِيمَةَ؛ لِهَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 فَإِنْ قِيلَ): هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ الْإِيدَاعُ، (قُلْنَا): لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بِقَبْضِ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ مُوجِب لِلضَّمَانِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَمْلِيكٌ مِنْ صَاحِبِهِ إيَّاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّدَقَةِ] قَالَ: (الصَّدَقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِي الْمَشَاعِ، وَغَيْرِ الْمَشَاعِ، وَحَاجَتُهَا إلَى الْقَبْضِ)، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ إذَا تَمَّتْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا نَيْلُ الثَّوَابِ - وَقَدْ حَصَلَ - وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَسْتَوِي إنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ، أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعِوَضَ - دُونَ الثَّوَابِ -؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ جَعَلَ الْهِبَة وَالصَّدَقَة سَوَاء فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذِكْرهُ لَفْظ الصَّدَقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ، وَمُرَاعَاةُ لَفْظِهِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَالِ الْمُتَمَلِّكِ. ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ مِنْ الزَّكَاةِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَلَا رَهْنَ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ - بِالِاتِّفَاقِ - فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ: لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ. قَالَ: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِصَدَقَةٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَصَدِّق وَارِثُهُ فَوَرَّثَهُ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِيهَا) بَلَغَنَا فِي الْأَثَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرَّثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ». وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِحَدِيقَةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَك، وَرَدَّ عَلَيْك حَدِيقَتَك». وَفِي الْمَشْهُورِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ إلَّا بِخَمْسَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا: رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرْثَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ». قَالَ: (رَجُلٌ قَالَ فِي صِحَّتِهِ: جَعَلْت غَلَّةَ دَارِي هَذِهِ صَدَقَة لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ مَاتَ، قَالَ: هِيَ مِيرَاثٌ عَنْهُ)؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِهَذَا الْقَبْضِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ، سَوَاءٌ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَلَّتِهَا، وَالْمَنْذُورُ لَا يَزُولُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الصَّدَقَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِهَذَا يُفْتَى بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْإِرْث، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا، وَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا: أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ التَّصَدُّقِ فِي عَيْنِ مَالٍ بِالْتِزَامِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ - وَهُوَ الزَّكَاةُ - وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ يَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ، كَمَا يَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَقِّ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَغِنَاؤُهُ، وَسَدُّ خَلَّتِهِ. قَالَ: (فَإِنْ قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ مِنْ الصَّامِتِ، وَأَمْوَالِ السَّوَائِمِ، وَأَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْعَقَارِ، وَالرَّقِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - اسْتِحْسَانًا -)، وَفِي الْقِيَاسِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ فِي قَوْلِهِ: " جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ " يَتَصَدَّقُ بِالْكُلِّ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا. وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَوْلِهِ: مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ جَمِيعُ مَالِي صَدَقَةٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ اسْمَ الْمِلْكِ حَقِيقَةٌ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَاسْم الْمَالِ لِكُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ، وَغَيْر مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّفْظ مَعْمُولٌ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ - مَا أَمْكَنَ - وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمَالَ وَالْمِلْكَ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ الْحَقَّ فِي الْمَالِ؛ وَلِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ - بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ -؛ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ - شَرْعًا - إنَّمَا تَكُونُ عَنْ غِنًى. «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى». وَالْغَنِيّ - شَرْعًا - يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَالِكُ الْعَقَارِ وَالرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ غَنِيًّا شَرْعًا؛ فَلِهَذَا الدَّلِيلِ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافُهُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ، ثُمَّ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِمَا أَمْسَكَ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مُقَدَّمَةٌ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، ثُمَّ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَار مَا يُمْسِكُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ عِيَالِهِ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُحْتَرِفًا: فَإِنَّمَا يُمْسِكُ قُوتَ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ غَلَّةٍ: أَمْسَكَ قُوتَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيَاعٍ: أَمْسَكَ قُوتَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الدِّهْقَانِ إلَى مَا يُنْفِقُ إنَّمَا تَتَّصِلُ سَنَةً فَسَنَةً، وَيَدُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا فَشَهْرًا، وَيَدُ الْعَامِلِ يَوْمًا فَيَوْمًا. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِلْمَسَاكِينِ هِبَةً، وَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ: يَرْجِعُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَفِي أَسْبَابِ الْمِلْكِ: الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ -. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ قَصْدَهُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ: الثَّوَابُ - دُونَ الْعِوَضِ -؛ إذْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْعِوَضَ لَاخْتَارَ لِلْهِبَةِ مَنْ يَكُونُ أَقْدَرَ عَلَى أَدَاء الْعِوَضِ، وَلَمَا اخْتَارَ الْفَقِيرَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ أَدَاء الْعِوَضِ، عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الثَّوَابُ، وَقَدْ نَالَ ذَلِكَ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى سَائِلًا أَوْ مُحْتَاجًا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ): فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا قَصْدهُ بِفِعْلِهِ سَدُّ خَلَّة الْمُحْتَاج؛ وَذَلِكَ يُفْعَلُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاة اللَّهِ - تَعَالَى - وَنُبْلِ ثَوَابِهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. قَالَ: (رَجُلٌ جَعَلَ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ مَاتَ. قَالَ: هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى صَدَقَةِ الْمُشَاعِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْمَسَاجِدِ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهَذَا مِلْكُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ، وَعَزَلَهُ وَجَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَأَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ مَاتَ: فَهُوَ مَسْجِدٌ لَا يُورَثُ،، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ. قَالَ: (وَإِنْ بَنَى عَلَى مَنْزِلِهِ مَسْجِدًا، وَسَكَنَ أَسْفَلَهُ، أَوْ جَعَلَهُ سِرْدَابًا، ثُمَّ مَاتَ: فَهُوَ مِيرَاثٌ). وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَسْفَلَهُ مَسْجِدًا، وَفَوْقَهُ مَسْكَنًا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يُحْرَزُ أَصْلُهُ عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ، وَانْتِفَاعُهُمْ بِهِ عَلَى قِيَاسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا اتَّخَذَهُ - حِين اسْتَثْنَى الْعُلْوَ أَوْ السُّفْلَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ -. وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: إنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا: جَازَ، وَإِنْ جَعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَهُ قَرَارٌ، وَتَأْبِيدٌ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلْوِ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْعُلْوُ مَسْجِدًا، وَالسُّفْلُ مُسْتَغَلًّا لِلْمَسْجِدِ فَهَذَا يَجُوزُ - اسْتِحْسَانًا -. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ، رَجَعَ إلَيْهِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ بِأَهْلِهَا فَجَوَّزَ أَنْ يَجْعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ وَالسُّفْلَ دُونَ الْعُلْوِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوَسِّعُ فِي الْوَقْفِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِمِسْكِينٍ دِرْهَمًا، وَسَمَّاهُ هِبَةً، وَنَوَاهُ مِنْ زَكَاتِهِ: أَجْزَأَهُ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمِسْكَيْنِ لَفْظَة الْهِبَةِ كَلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِاللَّفْظِ فِي أَدَاء الزَّكَاةِ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ: الْإِعْطَاءُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ: كَانَ ذَلِكَ زَكَاةً لَهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِذَكَرِ الْهِبَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْعَطِيَّةِ] (وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ قَدْ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: فَهِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ)؛ لِحَدِيثِ ابْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا، تُعْمِرُوهَا، فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ». وَرَوَى سَلِمَةُ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِعَقِبِهِ بَعْدَهُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ. يَعْنِي قَطَعَ قَوْلَهُ: وَهَبْت لَك عُمْرَك حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ مَوْتِهِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مَلَكَهُ فِي الْحَالِ، وَالْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَاسِدٌ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نَحَلْتُك هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ أَعْطَيْتُك هَذَا الثَّوْبَ عَطِيَّةً فَهَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً)، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] فَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِتَمْلِيكِ الثَّوْبِ مِنْ الْمِسْكِينِ. وَيُقَالُ فِي الْعُرْف: كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا أَيْ: مَلَّكَهُ. وَإِنْ قَالَ: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ: كَانَتْ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ إرْكَابٌ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا فَتَكُونُ عَارِيَّةً إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ: أَرَدْت الْهِبَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ. يُقَالُ: حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسِهِ، أَيْ: مَلَّكَهُ، فَإِذَا نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَخْدَمْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَكَّنْتُك مِنْ أَنْ تَسْتَخْدِمَهَا وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا. وَإِنْ قَالَ: قَدْ مَنَحْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ». فَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ: جَعَلْت لَك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الْعَيْنِ وَهُوَ نَفْسُ الْعَارِيَّةِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ غَلَّتَهَا. وَالرُّقْبَى لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ، فَمَعْنَاهُ: أَطْعَمْتُك مَا يَحْصُلُ مِنْهَا فَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ - دُونَ عَيْنِهَا - وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ. يَعْنِي: إذَا كَانَتْ فَارِغَةً. فَأَمَّا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِأَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهَا وَيَرُدَّهَا: فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَى تُرِكَتْ فِي يَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي زِرَاعَتِهِمَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ. فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ تُتْرَكَ فِي يَدِهِ بِأَجْرٍ إلَى إدْرَاكِ الْغَلَّةِ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَاقْبِضْهُ، فَقَبَضَهُ: فَهَذِهِ هِبَةٌ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّعَامِ تُطْعَمُ فَإِضَافَةُ لَفْظَةِ الْإِطْعَامِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَيْنِ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك، فَاقْبِضْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْجُعْلِ، وَالتَّمْلِيكِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 فَكَذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. فَإِنْ قَالَ: دَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى. وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِلتَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَك عُمْرَى، يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ عَيْنِهَا مِنْهُ عُمْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ مَنْفَعَتِهَا. فَكَانَ قَوْلُهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرًا، أَيْ: لَك سُكْنَاهَا عُمْرَك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: نُحْلَى سُكْنَى، وَقَوْلُهُ: هِبَةٌ سُكْنَى، أَوْ سُكْنَى هِبَةٌ، أَوْ سُكْنَى صَدَقَةٌ، فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرٌ لِلْمَحْمَلِ مِنْ كَلَامِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هِيَ لَك فَاقْبِضْهَا: كَانَتْ هِبَةً، وَلَوْ قَالَ: هِيَ لَك سُكْنَى كَانَتْ عَارِيَّةً، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ لَفْظَةَ الْعُمْرَى وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ عَارِيَّةٌ، أَوْ هِيَ عَارِيَّةٌ هِبَةٌ: فَهِيَ عَارِيَّةٌ. قَدَّمَ لَفْظَةَ الْهِبَةَ، أَوْ أَخَّرَهَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ. وَقَوْلُهُ: عَارِيَّةٌ، تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحْكَمٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، فَسَوَاءٌ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ، فَالْحُكْمُ لَهُ وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ إجَارَةٌ كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ إجَارَةٌ هِبَةٌ فَهِيَ إجَارَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ مُحْكَمٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، وَلَفْظَةُ الْهِبَةِ تَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ الْعَيْنِ تَارَةً، وَالْمَنْفَعَةِ تَارَةً أُخْرَى؛ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلَّفْظِ الْمُحْكَمِ قَدَّمَهُ، أَوْ أَخَّرَهُ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَكُونُ إجَارَةً. وَإِنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ لَك عُمْرَى تَسْكُنُهَا، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى، فَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ، وَلَكِنَّهُ مَشُورَةٌ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ شَاءَ: قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَسَكَنَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَقْصُودِهِ أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا الطَّعَامُ لَكَ تَأْكُلُهُ، أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: وَهَبْت لَك الْعَبْدَ - حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ - وَقَبَضَهُ: فَهِيَ هِبَةٌ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهُ مُلْكَهُ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَهَبْت لَك. وَقَوْلُهُ: حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ، فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ فَكَانَ لَغْوًا، أَوْ فِيهِ إيهَامُ شَرْطِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - أَوْ أَعْطَيْتهَا - حَيَاتَك - أَوْ وَهَبْت لَك هَذَا الْعَبْدَ - حَيَاتَك - فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِي، وَإِذَا مِتّ أَنَا فَهِيَ لِوَرَثَتِي: فَهَذَا كُلُّهُ تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ فِي الْحَالِ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ هِبَةٌ لَك، وَلِعَقِبِك بَعْدَك؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْن بِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَقِبَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْكَنْتُك دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِسْكَانِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ - دُونَ الْعَيْنِ -. وَقَوْلُهُ: لِعَقَبَتِك بَعْدَك، عَطْفٌ، وَالْعَطْفُ: لِلِاشْتِرَاكِ، فَمَعْنَاهُ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 سُكْنَاهَا لِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك؛ فَهِيَ هِبَةٌ لَهُ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هِيَ لَك تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا هَلَكَ عَنْهَا مِنْهُ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: " وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك " لَغْوٌ - بِخِلَافِ الْأَوَّلِ - فَإِنَّ بَعْدَ إيجَابِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَارِيَّةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عَقِبِهِ بَعْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا - مَتَى شَاءَ -. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ: فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ فِي الْمَوْهُوبِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ - كَمَا قُلْنَا -. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا مَرِيضًا بِهِ جُرْحٌ، فَدَاوَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ فَبَرَأَ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ أَعْمَى، فَسَمِعَ وَأَبْصَرَ؛ لِأَنَّهُ زَوَالٌ لِلْعَيْنِ فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ كَانَ مَهْرٌ، وَلَمْ يُسَمَّ. قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَتَبِعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِيهِ بِشَيْءٍ فَعِتْقهُ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَحُكْم بِصِحَّتِهِ فِي الْحَالِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَة لِلتَّصَرُّفِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَكَوْنُ الْمَانِعِ مُحْتَمَلًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ: مَرَض الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ، وَلَا يُدْرَى أَنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ أَمْ لَا، وَالْمَوْهُوبُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَحَكَمَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفه لِهَذَا، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، وَالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فُكَّتْ بِمَوْتِهِ فِي الْبَعْضِ، أَوْ فِي الْكُلِّ، وَفَسَادُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لِاسْتِغْرَاقِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالْعَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ لِتَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْعَيْنِ، لِرَدِّ الْوَصِيَّة، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنْ لَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي قَدْرِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُعْسِرًا، وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، فَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْوَاهِبِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَزِمَهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهِ - وَهُوَ الْإِتْلَافُ - وَدِينُ الْحُرِّ الصَّحِيحِ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَة بَعْدَ الْعِتْقِ فِي دَيْنٍ كَانَ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَصِيَّةٌ؛ فَيَجِبُ رَدُّهَا لِلدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الرِّقْبَةِ بِالْعِتْقِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْقِيمَةُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ يَضْرِبُ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدُيُونِهِمْ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ - لَا بِدُيُونِهِمْ -؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ عَلَيْهِ، وَدَيْن غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا دَيْنُ غُرَمَاءِ الْوَاهِبِ: أَصْلُهُ كَانَ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِإِتْلَافِ مَالِيَّةِ الرِّقْبَةِ عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا ضَرَبُوا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَلَّقَ حَقّ الْفَرِيقَيْنِ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ مَرَضِ الْمَوْتِ لَهُ؛ فَلِهَذَا: لَا يُقَدِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، وَسَلَّمَهُ، فَدَبَرَهُ: فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَجِبُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ - وَإِنْ كَاتَبَهُ - ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ قِنًّا - كَمَا كَانَ -. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْكِتَابَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ، بَلْ يَتَعَذَّرُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ: صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ تَكُونُ هَدَرًا. وَبِالرُّجُوعِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ جَنَى، فَالرُّجُوعُ مِنْ وَجْهٍ يُنْهِي الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ بِالْهِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ، فَلَا عُقْرَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ سَلَّمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَرَدَّهُ رَادٌّ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ عَيْبٌ، وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعَل بِإِحْيَاءِ الْمِلْكِ - بِالرَّدِّ - فَإِذَا أَحْيَاهُ مَلَكَ الْمَوْهُوب لَهُ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ. قَالَ رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا، فَقَطَعَهَا: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. قَالَ أَبُو عِصْمَةَ: هَذَا غَلَطٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: بِأَصْلِهَا: بِعُرُوقِهَا، وَيَأْذَن لَهُ فِي قَطْعِهَا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمَوْهُوبِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ؛ فَلَا تَتِمُّ الْهِبَةُ إلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ، وَإِذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ فِيهَا وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بِأَصْلِهَا: بِعُرُوقِهَا مِنْ الْأَرْضِ - وَذَلِكَ مَعْلُومٌ - مُمَيَّزٌ، فَالْهِبَةُ تَمَّتْ فِي الْحَالِ. ثُمَّ الْقَطْعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَلُ الشَّجَرَةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ نَامِيَةً، وَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 صَارَتْ حَطَبًا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَطَعَهَا فَجَعَلَهَا أَبْوَابًا، أَوْ جُذُوعًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا عَمِلَ فِيهَا شَيْئًا - قَلَّ أَوْ كَثُرَ -؛ لِأَنَّهَا الْآن لَيْسَتْ بِشَجَرَةٍ كَمَا وَهَبَهَا لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَطْعِ فِي الشَّجَرَةِ نُقْصَانٌ - وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي مَالِيَّتِهَا -؛ فَهُوَ - بِاعْتِبَارِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ - بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ فِي الشَّاةِ، وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَوْهُوبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَهَا أَبْوَابًا أَوْ جُذُوعًا: فَذَلِكَ زِيَادَةُ صِفَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْمَوْهُوبِ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا. قَالَ: وَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَصْلِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا، فَقَطَعَهَا، وَقَبَضَهَا: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ جَازَتْ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَازَ بِالْهِبَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ: أَنَّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهَا إذَا كَانَ تَمَامُ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ. قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ ثَمَرَةً فِي نَخْلٍ، وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ إذَا كَانَ مَعْرِضَ الْفَصْلِ. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، فَجَنَى عَبْدُ الْمَوْهُوبِ لَهُ جِنَايَةً بَلَغَتْ قِيمَتُهُ، فَفَدَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ يَظْهَرُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فِي عَيْنِهِ زِيَادَةٌ، فَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَلَا يَرُدَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي مِلْكُهُ الْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْدِيَهُ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ الْوَاهِبُ بِهَا أَوْ يَفْدِيه؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُ الْعَبْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ نُقْصَانٌ فِيهِ، فَلَا يَمْنَع الْوَاهِب مِنْ الرُّجُوعِ، ثُمَّ بِرُجُوعِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْعَدِمُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا، وَلَا مُخْتَارًا، وَلَكِنَّ الْجِنَايَةَ تَبْقَى فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُخَاطَبُ مَالِكه بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ، وَمَالِكُهُ: الْوَاهِبُ فِي الْحَالِ، فَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي، فَوَرْثهُ وَارِثهُ. قَالَ: وَلَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا، فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، فَخَاطَ نِصْفًا قَبَاءٍ، وَنِصْفهُ الْآخَر عَلَى حَالِهِ: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الشِّقَّ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ، وَخِيَاطَةُ الْقَبَاءِ زِيَادَةٌ فِي النِّصْفِ الَّذِي حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ بِفِعْلِهِ فِيهِ تَعَذُّر الرُّجُوع. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي. وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ شَاةٌ، فَذَبَحَهَا: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي إزْهَاقِ الْحَيَاةِ. قَالَ: وَإِنْ ضَحَّى بِهَا أَوْ ذَبَحَهَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ فِيهَا، وَتُجْزِئُهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالْمُتْعَةُ لِلذَّابِحِ، وَلَمْ يَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 وَقِيلَ: قَوْلُهُ: كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، أَمَّا مُحَمَّدٌ يَقُولُ: مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ عَيْنِهَا، وَالذَّبْحُ نُقْصَانٌ فِيهَا؛ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا بَقِيَ، كَالشَّاةِ لِلْقَصَّابِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الْقِرْبَةِ فِي نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ دُونَ الْعَيْنِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى نِيَّة اللَّحْمِ، أَوْ نِيَّةِ الْقِرْبَةِ. وَاَلَّذِي حَدَثَ فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ التَّصَدُّقِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَرُجُوعِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ هُنَا لَيْسَ بِمُتَحَتِّمِ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ - بِخِلَافِ الزَّكَاةِ - وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّضْحِيَةِ: جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِصًا، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ، فَلَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَرْضًا فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا. وَبَيَانُ قَوْلِنَا: أَنَّ فِي التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ الْمَذْبُوح، أَوْ هَلَكَ: كَانَ مُجْزِئًا عَنْهُ، وَإِبَاحَة التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ: تَعَالَيَا أَفْطِرَا مِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ضَامِنًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَمَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِهِ، فَيَكُون نَظِير هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ: مَا إذَا أَدَّاهُ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْفِعْلُ فِي صُورَةِ ذَبْحِ شَاةِ الْقَصَّابِ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ غَيْرُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ الصُّوَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّبْحَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْمَجُوسِيِّ، وَالتَّضْحِيَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى غَيْر الذَّبْحِ. ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لَا تَبْطُلُ التَّضْحِيَةُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْقَائِمِ دُونَ مَا يُلَاشَى مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ يُنْهِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَإِنَّمَا انْعَدَمَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَظِير مَا لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِرْهَمًا، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَجَعَلَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِيهِ الصَّدَقَةَ بِنَذْرِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الزَّكَاةُ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لَا يُتِمُّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ فِيهِ، (وَكَذَلِكَ) لَوْ وَهَبَ لَهُ نَاقَةً، فَجَعَلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَدَنَة، وَقَلَّدَهَا: فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ. وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ: بِالتَّقْلِيدِ رَأَيْتُمْ، جَعَلَهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا: فَإِنَّهُ عَلَيْهِ أُخْرَى - بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّحْرِ - وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْزَاعًا، فَكَسَرَهَا، وَجَعَلَهَا حَطَبًا: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ - وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَالِيَّةِ، فَذَلِكَ بِزِيَادَةِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ - فَلِهَذَا كَانَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. (وَكَذَلِكَ) لَوْ وَهَبَ لَهُ لَبَنَهَا، فَجَعَلَهُ طِينًا: فَهَذَا نُقْصَانٌ، فَإِنْ أَعَادَهُ لَبَنًا لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ حَادِثٌ بِفِعْلِهِ، أَوْ ضَرْبُ اللَّبَنِ مِنْ الطِّينِ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهِ، فَإِذَا كَانَ حَادِثًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ مَنَعَ ذَلِكَ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ نَجِيحًا فَجَعَلَهُ خَلًّا: لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْخَلِّ غَيْرُ مَالِيَّةِ النَّجِيحِ، وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَدَثَتْ بِصَنْعَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَإِنْ وَهَبَ لَهُ سَيْفًا فَجَعَلَهُ سَكَاكِينَ، أَوْ سِكِّينًا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ غَيْرُ السَّيْفِ. (وَكَذَلِكَ) إنْ كَسَرَهُ، فَجَعَلَ مِنْهُ سَيْفًا آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الثَّانِي حَادِثٌ بِعِلْمِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا قِيمَةَ السَّيْفِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَجْعَل مَا ضَرَبَهُ لَهُ. قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ دَارًا، فَبَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، وَتَرَكَ بَعْضَهَا عَلَى حَالِهَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَا زَادَ فِي الْبِنَاءِ فِي جَانِبٍ مِنْهَا يَكُونُ زِيَادَةً فِي جَمِيعِهَا، كَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا بَنَى فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حَمَّامًا فَجَعَلَهُ مَسْكَنًا، أَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا فَجَعَلَهُ حَمَّامًا: فَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى حَالِهِ - لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْءٌ - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ - دُونَ الْعَيْنِ - وَالْمَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ زَادَ عَلَيْهِ بِنَاء، أَوْ غَلَّقَ عَلَيْهِ بَابًا، أَوْ جَصَّصَهُ، أَوْ أَصْلَحَهُ، أَوْ جَعَلَهُ بِصَارُوجٍ، أَوْ طِنْيَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهَا. قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِصَحِيحٍ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَعَوَّضَهُ الصَّحِيح مِنْهُ عِوَضًا، وَقَبَضَهُ الْمَرِيضُ، ثُمَّ مَاتَ، وَالْعِوَضُ عِنْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ أَكْثَرَ؛ فَالْهِبَةُ مَاضِيَةٌ، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَقْبُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ، أَوْ أَقْوَى، وَالثُّلُثُ مِنْهُ كَانَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَالثُّلُثَانِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، بِتَصَرُّفِهِ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ خَالِص حَقِّهِ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ مَاضِيَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَة الْعِوَضِ نِصْفَ قِيمَةِ الْهِبَةِ، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ فِي سُدُسِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ نِصْفِ الْعَبْدِ، فَإِنَّمَا تَبَقَّى لِإِتْمَامِ حَقِّهِمْ سُدُسُ الْعَبْدِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ الْوَارِثُ بِسُدُسِ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْهِبَةِ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَدَّ الْهِبَةَ كُلَّهَا وَأَخَذَ الْعِوَضَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ سُدُسَ الْهِبَةِ وَأَمْسَكَ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ عِوَضِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الْمَوْهُوبِ، وَلَمْ يُسَلِّم؛ وَلِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْمِلْكِ الْمُجْتَمِعِ عَيْبٌ، فَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ - وَإِنْ قَلَّ - بِتَعَيُّبِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَابِتٌ بَعْدَ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَصِيرُ بَيْعًا بِالْقِيَاسِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 فِي رَدِّ مَا بَقِيَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِالتَّقَابُضِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَيَرُدّ سُدُس الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَقَدْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ] (قَالَ: وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ، وَلَا صَدَقَتُهُ إلَّا مَقْبُوضَةً فَإِذَا قُبِضَتْ: جَازَتْ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ - قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ - وَلَا تَبْطُلُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَجَعَلَ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ فِي الْحُكْمِ كَالثَّابِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، وَرِثَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَلِأَجْلِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِالْقَبْضِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ؛ فَيَكُونُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمُهُ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَضْعَفُ مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ. وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ - كَكَفَالَتِهِ، فَإِعْتَاقَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا خِلَافَةٌ - ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، وَالْخِلَافَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، فَإِذَا لَمْ يُتَّفَقْ قَبْلَ الْمَوْتِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ، إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَازَةُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَلَا يَقُولُ: الطَّلَاقُ يَصِيرُ كَالْمُضَافِ، وَلَكِنْ تُقَامُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَقَامَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ أَنَّهَا لِحَقِّهَا فِي مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا، وَأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ تَعَلَّقَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ بِمَرَضِهِ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِمْ جَعَلْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ. قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَقَبَضَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا: جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهَا وَرَدَّ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْوَرَثَةِ. (وَكَذَلِكَ) سَائِرُ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ، إلَّا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَلَا إشْكَال، وَأَمَّا فِيمَا يُقْسَمُ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْكُلّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ بَطَلَ مِلْكُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَكَانَ هَذَا شُيُوعًا طَارِيًا فِيمَا بَقِيَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَحَقّ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَاقِي: كَانَ شَائِعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً، فَكَاتِبُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثًا قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ، وَلَا تُرَدُّ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 الْكِتَابَةَ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لَازِمَةٌ، لِكَوْنِهِ مَالِكًا لَهَا حِينَ كَانَتْ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ فِي رَدِّ ثُلُثِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ إبْطَالُ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَكَسْبِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْوَرَثَةِ قِيمَةَ حِصَّتِهِمْ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَرَهَا، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا، ثُمَّ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْقِيمَةِ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَضَاءِ بِهِ - وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ - يَتَحَقَّقُ فَانْتَقَلَ حَقُّهُمْ إلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الْعَجْزِ - كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ - وَإِذَا عَجَزَتْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ زَوَالٌ قَبْلَ انْتِقَالِ حَقِّهِمْ مِنْ عَيْنِهَا إلَى مَحِلٍّ آخَرَ، فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ. (وَكَذَلِكَ) إنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ (فَالْجَوَابُ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِثُلُثَيْهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَانَ بِبَقَاءِ قَبْضِهِ، وَإِذَا فَسَدَ السَّبَبُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ عَادَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ثُلُثَيْهَا إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَرَكَة، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ. قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ، وَلَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا مَال غَيْره، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، قَالَ: يَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَثُلُثًا قِيمَتِهِ دَيْنٌ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَالُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُث رَقَبَتِهِ فَسَلَّمَ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ثُلُث هَذَا الثُّلُثِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوب لَهُ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعٍ قِيمَتُهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُ التُّسْع، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دَيْن أَلْف دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ يَضْرِبُ فِيهَا غَيْرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِدَيْنِهِمْ، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُحِيطٌ بِتَرِكَتِهِ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ؛ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَضْرِبُ فِيهَا غُرَمَاؤُهُ بِدُيُونِهِمْ، وَدَيْنُ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَيْهِ ثُلُثًا قِيمَتِهِ، وَدَيْنُ الْغَرِيمِ الْآخَرِ أَلْفٌ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَّةِ. قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَتَلَ الْوَاهِبَ فِي مَرَضِهِ: فَالْهِبَةُ مَرْدُودَةٌ إلَى وَارِثِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ التَّنْفِيذِ مُعْتَبَرٌ بِالْوَصِيَّةِ؛ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِدَفْعِ الْمُعَاضَلَةِ عَنْ الْوَرَثَةِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُمْ قَاتِلُ أَبِيهِمْ فِي مَالِ أَبِيهِمْ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَهَبَهُ فِي مَرَضِهِ. قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ؛ فَإِنَّمَا جَنَى عَلَى الْوَاهِبِ مِلْكُهُ، وَفِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ خَطَأٌ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ يُخَاطَبُ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ - كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى إنْسَانٍ آخَرَ - وَدَلِيلُ تَمَامِ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فِدَاؤُهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ دِيَةُ النَّفْسِ، ثُمَّ بَدَّلَ نَفْس الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلْفَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إحْدَى عَشَرَ أَلْفًا، وَأَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَزِيَادَةٌ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَخَلَّصُ عَنْ عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ بِدَفْعِ الْجَانِي، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الدَّفْعِ هُنَا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدُّورِ فَقَالَ يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ رَدِّ الْهِبَةِ وَنِصْفَهُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ لِلْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْهِبَةِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لِلْوَاهِبِ سِوَاهُ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ الدُّورِ جَوَّزَ الْهِبَةَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَبَيَانُ ذَلِكَ: إنَّمَا يُجْعَلُ الْعَبْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، وَتَبْطُلُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ هَذَا السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ، وَيَجِبُ بِحِسَابِهِ الزِّيَادَة فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ، وَإِذَا زِدْنَا فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ يَزْدَادُ مَالُهُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ أَيْضًا، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا، وَسَهْمُ الدُّورِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ شَاعَ بِالْفَسَادِ، فَالسَّبِيلُ يُقَيَّدُ، وَإِنَّمَا يُطْرَحُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَّجَ الدُّورَ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الدُّورُ هُنَاكَ بِزِيَادَةٍ ظَهَرَتْ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تُطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ بَيْنَهُمَا، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ عَلَى سَهْمَيْنِ تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ النِّصْفُ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ نَفَذَ بِالْوَصِيَّةِ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ وَالْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي الصُّورَةِ، فَفِي الْحُكْمِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ وَنِصْفٍ، فَكَانَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَمَّا بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ بِالرَّدِّ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ خَطَأٌ وَاعْتُبِرَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْمَالِكُ بِالْجِنَايَةِ؛ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَاهُ. قَالَ: وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَرِيضٌ، وَقَدْ كَانَتْ الْهِبَةُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 فَالرُّجُوعُ فِيهِ صَحِيحٌ، وَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَقٍّ سَابِقٍ لَهُ عَلَى حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، كَانَ رَدُّ الْمَرِيضِ لَهَا حِينَ طَلَبَ الْوَاهِبُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ الْمَرِيضِ؛ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ: أَبْطَلَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ، وَرُدَّتْ الْهِبَةُ إلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بِالرَّدِّ بِاخْتِيَارِهِ، وَرِضَاهُ قَصَدَ إبْطَال حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ضَعِيفٌ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا اتَّصَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ يَقْوَى فَيَقْدَمُ عَلَى حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَته؛ لِقُوَّتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ يُقَدِّم حَقّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى حَقّه؛ لِقُوَّةِ حَقِّهِمْ، وَضَعْفِ حَقِّ الْوَاهِبِ. قَالَ: مَرِيضٌ لَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْمَرِيضَ خَطَأً؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ حِينَ جَنَى فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ بَيَّنَّا التَّخْرِيجَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ، وَسَلَّمَ لَهُ الْعَبْدَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلَ نَفْسِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ مَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيمَة الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ فَلِهَذَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ نُفُوذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ظَهَرَ أَنَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دِيَة كَامِلَة لِلْوَرَثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ رُبْعَهُ، وَيُفْدِي مَا بَقِيَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الدُّورِ طَرِيقًا فِي تَخَرُّجِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ - هُوَ أَسْهَلَ الطُّرُقِ - قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِلْوَاهِبِ سِوَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ يُؤَدِّي الدِّيَةَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ الْأَلْفَيْنِ، فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَذَ بِالْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ، فَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْف مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ، فَإِذَا عَدِمْنَا الْأَلْفَيْنِ تَعَذَّرَ عَلَيْنَا تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمّ مَا عَدِمْنَا - وَهُوَ الْأَلْفَانِ - إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ - وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ - ثُمَّ يَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ بِقَدْرِ مَا عَدِمْنَا، وَتَجُوزُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ، وَاَلَّذِي عَدِمْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ، فَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي رُبْعِ الْعَبْد، وَيَجُوزُ هُنَا، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَخَمْسُمِائَةٍ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ رُبْعِ الْعَبْدِ - وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ - وَجُمْلَةُ ذَلِكَ تِسْعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي نِصْفِ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ، فَهَذَا طَرِيقٌ ظَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ دُورٍ. فَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ الدُّورِ: أَنَّ الْعَبْدَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ، ثُمَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَفْدِي السَّهْمَ بِمِثْلِهِ وَمِثْل ثُلُثَيْهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ مِنْ الْعَبْدِ يُقَابِلُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ ثُلُثَيْهِ، فَإِذَا فَدَاهُ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْنِ ازْدَادَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَجَاءَ الدُّورُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ مِقْدَارَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ سَهْمٌ، وَثُلُثَا سَهْمٍ، وَقَدْ كَانَ حَقُّهُمْ فِي سَهْمَيْنِ فَإِذَا طَرَحْنَا سَهْمًا، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ بَقِيَ حَقُّهُمْ فِي ثُلُثِ سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سَهْمٍ، وَثُلُثٍ انْكَسَرَ بِالْإِثْلَاثِ فَأَصْرِفهُ فِي ثُلُثِهِ، وَسَهْم وَثُلُث فِي ثُلُثِهِ يَكُونُ أَرْبَعَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَأَنَّ الْهِبَةَ تَنْفُذُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابِلَةِ، وَغَيْرِهَا. وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ بَيَانُ ذَلِكَ إلَى كِتَابِ الدُّورِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَأَخَوَاتُهَا تَعُودُ هُنَاكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ: وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ عَنْ الْهِبَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُعَوِّضُ لِلْخَمْرِ أَوْ الذِّمِّيّ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ، وَتَمَلُّكِهَا، فَهِيَ فِي حَقِّهِ - كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ - لَا تَصْلُحُ عِوَضًا. قَالَ: وَإِنْ صَارَتْ الْخَمْرُ خَلًّا فِي يَدِ الْقَابِضِ لَمْ تَصِرْ مُعَوَّضًا، وَيَرُدُّهُ إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ بَاطِلٌ، فَتَثْبُتُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فَإِذَا تَخَلَّلَتْ كَانَ الْخَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، وَأَصْلُ التَّعْوِيضِ لَمَّا بَطَلَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِالتَّخَلُّلِ، كَمَا لَوْ بَاعَ خَمْرًا مِنْ إنْسَانٍ فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَتَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ، كَمَا يَجُوزُ - ابْتِدَاءً - الْمُبَايَعَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا فِي حَقِّنَا. وَصِحَّةُ التَّعْوِيضِ تَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ. قَالَ: مُسْلِمٌ وَهَبَ لِمُرْتَدٍّ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا الْمُرْتَدُّ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ: جَازَتْ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَجُزْ تَعْوِيضُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ يَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ، أَوْ أُلْحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا هِبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي مَالِهِ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْهِبَةِ، فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَدْ مَاتَ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا - بِلَحَاقِهِ بِدَارٍ الْحَرْبِ - فَكَانَتْ الْهِبَةُ جَائِزَةً، وَقَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 بَطَلَ التَّعْوِيضُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعْوِيضُهُ صَحِيحٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا أَنَّ عِنْد أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ ثُلُثِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْوَاهِبُ، وَقَدْ عَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ هِبَتَهُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي مَالِهِ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَيْعًا يَبْطُل عِنْدَهُ إذَا مَاتَ فَتَصَرُّفه هِبَةٌ أَوْلَى، فَتُرَدُّ هِبَتُهُ إلَى وَرَثَتِهِ، وَيُرَدُّ عِوَضُهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا يُسَلِّمُ الْعِوَضُ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ دَيْنًا فِي مَالِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْآخَرُ عَلِمَ بِارْتِدَادِهِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ -؛ لِأَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْتَلِفُ بِعِلْمِ مَنْ عَامَلَهُ بِرِدَّتِهِ، وَجَهِلَهُ؛ فَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَحِقَ الْوَرَثَة، وَحَقُّهُمْ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ. قَالَ: وَإِذَا وَهَبَ الْمُرْتَدُّ لِلنَّصْرَانِيِّ هِبَةً، أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُرْتَدِّ عَلَى أَنَّ عَوَّضَهُ عَنْهَا خَمْرًا: فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ كَالْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ غَيْر مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ تَعْوِيضًا عَنْ الْهِبَةِ كَمَا يَبْطُلُ مِنْ الْمُسْلِمِ. قَالَ: وَإِذَا وَهَبَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَن هِبَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ مُسْلِمٌ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْتَأْمَنًا: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ، وَبَقَاء الْعَيْنِ عَلَى حَالِهِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ فِي أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا، فَلَا يَتَبَدَّلُ مِلْكُهُ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ سُبِيَ وَأُخِذَتْ الْهِبَةُ مِنْهُ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ بِالسَّبْيِ قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَالْمَوْهُوبُ صَارَ مِلْكًا لِلسَّابِي - بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِهِ - إذَا أَخَذَهُ مَعَهُ، فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ مَا بَقِيَ، وَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا مَالٌ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَأْخُذهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ حَضَرَ قَبِلَ الْقِسْمَةِ. قَالَ: وَإِنْ وَقَعَ الْحَرْبِيُّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ، وَصَلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ إلَيْهِ - بِشِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ - لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ كَانَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي مِلْكٍ حَدَثَ بِسَبَبِ آخَرَ، وَصَارَ اخْتِلَافُ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَسُبِيَ وَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ: لَمْ يَكُنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِالرِّقِّ؛ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقّ تَلَفٌ، وَبِمَوْتِ الْوَاهِبِ يَبْطُلُ الْحَقُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 فِي الرُّجُوعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ كَانَ مُعِيدًا لِلْعَيْنِ إلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ لَا إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ، وَبِالْهِبَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أُعْتِق لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ بَطَلَ - بِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا - وَالسَّاقِطُ مِنْ الْحَقِّ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ. قَالَ: حَرْبِيٌّ وَهَبَ لِحَرْبِيٍّ هِبَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، وَخَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ؛ فَإِنَّ بِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ كَانَ عَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ بِالْهِبَةِ، وَهُوَ وُصُولُ الْعِوَضِ إلَيْهِ. تَمَّ كِتَابُ الْهِبَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: انْتَهَى شَرْحُ الصِّفَارِ مِنْ الْفُرُوعِ مِنْ الِاسْتِحْسَانُ إلَى الْبُيُوعِ، بِالْمُؤْثَرِ مِنْ الْمُعَانِي مَعَ الْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ بِإِمْلَاءِ الْمُلْتَمِسِ لِرَفْعِ الْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ، الْمَنْفِيّ لِأَجْلِهِ الْمَحْصُورِ الْمَمْنُوعِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْكِتَاب الْمَجْمُوع الطَّالِب لِلْفَرَجِ بِالدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي بِالْبُكَاءِ {وَالدُّمُوعِ}، مَقْرُونًا بِالصَّلَاةِ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ الْجُمُوعِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْخُضُوعِ [كِتَابُ الْبُيُوعِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ سَبَبًا لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَشَرَعَ طَرِيقَ التِّجَارَةِ لِإِكْسَابِهَا؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ لَا يُوجَدُ مُبَاحًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَفِي الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَالُبِ فَسَادٌ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ {: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وَالتِّجَارَةُ نَوْعَانِ: حَلَالٌ يُسَمَّى فِي الشَّرْعِ بَيْعًا وَحَرَامٌ يُسَمَّى رِبًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِجَارَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ الْكَفَرَةِ إنْكَارَهُمْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا عَقْلًا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِجَارَةٌ وَأَنَّ الْحَلَالَ الْجَائِزَ مِنْهَا بَيْعٌ شَرْعًا. بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. وَانْعِقَادُ هَذَا الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَهُوَ بِقَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت فِي مَحَلَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 مُتَقَوِّمٌ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِسَابِ حَتَّى أَنَّ مَا يَدْخُلُهُ مَعْنَى التَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَلَوْ كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْنِي فَيَقُولَ الْآخَرُ بِعْت أَوْ يَقُولُ اشْتَرِ فَيَقُولُ الْآخَرُ اشْتَرَيْت لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ بِعِوَضٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْفَرْقُ لَنَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ النِّكَاحَ يَتَقَدَّمُهُ خُطْبَةٌ عَادَةً فَقَوْلُهُ زَوِّجِينِي نَفْسَك فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَا يُجْعَلُ خُطْبَةً لِأَنَّ الْخُطْبَةَ قَدْ تَقَدَّمَتْهُ فَيُجْعَلُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْبَيْعُ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ اسْتِيَامٍ؛ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: بِعْنِي: اسْتِيَامًا. فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْعَقْدِ بَعْدَهُ (وَالثَّانِي): أَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجِينِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ لِلْعَقْدِ إلَيْهَا؛ فَيُجْعَلُ قَوْلُهَا: زَوَّجْتُ: عَقْدًا تَامًّا؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّكَاحِ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، وَفِي الْبَيْعِ لَا يَتَأَتَّى مِثْلُ هَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُولِيًا عَلَيْهِ مِنْ الْآخَرِ. [أَنْوَاع الربا] فَأَمَّا الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الزِّيَادَةُ. يُقَالُ: أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ زَادَ عَلَيْهِ. وَيُسَمَّى الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ رَبْوَةً لِزِيَادَةٍ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: الرِّبَا: هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْبَيْعَ الْحَلَالَ مُقَابَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَالْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ إذَا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ كَانَ ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الْبَيْعُ فَكَانَ حَرَامًا شَرْعًا، وَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الرِّبَا: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا.} [البقرة: 275] وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِآكِلِ الرِّبَا خَمْسًا مِنْ الْعُقُوبَاتِ (أَحَدُهَا:) التَّخَبُّطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ.} [البقرة: 275] قِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْتَفِخُ بَطْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بِحَيْثُ لَا تَحْمِلُهُ قَدَمَاهُ، وَكُلَّمَا رَامَ الْقِيَامَ يَسْقُطُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَصَابَهُ مَسٌّ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَيَصِيرُ كَالْمَصْرُوعِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقُومَ. وَقَدْ وَرَدَ بِنَحْوِهِ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُمْلَأُ بَطْنُهُ نَارًا بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْ الرِّبَا.» وَالْمُرَادُ: أَنْ يَفْتَضِحَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ لِوَاءً يَنْتَصِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكَلَةِ الرِّبَا فَيَجْتَمِعُونَ تَحْتَهُ ثُمَّ يُسَاقُونَ إلَى النَّارِ». (وَالثَّانِي): الْمَحْقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]. وَالْمُرَادُ: الْهَلَاكُ وَالِاسْتِيصَالُ، وَقِيلَ: ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ؛ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ هُوَ بِهِ وَلَا وَلَدُهُ بَعْدَهُ. (وَالثَّالِثُ): الْحَرْبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.} [البقرة: 279] وَالْمَعْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ بِالْمَدِّ: أَعْلِمُوا النَّاسَ أَكَلَةَ الرِّبَا أَنَّكُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 الطَّرِيقِ. وَالْقِرَاءَةُ بِالْقَصْرِ اعْلَمُوا أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. (وَالرَّابِعُ): الْكُفْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.} [البقرة: 278] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ.} [البقرة: 276] أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلَالِ الرِّبَا أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْلِ الرِّبَا. (وَالْخَامِسُ): الْخُلُودُ فِي النَّارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِتَأْيِيدِ مَا قُلْنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْلُ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ. مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ». وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ بَيْعٌ شَرْعًا وَالْحَرَامِ الَّذِي هُوَ رِبًا وَلِهَذَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ أَلَا تُصَنِّفُ فِي الزُّهْدِ شَيْئًا قَالَ قَدْ صَنَّفْتُ كِتَابَ الْبُيُوعِ وَمُرَادَهُ بَيَّنْت فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَلَيْسَ الزُّهْدُ إلَّا الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْحَلَالِ وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا. وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا. وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا. وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا. وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا. وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا.» وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَلِشُهْرَتِهِ بَدَأَ مُحَمَّدٌ بِبَعْضِهِ كِتَابَ الْبُيُوعِ، وَبِبَعْضِهِ كِتَابَ الْإِجَارَاتِ، وَبِبَعْضِهِ كِتَابَ الصَّرْفِ. وَمِثْلُهُ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ تَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَنَا. وَدَارَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ ثُمَّ الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَحُكْمٍ وَمَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ. أَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ أَيْ: بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْإِعْوَاضَ وَالْإِبْدَالَ فَإِنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ. فَهُوَ دَلِيلُ فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَقَوْلِنَا: بِسْمِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: مِثْلٌ بِمِثْلٍ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. فَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالرَّفْعِ: بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ. وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالنَّصْبِ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اسْمِ الْمُمَاثَلَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ وَذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ: مِثْلًا بِمِثْلٍ: وَزْنًا بِوَزْنٍ، فَبِذَلِكَ اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ: قَوْلُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ الْمُمَاثَلَةُ قَدْرًا لَا صِفَةً. وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَسِّرُ بَعْضُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 بَعْضًا وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ سَوَاءٌ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ دُونَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التِّبْرَ لَا يُسَاوِي الْعَيْنَ فِي الصِّفَةِ وَإِنَّمَا يُسَاوِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ. وَقَوْلُهُ: يَدًا بِيَدٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: عَيْنًا بِعَيْنٍ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْضًا بِقَبْضٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْقَبْضُ هُنَا؛ لِبَيَانِهِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي الصَّرْفِ: مِنْ يَدِكَ إلَى يَدِهِ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى خَلْفِ السَّارِيَةِ فَلَا تَنْتَظِرْهُ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ السَّطْحِ، فَثِبْ مَعَهُ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضَ لَقَالَ: مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ: التَّعْيِينُ. إلَّا أَنَّ التَّعْيِينَ فِي النُّقُودِ لَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالْإِشَارَةِ فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ لِتَحْقِيقِ التَّعْيِينِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ هَا وَهَا أَيْ: هَذَا بِهَذَا. وَقَوْلُهُ: وَالْفَضْلُ رِبًا، يَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْقَدْرِ، وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْحَالِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادٌ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ: رِبًا أَيْ حَرَامٌ، أَيْ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ وَالْمُقَابَلَةِ إمَّا مُتَيَقَّنًا بِهِ عِنْدَ فَضْلِ الْقَدْرِ أَوْ مَوْهُومُ الْوُجُودِ عَادَةً لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ وَالنِّسْبَةِ فِي الْمَالِيَّةِ. وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَحْتَمِلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْكَيْلِ وَيَحْتَمِلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الصِّفَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ ذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ. فَهُوَ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ يَدًا بِيَدٍ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا: عَيْنٌ بِعَيْنٍ. وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهَا يَتِمُّ بِالْإِشَارَةِ وَقَوْلُهُ: وَالْفَضْلُ رِبًا يَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْقَدْرِ وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْحَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادٌ. وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ فَفِي الْحَدِيثِ حُكْمَانِ: حُرْمَةُ النَّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ بِجِنْسِهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَحُرْمَةُ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا الْبَتِّيَّ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ. وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَادَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 مَشَى إلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: إلَى مَتَى تُؤْكِلَ النَّاسَ الرِّبَا أَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يُصْحَبْ؟ أَسَمِعْتَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْمَعْ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ.» فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْتَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ. فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رُجُوعُهُ، فَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَعْدَهُ يَرْفَعُ قَوْلَهُ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: لَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ مُبَادَلَةِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ.» فَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّؤَالِ فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَسْمَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّؤَالِ أَوْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُودٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى يَتَعَدَّى الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ، إلَّا دَاوُد مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيَّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَإِنَّ دَاوُد يَقُولُ: حُكْمُ الرِّبَا مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْبَتِّيُّ يَقُولُ: بِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ وَلَكِنْ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُصُولِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ فِي كُلِّ أَصْلٍ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُمْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُنَا. وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُصُولِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الْقِيَاسَ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ، ثُمَّ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هُنَا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ وَذُكِرَ فِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرِّبَا». أَيْ الرِّبَا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّاعِ كَمَا يُقَالُ خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ: مَا فِيهِ وَوَهَبْتُ لِفُلَانٍ صَاعًا أَيْ: مِنْ الطَّعَامِ. وَفِي حَدِيثِ «عَامِلِ خَيْبَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرًا جَنِيًّا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي دَفَعْتُ صَاعَيْنِ مِنْ عَجْوَةٍ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْبَيْتَ. هَلَّا بِعْتَ تَمْرَك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَيْتَ بِسِلْعَتِكَ تَمْرًا، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ». يَعْنِي: مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ لَا غَيْرِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ». ثُمَّ لَمْ يُجَوِّزْ قِيَاسَ مَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ عَلَى الْخَمْسِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ، لِإِبْطَالِ الْمَنْصُوصِ. وَقَدْ نُصَّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْفَوَاسِقَ خَمْسٌ، فَلَوْ اشْتَغَلْنَا بِالتَّعْلِيلِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، فَيَكُونُ إبْطَالًا لِلْمَنْصُوصِ. وَهُنَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ الرِّبَا: سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذُكِرَ حُكْمُ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ. فَالِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَلِهَذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلَاتِ يَوْمَئِذٍ كَانَ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: كُنَّا نَتَبَايَعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْسَاقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا يَكْثُرُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْد ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: الْجِنْسِيَّةُ وَالْقَدْرُ. عُرِّفَتْ الْجِنْسِيَّةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ»، وَالْقَدْرُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْلَ فِيمَا يُكَالُ، وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ. وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْجِنْسِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ، وَذَلِكَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ قَفِيزِ حِنْطَةٍ فِي قَفِيزِ شَعِيرٍ، وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ النَّسَاءِ إلَّا بِوُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ هِيَ الْفَضْلُ لَمَا حَرُمَ النَّسَاءُ هُنَا لِانْعِدَامِ الْفَضْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ نَفْسُ الْقَدْرِ مَعَ الْجِنْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْعِلَّةُ الِاقْتِيَابُ وَالِادِّخَارُ مَعَ الْجِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: تُقَارَنُ الْمَنْفَعَةُ مَعَ الْجِنْسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: الْعِلَّةُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ وَالطَّعْمُ. وَقَالَ فِي: الْجَدِيدِ الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْعِلَّةُ الثَّمَنِيَّةُ، وَهُوَ أَنَّهُمَا جَوْهَرُ الْأَثْمَانِ. وَالْجِنْسِيَّةُ عِنْدَهُ شَرْطٌ لَا تَعْمَلُ الْعِلَّةُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَجْعَلُ لِلْجِنْسِيَّةِ أَثَرًا فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ، فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ: بَيْعَ كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُخَلِّصِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ، وَأَنْ يَكُونَ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَعِنْدَهُ بَيْعُ كُلِّ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ، وَكُلِّ ثَمَنٍ بِجِنْسِهِ حَرَامٌ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَلِّصِ وَهُوَ: الْمُسَاوَاةُ، فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْضًا بِقَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ عِنْدَهُ، وَالْجَوَازُ يُعَارِضُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِعْيَارِ مَعَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَعِنْدَنَا إبَاحَةُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالْفَسَادُ يُعَارِضُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 انْعِدَامَ الْمُمَاثَلَةِ بِوُجُودِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ مُتَيَقِّنًا بِهِ أَوْ مَوْهُومًا احْتِيَاطًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْلِيلِ عِنْدَهُ مَنْعُ قِيَاسِ غَيْرِ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِ الثَّمَنِ عَلَى الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّعْلِيلَ صَحِيحٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْمَنْعِ مِنْ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ، وَعِنْدَنَا التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ، فَالْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالْمَنْعُ بِظَاهِرِ النَّصِّ ثَابِتٌ. فَالِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ يَكُونُ لَغْوًا عِنْدَنَا. وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ: إذَا بَاعَ تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَتَيْنِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي بَيْعِهَا وَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِعَارِضٍ بِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ؛ لِانْعِدَامِ الْفَضْلِ عَلَى الْقَدْرِ - وَهُوَ الْمِعْيَارُ الشَّرْعِيُّ - وَالْحَرَامُ هُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ: فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ أَصْلٌ فِي الْبَيْعِ، وَالْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِعَارِضِ انْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ - وَهُوَ الْمِعْيَارُ الشَّرْعِيُّ - وَهَذَا لَا مِعْيَارَ لَهُ؛ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَوْ بَاعَ قَفِيزَ جِبْسٍ بِقَفِيزَيْ جِصٍّ، عِنْدَنَا: لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ. وَعِنْدَهُ: يَجُوزُ؛ لِعَدَمِ الطَّعْمِ. وَلَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِحَفْنَتَيْنِ، عِنْدَهُ: لَا يَجُوزُ؛ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَقَدْ عُدِمَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَعِنْدَنَا: يَجُوزُ لِعَدَمِ الْكَيْلِ مَعَ الْجِنْسِ وَلَوْ بَاعَ مَنَّا سُكَّرٍ بِمَنَوَيْ سُكَّرٍ، عِنْدَنَا: لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِ مَعَ الْقَدْرِ، وَعِنْدَهُ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوُجُودِ الطَّعْمِ مَعَ الْجِنْسِ. وَلَوْ بَاعَ مَنَّا قُطْنٍ بِمَنَوَيْ قُطْنٍ، عِنْدَنَا: لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ لِإِثْبَاتِ أَصْلِهِ مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَفِي هَذَا بِدَايَةٌ بِبَيَانِ النَّهْيِ وَالْمَنْعِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَبِيعُوا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِحَالٍ. فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ أَصْلٌ، وَأَنَّ الْجَوَازَ يُعَارِضُ الْمُسَاوَاةَ. بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْمُرَادُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَدْرِ. ثُمَّ اسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَمَا يُكَالُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَمَا لَا يُكَالُ فَثَبَتَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ». فَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِثْلًا بِمِثْلٍ» نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: إنَّمَا يَكُونُ بَيْعًا فِي حَالَةِ مَا يَكُونُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ فِيهَا، وَأَنَّ الْحِلَّ يُعَارِضُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرِّبَا الزِّيَادَةَ؛ فَقَدْ قَالَ عُمَرُ: إنَّ آيَةَ الرِّبَا آخِرُ مَا نَزَلَ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا شَأْنَهَا، وَإِنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى أَحَدٍ، مِنْهَا: السَّلَمُ فِي السِّنِّ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الِاسْمَ غُيِّرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 عَمَّا عَلَيْهِ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الرِّبَا الزِّيَادَةَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي السَّلَمِ فِي السِّنِّ زِيَادَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ الْعِوَضِ. وَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ فَضْلًا قَائِمًا فِي الذَّاتِ لِأَنَّ الْمَطْعُومَ إذَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الطَّعْمِ إلَّا نَادِرًا وَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَنْ النَّادِرِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ الْقَائِمُ فِي الذَّاتِ حَرَامٌ وَرِبًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ أَيْضًا. وَفِي ذِكْرِ الطَّعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْهُ مَعْنًى، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى، فَالْمَعْنَى الَّذِي اُشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَفِي قَوْله تَعَالَى {: والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَمِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ شَرْطَيْنِ: الْمُسَاوَاةَ وَالْيَدَ بِالْيَدِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ مَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ شَرْطَيْنِ - الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلشَّرْطَيْنِ مَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ خَطَرٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَا فِي حُكْمِ النُّفُوسِ. ثُمَّ هُنَا الْمَعْنَى يُنْبِئُ عَنْ الْخَطَرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِذَلِكَ، وَبِالثَّمَنِيَّةِ حَيَاةُ الْأَمْوَالِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ؛ لِأَنَّ بِالطَّعْمِ حَيَاةَ النُّفُوسِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ؛ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْجِنْسِيَّةَ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ وُجُودًا وَعَدَمًا كَمَا يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّأْثِيرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجِنْسِيَّةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ شَرْطًا لَا عِلَّةً. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّعْلِيلِ بِالْقَدْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ خَطَرٍ فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْجِصَّ شَيْءٌ هَيِّنٌ، يُكَالُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَيَاةُ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، إنَّمَا هُوَ مُعَدٌّ لِتَزَيُّنِ الْبِنَاءِ. وَلِأَنَّ الشَّرْعَ ذَكَرَ عِنْدَ بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا جَمِيعَ الْأَثْمَانِ، وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَذَكَرَ مِنْ الْمَطْعُومَاتِ أَنْفَسَ كُلِّ نَوْعٍ. فَالْحِنْطَةُ أَنْفَسُ مَطْعُومِ بَنِي آدَمَ، وَالشَّعِيرُ أَنْفَسُ عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَالتَّمْرُ أَنْفَسُ الْفَوَاكِهِ، وَالْمِلْحُ أَنْفَسُ التَّوَابِلِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ ذِكْرُ جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ، نَصَّ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى أَعْلَاهُ؛ لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ. فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الْعِلَّةَ الْقَدْرَ يَتَمَحَّضُ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكْرَارًا لِأَنَّ صِفَةَ الْقَدْرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَحَمْلُ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى مَا يُفِيدُ أَوْلَى. وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: الْعِلَّةُ: الِاقْتِيَاتُ، لِأَنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ كُلَّ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْعِلَّةُ: تَقَارُبُ الْمَنْفَعَةِ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ الشَّعِيرِ تَتَقَارَبُ فِي الْمَنْفَعَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ؛ امْتَنَعَ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَطْعُومَاتِ، وَغَيْرِ الْأَثْمَانِ عَلَى الْأَثْمَانِ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فِيهَا، وَلَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ الْقَدْرَ مُعْتَبَرًا فِي الْخَلَاصِ عَنْ الرِّبَا؛ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الشَّيْءُ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، بَلْ الْقَدْرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ، وَالزُّرُوعِ فِي الْمَزْرُوعَاتِ. فَكَمَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُ عِلَّةِ ذَلِكَ لِلرِّبَا فَكَذَلِكَ الْقَدْرُ. وَحُجَّتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِصِفَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ: الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، مَعْنَاهُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ. وَالْبَيْعُ لَا يَجْرِي بِاسْمِ الْحِنْطَةِ؛ فَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَالِيَّتَهَا وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُرَادَ: الْحِنْطَةُ الَّتِي هِيَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَا يُعْلَمُ مَالِيَّتُهَا إلَّا بِالْكَيْلِ فَصَارَتْ صِفَةُ الْكَيْلِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ. فَالِاسْمُ قَائِمٌ بِالذُّرَةِ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بِالْوَزْنِ كَالشَّعِيرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْوَزْنِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: الذَّهَبُ الْمَوْزُونُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ الْمَكِيلَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالصِّفَةُ مِنْ اسْمِ الْعَلَمِ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ». وَمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا مُتَقَوِّمًا؛ لِثُبُوتِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ بِمُقْتَضَى الْغَصْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ». ذَكَرَ الطَّعَامَ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَيْعِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا؛ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا، فَاشْتَرَى فَاكِهَةً يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ سُوقَ الطَّعَامِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَبَائِعُ الطَّعَامِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال فَيَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ النَّصِّ فَنَقُولُ حُكْمُ نَصِّ الرِّبَا؛ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِعْيَارِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ ضَرُورَةُ الْفَضْلِ؛ لِعَدَمِ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ رِبًا؛ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ لَا كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ: إنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ فَضْلٍ فِي الذَّاتِ ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ لِإِزَالَةِ فَضْلٍ حَرَامٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَقَدْ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ جَعَلَ الْفَضْلَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْفَضْلُ رِبًا» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ». وَبِالْإِجْمَاعِ: الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 الْمَعْنَى فَسَادُ الْبَيْعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ مَحَلِّهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ لَا يَكُونُ مَالَ الرِّبَا أَصْلًا وَالْحَفْنَةُ وَالتُّفَّاحَةُ لَا تَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ الرِّبَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ الرِّبَا إلَّا مَقْرُونًا بِالْمُخَلِّصِ فَكُلُّ عِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي مَحَلٍّ لَا يَقْبَلُ الْمُخَلِّصَ أَصْلًا فَهِيَ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ وَالطَّعْمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُخَلِّصُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» كَلَامٌ مُقَيَّدٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِإِخْرَاجِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ الْقَابِلُ لِلْمُمَاثِلَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ أَصْلًا. فَإِنْ قَالَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَقْطُوعٌ بِمَعْنَى: لَكِنْ إنْ جَعَلْتُمُوهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ فَبِيعُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ وَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمُمَاثِلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ يَمْلِكُهُ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَخْوَةٍ أَوْ قَدْ أَكَلَهَا السُّوسُ يَجُوزُ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِفَضْلٍ فِي الذَّاتِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ فَإِنْ قَالَ: سَقَطَ اعْتِبَارُ الْفَضْلِ الْقَائِمِ فِي الذَّاتِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ قُلْنَا هَذَا جَائِزٌ وَلَكِنْ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ فِي الذَّاتِ وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْفَضْلَ الَّذِي هُوَ رِبًا بَعْدَ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إسْقَاطِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً خُصُوصًا فِيمَا إذَا بَنَى أَمْرَهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الرِّبَا وَاَلَّذِي قَالَ: إنَّ الِاسْمَ غُيِّرَ عَمَّا عَلَيْهِ مُقْتَضَى اللُّغَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ دَعْوَى الْمَجَازِ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا إلَّا بِدَلِيلٍ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى أَحَدٍ، مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ مَا كَانُوا اعْتَادُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُسَلِّمُ فِي ابْنَةِ مَخَاضٍ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادَهُ فِي السِّنِّ وَجَعَلَهُ ابْنَةَ لَبُونٍ لِيَزِيدَهُ فِي الْأَجَلِ ثُمَّ يَزِيدَهُ إلَى سِنِّ الْحُقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ خَالِيَةٌ عَنْ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْمُرَادَ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْحَيَوَانُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَرَأْسِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عِنْدَ الْقَبْضِ يَتَمَكَّنُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَالْمَوْصُوفِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا خَالِيَةٌ عَنْ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَلِهَذَا جُعِلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ سَلَّمُوا أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَبْقَى لَهُمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمُمَاثَلَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا فَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْأَمْوَالَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي نَفْسِهَا كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ فَلَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا لِلْمُبَايَعَةِ وَأَمْثَالٍ مُتَقَارِبَةٍ كَالسِّهَامِ وَلَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا أَيْضًا لِلْمُبَايَعَةِ وَأَمْثَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ كَالْفُلُوسِ الرَّابِحَةِ وَتَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا حَتَّى إذَا بَاعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّسَنَةِ فَإِنَّ بَيْعَ فَلْسٍ بِفَلْسٍ جَائِزٌ بَلْ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ إحْدَى الْفَلْسَيْنِ يَبْقَى بِغَيْرِ شَيْءٍ لَمَّا كَانَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِصِفَةِ الرَّوَاجِ فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبًا وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَعْرَضَا عَنْ الِاصْطِلَاحِ عَلَى كَوْنِهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَتَصِيرُ أَمْثَالًا مُتَقَارِبَةً كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الشَّرْعُ هُنَا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ فِي الدُّنْيَا مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالْمُمَاثَلَةُ صُورَةٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْمِعْيَارَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ كَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْمُمَاثَلَةِ مَعْنِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِيَّةِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَكُونُ قَطْعًا إلَّا بِشَرْطٍ وَهُوَ سُقُوطُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ الْآخَرِ وَإِذَا سَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ مِنْهَا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا فَإِنَّمَا يُقَابَلُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ رِبًا فَإِذَا جُعِلَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنَّ الْفَضْلَ الْخَالِيَ عَنْ الْمُقَابَلَةِ هُنَاكَ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالشَّرْطِ حَتَّى لَوْ بَاعَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ ثَوْبًا آخَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَضْلُ يَظْهَرُ بِالشَّرْطِ وَهُنَا يَظْهَرُ شَرْعًا لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فَثَبَتَ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ لِهَذَا الْحُكْمِ بِالتَّأْثِيرِ فِي إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ وَهُوَ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ وَإِنَّ شَرْطَ عَمَلِ الْعِلَّةِ سُقُوطُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا وَهَذَا شَرْطٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ وَبِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيَّةٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ وَمَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَمَّا فَسَدَ بِتَقَوُّمِهِ شَرْعًا كَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ ثُمَّ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ وَعَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ أَنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ فَضْلٍ فِي الذَّاتِ يَكُونُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ فَالْبَيْعُ مَا شُرِعَ إلَّا لِطَلَبِ الرِّبْحِ وَالْفَضْلِ فَالْفَضْلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ حَلَالٌ كَكَسْبِهِ بِالْبَيْعِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ حَرَامًا بِالرَّأْيِ وَإِنْ أَرَدْتَ تَحْرِيرَ النُّكْتَةِ قُلْتُ التُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ مَالٌ لَمْ يَسْقُطْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ مِنْهُ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْفَ مَا كَانَ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ ثُمَّ تَقْرِيرُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِهَذَا يُعَلَّلُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْحَفْنَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ فَنَقَصَتْ عِنْدَهُ لَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ مَعَ أَخْذِ حِنْطَتِهِ وَلَوْ كَانَ لِلْجَوْدَةِ مِنْهَا قِيمَةٌ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا قُلْنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَفْنَةَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَيْسَ لِلْحَفْنَةِ مِعْيَارٌ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْقِيمَةَ فِي الْحِنْطَةِ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ قِيمَةِ هَذَا الْمَغْصُوبِ مِنْ اعْتِبَارِ الْكَثِيرِ وَهُوَ الْقَفِيزُ وَعِنْدَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ النُّقْصَانِ لِيُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ بِالْحِرْزِ فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ وَيَكُونُ شَرْطُ الِاسْتِيفَاءِ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ عِنْدَ إنْسَانٍ فَأَرَادَ الْمَوْلَى إمْسَاكَ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا: لَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِقَفِيزٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَفِيزَ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مِنْهُ فَتَكُونُ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ الْآخَرَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقَفِيزِ وَبِدُونِ اعْتِبَارِهِ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةً فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا فَسَادُ عِلَّةِ الْخَصْمِ بِالطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَإِنَّهَا عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ لَا تَتَعَدَّى إلَى الْفُرُوعِ؛ وَلِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحُكْمَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ؛ وَلِأَنَّ الطَّعْمَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ وَكَذَلِكَ الثَّمَنِيَّةُ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَتَأْثِيرُ الْحَاجَةِ فِي الْإِبَاحَةِ لَا فِي الْحُرْمَةِ كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ تَحِلُّ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ مَا حَرَّمَ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا حَرَّمَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ بَذْلَةٌ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَجُوزَ تَنَاوُلُهَا بِدُونِ الْمِلْكِ بِالْإِبَاحَةِ وَبِالْمِلْكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ بِخِلَافِ الْبُضْعِ فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ يَلْحَقُ بِالنُّفُوسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي النِّكَاحِ زِيَادَةُ شَرْطٍ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ مَا قَالَ: إنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 مِنْ فِعْلٍ إذَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ عِلَّةً إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَإِذَا كَانَتْ الثَّمَنِيَّةُ وَالطَّعْمُ يُنْبِئَانِ عَنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ فَلَا يَصْلُحَانِ أَنْ يَكُونَا عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ وَاَلَّذِي قَالَ: إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَّ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ قُلْنَا قَدْ نَصَّ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةً وَذَلِكَ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ ثُمَّ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ فِي الْقَدْرِ كَالصَّاعِ وَالْقَفِيزِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي النُّقُودِ الثَّمَنِيَّةَ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ إذْ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الثَّمَنِيِّةِ وَالطَّعْمِ وَاَلَّذِي قَالَ: الْقَدْرُ عِلَّةٌ لِلْخَلَاصِ لَا كَذَلِكَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ فَحَيْثُ مُفْسِدٌ إنَّمَا يَفْسُدُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ لِذَلِكَ فَإِمَّا جَوَازٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمُخَلِّصِ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا مُخَلِّصًا فَهُوَ مُخَلِّصٌ فِي حَالَةِ التَّسَاوِي وَعِلَّةُ الرِّبَا فِي حَالَةِ الْفَضْلِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ كَالنِّكَاحِ يُثْبِتُ الْمَحَلَّ لِلْمَنْكُوحَةِ وَالْحُرْمَةَ فِي أُمِّهَا وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَدْرَ مُخَلِّصًا لِأَنَّ الْخَلَاصَ عَنْ الرِّبَا بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَكَذَلِكَ الْوُقُوعُ فِي الرِّبَا بِالْفَضْلِ عَلَى الْقَدْرِ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَرُبَّمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّ الْحَفْنَةَ مُقَدَّرَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهَا إلَّا بِضَمِّ أَمْثَالِهَا إلَيْهَا وَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِقْدَارًا كَالصُّبْرَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ فَإِذَا ضُمَّ إلَى الْحَفْنَةِ أَمْثَالُهَا وَكِيلَتْ يَصِيرُ مِقْدَارُ الْقَفِيزِ مَعْلُومًا لَا مِقْدَارَ الْحَفْنَةِ بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ فَإِنَّهَا إذَا فُرِّقَتْ أَجْزَاءً وَكِيلَتْ يَصِيرُ مِقْدَارُ الصُّبْرَةِ مَعْلُومًا فَأَمَّا عِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إمَّا الْجِنْسُ أَوْ الْقَدْرُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ -: «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» فَقَدْ أُلْغِيَ رِبَا النَّسَاءِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْجِنْسِيَّةِ لِبَقَاءِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَالِفُنَا فِيمَا هُوَ الْعِلَّةُ عِنْدَهُ أَيْضًا وَإِنَّمَا يُخَالِفُنَا فِي الْجِنْسِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْفَضْلَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ وَلَا تُسْلِمْ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُوزَنُ وَلَا مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ نَسِيئَةً وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِي نَسِيئَتِهِ وَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُ: أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الْمُرَادُ إذَا كَانَ الْمَوْزُونُ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 بِأَنْ يَكُونَ مَبِيعًا مَضْبُوطًا بِالْوَصْفِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْحِنْطَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّقْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِالتَّعَيُّنِ فَأَمَّا عِنْدَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا أَسْلَمَا، قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: يَكُونُ هَذَا عَقْدًا بَاطِلًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَقُولُ إنَّهُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ وَقَدْ قَصَدَا مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ مُؤَجَّلَةً وَمَا ذَكَرَهُ عِيسَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي أَوْجَبْنَا الْعَقْدَ فِيهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوجِبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَوْزُونِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِانْعِدَامِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا إذْ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَلَا فِي الْقَدْرِ وَالْمَوْزُونِ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَقَوْلُهُ: وَلَا تُسَلِّمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْضًا بَلْ الْمُرَادُ إذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى بِأَنْ كَانَا مُثَمَّنَيْنِ كَالزَّعْفَرَانِ مَعَ الْقُطْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَعْنَى فَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْحَدِيدِ أَوْ الْقُطْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ: الْجَوَازُ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ النُّقُودِ عَادَةً وَالْحَاجَةُ تَمَسُّ إلَى إسْلَامِهَا فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ جَمِيعًا وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَحُكْمًا فَإِنَّ الْوَزْنَ فِي النُّقُودِ لَيْسَ نَظِيرَ الْوَزْنِ فِي الزَّعْفَرَانِ فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْإِنَاءِ وَيَكُونُ مُثَمَّنًا يَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالنَّقْدُ يُوزَنُ بِالصَّنَجَاتِ وَيَكُونُ ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ صِفَةُ الْوَزْنِ يَلْزَمُ فِي الزَّعْفَرَانِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى زَعْفَرَانًا بِشَرْطِ الْوَزْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَزِنَهُ وَلَا يَلْزَمُ فِي النُّقُودِ حَتَّى لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِدِرْهَمٍ بِشَرْطِ الْوَزْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَزِنَهُ فَمَا كَانَ هَذَا إلَّا نَظِيرَ الْمَوْزُونِ مَعَ الْمَكِيلِ فَإِنَّهُمَا اسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَدَّرٌ صُورَةً وَلَكِنْ لَمَّا اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ جُوِّزَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ النُّقُودُ مَعَ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ [إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ] وَقَوْلُهُ: وَلَا مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي قَدْرٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ: وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ هَذَا مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ لِانْعِدَامِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْفَضْلِ وَقَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِهِ نَسِيئَةً هَذَا غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ إذَا كَانَ مَا يُجْعَلُ مُسْلَمًا فِيهِ يَصِيرُ مَضْبُوطًا بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَحِقُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي جَوْهَرَةٍ أَوْ دُرَّةٍ لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ هَذَا مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا بَأْسَ بِبَيْعِ النَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ وَالْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ يَدًا بِيَدٍ» وَقَوْلُهُ: لَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً هُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْجِنْسَ عِنْدَنَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ يَجُوزُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي مَرْوِيٍّ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَالْكُلُّ عِنْدَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ يَجْعَلُ الْهَرَوِيَّ وَالْمَرْوِيَّ جِنْسًا وَاحِدًا وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَيْضًا أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِتَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ. لَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَطَفَ الشَّعِيرَ عَلَى الْحِنْطَةِ ثُمَّ قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ فَكَذَلِكَ) بَيَانٌ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الْمَصْنُوعُ مِنْ أَصْلٍ لَا يَكُونُ جِنْسًا لِلْأَصْلِ كَالْقُطْنِ مَعَ الثَّوْبِ فَكَيْفَ يَكُونُ جِنْسًا لِمَصْنُوعٍ آخَرَ عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِاتِّحَادِ الْأَصْلِ لَا تَثْبُتُ الْمُجَانَسَةُ وَبِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لَا تَنْعَدِمُ الْمُجَانَسَةُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَالْحِنْطَةُ الْعَفِنَةُ مَعَ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ السَّقْيُ مَعَ التَّجَنُّبِيِّ وَالْفَارِسِيِّ مَعَ الدَّقَلِ فِي التَّمْرِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّمَا بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَّزَ جَيْشًا فَفَرَّتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا يُقَالُ لَهُ: عُصْفُورٌ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إلَى أَجَلٍ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ جَمَعَ بَيْنَ بَدَلَيْنِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ عَيْنًا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْمَرْوِيِّ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ بِاعْتِبَارِ التَّأْجِيلِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ حُكْمًا وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ حَقِيقَةً أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ حُكْمًا فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ فِي هَذِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 الْأَمْوَالِ حَقِيقَةً لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ فَالتَّفَاوُتُ حُكْمًا أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا فِي خَاصٍّ مِنْ الْأَمْوَالِ وَجَعْلِ الْجِنْسِيَّةِ عِلَّةً تُؤُدِّيَ إلَى تَعْمِيمِ حُكْمِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَالٍ فَمَا مِنْ مَالٍ إلَّا وَلَهُ جِنْسٌ فَمَا كَانَتْ الْجِنْسِيَّةُ إلَّا نَظِيرَ الْمَالِيَّةِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَالِيَّةِ عِلَّةَ الرِّبَا فَكَذَلِكَ الْجِنْسِيَّةُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» وَلَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى النَّسِيئَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»؛ وَلِأَنَّهُ إذَا قِيلَ بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّسِيئَةُ فِي الْبَدَلِ خَاصَّةً وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَوْا مِنْ الْآثَارِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَجْهِيزُ الْجَيْشِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَقِلُّ الْآلَاتُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعِزَّتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ثَمَّ، قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ) فَقَدْ أَبْقَى رِبَا النَّسَاءِ لِبَقَاءِ مَا هُوَ قَرِيبُهُ وَهُوَ الْجِنْسُ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى ثُبُوتِ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالنَّصِّ ثُمَّ خُصَّ جِنْسُ أَحَدِهِمَا بِحُكْمٍ كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْآخَرِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ اجْعَلْ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا يَكُونُ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا وَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ رِبَا النَّسَاءِ بِرِبَا الْفَضْلِ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّ رِبَا النَّسَاءِ أَعَمُّ حَتَّى يَثْبُتَ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ رِبَا الْفَضْلِ وَلَيْسَ الْجِنْسُ كَالْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَالِيَّةِ عِلَّةً تُؤُدِّيَ إلَى تَعْمِيمِ الرِّبَا فِي الْبُيُوعِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالشَّرْعُ فَصَلَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالِيَّةَ لَيْسَتْ بَعْلَةٍ فِيهِ وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْجِنْسِيَّةِ عِلَّةً تَعْمِيمُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولٍ تَنْعَدِمُ فِيهَا الْجِنْسِيَّةُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَا دَلِيلُ فَسَادِهَا وَلِأَنَّ إسْلَامَ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ يُؤَدِّي إلَى إخْلَاءِ الْعَقْدِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَإِلَى أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا وَإِلَى فَضْلٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقٍّ بِالْبَيْعِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْحَالِ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ يَرُدُّ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ السَّلَمِ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا شَيْئًا وَيَكُونُ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا وَإِذَا أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ لَوْ جَوَّزْنَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 ذَلِكَ لَكَانَ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَثَوْبًا آخَرَ فَالثَّوْبُ الْآخَرُ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ كَيْلًا مَعْلُومًا وَأَجَلًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مِنْ الطَّعَامِ وَسَطًا أَوْ رَدِيًّا أَوْ جَيِّدًا وَاشْتَرَطَ الْمَكَانَ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (اعْلَمْ بِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ لِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ) لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَتَأْخِيرُ الْآخَرِ كَالصَّرْفِ وَقِيلَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ أَوَانَ الْبَيْعِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِي الْعَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي مِلْكِهِ فَلِكَوْنِ الْعَقْدِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ سُمِّيَ سَلَمًا وَسَلَفًا وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَبَيْعُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ بَاطِلٌ فَبَيْعُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - أُنْزِلَ فِيهِ أَطْوَلُ آيَةٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ جَوَّزَهُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُعَجِّزِ لَهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ إقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَ الْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ بِالْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَبِالْأَجَلِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَجِيءِ أَوَانِ الْحَصَادِ فِي الطَّعَامِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَقَالَ: - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَقَدْ قَرَّرَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ [شَرَائِط السَّلَم] وَبَيَّنَ شَرَائِطَهُ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ الشَّرَائِطُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعَةٌ (إعْلَامُ) الْجِنْسِ فِي الْمُسْلَمَ فِيهِ (وَإِعْلَامُ النَّوْعِ) (وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ) وَ (إعْلَامُ الصِّفَةِ) وَ (إعْلَامُ الْأَجَلِ) وَ (إعْلَامُ الْمَكَانِ) الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَإِعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِعْلَامِ الْقَدْرِ بِأَنَّ تَرْكَ إعْلَامِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْبَائِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَنْ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَجِبُ إزَالَتُهَا بِالْإِعْلَامِ وَجَهَالَةُ الْجِنْسِ تُفْضِي إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِإِعْلَامِ الْأَشْيَاءِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُعْطَى إلَّا أَدْنَى الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْجِنْسِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ النَّوْعِ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي تَمْرٍ فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُعْطِيهِ الدَّقَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِالْفَارِسِيِّ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ النَّوْعِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي الْحِنْطَةِ فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِحِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُسْلِمُ إلَّا الرَّدِيءَ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْحِنْطَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِيَصِيرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا لَهُ فَأَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَجَلُ يَثْبُتُ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ عِنْدَنَا حَالًّا فِي الْمَوْجُودِ فَأَمَّا فِي الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ فَأَثْبَتَ فِي السَّلَمِ رُخْصَةً مُطْلَقَةً وَاشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ فِيهِ لَا يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ الْأَجَلُ فِيهِ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَتَسْلِيمُ الدَّيْنِ بِالْمِثْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْتِزَامِ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِذَا قِيلَ السَّلَمُ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ وَالتَّسْلِيمِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ أَوَّلًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ، قَالَ: (فَإِنِّي لَا أُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ غَيْرَ مَالِكٍ لِشَيْءٍ) فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ إلَّا بِمُدَّةٍ فَلِهَذَا لَا أُجَوِّزُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَأَمَّا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حُرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَالظَّاهِرُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدَمًا فِي الْعَالَمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِوُجُودِهِ فِي أَوَانِهِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ إلَّا مُؤَجَّلًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَقَدْ شُرِطَ لِجَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ الْأَجَلِ كَمَا شُرِطَ إعْلَامُ الْقَدْرِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَسْلَمَ مُؤَجَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي السَّلَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَجَلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الشَّيْءِ تَيْسِيرٌ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ وَالْمَانِعُ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ بِإِقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ أَوْ بِمَجِيءِ زَمَانِ الْحَصَادِ وَهُوَ كَالرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْمَسْحِ مُقَامَ الْغُسْلِ لِلتَّيْسِيرِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: فَإِنَّا نَقُولُ: بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ قِيلَ السَّلَمُ فِي الْمَعْدُومِ حَالًّا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِنْ عُقُودِ الْمَفَالِيسِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ لَكَانَ يَبِيعُهُ بِأَوْفَى الْأَثْمَانِ وَلَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ بِدُونِ الْقِيمَةِ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِسْقَاطِ مُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ وَالْإِرَاءَةِ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اسْتَثْنَى السَّلَمَ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبِالْإِجْمَاعِ الْمُرَادُ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّ مَا فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ السَّلَمِ فِيمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَبِالْعَقْدِ لَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ لَا لَهُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا تَكُونُ قُدْرَتُهُ بِالِاكْتِسَابِ وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى مُدَّةٍ فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَإِذَا كَانَ حَالًّا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَجِبُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ حَالًّا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُعَاوَضَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَتَّضِحُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَإِنْ أَوَّلَ التَّسَلُّمَيْنِ فِي الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّلَمَ اخْتَصَّ بِالدَّيْنِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْعَيْنِ الدَّيْنَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الدَّيْنُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْأَجَلُ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْعَيْنِ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَصَّ السَّلَمُ بِالدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ فَأَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ إرْفَاقٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَأَمَّا السَّلَمُ عَقْدُ تِجَارَةٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 إلَّا مُؤَجَّلًا وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ أَدْنَى الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا لِلْأَجَلِ بِالْخِيَارِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلَ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ قَالَ: أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرٌ. اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ الْمَدِينُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ فَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ فَأَمَّا تَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ فَنَقُولُ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَكُونُ التَّعْجِيلُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ فَيَكُونُ هَذَا بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» يَعْنِي: النَّسِيئَةَ بِالنَّسِيئَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا هَلْ يَكُونُ التَّعْجِيلُ شَرْطًا الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ شَرْطًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعُرُوضَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ فَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدِّينِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسَامِيهَا لُغَةً وَمِنْ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ عَبَّرَ وَقَالَ: شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ فَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ إنْ بَيَّنَ مَكَانًا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانُ لِلْإِيفَاءِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ يَتَعَيَّنْ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ لِإِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَوْضِعِ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِرَبِّ السَّلَمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالتَّسْلِيمُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِالسَّوَادِ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا مَوْضِعَ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ يَجِبُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حُكْمِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَبِأَنْ جَازَ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْآجِلِ وَالْمُطْلَقِ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ ثَبَتَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَتَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ عَقِيبَهُ ثُمَّ يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ كَزَمَانِ التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَالسَّلَمُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ التَّسْلِيمُ عَقِيبَ الْعَقْدِ فِيهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي أَنَّهُ فِي أَيِّ مَكَان يَكُونُ ثُمَّ قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ عُقِدَ عَقْدُ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ) هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لِتَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ كَمَكَانِ الْبَيْعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي السَّوَادِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا فِي الْمِصْرِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَمَّا أَجَازَ هُنَا بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْعَقْدُ بِتَسْلِيمِهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ ثُمَّ هُنَاكَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ سَلَّمَ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ كَانَ صَحِيحًا فَأَمَّا فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمَا يُسَلِّمُ إلَيْهِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَيَّنَّا الْمَكَانَ أَوْ لَمْ نُبَيِّنْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَالْمَالِيَّةُ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤَنَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ إنَّمَا تَخْتَلِفُ لِعِزَّةِ الْوُجُودِ وَكَثْرَةِ الْوُجُودِ فَأَمَّا فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ وَالْحَطَبَ مَوْجُودٌ فِي الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ جَمِيعًا ثُمَّ يَشْتَرِي فِي الْمِصْرِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِهِ فِي السَّوَادِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ مَالِيَّةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِاخْتِلَافِهِ فَإِعْلَامُهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ (أَحَدُهَا) السَّلَمُ (وَالثَّانِي) إذَا بَاعَ عَبْدًا بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ (وَالثَّالِثُ) إذَا اسْتَأْجَرَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 دَارًا بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الدَّارِ لِلِاسْتِيفَاءِ لَا مَوْضِعَ الْعَقْدِ (وَالرَّابِعُ) إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ وَالْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَشَرْطُ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى عَيْنِهِ تَكْفِي وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَانْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ كَمَا فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَكَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ كَانَ جَائِزًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَوْ كَانَ ثَوْبًا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ ذُرْعَانِهِ وَالذَّرْعُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِلْإِعْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَمَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذِّرَاعِ إذَا كَانَ ثَوْبًا ثُمَّ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِكَوْنِهِ عَيْنًا فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ قَدْرِهِ كَالسَّلَمِ فِيهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤُدِّيَ إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ زُيُوفًا فَيَرُدُّهُ وَلَا يَسْتَنِدُ لَهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدُّوا لَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ وَفِي كَمْ بَقِيَ وَإِذَا كَانَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا بِوَزْنِ الْمَرْدُودِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ وَمَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْهُومًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَكَايِيلِ فَإِذَا هَلَكَ صَارَ مِقْدَارُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَجْهُولًا فَكَذَلِكَ هُنَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْجَهَالَةِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا؛ لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ صِفَةٌ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا تُسَلَّمُ لَهُ الزِّيَادَةُ وَلَوْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذَّرِعَانِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ إعْلَامُهُ ثُمَّ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ ذَرْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الثَّوْبِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ تَعْجِيلَ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا عَدَّدْنَا الشَّرَائِطَ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ وَتَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ قَبْلَ تَعْجِيلِ رَأْسِ الْمَالِ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ طَعَامَ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ أَرْضٍ خَاصَّةٍ لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ «زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ أَسْلَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّمْرِ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي تَمْرِ حَائِطِ فُلَانٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا حَائِطُ فُلَانٍ فَلَا أُسْلِمُ إلَّا فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ» وَفِي مِثْلِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ ثَمَرَتَهُ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَلَا يُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ إلَّا بِوُجُودِ الثِّمَارِ فِي تِلْكَ النَّخْلَةِ أَوْ الْحَائِطِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَوُجُودُ ذَلِكَ مَوْهُومٌ وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ أَرْضًا لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ وَبَعْضَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ عِنْدَنَا) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (وَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَيَسْتَرِدُّ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ) لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك» فَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَأْخُذْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ فَقَدْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ فِي الْكُلِّ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَخْذَ رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ وَلَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ جَازَ فَلِذَلِكَ إذَا أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ يَجُوزُ أَيْضًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَخَذَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاسْتِبْدَالِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ وَكَانَ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ يَكُونُ عَادَةً وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يَنْدَمَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ فَاتَ مَقْصُودُ رَبِّ السَّلَمِ وَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 الرِّبْحُ فَأَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ انْتِدَابًا إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَاسْتَوْفَى بَعْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيُحَصِّلَا مَقْصُودَهُ فِي الرِّبْحِ فَفِيهِ النَّظَرُ لَهُمَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ، [السَّلَمُ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ] قَالَ: (وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا لَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْبُوطًا بِوَصْفِهِ مَعْلُومًا بِقَدْرِهِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ إلَى حِينِ أَجَلِهِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَمَا لَا فَلَا وَقِيلَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى عَلَى حُصُرٍ مُتَقَارِبَةٍ وَيَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَقِيلَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ كَمِّيَّتِهِ اجْتِهَادًا وَكَيْفِيَّتِهِ ضَرُورَةً يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَالْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرَّطْبَةِ وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزُمًا وَلَا جُرُزًا وَأَوْقَارًا؛ لِأَنَّ هَذَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ طُولُهُ وَعَرْضُهُ وَغِلَظُهُ فَإِنَّ الْأَوْقَارَ تَخْتَلِفُ وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ) مَعْنَاهُ إذَا بُيِّنَ طُولُ مَا تُشَدُّ بِهِ الْحُزْمَةُ أَنَّهُ ذِرَاعٌ أَوْ شِبْرٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَنَا) وَقَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالْوَزْنِ وَالصِّفَةِ بِالذِّكْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجُلُودُ لَا تُوزَنُ عَادَةً وَلَكِنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَكَارِعِ وَالرُّءُوسِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَدَمِ وَالْوَرَقِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ مِنْ الْوَرَقِ وَالصُّحُفِ وَالْأَدَمِ ضَرْبًا مَعْلُومَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْدَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَكَذَلِكَ الْأَدَمُ إذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ إذَا بُيِّنَ الْجِنْسُ وَالنَّوْعُ وَالصِّفَةُ وَالسِّنُّ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَقْرَضَ بَكْرًا وَقَضَاهُ رُبَاعِيًّا وَقَالَ: خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» وَالسَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَبِيعٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ عَيْنًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ إذَا سَمَّى الْإِبِلَ صَارَ الْجِنْسُ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ: حَيَوَانٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 صَارَ النَّوْعُ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ: جَذَعٌ أَوْ ثَنِيٌّ يَصِيرُ السِّنُّ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ: ثَمِينٌ تَصِيرُ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً وَإِعْلَامُ الشَّيْءِ مِنْ الْأَعْيَانِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ إعْلَامُ الْعَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ ذَلِكَ جَوَازُ نَفْعٍ فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي الذَّبَائِحِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ اسْتَوْصَفُوا الْبَقَرَةَ فَوَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَأَدْرَكُوهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ حَيْثُ قَالُوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إلَيْهِ» فَقَدْ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْ الْحَيَوَانِ كَالْمَرْئِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا وَأَنَّ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ فِي الْحَيَوَانِ تُسْمَعُ بِذِكْرِ الصِّفَةِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ فَالسَّلَمُ فِي الصِّغَارِ مِنْ اللَّآلِئِ يَجُوزُ وَزْنًا أَمَّا الْكِبَارُ مِنْهَا فَلَا يُمْكِنُ إعْلَامُهَا لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ التَّدْوِيرَ وَالصَّفَاءَ وَالْمَاءَ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَإِذَا بَالَغَ فِي بَيَانِهِ يَصِيرُ بِذَلِكَ عَدِيمَ النَّظِيرِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: (بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) وَإِنَّمَا فُسِّرَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ فَأَسْلَمَهَا زَيْدٌ إلَى عَتْوِيسَ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي قَلَانِصَ مَعْلُومَةٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ اُرْدُدْ مَالَنَا لَا نُسْلِمُ أَمْوَالَنَا فِي الْحَيَوَانِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ آثَارِهِمْ وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا فَالْمُرَادُ اسْتَعْجَلَ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهَا فَرَدَّهَا رُبَاعِيًّا أَوْ اسْتَقْرَضَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِبَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ مَجْهُولٌ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الْحَلَقَاتِ أَوْ الْجَوَاهِرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْخَصْمُ يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فَرَسَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي السِّنِّ وَالصِّفَةِ ثُمَّ تَشْتَرِي أَحَدَهُمَا بِأَضْعَافِ مَا تَشْتَرِي بِهِ الْآخَرَ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ كَالْهَمْلَجَةِ وَشِدَّةِ الْعَدْوِ وَكَذَلِكَ فِي الْبَعِيرَيْنِ وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ لَا يَخْفَى فَإِنَّ الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِي السِّنِّ وَالصِّفَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْمَالِيَّةِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الذِّهْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 وَالْكِيَاسَةِ. وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ: رُبَّ وَاحِدٍ يَعْدِلُ أَلْفًا زَائِدًا ... وَأُلُوفٌ تَرَاهُمْ لَا يُسَاوُونَ وَاحِدًا وَكَمَا أَنَّ الْعَيْنَ مَقْصُودٌ، فَالْمَالِيَّةُ أَيْضًا مَقْصُودَةٌ، بَلْ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَذَلِكَ بِالْمَالِيَّةِ يَكُونُ. فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ بِذِكْرِ الْأَوْصَافِ لَا يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ؛ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِخِلَافِ الثِّيَابِ فَإِنَّهَا مَصْنُوعُ بَنِي آدَمَ. فَمَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا، وَالثِّيَابُ إذَا نُسِجَتْ فِي مِنْوَالٍ وَاحِدٍ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا يَسِيرًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ فِي الْحِنْطَةِ فِي الْمَالِيَّةِ. فَأَمَّا الْحَيَوَانُ مَصْنُوعُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَوْ بَالَغَ فَاسْتَقْصَى فِي بَيَانِ وَصْفِهِ يَصِيرُ عَدِيمَ النَّظِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ أَقْرَبَ الْحَيَوَانَاتِ إلَى الثِّيَابِ الْغَنَمُ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْغَنَمِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بَلْ هُوَ تَحْتَ الْجِلْدِ، وَيَقَعُ فِيهِ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الثِّيَابِ ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْت: لَهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالْوَصْفِ، قَالَ: (لَا فَإِنَّا نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِي الذَّبَائِحِ وَلَا نُجَوِّزُ فِي الْعَصَافِيرِ) وَلَعَلَّ ضَبْطُ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الذَّبَائِحِ؛ وَلَكِنَّهُ لِلسُّنَّةِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَبَنَى إسْرَائِيلَ الْأَوْصَافَ الظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ يُمْكِنُ إعْلَامُهُ عِنْدَنَا ثُمَّ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ لَمَّا اسْتَقْصُوا فِي الِاسْتِيصَافِ. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاسْتِيصَافِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ وَذَلِكَ يَقَعُ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةٌ، وَثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا لِكَوْنِ النِّكَاحِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّوَسُّعِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ شَيْءٌ آخَرَ سِوَى الْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْوَصْفِ هُنَاكَ [السَّلَمِ فِي الثِّيَابِ] قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الثِّيَابِ كُلِّهَا بَعْدَ أَنْ يُشْتَرَطَ ضَرْبًا مَعْلُومًا، وَطُولًا، وَعَرَضَا، بِذِرَاعٍ مَعْلُومٍ، وَأَجَلًا، وَصِفَةً مَعْلُومَةً) لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَالِيَّةِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَصِيرُ مَعْلُومًا عَادَةً، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ هَذَا يَسِيرٌ وَالْيَسِيرُ مِنْ التَّفَاوُتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ مُنَازَعَةُ مَانِعِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْوَزْنُ بِخِلَافِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي الْحَرِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْوَزْنُ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَرِيرِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ مَعَ الْوَزْنِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَأْتِي وَقْتَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَقْطَعُ الْحَرِيرَ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 لَمْ يُرِدْ بِهِ قَطْعَ الْحَرِيرِ. قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِيهِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ مُنْقَطِعًا عَنْ أَيْدِي النَّاسِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ السَّلَمَ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ يَلْتَزِمُ التَّسْلِيمَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ (الثَّانِي:) أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاسِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (الثَّالِثُ:) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَكِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (الرَّابِعُ:) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَطِعُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالِاتِّفَاقِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ - وَرُبَّمَا قَالَ: ثَلَاثَ سِنِينَ - فَقَالَ: مِنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثِّمَارَ الرَّطْبَةَ لَا تَبْقَى إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَمَعَ هَذَا قَرَّهُمْ عَلَى السَّلَمِ فِيهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ وَبَيَانِ الْوَصْفِ أَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّيْنِ بِوُجُودِ جِنْسِهِ فِي الْعَالَمِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَيَحِلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّ هَذَا مَوْهُومٌ وَلَا يُبْنَى الْعَقْدُ عَلَى الْمَوْهُومَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا الْمَوْهُومِ يُؤَدِّي إلَى الْحُلُولِ أَوْ جَهَالَةِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِعَقْدِ السَّلَمِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَنْقَطِعُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَحِلِّ يَجُوزُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَتَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ عَيَّنَ مِكْيَالًا أَوْ قِيَمًا تُخَالِفُ مَا بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ هَلَاكِ مَا عَيَّنَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَتَعْيِينِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَوْ يُصِيبُ ثِمَارَ تِلْكَ النَّخْلَةِ آفَةٌ وَالدَّلِيلُ أَنَّ وُجُودَ السَّلَمِ فِيهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِجَوَازِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ لَا التَّسْلِيمِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ فَكُلٌّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ وُجُودِهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَلَمْ يُرِدْ بِهِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعهَا سَلَمًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِلتَّسْلِيمِ هُوَ الْعَاقِدُ فَيُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بِإِيصَالِ حَيَاتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَإِيصَالَ حَيَّاتِهِ بِأَوَانِ الْوُجُودِ مَوْهُومٌ وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَإِنْ قِيلَ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي الْحَالِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا الْمَوْتُ مَوْهُومٌ قَبْلَهُ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ بَقَاؤُهُ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إبْقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ لَا فِي تَوْرِيثِهِ مِنْ مُورِثِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا تَثْبُتُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ مُتَّصِلَةً بِأَوَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ عَجْزُهُ بِالْمَوْتِ أَوْ بِآخِرِ التَّسْلِيمِ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ مَوْهُومٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْمَحِلِّ لِأَنَّ زَمَانَ الْمَحِلِّ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ بِشَرْطِ بَقَائِهِ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ مَوْهُومٌ وَمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ يُشْتَرَطُ مَوْتُهُ وَذَلِكَ مَوْهُومٌ أَيْضًا فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ يُشْتَرَطُ الْوُجُودُ وَقْتَ الْمَحِلِّ بِالِاتِّفَاقِ فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْوُجُودُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ بِخِلَافِ مَا وَرَاءَ الْمَحِلِّ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزَمَانِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ بَقَاءِ مَا وَجَبَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ كَخُلُوِّ الْمَحِلِّ عَنْ الرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ وَالشُّهُودِ تُعْتَبَرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْبَقَاءِ وَاعْتِبَارُ الزَّمَانِ بِالْمَكَانِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَبِانْعِدَامِهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَا تَنْعَدِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ مِنْ زَمَانٍ إلَى زَمَانٍ فَتَنْعَدِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِعَدَمِ الْوُجُودِ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَاهُ مَحِلَّ التَّسْلِيمِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي زَمَانِ الْمَحِلِّ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا قُلْنَا وَإِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثُمَّ لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ حَتَّى انْقَطَعَ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَجِيءَ حِينُهُ فَيَأْخُذُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَيَسْتَرِدُّ رَأْسَ الْمَالِ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِي الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْعَيْنِ فِي الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَقَاسَ بِمَا لَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ شَيْئًا فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْذَرُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 الْعَاقِدُ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ مَحِلِّهِ وَمَحِلُّ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ الذِّمَّةُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الذِّمَّةِ وَلَكِنَّ تَأَخُّرَ تَسْلِيمِهِ إلَى أَوَانِ وُجُودِهِ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ شَرْطُ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرِدَّ رَأْسَ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَأْتِيَ أَوَانُهُ فَيَأْخُذَ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ هَلَاكَ الْعَيْنِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ يَفُوتُ أَصْلًا وَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا تَنَاوَلَ فُلُوسًا هِيَ ثَمَنٌ فَبَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَبْقَى ثَمَنًا أَصْلًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَا يَكْسُدُ مِنْ الْفُلُوسِ لَا يَرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا يُدْرَى مَتَى يَرُوجُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَانٌ مَعْلُومٌ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ هُنَا لِادِّرَاكِ الثِّمَارِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَانٍ مَعْلُومٍ فَيُخَيَّرُ رَبُّ السَّلَمِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَأَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ) لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى عَلَى حُصُرٍ مُتَقَارِبَةٍ وَأَصْلُ هَذَا الْجِنْسِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: (مَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْقِيمَةِ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمِ فِيهِ عَدَدًا) وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْقِيمَةِ وَإِنَّ مَا يَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهُ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا وَالرُّمَّانُ وَالْبِطِّيخُ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ آحَادُهُ وَالْبَاذِنْجَانُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ عَدَدًا لِأَنَّ آحَادَهُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا تَتَفَاوَتُ فَإِنَّكَ لَا تَرَى جَوْزَةً بِفَلْسٍ وَجَوْزَةً بِفَلْسَيْنِ وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَذَلِكَ التَّفَاوُتُ يَزُولُ بِذِكْرِ الْعَدِّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ كَالْقَدْرِ فِي الْمَقْدُورَاتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي بَيْضِ النَّعَامِ لِأَنَّهُ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ عَدَدًا لِأَنَّ فِيهِ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَتَجْرِي فِيهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَزْنًا وَفِي الْجَوْزِ كَيْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ لَهُ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِيهِ كَيْلًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً وَيُعَدُّ أُخْرَى فَتَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ الْكَيْلِ كَمَا يَنْقَطِعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ أَوْ هِيَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا مَا دَامَتْ مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا مَا دَامَتْ مُتَسَاوِيَةً رَائِجَةً لِسُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ) وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ الْخَوَازِمُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ مَا دَامَتْ رَائِجَةً وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ فَمَا ثَمَنٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَعْدَ الْكَسَادِ هِيَ قِطَعٌ صِغَارٌ مَوْزُونَةٌ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 أَصَحُّ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ عَارِضَةٌ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ وَالْمُتَعَاقِدَانِ أَعْرَضُ عَنْ هَذَا الِاصْطِلَاحِ حِينَ عَقْدِ السَّلَمِ وَمَا أَعْرَضَ عَلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى كَوْنِهِ عَدَدِيًّا وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ خُرُوجِهِ فِي حَقِّهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدَدِيًّا كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ثَمَنٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِجَعْلِهِمَا إيَّاهُ مَبِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُلُوسَ تَرُوجُ تَارَةً وَتَكْسُدُ أُخْرَى وَتَرُوجُ فِي ثَمَنٍ الْخَسِيسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ دُونَ النَّفِيسِ بِخِلَافِ النُّقُودِ [السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ] وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ وَسَمَّى صِفَةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا أَطَلَقَ السَّلَمَ فِي اللَّحْمِ، وَهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُمَا فِيمَا إذَا بَيَّنَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ، وَأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ بَيَّنَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا بَيْعَهُ وَزْنًا وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ، ثُمَّ الْمَوْزُونُ الْمُثَمَّنُ مُعْتَبَرٌ بِالْمَكِيلِ الْمُثَمَّنِ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِهِ كَالتَّمْرِ، فَمَا فِيهِ مِنْ النَّوَى غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازُ السَّلَمِ. فَكَذَلِكَ مَا فِي اللَّحْمِ مِنْ الْعَظْمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْأَلْيَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَظْمِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الشَّحْمِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ فَكَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا:) أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِهِ وَهُوَ الْعَظْمُ، فَيَتَفَاوَتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفَاوُتِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِالنَّزْعِ وَالْبَائِعُ يَدُسُّهُ فِيهِ؟ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ، وَذِكْرُ الْوَزْنِ بِخِلَافِ النَّوَى الَّذِي فِي التَّمْرِ فَالْمُنَازَعَةُ لَا تَجْرِي فِي نَزْعِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ الَّذِي فِي الْأَلْيَةِ. وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا أَسْلَمَ فِي لَحْمٍ مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ شُجَاعٍ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ: أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَمَقَاصِدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ وَبِقِلَّةِ الْكَلَأِ وَبِكَثْرَةِ الْكَلَأِ، وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا، فَلَا يُدْرَى أَنَّ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ تَكُونُ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تَرْتَفِعُ بِذَكَرِ الْوَصْفِ فَكَانَ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِقْرَاضَ. فَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا وَفِي الْحَالِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 صِفَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ مَعْلُومَةٌ وَبِخِلَافِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ فَالتَّفَاوُتُ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ، وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ يَزُولُ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ مَنْزُوعُ الْعَظْمِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ فِي غَيْرِ حِينِهِ،) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَلِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ. فَالنُّكْتَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي حِينِهِ يَجُوزُ. وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ: تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ السَّلَمَ فِيهِ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَا يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا عَدَدًا، وَفِي حِينِهِ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِأَنَّ فِيهِ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ إلَّا أَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا بَيْعَهُ وَزْنًا، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ يَنْعَدِمُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْ اللَّحْمِ حَتَّى تَجْرِي الْمُمَاسَكَةَ فِي نَزْعِهِ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السَّمَكِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ السَّمَكِ الَّذِي يُقْطَعُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَزْنًا بِمَنْزِلَةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يُقْطَعُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ فِي نَزْعِ الْعَظْمِ مِنْهُ وَتَخْتَلِفُ رَغَائِبُ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ، فَأَمَّا السَّمَكُ الْمَالِحُ فَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِيهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ عَدَدًا، أَمَّا الصِّغَارُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَزْنًا وَلَا سِمَنَ لَهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَزْنًا وَفِي الْكِبَارِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ وَيَجُوزُ وَزْنًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِخِلَافِ اللَّحْمِ فَهُنَاكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إعْلَامِ مَوْضِعِ الْخُبْثِ أَوْ الطُّهْرِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي السَّمَكِ فَلَا يَجُوزُ وَزْنًا قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْجُذُوعِ ضَرْبًا مَعْلُومًا وَسَمَّى طُولَهُ وَغِلَظَهُ وَأَجَلَهُ وَالْمَكَانَ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ مَذْرُوعٌ مَعْلُومٌ كَالثِّيَابِ وَكَذَلِكَ السَّاجُ وَصُنُوفُ الْعِيدَانِ وَالْخَشَبُ وَالْقَصَبُ وَإِعْلَامُ الْغِلَظِ فِي الْقَصَبِ بِإِعْلَامِ مَا يَسُدُّ بِهِ الظَّنَّ بِشِبْرٍ أَوْ ذِرَاعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَجْرِي الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا قَالَ: (وَإِذَا اسْتَصْنَعَ الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً أَوْ طَسْتًا أَوْ كُوزًا أَوْ آنِيَةً مِنْ أَوَانِي النُّحَاسِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْمُسْتَصْنَعَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُوَ مَعْدُومٌ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ثُمَّ هَذَا فِي حُكْمِ بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْدُومًا بَلْ أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ نَحْنُ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ كَبِيرٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 وَهُوَ نَظِيرُ دُخُولِ الْحَمَّامِ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ الْمُكْثِ فِيهِ وَمَا يُصَبُّ مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولًا وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمَاءِ مِنْ السَّقَّا بِفَلْسٍ وَالْحِجَامَةُ بِأَجْرٍ جَائِزٌ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْدَارٌ فَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُصْنَعَ مِنْ الْكَنَّةِ عَلَى ظَهْرِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَصْنَعَ خَاتَمًا وَاسْتَصْنَعَ الْمِنْبَرَ» فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا يُتْرَكُ كُلُّ قِيَاسٍ فِي مُقَابَلَتِهِ وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: الِاسْتِصْنَاعُ مُوَاعَدَةٌ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُعَاقَدَةٌ فَإِنَّهُ أَجْرَى فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَالْمَوَاعِيدُ تَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ثُمَّ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ يَقُولُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ اشْتِغَالٌ مِنْ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ فَتَسْمِيَةُ الْعَقْدِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْأَدِيمُ وَالصِّرْمُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلْعَمَلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ وَذَكَرَ الصَّنْعَةَ لِبَيَانِ الْوَصْفِ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ هُوَ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ كَانَ جَائِزًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ فَلِلْمُسْتَصْنِعِ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ قَالَ: (وَإِذَا عَمِلَهُ الصَّانِعُ فَقَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذَا بَعْدُ وَلَكِنْ إذَا أَحْضَرَهُ وَرَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إذَا جَاءَ بِهِ كَمَا وَصَفَهُ لَهُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَصْنِعِ اسْتِحْسَانًا لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّانِعِ فِي إفْسَادِ أَدِيمِهِ وَآلَاتِهِ فَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ غَيْرُهُ فِي شِرَائِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَفَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا وَالسَّلَمِ، وَقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَإِذَا رَدَّ الْمَقْبُوضَ عَادَ دَيْنًا كَمَا كَانَ وَهُنَا إثْبَاتُ الْخِيَارِ مُقَيَّدٌ لِأَنَّهُ مَبِيعُ عَيْنٍ فَبِرَدِّهِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَعُودُ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَيُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ إعْلَامَ الدَّيْنِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ فَقَامَ ذِكْرُ الْوَصْفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَأَمَّا إعْلَامُ الْعَيْنِ فَتَمَامُهُ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ قَالَ: (فَإِنْ ضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا وَكَانَتْ تِلْكَ الصِّنَاعَةُ مَعْرُوفَةً فَهُوَ سَلَمٌ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ مِنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ السَّلَمِ إذَا أَحَضَرَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِصْنَاعٌ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّهُ بِدُونِ ذِكْرِ الْأَجَلِ عَقْدٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَبِذِكْرِ الْأَجَلِ فِيهِ لَا يَصِيرُ لَازِمًا لِعَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ تَيَسَّرَ فِيهِ وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ الِاسْتِصْنَاعُ بِذِكْرِ الْأَجَلِ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا لَصَارَ السَّلَمُ بِحَذْفِ الْأَجَلِ مِنْهُ اسْتِصْنَاعًا وَلَوْ كَانَ هَذَا سَلَّمَا فَاسِدًا لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ صَنْعَةَ صَانِعٍ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلسَّلَمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا مَبِيعُ دَيْنٍ وَالْمَبِيعُ الدَّيْنُ لَا يَكُونُ إلَّا سَلَمًا كَمَا لَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ السَّلَمِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَصْنَعَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالْأَجَلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الدُّيُونِ فَلَمَّا ثَبَتَ فِيهِ الْأَجَلُ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ مَبِيعُ دَيْنٍ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَبِهِ يَخْتَلِفُ الْعَقْدُ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الْعَيْنَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ بَيْعًا وَلَوْ قَالَ: بِسُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا كَانَتْ إجَارَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ السَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِصْنَاعِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحْسِنٌ وَلَكِنَّ الْآثَارَ فِي السَّلَمِ مَشْهُورَةٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيمَا قَصَدَاهُ السَّلَمُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَلَمًا بِأَنْ لَمْ يَذْكُرَا فِيهِ أَجَلًا فَحِينَئِذٍ جُعِلَ اسْتِصْنَاعًا فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ جَعْلُهُ سَلَمًا بِأَنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ يُجْعَلُ سَلَمًا وَلِأَنَّ الْأَجَلَ مُؤَخَّرٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَاللُّزُومُ فِي السَّلَمِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ فَثُبُوتُ الْأَجَلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَلَمٌ وَذِكْرُ الصَّنْعَةِ لِبَيَانِ وَصْفِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ لَا مِنْ صَنْعَتِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ سَلَمٌ شُرِطَ فِيهِ صَنْعَةُ صَانِعٍ بِعَيْنِهِ وَمَا قَالَا بِأَنَّ السَّلَمَ بِحَذْفِ الْأَجَلِ لَا يَصِيرُ اسْتِصْنَاعًا يَشْكُلُ بِالْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نِكَاحًا بِحَذْفِ الْمُدَّةِ عَنْهُ ثُمَّ النِّكَاحُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهِ يَصِيرُ مُتْعَةً وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا وَهَذَا إذَا كَانَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْجَالِ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ سَلَمًا لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِلْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لَا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ أَدْنَى مُدَّةً يُمْكِنُهُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِنْ الْعَمَلِ وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ. قَالَ: إنْ كَانَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَصْنِعِ فَهُوَ لِلِاسْتِعْجَالِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ سَلَمًا وَإِنْ كَانَ الصَّانِعُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ الْمُدَّةَ فَهُوَ سَلَمٌ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ أَدْنَى مُدَّةٍ يُتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ اسْتِصْنَاعٌ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَمٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ فِي جُبْنِهِ وَزْنًا أَوْ كَيْلًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً وَيُوزَنُ أُخْرَى فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي التَّسْلِيمِ قَالَ: (فِي الْكِتَابِ وَهَذَا قَبْلَ انْقِطَاعِهِ وَهَذَا فِي عُرْفِ دِيَارِهِمْ) لِأَنَّ اللَّبَنَ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا يَنْقَطِعُ وَإِنْ كَانَتْ تُزَادُ قِيمَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعًا فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا شَرَطَ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ فَإِنَّ آحَادَهُ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْمَلْبَنِ فَمَلْبَنُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي التِّبْنِ كَيْلًا مَعْلُومًا وَكِيمَانًا مَعْلُومَةً) لِأَنَّهُ مَكِيلٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَكَيْلُهُ الْغِرَارَةُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. [السَّلَمُ فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ وَالْأَكَارِعِ] قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ وَالْأَكَارِعِ) لِأَنَّهَا عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُنَازِعُ الْبَائِعَ فَيَقُولُ أُرِيدُ هَذَا وَلَا أُرِيدُ هَذَا وَالْمَقْصُودُ مَا عَلَيْهَا مِنْ اللَّحْمِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ مُشْكِلٍ لِأَنَّهَا أَبْعَاضُ الْحَيَوَانِ كَاللَّحْمِ وَهُمَا يَقُولَانِ اللَّحْمُ مَوْزُونٌ أَمَّا الرُّءُوسُ وَالْأَكَارِعُ فَغَيْرُ مَوْزُونَةٍ عَادَةً وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ لَا يَصِيرُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا مَعْلُومًا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا شُرِطَ بِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ) لِأَنَّ مِقْدَارَ السَّلَمِ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَبِمَا ذُكِرَ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُهُ بِالْمِكْيَالِ الْمَعْرُوفِ وَالْمِيزَانِ الْمَعْرُوفِ مَعْلُومًا فَكَانَ هَذَا سَلَمًا فِي الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِبْقَاءُ مَا عَيْنُهُ مِنْ الْمِكْيَالِ إلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ وَبَقَاؤُهُ مَوْهُومٌ فَرُبَّمَا يَهْلَكُ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ فِي الْعَيْنِ يَجُوزُ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً فَمِكْيَالٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ ثَابِتَةٌ وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا بِقِيَامِ الْمِكْيَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ يُذْكَرَ الْقَدْرُ فَفِي الْمُجَازَفَةِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا سَمَّى مِنْ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَازَفَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَيْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِكْيَالُ مَعْلُومًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إنْ عَيَّنَ مِكْيَالًا لَا يَنْكَبِسُ فِيهِ كَالزِّنْبِيلِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ فِيهِ فَإِنَّهُ تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ. [السَّلَمُ فِي الْعَصِيرِ] قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 فِي الْعَصِيرِ فِي حِينِهِ وَزْنًا أَوَكَيْلًا) لِأَنَّهُ يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ كَالْبُنِّ وَكَذَلِكَ الْخَلُّ لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِيهِ كَيْلًا مَعْلُومًا أَوْ وَزْنًا مَعْلُومًا لِأَنَّهُ يُكَالُ وَيُوزَنُ وَإِعْلَامُ الْمِقْدَارِ بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَصَّلٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا عُرِفَ كَوْنُهُ مَكِيلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا وَإِنْ اعْتَادَ النَّاسُ بَيْعَهُ وَزْنًا وَمَا عُرِفَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُعْلَمُ كَيْفَ كَانَ يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إنْ تَعَارَفُوا فِيهِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ جَمِيعًا فَهُوَ مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْعُرْفُ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مَكِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مَوْزُونًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ لَا بِنَصٍّ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّا نَقُولُ تَقْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُمْ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ قَالَ: (وَإِنْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ وَلَمْ يُسَمِّ فَارِسِيًّا وَلَا دَقَلًا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ التَّمْرَ أَنْوَاعٌ فَبِدُونِ ذِكْرِ النَّوْعِ لَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ فَإِنَّ اُشْتُرِطَ فَارِسِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا أَوْ رَدِيًّا لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ التَّمْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِجِنْسِهَا قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّيُورِ وَلَا فِي لُحُومِهَا) لِأَنَّ آحَادَهَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ فَكَانَتْ عَدَدِيَّةً مُتَفَاوِتَةً وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ إعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِذِكْرِ الْمَوْضِعِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي لُحُومِ الطَّيْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: مَا لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي لُحُومِهَا قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَاللُّؤْلُؤِ أَمَّا الصِّغَارُ مِنْ اللَّآلِئِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا وَتُجْعَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَزْنًا وَأَمَّا الْكِبَارُ مِنْهَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا فِي الْمَالِيَّةِ وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمِ فِيهَا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْجَصِّ وَالنُّورَةِ كَيْلًا) لِأَنَّهُ مَكِيلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الزُّجَاجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْسُورًا فَيُشْتَرَطُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ جَوْهَرُ الزُّجَاجِ فَإِنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ عَلَى وَجْهٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ أَمَّا الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنْ الزُّجَاجِ فَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِذِكْرِ الْعَدَدِ وَلَا بِذِكْرِ الْوَزْنِ) لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوزَنُ وَلَا تُعْلَمُ مَالِيَّتُهُ بِوَزْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَعْرُوفًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْمَكَاحِلِ وَالْمُطَابِقِ فَإِنَّ آحَادَ ذَلِكَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي طَعَامٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَخَمْسُمِائَةٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 نَقَدَهَا إيَّاهُ جَازَتْ حِصَّةُ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وَبَطَلَتْ حِصَّةُ الدَّيْنِ) وَعَنْ زُفَرَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ أَمَّا فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَلِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» يَعْنِي الدَّيْنَ بِالدِّينِ وَهَذَا فَسَادٌ قَوِيٌّ يُمْكِنُ فِي الْبَعْضِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْبَعْضُ بِالْكُلِّ فِي الدَّيْنِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَحَقِيقَةً الْمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ نُقِدَ جَمِيعُ الْأَلْفِ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالدِّينِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِهِ وَمِثْلِهِ وَلَوْ اشْتَرَى بِالدِّينِ شَيْئًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ بَقِيَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَإِنَّمَا فَسَدَ الْعَقْدُ هُنَا بِمِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَهَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّتُهُ كَمَا لَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطِهِ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَهُنَا الْمِائَةُ الَّتِي تَنْقَسِمُ انْقَسَمَتْ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِرْزُ فَلَا يَكُونُ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا وَلَوْ تَتَارَكَا السَّلَمَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينًا مِقْدَارُ مَا يَرُدُّهُ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَعِنْدَهُمَا الْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَ [السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطُ خِيَارٍ] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطُ خِيَارٍ) لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُعْدِمُ الْمِلْكَ وَيَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْعِتْقِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَعَدَمُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ مُبْطِلٌ لِلسَّلَمِ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ لِلْقَبْضِ حُكْمَ الْعَقْدِ وَقَدْ صَارَ الْعَقْدُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ وَالِافْتِرَاقُ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ إلَّا أَنْ يُبْطِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِي اسْتِقْبَالِهِ فَقَطْ وَعِنْدَنَا الْمُفْسِدُ مَتَى زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ هُنَا بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ مَتَى أَسْقَطَا الْخِيَارَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا جُعِلَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لُزُومُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ وَهَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 حَتَّى صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إتْمَامُهُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا فِي طَعَامٍ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ) وَقَالَ: مَالِكٌ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا أَنَّ هُنَا الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ مُؤَجَّلٌ وَالنَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ حَرَامٌ وَلَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْحُلُولِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّلَمُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِيهِ مُعَجَّلًا كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُؤَجَّلًا لِيَتَوَفَّرَ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ مُقْتَضَاهُ وَالتَّعْجِيلُ إنَّمَا يُحَصَّلُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ اقْتِرَانُ الْقَبْضِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْجِيلِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ تَيْسِيرًا كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ ثُمَّ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا فَالْعَقْدُ يُبْطِلُهُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَبَيْعِ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمُرَاعَاتِ اسْمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِأَنَّ جَوَازَ عَقْدِ السَّلَمِ لِحَاجَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ حَاجَتُهُ إذَا وَصَلَ رَأْسُ الْمَالِ إلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ ثُمَّ حَالَةُ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَحَالَةِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَفْسُدُ بِتَرْكِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَإِنْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا فَوَجَدَهَا زُيُوفًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَنْتَقِضُ السَّلَمُ أَمَّا إذَا تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنْ فِيهِ عَيْبٌ وَوُجُودُ الْعَيْبِ فِي الشَّيْءِ لَا يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ جِنْسٍ آخَرَ ثُمَّ الزُّيُوفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ وَلَكِنْ يَرُوجُ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا تُبَهْرِجُهُ التُّجَّارُ وَرُبَّمَا تَسَامَحَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَرُبَّمَا يَأْبَاهُ بَعْضُهُمْ لِغِشٍّ فِيهِ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَقَابِضُهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهِ تَجَوَّزَ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ الْمَقْبُوضُ سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ السَّتُّوقَةَ فَلْسٌ مُمَوَّهٌ بِالْفِضَّةِ وَمَعْنَاهُ مِنْ طَاقَةٍ وَالرَّصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يَصِيرُ بِقَبْضِهِ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهَا كَانَ مُسْتَبْدِلًا لَا مُسْتَوْفِيًا وَالِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا رَدَّهُ فِي الْقِيَاسِ يُنْتَقَصُ السَّلَمُ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَمْ يُسْتَبْدَلْ وَصَارَ الْكُلُّ زُيُوفًا أَوْ الْبَعْضُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْجِيَادُ وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ الْقَبْضَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 مَرَّتَيْنِ فَلَوْ لَمْ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَصْلِ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَبْدَلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ بَطَلَ الْعَقْدُ وَبَقَاءُ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَإِذَا ثَبُتَ انْتِقَاضُ الْقَبْضِ مِنْ الْأَصْلِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مُسْتَحِقًّا وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الزُّيُوفُ رَأْسَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْجَوْدَةِ إذَا تَجَوَّزَ بِهِ فَإِذَا أَتَى ذَلِكَ بِالرَّدِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ قَبْضِ حَقِّهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْمَقْبُوضُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَا: إذَا اُسْتُبْدِلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا سَوَاءٌ وُجِدَ الْكُلُّ زُيُوفًا أَوْ الْبَعْضُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ قَبْضٍ صَحِيحٍ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ جَازَ فَإِنَّمَا اُنْتُقِضَ ذَلِكَ الْقَبْضُ بِالرَّدِّ وَصَارَ الْعَقْدُ عِنْدَ الرَّدِّ مُوجِبًا قَبْضَ الْجِيَادِ وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيُجْعَلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَإِذَا افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَهِيَ الْجِيَادُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ زَادَ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَافْتَرَقَا عَنْ مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَبْضُ الْمُشْتَرَى مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْضِيَ بِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَوْقُوفُ إذَا بَطَلَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا نَفَذَ بِإِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ اُلْتُحِقَ بِمَا لَوْ كَانَ نَافِذًا فِي الِابْتِدَاءِ كَالْمَبِيعِ الْمَوْقُوفِ فَلِهَذَا إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِذَا أَتَى وَأَخَذَ دَرَاهِمَهُ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ إذَا وَجَدَ الْكُلَّ زُيُوفًا أَوْ كَانَتْ الزُّيُوفُ أَكْثَرَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ إذَا قَلَّ الْمَرْدُودُ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ بَلْوَى وَضَرُورَةً فَدَرَاهِمُ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ فَيَذْهَبُ عَلَى النَّاقِدِ وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَإِقَامَةُ مَجْلِسِ الرَّدِّ مُقَامَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ شَرْطٌ بِوَجْهِ الْمُطَالَبِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الرَّدُّ لَا سَبَبُهُ وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مُقَامَ السَّبَبِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْبَلْوَى وَهُوَ الْقَلِيلُ دُونَ مَا لَا بَلْوَى فِيهِ وَهُوَ الْكَثِيرُ بَلْ الْكَثِيرُ كَالْمُسْتَحِقِّ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّ دَرَاهِمَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُسْتَحِقِّ عَادَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ مَا كَانَ مُوجِبًا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا صَارَ الْآنَ مُوجِبًا فَكَانَ هَذَا الْمَجْلِسُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ مَجْلِسَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ رَأْسِ الْمَالِ وَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَضُرَّهُمَا الِافْتِرَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَفِي كِتَابِ الْبُيُوعِ يَقُولُ مَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلٌ وَالنِّصْفُ فَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ يَقُولُ النِّصْفُ فَمَا دُونَهُ قَلِيلٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» فَإِذَا وُجِدَ الثُّلُثُ زُيُوفًا فَرَدُّهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ بِقَدْرِهِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قِلَّةَ الشَّيْءِ وَكَثْرَتَهُ تَتَبَيَّنُ بِالْمُقَابَلَةِ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ كَثِيرَةٌ وَبِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ قَلِيلَةٌ فَإِذَا كَانَتْ الزُّيُوفُ دُونَ النِّصْفِ قُلْنَا إذَا قُوبِلَتْ الزُّيُوفُ بِالْجِيَادِ فَالزُّيُوفُ قَلِيلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِيَادِ فَإِذَا كَانَ النِّصْفُ سَوَاءً فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ قَالَ: هَذَا كَثِيرٌ لَا يُقَابِلُهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لِتَتَبَيَّنَ قِلَّتُهُ بِالْمُقَابَلَةِ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ قَالَ: الشَّرْطُ كَثْرَةُ الْمَرْدُودِ وَلَا تَتَبَيَّنُ كَثْرَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُقَابِلُهُ أَقَلَّ مِنْهُ وَقَدْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْكُلِّ فَلَا تُنْتَقَضُ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ فِي مَا ذَكَرْنَا قَالَ: (رَجُلٌ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلَ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ وَذَلِكَ دَيْنٌ) فَالصُّلْحُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ اخْتَارَ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ وَإِنْ رَدَّ الصُّلْحَ بَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الْكَفِيلُ دَرَاهِمَهُ وَطَالَبَ رَبُّ السَّلَمِ بِطَعَامِ السَّلَمِ أَيَّهُمَا شَاءَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْكَفِيلِ وَرَبِّ السَّلَمِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ وَهَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَنْ ذَلِكَ الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْكَفِيلُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى قِيمَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا فَلَا يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَالْخِلَافُ فِيهِ يَتَحَقَّقُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَنَّ صُلْحَ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَالصُّلْحِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى أَيِّ بَدَلٍ كَانَ بِدَلِيلِ جَوَازِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ فِي سَائِرُ الدُّيُونِ لَوْ صَالَحَ عَلَى بَدَلٍ جَازَ صُلْحُهُ وَرَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا كِفْلَ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالسَّلَمِ إذَا صَالَحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَطْلُوبٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ كَالْأَصِيلِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ وَبِهَذَا فَارَقَ مَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى قِيمَتِهِ كَانَ مُسْتَبْدِلًا لَا مُسْتَرِدًّا لِرَأْسِ الْمَالِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا الصُّلْحِ تَمْلِيكُ طَعَامِ السَّلَمِ مِنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ أَيْضًا ثُمَّ جَازَ الصُّلْحُ مَعَ الْكَفِيلِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكِ الدَّيْنِ وَلَكِنْ يَعْقِدُ الْكَفَالَةَ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّهُ مُؤَخَّرٌ إلَى أَنْ يُسْقِطَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِصُلْحِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَمَا يَسْقُطُ بِإِيفَائِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ يَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُتَارَكَةِ وَالْإِقَالَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا كَانَ هَذَا اسْتِبْدَالًا لِبَقَاءِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِطَعَامِ السَّلَمِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَالْكَفِيلُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْعَقْدِ فَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ وَالْكَفِيلُ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ مِمَّنْ قَامَ مَقَامَ الْعَاقِدِ أَوْ مِمَّنْ كَانَ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ وَالْكَفِيلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْعَاقِدِ لِلسَّلَمِ بِخِلَافِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ عَاقِدٌ فَيَجُوزُ صُلْحُهُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ إذَا زَادَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ دِرْهَمًا جَازَ وَلَوْ زَادَ الْكَفِيلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا كَانَ بَاطِلًا وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ فَالصُّلْحُ هُنَاكَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ وَلِهَذَا جَازَ بِأَيِّ بَدَلٍ كَانَ وَالْكَفِيلُ مَطْلُوبٌ بِالدِّينِ كَالْأَصِيلِ وَلِهَذَا جَازَ الصُّلْحُ مَعَهُ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فَالصُّلْحُ مَوْقُوفٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ أَجَازَهُ الْآخَرُ جَازَ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَمَا بَقِيَ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُصَالِحِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَالصُّلْحِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى أَيِّ بَدَلٍ كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَخَذَ رَبُّ الدَّيْنِ إذَا صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ مَعَ الْمَدْيُونِ عَلَى بَدَلٍ جَازَ الصُّلْحُ وَيُخَيَّرُ الْآخَرُ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدْيُونِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَذَلِكَ هُنَا إذَا صَالَحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ هَذَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدِينَ حَقُّ التَّفَرُّدِ بِالْفَسْخِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَيْنًا ثُمَّ أَقَالَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ مَعَ الْبَائِعِ جَازَ بِدُونِ رِضَى الْآخَرِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: فِي هَذَا الصُّلْحِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ صُلْحُهُ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَتَمَيَّزَ نَصِيبُهُ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمَةُ وَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْآخَرِ لَتَنَاوُلِهِ نَصِيبَهُ وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِعَقْدِهِمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 إذَا هُوَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ كَشَطْرِ الْعِلَّةِ وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ مَا لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ كَالْمُعْتَقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوْجُهَا أَحَدُهُمَا وَبِهِ فَارَقَ بَيْعَ الْعَيْنِ فَقَدْ كَانَتْ الْعَيْنُ هُنَاكَ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْعَقْدِ مَحِلُّ التَّصَرُّفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فَلِهَذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ وَهُنَاكَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ كَشَطْرِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الصُّلْحُ مِنْ أَحَدِهِمَا هُنَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَيَتَقَرَّرُ فِي رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يَعُودُ فِي السَّلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَقَابَلَا السَّلَمُ ثُمَّ أَرَادَ فَسْخَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْآخَرَ إذَا اخْتَارَ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَقْبُوضِ مَعَ الْمَصَالِحِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَقَدْ سَقَطَ بِالصُّلْحِ حَقُّ الْمَصَالِحِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَقَرَّرَ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ حَقُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ حَقُّهُ فِيمَا كَانَ سَاقِطًا لِأَنَّ السَّاقِطَ مَثَلًا شَيْءٌ كَمَا فِي فَصْلِ الْإِقَالَةِ وَهُنَا إنَّمَا يَعُودُ بِحَقِّهِ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ وَهُوَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْآخَرِ الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْقَابِضُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ أَصْلَ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَلَا يُسَلَّمُ لَأَحَدِهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ وَإِذَا شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ كَانَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْ شَرِيكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَضْمَنَ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ نَوَى مَا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لَهُ الْمَقْبُوضَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِذَا نَوَى بَطَلَ تَسْلِيمُهُ كَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قَالَ: (وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى ثَوْبٍ وَسَلَّمَ لَهُ الْآخَرُ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمَدْيُونِ فَنَوَى مَا عَلَيْهِ) كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الثَّوْبِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ الثَّوْبِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ كَمَا فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 الِابْتِدَاءِ لَوْ اخْتَارَ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ الثَّوْبُ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ إنَّمَا تَوَصَّلْتُ إلَى نَصِيبِي لِأَنَّى رَضِيتُ بِدُونِ حَقِّي بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بِالسَّلَمِ كَفِيلٌ فَصَالَحَ أَحَدُ صَاحِبِ السَّلَمِ مَعَ الْكَفِيلِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فَهُوَ كَالصُّلْحِ مَعَ الْأَصِيلِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِرَأْسِ مَالِهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ) فِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ ارْتَفَعَ بِالْفَسْخِ بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْقَبْضِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ لَوْ كَانَ فَاسِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَاسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالُوا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ فَلَا تَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ» فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ صَارِفًا حَقَّهُ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» وَبِهَذَا الطَّرِيقُ نَأْخُذُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ حَالَ رَبُّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ هُنَا وَبِهِ فَارَقَ السَّلَمَ الْفَاسِدَ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُوجِبًا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ لِيُعْتَبَرَ الِانْتِهَاءُ بِالِابْتِدَاءِ وَهُنَا الْعَقْدُ كَانَ مُوجِبًا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ فَاعْتَبَرْنَا حَالَ الْفَسْخِ بِحَالِ الْعَقْدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِبْدَالِ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِي طَعَامٍ وَقَدْ عَلِمَ وَزْنَ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَعْلَمْ وَزْنَ الْآخَرِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إعْلَامُ الْقَدْرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ شَرْطٌ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ وَزْنُ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ لِانْعِدَامِ شَرَطِ الْجَوَازِ فَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ وَالسَّلَمُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخِرُ مَرْوِيٌّ فَمَا لَمْ تَتَبَيَّنُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّ الِانْقِسَامَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِرْزُ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِحِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَا مَوْصُوفَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الثِّيَابَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالِانْقِسَامُ عَلَى الثَّوْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الظَّاهِرِ فِي الْمَالِيَّةِ مَا دَامَا فِي الذِّمَّةِ وَالِانْقِسَامِ حَالَ كَوْنِهِمَا فِي الذِّمَّةِ فَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ بِيَقِينٍ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إعْلَامِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةً فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا فَإِنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَالِيَّةِ إذَا كَانَا عَيْنَيْنِ فَلِهَذَا كَانَ انْقِسَامُ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَإِنْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ فِي السَّلَمِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَةً بِيَقِينٍ فَبَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ كَالْكُرَّيْنِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَلَا تَفَاوَتَ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي أَحَدِهِمَا يَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةً وَلَوْ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَرَدَّهُ يَرُدُّهُ بِخَمْسَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ بِيَقِينٍ فَكَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ اشْتَرَى الثَّوْبَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا بِخِلَافِ الْكُرَّيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُشْتَرٍ وَالْمُسْلِمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ كَانَ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ غَيْرَهُ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُجْعَلُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الطَّرِيقُ لَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا ذَلِكَ الْعَقْدَ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلْقَبْضِ فِي بَابِ السَّلَمِ حُكْمُ عَقْدٍ جَدِيدٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقَبَضَهُ فَلِمَا حَلَّ الطَّعَامُ فِي السَّلَمِ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكُرَّ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا جُعِلَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ عَلَيْهِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ وَقَالَ: فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَوْ أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ كُرَّ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَرَاهِمَ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ وَأَسْلَمَ إلَيْهِمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ الْكُرَّ فَأَخْرَجَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ الْكُرِّ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِمْ فَلَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَفِي السَّلَمِ عِنْدَ الْقَبْضِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ الْكُرِّ بِالْمِائَةِ فَيَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِذَلِكَ ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُثْبِتَ شُبْهَةَ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ الْحَقِيقَةَ وَالشُّبْهَةَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِشُبْهَةِ الزِّيَادَةِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ وَلَوْ أَخَذَ عَيْنًا صُلْحًا مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ لِشُبْهَةِ الْحَطِّ بِسَبَبِ الصُّلْحِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّوْبَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَفَاوَتَانِ بَعْدَ التَّعْيِينِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهُمَا وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّوْبِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ قِيمَةُ الْمُسْتَهْلَكِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا لَا يَتَمَاثَلَانِ عَيْنًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ فِي أَحَدِهِمَا وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّعْيِينِ فَيُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَلَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا مُسَمًّى مَعْلُومٌ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْمَسْمُوحِ وَالْأَكْيِسَةِ وَالْعُبَا وَالْجَوَالِيقِ وَالْكَرَابِيسِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عَرْضًا وَطُولًا وَرِفْعَةً) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إعْلَامَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي التَّسْلِيمِ تُمْكِنُ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ أَمَّا بِرَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ وَالرَّهْنِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ وَلَهُ فِي السَّلَمِ رِوَايَتَانِ) لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالْكَفِيلَ مِمَّا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ وَقَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ فَأَخْذُ الْكَفِيلِ وَالرَّهْنِ بِهِ لَا يُفِيدُ وَلَكِنَّا نَقُولُ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ فَالْكَفِيلُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلِاسْتِيفَاءِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَيْنٌ يُسْتَوْفَى فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِرَأْسٍ صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِهِ رَأْسَ الْمَالِ فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَالِافْتِرَاقِ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ يَبْطُلُ السَّلَمُ وَكَذَا إنْ نَقَدَ الْكَفِيلُ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَ الْمُتَعَاقِدَانِ ثُمَّ الْعَقْدُ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الْكَفِيلُ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ حَتَّى لَوْ ذَهَبَ وَجَاءَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَادَى تَمَّ الْعَقْدُ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْوِكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْجَوَابُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ إنْ قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْوَكِيلِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ يَجُوزُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ قَالَ: كُلُّ دَيْنٍ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ فَأَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ بِهِ صَحِيحٌ لِلتَّوْثِيقِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: كُلُّ دَيْنٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ بِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ إقَامَةَ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مُقَامَ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَحِلُّ وَالْحَوَالَةُ كَذَلِكَ وَفِي الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ وَالرَّهْنِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَكَانَ هَذَا اسْتِبْدَالًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَرَأْسِ الْمَالِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا نَسِيئَةً وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» وَشِرَاءُ الطَّعَامِ نَسِيئَةً يَكُونُ سَلَمًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الرَّهْنَ بِالسَّلَمِ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ لَا مُسْتَبْدِلًا فَإِنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ لَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِلْمُرْتَهِنِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَمَاتَ كَانَ كَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ مَالِيَّتِهِ وَالْأَعْيَانُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَوْ ارْتَهَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لَا اسْتِبْدَالٌ جَازَ الرَّهْنُ بِكُلِّ دَيْنٍ يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ وَفِي الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ لَا شَكَّ فَإِنَّ الْمُسْتَوْفِيَ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْمُحْتَالَ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَوْفِي مِنْ الْأَصِيلِ فِي أَنَّهُ عَيْنُ حَقِّ الطَّالِبِ لَا بَدَلَهُ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّيَابِ وَاشْتَرَطَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ بِذِرَاعِ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي الْمَكِيلِ إذَا عَيَّنَ الْمِكْيَالَ) وَهَذَا لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالذِّرَاعِ الْمَعْرُوفِ وَرُبَّمَا يَمُوتُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَيَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَإِذَا اشْتَرَطَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ ذِرَاعٌ وَسَطٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمُطْلَقِ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ فِي الشِّرَاءِ تَنْصَرِفُ إلَى نَقُدْ الْبَلَدِ وَالْمُتَعَارَفُ الذِّرَاعُ الْوَسَطُ وَيُسَمَّى الْمُكَسَّرَةَ وَسُمِّيَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَسَّرَهُ مِنْ ذِرَاعِ قَبْضَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّ الذِّرَاعَ الْوَسَطَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ وَهِيَ تِسْعُ مُسَبَّبَاتِ وَمَعْرِفَةُ هَذَا فِي كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْحَرِيرِ وَزْنًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الطُّولُ وَالْعَرْضُ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِبَيَانِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ فِي الثِّيَابِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ يَأْتِيهِ بِقِطَاعِ الْحَرِيرِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ الَّذِي سُمِّيَ فَيُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَزْنِ أَيْضًا فِيمَا تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ كَالْحَرِيرِ وَالْوَذَارِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَطَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ بِقِيمَانِ غَيْرِ الذِّرَاعِ فَإِنْ كَانَ قِيمَانًا مَعْرُوفًا مِنْ قَيَامِينِ التُّجَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذَلِكَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ تَحْصُلُ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَطَ الرَّجُلُ فِي سَلَمِهِ ثَوْبًا جَيِّدًا ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فَقَالَ: رَبُّ السَّلَمِ لَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ وَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ جَيِّدٌ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُرِيه رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَيَرْجِعُ إلَى مَنْ لَهُ فِيهِ عِلْمٌ كَمَا لَوْ احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمُسْتَهْلِكِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَوْدَةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ نِهَايَةً فِي الْجَوْدَةِ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى أَخْذِهِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَفَّى بِمَا شَرَطَ لَهُ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إذْ لَا نِهَايَةَ لِلْأَعْلَى فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَيِّدٍ إلَّا وَفَوْقَهُ أَجْوَدُ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْمُثَنَّى لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْمُثَنَّى قَالَ: (وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ وَسَطًا فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِجَيِّدٍ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى قَبُولِهِ) وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يُجْبَرُ لِأَنَّ الْجَيِّدَ غَيْرُ الْوَسَطِ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْجَوْدَةِ وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ قَدْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَبَرُّعَهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِالْجَوْدَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَوْفَاهُ حَقَّهُ بِكَمَالِهِ وَأَحْسَنَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً لِلدَّيْنِ» وَقَالَ: «لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنْ». قَالَ: (فَإِنْ أَتَاهُ بِالثَّوْبِ الْجَيِّدِ وَالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَسَطٌ وَقَالَ: خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ فَعَلَ) وَهَذِهِ فِي الْحَاصِلِ ثَمَانِيَةُ فُصُولٍ أَرْبَعَةٌ فِي الثِّيَابِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الْمُقَدَّرَاتِ أَمَّا فِي الثِّيَابِ إنْ أَتَاهُ بِأَزْيَدَ وَصْفًا أَوْ بِدُونٍ وَصْفًا أَوْ بِأَزْيَدَ قَدْرًا أَوْ بِأَنْقَصَ قَدْرًا أَمَّا فِي الثِّيَابِ إنْ أَتَاهُ بِأَزْيَدَ وَصْفًا أَوْ ذِرَاعًا بِأَنْ أَتَاهُ بِأَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَقَدْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَقَالَ: خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا يَجُوزُ وَتَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ الذِّرَاعِ الزَّائِدِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا جَيِّدًا بِثَوْبٍ وَسَطٍ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَوْ بَاعَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَلَوْ أَتَاهُ بِأَنْقَصَ وَصْفًا بِأَنْ أَتَاهُ بِثَوْبٍ رَدِيءٍ فَقَالَ: خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُمَا إقَالَةٌ لِلْعَقْدِ فِي الصِّفَةِ وَحِصَّةُ الصِّفَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَاهُ بِتِسْعَةِ أَذْرُعٍ فَقَالَ: خُذْ هَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لِأَنَّ الذِّرَاعَ فِي الثَّوْبِ صِفَةٌ وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى ذُرْعَانِ الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَمْ تَكُنْ حِصَّةُ الذِّرَاعِ مَعْلُومَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ أَمَّا فِي الْمُقَدَّرَاتِ لَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةٍ وَسَطٍ فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ جَيِّدٍ وَقَالَ: خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ وَلَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزٍ وَسَطٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ وَهَذَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ هَذَا الْقَفِيزَ الْجَيِّدَ عِوَضًا عَنْ الْوَسَطِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَعَنْ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ وَلَوْ أَتَاهُ بِأَحَدَ عَشَرَ قَفِيزًا وَقَالَ: خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ بِمُقَابَلَةِ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ وَهُوَ جَائِزٌ وَلَوْ أَتَاهُ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ فَقَالَ: خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصِّفَةِ فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ الْإِقَالَةُ عَلَى الْقِيمَةِ فِيهِ وَلَوْ أَتَاهُ بِتِسْعَةِ أَقْفِزَةٍ وَقَالَ: خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا يَجُوزُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْقَفِيزَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَحِصَّةُ الْقَفِيزِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَةٌ بِخِلَافِ ذُرْعَانِ الثَّوْبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَزِيدُ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَتَلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالْحَطُّ أَيْضًا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الصِّفَةِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ إقَالَةُ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا أَتَى بِالْأَجْوَدِ وَرَبُّ السَّلَمِ أَحْسَنَ إلَيْهِ حِينَ تَجَوَّزَ بِالرَّدِيءِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ حَمْلُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَيْهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا إذَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى النَّصِّ وَالْمُقَابَلَةِ أَمَّا إذَا نَصَّا عَلَى ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ فَعْلِهِمَا عَلَى التَّبَرُّعِ كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجْعَلُ أَحَدُ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةً وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي الثِّيَابِ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الطَّعَامِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّوْبِ إذَا أَتَاهُ بِأَرْدَأَ مِمَّا شَرَطَ أَوْ بِأَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ. [الِاخْتِلَاف فِي السَّلَم] قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ فَقَالَ: الطَّالِبُ شَرَطْتَ لِي جَيِّدًا وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ شَرَطْتُ لَكَ وَسَطًا أَوْ قَالَ: الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي حِنْطَةٍ وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ أَسْلَمْتَ إلَيَّ فِي شَعِيرٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا) وَحُكْمُ التَّحَالُفِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ» وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي بَابِ التَّحَالُفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ الْآنَ إذَا اخْتَلَفَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالثَّمَنِ ثُمَّ لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ تَحَالَفَا فَفِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الدَّيْنُ بِصِفَتِهِ فَالْجَيِّدُ مِنْهُ غَيْرُ الْوَسَطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أُحْضِرَا كَانَا غَيْرَيْنِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَالَ: (وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِهِ فِي الْيَمِينِ الْمَطْلُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَصَاحِبِ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى بِيَمِينِهِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ فَيَبْقَى هَذَا الظَّاهِرُ مُعْتَبَرًا فِي الْبِدَايَةِ بِيَمِينِهِ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْمُنْكِرِينَ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الطَّالِبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لِنَفْسِهِ وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَبْدَأُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى الطَّالِبِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَلِذَلِكَ أَوَّلُ الْيَمِينَيْنِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ يُثْبِتُ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ وَيَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ يَمِينِهِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ الْقَاضِي يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَقِيلَ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَقِيلَ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ خَصْمِهِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ نُكُولَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارَهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا جَمِيعًا بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَالْمَطْلُوبُ إنَّمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّ الطَّالِبِ وَبَيِّنَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ افْتَرَقَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ عَشَرَةٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ وَعَشَرَةٌ فِي كُرِّ شَعِيرٍ بِبَيِّنَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْبَيِّنَاتُ حُجَجٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْهَا وَهُنَا الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ يُمْكِنُ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا كَحُجَجِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّهُ مَا قُبِضَ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا عَشَرَةً وَاحِدَةً فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدَيْنِ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الطَّالِبِ وَقَاسَ هَذَا بِبَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: الْمُشْتَرِي بِعْتَنِي الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يَقْضِي بِالْعَقْدِ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا عَقْدٌ وَاحِدٌ فَالْقَضَاءُ بِالْعَقْدَيْنِ قَضَاءٌ بِمَا لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 يَطْلُبَا وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ يُقْرِرْهُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لِلْمَطْلُوبِ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتًا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ سَالَمَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ حِنْطَةً كَانَ أَوْ شَعِيرًا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ نَفْي بَيِّنَةِ الطَّالِبِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الطَّالِبِ لِلْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَالْبَائِعُ هُنَاكَ بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ إزَالَةَ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ لِيُسْقِطَ مُؤْنَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ هُوَ مُثْبِتًا كَالْمُشْتَرِي فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْعَقْدَيْنِ ثُمَّ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مِنْ فَرَّقَ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُسْلِمُ فِي الْجَيِّدِ وَيَأْخُذُ مَكَانَهُ رَدِيئًا وَيَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الرَّدِيءِ فَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ جَيِّدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْعَقْدُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ هُنَاكَ بِالْعَقْدَيْنِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّ بِالسَّلَمِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الشَّعِيرِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْعَقْدِ وَقَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ادَّعَى مِنْ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ فَيُقْضَى بِالْعَقْدَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَحَالَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِعَادَةِ رَأْسِ مَالِهِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِمَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَا دَامَا مُصِرَّيْنِ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يَتَوَقَّفُ التَّفْرِيقُ عَلَى طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَهُنَا فَسْخُ الْعَقْدِ حَقُّهُمَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْإِيفَاءِ) فَقَالَ: الطَّالِبُ شَرَطْتُ لِي مَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ بَلْ مَكَانُ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ السَّلَمَ وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ شَرْطٌ كَالصِّفَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ بَلْ هُوَ زَائِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا: مُتَعَيَّنُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُوجَبُ الْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ بَلْ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَالِاخْتِلَافُ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مُوجَبٌ بِالشَّرْطِ كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَالِيَّةَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 الصِّفَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ الْمَالِيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْقِيَاسُ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَأَمَّا الْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَجَلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ تَسْلِيمِهِ بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَتِهِ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ قَالَ: (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَوْ فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ أَوْ فِي أَصْلِ الْأَجَلِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ فَقَالَ: الطَّالِبُ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ شَهْرَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ الطَّالِبِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِهِ تَتَأَخَّرُ مُطَالَبَتُهُ عَنْهُ فَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَقَالَ: الطَّالِبُ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَدْ مَضَى وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ إنَّمَا عَقَدْنَا الْعَقْدَ الْيَوْمَ وَالْأَجَلُ شَهْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ إمَّا لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْعَقْدِ وَالْمَطْلُوبَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُمَا تَصَادَفَا عَلَى ثُبُوتِ الْأَجَلِ حَقًّا لِلْمَطْلُوبِ ثُمَّ الطَّالِبُ يَدَّعِي إيفَاءَ حَقِّهِ وَالْمَطْلُوبُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْأَجَلِ وَذَلِكَ بِبَيِّنَةِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ قِيَامَ الْأَجَلِ فِي الْحَالِ وَالطَّالِبُ يَنْفِي ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا لِإِثْبَاتِهِ الرَّدِّ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطِ الْأَجَلِ فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ شَرْطَ الْأَجَلِ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فَمَنْ يُنْكِرُ الْأَجَلَ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْعَقْدِ فِي الْمَعْنَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهُ كَالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَجَلَ أَيُّهُمَا كَانَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: إذَا كَانَ الطَّالِبُ يَدَّعِي الْأَجَلَ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْأَجَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ لِإِنْكَارِهِ قِيَاسًا لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ الطَّالِبِ فَإِذَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ فَكِلَاهُمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَذَا ادَّعَى الطَّالِبُ الْأَجَلَ فَكَلَامُ الْمَطْلُوبِ فِي الْإِنْكَارِ تَعَنُّتٌ لِأَنَّ الطَّالِبَ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّهِ وَهُوَ أَنْكَرَ ذَلِكَ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْمُتَعَنَّتِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ فَقَالَ: رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةً وَقَالَ: الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَلَوْ قَالَ: رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ: الْمُضَارِبُ إلَّا عَشَرَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْأَجَلُ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى شَرَائِطِهِ فَكَانَ الْمُنْكَرُ مِنْهُمَا لِلْأَجَلِ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَوْ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ كَانَ بِشُهُودِ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ مِنْ يَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ بِشُهُودِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ ثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ نَذَرَ صَلَاةً تَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مِنْ يُثْبِتُ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْد إذْ الْأَجَلُ شَرْطٌ زَائِدٌ كَالْخِيَارِ فَمَنْ يُثْبِتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أُولَى بِالْقَبُولِ. قَالَ: (وَإِذَا تَتَارَكَا السَّلَمَ بَعْدَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ) لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ وَالْمَطْلُوبُ يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا هُنَاكَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ تَحَالَفَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ كَالْبَيْعِ فِي احْتِمَالِ الْفَسْخِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ وَلَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنَّ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَرُدُّهُ بِذَلِكَ وَإِقَالَةُ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ حَتَّى لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَمْ تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَبِالْإِقَالَةِ يَسْقُطُ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشِي فَلَا يُتَصَوَّرُ فَسْخُ السَّبَبِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَبِدُونِ بَقَاءِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْإِقَالَةُ لَا يُتَصَوَّرُ فَسْخُ الْإِقَالَةِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ وَهُوَ بَاقِي بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَوَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا بَعْدَ مَا افْتَرَقَا فَأَنْكَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُشْتَرِيَ إذَا طَعَنَ بِعَيْبٍ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْضَرَهُ هُوَ الْمَبِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى قَبْضِ الْمُشْتَرِي لِمَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَهُنَا حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَثْبُتْ فِي الْجِيَادِ دَيْنًا وَهُوَ مُنْكِرٌ لِقَبْضِ الْحِيَادِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 كَانَ سَاكِتًا أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ هُوَ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي طَعَامٍ وَأَعْطَاهُ بَعْضَهَا وَأَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ بِبَعْضِهَا وَبَقِيَ عِنْدَهُ بَعْضُهَا ثُمَّ تَفَرَّقَا فَلَهُ مِنْ السَّلَمِ بِحِسَابِ مَا نَقَدَهُ وَقَدْ بَطَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ) لِافْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنَّهُ بِالْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بَلْ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَقَدْ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ حِينَ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ لِذَلِكَ وَيَرْجِعُ رَبُّ السَّلَمِ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي أَحَالَهُ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ إنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ كَمَا كَانَ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ الْحَيَوَانَ وَلَا مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ) لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مُعَجَّلٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ يَجُوزُ تَعَيُّنُهُ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ مَبِيعًا عَيْنًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّلَمُ عِنْدَ انْعِدَامِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ قَالَ: وَيُسْلِمُ الثَّوْبَ الْفَوْهِيَّ فِي الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالصَّنْعَةِ يُسْلَمُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الزُّطِّيُّ فِي الْهَرَوِيِّ وَالْكَسَا فِي الطَّيْلَسَانِ وَالطَّيْلَسَانُ فِي الْكَسَا وَالثَّوْبُ مِنْ الْكَتَّانِ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْقُطْنِ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْأُصُولِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ تَبْدِيلَ الِاسْمِ وَالْمَقْصُودِ وَالْوَذَارِيُّ يُرَادُ بِهِ مَا لَا يُرَادُ بِهِ الْبَلَدِيُّ وَالزَّنْدِيجِيُّ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْكُلِّ وَاحِدًا وَهُوَ الْقُطْنُ وَهُوَ كالسَّعْلاطَوِيِّ مَعَ الْخِمَارِ الْأَسْوَدِ جِنْسَانِ وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْإِبْرَيْسَمُ وَالْيَعْفُورِيُّ مَعَ الْكَسَا جِنْسَانِ وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْبَعْضِ فِي الْبَعْضِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالْقَزِّ وَالِإِبْرَيْسَمِ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ السَّلَمَ فِي مَدِينَةِ كَذَا وَفِي مِصْرِ كَذَا فَحَيْثُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يُكَلِّفَهُ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالشَّرْطِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْطِ الْجَيِّدِ فَحَيْثُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَقَدْ وَفَّى بِالشَّرْطِ وَلِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا مِنْ الْمِصْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُسْلِمَ فِي أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مِصْرَ كَذَا فَدَخَلَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَبَلَّغَ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْمِصْرِ (قُلْنَا) هَذَا مُسْتَحْسَنٌ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُ دَابَّةً أُخْرَى بَعْدَ دُخُولِ ذَلِكَ الْمِصْرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 لِيَتَبَلَّغَ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلَةٍ فَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْعُرْفِ لَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا يَعْدُو الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْعُرْفُ [السَّلَمُ فِي الْمُسَابِقِ وَالْفِرَا] قَالَ: (وَلَا خِيَارَ فِي السَّلَمِ فِي الْمُسَابِقِ وَالْفِرَا) لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ وَالْمُسْبَقُ مَا لَهُ كُمَّانِ طَوِيلَانِ كَمَا يَكُونُ لِلْأَكْرَادِ وَبَعْضِ الْعَرَبِ وَالْفَرْوُ مَا لَا كُمَّ لَهُ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْرُوفَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالتَّقْطِيعِ وَالصِّفَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ) لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ اُشْتُرِطَ فِيهِ الْأَوْقَارُ وَالْأَحْمَالُ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَبَعْضُهَا يَكُونُ أَثْقَلَ مِنْ بَعْضٍ وَهَذِهِ الْجَهَلَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَنْ يُحْمَلَ السَّلَمُ إلَى مَنْزِلِ صَاحِبِ السَّلَمِ بَعْدَ مَا يُوفِيهِ إيَّاهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَرَطَهُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَهِي بِالْإِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ ثُمَّ قَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَطْحَنَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ فِيهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ مَوْضِعُ هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ مَا يُوفِيهِ فِي مَكَانِ كَذَا لِيَكُونَ الْفَصْلُ الثَّانِي عَلَى وَزَانِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِاشْتِرَاطِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا انْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ إذْ لَا يَتَأَتَّى إيفَاؤُهُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْإِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ إلَّا بِالْحَمْلِ فَلَفْظُ الْحَمْلِ وَالْإِيفَاءِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ: (إنْ اشْتَرَطَ بِلَفْظِهِ الْإِيفَاءَ فَالثَّانِي مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ جِنْسِهِ فَيَنْفَسِخُ بِهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَطَ ابْتِدَاءَ هَذَا) فَأَمَّا الْحَمْلُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيفَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِالْفَيْنِ انْفَسَخَ بِهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَلَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَبَيَانُ الْمُجَانَسَةِ أَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَقْتَضِي الْحَمْلَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ قَدْ يَأْتِي إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَمْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيفَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَخْلُو مِنْهُ وَقِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ ابْتِدَاءً أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْزِلَهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْزِلُهُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِاسْتِبْدَالِ الْمَنْزِلِ بِالْمَنْزِلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْمِصْرِ لِلتَّوَطُّنِ وَمَنْزِلِهِ لِلْحَالِ مَعْلُومٌ فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَكُونُ هَذَا مَنْزِلَهُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَالتَّعَيُّنِ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ وَقِيلَ بَلْ مَوْضِعُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَنْزِلَهُ فِي الْمِصْرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 فِي أَيِّ مَحَلَّةٍ هُوَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْحَمْلِ أَوْ بِلَفْظِ الْإِيفَاءِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: نَأْخُذُ بِالْحَمْلِ فِي الْقِيَاسِ وَفِي هَذَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ هَذَا فِي مَصْلِ دِيَارِ خُوَارِزْمَ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِطُهُ الدَّقِيقَ فَإِنَّا فِي مَصْلِ دِيَارِنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ يُخَالِطُهُ دَقِيقُ الشَّعِيرِ وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَكْثُرُ وَبِجِنْسِهِ تَخْتَلِفُ الْمَالِيَّةُ فَكَانَ قِيَاسُ السَّلَمِ فِي النَّاطِفِ الْمُمَوَّنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ: رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ وَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَلْ هُوَ فِي زُطِّيٍّ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ) لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يَهُودِيٌّ غَيْرَ أَنَّ الطَّالِبَ قَالَ: هُوَ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا عَيْنًا وَاخْتَلَفَا فِي طُولِهِ وَعَرَضِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ لَمْ يَتَحَالَفَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَالذُّرْعَانُ لَا عَلَامَةَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ فِي الْمَقْدُورَاتِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ تَحَالَفَا ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الذُّرْعَانَ صِفَةٌ وَلَكِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءُ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ تَحَالَفَا فَكَذَلِكَ فِي الذُّرْعَانِ وَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ جَانِبِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانُ قِيَاسَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَثَرُهُ أَقْوَى يُؤْخَذُ بِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لِتَحَقُّقِ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَهُمَا وَالْجَيِّدُ غَيْرُ الرَّدِيءِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ تِلْكَ الْمُغَايِرَةِ هُنَا فَالطَّوِيلُ مِنْ الثَّوْبِ قَدْ يَصِيرُ قَصِيرًا بِقَطْعِ بَعْضِهِ وَالْقَصِيرُ قَدْ يُزَادُ فِيهِ فَيَصِيرُ طَوِيلًا فَلِهَذَا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنَهُ قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ أَوْ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يَتَفَرَّقَا) فَالْحَاصِلُ إنَّ هَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ (أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 أَوْ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَقَالَ: الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ بَلْ هَذَا الثَّوْبَ الْآخَرَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالسَّلَمَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ حَقَّهُ فَالطَّالِبُ يُثْبِتُ إزَالَةَ الثَّوْبِ بِاَلَّذِي عَيْنُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ مِلْكَهُ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدَيْنِ وَإِنْ قَالَ: الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ مَعَ هَذَا الثَّوْبِ الْآخَرِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ فِي عَقْدٍ وَبَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي عَقْدٍ آخَرَ وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَتِهِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَتِهِ بِإِسْلَامِ الثَّوْبَيْنِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ فَقَالَ: رَبُّ السَّلَمِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ دِينَارٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْعَقْدَيْنِ وَقِيلَ هَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِلدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَالدَّنَانِيرِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يُقْضَى بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَمَّا لَمْ يُثْبِتْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ وَحَقِّهِ فِي الْكُرِّ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِبَيِّنَتِهِ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ: الطَّالِبُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَالَ: الْمَطْلُوبُ عِشْرُونَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا جَمِيعًا بِأَنْ قَالَ: رَبُّ السَّلَمِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَقَالَ: الْمُسْلَمُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ وَيَقْضِي بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إسْلَامُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَعِنْدِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ كَمَا شَهِدَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ مَا أَمْكَنَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ فَحِينَئِذٍ يَشْتَغِلُ بِالتَّرْجِيحِ لِلضَّرُورَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي بِعَقْدٍ وَاحِدٍ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ لِلضَّرُورَةِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: (وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ وَلَمْ يُسَمِّ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوْبَ وَالْعَبْدَ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُ تَسْمِيَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ عَيْنًا بِثَوْبٍ وَاحِدٍ أَوْ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي تَخْصِيصِهِ بِشَيْءٍ بِأُولَى مِنْ الْآخَرِ قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ كَانَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ) لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَمُطْلَقُ الْعَطْفِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قَالَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَخَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْمَثَاقِيلَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ قَالَ: أَلْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِالْمَثَاقِيلِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ أَوْ بِالْعَقْدِ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِيهِ فِي الذِّمَّةِ لَا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَيَثْبُتُ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَالثِّيَابُ الْمَرْصُوفَةُ فِيهِ تَثْبُتُ مُؤَجَّلَةً لَا حَالَّةً لِأَنَّ اسْتِقْرَاضَ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ وَالسَّلَمُ فِيهَا صَحِيحٌ وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةً لَا حَالَّةً لِأَنَّ اسْتِقْرَاضَ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَلَا السَّلَمُ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا وَلَا حَالًّا بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي عِشْرِينَ مَخْتُومَ شَعِيرٍ أَوْ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ بِالشَّكِّ أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَيَّهُمَا شَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ حِينَ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَمْتَنِعُ جَوَازُ الْعَقْدِ فَفِي السَّلَمِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتَنِي إلَى شَهْرٍ فَكَذَا أَوْ إنْ أَعْطَيْتَنِي إلَى شَهْرَيْنِ فَكَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ إمَّا جِنْسًا وَإِمَّا قَدْرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ هَذَا وَنَحْوُهُ قَالَ: (وَلَا يَسْتَطِيعُ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَبِيعَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ» وَلَمَّا «بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غِيَاثَ بْنَ أَسَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاضِيًا وَأَمِيرًا قَالَ: انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ» وَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَقْبَلُ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ الْمَبِيعُ الْعَيْنُ إذَا كَانَ مَنْقُولًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ فَإِذَا كَانَ دَيْنًا أَوْلَى وَذَلِكَ الْغَرَرُ هُنَا قَائِمٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُنْوَى بِفَوَاتِ مَحِلِّهِ يَعْنِي إذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا وَلِهَذَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَكَمَا لَا يَبِيعُ الْمُسْلَمُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُشْرِكُ فِيهِ شَرِيكًا وَلَا يُوَلِّيهِ أَحَدًا لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ تَمْلِيكُ مَا يُمْلَكُ بِمِثْلِ مَا مُلِكَ بِهِ وَالْإِشْرَاكُ تَمْلِيكُ مِثْلِ مَا مَلَكَهُ بِمِثْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 نِصْفِ مَا مَلَكَ بِهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ فِي الْكُلِّ لَا يَجُوزُ مِنْهُ فِي الْبَعْضِ قَالَ: (رَجُلٌ قَالَ: لِرَجُلِ أَسْلَمْتَ إلَيَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ مَا سَكَتَ وَلَكَنَّى لَمْ أَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ مِنْكَ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ قَبَضْتَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّلَمَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ وَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: ابْتَعْتُ مِنْكَ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّسْلِيمَ فَجُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فَكَذَا فِي السَّلَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: ذَلِكَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ بِالسَّلَمِ مُقِرًّا بِالْقَبْضِ لَكَانَ هَذَا رُجُوعًا وَالرُّجُوعُ لَا يَعْمَلُ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: السَّلَمُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ فَمُطْلَقُهُ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ بَيَانًا فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ كَلَامِهِ وَالْبَيَانُ الْمُغَيِّرُ لِلَفْظِهِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لَا مَفْصُولًا وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلَفْظِهِ الْعَامِّ وَالتَّخْصِيصُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْإِبْطَالَ صَحِيحٌ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ: فِي الْأَصْلِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ قَدْ أَعْطَيْتَنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَوْ أَقْرَضْتَنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِرُءُوسِهَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْ وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْكُلِّ وَلَكِنْ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْأَوْضَحِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بِعْتَنِيهَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْهَا وَقَالَ: الْآخَرُ قَدْ قَبَضْتُ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا وَصَلَ أَمْ قَطَعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا إنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا فَصَلَ يُسْأَلُ الْمُقِرُّ لَهُ عَنْ جِهَةِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَرَّ بِجِهَةِ الْبَيْعِ وَقَالَ: قَدْ قَبَضْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا وَإِنْ قَالَ: الْمَالُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ بَلْ تَفْسِيرٌ لِمَا أَبْهَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الْبَيْعِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ كَمَا لَوْ قَالَ: ابْتَعْتُ مِنْكَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْهَا أَوْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي بِعْتَهَا مِنِّي وَلَمْ أَقْبِضْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقِرُّ لَهُ فِي الْجِهَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطْهُ فَلَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَفْصُولًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْهَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ لِمُوجَبِ إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً أَوْ قَالَ: إلَّا وَزْنَ خَمْسَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ثُمَّ رَجَعَ وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 مَفْصُولًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْمَالِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ جَارِيَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ثُمَّ رَجَعَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ابْتَعْتُ فَهُنَالِكَ مَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ إنَّمَا أَقَرَّ بِالِابْتِيَاعِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ جَارِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَمَا مِنْ جَارِيَةٍ يُحْضِرُهَا الْبَائِعُ إلَّا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْمَبِيعَةُ غَيْرُهَا وَلَوْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا مَعْلُومًا كَشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ فَهُنَا أَوْلَى بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا ادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ وَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ تِلْكَ الْجَارِيَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ لَوْ قَالَ: الْجَارِيَةُ جَارِيَتُكَ مَا بِعْتَهَا وَلِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ وَلَوْ قَالَ: الْجَارِيَةُ جَارِيَتِي وَلِي عَلَيْكَ الْمَالُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ لَهُ شَرْطَهُ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَعْطَاهُ كُرًّا بِغَيْرِ كَيْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا يَأْكُلَهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ رَبُّ السَّلَمِ بِذِكْرِ الْكُرِّ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ حَتَّى يَكْتَالَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» يَعْنِي إذَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى يَكِيلَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُسَمَّى وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَيْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَالَهُ فَوَجَدَهُ أَزْيَدَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الزِّيَادَةِ وَتَصْرِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَكْلُ وَالْبَيْعُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُ بِمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ كُرٌّ وَافٍ فَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَقَدْ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كُرًّا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ مَا فِي الْمُقَاصَّةِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءً عَنْ أَوَّلِهِمَا وَآخِرُهُ دَيْنُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ رَبُّ السَّلَمِ مُقْتَضِيًا طَعَامَ السَّلَمِ بِهِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ تَلَاقِي الْعَيْنِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كُرًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ بِقَبْضِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ فَأَمَّا فِي الْمَذْرُوعَاتِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ قَبْلَ الذَّرْعِ لِأَنَّ الذَّرْعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 صِفَةٌ حَتَّى لَوْ وَجَدُوهُ أَزْيَدَ يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ لَا يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْعَيْنِ وَقَدْ تَمَّ قَبْضُهُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ قَبْلَ الْعَدِّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ مِقْدَارٌ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ حَتَّى لَوْ وَجَدَهُ زَائِدًا لَا يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ يَحُطُّ حِصَّةَ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ فِيهِ قَبْلَ الْعَدِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ بِصِفَةِ الْعَدَدِ لَا يَصِيرُ مَالُ الرِّبَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَا يَتَحَقَّقَانِ فِيهِ إلَّا بِغَلَطٍ فِي الْعَدَدِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ هُنَاكَ يَظْهَرَانِ بِاجْتِهَادٍ مِنْ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَيَقَّنَ بِالْخَطَأِ فِيهِ وَهُنَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَا يَظْهَرَانِ إلَّا بِغَلَطٍ فِي الْعَدِّ فَكَانَ الْعَقْدُ مُتَنَاوِلًا لِلْعَيْنِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْعَدِّ كَمَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ أَزِيدُ لَا يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ يَحُطُّ بِحِصَّةِ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ فَصَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْقَدْرَ وَالْقَدْرُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَدِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ صَارَ عَدَدِيًّا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ لَا بِجَعْلِ الشَّرْعَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا بَاعَ جَوْزَةً بِجَوْزَتَيْنِ فَقَدْ أَعْرَضَا عَنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَمَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمْ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا ثُمَّ قَالَ: لِرَبِّ السَّلَمِ اقْبِضْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَبْضِ وَكِيلَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ قَبْضَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ وَكِيلُهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَالَهُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَكِيلُهُ ثَانِيًا لِلْقَبْضِ بِنَفْسِهِ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِكَيْلِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَكَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ أَيْ إذَا تَلَقَّاهُ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِهِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَلَقَّاهُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي فَصْلٍ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى طَعَامًا مُكَايَلَةً فَكَالَهُ الْبَائِعُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ وَلَكِنَّهُ يَكِيلُهُ مَرَّةً أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكِيلُ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَيْلِهِ بِنَفْسِهِ وَالْأَصَحُّ لَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْكَيْلِ بِحُكْمِ عَقْدِهِ فَفَعَلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 الْبَائِعُ بِحَضْرَتِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَفِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ اسْتِحْقَاقُ الْأَوَّلِ بِالْكَيْلِ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ الْكَيْلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالسَّلَمِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْكَيْلُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ دَفَعَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ فَقَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَاقْبِضْهُ لِي بِكَيْلٍ ثُمَّ كِلْهُ لِنَفْسِكَ بِكَيْلٍ مُسْتَقْبِلٍ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي الشِّرَاءِ لَهُ وَفِعْلُ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: كُلُّ مَا لِي عَلَيْكَ مِنْ الطَّعَامِ فَاعْزِلْهُ فِي بَيْتِكَ أَوْ فِي غَرَائِرِكَ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَبُّ السَّلَمِ قَابِضًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اقْبِضْهُ لِي بِيَسَارِكَ مِنْ يَمِينِكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالْمَدْيُونُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَوْ وَكَّلَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِ ذَلِكَ غُلَامَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ ابْنَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ رَبِّ السَّلَمِ فِي قَبْضِ حَقِّهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالْإِنْسَانُ يَصِيرُ قَابِضًا حَقَّهُ بِيَدِ نَائِبِهِ كَمَا يَصِيرُ قَابِضًا بِيَدِ نَفْسِهِ، قَالَ: (وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ فَقَالَ: كُلُّ مَالِي عَلَيْكَ اجْعَلْهُ فِي غَرَائِرِي فَفَعَلَ ذَلِكَ وَرَبُّ السَّلَمِ لَيْسَ بِحَاضِرٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا) وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ كُرٌّ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ السَّلَمِ مُوجَبٌ بِمِلْكِ الْعَيْنِ وَغَرَائِرُهُ لَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْهُ فِي تَمْلِكْ الْعَيْنِ وَفِي بَابِ الشِّرَاءِ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ لِلْإِحْرَازِ وَالْغَرَائِرُ تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْهُ فِي الْإِحْرَازِ وَالثَّانِي أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَيْلِ فِي غَرَائِرِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِنَفْسِهِ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ إنَّمَا يَكِيلُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وِلَايَةُ الْكَيْلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ إذْنُهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكِيلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إذْنٌ مُعْتَبَرٌ فَكَانَ كَيْلُهُ فِي غَرَائِرِهِ كَكَيْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ بِأَنْ يَطْحَنَ مَا عَلَيْهِ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الدَّقِيقُ لَهُ وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَبْدِلًا وَفِي الشِّرَاءِ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَطْحَنَهُ فَفَعَلَ جَازَ وَكَانَ الدَّقِيقُ لِلْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ فَفَعَلَ جَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ مُقَرَّرًا عَلَيْهِ وَلَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ ثَمَّ. قَالَ (فِي الشِّرَاءِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا كَانَ لَهُ الْبَائِعُ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي بِأَمْرِهِ قَبْلَ هَذَا غَلَطَ) لِأَنَّ الْغَرَائِرَ نَائِبَةٌ عَنْهُ فِي الْأَحْرَازِ لَا فِي مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ حَتَّى يَكِيلَهُ وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالْكَيْلِ مُعْتَبَرٌ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ فَكَانَ الْبَائِعُ فِي الْكَيْلِ كَالنَّائِبِ عَنْهُ وَالْغَرَائِرُ فِي الْقَبْضِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 وَالْإِحْرَازِ تَنُوبُ عَنْهُ وَفِعْلُ نَائِبِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَفِي السَّلَمِ إنْ كَانَ فِي الْغَرَائِرِ طَعَامٌ لِرَبِّ السَّلَمِ فَكَالَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَمْرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا هُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِخَلْطِ طَعَامِ السَّلَمِ بِطَعَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَيُّزُ مُعْتَبَرٌ فَيَصِيرُ بِهَذَا الْخَلْطِ قَابِضًا وَهُوَ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ لَوْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ نِصْفَ دِرْهَمِ فِضَّةٍ وَقَالَ: زِدْ مِنْ عِنْدِكَ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَصُغْ لِي مِنْهُمَا خَاتَمًا فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ وَصَارَ بِالْخَلْطِ قَابِضًا لَهُ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَأَجَلُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ أَوْ مُخْتَلِفَةٌ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخِرِ إذَا حَلَّا وَإِنْ تَقَاصَّا) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَيَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى بِهِ دَيْنٌ آخَرُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ قَبْضٌ بِكَيْلٍ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ آخَرَ بِهِ فَإِذَا تَقَاصَّا مِنَّا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَابِضًا الْمُسْلَمَ فِيهِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ: (فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُمَا مُسْلَمًا وَالْآخِرُ قَضَاءً لَا يَصِيرُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا فِي الْحَالِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقِصَاصَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُعَجَّلٌ وَالْآخَرَ مُؤَجَّلٌ وَالْمُعَجَّلُ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ إلَّا إذَا حَلَّ الْأَجَلُ فِي السَّلَمِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِصَاصًا إذَا كَانَ سَوَاءً تَقَاصَّا أَوْ لَمْ يَتَقَاصَّا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَيْلٍ بَعْد عَقْدِ السَّلَمِ وَهُوَ قَبْضُ الْمُسْتَقْرِضِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ لَوْ غَصَبَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا بَعْدَ مَا حَلَّ طَعَامُ السَّلَمِ كَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَقْرَضَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي بَابِ الْمُقَاصَّةِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ مِنْ أَوَّلِهِمَا وَلَا يَكُونُ أَوَّلُ الدَّيِّنَيْنِ قَضَاءً عَنْ آخِرِهِمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَلَا يَسْبِقُهُ وَلِهَذَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لَوْ وَجَبَ لِلْمَدِينِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَيْنٌ بِقَدْرِ حِصَّةٍ وَصَارَ قِصَاصًا كَانَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ وَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ سَابِقًا عَلَى دَيْنِهِمَا فَصَارَ قِصَاصًا لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ صَارَ بِنَصِيبِهِ قَابِضًا دَيْنًا عَلَيْهِ لَا مُقْتَضِيًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا كَانَ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَرْضًا فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ مِنْ الْقَرْضِ يَصِيرُ قَاضِيًا طَعَامَ السَّلَمِ وَرَبُّ السَّلَمِ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا وَإِذَا كَانَ الْقَرْضُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا وَإِنْ تَقَاضَيَا بِهِ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَصِيرُ قَاضِيًا بِطَعَامِ السَّلَمِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَرْضِ وَدَيْنُ السَّلَمِ يَجِبُ قَبْضُهُ وَلَا يَجُوزُ قَضَاءُ دَيْنٍ آخَرَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ أَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 رَجُلٍ كُرًّا فَقَالَ: لِصَاحِبِ السَّلَمِ كُلُّهُ فَاكْتَالَهُ رَبُّ السَّلَمِ كَيْلًا وَاحِدًا جَازَ وَيَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَيْلُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقْرِضَ لَوْ اسْتَرَدَّ مَا أَقْرَضَ وَلَمْ يَكِلْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَوْ قَبَضَ وَلَمْ يَكِلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَرَبُّ السَّلَمِ فِي الْقَبْضِ مِنْ الْمُقْرِضِ أَوْ الْمُسْتَقْرِضِ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَكَمَا قَبَضَهُ تَمَّ فِيهِ مِلْكُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَكِيلَهُ ثُمَّ إنَّمَا يَكِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ السَّلَمِ فَلِهَذَا يَكْفِيهِ كَيْلٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ لَا يَتَعَيَّنُ مِلْكُهُ إلَّا بِالْكَيْلِ فَكَانَ الْكَيْلُ الْأَوَّلُ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ كَتَعْيِينِ مِلْكِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكِيلَهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْلًا مُسْتَقْبَلًا قَالَ: (وَإِنْ تَتَارَكَا السَّلَمَ وَرَأْسُ الْمَالِ ثَوْبٌ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) وَكَذَلِكَ لَوْ تَتَارَكَا بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا بِدَرَاهِمَ فَتَقَابَضَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا أَوْ هَالِكًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ مِنْ الْمَحِلِّ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَمَحِلُّ الْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ وَلِهَذَا شَرَطَ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ دُونَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا عِنْدَ الْإِقَالَةِ فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْعَارِضَ مِنْ هَلَاكِ الْمَحِلِّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْإِقَالَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَيُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ (وَالثَّانِي) لَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَقِيَتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ صَحِيحٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ جَمِيعًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ بِخِلَافِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِرَدِّ الْآخَرِ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءُ الْإِقَالَةِ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ تَبْقَى الْإِقَالَةُ فِي الْقَائِمِ وَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ الْهَالِكِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتُرَدُّ الْقِيمَةُ إذْ الْقِيمَةُ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ التَّرَادِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ بَعْدَ هَلَاكِهِمَا بَاطِلٌ إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَحِلِّ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِهِمَا (وَالثَّالِثُ) السَّلَمُ إذَا تَقَايَلَا وَرَأْسُ الْمَالِ عَيْنٌ فَهَلَكَتْ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ بَعْدَ هَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ صَحِيحٌ فَإِنَّ السَّلَمَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ مَا يُقَابِلُهُ وَإِذَا بَقِيَتْ الْإِقَالَةُ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 رَأْسِ الْمَالِ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ إذَا اخْتَلَفَا لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً وَهُوَ مُنْكِرٌ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ (وَالرَّابِعُ) الصَّرْفُ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَتَقَابَضَا وَهَلَكَ الْبَدَلَانِ جَمِيعًا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ هَلَكَ الْبَدَلَانِ قَبْلَ التَّرَادِّ جَازَتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا اسْتَوْجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَلْزَمُهُ رَدَّ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ وَلَكِنْ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِثْلَهُ فَلَا يَكُونُ هَلَاكُ الْمَقْبُوضِ مَانِعًا مِنْ الْإِقَالَةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ تَشْوِيشٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَأَلْفَاظٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَصْحِيحِهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْقَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَيَا جَارِيَةً بِعَبْدٍ وَتَقَابَضَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي يَدَيْهِ ثُمَّ تَنَاقَضَا أَنَّهُ جَائِزٌ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الْقَرْضَ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمْلِيكُ الطَّعَامِ بِمِثْلِهِ فَلَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْ الْكَيْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَبِيعِ كَمَا أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِبَيْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَجُوزُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً الْبَيْعُ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِقِيمَةِ جَارِيَةٍ هَالِكَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْحَيِّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ يَعْنِي شِرَاءَ الْحَيِّ بِقِيمَةِ الْمَيِّتِ أَوْ شِرَاءَ الْحَيِّ بِالْحَيِّ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَكِنَّ هَذَا تَكَلُّفٌ وَلَا يَلِيقُ هَذَا اللَّفْظُ بِفَصَاحَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ شِرَاءَ الْحَيِّ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ السَّلَمُ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ يَعْنِي أَنَّ الْإِقَالَةَ بَعْدَ هَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ قَالَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْأَثْمَانَ الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ، يَعْنِي أَنَّ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِهِمَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ يَعْنِي إذَا اشْتَرَيَا عَيْنًا بِنَقْدٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَهَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا دَرَاهِمَ سَتُّوقَةً فَجَاءَ يَرُدُّهَا فَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ هَذَا مِنْ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ بَطَلَ نِصْفُ السَّلَمِ وَقَالَ: رَبُّ السَّلَمِ بَلْ هُوَ ثُلُثُ رَأْسِ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ لَمْ يَتِمَّ فِي جَمِيعِ الْكُرِّ وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي قَبْضِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِقْدَارُ حَقِّهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَرَبُّ السَّلَمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ ثُلُثَيْ حَقِّهِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُنْكِرُ الْقَبْضَ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يُثْبِتَ مَا يَدَّعِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 بِالْبَيِّنَةِ وَإِذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَقَامَ رَبُّ السَّلَمِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ وَأَقَامَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا فَالسَّلَمُ جَائِزٌ وَيُؤْخَذُ بَيِّنَةُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ تَنْفِي ذَلِكَ وَالْبَيِّنَاتُ تَتَرَجَّحُ بِالْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ يَكُونُ؟ وَأُورِدَ هَذَا فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ: عَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ يَدَّعِي الْقَبْضَ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْعَقْدِ اتِّفَاقًا مِنْهُمَا عَلَى قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَاَلَّذِي يُنْكِرُ الْقَبْضَ فِي حُكْمِ الرَّاجِعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ فِي قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ رَأْسُ الْمَالِ لِأَنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ مَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ بِالْقَبْضِ وَأَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَرَبُّ السَّلَمِ يَدَّعِي أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ بِأَعْيَانِهَا فَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَوْدَعْتُهَا إيَّاهُ أَوْ غَصَبَهَا بَعْدَ قَبْضِي لَهَا وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيُقْضَى لَهُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ قَبْضَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ تَمَّ مِلْكُهُ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ زَعَمَ أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ الْوَدِيعَةِ أَوْ بِالْغَصْبِ وَلَوْ أَسْلَمَ فُلُوسًا فِي طَعَامٍ يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي بَابِ الْبَيْعِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ فِي بَابِ السَّلَمِ وَلَا يَجُوزُ فِي الصُّفْرِ رَجُلٌ بَاعَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا بِشَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَى فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي وَتَفَرَّقَا أَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي السَّلَمِ هَكَذَا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ لِمُقْتَضَى اسْمِ السَّلَمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْفَرْقِ فَقَالَ: لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِحِنْطَةٍ وَسَمَّى الْكَيْلَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَجَلًا كَانَ جَائِزًا وَلَوْ أَسْلَمَ هَذَا الثَّوْبُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَجَلًا كَانَ فَاسِدًا وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ جُعِلَ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الِاسْمِ فَكَذَلِكَ التَّعْجِيلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ مُقْتَضَى الِاسْمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ أَخْذِ الرَّهْنِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّاهِنِ إذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِ فَسَقَطَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِدَفْعِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ الْوَكِيلِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْوَكِيلُ شَرِيكًا لِرَبِّ السَّلَمِ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّ أَدَاءَهُ قَامَ مَقَامَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ إذَا قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِأَدَاءِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَبَضَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ رَبَّ السَّلَمِ كَانَ جَائِزًا. وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلَمِ كَفِيلٌ فَاسْتَوْفَى الْكَفِيلُ السَّلَمَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَذَلِكَ حَلَالٌ لَهُ إذَا قَضَى رَبَّ السَّلَمِ طَعَامًا مِثْلَهُ لِأَنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ كَمَا يُوجِبُ لِرَبِّ السَّلَمِ عَلَى الْكَفِيلِ يُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ مَالَ الْكَفِيلِ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتِ أَدَائِهِ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ السَّلَمِ فَإِذَا اسْتَوْفَى قَبْلَ الْأَجَلِ فَقَدْ اسْتَعْجَلَ دَيْنًا لَهُ مُؤَجَّلًا وَالْمَقْبُوضُ بِهَذَا السَّبَبِ يَمْلِكُ مِلْكًا صَحِيحًا فَإِنَّمَا تَصَرُّفٌ وَرِبْحٌ فِي مِلْكٍ حَلَالٍ لَهُ فَلِهَذَا طَابَ لَهُ الرِّبْحُ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا إذَا تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِأَدَاءِ طَعَامِ السَّلَمِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّلَمُ إلَيْهِ هُوَ الَّذِي قَضَى رَبُّ السَّلَمِ طَعَامَ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِطَعَامٍ مِثْلِ مَا دَفَعَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ فِي ذَلِكَ لِيَسْقُطَ دَيْنُ رَبِّ السَّلَمِ عَنْهُ بِأَدَائِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى ثُمَّ قَالَ: فِي هَذَا الْكِتَابِ فَمَا رَبِحَ يَطِيبُ لِلْكَفِيلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ وَفِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ قَالَ: لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ وَوَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ وَيَمْلِكُهُ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ طَعَامَ السَّلَمِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ وَصَارَ هَذَا كَالْمَقْبُوضِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ فِيهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ شَرْعًا وَالسَّبِيلُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَعْنَى الْخُبْثِ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ بَلْ لِخَلَلٍ فِي رَضَا الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مَعَ الرِّبْحِ انْعَدَمَ الْخُبْثُ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إنَّمَا رَبِحَ عَلَى مِلْكِ نَصِيبِهِ وَوَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ مِلْكًا صَحِيحًا وَكَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُطْلَقًا لَهُ شَرْعًا فَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِهِ يَكُونُ حَلَالًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى طَعَامَ السَّلَمِ كَانَ الرِّبْحُ طَيِّبًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْمُسْلِمِ إلَيْهِ عَلَى الْكَفِيلِ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ وَبَانَ لِحَقِّهِ دَيْنٌ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ خُبْثٌ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْكَسْبِ كَمَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ بِسَبَبٍ آخَرَ هَذَا إذَا قَبَضَهُ الْكَفِيلُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ فَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ طَعَامَ السَّلَمِ لِيَكُونَ رَسُولَهُ فِي تَبْلِيغِهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لَا يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ كَالْمُودَعِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي الْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ قَضَى الْكَفِيلُ السَّلَمَ مِنْ مَالِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ثُمَّ صَالَحَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ عَلَى عُرُوضٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَكُونُ اسْتِبْدَالًا لِأَنَّ الْكَفِيلَ هُنَا مُقْرِضٌ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ مُسْلَمًا فِيهِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَا يَجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَوُجُوبُ هَذَا بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ طَعَامَ السَّلَمِ عَلَى الْكَفِيلِ لَا لِلْكَفِيلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِبْدَالًا وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُقْرِضِ لِمَا أَدَّى مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرْضًا عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَوْ أَجَّلَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فِيهِ لَزِمَهُ الْأَجَلُ وَالْأَجَلُ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ لَا يَلْزَمُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى السَّلَمِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ أَكْفَلَ رَجُلٌ لِرَبِّ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُتَرَادَّا فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَقِيلَ الْإِقَالَةُ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ لِرَبِّ السَّلَمِ الْمُسْلَمُ فِيهِ لَا رَأْسُ الْمَالِ وَإِنَّمَا كَفَلَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَهُ وَلَمْ يُضِفْ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا تَقَايَلْتُمَا الْعَقْدَ فَأَنَا كَفِيلُ بِرَأْسِ الْمَالِ لَكَ وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الْإِقَالَةِ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِنَّمَا كَفَلَ عَنْهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الْكَفَالَةِ فِي شَيْءٍ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَدْهَانِ الْمُرَبَّى بِالْبَنَفْسَجِ وَالزِّئْبَقِ وَالْحِنَّا وَغَيْرَهُ يَجُوزُ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَضْبُوطٌ بِالْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ قَالَ: هَذَا يَجُوزُ فِي الدُّهْنِ الصَّافِي أَمَّا الْمُرَبَّى بِالْبَنَفْسَجِ وَغَيْرِهِ فَلَا لِأَنَّ الْمُرَبَّى يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يُرَى بِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالرَّيَاحِينِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إعْلَامُهُ بِإِعْلَامِ قَدْرِ مَا يُؤَدَّى بِهِ. قَالَ: (وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَيْلُ الرِّطْلِ فَهُوَ مَوْزُونٌ يُرِيدُ بِهِ الْأَدْهَانَ وَنَحْوَهَا) لِأَنَّ الرِّطْلَ إنَّمَا يَعْدِلُ بِالْوَزْنِ إلَّا أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَزْنُ الدُّهْنِ بِالْأَمْنَاءِ وَالسَّنَجَاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَسَّكُ إلَّا فِي وِعَاءٍ وَفِي وَزْنٍ كُلُّ وِعَاءٍ نَوْعُ حَرَجٍ فَاتُّخِذَ الرِّطْلُ لِذَلِكَ تَيْسِيرًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَيْلُ الرِّطْلُ فَهُوَ مَوْزُونٌ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ وَإِذَا أَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي خَمْرٍ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالْعَصِيرِ فِي حَقِّنَا فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ خَمْرِ السَّلَمِ بَطَلَ السَّلَمُ وَرَدَّ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 وَجَدَ الْخَمْرَ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ فَيَجْعَلُ وُجُودَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَوُجُودِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْضُ تَمَلُّكٍ فَإِنَّهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ مِلْكُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ الْخَمْرَ بِحُكْمِ عَقَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ الْخَمْرَ مِنْ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ تَحَقَّقَ فَوَاتُ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَمَتَى تَحَقَّقَ فَوَاتُ قَبْضِ الْمَبِيعِ بَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْهَلَاكِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَبَضَ بَعْضَهُ بَطَلَ مَا بَقِيَ وَجَازَ مَا قَبَضَ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَمَّ فِي الْمَقْبُوضِ فَبِإِسْلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ وَلَكِنَّ إسْلَامَهُ يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِ مَا بَقِيَ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الطَّارِئَ يُلَاقِي الْمُنْتَهِي بِالْعَفْوِ عَنْهُ وَالْقَائِمَ بِالرَّدِّ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] فَبِنُزُولِ حُكْمِ الرِّبَا إنَّمَا لَزِمَهُمْ تَرْكُ مَا لَمْ يَقْبِضُوا لَا رَدُّ مَا قَبَضُوا مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ وَالْمُسْلِمُ فِي حُكْمِ السَّلَمِ سَوَاءٌ مَا خَلَا الْخَمْرَ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّلَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّ فَسَادَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِعَجْزِ الْعَاقِدِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ السَّلَمِ فِي الشَّاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ وَهُمْ يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ جَيِّدٍ مِنْ طَعَامِ الْعِرَاقِ أَوْ الشَّامِ فَهُوَ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ أَوْ قَرَاحٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهُ بِآفَةِ فَأَمَّا طَعَامُ وِلَايَةٍ كَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهُ عُرْفًا بِآفَةٍ فَإِنَّمَا أَسْلَمَ فِيمَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الصُّوفِ وَزْنًا لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ اشْتَرَى كَذَا جَزَّةً بِغَيْرِ وَزْنٍ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهَالَةِ لِأَنَّ مِقْدَارَ الصُّوفِ فِي كُلِّ جَزَّةٍ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَسْلَمَ فِي صُوفِ غَنَمٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهُ بِالْهَلَاكِ وَلِأَنَّ تَعَيُّنَ مَحِلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَتَعَيُّنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ الصُّوفَ الَّذِي عَلَى ظَهَرِ الشَّاةِ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ فِيهِ وَكَذَلِكَ أَلْبَانُهَا وَسُمُونُهَا لَمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مَا دَامَتْ مُتَّصِلَةً بِالْحَيَوَانِ فَهِيَ وَصْفٌ لِلْحَيَوَانِ وَلَا تَثْبُتُ فِيهَا الْمَالِيَّةُ مَقْصُودًا إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَا تَكُونُ قَابِلَةً لِلْعَقْدِ مَقْصُودًا وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ فِي سَمْنٍ حَدِيثٍ أَوْ زَيْتٍ حَدِيثٍ فِي غَيْرِ حِينِهِ وَجَعَلَ أَجَلَهُ فِي حِينِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فِي الْحَالِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَكَذَلِكَ لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ الْحَدِيثَةِ لِأَنَّهَا الْيَوْمَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَلَا يُدْرَى أَيَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 لَا فَلَا يَكُونُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لَهُ وَبِدُونِ قُدْرَةِ التَّسْلِيمِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ خَاصَّةً وَهِيَ تَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ قَرَاحٍ بِعَيْنِهِ قِيلَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا هَرَاةَ خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ قَرْيَةٌ مِنْ الْعِرَاقِ تُسَمَّى هَرَاةَ وَتِلْكَ الْقَرْيَةُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يُصِيبَهَا آفَةٌ فَأَمَّا هَرَاةُ خُرَاسَانَ لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهَا فَهُوَ وَالسَّلَمُ فِي طَعَامِ الْعِرَاقِ سَوَاءٌ. ثُمَّ قَالَ: (وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فَلَا بَأْسَ بِهِ) مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ فَالْمُرَادُ قَدْ يَسْتَأْصِلُ طَعَامَ هَرَاةَ وَلَا يَسْتَأْصِلُ حَرَكَةَ هَرَاةَ وَهَذَا ضَعِيفٌ قَالُوا قَدْ يَسْتَأْصِلُ حَرَكَةَ هَرَاةَ أَيْضًا وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ فِي الْفَرْقِ أَنَّ نِسْبَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِتَعَيُّنِ الْمَكَانِ فَإِنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ مَا يُنْسَجُ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ فَسَوَاءٌ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِهَرَاةَ أَوْ بِغَيْرِ هَرَاةَ يُسَمَّى هَرَوِيًّا بِمَنْزِلَةِ الزِّنْدِيجِيِّ وَالْوَذَارِيِّ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: الثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ مِنْ الثِّيَابِ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ مِنْ الْحُبُوبِ يَعْنِي بِهَذَا بَيَانَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ حِنْطَةَ هَرَاةَ مَا تَنْبُتُ بِأَرْضِ هَرَاةَ حَتَّى أَنَّ النَّابِتَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُنْسَبُ إلَى هَرَاةَ وَإِنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ هَذَا تَعْيِينًا مِنْهُ لِلْمَكَانِ وَلِذَلِكَ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهُ وَقَالَ: مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ نَسَبَ الطَّعَامِ إلَى مَوْضِعٍ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ بَيَانُ الصِّفَةِ فَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ السَّلَمَ كَالْحُمْرَانِيِّ سَحَارِيٍّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ لِبَيَانِ صِفَةِ جَوْدَةِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مَا يَثْبُتُ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ لَا يَصْنَعُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ يُصْنَعُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَعَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَنْسُوجِ بِصِفَةِ فَيُسَمَّى بِهِ وَإِنْ نُسِجَ فِي غَيْرِ هَرَاةَ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْبَوَادِي وَالْحَصِيرِ إذَا وُصِفَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالصِّفَةُ) لِأَنَّهُ مَذْرُوعٌ مَعْلُومٌ كَالثِّيَابِ فَالْحَصِيرُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبَرْدِيِّ وَالْحَشِيشِ وَالْبُورِيَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْقَصَبِ وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي نَصْلِ السَّيْفِ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ بَعْدَ بَيَانِ نَوْعِ الْحَدِيدِ الْأَشْيَاءِ يَسِيرًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٌ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْجَيِّدِ مِنْ الطَّعَامِ [السَّلَمُ فِي الطَّلْعِ] وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الطَّلْعِ وَهُوَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَا يَبْدُو مِنْ النَّخِيلِ قِيلَ هُوَ شَيْءٌ أَحْمَرُ مِثْلُ لِسَانِ الْبَقَرِ يَبْدُو مِنْ النَّخْلِ ثُمَّ يَخْرُجُ التَّمْرُ مِنْهُ وَقَدْ يُقْطَعُ ذَلِكَ فَيُؤْكَلُ كَمَا هُوَ أَوْ يُطْبَخُ مِنْهُ الْمَرَقَةُ لِحُمُوضَةٍ فِيهِ وَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ يَخْتَلِفُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَتَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَذَلِكَ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّرِيكَيْنِ قِسْمَةُ السَّلَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِلْحِيَازَةِ وَذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 بِأَنْ يَجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُصِيبَهُ فِي حَيِّزِهِ وَفِي الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ثُمَّ الْقِسْمَةُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَقَطْعِ الِانْتِفَاعِ عَنْ نَصِيبِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَكَانِ كَذَا فَقَالَ: الْمُسْلَمُ إلَيْهِ خُذْهُ فِي مَكَان آخَرَ وَخُذْ مِنِّي الْكُرَّ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَبَضَهُ كَانَ قَبْضُهُ جَائِزًا لِأَنَّهُ أَخَذَ حَقَّهُ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْكِرَا إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ بِقَبْضِهِ وَإِنَّمَا يَحْمِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْإِنْسَانُ فِي حَمْلِ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الْغَيْرِ وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الْغَيْرِ بِعَمَلٍ يُعْمَلُ لِلْغَيْرِ لَا لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْ الْكِرَا وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَبْضِهِ وَإِنْ شَاءَ يَرُدُّهُ حَتَّى يُوفِيَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَرَطَ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ الْكِرَا فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ وَبِدُونِ رِضَاهُ لَا يَسْقُطُ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَإِنَّ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ تَمَّ قَبْضُهُ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاقِي لَهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الْمَقْبُوضِ فِي يَدِهِ وَالْخِيَارُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَسْتَوْجِبُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ عِنْدَ سُقُوطِ خِيَارِهِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسْلِمَ الْعُرُوضَ فِي تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَلَا فِي تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ) لِأَنَّ عَيْنَ التُّرَابِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّلَمَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ بِذِكْرِ وَزْنِ التُّرَابِ لَا يَصِيرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَخْلُو بَعْضُ التُّرَابِ مِنْهُ وَقَدْ يَقِلُّ فِيهِ وَقَدْ يَكْثُرُ فَعَرَفْنَا أَنَّمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ فَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِذَلِكَ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْحِنْطَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا فِيمَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ بِالرِّطْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُكَالُ بِالرِّطْلِ فَهُوَ مَوْزُونٌ وَاسِلَامُ الْمَكِيلِ فِي مَوْزُونٍ هُوَ مَبِيعٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْبَدَلَيْنِ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ الْجِنْسِيَّةُ وَالْقَدْرُ الْوَاحِدُ وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا يُكَالُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً وَكَذَلِكَ الْمَوْزُونَاتُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَلَا بَأْسَ بِالْبَنَفْسَجِ بِالْحِنَّا وَالزِّئْبَقِ وَالْوَرْدِ رِطْلَيْنِ بِرِطْلٍ فَإِنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا اتَّحَدَ أَصْلُهُ مِنْهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِيمَا اخْتَلَفَ أَصْلُهُ لَهُ قَوْلَانِ لِأَنَّ الِاسْمَ وَالْهَيْئَةَ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ فِيهَا الرَّائِجَةُ وَبِاخْتِلَافِ الرَّائِجَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ كَالْمُنْتِنِ مِنْ اللَّحْمِ مَعَ غَيْرِ الْمُنْتِنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بِمَا حَلَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الصِّفَةِ اخْتَلَفَ الْأَصْلُ وَالْمَقْصُودُ وَمَنْعُ عَوْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مِثْلِ حَالِ صَاحِبِهِ فَيَخْتَلِفُ الْجِنْسُ كَالثِّيَابِ وَالْوَذَارِيِّ مَعَ الزِّنْدِيجِيِّ جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ وَعَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 هَذَا الزُّبْدُ مَعَ السَّمْنِ وَكَذَلِكَ الزَّيْتُ الْمَطْبُوخُ مَعَ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَالدُّهْنُ الْمُرَبَّى بِالْبَنَفْسَجِ مَعَ غَيْرِ الْمُرَبَّى يَجُوزُ بَيْعُ رِطْلٍ مِنْ الْمَطْبُوخِ وَالْمُرَبَّى بِرِطْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَغَيْرِ الْمُرَبَّى لِأَنَّ تِلْكَ الرَّائِجَةَ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةٍ فِي عَيْنِهَا فَكَأَنَّهُ بَاعَ رِطْلًا مِنْ زَيْتٍ وَبَقْلِهِ بِرِطْلَيْنِ مِنْ زَيْتٍ فَيَكُونُ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا إذَا كَانَ الْمَطْبُوخُ يُنْتَقَصُ إذَا ذَهَبَتْ تِلْكَ الرَّائِجَةُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَقَصُ فَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخِ إلَّا رِطْلًا بِرِطْلٍ بِخِلَافِ الْمُرَبَّى بِالْبَنَفْسَجِ مَعَ الْمُرَبَّى بِالْيَاسَمِينِ فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِيرُ مِثْلَ صَاحِبِهِ بِحَالٍ وَهُنَا غَيْرُ الْمَطْبُوخِ مِنْ الزَّيْتِ يُطْبَخُ فَيَكُونُ مِثْلَ الْمَطْبُوخِ فَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا الْأَلْبَانُ فَإِنَّهَا أَجْنَاسٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْكُلُّ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَبَنُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِاتِّفَاقِ الِاسْمِ وَالْهَيْئَةِ وَتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أُصُولُهَا أَجْنَاسٌ وَاللَّبَنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ فَكَانَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْأَصْلِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَلَا تَقَارُبَ فِي الْمَقْصُودِ أَيْضًا فَإِنَّ مَقْصُودَ الْمَسْلَى يَحْصُلُ بِلَبَنِ الْبَقَرِ دُونَ لَبَنِ الْإِبِلِ حَتَّى إنَّ مَا يَكُونُ أَصْلُهُ جِنْسًا وَاحِدًا كَالْبَقَرِ مَعَ الْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ مَعَ الْبَخَاتِيِّ وَالْمَعْزِ مَعَ الضَّأْنِ فَلَبَنُهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَدَلِيلُ اتِّحَادِ جِنْسِ الْأَصْلِ تَكْمِيلُ نِصَابِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْهَيْئَةِ هُنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِرُؤْيَةِ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ الْكُلُّ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّفَاقِ اسْمِ الْعَيْنِ وَهُوَ اللَّحْمُ وَتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا فَإِنَّ كُلَّهَا يَصْلُحُ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ اتِّخَاذُ الْمَرَقَةِ مِنْهَا وَعِنْدَنَا هِيَ أَجْنَاسٌ لِأَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ حَتَّى لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ الْأَسَامِي مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ كَدَقِيقِ الْحِنْطَةِ مَعَ دَقِيقِ الشَّعِيرِ وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ مَعَ الْمَرْوِيِّ وَكَذَا لَحْمُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا فَبَعْضُ النَّاسِ يَرْغَبُ فِي بَعْضِ اللُّحُومِ دُونَ الْبَعْضِ فَرُبَّمَا يَنْفَعُهُ الْبَعْضُ وَيَضُرُّهُ الْبَعْضُ وَلَا تَفَاوَتَ فِي الْمَقْصُودِ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا وَلَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ هِيَ مَوْزُونَةٌ كُلُّهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ نَسِيئَةً وَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا) لِأَنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ شُبْهَةَ الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ فِي الصُّورَةِ هُوَ تَفْرِيقُ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ الدَّقِيقِ غَيْرَ الْحِنْطَةِ وَيُجْعَلُ الدَّقِيقُ حَاصِلًا بِالطَّحْنِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْغَاصِبِ إذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 طَحَنَ الْحِنْطَةَ إلَّا أَنَّ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَالشُّبْهَةُ فِيهِ تَعْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَعِنْدَ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْمُجَانَسَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ إلَّا مُتَسَاوِيًا فَكَذَلِكَ إذَا وَجَبَتْ شُبْهَةُ الْمُجَانِسَةِ وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ بَيْنَ الدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ فَالدَّقِيقُ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً قَطُّ وَلَكِنَّ الْحِنْطَةَ تُطْحَنُ وَلَا يُدْرَى أَنَّ بَعْدَ الطَّحْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِي الْمِكْيَالِ أَمْ لَا فَإِذَا كَانَ بِالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ فِي الْحَالِ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الطَّحْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِآخَرَ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالنُّخَالَةِ وَالنُّخَالَةُ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ كَالدَّقِيقِ إلَّا أَنَّهُ جُزْءٌ خَشِنٌ وَالدَّقِيقُ جُزْءٌ لَيِّنٌ فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ عِنْدَنَا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَعْتَدِلُ فِي الدُّخُولِ فِي الْكَيْلِ فَإِنَّهُ يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ وَالْكَيْلُ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ مِعْيَارًا شَرْعًا إلَّا فِيمَا يَعْتَدِلُ فِي الْكَيْلِ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ وَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ إذَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ فَشَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ عِنْدَهُ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا لَا يَعْتَدِلُ بِالْكَيْلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكَيْلُ فِيمَا هُوَ مَكِيلٌ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَالدَّقِيقُ مَكِيلٌ وَمَعْرِفَةُ كَوْنِهِ مَكِيلًا بِالرُّجُوعِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَهُمْ يَكِيلُونَ الدَّقِيقَ كَالْحِنْطَةِ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّقِيقِ كَيْلًا كَمَا يَجُوزُ فِي الْحِنْطَةِ فَكَانَ الْكَيْلُ فِيهِ مِعْيَارًا شَرْعِيًّا وَمَا يُتَوَهَّم فِيهِ مِنْ التَّفَاوُتِ عِنْدَ التَّكَلُّفِ فِي كَيْلِ الدَّقِيقِ يُتَوَهَّمُ فِي الْحِنْطَةِ أَيْضًا ثُمَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَوَجَبَ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ [بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ] وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ الْبَيْعُ تَسَاوِيًا أَوْ تَفَاضُلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَإِنَّ الِاسْمَ مُخْتَلِفٌ وَالْمَقْصُودَ مُخْتَلِفٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالدَّقِيقِ اتِّحَادَ الْخُبْزِ وَالْعَصَايِدِ وَالْأَطْوِلَةِ مِنْهُ وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّوِيقِ إنَّمَا يُلَتُّ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ فَيُؤْكَلُ كَذَلِكَ أَوْ يُضْرَبُ بِالْمَاءِ فَيُشْرَبُ فَكَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْصُودِ أَظْهَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ مِنْ الثِّيَابِ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِيرُ مِثْلَ صَاحِبِهِ بِحَالٍ فَالسَّوِيقُ لَا يَصِيرُ دَقِيقًا وَالدَّقِيقُ لَا يَصِيرُ سَوِيقًا بِحَالٍ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُعْرَفُ بِهَذَا ثُمَّ اتِّحَادُ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَالْأَدْهَانِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ مُتَسَاوِيًا لَا مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ الدَّقِيقَ قَدْ يَصِيرُ سَوِيقًا بِأَنْ يُرَشَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ثُمَّ يُقْلَى فَيَصِيرُ سَوِيقًا وَبِبَغْدَادَ يُتَّخَذُ السَّوِيقُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَتُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَلَأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ السَّوِيقَ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ وَالدَّقِيقَ أَجْزَاءُ حِنْطَةٍ غَيْرِ مَقْلِيَّةٍ وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّهُمَا إنَّمَا جُعِلَا جِنْسًا وَاحِدًا بَلْ الطَّحْنُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بَعْدَ الطَّحْنِ فِيهِمَا عَمَلٌ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ وَإِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ مَالَ الرِّبَا وَهُوَ قَبْلَ الْقَلْيِ وَالطَّحْنِ وَبِتَسَاوِيهِمَا كَيْلًا فِي الْحَالِ لَا تَظْهَرُ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةُ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَرِبَا الْفَضْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالسَّوِيقِ صُورَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ وَاَلَّذِي فِي ضِمْنِ الْحِنْطَةِ دَقِيقٌ فَتَثْبُتُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ السَّوِيقِ وَالدَّقِيقِ بَعْدَ الطَّحْنِ كَمَا تَثْبُتُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ السَّوِيقِ وَالْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ قَبْلَ الطَّحْنِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ رِبًا وَبَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالسَّوِيقِ رِبًا وَمَنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسًا لِلْحِنْطَةِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جِنْسًا لِلْآخِرِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الِاسْمُ لِلصَّنْعَةِ لَا اسْمِ الْعَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِيمَا كَانَ لَهُ لَتُّ الْحِنْطَةِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ فَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ فِي السَّوِيقِ وَبِهِ لَا يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلُوَّةِ وَالْعِلْكَةِ مَعَ الرَّخْوَةِ وَاَلَّتِي أَكَلَهَا السُّوسُ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ وَاِتِّخَاذُ الْهَرِيسَةِ وَالْكُشْكِ مِنْهَا وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ فَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ مَعَ السَّوِيقِ وَلَا خَيْرَ فِي الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا فِي الزَّيْتُونِ أَقَلُّ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ تَارَةً وَبِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ أُخْرَى فَفِيمَا وُجِدَتْ الْمُجَانَسَةُ عَيْنًا لَا تُعْتَبَرُ فِي الضِّمْنِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ قَفِيزِ حِنْطَةٍ عِلْكَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَكَلَهَا السُّوسُ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي الضِّمْنِ وَفِي الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ تُعْتَبَرُ الْمُجَانَسَةُ بِمَا فِي الضِّمْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا آخَرَ حُكْمًا ثُمَّ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ صُورَةً فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُجَانَسَةُ بِمَا فِي الضِّمْنِ وَهُوَ الزَّيْتُ الَّذِي فِي الزَّيْتُونِ وَبَيْعُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ عُلِمَ أَنَّ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُنْفَصِلِ فَقَدْ يَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ مَيْلَهُ لِأَنَّ تُفْلَ الزَّيْتُونِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ كَيْفَ هُوَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَقَالَ: زُفَرُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ جَوَازُ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا الْفَسَادُ بِوُجُودِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَعِنْدَنَا الْفَضْلُ الَّذِي هُوَ يُتَوَهَّمُ الْوُجُودُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي بَابِ الرِّبَا احْتِيَاطًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ» وَالرِّيبَةُ شُبْهَةُ الرِّبَا وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 الْحَرَامِ فَإِذَا لَمْ تُعْلَمُ الْمُسَاوَاةُ جُعِلَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْفَضْلِ احْتِيَاطًا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ أَقَلُّ مِنْ الْمُنْفَصِلِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمِثْلَ يَصِيرُ بِإِزَاءِ الْمِثْلِ وَالْبَاقِيَ مِنْ الزَّيْتِ بِإِزَاءِ التُّفْلِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَكَذَلِكَ دُهْنُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَالْعَصِيرُ بِالْعِنَبِ وَاللَّبَنُ بِالسَّمْنِ وَالرُّطَبُ بِالدُّبْسِ وَلَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَسِيئَةً لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ. وَلَا بَأْسَ بِخَلِّ الْخَمْرِ بِخَلِّ السُّكَّرِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ فَإِنَّ أَصْلَهُمَا جِنْسَانِ لِأَنَّ السُّكَّرَ مَاءُ التَّمْرِ وَالْخَمْرِ بِالْعِنَبِ وَكَمَا أَنَّ الْعِنَبَ مَعَ التَّمْرِ جِنْسَانِ فَكَذَلِكَ الْخَلُّ الْمُتَّخَذُ مِنْهُمَا فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ نَسِيئَةً لِأَنَّهُ جَمِيعُهَا قَدْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً بِصُوفٍ وَعَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ أَوْ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّبَنَ الْمُنْفَصِلَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الضَّرْعِ وَأَنَّ الصُّوفَ الْمَجْزُوزَ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ نَظِيرَ بَيْعِ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّحْمَ الْمُنْفَصِلَ أَكْثَرُ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ فَيَكُونُ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْمَسْقَطِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّاةِ وَاللَّحْمِ ثَابِتَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ فِي الشَّاةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَبِهِ تَخْتَلِفُ الْمَالِيَّةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاةَ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ جُمْلَةِ الطَّعَامِ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ تَنَاوُلُهُ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ بَلْ وُجُودُ اللَّحْمِ فِي الشَّاةِ أَبَيْنُ وَأَظْهَرُ مِنْ وُجُودِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ بِالْعَصِيرِ حُكْمًا وَلِهَذَا كَانَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَاللَّحْمُ لَا يَحْدُثُ بِالذَّبْحِ وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا لَمْ يَكُنْ اللَّحْمُ لَهُ وَالذَّبْحُ نُقْصَانٌ مَحْضٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ فَلَا يَحْدُثُ بِهِ اللَّحْمُ وَهُوَ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ فَيَفُوتُ بِهِ مَعْنَى النَّسْلِ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْيِ فِي الْحِنْطَةِ يُفَوِّتُ مَا كَانَتْ الْحِنْطَةُ بِاعْتِبَارِهِ مُثْبَتَةً وَإِذَا ثَبُتَ أَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بَاعَ عَدَدِيًّا مُتَفَاوِتًا بِوَزْنِيٍّ فَيَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ كَمَا لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ بِالْقُطْنِ وَبَيَانُهُ الْوَصْفُ أَنَّ الْحَيَوَانَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا [بَيْعُ الشَّاةِ بِالشَّاتَيْنِ] وَيَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِالشَّاتَيْنِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ إنَّمَا تُطْلَبُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ مُقَدَّرًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرًا لَا يَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمُجَانَسَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 بَيْنَهُمَا وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ وَلَكِنْ بِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ فَإِنَّ بَيْعَ دُهْنِ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَالْجَوْزِ لَيْسَ بِمُقَدَّرِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ جَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ وَلَكِنْ نَقُولُ اللَّحْمُ فِي شِرَاءِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَالْإِسَامَةُ لِيَزْدَادَ عَيْنُهَا بِالسِّمَنِ فَأَمَّا اللَّحْمُ آخَرُ الْمَقَاصِدِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُجَانَسَةُ بِمَا فِي الضِّمْنِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَالِيَّةَ فِي الْحَيَوَانِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّحْمِ فَقَدْ نَرَى فَرَسَيْنِ أَوْ نَجِيبَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِي اللَّحْمِ وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْقِيمَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَإِذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الْحَيَوَانِ لَا تُعْرَفُ بِمِقْدَارِ اللَّحْمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الذَّبْحِ بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَالْمَالِيَّةُ هُنَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مِقْدَارِ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَالْجَوْزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّحْمَ فِي الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ حُكْمًا حَتَّى لَوْ أَخَذَ بِضْعَةً مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهَا عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَ اللَّحْمِ حَاصِلٌ بِالذَّبْحِ حُكْمًا فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ الْجَوَابِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّهُ مَالٌ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْفَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُفَصَّلٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِي الصُّوفِ وَاللَّبَنِ فَكَانَ الْحَالُ فِيهِمَا قَبْلَ الذَّبْحِ وَبَعْدَ الذَّبْحِ سَوَاءً وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الشَّاةِ لَا تُعْرَفُ بِمَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ الصُّوفِ وَلَا بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ اللَّبَنِ كَمَا لَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الْحَيَوَانِ بِمِقْدَارِ اللَّحْمِ فَإِنْ بَاعَ لَحْمَ شَاةٍ بِالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ جَازَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَصْلًا لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» وَرُوِيَ أَنَّ جَزُورًا نُحِرَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ وَقَالَ: أَعْطَوْنِي بِهَذَا الْعَنَاقِ قِطْعَةً مِنْ هَذَا اللَّحْمِ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ هَذَا لَا يَصْلُحُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَيْفَ مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِالْبَقَرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَسِيئَةً فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَبِهِ نَقُولُ فَإِنَّ السَّلَمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذَلِكَ الْبَعِيرَ كَانَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ فَكَرِهَ أَبُو بَكْرٍ بَيْعَ لَحْمِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُحِرَ لِيُتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَلِهَذَا قَالَ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 لَا يَصْلُحُ وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ وَزَيْتٍ كَانَ بَاطِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الزَّيْتِ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ وَذَلِكَ فِي الشَّعِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَيْلِ لَمَّا جَمَعَ الْبَدَلَيْنِ حَرُمَ النَّسَاءُ وَفِي حِصَّةِ الزَّيْتِ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَوْزُونِ صَحِيحٌ وَثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسْبِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ فَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا فَسَادُ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا وَمُدَبَّرًا وَكَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلْعَقْدِ وُجِدَتْ فِي الْكُلِّ أَمَّا فِي حِصَّةِ الشَّعِيرِ فَظَاهِرٌ وَفِي حِصَّةِ الزَّيْتِ فَقَدْ جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الشَّعِيرِ شَرْطًا فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الزَّيْتِ لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَارِطًا عَلَيْهِ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِهَذَا لَوْ قُبِلَ الْعَقْدُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالسَّلَمُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ فِي الشَّعِيرِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِي الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ فَإِذَا تَمَكَّنَ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فَسَدَ الْعَقْدُ كُلُّهُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ فَالْعَقْدُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِفَاسِدٍ وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْقَاضِي بَيْعَهُ جَازَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ لِحَقِّ الْمُدَبِّرِ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ فَالْمُفْسِدُ فَوَّتَ الْقَبْضَ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي الْهَالِكِ لَا فِي الْعَقْدِ وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُذْكَرُ فِي بَابِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ فَوَهِيَّةً فِي فَوَهِيَّةٍ وَمَرْوِيَّةٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ كَالْكَيْلِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا دُونَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ فِي الْبَعْضِ تَعَدِّي إلَى مَا بَقِيَ فَإِنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الْجِنْسِيَّةِ غَيْرُ مَجْمَعٍ عَلَيْهِ وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْفُلُوسَ فِيمَا يُوزَنُ) لِأَنَّ الْفُلُوسَ عَدَدِيَّةٌ مُتَقَارِبَةٌ فَيَجُوزُ إسْلَامُهَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إلَّا الصُّفْرَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْفُلُوسِ فِيهِ لِلْجِنْسِيَّةِ فَالْفُلُوسُ صُفْرٌ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الْفُلُوسُ صُفْرًا وَالصُّفْرُ مَوْزُونٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إسْلَامُ الْفُلُوسِ فِي الْمَوْزُونَاتِ قُلْتُ الصُّفْرُ مَوْزُونٌ فِي الْعُرْفِ لَا بِالنَّصِّ وَلَا عُرْفَ فِيهِ فِي الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ بِتَفَاوُتِ الْوَزْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ سَيْفًا فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوزَنُ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ السَّيْفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا عَادَةً إلَّا فِي الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ السَّيْفِ فِي الْحَدِيدِ لِلْمُجَانَسَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ إنَاءٍ خَرَجَ بِالصَّنْعَةِ مِنْ الْوَزْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسْلِمَهُ فِي الْمَوْزُونَاتِ إلَّا فِي نَوْعِهِ. وَلَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ إنَاءً مَصُوغًا بِإِنَاءٍ مَصُوغٍ مِنْ نَوْعِهِ يَدًا بِيَدٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْوَزْنِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنَاءُ لَا يُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ كَالثِّيَابِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا رِبَا الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا فِي الْعَادَةِ لِأَنَّ صِفَةَ الْوَزْنِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالصَّنْعَةِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا بِالْعَادَةِ وَالْعَادَةُ لَا تُعَارِضُ النَّصَّ فَأَمَّا فِي الْحَدِيدِ وَالشَّبَهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ صِفَةُ الْوَزْنِ ثَابِتَةٌ فِي الْعُرْفِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا بِالصَّنْعَةِ وَبِالْعُرْفِ وَبِتَعَارُفِ النَّاسِ بِيعَ الْمَصُوغُ مِنْهُ عَدَدًا فَأَمَّا بَيْعُ فَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ فِيهَا لِيَكُونَ أَحَدُ الْفَلْسَيْنِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ وَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ وَإِنْ بَاعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ أَمْسَكَ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَطَالَبَهُ بِفَلْسَيْنِ آخَرَيْنِ أَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ ثُمَّ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ لِاسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ الْفَلْسُ الْآخَرُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا فَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ فِي ذِمَّتِهِ فَيَبْقَى الْآخَرُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَمَّا إذَا بَاعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهَذَأ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ ثَمَنٌ وَالْأَثْمَانُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ مُعَيَّنَةٍ شَيْئًا فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا لِأَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَالْجِنْسُ وَغَيْرُ الْجِنْسِ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَمَا لَا تَتَعَيَّنُ فَالْجِنْسُ وَغَيْرُ الْجِنْسِ فِيهِ سَوَاءٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْفُلُوسُ عَدَدِيٌّ وَالْعَدَدِيُّ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالْمُثَنَّى كَمَا لَوْ بَاعَ جَوْزَةً بِجَوْزَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لَازِمَةٍ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بَلْ يُعَارِضُ اصْطِلَاحَ النَّاسِ وَالْعَاقِدُ إنْ قَصَدَ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ إلَّا بِأَنْ تَتَعَيَّنَ الْفُلُوسُ وَتَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَائِجَةً ثَمَنًا فِي حَقِّهِمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ بِالِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ يَصْلُحُ ثَمَنُ الْخَسِيسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ دُونَ النَّفِيسِ وَأَنَّهُ يُرَوِّجُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ وَيَرُوجُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ قِيلَ تَحْتَ هَذَا الْكَلَامِ فَسَادٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ فِي حَقِّهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا كَانَ هَذَا بَيْعُ قِطْعَةِ صُفْرٍ بِقِطْعَتَيْنِ مِنْ صُفْرٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قُلْنَا الِاصْطِلَاحُ فِي الْفُلُوسِ عَلَى صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَالْعَدَدِ فِيهِمَا فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ إعْرَاضًا عَنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فِيهَا وَمَا أَعْرَضَ عَنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَدَدِ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ خُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا فِي حَقِّهِمَا خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَدَدِيَّةً كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ فَهُوَ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِثَمَنٍ فَهَذَا بِاتِّفَاقِهِمَا يَصِيرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ شُقَّةَ خَزٍّ بِشُقَّةِ خَزٍّ هِيَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَزْنًا) لِأَنَّهَا لَا تُوزَنُ وَإِنَّمَا تُذْرَعُ كَسَائِرِ الثِّيَابِ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ يَدًا بِيَدٍ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالتَّمْرِ بِالرُّطَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ كَانَ الرُّطَبُ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ) وَهَذِهِ مَسَائِلُ (أَحَدُهُمَا) بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ كَيْلًا بِكَيْلٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ الْبَاقِلَّا وَعَلَّلَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: لِأَنَّ بَيْنَ الْبَاقِلَّتَيْنِ فَضَاءً وَمُتَّسَعًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَعْتَدِلُ فِي الدُّخُولِ فِي الْكَيْلِ حَتَّى لَا يَنْضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ بَلْ يَتَجَافَى وَيَتَفَاوَتُ مِقْدَارُ التَّجَافِي فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْكَيْلُ فِيهِ مِعْيَارًا شَرْعِيًّا وَالْمُخَلِّصُ عَنْ الرِّبَا يَكُونُ بِالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَقَاسَ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ فَإِنَّ الْمَقْلِيَّةَ لَا تَعْتَدِلُ فِي الدُّخُولِ فِي الْكَيْلِ لِانْتِفَاخٍ يَحْدُثُ فِيهَا بِالْقَلْيِ أَوْ صُخُورٍ فَإِنَّهَا إذَا قُلِيَتْ رَطْبَةً انْتَفَخَتْ وَإِذَا قُلِيَتْ يَابِسَةً ضَمُرَتْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ» وَالتَّمْرُ اسْمٌ لِلثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ النَّخْلِ مِنْ حِينِ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا صُورَتُهَا إلَى أَنْ تُدْرَكَ فَكَانَ الرُّطَبُ تَمْرًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ وَمَا الْعَيْشُ إلَّا نَوْمَةٌ وَشَرْقٌ ... وَتَمْرٌ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ وَمَاءٌ وَالْمُرَادُ الرُّطَبُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الرُّطَبَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ حُكْمِ الرِّبَا فِيهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِ مَا لَمْ يَصِرْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِصِفَةِ الْكَيْلِ فَكَانَ الْكَيْلُ فِيهَا عِيَارًا شَرْعِيًّا وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُرَاعِي وُجُودَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ مَالُ الرِّبَا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا وَبِهِ فَارَقَ الْمَقْلُوَّةَ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ لَا تُخْلَقُ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَقْلُوَّةٍ وَتَصِيرُ مَالُ الرِّبَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الْمُمَاثَلَةُ وَبَعْدَ الْقَلْيِ لَا تُعْرَفُ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةُ وَإِنْ تُسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَلَا بِالْمَقْلِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 هَذَا فَاسِدٌ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَالرُّطُوبَةُ صِفَةٌ حَادِثَةٌ بِصُنْعِ الْعِبَادِ كَالْقَلْيِ (قُلْنَا) الْحِنْطَةُ فِي الْأَصْلِ تُخْلَقُ رَطْبَةً وَيَكُونُ مَالُ الرِّبَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِذَا بُلْتَ بِالْمَاءِ عَادَتْ إلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ مَالَ الرِّبَا جَازَ الْعَقْدُ وَهِيَ لَا تُخْلَقُ فِي الْأَصْلِ مَقْلُوَّةً حَتَّى يَكُونَ هَذَا إعَادَةً إلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهَا فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ قَالُوا نَعَمْ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا إذًا» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا» ثُمَّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْعَقْدِ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْجَفَافِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْكَيْلِ فِي الْحَالِ فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ صَحِيحٌ كَمَا فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَتَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الطَّحْنِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَى هَيْئَةِ الِادِّخَارِ وَالْآخِرُ لَيْسَ عَلَى هَيْئَةِ الِادِّخَارِ وَلَا يَتَمَاثَلَانِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَالرَّدَاءَةُ مِنْ نَوْعِ الْعَيْبِ وَالرُّطُوبَةُ فِي الرُّطَبِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فَإِنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ فَأَمَّا مَا لَا يَخْلُو عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا يَكُونُ عَيْبًا كَالصَّغِيرِ فِي الْآدَمِيِّ وَانْعِدَامُ الْعَقْلِ بِسَبَبِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَدِيثُ مَعَ الْعِتْقِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ هُنَاكَ عَلَى هَيْئَةِ الِادِّخَارِ ثُمَّ الْحَدِيثُ إذَا عَتَقَ لَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّفَاوُتُ إلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَذَلِكَ عَفْوًا كَالتُّرَابِ فِي الْحِنْطَةِ وَدَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ بَغْدَادَ فَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانُوا أَشَدَّ يَدًا عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ فَقَالَ: الرُّطَبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَيْسَ بِتَمْرٍ فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْرًا جَازَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأُورِدَ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ وَزَيْدُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ هَذَا الطَّعْنَ حَتَّى قَالَ: ابْنُ الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَهُوَ يَقُولُ زَيْدُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَحْسُنُ لِدَفْعِ شَغَبِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 الْخَصْمِ وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِهَذَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا كَمَا فِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ كَيْلٌ بِكَيْلٍ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِلثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ النَّخِيلِ حِينَ تَنْعَقِدُ صُورَتُهَا إلَى أَنْ تُدْرِكَ وَمَا يَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَوْصَافِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ لَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ اسْمِ الْعَيْنِ كَالْآدَمِيِّ يَكُونُ صَبِيًّا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ تَمْرٌ يُرَاعَى وُجُودُ الْمُمَاثَلَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ سَبَبُ الْمُقَابَلَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَمَا كَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ إلَّا نَظِيرَ الْأَجْوَدِ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الَّتِي فِي الرُّطَبِ مَقْصُودَةٌ وَهِيَ شَاغِلَةٌ لِلْكَيْلِ فَلَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ إلَّا بَعْدَ ذَهَابِهَا بِالْجَفَافِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ التَّفَاوُتَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ فَإِنَّ بِالطَّحْنِ تَتَفَرَّقُ الْأَجْزَاءُ وَلَا يَفُوتُ جُزْءٌ شَاغِلٌ لِلْكَيْلِ فَتَبَيَّنَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الطَّحْنِ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَكَذَا الْمَقْلِيَّةُ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ فَإِنَّ بِالْقَلْيِ لَا يَفُوتُ جُزْءٌ شَاغِلٌ لِلْكَيْلِ إنَّمَا تَنْعَدِمُ اللَّطَافَةُ الَّتِي كَانَتْ بِهَا الْحِنْطَةُ مُنْبِتَةً وَلَمَّا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَعْدَ الْقَلْيِ عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ التَّفَاوُتِ فِي الْجَوْدَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ وَاعْتُبِرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ حَتَّى شَرْطَ الْيَدِ بِالْيَدِ، وَصِفَةُ الْجَوْدَةِ لَا تَكُونُ حَادِثَةً بِصُنْعِ الْعِبَادِ وَالتَّقَاوَةُ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ حَادِثٌ بِصُنْعِ الْعِبَادِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا إنَّ كُلَّ تَفَاوُتٍ يَنْبَنِي عَلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَفِي الْمَقْلُوَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلُوَّةِ وَالْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكُلُّ تَفَاوُتٍ يَنْبَنِي عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعِبَادِ فَهُوَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ قَالَ: (وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ). فَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ أَوْ الرَّطْبَة بِالْيَابِسَةِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ فَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْكَيْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ وَالْمَبْلُولَةِ بَعْد الْجُفُوفِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَكِنْ تَرَكْتُ الْقِيَاسَ فِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِلْحَدِيثِ وَالْمَخْصُوصُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الرُّطَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالرُّطُوبَةُ فِي الرُّطَبِ مَقْصُودَةٌ وَفِي الْحِنْطَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هُوَ عَيْبٌ فَلِهَذَا أَخَذْتُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ أَنَّ الرُّطَبَ إذَا جَفَّ يَنْقُصُ إلَّا أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ فَلَا يَكُونُ هَذَا التَّصَرُّفُ مُفِيدًا وَكَانَ السَّائِلُ وَصِيًّا لِيَتِيمٍ فَلَمْ يَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةً لِلْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجُفُوفِ فَمَنَعَ الْوَصِيَّ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِشْفَاقِ لَا عَلَى وَجْهِ بَيَانِ فَسَادِ الْعَقْدِ فَأَمَّا الْحِنْطَةُ الْمَبْلُولَةُ بِالْمَبْلُولَةِ تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ الْمُنْقِعُ بِالْمُنْقِعِ وَالتَّمْرُ الْمُنْقِعُ بِالْمُنْقِعِ وَمُحَمَّدٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ فَيَقُولُ هُنَاكَ التَّفَاوُتُ يَظْهَرُ بَعْدَ خُرُوجِ الْبَدَلَيْنِ عَنْ الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ بِهِ الْعَقْدُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْفُصُولُ تُظْهِرُ التَّفَاوُتَ بَعْدَ الْجُفُوفِ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ بِهِ الْعَقْدُ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يَتَّضِحُ مَذْهَبُهُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ ثُمَّ ذَكَرَ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ وَأَهْلُ الْأَدَبِ طَعَنُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَقَالُوا إنَّمَا يُقَالُ حِنْطَةٌ مَقْلُوَّةٌ فَأَمَّا الْمَقْلِيَّةُ الْمُبْغَضَةُ يُقَالُ قَلَاهُ يَقْلِيهِ إذَا أَبْغَضَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُحَمَّدٌ كَانَ فَصِيحًا فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنَّهُ رَأَى اسْتِعْمَالَ الْعَوَامّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْحِنْطَةِ وَمَقْصُودُهُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ لَهُمْ فَاسْتَعْمَلَ فِيهِ اللُّغَةَ الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ وَمَا كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا الْفَرْقُ وَلَا يَجُوزُ الْحِنْطَةُ بِالسَّوِيقِ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ أَكْثَرَ وَمَعَ السَّوِيقِ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَيَكُونُ مَا مَعَهُ بِفَضْلِ الْحِنْطَةِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَمَتَى أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِطَرِيقٍ جَائِزٍ شَرْعًا يَحْمِلُ مُطْلَقَ كَلَامِهِمَا عَلَيْهِ وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَنْصَرِفُ تَسْمِيَةُ النِّصْفِ مُطْلَقًا إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِرَجُلٍ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثَيْ يَجُوزُ وَيُحْمَلُ عَلَى إيجَابِ ثُلُثِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فَمِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا». وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فَوْهِيًّا فِي ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ وَيَجْعَلُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَضْلُ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعٍ جَازَ لِأَنَّ مَا يَخُصُّ الدَّرَاهِمَ أَوْ الْمَتَاعَ مِنْ الثَّوْبِ الْفَوْهِيِّ يَكُونُ مَبِيعًا وَمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 يَخُصُّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ مِنْهُ يَكُونُ رَأْسَ الْمَالِ وَإِسْلَامُ الْفَوْهِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا فِي حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ فَجَعَلَ بَعْضَهُ عَاجِلًا وَبَعْضَهُ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا يَخُصُّ الْعَاجِلَ مِنْهُ إنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ مُتَقَابِضَةٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَكَانَ مَوْصُوفًا فَهُوَ ثَمَنٌ وَمَا يَخُصُّ الْأَجَلَ فَهُوَ بَيْعُ الثَّوْبِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّوْبَ مَبِيعٌ وَالْمَكِيلُ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ يَكُونُ مَبِيعًا وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَمَا يُقَابِلُهُ مَبِيعٌ فَهُوَ ثَمَنٌ وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْوَصْفِ وَلَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا فَوْهِيًّا فِي ثَوْبٍ فَوْهِيٍّ بِنَسِيئَةٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ بَيْعًا مُقَابَضَةً فَإِنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ سَلَمًا لِأَنَّ الْبَدَلَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ قَرْضًا فَإِنَّ اسْتِقْرَاضَ الثَّوْبِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ زَادَ فِيهِ دِرْهَمًا مَعَ الثَّوْبِ الَّذِي عَجَّلَ أَوْ زَادَهُ الْآخَرُ مَعَ ثَوْبِهِ دِرْهَمًا عَاجِلًا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَوْ آجِلًا كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَيْعٌ يُقْصَدُ بِهَا إخْرَاجُ الْعَيْنِ مِنْ الْعَقْدِ وَإِدْخَالُ الرُّخَصِ فِيهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْأَصْلِ هُنَا فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَيْعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ دَنَانِيرَ أَوْ ثَوْبًا يَهُودِيًّا أَوْ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْأَصْلِ حِينَ أَوْجَبَهُ بِاسْمِ الزِّيَادَةِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَإِنْ أَسْلَمَ طَعَامًا فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوزَنُ وَزَادَ مَعَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ ثَوْبًا عَاجِلًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْأَصْلِ الْمُؤَاجَلَةِ بِمُقَابَلَةِ بَعْضِهِ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةً هُنَا فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي الزِّيَادَةِ أَيْضًا وَإِنْ جَعَلَهُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فَالزِّيَادَةُ مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَمُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ ثَوْبًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُوزَنُ عَاجِلًا فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ جَعَلَهُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا إذَا كَانَ مَعْلُومًا فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَيْنٌ فَلَا يَخُصُّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ عَقْدُ السَّلَمِ فِيهِ صَحِيحًا وَمَا يَخُصُّ الزِّيَادَةَ يَكُونُ بَيْعًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ إنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ زَادَ كُرًّا آخَرَ أَوْ نِصْفَ كُرٍّ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَجَعْلُ الدَّرَاهِمِ مَبِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ زِيَادَةً فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى الزِّيَادَةِ بَلْ حَاجَتُهُ إلَى زِيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا جَرَمَ الزِّيَادَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ جَائِزَةٌ فِي الْمَجْلِسِ قَالَ: (وَإِنْ أَسْلَمَ طَعَامًا فِي ثِيَابٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الْوَزْنِيَّاتِ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يُسَمِّ رَأْسَ مَالِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الشَّاةَ الْحَيَّةَ بِالشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ يَدًا بِيَدٍ لِأَنَّهُ بَيْعٌ عَدَدِيٌّ فَوْرِيٌّ فَالشَّاةُ الْحَيَّةُ لَا تُوزَنُ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً لِأَنَّ النَّسِيئَةِ إنْ كَانَتْ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي اللَّحْمِ وَلَوْ كَانَتَا شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ قَدْ سُلِخَتَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا أَيْضًا لِأَنَّ الْمِثْلَ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ وَالْبَاقِي مِنْ لَحْمِ الشَّاتَيْنِ بِإِزَاءِ الْجِلْدِ وَالسَّقَطِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِمَا عَلَيْهِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا وَلَوْ كَانَتْ الشَّاةُ لَيْسَ مَعَهَا جِلْدٌ كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا لِأَنَّ الْعَقْدَ اشْتَمَلَ عَلَى اللَّحْمِ فَقَطْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاللَّحْمُ مَوْزُونٌ فَإِذَا وُجِدَتْ الْجِنْسِيَّةُ وَالْوَزْنُ حَرُمَ التَّفَاضُلُ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ بِثَلَاثَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ يَدًا بِيَدٍ) فَتَكُونُ حِنْطَةُ هَذَا بِشَعِيرِ هَذَا وَشَعِيرُ هَذَا بِحِنْطَةِ هَذَا عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ أَوْ بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا جَيِّدًا وَدِرْهَمًا زَيِّفًا بِدِرْهَمَيْنِ جَيِّدِينَ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ دِينَارًا نَيْسَابُورِيًّا أَوْ دِينَارًا هَرَوِيًّا بِدِينَارَيْنِ نَيْسَابُورِيِّينَ أَوْ هَرَوِيَّيْنِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْجَوْدَةِ قِيمَةٌ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ الدِّرْهَمَانِ الْجَيِّدَانِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالزَّيِّفِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيُصِيبُ الْجَيِّدُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ وَالزَّيِّفُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ وَذَلِكَ رِبًا وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَالْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَيَجُوزُ الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى اشْتَمَلَ عَلَى أَعْوَاضٍ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ يَنْقَسِمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا بِجَارِيَةٍ وَحِمَارٍ وَهَذَا لِأَنَّ الِانْقِسَامَ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَعْتَدِلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَحَالَ انْفِسَاخِهِ فِي الْبَعْضِ يُعَارِضُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الِانْقِسَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَأَمَّا فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ يَتَضَرَّرُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ فِي الْبَعْضِ بِعَارِضٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَ قَفِيزَ تَمْرٍ بِقَفِيزَيْ تَمْرٍ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجْعَلُ التَّمْرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمُقَابَلَةِ النَّوَى مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَلَوْ بَاعَ مَنًّا مِنْ لَحْمٍ بِنَوَى لَحْمٍ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجْعَلُ اللَّحْمُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمُقَابَلَةِ الْعَظْمِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ حَتَّى يَجُوزَ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ هُنَا يُمْكِنُ بِأَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْآخَرِ وَمَعَ ذَلِكَ اُعْتُبِرَ الِانْقِسَامُ بِالْقِيمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ يُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى الْجِنْسِ لَا إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِثَوْبٍ وَعَشَرَةٍ بِشَرْطِ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ صَرْفًا فِي حَقِّ الدَّرَاهِمِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَقَدْ اشْتَمَلَ الْعَقْدُ هُنَا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ كَيْفَ شَاءَ الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُمْكِنٌ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ صَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِانْقِسَامَ فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ بَلْ لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ إذْ لَيْسَ صَرْفُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَصِيرُ الِانْقِسَامُ وَالتَّوْزِيعُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِلْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَوْ صَرَفَ الْجِنْسَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَا مُعَاوَضَةَ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ الْجَائِزُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَالْفَاسِدُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ حَرَامٌ بِوَصْفِهِ فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ لَا يُصَارُ إلَى الِانْقِسَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِخِلَافِ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ فَالتَّمْرُ وَالنَّوَى كُلُّهُ مَكِيلٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ صَرَّحَ بِصَرْفِ التَّمْرِ إلَى النَّوَى لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ مَعَ اللَّحْمِ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِيهِ خَلْقُهُ كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ التَّصْحِيحِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدَ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَبْدَيْنِ (قُلْنَا) فَصْلُ الْمُعَاوَضَةِ يَتَحَقَّقُ هُنَاكَ لِأَنَّ جِهَاتِ الْجَوَازِ تَكْثُرُ فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ بِمُقَابِلَتِهِ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ بِمُقَابِلَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلِكَثْرَةِ جِهَاتِ الْجَوَازِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الِانْقِسَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهُنَا لَا وَجْهَ لِلْجَوَازِ إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ صَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ هُنَاكَ أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُمَا وَلَوْ صَرَّحَا بِهَذَا لَمْ يَصِرْ مِقْدَارُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ فَإِنْ قِيلَ الْمُعَاوَضَةُ هُنَا تَتَحَقَّقُ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ الدَّرَاهِمَ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارَيْنِ يَجُوزُ وَإِنْ جَعَلَ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَالنِّصْفَ الْبَاقِي بِمُقَابَلَةٍ الدِّينَارِ وَنِصْفَ دِينَارٍ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الدِّينَارِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ دِرْهَمٍ وَنِصْفٍ يَجُوزُ أَيْضًا (قُلْنَا) نَعَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 وَلَكِنَّ هَذَا بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَنَحْنُ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْجَوَازِ هُنَا إلَّا هَذَا الطَّرِيقَ فَكَيْفَ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ لَا يَخْرُجُ بِهِ الطَّرِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِثَوْبٍ وَعَشَرَةٍ (قُلْنَا) هُنَاكَ الْعَقْدُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْرِفَ الْجِنْسَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِي مَجْلِسِ شَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ صَحِيحًا وَنَحْنُ إنَّمَا صَحَّحْنَا هَذَا التَّصْحِيحَ الْعَقْدُ لَا لِلْبَقَاءِ صَحِيحًا فَلَا يَلْزَمُ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِنِصْفِ قَفِيزٍ هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فَنِصْفُ الْقَفِيزِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ قَفِيزٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ مَالُ الرِّبَا مِنْ الْحِنْطَةِ نِصْفُ قَفِيزٍ لِمَا بَيَّنَّا إنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ مَالَ الرِّبَا لِكَوْنِهَا مَكِيلًا وَالْمَكِيلُ مَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ بِالْكَيْلِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي نِصْفِ قَفِيزٍ وَلَا يُوجَدُ فِيمَا دُونَهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْكُفُرَّى بِمَا يُنَاسِبُ مِنْ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لِأَنَّ الْكُفُرَّى لَيْسَ بِتَمْرٍ وَلَا يُكَالُ أَيْضًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ إذَا كَانَ الْكُفُرَّى نَسِيئَةً لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ فَإِنَّ آحَادَهُ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ، قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي التَّمْرِ بِالْبُسْرِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْبُسْرُ لَمْ يَحْمَرَّ وَلَمْ يَصْفَرَّ) لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِثَمَرَةٍ خَارِجَةٍ مِنْ النَّخْلِ مِنْ حِينَ تَنْعَقِدُ صُورَتُهَا إلَى أَنْ تُدْرَكَ فَأَمَّا فِي الْكُفُرَّى قَبْلَ انْعِقَادِ صُورَةِ التَّمْرِ فَلَا يَكُونُ تَمْرًا وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ صُنُوفِ التَّمْرِ فَلَا خَيْرَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَبْتَاعَ حِنْطَةً مُجَازَفَةً بِحِنْطَةٍ مُجَازَفَةٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقَدْرِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ إذَا صَارَتْ الْأَمْوَالُ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَعِنْدَ الْبَيْعِ مُجَازَفَةً لَا تَظْهَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَدْرِ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ قَالَ: (فَإِنْ تَبَايَعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ مُجَازَفَةً ثُمَّ كِلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ عِنْدَنَا) وَقَالَ: زُفَرُ يَجُوزُ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَجَازَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ وَهُنَاكَ شَاهِدَانِ يَسْمَعَانِ كَلَامَهُمَا وَالْمُتَعَاقِدَانِ لَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ الْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ كَانَ الْفَضْلُ مَعْدُومًا مَوْهُومًا وَمَا هُوَ مَوْهُومُ الْوُجُودِ يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِيمَا بَنَى أَمَرَهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلِأَنَّ بَابَ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَالْفَضْلُ الْمَوْهُومُ فِيهِ كَالْمُتَحَقِّقِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ وَزْنًا بِوَزْنِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ فَشَرْطُ الْجَوَازِ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ فِي الْكَيْلِ وَبِالْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ لَا تُعْلَمُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْكَيْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 لِأَنَّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِعْلَامُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةً فِي التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ يُحَصَّلُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ كَمَا يُحَصَّلُ بِذِكْرِ الْكَيْلِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى مَنْ عَلَّلَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَنَّ لِلْجَوْدَةِ مِنْ الْحَفْنَةِ فِيمَا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِأَنَّ سُقُوطَ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَالِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْمُمَاثَلَةُ بِالْمِعْيَارِ وَلَا مِعْيَارَ لِلْحَفْنَةِ بِخِلَافِ الْقَفِيزِ فَزِدْ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مَسْأَلَةَ الْغَصْبِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مِنْ الْحَفْنَةِ أَيْضًا حَتَّى إذَا غَصَبَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ وَذَهَبَتْ جَوْدَتُهَا عِنْدَهُ فَاسْتَرَدَّهَا صَاحِبُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مِنْهَا لِأَنَّهَا مَوْزُونَةٌ لَا لِأَنَّهَا مَكِيلَةٌ وَكَمَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَيْلِ يُسْقِطُ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْوَزْنِ فِي الْحِنْطَةِ فِي حُكْمِ الرِّبَا حَيْثُ نَصَّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ كَيْلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ كَيْلٌ بِكَيْلٍ» فَلِذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْجَوْدَةِ مِنْ الْحَفْنَةِ قِيمَةً فِي الْغَصْبِ كَمَا جَوَّزْنَا السَّلَمَ فِي الْحِنْطَةِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ قَالَ: (وَلَا خَيْرَ فِي شِرَاءِ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا أَوْ مُجَازَفَةً عِنْدَنَا) وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ شِرَاءُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ عَلَى الْأَرْضِ خَرْصًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَهُ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» وَهِيَ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرَايَةِ الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قُلْنَا قَوْلَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ قَالَ: إنَّ الرُّطَبَ لَيَأْتِينَا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ مَا نَبْتَاعُهُ بِهِ وَعِنْدَنَا فَضَالَاتٌ مِنْ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبْتَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فَنَأْكُلُ مَعَ الْيَابِسِ الرُّطَبَ وَلِأَنَّ مَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْكَيْلُ فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْخَرْصَ فِيهَا مَقَامَ الْكَيْلِ لِلْحَاجَةِ تَيْسِيرًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذِهِ الْحَاجَةُ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وَالتَّفَاوُتُ مَعَ الْخَرْصِ يَنْعَدِمُ أَوْ يَقِلُّ فِي الْقَلِيلِ وَيَكْثُرُ فِي الْكَثِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفَاوُتِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي التَّبَرُّعِ أَصْلٌ حَتَّى إنَّ الزِّيَادَةَ تَدْخُلُ فِي الْكَيْلَيْنِ يُجْعَلُ عَفْوًا بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ كَيْلٌ بِكَيْلِ» وَمَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ تَمْرٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى قَبُولِهِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ» فَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا وَأَمَّا الْعَرِيَّةُ الَّتِي فِيهَا الرُّخْصَةُ بِقَوْلِهِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا هِيَ الْعَطِيَّةِ دُونَ الْبَيْعِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْخَرَّاصِينَ حَقِّقُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ» وَالْمَخْرُوصُ لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ بِسَبَبِ الْبَيْعِ بَلْ بِسَبَبِ الْعَطَا وَقَالَ: الْقَائِلُ شَاعِرُ الْأَنْصَارِ لَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رَجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْحَوَائِجِ وَالِافْتِخَارُ بِالْعَطَاءِ دُونَ الْبَيْعِ وَتَفْسِيرُ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَ نَخْلِهِ مِنْ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ يَشُقُّ عَلَى الْمُعْرِي دُخُولُ الْمُعَرَّى لَهُ فِي بُسْتَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ لِكَوْنِ أَهْلِهِ فِي الْبُسْتَانِ وَلَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ خُلْفَ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَيُعْطِيَهُ مَكَانَ ذَلِكَ تَمْرًا مَحْدُودًا بِالْخَرْصِ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْلِفًا لِلْوَعْدِ وَهَذَا عِنْدَنَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَمَا يُعْطِيهِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ بَلْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ عِوَضٌ يُعْطِيهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى هَذَا فَنَقَلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَالْقِيَاسُ مَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لِطَرِيقِ الْخَرْصِ كَمَا لَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ كَانَا عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ وَكَمَا فِي سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ الشَّعِيرَ الْمُتَحَصِّلَ بِشَعِيرٍ مِثْلِهِ بِطَرِيقِ الْخَرْصِ لَمْ يُجْزِئْ كَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحِنْطَةِ لِمَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ شِرَاءَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِالدَّرَاهِمِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شِرَاءُ مَا لَمْ يَرَهُ بِخِلَافِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يُعْرَفْ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِشِرَاءِ فَضْلِ الْحِنْطَةِ بِحِنْطَةِ مُجَازَفَةً أَوْ كَيْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ) لِأَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ إنَّمَا هُوَ عَلَفُ الدَّوَابِّ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ ثُمَّ بَيْعُ الزَّرْعِ النَّابِتِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِعَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالزَّرْعُ فِي أَوَّلِ مَا يَبْدُو قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا أَمَّا بَعْدَ مَا صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِحَيْثُ يَعْمَلُ فِيهِ الْمَنَاجِلُ وَمَشَافِرُ الدَّوَابُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا جَازَ لِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقِيبَهُ فَهُوَ وَشَرْطُ الْقَطْعِ سَوَاءٌ وَإِنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فِي أَرْضِهِ حَتَّى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 يُدْرِكَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ التَّرْكِ بَعْضُ الْبَدَلِ فَهُوَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهُوَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعَقْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا ثُمَّ تَرَكَهُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِمَنَافِعِ أَرْضِهِ وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِغَيْرِ إذَنْ الْبَائِعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ فَإِنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَزَرَعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَتْرُكَ الْفَضْلَ فِيهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ) لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهَا وَالتَّمَكُّنُ هُنَا مَوْجُودٌ لِاشْتِغَالِهَا بِزَرْعِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَصَلَتْ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ إلَى زَرْعِهِ فَصَارَ كَأَنَّ زَرْعَهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَتَقَدَّمُ الْإِدْرَاكُ إذَا تَعَجَّلَ الْحَرُّ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إذَا طَالَ الْبَرْدُ وَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اُسْتُوْفِيَ فِي الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لِانْعِدَامِ الْمُقَوَّمِ فِي الزِّيَادَةِ ثُمَّ يُرْفَعُ مِنْ الْغَلَّةِ مَا غَرِمَ فِيهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَتَمَكَّنَ فِيهِ نَوْعٌ خَبِيثٌ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبْتَاعَ زَرْعَ الْحِنْطَةِ بَعْدَ مَا أَدْرَكَ بِغَيْرِ الْحِنْطَةِ عِنْدَنَا) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَهُمَا نَوْعَانِ فَاقْتَسَمَاهُ مُجَازَفَةً فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَالْآخَرُ النَّوْعَ الْآخَرَ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نَوْعٍ مُجَازَفَةً فَهُوَ جَائِزٌ إذَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ) لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ يَدًا بِيَدٍ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ نِصْفَ النَّوْعِ الَّذِي أَخَذَهُ بِتَقْدِيمِ مِلْكِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَهُ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ مُجَازَفَةً يَجُوزُ. [شِرَاءُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ كَيْلًا وَلَا مُجَازَفَةً بِدَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْغَرَرِ مَا يَكُونُ مَسْتُورَ الْعَاقِبَةِ وَلَا يُدْرَى أَنَّ مَا فِي الضَّرْعِ رِيحٌ أَوْ دَمٌ أَوْ لَبَنٌ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِعَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِنَفْسِهِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فِي الْحَيَوَانِ وَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْحَلْبِ وَأَوْصَافُ الْحَيَوَانِ لَا تَقْبَلُ الْبَيْعَ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ يَزْدَادُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ لَا يَتَنَاوَلُهَا الْبَيْعُ وَاخْتِلَاطُ الْمَبِيعِ بِمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ ثُمَّ تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَعْصِي فِي الْحَلْبِ وَالْبَائِعَ يُطَالِبُهُ بِتَرْكِ دَاعِيَةِ اللَّبَنِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ أَوْلَادِهَا فِي بُطُونِهَا لَا يَجُوزُ لِمَعْنَى الْغُرُورِ وَانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهِ مَقْصُودًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ وَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَاسْتَدَلَّ «بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ» مِنْهُمْ مِنْ يَرْوِي بِالْكَسْرِ الْحَبَلَةِ فَيَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْحَمْلِ وَمِنْهُمْ مِنْ يَرْوِي بِالنَّصْبِ الْحَبَلَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيْعُ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْحَمْلُ بِأَنْ وَلَدَتْ النَّاقَةُ ثُمَّ حَبِلَتْ وَلَدُهَا فَالْمُرَادُ بَيْعُ حَمْلِ وَلَدِهَا وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَعَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ» قِيلَ الْمَضَامِينُ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْأَصْلَابُ وَالْمَلَاقِيحُ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْأَرْحَامُ وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ هَذَا الْمَضَامِينِ مَا تَضُمُّهُ الْأَرْحَامُ وَالْمَلَاقِيحُ مَا تَضُمُّهُ الْأَصْلَابُ وَكَذَلِكَ شِرَاءُ أَصْوَافِهَا عَلَى ظُهُورِهَا لِأَنَّ الصُّوفَ قَبْلَ الْجِزَازِ وَصْفٌ لِلْحَيَوَانِ وَلَيْسَ بِمَالِ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ بَيْنَمَا يَتَمَكَّنُ فِي التَّسْلِيمِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَعْصِي فِي الْجِزَازِ وَالْبَائِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصُّوفَ عَيْنُ مَالٍ ظَاهِرٍ وَقَاسَهُ بِبَيْعِ قَوَائِمِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النُّمُوَّ فِي أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِهَا لَا مِنْ أَصْلِهَا فَلَا يَخْتَلِطُ مِلْكُ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا النُّمُوُّ فِي الصُّوفِ يَكُونُ مِنْ أَصْلِهِ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ فِيمَا إذَا حَصَبَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى نَمَا فَالْمَحْصُوبُ يَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ لَا فِي أَصْلِهِ فَيَخْتَلِطُ مِلْكُ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِحَيَوَانٍ فَهُوَ وَصْفٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرَةِ فَهُوَ عَيْنُ مَالٍ مَقْصُودٍ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِذَلِكَ قَالَ: (وَكُلُّ شَيْءٍ اشْتَرَاهُ مِنْ الثِّمَارِ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ بِصِنْفٍ مِنْ غَيْرِهِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَشِرَاءُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهَا لَا يَجُوزُ) لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَصْلُحُ لَتَنَاوُلِ بَنِي آدَمَ أَوْ عَلَفِ الدَّوَابِّ فَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَإِنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بَعْدُ بِأَنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ الْعَاهَةَ وَالْفَسَادَ عَلَيْهِ فَاشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ يَجُوزُ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَهُوَ وَشَرْطُ الْقَطْعِ سَوَاءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» أَوْ قَالَ: حَتَّى يَزْهَى أَوْ قَالَ: حَتَّى تُؤْمَنُ الْعَاهَةُ وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ التَّرْكِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَةَ بِمَا يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلَمِ وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ هَذَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا أَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا بَدَا صَلَاحُهَا إلَّا أَنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ بَعْدَ شَرْطِ الْقَطْعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 يَجُوزُ وَكَذَلِكَ مُطْلَقًا وَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَقْطَعَهَا فِي الْحَالِ بِمُقْتَضَى مُطْلَقُ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتْرُكُهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَمِنْ الشَّرَائِطِ فِي الْعُقُودِ مَا يُجَوِّزُ الْعُرْفُ كَمَا إذَا اشْتَرَى نَعْلًا وَشِرَاكَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْذُوهَا الْبَائِعُ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ التَّرْكِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهَذِهِ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَيْثُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَكُلُّ عُرْفٍ وَرَدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ثُمَّ إنَّ الثِّمَارَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ تَزْدَادُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ ضَمَّ الْمَعْدُومَ إلَى الْمَوْجُودِ وَاشْتَرَاهُمَا فَكَانَ بَاطِلًا وَفَصْلُ النَّعْلِ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ وَلَا يَتَمَكَّنُ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ شِرَاءُ الْمَعْدُومِ فَأَمَّا إذَا تَنَاهَى عِظَمُ الثِّمَارِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَزْدَادُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَنْضَجْ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا يَجُوزُ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَفِي الْقِيَاسِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا قُلْنَا وَجَوَّزَ مُحَمَّدٌ الْعَقْدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ وَمُدَّةُ التَّرْكِ يَسِيرَةٌ وَقَدْ يَتَحَمَّلُ الْيَسِيرَ فِيمَا لَا يَتَحَمَّلُ فِيهِ الْكَثِيرَ مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بَعْدَ هَذَا وَلَكِنَّ الشَّمْسَ تُنْضِجُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَيَأْخُذُ اللَّوْنَ مِنْ الْقَمَرِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَالطَّعْمَ مِنْ الْكَوَاكِبِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا عَمَلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ فَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ اسْتَحْسَنَ أَنَّ أُجَوِّزَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهُ فَإِنْ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا ثُمَّ تَرَكَهُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْفَصْلِ إلَّا فِي فَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هُنَاكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً يَجُوزُ وَهُنَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَشْجَارَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ صَحِيحٌ وَاسْتِئْجَارُ الْأَشْجَارِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ (وَالثَّانِي) أَنَّ هُنَاكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَهُنَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ وَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَشْجَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا فَاسِدًا أَيْضًا وَبِدُونِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ وَإِذَا صَارَ الْعَقْدُ لَغْوًا بَقِيَ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالتَّرْكُ مَتَى كَانَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَالْفَضْلُ يَطِيبُ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَصْلًا آخَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَا إذَا صَارَ بَعْضُ الثِّمَارِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ الْبَعْضُ بَعْدُ أَوْ لَمْ يَصِرْ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَصِرْ مُنْتَفَعًا بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ فَاشْتَرَى الْكُلَّ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ وُجُودُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ يُجْعَلُ كَوُجُودِهِ فِي الْكُلِّ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ يَجْعَلُ وُجُودَ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَوُجُودِ الْكُلِّ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ أَوْ يَجْعَلُ مَا خَرَجَ أَصْلًا وَمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ جُعِلَ تَبَعًا لَهُ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَلَكِنَّا نَقُولُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومُ لَا يَقْبَلُ الْبَيْعَ وَحِصَّةُ الْمَوْجُودِ مِنْ الْبَدَلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَجَعَلَ الْمَعْدُومَ حَقِيقَةً مَوْجُودًا حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْعَقْدُ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً فَأَمَّا الثِّمَارُ تَقْبَلُ الْعَقْدَ بَعْدَ الْوُجُودِ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُفْتِي بِجَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ فِي الثِّمَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: أَجْعَلُ الْمَوْجُودَ أَصْلًا فِي الْعَقْدِ وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا قَالَ: أَسْتَحْسِنُ فِيهِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا بِبَيْعِ ثِمَارِ الْكَرْمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ وَفِي نَزْعِ النَّاسِ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ بَيِّنٌ قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ رِوَايَةً فِي هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ فِي بَيْعِ الْوَرْدِ عَلَى الْأَشْجَارِ فَإِنَّ الْوَرْدَ مَثَلًا حَقٌّ ثُمَّ جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي الْكُلِّ مُطْلَقًا بِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ: الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ أُصُولَهَا حَتَّى يَكُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَهُ وَفِي الثِّمَارِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ ثُمَّ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ فِيمَا بَقِيَ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَحِلُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا يَحْدُثُ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى طَعَامًا بِطَعَامٍ مِثْلِهِ فَعَجَّلَهُ لَهُ وَتَرَكَ الَّذِي اشْتَرَى وَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى افْتَرَقَا فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا) وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ شَرْطٌ عِنْدِي وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ يَدًا بِيَدٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَفَادَ شَرْطَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَالَ: فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ ثُمَّ فُهِمَ مِنْهُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ شَرْطُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ بَيْنَ بَدَلَيْنِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ عَيْنًا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ كَبَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهَذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 لِأَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ هُنَا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّفَاضُلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُرْمَةَ النَّسَاءِ لِوُجُوبِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْقَبْضَ حُكْمٌ لِلْعَقْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُهُ بِالْعَقْدِ كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ نَحْوِهِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَرِنُ بِالشَّيْءِ شَرْطُهُ وَالْقَبْضُ فِي كُلِّ بَيْعٍ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ حُكْمَ الْعَقْدِ لَا شَرْطَهُ وَسَاعَاتُ الْمَجْلِسِ إنَّمَا تُجْعَلُ كَحَالَةِ الْعَقْدِ فِيمَا هُوَ شَرْطُ الْعَقْدِ فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ مَجْلِسُ الْعَقْدِ وَمَا بَعْدَهُ سَوَاءٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّرْفِ فَالْقَبْضُ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَا يُشْتَرَطُ هُنَاكَ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ شَرْطُ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَالنُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ لِلتَّعْيِينِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِهَذَا شَرَطْنَا الْقَبْضَ فِيهِمَا لِلتَّعَيُّنِ وَفِي بَابِ السَّلَمِ شَرَطْنَا الْقَبْضَ فِي رَأْسِ الْمَالِ لِلتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَلَكِنَّ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ السَّلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ثُمَّ يَرُدُّ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إلَّا أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى كُلِّ تَاجِرٍ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَعْرِفَةُ مَا لَا يَتَعَيَّنُ فَأَقَامَ الشَّرْعُ اسْمَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مُقَامَ عَدَمِ التَّعْيِينِ فِي الْبَدَلَيْنِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ وَالطَّرِيقَةُ (الثَّانِيَةُ) مَا عَلَّلَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ حَاضِرٌ لَيْسَ لَهُ أَجَلٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ فَضْلٍ فِي الْمَالِيَّةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَالتُّجَّارُ لَا يَفْصِلُونَ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْمُقَابَلَةِ كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَأَمَّا الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَقَدْ اخْتَصَّا بِاسْمٍ شَرْعًا وَاخْتِصَاصُهُمَا بِاسْمٍ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِحُكْمٍ يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الِاسْمُ وَهُوَ صَرْفُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى يَدِ صَاحِبهِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَلِهَذَا شَرَطْنَا ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالسَّلَمُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ فَشَرَطْنَا التَّعْجِيلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بِمُقْتَضَى الِاسْمِ وَقَدْ يُؤْخَذُ حُكْمُ الْعَقْدِ مِنْ اسْمِهِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالنِّكَاحِ فَأَمَّا هَذَا الْبَيْعُ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ فِي الِاسْمِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ التَّسْلِيمِ لَا وُجُوبَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدًا بِيَدٍ أَيْ عَيْنًا بِعَيْنٍ. لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ كَمَا أَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ فَيَصْلُحُ ذِكْرُ الْيَدِ كِنَايَةً عَنْهُمَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْقَبْضُ لَقَالَ: مِنْ يَدٍ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 يَدٍ فَلِمَا قَالَ: يَدًا بِيَدٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَأَمَّا بَيْعُ الْعَبْدِ بِالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبِ بِالثَّوْبَيْنِ فَجَائِزٌ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ بِالنَّقْدِ لِأَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَوْ شَرَطَ فِيهِ أَجَلَ يَوْمٍ فِي الْعَيْنِ كَانَ فَاسِدًا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ فَالْمَقْصُودُ بِالْأَجَلِ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْمُدَّةِ فَيُسْلِمَهُ وَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ فِي اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِي الْعَيْنِ لَا يَدًا بِيَدٍ لَا يَسْقُطُ بِالتَّعَرُّفِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَلَكِنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ قُصُورُ يَدِهِ عَنْ الْعَيْنِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ وَجَوَازُ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَا لِضَرَرٍ بِغَيْرِهِ قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِطَعَامٍ مِثْلِهِ وَاشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُوفِيَهُ طَعَامَهُ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ شَرْطَ الْمُسَاوَاةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَبِهَذَا الشَّرْطِ مُتَمَكِّنٌ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْحَمْلِ إلَى مَنْزِلِهِ لِيُوفِيَهُ فِيهِ فَتَنْعَدِمُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ اشْتَرَاهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْمِصْرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ بِالْعَقْدِ فِي الْمَوْضُوعِ الَّذِي فِيهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَالْمُشْتَرِي يَمْلِكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَيْنٌ فَإِذَا اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْحَمْلِ عَلَى الْبَائِعِ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَطْحَنَهُ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَفِي الْقِيَاسِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ صَارَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَفِي اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِهِ فِي مَكَان آخَرَ شَرَطَهُ مَنْفَعَةٌ لَا يَقْبِضُهُ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ بِمُقَابِلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَإِلَّا فَهِيَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ كَانَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْحَمْلِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَشْتَرِي الْحَطَبَ فِي الْمِصْرِ وَلَا يَكْتَرِي دَابَّةً أُخْرَى لِتَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ وَمَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَلَيْسَ فِي عَيْنِهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِهِ وَاجِبٌ لِمَا فِي النَّزْعِ عَنْ الْعَادَةِ مِنْ حَرَجٍ بَيْنَ وَمِثْلِ هَذِهِ الْعَادَةِ لَا تُوجَدُ خَارِجَ الْمِصْرِ بَلْ إذَا اشْتَرَى الْحِنْطَةَ أَوْ الْحَطَبَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ الْحَمْلَ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ نَوَاحِي الْمِصْرَ كَنَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى أَنَّ قِيمَةَ مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَوَاحِي الْمِصْرِ بِخِلَافِ الْمِصْرِ مَعَ الْقَرْيَةِ فَقِيمَتُهَا فِي الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا خَارِجَ الْمِصْرِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ بِالنَّقْلِ ثُمَّ هَذَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي لَفْظِ الْحَمْلِ وَالْإِيفَاءِ سَوَاءٌ وَقَالُوا لَا فَرْقَ خُصُوصًا فِي لِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ يَسَار نَجَاته مِنْ أَوْ بيادخانه مِنْ أَوْ يرد بخانه مِنْ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ مِنْ قَبْلِ أَنَّ الْإِيفَاءَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَالْعَقْدَ يُوجِبُ إيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ شَرْطُ الْإِيفَاءِ مُلَائِمًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَمَّا الْحَمْلُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَخْلُو عَنْهُ بِأَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَشَرْطُ الْحَمْلِ لَا يُلَائِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى شَعِيرًا بِصُوفٍ مُتَفَاضِلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالْهَيْئَةِ وَالْمَقْصُودِ وَأَصْلُهُمَا وَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَلَكِنْ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَعَانِي يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ كَالثِّيَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْقُطْنِ وَكَذَلِكَ الْقُطْنُ بِالْكَتَّانِ وَالْمُشَاقَةُ بِالْكَتَّانِ لَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا لَأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: الْمُشَاقَةُ وَالْكَتَّانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ بِمَنْزِلَةٍ أَنْوَاعِ التَّمْرِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَكَذَلِكَ جِنْسَانِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ مُتَفَاضِلًا وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَلِّمَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ لِأَنَّ الْكُلَّ مَوْزُونٌ بِثَمَنٍ وَكَذَلِكَ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنْ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ إذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ إسْلَامُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ أَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجُوزُ إسْلَامُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنْ الزَّعْفَرَانِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا يَجُوزُ إسْلَامُ الدَّرَاهِمِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ لَهَا ثَابِتَةٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالصِّفَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُثَمَّنٌ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ فِي التَّعْيِينِ فَهَذَا كَالْمُتَّخِذِ مِنْ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَإِذَا كَانَ شَرْطُ السَّلَمِ طَعَامًا وَسَطًا فَأَعْطَاهُ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ فَرَضِيَ بِهِ جَازَ لِأَنَّهُ إنْ أَعْطَاهُ أَجْوَدَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ أَعْطَاهُ أَرْدَأَ فَقَدْ أَحْسَنَ الْآخَرُ إلَى أَسِيرِهِ حِينَ رَضِيَ مِنْهُ بِهِ وَأَبْرَأهُ مِنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ حِينَ تَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فَجَازَ ذَلِكَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا رَبُّ السَّلَمِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَدْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا مَعَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ رَدَّ الْمَقْبُوضَ وَطَالَبَهُ رَبُّ السَّلَمِ بِحَقِّهِ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْضَى لَمْ يَرْجِعْ رَبُّ السَّلَمِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ وَلَا قِيمَةَ لِلصِّفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَجَعَ بِحِصَّةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَطَّ بَعْضَهُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا إذَا رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ إنْ أَبَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ الْمَعِيبَ غَرِمَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 رَبُّ السَّلَمِ طَعَامًا قَبْلَ الْمَقْبُوضِ وَرَجَعَ بِحَقِّهِ وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي رَدِّ الْمِثْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا وَجَدَ الْمَقْبُوضُ زُيُوفًا وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَفِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: (لَوْ قَالَ: لِآخَرَ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ إلَى أَجَلِ كَذَا بِهَذِهِ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمِ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَيَّ فِي مَكَانِ كَذَا فَهُوَ سَلَمٌ جَائِزٌ عِنْدَنَا) وَقَالَ: زُفَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِنَّمَا الرُّخْصَةُ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً فَإِذَا ذُكِرَ لَفْظُ السَّلَمِ جَازَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا كُنَّا نَقُولُ قَدْ أَتَيْنَا بِمَعْنَى السَّلَمِ وَذَكَرَ شَرَائِطَهُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الْأَلْفَاظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الْعَيْنَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبِلَ الْآخَرُ كَانَ بَيْعًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا لَفْظَ الْبَيْعِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِفَصْلٍ مِنْ فُصُولِ التَّحَالُفِ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَتَحَالَفَانِ لَا فِي الْقَائِمِ وَلَا فِي الْهَالِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْمَيِّتِ شَيْئًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ الْقَائِمُ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَلَاكَ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْنَعُ وَبَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَلَاكَ جَمِيعِ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فَكَذَلِكَ هَلَاكُ الْبَعْضِ ثُمَّ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْقَائِمِ مِنْهُمَا عَلَى الْعَيْنِ مُمْكِنٌ فَرَدَّ الْعَيْنَ وَفِي الْهَالِكِ رَدُّ الْعَيْنِ مُتَعَذَّرٌ فَيَقُومُ رَدُّ الْقِيمَةِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ هَالِكًا عِنْدَهُ وَالْقَوْلُ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَوْ كَانَا قَائِمَيْنِ فُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ وَلَوْ كَانَا هَالِكَيْنِ لَمْ يَجُزْ التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي الْفَسْخِ بِسَبَبِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثُمَّ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُمَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي وَلَا يُفَضِّلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّهُ إذَا فَضَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي التَّحَالُفِ يَفُوتُ مَقْصُودُ الْيَمِينِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَالُ كَمَا يَدَّعِيهِ خَصْمُهُ فَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحَالُفِ فَإِذَا تَحَالَفَا تُرَدُّ الْعَيْنُ مِنْهُمَا ثُمَّ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ بِاَللَّهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً وَإِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي قِيمَتِهِ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْحَيِّ لِتَوْزِيعِ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا تَحْكُمُ قِيمَتُهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ الْمُشْتَرِي أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ فَإِذَا حَلَفَا اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ فِي الْحَالُ لِتَوْزِيعِ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ الصَّفْقَةُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمَقْصُودُ بِالتَّحَالُفِ هُوَ الْفَسْخُ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَعَذَّرَ بِهَلَاكِ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا قَائِمَيْنِ لَمْ يَسْتَقِمْ ثُبُوتُ حُكْمِ التَّحَالُفِ وَالْفَسْخِ فِي أَحَدِهِمْ دُونَ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ الرَّدّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْعَيْبَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِهِ وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَرَدَّهُ يَكُونُ هَذَا تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ تَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَلَوْ قُلْنَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ رَدُّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي الثَّمَنِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إلَّا إنْ شَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْهَالِكُ كَأَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَكَأَنَّهُ مَا اشْتَرَى إلَّا الْقَائِمَ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُمَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ لِأَنَّ مِنْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَلَفَ مَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ كَانَ صَادِقًا وَكَذَلِكَ مِنْ بَاعَ شَيْئَيْنِ بِأَلْفٍ ثُمَّ حَلَفَ مَا بَاعَ أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةِ كَانَ صَادِقًا فَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحَالُفِ فَإِذَا تَحَالَفَا رَدَّ الْعَيْنَ وَلَا شَيْءَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْهَالِكِ مِنْ ثَمَنٍ وَلَا قِيمَةَ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي السَّلَمِ] قَالَ: (وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةِ فَأَسْلَمَهَا الْوَكِيلُ بِشُرُوطِ السَّلَمِ وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ مِنْ عِنْدِهِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدُ تُمْلِيكِ الْآمِرِ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ مِنْهُ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ بِهِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهَذَا عَقْدُ يَمْلِكْ الْمَأْمُورُ مُبَاشَرَتِهِ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ كَالْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَاقِدَ بَاشَرَ الْعَقْدَ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ سَوَاءً بَاشَرَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] الْآيَةَ وَمَنْ دَفْعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ يَكُونُ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ دَفْعَ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَوْ إلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً» فَدَلَّ أَنَّ التَّوْكِيلَ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ عَلَى مَا عَرَفَ وَكَذَلِكَ النَّاسُ تَعَامَلُوا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ جَمِيعًا فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْوَكِيلُ فِي السَّلَمِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ حَتَّى تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَكَذَلِكَ حَقُّ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ دُونُ الْمُوَكِّلِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْمُوَكِّلِ، قَالَ: (لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَإِذَا عَقْدَ الْعَقْدَ خَرَجَ مِنْ الْوَسَطِ وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ عَقَدَهُ بِنَفْسِهِ) أَلَا تَرَى أَنَّ مَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ وَشَبَّهَ هَذَا بِالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالصَّدَاقِ وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُوَكِّلِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَتَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهُ بِمِنْ قَصَدَ تَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ دُونَ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ وَلَنَا أَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْوَكِيلُ وَسَبَبُ تَعَلُّقِ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْمَرْءِ مُبَاشَرَتُهُ الْعَقْدَ وَثُبُوته الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّتِهِ وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ وَهُوَ الْكَلَامُ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَنُفُوذِهِ شَرْعًا بِاعْتِبَارِ وِلَايَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ لَا أَنْ يُثْبِتَ لَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وِلَايَةً لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً مِنْ قَبْلِ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّهُ عَاقِدٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَمَنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَوْ كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَاقِدٌ حُكْمًا مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَبْلَغِ الْأَمْرِ إلَى مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ كَانَ النِّكَاحُ لَهُ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ سَاعَتِهِ كَمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِالتَّوْكِيلِ السَّابِقِ وَمُبَاشَرَتِهِ السَّبَبِ تَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ لَهُ فَيَثْبُتُ أَوَّلًا لَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ قَرِيبَهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْوَكِيلِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِسَبَبٍ يَنْعَقِدُ حُكْمُهُ مُوجِبًا لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَامَ مَقَامَهُ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ السَّابِقِ فَيَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْوَكِيلِ كَالْعَبْدِ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةِ وَيَصْطَادُ فَيَقَعُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَوْلَاهُ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ وَإِذَا ثَبُتَ أَنَّ الْوَكِيلَ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ كَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِذَا نَقَدَهُ مِنْ عِنْدِهِ رَجَعَ بِمِثْلِهِ عَلَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ نَقَدَ مَالَ نَفْسِهِ فِي عَقْدِ حَصَلَ مَقْصُودُ ذَلِكَ الْعَقْدِ لِلْآمِرِ فَأَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْعَقْدِ يَكُونُ أَمْرًا بِأَدَاءِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الطَّعَامَ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَالْغُنْمُ بِمُقَابِلَةِ الْغُرْمِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ حَقُّ قَبْضِ الطَّعَامِ إلَيْهِ أَيْضًا فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ لَهُ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ كَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَبَضَ السِّلْعَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ أَمَّا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْبِسَهُ فَإِنَّمَا يُهْلِكُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْقَبْضِ عَامِلٌ لَهُ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِهِ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ فِي السَّلَمِ وَيَتِمُّ مِلْكُهُ بِهِ فِي الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ هَلَاكُهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَد الْمُوَكِّلِ فَإِنْ لَمْ يُهْلِكْ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ حَبْسُهُ بِالثَّمَنِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ: زُفَرُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ هَلَاكَهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ حَقِيقَةً ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَقْبُوضَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَالثَّمَنُ دَيْنٌ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ لِلْأَمِينِ أَنْ يَحْبِسَ الْأَمَانَةَ بِدَيْنِهِ عَلَى صَاحِبِهَا وَالثَّانِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَمَا قَبَضَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا فَقَدْ رَضِيَ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ أَوْ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ سَلَمِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا لِلْحَبْسِ بِالثَّمَنِ وَلَنَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بِعَقْدِ بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ بِبَدَلٍ اسْتَوْجَبَهُ الْوَكِيلُ عَلَيْهِ حَالًا وَإِلَّا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ بِهِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَعَ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إمَّا لِأَنَّ الْمُوَكِّلِ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ فِيهِ مِنْ الْوَكِيلِ بِعِوَضٍ وَلِهَذَا لَوْ اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فِي الثَّمَنِ تَحَالَفَا وَلَوْ وَجَدَ بِهِ الْمُوَكِّلُ عَيْبًا رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ قَوْلُهُ بِأَنْ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ فَفِيهِ طَرِيقَتَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ مُتَرَدَّدٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَضَمِّ مَقْصُودِ الْوَكِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَحْيَاءِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِحَبْسِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْهُومًا فِي الِابْتِدَاءِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ عَنْهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ حَبَسَهُ عَنْهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَإِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا بِقَبْضِهِ (وَالثَّانِي) إنَّ هَذَا قَبْضٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْحَبْسِ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ بِهِ قَابِضًا وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ لِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ بِتَسْلِيمِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرِّضَا فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَإِذَا حَبَسَهُ الْوَكِيلُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ غَاصِبٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُهْلِكُ فِي يَدِهِ هَلَاكَ الرَّهْنِ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمَنْ الثَّمَنِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَهْلَكُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَهَذَا الْخِلَافُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ بِحَقِّهِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَرْهُونِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَدَّى عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ وَالْحَبْسِ لِلِاسْتِيفَاءِ حُكْمُ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ بِهَلَاكِهِ لَا يَنْفَسِخُ أَصْلُ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسُقُوطُ الثَّمَنِ هُنَاكَ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ مَا بَيَّنَّا فَكَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَا نَقُولُ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ هُنَا بَلْ انْفَسَخَ فِيمَا بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُوَكِّلُ بِالْمُشْتَرِي عَيْبًا فَرَدَّهُ وَرَضِيَ بِهِ الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَكِيلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرُ الرَّهْنِ أَنَّ هَذَا الْحَبْسَ ثَبَتَ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالْحَبْسَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَالْمَبِيعِ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ دَفْعَ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَأَخَذَ بِالسَّلَمِ كَفِيلًا أَوْ رَهْنًا فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً فَيَمْلِكُ أَخْذَ الرَّهْنِ بِهِ وَالْكَفَالَةِ لِلتَّوْثِيقِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الْمُطَالِبُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَثَّقَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ فَمَلَكَ التَّوَثُّقَ بِالْمُطَالَبَةِ قَالَ: (فَإِنْ حَلَّ السَّلَمِ فَأَخَّرَهُ الْوَكِيلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَضْمَنُ طَعَامَ السَّلَمِ لِلْمُوَكِّلِ) وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَبْرَأَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَنْ طَعَامِ السَّلَمِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ طَعَامَ السَّلَمِ أَصْلٌ يَقْبَلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 الْإِبْرَاءَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا عَقْدَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْ طَعَامِ السَّلَمِ صَحَّ أَبَرَاؤُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقْبَلُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فَإِذَا قَبِلَ كَانَ فَسْخًا لَعَقَدَ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَتَمْلِيكُ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَقْبَلْ فَإِذَا قَبِلَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كَالْمُشْتَرَى إذَا وَهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ بَدَلِ الصَّرْفِ أَوْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِلتَّعْيِينِ الَّذِي هُوَ شَرَطَ الْعَقْدِ وَالْإِبْرَاءِ مُفَوِّتٌ لِذَلِكَ وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَتَعْيِينُهُ لَيْسَ شَرْطًا لِجَوَازِ إسْقَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ بِالْإِبْرَاءِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَيْنٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ يُضَافُ إلَيْهِ وَيُورِدُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فَتُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَنَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِشَبَهِهِ بِالثَّمَنِ يَجُوزُ إسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِ بِالْإِبْرَاءِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ عَقْدُ السَّلَمِ فَنَقُولُ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا كَانَ وَكِيلًا يَصِحُّ أَبَرَاؤُهُ وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَصِحُّ أَبَرَاؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْمُتَارَكَةِ إذَا تَارِكَ الْوَكِيلُ السَّلَمِ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْخِلَاف فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَجَّلَهُ فِيهِ صَحَّ ذَلِكَ وَضَمِنَهُ لِلْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ وَأَدْعُ الْقِيَاسَ فِيهِ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ يَقُولُ أَسْتَحْسِنُ وَالْقِيَاسَ مَا قَالَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُسْلَمَ فِيهِ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِقَبْضِهِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ مِلْكُ مِنْ كَانَ مَالِكًا قَبْلَهُ فَالْوَكِيلُ تَصْرِفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ قَبْضَهُ فَوَهَبَهُ مِنْهُ وَدَلِيلُ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ فَوَهَبَهُ مِنْهُ وَدَلِيلُ أَنَّ تَصَرُّفَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ ضَامِنٌ عِنْدَكُمْ وَلَا يَضْمَنُ إلَّا بِالْخِلَافِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأهُ عَنْهُ صَحَّ وَلَوْ قَبَضَهُ جَازَ قَبْضُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى عَيْنٍ بِالثَّمَنِ صَحَّ وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْن فَاشْتَرَى مِنْ الْوَكِيلِ شَيْئًا حَتَّى وَجَبَ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى الْمُشْتَرِي دَيْنٌ أَيْضًا يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يَجِبُ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 وَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْوَكِيلَ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ فِي التَّأْجِيلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَسْقُطُ أَصْلُ الثَّمَنِ وَالْمُطَالَبَةُ حَقُّ الْوَكِيلِ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ عَزْلَهُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ إلَّا بِأَمْرِهِ وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ فَإِنَّهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ خَالِصُ حَقِّهِ لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَعْزِلُهُ أَحَدٌ عَنْهُ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَخْلُفُهُ الْمُوَكِّلُ فِي مِلْكِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِهِ وَالْمَالُ هُوَ الْمَقْبُوضُ دُونَ الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَحْنَثُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَبْضَ خَالِصٌ حَقُّهُ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِالْأَبْرَاءِ ثُمَّ يَتَعَدَّى هَذَا التَّصَرُّفُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ فِي الْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِلْكَهُ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ كَالرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ لِمُصَادِفَةِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَالِيَّةِ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ تَلَفَهُ بِتَصَرُّفِهِ مِلْكَ الْمَالِيَّةِ وَكَذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ وَهُوَ مَيْسُورٌ وَهُوَ مَسْقَطٌ لِلْقَبْضِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إسْقَاطٌ صَحَّ مِنْهُ وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي وَمَنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمْلِيكُ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْمُشْتَرِي صَارَ ضَامِنًا لَهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَإِلَى الْمُوَكِّلِ أَنْ يَرْضَى بِهِ فَإِنَّ رِضَى الْوَكِيلِ يُعْتَبَرُ بِانْقِطَاعِ مُنَازَعَتِهِ مَعَ الْبَائِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إلْزَامِ الْمُوَكِّلِ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِضَرَرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ أَصْلٌ فِي الْإِبْرَاءِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ بَيْعٌ وَلِهَذَا صَحَّ بِدُونِ الْقَبُولِ وَإِنْ كَانَ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَأَمَّا قَبْضُ الثَّمَنِ فَالْمَقْبُوضُ عَيْنُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَهِبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تُصْرَفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَأَمَّا فَصْلُ الْمُقَاصَّة فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ دَيْنُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ وَهُوَ مِثْلُ الثَّمَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ قِصَاصًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْحَقِّ لِلْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي جَازَ قَبْضُهُ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَضْمَنُ الْمُوَكِّلُ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ قِصَاصًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْحَقُّ لِلْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ مِثْلُهُ ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ بِهِ وَإِذَا جَعَلَ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَضْمَنْ أَحَدٌ شَيْئًا فَرَجَّحْنَا هَذَا الْجَانِبَ لِهَذَا وَالَابُّ وَالْوَصِيُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 يَصِحُّ أَبَرَاؤُهُمَا وَتَأْجِيلُهُمَا فِيمَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ بِعَقْدِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَا ضَامِنِينَ لَهُ فَأَمَّا فِيمَا وَجَبَ لَا بِعَقْدِهِمَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمَا ثَابِتَانِ أَمَرَا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِبْرَاءِ قَالَ: (وَالتَّأْجِيلُ وَالْمُتَارَكَةُ مِنْ الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ إقَالَتَهُ لَا تَصِحُّ) لِأَنَّ هُنَاكَ عَيْنَ الْمُشْتَرِي مَمْلُوكٌ لِلْمُوَكِّلِ فَالْإِقَالَةُ تُصْرَفُ مِنْهُ فِي مَحِلٍّ هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ وَهُنَا الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَالثَّابِتُ بِهِ حَقُّ الْقَبْضِ مَا دَامَ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ حَقُّ الْوَكِيلُ وَإِنْ احْتَالَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى مَلِيءٍ أَوْ غَيْرِ مَلِيءٍ جَازَ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَيَضْمَنُ لِلْأُمِّ طَعَامَهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ بِالتَّحْوِيلِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْإِبْرَاءِ وَيَسْتَوْفِي فِي حُكْمِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّهُمَا لَوْ قَبِلَا الْحَوَالَةَ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمُبَادَلَةِ فِي حَقِّهِ بِصِفَةِ النَّظَرِ فَإِذَا بَادَلَا ذِمَّةً بِذِمَّةٍ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَمْ يَضْمَنَا وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ فَلِهَذَا ضَمِنَهُ قَالَ: (وَإِنْ اقْتَضَى الطَّعَامُ أَدْوَنَ مِنْ شَرْطِهِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ صِفَةِ الْجُودَةِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ أَصْلِهِ جَازَ وَضَمِنَ لِلْمُوَكِّلِ مِثْلَ طَعَامِهِ عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ وَإِذَا عَقَدَ الْوَكِيلُ السَّلَمَ ثُمَّ أَمَرَ الْمُوَكِّلَ بِأَدَاءِ رَأْسِ الْمَالِ وَذَهَبَ الْوَكِيلُ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّ وُجُوبَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فِيهِ كَأَجْنَبِيِّ آخَرَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعَاقِدِ وَلَا بِذَهَابِهِ إذَا بَقِيَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَسْلَمَهَا فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ فَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ وَرَبُّ السَّلَمِ مُشْتَرٍ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لِمَا فِيهِ مِنْ التُّهْمَةِ أَنَّهُ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ بِالْغَبْنِ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمُهُ الْمُوَكِّلُ فَإِذَا نَفَذَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ ضَمِنَ لِلْمُوَكِّلِ كُلَّ دَرَاهِمِهِ لِأَنَّهُ قَضَى بِدَرَاهِمِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ فَإِنْ أَسْلَمَهَا فِي حِنْطَةٍ يَكُونُ نُقْصَانُهَا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ هُنَا الْعُذْرَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَكَانَ عَفْوًا فِي تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ شِرَاءً كَانَ أَوْ بَيْعًا قَالَ: (وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ فَالطَّعَامُ الدَّقِيقُ وَالْحِنْطَةُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ حَقِيقَةً لِكُلِّ مَطْعُومٍ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا وَمَا أَوْصَى لِلْإِنْسَانِ بِطَعَامِهِ وَالْمَطْعُومَاتُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَجَهَالَةُ الْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَلَكِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: السَّلَمُ بَيْعٌ وَالطَّعَامُ إذَا أُطْلِقَ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يُرَادُ بِهِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا فَإِنَّ سُوقَ الطَّعَامِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَبَائِعُ الطَّعَامِ مِنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا دُونَ مِنْ يَبِيعْ الْفَوَاكِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْبَائِعِ فَكُلُّ مَا يُسَمِّي بَائِعُهُ بَائِعُ الطَّعَامِ يَصِيرُ هُوَ بِهِ مُشْتَرِيًا لِلطَّعَامِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِالْآكِلِ وَالْوَصِيَّةِ تُتِمُّ بِالْمُوصَى فَاعْتَبَرْنَا فِيهِمَا حَقِيقَةَ الِاسْمِ قَالُوا وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ كَثِيرَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ فَأَمَّا الدَّقِيقُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ كَمَا وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ ثَابِتٌ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقُهَا فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْحِنْطَةُ فَإِذَا قُلْتَ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الدَّقِيقُ وَالْمَعْلُومُ دَلَالَةً كَالْمَعْلُومِ نَصَّا فَنَقُولُ إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يُسْلِمَ لَهُ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ فَأَسْلَمَ فِي شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَضْمَنَ الْوَكِيلُ دَرَاهِمَهُ لِأَنَّ عَقْدَهُ نَفَذَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَضَى بِدَرَاهِمِ الْآمِرِ دَيْنَ نَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ الْآمِرُ أَخَذَهَا مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ مِلْكِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ أَخْذَهَا مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَبْطُلُ السَّلَمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَارَقَهُ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالَ اسْتَحَقَّ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَارَقَهُ حَتَّى أَعْطَاهُ مِثْلَهَا كَانَ السَّلَمُ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمَّا اسْتَحَقَّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ وَعَقَدُ السَّلَمِ مَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ بَلْ تَعَلَّقَ بِمِثْلِهَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْوَكِيلِ يَبْقَى عَقْدُ السَّلَمِ بَيْنَهُمَا صَحِيحًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَأْسَ الْمَالِ بِالضَّمَانِ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَأْخُذَهُ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ مُسَمَّى فَأَخَذَهَا الْوَكِيلُ ثُمَّ دَفَعَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ فَالطَّعَامُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دَرَاهِمُ قَرْضٍ لِأَنَّ أَصْلَ التَّوْكِيلِ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَمَرَهُ بِبَيْعِ الطَّعَامِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ عَيْنَ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِلْآمِرِ كَانَ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْمَأْمُورُ بِدُونِ أَمَرَهُ وَهُوَ فِي قَبُولِ السَّلَمِ فِي الطَّعَامِ مُسْتَغْنٍ عَنْ أَمْرِ الْغَيْرِ وَقَبُولُ السَّلَمِ مِنْ صَنِيعِ الْمَفَالِيسِ فَالتَّوْكِيلُ بِهِ بَاطِلٌ كَالتَّكَدِّي فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِقَبُولِ عَقْدِ السَّلَمِ بَاطِلٌ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ بِإِعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ فِي طَعَامِ السَّلَمِ جَائِزٌ وَإِذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ كَانَ الْوَكِيلُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الطَّعَامُ فِي ذِمَّتِهِ وَرَأْسُ الْمَالِ مَمْلُوكٌ لَهُ فَإِذَا أَسْلَمَهُ إلَى الْآمِرِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ كَانَ قَرْضًا لَهُ عَلَيْهِ قَالَ: (وَإِذَا دَفْعَ إلَيْهِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُسْلِمَهَا فِي ثَوْبٍ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ الْجِنْسَ) لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَمَعَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 لَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ فَيَبْطُلُ التَّوْكِيلُ فَإِنَّ الْوَكِيلَ كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْظُرُ الْوَكِيلُ إلَى لِبَاسِ الْمُوَكِّلِ فَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ جِنْسِ لِبَاس الْمُوَكِّلِ يَجُوزُ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْمُرُ غَيْرُهُ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ لِيَلْبَسَهُ فَيَعْتَبِرُ بِثِيَابِهِ فَإِنْ سَمَّى الْمُوَكِّلُ ثَوْبًا يَهُودِيًّا أَوْ غَيْرِهِ جَازَ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِجَهَالَةِ الصِّفَةِ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالْوَكَالَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنْ خَالَفَهُ الْوَكِيلُ فَأَسْلَمَ فِي غَيْرِهِ أَوْ إلَى غَيْرِ الْأَجَلِ الَّذِي سَمَّاهُ كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَضْمَنَهُ دَرَاهِمَهُ فَإِنْ ضَمِنَهُ إيَّاهَا جَازَ السَّلَمُ وَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَطَلَ السَّلَمُ لِانْتِقَاضِ قَبَضَهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الِانْتِقَاضِ مِنْ الْأَصْلِ قَالَ: (وَإِذَا دَفْعَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ سَلَّمَهَا عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ الْآمِرُ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ جَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمَ زُيُوفٍ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: وَجَدْتُهَا فِيهَا فَهُوَ مُصَدَّقٌ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْضِي لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِبَدَلِهِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ فِي تَصَرُّفُهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ بِالْعُهْدَةِ وَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ادِّعَائِهِ أَنَّهُ زُيَّفٌ مَعْنَاهُ إذَا أَقَرَّ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ مُنَاقِضٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ زُيُوفٌ فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِهِ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الدَّرَاهِمِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الزُّيُوفَ وَالْجِيَادَ فَلَا يَكُونُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا. قَالَ: (وَاذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يُسْلِمَ لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فِي حِنْطَةٍ فَأَسْلَمَهَا لَهُ فَهُوَ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الطَّعَامَ فَيُرِدْهُ إلَى الْآمِرِ مَكَانَ دَيْنِهِ) فَحِينَئِذٍ يُسْلِمُ لِلْآمِرِ إذَا تُرَاضِيَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا لَهُ بِدَنَانِيرَ أَوْ يُشْتَرَى لَهُ بِهَا شَيْئًا سَمَّاهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِدَلِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَيَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَاءِ جِنْسِهِ مِنْ مَالِهِ وَيُشْتَرَى مِنْهَا شَيْئًا فَيَجُوزُ فَإِنَّمَا أَضَافَ التَّوْكِيلُ إلَى مُلْكِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ أَوْ غَصْبًا فَوَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَسْلَمَهَا فِي طَعَامٍ إلَى فُلَانٍ أَوْ عَيَّنَ الْبَائِعُ أَوْ الْمَبِيعَ بِقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي بِهَا عَبْدَ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ مِنْ يُعَامِلُهُ الْوَكِيلُ لَيْسَ بِشَرْطِ لِصِحَّةِ الْوَكَالَة يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ بِمَا لِي عَلَيْكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى فُلَانٍ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ بِهِ وَلَأَبِي حَنِيفَةَ حَرْفَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 أَمَرَهُ بِصَرْفٍ فِي الدَّيْنِ إلَى مِنْ يَخْتَارُهُ الْمَدْيُونُ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ قَالَ: ادْفَعْ مَا لِي عَلَيْكَ مِنْ الدَّيْنِ إلَى مِنْ يَثْبُتُ أَوْ أَلْقِهِ فِي الْبَحْرِ كَانَ صَحِيحًا وَالْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ نَفْسه بِالدَّفْعِ إلَى الْغَيْرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْآمِرِ فَكَانَ وُجُودُ أَمْرِهِ كَعَدَمِهِ فَأَمَّا فِي الْعَيْنِ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَوْ الْبَائِعُ لِأَنَّ مِنْ أَمَرَهُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ هُنَاكَ مَعْلُومًا فَكَانَ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا فِي تَوْكِيلِهِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالْقَبْضِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ الْمَتَاعَ لِأَنَّ بِتَعَيُّنِهِ يَتَعَيَّنُ الْمَالِكُ فَالْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ يُشْتَرَى الشَّيْءَ مِنْ مَالِكِهِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارَ أَمْرِهِ فِي تَوْكِيلِ الْقَابِضِ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ تَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَصَدَّقْ بِمَا لِي عَلَيْكَ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا جَهَالَةَ فِيمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى آدَمِيٍّ عَيْنِهِ (وَالثَّانِي) أَنَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ يَجِبُ رَأْسُ الْمَالِ عَلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ يَجِبُ لَهُ مِثْلُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُقْرِضًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ لِيَقْضِيَ بِهِ دِينًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَوْ أَمَرَهُ لَهُ بِأَنْ يَقْبِضَ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي بِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ يُوَضِّحُهُ أَنْ يُقِيمَ الْوَكِيلُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَهُ أَسْلَمَ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَى زَيْدٍ إلَى عَمْرٍو فِي طَعَامٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونَ بِأَنْ يَفْعَلَ لَهُ ذَلِكَ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَلَكِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْحَرْفِ الْأَوَّلِ قَالَ: (وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ إنْ يُسْلَمَا لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ فَأَسْلَمَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمَثْنَى وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى فَإِنْ أَسْلَمَاهَا ثُمَّ تَارَكَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ السَّلَمُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالسَّلَمِ لَا يَمْلِكُ الْمُشَارَكَةَ وَلَوْ تَارِكًا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ إذَا تَارَكَ أَحَدُهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَيْنِ لَوْ عَقَدَا لِأَنْفُسِهِمَا ثُمَّ تَارِكَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ رِضَى الْآخَرِ فَإِذَا كَانَ وَكِيلَيْنِ أَوْلَى قَالَ: (وَإِذَا عَقْدَ الْوَكِيلُ السَّلَمَ ثُمَّ اقْتَضَى الْآمِرُ الطَّعَامَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَالْمُوَكِّلِ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيفَاءَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَلَبِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَقْبِضَ الْوَكِيلُ بِتْعَيْنِ مُلْكِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ الْمُوَكِّلُ فِي هَذَا الْقَبْضِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي تَعْيِينِ مِلْكِهِ فَهُوَ يَكْفِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 الْوَكِيلَ مَئُونَةُ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ ضَرَرٌ فِي تَصَرُّفِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ نَقَضْنَا قَبْضَهُ احْتَجْنَا إلَى إعَادَتِهِ بِعَيْنِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَيَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ مِنْهُ ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَهَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ وَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ وَلَا يَنْقُصُ شَيْئًا لِيُعِيدَ وَإِنْ تَارَكَ السَّلَمَ إلَيْهِ مَعَ الْمُوَكِّلِ جَازَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَاقِدِ فِي مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَتَصِحُّ مِنْهُ الْمُتَارَكَةُ كَمَا تَصِحُّ مِنْ وَارِثِ رَبِّ السَّلَمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يُتَارِكُهُ فَأَرَادَ قَبْضَ الطَّعَامِ مِنْهُ فَلِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّسْلِيمِ تَتَوَجَّهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُوَكِّلُ مِنْ الْعَقْدِ أَجْنَبِيٌّ فَمُطَالَبَتُهُ لَا تُلْزِمُ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ الدَّفْعَ إلَيْهِ ، قَالَ: (وَإِذَا دَفْعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِيُسْلِمَهَا فِي طَعَامٍ فَنَاوَلَ الْوَكِيلُ رَجُلًا فَبَايَعَهُ فَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدُ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُحْمَلُ وَفِيمَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ وَإِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ بِعَشْرَةٍ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَوَاهَا لِلْآمِرِ فَالْعَقْدُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةً فَإِنْ دَفْعَ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ فَالْعَقْدُ لَهُ وَإِنْ دَفْعَ دَرَاهِمَ الْآمِرِ فَهُوَ لِلْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَنْوِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّهُ لِلْآمِرِ وَإِنْ تُكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ فَقَالَ: الْآمِرُ نَوَيْتَهُ لِي وَقَالَ: الْمَأْمُورُ نَوَيْتُهُ لِنَفْسِي فَالطَّعَامُ لِلَّذِي نَقَدَ دَرَاهِمَهُ بِالِاتِّفَاقِ فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِعَمَلِهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ الْغَيْرِ أَوْ النِّيَّةِ لِلْغَيْرِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ لَا يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ بَلْ يَكُونُ بَعْدَهُ وَبَعْدَ مَا أَوْقَعَ الْعَقْدُ لَهُ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَإِنَّ دَرَاهِمَ الْغَيْرِ وَبِهِ فَارَقَ التَّكَاذُبُ لِأَنَّ النَّقْدَ مَوْجُودٌ عِنْدَ التَّكَاذُبِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا مِنْ حَيْثُ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فِيمَا عَقَدَ لِنَفْسِهِ لَا يَنْقُدُ دَرَاهِمَ الْغَيْرِ فَإِذَا كَانَ الْمَنْقُودُ دَرَاهِمَ الْآمِرِ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْغَيْرِ لَا يُحِيلُ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَبْلَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ كَانَ مُطْلَقُ عَقْدِهِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ وُقُوعُ الْمِلْكِ لَهُ فِي الطَّعَامِ لِلْعَاقِدِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى لِلْمُوَكِّلِ فَالْمُوَكِّلُ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْخَلْفِ عِنْدَ فَوَاتِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَعِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ مَا هُوَ الْأَصْلُ مُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْخَلْفِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ الْعَقْدُ وَالنَّقْدُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِأَنَّ النَّقْدَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ صُورَةً فَهُوَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ إذْ لَوْ لَمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 يَجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ دِينًا بِدَيْنٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَعْدَ مَا نَقَدَ الدَّرَاهِمَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدّهَا لِيُعْطِيَ غَيْرَهَا لَمْ يَمْلِكْ كَمَا لَوْ اُقْتُرِنَ التَّعْيِينُ بِالْعَقْدِ بِأَنْ أَضَافَ الْعَقْدُ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهَا وَيَجْعَلَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فَإِذَا صَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ فَيَجِبُ تَحَكُّمُهُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّكَاذُبِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ يَعْقِدُ لِلْمُوَكِّلِ بِوِلَايَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَإِذَا اسْتَوَى الْجَانِبَانِ يُصَارُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِالنَّقْدِ كَمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّكَاذُبِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُنْوِيَ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فَصَارَ مُخَالِفًا بِتَرْكِ مَا هُوَ الرُّكْنُ وَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فَلَا يَصِيرُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ عَنْ الْآمِرِ مُخَالِفًا فَيَبْقَى حُكْمُ عَقْدِهِ مَوْقُوفًا عَلَى النَّقْدِ. قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِثَوْبٍ يَبِيعُهُ بِدَرَاهِمَ فَأَسْلَمَهُ فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَإِنْ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ فَأَسْلَمَهُ فِي طَعَامٍ جَازَ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمَا وَهَذِهِ فُصُولٌ (أَحَدُهَا) أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا يَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَبِيعُ إلَّا بِالنَّقْدِ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِمُطْلَقِ إيجَابِ الْبَيْعِ وَمُطْلَقُ إيجَابِ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الثَّمَنِ الْحَالِّ دُونَ النَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَلَا يَثْبُتُ الْإِذْنُ فِيهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٌ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّقْيِيدِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالتَّقْيِيدُ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ بِعَدَمِ صِفَةِ الْإِطْلَاقِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ نَصًّا وَلَا عُرْفًا فَالْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ مُعْتَادٌ بَيْنَ التُّجَّارِ كَالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ الرِّبْحُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ وَالْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ وَأَمَّا مُطْلَقُ إيجَابِ الْبَيْعِ فَإِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى النَّقْدِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي صِفَةً مُعِينَةً فِي الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بِعْتُهُ مِنْكَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لَا يَجُوزُ وَفِي التَّوْكِيلِ لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ بِدُونِ تَعْيِينِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ قَالَ بِعْتُهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالنَّسِيئَةِ يَجُوزُ ثُمَّ قِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ وَلَوْ أَجَلَّهُ مُدَّةٍ غَيْرَ مُتَعَارِفَةٍ فِي مِثْلِ تِلْكَ السِّلْعَةِ لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفُحْشُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ (إنْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ فَلَهُ) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ أَمَّا إذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ لِحَاجَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ أَوْ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ وَلَوْ بَاعَهُ بِغَبْنٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءً كَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَبْنِ فَاحِشٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعُرْفِ يُفِيدُ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ حَتَّى يَتَقَيَّدَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْفَحْمِ زَمَانَ الشِّتَاءِ وَالْجَمْدِ بِزَمَانِ الصَّيْفِ فَإِنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَمْدًا فِي الشِّتَاءِ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مُطْلَقًا فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا وَالْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ فَالظَّاهِرُ إنَّمَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَعْجِزُ عَنْ بَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَقَاسَا بِالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ شِرَاءَهُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْأَمْرِ كَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَ بِمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكَانِ بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَبْنِ فَاحِشٍ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْمُحَابَاةَ الْفَاحِشَةَ كَالْهِبَةِ حَتَّى إذَا حَصَلَتْ مِنْ الْمَرِيضِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَمَرَهُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ وَقَدْ أَتَى بِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ شَرْطًا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ إلَّا وَيُقَابِلهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ دَارًا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ فِي جَمِيعِهِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ بَيْعٌ وَلَيْسَ بِهِبَةٍ وَبِأَنَّ اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُهُ كَالْبَيْعِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ حَلِفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَحْنَثُ وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِكَمَالِ الشَّرْطِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بَيْعٌ مُطْلَقٌ فَيَصِيرُ الْوَكِيلُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْآمِرِ فَإِنَّا لَوْ قَيَّدْنَا بِالْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَبْطَلْنَا حُكْمَ الْإِطْلَاقِ مِنْ كَلَامِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَأَمَّا الْعُرْفُ الَّذِي قَالَ قُلْنَا هَذَا مُشْتَرَكٌ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَبِيعُ الشَّيْءَ تَبَرِّيًا مِنْهُ وَلَا يُبَالِي عِنْدَ ذَلِكَ بِقِلَّةِ الثَّمَنِ وَكَثْرَتِهِ وَقَدْ يَبِيعُهُ لِطَلَبِ الرِّبْحِ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبِيعُهُ بِالْغَبْنِ عَادَةً وَبِالْمُشْتَرَكِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ مُتَعَارَفٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ لَا يُحَصَّلُ إلَّا وَأَنْ يَصِيرَ أَحَدُهُمَا مَغْبُونًا وَالْإِنْسَانُ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً بِدِرْهَمٍ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُ مُتَعَارَفًا فَلَائِمُ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَالْإِطْلَاقُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَبْطُلُ بِالْعُرْفِ كَمَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّ الْعُرْفَ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَكَالَةِ يُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ الْإِطْلَاقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَدَلِيلُ التَّقْيِيدِ التُّهْمَةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَثْبُتُ التَّقْيِيدُ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَبِيعُ مِنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ لِلتُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 فِي بَيْعِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِقَلِيلِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الثَّمَنِ يُسَلِّمَهُ إلَى الْآمِرِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَبِهِ فَارَقَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَهُنَاكَ التُّهْمَةُ مُتَمَكِّنَةٌ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِالْغَبْنِ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمُهُ الْآمِرُ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ كَمَا يَسْتَوْجِبُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ يُوجِبُ لِنَفْسِهِ مِثْلَهُ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ وَالْإِنْسَانُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّةَ الْآمِرِ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ بِإِزَائِهِ مَا يَعْدِلُهُ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ فِي يَدِي فَهَاتِ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ عِنْدِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ يُلَاقِي مِلْكُ الْغَيْرِ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ وِلَايَةً مُطْلَقَةً فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ إطْلَاقُ أَمْرِهِ فِيهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ أَمَرَهُ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ اشْتَرَى ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ وَبِمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْمَالِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَفِي جَانِبِ الْبَيْعِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى الْمَبِيعِ الَّذِي رَضِيَ بِزَوَالِ مُلْكِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالْأَنْظَرِ وَالْأَصْلَحِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ بِعَرْضٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ بِعَرْضِ شِرَاءٍ مِنْ وَجْهٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَدَلِ صَاحِبِهِ مُشْتَرٍ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ مَا هُوَ مُتَرَدَّدٌ بَيْن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فَعَلَهُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْآمِرُ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِعَرْضٍ هُوَ مَالٌ وَالْبَيْعُ لَيْسَ إلَّا هَذَا ثُمَّ جَانِبُ الْبَيْعِ يَتَرَجَّحُ عَلَيَّ جَانِبِ الشِّرَاءِ فِي الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُضَارِبَيْنِ إذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَلَوْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِعَرْضٍ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا فَإِنْ أَجَازَ صَاحِبَهُ كَانَ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَة فَعَرَفْنَا أَنَّ جَانِبَ الْبَيْعِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا أَسْلَمَ الثَّوْبَ فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ فَقَدْ أَزَالَ الثَّوْبَ عَنْ مِلْكِهِ بِالطَّعَامِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ بِالنَّقْدِ وَالتَّوْكِيلِ انْصَرَفَ إلَيْهِ خَاصَّةً قَالَ (وَإِذَا وَكَلَهُ بِالسَّلَمِ فَأَدْخَلَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا أَفْسَدَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِفْسَادِ) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ ضَمِنَاهُ بِإِفْسَادِ الْعَقْدِ تَحَرَّزَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَكَالَاتِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَكُونُ كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَسْبَابِ الْمُقَيِّدَةِ لِلْعَقْدِ. قَالَ (وَأَكْرَهُ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ يَعْقِدُ لَهُ السَّلَمَ وَإِنْ فَعَلَهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الرِّبَا وَعَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إمَّا لِجَهْلِهِ بِذَلِكَ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَوْ قَصْدِهِ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمَ الْحَرَامَ فَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْتَمِنَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ لَهُ إنْ فَعَلَهُ) لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالسِّلْمِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ) لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْمُوَكَّلِ رَضِيَ بِرَأْيِهِ دُونَ رَأْي غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ يُوَكَّلْ بِالسَّلَمِ فَيَجُوزُ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَبِتَوْكِيلِهِ حِينَ فَوَّضَ إلَيْهِ الِاسْتِرْبَاحَ عَامًا وَذَلِكَ بِتِجَارَةٍ حَاضِرَةٍ وَغَائِبَةٍ وَإِذَا اشْتَغَلَ بِأَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَسْتَعِينَ فِيهِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ قَالَ لَهُ مَا صَنَعَتْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ أَجَازَ صَنِيعَهُ عَامًا وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ إجَازَتِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ عَقْدُ بَيْعٍ وَلَا يُسَلِّمَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْخَمْرِ وَلَا لِلْكَافِرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالِ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْعَاقِدُ عَلَيْهَا سَوَاءً عَقَدَهُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِكَافِرٍ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ يَتَوَكَّلُ عَنْ الْمَجُوسِيِّ فِي أَنْ يُزَوِّجَهُ مَجُوسِيَّةً فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ مُعَبَّرٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَيَعْتَبِرُ جَانِبَ الْمُوَكِّلِ وَفِي الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ هُوَ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ عَنْ الْإِضَافَةِ فِي الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ فَيَعْتَبِرُ جَانِبَهُ قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ خَمْرًا أَوْ يُسْلَمَ لَهُ فِيهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ مَعَ ذِمِّيٍّ جَازَ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ) لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ هَذَا الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ بِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ مَجُوسِيًّا بِأَنْ يُزَوِّجَهُ مَجُوسِيَّةً وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ نَفِدَ عَقْدُهُ عَلَى الْآمِرِ مَلَكَ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ بِالْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ بِعَقْدِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهُمَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ فَكَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ طَرَفَانِ طَرَفُ الْعَقْدِ وَطَرَفُ الْمِلْكِ فَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا وَكَّلَ بِهِ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ طَرَفِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا وَكَّلَ الْكَافِرَ بِهِ لَا يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ طَرَفِ الْمِلْكِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبُ الْمِلْكِ وَالثَّابِتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَإِذَا وَجَبَتْ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْعَقْدِ فَلَأَنْ تَجِبَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمِلْكِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الَّذِي وَلَّى الصَّفْقَةَ هُوَ الْوَكِيلُ وَالْخَمْرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِغَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ هَهُنَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْعَقْدُ عَلَى الْخَمْرِ فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ الْخَمْرَ أَلَا تَرَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 أَنَّهُ إذَا تُخَمَّرَ عَصِيرُ الْمُسْلِمُ يَبْقَى مَمْلُوكًا لَهُ وَإِذَا مَاتَ قَرِيبُهُ عَنْ خَمْرٍ يَمْلِكُهَا بِالْإِرْثِ وَهُنَا إنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الْعَقْدِ فَالْعَاقِدُ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَإِنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الْمِلْكِ فَلِلْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْخَمْرِ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْعَقْدِ إفْسَادُ التَّوْكِيلِ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُسْلِمًا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعَقْدِ دُونَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبٍ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحُ فَالْوَكِيلُ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فَكَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْمُوَكَّلُ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْمُوَكَّلَ يَمْلِكُ الْخَمْرَ بِالْعَقْدِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعَقْدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْعَاقِدِ ثُمَّ الْمُوَكِّلِ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ الْخَمْرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَمَا إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى الْعَبْدُ خَمْرًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهَا عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا كَانَ كَافِرًا وَاشْتَرَى خَمْرًا ثُمَّ عَجَزَ فَمَوْلَاهُ الْمُسْلِمُ يَمْلِكهَا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَفَرْقُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَكَاتِبَ يَتَصَرَّفَانِ لِأَنْفُسِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَوْلَى بِعُهْدَةِ تَصْرِفُهُمَا فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا حَالَهُمَا فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَيَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكَّلِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ فِي قَرَارِ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْوَكِيلِ لَهُ عَلَى الْخَمْرِ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ عَلَى الْآمِرِ نَفَّذَ الْعَقْدَ عَلَى الْوَكِيلِ قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بِدَرَاهِمَ يُسَلِّمُهَا لَهُ فِي طَعَامٍ فَصَرَفَهَا الْوَكِيلُ بِدَرَاهِمَ غَيْرِهَا فَقَدْ خَالَفَ الْعَقْدُ فَكَانَ مُبَاشِرًا الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ ضَامِنًا لَمَا صَرَفَهُ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ بَعْدَ ذَلِكَ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَدْفُوعُ دِينَارًا فَصَرَفَهُ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ أَسْلَمَهَا فِي طَعَامٍ فَهُوَ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِي الْعَقْدِ وَالْبَدَلِ ثُمَّ أَسْلَمَ بِدَرَاهِمَ نَفْسِهِ فِي الطَّعَامِ فَكَانَ الطَّعَامُ لَهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلدَّنَانِيرِ قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَهُ رَجُلَانِ أَنَّ يُسْلَمَ لَهُمَا فِي طَعَامٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ جَازَ لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ) فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي عُقْدَةٍ أَوْ عُقْدَتَيْنِ وَإِذَا خَلَطَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ أَسْلَمَهَا كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِأَنَّ دَرَاهِمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً فَيَصِيرُ بِالْخَلْطِ ضَامِنًا مُتَمَلِّكًا كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَضَافَ عَقْدُ السَّلَمِ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ فَكَانَ الطَّعَامُ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ خَلْطٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاخْتِلَاطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ حُكْمًا لِاتِّحَادِ الْعَقْدِ حُكْمًا وَبِمِثْلِهِ لَا يَصِيرُ الْأَمِينُ ضَامِنًا وَإِنْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ حِدَةٍ إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَضَى شَيْئًا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ الْآمِرَيْنِ أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمِلْكُ لَمَا يُوفِي مِنْ الطَّعَامِ فَرَجَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَمَلَّكُ إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ غَائِبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ فَإِذَا قَدَّمَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَكَذَبَ الْوَكِيلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَيَانِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْخَلْفِ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ وَإِنْ أَسْلَمَ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي عَقْدِ التِّجَارَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضَادِّ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُمَلَّكًا مُتَمَلِّكًا مُسْلِمًا مُتَسَلِّمًا مُخَاصِمًا مُتَخَاصِمًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التُّهْمَةَ تَخْصُصْ الْآمِرَ الْمُطْلَق وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ إلَى شَرِيكٍ لَهُ مُفَاوِضٍ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي عُقُودِ التِّجَارَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَسْلَمَ إلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ إلَى عَبْدِهِ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ، إلَى مَكَاتِبِهِ لِأَنَّ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ صَحِيحًا حَقِيقَةَ مِلْكِ يُعْجِزُهُ فَإِنْ أَسْلَمَ إلَى شَرِيكٍ لَهُ عَنَانٍ جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا حَتَّى تَجُوزُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَإِنْ أَسْلَمَهَا إلَى ابْنِهِ أَوْ إلَى أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجَتِهِ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبهِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ إلَى أَخِيهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مُمَثَّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهَا مَعَ تَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمِيلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مُطْلَقُ الْوَكَالَةِ تَتَقَيَّدُ بِالتُّهْمَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فَكَانَ إسْلَامُهُ إلَى عَبْدِهِ وَمُكَاتِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِّ الْمَرْءِ إيثَارُ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَسِوَى هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ وَخِلَافٌ فِي مُعَامَلَةِ الْوَكِيلِ مَعَ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَقَدْ أَمْلَيْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَاذَا وَكَّلَ الْوَكِيلُ بِالسَّلَمِ رَجُلًا بِقَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بَرِئَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي حَقِّ الْقَبْضِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كَانَ قَبْضُ وَكِيلِهِ فِي بَرَاءَةِ الْمُسْلَمِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ الثَّانِي عَبْدًا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ أَوْ ابْنِهِ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَجِيرٍ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ وَالْمُرَادُ الْأَجِيرُ الْخَاصِّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُشَاهَرَةً أَوْ مُسَانَهَةً لِأَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ سَلَّمَ إلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ هَلَكَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ الثَّانِي أَجْنَبِيًّا فَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ ضَامِنٌ لِلطَّعَامِ إنْ ضَاعَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ لِأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَبْضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِي هَلْ يَكُونُ ضَامِنًا فِي حَقِّ رَبِّ السَّلَمِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مُودِعِ الْمُودِعِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيهِ فِي الْوَدِيعَةِ وَإِنْ وَصَلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بَرِئَ هُوَ وَوَكِيلُهُ عَنْ ضَمَانِهِ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ بِنَفْسِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصِلَ إلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا أَسْلَمَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ إلَى امْرَأَةٍ جَازَ، كَذَلِكَ، لَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ أَوْ الْوَكِيلُ امْرَأَةً يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 [بَابُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ] قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَدْلَ زُطِّيٍّ أَوْ جِرَابٍ هَرَوِيٍّ عَلَى أَنَّ فِيهِ خَمْسِينَ ثَوْبًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَ فِيهِ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ثَوْبًا أَوْ أَحَدًا وَخَمْسِينَ ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَهُ أَكْثَرَ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْعَدَدِيِّ الْمُسَمَّى مِنْ الثِّيَابِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ فَيَصِيرُ الْبَاقِي مَجْهُولًا وَفِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهَالَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مِمَّا فِي الْعَدْلِ خَمْسِينَ ثَوْبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ فَالْمُشْتَرِي يُطَالَبُ بِخِيَارِ الْعَدْلِ وَالْبَائِعُ يُعْطِيهِ شِرَارَ الْعَدْلِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَإِنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ خَمْسِينَ ثَوْبًا فَيُقَسَّمُ ذَلِكَ عَلَى قِيمَةِ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَلَا يَدْرِي صِفَةَ الْمَعْدُومِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا، وَبِاخْتِلَافِهِ تَخْتَلِفُ حِصَّةُ الْمَوْجُودِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْمَوْجُودِ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ لَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ سَمَّى لِكُلِّ ثَوْبٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَوَجَدَهُ أَحَدًا وَخَمْسِينَ ثَوْبًا كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ يَتَنَاوَلُ خَمْسِينَ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّوْبِ الزَّائِدِ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَبِجَهَالَتِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا أَيْضًا، وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ثَوْبًا وَقَدْ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَعْلُومٌ وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَوْجُودِ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ. وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ ثَوْبٍ مِمَّا سَمَّى، وَلَهُ فِي عَدَدِ الْخَمْسِينَ مَقْصُودٌ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَا دُونَهُ فَيَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ أَخْذَ كُلِّ ثَوْبٍ بِمَا سَمَّى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ بِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بَعْضُهُ بِفَسَادٍ قَوِيٍّ إذْ لَا سَبَبَ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا مَرْوِيًّا فَالْعَقْدُ كُلُّهُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ بِخِلَافِ جِنْسَيْ مَا سَمَّى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 يَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ أَحَدَ مَا سَمَّى أَصْلًا أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ كُلُّهُ وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ الْجِنْسَ الَّذِي سَمَّى، وَقَدْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ كَذَا هُنَا قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا يَفْسُدُ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ وَلَا قَصَدَ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْمُعْدَمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إيرَادَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ غَلَطَ فِي الْعَدَدِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّ هُنَاكَ جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ عَدَدِيٍّ يَتَفَاوَتُ نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَى قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ عَلَى أَنَّهَا خَمْسُونَ فَوَجَدَهُ أَزْيَدَ فَالْجَوَابُ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَفِي الْمَكِيلَاتِ إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّهَا خَمْسُونَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ سَوَاءٌ سَمَّى ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُفْزَانِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ؛ لِأَنَّ الْقُفْزَانَ مِمَّا لَا تَتَفَاوَتُ فِي نَفْسِهَا فَكَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ وَكَذَلِكَ الْوَزْنِيَّاتُ وَكَذَلِكَ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَى عَدْلَ جَوْزٍ عَلَى أَنَّهُ خَمْسَةُ آلَافٍ فَإِذَا هِيَ أَنْقَصُ أَوْ أَزْيَدُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِيهِمَا فَكَذَا إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّيْءِ فِي الْعَقْدِ بِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْحُرِّ فَلَوْ جَازَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْحِصَّةِ وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ لَا يَنْعَقِدُ ابْتِدَاءً عَلَى الصِّحَّةِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَلْفِ إذَا قُسِمَ عَلَى قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ هَذَا الْعَبْدِ الْآخَرِ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ كَانَ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا قَالَ اشْتَرَيْتُهُمَا بِأَلْفٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: الْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْعَبْدِ بِمَا سَمَّى بِمُقَابَلَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَاتَيْنِ مَسْلُوخَتَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَيْتَةٌ أَوْ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا عَمْدًا فَإِنَّ ذَلِكَ وَالْمَيْتَةَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَالْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى دَنَّيْنِ مِنْ خَلٍّ فَإِذَا أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَهَذَا الْجِنْسُ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا أَسْلَمَ كُرَّ حِنْطَةٍ فِي شَعِيرٍ وَزَيْتٍ فَطَرِيقُهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ وَعِنْدَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ انْعَدَمَتْ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْهُمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَوُجُودُ الْمُفْسِدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ إمَّا بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ - وَأَحَدُهُمَا لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْآخَرِ - أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ فِيهِمَا حَتَّى لَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِيجَابُ فِي أَحَدِهِمَا وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا فَالْبَيْعُ يَفْسُدُ فِي الْمُدَبَّرِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْعَبْدِ صَحِيحًا كَذَلِكَ هُنَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْبَائِعُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِيجَابِ فَقَدْ شَرَطَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَاشْتِرَاطُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ فِي بِيَعٍ شَرْطٌ فَاسِدٌ. وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَقَوْلُهُمَا أَنَّ هَذَا عِنْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ قُلْنَا عِنْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِيمَا يَكُونُ هَذَا شَرْطًا صَحِيحًا، وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَسَادِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْبَائِعِ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِهِ لِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَحَلِّيَّةِ فِيهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ فِي فَصْلٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ إذَا بَاعَهُمَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّرْفِ فَاسْتَدَلُّوا بِرُجُوعِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رُجُوعِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَتَّضِحُ فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَتَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا أَمُّ وَلَدٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَاسِدٌ لِمَا ثَبَتَ لَهُمْ مِنْ حَقِّ الْعِتْقِ، وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْحُرِّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْآدَمِيِّ فِي الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَالتَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِأَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا فَهُنَاكَ الْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِفَاسِدٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِدَلِيلِ جَوَازِ بِيَعِ الْمُدَبَّرِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ مِنْ نَفْسِهِ يَجُوزُ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِجَوَازِ بِيَعِ الْمُدَبَّرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ وَلَوْ بَاعَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 مِنْ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ جَازَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَاَلَّذِي رُوِيَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِخِلَافِ هَذَا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بِيَعُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ نَفْسِهَا جَائِزٌ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - عَلَى فَسَادِ بَيْعِهَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ بِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هَلْ يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْفَعُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرْفَعُ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ لَا يَنْفُذُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَكَانَ هَذَا قَضَاءً فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْبَيْعِ حَتَّى نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْآخَرِ حَتَّى إذَا كَانَ قَبَضَهُمَا لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقْتَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَلَكِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْقِنَّ مِنْهُمَا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ فَإِنَّ خِيَارَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ وَإِذَا نَظَرَ إلَى إبِلٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ إلَى رَقِيقٍ أَوْ إلَى عَدْلٍ زُطِّيٍّ أَوْ جِرَابٍ هَرَوِيٍّ فَقَالَ: قَدْ أَخَذْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ جَمَاعَتِهَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكُلِّ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى أَضَافَ كَلِمَةَ كُلٍّ إلَى مَا لَا يَعْلَمُ مُنْتَهَاهُ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ وَهُوَ الْوَاحِدُ كَمَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُلَّ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ لَزِمَ الْعَقْدُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِذَا اشْتَرَى صُبْرَةً مِنْ حِنْطَةٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ الْعَقْدُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ، وَإِذَا كَفَلَ بِنَفَقَةِ امْرَأَةٍ عَنْ زَوْجِهَا كُلَّ شَهْرٍ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَذَلِكَ فِيمَا لَا يَكُونُ مُنْتَهَاهُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، فَأَمَّا فِيمَا يَعْلَمُ جُمْلَتَهُ بِالْإِشَارَةِ فَالْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْلُومَ الْجُمْلَةِ بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ التَّسْمِيَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُنَا: الْجُمْلَةُ مَعْلُومَةٌ بِالْإِشَارَةِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وَلَا جَهَالَةَ فِي ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 مِنْهُمَا وَالْجَهَالَةُ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهَا تُرْفَعُ بَعْدَ الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ وَبَيْعُ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ وَإِذَا كَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ فَثَمَنُ جَمِيعِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَجَهَالَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَمَا هُوَ شَرْطُ الْعَقْدِ إذَا انْعَدَمَ عِنْدَ الْعَقْدِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ إيجَابِهِ فِي الثَّانِي كَشَرْطِ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدَ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ هُنَاكَ: الْعَقْدُ جَائِزٌ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ الصُّبْرَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقُفْزَانَ لَا تَتَفَاوَتُ بِخِلَافِ الْغَنَمِ فَإِنْ عَلِمَ مَبْلَغَ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ إزَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا كَانَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَنْكَشِفَ الْحَالَةُ لَهُ الْآنَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لَهُ الْآنَ فَيَتَخَيَّرُ لِأَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى دَارًا كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الذُّرْعَانِ تَتَفَاوَتُ فِي مُقَدَّمِ الدَّارِ وَمُؤَخَّرِهَا فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِي ذِرَاعٍ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ وَالْخَشَبُ وَلَوْ اشْتَرَى ذِرَاعًا مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَا سَمَّى عِبَارَةٌ عَنْ عُشْرِ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ سَهْمٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ أَوْ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ مَعْلُومٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ مَوْضِعُهُ مِنْ الدَّارِ بِخِلَافِ السَّهْمِ وَالْجُزْءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى ذِرَاعًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِكَذَا يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ كَذَا ذِرَاعًا ثُمَّ يُذَرِّعُ الدَّارَ فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَلَهُ الْعُشْرُ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى سَهْمًا مِنْ الدَّارِ، لَمْ يَقُلْ مِنْ كَذَا سَهْمًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا فَسَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ النِّصْفُ، وَسَهْمٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ الْعُشْرُ وَفِي الذِّرَاعِ يُمْكِنُ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يُذَرِّعَ جَمِيعَ الدَّارِ فَيَصِيرُ الْجُزْءُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ مَعْلُومًا بِهِ وَإِذَا اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ بَقَرًا أَوَعَدْلَ زُطِّيٍّ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا بِعَشَرَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنَّهُ يَضُمُّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ آخَرَ فَيُقَسَّمُ الْعُشْرُ عَلَى قِيمَتِهَا وَلَا يُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ الضَّمِّ أَنَّهُ يَضُمُّ الْجَيِّدَ إلَى الْجَيِّدِ أَوْ الرَّدِيءَ إلَى الرَّدِيءِ أَوْ إلَى الْوَسَطِ فَيَبْقَى ثَمَنُ كُلِّ وَاحِدٍ مَجْهُولًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ إذَا وَجَدَ بِثَوْبٍ عَيْبًا بَعْدَ الْقَبْضِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 يَرُدُّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً وَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي ثَمَنِهِ وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَاسْتَحَقَّ أَوْ تَقَايَلَا الْعَقْدَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَا وَإِذَا اشْتَرَى عَدْلَ زُطِّيٍّ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقِيمَةُ مَا تَظْهَرُ عِنْدَهُ تَقْوِيمُ الْمُقَوِّمِينَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَيَخْتَلِفُ الْمُقَوِّمُونَ فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا ثُمَّ مَا سَمَّيَا تَفْسِيرَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ نَصَّا عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَيُتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ مُنَازَعَةٌ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ تَفْوِيضِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ مَالُهُ مِنْ الْحُكْمِ وَبَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَحْلِفُ يَمِينَهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ قِيلَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ سَاوَمَهُ بِأَلْفٍ فَحَلَفَ الْبَائِعُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَزِيَادَةٍ بِقَدْرِ مَا يَبَرُّ بِهِ الْبَائِعَ فِي يَمِينِهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مَجْهُولَةُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَكَانَ تُهْمَةٌ تُكَفِّرُهُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمَا يُكَفِّرُ بِهِ الْبَائِعُ يَمِينَهُ وَهَذَا أَيْضًا مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ بِالْإِعْتَاقِ تَارَةً وَبِالْكِسْوَةِ أُخْرَى وَبِالْإِطْعَامِ تَارَةً، وَضَمُ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْكُلِّ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ وَإِذَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ أَوْ إلَّا شَاةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحِرْزُ وَالظَّنُّ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِهِ وَجَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ فَالْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ فَاسِدٌ وَإِنْ قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُ مِنْكَ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُهُ النَّاسُ كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَالنَّاسُ فِي الْمُبَايَعَةِ يَتَفَاوَتُونَ فَمِنْ بَيْنَ مُسَامِحٍ وَمُسْتَعْصٍ وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ فَإِنْ قَبَضَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ أَخَذْتُهُ مِنْكَ بِمِثْلِ مَا أَخَذَ بِهِ فُلَانٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِلَّا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ الْعَقْدُ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ إنَّمَا يَكْشِفُ الْحَالَ لِلْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ مِقْدَارَ مَا أَخَذَ بِهِ فُلَانٌ رَضَاهُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَامًّا فَلِهَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ وَإِذَا عَقَدَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهُ إلَى أَجَلِ كَذَا بِكَذَا وَبِالنَّقْدِ بِكَذَا أَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ بِكَذَا أَوْ إلَى شَهْرَيْنِ بِكَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَاطِهِ عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بِيَعٍ وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الشَّرْطَيْنِ فِي بِيَعٍ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا إذَا افْتَرَقَا عَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ يَتَرَاضَيَانِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى قَاطَعَهُ عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَأَتَمَّا الْعَقْدَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا مَا افْتَرَقَا إلَّا بَعْدَ تَمَامِ شَرَطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ قَالَ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَلَا يُوَلِّيهِ أَحَدًا وَلَا يُشْرِكُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ تَمْلِيكُ مَا مُلِكَ بِمِثْلِ مَا مُلِكَ، وَالْإِشْرَاكُ تَمْلِيكُ نِصْفِهِ بِمِثْلِ مَا مُلِكَ بِهِ وَالْكَلَامُ فِي بِيَعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي فُصُولِ أَحَدِهَا فِي الطَّعَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِمُشْتَرِي الطَّعَامِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ» وَكَذَلِكَ مَا سِوَى الطَّعَامِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ الطَّعَامَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ النَّهْيِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَحُجَّتُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِغِيَاثِ بْنِ أَسَدٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَأَمِيرًا سِرْ إلَى أَهْلِ بَيْتِ اللَّهِ وَانْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا» وَكَلِمَةُ (مَا) لِلتَّعْمِيمِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ ثُمَّ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ قَالَ اللَّه - تَعَالَى - {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَيْفَ وَرَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ فِيمَا سِوَى الطَّعَامِ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعِنْدَنَا يَبْطُلُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الطَّعَامِ فَلِتَوَهُّمِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ بِحَبْسِ الْبَائِعِ إيَّاهُ لِحَقِّهِ، وَالْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْبَيْعِ وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَتِمْ إلَّا بِالْقَبْضِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَيَقْبِضُهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَالْمَانِعُ زَائِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ مُلْزَمٌ بِنَفْسِهِ وَقَاسَ بِهِبَةِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْبَيْعُ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْهِبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يُقْسَمُ يَمْنَعُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 تَمَامَ الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ ثُمَّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِ مَالِكِهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْغَرَرِ فِي مِلْكِهِ فَالْهِبَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي اسْتِدْعَاءِ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَجُوزَ الْبَيْعُ مِنْ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ دُونَ الْهِبَةِ ثُمَّ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ مَحَلُّ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ فِيهِ وَإِنْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ أَيْضًا كَالصَّيْدِ فِي الْهَوَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فِيهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَمَّا بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَلِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَى فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ بَاعَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ مِلْكَ التَّصَرُّفِ يُسْتَفَادُ بِالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ يُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ ثُمَّ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ فِيمَا يَمْلِكُ بِهِ الْعَيْنَ، وَهُوَ الْعَقْدُ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَمْلِكُ بِهِ التَّصَرُّفَ أَوْ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الْبَيْعُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ وَفِي هَذَا الْعَقْدِ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ الْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْعَقَارُ فِي هَذَا كَالْمَنْقُولِ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ أَوْ تَصَوَّرَ هَلَاكَهُ فَهَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرَطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ نَائِبِهِ وَيَدِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ لَيْسَتْ بِنَائِبَةٍ عَنْ يَدِهِ فَلَا تَثْبُتُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاعْتِبَارِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولَانِ: بِيَعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بِيَعُ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلتَّصَرُّفِ الْمِلْكُ دُونَ الْيَدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِلْكَهُ وَهُوَ فِي يَدِ مُودَعٍ أَوْ غَاصِبٍ وَهُوَ مُقِرٌّ لَهُ بِالْمِلْكِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا إلَّا أَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ غَرَرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمِلْكِ غَرَرٌ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِهِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَإِذَا قَبَضَهُ انْتَفَى هَذَا الْغَرَرُ وَلَا يَبْقَى إلَّا مَعْنَى الْغَرَرِ بِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ. ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَفِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ إلَّا غَرَرُ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ بِهِ وَانْتِفَاءُ الْغَرَرِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ سَبَبِهِ أَصْلًا يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ إذَا تَصَوَّرَ سَبَبَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْغَرَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَن قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِي الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ عِنْدَنَا لِانْعِدَامِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ فَإِنَّ بِالْهَلَاكِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهَا وَلَكِنْ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُ لَهَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: التَّسْمِيَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى هَذَا يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ وَعَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ، وَعَلَى هَذَا يَقُولُونَ: يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصْلَ مَا قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ بِالْغَرَرِ نَافِذٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالتَّزْوِيجُ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِهِمْ أَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي اسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ تَامٌّ فِي الْمَحَلِّ فَوْقَ الْبَيْعِ ثُمَّ يَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ قُلْنَا شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ أَصْلُ الْمِلْكِ دُونَ الضَّمَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ كَمَا يَثْبُتُ بِيَدِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَامِّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْقُولِ بِدَلِيلِ مَا قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ بِبَدَلٍ فَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِبَدَلٍ لِمَا ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ قَائِمًا مَقَامَهُ فَلِهَذَا يَبْطُلُ بِأَخْذِهِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي وَيَكُونُ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي يَقْبِضُهُ فِيهِ يَتَعَيَّنُ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَمَا بَعْدَ قَبْضِهِ بِالتَّخْلِيَةِ وَبِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ مَكَان يَقْبِضُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّا بِمَا قَرَّرْنَا أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ لِلتَّصَرُّفِ دُونَ سَائِرِ الشُّرُوطِ فَمِنْ الشَّرَائِطِ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِيَّةِ، وَجَوَازُ السَّلَمِ رُخْصَةٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَمِنْ الشَّرَائِطِ الْكَيْلُ فِيمَا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَكِيلَهُ وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ قَالَ رَجُلٌ بَاعَ عَبْدًا آبِقًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالْمَالِيَّةُ فِي الْآبِقِ ثَاوِيَةٌ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ حَقِيقَةً فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهُ وَإِنْ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ إلَّا رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ بَعْدَ الْإِبَاقِ بَاقٍ حَقِيقَةً وَالْمَانِعُ كَانَ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ ثُمَّ يَفْتِكُهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ قَالَ وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً كَانَ قَدْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ قَالَ: وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا مَغْضُوبًا فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ جَحَدَهُ الْغَاصِبُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ لِلْعَاقِدِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ تَأَوَّى فِي حَقِّهِ وَجَوَازُ بَيْعِهِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ قَالَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ تَمَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ فِي الْمَحَلِّ بِإِقْرَارِ الْغَاصِبِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ حِينَ سَلَّمَهُ الْغَاصِبُ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ الْغَاصِبُ حَتَّى تَلِفَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمَبِيعِ إذَا فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا يَبْقَى الْبَيْعُ كَمَا لَوْ قَبِلَهُ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ قُلْنَا هَذَا إذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِسَبَبِ بُعْدِ الْبَيْعِ حَتَّى يُجْعَلَ قِيَامُ الْبَدَلِ كَقِيَامِ الْأَصْلِ فِي إبْقَاءِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهِ وَهُنَا الْقِيمَةُ تَجِبُ فِي الْغَصْبِ السَّابِقِ عَلَى الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَوْ تَعَيَّنَ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِهِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ حُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْقِيمَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فَبَاعَهُ الرَّاهِنُ وَأَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُجِيزَهُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَهُوَ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْحَبْسِ لَازِمٌ ثُمَّ فِي مَوْضِعٍ يَقُولُ: بِيَعُ الْمَرْهُونِ فَاسِدٌ وَفِي مَوْضِعٍ يَقُولُ: جَائِزٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَاسِدٌ يُفْسِدُهُ الْقَاضِي إذَا خُوصِمَ فِيهِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي التَّسْلِيمَ إلَيْهِ وَمَنَعَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَائِزٌ إذَا اجْتَازَهُ الْمُرْتَهِنُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ. وَإِذَا لَمْ يُجِزْ الْمُرْتَهِنُ وَفَسَخَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ حَتَّى لَوْ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ تَمَّ الْبَيْعُ وَإِنْ فَسَخَ انْفَسَخَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ الْمُشْتَرِي حَتَّى افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إبَاءِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى إذَا أَجَازَهُ كَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَلِّكًا عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا أَجَازَ الْعَقْدَ كَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ فَكَانَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ، وَهُنَا لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ دَيْنُهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةُ فَسْخِ الْعَقْدِ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي إذَا خُوصِمَ وَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا قَالَ رَجُلٌ بَاعَ سَمَكًا مَحْصُورًا فِي أَجَمَةٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ قَدْ أَخَذَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْأَجَمَةِ؛ لِأَنَّ بِإِرْسَالِهِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِالصَّيْدِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا لَا تَبِيعُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْهُ فَقَدْ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَسْبِقُ الْمِلْكَ فَهُوَ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَهُوَ آبِقٌ فِي الْمَاءِ فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْآبِقِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ يَثْبُتُ ابْتِدَاءُ الْمِلْكِ بِهِ وَهُوَ الِاصْطِيَادُ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي وِعَاءٍ أَوْ جُبٍّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَيْدٍ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ صَيْدٍ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَصْلُهُ شِرَاءُ مَا لَمْ يَرَهُ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي بِرْكَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ صَيْدٍ فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِيهَا فَهُوَ كَالْجُبِّ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَكِنَّهُ دَخَلَ مَعَ الْمَاءِ فَإِنْ سَدَّ مَوْضِعَ دُخُولِ الْمَاءِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ فَقَدْ صَارَ آخِذٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ السَّمَكَ بِدُخُولِهِ فِي الْبِرْكَةِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْأَخْذُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ مَنْ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْعَقْدِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّ مَا يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَتَنَاوَلُ مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَكَانَتْ الْإِشَارَةُ مِنْ يَدِهِ مُؤَيِّدَةً لِلتَّسْمِيَةِ فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَهُوَ مَالٌ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ دُونَ الْمُسَمَّى فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ فِي الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَوَجَدَهُ غَيْرَ كَاتِبٍ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ زُجَاجًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سُمِّيَ يَقُوتًا أَحْمَرَ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ أَصْفَرُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِفَوَاتِ صِفَةٍ مَشْرُوطَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَإِذَا هُوَ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَوْ اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: جَائِزٌ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا أُنْثَى فَإِذَا هِيَ ثَوْرٌ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَكَمَا يَتَفَاوَتُ الْمَقْصُودُ هُنَا فِي بَنِي آدَمَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ يَتَفَاوَتُ هُنَاكَ، يُوَضِّحُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ تُرْكِيٌّ فَإِذَا هُوَ رُومِيٌّ أَوْ سِنْدِيٌّ جَازَ الْبَيْعُ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ فَالْمَقْصُودُ بِالْجَارِيَةِ الِاسْتِفْرَاشُ وَالِاسْتِيلَادُ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْغُلَامِ فَكَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْصُودِ أَبْلَغَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَبَيْنَ الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ مِنْ الثِّيَابِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَيْنِ فِيهِمَا لَا يَتَفَاوَتُ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَذَلِكَ اللَّحْمُ أَوْ الِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ الرُّكُوبُ أَوْ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي صِفَةِ الْمَقْصُودِ لَا فِي أَصْلِهِ فَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا كَذَلِكَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْبُيُوعِ إذَا كَانَ فِيهَا شَرْطٌ.] قَالَ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ صَحِيحٌ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ بِمَكَّةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ فَقَالَ: بَاطِلٌ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَدَخَلْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فَدَخَلْتُ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، فَقُلْتُ: هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلَّ الِاخْتِلَافِ فَعَجَّزَنِي أَنْ أَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حُجَّتِهِ فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَعَدْتُ السُّؤَالَ عَلَيْهِ فَأَعَادَ جَوَابَهُ فَقُلْتُ: إنَّ صَاحِبَيْكَ يُخَالِفَانِكَ فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا قَالَا حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بِيَعٍ وَشَرْطٍ فَدَخَلْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا «لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَبَى مَوَالِيهَا إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَدَخَلْتُ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا حَدَّثَنِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْهُ نَاقَةً فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَشَرَطَ لَهُ ظَهْرَهَا إلَى الْمَدِينَةِ»، وَالصَّحِيحُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَمَّا حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَدْ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَوْهَمَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِالْغُرُورِ وَلَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ وَلَوْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ اشْتَرِطِي الْوَلَاءَ عَلَيْهِمْ وَاللَّامُ تُذْكَرُ بِمَعْنَى عَلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] أَوْ مَعْنَاهُ أَعْلِمِيهِمْ مَعْنَى الْوَلَاءِ فَالِاشْتِرَاطُ فِي اللُّغَةِ الْأَعْلَامُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ قَالَ الْقَائِلُ فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصَمٌ ... وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا أَيْ جَعَلَ نَفْسَهُ عَلَمًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ الْحَدِيثِ فَإِنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «كَانَتْ لِي نَاقَةٌ ثِغَالٌ فَقَامَتْ عَلَيَّ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَأَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا بَالُكَ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ جَرَى أَنْ لَا يَكُونَ لِي إلَّا نَاقَةٌ ثِغَالٌ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَاحِلَتِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ وَرَشَّهُ فِي وَجْهِ نَاقَتِي ثُمَّ قَالَ ارْكَبْهَا فَرَكِبْتُهَا فَجَعَلَتْ تَسْبِقُ كُلَّ رَاحِلَةٍ - الْحَدِيثَ - إلَّا أَنْ قَالَ أَتَبِيعُنِي نَاقَتَكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقُلْتُ: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ مَنْ لِي بِالْحِمْلِ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَك ظَهْرُهَا إلَى الْمَدِينَةِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُ بِالنَّاقَةِ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ النَّاقَةُ قُلْتُ: بِالْبَابِ فَقَالَ: جِئْتَ لِطَلَبِ الثَّمَنِ فَسَكَتَ فَأَمَرَ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَعْطَانِي أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذْهَا مَعَ النَّاقَةِ فِيمَا لَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمَا» وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بِيَعٌ. ثُمَّ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ عَلَى أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ شَرْطًا يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ أَوْ شَرْطِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ، فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى نَعْلًا وَشِرَاكًا، بِشَرْطِ أَنْ يَحْذُوَهُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ وَلِأَنَّ فِي النُّزُوعِ عَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ حَرَجًا بَيِّنًا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. وَلَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُ رَاضٍ بِدُونِهِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُطَالَبَةُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الشَّرْطِ فَلِهَذَا فَسَدَ لَهُ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ نَحْوُ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ يُعْجِبُهُ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَهُ الْأَيْدِي، وَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَتِهِ كَاشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَكَانَ لَغْوًا وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ ضَرَرًا عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ ضَرَرٌ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا مُعْتَبَرَ بِعَيْنِ الشَّرْطِ بَلْ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ وَالْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي الشَّرْطِ دُونَ الضَّرَرِ قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ يُعْتِقُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَسْتَعِينُهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ قَالَتْ إنْ شِئْتِ عَدَدْتُهَا لِأَهْلِكِ وَأَعْتِقُكِ فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَاشْتَرَتْهَا وَأَعْتَقَتْهَا، وَإِنَّمَا اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِشَرْطِ الْإِعْتَاقِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ سِمَةٌ مُتَعَارَفٌ فِي الْوَصَايَا وَغَيْرِهِ وَتَفْسِيرُهُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَبِيعِ قُبِضَ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَارَ قَابِضًا، وَالْقَبْضُ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَلَا يُفْسِدُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةً لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِيهِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْجَارِيَةِ أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا أَوْ فِي الْعَبْدِ أَنْ يُدَبِّرَهُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ فَاشْتِرَاطُ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ أَوْلَى وَدَعْوَاهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُلَائِمُ الْعَقْدَ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْبَيْعَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَالْعِتْقَ مُبْطِلٌ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُلَاءَمَةٌ، ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ يَمْنَعُ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ فَيَكُونُ ضِدَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ لِسِمَةٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 لَا يَكُونُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ وَعْدًا مِنْ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ الْبَيْعُ بِعَقْدٍ مُطْلَقًا وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُطْلَقًا وَوَعَدَتْ لَهَا أَنَّ تُعْتِقَهَا لِتَرْضَى هِيَ بِذَلِكَ فَإِنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِإِعْتَاقِهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ أَوْ اسْتِهْلَاكُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا ثَانٍ وَفَّى بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَكَذَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ الْحُرْمَةُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: زَالَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَجِبُ الثَّمَنُ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَهُ قَبْلَ مُضِيِّهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِفَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ لِمَخَافَةِ أَنْ لَا يَفِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعِتْقِ وَلِيَكُونَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ مُخْتَارًا غَيْرَ مُجْبَرٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ أَقْدَمَ عَلَى إعْتَاقِهِ مُخْتَارًا، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُلَائِمُ الْعَقْدَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُنْهِي الْمِلْكَ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي بَنِي آدَمَ ثَابِتٌ إلَى الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْعِتْقُ مَنْهِيًّا لَهُ وَإِنْهَاءُ الشَّيْءِ يُقَرِّرُهُ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُتَمِّمٌ عَلَيْهِ الْعِتْقَ وَهِيَ الْمِلْكُ فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ مُلَائِمًا بِحُكْمِهِ لِلْعَقْدِ وَبِصُورَتِهِ غَيْرُ مُلَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إنْهَاءِ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ. وَبِالشَّرْطِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا يُحْكَمُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ عَلَى الثَّبَاتِ وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ يَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ لِوُجُودِ صُورَةِ الشَّرْطِ دُونَ الْحُكْمِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ تَتَقَرَّرَ صِفَةُ الْجَوَازِ بِاعْتِبَارِ الْمُلَاءَمَةِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا لِمَعْنَى التَّوَقُّفِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَمُخَالَفَةِ صُورَتِهِ مَعْنًى بِخِلَافِ شَرْطِ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ فَالْمِلْكُ بِهِ لَا يَنْتَهِي، وَمَعْنَى الْمُلَاءَمَةِ بِاعْتِبَارِ إنْهَاءِ الْمِلْكِ بِهِ فَلِهَذَا تَتَعَيَّنُ صِفَةُ الْفَسَادِ هُنَاكَ وَفَّى بِالشَّرْطِ أَوْ لَمْ يَفِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ لَهُ قَرْضًا أَوْ يَهَبَ لَهُ هِبَةً أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِكَذَا وَكَذَا مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَسَدَ فِيهِ الْبَيْعُ فَالْمُشْتَرِي إذَا اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَيْعِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 وَقَبْضُ الْغَصْبِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْ الْقِيمَةِ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ السَّبَبِ وَتَمَامِهِ، فَإِذَا فَسَدَ السَّبَبُ بَقِيَ الضَّمَانُ الْأَصْلِيُّ كَمَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِعَدَمِ تَمَامِ السَّبَبِ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ إقَالَةً مُعَلَّقَةً لِخَطَرِ عَدَمِ النَّقْدِ، وَلَوْ شَرَطَ إقَالَةً مُطْلَقَةً فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ فَإِذَا شَرَطَ إقَالَةً مُعَلَّقَةً أَوْلَى أَنْ يَفْسُدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَمَّ الْبَيْعُ وَهُنَا لَوْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ بَاشَرَ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ كَرِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ قَالَ جُزَافًا، وَالْقِيَاسُ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَالَ سَمَاعًا ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ كَشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِيَتَرَوَّى النَّظَرَ فِيهِ، وَيَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ، بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَحْصُلُ إلَّا هَذَا الْمَقْصُودُ وَالشَّرْعُ إنَّمَا جَوَّزَ شَرْطَ الْخِيَارِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ حَتَّى قَالَ لِحْيَانَ بْنِ مُنْقِذٍ إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَالَ فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُدْهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا الْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ عِنْدَهُ شَرْطَ الْخِيَارِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْعَقْدُ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ مُدَّةً مَعْلُومَةً طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَأْذُونِ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَخِيرُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ، وَقَوْلُهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الشَّرْطِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا قَالَهُ زُفَرُ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لَيْسَ نَظِيرَ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْغَرَرَ يَزْدَادُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَقْدَ لِلْيَسِيرِ مِنْ الْغَرَرِ دُونَ الْكَثِيرِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 شِرَاءَ أَحَدِ الثِّيَابِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثُمَّ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ: وَكُلُّ فَاسِدٍ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بَيْعٍ فَهُوَ مُتَارَكَةٌ لِلْبَيْعِ وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ مُسْتَحَقٌّ فِي هَذَا الْمَحِلِّ بِعَيْنِهِ شَرْعًا فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ: كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ مِنْ الْبَائِعِ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ مَأْمُورٌ بِرَدِّهِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيُكْرَهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَيُتْرَكُ جَانِبُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ يَطْحَنَ الْحِنْطَةَ أَوْ يَخِيطَ الثَّوْبَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَعْضُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ فَهُوَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهُوَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا فَهَذِهِ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ أَوْ هَذَا شَرْطُ أَجَلٍ فِي الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ قَالَ وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالثَّمَنِ فَهَذَا الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَمَّا فِي شَرْطِ الْكَفِيلِ سَوَاءٌ سَمَّى الْكَفِيلُ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ إذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَكْفُلُ أَمْ لَا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِمَعْنَى الْغَرَرِ، وَلِأَنَّ جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ الْكَفَالَةَ فَمَتَى شَرَطَ قَبُولَهُ إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، وَإِنْ قَبِلَهُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا أَوْ حَضَرَ وَقَبِلَ قَبْلَ أَنَّ يَتَفَرَّقَا جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ وَاشْتِرَاطُ هَذَا عَقْدٌ آخَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَالَةِ التَّوَثُّقُ بِالثَّمَنِ فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ زِيَادَةِ وَصْفِ الْجَوْدَةِ فِي الثَّمَنِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا جَيِّدًا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ثُمَّ تَمَامُ هَذَا الْعَقْدِ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ بِقَبُولِهِ يَنْتَفِي مَعْنَى الْغَرَرِ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ انْتِفَاءِ الْغَرَرِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَشَرْطُ الْحَوَالَةِ فِي هَذَا كَشَرْطِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي وُجُودَ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيلٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ وُجُوبَ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الْعَقْدِ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ قَالَ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الرَّهْنِ لَا بُدَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 مِنْهُ عِنْدَ هَذَا الشَّرْطِ وَمَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَكِنْ لَوْ أَوْفَاهُ الثَّمَنَ صَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ قَدْ زَالَ قَبْلَ تَقْرِيرِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرَّهْنِ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَرْهَنَهُ هَذَا الْمُبْتَاعَ بِعَيْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شَرْطٌ عُقِدَ فِي عَقْدٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ الِاسْتِيفَاءُ فَإِنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْطُ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ ثُمَّ الرَّهْنُ بِالثَّمَنِ لِلتَّوَثُّقِ بِالثَّمَنِ فَاشْتِرَاطُ مَا يَتَوَثَّقُ بِهِ كَاشْتِرَاطِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فِي الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَجَعَلَهُ رَهْنًا بِالثَّمَنِ لِأَنَّ قَبُولَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ اشْتِرَاطُهُ رَهْنًا بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْهَنَهُ مَا سَمَّى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ فَيَصِيرُ الْوَفَاءُ بِهِ مُسْتَحَقًّا كَالْعَدْلِ فِي الرَّهْنِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ كَانَ مُجْبَرًا عَلَيْهِ، وَلَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ عَزْلَهُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مَقْصُودًا وَلَكِنَّا نَقُولُ عَقْدُ الرَّهْنِ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ فَلَا بُدَّ فِي إتْمَامِهِ مِنْ اتِّحَادِ شَرْطِ الْعَقْدِ وَإِتْمَامِهِ بِالْقَبْضِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَلْزَمُ حُكْمُ الرَّهْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا تَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَذَا اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَكِنْ إنْ أَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْهَنَهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْبَيْعِ كَانَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَبِدُونِهِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ قَالَ: وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِ مَقْصُودًا فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مَقْصُودًا كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَنِينَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْأُمِّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَجْزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُقْطَعُ بِالْمِقْرَاضِ عَنْهَا وَأَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ لَا تَقْبَلُ الْعَقْدَ مَقْصُودًا، وَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ مَجْهُولٌ، وَلَا يَدْرِي أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى وَاحِدًا أَوْ مَثْنَى فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَصِيرُ مَجْهُولًا أَيْضًا وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى عَدْلِ بُرٍّ أَوْ أَغْنَامٍ أَوْ نَخِيلٍ وَاشْتَرَطَ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ يَأْخُذَ الْبَائِعُ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولٌ وَبِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَجْهُولًا أَيْضًا وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَفْسُدُ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي الْبَهَائِمِ وَهِيَ زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ انْتِفَاخَ بَطْنِهَا مِنْ رِيحٍ أَوْ وَلَدٍ وَأَنَّ الْوَلَدَ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا أَوْ مَثْنَى وَالْمَجْهُولُ إذَا ضُمَّ إلَى مَعْلُومٍ يَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ أَنَّهَا تَحْلِبُ كَذَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ يَعْنِي أَنَّ اشْتِرَاطَ مِقْدَارٍ مِنْ الْبَيْعِ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَائِعِ إيجَادُهُ وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ قَالَ: وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهَا حَلُوبٌ أَوْ لَبُونٌ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا مَا لَوْ شَرَطَ أَنَّهَا تَحْلِبُ كَذَا وَكَذَا سَوَاءٌ اللَّبَنُ زِيَادَةُ مَالٍ مُنْفَصِلٍ وَلَا يَكُونُ لَبُونًا حَلُوبًا إلَّا بِهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا شَرْطُ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ وَلِأَنَّ هَذَا يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْوَصْفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى فَرَسًا عَلَى أَنَّهَا هِمْلَاجٌ أَوْ اشْتَرَى كَلْبًا عَلَى أَنَّهُ صَائِدٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَذَا هُنَا وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْحَلُوبِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ أَنَّهَا تَحْلِبُ كَذَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاشْتِرَاطِ مِقْدَارِ لَبَنٍ فِي الضَّرْعِ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى سِمْسِمًا أَوْ زَيْتُونًا عَلَى أَنَّ فِيهِمَا مِنْ الدُّهْنِ كَذَا أَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطْحَنَ مِنْهَا كَذَا مَخْتُومَ دَقِيقٍ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لَا طَرِيقَ لِلْبَائِعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ. قَالَ وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً وَتَبَرَّأَ مِنْ الْحَبَلِ وَكَانَ بِهَا حَبَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي بَنَاتِ آدَمَ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ بِهِ فَإِنَّمَا تَبَرَّأَ الْبَائِعُ مِنْ الْعَيْبِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، قَالَ: وَلَيْسَتْ الْبَرَاءَةُ فِي هَذَا كَالْبَهَائِمِ قِيلَ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ فِي الْبَهَائِمِ فَإِنَّ الْحَبَلَ فِي الْبَهَائِمِ زِيَادَةٌ فَذِكْرُهُ فِي الْعَقْدِ شَرْطُ زِيَادَةٍ مَجْهُولَةٍ وَفِي الْآدَمِيَّةِ عَيْبٌ فَذِكْرُهُ يَكُونُ تَبْرِيئًا مِنْ الْعَيْبِ وَلَا يَكُونُ شَرْطَ زِيَادَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إذَا ذَكَرَ الْحَبَلَ فِي الْجَارِيَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرِّي عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْعَيْبُ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَإِذَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ شَرْطُ زِيَادَةٍ مَجْهُولَةٍ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يُظْهِرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِلطُّؤْرَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَصَدَ الْحَبَلَ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَعَلَى هَذَا يُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّ شَرْطَ الْحَبَلِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْعَقْدُ وَإِنْ شَرَطَهُ الْمُشْتَرِي يَفْسُدْ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَذْكُرُ الْحَبَلَ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ الْعَيْبِ عَادَةً وَالْمُشْتَرِي يَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ. قَالَ: رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً بِجَارِيَتَيْنِ إلَى أَجَلٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَلِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النِّسَاءَ فَإِنْ قَبَضَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 الْجَارِيَةَ فَذَهَبَتْ عَيْنُهَا عِنْدَهُ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَفَوَاتُ النِّصْفِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرَى كَفَوَاتِ الْكُلِّ وَلَوْ هَلَكَتْ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا سَوَاءٌ هَلَكَتْ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهَا، وَهَذَا لِأَنَّهَا صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْقَبْضِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ إذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَعَ نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا غَيْرُهُ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا فَمَا دَامَتْ قَائِمَةً كَانَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهَا ثُمَّ يَتَخَيَّرُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ ذَلِكَ الْفَاقِئُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بِالْأَخْذِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهَا وَيَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ فَجِنَايَةُ الْفَاقِئِ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَكَانَتْ كَالْمَغْصُوبَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ عَلَى الْفَاقِئِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَقَرَّرَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ حِينَ ضَمِنَ بَدَلَهُ وَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ ضَمِنَ الْفَاقِئُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ فَأَمَّا إذَا قَتَلَهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَاتِلٌ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهَا وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَةَ إذَا قَتَلَهَا إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَالْقَاتِلُ مِنْ الْقَاتِلِ جِنَايَةً عَلَى مُلْكِهِ فَيَتَخَيَّرُ فِي التَّضْمِينِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ بِالْغَصْبِ أَوْ الْقَاتِلَ بِالْقَتْلِ وَهُنَا قَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَبِالْقَتْلِ يَتَعَذَّرُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهَا وَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي تَضْمِينِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ وَفِي فَقْءِ الْعَيْنِ مَا تَعَذَّرَ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهَا، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهَا بِالرَّدِّ كَانَتْ جِنَايَةُ الْفَاقِئِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِذَلِكَ يَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، ثُمَّ إذَا ضَمَّنَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهَا فِي الْقَتْلِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَهُ فِيهَا بِالْجِنَايَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا قَالَ: فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ كَمَا هِيَ غَيْرَ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ وَالْوَلَدَ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبَةِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ وَوُجُوبُ الرَّدِّ كَانَ حُكْمًا مُتَقَرِّرًا فِيهَا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَالثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْأَصْلِ كَانَ مِلْكًا مُسْتَحَقَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 الْإِزَالَةِ بِالرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ فَثَبَتَ مِثْلُهُ فِي الْوَلَدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْصُوبِ إذَا مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ قَدْ نَقَصَتْهَا وَفِي الْوَلَدِ الثَّانِي وَفَاءٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِرَدِّهِ مَا يَنْجَبِرُ بِهِ النُّقْصَانُ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ يَتَخَيَّرُ بِالْوَلَدِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَغْصُوبَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا، وَالْوَلَدُ الْمَيِّتُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ الْبَاقِي وَفَاءُ النُّقْصَانِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَامُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْجِبَارَ النُّقْصَانِ بِالْوَلَدِ لِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ بِإِزَائِهِ مَا يَجْبُرُهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ ذَلِكَ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ مَنَعَهُ بَعْدَ طَلَبِ الْبَائِعِ حَتَّى مَاتَ صَارَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا بِقِيمَتِهِ يَرُدُّهَا مَعَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِيهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِالْإِتْلَافِ أَوْ الْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ ثُمَّ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِهِ حَتَّى إذَا كَانَ فِيهَا وَفِي مَالِيَّةِ الْحَيِّ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَامُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِانْجِبَارَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَالْوَلَدَانِ حَيَّانِ أَخَذَ الْبَائِعُ الْوَلَدَيْنِ وَقِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ قَبْضِهِ الْمُشْتَرَى، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ بَيْعٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ ثَابِتٌ لِلْبَائِعِ فِي الْوَلَدَيْنِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الْأُمِّ كَالْمَغْصُوبَةِ إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ كَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهَا لِلْبَائِعِ حِينَ قَبَضَهَا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهَا فَيَجِبُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَالْوَلَدُ تَبَعٌ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الرَّدِّ حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِرَدِّ الْوَلَدَيْنِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ فِي مَالِيَّتِهِمَا وَفَاءٌ بِذَلِكَ بِخِلَافِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ فَالْفَائِتُ هُنَاكَ وَصْفٌ هُوَ بَيْعٌ ثُمَّ الْخِلَافَةُ هُنَاكَ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ فَإِنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَاحِدَةٌ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّ مَوْتَ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ بِالْوِلَادَةِ وَلَوْ كَانَ بِالْوِلَادَةِ فَالْوِلَادَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَوْتٌ لَا تُوجِبُ الزِّيَادَةُ وَلَدًا وَلِذَا لَا يَنْجَبِرُ قَدْرُ النُّقْصَانِ بِالْوَلَدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ حَتَّى يَضْمَنَ كَمَالَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ هُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَتُقَرَّرُ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ قَبْضِهَا فَإِذَا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ حَاصِلٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ هَذَا النُّقْصَانِ بِالْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ الْأُمُّ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهَا بِالرَّدِّ، فَإِنْ رَدَّهَا عَادَتْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى انْجِبَارِ النُّقْصَانِ بِخُلْفٍ قَائِمٍ مَقَامَهُ وَهُوَ الْوَلَدُ فَلِهَذَا افْتَرَقَا قَالَ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ إذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ لِلْمِلْكِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً عِنْدَنَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ النَّسْخِ وَالنَّهْيِ عَنْ النَّسْخِ وَعِنْدَنَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً بِمُقْتَضَى النَّهْيِ فَإِنَّ صِفَةَ الْقُبْحِ مِنْ ضَرُورَةِ النَّهْيِ كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْجِنْسِ مِنْ ضَرُورَةِ الْأَمْرِ، وَالْمَشْرُوعُ مَا يَكُونُ مُرْضِيًا وَالْقَبِيحُ مَا لَا يَكُونُ مُرْضِيًا فَيَنْعَدِمُ أَصْلُ الْعَقْدِ لِضَرُورَةِ النَّهْيِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجِبُ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْمُنْتَهَى مُخْتَارًا فِيهِ كَمَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ الِائْتِمَارُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْمُؤْتَمَرُ مُخْتَارًا فِيهِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمَشْرُوعِ مَشْرُوعًا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمُقْتَضَى عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ أَوْلَى مِنْ إعْلَامِ الْمَقْضِيّ بِالْمُقْتَضَى وَهَذِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَأَمَّا التَّخْرِيجُ هُنَا عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ مَتَى كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمُنْهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْدَمُ الْمَشْرُوعُ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِعَدَمِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلِهَذَا أَفْسَدَ الْبَيْعَ، وَيَتَّضِحُ هَذَا فِي الْبَيْعِ بِالْخَمْرِ، فَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالْخَمْرُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا يُمْلَكَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ قَبَضَ فَلَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا حُكْمُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَيْعَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ الْفَاسِدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَنْعَقِدُ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ وَثُبُوتُ الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَلَا عَقْدَ، وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَمَّا مَنَعَتْ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ قَائِمٌ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ بِالْقَبْضِ يَزْدَادُ الْفَسَادُ وَالْحُرْمَةُ، وَكُلُّ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا مِنْ الْبَائِعِ وَمَعَ الْفَسَادِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ صَارَ مَمْلُوكًا إنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْقِيمَةِ، وَالْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا وَلِهَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَالْفَاسِدُ مِنْهُ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ كَالنِّكَاحِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَشْرُوعٌ مَحْبُوبٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُرْضِيًا شَرْعِيًّا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ حَيْثُ انْعَقَدَ الْعَقْدُ مَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ فَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ، وَالْحُرْمَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّعْلِيقِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ زَنَيْتِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَإِنَّمَا يَنْزِلُ الْعِتْقُ هُنَاكَ لِمَعْنَى التَّعْلِيقِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّخْرِيجُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ وَلَا يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ يُوجِبُ رُكْنَهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَالنَّهْيُ كَانَ لِلشَّرْطِ وَهُوَ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِهِ. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الرِّبَا لِلْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَهُوَ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَلَا يَنْعَقِدُ فِيهِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا مُوجِبًا حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَبُ لِأَحْكَامِهَا فَإِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ الْحُكْمِ تَكُونُ لَغْوًا وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُتَّصِلٌ بِهَا تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ أُخْرَى كَالْهِبَةِ فَإِنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، ثُمَّ الْمِلْكُ بِهَا يَتَأَخَّرُ إلَى الْقَبْضِ. قَوْلُهُ بِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ اتَّصَلَ بِوَصْفِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ لَوْ كَانَ جَائِزًا كَانَ عَمَلُهُ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فَاسِدًا يَكُونُ عَمَلُهُ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الْأَصْلِ بَلْ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْعِقَادُ الْأَصْلِ، فَالصِّفَةُ لَا تَكُونُ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ الْفَسَادِ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ عِنْدَ الدُّخُولِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِحَسَبِ النَّسَبِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ إنَّمَا يُثْبِتُ مِلْكًا حَرَامًا وَلَيْسَ فِي النِّكَاحِ إلَّا مِلْكُ الْحِلِّ وَبَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مُنَافَاةٌ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْفَسَادِ هُنَاكَ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ. وَهُنَا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يَثْبُتُ مِلْكٌ حَرَامٌ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ انْتِفَاءُ مِلْكِ الْيَمِينِ كَالْعَصِيرِ يَتَخَمَّرُ يَبْقَى مَمْلُوكًا وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَكَشِرَاءِ الرَّجُلِ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَيَمْلِكُهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ فَأَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِهَذَا وَلَكِنَّ الْعَقْدَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ يُضَعَّفُ فَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى انْضِمَامِ مَا يَقُومُ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَعَقْدِ التَّبَرُّعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ الْمُسَمَّى لَا يَجِبُ لِلْفَسَادِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا تَأَخَّرَ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ انْعَقَدَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مُقَدَّمٌ قَبْلَ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَذَّرَ إعْمَالُ التَّعْلِيقِ فِي أَصْلِ السَّبَبِ فَيُجْعَلُ عَامِلًا فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْفَسَادِ انْعِدَامُ الْعَقْدِ شَرْعًا كَالْإِحْرَامِ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ وَيَبْقَى أَصْلُهُ، وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ شَرْعًا، وَيَكُونُ مُفِيدًا بِحُكْمِهِ وَالظِّهَارُ حَرَامٌ شَرْعًا ثُمَّ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا حُكْمَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ يَصِيرُ مَضْمُونًا وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ أَوْ بِالْعَقْدِ، وَهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 الْجَبْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالْعَقْدِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الْبَيْعِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَوْعُودَ مِنْ الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ مَوْجُودٌ هُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الضَّمَانَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ الْمُتَحَقِّقِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْبَيْعِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَكَذَلِكَ فِي الرِّبَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي وَصْفِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ بِالْفَضْلِ يَصِيرُ الْبَيْعُ رَابِحًا، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَإِنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ الْمَالِيَّةُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَبِتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ التَّقَوُّمُ شَرْعًا فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ تَكُونُ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهَا وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] وَلِأَنَّهُ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ وَنَجَاسَةُ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ كَالسِّرْقِينِ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ تَقَوُّمُهُ شَرْعًا لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهُ بِالنَّصِّ، وَلِهَذَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَلَكِنَّ الْخَمْرَ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ شَرْعًا فَيُمْلَكُ بِأَدَائِهِ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ مُوجِبًا الْمِلْكَ فِيهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَلِانْعِدَامِ رُكْنِ الْعَقْدِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بَعْدَ قَبْضِهِ إيَّاهَا أَوْ بَاعَهَا أَوْ مَهَرَهَا أَوْ وَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ كَاتَبَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي نَظِيرِ هَذَا قَالَ: لِأَنَّهُ مَالِكٌ رَقَبَتَهَا وَهُنَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ نَصًّا بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ إذَا اشْتَرَى طَعَامًا حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ الْجَائِزُ يَعْتَبِرُ التَّسْلِيطَ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْفَاسِدِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِصَرِيحِ التَّسْلِيطِ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ دَلَالَةً، وَيَعُودُ التَّصَرُّفُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ دُونَ صِفَةِ الْحِلِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَصْلُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ التَّسْلِيطُ عَلَى التَّصَرُّفِ ثُمَّ قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ نَحْوُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرَى فَاسِدًا لَمَّا بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْعَيْنِ حَقُّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِالرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَ حَقِّ الْعَبْدِ إذَا اجْتَمَعَا تَقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ لَا تَهَاوُنًا بِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى وَالْعَفْوُ مِنْهُ أَرْجَى بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَحَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقَّيْنِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتُرُجِّحَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ. قَالَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ مَهْرٌ وَفِي كِتَابِ السَّرَبِ يَقُولُ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ قَبْلَ تَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَسْتَوْلِدْهَا بِالْوَطْءِ حَتَّى رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ فَإِنَّ بِرَدِّهَا يَنْفَسِخُ الْمِلْكُ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ وَهُنَا قَالَ اسْتَوْلَدَهَا وَبِالِاسْتِيلَادِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُهُ فَإِنَّمَا وَطِئَهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ وَقِيلَ: مَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَمَا ذُكِرَ هُنَاكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْلُهُ فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ أَنَّهَا لَوْ زَادَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي بَدَنِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتَ الْعِتْقِ فَلَمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ ثَبَّتَ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الزِّيَادَةِ وَيَجْعَلُهَا مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ الْمُسْتَوْفِي بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ زِيَادَةٍ هِيَ ثَمَرَةٌ وَمِنْ أَصْلِهَا أَنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ فِي يَدٍ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُشْتَرَى بِالْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فَلِهَذَا لَا مَهْرَ عَلَيْهِ قَالَ: وَإِنْ رَهَنَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ فَيَثْبُتُ بِهِ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَلِهَذَا لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا وَإِنْ افْتَكَّهَا قَبْلَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقَاضِي قِيمَتَهَا رَدَّهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ قَبْلَ تَحَوُّلِ حَقِّ الْبَائِعِ إلَى الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَجَزَتْ عَنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ، وَقَدْ سَقَطَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ فَإِنَّ التَّحَوُّلَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَمْنَعُ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ فَقَدْ تَمَّ تَحَوُّلُ الْحَقِّ إلَى الْقِيمَةِ فَلَا يَعُودُ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَبِقَ الْمَغْصُوبُ فَقَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ثُمَّ عَادَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَجَّرَهَا فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ وَيَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْأَعْذَارِ وَقِيَامُ حَقِّ الشَّرْعِ فِي الرَّدِّ لِفَسَادِ السَّبَبِ مِنْهُ أَقْوَى الْأَعْذَارِ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَجَّرَ الْمَبِيعَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِيَرُدَّهُ فَهَذَا أَوْلَى قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى الرَّجُلُ شَيْئًا إلَى الْحَصَادِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى جُذَاذِ النَّخْلِ أَوْ رُجُوعِ الْحَاجِّ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بَلَغَنَا نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُجِيزُ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَ يُفْسِدُ ذَلِكَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ وَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمَالُ حَالٌّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِلْأَجَلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَغَا ذِكْرَهُ فَأَمَّا عَائِشَةُ كَانَتْ تَقُولُ: وَقْتُ خُرُوجِ الْعَطَاءِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ لَا يَتَأَخَّرُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إلَّا نَادِرًا فَكَانَ هَذَا بَيْعًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنَّا أَخَذْنَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ فِعْلُ الْعِبَادِ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ بِحَسَبِ مَا يَبْدُو لَهُمْ وَالْآجَالُ بِالْأَوْقَاتِ دُونَ الْأَفْعَالِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ثُمَّ الشَّرْطُ فِي الْبُيُوعِ بِبَدَلٍ مُؤَجَّلٍ إعْلَامُ الْأَجَلِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّلَمِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَإِعْلَامُ الْأَجَلِ يَكُونُ بِمَا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ مِنْ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ فَأَمَّا مَا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ يَكُونُ مَجْهُولًا وَكَذَلِكَ الْحَصَادُ فَإِنَّهُ مِنْ أَفْعَالِنَا، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَتَعَجَّلُ الْحَرُّ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إذْ إبْطَاءُ الْبَرْدِ وَالدِّيَاسِ وَجُذَاذِ النَّخْلِ وَكَذَلِكَ الْحَصَادُ وَرُجُوعُ الْحَاجِّ فِعْلُهُ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ قَالَ: فَإِنْ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ الْفَاسِدَ وَنَقَدَ الثَّمَنَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِي اسْتِقْبَالِهِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِالْإِشْهَادِ وَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ، وَدَلِيلُ فَسَادِ الْعَقْدِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ بَاعَ فَصًّا فِي خَاتَمٍ أَوْ جِذْعًا فِي سَقْفٍ ثُمَّ نَزَعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ نَفْسَ الْأَجَلِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْمُفْسِدُ جَهَالَةُ وَقْتِ الْحَصَادِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَالشِّتَاءُ لَيْسَ زَمَانَ الْحَصَادِ بِيَقِينٍ، وَلَكِنَّهُ وَصَلَ ذَلِكَ الزَّمَانَ بِمَا قَبْلَهُ فِي الذِّكْرِ وَلِأَجْلِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَهَذَا اتِّصَالٌ يَعْرِضُ لِلْفَصْلِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ مَجِيءُ أَوَانِ الْحَصَادِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الِانْفِصَالُ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا فِي الْجِذْعِ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنْ لِاتِّصَالِهِ بِالسَّقْفِ وَلِلضَّرَرِ فِي نَزْعِهِ كَانَ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فَإِذَا نَزَعَهُ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَذَا هَذَا حَتَّى لَوْ جَاءَهُ زَمَانُ الْحَصَادِ وَتَحَقَّقَ الِاتِّصَالُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ بِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ انْعِدَامُ شَرْطِ الْجَوَازِ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ مُتْعَةٌ وَالْمُتْعَةُ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى النِّكَاحِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ إلَى هُبُوبِ الرِّيحِ وَإِمْطَارِ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَجَلٍ فَالْأَجَلُ مَا يَكُونُ مُنْتَظَرَ الْوُجُودِ، وَهُبُوبُ الرِّيحِ وَإِمْطَارُ السَّمَاءِ قَدْ يَتَّصِلُ بِكَلَامِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَجَلٍ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلِأَجْلِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ وَبِرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا عِنْدَنَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِ الْخَمْرِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الصَّرْفِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْبَدَلِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا وَهُنَا يَنْفَرِدُ بِهِ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى إلَى النَّيْرُوزِ أَوْ إلَى الْمِهْرَجَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ آجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ ذَلِكَ عَادَةً وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَهِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إعْلَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْأَجَلَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إلَى الْمِيلَادِ قِيلَ: الْمُرَادُ وَقْتُ نِتَاجِ الْبَهَائِمِ. وَذَلِكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ بِمَنْزِلَةِ الْحَصَادِ وَقَبْلَ وِلَادَةِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا هِيَ حُبْلَى، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ وَقَبْلَ وَقْتِ وِلَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا إلَى صَوْمِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ وَكَذَا إلَى فِطْرِ النَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ بِحَسَبِ شُرُوعِهِمْ فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَإِنْ اشْتَرَاهُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي الصَّوْمِ جَازَ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالْأَيَّامِ فَإِذَا شَرَعُوا فِي الصَّوْمِ صَارَ وَقْتُ فِطْرِهِمْ مَعْلُومًا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا إلَى أَجَلَيْنِ وَتَفَرَّقَا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشَّرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَإِنْ سَاوَمَهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَاطَعَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَمْضَى الْبَيْعَ عَلَيْهِ جَازَ وَلَا بَأْسَ بِطَيْلَسَانٍ كُرْدِيٍّ بِطَيْلَسَانَيْنِ حَوَارِيَّيْنِ إلَى أَجَلٍ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ بِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ وَالْمَقْصُودِ، وَكَذَا لَا بَأْسَ بِمِسْحٍ مَوْصِلِيٍّ بِمِسْحَيْنِ سَارِيَيْنِ إلَى أَجَلٍ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِقَطِيفَةٍ يَمَانِيَّةٍ بِقَطِيفَتَيْنِ كُرْدِيَّتَيْنِ إلَى أَجَلٍ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ الصَّنْعَةِ وَالْمَقْصُودَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا وَحُرْمَةُ النِّسَاءِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْبُيُوعِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا اشْتَرَى سَمْنًا أَوْ غَيْرَهُ فِي زِقٍّ فَوَزَنَهُ ثُمَّ جَاءَ بِالزِّقِّ لِيَرُدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: لَيْسَ هَذَا بِزِقِّي وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ هُوَ زِقُّكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الزِّقَّ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْأَمَانَةِ قَوْلُ الْأَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ كَالْمَغْصُوبِ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ مِنْ الْمَعْقُودِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَزْنِ الزِّقِّ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَمَاتَ عَنْهُ وَمَاتَ الْآخَرُ عِنْدَ الْبَائِعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَقْبُوضِ وَفِي قِيمَةِ الْآخَرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ يَقُولُ قَبَضْتُ ثُلُثَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ أَلْفٌ وَقِيمَةَ الْآخَرِ خَمْسُمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا قَبَضْتُ إلَّا ثُلُثَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةَ الْآخَرِ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ وَهَلَكَ الْبَاقِي عِنْدَ الْبَائِعِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبَضْتُ مِنْكَ ثُلُثَهُ، وَقَالَ الْبَائِعُ نِصْفَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْعَبْدَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ وَجَاءَ بِالْآخَرِ يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ فَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَيِّتِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَا قَبَضَ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا رَدَّهُ بِالْعَيْبِ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيهِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ، نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ يَدَّعِي فِي ذَلِكَ زِيَادَةً وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ رَدَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ مُتَقَرِّرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ ثُمَّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا سَقَطَ عَنْهُ بِالرَّدِّ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الَّذِي يُرِيدُ رَدَّهُ غَيْرَ مَعِيبٍ وَعَلَى قِيمَةِ الْمَيِّتِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الِانْقِسَامِ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ كَمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ غَيْرَ مَعِيبٍ، وَلَوْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ عَلَى قِيمَةِ الْمَيِّتِ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ الزِّيَادَةَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ قِيمَةُ الْمَيِّتِ وَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ وَادَّعَى الْبَائِعُ زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَرْوِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ وَيَتَرَادَّانِ»، وَالثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فَيُتْرَكُ كُلُّ قِيَاسٍ بِمُقَابَلَتِهِ وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي يَقُولُ: إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالتَّحَالُفُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ قِيَاسًا وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَالتَّحَالُفُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا فَإِنَّ الْمَبِيعَ مُسَلَّمٌ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: أَوَّلًا يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ وَهُوَ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِيَمِينِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ وَبِنُكُولِهِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بِنَفْسِهِ، وَبِنُكُولِ الْمُشْتَرِي لَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ مَا ادَّعَى مِنْ الثَّمَنِ، وَالْيَمِينُ تَقْطَعُ الْمُنَازَعَةَ فَيَبْدَأُ بِيَمِينِ مَنْ يَكُونُ نُكُولُهُ أَقْرَبَ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا إنْكَارًا، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فَأَوَّلُ الْيَمِينَيْنِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ: الْقَاضِي يَبْدَأُ بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ بَدَلٌ، أَوْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا مَعًا، ذَكَرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ فِي الْقِيَاسِ يَكُونُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي ادَّعَاهَا الْبَائِعُ انْتَفَتْ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَيَقْضِي بِالْبَيْعِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَقُلْنَا: يُفْسَخُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَتَرَادَّانِ وَالْمُرَادُ رَدُّ الْعَقْدِ لَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ عَلَى مِيزَانِ التَّفَاعُلِ يَقْتَضِي وُجُودَهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَأَحَدُ الْبَدَلَيْنِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي السَّلَمِ أَنَّهُ إنَّمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْجَبَ قَبُولَ بَيِّنَتِهِ، أَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ مُدَّعِي حَقِيقَةً، وَقَدْ أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ مُدَّعِي صُورَةً؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالدَّعْوَى صُورَةٌ تَكْفِي لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ. وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ الْعَقْدَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اخْتَلَفَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 الْمُتَبَايِعَانِ تَرَادَّا وَلَا يُمْنَعَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّثْنِيَةِ أَيْ تَحَالَفَا، وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَأَتَّى تَمَيُّزُ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ بِتَحْكِيمِ قِيمَةِ السِّلْعَةِ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَإِذَا كَانَ تَحَرِّي التَّحَالُفِ مَعَ إمْكَانِ تَمَيُّزِ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَوْلَى وَلِأَنَّ التَّحَالُفَ عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ صَاحِبُهُ فَالْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ صَاحِبُهُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مُتَحَقِّقٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُقَابَضَةً وَهَلَكَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا أَوْ قُبِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، ثُمَّ إذَا حَلَفَا فَقَدْ انْتَفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَالْبَيْعُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ يَكُونُ فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَرَدُّ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلَاكِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَمْلُوكٌ لَهُ مُسَلَّمٌ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَيْضًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَقَوْلُهُ: وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إذَا اخْتَلَفَا الْمُتَبَايِعَانِ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَكَانَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الِاشْتِرَاطِ وَالْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ لَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَحَالُ هَلَاكِ السِّلْعَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّحَالُفِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَيَعُودُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسُ مَالِهِ بِعَيْنِهِ وَبَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ بِالتَّحَالُفِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُرَادُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَاتَ لَا إلَى بَدَلٍ فَإِنَّ الْقِيمَةَ قَبْلَ الْفَسْخِ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْفَسْخُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يَتَأَتَّى بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ فَإِنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ هُنَاكَ قَائِمٌ وَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَلِهَذَا جَازَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، فَكَذَلِكَ بِالتَّحَالُفِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُبِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيمَةُ هُنَاكَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ فِي إمْكَانِ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا آخَرَ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ يَبِيعُ بِأَلْفَيْنِ وَأَنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ قَدْ يَصِيرُ بِأَلْفَيْنِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ، وَالْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ يَصِيرُ بِأَلْفٍ عِنْدَ حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لَا لِاخْتِلَافِ الْعَقْدِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا وَقَبُولُهُ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعِي صُورَةً لَا مَعْنًى وَذَلِكَ يَكْفِي لِقَبُولِ بَيِّنَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِهِ كَالْمُدَّعِي يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ فَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ تَقْبَلُ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ جَارِيَةً حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ مُوجِبًا اخْتِلَافَ الْعَقْدِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَلِهَذَا تَبْطُلُ دَعْوَى الْفَسَادِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّهُمَا إذَا حَلَفَا يَبْقَى الْعَقْدُ بِلَا ثَمَنٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَكَذَا لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَفْسَخُ الْبَيْعَ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَمَا لَمْ يَفْسَخْ حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا وَلَوْ فَسَدَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَمَا تَأَخَّرَ حُكْمُ الْفَسْخِ إلَى طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهُوَ لَفْظُ التَّرَادِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ رَدَّ الْمَأْخُوذِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَذَلِكَ يَتَأَتَّى عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْعَقْدَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ مَعَ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ إذَا وَرَدَ فَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ مَاتَ وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْبَائِعِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي أَيْدِيهِمْ وَيَجْرِي التَّحَالُفُ بِالِاتِّفَاقِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْبَائِعِ حَتَّى يُطَالِبُونَ بِالثَّمَنِ وَيُطَالِبُونَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ صَارُوا كَالْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي وَبَقِيَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ لَمْ تُقْبَضْ جَرَى التَّحَالُفُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ وَرَثَةَ الْمُشْتَرِي قَامُوا مُقَامَهُ فِي وُثُوقِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 مَقْبُوضَةً فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَا جَمِيعًا ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ مَقْبُوضَةً فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتَحَالَفَانِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً يَتَحَالَفَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ كَمَا أَنَّ الْقِيمَةَ تَخْلُفُ الْعَيْنَ فَكَمَا أَثْبَتَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمَ التَّحَالُفِ وَالْفَسْخِ عِنْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَخْلُفُهَا وَهِيَ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَ حُكْمَ التَّحَالُفِ عِنْدَ مَوْتِ الْعَاقِدِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَخْلُفُهُ وَهُوَ الْوَارِثُ إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَرَّقَا فِي الْأَصْلِ بَيْنَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى مَا يَخْلُفُهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِأَنْ قُتِلَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَبَيْنَ هَلَاكِهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ فَكَذَلِكَ فِي مَوْتِ الْعَاقِدِ فَرَّقَا بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَقِيَامَ السِّلْعَةِ فَقَبِلَ الْقَبْضَ وَارِثُ الْبَائِعِ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ السِّلْعَةِ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ التَّحَالُفِ فِيهِ بِالنَّصِّ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَارِثُ الْبَائِعِ لَيْسَ بِبَائِعٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَأَخَذَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ وَارِثُ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا، وَلَا يُقَالُ: الْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْخِلَافَةِ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ عَاقِدًا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ ازْدَادَتْ خَيْرًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَالَفَا فَيُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَارَضَاتِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا قَالَ: لَا يُمْنَعُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ فِي الطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ كَمَا تُمْنَعُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ عِنْدَهُمَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ امْتَنَعَ التَّحَالُفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَلَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهَا فَيَمْتَنِعُ الْفَسْخُ فِي الْأَصْلِ لِأَجْلِهَا كَالْمَوْهُوبَةِ إذَا زَادَتْ فِي بَدَنِهَا خَيْرًا لَا يَمْلِكُ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ فِي الزِّيَادَةِ فَيَتَعَذَّرُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَعَذُّرُ الْفَسْخِ فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِهَلَاكِهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَفِي الْبَعْضِ أَوْلَى، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عِنْدَ الْجَارِيَةِ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ وَازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ وَجَدَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَيْبًا فَرَدَّهُ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ بِزِيَادَتِهَا فَهُوَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 دَلِيلُ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ عَنْ الْعَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ سَبَبُ الْفَسْخِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ هَلَاكُ الْعَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ وَبِتَقَرُّرِ السَّبَبِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ ضَرُورَةً فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ أَصْلُ الْجَارِيَةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَسْخِ فِيهَا ثُبُوتُهُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ بَيْعٌ مَحْضٌ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَهُنَا سَبَبُ الْفَسْخِ التَّحَالُفُ وَلَمْ يَتَقَرَّرْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَمْتَنِعُ التَّحَالُفُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ فِي الْأَصْلِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ فِي التَّسْوِيقِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ هُنَا أَوْ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْعَقْدِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً. فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ كَالْجَارِيَةِ إذَا وَلَدَتْ أَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهَا فَحُكْمُ التَّحَالُفِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قُلْنَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الْعَيْنِ تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِالرَّدِّ فِي الْعَيْبِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ بِالتَّحَالُفِ فَتَكُونُ الْجَارِيَةُ كَالْهَالِكَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَلَا تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ بِالتَّحَالُفِ، وَلَكِنَّهَا تُرَدُّ وَيُسَلَّمُ الْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ كَالْكَسْبِ وَالْعِلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَفَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ انْتَقَصَتْ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ دَخَلَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهَا نَاقِصَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَالْإِقَالَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ انْفَسَخَ بِالتَّحَالُفِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْغَيْرِ إنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، وَإِنْ أَبَى فَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ هَالِكَةً قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَقَدْ خَرَجَتْ السِّلْعَةُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِيمَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ رَجَعَتْ إلَيْهِ لِوَجْهٍ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَتْ بِهِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ فَاخْتِلَافُ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فَكَمَا لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بِاعْتِبَارِ رُجُوعِ عَيْنٍ آخَرَ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ رُجُوعِ هَذِهِ الْعَيْنِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ بَاعَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي الَّذِي بَاعَ نَصِيبَهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 الْمُسْتَفَادِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا بَاعَا وَيَتَحَالَفَانِ عَلَى حِصَّةِ الْآخَرِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي النِّصْفِ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ إنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ أَوْ الْخِيَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا فِي الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَى حِصَّةِ الْآخَرِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّحَالُفُ يَجْرِي فِي الْكُلِّ ثُمَّ فِي حِصَّةِ الَّذِي بَاعَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ وَفِي حِصَّةِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمُؤَجَّلَ أَنْقَصُ مِنْ الْحَالِّ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: اخْتَلَفَا فِي مُدَّةٍ مُلْحَقَةٍ بِالْعَقْدِ شَرْطًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ التَّحَالُفِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ وَالْأَجَلُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ فَأَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ سَوَاءٌ أَنْكَرَ زِيَادَةَ الْأَجَلِ أَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْأَجَلِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَجَلِ فِي بَابِ السَّلَمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَجَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُنَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْأَجَلَ مِنْ قَبْلُ، أَنَّ هُنَاكَ الْأَجَلَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ إقْرَارٌ بِهِ وَبِمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْعَقْدِ فَإِذَا أَنْكَرَ الْأَجَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فَأَمَّا هُنَا الْأَجَلُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي أَيْضًا الثَّمَنَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّأْخِيرَ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ قَالَ: وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ وَاخْتَلَفَا فِي نَصِيبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ قَالَ: وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهَا مَعَ هَذَا الْوَصِيفِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِينَارٍ وَتُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا وَيَقْضِي بِالْعَقْدَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ زِيَادَةً فِي حَقِّهِ فَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا أَثْبَتَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ مَقْبُولَةٌ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ يَقْضِي بِهِمَا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا إذَا اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ الْإِجَارَاتِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَبْدِكَ هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 مِنْكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِالْعَبْدِ وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْجَارِيَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ، وَالْمُشْتَرِي يَنْفِي ذَلِكَ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِثَوْبَيْنِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، وَقَدْ هَلَكَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ أَوْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ فَعَلَى قَابِضِ الثَّوْبَيْنِ رَدُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ فِي الْقَائِمِ فِيهِمَا الْقَادِرُ عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ وَفِي الْهَالِكِ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَا فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الَّذِي كَانَا فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ كَانَ لِصَاحِبِ الْجَارِيَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَتَكُونُ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْقَابِضِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضَةِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا بِزَوَائِدِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا عَيْبٌ يُنْقِصُهَا أَخَذَ مَعَهَا النُّقْصَانَ أَيْضًا كَمَا فِي الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا؛ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقَبْضِ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالتَّنَاوُلِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الَّذِي الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ عِنْدَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا وَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا مَعَ الْوَلَدِ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لِتَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهَا بِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهَا، قَالَ: وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا كَانَ عِتْقُ الْبَائِعِ فِي الْجَارِيَةِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْحُرِّ لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ. وَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَعِنْدَ انْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَصْلًا وَبِدُونِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْمُشْتَرَاةِ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ بِثَوْبَيْنِ وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ الثَّوْبَانِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُمَا فَعَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ هَلَاكِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَهُ، أَمَّا قَبْلَ هَلَاكِ الثَّوْبَيْنِ فَلَا إشْكَالَ وَبَعْدَ هَلَاكِهِمَا وَإِنْ فَسَدَ الْعَقْدُ فَقَدْ بَقِيَ الْمِلْكُ بِبَقَاءِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْنَعُ بَقَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بَعْدَمَا فَسَدَ السَّبَبُ فِيهِ وَلَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَقَالَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ الثَّوْبَانِ: أَسْتَحِقُّ أَعْلَاهُمَا ثَمَنًا، وَقَالَ الَّذِي بَاعَهُمَا: بَلْ أَسْتَحِقُّ أَرْخَصَهُمَا ثَمَنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّوْبَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لِبَائِعِ الثَّوْبَيْنِ جَمِيعَ الْعَبْدِ حِينَ اسْتَحَقَّ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ لِبَائِعِ الثَّوْبَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَهَا بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِخَمْسِينَ دِينَارًا فَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِي وَمُنْكِرٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي عَيْنٍ آخَرَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالْبَيْعِ فِيهِمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ السَّلَمِ. وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدْت الثَّمَنَ، وَقَالَ الْبَائِعُ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ إنَّمَا بِعْتُكَ جَارِيَةً بِهَذِهِ الْأَلْفِ وَقَبَضْتَ الثَّمَنَ وَدَفَعْتُهَا إلَيْكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ رَدَّ عَلَيْهِ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ فِيهِ، وَقَدْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا حَلَفَ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ الْعَبْدُ مَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَعَلَى بَائِعِهَا رَدُّ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ قَضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءُ أَلْفٍ أُخْرَى قَالَ رَجُلٌ اشْتَرَى عَدْلَ زُطِّيٍّ وَأَقَرَّ أَنَّهُ زُطِّيٌّ وَلَمْ يَرَهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّهُ فَقَالَ وَجَدْتُهُ كَرَابِيسَ لَمْ يُصَدَّقْ وَالثَّمَنُ لَهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ، وَلِأَنَّ بِسَبَبِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ إذَا أُحْضِرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي أَحْضَرَهُ كَرَابِيسُ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ زُطِّيٌّ يَزْعُمُهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ قَالَ لَا أَدْرِي أَزُطِّيٌّ هُوَ أَمْ لَا وَلَكِنِّي أَخَذْتُهُ عَلَى قَوْلِكَ فَانْظُرْ ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ فَقَالَ وَجَدْتُهُ كَرَابِيسَ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ مِلْكَ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِهِ ضَامِنًا كَانَ أَوْ أَمِينًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاقِضٍ فِي كَلَامِهِ هُنَا بَلْ مُنْكِرٌ لِقَبْضِ الزُّطِّيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الزُّطِّيُّ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَالَ الْبَائِعُ هُوَ هَرَوِيٌّ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَا أَدْرِي وَقَدْ رَآهُ وَلَكِنِّي أَخَذْتُهُ عَلَى مَا يَقُولُ ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ وَقَالَ وَجَدْتُهُ يَهُودِيًّا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ رَأَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَ دَعْوَاهُ حَقَّ الرَّدِّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْبَائِعِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِحُجَّةٍ. قَالَ: وَإِذَا نَظَر إلَى الْعَدْلِ مَطْوِيًّا وَلَمْ يَنْشُرْهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَّا بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 قَدْ رَأَى طَرَفًا مِنْ كُلِّ ثَوْبٍ، وَرُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَيِّ الثَّوْبِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ كَالطِّرَازِ وَالْعَلَمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ مَا لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ وَالْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى خَادِمَةً عَلَى أَنَّهَا خُرَاسَانِيَّةٌ فَوَجَدَهَا سِنْدِيَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْعَيْبِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْأَصْلِ وَتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّ الْخُرَاسَانِيَّات أَكْثَرُ مَالِيَّةً مِنْ السِّنْدِيَّاتِ فَإِنَّمَا فَاتَ زِيَادَةُ صِفَةٍ مَشْرُوطَةٍ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرَّدِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ يُؤَخِّرُ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» فَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ. وَالْمُرَادُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلِهَذَا قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَكَرَ التَّحْفِيلَ لِبَيَانِ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ، وَالْمُحَفَّلَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا وَالْمَحْفِلُ هُوَ الْمَجْمَعُ، وَاجْتِمَاعُ اللَّبَنَيْنِ فِي ضَرْعِهَا قَدْ يَكُونُ لِغَزَارَةِ اللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِتَحْصِيلِ الْبَائِعِ بِأَنْ يَسُدَّ ضَرْعَهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِلْمُشْتَرِي إلَّا بِالنَّظَرِ مُدَّةً، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَعَلَّ النُّقْصَانَ تَعَارَضَ فَإِذَا حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَكَانَ مِثْلَ الْيَوْمِ الثَّانِي عَلِمَ أَنَّ لَبَنَهَا هَذَا الْقَدْرُ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلتَّحْفِيلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَدْفَعَ الْغُرُورَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَوَّزَ لَهُ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ يُؤَخِّرُ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ شَرْطِ خِيَارٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِسَبَبِ التَّحْفِيلِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لِأَجْلِ اللَّبَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى نَاقَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً وَهِيَ الَّتِي سَدَّ الْبَائِعُ ضَرْعَهَا حَتَّى اجْتَمَعَ اللَّبَنُ فِيهِ فَصَارَ ضَرْعُهَا كَالصَّرَاةِ وَهِيَ الْحَوْضُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَالتَّصْرِيَةُ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِسَبَبِ التَّصْرِيَةِ وَالتَّحْفِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَوَّدَ أَنَامِلَ الْعَبْدِ حَتَّى ظَنَّهُ الْمُشْتَرِي كَاتِبًا أَوْ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْخَبَّازِينَ حَتَّى ظَنَّهُ خَبَّازًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الشَّاةِ الْمُحَفَّلَةِ أَخَذَ بِالْحَدِيثِ وَأَقُولُ يَرُدُّهَا وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ يُؤَخِّرُ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» وَبَعْدَمَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَكُلُّ قِيَاسٍ مَتْرُوكٌ بِمُقَابَلَتِهِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِغُرُورٍ كَانَ مِنْ الْبَائِعِ، وَالتَّدْلِيسُ وَالْغُرُورُ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى صُبْرَةَ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ فِي وَسَطِهَا دُكَّانًا أَوْ اشْتَرَى قُفَّةً مِنْ الثِّمَارِ فَوَجَدَ فِي أَسْفَلِهَا حَشِيشًا. ثُمَّ ذِكْرُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ لِلتَّوْقِيتِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ بَلْ لِبَيَانِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا الْعَيْبُ، وَأَمَّا رَدُّ التَّمْرِ لِمَكَانِ اللَّبَنِ فَلِأَنَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ اللَّبَنِ قَدْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ فَسَدَ فِي يَدِهِ وَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ فَأَمَرَهُ بِرَدِّ التَّمْرِ مَكَانَهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا فَالْقُوتُ فِيهِمْ كَانَ هُوَ التَّمْرُ وَاللَّبَنُ فَلِهَذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَيُجْعَلُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَبْقَى أَوَّلُ الْحَدِيثِ مَعْمُولًا بِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا سَقَى الدَّابَّةَ وَعَلَفَهَا حَتَّى ظَنَّهَا الْمُشْتَرِي حَامِلًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَهُ حَقُّ الرَّدِّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ لِلتَّدْلِيسِ وَالْغُرُورِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ هُنَا؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَ سَبَبِ هَذَا الْغُرُورِ يُجْعَلُ كَالشَّرْطِ فِيمَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ وَشَرْطُ الْحَبَلِ فِي بَيْعِ الدَّابَّةِ لَا يَجُوزُ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَشْرُوطِ، وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِ النَّاقَةِ لَبُونًا وَالْعَبْدُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا يَجُوزُ فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ إنَّمَا اكْتَسَبَ مِنْ السَّبَبِ كَالشَّارِطِ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ وَبِقِلَّةِ اللَّبَنِ لَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ ثَمَرَةٌ وَبِعَدَمِهَا لَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَبِقِلَّتِهَا أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ صِفَةُ السَّلَامَةِ انْتَفَى الْعَيْبُ ضَرُورَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْغُرُورِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُغْتَرٌّ لَا مَغْرُورٌ، فَإِنْ ظَنَّهَا عَزِيزَةَ اللَّبَنِ بِالْبِنَاءِ عَلَى شَيْءٍ مُثْبِتٍ فَإِنَّ انْتِفَاخَ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّحْفِيلِ وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ احْتِمَالُ التَّحْفِيلِ فِيهِ أَظْهَرُ فَيَكُونُ هُوَ مُغْتَرًّا فِي تَبَاطُنِهِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْبَائِعَ لِيَبْنِيَ عَلَى النَّصِّ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ فَحِينَ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُغْتَرًّا وَلَئِنْ كَانَ مَغْرُورًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الشَّرْطَ غَزَارَةَ اللَّبَنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ كَشَرْطِ الْحَمْلِ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ جَبْرٍ يَجْبُرُهُ الْبَائِعُ أَنَّهَا عَزِيزَةُ اللَّبَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، وَالْغُرُورُ بِالْخَبَرِ لَا يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ كَمَنْ أَخْبَرَ إنْسَانًا بِأَمْنِ الطَّرِيقِ فَسَلَكَهَا فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ، وَإِنَّمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 يَثْبُتُ لِلْمَغْرُورِ حَقُّ الرُّجُوعِ إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الضَّمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ فَقَدْ شَرَطَ أَنَّ جَمِيعَ الصُّبْرَةِ حِنْطَةٌ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُفَّةِ عِنَبٌ فَإِذَا وَجَدَهُ بِخِلَافِ مَا شَرَطَ كَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ لِذَلِكَ فَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا: مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا لَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَأَمَّا مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ تَسَاهُلُهُ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْضَ رِوَايَاتِهِ بِالْقِيَاسِ نَحْوُ حَدِيثِ الْوُضُوءِ مِنْ حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: أَيَلْزَمُنَا الْوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ، وَنَحْوُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ حَيْثُ قَالَ: لَوْ تَوَضَّأْتُ بِمَا سُخِّنَ كُنْتُ أَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلِفَاتِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَالْوَاجِبُ الْمِثْلُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ، فَأَمَّا إيجَابُ التَّمْرِ مَكَانَ اللَّبَنِ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِيهِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ قَلِيلِ اللَّبَنِ وَكَثِيرِهِ فِيمَا يَجِبُ مَكَانَهُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إذَا قَلَّ الْمُتْلَفُ قَلَّ الضَّمَانُ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُتْلَفُ كَثُرَ الضَّمَانُ وَهُنَا الْوَاجِبُ صَاعٌ مِنْ التَّمْرِ قَلَّ اللَّبَنُ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ تَوْقِيتَ خِيَارِ الْعَيْبِ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَإِنْ بَعُدَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرَّدِّ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا عَزِيزَةُ اللَّبَنِ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا بِالشَّرْطِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَدِّهَا مَعَ مَا حَلَبَ مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا تُرَدُّ بِزَوَائِدِهَا، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَكَلَ اللَّبَنَ فَدَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ وَرَدَّ مَكَانَ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا لِمَنْ قَلَّ فَهْمُهُ مِنْ الرُّوَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْحَدِيثَ أَحَدٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ بَيْعٍ يَشْتَرِيهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِدٍ وَأَبُوهُ مُنْقِدُ بْنُ عُمَرَ فَالِاخْتِلَافُ فِي اسْمِهِ رَوَى الْحَدِيثَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَدْ كَانَ يُعَيِّنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِمَأْمُومَةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَايَعَتْ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَكَانَ أَلْثَغَ بِاللَّامِ فَكَانَ يَقُولُ لَا خِيَابَةَ فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ تَعَلُّقُ الْعَقْدِ وَعُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 وَيَبْقَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ وَمُوجِبُهُ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِلْحَدِيثِ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ فَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَايَنَةٍ وَالْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَرَى النَّظَرَ فِيهِ وَيُرِيهِ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ لِيَحْتَاجَ لِأَجْلِ ذَلِكَ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ بَعْضُ الْعُقُودِ لِحَاجَةِ النَّاسِ كَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ أَوْلَى ثُمَّ أَصْلُ الْعَقْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ صِفَةٌ فِي الْعَقْدِ يُقَالُ: بَيْعٌ بَاتٌّ وَبَيْعٌ بِخِيَارٍ وَبِالصِّفَةِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الْمَوْصُوفِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْخِيَارُ فِي الْحُكْمِ فَيَجْعَلُهُ فِي مَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَخْلُو السَّبَبُ عَنْ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ الْحُكْمُ بِهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمُؤَخَّرٍ كَمَا يَتَأَخَّرُ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِشَرْطِ الْأَجَلِ ثُمَّ خِيَارُ الشَّرْطِ يَتَقَدَّرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا دُونَهَا وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَإِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرًا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ لِرَجُلٍ فِي نَاقَةٍ شَهْرَيْنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ شَرْطًا فَلَا تَتَقَدَّرُ بِالثُّلُثِ كَالْأَجَلِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَالثُّلُثِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَوَّزْنَا شَرْطَ الْخِيَارِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ هَذَا الْخِيَارُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ أَوْ بِنَفْسِ هَذَا الْعَقْدِ عَلَى عَقْدِ الْكَفَالَةِ فَكَمَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ هُنَاكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هُنَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَ الْخِيَارَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَوْ لِمَنْعِ أَحَدِهِمَا وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ إذْ لَوْ لَمْ تُمْنَعْ الزِّيَادَةُ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فَائِدَةٌ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنْ التَّقْدِيرِ لَا يَجُوزُ إخْلَاؤُهُ عَنْ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ بِحَازِقٍ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ بِسَبَبِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَتَمَكَّنُ مَعْنَى الْغَرَرِ وَبِزِيَادَةِ الْمُدَّةِ يَزْدَادُ الْغَرَرُ، وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ أَصْلًا وَهُوَ قِيَاسٌ يَسُدُّهُ الْأَثَرُ؛ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثَةِ لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهِ. وَجَوَازُ الْعَقْدِ مَعَ الْقَلِيلِ مِنْ الْغَرَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْغَرَرِ وَبِهِ فَارَقَ الطَّفَالَةَ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ أَصْلِ الطَّفَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ مَا لَكَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَبِهِ فَارَقَ خِيَارَ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْغَرَرُ بِسَبَبِهِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ وَكَمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَقَدْ قَالَ أَيْضًا «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ بَاطِلٌ» ثُمَّ جَوَازُ شَرْطِ الْخِيَارِ لِحَاجَةٍ وَهَذِهِ الْحَاجَةُ تُرْفَعُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِيمَا رَآهُ لِحَاجَةٍ وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ أَسْقَطَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ خِيَارَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الشِّرَاءِ بِثَمَنٍ إلَى الْحَصَادِ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْمُفْسِدُ وَصْلُ الْخِيَارِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ يَعْرِضُ الْفَصْلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِذَا فُصِلَ بِالْإِسْقَاطِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَقَدْ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ بِاتِّصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِسْقَاطِ فِيمَا بَقِيَ لَا فِيمَا مَضَى فَلِهَذَا يَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ بِهِ قَالَ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ فَقَدْ انْقَطَعَ خِيَارُهُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَمَاتَ الْبَائِعُ أَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا فَمَاتَا فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ وَلَا يُورَثُ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ وَيَقُومُ وَارِثُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لَازِمٌ ثَبَتَ فِي عَقْدِ بَيْعٍ فَيَخْلُفُ الْوَارِثُ فِيهِ الْمُوَرِّثَ كَمَا فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَحَقِّ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا ثَابِتٍ فِي بَيْعٍ مُنْعَقِدٍ، وَبِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي الْبَيْعِ، وَلَكِنَّهُ صِفَةُ الدَّيْنِ ثُمَّ الْإِرْثُ فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَارِثُ أَوْ الْمُوَرِّثُ، وَلَا مَنْفَعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ، فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ مُرْتَهَنَةٌ بِالدَّيْنِ مَا لَمْ يُقْضَ عَنْهُ فَلَا نَبْسُطُ يَدَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ لِقِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُورَثِ فَأَمَّا فِي تَوْرِيثِ الْخِيَارِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَارِثِ وَلِلْمُوَرِّثِ جَمِيعًا فَإِنَّ الضَّرَرَ وَالْعَيْنَ يُدْفَعُ بِهِ، وَرُبَّمَا يَقُولُونَ هَذَا خِيَارٌ ثَابِتٌ فِي عَيْنٍ مَبِيعَةٍ فَيَخْلُفُ الْوَارِثُ الْمُوَرِّثَ فِيهِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ؛ وَلِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مَا بَقِيَ خِيَارُهُ، وَالْوَارِثُ يُخَالِفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ بَاقِيًا لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَذَا الِانْتِقَالِ فَمِنْ ضَرُورَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ انْتِقَالُ الْخِيَارِ إلَيْهِ لِيَقُومَ الْوَارِثُ مُقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِهِ. وَحُجَّتُنَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ مَعَ الْخِيَارِ، وَقَدْ كَانَ الْخِيَارُ مَشِيئَتَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 فِي رَدِّهِ وَلَا يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ مَشِيئَتُهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ صِفَةٌ فَلَا يُحْتَمَلُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُورَثُ مَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الْوَارِثِ فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الْوَارِثِ لَا يُورَثُ كَمِلْكِهِ فِي مَنْكُوحَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُورَثُ مَا كَانَ قَائِمًا وَالْعَقْدُ قَوْلٌ قَدْ مَضَى وَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ إلَى الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ الْإِقَالَةَ لِقِيَامِهِ مُقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يُثْبِتُ وِلَايَةَ الْإِقَالَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ إقَالَةَ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ وَالْعَاقِدُ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمَّا انْقَطَعَ خِيَارُهُ بِالْمَوْتِ صَارَتْ الْعَيْنُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي وَوَارِثُ الْبَائِعِ لَا يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الْعَيْنِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَالْخِيَارَ مَانِعٌ فَإِذَا سَقَطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يُورَثُ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْخِيَارِ يَتَقَرَّرُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ فَإِذَا طَالَبَ الْبَائِعُ بِتَسْلِيمِهِ وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فُسِخَ الْعَقْدُ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُشْتَرِيَ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِيَارَ قَدْ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِلْوَارِثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ بِأَنْ يَتَغَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَارِثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الشَّرْطُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَلَا يُمْكِنُ التَّوْرِيثُ لَهُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ الْخِيَارُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ لَا لِلْإِجَازَةِ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْفَسْخِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِدُونِ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْخِيَارُ لِيُفْسَخَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَالْمُسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا مَاتَ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ الْفَسْخَ، وَلَكِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ حَتَّى إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْبَيْعِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا هُوَ مَالٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ شَرْطًا فَلَا تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ مَنْ هِيَ لَهُ كَالْأَجَلِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَبْلَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ فَيَبْطُلُ لِمَوْتِهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّ الْمُطَالِبِ وَالْأَجَلُ حَقُّ الْمَطْلُوبِ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَفِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ فَائِدَةٌ، فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ فِي تَرِكَتِهِ مَا بِدَيْنِهِ ثُمَّ يَصِيرُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِيهَا وَفَاءً بِالدَّيْنِ يَتِمُّ بِغَيْرِ السِّعْرِ أَوْ يَتَصَرَّفُ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَبْسُطُ فِي التَّرِكَةِ يَدَهُ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَأَمَّا إذَا بَقِيَ الْأَجَلُ قَامَ الْوَارِثُ مُقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 التَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَبْقَ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ الْخِيَارُ. وَكَذَلِكَ إذَا سَكَتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ حَتَّى مَضَتْ الثَّلَاثَةُ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ ارْتَدَّ فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلَزِمَ الْبَيْعُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِيَارَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَالْبَيْعُ فِي الْأَصْلِ لَازِمٌ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ كَانَ مَانِعًا مِنْ اللُّزُومِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ سَقَطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ السِّلْعَةُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتْ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِحُكْمِ الْخِيَارِ إلَّا كَمَا قَبَضَهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ خِيَارُهُ، وَتَمَّ الْبَيْعُ وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِكَوْنِهِ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ السِّلْعَةَ عَيْبٌ عِنْدَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَ بِأَيِّ وَجْهٍ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مِلْكٍ مُسْتَقِرٍّ فَإِقْدَامُهُ عَلَى وَطْئِهَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى الرِّضَا بِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْرِضُهَا عَلَى الْبَيْعِ لِبَيْعِهَا وَالْبَيْعُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَرِضَاهُ يُقَرِّرُ مِلْكَهُ فِيهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ رَضِيتُهَا؛ لِأَنَّهُ بِالرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ شَيْءٌ، فَالْمَبِيعُ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَهُوَ رَاضٍ بِتَمَامِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَلَهُ أَنْ يَرْضَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ بِفَسْخِهِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَّ الْفَسْخُ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْضَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسْخِهِ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَسْخُ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ رَدُّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ يُلَاقِي خَالِصَ حَقِّهِ فَيَكُونُ نَافِذًا كَالزَّوْجِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ عِلْمِ الزَّوْجِ كَانَ اخْتِيَارُهَا صَحِيحًا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْخِيَارَ خَالِصُ حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْآخَرِ فِي تَصَرُّفِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ وَاعْتُبِرَ الْفَسْخُ بِالْإِجَارَةِ وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ الْخِيَارُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ وَالْمُسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُسَلَّطِ كَمَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْخِيَارَ شَرْطٌ لِيَدْفَعَ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَسْخِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 مِنْ صَاحِبِهِ يَفُوتُ مَقْصُودُهُ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُخْفِي شَخْصَهُ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ فَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ حُضُورِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَلَوْ شَرَطْنَا حُضُورَ الْبَائِعِ فِيهِ لِلْفَسْخِ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ سُقُوطُ خِيَارِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ هُنَاكَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْبَائِعِ عَنْهُ تَمَكَّنَ مِنْ الْفَسْخِ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا: إنَّهُ بِالْفَسْخِ يَلْزَمُ غَيْرُهُ حَقًّا فَلَا يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ غَيْبَةً لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ مَعَ الْخِيَارِ وَبِالْفَسْخِ ارْتَفَعَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ ضِدُّ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِتَصَرُّفِهِ يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ حَقًّا وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْفَسْخِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَمَا فِي خِطَابِ الشَّرْعِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا آخَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِذَا جَاءَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ فَسَخَ الْعَقْدَ فَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَسْخِ فِي حَقِّهِ لَتَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِهِ وَهَذَا ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْفَسْخِ قَبْلَ عِلْمِهِ فِي حَقِّهِ فَالْمُشْتَرِي وَإِنْ تَضَرَّرَ وَلَكِنَّ هَذَا ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ بَلْ لِعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ اتِّحَادِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْبَائِعَ بِإِجَارَتِهِ شَيْءٌ وَهُوَ نَظِيرُ الرِّضَى بِالْعَيْبِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَصِيرُ غَيْرَ لَازِمٍ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَيَلْتَحِقُ بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَالْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ فَسْخَهَا بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيطِهِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ يُقَالُ هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ؟، وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ وَبِانْعِدَامِ صِفَةِ اللُّزُومِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَمَا فِي الْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ حَيْثُ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكَّلِ بِتَسْلِيطِهِ إيَّاهُ عَلَى التَّصَرُّفِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 فَوْقَ عِلْمِهِ بِهِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ عَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَ الْخِيَارِ دَفْعُ صِفَةِ اللُّزُومِ فَيَسْقُطُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالطَّلَاقِ فَإِنَّ الزَّوْجَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ إنَّمَا يَرْفَعُ الْحِلَّ الثَّابِتَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الرَّجْعَةِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ عَلَى حَالِهِ وَقِيلَ فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ: إنَّ فَسْخَهَا لَا يَنْفُذُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الزَّوْجِ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَى هَذَا وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ هُنَاكَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ يَزْدَادُ بِحُرْمَتِهَا، وَدَفْعُهَا زِيَادَةَ الْمِلْكِ يَكُونُ امْتِنَاعًا مِنْ الِالْتِزَامِ لَا إلْزَامَ الْغَيْرِ شَيْئًا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا الِالْتِزَامِ إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ النِّكَاحِ فَثَبَتَ لَهَا وِلَايَةُ رَفْعِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ حَاجَتِهَا إلَى دَفْعِ الزِّيَادَةِ عَنْ نَفْسِهَا، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ بِتَخَيُّرِ الشَّرْعِ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا، فَلِهَذَا صَحَّ اخْتِيَارُهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ، وَهُنَا مَنْ لَهُ الْخِيَارُ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ كَمَا قَرَّرْنَا قَالَ: وَإِنْ اخْتَارَتْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَوْ الْإِجَازَةُ بِقَلْبِهِ كَانَ بَاطِلًا أَيُّهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ نِيَّةٌ وَالنِّيَّةُ بِدُونِ الْعَمَلِ لَا تُثْبِتُ الْفَسْخَ وَلَا الْإِجَازَةَ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلُ الْعَقْدِ مِنْهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا» قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَمَا ثَبَتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ أَمِينٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ بِرِضَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبَائِعُ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْعَقْدِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الْبَيْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ الثَّابِتَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْقِيمَةُ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى الثَّمَنِ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَيَبْقَى الضَّمَانُ الْأَصْلِيُّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ سَقَطَ خِيَارُهُ بِعَجْزِهِ عَنْ الرَّدِّ كَمَا قَبَضَهُ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَهُوَ قَائِمٌ فَلَزِمَهُ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى، وَهُنَا وَإِنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَخِيَارُ الْبَائِعِ لَمْ يَسْقُطْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَلَوْ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ إنَّمَا يَلْزَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَذَلِكَ قَالَ وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا الْبَائِعُ أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ وَطِأَهَا أَوْ قَبَّلَهَا مِنْ شَهْوَةٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 أَوْ كَاتَبَهَا أَوْ رَهَنَهَا وَسَلَّمَهَا أَوْ وَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا أَوْ أَجَّرَهَا وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ فَهَذَا كُلُّهُ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ فَأَمَّا الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهُ خَرَجَ الْمَحِلُّ بِتَصَرُّفِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِابْتِدَاءِ الْبَيْعِ وَلِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْوَطْءُ وَالتَّقْبِيلُ فَدَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَلَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْبَيْعُ بِهِ لَكَانَ إذَا جَازَ الْبَيْعُ بَعْدَ هَذَا مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِزَوَائِدِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَطْأَهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَأَمَّا بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَلِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ الْعَيْنِ وَبِالرَّهْنِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقًّا وَبِالْإِجَارَةِ يُوجِبُ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقًّا، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ إلْزَامِ الْبَيْعِ وَلِهَذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ فَسْخُ الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ صَحِيحٌ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْفَسْخِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ لَا بِقَصْدِ التَّصَرُّفِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَزَلَهُ قَصْدًا وَلَوْ اخْتَارَ الْبَائِعُ رَدَّ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْمُوَكِّلِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا وَإِنْ اخْتَارَ لُزُومَ الْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي غَائِبٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْمُشْتَرِيَ بِتَصَرُّفِهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْبَائِعُ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْفَسْخِ بِالْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُنْقِصَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارَ لِإِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَإِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ فَاشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ وَلِأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَإِبْرَامِهِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَاعْتُبِرَ خِيَارُ الشَّرْطِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْغَيْرَ نَائِبًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلشَّارِطِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَكَّلَ الْغَيْرَ بِالتَّصَرُّفِ بِحُكْمِهِ اسْتَقَامَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ، وَقَدْ يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ شَيْئًا وَهُوَ غَيْرُ مُهْتَدٍ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ لِمَنْ يَكُونُ مُهْتَدِيًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 فِيهِ مِنْ صِدِّيقٍ أَوْ قَرِيبٍ حَتَّى يَنْظُرَ إلَيْهِ فَلِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ قَالَ وَإِذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ أَوْ لِلْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي فَجَاءَ بِهِ الْمُشْتَرِي لِيَرُدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي بِعْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ بِخِيَارِهِ فَيَبْقَى مِلْكُ الْبَائِعِ فِي يَدِهِ. وَالْقَوْلُ فِي تَعَيُّنِهِ قَوْلُهُ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَابِضٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا كَمَا فِي الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ وَأَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يُلْزِمَهُ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَيْسَ هَذَا الَّذِي بِعْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَلْزَمُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ خِيَارٌ رَدَّهُ إنْ شَاءَ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَكَانَ إلْزَامُ الْمَبِيعِ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّمْلِيكِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ التَّمْلِيكِ لَهُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ دَعْوَاهُ وَلَوْ أَنْكَرَ الْعَقْدَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُ بِحُكْمِ خِيَارِهِ إلْزَامَ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِهِ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إيجَادِ الشَّرْطِ وَبِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَمْلِكُ إيجَابَ الْبَيْعِ فِيهِ فَحَالُ الْبَائِعِ فِيهِ الْآنَ كَحَالِ الْمُشْتَرِي إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ وَبِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ قَالَ: وَإِنْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ ثُمَّ آنَ زَمَنُ الْخِيَارِ رُدَّ الْمَبِيعُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي رَدَّهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ اشْتِرَاطٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ أَجَّرْتُهُ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ: قَدْ رَدَدْتُهُ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ تَصَرُّفَ السَّابِقِ مِنْهُمَا أَوْلَى إذَا كَانَ رَدًّا كَانَ أَوْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ بِرَدِّ السَّابِقِ مِنْهُمَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَالْمُنْفَسِخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَبِإِجَازَةِ السَّابِقِ مِنْهُمَا انْبَرَمَ الْعَقْدُ وَبَعْدَ انْبِرَامِهِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهِ، وَلَوْ وُجِدَ الْأَمْرَانِ مَعًا فَالْفَسْخُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَرِدُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْإِجَازَةُ لَا تَرِدُ عَلَى الْفَسْخِ فَيَتَرَجَّحُ الْفَسْخُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَامِلٌ لَاحِقًا كَانَ أَوْ سَابِقًا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إذَا اجْتَمَعَا يُقَدَّمُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ شَرَطَ الْخِيَارَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ فَقَالَ: قَدْ أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ: لَا أَرْضَى فَهُوَ جَائِزٌ وَقَدْ أَشَارَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُيُوعِ إلَى أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ فَمَا فَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَوْلَى فَفَسْخًا كَانَ أَوْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَالْآخَرَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُ وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الثَّابِتِ لِلتَّصَرُّفِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَنُوبِ عَنْهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا اقْتَرَنَ تَصَرُّفُهُ بِتَصَرُّفِ النَّائِبِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْفَسْخَ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَشْرُوطٌ بِالْفَسْخِ لَا لِلْإِجَازَةِ وَالْفَاسِخُ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِيَارِ تَصَرُّفًا شُرِعَ الْخِيَارُ لِأَجْلِهِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ أَوْلَى قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي فَالْتَقَيَا فَتَنَاقَضَا الْبَيْعَ ثُمَّ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْبَائِعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ إنْ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ وَالْقِيمَةُ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْفَسْخِ بِالرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا أَنَّ اسْتِحْكَامَ الْبَيْعِ بِالْقَبْضِ ثُمَّ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ هَلَاكُهُ بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَإِذَا بَطَلَ الْفَسْخُ عَادَ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ فِي يَدِهِ هَلَكَ فَيَهْلَكُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ وَبِالْفَسْخِ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ وَبِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْتَفِعُ الْفَسْخُ فَيَبْقَى الْحَالُ بَعْدَ الْفَسْخِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الْفَسْخِ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ تَفَاسَخَا ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى فَسْخِ الْفَسْخِ وَعَلَى إعَادَةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا جَازَ فَيَنْفَسِخُ الْفَسْخُ بِهَلَاكِ مَحِلِّهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَبَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَجُوزُ فِيهِ عَقْدُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي وَلَا شَيْءَ مِنْ عُقُودِهِ أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى مِلْكِهِ نَفَذَ فَكَيْفَ يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي يَعُودُ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَدْلَ زُطِّيٍّ بِرَأْسِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ إذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ حَالَ الْمَجْلِسِ كَحَالِ الْعَقْدِ وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى بِرَقْمِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِرَقْمِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِيَكْشِفَ الْحَالَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ رَابِحًا أَوْ خَاسِرًا فِي حَقِّهِ إذَا عَلِمَ بِالثَّمَنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ ثُمَّ رَآهُ كَذَلِكَ هَهُنَا قَالَ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ وَبَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ لَا يُمْكِنُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِيهِ بِإِعْدَامِ رَأْسِ مَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ بِإِزَالَةِ الْمُفْسِدِ نَظِيرَ الْإِجَازَةِ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَكَمَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ بِالْإِجَازَةِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمَحِلِّ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِإِقَامَةِ الْمُفْسِدِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَحِلِّ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا بِالْخِيَارِ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَجَازَ مِنْهُمَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ فَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ وَبَقَاءُ خِيَارِ الْآخَرِ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ انْبِرَامِ الْعَقْدِ قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا فُرِّعَ عَلَيْهِ وَقَالَ فَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِيَارُ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إسْقَاطِ خِيَارِهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا سَقَطَ خِيَارُهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى نَقْدُهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ وَلِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِمَنْزِلَةِ فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْبَيْعَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا وَبَعْدَ الْإِعْتَاقِ هُوَ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَنَقْدُهُ الثَّمَنَ وَعَدَمُ نَقْدِهِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ وَهُمَا بِالْخِيَارِ فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ وَالْآخَرُ إمْسَاكَهُ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ حِصَّتَهُ دُونَ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ بِأَنْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَمْ يَرَيَاهُ ثُمَّ رَأَيَاهُ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرُدَّهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَا شَيْئًا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَهُمَا يَقُولَانِ الرَّادُّ مِنْهُمَا يَرُدُّ مَا اشْتَرَى كَمَا اشْتَرَى فَيَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْ الْآخَرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي صَفْقَتَيْنِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الرَّدَّ يُلَاقِي مِلْكَ الْمُشْتَرِي، وَالْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِيَيْنِ مُتَفَرِّقٌ فَصَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِهِ فَارَقَ الْقَبُولَ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ يُلَاقِي مِلْكَ الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ يُلَاقِي يَدَ الْبَائِعِ وَهُوَ مُجْتَمِعٌ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ يُلَاقِي مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَمْ يُمْكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ يُلَاقِي مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي مُجْتَمِعٌ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ لِيَكُونَ مُتَخَيِّرًا مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ إذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ فَاتَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي الْإِجَازَةِ لِأَحَدِهِمَا ضَرَرٌ وَلِلْآخَرِ نَظَرٌ فَكَمَا لَا يَكُونُ لِلْفَاسِخِ أَنْ يُلْزِمَ شَرِيكَهُ ضَرَرَ تَصَرُّفِهِ بِالْفَسْخِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلْمُجِيزِ أَنْ يُلْزِمَ شَرِيكَهُ ضَرَرَ تَصَرُّفِهِ لِلْإِجَازَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّادَّ مِنْهُمَا مَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إلَّا فِي نِصْفِهِ وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ كُلَّهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي نِصْفِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ النِّصْفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَإِذَا اشْتَرَى النِّصْفَ وَمَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إلَّا فِي نِصْفِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الرَّادَّ مِنْهُمَا يَرُدُّ نَصِيبَهُ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِعَيْبٍ حَادِثٍ بِسَبَبِ الْخِيَارِ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَكِنْ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ جُمْلَةً فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ فَإِنَّمَا يَرُدُّ النِّصْفَ مَعِيبًا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ عَيْبٌ فَاحِشٌ وَلِهَذَا يُرَدُّ الصَّدَاقُ بِهِ. وَالرُّجُوعُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إلَى الْعُرْفِ فَالْأَشْقَاصُ فِي الْعَادَةِ لَا تُشْتَرَى بِمِثْلِ مَا يُشْتَرَى بِهِ فِي الْأَشْخَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَالْبَائِعُ أَوْجَبَ الْعَقْدَ لَهُمَا جُمْلَةً، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ رِضًا بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبُولَ دُونَ الْآخَرِ وَلَوْ قَبَلَا ثُمَّ نَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَبِيعِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ لَمَلَكَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ وَالْيَدُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ مُجْتَمِعًا لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ رَاضِيًا بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا يَرْضَى بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ بِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَةَ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَا يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ بِعَيْبِ النِّكَاحِ، وَقَدْ سَلَّطَهُ الْبَائِعُ عَلَى تَزْوِيجِهَا وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يَرْضَى بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ حَدَثَ فِي يَدِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَدَثَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّمَا حَدَثَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِحُكْمِ خِيَارِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ يَعْرِضُ لِلزَّوَالِ بِأَنْ يُسَاعِدَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّادِّ. وَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ ظَهَرَ عَمَلُهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرَّدِّ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَا أَنَّ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ ضَرَرًا عَلَى الرَّادِّ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ بِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الرَّدِّ لَا يَتَصَرَّفُ مِنْ الْغَيْرِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِتَصَرُّفِ الرَّادِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 وَالرَّادُّ لَا يَتَضَرَّرُ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ هَذَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَتَّضِحُ فَإِنَّ فِي مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمُشْتَرِي إبْطَالَ حَقِّ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِي مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْبَائِعِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ فَلِهَذَا كَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْلَى، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي نِصْفِهِ فَالْبَائِعُ هُنَاكَ رَضِيَ بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ حِينَ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي النِّصْفِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْخِيَارَ يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ وَهُنَا مَا رَضِيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْكُلِّ، وَإِنَّمَا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ، وَمِلْكُهُ لَا يُنْتَقَصُ مِنْ الْبَائِعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي النِّصْفِ صَحَّ قَبُولُ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَإِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ لَهُمَا فِي الْكُلِّ لَا يَصِحُّ قَبُولُ أَحَدِهِمَا فِي النِّصْفِ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إلَى الْغَدِ أَوْ إلَى اللَّيْلِ أَوْ إلَى الظُّهْرِ فَلَهُ الْغَدُ كُلُّهُ وَاللَّيْلُ كُلُّهُ وَوَقْتُ الظُّهْرِ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ الْخِيَارُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَوْ إلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي الْخِيَارِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ حَدٌّ وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ غَايَةٌ وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَّصِلًا بِالْبَعْضِ كَمَا فِي الْمِسَاحَاتِ وَالْأَوْقَاتِ وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا فَأَمَّا فِي الْأَعْدَادِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ لِيَكُونَ حَدًّا فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ أَكْثَرَ الْأَعْدَادِ ذِكْرًا حَتَّى إذَا. قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ فَأَمَّا الْأَوْقَاتُ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَمِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَى رَمَضَانَ أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ إلَى رَمَضَانَ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى رَمَضَانَ لَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فَأَمَّا الْمُوَافِقُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَإِنَّمَا عَرَفْنَا دُخُولَهَا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَوَضَّأَ فَأَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ (إلَى) بِمَعْنَى مَعَ وَلَكِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ لَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي فِي جَانِبِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَإِذَا كَانَتْ الْغَايَةُ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا تَدْخُلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَوْ لَمْ تَدْخُلْ الْغَايَةُ كَانَ فِيهِ إزَالَةُ مِلْكِهِ بِالشَّكِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ سُقُوطُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 الْخِيَارِ فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ مَا عَلَّقَ بِهِ وَفِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ شَكَّ وَعَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ فِي وُقُوعِ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ شَكًّا، وَفِي وُجُوبِ الدِّرْهَمِ الْعَاشِرِ فِي ذِمَّتِهِ شَكًّا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَجَلِ الْبَيْعُ مُوجِبٌ مِلْكَ الْيَمِينِ وَالْأَجَلُ مَانِعٌ مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمَانِعُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ. وَفِي الْإِجَارَةِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَبِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْغَيْرِ فَتَحْدُثُ الْمَنْفَعَةُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ فَسَبَبُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَفِي الْيَمِينِ إبَاحَةُ الْكَلَامِ أَصْلٌ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَالْمَنْعُ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَشْغَلُهَا بِالشَّكِّ فِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ وَالْحَرْفُ الْآخَرُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكُونُ الْغَايَةُ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ كَمَا فِي الصَّوْمِ لَوْ قَالَ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ اقْتَضَى صَوْمَ سَاعَةٍ فَقَوْلُهُ: إلَى اللَّيْلِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهَا يَبْقَى مَوْضِعُ الْغَايَةِ دَاخِلًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَيْدِي فِي الطَّهَارَةِ يَتَنَاوَلُ الْخَارِجَةَ إلَى الْآبَاطِ، وَلِهَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - بِإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي التَّيَمُّمِ الْأَيْدِي إلَى الْآبَاطِ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهَا فَيَبْقَى مَوْضِعُ الْغَايَةِ دَاخِلًا هُنَا. وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ مُطْلَقًا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مُؤَبَّدًا وَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لَإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهَا فَيَبْقَى مَوْضِعُ الْغَايَةِ دَاخِلًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَجَلِ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لِلتَّرْقِيَةِ فَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرْقِيَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَمُطْلَقُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَلِأَجْلِ الْجَهَالَةِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فَصْلُ الْيَمِينِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْيَمِينِ تَدْخُلُ الْغَايَةُ فَيَأْخُذُ فِي الْيَمِينِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ فَقَالَ الْبَائِعٌ: رَضِيَ الْآمِرُ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ لِلْآمِرِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِي لُزُومَهُ وَلَوْ ادَّعَى أَصْلَ الْبَيْعِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى صِفَةَ اللُّزُومِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الرِّضَا وَإِنَّمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْآمِرِ فَلَوْ اُسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْآمِرِ وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمِينَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ عَلَى الْآمِرِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَإِذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ الْيَمِينُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ الرِّضَا فَعَلَى وَكِيلِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَجَّهْ الْيَمِينُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بَيْنَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 الْبَائِعِ وَالْآمِرِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُجَرَّ بَيْنَهُمَا وَالِاسْتِخْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْآمِرِ يَمِينٌ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْآمِرُ فَيَحْلِفُ كَمَا فِي الْوَكِيل بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الرِّضَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفُ وَهُنَا لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْآمِرِ اشْتِرَاطٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ الْمُسْقِطُ لِنَفْسِهِ بِخِيَارِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرَّدِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِذَا أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْآمِرَ قَدْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مَا ادَّعَى مِنْ صِفَةِ اللُّزُومِ بِالْبَيِّنَةِ. وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَالْوَكِيلُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَالْإِثْبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الثَّابِتِ صَحِيحٌ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ جَرَى بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ هُوَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ صِفَتِهِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ كَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الرِّضَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَهُ لِلْآمِرِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَقَالَ الْآمِرُ فِي الثُّلُثِ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ قَدْ أُبْطِلَتْ، لَزِمَ الْبَيْعُ الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِلُزُومِ الْعَقْدِ بِرِضَا الْآمِرِ فَيُجْعَلُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي حَقِّ الْآمِرِ كَالْمَعْدُومِ فَإِذَا قَالَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ قَدْ أَبْطَلْتُ الْبَيْعَ فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَلَا تُمْكِنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَمَا يَلْزَمُ الْبَيْعَ وَهُوَ مُضِيُّ الْأَيَّامِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفَسْخِ مَعْلُومٌ فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْفَسْخِ فِي الْمُدَّةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِرِضَا الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ بِغَيْرِ خِيَارٍ وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ فَاشْتَرَى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لَزِمَهُ دُونَ الْآمِرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِرِضَا الْآمِرِ بَعْدَمَا شَرَطَ الْخِيَارَ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَدْلًا عَلَى أَنَّهُ زُطِّيٍّ فِيهِ خَمْسُونَ ثَوْبًا كُلُّ ثَوْبٍ بِكَذَا أَوْ جَمَاعَتُهُ بِكَذَا أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ بِرَدِّ الْبَعْضِ يُفَرِّقُ صِفَةً مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَبِلَ الْعَقْدَ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَمَا لَا يَضُرُّهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ ضَرَرًا فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ ضَمَّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ لِتَرْوِيجِ الرَّدِيءِ بِثَمَنِ الْجَيِّدِ وَالْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِصَاحِبِهِ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُمْسِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ فِيهِ سَوَاءٌ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ فَإِنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الثِّيَابِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي نَفْسِهَا وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ فِيمَا يَتَفَاوَتُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَزِيدُ فِي مَعْنَى الْغُرُورِ وَلَا يُزِيلُهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ وَبِحُكْمِ خِيَارِهِ يَسْتَنِدُ بِالتَّعَيُّنِ، وَالْجَهَالَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ الصُّبْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَالْجَهَالَةُ هُنَاكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ثَمَنُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ مَجْهُولٌ فَإِنَّمَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ثُمَّ الْجَهَالَةُ الَّتِي تَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعْيِينِ الثَّمَنِ مُعْتَبَرٌ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ شَرْطِ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ يُتَحَمَّلُ فِي الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ وَلَا يُتَحَمَّلُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَا هَذَا اعْتِبَارًا لِلْمَحِلِّ بِالزَّمَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ احْتِمَالَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ لِعِيَالِهِ ثَوْبًا وَلَا يُعْجِبُهُ أَنْ يَحْمِلَ عِيَالَهُ إلَى السُّوقِ وَلَا يَرْضَى الْبَائِعُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِيَحْمِلَهُ إلَى عِيَالِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَيَحْتَاجُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذِهِ الْحَاجَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ: جَيِّدٌ وَوَسَطٌ وَرَدِيءٌ فَإِذَا حَمَلَ الثَّلَاثَةَ إلَى أَهْلِهِ تَمَّ الْمَقْصُودُ فَأَخَذْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ فِيهِ كَمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى تَقْدِيرِ الْخِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْلَامِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْكُتُبِ قَالَ فَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ لَزِمَهُ ثُلُثُهُ وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ وَهُوَ فِيهِ أَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْهَالِكِ مِنْهُمَا بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَيَتَعَيَّنُ الْبَيْعُ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي يَدِهِ وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَهُ فَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ فِيهِ. ثُمَّ يَكُونُ هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْهَالِكِ كَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مَبِيعًا وَالْآخَرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 أَمَانَةً؛ لِأَنَّهُ مَا قَبَضَ الْآخَرَ لِلشِّرَاءِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْهَالِكِ كَانَ أَمِينًا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَعَيُّنُ الْآخَرِ لِلْأَمَانَةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ دُونَ الْهَالِكَةِ وَهُنَا تَتَعَيَّنُ الْهَالِكَةُ لِلْبَيْعِ قَالَ عَلَى الْقُمِّيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِهِ أَمَّا الثَّوْبُ فَلِأَنَّهُ يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِهِ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلرَّدِّ وَفِي الطَّلَاقِ كَذَلِكَ يَهْلَكُ، الْهَالِكَةُ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الثَّوْبَ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّ مَا اشْتَرَى كَمَا اشْتَرَى فَيَتَعَيَّنُ الْعَقْدُ فِيهِ وَتَعَيُّنُ الْبَاقِي لِلرَّدِّ ضَرُورَةٌ، فَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حِينَ أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَحِلًّا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَلَكَ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ فِيهِمَا فَبَعْدَمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهُنَا الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْمَامَ الْعَقْدِ فِيهِمَا فَبَعْدَمَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّبَ كَانَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي. قَالَ: وَإِنْ هَلَكَا مَعًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مُتَّفِقًا أَوْ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مَبِيعٌ لَزِمَهُ ثَمَنُهُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا لِتَعَيُّنِهِ مَبِيعًا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا قَبْلَ الْهَلَاكِ سَوَاءٌ فَبَعْدَ الْهَلَاكِ لَا يَتَحَقَّقُ تَعْيِينُ الْبَيْعِ فِي أَحَدِهِمَا فَلِلْمُعَارَضَةِ قُلْنَا فَيُتَّبَعُ حُكْمُ الْأَمَانَةِ وَحُكْمُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَيَكُونُ هُوَ أَمِينًا فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ يَلْزَمُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ قَائِمَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَأَرَادَ رَدَّهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي أَحَدِهِمَا فَرَدُّهُ بِحُكْمِ الْأَمَانَةِ وَفِي الْآخَرِ مُشْتَرٍ قَدْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْبَيْعَ فِيهِ وَالْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُهُ، وَكَانَ فِي الْآخَرِ أَمِينًا، فَإِنْ ضَاعَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَمَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدَّ الْأُخْرَى فَأَعْتَقَهُمَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فَأَيَّتَهُمَا اخْتَارَ وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَيْهَا وَيَرُدُّ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ نَفَذَ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ الْمُشْتَرَاةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 مِنْهُمَا فَإِنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ صَحِيحٌ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ فِيهَا وَالْأُخْرَى كَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ فَإِعْتَاقُهُ إيَّاهَا بَاطِلٌ فَإِذَا عَرَفْنَا نُفُوذَ الْعِتْقِ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ كَانَ مِنْهُ فَإِذَا عَيَّنَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتْ هِيَ لِلْعِتْقِ وَرَدَّ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ كَانَتَا مَمْلُوكَتَيْنِ لَهُ فَأَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا وَلَكِنْ حَدَثَ بِهِمَا عَيْبٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي حَدَثَ الْعَيْبُ بِاَلَّتِي قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ أَوَّلًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهَا فَإِذَا زَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ تَعَيَّنَ فِيهَا بِأَنْ تَعَيَّنَتْ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَجَبَ قَبُولُهُ فِي ذَلِكَ وَيَرُدُّ الْأُخْرَى وَنِصْفَ قِيمَةِ عَيْنِهَا فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ هَلَكَتَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ بَدَلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِذَا تَعَيَّنَتَا فَقَدْ فَاتَ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْجُمْلَةِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ فَلِلتَّرَدُّدِ كَانَ نِصْفُ مَا فَاتَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَقَوْلُهُ: فِي تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ مَقْبُولٌ وَلَكِنْ فِي إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الْعَيْبِ فِي الْأُخْرَى غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلِهَذَا يَرُدُّ نِصْفَ قِيمَةِ عَيْنِهَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ حِصَّةِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ تَعْيِينِ إحْدَاهُمَا لِلْبَيْعِ تَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْأَمَانَةِ وَتَعْيِينُ الْأَمَانَةِ فِي يَدِ الْأَمِينِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الضَّمَانِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ مَا لَزِمَهُ إلَّا ضَمَانُ ثَمَنِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ هَلَكَتَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ ثَمَنِ إحْدَاهُمَا وَهِيَ الَّتِي عَيَّنَهَا لِلْمَبِيعِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْأُخْرَى قَالَ وَإِنْ حَدَثَ الْعَيْبُ بِهِمَا مَعًا رَدَّ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَأَمْسَكَ الْأُخْرَى بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَتَا؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِابْتِدَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مَحِلًّا لِتَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْمَعِيبُ مَحِلٌّ لِابْتِدَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَكُونُ مَحِلًّا لِتَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهِ أَيْضًا فَلِهَذَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَمَا تَعَيَّنَتَا مَعًا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِتَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهَا بِالْأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّعَيُّبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهُ فِي الْمَبِيعَةِ مِنْهُمَا بِالتَّعَيُّبِ وَسَقَطَ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهَا فَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِمَا وَإِذَا رَدَّ إحْدَاهُمَا فِي الْقِيَاسِ يَرُدُّ مَعَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْعَيْبِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: وَإِنْ حَدَثَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّعْيِينِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ كَانَ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ مَا تَعَيَّبَ إلَّا إحْدَاهُمَا الْآنَ وَذَلِكَ مُوجِبٌ تَعْيِينَ الْبَيْعِ لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهَا كَمَا قَبَضَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ جَنَى عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي لَزِمَتْهُ وَرَدَّ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْأَوَّلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 صَارَ كَالْمَعْدُومِ، وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا فِي يَدِهِ أَوْ جَنَى عَلَيْهَا قَبْلَ التَّعَيُّبِ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهَا وَيَرُدُّ الْأُخْرَى فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ الْبَائِعُ الَّتِي اخْتَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهَا فَإِنَّمَا أَعْتَقَ الْبَائِعُ مَالًا يَمْلِكُهُ وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا عَتَقَتْ الَّتِي تُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ نَفَذَ فِي إحْدَاهُمَا فَإِنَّ إحْدَاهُمَا مَبِيعَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا خِيَارٌ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهَا وَالْأُخْرَى أَمَانَةٌ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهَا إلَّا أَنَّ بِإِعْتَاقِهِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ إسْقَاطِ خِيَارِهِ فَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ فَإِذَا اخْتَارَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلرَّدِّ فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِيهَا قَالَ: وَإِنْ اخْتَارَ رَدَّهُمَا جَمِيعًا، فَعِتْقُ الْبَائِعِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِي إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ حِينَ أَعْتَقَ فَلَا يَنْفُذُ فِيهَا وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا نَفَذَ عِتْقُهُ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْبَائِعِ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ شَيْئًا مِنْهُمَا وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَطِئَهُمَا فَحَبَلَتَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ أَيَّتَهُمَا اخْتَارَ، فَإِنْ عُرِفَتْ الْمَوْطُوءَةُ أَوَّلًا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى وَطْئِهَا تَعْيِينٌ لِلْبَيْعِ فِيهَا وَإِسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ فَإِنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ تَقْرِيرِهِ الْمِلْكَ فِيهَا. أَلَا تَرَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَمَّا خَيَّرَ بَرِيرَةَ قَالَ لَهَا إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ» فَقَدْ جَعَلَ تَمْكِينَهَا نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ مُسْقِطًا لِخِيَارِهَا، وَإِذَا تَعَيَّنَ بَيْعُهُ فِيهَا وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا كَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَيَرُدُّ الْأُخْرَى وَوَلَدَهَا عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْأُخْرَى مِلْكٌ وَلَا شُبْهَةُ مِلْكٍ وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ، صُورَةِ الْعَقْدِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عُقْرٍ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ لَزِمَهُ عُقْرُهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّتَهُمَا وُطِئَتْ أَوَّلًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَهُوَ لَوْ بَيَّنَ الْمَوْطُوءَةَ أَوَّلًا مِنْهُمَا وَجَبَ قَبُولُ بَيَانِهِ فَكَذَلِكَ بَيَانُ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَوْطُوءَةِ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ قَضَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ مَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ فَإِنَّهُمْ إنْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنِصْفُ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِتَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَتْبَعُ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَدْ لَزِمَهُ عُقْرُ إحْدَاهُمَا بِالْوَطْءِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَلَزِمَهُ نِصْفُ عَقْدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَةَ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدِهِ وَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 فَلِهَذَا يُعْتَقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ يُعْتَقُ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ قَالَ وَإِذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ جَمِيعًا فَادَّعَى هُوَ وَالْمُشْتَرِي وَلَدَيْهِمَا جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الَّتِي وَطِئَهَا أَوَّلًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَيَانِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَالْمَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُقْرُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْبَائِعِ وَالْأُخْرَى وَوَلَدُهَا لِلْبَائِعِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِهِ وَعَلَى الْبَائِعِ عُقْرُ أُمِّ وَلَدِ الْمُشْتَرِي لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ فَلَزِمَهُ الْعُقْرُ فَيُجْعَلُ الْعُقْرُ بِالْعُقْرِ قِصَاصًا وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَبْلَ الْبَيَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَلْزَمُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ لَا مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَسَبُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ وَالْأَمَتَانِ وَوَلَدُهُمَا أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدٍ لِأَحَدِهِمَا وَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِ مَوْلَاهَا وَالْوَلَدَانِ كَذَلِكَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَجْلِ التَّعَارُضِ وَالتَّسَاوِي فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ يَلْزَمُهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَعَلَيْهِ نِصْفُ عُقْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْبَائِعِ كَذَلِكَ نِصْفُ عُقْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا قِصَاصٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْقَبْضِ وَالرَّدِّ وَلَا الْجَارِيَتَيْنِ وَالْوَلَدَيْنِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَتَقَتْ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَنْفِيهِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَانِعٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَالْمُدَّعِي مِنْهُمَا يَدَّعِي شَرْطًا زَائِدًا وَالْآخَرُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ كَمَا فِي دَعْوَى الْأَجَلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِأَقْصَرِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْخِيَارِ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي أَصْلِ الْخِيَارِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يُنْكِرُ مُضِيَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا سُقُوطَهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي الْأَجَلِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ حَادِثٌ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَاَلَّذِي يَدَّعِي مُضِيَّ الْخِيَارِ يُسْنِدُ الْبَيْعَ إلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ السَّاعَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ فَلَا يَكُونُ مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ إلَّا بِمُضِيِّ أَيَّامِهَا قَالَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا وَكَانَ لِلْبَائِعِ فِيهَا خِيَارٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِالسَّبَبِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ، وَخُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا بِهِ وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ مُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ قَدْ انْقَطَعَ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ تُعْتَمَدُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُنْتُ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَيْتُهَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مِلْكًا أَوْ تَصَرُّفًا فَيَتَحَقَّقُ ضَرَرُ سُوءِ مُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ بِالْآخَرِ قَالَ: وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اذْهَبْ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ فَانْظُرْ إلَيْهَا الْيَوْمَ، فَإِنْ رَضِيتَهَا فَهِيَ لَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ إنْ رَضِيتَهَا الْيَوْمَ فَهِيَ لَكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِتَعْلِيقِ الْإِيجَابِ بِشَرْطِ الرِّضَا، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ تَكَلَّمْتَ فَهِيَ لَكَ بِكَذَا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا بِمَعْنَى شَرْطِ الْخِيَارِ يَوْمًا وَالْمُعْتَبَرُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ إلَى اللَّيْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْكَلَامِ مُحْتَمَلٌ وَتَصْحِيحُ الْكَلَامِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ طَرِيقٌ فِي الشَّرْعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ هِيَ لَكَ بِأَلْفٍ، فَإِنْ رَضِيتَهَا الْيَوْمَ وَإِلَّا فَرُدَّهَا عَلَيَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَاسْتَخْدَمَ الْجَارِيَةَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ فِي شِرَاءِ الرَّقِيقِ لِهَذَا حَتَّى يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْمُدَّةِ فَيَنْظُرُ أَيُوَافِقُهُ أَوْ لَا وَكَذَلِكَ إنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ يَنْظُرُ إلَى سَيْرِهَا أَوْ لَبِسَ الْقَمِيصَ يَنْظُرُ إلَى قَدِّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَقْصُودَهُ إلَّا بِالِامْتِحَانِ وَلِأَجْلِهِ يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ، وَالِامْتِحَانُ فِي الدَّابَّةِ بِالرُّكُوبِ وَالسَّيْرِ وَفِي الثَّوْبِ بِاللُّبْسِ، فَإِنْ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَانِيًا فَهَذَا مِنْهُ رِضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ قَدْ تَمَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 بِاللُّبْسِ الْأَوَّلِ فَالثَّانِي يَكُونُ اخْتِيَارًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَافَرَ عَلَى الدَّابَّةِ فَقَدْ رَضِيَهَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَكُونُ بِالسَّفَرِ عَلَى الدَّابَّةِ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمِلْكِ عَادَةً فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَافِرُ بِدَابَّةِ الْغَيْرِ عَادَةً مِنْ غَيْرِ كِرَاءٍ، وَكَذَلِكَ إذَا سَكَنَ الدَّارَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فَإِذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الدَّارِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَاسْتَدَامَ السُّكْنَى بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَيْهَا وَسَكَنَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا عَادَةً بَلْ يَكُونُ رِضًا بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ قَالَ: (وَإِذَا قَبَّلَ جَارِيَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَى فَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَشَيَانِ، قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ أَوْ قَبَّلَتْهُ أَوْ مَسَّتْهُ بِشَهْوَةٍ فَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ لَزِمَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا)، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرَّجْعَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَاسَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَعْنِي فِي الرَّجْعَةِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا يَكُونُ مَا صَنَعَتْ الْجَارِيَةُ بِالْمُشْتَرِي رِضًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَالْخِيَارُ مِنْ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ صُنْعٍ أَوْ يُوجَدُ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ وَصُنْعُهَا بِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ رِضًا بِكَوْنِ الْمُشْتَرِي مَوْلًى لَهَا، وَلَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ أَوْ أَسْقَطَتْ الْخِيَارَ كَانَ ذَلِكَ لَغْوًا مِنْهَا، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي هُنَاكَ بِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهَا كَمَا قَبَضَهَا لَا لِفِعْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا وَإِنْ تَعَيَّبَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَقَطَ خِيَارُهُ أَيْضًا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِعْلَهَا بِهِ فِي الْحُكْمِ كَفِعْلِهِ بِهَا بِدَلِيلِ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فَرْجَهَا سَقَطَ خِيَارُهُ كَمَا لَوْ فَعَلَ بِهَا فَكَذَلِكَ دَوَاعِي الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ يُسَوَّى بَيْنَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ وَبَيْنَ فِعْلِهَا بِهِ وَفِعْلِهِ بِهَا. وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُسْقَطٍ الْخِيَارَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَالْحِلُّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ يَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَمَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ فَعْلِهِ بِهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ فِعْلِهَا بِهِ وَبَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْحُكْمِيِّ لَا يَبْقَى خِيَارُهُ، وَإِنْ انْعَدَمَ رِضَاهُ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَكَمَا عَجَزَ هُنَاكَ عَنْ رَدِّهَا كَمَا قَبَضَ فَقَدْ عَجَزَ هُنَا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِيهِ فَقَدْ اشْتَرَاهَا وَهِيَ حَلَالٌ لِلْأَبِ وَبَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ يَرُدُّهَا وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا صَرَّحَتْ بِالرَّجْعَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهَا ثُمَّ جَعَلَ فِعْلَهَا بِهِ فِي حُكْمِ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ كَفِعْلِهِ بِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا فِي الْخِيَارِ أَقْبَحُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 وَلَكِنَّ الْكُلَّ قِيَاسٌ وَاحِدٌ يُرِيدُ أَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ بِسَبَبِ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْجَارِيَةِ فِي حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ الثَّابِتِ، وَلَكِنَّ الْكُلَّ قِيَاسٌ وَاحِدٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ إقْرَارُ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إسْقَاطِ خِيَارِهِ، وَإِقْرَارُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُرْمَةِ أُمِّهَا وَابْنَتِهَا عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ خِيَارِهِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا إنْ اخْتَلَسَتْ ذَلِكَ مِنْهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ، وَإِنْ مَكَّنَهَا مِنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ تَقْبِيلِهِ أَوْ مَسِّهِ بِشَهْوَةٍ. قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ خَادِمًا وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ بِأَمْرِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ يَعْنِي: الْوَكِيلُ قَدْ رَضِيَ الْآمِرُ، وَقَالَ الْآمِرُ مَا رَضِيتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا رَضِيَ؛ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ التَّوْكِيلِ اسْتَثْنَى الرِّضَا حَيْثُ أَمَرَهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ، وَالْآمِرُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ قَالَ: وَإِنْ اخْتَلَفَ الْآمِرُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْخَادِمِ وَقَدْ فَسَخَ الْآمِرُ الْعَقْدَ بِخِيَارِهِ فَقَالَ الْآمِرُ لَيْسَتْ هَذِهِ بِخَادِمِي وَقَالَ الْمُشْتَرِي هِيَ الْخَادِمُ الَّتِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَمَّا فَسَخَ الْعَقْدَ بِخِيَارِهِ فَالْخَادِمُ مَلَكَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَالْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَامِنًا كَالْغَاصِبِ قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخِيَارِ وَقْتٌ فَلِصَاحِبِ الْخِيَارِ أَنْ يَخْتَارَ فِي الثَّلَاثِ، فَإِنْ مَضَتْ الثَّلَاثُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْبَيْعَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ إنْ اخْتَارَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ اخْتَارَهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمُطْلَقُ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَا يَتَوَقَّتُ مِنْ الْخِيَارِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى التَّأْبِيدِ، ثُمَّ الْإِسْقَاطُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فَإِذَا أُسْقِطَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ عَمَلَ إسْقَاطُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَمَا مَضَى غَيْرُ مُنَافٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَهُ، وَإِذَا سَقَطَ بَعْدَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَمَا مَضَى كَافٍ لِإِفْسَادِ الْعَقْدِ وَإِسْقَاطُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - مَا مَضَى غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُنَافٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْعَقْدُ مَتَى فَسَدَ لَا طَرِيقَ لِتَصْحِيحِهِ إلَّا الِاسْتِقْبَالُ وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مُخْتَلِفُونَ فِي الْحُكْمِ فِي هَذَا الْعَقْدِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 الِابْتِدَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَاسِدٌ ثُمَّ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقُولَ الْحَالُ فِيهِ مُرَاعًى وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخِيَارِ فِي الْمَنْعِ مِنْ انْبِرَامِ الْعَقْدِ لَا فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْمُفْسِدُ هُوَ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ عَلَيْهِ الْفَسَادُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْفَسَادِ لِلْعَقْدِ وَيَسْتَوِي إنْ أَسْقَطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ تَعَيَّبَ فِي أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِاعْتِرَاضِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى. ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِفَسَادِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدَّ الْآخَرَ فَمَاتَ فَقَالَ الْبَائِعُ مَاتَ الَّذِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قُبِلَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَا بَلْ مَاتَ الَّذِي بِخَمْسِمِائَةٍ قُبِلَ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَالَ وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ الَّذِي بِأَلْفٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَحْلِفُ الْبَائِعُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ الَّذِي بِخَمْسِمِائَةٍ أَوَّلًا فَأَيُّهُمَا نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ حَلَفَا لَزِمَهُمَا نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِهِ الْعَقْدَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَقَالَ: الْمُشْتَرِي إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ الْآخَرَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مُدَّعٍ وَمُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَالْهَلَاكُ لَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ التَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَوَّلًا فَإِذَا حَلَفَا فَقَدْ انْتَفَتَا دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَمِينِ صَاحِبِهِ وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَوُجُوبِ ثَمَنِهِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا فَيَتَّسِعُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةُ فِيهِمَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرُ أَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ نَظِيرَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا آخَرَ فَالْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهُنَا هُمَا صَادِقَانِ عَلَى الْعَقْدِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ مَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 الثَّمَنِ الْمُسَمَّى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ لَزِمَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَثَ بِهِمَا جَمِيعًا عَيْبٌ فَاخْتَلَفَا فِي الَّذِي أَصَابَهُ الْعَيْبُ أَوَّلًا، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَلْزَمَهُ الْبَيْعَ وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّبَ حَصَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي خِيَارَ الْبَائِعِ وَمَحِلُّ الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَائِمٌ فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْعَبْدِ يُخَيَّرُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ فَالْجِنَايَةُ مِنْ الْقَاطِعِ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَلَكِنَّ ضَمَانَ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّضْمِينِ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِذَا اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْقَاطِعِ لَمْ يَرْجِعْ الْقَاطِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَهُ فَهَذَا مِنْهُ رَدٌّ لِلْبَيْعِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَهُوَ قَدْ اسْتَرَدَّ نِصْفَهُ بِقَوْلِهِ وَفِي الِاسْتِرْدَادِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ الْعَقْدُ لَا يَتَجَزَّأُ وَفَسْخُهُ الْبَيْعَ فِي النِّصْفِ بِالِاسْتِرْدَادِ يَكُونُ فَسْخًا فِي الْكُلِّ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَقَدْ انْقَطَعَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِفُجُورٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا دَلِيلُ الرِّضَا وَوَطْءُ الْغَيْرِ إيَّاهَا بِالْفُجُورِ تَعَيُّبٌ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ الْمُسْتَوْفَى بِالْحُكْمِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ آخِرِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ مُؤَيَّدًا وَاسْتِيفَاءُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْفِي هُوَ أَوْ غَيْرَهُ قَالَ: مُسْلِمٌ اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ ارْتَدَّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّلَاثَةِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْعَبْدَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَا الْكُفْرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ لَا تَنْقَطِعُ بِرِدَّتِهِ ثُمَّ عِنْدَهُمَا خِيَارُهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ فَرَدُّهُ بِالْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارُهُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ بِالرَّدِّ يَمْتَنِعُ مِنْ التَّمَلُّكِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ غَيْرُهُ شَيْئًا وَرِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي قَوْلٍ مِثْلِ هَذَا. وَفِي قَوْلٍ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْمِلْكُ إذْ الْخِيَارُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَارِجًا مِنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ مَا يَقَعُ بَعْدَمَا انْعَقَدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَإِذَا زَالَ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ رِضَاهُ، وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ رِضَاهُ بِهِ وَالسَّبَبُ بِدُونِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الْحُكْمِ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ كَمَا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يَقُولُ: إنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ الْمُنْعَقِدَ فِي الْأَصْلِ يَسْرِي إلَى الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ لِكَوْنِهَا مَحِلًّا لَهُ فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ فِي الزَّوَائِدِ، وَأَمَّا الْبَدَلُ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْرُجُ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ فِي جَانِبِ مَنْ لَا خِيَارَ لَهُ فَيَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَدَلِ الَّذِي فِي جَانِبِهِ حُكْمُ الْبَيْعِ اللَّازِمِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مِلْكِ أَحَدِهِمَا إلَى مِلْكِ الْآخَرِ، وَلِهَذَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ بَقِيَ مَمْلُوكًا بِلَا مَالِكٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ الْخُرُوجُ عَنْ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ دَارًا وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لَهَا لَمَا اسْتَحَقَّ بِهَا الشُّفْعَةَ كَخِيَارِ السُّكْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَقَدْ اسْتَثْنَى الرِّضَا فِيمَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَدُخُولُ بَدَلِ صَاحِبِهِ فِي مِلْكِهِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَحَدُهُمَا لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ الْعِوَضُ فِي مِلْكِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَخْرُجْ الْمُعَوِّضُ عَنْ مِلْكِهِ اجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ مَعَ كَوْنِهَا بِمَحَلِّ النَّقْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 الْبَدَلُ الْآخَرُ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ مَالِكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجِبِ الْبَيْعِ إنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَنْ يَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا يَلْزَمُهُ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا بَيَّنَّا مَذْهَبَهُمَا عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْبَدَلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْعَاقِدِ، وَأَنَّ الَّذِي شَرَطَ الْخِيَارَ لَمَّا اسْتَثْنَى الرِّضَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلًا فِي حَقِّهِ لَا فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ وَلَا فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ جَانِبِ صَاحِبِهِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى لِمَا قَرَّرْنَا وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي بِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا تَصَرُّفًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِ يَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِخِيَارِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا مَسَائِلُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَبَتَ خِيَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَعِنْدَهُمَا عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْتُ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ الشِّرَاءُ يُجْعَلُ بَعْدَ الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَلِهَذَا يُعْتَقُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْمُدَّةِ كَانَ الْوَطْءُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهَا بِخِيَارِهِ وَعِنْدَهُمَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِحُكْمِ خِيَارِهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَى عَصِيرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبَضَهُ فَتَخَمَّرَ فِي يَدِهِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ التَّخَمُّرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ بِالتَّخَمُّرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ لَكَانَ مُتَمَلِّكًا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ بَعْدَمَا تَخَمَّرَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: تَتَغَيَّرُ الْعَيْنُ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا هَذَا لِلِاخْتِلَافِ فِي ذِمِّيٍّ اشْتَرَى مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ فَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا فَلَا يَرُدُّهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ يَتَمَلَّكُهَا عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 يَدْخُلْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَلَوْ حَاضَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ أُسْقِطَ خِيَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُجْتَزَى بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ وَعِنْدَهُمَا يُجْتَزَى بِهَا وَمِنْهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ بِخِيَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ فَهُوَ بِالرَّدِّ يَمْتَنِعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ، وَعِنْدَهُمَا كَانَ مَالِكًا، فَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَمَا أَبْرَأَهُ عَنْ الثَّمَنِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ قَالَ: نَصْرَانِيٌّ اشْتَرَى مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَبْقَى الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْخَمْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَبْضِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ خَمْرًا مَغْصُوبَةً لَهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَبْضَ مُشَابِهٌ بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ، وَيُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ فَكَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الزَّوَائِدِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الطَّارِئُ مِنْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي الْخَمْرِ يُعَيَّنُ إذَا أَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ إلَى نَصْرَانِيٍّ فِي خَمْرٍ يَجُوزُ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّلَمِ أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَفِي مَبِيعِ الْعَيْنِ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ السَّلَمِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ وَهُوَ نَظِيرُ الْعَقْدِ فِي أَنَّ إسْلَامَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْنَعُ عَلَى الْخَمْرِ فَأَمَّا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْقَبْضُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ مِلْكَ الْعَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْخَمْرَ، وَلَمْ يَرُدَّ الثَّمَنَ حَتَّى أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْبَيْعُ مَاضٍ وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَنْتَهِي فِي الْحَرَامِ بِالْقَبْضِ، وَالْإِسْلَامُ الطَّارِئُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبْضِ الثَّمَنِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا طَرَأَ فَإِنَّهُ يُلَاقِي الْحُرْمَةَ الْقَائِمَةَ بِالرَّدِّ وَالْمَاضِيَةَ بِالْعَفْوِ كَنُزُولِ آيَةِ الرِّبَا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278] أَيْ مَا بَقِيَ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمُحَرِّمَ إذَا طَرَأَ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْمَقْبُوضِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَازِمٌ وَهُوَ فِي الْآخَرِ بِالْخِيَارِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَزِمَهُ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ وَإِلْزَامُ الْعَقْدِ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، فَإِنْ لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 يُبَيِّنْ الَّذِي لَزِمَهُ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْهُمَا فَهَذَا فَاسِدٌ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَزِمَهُ الْعَقْدُ فِيهِ مَعْلُومٌ، وَثَمَنُهُ مُسَمًّى مَعْلُومٌ وَاَلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ فِيهِ مَعْلُومٌ فَكَأَنَّ الْعَقْدَ فِي صَفْقَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ، فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ وَالْآخَرُ فِي صَفْقَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ الْعَقْدُ فِيهِ مَعِيبًا وَقَبَضَهُمَا وَمَاتَا فِي يَدِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْخِيَارِ بِغَيْرِ الشَّرْطِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ جِرَابَ هَرَوِيٍّ أَوْ زَيْتًا فِي زِقٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي جُوَالِقَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ اُحْتُجَّ فِي ذَلِكَ «بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَالْغَرَرُ مَا يَكُونُ مَسْتُورَ الْعَاقِبَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا لَمْ يَرَهُ «وَبِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ» وَالْمُرَادُ مَا لَيْسَ بِحَاضِرٍ مَرْئِيًّا لِلْمُشْتَرِي لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ رَآهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا الِاسْمَ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ عَبْدًا وَلَمْ يُشِرْ إلَيْهِ وَلَا إلَى مَكَانِهِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولَةٌ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الرُّؤْيَةُ دُونَ الْخَبَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالرِّضَا بِلُزُومِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوَصْفُ طَرِيقًا لِلْإِعْلَامِ هُنَا لَكَانَ الْعَقْدُ يَلْزَمُ بِاعْتِبَارِهِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَمِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ فَالْجَهْلُ بِمِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِمَنْزِلَةِ انْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الْآبِقِ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ فِي الْآبِقِ قَائِمَةٌ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ لِلْبُعْدِ عَنْ الْيَدِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ وَبَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ: بَيْعُ عَيْنٍ، وَبَيْعُ دَيْنٍ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ الْوَصْفُ يَعْنِي الْمُسْلَمَ فِيهِ وَفِي مَا هُوَ عَيْنُ الْمُشَاهَدَةِ ثُمَّ مَا هِيَ الطَّرِيقَةُ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ، وَهُوَ الْوَصْفُ إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ الطَّرِيقُ لِلْمَعْرِفَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ؟. وَهُوَ الرُّؤْيَةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 إذَا تَأَخَّرَ عَنْ حَالَةٍ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَى فِي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَرَهُ كِنَايَةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُكَنَّى السَّابِقِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُشْتَرَى، وَالْمُرَادُ خِيَارٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَإِلْزَامِهِ دُونَ خِيَارِ الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً وَتَصْرِيحُهُ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ لَهُ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ شِرَائِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُجِيرِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشُهْرَتِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومُ الْعَيْنِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمَرْئِيِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ مُشَارٌ إلَى عَيْنِهِ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي جَارِيَةٍ قَائِمَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مَبِيعَةً فَلَا شَكَّ أَنَّ عَيْنَهَا مَعْلُومَةٌ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَشَارَ إلَى مَكَانِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُهَا فَأَمَّا كَوْنُهَا جَارِيَةً وَكَوْنُهَا مَمْلُوكَةً فَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْأَخِيرِ التَّابِعِ لَهُ فَإِنَّهَا وَإِنْ رَفَعَتْ النِّقَابَ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِ الْبَائِعِ وَقَدْ أَخْبَرْتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ وَلِهَذَا مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ ثُمَّ رَآهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ يَبِيعُهُ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ فَإِنَّمَا نَفْيُ تَقَدُّمِ رُؤْيَةِ وَجْهِهَا الْجَهْلُ بِصِفَاتِ الْوَجْهِ وَجَوَازُ الْعَقْدِ وَفَسَادُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَوْصَافِهَا لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ بِأَنْ كَانَتْ مُحْتَرِقَةَ الْوَجْهِ أَوْ مَعِيبَةً بِعَيْبٍ آخَرَ. وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْأَوْصَافِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْعَقْدَ، وَالْجَهْلُ بِالْمَعْقُودِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ الصُّبْرَةِ فَإِنَّ عَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَجَازَ الْعَقْدُ فَدَلَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعَدَمِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْجَهْلِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تُفِضْ إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ كَبَيْعِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ، وَجَهَالَةُ الْأَوْصَافِ بِسَبَبِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَعْدَمَا صَارَ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فِي انْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ وَذَلِكَ شَرْطُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا، وَكَذَلِكَ فِي الْعَيْبِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا شَرْطُ الْخِيَارِ مِنْهُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 لِلْإِسْقَاطِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ تَمَّ الرِّضَا فِي الْعَيْبِ، وَالسَّبَبُ بِثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُطَالَبَةُ بِالْجُزْءِ الْفَائِتِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ تَمَّ الرِّضَا بِهِ وَهُنَا السَّبَبُ هُوَ الْجَهْلُ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْعَيْنِ كَمَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ تَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ أَوْ زَوَّجْتُكَ إحْدَى أَمَتَيَّ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ ثُمَّ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ جَهَالَةَ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ فِي النِّكَاحِ الْعَقْدُ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لُزُومَهُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَلِهَذَا لَزِمَ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ. وَالْعَيْبُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَعَلَيْهِ نَقِيسُ، لِعِلَّةِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَعَدَمُ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهُ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مُسْتَرَدٌّ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الشِّرَاءِ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَوْزًا أَوْ بَيْضًا أَوْ اشْتَرَى قُفَّاعًا فِي كُوزٍ يَجُوزُ فَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مُسْتَرَدٌّ بِغَيْرِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ اللَّوْزِ الرَّطْبِ وَالْجَوْزُ الرَّطْبُ فِي قِشْرَيْنِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْيَابِسِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِي قِشْرٍ وَاحِدٍ وَفِي الْوَجْهَيْنِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ اللُّبُّ دُونَ الْقِشْرِ وَهُوَ مُسْتَرَدٌّ بِمَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ هُنَاكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يُرَدُّ عَلَى الْأَوْصَافِ فِي بَابِ السَّلَمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهَا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَيْعُ الْآبِقِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا هِبَتَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَبَيْعَهُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ وَبَيْعُ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ مَقْصُودًا فَإِنَّهُ فِي الْبَطْنِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّزْوِيجَ مَقْصُودًا فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ «حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ يَطْلُبُ مِنِّي سِلْعَةً لَيْسَتْ عِنْدِي فَأَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَسْتَحْدِثُهَا فَأَسْتَجِيدُهَا فَأَشْتَرِيهَا فَأُسْلِمُهَا إلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُنَا فَصْلَانِ أَحَدُهُمَا الْبَائِعُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ قَطُّ بِأَنْ وَرِثَ شَيْئًا فَبَاعَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا يَقُولُ: لَهُ الْخِيَارُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا خِيَارَ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَاعَ أَرْضًا لَهُ بِالْبَصْرَةِ مِنْ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقِيلَ لِطَلْحَةَ: إنَّكَ قَدْ عَيَّنْتَ (فَقَالَ) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 الْخِيَارُ لِي لِأَنِّي اشْتَرَيْتُ مَا لَمْ أَرَهُ فَذَكَر ذَلِكَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ لِي الْخِيَارُ لِأَنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَهُ فَحَكَّمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي ذَلِكَ فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ، وَقَالَ: لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَمَامَ رِضَاهُ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ بِمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ لَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْمَبِيعُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ الثَّمَنُ وَهُوَ طَرِيقُ إعْلَامِهِ التَّسْمِيَةَ دُونَ الرُّؤْيَةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَائِعُ قَدْ رَأَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي قُلْنَا: وَبَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ وَمَا لَمْ يَتِمَّ الرِّضَا بِهِ لَا يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْعَقْدَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا. وَإِنَّمَا يَتِمُّ رِضَاهُ إذَا عَلِمَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالرُّؤْيَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْأَوْصَافِ قَبْلَ رُؤْيَةِ مَوْضِعِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لَهُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ فَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْعَيْبِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ هُنَا إبْطَالُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْفَسْخِ إبْطَالُ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ خَالِيًا عَنْ الْخِيَارِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ الْخِيَارَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ بِالْفَسْخِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَلَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ خَالِيًا عَنْ الْخِيَارِ ثُمَّ يُشْتَرَطُ لِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ هُنَا الرُّؤْيَةُ الَّتِي تُوجِبُ إعْلَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ فِي بَنِي آدَمَ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ وَفِي الدَّوَابِّ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهَا وَكِفْلِهَا وَمُؤَخَّرِهَا فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْغَنَمِ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْجِنْسِ، وَفِيمَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللَّبَنُ يَحْتَاجُ إلَى رُؤْيَةِ الضَّرْعِ وَفِيمَا يُعْلَمُ بِالذَّوْقِ وَالشَّمِّ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ مَا لَمْ يَرْضَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، وَلَيْسَ لِلْخِيَارِ فِي هَذَا وَقْتٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ بِخِيَارٍ مُطْلَقٍ لِلْمُشْتَرِي فَالتَّوْقِيتُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى خِيَارِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّتُ إلَّا أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَالِاصْطِلَاحُ يَكُونُ عَلَى رَدِّ حِصَّةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الثَّمَنِ وَلِهَذَا لَوْ تَعَذَّرَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 الرَّدُّ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، وَهُنَا الْخِيَارُ لِلْجَهْلِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يُورَثُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا هُوَ مَالٌ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يُورَثُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ قَالَ: فَإِنْ رَأَى بَعْضَ الثِّيَابِ فَهُوَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَتَفَاوَتُ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَعْضِ. وَإِذَا أَرَادَ الرَّدَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا لَمْ يَرَهُ خَاصَّةً وَلَكِنْ يَرُدُّ الْكُلَّ أَوْ يُمْسِكُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بِلُزُومِ الْعَقْدِ. فَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إنَّمَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَهُنَاكَ الصَّفْقَةُ تَتِمُّ بِالْقَبْضِ لِتَمَامِ الرِّضَا بِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قَالَ وَلَوْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْبَعْضِ الْهَالِكِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْهَالِكِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ فِي الرَّدِّ قَبْلَ التَّمَامِ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ فِي الْهَالِكِ تَعَذُّرُ الرَّدِّ فِيمَا بَقِيَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِإِلْزَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ فَبِهَلَاكِ الْبَعْضِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ خِيَارُهُ فِيمَا بَقِيَ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْهَلَاكِ بِاخْتِيَارِهِ رَدَّ الْبَعْضِ هُوَ فَاسِدٌ لِلْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْهَلَاكِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ مَا بَقِيَ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ فَأَمَّا السَّمْنُ وَالزَّيْتُ وَالْحِنْطَةُ فَلَا خِيَارَ لَهُ إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ أَوْ الْمَوْزُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَتَفَاوَتُ فَبِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ تَصِيرُ صِفَةُ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَعْلُومًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْرِضُ بِالنَّمُوذَجِ فَرُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْهُ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ وَمَا لَا يَعْرِضُ بِالنَّمُوذَجِ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَفِيمَا يَعْرِضُ بِالنَّمُوذَجِ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَا لَمْ يَرَهُ مِثْلَ مَا رَآهُ أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا رَأَى، فَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِمَّا رَأَى فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي رَأَى فَإِذَا تَغَيَّرَ لَمْ يَتِمَّ الرِّضَا بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَغَيَّرَ وَقَالَ الْبَائِعُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ التَّغَيُّرَ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَهُوَ رُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْعَيْبِ فِي الْمُشْتَرَى، وَلَوْ ادَّعَى عَيْبًا بِالْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ: وَإِذَا رَأَى مَتَاعًا مَطْوِيًّا، وَلَمْ يَقِسْهُ وَلَمْ يَنْشُرْهُ فَاشْتَرَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ يُسْتَدَلُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 بِرُؤْيَةِ طَرَفٍ مِنْهُ عَلَى مَا بَقِيَ فَلَا تَتَفَاوَتُ أَطْرَافُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إلَّا يَسِيرًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلِأَنَّ رُؤْيَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَعَذَّرُ. قَالُوا: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَيِّ الثَّوْبِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِنْ كَانَ فِي طَيِّ الثَّوْبِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ كَالْعَلَمِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ مَا لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَعْنِي مَوْضِعَ الْعَلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ تَتَفَاوَتُ بِجِنْسِهِ وَهُوَ نَظِيرُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ وَإِنْ رَأَى سَائِرَ الْمَوَاضِعِ مِنْ جَسَدِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ مَا لَمْ يَرَ وَجْهَهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ رَآهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ الْحَالِ الَّذِي رَآهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي التَّغَيُّرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَأَمَّا إذَا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً شَابَّةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً فَزَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ أَكَانَ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَرُؤْيَةُ الرَّسُولِ وَقَبْضُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَتَاعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ فَرَآهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ خِيَارٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ وَالرَّسُولُ وَالْوَكِيلُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْلِ إلَيْهِ وَالنَّقْلِ إلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ خِيَارُهُ لَا يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَكَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: التَّوْكِيلُ بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ، وَلِأَنَّهُ إتْمَامُ الْقَبْضِ كَالتَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ وَلِأَنَّ إتْمَامَهُ وَتَمَامَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ وَالصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَضْمَنُ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ إنَابَةُ الْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ إلَيْهِ إلَّا تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إتْمَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَيْسَ إلَيْهِ كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ لَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْقَى الْوَكَالَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 فَإِنَّ بَقَاءَهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ، وَلِهَذَا مُلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، وَذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ الِاسْتِيفَاءَ دُونَ الْإِسْقَاطِ فَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ هُوَ التَّسْلِيمُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّا نَجْعَلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، وَالْمُوَكِّلُ لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ بِهِ خِيَارُهُ فَكَذَلِكَ قَبْضُ الْوَكِيلِ وَلَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الشَّرْطِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بِحَالٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ اسْتَثْنَى رِضَاهُ نَصًّا فَلَا بُدَّ لِسُقُوطِ خِيَارِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ أَوْ إسْقَاطِ نَائِبِهِ، وَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فِي إسْقَاطِ حِصَّةِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يَقُولُ سُقُوطُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ عِنْدَ الْقَبْضِ عَادَةً، وَالْوَكِيلُ بِالشَّيْءِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ كَالْمُبَاشِرِ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَالرُّؤْيَةُ بِالتَّأْجِيلِ فِيهِ بَعْدَ مُدَّةٍ بَعِيدَةٍ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مُشَابِهٌ بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ ثُمَّ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ بِالْعَقْدِ تُجْعَلُ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَرِضَاءُ الْوَكِيلِ بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا الْمُوَكِّلَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَرَضِيَ بِهِ الْوَكِيلُ وَأَبَى الْمُوَكِّلُ أَنْ يَرْضَى بِهِ فَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَالْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ، الْآمِرُ لِنَفْسِهِ نَحْوَ مَا إذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الْخِيَارَ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَدْلَ زُطِّيٍّ لَمْ يَرَهُ ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى مَا بَقِيَ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ يَجِدُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِيمَا بَاعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ مَا بَاعَ بِسَبَبٍ فَهُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ إلَّا فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقُولُ: خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا يَعُودُ بَعْدَمَا سَقَطَ، وَإِنْ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ رَدُّ الْكُلِّ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلَوْ أَسْقَطْنَا خِيَارَهُ لَأَسْقَطْنَا بِإِيجَابِهِ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَصْرِيحِهِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ فَسَقَطَ خِيَارُهُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ رَدُّ الْكُلِّ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلَوْ أَسْقَطْنَا خِيَارَهُ لَأَسْقَطْنَا بِإِيجَابِهِ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَصْرِيحِهِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ ثَوْبًا مِنْهُ وَأَلْبَسَهُ حَتَّى تَغَيَّرَ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ هَذَا الثَّوْبِ كَمَا قَبَضَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ قَالَ، وَإِذَا اشْتَرَى عَدْلَ زُطِّيٍّ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ أَوْ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ خَادِمَيْنِ فَحَدَثَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَيْبٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ أَوْ كَانَ الْعَيْبُ فِيهِ فَعَلِمَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ أَوْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ لِمَا فِي رَدِّ الْبَعْضِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ الرَّادُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ مُجَرَّدُ خِيَارٍ يَثْبُتُ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ لَا حِصَّةَ لِلْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الْمُثَمَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفٌّ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْبَائِعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُرَدُّ الْكُلُّ أَوْ يُمْسِكُ الْكُلَّ وَالْحَادِثُ مِنْ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَلَوْ هَلَكَ كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ إذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ النُّقْصَانُ الْحَادِثُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِالْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْجَمِيعِ كَسُقُوطِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْجِنْسِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الثَّمَنِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْجِنْسِ فَيَسْتَوِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إنْ وُجِدَ الْعَيْبُ بِالْمَقْبُوضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً، وَإِنْ وُجِدَ بِاَلَّذِي لَمْ يَقْبِضْ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ بِهِ الْعَيْبُ كَانَ الْآخَرُ بِصِفَتِهِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ بَعْدَمَا قَبَضَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً، وَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَرُدُّهُمَا إنْ شَاءَ لِأَنَّ ضَمَّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْبَيْعِ فَلَوْ رَدَّ الرَّدِيءَ بِالْعَيْبِ خَاصَّةً تَضَرَّرَ بِهِ الْبَائِعُ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ إمَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا أَوْ يُمْسِكَهُمَا كَمَا فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَلِأَجْلِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ وَلِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ وَهَذَا الْمَعْنَى تَقْتَصِرُ عَلَى الْعَيْبِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُ الرَّدِّ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ. وَهَذَا لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِالْقَبْضِ لِوُجُودِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ صِفَةِ السَّلَامَةِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَبِهِ فَارَقَ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةَ، فَالْمَانِعُ مِنْ تَمَامِ الصَّفْقَةِ هُنَاكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 عَدَمُ الرِّضَا لِلْجَهْلِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَهَذَا بَاقٍ وَفِي رَدِّ أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ فَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّ كُلَّهُ أَوْ يُمْسِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي الْحُكْمِ وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُرُّ فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يُرَدُّ بَعْضُهُ بِالْعَيْبِ دُونَ الْبَعْضِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا مُيِّزَ الْمَعِيبُ ازْدَادَ عَيْبُهُ، فَالْمَعِيبُ مِنْ الْحِنْطَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِمَا لَيْسَ بِمَعِيبٍ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ مِنْ الْعَيْبِ مَا يَتَبَيَّنُ إذَا مُيِّزَ عَمَّا لَيْسَ بِمَعِيبٍ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِعَيْبٍ أَكْثَرَ مِمَّا خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: هَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَوَجَدَ مَا فِي أَحَدِ الْوِعَاءَيْنِ مَعِيبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبَيْنِ وَالْجِنْسَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِلَّا ظَهَرَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ أَوْ يُمْسِكَ الْكُلَّ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا فَالْآخَرُ لَهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِالْقَبْضِ فَإِنَّ الْعَقْدَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَتَمَامُهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ الرِّضَا مِنْ الْعَاقِدِ بِهِ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَنْعَدِمُ رِضَا الْمَالِكِ لَا رِضَا الْعَاقِدِ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّرْفِ: وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْدَمَا افْتَرَقَا يَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا فَإِذَا عَرَفْنَا تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِالْقَبْضِ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِثَمَنِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسْلَمْ لَهُ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لَهُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ سَالِمٌ وَاسْتِحْقَاقُ أَحَدِهِمَا لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي الْآخَرِ وَإِنْ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْآخَرِ لِيُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْمَقْبُوضَ أَوْ الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ لَا تَكُونُ الصَّفْقَةُ تَامَّةً وَلَوْ كَانَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا لَا يَتَبَعَّضُ فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ فَالتُّجَّارُ يَعُدُّونَ الشَّرِكَةَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ عَيْبًا فَاحِشًا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْبَعْضَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَبِاسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ لَا يَتَعَيَّبُ مَا بَقِيَ، وَقَدْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ بِالْقَبْضِ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَنَظَرَ إلَى ظَاهِرِهَا خَارِجًا مِنْهَا، وَلَمْ يَدْخُلْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَّا بِعَيْبٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 وَقِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى دُورِهِمْ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالسَّعَةِ وَالضِّيقِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالنَّظَرِ إلَى جُدْرَانِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا مَالِيَّةُ الدُّورِ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَرَافِقِ وَكَثْرَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالنَّظَرِ إلَيْهَا مِنْ دَاخِلٍ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَ زُفَرُ وَمَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَحُجَّةُ زُفَرَ هُنَا الَّذِي ذَكَرْنَا الْجَوَابَ، وَحُجَّتُنَا أَنَّ النَّظَرَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْظُرُ إلَى مَا تَحْتَ السُّورِ وَإِلَى مَا بَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ الْجُذُوعِ وَالْأُسْطُوَانَات وَإِذَا سَقَطَ شَرْطُ رُؤْيَةِ الْكُلِّ لِلتَّعَذُّرِ أَقَمْنَا رُؤْيَةَ جُزْءٍ مِنْهَا مَقَامَ رُؤْيَةِ الْجَمِيعِ تَيْسِيرًا قَالَ وَالْأَعْمَى فِي كُلِّ مَا اشْتَرَى إذَا لَمْ يُقَلِّبْ وَلَمْ يَجُسَّ بِالْخِيَارِ فَإِذَا قَلَّبَ أَوْ جَسَّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَ بِهِ عَيْبًا، وَالْكَلَامُ فِي فُصُولٍ أَحَدُهُمَا جَوَازُ الْعَقْدِ عِنْدَنَا مِنْ الْأَعْمَى بَيْعًا كَانَ أَوْ شِرَاءً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ بَصِيرًا فَعَمِيَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ أَكْمَهَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَوْنَ الْأَشْيَاءِ وَصِفَتَهَا، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ فَالنَّاسُ تَعَارَفُوا مُعَامَلَةَ الْعُمْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ أَصْلُهُ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ فَإِذَا احْتَاجَ الْأَعْمَى إلَى مَأْكُولٍ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يُوَكِّلَ بِهِ مَاتَ جُوعًا وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ شِرَائِهِ قُلْنَا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّا يُعْرَفُ بِالْجَسِّ أَوْ الذَّوْقِ فَهُوَ كَالْبَصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُعْرَفُ صِفَتُهُ بِالْجَسِّ كَمَا تُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ فَالْمَسُّ فِيهِ كَالرُّؤْيَةِ مِنْ الْبَصِيرِ حَتَّى لَوْ لَمَسَهُ، وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ كَالْعَقَارَاتِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ لَهُ بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَصْفِ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِع كَمَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ الْعَيْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَإِنْ كَانَ بِالرُّؤْيَةِ أَتَمُّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ تُعَادُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ بَصِيرًا رَأَى فَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ وَجُعِلَ هَذَا كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ الْأَخْرَسِ فَإِنَّهُ يُقَامُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِي التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يُوَكِّلُ بَصِيرًا بِالْقَبْضِ حَتَّى يَرَى الْبَصِيرُ فَيَقْبِضَ وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ عِنْدَهُ يُجْعَلُ فِي الرُّؤْيَةِ كَالْمُوَكِّلِ، وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَمَسُّ الْحِيطَانَ وَالْأَشْجَارَ فَإِذَا قَالَ رَضِيتُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى إذَا كَانَ ذَكِيًّا يَقِفُ عَلَى مَقْصُودِهِ فِي ذَلِكَ بِالْمَسِّ، وَحُكِيَ أَنَّ أَعْمَى اشْتَرَى أَرْضًا فَقَالَ قِيدُونِي فَقَادُوهُ إلَيْهَا فَجَعَلَ يَمَسُّ الْأَرْضَ حَتَّى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَقَالَ أَمَوْضِعُ كُدْسٍ هَذَا؟ فَقَالُوا لَا، فَقَالَ هَذِهِ الْأَرْضُ لَا تَصْلُحُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكْسُو نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَكْسُونِي فَكَانَ كَمَا قَالَ فَإِذَا كَانَ الْأَعْمَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَرَضِيَ بِهَا بَعْدَمَا مَسَّهَا سَقَطَ خِيَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْمُرَابَحَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ تَنْفِي عَنْهُ كُلَّ تُهْمَةٍ وَجِنَايَةٍ، وَيُتَحَرَّزُ فِيهِ مِنْ كُلِّ كَذِبٍ وَفِي مَعَارِيضِ الْكَلَامِ شُبْهَةٌ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ ثُمَّ الْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِخْبَارَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّمَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مِنْ الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُخْبِرِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ، وَذَلِكَ جِنَايَةٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُؤَجَّلَ نَقَصَ فِي الْمَالِيَّةِ مِنْ الْحَالِّ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الشَّرْعُ النِّسَاءَ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لِلْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ حُكْمًا فَإِذَا بَاعَهُ وَكَتَمَ ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ بِالتَّدْلِيسِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْبَائِعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا الْتَزَمَ رِبْحًا بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ بِكَذَا مِنْ الثَّمَنِ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِالنَّسِيئَةِ لَمْ يَرْغَبْ فِي شِرَائِهِ بِالنَّقْدِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ فَضْلًا مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ عَلَى ذَلِكَ رِبْحًا فَلِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ أَثْبَتْنَا لَهُ الْخِيَارَ، كَمَا إذَا وَجَدَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ دُونَ مَا شَرَطَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ فَالْمَبِيعُ لَهُ لَازِمٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ. وَمُجَرَّدُ الْخِيَارِ إذَا سَقَطَ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِسَبَبِهِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ جَوَّزَ فَسْخَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ التَّحَالُفِ عَلَى الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَجَعَلَ رَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ كَرَدِّ الْعَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الثَّمَنِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالْمُسْتَحَقُّ لِلْمُشْتَرِي هُنَاكَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ وَهُنَا الثَّابِتُ لَهُ مُجَرَّدُ الْخِيَارِ وَالْخِيَارُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمَبِيعَ سَلِمَ لَهُ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا، وَإِنَّمَا كَانَ مُعْتَادًا كَمَا هُوَ الرَّسْمُ بَيْنَ الْبَاعَةِ أَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 يُودِيَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مُنَجَّمًا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ نَجْمًا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْفَصْلِ قَالَ: بَعْضُهُمْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ وَبِأَنْ سَامَحَهُ الْبَائِعُ وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِنْهُ مُنَجَّمًا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ، وَلَوْ كَانَ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَعَارَفًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَرَثَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تُسْتَحَقُّ بِالْعُرْفِ وَتُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ فَهَذَا قِيَاسُهُ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى خَادِمًا فَاعْوَرَّتْ أَوْ ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا فَأَصَابَهُ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَيِّنْ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِمَا سَمَّى مِنْ الْبَدَلِ لَمْ يَلْزَمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ رِبْحًا مَا لَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَمَا تَعَيَّبَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ لِلْأَوْصَافِ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةً وَأَنَّ التَّعَيُّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبِصُنْعِ الْعِبَادِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ حَابِسٍ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ السِّعْرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ إذَا فَاتَ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، أَرَأَيْتَ لَوْ اصْفَرَّ الثَّوْبُ أَوْ تَوَسَّخَ أَوْ نُكِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ ذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا إذَا نَقَصَهُ الْعَيْبُ شَيْئًا يَسِيرًا، فَإِنْ نَقَصَهُ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هَدَرًا، وَإِنْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يَتَبَيَّنَ؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ بِمَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ الْعَيْبِ وَمَا يَكُونُ بَيْعًا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ كَانَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةٌ كَالْبَائِعِ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ، وَكَذَلِكَ إنْ عَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ جُنَاةٌ مُوجِبَةٌ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي حَابِسًا بَدَلَ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ إذَا عَلِمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي وَلَا الرُّجُوعُ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ أَصَابَهُ مِنْ عِلَّةِ الدَّابَّةِ أَوْ الدَّارِ أَوْ الْخَادِمِ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْعَيْبِ فَلَا يَكُونُ حَابِسًا شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِهَا وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِهَا مُرَابَحَةً، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِزَاءِ مَا نَالَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 مِنْ الْمَنْفَعَةِ قَالَ: وَإِذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ السَّائِبَةُ أَوْ أَثْمَرَ النَّخِيلُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْأَصْلِ مَعَ الزِّيَادَةِ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْبِسْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ فَهُوَ نُقْصَانٌ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ وَبِإِزَائِهِ مَا يَجْبُرُهُ وَهُوَ الْوَلَدُ وَفِي مِثْلِ هَذَا النُّقْصَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِزَاءِ النُّقْصَانِ مَا يَجْبُرُهُ فَإِذَا كَانَ بِإِزَائِهِ مَا يَجْبُرُهُ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ لَمْ يَبِعْ الْأَصْلَ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا اُسْتُهْلِكَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً بِغَيْرِ بَيَانٍ فَكَذَا إذَا اسْتَهْلَكَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ الْعَيْنِ قَالَ، وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْغَنَمِ وَأَصْوَافُهَا وَسُمُونُهَا إذَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا يَبِيعُ الْأَصْلَ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ مَا أَصَابَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَا أَصَابَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْغَلَّةِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعُيُوبِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مَا يُسَاوِي ذَلِكَ فِي عَلْفِهَا وَمَا يُصْلِحُهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، وَالْغُنْمُ مُقَابَلٌ بِالْغَرَرِ وَلِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُعْتَبَرُ عُرْفُ التُّجَّارِ وَمِنْ عَادَاتِهِمْ إذَا أَنْفَقُوا بِقَدْرِ مَا أَصَابُوا مِنْ الزِّيَادَةِ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ خِيَانَةً فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَإِنْ هَلَكَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً وَلَا يُبَيِّنُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَقَصَتْ الْأُصُولُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَا أَنْفَقَ فِي الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْكِرَاءِ وَيَقُولُ: قَامَ عَلَى كَذَا وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا فَإِنَّهُ كَذِبٌ، وَهَذَا لِأَنَّ عُرْفَ التُّجَّارِ مُعْتَبَرٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَمَا جَرَى الْعُرْفُ بِإِلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهِ وَمَا لَا فَلَا أَوْ يَقُولُ: مَا أَثَّرَ فِي الْمَبِيعِ فَتَزْدَادُ بِهِ مَالِيَّتُهُ صُورَةً أَوْ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يُلْحِقَ مَا أَنْفَقَ فِيهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْقِصَارَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَصْفٌ فِي الْعَيْنِ تَزْدَادُ بِهِ الْمَالِيَّةُ وَالْكِرَاءُ كَذَلِكَ مَعَنَا؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ مَالِهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَنَقْلُهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَا يَكُونُ إلَّا بِكَرًى وَلَكِنَّهُ بَعْدَ إلْحَاقِ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا يَكُونُ كَذِبًا فَإِنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ فَإِذَا قَالَ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا فَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ عَلَيْهِ بِمَا يَغْرَمُ فِيهِ وَقَدْ غَرِمَ فِيهِ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَفَرِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلَا كِرَاءٍ وَلَا مُؤْنَةٍ لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِيهِ ظَاهِرًا وَلِأَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 بِمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا تَزْدَادُ مَالِيَّةُ الْبَيْعِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَهُ أَنْ يُلْحِقَ بِهِمْ طَعَامَهُمْ وَكِسْوَتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَيَّ بِكَذَا لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ إصْلَاحَ مَالِيَّةِ الرَّقِيقِ فَإِنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْإِنْفَاقِ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا فَأَكَلَ نِصْفَهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مُرَابَحَةً عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إذَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ بِحِصَّةِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ عَلَى ذَلِكَ يُبْنَى وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا لَا يَبِيعُ الْبَاقِيَ مِنْهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ الثَّمَنِ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَلَمْ يَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومًا يَقِينًا لِيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهُ أَوْ احْتَرَقَ أَوْ أَحْرَقَهُ إنْسَانٌ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ فَلَا يَبِيعُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَا يَنْقَسِمُ عَلَى ذُرْعَانِ الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَالذَّرْعُ صِفَةٌ فِي الثَّوْبِ وَانْقِسَامُ الثَّمَنِ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَوْصَافِ فَقَدْ تَتَفَاوَتُ أَطْرَافُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَشْتَرِي ذِرَاعًا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ بِثَمَنٍ لَا يَشْتَرِي بِمِثْلِهِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْقُفْزَانِ مِنْ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَكَذَا الثَّوْبَانِ إذَا اشْتَرَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ اقْتَسَمَا الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى عَدْلَ زُطِّيٍّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ ثَوْبٍ مِنْهَا مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ ضَمَّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ وَبَيْعُهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ مَعَ التَّفَضُّلِ فَيَرْغَبُ الْمُشْتَرِي فِي شِرَاءِ الرَّدِيءِ لِمَا لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ فِي الْجَيِّدِ وَيَرْغَبُ الْبَائِعُ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ لِمَا لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ فِي تَرْوِيجِ الرَّدِيءِ فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لَأَمْسَكَ الْجَيِّدَ وَبَاعَ الرَّدِيءَ مُرَابَحَةً، وَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ أَجْوَدُ مِنْهُ لَمْ يُعْطِهِ رِبْحًا عَنْ مَا سَمَّى فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْعُرْفِ اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ: لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَ فَإِنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مُسَمًّى مَعْلُومٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ يُوجَدُ فِي الْعَقْدَيْنِ أَيْضًا فَقَدْ يُسَامِحُ الْإِنْسَانُ لِمَنْ يُعَامِلُهُ فِي ثَمَنٍ جَيِّدٍ مِنْ التَّرْوِيجِ عَلَيْهِ رَدِيئًا بَعْدَهُ بِثَمَنٍ مِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَبَرُ بِالْعَادَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا بَعْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 لَا يُعْتَبَرُ بِالْعَادَةِ قَالَ، وَإِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ تَمْلِيكٌ بِثَمَنِ مَا مُلِّكَ بِهِ مِنْ رِبْحٍ ضَمَّهُ إلَيْهِ فِي بَيْعِهِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فِي جِنْسِهِ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يَطْرَحَ رِبْحَهُ الْأَوَّلَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ رِبْحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُهُ هِبَةً أَوْ مِيرَاثًا أَوْ وَصِيَّةً فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْآخَرِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ كَذَا هَذَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي يَتَجَدَّدُ لَهُ مِلْكُ غَيْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مُتَجَدِّدًا فَالْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ كَذَلِكَ وَاخْتِلَافُ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَيْنٌ آخَرُ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَقَاسَ بِمَا لَوْ اسْتَفَادَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةً مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي الشِّرَاءِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَفَادَ رِبْحًا قَبْلَ الشِّرَاءِ الثَّانِي وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا اسْتَفَادَ مِنْ الرِّبْحِ إنَّمَا يُؤَكِّدُ حَقَّهُ فِيهِ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَبْلَ شِرَائِهِ كَانَ حَقُّهُ فِيهِ يَعْرِضُ السُّقُوطَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ وَالْمُؤَكَّدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَالْمُوجِبِ فَكَأَنَّهُ اسْتَفَادَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الثَّانِي وَبِهِ فَارَقَ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الْعَيْنِ فَتَأَكَّدَ حَقُّهُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بِالْعَقْدِ الثَّانِي وَلِأَنَّ مَبْنَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى ضَمِّ الْمَعْقُودِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا أَنْفَقَ فِي الْقِصَارَةِ وَالْقَتْلِ وَالْخِيَاطَةِ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ يَضُمُّ بَعْضَ الْعُقُودِ إلَى بَعْضٍ فِيمَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ فَلَأَنْ يَضُمَّ الْمَعْقُودَ إلَى بَعْضٍ فَيَنْظُرُ إلَى حَاصِلِ مَا غَرِمَ فِيهِ فَيَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا رَجَعَ إلَيْهِ وَيَبِيعُ مُرَابَحَةً فِيمَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ مِنْ الثَّمَنِ أَوْلَى فَإِنَّ هَذَا إلَى الِاحْتِيَاطِ أَقْرَبُ وَلَكِنْ ضَمُّ الْعُقُودِ عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِهَا فَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ بِخَيَّاطٍ حَتَّى خَاطَهُ لَمْ يُلْحِقْ بِسَبَبِهِ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً لَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَبَرُّعٌ وَالْآخَرُ تِجَارَةٌ، فَأَمَّا إذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الْعُقُودِ يَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ فَيَنْظُرُ إلَى حَاصِلِ مَا عَزَمَ فِيهِ فَيَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا رَجَعَ إلَيْهِ، وَيَبِيعُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا بَقِيَ إنْ شَاءَ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ غَرِمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي دَفْعَتَيْنِ وَعَادَ إلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ مِثْلَ مَا غَرِمَ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ الْمَالِ لِيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِوَصِيفٍ أَوْ بِدَابَّةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ مَا عَادَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا غَرِمَ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ طَرْحُهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَإِذَا كَانَ مَا عَادَ إلَيْهِ مِنْ عَيْنِ جِنْسِ مَا غَرِمَ فِيهِ لَا يَظْهَرُ رِبْحُهُ فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الثَّانِي وَإِذَا اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَى آخَرَ نِصْفَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً أَوْ وَضِيعَةً أَوْ تَوْلِيَةً فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ مُسَاوَمَةً فَإِنَّ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُشْتَرَى وَالْمَوْهُوبِ وَمِلْكُهُمَا فِي الْعَبْدِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ تَمْلِيكٌ لِمَا مُلِكَ وَالْوَضِيعَةُ بِنُقْصَانِ شَيْءٍ يُسَمَّى عَمَّا مُلِكَتْ بِهِ وَالْمُرَابَحَةُ بِزِيَادَةٍ مَعْدُومَةٍ عَلَى مَا مُلِكَتْ بِهِ وَلِهَذَا اخْتَصَّتْ هَذِهِ الْعُقُودُ بِالْمُشْتَرِي دُونَ الْمَوْهُوبِ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ أَثْلَاثًا فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ الثَّانِي بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَرَى بَعِيرَيْنِ عِنْدَ قَصْدِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلِّنِي أَحَدَهُمَا فَقَالَ هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَالَ: أَمَّا بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا» قَالَ: وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَعْلِيمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ دَرَاهِمَ لَمْ يُلْحِقْهُ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الشِّعْرُ وَالْغِنَاءُ الْعَرَبِيُّ وَأَجْرُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحِسَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِي مَوْضِعٍ بِإِلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى مِنْ الْمُتَعَلِّمِ وَهُوَ الذِّهْنُ وَالذَّكَاءُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمُعَلِّمِ فَلَمْ يَكُنْ مَا أَنْفَقَ مُوجِبًا زِيَادَةً فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَعَلَى هَذَا أَجْرُ الطَّبِيبِ وَالرَّابِصِ وَالْبَيْطَارِ وَالرَّاعِي وَجُعْلُ الْآبِقِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَبَّازِ لَا يَلْحَقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا أَجْرُ سَائِقِ الْغَنَمِ الَّذِي يَسُوقُهَا مِنْ بَلَدٍ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِيهِ وَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكِرَاءِ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ السِّمْسَارِ فَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ بِإِلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ كَأُجْرَةِ الْقَصَّارِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي لَيْسَ نَظِيرُ أُجْرَةِ سَائِقِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الرَّاعِيَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالنَّقْلِ وَلَا يَعْمَلُ الرَّاعِي بَلْ يَحْفَظُ الْغَنَمَ فَهُوَ كَأُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الْغَنَمُ، وَكَذَلِكَ جُعْلُ الْآبِقِ لَيْسَ نَظِيرُ أَجْرِ سَائِقِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ نَادِرٌ وَفِي إلْحَاقِ شَيْءٍ بِرَأْسِ الْمَالِ الْعُرْفُ الظَّاهِرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي النَّادِرِ. قَالَ وَإِذَا بَاعَ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ وَحِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ وَلَوْ كَانَ وِلَايَةُ حَطِّ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُحَطُّ عَنْ الثَّانِي شَيْءٌ بِهَذَا السَّبَبِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ثَبَتَتْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِالْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَذَلِكَ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَالْمَوْلَى، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ بِرٌّ مُبْتَدَأٌ فِي حَقِّ مَنْ حَطَّ عَنْهُ خَاصَّةً وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا عِوَضًا، وَالْمَبِيعُ كُلُّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى مِلْكُهُ مَا بَقِيَ ذَلِكَ الْعَقْدُ وَمَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْمَبِيعِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ عِوَضًا إذْ يَلْتَزِمُ الْعِوَضَ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَالْمُودَعِ يَشْتَرِي الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودِعِ وَهَذَا مِنْ حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْمَبِيعِ فَكَيْفَ يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ. وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ هَالِكًا فِي الْحَالِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ دَبَّرَهَا لَمْ يُثْبِتْ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ الزِّيَادَةُ لَا تَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَوْ ثَبَتَتْ مِنْ وَقْتٍ لَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُسَمَّى فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الزِّيَادَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَطِّ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ إذَا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ فَلَا يَخْرُجُ الْبَعْضُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْفَسْخُ لَا يَكُونُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَعْقُودِ بِهِ وَقَاسَا حَطَّ الْبَعْضِ بِحَطِّ الْجَمِيعِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالشَّفِيعِ، فَكَذَلِكَ حَطُّ الْبَعْضِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] أَيْ مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَحُكْمِ الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ إلَّا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَصِفُ الصَّدَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا مَا تَأَكَّدَ بِالتَّسْمِيَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ بِالنَّصِّ فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ حُكْمُ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا غَيَّرَا الْعَقْدَ بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ لَهُ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَذْكُورِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ لِخِيَارٍ لَهُمَا فَأُسْقِطَ الْخِيَارُ أَوْ بِغَيْرِ الْخِيَارِ فَشَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْخَاسِرَ عَدْلًا بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْعَدْلُ رَابِحًا، وَالرَّابِحُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 بِالْحَطِّ وَهَذَا وَصْفٌ مَشْرُوعٌ فِي الْبُيُوعِ وَالْبُيُوعُ أَنْوَاعٌ مِنْهُ: خَاسِرٌ، وَرَابِحٌ، وَعَدْلٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا تَعْبِيرَهُ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ رَفْعًا وَإِبْقَاءً فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِهِ، فَإِذَا كَانَ بِاتِّفَاقِهِمَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَفِي صِفَتِهِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْعِوَضَ عَنْ مِلْكِهِ قُلْنَا: قِيَامُ الْعَقْدِ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ الْعِوَضِ بِمُقَابَلَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا لَا يَلْتَزِمُ الْعِوَضَ عَمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ أَصْلًا وَمَقْصُودًا فَأَمَّا رِبْحًا فَقَدْ يَلْتَزِمُ الْعِوَضَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ وَالْعِوَضُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَطْرَافَ الْمَبِيعِ يُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ تَبَعًا وَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَلْ الْعِوَضُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ الْعِوَضِ بِمُقَابَلَةِ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ الْحَطُّ بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ لِأَصْلِ الْعَقْدِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ عِوَضًا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ عِوَضًا مِنْ اعْتِبَارِ الْحَالِ ثُمَّ الِاسْتِنَادُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهَا فِي الْحَالِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا حُكْمُ الِاسْتِنَادِ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ وَبِالِاتِّفَاقِ فِي الْبَيْعِ يُشْتَرَطُ الْخِيَارُ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا عِوَضًا، وَهَذَا الِالْتِزَامُ صَحِيحٌ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا كَمَا لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ تَصَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ صَحَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُلْتَزِمُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا عَلَى هَذَا الْحَطِّ إلَّا أَنَّ عَمَلَ الْحَطِّ فِي إخْرَاجِ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فَالشَّرْطُ فِيهِ قِيَامُ الثَّمَنِ لَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ فَثَبَتَ الْحَطُّ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُغَيِّرٌ لِوَصْفِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ بِفَاسِخٍ لِلْعَقْدِ حَتَّى يُقَالَ الْفَسْخُ فِي الثَّمَنِ لَا يَكُونُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَطُّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَالْحَطُّ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ حَطِّ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ مُغَيِّرٌ لِوَصْفِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 فَأَمَّا أَنْ يَفْسُدَ بِهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ أَوْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْعَقْدُ هِبَةً، وَقَدْ كَانَ قَصْدُهُمَا التِّجَارَةَ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ فَأَمَّا حَطُّ الْبَعْضِ لَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَحَقَّقَ بِهِ مَقْصُودُهُمَا وَهُوَ التَّغَيُّرُ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً فَخَانَهُ فِيهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْمَتَاعَ أَوْ بَعْضَهُ فَالثَّمَنُ كُلُّهُ لَازِمٌ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَحُطُّ عَنْهُ الْخِيَانَةَ وَحِصَّتُهَا مِنْ الرِّبْحِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ خَانَ فِي التَّوْلِيَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَحُطُّ عَنْهُ مِقْدَارَ الْخِيَانَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا يَحُطُّ عَنْهُ مِقْدَارَ الْخِيَانَةِ وَحِصَّتَهَا مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ فِي حَقِّ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْرُ الْخِيَانَةِ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي كَمَا فِي الشَّفِيعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا خَانَ الشَّفِيعَ لَا يَثْبُتُ مِقْدَارُ الْخِيَانَةِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي كَمَا فِي الشَّفِيعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الثَّانِيَ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ إلَّا مِقْدَارَ مَا زَادَ فِيهِ مِنْ الرِّبْحِ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْبَعْضُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالْحَطِّ يَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا فِيهِ أَوْلَى وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ فِيهِمَا جَمِيعًا: لَا يَحُطُّ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا عَقْدًا بِاخْتِيَارِهِمَا بِثَمَنٍ سَمَّيَاهُ فَيَنْعَقِدُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ بَاعَاهُ مُسَاوَمَةً، وَهَذَا لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الثَّانِي يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا وَلَا يَتِمُّ رِضَا الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَجِبْ لَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِرِضَا الْمُشْتَرِي هُنَاكَ ثُمَّ حَقُّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَلَا نَعْتَبِرُهُ وَبِالْخِيَانَةِ قَصَدَ تَغَيُّرَهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ وَهُنَا الْبَيْعُ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي تَسْمِيَةِ مَا سُمِّيَ غَيْرُ قَاصِدٍ إبْطَالَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يُدَلِّسُ وَالتَّدْلِيسُ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ كَتَدْلِيسِ الْعُيُوبِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَطِّ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِمِثْلِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي فَكَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَمَا تَمَّ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 أَنَّ التَّوْلِيَةَ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَالْإِقَالَةِ لَمَّا كَانَتْ فَسْخًا عِنْدَ الْأَوَّلِ فَمَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْعَقْدِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الْإِقَالَةِ فَأَمَّا الْمُرَابَحَةُ فَلَيْسَتْ تُبْنَى عَلَى الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْعِيَارُ فِي الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا سَمَّيَا فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ سَبَبٌ مُبْتَدَأٌ بَاشَرَاهُ بِاخْتِيَارِهِمَا فَيَنْعَقِدُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِيهِ يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي التَّوْلِيَةِ إلَى ذِكْرِ الثَّمَنِ وَتَسْمِيَةِ مِقْدَارِ خِيَانَةٍ فِيهِ فَيَكُونُ لَغْوًا أَيْضًا وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَتَعْيِينِ قَدْرِ الرِّبْحِ فَكَانَ انْعِقَادُهَا بِالتَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ فَيَنْعَقِدُ بِجَمِيعِ مَا سَمَّيَا فِيهَا، وَفَرَّقَ آخَرَانِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَانَةِ فِي التَّوْلِيَةِ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ عَنْ مَوْضُوعِ مَا صَرَّحَا بِهِ لَأَنْ يَصِيرَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً لَا تَوْلِيَةً وَقَدْ صَرَّحَا بِالتَّوْلِيَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَفْيًا لِمِقْدَارِ الْخِيَانَةِ،؛ فَأَمَّا فِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ أَثْبَتْنَا جَمِيعَ الْمُسَمَّى لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْعَقْدُ عَنْ مَوْضُوعِ مَا صَرَّحَا بِهِ فَإِنَّمَا صَرَّحَا بِبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ مُرَابَحَةٌ إلَّا أَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَنَّهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ دَلَّسَ بِتَسْمِيَةِ بَعْضِ رِبْحِهِ رَأْسَ الْمَالِ فَكَانَ ذَلِكَ مُثْبِتًا الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا سَقَطَ خِيَارُهُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَنَعَ ذِرَاعًا مُرَابَحَةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى ذَرَعَانِ الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ ثَمَنَ النِّصْفِ مَعْلُومٌ يَقِينًا، وَهَذَا لِأَنَّ النِّصْفَ جُزْءٌ شَائِعٌ فَلَا يَتَفَاوَتُ وَالذِّرَاعُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ فِي الثَّوْبِ قَالَ وَلَوْ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْآخَرَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ أَيَّ النِّصْفَيْنِ شَاءَ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ نِصْفٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ نِصْفٍ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَإِنْ شَاءَ بَاعَ كُلَّهُ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَامَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا بِثَلَثِمِائَةٍ وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ بَيْعٌ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَوَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الثَّمَنِ أَوْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا بَقِيَ لِلْفَرْقِ الَّذِي بَيَّنَّا بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالثَّمَنِ عَرَضًا أَوْ أَعْطَاهُ بِهِ رَهْنًا فَهَلَكَ الرَّهْنُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا لِهَذَا الثَّمَنِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَكَأَنَّهُ قَضَاهُ مُشَاهَدَةً، وَلِأَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا يَمْلِكُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَنَقَدَهَا زُيُوفًا وَتَجَوَّزَ الْبَائِعُ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ جِيَادٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 بِالْجِيَادِ وَبِمَا نَقَدَ مِنْ الزُّيُوفِ صَارَ قَابِضًا لِمَا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ جَوَازِ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ نَقْدٍ فَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ شَهْرًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ النَّقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِالنَّقْدِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ شَهْرًا لَا يَخْرُجُ الثَّمَنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا فَلَمْ يَجْعَلْ تَجَوُّزَ الْبَائِعِ بِالزُّيُوفِ وَتَرْكَهُ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ مُدَّةً بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُغَيِّرًا الْوَصْفَ، وَهُنَا يَتْرُكُ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ زَمَانًا لَا يَلْتَحِقُ شَيْءٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ بِالتَّجَوُّزِ بِالزُّيُوفِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْعَشَرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْوَصْفِ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَصِيرَ الْبَيْعُ مَقْصُودًا فِيمَا هُوَ بَيْعٌ فِيهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ قَالَ: فَإِنْ وَهَبَ الثَّوْبَ الْمُشْتَرِي بِعَشَرَةٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ بِالرُّجُوعِ يَعُودُ الْعَيْنُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْهِبَةِ وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ فَسَادِ بَيْعٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَرَدِّدٌ كَالْإِقَالَةِ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَقَدْ تَمَلَّكَ فِيهِ الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ فَبَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ تَمَّ الْبَيْعُ فِيهِ رَجَعَ إلَيْهِ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ مَا عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّمَا يَبْقَى لَهُ مَا كَانَ لِمُوَرِّثِهِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ مُوَرِّثُهُ بِهِ لَوْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ قَدْ تَحَدَّدَتْ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ هُوَ الَّذِي كَانَ لِمُوَرِّثِهِ، وَأَمَّا فِي الْهِبَةِ فَقَدْ يَثْبُتُ لَهُ مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَكُونُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ أَوْ الْمُكَاتَبَ مِنْ مَوْلَاهُ بِثَمَنٍ قَدْ قَامَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً إلَّا بِاَلَّذِي قَامَ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ عَلَى مَا يَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِهِ فِي مِلْكِهِ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْعَيْنِ وَهُوَ الْمَدْفُوعُ إلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا الرِّبْحُ الَّذِي حَصَلَ لِعَبْدِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَوْلَاهُ، وَمَا حَصَلَ لِمُكَاتَبِهِ مِنْ وَجْهٍ كَانَ لَهُ أَيْضًا فَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْمِلْكِ فِي الْمُكَاتَبِ وَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ لِعَجْزِهِ وَلِأَنَّ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ تَتَمَكَّنُ فَالْإِنْسَانُ يُسَامِحُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ لَهُمَا وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ يَنْفِي عَنْهُ كُلَّ تُهْمَةٍ وَخِيَانَةٍ فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَمَالِيكِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ لِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَالْأَخَوَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: مَا يُحَصِّلُهُ الْمَرْءُ لِهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُحَصِّلُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ صَارُوا فِي حَقِّهِ كَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ وَلِأَنَّ مُسَامَحَةَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مَعَ الْبَعْضِ فِي الْمُعَامَلَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَتَيَقَّنُ بِالِالْتِزَامِ فِيهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُسَامَحَةِ، وَذَلِكَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِثَوْبٍ قَدْ قَامَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ هَذَا الثَّوْبَ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَالْعِوَضُ مَا كَانَ مَذْكُورًا فِيهِ وَلَا مِثْلَ لِلثَّوْبِ مِنْ جِنْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَى بِهِ وَلَا عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ هَذَا الثَّوْبِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَدْلَ زُطِّيٍّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهُ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا تَتَفَاوَتُ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ مَا يُصِيبُهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفَهُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَ لِصَاحِبِهِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً، يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِأَنَّ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ هُوَ النِّصْفُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَرْزِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ لَوْ مَيَّزَا بَعْضَ الثِّيَابِ وَأَرَادَا بَيْعَ ذَلِكَ مُرَابَحَةً عَلَى مَا يَخُصُّهَا مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَمْلِكَا ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِهِ عَيْبٌ قَدْ دُلِّسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِ رَضِيَ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ، وَسَبَبُ الْعَيْنِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ رُؤْيَةٌ فَأُسْقِطَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ مُرَابَحَةً فَخَانَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا أَخَذَهُ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ لَهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ الْخِيَارُ فَقَطْ قَالَ: وَإِذَا وَلَّى رَجُلٌ رَجُلًا بَيْعًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ الْأَوْسَطِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فِيهِ، وَقَدْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ وَتَمَّ لَهُ الْبَيْعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَنَا الشُّبْهَةُ فِي حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّهُ سَمِعَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي الْآخَرَ أَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى فِي التَّوْلِيَةِ مِنْهُ حَتَّى سَمِعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ خَصْمُهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ. مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُوَ مُنَاقِضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا طَرِيقَ لِظُهُورِ ذَلِكَ إلَّا إقْرَارُ الْبَائِعِ الْأَوْسَطِ بِهِ وَمِنْهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 مَنْ يَقُولُ بَلْ دَعْوَى الْخِيَانَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْعَيْبِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْحَطِّ، وَلَوْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْخِيَانَةِ يَرُدُّ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَرِبْحَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَطَّ بَائِعُهُ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ شَرِيكٍ لَهُ شَرِكَةُ عَنَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْأَوَّلِ فِيهِ حِصَّةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حِصَّةَ نَفْسِهِ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِصَّتُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي حِصَّتَهُ فَبَيْعُ كُلِّ حِصَّتِهِ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ خَادِمٌ لِشَرِيكٍ مُفَاوِضٍ لِلْخِدْمَةِ فَاشْتَرَاهَا شَرِيكُهُ مِنْهُ لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِأَحَدِهِمَا خَاصَّةً فَالْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَبِيعُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَابَحَةً إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ صَاحِبِهِ إلَّا عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَتْ الْعَيْنُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا يَشْتَرِي أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ مِنْ صَاحِبِهِ لِلشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شِرَاءٌ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي شَرِكَتِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا، إلَّا أَنَّ الْبَائِعَ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ إنَّمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَهُوَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِخُرُوجِ ذَلِكَ الْقَدْرِ عَنْ مِلْكِهِ قَالَ: عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ قَامَ عَلَيْهِمَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَرَبِحَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي حِصَّتِهِ دِينَارًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَدِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْعَبْدِ بِهَذَا الْقَدْرِ وَفِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَشِرَائِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مَتَاعًا ثُمَّ رَقَمَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَقْمِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا أَخَذْتُهُ بِكَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُولُ رَقْمُهُ بِكَذَا وَأَنَا أَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَعْلَمُ عَادَةَ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يَرْقُمُونَ السِّلَعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرُونَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهَذِهِ خِيَانَةٌ وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ بِهِ إذَا عَلِمَ وَهَذَا مِنْهُ احْتِيَاطٌ، وَقَدْ كَانَ يُبَالِغُ فِي الِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ حَتَّى قَالَ: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَشْتَرِي ذَلِكَ الشَّيْءَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِي بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ غَرِيمِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً سَوَاءٌ أَخَذَهُ بِلَفْظَةِ الشِّرَاءِ أَوْ بِلَفْظَةِ الصُّلْحِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالشِّرَاءِ فَنَقُولُ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ وَمَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالْمُمَاكَسَةِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُ الثَّوْبِ لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَقَوَّمَهُ قِيمَةً ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَخْبَرَ الْمُشْتَرِيَ بِشَيْءٍ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ قِيمَتُهُ كَذَا أَوْ رَقْمُهُ كَذَا وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَارَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا فِيهِ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ جَهْلِهِ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ الْمَتَاعَ بِرِبْحِ ده يازده أَوْ بِرِبْحِ أَحَدَ عَشَرَ فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ عَلِمَ بِالثَّمَنِ قَبْلَ عَقْدِهِ الْبَيْعَ وَلَيْسَ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الثَّمَنِ وَرِبْحَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالثَّمَنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِيَكْشِفَ الْحَالَ لَهُ حِينَ يَعْلَمُ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ لَهُ بِرَقْمِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ بِالرَّقْمِ لِمَا بَيَّنَّا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهُ بِوَضِيعَةِ ده يازده عَنْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَلَوْ بَاعَهُ بِرِبْحِ ده يازده كَانَ الرِّبْحُ دِرْهَمًا ثُمَّ إذَا بَاعَهُ بِوَضِيعَةٍ ده يازده لَمْ يَجْعَلْ الْوَضِيعَةَ دِرْهَمًا فَفِي الْحَقِيقَةِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُ بِرِبْحِ ده يازده كَانَ الثَّمَنُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَالرِّبْحِ جُزْءٌ مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَضْرِبَ الْعَشَرَةَ فِي إحْدَى عَشَرَ فَتَكُونُ مِائَةً وَعَشَرَةً فَمِقْدَارُ الْوَضِيعَةِ جُزْءًا مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ يَبْقَى مِائَةُ جُزْءٍ وَكُلُّ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا دِرْهَمٌ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى آخَرُ ثَوْبًا بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَاهُمَا بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ مُرَابَحَةً وَمُوَاضَعَةً فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَالَ: وَلَوْ وَلَّى الْمُشْتَرِي رَجُلًا ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَحُطُّ عَنْ الْآخَرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حَطَّ الْكُلِّ مُبْتَدَأُ غَيْرِهِ مُلْتَحِقٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْعُيُوبِ فِي الْبُيُوعِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا بَرِئَ الْبَائِعُ إلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ عَقْدِهِ الْبَيْعَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْعُيُوبَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: شَرْطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ الْمَجْهُولَةِ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 عَيْبًا فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَفِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَهُ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَاحْتَجَّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا بَيْعُ غَرَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَمْنَعُ مُوجِبَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُعَاوَضَةِ اسْتِحْقَاقُ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَهَذَا الشَّرْطُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ شَرْطٍ يَمْنَعُ الْمِلْكَ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْبَيْعُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدِينَ وَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْمَجْهُولِ بِالْبَيْعِ لَا يَصِحُّ كَبَيْعِ ثَوْبٍ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى الْعَيْبَ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ مَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ الْعَيْبِ مَعْلُومٌ، وَمَا لَا يُمْكِنُ إعْلَامُهُ نَحْوَ عَوْدِ الْجِرَاحَةِ أَوْ يَلْحَقُ الْجُرْحَ بِإِعْلَامِهِ نَحْوَ مَا يَكُونُ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ لِلتَّعَذُّرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَغَيْرِ الْمُسَمَّى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَرَضَ عَلَى إنْسَانٍ وَقَالَ: اشْتَرِهِ فَإِنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ بَائِعَهُ وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ اشْتَرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآبِقٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبَ الْإِبَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ بَائِعَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْتَاعَ مَمْلُوكًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ثُمَّ طَعَنَ فِيهِ بِعَيْبٍ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَحَلَّفَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ أَعْلَمُهُ وَكَتَمْتُهُ فَنَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الشَّرْطِ فَيُسْتَدَلُّ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» عَلَى صِحَّةِ الشَّرْطِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ فَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ لَنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَالِحَ بَنِي جَذِيمَةَ فَوَادَاهُمْ حَتَّى مِيلَغَةِ الْكَلْبِ وَبَقِيَ فِي يَدَيْهِ مَالٌ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسُرَّ» فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا إسْقَاطُ حَقٍّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَيَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ نَفْسَ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ وَلَكِنْ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمْلِيكَيْنِ يَصِحُّ فِي هَذَا وَهَذَا أَضْيَقُ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ ثُمَّ الْجَهَالَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ كَجَهَالَةِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ أَوْلَى فَالسُّقُوطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْجَهَالَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ أَوْلَى وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ دَاخِلٌ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفٍ آخَرَ هُوَ يَمِينٌ. وَالْجَهَالَةُ تَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ الْجَهَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَتَعَذَّرُ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ هَذَا الشَّرْطُ ثَبَتَ جَوَازُ الْعَقْدِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُقْتَضَى الْعَقْدِ اللُّزُومُ، وَالْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ يَلْزَمُ سَلِيمًا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ مَعِيبًا ثُمَّ الْبَائِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ وَإِذَا كَانَ مَعِيبًا فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ سَلِيمًا وَعِنْدَ هَذَا الشَّرْطِ يَلْتَزِمُ التَّسْلِيمَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَبِيعُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ لَا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَسَادَ الْعَقْدِ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ جَهَالَةٌ فِي الْمَبِيعِ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ مَعْلُومٌ بِالْإِشَارَةِ إلَى عَيْنِهِ وَإِلَى مَكَانِهِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْإِقْرَارَ بِالْعُيُوبِ بِهِ فَلَا يَجْتَمِعُ كُلُّ عَيْبٍ فِي عَيْبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ الْتِزَامَ الْبَيْعِ وَالْتِزَامَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُشْتَرِيَ بِقَوْلِهِ لَا عَيْبَ بِهِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِإِسْقَاطِ الْعُيُوبِ عَنْهُ بَلْ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَيْسَ بِآبِقٍ فَفِي تَخْصِيصِهِ هَذَا الْعَيْبَ بِالذِّكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ هَذَا الْعَيْبِ عَنْهُ وَلَئِنْ تَمَكَّنَتْ جَهَالَةٌ فِي وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِهَذَا الشَّرْطِ فَهِيَ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ كَجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْعَيْبِ الْمُسَمَّى وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْعَيْبِ مَعَ التَّسْمِيَةِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ جَرَتْ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَجْلِسِ الدَّوَانِيقِيِّ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ عَبْدًا بِرَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَلْزَمُهَا أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ فَإِذَا عَرَفْنَا جَوَازَ الْعَقْدِ لِهَذَا الشَّرْطِ قُلْنَا: تَدْخُلُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ مَوْجُودٍ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ حَدَثَ بَيْعُ عَيْبٍ آخَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا تَدْخُلُ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي أَيَحْدُثُ أَمْ لَا وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَحْدُثُ وَلَوْ صَرَّحَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَلَوْ دَخَلَ فِي هَذَا الشَّرْطِ لَفَسَدَ الْعَقْدُ بِهِ أَيْضًا فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فِي دُخُولِهِ فِي شَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ إثْبَاتُ صِفَةِ اللُّزُومِ لِلْعَقْدِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا نَصَّ عَلَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُقِيمُ السَّبَبَ وَهُوَ الْعَقْدُ مَقَامَ نَفْسِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ هُنَا: ظَاهِرُ لَفْظِهِ يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ الْمَوْجُودَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَحْدُثُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَقْرِيرِ مَقْصُودِهِمَا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي التَّصَرُّفِ تَبَعَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِذَلِكَ التَّصَرُّفِ كَالشُّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولَاتِ فِي وَقْفِ الْقُرْبَةِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ فَهَذَا يُفْسِدُ الْعَيْبَ الْمَوْجُودَ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْبٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَالَ الْبَائِعُ بَلْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَسْقِطُ لِحَقِّهِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مَا أَسْقَطَ قَوْلُهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ مُطْلَقًا فَالْمُشْتَرِي إذَا ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي دَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِبْرَاءِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي دُخُولَهُ فِي الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقَطَ هُنَا مَا ظَهَرَ إلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي فِي عَيْبٍ عَيَّنَهُ أَنَّهُ مَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْإِيجَابِ الْمُقَيَّدِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ كَمَا فِي الْبَرَاءَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ قَالَ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فِي خَادِمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِغَيْرِ بَرَاءَةٍ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ كُلِّ عَيْبٍ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ رَاضِيًا بِعَيْبٍ فِيهَا بَعْدَ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِبَاقِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا فَوَجَدَهَا آبِقَةً فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مَذْكُورٌ فِي الْبَرَاءَةِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْ الشَّاهِدِ وَلَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ تَبَرَّأَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 مِنْ إبَاقِهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ فَوَجَدَهَا آبِقَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ هُنَا مُضَافٌ إلَيْهَا بِحَرْفِ الْكِتَابَةِ وَتَخْصِيصُهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُيُوبِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهَا يَكُونُ إخْبَارٌ بِوُجُودِهِ فِيهَا فَالشَّاهِدُ أَقْدَمَ عَلَى شِرَائِهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَتَبَرَّأْ الْبَائِعُ مِنْ عُيُوبِهَا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ - عِنْدَنَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا - عِنْدَمَا اشْتَرَاهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَتْ بِكْرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ وَلَا يَغْرَمُ لِلْوَطْءِ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَيَرُدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا، وَعُقْرُهَا عُشْرُ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا إنَّ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهَا كَمَا قَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا كَمَا قَبْلَ الْوَطْءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الثَّيِّبِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي عَيْنِهَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى مِنْهَا مَحْضَ مَنْفَعَةٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَخْدَمَهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الِاسْتِخْدَامَ يَعِيبُهَا وَالْوَطْءُ يَمْنَعُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَالْوَطْءُ هُنَاكَ يُفَوِّتُ جُزْءًا مِنْهَا فَإِنَّ صِفَةَ الْبَكَارَةِ فِي الْجَارِيَةِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنٍ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَلِهَذَا اُسْتُحِقَّ بِالْبَيْعِ شَرْطًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَمَا وَطِئَ الْبِكْرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَفِي الثَّيِّبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا بِعَيْبِ النِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْبَائِعُ إذَا وَطِئَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يُسْقِطْ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا وَبِهَذِهِ الْفُصُولُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الثَّيِّبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِخْدَامِ، وَكَمَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَالْإِجْبَارُ عَلَى الْخِدْمَةِ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ نِسْبَةَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا يَرُدُّهَا بَعْدَ الْوَطْءِ، وَقَالَ عُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا عُشْرَ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَنِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا فَمَنْ قَالَ يَرُدُّهَا وَلَا يَرُدُّ مَعَهَا شَيْئًا فَقَدْ خَالَفَ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ وَزَيْدٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا جَنَى عَلَيْهَا ثُمَّ عَلِمَ بِعَيْبٍ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا الْأَرْشَ فَفِي الْوَطْءِ أَجَابَا نَحْوَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولَانِ: لَا يَرُدُّهَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوَطْءِ وَبِالْإِجْمَاعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ الْجِنَايَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَطْءَ يَسْلُكُ فِيهِ مَسْلَكَ الْجِنَايَةِ فَيَمْنَعُ الرَّدَّ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ هَذَا الْوَصْفِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كَمَا بَيَّنَّا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ إلَّا مُؤَبَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِيفَاءَهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْبَدَلِ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْمَصُونُ مِنْ الْآدَمِيِّ نَفْسُهُ وَأَجْزَاؤُهُ لَا مَنَافِعُهُ، وَالْمَنْفَعَةُ تَتَبَدَّلُ مِنْ الْآدَمِيِّ كَمَا تَتَبَدَّلُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَاسْتِيفَاؤُهُ كَاسْتِيفَاءِ جُزْئِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا تَقَرَّرَ مَا قُلْنَا أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ لِأَجْلِ الْوَطْءِ لَكَانَ إذَا رَدَّهَا وَيَفْسَخُ الْعَقْدَ مِنْ الْأَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ قُلْنَا: لَا يَرُدُّهَا وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ تَنَاوُلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ، وَبِهَذَا فَارَقَ حُكْمَ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِالْبَيْعِ مُرَابَحَةً أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ أَيْضًا، وَلَكِنْ هُوَ جُزْءٌ وَهُوَ ثَمَرَةٌ لِمَا لَمْ يُتَمَكَّنْ بِهِ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ لَبَنَ الشَّاةِ وَأَعْلَفَهَا بِقَدْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً. وَهَذَا بِخِلَافِ وَطْءِ الزَّوْجِ إيَّاهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ وَإِيجَابِهِ لَهُ بِالنِّكَاحِ فَيُجْعَلُ كَفِعْلِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّهُ بِالنِّكَاحِ يُوجِبُ الْوَطْءَ لِلزَّوْجِ لَا صِفَةَ الْبَكَارَةِ، فَيَصِيرُ أَصْلُ الْوَقْتِ مُضَافًا إلَى الْبَائِعِ وَلَكِنْ بِزَوَالِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ لَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْبَائِعِ فَكَأَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ أَوْ بِصُنْعِ إنْسَانٍ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَشَبَةٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّهَا وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَسُقُوطُ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ دُونَ الْوَطْءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ هُوَ ثَمَرَةٌ كَمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي كَتَنَاوُلِ الثِّمَارِ وَاللَّبَنِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ وَهَذَا الْجُزْءُ لَيْسَ بِمَالٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 مُتَقَوِّمٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ثُمَّ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ وَفِي حُكْمِ الْوَطْءِ إنَّمَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ فَإِنَّ الْوَطْءَ تَصَرُّفٌ، وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَلِهَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ اسْتِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا لَمْ يُوجَبْ الْعَقْدُ عَلَى الْبَائِعِ إذَا وَطِئَهَا وَسَنُقَرِّرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ الْكَلَامَ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ فَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ يَتَبَدَّلُ وَيَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا فِي عَيْنِ الْمِلْكِ وَاسْتِيفَاؤُهَا بِخُلُوٍّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِالرَّدِّ أَنَّهُ اسْتَخْدَمَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِسَبَبِ الِاسْتِخْدَامِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْفَائِتَ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ فَيَرُدُّ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْمَنْعِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يُقَوِّمَهَا وَبِهَا الْعَيْبُ وَيُقَوِّمَهَا وَلَا عَيْبَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ الْعُشْرَ رَجَعَ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفَ الْعُشْرِ رَجَعَ بِنِصْفِ عُشْرِ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: رُدَّهَا عَلَيَّ فَأَنَا أَرْضَى بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرَّدِّ حَقُّهُ وَقَدْ زَالَ حِينَ رَضِيَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَطَأْهَا وَلَكِنْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَرُدَّهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا نُقْصَانَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ فِيهِ بِالْبَائِعِ وَبَعْدَمَا تَعَيَّبَ عِنْدَهُ لَوْ رَدَّهَا كَانَ فِي ذَلِكَ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبَائِعِ، وَلَا يُقَالُ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ دَلَّسَ لَهُ الْعَيْبَ وَالْمُشْتَرِي صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ يَنْظُرُ لَهُمَا جَمِيعًا وَالضَّرَرُ عَنْ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ إذَا أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ فَذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ الرَّدِّ كَمَا قَبَضَ لَا لِتَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْبَائِعُ وَلَوْ رَدَّهُ تَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِتَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ رَدُّهَا عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَإِذَا لَمْ يَرُدَّهَا رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِأَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرَّدِّ حَقُّ الْبَائِعِ وَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ قَالَ، فَإِنْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا رَأَى الْعَيْبَ بِهَا وَقَدْ وَطِئَهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 أَوْ تَعَيَّبَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ عَيْبِهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ أَنَا أَقْبَلُهَا فَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِبَيْعِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذَا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجُوزُ رَدُّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ فَإِذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ عَيْبِهَا وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ فَبَيْعُهُ إيَّاهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ هُنَا بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ دُونَ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِبَيْعِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا فَكَأَنَّهُ حَبَسَهَا عِنْدَهُ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ حَتَّى رَأَى بِهِ الْعَيْبَ ثُمَّ بَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ يَجُوزُ رَدُّهُ إذَا رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِبَيْعِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ، وَلَوْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ ثُمَّ رَأَى بِهِ الْعَيْبَ فَبَاعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ مُتَعَذَّرًا قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ بِصِفَةِ الْخِيَاطَةِ الَّتِي أَحَدَثَ الْمُشْتَرِي فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَبَاعَهُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ مُتَعَذَّرًا قَبْلَ الْبَيْعِ لِلزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي الثَّوْبِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -؛ لِأَنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ نُقْصَانٌ كَالْقَطْعِ فَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِبَيْعِهِ إيَّاهُ فَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ قَالَ: وَلَوْ وَطِئَهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي بِزِنًا لَمْ يَرُدَّهَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ لِحُدُوثِ الْعَيْبِ بِهَا عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَالزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ رُدَّهَا عَلَيَّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَيْهَا أَجْنَبِيٌّ فَالْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْأَرْشَ وَالْأَرْشُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ حُكْمًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الزِّنَا فَلَا يُوجِبُ إلَّا الْحَدَّ وَوَازَنَ الْأَرْشُ النِّكَاحَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ لِمَكَانِ الْمَهْرِ الَّذِي وَجَبَ بِالنِّكَاحِ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ لَمْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ تَعَذَّرَ فَيَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِرَدِّ حِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَكُلُّ عَيْبٍ وَجَدَهُ الْمُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ فَعَرَضَهَا بَعْدَمَا رَآهُ عَلَى بَيْعٍ أَوْ وَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ كَاتَبَهَا فَذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ عَيْبِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُهَا عَلَى الْبَيْعِ لِحَاجَتِهِ إلَى ثَمَنِهَا، وَذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 الثَّمَنِ الْمَدْفُوعِ إلَى الْبَائِعِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَأَمَّا الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْمُتَقَرِّرِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَلَوْ وَجَدَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ امْتَنَعَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ، كَانَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ رِضًا فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لَمْ يَصِرْ هُوَ رَاضِيًا بِالْعَيْبِ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَصِيرُ هُوَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ رَاضِيًا بِالْعَيْبِ وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ فَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ هَذَا التَّصَرُّفَ لِلْغَيْرِ فِيهَا حَقًّا لَازِمًا. وَذَلِكَ يُعْجِزُهُ عَنْ رَدِّهَا فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالْكِتَابَةُ تُوجِبُ لَهَا حَقًّا لَازِمًا فِي نَفْسِهَا، وَذَلِكَ يُعْجِزُهُ عَنْ رَدِّهَا فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَدَلِيلُ الرِّضَا فِيمَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ كَصَرِيحِ الرِّضَا قَالَ: وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ كَانَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ رِضًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهَا لِمِلْكِهِ فِيهَا فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَقَدْ يَسْتَخْدِمُ الْإِنْسَانُ مِلْكَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهَا لِلِاخْتِبَارِ أَنَّهَا مَعَ هَذَا الْعَيْبِ هَلْ تَصْلُحُ لِخِدْمَتِهِ أَمْ لَا فَكَانَ ذَلِكَ اخْتِبَارًا لَا اخْتِيَارًا وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَهُوَ رِضًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَقَلَّمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلَ الرِّضَا فَيَتَقَرَّرُ مِلْكُهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا، غَيْرَ أَنِّي أَسْتَحْسِنُ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَعْلِفَهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَرُدَّهَا أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا رِضًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي رَدِّهَا إلَى سَوْقِهَا، وَرُبَّمَا لَا تَنْقَادُ لَهُ مَا لَمْ يَرْكَبْهَا، وَكَذَلِكَ فِي سَقْيِهَا وَعَلْفِهَا فَالرُّكُوبُ لِأَجْلِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا دَلِيلُ الرِّضَا أَنْ يَرْكَبَهَا فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ يُسَافِرَ عَلَيْهَا قَالَ: وَإِذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَوْ وَطِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا وَكَتَمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ مَا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا أَوْ يُؤْثِرُ نُقْصَانًا فِي الْمَالِيَّةِ وَصِفَةُ الثُّيُوبَةِ لَا يَعُدُّهَا التُّجَّارُ عَيْبًا فَالْجَوَارِي عَلَيْهَا فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِنَّ وَالْبَكَارَةُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ وَالْوِلَادَةُ كَذَلِكَ، فَالنُّقْصَانُ الْمُمْكِنُ فِيهَا بِسَبَبِهَا يَزُولُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَبَعْدَ زَوَالِهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ فَلَا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا وَفِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَقُولُ الْجَارِيَةُ إذَا وَلَدَتْ فَهَذَا فِيهَا عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ كَسْرٌ لَا يَرْتَفِعُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي عُكَنِ بَطْنِهَا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بَعْدَمَا وَطِئَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ نَقَصَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ عُرْفُ التُّجَّارِ، وَهُمْ لَا يَعُدُّونَ هَذَا مِنْ الْخِيَانَةِ وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ لَيْسَ بِمَالٍ وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ يُلَاقِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 مَالِيَّتَهَا فَاسْتِيفَاءُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْهَا إذَا كَانَ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي مَالِيَّتِهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُؤْثَرُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهَا وَالنُّقْصَانُ فِيهَا إذَا كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ وَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِبُطْلَانِ مِلْكِهِ فِيهَا وَخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ كَمَا لَوْ قَبِلَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اكْتَسَبَ سَبَبًا يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ فِيهِ كَانَ حَابِسًا لَهَا حُكْمًا فَكَأَنَّهَا فِي يَدِهِ يَحْبِسُهَا وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ عَيْبِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَقَرَّرَ فِيهَا بِمَا صَنَعَ، أَمَّا التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ فَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَلَكِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلَّ النَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَهُوَ مِنْهُ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْآدَمِيِّ إلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَالشَّيْءُ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ وَالْمُنْتَهِي مُتَقَرِّرٌ فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ، وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ فَمَتَى تَعَذَّرَ الرَّدُّ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ تَنْتَهِي مُدَّةُ حَيَاتِهِ وَالْمِلْكُ فِيهَا لِاعْتِبَارِهَا فَكَذَلِكَ بِالْعِتْقِ يَنْتَهِي الرِّقُّ وَالْمَالِيَّةُ فِيهَا بِاعْتِبَارِهَا، وَأَمَّا إذَا قَتَلَهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ بِأَجَلٍ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ الْقَتْلِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مَضْمُونٌ لَوْ بَاشَرَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ هُنَا لِمِلْكِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى عِوَضٍ سُلِّمَ لَهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفُذُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَإِنْ نَفَذَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ مُطْلَقًا حَتَّى إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَهُوَ لَمْ يَسْتَفِدْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ مَضْمُونٌ فِيهَا، أَمَّا إذَا بَاعَهَا ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فِيهَا لَمْ يَرْجِعْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَاصَمَ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي عَيْبِ مِلْكِ الْغَيْرِ؛ وَلِأَنَّهُ نَالَ الْعِوَضَ حَيْثُ بَاعَهَا بِصِفَةِ السَّلَامَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ فِعْلٌ مُضَمَّنٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِيهَا بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ قَاطِعًا مِلْكَهُ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ جِهَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 الْبَائِعِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ ثُمَّ هَذَا فِعْلٌ مَضْمُونٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِيهَا قَالَ: وَلَوْ بَاعَ مِنْهَا بَعْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ نُقْصَانَ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ مَا بَقِيَ وَلَكِنَّهُ مَعِيبٌ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ وَلَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ بِعَيْبٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا مَعِيبَةً، فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ غَيْرُ مَعِيبٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ عَيْبُ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ وَسَبَبُ هَذَا كَانَ بَيْعَ النِّصْفِ وَمَتَى كَانَ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الْبَيْعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ نُقْصَانِ الْعَيْبِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْكُلَّ وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ إذَا لَمْ يَبِعْ، وَلَوْ كَاتَبَهَا فَالْكِتَابَةُ نَظِيرُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ لَهَا حَقًّا بِعِوَضٍ يَسْتَوْجِبُهُ الْمَوْلَى عَلَيْهَا فَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا بِمَالٍ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِعِوَضٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْهُ لِلرِّقِّ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ فِي الْوَضْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَرْجِعْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ الْقَاتِلِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ سُلِّمَ لَهُ بِالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ثَوْبًا فَأَحْرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي الْعِوَضَ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَحْرَقَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ. قَالَ: وَلَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ أَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُشْتَرَى لِأَجْلِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ بِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فِي الْمَبِيعِ فَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ كَالْإِحْرَاقِ وَالْقَتْلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللُّبْسَ وَالْأَكْلَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ سُلِّمَ إلَيْهِ وَكَمَا أَنَّ الْأَكْلَ وَاللُّبْسَ مَقْصُودَانِ بِالشِّرَاءِ فَالْبَيْعُ مَقْصُودٌ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِسَلَامَةِ الْعِوَضِ لَهُ فَكَذَلِكَ الْأَكْلُ، وَإِنْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْبَعْضَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي الْحُكْمِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 فَلَا يَرُدُّ بَعْضَهُ بِالْعَيْبِ دُونَ الْبَعْضِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ فِيمَا إذَا أَكَلَ الْبَعْضَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ يُرَدُّ بَعْضُهُ بِالْعَيْبِ وَأَكْلَ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فَأَكْلُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّدِّ كَمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَهُ وَبَعْدَ بَيْعِ الْبَعْضِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ أَيْضًا فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبَيْعُ الْبَعْضِ فِيهِ كَبَيْعِ الْكُلِّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا إذَا بَاعَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ قَالَ وَإِذَا طَحَنَ الْحِنْطَةَ أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ ثُمَّ عَلِمَ بِعَيْبٍ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ لَهُ بِالشِّرَاءِ بَاقٍ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ لِمَكَانِ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ إذَا قَطَعَهُ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ أَوْ مِصْرَاعَيْ بَابٍ فَوَجَدَ فِي أَحَدِهِمَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا فِي الصُّورَةِ شَيْئَانِ وَفِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَعْنَى كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ الْمَقْصُودُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْأُخْرَى وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَعْنَى وَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وُجُودُ الْعَيْبِ بِجُزْءٍ مِنْهُ مُمْكِنٌ مِنْ رَدِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لَعَادَ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْبٍ حَادِثٍ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَ الَّذِي لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً إذَا بَاعَ بَعْضَهُ، أَمَّا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ زُفَرُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وَضَمُّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَوْ رَدَّ الْمَعِيبَ تَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ ثُمَّ عِلَّةُ الرَّدِّ الْعَيْبُ وَذَلِكَ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْعِلَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لَنْ يَتَخَيَّرَ فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْعَيْبُ فِي أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ النَّعْلَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 فَهُنَاكَ لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ انْتِفَاعًا وَبِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِالْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لَا يَجُوزُ ثُمَّ إنْ تَضَرَّرَ الْبَائِعُ هُنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُهُ زُفَرُ فَكَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ تَدْلِيسِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِتَرَاضِيهِمَا وَالْإِقَالَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ مُبْتَدَإٍ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يُخَاصِمُهُ فِي عَيْنِهِ قَالَ وَلَوْ قَبِلَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ أَوْ بِإِبَاءِ الْيَمِينِ أَوْ بِإِقْرَارٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ بَاعَهُ وَالْعَيْبَ بِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ إنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْعَيْبِ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا اسْتَحْلَفَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ بِسَبَبٍ دُونَ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ فَيَعُودُ إلَيْهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَهُوَ عَلَى خُصُومَتِهِ فِي الْعَيْبِ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ. قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ عَبْدًا وَلَهُ امْرَأَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ جَمِيعًا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ الِاسْتِفْرَاشُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَخْتَلُّ إذَا ظَهَرَ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ وَفِي الْعَبْدِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَذَلِكَ يَنْقُصُ مِنْ مَالِيَّتِهِ فَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ عَيْبًا فِيهِمَا جَمِيعًا. وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً أَوْ بَقَرَةً فَحَلَبَهَا وَشَرِبَ اللَّبَنَ ثُمَّ عَلِمَ بِعَيْبِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ نَوْعَانِ: مُتَّصِلَةٌ: وَمُنْفَصِلَةٌ وَالْمُتَّصِلَةُ نَوْعَانِ: زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ فِي السَّوِيقِ وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِالِاتِّفَاقِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي مَالِيَّةِ الزِّيَادَةِ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الَّتِي هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ مِنْ الْعَيْنِ، وَثِيَابٌ لِلُّبْسِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ انْقِسَامِ الثَّمَنِ بِسَبَبِهَا وَقِيلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَمْنَعُ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَهِيَ نَوْعَانِ: عَيْنٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ فَلَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ثُمَّ الْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَسَلَامَةُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُشْتَرِي لَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ سَلَامَةُ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الَّتِي هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَاللَّبَنِ وَالثِّمَارِ وَالْوَلَدِ، الْعَقْدُ إذَا وُطِئَتْ الْجَارِيَةُ بِالشُّبْهَةِ وَالْأَرْشُ إذَا جَنَى عَلَيْهَا بَعْدَمَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَهُوَ يَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَمْنَعُ وَلَكِنْ يُرَدُّ الْأَصْلُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَالزِّيَادَةُ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ تُمَلَّكُ بِسَبَبِ مِلْكِ الْأَصْلِ فَلَا يُمْنَعُ رَدُّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَهْلَكَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلَوْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً لَقَابَلَهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي مَعَ الْأَصْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِعَيْبٍ إذَا وُجِدَ بِهَا فَلَوْ صَارَتْ مَبِيعَةً لَثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَجُوزُ فَسْخُ سَبَبِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الزِّيَادَةِ سَالِمَةً لِلْمُتَمَلِّكِ كَالْمَوْهُوبَةِ إذَا زَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا تَبْقَى الزِّيَادَةُ سَالِمَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ تَمَلُّكَ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَمَلُّكُ مَبِيعٍ فَلَوْ رَدَّ الْأَصْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ مَبِيعًا بِلَا ثَمَنٍ وَذَلِكَ رِبًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِمِلْكِ الزِّيَادَةِ سِوَى التَّوَلُّدِ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَسْرِي إلَيْهَا الْمِلْكُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ وَمِلْكُهُ فِي الْأَصْلِ مِلْكٌ مَبِيعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَمَا ثَبَتَ فَهُوَ بَاقٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَنْفِيٍّ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ ذَلِكَ الْمِلْكِ التَّصَرُّفُ فِي الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْأَصْلِ مِلْكٌ مَبِيعٌ فَذَلِكَ الْمِلْكُ يَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ عَيْنِ الشَّيْءِ يَكُونُ بِصِفَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ وَوَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ يَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ بِصِفَةِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ وَبِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 فَارَقَ الْكَسْبَ وَالْغَلَّةَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ وَمَا سَرَى إلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ قُلْنَا لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ مَحْضٌ وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْبَيْعِ كَأَطْرَافِ الْمَبِيعِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إنْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي مَعَ الْأَصْلِ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ فَيُقَابِلُهَا جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ صِفَةِ السَّلَامَةِ فِيهَا، فَإِذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا كَانَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَانَ رَدُّهَا مَقْصُودًا، وَلَكِنْ يَرُدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ تَبَعًا وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَمْ تَصِرْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ وَالْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَلَا يَرُدَّ الْأَصْلَ دُونَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مَبِيعَةً سَالِمَةً لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالرِّبَا لَيْسَ إلَّا هَذَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ رَدَّهَا، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ. وَإِنْ بَاعَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُمْتَنِعٌ لِمَكَانِ الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَ وَلَا يُقَالُ قَبْلَ رَدِّ الْأَصْلِ الزِّيَادَةُ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مَبِيعًا بِلَا ثَمَنٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ رَدِّ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْأَصْلِ الزِّيَادَةُ تَبَعٌ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ يَعْنِي عَنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ فَالزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَإِذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً وَلَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ كَانَتْ رِبًا؛ وَلِهَذَا يُرَدُّ الْأَصْلُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ زِيَادَةٌ كَانَتْ تَبْقَى لِلْمُشْتَرِي مَبِيعًا بِلَا ثَمَنٍ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا أَجْنَبِيٌّ غَرِمَ بَدَلَهَا فَسَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمُشْتَرِي كَسَلَامَةِ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي اسْتَهْلَكَهَا فَلِأَنَّهُ حَابِسٌ لَهَا بِاسْتِهْلَاكِهِ أَوْ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ بِمِلْكِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ بِمَعْنَى عِوَضٍ سُلِّمَ إلَيْهِ مِنْهَا فَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ مِنْ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الْمَوْهُوبَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْأَصْلِ هُنَاكَ الزِّيَادَةُ تَبْقَى لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْأَصْلُ كَانَ سَالِمًا مَوْهُوبًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ رِبًا فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُخَنَّثًا أَوْ سَارِقًا أَوْ كَافِرًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْتَرَى مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ عَبْدًا وَكَتَبَ فِي عُهْدَتِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ» فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ وَتَفْسِيرُ الدَّاءِ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمَرَضُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ قَالَ الْمَرَضُ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ وَالدَّاءُ مَا يَكُونُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ الدَّاءُ الْمَرَضُ وَالْغَائِلَةُ لَا تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْأَفْعَالِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِبْثَةُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ وَقِيلَ الْجُنُونُ ثُمَّ الْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ إلَى عُرْفِ التُّجَّارِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ تِلْكَ الصَّنْعَةِ فَمَا يَعُدُّونَهُ عَيْبًا فَهُوَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ أَوْ مَا يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ فَهُوَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَذَلِكَ بِالْمَالِيَّةِ فَمَا يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ فَهُوَ يُمْكِنُ خَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ وَذَلِكَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدَ مُخَنَّثًا، فَهَذَا مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا فَيُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِمِلْكِ الْعَبْدِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهُ سَارِقًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِخْدَامُهُ إذْ لَا يَأْتَمِنُهُ عَلَى مَالِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ عَلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِنْ سَرَقَ مَالَ الْغَيْرِ يُقْطَعُ بِسَبَبِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهُ كَافِرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إذْ لَا عَيْبَ تَبْلُغُ دَرَجَتُهُ دَرَجَةَ الْكُفْرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِخْدَامِهِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ نَحْوَ اتِّخَاذِ الْمَاءِ لِطَهُورِهِ وَحَمْلِ الْمُصْحَفِ إلَيْهِ وَالْكَافِرُ نَجَسٌ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ بِخِلَافِ شَرْطِهِ وَلَهُ فِي هَذَا الشَّرْطِ غَرَضٌ فَرُبَّمَا قَصَدَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْمُحَقَّرَاتِ مِنْ الْأُمُورِ وَلَا يَسْتَخِيرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُسْتَخْدَمَ الْمُسْلِمَ فِي مِثْلِهِ، فَإِذَا فَاتَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ يُمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا الْكُفْرُ عَيْبٌ فَذِكْرُهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّبَرِّي مِنْ الْعَيْبِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ، فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَدَهَ أَزْيَدَ مِمَّا شَرَطَ وَثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِذَا وَجَدَهُ أَزْيَدَ مِمَّا شَرَطَ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّ الرَّدِّ لَهُ. قَالَ وَإِنْ وَجَدَ الْغُلَامَ زَانِيًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ عَيْبَ الزِّنَا كَعَيْبِ السَّرِقَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْجَارِيَةِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْبٌ فَكَذَلِكَ فِي الْغُلَامِ وَلَكِنَّا نَقُولُ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ فَحْلٌ فَوَجَدَهُ أَفَحْلَ ثُمَّ الَّذِي بِهِ لَيْسَ إلَّا تَمَنِّي الزِّنَا فَإِنَّ تَمَنِّيَ الزِّنَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَهَيَّأُ لِلْعَبْدِ إلَّا بِمَالٍ وَلَا مَالَ لَهُ بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَبْدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 الِاسْتِخْدَامُ فِي أُمُورٍ خَارِجَ الْبَيْتِ وَزِنَاهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْمَوْلَى، وَأَمَّا فِي الْجَارِيَةِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَزِنَاهَا يُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ فَإِنَّهَا تُلَوِّثُ عَلَيْهِ فِرَاشَهُ وَقِيلَ فِي الْغُلَامِ إذَا صَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ بِحَيْثُ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ فَكُلَّمَا يُوَجِّهُهُ فِي حَاجَتِهِ ذَهَبَ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاهُ فَهُوَ كَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهَا تَخِلُّ بِالِاسْتِخْدَامِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْعَبْدَ وَلَدَ زِنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِهِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَمَالِيكِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا تُعْرَفُ أَنْسَابُهُمْ فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إذَا كَانَتْ وَلَدَ زِنًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِمَقْصُودَةِ مِنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ فَإِنَّ وَلَدَهُ يُعَيَّرُ بِأُمِّهِ إذَا كَانَتْ وَلَدَ زِنًا وَعَلَى هَذَا الْغُلَامُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا أَوْ الْجَارِيَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ مَخْفُوضَةً فَفِي الْحِلْيَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْب هَذَا لَا يَكُونُ عَيْبًا لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَفِي الْمُولَدِ لَا يَكُون عَيْبًا فِي الصَّغِيرِ أَيْضًا وَيَكُونُ عَيْبًا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْمُولَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُتْرَكُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ وَالتُّجَّارُ يَعُدُّونَ ذَلِكَ عَيْبًا فِي الْمُولَدِ. قَالَ: وَالثُّؤْلُولُ عَيْبٌ إذَا كَانَ يُنْقِصُ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْقِصُهُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فَيُعْتَبَرُ نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ بِسَبَبِهِ وَالْخَالُ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْخَالُ رُتْبَةً لَا تُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ إذَا كَانَ عَلَى الْخَدِّ وَقَدْ يَشِينُهُ إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْنَبَةِ وَذَلِكَ يُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يُنْقِصَهُ مِنْ الثَّمَنِ. قَالَ وَالصُّهُوبَةُ فِي الشَّعْرِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ يَعُدُّونَهُ عَيْبًا وَكَذَلِكَ الشَّمَطُ فَإِنَّ الشَّمَطَ فِي أَوَانِهِ مِنْ الْهَرَمِ وَالْهَرَمُ عَيْبٌ وَفِي غَيْرِ أَوَانِهِ وَمِنْ دَاءٍ فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ عَيْبٌ ثُمَّ اللَّوْنُ الْمُسْتَوِي لِلشَّعْرِ السَّوَادُ فَمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا كَانَ يُنْقِصُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا ثَبَتَ بِهِ حَقُّ الرَّدِّ. قَالَ وَالْبَخَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ، وَهُوَ نَتْنٌ فِي الْفَمِ وَهَذَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَارِيَةِ، وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَلَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهُ بِالْبُعْدِ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ فَالدَّاءُ نَفْسُهُ عَيْبٌ قَالَ وَالذَّفَرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ نَتْنُ الْإِبْطِ، وَهُوَ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لَا يَكُونُ فِي النَّاسِ مِثْلُهُ، فَهَذَا يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ يُنْقِصُ الثَّمَنَ. قَالَ وَالْبَجَرُ عَيْبٌ، وَهُوَ انْتِفَاخٌ تَحْتَ السُّرَّةِ وَبِهِ سُمِّيَ بَعْضُ النَّاسِ أَبْجَرُ، وَهُوَ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ وَيَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا وَالْأُدْرَةُ عَيْبٌ، وَهِيَ عِظَمُ الْخُصْيَتَيْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْآذَنُ عَيْبٌ، وَهُوَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ مَنْخِرِهِ الْمَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 وَتَرَى الذَّنِينَ عَلَى مِنْخَارِهِمْ ... يَوْمَ الْهِيَاجِ كَمَارِنِ النَّمْلِ وَذَلِكَ يُسْتَقْذَرُ وَلَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ فِي الدِّمَاغِ. وَالْيَسِرُ عَيْبٌ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِيَسَارِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ بِيَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْسَرَ يَسِرَ، وَهُوَ الْأَضْبَطُ الَّذِي يَعْمَلُ بِالْيَدَيْنِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ زِيَادَةً، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ. قَالَ وَالْعَشَى عَيْبٌ، وَهُوَ ضَعْفُ الْبَصَرِ حَتَّى لَا يُبْصِرَ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ أَوْ شِدَّةِ الضَّوْءِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْأَعْشَى وَالْعَسَمُ عَيْبٌ، وَهُوَ يُبُوسَةٌ وَتَشَنُّجٌ فِي الْأَعْصَابِ مِنْهُ أَصْلُ الْعَرَجِ. وَالسِّنُّ السَّوْدَاءُ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهُوَ يَشِينُ صَاحِبَهُ وَالسَّوَادُ فِي السِّنِّ دَلِيلُ مَوْتِ السِّنِّ عِنْد مَنْ يَقُولُ فِي السِّنِّ حَيَاةٌ، وَكَذَلِكَ السِّنُّ السَّاقِطَةُ عَيْبٌ ضِرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا ثُمَّ سُقُوطُ السِّنِّ فِيمَا لَا يَبْدُو مِنْهَا كَالطَّوَاحِينِ يُنْقِصُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَفِيمَا يَبْدُو مِنْهَا كَالضَّوَاحِكِ وَفِي الْأَصْلِ كَالنَّوَاجِذِ يُنْقِصُ مِنْ الْجَمَالِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْأَرْشُ إذَا قَلَعَ مِنْ الْغَيْرِ وَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ. قَالَ وَالظُّفْرُ الْأَسْوَدُ عَيْبٌ إذَا كَانَ يُنْقِصُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ مِنْ الْجَمَالِ وَالسَّوَادُ فِي الظُّفْرِ دَلِيلُ مَوْتِهِ كَمَا فِي السِّنِّ وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُنْقِصُ مِنْ الثَّمَنِ فِيمَنْ هُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ كَالْحَبَشِيِّ وَإِنَّمَا يُنْقِصُ فِيمَنْ هُوَ أَبْيَضُ اللَّوْنِ كَالْأَتْرَاكِ وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُنْقِصُ الثَّمَنَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ. وَالْإِبَاقُ مَرَّةً وَاحِدَةً عَيْبٌ مِنْ الصَّغِيرِ مَا دَامَ صَغِيرًا، فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ إلَّا أَنْ يَأْبَقَ بَعْدَ الْكِبَرِ، وَهَذَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ، أَمَّا فِي الصَّغِيرِ جِدًّا، فَهَذَا لَا يَكُونُ عَيْبًا؛ لِأَنَّهُ يَضِلُّ وَلَا يَأْبَقُ وَالْإِبَاقُ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ مِنْهُ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى بَيْتِ مَوْلَاهُ فَيَضِلُّ كَالدَّابَّةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُمَيِّزًا فَالْإِبَاقُ وَالْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ، فَإِذَا بَلَغَ زَالَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَقَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَرَّةً فَهُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا وَالسَّرِقَةُ كَذَلِكَ قَالَ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ جِدًّا لَا يَكُونُ عَيْبًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَمْثَالِهِ عَادَةً وَأَمَّا الْجُنُونُ إذَا وُجِدَ مَرَّةً فَهُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا سَوَاءٌ وُجِدَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْفَرْقُ أَنَّ سَبَبَ الْجُنُونِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَهُوَ آفَةٌ فِي الْعَقْلِ، فَإِذَا وُجِدَ مَرَّةً فَأَثَرُهُ يَبْقَى فِيهِ مَا عَاشَ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْبَصَرِ فِيهِ وَأَمَّا سَبَبُ الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ فَمُخَالِفٌ لِسَبَبِ هَذِهِ الْعُيُوبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ سَبَبُهُ سُوءُ الْأَدَبِ وَحُبُّ اللَّعِبِ وَسَبَبُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ التَّمَرُّدُ وَقِلَّةُ الْمُبَالَاةِ بِالْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ سَبَبُهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 قَبْلَ الْبُلُوغِ قِلَّةُ التَّأَمُّلِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ سَبَبُهَا التَّمَرُّدُ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِهَا عَلَى الصَّبِيِّ مَا يَجِبُ بِهَا عَلَى الْبَالِغِ وَسَبَبُ الْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ قَبْلَ الْبُلُوغِ اسْتِرْخَاءٌ فِي الْمَثَانَةِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَسَبَبُهُ فِي الْبُلُوغِ آفَةٌ فِي الْآلَةِ الْمَاسِكَةِ، فَإِذَا وُجِدَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ فَهُوَ عَيْبٌ مَا دَامَ صَغِيرًا، فَإِذَا بَلَغَ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ فَزَالَ الْحُكْمُ أَيْضًا، فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَهُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ يَعُدُّونَهُ عَيْبًا فَهُوَ يُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَالْإِبَاقُ سِوَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا فَكَانَ مِنْ أَفْحَشِ الْعُيُوبِ. قَالَ وَالْحَبَلُ فِي بَنَاتِ آدَمَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ وَيُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي الْمَالِيَّةِ قَالَ وَالْقَرَنُ عَيْبٌ، وَهُوَ عَظْمٌ فِي الْمَأْتَى يَمْنَعُ الْوُصُولَ إلَيْهَا وَبِهِ قَصَدَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَقْعِدُوهَا فَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ فَهُوَ عَيْبٌ وَالرَّتَقُ عَيْبٌ، وَهُوَ لَحْمٌ فِي الْمَأْتَى يَمْنَعُ وُصُولَ الْوَاطِئِ إلَيْهَا وَالْعَفَلُ عَيْبٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَأْتَى شَبَهُ الْكِيسِ لَا يَتَلَذَّذُ الْوَاطِئُ بِوَطْئِهَا وَهَذَا كُلُّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ. قَالَ وَالْبَرَصُ عَيْبٌ، وَهُوَ مَعْلُومٌ يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا فَيُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ قَالَ وَالْجُذَامُ عَيْبٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ تَحْتَ الْجِلْدِ يُوجَدُ نَتْنُهُ مِنْ بُعْدٍ وَرُبَّمَا تَنْقَطِعُ الْأَعْضَاءُ بِهِ، وَهُوَ أَفْحَشُ الْعُيُوبِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» قَالَ وَالْفَتَقُ عَيْبٌ، وَهُوَ رِيحٌ فِي الْمَثَانَةِ رُبَّمَا يَهِيجُ بِالْمَرْءِ فَيَقْتُلُهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ قَالَ وَالسِّلْعَةُ عَيْبٌ، وَهُوَ الْقُرُوح الَّتِي تَكُون فِي الْعُنُقِ وَيُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ خوك وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ فِي بَدَنِهِ وَرُبَّمَا يَتْلَفُ بِسَبَبِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فِي الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ فَهُوَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ فَمَا يُنْقِصُ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ خَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ. قَالَ وَالْكَيُّ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سِمَةً فِي بَعْضِ الدَّوَابِّ فَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا لَا يُرَدُّ بِهِ قَالَ وَالْفَدَعُ عَيْبٌ، وَهُوَ فِي الْكَفِّ زَيْغٌ فِي الرُّسْغِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعِدِ وَفِي الْقَدَمِ كَذَلِكَ زَيْغٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَظْمِ السَّاقِ وَفِي الْفَرَسِ هُوَ الْتِوَاءُ الرُّسْغِ عَنْ عَرْضِهِ الْوَحْشِيِّ، وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ قَالَ وَالْفَحَجُ عَيْبٌ، وَهُوَ فِي الْفَرَسِ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْكَعْبَيْنِ وَالْأَفْحَجُ مِنْ الْآدَمِيِّ الَّذِي تَتَدَانَى صُدُورُ قَدَمَيْهِ وَتَتَبَاعَدُ عَقِبَاهُ وَتَنْفَحِجُ سَاقَاهُ وَالدَّحَسُ عَيْبٌ، وَهُوَ وَرَمٌ يَكُونُ فِي أَطْرَافِ حَافِرِ الْفَرَسِ قَالَ وَالصَّكَكُ عَيْبٌ، وَهُوَ أَنْ يَصْطَكَّ رُكْبَتَاهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَأَبُو عُبَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الصَّكَكُ فِي الرِّجْلَيْنِ فِي الْكَعْبَيْنِ قَالَ وَالْحَنَفُ عَيْبٌ، وَهُوَ إقْبَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِبْهَامَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ وَذَلِكَ يُنْقِصُ مِنْ قُوَّةِ الْمَشْيِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيُّ: الْأَحْنَفُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ قَالَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 وَالصَّدَفُ عَيْبٌ، وَهُوَ الْتِوَاءٌ فِي أَصْلِ الْعُنُقِ. قَالَ وَالشَّدَقُ عَيْبٌ، وَهُوَ وُسْعٌ مُفْرِطٌ فِي الْفَمِ وَفِيهِ الْحَدِيثِ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ»، وَهُوَ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا [الْعُيُوبُ الَّتِي يَطْعَنُ الْمُشْتَرِي بِهَا] ثُمَّ الْعُيُوبُ الَّتِي يَطْعَنُ الْمُشْتَرِي بِهَا أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ نَوْعٌ مِنْهَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي مَوْضِعٍ يَرَاهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُرِهِ الْعَيْبَ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ شَرْطٌ لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَحَقِيقَةُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا رَآهُ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي وُجُودَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَقْضِي بِالرَّدِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَرَضِيَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ إنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهَا عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَمَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ قُضِيَ بِالرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ أَلْبَتَّةَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ التَّسْلِيمَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا النَّظَرُ لِلْمُشْتَرِي لِجَوَازِ إذَا اسْتَحْلَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَوْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ بَارٌّ فِي يَمِينِهِ بِأَنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمَهُ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ هَذَا الْعَيْبُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عِنْدِي الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَنْفِي الْعَيْبَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَعِنْدَ التَّسْلِيمِ وَلَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ مُنْتَفِيًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُ عَلَى الثَّبَاتِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ. وَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَنَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ عَيْبٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْأَطِبَّاءُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُرِيَهُ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى مَنْ لَهُ بَصَرٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ كَمَا فِي مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ كَالشَّهَادَةِ، فَإِذَا قَالَا الْعَيْبُ مَوْجُودٌ فِيهِ وَقَالَا هُوَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ حُكِمَ بِالرَّدِّ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ قَالَا قَدْ يَحْدُثُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَحْلِفُ الْبَائِعُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَالْقَاضِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 يُرِيهَا النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَهُوَ أَحْوَطُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُعَرَّفَةٌ فِي الطَّلَاقِ وَالشَّهَادَاتِ فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِوُجُودِ الْعَيْبِ تَوَجَّهَتْ الْخُصُومَةُ لِظُهُورِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهَا وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الرَّدُّ بِقَوْلِ النِّسَاءِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا لَا مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ النِّسَاءِ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُفْصَلُ الْحُكْمُ بِهَا مَا لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ، وَذَلِكَ بِنُكُولِ الْبَائِعِ فَيُسْتَحْلَفُ حَتَّى إذَا انْضَمَّ نُكُولُ الْبَائِعِ إلَى شَهَادَةِ النِّسَاءِ فُسِخَ الْبَيْعُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْضِي بِالرَّدِّ بِقَوْلِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ وَقَاسَ بِالْعَيْنَيْنِ إذَا ثَبَتَتْ الْبَكَارَةُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ إنْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُفْسَخُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى نَقْلِ الضَّمَانِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَنَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ حُكْمِيٌّ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ خُصُومَةَ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ فِي الْحَالِ شَرْطٌ لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ سَرَقَ أَوْ بَالَ فِي الْفِرَاشِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَإِنْ يَثْبُتْ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ وَالْخُصُومَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ تُسْمَعْ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ قَدْ زَالَ، وَهَذَا عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَالَ وَإِنْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الصِّغَرِ أَوْ كَانَ الشِّرَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَالْآنَ تُسْمَعُ خُصُومَةُ الْمُشْتَرِي وَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الَّذِي كَانَ أَبَقَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا بَلَغَ قَبْلَ شِرَائِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَمَا أَبَقَ وَلَا سَرَقَ وَلَا بَالَ فِي الْفِرَاشِ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ. وَهَذَا اسْتِحْلَافٌ عَلَى الثَّبَاتِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّسْلِيمِ الَّذِي الْتَزَمَهُ وَالْيَمِينُ الْأُولَى عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجُنُونُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي الْجُنُونِ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ، مَا جُنَّ قَطُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا وُجِدَ مَرَّةً فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 الصِّغَرِ أَوْ الْكِبَرِ فَهُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا فِي الْجُنُونِ لَا يُشْتَرَطُ عَوْدُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ قَائِمٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَالْجُنُونُ بَعْدَ انْقِلَاعِهِ يَعْقُبُ أَثَرًا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ بِخِلَافِ الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِمَا قَدْ كَانَ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ. قَالَ وَإِنْ طَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ مُنْذُ عَلِمَ بِهِ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى بَيْعٍ حَلَّفَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ. قَالَ وَالْعَزْلُ عَيْبٌ وَهُوَ أَنْ يَعْزِلَ ذَنَبَهُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ يَكُونُ عَادَةً لَا خِلْقَةً وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا رَاثَ وَرُبَّمَا يُحَوِّلُ الذَّنَبَ مِنْ جَانِبِ إلَى جَانِبٍ حَتَّى يُلَطِّخَ وَرِكَيْهِ بِالرَّوْثِ وَذَلِكَ لِيَتَقَذَّرَ وَيُعَدُّ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ. قَالَ وَالْمَشَشُ عَيْبٌ وَهُوَ شَيْءٌ يَشْخَصُ فِي وَظِيفَتِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ حَجْمٌ لَيْسَ لَهُ صَلَابَةُ الْعَظْمِ قَالَ الْوَظِيفُ مُسْتَدَقُّ السَّاقِ قَالَ وَالْحَرَدُ عَيْبٌ، وَهُوَ كُلُّ مَا حَدَثَ فِي عُرْقُوبِهِ مِنْ تَزَيُّدٍ أَوْ انْتِفَاخِ عَصَبٍ قَالَ وَالزَّوَائِدُ عَيْبٌ، وَهُوَ أَطْرَافُ عَصَبٍ يَتَفَرَّقُ عِنْدَ الْعِجَانَةِ وَيَنْقَطِعُ عِنْدَهَا وَيُلْصَقُ بِهَا وَالْحَرْنُ عَيْبٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْخَزَرُ، وَهُوَ ضِيقٌ مُفْرِطٌ فِي الْعَيْنِ وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْحَرَنُ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي جُمْلَةِ عُيُوبِ الْفَرَسِ، وَهُوَ أَنْ لَا تَنْقَادَ لِلرَّاكِبِ عِنْدَ الْعِطْفِ وَالسَّيْرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجَمْحِ وَالْجَمْحُ عَيْبٌ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ وَخَلْعُ الرَّأْسِ عَيْبٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ حِيلَةٌ يَخْلَعُ رَأْسَهُ مِنْ الْعِذَارِ، وَإِنْ شُدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا وَرُبَّمَا بَطَلَ سَبَبُهُ وَبَلُّ الْمِخْلَاةِ عَيْبٌ إذَا كَانَ يُنْقِصُ الثَّمَنَ، وَهُوَ أَنْ يَسِيلَ لُعَابُ الْفَرَسِ عَلَى وَجْهٍ تَبْتَلُّ الْمِخْلَاةُ بِهِ إذَا جُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَفِيهَا عَلَفُهُ وَقِيلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمِخْلَاةَ بِشَفَتَيْهِ فَيَرْمِيَ بِهَا، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْجَمْحِ فَهُوَ عَيْبٌ إذَا كَانَ يُنْقِصُ الثَّمَنَ وَالْمَهْقُوعُ عَيْبٌ وَالْهَقْعَةُ دَائِرَةٌ فِي عَرْضِ زَوْرِهِ يُعَدُّ عَيْبًا وَيُتَشَاءَمُ بِهِ وَمِنْهُ يُقَالُ اتَّقِ الْخَيْلَ الْمَهْقُوعَ وَالِانْتِشَارُ عَيْبٌ، وَهُوَ انْتِفَاخُ الْعَصَبِ عِنْدَ التَّعَبِ وَالْعَصَبُ الَّذِي يُنْشَرُ هِيَ الْعِجَانَةُ وَتَحَرُّكُ السَّطَا كَانْتِشَارِ الْعَصَبِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرَسَ لِانْتِشَارِ الْعَصَبِ أَشَدُّ احْتِمَالًا مِنْهُ لِتَحَرُّكِ السَّطَا وَالْغَرْبُ عَيْبٌ، وَهُوَ وَرَمٌ فِي الْمَآقِي وَرُبَّمَا يَسِيلُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِلًا فَصَاحِبُهُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ. وَالشَّتَرُ عَيْبٌ، وَهُوَ انْقِلَابُ فِي الْأَجْفَانِ وَبِهِ كَانَ يُسَمَّى الشَّتَرَ وَهَذَا يُمْكِنُ ضَعْفًا فِي الْبَصَرِ وَالْحَوَلُ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ ضَعْفًا فِي الْبَصَرِ حَتَّى يَرَى الْأَحْوَلُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ شَيْئَيْنِ وَالْحَوَصُ وَالْفَتَلُ عَيْبٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَوَلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمِيلُ إنْسَانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 الْعَيْنِ إلَى الْجَانِبِ الْمُقَدَّمِ يُسَمَّى فَتَلًا وَإِذَا كَانَ إلَى الْجَانِبِ الْمُؤَخَّرِ فَهُوَ الْحَوَصُ وَالطَّفْرُ عَيْبٌ وَهُوَ بَيَاضٌ يَبْدُو فِي إنْسَانِ الْعَيْنِ يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ باحسه وَذَلِكَ يُمْكِنُ ضَعْفًا فِي الْبَصَرِ وَرُبَّمَا يَمْنَعُ الْبَصَرَ أَصْلًا وَالشَّعْرُ فِي جَوْفِ الْعَيْنِ يَكُونُ عَيْبًا؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَصَرَ. وَالْجَرَبُ عَيْبٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْعَيْنِ ضَعْفًا فِي الْبَصَرِ وَفِي غَيْرِ الْعَيْنِ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَصَرَ وَرِيحُ السَّبَلِ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يُضْعِفُ الْبَصَرَ وَرُبَّمَا يَذْهَبُ بِهِ. وَالسُّعَالُ الْقَدِيمُ عَيْبٌ إذَا كَانَ مِنْ دَاءٍ، أَمَّا الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ عَيْبًا، فَإِذَا كَانَ قَدِيمًا فَذَلِكَ مِنْ دَاءٍ فِي الْبَدَنِ وَالدَّاءُ نَفْسُهُ عَيْبٌ وَالِاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لِدَاءٍ فِي الْبَدَنِ ثُمَّ سَيْلَانُ الدَّمِ إذَا كَانَ مُسْتَدَامًا فَرُبَّمَا يُصِيبُهَا وَيَقْتُلُهَا وَاَلَّتِي يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا زَمَانًا عَيْبٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ دَاءٍ فِي الْبَدَنِ وَمِنْهُ يَكُونُ مَوَادُّ الْمَرَضِ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّ الرُّطُوبَةَ إذَا كَانَتْ تَسِيلُ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا تَكُونُ صَحِيحَةَ الْبَدَنِ وَإِذَا لَمْ تَسِلْ اصْفَرَّ لَوْنُهَا وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَإِنَّهَا لَا تَحْبَلُ أَيْضًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يُخِلُّ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا وَتَكُونُ مَالِيَّتُهُ مَشْغُولَةً بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ عَيْبٌ حُكْمِيٌّ كَعَيْبِ النِّكَاحِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ الْبَائِعُ دَيْنَهُ أَوْ يُبْرِئَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ فَبِذَلِكَ يَزُولُ الْعَيْبُ وَزَوَالُ الْعَيْبِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ، أَمَّا إذَا عَلِمَ بِالدَّيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ هَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْعُيُوبِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَذَلِكَ هُنَا. وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُحْرِمَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا وَلَكِنَّهُ يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ وَلَكِنَّهُ يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَإِذَا كَانَتْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَلَّلَهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَإِذَا كَانَتْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بِهَذَا وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا لِأَنَّ لُزُومَ النِّكَاحِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 لُزُومُ الْإِحْرَامِ فَلِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِي الْمَحَلِّ مُقَدَّمٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ إزَالَةِ الْعَيْبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا وَالزَّوْجُ يَسْتَنِدُ بِالرَّجْعَةِ إلَّا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّهَا لِزَوَالِ الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ مَوْتٍ فَلَيْسَ هَذَا بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا فَالْعَيْبُ هُوَ النِّكَاحُ وَقَدْ انْقَطَعَ وَالْحُرْمَةُ بِهَذَا السَّبَبِ نَظِيرُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَيْبًا، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا وَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا فَقَالَ الْبَائِعُ: مَا هَذِهِ بِجَارِيَتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَالرَّدُّ بِحُكْمِهِ لَا يَنْفَرِدُ الْمُشْتَرِي بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ لَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ. وَإِنْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَقَالَ وَجَدْتُهَا ثَيِّبًا لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ فِي النِّسَاءِ أَصْلٌ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَارِضًا لِيُثْبِتَ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْعَيْبِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى جَوْزًا أَوْ بَيْضًا فَوَجَدَهُ فَاسِدًا كُلَّهُ وَقَدْ كَسَرَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ، أَمَّا الْبَيْضُ فَالْفَاسِدُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ إذْ هُوَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَلَا قِيمَةَ لِقِشْرِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ كَانَ بَاطِلًا وَأَمَّا الْجَوْزُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اللُّبُّ دُونَ الْقِشْرِ وَلَا قِيمَةَ لِقِشْرِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الْحَطَبُ وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْدُرُ فِيهِ الْحَطَبُ فَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ لَكِنَّ مَالِيَّةَ الْجَوْزِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ دُونَ الْقِشْرِ، فَإِذَا كَانَ حَادِثًا أَنَّ مُنْتِنَ اللُّبِّ لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَأَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلَ اللُّبِّ أَوْ أَسْوَدَ اللُّبِّ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، فَإِذَا وَجَدَهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْكَسْرِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرُدُّهُ، وَكَذَلِكَ الْبِطِّيخُ وَالْقَرْعُ وَالْفَاكِهَةُ إذَا وَجَدَهَا فَاسِدَةً كُلَّهَا بَعْدَمَا يَكْسِرُهَا فَإِنْ كَانَتْ لَا تُسَاوِي شَيْئًا رَجَعَ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَأْكُلُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ تَصْلُحُ لِعَلْفِ الدَّوَابِّ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ سِوَى الْكَسْرِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا حَقَّهُ فِي الرَّدِّ وَهَذَا لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى الْكَسْرِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكَسْرُ عَيْبٌ حَادِثٌ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ آخَرَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ ثُمَّ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْلَى فَإِنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ أَصْلًا وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ وَالضَّرَرُ الَّذِي يَلْحَقُ الْبَائِعَ بِالرَّدِّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِعِوَضٍ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَهُ وَهَذَا إذَا وَجَدَ الْكُلَّ فَاسِدًا فَإِنْ وَجَدَ الْبَعْضَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْكَلَامُ فِي حِصَّةِ ذَلِكَ كَالْكُلِّ إذَا وَجَدَهُ فَاسِدًا إلَّا أَنَّ فِي الْجَوْزِ إذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا لَا يَخْلُو الْجَوْزُ مِنْهُ عَادَةً كَالْوَاحِدَةِ وَالِاثْنَيْنِ فِي كُلِّ مِائَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الشِّرَاءِ رَاضٍ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَالْجَوْزُ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا فَلَا يُخَاصِمُ فِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ حَلَّ دَمُهُ بِقِصَاصٍ أَوْ رِدَّةٍ فَقُتِلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَوَّمُ حَلَالَ الدَّمِ وَحَرَامَ الدَّمِ فَيَرْجِعُ بِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَمَا حَلَّ دَمُهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَحِلُّ الدَّمِ عَيْبٌ فِيهِ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مَعِيبًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بَعْدَمَا قَبَضَهُ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ كَانَ زَانِيًا فَجُلِدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَيْعَ حَلَالِ الدَّمِ صَحِيحٌ وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ إلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ الثَّمَنُ مُتَقَرَّرًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا حِينَ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ حَلَالُ الدَّمِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِلَّ الدَّمِ عَيْبٌ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِسَبَبِ حِلِّ الدَّمِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ النَّفْسُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْبَيْعِ الْمَالِيَّةَ وَمَحَلُّ الدَّمِ لَا يَعْدِمُ الْمَالِيَّةَ وَلَا يَصِيرُ يَسْتَحِقُّهُ وَإِنَّمَا تَلْفِتْ الْمَالِيَّةُ بِاسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ أَنْسَأَهُ الْمُسْتَوْفِي بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ مَا دَخَلَ الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ بِمِلْكٍ أَوْ حَقِّ رَهْنٍ أَوْ دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ مَا تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ فَيَنْقُصُ بِهِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِمَا لَوْ اشْتَرَى حَامِلًا وَقَبَضَهَا فَوَلَدَتْ وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَمْ يَرْجِعْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ السَّبَبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَعُذْرُكُمْ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْوِلَادَةِ السَّلَامَةُ يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا حَبِلَتْ ثُمَّ رَدَّهَا الْغَاصِبُ فَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا يَرْجِعُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهَا وَفِي هَذَا الْفَرْقِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ زَالَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْبَيْعِ كَسَبَبِ الْإِزَالَةِ مُسْتَحَقَّةٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ مَالِكٌ أَوْ مُرْتَهِنٌ أَوْ صَاحِبُ دَيْنٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِزَالَةَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي يَنْتَقِضُ بِهَا قَبْضُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ مُسْتَحَقٌّ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَبِسَبَبِ الْقِصَاصِ مُسْتَحَقٌّ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْشِئَ مَنْ هُوَ لَهُ عَفْوًا بِاخْتِيَارِهِ، وَالْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ يُرَدُّ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ مُتْلِفٌ لِلْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَكَانَ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ تُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ كَأَنَّهُ الْمَالِيَّةُ وَلَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِدُونِ النَّفْسِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الشَّيْءِ بِحَالٍ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِدُونِ النَّفْسِيَّةِ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِيَّةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ وَانْعِقَادُ الْبَيْعِ صَحِيحًا وَرَاءَ ذَلِكَ وَإِذَا مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِذَا قُبِلَ فَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ غَيْرِهِ كَمِلْكِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ وَمِلْكِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى إذَا وُطِئَتْ الْمَنْكُوحَةُ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا وَإِذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ فَالدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّنَا وَزِنَا الْعَبْدِ لَا يُصَيِّرُ نَفْسَهُ مُسْتَحَقَّةً وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فِي الْمَحَلِّ وَإِذَا اشْتَرَاهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَحَلَّ دَمِهِ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا إذَا قُتِلَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ مِنْ وَجْهٍ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْعَيْبِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْمَبِيعِ فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ هَذَا كَالِاسْتِحْقَاقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ عَلِمَ بِهِ، وَأَمَّا الْحَامِلُ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ يُوجِبُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ لَا مَوْتَ الْأُمِّ بَلْ الْغَالِبُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ السَّلَامَةُ فَهُوَ نَظِيرُ الزَّانِي إذَا جُلِدَ وَلَيْسَ هَذَا كَالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَغْصُوبَ كَمَا غُصِبَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَدَّهَا حَامِلًا، وَهُنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ثُمَّ إنْ تَلِفَ بِسَبَبٍ كَانَ الْهَلَاكُ مُسْتَحَقًّا بِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ يَنْتَقِضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَا يَنْتَقِضُ قَبْضُهُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ سَارِقًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُقَوَّمَ سَارِقًا وَغَيْرَ سَارِقٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْيَدُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَيَنْتَقِضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا فِي نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ السِّرَايَةِ بِأَنْ لَا يَقْطَعَ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَلَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَأَنْ يَحْسِمَ بَعْدَ الْقَطْعِ فَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَا يَنْتَقِضُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَإِنْ سَرَى. قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَعَبْدًا فَزَوَّجَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِهِمَا عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِمَا عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَهُ فَإِنْ أَبَانَهَا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا لِزَوَالِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ بِهَذَا النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا. قَالَ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْعَيْبُ بِهِ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِقَوْلٍ وَالْآخَرُ بِعَيْبٍ مُعَايَنٍ وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِجَارِيَةٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَةَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَانَ يَقُولُ أَوْ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمَوْلَى وَاسْتُحِقَّتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمَوْلَى حَتَّى تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ فَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ مَا هُوَ بَدَلٌ لَهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْبَدَلُ وَكَانَ بِعَيْنِهِ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْعَقْدِ الْإِعْتَاقُ فَإِنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ وَإِنَّ الْوَكِيلَ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ قَبْضُ الْبَدَلِ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَالْأَجَلُ إلَى الْحَصَادِ وَنَحْوِهِ يَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ وَأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُرَدُّ إلَّا بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ عَرَفْنَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 أَنَّهُ فِي حُكْمِ مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَتَأْثِيرُهُ وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَارِيَةِ لِوُرُودِهَا بِالْعَيْبِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَكَيْف يَنْفَسِخُ وَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدُ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْجَارِيَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا وَاسْتَدَلَّ بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى جَارِيَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَأَدَّاهَا وَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا وَأَخَذَ مِثْلَهَا صَحِيحَةً فَإِنْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمَوْلَى رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ. وَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ بِجَارِيَةٍ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَوْلَى أَزَالَ عَنْ مِلْكِهِ مَالًا بِإِزَاءِ مَالٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ مَا بُذِلَ لَهُ رَجَعَ بِقِيمَةِ مَا بُذِلَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ فَرَسِهِ بِجَارِيَةٍ فَعَتَقَ عَلَى الْقَرِيبِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ رَجَعَ الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنْ يَقُولَ تَصَرُّفُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْعَبْدِ إلَّا مِلْكُ الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّ إزَالَةَ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ إلَى مَالِكٍ يَكُونُ مُوجِبًا عِتْقَ الْعَبْدِ فَأَمَّا تَصَرُّفُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةُ مِلْكٌ فَتُلَاقِي مِلْكَهُ. وَمِلْكُهُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ فِي حَقِّ مَا يُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَلِمَ لِلْعَبْدِ الْعِتْقُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِيمَا يُزِيلُهُ الْمَوْلَى عَنْ مِلْكِهِ هَذَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمَوْلَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى فَأَمَّا الْعِتْقُ فَسَالِمٌ لِلْعَبْدِ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لِلْعَبْدِ يُبْنَى عَلَى إزَالَةِ الْمَوْلَى مِلْكَهُ فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَبِاعْتِبَارِهِ هَذَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى خَمْرٍ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُحِقَّ الْبَدَلُ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَقَوْلُهُ إنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْفَسِخْ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ يَقُولُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى قَدْ انْفَسَخَ السَّبَبُ وَلِأَنَّ فِي حَقِّهِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ الْعَبْدِ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَالْمُدَبَّرِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ قَتَلَهُ مَوْلَاهُ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَقُولُ لَا يَنْفَسِخُ السَّبَبُ وَلَكِنْ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمَوْلَى الْعِوَضُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ الْجَارِيَةِ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ مَا هُوَ عِوَضُهَا وَهُوَ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ عِوَضَ الصَّدَاقِ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لِيَكُونَ الرُّجُوعُ بِمَالِيَّتِهِ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى قِيمَةِ الصَّدَاقِ هُنَاكَ. وَفِي الْكِتَابِ قِيلَ الْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: بَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ لِمُقَابَلَةِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ مَا يُسَلَّمُ لِلْمُكَاتَبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ فِي النِّكَاحِ وَهُنَا بَدَلُ الْجَارِيَةِ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْجَارِيَةَ كَانَ رُجُوعُهُ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ قِيمَتُهُ. وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ جَارِيَةَ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ خُوصِمَ فِي عَيْبٍ فَقَتَلَهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْبَائِعَ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي أَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرَاضِيهِمَا فَالْإِقَالَةُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ فَكَأَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً قَالَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَحْدُثُ فَيَلْزَمُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَشْتَغِلْ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهَا فَائِدَةً، وَفِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَالْمَأْذُونِ قَالَ لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ وَإِنْ أَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالْعَيْبِ كَانَ إقْرَارُهُ عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ غَيْرِهِ سَوَاءً، لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ إلَّا فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ رَدُّ الْقَاضِي بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ وَبِالْبَيِّنَةِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآمِرِ وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُثْبِتَ عَلَى الْآمِرِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى الْآمِرِ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ رَدَّهَا الْقَاضِي عَلَى الْوَكِيلِ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا الْمُشْتَرِي فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْآمِرِ فَيَلْزَمُ الْآمِرَ فَإِنْ رَدَّهَا بِإِبَاءِ الْيَمِينِ مِنْ الْوَكِيلِ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْآمِرَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ هَذَا، وَالْإِقْرَارُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بَدَلٌ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآمِرِ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى خُصُومَتِهِ مَعَ الْآمِرِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِنُكُولِهِ جُعِلَ هَذَا وَمَا لَوْ رُدَّتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي هَذَا النُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ وَإِنَّمَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِلْآمِرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فَيَكُونَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ مُخْتَارًا لَا مُضْطَرًّا وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي النُّكُولِ وَلَكِنْ فِي عَمَلِهِ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِعُهْدَةِ عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَنْكَرَ الْآمِرُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الَّتِي بَاعَهَا فَالْقَوْلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَالْمُوَكِّلُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا هِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي بَاعَهَا فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ جَارِيَةً لِرَجُلٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْآمِرِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْآمِرِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْآمِرِ فَلَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَيَدُ الْأَمِينِ كَيَدِ صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَ سَلَّمَهَا إلَى الْآمِرِ لَمْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ إلَّا بِأَمْرِهِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ الْوَكِيلُ وَالْعَاقِدُ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ مُسْتَبِدٌّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَدَهُ لِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْحُقُوقِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْآمِرِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا إلَّا بِإِعَادَتِهَا إلَى يَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضًا بَعْدَمَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَرُدُّ مَا اشْتَرَى بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ غَائِبًا وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ يَرُدُّ مَا اشْتَرَى بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْآمِرَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَطَلَبَ يَمِينَ الْآمِرِ أَوْ يَمِينَ الْمَأْمُورِ مَا رَضِيَ بِذَلِكَ الْآمِرُ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَرُدُّهَا الْوَكِيلُ وَلَا الْمُضَارِبُ حَتَّى يَحْضُرَ الْآمِرُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَيَحْلِفَ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ رِضَى الْآمِرِ وَرَبِّ الْمَالِ يُسْقِطُ حَقَّ الْوَكِيلِ فِي الرَّدِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، فَإِذَا ادَّعَى الْبَائِعُ سَبَبًا مَسْقِطًا لِحَقِّهِ فِي الرَّدِّ اسْتَحَقَّ الْيَمِينَ عَلَى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِهِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْبَائِعُ عَلَيْهِ الرِّضَا فَلَوْ اُسْتُحْلِفَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى وَخُصُومَةٍ وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْآمِرِ مُعَامَلَةٌ فَلَا يَكُونُ هُوَ خَصْمًا لَهُ فِي دَعْوَى الرِّضَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ خَصْمٌ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْ الْآمِرِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى خَصْمٍ هُوَ ثَابِتٌ صَحِيحٌ وَإِذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ فَرَضِيَ الْآمِرِ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ الْبَائِعِ فِي هَذَا الْعَيْبِ فَبِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ، فَذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 نَفْسِهِ دُونَ الْآمِرِ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْآمِرَ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَالْجَارِيَةُ تَلْزَمُهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْآمِرُ بِذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَرْضَى بِمَا رَضِيَ بِهِ الْوَكِيلُ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ جَارِيَةً فَوَجَدَا بِهَا عَيْبًا فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا وَمَاتَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْجَارِيَةِ فَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ صَحِيحًا وَيُقَوَّمُ وَبِهِ الْعَيْبُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُنْقِصُهُ الْعُشْرَ رَجَعَ بِعُشْرِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْعَبْدِ الْجَارِيَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رَدَّهُ وَأَخَذَ الْجَارِيَةَ وَالرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَالْعُرُوضُ كُلُّهَا إذَا اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ رُدَّ بِالْعَيْبِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَيَرْجِعُ بِالْبَدَلِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ فَوَاتَ الْقَبْضِ فِيهِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِهِ لِإِنْسَانٍ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْبَائِعِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ مُتْلِفٌ لِلسِّلْعَةِ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بِبَيِّنَةٍ فَقَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ هُوَ عَبْدِي الَّذِي بِعْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْبَيْعَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَلَوْ أَنْكَرَ جَرَيَانَ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي إثْبَاتُ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الْعَقْدَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى خَادِمًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَلَيْسَ الْكُرُّ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَيَّنَ الْكُرَّ، وَهُوَ مِلْكُ غَيْرِهِ، فَهَذَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فَهُوَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ قَالَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ أَوْ وَسَطٍ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الْكُرِّ بَائِعٌ. وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «اشْتَرَى جَزُورًا بِكُرَّيْ تَمْرٍ ثُمَّ اسْتَقْرَضَهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ» وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ أَوْ الْمَوْزُونَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِهِ فَهُوَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَكَانَ شِرَاءً بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ ثَمَنٌ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَإِنْ وَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الْكُرَّ رَدَّهَا وَأَخَذَ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْكُرُّ عِنْدَ الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ كُرًّا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 حَالَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ عِنْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْبَائِعِ مَعَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي كُرٌّ فِي ذِمَّتِهِ يُعْطِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ فَكَذَلِكَ الْبَائِعُ يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْفَسْخِ. وَكُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يَعُدُّ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ لِمَا قُلْنَا قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَوْبٍ لَيْسَ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا مَوْصُوفَةً وَمُؤَجَّلَةً ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الثَّوْبَ رَدَّهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الثَّوْبِ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقَدْ لَزِمَهُ رَدُّ عَيْنِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ فَلَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ حَتَّى اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَأَكَّدَ فِي الْمَبِيعِ بِالْقَبْضِ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ مِنْ الثَّمَنِ بَاعَهُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ يَسِيرٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ ثُمَّ بَاعَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ إنِّي بِعْتُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَارِيَةً لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَسَادَ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ وَأَنَّهَا سَمِعَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ أَجْزِيَةَ الْجَرَائِمِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَقَدْ جَعَلْتُ جَزَاءَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بُطْلَانِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتِذَارُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَيْهَا دَلِيلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمَا كَانَ يَعْتَذِرُ أَحَدُهُمْ إلَى صَاحِبِهِ فِيهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا أَلْحَقَتْ الْوَعِيدَ بِهِ لِلْأَجَلِ إلَى الْعَطَاءِ فَإِنَّ مَذْهَبَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَوَازُ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَقَدْ كَرِهَتْ الْعَقْدَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهَا بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى عَرَفْنَا أَنَّهَا إنَّمَا كَرِهَتْ لِمَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا كَرِهَتْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُمَا يُطْرَقَانِ بِهِ إلَى الثَّانِي وَالْمَعْنَى فِيهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 أَنَّهُ اشْتَرَى عَلَى مَا لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي زَالَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ وَبَقِيَ لَهُ بَعْضُ الثَّمَنِ، فَهَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا إذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ فَالرِّبْحُ هُنَاكَ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي هُنَاكَ رِبْحٌ إلَّا عَلَى ضَمَانِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْأَعْيَانِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَكِنْ يَجْعَلُ النُّقْصَانَ بِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ حَتَّى إذَا كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ السِّعْرِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُقُودِ؛ لِأَنَّهُ فُتُورٌ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ وَلَيْسَ فِيهِ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَالْفَضْلُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي التَّقْوِيمِ وَالْبَيْعُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْفَضْلُ يَظْهَرُ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ. وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ بِالدَّرَاهِمِ فَاشْتَرَاهُ بِالدَّنَانِيرِ وَقِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى فَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ؛ وَلِهَذَا جُعِلَا فِي أَغْلَبِ الْأَحْكَامِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لِأَجْلِ الرِّبَا وَبَابُ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ مَمْلُوكُ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَلِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ حَقُّ الْمِلْكِ فَهُوَ كَشِرَاءِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ لِمَكَانِ حَقِّهِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدَيْنِ وَمَنْ اشْتَرَاهُ وَلَدُهُ أَوْ وَالِدُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ فِي مَالِ الْوَالِدِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ اشْتَرَى أَخُوهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ تُجْعَلُ كَشَهَادَةٍ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ شِرَاءُ ابْنِ الْبَائِعِ وَأَبِيهِ كَشِرَاءِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبِيعُ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَمَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَمْلُوكِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ أَخِيهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَرَابَاتِ. قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى وَكِيلُ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ خَمْرٍ لَهُ أَوْ بَيْعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَيَنْزِلُ الْوَكِيلُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْوَكِيلُ عِنْدَهُ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الْمِلْكُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ حُكْمًا فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَهُ الْبَائِعُ مِنْهُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُنَاكَ يُعْتَبَرُ حَالُ الْمُوَكِّلِ وَيُجْعَلُ عَقَدُ الْوَكِيلِ لَهُ كَعَقْدِهِ لِنَفْسِهِ فَهُنَا أَيْضًا يُجْعَلُ كَذَلِكَ وَالْمُوَكِّلُ هُنَا بَائِعٌ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْوَكِيلِ لَهُ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَيَقُولُ هُنَاكَ التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ وَالْوَكِيلُ يَصِيرُ فِي الشِّرَاءِ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ شِرَاءً صَحِيحًا وَمُحَمَّدٌ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ هُنَاكَ الْوَكِيلُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَهُنَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ شِرَاءً فَاسِدًا حَتَّى يَصِيرَ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْخَمْرَ لِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ، وَإِنْ قَبَضَ فَكَذَلِكَ تَوْكِيلُهُ بِالشِّرَاءِ بَاطِلٌ أَمَّا الْبَائِعُ هُنَا فَمِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ انْعَقَدَ شِرَاؤُهُ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ صَحِيحٌ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَبَعْدَ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ شِرَاءُ الْوَكِيلِ كَشِرَاءِ الْمُوَكِّلِ وَقَبْضِ الْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ مَتَى أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إفْسَادُهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ وَهُنَا لَوْ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ كَانَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ كَانَ الشِّرَاءُ فَاسِدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ شِرَاءً صَحِيحًا. وَفِيهِ شُبْهَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ إنَّ الْبَائِعَ أَوْ ابْنَهُ لَا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ وَمَا تَحَصَّلَ لِلْبَائِعِ مِنْ الْمِلْكِ بِشِرَاءِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 الْوَكِيلِ فَوْقَ مَا تَحَصَّلَ بِشِرَاءِ ابْنِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ جُعِلَ هَذَا نَظِيرَ الْخَمْرِ فِي الْوَكَالَة فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فِي شِرَاءِ ابْنِ الْبَائِعِ وَمَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ كَافِرٌ فَاشْتَرَى خَمْرًا جَازَ شِرَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَافِرٌ فَاشْتَرَى خَمْرًا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْكِلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي فِي إزَالَةِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الْمَنْعَ هُنَا لِأَجْلِ الْعَقْدِ لَا لِأَجْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ لَوْ كَانَ هِبَةً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ صَحِيحًا وَكُلُّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ الشِّرَاءُ كَالْبَائِعِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ حَقٌّ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ فَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَلَهُمَا حَقٌّ فِي الْعَقْدَيْنِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخَمْرِ فَهُنَاكَ الْمَنْعُ لِانْعِدَامِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْخَمْرِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ خَاصَّةً، فَإِذَا كَانَ الْعَاقِدُ كَافِرًا صَحَّ الْعَقْدُ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْمِلْكِ أَوْ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ أَوْ شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي وَكِيلَيْنِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّقْدِ لَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا مِنْ مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِمُوَكِّلِ الْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا مِنْ مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ إنَّمَا بَاعَ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ بِنَفْسِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّقْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ. قَالَ وَإِذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةٍ سَنَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِنَسِيئَةٍ سَنَتَيْنِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَجَلِ تُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الثَّمَنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْلَ الْأَجَلِ يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ الْمُؤَجَّلُ أَنْقَصَ مِنْ الْحَالِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ رِبَا النَّسْإِ شَرْعًا فَكَذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ يَزْدَادُ النُّقْصَانُ فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّمَنِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ جَازَ لِأَنَّ الزَّائِدَ فِي الثَّمَنِ الثَّانِي بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ فَيَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ بِهِ مَعْنًى، وَالْمُمْتَنِعُ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الشِّرَاءُ جَائِزًا. قَالَ وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ طَعَامًا بِدَرَاهِمَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الطَّعَامِ يَدًا بِيَدٍ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ أَقَلَّ إذَا لَمْ يَكُنْ طَعَامُهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 الثَّمَنَ دَيْنٌ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ أَيْضًا كَبَدَلِ الْعُرُوضِ وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِالثَّمَنِ حَدِيثُ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ وَرُبَّمَا أَبِيعُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَأْسَ إنْ افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ». قَالَ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ، وَهُوَ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَحَطَّ عَنْهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مَا بَقِيَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَلَكِنْ يَرُدُّ مَا أَخَذَ وَالْمَالُ كُلُّهُ إلَى أَجَلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُقَابَلَةُ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ وَمُقَابَلَةُ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ رِبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ لَوْ زَادَهُ فِي الْمَالِ لِيُؤَجِّلَهُ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِي الْمُؤَجَّلِ إذَا حَطَّ عَنْهُ الْبَعْضَ لِيُعَجِّلَ لَهُ مَا بَقِيَ وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ فَقَالُوا إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا» فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ حُرْمَةِ الرِّبَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا صَالَحَ مَعَ مُكَاتَبِهِ مِنْ الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ فَذَلِكَ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَلَكَهُ وَلَا رِبًا بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَسَيِّدِهِ فَمَا فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا لَا يُعْتَبَرُ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَالسَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ يُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى يَقْصِدُ بِالْكِتَابَةِ الرِّفْقَ بِالْمُكَاتَبِ فَكَذَلِكَ فِي حَطِّ بَعْضِ الْبَدَلِ مَقْصُودُهُ الرِّفْقُ بِهِ لَا مُبَادَلَةَ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ وَكَذَا لَوْ زَادَهُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِيَزِيدَهُ فِي الْأَجَلِ جَازَ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ. قَالَ وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا بِنَسِيئَةٍ فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ جَازِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ ثَبَتَ لِلثَّانِي بِسَبَبٍ جَدِيدٍ فَهُوَ كَعَيْنٍ آخَرَ يَشْتَرِيه بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَارِثِ فَإِنَّ الْبَائِعَ لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ وَارِثِ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ؛ وَلِهَذَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ مُوَرِّثُهُ وَيَجُوزُ إقَالَةُ الْوَارِثِ مَعَ الْبَائِعِ أَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يَقْبَلُ الْعَقْدَ مَعَ بَائِعِ الْمُوصِي وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي؛ فَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ لَهُ وَارِثُ الْبَائِعِ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 مَوْتِ الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ وَارِثِ الْمُشْتَرِي وَأَبُو يُوسُفَ يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْبَائِعِ يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَهُ كَوَارِثِ الْمُشْتَرِي وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَقَدْ كَانَ الْمِلْكُ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ وَمَا كَانَ مِلْكُهُ لِلْوَارِثِ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا مِلْكٌ يَحْصُلُ لِوَارِثِ الْبَائِعِ بِاكْتِسَابِهِ، وَهُوَ لَيْسَ يَخْلُفُ عَنْ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ فَيُجْعَلُ شِرَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ كَشِرَائِهِ فِي حَيَاةِ الْبَائِعِ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِثَمَنِ حِصَّتِهِ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِيهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ وَحْدَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُفْسِدَ لِلْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْعَبْدِ الْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا عُذْرَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّ هَذَا فَسَادٌ ضَعِيفٌ خَفِيٌّ؛ وَلِهَذَا خَفِيَ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يُعَدُّ وَحُكْمُهُ مَحَلُّهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ ظَاهِرًا بِسَبَبِ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مَا بَاعَ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِلتَّصْحِيحِ فَإِنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ بِمُقَابَلَةٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ يَجُوزُ الْعَقْدُ أَيْضًا وَلَا يُقَالُ قَدْ جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ بِهِ الْعَقْدُ فِي الثَّانِي كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي نَظَائِرِ هَذَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ ثَمَنَهُ لَوْ كَانَ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ خِلَافَ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَحِيحًا وَإِنَّمَا الْفَسَادُ لِأَجْلِ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَا عَلَى ضَمَانِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْعَقْدِ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ جَازَ شِرَاءُ الْأَجْنَبِيِّ فِي نِصْفِهِ كَمَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ فِي الْكُلِّ إذَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَاعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ جَازَ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا كَمَا لَوْ دَخَلَهَا عَيْبٌ آخَرُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ إنْ لَمْ يُنْقِصْهَا؛ لِأَنَّ مَا دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَى هَيْئَتِهِ كَمَا كَانَ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ يَحْصُلُ لَهُ رِبْحٌ لَا عَلَى ضَمَانِهِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ شِرَائِهَا فَادَّعَى الْوَلَدَ وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ أَنَّ الْبَائِعَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْصِ مَا تَمَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَكَمَا لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَكَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ أَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَى نَسَبَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِهَا إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِذَا زَعَمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ وَلَدُهُ وَأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَانَ مُنَاقِضًا فِي ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ بِاتِّفَاقٍ فَلَوْ جَعَلَ الْحَالَ بَعْدَ بَيْعِهَا كَالْحَالِ قَبْلَهُ فِي دَعْوَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فِي دَعْوَى أَبِيهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَرَفْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الْبَيْعِ وَحُصُولُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ بِالدَّعْوَى وَحَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِحَقِيقَةِ النَّسَبِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَدَعْوَاهُ قَبْلَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُنْقِصُهُ مَا هُوَ دُونَهُ وَإِنَّمَا يُنْقِصُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لِلْبَائِعِ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ لَرَفْعِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّا لَا نَتَيَقَّنُ هُنَاكَ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَثُبُوتُ حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَهُ وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ أَقْوَى مِمَّا لَا يُتَيَقَّنُ فِيهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِالْعِتْقِ وَالْوَلَاءُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فَيَنْتَقِضُ بِهِ مَا كَانَ مِنْ حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ وَحَاجَتِهِ إلَى النَّسَبِ، وَهُوَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَاهُ أَبُو الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ لِابْنِهِ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ إلَّا بِشَرْطٍ، وَهُوَ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ لِلْجَدِّ حَالَ حَيَاةِ الْأَبِ وَيَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُوجَدُ فِيهِ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ بِالدَّعْوَى؛ فَلِهَذَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ ثُمَّ التَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُلَاعِنَ إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ لِخَفَاءِ أَثَرِ الْعُلُوقِ وَقَدْ يَظُنُّ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فَيَسْتَدْرِكُ ذَلِكَ بِدَعْوَى النَّسَبِ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِاللِّعَانِ وَقَطْعِ النَّسَبِ أَقْوَى مِنْهُ فِي بَيْعِهِ إيَّاهَا، فَإِذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 جَازَ إبْطَالُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِدَعْوَى النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ هُوَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْطَالُ الْبَيْعِ أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاسْتَغْنَى بِهِ الْوَلَدُ عَنْ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّ النَّسَبَ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْمِلُ النَّقْضَ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لَهُ بِالْعِتْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَلَاءِ يُبْطِلُ حَقَّ الِاسْتِلْحَاقِ الثَّابِتِ لِلْبَائِعِ فَاعْتِبَارُ النَّسَبِ أَوْلَى. وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ وَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِيهَا عِنْدَنَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا حَقِّيَّةَ الْمِلْكِ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ الْمِلْكِ وَصَاحِبُ حَقِّيَّةِ الْمِلْكِ يَتَرَجَّحُ فِي الدَّعْوَى كَمَا لَوْ وَلَدَتْ جَارِيَةُ رَجُلٍ فَادَّعَى الْوَلَدَ هُوَ وَأَبُوهُ صَحَّتْ دَعْوَى الْمَوْلَى دُونَ أَبِيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَى الْبَائِعِ سَابِقَةٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَإِنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ وَدَعْوَى الْمُشْتَرِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ سَبَقَ الْبَائِعُ بِالدَّعْوَى كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا سَبَقَتْ مَعْنَى بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْأَبِ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ تَسْتَنِدُ إلَى مَا تَسْتَنِدُ إلَيْهِ دَعْوَى الْآخَرِ إلَّا أَنَّ شَرْطَ دَعْوَى الْأَبِ نَقْلُهَا إلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ اتِّحَادُ هَذَا الشَّرْطِ إذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى الْمَوْلَى بِدَعْوَاهُ، يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي دَعْوَى التَّحْرِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي مِلْكِهِ وَدَعْوَى التَّحْرِيرِ كَالْإِعْتَاقِ أَمَّا دَعْوَى الْبَائِعِ فَدَعْوَى اسْتِيلَاءٍ وَلِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَاهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي مَعًا فَتَكُونُ دَعْوَى الْبَائِعِ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا فَدَعْوَى الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّا لَنْ نَتَيَقَّنَ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ هُنَا، وَلَوْ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَى لَمْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِدَعْوَى الْبَائِعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَى الْبَائِعِ. قَالَ: وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَنَسَبُهُ يَثْبُتُ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ فَحَلَّ لَهُ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ وَلَكِنْ لَا يُنْقَضُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْأُمِّ لِلْوَلَاءِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَثْبُتُ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ كَمَا فِي وَلَد الْمَغْرُور، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَإِنَّ هُنَاكَ دَعْوَى الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ فِي حَقِّ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْأُمُّ تَبَعٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ دَعْوَاهُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَشْتَغِلُ بِتَصْحِيحِهِ فِي الْبَيْعِ فَأَمَّا حَقُّ الْأُمِّ فِي الِاسْتِيلَادِ فَبَيْعٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 وَتَعَذُّرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ؛ فَلِهَذَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا فَيَرُدُّ الْبَائِعُ حِصَّةَ الِابْنِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا لِهَذَا الْوَلَدِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِنَقْضِ الْعَقْدِ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْمَقْصُودِ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا ثُمَّ ادَّعَى النَّسَبَ بَعْدَمَا بَاعَهَا، فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَدَعْوَاهُ فِيهِ كَدَعْوَى التَّحْرِيرِ وَلَا يَعْمَلُ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ صَحَّتْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَالْبَيْعُ الثَّانِي فِي احْتِمَالِ النَّقْضِ كَالْأَوَّلِ فَبِاعْتِبَارِ الدَّعْوَى يَنْقُضُ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا. وَلَوْ وَلَدَتْ عِنْدَهُ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الَّذِي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ لِحَاجَتِهِمَا إلَى النَّسَبِ وَبَقِيَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ فِي مِلْكِهِ عَلَى حَالِهِ ثُمَّ يَنْتَقِضُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْوَلَدِ الْآخَرِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِأَحَدِهِمَا حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلْآخَرِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ انْتِقَاضُ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ انْتِقَاضُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ نُقِضَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَادَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ فَيَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ بَعْدَمَا حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَمَّا هُنَا لَوْ نَقَضْنَا عِتْقَ الْمُشْتَرِي فِي الْوَلَدِ أَثْبَتْنَا فِيهِ مَا هُوَ أَقْوَى، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ] قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ مَمْلُوكًا مُسْلِمًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ جَازَ شِرَاؤُهُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ سَبَبٌ يُكْسِبُهُ إثْبَاتَ أَقْوَى السَّبِيلِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقَرُّ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ هَذَا الْعَقْدِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِدَامَتُهُ كَنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إلَّا مُؤَبَّدًا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 عَلَى بَيْعِهِ. فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الْمِلْكِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إسْلَامَ الْمَمْلُوكِ مَعَ كُفْرِ الْمَالِكِ يَمْنَعُ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ إذَا طَرَأَ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ إذَا اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِذْلَالِ الْمُسْلِمِ وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهِ اسْتِذْلَالُ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَرِقُّ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشِّرَاءِ لَهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ فَيَكُونُ هَذَا فِي الْمَعْنَى كَالِاسْتِرْقَاقِ بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَلِهَذَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ وَلَا يَمْلِكُ الْخَمْرَ بِالشِّرَاءِ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ يَزُولُ مِلْكُهُ وَذُلُّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاكْتِسَابُ سَبَبِ إزَالَةِ الذُّلِّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ إنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ الذُّلِّ، وَهَذَا النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْمُسْلِمَةَ وَلَا يَصِحُّ عَقَدُ النِّكَاحِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ يَشْتَرِي وَالِدَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْنُوعًا عَنْ إذْلَالِ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ هُنَاكَ تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَيَتَخَلَّصُ بِهِ عَنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَالْأُمُورُ بِعَوَاقِبِهَا فَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ يَصِيرُ هَذَا الشِّرَاءُ إكْرَامًا الَا إذْلَالًا؛ وَلِهَذَا قُلْنَا الِابْنُ الْكَافِرُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ الْمُسْلِمَ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْكَافِرُ لِمُسْلِمٍ أَعْتِقْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَيَتَمَلَّكُهُ الْكَافِرُ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْفَصْدِ فَهُوَ جُرْحٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ يَكُونُ دَوَاءً، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ وَفِي إثْبَاتِ الْيَدِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَفِيدُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ مَعْنَى الذُّلِّ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبْضِهِ فَيَقُولُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فَوَاتَ الْقَبْضِ إذَا طَرَأَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ مَنَعَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْمُحْرِمُ إذَا اشْتَرَى طِيبًا لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الصَّيْدِ لِإِحْرَامِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِالِاصْطِيَادِ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْعُمُومَاتُ الْمُجَوِّزَةُ لِلْبَيْعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ يَمْلِكُ بَيْعَ عَبْدِهِ الْمُسْلِمَ فَيَمْلِكُ شِرَاءَهُ كَالْمُسْلِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَكَوْنُ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّصَرُّفِ وَمَا يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَحَلُّ مَحَلًّا لِلتَّصَرُّفِ لِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ كَالشِّرَاءِ فَنُفُوذُ بَيْعِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ وَفِي تَصْحِيحِ الْبَيْعِ إظْهَارُ سُلْطَانِ مَالِكِيَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِذْلَالِ شَيْءٌ حَتَّى يُؤْمَرَ بِهِ شَرْعًا فَكَذَلِكَ فِي تَصْحِيحِ الشِّرَاءِ إثْبَاتُ سُلْطَانِ الْمِلْكِيَّةِ. وَلَا يَكُونُ فِي عَيْنِهِ مِنْ مَعْنَى الْإِذْلَالِ شَيْءٌ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الشِّرَاءِ بَلْ لِمَعْنًى فِي قَصْدِهِ، وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ قَهْرًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الشِّرَاءِ كَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرَاءِ وَقْتَ النِّدَاءِ؛ وَلِهَذَا نَدَبَ الْوَلَدَ إلَى شِرَاءِ أَبِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إذْلَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِشِرَائِهِ الِاسْتِخْدَامَ، وَلَوْ كَانَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ عَيْنِهِ إذْلَالًا لَكَانَ الْقَرِيبُ مَمْنُوعًا عَنْهُ فِي قَرِيبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بِمَعْصِيَةٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا ثُمَّ تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ بِالشِّرَاءِ لَا تَتَبَدَّلُ صِفَةُ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا قَبْلَ شِرَائِهِ وَبَقِيَ مَمْلُوكًا بَعْدَ شِرَائِهِ وَإِنَّمَا تَتَحَوَّلُ الْإِضَافَةُ مِنْ الْمُسْلِمِ إلَى الْكَافِرِ، وَهِيَ إضَافَةٌ مَشْرُوعَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُ الْكَافِرُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَبِالْإِرْثِ تَتَجَدَّدُ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَلَكِنْ لَا يَتَبَدَّلُ وَصْفُ الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ إذْلَالًا بِخِلَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ تَتَبَدَّلُ صِفَةُ الْمَحَلِّ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَالِكًا وَالْمَمْلُوكِيَّة إذَا قُوبِلَتْ بِالْمِلْكِيَّةِ كَانَتْ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَتَجَدَّدُ ثُبُوتُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي الْمَحَلِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ إلَّا أَنَّهُ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِقَامَةِ النَّسْلِ أَثْبَتَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَيَبْقَى فِي حَقِّ الْكَافِرِ إذْلَالًا فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يَبْقَى لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَحَلِّ فَصَارَ الشِّرَاءُ هُنَا فِي مَعْنَى الْإِذْلَالِ بِمَنْزِلَةِ الْبَقَاءِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ لِلنِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَحَلِّ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْمُسْلِمَةُ لَيْسَتْ بِمُتَحَلِّلَةٍ فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَلِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ وَلَكِنْ يَبْقَى؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّ عَارِضٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَيَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْفَوَاتِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ الْمُحْرِمِ يَشْتَرِي صَيْدًا؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ فَإِنَّمَا بَطَلَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَقْصُودِ هَذَا الْعَقْدِ بَلْ يُقَرُّ عَلَى مَقْصُودِهِ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مُوجِبُ الشِّرَاءِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَأَمَّا اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فَلَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ كَالْمُسْلِمِ يَشْتَرِي عَبْدًا مُرْتَدًّا فَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الشِّرَاءِ إظْهَارُ ذُلِّ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى الْكَافِرِ فَيُخَاصِمُهُ وَيَجُرُّهُ إلَى بَابِ الْقَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَلِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْكَافِرُ إذَا اشْتَرَى مُصْحَفًا لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخِفُّ بِهِ فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى إذْلَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَنَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِ الشِّرَاءِ مِنْ إذْلَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ وَكَلَامُنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ أَظْهَرُ فَالْكَافِرُ لَا يَسْتَخِفُّ بِالْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَلَامٌ فَصِيحٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَسْتَخِفُّ بِهِ ثُمَّ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ فِي مِلْكِهِ اسْتَخْدَمَهُ قَهْرًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَفِيهِ ذُلٌّ فَيُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ هَذَا الذُّلِّ، وَذَلِكَ بِبَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُتْرَكُ لِيَبِيعَهُ مِنْ كَافِرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ لَوْ بَاعَهُ جَازَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَظِّمُهُ كَمَا يَجِبْ تَعْظِيمُهُ وَإِذَا تُرِكَ فِي مِلْكِهِ يَمَسُّهُ، وَهُوَ نَجِسٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ مَمْلُوكُ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَلَعَلَّهُ يُسْلِمُ فَيَتْرُكَ الْعَبْدَ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبِي فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَجُوزُ إزَالَتُهُ مَجَّانًا عِنْدَ إبَانَةِ الْإِسْلَامِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْتَرَمٌ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ مَجَّانًا وَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْ الْمُسْلِمِ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ بِقِيمَتِهِ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَالِيَّةَ وَيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ. وَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَبْدٌ وَامْرَأَةٌ لَهُ أَمَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ وَوَلَدُهُ مِنْهَا صَغِيرٌ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ وَوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْرِيقٌ بِحَقٍّ وَجَبَ فِيهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى الِابْنُ الصَّغِيرُ جِنَايَةً فَدَفَعَ بِهَا أَوْ لَزِمَهُ دَيْنٌ فَبِيعَ فِيهِ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْأُمِّ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بِحَقٍّ لَزِمَ ذَلِكَ فِي الْوَلَدِ خَاصَّةً وَاسْتَقَامَ ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ بَيْعُ الْوَلَدِ تُبَاعُ الْأُمُّ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ. قَالَ وَإِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ، وَهُوَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ أُجْبِرَ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِ حِصَّتِهِ مِنْهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَإِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ فَكَاتَبَهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَنُفُوذُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ثُمَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ إزَالَةُ ذِلَّةٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَلَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ عَلَيْهِ قَهْرًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَعْتِقُ وَيَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِهِ فَإِنْ عَجَزَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ حِينَ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ فَظَهَرَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يُكَاتِبْهُ وَلَكِنَّهُ رَهَنَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَحْصُلْ فَالرَّاهِنُ يَسْتَخْدِمُ الْمَرْهُونَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ثُمَّ بَعْدَ الرَّهْنِ هُوَ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فَيَبْقَى فِيهِ حُكْمُهُ، وَهُوَ الْإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ فَأَمَّا بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَإِذَا بِيعَ الْمَرْهُونُ فَيَكُونُ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ قَدْ صَحَّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ فَيَتَحَوَّلُ حُكْمُهُ إلَى بَدَلِهِ كَمَا إذَا قَبِلَ الْمَرْهُونَ وَأَخَذَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ آجَرَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَالْمَقْصُودُ، وَهُوَ إزَالَةُ الْيَدِ عَنْ الْمُسْلِمِ لَا يَحْصُلُ بِالْإِجَارَةِ بَلْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ. وَيَبْقَى هُوَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ثُمَّ تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَجِّرَ إذَا بَاعَ الْمُؤَاجَرَ بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ وَالرَّاهِنُ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ بِرِضَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا، وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ أَوْ أَجَرَهُ، وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ أَجْبَرْتُهُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَمْ أَتْرُكْهُ يَكُونُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْلَالَ هُنَا يَتَقَرَّرُ إذَا تُرِكَ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ إزَالَتُهُ بِالْإِجْبَارِ عَلَى بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَدَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ جَعَلْتُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا مُتَعَذَّرٌ لِمَا يُقِرُّ فِيهَا مِنْ حَقِّ الْعِتْقِ فَيَجِبُ إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِ الْكَافِرِ بِالِاسْتِسْعَاءِ فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ مَا دَامَتْ تَسْعَى وَعِنْدَ زُفَرَ هِيَ حُرَّةٌ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُجْبَرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 عَلَى بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِخَارِجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَإِذَا بَاعَ الْكَافِرُ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْنَعُ بَقَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ أَمْضَاهُ لِكَافِرٍ مِثْلِهِ أَجْزَأَهُ وَأُجْبِرَ ذَلِكَ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً بَعْدَمَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ إذَا كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ أَمْضَى الْعَقْدَ وَالْمُشْتَرِي مُسْلِمٌ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ثُمَّ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِهِ إنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا وَلَا يَفُوتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ بِإِسْلَامِهِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ إذَا كَانَ كَافِرًا وَمَعَ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقَّيْنِ لَا يَجُوزُ تَرْكُ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَرَفَعَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي أَجْبَرَهُ عَلَى الْبَيْعِ إنْ كَانَ شِرَاءٌ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْبَيْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْعَقْدِ لِغِيبَةِ الْبَائِعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْبَائِعُ إضْرَارًا بِالْعَبْدِ وَابَقَاءً لَهُ فِي ذُلِّ الْكَافِرِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ شِرَاءً يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْبَيْعُ فَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهُ وَلَا يُمْكِنُ إجْبَارُهُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَكِنَّهُ مِلْكُ الْغَيْرِ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ. مُسْلِمٌ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ شِرَاءً فَاسِدًا أَجْبَرْتُهُ عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْكَافِرِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ، وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ غَائِبًا فَهُوَ عَلَى حَالَةٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْمُسْلِمِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ. وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا وَهَبَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ جَازَ وَأُجْبِرَ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَبِعْهُ الْكَافِرُ أَوْ يُعَوِّضْ الْمُسْلِمَ مِنْهُ وَالْكَافِرُ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ هُوَ الْوَاهِبُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ كَانَ ثَابِتًا مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ فَلَا يَبْطُلُ بِإِسْلَامِ الْعَبْدِ وَلَكِنْ إذَا رَجَعَ فِيهِ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ. وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ النَّصْرَانِيِّ فَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ نَصْرَانِيٌّ آخَرُ بِبَيِّنَةِ مُسْلِمَيْنِ وَقَدْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ عِتْقَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ وَإِنَّ عِتْقَهُ لَمْ يَنْفُذْ؛ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَيَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 الْبَيْعُ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَقِّ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا أَجْبَرَ عَلَيْهِ الْمَالِكَ الظَّاهِرَ لَهُ حِينَ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا يَوْمئِذٍ وَلَعَلَّهُ يُسْلِمُ لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ. وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَهَا مَمْلُوكٌ مُسْلِمٌ فَأُجْبِرَتْ عَلَى بَيْعِهِ فَبَاعَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا وَاشْتَرَاهُ زَوْجُهَا لِوَلَدٍ لَهُ صَغِيرًا فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ، وَهُوَ إزَالَةُ ذُلِّ الْكَافِرِ عَنْ الْمُسْلِمِ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهَا. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ يَتَامَى مِنْ النَّصَارَى أَسْلَمَ عَبْدٌ لَهُمْ أُجْبِرُوا عَلَى بَيْعِهِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَهُوَ مِلْكُ الْكَافِرِ فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ وَصِيٌّ بَاعَهُ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُمْ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَفِي الْبَيْعِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَصِيٌّ جَعَلَ الْقَاضِي لَهُمْ وَصِيًّا فَبَاعَهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لِلْقَاضِي نَصْبُ الْوَصِيِّ نَظَرًا مِنْهُ لِلْيَتَامَى فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ مِنْهُ نَظَرًا لِلْيَتَامَى وَمُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. قَالَ وَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَبْدٌ نَصْرَانِيٌّ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى عَبْدًا نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَجْبَرْتُهُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مِنْ كَسْبِهِ مَا لَمْ يَقْضِ عَنْهُ الدَّيْنَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ كَمُكَاتَبٍ نَصْرَانِيٍّ لِمُسْلِمٍ أَسْلَمَ عَبْدُهُ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى النَّصْرَانِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَقَالَ أَرُدُّهُ تَرَكْتُهُ حَتَّى يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي بِالرَّدِّ حَقَّهُ وَيَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يُخَاصِمُ عَنْهُ فِي الْعَيْبِ جَازَ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ مَا رَأَى وَلَا رَضِيَ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفَ وَفِي هَذَا الْحُكْمِ يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَاضِي يُحَلِّفُ الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا رَأَى وَلَا رَضِيَ طَلَبَ الْبَائِعِ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِطَلَبِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْخَطَأِ وَلَيْسَ كُلُّ خَصْمٍ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ لِيَسْأَلَ أَوْ يَتَجَاسَرَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ حِشْمَةِ الْقَاضِي فَيَحْتَاطُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَيُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا رَأَى الْعَيْبَ وَلَا رَضِيَ بِهِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى بَيْعٍ ثُمَّ يَقْضِي بِالرَّدِّ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَكَّلَ الْبَائِعُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فَإِقْرَارُ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ جَائِزٌ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي جَوَابِ الْخَصْمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 وَلَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْيَمِينِ لَا تُجْزِئُ وَلَكِنْ يَحْضُرُ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا هَذَا بِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ. قَالَ وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْءٌ مِنْ بُيُوعِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَا خَلَا الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنِّي أُجِيزُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَأَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّهِمْ وَالْأَثَرُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَأَوْضَحْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا وَالتَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَنَذْكُرُ هُنَا حَرْفًا آخَرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ لَمَّا بَقِيَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ فَلَوْ لَمْ نُجِزْ تَصَرُّفَهُمْ فِيهِمَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فَيَكُونُ إضْرَارًا بِهِمْ، وَلَوْ مَنَعْنَاهُمْ عَنْ عُقُودِ الرِّبَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ إلَّا بِطَرِيقِ الرِّبَا. قَالَ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْخَمْرِ وَلَا أَكْلُ ثَمَنِهَا بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ بَائِعَهَا وَالثَّانِي قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا» وَاَللَّهُ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأَكْلَ ثَمَنِهِ وَبِهَذِهِ الْآثَارُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إيَّاهَا. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ عَصِيرًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى صَارَ خَمْرًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ قَبْضُهُ بَعْدَ التَّخَمُّرِ وَبِالْقَبْضِ يَتَأَكَّدُ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ وَيُسْتَفَادُ بِمِلْكِ التَّصَرُّفِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَبْضُ الْخَمْرِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنْ صَارَتْ خَلًّا قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعَا إلَى السُّلْطَانِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ هَكَذَا ذَكَر الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَسَدَ بِالتَّخَمُّرِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ عَلَى الْخَلِّ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ التَّخَمُّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ صَحِيحًا ثُمَّ بِالتَّخَمُّرِ فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْعَارِضِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، وَهُوَ انْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَا مُخَيَّرٌ لِتَغْيِيرِ صِفَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 خَاصَمَهُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا فَأَبْطَلَ الْقَاضِي الْبَيْعَ ثُمَّ صَارَتْ خَلًّا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الْإِبَاقِ إذَا عَادَ بَعْدَمَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ كَانَتْ خَمْرًا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْبَيْعُ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ. وَهُوَ آبِقٌ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ إبَاقِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَعَلَى هَذَا النَّصْرَانِيُّ لَوْ اشْتَرَى مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا ثُمَّ صَارَتْ خَلًّا ثُمَّ أَسْلَمَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ صِفَةِ الْمَبِيعِ، وَإِنْ أَسْلَمَا ثُمَّ صَارَتْ خَلًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ إقْرَاضِ النَّصْرَانِيِّ نَصْرَانِيًّا خَمْرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى النَّصْرَانِيُّ مِنْ النَّصْرَانِيِّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ وَقَدْ قَبَضَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَتِمُّ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ صَاحِبِيهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِفُصُولِهِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ مَا اشْتَرَى لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ مِنْ قَبْلِهِ وَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ مَلِكَ الْمُشْتَرِي الْخَمْرَ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ بَاشَرَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَإِسْلَامُهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا ارْتَهَنَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَالْإِسْلَامُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ بَقِيَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ خَمْرَ الْكَافِرِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ خَمْرَ الْمُسْلِمِ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَهَذَا لِانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ الْخَمْرِ فَبَاعَهَا جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ نَصْرَانِيٌّ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ مُسْلِمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ. وَإِذَا كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَبْدَانِ أَخَوَانِ لَمْ أَكْرَهْ لَهُ أَنْ يُفَرِّق بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفْرِيقِ يَعْنِي أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّفْرِيقِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَالْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ نَحْوَ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِمْ حُكْمُ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 فِي الْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ بُيُوعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.] قَالَ لَيْسَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الْهِبَةِ وَلَا فِي الصَّدَقَةِ وَلَا فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانَ صَغِيرًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ «زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدِمَ بِسَبَايَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَصَفَّحُهُمْ فَرَأَى جَارِيَةً وَالِهَةً فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَأْنِهَا فَقَالَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتَجْنَا إلَى نَفَقَةٍ فَبِعْنَا وَلَدَهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرِكْ أَدْرِكْ لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ شَخْصَانِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ وَهُمَا صَغِيرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ كَذَلِكَ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ فَقَالَ بِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ أَدْرِكْ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرُ يُشْفِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَيَقُومُ بِحَوَائِجِهِ فَفِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إيحَاشُهُمَا وَتَرْكُ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَالْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الشَّفَقَةِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى الْقَرَابَةِ ثُمَّ تَمْتَدُّ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ إلَى الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ الصَّغِيرُ عَنْ الْكَبِيرِ فِي التَّرْبِيَةِ وَاعْتِمَادُنَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَالتَّفْرِيقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْغُلَامُ وَتَحِضْ الْجَارِيَةُ» وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذَا رَاهَقَ الصَّغِيرُ وَرَضِيَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَرُبَّمَا يَرَيَانِ مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ عِنْدَ ذَلِكَ بِرِضَاهُمَا فَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ بِحَوَائِجِهِ، وَرُبَّمَا لَا يَسْتَأْنِسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بَلْ يَسْتَوْحِشُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إذَا اجْتَمَعُوا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا حَرَّمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا. وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ وَوَلَدُهُ الصَّغِيرُ مَمْلُوكٌ لِابْنِ الرَّجُلِ، وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حِجْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْأَبُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَلَدِ لَوْ كَانَ بَالِغًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيُمْسِكَ الْبَاقِيَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا؛ لِأَنَّ فِي مَعْنَى كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَقَاسَ بِمَا لَوْ اشْتَرَى مِصْرَاعَيْ بَابٍ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا أَوْ يُمْسِكَهُمَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُثْبِتَ لِحَقِّ الرَّدِّ لَهُ هُوَ الْعَيْبُ، وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعِيبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ ثُمَّ هَذَا تَفْرِيقٌ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي أَحَدِهِمَا فَيَجُوزُ كَالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ وَالْبَيْعِ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِقْصٌ لَمْ أَكْرَهْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شِقْصَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ بِنَاءً عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ كَانَا مَمْلُوكِينَ لَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ مُسِيئًا وَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ إبْطَالَ الْبَيْعِ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَلَا أُبْطِلُهُ فِي الْأَخَوَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرِكْ أَدْرِكْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِدْرَاكِ بِالِاسْتِرْدَادِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِمَا جَمِيعًا قَالَ الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَرَّقَ لِقُوَّةِ الْوِلَادَةِ وَضَعْفِ الْقَرَابَةِ الْمُتَجَرِّدَةِ عَنْ الْوِلَادَةِ وَحَمَلَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرِكْ عَلَى طَلَبِ الْإِقَالَةِ أَوْ بَيْعِ الْآخَرِ مِمَّنْ بَاعَ مِنْهُ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقِيَاسُ لَهُمَا فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ الْوَحْشَةُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ وَالنَّهْيُ مَتَى كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. قَالَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَاتِبَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ مَآلُهُ الْعِتْقُ فَهُوَ كَالْإِعْتَاقِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْتِقَ أَحَدَهُمَا فَكَذَلِكَ يُكَاتِبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيقَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ بَلْ يَزْدَادُ الِاسْتِئْنَاسُ وَيُمَكَّنُ الْكَبِيرُ مِنْ الْقِيَامِ بِحَوَائِجِ الصَّغِيرِ إذَا كُوتِبَ أَوْ أُعْتِقَ وَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ شِرَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا نَسَمَةً لِلْعِتْقِ وَيُمْسِكَ الْآخَرَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ بَيْعَ نَسَمَةٍ لَيْسَ بِبَيْعٍ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ وَلَكِنَّهُ مِيعَادٌ بَيْنَهُمَا فَرُبَّمَا يَفِي بِهِ الْمُشْتَرِي وَرُبَّمَا لَا يَفِي فَيَبْقَى التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا مُتَحَقِّقًا فِي الْحَالِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ يَشْتَرِي النَّسَمَةَ لِلْعِتْقِ الْوَفَاءُ بِمَا يَعِدُ وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ فَبَيْعُ أَحَدِهِمَا نَسَمَةً كَبَيْعِهِ مِنْ قَرِيبِهِ لِيَعْتِقَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. قَالَ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ فَدَبَّرَ إحْدَاهُمَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا وَالْأُخْرَى صَغِيرَةٌ لَمْ أَكْرَهْ لَهُ بَيْعُ الصَّغِيرَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ بَيْعِهَا فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ التَّفْرِيقُ مُحَالًا عَلَى اخْتِيَارِهِ وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ بَيْعِ إحْدَاهُمَا فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْأُخْرَى، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مُطْلَقٌ فَيَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مِلْكِهِ فَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ وَفِي الْكِتَابَةِ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الْمُكَاتَبِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا. قَالَ وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ لَهُ وَالْآخَرُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ بَيْعِهِمَا مِنْ وَاحِدٍ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ وَمِلْكُ زَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا لِعَبْدٍ لَهُ تَاجِرٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهَا فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لَا يَنْفُذُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا لِمُضَارِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الْمُضَارِبُ مَا عِنْدَهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهُمَا وَلَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمَا. قَالَ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَمَةٌ فَبَاعَهَا عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اشْتَرَى ابْنَهَا كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ فَقَدْ اجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ثُمَّ يَبِيعَهُمَا مَعًا، فَإِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الْأَمَةِ كَانَ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا بِاخْتِيَارِهِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الْفَسْخِ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَاخْتِيَارِهِ إمْضَاءَ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَوْجِبَهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ابْنٌ لَهَا فَاخْتَارَ رَدَّهَا لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكِهِ فَإِنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ لِحَقٍّ لَهُ فِي إحْدَاهُمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ. قَالَ وَيُكْرَهُ لِلْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ التَّاجِرِ مِنْ التَّفْرِيقِ مَا يُكْرَهُ لِلْحُرِّ؛ لِأَنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ وَفِي التَّمَكُّنِ مِنْ بَيْعِهِمَا مَعًا بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّيْنِ وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَمْلُوكُ وَالْحُرُّ. وَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ مِنْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ غَيْرِ النَّسَبِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ أَبِيعُ جَارِيَةً لِي قَدْ أَرْضَعَتْ وَلَدِي فَقَالَ قُلْ مَنْ يَشْتَرِي أُمَّ وَلَدِي، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ وَالْمُصَاهَرَةَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ خَاصَّةً وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرَابَةِ سِوَى الْحُرْمَةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ. قَالَ وَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَمْلُوكَيْنِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى ذَلِكَ تَنْبَنِي كَرَاهِيَةُ التَّفْرِيقِ. قَالَ وَإِذَا اجْتَمَعَ أَخَوَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مِنْ ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ التَّفْرِيقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ بِأَمَانٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ لِأَنِّي إنْ لَمْ أَشْتَرِهِ مِنْهُ لَأَعَادَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَشِرَاؤُهُ مِنْهُ أَقْرَبُ إلَى النَّظَرِ مِنْ مُرَاعَاةِ التَّفْرِيقِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَرِهْتُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا وَلَا يُمَكَّنُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِحُرْمَةِ التَّفْرِيقِ فَالْمُسْلِمُ الْمُشْتَرِي مُخَاطَبٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ التَّفْرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِشِرَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى بَيْعِهِمَا بَلْ هُوَ مُمَكَّنٌ مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُمَا دَارَ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ الْبَائِعُ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ مَعَ الصَّغِيرِ كَبِيرَانِ. وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَبِيرَيْنِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ مِنْ الصَّغِيرِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْأَخَوَيْنِ وَالْخَالَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ أَحَدَ الْكَبِيرَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ هَذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 يُمْنَعُ لِحَقِّ الصَّغِيرِ وَحَقُّهُ مُرَاعًى إذَا تَرَكَ مَعَهُ أَحَدَ الْكَبِيرَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَيَقُومُ الْكَبِيرُ بِحَوَائِجِهِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَرَابَتُهُمَا إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ وَلَا يَبِيعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نَوْعُ شَفَقَةٍ لَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ اسْتِئْنَاسٍ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْآخَرِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبْعَدُ وَالْآخَرُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فِي الْقَرَابَةِ كَالْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْأَبْعَدِ وَيُمْسِكُ الْأَقْرَبَ مَعَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّغِيرِ يَحْصُلُ إذَا أَمْسَكَ الْأَقْرَبَ مَعَهُ وَشَفَقَةُ الْأَقْرَبِ عَلَيْهِ أَظْهَرُ وَالْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْقَرِيبَةِ تَكُونُ الْبَعِيدَةُ كَالْمَعْدُومَةِ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَ اسْتِئْنَاسٍ كَمَا إذَا اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ [بَابُ بَيْعِ الْأَمَةِ الْحَامِلِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ أَنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْبَابَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ مَسَائِلِهِ هُنَاكَ، وَهُوَ بِكِتَابِ الدَّعْوَى أَشْبَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ الْمَسَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ هُنَا أَيْضًا فَمِمَّا زَادَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا حُصُولَ الْعُلُوقِ بِاَلَّتِي وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مِلْكِهِ وَهُمَا تَوَائِمُ فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّيَقُّنِ بِعُلُوقِ أَحَدِهِمَا فِي مِلْكِهِ التَّيَقُّنُ بِعُلُوقِ الْآخَرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ لَا تَصِحُّ دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ خَلَفَ وَلَدًا بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الزَّوْجِ بِالْفِرَاشِ وَبَقِيَ بَعْدَ اللِّعَانِ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى لَا تَنْفُذَ دَعْوَةُ الْغَيْرِ فِيهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْإِكْذَابِ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا وَتُقَامُ حَاجَةُ وَلَدِهِ إلَى ذَلِكَ مَقَامَ حَاجَتِهِ فَأَمَّا نَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْهُ قَبْلَ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ وَلَدِهِ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ صَبِيٌّ لَا يَنْطِقُ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُهُ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ وَيُصَدَّقُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 فِي الِانْتِهَاءِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَدَارَكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِخَفَاءِ أَمْرِ الْعُلُوقِ يُعْذَرُ فِي التَّنَاقُضِ فِيهِ ثُمَّ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ النَّسَبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَشْتَرِي ابْنَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ لَهُ وَلَاؤُهُ وَنَسَبُهُ. وَلَوْ كَانَ عَبْدًا كَبِيرًا أَعْتَقَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَحْرَارِ فَالدَّعْوَى مِنْ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ إذْ هُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ فِي الْكِتَابِ أَسْتَحْسِنُ فِي الصَّغِيرِ كَمَا أَسْتَحْسِنُ فِي الْمُدَبَّرِ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا جَاءَا بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. قَالَ وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَبَاعَ الْمَوْلَى الْأُمَّ مَعَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الَّذِي اشْتَرَى نَسَبَهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَمْلُوكَهُ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَى النَّسَبِ ثُمَّ يَثْبُتُ مِنْهُ نَسَبُ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَوْأَمٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَدَعْوَاهُ دَعْوَى التَّحْرِيرِ وَالتَّوْأَمُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي التَّحْرِيرِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ ادَّعَى الْوَلَدَ الَّذِي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ وَانْتَقَضَ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ كَانَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَدَعْوَاهُ تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ الَّذِي بَقِيَ عِنْدَهُ وَالتَّوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفْصَلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْصُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي لِضَرُورَةِ إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لَهُ. قَالَ وَإِذَا بَاعَ أَمَةً حَامِلًا فَخَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ حَمْلَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ عَبْدٍ لَهُ كَانَ زَوْجًا لَهَا وَلَيْسَ هَذَا بِتَعْلِيمٍ لِلْكَذِبِ وَلَا أَمْرٌ بِهِ فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِحُكْمِ أَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ بِذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا بَقِيَّةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِعْتَاقِ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إنْ صَدَّقَهُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِإِقْرَارِهِ حُكْمَيْنِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ وَاثِبَاتٌ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ مَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ الْمُقِرِّ فَإِنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ لَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ خُصُوصًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِقْرَارُ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ يَبْطُلُ مِنْ أَصْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَاسَا النَّسَبَ بِالْوَلَاءِ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 أَعْتَقَهَا فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ وَلَاءَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ الْوَلَاءُ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ لِمَوْلَى الْأُمِّ إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا، فَإِذَا عَتَقَ الْأَبُ تَحَوَّلَ وَلَاؤُهُ إلَيْهِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَعِنْدَمَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ. قَالَ أَمَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ صَحَّتْ دَعْوَاهُ وَبَطَلَ الْبَيْعُ فَيَكُونُ هَذَا كَحُكْمِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا، وَلَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وَبَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَدَعْوَى الْبَائِعِ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَيَثْبُتُ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ فَيَكُونُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بَاطِلًا، وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَهِيَ حَامِلٌ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي الْحَبَلَ وَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَاَلَّذِي لَمْ يَبِعْ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْبَائِعِ وَمِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَالْعُلُوقُ حَصَلَ فِي مِلْكِهَا وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي مَا نَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ وَيَرُدُّ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ نِصْفَ الْعَقْدِ لِإِقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ قَوْلُهُ وَيَرُدُّ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ نِصْفَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ وَالصَّوَابُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الْعَقْدِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا وَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِوَطْئِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ دَعْوَى النَّسَبِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعَقْدِ لِلشَّرِيكَيْنِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَمِنْ الَّذِي لَمْ يَبِعْ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى الْبَائِعِ وَلَكِنَّ عَلَى الْبَائِعِ نِصْفَ الْعَقْدِ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الْعَقْدِ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ سَوَاءٌ كَانَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِشُبْهَةٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي عَقْدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ شِرَائِهِ وَإِنَّمَا زَعَمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ شِرَائِهِ فِي ضِمْنِ دَعْوَى النَّسَبِ؛ فَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَاب الِاسْتِبْرَاءِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمَوَالِي فَيُفِيدُ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَا تَضْرِبْ فُلَانًا يَكُونُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 ذَلِكَ نَهْيًا لِلضَّارِبِ عَنْ الضَّرْبِ لَا خِطَابًا لِلْمَضْرُوبِ وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْبِيَّةِ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ فِيهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَبِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْمُشْتَرَاةُ أَوْ الْمَوْهُوبَةُ وَوُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْمُشْتَرَاةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَصِيَانَةُ مَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الْخَلْطِ بِمَاءِ غَيْرِهِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَنْ يَصِيرَ مَاؤُهُ سَاقِيًا زَرْعَ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ عِلَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ بَاعَهَا أَبُوهُ أَوْ اشْتَرَاهَا، وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ مَمْلُوكٍ لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ، وَهِيَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا تَيَقَّنَ فَرَاغَ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ كَاسْمِهِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَقَاسَ بِالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ فِي حَالِ الدُّخُولِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ حِكْمَةُ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلَّةِ لَا بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ اشْتِغَالُ رَحِمِهَا بِالْمَاءِ عِنْدَ الشِّرَاءِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ شَرْعًا بِالْعَيْبِ الظَّاهِرِ. وَهُوَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَدَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ لَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَنْظُرُ مِنْهَا إلَى عَوْرَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ الْبَائِعِ وَأَنَّ الْبَيْعَ فِيهَا بَاطِلٌ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ كَالْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهَذَا مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَيَحْرُمُ بِحُرْمَةِ الْوَطْءِ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حَرُمَ عَلَيْهِ دَوَاعِيهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ بِسَبَبِ الْحَيْضِ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِالنَّصِّ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ ثُمَّ الدَّوَاعِي هُنَاكَ لَا تُوقِعُهُ فِي ارْتِكَابِ الْحَرَامِ لِنُفْرَةٍ فِي طَبْعِهِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْأَذَى وَالدَّوَاعِي هُنَا مُوقِعَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَهُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهُ رَاغِبٌ فِيهَا غَايَةَ الرَّغْبَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ شَرْعًا فَكُلُّ شَهْرٍ يَشْتَمِلُ عَلَى حَيْضٍ وَطُهْرٍ عَادَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ مَقَامَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي الْعِدَّةِ وَمُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ ثُلُثُ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِشَهْرٍ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِلنَّصِّ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ لَا تَحْتَمِلُ التَّحَرِّي لِتَعَذُّرِ الِاسْتِبْرَاءِ بِبَعْضِهَا، فَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ جُزْءٍ مِنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْكُلِّ وَالْمَقْصُودُ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَقْصُودِ قَبْلَ الْوَضْعِ بَلْ يَزْدَادُ مَعْنَى الِاشْتِغَالِ بِمُضِيِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلِهَذَا قَدَّرْنَا الِاسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَإِذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ تَرَكَهَا حَتَّى إذَا اسْتَبَانَ لَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَقَعَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ لِيَتَيَقَّنَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَوُقُوعُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ إذْ مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَوْ كَانَتْ حُبْلَى لَظَهَرَ ذَلِكَ بِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرٌ بِشَيْءٍ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ أَوْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَكَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اعْتِبَارًا بِأَكْثَرِ الْعِدَّةِ، وَهِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ أَطْوَلَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ هَذَا، فَإِذَا كَانَ بِأَقْوَى السَّبَبَيْنِ. وَهُوَ النِّكَاحُ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ الِاعْتِدَادُ إلَّا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ فَفِي أَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ، وَهُوَ الْمِلْكُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي اسْتِبْرَائِهَا زِيَادَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَقَالَ زُفَرُ يَسْتَبْرِئُهَا بِحَوْلَيْنِ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَكَانَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ يَقُولُ يَسْتَبْرِئُهَا بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَبَلِ فِي النِّسَاءِ عَادَةً قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ. وَلَوْ مَلَكَهَا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوَمِيرَاثً أَوْ جِنَايَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَوْ جُعْلِ كِتَابَةٍ أَوْ خُلْعٍ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهَا لِحُدُوثِ مِلْكِ الْحِلِّ لَهُ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ فِي جَارِيَةٍ شِقْصٌ فَمَلَكَ الْبَاقِيَ مِنْهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَكُونُ بَعْدَ مِلْكِهِ جَمِيعَ رَقَبَتِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِ الْعِلَّةِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ كَمَالِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا بِبَعْضِ الْعِلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَاهَا، وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَحْتَسِبْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا كَمَا طَهُرَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ رَحِمِهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الشَّرْعُ أَلْزَمَهُ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ وَالْحَيْضَةُ لَا تَتَجَزَّأُ وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِسَابُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِمَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَا يَحْتَسِبُ بِجَمِيعِهَا مِنْهُ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَا يَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَسِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحَيْضَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَعَلَيْهِ إكْمَالُهَا مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ وَجَبَتْ كُلُّهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَاضَتْ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ إلَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّا نَقُولُ مِلْكُ الْوَطْءِ بِسَبَبِ تِلْكَ الرَّقَبَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 إنَّمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ تَصَرُّفٌ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ فَالْحَيْضَةُ الَّتِي تُوجَدُ قَبْلَ هَذَا لَا يَحْتَسِبُ بِهَا وَلَكِنَّ الْمَوْجُودَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ وَالْمَوْجُودُ قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّوَائِدِ الْحَادِثَةِ وَالتَّخَمُّرُ فِي الْعَصِيرِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَتْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ لِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ فِيهَا كَيَدِ الْبَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَهَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ. قَالَ وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى تَارَكَهُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِيهَا فَفِي الْقِيَاسِ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الِاسْتِحْسَانِ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا بِالْبَيْعِ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِالْإِقَالَةِ فَقَدْ حَدَثَ لَهُ فِيهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا فِي ضَمَانِ مِلْكِهِ مَا بَقِيَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ هَلَكَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ بَقَاؤُهُ فِيهَا كَبَقَاءِ الْمِلْكِ فَأَمَّا إذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ تَقَايَلَا فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ وَثَبَتَ مِلْكُ الْحِلِّ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا عَادَتْ إلَيْهِ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ كَمَا لَوْ اسْتَبْرَأَهَا ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ فَارَقَ حَتَّى تَقَايَلَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِرَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً لَا تَحِيضُ فَاسْتَبْرَأَهَا بِعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ حَاضَتْ بَطَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ وَإِكْمَالُ الْبَدَلِ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَكِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ وَإِذَا حَاضَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي حَيْضَةً ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا لَمْ يَقْرَبْهَا الْبَائِعُ حَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَمَا حَدَثَ مِلْكُ الْحِلِّ فِيهَا لِغَيْرِهِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا سَوَاءٌ كَانَ عَوْدُهَا إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ أَوْ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شِقْصًا مِنْهَا ثُمَّ اسْتَقَالَهُ الْبَيْعَ فِيهَا أَوْ اشْتَرَاهَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْبَعْضِ كَبَيْعِ الْكُلِّ فِي زَوَالِ مِلْكِ الْحِلِّ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ تَجَدُّدِ الْحِلِّ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ فَلَزِمَهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ. قَالَ وَإِذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ أَوْ رُدَّتْ عَلَيْهِ الْمُؤَجَّرَةُ لِلْخِدْمَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ مَا زَالَ عَنْهُ بِمَا عَرَضَ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ سَبَبَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَخْتَلَّ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَبِارْتِفَاعِهَا لَا يَتَجَدَّدُ مِلْكُ الْحِلِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ أُمَّتَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 ثُمَّ عَجَزَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ صَارَتْ كَالْخَارِجَةِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَغْرَمَ بِوَطْئِهَا الْعَقْدَ لَهَا وَيَغْرَمُ الْأَرْشَ لَهَا لَوْ جَنَى عَلَيْهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ يَدًا فَتَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَهَا ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ فَارَقَهَا الزَّوْجُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ زَالَ عَنْهُ بِالتَّزْوِيجِ فَكَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْعَبْدُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يُقَالُ زَالَ مِلْكُهُ وَانْحَلَّ وَإِنَّمَا كَاتَبَهُ لِيَعْتِقَ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا أَنَّ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهَا مِلْكُ الْيَدِ فِي مَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا وَمِلْكُ الْحِلِّ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَبِسَبَبِ الْكِتَابَةِ لَا يَخْتَلُّ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنَّمَا يَغْرَمُ الْأَرْشَ وَالْعَقْدَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ وَقَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ بِكَسْبِهَا، فَإِذَا عَجَزَتْ فَإِنَّمَا تَقَرَّرَ لَهُ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ بَاقِيًا فَلَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ فَأَمَّا الزَّوْجَةُ إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا. فَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ يُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ فَالْعِدَّةُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهُوَ حَقُّ النِّكَاحِ لَا حَقَّ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا حَلَّتْ لَهُ كَانَ ذَلِكَ حِلًّا مُتَجَدِّدًا وَفِي الْكِتَابَة مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَجْعَلَ ذَلِكَ حِلًّا مُتَجَدِّدًا لَهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ مِلْكِ النِّكَاحِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ وَالْوَظِيفَةُ فِي النِّكَاحِ الْعِدَّةُ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَا هُوَ وَظِيفَةُ النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً كَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ وَيَطَؤُهَا زَوْجُهَا بِالنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ. وَلَوْ وَهَبَهَا لِوَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ثُمَّ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا لِحُدُوثِ مِلْكِ الْحِلِّ لَهُ بِسَبَبِ تَجَدُّدِ مِلْكِ الرَّقَبَة، وَلَوْ بَاعَهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ نَقَضَ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْحِلِّ لَهُ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَالْحِلُّ الَّذِي كَانَ لَهُ بَاقٍ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ فَبِفَسْخِ الْبَيْعِ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ مِلْكُ الْحِلِّ فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَرَدَّهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْهَا مَعَ بَقَاءِ خِيَارِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ كَرَدِّهَا بِخِيَارِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَإِذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي عَلَى شِرَاءٍ فَاسِدٍ ثُمَّ رَدَّهَا الْقَاضِي عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ رَقَبَتَهَا بِالْقَبْضِ فَيَحْدُثُ الْحِلُّ لِلْبَائِعِ بِمَا عَادَ إلَيْهِ مِنْ الْمِلْكِ. قَالَ وَإِذَا غَصْبَ جَارِيَةً فَبَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَوَطِئَهَا ثُمَّ خَاصَمَ مَوْلَاهَا الْأَوَّلَ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْغَاصِبِ غَاصِبٌ كَالْأَوَّلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَغْصُوبَةَ مِنْهُ إذَا اسْتَرَدَّ الْمَغْصُوبَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا حَلَّتْ لِلْمُشْتَرِيَّ حِينَ اشْتَرَاهَا وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ غَاصِبٌ وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَى شِرَائِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبَائِعَ مَالِكٌ فَيَثْبُتُ لَهُ الْحِلُّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتُ لَهُ الْحِلُّ فِيهَا بَاطِنًا فَلِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ ظَاهِرًا قُلْنَا إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَلِعَدَمِ ثُبُوتِ الْحِلِّ فِيهَا بَاطِنًا قُلْنَا إذَا لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِحَقِيقَةِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ بِشُبْهَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ غَاصِبٌ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا اسْتَرَدَّهَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ هُنَا. وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ وَطْئِهَا وَفِي الْأَوَّلِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَسُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ لَا بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ فِيهَا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ لِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتِبْرَاءٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَطَأْهَا الْمُشْتَرِي. قَالَ وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ أُمَّتَهُ وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقْرَبَهَا بَعْدَمَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ. هَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِسَبَبِهِ وَالْعِدَّةُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ. قَالَ وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَلَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ لَهُ فِيهَا حَدَثَ بِالشِّرَاءِ وَوَطْؤُهُ إيَّاهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ حَرَامًا وَارْتِكَابُ الْمُحْرِمِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ أَبِيهِ أَوْ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا لِحُدُوثِ مِلْكِ الْحِلِّ لَهُ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْ عَبْدٍ تَاجِرٍ لَهُ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ إنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ حَيْضَةً بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَلَكَ رَقَبَتَهَا مِنْ وَقْتِ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَقَدْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَيْضَةً فَيَكْفِيهِ ذَلِكَ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا لَهُ وَكِيلُهُ فَحَاضَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ حَيْضَةً وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا دَيْنَ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا جَازَ عِتْقُهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ أَيْضًا بِسَبَبِ دَيْنِهِمْ وَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا حَاضَتْ بَعْدَمَا صَارَ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِهَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَمَا يَشْتَرِيهَا مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا عِنْدَهُ حَتَّى إذَا أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَإِنَّمَا حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ حِينَ اشْتَرَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. قَالَ: وَإِنْ وَهَبَ جَارِيَتَهُ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا حَلَّتْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَتَجَدَّدَ لِلْوَاهِبِ مِلْكُ الْحِلِّ فِيهَا بِالرُّجُوعِ بَعْدَمَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَ الْمَأْسُورَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَانُوا مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُمْ فَتَجَدَّدَ لَهُ فِيهَا مِلْكُ الْحِلِّ حِينَ اسْتَرَدَّهَا، وَإِنْ أَبَقَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذُوهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآبِقُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَى الْمَوْلَى بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. قَالَ وَإِذَا بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْهَا فَإِنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِيهَا كَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَمَلُّكِهَا بِالشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ لَمْ يَفْسُدْ نِكَاحُهَا، وَلَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ فِيهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ ادَّعَاهُ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا مِلْكُ الْحِلِّ لِغَيْرِهِ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ. قَالَ: وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَبِيعَ أُمَّتَهُ وَقَدْ كَانَ يَطَؤُهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهَذَا الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الشَّاغِلِ لِرَحِمِهَا بِمَائِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُنَاكَ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ لَا مُسْتَحَبَّةٌ فَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاءُ هُنَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ لِتَوَهُّمِ سَبَبِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ فَلَأَنْ يَجِبَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِسَبَبِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ نَظِيرُ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ وُجُوبُ الْعِدَّةِ يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءَ عِنْدَ إزَالَةِ الْمِلْكِ لَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمَوْلَى لِصِيَانَةِ مَاءِ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا عِنْدَ الشِّرَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَمَعْنَى صِيَانَةِ مَائِهِ يَحْصُلُ بِإِيجَابِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يَسْتَبْرِئَهَا الْمُشْتَرِي فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا احْتِيَاطًا وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهَا فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَجْتَزِئَ بِذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ تَبَيُّنَ فَرَاغِ رَحِمِهَا يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حَدَثَ مِلْكُ الْحِلِّ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. وَلَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ بَلْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا يُسْتَحَبُّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بَعْدَمَا وَطِئَهَا صِيَانَةً لِمَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا لِيَحْصُلَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ لَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَهُنَاكَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فَيَحْصُلَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَإِنْ زَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى لَا عَلَى الْأَمَةِ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَزْوِيجِهَا وَالْأَحْسَنُ لِلزَّوْجِ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِرَجُلَيْنِ يُؤْمِنَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ» وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَظِيفَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَظِيفَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَمَا لَا يَنْقُلُ وَظِيفَةَ النِّكَاحِ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْقُلُ وَظِيفَةَ مِلْكِ الْيَمِينِ إلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُدَبَّرَتَهُ فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْأَمَةِ. قَالَ: وَإِذَا زَنَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَا وَالشَّرْعُ مَا جَعَلَ لِلزَّانِي إلَّا الْحَجَرَ وَلَيْسَ فِي الزِّنَا اسْتِبْرَاءٌ وَلَا عِدَّةٌ وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ صِيَانَةً لِمَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الْخَلْطِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 بِمَاءِ غَيْرِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الزِّنَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا كَانَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ». قَالَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا كُلَّهَا وَسَلَّمَ الْآخَرَ الْبَيْعَ بَعْدَمَا حَاضَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي حَيْضَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ جَوَازِ الْبَيْعِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ لَهُ مَا لَمْ يَمْلِكْ جَمِيعَ رَقَبَتِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَةِ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَمَةَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَحَاضَتْ عِنْدَهُ حَيْضَةً ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ الْبَيْعَ عِنْدَنَا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا وَيَجْعَلُ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَلْغُو بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالِهِ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْفَسْخِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْفَاسِدُ مِنْ الْعُقُودِ عِنْدَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» فَكَوْنُ بَيْعِ مَا يُقْبَضُ وَلَمْ يُمْلَكْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلًّا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ انْعِقَادَ الْعَقْدِ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا وَيَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ لِلْعَاقِدِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ يَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ انْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْمُتَصَرِّفِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يُوجِبُ إلْغَاءَهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَلْغُو ذَلِكَ وَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ إيجَابِ الْبَائِعِ قَدْ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الثَّمَنِ إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَهُوَ مَحَلُّ وِلَايَتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا بَاعَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ لَهُ إجَازَةُ الْبَائِعِ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ الْعَاقِدِ عَلَى الْمَحَلِّ يَدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْآبِقَ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ إبَاقِهِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْبَيْعُ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ وِلَايَتُهُ مِلْكًا وَيَدًا عَلَى الْمَحَلِّ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ وَرِثَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَا يَنْفُذُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفُذَ هَذَا الْعَقْدُ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَلَأَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ بِإِجَازَتِهِ أَوْلَى وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَفَعَ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي صَفْقَتِكَ فَأَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فَقَدْ بَاعَ مَا اشْتَرَى لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَانَ هُوَ وَكِيلًا مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ نَقْلٍ، وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ لَهُ فَالْمَنْقُولُ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ وَكِيلًا بِمُطْلَقِ التَّصَرُّفِ. «وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَارًا إلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى بِالدِّينَارِ شَاتَيْنِ ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالْأُخْرَى مَعَ الدِّينَارِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَوَّزَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ وَدَعَا لَهُ بِالْخَيْرِ»، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِرْدَادِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَلْغُو كَمَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَالِكِ وَكَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَبِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مِمَّنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ وَهُوَ فِعْلُ اللِّسَانِ فَحَدُّهُ مَا هُوَ حَدُّ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَتَحْقِيقُ الْفِعْلِ يَنْتَقِلُ مِنْ فَاعِلٍ فِي مَحَلٍّ يَنْفَعِلُ فِيهِ فَهَذَا يَكُونُ حَدَّ التَّصَرُّفِ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ تَحَقَّقَ بِهِ وُجُودُهُ ثُمَّ قَدْ يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ شَرْعًا لِمَانِعٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْمَانِعِ وَبِالْإِجَارَةِ يَزُولُ الْمَانِعُ وَهُوَ عَدَمُ رِضَى الْمَالِكِ بِهِ وَبَيَانُ الْأَهْلِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ أَنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْكَلَامِ حَقِيقَةً بِالتَّمَيُّزِ وَاعْتِبَارُهُ شَرْعًا بِالْخِطَابِ وَبَيَانُ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَالْمَحَلُّ إنَّمَا يَكُونُ مَحَلًّا بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَبِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لِلْعَاقِدِ فِي الْمَحَلِّ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ جَازَ وَمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ فَبِالْإِذْنِ لَا يَصِيرُ مَحَلًّا، وَلَوْ بَاعَهُ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ جَازَ وَالْمَحَلِّيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمُتَصَرِّفِ مَالِكًا أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ. فَإِذَا قَبِلَ اعْتِبَارَ التَّصَرُّفِ شَرْعًا لِحُكْمِهِ لَا لِعَيْنِهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْكَامُهَا وَاشْتِرَاطُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لِأَجْلِ الْحُكْمِ فَالتَّمْلِيكُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَصَرِّفُ مَالِكًا لَغَا تَصَرُّفُهُ لِانْعِدَامِ حُكْمِهِ فَفِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ لِهَذَا التَّصَرُّفِ بَلْ يَثْبُتُ حُكْمٌ يَلِيقُ بِالسَّبَبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ الْمَوْقُوفِ مِلْكُ الْمَوْقُوفِ كَمَا يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ الْبَاتِّ مِلْكٌ بَاتٌّ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ نَفَذَ عِتْقُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ فِي إثْبَاتِ مِلْكٍ مَوْقُوفٍ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي انْعِقَادِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا الضَّرَرُ فِي زَوَالِ مِلْكِهِ وَبِالْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 الْبَاتُّ، وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يَلْغُو إذَا خَلَا عَنْ الْحُكْمِ شَرْعًا فَأَمَّا إذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ الْحُكْمُ فَلَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَتَّصِلُ بِالسَّبَبِ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهُنَا الْحُكْمُ يَتَأَخَّرُ إلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَا يَنْعَدِمُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ وَفِي تَأْخِيرِ الْحُكْمِ إلَى وُجُودِ الْإِجَازَةِ تَوَفُّرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا صَارَ مُسْتَنِدًا بِالنَّظَرِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ فَيَكُونُ فِيهِ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ لَهُ فَلِهَذَا انْعَقَدَ السَّبَبُ فِي الْحَالِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِخِلَافِ بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ فَهُنَاكَ لَغَا الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ وَالْمَحَلُّ غَيْرُ مَمْلُوكٍ أَصْلًا وَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الصَّبِيِّ امْرَأَتَهُ إنَّمَا لَغَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْمُتَصَرِّفِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِ الصَّبِيِّ وَتَمَيُّزِهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ. وَمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا يَنْعَدِمُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُجْعَلُ أَهْلًا بِاعْتِبَارِهِ وَدَلِيلُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ هَذَا التَّصَرُّفَ وَإِنَّمَا لَغَا لِانْعِدَامِ حُكْمِهِ أَصْلًا فَامْرَأَةُ الصَّبِيِّ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْإِيقَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَلَا بِإِيقَاعِهِ فَأَمَّا مَالُ الْغَيْرِ فَمَحَلُّ الْحُكْمِ الْبَيْعُ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهِ حُكْمُ الْبَيْعِ عِنْدَ إذْنِ الْمَالِكِ أَوْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْآبِقِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ لَغْوًا بَلْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ قُدْرَةُ الْعَاقِدِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الْعَاقِدُ مَا بَاعَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْحَادِثِ لَهُ فَحُكْمُ السَّبَبِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَى مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ مَنْ كَانَ مَالِكًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِإِزَالَتِهِ فَلَوْ نَفَذَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْحَادِثِ نَفَذَ مَقْصُودًا عَلَى الْحَالِ وَحُكْمُ السَّبَبِ لَيْسَ هَذَا فَأَمَّا عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَأَرَادَ تَسْلِيمَهُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ «حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِينِي فَيَطْلُبُ مِنِّي سِلْعَةً لَيْسَتْ عِنْدِي فَأَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَشْتَرِيهَا فَأُسْلِمُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ فَالْمِلْكُ النَّافِذُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَالْحِلِّ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَسِبُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَتِلْكَ دُونَ الْحَيْضَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْتَسِبُ بِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمَالِكَ لَهَا فَسَلَّمَهَا وَحَاضَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 بَعْدَمَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَحْتَسِبُ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَإِنَّ عِنْدَنَا الْبَيْعُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا بَعْدَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَمَا لَمْ يَفْتَرِقَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ وَيَرْضَى بِهِ صَاحِبُهُ وَلَهُ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَا يَكُونَا مُتَبَايِعَيْنِ إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَالْمُرَادُ التَّفَرُّقُ عَنْ الْمَجْلِسِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ» وَرَاوِي الْحَدِيثِ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ فُهِمَ مِنْهُ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْمَجْلِسِ عَلَى مَا يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى هُنَيَّة وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَالِ فَلَا يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ كَعَقْدِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبْضُ. وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ مُبْتَذَلٌ تَكْثُرُ الْمُعَامَلَةُ فِيهِ وَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ وَالْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بَعْدَ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فَأَثْبَتَ الشَّرْعُ الْخِيَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ فِي الْعَادَةِ لَا يَقَعُ بَغْتَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِطْبَةِ وَالْمُرَاوَدَةِ ثُمَّ إنَّمَا تُقَدِّرُ هَذَا الْخِيَارَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ فِي الْمَجْلِسِ كَالْقَبْضِ الْمُقْتَرَنِ بِالْعَقْدِ ثُمَّ حَالَةُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَمَامِ النَّظَرِ وَالرِّوَايَةِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَقَدْ شَرَطَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُهُمَا الْوَفَاءُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَالصَّفْقَةُ هِيَ النَّافِذَةُ اللَّازِمَةُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ لَازِمٌ وَغَيْرُ لَازِمٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِي كُلِّ بَيْعٍ فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يُوجِبُ اللُّزُومَ بِنَفْسِهِ كَالنِّكَاحِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ يَتَقَوَّى بِصِفَةِ الْمُعَاوَضَةِ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَوْتُهُ فِي حُكْمِهِ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ وَبِهِ فَارَقَ التَّبَرُّعَ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعِوَضِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ لُزُومُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ تَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَبِهِ يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِبَقَائِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْعَقْدُ مَعَ بَقَائِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الرِّضَا وَإِيجَابِ الْعَقْدِ مُطْلَقًا أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ثُمَّ الشَّرْعُ مَكَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَفْعِ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ لَا يُنْظَرْ لَهُ ثُمَّ الْفَسْخُ ضِدَّ الْعَقْدِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ لَا يَحْصُلُ بِالْفَسْخِ بَلْ هُوَ مُتَعَيَّنٌ فِي إمْضَاءِ الْعَقْدِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَكَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْفَسْخِ إذَا ظَهَرَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ تَحْصِيلَ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلِ وَفِي لُزُومِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا تَفْوِيتُهُ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَرِوَايَةُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَفَتْوَى الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ ضَعْفِهِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ إنْ صَحَّ الْمُتَسَاوِمَانِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَهُمَا حَالَةُ التَّشَاغُلِ بِالْعَقْدِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ كَالْمُقَابِلَيْنِ وَالْمُنَاظِرَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَاوِمَيْنِ الْخِيَارَ. أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ التَّفَرُّقُ بِالْقَوْلِ دُونَ الْمَكَانِ يَعْنِي أَنَّهُمَا جَمِيعًا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَا فَسْخَا الْبَيْعَ بِالْإِقَالَةِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقْ رَأْيُهُمَا فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا فَيَقُولُ الْآخَرُ: بِعْتُ وَبِهِ يَتَأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَهُمَا مُتَبَايِعَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِوُجُودِ التَّكَلُّمِ بِالْبَيْعِ مِنْهُمَا وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ إنْ شَاءَ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ حَتَّى يَتِمَّ الْبَيْعُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ الْبَائِعُ أَوْ قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ. قَالَ: وَإِذَا ارْتَدَّتْ أَمَةٌ لِرَجُلٍ ثُمَّ تَابَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ وَلَمْ تَحِلَّ لِغَيْرِهِ إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لِعَارِضِ الرِّدَّةِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالْحَيْضِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَهَا زَوْجٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْقَبْضِ وَهِيَ فَارِغَةٌ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ عِنْدَ الْقَبْضِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 فَوُجُودُ النِّكَاحِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ فَحَقُّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ مِلْكِ الْحِلِّ لَهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ الْقَبْضِ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالطَّلَاقُ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي أَنَّ الزَّوْجَ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ. وَلَوْ اسْتَبْرَأَهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ زَوَّجَهَا فَإِنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَلَمْ تَحِضْ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِدَّةَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْعِدَّةِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَقَبْلَ أَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ لَمْ يَطَأْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ قَدْ وَجَبَ هُنَا حِينَ قَبَضَهَا وَهِيَ فَارِغَةٌ وَبِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ لَا إلَى أَثَرٍ فَيَظْهَرُ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ حَيْضَةً عِنْدَ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَجْزَأَتْ تِلْكَ الْحَيْضَةُ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهَا حَاضَتْهَا بَعْدَمَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَبِتِلْكَ الْحَيْضَةِ يَتَبَيَّنُ فَرَاغُ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ فَيَجْتَزِئُ بِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهَا حَاضَتْهَا بَعْدَمَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْقَبْضِ وَفِي كِتَابِ الْحِيَلِ قَالَ: إنْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي عَبْدًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا ثُمَّ قَبَضَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَقَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَهُوَ صَحِيحٌ فَتَزْوِيجُهُ إيَّاهَا قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ كَالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ بِسَبَبِ الْغَرَرِ أَوْ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ قَبَضَهَا وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذِهِ هِيَ الْحِيلَةُ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا فَيَقْبِضَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا الْفِرَاشُ فَإِنَّمَا اشْتَرَاهَا وَهِيَ فِرَاشُهُ وَقِيَامُ الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ شَرْعًا ثُمَّ الْحِلُّ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ. لِأَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ حُكْمٍ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَفَاءِ بِهِ إذَا لَزِمَهُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ الْفِرَارُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَيْسَ مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُكْرَهُ لَهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْفِرَارِ وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْأُخْتَيْنِ] قَالَ: وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَ الثَّانِيَةَ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وَكَانَ فِي هَذَا الْفَصْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَكَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَحَلَّتْهَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرَجِّحُ آيَةَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَطْئًا فَهُوَ نَصٌّ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَالنِّكَاحُ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِلْوَطْءِ فَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطْئًا وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتِيَاطًا لِتَغْلِيبِ الْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ وَلِذَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ». وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْأُولَى حَتَّى اشْتَرَى الثَّانِيَةَ أَوْ اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَبِوَطْءِ إحْدَاهُمَا لَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِمَا هُوَ الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَطْئًا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْأُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَطْئًا، فَإِنْ وَطِئَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَبَّلَهُمَا أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجَيْهِمَا بِشَهْوَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ بِارْتِكَابِ الْجَمْعِ الْمُحَرَّمِ فَكَمَا يُحَرَّمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي دَوَاعِي الْوَطْءِ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الدَّوَاعِي كَالنِّكَاحِ وَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ إحْدَاهُمَا بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ تَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَ إحْدَاهُمَا، وَالْآخِرَةُ مَوْطُوءَتُهُ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ مَوْطُوءَتَهُ عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ يَكُنْ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ حَتَّى يُحَرِّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ بَعْدَمَا وَطِئَهُمَا فَإِنْ زَوَّجَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْبَاقِيَةَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ صَارَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ وَثُبُوتُ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ لِلزَّوْجِ يَنْعَدِمُ أَثَرُ وَطْءِ الْمَوْلَى حُكْمًا وَلِهَذَا لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ ادَّعَاهُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى مِنْ سَاعَتِهِ فَهُنَا أَيْضًا لَهُ أَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 يُجَامِعَ الْأُخْرَى غَيْرَ أَنِّي لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا حَتَّى تَحِيضَ أُخْتُهَا حَيْضَةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْمَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ»، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَ الَّتِي تَزَوَّجَ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَنْبَغِي لِرَجُلَيْنِ يُؤْمِنَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ» فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَنْبَغِ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُزَوِّجَ إحْدَاهُمَا أَوْ يَبِيعَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ يَسْقُطُ عَنْهَا بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَوْ رُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ إحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهَذَا لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَوْطُوءَتُهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ كَحَالِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فِي الْمَنْعِ. قَالَ وَإِذَا ارْتَدَّتْ إحْدَاهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ فِي مِلْكِهِ بَعْدُ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حِلٌّ لِغَيْرِهِ وَحُرْمَتُهَا عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ كَحُرْمَتِهَا بِالْحَيْضِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ وَالتَّدْبِيرُ فَمُبَاشَرَتُهُ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ إحْدَاهُمَا دَيْنٌ أَوْ جِنَايَةٌ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ مَا لَمْ تُدْفَعْ أَوْ تُبَعْ، فَإِذَا دُفِعَتْ أَوْ بِيعَتْ فِي الدَّيْنِ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَحَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَلَوْ كَاتَبَ إحْدَاهُمَا أَوْ أَعْتَقَ بَعْضَهُمَا فَقَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ أَوْ لَمْ يَقْضِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى أَمَّا فِي مُعْتَقَةِ الْبَعْضِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهَا بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ وَزَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ بَعْضِهَا فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ جَمِيعِهَا وَفِي الْكِتَابَةِ الْجَوَابُ مُشْكِلٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَمْ يَحِلَّ فَرْجُهَا لِغَيْرِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى وَلَكِنْ قَالَ مِلْكُ الْمَوْلَى يَزُولُ بِالْكِتَابَةِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِوَطْئِهَا وَجَعَلَ وَطْأَهُ إيَّاهَا وَطْئًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فَيُجْعَلُ زَوَالُ مِلْكِ الْحِلِّ عَنْهَا بِالْكِتَابَةِ كَزَوَالِهِ بِتَزْوِيجِهَا أَوْ بَيْعِ بَعْضِهَا فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَهَبَ شِقْصًا مِنْهَا وَسَلَّمَ فَهُوَ وَالْبَيْعُ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَسَرَهَا الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَلَوْ أَبَقَتْ إلَيْهِمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْبَاقِيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْآبِقَ بِالْأَخْذِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَخَذُوهَا مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَيَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى. قَالَ: وَلَوْ زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ عَلَى الَّتِي زَوَّجَهَا وَالْعِدَّةُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ فِي حُرْمَتِهَا بِهَا عَلَى الْمَوْلَى فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الْأُخْتَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا فِرَاشٌ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَإِنْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِفَسَادِ الْبَيْعِ وَبِخُرُوجِ إحْدَاهُمَا عَنْ مِلْكِهِ يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ فَإِنْ تَرَادَّا الْبَيْعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ بَاعَ الَّتِي لَمْ يَبِعْ لَمْ يَقْرَبْ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ لِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ وَمِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ أُخْتَ جَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا لَمْ يَقْرَبْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ أَمَتِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الَّتِي تَزَوَّجَهَا صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ فَكَانَتْ كَالْمَوْطُوءَةِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يَقْرَبُ أَمَتَهُ وَلَا يَقْرَبُ الْمَنْكُوحَةَ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ فَيَصِيرُ بِهَذَا الْفِعْلِ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا وَذَلِكَ حَرَامٌ وَقَالَ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ كَمَا كَانَ يَطَؤُهَا قَبْلَ النِّكَاحِ وَجَعَلَ نِكَاحَهُ أُخْتَهَا بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ أُخْتَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهَا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ مَا صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ اشْتَرَى أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ مَا صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ وَطِئَ الْمَنْكُوحَةَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا؛ لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَالْتَحَقَتْ بِالْمَوْطُوءَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَمَّةَ أَمَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا أَوْ خَالَتَهَا أَوْ بِنْتَ أُخْتِهَا أَوْ بِنْتَ أَخِيهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ زَوْجٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ اسْتِبْرَاءٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَتَعْمَلُ عَمَلَ أَصْلِ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً عِنْدَ الْقَبْضِ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَوَلَدَتْ بَعْدَمَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاءٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً لَهَا زَوْجٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 وَقَبَضَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَقَدْ كَانَ الْبَائِعُ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَمْ يَنْبَغِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَرَبَهَا أَدَّى إلَى اجْتِمَاعِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَقِيلَ هُنَا الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَوْلَى وَطِئَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ مِثْلُهُ وَقِيلَ بَلْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ حَيْضَةً بَعْدَ وَطْءِ الْبَائِعِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَبَهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَسْتَبْرِئُهَا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْعَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا لِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ الطَّلَاقِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ عَتَقَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَبِالشِّرَاءِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ وَبِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي يَدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَرَاغُ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ فَيَحْتَسِبُ بِهَا مِنْ اسْتِبْرَائِهِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَاهُ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ يَعْنِي أَنَّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْمُعْتَبَرُ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ فِيهَا قَبْلَ الْعَجْزِ لَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يَطَأْهَا الْمَوْلَى حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ وَالْمُكَاتَبُ هُوَ الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ الْعَجْزِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا حَاضَتْ ثُمَّ قَبَضَهَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَبْلَ الْقَبْضِ مَالِكًا رَقَبَتَهَا فَهَذَا أَوْلَى فَإِنْ كَانَتْ أُمَّ الْمُكَاتَبِ أَوْ ابْنَتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهِ كَمَا يَنْفُذُ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَكَمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذَا عَجَزَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ مَتَى صَارَتْ مُكَاتَبَةً مَعَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أُخْتَ الْمُكَاتَبِ أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكَاتَبَتْ عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَتَكَاتَبُ مَا سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْعَجْزِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهَا عِنْدَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا. قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى النَّصْرَانِيُّ جَارِيَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ تَرَكِ الِاسْتِبْرَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَالْكَافِرُ لَا يُخَاطَبُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْعِبَادَاتِ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ مِنْ بَعْدُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً أَوْ مُعْتَدَّةً حِينَ قَبَضَهَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ يَقْبِضُهَا إلَى أَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً، فَإِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ يُجْعَلُ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِبْرَاءِ مَا قَبْلَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبْرِئُ رَحِمَهَا مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ لَا مِنْ مَاءِ نَفْسِهِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ لَوْ اسْتَبْرَأَهَا إنَّمَا يَسْتَبْرِئُهَا مِنْ مَاءِ نَفْسِهِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً فَحَاضَتْ عِنْدَهُ حَيْضَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ وُجِدَتْ بَعْدَ تَمَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فَيَجْتَزِئُ بِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُحْرِمَةً فَحَاضَتْ فِي إحْرَامِهَا ثُمَّ حَلَّتْ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً هِيَ أُخْتُ الْبَائِعِ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ لَهُ فِيهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ. قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى رَدَّهَا بِخِيَارٍ أَوْ عَيْبٍ فَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ ضَمَانِ مِلْكِهِ حِين عَادَتْ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابٌ آخَرُ مِنْ الْخِيَارِ] قَالَ وَإِذَا رَأَى رَجُلٌ عِنْد رَجُلٍ جَارِيَةً فَسَاوَمَهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا ثُمَّ رَآهَا بَعْدَ ذَلِكَ مُتَنَقِّبَةً فَاشْتَرَاهَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تِلْكَ الْجَارِيَةُ وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا مَنْطِقٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا كَشَفَتْ نِقَابَهَا وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ السَّابِقَةَ لَمْ تُفِدْ لَهُ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تِلْكَ الْجَارِيَةُ وَثُبُوتُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِلْجَهْلِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا لِيَسْقُطَ خِيَارُهُ بِرُؤْيَةٍ تُفِيدُهُ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَمَا لَمْ يُفِدْهُ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ رَآهَا عِنْدَهُ ثُمَّ رَآهَا مُتَنَقِّبَةً عِنْدَ آخَرَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا تِلْكَ الْجَارِيَةُ فَاشْتَرَاهَا أَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا كَشَفَتْ نِقَابَهَا فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَلَوْ نَظَرَ إلَى جِرَابٍ هَرَوِيٍّ فَقَلَبَهُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْجِرَابِ قَطَعَ مِنْهُ ثَوْبًا ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَطَعَ مِنْهُ ثَوْبًا وَلَمْ يُرِهِ إيَّاهُ ثَانِيَةً حَتَّى اشْتَرَاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَدَدٌ مُتَفَاوِتٌ وَلِذَا لَا يَجُوزُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 شِرَاءُ ثَوْبٍ مِنْ الْجِرَابِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا قَطَعَ مِنْهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ أَيْضًا مَعْلُومَ الْوَصْفِ عِنْدَهُ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى الْجِرَابَ إلَّا ثَوْبًا مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ مَا قَطَعَ الْبَائِعُ مِنْهَا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ فَلَعَلَّهُ قَطَعَ أَجْوَدَهَا وَالْمُشْتَرِي يَظُنُّ أَنَّهُ قَطَعَ أَرْدَأَهَا فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ. قَالَ: وَلَوْ عَرَضَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ثَوْبَيْنِ فَلَمْ يَشْتَرِهِمَا ثُمَّ لَفَّ أَحَدَهُمَا فِي مِنْدِيلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيَّهُمَا هُوَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تُفِيدُهُ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُشْتَرِيَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَجْوَدُهُمَا وَهُوَ أَرْدَؤُهُمَا، وَلَوْ أَتَاهُ بِالثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ لَفَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِنْدِيلٍ فَقَالَ: هَذَانِ الثَّوْبَانِ اللَّذَانِ قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْكَ أَمْسِ فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذَا لِأَحَدِهِمَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا بِعَشَرَةٍ فِي صَفْقَتَيْنِ أَوْ صَفْقَةٍ وَلَمْ يَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَأَوْجَبَهُمَا لَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَنِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَوْصَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَجْوَدُهُمَا وَاَلَّذِي اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ أَرْدَؤُهُمَا وَالْحَالُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَهْلِكُ أَحَدُهُمَا أَوْ يَجِدُ بِهِ عَيْبًا يَحْتَاجُ إلَى رَدِّهِ فَلَا يَنْدَفِعُ الْغَبْنُ عَنْهُ مَا لَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ قَالَ قَدْ أَخَذْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةٍ أَوْ عِشْرِينَ جَازَ ذَلِكَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَفْصِلْ أَحَدُهُمَا فِي الثَّمَنِ وَقَدْ كَانَا مَعْلُومَيْ الْوَصْفِ عِنْدَهُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلِأَجْلِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِمَا. قَالَ رَجُلٌ اشْتَرَى ثَوْبًا وَلَمْ يَرَهُ حَتَّى رَهْنَهُ أَوْ أَجَرَهُ يَوْمًا أَوْ بَاعَهُ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقًّا لَازِمًا وَذَلِكَ بِعَجْزِهِ عَنْ الرَّدِّ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَاكْتِسَابُهُ مَا يُعْجِزُهُ عَنْ الرَّدِّ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ حُكْمًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَدَبَّرَهُ أَوْ بَاعَهُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فَنُقِضَ الْبَيْعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَالْبَيْعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِهَذَا الْبَيْعِ وَقِيلَ تِلْكَ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَقْوَى فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ مِنْ الْعَرْضِ عَلَى الْمَبِيعِ، وَلَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْمَبِيعِ سَقَطَ خِيَارُهُ، فَإِذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْلَى وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ، فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الرَّدِّ وَلَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِخِيَارِهِ حُكْمًا وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بِالْقَوْلِ قَصْدًا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَكَذَلِكَ إيجَابُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ. قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لَمْ يَرَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 فَكَاتَبَهُ ثُمَّ عَجَزَ فَرَآهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الِاكْتِسَابِ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى وَهُوَ يُعْجِزُهُ عَنْ الرَّدِّ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَمُبَاشَرَتُهُ تَتَضَمَّنُ سُقُوطَ خِيَارِهِ حُكْمًا فَخِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَوْ حُمَّ الْعَبْدُ ثُمَّ ذَهَبَتْ الْحُمَّى عَنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْحُمَّى عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِخِيَارِهِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ رِضَى الْبَائِعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ، فَإِذَا أَقْلَعَتْ الْحُمَّى عَنْهُ فَقَدْ زَالَ مَعْنَى الضَّرَرِ فَكَانَ هُوَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الرَّدِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عَجْزَهُ عَنْ الرَّدِّ هُنَاكَ لِإِيجَابِهِ حَقًّا لَازِمًا لِلْغَيْرِ فِيهِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ حُكْمًا، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ فِي الثَّلَاثَةِ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ وَالْعَبْدُ مَحْمُومٌ وَلَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ ثُمَّ ذَهَبَتْ الْحُمَّى قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُحْدِثْ رَدًّا حَتَّى مَضَتْ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِذَلِكَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ نَقْضَهُ الْبَيْعَ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا ذَهَبَتْ الْحُمَّى قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى الضَّرَرِ فَتَمَّ الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُمَّى حِينَ ذَهَبَتْ مَعَ بَقَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ تَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ كَالْمُجَدِّدِ لِلْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى الْفَسْخِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ كَأَنَّهُ جَدَّدَهُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ. وَلَوْ تَمَادَتْ بِهِ الْحُمَّى عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَيْسَ لَهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ وَلَا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ ذَهَبَتْ وَالْمَانِعُ قَائِمٌ فَبَطَلَ حُكْمُ الرَّدِّ لِاسْتِغْرَاقِ الْمَانِعِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقْلَعَتْ الْحُمَّى عَنْهُ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْفَسْخِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلَوْ خَاصَمَهُ فِي الثَّلَاثَةِ إلَى الْقَاضِي فَرَدَّهُ الْمُشْتَرِي وَأَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَهُوَ مَحْمُومٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ الْبَيْعَ وَيُبْطِلُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا كَانَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الرَّدِّ بِحُكْمِ الْخِيَارِ لَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْبَائِعِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِ أَبْطَلَ الْقَاضِي رَدَّهُ وَلَزِمَهُ الْبَيْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْقَاضِي إيَّاهُ أَقْوَى مِنْ الْتِزَامِهِ إسْقَاطَ الْخِيَارِ، وَلَوْ أَسْقَطَ خِيَارَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَلْزَمَهُ الْقَاضِي كَانَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبُطْلَانِ رَدِّهِ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ حُكْمًا وَذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ إذَا بَنَى فِي الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فَأَبْطَلَ الْقَاضِي رُجُوعَهُ ثُمَّ رَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِنَاءَهُ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ حَتَّى لَوْ أَسْقَطَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ إسْقَاطُهُ بَاطِلًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 فَالْقَاضِي إنَّمَا يَمْنَعُ رُجُوعَهُ بِقَضَائِهِ لِأَجْلِ الْبِنَاءِ لَا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ. فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَهُنَا الْقَاضِي مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ فَبَعْدَمَا سَقَطَ خِيَارُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ مِنْ الرَّدِّ بِحُكْمِهِ قَالَ، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى رَدِّهِ فِي الثَّلَاثَةِ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ حُمَّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ أَقْلَعَتْ عَنْهُ الْحُمَّى وَعَادَ إلَى الصِّحَّةِ فِي الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَهُوَ لَازِمٌ لِلْبَائِعِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَهُوَ صَحِيحٌ فَعَادَ فَسْخُهُ إلَى ذَلِكَ الْبَائِعِ ثُمَّ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، فَإِذَا أَقْلَعَتْ الْحُمَّى فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْعَيْبُ وَسَقَطَ مَا كَانَ مِنْ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ كَمَا لَوْ حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ لَازِمًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ خَاصَمَهُ وَالْحُمَّى بِهِ فَأَبْطَلَ الْقَاضِي الرَّدَّ وَأَلْزَمَهُ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَسْخَ بَطَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ إذَا أَبْطَلَهُ الْقَاضِي لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْبَائِعِ ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ. قَالَ: وَلَوْ جُرِحَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جُرْحًا لَهُ أَرْشٌ أَوْ جَرَحَهُ هُوَ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَمَّا إذَا جَرَحَهَا هُوَ فَلِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ اكْتِسَابٌ مِنْهُ لِلسَّبَبِ الْمُسْقِطِ لِخِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ رَدِّهَا كَمَا قَبَضَهَا وَإِنْ جَرَحَهَا غَيْرُهُ فَلِمَا حَدَثَ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَهُوَ الْأَرْشُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ فَإِنْ وَطِئَهَا هُوَ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ فَمَاتَ وَلَدُهَا أَوْ لَمْ يَمُتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَمَّا إذَا بَقِيَ الْوَلَدُ فَلِلزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ فَلِلنُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ دَابَّةً أَوْ شَاةً فَوَلَدَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِلزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ وَلَدَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَتْلِ حَابِسٌ لِلزِّيَادَةِ فَكَأَنَّهَا قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَبَقَاءُ قِيمَتِهِ فِي يَدِهِ كَبَقَاءِ عَيْنِهِ، وَلَوْ مَاتَ مَوْتًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَالْوِلَادَةُ لَا تَكُونُ عَيْبًا فِيهَا فَإِنَّ الْوِلَادَةَ فِي الْبَهَائِمِ لَا تَكُونُ نُقْصَانًا فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْبَائِعَ جَرَحَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ قَتَلَهَا وَجَبَ الْبَيْعُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَى الْبَائِعِ الْقِيمَةُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا بَعْدَمَا قُتِلَتْ وَقَدْ صَارَ الْبَائِعُ مِنْهَا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ آخَرُ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي وَيَكُونُ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهَا الْبَائِعُ وَأَمَّا إذَا جَرَحَهَا الْبَائِعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا بِخِيَارِهِ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ جَمِيعًا وَجْهَ قَوْلِهِ إنَّ الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يَمْلِكُ اكْتِسَابَ سَبَبِ إسْقَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْإِبْقَاءِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَمْنَعُ الرَّدَّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي جِنَايَةِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِفِعْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُجْعَلُ مُسْتَرَدًّا لِذَلِكَ الْجُزْءِ لِجِنَايَتِهِ وَلِمَا بَقِيَ بِرَدِّ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَيَعُودُ إلَيْهِ حُكْمًا كَمَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي غَيْرَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَهُوَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فِيهَا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا آخَرَ فَوَجَدَ الْأَرْشَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الْبَائِعَ وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِهِ وَالْبَائِعُ إنَّمَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ الْحَادِثِ بِجِنَايَتِهِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَوْ جَعَلَ جِنَايَتَهُ اسْتِرْدَادًا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ لَكَانَ قَتْلُهُ اسْتِرْدَادًا فِي الْكُلِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ، وَلَوْ اسْتَوْدَعَهَا الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بَعْدَمَا قَبَضَهَا فَمَاتَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي فَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ هِيَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهَلَاكُهَا فِي يَدِ الْأَمِينِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَفِي خِيَارِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَالْمَبِيعُ خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ فَإِيدَاعُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ كَإِيدَاعِهِ أَجْنَبِيًّا آخَرَ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ مِلْكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَسْلِيمُهُ إيَّاهَا إلَى الْبَائِعِ لَا يَكُونُ إيدَاعًا فِيهِ مِلْكُ نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ فَسْخٌ لِلْقَبْضِ فَكَأَنَّهَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي فَيَهْلِكُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ [بَابُ بَيْعِ النَّخْلِ وَفِيهِ ثَمَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ثَمَرٌ] قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا وَنَخْلًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْأَرْضُ تُسَاوِي أَلْفًا وَالنَّخْلُ يُسَاوِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 أَلْفًا فَأَثْمَرَ النَّخِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كُلُّ مَرَّةٍ تُسَاوِي الثَّمَرَةُ أَلْفًا فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ كُلَّهُ ثُمَّ جَاءَ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ بَيْعَهُ فَالْأَصْلُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ زِيَادَةٌ فِي الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّخْلِ خَاصَّةً؛ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الثِّمَارَ يُخْرِجُهُ النَّخِيلُ دُونَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ زِيَادَةً فِيهِمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ أَوَّلًا ثُمَّ حِصَّةُ النَّخِيلِ تُقْسَمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَتَيْنِ فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ مَا أَصَابَ الَّتِي وَلَدَتْ يُقْسَمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا يَوْمَ يَقْبِضُ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ عَنْهَا فَتَكُونُ زِيَادَةً فِيهَا خَاصَّةً؛ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّخِيلَ فِي هَذَا الْبَيْعِ بِيعَ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَالْبَيْعُ لَا يَقَعُ لَهُ فَتَكُونُ الثِّمَارُ الْحَادِثَةُ زِيَادَةً فِي الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ ابْنَةً قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ كَبُرَتْ الِابْنَةُ وَوَلَدَتْ وَلَدًا فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ الثَّانِي زِيَادَةً فِي الْجَارِيَةِ حَتَّى يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ تَابِعَةٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ وَلَدُهَا تَبَعًا لَهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَالثِّمَارُ فِي الصُّورَةِ يُخْرِجُهَا النَّخِيلُ وَفِي الْمَعْنَى زِيَادَةٌ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّخِيلَ تَتَشَرَّبُ بِعُرُوقِهَا مِنْ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ تَزْدَادُ الثِّمَارُ جَوْدَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْأَصْلُ هُوَ الْأَرْضُ لِلثِّمَارِ وَلِلنَّخِيلِ جَمِيعًا فَلِهَذَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْكُلِّ قِسْمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَةُ الثِّمَارِ حِينَ أَكَلَهَا الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ ذَلِكَ صَارَتْ مَقْصُودَةً فَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ إنَّمَا تَصِيرُ لَهَا خَاصَّةً مِنْ الثَّمَنِ إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَهَا يَعْتَبِرُ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهَا الْبَائِعُ فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَرَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَكَلَهَا الْبَائِعُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ انْقَسَمَ الثَّمَنُ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهُ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَثُلُثُهُ بِإِزَاءِ النَّخِيلِ وَثُلُثُهُ بِإِزَاءِ الثِّمَارِ وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الثِّمَارِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخِيلِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ حِصَّةُ النَّخِيلِ تُقْسَمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الثِّمَارِ نِصْفَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ أَثْمَرَتْ النَّخِيلُ مَرَّتَيْنِ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَمَ لَمَّا اسْتَوَتْ فَحِصَّةُ مَا تَنَاوَلَ الْبَائِعُ مِنْ الثِّمَارِ نِصْفُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَأْخُذُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ وَالنِّصْفُ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّخِيلُ يُقْسَمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِتَنَاوُلِ الْبَائِعِ الثِّمَارَ مَرَّتَيْنِ وَثُلُثُ النِّصْفِ حِصَّةُ النَّخِيلِ يَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَعَ حِصَّةِ الْأَرْضِ فَيَأْخُذُهَا بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ أَثْمَرَتْ مَرَّاتٍ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِخُمُسَيْ الثَّمَنِ وَسَقَطَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثَّمَنِ حِصَّةً لِثَمَنِ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِخَمْسَةِ أَثْمَانِ الثَّمَنِ نِصْفُ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْأَرْضِ وَرُبْعُ النِّصْفِ الْآخَرِ حِصَّةُ النَّخِيلِ وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ أَثْمَرَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِثُلُثِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: حِصَّةُ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ سَهْمَانِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُهُمَا بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الثَّمَنِ نِصْفُ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْأَرْضِ وَخُمُسُ النِّصْفِ الْآخَرِ حِصَّةُ النَّخْلِ فَذَلِكَ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ. وَإِنْ أَثْمَرَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ عِنْدَهُمَا سُبُعَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى الْأَسْبَاعِ عِنْدَهُمَا فَيُسْقِطُ حِصَّةَ الثِّمَارِ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِسَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْأَرْضِ نِصْفُ الثَّمَنِ وَحِصَّةُ النَّخْلِ سُدُسُ النِّصْفِ الْبَاقِي وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِيهِمَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَلَدِ فِي الشَّاةِ وَبَيْنَ الثِّمَارِ؛ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا صَارَتْ مَقْصُودَةً تَتَنَاوَلُ الْبَائِعَ ثَبَتَ وَكَانَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَالْتَحَقَتْ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَلَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَأَتْلَفَهَا الْبَائِعُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الثِّمَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ رَضِيَ بِأَخْذِ الْأَرْضِ وَالنَّخِيلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَهُوَ بِأَخْذِهِمَا بِبَعْضِ الثَّمَنِ أَرْضَى، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي رِضَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا عَلِمْنَا تَمَامَ الرِّضَا هُنَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْبَائِعِ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَأَنْ يُلْزِمَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ عِنْدَ إتْلَافِ الْبَائِعِ كَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْبَائِعِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ بِصُنْعِ الْبَائِعِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَلَاكِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا بِهَلَاكِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِنْ كَانَ فِي النَّخْلِ ثَمَرَةٌ تُسَاوِي أَلْفًا يَوْمَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ وَقَدْ اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَإِنَّ الثِّمَارَ لَا تَدْخُلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ الْفَضْلَ فَهُوَ وَالْمَوْضُوعَةُ فِي الْأَرْضِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النَّخِيلِ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، فَإِذَا أَكَلَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ أَثْمَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَالْأَصْلُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ثُلُثَ الثَّمَنِ يَسْقُطُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَكْلِ الْبَائِعِ الثِّمَارَ الْمَوْجُودَةِ؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِزِيَادَةٍ فِي الثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَعَلَى قِيمَةِ النَّخْلِ وَقِيمَةِ الثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَقَدْ اسْتَوَتْ الْقِيَمُ فَتُقَسَّمُ أَثْلَاثًا وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ حِصَّةُ الثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ وَأَمَّا ثُلُثَا الثَّمَنِ حِصَّةُ الْأَرْضِ وَالنَّخِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَبِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي حُكْمِ الِانْقِسَامِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ مَا أَكَلَ الْبَائِعُ مِنْ الثِّمَارِ الْحَادِثَةِ عَلَى نَحْوِ مَا خَرَّجْنَا فِي الْمَسْأَلَة الْأُولَى قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَأْكُلْهَا الْبَائِعُ وَلَكِنْ أَصَابَتْهَا آفَةٌ مِنْ السَّمَاءِ فَذَهَبَتْ لَهَا وَنَقَصَتْ تِلْكَ النَّخْلَ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ لَمَّا فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فَنَفَى النُّقْصَانَ الْمُتَمَكِّنَ فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ النَّخْلُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ لَمَّا هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَأَمَّا الثِّمَارُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَسَوَاءٌ هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ أَوْ تَنَاوَلَهَا الْبَائِعُ سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ وَقَدْ فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِهَلَاكِهَا فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهَا وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ سَوَاءٌ هَلَكَتْ مِنْ صُنْعِ أَحَدٍ أَوْ تَنَاوَلَهَا الْبَائِعُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَتَيْنِ فَهَلَكَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ] قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَ رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ تَغَيَّرَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ وَتَعَيَّبَ بِصُنْعِهِ فَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ بِفَوَاتِ النِّصْفِ فَإِنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَذَلِكَ مُثْبِتٌ الْخِيَارَ لَهُ فَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْأَقْطَعِ فَعَلَيْهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 نِصْفُ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَيَضْمَنُ الْبَائِعُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ الْبَائِعُ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَغْرَمُ الْبَائِعُ الْقِيمَةَ إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقَاطِعُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْيَدَ لِلْبَائِعِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ إذَا جَنَى عَلَيْهِ كَالْمَرْهُونِ إذَا جَنَى عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَضَمَانُ الثَّمَنِ مَعَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ لَا يَلْتَقِيَانِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى الْبَائِعِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْبَائِعِ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ مِلْكِ الْبَائِعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمَمْلُوكِ لَهُ حَقِيقَةً فِي الْمَبِيعِ مِنْ وُجُوبِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ كَانَ الْبَائِعُ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ. فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا أَتْلَفَهُ بِجِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ فَيُقَابِلُهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْعَبْدِ شَلَّتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ جُزْءٌ مِنْهُ بِفِعْلِ الضَّامِنِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَقَاسَ بِمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَانَ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الطَّرَفُ مِنْ الْعَبِيدِ وَصْفٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ وَاسْمُ الْعَبْدِ لَا يَتَغَيَّرُ بِفَوَاتِهِ وَبَقَائِهِ وَالْبَيْعُ يُلَاقِي الْعَيْنَ وَالثَّمَنُ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ، فَإِذَا كَانَ الْفَائِتُ وَصْفًا قُلْنَا إنْ فَاتَ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَقَدْ فَاتَ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ فَاتَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَقَدْ صَارَ مَقْصُودًا بِالْجِنْسِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ فَيُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْعَبْدَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مَقْصُودًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ فَلَا يُفْرَدُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ أَيْضًا. وَالثَّابِتُ بِبَقَاءِ يَدِ الْبَائِعِ ضَمَانُ الْعَقْدِ فَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَصْفِ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالتَّنَاوُلِ، وَالْوَصْفِ يُفْرَدُ بِالتَّنَاوُلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 فَيُفْرَدُ أَيْضًا بِضَمَانِ التَّنَاوُلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ فَسُقُوطُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ هُنَا بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْبَائِعِ إيَّاهُ وَحَبْسِهِ إيَّاهُ وَالْوَصْفُ يُفْرَدُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ شَلَّتْ يَدُهُ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ وَإِنْ قَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَ الْعَبْدِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْقَاطِعَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقَاطِعِ عَلَى مِلْكِهِ وَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ تَقُومُ مَقَامَ الْفَائِتِ فَبِاعْتِبَارِهَا يَبْقَى جَمِيعُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي لَيْسَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بَلْ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ فَسَخَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي هُوَ الْبَائِعَ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ بِالرَّدِّ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْ الْقَاطِعِ نِصْفَ الْقِيمَةِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ فِي ضَمَانِ غَيْرِهِ لَا عَلَى ضَمَانِهِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الْقَتْلِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ وَأَخَذَ الْقِيمَةِ مِنْ الْقَاتِلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ مُشَابَهَةٌ بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَمُبَادَلَةُ الْأَلْفِ بِالْأَلْفَيْنِ رِبًا فَقَبَضَ الْأَلْفَيْنِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بِمُقَابَلَةِ الْأَلْفِ يَتَمَكَّنُ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا عِنْدَهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لَا يَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِهِ الرِّبَا وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يُعْطِي الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى فِي الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ قَبْضِهِ وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَتْبَعُ الْجَانِيَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِرَدِّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ فَيَبْقَى جِنَايَةُ الْقَاطِعِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَتَصَدَّقُ أَيْضًا بِمَا زَادَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْجِنَايَةَ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ يُجْعَلُ كَالْحَاصِلِ عَلَى مِلْكِهِ وَتَأْثِيرُ الْمِلْكِ فِي سَلَامَةِ الرِّبْحِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِلِ عَلَى مِلْكِهِ دُونَ ضَمَانٍ فَلَأَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَا عَلَى مِلْكِهِ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نِصْفَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَفِي الْإِتْلَافِ قَبْضٌ وَزِيَادَةٌ وَغَيْرُ مَا بَقِيَ بِفِعْلِهِ وَالْمُشْتَرِي بِصُنْعٍ مُعَيَّنٍ لِلْمَعْقُودِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 عَلَيْهِ يَصِيرُ قَابِضًا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ تَخَلَّى بِهِ كَانَ قَابِضًا لَهُ وَبِقَطْعِ يَدِهِ يَكُونُ مُتَخَلِّيًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَزِيَادَةٌ فَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْقَطْعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ وَبِالْقَبْضِ يَتَحَوَّلُ الْمَبِيعُ إلَى ضَمَانِهِ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَهُ الْبَائِعُ كَانَ هَالِكًا فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَنَعَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ فَهُوَ قَتْلٌ حُكْمًا وَمَنْعُ الْبَائِعِ إيَّاهُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ عَنْ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَالِكُ، وَالْمُسْتَحِقُّ إنَّمَا يُفَوِّتُ يَدَ الْمُشْتَرِي وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ يَثْبُتُ بِدُونِ يَدِهِ فَلَأَنْ يَبْقَى بِدُونِ يَدِهِ أَوْلَى وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ الْقَطْعِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا مَنَعَ الْبَاقِيَ بِالثَّمَنِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ بِحَقٍّ فَاسِخًا لِقَبْضِ الْمُشْتَرِي فِيهِ. وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَاسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ وَحَبَسَهُ بِالثَّمَنِ انْتَقَضَ بِهِ حُكْمُ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ قَابِضًا لِمَا بَقِيَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ وَإِذَا انْفَسَخَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَانَ هَالِكًا فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فَسَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ النِّصْفُ فَأَمَّا نِصْفُ الثَّمَنِ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِرْدَادُ فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ. فَإِنْ قَطَعَ الْبَائِعُ أَوَّلًا يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ بَرِئَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْعَبْدُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَطْعِ الْيَدِ فَوَّتَ نِصْفَهُ فَسَقَطَ نِصْفُ الثَّمَنِ وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَلَمَّا قَطَعَ الْمُشْتَرِي رِجْلَهُ فَقَدْ صَارَ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَابِضٌ لِجَمِيعِ مَا بَقِيَ مُتْلِفٌ لِبَعْضِهِ، وَمُجَرَّدُ قَبْضِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ خِيَارَهُ فَقَبْضُهُ مَعَ الْإِتْلَافِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَبَرِئَ مِنْهُمَا كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ وَأَعْطَى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ الْيَدِ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ ثُمَّ الْبَائِعُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ مُفَوِّتًا قَبْضَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاقِي مُتْلِفًا لِنِصْفِ مَا بَقِيَ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ الْمَقْصُودُ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ. فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ بِقَطْعِ الْيَدِ وَرُبْعُهُ بِمُقَابَلَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَقْبِضْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 الْعَبْدَ حَتَّى قَطَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهُ وَقَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَبَرِئَ مِنْهُمَا فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ بِإِتْلَافِ النِّصْفِ بِقَطْعِ الْيَدِ ثُمَّ بِقَطْعِ الْبَائِعِ رِجْلَهُ لَا يَنْتَقِضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ سُلِّمَ لِلْبَائِعِ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ حَقُّ نَقْضِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ قَطْعُهُ الرِّجَلَ نَاقِضًا قَبْضَ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَائِعِ. هُنَاكَ لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّمَنَ وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَ الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَإِذَا بَقِيَ حُكْمُ قَبْضِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَائِعُ فِي قَطْعِ الرِّجْلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ قَطْعِ الْيَدِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ لِبَقَاءِ حُكْمِ قَبْضِهِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا تَغَيَّرَ لِعَدَمِ تَمَامِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَوَّلًا قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي رِجْلَهُ فَالْعَبْدُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ الْبَائِعِ يَدَهُ يَسْقُطُ نِصْفُ الثَّمَنِ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِقَطْعِهِ رِجْلَهُ فَكَانَ الْعَبْدُ لَازِمًا لَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ حَتَّى قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ ثُمَّ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ رِجْلِهِ صَارَ مُتْلِفًا نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُوَ الرُّبْعُ تَلِفَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ فَنِصْفُهُ يَكُونُ هَالِكًا بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ السِّرَايَةُ فِي الْحُكْمِ بِأَصْلِ الْجِنَايَةِ وَحُكْمُ أَصْلِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ سُقُوطُ الثَّمَنِ بِحِصَّةِ مَا تَلِفَ بِهِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ سِرَايَةِ جِنَايَتِهِ وَحُكْمُ أَصْلِ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي تَقَرُّرُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ، تُقْسَمُ رُبْعُهُ نِصْفَيْنِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَقَدْ تَلِفَ بِأَصْلِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ أَرْبَعَةً وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَتَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي سَهْمَانِ وَبِالسِّرَايَةِ سَهْمٌ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّ الْمُشْتَرِيَ بِجِنَايَةٍ يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا أَتْلَفَ وَلِمَا بَقِيَ مِنْهُ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِيمَا بَقِيَ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَيَكُونُ مُسْتَرِدًّا لِمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ سِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَوْقَ تَأْثِيرِ حَبْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ حَبَسَهُ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي انْتَقَضَ بِهِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي إلَّا فِيمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَلَأَنْ يَنْتَقِضَ حُكْمُ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فِيمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ كَانَ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَبَطَلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي النِّصْفُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَيَلْزَمُهُ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَتَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَهْمَانِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَكَمَا انْتَقَضَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يُنْقَضُ فِيمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْبَادِئَ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْتَقِضْ قَبْضُهُ فِي شَيْءٍ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي نَقْضِ قَبْضِهِ بَعْدَ وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ. فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَعَلَى الْبَائِعِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ قِيمَتِهِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِأَصْلِ جِنَايَتِهِ نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ رُبْعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ جَمِيعِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَالْبَائِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْبَادِئَ بِالْقَطْعِ رَدَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ أَتْلَفَ نِصْفَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ نِصْفِ الثَّمَنِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ الرِّجْلِ صَارَ قَابِضًا جَمِيعَ مَا بَقِيَ قَبْضًا تَامًّا فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ إلَّا أَنَّ نِصْفَ مَا بَقِيَ تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي وَالنِّصْفُ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ فَمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَعَلَى الْبَائِعِ حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ كَالتَّالِفِ بِأَصْلِ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ بَعْدَمَا تَمَّ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَلِهَذَا أَلْزَمَهُ ثُمُنَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّ لِلْقَبْضِ مُشَابَهَةً بِالْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ السِّرَايَةِ فَإِنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ فَكَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُ السِّرَايَةِ قُلْنَا عَيْبُ الْمَبِيعِ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ السِّرَايَةِ وَلَكِنَّ تَبَدُّلَ الْمُسْتَحِقِّ سَبَبٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ الْقَاطِعُ لِلسِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ الْمَالِكُ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْقَبْضِ وَبِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَالِكُ وَالْمُسْتَحِقُّ فَإِنْ قِيلَ مَعْنَى التَّبَدُّلِ هُنَا يَحْصُلُ حُكْمًا أَيْضًا فَإِنَّ مَا تَلِفَ بِأَصْلِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتْلَفُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَمَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ يَتْلَفُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْمُوجِبِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَبِاعْتِبَارِ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْبَائِعِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ الْعَبْدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي فَجِنَايَةُ الْبَائِعِ تُصَادِفُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ سَبَبٌ لِضَمَانِ الْمُتْلِفِ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي يَفُوتُ فِيمَا تَلِفَ بِأَصْلِ جِنَايَتِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ فَوَاتِ قَبْضِهِ انْفِسَاخُ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 بِذَلِكَ فَأَمَّا مَا تَلِفَ بِسِرَايَةٍ فَلَمْ يَفُتْ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ فَوْتِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حُكْمَ السِّرَايَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ أَصْلِ الْعَقْدِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الَّذِي يُرَدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ أَنَّ الْقَطْعَ مَعَ السِّرَايَةِ لَا يَكُونُ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَصْلِ الْفِعْلِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ اشْتَرَاهُ نَقَدَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ حَتَّى قَطَعَ الْبَائِعِ يَدَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ بَطَلَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ بِقَطْعِ الْبَائِعِ يَدَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَبْضِ صَارَ رَاضِيًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِحُكْمِ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مُشَابَهٌ بِالْعَقْدِ. وَلَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ قَطْعِ الْبَائِعِ يَدَهُ انْقَطَعَ بِهِ حُكْمُ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ رَاضِيًا بِقَبْضِهِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا يُشْبِهُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي هَذَا الْوَجْهِ قَبْضَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ بِعَيْبٍ يُحْدِثُهُ فِيهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْدِثُهُ مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ بَعْدَمَا يُحْدِثُ الْمُشْتَرِي فِيهِ جِنَايَةً، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مَنْقُودٍ بَطَلَ عَنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ مَا هَلَكَ مِنْهُ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا فَعَلَى الْبَائِعِ فِيهِ الْقِيمَةُ وَإِذَا كَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ بِأَخْذِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ جِنَايَةٍ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقِيمَةِ وَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْجِنَايَةِ حُكْمِيٌّ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا تَلِفَ بِهِ وَلَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ الَّتِي انْعَقَدَ سَبَبُهَا بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَأَمَّا الْقَبْضُ بِالْأَخْذِ فَحَتَّى يَظْهَرَ فِي جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَلَهُ مُشَابَهَةٌ بِالْعَقْدِ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَهَذَا لِأَنَّ بِالْقَبْضِ حِسًّا يُجْعَلُ رَاضِيًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَبِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيمَا بَقِيَ بَلْ هُوَ مُتْلِفٌ فَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فِيمَا يَتْلَفُ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ ضَرُورَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصْبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ فَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنَايَةِ الْمَوْلَى كَانَ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَغْصِبْهُ وَلَكِنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَ عَلَى الْجَانِي ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْمَالِكِ فِيهِ يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَبْضِ حِسًّا وَبَيْنَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ فَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ حَتَّى قَبَضَ بِغَيْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 إذْنِ الْبَائِعِ فَقَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ لَمْ يَسْقُطْ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالسِّرَايَةُ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْجِنَايَةِ كَانَتْ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ فَكَأَنَّ الْبَائِعَ قَتَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا لَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَإِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا صَارَ مُسْتَرِدًّا لِنِصْفِهِ بِقَطْعِ الْيَدِ فَإِنَّمَا انْتَقَضَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ هَالِكًا فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا قَطَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ هَلَكَ لَا مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ وَلَمْ يُحْدِثْ الْبَائِعُ فِيهِ مَنْعًا فَعَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ وَيُجْعَلُ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِإِتْلَافِ نِصْفِهِ وَهُنَا لَمْ يُجْعَلْ الْبَائِعُ مُسْتَرِدًّا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ بِإِتْلَافِ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بِقَطْعِ الْيَدِ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ مَا بَقِيَ مِنْهُ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ التَّخَلِّي بِهِ وَالْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ يَصِيرُ قَابِضًا فَبِالْجِنَايَةِ أَيْضًا يَصِيرُ قَابِضًا وَالْبَائِعُ بِالتَّخَلِّي بِالْمَبِيعِ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا فَكَذَلِكَ بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِمَا بَقِيَ مِنْهُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْمِلْكُ مُمْكِنٌ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِلْبَعْضِ بِالْإِتْلَافِ وَلِمَا بَقِيَ مِنْهُ بِالتَّخَلِّي بِهِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ فَأَمَّا الْبَائِعُ فَلَيْسَ بِمَالِكٍ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَحْبِسَهُ فَكَذَلِكَ اسْتِرْدَادُهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ عَمَلُهُ بِيَدِهِ وَذَلِكَ فِيمَا يَتْلَفُ بِجِنَايَتِهِ أَوْ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ. وَإِذَا اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ حَتَّى أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي فِيهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَطْعِهِ يَدَهُ فِي أَنَّهُ بَصِيرٌ قَابِضًا لِجَمِيعِهِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ إنْ تَلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا أَحَدَثَ فِيهِ وَقَبَضَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ بِمَا أَحَدَثَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا رَجُلًا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تَثْبُتُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَالْمِلْكُ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالتَّزْوِيجُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَمْتَنِعُ صِحَّتُهَا لِأَجْلِ الْغَرَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَزْوِيجَ الْآبِقَةِ وَالرَّضِيعَةِ يَجُوزُ فَكَانَ التَّزْوِيجُ نَظِيرَ الْعِتْقِ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ تَزْوِيجُهُ وَلِهَذَا يَجُوزُ مِنْ الرَّاهِنِ تَزْوِيجُ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ كَمَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَيْبٌ فِيهَا وَالْمُشْتَرِي إذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا أَوْ يُجْعَلُ التَّزْوِيجُ كَالْإِعْتَاقِ أَوْ التَّدْبِيرِ فَكَمَا يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ بِالتَّزْوِيجِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا يَكُونُ قَابِضًا لَهَا بِنَفْسِ التَّزْوِيجِ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ فَهِيَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ مِنْ الْمُشْتَرِي فِعْلٌ بِهَا وَإِنَّمَا التَّزْوِيجُ عَيْبٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَقِلُّ رَغَائِبُ النَّاسِ فِيهَا وَيُنْتَقَصُ لِأَجْلِهِ الثَّمَنُ فَهُوَ فِي مَعْنَى نُقْصَانِ السِّعْرِ أَوْ التَّزْوِيجِ لَمَّا كَانَ عَيْبًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَهُوَ نَظِيرُ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ. وَالْمُشْتَرِي لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِدَيْنٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْحِسِّيِّ فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ يَتَّصِلُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِهَا وَهُوَ إتْلَافٌ لِجُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَأَمَّا أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِمَا بَقِيَ بِالتَّخَلِّي بِهَا أَوْ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ قَابِضًا لِمَا أَتْلَفَ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَاسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ فَالْبَائِعُ يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْبَعْضِ لِيَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقَبْضِ فَلَا يُجْعَلُ بِتَفْوِيتِ الْبَعْضِ مُسْتَرِدًّا لِمَا بَقِيَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا وَالتَّدْبِيرُ نَظِيرُ الْعِتْقِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ وَثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرَةِ فَإِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي إنْ نَقَصَهَا الْوَطْءُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا وَطِئَهَا بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ قَدْ تَخَلَّى بِهَا وَالْوَطْءُ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ جُزْءٍ مِنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَنَعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي أَوْ الزَّوْجِ إيَّاهَا وَلَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ وَلَا مِنْ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهَا بِحَبْسِهِ إيَّاهَا بِالثَّمَنِ وَمَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْهَا وَلَمْ يُتْلِفْ بِالْوَطْءِ شَيْئًا مِنْ مَالِيَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ بِالْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَذَلِكَ جُزْءٌ لَيْسَ بِمَالٍ وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ فَلِهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي مِلْكِهِ وَوَطْءُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ كَانَ الْوَطْءُ نَقَصَهَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْعُقْرِ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَا يُنْقِصُهَا الْوَطْءُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ جُزْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهَا بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ فَقَأَ الْمُشْتَرِي عَيْنَهَا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ فَهَلَكَتْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَكَارَةَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ إذَا اشْتَرَطَ فَبِوَطْءِ الْمُشْتَرِي إنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 كَانَتْ بِكْرًا يَفُوتُ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ مَالٌ يُقَابِلُهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْوَاطِئَ لَمْ يَنْظُرْ إلَى الْعُقْرِ وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُصْهَا شَيْئًا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ نَقَصَهَا شَيْئًا حَطَّ عَنْهُ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَهَا بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى الْعُقْرِ وَالْقِيمَةِ فَيَسْقُطُ حِصَّةُ الْعُقْرِ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنْ نَقَصَهَا الْوَطْءُ يُنْظَرُ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُقْرِ وَمِنْ النُّقْصَانِ فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى قِيمَتِهَا وَيَبْطُلُ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُهَا بِحِصَّةِ الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا بِالْعُقْرِ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي فَوَطْءُ الْبَائِعِ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عُقْرٍ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ. وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْعُقْرِ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا فِي ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ فَيُعْتَبَرُ الْعُقْرُ لِإِسْقَاطِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ فَكَمَا أَنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ تُعْتَبَرُ فِي إسْقَاطِ حِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ لَا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَالْمُمْكِنُ هُنَا اعْتِبَارُ مَعْنَى نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ وَالْعُقْرِ بِسَبَبِ الْوَطْءِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ فَعَلٍ وَاحِدٍ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ وَيُعْتَبَرُ الِانْقِسَامُ عَلَى الْقِيمَةِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ مِنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْجَارِيَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ أَرْشٌ وَلَا بِالْوَطْءِ عُقْرٌ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فَكَمَا أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا لَوْ حَصَلَ فِي حَالِ قِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْعُقْرِ أَصْلًا فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ فِي ضَمَانِ مِلْكِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَمَا قَالَ وَلَكِنَّهُ جُزْءٌ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهَا، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْجِنَايَةَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ نُقْصَانًا فِي الْمَالِيَّةِ نَقُولُ: إنَّهُ يَسْقُطُ بِحِصَّةِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ فِي حُكْمِ الْوَطْءِ إنَّمَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ هِيَ كَالْمَمْلُوكَةِ لِلْبَائِعِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْوَطْءِ وَلِهَذَا لَا يُحْتَسَبُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ اسْتِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ قَبَضَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَوَطْءُ الْبَائِعِ إيَّاهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ وَطْئِهِ إيَّاهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 الْقَبْضِ وَلَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَنَقَصَهَا الْوَطْءُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ذَهَبَتْ الْبَكَارَةُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ هُوَ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِتْلَافُ الْبَائِعِ جَزْءًا مِمَّا هُوَ ثَمَرَةٌ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ كَإِتْلَافِ وَلَدِ الشَّاةِ وَثَمَرَةِ الْأَشْجَارِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ نُقْصَانًا فِي الْعَيْنِ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَجْلِهِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ فَأَتْلَفَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا تَخْرِيجًا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ هَذَا فَقَالَ يَنْظُرُ إلَى نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ مِنْ الثَّمَنِ أَوَّلًا عَلَى نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ وَعَلَى قِيمَتِهَا فَيُسْقِطُ نُقْصَانَ الْبَكَارَةِ مِنْ الثَّمَنِ ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَعَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْعُقْرِ فَسَقَطَ حِصَّةُ الْعُقْرِ مِنْ الثَّمَنِ وَبَيَانُهُ إذَا اشْتَرَاهَا بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَنُقْصَانُ الْبَكَارَةِ عِشْرُونَ وَالْعُقْرُ أَرْبَعُونَ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا عَلَى قِيمَتِهَا وَهِيَ ثَمَانُونَ وَعَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْعُقْرِ وَهُوَ عِشْرُونَ فَيَقْسِمُ أَخْمَاسًا بِأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ عِشْرِينَ سَهْمًا فَيَسْقُطُ عَنْهُ خُمُسُ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا بِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي وَأَجْنَبِيٌّ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثُ ثُمُنِ الثَّمَنِ حِصَّةُ جِنَايَتِهِ وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ وَيُبْطِلُ عَنْهُ جِنَايَةُ الْبَائِعِ أَرْبَعَةَ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَطْعِ الْيَدِ أَتْلَفَ نِصْفَهُ وَالْمُشْتَرِي مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بِقَطْعِ الرِّجْلِ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ ثُمَّ مَا بَقِيَ وَهُوَ الرُّبُعُ تَلِفَ بِجِنَايَةِ ثُلُثِهِ فَيَكُونُ ثُلُثُ ذَلِكَ الرُّبُعُ هَالِكًا بِجِنَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَصْلُ السِّهَامِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ ثُمَّ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَيَضْرِبُ ثَمَانِيَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيِّ يَكُونُ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا فَتُضْعَفُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْكَسْرِ بِالْأَنْصَافِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ التَّالِفُ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَثُلُثَا ثُمُنِهِ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ كُلُّ ثُمُنٍ سِتَّةٌ فَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَرْبَعَةُ أَثْمَانٍ وَأَرْبَعَةٌ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَجِنَايَتُهُ مُوجِبَةٌ سُقُوطَ الثُّمُنِ فَلِهَذَا سَقَطَ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثَا الثَّمَنِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثُ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَحِصَّةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ فِيمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ تَبَعًا لِبَدَلِهِ وَالتَّالِفُ بِجِنَايَتِهِمَا وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا فِي الْحَاصِلِ عِشْرُونَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَثُلُثُ ثُمُنِهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِهَا؛ لِأَنَّ التَّالِفَ بِجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْعِشْرُونَ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ ثُمُنُ الْعَبْدِ وَثُلُثَا ثُمُنِهِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِ الْقِيمَةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى حِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِجِنَايَتِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ اقْتَرَنَتْ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي وَوُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ ذَلِكَ رِبْحًا عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَالْأَجْنَبِيُّ هُمَا اللَّذَانِ قَطَعَا الْيَدَ أَوَّلًا ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّخْرِيجِ يَرْتَفِعُ سِهَامُ الْعَبْدِ إلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْفَائِتُ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَالْأَجْنَبِيِّ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا ثَمَانِيَةٌ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَيَكُونُ الْفَائِتُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ وَبِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي اثْنَيْ عَشَرَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةً فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَأَمَّا مَا تَلِفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَيَسْقُطُ ثَمَنُهُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَثُلُثَا ثُمُنِهِ كُلُّ ثُمُنٍ سِتَّةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ قِيمَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمَّا حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَكَذَلِكَ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلَهُ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يُقَرِّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي خَمْسَةَ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثَ ثُمُنِ الثَّمَنِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى طَرَفِ الْمَمْلُوكِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْسِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَكَمَا أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ كُلَّهُ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَذَلِكَ ثُمُنَا الْقِيمَةِ وَثُلُثَا ثُمُنِهَا يُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ ذَلِكَ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَابِلُ مِقْدَارَ رُبْعِ الْقِيمَةِ بِرُبُعِ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الرُّبُعِ وَجَبَ بِأَصْلِ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَهَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا فِي ضَمَانِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ بِالْفَضْلِ وَأَمَّا ثُلُثَا ثُمُنِ الْقِيمَةِ فَهُوَ سَالِمٌ لِلْمُشْتَرِي لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى قَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ قِيمَةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 الْعَبْدِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِذَا قَبَضَهَا وَفِيهَا فَضْلٌ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَالْيَدُ قُطِعَتْ قَبْلَ دُخُولِ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ كَانَتْ بَعْدَ دُخُولِ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ. قَالَ: وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي وَأَجْنَبِيٌّ يَدَهُ مَعًا ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْبَائِعِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ انْتَقَصَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَصَارَ ذَلِكَ كَجِنَايَتِهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِلتَّغَيُّرِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي مَا يَكُونُ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَعَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ وَثُلُثُ ثُمُنِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَثُلُثَا ثُمُنِهِ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا عَلَى التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّالِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ اثْنَا عَشَرَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَهُوَ ثُمُنَا الْعَبْدِ وَثُلُثَا ثُمُنِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ بِجِنَايَتِهِمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا ثَمَانِيَةٌ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ نِصْفُ ذَلِكَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِ الْقِيمَةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ كَانَتْ مَعَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِجِنَايَتِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي نَقْضَ الْبَيْعِ لَزِمَهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَسِرَايَة جِنَايَتِهِ وَذَلِكَ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَثُلُثَا ثُمُنِ الثَّمَنِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ فِيهِ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيْ ثُمُنِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ حِينَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَمَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ يُقَابِلُ ذَلِكَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَنْقُدْهُمَا الثَّمَنَ حَتَّى قَطَعَ أَحَدُ الْبَائِعَانِ يَدَ الْعَبْدِ ثُمَّ قَطَعَ الْآخَرُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ فَقَأَ الْمُشْتَرِي إحْدَى عَيْنَيْهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي يَدِ الْبَائِعَيْنِ فَالْمُشْتَرِي مُخْتَارٌ لِلْبَيْعِ بِجِنَايَتِهِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعَيْنِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُمَا أَوْجَبَتْ الْخِيَارَ لَهُ وَلَكِنَّ جِنَايَتَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِمَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ وَالْإِسْقَاطِ لِخِيَارِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ لِلْقَاطِعِ الْأَوَّلِ ثُمُنُ الثَّمَنِ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ ثُمُنِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاطِعِ الثَّانِي ثُمُنَا الثَّمَنِ وَخَمْسَةَ أَسْدَاسِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ الْأَوَّلَ بِجِنَايَتِهِ أَتْلَفَ النِّصْفَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْقَاطِعُ الثَّانِي بِجِنَايَتِهِ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ الْمُشْتَرِي بِفَقْءِ الْعَيْنِ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُوَ سِتَّةٌ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سِتَّةٌ تَلِفَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ ذَلِكَ فَكَانَ حَاصِلُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ نِصْفُ ذَلِكَ مِمَّا بَاعَ هُوَ وَنِصْفٌ مِمَّا بَاعَ شَرِيكُهُ فَفِي حِصَّةِ مَا بَاعَ هُوَ بِقِسْطٍ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَكُلُّ ثُمُنٍ سِتَّةٌ فَالثَّلَاثَةَ عَشَرَ تَكُونُ ثُمُنَ الثَّمَنِ وَسُدُسَ الثَّمَنِ وَقَدْ كَانَ لِلْقَاطِعِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ، فَإِذَا سَقَطَ ثُمُنَاهُ وَسُدُسُ ثُمُنِهِ بَقِيَ لَهُ ثُمُنُ الثَّمَنِ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ ثُمُنِهِ فَلِهَذَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ وَالتَّالِفُ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نِصْفُ ذَلِكَ مِمَّا بَاعَهُ هُوَ فَيَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَنِصْفُهُ فِيمَا بَاعَ شَرِيكُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ السَّاقِطَ مِنْ حَقِّهِ ثُمُنُ الثَّمَنِ وَسُدُسُ ثُمُنِ الثَّمَنِ بَقِيَ لَهُ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ ثُمُنِ الثَّمَنِ فَيَغْرَمُ لَهُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ بِثُمُنَيْ الْقِيمَةِ وَسُدُسِ ثُمُنِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ مِمَّا بَاعَهُ شَرِيكُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي ثُمُنُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَسُدُسُ ثُمُنِ قِيمَةِ حِصَّةِ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ مِمَّا بَاعَهُ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ التَّأْجِيلِ يُعْتَبَرُ الْجَمِيعُ بَدَلَ النَّفْسِ وَيَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِمَا زَادَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا غَرِمَ مِنْ الثَّمَنِ، الْأَفْضَلُ سُدُسُ ثُمُنِ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ بِمُقَابَلَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِأَصْلِ جِنَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِينَ إنَّمَا وَجَبَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّمَا تَلِفَ بَعْدَ مَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ فَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ. قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ حَتَّى قَطَعَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْآخَرُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِيَيْنِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ تَلِفَ بِفِعْلِهِمَا وَذَلِكَ قَبْضٌ مِنْهُمَا وَزِيَادَةٌ وَيَرْجِعُ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقَاطِعِ الثَّانِي بِثُمُنِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ ثُمُنِ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ الْقَاطِعُ الثَّانِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ بِثُمُنِ قِيمَتِهِ وَنِصْفٌ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ الْأَوَّلَ بِجِنَايَتِهِ أَتْلَفَ النِّصْفَ وَالْقَاطِعَ الثَّانِيَ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ ثُمَّ تَلِفَ مَا بَقِيَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا فَيَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 فَحَاصِلُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سِتَّةٌ فَذَلِكَ ثَلَاثُونَ نِصْفُ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَرَاهُ هُوَ وَنِصْفُهُ مِمَّا اشْتَرَاهُ صَاحِبُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمُنَاهُ وَنِصْفُ ثُمُنِهِ فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ ثُمُنَا الْقِيمَةِ وَنِصْفُ ثُمُنِهَا وَالتَّالِفُ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نِصْفُهُ مِمَّا اشْتَرَاهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَذَلِكَ ثُمُنٌ وَنِصْفُ ثُمُنٍ فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي ثُمُنُ الْقِيمَةِ وَنِصْفُ ثُمُنِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ فَقَأَ عَيْنَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِمَا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلِلْمُشْتَرِيَيْنِ الْخِيَارُ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَهَا مِنْهُمَا مَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا فَإِنْ اخْتَارَ أَنْقَضَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَسُدُسُ ثُمُنِهِ وَعَلَى الثَّانِي ثُمُنُ الثَّمَنِ وَسُدُسُ ثُمُنِهِ؛ لِأَنَّ التَّالِفَ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمَانِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ نِصْفُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ هُوَ فَيُقَرَّرُ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ. وَذَلِكَ ثُمُنَا الثَّمَنِ وَسُدُسُ ثُمُنِهِ وَنِصْفُ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ بِفَسْخِهِ فَيَغْرَمُ لِلْبَائِعِ ثُمُنَ الْقِيمَةِ وَسُدُسَ ثُمُنِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا اشْتَرَى شَرِيكُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالتَّالِفُ بِجِنَايَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمَانِ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ سَبْعَةٌ مِمَّا اشْتَرَاهُ فَلَزِمَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ ثُمُنُ الثَّمَنِ وَسُدُسُ ثُمُنِ الثَّمَنِ وَنِصْفُهُ مِمَّا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهِ بِفَسْخِهِ وَيَغْرَمُ لِلْبَائِعِ حِصَّةً مِنْ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ ثُمُنُ الْقِيمَةِ وَسُدُسُ ثُمُنِهَا، فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْبَيْعِ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثُ ثُمُنِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ مِنْ الثَّمَنِ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ وَالتَّالِفُ بِجِنَايَتِهِ سِتَّةٌ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمَانِ فَذَلِكَ ثُمُنٌ وَثُلُثُ ثُمُنٍ وَالْبَاقِي عَلَيْهِمَا مِنْ الثَّمَنِ سِتَّةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثَا ثُمُنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَثُلُثُ ثُمُنِهِ وَيَرْجِعُ الْقَاطِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُمُنَيْ الْقِيمَةِ وَسُدُسِ ثُمُنِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّالِفَ بِفِعْلِهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ الْقَاطِعُ الثَّانِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ ذَلِكَ ثُمُنَا الْقِيمَةِ وَسُدُسُ ثُمُنِهَا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِ الثَّانِي مِمَّا اشْتَرَاهُ الْأَوَّلُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَذَلِكَ ثُمُنٌ وَسُدُسُ ثُمُنٍ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِيهِ مَعَ اخْتِلَافِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ حَتَّى قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهُ الْأُخْرَى أَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ الَّتِي فِي جَانِبِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ بَطَلَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ الْبَائِعِ يَدَ الْعَبْدِ نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 نِصْفُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَصَ الْعَبْدُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فِي قَطْعِ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ وَهُوَ مَا إذَا قَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَاكَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُفَوِّتٍ لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَلِهَذَا يُجْعَلُ التَّالِفُ بِفِعْلِهِ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُنَا فِعْلُهُ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَطَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى فَقَدْ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ، وَتَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنْ قَطَعَ الرِّجْلَ الَّتِي مِنْ جَانِبِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ بِعَصًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ الرِّجْلَ مِنْ خِلَافٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ وَأَنَّ النُّقْصَانَ فِيهِ أَكْثَرُ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا النُّقْصَانَ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ نَقَصَتْهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَرَاجَعَتْ قِيمَتُهُ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ نِصْفِ الثَّمَنِ ثُمَّ الْبَاقِي وَهُوَ خُمُسُ النِّصْفِ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِمَا فَيَكُونُ نِصْفُ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ حَاصِلُ مَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ الثَّمَنِ وَنِصْفَ عُشْرِ الثَّمَنِ وَسَقَطَ عَنْهُ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ خَمْسَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفُ عُشْرٍ. قَالَ: فَإِنْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُحْدِثْ الْبَائِعُ فِيهِ مَنْعًا فَعَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ قَابِضًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَقِضُ حُكْمُ قَبْضِهِ فِيمَا تَلِفَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ خَاصَّةً وَالتَّالِفُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ رُبُعُ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي رُبُعُ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ نِصْفُ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَرُبُعُ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بَقِيَ فِيهِ وَقَدْ تَلِفَ لَا بِسِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَيَتَقَرَّرُ ثَمَنُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ وَبَرِئَ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ انْتَقَضَ فِيمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، نِصْفُ الثَّمَنِ حِصَّةُ مَا تَلِفَ بِقَطْعِهِ الْيَدَ، وَرُبُعُ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْبَاقِي مِنْ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَعْطَى نِصْفَ الثَّمَنِ حِصَّةَ مَا تَلِفَ بِقَطْعِهِ الْيَدَ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَخْذَهُ فَمَنَعَهُ الْبَائِعُ حَتَّى يُعْطِيَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِمَا فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ انْتَقَضَ فِيمَا بَقِيَ حِينَ مَنَعَهُ الْبَائِعُ فَإِنَّمَا تَلِفَ مَا بَقِيَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ إلَّا حِصَّةُ الْيَدِ وَذَلِكَ نِصْفُ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 [بَابُ زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَنُقْصَانِهِ] قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ بِنْتًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَنَقَصَتْ الْوِلَادَةُ الْأُمَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيهَا يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ وَنُقْصَانُ الْوِلَادَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْجَبِرًا بِالْوَلَدِ فَالْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلتَّغَيُّرِ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا وَأَخَذَ الْبَائِعُ الْأَرْشَ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَهُمَا فَلَمْ يَأْخُذْهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ الْبِنْتُ بِنْتًا تُسَاوِي أَلْفًا وَقَدْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ فَالْمُشْتَرِي أَيْضًا بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ حَتَّى يَصِيرَ بِمُقَابَلَتِهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُبِضَتْ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا حَقُّ الْقَبْضِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ فَكَمَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلَامَةَ الْأَصْلِ عَنْ الْعَيْبِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا لَمْ يَسْلَمْ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الزِّيَادَةِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِنُقْصَانِهَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ سَلِيمَةً عَنْ النُّقْصَانِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ هُوَ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِذَا زَادَتْ الْوُسْطَى حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَبَضَهُنَّ جَمِيعًا وَالْأُمُّ قَدْ رَجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ وَجَدَ بِالْأُمِّ عَيْبًا رَدَّهَا بِرُبْعِ الثَّمَنِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى كِلَاهُمَا زِيَادَةٌ فِي الْأُمِّ فَإِنَّ الْوُسْطَى تَبَعُ الْأُمِّ فِي الْعَقْدِ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ السُّفْلَى تَبَعًا لِلْوُسْطَى جَعَلْنَاهُمَا كَوَلَدَيْنِ لِلْأُمِّ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْأُمِّ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً فَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا كَأَطْرَافِ الْمَبِيعِ، وَقِيمَةُ الْأُمِّ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْوُسْطَى عِنْدَ الْقَبْضِ أَلْفَانِ وَقِيمَةُ السُّفْلَى أَلْفٌ فَجَعَلْنَا كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا وَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ بِإِزَاءِ الْأُمِّ فَيَرُدُّهَا بِذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ بِهَا وَسَهْمَانِ بِإِزَاءِ الْوُسْطَى فَيَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَسَهْمٌ بِإِزَاءِ السُّفْلَى فَيَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَمَّا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ الْتَحَقَتْ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي صِفَةَ السَّلَامَةِ فِيهَا وَعِنْدَ وُجُودِ الْعَيْبِ إنَّمَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى أَمَتَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قِيمَةُ إحْدَاهُمَا خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْأُخْرَى أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ اعْوَرَّتْ الَّتِي كَانَتْ تُسَاوِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 أَلْفًا فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالثَّمَنِ فَقَبَضَهُنَّ جَمِيعًا وَدَفَعَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَوْرَاءِ عَيْبًا وَقِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ رَدَّهَا بِثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَتْبَعُهَا فِيمَا يَخُصُّهَا مِنْ الثَّمَنِ وَالِانْقِسَامِ أَوَّلًا عَلَى قِيمَةِ الْأَمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَتَانِ بِالْعَقْدِ، وَوَلَدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زِيَادَةٌ فِيهَا دُونَ الْأُخْرَى فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَتَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْعَوْرَاءِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْأُخْرَى خَمْسُمِائَةٍ فَكَانَ ثُلُثَا الثَّمَنِ حِصَّةَ الْعَوْرَاءِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ وَلَدِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ أَلْفٌ فَانْقَسَمَ نِصْفَانِ نِصْفُهُ حِصَّةُ وَلَدِهَا وَنِصْفُهُ حِصَّةُ الْعَوْرَاءِ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْأَلْفِ فَبِذَلِكَ يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ، وَلَوْ وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْأَمَةِ الْأُخْرَى رَدَّهَا بِمِائَةٍ وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتُسْعِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهَا ثُلُثُ الثَّمَنِ فَانْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ وَلَدِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَرُدُّهَا بِذَلِكَ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ زِيَادَةٌ فِي الْبَهَائِمِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِهَا نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ فَالْمُشْتَرِي يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَاضِيًا بِلُزُومِ الْعَقْدِ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فَهُوَ رَاضٍ بِلُزُومِهِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، فَإِنْ وَجَدَ بِالْأُمِّ عَيْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا جَمِيعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَعٌ فِي الْعَقْدِ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْأَصْلَ وَحْدَهَا رَدَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إذْ لَا حِصَّةَ لِلْوَلَدِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ وَبَعْدَمَا رَدَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْوَلَدِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَيَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ مُسْتَحَقًّا بِالتَّبَعِ مَقْبُوضًا بِهِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ وَإِنْ وَجَدَ بِالْوَلَدِ عَيْبًا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ وَهُمَا لَازِمَانِ لَهُ؛ لِأَنَّ بِوُجُودِ الْعَيْبِ يَظْهَرُ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الْوَلَدِ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَخَذَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا فَكَذَلِكَ إذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْ الْوَلَدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَقَبْلَ حُدُوثِهَا كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا لَهُ فِي الْأَصْلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ فَوَاتِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْوَلَدِ بَعْدَمَا قَبَضَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْقَبْضِ صَارَ مَقْصُودًا فَصَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَبِاعْتِبَارِ الْعِوَضِ بِمُقَابَلَتِهِ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي صِفَةَ السَّلَامَةِ فِيهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ فَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ وَاسْتِحْقَاقُ صِفَةِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ بِاعْتِبَارِ الْعِوَضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 قَتَلَ الْوَلَدَ فَقَدْ صَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ إيَّاهُ وَلَوْ صَارَ مَقْصُودًا بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي طَرَفِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ يَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ وَقْتَ الْبَيْعِ وَعَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ قَتَلَهُ الْبَائِعُ فَمَا أَصَابَ الْوَلَدُ بَطَلَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ الْأُمَّ بِمَا بَقِيَ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ الْخِيَارُ وَهَذِهِ هِيَ الْخِلَافِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الثِّمَارِ وَتَنْصِيصُهُ عَلَى الْخِلَافِ هُنَا يَكُونُ تَنْصِيصًا ثَمَّةَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِحْدَى عَيْنَيْهَا بَيْضَاءُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ مِنْ عَيْنَيْهَا فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ ضَرَبَ الْعَيْنَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صَحِيحَةً فَابْيَضَّتْ وَرَجَعَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَيَاضُ الْعَيْنِ يُنْقِصُهَا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْقِيمَةِ الْأُولَى لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ الْأُولَى بَيْضَاءَ عَلَى حَالِهَا فَإِنِّي لَسْتُ أَلْتَفِتُ إلَى الزِّيَادَةِ لِكَيْ أَنْظُرَ كَمْ كَانَ يُنْقِصُهَا الْبَيَاضُ لَوْ كَانَ بَيَاضُ الْعَيْنِ الْأُولَى عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا كَانَ يُنْقِصُهَا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْقِيمَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِسِتَّةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ ذَهَابُ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ الْأُولَى زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَارَضَاتِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَوُجُودُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ الْبَيَاضُ عَنْ عَيْنِهَا حَتَّى ضَرَبَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ فَابْيَضَّتْ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ النُّقْصَانُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا عَمِيَتْ بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ النُّقْصَانُ فَلِهَذَا قَالَ يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَصَهَا الْقِيمَةَ الْأُولَى ثُمَّ الثَّمَنُ يَنْقَسِمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ وَلَدِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ نِصْفَانِ نِصْفُ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْوَلَدِ وَنِصْفُهُ حِصَّةُ الْأُمِّ، فَإِذَا كَانَ النُّقْصَانُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْقِيمَةِ الْأُولَى سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ صَارَ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ نِصْفُهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ حِصَّةُ الْوَلَدِ وَسَهْمٌ وَاحِدٌ حِصَّةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُمِّ. فَإِذَا قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْأُمِّ عَيْبًا رَدَّهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ سُدُسُ مَا أَخَذَهُمَا بِهِ، وَلَوْ وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْوَلَدِ رَدَّهُ بِحِصَّتِهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَا أَخَذَهُمَا بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ ضَرَبَ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ وَلَكِنَّهُ ضَرَبَ الْعَيْنَ الَّتِي كَانَ بِهَا الْبَيَاضُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ الْبَيَاضُ فَعَادَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا وَلِأَنَّ ذَهَابَ الْبَيَاضِ كَانَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً فَقَدْ انْفَصَلَتْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَهِيَ كَزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَتْلَفَهَا الْبَائِعُ بِأَنْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَتَلَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْ حِينِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَالْقِيمَةُ سَوَاءٌ فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا وَحِصَّةُ مَا أَتْلَفَ الْبَائِعُ ثُلُثَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَيَتَخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا خِيَارَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْبَهَائِمِ إذَا أَتْلَفَهَا الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَا تُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْأَصْلِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِثْلُ تِلْكَ، فَإِنْ أَخَذَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّهُ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُمَا بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ جِنَايَةُ الْبَائِعِ عَلَى الْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَمْ تُزَايِلْ الْبَدَنَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا وَهُنَا الزِّيَادَةُ زَايَلَتْ الْبَدَنَ بِصُنْعِ الْبَائِعِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ وَإِحْدَى عَيْنَيْهَا بَيْضَاءُ فَذَهَبَ الْبَيَاضُ فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ ثُمَّ إنَّ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ ضَرَبَ تِلْكَ الْعَيْنَ فَعَادَ بَيَاضُهَا وَدَفَعَهُ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهُمَا الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ثُمَّ إنَّهُ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يُرَدُّ بِثُلُثِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ بِالْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَهَا وَذَهَابُ الْبَيَاضِ عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ كَانَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً وَقَدْ انْفَصَلَتْ فَيُجْعَلُ كَوَلَدٍ وَلَدَتْهُ الْجَارِيَةُ وَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ فِي الِانْقِسَامِ وَقْتَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لَا وَقْتَ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَبْضِ خَمْسُمِائَةٍ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ بِإِزَاءِ الْعَبْدِ يَرُدُّهُ بِذَلِكَ إنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَثُلُثَاهُ بِإِزَاءِ الْجَارِيَةِ إنْ وَجَدَ الْعَيْبَ بِهَا يَرُدَّهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ حَتَّى زَادَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِقِيمَةِ الْأَمَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَفَقَأَ الْبَائِعُ عَيْنَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ الْفَقْءِ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا أَخَذَهُمَا الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا فَقَأَ عَيْنَهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نَصَفُهُ ثُمَّ لَمَّا وَلَدَتْ انْقَسَمَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا فَإِنْ كَانَ الْفَقْءُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَخَذَهُمَا إنْ شَاءَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ وَلَدَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَدْ انْقَسَمَ جَمِيعُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَلَدِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَقَدْ بَقِيَ فَظَهَرَ أَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْوَلَدِ وَنِصْفُهُ حِصَّةُ الْأُمِّ فَلَمَّا فَقَأَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ نِصْفُ حِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ رُبْعُ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَقْءُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَقَدْ كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِيهَا حِينَ فَقَأَ الْبَائِعُ عَيْنَيْهَا فَلِهَذَا يَسْقُطُ نِصْفُ الثَّمَنِ قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ الرَّهْنَ فِي هَذَا الْبَيْعِ يَعْنِي فِي الرَّهْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ ذَهَابِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْوِلَادَةِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعَيْنِ وَيَكُونُ السَّاقِطُ رُبْعَ الدَّيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا وَبِالْوِلَادَةِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعَيْنِ هُنَاكَ يَعُودُ بَعْضُ مَا كَانَ سَاقِطًا وَفِي الْبَيْعِ لَا يَعُودُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ سُقُوطَ الثَّمَنِ بِفَقْءِ الْبَائِعِ الْعَيْنَ إنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ فِيمَا أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ وَالْبَيْعُ بَعْدَمَا انْفَسَخَ لَا يَعُودُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَسُقُوطُ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَالِاسْتِيفَاءُ بِقَرَارِ الدَّيْنِ وَلَا يُسْقِطُهُ، فَإِذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فَقَدْ حَدَثَتْ فِي حَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ كُلِّهِ لِكَوْنِهِ مُنْتَهِيَا بِالِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا يَعُودُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْضُ مَا كَانَ سَاقِطًا وَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعَيْنِ كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ ذَهَابِ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَاةً فَمَاتَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ دَبَغَ الْبَائِعُ جِلْدَهَا لَا يَعُودُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْجِلْدِ، وَلَوْ أَنَّ الشَّاةَ الْمَرْهُونَةَ مَاتَتْ وَحُكِمَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ ثُمَّ دَبَغَ الْمُرْتَهِنُ جِلْدَهَا عَادَ مِنْ الدَّيْنِ مَا يَخُصُّ الْجِلْدَ وَكَانَ الْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا وَتَحْقِيقُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْفَسْخَ ضِدُّ مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ بَعْضُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِمَا هُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَلَا يُجْعَلُ الْعَقْدُ فِيهِ كَالْقَائِمِ حُكْمًا وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ بَعْضِ الْمَرْهُونِ فَيُحَقِّقُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ الِاسْتِيفَاءُ أَوْ إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ قَائِمٌ حُكْمًا حِينَ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فَيَسْقُطُ نِصْفُ مَا يَخُصُّ الْأُمَّ وَذَلِكَ رُبْعُ الدَّيْنِ ثُمَّ الرَّهْنُ وَالْبَيْعُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا ذَهَبَتْ الْعَيْنُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَفِي الرَّهْنِ بِذَهَابِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ يَسْقُطُ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَالْأَوْصَافُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْقَبْضِ وَإِذَا فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ وَذَلِكَ كَأَوْصَافِ الْمَغْصُوبَةِ وَفِي الْبَيْعِ الضَّمَانُ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ قُلْنَا: لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِفَوَاتِهَا. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تُسَاوِي أَلْفًا وَهِيَ بَيْضَاءُ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ فَفَقَأَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ فَصَارَتْ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَائِعِ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا حُكْمًا وَيُعْتَبَرُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ فِيمَا يَسْقُطُ مِنْ الثَّمَنِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى ذَهَبَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 بَيَاضُ عَيْنِهَا الْأُولَى فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفًا فَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ فَإِنْ ضَرَبَ عَبْدٌ هَذِهِ الْعَيْنَ الَّتِي بَرِئَتْ فَعَادَ بَيَاضُهَا فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ الْجِنَايَةَ وَهُوَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ دَفَعَهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا بِفَقْءِ الْبَائِعِ عَيْنَهَا وَكَمَا لَا يَعُودُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِوَلَدٍ تَلِدُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَعُودُ بِالْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَقَدْ صَارَتْ مُنْفَصِلَةً فَهُوَ كَوَلَدٍ وَلَدَتْهُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُمَا الْمُشْتَرِي بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ فَإِنْ قَبَضَهُمَا فَوَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا رَدَّهَا بِسُبْعِي الثَّمَنِ الَّذِي نَقَدَ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا رَدَّهُ بِخَمْسَةِ أَسْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَتْ الْقِسْمَةُ أَسْبَاعًا: خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ حِصَّةُ الْعَبْدِ فَيَرُدُّهُ بِهِ وَسُبْعَاهُ حِصَّةُ الْجَارِيَةِ فَيَرُدُّهَا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا فِي الِانْقِسَامِ قِيمَةَ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَلَمْ نَعْتَبِرْ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَةَ مَا بَقِيَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ لَا قِيمَةَ مَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَفْقَأْ عَيْنَهَا حَتَّى ذَهَبَ بَيَاضُ عَيْنِهَا فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ عَبْدًا ضَرَبَ الْعَيْنَ الَّتِي بَرِئَتْ فَعَادَ بَيَاضُهَا ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ فَقَأَ الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ فَصَارَتْ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ يَكُونُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ هُنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَدْ كَانَتْ قِيمَتُهَا عِنْدَ الْجَنَابَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَمَاتَ بِذَهَابِ الْعَيْنِ نِصْفُهَا وَتَرَاجَعَتْ قِيمَتُهَا إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ دَفَعَهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ بِخُمُسَيْ الثَّمَنِ وَثُلُثِ خُمُسِ الثَّمَنِ وَيَبْطُلُ عَنْهُ بِفَقْءِ الْبَائِعِ عَيْنَ الْجَارِيَةِ خُمْسَا الثَّمَنِ وَثُلُثَا خُمُسِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَدْفُوعٌ بِمَا فَوَّتَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَعِنْدَ ظُهُورِهِ جَمِيعُ الْعَقْدِ فِيهَا قَائِمٌ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الْقَبْضِ أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ بِإِزَاءِ الْعَبْدِ وَثُلُثَاهُ بِإِزَاءِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ بِفَقْءِ الْبَائِعِ عَيْنَهَا سَقَطَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا فِيهَا وَبَقِيَ الْخُمُسُ، فَإِذَا أَرَدْتَ تَصْحِيحَ ذَلِكَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ حِصَّةُ الْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ وَالسَّاقِطُ ثَمَانِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ خُمُسَاهُ وَثُلُثَا خُمُسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ خُمُسٍ ثَلَاثَةٌ فَخُمُسَاهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَا خُمُسِهِ سَهْمَانِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 فَيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُهُمَا بِمَا بَقِيَ وَهُوَ سَبْعَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ خُمُسَاهُ وَثُلُثُ خُمُسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ] قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبِضَ الْعَبْدَ حَتَّى يُعْطِيَ الثَّمَنَ عِنْدَنَا وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي قَوْلٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ بِالْعَقْدِ فِي الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْبَائِعِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَالْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ أَقْوَى وَوُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُسَلِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدٍ وَيَقْبِضُ بِيَدٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لِمُعَاوَضَةِ التَّسْوِيَةِ فَكَمَا اقْتَرَنَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْآخَرِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ كَمَا فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُعَاوَضَةُ التَّسْوِيَةُ وَقَدْ عَيَّنَ الْبَائِعُ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُعَيِّنَ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَلَا يَتَعَيَّنُ الثَّمَنُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ فَهُنَاكَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَيِّنٌ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي أَقْوَى فَإِنَّا إنَّمَا نُوجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا يَقْوَى مِلْكُهُ فِي الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ جَانِبَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِ الثَّمَنِ بِجَانِبِ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ نَقْدُهُ الثَّمَنَ إلَّا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْجِنْسِ مُتَعَلِّقٌ بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ لَا يَتِمُّ الشَّرْطُ وَيَبْقَى حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مِنْ الثَّمَنِ وَأَمَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا بِهَذَا الْحَقِّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءٌ بِحُلُولِ الْأَجَلُ. وَذَكَرَ هَاشِمٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ شَهْرًا ثُمَّ لَمْ يُسَلِّمْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَى شَهْرٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا بِعَيْنِهِ فَيُمْضِيهِ بِحِلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ شَهْرًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ فِي الْأَجَلِ يَنْصَرِفُ إلَى الشَّهْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 الَّذِي يَعْقُبُ عَيَّنَاهُ أَوْ لَمْ يُعَيِّنَاهُ كَمَا فِي الْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ بِنَاءً عَلَى مَقْصُودِهِمَا فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ فِي الشَّهْرِ وَيُؤَدِّيَ الثَّمَنَ عِنْدَ مُضِيِّهِ وَيَسْتَفْصِلَ لِنَفْسِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ الْمَبِيعَ إلَيْهِ فَلِهَذَا قَالَ فِي الشَّهْرِ الْمُطْلَقِ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينَ يُسَلِّمُ إلَيْهِ الْمَبِيعَ. فَإِنْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَهُوَ حَالٌّ وَلَمْ يَقْبِضْ الْمَبِيعَ حَتَّى وَجَدَ الْبَائِعُ الدَّرَاهِمَ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا أَوَاسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ قَبْضِ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ مِثْلَ شَرْطِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْتَحِقُ بِمَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دِرْهَمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ انْتَقَضَ فِي ذَلِكَ الْمَرْدُودِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْعَبْدَ مِنْ الْبَائِعِ بِإِذْنِهِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ وَجَدَ الثَّمَنَ أَوْ بَعْضَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي مَكَانَ الَّذِي وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ جِيَادًا عَلَى مَا شَرَطَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا لَمْ يُسَلِّمْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ ثَمَنٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اُسْتُحِقَّ الْمَقْبُوضُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْمَقْبُوضَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ هُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ وَإِنْ كَانَ وَجَدَ الثَّمَنَ أَوْ بَعْضَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً اسْتَبْدَلَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ الدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ عُرْفًا بَيْنَ النَّاسِ بِالْجِيَادِ وَبِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ. وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فِي الدَّرَاهِمِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الزُّيُوفَ بِالْجِيَادِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ فَيَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الثَّمَنِ حَقُّهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ وَالْمَقْبُوضِ زُيُوفٌ وَالثَّمَنُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ حَقَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ فَهُوَ وَالسَّتُّوقُ سَوَاءٌ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ الزِّيَافَةِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّادُّ وَيَرْجِعُ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ لَا بِمُوجِبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ مَرَّتَيْنِ فَلَا يَتَمَكَّنَّ مِنْ الرُّجُوعِ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا انْتَقَضَ عَادَ حَقُّهُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا كَانَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ فَصَحَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 تَسْلِيمُهُ وَبَعْدَ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ لَا يَعُودُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مَثَلًا شَيْئًا لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ لِهَذَا قُلْنَا: لَوْ أَعَارَ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَوْدَعَهُ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بِحُلُولِ الْأَجَلِ وَبَيَانٌ لِوَصْفِ أَنَّ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّ بِهَا عَيْبًا وَالْعَيْبُ بِالشَّيْءِ لَا يُبَدَّلُ جِنْسُهُ. وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لَا مُسْتَبْدِلًا فَكَانَ الْبَائِعُ بِقَبْضِهَا قَابِضًا لِلثَّمَنِ، وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ صَحِيحٌ ثُمَّ بِالرَّدِّ يَنْتَقِضُ قَبْضُهُ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا قَالَ وَلَكِنْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ الثُّبُوتِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَبَضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَوَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَاسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا فَرَدَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ بَعْدَمَا سَقَطَ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَلَا يَعُودُ بِانْتِقَاضِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ أَيْضًا بِخِلَافِ السَّتُّوقِ وَالرَّصَاصِ فَهُنَاكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ وَأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَبِخِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَحَقِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ فَالتَّسْلِيمُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ يَكُونُ مَوْقُوفًا أَيْضًا وَلَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ وَلَمْ يَجِدْ فِي الثَّمَنِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا حَتَّى بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ أَجَرَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ جَائِزٌ لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى رَدِّهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَتَمَكَّنُ الْبَائِعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ فَلَمَّا حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ صَحِيحٍ كَانَ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْعَبْدَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ صَنَعَ فِيهِ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ مَا صَنَعَ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَيَسْتَرِدَّهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي حَصَلَ لَا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ فَالْقَبْضُ مِنْهُ كَانَ بِغَيْرِ إذْنٍ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ وَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ بَاقٍ فِي الْحَبْسِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمًا بِوُصُولِ حَقِّهِ وَلَا أَسْقَطَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقَبْضِ بِأَنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمَّا عَلِمَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ سَلَّمَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَانَ هَذَا مِثْلَ إذْنِهِ لَهُ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ قَبَضَهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَتَأْثِيرُ إجَازَتِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ كَتَأْثِيرِ إذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَرَهْنَهُ بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ قَضَاهُ لِرَاهِنٍ دَرَاهِمَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الرَّهْنَ حَتَّى وَجَدَ الْمُرْتَهِنُ الدَّرَاهِمَ أَوْ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الرَّهْنِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مَحْبُوسٌ بِالثَّمَنِ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا إذَا وَجَدَ الْمُرْتَهِنُ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا فَرَدَّهُ وَقَدْ كَانَ الرَّاهِنُ قَبَضَ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَزُفَرُ يَسْتَدِلُّ فِي الْخِلَافِيَّةِ بِهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُرْتَهِنِ الْعَيْنَ إلَى الرَّاهِنِ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْمَرْهُونَ إلَى الرَّاهِنِ عَلَى طَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهُ بَعْدَ قَبْضِ الزُّيُوفِ فَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لِحَقِّهِ كَمَالُ وُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَالتَّسْلِيمُ الصَّحِيحُ مِنْ الْبَائِعِ مُسْقِطٌ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَدَلُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَبْقَى حَقُّهُ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَعَ التَّأْجِيلِ فِي الدَّيْنِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَحَقُّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ بِاعْتِبَارِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُ بِالثَّمَنِ حَتَّى لَوْ أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَبْقَ حَقُّهُ مِنْ الْحَبْسِ وَبَعْدَ قَبْضِ الزُّيُوفِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ مَا لَمْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ فَلِهَذَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى وَكَّلَ رَجُلًا يَقْبِضُهُ الْوَكِيلُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ وَلَمْ يَنْقُدْ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَيَكُونُ فِي يَدِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ الْمَبِيعُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ مَحْبُوسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَقَبْضُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ جِنَايَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَلَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ وَهَذَا نَظِيرُ الْمَرْهُونِ إذَا قَبَضَهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُرْتَهِنِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَكُونُ ضَامِنًا حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي يُقَرِّرُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الثَّمَنِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْقِيمَةِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الضَّمَانَانِ عَلَى وَاحِدٍ بِسَبَبِ قَبْضِ وَاحِدٍ فَأَمَّا قَبْضُ الْوَكِيلِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الثَّمَنِ فَيَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ لِحَقِّ الْبَائِعِ ثُمَّ اسْتِرْدَادُ الْبَائِعِ الْقِيمَةَ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا إذْ الْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 فَإِذَا أَعْطَاهُ الثَّمَنَ رَجَعَتْ الْقِيمَةُ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي كَانَ أَمِينًا مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ رَجَعَتْ الْقِيمَةُ إلَى الْوَكِيلِ كَمَا لَوْ أَوْفَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعُ الْوَكِيلَ، وَلَوْ نُوِيَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَلَوْ اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّ الْقِيمَةَ ثُمَّ يَتْبَعُ الْوَكِيلُ الْمُشْتَرِيَ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ عَامِلًا لَهُ بِأَمْرِهِ وَقَدْ لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَهَذَا وَمَوْتُ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَهُوَ كَتَعَذُّرِ الِاسْتِرْدَادِ بِالْمَوْتِ فِي يَدِهِ وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَهُ بِنَفْسِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَمَرَ رَجُلًا بِعِتْقِ الْعَبْدِ وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَعْتَقَهُ الْمَأْمُورُ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ هَذَا وَأَمْرُهُ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ بِهِ فَهُوَ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ بِهِ فَهُوَ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِعْتَاقِ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ ذَلِكَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّهُ بِكَلِمَةِ الْإِعْتَاقِ إذَا جَعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِتْلَافُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِتْلَافُ إذَا انْتَقَلَتْ عِبَارَتُهُ إلَى الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَقِ لَهُ ضَمَانٌ وَإِذَا نَقَلْنَا عِبَارَتَهُ إلَى الْمُشْتَرِي كَانَ هَذَا مُقَرِّرًا لِلثَّمَنِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْقَبْضُ فَفِعْلٌ مَحْسُوسٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى الْقَابِضِ إذَا جُعِلَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي كَانَ مُوجِبًا عَلَيْهِ ضَمَانَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِذْنِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَإِذَا اقْتَصَرَ حُكْمُ الْقَبْضِ عَلَى الْقَابِضِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، وَلَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي شَيْءٍ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ هَذَا وَقَالَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ وَجَعَلَهُ قِيَاسَ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ يَتَثَبَّتُ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَتِلْكَ الْمَالِيَّةُ اُحْتُبِسَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ بِإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ لِعُسْرَةِ الرَّاهِنِ فَأَمَّا الْبَائِعُ فَمَا كَانَ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ وَلَكِنْ كَانَ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالْيَدِ فَأَزَالَ مِلْكَ الْعَيْنِ بِالْبَيْعِ وَبَقِيَ لَهُ الْيَدُ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَبِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ فَاتَ مَحَلُّهُ وَمُجَرَّدُ الْيَدِ لَيْسَ يَقُومُ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَسْتَسْعِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِعَارَةِ الْمَبِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ يَعُودُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ هَذَا التَّسْلِيطُ بِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ. فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ أَفْلَسَ بِالثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ وَإِنْ كَانَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَلَكِنَّهُ أُسْوَةُ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمَبِيعِ إنْ كَانَ سَلَّمَهُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَيُعِيدُهُ إلَى مِلْكِهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ بِالثَّمَنِ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقَدُ مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثُمَّ لَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْضَ الْمَبِيعِ بِالْإِبَاقِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَائِعِ قَبْضُ الثَّمَنِ لِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَا أَنَّ الْمَالِيَّةَ فِي الْآبِقِ كَالثَّاوِي حُكْمًا فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ بِمَنْزِلَةِ الثَّاوِي حُكْمًا لِاسْتِبْدَادِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَالْمَبِيعُ عَيْنٌ وَكَمَا أَنَّ تَعَذُّرَ الْقَبْضِ فِي الْعَيْنِ يُثْبِتُ حَقَّ الْحَبْسِ فَكَذَلِكَ تَعَذُّرُ الْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ بِانْقِطَاعِهِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ يَثْبُتُ لِرَبِّ السَّلَمِ حَقُّ الْفَسْخِ فَكَذَلِكَ الثَّمَنُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا سِوَى أَنَّ الثَّمَنَ مَفْقُودٌ وَالْمُسْلَمُ بِهِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ حَقَّ الْفَسْخِ يَثْبُتُ بِتَعَذُّرِ قَبْضِ الْمَعْقُودِ بِهِ كَمَا ثَبَتَ بِتَعَذُّرِ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ تَمَكَّنَ الْمَوْلَى مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ كَالثَّمَنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 أَنَّ هَلَاكَ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ. فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ شَيْئًا فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فُلُوسٌ رَائِجَةٌ، فَإِذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ فَقَدْ هَلَكَ الثَّمَنُ وَمَا يُنْقِصُ الْعَقْدَ بِهَلَاكٍ إذَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ ثَبَتَ لِلْعَاقِدِ حَقُّ الْفَسْخِ كَالْمَبِيعِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَالْمُشْتَرِي حِينَ أَفْلَسَ بِالثَّمَنِ قَدْ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ شَرْعًا، وَلَوْ أَجَّلَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، فَإِذَا صَارَ مُنْظَرًا بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ الْبَائِعُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَصَّاصُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ مَتَاعَهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ أَوْ قَالَ فَهُوَ أُسْوَةُ غُرَمَائِهِ فِيهِ» وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ أَوْ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْبَائِعِ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ وَالْمَعْنَى فِيهِ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْبَائِعِ شَرْطُ عَقْدِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَلِيًّا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْيَمِينَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَيَمْلِكُ بِهِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ وَالذِّمَّةُ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِفْلَاسِ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فَثَابِتٌ لِلْبَائِعِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِالْإِبْرَاءِ وَبِالِاسْتِبْدَالِ وَقَبْضُ الْبَدَلِ إذَا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِالِاسْتِبْدَالِ وَقَبْضُ الْبَدَلِ إذَا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِالِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ قَبْضِ الثَّمَنِ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَبِتَعَذُّرِهِ لَا يَتَغَيَّرُ شَرْطُ الْعَقْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ قُدْرَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْعَقْدِ فَلَوْ كَانَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ لَكَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا كَالتَّسْلِيمِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِهِ لِلْعَاقِدِ وَهُوَ الْأَجَلُ وَلَمَّا جَازَ الشِّرَاءُ بِالدِّرْهَمِ حَالًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُسْتَدَلُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إذَا طَرَأَ بِالْإِفْلَاسِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ. وَالْمُفْلِسُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا وَالْبَائِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ فَبِالْإِفْلَاسِ الطَّارِئِ لَأَنْ لَا تَرْتَفِعَ صِفَةُ اللُّزُومِ أَوْلَى بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَبِيعِ فَهُنَاكَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِإِبَاقِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 إذَا طَرَأَ الْعَجْزُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ لَمْ يَتَأَخَّرْ حَقُّهُ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ قُلْنَا وُجُوبُ أَوَّلِ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ الْعَقْدِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمِلْكِ وَقَدْ حَصَلَ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَقَوَّى بِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ الْعَقْدِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ لَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ انْعَدَمَ بِتَسْلِيمِ الْبَائِعِ لَمَّا بِيعَ طَوْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ انْعَدَمَ بِالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ فَلَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَقُّ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ لِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا بِخِلَافِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ هُنَاكَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فَيَتَغَيَّرُ فَمُوجِبُ الْعَقْدِ مِلْكُ فُلُوسٍ هِيَ ثَمَنٌ وَبَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَبْقَى لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فُلُوسٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأَمَّا بَعْدَ إفْلَاسِ الْمُشْتَرِي فَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَعْجِزُ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ مُوجِبِ الْعَقْدِ فَمُوجِبُ مِلْكِ الْمَوْلَى بَدَلُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ لَهُ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ لَهُ إنْسَانٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا حَقِيقَةً قُلْنَا الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ الْأَدَاءِ فَقَدْ تَغَيَّرَ مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا مَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ وَهُنَا بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي لَا يَتَغَيَّرُ مِلْكُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ثَاوٍ فَإِنَّ الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُفْلِسًا كَانَ أَوْ مَلِيًّا وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الزَّكَاةُ بِمَعْنَى إذَا قَبَضَهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ مُوجِبُ الْعَقْدِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 [كِتَابُ الصَّرْفِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً: الصَّرْفُ اسْمٌ لِنَوْعِ بَيْعٍ؛ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَالْأَمْوَالُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ مِنْهَا فِي الْعَقْدِ ثَمَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَمْ يَصْحَبْهَا سَوَاءٌ كَانَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ جِنْسِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَنَوْعٌ مِنْهَا مَا هُوَ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْعُرُوضِ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ، وَالْمَمَالِيكِ، وَنَوْعٌ هُوَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ، مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ؛ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي الْعَقْدِ تَكُونُ مَبِيعَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَإِنْ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ وَقَابَلَهَا مَبِيعٌ فَهُوَ ثَمَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا حَرْفُ الْبَاءِ، وَقَابَلَهَا ثَمَنٌ فَهِيَ مَبِيعَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] قَالَ الْفَرَّاءُ فِي مَعْنَاهُ: الثَّمَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ، وَكَانَ ثَمَنُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْعُرُوضُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا عَيْنًا فَكَانَتْ مَبِيعَةً، وَالسَّلَمُ فِي بَعْضِهَا رُخْصَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَبِيعَةً، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَسْتَحِقُّ عَيْنًا بِالْعَقْدِ تَارَةً، وَدَيْنًا أُخْرَى فَيَكُونُ ثَمَنًا فِي حَالٍ مَبِيعًا فِي حَالٍ، وَالثَّمَنُ فِي الْعُرْفِ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ بِهِ، وَهُوَ مَا يَصْحَبُهُ حَرْفُ الْبَاءِ فَإِذَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ، وَكَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَقَابَلَهُ مَبِيعٌ عَرَفْنَا أَنَّهُ ثَمَنٌ، وَإِذَا كَانَ عَيْنًا قَابَلَهُ ثَمَنٌ كَانَ مَبِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا يُحَالُ بِخِلَافِ مَا هُوَ ثَمَنٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَمِنْ حُكْمِ الثَّمَنِ أَنَّ وُجُودَهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ فَوَاتُ التَّسْلِيمِ فِيمَا هُوَ ثَمَنٌ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ «حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَرُبَّمَا أَبِيعُهُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَقَالَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا، وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ»، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَبَتَ أَنَّ فَوَاتَ التَّسْلِيمِ فِيهِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِبْدَالِ تَفْوِيتَ التَّسْلِيمِ فِيمَا اُسْتُحِقَّ بِالْعَقْدِ، وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْعَقْدِ إمَّا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَا أَثَرَ لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي الْعَقْدِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الصَّرْفُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبُيُوعِ وُجُوبُ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَرْطُ خِيَارٍ، أَوْ أَجَلٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» أَيْ مُطَالَبَةٌ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِوُجُودِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ فَيُخْتَصُّ بِحُكْمٍ يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرْفَ مَا فِي مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَجِبُ ابْتِدَاءً بِهَذَا الْعَقْدِ لَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ عَرَفْنَا أَنَّهُ يُسَمَّى صَرْفًا لِمَا فِيهِ مِنْ صَرْفِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُسَمَّ بِهِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ مُطْلَقًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مُبَادَلَةُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ يُثْبِتُ بِالْعَقْدِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ فِي الشَّرْعِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ فَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ، وَهُوَ الْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ تُقَامُ مَقَامَ حَالَةِ الْعَقْدِ شَرْعًا لِلتَّيْسِيرِ. وَإِذَا وُجِدَ التَّعْيِينُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ فِيهِمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْمَجْلِسِ مَوْضِعَ جُلُوسِهِمَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ وُجُودُ الْقَبْضِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى لَوْ قَامَا أَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا، ثُمَّ تَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَيْ يُفَارِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَالَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. رَوَى ذَلِكَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ بِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَبِشَرْطِ الْخِيَارِ يَمْتَنِعُ اسْتِحْقَاقُ مَا بِهِ يَحْصُلُ التَّعْيِينُ، وَهُوَ الْقَبْضُ مَا بَقِيَ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْأَجَلِ يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ التَّعْيِينُ فَلِهَذَا كَانَ مُبْطِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ، وَقَدْ دَلَّ مَا قُلْنَا عَلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي بُدِئَ الْكِتَابُ بِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَزْنٌ بِوَزْنٍ يَدٌ بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 آخِرِهِ، وَقَدْ بَدَأَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كِتَابُ الْبُيُوعِ، وَبَيَّنَّا تَمَامَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِنَاءٍ خُسْرَوَانِيٍّ قَدْ أُحْكِمَتْ صَنْعَتُهُ فَبَعَثَنِي بِهِ لِأَبِيعَهُ فَأُعْطِيت بِهِ وَزْنَهُ وَزِيَادَةً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَا. وَهَذَا الْإِنَاءُ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَمَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا شَرْعًا فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ جَائِزٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجَوِّزْ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَرْعًا كَمَا لَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي الْمَعَازِفِ، وَالْمَلَاهِي شَرْعًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ بِالصَّنْعَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَزْنِيَّةً، وَإِنْ اعْتَادَ النَّاسُ بَيْعَهَا بِغَيْرِ وَزْنٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّ صَنْعَةَ الْوَزْنِ فِيهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْعُرْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ سِيرِينَ حِينَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ إنَاءٍ مِنْ حَدِيدٍ بِإِنَاءَيْنِ فَقَالَ قَدْ كَانُوا يَبِيعُونَ الدِّرْعَ بِالْأَدْرُعِ يَعْنِي أَنَّ مَا لَا يَعْتَادُ النَّاسُ وَزْنَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَا يَكُونُ مَوْزُونًا، ثُمَّ ذَلِكَ الْإِنَاءُ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِبَيْعِهِ أَنْ يَصْرِفَ الثَّمَنَ إلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالصَّرْفِ. وَعَنْ أَبِي جَبَلَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقُلْت: إنَّا نَقْدَمُ أَرْضَ الشَّامِ وَمَعَنَا الْوَرِقُ الثِّقَالُ النَّافِقَةُ، وَعِنْدَهُمْ الْوَرِقُ الْخِفَافُ الْكَاسِدَةُ أَفَنَبْتَاعُ وَرِقَهُمْ الْعَشَرَةَ بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ؟ فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ بِعْ، وَرِقَك بِذَهَبٍ، وَاشْتَرِ وَرِقَهُمْ بِالذَّهَبِ، وَلَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ، وَفِيهِ دَلِيلُ رُجُوعِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي النُّقُودِ، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا تَبَيَّنَ جَوَابَ مَا سُئِلَ عَنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الطَّرِيقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِمَّا هُوَ مَذْمُومٌ مِنْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ بَلْ هُوَ اقْتِدَاءٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ «قَالَ لِعَامِلِ خَيْبَرَ: هَلَّا بِعْت تَمْرَك بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَيْت بِسِلْعَتِك هَذَا التَّمْرَ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْفَضْلِ، وَالْكَثِيرَ فِي كَوْنِهِ رِبًا سَوَاءٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالْفَضْلُ رِبًا، وَأَنَّ التَّقَابُضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ مُسْتَحَقٌّ، وَأَنَّ الْقِيَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ؛ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: مِنْ هَذِهِ إلَى هَذِهِ يَعْنِي مِنْ يَدِك إلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 يَدِهِ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى خَلْفِ هَذِهِ السَّارِيَةِ فَلَا تَفْعَلْ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ بِالْمُفَارَقَةِ يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ، وَبِالِاسْتِتَارِ بِالسَّارِيَةِ يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ أَيْضًا فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُفَارَقَةِ لَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ السَّارِيَةِ بَيْنَهُمَا مُوجِبًا لِلِافْتِرَاقِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَوْنُ السَّارِيَةِ بَيْنَهُمَا لَا يُعَدُّ افْتِرَاقًا عُرْفًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُبَاعَ السَّيْفُ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ بِالنُّقْرَةِ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ الَّتِي أَعْطَى أَقَلَّ مِمَّا فِيهِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا يَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَبِيعَهُ بِالذَّهَبِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ جَائِزٌ بِالنَّقْدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اخْتَلَفَتْ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالنَّسِيئَةِ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ صَرْفٌ فَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِيهِ مُفْسِدٌ، وَلَا يَنْزِعُ الْحِلْيَةَ مِنْ السَّيْفِ إلَّا بِضَرَرٍ فَفَسَادُ الْعَقْدِ فِيهَا يُفْسِدُ فِي الْكُلِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، أَمَّا بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِضَّةَ الْحِلْيَةِ أَكْثَرُ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْحِلْيَةُ مِثْلَ النَّقْدِ فِي الْوَزْنِ لِأَنَّ الْجَفْنَ وَالْحَمَائِلَ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ بِالْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفِضَّةَ فِي الْحِلْيَةِ أَقَلُّ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَقَلُّ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَتَوَهُّمِ الْفَضْلِ وَعِنْدَ زُفَرَ هَذَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ، وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ يَكُونُ الْعَقْدُ مَمْلُوكًا بِجَوَازِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ عَنْ «أَبِي بَصْرَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّرْفِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَعَدْت فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَرَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: سَلْهُ عَنْ الصَّرْفِ، فَقُلْت: إنَّ هَذَا يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ الصَّرْفِ، فَقَالَ لِي: الْفَضْلُ رِبًا، فَقَالَ: سَلْهُ أَمِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ يَقُولُ، أَوْ شَيْءٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ رَجُلٌ يَكُونُ فِي نَخْلِهِ بِرُطَبٍ طَيِّبٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ: أَعْطَيْت صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ رَدِيءٍ وَأَخَذْت هَذَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْبَيْتَ، فَقَالَ: إنَّ سِعْرَ هَذَا فِي السُّوقِ كَذَا، وَسِعْرُ هَذَا كَذَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: هَلَّا بِعْتَهُ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ ابْتَعْتَ بِسِلْعَتِكَ تَمْرًا» فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْفَضْلُ فِي التَّمْرِ رِبًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 وَالدَّرَاهِمُ مِثْلُهُ، فَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ فَلَقِيت بَعْدَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأَمَرْت أَبَا الصَّهْبَاءِ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ رُجُوعِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ فَتْوَاهُمَا بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْفَتْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنَّك رَجُلٌ تَائِهٌ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْخَبَرَ فَالْخَبَرُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ فَتْوَاهُ فَقَالَ: الْفَضْلُ حَرَامٌ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ فَعُلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ التَّفَاضُلِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ حُكْمًا فِي حَادِثَةٍ فَيُلْحِقُونَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ رَوَى الْحَدِيثَ فِي التَّمْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِثْلُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِي شَيْءٍ يَكُونُ نَصًّا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قِيَاسًا فَالْقِيَاسُ اسْتِنْبَاطٌ بِالرَّأْيِ، وَمَا كَانَ يَقُولُ بَلْ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُطَالِبَ الْمُفْتِيَ بِالدَّلِيلِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَهُ هَذَا الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ احْتَشَمَ أَبَا سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَسْأَلْهُ بِنَفْسِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يَجْلِسُونَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ، وَكَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَدْخُلَ أَعْرَابِيٌّ لِيَسْأَلَهُ لِيَسْتَفِيدُوا بِسُؤَالِهِ، أَوْ عَلِمَ هَذَا الرَّجُلُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُطَالِبُهُ بِالدَّلِيلِ لِيَتَبَيَّنَ مَا هُوَ الصَّوَابُ فَيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْحِشَ أَحَدٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ. ، وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ طَوْقَ ذَهَبٍ مُفَضَّضٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَاخْتَصَمَا إلَى شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ، وَهَذَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مِقْدَارَ الذَّهَبِ الَّذِي فِي الطَّوْقِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِائَةُ مِثْقَالٍ أَوْ أَكْثَرُ أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ دُونَ مِائَةِ مِثْقَالٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ تَمْوِيهًا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يُسْتَخْلَصُ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الصَّنْعَةِ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَعْدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 وَسَعْدًا آخَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِيَبِيعَا غَنَائِمَ بِذَهَبٍ فَبَاعَاهَا كُلُّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تِبْرًا بِثَلَاثِ مَثَاقِيلَ عَيْنًا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ بَيْعِ الْغَنَائِمِ، وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ إذَا رَأَى النَّظَرَ فِيهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ التَّفَاضُلَ حَرَامٌ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ كَغَيْرِهَا، وَأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يُسْتَحَقُّ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ مَعْصِيَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا، وَلَمْ يُعَاتِبْهُمَا عَلَى مَا صَنَعَا؛ لِأَنَّ نُزُولَ تَحْرِيمِ الرِّبَا كَانَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ اشْتَهَرَ بَعْدُ فَعَذَرَهُمَا بِالْجَهْلِ بِهِ. ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَتَانِي الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ فَصَرَفْت لَهُ الدَّرَاهِمَ وَافِيَةً بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِيمَا أَظُنُّ، ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا غَلَّةً فَجَعَلْت أَطْلُبُ الرَّجُلَ الَّذِي صَرَفْت عِنْدَهُ فَقَالَ لَا عَلَيْك أَنْ لَا تَجِدَهُ، وَإِنْ وَجَدْته فَلَا أُبَالِي، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالصَّرْفِ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ حَرَامٌ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُ الْأَسْوَدِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ الْغَلَّةَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْفَضْلَ حَرَامٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا دَنَانِيرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّنَانِيرِ الْغَلَّةَ، وَكَانَ هَذَا الْوَكِيلُ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَمَانَتُهُ، وَمُسَامَحَتُهُ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ الْأَسْوَدُ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ فَلَا يَتَكَلَّفُ فِي طَلَبِهِ. وَعَنْ أَبَانَ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بِعْت جَامَ فِضَّةٍ بِوَرِقٍ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ قُلْت الْحَاجَةُ قَالَ: رُدَّ الْوَرِقَ إلَى أَهْلِهَا، وَخُذْ إنَاءَكَ وَعَارِضْ بِهِ، فَفِيهِ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْفَضْلِ، وَوُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَنَّ بِسَبَبِ الْحَاجَةِ لَا يَحِلُّ الرِّبَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ كَمَا هَدَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: وَخُذْ إنَاءَك وَعَارِضْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ عَذَرَهُ لِلْحَاجَةِ، وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ، وَكَانَ قَصْدُهُ بِالسُّؤَالِ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَعْلَمَ سَبَبَ إقْدَامِهِ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى إذَا بَاشَرَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَدَّبَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُؤَدِّبًا يُؤَدِّبُ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الصَّوْغِ أَصُوغُهُ فَأَبِيعُهُ قَالَ وَزْنًا بِوَزْنٍ فَقُلْت: إنِّي أَبِيعُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَكِنْ آخُذُ فِيهِ أَجْرَ عَمَلٍ فَقَالَ: إنَّمَا عَمَلُك لِنَفْسِك، وَلَا تَرْدُدْ شَيْئًا فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ»، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ وَالشَّاهِدَ وَالْكَاتِبَ شُرَكَاءُ، وَفِيهِ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْفَضْلِ، وَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِيمَا هُوَ مَالُ الرِّبَا فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُ مِنْ الزِّيَادَةِ عِوَضًا عَنْ الصَّنْعَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ بَيَّنَ شِدَّةَ الْحُرْمَةِ فِي الرِّبَا بِقَوْلِهِ: الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ وَالْكَاتِبَ وَالشَّاهِدَ فِيهِ سَوَاءٌ أَيْ فِي الْمَأْثَمِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّايِشُ فِي النَّارِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ الظَّلَمَةَ، أَوْ كَتَبَ لَهُمْ» وَالْأَصْلُ فِي الْكُلِّ قَوْلُهُ {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَعَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقُلْت إنِّي سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: لَيْسَ فِي يَدٍ بِيَدٍ رِبًا فَمَشَى إلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَا مَعَهُ فَقَالَ لَهُ: أَسْمَعْت مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ نَسْمَعْ؟ فَقَالَ: لَا، فَحَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدِيثَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا أُفْتِي بِهِ أَبَدًا»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِجِنْسِهِمَا إذَا اعْتَدَلَ الْبَدَلَانِ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَيَقُّنِنَا بِالْمُمَاثَلَةِ وَزْنًا، وَالْمُمَاثَلَةُ إذَا وُزِنَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ إذَا وُزِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالصَّنَجَاتِ، وَفِيهِ دَلِيلُ رُجُوعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ فَتْوَاهُ فِي إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ انْقَادَ لَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهَذَا لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَالْوَرَعِ، وَإِنَّمَا مَشَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِطَرِيقِ الْخَشْيَةِ لِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ دَعَاهُ إلَى نَفْسِهِ لَأَتَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ لِلْكَبِيرِ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّبَا، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْإِرْبَاءَ. ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ بَقَايَا بَيْتِ الْمَالِ يَدًا بِيَدٍ بِفَضْلٍ فَخَرَّجَ خُرْجَةً إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ رِبًا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَخْلَفَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَخْبَرَةَ الْأَسَدِيَّ فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَاهُ عَنْ بَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَامِلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْكُوفَةِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصَّنْعَةِ كَاخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْبِقَايَةَ مَعَ الْجَيِّدِ نَوْعَيْنِ فَيُجَوِّزُ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ»، ثُمَّ سَأَلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْكُلَّ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْكُلَّ فِضَّةٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» فَرَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ فِي مَقَالَتِهِ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: عَالِمُ الْكُوفَةِ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى عَالِمِ الْمَدِينَةِ يُرَادُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ، وَقَدْ نُقِلَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ يَقُولُ سَأَلْت عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الدَّرَاهِمِ تَكُونُ مَعِي لَا تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي فَأَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي، وَأَهْضِمُ مِنْهَا قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْ دَرَاهِمَك بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِك، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَحَرُمَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ هُنَا مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»، فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا. وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ أَكْرَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إبِلًا بِدَنَانِيرَ فَأَتَيْته أَتَقَاضَاهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ دَرَاهِمُ فَقَالَ لِمَوْلًى لَهُ: انْطَلِقْ مَعَهُ إلَى السُّوقِ فَإِذَا قَامَتْ عَلَى سِعْرٍ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ، وَإِلَّا فَاشْتَرِ لَهُ دَنَانِيرَ فَأَعْطِهَا إيَّاهُ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيَصْلُحُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِهَذَا، إنَّكَ وُلِدْت وَأَنْتَ صَغِيرٌ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اسْتِبْدَالِ الْأَجْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ الْآخَرِ كَالثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اسْتِبْدَالِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا جَوَّزَ ابْنُ عُمَرَ الِاسْتِبْدَالَ بِالْأَجْرِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَرْضَى بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَكِنْ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: أَيَصْلُحُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّك وُلِدْت وَأَنْتَ صَغِيرٌ؛ أَيْ جَاهِلٌ لَا تَعْلَمُ حَتَّى تُعَلَّمَ. وَهَكَذَا حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَتَّى يُعَلَّمَ فَكَأَنَّهُ مَازَحَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَكَنَّى بِالصِّغَرِ عَنْ الْجَهْلِ، ثُمَّ ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الرِّبَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ «إذَا اشْتَرَيْتُمْ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَاشْتَرُوهُ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» يَعْنِي بِذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ لَمْ نَسْمَعْهَا فَقَالَ عُبَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَشْهَدُ إنِّي سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّ بِهِ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ يُجَوِّزُ التَّفَاضُلَ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْحَدِيثِ؛ فَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَهُ فِي رِوَايَتِهِ، وَمُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ رُوَاةِ حَدِيثِ الرِّبَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: " أَحَادِيثَ لَمْ نَسْمَعْهَا " مَا ذَكَرَهُ فِي آخَرِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ اشْتَرَيْتُمْ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَأَكَّدَ عُبَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَهُ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ " أَشْهَدُ " بِمَعْنَى أَحْلِفُ، قَالَ: " لَأُحَدِّثَنَّ بِهِ "؛ لِأَنِّي أَتَيَقَّنُ بِسَمَاعِهِ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبْلِيغِ فَلَا أَدَعُهُ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ أُحَدِّثُ بِهِ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ مُعَاوِيَةَ. وَعَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّامِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بُيُوعًا لَا يُدْرَى مَا هِيَ، أَلَا وَإِنَّ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ تِبْرَهُ وَعَيْنَهُ، أَلَا وَإِنَّ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ تِبْرَهَا وَعَيْنَهَا سَوَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُ، وَلَا يَصْلُحُ نَسِيئَةً، أَلَا وَإِنَّ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالْحِنْطَةِ يَدًا بِيَدٍ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا، وَلَا يَصْلُحُ نَسِيئَةً، ثُمَّ ذَكَرَ فِي التَّمْرِ وَالْمِلْحِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْفَاسِدَ بَيْعٌ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بُيُوعًا، وَمُرَادُهُ مَا كَانُوا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ عُقُودِ الرِّبَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَةِ نِصْفُ صَاعٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " مُدَّيْنِ بِمُدَّيْنِ " عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ أَخْذَ الرِّبَا يَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ فَالْمُسْتَزِيدُ آخِذٌ، وَالزَّائِدُ مُعْطِي، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْوَعِيدِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ لَا تُفَضِّلُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ لَا يُبَاعُ مِنْهَا غَائِبٌ بِنَاجِزٍ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَا، وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلَا تَنْتَظِرْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا يُبَاعُ غَائِبٌ بِنَاجِزٍ " أَيْ نَسِيئَةٌ بِنَقْدٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ الرِّبَا كَمَا يَثْبُتُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلَيْنِ فِي الْقَدْرِ يَثْبُتُ بِتَفَاوُتِهِمَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَأَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ وَكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " فَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ ". وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمَائِلَهُ وَجَفْنَهُ وَنَصْلَهُ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ وَزْنُ الْحِلْيَةِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ الدَّرَاهِمِ لِيَكُونَ الْفَضْلُ بِإِزَاءِ الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ السَّيْفَ الْمُحَلَّى، وَالْمِنْطَقَةَ الْمُفَضَّضَةَ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: يَجُوزُ بَيْعُ ذَلِكَ بِالْعُرُوضِ وَبِالنَّقْدِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِشَرْطِ قَبْضِ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ فِي الْمَجْلِسِ، وَبِالنَّقْدِ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِ الْحِلْيَةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ، وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ؛ مَعْنَاهُ كَالْبَيْعِ فِي الْحُكْمِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالْبَيْعِ يَعْنِي: يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ؛ فَالْإِقَالَةُ فِيهِ كَالْبَيْعِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 سَمِعْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ رِبَا الْعَجْلَانِ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ سَحْقُ دِرْهَمٍ فَلْيَخْرُجْ بِهِ إلَى السُّوقِ وَلْيَقُلْ: مَنْ يَبْتَاعُ سَحْقَ هَذَا الدِّرْهَمِ فَلْيَبْتَعْ بِهِ مَا شَاءَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " فَإِنَّ ذَلِكَ رِبَا الْعَجْلَانِ " أَيْ رِبَا النَّقْدِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ فِي النَّقْدِ، وَالنَّسِيئَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " سَحْقُ دِرْهَمٍ " الْبِقَايَةُ الَّتِي لَا تُنْفَقُ فِي حَاجَةٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ سَحْقٌ أَيْ خَلَقٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالشِّرَاءِ بِالزُّيُوفِ، وَلَكِنْ بَعْدَ بَيَانِ عَيْنِهَا لِيَنْتَفِيَ الْغَرَرُ وَالتَّدْلِيسُ كَمَا ذَكَرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا بِاقْتِضَاءِ الْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا، أَوْ كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَفِي بَدَلِ الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْأَجَلُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ لَا يَقْبَلُ الْأَجَلَ كَبَدَلِ الصَّرْفِ، وَهُوَ وَهَمٌ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَرْضَ إنَّمَا لَا يَقْبَلُ الْأَجَلَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ وَمَا يُسْتَرَدُّ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ. وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْتَعَارِ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ جَائِزٌ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ بِدِينَارٍ إلَّا دِرْهَمٍ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الدِّرْهَمَ إنَّمَا يُسْتَثْنَى مِنْ الدِّينَارِ بِالْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا، وَبِجَهَالَتِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَجْهُولًا أَيْضًا، وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَجْوَدَ مِنْهَا، وَلَا يَصْلُحُ لَهُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا، وَمَصُوغُهَا وَتِبْرُهَا، وَأَبْيَضُهَا وَأَسْوَدُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا؛ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَابَلَةَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَاسْمُ الْفِضَّةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ جَيِّدُهُ وَرَدِيئُهُ، وَتِبْرُهُ وَمَصُوغُهُ نَافِقُهُ وَغَيْرُ نَافِقِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجُودَةِ وَالصَّنْعَةِ فِيهَا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، فَوُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَجَلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّقَابُضَ وَاجِبٌ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ فَالتَّأْجِيلُ مُنَافٍ لِمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُبْطِلٌ لَهُ. ، وَإِذَا اشْتَرَى فِضَّةً بَيْضَاءَ جَيِّدَةً بِفِضَّةٍ سَوْدَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، وَمَعَ الْبَيْضَاءِ ذَهَبٌ أَوْ فُلُوسٌ أَوْ عُرُوضٌ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِانْقِسَامَ عَلَى مَذْهَبِهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيُصِيبُ الْبَيْضَاءَ أَكْثَرُ مِنْ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ السَّوْدَاءِ، وَعِنْدَنَا يَجْعَلُ مِنْ السَّوْدَاءِ بِإِزَاءِ الْبَيْضَاءِ مِثْلَ وَزْنِهَا، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ مَا زَادَ تَرْجِيحًا لِجِهَةِ الْجَوَازِ عَلَى جِهَةِ الْفَسَادِ، وَقَدْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 قَرَّرْنَا هَذَا الْفَصْلَ فِي الْبُيُوعِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْطَقَةً، أَوْ سَيْفًا مُحَلَّى بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَزْنًا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِحَدِيثِ «فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: أَصَبْت قِلَادَةً يَوْمَ خَيْبَرَ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ فَبِعْتهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، ثُمَّ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا حَتَّى يَفْصِلَ» وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا، أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ وَزْنَ الذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ أَكْثَرُ أَوْ مِثْلُ الْمُنْفَصِلِ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ. وَإِذَا اشْتَرَى لِجَامًا مُمَوَّهًا بِفِضَّةٍ بِدَرَاهِمَ بِأَقَلَّ مِمَّا فِيهِ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَوْنُ الْفِضَّةِ وَلَيْسَ بِعَيْنِ الْفِضَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَجْرِي الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِسُقُوفِهَا مِنْ التَّمْوِيهِ بِالذَّهَبِ أَكْثَرُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الرِّبَا، وَلَا فِي وُجُوبِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ مِنْ رَجُلٍ فَانْتَقَدَ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَ الْآخَرُ رَهْنًا بِحَقِّهِ فِيهِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالرَّهْنُ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُثْبِتُ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَتْ الْعَيْنُ هَالِكَةً عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَيُجْعَلُ اسْتِيفَاؤُهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي السَّلَمِ الِاخْتِلَافَ فِي الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ بِرَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ كَذَلِكَ يُبَدَّلُ فِي الصَّرْفِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى ذَهَبٍ فِيهِ لُؤْلُؤٌ، وَجَوْهَرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِدِينَارٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الدِّينَارَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَيُّهُمَا أَكْثَرَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى فَإِنْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ فَإِنَّ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ الْعَقْدَ صَرْفٌ فَيَفْسُدُ شَرْطُ الْأَجَلِ، وَاللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَرُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ وَتَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ فِي كُلِّهِ. وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً لَا يُعْرَفُ وَزْنُهَا أَوْ وَزْنُ أَحَدِهِمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَالْأَحْكَامُ لَا تُبْنَى عَلَى مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِالْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَصَارَ هَذَا شَرْطَ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَإِنْ وُزِنَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَإِنْ كَانَا بَعْدُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَجَوَازُ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ جُعِلَ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ انْعِدَامَ الدَّيْنِيَّةِ فِي الْبَدَلَيْنِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ وُزِنَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمُمَاثَلَةِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ - وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ - كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْوَزْنِ فِي إحْدَاثِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِهِ مُمَاثَلَةٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَعِلْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَحْضَرٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا الْمُتَعَاقِدَانِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ شَرْطُ الْجَوَازِ هُنَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَزْنِ فَيَصِيرُ الْوَزْنُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْعَقْدِ كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَكَمَا يُفْصَلُ هُنَاكَ بَيْنَ الْمَجْلِسِ وَمَا بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ يُفْصَلُ هُنَا، ثُمَّ الْفَصْلُ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَتَأْثِيرُ الْفَضْلِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ كَتَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَأَقْوَى، فَكَمَا أَنَّ تَرْكَ الْقَبْضِ حَتَّى افْتَرَقَا مُفْسِدٌ لِهَذَا الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ تَوَهُّمُ الْفَضْلِ بِتَرْكِ الْوَزْنِ حَتَّى افْتَرَقَا يَكُونُ مُفْسِدًا. وَإِنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِدَرَاهِمَ بِأَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَسَدَ الْبَيْعُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَقْدَ فَسَدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ بِتَرْكِ التَّقَابُضِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ صَحِيحًا فِي حِصَّةِ الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ كَمَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ فِي الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ وَالنَّصْلِ دُونَ الْفِضَّةِ فَإِنْ قَبَضَ السَّيْفَ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ الْحِلْيَةِ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ، وَقَبْضُ حِصَّةِ الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَيُصْرَفُ الْمَقْبُوضُ إلَى مَا كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ لَا يُعَارِضُ الْمُسْتَحَقَّ، وَإِذَا انْصَرَفَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا وُجِدَ الِافْتِرَاقُ بَعْدَ التَّقَابُضِ فِيمَا هُوَ صَرْفٌ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَّلَ الْبَقِيَّةَ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ. وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ فَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا سُتُّوقًا، أَوْ رَصَاصًا فَإِنْ كَانَا لَمْ يَتَفَرَّقَا اسْتَبْدَلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ أَصْلًا، وَتَأْخِيرُ الْقَبْضِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَصِيرُ، وَإِنْ كَانَا قَدْ افْتَرَقَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ مُسْتَبْدَلًا بِهِ لَا مُسْتَوْفِيًا وَلَكِنْ يَرُدُّهُ، وَكَانَ شَرِيكًا فِي الدِّينَارِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقْبِضْ دِرْهَمًا حَتَّى افْتَرَقَا، طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ قَوْلُهُ: " كَانَ شَرِيكًا فِي الدِّينَارِ بِحِصَّتِهِ " غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرِيكٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الدِّينَارِ بِالْعَشْرِ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ عِنْدَنَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا بَعْدَ التَّقَابُضِ لَوْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 تَفَاسَخَا الْعَقْدَ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ النَّقْدِ بِعَيْنِهِ وَلَكِنْ إنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِثْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي عَيْنِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ عُشْرُ الدِّينَارِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عُشْرَ ذَلِكَ الدِّينَارِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْفَسَادِ، وَهُوَ الدَّيْنِيَّةُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا مِنْ أَصْلِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الدِّينَارِ مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ مِنْ حُكْمِ الْقَبْضِ هُنَا لَا مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَالنُّقُودُ تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَيْسَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ مَا سَمَّى وَدَفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْتَزِمُ الْمُسَمَّى فِي ذِمَّتِهِ بِالْعَقْدِ، وَذِمَّتُهُ صَالِحَةٌ لِلِالْتِزَامِ فَصَحَّ الْعَقْدُ، ثُمَّ الشَّرْطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَقَدْ وَجَدَهُ، قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْعُرُوضَ وَالْحَيَوَانَ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ السِّلَعَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ مَبِيعًا، وَحُكْمُ الْبَيْعِ فِي الْمَبِيعِ وُجُوبُ الْمِلْكِ وَالتَّسْلِيمِ فَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَإِضَافَةُ السَّبَبِ إلَى مَحَلٍّ لَا يُفِيدُ حُكْمُهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا النُّقُودُ فَمُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وُجُوبُهُ وَوُجُودُهُ بِهِ مَعًا، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِالذِّمَّةِ الصَّالِحَةِ لِلِالْتِزَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ عَيْنًا فَلِهَذَا كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ بَيْعِ الرَّجُلِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ثَمَنٌ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا، وَفِيهِ بَيَانٌ أَيْضًا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَالْبَيْعُ مَحَلُّهُ الْمَبِيعُ، وَذَلِكَ فِي السِّلَعِ دُونَ الْأَثْمَانِ؛ فَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكَذَلِكَ شِرَاءُ تِبْرِ الذَّهَبِ بِتِبْرِ الْفِضَّةِ، أَوْ تِبْرِ الْفِضَّةِ بِتِبْرِ الذَّهَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ اسْتَقْرَضَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدَفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ثَمَنٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَالتِّبْرُ وَالْمَضْرُوبُ فِي كَوْنِهِ ثَمَنًا سَوَاءٌ، وَهَذَا إذَا كَانَ التِّبْرُ يَرُوجُ بَيْنَ النَّاسِ رَوَاجَ النُّقُودِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الشَّرِكَةِ بِالتِّبْرِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى إنَاءً مَصُوغًا، أَوْ قَلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ، أَوْ بِفِضَّةٍ تِبْرٍ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْإِنَاءُ أَوْ الْقَلْبُ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَا فِي الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ قَبْلَ الْفُرْقَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مُشْتَرِيَهَا مِثْلَهَا، وَلَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ فَبِاسْتِحْقَاقِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَنْعَدِمُ الْقَبْضُ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ فَيَنْعَدِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الْقَلْبِ وُجُوبُ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ فَبِاسْتِحْقَاقِهِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِخِلَافِ النُّقُودِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ الْعَقْدَ أَمَّا إذَا أَجَازَهُ جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إنْ قَالَ الْمُسْتَحِقُّ أُثْبِتُ مِلْكِي لِأُجِيزَ الْعَقْدَ فَلَهُ أَنْ يُجِيزَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَاسْتِحْقَاقُهُ إبْطَالٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِمِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِسَبَبِ الْإِزَالَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْعَقْدَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالنُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَنَا، وَيَتَعَيَّنُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ فَحَبَسَهَا وَأَعْطَى الْبَائِعُ مِثْلَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَلَوْ هَلَكَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ، أَوْ اُسْتُحِقَّتْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَيَبْطُلُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ بِهِ التَّعَيُّنُ كَمَا فِي السِّلَعِ، وَهَذَا بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ كَالْمَبِيعِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النُّقُودَ تُمْلَكُ أَعْيَانُهَا، وَمُوجِبُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمِلْكُ فِيمَا يُمْلَكُ عَيْنُهُ مِنْ الْمَالِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ مُصَادِفًا مَحَلَّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ حَتَّى إنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَرَادَ حَبْسَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ، وَرَدَّ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ تَتَعَيَّنُ حَتَّى يَكُونَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِهَا، وَفِي الصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةً لَهُمَا أَمَّا لِلْبَائِعِ فَلِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْعَيْنَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي إبْطَالَ حَقِّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ فَيَرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يَرْغَبُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْمُشْتَرِي فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ آخَرَ إذَا هَلَكَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، وَأَنْ تَكُونَ ذِمَّتُهُ خَالِيَةً عَنْ الدَّيْنِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ فِي الْوَكَالَةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَيَتَعَيَّنُ فِي النَّذْرِ أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ بِعَيْنِهَا طَعَامًا، وَنَقَدَهَا لَا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُهَا، وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ إنْ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِهَذَا الْأَلْفِ، وَبِهَذَا الْكُرِّ فِيهِمَا صَدَقَةٌ فَبَاعَهُ بِهِمَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُرِّ فَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ لَمَا لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ وَبِذَلِكَ الْكُرِّ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 : النُّقُودُ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ جَوَازًا لَا اسْتِحْقَاقًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ عَيْنَهَا بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالدَّرَاهِمِ، وَتُعْتَبَرُ بِعَيْنِهَا حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِالْكُرِّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِالنُّقُودِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ وَإِنْ عُيِّنَتْ، وَلَوْ تَعَيَّنَتْ حَتَّى مَلَكَ عَيْنَهَا لَصَارَ قَبْضُهَا مُسْتَحَقًّا، وَفِي الِاسْتِبْدَالِ تَفْوِيتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا فِي السِّلَعِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ يَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا بَعْدَ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ كَمَا فِي السِّلَعِ فَإِنْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْفَصْلَ يُسْتَدَلُّ بِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَرُبَّمَا نَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَنَأْخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا، وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ بِالدَّرَاهِمِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَفِيهِ طَرِيقَتَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَحَدُهُمَا أَنَّ تَعْيِينَ النَّقْدِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ لَغْوًا كَتَعْيِينِ الصَّنَجَاتِ وَالْمِكْيَالِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعِي فِي الْعَقْدِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَا يُعْتَبَرُ فَكَذَلِكَ الشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ التَّعْيِينَ لَا يُفِيدُ جَوَازَ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ بِتَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الرِّبْحُ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ لَا بِعَيْنِهَا، وَلَيْسَ فِي غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَقْصُودٌ، إنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالِيَّةُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هِيَ وَالْأَحْجَارُ سَوَاءٌ، وَالْمَالِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الرَّوَاجِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَمِثْلُهَا وَعَيْنُهَا لَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْعَقْدِ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ فَالتَّعْيِينُ هُنَاكَ مُفِيدٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا بِذِكْرِ الْوَصْفِ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إعْلَامِ الْوَصْفِ فَيُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْيِينِ، وَلِأَنَّ أَعْيَانَهَا مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي الرِّبْحِ فَكَانَ تَعْيِينُهَا مُفِيدًا فِي الْجُمْلَةِ أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ فَلَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ فَائِدَةَ التَّعْيِينِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ، الدَّيْنُ أَكْمَلُ مِنْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَنْتَقِضُ الْعَقْدُ، وَبِالتَّعْيِينِ يَنْتَقِضُ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَعْنَى أَوْ هَلَكَ بَطَلَ مِلْكُهُ فِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ، وَلَا بُطْلَانُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْيِينَ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي النَّقْدِ يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ، وَبِالْإِجْمَاعِ الْعَقْدُ صَحِيحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ لَغْوٌ، وَبَيَانُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إلَّا ثَمَنًا، وَالثَّمَنُ مَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فَإِذَا اُعْتُبِرَ ثُبُوتُ التَّعْيِينِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمُسَمَّى فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وُجُوبُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 وَوُجُودُهُ مَعًا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ السِّلَعِ فَحُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا وُجُوبُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ لِلْعَقْدِ عَلَى السِّلَعِ قِيَامُهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ؛ وَهُوَ السَّلَمُ، فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ حَتَّى يَجُوزَ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ؛ وَهُوَ السَّلَمُ، فَهُنَاكَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ دُونَ التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْجَبِرُ ذَلِكَ النَّقْصُ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ هُنَاكَ بِالْقَبْضِ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الصَّرْفِ بَعْدَ التَّعْيِينِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَكَانَ التَّعْيِينُ فِي الثَّمَنِ إبْطَالًا لِحُكْمِهِ، وَجَعْلًا لِمَا هُوَ الْحُكْمُ شَرْطًا، وَهَذَا تَغْيِيرٌ مَحْضٌ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، وَبِالْإِجْمَاعِ الْعَقْدُ صَحِيحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ لَغْوٌ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ التَّعْيِينَ يُصْرَفُ فِي مَحَلِّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ، وَاعْتِبَارُ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ فَكَانَ التَّعْيِينُ رُكْنًا فِيهِ، وَالْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الثَّمَنِ إنَّمَا يَجِبُ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَفِي الْوَكَالَةِ عِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِمِثْلِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمِثْلِهَا أَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ إذَا هَلَكَتْ فَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَلَوْ بَقِيَتْ الْوَكَالَةُ لَاسْتَوْجَبَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تَتَعَيَّنُ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ حَتَّى لَوْ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَانَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا دَيْنًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ بِمَا هُوَ حَرَامٌ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخُبْثُ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ لَمْ تَتَعَيَّنْ الدَّرَاهِمُ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ النَّذْرَ إلَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ صَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ سَمَّيْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَهَذَا الْكُرَّ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ فَهُمَا صَدَقَةٌ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَمِلْكُ الْكُرِّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالشُّرُوطُ فِي الْأَثْمَانِ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَالدَّرَاهِمُ بِيضٌ فَأَعْطَاهُ مَكَانَهَا سُودًا، وَرَضِيَ بِهَا الْبَائِعُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِبْدَالٍ، وَالسُّودُ وَالْبِيضُ مِنْ الدَّرَاهِمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا أَبْرَأَهُ عَنْ الصِّفَةِ حَتَّى يَجُوزَ بِالسُّودِ فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا مُسْتَبْدِلًا، وَمُرَادُهُ مِنْ السُّودِ: الْمَضْرُوبُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 مِنْ النُّقْرَةِ السَّوْدَاءِ إلَّا الدَّرَاهِمَ التِّجَارِيَّةَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدَرَاهِمَ بِيضٍ، وَقَبَضَ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الْبِيضِ التِّجَارِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ ضَرْبًا آخَرَ مِنْ الدَّنَانِيرِ سِوَى مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لَا مُسْتَبْدِلًا لِكَوْنِ الْجِنْسِ وَاحِدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ مِثْلَ الْمُسَمَّى، وَقِيلَ هَذَا إذَا أَعْطَاهُ ضَرْبًا هُوَ دُونَ الْمُسَمَّى فَإِنْ أَعْطَاهُ ضَرْبًا هُوَ فَوْقَ الْمُسَمَّى فَلَا حَاجَةَ إلَى رِضَا مُشْتَرِي الدَّنَانِيرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ حَقَّهُ، وَزِيَادَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُوَ مُتَبَرِّعٌ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ صِفَةٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَبَرُّعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السَّلَمِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُسَمِّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَيْئًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى دَنَانِيرَ كُوفِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ وَتَتَفَاوَتُ فِي الْعِيَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ بِمَا هُوَ النَّقْدُ الْمَعْرُوفُ فِيهَا فَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ نَقْدٌ مُخْتَلِفٌ مُتَفَاضِلٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ ضَرْبًا مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وَالضَّرْبُ الْمَعْلُومُ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ الدِّينَارِ نَيْسَابُورِيًّا، أَوْ كُوفِيًّا وَنَحْوَهُ، وَمِنْ الدَّرَاهِمِ عِطْرَبَعْثِيًّا، أَوْ مُؤَيَّدِيًّا، وَنَحْوَهُ إذَا كَانَتْ النُّقُودُ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِهِ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّسْمِيَةِ فَيَبْقَى الْمُسَمَّى مَجْهُولًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْمُطَالِبُ يُطَالِبُ بِأَعْلَى النُّقُودِ، وَالْمَطْلُوبُ بِأَدْنَى النُّقُودِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَجُّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُسَمِّيَا ضَرْبًا مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ نَقْدًا مِنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، وَشَرَطَا فِي الْعَقْدِ نَقْدًا آخَرَ فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ عَلَى النَّقْدِ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النَّقْدِ الْغَالِبُ بِالْعُرْفِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِنْسَانِ إذْنٌ بِالتَّنَاوُلِ لِلْعُرْفِ، ثُمَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَالَ لَا تَأْكُلْ فَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: شَرَطْتَ لِي كَذَا؛ لِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ النَّقْدِ الْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ أَشْتَرِطْ لَك ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا الثَّمَنُ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِصِفَتِهِ، وَالْجَيِّدُ مِنْهُ غَيْرُ الرَّدِيءِ حَتَّى إذَا حَضَرَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ، وَاخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَإِنْ تَحَالَفَا تَرَادَّا، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا الْبَيِّنَةُ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْفَضْلَ مِنْهُمَا لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِيهَا. قَالَ: وَإِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 فَقَبَضَ السَّيْفَ وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى بَاعَ الْمُشْتَرِي السَّيْفَ مِنْ آخَرَ، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى افْتَرَقُوا فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّيْفَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ صَرْفٌ فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي رَجَعَ السَّيْفُ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَقَدْ فَسَدَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا فَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ إلَى الْبَائِعِ، وَلَوْ لَمْ يُفَارِقْ الْآخِرُ الْأَوْسَطَ حَتَّى فَارَقَ الْأَوَّلَ نَقَدَهُ الْآخِرُ جَازَ بَيْعُ الْأَوْسَطِ فِي السَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِعَدَمِ تَمَامِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ الثَّانِي بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَفَسَدَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فَوَجَبَ عَلَى الْأَوْسَطِ رَدُّ السَّيْفِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ فَارَقَهُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ إنَّ الْأَوْسَطَ بَاعَ السَّيْفَ مِنْ الْآخِرِ جَازَ بَيْعُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ فَسَدَ بِالِافْتِرَاقِ فَقَدْ بَقِيَ مِلْكُهُ بِبَقَاءِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ بِتَقَرُّرِ بَيْعِهِ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَةَ السَّيْفِ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوْسَطُ نِصْفَ السَّيْفِ ثُمَّ فَارَقَهُ الْأَوَّلُ ثُمَّ قَبَضَ مِنْ الْآخِرِ الثَّمَنَ، وَدَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ السَّيْفِ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْ حَتَّى جَاءَ الْأَوَّلُ وَخَاصَمَهُمْ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ فِي نِصْفِ السَّيْفِ، وَقَدْ فَسَدَ السَّبَبُ فِيهِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَقَدْ جَازَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ فَيَضْمَنُ الْأَوْسَطُ نِصْفَ قِيمَةِ السَّيْفِ لِلْأَوَّلِ مِنْ الذَّهَبِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَنَقَدَ الدَّنَانِيرَ وَقَالَ الْآخِرُ: اجْعَلْ الدَّرَاهِمَ قِصَاصًا بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لِي عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ قِصَاصًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُقَاصَّةَ بَدَلَ الصَّرْفِ بِدَيْنٍ سَبَقَ وُجُوبُهُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ يَجُوزُ عِنْدَنَا - اسْتِحْسَانًا - إذَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ يَصِيرُ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقًّا، وَفِي الْمُقَاصَّةِ تَفْوِيتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَلَا يَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْمُقَاصَّةِ يَكُونُ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءً عَنْ أَوَّلِهِمَا، وَلَا يَكُونُ أَوَّلُهُمَا قَضَاءً عَنْ آخِرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَلَا يَسْبِقُهُ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذِهِ الْمُقَاصَّةَ صَارَ قَاضِيًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا، وَبَدَلُ الصَّرْفِ يَجِبُ قَبْضُهُ وَلَا يَجُوزُ قَضَاءُ دَيْنٍ آخَرَ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُمَا لَوْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنٍ سَبَقَ وُجُوبُهُ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الصَّرْفِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ مُسْتَحَقٌّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا فَقَدْ حَوَّلَا عَقْدَ الصَّرْفِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ، وَلَوْ أَضَافَا الْعَقْدَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ جَازَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ دِينَارًا وَيَقْبِضَ الدِّينَارَ فِي الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ إذَا حَوَّلَا الْعَقْدَ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ هَذِهِ الْمُقَاصَّةِ، فَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَى هَذَا، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودُ الْكُلِّ وَاحِدًا، وَلِهَذَا شَرَطْنَا تَرَاضِيهِمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُقَاصَّةُ تَقَعُ بِدُونِ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْوِيلُ الْعَقْدِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ، وَالْعَقْدُ قَدْ تَمَّ بِهِمَا فَالتَّصَرُّفُ بِهِ بِالتَّحْوِيلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَعِنْدَ التَّرَاضِي الْعَقْدُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا حَقُّهُمَا، وَيَمْلِكَانِ اسْتِدَامَتَهُ وَرَفْعَهُ فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّحْوِيلِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَهَذَا خَيْرٌ مِمَّا يَقُولُهُ الْعِرَاقِيُّونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا فَسَخَا الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ جَدَّدَاهُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ هَذَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقَالَةِ يَصِيرُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَجْلِسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ جَعَلَا بَدَلَ الصَّرْفِ قِصَاصًا بِدَيْنٍ تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ كَانَ التَّصْحِيحُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَجَازَ، وَالدَّيْنُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ تَحْوِيلَ الْعَقْدِ إلَى مَا كَانَ يَصْلُحُ مِنْهُمَا إضَافَةُ الْعَقْدِ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي سَبَقَ وُجُوبُهُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ دُونَ مَا تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْهُ. وَأَشَارَ فِي الزِّيَادَاتِ إلَى أَنَّ الْمُقَاصَّةَ أَيْضًا تَقَعُ بِالدَّيْنِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَبِهَذَا فَارَقَ رَأْسُ الْمَالِ السَّلَمَ فَإِنَّهُمَا لَوْ أَضَافَا عَقْدَ السَّلَمِ إلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا حَوَّلَا الْعَقْدَ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ بِخِلَافِ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ رَأْسَ الْمَالِ هُنَاكَ دَيْنٌ، وَبِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ رَأْسُ الْمَالِ فَيَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَهُنَا مَا يُقَابِلُ الدَّيْنَ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَالِافْتِرَاقُ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ جَائِزٌ فَإِنْ أَدَّى بَعْضَ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْبَقِيَّةَ انْتَقَصَ مِنْ الصَّرْفِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالْفَسَادُ لِمَعْنًى طَارِئٍ فِي بَعْضِ الْعَقْدِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ، وَلَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ جَازَ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَكِيلُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَفِعْلُ وَكِيلِ أَحَدِهِمَا لَهُ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا بِثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِمَا فِي الِاسْتِبْدَالِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مُعْتَبَرُ التَّعْيِينِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُ الصَّرْفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِي بِهِ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الدَّيْنِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ أَقْرَبُ إلَى النُّقُودِ مِنْهُ مَعَ غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَمَعَ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِذَا اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنَقَدَ خَمْسَمِائَةٍ وَقَبَضَ الْإِبْرِيقَ ثُمَّ افْتَرَقَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ نِصْفُ الْإِبْرِيقِ، وَيَبْطُلُ نِصْفُهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبِ التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ حِينَ لَمْ يَنْقُدْ بَعْضَ الْبَدَلِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ فَإِنْ تَقَاصَّا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْإِبْرِيقِ عَيْبًا كَثِيرًا أَوْ هَشِيمًا غَيْرَ نَافِذٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْعَيْبِ. وَالْقَلْبُ وَالطَّوْقُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرِيقِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ حِينَ وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْإِبْرِيقِ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى انْكَسَرَ عِنْدَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ، وَفِي الرَّدِّ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَيْبِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ يَصِيرُ الْعَقْدُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِمُقَابَلَةِ الْإِبْرِيقِ أَقَلُّ مِنْ وَزْنِهِ مِنْ الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ وَلَمْ يَرُدَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَلَى الْبَائِعِ حَتَّى انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ لَزِمَهُ النِّصْفُ الْبَاقِي بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ فِيهِ، وَرَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ قَدْ بَطَلَ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، وَنَقَدَهُ الدِّينَارَ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ قِصَاصًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ. وَإِنْ اسْتَقْرَضَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ بَائِعِ الدِّينَارِ، ثُمَّ قَضَاهَا إيَّاهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقْرَضَ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْقَبْضِ، وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ عَنْ مَجْلِسِ عَقْدِ الصَّرْفِ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ، وَإِنَّمَا الْبَاقِي لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بَدَلُ الْقَرْضِ. وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا بَقِيَ مِنْ الْعَشَرَةِ فَأَرَادَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الدَّرَاهِمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ عُشْرَ الدِّينَارِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْآخَرِ الدِّرْهَمُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَسَدَ فِي عُشْرِ الدِّينَارِ بِالِافْتِرَاقِ قَبْل قَبْضِ الدِّرْهَمِ، وَهَذِهِ مَطْعُونَةُ عِيسَى وَقَدْ بَيَّنَّاهَا، فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُ بِعُشْرِ الدِّينَارِ فُلُوسًا أَوْ عَرَضًا مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ لَمَّا فَسَدَ فِيهِ بَقِيَ مِلْكًا لَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَوْ دَيْنًا لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاجِبًا بِسَبَبِ الْقَبْضِ دُونَ عَقْدِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 الصَّرْفِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَالدَّرَاهِمُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَبَاعَ دَيْنَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَبَضَ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الدَّنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَمَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ عَمْرٍو فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ، وَلَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَوْفِي، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَالشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ سَوَاءٌ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ صَحِيحٌ كَمَا يَصِحُّ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ كَانَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى عَيْنٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِتَتْمِيمِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ عِنْدَ إضَافَةِ الشِّرَاءِ إلَى الدَّيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مِلْكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَدَلِ، وَإِذَا مَلَكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا مَلَكَهُ بِبَدَلٍ أَوْلَى ثُمَّ لِلْفَسَادِ هُنَا طَرِيقَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِإِضَافَةِ الشِّرَاءِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْأَجَلَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ الدَّيْنُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ، وَلَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ، وَشَرْطُ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمُشْتَرِي فِي ذِمَّةِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مُسْتَحَقًّا بِالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ أَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَبَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ، وَتَقَابَضَا فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَا لَمْ يَتَفَرَّقَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اُسْتُحِقَّ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَتَقَابَضَا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ بِمِثْلِ مَا عَيَّنَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ افْتَرَقَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ إذَا أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ لِانْتِقَاضِ الْقَبْضِ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ وَلَكِنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَكَانَ لَهُ مِثْلُهَا عَلَى الْمُودَعِ، وَقَالَ زُفَرُ: الصَّرْفُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ قَبْلَ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَكُونُ تَامًّا، فَلَا يَنْفُذُ الْعَقْدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ، كَمَا لَوْ افْتَرَقَا وَلِأَحَدِهِمَا شَرْطُ خِيَارٍ، ثُمَّ أُسْقِطَ الْخِيَارُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: افْتَرَقَا بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وَبَعْدَ تَمَامِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 فَالْقَبْضُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ يَكُونُ تَامًّا أَيْضًا، وَإِنَّمَا فِيهِ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ فَإِذَا أُسْقِطَ هَذَا الْخِيَارُ بِالْإِجَازَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ قَبْضٍ تَامٍّ فَالْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقَابَضَا فَأَجَازَ صَاحِبُهُ الْبَيْعَ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ هُنَا بَائِعُ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَ صَاحِبُهُ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ الْمُودِعُ مُشْتَرِي الدَّنَانِيرِ لِنَفْسِهِ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ نَقَدَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُسْتَقْرِضًا فَإِذَا أَجَازَهُ صَاحِبُهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ دَرَاهِمِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارًا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ، وَالْفَضْلُ بِالدِّينَارِ. وَلَوْ اشْتَرَى دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا - اسْتِحْسَانًا - عَلَى أَنْ يُصْرَفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السَّلَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الصَّرْفِ] قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ يَوْمًا فَإِنْ بَطَلَ الْخِيَارُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَقَدْ تَقَابَضَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِيَارَ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ فَيَجْعَلُهُ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ " شَرْطٌ، وَلَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ فَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا، وَمَعْنَى الْغَرَرِ أَنَّ إدْخَالَهُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَقَلُّ، وَالْقَبْضُ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَإِنَّمَا افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضٍ تَامٍّ، وَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَإِنَّمَا افْتَرَقَا قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُفْسِدَ إذَا زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ، وَكَذَلِكَ الْإِنَاءُ بِالْمَصُوغِ، وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى وَالطَّوْقُ مِنْ الذَّهَبِ فِيهِ لُؤْلُؤٌ، وَجَوْهَرٌ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِكَسْرِ الطَّوْقِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الطَّوْقِ يَفْسُدُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَفْسُدُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ إلَّا بِضَرَرٍ فَأَمَّا اللِّجَامُ الْمُمَوَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّ شَرْطَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 الْخِيَارِ فِي بَيْعِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَا يَتَخَلَّصُ، وَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ صَرْفًا، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيمَا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مِنْ الْبُيُوعِ صَحِيحٌ. وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَطَوْقَ ذَهَبٍ فِيهِ خَمْسُونَ دِينَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِمَا يَوْمًا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْجَارِيَةِ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطٌ لِقَبُولِهِ فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْبُيُوعِ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَيَقُولَانِ هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ لِمَا فِي تَمَيُّزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ مِنْ الضَّرَرِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَمْيِيزِ الْجَارِيَةِ مِنْ الطَّوْقِ فِي التَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُمَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَشَرَطَ الْأَجَلَ فَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ هُنَا كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَرَكَ التَّقَابُضَ حَتَّى افْتَرَقَا فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الطَّوْقِ دُونَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ طَارِئٌ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْبَعْضِ؛ وَهُوَ حِصَّةُ الصَّرْفِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ، وَعِنْدَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، أَوْ الْأَجَلُ الْمُفْسِدُ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْكُلِّ مَعْنَى " مِنْ " حَيْثُ إنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا بِحِنْطَةٍ أَوْ عَرَضٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ، وَلَيْسَ بِصَرْفٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَطْلًا مِنْ نُحَاسٍ بِدِرْهَمٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرْفٍ، وَالْخِيَارُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَرْفٍ يَعْنِي: كُلُّ بَيْعٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالصَّرْفُ مُبَادَلَةُ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ] وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ وَنَقَدَ الثَّمَنَ، وَلَمْ تَكُنْ الْفُلُوسُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّابِحَةَ ثَمَنٌ كَالنُّقُودِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وُجُوبُهَا وَوُجُودُهَا مَعًا، وَلَا يُشْتَرَطُ قِيَامُهَا فِي مِلْكِ بَائِعِهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَإِنْ اسْتَقْرَضَ الْفُلُوسَ مِنْ رَجُلٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُمَا قَدْ افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي عَيْنِ الصَّرْفِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الصَّرْفِ بِمُقْتَضَى اسْمِ الْعَقْدِ، وَبَيْعُ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ لَيْسَ بِصَرْفٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 الْفُلُوسِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ، وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ زُفَرَ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ إذَا عُيِّنَتْ، وَإِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا حَرْفُ الْبَاءِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ، وَبِمُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ بِمُقَابَلَتِهَا النَّقْدُ - لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَبِيعَةً إذَا قَابَلَهَا مَا لَا يَكُونُ إلَّا ثَمَنًا أَمَّا عِنْدَنَا فَالْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَثْمَانِ؛ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى كَوْنِهَا ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ، وَيَكُونُ ثَمَنًا، عُيِّنَ أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ عَقْدًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ. وَذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ، وَتَفَرَّقَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَكَأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ. وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِأَحَدِهِمَا فَتَفَرَّقَا بَعْدَ التَّقَابُضِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ، وَقَبْضُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ هُنَا يَكْفِي بِخِلَافِ الصَّرْفِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ يَمْلِكُ عَرَضَ صَاحِبِهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ الْبَدَلَ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ لَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِهِ، فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَإِنْ اشْتَرَى خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ خَاتَمَ ذَهَبٍ فِيهِ فَصٌّ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ فَصٌّ بِكَذَا فَلْسًا، وَلَيْسَتْ الْفُلُوسُ عِنْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إنْ تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ، وَلَيْسَ بِصَرْفٍ فَإِنَّمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ فَلِهَذَا شُرِطَ هُنَاكَ قَبْضُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ هُنَا، وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَى مِنْ الْعُرُوضِ بِالْفُلُوسِ لَوْ اشْتَرَى بِهَا فَاكِهَةً أَوْ لَحْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ ثَمَنٌ كَالدَّرَاهِمِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِدِرْهَمٍ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَسَوَاءٌ قَالَ اشْتَرَيْت مِثْلَ كَذَا فَلْسًا بِدِرْهَمٍ، أَوْ دِرْهَمًا بِكَذَا فَلْسًا؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ ثَمَنٌ كَالنَّقْدِ عِنْدَنَا، صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَمْ يَصْحَبْهَا، وَقِيَامُ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَإِنْ اشْتَرَى مَتَاعًا بِعَشَرَةِ أَفْلُسٍ بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ أَعْطَاهَا بِعَيْنِهَا فَوَجَدَ فِيهَا فَلْسًا لَا يُنْفَقُ اسْتَبْدَلَهُ كَمَا يَسْتَبْدِلُ الزَّيْفَ فِي الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ ثَمَنًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَيْعَ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْبُيُوعِ إلَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 أَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُنَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَّلَ لَهُمَا فَقَالَ: لَا يُوزَنُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ النُّحَاسِ لَا يُعْتَادُ وَزْنُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَانِي الَّتِي لَا تُبَاعُ وَزْنًا، وَبَيْعُ قَمْقَمَةٍ بِعَيْنِهَا بِقَمْقَمَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ. وَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَنَقَدَ الدِّرْهَمَ، وَقَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ خَمْسِينَ، وَكَسَدَتْ الْفُلُوسُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْخَمْسِينَ النَّافِقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهَا شَيْئًا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَهَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ عَيْنَهَا، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَقْدُ تَنَاوَلَهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا، وَبِالْكَسَادِ تَنْعَدِمُ مِنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فَفِي حِصَّةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ انْعِدَامُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَانَ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ كَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ، وَلَوْ انْعَدَمَتْ الْمَالِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ بِتَخْمِيرِ الْعَصِيرِ فَسَدَ الْعَقْدُ فَهَذَا مِثْلُهُ، ثُمَّ يَرُدُّ الْبَائِعُ النِّصْفَ دِرْهَمٍ الَّذِي قَبْضَهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ النِّصْفِ الدِّرْهَمِ مَا أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَجَبَ بِسَبَبِ الْقَبْضِ فَكَانَ مِثْلَ بَدَلِ الْقَرْضِ، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ، أَوْ غَلَتْ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ رَغَائِبُ النَّاسِ فِيهَا، وَبِذَلِكَ لَا يُفَوَّتُ الْبَدَلُ، وَلَا يَتَعَيَّبُ، وَلِلْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ مِنْ الْفُلُوسِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَهَا مِنْ آخَرَ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْفُلُوسَ دَيْنًا فَإِنَّمَا بَاعَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَادَلَةَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْآخَرُ الدِّرْهَمَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ رَجُلٍ بِفُلُوسٍ، أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى. قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَ مِنْ رَجُلٍ تِسْعِينَ فَلْسًا بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ قَبَضَ تِلْكَ الْفُلُوسَ، وَنَقَدَ مِنْهَا تِسْعِينَ، وَاسْتَفْصَلَ عَشَرَةَ فَهُوَ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمِائَةَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي يَلْتَزِمُ الْفُلُوسَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَضَمَانِهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا لَهُ. . وَإِنْ اشْتَرَى فَاكِهَةً، أَوْ غَيْرَهَا بِدَانِقِ فُلُوسٍ، أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ، كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ فِي الدِّرْهَمِ أَفْحَشُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَوَازِ، وَالْفَسَادِ هُنَا، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ، أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكُلِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّانَقِ، وَلَا بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُلُوسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْعَدَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ، وَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَسْتَقْصُونَ فِي بَيْعِ الْفُلُوسِ، وَقَدْ يَتَسَامَحُونَ؛ وَلِأَنَّ الدَّانَقَ، وَالدِّرْهَمَ ذِكْرٌ لِلْوَزْنِ، وَالْفُلُوسُ عَدَدِيٌّ فَيَلْغُو اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَزْنِ فِيهِ بِنَفْيِ ذِكْرِ الْفُلُوسِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا بِبَيَانِ الْعَدَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ، وَالدَّرَاهِمِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِذِكْرِ الدَّانَقِ وَالدِّرْهَمِ يَصِيرُ عَدَدُ الْفُلُوسِ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يُوجَدُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ فِي السُّوقِ فَتَسْمِيَةُ الدِّرْهَمِ كَتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فِي الْإِعْلَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ بَيْنَهُمَا وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ يَكْثُرُ الِاسْتِعْمَالُ بَيْنَ النَّاسِ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُوجَدُ بِهِ مِنْ عَدَدِ الْفُلُوسِ فَيُقَامُ مَقَامَ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَفِي الدِّرْهَمِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ - يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الدَّانَقِ، وَالدَّانَقَيْنِ لَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْجِنْسِ - إلَّا بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْفُلُوسِ فَأَقَمْنَا ذَلِكَ مَقَامَ تَسْمِيَةِ الْعَدَدِ، وَأَمَّا الدِّرْهَمُ فَمَعْلُومٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى شَيْءٍ، فَلَا يُجْعَلُ عِبَارَةً عَنْ الْعَدَدِ مِنْ الْفُلُوسِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: هُوَ فِي الدِّرْهَمِ أَفْحَشُ. رَجُلٌ أَعْطَى لِرَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ كَذَا فَلْسًا، وَأَعْطِنِي بِنِصْفِهِ دِرْهَمًا صَغِيرًا، وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ يَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْفِرَادِ، قَالَ: فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْفُلُوسَ، وَالدِّرْهَمَ الصَّغِيرَ بَطَلَ فِي الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ، وَقَدْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فِي الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْكُلُّ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَ، وَقَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ كَذَا فَلْسًا، وَأَعْطِنِي دِرْهَمًا صَغِيرًا يَكُونُ فِيهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَفْسُدُ الْبَيْعُ كُلُّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَجُوزُ فِي الْفُلُوسِ وَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ يَفْسُدُ لِمَعْنَى الرِّبَا، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ نِصْفِ الدِّرْهَمِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً يَكُونُ رِبًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ لِمَعْنَى الرِّبَا يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الْفُلُوسِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا عَلَى مَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَعْطِنِي بِنِصْفِهِ الْبَاقِي دِرْهَمًا، وَإِذَا تَكَرَّرَ الْإِعْطَاءُ يَتَفَرَّقُ الْعَقْدُ بِهِ، وَفَسَادُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يُوجِبُ فَسَادِ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لَا يَكُونُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي الْآخَرِ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 إلَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي دِرْهَمٌ صَغِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ مَا بِهِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَعْطِنِي. وَلَوْ قَالَ: أَعْطِنِي كَذَا فَلْسًا، وَدِرْهَمًا صَغِيرًا وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيرَاطًا كَانَ جَائِزًا كُلُّهُ إذَا تَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ هُنَا بِمَا سَمَّى مِنْ الْفُلُوسِ، وَنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا قِيرَاطًا فَيَكُونُ مِثْلَ وَزْنِ الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ مِنْ الدِّرْهَمِ بِمُقَابَلَتِهِ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ. رَجُلٌ بَاعَ دِرْهَمًا زَائِفًا لَا يُنْفَقُ مِنْ رَجُلٍ قَدْ عَلِمَ عَيْبَهُ بِخَمْسَةِ دَوَانِيقِ فَلْسٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خَمْسَةَ دَوَانِيقِ فَلْسٍ اسْمٌ لِمِائَةِ فَلْسٍ؛ إذْ كَانَ كُلُّ عِشْرِينَ بِدَانَقٍ، وَبَيْعُ الدِّرْهَمِ بِمِائَةِ فَلْسٍ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ، وَدِرْهَمٍ صَغِيرٍ، وَزْنُهُ دَانَقَانِ إذَا تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ الدِّرْهَمَ الصَّغِيرَ مِنْ الدِّرْهَمِ الزَّيْفِ مِثْلَ وَزْنِهِ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ، وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِخَمْسَةِ دَوَانِقِ فِضَّةٍ، أَوْ بِدِرْهَمٍ غَيْرِ قِيرَاطٍ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّبَهْرَجَةِ، وَالزُّيُوفُ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ بِخِلَافِ السَّتُّوقِ. . وَلَوْ قَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الْفِضَّةِ كَذَا فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا سُمِّيَ يَقَعُ عَلَى الْفِضَّةِ دُونَ الْفُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْفُلُوسُ مَجَازًا، وَلَكِنَّ ذَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَانَقٍ، أَوْ بِدَانَقَيْنِ، أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا كُلُّهُ يَقَعُ عَلَى الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ يَقْرِنَ بِكَلَامِهِ ذِكْرَ الْفُلُوسِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ عَدَدٍ مِنْ الْفُلُوسِ مَجَازًا. وَإِنْ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا وَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَنْقُدْ الدِّرْهَمَ حَتَّى كَسَدَتْ الْفُلُوسُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالدِّرْهَمُ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْفُلُوسِ قَدْ انْتَهَى بِالْقَبْضِ، وَصِفَةُ الدِّرْهَمِ لَمْ تَتَغَيَّرْ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ فَبَقِيَ دَيْنًا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ نَقَدَ الدِّرْهَمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْفُلُوسَ حَتَّى كَسَدَتْ فِي الْقِيَاسِ هُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِالْكَسَادِ لَا تَتَغَيَّرُ عَيْنُهَا، وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِالْعَقْدِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الدِّرْهَمَ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى فَاكِهَةً بِالْفُلُوسِ، وَقَبَضَ مَا اشْتَرَى، ثُمَّ كَسَدَتْ الْفُلُوسُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا فَالْبَيْعُ يُنْتَقَضُ - اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَتْ مَعْنًى حِينَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا وَمَالِيَّتُهَا كَانَتْ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَبِفَوْتِهَا تَفُوتُ الْمَالِيَّةُ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَيَرُدُّ مَا قَبَضَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: الْبَيْعُ يُنْتَقَضُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَيَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي نَقْضِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ عِنْدَ كَسَادِ الْفُلُوسِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 قَبْلَ قَبْضِهِ فَيُخَيَّرُ، أَمَّا أَصْلُ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالْكَسَادِ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِعَيْنِ الْفُلُوسِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فِيهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ هُنَا الْبَيْعَ لَا يُنْتَقَضُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَسَادِ تَصِيرُ مَبِيعَةً، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ، وَهُنَا ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْكَسَادِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْفَاكِهَةِ مَبِيعٌ، فَالْفُلُوسُ الْكَاسِدَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ ثَمَنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ كَالْجَوْزِ، وَغَيْرِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى فَاكِهَةً بِدَانَقِ فَلْسٍ، وَالدَّانَقُ عِشْرُونَ فَلْسًا فَلَمْ يَرُدَّ الْفُلُوسَ حَتَّى غَلَتْ، أَوْ رَخُصَتْ فَعَلَيْهِ عِشْرُونَ فَلْسًا؛ لِأَنَّ بِالْغَلَاءِ، وَالرُّخْصِ لَا يَنْعَدِمُ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ، وَصَارَ هُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ بِتَسْمِيَةِ الدَّوَانِقِ مُسَمِّيًا مَا يُوجَدُ بِهِ مِنْ الْفُلُوسِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْعَدَدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَلَاءِ السِّعْرِ، وَرُخْصِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِنْ اشْتَرَى فُلُوسًا بِدِرْهَمٍ، فَوَجَدَ فِيهَا فَلْسًا لَا يُنْفَقُ، وَقَدْ نَقَدَ الدِّرْهَمَ فَإِنَّهُ يَسْتَبْدِلُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ فُلُوسًا نَافِقَةً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْهُ حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الدِّرْهَمِ مَقْبُوضٌ كَمَا فِي الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ وَجَدَ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ زُيُوفًا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْهُ حَتَّى تَفَرَّقَا لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ الدَّرَاهِمَ اسْتَبْدَلَهُ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنِيَّةَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي الْبَدَلَيْنِ عَفْوٌ، وَإِنْ كَانَا قَدْ تَفَرَّقَا - وَهُوَ فَلْسٌ لَا يَجُوزُ مَعَ الْفُلُوسِ - رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَمَا فِي الصَّرْفِ، وَإِذَا، وَجَدَ بَعْضَ الْبَدَلِ سُتُّوقًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَا بِإِزَائِهِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ مَعَهَا فِي حَالٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَالِ اسْتِبْدَالِهِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزُّيُوفِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْقَلِيلَ زُيُوفًا فَاسْتَبْدَلَ بِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ جَازَ الْعَقْدُ فَجُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّرْهَمِ يَعْنِي؛ إذَا كَانَ نَقَدَ الدِّرْهَمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَنْتَقِضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَانَ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَإِنْ اسْتَقْرَضَ عَشَرَةَ أَفْلُسٍ ثُمَّ كَسَدَتْ تِلْكَ الْفُلُوسُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مِثْلُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: قِيمَتُهَا مِنْ الْفِضَّةِ - اسْتِحْسَانًا -؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِثْلُ الْمَقْبُوضِ، وَالْمَقْبُوضُ فُلُوسٌ هِيَ ثَمَنٌ، وَبَعْدَ الْكَسَادِ يَفُوتُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ مِثْلِ مَا الْتَزَمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلَتْ، أَوْ رَخُصَتْ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ لَا تَنْعَدِمُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُ مَا قَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ شَيْءٍ كَمَا إذَا غَلَتْ، أَوْ رَخُصَتْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِقْرَاضِ فِي الْفُلُوسِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ بَلْ لِكَوْنِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ كَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَقَدْ بَيَّنَّا، أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْكَسَادِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَيَصِيرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَصَبَ مِنْهُ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ، وَهُنَاكَ بَرِئَ بِرَدِّ عَيْنِهَا، فَهُنَا أَيْضًا يَبْرَأُ بِرَدِّ مِثْلِهَا، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنْ الْفِضَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَتْ فِيهِ رَائِجَةً فَكَسَدَتْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَهُنَاكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِتْلَافِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَإِنْ اسْتَقْرَضَ دَانَقًا فُلُوسًا، أَوْ نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ فَرَخُصَتْ، أَوْ غَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مِثْلُ عَدَدِ الَّذِي أَخَذَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَقْرِضْنِي دَانَقَ حِنْطَةٍ فَأَقْرَضَهُ رُبْعَ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَقْرِضْنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَأَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَلَا يُنْظَرُ إلَى غَلَاءِ الدَّرَاهِمِ، وَلَا إلَى رُخْصِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَالْحَاصِلُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاضُ، وَالْقَرْضُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَالْفَاسِدُ مِنْ الشُّرُوطِ لَا يُبْطِلُهُ، وَلَكِنْ يَلْغُو شَرْطُ رَدِّ شَيْءٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ، وَكَذَلِكَ مَا يُعَدُّ مِنْ الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَإِنْ اقْتَرَضَ الْجَوْزَ بِالْكَيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً، وَيُعَدُّ أُخْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْجَوْزِ كَيْلًا وَعَدَدًا، وَمَا فِيهِ مِنْ خِلَافِ زُفَرَ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْقَرْضِ فِيهِ، وَالْإِقْرَاضُ جَائِزٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقَرْضُ مَرَّتَيْنِ، وَالصَّدَقَةُ مَرَّةً»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ»، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 يَسْتَقْرِضُ إلَّا الْمُحْتَاجُ، وَقَدْ يُتَصَدَّقُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ، وَمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَرْضِ كَمَا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي مَالِ الرِّبَا، وَأَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ فِي مَعْنَى الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَرِدُّهُ الْمُقْرِضُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا دَفَعَ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَذَلِكَ حَرَامٌ فَكُلُّ مَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الْإِعَارَةِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ؛ لِأَنَّ إعَارَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَيْنِهِ حَتَّى لَا تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إقْرَاضُهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكًا صَحِيحًا فِي عَيْنِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعَارَةُ حَقِيقَةً مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ عَيْنِهِ فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِقْرَاضُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي إقْرَاضِ الْخُبْزِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَزْنًا، وَلَا عَدَدًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ عَدَدًا قَالَ هِشَامُ: فَقُلْتُ لَهُ وَزْنًا فَرَأَيْتُهُ نَفَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمَهُ، وَقَالَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَأَمَّا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ عِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي النَّوَادِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْعَجْنِ وَالنُّضْجِ عِنْدَ الْخَبْزِ، وَيَكُونُ مِنْهُ الْخَفِيفُ، وَالثَّقِيلُ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ عُرْفٌ. لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْآخَرِ، وَمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، ثُمَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَفْسَدَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِقْرَاضَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَرْضِ حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِاسْتِقْرَاضُ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْخُبْزُ مَوْزُونٌ عَادَةً، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْمَوْزُونَاتِ، وَزْنًا يَجُوزُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَ اللَّحْمِ وَزْنًا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْخُبْزُ، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا؛ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ، فِيهِ الْكَبِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَمُحَمَّدٌ جَوَّزَ اسْتِقْرَاضَهُ عَدَدًا؛ لِأَنَّهُ صُنْعُ النَّاسِ، وَقَدْ اعْتَادُوهُ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اسْتَقْرَضَ رَغِيفًا فَرَدَّ أَصْغَرَ مِنْهُ، أَوْ أَكْبَرَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ مُحَمَّدٌ قَوْلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ إلَّا وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ، وَزْنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إعْلَامَهُ بِالْوَزْنِ أَبْلُغُ مِنْ إعْلَامِهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فَإِذَا جَازَ عِنْدَهُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ عَدَدًا فَلَأَنْ يَجُوزَ وَزْنًا أَوْلَى، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ: بَلْ أَسْتَعْظِمُ جَوَازَ اسْتِقْرَاضِهِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ مُحَمَّدٌ لِتَعَارُفِ النَّاسِ وَذَلِكَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا فَبَقِيَ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْجَوَارِي؛ لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بِكْرًا، وَرَدَّ رُبَاعِيًّا وَقَالَ: خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»؛ وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا عِنْدِي فِي السَّلَمِ، وَعِنْدَ الْكُلِّ فِي النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ فِي دَمِ الْعَمْدِ فَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ كَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبُهُ مِلْكُ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ وَثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَالْحَيَوَانُ مُحْتَمَلٌ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَحَلًّا لِمُوجِبِ الْقَرْضِ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ جَائِزً، إلَّا أَنَّ الْجَوَارِيَ لَا أُجَوِّزُ الِاسْتِقْرَاضَ كَمَا لَا أُجَوِّزُ السَّلَمَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجَوِّزُ السَّلَمَ فِيهِ الْفَرْقُ، أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَوَارِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ مَشْرُوعٌ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَأَمَّا الْقَرْضُ فَبَذْلٌ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّبَرُّعِ فِيهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاضُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ كَالْجَوَارِي، وَلِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحَيَوَانِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ، مَعَ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ فِي الْمُسْتَهْلَكَاتِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ، وَمُوجِبُ الْقَرْضِ ثُبُوتُ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ بِشَرْطِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ لَمْ يَجُزْ اسْتِقْرَاضُهُ، وَبِهِ فَارَقَ ثُبُوتُ الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ شَرْطَ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا حَتَّى لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى قَبُولِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي الْقَرْضِ ابْتِدَاءً وَعُذْرُهُ فِي الْجَوَارِي فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، أَلَا تَرَى أَنْ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهَا بِدُونِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ؛ وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ تَنْفَصِلُ مَنْفَعَتُهُ عَنْ عَيْنِهِ، وَالِاسْتِقْرَاضُ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ كَالْحُرِّ، وَتَحْقِيقُهُ مَا قُلْنَا: إنَّ الْإِقْرَاضَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ، فَفِيمَا تَنْفَصِلُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ عَنْ الْعَيْنِ تَتَأَتَّى حَقِيقَةٌ الْإِعَارَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْحِيحِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 الْإِقْرَاضِ فِيهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ يَقْضِي مَا اسْتَقْرَضَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَبَيْتُ الْمَالِ يَثْبُتُ لَهُ، وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ مَجْهُولَةٌ، وَقِيلَ: كَانَ اسْتَسْلَفَ فِي الصَّدَقَةِ بِكْرًا فَإِنَّ الِاسْتِسْلَافَ، وَالِاسْتِقْرَاضَ يَتَفَاوَتُ، ثُمَّ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ فَرَدَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ رُبَاعِيًّا، وَقِيلَ: هَذَا كَانَ وَقْتَ كَانَ الْحَيَوَانُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْغَصْبِ فَإِنْ قَبَضَ الْحَيَوَانَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ قَرْضٍ فَاسِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ؛ إذْ الْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفَاسِدَ أَصْلًا فِي مَعْرِفَةِ حِلِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْجَائِزِ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ، وَالثِّيَابُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا كَالِاسْتِقْرَاضِ فِي الْحَيَوَانِ، وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ السَّلَمِ، وَالْقَرْضِ فِي الثِّيَابِ فَقَالُوا: الثِّيَابُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا، وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ إعْلَامُ الْمَالِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ إلَّا يَسِيرًا لِيَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مَعْلُومًا لِلْعَاقِدِ، وَذَلِكَ فِي الثِّيَابِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ مُمْكِنٌ أَمَّا فِي بَابِ الْقَرْضِ فَالشَّرْطُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعَيْنِ الْمَقْبُوضَةِ وَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الثِّيَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا. . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْخَشَبِ، وَالْحَطَبِ، وَالْقَصَبِ وَالرَّيَاحِينِ الرَّطْبَةِ، وَالْبُقُولِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَأَمَّا الْحِنَّاءُ، وَالْوَسْمَةُ، وَالرَّيَاحِينُ الْيَابِسَةُ الَّتِي تُكَالُ لَا بَأْسَ بِاسْتِقْرَاضِهَا؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ. وَلَا يَجُوزُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ أَجَّلَهُ عِنْدَ الْإِقْرَاضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّأْجِيلَ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ، وَإِسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْقَرْضِ لَا إلَى غَايَةٍ بِالْإِبْرَاءِ صَحِيحٌ، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ، وَلَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقْرِضَ مُتَبَرِّعٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَاضُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْعَبْدِ، وَالْمُكَاتَبِ فَلَوْ لَزِمَ الْأَجَلُ فِيهِ لَصَارَ التَّبَرُّعُ مُلْزِمًا الْمُتَبَرِّعَ شَيْئًا، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعِ، وَشَرْطُ مَا يُنَاقِضُ مَوْضُوعَ الْعَقْدِ بِهِ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ إلْحَاقُهُ بِهِ لَا يَصِحُّ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَالتَّوْقِيتُ فِي الْعَارِيَّةِ لَا يَلْزَمُ حَتَّى إنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 الْمُعِيرَ، وَإِنْ وَقَّتَهُ سَنَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هُوَ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي الْحُكْمِ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ؛ إذْ لَوْ جُعِلَ دَيْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ فِي الْحُكْمِ، فَيَكُونُ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يُزِيلُ مِلْكَهُ، وَإِزَالَةُ الْمِلْكِ بِالتَّبَرُّعِ صَحِيحٌ. فَأَمَّا بِالْقَرْضِ فَلَا يُزِيلُ مِلْكَهُ فَلَوْ لَزِمَ الْأَجَلُ فِيهِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِمِلْكِهِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ التَّبَرُّعِ. فَأَمَّا التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْغَصْبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَمَّا مَعَ الشَّافِعِيِّ فَالْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّيُونِ إلَّا بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْمُعَارَضَةِ، حَتَّى قَالَ: لَوْ أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ اللَّازِمِ أَمَّا مُنْفَرِدًا عَنْ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا كَانَ دَيْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَإِسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِ بِالْإِبْرَاءِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بِالتَّأْجِيلِ أَمَّا زُفَرُ فَهُوَ يَقُولُ: الْمُسْتَهْلَكُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ كَالْمُسْتَقْرَضِ، فَكَمَا لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ فَكَذَلِكَ فِي بَدَلِ الْغَصْبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا الْمُعَادَلَةُ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَبَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ تَفَاوُتٌ فِي الْمَالِيَّةِ مَعْنًى، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ رَدٍّ أَجْوَدَ مِمَّا قَبَضَ، أَوْ أَزْيَفَ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا وَجْهُ قَوْلِنَا: إنَّ بَدَلَ الْمُسْتَهْلَكِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِيهِ يَلْزَمُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْرَضِ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَالْقَرْضُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُسْتَقْرِضِ فِي الْعَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، وَالْمُقْرِضُ أَحَقُّ بِاسْتِرْدَادِهِ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمُسْتَقْرِضُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُسْتَقْرِضُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَمَنْفَعَةُ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ؛ فَإِذَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَكَانَ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ مَا يَرُدُّهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ صُورَةً، وَقَدْ جُعِلَ كَالْعَيْنِ حُكْمًا؛ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَيْنٌ صُورَةً جَعَلْنَا اخْتِيَارَ مَحَلِّ الْقَضَاءِ إلَى مَنْ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَيْنٌ حُكْمًا قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَرْضٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّ الْقَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَالْعَارِيَّةُ فِي كُلِّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكٍ لِعَيْنِهِ يَكُونُ قَرْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مُسَلِّطٌ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَعَارِ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَفِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَرْضُ الْمَنْفَعَةُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ بِالْإِعَارَةِ مُسَلِّطًا لَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ فِي حَاجَتِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ إقْرَاضٌ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلدَّرَاهِمِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ لَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَهُوَ إشَارَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَجَبَ ثَمَنُهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ لَهُ الْمُعِيرُ الِانْتِفَاعَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي حَاجَتِهِ، وَقَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَاجَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ بِهَا، عَلَى أَنْ يَضْمَنَ مِثْلَهَا. . فَأَمَّا الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِقَرْضٍ، وَلَكِنَّهَا عَوَارٍ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا تَنْفَصِلُ عَنْ عَيْنِهَا، وَلَا يَتَعَذَّرُ حُكْمُ الْإِعَارَةِ فِيهَا حَتَّى لَوْ بَاعَهَا الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِيهَا. وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ، وَالْأَكَارِعُ، وَالرُّءُوسُ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْقَرْضِ وَالصَّرْفُ فِيهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُوِيَ: «عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا وَخَمْسِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ» فَقَالَ لِي عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: أُعْطِيكِ تَمْرًا هُنَا وَآخُذُ تَمْرَكِ بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ: لَا حَتَّى أَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَهَانِي عَنْهُ وَقَالَ: كَيْفَ بِالضَّمَانِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؟ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ هَذَا إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ فَاشْتِرَاطُ إيفَاءِ بَدَلٍ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فِي مَكَان آخَرَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ فَهَذَا قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَهُوَ إسْقَاطُ خَطَرِ الطَّرِيقِ عَنْ نَفْسِهِ وَمُؤْنَةِ الْحَمْلِ. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً» وَسَمَّاهُ رِبًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَقْرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ لِأُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَخْلٌ بِعِجْلٍ فَأَهْدَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُطَبًا لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أُبَيٌّ فَقَالَ: أَظَنَنْتَ أَنِّي أَهْدَيْتُ إلَيْك لِأَجْلِ مَالِكَ؟ ابْعَثْ إلَى مَالِكَ فَخُذْهُ فَقَالَ عُمَرُ لِأُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رُدَّ عَلَيْنَا هَدِيَّتَنَا. وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا رَدَّ الْهَدِيَّةَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدَايَا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ لِأَجْلِ مَالِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ الْقَرْضِ فَلَمَّا أَعْلَمَهُ أُبَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ لِأَجْلِ مَالِهِ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْإِقْرَاضِ فَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَلَا بَأْسَ بِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ الْمُسْتَقْرِضُ أَجْوَدَ مِمَّا قَبَضَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةُ الْقَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ قَالَ: «اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ وَأَرْجَحَ لَهُ فَقَالُوا: أَرَجَحْتَ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 إنَّا كَذَلِكَ نَزِنُ.» فَإِذَا جَازَ الرُّجْحَانُ لَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْجَوْدَةِ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ أَمَّا إذَا كَانَ يُعْرَفُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ وَاَلَّذِي يُحْكَى أَنَّهُ كَانَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَأَتَاهُ لِيُطَالِبَهُ فَلَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ جِدَارِهِ وَوَقَفَ فِي الشَّمْسِ لَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ فِي ظِلِّ جِدَارِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ انْتِفَاعًا بِمِلْكِهِ كَيْفَ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا، وَلَا مَطْلُوبًا، وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَقْرِضْنِي فَيَقُولُ: لَا حَتَّى أَبِيعَكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إثْبَاتَ كَرَاهَةِ الْعِينَةِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ فَيَحْصُلَ لِلْمُقْرِضِ زِيَادَةٌ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. . وَالْإِقْرَاضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَالْغَرَرُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْبُخَلَاءَ مِنْ النَّاسِ تَطَرَّقُوا بِهَذَا إلَى الِامْتِنَاعِ مِمَّا يَدْنُوا إلَيْهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ الْغُرُورِ وَبِنَحْوِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ.». وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمَ فَيُعْطِيهِ دَنَانِيرَ يَأْخُذُهَا بِقِيمَتِهَا فِي السُّوقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الرِّبَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةَ وَقَالَ: انْهَهُمْ عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَبِهِ نَأْخُذُ، وَصِفَةُ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقُولَ بِالنَّقْدِ بِكَذَا وَبِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْبَيْعُ مَعَ السَّلَفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا لِيُقْرِضَهُ أَوْ يُؤَجِّلَهُ فِي الثَّمَنِ لِيُعْطِيَهُ عَلَى ذَلِكَ رِبْحًا وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ مِنْ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ: النَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ مَعَ بَقَاءِ الْغُرُورِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبَيْعِ وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ هُوَ فِي مَعْنَى هَذَا فَإِنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الرِّبْحِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ يَعْنِي مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ «حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي رُبَّمَا أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَسْتَجِيدُ السِّلْعَةَ ثُمَّ أَذْهَبُ فَأَبِيعُهَا ثُمَّ أَبْتَاعُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.» وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَقْرَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ الرَّجُلُ مِنْ جَيِّدِ عَطَائِهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا إلَّا مَنْ عَرَضُهُ مِثْلُ دَرَاهِمِي وَعَنْ عَامِرٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَفْعَلُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ وَتَأْوِيلُ كَرَاهَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرْضِ؛ فَلِهَذَا كَرِهَهُ وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْهَدِيَّةَ بِمِثْلِ هَذَا. وَعَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: جَاءَ إلَيَّ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى فَرَسٍ بَلْقَاءَ فَقَالَ: إنَّهُ أُوصِي إلَيَّ فِي يَتِيمٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَشْتَرِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْهُ شَيْئًا، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْرِضُ غَيْرَهُ فَكَيْفَ يَسْتَقْرِضُهُ لِنَفْسِهِ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ مَالُ الْيَتِيمِ، وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: إذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: مُرَادُهُ؛ إذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْيَتِيمِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَنْفِيَ التُّهْمَةَ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ بِمَكَّةَ الْوَرِقَ مِنْ التُّجَّارِ فَيَكْتُبُ لَهُمْ إلَى الْبَصْرَةِ وَإِلَى الْكُوفَةِ فَيَأْخُذُونَ أَجْوَدَ مِنْ وَرِقِهِمْ. قَالَ عَطَاءٌ: فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَخْذِهِمْ أَجْوَدَ مِنْ وَرِقِهِمْ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْمَشْرُوطَةُ أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْوَرِقَ بِمَكَّةَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ إلَى الْكُوفَةِ بِهَا وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِنَا أَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ الشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَالسَّفَاتِجُ الَّتِي تَتَعَامَلُهُ النَّاسُ عَلَى هَذَا إنْ أَقْرَضَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَكَتَبَ لَهُ سَفْتَجَةً بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِذَلِكَ خَطَرَ الطَّرِيقِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. رَجُلٌ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ بِمِصْرٍ آخَرَ عَيَّنَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ وَالْأَجَلُ مَعْلُومٌ بِالْمُدَّةِ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ يَجِدُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ وَفِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَرْضِ فَإِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ الْإِيفَاءِ فِي مَكَان آخَرَ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ مَكَانِ التَّسْلِيمِ كَاشْتِرَاطِ زَمَانِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَشَرْطُ الزَّمَانِ فِي الْقَرْضِ لِلتَّسْلِيمِ لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 شَرْطُ الْمَكَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِي الْبَيْعِ مُدَّةَ الْأَجَلِ وَالْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا فَفِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ الْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَبْدَ بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا بِالْبَصْرَةِ فَهَذَا شَرْطُ أَجَلٍ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ مُعْتَبَرٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ مَا لَمْ يَأْتِيَا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَأَمَّا مَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِاشْتِرَاطِهِ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ وَيُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَى الْأَجَلِ فِي ضِمْنِهِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا. وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْبَعْضَ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَصِحَّةُ الْإِبْرَاءِ لَا تَسْتَدْعِي الْقَبْضَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَجَّلَهُ فِيهَا شَهْرًا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ بَعْدِ الْإِقْرَاضِ كَالْمَقْرُونِ بِالْإِقْرَاضِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ إذَا اُقْتُرِنَ بِالْإِقْرَاضِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّأْجِيلِ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ لِتَمَكُّنِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الدَّنَانِيرِ بَطَلَ الصُّلْحُ، وَإِنْ افْتَرَقَا بَعْدَ مَا قَبَضَ بَعْضَهَا يَبْرَأُ مِنْ حِصَّةِ الْمَقْبُوضِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَإِنْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ذَهَبٍ تِبْرٍ أَوْ مَصُوغٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُ جَازَ إنْ قَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى فِضَّةٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا؛ فَهُنَاكَ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ رِبَا الْفَضْلِ يَجْرِي وَتَوَهُّمُ الْفَضْلِ كَتَحَقُّقِهِ فِيمَا يَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ: لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ذَهَبٍ تِبْرٍ جُزَافًا بِعَيْنِهِ أَوْ وَرِقٍ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ وَرِقٍ زِيَادَةٌ مِنْ الْكَاتِبِ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِ الصُّلْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الْوَرِقِ أَقَلُّ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدَوْرِ الْحَقِّ فَيَجُوزُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ وَزْنًا. وَإِنْ أَقْرَضَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ فُلُوسًا بِعَيْنِهَا أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ جَائِزٌ إنْ قَبَضَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَابِضٌ لِلدِّرْهَمِ بِذِمَّتِهِ؛ وَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَكَانَ هَذَا عَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَيْعِ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ أَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ يَكْفِي قُلْنَا: نَعَمْ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِذِمَّتِهِ وَلَكِنْ دَيْنًا لَا عَيْنًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِقَبْضِ مَالِ عَيْنٍ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ بِالذِّمَّةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَيَكُونُ هَذَا افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَإِنْ أَقْرَضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ بِهَا كَفِيلًا ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ مَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَصُلْحُهُ مَعَ الْأَصِيلِ جَائِزٌ عَلَى الدَّنَانِيرِ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ مَعَ الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْهِبَةِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ هُنَا يَتَبَرَّأُ عَمَّا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَالْكَفِيلُ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَكْفُولَ بِهِ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَالطَّالِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِسْعِمِائَةٍ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ. (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ): لَمْ يَذْكُرْ فَضْلَ رُجُوعِ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ هُنَا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْكَفِيلِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ إبْرَاءِ الطَّالِبِ عَنْ الْبَاقِي، وَبَرَاءَةُ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالتِّسْعِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ لِهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَفِي الصُّلْحِ هُنَاكَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا جَمِيعَ الْأَلْفِ وَلَا مُبَادَلَةَ هُنَا فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْمِائَةِ بِالْأَلْفِ رِبًا قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ صَالَحَ الْكَفِيلَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكَفِيلُ الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ كَانَ جَائِزًا؛ وَلِأَنَّ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى أَنْ يُؤَدَّى. وَالصُّلْحُ عَنْ الدَّرَاهِمِ الْمُؤَجَّلَةِ عَلَى دَنَانِيرَ صَحِيحٌ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَدَّى الْمَكْفُولُ عَنْهُ الدَّرَاهِمَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ الدَّنَانِيرَ الَّتِي أَخَذَ. لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِيُسْقِطَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْهُ وَلَمْ تَسْقُطْ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ جِنْسَ الْمَالِ ثُمَّ الْكَفِيلُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْهُ الدَّرَاهِمَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ؛ فَإِذَا مَنْ لَزِمَهُ الرَّدُّ تَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِالْمُقَاصَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ الْكَفِيلُ مُبَرِّئٌ لِلْأَصِيلِ، وَفِي الْمِائَةِ مُسْتَوْفٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَدُّ مَا اسْتَوْفَى. وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَأَمْرُهُ أَنْ يَصْرِفَهَا لَهُ فَصَرَفَهَا لَهُ بِالدَّنَانِيرِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَضِيَ الطَّالِبُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَبْدَلَ مَعَهُ دَرَاهِمَ الْقَرْضِ بِالدَّنَانِيرِ هَكَذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الطَّالِبِ سَوَاءٌ صَرَفَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ وَسَوَاءٌ قَبَضَهُ الطَّالِبُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلْمَطْلُوبِ: أَسْلِمْ مَالِي عَلَيْك فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا الْخِلَافَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّرْفِ مَعَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ السَّلَمُ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَضَافَ الْوَكَالَةَ إلَى مِلْكِهِ فَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ مِلْكُ الطَّالِبِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرَهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ إلَى الطَّالِبِ دَنَانِيرَ وَقَالَ: اصْرِفْهَا وَخُذْ مِنْهَا فَقَبَضَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الدَّافِعِ، وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مُؤْتَمَنٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ فِيمَا دَفَعَهُ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ صَرَفَهَا، وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَقَّهُ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الدَّافِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ عَامِلٌ لِلْآمِرِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْآمِرِ حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ فَإِذَا أَخَذَ حَقَّهُ وَضَاعَ مَا أَخْذَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ آخِذًا حَقَّهُ بِإِحْدَاثِ الْقَبْضِ فِيهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ قَضَاءً كَانَ دَاخِلًا فِي ضَمَانِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ قَالَ: بِعْهَا بِحَقِّكَ فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ مِثْلَ حَقِّهِ، وَأَخَذَهَا فَهُوَ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ؛ إذَا كَانَ فِي الْقَبْضِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُهُ تَابِعًا بِحَقِّهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْرَهُ بِالْبَيْعِ لِلْأَمْرِ، فَكَانَ فِي الْقَبْضِ عَامِلًا لِلْآمِرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ الْمَقْبُوضِ. وَإِذَا اشْتَرَى بَيْعًا عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَلِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَالْمُرَادُ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَإِذَا أَقْرَضَ الْمُرْتَدُّ أَوْ اسْتَقْرَضَ فَقُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَقَرْضُهُ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَالِهِ إمَّا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَدْ بَطَلَ فَبَقِيَ هُوَ قَابِضًا مَالَ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِقْرَاضُ صَحِيحٌ فَإِنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفِهِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَاسْتِقْرَاضِهِ لَا يُلَاقِي مَحَلًّا فِيهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ إذَا اسْتَقْرَضَ وَاسْتَهْلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مَا لَمْ يُعْتَقْ؟ فَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ ضَامِنًا مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَالِهِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 قُلْنَا: الْعَبْدُ يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ الضَّمَانِ بِالِاسْتِقْرَاضِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّ يَصِحُّ الِالْتِزَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ثُمَّ حَقُّهُ فِي الْمَالِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ وَلِهَذَا يَقْضِي سَائِرَ الدُّيُونِ مِنْ مَالِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الدَّيْنُ وَمَا أَقْرَضَهُ الْمُرْتَدُّ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبه؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ وَذَلِكَ مُوجَبٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَفِي حَقِّ وَرَثَتِهِ. وَإِقْرَاضُ الْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِقْرَاضُهَا جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهَا. وَلَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ. وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ هَكَذَا أَطْلَقَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَهْلَكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَتَسْلِيطُ الصَّبِيِّ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحٌ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ فَهِيَ فِي الْقَرْضِ أَظْهَرُ، وَإِنْ أَقْرَضَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا - وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَإِنْ وَجَدَ الْمُقْرِضُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ وَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ وَقَبَضَ فَهُوَ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَالْقَدْرِ، وَالنَّسَا حَرَامٌ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فَعِنْدَ وُجُودِهِمَا أَوْلَى، وَالْمَقْبُوضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ حَالٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ دَرَاهِمَهُ بِعَيْنِهَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارُ مَحَلِّ قَضَاءِ بَدَلِ الْقَرْضِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي نُسْخَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا بِعَيْنِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمِ تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرَّهْنِ فِي الصَّرْفِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ وَأَخَذَ بِالْعَشَرَةِ رَهْنًا يُسَاوِيهَا فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَهُوَ بِمَا فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ حُكْمَ الرَّهْنِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَبَدَلُ الصَّرْفِ فِيهِ مِثْلُهُ ثُمَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ تَثْبُتُ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَيَصِيرُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مُسْتَبْدِلًا؛ فَلِهَذَا بَقِيَ عَقْدُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 الصَّرْفِ كَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِدَنَانِيرَ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ السَّيْفَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، فِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَوْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَخَذَ رَهْنًا بِالسَّيْفِ، وَفِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٌ فَيَبْقَى السَّيْفُ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ السَّيْفِ وَمِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ الشَّيْءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ السَّيْفِ مِنْطَقَةٌ أَوْ سَرْجٌ مُفَضَّضٌ أَوْ إنَاءٌ مَصُوغٌ أَوْ فِضَّةُ تِبْرٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالسَّيْفِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَالِافْتِرَاقُ قَبْلَهُ مُبْطِلٌ لِعَقْدِ الصَّرْفِ وَلَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ ضَامِنُ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْمُثَمَّنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ بَاقٍ بَعْدَ مَا بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ فَعِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ فِيمَا انْعَقَدَ ضَمَانُهُ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الْمُوجِبُ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّرْفِ فِي الْمَعَادِنِ وَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرَ حَدِيثَ «أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا هَلَكَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا جَرَحَتْهُ دَابَّةٌ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَعْدِنٌ جَعَلُوهُ عَقْلَهُ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قَالُوا: وَمَا الرِّكَازُ قَالَ: الذَّهَبَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَهَا» وَالْمُرَادُ بِالْعَجْمَاءِ الدَّابَّةُ لِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تَنْطِقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ يُسَمَّى أَعْجَمِيًّا، وَالْجُبَارُ الْهَدَرُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ بِأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَا ذِمَّةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: وَالرِّجْلُ جُبَارُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا رَمَحَتْ بِرِجْلِهَا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. بِخِلَافِ مَا لَوْ كَدَمَتْ الدَّابَّةُ أَوْ ضَرَبَتْ بِالْيَدِ حَيْثُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الرَّاكِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّ لِجَامَهُ. وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالْمَعْدِنُ فَجُبَارٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِعَمَلِ مَنْ يُعَالِجُهُ فَيَكُونُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 فَقَدْ أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ ثُمَّ فَسَّرَ الرِّكَازَ بِالْمَعْدِنِ، وَهُوَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوقُ فِي الْأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ؛ فَإِنَّ الْكَنْزَ مَوْضُوعٌ لِلْعِبَادِ. وَاسْمُ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّكْزَ هُوَ الْإِثْبَاتُ يُقَالُ: رَكَّزَ رُمْحَهُ فِي الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثَبَّتٌ فِي الْأَرْضِ خِلْقَةً أَوْ وَضْعًا. . وَعَنْ عَامِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَقْضِي فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا، إنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا قَوْمٌ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْك، وَإِنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا أَحَدٌ فَخُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَقِيَّتُهَا لَكَ، وَسَنُتِمُّهَا لَك فَجَعَلَ الْكُلَّ لَهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى أَنَّ وَاجِدَ الْكَنْزِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَكِنْ يَرُدُّهَا عَلَى صَاحِبِ الْخُطَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَالِكٍ كَانَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا اُفْتُتِحَتْ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي الْوَاجِدِ إذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: إنْ كَانَتْ قَرْيَةً خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ فَارِسَ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَادِيَةً خَرِبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ فَأَدْخَلَ خُمُسَهُ بَيْتَ الْمَالِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ بَقِيَّتَهُ وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ كَنْزًا بِالْمَدَائِنِ فَدَفَعَهُ إلَى عَامِلِهِ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: بِفِيهِ الْكَثْكَثُ - يَعْنِي التُّرَابَ - فَهَلَّا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ خُمُسَهُ. وَهَذَا مَثَلٌ فِي الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ لِلْجَانِبِ الْمُخْطِئِ فِي عَمَلِهِ، وَهُوَ مُرَادُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِمَا قَالَتْ - يَعْنِي أَنَّهُ خَابَ وَخَسِرَ لِخَطَئِهِ فِيمَا صَنَعَ فِي دَفْعِهِ الْكُلَّ إلَى الْعَامِلِ فَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْفِيَ مِقْدَارَ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ الْأَقْدَرِ الْخُمُسَ. . وَعَنْ جَبَلَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَرَجَ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إلَى دَيْرٍ خَرِبَةٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ ثُلْمَةٌ فَإِذَا سَتُّوقَةٌ أَوْ جَرَّةٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ قَالَ: فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَكَ، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي مِنْهُ اقْسِمْهُ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الْخُمُسِ فِي قَرَابَةِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ فِي مَعْنَى خَمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَوَضْعُ ذَلِكَ فِي قَرَابَةِ الْغَانِمِينَ جَائِزٌ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ. وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَزْدِيِّ قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ أَبِي بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ فَلَامَتْهُ أُمِّي، وَقَالَتْ: اشْتَرَيْتَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ أَنْفُسُهَا مِائَةٌ، وَأَوْلَادُهَا مِائَةٌ وَكِفَايَتُهَا مِائَةٌ فَنَدِمَ الرَّجُلُ فَاسْتَقَالَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ فَقَالَ: لَك عَشْرُ شِيَاهٍ فَأَبَى فَقَالَ: لَكَ عَشَرَةٌ أُخْرَى فَأَبَى فَعَالَجَ الرِّكَازَ فَخَرَجَ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ فَأَتَاهُ الْآخَرُ فَقَالَ خُذْ غَنَمَك وَأَعْطِنِي مَالِي فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 لَأَضُرَّنَّكَ فَأَتَى عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْت لِلَّذِي وَجَدَ الرِّكَازَ، فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا أَخَذَ ثَمَنَ غَنَمِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدِنِ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ أَيْ: كُلُّ شَاةٍ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ حَامِلٌ بِأُخْرَى، وَهَذَا مَعْنَى مَلَامِهَا إيَّاهُ حَيْثُ قَالَتْ: اشْتَرَيْتَهَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا: وَكِفَايَتُهَا: حَمْلُهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَبَنُهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْنِيَ تَصَرُّفَهُ عَلَى رَأْيِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ نَدِمَ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهَا ثُمَّ خَرَجَ لَهُ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ عَلَى الْوَاجِدِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ قَبْلَ أَدَاءِ الْخُمُسِ جَائِزٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ كَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ مَنْ حَفَرَ مَهْوَاةً وَقَعَ فِيهَا وَيُقَالُ: الْمُحْسِنُ يُجْزَى بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ سَتُلْقِيهِ مَسَاوِيهِ. . وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي بَيْعِ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ وَهُوَ غَرَرٌ مِثْلُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَالْمَقْصُودُ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا عَيْنُ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ وَمَا فِيهِ لَيْسَ بِمَعْلُومِ الْوُجُودِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْغَرَرِ. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَلَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ عُلِمَ وُجُودُ ذَلِكَ فَبَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ مُعَيَّنٍ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ فِي اللُّقْطَةِ. وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ وَيَقُولُ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادَهُ فَاصْرِفْهَا إلَى حَاجَتِكَ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَهُ مُحْتَاجًا. وَعِنْدَنَا لِلْفَقِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ. قَالَ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي الْخَرِبِ الْعَادِيَّ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَالْمُرَادُ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْكَنْزِ، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَنْ احْتَفَرَ مِنْ الْمَعْدِنِ، فَعَلَيْهِ خُمُسُ مَا وَجَدَ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ تَتَقَاسَمُونَهُ التُّرَابَ، وَلَا أُجِيزُهُ، وَإِنْ فَعَلُوا حَتَّى تَخَلَّصَ، تَقَاسَمُوهُ عَلَى مَا يَخْلُصُ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ، وَحَقُّهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ قِسْمَةِ التُّرَابِ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ مَا يَصِلُ مِنْ الْمَقْصُودِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُمْ فِي مَعْنَى قِسْمَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ مُجَازَفَةً بِجِنْسِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى مَعْدِنَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ مَا فِي تُرَابِ الْمَعْدِنِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْفِضَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الرِّبَا وَاجِبٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا نَدْعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»، وَقَالَ: فِي الرِّبَا «مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فَلَعَلَّ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ الذَّهَبُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فَالتُّرَابُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ جَازَ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ إذَا خَلَصَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَرَأَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَشَفَ لَهُ الْحَالَ الْآنَ، وَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ. وَكَذَلِكَ تُرَابُ مَعْدِنٍ مِنْ الذَّهَبِ إذَا اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِفِضَّةٍ، أَوْ عَرَضٍ جَازَ لِانْعِدَامِ الرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَإِذَا احْتَفَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَعْدِنِ، ثُمَّ بَاعَ تِلْكَ الْحُفْرَةَ، فَإِنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحُفْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا بِمُجَرَّدِ الْحَفْر؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَهُوَ لَمْ يُحْرِزْهُ، فَإِنَّ إحْرَازَهُ فِيمَا رَفَعَ مِنْ التُّرَابِ، دُونَ الْبَاقِي فِي مَكَانِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهَا، وَيُخْرِجَهَا، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَحْرَزَ بَعْضَهَا، فَبَاعَ ذَلِكَ الْمُحْرَزَ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبَاعَ لَهُ الْبَاقِي، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْتَ مِنْ الرِّكَازِ، يَعْنِي مَا أَحْرَزْتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهَا رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْهَا عِوَضًا، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا لَا يَمْلِكُ، وَاشْتَرَطَ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فِي إخْرَاجِ الْمُبَاحِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَجَعَ فِي عِوَضِهِ وَمَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ مِنْ الْحُفْرَةِ فَأَحْرَزَهُ، فَهُوَ لَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَعَلَيْهِ الْخُمُسُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الْأَجِيرَ يَعْمَلُ مَعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ جَائِزُ؛ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ مِقْدَارِهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَمَّا كَانَ التُّرَابُ مُعَيَّنًا مَعْرُوفًا، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَأَى مَا فِيهِ، كَمَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ مُسَمًّى بِغَيْرِ عَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ وَزْنِ التُّرَابِ فَقَدْ يَكْثُر ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ، وَيَقِلُّ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَيَنْعَدِمُ فِي الْبَعْضِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى عَرَضًا بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَأَعْطَاهُ بِهِ تُرَابًا بِعَيْنِهِ يَدًا بِيَدٍ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ فِضَّةً، فَأَعْطَاهُ تُرَابَ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِيمَا أَعْطَاهُ، وَإِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 أَعْطَاهُ تُرَابَ ذَهَبٍ، جَازَ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ وَإِذَا اسْتَقْرَضَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ تُرَابَ ذَهَبٍ أَوْ تُرَابَ فِضَّةٍ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِوَزْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ، وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُقْرِضُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْرَاضُ التُّرَابِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ تُرَابًا مِثْلَهُ لَمْ يَجُزْ، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ زِيَادَةً، أَوْ نُقْصَانًا فِيمَا اسْتَقْرَضَهُ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقَرْضِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَاسْتَهْلَكَ التُّرَابَ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَنَاوَلُ عَيْنَ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ فِضَّةٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ، أَوْ تُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ ذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ تَسَاوِيًا، أَوْ تَفَاضُلًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي التُّرَابِ وَبِالْمُسَاوَاةِ فِي وَزْنِ التُّرَابِ لَا تَحْصُل الْمُمَاثَلَةُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ ذَهَبٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ جَازَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ الْآنَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ صَرْفِ الْقَاضِي] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الصَّرْفِ، وَحُكْمُ وَكِيلِهِ وَأَمِينِهِ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ الْعُقُودِ لَيْسَ بِقَاضٍ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا فَمُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، تَسْتَدْعِي مِنْ الشَّرَائِطِ مَا تَسْتَدْعِيهِ مُبَاشَرَتُهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ دَرَاهِمُ فَصَرْفَهَا الْوَصِيُّ بِدَنَانِيرَ مِنْ نَفْسِهِ بِسِعْرِ السُّوقِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصَّرْفِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْيَتِيمِ، وَهُوَ شَرْطُ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَانِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ فَصَرَفَهَا الْوَصِيُّ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَضَرَّ بِالْآخَرِ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ نَظَرْتُ فِيهِ فَإِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ أَمْضَيْتُ الْبَيْعَ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لِلْأَثَرِ الَّذِي رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، أَمَّا أَبُو الصَّبِيِّ، أَوْ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 النَّظَرَ لَهُ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ الصَّوَّاغِينَ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ خَاصَّةً مِثْلَ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَيَكُونُ النَّوْعُ الْآخَرُ رِبًا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ جَازَ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، وَعَلِمَ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْآنَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَاشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، يَجُوزُ عَلَى أَنْ يُصْرَفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي بَيْعِ الْجِنْسَيْنِ بِجِنْسَيْنِ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلًّى، أَوْ مِنْطَقَةٍ مُفَضَّضَةٍ، أَوْ قِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ، وَلُؤْلُؤٌ، وَجَوْهَرٌ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مَا فِي التُّرَابِ مِثْلُ الْحِلْيَةِ فَيَبْقَى السَّيْفُ رِبًا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ بِفِضَّةٍ، وَجَوْهَرٍ أَوْ بِذَهَبٍ، وَعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ هُنَا مُمْكِنٌ، بِأَنْ يُصْرَفَ الْمِثْلُ إلَى الْمِثْلِ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْعُرُوضِ، وَالْحُكْمُ فِي تُرَابِ مَعْدِنِ فِضَّةٍ، وَمَعْدِنِ ذَهَبٍ يَشْتَرِيهِمَا رَجُلٌ جَمِيعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ؛ لِاشْتِمَالِ التُّرَابِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمِيعًا، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَا فِي التُّرَابِ لَوْ اشْتَرَى ذَهَبًا، وَفِضَّةً لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا بِفِضَّةٍ، وَذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا جَازَ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، فَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، وَالَعْطَاءُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَكُلٌّ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُ، فَلَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَبَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ زِيدَ فِي عَطَائِهِ، فَبَاعَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِالْعُرُوضِ، أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يُجَوِّزُ بِيعَ زِيَادَةِ الْعَطَاءِ بِالْعُرُوضِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَطَاءِ كَأَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ دَيْنًا، وَبَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِيمَا هُوَ دَيْنٌ حَقِيقَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَطَاءِ، وَلَكِنْ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُمَا كَانَا يُجَوِّزَانِ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زُفَرَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْإِجَارَةِ فِي الصِّيَاغَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ يَعْمَلُ لَهُ فِي فِضَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَصُوغُهَا صِيَاغَةً مَعْلُومَةً، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْحُلِيُّ، وَالْآنِيَةُ، وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمَنَاطِقُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ، وَبَيْنَ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ لَا بِمُقَابَلَةِ مَحَلِّ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُخَلِّصَ لَهُ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً مِنْ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ، أَوْ تُرَابَ الْمَعَادِنِ؛ إذَا اشْتَرَطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِهِ بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُفَضِّضَ لَهُ حُلِيًّا، أَوْ يَنْقُشَ بِنَقْشٍ مَعْرُوفٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُمَوِّهَ لَهُ لِجَامًا، فَإِنْ اُشْتُرِطَ ذَهَبُ التَّمْوِيهِ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ الْأَجْرَ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الذَّهَبِ لِلتَّمْوِيهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ صَرْفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ لِيُمَوِّهَ لَهُ حِرْزًا بِقِيرَاطِ ذَهَبٍ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَقْبِضَ الدَّرَاهِمَ، وَيَقْبِضَ ذَلِكَ الْقِيرَاطَ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إلَيْهِ، وَيَقُولَ: مَوِّهْ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ بِذَهَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذَّهَبِ صَرْفٌ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَرَضٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُمَوِّهَ لَهُ ذَلِكَ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَضِ بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ الْمُسَمَّى يَكُونُ تَبَعًا، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، وَبَعْضُهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَا شَرَطْتَ لِي، وَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ فَعَلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي بَعْضِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ يُعْطِي الْمُمَوَّهَ قِيمَةَ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ أَصْلَ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّهُ غَيَّرَهُ عَنْ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، عَلَيْهِ فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فَقَدْ وَجَدَ إبْقَاءَ الْمَشْرُوطِ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي بَابِ الِاسْتِصْنَاعِ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّيَّاغِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ مَالًا مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ، أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً مُسَمَّاةً، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ تُرَابَ الْمَعَادِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ، وَالْمَحْمُولِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبِيعُ لَهُ شَهْرًا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ، وَرَدَتْ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِلتَّذْرِيَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْفِرُ لَهُ فِي هَذَا الْمَعْدِنِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ بِكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُنَقِّيَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ بِنِصْفِ مَا يُخْرِجُ مِنْهُ، كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ، وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ، وَهُوَ اسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَكُونُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 بِمَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ حُلِيَّ ذَهَبٍ يَوْمًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ مُنْتَفِعٌ بِهِ، لُبْسًا أَوْ اسْتِعْمَالًا، وَالْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فِيهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنَاءٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءُ عَيْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ لَا تَتَحَقَّقُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ سَيْفًا مُحَلَّى أَوْ مِنْطَقَةً، أَوْ سَرْجًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ، أَوْ أَقَلَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُمْكِنٌ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْحِلْيَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ صَائِغًا يَصُوغُ لَهُ طَوْقَ ذَهَبٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، وَقَالَ: زِدْ فِي هَذَا الذَّهَبِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِلْكِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ فِي إقَامَةِ عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي ذَهَبٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُعْتَادٌ فَقَدْ يَقُولُ الصَّائِغُ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ: إنَّ ذَهَبَك لَا يَكْفِي لِمَنْ تَطْلُبُهُ، فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ التَّعَامُلُ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ زِدْتُ فِيهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ، وَقَالَ رَبُّ الطَّوْقِ: إنَّمَا زِدْتَ فِيهِ خَمْسَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْشُوًّا بِوَزْنِ الطَّوْقِ لِيَظْهَرَ بِهِ الصَّادِقُ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ مَحْشُوًّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الطَّوْقِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسِ مَثَاقِيلَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الصَّائِغُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ، وَيَكُونُ الطَّوْقُ لِلصَّائِغِ؛ لِأَنَّ الطَّوْقَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ؛ مَا لَمْ يُعْطِهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِيَمِينِ رَبِّ الطَّوْقِ، فَكَانَ لِلصَّائِغِ أَنْ يُمْسِكَ الطَّوْقَ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ، يُرِيدُ بِهِ مَسْأَلَةَ الْحِرْزِ، فَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّ ذَهَبَ التَّمْوِيهِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ، وَهُنَا عَيْنُ مَا زَادَ مِنْ الذَّهَبِ قَائِمٌ فِي الطَّوْقِ، فَالصَّائِغُ فِيهِ كَالْبَائِعِ، فَيَكُون لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الْعِوَضِ. وَإِنْ أَمَرَ الصَّائِغَ أَنْ يَصُوغَ لَهُ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ دِرْهَمٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَأَرَاهُ الْقَدْرَ وَقَالَ: لِتَكُونَ الْفِضَّةُ عَلَيَّ قَرْضًا مِنْ عِنْدِك. لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لِلصَّائِغِ كُلَّهَا، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا فَيَبْقَى الصَّائِغُ عَامِلًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، ثُمَّ بَائِعًا مِنْهُ الْفِضَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ الْمُسْتَقْرِضُ يَصِيرُ قَابِضًا لِلذَّهَبِ يَخْلِطُهُ بِمِلْكِهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الصَّائِغُ عَامِلًا لَهُ فِي مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخَاتَمِ يَفْسُدُ أَيْضًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ صَرْفٌ بِالنَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 بِمِثْلِ وَزْنِهِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ غَصَبَ رَجُلًا قَلْبَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ فَاسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجُودَةِ، وَالصَّنْعَةِ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ قِيمَةً، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ، وَالصَّنْعَةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، فَلَوْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ أَدَّى إلَى الرِّبَا، وَإِنْ ضَمِنَ مِثْلَ وَزْنِهَا فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ، فَلِمُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا: يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا، وَعِنْدِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ لِلصَّنْعَةِ عِنْدَهُ قِيمَةً، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا، وَالرِّبَا إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، فَأَمَّا فِي ضَمَانِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلِكَات، فَلَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ، وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْمِلْكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَصْلَيْنِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَالْغَصْبِ، وَالْقَوْلُ فِي الْوَزْنِ، وَالْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالطَّالِبُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكْسِرُ إنَاءَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ سَوَاءٌ قَلَّ النُّقْصَانُ بِالْكَسْرِ، أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّ الْوَزْنَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسْرِ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ بِانْفِرَادِهَا، وَلَوْ رَجَعَ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ، كَانَ آخِذًا عَيْنَ مَالِهِ وَزْنًا، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ رِبًا، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ قُلْنَا: يُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَيَدْفَعُ الْمَكْسُورَ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْمَكْسُورَ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَضْمِينُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى ذَلِكَ كَانَ مُبَرِّئًا لَهُ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ إذَا أَحْرَقَهُ فَهُنَاكَ بِالْحَرْقِ الْيَسِيرِ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ فَقَطْ وَفِي الْحَرْقِ الْفَاحِشِ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الثَّوْبَ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، فَكَانَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً، فَإِيجَابُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِيهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِافْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا صَرْفٌ؛ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِضَّةِ الْمَكْسُوَّةِ بِالذَّهَبِ، وَالتَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ، وَلِأَجَلِهِ يَثْبُتُ حُكْمُ الرِّبَا فِيهِ، حَتَّى لَا يَقُومَ بِجِنْسِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّقَابُضِ، وَبِأَنْ كَانَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ لَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الصَّرْفِ فِيهِ فِي حُكْمِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ، وَفِي الدَّارِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 صَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، يُشْتَرَطُ قَبْضُ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْغَاصِبِ بِرَدِّ عَيْنِ الْقَلْبِ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ شَرْطًا لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ، وَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ التَّقَابُضُ، فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَعْتَقْتُ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ - إنْ كَانَ مَقْصُودًا -؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ الْبَيْعِ هُنَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ، وَبِهِ فَارَقَ الشُّفْعَةَ، فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ ابْتِدَاءً بِمَا يُعْطِي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَدَلَ الدَّارِ، فِي حَقِّهِ فَلِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ مَقْصُودًا شَرَطْنَا قَبْضَ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ، يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ، لِلتَّعْيِينِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَالْغَصْبُ، وَالِاسْتِهْلَاكُ لَا يَرِدَانِ إلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ هُنَا لِلتَّعْيِينِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اُنْتُقِضَ الْقَضَاءُ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ، احْتَاجَ الْقَاضِي إلَى إعَادَتِهِ بِعَيْنِهِ مِنْ سَاعَتِهِ، فَيَكُونُ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ، وَكَذَلِكَ إنْ اصْطَلَحَا عَلَى الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ وَلَوْ أَجَّلَ الْقِيمَةَ عَنْهُ شَهْرًا، جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي التَّأْجِيلِ فِي الْغُصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلِكَات، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَنَدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَعَنَدَهُ هَذَا التَّأْجِيلُ بَاطِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَبْضَ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَهُ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلَكِ عِنْدَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَعِنْدَنَا قَبْضُ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْقِيمَةُ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَبِالتَّأْجِيلِ يَلْزَمُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ. . وَإِذَا اسْتَهْلَكَ إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، بِخِلَافِ تِبْرِ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، فَهُوَ مَوْزُونٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، وَفِي الْآنِيَةِ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ بِهِمَا تُقَوَّمُ، وَبِأَيِّهِمَا قُوِّمَ هُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يُبَاعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ يَقْضِي بِقِيمَتِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 دَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ بِالدَّنَانِيرِ فَبِالدَّنَانِيرِ، وَكَذَلِكَ السَّيْفُ وَالسِّلَاحُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَهُ، أَوْ هَشَمَهُ هَشْمًا يُفْسِدُهُ، فَإِنْ كَانَ هَشْمًا لَا يُفْسِدُهُ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ لَا يُبَاعُ، وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَكَانَ كَالثَّوْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا، أَوْ الْأَوَانَيْ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ أَنَّ بِالصَّنْعَةِ هُنَاكَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْزُونَةً بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فِيهِمَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا الْعُرْفُ. وَإِذَا كُسِرَ إنَاءُ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَاسْتَهْلَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، فَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الَّذِي كَسَرَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَسْلِيمُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ، وَقَدْ فَوَّتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. وَلَوْ غَصَبَ إنَاءَ فِضَّةٍ فَكَسَرَهُ، وَصَاغَهُ شَيْئًا آخَرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَأْخُذُهُ، وَلَكِنْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الْأَوَّلِ مَصُوغًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَإِنْ غَصَبَهُ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ فَأَذَابَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذَابَةِ مَا أَحْدَثَ فِيهَا صَنْعَةً، وَإِنَّمَا فَوَّتَ الصَّنْعَةَ، وَبِهِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ، وَلَمْ يَخِطْهُ. وَإِذَا غَصَبَ دِرْهَمًا فَأَلْقَاهُ فِي دَرَاهِمَ لَهُ فَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ خَلْطًا يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِهِ، فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِمِثْلِهِ، وَالْمَخْلُوطُ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَا يُخْلَطُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ. وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً، وَسَبَكَهَا فِي فِضَّةٍ لَهُ حَتَّى اخْتَلَطَا فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ لِرَجُلٍ، وَدَرَاهِمَ لِآخَرَ فَخَلَطَهُمَا خَلْطًا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ، أَوْ سَبَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا، وَالْمَخْلُوطُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَعِنْدَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ، وَالشَّرِكَةِ. وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَجَعَلَهَا عُرْوَةً فِي قِلَادَةٍ، فَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ حَتَّى يُدْخِلَ بَيْعَ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَقَدْ غَصَبَهَا - مَقْصُودًا - بِنَفْسِهِ، فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ، فَهُوَ نَظِيرُ السَّاحَةِ إذَا أَدْخَلَهَا الْغَاصِبُ فِي بِنَائِهِ. وَإِذَا رَدّ الْغَاصِبُ أَجْوَدَ مِمَّا غَصَبَ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ، وَرَضِيَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ حِينَ رَضِيَ بِالْأَرْدَأِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْقَدْرِ جَازَ؛ فَكَذَلِكَ عَنْ الصِّفَةِ، وَفِي الْأَجْوَدِ أَحْسَنَ الْغَاصِبُ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرْجَحَ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالْأَجْوَدِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَإِنْ غَصَبَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةٍ دِينَارٍ، وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ، وَالدَّرَاهِمَ قَائِمَةً فِي مَنْزِلِ الْغَاصِبِ، أَوْ مُسْتَهْلَكَةً، فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلِأَنَّهُ قَابِضٌ لِبَدَلِ الدَّنَانِيرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 بِذِمَّتِهِ، وَفِي حَالِ قِيَامِ الْعَيْنِ هُوَ قَابِضٌ لَهَا بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهَا، وَهَذَا الْقَبْضُ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي غَصَبَهُ إنَاءَ فِضَّةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى مِثْل وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَعْطَاهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنَاءُ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمَفْصُولَ، فَإِنْ صَالَحَهُ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى ذَهَبٍ بِتَأْخِيرٍ، أَوْ عَلَى فِضَّةٍ مِثْلِهَا بِتَأْخِيرٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ، قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ، فَمَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّيْءِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ يَبِيعُهُ إيَّاهُ، يَعْنِي لَوْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ قَدْ أَظْهَرَهُ فَبَاعَهُ مِنْهُ، كَانَ هَذَا صَرْفًا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ يَكُونُ مُعَاوَضَةً مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ غَائِبًا عَنْهُ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِنَسِيئَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْعِ كَرِهْتُ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ مِنْ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ قَائِمٍ، فَلَفْظُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْإِنَاءِ قَائِمًا، فَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، وَالْقِيَاسُ فِي الصُّلْحِ هَكَذَا، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الصُّلْحِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مَغِيبًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ حُكْمًا أَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا، أَوْ هُوَ مُقِرٌّ بِهِ فَإِنِّي أَكْرَهُ الصُّلْحَ، وَالْبَيْعَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ، فَإِنَّ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا صَرْفٌ بِزَعْمِهِمَا فَيُؤَاخَذَانِ بِأَحْكَامِ الصَّرْفِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ الصَّرْفِ فِي الْوَدِيعَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَنَقَدَ الدَّنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ إنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي بَيْتِهِ، وَالْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ: قَبْضُ ضَمَانٍ. فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ أَلَا تَرَى أَنْ هَلَاكَهَا فِي يَدِ الْمُودِعِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ، فَإِذَا لَمْ يُحَدِّدْ الْقَبْضَ فِيهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى افْتَرَقَا، فَإِنَّمَا افْتَرَقَا، قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِثَوْبٍ، وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْعَشَرَةَ، وَالثَّوْبَ، ثُمَّ افْتَرَقَا انْتَقَضَ الْبَيْعُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ انْتَفَضَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَيُنْتَقَضُ فِي الْكُلِّ، لِمَا فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ مِنْ الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ، اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلَّى فَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبِضْ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى افْتَرَقَا، فَإِنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ بِحِلْيَةِ السَّيْفِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَصْلُ السَّيْفِ، وَحَمَائِلُهُ، وَجَفْنُهُ بِنَصْلِ الْآخَرِ، وَحَمَائِلِهِ، وَجَفْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي حِلْيَةِ أَحَدِهِمَا فَضْلٌ أُضِيفَ ذَلِكَ إلَى النَّصْلِ، وَالْحَمَائِلِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِحَمَائِلَ هَذَا، وَنَصْلِهِ، وَلَكِنْ دَعْ هَذَا، وَأَفْسِدْ الْبَيْعَ كُلَّهُ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ: الْحِلْيَةَ بِمِثْلِ وَزْنِهَا مِنْ الْحِلْيَةِ، وَلَا تُجْعَلُ الْحِلْيَةُ بِمُقَابَلَةِ النَّصْلِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ، وَصَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِتَرْجِيحِ جِهَةِ الْجَوَازِ عَلَى جِهَةِ الْفَسَادِ، وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ فِي الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِثْلُ وَزْنِهَا، وَهُنَا الْعَقْدُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَفْسُدُ، وَإِنَّمَا يَحْتَالُ لِتَصْحِيحِ الْعُقُودِ لَا لِإِلْغَائِهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ، يَفْسُدُ فِيمَا بَقِيَ أَيْضًا؛ لِمَا يَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرَرِ، فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَوْ قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا، كَانَ جَائِزًا، وَتَكُونُ فِضَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِضَّةِ الْآخَرِ، وَحَمَائِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَنَصْلُهُ بِحَمَائِلِ الْآخَرِ وَنَصْلِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلْيَةِ فَضْلٌ أُضِيفَ الْفَضْلُ إلَى الْحَمَائِلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالنَّصْلِ، وَهَذَا مِثْلُ رَجُلٍ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا، وَنُقْرَةَ فِضَّةٍ بِثَوْبٍ، وَنَقْرَةِ فِضَّةٍ فَالثَّوْبُ بِالثَّوْبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ يُقَابِلُهَا فِي الْعَقْدِ مِثْلُ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْ شَرْطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ أَحَدٍ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ مَعَ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ الْآخَرِ، كَرَجُلٍ اشْتَرَى نَقْرَةً وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَثَوْبًا بِشَاةٍ، وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَعَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَمُسَاوَاةً بِالثَّوْبِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَقَضَ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ، وَجَازَ فِي الشَّاةِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِصَرْفٍ، وَتَمْيِيزُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَالْفَسَادُ لِمَعْنًى طَارِئٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ. وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا، وَدِينَارًا بِثَوْبٍ، وَدِرْهَمٍ فَالثَّوْبُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَالدِّرْهَمُ وَالثَّوْبُ الْآخَرُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَالدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قُوبِلَا بِجِنْسَيْنِ فَلَيْسَ صَرْفُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلِلْمُعَاوَضَةِ يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؛ فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الذَّهَبِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَحِصَّةُ الْفِضَّةِ مِنْ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ صَرْفٌ، وَجَازَ الْبَيْعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ بِصَاحِبِهِ، بِالْحِصَّةِ الَّتِي سُمِّيَتْ لَهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْبَ التَّبْعِيضِ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ تَرْكُ الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 رَاضِيًا بِعَيْبٍ التَّبْعِيضِ؛ فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصَّرْفِ فِي الْوَزْنِيَّانِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دِرْهَمًا مَعَهُ، لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُ بِدِرْهَمٍ مِثْلِ وَزْنِهِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَوْ أَرْدَأِ مِنْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ: الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ دُونَ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْوَزْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجُودَةِ، وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ فِضَّةً مِثْلَ وَزْنِهِ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَزْنًا مَوْجُودٌ. . وَلَوْ اشْتَرَى مِثْقَالَيْ فِضَّةٍ، وَمِثْقَالَيْ نُحَاسٍ بِمِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَثَلَاثَةِ مَثَاقِيلَ حَدِيدٍ، كَانَ جَائِزًا بِطَرِيقِ أَنَّ الْفِضَّةَ بِمِثْلِهَا وَزْنًا، وَمَا بَقِيَ مِنْ الْفِضَّةِ، وَالنُّحَاسِ بِالْحَدِيدِ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الرِّبَا، وَكَذَلِكَ مِثْقَالُ صُفْرٍ وَمِثْقَالُ حَدِيدٍ بِمِثْقَالِ صُفْرٍ، وَمِثْقَالِ رَصَاصٍ فَالصُّفْرُ بِمِثْلِهِ، وَالرَّصَاصُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ مَوْزُونٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَالِ الرِّبَا، أَنَّهُ يُقَابِلُ الشَّيْءُ مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ: حُكْمَ الرِّبَا فِي الْفُرُوعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْع حُكْمُ الْأَصْلِ، فَكَمَا أَنَّ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ تَثْبُتُ الْمُقَابَلَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الْحَدِيدُ كُلُّهُ نَوْعٌ، وَاحِدٌ، مَا يَصْلُحُ أَنْ يُصْنَعَ مِنْهُ السَّيْفُ، وَمَا لَا يَصْلُحُ كَذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُجْعَلُ أَنْوَاعُ النَّقْرَةِ جِنْسًا وَاحِدًا، الْبَيْضَاءُ، وَالسَّوْدَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنْوَاعُ الذَّهَبِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الرَّصَاصُ الْقَلَعِيُّ بِالْأَسْرُبِّ، فَهَذَا رَصَاصٌ كُلُّهُ يُوزَنُ، وَلَكِنْ بَعْضُهُ أَجْوَدُ مِنْ بَعْضٍ، وَبِالْجُودَةِ، وَالرَّدَاءَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ، وَلَا بَأْسَ بِالنُّحَاسِ الْأَحْمَرِ بِالشَّبَهِ، وَالشَّبَهُ وَاحِدٌ، وَالنُّحَاسُ اثْنَانِ يَدًا بِيَدٍ مِنْ قَبِيلِ، أَنَّ الشَّبَهَ قَدْ زَادَ فِيهِ الصَّبْغَ، فَيُجْعَلُ زِيَادَةُ النُّحَاسِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِزِيَادَةِ الصَّبْغِ الَّذِي فِي الشَّبَّةِ قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَبِزِيَادَةِ الصَّبْغِ فِي الشَّبَهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْجِنْسُ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْوَزْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ،، وَلَا بَأْسِ بِالشَّبَهِ بِالصُّفْرِ الْأَبْيَضِ يَدًا بِيَدٍ، الشَّبَهُ وَاحِدٌ، وَالصُّفْرُ اثْنَانِ، لِمَا فِي الشَّبَهِ مِنْ الصَّبْغِ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 الصُّفْرُ الْأَبْيَضُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاحِدًا مِنْهُ بِاثْنَيْنِ مِنْ النُّحَاسِ الْأَحْمَرِ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ الْأَبْيَضَ فِيهِ رَصَاصٌ قَدْ اخْتَلَطَ بِهِ فَبِاعْتِبَارِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ كُلُّهُ وَإِنْ افْتَرَقَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَكُلُّ مَا لَا يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ الْوَزْنِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، لَمْ يُبَعْ بِجِنْسِهِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْمَصُوغَ الَّذِي يُبَاعُ وَزْنًا بِمَنْزِلَةِ التِّبْرِ. وَإِنْ اشْتَرَى إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ بِرِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، وَقَبَضَ الْإِنَاءَ فَهُوَ جَائِزٌ، إنْ دَفْعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ مَوْزُونٌ فَإِذَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ، وَبِمُقَابَلَتِهِ عَيْنٌ كَانَ ثَمَنًا، وَتَرْكُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَضُرُّ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنَاءُ لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ وَزْنًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ بِوَزْنٍ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ، وَالدَّيْنِيَّةُ فِيهِ عَفْوٌ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ، وَإِذَا افْتَرَقَا وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَيْنٌ، فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا، فَلَوْ قَبَضَ الْحَدِيدَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْإِنَاءَ حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْنًا قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالْإِنَاءُ عَيْنٌ، فَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِيهِ لَا يَضُرُّ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى رِطْلًا مِنْ حَدِيدٍ بِعَيْنِهِ، بِرِطْلَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ جَيِّدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ، فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، لَا عَلَى وَجْهِ السَّلَمِ «، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ»، وَمُطْلَقُ النَّهْي يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ الصَّرْفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] " بَابٌ الصَّرْفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ " قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذُكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَمَكْحُولٌ فَقِيهٌ ثِقَةٌ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ مِثْلِهِ مَقْبُولٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ،، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفِ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُمْ مَيْتَةً، أَوْ قَامَرَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا بِالْقِمَارِ، فَذَلِكَ الْمَالُ طَيِّبٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ جِيفَةٌ فِي الْخَنْدَقِ فَأَعْطَوْا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ مَالًا فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 عَنْ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كَانَ مَوْضِعُ الْخَنْدَقِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: عِنْدَكُمْ هَذَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرِّبَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى أَخْذِ مَالِ الْكَافِرِ بِطَيْبَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ رَاضٍ بِأَخْذِ هَذَا الْمَالِ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْعَقْدِ مِنْهُ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَجَازَ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَ الْآخَرَ هِبَةً، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا، وَمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا أَسْلَمَ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يُرْبِي، وَكَانَ يُخْفِي فِعْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَوْضُوعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى جَاءَ الْفَتْحُ، وَبِهِ نَقُولُ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278] قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] قَالَ لَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: يَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا عَلَى أَنْ نَضَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك خَطْرًا، فَإِنْ غَلَبَتْ الرُّومُ أَخَذْتَ خَطْرَنَا، وَإِنْ غَلَبَتْ فَارِسُ أَخَذْنَا خَطْرَكَ فَخَاطَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطْرِ، وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ، فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَبُعِثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ تَعَالَ فَخُذْ خَطْرَك، فَذَهَبَ، وَأَخَذَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ، وَهَذَا الْقُمَارُ لَا يَحِلُّ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي دَارِ الشِّرْكِ، حَيْثُ لَا يَجْرِي أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ» «وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رُكَانَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُصَارِعَنِي عَلَى ثُلُثِ غَنَمِي فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ، وَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ» الْحَدِيثُ. إلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ غَنَمِهِ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ تَكَرُّمًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ بِالِاسْتِئْمَانِ ضَمِنَ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ، وَأَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا بِطَيْبَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْغَدْرِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَتَمَلَّكُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ لَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 الْوُجُوهِ مَا أَمْكَنَ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قُلْنَا. وَالْعِرَاقِيُّونَ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَيَقُولُونَ حِلٌّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ طِلْقٌ لَنَا أَمْوَالُهُمْ فَمَا عَدَا عُذْرَ الْأَمَانِ يَضْرِبُ سَبْعًا فِي ثَمَانِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ، وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ، وَلِئَلَّا يَظُنُّوا بِنَا أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ لِطَمَعِ الْمَالِ. وَأَمَّا التَّاجِرَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْإِحْرَازِ بِالِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ إذَا أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ عَقْدٍ لَمْ يُبَاشِرَاهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَا، وَلَمْ يَخْرُجَا حَتَّى تَبَايَعَا بِالرِّبَا، كَرِهْتُهُ لَهُمَا، وَلَمْ أُرِدْهُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَرُدُّهُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي التَّاجِرَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَطْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: مَالُ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ عَنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَخْذِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَهُمَا بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ صَاحِبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ لِمَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقًّا لِلشَّرْعِ دُونَ مَنْ لَا يَعْتَقِدَهُ وَبِقُوَّةِ الدَّارِ يَمْنَعُ عَنْ مَالِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدُهُ؛ فَلِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْآثِمِ قُلْنَا: يُكْرَهُ لَهُمَا هَذَا الصَّنِيعُ، وَلِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قُلْنَا: لَا يُؤْمَرُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالَ صَاحِبِهِ بِالْأَخْذِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُونَ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَالَهُ بِيَدِهِ، وَيَدُهُ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْغَانِمِينَ. فَإِنْ دَخَلَ تُجَّارُ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، لَمْ أُجِزْ ذَلِكَ إلَّا مَا أُجِيزُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَهْدِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيَّنَهُ عَهْدٌ، وَكَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ» فَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ، لَا يَكُونُ غَدْرًا بِالْأَمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 عِنْدَنَا أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {، وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] فَمُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ لَا تَكُونُ عَنْ تَدَيُّنٍ، بَلْ لِفِسْقٍ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالتَّعَاطِي فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ. وَإِذَا تَبَايَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجُوا فَأَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّة، قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضُوا، أَوْ يَقْبِضَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ أَبْطَلْتُهُ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ كَمَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، تَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ،، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وَسَبَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ «أَسْلَمَ ثَقِيفُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَدَعُوا الرِّبَا، وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُوا الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ يَرْبُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَتَّابُ بْنَ أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةِ أَمِيرًا فَطَلَبَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا، وَأَبَى ذَلِكَ بَنُو الْمُغِيرَةِ فَاخْتَصَمُوا إلَى عَتَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَكَتَبَ فِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَتَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَدَعُوا لَهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا أَوْ يَسْتَعِدُّوا لِلْحَرْبِ» فَعَرَفْنَا أَنْ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ، كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَصَمُوا بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ بَعْدَ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُبَايِعُ الْحَرْبِيَّ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَإِنْ خَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي أَبْطَلَهُ، وَإِنْ كَانَا تَقَابَضَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ اخْتَصَمَا لَمْ أَنْظُرْ فِيهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّرْهَمِ، أَوْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ نَفْسَ الْكَافِرِ بِمَا أَعْطَاهُ، قَلَّ ذَلِكَ، أَوْ كَثُرَ، وَأَخَذَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةَ كَمَا قَرَّرَنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّرْفِ بَيْنَ الْمَوْلَى، وَعَبْدِهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَيْسَ بَيْن الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ رِبًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا رِبًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ؛»، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَالْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ مِلْكٍ بِمِلْكٍ غَيْرِهِ فَأَمَّا جَعْلُ بَعْضِ مَالِهِ فِي بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ بَيْعًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا رِبًا أَيْضًا، وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُرَدَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ، وَلَا يُسْلَمُ لَهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ، كَمَا لَوْ أَخْذَهُ لَا بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا أَعْطَى لَيْسَ بِعِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ لِحَقِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا لِلْمَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مُكَاتِبِهِ إلَّا مِثْلَ مَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ مُكَاتِبِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَقَدْ صَارَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ كَالْحُرِّ يَدًا، وَتَصَرُّفًا فِي كَسْبِهِ، فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَوْلَاهُ كَمَا يَجْرِي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ الْوَالِدَانِ، وَالْوَلَدُ، وَالزَّوْجَانِ، وَالْقَرَابَةُ، وَشَرِيكُ الْعَنَانِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا، وَالْوَصِيُّ فِي الرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَتَحَقَّقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ، وَالْمَمَالِيكُ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْرَارِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَاطَبُ الْأَحْرَارُ، فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ، إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بَيْعًا، وَهُوَ مَالُهُمَا كَمَا كَانَ قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي التِّجَارَةِ، كَمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ بَيْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا تَصَارَفَ الْوَكِيلَانِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمَا أَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَتَقَابَضَا كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْعَقْدَ لِأَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَتُهُ لِغَيْرِهِ، وَمُبَاشَرَتُهُ لِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَضُرُّهُمَا غَيْبَةُ الْمُوَكِّلِينَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ. وَإِنْ، وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ بِالصَّرْفِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْي، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، فَإِنْ عَقَدَا جَمِيعًا، ثُمَّ ذَهَبَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ حِصَّتُهُ، وَحِصَّةُ الْبَاقِي جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْعَقْدَ لِأَنْفُسِهِمَا. وَإِنْ، وَكَّلَا جَمِيعًا رَبَّ الْمَالِ بِالْقَبْضِ، أَوْ الْأَدَاءِ، وَذَهَبَا بَطَلَ الصَّرْفُ؛ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، وَرَبُّ الْمَالِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي أَنْ يَصْرِفَ لَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَصَرَفَهَا، وَتَقَابَضَا، وَأَقَرَّ الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بِالِاسْتِيفَاءِ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا فَقَبِلَهُ الْوَكِيلُ، وَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ، وَجَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ، فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْقَابِضِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَافَةِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَازِمًا لِلْوَكِيلِ، قَالَ: وَإِنْ رَدَّهُ الْقَاضِي عَلَى الْوَكِيلِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِأَدَاءِ يَمِينٍ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَابِضُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَزِمَ الْآمِرَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ الْقَابِضَ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَلَا بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي، أَنَّهُ زُيُوفٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ قَبْضَ حَقِّهِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ الَّذِي عَاقَدَهُ إنَّمَا الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ شَرْعًا، يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ إذَا حَلَفَ لَا إذَا أَتَى الْيَمِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُخْتَلٌّ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ، وَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فِيمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآمِرِ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ لَهُ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَصَرْفهَا، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ، وَالدَّنَانِيرُ الْمَقْبُوضَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِلْمُوَكِّلِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ. وَإِنْ، وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ بِعَيْنِهِ مِنْ رَجُلٍ، فَاشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، جَازَ عَلَى الْآمِرِ، وَجَازَ إنْ نَوَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمِرِ الْآمِرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآمِرِ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ،، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِشَيْءٍ آخَرَ كَانَ مُخَالِفًا، وَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. فَإِنْ وَكَّلَهُ بِفِضَّةٍ لَهُ بَيْعُهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ فَبَاعَهَا بِفِضَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ، وَالْوَكِيلُ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَالْمُوَكِّلُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ مِنْ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ مِنْهَا وَزْنَ فِضَّتِهِ؛ لِأَنَّ فِضَّتَهُ صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْقَابِضِ، وَقَدْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ، وَالْبَاقِي فِي يَدِ الْوَكِيلِ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِبَيْعِ تُرَابٍ فِضَّةٍ فَبَاعَهُ بِفِضَّةٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ، فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْفِضَّةَ فِي التُّرَابِ مِثْلُ الثَّمَنِ وَزْنًا فَرَضِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلتُّرَابِ، وَالْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ وَزْنًا فِي الْمَجْلِسِ كَالْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِيَنْكَشِفَ الْحَالُ لَهُ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَآهُ فَإِنْ رَدَّهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ جَازَ عَلَى الْآمِرِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَالرُّؤْيَةِ. وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُسَاوَاةِ شَرْطُ هَذَا الْعَقْدِ كَالْقَبْضِ، وَكَمَا أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يُصْلِحُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً عَلَى هَذَا التُّرَابِ، وَهُوَ تُرَابُ مَعْدِنٍ فَزَوَّجَهُ بِهِ، كَانَ جَائِزًا إنْ كَانَ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ، أَوْ أَكْثَرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تُرَابُ ذَهَبٍ، وَفِيهِ قِيمَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَشَرَةٌ، يُكْمَلْ لَهَا عَشَرَةٌ كَمَا لَوْ فَعَلَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَدْنَى الصَّدَاقِ عِنْدَنَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ سَيْفًا مُحَلَّى، فَبَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِلْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّرْفِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ، فَالْبَيْعُ عَادَةً يَكُونُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْفَسَادِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ فِيهِ الْخِيَارَ، وَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا فِيهِ نَقْدًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 فَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِحُلِّي ذَهَبٍ فِيهِ لُؤْلُؤٌ وَيَاقُوتٌ يَبِيعُهُ لَهُ فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ اللُّؤْلُؤُ، وَالْيَاقُوتُ يُنْزَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ؛ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَجَازَ فِي حِصَّةِ اللُّؤْلُؤِ؛ لِتَمَكُّنِ التَّسْلِيمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَالْبَيْعُ فِي حَقِّهِ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْزَعُ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ فُلُوسًا بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهَا، وَقَبَضَهَا فَكَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْآمِرِ، فَهِيَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ صَارَ قَابِضًا، فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لَهُ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ، فَالْكَسَادُ بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَلَوْ كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْوَكِيلُ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْعَقْدِ يَفْسُدُ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ قَبْلَ الْقَبْضِ - اسْتِحْسَانًا - فَقَبِلَ التَّفْرِيعَ الْمَذْكُورَ هُنَا عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ، وَقِيلَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ هُنَاكَ: إنَّ الْعَقْدَ يُفْسِدُ، أَنَّهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ، فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ هُنَا فَقَالَ: الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ دُونَ الْآمِرِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفُلُوسٍ حَتَّى كَسَدَتْ، إنَّمَا هِيَ الْآنَ صِفْرٌ، مَعْنَاهُ: لَيْسَتْ بِفُلُوسٍ رَائِجَةٍ هِيَ ثَمَنٌ، وَذَلِكَ مَقْصُودُ الْآمِرِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَالْوَكِيلُ فِيهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّهَا بِدُونِ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَخَذَهُ وَرَضِيَهُ، وَكَانَ الْعَيْبُ غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ لَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا يُسْتَهْلَكُ الْعَبْدُ فِيهِ، لَزِمَ الْوَكِيلَ دُونَ الْآمِرِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَيْبُ الْيَسِيرُ، وَالْفَاحِشُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ إنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ كَشِرَائِهِ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَيْبَ الْمُسْتَهْلَكَ لَا يَمْنَعُ الْوَكِيلَ مِنْ الشِّرَاءِ لِلْآمِرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَبْضِ، وَالرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ، وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ شِرَاءَهُ لِلْآمِرِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عُرْفًا فَكَذَلِكَ رِضَاهُ عِنْدَ الْأَخْذِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ، وَلَئِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي قَوْلِهِمْ كَمَا أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ، فَوَجْهُهُ: أَنَّ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 مِنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، مُلْزِمٌ لِلْآمِرِ بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ، فَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ يَكُونُ مُلْزِمًا لِلْآمِرِ بِخِلَافِ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْعَبْدِ عَيْبًا، وَلَكِنَّهُ قُتِلَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَالْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسْخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ تَحَوَّلَ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ، فَإِنْ أَجَازَهُ كَانَتْ الْقِيمَةُ لَهُ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ تَحْصِيلُ الْعَبْدِ لَهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ فَرَضَا الْوَكِيلُ، بِهَا لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ فَيَكُونُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا بَدَلُ مِلْكِهِ فَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بِالشِّرَاءِ، وَقَعَ لَهُ فَإِذَا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِطَوْقِ ذَهَبٍ يَبِيعُهُ فَبَاعَهُ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ، وَقَبَضَ الطَّوْقَ، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي، وَجَدْته صَغِيرًا مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ، فَأَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ، لَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، فَإِنَّهُ قَبَضَ عَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْد ذَلِكَ فَسَادَ الْعَقْدِ لِسَبَبٍ لَا يُعْرَفُ فِي مِثْلِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآمِرِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ لَزِمَ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآمِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِبَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إبَاءَ الْوَكِيلِ الْيَمِينَ كَإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَهُ يَعْمَلُ بِهَا لِلْمُوَكِّلِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَوْقَ ذَهَبٍ بِعَيْنِهِ فِيهِ مِائَةُ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الطَّوْقَ حَتَّى كَسَرَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَإِجْبَارُ الْوَكِيلِ تَضْمِينُ الْكَاسِرِ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ؛ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَاتَ، وَاخْتَلَفَ بَدَلًا، وَالْوَكِيلُ فِي اخْتِيَارِ قَبْضِ الْبَدَلِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِلْآمِرِ تَحْصِيلُ الطَّوْقِ لَهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، وَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ عَلَى الْآمِرِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، قَالَ: وَيَبْرَأُ مِنْهُ بَائِعُ الطَّوْقِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ تَعَيَّنَ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّةِ الْكَاسِرِ، فَإِذَا أَخَذَ الْوَكِيلُ الضَّمَانَ مِنْ الْكَاسِرِ يُصَدَّقُ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ فِي الثَّمَنِ حُسْنَ مَا عَادَ إلَيْهِ، فَيَظْهَرُ الرِّبْحُ، وَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ، بِأَنْ يَصْرِفَ لَهُ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، وَأُجِيزُهُ إنْ فَعَلَ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْهُ تَصِحُّ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 عَنْ الْحَرَامِ، إمَّا لِاسْتِحْلَالِهِ ذَلِكَ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ قَصْدِهِ إلَى تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ حَرَامًا؛ فَلِهَذَا أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَصْرِفَ لَهُ الدَّرَاهِمَ فَصَرَفَهَا مَعَ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ، وَالْوَكِيلُ يَعْلَمُ، أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُوَكِّلِ، صَرَفَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، وَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا عَلَى الْمُوَكِّلِ شَيْئًا. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ، فَبَاعَهَا بِدَنَانِيرَ، وَحَطَّ عَنْهُ مَا لَا يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَصَارِفَيْنِ فِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مُشْتَرٍ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالْمُعَيَّنِ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِلتُّهْمَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِالْعَيْنِ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ ذَلِكَ الْمُوَكَّلَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَقْدَ الصَّرْفِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ صَرَفَهَا بِسِعْرِهَا عِنْدَ مُفَاوِضٍ لِلْوَكِيلِ، أَوْ شَرِيكٍ لَهُ فِي الصَّرْفِ، أَوْ مُضَارِبٍ لَهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَرَفَهَا مَعَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ يَحْصُلُ بِتَصَرُّفٍ مِنْ عَامِلِهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ صَرَفَهَا عِنْدِ تَفَاوُضِ الْآمِرِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ صَرَفَهَا الْآمِرُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَمَا يَقْبِضُ، وَيُعْطِي يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ صَرَفَهَا عِنْدَ شَرِيكِ الْآمِرِ فِي الصَّرْفِ غَيْرَ مُفَاوِضٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ مُضَارِبُهُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ، وَهُمَا فِي الْكُوفَةِ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ مَكَانًا، فَفِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ صَرَفَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالسُّوقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سِعْرُ الْكُوفَةِ، لَا سُوقُ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِهَا إلَى الْحِيرَةِ أَوْ إلَى الْبَصْرَةِ، أَوْ إلَى الشَّامِ فَصَرَفَهَا هُنَاكَ جَازَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مُطْلَقٌ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ إلَّا بِدَلِيلٍ يُفِيدُهُ بِهِ، وَفِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ، وَلَا يُوجَدُ دَلِيلٌ الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، فَفِي أَيِّ مَكَان صَرَفَهَا لَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ، أَوْ عَرَضٍ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَاسْتَأْجَرَ، وَخَرَجَ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ، فَبَاعَهَا هُنَاكَ؛ أَجَزْتُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْبَيْعِ مُطْلِقٌ، فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ بَاعَهُ فَهُوَ مُمْتَثِلٌ، وَلَا أُلْزِمُ الْآمِرَ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِئْجَارِ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا الْتَزَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ: أَجَزْتُ الْبَيْعَ إذَا بَاعَهُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ فِيهِ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، يَتَقَيَّدُ بِالْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، لَوْ بَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 آخَرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ إذَا بَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَقَالَ فِي جَوَابِهَا: لَمْ أُجِزْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ بِهِ، اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ مُطْلَقَ الْأَمْرِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي مَكَان آخَرَ؛ لَكَانَتْ مُؤْنَةُ النَّقْلِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إحْضَارَ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يَبْلُغُ ذَلِكَ ثَمَنَ السِّلْعَةِ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَهَذَا دَلِيلٌ مُقَيِّدٌ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالْمِصْرِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْمَتَاعُ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي مَكَان آخَرَ، بِخِلَافِ مَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ، وَبِمِثْلِ هَذَا قَالَ فِي الْكِتَابَيْنِ: لَوْ ضَاعَ، أَوْ سُرِقَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَتِهِ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِهِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعُهُ، كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَالْغَاصِبِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا ثَوْبًا سَمَّاهُ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الْمَكَانَ فَاشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمْلٌ، وَلَا مُؤْنَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ وُجِدَ طَلْقًا. فَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ صَرْفَ تِلْكَ الْأَلْفَ فَجَاءَ الْوَكِيلُ إلَى بَيْتِ الْمُوَكِّلِ، فَأَخَذَ أَلْفًا غَيْرَهَا فَصَرَفَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا حَصَلَ بِالصَّرْفِ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ؛ إذْ النُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَيُعْطِيَ غَيْرَهَا، فَصَرْفُ الْمُوَكِّلِ تِلْكَ الْأَلْفَ بِنَفْسِهِ، لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا مِنْهُ، فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْوَكَالَةُ، فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْأُولَى بَاقِيَةً، وَأَخَذَ الْوَكِيلُ غَيْرَهَا فَصَرَفَهَا؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ انْعَقَدَ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى تِلْكَ الْأَلْفِ، أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ، وَالْفُلُوسُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ، قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ؟ وَلَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ الْوَكَالَةُ بِهَا لَمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا، قُلْنَا: الْوَكَالَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهَا حَتَّى لَوْ صَرَفَهَا، ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُوَكِّلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى، فَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا، إنَّمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِمَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَرُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَلْفٍ أُخْرَى بَعْدِ هَلَاكِ تِلْكَ الْأَلْفِ، وَلَا ضَرَر عَلَى الْوَكِيلِ فِي إبْطَالِ الْوَكَالَةِ؛ إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ صَارَفَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إبْقَاءِ الْوَكَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْعَقَدَتْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ الصَّرْفُ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ فِضَّةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ ذَهَبٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ عَرَضٍ مِنْ عُرُوضٍ، فَبَاعَ غَيْرَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَتْ بِتِلْكَ الْعَيْنِ، فَإِنَّهَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ بِدَنَانِيرَ فَصَرَفَهَا الْوَكِيلُ بِدَنَانِيرَ كُوفِيَّةٍ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ كُوفِيَّةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنْ صَرَفَهَا بِكُوفِيَّةٍ مُقَطَّعَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ الْيَوْمَ عَلَى الشَّامِيَّةِ الثِّقَالِ، وَإِنَّمَا جَازَ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَإِنْ صَرَفَهَا بِكُوفِيَّةٍ مُقَطَّعَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ كَانَ عَلَى الْكُوفِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ النَّقْصِ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرِنَا، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْتَى بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمُعَامَلَةُ فِي عَصْرِهِ، وَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ: يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ ذَلِكَ بِغَالِبِ الرَّأْيَ. وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ غَلَّةً، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ غَلَّةَ الْكُوفَةِ، أَوْ بَغْدَادَ فَاشْتَرَى لَهُ غَلَّةَ الْكُوفَةِ جَازَ، وَإِنْ اشْتَرَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ غَلَّةِ الْبَصْرَةِ، أَوْ بَغْدَادَ أَوْ دَرَاهِمَ غَيْرَ الْغَلَّةِ، لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ غَلَّةِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَصِيرُ مُمْتَثِلًا إذَا حَصَلَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ، وَمَقْصُودُهُ غَلَّةُ الْكُوفَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى مِثْلَ غَلَّةِ الْكُوفَةِ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ. وَإِنْ قَالَ لَهُ: بِعْ هَذِهِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ بِدَنَانِيرَ شَامِيَّةٍ فَبَاعَهَا بِالْكُوفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكُوفِيَّةُ غَيْرَ مُقَطَّعَةٍ، وَكَانَ وَزْنُهَا شَامِيَّةً فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ؛ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ قَالَ: وَلَيْسَ الدَّنَانِيرُ فِي هَذَا كَالدَّرَاهِمِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ شِرَاءِ الْغَلَّةِ الْإِنْفَاقُ فِي حَوَائِجِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَغْلَةِ الْكُوفَةِ، أَوْ مِثْلِهَا، وَمَقْصُودُهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ الرِّبْحُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ فَإِنْ كَانَ وَزْنُ الْكُوفِيَّةِ مِثْلَ وَزْنِ الشَّامِيَّةِ؛ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهَا بِدَنَانِيرَ عِتْقٍ فَبَاعَهَا بِالشَّامِيَّةِ، لَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا لِمَا لِلْعِتْقِ مِنْ الصَّرْفِ عَلَى الشَّامِيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَيْبِ فِي الصَّرْفِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ، وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ وَجَدَ بِالسَّيْفِ عَيْبًا فِي نَصْلِهِ، أَوْ جَفْنِهِ، أَوْ حَمَائِلِهِ، أَوْ حِلْيَتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، فَإِنْ رَدَّهُ، وَقَبِلَهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ كَالْإِقَالَةِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ، وَالْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ، فِي وُجُوبِ التَّقَابُضِ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ: فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي غَيْرِهِمَا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَاسْتِحْقَاقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ، فَإِذَا فَارَقَهُ قَبْلَ التَّقَابُضِ اُنْتُقِضَ الرَّدُّ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ ضَرَرًا، وَلَهُ أَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، كَمَا لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَلَوْ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ، لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ الْمُبْتَدَأِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، أَلَا تَرَى: أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ الْأَوَّلِ، قَالَ: وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ، فَإِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ قَدْ انْفَسَخَ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِي مِثْلِهِ كَبَدَلِ الْغَصْبِ، وَالْمُسْتَهْلَكِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْقَرْضِ، فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ حُلِيَّ ذَهَبٍ فِيهِ جَوْهَرٌ مُفَضَّضٌ فَوَجَدَ بِالْجَوْهَرِ عَيْبًا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ دُونَ الْحُلِيِّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ مِنْ الضَّرَرِ؛ وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْبَعْضِ مُتَّصِلٌ بِالْبَعْضِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَ خُفٍّ فَوَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا،، وَهُنَاكَ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا، أَوْ يُمْسِكَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى خَاتَمَ فِضَّةٍ، فِيهِ فَصُّ يَاقُوتٍ فَوَجَدَ بِالْفَصِّ، أَوْ الْفِضَّةِ عَيْبًا. وَلَوْ اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ وُجِدَتْ الدَّرَاهِمُ رَصَاصًا، أَوْ سَتُّوقَةً. فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَقَبْلَ اسْتِرْدَادِ الْإِبْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اُنْتُقِضَ مِنْ الْأَصْلِ، حِينَ تَبَيَّنَ افْتِرَاقُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، فَإِنَّ السَّتُّوقَةَ، وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَكَذَلِكَ الزُّيُوفُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا رَدَّ الْكَبِيرَ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ،، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّلَمِ، وَعِنْدَهُمَا فِي الزُّيُوفِ يَسْتَبْدِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسِ الرَّدِّ. وَذُكِرَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وَجَدْتُ فِي الْمَغْنَمِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ طَشْتًا لَا أَدْرِي أَشَبَّةٌ هِيَ، أَوْ ذَهَبٌ فَابْتَعْتُهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَانِي بِهَا تُجَّارُ الْحِيرَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَدَعَانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا تَلُمْنِي، وَرُدَّ الطَّشْتَ، فَقُلْت: لَوْ كَانَ سِهَامًا قَبِلْتَهَا مِنِّي، فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يَسْمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنِّي بِعْتُكَ طَشْتًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأُعْطِيتَ بِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيَرَى أَنِّي قَدْ صَانَعْتُكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَخَذَهَا مِنِّي فَأَتَيْتُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرْتُ لَهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ رَعِيَّتِي تَخَافُنِي فِي آفَاقِ الْأَرْضِ، وَمَا زَادَنِي عَلَى هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ: لِصَاحِبِ الْجَيْشِ وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَغَانِمِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 كَتَصَرُّفِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَلِهَذَا اسْتَرَدَّهُ سَعْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى، أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلِهِ مَا رَضِيَ بِهِ مِنْ عَدْلٍ، أَوْ هَيْبَةِ فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ: تَهَابُهُ عُمَّالُهُ فِي آفَاقِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِحُسْنِ سَرِيرَتِهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، «مَنْ خَافَ اللَّهَ خَافَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ». وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ طَشْتًا أَوْ إنَاءً لَا يَدْرِي مَا هُوَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ صَاحِبُهُ شَيْئًا؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ: مَعْلُومُ الْعَيْنِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَإِذَا اشْتَرَى إنَاءَ فِضَّةٍ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ فِضَّةٍ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ فِضَّةً سَوْدَاءَ، أَوْ حَمْرَاءَ فِيهَا رَصَاصٌ، أَوْ صُفْرٌ، وَهُوَ الَّذِي أَفْسَدَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، فَإِنَّ مِثْلَهُ يُسَمَّى إنَاءَ فِضَّةٍ فِي النَّاسِ، إلَّا أَنَّهُ مَعِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغِشِّ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِلْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَتْ رَدِيئَةً مِنْ غَيْرِ غِشٍّ فِيهَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، فَالْعَيْبُ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَصِفَةُ الرَّدَاءَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالرَّدَاءَةِ تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ، وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا يَسْتَحِقُّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ السَّلَامَةُ. وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى عَلَى أَنَّ فِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، فَإِذَا فِي السَّيْفِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّيْفَ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِالْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ الْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ. وَإِنْ اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ فِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، فَإِذَا فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ شَاءَ قَبَضَ نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِقْدَارَ مَا سُمِّيَ مِنْهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ نِصْفُ الْإِبْرِيقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرِيًا لِلْكُلِّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ رِبًا، وَلَا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَجَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ بِالْأَلْفِ، وَأَثْبَتْنَا لَهُ الْخِيَارَ؛ لِتَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، بِخِلَافِ السَّيْفِ، فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْحِلْيَةِ مَعَ السَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ صِفَةٌ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْإِبْرِيقَ بِمِائَةِ دِينَارٍ كَانَ جَائِزًا لَهُ كُلُّهُ بِالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْإِبْرِيقُ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَيَكُونُ الْوَزْنُ فِيهِ صِفَةً فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ؛ إذَا أَمْكَنَ دُونَ الْوَزْنِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ اشْتَرَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 نُقْرَةَ فِضَّةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَتَقَابَضَا، فَإِذَا فِيهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي نِصْفُهَا، لَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ النُّقْرَة لَا يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ، فَالْوَزْنُ فِيهَا يَكُونُ قَدْرًا لَا صِفَةً، فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ وَزْنِهَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ التَّبْعِيضَ فَالْوَزْنُ يَكُونُ صِفَةً فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنْ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ تَخْتَلِفُ صِفَتُهُ فَيَكُونُ أَثْقَلَ تَارَةً، وَأَخَفَّ تَارَةً، وَلَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْإِبْرِيقُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالذَّرْعِ فِي الثَّوْبِ، يَكُونُ صِفَةً، وَالْبَيْعُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الذُّرْعَانِ الْمَذْكُورَةِ،، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: خَرَجْتُ بِخَلْخَالِ فِضَّةٍ لِامْرَأَتِي أَبِيعُهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي فَوَضَعْتَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوَضَعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَرَاهِمَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَكَانَ الْخَلْخَالُ أَثْقَلَ مِنْهَا قَلِيلًا، فَدَعَا بِمِقْرَاضٍ لِيَقْطَعَهُ، فَقُلْت: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ هُوَ لَكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا رَافِعٍ، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالزَّائِدُ، وَالْمُسْتَزِيدُ فِي النَّارِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْفَضْلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالْكَثِيرَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، أَوْ لَا يَضُرُّهُ سَوَاءٌ،، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ مُبَادَلَةَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ تَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارُهُمَا؛ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَزَادَتْ عَلَيْهَا دَانَقًا فَوَهَبَهُ لَهُ هِبَةً، وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْبَيْعِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ؛ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ، وَهَذَا مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قُلْنَا: كَأَنَّهُ احْتَاطَ فِي ذَلِكَ أَوْ عَلِمَ أَنْ أَبَا رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الْخَلْخَالِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ. وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ الْمُحَلَّى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَهُوَ النِّصْفُ بِدِينَارٍ مِنْ شَرِيكِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَلَى خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ مِنْ شَرِيكِهِ، وَنَقَدَهُ الدِّينَارَ، وَالسَّيْفُ فِي الْبَيْتِ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ السَّيْفَ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ صَرْفٌ وَقَدْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَائِعِ مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِالشِّرَاءِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ. وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْفِضَّةِ جُزَافًا بِالذَّهَبِ، أَوْ بِالْفُلُوسِ، أَوْ بِالْعُرُوضِ؛ لِانْعِدَامِ الرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَإِذَا اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِضَّتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ السَّيْفَ وَنَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ افْتَرَقَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُودَ ثَمَنُ الْفِضَّةِ خَاصَّةً، فَإِنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ، وَقَبْضُ حِصَّةِ الْجَفْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَالْمُعَاوَضَةُ لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، بَلْ يَجْعَلُ النُّقُودَ ثَمَنَ الْمُسْتَحَقِّ خَاصَّةً، فَالِافْتِرَاقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 وُجِدَ بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّلَهُ فِي الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةِ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَنَقَدَ مِنْهَا حِصَّةَ الْحِلْيَةِ، وَصَالَحَهُ مِنْ الْبَاقِي عَلَى دَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى ثَوْبٍ وَتَقَابَضَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصُّلْحِ فِي الصَّرْفِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقَابَضَا، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَقَرَّ الْبَائِعُ بِهِ، أَوْ أَنْكَرَهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ، وَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ حِصَّةُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ، وَإِنَّمَا اسْتَرَدَّهُ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ بِفَوَاتِ مَا يُقَابِلُهُ، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَا حِصَّةَ الْعَيْبِ بِهِ، وَإِلَيْهِمَا ذَلِكَ التَّقْدِيرُ، كَمَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي أَصْلِ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ فَكَانَ بَائِعُ الْعَبْدِ حَطَّ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الدِّينَارَ، فَإِنَّ الْفَائِتَ بِالْعَيْبِ وَصْفٌ وَالثَّمَنُ لَا يُقَابِلُ الْوَصْفَ، وَالْحَطُّ تَارَةً يَكُونُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَتَارَةً يَكُونُ لَا بِسَبَبِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَضُرّهُمَا تَرْكُ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ إنْ أَجَّلَهُ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، وَقَبَضَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، انْتَقَضَ الصُّلْحُ، أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، يَكُونُ بَدَلًا عَنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ يَكُونُ صَرْفًا، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، وَالْحَطِّ مِنْ الثَّمَنِ، وَهُوَ الدَّنَانِيرُ، فَالدَّرَاهِمُ بَدَلٌ عَنْهُ، ثُمَّ مَا وَقَعَ عَنْهُ الصُّلْحُ كَانَ دَيْنًا، فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ بَدَلَهُ حَتَّى افْتَرَقَا، كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، فَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ اسْتَقْبَلَ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَ لِلدَّرَاهِمِ أَجَلًا، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا، أَوْ اشْتَرَطَا فِي الصُّلْحِ خِيَارًا، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ. وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَهُ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ حَالَّةٍ، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَوْ بِشَرْطِ خِيَارٍ، ثُمَّ افْتَرَقَا، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ دُونَ الْمُبَادَلَةِ، فَيَكُونُ فِي الْإِبْرَاءِ مُحْسِنًا مِنْ وَجْهَيْنِ بِتَرْكِ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَبِالتَّأْجِيلِ فِي الْعَشَرَةِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبِلَ أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 يَقْبِضَهَا اُنْتُقِضَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَادَلَةِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَمُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ صَحِيحَةٌ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ فِيهَا شَرْطُ خِيَارٍ، وَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ أَمَّا عِنْدَ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا إشْكَالَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ جُحُودِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي. وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ، وَتَرَكَتْ مِيرَاثًا مِنْ رَقِيقٍ، وَعُرُوضٍ، وَحُلِيٍّ، وَذَهَبٍ، وَتَرَكَتْ أَبَاهَا، وَزَوْجَهَا، وَمِيرَاثَهَا عِنْدَ أَبِيهَا، فَصَالَحَ زَوْجُهَا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ مِنْ الذَّهَبِ؛ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ الذَّهَبِ هَذَا الْمِقْدَارَ، أَوْ أَكْثَرَ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْسمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَكْثَرُ مِنْهَا، أَوْ أَقَلُّ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَخَمْسِينَ دِينَارًا، وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نُصِيبُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّقْدَيْنِ فَوْقَ هَذَا الْمِقْدَارِ فَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ مُمْكِنٌ، بِأَنْ يَجْعَلَ مَا أَخَذَ مِنْ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الْعُرُوضِ، وَمَا أَخَذَ مِنْ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الْعُرُوضِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضْ شَيْئًا انْتَفَضَ الصُّلْحُ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ، وَالْمِيرَاثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، فَإِنْ قَبَضَ الزَّوْجُ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، ثُمَّ افْتَرَقَا، وَالْمِيرَاثُ فِي مَنْزِلِ الْأَبِ، انْتَقَضَ مِنْ الصُّلْحِ حِصَّةُ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ بِيَدِهِ السَّابِقَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا كَانَ حِصَّةَ الزَّوْجِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ، وَالْعَقْدُ فِيهَا صَرْفٌ، فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ بِقَدْرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ قَبَضَ الْأَبُ ذَلِكَ، وَقَبَضَ الزَّوْجُ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَبَضَ بِقَدْرِ حِصَّةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَالصُّلْحُ مَاضٍ لِمَا بَيَّنَّا، أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِمَّا كَانَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ حِصَّةُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْدُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ حِصَّةُ مَا لَمْ يَنْقُدْ، وَجَازَ فِي حِصَّةِ مَا اُنْتُقِضَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَجَازَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ لَا صَرْفٌ. وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَقَبَضَ مِنْهَا خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، ثُمَّ افْتَرَقَا، أَوْ اشْتَرَى بِالْبَاقِي مِنْهُ ثَوْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَقَبَضَهُ فَإِنْ كَانَ نَقَدَ مِنْ الدَّنَانِيرِ بِقَدْرِ الْحِلْيَةِ، وَحِصَّتِهَا؛ فَالصُّلْحُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ، فَإِنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْبَاقِي حِصَّةُ السَّيْفِ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ فِيهِ لَا يَضُرُّ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَ أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ، فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَا لَمْ يَنْقُدْ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 ثَمَنِ الْحِلْيَةِ، يَبْطُلُ فِيهِ، وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ بَطَلَ فِي كُلِّهِ، وَشِرَاءُ الثَّوْبِ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ فِيهِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْإِبْرِيقِ عَيْبًا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِفَوَاتِ مَا صَارَ لَهُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ فَإِنْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى دِينَارٍ، وَقَبَضَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: إذَا كَانَ الْفَضْلُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الصُّلْحِ عَنْ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَقَّ فِي الْقِيمَةِ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، فَالْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ رِبًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْفَضْلِ فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاس فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُل مِنْ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَهُنَا أَيْضًا حَقُّهُ فِي بَدَلِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، فَإِذَا صَالِحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، رُبَّمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، كَانَ الْفَضْلُ رِبًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ عِوَضًا عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَلَا رِبًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَطَّ مِنْ ثَمَنِ الْإِبْرِيقِ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا بَدَل الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، حَتَّى لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا رِبًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يَجْعَلُ بَدَلَ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ هُنَا فِي أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَمَّا يَخُصُّ الْجُزْءَ الْفَائِتَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَجَلٍ، أَوْ خِيَارٍ بَطَلَ الصُّلْحُ لِكَوْنِ الْعَقْدِ صَرْفًا بَيْنهمَا. وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ أَقَرَّ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا، أَوْ نَسِيئَةً فَهُوَ جَائِزً؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 وَنِصْفِ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ أَجَّلَهُ فِي الْبَاقِي مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ كُلُّهُ مِنْ جَانِبِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ. قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ ذَهَبٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَقَابَضَا، وَاسْتَهْلَكَ الْقَلْبَ، أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ، وَوَجَدَ بِهِ، عَيْبًا، قَدْ كَانَ دَلَّسَهُ لَهُ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ نَسِيئَةً، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، أَوْ بِطَرِيقِ أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ حِصَّةُ الْعَيْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْبَائِعِ، وَاجِبًا بِالْقَبْضِ دُونَ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِي مِثْلِهِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ؛ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ عِوَضٌ عَنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ صَرْفًا، فَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقَ. وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَ فِي الْقَلْبِ هَشْمًا يُنْقِصَهُ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قِيرَاطَيْ ذَهَبٍ مِنْ الدِّينَارِ، عَلَى أَنْ زَادَهُ مُشْتَرِي الْقَلْبِ رَبْعَ حِنْطَةٍ، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ مُشْتَرِي الْقَلْبِ، يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَمَا زَادَ الْآخَرُ مِنْ الْقِيرَاطَيْنِ يَكُونُ حَطَّ بَعْضِ الْبَدَلِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْقِيرَاطَيْنِ ثَمَنَ الْحِنْطَةِ وَبَعْضَهُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ بِعَيْنِهَا، وَتَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ، فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الْحِنْطَةِ افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَفِي حِصَّةِ الْعَيْبِ وُجُوبُ الرَّدِّ بِحُكْمِ الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدَ، فَلَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ تَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَ فِي الْحِنْطَةِ عَيْبًا رَدَّهَا، وَرَجَعَ بِثَمَنِهَا، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقْسَمَ الْقِيرَاطَانِ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ، وَقِيمَةِ الْعَيْبِ، فَمَا يَخُصُّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ فَهُوَ ثَمَنُ الْحِنْطَةِ يَرْجِعُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّرْفِ فِي الْمَرَضِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَرِيضٌ بَاعَ مِنْ أَبِيهِ دِينَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَتَقَابَضَا، قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ مِنْ وَارِثِهِ، وَصِيَّةٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَعِنْدَهُمَا مُضِيُّ الْوَصِيَّةِ فِي الْحَطِّ، لَا فِي نَفْسِ الْبَيْعِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا وَصِيَّةَ فِيهِ، وَلَا تُهْمَةَ، وَبَيَانُ هَذَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ أَبِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ رَدُّوا فَهُوَ مَرْدُودٌ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنْ شَاءَ الِابْنُ أَخَذَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُمَا بِالْمُحَابَاةِ، فَيَبْطُلُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 ذَلِكَ بِالرَّدِّ مِنْ جِهَةِ الْوَرَثَةِ، وَيَتَخَيَّرُ الِابْنُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فِي الدَّرَاهِمِ، حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ الدَّنَانِيرَ كُلَّهَا، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ عَقْدُهُ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَسِوَى هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُمَا أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ يَبْطُلُ إذَا حَابَى الْمَرِيضُ وَارِثَهُ بِشَيْءٍ، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. . وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَالدِّينَارُ عِنْدَهُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرُدُّوا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ تَبَرُّعٌ بِمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَيَبْطُلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَمَا بَقِيَ قِيمَةُ الدِّينَارِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِينَارَهُ، وَيَرُدُّ أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ دِينَارَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعِ الْأَلْفِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ، وَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ دِينَارِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَيَبْطُلُ بِهِ مَا فِي قِيمَتِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الدِّينَارِ مِنْ الْأَلْفِ بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ، وَثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُجِزْهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ مُسْتَهْلَكٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا، هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الدِّينَارَ مُسْتَهْلَكٌ فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا، لَا يُسَلِّمْ لِلْوَرَثَةِ ضَعْفَ ذَلِكَ، فَلِهَذَا قَالَ: يَأْخُذُ قِيمَةَ الدِّينَارِ مِنْ الْأَلْفِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ سَيْفًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ عِشْرُونَ دِينَارًا بِدِينَارٍ، وَتَقَابَضَا فَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ أَخَذَ قَدْرَ قِيمَةِ الدِّينَارِ مِنْ السَّيْفِ، وَحِلْيَتِهِ، وَثُلُثَ السَّيْفِ تَامًّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ كُلَّهُ، وَأَخَذَ دِينَارَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ حَابَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَهَذَا، وَمَا سَبَقَ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ، وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قِيمَةُ الدِّينَارِ لَهُ مِنْ السَّيْفِ، وَالْحِلْيَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، لَا يَتَأَتَّى إثْبَاتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ هُنَا، إنْ شَاءَ أَخَذَ دِينَارًا مِثْلَ دِينَارِهِ وَرَدَّ الْبَيْعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَيُبَاعُ السَّيْفُ حَتَّى يَنْقُدَ الدِّينَارَ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ لَهُ مِنْ السَّيْفِ، وَحِلْيَتِهِ قِيمَةُ الدِّينَارِ، وَثُلُثُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ عَيْبِ التَّبْعِيضِ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ السَّيْفُ قَائِمٌ، يُمْكِنُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَالتَّبْعِيضُ فِي الْأَلْفِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْخِيَارَ بَعْدَ مَا اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا قَدْ اسْتَهْلَكَ مَا قَبَضَهُ، جَازَ لَهُ مِنْهُ قِيمَةُ الدِّينَارِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي، وَغَرِمَ ثُلُثِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ تَعَذَّرَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قِيمَةُ ثُلُثَيْ؛ الْبَاقِي وَغَرِمَ ثُلُثَيْ الْبَاقِي بَعْدَ قِيمَةِ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَائِمًا كَانَ لَهُمْ حَقُّ اسْتِرْدَادِ ذَلِكَ مِنْهُ؛ فَإِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا، فَهُوَ غَارِمٌ قِيمَةَ ذَلِكَ لَهُمْ. مَرِيضٌ لَهُ تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَبَاعَهَا بِدِينَارٍ، وَقَبَضَهُ، وَقَبَضَ الْآخَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَتِسْعَمِائَةِ، ثُمَّ افْتَرَقَا، وَمَاتَ الْمَرِيضُ، وَالْمَالُ قَائِمٌ، وَالدِّينَارُ قِيمَتِهِ تِسْعَةٌ فَإِجَازَةُ الْوَرَثَةِ وَرَدُّهُمْ هُنَا سَوَاءٌ، وَلَهُ الْمِائَةُ، الدِّرْهَمُ بِتُسْعِ الدِّينَارِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ قَدْ بَطَلَ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ الدِّينَارِ بِتَرْكِ قَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَبْقَى فِيمَا بَقِيَ فِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ الْمِائَةُ، وَذَلِكَ دُونَ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إجَازَةَ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ شَيْئًا؛ رَدَّ عَلَيْهِ دِينَارَهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ دِينَارَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى زَادَ الْمُشْتَرِي تِسْعَةَ وَخَمْسِينَ دِينَارًا، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا بَاعَهُ بِسِتِّينَ دِينَارًا فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ. قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنَّمَا صَحَّ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إذَا زِيدَ فِي سُؤَالِهَا، أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَالِ الْمَرِيضِ تِسْعُمِائَةٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ؛ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَشَرَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ وَكَّلَ وَكِيلًا فَبَاعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِدِينَارٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ قَبِلَ أَنْ يَتَقَابَضَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا آخُذُ تِسْعَمِائَةٍ بِتِسْعِينَ دِينَارًا، قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَجَبَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي إلَى تَمَامِ تِسْعِينَ دِينَارًا لَلَحِقَ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْعَقْدَ، وَانْعَدَمَتْ الْمُحَابَاةُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ. وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمَرِيضِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ، فَهَذَا رِبًا، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جَمِيعًا، وَلِلَّذِي أَعْطَى الْمِائَةَ أَنْ يُمْسِكَ الْمِائَةَ مِنْ الْأَلْفِ بِمِائَةٍ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِائَةِ الَّتِي أَعْطَى، وَقَدْ صَارَ دَيْنًا، وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ مَالُ الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ أَعْطَى مِنْ الْمِائَةِ ثَوْبًا، أَوْ دِينَارًا كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا صَحِيحًا، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ بِمِائَةٍ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الثَّوْبِ، وَالدِّينَارِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا، يُخَيَّرُ صَاحِبُ الدِّينَارِ، وَالثَّوْبِ، فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِتَغْيِيرِ شَرْطٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَلْفِ مِائَةٌ مَكَانَ مِائَةٍ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ، أَوْ الْعَرَضِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَثُلُثُ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ إذَا كَانَ الدِّينَارُ، وَالْأَلْفُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْوَرَثَةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ إبْرِيقُ فِضَّةٍ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، ثُمَّ مَاتَ، وَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ الْإِبْرِيقِ بِثُلُثَيْ الْمِائَةِ، وَثُلُثُهُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ إنَّمَا تَنْفُذُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَيَتَعَذَّرُ هُنَا جَعْلُ شَيْءٍ مِنْ الْإِبْرِيقِ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَاعْتِبَارِ الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الدَّرَاهِمِ بِجِنْسِهَا لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ، وَالْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا قِيمَةٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَرِيضُ إسْقَاطَ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْهَا مَجَّانًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوَجْهَانِ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْمَرِيضِ، وَمَالُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَثُلُثَاهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، فَإِذَا أَخَذَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَ الْإِبْرِيقِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ، وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ الْمِائَةِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ، وَثُلُثَا دِينَارٍ؛ حَصَلَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَثُلُثٌ كَمَالُ حَقِّهِمْ، وَسُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثَا الْإِبْرِيقِ، وَقِيمَتَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَثُلُثٌ بِثُلُثَيْ الْمِائَةِ، وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، فَيُسَلَّمُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَالِ الْمَرِيضِ، سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَقَدْ سُلِّمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِجَارَةِ فِي عَمَلِ التَّمْوِيهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ لِجَامًا، أَوْ حِرْزًا إلَى رَجُلٍ لِيُمَوِّهَهُ لَهُ بِفِضَّةٍ وَزْنًا، مَعْلُومًا، يَكُونُ قَرْضًا عَلَى الدَّافِعِ، وَيُعْطِيَهُ أَجْرًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، وَالْقَرْضُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْفِضَّةَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَهَا إلَى مِلْكِهِ، فَيَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِإِبْطَالِهِ تَمَلُّكَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا صَنَعَ مِنْ الْفِضَّةِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ اللِّجَامِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَقْرَضَهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. فَإِنْ قَالَ مَوِّهْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِضَّةٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيك مِنْهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 أَجْرَ عَمَلِكَ ذَهَبًا، عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَتَفَرَّقَا، عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْفِضَّةِ صَرْفٌ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ فَكَانَ فَاسِدًا، فَإِنْ عَمِلَهُ كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مِثْلُ وَزْنِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا الْفِضَّةَ، حِينَ اتَّصَلَتْ بِمِلْكِهِ بِإِذْنِهِ؛ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا، وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ، أَيْ تُقْسَمُ الدَّنَانِيرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ، وَعَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ، فَتُعْتَبَرُ حِصَّةُ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ الدَّنَانِيرُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، وَلَمَّا فَسَدَ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ فَسَدَ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا، وَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَعَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ فَيُعْتَبَرُ حِصَّةُ أَجْرِ مِثْلِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ طَارِئٌ بِالِافْتِرَاقِ قَبِلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْإِجَارَةِ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ فِي الْأَصْلِ فَوَجَدْتُهُ يَعْتَبِرُ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِبَيَانِ الْحِصَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَكَانَ لَهُ مِقْدَارُ أَجْرِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُسِمَتْ الدَّنَانِيرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ، وَعَلَى الْمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْإِجَارَةِ، وَاعْتُبِرَ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلِانْقِسَامِ، ثُمَّ جُعِلَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى لِصِحَّةِ الْعَقْدِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا يَكْتُبُ عَلَيْهِ كِتَابًا بِذَهَبٍ مَعْلُومٍ، بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْفِضَّةِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الذَّهَبِ صَرْفٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَثَمَّنَهُ ذَهَبًا فَإِنَّ ذَهَبَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ مَبِيعًا لَا مُسْتَقْرَضًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا يُقَابِلُهُ ثَمَنًا، فَيَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِ صَرْفًا أَيْضًا، فَإِنْ قَالَ أَقْرِضْنِي مِثْقَالَ ذَهَبٍ، وَاكْتُبْ بِهِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ كَذَا، وَكَذَا عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَكَ نِصْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ قِيرَاطَ ذَهَبٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْرِضٌ لِلدِّينَارِ، وَهُوَ قَابِضٌ لَهُ؛ لِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. . وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ، وَقَالَ اخْلِطْ فِيهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ ثُمَّ صُغْهَا قَلْبًا، وَلَك كَذَا فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ، وَقَدْ صَارَ قَابِضًا لَهَا بِالِاخْتِلَاطِ بِمِلْكِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ الْخَلْطِ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مِلْكِهِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ فِضَّةً، وَقَالَ: صُغْ لِي مِنْ عِنْدِكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ قَلْبًا، عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَ كَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِضَّةَ الْعَامِلِ فِي يَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ تَكُونُ مِنْ مَالِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الدَّافِعُ: كَانَتْ فِضَّتِي اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَزِيدَ فِيهَا ثَلَاثَةً، فَقَالَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ: بَلْ كَانَتْ عَشَرَةً، وَأَمَرَتْنِي فَزِدْت خَمْسَةً، وَفِي الْقَلْبِ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، أَنَّهُ زَادَ خَمْسَةً؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ الْفِضَّةِ، فَالدَّافِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا خَمْسَةً، وَالدَّافِعُ يُنْكِرُ الْأَمْرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ زَادَ دِرْهَمَيْنِ فَوْقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ، ضَامِنًا لِلدَّافِعِ مِثْلَ فِضَّتِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ وَزَادَ؛ فَإِذَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ اسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ كَمَالَ أَجْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقَلْبُ مَحْشُوًّا لَا يُعْلَمُ، وَزْنَهُ، وَلَا يُعْرَفُ، وَاتَّفَقَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ عَشَرَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ خَمْسَةً، فَقَالَ الدَّافِعُ: لَمْ تَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَقَالَ الْعَامِلُ: قَدْ زِدْتُ فِيهِ خَمْسَةً؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْقَرْضَ، فَإِنْ شَاءَ الْعَامِلُ سَلَّمَ الْقَلْبَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ الْآمِرُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ فِضَّةً مِثْلَ فِضَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ فِيهِ فَلَهُ أَنْ لَا يُخْرِجَ الْقَلْبَ مِنْ يَدِهِ؛ إذَا كَانَ مَا زَادَ فِيهِ، وَهُوَ الْخَمْسَةُ بِزَعْمِهِ لَا تَصِلُ إلَيْهِ؛ فَإِذَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ ضَمِنَ لِلدَّافِعِ فِضَّةً مِثْلَ فِضَّتهِ، بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْآخَرُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ خَمْسَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ؛ فَإِذَا أَنْكَرَ فَيَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ زَادَ فِيهِ خَمْسَةً، فَقَالَ الْآمِرُ: كَانَتْ فِضَّتِي بَيْضَاءَ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَزِيدَ فِيهَا فِضَّةً بَيْضَاءَ، وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ فِيهَا فِضَّةً سَوْدَاءَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي صِفَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ: فِي الْمِقْدَارِ، بِأَنْ قَالَ الدَّافِعُ: عَمِلْتَهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ؛ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الْأَجْرِ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ. رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَهَا زُيُوفًا بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا، فَاسْتَبْدَلَهَا مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الزُّيُوفَ، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتَبْدَلَهَا بِالْجِيَادِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ، فَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى الْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ الْمَرْدُودَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ مَا لَيْسَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ، لَا يُؤْثِرُ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ الرَّدُّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَالْمَرْدُودِ قَلِيلٌ. رَجُلٌ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ، وَقَالَ: اطْحَنْهَا لِي بِدِرْهَمٍ، فَطَحَنَهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا؛ كَانَ هَذَا بَاطِلًا، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، وَإِنَّمَا طَحَنَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ حِنْطَةَ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُ الدَّقِيقَ فَعَلَيْهِ دَقِيقٌ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقْرَضَهُ الدَّقِيقَ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ كُرَّ حِنْطَةٍ، وَقَالَ: أَقْرِضْنِي نِصْفَ كُرٍّ، وَاخْلِطْهُ بِهِ ثُمَّ اطْحَنْهَا لِي بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، كَانَ هَذَا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا اسْتَقْرَضَهُ بِالِاخْتِلَاطِ يَمْلِكُهُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الطَّحَّانُ عَامِلًا فِي حِنْطَتِهِ، فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ لِجَامًا، وَذَهَبَا فَقَالَ: مَوِّهْهُ بِهِ، وَمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 فَضَلَ فَهُوَ لَك أَجْرٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ، فَإِنْ عَمِلَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الذَّهَبِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ. . وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِدِينَارٍ، وَدَفَعَ الدِّينَارَ، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا أَحْرَقَ الْقَلْبَ فِي الْمَجْلِسِ؛ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَاتِّبَاعَ الْمُحْرِقِ بِقِيمَةِ الْقَلْبِ مِنْ الذَّهَبِ، فَإِنْ قَبَضَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَ بَدَلِ الْقَلْبِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَبْضِ عَيْنِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الدِّينَارِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْقِيمَةَ بَطَلَ الصَّرْفُ، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الدِّينَارِ، وَاتِّبَاعُ الْمُحْرِقِ بِقِيمَةِ الْقَلْبِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِافْتِرَاقِهِمَا، بَعْدَ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْهُ، وَهُوَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي نَظِيرِهِ فِي الْجَامِعِ إذَا قُتِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي تَضْمِينَ الْقَاتِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ نَوَى ذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ، يَكُونُ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ قَبْضَ بَدَلِ الصَّرْفِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَيْنٍ تَصِلُ إلَى يَدِهِ، وَكَذَلِكَ قَبْضُ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَبِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ، وَالْقَاتِلُ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَى شَيْءٍ، فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْقَلْبِ لَمْ تُقْبَضْ، وَقِيمَتُهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُحْرِقِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي اخْتِيَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُحْرِقِ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ نَظِيرَ الْمُطَالَبَةِ الَّتِي تَتَوَجَّهُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَنْ عَامَلَهُ فَكَمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا هُنَاكَ بِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَحَالَهُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، عَلَى إنْسَانٍ فِي الْمَجْلِسِ فَقَبْلَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَتَحَوَّلَ بَدَلُ الصَّرْفِ إلَى ذِمَّتِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: إنَّ الْمُحْرِقَ قَابِضٌ مُتْلِفٌ، وَالْمُشْتَرِي حِين اخْتَارَ تَضْمِينَهُ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقَبْضِهِ، مُلْزِمًا إيَّاهُ الضَّمَانَ بِإِتْلَافِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ، كَانَ يَتِمُّ عَقْدُ الصَّرْفِ بِقَبْضِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ فِي الِانْتِهَاءِ، بِخِلَافِ الْحَوَّالَةِ، فَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، حَتَّى يُجْعَلَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الطَّالِبِ، وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَلَوْ كَانَتْ طَرِيقُ هَذَا، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَيَكُونُ رِبْحًا عَلَى ضَمَانِهِ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّمَا يَصِيرُ قَبْضُهُ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 وَذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْلَافِ، وَبَعْدَ مَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ، فَلَا يَظْهَرُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّ بَابَ التَّصَدُّقِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا شَيْءٌ يُقَدَّرُ اعْتِبَارًا لِإِتْمَامِ قَبْضِهِ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ؛ وَلِأَنَّ قِيمَةَ الْمَبِيعِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْمُتْلِفِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ دَيْنًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِ الْقَبْضِ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ، يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِمَّةَ الْمُتْلِفِ قَائِمَةً مَقَامَ ذِمَّةِ الْبَائِعِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَبِيعِ فِيهَا، فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَبِيعِ لَا تَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْمُشْتَرِي ابْتِدَاءً فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ، فَذِمَّةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ هُنَاكَ تَقُومُ مَقَامَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فِيمَا كَانَ ثَابِتًا فِيهِ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ. وَإِنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ خَمْسُونَ دِينَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَنَقَدَ الثَّمَنَ، وَلَمْ يَقْبِضْ السَّيْفَ حَتَّى أَفْسَدَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ حَمَائِلِهِ، أَوْ جَفْنِهِ، فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ السَّيْفِ، وَتَضْمِينَ الْمُفْسِدِ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جُنِيَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ قَبَضَ السَّيْفَ ثُمَّ فَارَقَ الْبَائِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْمُفْسِدِ ضَمَانَ مَا أَفْسَدَهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُفْسِدِ بَدَلُ الْمَبِيعِ، وَالْقَبْضُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَجْلِسِ، إنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ خَاصَّةً، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ اشْتَرَاهُ فَأَحْرَقَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَاتِّبَاعَ الْمُحْرِقِ، لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْسِدُ أَفْسَدَ السَّيْفَ كُلَّهُ، وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَتَضْمِينَ الْمُفْسِدِ، وَنَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ الْمُفْسِدُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّي الْقِيمَةَ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ لَا يَضُرُّهُمَا ذَهَابُهُ كَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَارَقَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ كُلُّهُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَفِي حِصَّةِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، أَوْ بَاعَ قَلْبًا بِدِينَارٍ فَهَشَّمَ رَجُلٌ الْقَلْبَ، وَشَقَّ الثَّوْبَ بِاثْنَيْنِ، فَاخْتَارَ مُشْتَرِي الْقَلْبَ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَالْقَلْبِ، وَقَالَ: يُتْبَعُ الْمُفْسِدُ بِضَمَانِ ذَلِكَ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْقِيمَةَ حَتَّى تَفَرَّقَا، فَإِنَّهُ قَبَضَ الْقَلْبَ بِعَيْنِهِ، وَقَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَضُرُّهُمَا عَدَمُ قَبْضِ النُّقْصَانِ مِنْ الْهَاشِمِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْوَصْفِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ. رَجُل اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فِضَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَحْرَقَ رَجُلٌ بَكَرَةً مِنْ حِلْيَتِهِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْبَيْعِ، وَتَضْمِينَ الْمُحْرِقِ فَنَقَدَ، وَقَبَضَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 السَّيْفَ، ثُمَّ فَارَقَ الْبَائِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ قِيمَةَ الْبَكَرَةِ؛ فَالْبَيْعُ يُنْتَقَضُ فِي الْبَكَرَةِ خَاصَّةً دُونَ السَّيْفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْمُحْرِقِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا فَالْبَكَرَةُ قَدْ زَايَلَتْ السَّيْفَ، فَانْتِقَاضُ الْعَقْدِ فِيهَا بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَا يُوجِبُ الِانْتِقَاضَ فِيمَا بَقِيَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِي الْبَكَرَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي السَّلَمِ إذَا اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَاخْتَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ، ثُمَّ فَارَقَ رَبَّ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٌ، وَلَمْ يَبْطُلْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَإِنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده، أَوْ بِرِبْحِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِوَصْفِهِ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ لِلْحِلْيَةِ فِي السَّيْفِ حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، وَالْخُسْرَانِ، فَيَكُونُ بِمُقَابَلَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ، أَوْ أَقَلَّ، وَذَلِكَ رِبًا، وَبِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الْحِلْيَةِ يَفْسُدُ فِي جَمِيعِ السَّيْفِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِثْلَ وَزْنِ الْحِلْيَةِ مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهَا، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمُرَابَحَةَ، قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَقَدْ صَرَّحَا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُرَابَحَةٌ، أَوْ وَضِيعَةٌ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا جَعَلَ بِمُقَابَلَتِهَا مِثْلَ وَزْنِهَا؛ وَلِأَنَّهُمَا جَعَلَا الرِّبْحَ فِي ثَمَنِ السَّيْفِ ده دوازده؛ فَإِذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الرِّبْحِ بِإِزَاءِ السَّيْفِ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي ده دوازده، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَثْبُتُ حِصَّةُ السَّيْفِ مِنْ الرِّبْحِ، وَتَبْطُلُ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ مَا سُمِّيَ مِنْ الرِّبْحِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَوْلِيَةً فِي الْحِلْيَةِ وَلَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ، وَإِنْ رَابَحَهُ فِيمَا سِوَى الْفِضَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِكَوْنِ الْعَقْدِ تَوْلِيَةً فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُرَابَحَةً فِي حِصَّةِ السَّيْفِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فَأَمَّا اللِّجَامُ الْمُمَوَّهُ، فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَا يَتَخَلَّصُ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ، فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارِ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ نِصْفِ دِينَارٍ، أَوْ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِرِبْحِ نِصْفِ دِينَارٍ، فَإِنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْفَضْلُ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ تَابِعَ الْقَلْبِ بِدِينَارٍ، وَنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَابِعُ الْقَلْبِ بِدِينَارِ، وَدِرْهَمٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ يُقَابِلُهُ مِثْلُ وَزْنِهِ مِنْ الْقَلْبِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصْلُ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ بِمِثْلِ وَزْنِهَا - مُقَابَلَةً - ثَابِتَةٌ شَرْعًا، وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ الدِّينَارُ بِمُقَابَلَةِ تِسْعَةِ أَعْشَارِ الْقَلْبِ، وَالدِّرْهَمُ بِمُقَابَلَةِ عُشْرِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ بَعْضُ مَا سَمَّيَاهُ رَأْسَ الْمَالِ رِبْحًا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 فِيهِ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْقَلْبِ، وَبَعْضُ مَا سَمَّيَاهُ رِبْحًا رَأْسَ الْمَالِ فِي عُشْرِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ تَصْحِيحٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَلَوْ كَانَ قَامَ عَلَيْهِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَلَوْ ضَمَّ مَعَهُ ثَوْبًا قَدْ قَامَ مَعَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ: قَدْ قَامَ عَلَيَّ هَذَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَبَاعَهَا بِرِبْحِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ يَفْسُدُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ فِي حِصَّةِ الْقَلْبِ؛ لِأَجْلِ الرِّبَا أَوْ الْعَقْدِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ، وَبِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ فِي الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً، وَطَوْقُ فِضَّةٍ عَلَيْهَا فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِرِبْحِ دَهٍ يازده، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الطَّوْقِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الْآخَرِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الطَّوْقِ، فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ فِي نَظَائِرِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ، دِرْهَمًا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَيْسَ مِنْ ثَمَنِ الْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيُخْرَجُ قَدْرُ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَكَأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ اشْتَرَى السَّيْفَ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا، فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ مِثْلَ وَزْنِهَا، وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ. . وَلَوْ ابْتَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا، وَقَبِلَ الْحَطَّ، وَقَبَضَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا مِنْ مَقَامِ الْبَيْعِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا؛ فَسَدَ الْبَيْعُ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: الْحَطُّ بَاطِلٌ، وَيُرَدُّ الدِّرْهَمُ عَلَيْهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَالْحَطُّ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَلَوْ زَادَهُ فِي الثَّمَنِ دِرْهَمًا، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَا بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَحَدِهِمَا خِيَارًا أَوْ أَجَلًا، يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا ذَكَرَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ حَتَّى يَفْسُدَ الْعَقْدُ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْطَ، وَالزِّيَادَةَ بَيْعٌ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فِي الشَّيْءِ مُبْطِلًا لِأَصْلِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، وَالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ إبْطَالَهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ؛ فَإِذَا أَثْبَتنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهِ، وَبِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، تَبْطُلُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 الزِّيَادَةُ، فَيَكُونُ هَذَا اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ يَلْتَحِقُ الشَّرْطُ الصَّحِيحُ وَالزِّيَادَةُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ مَوْجُودٌ هُنَا، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ: أَنَّهُمَا قَصَدَا تَغْيِيرَ وَصْفِ الْعَقْدِ، يَجْعَلُ الْخَاسِرَ رَابِحًا، وَاللَّازِمَ غَيْرَ لَازِمٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِي الْعَقْدِ إلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَهُ وَإِبْقَاءَهُ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ تُمْلَكُ بِمِلْكِ أَصْلِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا، فَإِنَّهُمَا غَيَّرَا وَصْفَ الْعَقْدِ مِنْ الْجَوَازِ إلَى الْفَسَادِ، وَإِلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ الْعَقْدِ، يُجْعَلُ كَالْمَذْكُورِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوْ ذُكِرَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ، وَإِنْ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ، فَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وَهَبَ بَدَلَ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَقَبِلَ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا: فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَطِّ، وَالزِّيَادَةِ فَقَالَ فِي الْحَطِّ: إيفَاءُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ تَصْحِيحَ الْحَطِّ مُمْكِنٌ؛ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، فَيُصَارُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَحَطَّ الْبَائِعُ عَنْهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَقَبِلَهُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَيُجْعَلُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى ذَلِكَ فَصَرَفَ إلَى إلْغَاءِ الزِّيَادَةِ، وَتَصْحِيحِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ حَطَّ جَمِيعِ الثَّمَنِ يَتَعَذَّرُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا، وَيَصِيرُ هِبَةً، وَلَمْ يَقْصِدْ الْمُتَعَاقِدَانِ ذَلِكَ بِأَصْلِ السَّبَبِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ هِبَةً، وَهُنَا لَوْ ثَبَتَ حَطُّ الْبَعْضِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، لَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَرْفًا كَمَا بَاشَرَاهُ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَالْفَاسِدُ مِنْ جِنْسِ الزَّائِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَضْمَنُ بِالْفَسَادِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا وَهَبَ كَانَ ضَامِنًا، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْحَطَّ لِإِخْرَاجِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَقْدِ، أَوْ لِإِدْخَالِ الرُّخَصِ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَصِيرُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِحَطِّ الْجَمِيعِ قَصَدَ الْبِرَّ الْمُبْتَدَأَ فَجَعَلْنَاهُ هِبَةً كَذَلِكَ وَهُوَ يَصِيرُ مَغْبُونًا بِبَعْضِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، كَمَا يَصِيرُ مَغْبُونًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ الْحَطُّ لِإِدْخَالِ الرُّخَصِ فِيهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِجَعْلِهِ هِبَةً مُبْتَدَأَةً؛ فَلِهَذَا اُلْتُحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْآخَرِ هُنَا، بِخِلَافِ الْحَطِّ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَطِّ إفْسَادَ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِإِفْسَادِ الْعَقْدِ، وَهُنَاكَ فِي تَصْحِيحِ الْحَطِّ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ، وَحْدَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ، وَثَوْبًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَفِي الْقَلْبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا مِنْ ثَمَنِهَا جَمِيعًا، فَإِنَّ نِصْفَ الْحَطِّ فِي الثَّوْبِ، وَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِي الْقَلْبِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَطُّ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 بِقَوْلِهِ: حَطَطْتُ عَنْكَ دِرْهَمًا مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمُقَابَلَتِهِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْحَطَّ هُنَاكَ لِمَا ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، يُظْهِرُ الْفَضْلَ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْكُلِّ، وَهُنَا إنَّمَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْقَلْبِ دُونَ الثَّوْبِ؛ فَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ مَعَ نِصْفِ الْحَطِّ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَحَطَّ عَنْهُ مِنْ ثَمَنِهِ دِرْهَمًا أَجَزْتُ ذَلِكَ، وَجَعَلْتُ الْحَطَّ عَلَى غَيْرِ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَخْرُجُ الْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَيَكُونُ الْبَيْعُ: كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ بِتِسْعَةٍ، وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَعَ الثَّوْبِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَطَّ مِنْ ثَمَنِهِمَا، وَالسَّيْفُ مَعَ الْحِلْيَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ جَعَلَ الْحَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَوْ جَعَلْنَا ذَلِكَ فِي حِصَّةِ السَّيْفِ خَاصَّةً؛ لَا يَكُونُ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُتَصَرِّفُ. وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَتَقَابَضَا، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ جَائِزٌ، سَوَاءٌ قَبَضَهَا، أَوْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْحَطِّ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِحَاقِ الْقَبْضِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَظْهَرُ الرِّبَا هُنَا؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَيَجِبُ رَدُّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَبَضَ فَوْقَ حَقِّهِ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي مِثْلِهِ لَا يَضُرُّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ إذَا قَبِلَ الْآخَرُ الزِّيَادَةَ، وَعِنْدَهُمَا الزِّيَادَةُ تَبْطُلُ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الزِّيَادَةُ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إفْسَادُ أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ ثَوْبًا فَتَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا كَمَا لَوْ كَانَ مَذْكُورًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ النُّقُودِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهَا فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ، وَالْتُحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ بَدَلَ الصَّرْفِ، فَشَرَطَ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، إلَّا أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي أَصْلِ بَدَلِ الصَّرْفِ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الزِّيَادَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الزِّيَادَةِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ كَانَ مَذْكُورًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى افْتَرَقَا. وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ زَادَ مُشْتَرِي السَّيْفِ دِرْهَمًا، أَوْ دِينَارًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ فِي الْحِلْيَةِ إنَّمَا هِيَ فِي ثَمَنِ السَّيْفِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي الْعَقْدِ، كَانَتْ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ دُونَ الْحِلْيَةِ، وَلَوْ كَانَ بَائِعُ السَّيْفِ زَادَهُ دِينَارًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 أَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اُنْتُقِضَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِصَّةِ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَارِفٌ سَيْفًا مُحَلًّى، وَدِينَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ، وَتُقْسَمُ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ عَلَى قِيمَةِ الدِّينَارِ، وَقِيمَةِ السَّيْفِ بِغَيْرِ حِلْيَةٍ، فَمَا يَخُصُّ الدِّينَارَ يَجِبُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَبْطُلُ فِيهِ بِتَرْكِ قَبْضِ الدِّينَارِ فِي الْمَجْلِسِ. وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ، وَاشْتَرَى هُوَ، أَوْ غَيْرُهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ بَاعَهَا بِرِبْحِ دَهٍ يازده، أَوْ بِوَضِيعَةِ عُشْرِ أَحَدَ عَشَرَ جَازَتْ حِصَّةُ الثَّوْبِ، وَلَا تَجُوزُ حِصَّةُ الْقَلْبِ لِمَعْنَى الرِّبَا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ؛ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَلَوْ قَالَ أَبِيعُكَهُمَا بِوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عِشْرِينَ، أَوْ بِزِيَادَةِ دِرْهَمٍ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ جَائِزًا، وَكَانَتْ الْفِضَّةُ بِمِثْلِهَا، وَالثَّوْبُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسِبْ الْعِشْرِينَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا إلَى مَا قَامَ عَلَيْهِ بِهِ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ مُسَاوِمَةٍ، وَفِي بَيْعِ الْمُسَاوِمَةِ يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِثْلُ وَزْنِهَا، وَالْبَاقِي بِمُقَابِلِ الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ نَصٌّ عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِيهِمَا، وَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ الرِّبْحِ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ. وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَزْنُهَا كَذَلِكَ، وَاشْتَرَى شَيْئًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَزْنُهَا كَذَلِكَ، وَاشْتَرَى سَيْفًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِجَفْنِهِ وَحَمَائِلِهِ، ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الصِّيَاغَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: يُقَوَّمُ عَلَيَّ بِمِائَةٍ، وَعَشَرَةٍ، فَبَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرِ أَوْ بِرِبْحِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ بَعْضِ الرِّبْحِ بِمُقَابَلَةِ الْفِضَّةِ، وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ، فَسَدَ فِي كُلِّهِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ، وَالنَّفَقَةُ دَنَانِيرَ جَازَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى فَلْسًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَبَضَ الْقَلْبَ، وَغَصَبَهُ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ افْتَرَقَا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ ثَمَنَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِحَقِّهِ، وَإِنْ أُخِذَ عَلَى سَبِيلِ الْغَصْبِ، وَالْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، فَيَكُونُ بِالْقَبْضِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ لَا مُسْتَقْرِضًا، وَلَا قَابِضًا، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ هُنَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ قَبْلَ عَقْدِ الصَّرْفِ إذَا جَعَلَا بَدَلَ الصَّرْفِ قِصَاصًا بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْقَلْبَ مَعَ ثَوْبٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَبَضَ الْقَلْبَ، وَنَقَدَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ افْتَرَقَا، كَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ الْقَلْبِ خَاصَّةً - اسْتِحْسَانًا -؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَبْضُ ثَمَنِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَفِي سَائِرِ الْبُيُوعِ إنَّمَا يُجْعَلُ الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِهِمَا؛ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ وَلَا مُعَاوَضَةَ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ؛ وَلِأَنَّ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 جَعْلِ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهِمَا هُنَا نَقْضَ الْبَيْعِ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ، وَلَمَّا كَانَ يُسْتَحْسَنُ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَالِاسْتِحْسَانُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ فَسَادِهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ أَوْلَى، وَلَوْ نَقَدَهُ الْعَشَرَةَ، وَقَالَ: هِيَ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الشَّيْئَيْنِ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْمَالِحُ، وَقَالَ - تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسُ خَاصَّةً، فَهُنَا وَإِنْ قَالَ: هُوَ مِنْ ثَمَنِهِمَا فَقَدْ قَصَدَ إيفَاءَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَإِيفَاءُ ثَمَنِ الْقَلْبِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ ثَمَنِ الثَّوْبِ فَيَصْرِفُ ذَلِكَ إلَى ثَمَنِ الْقَلْبِ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْآخِرُ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: لَا، وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقْدِ، أَوْ الْإِضَافَةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَعْدَ تَصْرِيحِ الدَّافِعِ؛ بِكَوْنِ الْمَدْفُوعِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ خَاصَّةً، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقَبَضَ السَّيْفَ، وَنَقَدَهُ خَمْسِينَ، وَقَالَ هِيَ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ دُونَ الْحِلْيَةِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْقَابِضُ، أَوْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ لَمَّا صَرَّحَ بِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِافْتِرَاقِهِمَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ الْمَنْقُودَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ هُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ ثَمَنَ الْحِلْيَةِ يَصِحُّ الْقَبْضُ، وَالدَّفْعُ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ثَمَنَ السَّيْفِ يَبْطُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهِ فِي حِصَّةِ السَّيْفِ فَيَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ فَكَانَ هَذَا تَصْرِيحًا بِمَا لَا يُفِيدُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ سُلِّمَ لِلْقَابِضِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْحِلْيَةَ وَالسَّيْفَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ فِي الْمَنْقُودِ أَنَّهُ ثَمَنُ هَذَا الْجَانِبِ دُونَ الْجَانِبِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْقَلْبِ، وَالثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ. وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَاشْتَرَى سَيْفًا، وَجَفْنًا، وَحَمَائِلَ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَأَنْفَقَ عَلَى صِنَاعَتِهِ، وَتَرْكِيبِهِ دِينَارًا، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ بِرِبْحِ دَهٍ يازده، وَتَقَابَضَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَلْبُ فِضَّةٍ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ، وَثَوْبٌ لِآخَرَ يُقَوَّمُ بِدِينَارَيْنِ فَبَاعَاهُمَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ دِينَارٍ، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده، فَإِنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْبَاقِيَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَقْسُومٌ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَ قَلْبُ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَثَوْبٌ لِآخَرَ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَبَاعَاهُ مِنْ رَجُلٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي لَهُ إلَّا أَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ نَقَدَ الْمُشْتَرِي صَاحِبَ الْقَلْبِ عَشَرَةً، فَهِيَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَلَّى بَيْعَ مِلْكِهِ بِنَفْسِهِ فَإِلَيْهِ قَبْضُ ثَمَنِهِ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِي الْمَبِيعِ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ إنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ ثَمَنُ الثَّوْبِ، وَلَوْ بَاعَا جَمِيعًا الثَّوْبَ، وَبَاعَا جَمِيعًا الْقَلْبَ فَنُقِدَ صَاحِبُ الْقَلْبِ عَشَرَةً ثُمَّ تَفَرَّقَا اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ بَائِعُهُمَا، وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ - اسْتِحْسَانًا - لِعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَحَقَّ قَبْضَ نِصْفِ ثَمَنِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ بَاعَا جَمِيعًا الْقَلْبَ، وَالْقَابِضُ أَحَدُهُمَا، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ نِصْفِ الْمَنْقُودِ عِوَضَ مَا بَاعَهُ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ، فَإِنْ قَالَا كَذَلِكَ فَإِنَّ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْقَلْبِ كَقَبْضِ الْوَكِيلِ فَصَاحِبُ الْقَلْبِ إذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْقَلْبِ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ عَاقِدٌ، وَفِي النِّصْفِ مُوَكَّلٌ أَمْكَنَ جَعْلُ الْمَنْقُودِ كُلِّهِ ثَمَنَ الْقَلْبِ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَبْضُ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْعَقْدِ، فَانْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ رَجَّحْنَا ثَمَنَ الْقَلْبِ. وَلَوْ بَاعَ لُؤْلُؤَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا مِثْقَالًا، فَإِذَا فِيهَا مِثْقَالَانِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي اللُّؤْلُؤِ صِفَةٌ وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى عَيْنِهِ لَا عَلَى صِفَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ فَإِذَا هِيَ أَلْفٌ، وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا عَلَى جَمِيعِهَا لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الدَّارِ صِفَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِاخْتِلَافِهَا تَخْتَلِفُ صِفَةُ الْعَيْنِ فِي الضِّيقِ، وَالسَّعَةِ، وَلَا يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ كَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ، وَخَمْسِمِائَةٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ كُلِّ دِرْهَمٍ بِمُقَابَلَةِ كُلٍّ ذِرَاعٍ، وَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْطُ عَقْدِهِ، فَإِنَّهُ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْآنَ لَا تُسَلَّمُ لَهُ إلَّا بِأَلْفٍ، وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. وَكَذَلِكَ قَلْبُ فِضَّةٍ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّ فِيهِ عَشَرَةً، فَإِذَا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَهَذَا كُلُّهُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ قَالَ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا إنْ لَمْ يَكُنْ تَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَزُفَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا نَصَّا عَلَى عَقْدِ الرِّبَا بِتَسْمِيَةِ الْعَشَرَةِ بِمُقَابَلَةِ قَلْبِ، وَزْنِهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ مِثْلَ وَزْنِهَا فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا صَرَّحَا بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُصَرِّحَا، وَعِنْدَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِ الْقَلْبِ بِمِثْلِ وَزْنِهِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرْعًا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 تَنْصِيصِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الذُّرْعَانِ فِي الدَّارِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي ثَمَنِ الْقَلْبِ لَمْ يَرْضَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ تَفَرَّقَا جَازَ لَهُ نِصْفُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَا قَبَضَ إلَّا ثَمَنَ نِصْفِ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ الْقَلْبَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَنَقَدَ فِي الْمَجْلِسِ عَشَرَةً، وَلِهَذَا لَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ بِفِعْلِهِ، وَهِيَ الْمُفَارَقَةُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِدِينَارٍ فَهُوَ كُلُّهُ بِدِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَا بِمُقَابَلَةِ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَالْوَزْنُ فِي الْقَلْبِ صِفَةٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَفِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ الْوَزْنُ صِفَةٌ، فَإِنَّ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ تَخْتَلِفُ صِفَتُهُ فَيَكُونُ أَثْقَلَ، أَوْ أَخَفَّ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: كُلُّ دِرْهَمٍ بِعُشْرِ دِينَارٍ، أَخَذَهُ بِدِينَارَيْنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَعْقَبَ مِنْهُمْ كَلَامَهُ تَفْسِيرًا فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَيَصِيرُ بَائِعًا كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْ الْقَلْبِ بِعُشْرِ دِينَارٍ فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَلْبُ أَنْقُصَ وَزْنًا فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَثُبُوتُ الْجَوَازِ هُنَا، وَإِنْ انْتَقَصَ عَنْهُ الثَّمَنُ لَتَغَيَّرَ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبٍ وَزْنُهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ، وَلَا يَرْغَبُ فِيمَا إذَا كَانَ وَزْنُهُ خَمْسَةُ مَثَاقِيلَ. وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةٌ، وَثَوْبًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَنَقَدَهُ مِنْهَا عَشَرَةً، وَقَالَ: نِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ، وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ، وَتَفَرَّقَا، انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الْمَنْقُودِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَنْقُودِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ جُعِلَ مِنْ ثَمَنِهِ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ نِصْفُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كُلُّهُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَقِيَ فِيهِ بَعْضُ الِاحْتِمَالِ فَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى شَيْئَيْنِ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي - قَوْله تَعَالَى -: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، - وقَوْله تَعَالَى -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ،} [الأنعام: 130] أَمَّا هُنَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ عَلَى التَّنْصِيفِ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ جَعْلِ الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا فِي السَّيْفِ إذَا سُمِّيَ فَقَالَ: نِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ، وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكُلَّ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْرِيحُهُ: إمَّا؛ لِأَنَّ السَّيْفَ مَعَ الْحِلْيَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَتَصْرِيحُهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُودَ عُوِّضَ جَانِبٌ مِنْهُ دُونَ جَانِبٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ، أَوْ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا يَسْلَمُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ فِي السَّيْفِ بِبُطْلَانِهِ فِي الْحِلْيَةِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنْ قَصْدَهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُكَ السَّيْفَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَخَمْسِينَ نَقْدًا مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ، وَالْحِلْيَةِ، وَخَمْسِينَ نَسِيئَةٍ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ، وَالْحِلْيَةِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا، كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْأَجَلِ فِي بَعْضِ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَالسَّيْفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ فِي كُلِّهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْقَلْبِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 وَالثَّوْبِ فَسَدَ الْبَيْعُ أَيْضًا، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ. وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ حِلْيَتَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَتَقَابَضَا فَإِذَا حِلْيَتُهُ سِتُّونَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ زَادَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَأَخَذَ السَّيْفَ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى وَزْنَ الْحِلْيَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدْ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ الْخَمْسِينَ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْحِلْيَةَ سِتُّونَ دِرْهَمًا، وَبِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ شَرْعًا، ظَهَرَ أَنَّ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ سِتُّونَ دِرْهَمًا، وَيَكُونُ ثَمَنُهَا مِائَةً، وَعَشَرَةً، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَا تَفَرَّقَا فَالْبَيْعُ مُنْتَقَضٌ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ سُدُسِ الْحِلْيَةِ لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ، وَبِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ فِي الْحِلْيَةِ يُنْتَقَضُ فِي جَمِيعِ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ شَاءَ زَادَهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَأَخَذَ السَّيْفَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ خَمْسِينَ، وَبِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ مِثْلَ وَزْنِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ الْإِبْرِيقِ جَائِزٌ فَيُمْكِنُ إيفَاءُ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْإِبْرِيقِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَبَيْعُ نِصْفِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ السَّيْفِ مَعَ نِصْفِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا فِي التَّسْلِيمِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى، وَزْنُ حِلْيَتِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا، فَإِذَا فِي السَّيْفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِتَسْمِيَةِ وَزْنِ الْحِلْيَةِ مُسَمِّيًا بِمُقَابَلَةِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَبِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ، فَلَا يَضُرُّهُ زِيَادَةُ وَزْنِ الْحِلْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقَلْبِ نَظِيرَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِذَا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فِي الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْقَلْبِ نَقْرَةً؛ رَدَّ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّ النُّقْرَةَ لَا يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْوَزْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقْرَةِ يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ هَذَا الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ، وَوَكَّلَهُ آخَرُ بِبَيْعِ الثَّوْبِ، فَبَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِدِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، عَلَى أَنَّ ثَمَنَ الثَّوْبِ الدِّينَارُ، وَثَمَنَ الْقَلْبِ الدَّرَاهِمُ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ دَفَعَ الْقَلْبَ، وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يُشْرِكُهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِي ثَمَنِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى عَلَى حِدَةٍ، وَبَيْعُ الْوَكِيلِ بِثَمَنٍ مُنْفَصِلٍ، كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، عَشَرَةٌ بِيضٌ ثَمَنُ الْقَلْبِ، وَعَشَرَةٌ سُودٌ ثَمَنُ الثَّوْبِ فَهَذَا التَّفْصِيلُ، وَتَفْصِيلُ الْعَشَرَةِ، وَالدِّينَارِ سَوَاءٌ، وَلَوْ بَاعَهُمَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، ثُمَّ نَقَدَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الْمَنْقُودُ ثَمَنَ الْقَلْبَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ، فَهَذَا وَمَا لَوْ بَاعَهُمَا لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ، وَإِذَا كَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ شَرْعًا، كَانَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَمْلِكُ الْأَصْلَ، وَلَا يُشْرِكُهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِيهَا؛ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْقَلْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا عَشَرَةٌ نَقْدًا، وَعَشَرَةٌ نَسِيئَةً، فَقَبَضَ النَّقْدَ، وَقَبْضَ الثَّوْبَ وَالْقَلْبَ، كَانَ جَائِزًا، وَكَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ الْقَلْبِ خَاصَّةً، وَالنَّسِيئَةُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ الْبَعْضَ فِي الْمَجْلِسِ دُونَ الْبَعْضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الشُّفْعَةِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: الشُّفْعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إلَى عَدَدٍ، أَوْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَمِنْهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الْعَابِدِينَ، وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ بِأَخْذِهِ يَضُمُّ الْمَأْخُوذَ إلَى مِلْكِهِ، فَيُسَمَّى لِذَلِكَ شُفْعَةً، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»؛ وَلِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْبَابِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ الشُّفْعَةُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارًا وَرُبْعًا»، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَدَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ، فَقَالَ خُذْهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، أَمَا إنِّي قَدْ أُعْطِيت بِهِ ثَمَانَمِائَةٍ، وَلَكِنِّي أُعْطِيكَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى جَارِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُجَاوَرَةِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ؛ فَلِهَذَا فَعَلَهُ سَعْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَطَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 عَنْهُ نِصْفَ الثَّمَنِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ لِإِتْمَامِ الْإِحْسَانِ، وَإِنَّ تَمَامَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَحُطَّ الشَّطْرَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَطَالَبَ غَرِيمَهُ، فَقَالَ: أَحْسِنْ إلَيَّ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: وَهَبْت لَك النِّصْفَ فَقِيلَ لَهُ: النِّصْفُ كَثِيرٌ، فَقَالَ: وَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْله تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] سَمِعْت جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مِنْ تَمَامِ الْإِحْسَانِ أَنْ يُحَطَّ الشَّطْرُ». فَأَمَّا قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، فَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالسِّينِ، وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ، وَبِالصَّادِ، وَالْمُرَادُ الْأَخْذُ، وَالِانْتِزَاعُ، يَعْنِي: لَمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْجِوَارِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَعْنًى، وَالْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَهَذَا الْمَعْنَى مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاوَرَةِ، يَعْنِي: الضَّرَرَ الْبَادِيَ إلَى سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ حَيْثُ إبْعَادِ النَّارِ وَإِعْلَاءِ الْجِدَارِ وَإِثَارَةِ الْغُبَارِ وَمَنْعِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ قَالَ الْأَعْشَى أَيَا جَارَتِي بِينِي فَإِنَّكِ طَالِق ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ عَادٍ وَطَارِقَة وَالْمُرَادُ زَوْجَتُهُ، وَهِيَ شَرِيكَتُهُ فِي الْفِرَاشِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي هَذَا تَرَكَ الْحَقِيقَةَ إلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ تُسَمَّى جَارَةً؛ لِأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْفِرَاشِ تَتَصَرَّفُ عَنْهُ لَا؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّ سَعْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ وَرَوَى الْحَدِيثَ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْتِ كَانَ لَهُ، وَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ الْجَارَ دُونَ الشَّرِيكِ حِينَ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ فِيهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ فِي الشُّفْعَةِ لِلْيَتِيمِ قَالَ: وَصِيُّهُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ إنْ شَاءَ أَخَذُوا الْغَائِبَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلصَّغِيرِ، وَأَنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْيَتَامَى وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا الْمَقْصُودِ أَقَامَ الشَّرْعُ وَلِيَّهُ مَقَامَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّهِ قَائِمٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَعَلِمَ بِهِ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ لَا يَسْقُطُ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ، وَالرِّضَا بِسُقُوطِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً وَبِتَرْكِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ، وَالْغَيْبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ عَنْ الطَّلَبِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ، وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ»، وَالْخَلِيطُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ، وَالطَّرِيقِ وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطَ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ فَالشَّرِيكُ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالْخَلِيطُ يَكُونُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ سُمِّيَ خَلِيطًا لِاخْتِلَاطٍ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَأَتَّى بِهِ الِانْتِفَاعُ مَعَ تَمَيُّزِ الْمِلْكِ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَأَنَّ الْبَعْضَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِنَا فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَلَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ، إلَّا لَلشَّرِيكِ، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» يَنْتَظِرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إمَامٌ مُطْلَقٌ فِي الْحَدِيثِ وَجَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، فَلَا طَعْنَ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا وَجْهَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى الشَّرِيكِ كَانَ هَذَا لَغْوًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ جَارًا هُوَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ: الْعَجَبُ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ شُهْرَتِهِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا اللَّقَبِ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلِأَجْلِهِ سُمُّوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ لَا لِعِلْمِهِمْ بِالْحَدِيثِ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَمْ يَطْلُبْ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَبِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ فَيَلْتَحِقُ بِالْجَارِ الْقَدِيمِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ ضَرُورَةً وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» أَيْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» فَكَنَّى بِهَذَا عَنْ سُرْعَةِ سُقُوطِهَا. وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ، وَالْجَارُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ الشَّرِيكَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالْخَلِيطَ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ.»، وَالشَّرِيدُ هَذَا مِمَّنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَنْشَدَنِي مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَكُلَّمَا أَنْشَدْت شَيْئًا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيهِ حَتَّى أَنْشَدْت مِائَةَ بَيْتٍ.» وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الشُّفْعَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ، وَلَا قَسْمٌ، إلَّا الْجِوَارَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ.» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الشَّرِكَةَ فِي السُّؤَالِ وَأَثْبَت الْجِوَارَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ وَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ " مَا " تُذْكَرُ بِمَعْنَى " مَنْ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لِلذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ، وَالْمَمْلُوكِ، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، وَالْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ أَيْ مَا كَانَ أَيْ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ، إلَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ كَالسُّفُنِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَلَكِنْ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ رَبْعٍ، أَوْ عَقَارٍ» تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ الْعَقَارُ دُونَ الْمَنْقُولِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى لِلنَّصْرَانِيِّ بِالشُّفْعَةِ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَهَا، وَبِهَذَا نَأْخُذُ دُونَ مَا رَوَاهُ بَعْدَ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا شُفْعَةَ لِيَهُودِيٍّ، وَلَا لِنَصْرَانِيٍّ، وَلَا لِمَجُوسِيٍّ وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي كَانَ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيَقُولُ: الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ رِفْقٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ لِمَنْ هُوَ مُنْكِرٌ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا قَضَى بِهِ شُرَيْحٌ، فَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِإِمْضَاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ عَنْهُمْ كَمَا هُوَ مَدْفُوعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ، وَالْجِوَارِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات بِالْجِوَارِ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ فَأَمَّا مَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ «أَنَّ الْجَارَ كَانَ مُنَازِعًا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْجِوَارِ وَبِالشُّفْعَةِ»، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِوَارَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الْخُصُومَةَ فَقَضَى بِهِ وَبِالشُّفْعَةِ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ الْأَرَضِينَ وَرَفَعُوا سَرَبًا بَيْنَهُمْ فَهُمْ شُفَعَاءُ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: الشَّرِكَةُ فِي السَّرَبِ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ فَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ كَالشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْبَادِي لِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: الشُّفْعَةُ بِالْأَبْوَابِ، فَأَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ فَأَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ بَابًا، أَوْ أَبْعَدَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْبَابِ فِي التَّقْدِيمِ فِي الشُّفْعَةِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أَبَرُّ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا.»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُ وَاطِّلَاعَ أَوْلَادِهِ عَلَى مَا يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ مِنْ النِّعْمَةِ أَكْثَرُ، فَهُوَ بِالْهَدِيَّةِ أَحَقُّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقُولُ فِي الْهَدَايَا: ابْدَءُوا بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ.» فَأَمَّا فِي الشُّفْعَةِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ، وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي، فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: لَا شُفْعَةَ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ يَأْخُذُ بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدِيُّ يَأْمُرُهُ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ فَأَخَذَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ حِينَ قَالَ: لِبَنِي عُذْرَةَ أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأَخَذْنَا بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَتَى صَحَّ عَنْهُ كَانَ حُجَّةً عَلَى كُلِّ صَحَابِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. (وَالْحَاصِلُ) أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا عَلَى مَرَاتِبَ يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِيهَا فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ بَعْدَهُ، ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ بَعْدَهُمَا، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، إلَّا لِلشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» وَإِدْخَالُ الْأَلْفِ، وَاللَّامِ فِي الْكَلَامِ لِلْعُهُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ، وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَكَانَ لِلْجِنْسِ فَيَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ»، وَإِنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]، فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَفِي الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا تَمَلَّكَ الْمَالَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ عَلَيْهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الشَّرِيكُ دُونَ الْجَارِ كَالْمُتَمَلِّكِ بِالِاسْتِيلَادِ وَمِلْكُ أَحَدُ الْجَارَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا مِلْكَ الْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ كَالْجَارِ الْمُقَابِلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ فَيَلْحَقُهُ بِسَبَبِهِ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ، فَالشَّرْعُ مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِيَدْفَعَ بِهِ ضَرَرَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ لِدَفْعِ ذَلِكَ، إلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 بِالْأَخْذِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالْمِلْكِ فِيهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْجَارِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ هُنَاكَ بِبَيْعِ نَصِيبِهِ، وَالْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَنْقُولِ مُعْتَادٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَأَمَّا الْعَقَارُ فَيُتَّخَذُ لِاسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ؛ وَلِيَبْقَ مِيرَاثًا بِالْعَاقِبَةِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلَا يُعَارِضُهَا مَا رَوَوْا، فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّ لِلشَّرِيكِ شُفْعَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ مَعَ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ لَا مُزَاحَمَةَ لِأَحَدٍ فِي الشُّفْعَةِ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ، وَبِهِ نَقُولُ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ» دَلِيلُنَا أَنَّهُ عَلَّقَ نَفْيَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصَرَّفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ، ثُمَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا شُفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَرُبَّمَا يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِالْقِسْمَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمِلْكِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ كَالشَّرِيكِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِالْمُجَاوَرَةِ دُونَ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولَاتِ، ثُمَّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، إلَّا فِي الْعَقَارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنًى يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعَقَارِ تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا كَانَا جَارَيْنِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمَنْقُولَاتِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَتَحْقِيقُهُ الْمُجَاوَرَةَ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لِجَارٍ السُّكْنَى كَالْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ جِوَارَهُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَعَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ فَلِإِمْكَانِ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَا لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَنْقُولَاتِ. ، وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ، وَهُنَا بِالْأَخْذِ تَزْدَادُ مُؤْنَةُ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْبَاقِينَ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 سُوءُ مُجَاوَرَةِ الْمُشْتَرِي؛ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ؛ لِأَنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْآخَرِ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ؛ لِيَتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعِ الْمِلْكِ، وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ يَتَحَقَّقُ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى، أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِلِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا كَانَتَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْكُلِّ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَلَ الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا، الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْقُرْبُ، وَالِاتِّصَالُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَقْوَى لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ بِجُزْءٍ مِنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ لَلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ لِزِيَادَةِ الِاتِّصَالِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْجَارِ وَقُوَّةُ السَّبَبِ تُوجِبُ التَّرْجِيحَ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ ضَرَرَ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَمُؤْنَةَ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ أَبَدًا بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً الِاسْتِحْقَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ إذَا اجْتَمَعَا يَتَرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ بِسَبَبِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَالْعُصُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ يَقَعُ بِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَتَفْسِيرُ مَا قُلْنَا فِي مَنْزِلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَارٍ هِيَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَنْزِلِ، فَالشَّرِيكُ فِي الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ، فَالشُّرَكَاءُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي السِّكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْيَزُ قُرْبًا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ، فَإِنْ سَلَّمُوا فَأَهْلُ السِّكَّةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلَّمُوا، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَهَذَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَبَابُ دَارِهِ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ لَا شُفْعَةَ لِأَحَدٍ سَوَاءٌ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ لِحَقِّ الشَّرِيكِ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى، أَوْ سَلَّمَ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْجَارِ مَعَ الشَّرِيكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ كَانَ مُقَدَّمًا، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَرَضِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ أَسْقَطَ حَقَّهُمْ بِالْإِبْرَاءِ كَانَتْ التَّرِكَةُ لِغُرَمَاءِ الْمَرَضِ بِدُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ ثَابِتٌ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَنْبَغِي لِلْجَارِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ مَعَ الشَّرِيكِ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ عِلْمِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ الشَّرِيكُ، فَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِنَاءٌ مُنْفَرِجٌ مِنْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ رَاجِعًا عَنْ الطَّرِيقِ، أَوْ زُقَاقٌ، أَوْ دَرْبٌ غَيْرُ نَافِذٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 فِيهِ دُورٌ فَبِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا فَأَصْحَابُ الدُّورِ شُفَعَاءُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْفِنَاءِ، وَالطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلَّمَ هَؤُلَاءِ الشُّفْعَةَ، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِالشُّفْعَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: فِنَاءُ الدَّارِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَقُّهُ، وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّارِ، وَالدَّارُ مَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَالْفِنَاءُ اسْمٌ لِصَحْنٍ وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعَدًّا لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ وَكَسْرِ الْحَطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، فَهُوَ حَقُّ أَصْحَابِ السِّكَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْخَاصَّةِ لَهُمْ، أَوْ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَفِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَالْمُقَابِلُ سَوَاءٌ. وَلِهَذَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ دُونَ مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ، وَالدُّورِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِقْدَارِ النُّصُبِ، وَبَيَانُهُ: فِي دَارٍ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا وَلِآخَرَ سُدُسُهَا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ السُّدُسِ مِلْكَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عِنْدَهُ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ قُضِيَ بِهِ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا وَعِنْدَنَا يُقْضَى بِهِ نِصْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا إذَا بِيعَتْ دَارٌ وَلَهَا جَارَانِ أَحَدُهُمَا جَارٌ مِنْ ثَلَاثِ جَوَانِبَ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَاحِدٍ وَطَلَبَا الشُّفْعَةَ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ «بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ مِنْ وَادِي الْقُرَى قَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ: أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ» الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَادِيَ بَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ وَبَيْنَ الْإِمَارَةِ نِصْفَيْنِ، فَقَدْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ النَّصِيبِ، وَلَمْ يَقْسِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ، وَإِنَّ هَذَا رِفْقٌ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالرِّبْحِ أَوْ ثَمَرَةٍ تُسْتَحَقُّ بِالْمِلْكِ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالْأَوْلَادِ، وَالْأَلْبَانِ، وَالْأَثْمَارِ فِي الْأَشْجَارِ الْمُشْتَرَكَةِ يُوَضِّحُهُ الْمَنْفَعَةُ أَنَّ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ بِالْغُرْمِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ الْمِلْكِ، فَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا وَأُشْهِدَ عَلَيْهِمَا فِيهِ فَسَقَطَ وَأَصَابَ مَالًا، أَوْ نَفْسًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ لِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إمَّا الْجِوَارُ، أَوْ الشَّرِكَةُ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ شَرِيكٌ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ، وَجَازَ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ (ثُمَّ تَحْقِيقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 هَذَا الْكَلَامِ) أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلُ الْمِلْكِ لَا قَدْرُ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَثِيرِ عِلَلٌ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسَاوَاة لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْعِلَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ، وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْقَتْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعِلَّةِ التَّرْجِيحُ الْمَرْجُوحُ مَدْفُوعٌ بِالرَّاجِحِ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَصْلًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِي جَانِبِهِ مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ الْعِلَّةِ، وَكَثْرَةُ الْعِلَّةِ لَا تُوجِبُ التَّرْجِيحَ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ، فَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَيْنِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّرِكَةِ، إلَّا قَدْرَ دَيْنِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ اسْتِحْقَاقُ التَّرِكَةِ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ الرِّبْحُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَدْرِ الْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَحْصُلُ الرِّبْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ، وَاللَّبَنُ، وَالثِّمَارُ، فَإِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّ مَا تَتَوَلَّدُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَلَطَ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعِلَّةِ وَقِسْمَةِ الْحُكْمِ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ، فَأَمَّا الْحَائِطُ الْمَائِلُ إذَا مَاتَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَإِنْ جَرَحَهُ الْحَائِطُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَإِنْ مَاتَ بِنَقْلِ الْحَائِطِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْعِلَّةِ لَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ كَنَقْلِ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا الْفَارِسُ مَعَ الرَّاجِلِ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ الْفَارِسِ بِفَرَسِهِ حُكْمٌ عُرِفَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْفَرَسَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْغَنِيمَةِ، وَهُنَا مِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْجَمِيعِ، فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً. ، وَلَا شُفْعَةَ، إلَّا فِي الْأَرِضِينَ، وَالدُّورِ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ عَقَارٍ، أَوْ رَبْعٍ». ، وَالصَّغِيرُ كَالْكَبِيرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا شُفْعَةَ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِدَفْعِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 وَذَلِكَ مِنْ الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ فِي الْجِوَارِ تَبَعٌ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَهُوَ الشَّرِكَةُ أَوْ الْجِوَارُ مِنْ حَيْثُ اتِّصَالُ حَقِّ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْكَبِيرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ أَيْضًا، ثُمَّ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فِي الْآتِي عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ جَازَ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ، وَالصَّغِيرَةِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ يَقُومُ بِالطَّلَبِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ، وَهُوَ أَبُوهُ، ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ، ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ، ثُمَّ وَصِيُّ الْجَدِّ، ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا أَدْرَكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَثْبُتُ لَهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يُبْنَى عَلَى طَلَبٍ مُلْزِمٍ، وَلَا يَكُونُ طَلَبُهُ مُلْزِمًا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَتَرْكُهُ الطَّلَبَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ كَالْبَائِعِ إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَالْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا عَلِمَ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَتَرْكُ الطَّلَبِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا، أَوْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَا قَبْلَهُ. ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرُّ، وَالْمَمْلُوكُ، وَالْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا وَقَبَضَهَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَمَلَّكُهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ» فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الْأَلْفِ، وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَيِّدُ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَلَيْسَ فِي مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ سِوَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْآخَرِ، وَالدَّعْوَى لَا تُعَارِضُ الْحُجَّةَ، ثُمَّ الشَّفِيعُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَقَدْ أَثْبَتَ مَا ادَّعَى مِنْ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ، وَالْمُشْتَرِي إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَقَدْ أَثْبَتَ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ، وَالشَّفِيعُ يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَالْمُثْبَتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ، فَقَالَ الْبَائِعُ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَلْفَانِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: أَلْفٌ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ مَعَ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا: حَكَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْهُ، وَالْأُخْرَى: حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ، فَاَلَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَهُ، وَالْآخَرَ عَلَيْهِ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِيَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ وَهَذَا عَلَيْهِ، وَالْمُشْتَرِي أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَهُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفَيْنِ وَهَذَا لَهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَائِعَ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا أَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ لَهُ، وَالْآخَرُ مَا أَثْبَتَهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ نُقَرِّرَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وَجْهِ آخَرَ، فَنَقُولُ: لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَلْفٍ وَمَرَّةً بِأَلْفَيْنِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا أَوْلَى، فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى التَّرْجِيحِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَأَنَّ الشِّرَاءَيْنِ جَمِيعًا ثَابِتَانِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمَوْلَى: قُلْت لَك: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ وَقَالَ الْعَبْدُ قُلْت لِي إذَا أَدَّيْت إلَى أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْكَلَامَيْنِ صَدَرَا مِنْ الْمَوْلَى وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْعَقْدُ الثَّانِي فِي حَقِّهِمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفُوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ الِاخْتِلَافَ قَائِمًا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَأَمَّا الْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَفَى، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ وَلِهَذَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَأَمَّا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ إذَا اخْتَلَفَا، فَقَدْ نَصَّ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَحْشَةِ حِينَ نَصِّ السِّيَرِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَهُنَاكَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَصِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِهَذَا، وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزَمَةٍ، وَالْبَيِّنَتَانِ لِلْإِلْزَامِ، فَالْمُلْزِمُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ كَمَا فِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ مَعَ بَيِّنَةِ الْمَوْلَى فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ إذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ بِأَلْفٍ شَاءَ، أَوْ أَبَى، وَإِذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ، أَوْ يَتْرُكَ، وَبِهِ فَارَقَ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ مُلْزِمَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيِّنَةُ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُلْزِمَةٌ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ وَيَقُولُ: عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ. وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى حَقِّهِ قُلْنَا نَعَمْ حَقُّهُ مُقَدَّمٌ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الشِّرَاءُ إذْ بِأَخْذِهِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ السَّبَبُ بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ، فَإِذَا بَقِيَ السَّبَبُ وَتَأَكَّدَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَلَا يَدَ حَتَّى قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ يَدُهُ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ، ثُمَّ عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولًا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ وَعُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالشِّرَاءِ فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ الشِّرَاءِ وَمَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَكَيْف يَكُونُ أَخْذُ الشَّفِيعِ نَاسِخًا لِلْبَيْعِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ حَقَّهُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا نَفَى الشِّرَاءَ كَانَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُنْت بِعْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ مَا اشْتَرَيْت كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِثُبُوتِ الْبَيْعِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَقَبْلَ قَبْضِهِ أَوْلَى وَإِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ فَاتَ بِأَخْذِهِ الشُّفْعَةَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَ الشَّفِيعِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُشْتَرِي لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الثَّانِي هُنَاكَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مَعْنًى، ثُمَّ إنْ حَضَرَ الشَّفِيعُ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَالشَّفِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ وَكَانَ هُوَ الْخَصْمُ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا لِخُصُومَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ، وَالشَّفِيعُ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَهُمَا جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ، وَالشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ. وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَتَبَ عَلَيْهِ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ التَّوَثُّقُ، وَالِاحْتِيَاطُ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: يَكْتُبُ عَلَى إقْرَارِهِ كِتَابًا أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا، وَأَنَّ هَذَا كَانَ شَفِيعَهَا فَطَلَبَ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ لِشُفْعَتِهِ فِيهَا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّارَ وَضَمِنَ لَهُ الدَّرَكَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ وَيَأْخُذُ أَيْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي كِتَابَ الشِّرَاءِ الَّذِي عِنْدَهُ، فَذَلِكَ أَحْوَطُ لَهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ مَلَكَهُ، ثُمَّ الِاحْتِيَاطُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِيهِ حَتَّى إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ أَخَذَ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ كَتَبَ أَيْضًا عَلَيْهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَزَادَ فِيهِ، وَقَدْ سَلَّمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَجَازَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَا فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ إلَيْهِ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِرِضَاهُمَا، وَضَمَانُ الْبَائِعِ الدَّرَكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَحْتَاجُ إلَى حَضْرَتِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُقْتَضِيًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى الْبَائِعِ وَيَذْكُرَ فِيهِ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْوَطُ لِلشَّفِيعِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَطَلَبهَا الشَّفِيعُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةُ الدَّيْنِ يُقَالُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ وَدَيْنٌ حَالٌّ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي بِصِفَتِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَجَلُ مُدَّةً يَلْحَقُهُ بِالشَّرْطِ بِالْعَقْدِ شَرْطٌ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَالْخِيَارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْأَجَلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، وَالْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلثَّمَنِ، ثُمَّ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَلَاةِ الذِّمَّةِ فَبِرِضَا الْبَائِعِ يَكُونُ مَالُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِكَوْنِهِ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَالْمَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرُهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِدُونِ الذِّكْرِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ حُلُولَ الْأَجَلِ فَإِذَا حَلَّ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِذَا اخْتَارَ الِانْتِظَارَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ فِي الْحَالِ حَتَّى إذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَقُولُ هَكَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَهُ: أَنْ يَأْخُذَهَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ أَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَعَيْنِهِ، بَلْ لِلْآخِذِ، وَهُوَ فِي الْحَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْأَخْذَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الْحَالِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ وَسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ فَائِدَةً لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَجَلِهِ لِتَقَرُّرِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا، أَوْ يَدَعَهَا؛ لِأَنَّ مُزَاحَمَةَ الْمُسَلِّمِ قَدْ زَالَتْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الشَّفِيعُ فِي حَقِّهِ، إلَّا وَاحِدًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِمَا فِي الْأَخْذِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي فِي تَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَالشَّفِيعُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ لِتَكَامُلِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا طَلَبَا قَضَى الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَنَفْيِ الضِّيقِ فِي الْمَحَلِّ، فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ عَمْدًا فَعَفَا عَنْهُ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَبَعَّضُ عَلَيْهِ الْمَالُ وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّمَا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ الشَّفِيعِ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا إضْرَارٌ بِالْآخَرِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَخْذَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَبِأَخْذِ الْبَعْضِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْدَفِعُ ضَرَرُ مُجَاوَرَتِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ، إلَّا الْإِضْرَارَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِهِ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ، فَهُوَ يَقْصِدُ دَفْعَ ضَرَرِ جَارِ السُّوءِ بِأَخْذِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْبَائِعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ مُتَفَرِّقٌ وَبَعْدَ الْقَبْضِ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّهِ مُجْتَمِعٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا اشْتَرَى دَارَ الرَّجُلَيْنِ فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ لِوَاحِدٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي اثْنَانِ، وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِي بَابِ الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَطَلَبَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا مَقْسُومَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَعْرَضَ عَنْ الطَّلَبِ، وَلَكِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّلَبَ، وَالرَّغْبَةَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ لَمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ تَقْسِيمُهُ وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَيَأْخُذُهُ إنْ شَاءَ وَلَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانُ، فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْت لَهُ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا التَّقَيُّدُ مِنْهُ مُفِيدٌ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلَانًا، فَقَدْ سَلَّمْت الشُّفْعَةَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلَانٍ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الْآخَرِ، وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَرَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمَعَادِ فِيمَا بَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلَاءِ الثَّمَنِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْأَلْفِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، بَلْ يَزْدَادُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ، فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءُ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ، وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُودِ يَكُونُ لَغْوًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ شَيْءٌ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا الثَّمَنُ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ أَقَلَّ مِمَّا يُسَمَّى لَهُ، أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ دُونَ جِنْسٍ وَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمَتْ إنْ كَانَ الثَّمَنُ كُرًّا مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ عَبْدٌ، أَوْ ثَوْبٌ، أَوْ دَابَّةٌ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَهُوَ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، وَقَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ جِنْسٍ مِنْ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ فَعِنْدنَا هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ وَإِلَّا فَتَسْلِيمُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ؛ وَلِهَذَا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ دَنَانِيرُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً، وَلَكِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالثَّمَنِيَّةُ وَمُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ يَتَيَسَّرُ فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ رِضَاهُ بِالصُّورَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ، فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ صَحِيحًا إذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ أَيْضًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَا لَا يَكُونُ مُقَيَّدًا مِنْ التَّقْيِيدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ، أَوْ ثِيَابٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ، فَإِذَا الثَّمَنُ دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهَا بِالْقِيمَةِ، فَقَدْ يَصِيرُ مَغْبُونًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الشَّيْءِ بِالظَّنِّ يَكُونُ قَائِمًا أَقْدَمَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِهَذَا وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ وَلَوْ قِيلَ لَهُ إنَّهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ الشَّفَةُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ لِثَمَنٍ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ، إلَّا مَوْضِعَ بِئْرٍ، أَوْ طَرِيقٍ فِيهَا فَبَاعَ الشَّرِيكُ فِي الْجَمِيعِ نَصِيبَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ، فَالشَّرِيكُ الَّذِي لَهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ نَصِيبٌ أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَهُ فِي بَعْضِ الدَّارِ نَصِيبٌ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ أَعَمُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكُونُ أَقْوَى سَبَبًا، فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَهُ لَا حَقَّ لِلثَّالِثِ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبِئْرِ، أَوْ الطَّرِيقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَارَ أَحَدُهُمْ أَحَقَّ بِالتَّبْعِيضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَالدَّارُ مَقْبُوضَةٌ، أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّحَالُفِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي بِالنَّصِّ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ ظَهَرَ مِقْدَارُ الثَّمَنِ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ فِي جَانِبِ الشَّفِيعِ إلْزَامٌ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فَيَأْخُذُهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 الْبَائِعُ بِعْتهَا إيَّاهُ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَنَقَدْته الثَّمَنَ لَمْ يَأْخُذْهَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ يَنْتَهِي بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَإِذَا بَدَأَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ مِقْدَارَهُ، فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّفِيعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِبَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِخَبَرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَثَبَتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ الْوَصِيُّ اسْتَوْفَيْت جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى غَرِيمَهُ فُلَانٍ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْغَرِيمُ، بَلْ كَانَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك جَمِيعَ ذَلِكَ، فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْأَلْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَلَوْ قَالَ: اسْتَوْفَيْت مِنْ الْغَرِيمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ جَمِيعُ مَالِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلَانٌ: كَانَ عَلَيَّ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك الْكُلَّ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَفَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَقَالَ: بِعْتهَا إيَّاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ بِأَلْفٍ، فَالْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ إنْ أَثْبَتَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فَيَرْجِعُ بِمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ أَنْقُدْ، إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَأْخُذْهَا الْمُشْتَرِي، وَلَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي إثْبَاتِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَوْلُ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الثَّمَنِ وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَحَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَأْخُذُهَا، إلَّا بِالْأَلْفِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الزِّيَادَةَ، وَالْحَطَّ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا الْحَطُّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَالْمَحْطُوطُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، وَإِنَّمَا ثَمَنُ الدَّارِ مَا بَقِيَ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْحَطُّ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنْ الشَّفِيعِ أَيْضًا حَتَّى يَرْجِعَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فَوْقَ حَقِّهِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِائَةً، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ وَلَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 قَبْضِهِ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَحُطَّ الْمُشْتَرِي عَنْ الشَّفِيعِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هِبَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْتِحَاقَ الْحَطِّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِيَدْفَعَ الْعَيْنَ وَيَعْتَبِرَ صِفَةَ الْعَقْدِ فِيهِ؛ لِيَصِيرَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ رَابِحًا، أَوْ خَاسِرًا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هِبَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِيرُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ يُوضِحُهُ إنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ الْعَقْدُ هِبَةً، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي الْهِبَةِ، أَوْ يَصِيرُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقَ الْجَمِيعِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ حَطِّ الْبَعْضِ، فَإِنْ زَادَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةً بَعْدَ الْعَقْدِ أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ، فَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ أَيْضًا يُوضِحُهُ أَنَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ شَيْئًا لِلْبَائِعِ وَيَلْزَمُ الشَّفِيعَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الشَّفِيعِ فَيَعْمَلُ الْتِزَامُهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بَيْعًا مَعَ الْبَائِعِ بِأَكْثَرِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ، وَالْحَطِّ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ فِي الْتِزَامِهِ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ سَبَبٌ تَامٌّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْآخِذِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ بِتَصَرُّفِهِ وَإِذَا أَخَذَهَا بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِي قَدْ انْفَسَخَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إذَا أَرَادَ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَهَبَهَا مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ خَصْمٌ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ الَّذِي يَزْعُمُ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ، فَيَكُونُ هُوَ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا إذَا ادَّعَى مِلْكَ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ الشَّفِيعُ لَا يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي حَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 فِي مِلْكِهِ فَمَا لَمْ يَعُدْ مِلْكُهُ لَا يَتَبَيَّنُ مَحَلُّ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ مِلْكُهُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ الثَّانِي وَفَسْخُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِحَضْرَتِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَأْذُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ تَصَرُّفًا آخَرَ بِأَنْ رَهَنَهَا، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ كَمَا لَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَنْقُدَهُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ قَدْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَالْهِبَةُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِنْ الصَّدَاقِ قَدْ اُسْتُحِقَّ فَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَقَاسَمَ شَرِيكَهُ بِحُكْمٍ، أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَصَابَ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ، أَوْ يَتْرُكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقَبْضِ الْحِيَازَةُ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ تَكُونُ بِالْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْلَ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ قِسْمَتَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ الْقِسْمَةَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُطَالَبٌ بِالْقِسْمَةِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِنَقْضِ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: هَذَا إذَا قُسِّمَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَهِيَ كَتَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَقَدْ يُفِيدُهُ هَذَا النَّقْضُ فَرُبَّمَا يَقَعُ نَصِيبُهُ فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِيَة فِيمَا يُجَاوِزُ مِلْكَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَيَّنَ الْمَبِيعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ مَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي، أَوْ يَحْدُثُ فِي الدَّارِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَيُؤَكَّدُ، فَيَكُونُ حَالُهُ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ حَالِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، إلَّا بِالْإِقَالَةِ بِرِضَاءِ الْبَائِعِ، أَوْ بِعَيْبٍ يَجِدُهُ فِي الدَّارِ فَكَذَلِكَ حَالُ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يُقِيلَهُ فَأَقَالَهُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ وَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْهَا الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهَا لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَمَّا الشَّفِيعُ فَلِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا بِذَلِكَ الْبَيْعِ وَإِقَالَةُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ كَانَتْ تَصِحُّ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُشْتَرِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 صَارَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ لَهُ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدَيْ الْمُشْتَرِي فَقَضَى بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهَا الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي بَرِيئَانِ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّفِيعَ كَالْمُوَكِّلِ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ أَخْذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ بَعْضُ الْإِشْكَالِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ مُبْتَدَإٍ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ اسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ إقَالَةِ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْإِقَالَةِ يَتَبَعَّضُ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ سَابِقًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقِّهِ فَمِلْكُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، بَلْ هُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْإِقَالَةِ مَعَ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْإِقَالَةِ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لَا بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا قَامَ الشَّفِيعُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِلْكِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مَلَكَ الْإِقَالَةَ مَعَ الْبَائِعِ غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الْبَائِعَ الثَّمَنَ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَقَالَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا انْفَسَخَ عَقْدُهُ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْحَبْسِ كَحَالِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا لِرَجُلٍ غَائِبٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِيهَا، ثُمَّ الْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَائِبٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا كِبَارًا كُلَّهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ تُبَاعُ فِيهِ الدَّارُ حَتَّى يَنْقُدَ ذَلِكَ لَمْ يُجِزْ بَيْعُ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَرَثَةِ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ النَّظَرِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ جَازَ بَيْعُ الْوَصِيِّ فِي جَمِيعِ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ مِنْ ثَمَنِ الدَّارِ، وَهُوَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ (وَفِي الْقِيَاسِ) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، إلَّا فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ خَاصَّةً، أَوْ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَالْوَصِيَّةُ اعْتِبَارٌ لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ (وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ) أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: الْوِلَايَةُ بِالْوِصَايَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الدَّارِ ثَبَتَ فِي كُلِّهَا وَفِي بَيْعِ الْكُلِّ مَنْفَعَةٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَالْجُمُلُ يُشْتَرَى بِمَا لَا يُشْتَرَى بِهِ الْأَشْقَاصُ وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ شِرَاءَ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ النِّصْفَ وَكَانَ حَقُّهُ فِي أَخْذِ الْكُلِّ، وَالْكُلُّ غَيْرُ النِّصْفِ، فَلَا يَكُونُ إسْقَاطُ النِّصْفِ إسْقَاطًا لِلْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ بَيْع الْكُلّ فَسَلَّمَ، ثُمَّ عِلْم أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى النِّصْف، فَلَا شُفْعَة لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَة تَسْلِيم الْكُلّ تَسْلِيم النِّصْف الَّذِي هُوَ حَقّه يُوضِح الْفَرْق أَنَّ الْأَشْقَاص لَا يُرْغَب فِيهَا كَمَا يُرْغَب فِي الْجُمَل، وَإِنَّمَا سَلَّمَ حِين أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ وَلَمْ يَرْغَبْ فِي الْأَخْذِ بِدُونِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ رَاغِبًا فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى ضِدِّ هَذَا، فَقَالَ: إذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ فَسَلَّمَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ النِّصْفِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ إلَى النِّصْفِ لِيُتِمَّ بِهِ مَرَافِقَ مِلْكِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمِيعِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَعَلِمَ الشَّفِيعُ وَقَالَ قَدْ سَلَّمْتهَا أَوْ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ كَانَ مُسَلِّمًا لِجَمِيعِهَا أَمَّا إذَا سَلَّمَ الْكُلَّ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَمَّا إذَا سَلَّمَ النِّصْفَ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا وَاسْتِيفَاءً، فَلَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطًا أَيْضًا وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ نِصْفَ امْرَأَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ النِّصْفِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إسْقَاطُهُ فِيمَا لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إظْهَارٌ لِرَغْبَةٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ بِأَعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ لَا بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا إذَا كَانَ طَلَبَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَلَّمَ النِّصْفَ أَمَّا إذَا قَالَ كَمَا سَمِعَ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَغَرِقَ بِنَاؤُهَا، أَوْ احْتَرَقَ وَبَقِيَتْ الْأَرْضُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَوْ أَحْرَقَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَأْخُذُ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 فِي الْبُيُوعِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابِلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْأَوْصَافِ حَتَّى إنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَذَلِكَ فَوَاتُ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْبِنَاءُ وَصْفٌ وَبَيْعٌ؛ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْبِنَاءِ بِالْأَرْضِ كَقِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ، فَإِذَا فَاتَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَقَدْ فَاتَهُ مَا هُوَ بَيْعٌ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا فَوَّتَهُ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ صَارَ مَقْصُودًا يَتَنَاوَلهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ بِمُقَابِلَتِهِ كَمَا لَوْ فَوَّتَ الْبَائِعُ طَرَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ احْتَرَقَ مِنْهَا جِذْعٌ، أَوْ بَابٌ، أَوْ، وَهِيَ مِنْهَا حَائِطٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً فَكَذَلِكَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَايَلَ الْأَرْضَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِيهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْأَرْضِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْبِنَاءِ حَقٌّ وَلَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الْعَقْدُ وَقِيمَةِ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الِانْهِدَامَ لَمْ يَكُنْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الِاحْتِبَاسُ عِنْدَهُ، وَالْمُحْتَبَسُ هُوَ النَّقْصُ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْبِنَاءَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ الْبِنَاءَ؛ فَلِهَذَا قَسَّمْنَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تُسَاوِي أَلْفًا، وَالثَّمَنُ أَلْفٌ وَقِيمَةُ النَّقْصِ مِائَةٌ وَقِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ التَّأْلِيفِ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِي الِانْهِدَامِ يَسْقُطُ عَنْهُ قِيمَةُ النَّقْصِ وَفِي الْهَدْمِ يَأْخُذُ بِحِصَّةِ الْأَرْضِ لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ اسْتَهْلَكَ الْبِنَاءَ. وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، فَإِنْ سَلَامَةَ بَدْلِ الْبِنَاءِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْبِنَاءِ لَهُ أَنْ لَوْ هُدِمَ بِيَدِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا إذَا نَوَى الْقِيمَةَ عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ كَمَا لَوْ احْتَرَقَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ مِنْ الْقِيمَةِ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّةِ الْبِنَاءِ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا بِمِلْكِ الْأَرْضِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَار الثَّمَنِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ دُونَ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَعَلْنَا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا فَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَفِي بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى كَذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ نُظِرَ إلَى قِيمَتِهِ الْيَوْمَ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْقِيمَةَ فِي الْحَالِ؛ وَلِأَنَّ تَمْيِيزَ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَتِهِ فِي الْحَالِ مُمْكِنٌ فَيُسْتَدَلُّ بِقِيمَتِهَا فِي الْحَالِ عَلَى قِيمَتِهَا فِيمَا مَضَى. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَوَهَبَ بِنَاءَهَا لِرَجُلٍ، أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَهُدِمَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبِنَاءِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْأَرْضَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَدْمَ الْبِنَاءِ كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ كَمَا لَوْ هُدِمَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُهْدَمْ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْبِنَاءِ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ ثَابِتٌ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْأَصْلِ، وَالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْبِنَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ بِحَقٍّ تَقَدَّمَ ثُبُوتَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ، فَهُوَ تَسْلِيمٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَعِلْمُهُ بِحَقِّهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا سَاوَمَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ (لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ) غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْ الشَّفِيعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ بِهِ. وَإِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ (وَرَوَى الْحَسَنُ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْعَبْدِ وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا، أَوْ جَعَلَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ، وَيَرْفَعُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَهَدَمَ بِنَاءَهَا، ثُمَّ بَنَى فَأَعْظَمَ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ، وَالْبِنَاءِ الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ اشْتَرَى وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَيَنْقُضُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ عِنْدَنَا وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا إنْ شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ، فَلَا يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ الْمَوْهُوبَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي أَصْلِ الْبِنَاءِ فَيَسْتَحِقُّ قَرَارَ الْبِنَاءِ إذْ لَيْسَ فِي إبْقَاءِ بِنَائِهِ إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مَبْنِيًّا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ نَقَضْنَا بِنَاءَهُ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يُنْقَضْ لَا يَتَضَرَّرُ الشَّفِيعُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، وَإِنْ لَزِمَ الشَّفِيعَ زِيَادَةُ ثَمَنِ قِيمَةٍ فَبِمُقَابِلَتِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَعْدِلُهُ، وَالضَّرَرُ بِبَدَلٍ أَهْوَنُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُشْتَرِي أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ لِهَذَا، وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَمَنْ صَبَغَ ثَوْبَ إنْسَانٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبَّاغَ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهَا إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ فَلِذَلِكَ يُمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَنَى فِي بُقْعَةٍ غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقٌّ قَوِيٌّ مُتَأَكِّدٌ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالشَّفِيعِ يَكُونُ بَاطِلًا لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ لِتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ يَنْقُضُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ بِنَاؤُهُ وَفِي الْبِنَاءِ هُوَ مُضِرٌّ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ، يَعْنِي: حَقَّ الْأَخْذِ بِأَصْلِ الثَّمَنِ، فَلَا يَنْفُذَ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَا يَنْفُذُ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ بَنَى هُنَاكَ بِتَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، ثُمَّ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْوَاهِبِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ لِدَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِالْأَهْوَنِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ الْحَقِّ، وَلَا مُسَاوَاةَ فَحَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ الْبِنَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةِ ذَلِكَ لِرَفْعِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَفِي الزَّرْعِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقْلَعُ؛ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِهِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَلَيْسَ فِي الِانْتِظَارِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْغِرَاسِ، وَالْبِنَاءِ وَأَصْلُهُ فِي الْمُسْتَعِيرِ يُقْلَعُ بِنَاؤُهُ وَغَرْسُهُ لِحَقِّ الْمُعِيرِ، وَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ اسْتِحْسَانًا. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَغَرِقَ نِصْفُهَا فَصَارَ مِثْلَ الْفُرَاتِ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ رَدُّ ذَلِكَ عَنْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي كِتَابَةِ يَدَّعِي الْمُنَاقَضَةَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ وَيَقُولُ: إنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ وَإِذَا غَرِقَ بَعْضُ الْأَرْضِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبِرُوا فِعْلَ الْمَاءِ دُونَ النَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْفِقْهِ، وَالتَّأَمُّلِ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ، وَلَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْوَصْفِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَأَمَّا بَعْضُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْأَرْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطِ حِصَّةِ مَا غَرِقَ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ، أَوْ تَأَخُّرِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي ذَهَبَ مِنْهَا الثُّلُثُ وَقَالَ الشَّفِيعُ ذَهَبَ النِّصْفُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهَذَا وَمَسْأَلَةُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ سَوَاءٌ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ بَعْضَهَا وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَطَلَبَهَا الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي حَقَّ التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي بِثَمَنٍ يُنْكِرُهُ الْمُشْتَرِي، وَلَا شُفْعَةَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ تَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ وَعِنْدَ فَسَادِ الْبَيْعِ حَقُّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ تَقْرِيرٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالتَّقْرِيرُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهَا بِهِ وَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالشُّفْعَةِ سُمِّيَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ابْتِدَاءً جَازَ بَيْعُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّارِ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ دَارًا فَسَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُ وَلَوْ اشْتَرَى بَيْعًا مَنْقُولًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 فَطَلَبَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مُبْتَدَأً فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ كَمَا تُوَرَّثُ الْأَمْلَاكُ فَكَذَلِكَ تُوَرَّثُ الْحُقُوقُ اللَّازِمَةُ مَا يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ وَمَا لَا يُعْتَاضُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِطَرِيقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَإِنَّ حَاجَةَ الْوَارِثِ كَحَاجَةِ الْمُوَرِّثِ وَنَحْنُ نَقُولُ مُجَرَّدُ الرَّأْيِ، وَالْمَشِيئَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَالثَّابِتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ، أَوْ يَتْرُكَ، ثُمَّ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ كَانَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ تَزُولُ بِمَوْتِهِ، وَهُوَ مِلْكُهُ وَقِيَامُ السَّبَبِ إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْمَشْفُوعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بِمَوْتِهِ، وَالثَّابِتُ لِلْوَارِثِ جَوَازًا، أَوْ شَرِكَةً حَادِثَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِسَبَبٍ يَنْبَنِي عَلَى صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِجَارِ السُّكْنَى وَصِفَةُ الْمِلْكِيَّةُ تَتَجَدَّدُ لِلْوَارِثِ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ إلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا السَّبَبِ وَلَوْ كَانَ بَيْعُ الدَّارِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الْجِوَارُ عِنْدَ بَيْعِ الدَّارِ كَانَ لِلْوَارِثِ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا قَبْلَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِهِ وَوَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ، فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْغَرِيمُ، وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِنْ بَاعَهَا الْقَاضِي، أَوْ الْوَصِيُّ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي فِي حَيَاتِهِ، وَلَا يُقَالُ بَيْعُ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنْقُضُهُ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا بَاعَهَا إمَّا لِجَهْلِهِ بِحَقِّ الشَّفِيعِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا طَلَبَهَا كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ بِالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ. وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَطْلُبْ مَكَانَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، إلَّا أَنَّ هِشَامًا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ طَلَبَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ سُكُوتُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: كَمَا إنْ سَمِعَ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوْ قَالَ خَلَّصَنِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ طَلَبَ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِكَمْ بَاعَهَا، أَوْ مَتَى بَاعَهَا، أَوْ مَتَى اشْتَرَاهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا طَلَبَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ طَالَتْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَهُ مُهْلَةُ يَوْمٍ مِنْ حِينِ سَمِعَ وَقَالَ شَرِيكٌ: هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُبْطِلْهَا صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَقُولُ: يَحْتَاجُ الشَّفِيعُ إلَى النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِ هَذَا الْجَارِ، فَلَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ، أَوْ يَتَضَرَّرَ بِهِ وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ مُدَّةً فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ فَلِهَذَا قَدَّرَهَا سُفْيَانُ بِيَوْمٍ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَثَبَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ الْعِقَالِ إنْ أَخَذَ بِهَا ثَبَتَتْ وَإِلَّا ذَهَبَتْ»؛ وَلِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ، فَذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَسْكُتُ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ، ثُمَّ يُبْطِلُ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ جَعَلَ لَهُ الْمَجْلِسَ فِي ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَى الرَّأْيِ، وَالتَّأَمُّلِ، فَهُوَ كَالْمُخَيَّرَةِ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ كَانَ لَهُ خِيَارُ الْقَبُولِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَفْظَةُ الطَّلَبِ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْكُتُبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَيِّ لَفْظٍ طَلَبَ، فَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي طَلَبِهِ الْبَيْعَ، وَالسَّبَبَ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ الشُّفْعَةَ مِنْ جِوَارٍ، أَوْ شَرِكَةٍ. فَإِنْ طَلَبهَا فَأَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَخَاصَمَهُ وَأَشْهَدَ الشَّفِيعُ شُهُودًا عَلَى طَلَبِهِ الشُّفْعَةَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ بِطَلَبِهِ رَغْبَتَهُ فِي الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ. إنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى طَلَبِهِ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ الدَّارِ فَيُشْهِدُ عَلَى الطَّلَبِ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ حِينَ سَمِعَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ، فَالطَّلَبُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، وَالْإِشْهَادُ لِمَخَافَةِ الْجُحُودِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ حَتَّى إذَا حَلَّفَهُ الْمُشْتَرِي أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ طَلَبَهَا كَمَا سَمِعَ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَيُشْهِدُهُمْ عَلَى الطَّلَبِ وَيُسَمَّى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 هَذَا طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ فَيَشْهَدُ عَلَى الطَّلَبِ عِنْدَهُ أَيْضًا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ بَعْدَ هَذَا، وَإِنْ طَالَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، فَهُوَ أَبْلُغُ فِي الْعُذْرِ، فَإِنْ شَغَلَهُ شَيْءٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ بَعْدَ إشْهَادِهِ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالطَّلَبِ، فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ شَهْرًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُط حَقُّهُ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْقُضَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ لِتَقْصِيرِ حَقِّهِ عَاجِلًا فَقَضَاؤُهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ حَتَّى إنْ كَانَ الْقَاضِي يَجْلِسُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ الشَّفِيعَ فِيهِ اخْتِيَارًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ عَلَى مَالٍ، فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَيَرُدَّ الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مُخْتَارًا وَرَضِيَ بِجِوَارِهِ، وَلَكِنَّهُ طَمِعَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَهُوَ الْمَالُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ، إلَّا بِمُقَابِلَةِ مِلْكٍ لَهُ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمُلْكٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابِلَةِ إسْقَاطِهِ الْمَالَ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ وَهُوَ الْمَالُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَبَيْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَفِي الْكِتَابِ لَا، بَلْ لَا قِيمَةَ لِلشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهَا مَالٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ عَلَى مَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ وَفِي بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ هُنَاكَ رِوَايَتَانِ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِالْكَفَالَةِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ عَنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَلْكٍ مُتَقَوِّمٍ (وَهَذَا بِخِلَافِ) الِاعْتِيَاضِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فِي زَوْجَتِهِ بِالْخُلْعِ، وَعَنْ الْقِصَاصِ بِالصُّلْحِ، وَعَنْ إسْقَاطِ الرِّقِّ بِالْعِتْقِ (فَذَلِكَ كُلُّهُ مِلْكٌ) مُتَقَرِّرٌ لَهُ فِي الْمَحَلِّ شَرْعًا وَكَمَا يَجُوز أَنْ يَلْتَزِمَ الْعِوَضَ لِيُثْبِتَ الْمِلْكَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ لِيُبْطِلَ مِلْكَهُ، فَأَمَّا الشَّفِيعُ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا قَبْلَ الْأَخْذِ فَتَسَلُّمِهِ الشُّفْعَةَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ مِنْهُ لِلْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكٍ ثَابِتٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابِلَتِهِ عِوَضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَالٍ سُمِّيَ، وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَهَذَا صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْبَدَلِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَالثَّالِثُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا الصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَيْتِ مِنْ الثَّمَنِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي أَخْذِ مِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ فَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ. وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ لِشُفْعَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الدَّارِ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُهَا بِبَدَلٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُ بِشُفْعَةٍ قَبْلَ أَنْ يُحْضِرَ الثَّمَنَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ لَا يَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ، فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَاجِلًا لَا يُطَالَبُ بِإِحْضَارِهِ وَوُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالدَّارِ، فَالْقَاضِي يَقْضِي لَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ إحْضَارِ الثَّمَنِ وَيَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَيَدْفَعُ الدَّارَ إلَيْهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا، وَالشَّفِيعُ غَائِبٌ فَعَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَلَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ الْمَسِيرِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَمَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ وَيَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ، وَالْغَيْبَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ كَمَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِشْهَادِ حَالُهُ كَحَالِ الْحَاضِرِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ؛ لِيَطْلُبَ عِنْدَهُ فَهُنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَلَكِنْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ يَحْتَاجُ إلَى مُهْلَةٍ هُنَا؛ فَلِهَذَا جَعَلَ لَهُ الْأَخْذَ بِقَدْرِ الْمُشْتَرَى وَكَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِنَائِبِهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبَ، فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ، أَوْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، فَإِنْ قَدِمَ فَطَلَبَ فَتَغَيَّبَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ، أَوْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ فَأَشْهَدَ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُشْتَرِي فَرُبَّمَا لَا يَظْفَرُ بِهِ، أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُشْتَرِي بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ الدَّارُ فَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إتْبَاعِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ، إلَّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ، فَإِذَا حَضَرَ هَذَا الْبَلَدَ، فَقَدْ أَتَى بِمَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي قَصَدَ أَنْ يُلْحِقَهُ زِيَادَةَ ضَرَرٍ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ وَيَكُونُ الشَّفِيعُ عَلَى حَقِّهِ إذَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ امْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، إلَّا مَنْ لَهُمْ الشُّفْعَةُ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهَا إنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 يَطْلُبُوا الشُّفْعَةَ، وَإِنْ سَلَّمُوا الشُّفْعَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْبَيْعِ عَلَيْهَا إثْبَاتُ حَقِّهِمْ مَا لَمْ يُسَلِّمُوا الشُّفْعَةَ وَكَانُوا خَصْمًا فِي ذَلِكَ، وَالْخَصْمُ فِي الْحَادِثَةِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فِيهَا. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا، وَالْقَاضِي شَفِيعُهَا، أَوْ ابْنُهُ، أَوْ أَبُوهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، فَإِنَّ قَضَاءَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَسَأَلَهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي الثَّمَنِ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَدٌّ لَا يَكُونُ لَهُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَمَا سُمِّيَ فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ، أَوْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الثَّمَنِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الثَّمَنِ لَا يُبْطِلُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْإِقَالَةُ فَسْخٌ إذَا كَانَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ سِوَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ إذَا أَمْكَنَ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِمْكَانُ كَانَ فَسْخًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا بِجَعْلِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا مُبْتَدَأً مَعَ تَسْمِيَتِهَا زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ بَعْدُ وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ الْعَقَارُ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ إذَا أَمْكَنَ، وَهُنَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا مُبْتَدَأً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَاَلَّذِي يَقُولُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ الْمُنَاقَضَةِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخِرِ لَا يُعْتَبَرُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْبَائِعِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَالَةَ الشَّفِيعِ كَمَا تَجُوزُ مَعَ الْمُشْتَرِي تَجُوزُ مَعَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الشُّفْعَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّفِيعَيْنِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْبَائِعِ الْجَاحِدِ إنْ طَلَبَا الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا فَبِثُبُوتِ الْبَيْعِ ثَبَتَ حَقُّهُمَا فِي الشُّفْعَةِ، وَإِنْ سَلَّمَاهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلْمُشْتَرِي لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ تَسْلِيمِ الشَّفِيعِ، فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ سَبَبَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا شُفْعَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَا الشُّفْعَةَ، وَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا أَيْضًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 إنْ طَلَبَا الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا حَقَّ الْأَخْذِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِلْزَامَ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ إذَا أَخَذَا مِنْ يَدِهِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَأْخُذَانِهَا بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ مُوجِبٌ حَقَّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ جَحَدَهُ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ قَالَ: كُنْتُ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَجَحَدَ الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا الشَّفِيعِ، أَوْ أَبُوهُ، أَوْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِشَهَادَتِهِ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ الزَّوْجِيَّةِ، فَيَكُونُ كَالْمُتَّهَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَهِدَ وَلَدُ الشَّفِيعِ وَوَالِدُهُ عَلَى الشَّفِيعِ بِالتَّسْلِيمِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، فَإِنَّهُمَا أَسْقَطَا حَقَّ الشَّفِيعِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُتَّهَمُ الْإِنْسَانُ بِالْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ أَوْ، وَالِدِهِ، وَالْقَصْدُ إسْقَاطُ حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَوْلَى عَلَى مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ بِالتَّسْلِيمِ جَائِزَةٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مِنْ وَجْهٍ كَشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَصْدَقِ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ شَهِدَ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيْعِ، وَالْعَبْدُ، وَالْمُكَاتَبُ يَطْلُبَانِ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَلَهُ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ حَقُّ الْمِلْكِ فَشَهَادَتُهُ بِمَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِعَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ وَلَدِ الْمَوْلَى وَوَالِدِهِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ لِلْوَلِيِّ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا بَاعُوهَا مِنْ فُلَانٍ وَادَّعَى ذَلِكَ فُلَانٌ وَجَحَدَ الشَّرِيكُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُثْبِتَانِ صِفَةَ اللُّزُومِ فِي بَيْعِهِمَا، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ، فَإِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْبَيْعَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَالْإِنْسَانُ فِيمَا يُبَاشِرُ يَكُونُ خَصْمًا لَا شَاهِدًا وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَيْ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِمَا وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَأَقَرَّ بِهِ الشُّرَكَاءُ جَمِيعًا فَشَهَادَتُهُمْ أَيْضًا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ وَيُثْبِتُونَ الثَّمَنَ لَهُمْ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا بِالشُّفْعَةِ لِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ إقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا بَاعَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لِغَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَالْيَدُ لِلْمُشْتَرِي وَمَنْ سَعَى فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ يَبْطُلُ سَعْيُهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ يَكُونُ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمًا، وَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِمَنْ بَيْع لَهُ، وَهُوَ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَوْكِيلُهُ مَا جَازَ الْبَيْعُ، فَإِنْ شَهِدَ الْآمِرُ بِالْبَيْعِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْآمِرِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ، فَالْمُشْتَرِي قَبْلَ هَذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا عَلَى الْوَكِيلِ وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ وَيُمْتَنَعُ ذَلِكَ إذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالشُّفْعَةِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا تَبْعِيدُ الْخُصُومَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الشُّفْعَةُ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ مِنْهُ وَشَهَادَةُ الْآمِرِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِغَيْرِهِ كَشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ وَشِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلشُّفْعَةِ حَتَّى إنَّ أَحَدَ الشُّفَعَاءِ إذَا اشْتَرَى الدَّارَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْآخَرِينَ فَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِإِظْهَارِ الشَّفِيعِ الرَّغْبَةَ عَنْ الدَّارِ لَا بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالشِّرَاءُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِي الْمُشْتَرَى، فَلَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلشُّفْعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ بِالْبَيْعِ فَلَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ كَانَ مُبْطِلًا مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَالْمُشْتَرِي يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ، وَهُوَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يُقَرِّرُ مَا الْتَزَمَ بِالشِّرَاءِ وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا الشَّفِيعِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ، وَالْيَدِ فِيهَا. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَارًا وَلَهُ عَبْدٌ تَاجِرٌ هُوَ شَفِيعُهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَأْخُذُ مَا بَاعَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ عَبْدُهُ لَا يَأْخُذُ وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَلِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَشِرَاءُ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدُ وَمَوْلَاهُ شَفِيعُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ وَقَعَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَانَ لِغُرَمَائِهِ، وَالْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، فَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ سَلَّمَ الدَّارَ لِلْمَوْلَى بِالشُّفْعَةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِالْمِلْكِ، وَالْيَدِ فِي الدَّارِ (قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمَوْلَى الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ يَدِهِ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهُ عَنْ أَبِيهِمَا فَكَانَا مُتَّهَمَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا بَاعَ الْمَوْلَى دَارِهِ وَمُكَاتَبُهُ شَفِيعُهَا فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُكَاتَبِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي بَاشَرَهُ مَوْلَاهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ حِينَ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّارَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَشَهِدَا عَلَى الْمُكَاتَبِ بِأَنَّهُ سَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِيَسْقُطَ حَقُّهُ بِهِ فِي الْأَخْذِ مِنْ أَبِيهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالشَّهَادَةُ تُقْبَلُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ، فَقَدْ خَرَجَ أَبُوهُمَا مِنْ خُصُومَةِ الشَّفِيعِ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ الْمُكَاتَبُ وَمَوْلَاهُ شَفِيعُهَا، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ أَبْعَدَ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُنَا أَوْلَى، فَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى أَنَّهُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، فَإِنْ قِيلَ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَهُمَا يَشْهَدَانِ فِي الْمَعْنَى لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا وَشَهَادَتُهُمَا لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا وَعَبْدِ أَبِيهِمَا لَا تُقْبَلُ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْأَبَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْأَبَ، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِمَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا تُقْبَلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يُؤْثِرَانِ مُكَاتَبَ أَبِيهِمَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى أَبِيهِمَا. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَارًا فَشَهِدَ ابْنَا الْبَائِعِ أَنَّ الشَّفِيعَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَبَاهُمَا خَصْمٌ فِيهِ مَا دَامَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ وَيُلْزِمُهُ الْعُهْدَةَ فَهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الدَّارَ فَخَاصَمَهُ الشَّفِيعُ، ثُمَّ شَهِدَ الِابْنَانِ بِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُمَا يَشْهَدَانِ لِلْمَوْلَى عَلَى الشَّفِيعِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ يَشْهَدُ عَلَى الشَّفِيعِ بِذَلِكَ بَعْد مَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ ابْنَا الْبَائِعِ قُلْنَا امْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ، وَمِنْ كَانَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ مَرَّةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ، فَأَمَّا امْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ لِمَنْفَعَةِ أَبِيهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَلَا مَنْفَعَةَ لِأَبِيهِمَا فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا بَاعَا دَارًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى عَلَى الشَّفِيعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةً، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ، وَالْمُكَاتَبُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَّضِحُ مَا بَيَّنَّا مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِلْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَشَهِدَ رَجُلَانِ لِلشَّفِيعِ أَنَّ الْبَائِعَ، وَالْمُشْتَرِي سَلَّمَا الدَّارَ قُضِيَتْ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ التَّهَاتُرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: مَسْأَلَةُ الشُّفْعَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بَيِّنَةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبٍ يُصَرِّحُ بِهِ شُهُودُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ التَّهَاتُرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مُحَمَّدًا يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَارِيخِ بَيِّنَةٍ بَيْنَ الشِّرَاءَيْنِ، وَالْيَدُ دَلِيلُ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولَانِ بِالتَّهَاتُرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، فَالشَّفِيعُ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَتَسْلِيمَ الشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لَا يَعُودُ حَقُّهُ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَتَانِ مَتَى تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْأُخْرَى لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يَتَرَجَّحُ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ يُوَضِّحُهُ إنَّمَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لَهُ فَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَده لَا يَتِمُّ التَّسْلِيمُ وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ يَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيُقْضَى بِهَا لِلشَّفِيعِ إذَا كَانَتْ فِي يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي سَلَّمَهَا إلَى الشَّفِيعِ أَوَّلًا وَقَبَضَهَا الشَّفِيعُ، ثُمَّ سَلَّمَ شُفْعَتَهُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ قَدْ تَمَّ؛ فَلِهَذَا قُضِيَ بِالدَّارِ لِذِي الْيَد، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الدَّارَ فَشَهِدَ ابْنَا الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ سَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ، وَهِيَ فِي يَدَيْ الْمُشْتَرِي وَشَهِدَا أَجْنَبِيَّانِ أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي فَإِنِّي أُسَلِّمُهَا لِلْمُشْتَرِي وَاخْتِيَارُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ، وَالثَّانِي أَنَّ بَنِيَّ الْبَائِعِ يُتَّهَمَانِ فِي شَهَادَتِهِمَا بِتَبْعِيدِ الْخُصُومَةِ، وَالْعُهْدَةِ عَنْ أَبِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَاصِمُ أَبَاهُمَا فِي عَيْبٍ يَجِدُهُ بِالدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الشَّفِيعِ، وَلَا يُخَاصِمُهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَى الشَّفِيعِ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْبَائِعِ هُنَا. وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالدَّارِ عَيْبًا بَعْدَ مَا قَبَضَهَا فَرَدَّهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ قَاضٍ، أَوْ قَالَ: الْبَائِعُ الْبَيْعُ فِي الدَّارِ بِغَيْرِ عَيْبٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا (وَقَالَ) زُفَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهَا وَلَمْ يَتَجَدَّدْ حَقُّهُ بِمَا أَخَذْنَا مِنْ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِمُعَارَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ ابْتِدَاءً، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَبَيْعٍ مُبْتَدَإٍ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُمَا قَصَدَا الْفَسْخَ لَا الْعَقْدَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِقَالَةُ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ تَمَّ بِتَرَاضِيهِمَا فِي مَحَلَّيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَا صُورَةَ لِلْمُعَارَضَةِ، إلَّا هَذَا غَيْرَ أَنَّهُمَا سَمَّيَاهُ فَسْخًا وَلَهُمَا الْوِلَايَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْمُعَارَضَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَتَجَدَّدُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالرَّدِّ فَسْخٌ، وَلَيْسَ بِعَقْدٍ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ فَسْخِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَا إنْشَاءُ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى رَدَّهَا بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّادَّ يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رِضَاءٍ، أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَهُوَ نَظِيرُ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْحَرْفُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ أَنَّهُ مَتَى عَادَ بِالرَّدِّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا يَتَجَدَّدُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ وَإِذَا لَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيم مِلْكِهِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى مِلْكٍ حَدَثَ لَهُ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ فَيَتَجَدَّدُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَالرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِالْإِقَالَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ الْوَاهِبُ وَلَوْ كَانَ مُشْتَرًى شِرَاءً فَاسِدًا لَا يَسْتَرِدُّهُ الْبَائِعُ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَالرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ يُقِرُّ بِهِ أَوْ يَجْحَدُهُ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَارٍ، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ دَارًا وَقَبَضَهَا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ حِينَ أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ بِهِ وَفِي الصُّلْحِ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى فِي حَقِّهِ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَ الدَّارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ، وَالشَّفِيعُ فِي مَبْلَغِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَحَبْسِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعِ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا؛ لِمَا عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ لَا قَوْلَ لَهُ فِي بَيَانِ الْمِقْدَار. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا حَقَّهُ وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذَهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي سُلِّمَتْ بِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا سُلِّمَتْ لَهُ بِأَلْفَيْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا فِي إقْرَارِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَمَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِإِنْسَانٍ وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ مَا أَثْبَتَهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ بِمِائَتِي دِينَارٍ، أَوْ عَرْضٍ بِعَيْنِهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُسَلِّمُ الدَّارَ لِلشَّفِيعِ بِذَلِكَ فَيَحْسِبُ لَهُ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا قَبَضَ مِنْهُ وَيَرْجِعُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَضْلِ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ قِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي وَقَعَ الشِّرَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْفَضْلِ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ الدَّارِ تَحَالَفَا وَيُبْدَأُ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَجَبَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا تَرَادَّ الْبَيْعُ وَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ التَّحَالُفِ لَوْ صَدَّقَ الْبَائِعَ كَانَ أَحَقَّ بِالدَّارِ بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ إذَا صَدَّقَ الْبَائِعَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَرْقَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَالشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ اشْتَرَيْتُهَا بِهَذَا الْعَرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ شَفِيعًا لِلدَّارَيْنِ جَمِيعًا أَخَذَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الدَّارَيْنِ تَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُفَعٌ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ إذَا اتَّخِذْ شَفِيعُهُمَا. وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ إحْدَاهُمَا قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا هُوَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا، فَإِنَّهُمَا عِنْد التَّحَمُّلِ إنَّمَا تَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ عَلَى مَعْلُومٍ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفَاهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَضْيِيعًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا كَانَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ قَدْ تَأَكَّدَ بِالطَّلَبِ، وَلَا نَدْرِي أَنَّ الْغَائِبَ يَطْلُبُ حَقَّهُ، أَوْ لَا يَطْلُبُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ حَقُّ الْحَاضِرِ بِغَيْبَةِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ تَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ، أَوْ يَدْعُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي لَا أُعْطِيكَ، إلَّا النِّصْفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ شُفْعَتَهُ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ. وَإِذَا كُفِلَ لِلْمُشْتَرِي كَفِيلٌ بِالدَّرَكِ فَأَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ وَنَوَى الثَّمَنَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي عَلَى كَفِيلِ الدَّرَكِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 الْمُشْتَرِيَ مَا لَحِقَهُ فِيهَا دَرَكٌ، فَالدَّرَكُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَقٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَحِقَ الشَّفِيعَ دَرَكٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الَّذِي كَفَلَ لِلْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي الدَّرَكَ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُ الْمُشْتَرِي، وَالضَّامِنُ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِغَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِدَرَكٍ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ بَنَى فِيهَا فَنَقَضَ الشَّفِيعُ بِنَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ لِلْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ بِالدَّرَكِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَا شَهَادَةَ ابْنَيْهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْكَفِيلَيْنِ بِالدَّرَكِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَنْقُلَانِ الْعُهْدَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّ الشَّفِيعَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعَيْنِ فِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشِّرَاءِ وَتَمَامَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي كَانَ بِقَبُولِهِمَا ضَمَانُ الدَّرَكَ فَهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُقِرَّانِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا وَإِذَا أَشْهَدَ الشَّفِيعُ شُهُودًا أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَجِئْ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا الْبَائِعِ، وَلَا إلَى الدَّارِ وَلَمْ يَطْلُبْهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ الْمُقَرِّرَ لِحَقِّهِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَلَوْ تَرَكَ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ فَهُنَا أَوْلَى فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الطَّلَبِ قَبْلَهُمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ لِلثَّمَنِ؛ لِيَكْشِفَ الْحَالُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ لَا يَتِمُّ الْأَخْذُ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يُتِمَّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ وَإِذَا شَهِدَ الْبَائِعَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ، وَالشَّفِيعُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَلِمَ بِهِ مُنْذُ أَيَّامٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: مَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ، فَشَهَادَةُ الْبَائِعَيْنِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَوْلَادِهِمَا كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يُقَرِّرَانِ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ، وَفِيهِ تَنْفِيذُ الْعُهْدَةِ، وَالْخُصُومَةِ عَنْهُمَا، وَإِنْ قَالَ الشَّفِيعُ لَمْ أَعْلَمْ بِالشِّرَاءِ، إلَّا السَّاعَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالشِّرَاءِ حَادِثٌ فَعَلَى مَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِيهِ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلتَّارِيخِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ شَهِدَ الْبَائِعَانِ أَنَّهُ عَلِمَ مُنْذُ أَيَّامٍ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا، أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى شَهَادَةٌ عَلَى الشَّفِيعِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فِي هَذَا إمَّا؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَصْمًا فِيهِ فِي وَقْتٍ وَإِذَا كَانَ الشُّفَعَاءُ ثَلَاثَةٌ فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ قَالَ قَدْ سَلَّمْنَاهَا مَعَهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فِيهَا، وَإِنْ قَالَ: نَحْنُ نَطْلُبُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مُزَاحَمَةَ الثَّالِثِ مَعَهُمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 وَإِنْ قَالَا: قَدْ سَلَّمْنَاهَا مَعَهُ وَلِابْنِ أَحَدِهِمَا شُفْعَةٌ، أَوْ لِابْنِهِ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا أَزَالَ بِهَا الْمُزَاحَمَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ إذَا أَزَالَ الْمُزَاحَمَةَ عَنْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشُّفْعَةِ بِالْعُرُوضِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الدَّارِ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْمُسَمَّى، وَقَدْ تَعَذَّرَ هُنَا إيجَابُ الْمُسَمَّى فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِوُصُولِ قِيمَةِ مِلْكِهِ إلَيْهِ. وَمِلْكُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ رَقَبَةُ الدَّارِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَالْمِثْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ، كَالْغَاصِبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ صَارَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِهَا بِهَذَا السَّبَبِ وَفِي مَعْنَى التَّلَفِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا غَرِمَ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهَا بِمَا غَرِمَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّهُ فِيمَا اسْتَوْجَبَ قِبَلَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ أَتْلَفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً ضَمِنَ الْمِثْلَ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةَ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْبَائِعُ انْتَقَضَ الشِّرَاءُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَ (قَالَ): زُفَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْتَقَضَ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا لِلشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ، وَقَدْ انْدَفَعَ ضَرَرُهُ حِينَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهَا بِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ كَمَا قَبِلَهُ، وَلَيْسَ فِي هَلَاكِ الْعَبْدِ، إلَّا انْفِسَاخُ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَأَنْ يَضْمَنَ ذَلِكَ فَسْخُ الْبَيْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُثْبِتٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 حَقَّ الشَّفِيعِ وَبَقَاؤُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَقَابَلَا لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ الْبَيْعِ مِنْ أَصْلِهِ فَأَمَّا هَاهُنَا بِهَلَاكِ الْعَبْدِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِمَا هُوَ الْبَدَلُ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبْطَلَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِعَيْبٍ وَجَدَهُ بِالْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ لِصَاحِبِهِ لَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي بِأَخْذِ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَيَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ بَدَلَ الدَّارِ وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ قَدْ سُلِّمَ لِلْبَائِعِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي بَدَلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بَدَلَيْنِ عَنْ مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِلْبَائِعِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إنْ كَانَ أَخَذَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَالدَّارُ تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الشَّفِيعِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الدَّارِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فَبَقِيَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا، كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الدَّارِ عَلَى الْبَائِعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهَا، وَمِثْلُهَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ قِيمَةُ الْعَبْدِ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ كَانَ فِي الْعَبْدِ، أَوْ فِي قِيمَتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْبَائِعِ بِقِيمَتِهِ، وَقَدْ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَاجِبٌ وَرُبَّمَا تَكُونُ الدَّارُ قِيمَتُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ، فَإِنَّ مَا سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا لَزِمَهُ لِلْبَائِعِ عَشَرَةُ آلَافٍ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَتَسْلِيمُهَا بِالشُّفْعَةِ إلَى الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَعَلَ بِدُونِ الْقَاضِي غَيْرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَكَمَا لَا يُجْعَلُ بَيْعًا مُبْتَدَأً إذَا أَخَذَ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ الدَّارَ مِنْ الشَّفِيعِ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي دَفَعَهَا إلَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَضَاءُ قَاضٍ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَسَمَّاهَا وَقَبَضَهَا الشَّفِيعُ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَهِيَ جَائِزَةٌ لِلشَّفِيعِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 فِيهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ نَافِذٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةً يُجْعَلُ التَّسْلِيمُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ الْمُبْتَدَإِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَقَدْ كَانَتْ الشُّفْعَةُ هُنَاكَ وَاجِبَةً حِينَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَضَاءَ وَغَيْرَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ سَوَاءً وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا هُنَا، ثُمَّ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ قِيمَةُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الدَّارِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الدَّارَ وَوَهَبَهَا وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلدَّارِ حِينَ التَّصَرُّفِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ، ثُمَّ لَزِمَهُ رَدُّ عَيْنِهَا حِينَ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ وَتَقَابَضَا فَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْعَرْضِ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يَقُومُ فِي الْحَالِ فَيَتَبَيَّنُ بِقِيمَتِهِ فِي الْحَالِ قِيمَتَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا، فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزَمَةٍ وَعَلَى قِيَاسِ طَرِيقَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي هَهُنَا إقْرَارَانِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْرَقَهُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلِلْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحِقًّا بِالْعَقْدِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِدَارٍ فَهَذَا وَشِرَاءُ الدَّارِ بِالْعَبْدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُضِيفَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ، أَوْ إلَى الدَّارِ. وَإِذَا اشْتَرَى بِنَاءَ دَارٍ عَلَى أَنْ يُعَلِّقَهُ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ مَعَهُ الْأَرْضَ، وَالْبِنَاءُ بِدُونِ الْأَرْضِ مَنْقُولًا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْقُولَ بِالشُّفْعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي شِرَاءِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَكُونُ اتِّصَالَ تَأْيِيدٍ وَقَرَارٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ وَبِمِلْكِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ بِنَاءٌ عَلَى أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِحَبْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْبِنَاءَ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الْبِنَاءِ، وَهُوَ النِّصْفُ، فَلَا شُفْعَةَ فِي هَذَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 وَالْبَيْعُ فِيهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَالشَّرِيكُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ لَا تَتَأَتَّى مَا لَمْ يُنْقَضْ الْكُلُّ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبِنَاءُ كُلُّهُ لِإِنْسَانٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ كَمَا لَوْ بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِخَادِمٍ فَخَافَ عَلَيْهَا الشَّفِيعَ وَقِيمَةُ الْخَادِمِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَ الْخَادِمَ بِأَلْفَيْنِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ، ثُمَّ اشْتَرَى الدَّارَ بِالْأَلْفَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الدَّارَ بِأَلْفَيْنِ فَبِذَلِكَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ إنْ شَاءَ (وَهَذَا نَوْعُ حِيلَةٍ) لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ لِسَبَبِ كَثْرَةِ الثَّمَنِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يُعْطِيَهُ بِهَا خَمْسِينَ دِينَارًا، أَوْ يُعْطِيَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَثَوْبًا لَا يُسَاوِي الْأَلْفَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ أَخْذِهَا، إلَّا بِأَلْفَيْنِ وَقَلَّ مَا يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَمَنُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ يَحْتَالُ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الْجَارِ بِأَنْ يُبَاعَ عُشْرُ الدَّارِ أَوَّلًا بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ، ثُمَّ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا بِعُشْرِ الثَّمَنِ، فَلَا يَرْغَبُ الْجَارُ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكًا، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَمِنْ الْحِيلَةِ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَدَّقُ الْبَائِعُ بِقِطْعَةٍ مِنْ الدَّارِ صَغِيرَةٍ وَطَرِيقُهَا إلَى بَابِ الدَّارِ عَلَيْهِ فَيُسَلِّمُهَا إلَيْهِ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بَقِيَّةَ الدَّارِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، أَوْ يَهَبُ مِنْهُ قَدْرَ ذِرَاعٍ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْجَارِ، ثُمَّ يَبِيعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَلَا يَجِبُ لِلْجَارِ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يُلَازِقُ الْمَبِيعَ، أَوْ يُوَكَّلُ الشَّفِيعُ بِبَيْعِهَا، فَإِذَا بَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ، أَوْ يَبِيعُهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلشَّفِيعِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، أَوْ يَبِيعُهَا بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَ الشَّفِيعُ الدَّرَكَ، فَإِذَا ضَمِنَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، أَوْ يَقُولُ: الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنَا أَبِيعُهَا مِنْك بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، فَإِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ وَسَاوَمَهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ لَا بَأْسَ بِهِ أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الْإِضْرَارَ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الدَّفْعَ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الْإِبْرَاءِ وَلِلْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ، وَالزَّكَاةِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَاسْتَحَقَّهُ مُسْتَحِقٌّ وَأَجَازَ الشِّرَاءَ كَانَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ، كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَيْعُ بِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَانْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 انْعِقَادَ الْعَقْدِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَفِيعٌ فَلِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِقِيمَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لِلدَّارِ مِنْ جِنْسِهَا، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ شَفِيعٍ بِمُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُ قِيمَةَ الدَّارِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ شَفِيعًا أَيْضًا، يَعْنِي: أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَخَذَ الشَّفِيعُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَا يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، إلَّا مِقْدَارَ حِصَّتِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ دَارِ عُلْوُهُ لِآخَرَ وَطَرِيقُ الْبَيْتِ الَّذِي اشْتَرَى فِي دَارٍ أُخْرَى، فَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ لِلَّذِي فِي دَارِهِ الطَّرِيقُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْبُقْعَةِ بِالطَّرِيقِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَصَاحِبُ الْعُلْوِ إنَّمَا لَهُ الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ، فَإِنْ سَلَّمَ صَاحِبُ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ، وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ الْعُلْوُ، فَلَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا لِصَاحِبِ عُلْوٍ آخَرَ بِجَنْبِهِ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ بِنَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْبِنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْضٌ، وَالْأَرْض وَسَقْفُ السُّفْلِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ حَقَّ قَرَارِ الْبِنَاءِ، وَبِهِ يَسْتَحِقُّ اتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ جَارَيْنِ بِخِلَافِ مِلْكِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَرَاضِيِ الْمَوْقُوفَةِ، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ هُنَاكَ غَيْرُ مُتَأَيَّدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ، وَهُنَا لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُكَلِّفَ صَاحِبَ الْعُلْوِ رَفْعَ الْبِنَاءِ بِحَالٍ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُثْبِتُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْأَرْضِينَ وَالْأَنْهَارِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالشَّرِيكُ فِي الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الشُّرْبِ كَمَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي نَفْسِ الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا مَنْفَعَةَ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ، يَعْنِي: عِنْدَ وُجُودِهِ لَا شُفْعَةَ، إلَّا لَهُ، ثُمَّ الشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، كَالطَّرِيقِ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ قَالَ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرِكَةِ فِي الشَّرَبِ، وَالشَّرِيكُ فِي الشَّرْبِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْجَارِ، كَالشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ. قَالَ، وَالشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الصَّغِيرِ كُلُّ مَنْ لَهُ شِرْبٌ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ الْمُلَاصِقِ، وَإِنْ كَانَ نَهْرًا كَبِيرًا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، فَالْجَارُ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِي الشِّرْبِ، مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الشِّرْبِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ فَفِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 النَّهْرِ الصَّغِيرِ الشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ بِمَنْزِلَةِ سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَفِي النَّهْرِ الْكَبِيرِ الشَّرِكَةُ عَامَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِاعْتِبَارِهِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي حَدِّ النَّهْرِ الصَّغِيرِ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهُ قَرَاحَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَهُوَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّهْرَ الْكَبِيرَ بِمَنْزِلَةِ الدِّجْلَةِ، وَالْفُرَاتُ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَكُلُّ مَاءٍ يَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ مِنْ الْأَنْهَارِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ حَتَّى رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ وَإِنْ كَانُوا مِائَةً، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِاعْتِبَارِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ بِعَدَدِ الْأَرْبَعِينَ، أَوْ بِعَدَدِ الْخَمْسِينَ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ فِيهِ إلَى التَّقْدِيرِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ بِالرَّأْيِ لَا تُسْتَدْرَكُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، فَالْمُعْتَبَرُ مَا قُلْنَا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ. وَإِذَا زَرْع الْمُشْتَرِي الْأَرْضَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَقْلَعَ الزَّرْعَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، فَهُوَ، كَالْغَاصِبِ إذَا زَرَعَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ وَجْهٍ إبْطَالٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَرَعَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّ الشَّفِيعَ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ قَبْلَ إدْرَاكِ زَرْعِهِ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ؛ وَلِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَوْ انْتَظَرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ قَلِيلًا، وَإِذَا قَلَعَ زَرْعَ الْمُشْتَرِي تَضَرَّرَ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ وَمَالِيَّتِهِ وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ، فَإِنْ كَانَ غَرَسَ فِيهَا كَرْمًا، أَوْ شَجَرًا، أَوْ رَطْبَةً فَلَهُ أَنْ يَقْلَعَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِفَرَاغِ الْأَرْضِ مِنْهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبِنَاءِ نَظِيرَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الشَّفِيعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ تَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ إلَى إحْضَارِ الثَّمَنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَيْضًا لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُشْتَرِي فِي زَرْعِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَفِي التَّأْخِيرِ لَا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ إبْطَالٌ. وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا؛ لِيَقْطَعَهُ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الشِّرَاءِ، وَالنَّخْلُ بِدُونِ الْأَرْضِ، كَالْبِنَاءِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأُصُولِهَا وَمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ فَفِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَرْضِ فِي هَذَا الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى زَرْعًا أَوْ رَطْبَةً؛ لِيَجُزَّهَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مَعَ الْأَرْضِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْكُلِّ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا شُفْعَةَ فِي الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ وَتَوَابِعِهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، إلَّا بِالذِّكْرِ، فَهُوَ، كَالْمَتَاعِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ اُشْتُرِيَ مَعَ الْأَرْضِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الزَّرْعَ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ مَا لَمْ يُحْصَدْ وَمَا كَانَ مِنْ الْمَنْقُولِ مُتَّصِلًا بِالْعَقَارِ يُسْتَحَقّ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا، كَالْأَبْوَابِ، وَالشُّرُبِ الْمُرَكَّبَةِ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الشَّفِيعَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا وَقَبْلَ الْحَصَادِ يُمْكِنُهُ أَخْذَ الْكُلِّ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُحْصَدْ حَتَّى حُصِدَ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ الزَّرْعِ بَعْدَ الْحَصَادِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لِلْمُشْتَرِي فَلَوْ أَخَذَهُ كَانَ أَخْذًا لِلْمَنْقُولِ بِالشُّفْعَةِ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ لَيْسَ فِيهَا ثَمَرٌ فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِهِ فَأَكَلَهَا سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: أَوَّلًا يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ مَا أَكَلَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَرِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ كَحَالِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَكَلَ الْبَائِعُ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَحُطُّ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ كَمَا يَحُطُّ حِصَّةَ الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الْحَادِثَةِ تَمْنَعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَيْعِهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ، كَالثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْأَرْضَ، وَالنَّخْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَالشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُهَا بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ مِنْ الثِّمَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَانْقِسَامُ الثَّمَنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْجَذَاذِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِيهَا فَتَنَاوُلُهُ إيَّاهَا لَا يُحِلُّ لَهَا حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْعَيْنِ هُنَاكَ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ يَضْمَنُهُ إلَى الْأَصْلِ وَيَبِيعُ الْكُلَّ مُرَابَحَةً، فَإِذَا تَنَاوَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا أَكَلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ إذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي فَلِلثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا بَعْدَ الْجَذَاذِ فَيَطْرَحُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّمَارَ الْمَوْجُودَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَوْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الثِّمَارِ الْحَادِثَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَإِنْ حَضَرَ الشَّفِيعُ قَبْلَ أَنْ يَجُذَّهَا الْمُشْتَرِي أَخَذَهَا مَعَ الْأَشْجَارِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا، وَالزَّرْعُ سَوَاءٌ وَبَعْدَ الْجَذَاذِ هُنَا، وَالْحَصَادِ فِي الزَّرْعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَعَلَى قِيمَةِ الثِّمَارِ، وَالزَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا بِالْعَقْدِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 وَالْأَشْجَارُ مُثْمِرَةً وَغَيْرَ مُثْمِرَةٍ، فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لِلزَّرْعِ، وَالثَّمَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِيمَةٌ، إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا فَلَوْ اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ مَحْصُودًا تَضَرَّرَ بِهِ الشَّفِيعُ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قَالَ: أُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ فَمَا يَخْتَصُّ قِيمَتَهَا غَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، فَهُوَ حِصَّةُ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ. وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا شَجَرٌ صِغَارٌ فَكَبُرَتْ فَأَثْمَرَتْ، أَوْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَأَدْرَكَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِيهَا بِطَرِيقِ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ، وَالشَّجَرُ بِيعَ مَا بَقِيَ الِاتِّصَالُ. وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا وَرَحَى مَاءٍ فِيهِ وَنَهْرَهَا وَمَتَاعَهَا فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَتَاعِهَا لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَيُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمَّامَ يُبَاعُ وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقَدْرِ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبِنَاءِ فَكَذَلِكَ الرَّحَى، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَالرَّحَى: قَوْلُنَا، فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَعِنْدَنَا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَوْجُودٌ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ»؛ وَلِأَنَّ الْحَمَّامَ لَوْ كَانَ مَهْدُومًا فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ كَانَ لَلشَّرِيكِ الشُّفْعَةُ وَمَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مَهْدُومًا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مُثْبَتًا، كَالشِّقْصِ مِنْ الدَّارِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْمُقَاسَمَةِ إنْ كَانَتْ لَا تَلْحَقُهُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ تَلْحَقُهُ فِي الثَّانِي، وَهُوَ مَا بَعْدَ الِانْهِدَامِ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْأَرْضِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَى أَجَمَةً فِيهَا قَصَبٌ وَسَمَكٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ أَخَذَ الْأَجَمَةَ، وَالْقَصَبَ بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ السَّمَكَ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ، فَأَمَّا السَّمَكُ، فَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْأَرْضِ، بَلْ هُوَ، كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الدَّارِ، وَالْأَرْضِ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى عَيْنًا أَوْ نَهْرًا، أَوْ بِئْرًا بِأَصْلِهَا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَيْنَ قِيرٍ، أَوْ نِفْطٍ، أَوْ مَوْضِعَ مِلْحٍ أَخَذَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ يَبِيعُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ بِخِلَافِ السَّمَكِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَلَا يَأْخُذُ مَا حَمَلَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ، وَالتَّمْرِ بَعْدَ الْحَصَادِ، وَالْجَذَاذِ. وَإِنْ اشْتَرَى شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ، وَلَا أَصْلٍ مِنْ نَهْرٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشَّرْبِ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ هُوَ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَدْرِي أَيَجْرِي الْمَاءُ أَمْ لَا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إجْرَاؤُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 قَالَ: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَحْكِي عَنْ أُسْتَاذِهِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِ بَيْعِ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ وَيَقُولُ: فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِي دِيَارِنَا بِنَسَفَ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْمَاءَ) فَلِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِهِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ بِخِلَافِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ نَصٌّ بِخِلَافِ هَذَا الْعُرْفِ، فَلَا يُعْتَبَرُ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا فَلَهُ مَا فِيهَا مِنْ نَخْلٍ، أَوْ شَجَرٍ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَرْضِ لِلْقَرَارِ، وَلَيْسَ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ، أَوْ تَمْرٍ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ فِيهَا لَيْسَ لِلتَّأْبِيدِ، وَالْقَرَارِ، بَلْ لِلْإِدْرَاكِ، فَهُوَ اتِّصَالٌ يَعْرِضُ الْفَصْلَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، إلَّا بِالذِّكْرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ، فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَتَاعَ» وَلَوْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا، أَوْ مِنْهَا فَلَهُ الثَّمَرُ، وَالزَّرْعُ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ، وَالزَّرْعُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَتَأْوِيلُ مَا قَالَ هُنَاكَ إذَا اشْتَرَاهَا بِكُلِّ قَلِيلٍ، أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا، أَوْ مِنْهَا بِحُقُوقِهَا فَعِنْدَ هَذَا التَّقْيِيدِ لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ، وَالزَّرْعُ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ حُقُوقِهَا وَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ بِقَوْلِهِ مِنْ حُقُوقِهَا وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الثَّمَرِ، وَالزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ فِيهَا، أَوْ مِنْهَا لِاتِّصَالِهِ فِي الْحَالِ، وَالْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ تَدْخُلُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا إنْ كَانَ قَالَ: أَوْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقَلِيلِ، أَوْ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَالَ: وَمِنْهَا لَمْ تَدْخُلْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، كَالزَّوْجَةِ، وَالْوَلَدِ لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ فِيهَا فِي الْقِيَاسِ يَدْخُلُ وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْخُلُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ، وَإِذَا اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا بِمَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الثَّمَرُ، وَالزَّرْعُ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ وَمَرَافِقِهَا، فَإِنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَا بِهِ يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ، كَالشَّرَبِ، وَالطَّرِيقِ الْخَاصِّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالثَّمَرُ، وَالزَّرْعُ لَيْسَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، فَلَا يَدْخُلُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالْمَرَافِقِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَلَهُ الْبِنَاءُ سَوَاءٌ اشْتَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الدَّارُ، وَالْمَنْزِلُ، وَالْبَيْتُ، فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِاسْمِ الدَّارِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعُلْوُ، وَالسُّفْلُ، وَالْكَنِيفُ، وَالشَّارِعُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ هُوَ اسْمٌ؛ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَالْعُلْوُ، وَالسُّفْلُ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَلَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ خَارِجٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَيَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ، فَالِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ يَتَأَتَّى بِهِ، فَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالْمَرَافِقِ، فَأَمَّا الظُّلَّةُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ عَلَيْهَا مَنْزِلٌ إلَى الدَّارِ لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ فَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ وَعِنْدَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْعُلْوِ، وَالْكَنِيفِ، وَالشَّارِعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هِيَ خَارِجَةٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ إذَا كَانَ مِفْتَحهَا إلَى الدَّارِ، فَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالْمَرَافِقِ، وَالطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ الظُّلَّةِ عَلَى حَائِطِ الْجَارِ الْمُحَاذِي وَالْجَانِبُ الْآخَرُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الدَّارِ بِخِلَافِ كَنِيفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِيمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ مِنْ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بَيْتًا وَعَلَيْهِ عُلْوٌ لَمْ يَدْخُلُ الْعُلْوُ فِي الْبَيْتِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْعُلْوِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعُلْوُ فِي هَذَا كَالسُّفْلِ وَكَانَ نَظِيرَ بَيْتَيْنِ أَحَدُهُمَا بِجَنْبِ الْآخَرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ مِثْلِهِ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى مَنْزِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُلْوُهُ، إلَّا أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، أَوْ بِمَرَافِقِهِ فَيَدْخُلُ الْعُلْوُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ فَيَدْخُلُ عَنْهُ ذِكْرُ الْحُقُوقِ، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمُسَقَّفٍ وَاحِدٍ لَهُ دِهْلِيزٌ، وَالْمَنْزِلُ اسْمٌ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَصَحْنٍ مُسْقَفٍ وَمَطْبَخٍ؛ لِيَسْكُنَهَا الرَّجُلُ بِعِيَالِهِ، وَالدَّارُ اسْمٌ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِلَ وَصَحْنٍ غَيْرِ مُسَقَّفٍ فَكَانَ الْمَنْزِلُ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ فَلِكَوْنِهِ فَوْقَ الْبَيْتِ قُلْنَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالْمَرَافِقِ وَلِكَوْنِهِ دُونَ الدَّارِ قُلْنَا لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ فِيهِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ وَمُشْتَرِي الْمَنْزِلِ مِنْ الدَّارِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الدَّارِ، إلَّا الطَّرِيقَ وَمَسِيلَ الْمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ، فَأَمَّا الْمَخْرَجُ، وَالْمِرْبَطُ، وَالْمَطْبَخُ وَبِئْرُ الْمَاءِ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ، فَالِانْتِفَاعُ بِالْمَنْزِلِ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ بِخِلَافِ الطَّرِيقِ، وَالْمَسِيلِ وَفِي شِرَاءِ الدَّارِ إذَا كَانَ لَهَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا فِي السِّكَّةِ، وَالْآخَرُ فِي دَارٍ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الْحُقُوقَ، وَالْمَرَافِقَ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الطَّرِيقَ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَالْقَرْيَةُ مِثْلُ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ، أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بَابٌ مَوْضُوعٌ، أَوْ خَشَبٌ، أَوْ آجُرٌّ، أَوْ جِصٌّ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالْمَرَافِقِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا، أَوْ مِنْهَا أَوْ اشْتَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ يَتَأَتَّى بِدُونِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ فِيهَا. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا فَاسْتَأْجَرَهَا الشَّفِيعُ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أَوْ كَانَ فِيهَا نَخِيلٌ فَأَخَذَهَا مُعَامَلَةً بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ، أَوْ سَاوَمَ بِهَا، فَقَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهَا وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَالِاسْتِيَامُ دَلِيلُ إبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ التَّمَلُّكَ مِنْهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَقَرُّرَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ، فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلشُّفْعَةِ دَلَالَةً. وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا لِيَقْطَعَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ وَتَرَكَ النَّخِيلَ فِيهَا، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي النَّخِيلِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ، وَهِيَ مِنْ النَّقْلِيَّاتِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ؛ لِيَجُذَّهَا، وَالْبِنَاءَ؛ لِيَهْدِمَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى الْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ، إلَّا فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبِنَاءِ بِالشُّفْعَةِ لِمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لِلْأَرْضِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا مَلَكَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي مَلَكَ الْأَرْضَ بِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى قَرْيَةً فِيهَا بُيُوتٌ وَنَخِيلٌ وَأَشْجَارٌ، ثُمَّ بَاعَ الْمُشْتَرِي شَجَرَهَا وَنَخْلَهَا لِيُقْطَعَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ، وَقَدْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ وَمَا لَمْ يُقْطَعْ مِنْ الشَّجَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُطِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مَتَى كَانَ ثَابِتًا فِي الْبِنَاءِ، وَالشَّجَرِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَطْعِ، وَالْهَدْمِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِّ بِالْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالْقَطْعِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ كَانَ لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ زَالَ جَوَازُهُ، وَلَكِنْ يَطْرَحُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْحَبْسِ، وَالتَّنَاوُلِ، فَيَكُونُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ يُطْرَحُ عَنْ الشَّفِيعِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ نَهْرًا بِأَصْلِهِ وَلِرَجُلٍ أَرْضٌ فِي أَعْلَاهُ إلَى جَنْبِهِ وَلِآخَرَ أَرْضٌ فِي أَسْفَلِهِ إلَى جَنْبِهِ فَلَهُمَا جَمِيعًا الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ، وَالْعَيْنُ، وَالْبِئْرُ، فَهِيَ مِنْ الْعَقَارَاتِ يَسْتَحِقُّ فِيهَا الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ يَكُونُ مِفْتَحُهَا فِي أَرْضٍ وَيَظْهَرُ مَاؤُهَا فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَجِيرَانُهَا مِنْ مِفْتَحِهَا إلَى مَصَبِّهَا شُرَكَاءُ فِي الشُّفْعَةِ لِاتِّصَالِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَبِيعِ وَبِالِاتِّصَالِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يَتَحَقَّقُ الْجِوَارُ وَصَاحِبُ النَّصِيبِ فِي النَّهْرِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ مِمَّنْ يَجْرِي النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ جَارٌ بِاتِّصَالِ أَرْضِهِ بِالنَّهْرِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ. وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ أَعْلَاهُ لِرَجُلٍ وَأَسْفَلُهُ لِآخَرَ وَمَجْرَاهُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ آخَرَ فَاشْتَرَى رَجُلٌ نَصِيبَ صَاحِبِ أَعْلَى النَّهْرِ فَطَلَبَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَصَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ أَسْفَلِ النَّهْرِ الشُّفْعَةَ، فَالشُّفْعَةُ لَهُمْ جَمِيعًا بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ، إلَّا أَنَّ اتِّصَالَ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ بِمِقْدَارِ عَرْضِ النَّهْرِ وَاتِّصَالَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ طُولِ النَّهْرِ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 أَرْضِهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الْجِوَارِ كَمَا لَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ مَسِيلِ الْمَاءِ حَقٌّ لِمَسِيلِ الْمَاءِ، يَعْنِي: أَنَّ صَاحِبَ أَسْفَلِ النَّهْرِ لَهُ فِي الْمَبِيعِ حَقُّ سَيْلِ الْمَاءِ فَمَا لَمْ يَسِلْ الْمَاءُ فِي أَعْلَى النَّهْرِ لَا يَنْتَهِي إلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ بِهِ شَرِيكًا لِرَقَبَةِ النَّهْرِ، وَلَا فِي حُقُوقِهِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْجَارِ الشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي حُقُوقِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ نَصِيبَ صَاحِبِ أَسْفَلِ النَّهْرِ، فَالشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى بِالْجِوَارِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قَنَاةٌ مِفْتَحُهَا بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَأَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ ذَلِكَ الْأَسْفَلَ، فَالشَّرِيكُ، وَالْجِيرَانُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بِالشَّرِكَةِ فِي أَعْلَى الْقَنَاةِ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْمَبِيعَ أَسْفَلُ الْقَنَاةِ، وَذَلِكَ كَانَ مِلْكًا خَالِصًا لِلْبَائِعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ شَرِيكُهُ فِي أَعْلَى الْقَنَاةِ، وَالْجِيرَانُ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ. وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فَطَلَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ لِيُكْرِيَ مِنْهُ النَّهْرَ إلَى أَرْضِهِ، ثُمَّ بِيعَ النَّهْرُ الْأَوَّلُ وَمَجْرَاهُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ آخَرَ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ مُسْتَعِيرٌ، وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَعِيرِ فِي الشُّفْعَةِ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ، وَالْقَرَارِ. وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فِي أَرْضٍ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ فِي بَيْتٍ فَبَاعَ صَاحِبُ النَّهْرِ النَّهْرَ، أَوْ الرَّحَى، وَالْبَيْتَ فَطَلَبَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الشُّفْعَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الرَّحَى أَرْضٌ لِرَجُلٍ آخَرَ وَكَانَ جَانِبُ النَّهْرِ الْآخَرِ لِرَجُلٍ آخَرَ فَطَلَبَا الشُّفْعَةَ فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْجِوَارِ مِنْ النَّهْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَى الرَّحَى؛ لِأَنَّ الرَّحَى لَا تَسْتَقِيمُ، إلَّا بِالنَّهْرِ، فَهُوَ الْآنَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْضِعَ الرَّحَاءِ لَوْ كَانَ أَرْضًا لَهَا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ فَبِيعَتْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الشِّرْبِ سَوَاءً فِي الشُّفْعَةِ، وَلَا يَكُونُ أَقْرَبُهُمْ إلَيْهَا أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّحَاءِ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالرَّحَى لَا يَتَأَتَّى، إلَّا بِالْمَاءِ كَمَا لَا يَتَأَتَّى فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، إلَّا بِالْمَاءِ. وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ خَالِصًا لَهُ عَلَيْهِ أَرْضٌ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ أَرَاضٍ، وَلَا شَرْبَ لَهُمْ فِيهِ فَبَاعَ رَبُّ الْأَرْضِ النَّهْرَ خَاصَّةً فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الشُّفْعَةِ فِيهِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِمْ بِالْمَبِيعِ، وَإِنْ بَاعَ الْأَرْضَ خَاصَّةً دُونَ النَّهْرِ، فَالْمُلَازِقُ لِلْأَرْضِ أَوْلَاهُمْ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِي النَّهْرِ، وَالْمَبِيعُ الْأَرْضُ وَهُمْ جِيرَانُ الْمَبِيعِ، يَعْنِي: مَنْ يُلَازَقُ أَرْضُهُ الْأَرْضَ الْمَبِيعَةَ، فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَازِقِ خَاصَّةً، وَإِنْ بَاعَ النَّهْرَ، وَالْأَرْضَ جَمِيعًا كَانُوا شُفَعَاءُ فِي النَّهْرِ لِاتِّصَالِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْرِ وَكَانَ الَّذِي هُوَ مُلَازِقُ الْأَرْضِ أَوْلَاهُمْ بِالشُّفْعَةِ فِي الْأَرْضِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ فِي دَارٍ لِرَجُلٍ فَبَاعَ الطَّرِيقَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 وَالطَّرِيقُ خَالِصٌ لَهُ فَجَارُ الطَّرِيقِ أَوْلَى بِهِ مِنْ جَارِ الْأَرْضِ دُونَ الطَّرِيقِ وَهَذَانِ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ؛ لِيُمَيِّزَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ جِوَارَ هَذَا غَيْرُ جِوَارِ هَذَا، وَلَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الطَّرِيقِ أَخَذَ شُفْعَتَهُ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَرِيكًا فِي النَّهْرِ أَخَذَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِمَا جَمِيعًا مِنْ جِيرَانِ الْأَرْضِ، وَالطَّرِيقُ وَالنَّهْرُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يُعَوِّضْ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ، وَإِنْ عَوَّضَهُ فَقِيمَةُ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَوَّضَ الْغَيْرُ مِنْ هِبَتِهِ شِقْصًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالشُّفْعَةِ خِلَافٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. هُوَ يَقُولُ: ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ مُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْمِلْكِ فَتَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ مَتَى تَجَدَّدَ الْمِلْكُ لِلْجَارِ الْحَادِثِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةِ، إلَّا الْمِيرَاثَ، فَالْمِلْكُ لَا يَتَجَدَّدُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْوَارِثُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورِثِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْأَخْذِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمُتَمَلِّكِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَمَلِّكُ دَفَعَ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا يَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِذَلِكَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَمْلِكُ الْمُتَمَلِّكُ، فَأَمَّا إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، كَالْمِيرَاثِ، وَفِي الْهِبَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، فَيَكُونُ هَذَا إنْشَاءَ سَبَبٍ آخَرَ وَبِحَقِّ الشُّفْعَةِ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ السَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَلَا يَتَأَتَّى فِي التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ لَا يَكُونُ حُكْمَ التَّبَرُّعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ فِي الْمُعَارَضَةِ كَانَ أَحَقَّ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْبَائِعُ جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ؛ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي التَّبَرُّعِ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهَبَ مِلْكَهُ مِنْ إنْسَانٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ بَيْعَهُ أَوَّلًا عَلَى جَارِهِ، وَلَا أَنْ يَهَبَهُ مِنْ جَارِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا السَّبَبِ. فَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَهَبَهُ الْآخَرُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 أَلْفَ دِرْهَمٍ شَرْطًا، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا، وَبَعْضُ التَّقَابُضِ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ قَبْلَ التَّقَابُضِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عِنْدَهُ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَعِنْدَنَا ابْتِدَاءً، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ إذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، فَهُوَ بَيْعٌ لَازِمٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْقَبُولِ يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ يَمْلِكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْت بِدَارِي بَيْعًا لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَاتَ الْمُوصِي، فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ: قَدْ قَبِلْت فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ قَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِأَنْ يُوهَبَ لَهُ عَلَى عِوَضٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَمَا لَوْ بَاشَرَ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ. وَإِنْ وَهَبَ نَصِيبًا مِنْ دَارٍ مُسَمًّى بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَتَقَابَضَا لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بِرٌّ ابْتِدَاءً، وَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةُ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ كَتَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشُّيُوعُ فِي الْعِوَضِ فِيمَا يُقْسَمُ. وَإِنْ وَهَبَ دَارَ الرَّجُلِ عَلَى أَنَّ إبْرَاءَهُ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَقَبَضَ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ قَابِضٌ لِلدَّيْنِ بِدَيْنِهِ فَبِقَبْضِ الدَّارِ تَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ قَوْلُ الَّذِي عُوِّضَ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الدَّارَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ مِمَّا يَدَّعِي فِي هَذِهِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَقَبَضَهَا، فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِيهَا يَتِمُّ بِجِهَةِ الْمُعَارَضَةِ. وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِرَجُلٍ عَلَى عِوَضٍ مِثْلِ قِيمَتِهَا وَتَقَابَضَا، فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَالْعَبْدُ، وَالْمَأْذُونُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ يُعَادِلُهُ شَرْطًا فَيَصِحُّ مِنْ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ كَمَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، أَوْ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ حَقَّ الصَّبِيِّ فِي الْمَالِ لَا فِي اللَّفْظِ وَتَصَرُّفُ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ مُقَيَّدٌ شَرْعًا بِالْأَحْسَنِ، وَالْأَصْلَحِ لِلْيَتِيمِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْمَالِيَّةُ لَا فِي لَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِنْهُمَا لَمَّا لَمْ يَجُزْ بِالتَّعَاطِي مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، فَإِذَا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ قُلْنَا تَوْفِيرُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بَلْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَزُولُ الْمَالُ عَنْ مِلْكِهِ مَا لَمْ يَصِلْ الْعِوَضُ إلَى يَدٍ ثَانِيَةٍ وَبِالْبَيْعِ تَزُولُ الْعَيْنُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ، وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَظْهَرُ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِنْ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْكِتَابَةَ فِي غَيْرِ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، فَالْمِلْكُ هُنَا يَزُولُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَالْبَدَلُ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يَدْرِي أَيَصِلُ إلَيْهِ أَمْ لَا بِمَنْزِلَةِ التَّأَدِّي. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ وِلَايَةُ التَّبَرُّعِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَبِاشْتِرَاطِ الْعِوَضِ لَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، كَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِمَالِ هُوَ أَضْعَافُ قِيمَتِهِ وَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَائِهِ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَهَذَا الْعَقْدُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ، فَهُوَ عَقْدٌ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَكَمَا يَلْغُو السَّبَبُ إذَا حَصَلَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ أَصْلُ السَّبَبِ؛ لِمَا قُلْنَا لَا يَنْقَلِبُ بِالتَّقَابُضِ بَيْعًا صَحِيحًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَصِيرُ بَيْعًا صَحِيحًا بِالتَّقَابُضِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ الْهِبَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَصِيرُ بَيْعًا صَحِيحًا بِالتَّقَابُضِ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْخِيَارِ فِي الشُّفْعَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثًا فِي الشِّرَاءِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ) أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلدَّارِ وَعِنْدَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْعَيْبُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَمْلِكْ الدَّارَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَقَدْ خَرَجَتْ الدَّارُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَانْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهَا لِكَوْنِ الْبَيْعِ بَاقِيًا فِي جَانِبِهِ وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ تَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا فَبِاعْتِبَارِهِ يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ الْمُحْوِجُ لِلشَّفِيعِ إلَى الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ إنْ قُبِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ أَسْلَمَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمُرْتَدِّ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَصَارَ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهَا لَوْ أَسْلَمَ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارٍ ثَابِتٍ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ أَبَدًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَقٌّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ثَابِتٌ وَمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ، فَإِنْ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ وَأَوْجَبَ الْبَيْعَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا مَتَى أُسْقِطَ خِيَارُهُ، وَهَذَا إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ شَهْرًا فَعِنْدَهُمَا هَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ لَازِمٌ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْبُيُوعِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةً فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ الْبَائِعِ فِي الثَّلَاثَةِ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ مِنْ الْخِيَارِ مَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ كَاسْمِهِ لَا يَثْبُتُ، إلَّا لِمَنْ شُرِطَ لَهُ، وَالشَّرْطُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا حَتَّى يُوجِبَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ وَبَقَاءُ حَقِّ الْبَائِعِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَبَقَاءُ مِلْكِهِ أَوْلَى، فَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَلِلْبَائِعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ عِنْدَهُمَا فِي هَذَا الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَإِذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ قَرَّرَ مِلْكَهُ وَجِوَارَهُ حِينَ أَخَذَ الْمَبِيعَةَ بِالشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِهِ فَإِقْدَامُ الْبَائِعِ عَلَى مَا يُقَرِّرُ مِلْكَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ نَاقِضًا لَكَانَ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ فِيهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مَعَ خِيَارِهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ، كَالْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِ وَكَانَ الْبَلْخِيُّ يَدَّعِي بِهَذَا الْفَصْلِ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَيَقُولُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ الْمَبِيعُ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْجِرُ، وَالْمُسْتَعِيرُ فَكَيْفَ تَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَكِنَّ عُذْرَهُ مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَ هَذَا مِنْهُ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ بِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا لَتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَلَامَ الْبَلْخِيّ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لَمَا صَارَ مُخَيَّرًا لِلْبَيْعِ بِأَخْذِهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ لَمْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ انْعَدَمَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَهُ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مُخَيَّرًا لِلْبَيْعِ، فَإِذَا جَاءَ الشَّفِيعُ وَأَخَذَ مِنْهُ الدَّارَ الْأُولَى بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الثَّانِيَةِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُهَا الْآنَ، فَلَا يَصِيرُ بِهَا جَارًا لِلدَّارِ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا، وَالدَّارُ الثَّانِيَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ لَا يَنْفِي مِلْكَهُ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 بِهِ انْعِدَامُ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَصْلِ حِينَ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا لِمُشْتَرِي الدَّارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لَهُ الْبَيْعَ فِيهَا، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ خِيَارَهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ الْبَيْعَ أَخَذَ عَبْدَهُ وَدَفَعَ قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْ الشَّفِيعِ إلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَكُونُ أَخْذُ الشَّفِيعِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ اخْتِيَارًا مِنْ الْمُشْتَرِي لِلْبَيْعِ وَإِسْقَاطًا لِخِيَارِهِ فِي الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي، فَذَلِكَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ بِبَيِّنَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَيَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا بِهِ وَإِسْقَاطَ خِيَارِهِ فَأَمَّا أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِحَقٍّ يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ الْبَائِعِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَهُ، أَوْ عُرِفَتْ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِحَقٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى قَبْضِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ وَيَبْقَى هُوَ فِي الْعَبْدِ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِذَا فُسِخَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ الْقِيمَةَ الْمَقْبُوضَةَ مِنْ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي سُلِّمَتْ لَهُ بِسَبَبِ يَدِهِ عَلَى الدَّارِ فَيَرُدُّهَا عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَرُدُّ الدَّارَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ لِلْمُشْتَرِي لِانْتِقَاضِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا حِينَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَرَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَةِ الْعِوَضِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعِوَضِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضِ فِي يَدِ مُشْتَرِي الدَّارِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِبَائِعِ الدَّارِ فِيهَا، أَوْ فِي الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ حَتَّى يُوجِبَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، فَذَلِكَ مِنْهُ شَرْطٌ لِلْخِيَارِ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا شُفْعَةَ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ بِخِيَارِ الْبَائِعِ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَسْقُطَ خِيَارُهُ، أَوْ يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ مِنْ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنْ الْمُهُورَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَتُسْتَحَقُّ عِنْدَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 الشَّافِعِيِّ، وَالْحَاصِلُ عِنْدَنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ تَخْتَصُّ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ، إلَّا بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْجَارُ الْحَادِثُ، وَأَخْذُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا شُفْعَةَ فِي الْمَجْعُولِ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ فِي الْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ، أَوْ عُضْوٍ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُتَمَلَّكِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ السَّبَبِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْهُوبِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا بِدَارٍ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ بِإِزَاءِ مَالٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لِلْحَاجَةِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ رُدَّتْ عَلَيْهَا أَلْفًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا بَيْعٌ لِلنِّكَاحِ (وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ) الشُّفْعَةِ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُوجِبُ فِيمَا هُوَ بَيْعٌ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ، ثُمَّ فَرَضَ لَهَا دَارِهِ مَهْرًا، أَوْ صَالَحَهَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا مَهْرًا لَهَا أَوْ أَعْطَاهَا إيَّاهَا مَهْرًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ تَعْيِينٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مَمْلُوكٌ لَهَا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَفْرُوضَ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا دَارًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَفِي لَفْظِ الْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَلَّكَهَا الدَّارَ عِوَضًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهَا مِنْ مَهْرِهَا عَلَى الدَّارِ، أَوْ مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ عَلَى الدَّارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا تَعْيِينَ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالدَّارِ، فَإِنَّهُ مَلَّكَهَا ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ الْمَهْرِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ مَالٌ فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى فَبَاعَهَا بِهِ هَذِهِ الدَّارَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ الدَّارَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْطَاهَا الدَّارَ مَهْرًا، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الدَّارَ وَتُطَالِبَهُ بِالْمُتْعَةِ، وَهُنَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَلْزَمْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا مِنْ الدَّارِ مَا فَرَضَ الْقَاضِي مَهْرًا لَهَا يُحْسَبُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ الْمُتْعَةِ وَيُعْطِيهِ الْفَضْلَ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ يُعْطِيهِ نِصْفَ الْمُسَمَّى. وَإِذَا صَالَحَ مِنْ دَمِ عَمْدٍ عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الصُّلْحُ وَمَا يُقَابَلُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ بِالدَّارِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُ مِنْهَا جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الدَّارَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 تُقْسَمُ عَلَى الْأَلْفِ وَعَلَى دَمِ الْعَمْدِ وَقِيمَةِ الدِّيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الدِّيَةِ، وَالدِّيَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ أَلْفٍ جُزْءًا كَانَتْ حِصَّةُ الدَّمِ مِنْ الدَّارِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، وَحِصَّةُ الْأَلْفِ: جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ شِجَاجِ الْعَمْدِ الَّتِي فِيهَا الْقَوَدُ، وَإِنْ صَالَحَهُ مِنْ مُوضِحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَمْدٌ، وَالْأُخْرَى خَطَأٌ عَلَى دَارِ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ مُوضِحَةِ الْخَطَأِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمُوجَبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ، فَإِذَا صَالَحَ عَنْهُمَا عَلَى دَارٍ كَانَ نِصْفُهَا بَدَلًا عَنْ الْقَوَدِ وَنِصْفُهَا بَدَلًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا الصُّلْحِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُعَارِضُ النَّفْسَ أَلَا تَرَى أَنَّ مُوجِبَ مُوضِحَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَوَدُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ خَاصَّةً، وَأَنَّ مُوجِبَ الْخَطَأِ عَلَيْهِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِ وَإِذَا لَمْ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا تَجِبُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا إمَّا؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَرِيكًا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، أَوْ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارِبِ إذَا بَاعَ دَارًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ وَفِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ، فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا. وَإِنْ صَالِح مِنْ كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى دَارٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لَا يَمْلِكُ الْكَفِيلُ شَيْئًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ صَحِيحًا لَمْ يَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ رَجُلٍ فِي قِصَاصٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَالٍ فَفِي حُكْمِ الشُّفْعَةِ، وَبُطْلَانِ الصُّلْحِ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلَانٌ مِنْ الْمَالِ كُلِّهِ، فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ صُلْحَ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الدَّيْنِ عَلَى مِلْكِهِ صَحِيحٌ كَصُلْحِ الْمَدْيُونِ وَلَوْ كَانَ الْمَدْيُونُ هُوَ الَّذِي صَالَحَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ الصُّلْحُ وَوَجَبَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ هُوَ كَفِيلٌ بِالنَّفْسِ، وَإِنْ قَالَ أَقَبَضْتُكُمَا عَنْهُ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ بِمِقْدَارِ قِيمَتِهَا مِنْ الدَّيْنِ فَقَضَاءُ الدَّيْنِ بِالدَّارِ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ، أَوْ بَعْضُهُ فَكَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعِوَضِ فِي الصُّلْحِ الْفَاسِدِ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَلَى دَارٍ فَطَلَبَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا الْأَبُ لَهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ بِقِيمَةِ الدَّارِ فَهَذَا بَيْعٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ إلَى الشَّفِيعِ سَمْحًا بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 الْمُبْتَدِئِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِي دَارِ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، وَهُوَ بَيْعٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ مُسَمًّى مَعْلُومًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الِابْنَةُ كَبِيرَةً فَسَلَّمَتْ، فَهُوَ بَيْعٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِبَقَاءِ مِلْكِ الْبَائِعِ فِيهَا وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي اسْتِرْدَادِهَا. وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ بِغَيْرِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ عَنْ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكهَا بِالْقَبْضِ، فَهُوَ جَارٌ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ حِينَ بِيعَتْ بِمِلْكِ هَذِهِ الدَّارِ وَقِيَامُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذِهِ الشُّفْعَةِ لَهَا كَقِيَامِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلرَّاهِنِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى رَدَّ هَذِهِ الدَّارَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ جِوَارُهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَقِيَامُ السَّبَبِ لَهُ إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ لَهُ بِالْأَخْذِ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْبَائِعِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَارًا حِينَ بِيعَتْ هَذِهِ الدَّارُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا الشُّفْعَةَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَةَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ جِوَارُهُ، وَلَا الْمُشْتَرِي مِنْهُ؛ لِأَنَّ جِوَارَهُ حَادِثٌ بَعْدَ مِلْكِهِ الدَّارَ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهَا وَبَنَاهَا فَلِلْبَائِعِ قِيمَتُهَا وَيَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَلَكِنْ يَهْدِمُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي فَيَرُدُّ الدَّارَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بَنَى فِي بُقْعَةٍ غَيْرُهُ أَحَقُّ بِتَمَلُّكِهَا مِنْهُ فَيَنْقُضُ بِنَاءَهُ لِلرَّدِّ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، كَالْمُشْتَرِي إذَا بَنَى فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ بَيْعٌ لَحِقَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ بِصِفَةِ التَّأْكِيدِ لَا يَبْطُلُ بِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْبَائِعِ، وَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ وَعَلَيْهِ شَرْعًا، ثُمَّ بِنَاءُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِهِ يُنْقَضُ لِحَقِّ الشَّفِيعِ مَعَ ضَعْفِهِ فَلَأَنْ يُنْقَضَ بِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَانَ أَوْلَى أَرَأَيْت لَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ أَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، فَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا بَعْدَ مَا رَفَعَ بِنَاءَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ فَلَأَنْ يَرُدَّهَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، فَهُوَ حَقٌّ ضَعِيفٌ فَيَسْقُطُ بِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ كَمَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بَنَى فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِتَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَلَا يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ لِحَقِّهِ، كَالْمَوْهُوبِ لَهُ يَبْنِي فِي الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ، فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ بِإِيجَابِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا وَالْبَيْعُ، وَإِنْ فَسَدَ شَرْعًا، فَالتَّسْلِيطُ مِنْ الْبَائِعِ بَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ لَا تُنْقَضُ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَسْلِيطِهِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ فَارَقَ الشَّفِيعَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَسْلِيطُ الْمُشْتَرِي عَلَى التَّصَرُّفِ؛ وَلِهَذَا يُنْقَضُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ وَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: عِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ قَدْ انْقَطَعَ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهَا وَيُنْقَضُ بِنَاءُ الْمُشْتَرِي لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَهُمَا بِهَذَا الْحَرْفِ يَسْتَدِلَّانِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَيَقُولَانِ: لَا قَرَارَ لِهَذَا الْبِنَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ رَفْعُهُ مُسْتَحَقٌّ إمَّا لَحِقَ الْبَائِعِ، أَوْ لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لِهَذَا الْبِنَاءِ قَرَارٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَلَكِنْ لَا قَرَارَ لَهُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ لِلْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي فِيهَا، كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، ثُمَّ يُنْقَضُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ لِحَقِّ الشَّفِيعِ يَقُولُ: فَإِنْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي بَيْعًا صَحِيحًا فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ الْبَيْعَ الثَّانِي وَأَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْنِ فِيهَا لِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ، فَيَأْخُذُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبِنَاءِ وَيَقُولَانِ: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي هُنَا حَصَلَ فِي غَيْرِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَفِي الْبِنَاءِ حَقُّهُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ بَيْعٌ لِلْأَصْلِ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إشْكَالٌ، فَالشَّفِيعُ إذَا نَقَضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ، فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَقِيلَ الْبَيْعُ الثَّانِي يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَصْلِ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ مِنْ الْأَصْلِ الثَّانِي صَحِيحٌ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَمَا يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ حَقِّ الشَّفِيعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا حَقَّهُ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ هَذِهِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مِلْكِهِ بُعْدٌ، فَيَكُونُ جَارًا بِمِلْكِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى، فَإِنْ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ جِوَارَهُ بِاخْتِيَارِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ جِوَارَهُ مُحْدَثٌ بَعْدَ بَيْعِ تِلْكَ الدَّارِ. وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، وَالْمُتَعَاقِدَانِ مُسْلِمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا وَشَفِيعُهَا نَصْرَانِيٌّ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِمُسْلِمٍ، وَلَا كَافِرٍ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا كَافِرٌ مِنْ كَافِرٍ وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ، وَالْخِنْزِيرَ فِي حَقِّهِمْ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، كَالْبَعِيرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 وَالشَّاةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا نَصْرَانِيًّا أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ الْمُشْتَرَى بِهَا أَوْ بِقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِمِثْلِ مَا يُمْلَكُ بِهِ الْمُشْتَرَى صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي الْخِنْزِيرِ يَأْخُذُهَا بِقِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَاجِزٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ قَصْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّ خَمْرَ النَّصْرَانِيِّ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ مَضْمُونٌ عَلَى النَّصْرَانِيِّ بِالْمِثْلِ وَعَلَى الْمُسْلِمِ بِالْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا إلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ مَنْ تَابَ مِنْ فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا فَزَرَعَهَا وَغَرَسَ فِيهَا الشَّجَرَ فَنَقَضَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ، وَالْبَائِعُ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْغَرْسَ، كَالْبِنَاءِ فَكَمَا لَا يُنْقَضُ بِنَاءُ الْمُشْتَرِي لِحَقِّ الْبَائِعِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ لَا تُقْلَعُ أَشْجَارُهُ وَإِذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ وَجَبَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَتِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا نَقَضَ الْأَرْضَ مِنْ عَمَلِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْلِفِ لِجُزْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِمَا يُتْلِفُهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ يُطْرَحُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ، كَالْبِنَاءِ إذَا أَحْرَقَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُقْلَعُ الشَّجَرُ كَمَا يُهْدَمُ الْبِنَاءُ وَيُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا، ثُمَّ خَاصَمَهُ الْبَائِعُ فِيهَا فَلَهُ الْقِيمَةُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ، فَلَا يُنْقَضُ لِحَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا لَوْ بَنَى فِيهَا الْمُشْتَرِي بِنَاءً آخَرَ وَذَكَرَ هِلَالٌ هُنَاكَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ نَظِيرُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا، ثُمَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي عَيْنِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يُنْقَضْ تَصَرُّفُهُ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِإِبْطَالِ الْمِلْكِ أَوْلَى، فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا بَيْعًا صَحِيحًا يُرَدُّ النِّصْفُ الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ الْآخَرِ هَكَذَا قَالَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَمَّا انْقَطَعَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِيهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَإِذَا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْآخَرِ يُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِفَضْلِ نِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَغْرَمُ لِلْبَائِعِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَالْفَضْلُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 [بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْمَرِيضِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرِيضٌ بَاعَ دَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ وَابْنُهُ شَفِيعُ الدَّارِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلِابْنِ فِيهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا مِنْ أَبِيهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. يُوَضِّحُهُ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ كَمَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ خُصُوصًا إذَا أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، أَوْ يَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ ثَمَنٍ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوَجْهَانِ قُلْنَا لَا شُفْعَةَ لَهُ أَصْلًا. وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا إنْ شَاءَ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَا هُنَا، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي الْجَامِعِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ لِلدَّارِ مِنْ أَبِيهِ وَأَجْنَبِيٌّ شَفِيعُهَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَالْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ كَمَا لَوْ أَعَانَهُ بِبَدَنِهِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ كَمَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَارِثِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَبَاعَ بَعْضَ مَالِهِ مِنْ آخَرَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْوَصِيَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يُجْعَلْ بَيْعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَصِيَّةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى أَحَدُ وَرَثَتِهِ هَذِهِ الدَّارَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، إلَّا بِرِضَا سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ إيثَارَ الْبَعْضِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ رُدَّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ إيثَارَهُ بِالْعَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضًا، فَقَدْ يَفْتَخِرُ الْإِنْسَانُ بِخَطِّهِ إيَّاهُ فَوْقَ مَا يَفْتَخِرُ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا نَفَى الشَّرْعُ وَصِيَّةَ الْمَرِيضِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ دَفْعًا لِلْغَضَاضَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 يَتَحَقَّقُ هُنَا؛ فَلِهَذَا يَمْتَنِعُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِأَكْثَرَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالدَّيْنِ، أَوْ بِالْعَيْنِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْوَارِثِ وَيُجْعَلُ وَصِيَّةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَقُّهُمْ فِي دُيُونِهِمْ لَا فِي عَيْنِ مَالِ الْمَرِيضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالٍ آخَرَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ كَانَ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنًا فِي صِحَّتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ بَاعَهُ مِنْ دَارٍ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا، إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَمَّا صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا مِنْ ابْنِهِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَا إشْكَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ وَعِنْدَهُمَا لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يُزِيلَ الْمُحَابَاةَ وَيَأْخُذَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إنْ شَاءَ فَكَذَلِكَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِذَلِكَ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ فِي تَصَرُّفِهِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْمُحَابَاةِ وَصِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَبِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْمُفْسِدِ، فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ، أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ وَصِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعُ دَارُهُ مِنْ فُلَانٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا طَلَبَ الْمُوصَى لَهُ، وَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ يُزَاحِمُ سَائِرَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ وَصِيَّةً، وَقَدْ نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْبَيْعُ أَصْلًا. وَإِذَا اشْتَرَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 الْمَرِيضُ دَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَابَاهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَلَوْ كَانَ بَاعَ دَارًا بِقِيمَتِهَا، أَوْ أَكْثَرَ وَوَارِثُهُ شَفِيعُهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْوَارِثِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْوَارِثِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالْوَارِثُ شَفِيعُهَا؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي تَمَلُّكِهَا بِالسَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُشْتَرِي إذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفَيْنِ، وَالْوَصِيَّةُ كَانَتْ مِنْهُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ، وَمَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ فِي وَصِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ، فَالْوَصِيَّةُ هُنَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَ مَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَفِي حَقِّ الْبَيْعِ الشَّفِيعُ صَارَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ الْبَيْعِ، وَلَمَّا أُوجِبَ الْبَيْعُ لَهُ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى بِهِ الْمُشْتَرِي فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ لِلْمُشْتَرِي إنْ سَلَّمَ الشَّفِيعُ لَهُ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ أَحَدُهُمَا وَارِثٌ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَفِيعٌ سِوَاهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِالشُّفْعَةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ شَفِيعٌ آخَرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا، وَإِذَا انْعَدَمَتْ مُزَاحَمَتُهُ كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ أَحَدُ الشَّفِيعِينَ شُفْعَتَهُ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْتَ فَخُذْهَا بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْمُحَابَاةِ، إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْمَانِعِ بِأَنْ يَلْتَزِمَ إلَى تَمَامِ ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ لِأَجَلِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ شَاءَ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيُسَلِّمُ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا فِي الِابْتِدَاءِ بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَمَّا عِنْدَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ، فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا عِنْدَ الرَّدِّ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ صَحِيحًا مُوجِبًا لِلشُّفْعَةِ حَتَّى إذَا ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ، فَالْبَيْعُ سَالِمٌ لِلْمُشْتَرِي وَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ، ثُمَّ الرَّدُّ مِنْ الْمُشْتَرِي يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ كَمَا لَوْ تَفَاسَخَا الْبَيْعَ، وَلَكِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ. وَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ إلَى أَجَلٍ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالْقَدْرِ اسْتَغْرَقَتْ ثُلُثَ الْمَالِ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةُ بِالْأَجَلِ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْأَلْفَيْنِ حَالَّةً؛ لِيَصِلَ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَالُ حَقِّهِمْ وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْأَجَلُ فِي الثَّمَنِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي: إنْ شِئْتَ فَعَجِّلْ أَلْفَيْنِ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ شَاءَ عَجَّلَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إلَى أَجَلٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ تَأْجِيلَ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا فِيمَا لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَهُ أَصْلًا كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: جَمِيعُ الْمُسَمَّى مَمْلُوكٌ بِإِزَاءِ مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ فِيهِ، إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْقَاطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَيْلُولَةَ تَقَعُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمَالِ فِي الْحَالِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ شُهُودُ التَّأْجِيلِ ضَمِنُوا كَمَا تَضْمَنُ شُهُودُ الْإِبْرَاءِ فَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْكَلَامَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَأَمَّا الشَّفِيعُ، فَالْأَجَلُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَجَّلَ الْمَالَ كُلَّهُ وَأَخَذَ الدَّارَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ كَفَّ حَتَّى يَحِلَّ الْمَالُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّحِيحِ بِبَيْعِ دَارِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، فَهُوَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارًا، أَوْ حَابَى فِيهَا، ثُمَّ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، وَالشَّفِيعُ وَارِثُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ حَتَّى الْآنَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ حَتَّى بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلشُّفْعَةِ لَهُ الْبَيْعُ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالسَّبَبِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَخْذِ عِنْدَ ذَلِكَ، كَالْجَارِ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ لِمَكَانِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ سَلَّمَ الشَّرِيكُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 [بَابُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْعِ، وَالْمُشْتَرِي حَاضِرٌ، أَوْ غَائِبٌ فَتَسْلِيمُهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لَهُ، وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ، وَأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ إلَى مَحَلٍّ هُوَ حَقُّ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَاوَمَ الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِيَ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ سَاوَمَهُ بِهَا؛ لِيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَالْتِمَاسُهُ دَلِيلُ إسْقَاطِ شُفْعَتِهِ وَدَلِيلُ الْإِسْقَاطِ كَصَرِيحِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنْفَقْتُ عَلَيْهَا كَذَا فِي بِنَائِهَا وَإِنِّي أُوَلِّيكهَا بِذَلِكَ وَبِالثَّمَنِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ تَسْلِيمٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ وَمَعْنَاهُ وَلِّنِي بِذَلِكَ وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ الْوَكِيلُ الشُّفْعَةَ، أَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَنَقُولُ: أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْر مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: أَوَّلًا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ صَحِيحٌ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ يَجُوزُ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ذَكَرَ قَوْلَهُ هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَا يُحْفَظُ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الْوَكِيلُ الشُّفْعَةَ وَقِيلَ ذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالتَّسْلِيمِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ إقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَفِي مَجْلِسِ الْقَاضِي كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّل، فَالْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَكِيلُ الْخُصُومَةِ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالتَّسْلِيمِ كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ بِنَفْسِهِ، فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْخُصُومَةِ وَمَجْلِسُ الْخُصُومَةِ مَجْلِسُ الْقَاضِي فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوَكِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَغَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضِدُّ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ لَا بِإِسْقَاطِهِ الْحَقَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا سَلَّمَا شُفْعَةَ الصَّبِيِّ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَالْإِسْقَاطُ ضِدُّ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا الْوِلَايَةُ فِي الْإِسْقَاطِ، كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الصَّبِيِّ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ شَرْعًا لِدَفْعِ الضُّرِّ فِيهَا بِالْإِسْقَاطِ كَأَنَّهُمَا يُلْزِمَانِهِ الضَّرَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ تَرْكُ الشِّرَاءِ. وَالْأَبُ، وَالْوَصِيُّ كَمَا يَجُوزُ مِنْهُمَا الشِّرَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ يَجُوزُ تَرْكُ الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيْعَ فِيهَا مِنْ الصَّغِيرِ فَرَدَّهُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا. وَبَيَانُ الْوَصْفِ: أَنَّ الشَّفِيعَ بِالْأَخْذِ يَتَمَلَّكُ الْعَيْنَ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرَاءُ. وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ فِي تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ يَبْقَى أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى مِلْكِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ، فَهُوَ إسْقَاطٌ بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ضَرَرًا كَبَيْعِ مَالِهِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَإِسْقَاطِ الْقَوَدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْهُ تَتَوَجَّهُ الْعُهْدَةُ فِيهَا عَلَى الصَّغِيرِ وَفِي التَّسْلِيمِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْعُهْدَةُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا سُكُوتُ مَنْ يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ عَنْ الطَّلَبِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَكَتَ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحَقِّ الصَّبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّبِيِّ. وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ لِلصَّبِيِّ دَارًا، وَهُوَ شَفِيعُهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ الْأَبِ مَالَ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ وَصِيٌّ لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْوَصِيُّ لَا يَشْتَرِي مَالَ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ لِنَفْسِهِ دَارًا، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا فَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فَسُكُوتُهُ يَكُونُ مُبْطِلًا شُفْعَةَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ دَارًا، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأَخْذَ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ، فَأَمَّا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا فَسَلَّمَ الْأَبُ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَصِحُّ التَّسْلِيمُ هُنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ وَسُكُوتُهُ عَنْ الطَّلَبِ وَتَسْلِيمُهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَخْذِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 فَيَبْقَى الصَّبِيُّ عَلَى حَقِّهِ إذَا بَلَغَ. وَتَسْلِيمُ أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ شُفْعَةَ صَاحِبِهِ فِي دَارٍ لَهُ خَاصَّةٍ مِنْ مِيرَاثٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَالْمُتَعَاوَضَانِ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فَكَمَا يُجْعَلُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا فِي الْحُكْمِ كَأَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ التَّسْلِيمُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الشَّفِيعَ بِدَارُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِيهَا رِبْحٌ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُهَا فَسَلَّمَ الْمُضَارِبُ الشُّفْعَةَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي دَارِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ وَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَتَسْلِيمُ أَحَدِهِمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ حَقِّ شَرِيكِهِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي بَيْعِهَا عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا رَبُّ الْمَالِ، وَهِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَارٌ أُخْرَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ بَائِعٌ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ غَيْرُهُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَتَكُونُ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي بَيْعِ دَارِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَبِاعْتِبَارِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَالِ جَارٌ لِلدَّارِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَالْأَخْذُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَلَوْ اشْتَرَاهَا كَانَتْ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لَهُ خَاصَّةً، وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَارٌ بِاعْتِبَارِ شَرِكَتِهِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ فِي الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ غَيْرُ عَامِلٍ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ لَمْ يَأْخُذْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا أَخَذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ فَفِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ هُوَ الْأَصْلُ وَرَبُّ الْمَالِ هُوَ الْبَائِعُ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ الْغَيْرُ لَهُ. وَإِذَا بَاعَ الْمُفَاوِضُ دَارًا لَهُ خَاصَّةً مِنْ مِيرَاثٍ وَشَرِيكُهُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ خَاصَّةٍ مِنْ مِيرَاثٍ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 وَإِذَا كَانَ بَائِعُهَا شَرِيكَهُ لَوْ ثَبَتَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا شُفْعَةٌ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا يَأْخُذَانِ بِالشُّفْعَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَسَلَّمَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ الشِّرَاءِ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، ثُمَّ هُوَ إسْقَاطُ حَقٍّ بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَبْقَى كَسْبًا لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَهَا مَوْلَاهُ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَذَهَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ مِنْ الْمَوْلَى كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَخْذِ عَامِلٌ لِغُرَمَائِهِ لِلْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى جَازَ بَيْعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُهُ. وَتَسْلِيمُ الْمُكَاتَبِ شُفْعَتَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. وَتَسْلِيمُ الْمُرْتَدِّ شُفْعَتَهُ جَائِزٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ إذَا مَاتَ، أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ، فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُورَثُ، فَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ إنْ أَسْلَمَ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ مَاتَ، فَالشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا فَطَلَبَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَهَذَا يَتَوَقَّفُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ وَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ رَأَى صَاحِبُ الدَّارِ الْعَبْدَ فَلَمْ يَرْضَهُ وَرَدَّهُ وَأَخَذَ دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ دَفَعَهَا، أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّادُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضَاءٍ، وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِالْعُقُودِ لَا بِالْفُسُوخِ وَمَا كَانَ وَجَبَ لَهُ بِالْعَقْدِ، فَقَدْ أَسْقَطَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا لَمْ يَرَهَا، ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ خِيَارُ رُؤْيَتِهِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَخْذُهُ إيَّاهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، وَالتَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ خِيَارِ الشَّرْطِ صَحِيحٌ مِنْ الْمُشْتَرِي وَبِإِسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بَاطِلٌ قَبْلَ أَنْ يَرَاهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ دَارًا بِالشُّفْعَةِ بِيعَتْ بِجَنْبِهَا. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارَيْنِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ إحْدَاهُمَا، فَلَا شُفْعَةَ لِلضَّارِبِ فِيهَا، فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَلَا رِبْحَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَأْخُذُهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 الْمُضَارِبُ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدُّورَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً؛ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ الدَّارَيْنِ عَبْدَانِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدَيْهِمَا رِبْحٌ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ. وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ تَرَاضِيهِمَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَإِنْ اشْتَرَطَ بَيْتًا بِعَيْنِهِ لِنَفْسِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْبَيْتِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الدَّارَ كُلَّهَا، أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ غَيْرُ مُسَلِّمٍ شُفْعَتَهُ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ رَغْبَتَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا، فَيَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ فِيهَا. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، وَالْمَكَانِ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا بَيْنَهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. وَإِذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي مَنْزِلٍ، وَهُوَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَنْزِلِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِتَرَاضِيهِمَا وَلِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْآخَرَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَارِ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْمَنْزِلِ، إلَّا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الطَّرِيقِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فَفِيمَا أَسْقَطَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ زَالَ الْمَانِعُ فَلِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْمَنْزِلِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ يُلْجِئُهُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِفَسَادِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ابْتِدَاءً وَبِاعْتِبَارِهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ الْأَصْلِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ الشَّرْطِ لَمْ يَتَجَدَّدْ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا أَقَرَّ بِفَسَادِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ فِي هِبَةٍ بِعِوَضٍ بَعْدَ التَّقَابُضِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي أَنَّهَا كَانَتْ بَيْعًا بِذَلِكَ الْعِوَضِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ فَكَانَ التَّسْلِيمُ صَحِيحًا مِنْ الشَّفِيعِ سَوَاءٌ أَقَرَّ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ كَانَ هِبَةً بِعِوَضٍ، أَوْ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَنَّهُ كَانَ بَيْعًا، وَإِنْ سَلَّمَهَا فِي هِبَةٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهَا كَانَتْ بِشَرْطِ عِوَضٍ أَوْ كَانَتْ بَيْعًا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ، أَوْ سَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً لَهُ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ. وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارًا عَلَى عِوَضٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، فَهُوَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 بَاطِلٌ حَتَّى إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إنَّمَا تَصِيرُ، كَالْبَيْعِ بَعْدَ التَّقَابُضِ. وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ سَلَّمَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِرَجُلَيْنِ دَارًا عَلَى عِوَضٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضُوا، فَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَهُوَ فِي الْهِبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ (فَكَذَلِكَ فِي) الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. وَلَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَا مِنْهُ الْأَلْفَ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمَا وَسَلَّمَا إلَيْهِ الدَّارَ جَازَ ذَلِكَ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِانْعِدَامِ الشُّيُوعِ فِي الدَّارِ، فَالْمِلْكُ فِيهَا وَاحِدٌ وَانْعِدَامُ الشُّيُوعِ فِي الْأَلْفِ حِينَ قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مَقْسُومًا، وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّعْوِيضِ كَمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ، وَالْأَلْفُ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَشَفِيعُهُمَا وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَخْذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَرْضَيْنِ، أَوْ قَرْيَةً وَأَرْضَهَا، أَوْ قَرْيَتَيْنِ وَأَرْضَيْهِمَا، وَهُوَ شَفِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَرْضٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِأَرْضَيْنِ، أَوْ بِدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بِدُورٍ، فَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَوْ يَدَعَ وَقَالَ زُفَرُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَالدُّورُ الْمُتَلَازِقَةُ وَغَيْرُ الْمُتَلَازِقَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ مِصْرَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَزُفَرُ يَقُولُ: يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ إحْدَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأُخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَفْقَةً عَلَى حِدَةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي مَلَكَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَفِي أَخْذِ إحْدَاهُمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَكَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي فِي حَقِّ الْبَائِعِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي صَفْقَتَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَشْتَرِي دَارَيْنِ وَرَغْبَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ فِي إحْدَاهُمَا، فَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ تِلْكَ دُونَ الْأُخْرَى تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِ الشَّفِيعِ، وَالشَّفِيعُ لَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي فِيمَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ شَفِيعًا لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لَهُ فِي إحْدَاهُمَا وَلَوْ أَخَذَهَا وَحْدَهَا تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الْأُخْرَى حُكْمًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا يَأْخُذُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الشُّفْعَةِ لَهُ فِي إحْدَاهُمَا بِدُونِ السَّبَبِ، وَفِي الْأُخْرَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَأْخُذُ الَّذِي هُوَ شَفِيعُهَا خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَدَارًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْعَبْدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ هُنَا لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الشَّفِيعِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إحْدَاهُمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي إحْدَاهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَفِيعًا لَهُمَا جَمِيعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ شُفْعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَاغِي، وَالْعَادِلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَتَسْلِيمِهَا سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الشُّفْعَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ، كَالْمُسْلِمِينَ فَأَهْلُ الْبَغْيِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْعَادِلَ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالْبَاغِي فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ إنْ عَلِمَ فَلَمْ يَبْعَثْ وَكِيلًا بَطَلَتْ شُفْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى اصْطَلَحُوا، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا عَلِمَ وَإِذَا كَانَ الشَّفِيعُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ الْمَبِيعَةُ فَجَاءَ إلَى هَذَا الْمِصْرِ فَطَلَبَ الشُّفْعَةَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَقْصِدْ الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَحِقُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ اتِّبَاعِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَبِيعُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَصَدَ الْمِصْرَ الَّذِي فِيهِ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، فَطَلَبَ الشُّفْعَةَ وَأَشْهَدَ وَلَمْ يَقْصِدْ الْمِصْرَ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِطَلَبِ التَّقْرِيرِ، وَذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّارِ وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي، أَوْ الْبَائِعِ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهَا، فَقَدْ خَرَجَ الْبَائِعُ مِنْ الْوَسَطِ، ثُمَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَمْصَارِ، وَالْقُرَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ أَقْرَبَ الثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ فَيَشْهَدُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَقْرَبَ وَجَاءَ إلَى الْأَبْعَدِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ حَتَّى قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ وَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَرَكَ الْأَقْرَبَ وَأَتَى الْأَبْعَدَ فَأَشْهَدَ عِنْدَهُ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَالْكَثِيرَ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ شُرِطَ فِي السِّلْمِ التَّسْلِيمُ فِي الْمِصْرِ يَكْفِي وَإِذَا اتَّخَذَ الْمَكَانَ حُكْمًا، فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ دَارًا مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 رَجُلٍ فِي عَسْكَرِهِ، وَالشَّفِيعُ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَسْكَرِ الْبَغْيِ فَلَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ، أَوْ لَمْ يَبْعَثْ وَكِيلًا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَبْعَثَ وَكِيلًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْوَكِيلَ، أَوْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ الطَّلَبَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الطَّلَبِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ عَسْكَرٍ، وَلَا حَرْب غَيْرَ أَنَّ الشَّفِيعَ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَبَيْنَهُمَا قَوْمٌ مُحَارِبُونَ فَلَمْ يَقْدُمْ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ وَكِيلًا يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ أُبْطِلَتْ شُفْعَتُهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ، أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ كُنْتُ أَجْعَلُهُ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَقَدْ تَرَكَ الطَّلَبَ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِوَكِيلٍ يَبْعَثُهُ، فِي هَذَا كُلِّهِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الشُّفْعَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُوَكِّلَ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا وَكِيلًا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ بِطَلَبِ سَائِرِ حُقُوقِهِ، فَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ فِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي الْخُصُومَاتِ، أَوْ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ وَكِيلِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْوَكَالَةِ، إلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ)؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ؛ لِيَقْضِيَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، وَلَا يَقْضِي بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ لَا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَإِذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءِ الدَّارِ، وَهِيَ فِي يَدِهِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا وَخَصْمُهُ الْوَكِيلُ، وَلَا أَقْبَلُ مِنْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِهَا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِالشُّفْعَةِ بِإِقْرَارِهِ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ مَنْ فِي يَدِهِ عَيْنٌ إذَا أَقَرَّ بِحَقٍّ فِيهِ لِغَيْرِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَالْوَكِيلُ الَّذِي حَضَرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ صَاحِبِ الدَّارِ، فَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ حَتَّى إذَا أُجِّرَتْ الدَّارُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبْطَلْتَ الْبَيْعَ، وَالشُّفْعَةَ، وَرُدَّتْ الدَّارُ عَلَيْهِ لِتَصَادُقِهِمْ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ كَانَ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ، إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ الشَّفِيعِ، وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَثْبُتُ عَقْدُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالشَّفِيعُ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَإِذَا طَلَبَ وَكِيلُ الشَّفِيعِ لَهُ الشُّفْعَةَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أُرِيدُ يَمِينَ الشَّفِيعِ مَا سَلَّمَ لِي، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالدَّارِ بِهَذَا وَيُقَالُ لَهُ انْطَلِقْ فَاطْلُبْ يَمِينَ الْآمِرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: لَا يَقْضِي بِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الشَّفِيعُ وَيَحْلِفَ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ (أَحَدُهَا) مَا بَيَّنَّا (وَالثَّانِي) وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا طَالَبَ الْمَدْيُونَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ وَقَالَ الْمَدْيُونُ أُرِيدُ يَمِينَ الْمُوَكِّلِ مَا أَبْرَأَنِي، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَيُقَالُ لَهُ انْطَلِقْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 فَاطْلُبْ يَمِينَ الطَّالِبِ (وَالثَّالِثُ) وَكِيلُ الْمُشْتَرِي إذَا أَرَادَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: أُرِيدُ يَمِينَ الْمُوَكِّلِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُرَدُّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَحْلِفَ فَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ مَسْأَلَةَ الشُّفْعَةِ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ فِي فَصْلِ الشُّفْعَةِ قَضَاءً بِالْمِلْكِ، وَالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ كَمَا أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَضَاءٌ بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَإِعَادَةِ الْمَبِيعِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سَوَّى بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بِالتَّسْلِيمِ سَقَطَ الْحَقُّ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَلَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَهُنَاكَ يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الرَّدِّ، وَهُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ: أَنَّ هُنَاكَ لَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفَسْخِ لِقِيَامِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْعَيْبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ ضَرَرًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ بَعْدَ ذَلِكَ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ نَكَلَ لَا يَعُودُ الْعَقْدُ وَفِي مَسْأَلَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ أَمَرَ الْمَدْيُونَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ضَرَرَ إبْطَالِ حَقِّهِ فِي الْيَمِينِ، بَلْ هُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ اسْتِحْلَافِ الطَّالِبِ وَمَتَى نَكَلَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ، فَالْمُشْتَرِي لَا يَتَضَرَّرُ بِالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الْيَمِينِ، بَلْ هُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي اسْتِحْلَافِ الشَّفِيعِ وَإِذَا نَكَلَ رَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَأَخَّرُ الْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ لِأَجْلِ يَمِينِ الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ بِالشُّفْعَةِ فَأَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا كَتَبَ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ كَمَا أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُمْتَنِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ فَكَذَلِكَ يَكْتُبُ لَهُ حُجَّةً بِقَضَائِهِ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ نَظَرًا لَهُ وَإِذَا كَانَ فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ يُعْطِي الْقَاضِي الْمَقْضِيَّ لَهُ سِجِلًّا إذَا الْتَمَسَ ذَلِكَ؛ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ يُعْطِيهِ ذَلِكَ وَإِذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَقَالَ لَيْسَ لِفُلَانٍ فِيهَا شُفْعَةٌ سَأَلْتُ الْوَكِيلَ الْبَيِّنَةَ عَنْ الْحَقِّ الَّذِي وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ مِنْ شَرِكَةٍ أَوْ جِوَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ، فَإِذَا أَقَامَهَا قَضَيْتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الَّتِي إلَى جَنْبِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مِلْكٌ لِمُوَكِّلِهِ فُلَانٍ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي إلَى جَنْبِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي يَدِ مُوَكِّلِهِ لَمْ أَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، فَالْأَيْدِي تَتَنَوَّعُ وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْيَدَ بِالْبَيِّنَةِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَنْكَرَ كَوْنَ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ الشَّفِيعِ مِلْكًا لَهُ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَثْبُتَ مِلْكُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ فَيَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْمِلْكِ الْيَدُ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَكَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي، إلَّا بِعِلْمٍ، فَالشَّاهِدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ، إلَّا بِعِلْمٍ، ثُمَّ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْيَدِ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ وَبِقَضَائِهِ بِهَذَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَإِذَا كَانَ يَقْضِي لِذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ إذَا حَلَفَ مَعَ وُجُودِ خَصْمٍ يُنَازِعُهُ فِيهَا وَيَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ هُنَاكَ خَصْمٌ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ؛ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْيَدَ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي عَلَيْهِ؛ لِيَدْفَعَ بِهَا اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي وَحُجَّةً فِي حَقِّ الشَّاهِدِ؛ لِيَدْفَعَ بِهَا اسْتِحْقَاقَ مَنْ يُنَازِعُهُ، وَحَاجَةُ ذِي الْيَدِ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ عَبْدٌ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَلَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَأَنْكَرَ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَوْنَ الدَّارِ لَهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِيَقْضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَهَذَا نَظِيرُهُ (قَالَ: وَلَا أَقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةَ ابْنَيْ الْوَكِيلِ وَأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ، وَلَا شَهَادَةَ ابْنَيْ الْمُوَكِّلِ وَأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ، وَلَا شَهَادَةَ الْمَوْلَى إذَا كَانَ الْوَكِيلُ، وَالْمُوَكِّلُ عَبْدًا لَهُ، أَوْ مُكَاتَبًا)؛ لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ وَيُثْبِتُونَ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْوَكِيلِ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِفُلَانٍ نَصِيبًا مِنْ الدَّارِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ لَمْ أَقْضِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، فَالنَّصِيبُ الْمَشْهُودُ بِهِ مَجْهُولٌ وَمَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الدَّارِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ الْوَكِيلُ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُدَّعًى عَلَى الْمُوَكِّل، وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْوَكِيلُ فِي ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَلَا نِيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: حَلِّفْهُ مَا سَلَّمَ هُوَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي بَاطِلٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِحْلَافِ فِي دَعْوَى تَسْلِيمٍ بَاطِلٍ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى الْوَكِيلِ أَنَّهُ سَلَّمَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِتَسْلِيمٍ بَاطِلٍ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْوَكِيلِ الشُّفْعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بَاطِلٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَاطِلٌ وَمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ مَا لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إذَا وُجِدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَعُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ وَلَوْ أَقَرَّ هَذَا الْوَكِيلُ فِي مَجْلِسِ هَذَا الْقَاضِي أَنَّهُ سَلَّمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 عِنْدَ فُلَانٍ الْقَاضِي، ثُمَّ عُزِلَ أَوْ أَنَّهُ سَلَّمَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ هَذَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّسْلِيمِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ يُجْعَلُ كَالْمُنْشِئِ لِذَلِكَ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَسْأَلَةُ الرُّجُوعِ لَا مَسْأَلَةُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْلِيمُ الْوَكِيلِ بَاطِلٌ. وَإِذَا شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ أَوْ ابْنَا الْمُوَكِّلِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ أَجَزْت شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا، وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَلَا شَهَادَةُ ابْنَيْ الْوَكِيلِ لِأَنَّ ابْنَيْ الْوَكِيلِ يُثْبِتَانِ صِدْقَ أَبِيهِمَا فِي دَعْوَى الْوَكَالَةِ وَيُثْبِتَانِ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَابْنَيْ الْمُوَكِّلِ يُنَصِّبَانِ نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا؛ لِيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فِي دَارٍ أَنْ يُخَاصِمَ فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَنْفُذُ بِالتَّقْيِيدِ وَقَدْ بَيَّنَّا قَيْدَ الْوَكَالَةِ بِالدَّارِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَهُوَ يُثْبِتُ الْوَكِيلَ فِيهِ مَنَابَ نَفْسِهِ وَقَدْ يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِكَوْنِ الْغَيْرِ نَائِبًا عَنْهُ فِي بَعْضِ الْخُصُومَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي كُلِّ شُفْعَةٍ تَكُونُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِأَنَّهُ عَمَّمَ التَّوْكِيلَ وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّعْمِيمَ وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي كُلِّ شُفْعَةٍ تَحْدُثُ لَهُ كَمَا يُخَاصِمُ فِي كُلِّ شُفْعَةٍ وَاجِبَةٍ لَهُ لِعُمُومِ الْوَكَالَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ غَلَّاتِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ بِدَيْنٍ، وَلَا حَقٍّ سِوَى الشُّفْعَةِ لِتَقْيِيدِ الْوَكَالَةِ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا فِي تَثْبِيتِ الْوَكِيلِ الْحَقَّ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ الشُّفْعَةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَكَّلُ إلَى الْخُصُومَةِ بِالشُّفْعَةِ، إلَّا بِذَلِكَ فَتَتَعَدَّى الْوَكَالَةُ إلَيْهِ ضَرُورَةً. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا يَأْخُذُ لَهُ دَارًا بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ الثَّمَنَ فَأَخَذَهَا الْوَكِيلُ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، فَهُوَ لِلْمُوَكِّلِ أَمَّا إعْلَامُ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الشِّرَاءِ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَوْلَى ثُمَّ الشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِهِ، فَالتَّوْكِيلُ بِالْأَخْذِ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَكِيلُ مُمْتَثِلٌ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِغَلَاءِ الثَّمَنِ أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ غَيْرَ الشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَأَظْهَرَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ غَيْر الشَّفِيعِ طَلَبَهُ لِغَيْرِهِ تَسْلِيمٌ مِنْهُ لِلشُّفْعَةِ كَأَنَّمَا يَطْلُبُ الْبَيْعَ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ طَلَبَ الْبَيْعَ لِنَفْسِهِ كَانَ بِهِ مُسَلِّمًا لِشُفْعَتِهِ، فَإِذَا طَلَبَهَا لِغَيْرِهِ أَوْلَى وَلَمَّا كَانَ إظْهَارُهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ لِلشُّفْعَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 اسْتَوَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أَوْ غَيْرَ حَاضِرٍ، فَإِنْ أَسَرَّ ذَلِكَ حَتَّى أَخَذَهَا ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي سَلَّمَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ لِلْأَمْرِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُسَلِّمًا شُفْعَتَهُ، وَلَكِنَّ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ سَمْحًا بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْأَمْرِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِهَا، فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُسَلِّمًا شُفْعَتَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا فَيَرُدُّ الدَّارَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَوَكَّلَ رَجُلًا وَاحِدًا يَأْخُذُهَا لَهُمَا فَسَلَّمَ شُفْعَةَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي وَأَخَذَهَا كُلَّهَا لِلْآخَرِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَتَسْلِيمُهُ شُفْعَةَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي كَتَسْلِيمِ الْمُوَكِّلِ وَبَعْدَ مَا سَقَطَ حَقُّ أَحَدِهِمَا يَبْقَى حَقُّ الْآخَرِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ، فَإِذَا أَخَذَهَا الْوَكِيلُ لَهُ جَازَ وَإِنْ قَالَ عِنْدَ الْقَاضِي قَدْ سَلَّمَتْ شُفْعَةَ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّهمَا هُوَ أَوْ قَالَ: إنَّمَا أَطْلُبُ شُفْعَةَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُبَيِّنَ أَيَّهُمَا سَلَّمَ نَصِيبَهُ وَلِأَيِّهِمَا يَأْخُذُ أَمَّا تَسْلِيمَهُ شُفْعَةِ أَحَدِهِمَا لَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، فَالْجَهَالَةُ الْمَحْصُورَةُ فِي مِثْلِهِ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا لِلْمَجْهُولِ مِنْهُمَا لِأَنَّ بِالْأَخْذِ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ لِلْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا لَا بُدَّ لِلْوَكِيلِ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لِأَيِّهِمَا يَأْخُذُ. وَإِذَا وَكَّلَ الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِيَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضَادِّ أَحْكَامِ الْأَحْكَامِ وَلَوْ وَكَّلَ الْبَائِعُ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ جَازَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي قَدْ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَالْتَحَقَ بِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ شَيْءٍ لِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي بَعْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ. وَإِذَا وَكَّلَ الذِّمِّيُّ الْمُسْلِمَ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْوَكِيلِ الْمُسْلِمِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ مِنْهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ الذِّمِّيُّ هُوَ الْوَكِيلَ وَقَدْ أَجَازَ الشَّفِيعُ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ قَبِلْتُ شَهَادَتُهُمَا وَأَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ جَازَ إقْرَارُهُ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي إثْبَاتِ كَلَامِهِ حُجَّةٌ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِطَلَبِ شُفْعَةٍ لَهُ فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ مُدَّعٍ يَدَّعِي فِي الدَّارِ شَيْئًا، فَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَبَقِيَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَالْأَمِينُ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 وَلَوْ وَجَدَ بِالدَّارِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ، وَلَا يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إلَى غَيْبَةِ الَّذِي وَكَّلَهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَمَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ وَإِذَا قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُك بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ بِكَذَا دِرْهَمًا وَأَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ وَقَعَ بِذَلِكَ أَوْ بِأَقَلَّ، فَهُوَ وَكِيلٌ وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ فَلَيْسَ بِوَكِيلٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الشِّرَاءُ بِهِ وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَيْنٍ بِعَشَرَةٍ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لِلْمُوَكِّلِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ، فَقَدْ وَكَّلَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَكِيلِ الْقِيَامُ بِهِ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: وَكَّلْتُك بِطَلَبِهَا إنْ كَانَ فُلَانٌ اشْتَرَاهَا لِأَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ، فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَ شَخْصٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَرْغَبُ الشَّفِيعُ فِي الْأَخْذِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي إنْسَانًا بِعَيْنِهِ، وَلَا يَرْغَبُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَهُ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا تَقْيِيدَهُ وَإِذَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ لِوَرَثَةٍ مِنْهُمْ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْحَمْلُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ بَعْدُ فَهُمْ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ بِالْإِرْثِ فَبِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مِنْ جِوَارٍ أَوْ شَرِكَةٍ وَإِذَا وَضَعَتْ الْحُبْلَى حَمْلَهَا وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ شَارَكَتْهُمْ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْمَيِّتِ، فَقَدْ حَكَمْنَا بِالْإِرْثِ لَهُ وَبِكَوْنِهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْبَيْعِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الدَّارِ غَائِبًا أَخَذَ الْحَاضِرُ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَبْطَلْتُ الْبَيْعَ وَالشُّفْعَةَ وَإِنْ كَتَبَ قَدْ وَصَّيْت بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْعُلُوقِ مِنْ مِلْكِ بَائِعِهَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَنَفْسِ الْبَيْعِ ثُمَّ بِدَعْوَى النَّسَبِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهَا بِأُمِّ الْوَلَدِ وَبِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ نَظِيرَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْوَلَدَ لِأَمَتِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِطَلَبِ كُلِّ دَيْنٍ لَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَتَقَاضَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ دَيْنٍ وَمَا حَدَثَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَفِي الْعُرْفِ يُرَادُ جَمِيعُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي كُلِّ عِلَّةٍ لَهُ أَوْ يَبْتَعْهَا دَخَلَ فِيهِ مَا يَحْدُثُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي كُلِّ مِيرَاثٍ لَهُ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِمَالِهِ وَلَمْ يُرِدْ عَلَى هَذَا فَفِي الْقِيَاسِ التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا وَكَّلَهُ بِهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُسْتَدِيمَةً لَهُ وَالْوَكِيلُ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 هَذَا تَوْكِيلٌ بِالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحْفُوظٌ عِنْدَ كُلِّ مَالِكٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمَالَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّوْكِيلِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْحِفْظُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَالْبَيْعُ وَتَقَاضِي الدَّيْنِ شَكٌّ بِلَا بَيِّنَةٍ وَإِنْ قَالَ: تَقَاضَ دَيْنِي؛ أَوْ أَرْسِلْهُ يَتَقَاضَاهُ أَوْ وَكِّلْهُ، فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّقَاضِي مُعَبِّرٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ، كَالرَّسُولِ وَلَهُ أَنْ يَتَقَاضَاهُ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يُوَكِّلَ بِقَبْضِهِ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ عَبْدَهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَجِيرَهُ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُ، كَالْمُودَعِ فِي الْوَدِيعَةِ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَسَمَّى لَهُ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا يَحْدُثُ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ التَّوْكِيلَ بِمَا سَمَّى لَهُ وَهُوَ تَقْيِيدُ مُقَيَّدٍ، فَقَدْ يَأْتَمِنُ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ مَالِهِ دُونَ الْكَثِيرِ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِتَسْلِيمِ شُفْعَتِهِ لَهُ فَجَاءَ الْوَكِيلُ وَقَدْ غَرِقَ بِنَاءُ الدَّارِ أَوْ احْتَرَقَ نَخْلِ الْأَرْضِ فَأَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بَعْدَ مَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي الْأَخْذِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا إذْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهُ حُرًّا أَوْ وَصِيًّا فِي الْخُصُومَةِ فِي حَيَاتِهِ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ فَهَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ الْوَكَالَةِ وَالْمُعْتَبَرُ الْمَعْنَى دُونَ الْعِبَارَةِ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيُنْفِذَ الثَّمَنَ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالشُّفْعَةِ فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِينَ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ حَضَرَا مَجْلِسَ الْقَاضِي لَمْ يَتَكَلَّمْ، إلَّا أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا، وَلَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ مَنْزِلَةَ الْوَكِيلِينَ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعْنًى؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ تَامٌّ فِي الْخُصُومَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِغَيْرِهِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَجَازَ لَهُ مَا صَنَعَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صُنْعَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُجِزْ صُنْعَ الْوَكِيلِ الثَّانِي، وَهَذَا اللَّفْظُ يُعْتَبَرُ فِي تَصْحِيحِ التَّوْكِيلِ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَنْفِيذِ إجَازَةِ الْأَوَّلِ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَاءَ إجَازَةِ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا يُسَوِّي غَيْرَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 بِنَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوَكِّلُ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّوْكِيلِ فَلَوْ جَوَّزْنَا مِنْ الْأَوَّلِ إجَازَتَهُ مَا صَنَعَ الثَّانِي كَانَ مُسَوِّيًا لَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا طَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ شَهْرًا أَوْ سَنَةً عَلَى أَنَّهُ عَلَى خُصُومَتِهِ وَعَلَى شُفْعَتِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ شُفْعَةُ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَبَ هَذَا مِنْ الْمُوَكِّلِ فَأَجَابَهُ إلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ شُفْعَتُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا جَعَلَهُ مُحَمَّدٌ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ عِنْدَ الْتِمَاسِ الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُهُ بِمَوْتِهِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، فَإِذَا مَضَى الْأَجَلُ وَعَلِمَ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَطْلُبْ أَوْ يَبْعَثْ وَكِيلًا آخَرَ يَطْلُبُ لَهُ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ هَذَا الْوَكِيلُ وَمِقْدَارُ الْمُدَّةِ لَهُ فِي ذَلِكَ مِقْدَارُ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ هُوَ عَلَى سَيْرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَبِ، إلَّا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ شُفْعَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا كَافِرٌ أَخَذَهَا بِخَمْرٍ بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَمْرِ وَبِقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ)؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، فَالْبَيْعُ بِهِمَا صَحِيحٌ بَيْنَهُمْ ثُمَّ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً وَمَعْنًى فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، فَالْخَمْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهِيَ مَكِيلَةٌ أَوْ مَوْزُونَةٌ وَبِالْمِثْلِ مَعْنًى فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَأْخُذُهَا بِقِيمَتِهِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّم فِي حَقِّهِمْ، فَالشِّرَاءُ بِهَا يَكُونُ بَاطِلًا وَبِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِخَمْرٍ وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ ضَرَرِ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَحَاجَةُ الذِّمِّيِّ إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْمُسْلِمِ فَيَأْخُذُ الذِّمِّيُّ نِصْفَهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الْخَمْرِ وَالْمُسْلِمُ نِصْفَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ الْمُسْلِمُ عَنْ تَمْلِيكِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَقَدَرَ الْكَافِرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَسْلَمَ الشَّفِيعُ الْكَافِرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبٌ لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ لَا لِإِبْطَالِهِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ تَمْلِيكِ عَيْنِ الْخَمْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ اشْتَرَى دَارًا بِكُرٍّ مِنْ رُطَبٍ فَجَاءَ الشَّفِيعُ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ الرُّطَبُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الرُّطَبِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْخَمْرُ غَيْرُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 مَقْبُوضَةٍ وَالدَّارُ مَقْبُوضَةٌ أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ انْتَقَضَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ قَبْضَ الْخَمْرِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ عَلَى الْخَمْرِ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ بِأَصْلِ الْبَيْعِ وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا وَبَقَاؤُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي الْخَمْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ بِسَبَبِ إسْلَامِهِ وَبِذَلِكَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ إنْ كَانَ هُوَ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مُسْلِمًا لِتَعَذُّرِ تَمْلِيكِ عَيْنِ الْخَمْرِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَخَذَهَا بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ فِي الْخَمْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ بِسَبَبِ إسْلَامِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَإِذَا كَانَ إسْلَامُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْخَمْرِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّارِ، فَالْبَيْعُ بَيْنَهُمَا يَبْقَى صَحِيحًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الْخَمْرِ يَنْتَهِي بِالْقَبْضِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ قَبْضَ الدَّارِ، فَإِذَا اشْتَرَى الدَّارَ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَعْضِ مَا لِلْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ جَعَلَ الدَّارَ مَسْجِدًا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْبَيْعَةِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الطَّاعَةِ وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَبِيعَتْ الدَّارُ فِي دَيْنِهِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ الثَّانِي كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي بَاعَهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ بِالْخَمْرِ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ دَارًا بِخَمْرٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ صَارَتْ خَلًّا وَأَسْلَمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ، فَنَقُولُ: إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُسْلِمْ الْبَائِعُ أَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ بَعْدَ إسْلَامِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَسْلَمَا مَعًا بَقِيَ النِّصْفُ الْمُسْتَحَقُّ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الْخَلِّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ وَخَمْرُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْكَافِرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْخَلَّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ، فَأَمَّا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِبَعْضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْخَلِّ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً لَهُ عَلَى أَحَدٍ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا رَدَّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْخَلِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا يَتَنَاوَلُ هَذَا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ خَمْرًا فِي الذِّمَّةِ فَعِنْدَ الْفَسْخِ يَعُودُ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ وَالْخَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمُسْلِمِ عَلَى آخَرَ، فَأَمَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ دُونَ الْمُشْتَرِي أَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا عَلَى مَا رَوَاهُ زُفَرُ وَعَاقَبَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ إسْلَامِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، فَنَقُولُ: فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْخَلِّ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ نِصْفَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي هَذَا النِّصْفِ كَانَ بَاطِلًا وَالْخَمْرُ تَكُونُ مَضْمُونَةً لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ حِينَ تَخَلَّلَتْ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالتَّغَيُّرِ وَبِأَخْذِ نِصْفِ الْخَلِّ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَفِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُسْتَحَقَّ يَتَخَيَّرُ لِبَعْضِ الْمِلْكِ، فَإِنْ فُسِخَ الْعَقْدُ وَكَانَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا تَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِنِصْفِ الْخَلِّ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ لِلتَّغَيُّرِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، فَإِذَا فُسِخَ الْعَقْدُ رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْعَيْنَ وَعِنْدَ الْفَسْخِ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْخَلَّ فَفِي الْمُعَيَّنِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ، فَالرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ عَلَى التَّخْرِيجِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَإِذَا بَاعَ الذِّمِّيُّ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٍ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ أَعَدُّوا هَذِهِ الْبُقْعَةَ لِلْمَعْصِيَةِ، فَلَا تَزُولُ عَنْ مِلْكِهِمْ بِذَلِكَ وَجَوَازُ الْبَيْعُ فِيهَا كَجَوَازِهِ فِي دَرَاهِمَ بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمَسْجِدُ يَتَجَرَّدُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَيَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَةَ الْبُقْعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُهَا مُعَدَّةً لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا لَا لِلشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ. (قَالَ: وَصَاحِبُ الطَّرِيقِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ مِنْ صَاحِبِ مَسِيلِ الْمَاءِ)؛ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ وَصَاحِبُ الطَّرِيقِ شَرِيكٌ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْمَسِيلِ لَهُ حَقُّ سَيْلِ الْمَاءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ مِلْكِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالشُّفْعَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِمِثْلِهِ كَجَارِ السُّكْنَى وَصَاحِبِ الْمَسِيلِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ جَارٌ لَا تُصَارُ مِلْكُهُ بِالدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَالشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ فِي الدَّارِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْكَلَامِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُلْوِ بِالشُّفْعَةِ وَصَاحِبُ الْجِذْعِ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الدَّارِ أَوْ الْهَوَادِي بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُسْتَعِيرِ بِوَضْعِ الْهَوَادِي عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَلَا تُسْتَحَقُّ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيكِ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ، فَإِنَّ الشَّرِيكَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ شَرِكَتُهُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ. وَإِذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ وَلَهَا شُفَعَاءُ ثَلَاثَةٌ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَثَعْلَبِيٌّ فَأَخَذُوهَا بِالشُّفْعَةِ فَعَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 الْمُسْلِمِ الْعُشْرُ فِي حِصَّتِهِ وَيُضَاعَفُ عَلَى الثَّعْلَبِيِّ الْعُشْرُ وَيُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الْخَرَاجُ فِي حِصَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ ابْتِدَاءً وَهَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ كَانَ شَفِيعُهَا سَلَّمَهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ، فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ، فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ خَرَاجِيَّةً وَفِي الْكِتَابِ نَقُولُ سَوَاءٌ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ أَوْ لَمْ يُوضَعْ حَتَّى إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ذَكَرَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي الْأَرْضِ عَيْبٌ وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ فِيهَا بِالْوَضْعِ، فَإِذَا وُضِعَ فَهَذَا عَيْبٌ حَدَثَ فِيهَا فِي يَدٍ، كَمَا انْقَطَعَ الْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ وَتَكُونُ عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَمَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْهَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً وَهِيَ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ لَا تَكُونُ عُشْرِيَّةً فَتَكُونُ خَرَاجِيَّةً سَوَاءٌ وُضِعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ أَوْ لَمْ يُوضَعْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عُشْرِيَّةً لِبَقَاءِ حَقِّ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَالْحَقُّ، كَالْمِلْكِ فِي بَعْضِ الْفُصُولِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا أَوْ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا حَائِطًا وَاهِيًا أَوْ جِذْعًا مُنْكَسِرًا أَوْ نَخْلَةً مُنْكَسِرَةً أَوْ عَيْبًا يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَرَدَّهَا كَانَ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ كَانَ صَحِيحًا وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ بَقَاءَ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ يَنْفَسِخُ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ وَهُوَ مَا إذَا أَخَذُوهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهَا لَيْسَ بِلَازِمٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ عَادَتْ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ الثَّعْلَبِيِّ يَشْتَرِي سَائِمَةً، فَالتَّضْعِيفُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِيهَا وَإِذَا كَانَ بِالرَّدِّ يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ كَمَا كَانَ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ عَادَتْ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَرَاجِ، فَإِنَّ صِفَةَ الْخَرَاجِ فِي الْأَرْضِ تَلْزَمُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا بَاعَ الْمُرْتَدُّ دَارًا فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِيهِ الشُّفْعَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَدِّ فَإِذَا كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْبَائِعَ فَهَذَا فِي مَعْنَى بَيْعٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْمُشْتَرِيَ فَهَذَا فِي مَعْنَى بَيْعٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 لِلشَّفِيعِ سَوَاءٌ نُقِضَ الْبَيْعُ أَوْ تَمَّ وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَ بَيْعُهُ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ وَخِيَارُهُ وَسَقَطَ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ كَانَ إسْلَامُهُ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَبَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْبَيْعِ تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَيْعُهُ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَسْلَمَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ دَارًا وَالْمُرْتَدُّ شَفِيعُهَا وَقُتِلَ فِي رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لَهُ، وَلَا لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ لَحَاقَهُ كَمَوْتِهِ وَالشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَتْ لَهَا الشُّفْعَةُ فَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهَا؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُ كَمَوْتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَسْتَحِقُّ نَفْسَهَا بِإِلْحَاقٍ حَتَّى يَسْتَرِقَّ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ بَائِعَةً لِلدَّارِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا صَحِيحٌ لَازِمٌ أَسْلَمَتْ أَوْ مَاتَتْ وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مُرْتَدًّا أَوْ مُرْتَدَّةً فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ جَازَ أَمَّا فِي الْمُرْتَدَّةِ فَظَاهِرٌ وَلَا الْمُرْتَدُّ، لَا فَائِدَةَ فِي تَوَقُّفِ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَسْلَمَ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ مَاتَ، فَالشُّفْعَةُ لَا تُورَثُ وَإِنَّمَا يُوقَفُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ مَا يَكُونُ فِي تَوَقُّفِهِ وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَطَلَبَ أَخْذَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَقْضِ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إصْرَارٌ عَلَى الرِّدَّةِ، إلَّا أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى الرِّدَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ الْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ وَالْمُرْتَدِّ يَلْحَقُ بِهِ كُلُّ ضَرَرٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ مَا لَمْ يُسْلِمْ فَإِنْ أَبْطَلَ الْقَاضِي شُفْعَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ مِنْ الْقَاضِي صَحِيحٌ عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ بِهِ وَحِرْمَانِهِ الرِّفْقَ الشَّرْعِيَّ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَسْلِيمِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ وَإِنْ وَقَفَهُ الْقَاضِي حَتَّى يَنْظُرَ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّهُ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ بِهَا، فَإِذَا أَسْلَمَ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ طَلَبَ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبَ إلَى أَنْ أَسْلَمَ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِتَرْكِهِ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارٍ الْحَرْبِ ثُمَّ بِيعَتْ الدَّارُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ثُمَّ قُسِّمَ مِيرَاثُهُ كَانَ لِوَرَثَتِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ حِينِ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ لَحَاقِهِ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِيرَاثًا عَنْهُ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَوْلَادِهِ بَعْدَ لَحَاقِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُ مِنْ حِينِ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ وَالْبَيْعُ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالشُّفْعَةُ فِيهَا لِلْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارٍ مِنْهَا ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ كَانَ لِلْوَارِثِ فِيهَا الشُّفْعَةُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُجْبَرٌ عَلَى الْعُودِ إلَى الْإِسْلَامِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 فَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ، كَالْمُسْلِمِ، فَإِنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْكَافِرِ فِي الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْبِنَاءِ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَالْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا وَالْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْمُعَامَلَاتِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي دَارِنَا، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ مَتَى لَحِقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ وَمَوْتُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ شُفْعَةَ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَ وَكَّلَ بِالدَّارِ مَنْ يَحْفَظُهَا وَيَقُومُ عَلَيْهَا، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهَا وَالْأَمِينُ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي حَقًّا فِي الْأَمَانَةِ كَمَا لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي رَقَبَتَهَا وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ دَارًا وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ بِدَارٍ لَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُزِيلُ مِلْكَ الْمُسْلِمِ فَعَلَى حَقِّهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا حَقَّ الْمُسْلِمِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دَارًا وَشَفِيعُهَا حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٌ فَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ كَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَالْمَيِّتِ وَبِمَوْتِهِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ وَلِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ وَيُبْطِلَ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُتَأَكِّدَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الشُّفْعَةِ، كَالنِّكَاحِ ثُمَّ الْمُسْلِمُ الْمُشْتَرِي مُسْتَوْلٍ عَلَى الدَّارِ وَلَوْ اسْتَوْلَى عَلَى مِلْكِ الْحَرْبِيِّ بَطَلَ بِهِ مِلْكُهُ فَلَأَنْ يَبْطُلَ بِهِ حَقُّهُ أَوْلَى. وَإِذَا اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ دَارًا وَشَفِيعُهَا حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ فَلَحِقَا جَمِيعًا بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ لَحَاقَ الشَّفِيعِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ فِيمَا هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا عَلِمَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَدُخُولُهُ دَارَ الْحَرْبِ غَيْبَةٌ مِنْهُ وَغَيْبَةُ الشَّفِيعِ لَا تُبْطِلُ شُفْعَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ دَخَلَ وَهُوَ يَعْلَمُ فَلَمْ يَطْلُبْ حَتَّى غَابَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِتَرْكِهِ الطَّلَبَ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ لَا لِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَإِذَا بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ إلَى غَيْرِهَا، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا كَانَ عَلَى طَلَبِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالطَّلَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَخَّرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمُضِيِّ شَهْرٍ إنَّمَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ، فَقَدْ رَضِيَ بِهَذَا الضَّرَرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا فَوَكَّلَ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَلَحِقَ بِدَارٍ الْحَرْبِ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَوَكَّلَ مُسْتَأْمَنًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ الْوَكِيلُ دَارَ الْحَرْبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ وَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ لِأَنَّ لَحَاقَ الْوَكِيلِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ وَمَوْتُ الْوَكِيلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ وَلَا يُبْطِلُ شُفْعَةَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ لَحَاقُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الشُّفْعَةُ فِي الصُّلْحِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ فِي دَارِ دَعْوَى مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ فَصَالَحَهُ بَعْضُ أَهْلِ الدَّارِ عَلَى صُلْحٍ عَلَى إنْ جُعِلَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً فَطَلَبَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى إقْرَارٍ فَلَهُمْ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ فِي الْمَالِ مُتَمَلِّكٌ فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي بِمَا أَعْطَى مِنْ الْعِوَضَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَمَلَّكَهُ بِالشِّرَاءِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِلشُّرَكَاءِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُعْطِي لِلْمَالِ أَنَّهُ رَشَاهُ؛ لِيَدْفَعَ عَنْهُ أَذَاهُ وَلَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الدَّارِ بِهَذَا الصُّلْحِ وَفِيمَا فِي يَدِهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى زَعْمِهِ وَهُوَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فِي الْمُدَّعَى وَلَوْ صَالَحَهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ سُئِلَ الْمُصَالِحُ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَى الَّذِي صَالَحَهُ، فَإِنْ أَقَامَهَا، فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ، كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فَيَأْخُذُ الْمُعْطِي لِلْمَالِ نَصِيبَ الْمُدَّعِي وَيَكُونُ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَطْلُبُوا بِحِصَّتِهِمْ مِنْ الشُّفْعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْطِي لِلْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدَّعِي وَقَدْ كَانَ الْمُدَّعِي مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِ نَصِيبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَالْمُعْطِي لِلْمَالِ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ لَهُ أُخْرَى سِنِينَ مُسَمَّاةً لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةٌ وَالدَّارُ الْمَمْلُوكَةُ عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فَبِلَفْظِ الصُّلْحِ أَوْلَى، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُعَارَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقًا وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقًا. وَإِذَا ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ الدَّارَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى بِالصُّلْحِ وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فِي حَقِّهِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ حَقِّهِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُصَالِحِ الَّذِي أَخَذَ الدَّارَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ كَانَ ادَّعَى دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ جِرَاحَةً خَطَأً فَصَالَحَهُ عَلَى دَارٍ أَوْ حَائِطٍ مِنْ دَارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا صَالَحَ مِنْ سُكْنَى دَارٍ أَوْصَى لَهُ بِهَا أَوْ مِنْ خِدْمَةِ عَبْدٍ عَلَى بَيْتٍ فَلَا شُفْعَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 فِيهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُدَّعَى لَمْ يَكُنْ مَالًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْبَيْتِ. وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَ جُذُوعَهُ عَلَى حَائِطٍ أَوْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُهَا أَبَدًا وَسِنِينَ مَعْلُومَةً فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعْلُومٌ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً، وَلَكِنْ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ فَقَالَ الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِرَقَبَةِ الْحَائِطِ، وَلَا مَنْفَعَةً مَعْلُومَةً، فَالضَّرَرُ عَلَى الْحَائِطِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجُذُوعِ فِي الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ فِي مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْحَائِطِ مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ أَبَدًا لِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ أَرَأَيْت لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَلَيْهَا هَوَادِيَ أَوْ عَلَى أَنْ يَضَعَ جِذْعًا لَهُ فِي حَائِطٍ أَكَانَ يَكُونُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لَا شُفْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مَسِيلَ مَائِهِ إلَى دَارِ لَمْ يَكُنْ لِجَارِ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ مَسِيلَ مَائِهِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهُ بِالصُّلْحِ شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ مَسِيلِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِعَقْدٍ مَقْصُودٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى حَرْفٍ آخَرَ قَالَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسِيلَ لَا يُحَوَّلُ عَنْ حَالِهِ وَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسِيلَ فِيهِ مَا أَرَادَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسِيلُ فِيهِ، إلَّا مِنْ حَيْثُ وَجَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَأَبْطَلْنَا الصُّلْحَ وَالشُّفْعَةَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَرِيقِ مَحْدُودٍ مَعْرُوفٍ فِي دَارِ كَانَ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ وَلَيْسَ الطَّرِيقُ فِيهَا كَمَسِيلِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّرِيقِ تُمْلَكُ، فَيَكُونُ شَرِيكًا بِالطَّرِيقِ، وَلَا يَكُونُ شَرِيكًا بِوَضْعِ الْجِذْعِ فِي الْحَائِطِ وَالْهَوَادِي وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَعَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ قَدْ أَوْضَحْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَارٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَرَدَّ الدَّارَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِالصُّلْحِ قَدْ أَبْطَلَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَالرَّدُّ بِهَذَا التَّصَادُقِ لَيْسَ بِعَقْدٍ، فَلَا تَتَجَدَّدُ بِهِ الشُّفْعَةُ كَمَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ تَلْجِئَةً بَيْنَهُمَا أَوْ رَهْنًا بِمَالٍ وَقَدْ سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّفِيعُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَة عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَصْلُهُ فِيمَا لَوْ تَصَادَقَا فَإِنَّ الْبَيْعَ كَانَ تَلْجِئَةً أَوْ بِخِيَارِ الْبَائِعِ فَفُسِخَ الْبَيْعُ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا يُنْكِرَانِ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا أَنْكَرَاهُ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُمَا كَمَا لَوْ أَنْكَرَ الْبَيْعَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلشُّفْعَةِ قَدْ ظَهَرَ وَثَبَتَ حَقُّ الشَّفِيعِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَهُ فَتَصَادَقَا عَمَّا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمَا، وَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى دَارًا ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَرُدَّ الدَّارَ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ لَهُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ بَيْعُ الْمُقَاصَّةِ بِهِ فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ لَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ فَبَقِيَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَبْطُلْ بِهَذَا التَّصَادُقِ هُنَا وَفِي الْأَوَّلِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِمَا ثُمَّ كَانَ الشَّفِيعُ هُنَاكَ عَلَى شُفْعَتِهِ فَهُنَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ شُفْعَةِ اللَّقِيطِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُطَالِبَ بِشُفْعَةٍ وَاجِبَةٍ لِلَّقِيطِ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الشِّرَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي جَعَلَهُ قَيِّمًا لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ حِينَئِذٍ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ لِوَكِيلِ الْيَتِيمِ وَتَسْلِيمِهِ وَإِنْ اشْتَرَى الْمُلْتَقِطُ لِلَّقِيطِ دَارًا بِمَالِهِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْمُلْتَقِطِ صَحِيحٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَدَّى فِيهِ مِنْ مَالِ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ أَدْرَكَ اللَّقِيطَ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الدَّارِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَفِيعَهَا بِدَارٍ أُخْرَى لَهُ فَيَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ حِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ اشْتَرَى الدَّارَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ اللَّقِيطِ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا لِفَسَادِ شِرَائِهِ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ لِلَّقِيطِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْهَدْمِ وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى اللَّقِيطِ بَعْدَ مَا أَدْرَكَ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى سَقَطَ وَأَصَابَ إنْسَانًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ بَيْتُ الْمَالِ كَمَا فِي جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ حَتَّى أَخَذَ الشَّفِيعُ مِنْهُ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ سَقَطَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْهَدْمِ قَدْ زَالَ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْهَادُ عَلَى الشَّفِيعِ وَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ نِصْفَ الدَّارِ بِأَنْ كَانَ اللَّقِيطُ مَعَهُ شَفِيعًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَحُكْمُ الْإِشْهَادِ يَبْطُلُ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْبِنَاءِ وَغَيْرِهِ] قَالَ: (- رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فَقَالَ الْمُشْتَرِي أَحْدَثْت فِيهَا هَذَا الْبِنَاءَ وَكَذَّبَهُ الشَّفِيعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) لِإِنْكَارِهِ الشِّرَاءَ فِي الْبِنَاءِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 وَلَوْ أَنْكَرَ الشِّرَاءَ فِي أَصْلِ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ فِي الْبِنَاءِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْبِنَاءِ بِسَبَبِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهَا وَهُوَ الشِّرَاءُ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يُثْبِتُ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ اشْتَرَى الْبِنَاءَ وَذَلِكَ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ وَعَلَى هَذَا اخْتِلَافُهُمَا فِي شَجَرِ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا حَتَّى إذَا قَالَ: أَحْدَثْت فِيهَا هَذِهِ الْأَشْجَارَ أَمْسِ لَمْ يَصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ وَكَذَلِكَ فِيمَا أَشْبَهَ مِنْ الْبِنَاءِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ قَالَ اشْتَرَيْتهَا مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَأَحْدَثْت فِيهَا هَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ مُحْتَمِلٌ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَلَا قَوْلَ لِلْبَائِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ خَرَجَ مِنْ الْوَسَطِ وَالْتَحَقَ بِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت الْبِنَاءَ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَيْت الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ قَالَ الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتُهُمَا مَعًا فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت الْبِنَاءَ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَيْت الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْت الْأَرْضَ بِغَيْرِ بِنَاءٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَيْت الْبِنَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا شُفْعَةَ لَك فِي الْبِنَاءِ وَقَالَ الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتُهُمَا مَعًا فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ ثُبُوتَ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الْبِنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَهَبَ لِي الْبِنَاءَ وَاشْتَرَيْت الْأَرْضَ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُثْبِتِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهُوَ الشِّرَاءُ ثُمَّ ادَّعَى تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لِيُسْقِطَ بِهِ حَقَّهُ فِي الْبِنَاءِ وَذَلِكَ حَادِثٌ يَدَّعِيهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الشَّفِيعِ لِإِنْكَارِهِ، وَلَا قَوْلَ لِلْبَائِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ هُوَ لَمْ يُقِرَّ بِالسَّبَبِ الْمُثْبِتِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَالسَّائِلُ الشَّفِيعُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ بِنَاءٍ وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَهَبْ لَك الْبِنَاءَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَأْخُذُ بِنَاءَهُ وَإِنْ قَالَ قَدْ وَهَبْتُهُ لَك كَانَتْ الْهِبَةُ جَائِزَةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْت النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ وَقَالَ الْجَارُ اشْتَرَيْت الْكُلَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا لِإِثْبَاتِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِثْبَاتِ شَيْءٍ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِ الدَّارِ؛ وَلِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا إذْ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ ثُمَّ اشْتَرَى الْكُلَّ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَ ذَلِكَ مَعًا وَادَّعَى الشَّفِيعُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مُتَفَرِّقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ وَإِنْكَارِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 مَا ادَّعَى الشَّفِيعُ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي وَهَبَ لِي هَذَا الْبَيْتَ بِطَرِيقِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ وَبَاعَنِي مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الشَّفِيعُ بَلْ اشْتَرَيْت الدَّارَ كُلَّهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْتِ لِإِنْكَارِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِيهِ وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ كُلَّهَا غَيْرَ الْبَيْتِ وَطَرِيقِهَا إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فِيمَا سِوَى الْبَيْتِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقَّ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَلِهَذَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا سِوَى الْبَيْتِ وَإِنْ جَحَدَ الْبَائِعُ هِبَةَ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا، فَالْبَيْتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ شُفْعَةِ الشَّفِيعِ فِي سَائِرِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ فِي الطَّرِيقِ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِهِمَا حَقُّ الشَّفِيعِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْهِبَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ، كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَيَصِيرُ هُوَ أَوْلَى بِالدَّارِ مِنْ الْجَارِ. وَلَوْ ادَّعَى الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَدَمَ طَائِفَةً مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي سَبَبًا مُسْقِطًا لِبَعْضِ الثَّمَنِ عَنْهُ بَعْدَ أَخْذِهِ الدَّارَ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ عَنْهُ. رَجُلٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ بِطَرِيقِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مُنْذُ شَهْرٍ قَضَيْتُ بِالْبَيْتِ لِصَاحِبِ الشَّهْرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا يُحَالُ بِشِرَائِهِ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ الشُّهُودُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ شُهُودُ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَيُقْضَى لَهُ بِالْبَيْتِ لِتَقَدُّمِ عَقْدِهِ فِيهِ ثُمَّ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ فِي الطَّرِيقِ تَثْبُتُ قَبْلَ ثُبُوتِ شِرَاءِ الْآخَرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَلَوْ لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ صَاحِبِ الْبَيْتِ قَضَيْتُ بِالْبَيْتِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ الدَّعْوَى وَالْحُجَّةِ مِنْهُمَا فِي الْبَيْتِ وَقَضَيْتُ بِبَقِيَّةِ الدَّارِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ، وَلَا شُفْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَبْقُ شِرَاءِ أَحَدِهِمَا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ تَارِيخٌ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا. وَلَوْ كَانَتْ الدَّارَانِ مُتَلَازِقَتَيْنِ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى إحْدَاهُمَا مُنْذُ شَهْرٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْأُخْرَى مُنْذُ شَهْرَيْنِ قَضَيْتُ لَهُ بِشِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ مُنْذُ شَهْرَيْنِ، فَمِنْ وَقْتِ شُهُودِهِ جَعَلْت لَهُ الشُّفْعَةَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ جِوَارُهُ سَابِقًا عَلَى بَيْعِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَلَوْ لَمْ يُوَقِّتَا قَضَيْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَارِهِ وَلَمْ أَقْضِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَارِيخٌ فِي الشِّرَاءَيْنِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَبَضَ الدَّارَ وَلَمْ يَقْبِضْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ إذَا زَاحَمَهُ غَيْرُهُ فِيمَا هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى وَلَوْ وُقِّتَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَقَّتْ الْآخَرُ قَضَيْت لِصَاحِبِ الْوَقْتِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْآخَرِ حَادِثٌ، فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى هِبَةً مَقْبُوضَةً مُؤَقَّتَةً فَالْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْمِلْكِ، كَالشِّرَاءِ. وَإِذَا كَانَ دَرْبٌ غَيْرُ نَافِذٍ، وَفِيهِ دُورٌ لِقَوْمٍ فَبَاعَ رَجُلٌ مِنْ أَرْبَابِ تِلْكَ الدُّورِ بَيْتًا شَارِعًا فِي السِّكَّةِ الْعُظْمَى، وَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي الدَّارِ فَلِأَصْحَابِ الدَّرْبِ أَنْ يَأْخُذُوا الْبَيْتَ بِالشُّفْعَةِ لِشَرِكَتِهِمْ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ سَلَّمُوهَا ثُمَّ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْبَيْتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا شُفْعَةَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلْبَيْتِ فِي الدَّرْبِ فَبِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَطَعَتْ شَرِكَةُ الطَّرِيقِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ مَعَ أَصْحَابِ الدَّرْبِ وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الْبَيْتِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ قِطْعَةً مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ لَهَا فَلَهُمْ الشُّفْعَةُ لِقِيَامِ شَرِكَتِهِمْ فِي الطَّرِيقِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَإِنْ سَلَّمُوهَا ثُمَّ بَاعَ الْمُشْتَرِي، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا، إلَّا لِمَنْ يُجَاوِرُهَا لِانْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي وَإِذَا كَانَ الدَّرْبُ غَيْرَ نَافِذٍ وَفِي أَقْصَاهُ مَسْجِدُ خُطْبَةٍ وَبَابُ الْمَسْجِدِ فِي الدَّرْبِ وَظَهَرَ الْمَسْجِدُ وَجَانِبُهُ الْآخَرُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فَبَاعَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ دَارِهِ فَلَا شُفْعَةَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ فِيهَا، إلَّا لِمَنْ يُجَاوِرُهَا بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ النَّافِذِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَهْلِ الدَّرْبِ وَأَنَّ أَهْلَ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْمَسْجِدِ بَابٌ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لِيَدْخُلُوهُ لِلصَّلَاةِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الدَّرْبِ وَلَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذَلِكَ الدَّرْبِ لِيُصَلُّوا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَخْرُجُوا مِنْ جَانِبِ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ النَّافِذِ، فَلَا تُسْتَحَقُّ الشُّفْعَةُ، إلَّا بِالْجِوَارِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ السِّكَكِ الَّتِي فِي أَقْصَاهَا الْوَادِي الْمُجْتَازُ وَلَوْ كَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ دُورٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَانَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْآنَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رُفِعَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ؛ لَمْ يَصِرْ الطَّرِيقُ نَافِذًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ رُفِعَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ؛ صَارَ الدَّرْبُ طَرِيقًا نَافِذًا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا يُجْعَلُ الْمَسْجِدُ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءٍ وَلَوْ كَانَ فِي أَقْصَى الدَّرْبِ بَابٌ نَافِذٌ إلَى السِّكَّةِ الْعُظْمَى كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا نَافِذًا وَإِنْ كَانَ الْفِنَاءُ إلَى دُورِ قَوْمٍ لَمْ تَكُنْ سِكَّةً نَافِذَةً وَلَوْ كَانَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ دَارًا فِيهَا طَرِيقٌ إلَى الدَّرْبِ يَخْرُجُ مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنْهَا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، فَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لِلنَّاسِ لَيْسَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ أَنْ يَمْنَعُوهُ، فَلَا شُفْعَةَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ إلَّا بِالْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لِأَهْلِ الدَّارِ خَاصَّةً فَأَهْلُ الدَّارِ شُفَعَاءُ بِالشَّرِكَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي لَهُمْ خَاصَّةً مِلْكٌ لَهُمْ وَإِنْ أَرَادُوا سَدَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْأَوَّلِ الطَّرِيقُ لِلْعَامَّةِ وَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ الدَّرْبِ سَدَّهُ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ. وَإِنْ كَانَ دَرْبٌ غَيْرُ نَافِذٍ لَيْسَ فِيهِ مَسْجِدٌ فَاشْتَرَى أَهْلُ الدَّرْبِ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ دَارًا وَظَهْرُهَا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فَاِتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا وَجَعَلُوا بَابَهُ فِي الدَّرْبِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ بَابًا أَوْ جَعَلُوا ثُمَّ بَاعَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ دَارِهِ فَلِأَهْلِ الدَّرْبِ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ كَانَ الطَّرِيقُ مَمْلُوكًا لَهُمْ وَكَانَتْ شَرِكَتُهُمْ فِيهَا شَرِكَةً خَاصَّةً فَبِاِتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ لَا يُنْتَقَضُ حَقُّهُمْ وَشَرِكَتُهُمْ فِي الطَّرِيقِ بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْخُطْبَةِ، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُمْ قَطُّ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُصَلًّى لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ لَهُمْ فِي الدَّرْبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ كَانَ شَرِيكًا فِي الطَّرِيقِ شَرِكَةً خَاصَّةً فَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ لَا يُغَيِّرُ مَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ فِي الطَّرِيقِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْخُطْبَةِ وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا هُوَ شَفِيعُهَا وَلَهَا شَفِيعٌ آخَرُ غَائِبٌ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِي تَصَدَّقَ بِبَيْتٍ مِنْهَا وَطَرِيقِهِ عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ بَاعَهُ مَا بَقِيَ ثُمَّ قَدِمَ الشَّفِيعُ الْغَائِبُ فَطَلَبَ الشُّفْعَةَ، فَإِنَّهُ تُنْتَقَضُ الصَّدَقَةُ وَالْبَيْعُ الْآخَرُ وَيَأْخُذُ نِصْفَ جَمِيعِ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي فَبِاعْتِبَارِ حَقِّهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَحَقُّهُ فِي النِّصْفِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَفِيعٌ مَعَهُ، فَإِذَا أَخَذَ نِصْفَ جَمِيعِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا مَوْضِعًا مَقْسُومًا أَوْ وَهَبَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِمَا فِي تَصَرُّفِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَتَيْنِ وَرُبَّمَا يَتَفَرَّقُ نَصِيبُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُخَاصِمْ حِينَ بَاعَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ جَازَ بَيْعُهُ فِي نَصِيبِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَشُبِّهَ هَذَا بِمَا لَوْ بَاعَ جِذْعًا فِي حَائِطٍ عَلَى أَنْ يَقْلَعَهُ وَيُسَلِّمَهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِمَا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ لِلْمُشْتَرِي جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَجُزْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ، فَإِذَا بَاعَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهَا دَارٌ فَتَصَدَّقَ بِالْحَائِطِ الَّذِي يَلِي دَارَ جَارِهِ عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ بَاعَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْمَبِيعِ فَالْحَائِطُ الْمَوْهُوبُ حَائِلٌ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْجَارِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ حَائِطًا بِأَصْلِهِ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ فَمَوْضِعُ الْحَائِطِ مِنْ الْأَرْضِ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا كَانَ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ فِي دَارٍ إلَى جَنْبِهِ فِي تِلْكَ الدَّارِ مَنْزِلٌ آخَرُ لِرَجُلٍ آخَرَ وَحَائِطُ الْمَنْزِلَيْنِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ نِصْفَانِ وَفِي الدَّارِ مَنَازِلُ سِوَى هَذَيْنِ الْمَنْزِلَيْنِ وَلِلْمَنَازِلِ كُلِّهَا طَرِيقٌ فِي الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ وَالدَّارُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ وَفِي الدَّرْبِ دُورٌ أُخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الدَّارِ فَبَاعَ رَبُّ أَحَدِ الْمَنْزِلَيْنِ مَنْزِلَهُ، فَالشَّرِيكُ فِي الْحَائِطِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي جَمِيعِ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ أَعَمُّ، فَهُوَ شَرِيكٌ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَائِعِ مِنْ الْحَائِطِ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي الْحَائِطِ سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَنْزِلِ هُوَ وَأَهْلُ الدَّارِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ بِشَرِيكٍ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ هُوَ بِالشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ نَصِيبِهِ مِنْ دَارٍ وَدَارٍ أُخْرَى كَانَ شَرِيكُهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ فِي تِلْكَ الدَّارِ خَاصَّةً دُونَ الْأُخْرَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْحَائِطِ أَظْهَرُ مِنْ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ وَإِذَا كَانَ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ يَتَقَدَّمُ الشَّرِيكُ عَلَى الْجَارِ فَبِالشَّرِكَةِ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْحَائِطَ مِنْ مَرَافِقِ جَمِيعِ الْمَنْزِلِ بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ الْمُتَفَرِّقَتَيْنِ، فَإِنْ سَلَّمَ هُوَ الشُّفْعَةَ، فَالشُّرَكَاءُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ أَحَقُّ لِشَرِكَةٍ بَيْنَهُمْ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الصَّحْنِ صَارَ مَبِيعًا، وَلَا شَرِكَةَ لِأَهْلِ الدَّرْبِ فِي صَحْنِ الدَّارِ فَإِنْ سَلَّمُوا، فَالشُّرَكَاءُ الْمُلَاصِقُونَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا أَحَقُّ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِي طَرِيقٍ خَاصٍّ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَإِنْ سَلَّمُوا، فَالْجِيرَانُ الْمُلَازِقُونَ لِلدَّارِ إلَى هَذَا الْمَنْزِلِ فِيهِ شُرَكَاءُ فِي شُفْعَةِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَالْمُلَاصِقُ مِنْهُمْ لِهَذَا الْمَنْزِلِ وَالْمُلَاصِقُ لِأَقْصَى الدَّارِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ فَحِصَّةُ الْبَائِعِ مِنْ صَحْنِ الدَّارِ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ فَقِيَامُ الِاتِّصَالِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ يَكْفِي لِلْجِوَارِ فَلِهَذَا اسْتَوَوْا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السِّكَّةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَنْفَذٌ بَاعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ دَارًا فَهُمْ جَمِيعًا شُفَعَاءُ فِيهَا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِي طَرِيقٍ خَاصٍّ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ زُقَاقًا فِيهِ عِطْفٌ بِدُورٍ فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْعِطْفُ مُرَبَّعًا فَبَاعَ رَجُلٌ فِيهِ دَارًا، فَالشُّفْعَةُ لِأَصْحَابِ الْعِطْفِ دُونَ أَصْحَابِ السِّكَّةِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِطْفِ الْمُرَبَّعِ لِأَصْحَابِ الْعِطْفِ خَاصَّةً دُونَ أَصْحَابِ السِّكَّةِ وَفِي الْعِطْفِ الْمُدَوَّرِ حَقُّهُمْ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الصَّحْنِ ثَابِتٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُرَبَّعَ مِنْ الْعِطْفِ بِمَنْزِلَةِ سِكَّةٍ فِي سِكَّةٍ وَلَوْ كَانَتْ سِكَّةٌ فِي سِكَّةٍ فَبِيعَتْ دَارٌ فِي السِّكَّةِ الْأَقْصَى فَأَصْحَابُ تِلْكَ السِّكَّةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَصْحَابِ السِّكَّةِ الْأُولَى وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ فِي السِّكَّةِ الْأُولَى كَانَتْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 الشُّفْعَةُ لِأَصْحَابِ السِّكَّتَيْنِ جَمِيعًا لِلشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَهُمْ فِي طَرِيقِ السِّكَّةِ الْأُولَى وَاخْتِصَاصُ أَصْحَابِ السِّكَّةِ الْأُولَى بِالطَّرِيقِ فِي السِّكَّةِ الْأَقْصَى. وَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِبَيْعِ دَارِهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَأَنَّهُ قَدْ قَبَضَ مِنْهُ ثَمَنَهَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْبَائِعِ لِإِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَإِنْ قَالَ بِعْتهَا مِنْهُ وَسَلَّمْتهَا إلَيْهِ ثُمَّ أَوْدَعْتهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِثُبُوتِ حَقِّ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَ خَصْمًا لَهُ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْخُصُومَةِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ ثُمَّ الْإِيدَاعُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا ادَّعَى وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ غَائِبٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَبَيْنَهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مُصَدَّقٌ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ وَالدَّارُ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهَا. رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ خَمْسِينَ جَرِينًا مِنْ رَجُلٍ فَلَمْ يَدَّعِ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ خَاصَمَ فِيهَا إلَى الْقَاضِي فَأَبْطَلَ شُفْعَتَهُ لِتَرْكِهِ الطَّلَبَ ثُمَّ اخْتَصَمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَقَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ ادَّعَى الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ قَالَ: إنْ وَقَعَ الْقَضَاءُ عَلَى مَا كَانَ بَلَغَ الشَّفِيعَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ خَمْسِينَ جَرِينًا بِالثَّمَنِ الَّذِي بَلَغَهُ تَسْلِيمٌ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَا يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَرْغَبُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَخْذِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ بِمَا لَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ الْقِلَّةِ. وَإِذَا اشْتَرَى قَوْمٌ أَرْضًا فَاقْتَسَمُوهَا دُورًا وَتَرَكُوا مِنْهَا سِكَّةً مَمْشًى لَهُمْ وَهِيَ سِكَّةٌ مَمْدُودَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَبِيعَتْ دَارٌ مِنْ أَقْصَاهَا فَهُمْ جَمِيعًا شُرَكَاءُ فِي شُفْعَتِهَا لِلشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَهُمْ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي رَفَعُوهُ بَيْنَهُمْ وَمَنْ كَانَتْ دَارُهُ أَسْفَلَ مِنْ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ أَوْ أَعْلَى فِي الشُّفْعَةِ هُنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُمْ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أَوَّلِ السِّكَّةِ إلَى آخِرِهَا وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ الْبَعْضَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ السِّكَّةِ فَلِهَذَا كَانُوا فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءً وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا وَرِثُوا الدُّورَ عَنْ آبَائِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ كَانَ أَصْلُهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْفِنَاءِ وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي فِي السِّكَّةِ فَيَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَالشَّرِيكُ فِي الْفِنَاءِ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ فِنَاءً مَمْلُوكًا لَهُمْ مِلْكًا خَاصًّا، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِنَاءً غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَمَعَ ذَلِكَ هُمْ أَخُصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْفِنَاءِ وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ. رَجُلٌ بَاعَ دَارًا فَرَضِيَ الشَّفِيعُ ثُمَّ جَاءَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنْ حَدَّهَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا أَبْعَدُ أَوْ أَقْرَبُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 وَيَدَّعِي شُفْعَتَهُ حِينَ عَلِمَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَجَهْلُهُ بِوُجُوبِ حَقِّهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْلِيمِهِ فَجَهْلُهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ أَوْلَى. رَجُلٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْلَمُ كَمْ نَصِيبِ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ جَازَ الْبَيْعُ عَلِمَ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: مَا لَمْ يَعْلَمَا جَمِيعًا كَمْ نَصِيبِ الْبَائِعِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَجَهْلُ الْبَائِعِ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ رُبَّمَا يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ مِنْ الْبَيْعِ كَجَهْلِ الْمُشْتَرِي وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ الْمُشْتَرِي يَتَمَلَّكُ بِالشِّرَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ بِمِقْدَارِ مَا يَتَمَلَّكُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَبْضِ وَأَمَّا الْبَائِعُ إنَّمَا تَمَلَّكَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الثَّمَنَ وَمِقْدَارُهُ مَعْلُومٌ لَهُ، فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي يُثْبِتُ الْخِيَارَ لَهُ وَمِنْ الْبَائِعِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي كَمْ نَصِيبَ الْبَائِعِ وَعَلِمَ الْبَائِعُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ فِيهِ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الْبَعْضِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ يَكُونُ الْمَبِيعُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قِلَّةَ نَصِيبِهِ وَكَثْرَتَهُ يُؤَثِّرُ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ حَيْثُ الشُّفْعَةُ وَالْجَهْلُ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ بِهِ وَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا أَمَّا فِي الْحَالِ إنْ احْتَاجَ الْمُشْتَرِي إلَى قَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ إنْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ أَوْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ أَوْ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ وَالْجَهَالَةُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَبَيْعِ شَاةٍ مِنْ الْقَطِيعِ وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَبِخِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَآهَا وَيَبْرَأُ مِنْ عُيُوبِهَا عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ نَائِبًا عَنْ الشَّفِيعِ فَرُؤْيَتُهُ وَرِضَاهُ بِالْعَيْبِ لَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَإِذَا بَنَى الشَّفِيعُ فِي الدَّارِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ مُدَّةٍ رَجَعَ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا بَنَى ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ بِنَاؤُهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ فَالْبَائِعُ أَوْجَبَ لَهُ الْعَقْدَ بِاخْتِيَارِهِ وَضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ مِنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ، فَأَمَّا الشَّفِيعُ لَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ أُجْبِرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ، فَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْبَائِعَ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ مُسَلِّطٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبِنَاءِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ غَيْرُ مُسَلِّطٍ لِلشَّفِيعِ عَلَى شَيْءٍ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَيْهِ فَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَهْدِمُ بِنَاءَهُ وَيَنْقُلَهُ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ وَنَظِيرُ هَذَا الْفَرْقِ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْغُرُورِ وَبِمِثْلِهِ الْجَارِيَةُ الْمَأْسُورَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَخَذَهَا مَوْلَاهَا بِالْقِيمَةِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ دَبَّرَهَا قَبْلَ أَنْ تُؤْسَرَ رُدَّتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ فَيَضْمَنُ الْوَاطِئُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بِالْقِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا إيَّاهَا، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ، وَلَا بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَقَدْ كَانَ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ مُجْبَرًا عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَالْغُرُورُ يَنْعَدِمُ بِهَذَا وَيُعَوَّضُ الَّذِي كَانَتْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْقِسْمَةِ اُسْتُحِقَّ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى شُرَكَائِهِ وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهَا لِتَصَرُّفِهِمْ فَيُعَوَّضُ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ شَيْءٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَالدُّرَّةِ النَّفِيسَةِ يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ يُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِمُقَابَلَةِ الْغُرْمِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شُهُودُ الْمُدَّعِي بِالتَّدْبِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْجَارِيَةِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ وَقَدْ مَلَكَهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ ثُمَّ تَسْلِيمُهَا بِالْقِيمَةِ إلَى الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ وَفِي هَذَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ فَإِنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ لَهَا بِالتَّدْبِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 [كِتَابُ الْقِسْمَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْقِسْمَةِ (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: إمْلَاءُ الْقِسْمَةِ مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ فِي الْمَحَلِّ الْمُحْتَمَلِ لَهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ وَجَوَازُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَمَّا الْكِتَاب فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَالسُّنَّةُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ «قِسْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَائِمَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -» وَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالنَّاسُ يُعَامَلُونَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُنْتَفِعٌ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَالطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَيْ يَخُصُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعُ الْغَيْرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ. وَفِي الْقِسْمَةِ شَيْئَانِ: الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَتَمْيِيزُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَهِيَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَمْيِيزٌ مَحْضٌ وَهُوَ الْقِسْمَةُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ حَتَّى أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ كَانَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَبَعْدَ مَا اقْتَسَمَا نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيَّنَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ وَلِهَذَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ وَنَوْعٌ هُوَ تَمْيِيزٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَالْقِسْمَةِ فِيمَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانَاتِ فَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَتَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ؛ وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْقَاضِي عَلَيْهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ وَفِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَصِفُهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَنِصْفُهُ عِوَضٌ عَمَّا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ مِنْ نَصِيبِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ يُسَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَسَّمَ جِبْرِيلُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ ثَمَانِيَة عَشَرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا فِيهَا أَرْزَاقُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَوَائِبُهُ» وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ سِتَّةَ حُصُونٍ الشَّقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَيْبَةَ وَالسَّلَالِمَ وَالْغُمُوضَ وَالْوَطِيحَةَ إلَّا أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْمَزَارِعَ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ حُصُونٍ مِنْهَا: النَّسَقِ وَالنَّطَاةِ وَالْكَيْبَةِ وَقَدْ افْتَتَحَ بَعْضَ الْحُصُونِ مِنْهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا وَبَعْضَهَا صُلْحًا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ «كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحَقِيقِ مَعَ قَوْمِهِ صَالَحَ عَلَى النُّزُولِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْمَغَازِي فَمَا افْتَتَحَ مِنْهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِصًا؛ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا خَرَجُوا؛ لِمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الرُّعْبِ» وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّصْرَةِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ «قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6]. إلَى قَوْلِهِ {: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ:} [الحشر: 6] «فَجَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ الْحِصَّةَ مَعَ الْخُمْسِ فِي الشَّطْرِ وَقَسَّمَ الشَّطْرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ» وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا جَمِيعًا وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ مِائَةٍ رَجُلٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ عُبَيْدُ السُّهَا عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ الْقَاسِمُ فِي النَّسَقِ وَالنَّطَاةِ وَكَانَتْ النَّسَقُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالنَّطَاةُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ فِيهَا خُمْسُ اللَّهِ وَطَعَامُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَايَاهُ وَكَانَ أَوَّلُ سَهْمٍ خَرَجَ مِنْ النَّسَقِ سَهْمَ عَاصِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهِ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الشَّطْرَيْنِ وَأَنَّ أَصْلَ الْقِسْمَةِ كَانَتْ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ذَكَرَ مِقْدَارَ مَا قَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ أَنَّهُ قَسَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فِي الْمَغَانِمِ قِسْمَيْنِ عَلَى الْعُرَفَاءِ وَأَصْحَابِ الرَّايَاتِ وَقِسْمَةً أُخْرَى عَلَى الرُّءُوسِ الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْسَرُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَسَّمَ ابْتِدَاءً عَلَى الرُّءُوسِ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ، ثُمَّ «لَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِ نَفْسِهِ سَهْمًا وَلَكِنْ كَانَ سَهْمُهُ مَعَ سَهْمِ ابْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» فَقِيلَ إنَّهُ تَوَاضَعَ بِذَلِكَ وَقِيلَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُسَاوِي اسْمَهُ اسْمٌ فِي الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ؛ وَلِهَذَا خَرَجَ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا؛ لِأَنَّ فِيهِ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الْعَرَافَةَ مَذْمُومَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُتَحَرَّزُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الْجِهَادِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ الْعَرَافَةَ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 اخْتَارَ لِذَلِكَ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ ضِعْفُ سَهْمِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ أَرْبَعَمِائَةِ فَرَسٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الرِّجَالِ سَهْمٌ وَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الرِّجَالِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الْخَيْلِ سَهْمَانِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الرَّجَّالَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْلِ الْفُرْسَانُ يُقَالُ: غَارَتْ الْخَيْلُ قَالَ اللَّهُ {: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِكَ} [الإسراء: 64]. أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك فَهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَأَنَّهُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ فَقَدْ «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ مَعَ نَهْيِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عَنْ الْقِمَارِ» فَدَلَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لَيْسَ مِنْ الْقِمَارِ وَذُكِرَ عَنْ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ الْقَضَاءِ رِزْقًا فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَكَانَ صَاحِبَ يَسَارٍ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ وَلَا يَأْخُذَ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَذَ جَازَ لَهُ وَبَيَانُهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَجْرًا وَلَا الَّذِي عَلَى الْغَنَائِمِ وَلَا الَّذِي عَلَى الْمَقَاسِمِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَجْرِ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ شُرِطَ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ الْكَفَالَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ أَنْ لَا يَأْخُذَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي وَاَلَّذِي عَلَى الْغَنَائِمِ يَحْفَظُهَا وَاَلَّذِي عَلَى الْمَقَاسِم مَنْ وُجِدَ كَالْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ فَاسْتِئْجَارُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَزَّارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى كَانَ يَقْسِمُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرَ وَقَدْ بَيَّنَّا فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِعَمَلِ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ عَمَلِ الْقَضَاءِ وَعَنْ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ فَأَتَى بِرِكَازٍ مِنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْخُمْسَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ وَأَتَاهُ ثَلَاثَةٌ يَدَّعُونَ غُلَامًا كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: ابْنِي فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَقَضَى بِالْغُلَامِ لِلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ لِصَاحِبَيْهِ قَالَ الرَّاوِي فَقُلْت لِعَامِرٍ: هَلْ رُفِعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، أَمَّا حُكْمُ الْخُمْسِ فِي الرِّكَازِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا حُكْمُ الْقُرْعَةِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الْقُرْعَةِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ بَعْدَ حُرْمَةِ الْقِمَارِ أَمْ قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضِيَ بِهِ أَوْ لَمْ يَرْضَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَعَلَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِحُجَّةٍ أَقَامَهَا وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْقُرْعَةَ لِيُطَيِّبَ الْقُلُوبَ وَإِنَّمَا رَجَّحَهُ فِي الْقَضَاءِ لِتَرْجِيحٍ فِي حُجَّتِهِ مِنْ يَدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: فَقَضَى لِلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ لَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يُقَالُ قَضَى الْقَاضِي لِصَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ وَمَا ذُكِرَ فِي آخِرِهِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ لِصَاحِبَيْهِ مُشْكِلٌ لَا يَتَّضِحُ فَالْحَيُّ الْحُرُّ لَا يَتَقَوَّمُ بِالدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ مَمْلُوكًا لَهُمْ أَوْ مِنْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمْ فَإِقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ابْنُهُ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ نَصِيبِهِ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي التَّضْمِينِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْكَلَ عَلَى السَّائِلِ حَيْثُ قَالَ: هَلْ رَفَعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ فَإِنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ يَجْمَعُ بَدَلَ النَّفْسِ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ حِصَّةُ الَّذِي قَرَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ كَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ إذَا قَبِلَهُ إلَّا أَنَّ عَامِرًا لَمْ يُحَارَفْ أَلَمْ يَرُدَّ مَا سَمِعَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّفْ لِذَلِكَ لِعِلْمِهِ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مَأْخُوذٍ بِهِ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي النَّسَبِ وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: خَاصَمْت أَخِي إلَى الشَّعْبِيِّ فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ أُرِيدُ قِسْمَتَهَا وَيَأْبَى ذَلِكَ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَتْ مِثْلَ هَذِهِ فَخَطَّ بِيَدِهِ مِقْدَارَ آجُرَّةٍ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ فَقَالَ: وَخَطَّهَا عَلَى أَرْبَعِ قِطَعٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُقَسِّم الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي طَلَبَ الْقِسْمَةَ مُتَظَلِّمٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَشْفَعُ بِمِلْكِهِ وَلَا يُنْصِفُهُ فِي الِانْتِفَاعِ وَاَلَّذِي يَتَعَنَّتُ وَإِنَّمَا يَبْنِي الْقَاضِي قَضَاءَهُ عَلَى الْتِمَاسِ الْمُتَظَلِّمِ الطَّالِبِ لِلْإِنْصَافِ دُونَ الْمُتَعَنِّتِ؛ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْقِسْمَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ هُنَا مُتَعَنِّتٌ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَبِالْقِسْمَةِ تَنْقَطِعُ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي مِقْدَارِ آجَرَّةٍ خَطَّهَا عَلَى الْأَرْضِ قَسَمْتهَا بَيْنَكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ دُونَ التَّحْقِيقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي دَارِ الَّذِي يَأْتِي الْقِسْمَةَ مِنْهُمَا فِيمَا يَحْتَمِلُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْآجُرَّةِ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَالْمَسْجِدُ لَا يَكُونُ كَمَفْحَصِ الْقَطَاةِ وَإِنَّمَا قَالَ: ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أُجْرَةُ الْقَسَّامِ إذَا اسْتَأْجَرَهُ الشُّرَكَاءُ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَنْصِبَاءِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مِقْدَارِ الْأَنْصِبَاءِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَاسِمُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ تَلْحَقُ الشُّرَكَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّفَقَةِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالنَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ إنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَمَنْفَعَةُ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَبِيرِ أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَوْ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ، ثُمَّ الْغُنْمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ يَعْنِي الثِّمَارَ وَالْأَوْلَادَ، فَكَذَلِكَ الْغُرْمُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَمَلَهُ لَهُمْ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ كَمَا إذَا اسْتَوَتْ الْأَنْصِبَاءُ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَسَّامَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْمِسَاحَةِ وَمَدِّ الْأَطْنَابِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْحُدُودِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الْمِلْكِ اسْتَوْجَبَ كَمَالَ الْأَجْرِ إذَا قَسَّمَ بِنَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ تَمْيِيزُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَمَا يَتَمَيَّزُ نَصِيبُ صَاحِبِ الْكَبِيرِ بِعَمَلِهِ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ يَتَمَيَّزُ نَصِيبُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَبِيرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَكْبَرَ وَالْحِسَابُ لَا يَدِقُّ إذَا اسْتَوَتْ الْأَنْصِبَاءُ وَإِنَّمَا يَدِقُّ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْأَنْصِبَاءِ وَتَزْدَادُ دِقَّتُهُ بِقِلَّةِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ فَلَعَلَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَسْوَأُ مِنْ تَمْيِيزِ نَصِيبِ الْكَبِيرِ وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَصَلَ بِعَمَلٍ وَاحِدٍ وَهُمَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الزَّوَائِدِ فَإِنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْمِلْكِ فَإِنَّمَا تَتَوَلَّدُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَبِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَحَاجَةُ الْكَبِيرِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّ مَنْفَعَةَ صَاحِبِ الْكَثِيرِ هُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ نَصِيبِهِ لَا لِلْعَمَلِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ بِهِ فَأَمَّا أَجْرُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَإِنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يُقْسَمُ بِذَلِكَ وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَّامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ هُنَا: إنَّمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ وَعَمَلُهُ فِي ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ وَعَمَلُهُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ أَنَّ كَيْلَ مِائَةِ قَفِيزٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْقَسَّامِ فَذَكَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ لِقَاسِمِ الْأَرْضِينَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ رِزْقًا لَهُ فَقَسَمَ بِالْأَجْرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ كَعَمَلِ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ فَرْضٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِسْمَةُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْقَسَّامُ نَائِبٌ عَنْ الْقَاضِي فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كِفَايَتَهُ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ عَمَلَهُ لَيْسَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي شَيْءٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَسَّامُ بِمَنْزِلَةِ الْكَاتِبِ لِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَالِي لَا أَرْتَزِقُ أَسْتَوْفِي مِنْهُمْ وَأُوفِيهِمْ أَصْبِرُ لَهُمْ نَفْسِي فِي الْمَجْلِسِ وَأَعْدِلُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرْزُقُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى الْقَضَاءِ فَزَادَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ حَتَّى جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَعَلَّ عَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ عَلَى أَخْذِ الْأَجْرِ، وَقَالَ لَهُ احْتَسِبْ فَقَالَ شُرَيْحٌ فِي جَوَابِهِ مَا قَالَ وَمُرَادُهُ إنِّي فَرَّغْت نَفْسِي عَنْ أَشْغَالِي لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَآخُذُ كِفَايَتِي مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَأَنَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَشَارَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النَّصِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الْفُقَرَاءِ اسْتَحَقُّوا الْكِفَايَةَ فِي مَالِ الْفُقَرَاءِ وَذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَافَرَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَصَابَتْنِي الْقُرْعَةُ فِي السَّفَرَةِ الَّتِي أَصَابَنِي فِيهَا مَا أَصَابَنِي تُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ الْإِفْكِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقَسْمِ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَأَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَكِنَّهُ «كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ» فَاسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قُلْنَا: إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فَلَهُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ لِإِبْدَائِهِ بِالْقَسْمِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَسَّامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ الْقُرْعَةَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ قَاسِمُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ؛ فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَالْقِمَارُ حَرَامٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ عُلَمَاؤُنَا اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ وَتَعْيِينِ الْعِتْقِ، ثُمَّ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي كَانَ بِعِبَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رِجْسٌ وَفِسْقٌ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا بِالسُّنَّةِ وَالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ فِيهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، ثُمَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَفِي الْقِمَارِ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ وَفِي هَذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 الْمَوْضِعِ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ، ثُمَّ الْقَاسِمُ لَوْ قَالَ: عَدَلْت أَنَا فِي الْقِسْمَةِ فَخُذْ أَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ وَأَنْتَ هَذَا الْجَانِب كَانَ مُسْتَقِيمًا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ لِتَطْبِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِثْلِ هَذَا اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَاسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - إلَى نَفْسِهِ وَقَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي يُقَسِّمُ بِالْقُرْعَةِ أَوْ نَائِبُهُ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ كَمَا لَا يَلْتَفِتُ إلَى إبَاءِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاسِمُ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا خَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ هُنَا يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ بَيْنَهُمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وَبِخُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ لَا يَتِمُّ فَكَانَ هَذَا كَالرُّجُوعِ عَنْ الْإِيجَابِ قَبْلَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا خَرَجَ جَمِيعُ السِّهَامِ إلَّا وَاحِدًا فَقَدْ تَمَّتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ تَعَيَّنَ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ. دَارٌ بَيْنَ وَرَثَةٍ اقْتَسَمُوهَا وَفَضَّلُوا بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَعَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْمُسَاوَاةِ فِي الزَّرْعِ وَالْبِنَاءُ يَكُونُ فِي جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ وَبَعْضُ الْعَرْصَةِ تَكُونُ أَفْضَلَ قِيمَةً مِنْ الْبَعْضِ وَأَكْثَرَ مَنْفَعَةً فَإِنَّ مُقَدِّمَ الدَّارِ يُرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يُرْغَبُ فِي مُؤَخَّرِهِ وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْمِسَاحَةِ، وَإِنْ اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ مِسَاحَةً وَالْبِنَاءُ وَالْقِيمَةَ قِيمَةً بِقِيمَةِ عَدْلٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ التَّرَاضِي لَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ فِي الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْمِسَاحَةِ تَتَّسِرُ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْبِنَاءِ؛ لِمَا بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ مِنْ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ فِي الْقِيمَةِ فَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالتَّقْوِيمِ تَكُونُ أَعْدَلَ وَإِذَا جَازَ قِسْمَةُ الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَقِسْمَةُ الْبَعْضِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ حِينَ اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ غَيْرَ مَعْرُوفِ الْقِسْمَةِ فَهَذَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَرْضَ تَتَنَاوَلُهُمَا قِسْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِذَا لَمْ تُعْرَفْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْقِسْمَةِ فِي الْبِنَاءِ لِلْجَهَالَةِ فَلَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 الْوَاحِدِ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَجَوَّزْنَا هَذَا لِمَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ مَيَّزُوا الْبِنَاءَ عَنْ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ حِينَ خَالَفُوا بَيْنَهُمَا فِي طَرِيقِ الْقِسْمَةِ فَاعْتَبَرُوا فِي الْأَرْضِ الْمُعَادَلَةَ فِي الْمِسَاحَةِ وَفِي الْبِنَاءِ الْمُعَادَلَةَ فِي الْقِيمَةِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَرْضَيْنِ يَقْسِمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِسْمَةً عَلَى حِدَةٍ وَفِي ذَلِكَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ فِي أَحَدَيْهِمَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمِسَاحَةِ فِي الْأُخْرَى، فَكَذَلِكَ هُنَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ (وَالثَّانِي) أَنَّ حُكْمَ الْقِسْمَةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَتِمُّ بِالْمِسَاحَةِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ تَمَامُ الْقِسْمَةِ فِيهَا عَلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقِسْمَتُهَا بِالْقِيمَةِ لَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْكُلِّ وَمَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُ تَمَامِ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ يَتِمُّ فِي الْمَعْلُومِ لَمْ تَضُرَّهُمْ الْجَهَالَةُ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الثِّيَابِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُسَمِّي لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ حُضُورٍ كِبَارٍ تَصَادَقُوا عِنْدَ الْقَاضِي عَلَيْهَا وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ بِهَا فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مِنْهُمْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهمْ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ وَلَوْ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ، وَإِنْ سَأَلُوا الْقَاضِيَ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ الْقَاضِي لَا يُقْسِمُ الْعَقَارَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ وَقَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا لَهُمْ وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَقَوْلُهُ: مَقْبُولٌ فِيهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ يُنَازِعُهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ مِلْكِهِمْ فِيهَا وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إنَّمَا سَأَلُوا الْقَاضِيَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ مِلْكَهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ زَعَمُوا أَنَّ الدَّارَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا مِيرَاثًا وَلَا غَيْرَهُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ قَسَّمَهُمْ الْقَاضِي بِطَلَبِهِمْ وَأُشْهِدُوا أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ نَظَرًا مِنْهُ لِغَائِبٍ عَسَى يَحْضُرُ فَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِيهَا حَقًّا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهمْ عُرُوضٌ أَوْ مَنْقُولٌ سِوَى الْعَقَارِ فَأَقَرُّوا أَنَّهَا مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَطَلَبُوا قِسْمَتَهَا قَسَّمَهَا الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِمْ وَأَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ لِاعْتِبَارِ يَدِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَنْقُولِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ فَأَقَرُّوا أَنَّهَا دَارُهُمْ اشْتَرَوْهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَسَأَلُوا الْقَاضِيَ قِسْمَتَهَا أَجَابَهُمْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَقَرُّوا بِأَصْلِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ مَشْرُوعٍ فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْقِسْمَةَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 عَلَى قَوْلِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي هُنَا يَتَنَاوَلُ الْمَيِّتَ وَيَصِيرُ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِقِسْمَةِ الْقَاضِي وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَثْبُتَ بِهَا حُجَّةُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْدُثُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ وَيُنَفِّذَ وَصَايَاهُ وَبِالْقِسْمَةِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْ التَّرِكَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ حَقُّهُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوَائِدِ فَكَانَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ يَقْطَعُ حَقَّهُ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْقَاضِيَ يَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي تَرِكَتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمَيِّتِ فَبِمَ يُخْبِرُونَ الْقَاضِيَ بِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَلْزَمَ الْمَيِّتَ قَضَاؤُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ وَرَاءَ مَا فِي أَيْدِيهمْ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةً فَيُكَلِّفُهُمْ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ وَتُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَاضِي فِي حَقِّ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَا يُلْزِمُ الْمَيِّتَ شَيْئًا وَبِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ هُنَاكَ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْعُرُوضَ يُخْشَى عَلَيْهَا النَّوَى وَالتَّلَفُ وَفِي الْقِسْمَةِ تَحْصِينٌ وَحِفْظًا لَهَا فَأَمَّا الْعَقَارُ مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا لَا يُخْشَى عَلَيْهَا التَّلَفُ فَفِي الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ يَقْطَعُ حَقَّهُ عَنْهَا (وَالثَّانِي) أَنَّ فِي الْعُرُوضِ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ أَثْبَتَ يَدَهُ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا زَعَمُوا أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْقِسْمَةِ هُنَاكَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِمْ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَسَوَّى؛ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْمِيرَاثِ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ نُسَلِّمُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ قَضَاؤُهُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمُشْتَرَى لَا يَتَضَمَّنُ قَطْعَ حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْقَاضِي الْوِلَايَةُ عَلَى الْغَائِبِ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ فَهُمْ مَا أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْبَائِعِ الْغَائِبِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَوْتِهِ أَحْكَامٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ وُقُوعِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرَاتِهِ وَحُلُولِ آجَالِهِ. وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةِ فِي شَيْءٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِالْقِسْمَةِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ عَلَى الْمَوْتِ وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ فَالْقِسْمَةُ فِيهَا لِلتَّحْصِينِ لَا لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعُرُوضِ تُجْرَى بَيْنَ الْمُوَدِّعِينَ لِلْحِفْظِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْقَضَاءَ بِمَوْتِهِ فَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْقِسْمَةُ لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَأْخُذُ فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ بِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِالْبَيْعِ وَزَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْبَيْعِ هُنَاكَ مَقْصُودٌ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهمْ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نَائِبًا فِي حَقِّهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ غَائِبٌ وَالدَّارُ فِي أَيْدِي الْكِبَارِ الْحُضُورِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْسِمُهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أُصُولِ الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَقْسِمْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ الْوَرَثَةَ كُلَّهُمْ كِبَارٌ حُضُورٌ فَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْسِمَ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِقَوْلِهِمْ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْزِلُ حَقَّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِ الْحُضُورِ الْكِبَارِ وَأَنَّ الْغَائِبَ وَالصَّغِيرَ عَلَى حُجَّتِهِمَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا فِي يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِمَا بَلْ فِيهَا نَظَرٌ لَهُمَا بِظُهُورِ نَصِيبِهِمَا مِمَّا فِي يَدِ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّهُ بِالْقِسْمَةِ يَعْزِلُ نَصِيبَ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَكَانَ هَذَا مَحْضُ نَظَرٍ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَلِلْقَاضِي هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعَقَارِ فِي يَدِ الصَّغِيرِ أَوْ الْغَائِبِ لَمْ أُقَسِّمْهَا بِإِقْرَارِ الْحُضُورِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْكَبِيرُ أَوْدَعَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهَا رَجُلًا حِينَ غَابَ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِحُضُورِ أَمِينِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْسِمُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ قَبِلَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْقَاضِي فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي الْمِيرَاثِ فَيَنْتَصِبُونَ خَصْمًا عَنْهُ وَيُنَصِّبُ بَعْضُهُمْ خَصْمًا عَنْ بَعْضٍ فَقَلَّ مَا تَخْلُو تَرِكَةٌ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُونَ وَقَلَّ مَا يَحْضُرُونَ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَقْسِمْهَا لِمَكَانٍ غَائِبٍ أَوْ صَغِيرٍ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ الْقَاضِيَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْعَقَارُ فِي أَيْدِيهمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيُوَكِّلُ بِنَصِيبِ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ مَنْ يَحْفَظُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ أَحَدَ الْحَاضِرِينَ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ وَالْآخَرَ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 فَيَتَمَكَّنُ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا بِحُضُورِ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْحَاضِرُ وَاحِدًا لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ خَصْمٌ فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَوْ كَانَ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ هُنَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْهُمَا فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْحَاضِرَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَظَلِّمٍ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ وَلَا طَالِبٌ لِلْإِنْصَافِ إذْ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ حَتَّى يَقُولَ لِلْقَاضِي أَقْسِمْهَا بَيْنَنَا لِكَيْ لَا يَنْتَفِعَ بِمِلْكِي غَيْرِي فَإِذَا حَضَرَ اثْنَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ لِيَسْأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ خَصْمٌ صَغِيرٌ جَعَلَ لَهُ الْقَاضِي وَصِيًّا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ فِي نَصِيبِ الْوَصِيِّ وَوَصِيُّ الصَّغِيرِ قَائِمٌ مَقَامَ الصَّغِيرِ فَكَأَنَّهُ بَالِغٌ حَاضِرٌ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ حِينَئِذٍ وَيَأْمُرُ بِالْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا مُدَّعِيًا وَالْآخَرَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَأَحَدَهُمَا خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ شِرَاءً بَيْنَهُمْ وَمِنْهُمْ غَائِبٌ لَمْ أَقْسِمْهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ فِي الْمِيرَاثِ إنَّمَا قَسَّمَهَا عِنْدَ حُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ لِتَعَذُّرِ اشْتِرَاطِ حُضُورِهِمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الشِّرَاءِ فَقَدْ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَيَسَّرَ اشْتِرَاطُ حُضُورِهِمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا وَلِأَنَّ الْحَاضِرَ مِنْ الْمَسِيرَيْنِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ بِالشِّرَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ لَا يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لِلْمُورَثِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ الْمُورَثِ وَيَصِحُّ إقَالَتُهُمْ مَعَهُ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ الْخِلَافَةُ عَنْ الْمَيِّتِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا وَفِيهَا وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ وَبَعْضُهُمْ شَاهِدٌ فَأَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الدَّارَ تُقْسَمُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَإِذَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ قُسِّمَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ بَيْتًا فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ وَهُوَ صَغِيرٌ لَا يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِنَصِيبِهِ إذَا قَسَّمَ لَمْ يُقَسِّمْهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا مُتَعَنِّتٌ فَإِنْ قَبِلَ الْقِسْمَةَ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَبِالْقِسْمَةِ يَفُوتُ ذَلِكَ فَالطَّالِبُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 مِنْهُمَا إنَّمَا يَقْصِدُ التَّعَنُّتَ وَالْإِضْرَارَ بِشَرِيكِهِ فَلَا يُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْسِمُ الْحَائِطَ وَالْحَمَّامَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرًا وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ اتِّصَالُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَفِي الْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَقْسِمُهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ؛ لِمَا لَا يُفِيدُهُ وَلَا بِمَا فِيهِ إضْرَارٌ وَلَوْ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقْدَمُوا عَلَى إتْلَافِ الْمِلْكِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَرَاضَوْا الْقِسْمَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا بَعْضٌ قَلِيلٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِّمَ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عِنْدَنَا (وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْسِمُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَائِرُ الشُّرَكَاءِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَنْصِبَائِهِمْ إلَّا هَذَا الْوَاحِدُ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْقَلِيلِ لَمْ يَقْسِمْهَا إذَا كَانَ هُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْسِمُهَا عِنْدَ إبَاءِ بَعْضِهِمْ إلَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ تَحْصِيلُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهَذِهِ قِسْمَةٌ تَقَعُ عَلَى ضَرَرٍ وَالْقَاضِي لَا يُجْبِرُ الشُّرَكَاءَ عَلَى مِثْلِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَلَنَا أَنَّ الطَّالِبَ لِلْقِسْمَةِ يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِنْ الْقَاضِي وَلَا يَتَعَنَّتُ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَهَذَا مِنْهُ طَلَبٌ لِلْإِنْصَافِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَب الْقِسْمَةِ وَالْقَاضِي يُجِيبُ الْمُتَعَنِّتَ بِالرَّدِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَلِيلِ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرِ فَيَصِيرُ هَذَا فِي حَقِّهِ وَمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ سَوَاءً وَالْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ (قَالَ:) إذَا كَانَ الضَّرَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قَسَمْتهَا أَيُّهُمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْسِمُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَبِيرِ خَاصَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ رَضِيَ بِالضَّرَرِ حِينَ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَصَاحِبُ الْكَبِيرِ مُنْتَفِعٌ بِالْقِسْمَةِ فَيَقْسِمُهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ لِهَذَا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ لَا يُلْزِمُ الْقَاضِي شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمُلْزَمُ طَلَبُهُ الْإِنْصَافَ مِنْ الْقَاضِي وَاتِّصَالُهُ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا جَمِيعًا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْمَقْصُودُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا وَرَفَعَا بَيْنَهُمَا طَرِيقًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَسَمَا بَعْضَ الْمُشْتَرَكِ وَبَقِيَا شَرِكَتَهُمَا فِي الْبَعْضِ وَهُوَ مَوْضِعُ الطَّرِيقِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَصِيبِهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا رَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا وَمَا يَرْجِعُ إلَى تَتْمِيمِ الْمَقْصُودِ بِالْقِسْمَةِ لَا يَكُونُ مَانِعًا صِحَّتَهَا، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَيَذْكُرَ كَيْفَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي مَوْضِعِ الطَّرِيقِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَقَدْ كَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِيهَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّوَثُّقُ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يُبَيِّنَا فَرُبَّمَا يَدَّعِي صَاحِبُ الْأَقَلِّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَيُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُسَاوٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ بِالتَّطَرُّقِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ الْكِتَابَ بَيْنَهُمَا لِلتَّوَثُّقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّوَثُّقِ لَهُمَا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَفِيهَا صُفَّةٌ فِيهَا بَيْتٌ وَبَابُ الْبَيْتِ فِي الصِّفَةِ وَمَسِيلُ مَاءِ ظَهْرِ الْبَيْتِ عَلَى ظَهْرِ الصِّفَةِ فَاقْتَسَمَا فَأَصَابَ الصِّفَةَ أَحَدُهُمَا وَقَطَعَهُ مِنْ السَّاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقًا وَلَا مَسِيلَ مَاءٍ وَصَاحِبُ الْبَيْتِ يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ السَّاحَةِ وَيُسِيلُ مَاءَهُ فِي ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي الصِّفَةِ عَلَى حَالِهِ وَيُسَيَّلَ مَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ اشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ مَا أَصَابَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ الْبَيْتَ وَذَكَرَ فِي الْبَيْعِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ دَخَلَ الطَّرِيقُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ إيجَابُ الْمِلْكِ وَقَصْدُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنْ الْمَحْدُودِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لِلْبَيْتِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ وَأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ لِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ مَعَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِدُخُولِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فِي الْبَيْعِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 فَعِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ عَرَفْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ الْمَقْصُودُ التَّمَيُّزُ دُونَ الِاسْتِرْبَاحِ فَبِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا التَّمْيِيزَ فِي أَنْ لَا يَبْقَى لِأَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ طَرِيقُ مَسِيلِ مَاءٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُفْتَتَحٌ لِلطَّرِيقِ وَلَا مَسِيلُ مَاءٍ؛ فَإِذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ جَازَتْ الْقِسْمَةُ وَكَانَ طَرِيقُهُ فِي الصِّفَةِ وَمَسِيلِ مَائِهِ عَلَى طَرِيقِ سَطْحِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتِمُّ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ لِعَدَمِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لَهُ كَمَنْ اشْتَرَى مُهْرًا صَغِيرًا أَوْ أَرْضًا سَبْخَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمُشْتَرَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِيَدْخُلَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ لَهُ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ الْمَقْصُودَةِ اتِّصَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُفْتَتَحًا إلَى الطَّرِيقِ وَلَا مَسِيلَ مَاءٍ فَهَذِهِ قِسْمَةٌ وَقَعَتْ عَلَى ضَرَرٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا إدْخَالَ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لِتَصْحِيحِ الْقِسْمَةِ لِعِلْمِهَا أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ وَلَا مَسِيلُ مَاءٍ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مُهْرًا صَغِيرًا أَوْ أَرْضًا سَبِخَةً لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يَجُزْ لِفَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِتَصْحِيحِ الْقِسْمَةِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا دَخَلَ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ قُلْنَا هُنَاكَ مَوْضِعُ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ لَيْسَ مِمَّا تَتَنَاوَلُهُ الْإِجَارَةُ وَلَكِنْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَالْأَجِيرُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأُجْرَةَ إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَفِي إدْخَالِ الشُّرْبِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا هُنَا مَوْضِعُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ وَمُوجَبُ الْقِسْمَةِ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا لِأَحَدِهِمَا حَقًّا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَضَرَّرَ بِهِ الْآخَرُ وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ بِدُونِ رِضَاهُ وَإِنَّمَا دَلِيلٌ الرِّضَا اشْتِرَاطُهُ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ؛ فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ بِدُونِ ذِكْرِهِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ وَلَوْ رَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ عَلَى الطَّرِيقِ ظُلَّةٌ وَكَانَ طَرِيقُ أَحَدِهِمَا عَلَى تِلْكَ الظُّلَّةِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّخِذَ طَرِيقًا آخَرَ فَأَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُرُورِ عَلَى ظَهْرِ الظُّلَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الطَّرِيقِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَكَمَا أَنَّ أَسْفَلَهُ مَمَرٌّ لَهُمَا، فَكَذَلِكَ أَعْلَاهُ فَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَذَا أَنْ يُحْدِثَ لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ إنَّمَا يُرِيدُ اتِّخَاذَ طَرِيقٍ وَمَسِيلٍ لِنَفْسِهِ فِي مِلْكٍ خُصَّ بِهِ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ وَفِي السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ يَحْسُبُ فِي الْقِسْمَةِ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلُوِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْسُبُ الْعُلُوُّ بِالنِّصْفِ وَالسُّفْلُ بِالنِّصْفِ، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ جُمْلَةِ ذَرْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْسِمُ ذَلِكَ عَلَى الْقِيمَةِ قِيمَةِ الْعُلُوِّ أَوْ قِيمَةِ السُّفْلِ وَقِيلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى وَمُحَمَّدٌ شَاهَدَ اخْتِلَافَ الْعَادَاتِ فِي الْبُلْدَانِ فَقَالَ: إنَّمَا يُقْسَمُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي سُفْلِهِ سِرْدَابًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ عُلُوًّا آخَرَ كَانَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَ بِمُقَابَلَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلُوِّ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالسُّفْلِ كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ سِرْدَابًا فِي السُّفْلِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَاسْتَوَيَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَحْصُلُ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ يَبْنِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ وَاتِّصَالُ الْعُلُوِّ بِالسُّفْلِ كَاتِّصَالِ بَيْتَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَحِقُ الضَّرَرُ لِصَاحِبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: صَاحِبُ السُّفْلِ بِحَفْرِ السِّرْدَابِ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ يَحْمِلُ مَا يَبْنِي عَلَى حَائِطِ السُّفْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَصِيرُ بِحَائِطِ صَاحِبِ السُّفْلِ لَا مَحَالَةَ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاءِ صَاحِبِ السُّفْلِ وَمُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَافَقَ أَبَا يُوسُفَ وَلَكِنْ فِي الْقِسْمَةِ يَقُولُ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ بِنَاءٌ وَالْمُعَادَلَةُ فِي قِسْمَةِ الْبِنَاءِ تَتَيَسَّرُ وَلِأَنَّ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَكُونُ قِيمَةُ الْعُلُوِّ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السُّفْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 بِمَكَّةَ وَبِمِصْرِ وَفِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ قِيمَةُ السُّفْلِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْعُلُوِّ كَمَا هُوَ بِالْكُوفَةِ قِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكْثُرُ النَّدَاوَةُ فِي الْأَرْضِ يُخْتَارُ الْعُلُوِّ عَنْ السُّفْلِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَشْتَدُّ الْبَرْدُ وَيَكْثُرُ الرِّيحُ يُخْتَارُ السُّفْلُ عَلَى الْعُلُوِّ وَرُبَّمَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَاسْتُحْسِنَ الْقِسْمَةُ فِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُفْلٌ عُلُوُّهُ لِغَيْرِهِمَا وَعُلُوٌّ سُفْلُهُ لِغَيْرِهِمَا فَأَرَادَ الْقِسْمَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ كُلٍّ ذِرَاعٍ ذِرَاعٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بَيْتًا لِسُفْلِهِ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ لَا عُلُوَّ لَهُ بِأَنْ كَانَ الْعُلُوُّ لِغَيْرِهِمْ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ بِإِزَاءِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ وَبِإِزَاءِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ سِتَّةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَثُلُثَيْ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ عِنْدَهُ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْعَلُ بِإِزَاءِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَخَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ خَمْسُونَ مِنْهَا سُفْلٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا عُلُوٌّ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْتَبِرُ الْمُعَادَلَةَ بِالْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَاذَا كَانَتْ الدُّورُ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَهُ مِنْهَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ وَأَبِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ قَسَّمَ الْقَاضِي كُلَّ دَارٍ بَيْنَهُمْ عَلَى حِدَةٍ وَلَمْ يَضُمَّ بَعْضَ أَنْصِبَائِهِمْ إلَى بَعْضٍ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَنْصِبَاءُ أَحَدِهِمْ إذَا جُمِعَتْ فِي دَارٍ كَانَ أَعْدَلَ لِلْقِسْمَةِ جَمَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِذَا قَسَّمَ كُلَّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِتَفَرُّقِ نَصِيبِهِ وَإِذَا قَسَّمَ الْكُلَّ قِسْمَةً وَاحِدَةً يَجْتَمِعُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَارٍ وَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَالْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَمْضِي قَضَاؤُهُ عَلَى وَجْهٍ يَرَى النَّظَرَ فِيهِ كَمَا يَمْضِي قَضَاؤُهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلِأَنَّ الدُّورَ فِي حُكْمِ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ السُّكْنَى وَالْجِنْسُ الْوَاحِدُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ قِسْمَةً وَاحِدَةً كَالْغَنَمِ وَالثِّيَابِ الْهَرَوِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا تَتَفَاوَتُ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ نِسْبَةُ الْبُلْدَانِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الرَّأْيُ لِلْقَاضِي فَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الدُّورُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ صَدَاقًا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ حَتَّى إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ فَهُوَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ (وَكَذَلِكَ) لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ دَارٍ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَبَعْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِاصْطِلَاحِ الشُّرَكَاءِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ عَلَى مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالْمُعَاوَضَةُ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ يَغْلِبُ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَفِي الدُّورِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا جَمَعَهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ يَكُونُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَإِذَا قَسَّمَ كُلَّ ذِرَاعٍ عَلَى حِدَةٍ فَمَعْنَى التَّمْيِيزِ فِيهِ يَغْلِبُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَمْكِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّورِ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ فَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَبِاخْتِلَافِ الْجِيرَانِ وَبِالْقُرْبِ مِنْ الْمَاءِ وَبِالْبُعْدِ عَنْهُ وَبِالْقُرْبِ مِنْ الرَّبْطِ وَالْبَعْدِ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ إذَا قَسَّمَهَا قِسْمَةً وَاحِدَةً وَأَنَّ قِسْمَةَ كُلِّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ أَعْدَلُ، ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ عِنْدَهُ الدُّورُ وَالْبُيُوتُ وَالْمَنَازِلُ فَالدُّورُ سَوَاءً كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِرِضَاءِ الشُّرَكَاءِ وَالْبُيُوتُ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً سَوَاءً كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى فَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمُسَقَّفٍ وَاحِدٍ لَهُ دِهْلِيزٌ فَلَا يَتَفَاوَتُ فِي الْمَنْفَعَةِ عَادَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُؤَجَّرُ بِأَجْرٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ فَتُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَالْمَنَازِلُ إنْ كَانَتْ مُجْتَمَعَةً فِي دَارِ وَاحِدَةٍ مُتَلَازِقَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً تُقْسَمُ كُلُّ مَنْزِلَةٍ عَلَى حِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَالِّ أَوْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بَعْضُهَا فِي أَقْصَاهَا وَبَعْضُهَا فِي أَدْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ فَالْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِي مَنْفَعَةِ مَعْنَى السُّكْنَى وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الدُّورِ فَهِيَ تُشْبِهُ الْبُيُوتَ مِنْ وَجْهٍ وَالدُّورَ مِنْ وَجْهٍ فَلِشَبَهِهَا بِالْبُيُوتِ قُلْنَا: إذَا كَانَتْ مُتَلَازِقَةً تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَلِشَبَهِهَا بِالدُّورِ قُلْنَا: إذَا كَانَتْ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَهُمَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا يَقُولَانِ يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَعْدِلْ الْوُجُوهِ فَتَمْضِي الْقِسْمَةُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْبِنَاءَ بِذَرْعٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُهَا عَلَى الذَّرْعِ إذَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَتْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالثَّابِتُ لِقَاضِي وِلَايَةٍ قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ فَإِذَا جَعَلَ عَلَى ذَلِكَ الذَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 مَحَلُّ وِلَايَتِهِ وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الدَّرَاهِمِ كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا مِنْهُ وَرَاءَ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى تَحْصِيلِ الدَّرَاهِمِ وَأَدَائِهَا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَاَلَّذِي وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ الدِّرْهَمُ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَنْوِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فَنَفْسُ الْقِسْمَةِ يَتَعَجَّلُ نَصِيبَ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ وَيَتَأَخَّرُ نَصِيبُ الْآخَرِ إلَى خُرُوجِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَتَنْعَدِمُ الْمُعَادَلَةُ بِذَلِكَ وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الذَّرْعِ يَتَعَجَّلُ وُصُولَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَيَتِمَّ الْقِسْمَةَ وَلَا حَقَّ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ عَلَى الذَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ عَلَى الدَّرَاهِمِ عِنْدَنَا (وَقَالَ) مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ أَوْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ يَسِيرَةً؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الدَّرَاهِمِ مَحْضَ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ بَيْعُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْبِنَاءِ بِمَا يُوجِبُ لَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا عِنْدَ تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ رُبَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ وِلَايَتِهِ لِلْحَاجَةِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْكَثِيرِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْبِنَاءِ رُبَّمَا يَكُونُ أَضْعَافَ جَمِيعِ قِيمَةِ الْأَرْضِ فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ مُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ بِالذَّرْعِ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ يَقَعُ جَمِيعُ السَّاحَةِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ الْبَيْتِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ وَإِذَا كُلِّفَ نَقْلَ الْبِنَاءِ تَنْقَطِعُ الْمَنْفَعَةُ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقِسْمَةَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَهَذَا لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِسْمَةِ تَثْبُتُ لَهُ فَلَا يَتَعَدَّى فَيَتَعَدَّى وِلَايَتَهُ إلَى مَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْقِسْمَةُ إلَّا بِهِ كَالْجَدِّ مَعَ مُوصَى الْأَبِ يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ إلَى الْوَصِيِّ دُونَ الْجَدِّ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، ثُمَّ لَهُ وِلَايَةُ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّدَاقِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي التَّزْوِيجِ. وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ طَرِيقًا بَيْنَنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَرْفَعُ نَظَرَ فِيهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ طَرِيقٍ يُرْفَعُ كَمَا بَيَّنَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَوْضِعُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ كَغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ فَاَلَّذِي يَقُولُ: لَا يَرْفَعُ طَرِيقًا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ مَعَ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى مَا الْتَمَسَ وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَفِي قِسْمَةِ مَوْضِعِ الطَّرِيقِ قَطْعُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 وَالْقَائِلُ لَا يَرْفَعُ طَرِيقًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَعَنِّتٌ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ مَوْضِعَ الطَّرِيقِ فَقَطْ فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُجِبْهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلطَّالِبِ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ مَوْضِعَ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جَعَلَ الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهِمْ؛ لِأَنَّ بَابَ الدَّارِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِ الطَّرِيقِ أَعْرَضَ مِنْ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْحِمْلُ مِنْ بَابِ الدَّارِ لَا يَحْمِلُهُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَإِذَا جَعَلَ الطَّرِيقَ أَضْيَقَ مِنْ بَابِ الدَّارِ يَتَضَرَّرُ بِهِ الشُّرَكَاءُ وَمَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَ إلَى مَسْكَنِهِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مَا يُدْخِلُهُ فِي بَابِ الدَّارِ؛ فَلِهَذَا يَجْعَلُ الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَرْضِ الدَّارِ وَطُولِهِ. وَإِذَا وَقَعَ الْحَائِطُ لِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَعَلَيْهِ جُذُوعٌ لِلْآخَرِ وَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَكَذَا أَوْ لَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ كَذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ فَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ قَلْعَ الْجُذُوعِ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِلْحَدِيثِ: «الشَّرْطُ أَمْلَكُ»، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَزَجُّ وَقَعَ عَلَى حَائِطٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ دَرَجَةٍ، وَكَذَلِكَ أُسْطُوَانَةٌ وَقَعَ عَلَيْهَا جُذُوعٌ، وَكَذَلِكَ رَوْشَنٌ وَقَعَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ مُشْرِفٌ عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَقْطَعَ الرَّوْشَنُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ قَطْعَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ قَرَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقًّا لِإِنْسَانٍ فِي حَائِطِ غَيْرِهِ فَإِذَا تَمَّتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَجِبُ تَرْكُهَا كَذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ أَحَدَهُمَا ثَبْتُ عُلُوٍّ وَالْآخَرَ السُّفْلُ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَهْدِمَ الْعُلُوَّ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ السَّاحَةُ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ أَطْرَافُ جُذُوعٍ شَاخِصَةٌ فِيهَا فَأَرَادَ صَاحِبُ السَّاحَةِ قَطْعَ تِلْكَ الْجُذُوعِ فَإِنْ كَانَتْ أَطْرَافُ الْجُذُوعِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَرَارُهُ مُسْتَحَقًّا لِإِنْسَانٍ فِي سَاحَةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ أَوْ تَفْرِيغِ هَوَاءِ السَّاحَةِ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إذْ هُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ. وَلَوْ وَقَعَتْ شَجَرَةٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَأَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَقَدْ ذَكَّرَنِي رُسْتُمُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَطْعِ تِلْكَ الْأَغْصَانِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَحِقُّ إقْرَارَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَذَكَّرَنِي سِمَاعَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُتْرَكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ اسْتَحَقَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 الشَّجَرَةَ بِأَغْصَانِهَا فَتَرْكُ الْأَغْصَانِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَزَجِّ وَالدَّرَجَةِ. وَإِذَا أَصَابَ رَجُلًا مَقْصُورَةٌ مِنْ الدَّارِ وَأَصَابَ الْآخَرَ مَنْزِلٌ طَرِيقُ عُلُوِّ هَذَا الْمَنْزِلِ فِي هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي الْمَقْصُورَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَالْقِسْمَةُ لِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ إذَا لَمْ يَبْقَ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجِبُ إمْضَاءُ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ. وَإِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ سَاحَةٍ فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا وَيَرْفَعَ بِنَاءً وَأَرَادَ الْآخَرُ مَنْعَهُ، وَقَالَ: إنَّك تَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَ مَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّ السَّاحَةَ مِلْكُهُ وَالسَّاحَةُ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِمَا يَبْدُو لَهُ وَلَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ مَخْرَجًا؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ أَرَأَيْت لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا رَحًى أَوْ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ اتَّجَرَ فِي حَانُوتِهِ نَوْعَ تِجَارَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَكْسُدُ بِسَبَبِهِ تِجَارَةٌ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْحَوَانِيتِ يَتَأَذَّوْنَ بِغُبَارِ سَنَابِكِ الدَّوَابِّ الْمَارَّةِ وَأَنْ يَتَأَذَّى الْمَارَّةُ بِدُخَانِ نِيرَانِهِمْ الَّتِي يُوقِدُونَهَا فِي حَوَانِيتِهِمْ، ثُمَّ لَيْسَ لِلْبَعْضِ مَنْعُ الْبَعْضِ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَقِلَّ مَاءُ بِئْرِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالِكَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ كَانَ أَحْسَنَ لَهُ «قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُوصِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» وَالتَّحَرُّزُ عَنْ سُوءِ الْمُجَاوِرَةِ مُسْتَحَقٌّ دَيْنًا وَلَكِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَالْحِيلَةُ لِلْجَارِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا عَنْ نَفْسِهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ جَارِيَ اتَّخَذَ مُجَمِّدَةً بِجَنْبِ حَائِطِي فَقَالَ: اتَّخِذْ أَنْتَ أَتُونًا بِجَنْبِ الْحَائِطِ لِيُذِيبَ هُوَ مَا يَجْمَعُ مِنْ الْجَمْدِ وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلُوِّ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً فَتَأَذَّى بِذَلِكَ صَاحِبُ السَّاحَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْبَابِ وَالْكَوَّةِ يَرْفَعُ نَقْصَ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا أَوْلَى وَلَكِنَّهُ يَبْنِي فِي مِلْكِهِ مَا يَسْتُرُهُ إنْ شَاءَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَوَّةِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الدَّارَيْنِ وَالْجَارَيْنِ وَلَوْ اتَّخَذَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ كِرْيَاسًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ بِئْرَ مَاءٍ فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ وَطَلَبَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 تَحْوِيلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَحْوِيلِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبُ إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ فَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ؛ لِمَا تَلِفَ بِهِ كَمَا لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ فِي بِئْرِهِ هَذَا. وَإِذَا قَسَّمَ رَجُلَانِ دَارًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا حَيِّزًا وَالْآخَرُ حَيِّزًا فَوَقَعَ لِأَحَدِهِمَا حَائِطٌ لِلظَّاهِرِ مِنْهُ عَلَى آجُرَّتَيْنِ وَأُسُّهُ عَلَى أَرْبَعٍ وَقَدْ دَخَلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ آجُرَّةٌ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَائِطِ أَنَا آخُذُ مِنْ نَصِيبِك مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أُسِّ حَائِطِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ مَا ظَهَرَ مِنْ الْحَائِطِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ اسْتَحَقَّ الْحَائِطَ وَالْحَائِطُ اسْمٌ لِلْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَمَّا الْأُسُّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَرْضٌ لَا حَائِطٌ وَالْأَرْضُ وَاقِعٌ فِي قِسْمِ الْآخَرِ فَلَوْ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ حَرِيمًا لِحَائِطِهِ وَلَيْسَ لِلْحَائِطِ حَرِيمٌ. وَإِذَا قَسَّمَ الشَّرِيكَانِ دَارًا أَوْ دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ لِصَاحِبِهِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ فِيهِ الشُّفْعَةُ، ثُمَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ مَعْنَى التَّمْيِيزِ فِي الْقِسْمَةِ تَغْلِبُ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالشُّفْعَةُ تَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا وَرَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَرَادَ قِسْمَةَ الطَّرِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ قِسْمَتُهُ تَسْتَقِيمُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ قَسَمْتُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا طَرِيقٌ لَمْ أَقْسِمْهُ، ثُمَّ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ هُنَا مَعْنَى الضَّرَرِ وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا تَفْوِيتُهَا. وَإِذَا اصْطَلَحَ الرَّجُلَانِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى إنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ مَنْزِلًا فِي دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ نِصْفَ دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أَنْ أَجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِهَامًا مَعْلُومَةً مِنْ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ عَبْدًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ تَجْرِي بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي وَلَا رِبًا فِي شَيْءٍ مِمَّا تَنَاوَلَهُ تَصَرُّفُهُ وَلَوْ اصْطَلَحَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الْأَرْضَ كُلَّهَا وَالْآخَرُ الْبِنَاءَ كُلَّهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِلتَّرَاضِي فَإِنَّ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُبَادَلَةُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأَرْضِ بِنَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ الْبِنَاءِ صَحِيحٌ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ لَهُ يَنْقُضُهُ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لِلْآخَرِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ لَا يُقْلِعَ بِنَاءَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَا يَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى بَيْعٍ شُرِطَ فِيهِ إعَارَةٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ لَمَّا شَرَطَ تَرْكَ الْبِنَاءِ فِي أَرْضِ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ هَذَا التَّرْكِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 فَهُوَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ شُرِطَتْ فِي بَيْعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابِلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ فَهُوَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي طَرِيقٍ لَيْسَ بِنَافِذٍ لَهَا فِيهِ بَابٌ فَاقْتَسَمَهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الزُّقَاقِ لِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الزُّقَاقِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَحُ الْبَابَ بِرَفْعِ بَعْضِ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعُوا جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الزُّقَاقِ مَنْعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ حَقَّ الْمُرُورِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ إلَى أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى مِلْكِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَحُ الْبَابَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً بَيْنَ وَرَثَةٍ بَابُهَا فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَقْصُورَةِ فِيهَا إلَّا طَرِيقُهُمْ فَاقْتَسَمُوا الْمَقْصُورَةَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَابًا مِنْ نَصِيبِهِ فِي الدَّارِ الْعُظْمَى لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ عَرْصَةِ الدَّارِ فَهُمْ يُرِيدُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلُوا جَمِيعَ صَحْنِ الدَّارِ مَمَرًّا فَيَكُونُ لِأَهْلِ الدَّارِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَفْعُ الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ خَالِصُ حَقِّهِمْ وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّطَرُّقِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ طَرِيقًا لَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ قَالَ: يُمْنَعُونَ مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ لَهُمْ طَرِيقًا خَاصًّا فِي صَحْنِ الدَّارِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَابِ الْمُرَكَّبِ وَقَدْ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ بَعْضُ الْقُضَاةِ فَيُفَصِّلُ الْحُكْمَ بِهِ؛ فَلِهَذَا مَنَعُوا مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ وَلِأَهْلِ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا مَا بَدَا لَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُمْ طَرِيقًا وَاحِدًا بِقَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ حَقِّهِمْ مُتَّفَقٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَحْنِ الدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ الدَّارِ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِيهَا مَا أَحَبُّوا وَيَفْتَحُ أَهْلُ الْمَقْصُورَةِ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ الْأَبْوَابِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ لَا يَبْنُونَ لِأَنْفُسِهِمْ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ دَارًا أُخْرَى إلَى جَنْبِ هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي قِسْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِهَذِهِ الدَّارِ فِيهَا فَسَاكِنُهَا يُرِيدُ إثْبَاتَ طَرِيقٍ لِنَفْسِهِ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ الشَّرِكَةُ فِيهَا خَاصَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يُمَكَّنُ مِنْ إحْدَاثِ طَرِيقِ لِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَإِنْ اشْتَرَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْمَقْصُورَةُ هَذِهِ الدَّارَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهَا فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 مَقْصُورَتِهِ، ثُمَّ يَمُرُّ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكِ فَلَهُ إذَا كَانَ الدَّارُ وَالْمَقْصُورَةُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الْمَقْصُورَةِ غَيْرَ سَاكِنِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْزِلَانِ وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ دَارِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِيهِ مِنْ الْمَقْصُورَةِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْمَقْصُورَةِ أَنْ يَرْضَى بِتَطَرُّقِهِ فَمَا هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمَقْصُورَةُ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِذَلِكَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الطَّرِيقُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشُّرْبِ فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَرْضٌ بِجَنْبِ نَهْرٍ شُرْبُهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ إذَا اشْتَرَى بِجَنْبِ أَرْضِهِ أَرْضًا أُخْرَى وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ الْأَرْضَ الْأُخْرَى مِنْ هَذَا النَّهْرِ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَفِي الطَّرِيقِ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَقْصُورَةِ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَسْتَوْفِي مِنْ الْمَاءِ فَوْقَ حَقِّهِ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي هَذَا النَّهْرِ مِقْدَارُ مَا يَسْقِي بِهِ أَرْضَهُ فَإِذَا سَقَى بِهِ أَرْضَيْنِ فَهُوَ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الطَّرِيقِ هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ سَوَاءٌ دَخَلَ الْمَقْصُورَةَ فَقَطْ أَوْ يَحُولُ مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى الدَّارِ؛ فَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَقْصُورَةِ وَاحِدًا. وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا طَائِفَةً وَفِي نَصِيبِ الْآخَرِ ظُلَّةٌ عَلَى الطَّرِيقِ وَكَنِيفُ شَارِعٍ فَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ كَنِيفَ الشَّارِعِ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ سَوَاءٌ ذَكَر الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ وَالظُّلَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا فِي الدَّارِ سَوَاءً ذَكَر الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ هَدَمَ أَهْلُ الطَّرِيقِ تِلْكَ الظُّلَّةَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْبِنَاءَ بِالْقِسْمَةِ، أَمَّا الْأَرْضُ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْقِسْمَةِ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْمُشْتَرَكُ الْبِنَاءُ دُونَ الْأَرْضِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الظُّلَّةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّ لَهُمْ مِنْهَا نَفْسَ الْبِنَاءِ لَا حَقَّ الْقَرَارِ، وَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُ. وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا فَلَمَّا وَقَعَتْ الْحُدُودُ بَيْنَهُمَا إذَا أَحَدُهُمَا لَا طَرِيقَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى طَرِيقٍ فَالْقِسْمَةُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى الضَّرَرِ وَالْمَقْصُودُ تَحْصِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ لَا قَطْعُ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَطْعُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا فَكَانَتْ مَرْدُودَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَائِطٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ بَابًا يَمُرُّ فِيهِ رَجُلٌ وَلَا تَمُرُّ فِيهِ الْحَمُولَةُ فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ بِالتَّطَرُّقِ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَالْأَصْلُ فِي الطَّرِيقِ مُرُورُ النَّاسِ فِيهِ فَأَمَّا مُرُورُ الْحَمُولَةِ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا نَادِرًا وَبِتَعَذُّرِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَمُرُّ فِيهِ رَجُلٌ فَلَيْسَ هَذَا بِطَرِيقٍ وَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 لِمَا فِيهَا مِنْ قَطْعِ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ اقْتَسَمَا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِفُلَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الضَّرَرِ. وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ دَارًا لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ هَذَا فِي الْبَيْعِ مُبْطِلٌ لَهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ قِسْمَةٍ عَلَى شَرْطِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شِرَاءِ عَلَى شَرْطِ قِسْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقِسْمَةِ فِي الشِّرَاءِ كَاشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَإِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا مَعْرُوفًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ مِقْدَارًا مُسَمًّى أَوْ زِيَادَةً فِي الْمَبِيعِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ قِسْمَةِ الدُّورِ بِالدَّرَاهِمِ يُرِيدُهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدُهُمَا وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْن رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الدَّرَاهِمِ الْمَشْرُوطَةِ الْعَقْدِ بَيْعٌ وَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَحْتَاجَانِ إلَى ذَلِكَ عَادَةً إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ فَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ مِنْهُمَا، ثُمَّ كُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ فَالنُّقُودُ حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ بَيَّنَا لِلتَّسْلِيمِ مَكَانًا جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا جَازَتْ الْقِسْمَةُ وَيَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ مَوْضِعُ الدَّارِ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَتَعَيَّنَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ كَمَا فِي السَّلَمِ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فَقَالَا تَمَامُ الْقِسْمَةِ يَكُونُ عِنْدَ الدَّارِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْوُجُوبِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الدَّارِ لَا مَوْضِعُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْآخَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الدَّارِ يَكُونُ. وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ مَوْصُوفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَوْصُوفٍ مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 وَشَرَطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ لِلْعَيْنِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْآخَرِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ. وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ ثِيَابًا مَوْصُوفَةً إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا ثُبُوتًا صَحِيحًا وَلَا تَثْبُتُ حَالًّا. وَإِذَا كَانَ مِيرَاثٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي دَارٍ وَمِيرَاثٌ فِي دَارٍ أُخْرَى فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَلِلْآخَرِ مَا فِي تِلْكَ وَزَادَ مَعَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً فَإِنْ كَانَا سَمَّيَا سِهَامًا كَمْ هِيَ سَهْمٌ مِنْ كُلِّ دَارٍ جَازَ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ مَعْلُومٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذِهِ جَهَالَةُ تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّانِي وَإِنْ سَمَّيَا مَكَانَ السِّهَامِ أَذْرُعًا مُسَمَّاةً مُكَسَّرَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ ذِرَاعًا فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَالْقِسْمَةُ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ. دَارَانِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ اقْتَسَمُوهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا إحْدَى الدَّارَيْنِ وَالثَّانِي الدَّارَ الْأُخْرَى عَلَى أَنْ يَرُدَّ الَّذِي أَخَذَ الدَّارَ الْكُبْرَى عَلَى الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نَصِيبَ الشَّرِيكِ الثَّالِثِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَوْ اشْتَرَى نَصِيبَ الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا بِالدَّرَاهِمِ جَازَ، فَكَذَا إذَا اشْتَرَى نَصِيبَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ قَاسَمَ الشَّرِيكَ الْآخَرَ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهَا فِي الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدُّورَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِالتَّرَاضِي، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الدَّارَ الْكُبْرَى اثْنَانِ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الثَّالِثُ الدَّارَ الصُّغْرَى وَإِذَا كَانَتْ دَارًا وَاحِدَةً بَيْنَهُمْ وَأَخَذَهَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَرُدَّا عَلَى الثَّالِثِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا نَصِيبَهُ بِمَا نَفَّذَا لَهُ مِنْ الدَّاهِمِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطُوا عَلَى أَحَدِهِمَا ثُلُثَيْ الدَّرَاهِمِ لِفَضْلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا ثُلُثَيْ نَصِيبِ الثَّالِثِ وَصَاحِبُهُ الثُّلُثُ. وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ اقْتَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْآخَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ الْمِائَةِ الدَّرَاهِمِ وَبَعْضُهُ عِوَضٌ عَمَّا أَخَذَ مَالِكُ الْعَبْدِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ مِنْ الدَّارِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَسَمَاهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الْبِنَاءَ وَأَخَذَ آخَرُ الْخَرَابَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ صَاحِبُ الْبِنَاءِ عَلَى الْآخَرِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا أَخَذَ مِنْ الْبِنَاءِ عِوَضٌ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْقِسْمَةِ وَبَعْضُهُ مَبِيعٌ لَهُ بِمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 نَقَدَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ الْعُلُوَّ وَاشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً؛ لِأَنَّ السُّفْلَ مَعَ الْعُلُوِّ كَالْبَيْتَيْنِ الْمُتَجَاوِرَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ فَضْلِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي قِسْمَةِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ شَرْطُ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ أَوْ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ قِسْمَةِ الدُّورِ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ بِغَيْرِ دَرَاهِمَ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمَهَا وَهُوَ الثُّلُثُ وَالْآخَرُ أَخَذَ مُؤَخَّرَهَا وَهُوَ الثُّلُثَانِ جَازَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِسَاحَةِ وَمَالِيَّةُ مُقَدَّمِ الدَّارِ فَوْقَ مَالِيَّةِ مُؤَخَّرِهَا لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ وَتَتَفَاوَتُ الْمَنْفَعَةُ بِحَسْبِ ذَلِكَ فَالْقِسْمَةُ لَا تَخْلُو فِي الْعَادَةِ عَنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمِسَاحَةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ضَرَرًا وَإِنَّمَا الضَّرَرُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ فَفِي ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا يُعْتَبَرُ لِجَوَازِ الْمُبَايَعَةِ فِيهِ الْمُرَاضَاةُ، فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي وَقَعَ فِي قِسْمِ الْآخَرِ لَيْسَتْ لَهُ غَلَّةٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ لِغَرَضٍ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فِيهِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ جَازَ شِرَاؤُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا أَخْذَهُ فِي الْقِسْمَةِ بِقِسْمِهِ وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْ الدَّارِ عَلَى أَنْ رَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا وَلِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ فَهَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي الْأَصْلِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مِلْكٌ لَهُمَا مَحَلٌّ لِلْمُعَاوَضَةِ فَقَدْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ بَعْضَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الطَّرِيقِ عِوَضًا عَنْ بَعْضِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِالْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَخَذَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْهُمَا يَكُونُ قَدْرَ الثُّلُثِ وَأَخَذَ الْآخَرَ طَائِفَةً تَكُونُ قَدْرَ النِّصْفِ وَرَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا يَكُونُ مِقْدَارَ السُّدُسِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا نَفَيَا شَرِكَتَهُمَا فِي مَوْضِعِ الطَّرِيقِ وَقَسَّمَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَخْمَاسِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَالْآخَرُ خُمْسَهُ وَلَوْ قَسَّمَا الْكُلَّ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَسَمَا الْبَعْضَ وَبَقِيَا شَرِكَتَهُمَا فِي الْبَعْضِ لِيَكُونَ ذَلِكَ طَرِيقًا لَهُمَا وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَةِ مَا فِي أَيْدِيهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ قَسَّمَا الْكُلَّ عَلَى هَذِهِ الْمِسَاحَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَا أَنْ يَتْرُكَاهُ مُشْتَرَكًا لِلطَّرِيقِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ هَذِهِ الْمِسَاحَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ وَيَكُونُ لِلْآخَرِ مَمَرُّهُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكٌ لَهُمَا فَقَدْ حَصَّلَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ عَيْنِ الطَّرِيقِ لِصَاحِبِهِ عِوَضًا عَنْ بَعْضِ مَا أَخَذَهُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَلَكِنْ بَقِيَ لِنَفْسِهِ حَقُّ الْمَمَرِّ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ بِالشَّرْطِ كَمَنْ بَاعَ طَرِيقًا مَمْلُوكًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمَمَرِّ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ بَيْعُ السُّفْلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْقَرَارِ الْعُلُوِّ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا وَرِثَا؛ لِأَنَّهُمَا نَفَيَا شَرِكَتَهُمَا فِي قَدْرِ الطَّرِيقِ فَيَبْقَى فِي هَذَا الْجُزْءِ عَيْنُ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ فِي الْكُلِّ. وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَبَيْنَهُمَا شِقْصٌ مِنْ دَارٍ أُخْرَى فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الدَّارَ وَالْآخَرُ الشِّقْصَ وَلَمْ يُسَمِّيَا سِهَامَ الشِّقْصِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْجَهَالَةِ فَإِنْ أَقَرَّا أَنَّهُمَا كَانَ يَعْرِفَانِ كَمْ هُوَ يَوْمَ اقْتَسَمَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ غَيْرُ مَقْصُودَةٌ بَلْ الْمَقْصُودُ إعْلَامُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهَا وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا، وَإِنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَجَهِلَهُ الْآخَرُ فَالْقِسْمَةُ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى نَصِيبَ فُلَانٍ مِنْ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْلَمُ كَمْ نَصِيبُهُ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ ذَلِكَ دُونَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ أَيْضًا وَقِيلَ بَلْ هَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا إذَا كَانَ الشِّقْصُ مَعْلُومًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا قُلْنَا إذَا جَهِلَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ فَالْقِسْمَةُ مَرْدُودَةٌ فَأَمَّا الْبَيْعُ عَقْدُ مُعَايَنَةٍ يُقْصَدُ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْمَبِيعَ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا لَهُ فَأَمَّا حَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ مَعْلُومٌ فَلِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَعْنَى يَظْهَرُ الْفَرْقُ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَأَخَذَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُقَدَّمِهَا بِحَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَالْقِسْمَةُ نَظِيرُ الْبَيْعِ فَلَا يُمْتَنَعُ جَوَازُهَا بِسَبَبِ الْغَبْنِ عِنْدَ تَمَامِ التَّرَاضِي مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ تَقَعْ الْحُدُودُ بَيْنَهُمَا وَالتَّرَاضِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ كَمَا فِي الْبَيْعِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَتَمَامُ الْقِسْمَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَتْ أَقْرِحَةُ الْأَرْضِ مُتَفَرِّقَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَهِيَ كَالدُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَسَّمُ كُلُّ قَرَاحٍ بَيْنَهُمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 عَلَى حِدَةٍ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَقْسِمَا الْكُلَّ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَيَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَلِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا فِي الدُّورِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ الْمُتَفَرِّقَةَ تَتَفَاوَتُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا فِي الْعِلَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ لِلرَّطْبَةِ وَالْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَفَاوُتِ الدُّورِ الْمُتَفَرِّقَةِ تَتَفَاوَتُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَوْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْسَمُ كُلُّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْأَقْرِحَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْقَرْيَةُ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ اقْتَسَمُوهَا فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ قِرَاحَ وَغَلَّاتٍ فِي قِرَاحٍ وَأَصَابَ الْآخَرُ قَرْحَا كَرْمٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقِسْمَةِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا وَمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْقِسْمَةِ أَيْضًا وَاذَا أَصَابَ بَعْضَهُمْ بُسْتَانٌ وَكَرْمٌ وَبُيُوتٌ وَكَتَبُوا فِي الْقِسْمَةِ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ لَمْ يَكْتُبُوا ذَلِكَ فَلَهُ مَا فِيهَا مِنْ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَتَبُوا بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا دَخَلَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنْ قَالَ هُنَاكَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فِيمَا ذَكَرَ فِي آخِرِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ إدْخَالُ الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ دُونَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَهُنَاكَ أَطْلَقَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَالثَّمَرُ وَالزَّرْعُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَعِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ وَمَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ. وَإِذَا اقْتَسَمَ نَفَرٌ بَيْنَهُمْ أَرْضًا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ وَلَا شُرْبَ وَرَضُوا بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمْ عَلَى الْتِزَامِ الضَّرَرِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ وَلَكِنْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي قِسْمَةَ الْحَمَّامِ بَيْنَهُمْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنْ فُعِلَ بِتَرَاضِيهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ نَخْلٌ فِي غَيْرِ أَرْضِهِمْ فَاقْتَسَمُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ الْأَرْضَ وَأَخَذَ الثَّالِثُ النَّخِيلَ بِأُصُولِهَا فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ مِنْهَا وَلَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ حَائِطًا يَنْصِبُهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ النَّخْلَةُ، وَإِنْ شَرَطُوا أَنَّ لِفُلَانٍ هَذِهِ الْقِطْعَةَ وَهَذِهِ النَّخْلَةَ وَهُوَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْقِطْعَةِ وَلِلْآخَرِ قِطْعَةٌ وَلِلثَّالِثِ الْقِطْعَةُ الَّتِي فِيهَا تِلْكَ النَّخْلَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ النَّخْلَةَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالنَّخْلَةُ لِصَاحِبِهَا بِأَصْلِهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّخْلَةَ كَالْحَائِطِ وَتَسْمِيَةُ الْحَائِطِ فِي الْقِسْمَةِ يَسْتَحِقُّهُ بِأَصْلِهِ، فَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ النَّخْلَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا نَخْلَةٌ مَا لَمْ تُقْطَعْ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَطْعِ هُوَ جِذْعٌ فَمِنْ ضَرُورَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 اسْتِحْقَاقِ النَّخْلَةِ اسْتِحْقَاقُ أَصْلِهَا. وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِنَخْلَةٍ اسْتَحَقَّهَا بِأَصْلِهَا وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ فِي الْبَيْعِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَحِقُّهَا بِأَصْلِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْتَحِقُّ بِأَصْلِهَا إلَّا بِالذِّكْرِ فَقِيلَ الْجَوَابُ فِي الْإِقْرَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْخِلَافِ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَوِّي بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ فِي الْقِسْمَةِ بَعْضُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ مِلْكُهُ وَأَصْلُ مِلْكِهِ فِيهَا نَخْلَةٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ نَخْلَةً قَبْلَ الْقَطْعِ فَمِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْبَعْضَ بِأَصْلِهِ اسْتِحْقَاقُ جَمِيعِ النَّخْلَةِ بِأَصْلِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ فَهُوَ إخْبَارٌ بِمِلْكِ النَّخْلَةِ لَهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا فَأَمَّا الْبَيْعُ إيجَابُ مِلْكٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إلَّا الْمُسَمَّى فِيهِ وَالنَّخْلَةُ اسْمٌ؛ لِمَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ لَا الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ بِتَسْمِيَةِ النَّخْلَةِ فِي الْبَيْعِ؛ فَلِهَذَا يَشْتَرِطُ فِيهِ ذِكْرُ الْأَصْلِ فَإِنْ قَطَعَهَا فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهَا مَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَرْضِ فَكَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُبْقِيَ الْأُولَى فِيهَا قَبْلَ الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ إلَيْهَا فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى الضَّرَرِ فَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى نَخْلَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ مَتَى وَقَعَتْ عَلَى ضَرَرٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ وَأَنَّ الطَّرِيقَ الْخَاصَّ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فَإِنْ كَانُوا ذَكَرُوا فِي الْقِسْمَةِ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الطَّرِيقُ إلَى نَخْلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَلَا يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا شَرْطَ الطَّرِيقِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الطَّرِيقَ إلَى نَخْلَتِهِ أَيْضًا. وَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ وَأَرْضٌ وَرَحَا مَاءٍ بَيْنَ نَفَرٍ فَاقْتَسَمُوهَا فَأَصَابَ رَجُلٌ الرَّحَّاءَ وَأَصَابَ الْآخَرُ أَقْرِحَةً مَعْلُومَةً وَأَصَابَ الْآخَرُ بُيُوتًا وَأَقْرِحَةً فَاقْتَسَمُوهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ فَأَرَادَ صَاحِبُ النَّهْرِ أَنْ يَمُرَّ إلَى نَهْرِهِ فِي أَرْضِ قِسْمَةٍ فَمَنَعَهُ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ الطَّرِيقُ إلَى نَهْرِهِ إذَا كَانَ نَهْرُهُ فِي وَسَطِ أَرْضِ هَذَا وَلَا يَخْلُصُ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَهْرِهِ مَا لَمْ يَخْلُصْ إلَيْهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا فِي أَرْضِ قَسِيمِهِ وَقَدْ اشْتَرَطَ فِي الْقِسْمَةِ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ لِأَجْلِ هَذَا الطَّرِيقِ وَالطَّرِيقُ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي نَصِيبِ قَسِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ مُنْعَرِجًا مَعَ حَدِّ الْأَرْضِ لَهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي أَرْضِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَمْيِيزِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَبْقَى لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ وَإِتْمَامُ الْقِسْمَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُمْكِنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الطَّرِيقَ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَفِي الْأَوَّلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 لَا يُمْكِنُ إتْمَامُ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُجْعَلُ الطَّرِيقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْبَيْتِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ أَرْضِ هَذَا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْمَرَافِقَ وَالطَّرِيقَ وَلَا كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا وَلَا كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا فَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي أَرْضِ هَذَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي نَصِيبِ قَسِيمِهِ حَقًّا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى ضَرَرٍ إلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَمُرَّ فِي بَطْنِ النَّهْرِ بِأَنْ انْكَشَفَ الْمَاءُ عَنْ مَوْضِعٍ مِنْ النَّهْرِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ وَطَرِيقُهُ فِي بَطْنِ النَّهْرِ لِيُمْكِنَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَطَرِيقُهُ لَا فِي بَطْنِ النَّهْرِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ لِأَجْلِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ حِرْمَانَهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَ لِلنَّهْرِ مُسَنَّاةٌ مِنْ جَانِبَيْهِ يَكُونُ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَطَرِيقُهُ عَلَيْهَا دُونَ أَرْضِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْقِسْمَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالنَّهْرِ بِالتَّطَرُّقِ عَلَى مُسِنَّاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمُسَنَّاةَ فِي الْقِسْمَةِ فَاخْتَلَفَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ فِيهَا فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ لِمُلْتَقَى طِينِهِ وَطَرِيقِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ وَعِنْدَهُمَا لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ مِنْ جَانِبَيْهِ مِثْلُ عَرْضِ بَطْنِ النَّهْرِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ كَانَ اشْتِرَاطُ النَّهْرِ لِأَحَدِهِمَا فِي الْقِسْمَةِ اشْتِرَاطًا لِحَرِيمِهِ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ وَقَدْ جَعَلَا فِي الْقِسْمَةِ النَّهْرَ حَدًّا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ وَالْمُسَنَّاةُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ يَصْلُحُ؛ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ الْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ وَلَا يَصْلُحُ؛ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ إجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَكُونُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْرِ طَرِيقٌ إلَّا فِي أَرْضٍ لِقَسِيمِهِ وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إذَا عَلِمَ يَوْمئِذٍ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْقِسْمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَقَدْ رَضِيَ هُوَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ، وَالشَّرْطُ أَمْلَكُ، وَكَذَلِكَ النَّخْلَةُ وَالشَّجَرَةُ نُصِبَتْ إحْدَاهُمَا فِي أَرْضِ الْآخَرِ وَاشْتَرَطَا أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي أَرْضِ صَاحِبِهِ فَهُوَ وَالنَّهْرُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ يَصُبُّ فِي أَجْمِهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ ذَلِكَ الْمَصَبُّ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مُسْتَعْجِلٌ لَهُ وَقَدْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيُتْرَكُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا فِي جُذُوعٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى حَائِطِ الْآخَرِ فَالْمَصَبُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَالْجُذُوعِ وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَمُرُّ فِي مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ فَاخْتَلَفَا فِي مُسَنَّاةٍ عَلَى النَّهْرِ فَهِيَ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 حَرِيمِ النَّهْرِ وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ هُمَا يَقُولَانِ لِصَاحِبِ النَّهْرِ فِي الْمُسَنَّاةِ يَدٌ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ؛ فَإِنَّهُ بِالْمُسَنَّاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَجْرِي مَاؤُهُ فِي النَّهْرِ مُسْتَوِيًا وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُسَنَّاةَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ يَصْلُحُ؛ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَرْضُ وَمِلْكُ الْآخَرِ فِي النَّهْرِ وَهُوَ الْعُمْقُ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ حَيْثُ يَثْبُتُ لِلْآخَرِ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْحُجَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَفِيضُ عَدَمَ الْمُسَنَّاةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ فِيهِ حَقُّ اسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ بِهِ فَلَا يَهْدِمُهَا لِحَقِّهِ كَحَائِطٍ لِإِنْسَانٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لِآخَرَ لَيْسَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ أَنْ يَهْدِمَهُ وَلَكِنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرِسَ عَلَى الْمُسَنَّاةِ مَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ سُفْلُهُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى عُلُوِّهِ مَا بَدَا لَهُ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ. وَإِذَا كَانَتْ الْقَرْيَةُ وَالْأَرْضُ بَيْنَ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ مِسَاحَةً عَلَى أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ شَجَرٌ أَوْ بُيُوتٌ فِي أَرْضِهِ فَهِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ يَقْتَسِمَانِ دَارًا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ مِنْ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا سَاحَةٌ وَبِنَاءٌ لَهُمَا وَلِآخَرَ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا السَّاحَةَ وَأَخَذَ الْآخَرُ مَوْضِعَ الْبِنَاءِ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ أَرَادَ الَّذِي أَصَابَهُ السَّاحَةُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى صَاحِبِهِ وَلَكِنْ لَهُ قِيمَةُ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ فَإِذَا كُنْت أُجْبِرُهُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهِيَ إذَا كَانَ بِشَرْطٍ أَجْوَزُ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا ذَلِكَ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ لِلسَّاحَةِ وَتَبَعٌ لَهَا فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي مِلْكِ الْبَيْعِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ الْأَصْلِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ الْوَصْفِ بِالْقِيمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ صَبْغَ الْغَيْرِ لَوْ اتَّصَلَ بِثَوْبِ الْغَيْرِ كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ عَلَى صَاحِبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَصْفٌ لِمِلْكِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ كُلُّهُ لِإِنْسَانٍ فِي سَاحَةِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَاحِبَ الْبِنَاءِ يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِ بِنَائِهِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِصَاحِبِ السَّاحَةِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ حَقُّ تَمَلُّكِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ مُشْتَرَكًا فَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِ نَصِيبِهِ مِنْ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ السَّاحَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ جَمِيعَ الْبِنَاءِ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بَيْنَهُمَا؛ فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَمَلَّكَ نَصِيبَهُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 بَيْعِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيُوَفِّرَ حَظَّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ فَلِشَبَهِهِ بِمَا هُوَ أَصْلٌ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى صَاحِبِ الْبِنَاءِ جَمِيعَ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ الْبِنَاءِ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ بِدَنَانِيرَ فَالدَّنَانِيرُ كَالدَّرَاهِمِ فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إلَّا ثَمَنًا فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطُوا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَذَلِكَ ثَمَنٌ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، وَالْبِنَاءُ عَيْنٌ فَاشْتِرَاطُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الثَّمَنِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِنْ شَرَطُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَجَهَالَتُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ تَكُونُ مُبْطِلَةً لِلْعَقْدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قِيَامَهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةٍ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ تَرْكُ تَسْمِيَةِ الْمِقْدَارِ فِيهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِسْمَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ فَأَمَّا الْعَيْنُ يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ إلَى عَيْنِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَهُوَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْعَيْنِ بِقِيمَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَفِي الثَّمَنِ هُنَا يَقْتَسِمَانِ الْمُشْتَرَكَ بَعْضُهُ بِالْمِسَاحَةِ وَبَعْضُهُ بِالْقِيمَةِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ التِّبْرُ وَالْأَوَانِي الْمَصُوغَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِعَيْنِهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التِّبْرُ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَبِيعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كِتَاب الشَّرِكَةِ وَالصَّرْفِ. وَلَوْ أَقَامَتْ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَسَأَلُوا الْقَاضِيَ قِسْمَتَهُ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ غَائِبٌ لَمْ يَقْسِمْ شَيْئًا مِنْ أَجْنَاسِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَالْقِسْمَةُ لِيَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِالْقِسْمَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كَمَا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ التَّرِكَةِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُوقِفَ مِنْهَا قَدْرَ الدَّيْنِ وَيَقْسِمَ الْبَاقِيَ؛ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ شَاغِلٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ التَّرِكَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ إلَّا مِقْدَارَ الدَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وَهَذَا الْقِيَاسُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، وَقَالَ: قَلَّ مَا تَخْلُو التَّرِكَةُ عَنْ دَيْنٍ يَسِيرٍ وَيَقْبَحُ أَنْ يُوقَفَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِدَيْنِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْظُرَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا فَيَقِفُ مِنْ التَّرِكَةِ قَدْرَ الدَّيْنِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَيَقْسِمُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 الْوَرَثَةِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمَيِّتِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ بِحِفْظِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ حَقُّهُ وَلَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَجِدْ الْوَارِثُ مَنْ يَكْفُلُ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ الْغَرِيمُ مَنْ يَكْفُلُ عَنْهُ أَيَسَعُ الْقَاضِي إمْسَاكَ حَقِّهِ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ حَقُّهُ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْحَقْهُ بَعْدُ وَلَكِنَّهُ يَخَافُ ذَلِكَ وَعَسَى لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ الْقُضَاةُ وَهُوَ جَوْرٌ أَيْ مَائِلٌ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْدِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِالدَّيْنِ سَأَلَهُمْ هَلْ هِيَ دَيْنٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَيَقْسِمُ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْأَصْلِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ عَنْ الدَّيْنِ وَلِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهمْ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ يُنَازِعُهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ قَبْلَ أَوَانِهَا فَإِنَّ أَوَانَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ الَّذِي ظَهَرَ قَبْلَ أَنْ تُنْقَضَ الْقِسْمَةُ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْقُضُهَا لِارْتِفَاعِ الْمُوجِبِ لِنَقْضِهَا كَمَا لَا يَنْقُضُ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِ الْوَارِثِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ وَارِثٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفْهُ الشُّهُودُ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُنْتَقَضُ فِي كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ بَعْض الشُّرَكَاءِ وَلَوْ لَمْ تُنْقَضْ الْقِسْمَةُ تَضَرَّرَ بِهِ هَذَا الْوَارِثُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِمَّا وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ فَيَتَفَرَّقُ نَصِيبُهُ فِي مَوَاضِعَ؛ فَلِهَذَا تُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ قُسِّمَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْجَاحِدِينَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمُقِرُّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ إذَا كَانَ فِي نَصِيبِهِ وَفَاءٌ بِذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي مِنْ نَصِيبِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَسَّمَ الْقَاضِي التَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنْ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَالْقِسْمَةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ الْمُرْسَلِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَسْتَحِقُّ سَابِقًا عَلَى الْمِيرَاثِ كَالدَّيْنِ فَظُهُورُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَظُهُورِ الدَّيْنِ فَإِنْ غَرِمَ الْوَارِثُ هَذِهِ الْأَلْفَ مِنْ مَالِهِمْ مَضَتْ الْقِسْمَةُ لِوُصُولِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِكَمَالِهِ إلَيْهِ كَمَا لَوْ قَضَوْا الدَّيْنَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَهُوَ سَوَاءٌ فِي الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ حَقِّهِ فِي التَّرِكَةِ كَقِيَامِ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْقِسْمَةِ إلَّا أَنْ يَقْضُوهُ بِالْحِصَصِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِ الْقِسْمَةِ فَالْقِسْمَةُ مَا فِيهِ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْوَصِيَّةِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أُبْطِلَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ حَتَّى تَزْدَادَ حِصَّتُهُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ وَتَنْقُصُ بِنُقْصَانِ التَّرِكَةِ فَثُبُوتُ وَصِيَّتِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقْتَ الْقِسْمَةِ فَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ لِحَقِّهِ وَإِذَا كَانَتْ الْقَرْيَةُ وَأَرْضُهَا بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِالشِّرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِيرَاثًا فَأَقَامَ وَرَثَتُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَلَى الْأَصْلِ وَشَرِيكُ أَبِيهِمْ غَائِبٌ لَمْ يَقْسِمْ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ حُضُورَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ كَحُضُورِ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ فِي الْمُشْتَرَاةِ أَنَّ غَيْبَةَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشِّرَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَغَابَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَسَمْتُهَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْوَرَثَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ وَحُضُورُهُ كَحُضُورِ الْمَيِّتِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَلِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ خَصْمٌ عَنْ الْبَعْضِ وَحُضُورُ بَعْضِهِمْ كَحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَمَّا وَارِثُ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْ شَرِيكِهِ الْمُشْتَرِي مَعَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الشَّرِيكِ. وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِيرَاثًا مِنْ أَبِيهِمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَحَضَرُوا وَغَابَ عَنْهُمْ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أُصُولِ مِيرَاثِ الْجَدِّ قَسَمْتَهَا بَيْنَهُمْ وَيُعْزَلُ نَصِيبُ عَمِّهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَمُّهُمْ حَاضِرًا وَغَابَ بَعْضُ بَنِي أَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِيرَاثٌ هُنَا وَفِي الْمِيرَاثِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْبَعْضِ فَيُجْعَلُ حُضُورُ بَعْضِهِمْ كَحُضُورِ جَمَاعَتِهِمْ لِلْقِسْمَةِ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُعْزَلُ نَصِيبُ كُلِّ غَائِبٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ الْقَرْيَةَ وَهِيَ مِيرَاثٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ لَيْسَ لَهُ وَصِيٌّ أَوْ غَائِبٌ لَيْسَ لَهُ وَكِيلٌ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَظَرَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ فَوْقَ نَظَرِهِمْ لِلْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِخِلَافِ الْقَاضِي إذَا قَسَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَهُ وِلَايَةُ النَّظَرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْغَائِبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ شَفَقَةً لِحَقِّ الدِّينِ بِعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَسَمُوهَا بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْطِ أَوْ عَامِلٍ غَيْرِ الْقَاضِي كَالْعَامِلِ عَلَى الرُّسْتَاقِ أَوْ الطَّسُّوجِ عَلَى الْخَرَاجِ أَوْ عَلَى الْمَعُونَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِهَؤُلَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ فَوُجُودُ أَمْرِهِمْ كَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَضُوا بِحُكْمِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَسُمِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى الْأَصْلِ وَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ لَا وَصِيَّ لَهُ أَوْ غَائِبٌ لَا وَكِيلَ لَهُ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّبِيِّ؛ فَإِنَّهُ صَارَ حَكَمًا بِتَرَاضِي الْخُصُومِ فَيَقْتَصِرُ وِلَايَتُهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْغَائِبُ أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 كَبَرَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مُجِيزًا حَالَ وُقُوعِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بَاعَ إنْسَانٌ مَالَ الصَّبِيِّ فَكَبَرَ الصَّبِيُّ وَأَجَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ الصَّغِيرُ فَأَجَازَ وَارِثُهُ لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَادِثٌ لِلْوَرَثَةِ فَلَا تُعْمَلُ إجَازَةُ الْوَارِثِ كَمَا لَوْ بَاعَ إنْسَانٌ مَالَهُ وَأَجَازَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُورِثَ فَإِجَازَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَإِجَازَةِ الْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ وَحَرْفُ الِاسْتِحْسَانِ وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقِسْمَةِ قَائِمَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ فَلَوْ نُقِضَتْ تِلْكَ الْقِسْمَةُ اُحْتِيجَ إلَى إعَادَتِهَا فِي الْحَالِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ إعَادَتُهَا بِرِضَى الْوَارِثِ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ لِتُعَادَ بِرِضَاهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّا لَوْ نَقَضْنَا ذَلِكَ الْبَيْعَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَتِهِ فَالْبَيْعُ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فِي كُلِّ عَيْنٍ لَا مَحَالَةَ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْمَلُ إجَازَةُ الْوَارِثِ فِيهِ بَعْدَ تَعَيُّنِ جِهَةِ الْبُطْلَانِ فِيهِ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ قِسْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ بَيْنَ قَوْمٍ مِيرَاثًا أَوْ شِرَاءً فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهَا وَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِ الْحَيَوَانِ مُمْكِنٌ لِلتَّقَارُبِ فِي الْمَقْصُودِ فَيَغْلِبُ مَعْنَى التَّمْيِيزِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَبِمَعْنَى التَّمْيِيزِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ إجْبَارِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ الْحَيَوَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يُجْبَرُ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ إلَّا فِي الرَّقِيقِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا يَقْسِمُ الرَّقِيقَ بَيْنَهُمْ إذَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِطَلَبِ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ جِنْسٌ وَاحِدٌ إذَا كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَمُرَاعَاةُ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ مُمْكِنٌ لِتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ فَيَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّقِيقَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا وَلَا تَثْبُتُ سَلَمًا، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ يَجْعَلُ الرَّقِيقَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّقِيقَ يُقْسَمُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: التَّفَاوُتُ فِي الرَّقِيقِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ الْأَجْنَاسَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّقِيقُ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، ثُمَّ قِسْمَةُ الْجَبْرِ لَا تَجْرِي فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الْآدَمِيِّ بِاعْتِبَارِ مَعَانٍ بَاطِلَةٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا حَقِيقَةً كَالدُّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ يَرَى الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَةً أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ وَبِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّمْيِيزِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ أَنَّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِي الرَّقِيقِ هُمَا جِنْسَانِ حَتَّى إذَا اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هِيَ جَارِيَةٌ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّفَاوُتِ وَهَذَا بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهَا تَجْرِي فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ بَيْعُ الْمَغَانِمِ وَقِسْمَةُ الثَّمَنِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالِ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ الْمِلْكُ حَقُّ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ فَلِلْإِمَامِ حَقُّ التَّمْيِيزِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَادِلَةِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُعَاوَضَةِ فَإِذَا كَانَ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ هُنَا بِطَرِيقِ التَّمْيِيزِ لَا يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّقِيقِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ غَنَمٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ مَتَاعٍ فَحِينَئِذٍ يَقْسِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَقْسِمُ ذَلِكَ بِرِضَاءِ الشُّرَكَاءِ فَأَمَّا مَعَ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ الْقَاضِي لَا يَقْسِمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الرَّقِيقِ لَا يَقْسِمُ قِسْمَةَ الْجَبْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَوْلَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ هُنَا تَجْرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنْسَ الْآخَرَ الَّذِي هُوَ مَعَ الرَّقِيقِ يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الْقِسْمَةِ وَحُكْمُ الْقِسْمَةِ جَبْرًا يَثْبُتُ فِيهِ فَيَثْبُتُ فِي الرَّقِيقِ أَيْضًا تَبَعًا وَقَدْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي الشَّيْءِ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِيهِ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ وَالْمَنْقُولَاتِ فِي الْوَقْتِ وَكَأَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا تَخْلُو تَرِكَةٌ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى قِسْمَةِ الْقَاضِي عَنْ الرَّقِيقِ وَإِذَا كَانَ مَعَ الرَّقِيقِ شَيْءٌ آخَرُ فَبِاعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ يَتَيَسَّرُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ رَقِيقًا فَعِنْدَ مُقَابَلَةِ الرَّقِيقِ بِالرَّقِيقِ يَعْظُمُ الْغَبْنُ وَالتَّفَاوُتُ وَعِنْدَ مُقَابَلَةِ الرَّقِيقِ بِمَالٍ آخَرَ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَيْنَ الشُّرَكَاءِ ثَوْبٌ زُطِّيُّ وَثَوْبٌ هَرَوِيّ وَبِسَاطٌ وَوِسَادَةٌ لَمْ يَقْسِمْهُ إلَّا بِرِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَتَمَلَّكُ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي يَأْخُذُ عِوَضًا عَمَّا يَمْلِكُهُ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 التَّرَاضِي فَإِنْ كَانَ فِي الْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ رَقِيقٌ وَثِيَابٌ وَغَنَمٌ وَدُورٌ وَضِيَاعٌ فَاقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِنْفًا جَازَ ذَلِكَ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمْ عَلَى إنْشَاءِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ رَفَعُوا إلَى الْقَاضِي قَسَّمَ كُلَّ صِنْفٍ بَيْنَهُمْ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يُضِيفُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ التَّمْيِيزِ بِالْقِسْمَةِ وَإِنَّمَا يَغْلِبُ مَعْنَى التَّمْيِيزِ إذَا قَسَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُ الْمُعَادَلَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُ اعْتِبَارُهُ، وَقِسْمَةُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ فَأَمَّا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ دُونَ الْمُعَادَلَةِ وَإِذَا تَمَّتْ بِتَرَاضِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ. وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ أَقْرَعَا فَأَصَابَ هَذَا طَائِفَةً، ثُمَّ نَدِمَ أَحَدُهُمَا وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ بِخُرُوجِ السِّهَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَضِيَا بِرَجُلٍ قَسَّمَهَا وَلَمْ يَأْلُوَا أَنْ يَعْدِلَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِتَرَاضِيهِمَا كَفِعْلِهِمَا، وَإِنْ تَسَاهَمُوا عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَقْسِمُوهَا فَأَيُّهُمْ خَرَجَ سَهْمُهُ عَدُّوا لَهُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَهَذَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَعْرِفُ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقِسْمَةِ وَفِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْبَيْعِ فَالْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ تُفْسِدُهَا كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمِيرَاثِ إبِلٌ وَبَقَرٌ وَغَنَمٌ فَجَعَلُوا الْإِبِلَ قِسْمًا وَالْغَنَمَ قِسْمًا وَالْبَقَرَ قِسْمًا، ثُمَّ تَسَاهَمُوا عَلَيْهَا وَأَقْرَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ الْإِبِلُ رَدَّ كَذَا دِرْهَمًا عَلَى صَاحِبَيْهِ نِصْفَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ بَيْنَهُمْ إلَّا بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَمَنْ وَجَبَ لَهُ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ بِاسْمِهِ مَجْهُولٌ فِيمَا يَتَفَاوَتُ فَإِنْ نَدِمَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ مَا وَقَعَتْ السِّهَامُ لَمْ يَسْتَطِعْ نَقْضَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمَّتْ بِالتَّرَاضِي فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ السِّهَامُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَتِمَّ بَعْدُ، وَنُفُوذُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُرَاضَاةِ فَيُعْمَلُ الرُّجُوعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبْلَ تَمَامِهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ سَهْمٌ وَبَقِيَ سَهْمَانِ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ جَازَ رُجُوعُهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا إلَّا سَهْمًا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ فَبِخُرُوجِ سَائِرِ السِّهَامِ يَتَعَيَّنُ مَا يُصِيبُ السَّهْمُ الْبَاقِي خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ. وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ لَمْ يَقْسِمْ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرًا؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِ الثَّوْبِ بَيْنَهُمَا وَفِي قَطْعِهِ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي مَعَ كَرَاهَةِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ جَمِيعًا قَسَّمَهُ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْقَاضِي لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَلَكِنْ إنْ اقْتَسَمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَمْنَعْهُمَا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 الْقِسْمَةِ إتْلَافَ جُزْءٍ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ يُحَصِّلُ وَلَا يُتْلِفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ اقْتَسَمَاهُ فَشَقَّاهُ طُولًا أَوْ عَرْضًا بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الثِّيَابُ بَيْنَ قَوْمٍ إنْ اقْتَسَمُوهَا لَمْ يَصِبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوْبٌ تَامٌّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْقَطْعِ وَفِيهِ إتْلَافُ جُزْءٍ، وَإِنْ تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ عَلَى شَيْءٍ جَازَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنِّي أَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِسْمَتُهَا تَسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِأَنْ تَكُونَ قِيمَةُ ثَوْبَيْنِ مِثْلَ قِيمَةِ الثَّالِثِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمَا فَيُعْطِي أَحَدَهُمَا ثَوْبَيْنِ وَالْآخَرَ ثَوْبًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ لَمْ أَقْسِمْهَا بَيْنَهُمْ إلَّا إنْ تَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى شَيْءٍ هَكَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ اسْتَوَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبًا وَنِصْفًا؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الثَّوْبَيْنِ بَيْنَهُمَا وَيَدَعُ الثَّالِثَ مُشْتَرَكًا، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَقَامَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ ثَوْبًا وَثُلُثَيْ الْآخَرِ وَالْقِسْمَ الْآخَرَ ثَوْبًا وَثُلُثَ الْآخَرِ أَوْ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ ثَوْبًا وَرُبْعًا وَالْآخَرَ ثَوْبًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ وَيَتْرُكُ الثَّوْبَ الثَّالِثَ مُشْتَرَكًا؛ لِأَنَّهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ التَّمْيِيزُ فِي بَعْضِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ كَانَ يَقْسِمُ الْكُلَّ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الْقِسْمَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اقْتَسَمَا الشَّرِيكَانِ عَقَارًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَتَاعًا وَلَمْ يَرَ أَحَدُهُمَا قِسْمَهُ الَّذِي وَقَعَ لَهُ، ثُمَّ رَآهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْقِسْمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا) وَاعْلَمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي قِسْمَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا دُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي فَلَهُ وِلَايَةُ إجْبَارِ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِهِمْ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ كَالْبَيْعِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْبَيْعِ الرِّضَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالذَّهَبُ التِّبْرُ وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ. وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَا دِرْهَمٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كُلُّ أَلْفٍ فِي كَيْسٍ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا كِيسًا وَالْآخَرُ أَخَذَ الْكِيسَ الْآخَرَ وَقَدْ رَأَى أَحَدُهُمَا الْمَالَ كُلَّهُ وَلَمْ يَرَهُ الْآخَرُ فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الَّذِي رَآهُ وَعَلَى الَّذِي لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ فِي الثَّمَنِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ مَحْضَةٌ وَلَا مَقْصُودَ فِي عَيْنِهَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ الثَّمَنِيَّةُ وَبِمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 يَصِيرُ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ ضَمُّ الرِّضَا بِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قِسْمُ الَّذِي لَمْ يَرَ الْمَالَ شَرَّهُمَا فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِقِسْمِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ مِثْلُ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَإِذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ فَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ رَأَى عِنْدَ الشِّرَاءِ جُزْءًا مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ، ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ شَرًّا مِمَّا رَأَى؛ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. فَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا وَقَدْ رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرَ الدَّارِ وَظَاهِرَ الْمَنْزِلِ الَّذِي أَصَابَهُ وَلَمْ يَرْجُو فِيهِ فَلَا خِيَارَ لَهُمَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ بِرُؤْيَةِ الظَّاهِرِ مِنْ حِيطَانِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ يَسْقُطُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَنَا وَلَا يَسْقُطُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يَدْخُلْهَا، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَسَمَا بُسْتَانًا وَكَرْمًا فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا الْبُسْتَانَ وَالْآخَرُ الْكَرْمَ وَلَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الَّذِي أَصَابَهُ وَلَا رَأَى جَوْفَهُ وَلَا نَخْلَهُ وَلَا شَجَرَهُ وَلَكِنَّهُ رَأَى الْحَائِطَ مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرُؤْيَةُ الظَّاهِرِ مِثْلُ رُؤْيَةِ الْبَاطِنِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ جَوَابُهُ فِي الدَّارِ بِنَاءً عَلَى دُورِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ إلَّا فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ ضَعِيفٌ جِدًّا فَفِي الْبُسْتَانِ الْمَقْصُودُ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَشْجَارِ وَالنَّخِيلِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ الِاسْتِقْصَاءُ بِرُؤْيَةِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مَقَامَ رُؤْيَةِ الْجَمِيعِ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الثِّيَابِ الْمَطْوِيَّةِ يُجْعَلُ رُؤْيَةُ جُزْءٍ مِنْ ظَاهِرِ كُلِّ ثَوْبٍ كَرُؤْيَةِ الْجَمِيعِ فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ. وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْقِسْمَةِ جَائِزٌ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا فِي اعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَفِي احْتِمَالِ الْفَسْخِ كَذَلِكَ وَالْخِيَارُ بِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْفَسْخُ أَوْ لِئَلَّا يَثْبُتَ صِفَةُ اللُّزُومِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ فِي جَانِبٍ مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّدَّ بِالْخِيَارِ فِي الثَّلَاثَةِ وَادَّعَى الْآخَرُ الْإِجَازَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفَسْخِ مُتَمِّمٌ فَمَنْ يَدَّعِي الْإِجَازَةَ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مَنْ يَدَّعِي الرَّدَّ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ الْفَسْخَ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ دُونَ صَاحِبِهِ وَسُكْنَى الدَّارِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي سَهْمِ صَاحِبِ الْخِيَارِ رِضًا مِنْهُ بِهَا وَإِبْطَالٌ لِلْخِيَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبُيُوعِ وَأَنَّ مُرَادَهُ حَيْثُ يَقُولُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ إذَا تَحَوَّلَ إلَيْهَا وَسَكَنَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَحَيْثُ يَقُولُ: لَا يَكُونُ رِضًا إذَا كَانَ سَاكِنًا فِيهَا فَاسْتَدَامَ السُّكْنَى، وَكَذَلِكَ إنْ بَنَى أَوْ هَدَمَ فِيهَا شَيْئًا أَوْ جَصَّصَهَا أَوْ طَيَّنَ فِيهَا حَائِطًا أَوْ ذَرَعَ الْأَرْضَ أَوْ سَقَاهَا أَوْ قَطَفَ الثَّمَرَةَ أَوْ غَرَسَ الشَّجَرَ أَوْ لَقَّحَ النَّخْلَ أَوْ كَسَحَ الْكَرْمَ فَهُوَ كُلُّهُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا فِي الْمِلْكِ وَمُبَاشَرَتُهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَدَلِيلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ بِهِ. وَيَجُوزُ قِسْمَةُ الْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ وَيُجْعَلُ رِضَاهُ فِي ذَلِكَ كَرِضَاهُمَا أَنْ لَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبٌ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيًّا وَيَجُوزُ قِسْمَةُ وَصِيِّ الْأُمِّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ مِنْ تَرِكَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ فِي ذَلِكَ وَتَصَرُّفُهَا فِي مِلْكِ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ بِالْبَيْعِ صَحِيحٌ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ، فَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ وَصِيِّهَا بَعْدَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ لَهَا وِلَايَةَ الْحِفْظِ وَالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةُ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ فِيهِ مَعْنَى الْحِفْظِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْعَقَارِ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ فِي مِيرَاثِهِ مِنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ قِسْمَتُهُ فِي مِيرَاثِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرِثَ مِنْهُ وَلِأَنَّ فِي حِفْظِ ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُوصِي؛ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُبَاعُ ذَلِكَ فِي دَيْنِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِيمَا وَرِثَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي فِيهِ وِلَايَةٌ وَهَذَا لَيْسَ فِي حِفْظِهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُوصِي إنَّمَا فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْيَتِيمِ وَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيِّ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ عَلَى الْيَتِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ وَصِيِّ الْأَبِ فَقَدْ كَانَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَوَصِيُّهُ بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ أَوْ جَدٌّ لَمْ تَجُزْ قِسْمَةُ وَصِيِّ هَؤُلَاءِ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ فِي تَرِكَتِهِمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَائِمٌ مَقَامَهُ أَنْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا بَالِغًا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِوَصِيِّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أَبٌ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْأَبِ لَهُ يَكُونُ عَنْ شَفَقَةٍ وَافِرَةٍ وَوِلَايَةٍ كَامِلَةٍ كَنَظَرِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ وُجُودِهِ إلَى اعْتِبَارِ نَظَرِ وَصِيِّ الْعَمِّ لَهُ بِخِلَافِ حَالِ عَدَمِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَيَجُوزُ قِسْمَةُ وَصِيِّ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ تَرِكَتِهِ وَالْقِسْمَةُ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ تَرْجِعُ إلَى حِفْظِ التَّرِكَةِ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْأُمِّ وَالْعَمِّ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرُ الْغَائِبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَبٌ وَلَا وَصِيُّ أَبٍ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مِنْ حَيْثُ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ مِنْ قِسْمَةِ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوصِي خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ فَأَمَّا فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الصَّغِيرِ هُمْ وَوَصِيُّهُمْ كَالْأَجَانِبِ. وَلَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ عَلَى ابْنِهِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَالْكُفْرُ وَالرِّقُّ يُخْرِجُهُ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ، وَإِنْ كَانَ يَعُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بَيْعًا وَشِرَاءً فَالْقِسْمَةُ مِثْلُهُ وَالْوَصِيُّ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي فِي أَمْرِ الْيَتِيمِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأَبِ إذَا جَعَلَهُ وَصِيًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً كَامِلَةً عَلَى الصَّغِيرِ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ جَمِيعًا كَوِلَايَةِ الْأَبِ فَوَصِيُّهُ أَيْضًا كَوَصِيِّ الْأَبِ، وَإِنْ جَعَلَهُ وَصِيًّا فِي النَّفَقَةِ خَاصَّةً أَوْ فِي حِفْظِ شَيْءٍ عِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ تَنْصِيبَ الْقَاضِي إيَّاهُ وَصِيًّا قَضَاءٌ مِنْهُ وَالْقَضَاءُ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَهُ الْأَبُ وَصِيًّا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ إيصَاءَ الْأَبِ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ وَالْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ قِسْمَ الْقَاضِي يَتَصَرَّفُ مَعَ بَقَاءِ رَأْي الْقَاضِي فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ وِلَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَا أَمَرَ الْقَاضِي بِهِ لِتَمَكُّنِ الْقَاضِي مِنْ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَصِيبُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَزَوَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَالْحَاجَةُ تَمَسُّ إلَى تَعْمِيمِ وِلَايَتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ الصَّبِيُّ إلَى مَنْ يَنْظُرُ فِيهِ لَهُ وَمَنْ وَجَدَ مِنْ الشُّرَكَاءِ بِنَصِيبِهِ عَيْبًا بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ وَيَنْقُضُ الْقِسْمَةَ إنْ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا كَمَا يَنْقُضُ الْبَيْعَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يُمَيِّزُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَعْطَاهُ عَلَى أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الْعَيْبِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْقَاقُ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَبِوُجُودِ الْعَيْبِ يَفُوتُ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ. (قَالَ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عَدَدٌ مِنْ الْغَنَمِ أَوْ الثِّيَابِ رَدَّ الَّذِي بِهِ الْعَيْبُ خَاصَّةً بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا هُوَ فِي الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَاتَيْنِ وَقَبَضَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدَيْهِمَا عَيْبًا رَدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً فَهَذَا مِثْلُهُ وَيَكُونُ الْمَرْدُودُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ لِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ فِيهِ بِالرَّدِّ وَيَرْجِعُ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رُجُوعُهُ بِعِوَضِ الْمَرْدُودِ وَالْعِوَضُ حِصَّتُهُ هُنَا مِمَّا أَصَابَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ إذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ أَصَابَهُ دَارٌ أَوْ خَادِمٌ فَسَكَنَ الدَّارَ بَعْدَ مَا رَأَى الْعَيْبَ أَوْ اسْتِخْدَامِ الْجَارِيَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا رِضَا بِالْعَيْبِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ رِضًا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ إلَّا فِي مِلْكِهِ عَادَةً فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقْرِيرِ مِلْكِهِ وَهُوَ كَالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ أَوْ طَحْنِ الطَّعَامِ أَوْ قَطْعِ الثَّوْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الِاسْتِخْدَامُ وَالسُّكْنَى قَدْ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَادَةً بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا وَلِأَنَّهُ بِفِعْلِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ لِيَنْظُرَ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ هَلْ يُمْكِنُ نَقَصَانَا فِي مَقْصُودِهِ أَوَّلًا فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ وَقِيلَ جَوَابُهُ هُنَا فِي السُّكْنَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي السُّكْنَى مُدَّةَ خِيَارٍ الشَّرْطِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ حَقُّهُ هُنَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْجُزْءِ الْفَائِتِ وَفِي إسْقَاطِ حَقِّهِ إضْرَارٌ بِهِ وَمُجَرَّدُ السُّكْنَى مِنْهُ لَا يَكُونُ رِضًا بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ فَأَمَّا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ حَقُّهُ فِي الْفَسْخِ فَقَطْ وَفِي جَعْلِ السُّكْنَى بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ فِي الْفَسْخِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَثِيرُ ضَرَرٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَإِذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ سَقَى الزَّرْعَ فَهَذَا رِضَاءٌ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ إلَّا فِي مِلْكِهِ عَادَةً، وَإِنْ لَبِسَ الثَّوْبَ لِيَنْظُرَ إلَى قَدِّهِ أَوْ قَالَ: قَدْرِهِ فَهَذَا رِضَاءٌ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ بِرِضَا فِي الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِهَذَا حَتَّى يَنْظُرَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهُ أَمْ لَا وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِاللُّبْسِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَفِي الْعَيْبِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلُّبْسِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَكَأَنَّ لُبْسَهُ الثَّوْبَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهِ. وَإِذَا بَاعَ مَا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ مِنْ الدَّارِ وَلَا يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ فَرَدَّ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ فَإِنْ قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَالْإِقَالَةُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ كَالشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ، وَإِنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ وَالْبَيِّنَةُ فِي ذَلِكَ وَإِبَاءُ الْيَمِينِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِبَيْعِهِ مِنْ الْأَصْلِ فَعَادَ مِنْ الْحُكْمِ مَا كَانَ قَبِلَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هَدَمَ مِنْ الدَّارِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ إخْرَاجِهِ نَصِيبَهُ مِنْ مِلْكِهِ وَفِي نَظِيرِهِ فِي الْبَيْعِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَوْضِعُ بَيَانِهِ كِتَابُ الصُّلْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْقِسْمَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي هَدَمَ شَيْئًا مِنْهُ وَلَمْ يَبِعْهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَوْا بِنَقْضِ الْقِسْمَةِ وَرَدِّهِ بِعَيْنِهِ مَهْدُومًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ لَدَفَعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَإِذَا رَضُوا بِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَإِذَا أَبَوْا أَنْ يَرْضَوْا بِهِ فَكَمَا يَجِبُ النَّظَرُ لَهُمْ يَجِبُ النَّظَرُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ؛ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي أَنْصِبَائِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْقِسْمَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 مُقَدَّمِهَا وَقِيمَتُهُ سِتُّمِائَةٍ وَأَخَذَ الْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا وَقِيمَتُهُ سِتُّمِائَةٍ وَهِيَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا أَوْ شِرَاءٌ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدَيْ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي هَذَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ عَلَى صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ نَقَصَ الْقِيمَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَرُدُّ مَا فِي يَدِهِ وَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُحَمَّدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اسْتِحْقَاقَ نِصْفِ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ شَائِعًا ظَهَرَ لَهُمَا شَرِيكٌ ثَالِثٌ فِي الدَّارِ وَالدَّارُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ إذَا اقْتَسَمَهَا اثْنَانِ مِنْهُمْ لَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمُسْتَحِقُّ رُبْعَ الدَّارِ شَائِعًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الدَّارَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ خَاصَّةً فَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ ذَلِكَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا شَائِعًا فِي الْكُلِّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَاسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْمَبِيعِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ فِيمَا بَقِيَ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ نَقْضِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي وَبَيْنَ الرُّجُوعِ بِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارِهِ فَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ النِّصْفَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَلَئِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّمْيِيزِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الِانْتِقَاضِ فِيمَا بَقِيَ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا تَبَيَّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْقِسْمَةِ. ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤَخَّرُ الدَّارِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَلَهُمَا شَرِيكٌ ثَالِثٌ فِي نِصْفِ الْمُقَدَّمِ بِنِصْفِهِ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُمَا مِنْ النِّصْفِ الْمُقَدَّمِ مَعَ رُبْعِ النِّصْفِ الْمُؤَخَّرِ وَأَخَذَ الْآخَرُ مَا بَقِيَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَمَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْقِسْمَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا شَائِعًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْ الْمُقَدَّمِ بَيْتٌ بِعَيْنِهِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنَّمَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ عَلَى شَرِيكِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ إذَا اخْتَارَ إمْضَاءَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ نِصْفَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ جَمِيعَ قِيمَةِ الدَّارِ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَبِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ الْمُقَدَّمِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا تِسْعُمِائَةٍ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي يَدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ يُسَاوِي سِتَّمِائَةٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ حَتَّى يُسَلِّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَاعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ إنْ كَانَ الَّذِي بَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ مِنْ الدَّارِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ لِصَاحِبِهِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اضْطِرَابٌ كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَبَيَّنُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً وَالْمَقْبُوضُ بِالْقِسْمَةِ الْفَاسِدَةِ يَنْفُذُ الْبَيْعُ فِيهِ كَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ لِشَرِيكِهِ وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ كَانَتْ صَحِيحَةً فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي بَعْضِ الْقِسْمَةِ فَبِالْبَيْعِ سَقَطَ خِيَارُهُ وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ بِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ، وَذَلِكَ رُبْعُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَانِ وَهِيَ مِائَةُ جَرِيبٍ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا بِحَقِّهِ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي أَصَابَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جَرِيبٌ مِنْ الْعَشَرَةِ الْأَجْرِبَةِ فَرَدَّ الْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ مِنْهُمَا عَلَى الْبَائِعِ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ التِّسْعِينَ جَرِيبًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَكُونُ التِّسْعَةُ الْأَجْرِبَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ صَاحِبُ التِّسْعِينَ جَرِيبًا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْقِسْمَةِ بِاسْتِحْقَاقِ مِقْدَارِ جَرِيبٍ مِنْ الْعَشَرَةِ شَائِعًا وَبَيْعُ صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الْأَجْرِبَةِ قَدْ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ يُرَدُّ الْبَاقِي عَلَيْهِ بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ فَهِيَ بَيْنُهُمَا نِصْفَيْنِ وَصَاحِبُ التِّسْعِينَ جَرِيبًا قَدْ بَاعَ مَا قَبَضَهُ بِقِسْمَةٍ فَاسِدَةٍ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِصَاحِبِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ كَانَتْ صَحِيحَةً وَتَبَيَّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا مَا يُسَاوِي أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَالسَّالِمُ لِلَّذِي أَخَذَ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ تِسْعُمِائَةٍ وَلِصَاحِبِهِ أَلْفٌ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَا فِي يَدِهِ وَإِذَا رَجَعَ بِذَلِكَ سُلِّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ. وَإِذَا كَانَتْ مِائَةُ شَاةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا أَرْبَعِينَ مِنْهَا مَا تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَأَخَذَ الْآخَرُ مِنْهَا سِتِّينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَاسْتُحِقَّتْ شَاةٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِخَمْسَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 دَرَاهِمَ فِي السِّتِّينَ شَاةً عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَاةٌ بِعَيْنِهَا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ فِيمَا بَقِيَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَاَلَّذِي سَلَّمَ لِأَخْذِ الْأَرْبَعِينَ مَا يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ وَلِصَاحِبِ السِّتِّينَ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ الْخَمْسَةِ لِتَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ فِي السِّتِّينَ شَاةً؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي يَدِهِ فَيَضْرِبُ هُوَ فِي السِّتِّينَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَصَاحِبُهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ خَمْسَةٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ السِّتِّينَ سَهْمًا عَلَى مِائَةِ سَهْمٍ: لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْكَثِيرِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سَهْمًا مِنْهَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ فِيمَا بَقِيَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَدَدًا مِنْ الْغَنَمِ فَاسْتُحِقَّ وَاحِدٌ مِنْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ فِيمَا بَقِيَ وَهَكَذَا فِي الْبَيْعِ لِيُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ فَالْعَقْدُ فِي الْمُسْتَحَقِّ يَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ وَإِذَا كَانَ كَرُّ حِنْطَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا طَعَامٌ جَيِّدٌ عَلَى حِدَةٍ وَثَلَاثُونَ قَفِيزًا رَدِيءٌ عَلَى حِدَةٍ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْخُذَ الْعَشَرَةَ بِحَقِّهِ وَيَأْخُذَ شَرِيكُهُ الثُّلُثَيْنِ بِحَقِّهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَمُبَادَلَةُ الْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا رِبَا فَإِنْ رَدَّ الَّذِي أَخَذَ الثَّلَاثِينَ قَفِيزًا ثَوْبًا بِعَيْنِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَاقْتَسَمَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْفَصْلَ يُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الثَّلَاثِينَ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ وَفِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ (قَالَ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ بِثُلُثِ الثَّوْبِ وَسُدُسِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ وَقِيلَ مَا ذُكِرَ ثَمَّةَ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الثَّوْبِ وَنِصْفِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ وَالْعَشَرَةُ ثُلُثُ الثَّلَاثِينَ فَعِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَشَرَةِ يَرْجِعُ بِثُلُثِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَبَيَانُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عَشَرَةً مِنْ الثَّلَاثِينَ أَخَذَهَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَعَشَرَةً بِالْمُقَاسَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا صَاحِبُهُ وَعَشَرَةً عِوَضًا عَنْ الثَّوْبِ وَالْعَشَرَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ شَائِعَةٌ فِي الْكُلِّ ثُلُثُهَا فِيمَا أَخَذَ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَالثُّلُثُ مِمَّا أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ الثَّوْبِ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ وَهُوَ ثُلُثُ الثَّوْبِ وَالثُّلُثُ مِمَّا أَخَذَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَذَلِكَ قَفِيزٌ وَثُلُثَا قَفِيزٍ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا لَوْ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ فَإِذَا اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الْخَمْسَةِ وَثُلُثُهَا قَفِيزٌ وَثُلُثُ قَفِيزٍ سُدُسُ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ إنَّمَا يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْكُلِّ إذَا اسْتَوَتْ الْجَهَالَةُ فَأَمَّا إذَا تَفَاوَتَتْ فَلَا كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا وَقَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَتَقَابَضَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِشْرِينَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ يُجْعَلُ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ بَعْضَهُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْقَلْبِ بِقَدْرِهِ وَلَوْ جُعِلَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقَلْبِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ لِإِبْقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا حِينَ لَمْ تَثْبُتْ الْمُسَاوَاةُ فَهُنَاكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ التَّمْيِيزُ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهَا بَيْعٌ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَالْبَيْعِ فَلَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ مِمَّا أَخَذَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ لِإِبْقَاءِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا بِالْقِسْمَةِ تُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ فَيُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا ثَانِيَةً فَلَا يُجْعَلُ شَيْءٌ بِمُقَابَلَةٍ كَيْ لَا يُنْتَقَضَ وَإِذَا جَعَلْنَا الْمُسْتَحَقَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ الْمَقْسُومَةِ يَكُونُ النِّصْفُ مِنْ الْعَشَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَالنِّصْفُ الْعَشَرَةِ الْمَوْزُونَةُ لَمْ - يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَمَا أَخَذَ مِنْ الْعَشَرَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى وَجْهِ الشِّرَاءِ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَثَمَنُهُ نِصْفُ الثَّوْبِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ وَلَكِنْ يَجْعَلُ الْمُسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِشْرِينَ الَّذِي أَخَذَهُ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ وَعَشَرَةً مِنْ تِلْكَ الْعِشْرِينَ أَخَذَهَا بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَعَشَرَةً عِوَضًا عَنْ الثَّوْبِ فَنِصْفُ الْمُسْتَحَقِّ مِمَّا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّوْبِ خَاصَّةً. وَإِذَا كَانَ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهُ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ مَخْتُومًا حِنْطَةً رَدِيئَةً وَعَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرًا جَيِّدَةً وَأَخَذَ الْآخَرُ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً جَيِّدَةً وَثَلَاثِينَ مَخْتُومًا شَعِيرًا رَدِيئًا، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الشَّعِيرِ الرَّدِيءِ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِرُبْعِ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ حِنْطَةٌ جَيِّدَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِرُبْعِهِ؟، وَالصَّحِيحُ مَا فِي النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِرُبْعِ الْمَخَاتِيمِ حِنْطَةً يَعْنِي بِثَلَاثِينَ مَخْتُومًا حِنْطَةً رَدِيئَةً الَّتِي أَخَذَهَا صَاحِبُهُ يَرْجِعُ بِرُبْعِ ذَلِكَ وَهُوَ سَبْعَةُ أَقْفِزَةٍ وَنِصْفٌ وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً رَدِيئَةً وَقَفِيزَيْنِ وَنِصْفِ شَعِيرٍ جَيِّدٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الشَّعِيرِ الرَّدِيءِ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِثُلُثِ الْحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ وَنِصْفُ الشَّعِيرِ الْجَيِّدِ خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ فَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الشَّعِيرِ الرَّدِيءِ يَرْجِعُ بِنِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبَيَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَخَذَ الثَّلَاثِينَ قَفِيزًا شَعِيرًا رَدِيئًا عَشَرَةً بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَعَشَرَةً بِالْمُقَاسَمَةِ فَقَدْ أَخَذَ صَاحِبُهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ شَعِيرًا جِيدًا وَعَشَرَةً بِالْمُعَاوَضَةِ وَعِوَضُهُ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ مِنْ الْحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أَخَذَهَا صَاحِبُهُ مِنْ نَصِيبِهِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ كَانَ ثُلُثُ الْمُسْتَحَقِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 مِمَّا أَخَذَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَثُلُثُهُ مِمَّا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةٍ مِنْ الْحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ وَثُلُثُهُ مِمَّا أَخَذَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الشَّعِيرِ الْجَيِّدِ، وَذَلِكَ قَفِيزَانِ وَنِصْفٌ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ الْمَأْخُوذِ بِالْمُقَاسَمَةِ لِإِبْقَاءِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ نِصْفُهُ مِنْ الْمَأْخُوذِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفُهُ مِنْ الْمَأْخُوذِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَقْفِزَةٍ وَنِصْفٌ مِنْ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ وَرُبْعُ الثَّلَاثِينَ قَفِيزًا يَكُونُ سَبْعَةَ أَقْفِزَةٍ وَنِصْفًا؛ فَلِهَذَا قَالَ: يَرْجِعُ بِرُبْعِ الْمَخَاتِيمِ حِنْطَةً. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ الْمُقَدَّمَ وَقِيمَتُهُ سِتُّمِائَةٍ وَأَخَذَ الْآخَرُ النِّصْفَ الْمُؤَخَّرَ وَقِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ النِّصْفِ الْمُقَدَّمِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ النِّصْفِ الْمُقَدَّمِ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ وَأَنْفَذَ الْبَيْعَ فِي الْبَقِيَّةِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمُقَدَّمِ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الْمُؤَخَّرِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا خَمْسُونَ مِنْهَا نِصْفُ الْمِائَةِ الَّتِي نَقَدَهُ وَمِائَةٌ مِنْهُمَا رُبْعُ قِيمَةِ النِّصْفِ الْمُؤَخَّرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْمِائَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا وَبِقِيمَةِ نِصْفِ النِّصْفِ الْمُؤَخَّرِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّلَثمِائَةِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ كَانَ هُوَ مُشْتَرِيًا وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَبِيعِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا مَا يُسَاوِي سَبْعَمِائَةٍ وَأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَصَاحِبُ الْمُؤَخَّرِ أَخَذَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَالسَّالِمُ لِصَاحِبِ الْمُقَدَّمِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِالْمُقَاسَمَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِرُبْعِ مَا أَخَذَ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ كَمَالُ حَقِّهِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْمِائَةِ ثَوْبٌ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّوْبِ وَبِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِمَّا أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ الثَّوْبِ نِصْفُهُ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الثَّوْبِ. وَإِذَا كَانَتْ أَرْضٌ وَدَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهُمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الدَّارَ وَالْآخَرُ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الدَّارِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفَانِ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ بَاعَ الدَّارَ فَاسْتَحَقَّ إنْسَانٌ مِنْهَا عُلُوَّ بَيْتٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَالسُّفْلُ عُشْرُ الدَّارِ فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْعُلُوَّ ذَهَبَ نِصْفُ الْعُشْرِ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ وَأَمْسَكَ الْبَاقِيَ مِنْ الدَّارِ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّارِ يَرْجِعُ بِسِتَّةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَ دَوَانِقَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ بِذَلِكَ فِي رَقَبَتِهَا وَيَكُونُ شَرِيكًا بِهِ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْيَسِيرِ مِنْ الْأَرْضِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْقِيمَةِ حَتَّى إذَا رَضِيَ هُوَ بِالرُّجُوعِ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ رُجُوعُهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُهَا أَخَذَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ مَعَ الدَّارِ وَقَدْ كَانَ قِيمَةُ الدَّارِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمَّا اسْتَحَقَّ مِنْهَا مَا يُسَاوِي نِصْفَ الْعُشْرِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُسَاوِي أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَقَدْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، أَلْفٌ بِمُقَابَلَةِ مَا أَدَّى مِنْ الْعَبْدِ وَأَلْفٌ بِالْمُقَاسَمَةِ وَأَخَذَ الْآخَرُ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَ دَوَانِيقَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَكُونَ السَّالِمُ لَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَانِ وَلِصَاحِبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ بِالْمُقَاسَمَةِ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ بِمَا يُسَاوِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ كَمَا بَيَّنَّا وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ حَتَّى قَالَ فِي الْقِسْمَةِ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلُوِّ فَإِذَا اسْتَحَقَّ عُلُوَّ بَيْتٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْعُلُوُّ مَعَ السُّفْلِ عُشْرَ الدَّارِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ ثُلُثُ الْعُشْرِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَإِذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَبِنَاءُ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ نَصِيبِهِ فَرَدَّ الْقِسْمَةَ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ عَلَى شَرِيكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْغُرُورِ وَلَا غُرُورَ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنَّ الشَّرِيكَ مُجْبَرٌ عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ شَرِيكِهِ فَلَا يَصِيرَ عَادَى الشَّرِيكَ فِيمَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَبَنَى فِيهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَنَقَضَ بِنَاءَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ نَظِيرَهُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ وَمِنْ نَظَائِره أَيْضًا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ عَلَى الِابْنِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْغَرُورِ مِنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا ضَمِنَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا الْغَاصِبُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَضَمِنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ فِي تَضْمِينِ الْقِيمَةِ هُنَاكَ مُخْتَارٌ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَطْهُرَ الْجَارِيَةُ فَيَتَحَقَّقُ الْغَرُورُ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ مَلَكَهَا مِنْ الْغَاصِبِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي دَارَيْنِ أَوْ أَرْضَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَهُمَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ مَا بَنَى فِيهَا صَاحِبُهَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ لَا تَجْرِي فِي الدُّورِ وَالْأَرَاضِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَجْرِي قِسْمَةُ الْجَبْرِ فِيهَا فَهَذَا وَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ (قَالَ:) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَطْلَقَا الْجَوَابَ فِي قِسْمَةِ الْجَبْرِ فِي الدُّورِ وَلَكِنْ قَالَ: إنْ رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَقْسِمَهَا قِسْمَةً وَاحِدَةً فَلَهُ ذَلِكَ وَهُمَا أَقْدَمَا عَلَى الْقِسْمَةِ قَبْلَ أَنْ يَرَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا مُعَاوَضَةً بَيْنَهُمَا عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُمَا وَالْغَرُورُ بِمِثْلِهِ يَثْبُتُ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بَنَى فِيهِ أَخَذَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَسَمَا جَارِيَتَيْنِ فَوَطِئَ أَحَدُهُمَا الْجَارِيَةَ الَّتِي أَخَذَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ عِنْدَهُ لَا تَجْرِي فِي الرَّقِيقِ فَتَكُونُ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَهُمَا عَنْ اخْتِيَارٌ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قِسْمَةُ الْجَبْرِ تَجْرِي فِي الرَّقِيقِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْغَرُورِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِاسْتِحْقَاقِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ بَاعَهَا ضَمَّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْبُوضَةً بِقِسْمَةٍ فَاسِدَةٍ فَنَفَذَ بَيْعُهُ فِيهَا وَيَضْمَنُ لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، وَذَلِكَ النِّصْفُ. وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَسَمَا مَنْزِلَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنَازِلَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي حُكْمِ الْقِسْمَةِ كَالدُّورِ الْمُتَفَرِّقَةِ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَسَّمَ الدُّورَ الْمُخْتَلِفَةَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَجَمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَجْبَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَبَنَى أَحَدُهُمْ فِي الدَّارِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَهُدِمَ بِنَاؤُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شُرَكَائِهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ رَأَى جَمْعَهَا فِي الْقِسْمَةِ صَارَتْ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ مَعْنَى الْغَرُورِ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ إنَّمَا يَنْعَدِمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُ الشُّرَكَاءَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ هُنَا بِمَا رَآهُ الْقَاضِي فَيَنْعَدِمُ الْغَرُورُ بِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى شُرَكَائِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ. وَإِذَا اقْتَسَمَا الرَّجُلَانِ دَارَيْنِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ دَارًا فَبَنَى أَحَدُهُمَا فِي الدَّارِ الَّتِي أَخَذَهَا وَهَدَمَ وَأَنْفَقَ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ مِنْ الْأُخْرَى مَوْضِعَ جِذْعٍ فِي حَائِطٍ أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 أَوْ طَرِيقٍ أَوْ حَائِطٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِنَاءِ بَيْتٍ فَاَلَّذِي اُسْتُحِقَّ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ كُلَّهَا وَهَدَمَ مَا أَحْدَثَ هَذَا مِنْ الْبِنَاءِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ مَا هَدَمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْقُضْ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ وَرَضِيَ بِمَا فِي يَدِهِ وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ بِنَاءَ شَرِيكِهِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَنَى فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ انْقَطَعَ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِضَ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ بِنَاءَهُ فَهُنَا إذَا اخْتَارَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَخَذَ الدَّارَ بِقِسْمَةٍ فَاسِدَةٍ فَهِيَ كَالْمَأْخُوذَةِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ جَمِيعًا تَخْرِيجًا عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ شَكًّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الدَّارَ تُتْرَكُ لِلْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا مِنْ أَجْلِ بِنَائِهِ حَيْثُ قَالَ: فِيمَا أَعْلَمُ وَقِيلَ هَذِهِ مِنْ إحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي جَرَتْ فِيهَا الْمُحَاوَرَةُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فِي اسْتِحْقَاقِ مَوْضِعِ الْجِذْعِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ؛ لِمَا سِوَاهُمَا حِصَّةً مِنْ الدَّرْكِ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ بِعَيْنِهِ لِأَجْلِ الْبِنَاءِ. وَلَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَأَخَذَ الْآخَرُ دَارَيْنِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَاسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ وَكَانَتْ لَهُ الدَّارُ الْبَاقِيَةُ وَيَرْجِعُ بِرُبْعِ الدَّارِ الَّتِي أَخَذَ الْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى دَارَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَاسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْأُخْرَى وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الثَّمَنِ فَهُنَا أَيْضًا لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَاقِيَةِ فَيَرْجِعُ بِعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ، وَذَلِكَ رُبْعُ الدَّارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَذَلِكَ رُبْعُ الدَّارِ الَّتِي أَخَذَهَا الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الدَّارَيْنِ كِلَيْهِمَا لَوْ اُسْتُحِقَّتَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ رَجَعَ بِنِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبْعُ كَمَا قَرَّرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا لَا يُقْسَمُ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُقْسَمُ الْحَمَّامُ وَالْحَائِطُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَقَطْعِ الْمَنْفَعَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يُجْبِرْ الْقَاضِي عَلَيْهِ) فَإِنْ رَضُوا بِهِ جَمِيعًا قَسَمَهُ لِوُجُودِ التَّرَاضِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا فِي الْحَمَّامِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بِجِهَةٍ أُخْرَى بِأَنْ يَجْعَلُهُ بَيْتًا وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا فِي الْحَائِطِ إنْ رَضُوا بِالْقِسْمَةِ لِيَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ رَضُوا بِالْهَدْمِ وَقِسْمَةِ الْأَسْهُمِ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَاضِي ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمِلْكِ وَلَكِنْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ لَا يَقْسِمُهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ إذَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَلِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا أَنْ تَتَفَاوَتَ أَنْصِبَاؤُهُمْ وَكَانَ صَاحِبُ الْكَبِيرِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ فَحِينَئِذٍ يَقْسِمُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مُتَظَلِّمٌ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ. وَلَوْ كَانَ بِنَاءٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضِ رَجُلٍ قَدْ بَنَيَا بِإِذْنِهِ، ثُمَّ أَرَادَ قِسْمَةَ الْبِنَاءِ وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ فَلَهُمَا ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي، وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْقَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ فَالْأَرْضُ لِغَيْرِهِمَا بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْإِجَارَةِ فِي أَيْدِيهِمَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كَذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا هُوَ مُسْتَعَارٌ لَهُ أَوْ مُسْتَأْجَرٌ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُكَلِّفَ صَاحِبَهُ رَفْعَ الْبِنَاءِ لَوْ صَحَّتْ الْقِسْمَةُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا فَلَا يَفْعَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ إذَا أَتَى أَحَدُهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ هَدْمَ الْبِنَاءِ فَفِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إتْلَافُ الْمِلْكِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ إنْ أَرَادَا فِعْلَهُ لَمْ يَمْنَعْهُمَا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُمَا صَاحِبُ الْأَرْضِ هَدَمَاهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَهُ عَارِيَّةٌ فِي أَيْدِيهمَا وَلِلْمُعِيرِ فِي الْعَارِيَّةِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ فَيُكَلِّفُهُمَا هَدْمَ الْبِنَاءِ، ثُمَّ النَّقْضُ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمَا فَيَفْعَلُهُ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ. وَإِذَا كَانَ طَرِيقٌ بَيْنَ قَوْمٍ إنْ اقْتَسَمُوهُ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ طَرِيقٌ وَلَا مَنْفَذٌ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهُ لَمْ أَقْسِمْهُ؛ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ بِقَطْعِ مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَرِهَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ أَوْ صَاحِبُ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّطَرُّقِ إلَى مِلْكِهِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَوٍ بِصَاحِبِ الْكَثِيرِ وَفِي الْقِسْمَةِ تَفْوِيتُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَهُنَاكَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِ الْبَيْتِ وَصَاحِبُ الْكَثِيرِ فِيهِ غَيْرُ مُسْتَوٍ بِصَاحِبِ الْقَلِيلِ وَانْقِطَاعُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ لَا لِأَجْلِ الْقِسْمَةِ؛ فَلِهَذَا قَسَّمَ الْقَاضِي هُنَاكَ بِطَلَبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ وَهُنَا لَا يَقْسِمُ إذَا كَانَ فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرٌ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ فِي صِغَرٍ أَوْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ طَرِيقًا إلَّا أَنْ يَتَرَاضَوْا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ نَافِذٌ قَسَمْتُهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 تَفْوِيتٌ لِمَنْفَعَةٍ عَلَى بَعْضِهِمْ بَلْ فِيهَا تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِانْتِفَاعِ فِي مِلْكِهِ وَرَقَبَةُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ فَتَقْسِيمُهَا بِطَلَبِ بَعْضِهِمْ. وَإِنْ كَانَ طَرِيقٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إنْ اقْتَسَمَاهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مَمَرٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ فِي مَنْزِله بَابًا وَيَجْعَلَ طَرِيقَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ وَأَبَى الْآخَرُ قِسْمَتَهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّطَرُّقِ إلَى مِلْكِهِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ التَّطَرُّقِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَبَيْنَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَإِذَا كَانَ مَسِيلُ مَاءٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ يَسِيلُ فِيهِ مَاؤُهُ سِوَى هَذَا قَسَمْتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ أَقْسِمْهُ وَهَذَا وَالطَّرِيقُ سَوَاءٌ فَالْمَقْصُودُ هُنَا الِانْتِفَاعُ بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ وَهُنَاكَ بِالتَّطَرُّقِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ أَنْ يَسِيلَ مَاؤُهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ إذَا كَانَ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنَّمَا شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ التَّصْوِيبَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَانِبٍ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ فِي جَانِبٍ آخَرَ بِلَا ضَرَرٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ صَغِيرَةٌ بَيْنَ قَوْمٍ إنْ اقْتَسَمُوهَا لَمْ يَصِبْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهَا لَمْ أَقْسِمْهَا وَهُوَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ حَانُوتٌ فِي السُّوقِ يَبِيعَانِ فِيهِ أَوْ يَعْمَلَانِ بِأَيْدِيهِمَا سَوَاءٌ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ، فَإِنِّي أَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعٌ يَعْمَلُ فِيهِ قَسَمْتُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ لَمْ أَقْسِمْهُ بَيْنَهُمَا لِمَعْنَى الضَّرَرِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فِي أَرْضٍ لِغَيْرِهِمْ فَأَرَادُوا قِسْمَةَ الزَّرْعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ لَمْ أَقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يُحْصَدَ لَا بِالتَّرَاضِي وَلَا بِغَيْرِ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَالُ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ قِسْمَتُهُ مُجَازَفَةً إلَّا بِكَيْلٍ وَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِالْكَيْلِ قَبْلَ الْحَصَادِ، وَإِنْ كَانَ بَقْلًا لَمْ أَقْسِمْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنْ تَرْكِ نَصِيبِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ مِنْ الْأَرْضِ عَارِيَّةٌ لَهُمْ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا فِي الْبَقْلِ أَنَّهُ يَجُزُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَهُ فَإِذَا اقْتَسَمُوهَا عَلَى هَذَا بِتَرَاضِيهِمْ أَجَزْتُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إتْلَافَ جُزْءٍ فَلَا يُبَاشِرُهُ الْقَاضِي وَلَا يَمْنَعُ الشُّرَكَاءَ مِنْهُ إنْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَا زَرْعَهَا دُونَ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَا تَرْكَهُ فِي الْأَرْضِ إلَى وَقْتِ الِادِّرَاكِ، وَإِنْ اشْتَرَطَا جَزَّ ذَلِكَ وَاجْتُمِعَا عَلَيْهِ أَجَزْتُهُ وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الزَّرْعِ قَبْلَ الِادِّرَاكِ بِشَرْطِ التَّرْكِ وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ. وَكَذَلِكَ طَلْعٌ فِي نَخْلٍ بَيْنَ قَوْمٍ إنْ اقْتَسَمُوا الطَّلْعَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا عَلَى النَّخْلِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ اقْتَسَمُوهُ عَلَى أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 يَقْطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَهُ أَجَزْت ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ فَإِنْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَصْحَابَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي تَرْكِ مَا أَصَابَهُ فَأَذِنُوا لَهُ فَأَدْرَكَ وَبَلَغَ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ يُصَدَّقُ بِالْفَضْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِلثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ إنْ تَرَكَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ الْفَضْلُ. وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْتَاجُ فِي قِسْمَتِهِ إلَى كَسْرٍ أَوْ قَطْعٍ لَمْ أَقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إتْلَافِ الْجُزْءِ إلَّا أَنْ يَرْضَى جَمِيعُ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ رَضُوا قَسَمْتُهُ فَالْمُرَادُ أَنِّي لَا أَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا أَنْ يُبَاشِرَ الْقَاضِي ذَلِكَ فَلَا. وَإِنْ أَوْصَى بِصُوفٍ عَلَى ظَهْرِ غَنَمِهِ لِرَجُلَيْنِ فَأَرَادَ قِسْمَتَهُ قَبْلَ الْجَزِّ لَمْ أَقْسِمْهُ، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الرِّبَا؛ فَإِنَّهُ مَوْزُونٌ أَوْ مَكِيلٌ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ إلَّا بِوَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْحَلْبِ وَالْجَزِّ فَأَمَّا الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ فَلَا يَجُوزُ شَرِكَتُهُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِحَالٍ لِمُضِيِّ الضَّرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ الْحِيَازَةُ، وَذَلِكَ فِيمَا فِي الْبَطْنِ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى نَصِيبِهِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَمَا ذَلِكَ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتْ قَوْصَرَّةُ تَمْرٍ بَيْنَهُمَا أَوْ دَنُّ خَلٍّ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالْقِسْمَةُ فِيهِ تَمْيِيزٌ مَحْضٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، فَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ خَشَبَةٌ أَوْ بَابٌ أَوْ رَحَّاءُ أَوْ دَابَّةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا لَمْ تُقْسَمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤَةُ وَالْيَاقُوتَةُ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَيُقْسَمُ اللُّؤْلُؤُ وَالْيَوَاقِيتُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ مُمْكِنٌ إذَا كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا. وَإِنْ كَانَتْ جَنَّةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ فِي قَطْعِهَا ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ أَقْسِمْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ قَسَمْتُهَا وَقَطَعْتُهَا بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ حَبًّا كَثِيرًا قَسَمْتُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَطْعِ هُنَا فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ نَظِيرُ الثِّيَابِ إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَتُقْسَمُ نَقْرَةُ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَصُوغٍ مِنْ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي قَطْعِ ذَلِكَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ عُلُوٌّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَالسُّفْلُ لِغَيْرِهِمَا أَوْ سُفْلٌ بَيْنَهُمَا وَالْعُلُوُّ لِغَيْرِهِمَا، فَكَذَلِكَ كُلُّهُ يُقْسَمُ إذَا طَلَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْكَنٌ وَفِي الْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِئْرٌ وَعَيْنٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ نَهْرٌ لَا أَرْضَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنِّي لَا أَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِلْقِسْمَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَرْضٌ لَيْسَ لَهَا شُرْبٌ إلَّا مِنْ ذَلِكَ قُسِمَتْ الْأَرْضُ بَيْنَهُمَا وَتُرِكَتْ الْقَنَاةُ وَالْبِئْرُ وَالنَّهْرُ عَلَى حَالِهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرْبُهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لِأَرْضِهِ شُرْبًا مِنْ مَكَان آخَرَ أَوْ كَانَتْ أَرْضَيْنِ وَأَنْهَارًا مُتَفَرِّقَةً أَوْ آبَارًا قَسَمْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَوْ قِسْمَةِ النَّهْرِ وَالْعَيْنُ هُنَا تَبَعٌ لِقِسْمَةِ الْأَرَاضِيِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَالشُّرْبُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ فِيهِ مَقْصُودًا، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أُجْبِرُ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَلَى الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَمَّيْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ شَرِيكُهُ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُ أَحَدَهُمَا عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ إذَا طَلَبَ الْآخَرُ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَيَقْسِمُ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا هَذَا وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَتَعَذَّرُ الْقِسْمَةُ وَلَا يُقَالُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ فَالْأَشْقَاصُ لَا تُشْتَرَى إلَّا بِثَمَنٍ وَكْسٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ مَعْنَى الْحَجْرِ عَلَى الْحَدِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى ذَلِكَ لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي نَصِيبِهِ تَبِعَا قَوْلَهُ بِأَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ إلَّا بِوَكْسٍ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَصِيبَهُ إلَّا مُشْتَرَكًا وَيَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ مُشْتَرَكًا إنَّمَا يَحْصُل لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِجْبَارِ لِمَعْنَى الْإِحْرَازِ وَتَحْصِيلِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ وَفِي الْإِجْبَارِ هُنَا إزَالَةُ الْمِلْكِ وَلِلنَّاسِ فِي أَعْيَانِ الْمِلْكِ أَغْرَاضٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَلَأَنْ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ قِسْمَةِ الدَّارِ فِيهَا طَرِيقٌ لِغَيْرِ أَهْلِهَا] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: أَذْرِعُوا الطَّرِيقَ سَبْعَةَ أَذْرُعِ، ثُمَّ ابْنُوا» وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَأْخُذُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَيَقُولُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الطَّرِيقِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 بِذَلِكَ)؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ فِيهِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّا نَرَى الطُّرُقَ الَّتِي اتَّخَذَهَا النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ مُتَفَاوِتَةً فِي الذَّرْعِ وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا لَمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ الثَّابِتَ بِالشَّرْعِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ أَقَلُّ، ثُمَّ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي حَادِثَةٍ بِعَيْنِهَا وَرَاءَ حَاجَةِ الشُّرَكَاءِ إلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الطَّرِيقِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيَبْنُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِنَصِيبِ مِقْدَارٍ فِي الطَّرِيقِ شَرْعًا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَرَادَ قِسْمَتَهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ لِغَيْرِهِمَا فَأَرَادَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ أَنْ يَمْنَعَهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ عَرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ وَطُولُهُ مِنْ بَابِ الدَّارِ إلَى بَابِ الَّذِي لَهُ الطَّرِيقُ وَيَقْسِمُ بَقِيَّةَ الدَّارِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ عَلَى حُقُوقِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ وَيُتْرَكُ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مِلْكُهُمَا وَلَمْ يُبَاشِرْ فِيهِ قِسْمَةً فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَمَرُّهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا جَعَلَ الطَّرِيقَ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِلَيْهِ يُرَدُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مَا يُدْخِلُهُ مِنْ بَابِ الدَّارِ إلَى بَابِ دَارِهِ فَيَكْفِيه لِذَلِكَ طَرِيقٌ عَرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ وَطُولُهُ إلَى بَابِ دَارِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ قِسْمَةُ هَذَا الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّطَرُّقِ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فَكَمَا لَا يَكُونُ لِصَاحِبَيْ الدَّارِ أَنْ يُفَوِّتَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يُفَوِّتَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ بَاعُوا هَذِهِ الدَّارَ وَهَذَا الطَّرِيقُ بِرِضَا مِنْهُمْ جَمِيعًا اقْتَسَمُوا الثَّمَنَ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِثُلُثِ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّرِيقِ الْمُرُورُ فِيهِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ فِي ذَلِكَ مُسَاوِي لِلشَّرِيكَيْنِ فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ فَسَاوَاهُمْ أَيْضًا فِي ثَمَنِ حِصَّةِ الطَّرِيقِ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ هُوَ شَرِيكًا فِي أَصْلِ الطَّرِيقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَمَرِّ وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي أَصْلِ الطَّرِيقِ فَلَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ مَالِكُ الْعَيْنِ وَقَدْ كَانَ لِصَاحِبِ الْمَمَرِّ حَقٌّ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْبَيْعِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الثَّمَنِ شَرِكَةٌ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ الْمَمَرِّ وَحْدَهُ بِدُونِ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ لَا يَجُوزُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ لَا يُقَابِلُ مَا هُوَ حَقُّ صَاحِبِ الْمَمَرِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِ الْمَمَرِّ مِقْدَارُ حَقِّهِ مِنْ الثَّمَنِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيقَ بَيْنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ الْمَمَرِّ لِآخَرَ يَكُونُ قِيمَةُ مِلْكِهِمَا أَنْقَصَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمَا حَقُّ الْمَمَرِّ فِيهِ فَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ النُّقْصَانُ حَقَّ صَاحِبِ الْمَمَرِّ بِقِيمَةِ الطَّرِيقِ مَعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِي الطَّرِيقِ إلَّا الْمَمَرُّ وَالْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ وَلِأَجْلِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ كَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَحَقًّا عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ وَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ إلَّا بِرِضَاهُمْ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ مَسِيلُ مَاءٍ لِرَجُلٍ فَأَرَادَ أَصْحَابُهَا قِسْمَتَهَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمْ مِنْ الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ يَتْرُكُونَ لَهُ مَسِيلَهُ وَهَذَا وَالطَّرِيقُ سَوَاءٌ فِيمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِيهَا طَرِيقٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقٌ لِآخَرَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّهُ يُعْزَلُ طَرِيقٌ وَاحِدٌ عِرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ إلَى بَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الطَّرِيقِ التَّطَرُّقُ فِيهِ إلَى مِلْكِهِ وَيَتَوَفَّرُ هَذَا الْمَقْصُودُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنْ بَابِ الدَّارِ عَرْضُهُ بَابُ الدَّارِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَفَرَّقُ فِيهِ طَرِيقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى بَابِ دَارِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِطَرِيقٍ لَهُ خَاصٍّ مِنْ بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَعَنُّتِهِ وَلَكِنْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَفْتَرِقُ الطَّرِيقُ بِهِمَا يَتْرُكُ لَهُمَا طَرِيقًا وَاحِدًا، ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّرِيقُ إلَى بَابِ دَارِهِ، وَإِنْ كَانَ بَابُ صَاحِبِ الدَّارِ أَعْظَمَ مِنْ بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ عَرْضِ الطَّرِيقِ إلَّا بِمِقْدَارِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ لَا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ حَمْلِهِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ أَوْسَعَ مِنْ بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صِفَةٌ لِرَجُلٍ فِي دَارِ رَجُلٍ وَطَرِيقُهَا إلَى بَابِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ بَابِ الدَّارِ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ إلَّا قَدْرَ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ دُونَ عَرْضِ بَابِ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ بِطَرِيقِهِ فِي الدَّارِ فَقُسِمَتْ الدَّارُ وَتُرِكَ لَهُ الطَّرِيقُ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ بَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ هَدْمُ بَعْضِ الْحَائِطِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ أَيِّ بَابٍ دَخَلَ مِنْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِبَابَيْنِ إلَّا مَا يَسْتَحِقُّهُ بِبَابٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِهَذَا التَّصَرُّفِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَنْزِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَسَمَاهُ بَيْنَهُمَا وَفَتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا إلَى الطَّرِيقِ كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا حَقَّ التَّطَرُّقِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ إلَى مَنْزِلِهِمَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَطَرَّقَا فِيهِ مِنْ بَابٍ أَوْ بَابَيْنِ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 وَاحِدًا فَاشْتَرَى دَارًا مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَفَتَحَهَا إلَيْهِ وَاِتَّخَذَ لَهَا طَرِيقًا فِي هَذَا الْمَنْزِلِ وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ مِنْ الدَّارِ فِي الْمَنْزِلِ وَفِي الطَّرِيقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّطَرُّقِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ إلَى مَنْزِلِهِ وَبَعْدَ مَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ دَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنْ مِلْكِهِ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى وَلِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَهْلِ الطَّرِيقِ إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ سَاكِنٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ حَقُّ التَّطَرُّقِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ لِنَفْسِهِ فِيهِ حَقًّا وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ وَالدَّارِ وَاحِدًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ فِي هَذَا. وَلَوْ اخْتَصَمَ أَهْلُ الطَّرِيقِ فِي الطَّرِيقِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُهُ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَهُ وَلَا يُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ ذَرْعِ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ الصَّغِيرِ إلَى الطَّرِيقِ كَحَاجَةِ صَاحِبِ الدَّارِ الْكَبِيرَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ يُجْعَلُ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ تَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْأَرَاضِي وَقِلَّتِهَا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَهُنَا حَاجَتُهُمْ إلَى التَّطَرُّقِ فِي الطَّرِيقِ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً وَبِهَذَا تَبَيَّنَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ بِإِضَافَةِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ إلَى مَنْزِلِهِ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ زِيَادَةَ حَقٍّ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ كَانَ يُعْتَبَرُ فِي قِسْمَةِ الطَّرِيقِ ذَرْعُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يُضِيفَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنْ عُرِفَ أَصْلُ الطَّرِيقِ كَيْفَ كَانَ بَيْنَهُمْ جَعَلْتُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَبَرْنَاهُ نَوْعًا مِنْ الظَّاهِرِ فَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَةُ الْحَالِ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ فِيهَا طَرِيقٌ وَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ وَاقْتَسَمَ وَرَثَتُهُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ وَرَفَعُوا الطَّرِيقَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ وَلَهُمْ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَرَادُوا قِسْمَةَ ثَمَنِهِ فَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ نِصْفُهُ وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ وَلَوْ كَانَ هُوَ حَيًّا فَبَاعَاهُ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَبِمَوْتِهِ وَكَثْرَةِ وَرَثَتِهِ لَا يَزْدَادُ نَصِيبُهُ وَلَا يَنْقُصُ نَصِيبُ صَاحِبِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَصْلَ الدَّارِ بَيْنَهُمْ مِيرَاثٌ وَجَحَدُوا ذَلِكَ قُسِّمَ ذَلِكَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَرَأْسِ صَاحِبِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَوُونَ فِي الْحَقِّ فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الظَّاهِرِ أَصْلٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ هَذَا الظَّاهِرُ فِي قِسْمَةِ ثَمَنِ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ. وَإِذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ بَيْتٌ مِنْ الدَّارِ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتَانِ وَفِي يَدِ آخَرَ مَنْزِلٌ عَظِيمٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي جَمِيعَ الدَّارِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَسَاحَةُ الدَّارِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَعْمِلٌ لِلسَّاحَةِ بِكَسْرِ الْحَطَبِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّاحَاتِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ وَرَثَةٍ كَانَ لِوَرَثَتِهِ ثُلُثُ السَّاحَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اقْتَسَمُوا دَارًا وَرَفَعُوا طَرِيقًا بَيْنَهُمْ صَغِيرًا أَوْ عَظِيمًا أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ لِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ جَرَى بَيْنَهُمْ عَنْ تَرَاضٍ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ دَارًا وَفِيهَا كَنِيفُ شَارِعٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ أَوْ ظُلَّةٌ فَلَيْسَ يَحْسِبُ ذَرْعَ الظُّلَّةِ وَالْكَنِيفِ فِي ذَرْعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ مَا تَحْتَ ذَلِكَ طَرِيقٌ هُوَ حَقٌّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُذَرَّعُ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ بَيْنَهُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَاصِمَ فِي رَفْعِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشُّرَكَاءِ فِيهِ إلَّا فِي نَقْضِ الْبِنَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فَأَمَّا أَنْ يُذَرَّعَ مَعَ ذَرْعِ الدَّارِ فَلَا وَلَوْ كَانَتْ الظُّلَّةُ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ قَدْ كَانَ ذَرَّعَهَا يَحْسِبُ فِي ذَرْعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ قَرَارِ الظُّلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ مُشْتَرَكٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عُلُوٍّ فِي الدَّارِ سُفْلُهُ لِغَيْرِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِالذَّرْعِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ قِسْمَةِ الدَّارِ لِلْمَيِّتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ دَارًا لِمَيِّتٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ قَلِيلًا كَانَ الدَّيْنُ أَوْ كَثِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ؛ فَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَ التَّرِكَةَ وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَالْقِسْمَةُ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَأَمَّا إذَا قَلَّ الدَّيْنُ؛ فَلِأَنَّهُ شَاغِلٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِلْإِحْرَازِ وَلَا يُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَهَذِهِ قِسْمَةٌ قَبْلَ أَوَانِهَا فَهُوَ كَقِسْمَتِهِمْ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَى ذَلِكَ بِعْتُهُ فِي الدَّيْنِ وَنَفَّذْت الْقِسْمَةَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ مَالِ الْمَيِّتِ مَحَلٌّ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْمَانِعُ لِلْقِسْمَةِ قِيَامُ حَقِّ الْغَرِيمِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ حَقُّهُ مِنْ مَحَلِّهِ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ نُفُوذِ الْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَى ذَلِكَ فَأَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ أَوْ إبْرَاءِ الْغَرِيمِ الْمَيِّتَ مِنْ الدَّيْنِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ إمَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ أَوْ بِسُقُوطِ دَيْنِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَكَمَا أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ تَنْفُذُ إذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 وَصَلَ إلَى الْغَرِيمِ حَقُّهُ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ وَإِذَا كَانَ فِيهِ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ لَمْ تَجُزْ قِسْمَةُ الْوَصِيِّ وَالْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ إيفَاءَ حَقِّهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هُوَ غَائِبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ وَالْوَصِيُّ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ وَالْوَصِيُّ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَمَّنْ يَكُونُ خَلْفَ الْمَيِّتِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمَيِّتِ؛ فَلِهَذَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الْوَصِيِّ مَعَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَإِنَّمَا تُنْظَرُ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي قَسَّمَ بَعْدَ قَضَائِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ دَارًا وَفِيهِمْ وَارِثٌ غَائِبٌ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ وَلَا لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْقِسْمَةَ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ إذَا كَبِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحُضُورِ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ خُصُوصًا فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَالْقِسْمَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا وَصِيَّةَ، ثُمَّ مَاتَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ فَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُبْطِلُوا الْقِسْمَةَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَارِثِ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ شَرِكَةً فِيمَا اقْتَسَمُوا مِنْ التَّرِكَةِ إمَّا فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُمْ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ الثَّانِي فِي حِصَّتِهِ وَلَوْ كَانَ هُوَ حَيًّا غَائِبًا لَمْ تَنْفُذْ قِسْمَتَهُمْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَحْضُرْ عَنْهُ خَصْمٌ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ دَارًا بَيْنَهُمْ وَأَشْهَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْقِسْمَةِ، ثُمَّ ادَّعَتْ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ مَهْرَهَا وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَلَهَا أَنْ تَنْقُضَ الْقِسْمَةَ وَلَا يَكُونُ قِسْمَتُهَا وَإِقْرَارُهَا بِالْمِيرَاثِ خُرُوجًا مِنْ دَيْنِهَا؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْوَارِثِ كَدَيْنِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ مِنْ مَالٍ آخَرَ لَهُمْ فَيَسْتَخْلِصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ فَهِيَ إنَّمَا وَافَقَتْ مَعَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَنْ يَقْضُوا مَهْرَهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا إبْرَاءً لِلْمَيِّتِ عَنْ الْمَهْرِ وَلَا إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهَا وَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِشَرْطِ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِجَازَةُ الْغَرِيمِ الْقِسْمَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بَلْ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَقِّ الْمَيِّتِ لَا لِحَقِّ الْغَرِيمِ خَاصَّةً فَإِذَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَنْقُضَ الْقِسْمَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى وَارِثٌ آخَرُ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَهُوَ وَالْمَهْرُ سَوَاءٌ وَلَوْ أَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 وَارِثًا ادَّعَى وَصِيَّةً لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَهُ الثُّلُثُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَسَّمُوا الدَّارَ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَا تُبْطِلُ حَقَّ ابْنِهِ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ أَوْ يُبْطِلَ حَقُّ ابْنِهِ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مُسَاعِدُ الْوَرَثَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ ابْنِهِ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ وَصِيَّةَ ابْنِهِ وَلَا أَنْ يُبْطِلَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمَّتْ بِهِ وَمَنْ سَعَى فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ ضَلَّ سَعْيُهُ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ مَعَهُمْ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةً لِابْنِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي الْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ تَمَيُّزِ حَقِّهِ فَيَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ مَعَ الْوَرَثَةِ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِابْنِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْغَرِيمِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ جَائِزٌ وَلَا يَصِيرُ هُوَ بِدَعْوَى الدَّيْنِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنَاقِضًا أَوْ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَيَصِيرُ بِدَعْوَى الْوَصِيَّةِ لِابْنِهِ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلِلِابْنِ إذَا كَبِرَ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ وَيَرُدَّ الْقِسْمَةَ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ أَبِيهِمْ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّ أَخًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ قَدْ وَرِثَاهُ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ ابْنِهِ فَوَرِثَهُ هُوَ وَأَرَادَ مِيرَاثَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: إنَّمَا قِسْمَتُهُمْ لِي مِيرَاثٌ مِنْ أَبِي وَلَمْ يَكْتُبُوا فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِبَعْضِهِمْ فِيمَا أَصَابَ الْبَعْضُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ وَلَمْ تُنْقَضْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ مِنْ الْأَبِ فَيَكُونُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ بَعْضَ الدَّارِ لِأَخِيهِ مُنَاقِضًا وَهُوَ بِهَذَا الْكَلَامِ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْقِسْمَةِ كَانَ بِرِضَاهُ، وَإِنْ كَانُوا كَتَبُوا فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِبَعْضِهِمْ فِيمَا أَصَابَ الْبَعْضُ فَهُوَ أَبْقَى لِدَعْوَاهُ وَمُرَادِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكْتُبُوا إزَالَةَ الْأَشْكَالِ وَبَيَانَ التَّسْوِيَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فِي الْجَوَابِ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ابْنِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ لِأُمِّهِ وَرِثَهَا مِنْهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضَ فِي كَلَامِهِ شَارِعٌ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ. وَإِذَا كَانَتْ الْقَرْيَةُ مِيرَاثًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ أَبِيهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ وَتَرَكَ ابْنًا كَبِيرًا فَاقْتَسَمَ هُوَ وَعَمَّاهُ الْقَرْيَةَ عَلَى مِيرَاثِ الْجَدِّ وَقَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ، ثُمَّ إنَّ ابْنَ الِابْنِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ فِيهَا فَكَانَ هُوَ فِي دَعْوَى الْوَصِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا وَلَوْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى ابْنِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا الدَّيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْقِسْمَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُسَاعَدَتَهُ إيَّاهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ لَا تَكُونُ إقْرَارًا عَلَى أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى ابْنِهِ وَإِنَّمَا سَاعَدَهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ لِيَتَبَيَّنَ نَصِيبُ الِابْنِ فَيُسْتَوْفَى دَيْنُهُ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَأَجَازَ الْغَرِيمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 الْقِسْمَةَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَكَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْقِسْمَةَ، فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ إذَا كَانَ هُوَ الْغَرِيمَ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَةِ الْغَرِيمِ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نُفُوذِهَا قِيَامُ دَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِإِجَازَتِهِ وَعَدَمِ إجَازَتِهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشَّرِكَةَ فِي الْعَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَالْقِسْمَةُ هُنَاكَ تَتِمُّ بِرِضَاهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَجْنَبِيًّا آخَرَ فَيَكُونُ هُوَ فِي دَعْوَى الْوَصِيَّةِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ. وَإِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَى نَصِيبَ أَبِيهِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي نَصِيبِهِ سَوَاءٌ كَانَ شِرَاءً أَوْ مِيرَاثًا وَقَدْ تَمَّتْ الْقِسْمَةُ بِحَضْرَتِهِ وَرِضَاهُ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاقْتَسَمُوهَا وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمْ اشْتَرَى مِنْ الْآخَرِ قِسْمَهُ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ عَلَى الْأَبِ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ وَالشِّرَاءَ جَمِيعًا يَبْطُلَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ غَيْرُ وَارِثٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَالشِّرَاءَ كِلَيْهِمَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ فَلَا يَنْفُذُ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ. وَإِذَا وَرِثَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَنْ أَبِيهِمْ دَارًا فَاقْتَسَمُوهَا أَثْلَاثًا وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا غَرِيبًا اشْتَرَى مِنْ أَحَدِهِمْ قِسْمَهُ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَاءَ أَحَدُ الْبَاقِينَ فَقَالَ: أَنَا لَمْ أَقْسِمْ فَاشْتَرَى مِنْهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ، ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثُ فَقَالَ: قَدْ اقْتَسَمْنَاهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَكَذَّبَهُ الثَّانِي، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَا أَدْرِي أَقَسَّمْتُمْ أَمْ لَا فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِحُجَّةٍ أَقَامَهَا مَنْ هُوَ خَصْمٌ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ بَعْدَ تَمَامِهَا لَا تَبْطُلُ بِجُحُودِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَوَّلَ بَاعَ نَصِيبَ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَكَانَ بَيْعُهُ صَحِيحًا وَأَمَّا الثَّانِي إنَّمَا بَاعَ ثُلُثَ الدَّارِ شَائِعًا ثُلُثُ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِهِ وَثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَ قِسْمِهِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِتَصْحِيحِ عَقْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ إنَّمَا بَاعَ ثُلُثَ الدَّارِ شَائِعًا فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْبَيْعِ فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ ثُلُثَ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ ثُلُثٌ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ كَمَا بَاعَهُ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ بِالْقِسْمَةِ وَأَقَرَّ فِي الشِّرَاءِ الْآخَرِ أَنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَانَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْتُهُ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ هُمْ الْخُصَمَاءُ وَلَا قَوْلَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي كَلَامِهِ الثَّانِي مُنَاقِضٌ وَقَوْلُ الْمُنَاقِضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا رَدَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِ الْأَوَّلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 ثُلُثَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ لَهُ وَكَأَنَّهُ جَحَدَهُ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْجُحُودِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَمْضَى الْبَيْعَ لَزِمَهُ ثُلُثَا الثَّمَنِ بِثُلُثِ نَصِيبِ الْأَوَّلِ وَثُلُثِ نَصِيبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَبِقَدْرِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ بِزَعْمِهِ يَلْزَمُهُ ثُلُثُهُ وَقَدْ سُلِّمَ لَهُ بِزَعْمِهِ ثُلُثَا مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الثَّانِي وَيُرْجِعُ بِثُلُثِ الثَّمَنِ حِصَّةَ نَصِيبِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَيَبْقَى فِي يَدِ الْبَائِعِ الثَّانِي ثُلُثَا قِسْمِهِ الَّذِي أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقِسْمَ إلَّا الثُّلُثَ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَتَرَكَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَهَذِهِ الدَّارَ مِيرَاثًا، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَإِنِّي أَقْبَلُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُخْرِجُهُ قَوْلُهُ: هَذَا مِنْ وَصِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى دَيْنًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ التَّرِكَةُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تُوصَفُ التَّرِكَةُ بِأَنَّهَا مِيرَاثٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ وَأَنَّهُ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ أَوْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى شِرَاءً مِنْ الْمَيِّتِ أَوْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ التَّرِكَةَ اسْمٌ لِمَا كَانَ مِلْكًا لِلْمُوَرِّثِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهَا مِيرَاثٌ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ فَذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنْهُ لِلتَّنَاقُضِ. وَإِذَا اقْتَسَمَا الْقَوْمُ دَارًا مِيرَاثًا عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمَرْأَةُ مُقِرَّةٌ بِذَلِكَ وَأَصَابَهَا الثَّمَنُ وَعُزِلَ لَهَا عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَصْدَقَهَا إيَّاهَا وَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِصَدَاقِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا سَاعَدَتْهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ فَقَدْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا كَانَتْ لِلزَّوْجِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَصَارَ مِيرَاثًا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَهِيَ مُنَاقَضَةٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَسَمُوا فَأَصَابَ كُلُّ إنْسَانٍ طَائِفَةً بِجَمِيعِ مِيرَاثِهِ عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ فِي قِسْمِ الْآخَرِ بِنَاءً أَوْ نَخْلًا زَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ أَوْ غَرَسَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِيرَاثٌ لَهُمْ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَسَمَ صَارَ مِيرَاثًا لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ. وَلَوْ اقْتَسَمُوا دَارًا أَوْ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَنَخِيلٌ حَامِلٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَمْلَ فِي الْقِسْمَةِ وَإِنَّمَا أَشْهَدُوا بِمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِيرَاثِهِ مِنْ أَبِيهِ فَإِنَّ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ لَا يَدْخُلَانِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطْلُبَ نَصِيبَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثِّمَارَ وَالزَّرْعَ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ مِنْهُ أَوْ فِيهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْقِسْمَةِ. وَلَوْ كَانَتْ لِلدَّارِ وَالْأَرْضِ غَلَّةٌ مِنْ إجَارَةٍ كَانَتْ أَوْ مِنْ ثَمَنِ ثَمَرَةٍ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا جَرَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ فِيهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 وَبَقِيَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَلَوْ شَرَطُوا ذَلِكَ فِي قِسْمِ رَجُلٍ كَانَتْ الْقِسْمَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَصِيرُ مُمَلِّكًا نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ مِمَّنْ شَرَطَ لَهُ بِمَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَيْنِ وَتُمْلِيك الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ وَلَوْ اقْتَسَمُوا عَلَى إنْ ضَمِنَ أَحَدُهُمْ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ مُسَمًّى كَانَ هَذَا بَاطِلًا إذَا كَانَ فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَالْبَيْعِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ أَنْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَى الْبَائِعِ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْوَارِثُ الْمَيِّتَ وَلَا مِيرَاثَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يُبَرِّئَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ كَانَ هَذَا جَائِزًا إنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِضَمَانِهِ كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْمَيِّتِ وَرَضِيَ الْغُرَمَاءِ بِذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْقِسْمَةِ قِيَامُ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَإِنْ أَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يَقْبَلُوا ضَمَانَهُ فَلَهُمْ نَقْضُ الْقِسْمَةِ لِقِيَامِ دَيْنِهِمْ عَلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَرَاضَوْا بِضَمَانِهِ وَأَبْرَءُوا الْمَيِّتَ، ثُمَّ نَوَى الْمَالَ عَلَيْهِ رَجَعُوا فِي مَالِ الْمَيِّتِ حَيْثُ كَانَ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْرَءُوهُ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ دَيْنَهُمْ مِنْ جِهَةِ الضَّامِنِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانُوا عَلَى حَقِّهِمْ فِي اتِّبَاعِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ أَرْضًا مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ أَوْ شِرَاءً وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِإِعَادَةِ الْقِسْمَةِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ)؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَعْدَ تَمَامِهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَمُدَّعِي الْغَلَطِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الْفَسْخِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ لُزُومِ الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَالْمُشْتَرِي إذَا ادَّعَى لِنَفْسِهِ خِيَارًا بِسَبَبِ الْعَيْبِ أَوْ الشَّرْطِ وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ فَتُعَادُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ أَنَّ الْمُعَادَلَةَ بَيْنَهُمْ لَمْ تُوجَدْ كَمَا لَوْ ثَبَتَ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمْ عَلَى الْغَلَطِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ لَزِمَهُمْ فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا عَلَيْهِمْ لِرَجَاءِ النُّكُولِ فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَمَنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ جَمَعَ نَصِيبَهُ إلَى نَصِيبِهِ، ثُمَّ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّاكِلَ كَالْمُقِرِّ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَفِيمَا فِي يَدِهِ يُجْعَلُ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا وَكَذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 كُلُّ مَا يُقْسَمُ فَهُوَ عَلَى هَذَا لَا يُعَادُ ذَرْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِسَاحَتُهُ وَلَا كَيْلُهُ وَلَا وَزْنُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَادَلَةِ وَأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ وَإِذَا اقْتَسَمَ رَجُلَانِ دَارَيْنِ وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ دَارًا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ لَهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَفَصَلَا فِي قِسْمَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ الذَّرْعَ وَلَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ وَلَيْسَ هَذَا كَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ وَالدَّارَانِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَجُوزَ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَبَيْعُ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا فِي دَارِ صَاحِبِهِ فِي الْقِسْمَةِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ فَاسِدَةً وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قِسْمَةَ الْخَبَرِ فِي الدَّارِ إنَّمَا تَجْرِي عِنْدَهُمَا إذَا رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَهُوَ كَالْبَيْعِ وَلَكِنْ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ بَيْعَ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ لِأَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ وَبِهِ فَارِقُ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْيِيزِ هُنَاكَ يَغْلِبُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْقِسْمَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ طَلَبِ الْبَعْضِ فَإِذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا كَذَا كَذَا ذِرَاعًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ بَلْ الشَّرْطُ وَالشُّيُوعُ يَبْقَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ فَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ هُنَاكَ يَغْلِبُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَتَتَحَقَّقُ الْمُعَاوَضَةُ مَعَ شَرْطِ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا لِأَحَدِهِمَا فِي دَارِ صَاحِبِهِ. وَإِذَا اقْتَسَمَا أَقْرِحَةً فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَرَاحَانِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةَ أَقْرِحَةٍ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْقَرَاحَيْنِ أَحَدَ الْأَقْرِحَةِ الَّتِي فِي يَدِ الْآخَرِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ فَأَصَابَهُ فِي قِسْمَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ بِالْقِسْمَةِ وَأَثْبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَثْوَابِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الَّذِي فِي يَدِهِ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ مُسْتَحِقٌّ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ظَاهِرًا وَلَكِنْ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى حَقَّ صَاحِبِهِ أَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ فَإِذَا أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ فِي قِسْمَةٍ وَجَاءَ الْآخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ أَصَابَهُ فِي قِسْمَةٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي لَيْسَ الثَّوْبُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا فِي الثَّوْبِ دَعْوَى الْمِلْكِ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِيهِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الْمُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهِ لِمَا يَدَّعِيه بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي بُيُوتِ الدَّارِ. وَإِنْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ شَاةً وَأَصَابَ الْآخَرَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ شَاةً، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْأَوْكَسِ غَلَطًا فِي التَّقْوِيمِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَدَّعِيَ الْغَلَطَ فِي التَّقْوِيمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنْهُ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَاعَ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ وَاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَلِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ إنَّمَا يُثْبِتُ قِيمَةَ مَا تَنَاوَلَهُ فِعْلُ الْقِسْمَةِ وَفِعْلُ الْقِسْمَةِ لَاقَى الْعَيْنَ دُونَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مِقْدَارِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ فَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَمَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدِينَ عَلَى صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي عَدَدِ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَحْدِثْ إحْدَى وَخَمْسِينَ غَلَطًا أَوْ أُحْدِثُ أَنَا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَقَالَ الْآخَرُ مَا أُحْدِثُ أَنَا إلَّا خَمْسِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا قَبَضَ صَاحِبُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي شَاةً مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ أَصَابَتْهُ فِي الْقِسْمَةِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالثَّالِثُ إنْ قَالَ: أَخْطَأْنَا فِي الْعَدَدِ وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسِينَ خَمْسِينَ وَهَذِهِ الْخَمْسِينَ خَطَأٌ كَانَ مِنَّا، وَقَالَ الْآخَرُ قَدْ اقْتَسَمْنَا عَلَى هَذَا لَك خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِي خَمْسٌ وَخَمْسُونَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ وَالْغَنَمُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَاخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعِينَ فِي الْبَيْعِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ تُوجِبُ التَّحَالُفَ وَالتَّرَادَّ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُحْتَمَلٌ لِلْفَسْخِ بَعْدَ لُزُومِهِ بِالتَّرَاضِي فَيُفْسَخُ بِالتَّحَالُفِ أَيْضًا، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ رُدَّتْ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَمْسِ وَأَرْبَعِينَ هُوَ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ فَيَتَرَجَّحُ كَذَلِكَ بَيِّنَتُهُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ خَصْمَهُ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ: فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَيَسْتَقْبِلَانِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُعَادَلَةِ. وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَلَمْ يُشْهِدَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا فَقَالَ: هَذَا أَصَابَنِي هَذِهِ النَّاحِيَةُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِيهَا، وَقَالَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ أَصَابَنِي هَذَا كُلُّهُ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَاصِلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْقِسْمَةِ أُنْفِذَتْ بَيِّنَتُهُمَا عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ كَمَا لَوْ اتَّفَقَ الْخَصْمَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا أَصَابَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ بِحِدَةٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ أَبَتَّتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْخَمْسِ وَأَرْبَعِينَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ خَمْسٌ شَائِعَةٌ فِيمَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ؛ فَلِهَذَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْحَدِّ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا هَذَا الْحَدُّ لِي قَدْ دَخَلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ هَذَا الْحَدُّ لِي قَدْ دَخَلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أَحْدَثَ بَيِّنَةً هَذَا وَبَيِّنَةً هَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي جُزْءٍ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ وَاجْتَمَعَ ذَلِكَ الْجُزْءُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ جُزْءًا مُعَيَّنًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرُدَّ الْقِسْمَةَ رَدَّهَا بَعْدَ مَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَفِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّحَالُفِ وَبَعْدَ التَّحَالُفِ تُرَدُّ الْقِسْمَةُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي الْبَيْعِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَابْنَيْنِ فَاقْتَسَمَا الدَّارَ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَأَشْهَدَ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ وَالْوَفَاءِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ صَاحِبُهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْوَفَاءِ يَعْنِي أَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مُنَاقِضٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ بِهِ صَاحِبُهُ فَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ وَالْمُنَاقِضُ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِيمَا يَدَّعِي ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَشْهَدَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى قَالَ: اقْتَسَمْنَا فَأَصَابَنِي فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَهَذَا الْبَيْتِ وَالنَّاحِيَةُ فِي يَدِهِ وَالْبَيْتُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَقَالَ شَرِيكُهُ بَلْ أَصَابَنِي الْبَيْتُ وَمَا فِي يَدَيَّ كُلُّهُ فَإِنِّي أَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ عَنْ الْبَيْتِ أَكَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ أَوْ غُصِبَ مِنْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ قَالَ: كَانَ فِي يَدَيَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَغُصِبْنَاهُ وَأَعَرْتُهُ أَوْ أَجَرْتُهُ لَمْ أَنْقُضْ الْقِسْمَةَ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى شَرِيكِهِ بِقَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ نَصِيبِهِ وَبَقِيَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْبَيْتَ وَصَلَ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ مِنْ يَدِهِ وَصَاحِبُهُ جَاحِدٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: فِي يَدِ صَاحِبِي قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيَّ تَحَالَفَا وَيُرَادُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فِي الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَدِّ وَعَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا. إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَوْ ادَّعَى غَلَطًا فِي الذَّرْعِ فَقَالَ: أَصَابَنِي أَلْفٌ وَأَصَابَك أَلْفٌ فَصَارَ فِي يَدِكَ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَفِي يَدَيَّ تِسْعُمِائَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ أَصَابَكَ أَلْفٌ وَأَصَابَنِي أَلْفٌ فَقَبَضْتُهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 وَلَمْ أَزِدْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَدَّعِي قَبْلَهُ الْغَلَطَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَأَصَابَك أَلْفٌ وَمِائَةٌ، وَقَالَ الْآخَرُ أَصَابَنِي أَلْفٌ وَأَصَابَكَ أَلْفٌ فَقَبَضْتَ أَنْتَ أَلْفًا وَمِائَةً وَقَبَضْتُ تِسْعَمِائَةٍ تَحَالَفَا وَتَرَاضَيَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبَضَ أَلْفًا وَمِائَةً وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ فَالْمُدَّعِي يَقُولُ: نَصِيبُك أَلْفٌ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقُولُ: نَصِيبِي أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الْمِائَةِ هُنَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَافِهِ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا؛ فَلِهَذَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ قَبَضْتُهَا فَقَبَضْتُهَا لَمْ أَنْقُضْ الْقِسْمَةَ وَأُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ قِبَلَهُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى انْتِهَاءِ الْقِسْمَةِ بِقَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَامَ نَصِيبِهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْغَصْبَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْفُصُولُ أَنَّ الْقِسْمَةَ حِيَازَةٌ وَتَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى قَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَامَ نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ لَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَصَارَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا سِتُّونَ وَفِي يَدِ الْآخَرِ أَرْبَعُونَ فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْأَرْبَعُونَ: أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسُونَ وَتَقَابَضْنَا، ثُمَّ غَصَبَنِي عَشْرًا بِأَعْيَانِهَا وَخَلَطْتَهُمَا بِغَنَمِكَ فَهِيَ لَا تُعْرَفُ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْآخَرُ الْغَصْبَ، وَقَالَ: بَلْ أَصَابَنِي سِتُّونَ وَأَنْتَ أَرْبَعُونَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبَضَ كَمَالَ حَقِّهِ بِالْقِسْمَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْغَصْبَ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَلَوْ قَالَ الْأَوَّلُ أَصَابَنِي خَمْسُونَ فَدَفَعْتَ إلَيَّ أَرْبَعِينَ وَبَقِيَ فِي يَدِكَ عَشَرَةٌ لَمْ تَدْفَعْهَا إلَيَّ، وَقَالَ الْآخَرُ أَصَابَنِي سِتُّونَ وَأَصَابَك أَرْبَعُونَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْوَفَاءِ قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الَّذِي فِي يَدِهِ سِتُّونَ لِإِقْرَارِ صَاحِبِهِ بِاسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُنَاقِضٌ فِي الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبِالدَّعْوَى مَعَ التَّنَاقُضِ لَا يَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ عَلَى الْخَصْمِ فَإِنْ ادَّعَى الْغَصْبَ بَعْدَ الْقَبْضِ حَلَفَ الْمُنْكِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْغَصْبِ مِنْهُ دَعْوَى صَحِيحَةٌ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهَا فَيَسْتَوْجِبُ فِيهَا الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ بِالْوَفَاءِ فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْأَرْبَعُونَ كَانَتْ غَنَمُ وَالِدِي مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَنِي خَمْسُونَ وَأَصَابَكَ خَمْسُونَ وَتَقَابَضْنَا، ثُمَّ غَصَبَنِي عَشْرًا وَهِيَ هَذِهِ، وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ السِّتُّونَ بَلْ كَانَتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 غَنَمُ وَالِدِي مِائَةً وَعِشْرِينَ فَأَصَابَنِي سِتُّونَ وَأَنْتَ سِتُّونَ وَلَمْ أَغْصِبْكَ وَقَدْ تَقَابَضْنَا فَإِنَّ هَذَا قَدْ أَقَرَّ بِفَصْلِ عَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ لَيْسَ فِيهَا قِسْمَةٌ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ إنَّمَا أَقَرَّ بِقِسْمَةِ الْمِائَةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْقِسْمَةِ فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَقَدْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ هَذِهِ الْعَشَرَةَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمِائَةِ وَادَّعَى الْقِسْمَةَ فِيهَا وَوُصُولَ مِثْلِهَا إلَى صَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِذَا حَلَفَ بَقِيَتْ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فِي يَدِهِ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ فَيَرُدُّهَا لِيُقْسَمَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِفَصْلٍ عَلَى مِائَةٍ، وَقَالَ: كَانَتْ مِائَةً فَأَصَابَنِي سِتُّونَ وَأَنْتَ أَرْبَعُونَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْغَصْبِ الَّذِي ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ قَبْلَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مَنْ حِصَّةِ الْمِائَةِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْفَضْلِ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا اقْتَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ وَإِلَّا أُفْسِدَتْ الْقِسْمَةُ لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْقِسْمَةُ فَالْغَنَمُ تَتَفَاوَتُ وَبِجَهَالَةِ مَا لَمْ تَتَنَاوَلُهُ الْقِسْمَةُ يَصِيرُ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْقِسْمَةُ مَجْهُولًا فَالسَّبِيلُ أَنْ تُرَدَّ السِّتُّونَ وَالْأَرْبَعُونَ وَتُسْتَقْبَلَ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِفَسَادِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ قِسْمَةِ الْوَصِيِّ عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ فِي الْمِيرَاثِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ وَقَعَ الدَّيْنُ فِي نَصِيبِهِ يَكُونُ مُتَمَلِّكًا عَلَى أَصْحَابِهِ نَصِيبَهُمْ مِنْ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ) وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَسَمُوا الدَّيْنَ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ حَقِّهِ فِيهَا دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُمَلِّكٌ نَصِيبَهُ مِمَّا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ مِنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ مِمَّا فِي ذِمَّةِ عُمَرَ وَإِذَا كَانَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ بِعِوَضِ عَيْنِ فُلَانٍ لَا يَجُوزُ بِعِوَضِ دَيْنٍ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقِسْمَتُهُمْ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حِيَازَةٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ وَصِيِّ الْأَبِ بَيْنَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا عِنْدَ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْيَتِيمِ وَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ أَنْ تَقَعَ أَحَدُهُمَا أَضَرَّ بِالْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ وَرَثَةٌ كِبَارٌ فَإِنْ قَسَّمَ نَصِيبَ الصَّغِيرَيْنِ مَعًا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي مَالِ الصَّغِيرَيْنِ مَعَ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ جَائِزَةٌ، فَكَذَلِكَ قِسْمَةُ نَصِيبِ الصَّغِيرَيْنِ مَعًا مَعَ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ (قَالَ) فِي الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَمُرَادُهُ هَذَا الْفَصْلُ لَا مَا قَبْلَهُ فَقِسْمَةُ الْأَبِ مَعَ ابْنَيْهِ الصَّغِيرَيْنِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَيُفْرِدُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 بِالتَّصَرُّفِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلصَّبِيِّ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ عَلَى الْكِبَارِ وَهُمْ كَارِهُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِمْ إذَا كَانُوا حُضُورًا فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ غَائِبٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيَّ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي الْعَقَارِ وَجَازَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعُرُوضِ مِنْ الْحِفْظِ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فَكَانَ لَهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْقِسْمَةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ فَأَمَّا الْعَقَارُ فَحِصَّتُهُ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ فِي قِسْمَتِهَا مَعْنَى الْحِفْظِ بَلْ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فِي مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ غَائِبٌ وَكَبِيرٌ حَاضِرٌ فَعَزَلَ الْوَصِيُّ نَصِيبَ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ مَعَ نَصِيبِ الصَّغِيرِ وَقَاسَمَ الْكِبَارَ الْحُضُورَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ وَغَيْرِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فِي الْعَقَارِ وَهَذِهِ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ يَمْلِكُ بَيْعَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنْ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ التَّصَرُّفِ كَوَصِيِّ الْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ ذِمِّيًّا وَالْمَيِّتُ وَرَثَتُهُ مُسْلِمُونَ؛ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ نَوْعَ وِلَايَةٍ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ قَاسَمَ عَلَى الصَّغِيرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ جَازَتْ قِسْمَتُهُ مِثْلُ قِسْمَةِ الْوَصِيِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَصَرُّفٌ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْإِنَابَةُ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْإِنَابَةِ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَكَالَةِ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِالتَّصَرُّفِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ وَصِيًّا فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ مَوْتِهِ قُلْنَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْوِصَايَةِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ عَبْدًا لِغَيْرِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَصِيٌّ نَافِذُ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يُخْرِجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْوِلَايَةِ فَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ التَّعَدِّي مَا كَانَ لِلْمَرْءِ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ كَمَا لَا تُجْرَى عَلَيْهِ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الصَّغِيرِ فِي التَّصَرُّفِ لِيَنْفُذَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَيُجْعَلَ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَا وِلَايَةَ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجُوزُ عَلَى ابْنٍ لَهُ مِثْلِهِ لِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] الْآيَةُ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْمُرْتَدِّ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ عَلَى وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ مِثْلِهِ مُرْتَدٍّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتَّى تَبْطُلَ قِسْمَتُهُ لِنَفْسِهِ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْلَى وَالْمَعْتُوهُ الْمَغْلُوبُ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ لَهُ كَالصَّغِيرِ وَأَمَّا الْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ وَكَالَتِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ مَوْلِيًّا عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِرَأْيِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ مَقَامَ رَأْيِهِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ فَأَقَمْنَا رَأْيَ الْوَلِيِّ مَقَامَ رَأْيِهِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهَا وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَإِنِّي أُجْبِرُهُمْ عَلَى الْقِسْمَةِ كَمَا أُجْبِرُهُمْ عَلَى قِسْمَةِ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ وَالْغَنَمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ اقْتَسَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ خَمْرًا وَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي كَيْلِهَا لَمْ يَجُزْ الْفَضْلُ فِي ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الرِّبَا؛ فَإِنَّهُ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَفِي حُكْمِ الرِّبَا هُمْ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِذَا كَانَ وَصِيُّ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا كَرِهَتْ لَهُ مُقَاسَمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَلَكِنَّهُ يُوَكِّلُ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيُقَاسِمُ الصَّغِيرَ وَيَبِيعُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْقِسْمَةُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَى ذِمِّيٍّ وَلَا يُشْكِلُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ الذِّمِّيَّ بِالتَّصَرُّفِ لَهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الصَّغِيرِ وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَثْبُتُ لِلصَّغِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْوَصِيُّ فِيمَا يَأْمُرُ مِنْ ذَلِكَ كَالْقَاضِي وَأَمْرُ الْقَاضِي الذِّمِّيَّ بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ فِي خُمُورِ يَتَامَى أَهْلِ الذِّمَّةِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْوَصِيِّ بِهِ، وَإِنْ وَكَّلَ الذِّمِّيُّ الْمُسْلِمَ بِقِسْمَةِ مِيرَاثٍ فِيهِ خَمْرٌ وَخِنْزِيرٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ لِلْغَيْرِ بِوَكَالَتِهِ فِي مَالٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ لِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ الْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِقِسْمَةِ ذَلِكَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ فِيهِ فَإِنْ فُوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَوَكَّلَ ذِمِّيًّا بِهِ جَازَ. وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَوَكَّلَ ذِمِّيًّا بِمُقَاسَمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ جَازَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْبَيْعِ فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَلَوْ أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْخَمْرِ فَجَعَلَهُ خَلًّا كَانَ الْمُسْلِمُ ضَامِنًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 لِحِصَّةِ شُرَكَائِهِ مِنْ الْخَمْرِ الَّتِي خَلَّلَهَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمَا كَمَا لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا قَبَضَ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ مِنْ الْخَمْرِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَقَدْ خَلَّلَهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِنَصِيبِهِمْ مِنْ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ الْخَلُّ لَهُ. وَإِذَا كَانَ فِي تَرِكَةِ الذِّمِّيِّ خَمْرٌ وَخِنْزِيرٌ وَغُرَمَاؤُهُ مُسْلِمُونَ وَلَيْسَ لَهُ وَصِيٌّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُوَكِّلُ بِبَيْعِ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَبِيعُهُ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَأْمُرُهُ الْقَاضِي يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتُ كَافِرٌ فَيَجُوز بَيْعُ الذِّمِّيِّ خَمْرَةً عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْهُ وَالْغُرَمَاءُ إنَّمَا يَقْبِضُونَ الثَّمَنَ بِدَيْنِهِمْ لَا أَنْ يَكُونَ بَيْعُ قَيِّمِ الْقَاضِي وَاقِعًا لَهُمْ وَالْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ فَسْخُهَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمَّتْ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ كَبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَتَمَّهُ الْمُكَاتَبُ وَمُقَاسَمَتُهُ مَعَ مَوْلَاهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ الْمَوْلَى بَيْعًا أَوْ شِرَاءً كَأَجْنَبِيِّ آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْمُقَاسَمَةُ. وَلَا تَجُوزُ مُقَاسَمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكَاتَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَصَارَ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ لَمْ تَجُزْ تِلْكَ الْقِسْمَةُ كَمَا لَا يَنْفُذُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَصَرَّفَ كَانَ هُوَ مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ بِالْقِسْمَةِ وَكِيلًا، ثُمَّ عَجَزَ أَوْ مَاتَ لَمْ يَجُزْ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُقَاسِمَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَةُ الْمُوَكِّلِ بِعَجْزِهِ وَبِمَوْتِهِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْعَجْزِ لَوْ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ وَكِيلِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بِالْعِتْقِ ازْدَادَتْ قُوَّةً فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ لَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَوْصَى الْمُكَاتَبُ عِنْدَ مَوْتِهِ إلَى وَصِيٍّ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ وَرَثَةَ الْمُكَاتَبِ الْكِبَارَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً فَإِنَّ قِسْمَتَهُ فِي هَذَا جَائِزَةٌ عَلَى مَا تَجُوزُ عَلَيْهِ قِسْمَةُ وَصِيِّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَكَأَنَّهُ أَدَّى الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَيَكُونُ وَصِيُّهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ كَوَصِيِّ الْحُرِّ وَقَالَ: فِي الزِّيَادَاتِ وَصِيُّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْحُرِّ فِي حَقِّ الِابْنِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ حَتَّى يَجُوزَ قِسْمَتُهُ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ وَمَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِنْ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّتُهُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْوَلَدِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْوَصِيِّ إذَا كَانَ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ وَصِيَّ الْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْوِلَايَةِ إلَّا قَدْرُ مَا كَانَ لِلْمُوصِي فَهُنَا أَيْضًا كَانَ لِلْمُوصِي عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ الْوِلَايَةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 عَلَيْهِ فَوْقَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ وَصِيُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا مِنْ الْبَيَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي إمْلَاءِ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْوَلَدَ الْكَبِيرَ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَقَدْ سَعَوْا فِي الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ؛ فَإِنَّهُ مُكَاتَبٌ لِلْمَوْلَى إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّوْا الْمُكَاتَبَةَ قَبْلَ أَنْ يَرُدُّوا الْقِسْمَةَ أَجَزْتُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَدُّوا الْكِتَابَةَ حُكِمَ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَكَانَ وَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْحُرِّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِئْنَافَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ تَنْفُذُ تِلْكَ الْقِسْمَةُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِنَقْضِ قِسْمَةٍ يُحْتَاجُ إلَى سَعَادَتِهَا وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ فَإِذَا قَاسَمَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ عَبْدًا تَاجِرًا مِثْلَهُ وَهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَقِسْمَتُهُمَا بَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ وَالْقِسْمَةُ فِي مَالٍ هُوَ خَالِصٌ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ لَا تَتَحَقَّقُ وَلِأَنَّ مُقَاسَمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ عَبْدِ مَوْلَاهُ كَمُقَاسَمَتِهِ مَعَ مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَا مُكَاتِبَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَتْ قِسْمَتُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَاتِبَيْنِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَاسَمَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ مَوْلَاهُ دَارًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَتْ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي التَّصَرُّفِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ الْعَبْدُ لِغُرَمَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَاسَمَ مَوْلَى الْعَبْدِ الشَّرِيكَ بِغَيْرِ رِضَاءِ الْعَبْدِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ. وَإِنْ قَاسَمَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا دَارًا بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ وَقَدْ اسْتَفَادَهُ بِمُطْلَقِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ الْمَوْلَى وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَصَرُّفٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى هُوَ وَرَجُلٌ آخَرُ دَارًا جَازَ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكَّ الْحَجْرَ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِهِ فِي حِصَّتِهِ كَمَا لَوْ كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَاسَمَ الْعَبْدُ شَرِيكَهُ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ ذَلِكَ لِثُبُوتِ حُكْمِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ فِي نَصِيبِ الْإِذْنِ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَقَاسَمَهَا إيَّاهُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بِسَبَبِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي نَصِيبِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 الْإِذْنِ وَالْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مِنْ نَصِيبِ الْإِذْنِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى نَصِيبِهِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ فَإِنَّهُ تَجُوزُ قِسْمَتُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْفَكِّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَمَعَ الْمَوْلَى الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ مِنْ أَحَدِهِمَا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْإِجَارَاتِ] (قَالَ: الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيِّ إمْلَاءً: اعْلَمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ شَرْعًا نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالْآخَرُ: بِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ عُرِفَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] أَيْ فِي الْعَمَلِ بِأَجْرٍ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، وَمَا ثَبَتَ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ لَازِمٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى انْفِسَاخِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفّ عَرَقَهُ» فَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْدُومِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُوجَدُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ وَالْمَعْدُومُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ مُضَافًا؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَاشْتِرَاطُ الْوُجُودِ وَالْمِلْكِ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَانِعِ فَإِنَّ الْوُجُودَ يُعْجِزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالتَّسْلِيمَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُ السَّبَبَ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ فَإِذَا كَانَ بِالْوُجُودِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَكِنْ تُقَامُ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَوْجُودَةً فِي مِلْكِ الْعَقْدِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ كَمَا تُقَامُ الْمَرْأَةُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيمِ وَتُقَامُ الذِّمَّةُ الَّتِي هِيَ مَحِلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ، أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 يُجْعَلُ الْعَقْدُ مُضَافًا لِلِانْعِقَادِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَيَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَالْفَقِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى مَالِ الْغَنِيِّ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى عَمَلِ الْفَقِيرِ وَحَاجَةُ النَّاسِ أَصْلٌ فِي شَرْعِ الْعُقُودِ فَيُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الشَّرْعِ، ثُمَّ يَرِدُ هَذَا الْعَقْدُ تَارَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى الْعَمَلِ أُخْرَى وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ بِهِ الْمُنَازَعَةُ فَإِعْلَامُ الْمَنْفَعَةِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، أَوْ الْمَسَافَةِ، وَذِكْرُ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ لَا لِلتَّوْقِيتِ فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَمَّا كَانَتْ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَمِقْدَارُهَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، أَوْ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ فَإِنَّ مِقْدَارَ السَّيْرِ وَالْمَشْيِ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا وَإِعْلَامُ الْعَمَلِ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَصْفٌ يُحْدِثُهُ فِي الْمَحَلِّ مِنْ قِصَارَةٍ، أَوْ دِبَاغَةٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ فَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَبَيْنَ النَّاسِ تَفَاوُتٌ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمْ وَكَمَا يَجِبُ إعْلَامُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ يَجِبُ إعْلَامُ الْبَدَلِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَقَالَ: لَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ». وَهَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ بَدَأَ بِبَعْضِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ وَبِبَعْضِهِ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ وَهُوَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِالْقَبُولِ وَبِالْعَمَلِ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاسْتِيَامُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ. وَهَذَا اللَّفْظُ يُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَيَكُونُ نَهْيًا وَالنَّهْيُ مَجْزُومٌ وَلَكِنَّ الْمَجْزُومَ إذَا حُرِّكَ لِاسْتِقْبَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُرِّكَ بِالْكَسْرِ، وَبِرَفْعِ الْمِيمِ وَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ هَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّ أَبْلَغَ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ الْغَيْر وَاشْتَرَى، أَوْ نَكَحَ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا نَهْيٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ وَهُوَ الْأَذَى وَالْوَحْشَةُ الَّذِي يَلْحَقُ صَاحِبَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ فَيُوجِبُ الِاسْتِيَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، ثُمَّ هَذَا النَّهْيُ بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَأَمَّا إذَا سَاوَمَهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يُسَاوِمَهُ وَيَشْتَرِيَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَاشْتَرَاهُ آخَرُ فَأَعْتَقَهُ.» الْحَدِيثُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ قَعْبًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ» وَصِفَةُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ أَنْ يُنَادِيَ الرَّجُلُ عَلَى سِلْعَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ وَيَزِيدُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَمَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ النِّدَاءِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَإِذَا سَاوَمَهُ إنْسَانٌ بِشَيْءِ فَكَفَّ عَنْ النِّدَاءِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَيَكُونُ هَذَا اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَلَمْ تَرْكَنْ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ إنَّ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُنِي، وَإِنَّ أَبَا الْجَهْمِ يَخْطُبُنِي فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَهُوَ لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عَنْ أَهْلِهِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَإِنَّكِ تَجِدِينَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، فَأَمَّا بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَالْمُرَادُ بِالنَّجْشِ الْإِثَارَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الصَّيَّادُ نَاجِشًا؛ لِأَنَّهُ يَنْثُرُ الصَّيْدَ عَنْ أَوْكَارِهَا فَالْمُرَادُ أَنْ يَطْلُبَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُسَاوِي ذَلِكَ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُرَغِّبَ الْغَيْرَ فِي شِرَائِهَا بِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ وَالْغُرُورِ وَقَوْلُهُ: «وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلَا تَنَابَذُوا» وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَالنَّبْذُ هُوَ الطَّرْحُ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ بُيُوعٍ كَانُوا تَعَارَفُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَرْمِيَ الْحَجَرَ إلَى سِلْعَةِ إنْسَانٍ فَإِنْ أَصَابَهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَطْلُبَ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ فَإِنْ طَرَحَ إلَيْهِ صَاحِبُهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ «وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْحُرِّ لِلْعَمَلِ وَوُجُوبِ إعْلَامِ الْأَجْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِعْلَامِ وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَلِيُؤْتِهِ أَجْرَهُ وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى أَدَاءِ الْأُجْرَةِ وَجَعَلَ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْمُسَارَعَةِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ جُفُوفِ الْعَرَقِ فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ هَذَا وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنِّي أَكَرِي إبِلِي إلَى مَكَّةَ أَفَتَجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي الْجِمَارَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتُمْ حَاجٌّ». الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ كِرَاءِ الْإِبِلِ إلَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسَافَةِ فِي الْإِعْلَامِ كَبَيَانِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أُشْكِلَ عَلَى السَّائِلِ حَالَ حَجِّهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِتَعَاهُدِ إبِلِهِ وَاكْتِسَابِ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ اكْتِسَابَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَأَزَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إشْكَالَهُ بِمَا ذَكَرَ لَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَهَذَا بَيَانٌ لَهُ أَنَّ بِالذَّهَابِ لَا يَتَأَدَّى الْحَجُّ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا وَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَهُ وُضُوحًا فَرَوَى الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَلِيلٌ يُسْتَدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ وَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسِّرَاجِ وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِالشَّمْسِ وَكَمْ مِنْ عَيْنٍ لَا تُبْصِرُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ وَتُبْصِرُ إذَا بَزَغَ الضِّيَاءُ الْوَهَّاجُ ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ الْوَحْيِ فِي بَعْضِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ أَخَّرَ جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي الْحَجِّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ التِّجَارَةِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَلَمَّا كَانَ إكْرَاءُ الْإِبِلِ فِي مَعْنَاهُ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْحَدِيثَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا الرُّسْتَاقِيُّ إذَا دَخَلَ الْمِصْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِشِرَاءِ الدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَشَهِدَ الْجُمُعَةَ فَهُوَ فِي الثَّوَابِ، وَاَلَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ سِوَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُسْلِمِ إقَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي ثَوَابِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي أَجَّرْتُ نَفْسِي مِنْ قَوْمٍ وَحَطَطْتُ لَهُمْ مِنْ أَجْرِي أَفَيُجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا مِنْ الدَّيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: 198] الْآيَةَ وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى هَذَا السَّائِلِ مَا أُشْكِلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَكَأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ «وَإِنَّمَا لَكَ دِينَارُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَظَنَّ مِثْلَهُ فِي الْحَجِّ وَحَطَّ بَعْضَ الْأَجْرِ بِهِ لِيَرْتَفِعَ بِهِ نُقْصَانُ حَجِّهِ فَإِنَّ الْحَطَّ إحْسَانٌ وَانْتِدَابٌ إلَى مَا نُدِبَ فِي الشَّرْعِ وَمِثْلُهُ مَشْرُوعُ جَبْرِ النُّقْصَانِ الْفَرَائِضِ كَالنَّوَافِلِ فَأَزَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إشْكَالَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفِّ عَنْ حَطِّ الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ حَجُّهُ بِدُونِهِ تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَا يَحْسُنُ، وَهُوَ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِخِلَافِ حَالِ مِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ لَا لِيُبَاشِرَ الْجِهَادَ وَهَذَا خَرَجَ لِيُبَاشِرَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَيَخْدُمَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ نُقْصَانٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 فِي الْأَصْلِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطِ فَقُلْتُ لِي اسْتَأْجَرْتُهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ مِنْ الدُّنْيَا مَا يُعْجِبُ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَرْكَنُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [طه: 131]. الْآيَةَ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْإِعْجَابِ لَا يَضُرُّ أَحَدًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ جُهَّالُ الْمُتَعَسِّفَةِ أَنَّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا يَنْتَقِصُ مِنْ الْإِيمَانِ بِقَدْرِهِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَلَمَّا أَعْجَبَهُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ هَذَا وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَعْنِي الْمَرْءُ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِئْنَاسِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَفِي قَوْلِ رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِي اسْتَأْجَرْتُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الْمَرْءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ بِإِجَارَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ حَنِثَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِلْأَرَاضِيِ وَدَلِيلُ فَسَادِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فَفِي الْمُزَارَعَةِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا تُخْرِجُهُ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَنْ أَجَازَهُ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا وَأَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ يَفْتَحُ بَابَهُ وَيَغْلِقُهُ وَيُخْرِجُ مَتَاعَهُ فَلَا بَأْسَ بِالْفَضْلِ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مِنْ غَيْرِهِ وَبِهِ يَقُولُ: فَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْمَالِكِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَانَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِأَنَّ الْمَالِكَ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا نَحْوَ فَتْحُ الْبَابِ وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ فَيَكُونُ الْفَضْلُ لَهُ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ وَهَذَا فَضْلٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَانَ عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى بِالْفَضْلِ بَأْسًا وَيَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَيْثُ كَرِهُوا الْفَضْلَ، وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكْرَهُ الْفَضْلَ إلَّا أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا فَإِنْ زَادَ فِيهِ شَيْئًا طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقُلْنَا إذَا أَصْلَحَ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا، أَوْ طَيَّنَ الْبَيْتِ، أَوْ جَصَّصَ، أَوْ زَادَ فِيهِ لَوْحًا فَالْفَضْلُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا زَادَ مِنْ عِنْدِهِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا لَا يَطِيبُ لَهُ فَضْلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَالْمَنْفَعَةُ بِالْعَقْدِ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِرْبَاحًا عَلَى مَا لَمْ يَضْمَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَكَنْسُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ التُّرَابِ مِنْهُ فَلَا يَطِيبُ الْفَضْلُ بِاعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ الْبَابِ وَإِخْرَاجُ الْمَتَاعِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْبَيْتِ فَلَا يَطِيبُ الْفَضْلُ بِاعْتِبَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي الْعَقْدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَضْلُ بِمُقَابَلَتِهِ وَيَطِيبُ لَهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ إذَا أَبَضَعُوا بِضَاعَةً أَنْ يُعْطُوا صَاحِبَهَا أَجْرًا كَيْ يَضْمَنَهَا وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ دَلِيلًا لِمَنْ يُضَحِّي الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَبْضَعَ إذَا أَخَذَ أَجْرًا فَهُوَ أَجِيرٌ عَلَى الْحِفْظِ وَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَضْمَنُهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَيْ يَضْمَنَ مَا يُتْلِفُ بِعَمَلِهِ مِمَّا يَكُونُ قَصَدَ بِهِ الْإِصْلَاحَ دُونَ الْإِفْسَادِ وَبِهِ نَقُولُ، فَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ خَاصَمَ إلَيْهِ يُقَالُ: قَدْ أَجَّرَهُ رَجُلٌ بَيْتًا فَأَلْقَى فِيهِ مِفْتَاحَهُ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَقَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَيْتِ وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ شُرَيْحٍ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَلِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَعْدُومِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ اللُّزُومِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَاللُّزُومُ أَصْلٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَلِأَنَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَجِبُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ بِدُونِ صِفَةِ اللُّزُومِ. ثُمَّ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ: إنْ أَلْقَى إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ بِعُذْرٍ لَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَيْتِ وَالْعُذْرُ أَنْ يُرِيدَ سَفَرًا، أَوْ يَمْرَضَ فَيُقَوِّمَ، أَوْ يُفْلِسَ فَيُقَوِّمَ مِنْ السُّوقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَفْتَى بِضَعْفِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَكِنْ جَعَلَهُ فِي الضَّعْفِ نِهَايَةً؛ حَيْثُ قَالَ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَمَنْ يَقُولُ: لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِهَايَةً فِي الْقُوَّةِ وَفِي الْجَانِبَيْنِ مَعْنَى الضَّرَرِ فَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ وَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْفَسْخِ تَعَذَّرَ بِقَصْدِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِنْدَ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَاوَضَةٌ وَهُوَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ وَعَدَمُ مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ عِنْدَ الْعَقْدِ دَلِيلُ ضَعْفِهِ وَمَا يُجَاذِبُهُ دَلِيلَانِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَدَلِيلُ الْقُوَّةِ قُلْنَا لَا يَنْفَسِخُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلِدَلِيلِ الضَّعْفِ قُلْنَا يَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ كَالْمُشْتَرِي يَرُدَّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ، وَظَاهِرُ مَا يَقُولُهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَنْ الْعُذْرِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إذَا أَثْبَتَ الْعُذْرَ عِنْدَهُمَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ غَيْرُ قَابِضٍ لِلْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَيْنَ الْحَانُوتِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْفَسْخِ وَهُوَ قَابِضٌ لِلْحَانُوتِ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ فَلِهَذَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ وَلَا غَيْرَهُ، وَفَسَّرَ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ فِي الْكِتَابِ بِالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ وَالْإِسْكَافِ وَكُلُّ مَنْ يَقْبَلُ الْأَعْمَالَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَأَجِيرُ الْوَاحِدِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لِيَخْدُمَهُ شَهْرًا، أَوْ لِيَخْرُجَ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُ الْأَجِيرُ أَنْ يُؤَجِّرَ فِيهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَجِيرَ الْوَاحِدِ مَنْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى مَنَافِعِهِ وَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُهُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِذِكْرِ الْمَسَافَةِ وَمَنَافِعُهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَإِنْ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ مَنْ يَكُونُ عَقْدُهُ وَارِدًا عَلَى عَمَلٍ هُوَ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ بِعَمَلِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بِعَمَلٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ السَّلَمِ مَعَ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَمَّا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بِهِ قَبُولُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْبَيْعَ لَمَّا كَانَ يُلَاقِي الْعَيْنَ فَبَعْدَ مَا بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا مُشْتَرَكًا وَالْأَوَّلُ أَجِيرَ الْوَحْدَةِ، ثُمَّ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا، أَوْ مُشْتَرَكًا تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَأَخَذَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَجِيرِ الْوَاحِدِ أَيْضًا وَفِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَخَذَ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مَا ضَاعَ عَلَى يَدِهِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ وَالصَّبَّاغَ وَنَحْوَهُمَا فَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْفَتْوَى بِالصُّلْحِ عَلَى النِّصْفِ، وَسَنُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِطَرِيقِ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْمَلَّاحَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْغَرَقَ وَالْحَرْقَ، وَالْمَلَّاحُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 إلَّا مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ هُوَ الْحَرْقُ الْغَالِبُ، أَوْ الْغَرَقُ الْغَالِبُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنْ غَرِقَتْ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ مُعَالَجَتِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ، وَإِنْ احْتَرَقَتْ مِنْ نَارٍ أَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ لَجَاجَةٍ لَهُ مِنْ خَبْزٍ، أَوْ طَبْخٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي إدْخَالِ النَّارِ السَّفِينَةَ لِحَاجَتِهِ، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ تَسَبُّبًا وَلَا مُبَاشَرَةً لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَإِنْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ مَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ غَالِبٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَهُوَ كَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْغَالِبَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الِاحْتِرَازُ مُمْكِنٌ بِمَنْعِ السَّفِينَةِ عِنْدَ الْمَدِّ وَالْمُعَالَجَةُ مِنْ مَوْضِعِ الْغَرَقِ فَإِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِعَمَلِهِ كَانَ ضَامِنًا وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَبَّاغٍ فَقَالَ: إنِّي أَعْطَيْتُ هَذَا ثَوْبِي لِيَصْبُغَهُ فَاحْتَرَقَ بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ الصَّبَّاغُ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ ثَوْبَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ أَكُنْت تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَكَانَ هَذَا الْحَرْقُ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ عَرَفَ إمْكَانَ التَّحَرُّزِ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بِإِمْكَانِ إطْفَاءِ النَّارِ وَلَكِنَّهُ تَهَاوَنَ فَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَلِهَذَا قَالَ لَهُ: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِ الصَّبَّاغُ وَقَالَ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي؟ وَكَأَنَّهُ ادَّعَى بِهَذَا أَنَّ الْحَرْقَ كَانَ غَالِبًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعِلْمِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ كُنْتَ تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَمَعْنَى اسْتِدْلَالِهِ هَذَا أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ عَلَيْكَ وَالْأَجْرَ لَكَ عَلَيْهِ فَكَمَا لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَك بِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِاحْتِرَاقِ بَيْتِكَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّبَّاغُ فَقِيهًا لَبَيَّنَ الْفَرْقَ وَيَقُولُ لَهُ: أَيُّهَا الْقَاضِي قِيَاسُكَ فَاسِدٌ؛ فَالْأَجْرُ لِي فِي ذِمَّتِهِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ لَا يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّي، وَحَقِّهِ فِي عَيْنِ الثَّوْبِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِي يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ هَذَا الْفَرْقُ أَوْ احْتَشَمَهُ فَلَمْ يُعَارِضْهُ وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا ضَامِنَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَجِيرِ الْوَاحِدِ إلَّا إذَا خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الصُّنَّاعِ احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ أَنْ لَا يُضَيِّعُوا مَتَاعَهُمْ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ عَنْ بِكِيرِ بْن الْأَشَجِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُضَمِّنُ الصُّيَّاغَ مَا أَفْسَدُوا مِنْ مَتَاعِ النَّاسِ، أَوْ ضَاعَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِيمَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِغَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَفْسَدُوا مِنْ مَتَاعِ النَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّلَفِ بِعِلْمِهِمْ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَنَا؛ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ يَدُهُ وَسَيَأْتِيكَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اتَّبَعْتُ كَاذِيًا مِنْ السُّفُنِ فَحَمَّلْتُ خَوَابِيَ مِنْهَا حَمَّالًا فَانْكَسَرَتْ الْخَابِيَةُ فَخَاصَمْتُهُ إلَى شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ الْحَمَّالُ: زَاحَمَنِي النَّاسُ فِي السُّوقِ فَانْكَسَرَتْ قَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا اسْتَأْجَرَكَ لِتُبَلِّغَهَا أَهْلَهُ فَضَمَّنَهُ أَيَّاهَا، وَالْكَاذِي دُهْنٌ تُحْمَلُ مِنْ الْهِنْدِ فِي السُّفُنِ إلَى الْعِرَاقِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ؛ لِمَا يَتَّخِذُهُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ مِنْ الْأَوَانِي كَالْأَمْتِعَةِ لِحَاجَتِهِ فَيَسْعَ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ مِنْ السَّفِينَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْحَمَّالُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَكَثْرَةُ الزِّحَامِ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَقِلَّ الزِّحَامُ؛ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّالِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ إذَا تَعَثَّرَ، أَوْ زَلَقَتْ رِجْلُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَتَاهُ حَائِكٌ بِثَوْبٍ قَدْ أَفْسَدَهُ قَالَ: رُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ غَزْلِهِ وَخُذْ الثَّوْبِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ فَسَادًا قَالَ عَلَيَّ بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يُوَفِّكَ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إذَا أَفْسَدَ كَانَ ضَامِنًا لِصَاحِبِ الْمَالِ مِثْلَ مَالِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْغَزْلُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنَّ أَدَاءَ الضَّمَانِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَضْمُونِ وَبِآخِرِ الْحَدِيثِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: إذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَائِكِ، وَعَلَى رَبِّ الثَّوْبِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ خَالَفَ شَرْطَهُ وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي صِفَتِهِ. وَعَنْ عَامِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَاسْتَرَقَّ الْحُرُّ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا وَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَمَنَعَهُ أَجْرَهُ وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ» وَاللَّفْظُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبْلُغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعِيدِ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَفِيعٌ لِأُمَّتِهِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرْجُو النَّجَاةَ بِشَفَاعَتِهِ فَإِذَا صَارَ الشَّفِيعُ خَصْمًا يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 أَيْ أَلْزَمْتُهُ وَحَجَجْتُهُ فَأَمَّا قَوْلُهُ: رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فَالْمُرَادُ صُورَةُ الْبَيْعِ لَا حَقِيقَتُهُ فَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَبِبَيْعِ الْحُرِّ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ وَلَكِنْ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ بَيْعًا وَمَا يَقْبِضُ بِمُقَابَلَتِهِ ثَمَنًا مَجَازًا وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحُرٍّ فَقَدْ اسْتَذَلَّهُ وَالْمُؤْمِنُ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصْمٌ لِمَنْ يَسْتَذِلُّهُ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَضَعْفِ ذَلِكَ الْحُرِّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصْمٌ عَنْ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَهُوَ يَظْلِمُهُ بِاسْتِرْقَاقِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذُبُّ عَنْ كُلِّ مَظْلُومٍ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرَجُلًا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَمَنَعَهُ أَجْرَهُ»؛ لِأَنَّهُ اسْتَذَلَّهُ بِالْعَمَلِ وَاسْتَزْبَنَهُ بِمَنْعِ الْأَجْرِ وَظَلَمَهُ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ، وَأَنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِهِ بِمَنْعِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَمَا اشْتَرَطَ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ لِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْعِ الْأَجْرِ وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَرَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثُمَّ غَدَرَ» أَيْ أَعْطَى كَافِرًا أَمَانَ اللَّهِ، وَأَمَانَ رَسُولِهِ، ثُمَّ غَدَرَ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي وَصِيَّتِهِ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا، وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، فَالْمُسْتَأْمَنُ يَكُونُ مُسْتَذَلًّا فِي دِيَارِنَا فَإِذَا غَدَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ، وَعَنْ أَبِي نُعَيْمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ عَسْبِ التَّيْسِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَالْمُرَادُ بِعَسْبِ التَّيْسِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الضِّرَابِ وَهُوَ إنْزَاءُ الْفُحُولِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الْمَاءِ وَهُوَ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَهُوَ الْإِحْبَالُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى نَشَاطِ الْفَحْلِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَفِيزُ الطَّحَّانِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً مَعْلُومَةً بِقَفِيزٍ مِنْهَا، أَوْ مِنْ دَقِيقِهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ كَانَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ، ثُمَّ الْأَجْرُ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي عَيْنٍ مَوْجُودٍ وَهُوَ مَا الْتَزَمَهُ فِي الذِّمَّةِ وَدَقِيقُ تِلْكَ الْحِنْطَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ. فَأَمَّا كَسْبُ الْحَجَّامِ فَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُونَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمُقَابَلَةِ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْ الدَّمِ، أَوْ مَا يَشْتَرِطُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَالْمُرَادُ بِمَهْرِ الْبَغِيِّ مَا تَأْخُذُ الزَّانِيَةُ شَرْطًا عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانُوا يُؤَاجِرُونَ الْإِمَاءَ لِذَلِكَ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] الْآيَةُ؛ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ عَرَفْنَا أَنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ حَرَامٌ وَلَكِنَّا: نَقُولُ هَذَا النَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ قَدْ انْتَسَخَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي آخَرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَالَ إنَّ لِي حَجَّامًا وَنَاضِحًا أَفَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنَّ لِي عِيَالًا وَحَجَّامًا أَفَأَطْعِمْ عِيَالِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» فَالرُّخْصَةُ بَعْدَ النَّهْيِ دَلِيلٌ انْتِسَاخِ الْحُرْمَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «اُحْتُجِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ» وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ الْحَرَامِ لَا يَحِلُّ إيكَالُهُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنْ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنْ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: هَذَا النَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحِجَامَةِ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِشْفَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْنَى الْمَرْءَ بِهِ وَيُخَسِّسُهُ وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَبْغُضُ سَفْسَافِهَا» وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِمَا لَا يُدِينُهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ بَعْضَ مَوَالِيهِ عَنْ كَسْبِهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ حَجَّامٌ فَقَالَ: إنَّ كَسْبَكَ لَوَسِخٌ وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الرَّاعِي، وَإِنْ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبِهِ يَقُولُ: إنْ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا فَهُوَ أَمِينٌ كَالْمُودِعِ وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ شُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا تَلِفَ مِنْ فِعْلِهِ شُرِطَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ وَعِنْدَهُمَا مَا تَلِفَ بِمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ شَرْطٌ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ كُلِّ الرَّجُلِ يَسْتَصْنِعُ الشَّيْءَ] (قَالَ:) - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْبُيُوعَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ، بَيْعُ عَيْنٍ بِثَمَنٍ، وَبَيْعُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ بِثَمَنٍ وَهُوَ السَّلَمُ، وَبَيْعُ عَمَلٍ الْعَيْنُ فِيهِ تَبَعٌ وَهُوَ الِاسْتِئْجَارُ لِلصِّنَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْمَحِلِّ بِعَمَلِ الْعَامِلِ وَالْعَيْنُ هُوَ الصَّبْغُ بِيعَ فِيهِ، وَبَيْعُ عَيْنٍ شُرِطَ فِيهِ الْعَمَلُ وَهُوَ الِاسْتِصْنَاعُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 فَالْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَبِيعٌ عَيْنٌ وَلِهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَمَلُ مَشْرُوطٌ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَمَلِ اخْتَصَّ بِاسْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِمَعْنًى يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَالِاسْتِصْنَاعُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الصُّنْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَمَلَ مَشْرُوطٌ فِيهِ، ثُمَّ أَحْكَامُ مَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الِاسْتِصْنَاعِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فَبِذَلِكَ بَدَأَ الْبَابَ هُنَا وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ حَدِيدًا إلَى حَدَّادٍ لِيَصْنَعَهُ إنَاءً مُسَمًّى بِأَجْرٍ مُسَمًّى؛ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إذَا كَانَ مِثْلَ مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْفَسْخِ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهِ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا فَإِنَّ بَعْدَ اتِّصَالِ عَمَلِهِ بِالْحَدِيدِ لَا وَجْهَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِصْنَاعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْعَيْنُ وَفَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّادَ هُنَا يَلْتَزِمُ الْعَمَلَ بِالْعَقْدِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَثْبُتُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ فِيمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِصْنَاعِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْعَيْنُ وَالْعَقْدُ يَرِدُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ صَارَ دَيْنًا بِذِكْرِ الْأَجَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ الْحَدَّادُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ حَدِيدًا مِثْلَ حَدِيدِهِ وَيَصِيرُ الْإِنَاءُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ أَفْسَدَ عَمَلَهُ، وَمُوَافِقٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ إقَامَةُ أَصْلِ الْعَمَلِ وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ كَالْغَاصِبِ وَمَنْ غَصَبَ حَدِيدًا وَضَرَبَهُ إنَاءً فَهُوَ ضَامِنٌ حَدِيدًا مِثْلَهُ وَالْإِنَاءُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْوِفَاقِ وَرَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرَ الصِّفَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ كَالْمُشْتَرِي، وَإِذَا وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَكِنَّ قَدْرَ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ سُلِّمَ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى وَلِأَنَّهُ؛ لَمَّا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ أَرْضَى بِهِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ فَاسِدٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْأَوْصَافِ، وَالْفَائِتُ بِالْعَيْبِ وَصْفٌ وَهُنَا الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ وَبِالْإِفْسَادِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْعَمَلُ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُسَلِّمُهُ إلَى عَامِلٍ لِيَصْنَعَ لَهُ شَيْئًا مُسَمًّى، كَالْجِلْدِ يُسَلِّمُهُ إلَى الْإِسْكَافِ لِيَصْنَعَهُ خُفَّيْنِ وَالْغَزْلِ يُسَلِّمُهُ إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ، فَلَوْ اسْتَصْنَعَ عِنْدَ حَائِكٍ ثَوْبًا مَوْصُوفَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالرِّفْعَةِ وَالْجِنْسِ يَنْسِجُهُ مِنْ غَزْلِ الْحَائِكِ كَانَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ مِثْلَ الْخُفِّ وَغَيْرِهِ وَيُرِيدُ بِهِ قِيَاسَ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْخُفِّ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَعْمَلُ بِهِ النَّاسُ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ فِيمَا فِيهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 تَعَامُلٌ فَفِيمَا لَا تَعَامُلَ نَأْخُذُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ وَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ ضَرَبَ لِهَذَا الثَّوْبِ أَجَلًا وَتَعَجَّلَ الثَّمَنَ كَانَ جَائِزًا وَكَانَ سَلَمًا لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُعَجِّلَ الثَّمَنَ فَهُوَ فَاسِدٌ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الِاسْتِصْنَاعُ الْجَائِزُ بِذِكْرِ الْأَجَلِ فِيهِ لَا يَصِيرُ سَلَمًا فَالِاسْتِصْنَاعُ الْفَاسِدُ بِذِكْرِ الْأَجَلِ كَيْفَ يَكُونُ سَلَمًا صَحِيحًا فَإِنَّ الْأَجَلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالِبَةِ وَلَا مُطَالَبَةَ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَذِكْرُ الْأَجَلِ فِيهِ يَكُونُ لَغْوًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَالْعُذْرُ لَهُمَا أَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ فَفِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصَارُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ سَلَمًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِيمَا فِيهِ التَّعَامُلُ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَبِيعٌ شُرِطَ فِيهِ الْعَمَلُ فَذِكْرُ الْمُدَّةَ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ فِيهَا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا عَيْنًا، فَأَمَّا فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَلَيْسَ هُنَا مَبِيعَ عَيْنٍ لِيَكُونَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ فِي الْعَيْنِ بَلْ ذِكْرُ الْعَمَلِ لِبَيَانِ الْوَصْفِ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ دَيْنًا وَذِكْرُ الْمُدَّةِ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السَّلَمِ فَيَجْعَلُهُ سَلَمًا لِذَلِكَ وَلَوْ أَسْلَمَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَ لَهُ سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ فَحَاكَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَصْغَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ وَسَلَّمَ لَهُ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَوْبَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَّا فِي النُّقْصَانِ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ الْأَجْرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ، أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ فَلِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَاكَهُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ فَهُوَ أَرَقُّ مِمَّا سُمِّيَ، وَإِنْ حَاكَهُ أَصْغَرَ مِمَّا سُمِّيَ فَهُوَ أَصْفَقُ مِمَّا سُمِّيَ هَذَا إذَا كَانَ قَدَّرَ لَهُ الْغَزْلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّرَهُ لَهُ فَإِذَا حَاكَهُ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى فَقَدْ زَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَزْلِهِ عَلَى مَا سَمَّى، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَلِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ كَالْغَاصِبِ فَضَمَّنَهُ غَزْلًا مِثْلَ غَزْلِهِ وَالثَّوْبُ لِلْحَائِكِ وَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ غَزْلًا وَنَسَجَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِعَمَلِهِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لَهُ فِي أَصْلِهِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي صِفَتِهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَّا فِي النُّقْصَانِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ فَقَدْ أَتَى بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ وَزِيَادَةٍ فَيُعْطِيهِ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى وَفِي الزِّيَادَةِ لَمْ يُوجَدْ مَا يُقَوِّمُهُ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ فَلَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا فِي النُّقْصَانِ قَالَ: يُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى تَكْسِيرِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ وَتَكْسِيرِ مَا جَاءَ بِهِ فَالْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ سَبْعٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ سَبْعٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا فَعَرَفْت أَنَّهُ أَقَامَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْأَجْرِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُعْطِيهِ ثَلَاثَةَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا فَإِحْدَى وَعِشْرُونَ يُقَابِلُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَضْرِبَ لَهُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ لَبِنَةً بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَضَرَبَ إحْدَى وَعِشْرِينَ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الثَّوْبِ تَتَفَاوَتُ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَرُبَّمَا تُنْقِصُ زِيَادَةُ الطُّولِ فِي الْمَالِيَّةِ وَزِيَادَةُ الْعَرْضِ تُزِيدُ فِيهِ كَمَا فِي الْمُلَاءَةِ وَرُبَّمَا تُزِيدُ فِي مَالِيَّتِهِ زِيَادَةَ الطُّولِ دُونَ الْعَرْضِ كَمَا فِي الْعِمَامَةِ فَلَا يُمْكِنُ تَوْزِيعُ الْمُسَمَّى عَلَى الذُّرْعَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِخِلَافِ اللَّبِنِ فَالْبَعْضُ هُنَاكَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْبَعْضِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا عَرَفْنَا أَنَّ التَّوْزِيعَ هُنَا عَلَى الذُّرْعَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُعْطِيهِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ وَلَكِنْ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالثَّوْبِ مِثْلَ مَا سَمَّى كَانَ حِصَّتُهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنْ الْأَجْرِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى، فَإِذَا تَمَّ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ يَكُونُ أَرْضَى بِهِ عِنْدَ الْخِلَافِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُسَمَّى وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجَاوَزَ بِهِ إلَّا مَا سُمِّيَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ صَفِيقًا فَحَاكَهُ رَقِيقًا وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَقِيقًا فَحَاكَهُ صَفِيقًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ جَمِيعَ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَصْفِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَإِنَّ مَالِيَّةَ الثَّوْبِ تَخْتَلِفُ بِالرِّقَّةِ وَالصَّفَاقَةِ وَرُبَّمَا يُخْتَارُ الصَّفِيقُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالرَّقِيقُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا تُجَاوِزْ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِانْعِدَامِ الْمُقَوِّمِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ؛ وَلِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْحَائِكِ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْأَجْرِ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْغَزْلِ رِطْلًا مِنْ غَزْلِهِ وَقَالَ: قَدْ زِدْتُهُ وَقَالَ: رَبُّ الْغَزْلِ لَمْ تَزِدْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ مَعَ يَمِينِهِ، أَمَّا جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ؛ فَلِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ مِنْ الْغَزْلِ وَيَصِيرُ الْمُسْتَقْرِضُ قَابِضًا بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ فَالْحَائِكُ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي غَزْلِ رَبِّ الثَّوْبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ جَمِيعُ الْغَزْلِ مِنْ الْحَائِكِ فَإِنَّ الْمُسْتَصْنِعَ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَقْرِضًا لِلْغَزْلِ قَابِضًا فَيَكُونُ الْحَائِكُ عَامِلًا فِي غَزْلِ نَفْسِهِ، ثُمَّ الْحَائِكُ يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَضَهُ رِطْلًا مِنْ غَزْلِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَرَبُّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْحَائِكِ الْبَيِّنَةُ لِحَاجَتِهِ إلَى إثْبَاتِ مَا يَدَّعِي مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَمَا يَدَّعِي مِنْ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ مِنْ رَبِّ الثَّوْبِ مِثْلَ غَزْلِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ. وَإِذَا سَلَّمَ إلَيْهِ غَزْلًا يَنْسِجُهُ ثَوْبًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 غَزْلًا مُسَمًّى مِثْلَ غَزْلِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَ الْغَزْلِ وَأَجْرَ الثَّوْبِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ جَازَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ مَا سَمَّاهُ مِنْ الْغَزْلِ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَشْرُوطٍ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَحْسَنُ لِلتَّعَامُلِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَقَدْ يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ فَيَقُولُ لَهُ الْحَائِكُ هَذَا لَا يَكْفِي؛ لِمَا تَطْلُبُهُ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ ثَمَنَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْنَاعُ فِي الثَّوْبِ لِعَدَمِ التَّعَامُلِ، فَإِذَا وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذَا يُجَوِّزُهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْتِصْنَاعِ فِيمَا فِيهِ التَّعَامُلُ، ثُمَّ الطُّولُ وَالْعَرْضُ فِي الثَّوْبِ وَصْفٌ وَرَأَيْنَا جَوَازَ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ لِإِحْدَاثِ وَصْفٍ فِي الثَّوْبِ بِمِلْكِهِ وَهُوَ الصِّبَاغُ فَيَجُوزُ هُنَا أَيْضًا اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ عَلَيْهِ بِغَزْلِ نَفْسِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصِّبَاغِ، فَإِنْ أَتَاهُ كَمَا شَرَطَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ زَادَ أَعْطَاهُ مِمَّنْ غَزَلَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْمُشْتَرِي بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَأَجْرِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ وَفَاءٌ بِمَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَكَانَ وَزْنَ غَزْلٍ مَنًا وَقَالَ النَّسَّاجُ قَدْ كَانَ وَزْنُ غَزْلِكَ مَنًا وَقَدْ زِدْتُ فِيهِ رِطْلًا فَوَزَنُوا الثَّوْبَ فَوَجَدُوهُ مَنَوَيْنِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ إنَّمَا زَادَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّقِيقِ وَقَالَ النَّسَّاجُ هُوَ مِنْ الْغَزْلِ وَالدَّقِيقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَائِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَوَكَةِ فَإِنْ قَالُوا: الدَّقِيقُ لَا يَزِيدُ فِيهِ هَذَا الْمِقْدَارَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَائِكِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ قَالُوا يَزِيدُ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي؛ فَإِنَّهُ مَا يُرْجَعُ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى مَنْ لَهُ بَصَرٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَتَى كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَائِكِ وَحَلَفَ بِخَبَرِ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَمَّى لَهُ وَمَتَى كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبُّ الثَّوْبِ بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّقِيقَ يَزِيدُ فِيهِ هَذَا الْمِقْدَارَ؛ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهِ فَقَدْ أَمَرَ بِثَوْبٍ هُوَ أَطْوَلُ، أَوْ أَعْرَضُ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْخِلَافِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي مَنٍّ وَنَصْفٍ مِنْ الْغَزْلِ وَإِنَّمَا أَقَامَهُ فِي مَنٍّ فَيُعْطِيهِ بِحِسَابِهِ مِنْ الْأَجْرِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُسَمَّى وَأَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ) (كَانَ الثَّوْبُ) مُسْتَهْلَكًا وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ وَرَثَتُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَسْلِيمَ مَانِعِهِ مِنْ الْغَزْلِ، وَوُجُوبَ ثَمَنِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَكَانَ عَلَى الْعِلْمِ وَإِذَا حَلَفَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الثَّوْبِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْغَزْلِ فَيُقَسَّمُ الْأَجْرُ عَلَى عَمَلِ ثَوْبٍ مِثْلِهِ وَقِيمَةِ رِطْلٍ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 غَزْلِهِ، فَيُطْرَحُ عَنْهُ مَا أَصَابَ قِيمَةَ الْغَزْلِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي الْأَصْلِ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَصَوَابُ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ أَيْضًا حِصَّةَ مَا تَرَكَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ فِي النَّسِيجِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ غَزْلٍ وَإِنَّمَا أَقَامَ الْعَمَلَ فِي رِطْلَيْنِ مِنْ غَزْلٍ وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالْمَصِيرُ إلَى مَعْرِفَةِ وَزْنِ الثَّوْبِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ غَزْلِ الدَّافِعِ مَعْلُومًا وَلَا يُعْرَفُ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ بِالْمَصِيرِ إلَى وَزْنِ الثَّوْبِ، وَهُنَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ وَزْنُ غَزْلِ الدَّافِعِ مَعْلُومًا؛ فَلِهَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى وَزْنِ الثَّوْبِ لِيُعْرَفَ بِهِ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ. (قَالَ:) وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ حِنْطَةً إلَى طَحَّانٍ لِيَطْحَنَهَا بِدِرْهَمٍ وَبِرُبْعِ دَقِيقٍ مِنْهَا فَهَذَا فَاسِدٌ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ، ثُمَّ الْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ فِي حَادِثَةٍ بِالنَّصِّ وَعُرِفَ الْمَعْنَى فِيهِ تَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفَرْعِ وَمِنْ فَرْعِ هَذَا لَوْ دَفَعَ سِمْسِمًا إلَى الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يَعْصِرَهُ لَهُ بِرِطْلٍ مِنْ دُهْنِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْبَحَ لَهُ شَاةً بِدِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ لَحْمِهَا فَذَلِكَ فَاسِدٌ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: وَكَيْفَ يُسْتَأْجَرُ بِلَحْمِ شَاةٍ حَيَّةٍ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحُبْلَةِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ مَتَى كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَمَا فِي مَضْمُونِ خِلْقَةِ حَيَوَانٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَيْنًا وَتَفْسِيرُ الْمَلَاقِيحِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَا تَضْمَنُهُ الْأَصْلَابُ وَالْمَضَامِينُ مَا تَضْمَنُهُ الْأَرْحَامُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَالْمَلَاقِيحُ مَا تَضْمَنُهُ الْأَرْحَامُ بِإِلْقَاحِ الْفُحُولِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الْقَائِلِ شَعْرٌ وَعِدَّةُ الْعَامِ وَعَامٌ قَابِلٌ ... مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابِ حَابِلٍ وَحَبَلُ الْحُبْلَةِ هُوَ بَيْعُ مَا يَحْمِلُ حَبَلُ هَذِهِ النَّاقَةِ وَكَانُوا يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَبْطَلَ الشَّرْعُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَعَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظُهُورِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا كَانَ فِي مَضْمُونِ خَلْقِهِ حَيَوَانٌ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنْ عَمِلَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِمَّا أَقَامَ الْعَمَلَ فِيهِ فَكَانَ عَامِلًا لِغَيْرِهِ فِيمَا لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَلِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهُ بِالْمُسَمَّى فَإِنَّ الْمُسَمَّى مَتَى كَانَ مَعْلُومًا يَتِمُّ الرِّضَى بِهِ، وَإِنْ شَرَطَ مَعَ الدِّرْهَمِ رُبْعَ قَفِيزِ دَقِيقٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يَقِلَّ مِنْهَا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ مَكِيلٌ مَعْلُومٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً أَيْضًا وَلَوْ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ بِذِرَاعٍ مِنْ ذَلِكَ الثَّوْبِ، أَوْ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مُسَمًّى فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 الطَّحَّانِ (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَحْكِي عَنْ أُسْتَاذِهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِ هَذَا وَيَقُولُ: فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ عِنْدَنَا بِنَسَفٍ وَلَوْ لَمْ يُجَوِّزْهُ إنَّمَا يُجَوِّزُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، ثُمَّ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِنَّ النَّسَّاجَ يُعَجِّلُ بِالنَّسِيجِ وَيَجِدُّ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ فِي الثَّوْبِ نَصِيبٌ. قَالَ: وَلَوْ دَفَعَ سِمْسِمًا إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: قَشِّرْهُ وَرَبِّهِ بِبَنَفْسَجٍ فَاعْصِرْهُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَهُ دِرْهَمًا كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا شَرَطَ مِنْ الْبَنَفْسَجِ وَجَهَالَةُ ذَلِكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مِنْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الصَّبْغِ فِي كُلِّ الثَّوْبِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ الْمُصْبَغُ مِنْهُ وَغَيْرُ الْمُصْبَغِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّوْنَ فِي الثَّوْبِ مَحْسُوسٌ، فَأَمَّا الرَّائِحَةُ فِي الدُّهْنِ الْمُرَبَّى غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ مَا يُرَبَّى بِهِ مِنْ الْبَنَفْسَجِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ إعْلَامَ مِقْدَارِ الصَّبْغِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الثِّيَابَ وَيَصْبُغُ الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا الْقَشَّارُ لَا يَخْلِطُ سِمْسِمَ النَّاسِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ يُرَبِّي سِمْسِمَ كُلِّ إنْسَانٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إعْلَامُ مِقْدَارِ الْبَنَفْسَجِ؛ فَلِهَذَا شُرِطَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُرَبِّيَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ بَنَفْسَجٍ فَهَذَا جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَنَفْسَجُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا السِّمْسِمِ مَعْرُوفًا عِنْدَ التُّجَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالشَّرْطِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا؛ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ هَذَا مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِصْنَاعُ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْعُرْفُ وَكُلُّ مَا تَعَارَفَ النَّاسُ الِاسْتِصْنَاعَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ فَإِذَا جَاءَ بِهِ الصَّانِعُ مَفْرُوغًا عَنْهُ وَاخْتَارَ الْمُسْتَصْنِعُ أَخْذَهُ فَلَيْسَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْنَعَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّمَنَ حَبَسَهُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْمَصْنُوعِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَإِذَا نَفَذَ بَيْعُهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَصْنِعِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا دَفَعَ إلَى إسْكَافٍ جِلْدًا وَاسْتَأْجَرَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنْ يَخْرُزَهُ لَهُ خُفَّيْنِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِسْكَافُ وَيُبَطِّنَهُ وَوَصَفَ لَهُ الْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَإِذَا جَازَ الِاسْتِصْنَاعُ فِي الْخُفِّ لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا فَفِي الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ أَجْوَزُ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الْأَدِيمِ إذَا عَمِلَهُ عَمَلًا مُقَارَنًا لَا فَسَادَ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِيَ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ الْخِيَارَ وَالْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ لَكِنَّهُ قَالَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي أَصْلِ الْأَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ وَلَا يَتَأَتَّى الرَّدُّ فِي الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْبِطَانَةُ وَالنَّعْلُ بَيْعٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْعَمَلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ يَصِيرُ الْخُفُّ أَحْكَمَ وَأَنَّ الْخُفَّ يُنْسَبُ إلَى الْأَدِيمِ دُونَ الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْعَمَلُ وَفِيمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْأَدِيمُ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ فَاسِدًا ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ دُونَ الْفَاسِدِ فَكَانَ هُوَ فِي إقَامَةِ أَصْلِ الْعَمَلِ مُوَافِقًا وَبِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْفَسَادِ فِي الْعَمَلِ مُخَالِفًا فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ كَالْغَاضِبِ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ وَرَضِيَ بِهِ مَعَ تَغْيِيرِ الْوَصْفِ فَأَخَذَ الْخُفَّيْنِ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ، أَمَّا أَجْرُ مِثْلِ الْعَمَلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِإِزَاءِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَعِنْدَ الْفَسَادِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَقِيمَةُ مَا زَادَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لَهُ وَقَدْ تَمَّ قَبْضُهُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ قَوْلَهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى، يَنْصَرِفُ إلَى الْأَجْرِ خَاصَّةً دُونَ قِيمَةِ مَا زَادَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا بِخِلَافِ الْمَنَافِعِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْجُبَّةِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى فِي أَجْرِ عَمَلِهِ خَاصَّةً وَقَالُوا: بَيَانُهُ فِي فَصْلٍ يَكُونُ بَيِّنًا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ تَابِعٌ لِلْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ الْعَقْدُ هُنَا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا مَا جَازَ الْعَقْدُ فِيهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَالتَّبَعُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَصْلِ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي التَّبَعِ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَرْقَ فِي مَسْأَلَةِ الْجُبَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَ خِرْقَةً إلَى صَانِعٍ لِيَصْنَعَهَا قَلَنْسُوَةً وَيُبَطِّنَهَا وَيَحْشُوَهَا فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِطَانَةَ وَالْحَشْوَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ تَبَعٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ تُنْسَبُ إلَى الظِّهَارَةِ وَأَنَّهَا بِالْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ تَصِيرُ أَحْكَمَ وَاسْمُ الْقَلَنْسُوَةِ يَتَنَاوَلُهُ بِدُونِ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ كَالْخُفِّ فَالْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَبِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ الصُّنَّاعِ إذَا رَضِيَ الْمُسْتَصْنِعُ الْعَمَلَ وَأَجَازَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَهُ لَهُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَتَاعِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمَبِيعُ يُحْبَسُ بِالثَّمَنِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ حَالًّا وَلَا يُحْبَسُ بِهِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلصَّانِعِ حَقُّ الْحَبْسِ بِالْأُجْرَةِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلِّمًا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الَّذِي أَحْدَثَهُ بِعَمَلِهِ وَقَدْ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ بِاخْتِيَارِ الْعَامِلِ وَرِضَاهُ وَبَعْدَ مَا سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا تَسْلِيمٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِدُونِ أَنْ يَتَّصِلَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 ذَلِكَ بِمِلْكِهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِهِ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ وَرُبَّمَا يَقُولُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْبَدَلُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يُحْبَسُ الْمُبْدَلُ بِالْبَدَلِ فَإِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْحَبْسِ يَثْبُتُ لَهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ إلَّا بِحَبْسِ الْأَصْلِ فَثَبَتَ حَقُّهُ فِي حَبْسِ الْأَصْلِ كَمَنْ أَجَّرَ عَيْنًا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ وَهُوَ إنَّمَا عَقَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ الْعَيْنِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ. (قَالَ) فِي الْأَصْلِ إنْ كَانَ الْأَجَلُ مِيعَادًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَهُ حَتَّى يَقْبِضَ أَجْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاعِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَهَذَا يَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى عَيْنًا مِنْ بَيَّاعٍ وَوَاعَدَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مُنَجَّمًا فِي كُلِّ سَبْتٍ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَاب؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَالْمِيعَادُ لَا يَكُونُ لَازِمًا بِدَلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا يَصْبُغُهُ لَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَوَصَفَ لَهُ الصِّبْغَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَفَ لَهُ الصِّبْغَ وَسَمَّاهُ مِنْ زَعْفَرَانٍ، أَوْ عُصْفُورٍ، أَوْ بَقَّمٍ فَقَدْ صَارَ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا لَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ خَالَفَهُ بِصَبْغِهِ عَلَى غَيْرِ مَا سَمَّى لَهُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْغِ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ، أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ؛ فَلِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الصَّبْغِ مُوَافِقٌ وَفِي الصِّفَةِ مُخَالِفٌ وَإِذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخُفِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ فَقَدْ قَالَ: هُنَاكَ يُعْطِيهِ أَجْرًا مِثْلَ عَمَلِهِ وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ قِيمَةَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّبْغَ آلَةُ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الصَّبَّاغِ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَضِ وَالصَّابُونِ فِي عَمَلِ الْغَسَّالِ فَلَا يَصِيرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ مُشْتَرِيًا لِلصَّبْغِ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْقِيمَةَ عِنْدَ فَسَادِ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ بِالثَّوْبِ لَوْنُ الصَّبْغِ لَا عَيْنُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا؛ لِمَا يَتَّصِلُ بِمِلْكِهِ وَاللَّوْنُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرًى بِخِلَافِ الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ فَذَاكَ يَتَّصِلُ بِعَمَلِهِ بِمِلْكِهِ وَهُوَ عَيْنُ مَالٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِفِعْلِهِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ حُكْمًا حَتَّى لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصَبْغِ الْغَيْرِ وَاتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَضْرِبُ فِي الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّبْغُ الْمُتَّصِلُ بِالثَّوْبِ فِي حُكْمِ عَيْنٍ قَابِلٍ لِلْبَيْعِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةً وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ بَعْدَ مَا اتَّصَلَ بِالثَّوْبِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 لَا يُتَصَوَّرُ تَمْيِيزُهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَعَ الثَّوْبِ لَا وَحْدَهُ وَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الثَّوْبِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخُفِّ الْبِطَانَةُ وَالنَّعْلُ لَمَّا كَانَ بِعَرْضِ الْفَصْلِ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مُنْفَرِدًا عَنْ الْخُفِّ؛ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَةُ مَا زَادَ فِيهِ. ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الصَّبَّاغُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِيمَا أَمَرَهُ أَنْ يَصْبُغَهُ بِهِ بِأَنْ صَبْغَهُ بِعُصْفُرٍ فَقَالَ: رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ بِالزَّعْفَرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ فِي الصَّبْغِ، ثُمَّ رَبُّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ خِلَافًا لِيُضَمِّنَهُ، أَوْ لِيُثْبِتَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الثَّوْبِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ لَهُ فِي الصَّبْغِ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِيمَا صَبَغَهُ بِهِ، وَإِذَا اسْتَصْنَعَ الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ خُفَّيْنِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ الْمُسْتَصْنِعُ لَيْسَ هَكَذَا أَمَرْتُكَ وَقَالَ الْإِسْكَافُ بِهَذَا أَمَرْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَصْنِعِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى تُلْزِمُهُ الْجَوَابَ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّ لِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ يَأْبَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الصَّانِعُ مُخَالِفًا فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْعَامِلُ الْبَيِّنَةُ لَمْ يُلْزَمْ الْأَمْرَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَصْنِعُ: بِهَذَا أَمَرْتُكَ وَلَكِنْ لَا أُرِيدُهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ لِلْمُسْتَصْنِعِ بِسَبَبِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ خُفَّهُ بِنَعْلِهِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فَإِذَا نَعَلَهُ بِنَعْلٍ لَا يُنْعَلُ بِمِثْلِهِ الْخِفَافُ فَصَاحِبُ الْخُفِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُفِّ بِغَيْرِ نَعْلٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وَقِيمَةَ النَّعْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ مُوَافِقٌ وَفِي الصِّفَةِ مُخَالِفٌ، وَإِنْ كَانَ يُنْعَلُ بِمِثْلِهِ الْخِفَافُ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ صِفَةُ السَّلَامَةِ، فَأَمَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ جَيِّدًا فَنَعَلَهُ بِنَعْلٍ غَيْرِ جَيِّدٍ فَلِصَاحِبِ الْخُفِّ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ أَنَّهُ كَاتِبٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَ الْعَيْبَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ وَقَدْ عَمِلَهُ عَمَلًا عَلَى مَا وَصَفَهُ لَهُ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْأَجْرُ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْخُفِّ عَمِلْتَهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرِ وَقَالَ الْعَامِلُ عَمِلْتُهُ بِدِرْهَمٍ وَلَا بَيِّنَةَ بَيْنَهُمَا فَعَلَى رَبِّ الْخُفِّ الْيَمِينُ لِلَّهِ مَا شَارَطَهُ عَلَى دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدِّرْهَمَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ فَإِذَا حَلَفَ غَرِمَ لَهُ مَا زَادَ النَّعْلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 فِي خُفِّهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْعَامِلُ عَلَى دَعْوَاهُ أَنَّهُ عَمِلَ لَهُ بِغَيْرِ - أَجْرٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْخُفِّ يَدَّعِي عَلَيْهِ هِبَةَ النَّعْلِ وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ انْتَفَى مَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَقْدِ يَبْقَى نَعْلُهُ مُتَّصِلًا بِخُفِّ الْغَيْرِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْخُفِّ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِاحْتِبَاسِ مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَهُ وَلَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ، فَأَمَّا الْعَيْنُ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ وَلَوْ عَمِلَ الْخُفَّ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْإِسْكَافِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُسْتَصْنِعِ وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِمَا قَالَ الْإِسْكَافُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عَيْنُ مِلْكِ الْإِسْكَافِ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا رَضِيَ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ الصَّبَّاغُ: صَبَغْتُهُ بِدِرْهَمٍ وَقَالَ رَبُّ الثَّوْب: بِدَانِقَيْنِ وَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ فَإِنْ زَادَ دِرْهَمًا، أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الصَّبَّاغُ مَا صَبَغَهُ بِدَانِقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ دَانِقَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ دَانِقَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ رَبُّ الثَّوْبِ مَا صَبَغَهُ بِدِرْهَمٍ كَمَا يَدَّعِيهِ الصَّبَّاغُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الْخُصُومَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَجْعَلُ فِي ثَوْبِ إنْسَانٍ صِبْغًا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِدَانِقَيْنِ إذَنْ يَخْسَرُ وَهُوَ مَا جَلَسَ لِهَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ دِرْهَمًا بِإِزَاءِ صَبْغٍ يُسَاوِي دَانِقَيْنِ إذَنْ يَغْبِنُ وَالْمَغْبُونُ لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَأْجُورَ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الصَّبْغِ دِرْهَمًا، أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلصَّبَّاغِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى دَعْوَى خَصْمِهِ، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الصَّبْغِ أَقَلَّ مِنْ دَانِقَيْنِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِرَبِّ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى دَعْوَى خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دَانِقَيْنِ وَأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ أَعْطَيْت الصَّبَّاغَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا صَبَغَهُ بِدَانِقَيْنِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُنَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَشْهَدُ لِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا تَخَالُفَ هُنَا بَلْ الْيَمِينُ عَلَى الصَّبَّاغِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُبْتَغَى بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَبَعْدَ اتِّصَالِ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ لَا تَصَوُّرَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ هُنَا كَانَ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ قِيمَةُ الصَّبْغِ؛ لِأَنَّ لَاتِّصَالِ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ مُوجِبًا وَهُوَ قِيمَتُهُ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ كَالْغَاضِبِ إذَا صَبَغَ ثَوْبَ إنْسَانٍ وَأَرَادَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخْذَهُ أَعْطَاهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ إلَّا أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ هُنَا يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عَنْ بَعْضِ الْقِيمَةِ بِرِضَاءِ الصَّبَّاغِ بِدَانِقَيْنِ وَالصَّبَّاغُ مُنْكِرٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ فَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمِ قِيمَةِ الصَّبْغِ بِنَفْيِ ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ، وَالصَّبَّاغُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَرَبُّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ صَبَغْتَهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صَبْغٍ يُنْقِصُ الثَّوْبَ، فَأَمَّا كُلُّ صَبْغٍ يَزِيدُ فِي الثَّوْبِ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ صَبَغْتَهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّبَّاغُ صَبَغْتُهُ بِدِرْهَمٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِتَحَالُفٍ لِلِاخْتِلَافِ فِي بَدَلِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ الصَّبَّاغَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دِرْهَمًا عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ وَرَبَّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَرَبُّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَى الصَّبَّاغِ أَنَّهُ وَهَبَ الصَّبْغَ مِنْهُ وَقَدْ تَمَّتْ الْهِبَةُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَالصَّبَّاغُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ يَضْمَنُ رَبُّ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتَفَى بِيَمِينِ صَاحِبِهِ يَبْقَى صَبْغُ الْغَيْرِ مُتَّصِلًا بِثَوْبِهِ بِإِذْنِهِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ فَهُوَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى يَصِيرُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى دِرْهَمٍ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْبَدَلِ فَيَعُمُّ ذَلِكَ أَنْوَاعَ الْبُيُوعِ، ثُمَّ التَّحَالُفُ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْفَسْخِ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مُحْتَمَلٌ لِلْفَسْخِ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ التَّحَالُفَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْقَصَّارَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَرَبَّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ التَّحَالُفَ هُنَاكَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَيُمْكِنُ إيجَابُ قِيمَتِهِ بَعْدَ انْتِفَاءِ الْعَقْدِ بِالتَّحَالُفِ وَهُنَا الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ فَلَوْ تَحَالَفَا هُنَا انْتَفَى الْعَقْدُ بِالتَّحَالُفِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءِ لِلْقَصَّارِ فَكَانَ جَعْلُ الْقَوْلِ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْفَعَ لِلْقَصَّارِ؛ فَلِهَذَا لَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ هُنَا وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا أَقَامَ بَعْضَ الْعَمَلِ فَفِي حِصَّةِ مَا أَقَامَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي مُمْكِنٌ وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ اعْتِبَارًا وَفِيمَ أَقَامَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 الْعَمَلِ مُتَعَذِّرُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ: هُنَاكَ لَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ فَسْخُهُ فِي الْبَعْضِ بِالْهَلَاكِ يَتَعَذَّرُ فَسْخُهُ فِيمَا بَقِيَ وَهُنَا عَقْدُ لِإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ مَا يُقِيمُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنَّ تَعَذَّرَ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِيمَا بَقِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَمِلْتُهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ إلَى أَجْرِ مِثْلِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الصَّبَّاغِ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَهُنَاكَ الصَّبْغُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ وَهُنَا لَا قِيمَةَ لِلْمَنْفَعَةِ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ رَبُّ الثَّوْبِ التَّسْمِيَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ شَارَطَ قَصَّارًا عَلَى أَنْ يُقَصِّرَ لَهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُرِهِ الثِّيَابَ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ؛ فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّيَابِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالصَّفَاقَةِ وَالرِّقَّةِ وَالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَعَمَلُهُ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَرَاهُ الثِّيَابَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ بِرُؤْيَةِ الْمَحَلِّ يَصِيرُ مِقْدَارُ الْعَمَلِ فِيهِ مَعْلُومًا، وَلَوْ مُسَمًّى لَهُ جِنْسًا مِنْ الثِّيَابِ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُرِهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ الْعَمَلِ فِيهِ مَعْلُومًا فَإِنْ بَالَغَ فِي بَيَانِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ مِقْدَارُ عَمَلِهِ مَعْلُومًا فَهُوَ وَإِرَاءَتُهُ الثِّيَابَ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْخِيَاطَةِ مُوَافِقٌ وَفِي الْهَيْئَةِ وَالصِّفَةِ مُخَالِفٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ الْقَبَاءُ وَالْقَمِيصُ تَتَفَاوَتَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّفِقُ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ مَقْصُودِهِ مُخَالِفًا وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي تَتْمِيمِ الْمَقْصُودِ حَتَّى لَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلًا كَانَ غَاضِبًا ضَامِنًا وَلَا خِيَارٍ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَسْتًا فَضَرَبَهُ كُوزًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ وَلَا مُقَارَبَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُنَا وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ فِي أَصْلِ الصَّنْعَةِ مُخَالِفٌ فِي الْهَيْئَةِ وَالصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ، وَإِنْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ فَهُوَ فِي أَصْلِ الْخِيَاطَةِ مُوَافِقٌ وَفِي الْهَيْئَةِ مُخَالِفٌ فَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ بِقَمِيصٍ وَقَالَ الْخَيَّاطُ أَمَرَتْنِي بِقَبَاءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ لِإِنْكَارِهِ الْخِلَافَ وَالضَّمَانَ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ تَحَالَفَا إذَا كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ قِيمَةِ الثَّوْبِ وَالْخَيَّاطَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الثَّوْبِ فَلَا يَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِالتَّحَالُفِ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ لَا وَجْهَ لِلْفَسْخِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْإِذْنَ فِي خِيَاطَةِ الْقَبَاءِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَتَقَرَّرَ الْأَجْرُ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: خَيِّطْهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الْقِصَارَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ الْمُتَّصِلِ بِالثَّوْبِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُشَارِطْهُ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدِ ضَمَانٍ، أَوْ بِتَسْمِيَةِ عِوَضٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَسْتَحْسِنُ إذَا كَانَ خَيَّطَ لَهُ فَأَوْجَبَ الْأَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِأَجْرِهِ فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الشَّرْطِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إنْ كَانَ الْعَامِلُ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ بِالْأَجْرِ فُتِحَ الْحَانُوتُ لِأَجْلِهِ فَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَ شَرْطِ الْأَجْرِ وَيُقْضَى لَهُ بِالْأَجْرِ اسْتِحْسَانًا. وَلَوْ أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرٍ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ فَرَبُّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ مَعَ الْأَجْرِ وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرُّبْعَ الْهَاشِمِيَّ هُوَ الصَّاعُ وَهُوَ رُبْعُ قَفِيزٍ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْبُغَهُ صَبْغًا غَيْرَ مُشَبَّعٍ وَقَدْ صَبَغَ صَبْغًا مُشَبَّعًا فَكَانَ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ مُوَافِقًا، وَفِي الصِّفَةِ مُخَالِفًا فَيُجْبَرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْجَوَابُ فِي الْكِتَابِ وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا يُقَسَّمُ الْجَوَابُ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَصْبُغَهُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ، أَوْ لَا ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ إلَى تَمَامِ الْقَفِيزِ، أَوْ يَصْبُغَهُ بِالْقَفِيزِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ أَوَّلًا فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ مَصْبُوغًا بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُسْلَمِ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ لِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ غَيَّرَهُ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِهِ مُتَغَيِّرًا وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَصْبُوغًا بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ مَعَ قِيمَةِ مَا زَادَ مِنْ الْعُصْفُرِ فِيهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 مَصْبُوغًا بِرُبْعِ قَفِيزٍ فَصَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ. أَمَّا إذَا صَبَغَهُ بِقَفِيزٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ وَلَكِنَّهُ خَالَفَ فِي هَيْئَةِ الْعَمَلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الصَّبْغِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَبَعٌ لِلْآخَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ الْأَجْرُ لَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فَهُنَا لَمَّا وَجَبَ قِيمَةُ الصَّبْغِ بِسَبَبِ مَا زَادَ مِنْ الصَّبْغِ فِيهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَجْرِ وَالْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُنْتَقَى ذَكَرَ هَذَا التَّقْسِيمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِمَنِّ عُصْفُرٍ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِمَنَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ الْأَجْرَ دِرْهَمًا مَعَ قِيمَةٍ مِنْ الصَّبْغِ قَالَ: (قُلْتُ) لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَ لَا يَضْمَنُ لَهُ قِيمَةَ مَنَوَيْنِ مِنْ الصَّبْغِ قَالَ: لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَقُولُ: أَنَا خَادَعْتُهُ حَتَّى رَضِيَ بِدِرْهَمٍ مِنْ قِيمَةِ مَنِّ الصَّبْغِ وَرُبَّمَا تَكُونُ قِيمَتُهُ خَمْسَةً فَبَعْدَ وُجُودِ الرِّضَى مِنْهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ زِيَادَةً عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُ الْأَجْرَ مَعَ قِيمَةِ مَنِّ الصَّبْغِ، وَإِنْ كَانَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الْأَصَحُّ وَلِأَنَّهُ، وَإِنْ صَبَغَهُ جُمْلَةً فَإِنَّمَا يَتَشَرَّبُ فِيهِ الصَّبْغُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا تَشَرَّبَ فِيهِ الْمِقْدَارُ الْمَشْرُوطُ وَجَبَ الْأَجْرُ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ صَبَغَهُ بِدَفْعَتَيْنِ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ لَمْ تَصْبُغْهُ إلَّا بِرُبْعٍ عُصْفُرٍ فَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّبْغِ يَكُونُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَهُوَ يُنْكِرُ وُجُوبَ قِيمَةِ الصَّبْغِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الصَّبَّاغُ بَيِّنَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِرُبْعِ عُصْفُرٍ وَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَلَوْ قَالَ لِخَيَّاطٍ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الثَّوْبِ فَإِنْ كَفَانِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ بِدِرْهَمٍ وَخِطْهُ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَطَعَهُ: إنَّهُ لَا يَكْفِيَكَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَكْفِهِ قَمِيصًا فَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَمَنْ قَطَعَ ثَوْبَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ وَلَوْ قَالَ لَهُ: اُنْظُرْ أَيَكْفِينِي قَمِيصًا فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اقْطَعْهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهُ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اقْطَعْهُ إذْنٌ مُطْلَقٌ وَلَا يُقَالُ قَدْ غَرَّهُ بِقَوْلِهِ يَكْفِيك؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَارِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّرِيقُ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَانْعِدَامُ الْإِذْنِ هُنَاكَ بِمَا صَرَّحَ فِي لَفْظِهِ مِنْ الشَّرْطِ حَتَّى لَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 كَانَ فِي لَفْظِهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولُ: فَاقْطَعْهُ، أَوْ اقْطَعْهُ إذًا فَهُوَ ضَامِنٌ إذَا لَمْ يَكْفِهِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ فَبِذِكْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَارِطٌ لِلْكِفَايَةِ فِي الْإِذْنِ وَقَوْلُهُ إذًا إشَارَةٌ إلَى مَا سَبَقَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اقْطَعْهُ إذَا كَانَ يَكْفِينِي؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَزَ كَلَامَهُ، وَلَوْ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ فَقَطَّعَهُ لَهُ قَبَاءً فَقَالَ: بَطِّنْهُ مِنْ عِنْدِكَ وَاحْشُهُ عَلَى أَنَّ لَكَ مِنْ الْأَجْرِ كَذَا، وَكَذَا فَهُوَ مِثْلُ الْخُفِّ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يُبَطِّنَهُ وَيُنْعِلَهُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لَا أُجِيزُ هَذَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْقِيَاسِ بِالتَّعَامُلِ وَهَذَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَيُسْتَحْسَنُ الْعَوْدُ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فِيهِ وَيُقَالُ إنَّهُ مُشْتَرًى لِمَعْدُومٍ، أَوْ لِمَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ بِدُونِ النَّعْلِ وَالْبِطَانَةِ يُسَمَّى خُفًّا وَلَكِنْ بِالنَّعْلِ وَالْبِطَانَةِ يَصِيرُ أَحْكَمَ فَمَا شُرِطَ عَلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ، فَأَمَّا الْقَبَاءُ وَالْجُبَّةُ لَا تَكُونُ بِدُونِ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ وَإِذَا كَانَ مَا الْتَمَسَ مِنْهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إلَّا بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْنَاعٌ لَا تَعَامَلَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَإِنْ أَتَاهُ بِالْقَبَاءِ مُبَطَّنًا مَحْشُوًّا فَلِلْخَيَّاطِ قِيمَةُ بِطَانَتِهِ وَحَشْوِهِ وَأَجْرُ خِيَاطَتِهِ وَلَا تُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ فِي أَجْرِ خِيَاطَتِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَذَلِكَ اسْتَوْفَى غَيْرَ مِلْكِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْمُشْتَرَى بَالِغًا مَا بَلَغَ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ إنَّ قَوْلَهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ خَاصَّةً دُونَ قِيمَةِ مَا زَادَ فِيهِ وَالْأَصَحِّ هُوَ الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ وَالْبِطَانَةَ هُنَا لَمْ تَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا فِي الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا مَقْصُودًا بِقِيمَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَفِيمَا سَبَقَ النَّعْلُ وَالْبِطَانَةُ فِي الْخُفِّ، وَالْحَشْوُ وَالْبِطَانَةُ فِي الْقَلَنْسُوَةِ جُعِلَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ فِي الْعَقْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ فَكَمَا أَنَّ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ لَا يُجَاوِزُ بِالْبَدَلِ مَا سُمِّيَ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ. وَلَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا وَبِطَانَةً وَقُطْنًا وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَطِّعَهُ جُبَّةً وَيَحْشُوَهَا وَيَنْدِفَ الْقُطْنَ عَلَيْهَا وَسَمَّى الْأَجْرَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَى خَيَّاطٍ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ عَشْرَ قُمُصٍ كُلُّ قَمِيصٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَعَمَلُ الْخَيَّاطِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ جِنْسِ الثِّيَابِ وَبِاخْتِلَافِ الْقَمِيصِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَلَوْ قَالَ: الثِّيَابُ هَرَوِيَّةٌ وَمِقْدَارُهُ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ مَعْرُوفٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَمَلِ بِمَا سُمِّيَ يَصِيرُ مَعْلُومًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ عَلَى مَا اشْتَرَطَ إذَا فَرَغَ مِنْهُ الْيَوْمُ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ فُصُولٌ (أَحَدُهَا) أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَا شَيْءَ لَكَ وَهُوَ فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ؛ فَإِنَّهُ شَرَطَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ دِرْهَمًا إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ وَلِنَفْسِهِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ إنْ لَمْ يَخِطْهُ الْيَوْمَ وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ فَكَانَ فَاسِدًا وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَكَ أَجْرُ دِرْهَمٍ عَلَى خِيَاطَتِكَ، أَوْ لَا شَيْءَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ دِرْهَمًا فَهَذَا مِثْلُهُ (وَالْفَصْلُ) الثَّانِي أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْتَ خِيَاطَةً رُومِيَّةً فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ خِيَاطَةً فَارِسِيَّةً فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ يَقُولَ إنْ خِطْته قَبَاءً فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتُهُ قَمِيصًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْبَدَلَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْمُعَارَضَةِ تَكُونُ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ أَمَتِي هَذِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ ابْنَتِي هَذِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ: قَبِلْتُ كَانَ بَاطِلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ عَلَيْهِ نَوْعًا مِنْ الْعَمَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يُطَالِبُهُ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَ الْعَمَلِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْبَدَلِ مَعْلُومٌ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ يَنْعَقِدُ لَازِمًا فِي الْحَالِ وَالْبَدَلُ يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا (وَالْفَصْلُ) الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ وَعِنْدَهُمَا الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ الشَّرْطَانِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي الْبَيْعِ إنْ أَعْطَيْتَ لِي الثَّمَنَ إلَى شَهْرٍ فَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 وَإِنْ أَعْطَيْتَهُ إلَى شَهْرَيْنِ فَخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَانَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فَاسِدًا لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ؛ وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَفْسَدَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّرْطَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُمَا اعْتَبَرَا هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَا: إنَّهُ سَمَّى عَمَلَيْنِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مَعْلُومًا فَيَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْغَدِ غَيْرُ عَمَلِهِ فِي الْيَوْمِ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَجْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا أَفْسَدْنَا الْعَقْدَ لِمَعْنَى الْقِمَارِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمَيْنِ شَرَطَ الْأَجْرَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِشَرْطِ فَوَاتِ مَنْفَعَةِ التَّعْجِيلِ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ تَفْرَغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَلَوْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ بِأَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَفْرَغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَا شَيْءَ لَكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ فِي الْيَوْمَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ التَّعْجِيلِ بِتَأْخِيرِ الْعَمَلِ إلَى الْغَدِ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ حَتَّى لَوْ قَالَ هُنَاكَ، وَإِنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَا أَجْرَ لَكَ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعَانَةً صَحِيحَةً فِي خِيَاطَةِ الْفَارِسِيَّةِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ غَدًا مَاذَا يَجِبُ لَهُ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالدِّرْهَمِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةِ التَّعْجِيلِ فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَسْمِيَتَانِ دِرْهَمٌ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا لَوْ قَالَ: خِطْهُ بِدِرْهَمٍ، أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ التَّسْمِيَةِ الْأُولَى عِنْدَ الْخِيَاطَةِ غَدًا الدِّرْهَمُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالتَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ يَضُمُّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ فِي الْغَدِ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ فَتَجْتَمِعُ تَسْمِيَتَانِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الدِّرْهَمُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ نِصْفِ دِرْهَمٍ فِي الْغَدِ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْيَوْمِ حَتَّى إذَا قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ غَدًا لِتَخِيطَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَخَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ فَلِهَذَا صَحَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجْتَمِعَ تَسْمِيَتَانِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلَيْنِ حَتَّى لَوْ قَالَ: خِطْهُ خِيَاطَةً رُومِيَّةً بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ خِيَاطَةً فَارِسِيَّةً كَانَ مُخَالِفًا وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ: التَّسْمِيَةُ الْأُولَى لَهَا مُوجِبٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَهُوَ بِتَسْمِيَةِ نِصْفِ دِرْهَمٍ قَصَدَ تَغْيِيرَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 مُوجِبِ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ مَعَ بَقَائِهَا وَذَلِكَ فَاسِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا شَيْءَ لَكَ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ مُوجِبٌ فِي الْعَمَلِ الْآخَرِ فَكَانَا عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَدَلٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ فِيهَا فَلِهَذَا افْتَرَقَا. وَإِذَا اشْتَرَى نَعْلًا بِدِرْهَمٍ وَشِرَاكًا مَعَهَا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا بَيْنَ النَّاسِ وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ يَجُوزُ لِلْعُرْفِ فَالشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ إذَا كَانَ مُتَعَارَفًا لِلْجَوَازِ أَوْلَى. وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ بِعَشَرَةٍ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ شَرْطٍ فِيهِ إجَارَةٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بَعْضُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ الْخِيَاطَةِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي بَيْعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إعَانَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ النَّعْلِ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ غَيْرُ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ هُنَا فَيُؤْخَذُ بِهِ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ جَاءَ إلَى حَذَّاءٍ بِشِرَاكَيْنِ وَنَعْلَيْنِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهُمَا لَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الشِّرَاكَيْنِ فَأَرَاهُمَا إيَّاهُ وَرَضِيَهُ، ثُمَّ حَذَاهُمَا لَهُ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْخُفِّ يُنْعَلُ وَيُرَقَّعُ كَذَلِكَ الْجَوَابُ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ فِي الْجُبَّةِ وَالْقَبَاءِ الْبِطَانَةَ وَالْحَشْوَ عَلَى الْعَامِلِ وَالْفَرْقُ بِالْعُرْفِ، ثُمَّ شَرَطَ هُنَا أَنْ يُرِيَهُ الشِّرَاكَ وَالنَّعْلَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إرَاءَتُهُ إيَّاهُ وَلَكِنْ إنْ أَعْلَمَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي بَيْنَهُمَا فِيهِ مُنَازَعَةٌ فَذَلِكَ كَافٍ لِمَا فِي شَرْطِ الْإِرَاءَةِ مِنْ بَعْضِ الْحَرَجِ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَكُونَ كُمُّ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ فَاسِدًا لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَى الْبَنَّاءِ أَنْ يَكُونَ الْآجُرُّ وَالْجِصُّ مِنْ عِنْدِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَشْتَرِطُ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِنْ قِبَلِهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ إلَّا فِيمَا بَيَّنَّا لِلْعُرْفِ فَإِذَا عَمِلَهُ فَالْعَمَلُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مَعَ قِيمَةِ مَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ وَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَإِذَا رَدَّ الْقَصَّارُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ ثَوْبًا غَيْرَهُ خَطَأً، أَوْ عَمْدًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَ جَانٍ فِي تَسْلِيمِ ثَوْبِهِ إلَى الْغَيْرِ، وَالْقَابِضَ فِي قَبْضِهِ وَقَطْعِهِ وَخِيَاطَتِهِ، فَيُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْقَصَّارَ فَقَدْ مَلَكَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ بِالضَّمَانِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاطِعَ قَطَعَ ثَوْبَهُ وَخَاطَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَيُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ الْغَاصِبُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَاطِعَ لَمْ يَرْجِعْ الْقَاطِعُ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِسَبَبِ عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ يَرْجِعُ عَلَى الْقَصَّارِ بِثَوْبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ مِلْكَهُ وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِ الْقَصَّارِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 [بَابُ مَتَى يَجِبُ لِلْعَامِلِ الْأَجْرُ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ الْقَصَّارِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ ضَامِنٌ إلَّا إذَا تَلِفَ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْحَرْقِ الْغَالِبِ) وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ أَجِيرٍ مُشْتَرَكٍ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي حِفْظِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهِ وَالْمُشْتَرَكُ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَمَلِ وَيَعْمَلُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَلِهَذَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَجِيرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ حَتَّى إذَا سَلَّمَ النَّفْسَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ صَاحِبُهُ وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ آخَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ خَالَفَ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ فَكَانَ ضَامِنًا كَمَا إذَا دَقَّ الثَّوْبَ وَتَخَرَّقَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْحِفْظُ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ فَيَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ حِفْظًا سَلِيمًا فَإِذَا سُرِقَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْحِفْظِ السَّلِيمِ فَكَانَ مُخَالِفًا مُوجِبَ الْعَقْدِ كَمَا قُلْنَا فِي الدَّقِّ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وُفِّيَ سَلِيمًا عَنْ عَيْبِ التَّخَرُّقَ فَإِذَا تَخَرَّقَ كَانَ ضَامِنًا وَهَذَا فِي الْأَجِيرِ بِالْحِفْظِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَصَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْعَمَلِ إلَّا بِالْحِفْظِ، وَالْعَمَلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ السَّلِيمُ دُونَ الْمَعِيبِ وَالْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَةِ الْحِفْظِ هُنَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ كَأَوْصَافِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا كَمَا فِي السِّرَايَةِ فِي حَقِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ عَفْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِمَنْفَعَتِهِ وَهُوَ إقَامَةُ الْعَمَلِ لَهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُودِعِ وَأَجِيرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ عَقْدٍ، أَوْ ضَمَانَ جُبْرَانٍ وَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى الْعَيْنِ فَلَا تَصِيرُ الْعَيْنُ بِهِ مَضْمُونَةً وَالْجُبْرَانُ لِلْفَوَاتِ وَهُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ شَيْئًا حِينَ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرَكُ وَهُمَا يَقُولَانِ يُسْتَحْسَنُ فَنُضَمِّنُ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ الْخَاصِّ فَالْعَيْنُ هُنَاكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْخَاصِّ يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ وَلِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذَا نَظَرٌ فِيهِ ضَرَرٌ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَنَظَرُ الشَّرْعِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 لِلْكُلِّ فَمِنْ النَّظَرِ لِلْأَجِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَمَّا تَسَاوَى الْجَانِبَانِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَمَا قَالَ: إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ التَّلَفُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْحِفْظِ كَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَلُّدُ التَّلَفِ مِنْ الْحِفْظِ إلَّا أَنْ يَضِيعَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ ضَامِنٌ لَا أَجْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْحَادِثُ فِي الثَّوْبِ بِعَمَلِهِ وَقَدْ فَاتَ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ بِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَاحِدِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ تَمَّ التَّسْلِيمُ فِيهِ فَبِهَلَاكِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ لَا يَبْطُلُ الْأَجْرُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا رَبُّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ قُصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَقْصُورٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْلَمًا مِنْ وَجْهٍ بِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ حَتَّى تَغَيَّرَ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَيَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا فَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَقْصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِالتَّغَيُّرِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ فِيهِ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إذَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ بِأَنَّ دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ: هُوَ ضَامِنُ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَمَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُعَيَّنِ فِي الدَّقِّ وَأَجِيرِ الْوَاحِدِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَدُقَّ الثَّوْبَ، وَالدَّقُّ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ وَهُوَ إرْسَالُ الْمِدَقَّةِ عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَقَدْ أَتَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ، ثُمَّ التَّخَرُّقَ إنَّمَا كَانَ لَوْ هَاءَ فِي الثَّوْبِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَامِلِ التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ نَظِيرُ الْبَزَّاغِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَرْءِ لَا يُبْعَدُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ وَالرَّمْيَ إلَى الْهَدَفِ؛ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَقُيِّدَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَجِيرَ الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ، وَعِنْدُكُمْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ مَأْذُونًا فِيهِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: مَنْ بَاشَرَهُ لَا يَضْمَنُ وَغَيْرُهُ يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَكُونُ مَأْذُونًا كَمَا لَوْ دَقَّ الثَّوْبَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَالْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالْعَقْدُ عَقْدُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِصِفَتِهِ وَالْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَلِيمٌ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ السَّلِيمُ الْمُزَيِّنُ لِلثَّوْبِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعِيبَ الْمُخَرَّقَ لِلثَّوْبِ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ أَجِيرَ الْوَاحِدِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: هُنَاكَ الْبَدَلُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ السَّلِيمِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ دُونَ الْعَمَلِ وَصِفَةُ السَّلَامَةِ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْعَمَلُ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُقَامُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الْعَمَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْأَجِيرِ لِتَضِيقَ مُدَّةُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ كَمَا يُقَامُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ إذَا وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْوَطْءُ كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ أَجِيرِ الْوَاحِدِ مَنَافِعُهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُهُ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَمَنَافِعُهُ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ سَلِيمًا، أَوْ مَعِيبًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ؛ فَإِنَّهُ، وَإِنْ وَجَدَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبًا لَا يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِذْنَ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَمَلِ مَعِيبًا كَانَ، أَوْ سَلِيمًا وَهُنَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَقْدُ السَّلَمِ إذَا تَنَاوَلَ الْجَيِّدَ لَا يَكُونُ الرَّدِيءُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ بِالرِّضَاءِ بِهِ، فَهُنَا مَا دَامَ الْعَمَلُ السَّلِيمُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ الْمَعِيبُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّهُ وَاهِبٌ لِلْعَمَلِ وَالْهِبَةُ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ فَبِالتَّخَرُّقِ لَا يَخْرُجُ الْعَمَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِيهِ، وَبِخِلَافِ الْبَزَّاغِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ فَهُنَاكَ الْعَمَلُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ لَا بِصِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ سَارٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ فَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ دُونَ مَا لَا يَقْدِرُ، فَأَمَّا التَّحَرُّزُ عَنْ التَّخَرُّقِ فَفِي وُسْعِ الْقَصَّارِ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْتِزَامِهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّخَرُّقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ فِي طَيِّ الثَّوْبِ، أَوْ لِرِقَّةٍ فِي الثَّوْبِ، أَوْ لِحِدَّةٍ فِي الْمِدَقَّةِ وَكُلُّ هَذَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، فَأَمَّا السِّرَايَةُ فَلِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِنَايَةِ، وَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ بِحَالٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّلَفَ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ بِمُدَّةٍ وَالْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ مَضْمُونٌ فَمَا يُقَابِلُ الْمَضْمُونَ يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا أَنَّهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا حَصَلَ التَّلَفُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ ضَمَانِ الْعَاقِدِ، وَهُنَا التَّخَرُّقُ يَحْصُلُ فِي حَالِ الْعَمَلِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَفِي حَالِ الْعَمَلِ التَّسْلِيمُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ وَهُوَ عَمَلٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 بَدَلٌ مَضْمُونٌ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْمَضْمُونِ يَكُونُ مَضْمُونًا، فَأَمَّا أَجِيرُ الْقَصَّارِ فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ وَالْبَدَلُ فِي حَقِّهِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا، ثُمَّ عَمَلُهُ لِلْأُسْتَاذِ كَعَمَلِ الْأُسْتَاذِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ قَامَ بِالثَّوْبِ بِنَفْسِهِ فَخَرَّقَ الثَّوْبُ كَانَ ضَامِنًا، فَكَذَلِكَ إذَا عَمَلَ لَهُ أَجِيرُهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: لِصَاحِبِ الثَّوْبِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَقْصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَقْصُورٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ (قَالَ) بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا قَبْضُهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ غَيْرَ مَقْصُورٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ قَبَلَ قَبْضِ الْقَصَّارِ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا قُلْنَا فَإِنَّا لَا نَقُولُ نُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ بِالْقَبْضِ وَلَكِنَّهُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ بِالْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ مَعْمُولًا، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مَعْمُولٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَصِيرُ مُسَلَّمًا مِنْ وَجْهٍ بِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَ الرِّضَاءِ بِهِ كَالرَّدِيءِ فِي بَابِ السَّلَمِ مَكَانَ الْجَيِّدِ يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَ التَّجَوُّزِ بِهِ فَإِذَا وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي الْعَمَلِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا فَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَيَخْرُجُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ الثَّوْبُ، وَأَرَادَ صَاحِبُهُ أَخْذَهُ كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَمْنَعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ أَجِيرً يَكُونُ أَثَرُ عَمَلِهِ قَائِمًا فِي الْمَعْمُولِ كَالنَّسَّاجِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْفَتَّالِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الَّذِي أَحْدَثَهُ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ بِبَدَلِهِ وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْمَعْمُولِ كَالْحَمَّالِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ فَإِنْ (قِيلَ) فِي الْقَصَّارِ: عَمَلُهُ فِي إزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ لَا فِي إحْدَاثِ الْبَيَاضِ فِي الثَّوْبِ فَالْبَيَاضُ لِلْقُطْنِ صِفَةٌ أَصِيلَةٌ (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنْ لَمَّا غَلَبَ الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ حَتَّى اسْتَتَرَ بِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَحِينَ أَظْهَرَهُ الْقَصَّارُ بِعَمَلِهِ جُعِلَ ظُهُورُهُ مُضَافًا إلَى عَمَلِهِ فَيَكُونُ أَثَرُ عَمَلِهِ قَائِمًا فِي الْمَعْمُولِ فَإِنْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ بِحَقٍّ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِيمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي الْهَلَاكُ بَعْدَ الْمَنْعِ وَقَبْلَهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، فَإِذَا حَبَسَهُ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ الْأَجْرَ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً فَمَا لَيْسَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فَيَمْتَنِعَ مِنْ إقَامَةِ بَعْضِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِرَبِّ الثَّوْبِ وَكَمَا أَنَّ إقَامَةَ الْعَمَلِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْقَصَّارِ فَإِمْسَاكُ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ مُسْتَحَقٌّ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ. ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ شَيْئًا عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَهُ وَصَاحِبُهُ يَمْشِي مَعَهُ، أَوْ لَيْسَ مَعَهُ فَانْكَسَرَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، أَوْ عَثَرَ فَانْكَسَرَتْ الدَّابَّةُ فَانْكَسَرَ الْمَتَاعُ (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْحَمَّالَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَّارِ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ بِأَنْ تَعَثَّرَ فَانْكَسَرَ الْمَتَاعُ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِجِنَايَةِ يَدِهِ، ثُمَّ عِنْدَنَا لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مُسَلَّمًا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَمْشِي مَعَهُ فَلَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَمْشِي مَعَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِهَذَا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصَّفْقَةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ إلَّا بِجُمْلَتِهِ فَإِنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِوُصُولِ الْمَتَاعِ إلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ فَإِذَا انْكَسَرَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ لِلْفَوَاتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهَذَا التَّفَرُّقِ وَقَرَّرَ الْعَقْدَ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْعَمَلِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى ذَلِكَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ وَلَوْ هَلَكَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ لَهُ نِصْفُ الْأَجْرِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ الْعَمَلَ مِنْ الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا صَارَ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَكَانَ هُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَأَجِيرِ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ فَالتَّسْلِيمُ هُنَاكَ لَا يَتِمُّ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ لِاسْتِيفَاءِ الْأَجْرِ وَهَذَا الْفَصْلُ يُوهِنُ طَرِيقَةَ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلتَّغَيُّرِ إلَى الْبَدَلِ وَقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ حَتَّى أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ وَهُوَ الضَّمَانُ لَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ لَا يُعْطَى شَيْئًا مِنْ كِرَائِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 كَأَنْ يَقُولُ فِي جَمِيعِ مَنْ يُحَمِّلُ الْحُمُولَةَ عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ سَفِينَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُلُّ مَا صَارَ مَسِيرًا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجْرُ دَرَاهِمَ، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ عَبْدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِهِ عِنْدَنَا عَيْنًا كَانَ، أَوْ دَيْنًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا التَّعْجِيلُ، أَوْ شَرْطُ التَّعْجِيلِ، أَوْ اسْتِيفَاءُ مَا يُقَابِلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّارِ، أَوْ الدَّابَّةِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْبَدَلِ بِنَفْسِهِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَمَنْفَعَةُ الْعَيْنِ فَكَمَا يُمْلَكُ الْبَدَلُ فِي الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْعَيْنِ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ صِحَّةُ الِاسْتِئْجَارِ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَمَا لَيْسَ بِعَيْنٍ فَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ فِي الشَّرْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً فَقَدْ جُعِلَتْ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يُلْتَزَمُ وَلِلشَّرْعِ وِلَايَةٌ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْدُومَ حَقِيقَةً مَوْجُودًا حُكْمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ وَلَا حَيَاةَ فِيهَا كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ وَالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَمَا جُعِلَ الْحَيُّ حَقِيقَةً كَالْمَيِّتِ حُكْمًا وَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِذَا صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا الْتَحَقَتْ بِالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ وَكَمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ حُكْمًا يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَانْهَدَمَتْ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي رَدِّ الْأُخْرَى لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى سُكْنَى دَارٍ سَنَةً فَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتْلَفُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهَا كَالْمَوْجُودَةِ الْمُسَلَّمَةِ بِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةِ الْوُجُودِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ وَهُوَ كَمَا لَوْ جَعَلْنَا النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ كَالْحَيِّ لِكَوْنِهَا مُعَدَّةً لِذَلِكَ فَإِنْ زَالَ ذَلِكَ بِالِانْفِصَالِ مَيِّتًا بَطَلَ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ تَأَخُّرُ الْمِلْكِ فِي الْأَجْرِ أَوْ لَمْ تُجْعَلْ الْمَنْفَعَةُ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا؛ لَمَا وَجَبَ الْأَجْرُ بِالشَّرْطِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تُقَامَ عَيْنُ الدَّارِ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 حَقِّ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْبَدَلِ كَعَقْدِ السَّلَمِ فَإِنَّ الذِّمَّةَ لَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُنَاكَ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ مَلَكَ الْبَدَلَ بِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي تَقَابُلَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّسْلِيمِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، ثُمَّ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْمِلْكُ مِنْ صِفَاتِ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمَعْدُومُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ سِوَى أَنَّهُ مَعْدُومٌ وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْدُومِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَلَوْ مَلَكَ الْبَدَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ، ثُمَّ عِنْدَ الْحُدُوثِ تُمْلَكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ مِنْ قَبْلُ وَمِلْكُهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَدَّرُ الشَّيْءُ حُكْمًا إذَا كَانَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً كَمَا فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ فَإِنَّ الْحَيَّ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمَوْتُ وَالْمَيِّتَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَيَاةُ وَلَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ جُمْلَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ حُكْمًا، فَأَمَّا جَوَازُ الْعَقْدِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا وَكَيْف يُقَالُ هَذَا وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً لَا يَقْبَلُ الْعَقْدَ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَقْتَيْنِ وَالتَّسْلِيمَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ يَكُونُ عَقِيبَهُ وَالْجُزْءَ الْمَوْجُودَ حَقِيقَةً لَا بَقَاءَ لَهُ لِيُسَلَّمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّسْلِيمُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَالْمَوْجُودَةِ حَقِيقَةً لَمْ تَقْبَلْ الْعَقْدَ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَهُ الْخَصْمُ بَلْ بِأَحَدِ الطَّرِيقِينَ إمَّا بِإِقَامَةِ عَيْنِ الدَّارِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ، ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ حَقُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ وَهُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَا إنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَحُكْمُ الِانْعِقَادِ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ فِي حُكْمِ الْمَحَلِّ كَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَالْعِتْقِ الْمُضَافِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوُجُودِ فِيهِ شَرْعًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ تَيْسِيرًا وَلَكِنْ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهَا تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَةً صَحَّ النِّكَاحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَرَضِيَّةَ الْوُجُودِ فِيمَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ يُقَامُ مَقَامَ الْوُجُودِ وَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا إقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ تَكُونُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي مِلْكِ الْبَدَلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمُ السَّبَبِ وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ السَّبَبِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ لَا يَخْلُوَ السَّبَبُ عَنْ الْحُكْمِ، فَأَمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 بِهِ فَلَا وَفِي حُكْمِ مِلْكِ الْبَدَلِ لَا ضَرُورَةَ فَاعْتَبَرْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فِيمَا يُقَابِلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَبْلَ تَسْلِيمِ الدَّارِ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ وَلَوْ جُعِلَتْ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ لَكَانَ أَوَّلُ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا يَقُولُ: إنَّ الْمَنْفَعَةَ دَيْنٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَنْفَعَةَ فِي الذِّمَّةِ فَكَيْف نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَمَا يَكُونُ دَيْنًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ بِوُجُودِ مَحَلِّهِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ مَمْلُوكًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَجَعَلْنَا بَدَلَهُ مَمْلُوكًا حَتَّى وَجَبَ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَالْمِلْكُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَوْجُودِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ فَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَنَقُولُ امْتِنَاعُ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ شَرْطُ الْأَجَلِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ هُنَا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ بَلْ بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْمَعْنَى بِالشَّرْطِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَلِلْقَبْضِ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُمْلَكْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِمُدَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ كَمَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْمِلْكِ لَا ضَرُورَةَ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ التَّسْلِيمُ عَنْ الْعَقْدِ فَلَا يُجْعَلُ مُسَلِّمًا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ فِي نَقْلِ الضَّمَانِ وَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ وَجَوَازُ تَصَرُّفِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْآخَرِ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً فَتُقَامُ الدَّارُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةُ تَسْمِيَةِ الْمَنْفَعَةِ صَدَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةُ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمُسَمَّى بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَيَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَّا أَنْ يُحَصِّلَ الزَّوْجُ مِلْكُ الْعَقْدُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ تَسْلِيمِ الدَّارِ فِي سُقُوطِ حَقِّهَا فِي الْحَبْسِ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمَّا جَعَلَتْ الصَّدَاقَ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ مَعَ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا جُمْلَةً فَقَدْ صَارَتْ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا فِي الْحَبْسِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهَا لَتُحْدِثُ الْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 بِمَهْرٍ مُنَجَّمٍ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكِرَاءِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَوُجُوبُ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا لَا يَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْأَجْرِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلَّمَا سَارَ مَسِيرًا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَسَبِهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا وَإِنَّمَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ عِنْدَ تَسْلِيمِ مَا يُقَابِلُهُ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ كُلَّمَا سَارَ شَيْئًا وَلَوْ خَطْوَةً يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعْرَفُ فَلَوْ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لَمْ نَتَفَرَّغْ إلَى شُغْلٍ آخَرَ بَلْ يُسَلِّمُ الْأَجْرَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْفِي مِنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: كُلَّمَا سَارَ مَرْحَلَةً أَوْفَى حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا سَارَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ طَالَبَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْ يَكْتَرِي الْمَرْءُ فِيهِ دَابَّةً، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْرَى وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّل مَا لَمْ تَنْتَهِ الْمُدَّةُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ إذَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ يَجِبُ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ فَالْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، وَإِنْ عَجَّلَ الْأَجْرَ كُلَّهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْفَضْلِ وَأَوْفَى قَبْلَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ فَهُوَ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا عَجَّلَ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْأَجْرَ حَتَّى يَرْجِعَ، أَوْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَهَذَا شَرْطٌ يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هَذَا اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي الْأَجْرِ وَالْأَجْرُ قِيَاسُ الثَّمَنِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيع الْأَجْرِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَصِحُّ حَتَّى يَقْبَلَ الْآخَرُ فَإِنْ قَبِلَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمَبِيعِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وَهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ مَا لَمْ يَقْبَلْ فَإِذَا قَبِلَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالْعَقْدِ مُؤَجَّلًا وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ، أَوْ دَيْنًا وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يَصِحُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 بَنَوْا مَسْأَلَةَ الْمُصَارَفَةِ عَلَى هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصًّا وَفِي الْجَامِعِ بَنَى الْمَسَائِلَ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ، أَوْ دَيْنًا وَلَكِنَّ وَجْهَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ تَأَخَّرَ لِتَأَخُّرِ مَا يُقَابِلُهُ وَالْإِبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ، كَالْإِبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ مَشْرُوطًا فِي الْخُلْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَتَحَقَّقُ وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَا يَصِحُّ وَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ الْمَنْفَعَةَ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا يُخَالِفُ قَضِيَّةَ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِعَارَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ فَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَقَدَ فِي الِابْتِدَاءِ بِمَا بَقِيَ وَلَوْ بَاعَهُ بِالْأَجْرِ مَتَاعًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ بَقِيَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا، ثُمَّ لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ بِالْأَجْرِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُمَا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأَجْرِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِمَا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا كَمَا إذَا قَالَ: اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُجْعَلُ التَّمْلِيكُ مُضْمَرًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا فَيَصِيرُ الْأَجْرُ بِالثَّمَنِ قِصَاصًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّهِ الْعَمَلَ لِعُذْرٍ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ دُونَ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَعْدَمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَجْرِ بِالْمُقَاصَّةِ وَجَبَ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً أَوْ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ ظَهَرَ أَنَّ الْأَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقَعُ بِهِ وَلَكِنَّ أَصْلَ الشِّرَاءِ بَقِيَ صَحِيحًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمْنِ. وَإِنْ بَاعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الصَّرْفُ بَاطِلٌ فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ إيفَاءِ الْعَمَلِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا لَمَّا أَضَافَا عَقْدَ الصَّرْفِ إلَى الْأُجْرَةِ فَقَدْ قَصَدَا الْمُقَاصَّةَ بِهَا وَلَا وَجْهَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا إلَّا بِتَقْدِيمِ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ فَيُقَدَّمُ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا، ثُمَّ الْمُضْمَرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ وَلَوْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، ثُمَّ صَارَفَ بِهِ دِينَارًا وَقَبَضَهُ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِالِافْتِرَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ضِمْنًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ الشِّرَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ صَارَفَ بِهِ مَعَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ دِينَارًا قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ جَازَ ذَلِكَ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ دَيْنُهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَا لَمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 يُؤَدِّ مِثْلَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ وُجُوبَ الْعَشَرَةِ مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَمَا يَجِبُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ إذَا لَمْ يُقْبَضْ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُطْلَقًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ وَلَا سَبَبَ لِلْوُجُوبِ بَعْدَهُ سِوَى الصَّرْفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَاَلَّذِي قَالَ: مِنْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ اشْتِرَاطُ التَّعْجِيلِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ لِلْمُقَاصَّةِ بِهِ لَا لِصِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ فَعَقْدُ الصَّرْفِ صَحِيحٌ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ وَأَوَانُ الْمُقَاصَّةِ بَعْدَ عَقْدِ الصَّرْفِ فَهَبْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ يَثْبُتُ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ الصَّرْفِ، أَوْ مَعَهُ وَبَدَلُ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا بِدَيْنٍ يَجِبُ بَعْدَهُ فَإِنْ (قِيلَ:) يُجْعَلُ شَرْطُ التَّعْجِيلِ مُقَدَّمًا عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِ (قُلْنَا): إنَّمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْعَقْدِ، وَوُجُوبُ الْأَجْرِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ عَقْدِ الصَّرْفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَقَدَ الْعَشَرَةَ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، ثُمَّ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاحْتِيَالِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَشَرَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الدَّرَاهِمِ وَلَوْ صَرَفْنَا الْجِنْسَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لَمْ يَبْطُلْ وَلَكِنْ قِيلَ: يَحْتَالُ لِلتَّصْحِيحِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا يَحْتَالُ لِلْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ بَقَرَةً بِعَيْنِهَا فَصَارَفَ بِهَا دِينَارًا وَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْبَقَرَةِ لَمْ يَصِحَّ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْجِيلِ مُعْتَبَرًا فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا لَاسْتَوَى فِيهِ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكَفِيلِ فَبِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى أَدَائِهِ، وَالْمُصَارَفَةُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَاهُنَا أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَيَبْطُلُ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ مَا لَمْ يُوَفِّهِ مِنْ الْعَمَلِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَجْرِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَبِقَدْرِ مَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الصَّرْفُ بَاطِلٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ دِينَارٍ، وَإِنْ شَرَطَ فِي الْأَجَلِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَاعْتِبَارُ الْأَجَلِ مِنْ حِينِ يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مَكَانَ الْإِيفَاءِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَجْرَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قُلْنَا): فِي الثَّمَنِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَجَّلًا فَالْإِيفَاءُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِإِيفَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ كَمَا فِي السَّلَمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ الْآنَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مَكَان يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا بِبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إمْكَانَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ بِعَارِضِ شَرْطِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَجَلِ مُعْتَبَرٌ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ لَا فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَ مَكَانُ الْعَقْدِ مُتَعَيِّنًا لِلتَّسْلِيمِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَأَمَّا السَّلَمُ فَلَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْأَجَلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ وَالْإِجَارَةُ نَظِيرُ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْأَجْرِ عَلَيْهِ عَقِيبَهُ بِحَالٍ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِإِيفَائِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ بِدُونِ بَيَانِ الْمَكَانِ تَتَمَكَّنُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ هُنَا كَمَا فِي السَّلَمِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ فِيهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَهُنَا فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ تَعَيَّنَ مَوْضِعُ الْأَرْضِ وَالدَّارِ لِلْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ هُنَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ عِنْدَ الدَّارِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِي الْحُمُولَةِ حَيْثُمَا وَجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي الْعَمَلِ بِيَدِهِ حَيْثُ يُوَفِّيهِ الْعَمَلَ فَإِنْ طَالَبَهُ بِهِ وَفِي بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُكَلَّفْ حَمْلَهُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يَسْتَوْثِقُ لَهُ مِنْهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُ بِإِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحَمْلُ إلَى مَكَان آخَرَ وَلَكِنْ يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ؛ مُرَاعَاةً لِجَانِبِ الطَّالِبِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَيُطَالِبُهُ بِالْإِيفَاءِ حَيْثُمَا لَقِيَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ السِّمْسَارِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرْزَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: «كُنَّا نَبْتَاعُ الْأَوْسَاقَ بِالْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ اسْمِنَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 بِالصَّدَقَةِ» وَالسِّمْسَارُ اسْمٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لِلْغَيْرِ بِالْأَجْرِ بَيْعًا وَشِرَاءً وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بَيَانُ جَوَازِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا بَيَّنَ فِي الْبَابِ طَرِيقَ الْجَوَازِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُمْ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا كَانُوا يُسَمُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِكَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ مَعَ النَّاسِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُ التُّجَّارِ أَحْسَنَ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ فِي الْعِبَادَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّاجِرَ يُنْدَبُ لَهُ إلَى أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الصَّدَقَةِ؛ لِمَا أَشَارَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فِي قَوْلِهِ إنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يُبَالِغُ فِي وَصْفِ سِلْعَتِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِمَا هُوَ لَغْوٌ وَقَدْ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ فَيُنْدَبُ إلَى الصَّدَقَةِ لِيَمْحُوَ أَثَرَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى سِمْسَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ اشْتَرِ بِهَا زُطِّيًّا لِي بِأَجْرِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَجْهُولٍ فَالشِّرَاءُ قَدْ يَتِمُّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ لَا يَتِمُّ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْبَائِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى لَهُ عَدَدَ الثِّيَابِ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِبَيْعِ طَعَامٍ، أَوْ شِرَاءِ طَعَامٍ وَجَعَلَ أَجْرَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النُّقُودِ، أَوْ غَيْرِهَا فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لَهُ عَلَى كُلِّ ثَوْبٍ يَشْتَرِيهِ دِرْهَمًا، أَوْ عَلَى كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ يَبِيعُهُ دِرْهَمًا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَبِيعَ لَهُ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهُ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ هُنَا وَهُوَ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَالْأَجِيرَ قَادِرٌ عَلَى إيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعٌ، أَوْ شِرَاءٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَتَّى لَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَاسِدًا إذَا اشْتَرَى وَبَاعَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ شَاءَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ أَجْرًا فَيَكُونُ وَكِيلًا مُعَيَّنًا لَهُ، ثُمَّ يُعَوِّضُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الْأَجْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِي هِبَةِ الْأَعْيَانِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَنْ الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ فِي هِبَةِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ. وَإِنْ قَالَ بِعْ الْمَتَاعَ وَلَكَ الدِّرْهَمُ، أَوْ اشْتَرِ لِي هَذَا الْمَتَاعَ وَلَكَ الدِّرْهَمُ فَفَعَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ الَّذِي سَمَّاهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَجَوَابِ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَلَوْ قَالَ: إنْ بِعْت هَذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 الْمَتَاعَ لِي فَلَكَ دِرْهَمٌ كَانَ اسْتِئْجَارًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْهُ وَلَكَ دِرْهَمٌ، ثُمَّ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْأَجْرِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ الْإِجَارَاتِ بِالْأُجْرَةِ فِي عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ قَدْ وُجِدَ وَالْكَفَالَةُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ صَحِيحَةٌ كَالْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّوَثُّقُ وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوَثُّقِ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ يَعْرِضُ لِلْوُجُوبِ، ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ صَحِيحَةٌ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَدُورُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَالرَّهْنُ بِالْأَجْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ فَالرَّهْنُ بِهِ كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ بِهِ ثَبَتَ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ نَحْوُ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ خِلَافَهُ فِي تَعْجِيلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلضَّمِّ فَتَنْضَمُّ بِهِ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ بِصَفْقَتِهِ، ثُمَّ الْكَفِيلُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ؛ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِمَضْمُونٍ يُطَالِبُ بِهِ الْأَصِيلُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْأَجْرِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَلَكِنَّهُ إنْ أَلْزَمَهُ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يَفُكَّهُ وَيُؤَدِّيَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْجَبَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَخَّرٌ إلَى وَقْتِ أَدَائِهِ فَإِنَّهُ بِالْكَفَالَةِ أَقْرَضَ ذِمَّتَهُ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَجِبُ لَهُ مِثْلُ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَبِالْأَدَاءِ يَصِيرُ مُقْرِضًا مَالَهُ مِنْهُ حِينَ أَسْقَطَ دَيْنَ الطَّالِبِ عَنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعَامِلُ الْأَصِيلَ بِحَسَبِ مَا يُعَامِلُ إنْ طُولِبَ طَالَبَ، وَإِنْ لُوزِمَ لَازَمَ، وَإِنْ حُبِسَ حَبَسَ، وَإِنْ أَدَّى رَجَعَ، وَإِنْ عَجَّلَ الْكَفِيلُ الْأَجْرَ مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُتَبَرِّعٌ لِلْأَدَاءِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتَبَرُّعُهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْأَصِيلِ فِي الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ وَكَمَا أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، فَإِنْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِفَضْلٍ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُ مَنْ عِنْده وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ الْأَصِيلِ، وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْأَجِيرِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا أَثْبَتَهُ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْكَفِيلَ، أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 الْأَصِيلَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْكَفِيلُ تَسْلِيمًا مُسْتَحَقًّا عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَالْكَفَالَةُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنْ اسْتَكْمَلَ السُّكْنَى وَهَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ صَاحِبِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الثَّوْبِ وَقَدْ بَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ بِالْهَلَاكِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فَهُنَاكَ الْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ بِالْهَلَاكِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ وَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ بَرِئَ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَلَكِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْكَفِيلُ مَا الْتَزَمَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الدَّارِ شَيْئًا؛ فَلِهَذَا بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ بِخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْخِدْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ فَخِدْمَةُ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُ إيفَاؤُهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْعَقْدِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِهِ فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ وَأَقَرَّ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ حَقَّهُ قَبْلَ خِدْمَةِ الشَّهْرِ الْمَاضِي بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ تَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ وَفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَبَرِئَ الْكَفِيلُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الدَّارِ بَقِيَتْ مُسْتَوْفَاةً وَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِفَوَاتِ مَا يُقَابِلُهَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَيَجِبُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى وَرَدُّ الْمَنْفَعَةِ بِرَدِّ أَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَحْمَلًا أَوْ زَامِلَةً إلَى مَكَّةَ، وَكَفَلَ بِهَا رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَتَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحُمُولَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَالْكَفِيلُ يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ كَمَا يَقْدِرُ الْأَصِيلُ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالْحُمُولَةِ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُؤَاجِرُ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ إبِلًا بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعًا مُسَمًّى إلَى بَلَدٍ مَعْلُومٍ وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ جَازَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا بِعِيَانِهَا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّ غَيْرَ مَا عُيِّنَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَيَّنِ فِي الْإِيفَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَفَلَ بِمَالٍ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ الْأَصِيلُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا، أَوْ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا، أَوْ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ عَاجِزٌ عَنْ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِ الْأَصِيلِ لِيُوَفِّيَ مَا الْتَزَمَ مِنْهُ وَكُلُّ شَيْءٍ أَبْطَلْنَا فِيهِ الْكَفَالَةَ مِنْ هَذَا فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ نَافِذَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادُ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِي الْإِجَارَةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ عَجَّلَ لَهُ الْأَجْرَ وَكَفَلَ لَهُ الْكَفِيلُ فَالْأَجْرُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةُ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ مُضَافٍ إلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ. وَإِنْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ لَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْخِيَاطَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى الْخَيَّاطِ الْعَمَلُ فِي ذِمَّتِهِ إنْ شَاءَ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ بِنَائِبِهِ فَتَمَكَّنَ الْكَفِيلُ مِنْ إيفَاءِ هَذَا الْعَمَلِ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ خَاطَهُ الْكَفِيلُ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِأَجْرِ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَنْهُ مَا الْتَزَمَ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَبِمِثْلِ الْخِيَاطَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ اشْتَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَهُ بِيَدِهِ فَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ مُعْتَبَرٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي عَمَلِ الْخَيَّاطِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ عَاجِزٌ عَنْ إيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْكَفَالَةِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى يَدِ الْأَصِيلِ لِيُوَفِّيَ مَا الْتَزَمَهُ بِيَدِهِ؛ فَلِهَذَا يَطْلُبُ الْكَفَالَةَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إجَارَةِ الظِّئْرِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِئْجَارُ لِلظَّئُورَةِ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَالْمُرَادُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] يَعْنِي بِأَجْرٍ وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ اُسْتُؤْجِرَ لِإِرْضَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلِيمَةُ وَبِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يَتَرَبَّوْنَ إلَّا بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ وَالْأُمُّ قَدْ تَعْجِزُ عَنْ الْإِرْضَاعِ لِمَرَضٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ تَأْبَى الْإِرْضَاعَ فَلَا طَرِيقَ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ سِوَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ جُوِّزَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَأَمَّا اللَّبَنُ فَتَبَعٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 فَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابٍ أَنَّهَا، لَوْ رَبَّتْ الصَّغِيرَ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ، لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَقَدْ قَامَتْ بِمَصَالِحِهِ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ تَبَعًا وَلَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ بِمُقَابَلَتِهِ لَاسْتَوْجَبَتْ الْأَجْرَ، ثُمَّ بَدَأَ الْبَابُ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُرْضِعْ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُفْسِدُ» وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ اللَّبَنَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فَتُؤَثِّرُ فِيهِ حَمَاقَتُهَا وَيَظْهَرُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ الرَّضِيعِ لِمَا لِلْغِذَاءِ مِنْ الْأَثَرِ، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْضِعْ لَكُمْ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ». وَإِذَا اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ سَنَتَيْنِ حَتَّى تَفْطِمَهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا بِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَطَعَامُهَا وَكِسْوَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا شَرَطَتْ عَلَيْهِمْ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهَا فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ حَالُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَتُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهَا إنْ شَاءَتْ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ الْتَزَمَتْ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ وَمَا الْتَزَمَتْ الْمَقَامَ فِي بَيْتِهِمْ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَتْ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا فَإِنْ اشْتَرَطَتْ كِسْوَتَهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ زُطِّيَّةٍ وَاشْتَرَطَتْ عِنْدَ الْفِطَامِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً، وَقَطِيفَةً، وَمِسْحًا، وَفِرَاشًا فَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِمْ طَعَامًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَاف وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ إجَارَةٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِعْلَامِ الْأُجْرَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَالطَّعَامُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ، وَالْكِسْوَةُ كَذَلِكَ هُنَا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا قِيَاسٌ يَشُدُّهُ الْأَثَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» فَإِنْ أَقَامَتْ الْعَمَلَ فَلَهَا أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا وَفَّتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، إلَّا أَنْ يُسَمُّوا لَهَا ثِيَابًا مَعْلُومَةَ الْجِنْسِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالرُّقْعَةِ وَيَضْرِبُوا لِذَلِكَ أَجَلًا وَيُسَمُّوا لَهَا كُلَّ يَوْمٍ كَيْلًا مِنْ الدَّقِيقِ مَعْلُومًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَالْبُيُوعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] يَعْنِي أَجْرًا عَلَى الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، وَذَلِكَ أَجْرُ الرَّضَاعِ لَا نَفَقَةُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا بِهَذَا الْعَقْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 فِي عَيْنِهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ وَفِي النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ حَرَجٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعِدُّونَ الظِّئْرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ تَقْدِيرِ طَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا كَمَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ تَقْدِيرِ طَعَامِ الزَّوْجَاتِ وَكِسْوَتِهِنَّ، ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يُجَوَّزْ هَذَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ لِتَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّانِي، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الظِّئْرَ كِفَايَتَهَا مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِمْ وَرُبَّمَا يُكَلِّفُونَهَا أَنْ تَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَكْثُرَ لَبَنُهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُونَهَا كِفَايَتَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ لِكَوْنِ وَلَدِهِمْ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ يُتَوَسَّعُ فِيهِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ حَقِيقَةً يُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الْإِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهِ وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ كَانَ لَهَا الْوَسَطُ مِنْ الْمَتَاعِ وَالثِّيَابِ الْمُسَمَّاةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إذَا سَمَّى لَهَا عَبْدًا، أَوْ ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْوَسَطِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَطُوا عَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَ الصَّبِيَّ فِي مَنْزِلِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ إذَا اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَةَ الْعَمَلِ فِي بَيْتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهَا تَتَعَاهَدُ الصَّبِيَّ فِي بَيْتِهِمْ مَا لَا تَتَعَاهَدُهُ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، وَرُبَّمَا لَا يَتَحَمَّلُ قَلْبُهُمَا غَيْبَةَ الْوَلَدِ عَنْهُمَا وَالشَّرْطُ الْمُفِيدُ فِي الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَأَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظِّئْرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُبْطِلَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِمَّا يَشِينُهُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ ظِئْرًا فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ أَبَوَيْهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ صَبِيِّ الْغَيْرِ مَنْزِلَهُ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْإِرْضَاعِ وَالسَّهَرِ بِاللَّيْلِ تُتْعِبُ نَفْسَهَا، وَذَلِكَ يُنْقِصُ مِنْ جَمَالِهَا، وَجَمَالُهَا حَقُّ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي حَقِّهِ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ، وَهَذَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا مَعْرُوفًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَّا بِقَوْلِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهَا، وَقَوْلَهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا وَلِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُرَاضَعَةِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَنْكُوحَةِ إذَا كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ فَإِنْ هَلَكَ الصَّبِيُّ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَهَا أَجْرُ مَا مَضَى وَلَهَا مِمَّا اشْتَرَطَتْ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْفِطَامِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَوْفَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهَا فِيمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ الْبَدَلِ، ثُمَّ يَتَحَقَّقُ فَوَاتُ الْمَقْصُودِ فِيمَا بَقِيَ فَلَا يَجِبُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْبَدَلِ وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا، أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ، أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ، أَوْ مِنْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ تَضْمَنْ الظِّئْرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُشْغِلَ نَفْسَهَا فِي الْمُدَّةِ عَنْ رَضَاعِ الصَّبِيِّ، وَلَا تُؤَاجِرُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنْ عَمَلِ أَبَوَيْ الصَّبِيِّ شَيْءٌ إنْ كَلَّفُوهَا عَجْنًا، أَوْ طَبْخًا، أَوْ خَبْزًا؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ بِالْعَقْدِ الظُّئُورَةَ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا تَتَّصِلُ بِالظُّئُورَةِ فَلَا يَلْزَمُهَا إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِهِ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّبِيِّ وَغَسْلُ ثِيَابِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ مِمَّا يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ مِنْ الدُّهْنِ وَالرَّيْحَانِ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الظُّئُورَةِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَلَيْسَ عَلَى الظِّئْرِ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ تَرْبِيَتَهُ بِلَبَنِهَا دُونَ الطَّعَامِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى أَهْلِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تُهَيِّئَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْ عَمِلَ الظُّئُورَةَ فَقَدْ جَعَلَ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوَابِعِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِي الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ حَتَّى قِيلَ: فِي اسْتِئْجَارِ اللَّبَّانِ: إنَّ الزِّنْبِيلَ وَالْمَلْبَنَ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ بِنَاءً عَلَى عُرْفِهِمْ، وَالسِّلْكَ وَالْإِبْرَةَ عَلَى الْخَيَّاطِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالدَّقِيقَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ دُونَ الْحَائِكِ فَإِنْ كَانَ عُرْفُ أَهْلِ الْبَلْدَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ، وَحَثْيَ التُّرَابِ عَلَى الْحَفَّارِ فِي الْقَبْرِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ، وَإِخْرَاجَ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ عَلَى الْخَبَّازِ وَغَرْفَ الْمَرَقَةِ فِي الْقِصَاعِ عَلَى الطَّبَّاخِ إذَا اُسْتُؤْجِرَ لِطَبْخِ عُرْسٍ وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِطَبْخِ قِدْرٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِيهِ، وَإِدْخَالُ الْجَمَلِ الْمَنْزِلَ عَلَى الْحَمَّالِ إذَا حَمَّلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ عَلَى السَّطْحِ، أَوْ الْغُرْفَةِ لِلْعُرْفِ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلًا إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْزَالُ الْحِمْلِ عَنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ عَلَى الْمُكَارِي وَفِي إدْخَالِهِ الْمَنْزِلَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَالْإِكَافُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَفِي الْجَوَالِيفِ وَالْحَبْلِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ وَكَذَلِكَ فِي السَّرْجِ وَاللِّجَامِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فَهُوَ الْأَصْلُ، أَمَّا التَّوَابِعُ الَّتِي لَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِيهَا وَبِهِ يُفْصَلُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الصَّبِيِّ أَنْ يُخْرِجُوا الظِّئْرَ قَبْلَ الْأَجَلِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إلَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ، ثُمَّ الْعُذْرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ مِنْ لَبَنِهَا فَيَفُوتُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا عُذْرَ أَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا تَقَايَأَ لَبَنَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ عَادَةً الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 فَالْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَبِلَتْ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيَضُرُّ بِالصَّبِيِّ فَإِذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ سَارِقَةً؛ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ إنْ كَانَتْ فِي بَيْتِهِمْ وَعَلَى مَتَاعِ الصَّبِيِّ وَحِلْيَتِهِ إذَا كَانَ مَعَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فَاجِرَةً بَيِّنَةً فُجُورِهَا فَيَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَغِلُ بِالْفُجُورِ وَبِسَبَبِهِ يَنْقُصُ مِنْ قِيَامِهَا بِمَصَالِح الصَّبِيِّ وَرُبَّمَا تَحْمِلُ مِنْ الْفُجُورِ فَيُفْسِدُ ذَلِكَ لَبَنَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كَافِرَةً؛ لِأَنَّ كُفْرَهَا فِي اعْتِقَادِهَا وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: عَيْبُ الْفُجُورِ فِي هَذَا فَوْقَ عَيْبِ الْكُفْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَعْضِ نِسَاءِ الرُّسُلِ كَافِرَةٌ كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - «وَمَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادُوا سَفَرًا فَتَأْبَى أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَلَا تُجْبَرُ هِيَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مَا الْتَزَمَتْ تَحَمُّلَ ضَرَرِ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ تَرْكُ الصَّبِيِّ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ غَيْبَتَهُمْ عَنْ الْوَلَدِ تُوحِشُهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِمْ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَعُذْرُهَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُهَا لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهُ الرَّضَاعَ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَرُبَّمَا يُصِيبُهُ انْضِمَامُ تَعَبِ الرَّضَاعِ إلَى الْمَرَضِ وَلَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا إذَا مَرِضَتْ؛ لِأَنَّهَا تَعْجِزُ بِالْمَرَضِ عَمَّا هُوَ مَقْصُودُهُمْ وَهُوَ الْإِرْضَاعِ فَرُبَّمَا يَقِلُّ بِسَبَبِهِ لَبَنُهَا أَوْ يَفْسُدَ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا سَلَّمَ الْإِجَارَةَ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِالظَّئُورَةِ فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْرِفُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مَا تُبْتَلَى بِهِ مِنْ الْمُقَاسَاةِ وَالسَّهَرِ، فَإِذَا جَرَّبَتْ ذَلِكَ تَضَرَّرَتْ وَلِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَلَى مَا قِيلَ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الذُّلِّ، إذَا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ فَإِذَا عَمِلَتْ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الصَّبِيِّ يُؤْذُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ كَفُّوا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ، وَالْكَفُّ عَنْ الظُّلْمِ وَاجِبٌ، وَإِنْ سَاءُوا أَخْلَاقَهُمْ مَعَهَا كَفُّوا عَنْهَا؛ لِأَنَّ سُوءَ الْخُلُقِ مَذْمُومٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُفُّوا عَنْهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَسُوءِ الْخُلُقِ وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا قَدْ سَلَّمَ الْإِجَارَةَ فَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ غَشَيَانِهَا مَخَافَةَ الْحَبَلِ وَأَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ، فَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَإِنْ لَقِيَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَلَهُ أَنْ يَغْشَاهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، وَبِتَسْلِيمِ الْإِجَارَةِ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَلَا تَسْتَطِيعُ الظِّئْرُ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا وَلَا يَسَعُ أَهْلَ الصَّبِيِّ أَنْ يَمْنَعُوهَا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُ الظِّئْرَ أَنْ تُطْعِمَ أَحَدًا مِنْ طَعَامِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَإِنْ زَارَهَا أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهَا فَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْكَيْنُونَةِ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنْ الزِّيَارَةِ إذَا كَانَتْ تَضُرُّ بِالصَّبِيِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ الْتَزَمَتْ مَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ الصَّبِيِّ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهَا؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا فِيمَا وَرَاءَ مَا الْتَزَمَتْ لَهُمْ. وَيَجُوزُ لِلْأَمَةِ التَّاجِرَةِ أَنْ تُؤَاجِرَ نَفْسَهَا ظِئْرًا كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تُؤَاجِرَ نَفْسَهَا لِعَمَلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهَا بِتِجَارَتِهَا مَنَافِعُهَا، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ، أَوْ الْمُكَاتَبُ يُؤَاجِرُ أُمَّتَهُ ظِئْرًا، أَوْ يَسْتَأْجِرُ ظِئْرًا لِصَبِيٍّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ كَسْبِهِ إلَيْهِ، فَكَمَا يَشْتَرِي لِصَبِيٍّ لَهُ طَعَامًا، فَكَذَلِكَ يَسْتَأْجِرُ لَهُ الظِّئْرَ لِتُرْضِعَهُ، وَكَمَا يَبِيعُ أَمَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا فَإِنْ رَدَّ فِي الرِّقِّ بَعْدَ الِاسْتِئْجَارِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَجَّرَ أَمَتَهُ لَمْ تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَنْتَقِضُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَنَافِعَ بِالْإِجَارَةِ اُسْتُحِقَّتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَبِعَجْزِهِ بَطَلَ حَقُّهُ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي الْمَنَافِعِ لِلْمَوْلَى فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ مَاتَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِ التَّصَرُّفِ وَالْكَسْبِ حَتَّى يَخْتَصَّ هُوَ بِالتَّصَرُّفِ دُونَ الْمَوْلَى فَعَجْزُهُ يَكُون نَاقِلًا الْحَقَّ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَبْطُلُ اسْتِئْجَارُهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ فَإِنَّ الْكَسْبَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَاقِلًا الْحَقَّ إلَى مَوْلَاهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لَا يَبْطُلُ فَكَذَلِكَ إجَارَتُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اسْتَبْرَأَ أَمَتَهُ، ثُمَّ عَتَقَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَلَوْ عَجَزَ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَ نَفْسِهِ مِنْ وَالِدٍ، أَوْ وَلَدٍ امْتَنَعَ بَيْعُهُ وَلَوْ اشْتَرَى قَرِيبَ الْمَوْلَى لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعه وَأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَنِيًّا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكَسْبَ لَهُ مَا دَامَ مُكَاتَبًا فَبِالْعَجْزِ يَنْتَقِلُ إلَى مَوْلَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: بِعَجْزِهِ انْقَلَبَ حَقُّ الْمِلْكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَلَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ كَمَا إذَا عَتَقَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَسْبَ دَائِرٌ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالْمَوْلَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ، أَوْ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَوْلَى أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً مِنْ كَسْبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمِلْكِ وَجَانِبُ الْمَوْلَى فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ يَتَرَجَّحُ عَلَى جَانِبِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَلَوْ أَدَّى مُكَاتَبُ الْمُكَاتَبِ الْبَدَلَ كَانَ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَنْ يُكَاتِبُ عَلَى الْمُكَاتَبَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمَوْلَى، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ الْمِلْكُ لِلْمُكَاتَبِ بِالْعِتْقِ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فَإِذَا تَحَقَّقَ لِلْمَوْلَى بِالْعَجْزِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَدَّلُ مَنْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْحُرُّ وَقَدْ قَبِلَ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ اسْتِئْجَارُ الْمُكَاتَبِ كَانَ لِحَاجَتِهِ دُونَ حَاجَةِ مَوْلَاهُ وَقَدْ سَقَطَتْ حَاجَتُهُ بِعَجْزِهِ فَأَمَّا إجَارَتُهُ كَانَتْ لِتَحْصِيلِ الْأُجْرَةِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَوْلَى كَمَا لِلْمُكَاتَبِ، فَبِعَجْزِهِ لَا يَنْعَدِمُ مَا لِأَجْلِهِ لَزِمَتْ الْإِجَارَةُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مُنْفَرِدٌ بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الْإِجَارَةِ بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ دُونَ تَبَدُّلِ الْمُنْصَرِفِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ يَتَصَرَّفُ فِي كَسْبِهِ دُونَ الْمَوْلَى، ثُمَّ بِالْحَجْرِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ يَتَبَدَّلُ الْمُتَصَرِّفُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ لِانْعِدَامِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الِاسْتِئْجَارِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ يَكُونُ مِنْ حَاجَتِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتِبُ عَاجِزًا فَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَوْ عَجَزَ فِي حَيَاتِهِ، فَأَمَّا فَصْلُ الِاسْتِبْرَاءِ فَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَبِيعَةَ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَجْتَزِئَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْمُكَاتِبِ، وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ الْبَيْعِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْمُكَاتِبِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا كَانَ يَمْلِكُ الْكِتَابَةِ فِي كَسْبِهِ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ، وَلَمَّا كَانَ لَا يَمْلِكُ الْعِتْقَ فِي كَسْبِهِ لَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ، فَأَمَّا الْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فِي كَسْبِهِ وَلَا الْعِتْقَ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَكَاتَبُ قَرِيبُ الْمَوْلَى إذَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتِبُ، وَكَذَلِكَ حِلُّ الصَّدَقَةِ يَنْبَنِي عَلَى انْعِدَامِ مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَالْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَدَ لَهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ، فَأَمَّا بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ فَيَنْبَنِي عَلَى انْتِقَالِ مِلْكِ الْعَيْنِ مِنْ الْمُؤَاجِرِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا قَرَّرْنَا فَإِنْ مَاتَ أَبُ الصَّبِيِّ الْحُرِّ لَمْ تَنْتَقِضْ إجَارَةُ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ وَالْأَبُ فِيهِ كَالنَّائِبِ عَنْهُ وَلِهَذَا يُؤَدِّي الْأَجْرَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَأَجْرُ الظِّئْرِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فِي مِيرَاثِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مَالًا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَجْرَ الظِّئْرِ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يُؤَدِّي مَعْنَى مِيرَاثِهِ بَعْدَهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرُوهَا أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 تُرْضِعَ صَبِيَّيْنِ لَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ عَنْهُمْ نِصْفَ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ إرْضَاعِ الصَّبِيَّيْنِ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي عَمَلِ الْإِرْضَاعِ أَوْ يَنْعَدِمُ وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ نِصْفُ الْأَجْرِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا ظِئْرَيْنِ يُرْضِعَانِ صَبِيًّا وَاحِدًا فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى لَبَنِهِمَا فَإِنْ كَانَ لَبَنُهُمَا وَاحِدًا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا فَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهَا لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِلْأُخْرَى حِصَّتُهَا مِنْ الْأَجْرِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ بَنِي آدَمَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَبَنٌ طَاهِرٌ أَوْ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ وَلِأَنَّهُ غِذَاءٌ لِلْعَالَمِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَغْذِيَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيْنٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالصِّبْغِ فِي عَمَلِ الصِّبَاغَةِ وَالْحِبْرِ فِي الْوَرَّاقَةِ وَالْحَرَضِ وَالصَّابُونِ فِي غَسِيلِ الثِّيَابِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْبَيْعِ أَقْبَلُ مِنْهُ لِلْإِجَارَةِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَالْعَرَقِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ؛ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُنَا، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ خُلِقَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ثُمَّ لِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُكْمِ مَا لِعَيْنِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إكْرَامًا لِلْآدَمِيِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنَّ غَائِطَ الْآدَمِيِّ يُدْفَنُ وَمَا يَنْفَصِلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يُنْتَفَعُ بِهِ وَاللَّبَنُ جُزْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِ الْآدَمِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ وَهِيَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْآدَمِيِّ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْآدَمِيُّ مَالًا فِي الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ اللَّبَنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ وَلَدَ الْأُضْحِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ تَبَعًا وَأَنَّ لَبَنَ الْأُضْحِيَّةِ إذَا حُلِبَتْ يُتَصَدَّقُ بِهِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ دُونَ لَبَنِ الْحُرَّةِ اعْتِبَارًا لِلَبَنِ الْوَلَدِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْوَلَدِ بِصِفَةِ الرِّقِّ، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ وَلَا رِقَّ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي الْمَغْرُورِ لَمْ يُوجِبُوا قِيمَةَ اللَّبَنِ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ مَالًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 مُتَقَوِّمًا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحِقِّ وَكَانَ لَهُ الْقِيمَةَ لِلْإِتْلَافِ فِي يَدِ الْمَغْرُورِ، وَلَا يُدْخَلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ الْمَنَافِعُ فَإِنَّهَا تَقْبَلُ الْعَقْدَ مِنْ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَتْ غَيْرَ الْآدَمِيِّ، ثُمَّ نَحْنُ نَجْعَلُ اللَّبَنَ كَالْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا الْمَنْفَعَةَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَتُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ لَبَنُ الْآدَمِيِّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ الَّذِي هُوَ مَالٌ مَقْصُودٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ بِخِلَافِ الصِّبْغِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ هُنَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ عَيْنَ الصِّبْغِ بَلْ مَا يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ مِنْ اللَّوْنِ وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ وَكَذَلِكَ الْحَرَضُ وَالصَّابُونُ الْمُسْتَحَقُّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ إزَالَةُ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ حَتَّى أَنَّ الْقَصَّارَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَهُنَا الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ عَيْنُ اللَّبَنِ حَتَّى لَوْ رَبَّتْ الصَّبِيَّ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّبَنَ غِذَاءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ غِذَاءٌ فِي تَرْبِيَةِ الصِّبْيَانِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَهُمْ لَا يَتَرَبَّوْنَ إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ عَادَةً كَالْمَيْتَةِ تَكُونُ غِذَاءً عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهَذَا نَظِيرُ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْبُضْعَ يُتَمَلَّكُ بِالْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِقَامَةِ النَّسْلِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْجِنْسِ، ثُمَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَعَ أَنَّ الْغِذَاءَ مَا فِي الثَّدْيِ مِنْ اللَّبَنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا مَا يَحْلِبُ الْقَوَارِيرَ قَلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ غِذَاءُ الصَّبِيِّ وَفِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ فَسَادٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَجَّرُ بِهِ الصِّبْيَانُ فَتَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْهَا وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَضْمَنَ بِإِتْلَافٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجُزْءُ قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا نَقُولُ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ أَجْزَاءَ الْآدَمِيِّ بَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ بِالنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى لَوْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ بِالْبُرْءِ وَنَبَتَتْ السِّنُّ بَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ فِي اللَّبَنِ لَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ لَمْ يُضْمَنْ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ قُلْنَا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ الْبَدَلُ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِهِ وَاللَّبَنُ لَيْسَ نَظِيرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَمِثْلُهُ لَا يُضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعْطِيَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ وَيَشْرَبَهُ لِلدَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ طَاهِرًا إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَرَقَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 وَبُزَاقَهُ يَكُونُ طَاهِرًا وَلِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيِّ إنَّمَا يَتَنَجَّسُ بِاعْتِبَارِ الْمَوْتِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ وَلَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ وَلِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ الْغِذَاءِ إلَى فَسَادٍ وَنَتِنِ رَائِحَةٍ يَكُونُ نَجِسًا وَاللَّبَنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ طَاهِرًا. وَإِنْ أَجَّرَتْ الظِّئْرُ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ تُرْضِعُ لَهُمْ صَبِيًّا وَلَا يَعْلَمُ أَهْلُهَا الْأَوَّلُونَ بِذَلِكَ فَأَرْضَعَتْ حَتَّى فَرَغَتْ فَإِنَّهَا قَدْ أَثِمَتْ وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْأَوَّلِينَ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَصَرْفُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ إلَى الْآخَرِينَ يَكُونُ جِنَايَةً مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّهَا حَصَّلَتْ مَقْصُودَ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا تَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَتْ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ إنَّمَا أَخَذَتْهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهَا فَإِنَّ مَنَافِعَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهَا. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الْمُسْلِمُ الظِّئْرَ الْكَافِرَةَ أَوْ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مِنْ الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ خُبْثَ الْكُفْرِ فِي اعْتِقَادِهَا دُونَ لَبَنِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِيهِمْ مَنْ أُرْضِعَ بِلَبَنِ الْكَوَافِرِ، وَكَذَلِكَ فُجُورُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي لَبَنِهَا. فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعْ صَبِيًّا لَهُ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَتْهُ إلَى خَادِمِهَا فَأَرْضَعَتْهُ حَتَّى انْقَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ تُرْضِعْهُ بِنَفْسِهَا فَلَهَا أَجْرُهَا؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهَا فَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ بِخَادِمِهَا فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ أَهْلِ الصَّبِيِّ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهُ حَوْلًا، ثُمَّ يَبِسَ لَبَنُهَا فَأَرْضَعَتْ خَادِمُهَا حَوْلًا آخَرَ فَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ هِيَ وَخَادِمُهَا فَلَهَا الْأَجْرُ تَامًّا وَلَا شَيْءَ لِخَادِمِهَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا تَسْمِيَةَ فِي حَقِّهَا وَلَا فِي حَقِّ خَادِمِهَا، وَلَوْ يَبِسَ لَبَنُهَا فَاسْتَأْجَرَتْ لَهُ ظِئْرًا كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمَشْرُوطُ وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَجِيرِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهَا الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ بِلَبَنِ الْجِنْسِ وَقَدْ حَصَلَ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ تَطُولُ فَلَمَّا اسْتَأْجَرُوهَا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا قَدْ تَمْرَضُ أَوْ يَيْبَسُ لَبَنُهَا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَقَدْ رَضُوا مِنْهَا بِالِاسْتِئْجَارِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمْ وَتَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهَا «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ». وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا أَجْرَ لَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِعَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا تُطَالَبَ بِهِ وَلَا تُجْبَرَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ كَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ وَالنَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِالنِّكَاحِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا، وَإِنْ أَبَتْ الْإِرْضَاعَ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ فَهُوَ نَظِيرُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْإِرْضَاعِ. (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] مَعْنَاهُ لِيُرْضِعْنَ فَهُوَ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا عَلَيْهَا شَرْعًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُوَن مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ الْأَجْرَ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ فِرْعَوْنَ»، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَالْمُرَادُ النَّفَقَةُ فَفِي هَذَا الْعَطْفِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَالْمُرَادُ مَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ فَإِذَا اسْتَوْجَبَ عِوَضًا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ لَا يَسْتَوْجِبُ عِوَضًا آخَرَ بِالشَّرْطِ وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا دِينًا فَإِنَّهَا تُطَالَبُ بِهِ فَتْوَى وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ كُرْهًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى كَنْسِ الْبَيْتِ وَالتَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ الِاتِّحَادُ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ وَالْوَلَدُ مَقْصُودٌ بِالنِّكَاحِ فَكَانَتْ هِيَ فِي الْإِرْضَاعِ عَامِلَةً لِنَفْسِهَا مَعْنًى فَلَا تَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الزَّوْجِ بِالشَّرْطِ كَمَا فِي التَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ وَالْمُجَامَعَةِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَيْتِ مِنْ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَالْغَسْلِ وَمَا يَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهِمَا فَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بِالشَّرْطِ وَمَا يَكُونُ لِتِجَارَةِ الزَّوْجِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا وَلَا يَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَمَعْنَى الِاتِّحَادِ قَائِمٌ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الِاسْتِئْجَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ وَإِرْضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفَقَتِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَى الِاتِّحَادِ الَّذِي كَانَ بِالنِّكَاحِ قَدْ زَالَ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالْإِرْضَاعُ بَعْدَ هَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا دِينًا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَيْتِ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لِلرَّضِيعِ مَالٌ اسْتَأْجَرَهَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بِمَالِ الرَّضِيعِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَيْسَ فِي مَالِ الرَّضِيعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ فِي مَالِهِ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ مَالِ الزَّوْجِ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَ نَفَقَتَهَا لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ عِوَضًا آخَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ خَادِمَهَا لِذَلِكَ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ خَادِمِهَا مِلْكُهَا وَبَدَلُهَا كَمَنْفَعَةِ نَفْسِهَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتِبَهَا كَانَ لَهَا الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ كَالْحُرَّةِ فِي مَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ كَمَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا تَجِبُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبَتِهَا وَلَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا حَتَّى لَا تُؤْمَرَ بِهِ فَتْوَى وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ وَلَدِهِ مِنْهَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ كَانَ جَائِزًا وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى وَاحِدَةٍ دِينًا حَتَّى لَا تُؤْمَرَ بِهِ فَتْوَى فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا عَلَيْهِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا، ثُمَّ أَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَلِفَهَا الصَّبِيُّ لَا يَأْخُذُ إلَّا مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ الْإِجَارَةَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ فَلَهَا أَنْ تَأْبَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ أَنَّهَا إذَا لَمْ تُعْرَفْ بِذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا تَأْبَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْمَحَارِمِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا لِتُرْضِعَ لَهُ صَبِيًّا فِي بَيْتِهَا فَجَعَلَتْ تُؤَجِّرُ لَبَنَ الْغَنَمِ وَتَغْذُوهُ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى اسْتَكْمَلَ الْحَوْلَيْنِ وَلَهَا لَبَنٌ أَوْ لَيْسَ لَهَا لَبَنٌ فَلَا أَجْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ وَهِيَ لَمْ تُرْضِعْهُ إلَّا بِمَا سَقَتْهُ لَبَنَ الْغَنَمِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ عَمَلٌ مُصْلِحٌ لِلصَّبِيِّ وَمَا أَتَتْ بِهِ مُفْسِدٌ فَالْآدَمِيُّ لَا يَتَرَبَّى تَرْبِيَةً صَالِحَةً إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ، وَإِنْ جَحَدَتْ ذَلِكَ وَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا فَصَلَاحُ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ، وَإِنْ أَقَامَ أَهْلُ الصَّبِيِّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْا فَلَا أَجْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَإِنْ أَقَامُوا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا وَيَثْبُتُ إيفَاءُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ وَالْمُثْبَتُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْبَاقِي. وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِإِصْلَاحِهِ وَاسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ مِنْ إصْلَاحِهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ اللَّقِيطِ وَكُلُّ يَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ أُمٌّ لِتُرْضِعَهُ فَعَلَى أَوْلِيَائِهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا لَهُ ظِئْرًا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الظِّئْرِ كَالنَّفَقَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَفِي قَوْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُمٌّ تُرْضِعُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً وَلَهَا لَبَنٌ دُونَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ؛ لِأَنَّهَا مُؤْسِرَةٌ فِي حُكْمِ الْإِرْضَاعِ وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْسِرِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهَا دُونَهُمْ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ فَأُجْرَةُ الظِّئْرِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ بَعْدَ الْفِطَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إجَارَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ] بَابُ إجَارَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَارًا سَنَةً بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ الَّذِي يُرِيدُهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُسْتَأْجَرُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى وَيُبْنَى لِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُسَمَّى مَسْكَنًا وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَيُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ فِيهَا النَّاسُ وَلِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِعِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَنْ يَعُولُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَكَثْرَةُ الْمَسَاكِنِ فِي الدَّارِ لَا تَضُرُّ بِهَا بَلْ تَزِيدُ فِي عِمَارَتِهَا؛ لِأَنَّ خَرَابَ الْمَسْكَنِ بِأَنْ لَا يَسْكُنَهُ أَحَدٌ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَعْنِي الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الثِّيَابِ وَكَسْرَ الْحَطَبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَادَةً فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَالْمُعْتَادُ مِنْهُ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ مَا خَلَا الرَّحَا أَنْ يُنْصَبَ فِيهِ أَوْ الْحَدَّادَ أَوْ الْقَصَّارَ فَإِنَّ هَذَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُرَادُ رَحَا الْمَاءِ أَوْ رَحَا الثَّوْرِ، فَأَمَّا رَحَا الْيَدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَنْصِبَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فِي الْعَادَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُفْسِدُ الْبِنَاءَ أَوْ يُوهِنُهُ فَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ وَمَا لَا يُفْسِدُ الْبِنَاءَ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى الَّتِي لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ الْكِتْبَةِ أَوْ الْخَبْزِ فِي الْمَبِيعِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا إلَّا بِالشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا كَسْرُ الْحَطَبِ بِالْقَدْرِ الْمُعْتَادِ مِنْهُ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ بِحَيْثُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الدَّارِ. ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِيهِ دَابَّتَهُ وَبَعِيرَهُ وَشَاتَهُ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَهُوَ الْمَرْبِطُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ لَهُ اتِّخَاذُ الْمَرْبِطِ فِي دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ الْمَنَازِلَ بِبُخَارَى تَضِيقُ عَنْ سُكْنَى النَّاسِ فَكَيْف تَتَّسِعُ لِإِدْخَالِ الدَّوَابِّ فِيهَا وَإِنَّمَا هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِهِمْ فِي الْكُوفَةِ لِمَا فِي الْمَنَازِلِ بِهَا مِنْ السَّعَةِ وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَيَسْكُنُ مَعَهُ أَيَّامًا وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْكِنَهَا صَدِيقًا لَهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَحَ مِنْهَا بِنَاءً أَوْ زَادَ فِيهَا شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ حُكْمًا فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ عَلَى مِلْكِ حَلَالٍ لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنَافِعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، وَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ فَهَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ»، ثُمَّ الْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَاضِ إنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالتَّسْمِيَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يُؤَاجِرُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَإِنَّ الْمُعِيرَ يَقُولُ لَهُ مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَتَهَا وَجَعَلْت لَك مَنْفَعَتَهَا وَلَوْ أَضَافَ الْإِعَارَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَثْبُتُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُوصَى لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْجَبَهَا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يُؤَاجِرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهَا تَسْمِيَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَسْمِيَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَيْنِ فَإِنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْهِبَةِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ بِالْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ الْفَضْلَ بِمُقَابَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّقَوُّمِ وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَعُودُ إلَيْهِ مَا غَرِمَ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَيَتَيَقَّنُ بِالْفَضْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ إذَا أَجَّرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَجْرِ. وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ مَتَى أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُنْتَهَاهُ تَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى، فَإِنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فَإِنْ سَكَنَهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِيَ يَتِمُّ إذَا سَكَنَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا لَزِمَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَيَوْمِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ حَتَّى إذَا مَضَى سَاعَةً فَالْعَقْدُ يَلْزَمُهُمَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ: الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَّصِلُ إلَّا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الشَّهْرِ فَلَيْسَ بَعْضُ الشُّهُورِ لِتَعْيِينِهِ لِلْعَقْدِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ مُفْسِدَةٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نَكَّرَ الشَّهْرَ وَالشَّهْرُ الْمُتَّصِلُ بِالْعَقْدِ مُعَيَّنٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِاسْمِ النَّكِرَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ نَذْرَهُ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ وَفِي مِثْلِهِ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ السَّبَبَ كَمَا فِي الْآجَالِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 وَالْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُؤَخِّرٍ، وَالْمُؤَخِّرُ يَنْعَدِمُ فِيمَا تَسْتَوِي فِيهِ الْأَوْقَاتُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَا يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ، فَأَمَّا دُخُولُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لَا يَسْتَدْعِي مَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ سِوَى الْعَقْدِ فَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ فَلَهُ شَهْرٌ بِالْهِلَالِ تَمَّ أَوْ نَقَصَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَلَهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ فِي الشُّهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] وَالْأَيَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْأَهِلَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْبَدَلِ إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا حِينَ أَهَلَّ الْهِلَالُ فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ هُنَا مُمَكِّنٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بِالْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ أَبَدًا، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِسَنَةٍ كَمَا فِي الْأَرَاضِيِ وَنَحْوِهَا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَقُولُ: الْعَادَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَسْكُنُ بِالْإِجَارَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُ الْمَسْكَنَ مِلْكًا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: الْمَنَافِعُ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَالْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ التَّوْقِيتِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إعْلَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَتْ الْمُدَّةُ لِلْمَنْفَعَةِ، فَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فَكَمَا لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذَكَرِ الْمُدَّةِ، وَبَعْدَ إعْلَامِ الْمُدَّةِ الْعَقْدُ جَائِزٌ قَلَّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ قَوْله تَعَالَى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ تَصْلُحُ أَجَلًا لِلْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالسَّنَةِ وَمَا دُونَهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الْإِعْلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ. فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً وَذَلِكَ حِينَ يَهِلُّ الْهِلَالُ تُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَهِلَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَيَّامِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ وَالْأَيَّامَ بَدَلٌ فَفِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ تُقَدَّرُ الْأَهِلَّةُ وَفِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا اعْتِبَارُ مَا هُوَ أَصْلٌ مُمْكِنٌ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْبَدَلِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْكُلِّ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فِي بَعْضٍ فَتَمَامُهُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِالْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَحَدَ عَشَر شَهْرًا بِالْهِلَالِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَتُغَيَّرُ كُلُّهَا بِالْأَيَّامِ، ثُمَّ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ رَابِعُ عَشَرَةٍ مَضَيْنَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُهَا بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْبَاقِي وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اسْتَأْجَرَهَا لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاضِي مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَقَدْ سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ فَلَا يَسْكُنُهَا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ قَالَ يَسْكُنُهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فِي عُلُوِّ دَارٍ وَمَنْزِلًا عَلَى ظُلَّةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَسْكَنٌ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ قَصَّارًا فَأَرَادَ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ حَدَّادًا فَلَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ مَضَرَّتُهُمَا وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ مَضَرَّةُ الْحَدَّادِ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مَضَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الرِّحَالَانِ التَّقْيِيدُ إذَا كَانَ مُفِيدًا يُعْتَبَرُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَا يُعْتَبَرُ، وَالْفَائِدَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّارِ بِأَنَّ مَا لَا يُوهِنُ بِنَاءَهُ وَلَا يُفْسِدُهُ فَلَا تَكُونُ مَضَرَّتُهُ مِثْلَ الْمَشْرُوطِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَالْمَنْفَعَةُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجَرِ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مَضَرَّةً فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا سَنَةً بِالْكُوفَةِ بِكَذَا دِرْهَمًا مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنْ اتَّخَذَ فِيهَا مُصَلًّى لِنَفْسِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا مُصَلَّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ فَلِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّارَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ وَهَذَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» وَالْمُرَادُ نَفْيُ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْخِصَاءِ تَأْوِيلَانِ. (أَحَدُهُمَا) خِصَاءُ بَنِي آدَمَ فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ صُحْبَةِ النِّسَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ وَإِجَارَتُهَا مِنْهُمْ لِلسُّكْنَى إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا عَلَى وَجْهٍ تَقِلُّ بِسَبَبِهِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً مِنْ الْمِصْرِ غَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُونَ اللُّصُوصَ وَلَا يَظْهَرُ الْخَلَلُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مُصَلًّى الْعَامَّةِ فَهَذَا مِنْهُ إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ فَكَانَ الْإِظْهَارُ فِسْقًا مِنْهُمْ فِي التَّعَاطِي فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَضَرْبِ الْمَعَازِفِ وَالْخُرُوجِ سُكَارَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارٍ بِالسَّوَادِ أَوْ بِالْجَبَلِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَصْنَعَ فِيهَا مَا شَاءَ، كَانَ أَبُو الْقَاسِم الصَّفَّار - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنْ الْيَهُودِ وَالرَّوَافِضِ - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ كَمَا يُمْنَعُونَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُ الْقُرَى فِي دِيَارِنَا مُسْلِمُونَ وَفِيهَا الْجَمَاعَةُ وَالدَّرْسُ وَمَجْلِسُ الْوَعْظِ كَمَا فِي الْأَمْصَارِ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَمْصَارَ مَوْضِعُ إعْلَامِ الدِّينِ نَحْوُ إقَامَةِ الْجَمَاعَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ فِي إحْدَاثِ الْبِيَعِ فِي الْأَمْصَارِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْقُرَى فَلَيْسَتْ بِمَوَاضِعِ أَعْلَامِ الدِّينِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى. (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ لَا يَفْتَتِنُ بِهِ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَضَعُوا مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ مَا شَاءُوا، وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَكْثَرُ فَإِنَّ الْجَهْلَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَغْلَبُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «أَهْلُ الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْكُفُورِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تُرَائَى نَارَاهُمَا» وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ». وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْلِمًا فَظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ فِي الدَّارِ أَوْ دَعَارَةٌ أَوْ كَانَ يَجْمَعُ فِيهَا عَلَى الشُّرْبِ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا لِمِلْكِهِ الدَّارَ بَلْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الدَّارِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ ضَرَرٌ يَزُولُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ لِأَجْلِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بَاعَهُ الدَّارَ كَانَ يَفْسَخُ الْبَيْعَ؛ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَإِذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْ الدَّارِ فَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ تَرْكَ الْإِجَارَةِ نَظَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا حَدَثَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَاعْوَرَّ الْعَبْدُ، وَذَلِكَ لَا يُنْقِصُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالسُّكْنَى فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا مَرِضَ وَهَذَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بِقَبْضِ الدَّارَ لَا تَدْخُلُ الْمَنْفَعَةُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ فَحُدُوثُ الْمُغَيِّرِ بَعْدَ قَبْضِ الدَّارِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَنْتَبِهَ صَاحِبُ الدَّارِ قَبْلَ فَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ لِزَوَالِ الْعَيْبِ وَارْتِفَاعِ الْمُغَيِّرِ كَالْعَبْدِ إذَا بَرَأَ وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآجِرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ حُكْمِ الرَّدِّ الْآخَرَ فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ خَرَجَ فِي حَالِ غَيْبَةِ رَبِّ الدَّارِ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَكَنَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ التَّغَيُّرِ فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَنَ مَعَ حَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ لَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمُشْتَرِي إذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ شَاهِدًا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ غَائِبًا وَفِيهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 طَرِيقَانِ لِمَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِسُقُوطِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ بِالْبِنَاءِ كَانَ مَسْكَنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ دَخَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِئْجَارَ الْحِرَابِ لِلسُّكْنَى لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَقَطَ الْأَجْرُ سَوَاءً كَانَ رَبُّ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِهِ لِلْفَسْخِ قَصْدًا لَا لِلِانْفِسَاخِ حُكْمًا. (وَطَرِيقٌ) آخَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِالِانْهِدَامِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ كِتَابُ الصُّلْحِ. (قَالَ:) وَلَوْ صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَانْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ وَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَسْكُنَهُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْمَوْضِعِ مَسْكَنٌ بَعْدَ انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يَتَأَتَّى فِيهِ السُّكْنَى بِنَصْبِ الْفُسْطَاطِ وَالْخَيْمَةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ لِهَذَا وَلَكِنْ لَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَجْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ غَاصِبٌ مِنْ السُّكْنَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ إذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْهَا فَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُنَاكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالْعَقْدِ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْعَقْدُ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الدَّارِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَقَدْ طَلَبَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، ثُمَّ تَحَاكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبْضِ فِي بَاقِي السَّنَةِ عِنْدَنَا وَلَا لَلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْبَرُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا إذَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَخَيَّرَ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ حَقَّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُوضِحُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَأْجِرُ دَارًا وَحَانُوتًا سَنَةً وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ شَهْرًا وَاحِدًا كَالْحَاجِّ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَإِذَا مَنَعَهُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَقْصُودَةً لَهُ لَوْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْفَسْخِ، وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ حَتَّى يَتَجَدَّدَ انْعِقَادُهُمَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَا يَتَمَكَّنُ تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ مَعَ تَفَرُّقِ الْعُقُودِ وَفَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَانْهَدَمَتْ إحْدَاهُمَا لَا يَتَخَيَّرُ فِي الْآخَرِ، وَالْمَنَافِعُ بِقَبْضِ الدَّارِ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 بِدُخُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الِانْهِدَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ إلَّا بَيْتًا كَانَ مَشْغُولًا بِمَتَاعِ الْمُؤَاجِرِ رَفَعَ مِنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ كُلَّهَا، ثُمَّ انْتَزَعَ مِنْهَا بَيْتًا؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ حِينَ اُنْتُزِعَ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ انْتَزَعَ الْكُلَّ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَلَوْ غَصَبَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْنَبِيُّ سَقَطَ عَنْهُ الْأَجْرُ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ لِزَوَالِ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّارِ بِالْمَوْصُوفِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرَطَ لَهُ أَجَلًا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ فَمَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ مَوْصُوفًا حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا وَالثِّيَابُ لَا تَصْلُحُ مَوْصُوفَةً إلَّا مُؤَجَّلَةً وَالْحَيَوَانُ لَا يَصْلُحُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَهَذَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ: الْمَنْفَعَةُ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَيْنِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ بِمَالٍ فَالْحَيَوَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْعُقُودِ الْمُبَيَّنَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِي الْأَصْلِ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ مُبَيَّنَةٌ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَدَلِ مَشْرُوعَةٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْحَيَوَانُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَكُونُ مَجْهُولَ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْإِجَارَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ عَيْنًا لَا تُمَلَّكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَعِتْقُ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ وَلَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ فَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ وَتَمَّتْ السُّكْنَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ غَرَقِ الدَّارِ أَوْ انْعَدَمَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدْمِ فَعَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْفَسَخَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَبْدِ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ سُلِّطَ عَلَيْهِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ فَنَفَذَ عِتْقُهُ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ حَتَّى سَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا، ثُمَّ أَعْتَقَا جَمِيعًا الْعَبْدَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِتْقُ رَبِّ الدَّارِ بِقَدْرِ أَجْرِ الشَّهْرِ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ مَلَكَ مِنْهُ حِصَّةَ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرِكًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 بَيْنَهُمَا فَإِذَا أَعْتَقَاهُ عَتَقَ، وَتُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ فَاتَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَوْتِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ بِقَدْرِ مَا سَكَنَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَضَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَبَقِيَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَفِيمَا أَعْتَقَاهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ صَارَ قَابِضًا؛ لِمَا يَخُصُّ الْمُسْتَوْفِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْعَبْدِ، وَلَوْ اسْتَكْمَلَ السُّكْنَى، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ اسْتَحَقَّ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ مَالًا يَمْلِكُهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَسَكَنَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْأَجْرُ لَلْمُؤَاجَرِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ فَالْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَهُوَ الَّذِي ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَتَصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ اسْتَرْبَحَ عَلَى ضَمَانِهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ انْهَدَمَتْ مِنْ السُّكْنَى ضَمِنَ السَّاكِنُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ كَانَ ضَمِنَ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ رَجَعَ كَمَا يَغْرَمُ بِسَبَبِهِ. وَلَوْ أَجَرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ فَامِيٍّ سَنَةً بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ رَجُلٌ مِنْ رَبِّ الدَّارِ شَهْرَيْنِ فَأَمَرَ الْفَامِيَّ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي بِهِ مِنْ الْفَامِيِّ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَهُ حَتَّى اسْتَوْفَى أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَوْ عَامَلَ الْفَامِيَّ بِذَلِكَ يَجُوزُ، وَلَيْسَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الدَّارِ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ، الدَّارِ وَلَكِنَّهُ قَرْضٌ لِرَبِّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ دِينَارًا فِيمَا أَخَذَ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُصَارَفَةِ فِي الْأَجْرِ مَعَ رَبِّ الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ مَعَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقْرِضُ، وَلَوْ كَانَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الرَّجُلِ دِينَارٌ أَوْ أَجْرُ الْبَيْتِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمَضَى شَهْرَانِ، ثُمَّ أَمَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَامِيَّ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِالْفَضْلِ شَيْئًا فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ رَبُّ الْبَيْتِ فَإِنَّ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَدْ وَجَبَ وَالْمُقَاصَّةُ بِالدِّينَارِ بَعْدَ وُجُوبِهَا تَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ هَذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 تَصَرُّفٌ فِيمَا بَيْنَ رَبِّ الْبَيْتِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْتَقْرِضِ وَالْفَامِيِّ حَتَّى يَرْجِعَ رَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهِ الْفَامِيُّ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ أَقْرَضَ الدَّرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَشَرْطُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالدَّرَاهِمِ فَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ فَإِنَّمَا لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرْطِ كَانَ صَرْفًا بِالنَّسِيئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَضَهُ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ شَيْئًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ وَأَعْطَاهُ بِهِ دَقِيقًا أَوْ زَيْتًا أَوْ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْبَيْتِ قَبْلَ السُّكْنَى أَوْ انْهَدَمَ الْبَيْتُ أَوْ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَرْجِعْ الْفَامِيُّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِشَيْءٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الْبَيْتِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ وَرَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخِيرًا فِي حِصَّةِ الْبَيْتِ هَكَذَا، فَأَمَّا فِي حِصَّةِ الدِّينَارِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالدِّينَارِ بِعَيْنِهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْمُصَارَفَةَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَقَدْ بَطَلَتْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ كَمَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ وَجَبَ الْأَجْرُ عَلَى الْفَامِيِّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قُلْنَا: شَرْطُ التَّعْجِيلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ: وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِمَاسِ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَانَ قَالَ: وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ اتَّفَقَتْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ، وَمُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ التَّفَاوُتِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ مُبَادَلَةُ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ، وَإِنْ جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّرَاهِمِ جَازَ مُعَاوَضَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ. (أَحَدُهُمَا) مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مُبَادَلَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نُسْأَةً وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ كَانَ هَذَا مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ نَسِيئَةً وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَأُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَإِنْ قِيلَ النَّسَأُ مَا يَكُونُ عَنْ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ وَالْأَجَلُ هُنَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ كَيْفَ وَالْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهُ جُمْلَةً بَلْ يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ أَوْ أَبْلَغَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّسْلِيمِ تَتَأَخَّرُ بِالْأَجَلِ، فَكَذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَلْ تَتَأَخَّرُ إلَى حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا أَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْأَجَلِ لَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ وَهُنَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمُحَرَّمُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ فَلِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ جَوَّزْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلْجِنْسِيَّةِ أَفْسَدْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَفِي مُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ السُّكْنَى قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْعَقْدِ إلَّا مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَبِالْعَقْدِ يَحْصُلُ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَهُ فَصَاحِبُ السُّكْنَى قَدْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا الْمَنْفَعَةَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَسَكَنَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فَكَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ، فَكَذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ شَهْرًا بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَسَكَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ كَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى بَقَاءِ الْغَرَرِ، وَالْمَكِيلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ أَوْ الْمَوْزُونِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الشِّرْكَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ مَوْصُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ بِالْأَجْرِ فَإِنْ ابْتَاعَ بِهِ مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ إنْ قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ ابْتَاعَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ الْحُكْمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ يَقُولُ: كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِذِمَّتِهِ وَإِذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَوْفِي فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَقَدْ شَرَطَ لِلتَّسْلِيمِ أَجَلًا مَجْهُولًا وَهُوَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِثَوْبٍ فَأَجَرَهُ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ، وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فِيهِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجَرَهُ بِدِينَارَيْنِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُبَادَلَةَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارَيْنِ تَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فَفِي عَقْدَيْنِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ أَجْرُ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَأَشْهَدَ الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ نَبَهْرَجَةٌ وَأَنَّ الطَّعَامَ مَعِيبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِالصِّفَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَلَا مُنَاقَضَةَ فِي كَلَامِهِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ النَّبَهْرَجَةَ وَاسْمُ الْحِنْطَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَعِيبَ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَشْهَدَ قَالَ: قَدْ قَبَضْت مِنْ أَجْرِ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ادِّعَاءِ الْعَيْبِ وَالزَّيْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اسْتَوْفَيْت أَجْرَ الدَّارِ، ثُمَّ قَالَ: وَجَدْتُهُ زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَإِنَّ أَجْرَ الدَّارِ مِنْ الْجِيَادِ فَيَكُونُ هُوَ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ وَجَدْتُهُ زُيُوفًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ بِعَيْبٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَيْسَ هَذَا ثَوْبِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ رَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ السُّكْنَى وَهُوَ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا فَسَدَ لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ السُّكْنَى وَرَدُّ السَّكَنِ بِرَدِّ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَكُونُ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الدَّارِ وَفِيهَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ مِنْ كُنَاسَةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إخْرَاجُهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي شَغَلَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 الدَّارِ وَلَكِنْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْبَالُوعَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كَالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ. (أَحَدُهُمَا) الْعُرْفُ فَإِنَّ النَّاس لَمْ يَتَعَارَفُوا تَكْلِيفَ الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفَ الْبَالُوعَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَارَةِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْبَالُوعَةَ مَطْوِيَّةٌ فَتَحْتَاجُ لِلتَّنْظِيفِ وَإِلَى الْحَفْرِ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرًا فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي التَّفْرِيغِ إلَى نَقْضِ بِنَاءٍ وَحَفْرٍ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التُّرَابِ الظَّاهِرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا وَهُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا قَبْلَهُ وَهُوَ تَفْرِيغُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَدَّعِي إحْدَاثَ شَغْلِ مِلْكِهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَأَمَّا مَسِيلُ مَاءِ الْحَمَّامِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مُسْقَفًا فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَنْسُهُ إذَا امْتَلَأَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْقَفُ لِكَيْ لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْلَأُ لِيُتْرَكَ بَلْ لِيُفَرَّغَ إذَا امْتَلَأَ وَكَانَ التَّفْرِيغُ عَلَى مَنْ مَلَأَهُ بِخِلَافِ الْبَالُوعَةِ فَقَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي بِئْرِ الْبَالُوعَةِ لَا يَكُونُ لِقَصْدِ النَّقْلِ وَالتَّفْرِيغِ بَلْ يُتْرَكُ ذَلِكَ عَادَةً؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِينَ أَجَرَهُ إخْرَاجَ مَا أَحْدَثَهُ فِيهَا مِنْ تُرَابٍ أَوْ سِرْجِينٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً. . وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَامِيٌّ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا فَبَاعَ فِيهِ زَمَانًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا فِيهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالرُّفُوفِ وَالتَّحَاتِحِ الَّتِي قَدْ بَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحَدَثْتهَا وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ كَانَتْ فِيهِ حِينَ أَجَّرْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ عَادَةً لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَرَبُّ الْبَيْتِ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَبْنِي الْبَيْتَ لِيُؤَاجِرَهُ مِمَّنْ يَسْتَأْجِرُ مِنْهُ، ثُمَّ كُلُّ عَامِلٍ يَتَّخِذُ فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَدَاةِ عَمَلِهِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْمَوْضُوعِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَكَذَلِكَ الطَّحَّانُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَتَاعِ الرَّحَى وَمَا تَحْتَهَا مِنْ بِنَائِهَا وَخَشَبِهَا الَّتِي فِيهَا وَأُسْطُوَانَاتهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلطَّحَّانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَدَاءِ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَصَّابُ وَالْقَلَّاءُ وَالْحَدَّادُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَالْأَدَاةِ الَّتِي تَكُونُ لِلصَّانِعِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَطْبُخَ فِيهَا الْآجُرَّ وَالْفَخَّارَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَتُّونِ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ كَسَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَفِي الْبِنَاءِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَرْضِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَى وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا يَعْرِفُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 ثُمَّ هَذَا الْبِنَاءُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ لِحَاجَةِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَبْنِي الْأَتُّونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ أَهْلُ صَنْعَتِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي بِنَاءٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ فِي بَابٍ أَوْ خَشَبَةٍ أُدْخِلَتْ السَّقْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْآجُرُّ الْمَفْرُوشُ وَالْغَلَقُ وَالْمِيزَابُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى فِي الدَّارِ وَعَلَى رَبِّ الدَّارِ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ مَا بِهِ لِيَتِمَّ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَمَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ لَبِنٍ مَوْضُوعٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ جِصٍّ أَوْ جِذْعٍ أَوْ بَابٍ مَوْضُوعٍ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ غَيْرِ مُرَكَّبٍ فِي الْبِنَاءِ وَلَا هُوَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِحَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بِئْرُ مَاءٍ مَطْوِيَّةٌ أَوْ بَالُوعَةٌ مَحْفُورَةٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحْدَثْتهَا وَأَنَا أَقْلَعُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ وَمِمَّا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ السُّكْنَى وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي قَلْعِهَا إلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، وَكَذَلِكَ الْخُصُّ وَالسُّتْرَةُ وَالْخَشَبُ الْمَبْنِيُّ فِي بِنَاءٍ وَالدَّرَجُ فَالْمُرَادُ مِنْ الدَّرَجِ مَا يَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِيهِ كَالسُّلَّمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي رَفْعِهِ إلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ كَالْأَمْتِعَةِ. (قَالَ) وَكَذَلِكَ التَّنُّورُ، وَكَذَلِكَ الْأَتُّونُ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي التَّنُّورِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْعُرْفِ، ثُمَّ التَّنُّورُ مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ سَاكِنٍ، فَأَمَّا الْأَتُّونُ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ دُونَ مَنْ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ عَمَلًا آخَرَ، فَالظَّاهِرُ هُنَاكَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَبْنِي التَّنُّورَ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ كُوَّارِتُ نَحْلٍ أَوْ حَمَّامَاتٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَصَّصَهَا أَوْ فَرَشَهَا بِالْآجُرِّ أَوْ رَكَّبَ فِيهَا بَابًا أَوْ غَلَقًا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَضُرُّ قَلْعُهُ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ، فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْلَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الدَّارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الدَّارِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَصْبًا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِ ذَلِكَ الْعَيْنِ أَنْ يَقْلَعَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمَالِكُ أَوْلَى وَلَكِنَّ قِيمَةَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَيْنَ احْتَبَسَ عِنْدَهُ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانِ بِصِبْغِ الْغَيْرِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ قِيمَتَهُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَلَّكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ انْهَدَمَ بَيْتٌ مِنْ الدَّارِ فَاخْتَلَفَا فِي نَقْضِهِ فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ بَيْتٍ انْهَدَمَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا قَبْلَ الِانْهِدَامِ كَانَ الْقَوْلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ لِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ عَلَى أَنْ يَحْبِسَهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَاتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ مُوَفِّيًا مِنْ الْأَجْرِ فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الدَّارِ لَمْ تَبْنِ أَوْ بَنَيْتَ بِغَيْرِ إذْنِي؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَبِهِ يَصِيرُ مُوَفِّيًا الْأَجْرَ عِنْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِإِنْكَارِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى بَابٍ مِنْهَا مِصْرَاعَانِ فَسَقَطَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُمَا لِي أَوْ قَالَ: هَذَا السَّاقِطُ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّهُ أَخُو الْمُغْلَقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، أَمَّا فِي الْمُغْلَقِ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَالسَّاقِطُ إذَا كَانَ أَخُ الْمُغْلَقِ فَهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَضَى فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهَا بَيْتٌ مُصَوَّرٌ بِجُذُوعٍ مُصَوَّرَةٍ فَسَقَطَ جِذْعٌ مِنْهَا فَكَانَ فِي الْبَيْتِ مَطْرُوحًا فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ هُوَ مِنْ سَقْفِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ هُوَ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّ تَصَاوِيرَهُ مُوَافِقٌ لِتَصَاوِيرِ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُهُ مَا لَوْ اخْتَلَفَا الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا، ثُمَّ مُوَافَقَةُ التَّصَاوِيرِ وَكَوْنُ مَوْضِعِ ذَلِكَ الْجِذْعِ مِنْ السَّقْفِ ظَاهِرًا دَلِيلٌ فَوْقَ الْيَدِ، وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَعِمَارَةُ الدَّارِ وَتَطْيِينُهَا وَإِصْلَاحُ الْمِيزَابِ وَمَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُتْرَةٍ يَضُرُّ تَرْكُهَا بِالسُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا لِوُجُودِ الْعَيْبِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَآهَا فَحِينَئِذٍ هُوَ رَاضٍ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهَا لِأَجْلِهِ، وَإِصْلَاحُ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى هَدْمِ الْبِنَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَإِنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُصْلِحَ ذَلِكَ فَعَلَ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ إذَا أَبَى رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ وَلَكِنَّ الْعَيْبَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ فِيمَا يَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَاءِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ أَوْ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ نِصْفَ دَابَّةٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 وَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي إفْسَادِ الْإِجَارَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جَائِزٌ وَيَتَهَايَآنِ فِيهِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَتَلْزَمُ فِي الْمَشَاعِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِجَارَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِلْجُزْءِ الشَّائِعِ مَنْفَعَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَجَّرَ مِنْ شَرِيكِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ تَجُوزُ الْعُقُودُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ النِّصْفِ شَائِعًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ جَازَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا فِي الْهِبَةِ مَعَ الْبَيْعِ فَإِذَا جَازَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ نِصْفِ الدَّارِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَبِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ بَاعَ الْآبِقَ أَوْ أَجَرَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ النِّصْفِ شَائِعًا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ؛ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاحِيَةً بِعَيْنِهَا، وَإِنْ تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا أَجَرَ الْمَالِكُ نِصْفَ أَرْضِهِ لَا يَصِحُّ وَكَانَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: يَحْتَاجَانِ إلَى الْمُهَايَأَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ جَمِيعُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ أَوْ بَعْضُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ وَعَوْدُ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْأَجِيرِ أَوْ أَجَرَهُ مِنْهُ فَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُهَايَأَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالشَّرِيكِ فَلَا يَعُودُ الْمُسْتَأْجَرُ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَجَّرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ عَقْدٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَبِدُونِهِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ مَعَ الْفَسَادِ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْآبِقِ فَإِذَا اسْتَوْفَى فَقَدْ تَحَقَّقَ الِاسْتِيفَاءُ بَعْدَ انْعِقَادِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 الْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هُنَاكَ بِالتَّخْلِيَةِ يَتِمُّ، وَذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ يَتِمُّ، فَأَمَّا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ كَالرَّهْنِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الْعَقْدُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهَا وَهُوَ مَنْفَعَةُ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ لِمَنْفَعَةِ قَرْضِ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ يَتَأَتَّى هُنَا؛ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ جَمِيعَ الدَّارِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِهِ بِمِلْكِهِ وَمَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجِرِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ فَهُنَاكَ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ الْآبِقِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَجُوزُ بِكَوْنِ التَّسْلِيمِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بِيَدِهِ وَمِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ لَا يَجُوزُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَبِالشُّيُوعِ هُنَاكَ يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَبْسُ الْمُسْتَدَامُ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الشَّائِعِ وَفِي هَذَا الشَّرِيكُ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ، فَأَمَّا هُنَا بِالشُّيُوعِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ إنَّمَا يَنْعَدِمُ التَّسْلِيمُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَبِهِ فَارَقَ الْهِبَةَ أَيْضًا فَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ الَّذِي بِهِ يَقَعُ الْمِلْكُ، وَالْهِبَةُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَأَمَّا إذَا أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَتَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِلْمُؤَاجِرِ، ثُمَّ الْمُهَايَأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجَرِينَ بِحُكْمِ مِلْكَيْهِمَا وَهُوَ نَظِيرُ الرَّاهِنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّاهِنُ لَهُمَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي نَصِيبِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى شُيُوعٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَقْدِ فَمُنْعَقِدٌ لَازِمٌ فِي الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ طَارِئٌ وَالطَّارِئُ مِنْ الشُّيُوعِ لَيْسَ نَظِيرَ الْمُقَارِنِ كَمَا فِي الْهِبَةِ إذَا وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الدَّارِ وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ وَالْمُؤَثِّرُ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ. رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ أَجْرَهَا أَنْ يَكْسُوَهُ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَالثِّيَابُ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ فَلَا تَصْلُحُ أُجْرَةً وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا سَكَنَ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ الْبَابَ فَجَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَطَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَفْتَحْهُ وَلَمْ أَنْزِلْهُ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَالْكِرَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ؛ فَإِنَّهُ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْأَخِيرِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِدُونِهِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ. وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فَلَمَّا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ: مَا سَكَنْتُهُ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فِيهِ فُلَانٌ السَّاكِنُ، وَالسَّاكِنُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ أَوْ جَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْحَالِ فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ فِي الْحَالِ فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ فِيهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى وَالْحَالُ مَعْلُومٌ فَيُرَدُّ الْمَجْهُولُ إلَى الْمَعْلُومِ وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ رَبِّ الرَّحَا إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ بِحُكْمِ الْحَالِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَنْزِلِ سَاكِنٌ فِي الْحَالِ فَالْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنٌ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِيمَا مَضَى فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ وَالْمَانِعُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَوْ تَكَارَى بَيْتًا وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَهُوَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ، وَذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَنَظَائِرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَانْهَدَمَ الْبَيْتُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مُتَعَدٍّ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا صَنَعَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا، وَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَإِذَا سَلَّمَ سَقَطَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا انْهَدَمَ فَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ. وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: اسْتَأْجَرْتُهُ مِنْكَ لِأَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ: أَكْرَيْتُكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِيجَابَ وَالْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَرَبُّ الدَّارِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ سَكَنَهُ وَأَسْكَنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 فِيهِ مَعَهُ غَيْرَهُ فَانْهَدَمَ مِنْ سُكْنَى غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ وَكَثْرَةُ السَّاكِنِينَ فِي الدَّارِ لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَكِنَّهَا تَزِيدُ فِي عِمَارَةِ الدَّارِ. وَإِذَا طَلَب رَبُّ الْبَيْتِ أَجْرَ مَا سَكَنَ فَقَالَ السَّاكِنُ أَسْكَنْتنِيهِ بِغَيْرِ أَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ السَّاكِنِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالسَّاكِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ إذَا قَالَ: بِعْتُهُ مِنْكَ وَقَالَ الْآخَرُ وَهَبْته لِي وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ إلَّا بِالْإِيجَابِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِشَرْطِ الْبَدَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ الدَّارُ لِي أَوْ قَالَ: هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مِلْكَهُ وَالسَّاكِنُ خَصْمٌ لَهُ لِظُهُورِهَا فِي يَدِهِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَلِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلًا وَهُوَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ وَهَبْتهَا لِي لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَادَّعَى تَمْلِيكَهَا عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مُنْكِرٌ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ إنْ أَقَامَهَا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ هُنَا وَهُوَ الْهِبَةُ فَإِنْ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْكِرَاءِ وَادَّعَى الْهِبَةَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلٌ وَالْكِرَاءُ لَازِمٌ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْهِبَةِ. رَجُلٌ تَكَارَى مِنْ رَجُلَيْنِ مَنْزِلًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُ وَعَمَدَ أَهْلُهُ فَأَكْرَوْا مِنْ الْمَنْزِلِ بَيْتًا وَأَنْزَلُوا إنْسَانًا بِغَيْرِ أَجْرِ فَانْهَدَمَ الْمَنْزِلُ الَّذِي سَكَنُوهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَاصِبٌ وَالْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ مِنْ عَمَلِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُتْلِفًا وَإِذَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ وَضَمِنَهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي أَجَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ ضَمَانٍ بَاشَرَهُ. رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَته وَذَهَبَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَا كِرَاءَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَأْجِرْ وَلَمْ تَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ وَالْكِرَاءُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي السُّكْنَى فِي الْمَنْزِلِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ حَتَّى يُهِلَّ الْهِلَالُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ لَزِمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ، فَإِنْ تَكَارَى عَلَى أَنْ يَنْزِلَهُ وَحْدَهُ لَا يَنْزِلُهُ غَيْرُهُ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ امْرَأَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْزِلَهَا مَعَهُ وَلَيْسَ الشَّرْطُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَكُلَّمَا كَانَ السُّكَّانُ فِي الدَّارِ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ أَعَمْرَ لَهَا. وَإِنْ حَفَرَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ بِئْرًا لِلْمَاءِ أَوْ الْوُضُوءِ فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَإِنْ حَفَرَ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَفَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ وَهُوَ فِي الْحَفْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَعَدٍّ، فَأَمَّا فِي الْحَفْرِ بِإِذْنِهِ لَا يَكُونُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 مُتَعَدِّيًا وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ. وَإِنْ تَكَارَى دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرَهَا وَيُعْطِيَ أَجْرَ حَارِسِهَا وَنُوَّابِهَا فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا يَعْمُرُ بِهِ الدَّارَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَهِيَ الْجِبَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ فَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مَجْهُولًا مَعَ الْعَشَرَةِ وَضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ يَجْعَلُ الْكُلَّ مَجْهُولًا، فَأَمَّا أَجْرُ الْحَارِسِ فَهُوَ عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا سَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَرَبُّ الدَّارِ مَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى حِينَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ لِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فِي الْحَائِطِ الْوَاهِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَفْرِيغِ مَا اشْتَغَلَ مِنْ الْهَوَاءِ بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّفْرِيغِ بِالْهَدْمِ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْمُطَالَبَةُ. رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَ دَابَّةً فِي الدَّارِ وَأَوْقَفَهَا عَلَى بَابِهِ فَضَرَبَتْ إنْسَانًا فَمَاتَ، أَوْ هَدَمَتْ حَائِطًا، أَوْ دَخَلَ ضَيْفٌ لَهُ عَلَى دَابَّةٍ فَوَطِئَ إنْسَانًا مِنْ السُّكَّانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاكِنِ وَلَا عَلَى الضَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إدْخَالِ الدَّابَّةِ وَإِيقَافِهَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ أَنْ يَرْبِطَ دَابَّتَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى الدَّابَّةِ حِينَ أَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا سَنَةً وَقَبَضَهَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَرْبِطَ فِيهَا دَابَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِانْتِفَاعِ كَالْمَالِكِ، وَالْمَالِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ وَلَوْ تَكَارَى دَارًا يَسْكُنُهَا شَهْرًا بِخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدُمَ وَسَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِدْمَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ السُّكْنَى وَبَقِيَتْ السُّكْنَى مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْفِي أَجْرُ الْمِثْلِ. رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا يُنْقِصُ مِمَّا سَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الْتَزَمَ الْمُسَمَّى بِدُونِ أَنْ يَسْكُنَهَا فَالْتِزَامُهُ لَهَا إذَا سَكَنَ أَظْهَرُ، وَرَبُّ الدَّارِ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهَا؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ فَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَكِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا حَيَوَانًا وَقَالَ رَبُّ الدَّارِ رُدَّهَا عَلَيَّ. (قَالَ:) هَذَا يُخَرِّبُهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ مِنْ السُّكْنَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا مِنْ الْحُبُوبِ مَعَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 نَفْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْهُ وَلَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا أَنْزَلَ الْمُسْتَأْجِرُ زَوْجَ ابْنَتِهِ مَعَهُ فِي الدَّارِ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ طَالَبَهُ بِالْأَجْرِ فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الدَّارِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ أَسْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَلَوْ أَسْكَنَهُ مِلْكَهُ لَمْ يُطَالِبْهُ بِالْأَجْرِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْكَنَهُ دَارًا يَكْتَرِيهَا فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ فِيهَا سُكَّانٌ فَأَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَكْنُسَ الْبِئْرَ الَّتِي فِي الدَّارِ فَفَعَلَ وَطَرَحَ تُرَابَهَا فِي الدَّارِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فَإِنَّ السَّاكِنَ مُرْتَفِقٌ بِالْبِئْرِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَنْسِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ التُّرَابُ إلَى الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي إلْقَاءِ التُّرَابِ فِي الطَّرِيقِ فَكَانَ ضَامِنًا. رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنَّهُ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ سَقَطَ الْخِيَارُ، وَإِنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَشَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَشْرُوطٌ لِلْفَسْخِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُتْلَفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، ثُمَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَالَ وَقَدْ يَقَعُ نَفْيُهُ قَبْلَ أَنْ يُرَوِّيَ الْمَرْءُ النَّظَرَ فِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ؛ لِيَدْفَعَ الْغَبْنَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْإِجَارَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُجْعَلُ كَالْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ كَالْبَيْعِ وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَمَا يُتْلَفُ قَبْلَ ذَلِكَ يُتْلَفُ عَلَى ضَمَانِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِيفَاءِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَنَا وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَتِمُّ رِضَاهُ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عِنْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِنْ سَكَنَهَا فِي الْمُدَّةِ فَقَدْ تَمَّ رِضَاهُ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْخِيَارَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَضِيَهَا أَخَذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنْ لَمْ يَرْضَهَا أَخَذَهَا بِخَمْسِينَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا انْهَدَمَ مِنْهَا اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ وَإِذَا أَجَّرَ الْوَصِيُّ دَارَ الْيَتِيمِ مُدَّةً طَوِيلَةً جَازَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ لَوْ كَانَ بَالِغًا فِي كُلِّ عَقْدٍ نَظَرًا لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِلْإِجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ وَبِمَا يَكُونُ أَصْلَحَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] وَيَجُوزُ لِوَكِيلِ الْكَبِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ. . رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ بِكِرَاءٍ فَمَكَثَ مَعَهَا سَنَةً فِيهِ، ثُمَّ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكِرَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَتْ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ أَنَّ الْمَنْزِلَ مَعَهَا بِكِرَاءٍ أَوْ لَمْ تُخْبِرْهُ فَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا لَكِ عَلَيَّ مَعَ نَفَقَتِكَ أَجْرُ الْمَنْزِلِ كَذَا، وَكَذَا وَضَمِنَهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ دَيْنًا وَاجِبًا لِرَبِّ الْمَنْزِلِ، وَإِنْ أَشْهَدَ لَهَا بِهِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ لَمْ يُعْطِهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا لَا لَهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لَهَا ذَلِكَ بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُعْطِ. ، وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا فَكَمَا لَا يَتِمُّ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ، وَرُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَأَتَّى وَلَكِنْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِرُؤْيَةِ الدَّارِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَحِينَئِذٍ يَتَخَيَّرُ لِلتَّغَيُّرِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ بِاتِّحَادِ الْعَاقِدَيْنِ فَبِالتَّفْصِيلِ فِي ذِكْرِ الْبَدَلِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لَا يَفْسَخُهُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِعُذْرٍ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُهَا شَهْرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِجَارَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهَا شَهْرَيْنِ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي السُّكْنَى، وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ فَقَالَ: إنَّمَا انْهَدَمَتْ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَادَ عَلَى الشَّهْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا زَادَ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا. وَإِذَا أَجَّرَ الْبَيْتَ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى فَتْحِهِ وَلَمْ أَسْكُنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا، أَمَّا جَعْلُ الْقَوْلِ قَوْلَهُ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَالْمِفْتَاحُ مَا اُتُّخِذَ إلَّا لِفَتْحِ الْبَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحُ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُعِينُهُ وَأَمَّا تَرْجِيحُ بَيِّنَتِهِ؛ فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِإِثْبَاتِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَنْفِي ذَلِكَ. وَإِذَا تَكَارَى دَارًا شَهْرًا فَأَقَامَ مَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِيهَا إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَا أُعْطِيكَ الْأَجْرَ لِأَنَّكَ لَمْ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الدَّارِ (قَالَ:) عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَلْيَلْزَمْهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا حَانُوتًا يَعْمَلَانِ فِيهِ بِأَنْفُسِهِمَا فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَأْجَرَ خَفِيرًا فَأَقْعَدَهُ فِي الْحَانُوتِ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَدَعَهُ. (قَالَ:) لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي نَصِيبِهِ مَنْ شَاءَ مَا لَمْ يُدْخِلْ عَلَى شَرِيكِهِ فِي نِصْفِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ مَنْفَعَةِ النِّصْفِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَمْلِكُهُ كَيْفَ شَاءَ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ فَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُتَعَدٍّ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَتَاعًا مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَسَطَ الْحَانُوتِ حَائِطًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا يَمْلِكُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ تَكَارَى بَيْتًا وَدُكَّانًا عَلَى بَابِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَالدُّكَّانُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالدُّكَّانِ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ فِي الدَّارِ وَيَرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِ الدُّكَّانِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ فِيهِمَا إلَى مَحِلِّهِ وَهُوَ عَيْنٌ مُنْتَفِعٌ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إنْسَانٌ حَتَّى اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُمَا سَنَةً كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا فَأُحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَفُّقِ بِالدُّكَّانِ فَيُرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِهِ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا كَانَا بَيْتَيْنِ فَغَصَبَ أَحَدَهُمَا غَاصِبٌ. رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَطَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ يَنْزِلَ أَحَدُهُمَا فِي أَقْصَاهُ وَالْآخَرُ فِي مُقَدِّمِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِرَةٌ وَلِصَاحِبِ الْأَقْصَى أَنْ يَنْزِلَ فِي مُقَدِّمِهِ مَعَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْآخَرِ وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لِيَنْزِلَهَا بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَلَمْ يَنْزِلْهَا وَلَكِنْ أَنْزَلَ فِيهَا دَوَابَّ وَبَقَرًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 فَانْهَدَمَتْ مِنْ عَمَلِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ مِنْهُ فَإِنَّ مَا فَعَلَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَنْزِلًا تَدْخُلُ الدَّوَابُّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ ضَامِنٌ؛ لِمَا يَنْهَدِمُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُكَارِيَيْنِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَنْتَقِضُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنَّهُ يَخِيطُ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْخَيَّاطُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ، ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ كَالْعَيْنِ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْكُلِّ فَبِمَوْتِ الْأَجِيرِ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ فِيمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَقَاسَ بِالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إذَا زَرْعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْتَقِضُ بِالْإِنْفَاقِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي تَرْبِيَةِ الزَّرْعِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَبِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ لِتَضَمُّنِهِ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِيَدِهِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ وَلَنَا طَرِيقَانِ. (أَحَدُهُمَا) فِي مَوْتِ الْأَجِيرِ فَنَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْأَجِيرِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَقَبَةَ الدَّارِ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ بِرِضَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ فِيمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ مُضِيفٌ لِلْعَقْدِ إلَى الْغَيْرِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْعَقْدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَتَجَدَّدُ فِي مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ. (قِيلَ) فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ الْإِجَارَةُ فِيهَا مِنْ الْمُوَرِّثِ. (قُلْنَا) إنَّمَا لَا تَعْمَلُ إجَارَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى حَقِّهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَمَا كَانَ يَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّ حَقِّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْأَمَةِ حَقٌّ فِيمَا هُوَ حَقُّ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ فِي مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُوَرَّثُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَفِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمِلْكِ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُوَرَّثُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ أَوْصَى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَرَدَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ دُونَ وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُوَرَّثُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَبْقَى لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى وَاَلَّتِي لَا تَحْدُثُ لَا تَبْقَى لِتُوَرَّثَ وَاَلَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا فَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فِيهِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ وَفَصَّلَ الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ، وَالسَّفِينَةُ إذَا كَانَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَمَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِثْبَاتِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَوْ مَضَتْ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ بِعَقْدٍ بَيْنَهُمَا عُقِدَتْ الْإِجَارَةُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْقَاءُ الْعَقْدِ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَوْلَى وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُورِدُ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلَانِ أَجَّرَا دَارًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْعَقْدُ يُنْتَقَضُ فِي حِصَّتِهِ فَإِنْ رَضِيَ الْوَارِثُ وَهُوَ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ بَيْنَهُمَا فِي حِصَّتِهِ بِالتَّرَاضِي، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مُشَاعًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَاجِرُ مِنْ شَرِيكِهِ فَفِي نَصِيبِ الْحَيِّ مِنْهُمَا الْعَقْدُ بَاقٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يَرْفَعُ الْإِجَارَةَ إلَّا زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ فَقَالَ بِمَوْتِ: أَحَدِهِمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ فَبُطْلَانُ الْعَقْدِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْخِلَافِ وَقَدْ بَيَّنَّا رِوَايَةً فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَقَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَجْرَ فَسَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا فَقَالَ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَجِّلْ لِي الْأَجْرَ كَمَا شَرَطْت عَلَيْكَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ السَّنَةِ. (قَالَ:) يَأْخُذُهُ بِالْأَجْرِ حَتَّى يُعَجِّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ كَالْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بَعْدَ شَرْطِ التَّعْجِيلِ يُطَالِبُهُ بِالْأُجْرَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ تَنُّورًا يَخْبِزُ فِيهِ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَاحْتَرَقَ بَيْتُ بَعْضِ الْجِيرَانِ مِنْ تَنُّورِهِ أَوْ بَعْضُ بُيُوتِ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 اتِّخَاذَ التَّنُّورِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَلِلسَّاكِنِ أَنْ يَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ. فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُ وَلَمْ يُخْبِرْ رَبَّ الْمَنْزِلِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ فَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ بِحِسَابِ مَا سَكَنَ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الشَّهْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ بِخُرُوجِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فَبَقِيَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَقَدْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا لِمَا مَضَى وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ عِنْدَ الْعُذْرِ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ الْمُتَجَدِّدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ إذَا خَرَجَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْفَسْخِ إلَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ بِنَفْسِهِ. رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلَهُ فَأَجَّرَهُ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ أَبِيهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ فَلَمَّا مَضَتْ الْإِجَارَةُ وَطَالَبَهُمْ الْوَكِيلُ بِالْأَجْرِ أَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ إلَّا عِنْدَ الْمُوَكِّلِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ مَعَ هَؤُلَاءِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لَوْ عَقَدَ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ إلَّا فِي عَبْدِهِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، فَكَذَلِكَ إذَا عَقَدَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ وَرَبُّ الدَّارِ عَبْدَهُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ الْآنَ لِغُرَمَائِهِ، وَحَقُّهُمْ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَا لَمْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ابْنَ الْوَكِيلِ أَوْ أَبَاهُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَالْوَكِيلُ يُطَالَبُ بِالْأَجْرِ وَهَذَا نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَبِيعُ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الْوَكِيلُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إجَارَةً فَاسِدَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْرِفُ الْأَسْبَابَ الْمُفْسِدَةَ لِلْعَقْدِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيمَا بَاشَرَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاشَرَ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ بِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ. . رَجُلٌ دَفَعَ دَارِهِ إلَى رَجُلٍ يَسْكُنُهَا وَيَرُمُّهَا وَلَا أَجْرَ لَهَا فَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ مِنْ سُكْنَى الْآجِرِ (قَالَ:) يُضَمِّنُ رَبُّ الدَّارِ الْمُسْتَأْجِرَ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَعَارَهَا مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ فَكَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا لَهَا ضَامِنًا؛ لِمَا انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُؤَاجِرَ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى غَصْبِ الْعَقَارِ. رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلًا لَهُ فَوَهَبَهُ الْوَكِيلُ لِرَجُلٍ أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهُ فَسَكَنَهُ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ فَالْوَكِيلُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ مُخَالِفٌ وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ. رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مَنْزِلًا وَالْمَنْزِلُ مُقْفَلٌ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ خُذْ الْمِفْتَاحَ وَافْتَحْهُ وَاسْكُنْهُ فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَنْزِلَ وَأَعْطَى أَجْرَ الْحَدَّادِ لِفَتْحِ الْقُفْلِ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى الْحَدَّادَ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَنْزِلِ، وَإِنْ انْكَسَرَ الْقُفْلُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْحَدَّادِ فَالْحَدَّادُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ الْقُفْلَ إذَا عَالَجَهُ بِمَا يُعَالَجُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقُفْلِ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي فَتْحِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي فَتْحٍ الْقُفْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ عَالَجَهُ الْحَدَّادُ عِلَاجًا خَفِيفًا فَانْكَسَرَ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الِانْكِسَارَ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَمَّنُ بِمَا يُتْلَفُ لَا بِعَمَلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إجَارَةِ الْحَمَّامَاتِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: قَدِمَتْ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَنِي عَنْ مَالِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ لِي غِلْمَانًا حَجَّامِينَ لَهُمْ غَلَّةٌ وَحَمَّامًا لَهُ غَلَّةٌ فَكَرِهَ لِي غَلَّةَ الْحَجَّامِينَ وَغَلَّةَ الْحَمَّامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَأَمَّا غَلَّةُ الْحَمَّامِ فَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ) قَالُوا الْحَمَّامُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَرَّ بَيْتٍ، تُكْشَفُ فِيهِ الْعَوْرَاتُ، وَتُصَبُّ فِيهِ الْغُسَالَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ»، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ حَمَّامِ الرِّجَالِ وَحَمَّامَ النِّسَاءِ فَقَالُوا: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ حَمَّامِ النِّسَاءَ لِأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنْ الْخُرُوجِ وَأُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ، وَاجْتِمَاعُهُنَّ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ فِتْنَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نِسَاءً دَخَلْنَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: أَنَتُنَّ مِنْ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ وَأَمَرَتْ بِإِخْرَاجِهِنَّ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا فِي دِيَارِنَا وَالْحَاجَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِسَالِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأَنْهَارِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 وَالْحِيَاضِ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الرَّجُلُ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ بِإِزَالَةِ الدَّرَنِ وَحَاجَةُ النِّسَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الزِّينَةِ أَكْثَرُ وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ» وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّخُولِ إذَا كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ السَّتْرِ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الْحَمَّامِ كَمَا لَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ حَمَّامًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ شَرْعًا فَإِنْ كَانَ حَمَّامًا لِلرِّجَالِ وَحَمَّامًا لِلنِّسَاءِ وَقَدْ جَدَّدَهُمَا جَمِيعًا فَسُمِّيَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ حَمَّامًا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْجَرَ حَمَّامًا وَاحِدًا فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا اسْتَأْجَرَ وَهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَقْصُودِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَلَكِنِّي أَدَّعِي الْقِيَاسَ وَأُجِيزُ لَهُ الْحَمَّامَيْنِ جَمِيعًا لَعُرْفِ اللِّسَانِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: حَمَّامُ فُلَانٍ وَهُمَا حَمَّامَانِ وَالْمَعْرُوفُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ وَعِمَارَةُ الْحَمَّامِ فِي صَارُوجِهِ وَحَوْضِهِ وَمَسِيلِ مَائِهِ وَإِصْلَاحِ قِدْرِهِ عَلَى رَبِّ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحَمَّامِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يُمَكِّنَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَجَّرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إلَى الْعُرْفِ وَفِي الْعُرْفِ صَاحِبُ الْحَمَّامِ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ فَإِنْ اشْتَرَطَ الْمَرَمَّةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَرَمَّةَ عَلَى الْآخَر فَهَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ذَلِكَ أَجْرُهُ وَهُوَ مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْحَمَّامِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ لِمَرَمَّتِهِ مَعَ الْأُجْرَةِ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ جَعَلَهُ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ فِي إنْفَاقِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا قَالَ لِمَدِينِهِ أُسَلِّمُ مَالِي عَلَيْكَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا يَرُمُّ بِهِ الْحَمَّامَ وَمَنْ يَسْتَأْجِرُهُ لِذَلِكَ وَمَعَ هَذَا جَوَّزَ التَّوْكِيلَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ لَوْ أَمَرَهُ بِإِنْفَاقِ بَعْضِ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى عَلَفِهَا جَازَ ذَلِكَ وَهُمَا سَوَاءٌ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا وَفِي الْقِيَاسِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ. وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ هُنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلتَّيْسِيرِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لِلْحَمَّامِ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ لِلدَّابَّةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَدْ عَيَّنَ لَهُ الْمَحِلَّ الَّذِي أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدَّيْنِ إلَيْهِ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ تَعْيِينِ مَنْ يُعَامِلُهُ كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمَدِينَ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 مَسْأَلَةِ السَّلَمِ فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَنْفَقْتهَا عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمَدِينُ إذَا ادَّعَى قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيُسْتَحْلَفُ رَبُّ الْحَمَّامِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمِينٌ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَ ضَامِنٌ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَاشْتِرَاطُ كَوْنِ الضَّامِنِ أَمِينًا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَلَوْ جَعَلَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا يَقْبِضُهَا وَنَفَقَتُهَا عَلَى الْحَمَّامِ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: دَفَعْتهَا إلَيْهِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْحَمَّامِ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَدْلُ بِقَبْضِهَا بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ رَبِّ الْحَمَّامِ فِي الْقَبْضِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ وَيُجْعَلُ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِذَلِكَ فَإِنَّ رَبَّ الْحَمَّامِ حِينَ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ فَقَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، ثُمَّ الْعَدْلُ أَمِينٌ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ ضَيَاعٍ أَوْ نَفَقَةٍ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُودِعِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ كَفِيلًا بِالْأَجْرِ كَانَ مِثْلَ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ مُؤْتَمَنٍ وَلَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ؛ لِمَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَالْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْحَمَّامِ أَنْ يَمْنَعَهُ بِئْرَ الْمَاءِ وَمَسِيلَ مَاءِ الْحَمَّامِ أَوْ مَوْضِعَ سِرْقِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَرَافِقِهِ وَمَجَامِعِهِ، وَلَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِهِ فَكَانَ بَيْعًا وَالْبَيْعُ يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَدْخَلِ الْحَمَّامِ وَفِنَائِهِ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِدْرِ الْحَمَّامِ فَهِيَ لِرَبِّ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي بِنَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا يَشْهَدُ لِرَبِّ الْحَمَّامِ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْقِدْرِ وَإِصْلَاحَهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْحَمَّامِ أَنْ يُقْعِدَ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ أَمِينًا يَقْبِضُ عَلَيْهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ صَارَ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الْحَمَّامِ مِنْ غَلَّةِ الْحَمَّامِ شَيْءٌ إنَّمَا لَهُ أَجْرٌ مُسَمًّى فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَأَمَّا فِي الْغَلَّةِ فَهُوَ وَأَجْنَبِيٌّ آخَرُ سَوَاءٌ. وَلَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْحَمَّامِ سِرْقِينٌ كَثِيرٌ وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ يَشْهَدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ رَبِّ الْحَمَّامِ وَيُؤْمَرُ بِنَقْلِهِ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْحَمَّامِ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ حَقٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّغَ مِلْكَ الْغَيْرِ عَنْ مَتَاعِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الرَّمَادِ إذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ لِي وَأَنَا أَنْتَفِعُ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَكُونَ الرَّمَادُ مِنْ عَمَلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْحَمَّامِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ قِبَلَهُ حَقًّا وَهُوَ نَقْلُ ذَلِكَ الرَّمَادِ وَيُفَرِّغُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ نَقْلَ الرَّمَادِ وَالسِّرْقِينِ وَالْغُسَالَةِ لَمْ يُفْسِدْ ذَلِكَ الْإِجَارَةَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ سَوَاءٌ كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ ظَاهِرًا أَوْ مُسْقَفًا بِخِلَافِ الْبَالُوعَةِ وَالْكِرْبَاسِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَلَا يَزِيدُ بِالشَّرْطِ إلَّا وَكَادَةً، وَإِنْ اشْتَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْحَمَّامِ فِي الْإِجَارَةِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُفِيدٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يَنْقُضُهُ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْحَمَّامِ لِلْمُسْتَأْجِرِ قَدْ تَرَكْت لَكَ أَجْرَ شَهْرَيْنِ لَمِرَمَّةِ الْحَمَّامِ فَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى حَمَّامِهِ فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَنْفَقْتهَا لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا مِنْ الْعَشَرَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَمَّامَيْنِ شُهُورًا مُسَمَّاةً كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَانْهَدَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْبَاقِيَ، وَإِنْ انْهَدَمَ بَعْدَ قَبْضِهِمَا فَالْبَاقِي لَهُ لَازِمٌ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِ الْحَمَّامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْنَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا تُقَامُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي إتْمَامِ الصَّفْقَةِ فِي قَبْضِهِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْعَاقِدِ وَبَعْدَ التَّمَامِ لَا يُثْبِتُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ اُسْتُحِقَّ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتَيْنِ فَانْهَدَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْحَمَّامِ كُلَّ شَهْرٍ عَشَرَةَ طَلَّاءَاتٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ النُّورَةَ الَّتِي اشْتَرَطَ مَجْهُولَةٌ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا وَلَا مِقْدَارُ ثَمَنِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْكُلِّ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّامًا وَعَبْدًا وَقَبَضَهُمَا فَمَاتَ الْعَبْدُ لَزِمَهُ الْحَمَّامُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْحَمَّامِ وَبِمَوْتِ الْعَبْدِ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ لَا يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ، وَإِنْ انْهَدَمَ الْحَمَّامُ وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ لِيَقُومَ عَلَى الْحَمَّامِ فِي عَمَلِهِ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَبْدَ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ لِعَمَلِ الْحَمَّامِ وَقَدْ تَعَذَّرَ بِانْهِدَامِ الْحَمَّامِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ فِي الْعَبْدِ كَمَا اسْتَأْجَرَ الرَّحَا مَعَ الثَّوْرِ لِيَطْحَنَ بِهِ فَانْهَدَمَ الرَّحَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي الثَّوْرِ؛ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَمَّامَيْنِ فَانْهَدَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ، وَمَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذْ مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِمَنْفَعَةِ الْآخَرِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَمَّامًا وَاحِدًا فَانْهَدَمَ مِنْهُ بَيْتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ بَعْضِ بُيُوتِ الْحَمَّامِ مُتَّصِلٌ بِالْبَعْضِ وَبَعْدَ مَا انْهَدَمَ بَعْضُ الْبُيُوتِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبَاقِي مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْلُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْحَمَّامَ بِأَجْرٍ وَأَعْطَى ثِيَابَهُ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ يَحْفَظُهَا لَهُ فَضَاعَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا هَكَذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَمَّامِ فِي الثِّيَابِ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ لَيْسَ بِأَجْرٍ عَلَى حَفِظَ الثِّيَابِ وَلَكِنَّهُ غَلَّةُ الْحَمَّامِ وَإِنَّمَا حُبِسَ لِجَمْعِ الْغَلَّةِ لَا لِحِفْظِ ثِيَابِ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، فَأَمَّا الثِّيَابِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَحْفَظُ ثِيَابَ النَّاسِ بِأَجْرٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْحِفْظِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَرَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَبِسَ إنْسَانٌ ثَوْبَ الْغَيْرِ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ فَلَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ صَاحِبَ الثَّوْبِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ تَارِكٌ لِلْحِفْظِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ وَلَوْ دَخَلَ الْحَمَّامَ بِدَانَقٍ عَلَى أَنْ يُنَوِّرَهُ صَاحِبُ الْحَمَّامِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي النُّورَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ فَلْسًا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ فَيَغْتَسِلَ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ مُكْثِهِ وَمِقْدَارِ مَا يَصُبُّ مِنْ الْمَاءِ لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَجَوَّزَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ وَقَدْ اسْتَحْسَنُوهُ وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ إعْلَامِ مِقْدَارِ ذَلِكَ حَرَجًا وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا. . رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ حَمَّامًا سَنَةً بِغَيْرِ قِدْرٍ وَاسْتَأْجَرَ الْقِدْرَ مِنْ غَيْرِهِ فَانْكَسَرَتْ الْقِدْرُ وَلَمْ يَعْمَلْ فِي الْحَمَّامِ شَهْرًا فَلِصَاحِبِ الْحَمَّامِ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْحَمَّامَ إلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ قِدْرًا آخَرَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِرَبِّ الْحَمَّامِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْقِدْرُ لِرَبِّ الْحَمَّامِ فَانْكَسَرَتْ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مَا لَمْ يُصْلِحْ رَبُّ الْحَمَّامِ قِدْرَهُ وَلَا أَجْرَ لِصَاحِبِ الْقِدْرِ مِنْ يَوْمِ انْكَسَرَتْ لِزَوَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقِدْرِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ انْكَسَرَتْ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ الْمُعْتَادِ، وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْقِدْرِ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْقِدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إجَارَةِ الرَّاعِي] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا يَرْعَى لَهُ غَنَمًا مَعْلُومًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ الرَّاعِي قَدْ يَكُونُ أَجِيرَ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْغَنَمِ أَنْ لَا يَرْعَى غَنَمَهُ مَعَ غَنَمِ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَجِيرَ وَاحِدٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي يُبَيِّنُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ الْعَقْدَ إلَّا وَكَادَةً فَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَاةٌ لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْغَنَمِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِحِسَابِهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَبِهَلَاكِ بَعْضِ الْغَنَمِ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مِنْ مَنَافِعِهِ وَلَا فِي تَسْلِيمِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْعَى مَعَهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْأَوَّلِ فَلَا يَمْلِكُ إيجَابَ الْحَقِّ فِيهَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَوْ ضَرَبَ مِنْهَا شَاةً فَفَقَأَ عَيْنَهَا كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ صَاحِبُهَا بِضَرْبِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا بِضَرْبَتِهِ وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ فَغَرِقَتْ شَاةٌ مِنْهَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي سَقْيِهَا وَمَا تَلِفَ بِالْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا يَضْمَنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الدِّقِّ وَكَذَلِكَ لَوْ عَطِبَتْ مِنْهَا شَاةٌ فِي الْمَرْعَى أَوْ أَكَلَهَا سَبُعٌ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا هَلَكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ هَلَكَ مِنْ الْغَنَمِ نِصْفُهَا أَوْ أَكْثَرُ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ تَامًّا مَا دَامَ يَرْعَاهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا يَرْعَى لِمَنْ شَاءَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا يَهْلِكُ بِفِعْلِهِ مِنْ سِبَاقٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ ظَاهِرًا كَمَا فِي الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ وَمَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ بِمَوْتٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيعٍ أَوْ أَكْلِ سِبَاعٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمَوْتِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تُقَامُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِمَا الْقَبْضَ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُهُ ضَمَانُ الْعَيْنِ عَلَيْهِ فَدَعْوَاهُ الْمَوْتَ بَعْد ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْغَاصِبِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ ضَمَانَ مَا هَلَكَ مِنْ فِعْلِهِ لَمْ يُفْسِدْ ذَلِكَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يَزِيدُهُ الشَّرْطُ وَإِلَّا وَكَادَةً، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ ضَمَانَ مَا مَاتَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ عَنْ الْمَوْتِ وَاشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَاقِدِ فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ يَأْكُلُهُ السَّبُعُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَإِذَا كَانَ الرَّاعِي أَجِيرَ وَاحِدٍ فَاشْتِرَاطُ هَذَا عَلَيْهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِدُونِ الْخِلَافِ وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ وَبِبُطْلَانِ الشَّرْطِ يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، وَإِذَا أَتَى الرَّاعِي الْمُشْتَرَكُ بِالْغَنَمِ إلَى أَهْلِهَا فَأَكَلَ السَّبُعُ مِنْهَا شَاةً وَهِيَ فِي مَوْضِعِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى أَهْلِهَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا وَلِأَنَّ عَلَيْهِ عَمَلَ الرَّعْيِ وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ حِينَ أَتَى بِهَا إلَى أَهْلِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَعْطَبُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْغَنَمَ مَعَ غُلَامِهِ وَأَجِيرِهِ وَوَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا فِي عِيَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا؛ لِأَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ فِي الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ أَكِيدَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ وَهَذَا بِالْعُرْفِ فَإِنَّ الرَّاعِيَ يَلْتَزِمُ حِفْظَ الْغَنَمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ غَنَمَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِيَدِهِ تَارَةً وَبِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ تَارَةً وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا شَهْرًا لِيَرْعَى لَهُ فَأَرَادَ الرَّاعِي أَنْ يَرْعَى لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ فَلِرَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ وَذَكَرَ الْمُدَّةَ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فَيَكُونُ أَجِيرًا لَهُ خَاصًّا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ الْغَنَمِ بِمَا فَعَلَهُ حَتَّى رَعَى لِغَيْرِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ عَلَى الثَّانِي وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَوَّلِ بِكَمَالِهِ وَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشَقَّةٍ فِي الرَّعْيِ لِغَيْرِهِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الثَّانِي عِوَضَ عَمَلِهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الظِّئْرِ وَلَوْ كَانَ يَبْطُلُ مِنْ الشَّهْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يَرْعَاهَا حُوسِبَ بِذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ بَطَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ مَنَافِعِهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي مُدَّةِ الْبَطَالَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَلَوْ سَأَلَ رَاعِيًا أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ هَذِهِ بِدَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ أَوْ قَالَ: شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَهُ أَنْ يَرْعَى لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَلِ بَيَّنَ مِقْدَارَ عَمَلِهِ بِبَيَانِ مَحِلِّهِ وَهُوَ الْغَنَمُ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ مَنَافِعِهِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا سَوَاءٌ رَعَى لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَرْعَ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْعَى مَعَهَا شَيْئًا غَيْرَهَا كَانَ جَائِزًا وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ أَجِيرُ وَاحِدٍ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُشْتَرَكًا اسْتِدْلَالًا بِالْبِدَايَةِ بِذِكْرِ الْعَمَلِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إذَا صَرَّحَ بِخِلَافِهِ بِالشَّرْطِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَنَمَهُ يَرْعَاهَا عَلَى أَنَّ أَجْرَهُ أَلْبَانُهَا وَأَصْوَافُهَا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَإِعْلَامُ الْأَجْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ جُبْنًا مَعْلُومًا وَسَمْنًا لِنَفْسِهِ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلرَّاعِي فَهُوَ كُلُّهُ فَاسِدٌ، وَالرَّاعِي ضَامِنٌ؛ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِلْكَ الْغَيْرِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ أَنَّ رَاعِيًا مُشْتَرَكًا خَلَطَ غَنَمًا لِلنَّاسِ بَعْضًا بِبَعْضٍ وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَهْلُهَا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّاعِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا كَالْمُودَعِ مَعَ الْغَاصِبِ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْغَنَمِ كُلِّهَا لِأَهْلِهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ التَّمَيُّزُ اسْتِهْلَاكٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ وَبِمِثْلِ هَذَا الْخَلْطِ يَكُونُ الرَّاعِي ضَامِنًا وَتَكُونُ الْغَنَمُ لَهُ بِالضَّمَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قِيمَتِهَا يَوْمَ خَلَطَهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا يَرْعَى فِي الْجِبَالِ فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَنَمِ أَنْ يَأْتِيَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 بِسِمَةِ مَا يَمُوتُ مِنْهَا وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ فَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمُوتُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِسِمَتِهَا وَقَدْ يَفْتَعِلُ فِيمَا يَأْتِي مِنْ السِّمَةِ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ الْغَنَمِ، ثُمَّ يَأْتِي بِسِمَتِهِ وَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ فَإِنَّ السِّمَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالذَّبْحِ وَالْمَوْتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مُفِيدٍ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالسِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْعَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ أَتَى بِالسِّمَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوْتِ وَلَا يَسَعُ الْمُصَدِّقَ أَنْ يُصَدِّقَ غَنَمًا مَعَ الرَّاعِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ وَيَتَأَدَّى بِأَدَائِهِ وَنِيَّتِهِ وَالرَّاعِي فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَإِنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ الزَّكَاةَ مِنْ الرَّاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّاعِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَمْنَعَ الْمُصَدِّقَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَإِنْ خَافَ الرَّاعِي عَلَى شَاةٍ مِنْهَا فَذَبَحَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ ذَبَحَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَبْحِهَا بَلْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ مَا سَلَّمَهُ إلَى الرَّاعِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي لِإِنْكَارِهِ قَبْضَ الزِّيَادَةِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْغَنَمِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْفَضْلِ بِجُحُودِهِ وَلَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مِنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يُقْرِضُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّعْيِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الرَّعْيِ فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْغَنَمِ بَاعَ نِصْفَ غَنَمِهِ، فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ الرَّاعِيَ شَهْرًا عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ لَمْ يَحُطَّهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْغَنَمِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْغَنَمِ مَا يُطِيقُ الرَّاعِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ فِي الْمُدَّةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ فِي ذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ شَهْرًا يَرْعَى لَهُ هَذِهِ الْغَنَمَ بِأَعْيَانِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَالتَّعْيِينُ فِي حَقِّ الرَّاعِي مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَيْهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَدَدِ الْغَنَمِ فَهُوَ مَا الْتَزَمَ إلَّا رَعْيَ مَا عَيَّنَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يُكَلِّفَهُ شَيْئًا آخَرَ كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ عَمَلًا آخَرَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ؛ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ وَتَعْيِينُهُ الْأَغْنَامَ لِبَيَانِ مَا قَصَدَ مِنْ تَمَلُّكِ مَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ لَا لِقَصْرِ حُكْمِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَإِذَا بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْيِينِ مُسْتَحَقَّةً لِرَبِّ الْغَنَمِ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَلَكِنْ لَا يُكَلَّفُ عَمَلًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مَقْصُودُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ الرَّعْيُ فَمَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الرَّعْيِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَى أَوْلَادَهَا مَعَهَا وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 كَشَاةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْأَوْضَحِ فَالْأَوْضَحُ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ شَهْرًا وَلَكِنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ غَنَمًا مُسَمَّاةً عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا شَاةً؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا عَمَلُ الرَّعْيِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ إقَامَةَ الْكُلِّ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاعَ مِنْهَا طَائِفَةً فَإِنَّهُ يُنْقِصُهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ فَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِقَدْرِ مَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَإِذَا وَلَدَتْ الْغَنَمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَى أَوْلَادَهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فِي عَمَلِ الرَّعْيِ كَشَاةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ حِينَ دَفَعَ الْغَنَمَ إلَيْهِ أَنْ يُوَلِّدَهَا وَيَرْعَى أَوْلَادَهَا مَعَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ، وَإِعْلَامُهُ بِبَيَانِ مَحِلِّهِ وَهُنَا مَحَلُّ الْعَمَلِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا تَلِدُ مِنْهَا وَكَمْ تَلِدُ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَالْجَهَالَةُ بِعَيْنِهَا لَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكُلُّ جَهَالَةٍ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْخَيْلُ وَالْحَمِيرُ وَالْبِغَالُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْغَنَمِ، وَلَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يُنْزِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الرَّاعِي فَهُوَ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ضَامِنٌ؛ لِمَا يَعْطَبُ مِنْهَا إنْ فَعَلَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ الرَّاعِي وَلَكِنَّ الْفَحْلَ الَّذِي فِيهَا نَزَا عَلَى بَعْضِهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ حِينَ خَلَطَ الْفَحْلَ بِالْإِنَاثِ مِنْ غَنَمِهِ وَالرَّاعِي لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ نَدَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فَخَافَ الرَّاعِي إنْ بَاعَ مَا نَدَّ مِنْهَا أَنْ يَضِيعَ مَا بَقِيَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ فِي تَرْكِ مَا نَدَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَا نَدَّ مِنْهَا كَانَ مُضَيِّعًا؛ لِمَا بَقِيَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَا نَدَّ أَوْ لَا يَقْدِرُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ مَا فِي يَدِهِ فَلِهَذَا كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا نَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَهُوَ فِي تَرْكِ اتِّبَاعِهِ مُقْبِلٌ عَلَى حِفْظِ مَا بَقِيَ وَلَيْسَ بِمُضَيَّعٍ؛ لِمَا نَدَّ وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَجِيءُ بِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاسْتِئْجَارِ وَكَذَلِكَ إنْ تَفَرَّقَتْ فِرَقًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِهَا كُلِّهَا فَأَقْبَلَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إقْبَالٌ عَلَى حِفْظِ مَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حِفْظِهِ فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الرَّاعِي أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَرَعَاهَا فِي بَلَدٍ فَعَطِبَتْ فَقَالَ: صَاحِبُهَا إنَّمَا اشْتَرَطْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَرْعَاهَا فِي مَوْضِعٍ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَالَ الرَّاعِي بَلْ شَرَطْتَ عَلَيَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الرَّاعِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِبَيِّنَتِهِ، ثُمَّ لَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يُخَالِفَ وَلَا أَجْرَ لِلرَّاعِي إذَا خَالَفَ بَعْدَ أَنْ تَعْطَبَ الْغَنَمُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ ضَامِنٌ وَبِالضَّمَانِ يَتَمَلَّكُ الْمَضْمُونَ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ فِي الرَّعْيِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ سَلِمَتْ الْغَنَمُ اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أَجْعَلَ لَهُ الْأَجْرَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ رَبِّ الْغَنَمِ وَهُوَ الرَّعْيُ مَعَ سَلَامَةِ أَغْنَامِهِ وَهُوَ بِتَعْيِينِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مَا قَصَدَ إلَّا هَذَا فَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي مَكَان وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ إجَارَةِ الْمَتَاعِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لُبْسُهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ مَتَى أَفَادَ اُعْتُبِرَ وَهَذَا تَعْيِينٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ فَلُبْسُ الدَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ لَا يَكُونُ كَلُبْسِ الْعَطَّارِ بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ فَالنَّاسُ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِهِ فَمَا يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْبَدَلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ غَصَبَ مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ وَلَبِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَلْبَس ذَلِكَ الثَّوْبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسَ كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ. (فَإِنْ قِيلَ) هُوَ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ. (قُلْنَا) تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَإِذَا وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِذَا لَوْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا إذَا أَلْبَسهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ ضَامِنٌ، وَإِنْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ اللُّبْسِ وَإِنَّ يَدَ اللَّابِسِ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَكُونَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَ اللَّابِسِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ سَلِمَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ فِي الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَكَذَلِكَ تَرْكُ تَعْيِينِ اللَّابِسِ. (وَهَذِهِ جَهَالَةٌ) تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ أَرْفَقِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَخْشَنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اخْتَصَمَا فِيهِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَبِسَهُ هُوَ وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا أَوْ لِلْعَمَلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يُعْمَلُ عَلَيْهَا فَعَمِلَ عَلَيْهَا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قَدْ زَالَ وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ فَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ ضَاعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْإِذْنُ فِي اللُّبْسِ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْ ارْتَدَى بِهِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ هَذَا لُبْسٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَمِيصِ سَتْرُ الْبَدَنِ بِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بَعْضُ السَّتْرِ، وَإِنْ اتَّزَرَ بِهِ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ إنْ تَخَرَّقَ؛ لِأَنَّ الِاتِّزَارَ بِالْقَمِيصِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَبِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ فَكَانَ غَاصِبًا إذَا اتَّزَرَ بِهِ ضَامِنًا إنْ تَخَرَّقَ بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَدَى بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِاتِّزَارَ مُفْسِدٌ لِلْقَمِيصِ فَمَا أَتَى بِهِ أَضَرَّ بِالثَّوْبِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَالِاتِّزَارُ غَيْرُ مُفْسِدٍ بَلْ ضَرَرُهُ كَضَرَرِ اللُّبْسِ أَوْ دُونَهُ، وَإِنْ سَلِمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ وَالضَّمَانُ وَالْأَجْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا لَوْ أَلْبَسهُ غَيْرَهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِزِيَادَةِ ضَرَرٍ مُفْسِدٍ لِلثَّوْبِ فَيَبْقَى الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَرَّقَ فَهُنَاكَ لَمَّا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَلَكَ الثَّوْبَ مِنْ حِينِ ضَمِنَهُ وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَإِذَا سَلِمَ فَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 الثَّوْبَ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ دِرْعًا لِتَلْبَسَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ بِالنَّهَارِ وَفِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ فِي لُبْسِ ثَوْبِ الصِّيَانَةُ بِالنَّهَارِ وَمِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى وَقْتِ النَّوْمِ وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْضًا فَقَدْ يُبَكِّرُونَ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ اللَّيَالِيِ، وَإِنْ لَبِسَتْ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَهِيَ ضَامِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ فَإِنَّ ثَوْبَ الصِّيَانَةِ لَا يُنَامُ فِيهِ عَادَةً وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلثَّوْبِ فَتَكُونُ ضَامِنَةً إنْ تَخَرَّقَ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا فِي غَيْرِ اللَّيْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَدْ ارْتَفَعَ بِمَجِيءِ النَّهَارِ وَإِنَّمَا كَانَتْ ضَامِنَةً بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِمْسَاكِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُمْسِكَ الثَّوْبَ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَالْأَمِينُ إذَا ضَمِنَ بِالْخِلَافِ عَادَ أَمِينًا بِتَرْكِ الْخِلَافِ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَإِنْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا بِاللَّيْلِ فَهِيَ ضَامِنَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَجْرٌ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي تَخَرَّقَ فِيهَا الثَّوْبُ وَعَلَيْهَا الْأَجْرُ فِيمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ سَلِمَ وَلَمْ يَتَخَرَّقْ فَعَلَيْهَا الْأَجْرُ كُلُّهُ لِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ تَحَقَّقَ مِنْهَا اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهَا الْأَجْرُ إلَّا فِي السَّاعَةِ الَّتِي ضَمِنَتْ بِالتَّخَرُّقِ لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ غَاصِبَةٌ عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا وَلِهَذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهَا الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الدِّرْعُ لَيْسَ بِدِرْعِ الصِّيَانَةِ إنَّمَا هُوَ دِرْعُ بِذْلَةٍ يُنَامُ فِي مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ نَامَتْ فِيهِ وَعَلَيْهَا الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالنَّوْمُ فِي مِثْلِهِ مُعْتَادٌ فَلَا تَكُونُ بِهِ مُخَالِفَةً، وَإِنْ كَانَتْ اسْتَأْجَرَتْهُ لِمُخْرَجٍ تَخْرُجُ فِيهِ يَوْمًا بِدِرْهَمٍ فَلَبِسَتْهُ فِي بَيْتِهَا فَعَلَيْهَا الْأَجْرُ لِأَنَّهَا اسْتَوْفَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَلُبْسُهَا فِي بَيْتِهَا وَلُبْسُهَا إذَا خَرَجَتْ سَوَاءٌ وَرُبَّمَا يَكُونُ لُبْسُهَا فِي بَيْتِهَا أَخَفَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَلْبَسْ وَلَمْ تَخْرُجْ؛ لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ ضَاعَ الدِّرْعُ مِنْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ وَجَدَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا إذَا صَدَّقَهَا رَبُّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ اللُّبْسِ بَعْدَ مَا ضَاعَ الدِّرْعُ مِنْهَا، وَإِنْ لَبِسَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ضَمِنَتْهُ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَإِنْ كَذَّبَهَا رَبُّ الدِّرْعِ فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِهَا حِينَ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدِّرْعِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهَا مِنْ اللُّبْسِ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْهُ فِيمَا مَضَى وَلِأَنَّ تَسْلِيمَهُ الثَّوْبَ إلَيْهَا تَمْكِينٌ لَهَا مِنْ لُبْسِهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَمَا تَدَّعِيهِ مِنْ الضَّيَاعِ عَارِضٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدِّرْعِ لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الضَّيَاعِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ، وَإِنْ سُرِقَ مِنْهَا أَوْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ وَحَرْقُ نَارٍ أَوْ لَحْسُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 سُوسٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي الْعَيْنِ أَمِينٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمَالِكِ؛ فَإِنَّهُ يَتَقَرَّرُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَهُ عَهْدُهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ أَمِينًا فِيهِ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُهُ؛ فَإِنَّهُ فِي الْحِفْظِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَكَانَ ضَامِنًا وَلَوْ أَمَرَتْ خَادِمَهَا أَوْ ابْنَتَهَا فَلَبِسَتْهُ فَتَخَرَّقَ كَانَتْ ضَامِنَةً كَمَا لَوْ أَلْبَسَتْ أَجْنَبِيَّةً أُخْرَى وَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا وَإِنْ سَلِمَ الثَّوْبُ بَعْدَ أَنْ صَدَّقَهَا رَبُّ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَإِنْ أَجَّرَتْهُ مِمَّنْ تَلْبَسُهُ بِفَضْلٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَهِيَ ضَامِنَةٌ لِلْخِلَافِ وَالْأَجْرُ لَهَا بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهَا التَّصَدُّقُ بِهِ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَوْ لَبِسَهُ خَادِمُهَا أَوْ ابْنَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَهُ إنْسَانٌ وَالْأَجْرُ عَلَيْهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُخَالِفْ وَلَوْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِ الْخَادِمِ كَانَ الضَّمَانُ فِي عُنُقِ الْخَادِمِ؛ لِأَنَّهَا غَاصِبَةٌ وَضَمَانُ الْغَصْبِ يَجِبُ دَيْنًا فِي عُنُقِ الْمَمْلُوكِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ قُبَّةً لِيَنْصِبَهَا فِي بَيْتِهِ وَيَبِيتَ فِيهَا شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْقُبَّةَ مِنْ الْمَسَاكِنِ فَإِنْ قِيلَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي يَنْصِبُ فِيهَا الْقُبَّةَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ لِقَرْضِ الثِّيَابِ قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ كَوْنُ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَأَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فَالْإِنْسَانُ لَا يَعْدَمُ الْأَرْضَ لِيَنْصِبَ فِيهَا الْقُبَّةَ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقُبَّةِ الِاسْتِظْلَالُ وَدَفْعُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ، وَذَلِكَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْبُيُوتَ الَّتِي يَنْصِبُهَا فِيهَا فَالْعَقْدُ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُيُوتِ وَتَرْكُ تَعْيِينِ غَيْرِ الْمُفِيدِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَإِنْ سَمَّى بَيْتًا فَنَصَبَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ غَيْرُ مُفِيدٍ فَالضَّرَرُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُيُوتِ فَإِنْ نَصَبَهَا فِي الشَّمْسِ أَوْ الْمَطَرِ كَانَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا أَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فَالشَّمْسُ تُحْرِقُهَا وَالْمَطَرُ يُفْسِدُهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ صَاحِبُهَا بِنَصْبِهَا فِي الْبَيْتِ لِيَأْمَنَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بَطَلَ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ ضَمِنَ، وَإِنْ سُلِّمَتْ الْقُبَّةُ كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ حِين اسْتَظَلَّ بِالْقُبَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ فَإِذَا سَلِمَتْ سَقَطَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَنْصِبَهَا فِي دَارِهِ فَنَصَبَهَا فِي دَارٍ فِي قَبِيلَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ الْمِصْرِ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ مُؤْنَةٍ عَلَى صَاحِبِهَا وَهُوَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ فَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى السَّوَادِ فَنَصَبَهَا فَسَلِمَتْ أَوْ انْكَسَرَتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمِصْرِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَجْرُ كَانَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِ الْقُبَّةِ وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ غَاصِبًا ضَامِنًا لِتَكُونَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا أَجْرَ عَلَيْهِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَحًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِ الرَّحَا وَلَوْ كَانَتْ ذَلِكَ عَارِيَّةً كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فَسْخٌ لِعَمَلِ النَّقْلِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُؤْنَةُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةُ النَّقْلِ وَمَنْفَعَةُ النَّقْلِ فِي الْعَارِيَّةِ لِلْمُسْتَعِيرِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى رَبِّ الرَّحَا؛ لِأَنَّ بِالنَّقْلِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِهِ يَجِبُ الْأَجْرُ لِرَبِّ الرَّحَا فَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ عِيدَانَ حَجْلَةٍ أَوْ كِسْوَتَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مُعْتَادٍ الِاسْتِئْجَارُ فِيهِ صَحِيحٌ وَعَلَى هَذَا اسْتِئْجَارُ الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ وَالصَّنَادِيقِ وَالسُّرَرِ وَالْقُدُورِ وَالْقِصَاعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ قُدُورًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ فَإِنَّ الْقُدُورَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِحَسَبِهَا فَإِنْ جَاءَهُ بِقِدْرٍ فَقَبِلَهُ عَلَى الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْأَجْرُ لَهُ لَازِمٌ إمَّا لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ سُتُورًا يُعَلِّقُهَا عَلَى بَابِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا وَلَوْ كَفَلَ كَفِيلٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةِ الْأَجْرَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَمَانَاتِ لَا تَصِحُّ وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ بِالْأَجْرِ كَفِيلًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَانًا لِيَزِنَ بِهِ وَالسَّنَجَاتِ وَالْقَبَّانَ وَالْمَكَايِيلَ فَهَذَا كُلُّهُ مُتَعَارَفٌ جَائِزٌ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ سَرْجًا لِيَرْكَبَهُ شَهْرًا فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَرَكِبَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ فَمَنْ يُحْسِنُ الرُّكُوبَ عَلَى السَّرْجِ لَا يَضُرُّ بِهِ رُكُوبُهُ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ يَضُرُّ بِهِ رُكُوبُهُ وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّعْيِينُ كَانَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ إكَافًا يَنْقُلُ عَلَيْهِ حِنْطَتَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ وَحِنْطَتُهُ وَحِنْطَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ وَالْجَوَالِقُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَا تَعْيِينٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْمَحْمِلِ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ الرَّحْلُ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَرْكَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِضْرَارِ بِالرَّحْلِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْفُسْطَاطُ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَإِنْ أَسْرَجَ فِي الْخَيْمَةِ أَوْ الْفُسْطَاطِ أَوْ الْقُبَّةِ أَوْ عَلَّقَ فِيهِ الْقِنْدِيلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ الِاسْتِعْمَالَ الْمُعْتَادَ، وَإِنْ اتَّخَذَ فِيهِ مَطْبَخًا فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعَدًّا لِذَلِكَ الْعَمَلِ وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ حُلِيَّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَحُلِيَّ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْحُلِيِّ دُونَ الْعَيْنِ وَلَا رِبًا بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ الْحُلِيُّ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَاسْتِئْجَارُهُ مُعْتَادٌ فَيَجُوزُ وَإِذَا شَرَطَتْ أَنْ تَلْبَسَهُ فَأَلْبَسَتْ غَيْرَهَا ضَمِنَتْ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْحُلِيِّ عِنْدَ اللُّبْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْحُلِيِّ أَنْتِ لَبِسْتِيهِ وَقَدْ هَلَكَ الْحُلِيُّ فَقَدْ أَبْرَأهَا مِنْ الضَّمَانِ وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ لَهُ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِي إسْقَاطِهِ وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا الْأَجْرُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِرَبِّ الْحُلِيِّ وَقَدْ أَقَرَّتْ هِيَ أَنَّ الْحُلِيَّ كَانَ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَإِنْ بَدَا لَهَا فَحَبَسَتْهُ فَلَمْ تَرُدَّهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَالْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ بِالْخَطَرِ فِيمَا بَعْدَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَنْ يَبْدُوَ لَهَا وَتَعْلِيقُ الْإِجَارَةِ بِالْخَطَرِ لَا يَجُوزُ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ وَأُجِيزُهَا وَأَجْعَلُ عَلَيْهَا الْأَجْرَ كُلَّ يَوْمٍ بِحِسَابِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُتَعَارَفٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَإِنَّهَا إذَا خَرَجَتْ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ عُرْسٍ لَا تَدْرِي كَمْ تَبْقَى هُنَاكَ فَتَحْتَاجُ إلَى هَذَا الشَّرْطِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهَا، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ وَالْخَطَرُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَزُولُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا؛ فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الْأَجْرُ لِكُلِّ يَوْمٍ تَحْسِبُهُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ إجَارَةِ الدَّوَابِّ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ مُفِيدٌ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ بَلْ مِنْ قِبَلِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَالثَّقِيلُ الَّذِي يُحْسِنُ رُكُوبَ الدَّابَّةِ يُرَوِّضُهَا رُكُوبُهُ، وَالْخَفِيفُ الَّذِي لَا يُحْسِنُ رُكُوبَهَا يَعْقِرُهَا رُكُوبُهُ، فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الثَّوْبِ، وَإِنْ رَكِبَ وَحَمَلَ مَعَهُ آخَرَ فَسَلِمَتْ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ وَزَادَ فَإِذَا سَلِمَتْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأَجْرِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَطِبَتْ بَعْدَ بُلُوغِهَا الْمَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ رُكُوبَهُ لَا يَخْتَلِفُ بِأَنْ يُرْدِفَ مَعَهُ غَيْرَهُ أَوْ لَا يُرْدِفُ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ رُكُوبِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ حِينَ أَرْدَفَ وَشَغَلَ نِصْفَ الدَّابَّةِ بِغَيْرِهِ فَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَكُونُ ضَامِنًا وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تُطِيقُ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهَا وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ فَالتَّلَفُ حَصَلَ بِرُكُوبِهِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَبِرُكُوبِ غَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ نِصْفَيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ الْآخَرُ أَثْقَلَ مِنْهُ أَوْ أَخَفَّ. (قَالَ:)؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ الرَّجُلُ فِي الْقَبَّانِ فِي هَذَا أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ يُوزَنُ أَيُوزَنُ قَبْلَ الطَّعَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَ الْخَلَاءِ أَوْ بَعْدَهُ وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ لَيْسَ مِنْ ثِقَلِ الرَّاكِبِ وَخِفَّتِهِ؛ فَلِهَذَا يُوَزَّعُ الضَّمَانُ نِصْفَيْنِ. (فَإِنْ قِيلَ) حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَقَدْ مَلَكَ نِصْفَ الدَّابَّةِ مِنْ حِينِ ضَمِنَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ نِصْفُ الْأَجْرُ. (قُلْنَا) هُوَ بِهَذَا الضَّمَانِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِمَّا يَشْغَلُهُ بِرُكُوبِ نَفْسِهِ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا شَغَلَهُ بِرُكُوبِ الْغَيْرِ وَلَا أَجْرَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ لِيَسْقُطَ عَنْهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ أَوْ الْجِنَازَةِ أَوْ لِيُشَيِّعَ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَتَلَقَّاهُ فَهُوَ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ، وَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْمَسَافَةِ فَإِذَا سَمَّى مَوْضِعًا مَعْلُومًا صَارَ مِقْدَارُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِهِ مَعْلُومًا وَإِلَّا فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّشْيِيعِ أَوْ التَّلَقِّي، وَإِنْ تَكَارَاهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى الْكُوفَةِ لِيَرْكَبَهَا فَلَهُ أَنْ يَبْلُغَ عَلَيْهَا مَنْزِلَهُ بِالْكُوفَةِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ انْتَهَى الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْغَايَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعُرْفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَبَلَّغُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي تَكَارَاهَا فِي الطَّرِيقِ إلَى مَنْزِلِهِ وَلَا يَتَكَارَى لِذَلِكَ دَابَّةً أُخْرَى وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِرَامَ الْمُعْتَادَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ يُسَمَّى بِالْعُرْفِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وِرَامُ الطَّرِيقِ فِي الْإِجَارَةِ فَيُسْتَحَقُّ بِالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ مَتَاعًا فَإِنْ حَطَّ الْمَتَاعَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ وَقَالَ: هَذَا مَنْزِلِي فَإِذَا هُوَ أَخْطَأَ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهُ ثَانِيَةً إلَى مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعُرْفِ قَدْ انْتَهَى حِينَ حَطَّ رَحْلَهُ وَقَالَ: هَذَا مَنْزِلِي فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مُدَّعٍ فِي قَوْلِهِ قَدْ أَخْطَأْت فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْوِرَامَ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ لِكَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى حَطِّ رَحْلِهِ وَنَقْلِهِ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِين حَطَّ رَحْلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَكَارَى حِمَارًا مِنْ الْكُوفَةِ يَرْكَبُهُ إلَى الْحِيرَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَلَهُ أَنْ يَبْلُغَ عَلَيْهِ إلَى أَهْلِهِ بِالْكُوفَةِ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ تَكَارَى مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْحِيرَةِ، فَأَمَّا إذَا تَكَارَى دَابَّةً بِالْكُوفَةِ مِنْ مَوْضِعٍ كَانَتْ فِيهِ الدَّابَّةُ إلَى الْكُنَاسَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَلِغَ فِي رَجْعَتِهِ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكَارَى عِنْدَ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ فِيمَا تَكَارَاهَا فِي الْمِصْرِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَيُؤْخَذُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَرُبَّمَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَنْزِلِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ مِثْلُ مَا سَمَّى أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى سَبِيلِ الْوِرَامِ مِثْلَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَوْ فَوْقَهُ فَيُقَالُ لَهُ كَمَا اكْتَرَيْت مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّيْت فَاكْتَرِ الدَّابَّةَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَنْزِلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا فَإِنْ اخْتَصَمُوا رَدَدْت الْإِجَارَةَ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا أَوْ رَكِبَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا وَلَمْ يُسَمِّ مَا اسْتَأْجَرَهُ لَهُ. وَإِذَا سَمَّى مَا يَحْمِلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ فَالْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قِيَاسُ الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ هُنَا وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْمُولِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَكْرَيْتُكَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَرْكَبْهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي احْتِمَالِ الْفَسْخِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ بِالتَّحَالُفِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْإِجَارَةِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي بِالْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الْعَقْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ وَالْمُسْتَأْجِرَ بِبَيِّنَتِهِ أَثْبَتَ الْعَقْدَ مِنْ الْقَصْرِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَمِلْنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَجْرِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمُسْتَأْجِرُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ زَادَهُ عَقِبَهُ الْأَجِيرُ فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً بِسَرْجٍ لِيَرْكَبَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا إكَافًا فَرَكِبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا زَادَ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ جَمِيعَ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحِمَارَ يُرْكَبُ تَارَةً بِسَرْجٍ وَتَارَةً بِإِكَافٍ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ مَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَادَةً وَفِي مِثْلِهِ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 يَقُولُ: الِاخْتِلَافُ هُنَا فِي الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِكَافَ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الْحِمَارِ الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا يَأْخُذُهُ السَّرْجُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا تِبْنًا أَوْ حَطَبًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ الَّذِي لَا يَأْلَفُ الْإِكَافَ يَضُرُّهُ الرُّكُوبُ بِإِكَافٍ وَرُبَّمَا يَجْرَحُهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُخَالِفًا فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِ الْحِنْطَةِ حَدِيدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَغَ عَنْ الْحِمَارِ سَرْجَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجِ بِرْذَوْنٍ لَا تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحَمِيرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِكَافِ، وَإِنْ أَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ مِثْلِهِ أَوْ أَخَفَّ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُعْتَبَرُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ بِإِكَافٍ فَأَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ مِثْلِهِ أَوْ أَسْرَجَهُ مَكَانَ الْإِكَافِ؛ لِأَنَّ السَّرْجَ أَخَفُّ عَلَى الْحِمَارِ مِنْ الْإِكَافِ فَلَا يَكُونُ خِلَافًا مِنْهُ. وَلَوْ تَكَارَى حِمَارًا عُرْيَانًا فَأَسْرَجَهُ، ثُمَّ رَكِبَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِ السَّرْجَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهَذَا عَلَى أَوْجُهٍ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَمْ يَضْمَنْ إذَا أَسْرَجَهُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ عَادَةً إلَّا بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ فِي الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُرْكَبُ فِي الْمِصْرِ عُرْيَانَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْحِمَارَ فِي الْمِصْرِ عُرْيَانَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا إذَا أَسْرَجَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: هُوَ ضَامِنٌ مَا لَمْ يَدْفَعْهَا إلَى صَاحِبِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيهَا فَإِذَا ضَمِنَ بِالْخِلَافِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ عَادَ أَمِينًا كَالْمُودَعِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ قَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْسِكُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ فَلَا تَكُونُ يَدُهُ قَائِمَةً مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ فَلَا تَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ عَادَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَهُنَاكَ يَدُهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا فَقَالَ: يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْإِجَارَةِ دُونَ الْعَارِيَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: رُجُوعُهُ بِالضَّمَانِ لِلْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ نَفْسِهِ كَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ، فَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّقْلِ فَأَمَّا يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اسْتَأْجَرَتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 ثَوْبَ صِيَانَةٍ لِتَلْبَسَهُ أَيَّامًا فَلَبِسَتْهُ بِاللَّيْلِ كَانَتْ ضَامِنَةً، ثُمَّ إذَا جَاءَ النَّهَارُ بَرِئَتْ مِنْ الضَّمَانِ وَيَدُهَا يَدُ نَفْسِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هُنَاكَ الضَّمَانُ عَلَيْهَا بِاللُّبْسِ لَا بِالْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْإِمْسَاكِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَاللُّبْسُ الَّذِي لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ لَمْ يَبْقَ إذَا جَاءَ النَّهَارُ وَهُنَا الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَلَمْ يَرْكَبْهَا كَانَ ضَامِنًا وَلَوْ حَبَسَهَا فِي الْمِصْرِ أَيَّامًا وَلَمْ يَرْكَبْهَا كَانَ ضَامِنًا وَالْإِمْسَاكُ لَا يَنْعَدِمُ، وَإِنْ عَادَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مَا دَامَ يُمْسِكُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التَّفْصِيلِ بَيْنَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا أَوْ ذَاهِبًا لَا جَائِيًا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ وَلَوْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمَكَانَ وَلَكِنَّهُ ضَرَبَهَا فِي السَّيْرِ أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْسَنُ أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِي ذَلِكَ وَضَرَبَ كَمَا يَضْرِبُ النَّاسُ الْحِمَارَ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَفِيدُ الْإِذْنَ فِيمَا هُوَ مُعْتَادٌ وَالضَّرْبُ وَالْكَبْحُ بِاللِّجَامِ فِي السَّيْرِ مُعْتَادٌ وَرُبَّمَا لَا تَنْقَادُ الدَّابَّةُ إلَّا بِهِ فَيَكُونُ الْإِذْنُ فِيهِ ثَابِتًا بِالْعُرْفِ وَلَوْ أَذِنَ فِيهِ نَصًّا لَمْ يُضَمِّنْ الْمُسْتَأْجِرَ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا، وَذَلِكَ تَعَدٍّ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَبَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ بِالْعَقْدِ سَيْرُ الدَّابَّةِ لَا صِفَةُ الْجَوْدَةِ فِيهِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ فِي أَصْلِ تَسْيِيرِ الدَّابَّةِ وَإِنَّمَا يَسْتَخْرِجُ بِذَلِكَ مِنْهَا نِهَايَةَ السَّيْرِ وَالْجَوْدَةِ فِي ذَلِكَ وَثُبُوتُ الْإِذْنِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَفْتَقِرُ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الضَّرْبُ فَإِنَّمَا أُبِيحَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْمَالِكِ فِي الْآخَرِ يَتَقَرَّرُ بِدُونِهِ وَمِثْلُهُ يُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَرَمْيُ الرَّجُلِ إلَى الصَّيْدِ وَمَشْيُهُ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ شَرْعًا، ثُمَّ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِيهَا نَصًّا فَإِنَّ بَعْدَ الْإِذْنِ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَالِكِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا سَمَّاهُ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَأَجَّرَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا لَمْ يَطِبْ لَهُ الْفَضْلُ إلَّا أَنْ يَزِيدَ مَعَهَا حَبْلًا أَوْ جُوَالِقَ أَوْ لِجَامًا فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ زِيَادَةَ الْأَجْرِ بِإِزَاءِ مَا زَادَ وَلَوْ عَلَفهَا لَمْ يَطِبْ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْعَلَفَ لَيْسَ بِعَيْنٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ لِنَجْعَلَ الزِّيَادَةَ بِمُقَابَلَتِهِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا بِغَيْرِ لِجَامٍ فَأَلْجَمَهَا أَوْ بِلِجَامٍ فَنَزَعَهُ وَأَبْدَلَهُ بِلِجَامٍ آخَرَ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللِّجَامَ لَا يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّيْرَ يُخَفَّفُ بِهِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا خِلَافًا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا إذَا أَلْجَمَهَا بِلِجَامٍ لَا يُلْجَمُ مِثْلُهَا بِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَالِفًا ضَامِنًا. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحُمُولَةٍ فَسَاقَ رَبُّ الدَّابَّةِ فَعَثَرَتْ فَسَقَطَتْ الْحُمُولَةُ وَفَسَدَتْ وَصَاحِبُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 الْمَتَاعِ يَمْشِي مَعَ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ فَالْمُكَارَى ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَارَى أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَالتَّلَفُ حَصَلَ بِجِنَايَةِ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ حَبْلُهُ فَسَقَطَ الْحِمْلُ فَهَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَدَّهُ بِحَبْلٍ لَا يَحْتَمِلُهُ كَانَ هُوَ الْمُسْقِطَ لِلْحِمْلِ وَلَوْ مَطَرَتْ السَّمَاءُ فَفَسَدَ الْحِمْلُ أَوْ أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ فَفَسَدَ أَوْ سُرِقَ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ لَا بِفِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ صَاحِبُ الْحِمْلِ مَعَهُ فَسُرِقَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكَارَى؛ لِأَنَّ الْحِمْلَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَمَا دَامَ الْمَتَاعُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْأَجِيرُ إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا عَبْدًا صَغِيرًا فَسَاقَ بِهِ رَبُّ الدَّابَّةِ فَعَثَرَتْ وَعَطِبَ الْعَبْدُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا جِنَايَةٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَتَاعَ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِ النُّفُوسِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا جَنَتْ يَدُهُ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمَتَاعِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ حَالًّا دُونَ الْعَاقِلَةِ وَبَيَانُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ يُقَيَّدُ الْعَمَلُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ مَضْمُونٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ وَرَكِبَهَا فَسَاقَهَا رَبُّ الدَّابَّةِ فَعَثَرَتْ فَعَطِبَ الرَّجُلُ وَأُفْسِدَ الْمَتَاعُ لَمْ يَضْمَنْ رَبُّ الدَّابَّةِ شَيْئًا إمَّا لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَفْسَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَتَاعَ؛ لِأَنَّ مَتَاعَهُ فِي يَدِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ رَبِّ الدَّابَّةِ. وَإِذَا تَكَارَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى مَا بَدَا لَهُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ حَاجَةٌ رَكِبَهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ سَمَّى بِالْكُوفَةِ نَاحِيَةً مِنْ نَوَاحِيهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى مَكَانًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرُّكُوبُ مُسْتَغْرَقًا بِجَمِيعِ الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمَكَانِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ تَكَارَاهَا يَوْمًا يَقْضِي حَوَائِجَهُ فِي الْمِصْرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ هُنَا مُسْتَدَامٌ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ عَقْدُ السَّلَمِ إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي الْمِصْرِ وَأَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا مِنْهُ فَإِذَا كَانَ نَوَاحِي الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ إلَى أَيِّ نَوَاحِي الْمِصْرِ شَاءَ وَإِلَى الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقَابِرَ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 اسْتَأْجَرَهَا لِلرُّكُوبِ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى وَاسِطَ يَعْلِفُهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَرَكِبَهَا حَتَّى أَتَى وَاسِطَ فَلَمَّا رَجَعَ حَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مَعَهُ فَعَطِبَتْ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الذَّهَابِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ بِعَلَفِهَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الذَّهَابِ وَنِصْفُ أَجْرِ مِثْلِهَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى فِي الرُّجُوعِ مَنْفَعَةَ نِصْفِهَا وَهُوَ مَا شَغَلَهَا بِرُكُوبِ نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ أَجْرِ الْمِثْلِ وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا وَأَرْدَفَ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ وَفِي الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى. (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ عِنْدِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا فَبِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ يُوجَبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَفِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُعْتَبَرُ التَّمَكُّنُ فِيمَا شَغَلَهُ بِرُكُوبِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بِحَسَبِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُ مِثْلِهَا إذَا أَرْدَفَ فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ نِصْفَ أَجْرِ مِثْلِهَا فَقَدْ أَوْجَبْنَا مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ جَمِيعَ مَا يَخُصُّ رُكُوبَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ رُكُوبِهِ فَهُوَ نَظِيرُ نِصْفِ أَجْرِ الْمِثْلِ هُنَا، ثُمَّ يَكُونُ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا مَعَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ وَيَحْسِبُ مَا عَلَفَهَا بِهِ لِأَنَّهُ عَلَفَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ قِصَاصًا بِمَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُهَا مِنْ الْأَجْرِ. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً عَشَرَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ فَحَبَسَهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا حَتَّى رَدَّهَا يَوْمَ الْعَاشِرِ قَالَ: يَسَعُ صَاحِبَهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْهَا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَسْتَحِقُّهَا بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ رُكُوبِهَا فِي الْمُدَّةِ فَيَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ كَالْمَرْأَةِ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا طَابَ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يَطَأْهَا. وَإِنْ تَكَارَاهَا يَوْمًا وَاحِدًا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا حَبَسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً لِعَرُوسٍ تُزَفُّ عَلَيْهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَحَبَسَ الدَّابَّةَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَدَّهَا وَلَمْ يَرْكَبْ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ لِنَقْلِ الْعَرُوسِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ حَبْسِ الدَّابَّةِ فِي الْبَيْتِ، وَإِنْ حَمَلُوا عَلَيْهَا غَيْرَ الْعَرُوسِ فَإِنْ تَكَارَاهَا لِعَرُوسٍ بِعَيْنِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مُخَالِفٌ، وَإِنْ تَكَارَاهَا لِعَرُوسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ قَدْ اُسْتُوْفِيَ وَالتَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 أَنْ يَرْكَبَ مَعَ فُلَانٍ يُشَيِّعُهُ فَحَبَسَهَا مِنْ غُدْوَةٍ إلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ بَدَا لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَرَدَّ الدَّابَّةَ عِنْدَ الظُّهْرِ فَإِنْ كَانَ حَبَسَهَا قَدْرَ مَا يَحْبِسُ النَّاسُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِإِمْسَاكِهِ إيَّاهَا فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا يَحْبِسُ النَّاسُ صَارَ مُسْتَثْنًى لَهُ بِالْعُرْفِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا حَبَسَهَا فِي الْمِصْرِ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ تَسِيرَ الدَّابَّةُ مَعَهُ إلَى الطَّرِيقِ، وَإِنْ رَكِبَهَا بَعْدَ الْحَبْسِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ إذَا عَطِبَتْ لِاسْتِنَادِ مِلْكِهِ فِيهَا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا إلَى حُلْوَانَ فَنَتَجَتْ فِي الطَّرِيقِ وَضَعُفَتْ مِنْ حَمْلِ الرَّجُلِ لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ فَعَلَى الْمُكَارِي أَنْ يَأْتِيَ بِدَابَّةٍ أُخْرَى تَحْمِلُهُ وَمَتَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لَوْ هَلَكَتْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِأُخْرَى، فَكَذَلِكَ إذَا ضَعُفَتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكِرَاءُ وَقَعَ عَلَى هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَحِينَئِذٍ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهَا وَلَا يَتَأَتَّى اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ دَابَّةٍ أُخْرَى بَلْ يَكُونُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ. وَإِنْ تَكَارَى ثَلَاثَ دَوَابَّ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الدَّوَابِّ أَجَّرَ دَابَّةً مِنْ غَيْرِهِ وَأَعَارَ أُخْرَى وَوَهَبَ أُخْرَى أَوْ بَاعَ فَوَجَدَ الْمُسْتَكْرِي الدَّوَابَّ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِنْ كَانَ بَاعَ مِنْ عُذْرٍ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ وَانْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ بَاعَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ وَالْمُسْتَكْرِي أَحَقُّ بِالدَّوَابِّ لِتَقَدُّمِ عَقْدِهِ وَثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ لَهُ وَالْيَدُ فِي الْعَيْنِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ مَا وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ لَيْسَتْ بِيَدِ الْخُصُومَةِ وَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَ عَيْنِهَا فَيَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي حَقًّا فِيهَا وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْإِجَارَةَ وَهَذَا جَوَابٌ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَحَقُّ بِهَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: مُرَادُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي يَكُونُ خَصْمًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدَّعِي مَا يَزْعُمُ الثَّانِي أَنَّهُ لَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا لَهُ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَ عَيْنِهَا لِنَفْسِهِ. وَلَوْ تَكَارَى غُلَامًا وَدَابَّةً إلَى الْبَصْرَةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَقَدْ شَرَطَ لَهُمْ دِرْهَمًا إلَى الْكُوفَةِ فَأَبَقَ الْغُلَامُ وَنَفَقَتْ الدَّابَّةُ فَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَصَابَ مِنْ خِدْمَةِ الْغُلَامِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، ثُمَّ انْعَدَمَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ بِالْهَلَاكِ وَالْإِبَاقِ وَقَدْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 كَانَ أَمِينًا فِيهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ وَحْدَهَا وَقَالَ: الْمُكَارِي اسْتَأْجِرْ غُلَامًا عَنِّي كَيْ نَتْبَعَكَ وَنَتْبَعَ الدَّابَّةَ وَأَجْرُهُ عَلَيَّ وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً يُنْفِقُ عَلَى الدَّابَّةِ فَفَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ وَسُرِقَتْ النَّفَقَةُ مِنْ الْغُلَامِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْغُلَامَ وَأَقَرَّ الْغُلَامُ بِالْقَبْضِ لَزِمَ الْمُكَارَى النَّفَقَةُ ضَاعَتْ أَوْ لَمْ تَضَعْ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي اسْتِئْجَارِ الْغُلَامِ وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ. اسْتَأْجَرَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ الْغُلَامَ وَكِيلَ الْمُكَارِي فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ كَإِقْرَارِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلَوْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَمَّا بَلَغَ بَغْدَادَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ وَقَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ سَتُّوقَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ زُيُوفٌ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُنَاقِضًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ سَتُّوقٌ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَالسَّتُّوقُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَدَّعِي لِكَوْنِهِ مُتَنَاقِضًا. وَإِذَا مَاتَ الْمُكَارَى فِي الطَّرِيقِ فَاسْتَأْجَرَ الْمُسْتَكْرِي رَجُلًا يَقُومُ عَلَى الدَّابَّةِ فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِنْ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْكِرَاءِ بِقَدْرِ مَا سَارُوا وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى أَوْ فِي مِقْدَارِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَرَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَالْمُسْتَكْرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا إلَى بَغْدَادَ وَالْأُخْرَى إلَى حُلْوَانَ فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي إلَى بَغْدَادَ بِعَيْنِهَا وَاَلَّتِي إلَى حُلْوَانَ بِعَيْنِهَا جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَعَلَيْهِ فِيمَا رَكِبَ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ. وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا إلَى بَغْدَادَ فَأَرَادَ الْمُكَارِي أَنْ يَحْمِلَ مَتَاعًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بِكِرَاءٍ مَعَ مَتَاعٍ فَلِلْمُسْتَكْرِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ مَنَافِعَهُ وَقَامَ هُوَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْمَالِكِ وَالْمَالِكُ مَقَامَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَمَلَهُ وَبَلَّغَ الدَّابَّةَ بَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَكْرِي أَنْ يَحْبِسَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِكَمَالِهِ وَاسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَاجِرَانِ فِي مِقْدَارِ الْكِرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَبَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُؤَاجِرَانِ الْبَيِّنَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ؛ لِأَنَّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ وَحَقَّ صَاحِبِهِ وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذَّبٌ بِبَيِّنَةِ صَاحِبِهِ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَرَكِبَهَا عَلَى ذَلِكَ فَعَطِبَتْ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ إيَّاهَا فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتْلِفٌ فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ فَالْمُسْتَكْرِي ضَامِنٌ لَهَا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي رُكُوبِهَا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ رِضَى صَاحِبِهَا بِهِ فَإِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ يَعْدَمُ تَمَامُ الرِّضَاءِ. وَلَوْ تَكَارَى حِمَارًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ فَأَوْثَقَهُ فِي الرَّحَا وَسَاقَهُ الْأَجِيرُ فَتَعَسَّفَ عَلَيْهِ الْأَجِيرُ حَتَّى عَطِبَ مِنْ عَمَلِهِ فَالْأَجِيرُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهُ بِالتَّعَسُّفِ فِي سَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَنْتَقِلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَوْرًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ فَوَجَدَهُ لَا يَطْحَنُ إلَّا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَرْطَ عَقْدِهِ فَإِذَا شَاءَ أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ وَفِيمَا عَمِلَ مِنْ الطَّحْنِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ مِنْ الْأَيَّامِ وَلَا يَحُطُّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الثَّوْرِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ وَاشْتِرَاطُ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَيْسَ لِإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ بَلْ لِبَيَانِ جَلَادَةِ الثَّوْرِ فِي عَمَلِ الطَّحْنِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْتَقِضُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ الْأَيَّامِ. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ فَوَجَدَهَا لَا تُبْصِرُ بِاللَّيْلِ أَوْ جَمُوحًا أَوْ عَثُورًا أَوْ تَعَضُّ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا سَارَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى بَغْدَادَ عَلَى دَابَّةٍ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْبِ هَذِهِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُسْتَأْجِرِ الْعَيْبَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ تَكَارَى بَعِيرًا لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ عَمَلًا عَلَى النِّصْفِ (قَالَ:) كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ يَنْقُلُ الْحِمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ بَعِيرِهِ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْإِكْرَاءِ وَلِلَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى صَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَقَدْ سُلِّمَتْ مَنَافِعُهُ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمَتَاعَ لِيَبِيعَهُ فَمَا اكْتَسَبَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا اكْتَسَبَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَعِيرِ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِ بَعِيرِهِ عِوَضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ. رَجُلٌ تَكَارَى غُلَامًا لِيَذْهَبَ لَهُ بِكِتَابٍ إلَى بَغْدَادَ فَقَالَ الْغُلَامُ قَدْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 ذَهَبْتُ بِالْكِتَابِ وَقَالَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ لَمْ يَأْتِنِي بِهِ فَعَلَى الْغُلَامِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا يَدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي إبْقَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْكِتَابَ إلَيْهِ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَهُ الْأَجْرُ عَلَى الْمُرْسِلِ دُونَ مَنْ حَمَلَ الْكِتَابَ إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ أَعْطَيْتُهُ أُجْرَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُرْسِلُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي إيفَاءَ الْأَجْرِ، وَإِنْ أَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَغْدَادَ بِالْكِتَابِ فَلَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إلَى بَغْدَادَ مَعَ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِالْكِتَابِ وَيَأْتِيَ بِالْجَوَابِ فَلَهُ أَجْرُ حِصَّةِ الذَّهَابِ دُونَ الرُّجُوعِ لِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ أَمْرَهُ وَلَا عَامِلٍ لَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ مَعَهُ وَإِذَا عَادَ بِالْكِتَابِ حِينَ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ مَا يَخُصُّ الذَّهَابَ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ عَامِلٌ لَهُ كَمَا أَمَرَ بِهِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ بِقَدْرِهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْكِتَابَ هُنَاكَ عِنْدَ أَهْلِ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى بَغْدَادَ فَحَمَلَهُ، ثُمَّ عَادَ بِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ هُنَاكَ بِنَقْلِ الطَّعَامِ مِنْ مَكَان وَقَدْ نَقَصَ ذَلِكَ حِينَ عَادَ بِالطَّعَامِ فَلَمْ يَبْقَ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُنَا الْأَجْرُ لَهُ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ إذْ لَيْسَ لِلْكِتَابِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَلَا يَصِيرُ بِالرُّجُوعِ نَاقِصًا عَمَلَهُ سَوَاءٌ عَادَ بِالْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِ الْأَمْرِ لَمْ يَحْصُلْ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ذَهَبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْأَمْرِ أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَيَصِلَ الْجَوَابُ إلَيْهِ وَحِينَ عَادَ بِالْكِتَابِ صَارَ الْحَالُ كَمَا قَبْلَ ذَهَابِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْأَمْرِ غَيْرُ حَاصِلٍ، فَأَمَّا إذَا تَرَكَ الْكِتَابَ هُنَاكَ فَبَعْضُ مَقْصُودِهِ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ إذَا حَضَرَ وَقَفَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَيَبْعَثُ بِالْجَوَابِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلِحُصُولِ بَعْضِ الْمَقْصُودِ هُنَاكَ أَلْزَمْنَاهُ حِصَّةَ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ. رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّةً إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقُلْ أَرْكَبُهَا بِسَرْجٍ وَلَا إكَافٍ فَجَاءَ بِهَا الْمُكَارِي عُرْيَانَةً فَرَكِبَهُ بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ فَعَطِبَتْ (قَالَ:) إنْ كَانَ يُرْكَبُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ بِإِكَافٍ أَوْ بِسَرْجٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُرْكَبُ إلَّا بِسَرْجٍ فَرَكِبَ بِإِكَافٍ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ فَإِذَا خَالَفَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا. وَلَوْ تَكَارَى مِنْ الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ (وَجُعْفِيٌّ) قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّ الْقَبِيلَتَيْنِ هِيَ أَوْ إلَى الْكُنَاسَةِ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّ الْكُنَاسَتَيْنِ أَوْ إلَى بَجِيلَةَ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّهُمَا هِيَ الظَّاهِرَةُ أَوْ الْبَاطِنَةُ فَعَلَيْهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَمِثْلُهُ بُحَارَا إذَا تَكَارَاهَا إلَى السَّهْلَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ السَّهْلَتَيْنِ هِيَ سَهْلَةِ قُوتٍ أَوْ سَهْلَةِ أَمِيرٍ أَوْ تَكَارَاهَا إلَى حَسْوَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ الْقَرْيَتَيْنِ. وَلَوْ تَكَارَى عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِنِصْفِ مَا يَكْتَسِبُهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ لَهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ عَطِبَ الْغُلَامُ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ سَلِمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ ضَامِنٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِتَمَحُّضِ مَنْفَعَةٍ إذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ وَجَبَ الْأَجْرُ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةَ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ اكْتِسَابٌ مَحْضٌ إذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى وَفِيمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لَا حَجْرَ. وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ عَلَى إنْ بَلَّغَهُ إلَيْهَا فَلَهُ رِضَاهُ فَبَلَّغَهُ إلَيْهَا فَقَالَ: رِضَائِي عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَجْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَأَبْرَأهُ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا بِمِثْلِ مَا يُكَارِي بِهِ أَصْحَابُهُ أَوْ بِمِثْلِ مَا يَتَكَارَى بِهِ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَمِنْ بَيْنِ مُسَامَحٍ وَمُسْتَقْضٍ. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ مِنْ فَارِسَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ نَقْدُ الْكُوفَةِ وَوَزْنُهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْأَجْرِ هُوَ النَّقْدُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْوُجُوبُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْعَقْدُ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ إلَى وَزْنِ الْكُوفَةِ وَنَقْدِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعُرْفِ فِي تَقْيِيدِ مُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى فَارِسَ وَلَمْ يُسَمِّ مَكَانًا مَعْلُومًا مِنْهَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَدْ سُمِّيَ وِلَايَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعًا مِنْهَا فَالْمُنَازَعَةُ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُكَارِي يُطَالِبُهُ بِالرُّكُوبِ إلَى أَدْنَى ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ إلَى أَقْصَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا إذَا تَكَارَى دَابَّةً إلَى فَرْغَانَةَ أَوْ إلَى سَعْدٍ. وَإِنْ تَكَارَى إلَى الرَّيَّ وَلَمْ يُسَمِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 مَدِينَتَهَا وَلَا رُسْتَاقًا بِعَيْنِهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ وَجَعَلَ الرَّيَّ اسْمًا لِلْمَدِينَةِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَارَاهَا إلَى سَمَرْقَنْدَ أَوْ أُوزْجَنْدَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: اسْمُ الرَّيِّ يَتَنَاوَلُ الْمَدِينَةَ وَنَوَاحِيَهَا فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمَقْصَدَ يُمَكِّنُ جَهَالَةً فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ رَكِبَهَا إلَى أَدْنَى الرَّيِّ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُكَارِيَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إلَى أَدْنَى الرَّيِّ فَإِنْ رَكِبَهَا إلَى أَقْصَى الرَّيِّ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يَنْتَقِضُ مَا مَا سَمَّى لِأَنَّ الْمُسْتَكْرِيَ قَدْ الْتَزَمَ الْمُسَمَّى إلَى أَقْصَى الرَّيِّ فَلَا يُنْتَقَصُ عَنْهُ وَيُزَادُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُكَارِيَ إذَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إلَى أَدْنَى الرَّيِّ فَلَا يَصِيرُ رَاضِيًا إلَى أَقْصَى الرَّيِّ وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى بُخَارَى فَهُوَ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ بِنَوَاحِيهَا فَأَوَّلُ حُدُودِ بُخَارَى كَرْمِينِيَةُ وَآخِرُهُ فِرْبَرُ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَالتَّخْرِيجُ فِيهِ كَتَخْرِيجِ مَسْأَلَةِ الرَّيِّ. وَإِنْ تَكَارَاهَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ وَعَلَى أَنَّهُ أَدْخَلَهُ بَغْدَادَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَهُ عَشَرَةٌ وَإِلَّا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَهَذَا مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ وَالثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ التَّسْمِيَتَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْخَيَّاطِ. رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ بِالْكُوفَةِ مِنْ الْغَدَاةِ إلَى الْعَشِيِّ. (قَالَ:) يَرُدُّهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَشِيٌّ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]: قَبْلَ الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]: إنَّ الْغَدَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَشِيَّ مَا بَعْدَهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى أَحَدَ صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ» إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ جَعَلَ الْعَشِيَّ غَايَةً وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ رَكِبَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَهُوَ غَاصِبٌ فِي الرُّكُوبِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَكَارَاهَا يَوْمًا رَكِبَهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِهَذَا الْوَقْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّوْمَ يُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ شَرْعًا وَكَانَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَوْمًا إلَّا أَنَّ الْأَجِيرَ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَشْتَغِلُ بِالْعَمَلِ عَادَةً فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِهَذَا وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي اسْتِئْجَارِ الدَّابَّةِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا لَيْلَةً رَكِبَهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَرُدُّهَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ يَدْخُلُ اللَّيْلُ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْفِطْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ إذَا تَكَارَاهَا نَهَارًا وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّمَا يَرْكَبُهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّ النَّهَارَ اسْمُ الْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ «قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةُ النَّهَارِ عُجْمًا» فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْفَجْرُ وَلَا الْمَغْرِبُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَهَارًا لِجَرَيَانِ الشَّمْسِ فِيهِ كَالنَّهْرِ يُسَمَّى نَهْرًا لِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْيَوْمِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّ الْعَوَامَّ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَيَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَيْنِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا فَالْجَوَابُ فِي النَّهَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْيَوْمِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ يَذْهَبُ عَلَيْهَا إلَى حَاجَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمَكَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الدَّابَّةِ إذَا هَلَكَتْ وَهِيَ فِي يَدِهِ عَلَى إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ وَلِأَنَّهُ فِي الْوَجْهَيْنِ مُسْتَعْمِلٌ لِلدَّابَّةِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّابَّةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ فَضَمِنَ قِيمَتَهَا رَجَعَ عَلَى الَّذِي أَجَّرَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِهِ وَلَا يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ يَقَعُ لِمَنْ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ الْأَجْرُ وَلَا أَجْرَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْأَجْرُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ خَاصَّةً. وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً يَطْحَنُ عَلَيْهَا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يَطْحَنُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الدَّابَّةِ فِي الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ وَلَا يَضْمَنُ إنْ عَطِبَتْ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا فَاحِشًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا. وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ وَرَكِبَهَا وَخَالَفَ الْمَكَانَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ. (قَالَ:) الْكِرَاءُ لَازِمٌ لَهُ فِي مَسِيرِهِ قَبْلَ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلدَّابَّةِ فِيمَا خَالَفَ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لَهَا. وَإِنْ تَكَارَاهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إنْسَانًا فَحَمَلَ امْرَأَةً يُقِيلُهَا بِرَحْلٍ أَوْ بِسَرْجٍ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إنْسَانٌ وَهِيَ إنْسَانٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الدَّابَّةِ لَا يُطِيقُ حَمْلَهَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إتْلَافًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَقَدْ تَطَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ لِأَنَّ النَّقْلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الرِّجَالِ مَذْمُومٌ وَفِي النِّسَاءِ مَحْمُودٌ. وَإِنْ تَكَارَى يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ فَأَرَاهُ الدَّابَّةَ عَلَى أَرْيِهَا وَقَالَ: ارْكَبْهَا إذَا شِئْتَ فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ تَنَازَعَا فِي الْكِرَاءِ وَالرُّكُوبِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ دُفِعَتْ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْآجِرَ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَيْهِ وَعَلَى رَبِّ الدَّابَّةِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ رَكِبَهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبَ الْأَجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى الْحِيرَةِ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَقَالَ: دُونَكَ الدَّابَّةُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 فَارْكَبْهَا كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَرْجِعُ مِنْ الْحِيرَةِ فَقَالَ: لَمْ أَرْكَبْهَا وَلَمْ أَنْطَلِقْ إلَى الْحِيرَةِ. (قَالَ:) إذَا حَسِبَهَا فِي قَدْرِ مَا يَذْهَبُ إلَى الْحِيرَةِ وَيَرْجِعُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْحِيرَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى أَرْيِهَا فِي الْبَيْتِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَقَالَ: لَمْ أَذْهَبْ بِهَا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْحِيرَةِ فَقَالَ: رَجَعْتُ وَلَمْ أَذْهَبْ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ تَوَجُّهَهُ إلَى الْحِيرَةِ وَمَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ أَتَى الْحِيرَةَ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ رَجَعْتُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ، وَإِنْ رَدَّهَا مِنْ سَاعَةٍ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَحِقُّ رَبُّ الدَّابَّةِ الْأَجْرَ بِالظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا اسْتِحْقَاقُهُ بِالْعَقْدِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا بِالظَّاهِرِ وَلِأَنَّهُ بِهَذَا الظَّاهِرِ يَدْفَعُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ إنِّي رَجَعْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْحِيرَةَ. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَجْرَ إذَا رَجَعَ مِنْ بَغْدَادَ فَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ فَالْأَجْرُ إلَى بَغْدَادَ دَيْنٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، ثُمَّ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ وَسَقَطَ الْأَجَلُ أَيْضًا فَكَانَ أَجْرُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 [بَابُ انْتِقَاضِ الْإِجَارَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ إنَّ النَّاسُ قَائِلُونَ غَدًا مَاذَا قَالَ عُمَرُ، وَإِنَّ الْبَيْعَ عَنْ صَفْقَةٍ، أَوْ خِيَارٍ وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ)، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْخِيَارُ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْمَوَاعِيدِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ لَازِمٌ بِنَفْسِهِ وَغَيْرُ لَازِمٍ إذَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الصَّفْقَةَ هِيَ اللَّازِمَةُ النَّافِذَةُ يُقَالُ هَذِهِ صَفْقَةٌ لَمْ يَشْهَدْهَا خَاطِبٌ إذَا أُنْفِذَ أَمْرٌ دُونَ رَأْيِ رَجُلٍ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْمَشْرُوطِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا شَرْعًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا. فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لَازِمَةٌ كَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا قَدْ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ بِالْعُذْرِ، وَعِنْدَهُ لَا يَفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ حُكْمًا فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا كَالْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ فَكَمَا لَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ إلَّا بِعَيْبٍ. فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَعِنْدَنَا جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ وَلُزُومُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الضَّرَرِ أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَقُلْنَا الْعَقْدُ فِي حُكْمِ الْمُضَافِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْإِضَافَةُ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ تَمْنَعُ اللُّزُومَ فِي الْحَالِ كَالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْفَسْخُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ لَا لِعَيْنِ الْعَيْبِ. فَإِذَا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفَسْخِ. وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَيْبُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ فَسَكَنَ مَا بِهِ مِنْ الْوَجَعِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ لِلْآكِلَةِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَهْدِمَ بِنَاءً لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ مِنْ حَيْثُ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ إتْلَافِ مَا لَهُ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلضَّرَرِ، وَقَدْ يَرَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 الْإِنْسَانُ الْمَنْفَعَةَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ الضَّرَرُ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَّخِذَ لَهُ وَلِيمَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يُلْزِمَهُ اتِّحَادَ الْوَلِيمَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي إتْلَافِ مَالِهِ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِضَرَرٍ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مِنْ الْعُذْرِ فِي اسْتِئْجَارِ الْبَيْتِ أَنْ يَنْهَدِمَ الْبَيْتُ، أَوْ يُهْدَمَ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْعَيْبِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ بِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَقَبُّضَ الدَّارِ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فَحُصُولُ هَذَا الْعَارِضِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَحُصُولِهِ فِي يَدِ الْآجِرِ فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَبِيعَهُ فَلَيْسَ هَذَا بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا قَدْرَ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحَجْرُ عَلَى نَفْسِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ بَاعَهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ دَيْنٌ فَحُبِسَ فِي دَيْنِهِ فَبَاعَهُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْحَبْسُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ الْعَيْنِ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقٌّ فِي مَالِيَّتِهِ فَيَكُونُ الْمَدْيُونُ مَجْبُورًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ مَحْبُوسًا لِأَجْلِهِ إذَا امْتَنَعَ؛ فَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، ثُمَّ ظَاهِرُ مَا يَقُولُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ وَبَيْعَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ الْقَاضِي كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ. وَإِنْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَكْتَرِيَ مَنْزِلًا آخَرَ أَوْ يَشْتَرِيَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُ الْمَنْزِلَ مَعَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَنْزِلِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا بَيْتًا فِي السُّوقِ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي فَلَحِقَ الْمُسْتَأْجِرَ دَيْنٌ، أَوْ أَفْلَسَ فَقَامَ مِنْ السُّوقِ فَهَذَا عُذْرٌ وَلَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلِانْتِفَاعِ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِإِيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ مَا تَرَكَ تِلْكَ التِّجَارَةَ، أَوْ أَفْلَسَ ضَرَرًا لَمْ يَلْزَمْهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ السَّفَرِ تَضَرَّرَ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَبَعْدَ خُرُوجِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبَيْتِ فَإِنْ قَالَ رَبُّ الْبَيْتِ إنَّهُ يَتَعَلَّلُ وَلَا يُرِيدُ الْخُرُوجَ حَلَّفَ الْقَاضِي الْمُسْتَأْجِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْحَانُوتِ إلَّا إذَا أَرَادَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 التَّحَوُّلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَقِيلَ بِحُكْمِ الْقَاضِي حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ رَآهُ قَدْ اسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ قَبِلَ قَوْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَقِيلَ يَقُولُ لَهُ مَعَ مَنْ يَخْرُجُ فَالْإِنْسَانُ لَا يُسَافِرُ إلَّا مَعَ رُفْقَةٍ، ثُمَّ يَسْأَلُ رُفَقَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ فُسِخَ الْعَقْدُ وَخَرَجَ الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ قَدْ بَدَا لِي فِي ذَلِكَ وَخَاصَمَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُ الْمُسْتَأْجِرَ بِاَللَّهِ إنَّهُ كَانَ فِي خُرُوجِهِ قَاصِدًا لِلسَّفَرِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ يَدَّعِي بُطْلَانَ الْفَسْخِ لِعَدَمِ الْعُذْرِ، وَذَلِكَ يَنْبَنِي، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ فِي ضَمِيرِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ إلَى تِجَارَةٍ أُخْرَى فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ تَرُوجُ نَوْعُ التِّجَارَةِ فِي وَقْتٍ وَتَبُورُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا، وَلَكِنْ وَجَدَ بَيْتًا هُوَ أَرْخَصُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مَنْزِلًا وَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْتِزَامُ الْأَجْرِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِالْفَسْخِ هُنَا الرِّبْحُ لَا دَفْعُ الضَّرَرِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا إلَى بَغْدَادَ فَبَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ السَّفَرِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَوْلَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» لَقُلْتُ الْعَذَابُ قِطْعَةٌ مِنْ السَّفَرِ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَنَّهُ يَتَعَلَّلُ فَالسَّبِيلُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ اصْبِرْ فَإِنْ خَرَجَ فَقَادَ الدَّابَّةَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ. فَإِذَا قَادَهَا مَعَهُ فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ لَهُ، أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ فَرَجَعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ، أَوْ لَزِمَهُ غُرْمٌ، أَوْ خَافَ أَمْرًا، أَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ، أَوْ أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا يُسْتَطَاعُ الرُّكُوبُ مَعَهُ فَبَعْضُ هَذَا عَيْبٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عُذْرٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْخُرُوجِ وَلَا فَائِدَةَ لِلْمُؤَاجِرِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ الْمُسْتَأْجِرُ. وَإِنْ عَرَضَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشُّخُوصَ مَعَ دَابَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ لَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الدَّابَّةِ، وَأَنَّهُ يُرْسِلُ مَعَهُ رَسُولًا يَتْبَعُ الدَّابَّةَ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَسَهُ غَرِيمُهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ إذَا امْتَنَعَ رَبُّ الدَّابَّةِ مِنْ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا، وَإِنْ مَرِضَ فَهُوَ عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ غَيْرِي لَا يُشْفِقُ عَلَى دَابَّتِي وَلَا يَقُومُ بِتَعَاهُدِهَا كَقِيَامِي. فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِمَرَضٍ يَلْحَقُهُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ إذَا اكْتَرَتْ الْمَرْأَةُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَدَتْ قَبْل أَنْ تَطُوفَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 لِلزِّيَارَةِ فَهَذَا عُذْرٌ لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْمُكَارِي بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مُدَّةَ النِّفَاسِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَلَّ فَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِثْلُ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهُ عَادَةً وَكَانَ الْمُكَارِي مُلْتَزِمًا ضَرَرَ التَّأْخِيرِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهَذَا عُذْرٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَاتَ وَلَا سَبَبَ لِلْفَسْخِ أَقْوَى مِنْ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَارِيَ الْتَزَمَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بِدَابَّةٍ أُخْرَى يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا. وَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا سَارَ وَيَبْطُلُ عَنْهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ. وَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْإِبِلِ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَهَا عَلَى حَالَةٍ حَتَّى يَأْتِيَ مَكَّةَ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَفَازَةٍ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى سُلْطَانٍ وَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْإِجَارَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إيفَاؤُهَا بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ الِانْتِقَاضِ لِدَفْعِ الضُّرِّ. وَإِذَا كَانَ فِي الْمَفَازَةِ لَوْ قُلْنَا بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِصْرَ فَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ وَمَوْتُ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ مُوجِبٌ انْتِقَاضَ الْعَقْدِ. فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ لَمْ يَضْمَنْ إنْ عَطِبَتْ مِنْ رُكُوبِهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا بَقِيَ لِلتَّعَذُّرِ صَارَ الْحَالُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَارِي كَالْحَالِ قَبْلَهُ. فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْعُذْرِ قَدْ زَالَ وَبَقِيَتْ الدَّابَّةُ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ عَيْبٌ فَدَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي فَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْقَاضِي الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ إمَّا؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَرَى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِهِ لِيَرُدَّهَا إلَى الْكُوفَةِ وَصَاحِبُهَا رَضِيَ بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ فَالْأَوْلَى لَهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ثِقَةً أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ، وَإِنْ رَأَى النَّظَرَ فِي بَيْعِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَعْثَ بِثَمَنِهَا إلَى الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْفَعَ وَأَيْسَرَ لَهُمْ فَإِنَّ الثَّمَنَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهَا شَيْئًا لَمْ يُحْسَبْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَيُحْسَبُ لَهُ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فَالْإِنْفَاقُ بِأَمْرِهِ كَالْإِنْفَاقِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ الْقَوْلُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْإِنْفَاقِ. فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَوْفِيَةِ الْكِرَاءِ رُدَّ عَلَيْهِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 دَيْنَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا مَالُ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ مَحْبُوسَةٌ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ بِمَا عَجَّلَ مِنْ الْكِرَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ أَخْذِهَا وَبَيْعِهَا حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ لَهُ فَلِهَذَا قَبِلَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ مَعَ غَيْبَتِهِمْ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ أَصَابَهَا نَزٌّ لَا تَصْلُحُ مَعَهُ الزِّرَاعَةُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الزَّرْعَ أَوْ افْتَقَرَ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى مَا يَزْرَعُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ الزَّارِعَ فِي الْحَالِ مُتْلِفٌ لِبَذْرِهِ وَلَا يَدْرِي أَيَحْصُلُ الْخَارِجُ، أَوْ لَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِإِتْلَافِ مَالِهِ فَهُوَ عُذْرٌ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ أَرْضًا أَرْخَصَ مِنْهَا، أَوْ أَجْوَدَ لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ يَقْصِدُ هُنَا تَحْصِيلَ الرِّبْحِ لَا دَفْعَ الضَّرَرِ. وَإِنْ مَرِضَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَعْمَلُ أُجَرَاؤُهُ فَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا الْبَقَاءُ يُمْكِنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا قَصَدَهُ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِيَتِيمٍ أَجَّرَهَا وَصِيُّهُ فَكَبِرَ الْيَتِيمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَصِيِّ عَلَى مَالِهِ كَعَقْدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَجَّرَ نَفْسَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَدٌّ وَتَعَبٌ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِإِيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِخِدْمَةٍ أَوْ لِعَمَلٍ آخَرَ فَمَرِضَ الْعَبْدُ فَهَذَا عُذْرٌ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يُكَلِّفُهُ مِنْ إيفَاءِ الْعَمَلِ إلَّا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَهُوَ يَرْضَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دُونَ حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى بَرِئَ الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لَازِمَةٌ لِزَوَالِ الْعُذْرِ وَيُطْرَحُ عَنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَتَعَطَّلُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَقَ الْعَبْدُ، أَوْ كَانَ سَارِقًا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إمَّا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَسْخُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُسَافِرَ وَيَتْرُكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَهُوَ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى السَّفَرِ لِحَاجَتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ. وَإِنْ أَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَبْدِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمُسْتَأْجِرُ أَجِيرًا أَرْخَصَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلَ الرِّبْحِ لَا دَفْعَ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ حَاذِقٍ بِذَلِكَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ لَا تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فَاسِدًا فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 الْعَيْبِ تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا انْتَقَضَتْ حِصَّتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجِّرَيْنِ اعْتِبَارًا لِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بِمَوْتِهِمَا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا. وَإِنْ ارْتَدَّ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَوْتِهِ حَكَمَ حِينَ يُقْضَى بِلَحَاقِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمَا فِي ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ شَيْءٌ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ اللِّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ فَلَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرِ. فَإِذَا زَالَ بِرُجُوعِهِ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْإِجَارَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْإِجَارَةِ فِي مَبْلَغِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْمُؤَاجِرُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِثْلِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَالْآخَرُ بِأَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ وَمَعَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْبَدَلِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَالْحَاجَةُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْضَى بِالْأَقَلِّ كَمَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي سِتَّةً وَشَهِدَ بِهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةٍ (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا هُنَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى الْإِجَارَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ تَحَالَفَا، أَوْ تَرَادَّا لِاحْتِمَالِ الْعَقْدِ الْفَسْخَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ دَابَّةٌ فَقَالَ الْمُسْتَكْرِي مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةٍ، وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ إلَى الصَّرَاةِ وَالصَّرَاةِ الْمُنَصِّفِ تَحَالَفَا، وَبَعْدَمَا حَلَفَا أَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِهِمَا أُخِذَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَحَقُّ بِالْعَمَلِ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّابَّةِ عَلَى الْآجِرِ وَبَيِّنَةِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى فَضْلِ الْمَسِيرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا إلَى بَغْدَادَ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْمَكَانِ وَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْأَجْرِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْأَجْرُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 الدَّعْوَى دُونَ الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا إلَى بَغْدَادَ فَقَالَ قَدْ أَعَرْتَنِي الدَّابَّةَ وَقَالَ صَاحِبُهَا بَلْ اكْتَرَيْتُهَا مِنْكَ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا - أَجْرَ أَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ رَكِبَهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهَا، وَأَمَّا - الْأَجْرُ فَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُنْكِرٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُؤَاجِرُ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِدِرْهَمٍ وَالْآخَرُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُنْتَهًى فَيُقْضَى بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّهُ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُنَاكَ الشَّاهِدَانِ مَا اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ لَفْظًا فَالْخَمْسَةُ غَيْرُ السِّتَّةِ وَعِنْدَهُمَا الْقَضَاءُ بِالْأَقَلِّ بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَقَةِ فِي الْمَعْنَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمُدَّعِي مُكَذِّبٌ أَحَدَهُمَا وَهُنَا اتَّفَقَا الشَّاهِدَانِ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا فَالْمُدَّعِي يَدَّعِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا آخَرَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَأَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا لَهُ؛ فَلِهَذَا أَقْضَيْنَا لَهُ بِالدِّرْهَمِ. وَلَوْ رَكِبَ رَجُلًا دَابَّةَ رَجُلٍ إلَى الْحِيرَةِ فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتَهَا إلَى الْجِبَايَةِ بِدِرْهَمٍ فَجَاوَزْتَ ذَلِكَ وَقَالَ الَّذِي رَكِبَ أَعَرْتَنِيهَا وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الدَّابَّةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَكْرَاهُ إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ فَإِنَّهُ ادَّعَى الْإِكْرَاءَ إلَى الْجِبَايَةِ. وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الدَّابَّةِ أَنَّهُ أَكْرَاهَا إلَى السَّالِحِينَ بِدِرْهَمِ وَنِصْفٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَآخَرُ شَهِدَ أَنَّهُ أَكْرَاهَا إلَى السَّالِحِينَ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ إذَا كَانَ قَدْ رَكِبَهَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لَفْظًا وَالْمُدَّعِي يَدَّعِيهِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ تَكَارَيْتُهَا مِنْكَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ بَلْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فِي السَّوَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِدِرْهَمٍ، وَقَدْ رَكِبَهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فَصَارَ ضَامِنًا مَعْنَاهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُنْكِرُ الْإِذْنَ لَهُ فِي الرُّكُوبِ فِي طَرِيقِ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ رَكِبَ فَصَارَ ضَامِنًا، وَإِنَّمَا ادَّعَى رَبُّ الدَّابَّةِ الْعَقْدَ عَلَى الرُّكُوبِ فِي طَرِيقٍ آخَرَ وَلَمْ يَرْكَبْ الْمُسْتَأْجِرُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَكْرَاهُ دَابَّتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ. وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّتَيْنِ بَلْ هَذِهِ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا لَهُ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إذَا كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِمَا سَوَاءً، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هُمَا لَهُ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُثْبِتُ بَيِّنَةَ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الدَّابَّتَيْنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَكْرَاهُ أَحَدَيْهِمَا بِعَيْنِهَا بِدِينَارٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 اسْتَكْرَاهُمَا جَمِيعًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَهُ دَابَّتَانِ بِدِينَارٍ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ هُنَا مُخْتَلِفٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حَقَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَةِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ جِنْسُ الْأَجْرِ مُتَّحِدٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِرَبِّ الدَّابَّةِ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْعَقْدِ فِي الدَّابَّةِ الْأُخْرَى وَبَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ ذَلِكَ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ تَنْفِي فَالْمُثْبَتُ أَوْلَى. وَإِنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ بِدِينَارٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَكْرَاهَا إيَّاهُ إلَى الْبَصْرَةِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ رَكِبَهَا إلَى بَغْدَادَ قَضَيْتُ عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَنِصْفِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ لَمَّا اخْتَلَفَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، وَقَدْ أَثْبَتَ رَبُّ الدَّابَّةِ بِبَيِّنَةٍ إلَى الْبَصْرَةِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَثْبَتَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَيِّنَةٍ الْعَقْدَ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى بَغْدَادَ بِنِصْفِ دِينَارٍ؛ فَلِهَذَا قُضِيَ بِهِمَا. وَإِنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ وَجَحَدَهَا صَاحِبُ الدَّابَّةِ فَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى بَغْدَادَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا وَيَحْمِلَ عَلَيْهَا هَذَا الْمَتَاعَ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي كَذَلِكَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ شَاهِدَيْهِ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى الرُّكُوبِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيُفْرِدُ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَهُوَ حَمْلُ الْمَتَاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ قُلْنَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الدَّابَّةِ لَا عَيْنُ الرُّكُوبِ فَالرُّكُوبُ فِعْلُ الرَّاكِبِ وَحَمْلُ الْمَتَاعِ كَذَلِكَ فِعْلُهُ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِلْكُ رَبِّ الدَّابَّةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمَا لَفْظًا بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ وَنِصْفٍ مَعَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاجَةُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي حُمُولَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ وَجَحَدَ الصَّبَّاغُ ذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ الْآخَرُ لِيَصْبُغَهُ أَصْفَرَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الثَّوْبِ وَالْأَصْفَرِ مِنْهُ غَيْرِ الْأَحْمَرِ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا يَضْمَنُ فِيهِ الْأَجِيرُ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ سَلَّمَ إلَى قَصَّارٍ ثَوْبًا فَدَقَّهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَتَخَرَّقَ، أَوْ عَصَرَهُ فَتَخَرَّقَ، أَوْ جَعَلَ فِيهِ النُّورَةَ، أَوْ وَسَمَهُ فَاخْتَرَقَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ فَإِنْ كَانَ أَجِيرُ الْمُشْتَرَكِ الْقَصَّارَ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا بِالْخِلَافِ وَلَمْ يُخَالِفْ، ثُمَّ عَمَلُهُ كَعَمَلِ الْأُسْتَاذِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُسْتَاذَ يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْأَجْرُ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ الْقَصَّارِ، أَوْ سَرَقَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا وَضَعَ الْقَصَّارُ السِّرَاجَ فِي الْحَانُوتِ فَاحْتَرَقَ بِهِ الثَّوْبُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَضْمَنُ بِهِ الْحَرْقُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ إطْفَائِهِ. وَ (قَالَ) فِي الصَّبَّاغِ يَصْبُغُ الثَّوْبَ أَحْمَرَ فَيَقُولُ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ بِأَصْفَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَوْبَهُ وَضَمِنَ لِلصَّبَّاغِ مَا زَادَ عَلَى الْعُصْفُرِ فِي ثَوْبِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِيمَا صَبَغَهُ بِهِ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ إذْنُ صَاحِبِ الثَّوْبِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ لِلصَّبَّاغِ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْغَصْبِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَلَّاحِ إذَا أَخَذَ الْأَجْرَ فَإِنْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ رِيحٍ، أَوْ مَوْجٍ، أَوْ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهَا أَوْ جَبَلٍ صَدَمَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ غَرِقَتْ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ مُعَالَجَتِهِ أَوْ جَذْفِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَالْمَلَّاحُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ الطَّعَامُ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ فَنُقِضَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِيهَا فَأَسَدَهُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمَلَّاحِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الطَّعَامِ فِي السَّفِينَةِ أَوْ وَكِيلُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَالِفْ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَصْنَعُ شَيْئًا مِمَّا يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالْعَمَلُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْمَلَّاحِ بِخِلَافِ مَاذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَهُ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ رَدَّ الْمَوْجُ السَّفِينَةَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي حُمِلَ الطَّعَامُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الطَّعَامِ مَعَهُ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الطَّعَامِ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا صَارَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ وَيُقَرَّرُ الْأَجْرُ بِحَبْسِهِ. فَأَمَّا إذَا خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ بَلْ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مُتَعَدِّيًا خَاصًّا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ. وَإِذَا حَجَمَ الْحَجَّامُ بِأَجْرٍ، أَوْ بَزَغَ الْبَيْطَارُ، أَوْ حَقَنَ الْحَاقِنُ بِأَجْرٍ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا بِأَمْرِهِ أَوْ بَطَّأَ قُرْحَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ فَخَرَقَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَمَلُ السَّلِيمُ عَنْ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْعَقْدِ وَهُنَا الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِجِدِّهِ لَا عَمَلٌ غَيْرُ سَارِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ فَالْجُرْحُ فَتْحُ بَابِ الرُّوحِ وَالْبُرْءُ بَعْدَهُ بِقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ عَلَى دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ فَلَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي وُسْعِهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِجِدِّهِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ لِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ أَوْ يَفْعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا حِينَئِذٍ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقْتَرِنُ بِالْجُرْحِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَهَا بِزَمَانِ ضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ وَتَوَالِي الْآلَامِ عَلَى الْمَجْرُوحِ. وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْعَمَلِ. فَأَمَّا بِخِرَقِ الثَّوْبِ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالدَّقِّ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْعَمَلُ مِنْ ضَمَانِ الْقَصَّارِ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ بِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَضْمُونٌ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ، وَلَوْ وَطْئًا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ لِلْقَصَّارِ عَلَى الثَّوْبِ مِمَّا لَا يُوطَأُ عَلَيْهِ فِي دَقِّهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فِي الْوَطْءِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوطَأُ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوَطْءِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ وَدِيعَةً عِنْدَ الْقَصَّارِ فَالْأَجِيرُ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوطَأُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي بَسْطِهِ وَالْوَطْءِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِي بَيَانِ الْقِصَارَةِ دُونَ وَدَائِعِ النَّاسِ عِنْدَهُ. وَلَوْ حَمَلَ الْإِنْسَانُ حِمْلًا فِي بَيْتِ الْقَصَّارِ مِنْ ثِيَابِ الْقِصَارَةِ فَعَثَرَ وَسَقَطَ فَتَخَرَّقَ بَعْضُهَا كَانَ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا الْعَمَلِ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ وَلَوْ دَخَلَ بِنَارِ السِّرَاجِ بِأَمْرِ الْقَصَّارِ فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ الْقِصَارَةِ، أَوْ وَقَعَ السِّرَاجُ مِنْ يَدِهِ فَأَصَابَ دُهْنُهُ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ دُونَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي إدْخَالِ النَّارِ بِالسِّرَاجِ، وَكَذَلِكَ أَجِيرٌ لِرَجُلٍ يَخْدُمُهُ إنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ شَيْءٌ فَتَكَسَّرَ وَأَفْسَدَ مَتَاعًا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِي خِدْمَةِ صَاحِبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَلَوْ أَنَّ غُلَامَ الْقَصَّارِ انْفَلَتَتْ مِنْهُ الْمِدَقَّةُ فِيمَا يَدُقُّ مِنْ الثِّيَابِ فَوَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ الْقِصَارَةِ فَخَرَقَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فِي دَقِّ الثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ وَقَعَ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ الْقِصَارَةِ كَانَ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْغُلَامِ دُونَ الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي دَقِّ ذَلِكَ الثَّوْبِ فَيَكُونُ هُوَ جَانِيًا فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَتَعَذَّرَ الْخَطَأُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الْمَحَلِّ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْمِدَقَّةُ عَلَى مَوْضُوعِهَا، ثُمَّ وَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا لَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحَلِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 الْمَأْذُونِ فِيهِ صَارَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا وَخَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْأَجِيرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ أَصَابَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ الْغُلَامُ ضَامِنًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ فِيمَا سَبَقَ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَتَاعِهِ فِيمَا يَحْمِلُهُ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فِي الْبَيْتِ فَقَتَلَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي بَنِي آدَمَ مُوجِبَةُ الْأَرْشِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ انْكَسَرَ شَيْءٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَصَّارِ بِعَمَلِ الْغُلَامِ مِمَّا يَدُقُّ بِهِ أَوْ يَدُقُّ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدُقُّ بِهِ وَلَا يُدَقُّ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ دَعَا رَجُلٌ قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا عَلَى بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ، أَوْ جَلَسُوا عَلَى وِسَادَةٍ فَتَخَرَّقَتْ، وَإِنْ كَانَ الضَّيْفُ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا فَلَمَّا جَلَسَ شَقَّ السَّيْفُ بِسَاطًا أَوْ وِسَادَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيمَا فَعَلَ مِنْ الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَتَقَلُّدِ السَّيْفِ، وَلَوْ وَطِئَ عَلَى آنِيَةٍ مِنْ أَوَانِيهِ، أَوْ ثَوْبًا لَا يُبْسَطُ مِثْلُهُ وَلَا يُوطَأُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي الْوَطْءِ وَالْجُلُوسِ عَلَى مِثْلِهِ. وَإِنْ حَمَلَ الْأَجِيرُ شَيْئًا فِي خِدْمَةِ أُسْتَاذِهِ فَسَقَطَ فَفَسَدَ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَى وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ فَأَفْسَدَهَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَثَرَ فَسَقَطَ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ بِسَاطًا أَوْ وِسَادَةً اسْتَعَارَهُ لِلْبَسْطِ فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ وَلَا عَلَى أَجِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي بَسْطِهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ. وَإِذَا جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ فَمَرَّتْ بِهِ حَمُولَةٌ فِي الطَّرِيقِ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّهُ مُتْلَفٌ لَا بِعَمَلِهِ وَالضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ الْحَمُولَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ وَهُوَ مُتَعَدِّي فِي ذَلِكَ فَسَوْقُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ يَتَقَيَّدُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ كَانَ ضَامِنًا. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَلَمَّا بَلَغَ الْمَقْصِدَ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ ثُلُثَ قِيمَتِهَا بِقَدْرِ مَا زَادَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ عَدَدُ الْجُنَاةِ فِي حَقِّ ضَمَانِ النَّفْسِ وَأُوضِحَ الْفَرْقُ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَالَ لَوْ أَنَّ حَائِطًا مَائِلًا لِرَجُلٍ ثُلُثَاهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ يُقَدَّمُ إلَيْهِمَا فِيهِ فَوَقَعَ عَلَى رَجُلٍ فَجَرَحَهُ وَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرَحْهُ، وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ نَقْلُ الْحَائِطِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ مِلْكِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ضِعْفُ نَقْلِ مِلْكِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَفِي الْجُرْحِ الْمُعْتَبَرِ أَصْلُ الْجِرَاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَارِجٌ لَهُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِحِ بِيَدِهِ. فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ نَقْلِ الزِّيَادَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشِّجَاجِ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ ضَمَانُ النَّفْسِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجُرْحِ لَا مِقْدَارِهِ وَعَدَدِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 رَجُلًا أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَضَرَبَ أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا فَهُوَ مُتَعَدِّي فِي السَّوْطِ الْحَادِيَ عَشَرَ فَيَضْمَنُ نُقْصَانَ ذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ وَنِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي ضَرْبِ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ عَامِلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ هَذَا بِنَفْسِهِ، وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ السِّيَاطِ كُلِّهَا فَتَوَزَّعَ بَدَلُ نَفْسِهِ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْحَيَاةِ لَا عَدَدِ الْجِنَايَاتِ وَإِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ أُمَّتَهُ إلَى مَكْتَبٍ، أَوْ عَمَلٍ آخَرَ فَضَرَبَهُ الْأُسْتَاذُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِإِذْنِهِ كَفِعْلِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَعَدِّيًا مِنْهُ وَفِعْلُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ تَعَدِّيًا مِنْهُ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ضَرَبَ الدَّابَّةَ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا ضَرْبًا مُعْتَادًا فَقَالَا الضَّرْبُ مُعْتَادٌ هُنَاكَ عِنْدَ السَّيْرِ مُتَعَارَفٌ فَيُجْعَلُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُنَا الضَّرْبُ عِنْدَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَإِنَّمَا الضَّرْبُ عِنْدَ سُوءِ الْأَدَبِ يَكُونُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التَّعْلِيمِ فِي شَيْءٍ فَالْعَقْدُ الْمَعْقُودُ عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي الضَّرْبِ؛ فَلِهَذَا يَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ نَصًّا، وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَ ابْنَهُ فِي عَمَلٍ إلَى رَجُلٍ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا، وَإِنْ ضَرَبَهُ بِإِذْنِ الْأَبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدِّي فِي ضَرْبِهِ بِإِذْنِ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ كَانَ ضَامِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُمَا يَدَّعِيَانِ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَقُولَانِ إذَا كَانَ الْأُسْتَاذُ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْأَبِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَبُ ضَامِنًا إذَا ضَرَبَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ضَرْبُ الْأُسْتَاذِ لِمَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ لَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَأْذَنُ وَلِيُّهُ. فَأَمَّا ضَرْبُ الْأَبِ إيَّاهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِغَيْرِ سُوءِ أَدَبِ وَلَدِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لَمَّا كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ يُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَإِذَا تَوَهَّنَ رَاعِي الرَّمَكَةِ رَمَكَةً مِنْهَا فَوَقَعَ الْوَهْنُ فِي عُنُقِهَا فَجَذَبَهَا فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا أَمَرَهُ بِالتَّوَهُّنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا كَفِعْلِ صَاحِبِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّوَهُّنَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الرَّاعِي فِي شَيْءٍ وَلَا يَدُلُّ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ الدَّقِّ مِنْ الْقَصَّارِ. وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَخْتِنَ عَبْدَهُ، أَوْ ابْنَهُ فَأَخْطَأَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ كَانَ ضَامِنًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ الْخَتَّانِ مَعْلُومٌ بِمَحَلِّهِ. فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ مَاذَا يَضْمَنُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ قَالَ إنْ بَرَأَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ بَدَلِ نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ بَدَلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرَأَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ وَهُوَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي الْبَدَنِ فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ. وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ حَصَلَ تَلَفُ النَّفْسِ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ فَكَانَ ضَامِنًا نِصْفَ بَدَلِ النَّفْسِ. وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْطَعَ أُصْبُعَهُ لِوَجَعٍ أَصَابَهُ فِيهَا فَقَطَعَهَا فَمَاتَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَاطِعِ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَضْمَنُ الدِّيَةَ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ صَحَّ هُنَا؛ لِأَنَّ لِلْآذِنِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَقِلُ عَمَلُ الْمَأْذُونِ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي فَالْإِذْنُ هُنَاكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْآذِنَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ، أَوْ بِعَبْدٍ لَهُ فَهَذَا، وَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَمَرَ حَجَّامًا لِيَقْطَعَ سِنًّا فَفَعَلَ فَقَالَ أَمَرْتُك أَنْ تُقْلِعَ سِنًّا غَيْرَ هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْحَجَّامُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي السِّنِّ الَّذِي قَلَعَهُ وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ فَجَعَلَ فِي جَوَالِقَ عِشْرِينَ مَخْتُومًا، ثُمَّ أَمَرَ رَبَّ الدَّابَّةِ فَكَانَ هُوَ الَّذِي وَضَعَهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِحَمْلِ الزِّيَادَةِ عَلَى دَابَّتِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّ الْغُرُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ ضَمَانٍ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا الرُّجُوعَ لِلْمَغْرُورِ عَلَى الْغَارِّ، وَإِنْ حَمَلَاهَا جَمِيعًا وَوَضَعَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رُبْعَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَحْمُولِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَنِصْفَهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَمْلِ شَائِعٌ فِي النِّصْفَيْنِ فَبِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ وَبِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي حَمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالنِّصْفِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدِّي فِيهِ فَكَانَ ضَامِنًا رُبْعَ قِيمَتِهَا. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ فِي عِدْلَيْنِ فَرَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِدْلًا فَوَضَعَاهُمَا جَمِيعًا عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ حَمْلَ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ، وَقَدْ حَمَلَ هَذَا الْمِقْدَارَ فَيُجْعَلُ حَمْلُهُ مِمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا حَمَلَهَا رَبُّ الدَّابَّةِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ أَنَّ الْقَصَّارَ اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ حَتَّى دَقَّ الثَّوْبَ مَعَهُ فَتَخَرَّقَ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْفِعْلَيْنِ تَخَرَّقَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَصَّارُ ضَامِنٌ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ جَمِيعَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِهِ فَبِاعْتِبَارِ الْيَدِ هُوَ ضَامِنٌ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِعَمَلِهِ، أَوْ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ التَّلَفَ بِعَمَلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ كَانَ الْقَصَّارُ ضَامِنًا وَإِذَا سَاقَ الرَّاعِي الْغَنَمَ، أَوْ الْبَقَرَ فَتَنَاطَحَتْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَوْ وَطِئَ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ سِيَاقَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ وَهِيَ لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي السَّوْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِيمَا يَتْلَفُ بِعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِقَوْمٍ شَتَّى فَهُوَ ضَامِنٌ مُشْتَرَكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ أَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ فَلِأَنَّهُ سَائِقُ الدَّابَّةِ الَّتِي وَطِئَتْ وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ بِالسَّبَبِ وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ فَلَا يَكُونُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ. وَإِذَا سَاقَ الرَّاعِي الْمَاشِيَةَ فَعَطِبَتْ وَاحِدَةٌ أَوْ وَقَعَتْ فِي نَهْرٍ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَالتَّلَفُ حَصَلَ بِعَمَلِهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَلَبِسَ مِنْ الثِّيَابِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ اسْتَأْجَرَهَا فَإِنْ لَبِسَ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ إذَا رَكِبُوا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ بِقَدْرِ مَا زَادَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ. وَإِنْ تَكَارَى نَاقَةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا امْرَأَةً فَوَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فَحَمَلَهَا هِيَ وَوَلَدَهَا عَلَى النَّاقَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهَا فَعَطِبَتْ النَّاقَةُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِحِسَابِ مَا زَادَ عَلَيْهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَقْصُودٌ بِالْحَمْلِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَهُوَ فِي مِقْدَارِهِ مُخَالِفٌ فَيُضْمَنُ بِحِسَابِ مَا يُخَالِفُ كَمَا لَوْ زَادَ مَتَاعًا مَعَهَا، وَلَوْ نَتَجَتْ النَّاقَةُ فَحَمَلَ وَلَدَ النَّاقَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَكَارَى بِغَيْرِ الْمُحْمَلِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ زَامِلَةً فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِيمَا صَنَعَ فَالزَّامِلَةُ أَضَرُّ بِالْبَعِيرِ مِنْ الْمُحْمَلِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلًا مَكَانَ الْمُحْمَلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ خِلَافًا، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّرْجِ مَعَ الْإِكَافِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إجَارَةِ رَحَا الْمَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَحَا مَاءٍ وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ مَتَاعُهَا كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَاسْتِئْجَارُهُ مُتَعَارَفٌ فَإِنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا فَلَمْ يَعْمَلْ رُفِعَ عَنْهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ لِزَوَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَطْحَنَ فِيهَا بِالْمَاءِ دُونَ الثَّوْرِ وَبِانْقِطَاعِ الْمَالِ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَبِدُونِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُنْقِضْهَا حَتَّى عَادَ الْمَاءُ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ وَاحِدٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْقِضَهَا لِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ أَنَّهُ لَمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى فَرَبُّ الرَّحَا يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ الْمُؤَاجِرُ لَمْ يَنْقَطِعْ الْمَاءُ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْحَالِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيمَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا فِيمَا مَضَى، وَفِي الْخُصُومَاتِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ تَوْضِيحُهُ إنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَاءَ جَارِيًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ أَصْلٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ. فَإِذَا عَلِمْنَا انْقِطَاعَ الْمَاءِ فِي الْحَالِ بِقَدْرِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَاعْتَبَرْنَا الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارَ فَرَبُّ الرَّحَا يَدَّعِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ جَارِيًا فِي الْحَالِ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُمْكِنٌ فَجَعَلْنَا رَبَّ الرَّحَا مُسَلِّمًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَلَا مِنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَطَحَنَ فِيهَا فِي الشَّهْرِ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَرَبِحَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الرَّحَا وَالطَّعَامِ، أَوْ أَجِيرُهُ، أَوْ عَبْدُهُ فَالرِّبْحُ لَهُ طَيِّبٌ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الطَّعَامِ هُوَ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ لَمْ يُطْلَبْ الرِّبْحُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَمِلَهُ فِيهَا عَمَلًا تَنْتَفِعُ بِهَا الرَّحَا مِنْ كَرْيِ النَّهْرِ، أَوْ نَقْرِ الرَّحَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ الْفَضْلُ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فَيَطِيبُ لَهُ فَقَدْ جَعَلَ نَقْرَ الرَّحَا مُعْتَبَرًا بِجَعْلِ الْفَضْلِ بِمُقَابَلَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ كَنْسَ الْبَيْتِ فِيمَا سَبَقَ مُعْتَبَرًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَنْسَ الْبَيْتِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِاعْتِبَارِهِ. فَأَمَّا نَقْرُ الرَّحَا وَكَرْيُ النَّهْرِ بَعْدَ زِيَادَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَبِهِ يُتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا عَلَى نَهْرٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً وَيَتَّخِذَ عَلَيْهِ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَدِيدَ وَالْبِنَاءَ مِنْ عِنْدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ انْقَطَعَ مَاءُ النَّهْرِ فَلَمْ يَطْحَنْ وَلَمْ يَفْسَخْ الْإِجَارَةَ فَالْأَجْرُ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِي بِمَا يَشْغَلُ الْأَرْضَ بِمَتَاعِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الرَّحَا لِعَمَلِ الطَّحْنِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّ هُنَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِلْعُذْرِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِدُونِ جَرَيَانِ الْمَاءِ. وَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ إيَّاهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ ضَرَرٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ بِمَتَاعِهَا فَانْقَطَعَ الْمَاءُ شَهْرًا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ حَتَّى أَضَرَّ بِهِ فِي الطَّحْنِ وَهُوَ يَطْحَنُ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ضَرَرًا فَاحِشًا فَهُوَ عَيْبٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَيَتَمَكَّنُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 لِأَجْلِهِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ كَانَ الْأَجْرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِبَقَاءِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَرِضَاهُ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَ الرَّحَا فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمَاءَ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَنْتَقِصُ أُخْرَى فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَفْوٌ. وَإِذَا خَافَ رَبُّ الرَّحَا أَنْ يَنْقَطِعَ الْمَاءُ فَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ فَأَكْرَى الْبَيْتَ وَالْحَجَرَيْنِ وَالْمَتَاعَ خَاصَّةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَإِنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ هَذِهِ الْأَعْيَانِ كَانَ لِمَقْصُودٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ، وَفِي إيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الرَّحَا يَطْحَنُ بِجَمَلِهِ فَيَنْفُقُ جَمَلُهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ جَمَلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ فَانْكَسَرَ أَحَدُ الْحَجَرَيْنِ أَوْ الدَّوَّارَةُ، أَوْ الْبَيْتُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِزَوَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَإِنْ أَصْلَحَ ذَلِكَ رَبُّ الرَّحَا قَبْلَ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ يُرْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ الْعُطْلَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ الْمُؤَاجِرُ الْبَطَالَةَ أَصْلًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا تَمَكُّنَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الرَّحَا، ثُمَّ يَدَّعِي هُوَ عَارِضًا مَانِعًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّ غَاصِبًا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِالرَّحَا. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ فِيهَا الْحِنْطَةَ وَلَا يَطْحَنَ غَيْرَهَا فَطَحَنَ فِيهَا شَعِيرًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحُبُوبِ سِوَى الْحِنْطَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالرَّحَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ ضَمِنَهُ مَا نَقَصَهَا؛ لِأَنَّ التَّقَيُّدَ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَالْخِلَافُ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عُدْوَانٌ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ ضَامِنٌ مِنْ النُّقْصَانِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَحًا وَبَيْتًا مِنْ أَجِيرٍ وَبَعِيرًا مِنْ آخَرَ صَفْقَةً وَاحِدَةً كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ كُلِّ عَيْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ عَلَى الِانْفِرَادِ صَحِيحٌ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ الْأَجْرَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا بِالْحِصَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَكَ أَرْبَابُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ فَمَا طَحَنُوا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَإِنْ أَجَّرُوا الْجَمَلَ بِعَيْنِهِ فَطَحَنَ فَأَجْرُ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَلِ وَلِلْآخَرَيْنِ أَجْرُ مِثْلِهِمَا لِنَفْسِهِمَا وَمَتَاعُهُمَا عَلَى صَاحِبِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَجْرِ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنَافِعِهِمَا، وَقَدْ شُرِطَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَجْرٌ وَلَمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 يُسَلِّمْ لَهُمَا ذَلِكَ الْأَجْرَ فَإِنْ قَبِلُوا الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يَطْحَنُوهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يُؤَجِّرْ وَإِلَّا الْجَمَلَ بِعَيْنِهِ فَمَا اكْتَسَبُوهُ صَارَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَبِذَلِكَ اسْتَوْجَبُوا الْأَجْرَ. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ بَيْتٌ عَلَى نَهْرٍ قَدْ كَانَ فِيهِ رَحَا مَاءٍ فَذَهَبَ وَجَاءَ آخَرُ بَرِحَا آخَرَ وَمَتَاعِهَا فَنَصَبَهَا فِي الْبَيْتِ وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا مِنْ النَّاسِ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ فَطَحَنَاهُ فَمَا كَسَبَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَا طَحَنَاهُ، وَمَا تَقَبَّلَاهُ فَأَجْرُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَيْسَ لِلرَّحَا وَلَا لِلْبَيْتِ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ابْتَغَى عَنْ مَتَاعِهِ أَجْرًا سِوَى مَا قَالَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَصَّارَيْنِ لَوْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا بِأَدَاةِ الْآخَرِ فَمَا كَسَبَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ جَائِزًا وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِأَجْرِ أَدَاتِهِ. وَلَوْ أَجَّرَ الرَّحَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى طَعَامٍ مَعْلُومٍ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الرَّحَا؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ وَلِصَاحِبِ الْبَيْتِ أَجْرُ مِثْلِ بَيْتِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّحَا إذَا كَانَ قَدْ عَمِلَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ بَيْتِهِ وَنَفْسِهِ سُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الرَّحَا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ مَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ (قَالَ) وَلَا أُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ أَجْرِ مِثْلِ الرَّحَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ. وَلَوْ انْكَسَرَ الْحَجَرُ الْأَعْلَى مِنْ الرَّحَا فَنَصَبَ رَجُلٌ مَكَانَهُ حَجَرًا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَجَعَلَ يَتَقَبَّلُ الطَّعَامَ وَيَطْحَنُ فَهُوَ مُسِيءٌ فِي ذَلِكَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْفَلِ وَمَتَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ وَالْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَإِنْ كَانَ وَضَعَ الْحَجَرَ الْأَعْلَى بِرِضَاءِ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ كَمَا شُرِطَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا كَانَ يَتَقَبَّلَانِ الطَّعَامَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا كَمَا شُرِطَ. وَلَوْ بَنَى عَلَى نَهْرٍ بَيْتًا وَنَصَبَ فِيهَا رَحَا مَاءٍ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ النَّهْرِ، ثُمَّ يَقْبَلُ الطَّعَامَ فَكَسَبَ فِي ذَلِكَ مَالًا كَانَ لَهُ فِي الْكَسْبِ وَكَانَ ضَامِنًا لِمُنَاقِصِ الْبَيْتِ وَسَاحَتِهِ وَمَوْضِعِهِ وَالنَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ بِعَمَلِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ نَهْرٌ اشْتَرَكَ هُوَ وَرَجُلَانِ عَلَى إنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا بِرَحَا وَالْآخَرُ بِمَتَاعِهَا عَلَى أَنْ يَبْنُوا الْبَيْتَ جَمِيعًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا كَسَبُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا مِثْلُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانُوا يَتَقَبَّلُونَ الطَّعَامَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَحَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمِلًا فِيهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 رَجُلَانِ، وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ الْوَطْءِ وَالدُّثُرِ وَإِحْدَاهُمَا زَامِلَةٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَذَا مَخْتُومًا وَالسَّوِيقُ، وَمَا يَصْلُحُهُمَا مِنْ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمَعَالِيقِ، وَقَدْ رَأَى الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يَرَ الْوَطْءَ وَالدُّثُرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَشَرَطَ حَمْلَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِجَهَالَةِ وَزْنِ الْوَطْءِ وَالدُّثُرِ وَجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْمَاءِ وَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمَعَالِيقِ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْإِبِلِ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَفِي اشْتِرَاطِ إعْلَامِ وَزْنِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَرَجِ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ عَلَى أَحَدِ الْحَمْلَيْنِ الرَّجُلَانِ، وَقَدْ رَآهُمَا الْحَمَّالُ وَعَلَى الْحَمَّالِ الْآخَرِ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ تَبَعٌ إذَا صَارَ مَا هُوَ الْأَصْلُ مَعْلُومًا فَالْجَهْلُ فِي الْبَيْعِ عَفْوٌ وَمِقْدَارُ الْبَيْعِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا بِطَرِيقِ الْعُرْفِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ مِنْ صَالِحِ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ عُرْفًا، وَلَوْ بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَالْهَدَايَا كَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ. وَإِذَا أَرَادَا الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى لِكُلِّ مَحْمِلٍ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ أَوْ إدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكْتُبُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحَمَّالَ قَدْ رَأَى الْوَطْءَ وَالدُّثُرَ وَالْقِرْبَتَيْنِ وَالْإِدَاوَتَيْنِ وَالْخَيْمَةَ وَالْقُبَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ الْكِتَابَ عَلَى أَوْثَقِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ عُقْبَةَ الْأَجِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَكْتُبُ، وَقَدْ رَأَى الْحَمَّالُ الْأَجِيرَ، وَفِي تَفْسِيرِ عُقْبَةِ الْأَجِيرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَيَرْكَبُ أَجِيرُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عُقْبَةَ الْأَجِيرِ وَالثَّانِي أَنْ يَرْكَبَ أَجِيرُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَرْسَخًا، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا هُوَ مُتَعَارَفٌ عَلَى خَشَبَةٍ خَلْفَ الْمَحْمِلِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ عُقْبَةَ الْأَجِيرِ. وَفِي كِتَابِ الشُّرُوطِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَرَى أَنْ يُشْتَرَطَ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْمَحْمُولُ مِنْ الْهَدَايَا يَخْتَلِفُ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ بِاخْتِلَافِ مِقْدَارِ الْوَزْنِ. وَإِنْ تَكَارَى شِقَّ مَحْمِلٍ، أَوْ شِقَّ زَامِلَةٍ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْحَمَّالُ إنَّمَا عَيَّنْت عِيدَانَ الْمَحْمِلِ. وَقَالَ الْمُسْتَكْرِي بَلْ عَيَّنْت الْإِبِلَ فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ كَمَا يُتَكَارَى بِهِ لِإِبِلٍ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ عَلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ كَمَا يُتَكَارَى بِهِ شِقُّ مَحْمِلِ خَشَبٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَمَا يُتَكَارَى بِهِ الْأَوَّلُ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُسْتَكْرِي، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا كَمَا يُتَكَارَى بِهِ الْخَشَبُ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْحَمَّالِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قِرْبَةَ مَاءٍ بِدَانَقٍ فَقَالَ إنَّمَا اشْتَرَيْت الْقِرْبَةَ دُونَ الْمَاءِ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا قَالَ السَّقَّاءُ بِعْت الْمَاءَ دُونَ الْقِرْبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مَبْطَخَةً، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت الْأَرْضَ. وَقَالَ الْبَائِعُ إنَّمَا بِعْت الْبِطِّيخَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الثَّمَنِ فِي ذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. وَإِذَا تَكَارَى مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ إبِلًا مُسَمَّاةً بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا فَقَالَ الْحَمَّالُ أُخْرِجُك فِي عَشْرِ ذِي الْقَعْدَةِ فَقَالَ الْمُسْتَكْرِي أَخْرِجْنِي فِي خَمْسٍ مَضَيْنَ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ فِي خَمْسٍ مَضَيْنَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ خَمْسٍ مَضَيْنَ فَإِنْ أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ ضَرَرَ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ فَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ مُؤْنَةَ الْعَلَفِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا طَلَبَ الْمُسْتَكْرِي فِي عَشْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَ الْحَمَّالَ ضَرَرَ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِيَكُونَ هُوَ مُتَرَفِّهًا فِي نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمُتَعَارَفُ وَالْمُتَعَارَفُ الْخُرُوجُ مِنْ الْكُوفَةِ بِخَمْسٍ مَضَيْنَ. فَإِذَا أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى نِصْفِ ذِي الْقَعْدَةِ وَأَبَى ذَلِكَ الْمُسْتَكْرِي فَلَيْسَ لِلْحَمَّالِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ وَيَلْحَقُ الْمُسْتَكْرِيَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ بِاسْتِدَامَةِ السَّفَرِ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَخْرِجْنِي لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَقَالَ الْحَمَّالُ أُخْرِجُك بِخَمْسٍ مَضَيْنَ فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُ مُؤْنَةَ الْعَلَفِ فَإِنِّي أُؤَخِّرُهُ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلَا أُؤَخِّرُهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ إدْرَاكُ الْحَجِّ إذَا خَرَجَ بِعَشَرَةٍ مَضَيْنَ وَالْغَالِبُ هُوَ الْفَوَاتُ إذَا أَخَّرَ الْخُرُوجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ صِفَةُ السَّلَامَةِ لَا نِهَايَةُ الْجَوْدَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطًا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّرْطُ أَمْلَكُ»: أَيْ يُوَفَّى بِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسَلَّفَ فِي كِرَاءِ مَكَّةَ قَبْلَ الْحَجِّ سَنَةً أَوْ بِأَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ مَعْلُومٌ لَا يُجْهَلُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا إنَّ الْإِجَارَةَ الْمُضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَصِحُّ. (وَعَلَى قَوْلِ) الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَصِحُّ الدَّارُ وَالْحَانُوتُ وَالدَّوَابُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ إنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ، ثُمَّ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ حَتَّى أَنَّ مَا يَتَحَمَّلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَمَا لَا فَلَا كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ، ثُمَّ الْإِجَارَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَلَا يَمْلِكُ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَإِنْ شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَلَوْ انْعَقَدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لَانْعَقَدَ بِصِفَةِ اللُّزُومِ وَيَمْلِكُ الْأَجْرَ بِهِ إذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِئْجَارِ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ رُبَّمَا لَا يَجِدُ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَجِدُهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسَلَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهُ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ تُقَامُ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْكَيْلِ فِيمَا يُكَالُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ، وَبِهِ فَارَقَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي لُزُومِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ رِوَايَتَانِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْسَخَ إلَّا بِعُذْرٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَأَخَّرَ الْمِلْكُ بِقَضِيَّةِ الْمُسَاوَاةِ فَيَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ بِالشَّرْطِ وَهُنَا تَأَخَّرَ الْمِلْكُ لِنَصِيبِهِمَا عَلَى التَّأْخِيرِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ تَكَارَى إبِلًا إلَى مَكَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ مَعْلُومِ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَكَانِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا، وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَخْذَهُ هُنَاكَ وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْكُوفَةِ حَيْثُ تَكَارَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي إجَارَةِ الدَّارِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ مَوْضِعُ الدَّارِ وَهُنَا ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ سَيْرِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ فَيَتَعَذَّرُ تَعْيِينُ مَوْضِعِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِلْإِيفَاءِ وَرُبَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ مَوْضِعُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِإِيفَائِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ كَالْمَبِيعِ بِخِلَافِ مَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ تَكَارَى مِنْهُ حِمْلًا وَزَامِلَةً وَشَرَطَ حِمْلًا مَعْلُومًا عَلَى الزَّامِلَةِ فَمَا أُكِلَ مِنْ ذَلِكَ الْحِمْلِ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ حِمْلًا مُسَمًّى عَلَى الْبَعِيرِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْحَمَّالِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَحْمِلِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهِ إنْسَانَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُمَا إلَّا بِرِضَاءِ الْحَمَّالِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّاكِبِ، وَإِنْ خَرَجَ بِالْبَعِيرَيْنِ يَقُودُهُمَا وَلَا يَرْكَبُهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا جَائِيًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ بِهِمَا مَعَ عَبْدِهِ يَقُودُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 الْمُسْتَأْجِرِ نُقُودُ الدَّابَّةِ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا قَضَى الْمَنَاسِكَ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَقِيَ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ وَيَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ بِحِسَابِ مَا اسْتَوْفَى، ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكِرَاءِ خَمْسَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ وَيَبْطُلُ عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ وَبَيَانُ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ مَرْحَلَةً فَذَلِكَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ كَذَلِكَ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ تَكُونُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يَخْرُجُ إلَى مِنًى، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ يَعُودُ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِلرَّمْيِ فَيُحْسَبُ لِكُلِّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ. فَإِذَا جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ سِتِّينَ مَرْحَلَةً كُلَّ سَنَةٍ مِنْ ذَلِكَ عَشْرٌ. فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَالرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ سِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا لِلذَّهَابِ إلَى مَكَّةَ وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفُ عُشْرٍ كُلُّ عُشْرٍ سِتَّةٌ وَرُبَّمَا يُشْتَرَطُ الْمَمَرُّ عَلَى الْمَدِينَةِ فَيَزْدَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَرَاحِلَ فَإِنَّ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثِينَ مَرْحَلَةً فَإِنْ كَانَ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الذَّهَابِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ ثَلَاثُونَ لِلذَّهَابِ وَسِتَّةٌ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ الْمَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي الرُّجُوعِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلذَّهَابِ وَلِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّهَابَ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوعُ كَذَلِكَ فَالْقِسْمَةُ عَلَى سِتَّةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا. وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ لِلذَّهَابِ ثَلَاثُونَ وَلِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ فَحَاصِلُ مَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ وَحَرْفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ السُّهُولَةَ وَالْوُعُورَةَ فِي الْمَرَاحِلِ لِقِسْمَةِ الْكِرَاءِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ ضَبْطُهُ وَالْكِرَاءُ لَا يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِهِ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ؛ فَلِهَذَا قَسَمَهُ عَلَى الْمَرَاحِلِ بِالسَّوِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ تَكَارَى قَوْمٌ مَشَاةَ بَعِيرٍ إلَى مَكَّةَ وَاشْتَرَطُوا عَلَى الْمُكَارِي أَنْ يَحْمِلَ مَنْ مَرِضَ لَهُمْ أَوْ أَعْيَا فَهَذَا فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَوْ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ عُقْبَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا تُمْكِنُ بَعْدَهُ الْمُنَازَعَةُ. وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُبَدِّلَ مَحْمِلَهُ لِيَحْمِلَ مَحْمِلًا غَيْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى الْمَحْمِلِ كَنِيسَةً، أَوْ قُبَّةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْ الْمُكَارِي لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْبَعِيرِ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 عَلَيْهِ كَنِيسَةً بِعَيْنِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ كَنِيسَةً أَعْظَمَ مِنْهَا، أَوْ قُبَّةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ مُفِيدٌ، وَفِي التَّبْدِيلِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى دَابَّتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ كَنِيسَةً دُونَهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَخَفُّ عَلَى الْبَعِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسَلُّمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ بِأَنْ يَبْعَثَ بِالْإِبِلِ مَعَ أَجِيرِهِ، أَوْ مَعَ غُلَامِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ عَامَّةِ ذَلِكَ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اكْتَرَى الْإِبِلَ لِحَمْلِ الطَّعَامِ إلَى مَكَّةَ فَبَلَغَهُ كَسَادٌ أَوْ خَوْفٌ، أَوْ بَدَا لَهُ تَرْكُ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ فَهَذَا عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عُذْرٌ لِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ عَمَلًا مُسَمًّى فَفَرَغَ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يَضَعْهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى فَسَدَ الْعَمَلُ، أَوْ هَلَكَ وَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مَحْمِلَ الْعَمَلِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَكَمَا صَارَ مُسَلَّمًا تَقَرَّرَ الْأَجْرُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآجِرِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ صَاحِبِهِ هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَمِيصًا وَخَاطَ بَعْضَهُ، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ الثَّوْبَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ عِنْدَ حُصُولِ كَمَالِ الْمَقْصُودِ فَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ فِي بَيْتِ الْأَجِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فَإِنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَلَا يُقَالُ قَدْ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِمِلْكِهِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الثَّوْبِ فِي يَدِهِ فَيَدُهُ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ أَيْضًا وَخُرُوجُهُ مِنْ ضَمَانِ الْعَامِلِ وَتَعَذَّرَ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى الْمُعَوِّلِ. وَاسْتَشْهَدَ بِمَا قَالَ إنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبْنِي لَهُ حَائِطًا فَبَنَى بَعْضَهُ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَلَهُ أَجْرُ مَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ حَفْرُ الْبِئْرِ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْخَبَّازَ لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ دَقِيقًا مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَخَبَزَهُ، ثُمَّ سَرَقَ فَلَهُ الْأَجْرُ تَامًّا، وَإِنْ سَرَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ، وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي بَيْتِ الْخَبَّازِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَرَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ احْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَيَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الْخُبْزِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْقَصَّارِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَسَرَقَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هَهُنَا مَنَافِعُهُ لِإِحْدَاثِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ فَبِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْمَحَلِّ بِعَمَلِهِ وَثُبُوتُ الْيَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِثُبُوتِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَمَا لَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَحَلِّ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلِّمًا الْعَمَلَ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْأَجْرُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْأَجْرَ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَوْ هَلَكَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ كَالْحَمَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْعَمَلِ فَإِنْ حَبَسَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي الْحَبْسِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ. وَالْعُمَّالُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ ضَامِنُونَ لِمَا جَنَتْ أَيْدِيهمْ مِثْلَ مَا يَضْمَنُونَ مَا عَمِلُوا فِي بُيُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ سَوَاءٌ عَمِلَ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ تَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْعَمَلُ الْمَعِيبُ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ يَوْمِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا فِي وَلِيمَةٍ فَأَفْسَدَ الطَّعَامَ فَأَحْرَقَهُ وَلَمْ يُنْضِجْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْ الطَّبَّاخُ، وَلَكِنَّ رَبَّ الدَّارِ اشْتَرَى رَاوِيَةً مِنْ مَاءٍ فَأَمَرَ صَاحِبَ الْبَعِيرِ فَأَدْخَلَهَا الدَّارَ فَسَاقَ الْبَعِيرَ فَعَطِبَ فَخَرَّ عَلَى الْقُدُورِ فَكَسَرَهَا فَأَفْسَدَ الطَّعَامَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَهَا بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ وَسَوْقُ الْإِنْسَانِ الدَّابَّةَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبَّاخِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بَلْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَعِيرُ سَقَطَ عَلَى ابْنِ رَبِّ الدَّارِ وَهُوَ صَبِيٌّ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ أَدْخَلَ الطَّبَّاخُ النَّارَ لِيَطْبُخَ بِهَا فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 وَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ النَّارَ وَيَعْمَلَ بِهَا فَعَمَلُهُ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِيمَا احْتَرَقَ لِلسُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ وَمَنْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ. فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ. [بَابُ إجَارَةِ الْفُسْطَاطِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ بِهِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَيَحُجُّ وَيَخْرُجُ مِنْ الْكُوفَةِ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ اسْتِئْجَارُهُ وَالْفُسْطَاطُ مِنْ الْمَسَاكِنِ فَاسْتِئْجَارُهُ كَاسْتِئْجَارِ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ الْخَيْمَةُ وَالْكَنِيسَةُ وَالرِّوَاقُ وَالسُّرَادِقُ وَالْمَحْمِلُ وَالْجُرُبُ وَالْجَوَالِقُ وَالْحِبَالُ وَالْقِرَبُ وَالْبُسُطُ فَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ مُعْتَادٌ اسْتِئْجَارُهُ فَإِنْ تَكَارَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَلَمْ يُسَمِّ مَتَى يَخْرُجُ بِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حِينَ يَخْرُجُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَرُبَّمَا تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِيهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ بِالْخُرُوجِ إلَى مَكَّةَ فَمِنْ بَيْنِ مُسْتَعْجِلٍ وَمُؤَخِّرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ وَقْتُ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ مِنْ الْكُوفَةِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ. وَالْمُتَعَارَفُ كَالْمَشْرُوطِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَقْتُ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ الْقَافِلَةُ مَعَ جَمَاعَةِ النَّاسِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ تَخَرَّقَ الْفُسْطَاطُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَلَا عُنْفٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ فَإِنَّ نَقِيضَهُ يُقَرِّرُ حَقَّ صَاحِبِهِ فِي الْأَجْرِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَتَخَرَّقُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ، وَإِنْ ذَهَبَ بِهِ وَرَجَعَ فَقَالَ اسْتَغْنَيْت عَنْهُ فَلَمْ أَسْتَعْمِلْهُ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَقَرُّرِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُهُ وَانْكَسَرَ عَمُودُهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ نَصْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُهُ بِدُونِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَإِنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَرَقَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَسْتَعْمِلْهُ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إلَّا مِقْدَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ. وَلَوْ أَسْرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْفُسْطَاطِ أَوْ فِي الْخَيْمَةِ حَتَّى اسْوَدَّ مِنْ الدُّخَانِ، أَوْ احْتَرَقَ أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا فَإِنْ كَانَ صَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدَّى فِيهِ، أَوْ اتَّخَذَهُ مَطْبَخًا، أَوْ أَوْقَدَ فِيهِ نَارًا حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْبَخِ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 السَّوَادِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ. فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ الْمَسَاكِنِ وَإِدْخَالُ السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ وَإِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسْكَنِ مُتَعَارَفٌ لَا بُدَّ لِلسَّاكِنِ مِنْهُ، وَلَكِنْ إذَا جَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ فَهُوَ مُتَعَدِّي فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَفْسَدَ وَكَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إذَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْئًا يُنَافِي السُّكْنَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْمِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ أَنْ لَا يُوقِدَ فِيهِ وَلَا يُسْرِجَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِدَ فِيهِ وَلَا يُسْرِجَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَضَرُّ مِنْ السُّكْنَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَاجٍ، وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ صَاحِبُهُ بِالشَّرْطِ وَالتَّقْيِيدُ مَتَى كَانَ مُفِيدًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ تَقَرُّرَ الْأَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان إذَا جَاوَزَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قُبَّةً تُرْكِيَّةً بِالْكُوفَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَسْتَوْقِدَ فِيهَا وَيَبِيتَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ احْتَرَقَتْ مِنْ الْوُقُودِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَادَ فِيهَا مُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا بِالْإِيقَادِ فِيهَا فَإِنْ بَاتَ فِيهَا عَبْدُهُ، أَوْ ضَيْفُهُ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَسَاكِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ ضَيْفَهُ وَعَبْدَهُ فِيمَا سَكَنَ فِيهِ هُوَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْقُبَّةِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَقَعَدَ وَأَعْطَاهُ أَخَاهُ فَحَجَّ وَنَصَبَ وَاسْتَظَلَّ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ الْمَسَاكِنِ، وَفِي الْمَسْكَنِ لَا يَتَعَيَّنُ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ وَسُكْنَى غَيْرِهِ فِي الضَّرَرِ عَلَى الْفُسْطَاطِ سَوَاءٌ فَهُوَ كَتَسْلِيمِ الْبُيُوتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ الْفُسْطَاطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَسْكَنَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَأَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي الِاسْتِخْدَامِ وَالْأَضْرَارِ عَلَى الْغُلَامِ أَبْيَنُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي السُّكْنَى فِي الْفُسْطَاطِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ هُنَاكَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلِاسْتِخْدَامِ فَهَذَا أَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُسْطَاطَ يُحَوَّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَوَاضِعِ النَّصْبِ فَإِنْ نَصَبَهُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ يَخْرِقُهُ وَنَصْبُهُ مِنْ مَوْضِعِ النَّدْوَةِ وَالنَّزِّ يُفْسِدُهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَبِحَبْسِهِ يَخْتَلِفُ الضَّرَرُ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا، أَوْ الثَّوْبِ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَلْبَسَهُ هُوَ. فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ صَارَ مُخَالِفًا ضَامِنًا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْكَنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 26 مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ. فَإِذَا كَلَّفَهُ فَوْقَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الْعَبْدُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتَخْدِمُهُ، أَوْ غَيْرُهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعْيِينِ هُنَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ مَوْضِعَ النَّصْبِ لِلْفُسْطَاطِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَسُكْنَاهُ وَسُكْنَى غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ فَاخْتِيَارُ مَوْضِعِ نَصْبِ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ بِرَأْيِهِ بَلْ يَكُونُ بِرَأْيِ الَّذِي خَرَجَ بِهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَخْرُجُ بِهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَلْبَسُ الثَّوْبَ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقْدُ جَائِزٌ كَمَا فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُ الْفُسْطَاطِ كُلُّهَا فَصَنَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ نَصَبَ الْفُسْطَاطَ حَتَّى رَجَعَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْفُسْطَاطِ لَا مَنْفَعَةُ الْأَطْنَابِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِأَطْنَابِ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْأَجْرُ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّحَا إذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَطَحَنَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمَلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، ثُمَّ يُمْسِكُ أَطْنَابَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَيُمْسِكُهُ إذَا رَدَّ الْفُسْطَاطَ. وَلَوْ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ الْأَطْنَابُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْكَسَرَ عَمُودُ الْفُسْطَاطِ. فَأَمَّا إذَا انْكَسَرَتْ أَوْتَادُهُ فَلَمْ يَضُرَّ بِهِ حَتَّى رَجَعَ كَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ كَامِلًا، وَلَيْسَ الْأَوْتَادُ مِثْلُ الْأَطْنَابِ وَالْعَمُودِ؛ لِأَنَّ الْأَوْتَادَ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأَطْنَابُ وَالْعَمُودُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إنَّهُ بَنَى هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عُرْفِ دِيَارِهِمْ. فَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا الْأَوْتَادُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ مِنْ الْأَوْتَادِ مَا يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يَتَكَلَّفُ بِحَمْلِ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَهَذَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ حَدِيدٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَمِثْلُهُ يَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ كَالْعَمُودِ فَمُرَادُهُ مِمَّا قَالَ الْأَوْتَادُ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَبِانْكِسَارِهَا لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعَمُودِ وَالْأَطْنَابِ. وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا يُخْرِجُهُ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ بِالْكُوفَةِ حَتَّى رَجَعَ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ فِي الطَّرِيقِ لِيُقَرِّرَ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ وَيُفَوِّتَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودَ إذَا أَمْسَكَهُ بِالْكُوفَةِ وَإِمْسَاكُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ مُوجِبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ نَصْبُهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 27 وَسُكْنَاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إذَا خَلَّفَهَا بِالْكُوفَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ التَّمَكُّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ قَبْضَ الْفُسْطَاطِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَدْفَعْ الْفُسْطَاطَ إلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ وَدَفَعَ الْفُسْطَاطَ إلَى غُلَامِهِ فَقَالَ ادْفَعْهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَدْفَعْ حَتَّى رَجَعَ الْمَوْلَى فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِهِ وَكَوْنُهُ فِي يَدِ غُلَامِهِ وَمَا لَوْ خَلَّفَهُ فِي بَيْتِهِ بِالْكُوفَةِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَبِالتَّسْلِيمِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا، وَلَوْ حَمَلَهُ الرَّجُلُ إلَى صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالرَّجُلُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ تَمَكَّنَ مِنْ فُسْطَاطِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَأْمُورِ الْمُسْتَأْجِرِ كَفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ رَدَّهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي إخْرَاجِ الْفُسْطَاطِ وَلَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ. فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ ثَانِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ. وَلَوْ هَلَكَ الْفُسْطَاطُ عِنْدَ هَذَا الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلِصَاحِبِ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ غَاصِبٌ فَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِهِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَإِنْ ذَهَبَ بِالْفُسْطَاطِ إلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ بِهِ فَقَالَ الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ احْمِلْهُ إلَى مَنْزِلِي فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَتَاعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَ لِرَبِّ الْمَتَاعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْفُسْطَاطِ وَخَلَّفَهُ بِالْكُوفَةِ فَضَمِنَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ الْأَجْرُ فَالْحُمُولَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالرَّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَقَبَضَهَا وَذَهَبَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فَإِنْ حَبَسَهَا بِالْكُوفَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْبِسُهَا النَّاسُ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَبَسَهَا مِمَّا لَا يَحْبِسُ النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي الْإِمْسَاكِ، وَفِي هَذَا الْخِلَافِ ضَرَرٌ عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ لَا يَتَقَرَّرُ بِإِمْسَاكِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا إلَّا أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ الْإِمْسَاكِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعُرْفِ فَيُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلَانِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 28 فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِي بِالْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ الْفُسْطَاطَ مِنْ صَاحِبِهِ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ، أَوْ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ، أَوْ يَخْتَصِمَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ. فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ فَذَهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ فَلِرَبِّ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَصْرِيَّ قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مُسْتَعْمِلٌ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْصِبْهُ فَهُوَ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ يَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ وَعَلَيْهِمَا حِصَّةُ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ وَلَا أَجْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ أَمَّا الْبَصْرِيُّ فَلِأَنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْ الْكُوفَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَأَمَّا الْكُوفِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حِينَ ذَهَبَ الْبَصْرِيُّ بِالْفُسْطَاطِ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكُوفِيَّ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ عَلَى خِلَافِ مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَيُضَمِّنَ الْبَصْرِيَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ. وَإِنْ قَالَ الْكُوفِيُّ لَمْ آمُرْهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَلَكِنِّي دَفَعْته إلَيْهِ لِيُمْسِكَهُ حَتَّى يَرْتَحِلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُهُ إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَ الْإِذْنَ مُوجِبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ يَدَّعِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَرَجَعَ بِهِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى الْبَصْرِيِّ نِصْفُهُ وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَفِي نَصِيبِ الْبَصْرِيِّ بِتَسْلِيطِهِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ هَلَكَ قِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَصْرِيُّ ضَامِنًا وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ هُنَا قَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النَّصْبِ وَاخْتِيَارِ الْمَوْضِعِ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ هُنَاكَ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِهِ فِي اخْتِيَارِ مَوْضِعِ النَّصْبِ، وَإِنْ غَصَبَهُ الْكُوفِيُّ فَعَلَى الْكُوفِيِّ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَجْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَصْرِيِّ أَجْرُهُ ذَاهِبًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَجْرٌ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 29 حِينَ ذَهَبَ مِنْ طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، وَيَكُونُ الْكُوفِيُّ ضَامِنًا لِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلنِّصْفِ مِنْ الْبَصْرِيِّ فَيَكُونُ ضَامِنًا. وَإِنْ ارْتَفَعَا إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ فَلِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ رَأْيٌ فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْظُرْ فِيمَا يَقُولَانِ حَتَّى يُقِيمَا عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ غَائِبٌ وَهُمَا يَدَّعِيَانِ عَلَى الْقَاضِي وُجُوبَ النَّظَرِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِي مَالِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ فَإِنْ فَعَلَ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدَا بَيِّنَةً فَدَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي قُلْنَا إذَا لَمْ يَرْتَفِعَا إلَى الْقَاضِي. وَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا ادَّعَيَا قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا سَبَبَ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ فِي هَذَا الْمَالِ وَوُجُوبُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَهَذِهِ بَيِّنَةٌ تَكْشِفُ الْحَالَ فَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ أَوْ الْقَاضِي كَأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي مُوجِبِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَصْرِيُّ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الرَّجْعَةِ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعُذْرَ الَّذِي بِهِ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ فِي ضَمِيرِهِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ فِي حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ احْتِيَاطًا فِي حَقِّ الْغَائِبِ. وَإِذَا حَلَفَ الْبَصْرِيُّ فَالْقَاضِي يُخْرِجُ الْفُسْطَاطَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ تَرْكُ الْفُسْطَاطِ فِي يَدِهِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَاجِرُ نَصِيبَهُ مِنْ كُوفِيٍّ مَعَ الْكُوفِيِّ الْأَوَّلِ لِيَتَوَصَّلَ صَاحِبُ الْفُسْطَاطِ إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ بِجَمِيعِ الْفُسْطَاطِ فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ أَرَادَ الْكُوفِيُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَصِيبَ الْبَصْرِيِّ فَهُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ كَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِ الْفُسْطَاطِ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ إجَارَتَهُ مِنْهُ تَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ. وَذَلِكَ جَائِزٌ وَفِعْلُ الْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْغَائِبِ كَفِعْلِ الْغَائِبِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ حِينَئِذٍ يُؤَاجِرُهُ مِنْ كُوفِيٍّ آخَرُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُشَاعِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. فَإِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَدْفَعُ الْفُسْطَاطَ إلَى الْكُوفِيِّ. وَقَالَ نِصْفُهُ مَعَك بِالْإِجَارَةِ الْأُولَى وَنِصْفُهُ مَعَك وَدِيعَةً حَتَّى يَبْلُغَ صَاحِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْغَائِبِ بِاتِّصَالِ عَيْنِ مِلْكِهِ إلَيْهِ وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالشُّيُوعُ طَارِئٌ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ وَلَا أَجْرَ عَلَى الْبَصْرِيِّ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فُسِخَ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَى الْقَاضِي كَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ بِمَكَّةَ وَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ ذَاهِبًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْفُسْطَاطِ يَوْمَ خَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ فِي غَيْرِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 30 الْمَوْضِعِ الَّذِي رَضِيَ صَاحِبُهُ بِتَرْكِهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمَا حَتَّى حَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَرَجَعَ بِالْفُسْطَاطِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ غَاصِبًا ضَامِنًا فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَكُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا، أَوْ مَتَاعًا، أَوْ حَيَوَانًا إذَا فَسَدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَلَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مُنْذُ يَوْمِ كَانَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مَا قَبْلَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَصَمَا يَوْمَ اخْتَصَمَا وَهُوَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ الْفَسَادِ، أَوْ الْغَصْبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَالِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيمَا مَضَى وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِبَيِّنَتِهِ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِبَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ الْأَجْرِ. رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِمَا عِشْرِينَ مَخْتُومًا فَحَمَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ فَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ دَابَّتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ عَيْنِهِمَا بِأَنْ يَتْبَعَا وَجَبَ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَتِهَا وَقِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا حَمَلَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَاقَهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا شَيْئًا وَجَبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ يَعْمَلُ بِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَكُلُّ مَوْزُونٍ، أَوْ مَكِيلٍ)؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْإِجَارَةِ اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ فَمَحَلُّ الْإِجَارَةِ مَنْفَعَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَمْوَالِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ وَبِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا صَارَ لَغْوًا بَقِيَ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضٌ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَزِنَ بِهَا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حِنْطَةً مُسَمَّاةً يُعَيِّرُ بِهَا مَكَايِيلَ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيلَ مَا رَوَاهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ بِهَا مِكْيَالًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ بِهَا مَكِيلًا لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 31 وَقِيلَ بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْهَا فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْهَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا سُمِّيَ عَمَلًا يَعْمَلُ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَإِنَّ الْوَزْنَ بِالدَّرَاهِمِ عَمَلٌ مَقْصُودٌ كَالْوَزْنِ بِالْحَجَرِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَجَرًا لِيَزِنَ بِهِ يَوْمًا جَازَ. فَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ كَوْنُهُ مُتَضَمِّنًا اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ لَوْ صَحَّ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ مَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي النَّاسِ، أَوْ كَالْإِنَاءِ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ أَوْ الثَّوْبِ لِيَلْبَسَهُ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبًا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا عُلِمَ النَّصِيبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ كَمْ نَصِيبُهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي النَّصِيبِ الْمَجْهُولِ وَمَسْأَلَةُ الْإِجَارَةِ لَهُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِي النَّصِيبِ الشَّائِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا. فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِ الْعَاقِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْأَجِيرِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهُ مُمْكِنٌ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْمُوجِبِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَقَالَ فِي الْبَيْعِ الثَّمَنُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَلَوْ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَبَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَجْهُولٍ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَصِيبُ الْمُؤَاجِرِ مَعْلُومٌ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْلُومِ وَمِنْ أَصْلِهِ جَوَازُ الْإِجَارَةِ فِي الْمُشَاعِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةً مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ أَجَّرَ مِائَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا الذَّرْعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّارِ فَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِهَذَا اللَّفْظِ. فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَعِنْدَهُمَا ذِكْرُ الذِّرَاعِ كَذِكْرِ السَّهْمِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ صَحِيحًا. فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 32 بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ الْإِجَارَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ عَرْضٌ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَالثَّمَرَةُ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَالشَّجَرَةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّجَرَةَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْقَائِهِ فَرُبَّمَا تُصِيبُ الثَّمَرَةَ آفَةٌ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ اتِّخَاذُهَا، وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْغَنَمِ وَصُوفُهَا وَسَمْنُهَا وَوَلَدُهَا كُلُّ ذَلِكَ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلَا يُتَمَلَّكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَرَطْبَةٌ، أَوْ شَجَرٌ، أَوْ قَصَبٌ، أَوْ كَرْمٌ، أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لِمَنْفَعَةِ الزِّرَاعَةِ وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْمَوَانِعِ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُسْتَأْجِرِ مَا فِيهَا فَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْإِجَارَةِ. وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْآجَامِ وَالْأَنْهَارِ لِلسَّمَكِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ السَّمَكَ صَيْدٌ مُبَاحٌ فَكُلُّ مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالْإِجَارَةِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ بِهِ فَإِنْ أَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَجَّرَهَا لِلسَّمَكِ فَرُبَّمَا يَجِدُهُ الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْآخَرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا شَهْرَيْنِ لِيَسْقِيَ مِنْهَا أَرْضَهُ وَغَنَمَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْعَيْنُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَمَلَّكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ يُحْرِزْهُ الْإِنْسَانُ بِإِنَائِهِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ كَافَّةً قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي الثَّلَاثِ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» فَالْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ وَالْآخَرُ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ أَجْرٌ بِسَبَبِهِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيُجْرِيَ فِيهِ شِرْبًا لَهُ إلَى أَرْضِهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحٍ لِيَسِيلَ مَا أَسْطَحَهُ فِيهِ أَكَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا لِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِتَعْيِينِ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَالِاسْتِئْجَارُ لِأَجْلِهِ يَصِحُّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ وَإِعْلَامُ مِقْدَارِ الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَرُبَّمَا لَا يَأْخُذُ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَرُبَّمَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ فَلِلْجَهَالَةِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ كُلَّ شَهْرٍ بِطَعَامِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ طَعَامَهُ مَجْهُولٌ وَهُوَ عَلَى رَبِّ الْعَبْدِ. فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ فَاسِدًا وَالْمَجْهُولُ مَتَى ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ يَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا بِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَعَلَفُهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ إجَارَةٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 33 فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ عَلَفٌ فَهِيَ فَاسِدَةٌ إلَّا فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا، وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَسْتَحْسِنُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَاشْتِرَاطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَمَرَمَّتِهَا أَوْ غَلْقِ بَابٍ عَلَيْهَا، أَوْ إدْخَالِ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَقَدْ شَرَطَ الْأَجْرِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَاشْتِرَاطُ كَرْيِ نَهْرِهَا أَوْ ضَرْبِ مُسَنَّاةٍ عَلَيْهَا، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا، أَوْ أَنْ يُسَرِّقَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَهَذَا كُلُّهُ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ تَبْقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلْآجِرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى شَرْطِ أُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ إذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، وَأَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ مَكْرُوبَةً فَهَذَا كُلُّهُ مَجْهُولٌ ضَمَّهُ إلَى الْمَعْلُومِ وَشَرَطَهُ لِنَفْسِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ. رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ وَالْغِرَاسُ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. فَأَمَّا الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ يَقُولُ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْأَرْضِ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْغِرَاسِ وَنِصْفَ الْخَارِجِ عِوَضًا لِعَمَلِهِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ اشْتَرَى الْعَامِلُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِجَمِيعِ الْغِرَاسِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِنْ فَعَلَ فَالشَّجَرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّجَرِ كَانَ فَاسِدًا وَمُذَرَّعَتُهُ فِي أَرْضِهِ بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلْغِرَاسِ بِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ مُسْتَهْلِكًا بِالْعُلُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الشَّجَرِ وَأَجْرُ مَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا وَهُوَ نِصْفُ الْخَارِجِ وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ. فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ شِرَاءً فَاسِدًا وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ شِرَاءً فَاسِدًا غَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ فِيهَا حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قُلْنَا) هَذَا أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ الْأَشْجَارَ لِنَفْسِهِ وَهُنَا الْعَامِلُ فِي الْغَرْسِ يَقُومُ مَقَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَيَعْمَلُ لَهُ بِالْأَجْرِ فَكَأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَامِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ لِإِمْكَانِ إيجَابِ أَجْرِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ كَانَ عَامِلًا فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فَلِذَلِكَ أَلْزَمَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ حِينَ عُلِّقَتْ، وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلنِّصْفِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْغَرْسِ حِينَ عُلِّقَتْ وَنِصْفُ قِيمَةِ الشَّجَرِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْجَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضٍ أَحَدُهُمَا. فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَصِيبَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 34 بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ وَلَا آمُرُهُ بِقَلْعِ الْأَشْجَارِ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا وَبِظَاهِرِ هَذَا يَتَمَسَّكُ مَنْ يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى أَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْأَشْجَارَ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ لَا يُقْلَعُ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ فَسَادُ الْقَلْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَضَيَاعُ عَمَلِ الْأَجِيرِ بِالْقَلْعِ وَبُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْأَجْرِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَكَلَ الْغَلَّةَ عَلَى هَذَا حُسِبَ عَلَى الْغَارِسِ مَا أَكَلَ مِنْ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مِلْكُ رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الثَّمَرَ بِمِلْكِ الشَّجَرِ فَمَا أَكَلَهُ الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ. (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ فِي تَقْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَجْعَلَ أَرْضَهُ بُسْتَانًا بِآلَاتِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيرِ الطَّحَّانِ وَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَرْسَ آلَةٌ تَصِيرُ الْأَرْضُ بِهَا بُسْتَانًا كَالصَّبْغِ لِلثَّوْبِ. فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ بَقِيَتْ الْآلَةُ مُتَّصِلَةً بِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ إلَّا أَنَّ الْغِرَاسَ أَعْيَانٌ تَقُومُ بِنَفْسِهَا فَلَا يَدْخُلُ أَجْرُ الْعَمَلِ فِي قِيمَتِهَا فَيَلْزَمُهُ مَعَ قِيمَةِ الْأَشْجَارِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ دَفَعَ الْغَزْلَ إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الطَّعَامِ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ بِنِصْفِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ صَارَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَقَعُ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ. فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْمُولِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ذَلِكَ لِتَمَامِ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَلَوْ كَانَ طَعَامًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِيَحْمِلَهُ أَوْ يَطْحَنَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَاسْتِئْجَارُهُ عَلَى ذَلِكَ كَاسْتِئْجَارِهِ أَجْنَبِيًّا آخَرَ وَشَرِكَتُهُ فِي الْمَحَلِّ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ بَيْتًا لِيَحْفَظَ فِيهِ الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، أَوْ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ فَهَذَا مِثْلُهُ (وَحُجَّتُنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ صَارَ شَرِيكًا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَحَلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَدَنّ الْعَقْدَ يُلَاقِي الْعَمَلَ وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 35 مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ مُنَافَاةٌ وَالْأَجِيرُ مَنْ يَكُونُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ. وَفِيمَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا بِخِلَافِ الْبَيْتِ وَالدَّابَّةِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهَا وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حِفْظُ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْبَيْتِ وَلَوْ سَلَّمَ الْبَيْتَ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ فِيهِ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْعَقْدُ هُنَا يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمُشْتَرَكِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِدُونِ الْعَمَلِ وَلَا يَعْمَلُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، ثُمَّ هُنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْعَمَلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بِخِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّ هُنَاكَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَاكَ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا. فَإِذَا تَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهُنَا بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُشْتَرَكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَعَلَى هَذَا نَسْجُ الْغَزْلِ وَرَعْيُ الْغَنَمِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَمَلِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِلَافِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ إلَّا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُوجِبَ الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَتَنَاوَلُ وَقْتَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْأَجْرُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الرَّحَا فِي وَقْتِ جَرَيَانِ الْمَاءِ وَلَا يَدْرِي فِي كَمْ يَكُونُ الْمَاءُ جَارِيًا وَجَهَالَةُ الْمَنْعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كُتُبًا لِيَقْرَأَ فِيهَا شَعْرًا أَوْ فِقْهًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْقَارِئِ وَالنَّظَرُ فِي الْكِتَابِ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ لِيَفْهَمَ الْمَكْتُوبَ فَإِنْ فَعَلَهُ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرٌ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ فَهْمَ مَا فِي الْكِتَابِ لَيْسَ فِي وُسْعِ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِمَعْنًى فِي الْبَاطِنِ مِنْ حِدَّةِ الْخَاطِرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُوجِبُ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ فَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْكِتَابِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِيُوجِبَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا سَمَّى الْمُدَّةَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ قَرَأَ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمُصْحَفِ وَالْكَلَامُ فِيهِ أَبْيَنُ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ طَاعَةٌ وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ نَظِيرَهُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ كَرْمًا لِيَفْتَحَ لَهُ بَابَهُ فَيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، أَوْ اسْتَأْجَرَ مَلِيحًا لِيَنْظُرَ إلَى وَجْهِهِ فَيَسْتَأْنِسَ بِذَلِكَ، أَوْ اسْتَأْجَرَ جُبًّا مَمْلُوءًا مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 36 الْمَاءِ لِيَنْظُرَ فِيهِ إذَا سَوَّى عِمَامَتَهُ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعُقُودِ. فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيُعَلِّمَ وَلَدَهُ الْقُرْآنَ أَوْ الْفِقْهَ، أَوْ الْفَرَائِضَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُدَرِّسِ الْعِلْمِ إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرُّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمَّا أَقْرَأَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْسًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ لَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ». وَلِأَنَّ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَعْمَلُ فَإِنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهُوَ مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي أَجْرٍ عَلَى التَّعْلِيمِ. فَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَعَمَلُهُ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَمَنْفَعَةُ عَمَلٍ يَحْصُلُ لَهُ فَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ وَبِدُونِ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَارُوا قَوْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَنَوْا هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدُوا فِي عَصْرِهِمْ مِنْ رَغْبَةِ النَّاسِ فِي التَّعْلِيمِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَمُرُوءَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي مُجَازَاتِ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَنَقُولُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ هَذَا الْبَابُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ مَنَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَوَابًا وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يُؤَذِّنُ لَهُمْ فَالْمُؤَذِّنُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْفَعَةُ عَمَلِهِ تَحْصُلُ لَهُ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ يَزْدَادُ ثَوَابُهُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَالَ صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَإِنْ اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إنِّي أُحِبُّك فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أُبْغِضُك فِي اللَّهِ قَالَ وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّك تَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 37 وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ وَشَيْءٍ مِنْ اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي بَاطِلٌ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلٌ بِهِ يَكُونُ عَاصِيًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحِدَاءِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ لِقِرَاءَةِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجَارَةِ عُرْفُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُضِيٍّ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَهُوَ السَّمَاعُ وَالتَّأَمُّلُ وَالتَّفَهُّمُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْأَجْرِ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرَ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ يَلْهُو بِهِ فَضَاعَ، أَوْ انْكَسَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ بَطَلَ فَالْإِذْنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَاقٍ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً يُصَلِّي فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَنِيسَةُ وَبَيْتُ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ مَكْتُوبَةً أَوْ نَافِلَةً لَا يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَفِي اعْتِقَادِنَا هَذَا مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ وَشِرْكٌ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، ثُمَّ اسْتِئْجَارُ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَاسْتِئْجَارِ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا إنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ ذِمِّيًّا لِيُصَلِّي بِهِمْ، أَوْ لِيَضْرِبَ لَهُمْ النَّاقُوسَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَبِيعَ فِيهِ الْخَمْرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجَوِّزُ هَذَا الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْخَمْرِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ مَعْنًى آخَرَ فِيهِ، وَمَا صَرَّحَا بِهِ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا اسْتَأْجَرَ مُسْلِمًا يَحْمِلُ لَهُ خَمْرًا فَهُوَ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزَانِ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُحْمَلُ لِلشُّرْبِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا تَجُوزُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حَمْلُ الْخَمْرِ فَلَوْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْإِرَاقَةِ وَلِلصَّبِّ فِي الْخَلِّ لِيَتَخَلَّلَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ مَيْتَةً، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْمَيْتَةُ تُحْمَلُ عَادَةً لِلطَّرْحِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا الْخَمْرُ يُحْمَلُ عَادَةً لِلشُّرْبِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةٍ وَهُوَ أَنَّ مُسْلِمًا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ جِيفَةَ مَيْتَةٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 38 مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ. فَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ حِمْلَ الْجِيفَةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا حَمْلُهُمَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (وَقُلْت) أَنَا إنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِمَا أُمِرَ بِحَمْلِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ لِمَعْنَى الْغُرُورِ وَاسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ الدَّابَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِ، أَوْ السَّفِينَةَ لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا خَمْرًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَرْعَى لَهُ خَنَازِيرَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ لَهُ مَيْتَةً، أَوْ دَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَحُكْمُهُمْ فِيهَا كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْلِمُ دَارًا مِنْ الذِّمِّيِّ لِيَسْكُنَهَا فَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ، أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ، أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لِذَلِكَ وَالْمَعْصِيَةُ فِي فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِعْلُهُ دُونَ قَصْدِ رَبِّ الدَّارِ فَلَا إثْمَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي ذَلِكَ كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْفَاحِشَةَ بِهِ، أَوْ بَاعَ جَارِيَةً مِمَّنْ لَا يَشْتَرِيهَا، أَوْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى لَمْ يَلْحَقْ الْبَائِعَ إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً، أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَاعَ فِيهَا الْخَمْرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا سَبَقَ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ثَوْبَةَ بْنِ نَمِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا إخْصَاءَ وَلَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ بِالشَّامِ عَلَى أَنْ يُحَصِّلَ عَنْ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ وَعَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ، أَوْ التَّرَاوِيحَ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دِينًا تَمْكِينُ الْمُسْلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ يُصَلِّي فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا فَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ يَشُجَّهُ، أَوْ يَضْرِبَهُ ظَالِمًا لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلٍّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْ جَازَ الْعَقْدُ لَصَارَ إقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى أَحَدٍ شَرْعًا، وَلَوْ أَعْطَاهُ سِلَاحًا لِذَلِكَ فَضَاعَ أَوْ انْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَضْرِبَ حَدًّا قَدْ لَزِمَهُ، أَوْ لِيَقْبِضَ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ لِيَقْطَعَ يَدَ رَجُلٍ أَوْ لِيُقَوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ شَهْرًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِتَسَلُّمِ النَّفْسِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ يَحْكُمَ أَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 39 ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، أَوْ الْقِصَاصِ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنْ (قِيلَ) إقَامَةُ الْحَدِّ طَاعَةٌ فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى إقَامَتِهِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ (قُلْنَا) مَعْنَى الطَّاعَةِ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ اسْتَصْحَبَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رِزْقًا كُلَّ شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا إنْ بَيَّنَ مِقْدَارَ مَا يُعْطِيهِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي هَذَا كَالْقَاضِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ رِزْقًا بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ قَسَّامُ الْقَاضِي إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُقَسِّمَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ قَاسِمٌ يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ إقَامَةُ هَذَا الْعَمَلِ عَلَى أَحَدٍ دِينًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قُضِيَ لِرَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فِي قَتْلٍ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَقْتُلُ لَهُ لَمْ أَجْعَلْ لَهُ أَجْرًا، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَقْتُلُ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْطَعَ طَرِيقًا جَازَ وَأَمَّا أَنَا فَلَا أُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَأُجَوِّزُ الْعَقْدَ فِيهِمَا وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِمَحَلِّهِ وَإِقَامَتُهُ جَائِزٌ شَرْعًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ الطُّرُقِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (حَرْفَانِ) أَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَمَلٍ يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقُ الرُّوحِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ إدْخَالَ الرُّوحِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. فَكَذَلِكَ الْإِزْهَاقُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَالْقَطْعُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إبَانَةُ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِصُنْعِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي الْمَحَلِّ مَعَ التَّجَافِي وَمِثْلُهُ مِنْهُ مَا يَحِلُّ شَرْعًا وَمِنْهُ مَا يَحْرُمُ كَالْمُثْلَةِ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ مِنْهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرْبَتَيْنِ فَلِلْجَهَالَةِ وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِمْرَارِ السِّلَاحِ عَلَى الْمَحَلِّ لَا بِصِفَةِ التَّجَافِي عَنْهُ وَكَسْرِ الْحَطَبِ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَحَلِّ بِالتَّجَافِي، وَلَكِنَّ الْكُلَّ فِيهِ سَوَاءٌ فِي صِفَةِ الْحِلِّ شَرْعًا؛ فَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَغْزُو عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ طَاعَةٌ فَهُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ افْتَرَضَ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى إقَامَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 40 مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ فِرْعَوْنَ». وَلَوْ شَارَطَ كَحَّالًا أَنْ يُكَحِّلَ عَيْنَهُ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي كُلِّ دَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَحْلًا لِيُنْزِيَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّيْسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ وَصَاحِبُ الْفَحْلِ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ سَلَّمَ غُلَامًا إلَى مُعَلِّمٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ مَجْهُولٌ إذْ لَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالتَّحْذِيقُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَلْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ فِي خِلْقَةِ الْمُتَعَلِّمِ، ثُمَّ فِيمَا سُمِّيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَذِّقَهُ كَمَا شَرَطَ أَمْ لَا وَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ. ، وَلَوْ أَجَّرَ أَرْضِهِ بِدَرَاهِمَ وَشَرَطَ خَرَاجَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ مُرَادُهُ فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ فَالْمَالُ فِي ذَلِكَ يُقْسَمُ عَلَى الْجَمَاجِمِ وَالْأَرَاضِي فَتَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرَاضِي إذَا قُلْتِ الْجَمَاجِمُ وَتَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْجَمَاجِمِ. فَأَمَّا فِي جِرَاحِ الْوَظِيفَةِ لَا جَهَالَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَقِيلَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا إنَّ وُلَاةَ الظَّلَمَةِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ يَزْدَادُ ذَلِكَ تَارَةً وَيَتَنَقَّصُ أُخْرَى فَيَكُونُ مَجْهُولًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَرَاجَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَرِيعُ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ. فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ يَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ مِمَّا يُخْرِجُهُ، وَذَلِكَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ فِي الصِّفَةِ، وَلَوْ أَجَّرَهَا وَشَرَطَ الْعُشْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ. فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَأَنْ أَجَّرَهُ وَهُوَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَصِيرُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ نَظِيرُ الْعُشْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ كَذَا دِرْهَمًا وَدِينَارًا، أَوْ فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ نَقْدُ الْبَلَدِ وَوَزْنُهُمْ فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُمْ مُخْتَلِفًا فَهُوَ فَاسِدٌ حَتَّى يُبَيِّنَ الْوَزْنَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْرَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ وَبِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ وَمُرَادُهُ فِي الدَّرَاهِمِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 41 الْمَوْزُونَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْوَزْنِ. فَأَمَّا مَا يُعَدُّ وَلَا يُوزَنُ كَالْعِطْرِ يَفِي. فَإِذَا سُمِّيَ الْعَدَدُ فِيهِ جَازَ كَمَا فِي الْفُلُوسِ، وَإِنْ أَشَارَ إلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قَالَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْمِائَةِ خَمْسَةٌ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الْوَزْنُ بِمَا ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِيمَا يَزِنُ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ مِائَةٌ إلَّا خَمْسَةً وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا، أَوْ فِقْهًا مَعْلُومًا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ وَقِيلَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّ بِعَمَلِهِ يُحْدِثُ لَوْنَ الْحَبْرِ فِي الْبَيَاضِ أَوْ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى النَّقْشِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ. (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ بِخِلَافِ التَّعْلِيمِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَإِيجَادُ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ عَمَلًا فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ لِلْيَتِيمِ مَعَ نَفْسِهِ بِحَالٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا مَنْفَعَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ مِمَّا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لِنَفْسِهِ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْيَتِيمِ بِمُقَابَلَتِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْيَتِيمَ، أَوْ عَبْدَ الْيَتِيمِ بِمَالِ نَفْسِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالْأَبُ يَسْتَأْجِرُ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ لِوَلَدِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ فَيَجُوزُ عَقْدُهُ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِوَلَدِهِ فِيهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ عَبْدًا لِلْيَتِيمِ لِيَعْمَلَ لِيَتِيمٍ آخَرَ مِنْ حُجْرَةٍ وَهُوَ وَصِيُّهُمَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا أَضَرَّ بِالْآخَرِ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى وَلِيِّهِ وَلَهُ الْأَجْرُ إنْ عَمِلَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِهِ. فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْهُ تَمَحُّضُ مَنْفَعَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ وَالصَّبِيُّ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 42 كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْعَمَلِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ، ثُمَّ الْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْأَجْرَ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ إتْلَافَ بَدَلِ مَنْفَعَةٍ كَإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا لِيُجْرِيَ فِيهِ الْمَاءَ بِأَرْضِهِ، أَوْ إلَى رَحَا مَاءٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَمِقْدَارُ مَا يَجْرِي مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وُضُوءَهُ وَبَوْلَهُ، أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ مِيزَابِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهَا غَنَمَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَكُونَ عَطَنًا لِمَوَاشِيهِ وَيُبِيحُ لَهُ سَقْيَ الْمَوَاشِي مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَرْعَى لَا تَجُوزُ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَضْرِبَ فِيهِ خَيْمَةً فَيَسْكُنَ وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَرْعَى، وَلَوْ أَجَّرَهُ بَكَرَةً وَحَبْلًا وَدَلْوًا يَسْقِي بِهَا غَنَمَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَقْتًا فَيَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي الْمُدَّةِ. فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مَوْضِعَ جِذْعٍ يَضَعُهُ عَلَى حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِذَلِكَ جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَكِنَّا أَفْسَدْنَاهُ لِلْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِثِقَلِ الْجِذْعِ وَخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ مَا يَبْنِي وَقِلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْجَهَالَةِ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا فِي دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ وَلِلشُّيُوعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ شَائِعًا لَا يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَعِنْدَهُمَا اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ شَائِعٍ صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَسَطْحُ السُّفْلِ حَقُّ صَاحِبِ السُّفْلِ كَالْأَرْضِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيْتًا جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ سَطْحَ السُّفْلِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 43 ثُمَّ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ الْبِنَاءِ وَثِقَلِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ كُوَّةٍ يَنْقُبُهَا فِي حَائِطٍ لَهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا الضَّوْءُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ. فَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا لِيَمْتَدَّ فِي حَائِطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتِئْجَارَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَفِي تَأَمُّلِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى هَذَا، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَى الْحَائِطِ يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى الْوَتَدِ أَوْ بِثِقَلِهِ فَهُوَ مَجْهُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ مِيزَابٍ فِي حَائِطٍ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْحَائِطِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ وَكَثْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَنْصِبَهُ فِي حَائِطٍ يَسِيلُ فِيهِ مَاؤُهُ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ خِيَاطَةً أَوْ صِبَاغَةً، أَوْ خُبْزًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْيَوْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ دُونَ الْمُدَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ جَمَعَ فِي الْعُقْدَتَيْنِ تَسْمِيَةَ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةَ وَحُكْمُهُمَا مُخَالِفٌ فَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ اسْتِحْقَاقُ مَنَافِعِهِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْوَصْفَ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الْمَعْمُولِ لَا مَنَافِعِهِ وَيَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاعْتِبَارِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقُولَ مَنَافِعُك فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ حَقِّي بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْوَقْتِ، وَأَنَا أَسْتَعْمِلُك. وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْيَوْمِ فَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ قَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَقْصُودَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْمُدَّةُ مَقْصُودُ الْأَجِيرِ فَلَيْسَ الْبِنَاءُ عَلَى مَقْصُودِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى مَقْصُودِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إقَامَةُ جَمِيعِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الْقَمِيصَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بِحَرْفِ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 44 يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ الِاسْتِعْجَالُ لَا تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ، وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ لَا جَمِيعِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْمُدَّةَ وَالْمَسَافَةَ وَالْعَمَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَنْقُلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ مَرِضَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي مَرِضَ فِيهَا مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مِقْدَارٍ مِنْ الشَّهْرِ يَمْرَضُ لِيَدْخُلَ فِي الْعَقْدِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ، ثُمَّ هَذَا الشَّهْرُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ انْتِهَاؤُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهُ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ بِعُذْرٍ لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، ثُمَّ مِقْدَارُ أَجْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَجْهُولٌ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ بَلَغَ قَرْيَةَ كَذَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّى، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلَ كَذَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كَذَا مِنْ الْحِمْلِ فَحَمَلَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْأَوَّلَ فَأَجَّرَهَا كَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى مَا شَرَطَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَأَجْرُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَسْكَنَهُ بَزَّازًا فَأَجْرُهُ خَمْسَةٌ، وَإِنْ أَسْكَنَهُ قَصَّارًا فَأَجْرُهُ عَشَرَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَجْهُولٌ فَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِسَكَنِ الْقَصَّارِ وَالْبَزَّازِ وَهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ» أَرَأَيْت لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْبَيْتَ فَلَمْ يَسْكُنْهُ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَمَاذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي الْبَدَلِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنْ يَلْزَمَهُ نِصْفُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 45 كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّسْمِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هُنَا، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ الْتَزَمَ زِيَادَةَ الْبَدَلِ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ. وَإِذَا سَكَنَهُ قَصَّارًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِنُ الْبِنَاءَ. فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهَا أَحَدًا فَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الضَّرَرُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَسْكَنَ بَزَّازًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُسْكِنَهُ قَصَّارًا. فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهُ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا خَمْسَةٌ. رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِيجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُضَادُّ الْعَقْدَ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ الْفَاسِدَةَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ مَا لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ بِأَجْرِ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِمَّا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْكُنَ فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَتْ. وَإِنْ جَعَلْت أَجْرَ الدَّارِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ سَنَةً، أَوْ يَوْمًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ إنْ سَكَنَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّمَا سَمَّى إذَا كَانَ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا، وَلِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ تَكَارَى بِرْذَوْنًا لِيَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ فَإِنْ جَازَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ أَصْحَابِ الدِّيوَانِ اسْمُهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ، وَقَدْ يُفِقْ فَرَسَهُ فَطَلَبَ السُّلْطَانُ الْعَرْضَ فَاسْتَأْجَرَ الْفَرَسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقَّفْ عَلَى ضَيْعَةٍ فَالْأَجْرُ عَشَرَةٌ، وَإِنْ وَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَجْرُ خَمْسَةٌ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ فَلَا يَدْرِي الْجَوَازَ وَلَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُفِقْ فِي رُكُوبِهِ أَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ. وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا رَكِبَ الْأَمِيرُ رَكِبَ مَعَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ رَكْبَةٍ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَغْدَادَ شَيْئًا، أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَالْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ فِي أَصْلِ الْأَجْرِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا يَرْكَبُ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهَا إنْ بَلَّغَتْهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 46 إلَى بَغْدَادَ فَلَهُ أَجْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بِقَدْرِ مَا سَارَ عَلَيْهَا لِمَعْنَى الْمُخَاطَرَةِ وَالضَّمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إجَارَةِ حَفْرِ الْآبَارِ وَالْقُبُورِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَوْضِعًا وَلَمْ يَصِفْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَمَلُ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ الْبِئْرُ فِي الْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، وَلَوْ سَمَّى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي الْأَرْضِ وَمِمَّا يُدِيرُ هَكَذَا ذِرَاعًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مَعْلُومًا بِتَسْمِيَةِ الذَّرِعَانِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالْمَوْضِعُ مَعْلُومٌ بِتَسْمِيَةِ دَارِهِ فَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، ثُمَّ وَجَدَ جَبَلًا أَشَدَّ عَمَلًا وَأَشَدَّ مُؤْنَةً فَأَرَادَ تَرْكَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَى الْحَفْرِ إذَا كَانَ يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ الْعَمَلَ مَعَ عَمَلِهِ عَلَى أَنَّ أَطْبَاقَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فَلَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفَسْخِ. وَفِي الْكِتَابِ (قَالَ) إذَا كَانَ يُطَاقُ، وَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا وَيُطَاقُ فِيهِ حَفْرًا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إذَا كَانَ يُطَاقُ حَفْرًا بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ وَلَا يَحْتَاجُ الْأَجِيرُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ. فَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ فَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ فِي سَهْلٍ، أَوْ طِينٍ بِدِرْهَمٍ وَكُلَّ ذِرَاعٍ فِي جَبَلٍ أَوْ مَاءٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَسَمَّى طُولَ الْبِئْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مَعْلُومًا وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّسْمِيَةِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي جَبَلِ مَرْوَةَ فَحَفَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ جَبَلًا صَمًّا صَفَا فَإِنْ كَانَ يُطَاقُ حَفْرُهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَالْمَرْوَةُ اللِّينُ مِنْ الْحَجَرِ الَّذِي يَضْرِبُ إلَى الْخُضْرَةِ وَالصَّفَا مَا يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ الْحَفْرَ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ. فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُطَاقُ الْحُفْرَةُ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاقُ فَلَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالسِّرْدَابُ وَالْبَالُوعَةُ إذَا ظَهَرَ الْمَاءُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ الْحَفْرُ مَعَهُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَحَفَرَهَا، ثُمَّ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا فَلَهُ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 47 الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِالتَّلَفِ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَلَوْ كَانَتْ بِئْرَ مَاءٍ فَشَرَطَ عَلَيْهِ مَعَ حَفْرِهَا طَيَّهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَفَعَلَ وَفَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ انْهَارَتْ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَطْوِيَهَا بِالْأَجْرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْعَمَلِ يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ وَيَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَهَا فِي الْجَبَّانَةِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ فَحَفَرَهَا فَانْهَارَتْ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَصِيرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ قَابِضًا وَلَا بُدَّ لِدُخُولِ الْعَمَلِ فِي ضَمَانِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِنَاءَ حَقُّ الْمَرْءِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ وَالْفِنَاءُ فِي يَدِهِ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ. فَإِذَا كَانَ الْحَفْرُ فِيهِ يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ قَبْرًا، ثُمَّ دُفِنَ فِيهِ إنْسَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجِنَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ حَفَرَ الْقَبْرَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ لَا يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ فَحَالَ الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبْرِ فَانْهَارَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ دَفَنُوا فِيهِ إنْسَانًا آخَرَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ دَفَنَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ مَيْتَةً، ثُمَّ قَالَ لِلْأَجِيرِ اُحْثُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَبَى الْأَجِيرُ فِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَحَثْيُ التُّرَابِ كَنْسٌ، وَلَيْسَ بِحَفْرٍ وَهُوَ ضِدُّ مَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا يَضَعُ أَهْلُ مَلِكِ الْبِلَادِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَحْثِي التُّرَابَ خَيَّرْته فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ. وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ وَهُوَ يَنْصِبُ اللَّبِنَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْبَرْ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ الْعُرْفُ إنَّ أَقْرِبَاءَ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ الَّذِينَ يَضَعُونَهُ فِي لَحْدِهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى الْأَجِيرِ يُعَدُّ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْفِرُ فِيهِ فَوَافَقَ فِيهِ جَبَلًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَحَفَرَهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ مَعَ عَمَلِهِ بِاخْتِلَافِ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ يَحْفِرُ قَبْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ فِي أَيِّ الْمَقَابِرِ يَحْفِرُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ إذَا حَفَرَ فِي النَّاحِيَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 48 الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَجْعَلُ لَهُ الْأَجْرَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ دَرْبٍ فِيهِمْ مَقْبَرَةً عَلَى حِدَةٍ لِأَهْلِهَا. فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَقْبَرَةِ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ دِيَارِنَا، وَإِنْ سَمَّى لَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا فَحَفَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرُوهُ بِحَفْرِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُسَمُّوا مَوْضِعًا فَحَفَرَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، أَوْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ حِينَ دَفَنُوا الْمَيِّتَةَ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ تَطْيِينَ الْقَبْرِ، أَوْ تَجْصِيصَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَالتَّجْصِيصُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْعَادَةِ الَّذِي يُطَيِّنُ الْقَبْرَ غَيْرُ الَّذِي يَحْفِرُهُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَحْفِرَ لَهُمْ الْقَبْرَ وَلَمْ يُسَمُّوا لَهُ طُولَهُ وَلَا عَرْضَهُ وَلَا عُمْقَهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَالْعَمَلُ بِحَسَبِهِ يَتَفَاوَتُ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأُجْبِرُهُ فَأُقَدِّرُهُ بِوَسَطِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ كَالشُّرُوطِ بِالنَّصِّ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْوَسَطَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَإِنْ وَصَفُوا لَهُ مَوْضِعًا فَوَجَدَ وَجْهَ الْأَرْضِ لِينًا فَلَمَّا حَفَرَ ذِرَاعًا وَجَدَ جَبَلًا أُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْفِرُ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوا لَهُ لَحْدًا وَلَا شِقًّا فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَعَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى اللَّحْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى الشِّقِّ فَهُوَ عَلَى الشِّقِّ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْمُتَعَارَفَ وَالْمُتَعَارَفُ مَا عَلَيْهِ عِظَمُ الْعَمَلِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَكْرِيَ لَهُ نَهْرًا، أَوْ قَنَاةً فَأَرَاهُ مِفْتَحَهَا وَمَصَبَّهَا وَعَرْضَهَا وَسَمَّى لَهُ كَمْ يُمْكِنُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ طَيَّهَا بِالْأَجْرِ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْأَجِيرِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَهَذَا بَيْعُ شَرْطٍ فِي الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ الْآجُرَّ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدَ الْآجُرِّ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْآجُرِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ عَدَدَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْآجُرِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِنْ سَمَّى عَدَدَ الْآجُرِّ وَكَيْلَ الْجِصِّ وَعَرْضَ الطَّيِّ وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْمُنَازَعَةِ أَبْعَدُ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْفِرُونَ لَهُ سِرْدَابًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُسَمِّيَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَقَعْرَهُ فِي الْأَرْضِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذَلِكَ، وَبَعْدَ الْإِعْلَامِ إذَا عَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 49 اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ يَقْبَلُ الْعَمَلَ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَكُوا مَعَ عَمَلِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي عَمَلِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهُمْ بِتَرْكِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَهُ الْأَجْرُ مَعَهُمْ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَمَلَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ عَمَلُهُمْ فِي حِصَّتِهِ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ زَادَ عَمَلُهُ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ. رَجُلٌ تَكَارَى رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضٍ مَعْلُومٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَعَمَ الْحَفَّارُ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَحْفِرَهَا خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا بَعْدُ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ وَاحْتِمَالِهِ لِلْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَفَرَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَيَحْلِفُ الْأَجِيرُ عَلَى دَعْوَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَفْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ أُخْرَى مِمَّا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَشَارَكَانِ فِيمَا بَقِيَ وَلَوْ قَالَ احْفِرْ لِي فِي هَذَا الْمَكَانِ فَحَفَرَ فَانْتَهَى إلَى جَبَلٍ لَا يُطَاقُ أَيْ لَا يُطَاقُ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ فَالْأَجِيرُ بِالْخِيَارِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إجَارَةِ الْبِنَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَبْنِي لَهُ حَائِطًا بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَأَعْلَمَهُ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَعُمْقَهُ وَارْتِفَاعَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ عُرْفًا وَيَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَائِهِ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا أَلْفَ آجُرَّةٍ مِنْ هَذَا الْآجُرِّ وَكَذَا كَذَا مِنْ الْجِصِّ وَلَمْ يُسَمِّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَالْعَمَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْحَائِطِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَفِي أَسْفَلِ الْحَائِطِ يَكُونُ الْعَمَلُ أَسْهَلَ وَكُلُّ مَا يَرْتَفِعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ الْعَمَلُ أَشَقَّ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) هَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَبُنْيَانُ مِقْدَارِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ يَصِيرُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَلَوْ سَمَّى مَعَ ذَلِكَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ كَانَ أَجْوَدَ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْجَهَالَةِ أَبْعَدُ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا آجُرًّا وَلَبِنًا وَلَمْ يُسَمِّ الْمُلَبَّنَ وَلَمْ يُرِهِ إيَّاهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ، وَلَكِنَّهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 50 اسْتَحْسَنَ فَقَالَ إنْ كَانَ مُلَبَّنُ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْآجُرَّ وَاللَّبِنُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ قِيَاسُ النَّقْدِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَنَّاءً لِيَبْنِيَ لَهُ دَارًا الْأَسَاسُ وَالسَّرَادِيبُ وَالسُّفْلُ وَالْعُلُوُّ بِالطَّاقَاتِ وَالْأَسَاطِينُ وَالْحِيطَانُ عَلَى مِثْلِ مَا يَبْنِي بِالْكُوفَةِ كُلَّ أَلْفِ آجُرَّةٍ وَأَرْبَعَةَ أَكْرَارِ جِصٍّ بِكَذَا فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَسَاسَ وَالسُّفْلَ أَهْوَنُ مِنْ الْعُلُوِّ وَالطَّاقَاتُ أَشَدُّ مِنْ الْحَائِطِ الْمُسْتَطِيلِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْبَنَّاءُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) صِفَةُ الْبِنَاءِ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَبْنِي دَارِهِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ التَّفَاوُتُ فَهُوَ يَسِيرٌ لَا تُجْزِئُ الْمُنَازَعَةُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ (قَالَ) وَاجْعَلْ الزَّنَابِيلَ وَالدِّلَاءَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الْبَنَّاءَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَ مِنْ الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ كَالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا طَعَامَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ الْأَجْرَ وَالطَّعَامَ وَرَاءَ الْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَإِنْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ الزِّنْبِيلَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَاسْتِئْجَارِ الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ أَنْ يُسْقِيَهُ إنْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بِئْرٌ، أَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ قَرِيبَةً مِنْ الدَّارِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ، وَلَكِنْ الْمَرْءُ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَالزِّنْبِيلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِالْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ تَكَارَى رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ فَيَعْمَلُ لَهُ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْغَدَاةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ تَكَارَاهُ يَوْمًا وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ صَارَ مُسْتَثْنًى، وَلِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ وَآخِرُ الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ امْتِدَادِ الصَّوْمِ إلَيْهِ (قَالَ) وَالْعُمَّالُ بِالْكُوفَةِ يَعْمَلُونَ إلَى الْعَصْرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوهُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَقَدْ نَصَّ عِنْدَ الْعَقْدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا عَنْ شَرْطٍ، وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْهَوَادِي وَكَنْسِ السُّطُوحِ وَتَطْيِينِهَا وَسَمَّى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِاللَّبِنِ فَعَلَى الْبَنَّاءِ بَلُّ الطِّينِ وَنَقْلُهُ إلَى الْحَائِطِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا بَعِيدًا فَيَكُونَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ أَرَاهُ الْمَكَانَ فَلَا خِيَارَ لَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 51 لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الضَّرَرِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا بِالرَّهْصِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالِارْتِفَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا سَمَّى يَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إجَارَةِ الرَّقِيقِ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُتَعَارَفٌ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهُوَ عَمَلٌ مُبَاحٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مِنْ السَّحَرِ إلَّا أَنْ تَنَامَ النَّاسُ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَابْتِدَاءُ الِاسْتِخْدَامِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ مُتَعَارَفٌ فَمَنْ يَبْتَكِرُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْرِجَ الْخَادِمُ وَيُهَيَّأَ أَمْرَ طَهُورِهِ وَيَرْفَعَ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَبْسُطَ ثَوْبَ تَعَبُّدِهِ، وَكَذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ قَدْ يَجْلِسُونَ سَاعَةً خُصُوصًا فِي زَمَنِ طُولِ اللَّيَالِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ يَبْسُطُ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَطْوِي ثِيَابَهُ وَيُطْفِئُ السِّرَاجَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَخْدُمُهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ فَمَا يَكُونُ أَعْمَالُ الْخِدْمَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَالْخَدَمِ وَلَا يُكَلِّفُونَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الِاسْتِخْدَامُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَيْهَا إذَا خَلَا بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ إذَا عَمِلَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ يُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ شَهْرًا فَشَهْرًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ. وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ إلَى رَجُلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فِي تَعْلِيمِ النَّسْخِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَوْلَى كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ وَتَعْلِيمُ الْأَعْمَالِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَيَقُومُ عَلَى غُلَامِهِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ الْغُلَامَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي حَوَائِجِهِ وَاسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِمَا سَمَّى مِنْ الْبَدَلِ وَتَعْلِيمِ الْعَمَلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ عِوَضًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ وَالْحِسَابِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 52 فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ فَالْحَاذِقَةُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ دُونَ الْمُعَلِّمِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ إلَى عَامِلٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى سَنَةً فَأَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ إلَّا دِرْهَمًا وَبَاقِي السَّنَةِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ الْأُسْتَاذُ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا يَتَضَرَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ الْأُسْتَاذُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ. (قَالَ) وَإِنْ أَرَادَ الْأُسْتَاذُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ جَعْلَ السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا الشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِدِرْهَمٍ وَالشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِبَقِيَّةِ الْأَجْرِ، وَهَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُخَالِفُ الْأَجْرَيْنِ فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا دَنَانِيرَ وَالْآخَرَ دَرَاهِمَ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّوَثُّقِ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِهَذَا التَّحَرُّزَ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْحُكَّامِ كَيْ لَا يَجْعَلُوا عَقْدًا وَاحِدًا لِاتِّصَالِ الْمُدَّةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَاتِّحَادِ جِنْسِ الْأَجْرِ. وَإِذَا دَفَعَ غُلَامَهُ إلَى عَامِلٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَجْرًا، أَوْ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا عَلَّمَهُ الْعَمَلَ قَالَ الْأُسْتَاذُ لِي الْأَجْرُ. وَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِي الْأَجْرُ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا تَصْنَعُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِلْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَى الْأُسْتَاذِ أَجْرَ مِثْلِهِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مُطْلَقًا بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ الْعُرْفَ قَوْلُهُ وَالْبَنَّاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ. (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْعَمَلُ الَّذِي يُشْتَرَطُ لِلْأُسْتَاذِ فِيهِ الْأَجْرُ فِي دِيَارِنَا عَمَلُ الْمَغَازِلِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْحَسَبَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُنَقِّبُ الْجَوَاهِرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَعَلِّمُ بَعْضَ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَتَعَلَّمَ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْأَجْرُ لِلْأُسْتَاذِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ غُلَامًا فِي عَمَلٍ مُسَمًّى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَالْعَقْدُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كَلِمَةَ كُلَّ إلَى مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ وَكُلَّ شَهْرٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ. فَإِذَا دَخَلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمٌ وَاحِدٌ وَاسْتَعْمَلَهُ فِيهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهُمَا دَلَالَةً، وَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا حَتَّى رَجَعَ الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِيمَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 53 عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَشَهْرًا بِسِتَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا إنْ كَانَ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ أَوَّلًا فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَجِبُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا يَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ الْمَذْكُورَ آخِرًا إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ شَهْرَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَالشَّهْرَانِ الْأَوَّلَانِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِتَفْسِيرِهِ بِالشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْ خِدْمَةِ الْحَضَرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ شُقَّةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ (قِيلَ) هُوَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ لِلْخِدْمَةِ (قُلْنَا) إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ اسْتِخْدَامُهُ فِي الْكُوفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَجِيرَهُ، وَإِنْ سَافَرَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ بِالْكُوفَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُوفَةِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ لِيَسْتَخْدِمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِدْمَةَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِخْدَامَ فَقَطْ وَالسَّفَرُ بِهِ وَرَاءَ الِاسْتِخْدَامِ وَهُوَ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ سَافَرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَعَطِبَ فَهُوَ ضَامِنٌ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدَّابَّةِ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَفِي الْعَبْدِ أَوْلَى وَهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْعَبْدُ مُخَاطَبٌ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَيَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهِ عِنْدَ الِاسْتِخْدَامِ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا تَتَفَاوَتُ فِي السَّيْرِ إلَّا بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُتَعَارَفًا. وَإِنْ دَفَعَ الْأَجْرَ عِنْدَ غُرَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَجَّرَهُ لَمْ يَبْرَأُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَالِكَ لِلْأَجْرِ فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 54 إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ وَإِلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَبِأَمْرِهِ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ، وَأَنْ يَخِيطَ وَيَخْبِزَ وَيَعْجِنَ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ وَيُعَلِّقَ عَلَى دَابَّتِهِ وَيَنْزِلَ بِمَتَاعِهِ مِنْ ظَهْرِ بَيْتٍ، أَوْ يَرْقَى بِهِ إلَيْهِ وَيَحْلُبَ شَاتَه وَيَسْتَقِيَ لَهُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْخِدْمَةِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ كُلِّ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْعِدَهُ خَيَّاطًا وَلَا فِي صِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْخِدْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إطْعَامُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِ عُرْفًا ظَاهِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِخِدْمَةِ أَضْيَافِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِدْمَتِهِ فَالْإِنْسَانُ يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَخِدْمَةُ أَضْيَافِهِ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً كَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاقِلٌ لَا يَنْقَادُ إذَا كُلِّفَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَبَعْدَ الطَّاقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي. وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْتَأْجِرُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا اخْدِمِينِي وَعِيَالِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعِيَالِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَأْجِرَةُ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ اخْدِمْنِي وَزَوْجِي فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهَا وَهُوَ أَظْهَرُ فَخِدْمَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَتْهُ لِيَنُوبَ عَنْهَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهَا وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ0 لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهَا دِينًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ عُرْفًا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةُ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَعَلَ أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ»، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ نَفَقَتَهَا لِتَقُومَ بِخِدْمَةِ بَيْتِهِ فَلَا تَسْتَحِقُّ مَعَ ذَلِكَ أَجْرًا آخَرَ، وَإِنْ سَمَّى. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِتُرْضِعَ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ لِتَرْعَى دَوَابَّهُ، أَوْ تَعْمَلَ عَمَلًا سِوَى خِدْمَةِ الْبَيْتِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا وَلَا مَطْلُوبٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهَا. وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْآثَارِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَذَلَّةٌ بِأَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَالْحُرَّةِ إذَا أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظُّئُورَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ، وَلَوْ خَدَمَهَا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَرْعَى غَنَمَهَا، أَوْ يَقُومُ عَلَى عَمَلٍ لَهَا فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 55 لِيَخْدُمَهُ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عُرْفًا فَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا وَيُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدُ الْأَجْرَ عَلَى خِدْمَةِ أَبِيهِ وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَتْهُ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا أَوْجَبُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا أَحْوَجُ إلَى ذَلِكَ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُرْعِيَهُ غَنَمًا، أَوْ يَعْمَلَ غَيْرَ الْخِدْمَةِ جَازَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْعُرْفِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ أَوْ جَدَّهُ، أَوْ جَدَّتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ اسْتِخْدَامِ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِذْلَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ قَبْلَهُمْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هُوَ وَلَا يَتْرُكُ هُوَ لِيَسْتَخْدِمَ وَالِدَهُ وَلَا الْوَالِدَةَ تَخْدُمُهُ، وَلَكِنْ إنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِخْدَامِ لَوْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرَ كَانَ مَعْنَى الْإِذْلَالِ فِيهِ أَكْبَرَ، وَلِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنْ لَا تَصِيرُ خِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَقَامَ الْعَمَلَ. وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا فَاسْتَأْجَرَهُ أَبُوهُ لِخِدْمَتِهِ وَأَبُوهُ حُرٌّ غَنِيٌّ عَنْ خِدْمَتِهِ، أَوْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ سِوَى مَوْلَاهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَلِأَنَّ خِدْمَتَهُ لِمَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ حَتَّى لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَبِيهِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا. فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ خِدْمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَالِابْنُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَمْنُوعٌ مِنْ إذْلَالِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَفِي اسْتِخْدَامِهِ إذْلَالُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ الذُّلُّ فِي أَنْ يَخْدُمَ ابْنَهُ، وَلَيْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ فَإِنْ عَمِلَ جَعَلْت لَهُ الْأَجْرَ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا وَالِابْنُ مُسْلِمًا أَوْ الِابْنُ كَافِرًا وَالْأَبُ مُسْلِمًا فَاسْتَأْجَرَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الِابْنِ دِينًا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ ابْنِهِ لِلْخِدْمَةِ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الدِّينِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْخِدْمَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْضَى بِهِ الْخَادِمُ وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ. فَأَمَّا هَذَا عَقْدٌ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ وَالِاسْتِخْدَامُ عَنْ تَرَاضٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا لِخِدْمَتِهِ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِخِدْمَتِهِ كَانَ جَائِزًا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِ مِنْ أَمْرِ الطَّهُورِ وَنَحْوِهِ فَرُبَّمَا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 56 فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي الْإِفْسَادِ مِنْ دِينِكُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى ضَرْبِ اللَّبِنِ وَغَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي دَارِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُلَبَّنُ مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْمُلَبَّنِ. فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا مُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَسَدَّ لَبِنَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا لَمْ يَصِرْ لَبِنًا فَمَا دَامَ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ طِينٌ لَمْ يَصِرْ لَبِنًا بَعْدُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ فَسَدَ وَصَارَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَإِنْ أَقَامَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ اللَّبَّانُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ فَسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَا حَتَّى يَجِفَّ. فَإِذَا جَفَّ وَأَشْرَحَ فَحِينَئِذٍ لَهُ الْأَجْرُ وَمَذْهَبُهُمَا اسْتِحْسَانٌ اعْتَبَرَا فِيهِ الْعُرْفَ وَاللَّبَّانُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُ هَذَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ وَغُرَفُ الْقُدُورِ فِي الْقِصَاعِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الطَّبَّاخِ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْوَلِيمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَصِيرُ الطِّينُ لَبِنًا، وَقَدْ فَعَلَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ عَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ لَبِنًا وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طِينًا فَالطِّينُ يَنْتَشِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِتَسْوِيَةِ أَطْرَافِهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ. فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَفَافُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ وَالتَّشْرِيحُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ جَمْعُ اللَّبِنِ، وَلَيْسَ بِعَمَلٍ لِيَخْدُمَهُ فِي الْعَيْنِ فَهُوَ كَالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْبِنَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّبَّانِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْقُلُ اللَّبِنَ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يُشَرِّحَهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّشْرِيحُ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عَلَى اللَّبَّانِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُشَرِّحْهُ وَيُسَلِّمْهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ حَتَّى إذَا فَسَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْخَيَّاطِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَلَوْ تَكَارَى خَبَّازًا يَخْبِزُ لَهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ التَّنُّورِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا ظَاهِرٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 57 بِنَفْسِهِ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ التَّشْرِيحِ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ التَّشْرِيحِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْخُبْزَ لَوْ تُرِكَ فِي التَّنُّورِ يَفْسُدُ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْخَبَّازِ، وَذَلِكَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ وَوِزَانَةُ الْإِقَامَةِ فِي اللَّبِنِ. فَأَمَّا اللَّبِنُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ لَوْ تُرِكَ وَلَمْ يَفْسُدْ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّشْرِيحَ عَلَى اللَّبَّانِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا بِمُلَبَّنٍ مَعْلُومٍ وَيَطْبُخُ لَهُ آجُرًّا عَلَى أَنَّ الْحَطَبَ مِنْ عِنْدِ رَبِّ اللَّبِنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ الْعَامِلِ بِآلَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ أَفْسَدَ اللَّبِنَ بَعْد مَا أَدْخَلَهُ الْأَتُونَ وَتَكَسَّرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْأَتُونِ لَمْ يَتِمَّ عَمَلُهُ فِي طَبْخِ الْآجُرِّ فَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ طَبَخَهُ حَتَّى يَصِحَّ، ثُمَّ كَفَّ النَّارَ عَنْهُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْإِخْرَاجِ فَإِخْرَاجُهُ عَلَى الْأَجِيرِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كَذَلِكَ فَسَدَ. وَإِنْ انْكَسَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَتُونِ وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِ رَبِّ اللَّبِنِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ لِوُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَتُونُ فِي مِلْكِ اللَّبَّانِ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً لِيَخْرُجَ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِذَا شَقَّ رَجُلٌ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا شَقَّ مِنْهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِوِعَاءٍ فَشَقُّ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ صَبِّ مَا فِيهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَطْعَ حَبْلَ الْقِنْدِيلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْإِلْقَاءِ وَالْكَسْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَلَوْ صَبَّ مَا فِيهَا كَانَ مُتْلِفًا ضَامِنًا لَهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَيْئًا يَحْمِلُهُ رَجُلٌ فَشَقَّهُ آخَرُ فَإِنْ حَمَلَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا رِضَاءٌ بِمَا صَنَعَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتْرُكُ اسْتِئْنَافَهُ إلَّا رَاضِيًا بِصُنْعِهِ وَالرِّضَاءُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ يَثْبُتُ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَقْدِ وَمَنْ بَاعَ مَجْهُولَ الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك وَهُوَ سَاكِتٌ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ وَالصَّبِيُّ فِيمَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْبَالِغِ. وَإِذَا شَقَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَلَمْ يَسِلْ مَا فِيهَا، ثُمَّ مَالَ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَوَقَعَ وَانْخَرَقَ أَيْضًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِصَبِّ مَا فِي الرِّوَايَةِ حِينَ شَقَّهَا وَصَبُّ مَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَكُونُ إيقَاعًا لِلْأُخْرَى بِطَرِيقِ إزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ الِاسْتِمْسَاكُ وَهُوَ تَسَبُّبٌ مِنْهُ لِإِلْقَاءِ الْأُخْرَى وَهُوَ مُتَعَدٍّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 58 فِي هَذَا السَّبَبِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ مَضَى وَسَاقَ بَعِيرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَى بِفِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ فَعَلَ (قَالَ) أَرَأَيْت لَوْ شَقَّ فِيهِ ثُقْبًا صَغِيرًا فَقَالَ صَاحِبُهَا بِئْسَمَا صَنَعْت، ثُمَّ مَضَى وَسَاقَهَا فَزَلَقَ رَجُلٌ بِمَا سَالَ مِنْهُ أَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِهَا حِينَ سَاقَ بَعِيرَهُ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا أَخَذَ بِهِ الثَّانِي مِنْ سَوْقِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَاتِ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْ لَا يَفُوتَ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَهُ فِي كِتَابِ الْبَحْرِ حِينَ ذَكَرَ بَابًا مِنْ الْإِجَارَاتِ فِي آخِرِ التَّجَزُّؤِ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - زِيَادَةَ مِثْلِهِ هُنَا. (قَالَ) إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَفِيزًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ قَفِيزًا، وَلَكِنْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لِي يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ وَأَضَافَ هَذَا الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، ثُمَّ أَجَابَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى رُجُوعِهِمَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ بَلْ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَمَلِ بِكَمَالِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ سَوَاءٌ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَوْ لَمْ يَفْرُغْ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَقْصُودِهِ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَشَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهَا وَالْعَمَلُ مَقْصُودٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ أَيْضًا، وَعِنْدَ اعْتِبَارِهِمَا يَصِيرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ مَجْهُولًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَجِدُ بِهِ فِي الْمَعْمُولِ وَجَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِهِ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْمَ الْخِلَافَةِ فَقَالَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 59 جَلَّ جَلَالُهُ {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وَأَثْبَتَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، وَبِهِ أُمِرَ كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ إظْهَارَ الْعَدْلِ وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَرُفِعَ الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَاتِّصَالَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِأَجْلِهِ بُعِثَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَبِهِ اشْتَغَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَمَا كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَ النَّاسِ يُسَمُّونَهُ كِتَابَ سِيَاسَةِ الْقَضَاءِ وَتَدْبِيرِ الْحُكْمِ وَقَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بِهَا يُعْرَفُ تَحَوُّلُ الْكَاتِبِ إلَى بَيَانِ مَقْصُودِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَعُدَّ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَمَّا بَعْدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ الْحِكْمَةُ الْفِقْهُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مِنْ أَنْكَرَ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ أَيْ مَقْطُوعٌ بِهَا لَيْسَ فِيهَا احْتِمَالُ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَأْوِيلٍ فَتَفْسِيرُ الْمُحْكَمِ هَذَا بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] وَمِنْهُ يُقَالُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ وَالْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ أَيْ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الدِّينِ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ، وَمَا يَكُونُ مُتَّبَعًا مِنْهَا فَأَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ (قَالَ) فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك الْخَصْمَانِ وَالْإِدْلَاءُ رَفْعُ الْخُصُومَةِ إلَى الْحَاكِمِ وَالْفَهْمُ إصَابَةُ الْحَقِّ فَمَعْنَاهُ عَلَيْك بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ إذَا أَدْلَى إلَيْك وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْمَعْ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ وَافْهَمْ مُرَادَهُ وَبِهَذَا يُؤْمَرُ كُلُّ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْمُبْطَلِ إلَّا بِذَلِكَ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا يَكُونُ فِيهِ إقْرَارٌ بِالْحَقِّ لِخَصْمِهِ. فَإِذَا فَهِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْفَذَهُ. وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ ضَاعَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ وَلَا نَفَاذَ لَهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ اسْتَمِعْ إلَى كَلَامِ الشُّهُودِ وَافْهَمْ مُرَادَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْك. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ لِتَنْفِيذِ الْقَاضِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 60 إيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ أَسِّ بَيْنَ النَّاسِ مَعْنَاهُ سَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَالتَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ قَالَ قَائِلُهُمْ: فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْت نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّ النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتَّأَسِّي وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ فَاسْمُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك يَعْنِي فِي النَّظَرِ إلَى الْخَصْمَيْنِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا فِي جُلُوسِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَفِي عَدْلِهِ بَيْنَهُمَا وَبِالْعَدْلِ أُمِرَ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِي قِيلَ وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَالَ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ، وَلَكِنِّي رَفَعْت النَّصْرَانِيَّ إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِي، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا كَانَ جَوْرِي لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ فِي الْعِنَايَةِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا يَطْمَعُ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِك وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50]. فَإِذَا قَدَّمَ الشَّرِيفَ طَمِعَ فِي ظُلْمِهِ وَانْكَسَرَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ قَلْبُ خَصْمِهِ الضَّعِيفِ فَيَخَافُ الْجَوْرَ، وَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ لِلشَّرِيفِ عِنْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ مِنْ التَّلَبُّسِ وَيَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَرْكِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَصِيرُ بِهِ مُتَّهَمًا بِالْمَيْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ (قَالَ) «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُدَّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ «أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا»، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فَوَائِدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى. (قَالَ) «وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا»، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِدُعَاءِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الصُّلْحِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وَذَلِكَ دَلِيلُ النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ (قَالَ) هُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُبْطِلًا فَأَخَذَ الْمَالَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَالصُّلْحُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 61 وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَالصُّلْحُ يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ كَانَ أَخَذَهُ حَلَالًا قَبْلَ الصُّلْحِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْخَصْمِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ تَحْلِيلُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ أَوْ تَحْرِيمُ مَا هُوَ حَلَالُ الْعَيْنِ بِأَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ فِي الْخُصُومَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ صَالَحَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى، أَوْ صَالَحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ يُحَرِّمَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا هُوَ الصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا. (قَالَ) وَلَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْت بِالْأَمْسِ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيَتْ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ بِأَنْ خَالَفَ قَضَاؤُهُ النَّصَّ أَوْ الْإِجْمَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ - كِدْت أَنْ أَمْضِيَ فِي صَلَاتِي اسْتِحْيَاءً مِنْكُمْ، ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْ أُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُرَاقِبَكُمْ فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقَاضِي خَاصَّةً بَلْ هُوَ فِي كُلِّ مَنْ يُبَيِّنُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الْوَاعِظُ وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زَلَّ فَلْيُظْهِرْ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَزَلَّةُ الْعَالِمِ سَبَبٌ لِفِتْنَةِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ إنْ زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ الْعَالَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْقَاضِي أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَدِيمٌ يَعْنِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْكَتِمُ زَلَّةُ مَنْ زَلَّ بَلْ يَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ. ثُمَّ (قَالَ) الْفَهْمَ مِمَّا يَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِك، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذَا اللَّفْظِ، وَفِي تَكْرَارِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا إذَا تَمَكَّنَ الِاسْتِيفَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالتَّثَبُّتِ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُجَازَفَةِ خُصُوصًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مُخْتَارًا إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِد أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَى عِلْمَ الْكِتَابِ وَوُجُوهَ مَعَانِيهِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الْقِيَاسِ عَالِمًا بِعُرْفِ النَّاسِ وَمَعَ هَذَا قَدْ اُبْتُلِيَ بِحَادِثَةٍ لَا يَجِدُ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرًا فَالنُّصُوصُ مَعْدُودَةٌ وَالْحَوَادِثُ مَمْدُودَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ التَّأَمُّلِ وَطَرِيقُ تَأَمُّلِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 62 وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ. ثُمَّ (قَالَ) وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ أَنْ تَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مَعْنًى، وَلَكِنْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ السُّنَّةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ ثُمَّ (قَالَ) اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ فِيهِ حَتَّى إذَا قَالَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ لِيَأْتِيَ بِهِمْ فَرُبَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ حَقَّهُ لِوُضُوحِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ لِيَأْتِيَ بِهِمْ، وَبَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الدَّفْعَ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي لِيَأْتِيَ بِدَفْعِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي عَدْلِهِ وَلْيَكُنْ إمْهَالُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِخَصْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِعْجَالَ إضْرَارٌ بِمُدَّعِي الدَّفْعِ، وَفِي تَطْوِيلِ مُدَّةِ إمْهَالِهِ إضْرَارٌ بِمَنْ أَثْبَتَ حَقَّهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ دَعْوَى الدَّفْعِ فَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ مَا ادَّعَى مِنْ الدَّفْعِ وَجَّهَ الْقَاضِي إلَيْهِ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا تَقُومُ عَلَيْهِ إذْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالطَّعْنِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جَانِبَ الْمُدَّعِي فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ أَلْزَمْته الْكَفَّ عَنْ أَذَى النَّاسِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ لِلْقَاضِي عِنْدَ مَنْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَّهَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمْهَلَهُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ انْصَرَفَ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِرًا لَهُ سَاكِتًا. وَإِذَا لَمْ يُمْهِلْهُ انْصَرَفَ شَاكِيًا مِنْهُ يَقُولُ مَالَ إلَى خَصْمِي وَلَمْ يَسْتَمِعْ حُجَّتِي وَلَمْ يُمْكِنِّي مِنْ إثْبَاتِ الدَّفْعِ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ «وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَصِفَةُ الْعَدَالَةِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا نَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ مُحَرَّمٌ فِي اعْتِقَادِ كُلِّ مُسْلِمٍ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، ثُمَّ قَالَ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا» قِيلَ الْمُرَادُ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ بِإِقَامَةِ حَدِّ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ فَالْحُدُودُ مَشْرُوعَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَبِظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 63 تَنْعَدِمُ الْعَدَالَةُ الثَّابِتَةُ مَا لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُ وَانْزِجَارُهُ عَنْهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا فِي قَذْفٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ تَابَ، وَإِنَّ الْعَدَالَةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَنْعَدِمُ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، ثُمَّ قَالَ، أَوْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ مِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الْجِنَايَةُ فِي هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَمِنْ ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ فِي شَيْءٍ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.» ثُمَّ (قَالَ) لَوْ ظَنَنَّا فِي وَلَاءٍ، أَوْ قَرَابَةٍ أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ لَا تُقْبَلُ فَالزَّوْجِيَّةُ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ وَهُوَ مِمَّا يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِلًا إلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَفْسِ الْوَلَاءِ وَالْقَرَابَةِ أَنَّهُمَا لَا يَقْدَحَانِ فِي الْعَدَالَةِ، وَلَكِنْ إذَا تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ حِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى قِيلَ فِي مَعْنَاهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمَيْلُ إلَى مَوْلَاهُ وَقَرَابَتِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ حَتَّى يُؤْثِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. ثُمَّ (قَالَ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ يَعْنِي أَنَّ الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ لِلْقَاضِي الْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يَعْنِي دَرَأَ عَنْكُمْ اللَّوْمَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْقَضَاءُ جَمْرَةٌ فَادْفَعْ الْجَمْرَ عَنْك بِعُودَيْنِ» يَعْنِي شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَ إيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْقَلَقَ وَهُمَا نَوْعَانِ مِنْ إظْهَارِ الْغَضَبِ فَالْقَلَقُ الْحِدَةُ، وَالضَّجَرُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ بِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ إقَامَةِ حُجَّتِهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَى الْقَاضِي بِسَبَبِهِ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ وَرُبَّمَا لَا يَفْهَمُ كَلَامَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ (قَالَ) وَالْبَادِي بِالنَّاسِ يَعْنِي إظْهَارَ الْبَادِينَ بِكَثْرَةِ الْخُصُومِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْمَلَالِ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ الْبَادِي بِمَا يَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ فَقَدْ يُطَوِّلُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كَلَامَهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُظْهِرَ الْبَادِيَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ. فَإِذَا تَكَلَّمَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقَاضِي أَوْ يُذْهِبُ بِهِ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَحِينَئِذٍ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ (قَالَ) وَالتَّنَكُّرُ لِلْخُصُومِ وَهُوَ أَنْ يُقَطِّبَ وَجْهَهُ إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 64 خَصْمَانِ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ جَوْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَهُمَا رُبَّمَا عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ فَذَهَبَ وَتَرَكَ حَقَّهُ. (أَلَا تَرَى) إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} [آل عمران: 159]، ثُمَّ قَالَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأَجْرَ وَيَحُثُّ بِهَا عَلَى الذُّخْرِ يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ فَالْحِلْمُ وَتَرْكُ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ وَإِظْهَارُ الْبِشْرِ مَعَ النَّاسِ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْبِشْرُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ أَوْلَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ عَلَى نَفْسَهُ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَخْلَصَ سَرِيرَتَهُ أَخْلَصَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ»، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ يَسُبُّهُ اللَّهُ يَعْنِي إذَا رَاءَى بِعَمَلِهِ وَالْمُرَاءَاةُ مَذْمُومَةٌ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الْقَاضِي آكَدُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْمُرَاءَاةِ وَالنِّفَاق وَقَوْله يَسُبُّهُ اللَّهُ أَيْ يَفْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَعْنَاهُ أَيْ أَنَّ الْمُرَائِيَ بِعَمَلِهِ يَقْصِدُ اكْتِسَابَ مَحْمَدٍ، أَوْ مَنَالَ شَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَمَا يَفُوتُهُ بِهِ إذَا تَرَكَ الْإِخْلَاصَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَاقِلُ إذَا قَابَلَ مَا هُوَ مَوْعُودٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ بِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ تَرَجَّحَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ عَاجِلُ الرِّزْقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] أَيْ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَشْعِرَ التَّقْوَى فِيمَا يَفْعَلُ فَهُوَ مِلَاك الْأَمْرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ». وَقَالَ «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّنِي كَتَبْت كِتَابًا فِي الْقَضَاءِ مَا لَمْ آلُكَ وَنَفْسِي فِيهِ خَيْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى عُمَّالِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُوصِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَامِلَهُ بِالشَّامِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلَهُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْزَمْ خَمْسَ خِصَالٍ يَسْلَمْ لَك دِينُك وَتَأْخُذْ فِيهِ بِأَفْضَلِ خَطِّك إذَا تَقَدَّمَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَعَلَيْك بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَالْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ فَهُوَ الطَّرِيقُ لِلْقَاضِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَنْ تَمَسَّكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 65 بِهِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَنَالَ أَفْضَلَ الْحَظِّ مِنْ الْمَحْمَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْنَى الْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ. ثُمَّ قَالَ وَأَدْنِ الضَّعِيفَ حَتَّى يَشْتَدَّ قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْأَمْرِ تَقْدِيمَ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَدْنُو بِنَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوِيُّ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، وَرُبَّمَا يَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُدْنِيَ الضَّعِيفَ لِيُسَاوِيَهُ بِخَصْمِهِ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ فَيَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَتَعَاهَدْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَعَاهَدْهُ تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَرُبَّمَا ضَيَّعَ حَقَّهُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ قِيلَ هَذَا أَمْرٌ بِتَقْدِيمِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْغَرِيبَ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي سَمَاعِ الْخُصُومَةِ لِيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِتَعَاهُدِ الْغُرَبَاءِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ الْغَرِيبَ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ. فَإِذَا لَمْ يَخُصَّهُ الْقَاضِي بِالتَّعَاهُدِ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَعَلَيْك بِالصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَك فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ الْخَصْمَ إلَى الصُّلْحِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ، وَبِهِ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ «رَدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ» وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا تَرْتَشِي وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ أَمَّا قَوْلُهُ لَا يُشَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِالشِّينِ قَالُوا الْمُرَادُ الْمَشُورَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمَشُورَةِ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ طَرِيقُ الْفَصْلِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَظُنُّ جَاهِلٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَزْدَرِيَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَادِثَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَظْهَرُ بِالشِّينِ لَا يُشَارُ مَعْنَاهُ لَا يُشَارُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ خَصْمَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيمَا يُشَارُ بِصَابِعِهِ عَلَى رِشْوَةٍ وَلِذَلِكَ لَا يُشَارُ غَيْرُ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَجْمَعُ النَّاسَ وَمَشَارَةُ الِاثْنَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ تُؤَدِّي إلَى فِتْنَةِ الْآخَرِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَقَوْلُهُ لَا يُضَارُّ مِنْ الضَّرَرِ أَيْ لَا يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْخُصُومِ فِي تَأْخِيرِ الْخُرُوجِ وَلَا يُنَغِّصُ الْخُصُومَ فِي اسْتِعْجَالِهِ لِيَعْجَزَ عَنْ إقَامَتِهِ حُجَّتَهُ، وَفِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ أَوْ فِي أَخْذِهِ يَسْقُطُ مِنْ كَلَامِهِ إنْ زَلَّ فَلِمَجَالِسِ الْقَضَاءِ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْحِشْمَةِ مَا يُعْجِزُ كُلَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 66 أَحَدٍ عَنْ مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْحُدُودِ فِي الْكَلَامِ. فَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ مَا يَسْمَعُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مُضَارَّةً وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْقُصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَجْلِسُ إظْهَارِ الْحَقِّ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلِطَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ لَا يَرْتَشِي الْمُرَادُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ» وَلَمَّا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ سُحْتٌ قَالَ ذَلِكَ الْكُفْرُ إنَّمَا السُّحْتُ أَنْ تَرْشُوَ مَنْ تَحْتَاجُ إلَيْهِ أَمَامَ حَاجَتِك. وَفِي قَوْلِهِ وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْقَضَاءِ فِي حَالِ غَضَبِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَقْضِيَ عِنْدَ اعْتِدَالِ حَالِهِ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ جَائِعًا، أَوْ كَظِيظًا مِنْ الطَّعَامِ، أَوْ كَانَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ اعْتِدَالُ الْحَالِ. فَكَذَلِكَ بِالْغَضَبِ يَنْعَدِمُ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فِي غَضَبِهِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ إذَا ظَهَرَ بِهِ الْغَضَبُ عَجَزَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ خَوْفًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَقُومُ، أَوْ يُنَحِّي النَّاسَ عَنْ قُرْبِهِ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ يَعْتَرِيه ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْحِدَّةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهَا تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي فَلَا يَكُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ بِهِ عَقْلُهُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِيه مِنْ الْغَضَبِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَعَا قَاضِيًا كَانَ بِالشَّامِ حَدِيثَ السِّنِّ فَقَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ. فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ مَنْ هُوَ حَدِيثُ السِّنِّ إذَا كَانَ عَالِمًا فَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْثَرَ النَّاسِ نَظَرًا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَلَّدَهُ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ «وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَأَمِيرًا وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ» وَيُحْكَى أَنَّ الْمَأْمُونَ قَلَّدَ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ابْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ الْمَأْمُونُ كَمْ سِنُّ الْقَاضِي فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَا عَلَى سِنِّ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدِ حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَغَهُ مِثْلُ هَذَا الطَّعْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَاضِي لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَامْتَحَنَهُ بِالْعِلْمِ فَقَالَ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إمَامُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 67 الْمُتَّقِينَ أُنْزِلَ لِلْعَمَلِ بِهِ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ قَالَ. فَإِذَا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي قَضَائِهِمْ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ الْقِيَاسُ يَرُدُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ. وَإِذَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْحُرُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَلَمَّا أَصَابَ فِي جَمِيعِ مَا أَجَابَ قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْتَ قَاضِيهَا أَيْ إنِّي لَا أَعْزِلُك عَنْ الْقَضَاءِ مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ مَنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا يَعْزِلَهُ بِطَعْنِ بَعْضِ الْمُتَعَنِّتِينَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يُحْمَدُ مِنْ السِّيرَةِ مِنْهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا يَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَيِّنُ لَهُمْ فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ مُرَادُهُ الْإِشَارَةُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَالِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَغَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكُوفَةِ وَخَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَلَأْت هَذِهِ الْقَرْيَةَ عِلْمًا وَفِقْهًا. قَالَ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِقَضَاءٍ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْبَلْوَى بِقَوْلِهِ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ تَحَرَّزَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 68 عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ بَعْدَ مَا حُبِسَ وَضُرِبَ لِأَجْلِهِ مِرَارًا حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَوْ تَقَلَّدْت نَفَعْت النَّاسَ فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ. وَقَالَ لَوْ أُمِرْت أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا وَمَنْ اخْتَارَ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ قَالَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْبَلَاءِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِتْرَتِي» وَقِيلَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَقْرَبُونَ وَالْأَبْعَدُونَ فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ «قَالَ لِأَبِي رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَادِثَةٍ أَمَا كَانَ لَك فِي أُسْوَةٌ فَقَالَ أَنْتَ تَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ، وَأَنَا أَسْعَى فِي رَقَبَةٍ لَمْ يُعْرَفْ فِكَاكُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ» قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى الصَّالِحُونَ يَعْنِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ صنفحيهلا بِعُمَرَ» قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلِيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُولَنَّ إنِّي أَرَى، وَإِنِّي أَخَافُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِي مَوْضِعِهِ لِخَوْفِ الْخَطَأِ فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَالًا يَرِيبُك»، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الِاحْتِيَاطَ فِي مَوْضِعِ الرِّيبَةِ فَهُوَ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ أَخْطَأَ وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ أَيْ مُصِيبٌ فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ يُخْطِئُ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ لِمَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ. وَذُكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَعَثَنِي إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَقْضِي يَا مُعَاذُ قُلْت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْت أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ قُلْت أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 69 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانَ الْقَضَاءَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَرِّبَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ ظَهَرَ مِنْ التَّجْرِبَةِ كَمَا تَفَرَّسَ فِيهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلٍ لَهُ مَا يَرْضَى بِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلْيُقَابِلْهَا بِالشُّكْرِ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَهُوَ كَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا إنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَعْدَهُ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَمَّا «قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ. وَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْفِدَاءِ وَأَخَذَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ وَشَاوَرَ السَّعْدَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي صُلْحِ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ بِمَا أَشَارَا بِهِ وَلَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عِنْدَ الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخَذَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ صَوَابًا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْفَصْلِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَمَا كَانَ يَفْصِلُ بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْتَهِدُ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ بَيَانُهُ أَنَّهُ «لَمَّا شَاوَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَادِثَةٍ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا». «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيه فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَهَذَا قَوْلٌ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقُبْلَةِ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ، ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ» فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَقَضَاؤُهُ يَكُونُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 70 شَرِيعَةً وَالْخَطَأُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الْآيَةَ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا كَانَ فِي الْقَاضِي خَمْسُ خِصَالٍ فَقَدْ كَمُلَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَرْبَعٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ وَصْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثَلَاثٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اثْنَيْنِ فَفِيهِ وَصْمَتَانِ، وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ النُّقْصَانِ وَالْوَصْمُ كَسْرٌ يَسِيرٌ وَفَوْقَهُ الْقَصْمُ وَنَظِيرُهُ الْقَنْصُ بِالْأَنَامِلِ وَفَوْقَهُ الْقَبْضُ بِالْيَدِ وَفَوْقَهُ الْأَخْذُ وَهُوَ التَّنَاوُلُ قَالَ فَقَالَ قَائِلٌ مَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عِلْمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ. قَالَ وَنُزْهَةٌ عَنْ الطَّمَعِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّزَاهَةِ فَمَنْ يُتَحَرَّزُ عَنْ شَيْءٍ يُقَالُ هُوَ يَتَنَزَّهُ عَنْ كَذَا وَالْأَظْهَرُ وَتَزَهُّدٌ عَنْ الطَّمَعِ مِنْ الزَّهَادَةِ فَكُلُّ الْفِتْنَةِ لِلْقَاضِي فِي طَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَلَمَّا امْتَحَنَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاضِيًا قَالَ لَهُ بِمَ صَلَاحُ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ بِالْوَرَعِ قَالَ فَبِمَا فَسَادُهُ قَالَ بِالطَّمَعِ قَالَ حُقَّ لَك أَنْ تَقْضِيَ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الطَّمَعِ لِيَأْمَنَ الْفِتْنَةَ وَيُخْلِصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ وَحَكَمٌ عَنْ الْخَصْمِ يَعْنِي أَنْ يَحْكُمَ فِي بَعْضِ مَا يَسْمَعُ مِنْ الْخُصُومِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ قَالَ وَاسْتِخْفَافٌ بِاللَّائِمَةِ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِيمَا يَفْصِلُ مِنْ الْقَضَاءِ أَنْ يَخَافَ اللَّائِمَةَ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْصَرِفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِيًا يَلُومُ الْقَاضِيَ مَعَ أَصْدِقَائِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت قَالَ أَصْبَحْت وَشَطْرُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ. فَإِذَا تَفَكَّرَ الْقَاضِي وَاشْتَغَلَ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ اللَّائِمَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْقَضَاءِ. قَالَ وَمُشَاوَرَةُ أُولِي الرَّأْيِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ النَّاسِ مُشَاوِرَةً لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَسْتَشِيرُهُمْ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ «قَالَ الْمَشُورَةُ تُلَقِّحُ الْعُقُولَ». وَقَالَ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَلَكَ قَوْمٌ عَنْ مَشُورَةٍ قَطُّ» وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَشِيرُ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعَ فِقْهِهِ حَتَّى كَانَ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ حَادِثَةٌ قَالَ اُدْعُوا إلَيَّ عَلِيًّا وَادْعُوا إلَيَّ زَيْدِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ، ثُمَّ يَفْصِلُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَدَعَ الْمُشَاوَرَةَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 71 فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِازْدِرَاءِ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِهِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً فَإِنَّ مَسْرُوقًا مِمَّنْ يُقَدِّمُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفِينَ وَابْتُلِيَ مَسْرُوقٌ بِالْقَضَاءِ وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَرْوِي مَحَاسِنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إيثَارِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّ الْقَضَاءَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً لِمَا فِي إظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يُقَامَ حَدٌّ فِي أَرْضٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فِيهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ فَاثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ. فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِخِلَافِهِ وَرَجُلٌ جَاهِلٌ يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الْآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَقَضَى بِهِ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي حَقِّ مَنْ قَضَى بِخِلَافِ مَا عَلِمَ فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى النَّارِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَكَتَمَ مَا عَلِمَ مِنْ الْحَقِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَيَلْتَزِمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إلَّا بِالْعِلْمِ فَفِي الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ ظُلْمُ نَفْسِهِ، وَبَعْدَ التَّقَلُّدِ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ، أَوْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ وَيَقْضِيَ بِفَتَوَاتِهِمْ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ فِي النَّارِ حِينَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِي قَضَى بِعِلْمِهِ أَظْهَرَ الْحَقَّ بِحُكْمِهِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنْ خَصْمِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّهُمْ فِيمَا يَسْمَعُونَ رُبَّمَا يَرْفَعُونَ وَرُبَّمَا يُرْسِلُونَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ. فَإِذَا أَقْبَلَ دَفَعَهُ دَفْعَةً فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ (يُجَاءُ بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ مَنْ يَعْدِلُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا ظَنُّك فِي حَالِ مَنْ يَجُورُ فِي قَوْلِهِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا يَلْقَى مِنْ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي قَضَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقَفَاءِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الِاسْتِخْفَافُ وَالذُّلُّ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَقَدْ نَالَ بَعْضَ الْوَجَاهَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فَهَذَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَا نَالَ مِنْ الْجَاهِ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقٍ هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ دَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 72 دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ نَافَقَ وَأَظْهَرَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ فَقَدْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ حِفْظَ مَاءِ وَجْهِهِ يُلْقَى فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَهَذَا بَيَانٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء: 145] قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا يَذْبَحُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَالْحَصَّافُ يَرْوِي هَذَا «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ»، وَفِيهِ بَيَانُ التَّحْرِيزِ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّقَلُّدِ فَكُلُّ عَاقِلٍ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَنْ يَذْبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَحَرُّزَهُ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَذِكْرُ الْمَثَلِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِلتَّقْرِيبِ مِنْ الْفَهْمِ. (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَى بِهِ. وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى فَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ وَمَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلْيُنْصِفْهُمَا فِي الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ هَذَا اللَّفْظِ، وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ التَّسْوِيَةِ وَعَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ وَلَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِوَى الْجَمِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمْ وَيَتَقَدَّمُونَ إلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْبَيَانِ لَا لِلْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيسِ وَالْإِنْكَارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي يُدْعَى مُفْتِيًا، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فَقَدْ حَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا حَكَّمَاهُ لِفِقْهِهِ فَقَدْ كَانَ مِقْدَامًا مَعْرُوفًا فِيهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِرِكَابِهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ. وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا فَقَبَّلَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدَهُ. وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُصُومَةٍ حَكَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَالِمَ فِي مَنْزِلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ وَلَا يَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ وَجَاهَتَهُ بِسَبَبِ الدِّينِ فَيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ إذَا عَظَّمَ الدِّينَ، وَالذَّهَابُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 73 إلَى مَنْزِلِ الْعَالِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى عِلْمِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الدِّينِ وَلَمَّا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ هَلَّا أَرْسَلَتْ إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ وَتَأْوِيلُ اسْتِعْظَامِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَافَ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْوَجَاهَةِ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنْزِلِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ أَتَاهُ زَائِرًا، وَمَا أَتَاهُ مُحَكِّمًا لَهُ رَاغِبًا فِي عِلْمِهِ؛ فَلِهَذَا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ لِلتَّحْكِيمِ فَقَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَأَتَى زَيْدٌ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِوِسَادَةٍ وَكَانَ هَذَا مِنْهُ امْتِثَالًا لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ»، وَقَدْ بَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رِدَاءَهُ حِينَ أَتَاهُ وَلَكِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَسْتَحْسِنْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَالَ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْهُ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْقَاضِي، وَإِنَّ الْخَلِيفَةَ فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ كَالْقَاضِي (قَالَ) وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا، وَلَكِنْ أَحْلِفُ فَتَرَكَ لَهُ أُبَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً، وَأَنَّ مَجْلِسَ الشَّفَاعَةِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ إذَا كَانَ صَادِقًا فَقَدْ رَغِبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ مَعَ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ وَاسِعٌ لَهُ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَخْشَى أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ يَمِينِي فَيُقَالُ أَصَبْتُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي بِطَلَبِهِ وَيَتْرُكُ إذَا تَرَكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أُبَيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَانُ هَذَا فِيمَا «قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَكَ يَمِينٌ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا أَحْسُدُ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُهُ وَيَقْضِي بِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَاهُ الْحَسَدُ يَضُرُّ إلَّا فِي الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْحَسَدَ مَذْمُومٌ يَضُرُّ الْحَاسِدَ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَسَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ غِبْطَةٌ وَالْغِبْطَةُ مَحْمُودَةٌ فَمَعْنَى الْحَسَدِ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ أَنْ تَذْهَبَ نِعْمَةُ الْمَحْسُودِ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ وَمَعْنَى الْغِبْطَةِ أَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ وَيَتَمَنَّى ذَهَابَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَهَذَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومٍ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 74 أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا وَاَلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَكْتَسِبُ الْآخِرَةَ بِدُنْيَاهُ وَاَلَّذِي يُعَلِّمُ وَيَقْضِي بِهِ بِالْحَقِّ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ مَا قِيلَ الْحَاسِدُ جَاحِدٌ لِقَضَاءِ الْوَاحِدِ فَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِذَهَابِ ذَلِكَ عَنْهُ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ نِعْمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «لَا يَنْجُو أَحَدُكُمْ مِنْ الْحَسَدِ وَالظَّنِّ وَالطِّيَرَةِ قِيلَ، وَمَا الْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ أَيْ لَا تَتَكَلَّفْ لِإِزَالَةِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ. وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تَحَقَّقْ وَإِذَا نَظَرْت فَلَا تَرْجِعْ» وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ شَهِدْت أَنَا وَرَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِشَهَادَةٍ فَفِيهَ صَاحِبِي عَنْ حُجَّتِهِ أَيْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ وَغَفَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ أَتَفْسُدُ شَهَادَتِي إنْ أَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَالَ لَا فَأَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَضَى لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَخَافَ إنْ أَظْهَرَ حُجَّةَ صَاحِبِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَصْمًا وَيُفْسِدَ شَهَادَتَهُ فَبَيَّنَ لَهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ إذَا لَمْ يُوَكِّلْهُ صَاحِبُهُ بِهِ بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يُظْهِرُ مِنْ حُجَّةِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُدَّعِيَ، وَمَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي إلَّا لِتَعْيِينِ الْمُدَّعِي وَتَوَصُّلِهِ إلَى حَقِّهِ فَلَا يُفْسِدُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعَنْ سَوَّارٍ قَالَ اخْتَصَمَ قَوْمٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا أُرَاهُ فَهِمَ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ اللَّيْلَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ مَا فَهِمْت فَمُرْهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا لِي فَرَجَعُوا إلَيْهِ فَقَضَى لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَفَ عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ أَنْ يُنَبِّهَهُ وَلَا يُجَاهِرَهُ بِذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحِشْمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ لِيُخْبِرَهُ بِذَلِكَ فِي حَالِ خَلْوَتِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأٌ فِي قَضَائِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُظْهِرَ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِيحَاءُ عَنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْخَوْفُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ مِنْ النَّاسِ وَالنَّاسُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ لَأَنْ أَكُونَ قَاضِيًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ خَازِنًا يَعْنِي أَنَّ خَازِنَ بَيْتِ الْمَالِ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْقَاضِي كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْخَازِنَ يَحْفَظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَالَهُمْ وَالْقَاضِي يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَتَمَكُّنُ الْخَازِنِ مِنْ الْمَالِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَمَكُّنِ الْقَاضِي؛ فَلِهَذَا آثَرَ الْقَضَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يُؤْثِرُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا شَدَدْت عَلَى لَهْوَاةِ خَصْمٍ أَيْ مَا مَنَعْته مِنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ، وَمَا قَوَّيْت أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِتَلْقِينِ شَيْءٍ قَطُّ؛ وَلِهَذَا بَقِيَ فِي الْقَضَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَضَافَ رَجُلًا فَلَمَّا مَكَثَ أَيَّامًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 75 قَرُبَ إلَيْهِ فِي خُصُومَةٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَصْمٌ أَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ «فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالضِّيَافَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَيِّفَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ تَنْتَفِي عَنْهُ إذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَأَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَعَمْ قَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي قَالَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمُجْتَهِدُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَالْفَهْمُ هُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَإِنْ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ فَلَهُ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ وَثَوَابُ إظْهَارِ الْحَقِّ بِجُهْدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ حَسَنَةٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مُصِيبًا فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْفِ عَمَلًا يَشْدُدْهُ لِلْحَقِّ مَا لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ»، وَهَذَا فِي كُلِّ عَامِلٍ يَبْتَغِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ تَعَالَى يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّقُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا»، ثُمَّ هَذَا الْوَعْدُ لِلْقَاضِي مَا لَمْ يَظْلِمْ عَمْدًا فَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ. فَإِذَا اشْتَغَلَ بِهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِعَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كَلٌّ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ.» قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنْصِفَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِهِمَا، وَفِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا، وَفِي الْمَنْطِقِ أَيْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَالْإِنْصَافُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْوِيَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُنَاصَفَةِ فَفِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرَاعَاةِ التَّسْوِيَةِ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ إلَّا مَا لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ مِنْ النَّهْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ حُجَّةَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 76 مَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي مِنْ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ مُمْكِنَةٌ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ تَجُرُّ تُهْمَةً إلَيْهِ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَنْطِقِ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً وَجَرَاءَةً عَلَى الْخَصْمِ وَيَطْمَعُ أَنْ يَمِيلَ بِالرِّشْوَةِ إلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ عَلَى عَضُدِ أَحَدِهِمَا وَلَا يُلَقِّنَهُ حُجَّتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْخُصُومَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَاضِيًا وَخَصْمًا مُنَافَاةٌ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ الْخَصْمِ وَسَبَبٌ لِجَرِّ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَلَا يَبْتَعْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ لِلْقَضَاءِ فَلَا يَخْلِطْ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقَضَاءِ وَمُعَامَلَتُهُ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي يُمَاكِسُ عَادَةً، وَذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَيَضَعُ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي قَوْلِهِ لِنَفْسِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيَتِيمٍ، أَوْ مَيِّتٍ مَدْيُونٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِأَجْلِهِ وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ مِنْهُ إذَا بَاشَرَهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي وَلَا يَبْتَاعُ»، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يُسَامِحُونَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، أَوْ طَمَعًا فِيهِمْ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى مَنْ يَأْكُلُ بِدِينِهِ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ إذَا فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ لِيُبَاشِرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُبَاشِرُ، وَلَكِنْ نَقُولُ نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ» الْحَدِيثَ فَقَدْ بَاشَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْقَضَاءِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ حَمَلَ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ أَهْلِهِ إلَى السُّوقِ لِيَبِيعَهُ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ يَحْتَاجُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إلَى مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبْلَ التَّقَلُّدِ وَبِأَنَّ تَقَلُّدَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ عِيَالِهِ وَتُهْمَةُ الْمُسَامَحَةِ مَوْهُومَةٌ، أَوْ هُوَ نَادِرٌ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِأَجْلِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُبَاشَرَةُ هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ عَادَةِ الْقَاضِي فِي كُلِّ وَقْتٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ فَقَلَّمَا يُسَامَحُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ مَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ إنْ صَحَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا يُسَارَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَيَنْكَسِرُ بِسَبَبِهِ قَلْبُ الْآخَرِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 77 وَبِهِ يَنْتَقِصُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ. وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ابْتَدَأَهُمَا فَقَالَ مَالَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْتَدِئَاهُ بِالْمَنْطِقِ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُ السُّكُوتَ لِيَكُونَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ابْتَدَأَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لَتَهَيُّجِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ فَحِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَدْ تَمْنَعُهُمَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَبْتَدِئْ الْقَاضِي بِالْكَلَامِ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فَيَقُولَ مَالَكُمَا، وَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ، وَلَكِنْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمَانِ عَلَيْهِ إذَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ فَإِنْ تَكَلَّمَ صَاحِبُ الدَّعْوَى أَسْكَتَ الْآخَرَ وَاسْتَمَعَ مِنْ صَاحِبِ الدَّعْوَى حَتَّى يَفْهَمَ حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَا مَعًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، وَلِأَنَّ تَكَلُّمَهُمَا مَعًا نَوْعُ شَغَبٍ، وَبِهِ يُنْتَقَصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَالَ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالسُّكُوتِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَاخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي، وَلَكِنَّهُ إذَا نَظَرَ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً يَقُولُ لَهُ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك؛ لِأَنَّ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةَ لَا يُسْتَحَقُّ الْجَوَابُ، وَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى قَالَ أَخْبَرْتَنِي فَمَاذَا أَصْنَعُ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ جَوَابَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَمِسْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إلَّا مُلْتَمِسًا لِذَلِكَ فَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْتِمَاسِ الْآخَرِ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَقَرَّ بِحَقِّهِ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي سَمِعْتَ إنْكَارَهُ، أَوْ هُوَ مُنْكِرٌ فَمَا نَقُولُ. فَإِذَا قَالَ حَلِّفْهُ يَطْلُبُ الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ بَيِّنَةً وَلَا يَسْأَلُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَلْقِينٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ، وَلَكِنْ إذَا طَلَبَ يَمِينَهُ فَحِينَئِذٍ جَاءَ أَوَانُ الِاسْتِحْلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فَسَأَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحُجَجِ مُفْرِغٌ نَفْسَهُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لِمَا الْتَزَمَ مَا لَمْ يُفْرِغْ نَفْسَهُ لِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ الْأَشْغَالِ. فَإِذَا دَخَلَهُ هَمٌّ، أَوْ غَضَبٌ أَوْ نُعَاسٌ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِهِ زَالَ بِمَا دَخَلَهُ فَالْهَمُّ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى لَا يَجِدَ شَيْئًا آخَرَ مَعَهُ فِيهِ مُسَاغًا وَالْغَضَبُ كَذَلِكَ وَالنُّعَاسُ كَذَلِكَ فَالنَّاعِسُ لَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 16 ¦ الصفحة: 78 قَالَ «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَرْقُدْ فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْعُوَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ»، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْقَضَاءِ وَهُوَ مُتَفَرِّغٌ لَهُ مُسْتَمِعٌ غَيْرُ مُعَجِّلٍ لِلْخُصُومِ عَنْ حُجَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يَضُرُّ بِالْخَصْمِ كَمَا أَنَّ تَرْكَ النَّظَرِ فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْحُجَّةِ يَضُرُّ بِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعِ الشَّرِّ وَالْإِضْرَارِ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ قَالَ وَلَا يُخَوِّفُهُمْ فَإِنَّ الْخَوْفَ مِمَّا يَقْطَعُ حُجَّةَ الرَّجُلِ يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَعْجَزُ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَهِيبًا يُحْتَشَمُ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخِيفًا لِلنَّاسِ يَخَافُونَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ بِالْحُجَّةِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا وَفَرَائِصُهُمَا تَرْتَعِدُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَخَافَا فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» الْحَدِيثَ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَهَابُونَهُ حَتَّى قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِمَ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُك فِي الْقَوْلِ لِعُمَرَ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبَتُهُ، أَوْ قَالَ خِفْت دِرَّتَهُ (قُلْنَا) هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَلْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَكَانَ يُشَاوِرُهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ يُقَدِّمُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْأَخْذِ عِنْدَ الشُّورَى عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ثُمَّ كَوْنُ الْقَاضِي مَهِيبًا غَيْرُ مَذْمُومٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِتَخْوِيفِ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْقَاضِي أَنْ يُقْعِدَ عِنْدَهُ أَهْلَ الْفِقْهِ فَقَعَدُوا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَشِيرَهُمْ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فَيُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَهُمْ فَيَكُونَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِ الِاحْتِيَاطِ فَإِنْ دَخَلَهُ حَصْرٌ فِي قُعُودِهِمْ عِنْدَهُ، أَوْ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ جَلَسَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ فِي هَذَا تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ حِشْمَةُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا يُرِيدُهُ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْدَادُ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِحَضْرَةِ الْفُقَهَاءِ جَلَسَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالْعَدَالَةِ فَبِالْفِقْهِ يُؤْمَنُ غَلَطُهُ وَبِالْعَدَالَةِ يُؤْمَنُ جَوْرُهُ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَزُولُ اعْتِدَالُ الْحَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي الْحُجَجِ إلَّا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْحَالِ قَالَ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِنَظَرِهِ فِي الْحُجَجِ وَالْخُصُومِ يَعْنِي إذَا أَتْعَبَ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِ الْخُصُومِ وَرُبَّمَا يَضْجَرُ بِسَبَبِهِ عَلَى بَعْضِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 79 الْخُصُومِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي الْمُدَرِّسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «إنْ النَّفْسَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغَوْا لَهَا ظَرَائِفَ الْحِكْمَةِ»، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ إذَا مَلَّ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ اخْصِمُوا أَيْ خُوضُوا فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ فَتَذَكَّرُوا شَيْئًا مِنْ الْمُلَحِ قَالَ، وَلَكِنَّهُ يَقْعُدُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ عِبَادَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ لَهُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ} [هود: 114]، وَلِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِ الْمَرْءِ يَكُونُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ عَادَةً، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَكَّرَ لِلْخُصُومَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ابْتَكَرُوا قَبْلَ حُضُورِهِ قَالَ أَتَتَظَلَّمُونَ بِاللَّيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِلْقَاضِي (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ النِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ وَالرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْدَحِمُونَ فِي مَجْلِسِهِ، وَفِي اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ هَذَا فِي خُصُومَةٍ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ. فَأَمَّا الْخُصُومَةُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُقَدِّمَهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ فَرِيقٍ يَوْمًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ يَزْدَحِمُونَ عَلَى بَابِهِ وَرُبَّمَا يَقْتَتِلُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مُنَاوَبَةً بَيْنَهُمْ بِالْأَيَّامِ لِيَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَيَحْضُرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَالْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الرِّقَاعِ فَيُجَزِّئَ الْخُصُومَ أَجْزَاءً وَيَكْتُبَ بِاسْمِ كُلِّ فَرِيقٍ رُقْعَةً، ثُمَّ يُخْرِجُ الرِّقَاعَ عَلَى الْأَيَّامِ لِلسَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ، وَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَارَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُقَدِّمَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَلَا يَبْتَدِئَ بِأَحَدٍ جَاءَ قَبْلَهُ غَيْرُهُ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «سَبَقَك بِهَا عُكَّاشَةُ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ أَوَّلًا اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حُجَّتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَاضِي جَالِسًا عِنْدَ ذَلِكَ فَتَأَخُّرُ جُلُوسِ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ اسْتِحْقَاقَهُ وَلَا يَبْطُلُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا تَقَدَّمَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] قَالَ وَيَضَعُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا مِنْ قِبَلِهِ يُقَدِّمُهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَعَرُّفِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، وَفِيمَا يُعَجِّلُ الْقَاضِي عَنْ مُبَاشَرَتِهِ يَسْتَعِينُ بِأَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَكِرَ ذَلِكَ الْأَمِينُ إلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَعْلَمَ مَنَازِلَ النَّاسِ فِي الْحُضُورِ فَلَعَلَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَلْبِسُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا لَا يَطْمَعُ وَلَا يَرْتَشِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ فَكَمَا لَا يَطْمَعُ هُوَ فِيمَا يَقْضِي. فَكَذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 80 يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينُهُ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَدْ جَرَى الرَّسْمُ فِي زَمَانِنَا أَنَّ الْبَوَّابَ عَلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ خَصْمٍ قِطْعَةً لَيُمَكِّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَلَا مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْقَاضِي فِي حَاجَتِهِ فَهُوَ يَرْتَشِي لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ وَيُمَكِّنَهُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَمِينَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يَزْنِي عَلَى بَابِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ الْغُرَبَاءَ مَعَ أَهْلِ الْمِصْرِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْغُرَبَاءُ غَيْرَ كَثِيرٍ فَإِنْ كَثُرُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَشَغَلُوهُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغَرِيبَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ فَرُبَّمَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ. فَإِذَا لَمْ يُقَدِّمْهُ الْقَاضِي رُبَّمَا تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَعَاهُدِ الْغَرِيبِ تَعْظِيمًا لِحَقِّ غُرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْغُرَبَاءَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ضَرَرًا فَإِنَّهُمْ جِيرَانُهُ، وَإِنَّمَا يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَنْظُرَ فِي حَوَائِجِهِ. فَإِذَا كَانَ تَقْدِيمُ الْغُرَبَاءِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ وَيَعُودَ الْمَرِيضَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ «أَنْ يُشَيِّعَ جِنَازَتَهُ وَيَعُودَهُ إذَا مَرِضَ» وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَقَلُّدِهِ الْقَضَاءَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْجَامِعَةَ فَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» قَالَ وَلَا تَجِبُ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ فِي مَكَان؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةُ الْمَيْلِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إنَّ فُلَانًا فِي دَعْوَةِ فُلَانٍ كَلَّمَ الْقَاضِيَ وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ خَصْمِي وَصَانَعَهُ عَلَى رِشْوَةٍ، وَلِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ مِمَّا يَطْمَعُ النَّاسُ بِهِ فِي الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّعْوَةِ الْجَامِعَةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِنْ إيجَادِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجِيبُهُ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إيجَادِهِ لِذَلِكَ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِمَّنْ اعْتَادَ إيجَادَ الدَّعْوَةِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ قَبْلَ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 81 بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ ذِي الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ لَيْسَ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ عَادَةً وَلَا صِدْقَ فِي ذَلِكَ كَالْأَقَارِبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ قَبْلَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ نَهْي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. (قَالَ) وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ إذَا دَخَلَتْ الْبَابَ ضَحِكَتْ الْأُسْكُفَّةُ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ وَجَرَ الصَّدْرِ، أَوْ وَغَرَ الصَّدْرِ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا»، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ لِذَلِكَ كَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ خُصُوصًا مِمَّنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَجَاءَ بِمَالٍ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ مَا بَالُ قَوْمٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ فَيَقْدَمُوا بِمَالٍ وَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَهَلَّا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عِنْدَ حِفْشِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا» وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا قَالَ تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا قَالَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَنَظَرْت أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَكْلِ بِالْقَضَاءِ وَمِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ التُّهْمَةُ وَيَطْمَعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِيُتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ التَّهَادِي بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ عَادَةً، وَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ قَبُولُ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ إذَا دَخَلَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ الْبَابِ خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْلُوَ فِي مَنْزِلِهِ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ كَمَا لَا يُسَارُّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، وَلِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ طَاعَةً لَا يَكُونُ فَوْقَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» فَأَحْسَنُ ذَلِكَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ حَيْثُ تُقَامُ جَمَاعَةُ النَّاسِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَوْضِعُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَهْدِيه إلَى ذَلِكَ مِنْ الْغُرَبَاءِ كَانَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يَقْضِي وَهُوَ يَمْشِي وَيَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 82 ذَلِكَ الزَّلَلِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فَيَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَشْيِ أَوْ السَّيْرِ فَلَا يَتَفَرَّغُ بِالنَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الِاسْتِخْفَافِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا بَأْس بِأَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ لِأَنَّ التُّكَأَةَ نَوْعُ جِلْسَةٍ كَالتَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ وَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْجُلُوسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اتِّكَاؤُهُ أَرْوَحَ لَهُ وَاعْتِدَالُ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَظْهَرُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَدْ نَظَرَ فِي خُصُومَتِهِمَا حِينَ كَانَ مُتَّكِئًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ أَتَاهُ شَيْءٌ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ قَضَى فِيهِ بِمَا أَتَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا أَتَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَقَضَى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ لَهُ قَوْلٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَضَى بِهِ وَقَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ»، وَلِأَنَّ فِيمَا يَبْلُغُهُ عَنْ الصَّحَابِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتِمَالُ السَّمَاعِ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يُفْتُونَ بِهِ تَارَةً وَيَرَوْنَ أُخْرَى، وَفِيهِ أَيْضًا احْتِمَالُ تَرْجِيحِ الْإِصَابَةِ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَقَدْ وُفِّقُوا لِمَا لَمْ يُوَفَّقْ غَيْرُهُمْ بَعْدَهُمْ فَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِيهِ تَخَيَّرَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَحْسَنَهَا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ. فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ فَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو مِمَّا قَالُوا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَارُ أَحْسَنَ الْأَقَاوِيلِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالرِّوَايَةِ فَقَدْ انْقَطَعَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ فَتَعَارُضُ أَقَاوِيلِهِمْ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصِيرَ إلَى التَّرْجِيحِ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ الرُّجْحَانُ فِيهِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ فَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ الْأَقَاوِيلِ شَاءَ؛ لِأَنَّ بِالتَّعَارُضِ لَا تَنْعَدِمُ الْحُجَّةُ فِي أَقَاوِيلِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِأَحْسَنِهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَمَلًا مِنْهُ بِالْحُجَّةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي مَا جَاءَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَقَاسَهُ بِمَا جَاءَ مِنْهُ، ثُمَّ قَضَى بِاَلَّذِي يَجْتَمِعُ رَأْيُهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ. وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 83 {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالِاعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَالْعِبْرَةُ هُوَ الْبَيَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وَالْبَيَانُ يَرُدُّ الشَّيْءَ إلَى نَظِيرِهِ. فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَاوَرَ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِيَقْضِيَ بِهِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إدْرَاكِهِ بِنَفْسِهِ فَلْيَرْجِعْ إلَى مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ كَمَا إذَا احْتَاجَ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ شَيْءٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرَ إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فَأَخَذَ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ رَأَى خِلَافَ رَأْيِهِمْ فَإِنْ اسْتَحْسَنَ وَأَشْبَهَ الْحَقَّ قَضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ رَأْيَهُ أَقْوَى فِي حَقِّهِ مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِ فَلَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ. وَإِذَا قَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ وَقَضَاؤُهُ بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِيَخْتَارَ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ نَظَرَ إلَى أَفْقَهِهِمْ عِنْدَهُ وَأَوْرَعِهِمْ فَقَضَى بِفَتْوَاهُ فَهَذَا اجْتِهَادٌ مِثْلُهُ وَلَا يُعَجِّلُ بِالْحُكْمِ إذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَفَكَّرَ فِيهِ وَيُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَلَا يَسْتَدْرِك ذَلِكَ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالْمَشُورَةِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ تُرْفَعُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُبَّمَا يَتَأَمَّلُ فِي ذَلِكَ شَهْرًا وَيَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ وَالْيَوْمَ يُفْصَلُ فِي الْمَجْلِسِ مَا بِهِ قَضِيَّةٌ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُفَوِّضَةِ مَعْرُوفٌ فَإِنَّهُ رَدَّهُمْ شَهْرًا، ثُمَّ قَالَ أَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ الْحَدِيثَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَأَنَّى وَيُشَاوِرَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ. وَإِذَا قَضَى بِقَضَاءٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَضَى بِهِ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ رَدَّهُ وَأَبْطَلَهُ يَعْنِي إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ، أَوْ لِإِجْمَاعٍ فَالْقَضَاءُ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَهُوَ جَهْلٌ مِنْ الْقَاضِي، وَفِي الْحَدِيثِ «رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ» فَإِنْ كَانَ خَطَأً مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَمْضَاهُ عَلَى حَالِهِ وَقَضَى فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِاَلَّذِي أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقْضِي فِي حَادِثَةٍ بِقَضِيَّةٍ، ثُمَّ تُرْفَعُ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ فَيَقْضِي بِخِلَافِهَا فَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا يُقْضَى وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَفِظْت مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِّ سَبْعِينَ قَضِيَّةً لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ يَقْضِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَأَصْلُهُ فِي التَّحَرِّي لِلْقِبْلَةِ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 84 - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا كَانَ قَضَى بِهِ يَعْنِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَنِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَمْ يَنْقُضْ مَا كَانَ قَضَى بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فَإِنَّ رَأْيَهُ يُعَارِضُ رَأْيَهُمْ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثُمَّ كَانَ يَبْنِي الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا كَانَ يَبْدُو لَهُ، وَقَدْ سَوَّغُوا لَهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَهُ قُلْ لِي يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ أَلَا تَنْظُرُ، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ نَحْرِ الْوَلَدِ وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فَيُمْضِي مَا قَضَى بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ فِي مَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُعَجِّلُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ. فَإِذَا انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْ الْوَحْيِ فِيهِ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ وَصَارَ ذَلِكَ شَرِيعَةً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَنَظِيرُهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُبْطِلُ مَا قَضَى بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُنْهِي مُدَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا قَبْلَ نُزُولِ النَّاسِخِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا كَانَ قَضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّأْيَ لَا يَنْسَخُ الرَّأْيَ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةِ مِنْ النَّارِ» مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْحَنُ أَفْطَنُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَاللَّحْنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفَطِنَةُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ مَا كَانَ حَرَامًا فَيَكُونُ حُجَّةً لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُرَادُ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَدَّعِي الْبَاطِلَ وَيُقِيمُ عَلَيْهِ شُهُودَ الزُّورِ فَالْوَعِيدُ يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِسَبَبِهِ قَالَ وَأَكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ لِلْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْلَمَ الْخُصُومُ قَوْلَهُ فَتَحْتَرِزَ مِنْهُ بِالْبَاطِلِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَبْسِ قَالَ إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَصْلًا وَقَالُوا يُفْتِي فِي الْعِبَادَاتِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 85 غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُهِمٌّ. فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسٍ يُخَافُ الْخَلَلُ فِيهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتِي وَيَقْضِي وَالْخُلَفَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَهُ كَذَلِكَ وَلِلْقَضَاءِ فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ مُلْزِمٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ لِلْخَصْمِ فِيمَا خَاصَمَ فِيهِ إلَيْهِ لِمَا قِيلَ إنَّ الْخَصْمَ إذَا وَقَفَ عَلَى رَأْيِهِ رُبَّمَا اشْتَغَلَ بِالتَّلْبِيسِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُفْتِي لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْخُصُومَةُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَدُهُمَا عَالِمٌ بِالْخُصُومَةِ وَالْآخَرُ جَاهِلٌ بِهَا فَلَمْ يَلْبَسْهُ الْعَالِمُ أَنْ قَضَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ الْخُصُومَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاوِدْهُ فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يَلْبَسْهُ أَنْ قَضَى لَهُ فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ يَعْلَمُ ذَلِكَ نَفْسَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا، وَلَكِنْ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يَقْتَطِعُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ فَقَالَ الرَّجُلُ الْحَقُّ حَقُّهُ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا فَجَلَسَ. وَقَالَ مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَلِيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْقَضَاءِ مَخَافَةَ تَلْبِيسِ بَعْضِ الْخُصُومِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ مَعْصُومٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا فَقَدْ حَلَفَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ارْتَابَ فِي شَيْءٍ مِنْ قَضَائِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَاطَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْمُعَاوَدَةِ حِينَ حَلَفَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّهُ حَقٌّ وَكَانَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ مَالَ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ لِلْغَيْرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّفْظَيْنِ فِي الْوَعِيدِ الثَّانِي أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ» فَكَمَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 86 الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَجَزَاؤُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ أَخْذَ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّلْبِيسِ. (قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ، وَلَكِنْ يَدَعُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ جَائِزَةً قَبِلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ جَائِزَةٍ رَدَّهَا وَلَا يَقُولُ لَهُ اشْهَدْ بِكَذَا فَإِنَّ هَذَا تَلْقِينٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدَا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَرَأَى مَا بِالشُّهُودِ مِنْ الْخَبَرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ فَإِنَّ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ هَيْبَةٌ وَلِلْقَاضِي حِشْمَةٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْ التَّكَلُّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إذَا لَمْ يُعِنْهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مِنْ بَابِ الْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَأُمِرْنَا بِإِكْرَامِ الشُّهُودِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي بِهِمْ الْحُقُوقَ»، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّلْقِينِ يَرْجِعُ إلَى إكْرَامِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَيَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا لِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَهُوَ التَّلْقِينُ الْمَكْرُوهُ، وَفِي مَذْهَبِهِ نَوْعُ رُخْصَةٍ وَالْعَزِيمَةُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ إعَانَةُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ إمَّا صُورَةً، أَوْ مَعْنًى وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ مَعَ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ عَادَةَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْمُحْتَشَمَ إذَا لَقَّنَ أَحَدَهُمْ شَيْئًا تَرَكَ مَا كَانَ قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَقَّنَهُ تَعْظِيمًا لَهُ فَلَا يَأْمُرُ الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ الشَّاهِدُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَدَعُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَقَّنَهُ الْقَاضِي وَالتَّلْقِينُ تَعْلِيمٌ وَالْقَاضِي إنَّمَا جَلَسَ لِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ لَا لِتَعْلِيمِ الشَّاهِدِ؛ فَلِهَذَا أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ. وَلَا يَضُرُّ الْقَاضِيَ أَنْ يُقَدِّمَ الشُّهُودَ جَمِيعًا، أَوْ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ جَانِبُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ يَكُونُ زِيَادَةً وَالْقَاضِي لَا يَتَكَلَّفُ لَهَا إلَّا أَنْ يَرْتَابَ فِي أَمْرِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ مَعَهُمْ فَإِنَّ التَّعَنُّتَ يَخْلِطُ عَلَى الرَّجُلِ عَقْلَهُ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي شَهَادَتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ أَمِينٌ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِيَانَتُهُ لِلْقَاضِي فَلَا يَتَعَنَّتُ مَعَهُمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا اتَّهَمَهُمْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَيْنَ كَانَ هَذَا وَكَيْفَ وَمَتَى كَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَدَفْعِ الرِّيبَةِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا يُفْسِدُ الشَّهَادَةَ أَبْطَلَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْسِدُهَا أَجَازَهَا وَلَا يَطْرَحُهَا بِالتُّهْمَةِ وَالظَّنِّ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 87 قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ» فَمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ سَوَاءٌ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ عِنْدَ السُّؤَالِ اخْتِلَافًا مُفْسِدًا لِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْتِي فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَقَدْ شَهِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصِّدْقِ وَالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» الْحَدِيثَ وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْعُدُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَلِهَذَا كَانَ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُمَا أَفْتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِهِ بِالْكَذِبِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْعُدُولِ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وَقِيلَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ مُحْتَمَلَةٌ فِيهِمَا وَالشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْخَصْمِ فَلَيْسَ لِكُلِّ خَصْمٍ يُبْصِرُ حُجَّتَهُ فَرُبَّمَا يَهَابُ الْخَصْمُ الشُّهُودَ فَلَا يُجَاهِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» فَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَعْدِيلٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَتَعْدِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي، ثُمَّ الْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَدْلٌ وَلِلْبَيَانِ طَرِيقٌ عَدْلٌ جَائِزٌ، وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي مِنْهُمْ الِاسْتِقَامَةَ وَاعْتَقَدَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي التَّعَاطِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَوْقَ خَبَرِ مُزَكًّى، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ هَذَا الدَّلِيلُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ. فَأَمَّا بَعْدَ طَعْنِهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُسْلِمٌ وَدِينُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُجَازِفَ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ فَلِلتَّعَارُضِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُرَجِّحَ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِخَبَرِ الْمُزَكِّي. فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَقَدْ أُمِرَ بِدَرْءِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إنْ وَقَعَ فِيهَا غَلَطٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَبِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ لَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ فَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْمَالُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 88 الشُّبُهَاتِ. وَإِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ فَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ. وَإِذَا سَأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَ مَسْأَلَتُهُ مُزَكَّاةً يَعْنِي أَنَّ الْمُزَكِّيَ إنْ كَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُمْ عُدُولٌ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ فَالْعَدْلُ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْعَبْدِ عَدْلٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ عُدُولٌ أَحْرَارٌ فَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حُرٌّ عَدْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ أَنَّهُ نَفَذَ فَقَدْ بَطَلٌ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَسْتُورِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ مُزَكًّى فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُزَكِّي التَّزْكِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى مَا طَلَبَ بِلَفْظِهِ كَمَا أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَى الْقَاضِي قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ لِسَانَهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُمْ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ وَاِتِّخَاذُ التُّرْجُمَانِ لِلْحَاجَةِ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا جَاءَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُسْلِمَ تَرْجَمَ يَهُودِيٌّ كَلَامَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِبْرَانِيَّةَ وَكَانَ يُتَرْجِمُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِتِلْكَ اللُّغَةِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ وَيُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُعَادُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْجِنَايَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أُمُورِكُمْ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي التَّرْجَمَةَ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ عَدْلٍ وَالْوَاحِدُ لِذَلِكَ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ لِكَلَامِ الْخَصْمِ أَوْ لِشُهُودِ الشَّاهِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي التَّزْكِيَةِ عِنْدَهُمَا تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ عَدَدِ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَمَعْنَى هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْمَعُ مِنْ الْمُتَرْجِمِ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ قَوْلَ الْمُتَرْجِمِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ فَكَانَتْ التَّرْجَمَةُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ. فَكَذَلِكَ الْعَدَدُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِلْزَامِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ كَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 89 لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لَيْسَ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحْلِفُ؛ وَلِهَذَا أُعْظِمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشُّهُودِ فَلِمَكَانِ احْتِمَالِ الْمُوَاضَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ بَيْنَهُمْ شَرَطْنَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا الْمُتَرْجِمُ بِحِيَازَةِ الْقَاضِي فَيَنْعَدِمُ فِي حَقِّهِ مِثْلُ تِلْكَ التُّهْمَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ الْمُتَرْجِمُ مُخَيَّرٌ غَيْرُ مُلْزَمٍ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مُلْزَمًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَاسْتَوَى فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ الشَّهَادَةَ كَاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ فَفِي الْعَدَدِ أَوْلَى وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالرِّقِّ تَبْقَى الْوِلَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ لِذَلِكَ وَمَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَلَكِنْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاحْتِيَاطِ أَقْرَبُ. قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَكْتُبَ مَا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ وَرُبَّمَا يَعْجَزُ عَنْ مُبَاشَرَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَتَّخِذْ كَاتِبًا لِذَلِكَ وَالْكَاتِبُ نَائِبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَهُ فِي الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْكَاتِبُ مِنْ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَلَا يُفَوِّضُهُ إلَّا إلَى مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافُ حَتَّى لَا يُخْدَعَ بِالرِّشْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يُقْعِدْهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ أَمَّا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلِيَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْدَعَهُ بَعْضُ الْخُصُومِ بِالرِّشْوَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي، ثُمَّ يَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلِّ خَصْمَيْنِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّهَادَةِ فِي صَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ وَحْدَهَا، ثُمَّ يَطْوِيهَا وَيَخْرِمُهَا وَيَخْتِمُهَا بِخَاتَمِهِ لِلتَّوَثُّقِ كَيْ لَا يُزَادَ فِيهَا، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهَا خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي شَهْرِ كَذَا فِي سَنَةِ كَذَا حَتَّى يَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهَا مِنْ سَائِرِ الصَّحَائِفِ إذَا اخْتَلَفَتْ بِهَا وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى فَتْحِ الْخَاتَمِ فَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَجْعَلُ خُصُومَةَ كُلِّ شَهْرٍ فِي قِطَمْرٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَالْقِطَمْرُ اسْمٌ لِخَرِيطَةِ الْقَاضِي، وَفِيهِ لُغَتَانِ قِمَطْرَةٌ وَقِطَمْرٌ، وَإِنَّمَا يَتَّخِذُ لِخُصُومَةِ كُلِّ شَهْرٍ خَرِيطَةً عَلَى حِدَةٍ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 90 عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَيَجِدَهَا بِأَدْنَى طَلَبٍ وَيَكْتُبُ التَّارِيخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ وَالْأَصْلُ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبْ إلَى الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُلُوكَ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَرَّخًا فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ وَبَقِيَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا قَالَ وَلِيُبَاشِرْ هُوَ بِنَفْسِهِ مَسَائِلَ الشُّهُودِ فَيَكْتُبُهَا، أَوْ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا فِي السِّرِّ إلَى أَهْلِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ فَيَبْعَثُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَعَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَلَا يَطَّلِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَدَعُ فِي بَابِهَا أَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَانِيَةً، ثُمَّ أَحْدَثَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَزْكِيَةَ السِّرِّ فَقِيلَ لَهُ أَحْدَثْت يَا أَبَا أُمَيَّةَ فَقَالَ أَحْدَثْتُمْ فَأَحْدَثْنَا فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَيَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، ثُمَّ يَحْضُرُ الشُّهُودُ وَالْمُزَكَّوْنَ لِيُزَكُّوهُمْ عَلَانِيَةً فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَكَّيْنَاهُمْ وَهُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ تَرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ وَاكْتَفَوْا بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ إبْقَاءً لِلسِّتْرِ عَلَى النَّاسِ وَتَحَرُّزًا عَنْ الْغَيْبَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَبَعْضِ الشُّهُودِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إذَا مَيَّزُوا الْمَجْرُوحَ؛ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا، وَإِنَّمَا لَا يُطْلِعُ وَاحِدًا مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ كَيْ لَا يَتَوَاضَعَا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْضُ الْخُصُومِ فَيَخْدَعُهُ بِالرِّشْوَةِ أَوْ تُخَوِّفُهُ بَعْضُ الشُّهُودِ فَيُزْكِي الْمَجْرُوحَ لِذَلِكَ وَيُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا اتَّخَذُوا التَّزْكِيَةَ عَمَلًا فَيَشْتَهِرُ الْمُزَكِّي لِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ مِمَّنْ يَقِفُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يَعْرِفُهُ الْخُصُومُ. وَإِذَا أَتَاهُ تَزْكِيَةُ رَجُلٍ مِنْ ثِقَةٍ وَأَتَاهُ مِنْ ثِقَةٍ آخَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَإِنَّ النَّافِيَ مُعَارِضٌ لِلْمُثْبِتِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى التَّزْكِيَةِ عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي خَرَجَ؛ لِأَنَّ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَحْدِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَرَجُلَانِ عَدْلَانِ عَلَى الْجَرْحِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ زَكُّوا اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَالِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا عَرَفَهُ اللَّذَانِ جَرَحَا مِنْ الْعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْجَرْحِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ خَبَرَ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ (قَالَ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَحِلْيَتَهُ وَمَنْزِلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 91 أَوْ فِي دَارِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْأَلَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَنْزِلَهُ؛ لِأَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِحَالِ الْمَرْءِ جِيرَانُهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَلِكَ «الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ كَيْفَ أَنَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلْ جِيرَانَك»، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ جِيرَانَهُ عَنْ حَالِهِ إلَّا إذَا عَرَفَ مَنْزِلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَمَّى رَجُلٌ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَنْزِلَهُ وَيَسْأَلَ عَنْ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُزَكِّي، أَوْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ فَيُزْكِي غَيْرَ مَنْ شَهِدَ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْوَهْمُ عِنْدَ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ تَرْكُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْفِتْنَةِ. وَإِذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ صَحِيفَةً فِيهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ لَا يَحْفَظُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا وَجَدَ ذَلِكَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَهَذَا مِنْهُمَا نَوْعُ رُخْصَةٍ فَالْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ يَعْجَزُ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ؛ وَلِهَذَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَ النِّسْيَانِ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عِنْدَ النِّسْيَانِ. (أَلَا تَرَى) إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7]، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْسَى وَسُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا؛ لِأَنَّهُ يَنْسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {. وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ عِنْدَ نِسْيَانِهِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، ثُمَّ مَا كَانَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا زَائِدَةٌ فِيهِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الْعَزِيمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَنْ يَتَذَكَّرَ إذَا نَظَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْقَلْبِ كَالْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمِرْآةُ لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ بِالْعَيْنِ. فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. فَكَذَلِكَ الْكِتَابُ لِلتَّذَكُّرِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِذْ لَمْ يَتَذَكَّرْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ بِهِ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا بِعِلْمٍ وَبِوُجُودِ الْكِتَابِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ وَالِافْتِعَالِ فِيهِ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي فِي الشَّاهِدِ إذَا وَجَدَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَالثَّالِثُ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ فَوَجَدَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا غَيْرُهُ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْكِتَابَ؛ وَلِهَذَا قُلْت لَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 92 رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ فِي الرِّوَايَةِ الْحِفْظَ مِنْ حِينِ سَمِعَ إلَى أَنْ يَرْوِيَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا» وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ يُعْتَمَدُ خَطُّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَقَالَ الصَّكُّ الَّذِي فِيهِ الشَّهَادَةُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ فِيهِ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ فِي الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ وَجَدَ الْقَاضِي سِجِلًّا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَاجَةَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَمْ يَكُنْ سَجَّلَ فَشَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَعْتَمِدُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَمِدُ ذَلِكَ فَيَقْضِي بِهِ وَعَلَى هَذَا مَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ رَاوِي الْأَصْلِ فَسَمِعَهُ مِمَّنْ يَرْوِي عِنْدَهُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ الْغَيْرِ عَنْهُ كَمَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ شَاهِدُ الْأَصْلِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ ذَلِكَ لِلتَّيْسِيرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَعَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ سَمِعَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ لَا يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَا يَدَعُ الرِّوَايَةَ مَعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فَحَالُ الْقَاضِي كَذَلِكَ. وَمَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ إقْرَارٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ وَلَا مَقْبُولٍ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَضَى بِهِ، وَأَنْفَذَهُ وَهُوَ قَاضٍ يَوْمَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَوِلَايَةُ الْقَاضِي فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ. فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلِئَلَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ»، ثُمَّ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا حِينَ قَضَى بِهَذَا فَلَعَلَّهُ أَنَفَذَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْقَضَاءُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَزْلِ لَا يَكُونُ نَافِذًا وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَسَأَلَهُ عَنْ كَاتِبِهِ فَقَالَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَغَضِبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ ذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ لَا تَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَأَبْعِدُوهُمْ وَأَذِلُّوهُمْ فَاِتَّخَذَ أَبُو مُوسَى كَاتِبًا غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ كَاتِبُ الْقَاضِي مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَهُمْ يَخُونُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِيُفْسِدُوهُ عَلَيْهِمْ (قَالَ) اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران: 118] الْآيَةَ، وَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بحنس. وَقَالَ لَوْ كُنْتَ عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَلِأَنَّ كَاتِبَ الْقَاضِي يُعَظَّمُ فِي النَّاسِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهِمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا كَاتِبًا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ»؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا هُوَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِهِ فَلَا يَخْتَارُ لِذَلِكَ إلَّا مِنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، أَوْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْخُصُومِ إلَى شَهَادَتِهِ فَلَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَلِّفَ الْقَاضِي الطَّالِبَ صَحِيفَةً يَكْتُبُ فِيهَا حُجَّتَهُ وَشَهَادَةَ شُهُودِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَهُ وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَةُ الْقَضَاءِ. فَأَمَّا الْكِتَابَةُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّخَاذُ الصَّحَائِفِ لِذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَمَلِهِ وَكِفَايَتِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَمَا يَتَّصِلُ بِهِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا أَجْرُ كَاتِبِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِكِفَايَةِ الْقَاضِي لِيَحْتَسِبَ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ قَاسِمِ الْقَاضِي. وَإِذَا هَلَكَ ذَكَرَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ مِنْ دِيوَانِ الْقَاضِي فَشَهِدَ عِنْدَهُ كَاتِبَانِ لَهُ أَنَّ شُهُودَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَدْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَشْهَدَ الْكَاتِبَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ. وَإِذَا لَمْ يُشْهِدْهُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ بِمَحْضَرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ وَكِيلِهِ حَتَّى لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنْ زَادُوا، أَوْ حَرَّفُوهُ طَعَنَ فِيهِ وَخَاصَمَ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي نَائِبُهُ وَكَوْنُ الْكَاتِبِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَقْرَبَ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَإِلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي، وَإِنْ كَتَبَهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ وَهُوَ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ خِيَانَتُهُ. وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ كِتَابَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُهَا عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَعْرِفَ هَلْ زَادَ شَيْئًا، أَوْ حَرَّفَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فَيَسْتَقْصِي فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الشَّاهِدِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعَرَبِيَّةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِلَفْظِهِ وَلَا يُحَوِّلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى مَخَافَةَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 94 [بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ، وَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي. فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ فَكَانَ مُحْتَمَلًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الشَّاهِدُ لِلْمَرْءِ فِي حَقِّهِ عَلَى بَلْدَةٍ وَخَصْمُهُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُشْهِدَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجَزُونَ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَةِ الْأُصُولِ وَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ بِالْكِتَابِ إلَى مَجْلِسِ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَتَعَرَّفَ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ عَدَالَتَهُمْ وَيَكْتُبَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَتِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ فَلَمَّا جُعِلَ هَذَا حُجَّةً لِلْحَاجَةِ اُقْتُصِرَ عَلَى مَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمْشِي إلَى ذَلِكَ. فَإِذَا أَتَى الْقَاضِيَ كِتَابُ قَاضٍ سَأَلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ؛ لِأَنَّهُ غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ خَاتَمُهُ وَكِتَابُهُ قَبِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُعْجِبُهُمَا أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا؛ وَلِهَذَا يُخْتَمُ الْكِتَابُ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ يَحْصُلُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ وَالْمَقْصُودُ مَا فِي الْكِتَابِ لَا عَيْنُ الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ وَكُتُبُ الْخُصُومَاتِ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ سِوَى الْخُصُومَةِ فَلِلتَّيْسِيرِ يَطْلُبُ كِتَابًا آخَرَ عَلَى حِدَةٍ. فَأَمَّا مَا يُبْعَثُ عَلَى يَدِ الْخَصْمِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى ذِكْرِ الْخُصُومَةِ وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ (قَالَ) وَلَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْكَاتِبَ يَنْقُلُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 95 أَلْفَاظَ الشَّهَادَةِ كِتَابَةً إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ، ثُمَّ لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ. فَكَذَلِكَ لَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ. فَإِذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرِمَهُ وَيَخْتِمَهُ لِكَيْ لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَ صَاحِبِهِ لِيُتَسَيَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فِي قِمْطَرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي بَعْدَ مَا مَاتَ الْكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ قَدْ انْعَزَلَ حِينَ عُزِلَ، أَوْ مَاتَ فَإِنَّمَا أَتَاهُ كِتَابُ وَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ، أَوْ عُزِلَ بَعْدَ مَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي وَقَرَأَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالشَّاهِدُ عَلَى الشَّهَادَةِ إذَا مَاتَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ. فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْكِتَابِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتَهُ فِي مَعْنَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ، ثُمَّ وَصَلَ إلَى الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَلَ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ جُوِّزَ ذَلِكَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَصْمَ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا قَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ وَإِنْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى قَاضٍ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الشُّهُودَ فِي الْكِتَابِ وَيَنْسُبَهُمْ إلَى آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمَحْدُودَاتُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيُعْرَفُ الْآدَمِيُّ بِالنَّسَبِ وَالِاسْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي تَعْرِيفِهِ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِذَكَرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ فَالْمَقْصُودُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِهَذَا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَإِنْ كَانَ فَهُوَ نَادِرٌ وَيَذْكُرُ قَبِيلَتَهُ أَيْضًا، وَلَوْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ جَازَ أَيْضًا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ بِاسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَيُقَامُ ذِكْرُ الْقَبِيلَةِ مَقَامَ ذِكْرِ الْجَدِّ فَهُوَ الْجَدُّ الْأَعْلَى، وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي إذَا عَرَّفَهُ بِصِنَاعَةٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 96 - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ. وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ وَكَمَا جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ. فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ. وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَ مَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ، وَمَا فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ. فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ. فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يَنْفُذُ كِتَابُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 97 وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَسَيَأْتِيك بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي رُسْتَاقٍ وَلَا قَرْيَةٍ وَلَا كِتَابُ عَامِلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَالْقَاضِي الرُّسْتَاقِ مُتَوَسِّطٌ، وَلَيْسَ بِقَاضٍ فَالْمِصْرُ مِنْ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمِصْرِ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ أَنَّ قَاضِي الْقَرْيَةِ إذَا قَضَى بِشَيْءٍ بَعْدَ تَقْلِيدِ مُطْلَقٍ فَقَضَاؤُهُ نَافِذٌ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ قَاضِي الرُّسْتَاقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا إذَا خَرَجَ قَاضِي الْمِصْرِ إلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ فَقَضَى هُنَاكَ بِالْحُجَّةِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْمِصْرُ وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَخَذُوا بِذَلِكَ قَالُوا أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ضَيْعَةٍ فِي بَعْضِ الْقُرَى فَرَأَى الْقَاضِي الْأَحْوَطَ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْمُشَاهَدَةِ وَيَحْكُمُ عِنْدَ الضَّيْعَةِ أَمَا كَانَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي الرُّسْتَاقِ فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ إحْضَارُ الْخَصْمِ مَعَ الشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فِي الْمِصْرِ، وَلَكِنْ هَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا كِتَابُ قَاضِي مَدِينَةٍ فِيهَا مِنْبَرٌ وَجَمَاعَةٌ، أَوْ كِتَابُ الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَا لَهُ بِمَا كَفَلَ كِتَابٌ مِنْ تِلْكَ تَنْفِيذَ الْقَضَاءِ وَالْأَمِيرُ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَوْ نَفَّذَ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ جَازَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَيْفَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِأَمْرِهِ. فَكَذَلِكَ قَاضِي الْمَدِينَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ فَيُقْبَلُ كِتَابُهُ بِخِلَافِ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى كِتَابِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَا عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَقَلَّ مَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِهِ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ وَمَجْلِسُ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِذَا جَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا أَوْ يَنْسِبَهُ إلَى تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا مَشْهُورَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النِّسْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ النِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَشْهُورًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْفَخِذِ، أَوْ إلَى التِّجَارَةِ اثْنَانِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 98 كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُنْسَبَ إلَى شَيْءٍ يُعْرَفُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَيُّزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ بِحَضْرَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ بِدُونِ التَّعْيِينِ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إلَّا وَاحِدًا فَأَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ قَبِلْتُهُ وَأَبْطَلْتُ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومِ لِلْقَاضِي، وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْقَاضِي وُجُودُهُ وَمَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ لِأَجْلِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ ذُكِرَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ مُطْلَقًا فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَيِّتَ يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ فُلَانٌ الْمَيِّتُ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ تَارِيخِ الْكِتَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ حَيًّا حِينَ كَتَبَ الْقَاضِي، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَاحْتَجَّ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ أَكَانَ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ مُوَرِّثَهُمْ مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ لِفُلَانٍ، وَقَدْ مَاتَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا دُونَ الْحَيِّ، وَإِنْ كَانَ نَسَبَهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أَوْ إلَى تَمِيمٍ أَوْ هَمْدَانَ لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا أَدْنَاهَا إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ قَبِيلَتُهُ عَلَيْهَا الْعَرَّافَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيفُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنِسْبَتِهِ إلَى أَدْنَى الْأَفْخَاذِ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَرَبِيُّ أَوْ نَسَبُوهُ إلَى آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَانَ يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ (قَالَ) إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَشْهُورًا أَشْهَرَ مِنْ الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلَ ذَلِكَ إذَا نَسَبَهُ إلَى تِلْكَ الشُّهْرَةِ فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالشُّهْرَةِ فَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ. ، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى دَارٍ لَيْسَ فِيهَا حُدُودٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ فَفِيمَا لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي التَّعْرِيفُ بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَبْقَى مَجْهُولًا بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا حَدُّوهَا بِحَدَّيْنِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا ذَكَرُوا أَحَدَ حَدَّيْ الطُّولِ وَأَحَدَ حَدِّ الْعَرْضِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَيَكْتَفِيَ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَعْلُومًا فَإِنْ حَدُّوهَا بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ جَازَ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْجَهَالَةِ حِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْحَدَّ الرَّابِعَ وَقِيَاسُ هَذَا بِمَا لَوْ ذَكَرُوا الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَغَلِطُوا فِي أَحَدِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 99 قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ. فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ، أَوْ أَبْلَغُ وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ، ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا. فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ مِنْهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ وَبِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الَّذِي عِنْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أَجَزْتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ. فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ، أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي، وَمَا لَا يُقْبَلُ. (قَالَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ. فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ؛ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عِنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 100 بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ. فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ، وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُ الْقُضَاةِ كَتْبَهُ الْعِنْوَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى عِنْوَانِ الظَّاهِرِ اعْتِمَادٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ الْخَتْمُ فَإِنْ فَتَحَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَكُنْ فِي دَاخِلِهِ اسْمُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِيهِ اسْمُهُمَا دُونَ اسْمِ أَبِيهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي إلَيْهِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا بِالْعِنْوَانِ فِي دَاخِلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ تَعْرِيفُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِنْوَانَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْخَتْمِ يُؤْمَنُ فِيهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفًا تَامًّا يَقْبَلُ الْكِتَابَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا قَبِلَهُ إذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كِنَايَتُهُمَا دُونَ أَسْمَائِهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ فَالتَّعْرِيفُ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَلَى مَا قِيلَ الْمَكْنِيُّ بِأَكْنَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى ابْنِ فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَذَا فَقَدْ يَنْسِبُ الْفُلَانَ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى، وَقَدْ يَنْسِبُ إلَى مَنْ فَوْقَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِابْنِهِ بَنُونَ سِوَاهُ فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا مِثْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَازَ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَلَوْ كَتَبَ اسْمَ الْقَاضِي وَنَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى فَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِلَى الْجَدِّ مَجَازًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى عِنْوَانِهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي دَاخِلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِنْوَانَ الظَّاهِرَ لَيْسَ تَحْتَ الْخَتْمِ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ فِي الْمِصْرِ مَعَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، ثُمَّ اقْتَصَّ الْقِصَّةَ وَجَاءَ بِكِتَابِهِ مَعَهُ فَعَرَفَهُ الْأَمِيرُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ عِنْدَ الْأَمِيرِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَالْمَكْتُوبِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الْكَاتِبِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْمِصْرِ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ فَيُخْبِرَ الْأَمِيرَ بِمَا يُرِيدُ إعْلَامَهُ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَيَشُقُّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ الْأَمِيرَ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ لِيُخْبِرَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ. فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رُقْعَةً وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ بِمِثْلِهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ آخَرَ فَشَرَطْنَا هُنَاكَ شَرَائِطَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَيَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 101 لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، حُجَّةُ الْقَضَاءِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ سُلَيْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَنْ الْقَضَاءِ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي الْقَاضِيَ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ عِيَالِهِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ثَرْوَةٍ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ وَاحْتَسَبَ فِي عَمَلِ الْقَضَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وَالْآيَةُ فِي الْوَصِيِّ وَهُوَ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَرَضُوا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ أَوْصَى إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَرُدَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْحَمُك اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَك وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ كَمَا قَالَ إنَّ لِي مِنْ مَالِكُمْ كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يَأْخُذُ لِثَرْوَتِهِ، ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَالِي لَا أَرْتَزِقُ وَأَسْتَوْفِي مِنْهُ وَأُوفِيهِمْ أُصَبِّرُ لَهُمْ نَفْسِي فِي الْمَجْلِسِ وَأَعْدِلُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُخْصِ سِعْرِ الطَّعَامِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَلَاءِ سِعْرِ الطَّعَامِ فَإِنَّ رِزْقَ الْقَاضِي لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَجْرٍ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْدِقَاءِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ لَوْ احْتَسَبْتَ قَالَ فِي جَوَابِهِ وَمَالِي لَا أَرْتَزِقُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْقَضَاءِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ. فَإِذَا لَمْ يَرْتَزِقْ احْتَاجَ إلَى الرِّشْوَةِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الْكِنْدِيُّ كَانَ يَقْسِمُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ يَتَّخِذُ قَاسِمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْمَوَارِيثِ إذَا بَيَّنَ الْإِبْصَارَ بِمَا يُطَالَبُ بِالْقِسْمَةِ لِيَتِمَّ بِهَا انْقِطَاعُ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ لَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ فَيَتَّخِذُ قَاسِمًا يَسْتَعِينُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَتَّخِذُ كَاتِبًا الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كِفَايَةَ قَاسِمِ الْقَاضِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَكِفَايَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِنْ تَتِمَّةِ مَا انْتَصَبَ الْقَاضِي لَهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ بِأَجْرٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 102 مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا مَعْلُومًا، وَذَلِكَ الْعَمَلُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ يَتِمُّ بِبَيَانِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْقِسْمَةُ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى قَسَّامِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ مَعَ قَسَّامِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْرَهَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ يَتَحَكَّمُ قَسَّامُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَجْرِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَأَيُّمَا قَوْمٌ اصْطَلَحُوا عَلَى قِسْمَةِ قَاسِمٍ آخَرَ جَازَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَا غَائِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ فَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى قَاسِمٍ آخَرَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ، أَوْ غَائِبٌ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى رَأْي الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْغَائِبَ عَاجِزَانِ عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمَا وَالْقَاضِي نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالْقِسْمَةِ، وَفِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ غَائِبٌ فَاسْتَأْجَرُوا قَسَّامًا غَيْرَ قَاسِمِهِ بِأَرْخَصَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي جَازَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَأَلْزَمَهُمْ اسْتِئْجَارَ قَاسِمِهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَجْرِ. ثُمَّ أَجْرُ الْقَاسِمِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَصَاحِبِ النَّصِيبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْأَجْرُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَإِنْ اتَّخَذَ الْقَاضِي جَمَاعَةً مِنْ الْقَسَّامِينَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ الْمَيْلُ إلَى الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَإِذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَاطَعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَدْخُلْ بِقَسْمٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ إذَا شَهِدَ قَاسِمَانِ عَلَى قِسْمَةٍ قَسَمَاهَا بَيْنَ قَوْمٍ بِأَمْرِهِ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ قَدْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ الْعَمَلِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَالدَّعْوَى غَيْرُ الشَّهَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْخُصُومَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ وَفَّيَا الْعَمَلَ، وَإِنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَمَلِ أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ اسْتِيفَاءُ كُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُسْتَوْفِي. وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ عَلَى الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَيْسَ بِقَاضٍ وَالْقَاضِي هُوَ الْمَخْصُوصُ بِأَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْزَامِ. فَأَمَّا الْقَاسِمُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 103 كَغَيْرِهِ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ أَمِينُ الْقَاضِي إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَدْفَعَ مَالًا فَقَالَ قَدْ دَفَعْته، وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ فِي نَزَاهَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاضٍ فَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِقَوْلِهِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ ادَّعَى غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ لَا تُعَادُ لَهُ الْقِسْمَةُ، وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُعَادِلَةُ فِي الْقِسْمَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاسِمَ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ قَاسِمًا ذِمِّيًّا وَلَا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَعْمَى وَلَا فَاسِقًا وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْكَاتِبِ. فَكَذَلِكَ فِي الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا يَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ عَمَلِهِ، وَقَدْ تَحْتَاجُ الْخُصُومُ إلَى شَهَادَةِ الْقَاسِمِ فَلَا يُخْتَارُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ إلَّا مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرُدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ وَجَدَ النَّاسُ لِذَلِكَ مَقَالًا فِي الْقَاضِي يَقُولُونَ لِمَ اخْتَرْته إذَا كُنْتَ لَا تَعْتَمِدُ قَوْلَهُ وَإِذَا رَأَى الْقَاضِي وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ رَجُلًا يَزْنِي أَوْ يَسْرِقُ، أَوْ يُشْرِبُ الْخَمْرَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِاكْتِسَابِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ الَّذِي اسْتَفَادَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ يُقِرُّ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ، ثُمَّ وُلِّيتَ هَلْ تُقِيمُهُ عَلَيْهِ قَالَ لَا حَتَّى يَشْهَدَ مَعِي غَيْرِي فَقَالَ أَصَبْتَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْفِيهَا الْإِمَامُ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَلَوْ اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي الْإِقَامَةِ رُبَّمَا يَتَّهِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْجَوْرِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ وَبِوُجُودِهِ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْقَاضِي فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرَيْهِ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَهُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا يَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 104 فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ وَلِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ. فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِمُعَايَنَتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُعَايَنَتَهُ السَّبَبَ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِهِ، وَهَذَا إذَا رَأَى ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ الَّذِي هُوَ قَاضٍ فِيهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ وَقَبْلَهُ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ تُفِيدُهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ لَا تُفِيدُهُ ذَلِكَ. فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَتَى شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلَهَا، وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك فَقَالَ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ أَنْ يَذْهَبَ حَقِّي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ فَقَدْ اسْتَفَادَ بِهِ عِلْمَ الشَّهَادَةِ وَبِأَنْ اسْتَقْصَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزْدَادُ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ فَوْقَ عِلْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ مُلْزِمٌ وَالشَّهَادَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى وَهُوَ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، ثُمَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عِنْدَهُ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى تُفِيدُهُ عِلْمَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ لَا تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ اسْتَقْصَى شَاهِدُ الْفَرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كَانَ مِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى. فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ عَايَنَ السَّبَبَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى إلَى مِصْرِهِ خُوصِمَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ سَوَاءٌ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ وَهُوَ قَاضٍ، ثُمَّ عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَازَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ ثَانِيًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عُزِلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إلَّا عِلْمُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مَا عُزِلَ سَوَاءٌ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعَزْلِ. فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 105 السَّبَبَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ بِذَلِكَ قَضَى بِهِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ عَلِمَ مِنْهَا عِلْمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ عِلْمُهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ وَإِكْمَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يُمْكِنُ وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الرَّجُلِ الْآخَرِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ بِذَلِكَ. وَإِذَا دَفَعَ الْقَاضِي مَالَ الْيَتِيمِ إلَى تَاجِرٍ فَجَحَدَهُ التَّاجِرِ فَالْقَاضِي مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّاجِرِ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ فِيمَا يَفْعَلُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ مَيِّتٍ فِي دَيْنِهِ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ يَكُونُ خَصْمًا لَا قَاضِيًا. وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُمْ فَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ الْبَيْعَ قَاضَاهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ السَّبَبَ، وَكَذَلِكَ هُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدِي، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ وَيَسَعُ لِلَّذِي سَمِعَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَمِدَ قَوْلَهُ حَتَّى فِي الرَّجْمِ وَالنَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَسَعُ السَّامِعَ إقَامَةُ ذَلِكَ بِمُجَرِّدِ قَوْلِ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَا تَبْلُغُ دَرَجَةُ الْقَاضِي دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحُرْمَةُ النَّفْسِ عَظِيمَةٌ وَالْغَلَطُ فِيهَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْقَاضِي وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي مُلْزِمٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مُلْزِمٌ. فَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ بِالْقَضَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْصِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَتْ الْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ خَبَرِ الْقَاضِي بِهِ لَجَرَى الرَّسْمُ بِإِيجَادِ الْقَاضِينَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ لِصِيَانَةِ الْحُقُوقِ كَمَا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ فِي الشُّهُودِ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِقَاضٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي حُجَّةٌ تَامَّةٌ. وَلَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ فَخَاصَمَهُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا قَضَيْتُ بِهِ عَلَيْك كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَسْئُولٍ بِبَيِّنَةٍ وَلَا مُسْتَحْلَفٍ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْخُصُومَةَ وَالضَّمَانَ عَنْهُ فَيَجِبُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 106 قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَفْسَرَ إذَا كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَالْوَرَعُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ جَوْرِهِ وَمَيْلِهِ إلَى الرِّشْوَةِ وَفِقْهُهُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ، وَإِنْ كَانَ وَرِعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَغْلَطُ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَقِيهًا وَلَمْ يَكُنْ وَرِعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّةِ وَرَعِهِ رُبَّمَا جَارَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْمَسْجِدِ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا وَلَا يَقْتَصُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ عِنْدَنَا (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَالْمَسَاجِدُ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ قَضَائِهِ. وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْقَضَاءَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ»، وَفِي حَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَطَهِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يُعَذَّرَ رَجُلٌ. وَقَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اضْرِبْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِقَامَةِ حَدٍّ عَلَى أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ صَوْتِ الْمَضْرُوبِ بِالْأَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبِ وَالْمَسْجِدُ يُتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا، أَوْ يَجْلِسَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا بَاعَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، أَوْ اشْتَرَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى خَصْمِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْحُكْمِ هُوَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَنْكَرَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ ثَمَنِ النَّاقَةِ مِنْهُ. وَقَالَ هَلُمَّ شَاهِدًا قَالَ لَمْ يَشْهَدْ لِي حَتَّى شَهِدَ خُزَيْمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» الْحَدِيثَ إذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنْ الْكَذِبِ فَمَا ظَنُّك فِي الْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِشَيْءٍ لِنَفْسِهِ وَلَا لِوَلَدِهِ وَنَوَافِلِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِهِمَا وَلَا لِزَوْجَتِهِ وَلَا لِمُكَاتَبِهِ وَمَمَالِيكِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ فَلِئَلَّا يَجُوزَ قَضَاؤُهُ لَهُمْ أَوْلَى وَأَمَّا مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَضَاؤُهُ لَهُمْ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ وَإِذَا عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ، ثُمَّ قَالَ كُنْتُ قَضَيْتُ لِهَذَا عَلَى هَذَا بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَاءَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ مُلْزِمٌ وَهُوَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 107 بَعْدَ الْعَزْلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلًا مُلْزِمًا، وَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ شَاهِدَانِ سِوَاهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ مِنْ إمْضَائِهِ وَإِذَا رُفِعَ قَضَاءُ الْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَزْلِهِ إلَى قَاضٍ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَمْضَاهُ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى نُفُوذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَلَوْ أَبْطَلَهُ الْقَاضِي الثَّانِي كَانَ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَبْطَلَهُ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ النَّصِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ نَفْسِهِ أَبْطَلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ. فَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا»، وَفِي صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ مَذْمُومَةٌ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِنَفْرَةِ النَّاسِ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الْآيَةَ وَالْقَاضِي مَنْدُوبٌ إلَى اكْتِسَابِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ فَلَا يَدَعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ بِهِ، وَأَنْ يَلِينَ حَيْثُ يَنْبَغِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلِينُ فِي الْأُمُورِ وَيَرْفُقُ حَتَّى يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَكُونَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَذَّرَ إلَى كُلِّ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا قَضَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُفَسِّرَ لِلْخَصْمِ وَيُبَيِّنَ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ عَنْهُ حُجَّتَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا فَهِمَ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي عَنْهُ تُهْمَةُ الْمَيْلِ وَيَنْقَطِعُ عَنْهُ طَمَعُ الْخَصْمِ وَالْعَالَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَصُونُ بِذَلِكَ الْخُصُومَ عَنْ الْفِتْنَةِ وَالشِّكَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَّا أَنْ لَا يَتْرُكَ جَهْدَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي أَمَانَتِهِ إلَّا نَادِرًا فَيَتَقَدَّمُ الْقَاضِي إلَى أَعْوَانِهِ وَالْقُوَّامِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ وَالشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعُوا فَيُقَصِّرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّهُمْ يَنُوبُونَ عَنْهُ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهِمْ فَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ أَعْوَانَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبُ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الْمَوْثُوقُ بِهِ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 108 عَفَافِهِ وَصَلَاحِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ الَّتِي يَأْخُذُ مِنْهَا الْكَلَامَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ رَأْيٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالسُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ فَمِثْلُهُ يَضِلُّ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَيُسْأَلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَلَا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْفِقْهِ فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعِيَ مَا سَمِعَهُ، أَوْ لَا يَقُولَهُ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرَبُّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يُقَلِّدَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا عَلِمَ صَلَاحَهُ لِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ عَمَلًا، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَعَمَلُ الْقَضَاءِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ مُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ مَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْأَمَانَةِ أَوْ يَعْجَزُ عَنْ أَدَائِهَا فَلِئَلَّا يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى فَكَمَا لَا يُخْتَارُ لِلْقَضَاءِ إلَّا مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ. فَكَذَلِكَ لِلْفَتْوَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفْتِي، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا إلَّا أَنْ يُفْتِيَ شَيْئًا قَدْ سَمِعَهُ فَيَكُونَ حَاكِيًا مَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ كَلَامٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فِي الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَمَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي الدُّنْيَا إلَّا وَهُوَ مُعْتَبَرٌ لِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ. فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ مِنْ الْكَلَامِ الْبَيَانَ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَقْلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْمُخْبِرِ شَرْطٌ وَالضَّبْطُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْخَبَرِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّبْطُ وَالْفَهْمُ وَالْعَدَالَةُ إلَّا بِذَلِكَ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْزَجِرْ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ الْكَذِبِ أَيْضًا وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّينِ وَهُمْ يُعَادُونَ الدِّينَ الْحَقَّ وَيَسْعَوْنَ فِي هَدْمِهِ بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَشَرَطْنَا الْإِسْلَامَ لِذَلِكَ، وَبَعْدَ مَا اُسْتُجْمِعَ فِي الْقَاضِي هَذِهِ الشَّرَائِطُ لَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِلْمُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِسَانِهِمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَالْقَاضِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ بَعْضِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءُ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 109 وَلَا مُكَاتَبٌ وَلَا عَبْدٌ يَسْعَى فِي شَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُوَلَّى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ كِتَابَةً وَلَا مَسَائِلِهِ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالسَّعْيِ فِي إفْسَادِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا سَافَرَ، أَوْ مَرِضَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا بِأَمْرِ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرَّأْيِ فَلَا يَسْتَخْلِفُ إلَّا بِأَمْرِ مَنْ قَلَّدَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِخْلَافِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. فَإِذَا اسْتَخْلَفَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ خَلِيفَتِهِ إلَّا أَنْ يُنْفِذَ هُوَ قَضَاءَ خَلِيفَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِذُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ بِرَأْيِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاشَرَ التَّصَرُّفَ، ثُمَّ أَجَازَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَ إجَازَتَهُ كَإِنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حُكِّمَ حَكَمًا بَيْنَ خَصْمَيْنِ فَهَذَا وَالِاسْتِخْلَافُ سَوَاءٌ وَقِيلَ هَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَهُ خَلِيفَتُهُ لَا بِحَضْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِرَأْيِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاعَ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَاسْتَشَارَ فِيهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فَأَنْفَذَهُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ. وَإِنْ طَمِعَ الْقَاضِي فِي أَنْ يُصْلِحَ الْخَصْمَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرُدَّهُمَا وَيُؤَخِّرَ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا لَعَلَّهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوا الْخُصُومَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، أَوْ مَرَّتَيْنِ إنْ طَمِعَ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي الصُّلْحِ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ انْتَصَبَ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرُدَّهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ رَدُّهُمْ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا قُلِّدَ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ حُجَّتَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بَيْنَ النَّاسِ بِالتَّسْوِيَةِ. وَإِذَا سَمِعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِذَلِكَ بِسَائِرِ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَلِيلًا وَلَا يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَكَانَ يَفْرُغُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ فَلَا بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ رَجُلًا قَدْ جَاءَ رَجُلٌ غَيْرُهُ قَبْلَهُ لِفَضْلِ مَنْزِلَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَكِنْ يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَبَقَ بِالْحُضُورِ قَدْ اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حَاجَتِهِ فَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 110 يَبْطُلُ حَقُّهُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ»، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا قَالَ {وَاصْبِرْ نَفْسَك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] الْآيَةَ وَنَظَرُ الْقَاضِي لَهُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَفِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَإِنَّمَا يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ بِمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَصْلِ بَعْضِ مَسَائِلِ التَّحْكِيمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَنَذْكُرُ هُنَا مِقْدَارَ مَا ذُكِرَ فَنَقُولُ الْحَكَمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ. فَإِذَا كَانَ أَعْمَى، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ عَبْدًا، أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَرَاضِيهِمَا صَارَ حَكَمًا حَتَّى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ يَمْضِ فِيهِ الْحُكْمُ وَالْحُكُومَةُ. فَإِذَا أَمْضَاهَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا فِي الصُّلْحِ. وَلَوْ دُفِعَ حُكْمُ الْحَاكِمِ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَوَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوَافِقُ الْحَقَّ أُبْطِلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْيُهُ لَا يُوَافِقُ رَأْيَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُهُ بِمَنْزِلَةِ إصْلَاحِ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا بِحُكْمِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةَ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ الْقَاضِي. وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ. وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ فِي إقَامَةِ حَدٍّ، أَوْ تَلَاعُنٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ وَاللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ إلَّا مَنْ يُعَيَّنُ ثَانِيًا وَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ الْقُضَاةُ وَالْأَئِمَّةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُقِيمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَيَّنَ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الشَّهَادَاتِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 111 السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِلْأَدَاءِ الْمُعَايَنَةُ سُمِّيَ الْأَدَاءُ شَهَادَةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَقِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَعْنَى الْحُضُورِ يَقُولُ الرَّجُلُ شَهِدْت مَجْلِسَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْت قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7] وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِلْأَدَاءِ يُسَمَّى شَاهِدًا وَتُسَمَّى أَدَاءَ شَهَادَةٍ، ثُمَّ الْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ)؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ فَالْقَضَاءُ أَوْلَى. وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلْأَحْكَامِ بِالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي»، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا حَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالثَّانِي مَعْنَى إلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ» وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْكَرَامَاتِ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وَقَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ. ثُمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ وَكَمَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْعَدَدِ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ فَفِيهَا بَيَانُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا لَوْ تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُدَّعِي لَيْسَ لَك إلَّا شَاهِدٌ شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» فَإِنْ (قِيلَ) هَذِهِ النُّصُوصُ بَيَانُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ نَفْيِ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَدَدِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَالْمَقَادِيرُ فِي الشَّرْعِ إمَّا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ كَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَهُنَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ مَنْعُ النُّقْصَانِ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فَائِدَةٌ وَحَاشَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَنْصُوصُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، ثُمَّ فِيهِ مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدَدِ أَظْهَرُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 112 مِنْهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَفِي الشَّهَادَةِ مَحْضُ الْإِلْزَامِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ بِخِلَافِ الدِّيَانَاتِ فَإِنَّ فِي الدِّيَانَاتِ الْتِزَامَ السَّامِعِ بِاعْتِقَادِهِ وَالْمُخْبِرُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلْزَامًا مَحْضًا؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَالتَّزْوِيرُ وَالتَّلْبِيسُ فِي الْخُصُومَاتِ يَكْثُرُ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَاتِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ وَالشَّهَادَةُ بَيِّنَةٌ. وَمَعْرِفَةُ عَقْلِ الْمَرْءِ بِاخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِي. وَيَذَرُ وَحُسْنُ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الشَّيْءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْعَقْلِ سِوَى مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَدًّا وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الضَّبْطِ حُسْنُ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَتُعْتَبَرُ صِفَةُ الْكَمَالِ فِيهِ أَيْضًا لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ، أَوْ مُجَازَفَتُهُ فِيمَا يَقُولُ وَيَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فَلِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ. فَالْحُجَّةُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ إلَّا الْعَدَالَةَ. وَالْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ، وَلَيْسَ لِكَمَالِهَا نِهَايَةٌ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُمْكِنُ وَهُوَ انْزِجَارُهُ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا شَرْطُ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ لَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُجْعَلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ شَرْعًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْإِسْلَامُ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِهِ مَعَ كُفْرِهِ إذَا كَانَ مُنْزَجِرًا عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ غَيْرَ أَنَّ خَبَرَهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ السَّعْيَ فِي هَدْمِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَنْعَدِمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَسِوَى هَذَا. يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ أَهْلِيَّةٌ لِلْوِلَايَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَمْلُوكُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ فِي الدِّيَانَات مَقْبُولًا لِمَا فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ وَإِلْزَامُ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ فَشَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ لِلْوِلَايَةِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا شَرَطْنَا الْعَدَدَ وَجَعَلْنَا النِّسَاءَ أَحَطَّ رُتْبَةً فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الرِّجَالِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ «مَضَتْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 113 السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ»، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبًا مِنْ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الضَّلَالَ وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ وَيَقِلُّ مَعَهُنَّ مَعْنَى الضَّبْطِ وَالْفَهْمِ بِالْأُنُوثَةِ إلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وَوَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ تَيْسِيرًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْهَا وَلَا يُقَالُ فَالشُّبْهَةُ فِي شَهَادَةِ الرِّجَالِ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِهِمْ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا فِي الْجِرَاحَاتِ يَعْنِي عِنْدَ إمْكَانِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ، وَذَلِكَ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِلْإِنَاثِ الَّتِي بَلَوْنَا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ قَالَ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لِخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَضْلٌ فِي شَهَادَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خَصَّهُ بِذَلِكَ وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ، ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ وَجَعَلَ يَقُولُ وَاغَدْرَاهُ هَلُمَّ بِهِ شَهِيدًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَا أَشْهَدُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ أَوْفَيْت الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ تَشْهَدُ لِي وَلَمْ تَحْضُرْنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّهَادَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ وَهُوَ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقَوْله تَعَالَى، {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا سِوَى الزِّنَا الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنًى سِوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السِّتْرَ عَلَى الْعِبَادِ وَلَا يَرْضَى بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِي الزِّنَى زِيَادَةُ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ النِّسْبَةَ إلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْأَجَانِبِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَفِي الزَّوْجَاتِ مُوجِبًا لِلِّعَانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْفَوَاحِشِ لِسِتْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمِّهِ هَلَّا سَتَرْته بِثَوْبِك، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ شَيْنُ وَالِي الْيَتِيمِ أَنْتَ، وَفِي قِسْمٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 114 فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ شَهِيدَانِ لِيَكُونَ تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] وَالْآيَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّسَبُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى فِي الْمُدَايَنَاتِ كَثْرَةُ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يُجْعَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ خَاصَّةً وَهِيَ الْأَمْوَالُ وَحُقُوقُهَا. فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا ضَرَرُ شُبْهَةٍ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَبَرَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ تَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حَلِفٌ حَقِيقَةً حَتَّى لَا يُصَارَ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وَلَيْسَ بِحَلِفٍ حَقِيقَةً حَتَّى يَجُوزَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ لَمْ يُعَايِنْ السَّبَبَ وَلَا يَتَيَقَّنُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إنَّمَا فِيهِ تُهْمَةُ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَجْمَعَ. الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ فِيمَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِهِ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَثُبُوتِهِ بِأَدَائِهِمْ لَوْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْضُرْنَ مَحَافِلَ الرِّجَالِ عَادَةً فَلَا تُجْعَلُ حُجَّةً إلَّا فِيمَا تَكْثُرُ فِيهِ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْبُولٌ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا لِتَحْقِيقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ لِلْعِبَادِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 115 الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الرَّجْمِ فَالشَّاهِدُ عَلَى الزِّنَا فِي جُمْلَةِ مَنْ يُرْجَمُ يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ لَا مَحَالَةَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ إذَا ظَهَرَ السَّبَبُ عِنْدَهُ وَظَهَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ إذَا تَأَمَّلْت. وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَمْ يَسْمَعْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالشُّهُودِ بِهِ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُعْلِمُ الْقَاضِيَ حَقِيقَةَ الْحَالِ وَيُمَيِّزُ الصَّادِقَ الْمُخْبِرَ مِنْ الْكَاذِبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَطَرِيقُ الْعَمَلِ الْمُعَايَنَةُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يُعَايَنُ وَالسَّمَاعُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْمَعُ كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الِاسْتِحْلَافِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ فِي الْخُصُومَاتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَا أَنْكَرَ» إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي)؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِي لَك يَمِينُهُ» وَكَمَا لَا يَسْتَحْضِرُ وَلَا يَطْلُبُ الْجَوَابَ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي. فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ وَمَعْنَى جَعْلِ الشَّرْعِ الْيَمِينَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْغَمُوسَ مِنْ الْيَمِينِ مُهْلِكَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ وَجَدَلِهِ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْجَنَّةَ قِيلَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَمِينٌ مُهْلِكَةٌ وَالْمُدَّعِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمُنْكِرَ أَتْلَفَ حَقَّهُ بِجُحُودِهِ فَجَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ يَمِينَهُ حَتَّى تَكُونَ مُهْلِكَةً لَهُ إنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعِي فَالْإِهْلَاكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِهْلَاكِ جَزَاءٌ مَشْرُوعٌ كَالْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ الْيَمِينُ الصَّادِقَةُ فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي شَرْعِ الْيَمِينِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ لَهُ رَأْيٌ فِي تَأْخِيرِ الِاسْتِحْلَافِ فَرُبَّمَا يَرْجُو أَنْ يَحْضُرَ شُهُودُهُ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ خُصُومَتُهُ عِنْدَ قَاضٍ لَا يَرَى قَبُولَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ فَيُؤَخَّرُ اسْتِحْلَافُهُ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْلِفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي. وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْخَصْمُ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْمُدَّعِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 116 هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ، ثُمَّ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلِاسْتِحْلَافِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ حُضُورٌ لِظَاهِرِ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَنْ لَك يَمِينُهُ»، وَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ إنَّمَا يَكُونُ مُتْلِفًا حَقَّ الْمُدَّعِي بِإِنْكَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ حُضُورٌ وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْقَاضِي الْخَصْمَ مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُسْلِمِ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. فَكَذَلِكَ يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ الْمُؤْنَةَ وَالْمَسَافَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَكَيْفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْغَيْرِ كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقْضِيَ عِنْدَ النُّكُولِ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخْذَ الْمَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُسْتَحْلَفُ الْخَصْمُ فِي الْأَخْذِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ. فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِتْلَافِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ وَهُمَا يَقُولَانِ يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فَالنُّكُولُ عِنْدَهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى، وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ يُسْتَحْلَفُ لَا لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ بَلْ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النُّفُوسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ شُرِعَتْ مُكَرَّرَةً لِذَلِكَ، وَإِنَّ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْفَاحِشَةِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْتَحْلَفُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَامِلٌ فِي الْأَطْرَافِ كَهُوَ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِذَا كَانَ مُفِيدًا يَعْمَلُ فِي الْإِبَاحَةِ. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ يَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ فَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِالْقِصَاصِ الَّذِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 117 هُوَ عَيْنُ الْمُدَّعَى كَمَا يُقْضَى بِالْمَالِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ النَّفْسُ، وَمَا دُونَهَا سَوَاءٌ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَيْضًا. (قَالَ) وَلَا يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ يَمِينٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِلنَّفْيِ وَالْمُدَّعِي مُحْتَاجٌ إلَى الْإِثْبَاتِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ لَا نَرُدُّ الْيَمِينَ وَلَا نُحَوِّلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَرَى اسْتِحْلَافَ الشَّاهِدِ وَاسْتِحْلَافَ الرَّاوِي إذَا رَوَى حَدِيثًا كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَا رَوَى لِي أَحَدٌ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا حَلَّفْته غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ أُحَلِّفْهُ وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فَفِي النُّصُوصِ أَمْرُ الْحُكَّامِ بِالْتِمَاسِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِي فَالْيَمِينُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ، ثُمَّ الْحَقُّ قَدْ ثَبَتَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَّةِ فَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَحْصُلُ بِهَا، وَلَوْ ثَبَتَ حَقُّهُ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ لَمْ يَجُزْ اسْتِحْلَافُهُ مَعَ ذَلِكَ. فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ، أَوْ أَقْوَى. فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي بَيْعِهِ نُصْرَةُ الْحَقِّ وَالْإِنْكَارَاتُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ هُوَ النُّكُولُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي إنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ»، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي آدَابِ الْقَاضِي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفْنَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ حَسَنٌ بَعْدَ أَنْ لَا يُحَلِّفَهُ أَكْثَرَ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 118 يَمِينٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ. وَلَا يُحَلِّفُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَلَا يُدْخِلْهُ الْمَسْجِدَ وَحَيْثُمَا يُحَلِّفُهُ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَلَّفَهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ، أَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ يَسْتَحْلِفُ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْتِ وَبِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الرَّوْضَةِ وَالْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحْلِفُونَ عِنْدَ الْبَيْتِ قَالَ أَعَلَى دَمٍ أَمْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ لَقَدْ خِفْت أَنْ يَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِهَذَا الْبَيْتِ، وَهَذَا نَوْعُ مُبَالَغَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ عِنْدَنَا، وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَفِيهِ أَيْضًا بَعْضُ الْحَرَجِ عَلَى الْقَاضِي فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي فَحُجَّتُهُ الْبَيِّنَةُ أَوْ إقْرَارُ الْخَصْمِ أَوْ نُكُولُهُ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَقُولُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ الْقَاضِي أَيْ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ الطَّالِبِ عَنْهُ بِقَضَائِهِ، ثُمَّ إنْ أَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْهُ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَانَ لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْخَصْمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ كَمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَنْظُرَ إلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ بَعْدَهُ. فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الصِّدْقُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ جَوَّزَ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَقُولُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ يُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي إنْكَارِهِ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُخَاصِمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ. فَإِذَا وَجَدَ الْحُجَّةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِهَا وَلَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ إلَّا بِأَمْرِنَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ مِنْ إكْرَامِهِ اسْتِحْلَافُهُ، ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى الْخُصُومَةِ وَلَا خَصْمَ لِلشَّاهِدِ وَكَمَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ فِي الْخُصُومَاتِ تُسْتَحْلَفُ أَهْلُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النُّكُولُ وَهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ. (قَالَ) وَيَحْلِفُ النَّصْرَانِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْأَنْجِيلَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْيَهُودُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 119 مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ حَيْثُ «قَالَ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أُنْشِدُك اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا، وَهَذَا»؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْتَنَعُ مِنْ الْيَمِينِ عِنْدَ التَّغْلِيظِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا لَا يُمْتَنَعُ بِدُونِهِ. وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ، وَلَيْسَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ أَحَدٌ إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ النَّارَ عِنْدَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ وَالنَّارُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ. فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ فَالْمَقْصُودُ النُّكُولُ قَالَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَا يُعَظِّمُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُذْكَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اسْتِحْلَافِ الْمُسْلِمِ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِزَعْمِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فَيَمْتَنِعُونِ مِنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ النُّكُولُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ النَّارِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى تَعْظِيمِ النَّارِ. وَإِذَا كَانَ لَا يُدْخِلُهُ الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَلِئَلَّا يَدْخُلَ الْمَجُوسِيُّ بَيْتَ النَّارِ عِنْدَ الِاسْتِحْلَافِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا أَوْلَى وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَلِّفَ زَوْجَهَا عَلَى الدُّخُولِ بِهَا لِتُؤَاخِذَهُ بِالْمَهْرِ. وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الْمَالَ وَالْعَقْدَ وَالْبَدَلَ يَعْمَلُ فِي الْمَالِ وَلَا يَعْمَلُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحْلَفُ لِدَعْوَى الْمَالِ، وَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِذَلِكَ دُونَ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « الجزء: 16 ¦ الصفحة: 120 لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ»، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَعِنْدَ ظُهُورِ سَبَبِ التُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ، ثُمَّ التُّهْمَةُ تَارَةً تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ الْفِسْقُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتَهُ مُتَّهَمٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ لِلْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ، وَذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُمَا هَوًى يُضِلُّهُ، أَوْ يَصُدُّهُ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ حَدٌّ يُوقَفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهَا فَجُعِلَ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُلْحِقُ الْحَرَجَ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَقِيلَ كُلُّ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَسْتَوْجِبُ بِهَا عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً فَهُوَ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ فَفِي غَيْرِ الْكَبَائِرِ إذَا أَصَرَّ عَلَى ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ فِي دِينِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَإِنْ ابْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَظْهَرَ رُجْحَانَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَانِعُ وَهُوَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ. وَإِذَا ابْتَلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ظَهَرَ رُجْحَانُ دِينِهِ وَعَقْلِهِ عَلَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَقَدْ تَكُونُ التُّهْمَةُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ وَهُوَ وَصْلُهُ خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ يَدُلُّ عَلَى إيثَارِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ يُعْرَفُ بِالْعَادَةِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ الْعُدُولُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْعُدُولِ الْمَيْلُ إلَى الْأَقَارِبِ وَأَبْنَائِهِمْ عَلَى الْأَجَانِبِ فَتَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ وَهُوَ الْعَمَى فَلَيْسَ لِلْأَعْمَى آلَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ تُمْكِنُ تُهْمَةُ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ وَتُهْمَةُ الْغَلَطِ وَتُهْمَةُ الْكَذِبِ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ فِي حَقِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَجْزَهُ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ دَلِيلَ كَذِبِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ.} [النور: 13] إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَبِذَلِكَ نَأْخُذُ وَيُخَالِفُنَا فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ يَجُوزُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ انْزِجَارُهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ وَحُرْمَةُ شَهَادَةِ الزُّورِ بِسَبَبِ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَيْنِ؛ وَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ. فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَيْلِ إلَيْهِ طَبْعًا بَعْدَمَا قَامَ دَلِيلُ الزَّجْرِ شَرْعًا، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 121 بِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أُبَيٍّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا ذِي غَمْرَةٍ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُمُرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ جَدِّهِ زَادَ فِيهِ «وَلَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ»، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ ذُكِرَ «وَلَا مَجْلُودَ حَدٍّ يَعْنِي فِي الْقَذْفِ» وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ شَهِدَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ قَنْبَرٍ عِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِدِرْعٍ لَهُ قَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَكَانَ الْحَسَنِ، أَوْ مَكَانَ قَنْبَرٍ قَالَ لَا بَلْ مَكَانَ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَا «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَقَالَ قَدْ سَمِعْت، وَلَكِنْ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ فَعَزَلَهُ عَنْ الْقَضَاءِ، ثُمَّ أَعَادَهُ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي رِزْقِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ لِلْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُصُوصِيَّةً فِي ذَلِكَ لِمَا خَصَّهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ السِّيَادَةِ وَوَقَعَ عِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ وَهُوَ الْوِلَادُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ حَقِيقَةً فِي حَقِّ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَيَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِلَيْهِ رَجَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ تَمَكُّنُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْخَصْمَيْنِ فِي حَقِّهِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، أَوْ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ لِظُهُورِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ إمَّا لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا، أَوْ لِمَنْفَعَةِ الشَّاهِدِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْمَنَافِعُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ مُتَّصِلَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَدَلِيلُ الْعَادَةِ هُنَاكَ مُشْتَرَكٌ مُتَعَارِضٌ فَقَدْ تَكُونُ الْقَرَابَةُ سَبَبًا لِلتَّحَاسُدِ وَالْعَدَاوَةِ وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْإِخْوَة بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَالِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِخْوَتِهِ فَمَكَانُ التَّعَارُضِ يُظْهِرُ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لَا تُوجَدُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَلَا يُشْكَلُ هَذَا عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ عَنْ إنْصَافٍ. فَأَمَّا فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ يُخَالِفُنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ وَالزَّوْجِيَّةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّنَافُرِ وَالْعَدَاوَةِ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَيْلِ وَالْإِيثَارِ فَهِيَ نَظِيرُ الْإِخْوَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 122 أَوْ دُونَ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْقَطْعَ وَالْأُخُوَّةُ لَا تَحْتَمِلُ وَدَلِيلُ هَذَا الْوَصْفِ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرِيقَيْنِ فِي النَّفْسِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُعْتَقُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا مَلَكَهُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَصِلَةٌ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ عَقْدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالصَّدَاقِ وَالْإِظْهَارِ وَالْأُخْتَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُثْبِتُ أَحْكَامًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَنْزِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ كَشَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَصْلَةِ الزَّوْجِيَّةِ يُمْكِنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدِهَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مَشْرُوعٌ لِهَذَا وَهُوَ أَنْ يَأْلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَمِيلَ إلَيْهِ وَيُؤْثِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا} [الروم: 21] وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الِاتِّحَادِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ؛ وَلِهَذَا «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -»، وَبِهِمَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْمَعِيشَةِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا الِاتِّحَادُ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاتِّحَادِ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ثَابِتٌ عُرْفًا فَالظَّاهِرُ مَيْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ بَلْ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعَادِي وَالِدَيْهِ لِتَرْضَى زَوْجَتُهُ، وَقَدْ تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ أَبِيهَا فَتَدْفَعُهُ إلَى زَوْجِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُدُّ مَنْفَعَةَ صَاحِبِهِ مَنْفَعَتَهُ وَيُعَدُّ الزَّوْجُ غَنِيًّا بِمَالِ الزَّوْجَةِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ غِنًى بِمَالِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَمَّا جَاءَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ عَبْدِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي فَقَالَ مَالُك سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ حُكْمًا اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ مَا قُلْنَا إنَّ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ لِلْوِلَادِ فَإِنَّ الْوِلَادَ تَنْشَأُ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْفَرْعِ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا كَسَرَ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْضِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَثْبُتُ فِي الصَّيْدِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْوِلَادِ فِي حُكْمٍ يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ مَا لَا يُتَصَوَّرُ كَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا زَوْجِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمِلْكِ وَلَا زَوْجِيَّةَ بَعْدَ الْمِلْكِ. فَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ يَكُونُ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَيُلْحَقُ الزَّوْجِيَّةُ فِيهِ بِالْوِلَادِ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ تُقْبَلُ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 123 حُكْمِ الْمَمْلُوكِ لَهُ الْمَقْهُورِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهَا لَهُ، وَذَلِكَ تَنْعَدِمُ فِي شَهَادَتِهِ لَهَا وَاعْتَمَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ شَهِدَ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي دَعْوَى فَدَكَ مَعَ امْرَأَةٍ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضُمِّي إلَى الرَّجُلِ رَجُلًا أَوْ إلَى الْمَرْأَةِ امْرَأَةً فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ دَلِيلَ التُّهْمَةِ تَعُمُّ الْجَانِبَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي يَدِهِ فَمَا لَهَا فِي يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ أَيْضًا فَهُوَ يُثْبِتُ الْيَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ بِكَثْرَةِ مَالِهَا تَزْدَادُ قِيمَةُ مِلْكِهِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ بِالنِّكَاحِ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ مَالِهَا وَكَثْرَةِ مَالِهَا. بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الزَّوْجُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بَلْ رَدَّهَا وَكَانَ لِلرَّدِّ طَرِيقَانِ الزَّوْجِيَّةُ وَنُقْصَانُ الْعَدَدِ فَأَشَارَ إلَى أَبْعَدِ الْوَجْهَيْنِ تَحَرُّزًا عَنْ الْوَحْشَةِ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَعْمَلُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ وَكَرِهَ انْحِسَامَهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا شَهِدَ لَهَا، وَقَدْ قِيلَ إنَّ شَهَادَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهَا لَمْ تُشْتَهَرْ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ أَنَّهُ شَهِدَ لَهَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَلَا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ فَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ لِسَيِّدِهِ وَلَا لِغَيْرِ سَيِّدِهِ وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَعْلَمَ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَكَانَ إذَا قَالَ فِي شَيْءٍ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى كَذَا نَزَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ، وَقَدْ يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا وَزَيْدًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اخْتَلَفَا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْهُ. وَقَالَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْتَقُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَقَالَ زَيْدٌ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَرَأَيْت لَوْ شَهِدَ أَكَانَ تُقْبَلُ بَعْضُ شَهَادَتِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَهَذَا دَلِيلُ الِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا عَلَى أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَ فَأَعَادَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُقْبَلُ فَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ مَعْنَى الْوِلَايَةِ إلَّا هَذَا وَالرِّقُّ يُبْقِي الْوِلَايَةَ فَالْأَصْلُ وِلَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِذَا كَانَ الرِّقُّ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا فِي الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 124 دُعُوا} [البقرة: 282] وَالْعَبْدُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ بَلْ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى. وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» فَمُطْلَقُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ كَالْمَمْلُوكِ لِوَالِدِهِ، وَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِوَالِدِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَوَالِدَتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ حَالَةَ الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ، وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْوِلَادِ فَالْإِخْوَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْيَسَارِ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا اسْتِحْقَاقُ حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَلِزَوْجِ ابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا تَأْثِيرُهَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ فَقَطْ. فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لِلْمُصَاهَرَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّضَاعِ أَوْ دُونَهُ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَإِنْ تَابَ إنَّمَا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُهُ وَبِذَلِكَ يَأْخُذُ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُؤْتِيهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ تُقْبَلْ شَهَادَتُك وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] وَالِاسْتِثْنَاءُ مَتَى يَعْقُبُ كَلِمَاتٍ مَنْسُوقَةً بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَلْدِ فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّ عِنْدَنَا الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَلْدِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْجَلْدَ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَتَوْبَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعْفِيَهُ فَلَا جُرْمَ إذَا اسْتَعْفَاهُ فَعُفِيَ عَنْهُ سَقَطَ الْجَلْدُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فِسْقُهُ، وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْقَذْفِ، أَوْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، أَوْ سِمَةُ الْفِسْقِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ نَفْسُ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَبِاعْتِبَارِ الصِّدْقِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا رَدَّ الشَّهَادَةِ وَلَا تُرَدُّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 125 الشَّهَادَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكَذِبِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْكَذِبِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلِأَنَّ هَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ افْتِرَائِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلِأَنَّهُ نِسْبَةُ الْغَيْرِ إلَى الزِّنَا فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَبِالِاتِّفَاقِ إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا جَائِزَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ وَتُعْتَبَرُ إقَامَةُ هَذَا الْحَدِّ بِإِقَامَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مِنْ وَجْهٍ يُقَامُ تَطْهِيرًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَحَالُهُ إذَا تَابَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ سِمَةُ الْفِسْقِ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ بِدَلِيلِ قَبُولِ خَبَرِهِ فِي الدِّيَانَاتِ؛ وَلِهَذَا قُلْت قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ بِهِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ، وَلِأَنَّ هَذَا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] وَالْأَبَدُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ رَدِّ شَهَادَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَهُمْ أَيْ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَبِالتَّوْبَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] وَمَعْنَاهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبِالتَّوْبَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ شَهَادَتُهُ فِي الْحَوَادِثِ لَا مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ الْمَحْدُودُ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ هُوَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وقَوْله تَعَالَى لَهُمْ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ شَهَادَتُهُمْ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُكَ وَهَذِهِ دَارٌ لَك، وَفِي التَّنْكِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا قُلْنَا دُونَ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَاكَ لَقَالَ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ يُعَادُ مُعَرَّفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مَقَادِيرَ الْحُدُودِ لَا تُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْصُوصِ فَنَقُولُ إنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَصْلُ الْحَدِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لَهُ لَا يَسْقُطُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 126 أَيْضًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَكُونُ حَسَبَهُ مِنْ الْقَاذِفِ إذَا عَلِمَ إضْرَارَهُ وَوَجَدَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْعَجْزُ عَنْ الدَّفْعِ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْقَذْفُ مُوجِبًا جَلْدًا مُؤْلِمًا مُحَرِّمًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: 4] مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَدًّا كَانَ الْمَعْطُوفُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَغْرِيبُ عَامٍ إنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْبِكْرِ، وَلَكِنْ نَقُولُ هُنَاكَ التَّغْرِيبُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ وَهُنَا رَدُّ الشَّهَادَةِ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ قَلْبَهُ كَمَا أَنَّ الْجَلْدَ مُؤْلِمٌ بَدَنَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ، ثُمَّ حُرْمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَذَلِكَ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّارِقِ «اقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوا» فَإِنَّ الْحَسْمَ لَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، ثُمَّ حَرْفُ النَّفْيِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] لَا يَمْنَعُ الْعَطْفَ فَقَدْ يُعْطَفُ النَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ كَمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّمْ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] لَيْسَ بِعَطْفٍ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءٌ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِحُسْنِ نَظْمِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وقَوْله تَعَالَى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] وقَوْله تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَطْفٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ وقَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: 4] نَهْيٌ عَنْ فِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وقَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] إثْبَاتُ وَصْفٍ لَهُمْ فَكَيْفَ تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِيَكُونَ عَطْفًا، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] بَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدَّى اسْتَوْجَبُوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَاجِبِ بِالْجَرِيمَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ عَطْفُ الْجَرِيمَةِ عَلَى الْوَاجِبِ بِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا عَطْفًا لَكَانَ مِنْ الْحَدِّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْتَفِعَ بِالتَّوْبَةِ كَمَا لَا يَرْتَفِعَ بِالْحَدِّ فَلَا تَأْثِيرَ لِلتَّوْبَةِ فِي الْحَدِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 127 وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عِنْدَهُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ تَابَ الْقَاذِفُ، أَوْ لَمْ يَتُبْ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إذَا تَابَ حَتَّى حَرُمَ بِفِسْقِهِ أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّحَرِّي وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ هُوَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُنَا حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ الرَّدُّ دُونَ التَّوَقُّفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْفِسْقِ بَلْ هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ كَمَا قَرَّرْنَا، وَلَوْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَكَانَ فِي الْآيَةِ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي الْبَيَانِ؛ وَلِهَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ، أَوْ أَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ يَصِيرُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَالْمُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا فِي تَعْيِينِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فَتِلْكَ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَابَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ فِيهَا. فَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ فِي جَمِيعِ الشَّهَادَةِ وَبَيَانُ مَا قُلْنَا فِيمَا رُوِيَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالٌ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَبِي بَكْرَةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُك فِي الدِّيَانَاتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ إذَا اُسْتُشْهِدَ فِي شَيْءٍ قَالَ وَكَيْفَ تُشْهِدُنِي، وَقَدْ أَبْطَلَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَتِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَتَمَّ بِهِ حَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ شَهَادَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَمْ تَصِرْ مَرْدُودَةً، وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَتَمَامُ الْحَدِّ يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنْ عَتَقَ الْآنَ، ثُمَّ حَدَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقُولُ إنَّ خَبَرَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فِي الدِّيَانَاتِ تُقْبَلُ وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقُولُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الدِّيَانَاتِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَافِرَ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَهُوَ بِالْعِتْقِ لَا يَسْتَفِيدُ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ صَارَتْ عَدَالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِحَالٍ فَإِنْ (قَالَ) الْقَاذِفُ عِنْدِي لَا يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْأَهْلِيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] مَا يَدُلُّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 128 عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ مَذْهَبُهُ هَذَا مِنْ أَقْوَى دَلِيلٍ لَنَا عَلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا شَهَادَةً لَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] رَدٌّ لِشَهَادَتِهِ بَعْدَ وُجُودِهَا بِالْأَهْلِيَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْمَى فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إنَّهُ أَعْمَى فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَالَةِ فَبِاعْتِبَارِهِمَا يَجِبُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَيَانُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَتَتَعَدَّى وِلَايَتُهُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعَدِّي وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعَدَالَةِ لِانْزِجَارِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ؛ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ هُوَ أَعْمَى، وَقَدْ كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَنْ ابْتَلَى بِذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَفَوَاتُ الْعَيْنَيْنِ كَفَوَاتِ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنْ نَقُولُ يُحْتَاجُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَبَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَدِمَ آلَةَ التَّمْيِيزِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ فَتَتَمَكَّنُ مِنْ شَهَادَتِهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ لَا شَهَادَةَ لِلْأَعْمَى. فَأَمَّا فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ فِي السَّمَاعِ كَالْبَصِيرِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ آلَةِ الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ الصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ أَدَّاهَا وَهُوَ أَعْمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهُ قَدْ صَحَّ بِطَرِيقٍ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْعِلْمِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَاءِ بِاللِّسَانِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ فَتَعْرِيفُ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ يَكْفِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَعْمَى يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ وَلَا يُمَيِّزُهُمَا مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ، وَأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا شَهِدَ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ يُقَامُ ذِكْرُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفْسِرُ أَنَّهُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَانَ بَصِيرًا، أَوْ أَعْمَى، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ حَتَّى لَمْ يَخْفَ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُحْتَمَلُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 129 أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحَدِّ، وَأَنَا أَقُولُ فِي الْحُدُودِ إذَا عَمَى قَبْلَ الْأَدَاءِ، أَوْ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنَّهُ لَا تُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى تُقَامُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى تُهْمَةً يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِمَا وَإِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فِيمَا يَجِبُ إحْضَارُهُ وَآلَةُ هَذَا التَّمْيِيزِ الْبَصِيرُ، وَقَدْ عَدِمَ الْأَعْمَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يُمَيِّزُ بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ، أَوْ بِخَبَرِ الْغَيْرِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَشْهَدَ بِخَبَرِ الْغَيْرِ. فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ تَمْيِيزُهُ بِخَبَرِ الْغَيْرِ وَالْأَعْمَى فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَالْبَصِيرِ إذَا شَهِدَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ زُفِّتَ إلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِيهِ فَالْأَعْمَى يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالنَّسْلِ كَالْبَصِيرِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَفِي الشُّهُودِ كَثْرَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَالْمُدَّعِي، وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ الْإِشَارَةَ تَقَعُ إلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ عِنْدَ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الشَّاهِدَ يُبْتَلَى بِالْعَمَى؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَضْعُفُ بِمَا إذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ وَالْمُدَّعِي مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّاهِدَ يَفْسُقُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ، ثُمَّ هَذَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ مَوْجُودٌ وَكَمْ يُعْتَبَرُ مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهَا فَلَأَنْ لَا يَعْتَبِرَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ خِفَّةِ حُرْمَتِهَا أَوْلَى، ثُمَّ بِمَاذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَقَوْلَ الْمُدَّعِي كَذَلِكَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ أَصْلًا (قَالَ) وَيُتَصَوَّرُ هَذَا فِيمَا إذَا جَاءَ وَهُوَ بَصِيرٌ لِيُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ الْقَاضِي لِسَمَاعِ شَهَادَتِهِ حَتَّى عَمَى، أَوْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ الْوَقْتَ الَّذِي عَمَى هُوَ فِيهِ وَتَارِيخُ الْمُدَّعِي سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ حَتَّى إذَا قَالَ الشَّاهِدُ أُخْبِرُ وَأَعْلَمُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ، ثُمَّ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ مُشْتَبَهٌ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ فَتَتَمَكَّنُ فِي شَهَادَتِهِ تُهْمَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَلَا تَكُونُ إشَارَتُهُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَةِ النَّاطِقِ لَوْ قَالَ أُخْبِرُ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 130 فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: 6] وَالْأَمْرُ بِالتَّوَقُّفِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ لَا يَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ اعْتِقَادِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ يَدُلُّ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي شَهَادَتِهِ فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ فَلِوَجَاهَتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلِمُرُوءَتِهِ يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْعَمَلِ بِهَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ»، وَفِي حَقِّ الْفَاسِقِ أَمْرٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَأَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ وَمَنْ يَكُونُ مُعْلِنًا لِلْفِسْقِ فَلَا مُرُوءَةَ لَهُ شَرْعًا؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا شَهَادَةُ آكِلِ الرِّبَا الْمَشْهُورِ بِذَلِكَ وَالْمَعْرُوفِ بِهِ الْمُقِيمِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ مُحَارِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وَلَكِنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ مُقِيمًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا رِبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَالْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاتِهِ فَقَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِأَكْلِ الرِّبَا مُصِرًّا عَلَيْهِ وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ الْخَمْرِ وَلَا مُدْمِنِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ يُتَّهَمُ بِالشُّرْبِ، وَلَكِنْ لَا يُظْهِرُ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا كَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ أَوْ يَخْرُجُ سَكْرَانَ يَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ فَلَا مُرُوءَةَ لِمِثْلِهِ وَلَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ عَادَةً وَلَا شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ مُخَنَّثًا فِي الرَّدِيِّ مِنْ أَفْعَالِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي كَلَامِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ فَهَذَا عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ «هبت الْمُخَنَّثَ كَانَ يَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ كَلِمَةً شَنِيعَةً أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ» وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ يُطِيرُهُنَّ لِشِدَّةِ غَفْلَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ نَظَرُهُ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنَا مِنْ دُرٍّ وَلَا الدُّرُّ مِنِّي» وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَوْرَاتِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ فِسْقٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ يُمْسِكُ الْحَمَامَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 131 يُطَيِّرُهَا عَادَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْحَمَامِ فِي الْبُيُوتِ مُبَاحٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ بُرُوجَ الْحَمَامَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْغِنَاءِ الَّذِي يُخَادِنُ عَلَيْهِ وَيَجْمَعُهُمْ وَالنَّائِحَةُ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ فِسْقٍ وَيُسْتَخَفُّ بِهِ عِنْدَ الصُّلَحَاءِ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُمْتَنَعُ مِنْ الْمُحَازَقَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا تَابُوا فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَقْطَعَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ أَتُجِيزُ شَهَادَتِي فَقَالَ نَعَمْ وَأَرَاك لِذَلِكَ أَهْلًا وَكَانَ أَقْطَعَ فِي سَرِقَةٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي شَهَادَتِهِ كَانَ لِفِسْقِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَاكَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ تَتَحَقَّقُ جَرِيمَتُهُ وَجَرِيمَةُ هَؤُلَاءِ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَقِّهِمْ تَكُونُ تَطْهِيرًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] الْآيَةُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.» وَإِذَا أَعْمَى الشَّاهِدُ، أَوْ خَرِسَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بَعْدَ مَا شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا. فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بِحُجَّةٍ فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَبْلَ الْقَضَاءِ يُخْرِجُ شَهَادَتَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّ اقْتِرَانَهُ بِالْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ إذَا شَهِدَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُصُولِ يُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ. فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ مَنْ يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَاسِقِ وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ أَغْلَظُ مِنْ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَخْبَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ لَا يُقْبَلُ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِمَا كَانَ مِنْ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا شَكَّ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَتْ جَائِزَةً الجزء: 16 ¦ الصفحة: 132 مَقْبُولَةً، وَلَيْسَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَّلَ فَقَالَ إنَّهُمْ لِلتَّعَمُّقِ فِي الَّذِينَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَوَقَعُوا فِي الْهَوَى، وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ تُهْمَةً الْكَذِبِ بِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ يُعَظِّمُ الذَّنْبَ حَتَّى يَجْعَلَهُ كُفْرًا فَلَا يُتَّهَمُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الِاعْتِقَادِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْكَذِبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْفِسْقِ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاعْتِقَادُهُ هَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ الْمُوجِبِ لِفِسْقِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ أَوْ يَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا مُعْتَقِدًا إبَاحَةَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّوَافِضِ يَسْتَجْبِرُونَ أَنْ يَشْهَدُوا لِلْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ وَيَقُولُونَ الْمُسْلِمُ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَاعْتِقَادُهُ هَذَا يُمْكِنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ. قَالُوا، وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلْهَامَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ ذَلِكَ يُمْكِنُ تُهْمَةَ الْكَذِبِ فَرُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. فَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِلْهَوَى يَدْعُو النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِهِ وَمُتَّهَمٌ بِالنُّقُولِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِتْمَامِ مُرَادِهِ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِهَذَا وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَعَلَى هَذَا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمَا تَحْمِلُهُ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ. فَأَمَّا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تُقْبَلُ لِخُلُوِّهَا عَنْ تُهْمَةِ الْكَذِبِ. فَأَمَّا الْكَذِبُ. فَأَمَّا مَنْ يُعَادِي غَيْرَهُ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الدِّينِ يَمْتَنِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَإِنْ كَانَ يُعَادِيهِ بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَمْرٌ مُوجِبٌ فِسْقَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَائِزَةٌ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ شَهَادَةً عَلَى النَّاسِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَغَيْرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَالْمُجُونُ نَوْعَ جُنُونٍ قَالَ الْقَائِلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ ... مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا ، ثُمَّ لَمَّا جُنَّ تَشْتَدُّ غَفْلَتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْعَدِمُ بِهِ الضَّبْطُ، أَوْ يَقِلُّ وَتَظْهَرُ مِنْهُ الْمُجَازَفَةُ فِيمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَيُتَّهَمُ بِالْمُجَازَفَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَيْضًا. وَشَهَادَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ بَيْنَهُمْ جَائِزَةٌ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 133 مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا»، وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِعُلُوِّ حَالِ الْإِسْلَامِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ»، وَلِأَنَّهُمْ يُعَادُونَ أَهْلِ الشِّرْكِ بِسَبَبِ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إصْرَارُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِلَلِ فَالْيَهُودُ يُعَادُونَ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى يُعَادُونَ الْيَهُودَ بِسَبَبِ هُمْ فِيهِ غَيْرُ مُحِقِّينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {. وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ. وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ.} [البقرة: 113] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَافِرُ فَاسِقٌ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْفَاسِقِ الْمُسْلِمِ وَبَيَانُ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْكَافِرُونَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَالْفِسْقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ يُقَالُ فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا وَسُمِّيَتْ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا وَسُمِّيَ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الدِّينِ تَعَاطِيًا وَالْكَافِرُ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الدِّينِ اعْتِقَادًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فَاسِقٌ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بِالنَّصِّ وَالشَّرْطُ فِي الشَّاهِدِ بِالنَّصِّ أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مَرَضِيًّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا تُقْبَلُ وَكُلُّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَحَدٍ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ بَلْ أَوْلَى فَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْكَافِرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ خَبَرَهُ فِي الدِّيَانَاتِ يُقْبَلُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَافِرِ. وَلِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ. فَإِذَا كَانَ أَثَرُ الْكُفْرِ يُخْرِجُهُ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ فَأَصْلُ الْكُفْرِ أَوْلَى وَقَاسَ بِالْمُرْتَدِّ وَاسْتَدَلَّ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ عَلَى قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي هَذَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ كَافِرًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أَيْ مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ} [المائدة: 106] إلَى قَوْلِهِ {، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ جَوَازُهَا عَلَى وَصِيَّةِ الْكَافِرِ، وَمَا يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ، ثُمَّ انْتَسَخَ فِي لَك فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِانْتِسَاخِ حُكْمِ وِلَايَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِضَرُورَةِ النَّصِّ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 134 انْتِسَاخِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ انْتِسَاخُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَالْوِلَايَةِ «وَرَجْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيَّيْنِ دِينًا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ». وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي ذِمِّيَّيْنِ دِينًا قَالَا يُدْفَعَانِ إلَى أَهْلِ دِينِهِمَا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ حُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَالسَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى هَذَا حَتَّى قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَتَبَّعْت أَقَاوِيلَ السَّلَفِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُجَوِّزْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا أَنِّي رَأَيْت لِرَبِيعَةَ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْمُسْلِمِ وَبَيَانِ الْوَصْفِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَصِحُّ الْأَنْكِحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَالْمُسْلِمُ إذَا خَطَبَ إلَى كِتَابِيٍّ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ. وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ تَعْدِي وِلَايَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَالشَّهَادَةُ نَوْعُ وِلَايَةٍ. فَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ تَثَبَّتَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْمَقْبُولُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ، وَذَلِكَ فِي انْزِجَارِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ وَالْكَافِرُ مُنْزَجِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَاسْمُ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَاءُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ فِي الْمُعْمِلَاتِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] وَلَا يُقَالُ إنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ عِنَادًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْأَحْبَارِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَوَاطَئُوا عَلَى كِتْمَانِ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُبُوَّتِهِ فَلَا شَهَادَةَ لِأُولَئِكَ عِنْدَنَا. فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146] وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِسْقَهُمْ فِسْقُ اعْتِقَادٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْكُفْرِ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ هُمْ يُعَادُونَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّقَوِّي عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ ضَرُورَةٌ، وَلِأَنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 135 الْمُسْلِمِينَ قَلَّ مَا يَحْضُرُونَ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةُ وَالْوَصَايَا فَلَوْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ أَدَّى إلَى إبْطَالِ حُقُوقِهِمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُرَاعَاتِ حُقُوقِهِمْ وَدَفْعِ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ قَبِلْنَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ عَلَى قَضَاءِ قَاضٍ مُسْلِمٍ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ الَّتِي بَيْنَهُمْ فِي الْمَلَاعِبِ فَقَلَّ أَنْ يَتَفَرَّقُوا (قَالَ)؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ لَا يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَبَعْدَ التَّفَرُّقِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يُلَقَّنُونَ الْكَذِبَ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ لَا نُمَكِّنَهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِلَعِبِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جِرَاحَاتُ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِمَنْعِهِنَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِمَا فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ الْفَسَقَةُ مِنْ أَصْحَابِ السُّجُونِ؛ لِأَنَّهُمْ حُبِسُوا بِأَسْبَابِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْعِ. فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ أُمِرْنَا بِمُرَاعَاةِ حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ نَجْعَلَ دِمَاءَهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالَهُمْ كَأَمْوَالِنَا مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ السُّجُونِ لَا يَخْلُونَ عَنْ أُمَنَاءِ السُّلْطَانِ عَادَةً وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ مُعَلًّى عُرْفُ الشَّرِيعَةِ دُونَ عَادَةِ الظَّلَمَةِ وَلَا حُجَّةَ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فَعَابِدُ الْحَجَرِ وَعَابِدُ الْوَثَنِ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ، ثُمَّ الْيَهُودُ يُعَادُونَ النَّصَارَى بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ دَعْوَاهُمْ الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالنَّصَارَى يُعَادُونَ الْيَهُودَ بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إنْكَارُهُمْ نُبُوَّةَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْفَرِيقَانِ يُعَادُونَ الْمَجُوسَ بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إنْكَارُهُمْ التَّوْحِيدَ ظَاهِرًا وَدَعْوَاهُمْ الِاثْنَيْنِ فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَلَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُعَادِي الْبَعْضَ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ فَلَمْ يَصِرْ بَعْضُهُمْ مَقْهُورَ بَعْضٍ لِيَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّقَوُّلِ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ فَقَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبِيدِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْإِجْمَاعَ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِمْ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِمِلْكِهِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ لَهُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَبِي الْمَوْلَى وَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ لِهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 136 لِلْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ وَصْلَةَ الزَّوْجَةِ كَوَصْلَةِ الْوِلَادِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَإِذَا شَهِدَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ، أَوْ الصَّبِيُّ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَهَادَةٍ فَرَدَّهَا، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْكِبَرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً فَالشَّهَادَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً وَالْفِسْقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ. فَإِذَا كَانَ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً فَهِيَ شَهَادَةٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِبُطْلَانِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصِحَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يُشِيرُ إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَيَقُولُ لَعَلَّ الْفَاسِقَ قَصَدَ بِالتَّوْبَةِ تَرْوِيجَ شَهَادَتِهِ فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ وَالصَّغِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ إزَالَةُ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَالْكَافِرُ إذَا شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ تُقْبَلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَدَّى شَهَادَةٌ كَمَا قَرَّرْنَا. وَإِذَا تَحَمَّلَ الْمَمْلُوكُ شَهَادَةً لِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى عَتَقَ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّقِّ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ هُوَ أَهْلٌ لِشَهَادَتِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا تَحَمَّلَ وَشَهِدَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا أَبَانَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَدَّى الشَّهَادَةَ لَهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ كَانَ صَحِيحًا مَعَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ الْحُرُّ لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَةٍ فَرَدَّهَا الْقَاضِي، ثُمَّ أَبَانَهَا وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ شَهِدَ لَهَا تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ شَهَادَةٌ فَالزَّوْجُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ فَرَدَّهُ الْقَاضِي، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً فَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ أَحَدٍ. وَإِذَا شَهِدَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بِنِكَاحٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً فَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَرَدَّهَا الْقَاضِي بِهَا، ثُمَّ أَسْلَمَ فَشَهِدَ بِهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ كَافِرٌ لِكَافِرِ فَرَدَّهَا الْقَاضِي لِتُهْمَةٍ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَرْدُودَ شَهَادَةٌ، وَإِنَّمَا رَدَّهَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ فَبَعْدَ مَا تَرَجَّحَ جَانِبَ الْكَذِبِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا قَطُّ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَاب الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ] الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، أَوْ امْرَأَةٍ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 137 وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى شَهَادَةِ الْوَاحِدِ)؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِيِّ مُعَبَّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولٍ فِي اتِّصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَكَأَنَّهُ حَضَرَ وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرَ هَذَا بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِيِّ غَابَتْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مُلْزِمَةٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَالْعَدَدِ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ جَازَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ فَلَا تَتِمُّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتِمَّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الْفَرْعَيْنِ لَوْ كَانَ أَصْلِيًّا فَشَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَعَلَى شَهَادَةِ صَاحِبِهِ مَعَ غَيْرِهِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِالِاتِّفَاقِ. فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَمَا يَثْبُتُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَثْبُتُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ كَالْإِقْرَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ عَدَدٌ تَامًّ لِنِصَابِ الشَّهَادَةِ وَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ إلَّا عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ. فَإِذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا تَثْبُتُ شَهَادَتُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ حَضَرَ فَشَهِدَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ إذَا شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ تَثْبُتُ شَهَادَتُهُ أَيْضًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى شَهَادَتِهِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِنِصَابٍ تَامٍّ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الْعِلَّةِ وَالْمَرْأَتَانِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَتِمُّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَ الْفَرْعِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْمُعَايَنَةِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَلَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا بِإِشْهَادِ الْآخَرِ إيَّاهُ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي الثَّانِي أَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ؛ وَلِهَذَا لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ حُضُورِ الْأَصْلِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، أَوْ غَيْبَتِهِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ أَصْلًا وَبَدَلًا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ تَوْضِيحُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِيِّ تُثْبِتُ نِصْفَ الْحَقِّ فَلَوْ جَوَّزْنَا مَعَ ذَلِكَ شَهَادَتَهُ وَشَهَادَةَ الْآخَرِ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْحَاصِلِ بِشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا نِصْفُ الْحَقِّ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي كُتُبِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 138 الْقُضَاةِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِيَ كَذَا ضَرَبَ فُلَانًا حَدًّا فِي قَذْفٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي لَا نَفْسُ الْحَدِّ وَفِعْلُ الْقَاضِي مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْعُقُوبَةِ وَإِقَامَةُ الْقَاضِي حَدَّ الْقَذْفِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ إنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْقِطَةٌ لِشَهَادَتِهِ عِنْدَكُمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ (قُلْنَا)، وَلَكِنْ رَدُّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ فَيَكُونُ سَبَبُهُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَهُوَ الْقَذْفُ إلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَمِّمًا لَهُ فَلَا يَظْهَرُ قَبْلَهُ. فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ يُوجِبُ جَلْدًا مُؤْلِمًا وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، وَقَدْ خَرِسَ الْمَشْهُودُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ عَمَى، أَوْ ارْتَدَّ أَوْ فَسَقَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْعِيَّانِ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ. فَأَمَّا الْفَرْعِيُّ يَنْقُلُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي بِعِبَارَتِهِ شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَكَأَنَّ الْأَصْلِيَّ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَشَهِدَ، ثُمَّ ابْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِهَا كَانَ قَضَاءً بِغَيْرِ حُجَّةٍ. فَكَذَلِكَ هُنَا وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ جَائِزَةٌ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَشَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ كَشَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ تُقْبَلُ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ كَالرُّومِيِّ وَالتُّرْكِيِّ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَنْقَطِعُ بِخِلَافِ الْمَنَعَتَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا دَارُ حُكْمٍ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَنَعَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالدَّارِ. فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارِ أَحْكَامٍ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمُنْعِتِ تَخْتَلِفُ بِالدَّارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ مَنْعَاةٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا؛ وَلِهَذَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (قَالَ) وَمَنْ تَرَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعَ مَجَانَةً لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِمَا يَفْسُقُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ فَتَرْكُهَا ضَلَالَةً (أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِنَا مَنْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَخَلَفَ فِيمَا بَيْنَنَا عَلَامَةٌ يُمَيَّزُ بِهَا الْمُخْلِصُ مِنْ الْمُنَافِقِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ فَكُلُّ مَنْ لَقَيْنَاهُ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 139 جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَهِدْنَا بِإِيمَانِهِ وَمَنْ لَقَيْنَاهُ يَتَخَلَّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ شَهِدْنَا بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ ذَلِكَ سَهْوًا وَهِيَ لَا تَتِمُّ شَهَادَتُهُ أَجَزْت شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ سَهْوًا لَا يُوجِبُ فِسْقَهُ؛ لِأَنَّ السَّاهِيَ مَعْذُورٌ فِي بَعْضِ الْفَرَائِضِ دُونَهُ أَوْلَى. وَإِذَا شَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى شَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ لِكَافِرٍ عَلَى كَافِرٍ بِحَقٍّ، أَوْ عَلَى قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَافِرٍ لِمُسْلِمٍ، أَوْ كَافِرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِ بَيَانِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ يَتَيَسَّرُ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَشَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحُجَّتُنَا فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ إلَّا الْإِيمَانُ حَيْثُ قَالَ «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِإِلْزَامٍ لِلْغَيْرِ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ الْتِزَامٌ وَالْتِزَامُ الْمُسْلِمِ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ بِإِيمَانِهِ فَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ تَبَيَّنَ الْوَقْتُ وَلَا يَكُونُ الِالْتِزَامُ فِيهَا ابْتِدَاءً. وَلَوْ شَهِدَ مُسْلِمَانِ عَلَى شَهَادَةِ كَافِرٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِمَا شَهَادَةُ الْكَافِرِ وَهِيَ دُونَ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فِي يَدِهِ أَمَةٌ اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ أَنَّهَا لِكَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ بَهِيمَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أَقْضِي بِهَا عَلَى الْكَافِرِ خَاصَّةً وَلَا أَقْضِي بِهَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي هَذَا لِلْكَافِرِ فِي الْحَالِ وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ بُطْلَانُ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِهَا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ الْمِلْكَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِقَرَارِهِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ يُسْتَحَقُّ مِنْ الْأَصْلِ؛ فَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ بِزَوَائِدِهِ وَيَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْيَمِينِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِلْمُسْلِمِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي ذَلِكَ كَمَا قِيلَ التَّمْلِيكُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِمِلْكٍ حَادِثٍ بَعْدَ شِرَاءِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ الْحَادِثِ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِيهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 140 الْإِقْرَارَ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْمِلْكِ لِلْمُقِرِّ لَهُ ابْتِدَاءً؛ وَلِهَذَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمِلْكٍ حَادِثٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ بَطَلَ بِهَا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ، وَلَكِنَّ الْمُقِرَّ يَصِيرُ مُبَلِّغًا بِإِقْرَارِهِ وَإِتْلَافُهُ لَا يَتَضَمَّنُ انْتِقَاضَ قَبْضِهِ وَبُطْلَانَ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ. فَأَمَّا هُنَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تَصِيرُ يَدُ الْكَافِرِ مُسْتَحَقَّةً مِنْ الْأَصْلِ وَبِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ يَفُوتُ قَبْضُهُ ضَرُورَةً وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ. وَلَوْ مَاتَ كَافِرٌ وَتَرَكَ اثْنَيْنِ وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَشَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِدَيْنٍ أُخِّرَتْ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْكَافِرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ وَبِثُبُوتِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَحِقُّ تَرِكَتُهُ وَتَرِكَتُهُ مَالٌ الِاثْنَيْنِ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ نَصِيبِ الْكَافِرِ مِنْ التَّرِكَةِ دُونَ نَصِيبِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْأَبِ وَجَحَدَ الْآخَرُ. وَلَوْ مَاتَ كَافِرٌ فَادَّعَى مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ دَيْنًا عَلَيْهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَخَذْت بِبَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ وَأَعْطَيْته حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلْكَافِرِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ دَيْنِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ دَيْنَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً عَلَى الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الدَّيْنَيْنِ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْوَارِثَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ. فَأَمَّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْعَيْنِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ دَيْنَ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، وَفِي حَقِّ غَرِيمِ الْكَافِرِ وَدَيْنَ الْكَافِرِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّهِ وَالْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا لَا تَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا ثَابِتًا فِي حَقِّ الْآخَرِ وَدَيْنُ الْآخَرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي حَقِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُقِرِّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ مَعَ الدَّيْنِ الْمُقِرِّ بِهِ فِي الْمَرَضِ تَقَدَّمَ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُقِرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ مَاتَ الْكَافِرُ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا وَأَقَامَ شُهُودًا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي إلْزَامِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْوَصِيُّ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالتَّرِكَةُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ فَبِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ يَدُهُ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ مُسْلِمًا وَوَجْهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 141 الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ تَصَرُّفُ وَلِيِّهِ الْكَافِرِ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ وَالْوَصِيُّ نَائِبٌ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي حَيَاتِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا بِخُصُومَةٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِالدَّيْنِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ إنَّمَا نَصَبَ الصَّبِيَّ لَيَتَدَارَكَ بِهِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا اعْتَبَرْنَا فِيمَا يُقَامُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُجَّةِ لَا حَالُ الْوَصِيِّ. فَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْكَافِرُ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا يَتَصَرَّفَانِ لِأَنْفُسِهِمَا؛ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعَانِ بِعُهْدَةِ التَّصَرُّفِ عَلَى أَحَدٍ فَالِاسْتِحْقَاقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ وَإِيجَابُ الْكِتَابَةِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ لَمَّا بَاشَرَ الْعَقْدَ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمَا كَمَا صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِحْقَاقِ الْكَسْبِ بِإِقْرَارِهِمَا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ كَافِرًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا بِشِرَاءٍ، أَوْ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا تَقُومُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ إيجَابُهُ الْعَقْدَ كَلَامُهُ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ كَإِقْرَارِهِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَجُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْمُعَايَنَةِ. فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عَلَى الْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إلَّا فِيمَا يَنْظُرُ إلَيْهِ الرِّجَالُ الْوِلَادَةُ وَالْعَيْبُ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِلنِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ كَمَا وَصَفَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالنُّقْصَانِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، ثُمَّ الضَّلَالُ وَالنِّسْيَانُ غَلَبَ عَلَيْهِنَّ وَسُرْعَةُ الِانْخِدَاعِ وَالْمَيْلُ إلَى الْهَوَى ظَاهِرٌ فِيهِنَّ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ تُهْمَةٌ فِي الشَّهَادَةِ وَهِيَ تُهْمَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ حُجَّةً تَامَّةً لِذَلِكَ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ»، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 142 فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَيَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ مَشْرُوعَةٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. ثُمَّ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً عَدْلًا عِنْدَنَا وَالْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْمَذْكُورَاتِ فَشَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ حَالَ الرِّجَالِ فِي الشَّهَادَةِ أَقْوَى مِنْ حَالِ النِّسَاءِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْلَى وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ. فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ فِيهِ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ شَهِدَتْ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ شَيْئَانِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الذُّكُورَةُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَيَبْقَى مُعْتَبَرًا كَافِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَظَرَ الْوَاحِدَةِ أَحَقُّ مِنْ نَظَرِ الْمَثْنَى؛ لِأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ فَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ النَّظَرُ إلَّا لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ. وَقَالَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» وَالنِّسَاءُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِهِ الذُّكُورَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ نَظَرَ الرِّجَالِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ وَلَا مُمْتَنَعٍ، وَلَكِنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَحَقُّ. فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ سَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورِيَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْعَدَدِ فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدَةِ أَحَقُّ مِنْ نَظَرِ الْجَمَاعَةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الذُّكُورَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمَمْلُوكَةِ لَيْسَ بِأَخَفَّ مِنْ نَظَرِ الْحُرَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ لَيْسَ بِأَخَفَّ مِنْ نَظَرِ الْمُسْلِمَةِ فَيَنْعَدِمُ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ نُسَلِّمُ أَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَلَكِنْ يَدَّعِي أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسْقِطُ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ. وَفِي الْحَاصِلِ هَذَا أَحَدُ شِبْهِهَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ مِنْ الشَّهَادَةِ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ وَمَعْنَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الذُّكُورَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 143 فِيهِ لَا تُشْتَرَطُ فَوَفَّرْنَا خَطَّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ وَقُلْنَا لِشَبَهِهِ بِالْإِخْبَارِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ شَرْطًا وَيَبْقَى مُعْتَبَرًا احْتِيَاطًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ الْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ لِزِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَاتِ فِيهِ شَرَطْنَا الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي. فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ رَجُلٌ بِأَنْ قَالَ فَأَجَأْتهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي إلَيْهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ عَدْلًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ. فَإِذَا كَانَ ثَبَتَ الْمَشْهُودُ بِهِ هُنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ، وَإِنْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الزِّنَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا فِرَاشٌ قَائِمٌ وَلَا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. فَأَمَّا الِاسْتِهْلَاكُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ عَلَيْهِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ فَلَا أَقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَدْلٍ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِهْلَالَ الصَّبِيِّ يَكُونُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَفِي صَوْتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الضَّعْفِ مَا لَا يَسْمَعُهُ إلَّا مَنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. فَكَذَلِكَ يَرِثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الِاسْتِهْلَالُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، وَفِي السَّمَاعِ مِنْ رِجَالٍ يُشَارِكُونَ النِّسَاءَ. فَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لَا تَكُونُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى جِرَاحَاتِ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَهُوَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ وَالرِّجَالِ لَا يُشَارِكُونَ النِّسَاءَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا قَبِلْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كَشَهَادَتِهِمَا عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 144 [بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدُ الزُّورِ بَعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَيَقُولُ إنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ أَنَا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ) وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ الْقَاضِي يُكْتَفَى فِي شَهَادَةِ الزُّورِ بِالتَّشْهِيرِ وَلَا يُعَزِّرُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُعَاقِبُهُ بِالتَّعْزِيرِ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى حَتَّى يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَلَا يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرَاتِ سَبْعِينَ سَوْطًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي التَّعْزِيرِ فِي حَقِّ شَاهِدِ الزُّورِ فَهُمَا اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُطَافُ بِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى انْتِسَاخِ حُكْمِ التَّسْخِيمِ لِلْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ». فَبَقِيَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ وَالتَّشْهِيرِ بِأَنْ يُطَافَ بِهِ، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ وَإِشْهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالتَّعْزِيرُ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً فَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا عُدِلَتْ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزُّورِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ قُلْنَا يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَمَا يُشْتَهَرُ مِنْ قَضَايَاهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ. فَأَمَّا التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَشَاهِدُ الزُّورِ مَنْ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ دَلِيلُ تَوْبَتِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَيُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ. ثُمَّ فِي التَّشْهِيرِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ وَهُوَ تَعْزِيرٌ لَائِقٌ بِجَرِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ سِوَى مَاءِ الْوَجْهِ وَبِالتَّشْهِيرِ يَذْهَبُ مَاءُ وَجْهِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَ هَذَا تَعْزِيرًا لَائِقًا بِجَرِيمَتِهِ فَيُكْتَفَى بِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ ذَكَرَ تَسْخِيمَ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. فَكَذَلِكَ التَّقْرِيرُ (قَالَ) وَشَاهِدُ الزُّورِ عِنْدَنَا الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا طَرِيقَ إلَى ثَبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 145 لِتُهْمَةٍ أَوْ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ بِالِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ بِتَكْذِيبِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدَ الزُّورِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا الصَّادِقُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ الشَّاهِدُ فَلَعَلَّ الْمَشْهُودَ لَهُ أَرَادَ بِالشَّاهِدِ الْعُقُوبَةَ وَالتُّهْمَةَ فَقَصَّرَ فِي دَعْوَاهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ فَلَعَلَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يُعْرَفُ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى قَتْلٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ مُعَايِنٍ وَالْآخَرُ بِقَوْلٍ مَسْمُوعٍ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ. فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي مَكَانِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان آخَرَ كَالْأَفْعَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَوْلُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ فَبِهَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. وَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْبَيْعِ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي قَرْضِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ كَلَامٌ كُلُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْضِ غَلَطٌ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ فِعْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْمِثْلِ كَالْغَصْبِ وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشُّهُودِ فِي الْغَصْبِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. فَكَذَلِكَ فِي الْقَرْضِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَرْضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ أَقْرَضْتُك لَا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ إيدَاعًا وَقَوْلُهُ أَقْرَضْتُك صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى خَمْسِينَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ دَافِعٍ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا، أَوْ جَارٍّ إلَيْهَا مَغْنَمًا؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ»، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى. وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 146 الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَالنِّكَاحَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا فَنَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ هُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ. وَشَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَفَاوِضَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي تِجَارَتِهِمَا لِلتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا الشَّاهِدُ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبُهُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ فَهُوَ كَشَهَادَةِ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ. فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ بِسَبَبِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا تَتَمَكَّنُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا الصَّدَاقَةُ وَالصَّدِيقُ إذَا كَانَ عَدْلًا عَاقِلًا يَمْنَعُ صَدِيقَهُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَجِيرِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَلشَّرِيك الْآخَرِ وَشَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِأُسْتَاذِهِ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِالثِّقَةِ وَاسْتَحْسَنَ لِمَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِحَالَةِ النَّاسِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى التُّهْمَةِ فَالْأَجِيرُ هُنَا هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ، وَقَدْ ظَهَرَ مِثْلُهُ إلَى أُسْتَاذِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ مَا يَجِبُ لِأُسْتَاذِهِ فَكَأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنْ لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُعِدُّ خَيْرَهُمْ خَيْرَ نَفْسِهِ وَشَرَّهُمْ شَرَّ نَفْسِهِ وَالْأَجِيرُ فِي حَقِّ أُسْتَاذِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَجِيرًا اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً، أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَفِي الزَّمَانِ الَّذِي يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأُسْتَاذِهِ فِي شَيْءٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِ مَالٌ فَشَهِدَ ابْنَاهُ أَنَّ الطَّالِبَ أَبْرَأَ أَبَاهُمَا وَاحْتَالَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُسْقِطَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ أَبِيهِمَا فَدَفَعَهُمَا عَنْ أَبِيهِمَا كَدَفْعِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى غَيْرِ أَبِيهِمَا فَشَهِدَا أَنَّ الطَّالِبَ احْتَالَ بِهِ عَلَى أَبِيهِمَا وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ وَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْمَالِ وَيُلْزِمَانِهِ الْمُطَالَبَةَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا يُسْقِطَانِ بِهَا مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا؛ فَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمَا. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ يَنْصَرِفُ وَاحِدٌ يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ. فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَكَانَ مُدَّعِيَيْنِ فِي ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّالِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ هَذَا وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا أَبْرَأهُمَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 147 وَفُلَانًا مِنْ مَالٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي حَقِّهِمَا دَعْوَى لَا شَهَادَةٌ وَبَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مُغَايَرَةٌ. فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمَا دَعْوَى فِي الْبَعْضِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً مُعْتَبَرَةً فِي الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ وَلَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْبَعْضِ يَشْهَدَانِ لِوَالِدَيْهِمَا وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمُعَلِّمِهِ يُرِيدُ بِهِ التِّلْمِيذُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَابَّةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ هِيَ دَابَّةُ فُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ وَدِيعَةً فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَجَاءَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ هِيَ دَابَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَبِي فَجَاءَ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَشَهِدَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ (قَالَ) إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَوْدَعَهَا أَبَاهُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَإِلَّا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَافِعُ مَغْرَمٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهَا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدِعَ يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَوْدَعَهُ غَاصِبًا كَانَ، أَوْ مَالِكًا فَلَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ هُوَ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِمَالِكِهَا مَا لَمْ تَصِلْ يَدُهُ إلَيْهَا فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ اتِّصَالَهَا إلَى يَدِهِ لِيُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ ضَمَانِهَا فَتَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ الدَّارُ قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُرْفَعَ إلَى قَاضٍ يَرَى الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مُثْبِتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا. رَجُلٌ مَعَهُ شَاةٌ فَمَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ اذْبَحْهَا فَذَبَحَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا أَغَصَبَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَحَدُهُمَا الذَّابِحُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الذَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ دَافِعُ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْمُدَّعِي إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَضْمِينِ الذَّابِحِ وَالذَّابِحُ بِشَهَادَتِهِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ دَفْعَ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهَا إلَى حَقِّهِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ إذَا تَقَرَّرَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ أَنْ يُقَرِّرَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْرُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الذَّابِحِ فَكَانَ دَافِعَ الْمَغْرَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَالِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ يَضْمَنُهُ وَهُوَ لَا يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً فَقَدْ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ. (قَالَ) وَمِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ وَالشَّهَادَةُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ فَإِنَّ النَّفْيَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَصْحَبْ غَيْرَهُ أَنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَيْسَ لَهُ وَهُوَ، وَإِنْ صَحِبَهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ وَرِثَ شَيْئًا فَيَكُونَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 148 مَمْلُوكًا لَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا شَهِدَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَهَادَةٌ هَكَذَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ فُلَانًا لَمْ يَصْنَعْ كَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ مَكَانَ كَذَا، وَإِنْ كَانَ بِمَكَانِ كَذَا فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً. فَإِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الشَّاهِدَ كَاذِبٌ أَوْ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمئِذٍ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَهَذَا نَفْيٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ نَفْيُ كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي يَوْمئِذٍ وَالْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ مِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقٍّ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ فَيَقُولُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَا أُقِيمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ لِي فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ لِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَعْوَاهُ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَكَيْفَ تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمُدَّعِي فَلَأَنْ لَا يَبْطُلَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى. (قَالَ) وَلَوْ قَبِلْت مِثْلَ هَذَا لَقَبِلْت مِنْ الْآخَرِ مِثْلَهَا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا أَنَّهُمْ الْتَزَمَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانِ ابْنِ عَمِّهِ وَوَرَثَتُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلِفُلَانٍ ذَلِكَ الْمَيِّتِ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهَا لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا فَأَنَا أُجِيزُ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّسَبِ وَأَدْفَعُ إلَيْهِ الدَّارَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ اسْتِحْسَانًا) وَهَذِهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْقَضَاءُ وَالْمَوْتُ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِالتَّسَامُعِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ، أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ. فَأَمَّا بِالتَّسَامُعِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَحُكْمُ الْمَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ. فَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَالِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى، وَفِي التَّسَامُعِ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ سَوَاءٌ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالتَّسَامُعِ. فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 149 وَاسْتِحْسَانِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَاتَا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَشْهَدُ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَشْهَدُ أَنَّ شُرَيْحًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قَاضِيًا وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يَقْضُونَ بِهَا عَلَى مَا يُشْتَهَرُ فَإِنَّ النَّسَبَ يُشْتَهَرُ فِيهَا بِالتَّهْنِئَةِ وَالْمَوْتَ بِالتَّعْزِيَةِ وَالنِّكَاحَ بِالشُّهُودِ وَالْوَلِيمَةَ وَالْقَضَاءَ بِقِرَاءَةِ الْمَنْشُورِ فَنَزَلَتْ الشُّهْرَةُ مَنْزِلَةَ الْعِيَانِ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَلَّ مَا يُعَايَنُ سَبَبُهَا حَقِيقَةً فَسَبَبُ النَّسَبِ الْوُلَاةُ وَلَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْقَابِلَةُ وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ السُّلْطَانِ وَلَا يُعَايِنُ ذَلِكَ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا قَلَّ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْيَدُ وَهُوَ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ تَبْقَى بَعْدَ انْقِضَاءِ قُرُونٍ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِانْقِضَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ جَائِزَةٌ، وَلَكِنْ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَقْفِ يُشْتَهَرُ. فَأَمَّا شَرَائِطُهُ لَا تُشْتَهَرُ وَلَا بُدَّ لِلشَّاهِدِ مِنْ نَوْعِ عِلْمٍ لِيَشْهَدَ فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلٌ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حَتَّى يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ لِئَلَّا يَقُولَ الْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ الِاشْتِهَارُ وَلَا يَتِمُّ شَرْعًا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ هُنَا بِالِاشْتِهَارِ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا فَالِاشْتِهَارُ عُرْفًا بِأَنْ يَعْلَمَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَالِاشْتِهَارُ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِعْلَانَ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ، وَيَكُونَ ذَلِكَ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الرَّجُلَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي. فَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فَقَدْ وُجِدَ الْإِشْهَادُ عِنْدَهُ شَرْعًا وَوِلَايَةُ الشَّهَادَةِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ. فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ بِهِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْلَى وَلَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ وَانْتَسَبَ لَهُ وَأَقَامَ مَعَهُ دَهْرًا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَى مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ يَشْهَدَانِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ نَوْعُ عِلْمٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 150 عَلَيْهِ مُعَايَنَةُ السَّبَبِ وَلَوْ نَظَرَ إلَى رَجُلٍ مَشْهُودٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ لِحُصُولِ نَوْعِ عِلْمٍ لَهُ بِالِاشْتِهَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى إنْسَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ قَاضِيًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ بِذَلِكَ الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لَا بِالتَّكَلُّمِ وَالْمُخَالَطَةِ. فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ لَهُ بِالْإِشْهَادِ حَلَّ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ حَتَّى يَلْتَقُوا إلَى أَبِ وَاحِدٍ وَهُوَ عَصَبَتُهُ وَأَقَارِبُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ قَضَيْت لَهُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْوِرَاثَةِ مُفَسَّرًا بِالْحُجَّةِ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَإِنَّ هَذَا أَبُوهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت الْمِيرَاثَ لِهَذَا وَأَبْطَلْت الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّابِتَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ أَقَامَ الثَّانِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ وَنَسَبَهُ إلَى أب آخَرَ وَقَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ عَمُّهُ إلَى أب وَاحِدٍ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ أُحَوِّلْ النَّسَبَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ فَخِذٍ وَمِنْ أب إلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ الَّذِي جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِطَاعِنَةٍ فِي الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِلْأُولَى، وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى تُرَجَّحُ الْأُولَى لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ وَالْقَضَاءُ النَّافِذُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ بِتَارِيخٍ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِهِ بِذَلِكَ التَّارِيخِ أَيْضًا لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ هَذَا أَعْتَقَ فُلَانًا، وَأَنَّهُ مَوْلَاهُ وَعَصَبَتُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ الْمُعْتَقَ وَسَمِعَ الْعِتْقَ مِنْهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكَاهُ وَلَمْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ إذَا شَهِدُوا عَلَى وَلَاءٍ مَشْهُورٍ فَهُوَ كَشَهَادَتِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِطَرِيقِ التَّسَامُعِ وَالشُّهْرَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 151 جَائِزَةٌ. فَكَذَلِكَ عَلَى الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» (أَلَا تَرَى) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ. ثُمَّ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْوَلَاءِ يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ قَرْنٍ كَالْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ تَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَاءِ وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِانْتِمَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْعِتْقَ إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ كَالْبَيْعِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ النَّاسُ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ فِيهِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ لَا يَقْتَرِنُ لِسَبَبِ الْوَلَاءِ مَا يُشْتَهَرُ بِهِ فَالْإِنْسَانُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا دُونَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْعِتْقُ نَافِذٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِأَسْبَابِهَا مَا يُشْتَهَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ أَبَا فُلَانٍ، وَأَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ عَصَبَةَ فُلَانٍ الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَةَ فُلَانٍ الْمُعْتَقِ فَإِنِّي لَا أُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى يَنْسُبَا الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَتُهُ إلَى أب وَاحِدٍ يَلْتَقِيَانِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُمَا بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى سَمَاعِ الْعِتْقِ مِنْ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ أَنَّ الْمُعْتَقَ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَهُ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ وَلَا يَعْلَمَانِ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ لَهُ وَلَا وَلَاءَ سِوَاهُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِالْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُفَسِّرُوا بِنَسَبِ الْوِرَاثَةِ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُفَسَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَهُ بِمَا ذُكِرَ غَيْرَ أَنَّ فِي النَّسَبُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّسَامُعِ مَقْبُولَةٌ، وَفِي الْوَلَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَسْمَعُوا الْعِتْقَ مِنْ الْمُعْتَقِ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا بَيَّنَّا قَالَ وَلَسْت أُكَلِّفُهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي إلَّا بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يُزَاحِمُ أَوْ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ وَارِثًا مَعَ ثُبُوتِ مَا فَسَّرَ الشُّهُودُ مِنْ السَّبَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُمْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ نَفْيٌ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَوْ كَلَّفَهُمْ الْقَاضِي أَنْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَكَلَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَطَطًا وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ (فَقَالَ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ عَنَتٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَإِنْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَهَذَا يَكْفِي وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 152 شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ لَا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشُّهُودُ مُفَسَّرًا إلَّا أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَلَوَّمَ فَرُبَّمَا يَظْهَرُ وَارِثٌ آخَرُ مُزَاحِمٌ لَهُ أَوْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ كَفَوْا الْقَاضِيَ مُؤْنَةَ التَّلَوُّمِ. وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فَتَحَرَّزُوا عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ كَانُوا مُجَازِفِينَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّزُوا بِقَوْلِهِمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُرَادُهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ فَمَا يَكُونُ مِنْ سِبَابِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا بِأَرْضِ كَذَا وَكَذَا غَيْرُ فُلَانٍ جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَقُولُوا مُبْهَمَةً لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَخْصِيصِهِمْ مَكَانًا إيهَامًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَرَأَيْت لَوْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ أَكَانَ يَقْتَضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مُبْهَمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَلَدَهُ كَذَا وَمَوْلِدَهُ كَذَا وَمَسْقَطَ رَأْسِهِ كَذَا وَلَا نَعْلَمُ لَهُ بِهَا وَارِثًا غَيْرَهُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثًا آخَرَ فِي مَكَان آخَرَ، ثُمَّ تَخْصِيصُهُمْ هَذَا الْمَكَانَ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُ الْمَرْءَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَهُوَ، وَمَا لَوْ أَطْلَقُوا سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُمَا أَنَّ هَذَا إيهَامُ فُلَانٍ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَنْطُوقَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ لَمَّا مَاتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ قَبِيلَتِهِ هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا قَالُوا لَا إلَّا أَنَّ ابْنَ أُخْتٍ لَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لِأَبْنِ أُخْتِهِ ابْنِ لُبَانَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ فِيهِمْ وَارِثًا وَنَسَبًا وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَعَلْت الْوَلَاءَ بَيْنَهُمَا وَالْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَلَاءُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِالنَّسَبِ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نَسَبِهِ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ، أَوْ يُجْعَلَ الْوَلَاءُ كَالْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَضَيْت لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يُشَارِكْ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ وَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ، ثُمَّ فِي النَّسَبِ إذَا تَرَجَّحَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى بِالْقَضَاءِ لَمْ تُقْبَلْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 153 فِي الْوَلَاءِ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَ أُمَّهُ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَ أَبَاهُ فُلَانًا قَبْلَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ وَالْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا ذَلِكَ حَكَمْنَا بِجَرِّ الْوَلَاءِ إلَى قَوْمِ الْأَبِ. فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كَانَ قَضَاءً بِالْوَلَاءِ لِمُعْتَقِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ الْوَلَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُحَوَّلِ لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمَنْفِيِّ. فَإِذَا أَثْبَتَ الثَّانِي الدَّلِيلَ الْمُحَوَّلَ بِبَيِّنَتِهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْوَلَاءِ وَالْمِيرَاثِ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى يَتَرَجَّحُ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ نَقْضَ الْقَضَاءُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ لَا يَجُوزُ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى مَوْتِ رَجُلٍ وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَايِنَا ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إذْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَانِيَا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذَا كَانَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ بِمَا يَعْلَمَانِهِ بِالشُّهْرَةِ، وَإِنْ قَالَا نَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَاتَ أَجَزْت ذَلِكَ وَإِلَّا اسْتَفْسَرَهُمَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يَسْتَفْسِرَانِ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِذَلِكَ بِظَاهِرِ الْيَدِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ نَحْنُ دَفَنَّاهُ، أَوْ شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ فَهَذَا مِنْهُمَا شَهَادَةٌ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُدْفَنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ. وَإِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ الْمَدْيُونُ بِهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَ فُلَانٍ فَاَلَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ الْخَبَرُ فِي سَعَةِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَوْتِهِ قِيلَ مَعْنَى هَذَا إذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى سَمِعَهُ الشَّاهِدُ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَقِيلَ بَلْ فِي الْمَوْتِ يَسَعُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً مَوْثُوقًا بِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ هَكَذَا يَكُونُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا يُعَايِنُهُ مَنْ يُغَسِّلُهُ، ثُمَّ يُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ هَذَا الْخَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَوْتِهِ. وَإِذَا جَاءَ مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يَصْنَعُونَ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَوْتِهِ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ مَنْ شَهِدَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا، وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا وَالْغَالِبُ عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا يَعْتَمِدُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ عَنْ مُعَايَنَةٍ. فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَيِّتٌ فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ حَتَّى يُدْفَنَ وَسِعَ الْجِيرَانُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 154 ذَلِكَ مِمَّا عَايَنَ. وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا ظَاهِرًا وَدَخَلَ بِهَا عَلَانِيَةً وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا، ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّهُ يَسَعُ الْجِيرَانَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَا أَوْجَبَ تَشْهِيرَهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَمَا كَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَلَدُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا الْوِلَادَةَ. فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ. فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَتَرَكَ هَذِهِ الدَّارَ مِيرَاثًا لِفُلَانٍ ابْنِهِ هَذَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمَيِّتِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ. وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ جَازَفُوا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ فَيَقُولَانِ إنَّ الْوَلَاءَ بِالْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ لِلْعِتْقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فَهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْوَقْفِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ الْوَاقِفَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ لَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ مِنْ جِهَتِهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ اسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ فِي صَدَقَتِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا الْمُدَّعِي وَخِطَّتُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا الْحَدَّ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ مِنْ الْجَدِّ وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْجَدِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا أَجَزْت ذَلِكَ وَجَعَلْتهَا لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ شَيْئًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِسَبَبٍ ثَابِتٍ عِنْدَهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِأَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ يَدِ الْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ. وَقَالَ إذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِهَذَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نَصِيبِهِ فَيُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ بِحَقٍّ لَهُ فِيهَا. وَإِذَا أَخْرَجْنَاهَا مِنْ يَدِهِ فَلَا مُسْتَحَقَّ لَهَا سِوَى الْمُدَّعِي فَتُدْفَعَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 155 إلَيْهِ. وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمُدَّعِي شَيْئًا إذَا لَمْ يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ إلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ ابْنُ أَخِيهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُ جَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِابْنِ الِابْنِ وَعَمِّهِ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمَا، وَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِنْهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَإِنَّ أَبَاهُ قَدْ وَرِثَ مِنْهُ السُّدُسَ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ هَذَا فَإِنِّي أَقْبَلُ شَهَادَةَ شُهُودِ ابْنِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ هُوَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ بِبَيِّنَتِهِ وَذُو الْيَدِ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَبْقَى بِبَيِّنَتِهِ مَا أَثْبَتَ هُوَ مِنْ نِصْفِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّا إذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ابْنِ الْأَخِ صَارَ ذُو الْيَدِ بِهَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ. وَإِذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لَا يَصِيرُ ابْنُ الْأَخِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَالْقَضَاءُ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَكَانَتْ بَيِّنَةُ ابْنِ الْأَخِ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِأَبٍ الْغُلَامِ مِيرَاثٌ مِنْ تَرِكَةٍ سِوَى الدَّارِ لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ شَيْئًا فِي يَدِ ابْنِ الْأَخِ وَهُوَ نِصْفُ الدَّارِ وَالْآخَرُ سُدُسُ تَرِكَةِ أَخِيهِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَبِلْنَا بَيِّنَةَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ إذَا غَرِقَا جَمِيعًا فِي سَفِينَةٍ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بَيْتٌ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّارِيخِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا فَيَكُونُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِابْنِهِ فَلَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ. وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِيرَاثِ رَجُلٍ أَنَّهُ مَاتَ يَوْمَ كَذَا وَهُوَ ابْنُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ كَذَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَتِهَا عَلَى ذَلِكَ طَاعِنَةً فِي بَيِّنَةِ الِابْنِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيَاتِهِ، وَلَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى الْبَيِّنَةَ بَعْد مَا قَضَيْت بِمَوْتِهِ فِي يَوْمٍ وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ مَوْتَهُ قَبِلْت ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى مُدَّعِيَةٌ مُثْبِتَةٌ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ لِنَفْسِهَا، ثُمَّ بَيَّنَتْهَا طَاعِنَةً فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ كَذَا قَضَيْت بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى بَيِّنَتِهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 156 قَالَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقٌّ لَازِمٌ وَالْمَوْتَ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لَازِمٌ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِابْنَ بِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْقَاتِلِ يَثْبُتُ لِنَفْسِهِ مُوجِبُهُ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ دِيَةٍ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةً وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ أَيْضًا مُثْبِتَةٌ لِلْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ لَهَا فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ النَّافِذَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ. فَأَمَّا فِي الْمَوْتِ الِابْنُ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ حَقًّا فَإِنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْمَوْتِ لَا بِالتَّارِيخِ فَإِنَّمَا بَقِيَ هُوَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ النِّكَاحُ بَعْدَهُ وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ تَثْبُتُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّافِيَ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يُعَارِضُ الْمُثْبَتَ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهَا وَيَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا أَثْبَتَتْ سَبَبَ إرْثٍ مُقَدَّمٍ عَلَى مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعًا وَالْفِعْلُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا فِي زَمَانٍ فَكَانَ الِابْنُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ. فَأَمَّا الْمَوْتُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لِيَتَمَكَّنَ الِابْنُ مِنْ إثْبَاتِهِ فِي زَمَانٍ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِالْكَذِبِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ، وَقَدْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ الْكَذِبَ فِي الْأُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا، ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْأُخْرَى يَوْمَ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِخُرَاسَانَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْكَذِبُ فِي الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ. فَكَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ طَعْنِ الْخَصْمِ فِي الشَّاهِدِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ لِرَجُلٍ حَقًّا مِنْ الْحُقُوقِ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَانِ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُمَا حُرَّانِ)؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ الشَّهَادَةِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ كَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَفْسِيرُهُ فِي الشَّهَادَةِ هَذَا، وَفِي الْحَيِّ إذَا قَذَفَ إنْسَانٌ، ثُمَّ زَعَمَ الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ حَتَّى يُثْبِتَ الْمَقْذُوفُ حُرِّيَّتَهُ بِالْحُجَّةِ، وَفِي الْقِصَاصِ إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، ثُمَّ زَعَمَ الْقَاطِعُ أَنَّ الْمَقْطُوعَةَ يَدُ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ حَتَّى يُثْبِتَ حُرِّيَّتَهُ بِالْحُجَّةِ، وَفِي الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ إنْسَانٌ خَطَأً وَزَعَمَتْ الْعَاقِلَةُ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 157 يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إمَّا؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ حُرِّيَّةٍ أَوْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَقَدْ كَانَ حُرَّيْنِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ يَدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقَ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَيُقَالُ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مَنْفِيٍّ بَلْ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْيَد يُدْفَعُ بِهِ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ جَارِيَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ وَلَدَهَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ الظَّاهِرِ وَلَا يَكْفِي لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ إلْزَامُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي الْقِصَاصِ وَإِيجَابُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْقَاطِعِ، وَفِي الْعَقْلِ إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فَمَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ بِالْحُجَّةِ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ نَحْنُ أَحْرَارٌ لَمْ نُمَلَّكْ قَطُّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا حَتَّى يَأْتِيَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا. فَأَمَّا فِي قَوْلِهِمَا إنَّا أَحْرَارٌ لَمْ نُمَلَّكْ مُصَدَّقَانِ فِي حَقِّهِمَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ لَا نَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمَا، وَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا حُرَّانِ فَقَبِلَ ذَلِكَ وَأَجَازَ شَهَادَتَهُمَا كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعْمَلُ شَهَادَتُهُمَا إلَّا بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَالَةِ فَكَمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْقَاضِي بِهَذَا الطَّرِيقِ. فَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ قَالَ وَالْبَابُ الْأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَحْسَنُ يَعْنِي الْإِثْبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْحُرِّيَّةِ وَتَثْبُتُ بِدُونِ الْعَدَالَةِ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ تَجْرِي فِيهِمَا الْخُصُومَةُ وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ فِي مِثْلِهِ الْبَيِّنَةُ. . فَأَمَّا الْعَدَالَةُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْخُصُومَةُ فَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَخَذَتْ شَبَهَيْنِ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَمِنْ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا الْخُصُومَةُ، وَفِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَيُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهَا بِالْعَدَالَةِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالسُّؤَالِ وَلِشَبَهِهَا بِالْمِلْكِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى وَأَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهَا، وَلَوْ قَالَا قَدْ كُنَّا عَبْدَيْنِ فَأَعْتَقَنَا الْمَوْلَى لَمْ نُصَدِّقْهُمَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَإِزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَبِلْت ذَلِكَ وَأَعْتَقَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ انْتَصَبَ خَصْمًا عَنْ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ حُرِّيَّتِهِمَا. وَالْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَتَى كَانَ مُتَّصِلًا بِحَقِّ الْغَائِبِ فَإِنَّ الْحَاضِرَ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَمَتَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 158 قَضَى الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فَذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى مَنْ انْتَصَبَ لِهَذَا الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْهُ. فَإِذَا جَاءَ الْمَوْلَى، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى إنْكَارِهِ وَكَانَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعِتْقِ مَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِالْعِتْقِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى وَيُقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا قَالَ أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى قَتْلَ رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا، أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَذْفًا وَمِيرَاثًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ، وَأَنَّ هَذَا قَطَعَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ قَدَمَهُ أَلَمْ أَحْكُمْ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْحُرُّ عَلَى الْحُرِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَبْدٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ، وَأَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَ مِنْهُ دَيْنًا، أَوْ بَاعَهُ أَجَزْت ذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَ الْمَوْلَى فَأَنْكَرَ عِتْقَهُ لَمْ أُكَلِّفْهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا كُلِّهِ مُخَالِفٌ إلَّا أَنَّ مِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِشْهَادَ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ شِرَاءَ دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ)؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى إنْ كَانَتْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَالشُّهُودُ لَمْ تَشْهَدْ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، ثُمَّ الْقَاضِي يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ابْتِدَاءً بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. فَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْقَضَاءِ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالثَّمَنِ حِينَ لَمْ تَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ، أَوْ فِي مِقْدَارِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبَ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِعَقْدٍ غَيْرِ مَا يَشْهَدُ بِهِ صَاحِبُهُ فَالْبَيْعُ بِالدَّنَانِيرِ غَيْرُ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لِانْعِدَامِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْبَيْعِ، أَوْ الشِّرَاءِ، وَفِي الْخُلْعِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَدَّعِي. فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهَا تُكَذِّبُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُنَا الْمُدَّعِي فِي الْخُلْعِ فَشَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ وَالْآخِرُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ فِي مِقْدَارِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَهَذَا مِنْهُ دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَيْهَا فِي الْحَاصِلِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 159 وَمَعْنًى. وَفِي النِّكَاحِ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْعَقْدِ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِأَلْفٍ غَيْرُ النِّكَاحِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالزَّوْجُ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَدَّعِي النِّكَاحَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا دَعْوَى الْمَالِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ إلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا فِي الْخُلْعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مُعَاوَضَةُ الْمَرْأَةِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ فِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ تَسْتَغْنِي عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمَالُ كَالزَّائِدِ فِي النِّكَاحِ وَدَعْوَاهَا فِيهِ دَعْوَى الدَّيْنِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْفَصْلِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ اتَّفَقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالْوَقْتِ فِي الْبَيْعِ، أَوْ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُسَمِّيَا ثَمَنًا وَلَمْ يُشْهِدَا بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُسَمًّى، وَإِنْ قَالَ أَقَرَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي دُونَ الْقَضَاءِ فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا تَقْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ. فَإِذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ. وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَجَهَالَةُ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا الثَّابِتُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتهَا مِنْهُ وَلَمْ اسْتَوْفِ الثَّمَنَ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ. فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِذَا ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ وَالْحُدُودَ وَلَمْ يُسَمِّيَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ غَيْرُ الْمَشْهُودِ بِهِ فَالْمُدَّعَى شِرَاءُ دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْمَشْهُودُ بِهِ شِرَاءُ دَارٍ مَجْهُولَةٍ فَإِنْ قَالَا قَدْ سَمَّى الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَوْضِعَ الدَّارِ وَحَدَّدُوهَا، ثُمَّ وَصَفُوا ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَعْلُومٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فِي دَارٍ مَعْلُومَةٍ بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْمَوْضِعُ غَيْر أَنِّي أَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا سَمَّى الشُّهُودُ مِنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِلْمُدَّعِي قَدْ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّك اشْتَرَيْت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 160 مِنْهُ دَارًا حُدُودُهَا مَا سَمَّى الشُّهُودُ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْمُعَيَّنَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا هِيَ تِلْكَ الدَّارُ، وَإِنَّ حُدُودَهَا مَا سَمَّى الشُّهُودُ فَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي بِالْبَيِّنَةِ. فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ بِالْمُدَّعِي لَهُ بِالْبَيِّنَةِ السَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَّدُوهَا بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ ذِكْرَ أَكْثَرِ الْحُدُودِ وَذِكْرَ الْجَمِيعِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّ الشُّهْرَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ وَجَحَدَ الْمُشْتَرِي فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعُ، أَوْ الْمُشْتَرِي. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ عَلَيْهَا شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ ذَلِكَ أَيْضًا فَهِيَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ وَسَبَبُ ذِي الْيَدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَعَ الْقَبْضِ أَقْوَى مِنْ الشِّرَاءِ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدَهُ فَهُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ، وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ قَضَيْت بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا فَكَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى عِنْدَنَا. فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ الْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْبَائِعِ بِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ هُنَاكَ الْخَارِجُ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى ذِي الْيَدِ فِي تَثَبُّتِهِ مَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَالٌ يُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِي الْيَدِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَادِثٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا وَحَاجَةُ ذِي الْيَدِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ خَاصَّةً وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا بِيَدٍ لَهُ فِيهَا، وَفِي بَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشِّرَاءِ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ وَقَّتَ أُخِذَ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَالْآخَرُ بَيِّنَةٌ إنَّمَا أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، وَإِنْ وَقَّتَ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يُثْبِتَ سَبْقَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 161 التَّارِيخِ فَاَلَّذِي لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ إنَّمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي الْحَالِ وَصَاحِبُهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ حِينِ أَرَّخَتْ شُهُودُهُ فَهُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ الْآخَرِ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ ذِي الْيَدِ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ مُعَايِنٌ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ التَّارِيخُ مُخْبَرٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَلِأَنَّ حَاجَةَ الْخَارِجِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَّخَتْ شُهُودُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْحُجَّتَيْنِ الْحُكْمُ هُوَ الْقَضَاءُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبِبَعْضِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْبَعْضِ وَالتَّبْعِيضِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عِيبَ فَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الْبَائِعِ، أَوْ مُكَاتَبَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ مِنْهُ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. فَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ عَلَيْهِ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ أَوَّلُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِذِي الْيَدِ وَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ فَكُلُّ مُشْتَرٍ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ وَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَهُنَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا لَوْ سَمِعْنَا الْإِقْرَارَ مِنْهُمَا مَعًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا هُنَا، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا كَأَنَّ ذِي الْيَدِ اشْتَرَاهَا أَوَّلًا وَقَبَضَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي الْجَامِعِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى لَهُ بِهَذِهِ الدَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَتْرُكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَتَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ فِي الشِّرَاءِ إثْبَاتُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ؛ لِأَنِّي إنْ جَعَلْت شِرَاءَ ذِي الْيَدِ سَابِقًا جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ جَعَلْت شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْقَضَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ؛ وَلِهَذَا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ الْعَقَارُ فِي ذَلِكَ وَالْمَنْقُولُ عِنْدِي سَوَاءٌ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ قَبْضُ ذِي الْيَدِ صَادِرًا عِنْدَ عَقْدِهِ، أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيل سَبْقِ عَقْدِهِ. فَأَمَّا الْقَضَاءُ لَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ بَلْ مُتَأَكِّدٌ بِنَفْسِهِ فَتَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي رَمَضَانَ وَأَقَامَ فُلَانٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 162 مِنْهُ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ وَالْبَيِّنَاتُ حُجَجٌ فَعِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا لَا يَجُوزُ إلْغَاءُ أَحَدِهِمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَهَا فِي رَمَضَانَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ بَاعَهَا فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَوْ عَايَنَا الشِّرَاءَيْنِ كَانَ الشِّرَاءُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَالدَّارُ لَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ فُلَانٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي شَوَّالٍ عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ خَمْسَمِائَةٍ وَقَبَضَهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَهَذَا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ سَوَاءٌ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهَا مِنْهُ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ أَمْضَيْت الْبَيْعَ بِأَلْفٍ فِي رَمَضَانَ وَقَضَيْت لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ سَوَاءٌ الَّذِي أَثْبَتَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ فِي شَوَّالٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى وَالرَّهْنُ فِي شَوَّالٍ يَنْقُضُ دَعْوَى الْبَائِعِ الْبَيْعَ فِي رَمَضَانَ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الرَّاهِنِ بِالرَّهْنِ مِنْهُ فِي شَوَّالٍ فَكَأَنَّا سَمِعْنَا مِنْهُ هَذَا الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ هُوَ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى الْبَيْعِ فِي رَمَضَانَ لِلتَّنَاقُضِ فَالْبَائِعُ لَا يَرْهَنُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْبَيْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ الْأَقْوَى وَهُوَ الْبَيْعُ وَكَمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَثْبَتَ إقْرَارَ الرَّهْنِ بِالرَّهْنِ فَالْبَائِعُ أَثْبَتَ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الرَّهْنِ فِي شَوَّالٍ فَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي هَذَا رَجَّحْنَا أَقْوَى الْحُجَّتَيْنِ وَهُوَ حُجَّةُ الْبَيْعِ، وَفِي الْكِتَابِ (قَالَ) لَيْسَ الرَّهْنُ كَالْهِبَةِ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِالْعِوَضِ بَيْعٌ وَالرَّهْنَ لَيْسَ بِبَيْعٍ فَقَدْ يَرْهَنُك الرَّجُلُ دَارَك وَلَا يَبِيعُك دَارَك وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الرَّهْنَ دُونَ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْبَيْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ عَايَنَّا الْعَقْدَيْنِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْبَيْعُ بِالرَّهْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ قَدْ يَرْهَنُك دَارَك وَلَوْ عَايَنَّا الْبَيْعَيْنِ انْتَقَضَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي فَبِانْتِقَاضِ الْأَوَّلِ الدَّارُ تَعُودُ إلَى الْبَائِعِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَبِيعُك دَارَك. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ وَكَفَلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْمُدَّعِي مَعَهُ فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَضَى لَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الْأَلْفِ إنْ شَاءَ لِاسْتِوَاءِ الْحُجَّتَيْنِ فَإِنْ أَخَذَاهَا فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدَّارِ بِشِرَاءٍ يُفْرَدُ هُوَ بِهِ بِلَا شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ عَايَنَّا الشِّرَاءَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِشَرْطِ الْكَفَالَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 163 وَكَفَالَةُ صَاحِبِهِ لَهُ بِذَلِكَ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لَازِمَةً. فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ ذُو الْيَدِ لَمْ أَبِعْ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنْقُضُ الْبَيْعَ وَلَا يُبْطِلُ إنْكَارُهُ الْبَيْعَ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ لَيْسَ بِإِكْذَابٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْإِنْكَارِ يَقُولُ لَا بَيْعَ بَيْنَنَا فِيهَا، وَبَعْدَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فِيهَا وَلَوْ قَالَ لَمْ يَجْرِ بَيْنَنَا بَيْعٌ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَعْوَى الدَّارِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَقُولَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ، وَلَكِنَّهُ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى مَرَّةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِيهَا فَرَدَّ الدَّارَ عَلَيَّ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ لَيْسَ بِإِكْذَابٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَإِنِّي لَا أُكَلِّفُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا، وَلَكِنْ أَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِابْنِهِ وَارِثًا غَيْرَهُ. فَإِذَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَمَرْته أَنْ يَنْقُدَ الْأَلْفَ وَيَقْبِضَ الدَّارَ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ حَضَرَ الْأَبُ فِي حَيَاتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ إلَّا أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مَعَهُ مَنْ يُزَاحِمُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَيُؤْمَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِيهِ زَمَانًا فَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ غَيْرِ الْبَائِعِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ؛ لِأَنَّ هُنَا لَوْ حَضَرَ الْأَبُ فِي حَيَاتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَذُو الْيَدِ غَيْرِ الْبَائِعِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِمُوَرِّثِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا كَمَا لَوْ أَقَامَ الْأَبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا مِلْكُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ (قَالَ) فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ فِي يَدِهِ رَهْنٌ بِالثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ رَهَنَ هَذِهِ الدَّارَ عِنْدَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ مَاتَ الْأَبُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَجَاءَ بِالْأَلْفِ يَنْقُدُهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ أَثْبَتَ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِمُورِثِهِ، وَلَكِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ فِي يَدِهِ بِالثَّمَنِ كَالْمَرْهُونَةِ فَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ وَقَبْضِهَا. وَإِذَا كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِ الْبَائِعِ فَالْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ مَا أَثْبَتَ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِمُورِثِهِ إنَّمَا أَثْبَتَ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ وَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِإِقْرَارِهِ الْمِلْكِ لِمُورِثِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِلْكِ مُورِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاعَهُ الدَّارَ وَسَلَّمَ الْآخَرَ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ الَّذِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 164 بَاعَ مِنْ الَّذِي سَلَّمَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ مَجْهُولٌ وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ لَا تَكُونُ شَهَادَتُهُ حُجَّةً، وَلِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَنَعُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ حِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْبَائِعَ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَلَا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا كُلَّهَا بِأَلْفٍ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى ثُلُثَهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَهُمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا أَخَذُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَفَرَّقَ الصَّفْقَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُمْ فِيهِ فَالْخِيَارُ كَذَلِكَ فَإِنْ أَخَذُوهَا كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ الْمُثَلَّثِ خَاصَّةً وَكَانَ السُّدُسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ وَكَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةَ مَا أَخَذَ مِنْ الثَّمَنِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى وَجَمَعْنَا فِيهَا نَظَائِرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَضْدَادَهَا فَنَقُولُ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا مُنَازَعَةَ فِي الثُّلُثِ لِمُدَّعِي النِّصْفِ وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ وَمُدَّعِي الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيُسَلَّمُ لَهُ الثُّلُثُ، ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَقَدْ اسْتَوَى فِيهِ حُجَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبِ الْجَمِيعِ فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَفِي النِّصْفِ اسْتَوَى حُجَّةُ صَاحِبِ الْكُلِّ وَالثُّلُثَيْنِ وَالنِّصْفُ فَيَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَسِهَامُ الدَّارِ فِي الْحَاصِلِ اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسِ يُقْسَمُ نِصْفَيْنِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ أَخَذَ مَرَّةً أَرْبَعَةً وَمَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَإِنَّهُ مَا يُسَلَّمُ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّارِ وَنِصْفُ سُدُسِهَا فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الثَّمَنِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ رُبْعُ الدَّارِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ مَا أَخَذَ إلَّا سَهْمَيْنِ وَهُوَ سُدُسُ الدَّارِ. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَأَصْلُ سِهَامِ الدَّارِ سِتَّةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ هَذِهِ السِّهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَيَقْسِمُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ الْجَمِيعِ وَالْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ النِّصْفِ وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ سَالِمٌ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَنِصْفَ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالْمُنَازَعَةِ وَلِصَاحِبِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 165 النِّصْفِ رُبْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَتَكُونُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَالْآخَرُ الشِّرَاءَ بِأَلْفٍ وَالْقَبْضَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ عَرَفَ الْأَوَّلُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الرَّهْنِ إذَا أَثْبَتَ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَشِرَاءُ الْآخَرِ بَعْدُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ إجَازَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَصَاحِبُ الشِّرَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ وَالرَّهْنُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالشِّرَاءُ يَلْزَمُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا يَلْزَمُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْآخَرُ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَصَاحِبُ الشِّرَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَمُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْ التَّبَرُّعِ الَّذِي لَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَإِنْ أَثْبَتَ صَاحِبُ التَّبَرُّعِ قَبْضَهُ سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَوَّلُ فَصَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلَ سَبْقِ عَقْدِهِ فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ صَاحِبُ الشِّرَاءِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوْلَى، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهَا بِأَلْفٍ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ رَهْنًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا رَهْنًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الرَّهْنَ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ رَهْنَ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِ صَحِيحٍ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُجَّتَيْنِ لِمَا اسْتَوَتَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الرَّهْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ شَائِعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا لَوْ أَقَامَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَإِنَّ فِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ الْعَقْدُ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ فِي الْحَبْسِ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لَهُمَا فِي الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْعَيْنَ كُلَّهَا مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ مَعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ، وَإِنْ رَهَنَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ النِّصْفُ مِنْ هَذَا بِدَيْنِهِ وَالنِّصْفُ مِنْ هَذَا بِدَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ فَلِهَذَا نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَادَّعَى الْآخَرُ الْهِبَةَ عَلَى عِوَضٍ وَالتَّقَابُضَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَذَا لِلَّذِي يَدَّعِي الْهِبَةَ عَلَى عِوَضٍ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 166 بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ دَعْوَى الشِّرَاءِ عَلَى دَعْوَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُجَجِ، وَلَوْ كَانَتْ هِبَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ قَضَيْت بِهَا لِصَاحِبِ الرَّهْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ نَفَذَ مَالُهُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا قَبْلَ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الْهِبَةِ وَمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الْهِبَةِ فِي الْقِيَاسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَالُك الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَالْمُرْتَهِنُ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ مِنْهُمَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرَّهْنُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ فَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الرَّهْنِ أَوْلَى وَلِلْقِيَاسِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْهِبَةِ وَالْهِبَةُ تُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ مِنْهُ لَوْ رَهَنَهُ كَانَ بِإِطْلَاقٍ، وَبَعْدَ الرَّهْنِ لَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ كَانَ صَحِيحًا فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ الْوَارِدُ لَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَرْهُونِ لَهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا فَإِنَّ الْوَاهِبَ إذَا رَهَنَ الْمَوْهُوبَ بِدَيْنِهِ بِرِضَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْهِبَةِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الرَّهْنِ لَوْ وَهَبَ بِرِضَاءِ الْمُرْتَهِنَ وَسَلَّمَ يَبْطُلُ حَقّ الْمُرْتَهِنُ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الرَّهْنَ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا لَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا وَالْهِبَةُ لَا تَتِمُّ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالِاتِّحَادُ فِي جَانِبِ الْوَاهِبِ. فَأَمَّا إذَا وَهَبَ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَجُوزُ وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الْهِبَةَ مِنْهُ فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا فَإِنْ شَهِدَتْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوَّلُ فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ الْجَمِيعَ وَالْآخَرُ النِّصْفَ وَادَّعَى الثَّالِثُ الثُّلُثَيْنِ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الدَّارِ فَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مُقَدَّمٌ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِمَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْيَدِ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ صَاحِبَيْهِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَدَّعِي نِصْفَ مَا فِي يَدِ كُلِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 167 وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبَيْهِ فَإِنْ حَلَفُوا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَحَلَفَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ لَهُمَا فَالدَّارُ كُلُّهَا لَهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُمَا كَإِقْرَارِهِمَا لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ كَبَدَلِهِمَا لَهُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَكِنْ هَذَا إذَا حَلَفَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ لَهُمَا وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَيْضًا، وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَحَلَفُوا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالنِّصْفُ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُلُثَيْ الدَّارِ وَنِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُ الْجَمِيعِ، وَذَلِكَ نِصْفُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنُكُولُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحَلَفُوا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ فَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ رُبْعَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نِصْفَ الدَّارِ فَثُلُثَا ذَلِكَ النِّصْفِ فِي يَدِهِ وَالثُّلُثُ فِي يَدِ صَاحِبَيْهِ، وَذَلِكَ السُّدُسُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ سُدُسِ الْجَمِيعِ وَهُوَ رُبْعُ الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنُّكُولِ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ نَكَلَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ رُبْعُ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ جَمِيعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِهِ نِصْفُ سُدُسِ جَمِيعِ الدَّارِ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمْ جَمِيعًا الْبَيِّنَةُ فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الثُّمْنُ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ الرُّبْعُ وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ تُقْبَلْ فِيمَا فِي يَدِهِ وَتُقْبَلْ فِيهِ بَيِّنَةُ الْآخَرِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ تُقْبَلُ فِيهِ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلْمُنَازَعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَصَارَتْ سِهَامُ الدَّارِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَفِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثُ الدَّارِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَدَّعِي نِصْفَ ذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي رُبْعَ ذَلِكَ فَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِقْدَارِ مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ، وَفِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةٌ صَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ رُبْعَ ذَلِكَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالرُّبْعِ وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَ السِّهَامَ؛ فَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ سِهَامَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ سَلَّمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةً، وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 168 الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةً وَبَقِيَ لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ سَهْمَانِ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةً فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الدَّارِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ سَهْمَيْنِ وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَهْمًا فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ ثَمَنُ الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي اعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَإِنَّ السِّهَامَ عِنْدَهُمَا تَرْتَفِعُ إلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ فَلَمْ يَعُدْ هُنَا كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ وَنَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّخْرِيجِ سَوَاءٌ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ وَعَبْدِ أَحَدِهِمَا وَالْعَبْدُ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي الدَّارَ كُلَّهَا فَهِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّ حَقَّ غُرَمَائِهِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَتَظْهَرُ يَدُهُ فِي مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى كَيَدِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالدَّارُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ هُنَا حَقُّ مَوْلَاهُ وَيَدُهُ مِنْ وَجْهٍ كَيَدِ مَوْلَاهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِي مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْمُعْتَبَرُ فِي الدَّارِ يَدُ الْمَوْلَى وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ يُنَازِعُ فِيهِ رَجُلَانِ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمَا عَامَّةُ الثَّوْبِ، وَفِي يَدِ الْآخَرِ طَرَفُ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ آخَرَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا يَوْمَ بَاعَهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَذُو الْيَدِ يَقُولُ لَيْسَتْ لِي فَإِنِّي أَقْضِي بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ بِإِثْبَاتِهِ الشِّرَاءَ مِمَّنْ كَانَ مَالِكُهَا وَذُو الْيَدِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خُصُومَتِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَتْ لِي فَإِنَّهُ كَانَ خَصْمًا لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهَا وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ يَدَهُ فِيهَا لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ فَقَضَى بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِجَارَةٍ، أَوْ بِوَكَالَةٍ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا مِنْ رَجُلٍ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِأَنَّ يَدَهُ فِيهَا يَدُ حِفْظٍ لَا يَدَ خُصُومَةٍ وَهَذِهِ مُخَمَّسَةٌ كِتَابِ الدَّعْوَى فَإِنْ جَاءَ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهَا مِنْ هَذَا السَّاكِنِ قَبَضَهَا وَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ نَقْلِهَا مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ إلَى يَدِ نَفْسِهِ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا إيَّاهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَايَنَ مَا أَثْبَتَهُ الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ حَقُّ قَبْضِهَا. فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِيهِ خُصُومَةٌ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ رَهْنٍ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَقَامَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 169 الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا رَهْنٌ فِي يَدِهِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ فِيهَا يَدُ حِفْظٍ لَا يَدَ خُصُومَةٍ فَالْمَرْهُونُ عَيَّنَهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَئِنْ كَانَ مَضْمُونًا فَهُوَ ضَمَانٌ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانًا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ كَالْمَغْصُوبِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ لِمُدَّعِي الْمِلْكِ. فَإِذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ الَّذِي الدَّارُ فِي يَدِهِ غَائِبًا وَالرَّاهِنُ حَاضِرًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ لَا تُسْمَعُ فِي الْعَيْنِ إلَّا عَلَى ذِي الْيَدِ وَالْيَدُ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُرْتَهِنِ وَهُوَ غَائِبٌ وَالْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّهْنِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ خَصْمٌ لِظُهُورِ يَدِهِ فِيهَا وَمَنْفَعَةُ الْمُدَّعِي مِنْهَا بِيَدِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَمْ يَنْسُبْهَا إلَى أَحَدٍ فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ عَلَى هَذَا لَا تُقْبَلْ وَبِدُونِ الْبَيِّنَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخُصُومَةِ إذَا أَحَالَ الْمُدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ حَتَّى لَوْ قَالَ هُوَ لِرَجُلٍ عَارِيَّةٌ عِنْدِي وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ فَلَأَنْ لَا تَنْدَفِعَ بِقَوْلِهِ لَيْسَتْ لِي أَوْلَى، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ، أَوْ رَهْنٍ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَادَّعَى ذُو الْيَدِ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ أَسْكَنَهَا إيَّاهُ وَلَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهَا لِفُلَانٍ فَتَكُونُ أُصُولُهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ ذَلِكَ لَوْ حَضَرَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ خُصُومَةٌ لِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ. فَكَذَلِكَ لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهَا مِنْهُ. فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى ذِي الْيَدِ دَفْعُهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهَا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَالْعُرُوضُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَالْعَقَارِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ الْغَائِبِ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ الشَّرِيكُ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى سَبَبَ مِلْكٍ جَدِيدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ فِي نَصِيبِهِ وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَدَّعِي قِبَلَهُ، وَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ مُقِرٌّ أَنَّ يَدَهُ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي بِمِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا، أَوْ بَعْضَهَا مِنْ الْمَيِّتِ الَّذِي وَرِثُوهَا مِنْهُ كَانَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمَيِّتِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانُوا قَسَمُوا الدَّارَ، أَوْ لَمْ يَقْسِمُوا؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي إذَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 170 ثَبَتَ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَادَّعَاهَا آخَرُ فَالْمُشْتَرِي خَصْمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا خَصْمٌ لَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشِّرَاءَ الْفَاسِدَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ هُنَا. دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا آخَرُ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ غَائِبٌ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ زَعَمَ أَنَّهَا مِلْكُهُ فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهَا لِلْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي تَقَدُّمَ شِرَائِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لَهُ وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الثَّمَنَ فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ قَدْ نَقَدَ الثَّمَنَ أَعْطَيْته الثَّمَنَ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ ظَفِرَ بِمَالِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَيَأْخُذُ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ لِمَا يَثْبُتُ حَقَّ الْأَخْذِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَمْسَكَهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ فَيَحْفَظُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ ذِي الْيَدِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا لَمْ يَحْضُرْ عَنْهُ خَصْمٌ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ لَمْ يَنْقُدْ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ دَفَعْتهَا إلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا بِتَارِيخٍ سَابِقٍ وَأَخَذْتُ الثَّمَنَ مِنْهُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَى الْبَيْعِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقَاضِي يَنْظُرُ لَهُمَا فَيَسْتَوْفِي الثَّمَنَ مِنْهُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْغَائِبِ وَيُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ لِيُتَوَصَّلَ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ. رَجُلٌ بَاعَ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ غَابَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي النَّظَرُ لَهُ وَلِلْمَفْقُودِ فِي مَالِهِ. فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ قَبِلَ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَبَاعَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ حِفْظِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمِلْكِ لَا تَبْقَى لَهُ بِدُونِ النَّفَقَةِ وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ. فَإِذَا بَاعَهَا نَقَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ وَابَرَاءُ الْمُشْتَرِي مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَمْسَكَ الْفَضْلَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ وَضِيعَهُ فَذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْقَاضِي لَهُ الْجَارِيَةَ كَقَبْضِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا بِنَفْسِهِ فِيهِ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَيُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِمِقْدَارِ الْوَضِيعَةِ إذَا حَضَرَ، وَإِنْ كَانَ أَبْرَأَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبِعْ الْقَاضِي الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْقَاضِي بِطَرِيقِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 171 النَّظَرِ مِنْهُ لَهُمَا، وَذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إذَا كَانَ لَا يُوقَفُ عَلَى مَوْضِعِ الْمُشْتَرِي. فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَالْبَائِعُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ عَيْنَ مِلْكِهِ لِاتِّصَالِ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَاهِدَانِ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْبَصْرَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ رَجُلَانِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ لِهَذَا. فَإِذَا شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْبَصْرَةِ وَلَمْ يُوَقِّتَا وَقْتًا فَهُنَاكَ الشَّهَادَةُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ كَلَامٌ يَتَكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ. رَجُلٌ يَدَّعِي دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَشَهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشِّرَاءِ وَالْآخَرُ بِالْهِبَةِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ، وَبِهِ يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ السَّبْيَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالصَّدَقَةِ، أَوْ الرَّهْنِ، أَوْ الْمِيرَاثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْمِيرَاثِ وَالْآخَرُ بِالْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَإِذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ. وَقَالَ لَمْ يَهَبْهَا لِي قَطُّ، وَقَدْ ادَّعَى الْهِبَةَ عِنْدَ الْقَاضِي فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشَاهِدَيْهِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ مِنْهُ فِي الْكَلَامِ فَقَدْ زَعَمَ مَرَّةً أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَعَمَ مَرَّةً أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَمْ يَهَبْهَا لِي قَطُّ وَلَا تَنَاقُضَ أَظْهَرَ مِنْ هَذَا وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَالْبَيِّنَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، ثُمَّ إكْذَابْ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ تَخْرُجُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهَا مِيرَاثٌ لَمْ يَشْتِرْهَا قَطُّ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هِيَ بِشِرَاءٍ وَلَمْ أَرِثْهَا قَطُّ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَعْنَى التَّنَاقُضِ وَالْإِكْذَابِ فَإِنْ ادَّعَاهَا هِبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ قَطُّ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشُهُودٍ عَلَى الصَّدَقَةِ. وَقَالَ لَمَّا جَحَدَنِي الْهِبَةَ سَأَلْته أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ فَفَعَلَ أَجَزْت هَذَا؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ فَيَنْعَدِمُ لَهُ الْإِكْذَابُ وَالتَّنَاقُضُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 172 (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ عَايَنَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لَهُ بِجِهَةِ الصَّدَقَةِ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَرِثْتهَا، ثُمَّ قَالَ جَحَدَنِي الْمِيرَاثَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّنَاقُضِ وَالْإِكْذَابِ انْعَدَمَ بِتَوْفِيقِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا وَجْهَ لِلتَّوْفِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ كَمَا ادَّعَيْت، ثُمَّ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَوَرِثْتهَا مِنْ أَبِي. وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الرَّهْنِ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ مِقْدَارِهِ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ مَعَ الرَّهْنِ يَتَحَاذَيَانِ مُحَاذَاةَ الثَّمَنِ لِلْمَبِيعِ، ثُمَّ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الثَّمَنِ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ. فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَيَّامِ وَالْبُلْدَانِ وَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَلَى الْخِلَافِ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الرَّهْنِ وَالْوَهْبِ وَالْمُتَصَدِّقُ بِالْقَبْضِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَمَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ فِعْلٌ وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ فِي الْأَفْعَالِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ فِي مَكَان غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ كَلَامٌ مُكَرَّرٌ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ وَجُعِلَ الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ وَلَمْ يُجْعَلْ كَالْبَيْعِ. فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَشَارَ إلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ هُنَا (فَقَالَ)؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَشَارَ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ (فَقَالَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا وَلَا قَبْضًا إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فِعْلٌ صُورَةً، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ غَصْبًا، أَوْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ إيَّاهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ مِنْهُ ثَانِيَةً فَهَذَا يَكُونُ هُوَ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَكُونَ مَضْمُونًا بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ الْأَوَّلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَلَمَّا أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا (فَنَقُولُ) لِشَبَهِهِ بِالْأَفْعَالِ صُورَةً. إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَلِشَبَهِهِ بِالْأَقْوَالِ حُكْمًا لَا يُمْتَنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ حُكْمَ ضَمَانِ الرَّهْنِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 173 لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ أَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَك بِالدَّيْنِ فَإِنَّ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ غَاصِبٌ. وَإِذَا سَلَّمَهُ الرَّاهِنُ إلَيْهِ فَهُوَ مُودِعٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ فَبِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْأَقْوَالِ وَجَعَلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِيهِ وَشَهَادَتَهُمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ سَوَاءً فَكَمَا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ. وَإِذَا طَلَبَ الرَّجُلُ شُفْعَةً فِي دَارٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ وَاخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَائِعِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشِّرَاءِ مِنْ وَاحِدٍ بِمَالٍ وَاخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا جَمِيعًا فِي مَكَانِ كَذَا. وَقَالَ الْآخَرُ كُنَّا فُرَادَى أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ الْآخَرُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْغَدَاةِ. وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ بِالْعَشِيِّ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفَا حِفْظَهُ وَفِعْلَهُ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الثِّيَابِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمَا، أَوْ الْمَرَاكِبِ أَوْ فِيمَنْ حَضَرَهُمَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَالْوَصْفِ لَمْ يَسْأَلْهُمَا الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ سَأَلَهُمَا فَقَالَا لَا نَحْفَظُ ذَلِكَ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَسَائِلِ أَدَبِ الْقَاضِي وَرَوَى فِيهِ حَدِيثَ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ عُمَرَ إلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْقَضَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَذَكَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ الْحَزْمِ أَنْ يَسْتَشِيرَ أَوْلَى الرَّأْيِ، ثُمَّ يُطِيعُهُمْ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِشَارَةَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْقَاضِي إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَالْمَشُورَةُ تَلْقِيحٌ لِلْعُقُولِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا هَلَكَ امْرُؤُ عَنْ مَشُورَةٍ» «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَشَارُ أَوْلَى الرَّأْيِ الْكَامِلِ وَيُتَحَرَّزُ عَنْ مَشُورَةِ نَاقِصَاتِ الْعَقْلِ مِنْ النِّسْوَانِ، وَأَنَّ مَنْ اسْتَشَارَ أَوْلَى الرَّأْيِ الْكَامِلِ مِنْ الرِّجَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُمْ إذَا لَمْ يَتَّهِمْهُمْ فِيمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْمَشُورَةِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالطَّاعَةِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ ثَوْبُ فُلَانٍ وَهُوَ فِي يَدِهِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي شَهِدَا لَهُ أَقْرَبَهَا لِفُلَانٍ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فِي الْإِقْرَارِ فِيهَا رَأْيًا كَمَا لَوْ عَايَنَ الْإِقْرَارَيْنِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْيَدِ. دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 174 أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ لَهُ بِهَا وَوَقَّتَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْآخَرِ وَلَا نِسْبَةَ لِهَذَا الْبَيْعِ يَعْنِي إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَوَقَّتَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ وُصُولَهَا إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ فَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَقْتِ الْآخَرِ أَثْبَتَ إقْرَارَ فُلَانٍ بِهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَى فُلَانٍ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مُنْذُ سَنَةٍ. فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَى مَنْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ مُنْذُ سَنَةٍ بِإِقْرَارِ فُلَانٍ لَهُ بِهَا مُنْذُ سَنَةٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ فُلَانًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مُنْذُ شَهْرٍ بِإِقْرَارِ فُلَانٍ لَهُ بِهَا؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا صَاحِبَ الْوَقْتِ الْآخَرِ، وَفِي الْبَيْعِ ثُبُوتُ الشِّرَاءِ مُنْذُ شَهْرٍ لَا يَمْنَعُ فُلَانًا مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ فِيهَا لِنَفْسِهِ مُنْذُ سَنَةٍ. فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَنْ يَدَّعِي تَمَلُّكَهَا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بَيْعَهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ. وَإِذَا وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ شِرَاؤُهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَهِيَ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِإِقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَمْلِيكِهَا مِنْ فُلَانٍ بِالْبَيْعِ فَيَتَرَجَّحُ أَسْبَقُ التَّارِيخَيْنِ لِانْعِدَامِ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَإِذَا لَمْ يُوَقِّتَا فَهِيَ لِذِي الْيَدِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ. وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَضَى لَهُ بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَالْأَلْفُ وَخَمْسُمِائَةٍ جُمْلَتَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُخْرَى فَبِعِطْفِ أَحَدِهِمَا الْخَمْسَمِائَةِ عَلَى الْأَلْفِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ بِأَلْفٍ لَفْظًا بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا فَخَمْسَةَ عَشَرَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِعَدَدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا فَقَدْ أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ أَبْرَأْته مِنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ هَذَا الشَّاهِدُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ مُحْتَمَلٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمَالِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا، وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ، أَوْ غَصْبٍ أَوْ عَمَلٍ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ الْمَكَانِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْقَتْلُ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً الجزء: 16 ¦ الصفحة: 175 لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْقَائِلِ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ فِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ بِهِ. وَلَوْ ادَّعَى ثَوْبًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُ مِنْهُ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَالْآخَرُ مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ قَبْلَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَاهُ مَا شَهِدَ بِهِ هَذَا مِنْ هِبَتِهِ مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَوْ لَمْ يُوَقِّتْ الْمُدَّعِي جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَذِّبٍ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَالْمَشْهُودُ بِهِ قَوْلٌ، أَوْ مَا هُوَ كَالْقَوْلِ حُكْمًا فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِيهِ. وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَوْ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ فَشَهَادَتُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ صَحِيحَةٌ وَبِالدَّيْنِ لِلْمَيِّتِ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ حَقُّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا وَلَا تُهْمَةَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ مِنْ التَّرِكَةِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلْكِبَارِ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلصِّغَارِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِ فَحَقُّ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَقٍّ فِي شَهَادَتِهِ لِلْكِبَارِ جَائِزَةٌ وَلِلصِّغَارِ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبِضُ لِلْكِبَارِ شَيْئًا وَهُوَ يَقْبِضُ مَا يَجِبُ لِلصِّغَارِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ بِأَرْضٍ، أَوْ دَارٍ فِي يَدَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَدَفَعَهَا إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ بِبِنَائِهَا، ثُمَّ إنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ أَقَرَّ بِبِنَائِهَا لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِقْرَارُ إكْذَابًا مِنْهُ لِشُهُودِهِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ إنَّمَا يَدْخُلُ تَبَعًا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْبِنَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ لِلْمُدَّعِي كَمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ بَنَى فِيهَا هَذَا الْبِنَاءَ فَهُوَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْأَصْلِ وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ فِي ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ نَفْسِهِ فِي الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي حِينَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِبِنَائِهَا فَأَقَرَّ هُوَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أُبْطِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شُهُودَهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِمِلْكِ الْبِنَاءِ لَهُ مَقْصُودًا، وَقَدْ كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالْمُدَّعِي مَتَى أَكْذَبَ شَاهِدَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَإِذَا وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلَيْنِ بِأَنْ تَزَوَّجَاهَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 176 ثُمَّ شَهِدَا أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهِيَ تَدَّعِي، أَوْ تُنْكِرُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَمَّيْنِ فَزَوَّجَا ابْنَتَ أَخٍ لَهُمَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لَهَا زَوَّجَاهَا، ثُمَّ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْحُرْمَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] أُمِرُوا بِهِ لِلْوُجُوبِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وَالنَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِالْحُضُورِ لِلْأَدَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَاسْتِحْقَاقُ الْوَعِيدِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاتِمُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ كَشَاهِدِ الزُّورِ» وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْأَشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]»، وَفِي هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الْمُؤْمِنِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى ذَاتِهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ، أَوْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ يَسْكُتُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلُ الزُّورِ»، وَفِي حَدِيث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الشَّاهِدُ بِالزُّورِ لَا يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى تَلْعَنَهُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» فَيَحِقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِاجْتِنَابُ عَنْهَا بِجُهْدِهِ وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا مَتَى وَقَعَ فِيهَا خَطَأً، أَوْ عَمْدًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلْيَكُنْ رُجُوعُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي أَدَّاهَا. وَقَدْ اخْتَصَّتْ الشَّهَادَةُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَالرُّجُوعُ عَنْهَا كَذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسْبِ الْجَرِيمَةِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ». فَإِذَا كَانَتْ جَرِيمَتُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَهْرًا فَلْتَكُنْ تَوْبَتُهُ بِالرُّجُوعِ كَذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ وَخَوْفُ اللَّائِمَةِ مِنْ إظْهَارِ الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَأَنْ يُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 177 أَنْ يُرَاقِبَ النَّاسَ وَرُجُوعُهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالرُّجُوعِ. وَإِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ آتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِآخَرَ فَقَالَ أَوْهَمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُمَا لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا الْآخَرِ وَأُضَمِّنُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْت أَيْدِيَكُمَا فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ ضَامِنٌ مَا اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِلتَّنَاقُضِ فِي كَلَامِهِ وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ إلْزَامَهُ حُكْمَ كَلَامِهِ، ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَفِي أَنَّ الْيَدَيْنِ يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ قَالَ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا. فَإِذَا جَازَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ فَبِالْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بِدُونِ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ تَهَدَّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرَجَمْت وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَكَذَا كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِمَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ عَمْدًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَذِبًا بِهَذَا التَّعْلِيقِ وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمَا لَا يَكُونُ وَمَعْنَاهُ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ فَهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ التَّهْدِيدُ. وَذُكِرَ عَنْ حَمَّادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّاهِدَيْنِ إذَا رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمَا يَوْمَ رَجَعَا فَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُ يَوْمَ شَهِدَا صَدَّقَهُمَا الْقَاضِي فِي الرُّجُوعِ وَرَدَّ الْقَضَاءَ وَأَبْطَلَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا يَوْمَ رَجَعَا مِثْلَ حَالِهِمَا يَوْمَ شَهِدَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْقَاضِي وَلَمْ يَقْبَلْ رُجُوعَهُمَا وَلَمْ يُضَمِّنْهُمَا شَيْئًا وَكَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مَاضِيًا وَبِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا أُبْطِلُ الْقَضَاءَ بِقَوْلِهِمَا لِآخَرَ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَلَ مِنْهُمْ يَوْمَ شَهِدَا، وَلَكِنْ أُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 178 أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِالْعَدَالَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْمُخْبِرِ. فَإِذَا كَانَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَظْهَرُ وَحَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ بَيِّنٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رُجُوعَهُ تَوْبَةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَاءُ ذَلِكَ غُيِّبَ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ دُونَ حَالِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ أَبْيَنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِثْلَ حَالِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ وَاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ دُونَهُ وَيَنْقُضُهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْإِتْلَافِ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي يَخْتَارُ فِي قَضَائِهِ فَذَلِكَ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ شَيْئًا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّنَاقُضِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ بِالرُّجُوعِ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَعَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا تَعْدَمُ التَّنَاقُضَ وَكَمَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ. فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ. فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ، ثُمَّ جَانِبُ الصِّدْقِ يُعَيَّنُ فِي الشَّهَادَةِ وَتَأَكُّدُ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ. وَإِذَا كَانَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ عِنْدَ الرُّجُوعِ لِفِسْقِهِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَتَعَيُّنُ الْكَذِبِ فِيهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَلَوْ أَبْطَلَ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَنْ هَذَا الرُّجُوعِ فَيَجِبُ إعَادَةُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِتْلَافُ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسَبَبُ الْقَضَاءِ شَهَادَةٌ لِلشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْجَأِ مِنْ جِهَتِهِمْ فَإِنَّ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ شَرْعًا، ثُمَّ السَّبَبُ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالتَّعَدِّي فِي السَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمَا وَبِهَذَا السَّبَبِ سُلِّطَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَسَلَّطَا عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِأَنْفُسِهِمَا ضَمِنَا. فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّطَا الْغَيْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْجِيرَانِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْخَسْرَانِ عَنْ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَتَعَيُّنُ الشُّهُودِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 179 - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى قَطْعِ يَدٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَّبَا لِقَطْعِ الْيَدِ بِطَرِيقٍ هُوَ تَعَدٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَبَبٌ مُعْتَادٌ فِي النَّاسِ فَقَدْ يَقْصِدُ الْمَرْءُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الدِّيَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِقَوْلِهِمَا وَهُوَ إقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَقَوْلُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَإِذَا كَانَ ضَامِنَيْنِ لِلدِّيَةِ إذَا رَجَعَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَامِنًا لِنِصْفِ الدِّيَةِ إذَا رَجَعَ؛ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَبِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ تَبْقَى الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ الضَّمَانِ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ فَإِنْ رَجَعَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمَا الْمَالُ كُلُّهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ شَيْئًا مُسْتَحَقًّا لَهُ فَالشَّهَادَةُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا تُوجِبُ شَيْئًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ. فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ الْمَالِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَته فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الشَّعْبِيُّ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَقُولُ فُرْقَةُ الْقَاضِي جَائِزَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَرُدُّ الْقَاضِيَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنْ كَانَ هُوَ الشَّاهِدُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ الشَّاهِدُ عَلَى إبْطَالِ شَهَادَتِهِ الْأُولَى، وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إنْ كَانَ هُوَ تَزَوَّجَهَا وَإِلَى هَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا حَتَّى إذَا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالنِّكَاحِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ مُحْتَجًّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشِّرَاءِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 180 بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوَلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ أَكْلًا بَاطِلًا. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ نَارٍ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ سَبَبًا بَاطِلًا فَلَا يَنْفُذُ بَاطِنًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْعَبِيدِ أَوْ الْكُفَّارِ، أَوْ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَهُوَ سَبَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَحُجَّةُ الْقَضَاءِ مَشْرُوعَةٌ وَالْكَبِيرَةُ ضِدَّهَا. وَإِذَا كَانَتْ تُهْمَةُ الْكَذِبِ تُخْرِجُ الشَّهَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فَحَقِيقَةُ الْكَذِبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا قَضَى بِهِ لَا كَوْنَ لَهُ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَضَى بِنِكَاحِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ لِإِنْسَانٍ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِقَضَائِهِ نِكَاحًا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ إظْهَارُهُ بِالْقَضَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا كَوْنَ لَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاؤُهُ إنْشَاءً؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ فَإِنَّ سَبَبَ وِلَايَتِهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَشَهَادَةُ شُهُودِهِ وَهُوَ إنَّمَا ادَّعَى عَقْدًا سَابِقًا وَبِذَلِكَ شَهِدَ شُهُودُهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا لَمْ يَدَّعِهِ الْمُدَّعِي وَلَا يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْصِدْ إنْشَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَضَاءَهُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءَ تَمْلِيكٍ مِنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْعَةُ التَّرِكَةِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِنْشَاءَ هُنَا، وَمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِمَا لَاحَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَضَاؤُهُ إنْشَاءٌ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا قَصَدَ الْإِمْضَاءَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُنْشِئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً لَوْ أَقَرَّا بِالنِّكَاحِ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِنْشَاءَ، وَلَكِنَّهُمَا بِالْإِقْرَارِ أَظْهَرَا عَقْدًا قَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءً مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَيَقِّنٌ بِمَا لَوْ تَبَيَّنَ الْقَاضِي بِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْذُورًا لِخَفَاءِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً مَجُوسِيَّةً، أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ، أَوْ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي شَرَائِطَ الْإِنْشَاءِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْمَهْرِ وَالْوَلِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنْ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ بُدًّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَنَا فَقَالَ عَلِيٌّ شَاهِدَاك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 181 زَوَّجَاك فَقَدْ طَلَبْت مِنْهُ أَنْ يُعِفُّهَا عَنْ الزِّنَا بَلْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الزَّوْجُ رَاضٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّكَاحَ وَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ أَيْضًا حَيْثُ قَالَتْ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ وَكَانَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ رَاغِبًا فِيهَا، ثُمَّ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ وَبَيْنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمَا قَدْ حَصَلَ بِقَضَائِهِ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاك أَيْ أَلْزَمَانِي الْقَضَاءَ بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا فَثَبَتَ النِّكَاحُ بِقَضَاءٍ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِالرَّأْيِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَبِهِ يَقُولُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَقَضَاؤُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ نَافِذًا حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ لَا يَنْفَدُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنْهُ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَمَّا تَفَحَّصَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَزُكُّوا عِنْدَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ يَأْثَمُ وَيُخْرَجُ وَيُعْزَلُ وَيُعْذَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لَنَا طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ مِنْ خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَرْعًا لِوُقُوفٍ عَلَى مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسْبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ التَّعَرُّفُ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فَإِنْ اسْتَقْصَى ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِقْصَاءِ فَقَدْ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا سَاقِطٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، ثُمَّ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا بِقَضَائِهِ زَوْجَتَهُ فَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ إظْهَارُ نِكَاحٍ إنْ كَانَ، وَإِنْشَاءُ عَقْدٍ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمَا عَقْدٌ تَعَذَّرَ إظْهَارَهُ بِالْقَضَاءِ فَيَتَعَيَّنُ الْإِنْشَاءُ إذَا لَيْسَ هُنَا طَرِيقٌ آخَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَيَجْعَلَ إنْشَاءَهُ كَإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِهِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً بَلْ قَضَاؤُهُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ عَنْ اتِّفَاقٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ صِفَةُ اللُّزُومِ يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَضَاءَهُ أَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ. وَشَرْطُ صِحَّةِ الْإِنْشَاءِ الشَّهَادَةُ وَالْمَحَلُّ الْقَابِلُ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطٌ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ. فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ شَرْطُهُ إلَّا أَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ شَاهِدَيْنِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ. فَأَمَّا الْوَلِيُّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْمَهْرِ وَيَجِبُ هَذَا التَّحْقِيقُ حُكْمُهُ بِأُلْفَةٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ رَجُلَانِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 182 بِنِكَاحِ ظَاهِرٍ لَهُ وَالْآخَرُ بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى وَالدِّينُ مَصُونٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقُبْحِ وَلَا يَكُونُ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ مُمَكِّنًا مِنْ الزِّنَا فَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى. وَإِذَا كَانَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا فَلَإِنْ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ هُنَا لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَصُونَ قَضَاؤُهُ بِهِ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ مَعَ يَقِينِهِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا كَمَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ» فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ مَعَ كَذِبِ الشُّهُودِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَأَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ نَسَبِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادَهُ تَنْتَصِبُ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَيْهَا، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ مَا قَالُوا أَنَّ الْمُدَّعِي عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَفِي اللِّعَانِ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ التَّفْرِيقِ وَمَعَ ذَلِكَ نَفَذَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَاضِي وَتَوَجُّهٌ الْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِ الْقَاضِي فِي حَقِّ النَّاسِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ، أَوْ كُفَّارٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ فَإِنَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ فَلِلْحَرِجِ تَعَذَّرَ بِتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ الْخِطَابُ بِإِصَابَتِهَا حَقِيقَةً فَلَا يُتَوَجَّهُ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهَا حَقِيقَةً. فَأَمَّا حَقِيقَةُ الصِّدْقِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ يُتَوَجَّهُ بِدُونِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ، أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ ظَهْر نَصٌّ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَيْسَ فِيهِ وِلَايَةُ الْقَاضِي وَلَا لِصَاحِبِ الْمَالِ أَيْضًا، وَفِي أَسْبَابِ تَمْلِيكِ الْمَالِ كَثْرَةٌ فَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا وِلَايَةُ إظْهَارِ الْمِلْكِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِلْكٌ سَابِقٌ فَلَا تَصَوُّرَ لِإِظْهَارِهِ بِالْقَضَاءِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بَاطِنًا. فَأَمَّا هُنَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَطَرِيقُهُ مُتَعَيَّنٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِي لَا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَلَّكْتُك هَذَا الْمَالَ، وَإِنَّمَا يَقْصُرُ يَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمَالِ وَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكَهُ كَمَا يَدَّعِيه وَقَضَاؤُهُ بِهَذَا نَافِذٌ. فَأَمَّا هُنَا نَقُولُ قَضَيْت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 183 بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا وَجَعَلْتهَا زَوْجَةً لَك فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِقَضَائِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ حَقِيقَةً وَصَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا لِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَيْفَ يَطَؤُهَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ زَانِيًا عِنْدَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ، وَأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ كَانَ كَبِيرَةً مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا لِهَذَا وَيَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي. فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ حَرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ فِي هَذَا الْوَطْءِ يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَهُوَ يَقُولُ يَطَؤُهَا الْأَوَّلُ سِرًّا بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ وَالثَّانِي عَلَانِيَةً بِنِكَاحٍ ظَاهِرٍ لَهُ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ وَنَحْنُ نَنْهَى كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَقُولُونَ فِيمَا إذَا كَانَ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ فَإِنَّهَا فِي الْبَاطِنِ مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ يَطَؤُهَا سِرًّا، وَفِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكَةٌ لِلثَّانِي يَطَؤُهَا عَلَانِيَةً، وَهَذَا الْقُبْحُ يَتَقَرَّرُ فِيهِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ التَّمَكُّنُ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ يَلْتَبِسُ وَالنَّاسُ أَطْوَارٌ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً إذْ هِيَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ وَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَجْهَ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاتَّبَعَ فِيهِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ، وَأَنَّهَا تَحِلُّ بِالنِّكَاحِ لِلثَّانِي. رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمُشْتَرِي يَجْحَدُ ذَلِكَ فَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَا تَأَدَّتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَتَنَاقُضِ كَلَامِهِمَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 184 فِي الرُّجُوعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ مَالِيَّتَهَا مِثْلَ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْجُبْرَانِ وَالنُّقْصَانُ هُنَا مُنْجَبِرٌ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ الْمُشْتَرِي فِي حِلٍّ مِنْ وَطْئِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ يَبِيعُ التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ وَيَبِيعُ مَالَ الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ لِمَعْنَى النَّظَرِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ كَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ إمْضَاءٌ لِبَيْعٍ كَانَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ كَانَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَالرَّجُلُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَلْتَعِنَ هُوَ وَامْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسَعْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَا إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَيُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرُهُ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَذَفَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَكَرِهَ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ لَمْ يَسَعْ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ كَاذِبٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ لِمَا أَنَّ لِلْقَاضِي إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ وَهُوَ قَضَاءٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِهِ لِوِلَايَةِ التَّفْرِيقِ لَهُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ حَتَّى إذَا كَانَ الْحَالُ مَعْلُومًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَالِاشْتِبَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ فِي اللِّعَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَعْدَ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَأَقَرَّتْ هِيَ بِذَلِكَ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا يَسَعُهَا أَنْ تَأْخُذَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْرَبْهَا، وَلَكِنْ لَمَّا سَقَطَ عَنْهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا وَأَتَتْ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التَّسْلِيمِ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي الْمَهْرِ وَلَزِمَهَا الْعَقْدُ فَلَا يَسَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا فِيهِ يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ فُصُولِ اللِّعَانِ وَالشَّهَادَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُوَ صَادِقٌ فَجَحَدَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا، وَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مِنْ زِنَاهَا مَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أُمَّتَهُ هَذِهِ فَأَجَازَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 185 لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ أَبْطَلَا ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا. فَإِذَا زَعَمَا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَدَقَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى وَلَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ سَلَامَةِ الضَّمَانِ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا تَبْقَى هِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَبِدُونِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ. وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً سُبِيَا وَكَبِرَا وَعَتَقَا وَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى، ثُمَّ جَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ وَكَيْفَ يَطَؤُهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا الْقَاضِي أُخْتَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنَانِ لَهُ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَنَا فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَقَوَّمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا أَمَتُهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا ابْنَتُهُ فَقَضَى بِذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا زُورٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي حَكَمَ بِأَنَّهَا ابْنَتُهُ فَإِنْ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ مِلْكُهُ فِي رَقَبَتِهَا وَلَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ مِيرَاثًا وَسِعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْأَبُ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَكْلِ مِيرَاثِهِ أَمَّا فِي جَانِبِهَا فَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَحَالَةُ الْعُلُوقِ غَيْبٌ عَنْهَا، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَسَعُهَا أَنْ تَأْكُلَ مِيرَاثَهُ وَأَمَّا فِي جَانِبِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ وَالنَّسَبَ مِمَّا لَيْسَ لِلْقَاضِي فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِابْنَتِهِ حَقِيقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسَعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا حَتَّى قِيلَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِيرَاثَهَا بِسَبَبِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْعِتْقِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي قَطْعِ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ. فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَقَدْ صَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى مَالٍ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي فَقَبَضَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ إذَا أَخَذَهُ الْمَقْضِيُّ لَهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ لَا يُضَمِّنُهُمَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ. فَأَمَّا مَا بَقِيَتْ يَدُهُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَسْرَانُ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ وَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا حِينَ أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا فَلَوْ ضَمَّنَهُمَا عَيْنًا قَبْلَ الْأَدَاءِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا مُمَاثِلَةَ الدَّيْنِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَفِي الْأَعْيَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَقْضِيِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 186 لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يَضْمَنُ الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إتْلَافَ الْمِلْكِ وَالْيَدُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ إتْلَافَ الْمِلْكِ يَتَحَقَّقُ فِيهَا بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ وَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الرُّجُوعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فَلَا يَضْمَنُ الرَّاجِعُ شَيْئًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُتْلِفٌ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ فَمَا أَتْلَفَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ كَمَنْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ، أَوْ أَتْلَفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ ذَلِكَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا ضَمَانَ لِلْمُتْلِفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُضَمِّنْهُ الْمُسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ ضَمِنَا نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ يَثْبُتْ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ خَاصَّةً فَيَضْمَنُ الرَّاجِعَانِ ذَلِكَ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ فَعَلَيْهَا رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِمَا رُبُعُ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبُعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَعَلَيْهَا النِّصْفُ، وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ وَعَلَى الْمَرْأَتَيْنِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَقَدْ قَامَتَا فِي الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَمَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُقْصَانِ عَقْلِ النِّسَاءِ عَدَلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةُ رَجُلٍ.» فَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْمَالِ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ، وَإِنْ كَثُرْنَ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَقُمْنَ إلَّا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَكَانَ الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ وَبِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ إلَّا بِوُجُودِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ. وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَعَلَيْهِنَّ ضَمَانُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ كُلّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 187 امْرَأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَشْرُ نِسْوَةٍ بِخَمْسَةٍ مِنْ الرِّجَالِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَسْدَاسًا وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حُكْمَ الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجْعَلْ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ كَحَالَةِ انْفِرَادِ الْبَنَاتِ فَعِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يُزَادُ لَهُنَّ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ. فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ عَلَى أَدْنَى الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَبِكَثْرَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الرَّجُلِ يَزْدَادُ النِّصَابُ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ كَذَلِكَ يَقْضِي بِالضَّمَانِ، وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ التِّسْعُ رُبُعَ الْمَالِ عَلَيْهِنَّ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْعَاشِرَةُ فَعَلَيْهَا وَعَلَى التِّسْعِ نِصْفُ الْمَالِ أَمَّا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ، ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ، ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ شَاهِدَةً فَإِنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ شَطْرُ الْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا شَاهِدًا وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ضَمِنَ الرَّجُلُ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بَقِيَتْ فِي نِصْفِ الْمَالِ فَقَدْ بَقِيَ امْرَأَتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ، ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا نِصْفَ الْمَالِ مُتَعَيَّنٌ فِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَنِصْفٌ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُجَّةَ انْعَدَمَتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ خَاصَّةً فَيَكُون الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَكُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ إذَا ضَمَّتْهَا إلَى الْأُخْرَى كَانَتَا شَاهِدًا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ مُحَالًا بِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 188 وَقَدْ بَقِيَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ الْحَقِّ فَيَجِبُ ضَمَانُ نِصْفِ الْحَقِّ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ضِعْفُ مَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الرَّجُلِ خُمُسَا الْمَالِ وَعَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ أَثْلَاثٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا رَجَعَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِمَا رُجُوعًا بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ كَالشَّهَادَةِ فَلِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي بَاطِلَةٌ. فَكَذَلِكَ رُجُوعُهُمَا وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِي هَذَا كَالْأَمْوَالِ. وَإِذَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَشْهَدَا بِالْمَالِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْ قَبْلِ الرُّجُوعِ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمَا شُهُودٌ بِالْمَالِ عَلَيْهِمَا قَبْلَ الرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَاطِلٌ فَإِنَّمَا أَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ، وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُمَا شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى زِنًا وَاحَصَانٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَشْهَدَ الشُّهُودَ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِالرُّجُوعِ مَا صَارُوا قَاذِفِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ الشَّهَادَةَ تَنْفَسِخُ بِالرُّجُوعِ فَيَصِيرُ كَلَامُ الشَّاهِدَيْنِ قَذْفًا عِنْدَ ذَلِكَ وَفَسْخُ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ (قَالَ) وَلَوْ أَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الْحَدَّ لَأَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا. وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ حَتَّى رَجَعَا عَنْهَا لَمْ يَقْضِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ وَلَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ حِينَ رَجَعَا، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَتَأَكَّدُ بِالْقَضَاءِ فَبِالرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأَكُّدِ يَبْطُلُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ لَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ شَفِيعُهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي يَدَيْهِ مُلْزَقَةٌ بِدَارِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ فِيهَا بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِنَقْضِهِ ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ لَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِقَرَارِ الْبِنَاءِ بِمِلْكِهِ الدَّارَ، وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ بِمِلْكِهَا مِنْهُ فَكَانَا مُتْلِفَيْنِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا، وَيَكُونُ النَّقْضُ لَهُمَا بِالضَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 189 هَدَمَاهُ بِأَيْدِيهِمَا. وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَهَادَةٍ شَهِدَا بِهَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مَجْلِسُ الْقَاضِي لَا مَجْلِسُ ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَرُجُوعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ كَرُجُوعِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ، أَوْ عُزِلَ فَرَجَعَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ أَلَيْسَ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ. فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ فَإِنْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُؤَدِّيَا حَتَّى تَخَاصَمَا إلَى الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَجَحَدَا الرُّجُوعَ فَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ بِالرُّجُوعِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَيُضَمِّنُهَا الْمَالَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَثْبَتَ الْمَالَ عَلَيْهِمَا بِالْحُجَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَيُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَيُضَمِّنُهُمَا ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمَا شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمَا ذَلِكَ فَالثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُمَا بِذَلِكَ ضَمَّنَهَا الْمَالَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ. وَلَوْ رَجَعَ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ وَكَتَبَا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَكًّا وَبِسَبَبِ الْمَالِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِمَالٍ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ضَمَّنَهُمَا الْمَالَ. فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ الشُّرَطِ، أَوْ عَامِلِ كُورَةٍ لَيْسَ الْقَضَاءُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّهَادَةِ فَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الرَّعَايَا. فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ مَا يَعْدِلُ مَا أَخْرَجَاهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ضَمِنَا الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْعٍ، أَوْ صَرْفٍ شَهِدَا بِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ دَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ وَسَائِرُ الدُّيُونِ سَوَاءٌ، ثُمَّ إذَا أَجَّلَ رَبُّ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ صَحَّ هَذَا التَّأْجِيلُ فَكَذَا هُنَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 190 لَيْسَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ الْغَصْبِ، أَوْ مَالٌ مُسْتَهْلَكٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، أَوْ حَلَّلَهُ، أَوْ أَوْفَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ ضَمِنَا الْمَالَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ (قِيلَ) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ الدَّيْنَ فَكَيْفَ يَضْمَنَانِ لَهُ الْعَيْنَ (قُلْنَا) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ مِنْهُمَا. وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ سَنَةً فَقَضَى بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْحِلِّ، أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَا الْمَالَ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّأْجِيلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْحُكْمِ كَالْإِبْرَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَجَّلَ فِي دَيْنٍ لَهُ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ، ثُمَّ هَذَا يَتَّضِحُ فِي رُجُوعِهِمَا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالرُّجُوعِ فَالْإِتْلَافُ بِالشَّهَادَةِ يَحْصُلُ. وَإِذَا صَارَ ضَامِنَيْنِ بِهَا لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، ثُمَّ أَجَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَبَعْدَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الضَّامِنَ كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَبَعْدَهُ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ وَبِحُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إتْلَافًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَطْلُوبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاهِدَ. فَإِذَا أَخَذَ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا ذَلِكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَلِأَنَّ الطَّالِبَ حِينَ ضَمَّنَهُمَا فَقَدْ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنْ نَوَى عَلَى الْمَطْلُوبِ بَرِئَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ لَوْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَا يَكُونُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَهُ، ثُمَّ إذَا أَدَّى لِلطَّالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى أَحَدٍ. فَكَذَلِكَ لِلَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ تَحَوُّلَ الْحَقِّ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ عَادَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَهُنَا أَصْلُ الْمَالِ صَارَ لِلشَّاهِدَيْنِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا فَإِنْ خَرَجَا كَانَا لَهُمَا، وَإِنْ نَوَى كَانَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَ عَبْدَهُ لِهَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا رُجُوعٍ لِلْمَوْلَى فِي الْهِبَةِ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ إمَّا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ عِوَضٌ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا أَخَذَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 191 مِنْهُمَا مِنْ الضَّمَانِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِلشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَاطِلٌ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ جَعَلَ الْعَبْدَ هِبَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاهِبُ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ فَإِنْ (قِيلَ). فَإِذَا ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ الْقِيمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْوَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ (قُلْنَا) الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ مَالٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِالدَّيْنِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُمَلَّكًا وَلَك مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُمَا. فَأَمَّا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلِاعْتِيَاضِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُمَلَّكًا ذَلِكَ مِنْ الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ الْعِوَضُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ أَيْضًا. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى لَهُ بِهِ وَهُوَ أَبْيَضُ الْعَيْنِ، ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ عَنْهُ وَازْدَادَ خَيْرًا، أَوْ مَاتَ عِنْدَ الْمَقْضِيِّ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَضَى بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا كَانَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ فَفِي الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ يُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُمَا. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلْوَكِيلِ وَقَبَضَهُ وَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ قَدِمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا إنَّمَا بِصِنَاعَتِهِ ثَانِيًا يَقْبِضُ الْمَالَ فَيَحْفَظُ لَهُ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِلْمُوَكِّلِ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَبْضِ كُلِّ وَدِيعَةٍ وَغَلَّةٍ وَمِيرَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ دُونَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الدَّرَاهِمِ مَنْ تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِشَهَادَتِهِ وَرُجُوعُ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الدَّرَاهِمِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الدَّنَانِيرِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ شَرْعًا، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَضَمَانُ الدَّنَانِيرِ عَلَى الَّذِينَ شَهِدُوا بِهَا خَاصَّةً وَضَمَانُ الدَّرَاهِمِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَاعٌ عَلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ رُبُعٌ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 192 وَعَلَى كُلِّ رَجُلٍ رُبُعٌ وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ الثُّلُثُ وَعَلَى النِّسْوَةِ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَذَلِكَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي مَرَضِهِمَا فَيَبْدَآنِ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ فَوَجَبَ الْبَيْعُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ (فَإِنْ قِيلَ) لَا كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهَذَا الْبَيْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا (قُلْنَا) زَوَالُ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ فَالسَّبَبُ هُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمْ وَالْبَائِعُ كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ فَمَعَ إنْكَارِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ وَيَتَبَيَّنُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ وَالْعَاقِلُ يَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِجُهْدِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْفَسْخِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الشُّهُودِ، وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ مُزِيلًا مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشِّرَاءِ، وَفِي قِيمَةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ فَإِنْ سَكَتَ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ضَمِنَ الْمَشْهُودُ لَهُ النُّقْصَانَ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنَا لَهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْبَيْعِ. وَلَوْ شَهِدَا بِرَهْنِ عَبْدِهِ وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ جَاحِدٌ لِلرَّهْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ رَهْنًا، ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِحَقِيقَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ بِمَالٍ فِي يَدِهِ هُوَ مِثْلُ الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا عِنْدَ الرُّجُوعِ. فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا أَيْضًا مَا دَامَ الْعَبْدُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ. فَإِذَا مَاتَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ضَمِنَا ذَلِكَ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حِينَ أَثْبَتَا حَقَّ الْحَبْسِ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْن عَنْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى الرَّهْنَ وَجَحَدَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 193 عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ (فَإِنْ قِيلَ) فَلِمَاذَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهِيَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا (قُلْنَا) إثْبَاتُ السَّبَبِ بِالْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِرَهْنٍ هَالِكٍ فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَتِمُّ بِمِلْكِ الرَّهْنِ فَيَكُونَانِ مُتْلِفَيْنِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ. وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَرَبِحَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ وَرَبُّ الْمَالِ يَقُولُ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الرِّبْحِ وَرَدَّ الْبَاقِي، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِ دَانِ ضَمِنَا السُّدُسَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى إتْمَامِ النِّصْفِ إنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ دَيْنًا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ اقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ سُدُسَهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِتَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ وَتَصِلَ إلَى الْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ التَّفْوِيتُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا رَجَعَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا إذْ الِاسْتِحْقَاقُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ النِّصْفَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَرَبُّ الْمَالِ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ لِلرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالُهُ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَيَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا، وَلَوْ نَوَى رَأْسَ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا شَهِدَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بِشَيْءٍ إنَّمَا شَهَادَتُهُمَا فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا وَرَأْسُ مَالٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَدَّعِي النِّصْفَ، وَقَدْ رَبِحَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَقَسَمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فِي كُلِّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِ الرِّبْحِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي النِّصْفِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى النِّصْفِ أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى مَنْ أَخَذَ الثُّلُثَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا رَبِحَا فِيمَا اشْتَرَيَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَسْخِ الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَإِقْدَامُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّ الرِّبْحَ أَثْلَاثٌ يَكُونُ رِضًا مِنْهُمَا بِذَلِكَ وَرِضَا الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَبِالشَّهَادَةِ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مَالٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 194 مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ النِّصْفَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَإِنَّمَا صَارَ نِصْفُ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِوَدِيعَةٍ فَجَحَدَهَا، أَوْ عَارِيَّةٍ، أَوْ بِضَاعَةٍ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ رَجَعَا ضَمِنَا لَهُ مَا غَرِمَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فَالْوَدِيعَةُ الْمَجْحُودَةُ دَيْنٌ عَلَى الْمُوَدِّعِ، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ. وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ بَعِيرَ رَجُلٍ إلَى مَكَّةَ فَعَطِبَ فَقَالَ رَبُّ الْبَعِيرِ غَصَبَنِي. وَقَالَ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْته مِنْك بِكَذَا وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَبْرَأَهُ الْقَاضِي مِنْ الضَّمَانِ، وَأَنْفَذَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ مِنْ الْأَجْرِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْبَعِيرِ إلَّا مِقْدَارَ مَا أَخَذَ صَاحِبُهُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ بَعِيرِ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الرَّاكِبِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ دَيْنًا عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَثْبَتَا لَهُ سَبَبَ الْبَرَاءَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْبَعِيرِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لَهُ إلَّا أَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِقْدَارَ مَا شَهِدَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَيُطْرَحُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَعِيرِ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاكِبَ غَاصِبٌ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ اسْتَوْفَاهُ بِحِسَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إلَّا بِالْفَضْلِ، وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ أَوَّلَ يَوْمٍ رَكِبَهُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَآخِرَ يَوْمٍ عَطِبَ فِيهِ يُسَاوِي ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِزِيَادَةٍ فِي يَدِهِ وَالْأَجْرُ خَمْسُونَ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِحِسَابِ يَوْمٍ عَطِبَ. مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا فِي قَوْلِهِمَا. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَضْمَنَانِ بِحِسَابِ قِيمَتِهِ يَوْمَ رُكِبَ وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا ازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا، ثُمَّ بَاعَهَا الْغَاصِبُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافِ هُنَا لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ وَحُكْمُ هَذِهِ وَحُكْمُ تِلْكَ سَوَاءٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ ضَمَانُ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ بِهِ إلَّا مَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ وَاحِدٍ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا تُفْرَدُ عَنْ الْأَصْلِ. فَأَمَّا ضَمَانُ الرُّكُوبِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ ضَمَانُ إتْلَافٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُرَّ يَضْمَنُ بِهِ وَالْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ مَعَ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الرَّاكِبُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا حِينَ عَطِبَتْ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَيَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ قِيمَتَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالِ. رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا، وَفِي يَدِ الطَّالِبِ ثَوْبٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ فَأَقَامَ الْمَطْلُوبُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ رَهَنَهُ إيَّاهُ بِالْمَالِ وَقَضَى بِهِ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّوْبُ فَذَهَبَ بِمِائَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 195 دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مِائَةَ دِرْهَمٍ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي الثَّوْبِ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَ الثَّوْبِ بِشَهَادَتِهِمَا أَنَّهُ لِلْمَطْلُوبِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَضْمَنَانِ وَلَمْ يَخْرُجْ الثَّوْبُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى هَلَكَ (قُلْنَا) عَيْنُ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَدُهُ فِي ذَلِكَ كَيَدِ الرَّاهِنِ، ثُمَّ أَثْبَتَا بِشَهَادَتِهِمَا يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ مِائَةً، ثُمَّ رَجَعَا، وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِالثَّوْبِ لِلرَّاهِنِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ. وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ هُوَ رَهْنٌ عِنْدَك وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهِ، ثُمَّ هَلَكَ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّهِ عَلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّهْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ فَيُجْعَلُ إمْسَاكُهُ الثَّوْبَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ رِضًا مِنْهُ بِمَا شَهِدَا عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَهُ فِي الثَّوْبِ هُنَاكَ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى رَجُلٍ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفَا فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَأَوْجَبَ الْكُرَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَقْبِضَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَا الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ الْكُرَّ دَيْنًا فَلَوْ ضَمِنَا لَهُ يَضْمَنَانِ الْعَيْنَ وَالْعَيْنُ فَوْقَ الدَّيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ. فَإِذَا قَبَضَهُ مِنْهُمَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِطَعَامِ مِثْلِهِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَشَرَةِ حَصَلَ الْإِتْلَافُ فِيهِ بِعِوَضٍ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِثْلَ الْكُرِّ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِثْلَ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ يَعْدِلُ الْمُتْلَفَ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَكْرَى شِقَّ مَحْمَلٍ إلَى مَكَّةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي وَحَمَلَهُ وَقَبَضَ الْأَجْرَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ ضِعْفَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ عَلَى رَبِّ الْإِبِلِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ يُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ عِنْدَنَا، وَلَوْ أَتْلَفَاهُ مُبَاشَرَةً بِأَنْ رَكِبَا لَمْ يَضْمَنَا. فَإِذَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ادَّعَاهُ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَجَحَدَهُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَمِنَا لَهُ مِمَّا أَدَّى مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا مِنْ الْأَجْرِ وَعَوَّضَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ الْبَعِيرِ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهِ فَلَا يَضْمَنَانِ مِقْدَارَ مَا أَتْلَفَاهُ بِعِوَضٍ وَيَضْمَنَانِ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتِهِمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَجْرَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 196 أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَالًا يُقَابِلُهُ مِنْ ذَلِكَ عِوَضٌ يَعْدِلُهُ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ بِمَا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فَعَدَّلُوا وَاجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْبَرَاءَةُ مُسْقِطَةٌ مُفَرِّغَةٌ لِلذِّمَّةِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِإِشْغَالِ الذِّمَّةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّغُ الذِّمَّةَ. ثُمَّ الْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَى النَّاسِخِ بِحُكْمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَ ظُهُورِ النَّاسِخِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَخَذَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ فَقَضَى بِهَا، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْأَلْفِ بِالْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِهَا لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا فَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهِمْ إذَا أَرَادَ تَضْمِينَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِإِتْلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ أَعَادَهُمْ فَخَصَمَهُمْ فِي ذَلِكَ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ الَّذِينَ رَجَعُوا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ الضَّمَانَ فَهُمْ خُصَمَاؤُهُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْمَدِينَ شَيْئًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا لَا تَقُومُ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ مَقَامَ الْمَدِينِ فِي إعَادَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْأَلْفِ أَنَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَقَضَى بِهَا عَلَى شُهُودِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ إتْلَافَهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى الطَّالِبِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ وَلَا يَرْجِعَانِ بِهَا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ. وَقَالَ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي مُدَّعِي الْمَالِ بِإِعَادَةِ شُهُودِهِ بَعْدَ رُجُوعِ شَاهِدَيْ الْبَرَاءَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا سَاعَةَ رَجَعَا وَهُوَ مَالٌ حَادِثٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فَلَا يُجْبَرَا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا غَصَبَا الْمَالَ سَاعَةَ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ وَرَجَعَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 197 [بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى دُخُولِهِ بِهَا فَقَضَى الْقَاضِي بِالصَّدَاقِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَعَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ رُبْعُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ أَلْزَمُوهُ نِصْفَ الْمَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَشُهُودُ الدُّخُولِ أَلْزَمُوهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ فَنِصْفُ الْمَهْرِ اخْتَصَّ بِشُهُودِ الدُّخُولِ بِإِيجَابِهِ عَلَى الزَّوْجِ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ وَنِصْفُ الْمَهْرِ اشْتَرَكُوا فِيهِ فَضَمَانُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ فَإِنْ (قِيلَ) لَا كَذَلِكَ بَلْ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَمَا أَلْزَمَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ (قُلْنَا) نَعَمْ وَجَبَ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ عَلَى أَنَّهُ فَوَّتَ تَسْلِيمَ الْبُضْعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْلَا شَهَادَةُ شُهُودِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَوْلَا شَهَادَةُ شُهُودِ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلَكِنَّهُمَا حِينَ شَهِدَا بِوُجُودِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْقَةِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَحِينَ شَهِدَا الْآخَرَانِ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ نِصْفَ الْمَهْرِ فَيَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَهْرِ بِشَهَادَتِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ غَصَبُوهُ ذَلِكَ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ النِّصْفَ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ الْكُلَّ. وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الدُّخُولِ وَحْدَهُ ضَمِنَ رُبْعَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ شُهُودُ الدُّخُولِ بِإِلْزَامِهِ بَقِيَ فِيهِ امْرَأَتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِبَقَائِهِمَا يَبْقَى نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ وَلَوْ رَجَعَ شَاهِدُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَزِمَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الطَّلَاقِ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الدُّخُولِ كُلُّهُمْ ضَمِنُوا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ وَلَوْ كَانَ شُهُودُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 الطَّلَاقِ هُمْ الَّذِينَ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ وَهُمْ شُهُودُ الدُّخُولِ وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْ شُهُودِ الطَّلَاقِ وَامْرَأَةٌ مِنْ شُهُودِ الدُّخُولِ فَعَلَى الرَّاجِعَةِ مِنْ شُهُودِ الدُّخُولِ ثُمُنُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ شُهُودُ الدُّخُولِ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَبَقِيَ الْحُجَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِتَفَاوُتِهِمَا وَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعَةِ رُبْعُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً وَآخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ وَبِنِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَضَمَانُ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الثُّلُثِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الثُّلُثِ هُمْ الَّذِينَ قَطَعَتْ بِشَهَادَتِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الزَّوْجِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ بِالثُّلُثِ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ صِفَةُ الْحُرْمَةِ وَشَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لَا يَثْبُتُ بِالْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَإِنَّمَا قَضَى الْقَاضِي بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الثُّلُثِ خَاصَّةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ فَالضَّمَانُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ نَظِيرُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَأَبَانَهَا الْقَاضِي مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَأَلْزَمَهُ نِصْفَ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ دُونَ شُهُودِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِالْفُرْقَةِ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الطَّلَاقِ دُونَ شَهَادَةِ شُهُودِ الْإِيلَاءِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِتَطْلِيقِهِ وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَقَضَى بِذَلِكَ وَنَقَدَهَا الْأَلْفَ ثُمَّ رَجَعَا؛ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا أَيُّهُمَا كَانَ الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ فَقَدْ أَلْزَمَا الزَّوْجَ الْأَلْفَ وَأَدْخَلَا فِي مِلْكِهِ الْبُضْعَ بِمُقَابَلَتِهِ وَالْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْبُضْعَ وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّمَلُّكِ يَقُومُ الْمَمْلُوكُ بِهِ كَالِاسْتِيلَاءِ لَمَّا كَانَ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَتَقَوَّمُ بِهِ نَفْسُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي فَقَدْ أَثْبَتْنَا عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَعَوَّضَاهَا بِمُقَابَلَتِهِ مَا يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْأَلْفُ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ وَكَانَ الزَّوْجُ مُنْكِرًا ضَمِنَا لَهُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَ وَعَوَّضَاهُ مَا يَتَقَوَّمُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى أَتْلَفَاهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْبُضْعَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَ قِيمَةِ الْبُضْعِ وَلَكِنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتْلِفِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ لِضَرُورَةِ التَّمَلُّكِ فَلَمْ يَضْمَنْ الشَّاهِدَانِ لَهُمَا شَيْئًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنَانِ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ الْمَرْأَةَ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ الْقَاتِلُ لِلزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَغْرَمْ لِلزَّوْجِ شَيْئًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَلَيْهَا إنْ ارْتَدَّتْ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَيُقَوَّمُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ عَيْنُ مَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّقَوُّمِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ التَّقَوُّمُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّمُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ ابْتِدَاءً وَيَتَقَوَّمُ أَيْضًا عِنْدَ الْإِزَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ وَهُوَ الْعِتْقُ حَتَّى يَضْمَنَ شُهُودُ الْعِتْقِ الْقِيمَةَ إذَا رَجَعُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الطَّلَاقِ لَمَا ضَمِنُوا شَيْئًا وَإِذَا ثَبَتَ التَّقَوُّمُ قُلْنَا الْمُتَقَوِّمُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ كَالنَّفْسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبُضْعَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْبُضْعِ وَالْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فَأَمَّا عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ الْمُتَقَوِّمُ هُوَ الْمَمْلُوكُ دُونَ الْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَكَانَ تَقَوُّمُهُ لِإِظْهَارِ خَطَرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ حَتَّى يَكُونَ مَصُونًا عَنْ الِابْتِدَالِ وَلَا يَمْلِكُ مَجَّانًا فَإِنَّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ مَجَّانًا لَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ عِنْدَهُ وَذَلِكَ مَحَلٌّ لَهُ خَطَرٌ مِثْلُ خَطَرِ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَحْصُلُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي طَرَفِ الْإِزَالَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَمَلَّكُ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا وَلَكِنْ يَبْطُلُ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا هُوَ مَشْرُوطٌ لِمَعْنَى الْخَطَرِ عِنْدَ التَّمَلُّكِ كَالشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ لَا يَشْتَرِطُ شَيْئًا مِنْهُ عِنْدَ الْإِزَالَةِ وَأَنَّ الْأَبَ لَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِهِ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ مِلْكُ مَالٍ وَالْمَالُ مِثْلُ الْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فَعِنْدَ الْإِتْلَافِ يَضْمَنُ بِالْمَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَغْرَمَانِ هُنَاكَ قِيمَةَ الْبُضْعِ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَغْرَمَانِ نِصْفَ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا عَلَى الزَّوْجِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فَهُمَا أَكَّدَا عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ، هُوَ عِبَارَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْأَوْجَهُ أَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 نَقُولَ: وُقُوعُ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ جَمِيعَ الصَّدَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ وَلَا كَانَ مُتَهَيِّئًا لِلنِّكَاحِ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَهُمَا بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ مَنَعَا الْعِلَّةَ الْمُسْقِطَةَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا فِي النِّصْفِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَا الزَّوْجَ ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَفِي هَذَا أَيْضًا نَوْعُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الِابْنَ إذَا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَتَّى زَنَى بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَغْرَمُ الْأَبُ نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا تَصِيرُ بِهِ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْأَبِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهَا مَنَعَ صَيْرُورَةَ الْفُرْقَةِ مُضَافَةً إلَيْهَا وَذَا مُوجِبٌ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَلَى الْأَبِ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ شُهُودُ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِلْكٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْوَلِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَمَا تُضْمَنُ النَّفْسُ بِالْإِتْلَافِ حَالَةَ الْخَطَإِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مِلْكُ الْقِصَاصِ كَمِلْكِ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَإِنَّمَا الْمُتَقَوِّمُ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّ بِالصُّلْحِ الْقَاتِلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الصُّلْحِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةُ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِهَذَا وَالْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ فَإِنَّمَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ لَا بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهَا فَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ يُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ نَفْسُهُ وَذَلِكَ مُتَقَوِّمٌ وَهُنَا بِالطَّلَاقِ بَطَلَ مِلْكُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهَا شَيْءٌ كَانَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ عَنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَحَلِّ فَأَمَّا تَقَوُّمُ النَّفْسِ بِالدِّيَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَلِلصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ وَإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ إهْدَارُهُ حَسَنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ حُكْمًا وَفِي الْعَفْوِ حَيَاةٌ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ هُنَا بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرَضَ الزَّوْجُ لَهَا مَهْرًا فَشَهِدَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِالْمُتْعَةِ ثُمَّ رَجَعَا غَرِمَا الْمُتْعَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ يَغْرَمَانِ لِلزَّوْجِ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَغْرَمَانِ لَهُ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي وَهُوَ الْمُتْعَةُ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الْفَصْلَيْنِ لَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 أَسْقَطَا عَنْهُ الْبَعْضَ وَمَا أَوْجَبَا عَلَيْهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا ضَمِنَّا فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَا لَهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَهَا فِي بَعْضِ الصَّدَاقِ وَفِيمَا قَرَّرْنَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ وَالزَّوْجُ يَجْحَدُ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَعَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ إلَى تَمَامِ أَلْفٍ أَلْزَمَهُ شُهُودَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ بِمُقَابَلَتِهِ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ النِّصْفُ فَيَغْرَمَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَمِقْدَارُ الْخَمْسِمِائَةِ أَلْزَمَاهُ بِعِوَضٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ النِّصْفِ تَمْنَعُهُمَا الْعِلَّةُ الْمُسْقِطَةُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهَا حِينَ أَضَافَا الْفُرْقَةَ إلَى الزَّوْجِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَيْضًا بِالدُّخُولِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ خَمْسُمِائَةٍ الْفَضْلُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى أَلْزَمَاهُ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَاهِدَا الدُّخُولِ وَشَاهِدَا التَّطْلِيقِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَرُبْعُهُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الْمُسَمَّى فِي مَسْأَلَةٍ أَوَّلَ الْبَابِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عَلَى أَنْ بَرَّأَتْهُ مِنْ الْمَهْرِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَهِيَ تَجْحَدُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِمَا ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الزَّوْجِ وَالْمَهْرُ عَلَيْهِ ضَمِنَا لَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُمَا أَتْلَفَا جَمِيعَ الْمَهْرِ عَلَيْهَا بِشَهَادَتِهِمَا بِالْخُلْعِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَهْرِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَشَاهِدَيْ الْإِبْرَاءِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَلْ تَزَوَّجَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَأَقَامَ الزَّوْجُ شَاهِدَيْنِ بِمَا ادَّعَى وَقَضَى بِذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لَهَا تِسْعَمِائَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهَا شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلُ مَا تَقُولُهُ الْمَرْأَةُ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُهَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَلَوْلَا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَكَانَ يُقْضَى لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِالْأَلْفِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا بِشَهَادَتِهِمَا مِقْدَارَ تِسْعِمِائَةٍ فَيَضْمَنَانِ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَهْرِ فَالشَّاهِدَانِ لَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئًا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَنْكَرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى نُقْصَانًا كَثِيرًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا فَسَّرَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَضْمَنَا لَهَا شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا شَيْئًا لِذَلِكَ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ يَضْمَنَانِ لَهَا أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا إنْ صَحَّ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ مِنْ تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُمَا أَنْ تَكُونَ مُتْعَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهَا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَضْمَنَا لَهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ إنَّمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا مِلْكَ الْبُضْعِ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَمَلِّكِ وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ صَالَحَ مِنْ نَفَقَتِهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَقَالَ الزَّوْجُ: صَالَحْتُكِ عَلَى خَمْسَةٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ صَالَحَهَا عَلَى عَشَرَةٍ فَقَضَى بِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ مِثْلِهَا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهَا فَالشُّهُودُ مَا أَلْزَمُوا الزَّوْجَ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ضَمِنَا الْفَضْلَ لِلزَّوْجِ فِيمَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي إنْكَارِهِ الْفَضْلَ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهَا فَإِنَّمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِامْرَأَةٍ بِمَهْرٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَمَضَتْ مُدَّةٌ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ وَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا مُسْتَحَقًّا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ فَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مُوجِبُ الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِمَّنْ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ حَيْثُ يَقُولُ إنَّ نَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ يَقُولُ لَا تَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ شُهُودُ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا أَمْلَيْنَا مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَرَجُلَانِ عَلَى الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدُ الطَّلَاقِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ ضَمِنُوا جَمِيعًا نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَى شَاهِدِ الدُّخُولِ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُهُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَزِمَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً بَقِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَبْقَى الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ بِبَقَائِهِ فَعَلَى الرَّاجِعِ مِنْهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي يَبْقَى نِصْفُهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 أَيْضًا بِبَقَائِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَقَدْ كَانَ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ يَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ صَالَحَهَا مِنْ الْمُتْعَةِ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا وَقَبَضَتْهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَا الْمُتْعَةَ لَهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِثْلِ كِسْوَتِهَا فِي بَيْتِهَا وَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ حَقِّهَا هُوَ الْمُتْعَةُ وَقَدْ أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَأَمَّا الْعَبْدُ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا الْعَبْدَ وَإِنْ شَهِدَا عَلَيْهَا بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ لَهَا بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُضَمِّنَهُمَا قِيمَةَ الْعَبْدِ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ إنْكَارِهَا وَإِنَّمَا تُضَمِّنُهُمَا أَصْلَ حَقِّهَا وَهُوَ الْمُتْعَةُ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ضَمِنَا لَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْمُتْعَةِ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَوْلَا شَهَادَتُهُمَا؛ كَانَ لَهَا هَذِهِ الْخَمْسَةُ فَلِهَذَا ضَمِنَا لَهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ الْخَمْسَةَ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَشَاهِدَانِ عَلَى الدُّخُولِ وَلَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَقُضِيَ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شَاهِدَا الطَّلَاقِ نِصْفَ الْمُتْعَةِ وَشَاهِدَا الدُّخُولِ بَقِيَّةَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ كَنِصْفِ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ شُهُودُ الطَّلَاقِ يَغْرَمُونَ رُبْعَ الْمُسَمَّى فَكَذَلِكَ هُنَا يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمُتْعَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ مَهْرِ الْمِثْلِ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الدُّخُولِ فَيَغْرَمُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ آخَرَ وَآخَرَانِ عَلَى مِائَةٍ مِنْهَا أَنَّهَا لَهُ فَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْمِائَتَيْنِ ضَمِنَ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمِائَةِ اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً، وَقَدْ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ صَاحِبِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَيَغْرَمُ نِصْفَهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْمِائَةِ أَيْضًا لِمَنْ يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمِائَةِ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعِ وَقَدْ بَقِيَ اثْنَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ فَلَا يَغْرَمُ الرَّاجِعَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ] بَابٌ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ أَيْضًا (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ ذِمِّيَّانِ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ بِمَالِ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ، وَقِيمَةُ الْخَمْرِ مِثْلُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ)؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَضْمَنُونَ فِي الْخَمْرِ الْمِثْلَ وَفِي الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَسْلَمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِنَفْسِ الْإِتْلَافِ وَإِسْلَامُهُمَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ ذَلِكَ وَفِي الْخَمْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِينَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ إتْلَافِ الْخَمْرِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ الشَّاهِدَانِ وَأَسْلَمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَضْمَنَا الْخَمْرَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا مِثْلُ الْخَمْرِ وَإِسْلَامُ الطَّالِبِ يُسْقِطُ الْخَمْرَ لَا إلَى بَدَلٍ فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا طَالِبٌ فَأَمَّا إتْلَافُ الْخِنْزِيرِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَإِسْلَامُ الطَّالِبِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا وَاسْتِيفَاءَهَا وَلَوْ شَهِدَ ذِمِّيَّانِ بِمَالٍ عَلَى ذِمِّيٍّ وَأَسْلَمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَقْضِ بِهَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَوْ اقْتَرَنَ بِشَهَادَتِهِمَا مُنِعَ الْعَمَلُ بِهَا فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي إلَّا بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا شَهِدَ مَحْدُودَانِ بِقَذْفٍ بِشَهَادَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ رَأْيِهِ إمْضَاؤُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ وَيَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادٍ وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ تَلْبِيسٍ وَاشْتِبَاهٍ لَمْ يَنْفُذْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْجَامِعِ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ قَضَاءَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ وَفِي الِاجْتِهَادِ لَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ هُنَا أَيْضًا (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ أَوْ كَافِرَانِ أَوْ أَعْمَيَانِ أَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَفِي الْأَعْمَيَيْنِ الْجَوَابُ مِثْلُ الْجَوَابِ فِي الْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حَصَلَ فِيمَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الِاجْتِهَادَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَعْنِي رَدَّ الْقَضَاءِ وَأَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ بَلْ هُوَ كَالنَّسَبِ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا عَمَّا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ مِلْكِ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ دَبَّرَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّهُمَا أَوْجَبَا حَقَّ الْعِتْقِ لِلْعَبْدِ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّهُمَا أَوْجَبَا حَقَّ الْعِتْقِ لِلْعَبْدِ وَبِذَلِكَ يُنْقَضُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ لِلْمَوْلَى فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ النُّقْصَانَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِقْدَارَ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى يَخْرُجُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِهِ عِتْقٌ وَضَمِنَ الشَّاهِدَانِ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ تَلَفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالتَّدْبِيرُ مُوجِبٌ حَقَّ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ وَحَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي الثُّلُثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ كَانَ ضَمِنَا مَا أَتْلَفَاهُ مُعَجَّلًا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُؤَجَّلًا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ ثُلُثَ الْقِيمَةِ إذَا عَجَّلَ الْعَبْدُ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ بَدَلَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ سُلِّمَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَإِتْلَافُ الشَّاهِدَيْنِ لِذَلِكَ حَصَلَ بِعِوَضٍ فَلَا يَضْمَنَانِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ فَأَمَّا مِقْدَارُ الثُّلُثِ أَتْلَفَاهُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يَرْجِعَانِ بِذَلِكَ الثُّلُثِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ الْعَبْدُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ وَعَجَزَ عَنْهَا فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَكَأَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ كَالثُّلُثِ وَيَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْوَرَثَةِ حِينَ ضَمِنَا ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ بِخِلَافِ ثُلُثِ الْقِيمَةِ وَحَالُهُمَا فِي الثُّلُثَيْنِ كَحَالِ شُهُودِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ أَوْ أَلْفًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبَيْنِ ضَامِنَيْنِ لِلْقِيمَةِ ثُمَّ يَتْبَعَانِ الْمُكَاتَبَ بِالْمُكَاتَبَةِ عَلَى نَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ حِينَ ضَمِنَا قِيمَتَهُ وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ رُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ مَا كَانَ يُعْتَقُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْأَلْفِ إلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ حَالُهُ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ مَا ضَمِنَا الْقِيمَةَ فَإِذَا أَدَّاهُ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْهُ فَأَدَاؤُهُ إلَيْهِمَا كَأَدَائِهِ إلَى الْمَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُكَاتَبُ أَنْ يُعْتَقَ عَلَى الْمَوْلَى وَيَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحَقُّ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلشَّاهِدَيْنِ فَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَرُجُوعُهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْ الشُّهُودِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ قَدْ زَالَتْ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ نَظِيرُ غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ بَعْدَ مَا أَبَقَ ثُمَّ رَجَعَ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى مَوْلَاهُ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا فَقَضَى بِعِتْقِهِ ثُمَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 رَجَعُوا جَمِيعًا ضَمِنَ شَاهِدُ الْيَمِينِ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِ حَصَلَ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وَلَكِنَّا نَقُولُ شُهُودُ الْيَمِينِ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعِتْقِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَشُهُودُ الدُّخُولِ إنَّمَا أَثْبَتُوا شَرْطَ الْعِتْقِ وَالشَّرْطُ لَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ فِي إحَالَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى عِلَّتِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِهَا شَرْعًا وَإِلَى الشَّرْطِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا بِهِ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ بَلْ مَتَى كَانَتْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَا يُضَافُ شَيْءٌ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ نَظِيرُ حَافِرِ الْبِئْرِ مَعَ الْمُلْقِي فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُلْقِي دُونَ الْحَافِرِ وَعَلَى الْقَائِدِ دُونَ الْمُمْسِكِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا أَنَّ الْيَمِينَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعَا ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالُوا إنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا هُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَتَعَدَّى فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُودًا عِنْدَهُ وَشَبَهُ هَذَا حَفْرُ الْبِئْرِ وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ. وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ لِلْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ الْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهِ دُونَ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَالْعِلَّةُ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ إزَالَةُ الْمَسْكَةِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ مُدَبَّرٍ مِنْهُ وَآخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى شَاهِدَيْ الْعِتْقِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ فَمَنَعَ جَرَّ الْعِتْقِ الْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَا التَّدْبِيرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَا الْعِتْقِ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ ذَلِكَ الْجَرُّ تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا حِينَ قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَيَضْمَنُ شَاهِدَا الْعِتْقِ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَعِنْدَ شَهَادَتِهِمَا كَانَ هُوَ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ كَانَ شَاهِدَا الْعِتْقِ عَلَى الثِّيَابِ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شَاهِدُ الْعِتْقِ قِيمَتَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ شَيْئًا وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِالتَّدْبِيرِ حِينَ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَصَلَ تَلَفُ الْمَالِيَّةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 عِنْدَ الرُّجُوعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَوَقَّتَا لِذَلِكَ وَقْتًا قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَيُنْفِذُ الْبَيْعَ فَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ التَّدْبِيرِ شَيْئًا وَضَمِنَ شُهُودُ الْبَيْعِ فَضْلَ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ فِي الْفَضْلِ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُنْكِرُ ضَمِنَا لِلْمُشْتَرِي فَضْلَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْفَضْلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ كَانَ سَوَاءً وَشَهِدَا أَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الْبَيْعِ وَلَمْ يَرْجِعَا عَنْ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ الْعَبْدِ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُمَا ثَابِتَانِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِنَقْدِ الثَّمَنِ فَهُوَ وَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ غَيْرُهُمَا سَوَاءٌ وَلَوْ رَجَعَ عَنْ نَقْدِ الثَّمَنِ ضَمِنَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي يَجْحَدُ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي مَا يَعْدِلُ مَا أَلْزَمَاهُ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَأَجَازَ الْقَاضِي ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى ضَمَانَ الشَّاهِدَيْنِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ كَالتَّاوِي فَإِنْ قَبَضَ الْمَوْلَى مِنْهُمَا الْقِيمَةَ لَمْ يُعْتَقْ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي اسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حِينَ ضَمَّنَهُمَا الْقِيمَةَ وَيَتَصَدَّقَانِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ حَصَلَ لَهُمَا بِكَسْبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُمَا وَلَكِنْ جَعَلَ يَتَقَاضَى الْمُكَاتَبُ حَتَّى قَبَضَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا غَيْرَ أَنَّهُ عَلِمَ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ فَهَذَا اخْتِيَارٌ لِلْمُكَاتَبَةِ وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا أَبَدًا مَا خَلَا خُصْلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُكَاتَبَةُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَإِنَّ هُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكَاتَبَ بِالْمُكَاتَبَةِ وَيَرْجِعَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ وَمُطَالَبَةِ الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَاخْتِيَارُهُ اتِّبَاعَ الْمُكَاتَبِ بِالتَّقَاضِي مِنْهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الشَّاهِدَيْنِ كَمَا فِي الْغَصْبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلَكِنَّ هَذَا فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ فَحَقُّهُ فِيهِ قَبْلَ الشَّاهِدَيْنِ خَاصَّةً فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعَ الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ أَبْرَأَ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِهِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ فَأَجَازَ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنَ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ لِإِتْيَانِهِمَا الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ وَالْبَدَلُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ فَإِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ؛ قَامَا مَقَامَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَتَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمَا بِكَسْبٍ خَبِيثٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمِلْكِ لِلثَّمَنِ مِنْهُمَا فَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا مِنْ الْقِيمَةَ وَتَمْلِيكِ الْأَلْفِ بِالْخَمْسِمِائَةِ رِبًا فَلِشَبَهِهِ بِالرِّبَا يَلْزَمُهُمَا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَاضَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ رُجُوعِهِمَا فَذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ مُبْرِئًا لَهُمَا بِاخْتِيَارِ اتِّبَاعِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتْبَعُ الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا نَوَى مَالَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ خَرَجَ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَحَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَحِلَّ الْقَيْدُ أَبَدًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْمَوْلَى أَنَّ فِي قَيْدهِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ أَطْلَقَهُ مِنْ الْقَيْدِ ثُمَّ نَظَرَ إلَى الْقَيْدِ فَإِذَا فِيهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: عَلَى الشَّاهِدَيْنِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي نُفُوذِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الزُّورِ بَاطِنًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا نَفَذَ قَضَاؤُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنَّمَا عَتَقَ بِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْقَيْدَ، وَعِنْدَهُمَا لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فَإِنَّمَا عَتَقَ بِحَلِّ الْقَيْدِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا وَالشُّهُودُ فِي الصُّورَةِ يَشْهَدُونَ بِالشَّرْطِ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى يَشْهَدُونَ بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ تَنْجِيزٌ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بَاطِنًا وَظَاهِرًا هُنَا وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِمْ بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَيْهِ مَا لَمْ يَحِلَّ الْقَيْدُ وَحَلُّ الْقَيْدِ مُعْتِقٌ لِلْعَبْدِ وَقَضَاؤُهُ إنَّمَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ تَعَرُّفُ مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا وَلَوْ لَمْ يُحِلَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ؛ رُدَّ فِي الرِّقِّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَذَلِكَ كَمَعْرِفَةِ الْقَاضِي كَذِبَهُمَا أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا وَأَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَا وَضَمَّنَهُمَا الْقِيمَةَ أَوْ لَمْ يُضَمِّنْهُمَا حَتَّى شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِعِتْقِهِ بِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي جَزَاءِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 جِنَايَتِهِ وَحُدُودِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فَالْفَرِيقُ الثَّانِي إنَّمَا شَهِدُوا بِإِعْتَاقِ مَنْ هُوَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ وَذَلِكَ لَغْوٌ وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا بِالرُّجُوعِ أَقَرَّ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِالزُّورِ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِهِ حِينَ وُلِدَ أَنَّهُ لِهَذَا الرَّجُلِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَشَهِدَ يَوْمَ شَهِدُوا وَالْعَبْدُ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَضَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ فِيهِ يَوْمئِذٍ وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوَّلُ مِنْ عَامِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْآخَرَيْنِ مَقْبُولَةٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَلَا مُدَّعِي لِمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَا تَصِحُّ مِنْهُمْ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ مُتَنَاقِضٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي عِتْقِهِ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ حُرًّا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَعْدَ وَقْتِ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالُوا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَقْبُولَةٌ وَيَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْمُدَّعِي لِمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي وَأَلْزَمَهُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعَا فَضَمَّنَهُمَا الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا عَامَ أَوَّلٍ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْأَوَّلَانِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُطَلَّقَةً بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ فَكَانَ ذَلِكَ لَغْوًا وَلَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ضَمَانٌ وَرَدَّ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ ضَمِنَا لَهُ وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِقْرَارِهِ يَزْعُمُ أَنَّ تَلَفَ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ وَتَقَرُّرَ نِصْفِ الصَّدَاقِ كَانَ بِمُبَاشَرَتِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا بِشَهَادَتِهِمَا وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ ضَرُورَةٌ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الشُّهُودَ مَا أَتْلَفُوا عَلَيْهِ شَيْئًا حِينَ قَضَى الْقَاضِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 بِشَهَادَتِهِمْ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَعْدَ مَا قَضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي وَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِالطَّلَاقِ فِي وَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ تُقْبَلُ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمَوْلَى ثُمَّ دَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا سَبَبَ إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ الْيَمِينُ فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِالْيَمِينِ لَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ مَوْلَاهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ وَقَالَ الْمَوْلَى كَاتَبْتُهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَأَدَّاهَا ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُضَمِّنُهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُكَاتَبِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ فَمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يَدَّعِ الْمُكَاتَبَةَ وَقَالَ مَوْلَاهُ كَاتَبْتُهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَجَحَدَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ مُلْزِمَةً وَهَذِهِ بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ لِيَفْسَخَ الْكِتَابَةَ فَلَا مَعْنَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يُقَالُ لِلْمُكَاتَبِ إنْ شِئْتَ فَامْضِ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْهَا وَكُنْ رَقِيقًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ يَدَّعِي الْعَبْدُ الْكِتَابَةَ فَنَّدَ دَعْوَاهُ الْكِتَابَةَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مِقْدَارُ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا فَلِهَذَا وَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَدَّعِي أَنَّهُ حُرٌّ فَجَاءَ الْمَوْلَى بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَدَّى الْمَالَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْأَلْفَيْنِ لِلْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ حُرٌّ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَلْزَمَاهُ مَالًا بِالشَّهَادَةِ إنَّمَا أَبْطَلَا حُرِّيَّتَهُ وَأَلْزَمَاهُ الرِّقَّ بِشَهَادَتِهِمَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ ثُمَّ الْعَبْدُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِاخْتِيَارِهِ حِينَ قَبِلَ الْعِتْقَ بِجُعْلٍ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَلْزَمَهُ الْمَالَ هُنَاكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا إنَّمَا يَضْمَنَانِ بِاعْتِبَارِ قَضَاءِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 الْقَاضِي بِرِقِّهِ فَذَلِكَ الضَّمَانُ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَالُهُ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَضْمَنَانِ الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا لِمَوْلَاهُ وَهُوَ مُصَدِّقٌ لَهُمَا فِي الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْأَلْفَ وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ ضَمَانَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ أَبَدًا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْمَوَارِيثِ] بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْمَوَارِيثِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُ رَجُلٍ وَالْأَبُ يَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَنَّهُ وَارِثُهُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ)؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِمَالٍ إنَّمَا أَلْزَمُوهُ النَّسَبَ بِشَهَادَتِهِمْ وَالنَّسَبُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا يَمُوتُ قَبْلَ الْآخَرِ فَيَرِثُهُ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ هَذَا مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْوَلَاءَ بِشَهَادَتِهِمْ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا أَبَدًا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِالنَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ كَانَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَهَادَةً بِالْمِيرَاثِ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَكَانَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتِمُّ بِهِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ الْعِلَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ ثُمَّ آخَرُ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ وَلَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى شَهَادَةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ وَمَا لَوْ شَهِدَا مَعًا سَوَاءٌ وَهُنَا السَّبَبُ قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ الْمَوْتُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ هَذَا الْقَتِيلِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَالْقَاتِلُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ وَقَتَلَهُ الِابْنُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَضْمَنُونَهُ لِلْوَرَثَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَإِنْ أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْمَوْلَى يَضْمَنُونَ كُلَّ مَالٍ وَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ مِنْ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 الْمَعْرُوفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مُتَمِّمًا عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَقَدْ أَقَرُّوا بِالرُّجُوعِ ثُمَّ إنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِهَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهَا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا بَعْدَ مَا رَجَعُوا. وَلَوْ شَهِدُوا لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَلِلْمَيِّتِ ابْنٌ كَافِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِمَالِ ابْنِهِ لِلْمُسْلِمِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ ضَمِنُوا الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الِابْنِ الْكَافِرِ وَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ كُفْرَ أَبِيهِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّمَا صَارَ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ مُسْتَحَقًّا لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَتِهِمَا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ يَضْمَنَانِ ذَلِكَ وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ ابْنَانِ مُسْلِمَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ فَوَرَّثَهُمَا الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا ضَمِنُوا جَمِيعَ مَا وَرِثَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ بِبَيِّنَتِهِ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِ الْمِيرَاثِ لِنَفْسِهِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَالْمَشْهُودُ لَهُ إنَّمَا أَخَذَ نِصْفَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا لَهُ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَخٍ مَعْرُوفٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ وَشَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدَانِ وَحَكَمَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ لِلْأَخِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِنَسَبِ الِابْنِ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَأَثْبَتَ الْقَاضِي نَسَبَهُ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَقَضَى لَهُ بِمِيرَاثِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالنَّسَبِ فِي حَيَاتِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ إنَّمَا يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا وَهُوَ الْمَوْتُ دُونَ مَا شَهِدَا بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا لِامْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَقَضَى بِهِ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَوَرِثَتْ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَمِنَا جَمِيعَ مَا أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ هُنَا وَبِهِ يَتِمُّ عِلَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَبْدٌ صَغِيرٌ وَأَمَةٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهُ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذِهِ الْأَمَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ عَنْ بِنْتَيْنِ سِوَى الصَّبِيِّ فَقَضَى الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ بِالْمَهْرِ وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّ شُهُودَ الِابْنِ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الِابْنِ لِلْوَرَثَةِ إلَّا نَصِيبَ الِابْنِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنَّ الصَّغِيرَ عَبْدُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِيرَاثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ لَا أَنَّهُ يَطْرَحُ عَنْهُمَا حِصَّةَ الِابْنِ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُمَا كَانَا صَادِقَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِ وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَصِيبِهِ وَيَضْمَنُ شُهُودُ الْأَمَةِ قِيمَةَ الْأَمَةِ إلَّا مِيرَاثَ الْأَمَةِ مِنْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَضْمَنُونَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَضْمَنُونَ الْفَضْلَ لِإِقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَكِنْ يَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتَهَا مِنْهُ بِمِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهَا تُكَذِّبُهُمْ فِي الرُّجُوعِ وَتُصَدِّقُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ فَيُعْتَبَرُ زَعْمُهَا فِي حِصَّتِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهُودِ فِيمَا أَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى لَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا الثُّلُثَ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَخْتَصِمُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِذَا شَهِدُوا بِالْوَصِيَّةِ ضَمِنُوا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِالْعَقْدِ لَا بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ خِلَافُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ مِنْ الْمِلْكِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورِثِ وَهَذِهِ الْخِلَافَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَوْتِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا إذَا رَجَعَا وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَوْصَى بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِهَذَا الْمُدَّعِي وَهِيَ تُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَقَضَى لَهُ بِهَا فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ ضَمِنَا قِيمَتَهَا يَوْمَ قُضِيَ بِهَا وَلَمْ يَضْمَنَا الْعُقْرَ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ بِشَهَادَتِهِمَا لِمِلْكِ الْمُوصَى لَهُ فَيَضْمَنَانِ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَا بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وُلِدَتْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا اسْتَحَقُّوا الْوَلَدَ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ دُونَ الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَالْقَوْلُ فِي قِيمَتِهَا قَوْلُ الشَّاهِدَيْنِ فِي قِيمَتِهَا لِإِنْكَارِهِمْ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً فَقَالَ الشَّاهِدَانِ قَدْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى ذَلِكَ وَضَمِنَا قِيمَتَهَا الْيَوْمَ إلَّا أَنْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَا؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 فِي الْحَالِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قِيمَتِهَا فِيمَا مَضَى وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ أَخَذَ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا يَوْمَ شَهِدَا أَكْثَرُ مِمَّا قَالَ شُهُودُهُمَا فَيُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى هَذَا فِي تَرِكَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا إنَّمَا نَصَّبَا مَنْ يَحْفَظُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ وَيُقَوِّمُ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَهُمْ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ إتْلَافَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ فَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْوَصِيُّ الْمَالَ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا عَلَى اسْتِحْقَاقٍ فِي عِلْمِهِ الْمَالَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمَالَ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَصِيِّ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ] بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ وَشَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِحَقٍّ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ الثُّلُثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الضَّمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ)؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ يَحْصُلُ بِشَهَادَةِ كُلِّ فَرِيقٍ إذَا انْفَرَدَ سَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي عِلَّةِ الْإِتْلَافِ يَسْتَوِيَانِ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ يَشْهَدَانِ عَلَى مُعَايَنَةٍ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ يَشْهَدَانِ عَنْ خَبَرٍ ثُمَّ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ كَذَا هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: اللَّذَانِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الصُّورَةِ اثْنَانِ وَفِي الْمَعْنَى أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْأُصُولِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفُرُوعَ يَنْقُلُونَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَأَنَّ الْأُصُولَ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْحَقِّ وَاثْنَانِ عَلَى الْحَقِّ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَسْدَاسًا ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ لَوْ حَضَرُوا وَشَهِدُوا يُقْضَى بِهِ عَلَى مَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 أَثْبَتَ شَهَادَتَهُمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ وَهُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَرْبَعَةً لَوْ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَنَّ نِصْفَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ وَنِصْفَهُ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ وَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْمُثَنَّى أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَفِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ يَقُولُ شَهَادَةُ الِاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْحَقِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُمَا بِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُهُمَا أَنْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَى الْأَقَلِّ مِمَّا يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِشَهَادَتِهِمْ وَشَهَادَةِ مَنْ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَتِهِ فَأُلْزِمُهُمْ الْأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ فِيهِ وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ فَإِنَّهُ مَعَ صَاحِبِهِ كَانَ حُجَّةً تَامَّةً فِي جَمِيعِ الْمَالِ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ نِصْفُ الْمَالِ وَكَذَلِكَ بِبَقَاءِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ إلَّا أَنَّ هَذَا النِّصْفَ شَائِعٌ نِصْفُهُ مِمَّا هُوَ بَاقٍ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ نِصْفِ هَذَا النِّصْفِ بِبَقَائِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي رُبْعِ الْمَالِ فَيَضْمَنُ الرَّاجِعَانِ ذَلِكَ (وَقَعَ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّاجِعِينَ رُبْعُ الْمَالِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ الْمَالِ وَبِبَقَاءِ الْمُثَنَّى هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِينَ مَا يَلْزَمُهُمَا لَوْ رَجَعُوا وَذَلِكَ نِصْفُ الْمَالِ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَانِ وَنِصْفٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْفِئَةِ مَعْرُوفَةٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَقَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَسْأَلَةَ الرُّجُوعِ لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ، فِيهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الْمَالِ وَذَكَرَ مَسْأَلَةً لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَيْ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ وَجْهَانِ أَنْ يَشْهَدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ هَذَيْنِ أَوْ يَشْهَدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ فَكَانَ حَالُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ حَالِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَفَوْقَ حَالِهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَيْنِ وَنِصْفًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَتَيَا الْقَاضِي فَقَالَا لَمْ نُشْهِدْهُمَا عَلَى شَهَادَتِنَا فَقَضَاءُ الْقَاضِي مَاضٍ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الْإِشْهَادَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالصِّدْقِ فَلَا يُبْطِلُ قَضَاءَ الْقَاضِي كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنْفُسِهِمَا وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا وَلَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا هُنَا؛ لِأَنَّهُمَا يُنْكِرَانِ سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَوْ قَالَا كُنَّا أَشْهَدْنَاهُمَا عَلَى شَهَادَتِنَا وَلَكِنَّا رَجَعْنَا عَنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا ضَامِنَانِ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ قَامَا مَقَامَهُمَا فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَأَمَّا الْقَضَاءُ حَصَلَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمَا فَكَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا فَيَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ وَهُمَا قَالَا الْمَوْجُودُ مِنْهُمَا شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِإِتْلَافِ شَيْءٍ فَلَا يَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ وَإِنْ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَالرُّجُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا نَقُولُ إنَّ الْفُرُوعَ نَائِبُونَ عَنْ الْأُصُولِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِشْهَادِ لَوْ مَنَعُوهُمْ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي وَلَوْ كَانُوا نَائِبِينَ عَنْ الْأُصُولِ لَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ إذَا مَنَعَهُمْ الْأُصُولُ عَنْ الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا تَحَمَّلُوا وَهُوَ إشْهَادُ الْأُصُولِ إيَّاهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ مَا كَانُوا نَائِبِينَ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ. وَلَوْ رَجَعَ الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفُرُوعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأُصُولَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَوْ رَجَعَ وَحْدَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ الْمَقْضِيِّ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَا رَجَعَ الْفَرِيقَانِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالرُّجُوعِ وَيَتَخَيَّرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَانَسُ بَيْنَ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا لِيُجْعَلَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بَلْ يُجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ كَالْمُنْفَرِدِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ يُضَمِّنُ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ شَاءَ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 [بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا)؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْهُمَا بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ؛ وَلِأَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَيْهِمَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا عَنْ الشَّهَادَةِ قَوْلٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَضَمِنَا الْأَلْفَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ دُونَهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي الدِّيَاتِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَلَمْ يُحْصِنْ فَجَلَدَهُ الْإِمَامُ وَجَرَحَتْهُ السِّيَاطُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجِرَاحَةِ خِلَافًا لَهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْحُدُودِ. وَلَوْ لَمْ تَجْرَحْهُ السِّيَاطُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْإِتْلَافِ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا ضَرْبًا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ وَعَلَى هَذَا حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالتَّعْزِيرُ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمْ وَأَعْتَقَهُ وَرَجَمَهُ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى فِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِالْعِتْقِ وَعَلَى شُهُودِ الزِّنَا الدِّيَةُ لِمَوْلَاهُ أَيْضًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا نَفْسَهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ (قِيلَ) الْمَوْلَى كَانَ جَاحِدًا لِلْعِتْقِ فَكَيْفَ يُضَمِّنُونَ الشُّهُودَ الدِّيَةَ؟. (قُلْنَا): لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِعِتْقِهِ وَزَعْمُ الْمَوْلَى بِخِلَافِ مَا قَضَى الْقَاضِي بَعْدَ قَضَائِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَإِنْ (قِيلَ): كَيْف يَجِبُ لِلْمَوْلَى بَدَلَانِ عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؟ (قُلْنَا) وُجُوبُ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ بَدَلٌ عَنْ الْمَالِيَّةِ وَوُجُوبُ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ، ثُمَّ الدِّيَةُ لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى وَلَكِنْ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى تَنْفُذَ مِنْهُ وَصَايَاهُ وَيَقْضِي دُيُونَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ حُرٌّ كَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ دُونَ مَوْلَاهُ أَرَأَيْتَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنَهُ وَشَهِدَ آخَرُونَ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا أَمَا كَانَ عَلَى شُهُودِ النَّسَبِ الْقِيمَةُ وَعَلَى شُهُودِ الزِّنَا الدِّيَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَاهِدَا الْعِتْقِ بَعْضَ شُهُودِ الزِّنَا فَعَلَيْهِمَا مِنْ الْقِيمَةِ حِصَّتُهُمَا مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَاتِّحَادُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَافُهُمْ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شُهُودُ الْعِتْقِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحَدِّ وَهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِهِ كَشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْعِتْقِ وَالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 فَأَمْضَى الْقَاضِي ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الْعِتْقِ ضَمِنُوا الْقِيمَةَ لِإِقْرَارِهِمْ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَفِي حَقِّ الْعِتْقِ هُمْ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ وَرُجُوعُ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ عَنْ الزِّنَا وَاثْنَانِ آخَرَانِ عَنْ الْعِتْقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الْعِتْقِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ وَعَلَى اللَّذَيْنِ رَجَعَا عَنْ الزِّنَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ نِصْفُ الْحُجَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِينَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَذْفِ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَدْ جَرَحَتْهُ الْحِجَارَةُ وَهُوَ حَيٌّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَدْرَأُ عَنْهُ الرَّجْمَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَجَعُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا فِي رَجْمِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ قَائِمَةٍ وَلَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ وَهُمْ ضَامِنُونَ أَرْشَ جِرَاحَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِمْ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ مِنْ دَمٍ عَمْدًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا أَيُّهُمَا كَانَ الْمُنْكِرُ لِلصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُنْكِرُ لِلصُّلْحِ هُوَ الْمَوْلَى فَقَدْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ بِعِوَضٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ هُوَ الْقَاتِلُ فَقَدْ سَلِمَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَمَا أَلْزَمَاهُ مِنْ الْعِوَضِ دُونَ بَدَلِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَقَوُّمَ النَّفْسِ فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَوْ صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَهُ اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا لِذَلِكَ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ يَجْحَدُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا الْفَضْلَ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ مَا زَادَ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إنْ شَهِدُوا عَلَى الصُّلْحِ عَلَى مِقْدَارِ الْأَرْشِ أَوْ دُونَهُ لَمْ يَضْمَنَا عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا وَإِنْ شَهِدَا عَلَى الصُّلْحِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ ضَمِنَا الْفَضْلَ لِلْجَارِحِ إذَا كَانَ جَاحِدًا لِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُهُ ضَمِنُوا الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي وَجَبَتْ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَفَا عَنْ دَمٍ خَطَأً أَوْ جِرَاحَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِيهَا أَرْشٌ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَ الدِّيَةَ وَأَرْشَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالْخَطَأُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَكِنْ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً وَقَدْ كَانَتْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 الدِّيَةُ وَاجِبَةً مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا ضَمَانُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَيْضًا وَمَا بَلَغَ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ فِي سَنَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى ثُلُثٍ فَفِي سَنَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ ضَمِنَاهُ حَالًا. وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ إنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ حَالَةً وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا شَيْءٌ فَشَهِدَا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْهَا وَقَضَى بِالْبَرَاءَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ حَالًا؛ لِأَنَّهُمَا كَذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْجَيِّدَ بِمِثْلِهِ وَالرَّدِيءَ بِمِثْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الضَّمَانُ نِصْفَهُ الْفَائِتَ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهِ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ الْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا وَضَمَّنَهُمَا الْقَاضِي الْقِيمَةَ فَأَدَّيَاهَا أَوْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى وَهَبَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَقَبَضَهُ فَإِنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَبْرَآنِ مِنْ الضَّمَانِ وَيَرْجِعَانِ فِيمَا أَدَّيَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا لِأَجْلِ الْجُبْرَانِ وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ بِرُجُوعِ الْعَبْدِ إلَى يَدِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَبْدَ سَلَّمَ لَهُ بِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ لَا بِالْهِبَةِ الَّتِي بَاشَرَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ فَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْعَبْدِ وَقَبَضَهُ رَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ مِلْكِهِ وَيَدِهِ كَانَ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَمَكَّنَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا انْفَسَخَتْ بِالرُّجُوعِ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَوَرِثَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْعَبْدَ رَجَعَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ بِمَا أَعْطَيَاهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ وُصُولَ الْعَبْدِ إلَى يَدِهِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ لَا بِالْمَوْتِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ فَأَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْقِيمَةَ فَوَرِثَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ عَوْدَ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَيْهِ كَعَوْدِ عَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ مِثْلَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى تَرِكَتَهُ بِحِسَابِ الدَّيْنِ دُونَ الْمِيرَاثِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ وَفِي حِصَّتِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَفَاءٌ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ بِجِهَةِ دَيْنِهِ كَمَا يَزْعُمُ وَيَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ بِسَبَبِهِ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالزَّوْجُ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِهِ مَا هُوَ مِثْلٌ لِمَا أَلْزَمَاهُ فَالْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ، ثُمَّ تَقَرُّرُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ بِإِيقَاعِهِ الطَّلَاقَ بِاخْتِيَارِهِ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ تَزَوَّجْتُهَا بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ كَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ثَبَتَ هُنَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 بِتَصَادُقِهِمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلتَّسْمِيَةِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَمَا زَادَ عَلَى الْمُتْعَةِ إلَى تَمَامِ الْخَمْسِمِائَةِ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ عَلَى الدُّخُولِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ خَمْسُمِائَةٍ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِالْأَلْفِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ الْقَدْرِ إيَّاهُ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا. وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَيْضًا عَلَى الطَّلَاقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا خَاصَّةً وَعَلَيْهِمَا أَيْضًا وَعَلَى شَاهِدَيْ التَّسْمِيَةِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ إلَى نِصْفِ الْأَوَّلِ وَعَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَشَاهِدَيْ التَّسْمِيَةِ وَشَاهِدَيْ الطَّلَاقِ قَدْرُ الْمُتْعَةِ أَثْلَاثًا عَلَى كُلِّ شَاهِدَيْنِ ثُلُثُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ذَلِكَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى الدُّخُولِ وَآخَرَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالزَّوْجُ يَجْحَدُ ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ أَلْفًا وَعَوَّضَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا غَيْرُ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا فَأَمَّا فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ فَيُضِيفُ ذَلِكَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الدُّخُولِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي ضَمِنَهُمَا شُهُودُ الْعَفْوِ شَائِعَةٌ فَكَذَلِكَ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى تَكُونُ شَائِعَةً نِصْفَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ فَيَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَنِصْفُ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَاثْنَانِ بِأَلْفٍ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْأَلْفِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِهِ فَإِنْ رَجَعَ مَعَهُ شَاهِدُ الْخَمْسِمِائَةِ كَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ رُبْعُ الْأَلْفِ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَيْهِ أَيْضًا وَعَلَى الْآخَرِينَ رُبْعُ سَهْمٍ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ كَانُوا أَرْبَعَةً وَقَدْ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ الْوَاحِدِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ عَلَى الَّذِينَ رَجَعُوا نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ وَحْدَهُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ مَنْ يُتِمُّ الْحُجَّةَ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ خَمْسُمِائَةٍ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَتِهِمَا خَاصَّةً وَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِمْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 أَثْلَاثًا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ ضَمَانُهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَاعًا وَإِنْ رَجَعَ شَاهِدَا الْأَلْفِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ فَنِصْفُ الْأَلْفِ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ خَاصَّةً وَالرُّبْعُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بَقِيَتْ فِي رُبْعِ الْأَلْفِ بِبَقَاءِ أَحَدِ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَا عَلَيْهِ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا إنَّمَا يَضْمَنَانِ لِلْعَبْدِ وَمَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ مُنْكِرًا لِرُجُوعِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَاتَبَ نَفْسَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ عَبْدَيْنِ وَأَمَةً وَمَالًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَوَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَضَى بِالْمَالِ لَهُ وَالْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَةِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ ابْنُ الْمَيِّتِ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا وَأَعْطَاهُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ فَقَضَى بِهِ أَيْضًا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذِهِ الْأَمَةَ وَتَزَوَّجَهَا فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ فَقَضَى بِذَلِكَ وَجَعَلَهَا وَارِثَةً مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ اللَّذَانِ شَهِدَا لِلْعَبْدِ الْأَوَّلِ ضَمِنَا قِيمَتَهُ بَيْنَ الِابْنِ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ أَثْمَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَتْ رَقَبَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ بَيْنَ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَإِنَّمَا تَلِفَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا فَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَرَجَعَ شُهُودُ الِابْنِ الثَّانِي ضَمِنَا قِيمَتَهُ بَيْنَ الِابْنِ الْأَوَّلِ وَالْمَرْأَةِ أَثْمَانًا لِمَا قُلْنَا وَيَضْمَنَانِ مِيرَاثَهُ لِأُخْتِهِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فَإِنَّمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَا أَتْلَفَا مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى نِكَاحِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ شَيْئًا مِمَّا يُوَرَّثُ الِابْنَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُثْبِتَا اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى الِابْنِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمَا فَالِاسْتِحْقَاقُ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْأَخِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَفِي حَقِّ الْأَخِ بَقِيَتْ الشَّهَادَةُ حُجَّةً تَامَّةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ هَذَانِ وَرَجَعَ شَاهِدَا الْمَرْأَةِ ضَمِنَا قِيمَتَهَا وَمِيرَاثَهَا بَيْنَ الِابْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا مِلْكَ الِابْنَيْنِ فِي رَقَبَتِهِمَا وَأَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهَا الْمِيرَاثَ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا بِالنِّكَاحِ وَقَدْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِذَلِكَ كُلِّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ لِلْمَرْأَةِ هُمَا الشَّاهِدَانِ عَلَى نَسَبِ الِابْنِ الْأَوَّلِ وَالِابْنِ الْآخَرِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ كُلِّهَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اتِّحَادِ الْمَشْهُودِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَسَوَاءٌ رَجَعُوا مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقِينَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ كَانَ مُخْتَلِفًا بَعْضُهَا قَبْلَ بَعْضٍ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَعًا وَبَعْضُهُمْ لَا يُصَدِّقُ بَعْضًا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ثَمَنَ الْمَرْأَةِ وَقِيمَتَهَا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الِاثْنَيْنِ فَلَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِلِاثْنَيْنِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيَضْمَنَانِ مِنْ قِيمَةِ كُلِّ ابْنٍ لِصَاحِبِهِ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِكُلِّ شَيْءٍ شَاهِدَانِ آخَرَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابٌ مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا] (بَابٌ مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ لَهُ جَارِيَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ لِأَحَدِ الِابْنَيْنِ أَنَّ الرَّجُلَ أَعَادَهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَشَهِدَ آخَرَانِ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِأَيِّهِمَا أَتَيَاهُ وَجَعَلَ الْأَمَتَيْنِ كَالْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ وَالْوَلَدُ حَيٌّ ضَمِنَ كُلُّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ الَّذِي شَهِدُوا لَهُ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا أَمَةً إلَى قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالثَّابِتُ فِي شَهَادَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ وَنُقْصَانُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الْأُمِّ فَإِذَا غَرِمَا ذَلِكَ وَاسْتَهْلَكَهُ الْأَبُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ يَجْحَدُ صَاحِبَهُ ضَمِنَ كُلُّ شَاهِدَيْنِ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ نِصْفَ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّذِي شَهِدُوا لَهُ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِيرَاثٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ وَالِابْنُ الْمَشْهُودُ لَهُ يُصَدِّقُهَا فِي الشَّهَادَةِ وَيُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ فَسَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ حِصَّةُ الِابْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعِي لِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَيَرْجِعُ شَاهِدَا كُلِّ وَلَدٍ فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي وَرِثَهُ الْوَلَدُ الَّذِي شَهِدَا لَهُ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَ مِنْهُمَا الْوَالِدُ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يُقِرُّ أَنَّ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُمَا عَلَى الْأَبِ وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّهُمَا صَادِقَانِ فِي الشَّهَادَةِ وَأَحَدُ الْوَارِثَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ وَلَا يَرْجِعَانِ فِي نَصِيبِهِ بِمَا ضَمِنَهُمَا أَخُوهُ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ جَمِيعَ ذَلِكَ لَهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 عَلَى الرَّجُلِ بِطَلَاقٍ وَهُوَ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ وَبِنِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا غَرِمَا لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ نِصْفَ الْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا فِي حَيَاةِ الزَّوْجِ كَانَا ضَامِنَيْنِ ذَلِكَ لَهُ وَقَدْ نَبَّهَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ يُحَلِّفُونَهُ فَيَضْمَنُونَ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا وَلَا مِيرَاثَ لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ إنْ كَانَتْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ تَدَّعِ إنْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالنِّكَاحِ إذَا انْتَهَى بِالْوَفَاةِ فَإِذَا بَانَتْ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ تَكُنْ هِيَ وَارِثَةً لَهُ فَلَا يَنْفَعُهَا قَوْلُ الْوَرَثَةِ وَالشُّهُودِ مَا أَتْلَفُوا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْفُرْقَةِ فِي حَيَاةِ الزَّوْجِ وَلَمْ تَكُنْ هِيَ مُسْتَحِقَّةً لِلْمِيرَاثِ عِنْدَ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَمُوتَ قَبْلَهُ وَلَوْ كَانَا شَهِدَا بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ وَادَّعَى ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ فِي مَالِهِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا لِلْمَرْأَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ قَدْ تَقَرَّرَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَاسْتَحَقَّتْ الْمِيرَاثَ أَيْضًا فَإِنَّمَا بَطَلَ حَقُّهَا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ وَعَنْ الْمِيرَاثِ بِشَهَادَتِهِمَا بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَا يَضْمَنَانِ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ شَيْئًا قَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْقَةِ فَهُمَا نَفْعًا لِلْوَرَثَةِ بِإِسْقَاطِ نِصْفِ مَهْرِهَا وَمِيرَاثِهَا عَنْهُمْ فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الدَّعْوَى] (كِتَابُ الدَّعْوَى) (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ أَطْوَارًا عُلُومُهُمْ شَتَّى مُتَبَايِنَةٌ وَلِتَبَايُنِ الْهِمَمِ تَقَعُ الْخُصُومَاتُ بَيْنَهُمْ فَالسَّبِيلُ فِي الْخُصُومَةِ قَطْعُهَا) لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَطَرِيقُ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ لِلْقُضَاةِ بِمَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ اخْتِيَارِ الْآحَادِ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ وَعُدَّ هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلِمَتَيْنِ اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْهُمَا مَا بَلَغَ دَفَاتِرَ فَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] أَنَّ الْحِكْمَةَ النُّبُوَّةُ وَفَصْلَ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيَّزَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْعَاهِرَ غَيْرُ صَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْمُدَّعِي لُغَةً مَنْ يَقْصِدُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمُدَّعِي فِعْلٌ يَتَعَدَّى مَفْعُولُهُ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي اسْمًا لِفَاعِلِ الدَّعْوَى كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُدَّعِي فِي عُرْفِ اللِّسَانِ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَهُ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُسَمِّيهِ مُدَّعِيًا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَأَمَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُسَمِّيهِ مُحِقًّا لَا مُدَّعِيًا وَيُقَالُ لِمُسَيْلِمَةَ مُدَّعِي النُّبُوَّةَ وَلَا يُقَالُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ بِالْمُعْجِزَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ عَلَى مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ عُرْفًا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ بَعْضُهَا يُعْرَفُ عَقْلًا وَبَعْضُهَا شَرْعًا فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيِّنَةِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَفِي خَبَرِ الشُّهُودِ الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ وَلَا يَزُولُ بِظُهُورِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ أَوْ الْقَصْدِ إلَى الْكَذِبِ فَحُصُولُ الْبَيِّنَاتِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ بِشَهَادَتِهِمْ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ عَمَّا فِي يَدِهِ وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَارَ مُتْوِيًا حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ اسْتِحْلَافِهِ حَتَّى إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَالْيَمِينُ الْعُمُومِيُّ مُهْلِكَةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَتْوًا بِمُقَابَلَةِ أَتْوَاءٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ نَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ صَادِقًا وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيِّنَاتِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْبَيِّنَةِ فَلَا تَبْقَى بَيِّنَةٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي انْتِقَاءَ مُشَارَكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قِسْمِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْإِيمَانِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ فَقَالَ كَانَ لَا يَرُدُّ يَعْنِي عَمَلًا بِالْحَدِيثِ كَانَ لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ وَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 يَمِينِ الْمُدَّعِي إذْ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَاصِلَ لِلْخُصُومَةِ سَبَبَيْنِ بَيِّنَةً فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَيَمِينًا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بَيِّنَةً وَلَا يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَوْنُ إثْبَاتِ طَرِيقٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَّعِي عَامٌّ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ فَالْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَيَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْخُصُومَاتِ كُلِّهَا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» عَامٌّ دَخَلَهُ خُصُوصٌ وَهُوَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ مِنْ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا (قَالَ) وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ كُلَّهَا أَوْ طَائِفَةً مِنْهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدَيْهِ وَيُحْتَاجُ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى نَوْعَانِ: صَحِيحَةٌ وَفَاسِدَةٌ فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهُوَ احْتِضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَّاهَا وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِخَصْمٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ فَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَلَا بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ لَا تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي بِنَفْسِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالِهِمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلِأَنَّ عَلَى الْقَاضِي تَحْسِينَ الظَّنِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَوْ جَعَلْنَا نَفْسَ الدَّعْوَى مُوجِبَةً اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي فِيهِ إسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ فَلَعَلَّهُ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْآخَرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ حَلَّفَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ افْتَضَحَ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِهَذَا بَدَأَ بِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذِهِ الْيَمِينُ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ وَهَذِهِ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ لِلْمُدَّعِي مِنْهُمَا «أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكَ يَمِينٌ فَقَالَ يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لَيْسَ لَكَ إلَّا هَذَا شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِنْ (قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِ الدَّعْوَى (قُلْنَا) كَمَا يَسْتَحِقُّ الْإِحْضَارَ وَالْجَوَابَ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الْآيَةَ فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُضُورِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَشْغَالِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ وَالْيَمِينِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ ثَبَتَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَبَرَانِ قَدْ تَعَارَضَا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ تَرْكِهِمَا عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ امْتِدَادِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ أَحَدِهِمَا وَذَلِكَ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا تَرَجَّحَ صِدْقُهُ يَكُونُ حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى حَقِّهِ فِيهِ أَنَّهُ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُرَجَّحُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَلِهَذَا يَصِيرُ الْقَاضِي إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُدَّعِي وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا صُنُوفُ الْأَمْلَاكِ وَأَنْوَاعُ الْمُدَّعِينَ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، مُسْتَأْمَنٍ أَوْ مُرْتَدٍّ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ شِرَاءً مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ إجَارَةٍ أَوْ رَهْنًا لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَالْيَدُ عَلَى ذِي الْيَدِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَانَ مُدَّعِيًا وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ فَيَصِيرُ السَّبَبُ مَقْصُودًا بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا قَالَ وَأَصْلُ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْآخَرُ الْمُدَّعِي وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَكِنَّ تَمَامَ بَيَانِ الْحَدِّ لَا يَحْصُلُ بِهَا فَقَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَالْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا وَذُو الْيَدِ إذَا قَالَ الْعَيْنُ لِي فَهُوَ مُدَّعٍ صُورَةً وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَسْتَدْعِي عَلَى الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ يَتْرُكُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُسْتَدْعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يَتْرُكُ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا بِالتَّكَلُّمِ بِالنَّفْيِ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ قَالَ لِذِي الْيَدِ هَذَا الشَّيْءُ لَيْسَ لَكَ لَا يَكُونُ خَصْمًا مُدَّعِيًا مَا لَمْ يَقُلْ هُوَ لِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى النَّفْيِ فَيَكْتَفِي بِهِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَا الْيَدِ إذَا قَالَ لَيْسَ هَذَا لَكَ كَانَ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ هُوَ لِي فَصْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ فَأَمَّا الْمُودَعُ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا فَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الضَّمَانَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَحْلِفُ لِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّدَّ لَا يَثْبُتُ بِيَمِينِهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ لَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ آجَرَهُ فَهُوَ الْمُدَّعِي وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ صِدْقِهِ وَعَلَى الْآخَرِ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ قَالَ وَإِنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْغَيْرِ بِحَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَقَالَ قَدْ قَبَّضْتُهُ إيَّاهُ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَرِضُ الْوُجُوبَ فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْآنَ أَمْرًا عَارِضًا وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الْإِبْرَاءَ أَوْ التَّأْجِيلَ فَهُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُفَرِّغٌ لِذِمَّتِهِ بَعْدَ اشْتِغَالِهَا بِاتِّفَاقِهِمَا وَالتَّأْجِيلُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ بِوَجْهِ الْمُطَالَبَةِ بِاتِّفَاقِهِمَا فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَيَدَّعِي الْآخَرُ الْيَمِينَ قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ فَكَأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَمُنْكِرُ الدَّعْوَى صَاحِبُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَوْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَأَيُّهُمَا حَلَفَ بَرِئَ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ نُكُولَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ فَقَدْ أُسْلِمَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِذِي الْيَدِ كَانَ فِي يَدِهِ لِقَضَائِهِ لَهُ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ فَقَضَاءُ مِلْكٍ بِالْبَيِّنَةِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ حُجَّةٌ يَجُوزُ دَفْعُهَا بِالطَّعْنِ فِيهَا فَيَجُوزُ دَفْعُهَا بِالْمُعَارَضَةِ كَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَالْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تَكُونُ كُلُّهَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَبَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَبَقِيَ الْيَمِينُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ ذَا الْيَدِ لَهُ نَوْعَانِ مِنْ الْحُجَّةِ الْيَدُ وَالْبَيِّنَةُ وَلِلْخَارِجِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَذُو الْحُجَّتَيْنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى ذِي حُجَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي دَعْوَى النِّكَاحِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَجَبَ قَبُولُهَا الْآنَ لِصَيْرُورَتِهِ مُحْتَاجًا إلَى إقَامَتِهَا بِإِقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ تَقُومُ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً كَبَيِّنَةِ الْمَدِينِ عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ تُقْبَلْ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فِي إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَيِّنَةُ تُقْبَلُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْمُودَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ شُهُودَ ذِي الْيَدِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ الْقَائِمَةِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْمِلْكِ إلَّا الْيَدَ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ لَا تَنْدَفِعُ بِيَدِ ذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُعَايِنُهَا فَكَذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةٍ تَعْتَمِدُ تِلْكَ الْيَدِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّتَاجِ وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا سَبَبًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَبِخِلَافِ بَيِّنَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِحُرِّيَّتِهِ بِسَبَبِ الدَّارِ فَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا شَيْئًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَلِكَ شُهُودُ الشِّرَاءِ لِذِي الْيَدِ الَّذِي اعْتَمَدُوا سَبَبًا، وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا عِنْدَ الْقَاضِي فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِيَدِهِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِثْبَاتُ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ وَإِذَا قَضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ صَارَ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَلِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ بِخِلَافِ دَعْوَى الْخَارِجِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمَالِكِ لِصَاحِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا عَلَى غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِلْخَارِجِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ فَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَائِعِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لِتَأْكِيدِ شِرَائِهِ بِالْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ وَهُنَا الْبَيِّنَتَانِ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَحَاجَةُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 33 ذِي الْيَدِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَارِجِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُخْبِرَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ إيلَاءً لِعُذْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَإِنْ أَبَى انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَحُجَّتُهُ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنَّهُ سُكُوتٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ كَسُكُوتِهِ عَنْ الْجَوَابِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ خَشِيتُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ أُصِيبَ بِيَمِينِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَحُجَّتُهُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ادَّعَى مَالًا عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ الْمِقْدَادُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَأْخُذْ حَقَّهُ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ أَنْصَفَ الْمِقْدَادُ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَيَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِهِ وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ بِأَيْمَانِ الْخُرُوجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَبَدَأْتُ أَنَا فِي الْقِيَامَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ لِلشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَدَاوَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ حَبْلُكَ عَلَى غَارِبِكَ عِنْدَ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَقَضَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ نُكُولِهَا عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ حِلِّ الصَّلَاةِ لَهَا وَقَالَ ابْنُ مُلَيْكَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنْتُ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ فَاخْتَصَمَ إلَيَّ امْرَأَتَانِ فِي سِوَارٍ فَطَلَبْتُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِيَةِ فَلَمْ أَجِدْ وَعَرَضْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْأُخْرَى فَنَكَلَتْ فَكَتَبْتُ إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَرَدَ كِتَابُهُ أَنْ أَحْضِرْهُمَا وَاتْلُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ ثُمَّ اعْرِضْ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَةِ عَلَيْهَا فَإِنْ نَكَلَتْ فَاقْضِ عَلَيْهَا وَقَضَى شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ (قالون) وَهِيَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَبْتَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ فَبِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَعَ تَمَامِ حُجَّةِ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ عَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 34 عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ نَقُولُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إمَّا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ جَوَابٌ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَإِذَا فَوَّتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ حَوَّلَهُ الشَّرْعُ إلَى الْيَمِينِ خَلْفًا عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ فَإِذَا مَنَعَهُ الْحَلِفَ يَعُودُ إلَيْهِ أَصْلُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْحَلِفِ شَرْعًا إلَّا بِإِيفَاءِ مَا هُوَ أَصْلُ الْحَقِّ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمَّا صَحَّتْ مِنْ الْمُدَّعِي يُخَيَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ بَدَلِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ دُونَ الْآخَرِ؛ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْلِفَ فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ صَارَ تَارِكًا لِلْمُنَازَعَةِ بِتَفْوِيتِ شَرْطِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُنَازِعُكَ فِي هَذَا الْمَالِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ جَعَلَ النُّكُولَ بَدَلًا وَلَا عِبْرَةَ لِلِاحْتِمَالِ فِي النُّكُولِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الصَّادِقَةِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ إلَّا بِبَدَلِ الْمَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ مُلْتَزِمًا الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَا مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِالْغَيْرِ يَمْنَعُ الْحَقَّ وَاَلَّذِي قَالَ مِنْ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ ثُمَّ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى الْإِثْبَاتِ فَلَا تَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ هَذَا مَعْنَى تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أُحَوِّلُ الْيَمِينَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْيِ لَا تُوجِبُ النَّفْيَ حَتَّى تُقْبَلَ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ الْإِثْبَاتُ وَالشَّهَادَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِحَالٍ فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ كَانَ أَوْلَى وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ دَعْوَى الْيَدِ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّ بِالْيَدِ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدَيْهِ جَعَلَ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا فَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي قَابِلًا لِلِاشْتِرَاكِ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالنِّصْفِ لِمَعْنَى الضِّيقِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْمَحَلِّ قَالَ فَإِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ صِحَابُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لِصَاحِبِهِ وَالْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي: هَذَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 35 الشَّيْءُ مِلْكِي وَفِي يَدِي لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي دَعْوَاهُ وَقَالَ لَهُ إذَا كَانَ مِلْكٌ فِي يَدِكَ فَمَاذَا تَطْلُبُ مِنِّي فَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَدَّعِي إلَيْهِ الْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهُنَا الْخَصْمُ يَدَّعِي الْيَدَ لِنَفْسِهِ فَلِهَذَا قَبِلَ دَعْوَى الْيَدِ لِنَفْسِهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَإِنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَوَاضَعَا فِي مَحْدُودٍ فِي يَدِ ثَالِثٍ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا وَيُقِرَّ الْآخَرُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ الْآخَرَ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُنَا قَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ الْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْيَدِ وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَ الْبَيِّنَةَ مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِصَاحِبِهِ بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُ حَقُّهُ فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا الْقَاضِي فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ حَلَفَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِ الَّذِي حَلَفَ بِنُكُولِ هَذَا النَّاكِلِ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي وَذَلِكَ يَمْنَعُ النَّاكِلَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَدِ آخَرَ لَمْ يَنْزِعْهَا مِنْ يَدِهِ الَّذِي أَنْفَذَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِمَا وَالْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ قَالَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ ادَّعَاهُ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ مَا عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُمَا وَلَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ الزَّوَالِ وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إنَّمَا تُقْبَلُ بِطَرِيقِ أَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ إنَّمَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِزَوَالِهِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْسِ عِنْدَهُ تُقْبَلُ وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُعَايَنٍ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْقَاضِي بِزَوَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ طَرِيقَانِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهُ مُعَايِنٌ قَدْ عَلِمَ الْقَاضِي انْفِسَاخَ يَدِهِ بِالْيَدِ الظَّاهِرِ لِلْغَيْرِ فَلَا طَرِيقَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَيَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ يَدُ الْمُدَّعِي أَمْسِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ حَقًّا لِنَفْسِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ وَالْحَالُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 36 خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَخَذَهُ مِنْهُ هَذَا أَوْ انْتَزَعَهُ مِنْهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ فَاعْتَرَضَهُ هَذَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَبَقَ مِنِّي هَذَا فَأَخَذَهُ هَذَا الرَّجُلُ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَيَقْضِي بِالْعَبْدِ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا سَبَبَ زَوَالِ يَدِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ لِلْقَاضِي وَأَثْبَتُوا أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ كَانَ بِأَخْذِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَاحِدَةٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ظَاهِرٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ عُدْوَانًا وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ وَاجِبُ الْفَسْخِ شَرْعًا وَذَلِكَ بِالرَّدِّ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لَهُ وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ أَوْ أَعَارَنِيهِ أَوْ وَكَّلَنِي بِحِفْظِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ أَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ كَلَامَ ذِي الْيَدِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُثْبِتُ مَا أَقَرَّ بِهِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَائِبٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِحَاضِرٍ فَرَجَعَ الْغَائِبُ وَصَدَّقَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ مَرِضَ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ إقْرَارُهُ إقْرَارَ صِحَّةٍ وَأَمَّا ابْنُ شُبْرُمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ إنَّهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي إدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْ الْخُصُومَةِ فِي ضِمْنِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ مَا فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ إذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ فَيُبْطِلَانِ الْبَيْعَ بِطَلَبِ الْوَصِيَّةِ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تُثْبِتُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ وَالثَّانِي دَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي عَنْهُ وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَكَانَتْ مَقْبُولَةً فِيمَا وُجِدَتْ فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهِ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا وَلَا تُقْبَلُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذِي الْيَدِ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ إثْبَاتُهُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَلَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ وَفِي هَذَا الْمُدَّعِي خَصْمٌ لَهُ فَيُجْعَلُ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ خَصْمِهِ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى غَصْبًا عَلَى ذِي الْيَدِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 37 حَيْثُ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ دُونَ الْيَدِ فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِيَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ دَعْوَى الْغَصْبِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ يَدَ غَيْرِهِ الْتَحَقَ فِي الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَصَارَ هُوَ خَصْمًا لَهُ بِظُهُورِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا زَعَمَ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ جَوَابُ الْخَصْمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ ذُو الْيَدِ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَعَرَفَ أَحْوَالَ النَّاسِ فَقَالَ قَدْ يَحْتَالُ الْمُحْتَالُ وَيَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مَنْ يُرِيدُ شِرَاءً وَيَأْمُرُ مَنْ يُودِعُهُ عَلَانِيَةً حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ إنْسَانٌ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مُودَعٌ لِيَدْفَعَ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضْرَارُ بِالْمُدَّعِي لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ فَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي حَضَرَ يُنَازِعُهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْخُصُومَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ إنَّمَا تَنْدَفِعُ عَنْ ذِي الْيَدِ إذَا حَوَّلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّحْوِيلُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَإِذَا أَحَالَهُ إلَى مَجْهُولٍ وَلَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعَ الْمَجْهُولِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ إذَا رَأَيْنَاهُ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَعْرِفُ فُلَانًا؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ قَالَ لَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه إذًا لَا تَعْرِفُهُ». وَمَنْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ فُلَانًا وَهُوَ يَعْرِفُ وَجْهَهُ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ لَا يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ قَدْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُودِعَهُ لَيْسَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَعْرِفُونَ الْمُودَعَ بِوَجْهِهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ هَذَا الْمُدَّعِي وَمَقْصُودُ ذِي الْيَدِ إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِهَذَا الْحَاضِرِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ كَافِيَةٌ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ ثُمَّ إنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِ خَصْمِهِ فَذَلِكَ الضَّرَرُ يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَهِلَ خَصْمَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 38 ذِي الْيَدِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً تَامَّةً فَإِنَّ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهُ بِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي لَهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ خَصْمٍ حَاضِرٍ لِلْمُدَّعِي لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ جَائِزٌ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَحْضُرُهُ الْقَاضِي لِرَجَاءِ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ بِهِ الْمَسَافَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى تَكَلُّفِ الْبَيِّنَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَكُونُ زِيَادَةً وَلَمَّا قَالَتْ هِنْدُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي «فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ» فَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةً عَادِلَةً مَسْمُوعَةً فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ عِنْدَكُمْ تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْكِتَابِ بِهَا وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ بِغَيْبَةِ الْخَصْمِ مَا فَاتَ إلَّا إنْكَارُهُ وَإِنْكَارُهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إيصَالِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِنْكَارُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا كَانَ الْقَضَاءُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِقْرَارِ جَائِزٌ فَعَلَيْهِ نَقِيسُ فِعْلَهُ أَنَّهُ إحْدَى حُجَّتَيْ الْقَضَاءِ وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَإِنَّكَ إذَا سَمِعْتَ كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْتَ كَيْفَ تَقْضِي» فَبَيَّنَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا بِسَمَاعِ كَلَامِهِمَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَدَلِيلُنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازِعٌ إنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْبَيَانِ فِي حَقِّ الْخَصْمِ الْجَاحِدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُضُورِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي حَالِ لَوْ ادَّعَى عَدَمَهَا اسْتَحْلَفَ الْخَصْمَ فَقَالَ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِلْحُجَّةِ وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ، وَالْقُرْآنُ صَارَ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ حِينَ ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَظُهُورُ عَجْزِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ هِنْدَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَالِمًا بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ النِّكَاحُ الظَّاهِرُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِينَ فَيُشْتَرَطُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 39 حُضُورُهُ لِلْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُدَّعِي بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَنْتَفِعُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ شَرَطَ لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا يَقْضِي بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعِي يَفُوتُ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الدَّعْوَى وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفُوتُ الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَفَوَاتُ شَرْطِ الشَّيْءِ كَفَوَاتِ رُكْنِهِ فِي امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَالشَّرْطُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِهِ وَلِهَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ قَدْ دَخَلْتُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ تَدْخُلْ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الدُّخُولِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا بِالنَّصِّ وَقَوْلُهُ إنَّهَا مَسْمُوعَةٌ عِنْدَنَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِلْقَضَاءِ حَتَّى أَنَّ الْخَصْمَ وَإِنْ حَضَرَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهَا إنَّمَا هِيَ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِهَا إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَ الْفُرُوعِ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِ شَهَادَتِهِمْ لَا لِلْقَضَاءِ بِهَا وَاعْتِبَارُ الْبَيِّنَةِ بِالْإِقْرَارِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ دُونَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَائِبِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقِرِّ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الطَّعْنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْغَصْبِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا أَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ كَانَتْ غَصْبًا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَتَّقِي كَوْنَهُ وَدِيعَةً لِلْآخَرِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْغَصْبِ وَقَضَيْنَا بِهِ لِصَاحِبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ.] (بَابُ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 40 لَهُ وَارِثًا غَيْرُهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَارِثِينَ خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّ الْمُوَرِّثَيْنِ حَيَّانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَهُمَا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَفِي هَذَا يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَعِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى لِأَكْثَرِهِمَا عَدَدًا فِي الشُّهُودِ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ فَمَالِكٌ يَقُولُ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ فَالْأَعْدَلُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَقْوَى وَالضَّعِيفُ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَالْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى قَوْلِ الْمَثْنَى فَيَتَرَجَّحُ أَكْثَرُهُمَا شُهُودًا بِزِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فِي قَوْلِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ بِالتَّهَاتُرِ يَقُولُ قَدْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ الْكَاذِبِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا. كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِالْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي امْرَأَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ بِالْقُرْعَةِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِكَ بِالْحَقِّ ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ» وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي بَغْلَةٍ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ خَمْسَةً مِنْ الشُّهُودِ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ فَقَالُوا يُعْطَى لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا فَقَالَ فَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ خَيْرٌ مِنْ خَمْسَةٍ ثُمَّ قَالَ فِي هَذَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ أَمَّا الصُّلْحُ أَنْ يُجْعَلَ الْبَغْلَةَ بَيْنَهُمَا سِهَامًا عَلَى عَدَدِ شُهُودِهِمَا وَأَمَّا الْقَضَاءُ أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَأْخُذَ الْبَغْلَةَ فَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْحَلِفِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا وَقَضَيْتُ بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي عَيْنٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَخَذَتْ بِعُنُقِ الظَّالِمِ ثُمَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 41 قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَمَا رُوِيَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْقِمَارُ مُبَاحًا ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَلِلْقَاضِي هُنَا وِلَايَةُ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي وَلَدٍ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِأَنَّهُ ابْنَيْهِمَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلَا الْقُرْعَةَ فِيهِ وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَالْيَمِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ أَنَّهُ عَرَفَ انْتِسَاخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُدَّعِي قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بِقَدْرِ حَقِّ أَحَدِهِمَا وَالْمُوصَى لَهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ مِلْكُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَيْفَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ الْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ضَعِيفٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا أَطْلَقَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الْيَدِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَقَدْ تَتَوَالَى يَدَانِ لِشَخْصَيْنِ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتَيْنِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ هُنَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا سَنَةً وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ فَقَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَنْصِيصَ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّوْقِيتِ لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَعَلَّ مِلْكَ الْآخَرِ أَسْبَقُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ خَارِجَيْنِ إذَا وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ وَتَنْصِيصُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ لَا يُبْقِي مُسَاوَاةَ الْآخَرِ أَوْ سَفَهًا عَلَيْهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ قِيَامُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَاَلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ أَرَّخَ شُهُودُهُ وَلَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 42 الْمِلْكَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الزَّوَائِدَ وَيَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ التَّارِيخُ الَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ أَسْبَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ يَبْطُلُ هَذَا بِفَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَالْآخَرُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى فَلَوْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ لَاسْتَوَيَا. وَالثَّانِي إذَا ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ أَعْتَقَهُ وَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ يَثْبُتُ لِمُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْأَصْلِ لَصَارَ هُوَ أَوْلَى مِنْ مُدَّعِي الْعِتْقِ وَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا سَنَةً وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ سَنَتَيْنِ قُضِيَ بِالْعَبْدِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى وَقْتِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاشْتَبَهَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِاخْتِلَافِ النُّسَخِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ أَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ السَّابِقِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَيَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمِلْكَ إلَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ وَاحِدٍ وَأَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ تَارِيخًا كَانَ صَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَوْلَى فَهَذَا مِثْلُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ فَوُجُودُ ذِكْرِهِ كَعَدَمِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَلَا تَارِيخَ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثَيْنِ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ أَرَّخَا مِلْكَ الْمُوَرِّثَيْنِ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ كَانَ هُوَ أَوْلَى هَكَذَا ذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشِّرَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخُوا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ يَحْدُثُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَثْبَتَ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى فَأَمَّا مِلْكُ الْوَارِثِينَ فَيَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِينَ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَلَا تَارِيخَ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثِينَ فَاسْتَوَيَا لِهَذَا. قَالَ وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 43 مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ لَمْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا أَوْ وَقَّتُوا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ أَمَّا إذَا وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ أَقَلَّ مِمَّا وَقَّتَ شُهُودُ الْخَارِجِ أَوْ لَمْ يُوَقِّتُوا فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ ذُو الْيَدِ وَإِنْ وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ مِثْلَ مَا وَقَّتَ شُهُودُ الْخَارِجِ فَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي دَعْوَى الْمِلْكِ وَذِكْرُ التَّارِيخِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا هُنَا فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ وَإِنْ وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لِذِي الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ هُوَ لِلْمُدَّعِي وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُهُ لِلتَّارِيخِ وَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لِلتَّارِيخِ فَيُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ صَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ أَوْلَى خَارِجًا كَانَ أَوْ صَاحِبَ يَدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَلَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ التَّارِيخِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى التَّارِيخِ كَمَا يَجِبُ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى النِّتَاجِ وَإِذَا وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ وَتَارِيخُهُ أَسْبَقُ كَانَ هُوَ أَوْلَى وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الرِّقَّةِ قَالَ لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا النِّتَاجَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدَيْهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَ مُوِّنَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ شُهُودِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدَيْهِ مِثْلُ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ مَجْهُولَةٍ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْأَيْدِي الْمَجْهُولَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ وَلِهَذَا إذَا مَاتَ الْمُودَعُ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ صَارَ مُتَمَلِّكًا ضَامِنًا وَالْمِلْكُ إذَا ثَبَتَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ فَكَانَ هُوَ وَشَهَادَتُهُمْ بِأَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ سَوَاءً. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّ مُوَرِّثَهُ كَانَ حَيًّا مُدَّعِيًا لِلْمِلْكِ وَالْآخَرُ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ فَاسْتَوَيَا فَكَانَ الْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِ الْمُدَّعِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ قُضِيَ بِهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 44 إثْبَاتِ الشِّرَاءِ عَلَيْهِ وَمَا يَثْبُتُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي مِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ طَاعِنَةً فِي بَيِّنَةِ مُدَّعِي الْمِيرَاثِ فَجُعِلَ هُوَ أَوْلَى فَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى صَدَقَةً أَوْ هِبَةً مَقْبُوضَةً مِنْ الْمَيِّتِ فِي صِحَّتِهِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِ مُوَرِّثِهِ فِي حَيَاتِهِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَ هَذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَيْهَا وَأَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ عَنْ أُمِّهِ وَقَدْ أَثْبَتَ سَبَبَ تَمَلُّكِهَا عَلَى أَبٍ آخَرَ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا لَهُ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ ثَبَتَ خُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِ أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ وَإِنْ ادَّعَاهَا أَنَّهَا لَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا لِأَبِيهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَالَفَتْ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالشُّهُودُ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِابْنِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ أَنَّ الْأَبَ حَيٌّ فَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي مِلْكِ الْأَبِ فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا فَقَدْ شَهِدُوا بِمِلْكٍ عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِهَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ حِينَ مَاتَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِلْكَ الْأَبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ سَبَبُ زَوَالِهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِزَوَالِ مِلْكِهِ سَبَبًا سِوَى الْمَوْتِ وَهُوَ نَاقِلٌ إلَى الْوَارِثِ فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَجِبُ قَبُولُهَا كَمَا لَوْ صَرَّحُوا بِهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِمُقْتَضَى الْكَلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمِلْكٍ عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُ وَلَمْ يُبَيِّنُوا سَبَبَ الزَّوَالِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَمَا لَوْ ادَّعَى مِلْكًا بِالشِّرَاءِ فَشَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِبَائِعِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ فِي الْحَالِ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْمِلْكِ لِابْنِهِ لِعِلْمِهِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ خِلَافَتَهُ لِأَبِيهِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ إبْقَاءٌ لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِأَبِيهِ لَا أَنْ يُوجِبَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً؛ وَلِأَنَّ قِيَامَ مِلْكِ الْأَبِ وَقْتَ الْمَوْتِ شَرْطُ الِانْتِقَالِ إلَى الْوَارِثِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ بَلْ بِالنَّصِّ فَإِذَا نَصَّ الشُّهُودُ عَلَى انْتِقَالِهِ بِالْمِيرَاثِ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَالْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ مِلْكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ نَصًّا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي الْيَدِ لِلْمُدَّعِي أَمْسِ فَكَذَلِكَ هُنَا ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ الْقَضَاءُ لِاحْتِمَالِ أَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 45 تَكُونَ الْوَرَثَةُ عَدَدًا فَلَا يَرِثُ هُوَ الْكُلَّ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْوَرَثَةَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْمِلْكُ لِفُلَانٍ وَقْتَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى وَرَثَتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّكُمْ وَرَثَتُهُ فَهَاتُوا بَيِّنَةَ أَنَّكُمْ وَلَدُهُ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُكُمْ فَإِذَا أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا قُضِيَ بِهَا لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ يَتَأَنَّى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُمْ قَدْ ثَبَتَتْ وَوُجُودُ مُزَاحِمٍ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ مُحْتَمَلٌ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَأَنَّى لِكَيْ لَا يُبْتَلَى بِالْخَطَإِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ مُدَّةَ التَّأَنِّي وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ فِي الشُّهْرَةِ وَالْخُمُولَةِ وَبِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ وَرَثَتِهِ فِي الْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِمُدَّةِ التَّأَنِّي الْحَوْلُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إبْلَاءُ الْعُذْرِ فِي حَقِّ وَارِثٍ غَائِبٍ يُمْسِي وَالْحَوْلُ مُدَّةٌ تَامَّةٌ لِإِيلَاءِ الْعُذْرِ قَالَ الْقَائِلُ إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَهُوَ نَظِيرُ أَجَلِ الْعِنِّينِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا بِمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَتْهُ الْقُضَاةُ وَهُوَ ظُلْمٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ لِلْمَيِّتِ غَرِيمًا أَوْ وَارِثًا غَائِبًا فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْحَاضِرِ كَفِيلًا بِمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ؛ يَفُوتُ حَقُّ الْغَائِبِ فَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ نَظَرٌ لِلْغَائِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِلْحَاضِرِ وَهُوَ نَظِيرُ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةُ إذَا دَفَعَهَا الْقَاضِي إلَى رَجُلٍ أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَاحِبُهَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ عَلَيْهِ صِيَانَةَ قَضَاءِ نَفْسِهِ وَهَذِهِ الصِّيَانَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ حَتَّى إذَا حَضَرَ غَرِيمٌ أَوْ وَارِثٌ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إيصَالُهُ إلَى حَقِّهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ حَقُّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ وَحَقُّ الْغَائِبِ مَوْهُومٌ وَلَا يُقَابِلُ الْمَوْهُومُ الْمَعْلُومَ فَلَا يُؤَخِّرُ الْقَاضِي تَسْلِيمَ حَقِّهِ إلَيْهِ إلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا أَكَانَ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ هَذَا ظُلْمٌ مِنْهُ وَمَا ذَكَرَ فِي الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْكَفِيلَ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَجْهُولَ وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ. وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُهُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ فِي تَسْلِيمِ مَالِهِ إلَى وَارِثِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْحَاضِرُ وَرَثَتَهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لِجَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِابْنِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 46 جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ أَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَقْضِي بِهَا لِلْجَدِّ وَأَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُصَحِّحُوا عَدَدَ وَرَثَةِ الْجَدِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُجِيزَا الْمِيرَاثَ إلَيْهِ لَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهُ وَكَوْنُهُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْجَدِّ فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يُخَيَّرُوا الْمِيرَاثَ كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَلِأَخِيهِ فُلَانٌ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَأَخُوهُ غَائِبٌ قَضَى الْقَاضِي بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْحُجَّةِ وَهُوَ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِهِ فَأَمَّا نَصِيبُ الْغَائِبِ يُتْرَكُ فِي يَدَيْ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَحْضُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُنْكِرًا أَخْرَجَ الْقَاضِي نَصِيبَ الْغَائِبِ مِنْ يَدِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا تَرَكَ نَصِيبَ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانًا وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْغَائِبِ فَإِذَا كَانَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا فَالنَّظَرُ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِهِ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا فَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ مَرَّةً بِالْجُحُودِ فَلَا يَأْمَنُ بِأَنْ يَجْحَدَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تُوجَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَانَ النَّظَرُ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْعَدْلُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَإِذَا كَانَ مُقِرًّا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِي اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وُجُودُ حُضُورِهِ كَعَدَمِهِ وَقَدْ عَرَفَهَا الْقَاضِي فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا إلَّا بِخَصْمٍ يَحْضُرُ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ احْتَاجَ إلَى وَضْعِهَا فِي يَدِ آخَرَ مِثْلَ هَذَا أَوْ دُونَهُ وَلِأَنَّ هَذَا مُخْتَارُ الْمَيِّتِ فِي حِفْظِهَا وَاَلَّذِي يَضَعُهُ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِمُخْتَارِ الْمَيِّتِ وَلَا مُخْتَارِ وَارِثِهِ فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ الْإِقْرَارِ. وَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ سَاقِطٌ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ مُسَجَّلًا مُبَيَّنًا فِي خَرِيطَةِ الْقَاضِي يُؤْمَنُ جُحُودُ ذِي الْيَدِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا تَرَكَهَا فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَالْمُدَّعَى مَنْقُولٌ بَقِيَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالْعَقَارُ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الضَّمَانَ فِيهَا بِالْغَصْبِ وَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ عِنْدَ الْكُلِّ وَإِذَا وَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَ الْعَدْلُ أَمِينًا فِيهِ وَالنَّظَرُ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 47 لِلْغَائِبِ أَكْثَرُ فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَحْتَاجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْمَيِّتِ فِي الْكُلِّ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى لَهُ وَعَلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ لِلَّذِي يَحْضُرُ مِنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حَقِّهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْحَاضِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَهُنَا قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَابْنِ أَخِيهِ فَادَّعَى الْعَمُّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَادَّعَى ابْنُ الْأَخِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّهُمَا حَيَّانِ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالْأَبُ مَعَ الِابْنِ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فَإِذَا تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ قَالَ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ أَخِي وَأَبِي نِصْفَيْنِ وَصَدَّقَهُ ابْنُ الْأَخِ بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ قَبْلَ ابْنِهِ وَأَقَامَ ابْنُ الْأَخِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ جَدَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي كَانَ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ أَنَّ الْعَمَّ يَقُولُ مَاتَ أَخِي أَوَّلًا عَنْ ابْنٍ وَأَبٍ فَلِلْأَبِ السُّدُسُ مِنْ نَصِيبِهِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ثُمَّ مَاتَ أَبِي عَنْ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ فَكَانَ مَالُهُ لِابْنِهِ فَلِي سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ سَهْمِ الدَّارِ وَابْنُ الْأَخِ يَقُولُ مَاتَ الْجَدُّ أَوَّلًا عَنْ ابْنَيْنِ فَصَارَ نَصِيبُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَبِي عَنْ ابْنٍ وَأَخٍ فَصَارَ نَصِيبُهُ لِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ فَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي إثْبَاتِ التَّارِيخِ لِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا لِتَعَذُّرِ إثْبَاتٍ وَالتَّرْتِيبُ التَّارِيخُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَوْ مَاتَا مَعًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَارِثِهِ الْحَيِّ فَلِهَذَا قَضَى بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمِيرَاثِ.] بَابُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمِيرَاثِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 48 أَنَّ الْأَبَ مَاتَ عَلَى دِينِهِ وَأَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ)؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ دَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْخَيْرِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ حُجَّةٌ كَمَا لَوْ رُوِيَ خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَ مِيرَاثِهِ لِلِابْنِ الْكَافِرِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْمِيرَاثِ لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ وَلَمَّا تَرَجَّحَ جَانِبَهُ بِهَذَا السَّبَبِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَرَجُّحِ جَانِبِهِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ لَا تُعَارِضُهَا الدَّعْوَى مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ أَوْ لَا يَشْهَدُ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْبَيِّنَاتُ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ أَصْلُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي خِلَافَةَ الْمَيِّتِ عَنْ أَمْوَالِهِ مِلْكًا وَفِي دَعْوَى الْمِلْكِ لَا تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ بِالدِّينِ كَمَا لَوْ ادَّعَى كَافِرٌ وَمُسْلِمٌ مِلْكًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ لَا يَتَرَجَّحُ الْمُسْلِمُ وَلَنَا أَنَّ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ تُوجِبُ إسْلَامَ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ كُفْرَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمَوْتُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يُجْعَلُ مُسْلِمًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ وَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبِنْتَيْنِ بَقِيَ خَبَرُ الْمُدَّعِي بِالْإِسْلَامِ حُجَّةً فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَرْجِيحَ بَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ وَانْقِطَاعَ مُنَازَعَةِ الْكَافِرِ عَنْ مِيرَاثِهِ. فَإِنْ (قِيلَ) مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَبِالْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهَذَا فِي بَيِّنَةِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ بَيِّنَةُ الْآخَرِ (قُلْنَا) مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ فِي الْأَصْلِ كَافِرًا فَإِنَّ أَحَدَ وَارِثِيهِ مُقَرٌّ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُقَرُّ الْوَلَدُ الْآخَرُ عَلَى الْكُفْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ فِي الْأَصْلِ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْتَدًّا وَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ كَافِرًا فَشُهُودُ الْكَافِرِ يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَصْلِ وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ يُثْبِتُونَ إسْلَامَهُ الْعَارِضَ فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِثْبَاتِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لَا لِلتَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ بَلْ لِإِخْبَارِهِ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَلَوْ كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمِينَ وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيِّينَ جَعَلْنَاهَا لِلْمُسْلِمِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَّةِ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى قَوْلِنَا إنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ وَلَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا بِالْوِلَايَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ وَإِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 49 اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُ أَهْلُ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْوِلَايَةُ تَنْقَطِعُ بَيْنَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَهَادَةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ نُقْصَانِ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّهَادَاتِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ: كُنْتُ مُسْلِمًا وَكَانَ أَبِي مُسْلِمًا وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْتَ وَقَدْ كُنْتُ أَيْضًا أَسْلَمْتُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ وَقَالَ أَسْلَمْتَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْمِيرَاثُ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَى إسْلَامِهِ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْآخَرَ فِي حَيَاتِهِ أَقَرَّ بِسَبَبِ حِرْمَانِهِ وَهُوَ كُفْرُهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُزِيلُهُ وَهُوَ إسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ إنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهَا عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَمَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَتَى ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا وَادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُزِيلُهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَمَتَى أَقَرَّ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ ثُمَّ ادَّعَى زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ وَمَنْ ادَّعَى الِاسْتِحْقَاقَ وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ فِيهِ قَائِمٌ فِي الْحَالِ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ كَمَنْ جَاءَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ يَطْلُبُ مِيرَاثَ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَحْرِمُهُ الْإِرْثَ وَهُوَ الرِّدَّةُ قَائِمَةٌ فِيهِ فِي الْحَالِ فَمَتَى وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي بِحُكْمِ الْحَالِ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ صَاحِبِ الرَّحَا إذَا تَنَازَعَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِلْحَالِ جَارِيًا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِلْحَالِ مُنْقَطِعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيمَا مَضَى. فَإِنْ (قِيلَ) فَإِذَا كَانَ الِابْنُ مُسْلِمًا فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مُسْلِمًا فِيمَا مَضَى حَتَّى يَرِثَ أَبَاهُ الْمُسْلِمَ (قُلْنَا) هَذَا ظَاهِرٌ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كُفْرُهُ فِيمَا مَضَى فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَظْهَرَ إسْلَامُهُ ثُمَّ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهُ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْمَوْتِ شَرْطٌ لِلْإِرْثِ وَالشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَا الْيَدِ يَسْتَحِقُّ الْمِلْكَ لِمَا فِي يَدِهِ بِالظَّاهِرِ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ الزَّوَائِدُ الَّتِي فِي يَدِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعِتْقِ وَالْمِيرَاثِ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَى عِتْقِهِ فِي حَيَاةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْآخَرِ بَعْدَ ثُبُوتِ رِقِّهِ حَادِثٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ ذِمِّيٍّ أَقَامَ مُسْلِمٌ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ ذِمِّيٌّ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَعَلَى خَصْمِهِ الذِّمِّيِّ وَأَقَامَ الذِّمِّيُّ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 50 خَصْمِهِ الْمُسْلِمَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْحُجَّتَيْنِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلذِّمِّيِّ فَلِهَذَا قُضِيَ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمِينَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَعَلَى خَصْمِهِ فَاسْتَوَيَا فَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. فَإِنْ (قِيلَ) الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ لِلذِّمِّيِّ فِي الْكُلِّ فَلَوْ بَطَلَ فِي النِّصْفِ إنَّمَا يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ كَمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ نِصْفَيْنِ لِضِيقِ الْمَحَلِّ ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ خَصْمًا فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْخَصْمُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ مُسْلِمٍ فَقَالَ مَاتَ أَبِي وَهُوَ مُسْلِمٌ فَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِي وَقَالَ أَخُو الْمَيِّتِ مَاتَ أَخِي وَهُوَ عَلَى دِينِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُدَّعِي الْكُفْرِ ابْنًا آخَرَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَخَاهُ وَلَوْ كَانَ الْأَخُ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُدَّعِي لِإِسْلَامِهِ وَالِابْنُ كَافِرٌ يَدَّعِي كُفْرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مَحْجُوبٌ بِالِابْنِ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينِيٌّ (قُلْنَا) إخْبَارُهُ بِهَذَا كَإِخْبَارِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ حِينَ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ ظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَتِهِ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْمِيرَاثِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتَ إسْلَامِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْأَخُ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا قَالَ وَلَمْ يُقِمْ الِابْنُ بَيِّنَةً لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ بِبَيِّنَتِهِ يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْمُسْلِمِ لِمِيرَاثِهِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ وَبَيِّنَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِلْمُسْلِمِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً. وَإِنْ قَالَتْ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ: مَاتَ زَوْجِي وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ أَوْلَادُهُ وَهُمْ كُفَّارٌ: بَلْ تُوُفِّيَ أَبُونَا وَهُوَ كَافِرٌ وَصَدَّقَ أَخُو الْمَيِّتِ الْمَرْأَةَ وَهُوَ مُسْلِمٌ قَضَيْتُ بِالْمِيرَاثِ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَخِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِأَحَدٍ فَهِيَ وَارِثَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ وَابْنَةٍ تَدَّعِي إسْلَامَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِذَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ بِقَوْلِهَا وَجَعَلْنَا الْمِيرَاثَ لَهَا وَالْأَوْلَادُ كُفَّارٌ لَا يَرِثُونَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَحْجُبُونَ الْأَخَ فَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَخِ وَقَدْ سَعِدَ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَا كَانَ قَوْلُ الْأَخِ مَقْبُولًا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَتًا وَأَخًا فَقَالَتْ الِابْنَةُ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ: مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ الِابْنُ وَهُوَ كَافِرٌ: مَاتَ أَبِي كَافِرًا فَالْمِيرَاثُ لِلِابْنَةِ وَالْأَخِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ بِالِابْنِ فَتَرَجَّحَ قَوْلُهَا فِي دَعْوَى الْإِسْلَامِ سَعِدَ الْأَخُ بِهَا كَمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَةٌ وَأَخٌ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثٌ مَعَ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الِابْنِ وَالْأَخِ فَالْأَخُ مَحْجُوبٌ بِالِابْنِ لَا قَوْلَ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 51 الْمُسْلِمُ أَنَّ الْأَبَ كَانَ كَافِرًا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ يَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَا يُزِيلُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَدَّعِيهِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ. وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الصِّحَّةِ وَاحِدَةً وَأَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاجَعَهَا وَكَذَّبَتْهَا الْوَرَثَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ ادَّعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبًا حَادِثًا لِلِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَظْهَرُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَتْ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمْ فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ عَلَيْهَا سَبَبَ الْحِرْمَانِ حَادِثًا وَهِيَ تُنْكِرُ وَهَذَا الْفَصْلُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ إيضَاحًا لِمَا سَبَقَ فِيمَا إذَا لَمْ يُقِرَّ الِابْنُ الْمُسْلِمُ بِكُفْرِ أَبِيهِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى إسْلَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ زَوْجَانِ ذِمِّيَّانِ مَاتَ ابْنٌ لَهُمَا عَنْ ابْنٍ فَقَالَا: مَاتَ ابْنُنَا كَافِرًا وَقَالَ الِابْنُ وَهُوَ مُسْلِمٌ: مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَارِثٌ غَيْرُ مَحْجُوبٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي إسْلَامِ الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. قَالَ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ ابْنُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ وَلَمْ تَشْهَدْ شُهُودُهُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَقَالَ ذُو الْيَدِ: لَهُ وَلَدٌ غَيْرُ هَذَا أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَلَهُ وَلَدٌ سِوَى هَذَا أَمْ لَا تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ زَمَانًا رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَ وَارِثٌ آخَرَ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ قَضَى بِالْمِيرَاثِ لَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ وَارِثًا خَلِيفَةً لِلْمَيِّتِ فِي مِلْكِهِ فَيُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ وَيُسْتَوْثَقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ. مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هُنَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هُنَا الشُّهُودُ لَمْ يَشْهَدُوا بِانْتِفَاءِ وَارِثٍ آخَرَ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ الِاحْتِيَاطِ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا مُدَّةَ التَّلَوُّمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدْرُ ذَلِكَ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْوَارِثُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَفِيمَا دُونَ الشَّهْرِ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ ضَرَرٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ كَافِرًا وَقَالَ: مَاتَ أَبِي كَافِرًا وَكَذَلِكَ هَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَنْ لَا يُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِآخَرَ إذَا ثَبَتَتْ قَرَابَتُهُ يُقْضَى لَهُ بِالْمَالِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ إذَا لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ أُمًّا أَوْ بِنْتًا يُقْضَى لَهَا بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَصَبَةَ لِلْمَيِّتِ ظَاهِرًا فَكَانَ جَمِيعُ الْمِيرَاثِ لَهَا فَرْضًا وَرَدًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ يَثْبُتُ وِرَاثَتُهُ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى شَيْئًا مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ أَوْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَ هَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 52 الْأَخِ لِلْمِيرَاثِ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الشَّرْطُ بِالنَّصِّ مِنْ الشُّهُودِ لَا يَكُونُ هُوَ وَارِثًا وَمَا لَمْ يُثْبِتْ وِرَاثَتَهُ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ وَارِثٌ بِنَسَبِهِ غَيْرُ مَحْجُوبٍ بِأَحَدٍ. فَإِنْ (قِيلَ) كَيْفَ يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَهُ بِقَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ (قُلْنَا) أَمَّا إذَا قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَا تُقْبَلُ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي أَنَّهُمْ جَازَفُوا؛ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ نَفْيِ الْوَارِثِ وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ أَنَّ مُرَادَ النَّاسِ مِنْ هَذَا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى إثْبَاتِ شَرْطِ الْوِرَاثَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ نَفْيٌ وَالشَّرْطُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ إذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ إرْثِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى لَهُمَا بِأَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِلزَّوْجِ بِالنِّصْفِ وَلِلْمَرْأَةِ بِالرُّبْعِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى لَهُمَا بِأَقَلِّ النَّصِيبَيْنِ: لِلزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَلِلْمَرْأَةِ بِالثُّمُنِ قَالَ: لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِأَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ مِنْ الشُّهُودِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقْضَى لَهُمَا إلَّا بِالْمُتَيَقَّنِ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِهَا دُونَ الْأُخُوَّةِ فَبِالْأُخُوَّةِ تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِالزَّوْجِيَّةِ بِحَالٍ، ثُمَّ الْأَخُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَيَقُّنَ بِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ لَهُ فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ فِيمَا لَا يُتَيَقَّنُ بِاسْتِحْقَاقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ فِي الْكُلِّ أَوْ دُونِهِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْوِرَاثَةِ مَنْ لَا يُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِأَحَدٍ فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ كَالْأَبِ وَالْوَلَدِ وَهَذَا لِأَنَّ حِرْمَانَهُ عَنْ أَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بِوَلَدٍ يَحْجُبُهُ وَهَذَا الْحَاجِبُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَيَبْقَى مُسْتَحِقًّا بِمَا أَثْبَتَ مِنْ السَّبَبِ وَصَارَ الزَّوْجُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا زَادَ عَلَى الرُّبْعِ كَالْأَبَوَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا زَادَ عَلَى السُّدُسِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] الْآيَةَ ثُمَّ هُنَاكَ يُقْضَى لَهُمَا بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْحَاجِبَ غَيْرُ ظَاهِرٍ هُنَاكَ كَذَلِكَ هُنَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ رُبْعُ الثُّمُنِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ نَصِيبِهَا هَذَا فَلَعَلَّ لِلْمَرْءِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ سِوَاهَا وَهَذَا لَيْسَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 53 بِقَوِيٍّ فَالزَّوْجِيَّةُ سَبَبٌ تَامٌّ لِاسْتِحْقَاقِ الثُّمُنِ لَهَا بِيَقِينٍ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الثُّمُنُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحِمَ لَهَا هُنَا فَكَيْفَ يَنْقُصُ حَقُّهَا مِنْ الثُّمُنِ وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ يُقْضَى لَهَا بِرُبْعِ التُّسْعِ وَلِلزَّوْجِ بِالْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ هَذَا الْمِقْدَارُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الرَّجُلَ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَهِيَ الْمُتَبَرِّئَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْبَدِيهِيَّةِ حِينَ سُئِلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْقَلَبَ ثُمُنُهَا تُسْعًا؟ فَإِنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ: لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ الثُّلُثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُ ثَمَانِيَةٍ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَكَانَتْ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَلِلنِّسْوَةِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ التِّسْعُ حَظُّ الْوَاحِدَةِ الرُّبْعُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقْضَى لَهَا بِهَذَا الْقَدْرِ. وَالْيَقِينُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فِي الْخُمُسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَرِكَةَ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ وَزَوْجًا فَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَصْلُهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ الْخُمُسِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْعَوْلِ لِمَعْنَى الْمُزَاحَمَةِ وَالضِّيقِ فِي الْمَحَلِّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ سِوَى الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ وَالْمَعْلُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَوْهُومَ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الدَّعْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ] بَابُ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الدَّعْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى ذُو الْيَدِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي)؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي شَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ نَصًّا وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ إنَّمَا شَهِدُوا لَهُ بِالْيَدِ، وَالْأَيْدِي تَنَوَّعَتْ إلَى: يَدِ أَمَانَةٍ، وَيَدِ ضَمَانٍ وَيَدِ مِلْكٍ. فَلَا تُعَارِضُ بَيِّنَتُهُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي إذَا أَثْبَتَهَا بِالْبَيِّنَةِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَسْنَدَ شُهُودُهُ إلَيْهِ. قَالَ دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ فَنَظَرَ الْقَاضِي فِي سِنِّهَا فَإِذَا هِيَ ابْنَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَبَيِّنَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِمُجَازَفَةِ الشُّهُودِ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فِي وَقْتٍ يُتَيَقَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ. قَالَ وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ اشْتَرَاهَا مِنْ آخَرَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا يَوْمئِذٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ تَارِيخًا وَقَدْ أَثْبَتَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 54 الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَهُوَ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَّخَ شُهُودُهُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي وَلَكِنْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَقَبَضَهَا فَهَذَا وَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْمَبِيعِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَبْضِ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ الْمَالِكِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ يَتَأَكَّدُ بِالتَّسْلِيمِ فَشَهَادَتُهُمْ عَلَى سَبَبِ مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا وَنَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يُقْضَ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي نَصًّا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يُقْضَى بِهَا لَهُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَضَيْنَا بِالْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إذَا حَضَرَ الْبَائِعُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ انْتَصَبَ خَصْمًا عَنْ الْبَائِعِ فِي إنْكَارِهِ لِلْبَائِعِ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ مِنْ الْغَائِبِ وَمَتَى كَانَ حَقُّ الْحَاضِرِ مُتَّصِلًا بِحَقِّ الْغَائِبِ انْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَقَدْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ تَارِيخَ ذِي الْيَدِ لَيْسَ بِدَلِيلِ سَبْقِ مِلْكِهِ فَلَعَلَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي لَوْ أَرَّخُوا ذَكَرُوا تَارِيخًا سَابِقًا فَلَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْيَدِ التَّرْجِيحَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ الْوَقْتُ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي. وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ شَكَّ الشُّهُودُ فِي ذَلِكَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْخَارِجِ شَكُّوا فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ التَّارِيخِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ تَارِيخِهِمْ مَا يَتَّفِقُوا بِهِ وَذَلِكَ سَنَةٌ فَصَارَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقَ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ وَقَّتَ شُهُودُ الْمُدَّعِي سَنَةً وَوَقَّتَ شُهُودُ ذُو الْيَدِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ شَكُّوا فِي ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ مَا شَكَّ فِيهِ شُهُودُ ذِي الْيَدِ لَمْ يَثْبُتْ وَفِيمَا يَتَّفِقُوا فِيهِ اسْتَوَى تَارِيخُ ذِي الْيَدِ وَالْخَارِجِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ عَامَ أَوَّلٍ وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ الْعَامِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 55 لِأَنَّ تَارِيخَ شُهُودِهِ أَسْبَقُ وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ الْعَامِ وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ عَامَ أَوَّلٍ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِتَارِيخٍ أَسْبَقَ مِنْ تَارِيخِ الْمُدَّعِي فَثَبَتَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْغَيْرُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّارِ فَفِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ مَنْ أَرَّخَ شُهُودُهُ سَنَةً بَيِّنَةُ الْخَارِجِ قَامَتْ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَفِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ مَنْ أَرَّخَ شُهُودُهُ بِسَنَتَيْنِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ عَلَى تَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَيَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ بِهِ أَيْضًا وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَإِنِّي أَقْضِي بِالثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا ثُمَّ فِيمَا يَفْضُلُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ يَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ يَدَهُ يَدًا مُحِقَّةً تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَحَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَوْ صَرَفْنَا دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدًا مُحِقَّةً وَفِي يَدِهِ نِصْفُ الدَّارِ فَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ اجْتَمَعَ فِيهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَهُوَ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْآخَرَ لَيْسَ يَدَّعِي إلَى الثُّلُثِ وَدَعْوَاهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ هُوَ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِيهِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْآخَرُ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ، وَتَرَكَ الثُّلُثَ فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ قَضَاءَ تَرْكٍ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَقُمْ عَلَى مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ يَدٌ وَلَا مِلْكًا فَهَذَا الطَّرِيقُ فِيمَا إذَا كَانَ مَنْ أَرَّخَ سَنَةً يَدَّعِي ثُلُثَهَا وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا كَانَ يَدَّعِي نِصْفَهَا وَقَدْ اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَلْبَتَّةَ مُنْذُ شَهْرٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا مُدَبَّرَةً لِمُدَّعِي التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ تَارِيخَ شُهُودِهِ أَسْبَقُ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْمِلْكَ وَالتَّدْبِيرَ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَالْمِلْكُ الْمُتَأَكَّدُ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَشُهُودُ الْآخَرِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِتْقِ فِيمَنْ لَا يَمْلِكُهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعِتْقِ وَهِيَ حُرَّةٌ الْبَتَّةُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْخَارِجَيْنِ إذَا أَرَّخَا الْمِلْكَ بِتَارِيخَيْنِ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا لِسَبْقِ التَّارِيخِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ دَعْوَى الْمِيرَاثِ فَهُنَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَقِيَ التَّرْجِيحُ بِمَا أَثْبَتُوا مِنْ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ إذَا اجْتَمَعَا يَتَرَجَّحُ الْعِتْقُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُوطَأَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا مِنْ جِهَةِ مَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 56 أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهَا بِالْحُجَّةِ. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ تُوَقِّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي بَيَّنَ شُهُودُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ كَانَ لِذِي الْيَدِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ اسْتَوَيَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ (قِيلَ) قَدْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ عَلَى دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ (قُلْنَا) الشُّهُودُ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَا بِصِحَّتِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِوُقُوعِ الْبَيْعَيْنِ مَعًا وَيُتَصَوَّرُ بَيْعَانِ فِي وَقْتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ وَكِيلِ الْمَالِكِ وَيُضَافُ عَقْدُ الْوَكِيلِ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا فَلَعَلَّ الْوَكِيلَيْنِ بَاعَا مَعًا - فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِنِصْفِهَا وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ عَقْدَهُ فِي الْكُلِّ فَلِتَبَعُّضِ الْمِلْكِ حِينَ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ خَيَّرَهُمَا فَإِنْ رَضِيَا بِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَذَلِكَ النِّصْفِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ فَلَيْسَ لِلَّذِي رَضِيَ بِهِ إلَّا نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ خَيَّرَهُمَا فَقَدْ فَسَخَ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ حِينَ قَضَى بِهِ لِصَاحِبِهِ فَلَا يَعُودُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِتَرْكِ صَاحِبِهِ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الدَّارُ لِلْآخَرِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي بَيْعَهُ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ بِالنِّصْفِ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ مَعَهُ فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ قَضَى لَهُ بِالْكُلِّ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا يَقْضِي لِلْآخَرِ بِجَمِيعِ الدَّارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ إلَّا نِصْفُ الدَّارِ. وَلَوْ وَقَّتَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَاسْتَحَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا وَإِنْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُوَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُمَا حَادِثٌ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَثْبُتْ التَّارِيخُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ شِرَاءُ الَّذِي لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ فِي الْحَالِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْآخَرُ شِرَاءَهُ سَابِقًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 57 رَجُلَيْنِ وَوَقَّتَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَقِّتْ الْآخَرُ يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ خَصْمٌ عَنْ تَابِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَتَوْقِيتُ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِ بَائِعِهِ فَلَعَلَّ مِلْكَ الْبَائِعِ الْآخَرِ أَسْبَقُ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا هُنَا اتَّفَقَا عَلَى الْمِلْكِ لِبَائِعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا حَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ أَسْبَقُ فَكَانَ هُوَ بِالدَّارِ أَحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَكَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَقَدْ قَبَضَهَا قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ صَادِرٌ عَنْ الْعَقْدِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ حَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ مُتَأَكَّدًا بِالْقَبْضِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَبْضَهُ اقْتَرَنَ بِعَقْدِ الْآخَرِ وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عَقْدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا سَابِقًا وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ فَقَطْ وَذَلِكَ فِي بَيِّنَتِهِ فَأَمَّا الْخَارِجُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي الْيَدِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِي الْيَدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ أَوْلَى هُنَاكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا؛ فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَأَمَّا هُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ إنَّمَا حَاجَتُهَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَسَبَبُ الْقَابِضِ أَقْوَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى فَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْخَارِجِ عَلَى وَقْتٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْقَابِضِ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ مُعَايَنٌ وَالتَّارِيخُ فِي حَقِّ الْخَارِجِ مُخْبِرٌ بِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ثُمَّ يَدُ ذِي الْيَدِ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يُنْقَضُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَبِذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ شُهُودِ الْخَارِجِ لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ سَبْقِ عَقْدِ ذِي الْيَدِ فَلَا يُنْقَضُ قَبْضُهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ بَيْعَ الْخَارِجِ كَانَ قَبْلَ بَيْعِ ذِي الْيَدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ بَيْعُ الْخَارِجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ ثَبَتَ بِنَصٍّ مِنْ شُهُودِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِيَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا وَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَيُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَتَخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى بَائِعِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا نِصْفَ الْمَبِيعِ وَلَوْ وَقَّتَا وَقْتَيْنِ كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لِإِثْبَاتِهِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِهِ. وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 58 الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا آخَرَ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ يَمْلِكُهَا قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَمَّنْ مَلَكَهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَالْحُجَّتَانِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُمَا سَوَاءٌ فَيَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ ثَالِثٍ مَعَ الْقَبْضِ وَأَقَامَ رَابِعٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى إرْثِهِ مِنْ أَبِيهِ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَمَّنْ مَلَكَهُ فَإِنْ (قِيلَ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الدَّارِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي جُزْءٍ مِنْهُمَا مُشَاعًا؟ (قُلْنَا) قِيلَ مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الدَّابَّةِ وَلَئِنْ كَانَ فِي الدَّارِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ يُسَلَّمُ لَهُ الْبَعْضُ، وَهَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ شُيُوعًا طَارِئًا وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَتَقَابَضَا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ وَهَبَهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا قَضَى بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِمَنْ مَلَكَهَا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَالشِّرَاءُ أَقْوَى مِنْ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعِوَضَيْنِ وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ مِلْكُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ سَابِقًا فَلِهَذَا جُعِلَ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ وَادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الرَّهْنَ فَالشِّرَاءُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَةُ الدَّابَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَصْحِيحَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعَمَلَ بِهَا وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهَا حُجَجٌ وَهُنَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الشِّرَاءُ سَابِقًا فَإِنَّ تَسْمِيَةَ مِلْكِ الْغَيْرِ صَدَاقًا تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ مُوجِبَةٌ لِقِيمَةِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الشِّرَاءَ سَابِقًا وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ مُوجِبٌ الضَّمَانَ فِي الْعِوَضَيْنِ وَالنِّكَاحُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي الْمَنْكُوحَةِ؛ فَكَانَ الشِّرَاءُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَجُعِلَ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءَيْنِ وَمِنْ وَجْهٍ النِّكَاحُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مُتَأَكَّدًا حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 59 الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ النِّكَاحِ بِهَذَا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ وَفِيمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إثْبَاتُ تَارِيخٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ وَالتَّارِيخُ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَإِذَا قَضَيْنَا بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتَحَقَّ عَلَى الْمَرْأَةِ نِصْفَ الصَّدَاقِ فَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ وَاسْتَحَقَّ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفَ الْمَبِيعِ فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ فَالرَّهْنُ أَوْلَى وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ الْهِبَةَ أَوْلَى فِي الْقِيَاسِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ تُفِيدُ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا يُوجِبُ فَكَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِمِلْكِ الْعَيْنِ أَقْوَى وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ ضَمَانٍ وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ بَدَلَيْنِ الْمَرْهُونَ وَالدَّيْنَ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُ إلَّا بَدَلًا وَاحِدًا فَكَانَ الرَّهْنُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ كَالشِّرَاءِ فَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ سَوَاءٌ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْهِبَةَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنْ (قِيلَ) الصَّدَقَةُ لَا رُجُوعَ فِيهَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ أَقْوَى (قُلْنَا) امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ لَا لِقُوَّةِ السَّبَبِ وَلَوْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا أَيْضًا. قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا سَوَاءٌ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا وَيَتْرُكُ الدَّارَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَالِمًا فَيَأْمَنُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْخَارِجِ وَإِنْ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ شِرَاءُ الْخَارِجِ سَابِقًا فَيُسَلَّمُ لِذِي الْيَدِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْهَا كَالْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُنَا الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ أَمَّا إذَا لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ فَإِمْكَانُ الْعَمَلِ بِهَا فِي جَعْلِ شِرَاءِ ذِي الْيَدِ سَابِقًا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِأَنَّ قَبْضَ ذِي الْيَدِ صَادِرٌ عَنْ عَقْدِهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ عَقْدُ الْخَارِجِ سَابِقًا؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ قَبْضِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَقِيَامُ قَبْضِ الْآخَرِ دَلِيلُ تَأَخُّرِ عَقْدِهِ وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا عَقْدَ ذِي الْيَدِ سَابِقًا كَانَ قَبْضُهُ غَصْبًا حَرَامًا وَلَوْ جَعَلْنَا عَقْدَهُ مُتَأَخِّرًا كَانَ قَبْضُهُ بِحَقٍّ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا التَّارِيخَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 60 قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الشِّرَاءِ أَثْبَتَ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ فَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ تَهَاتَرَ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ عَايَنَ إقْرَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ مَعًا بَطَلَ الْإِقْرَارَانِ جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ لِمَعْنَى أَنَّ شُهُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَشْهَدُوا بِالتَّارِيخِ فَكُلُّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ سَبْقُ أَحَدِهِمَا جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّارِيخِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمَا لَمْ تَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا جَعَلْنَاهُمَا كَالْوَاقِعِ مَعًا بَطَلَا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ دُونَ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ فَإِنْ وَقَّتَ الشُّهُودُ وَقْتَيْنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْخَارِجِ سَابِقًا أَوْ وَقْتُ ذِي الْيَدِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَشْهَدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْخَارِجِ سَابِقًا فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ ثَبَتَ سَابِقًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ذُو الْيَدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمَا جَائِزٌ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهِ بَعْدَ مَا قَبَضَهَا وَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا يَقْضِي بِهَا لِلْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا أَمَّا إذَا شَهِدُوا بِالْقَبْضِ فَلَا إشْكَالَ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ قَابِضٌ وَقَدْ ثَبَتَ شِرَاؤُهُ سَابِقًا فَيُجْعَلُ قَبْضُهُ صَادِرًا لَا عَنْ عَقْدِهِ ثُمَّ الْخَارِجُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ. قَالَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَقَامَتْ الْأَمَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ التَّدْبِيرِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ وَالْعِتْقُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُعْتِقُ وَالشِّرَاءُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَكَانَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ سَابِقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ اسْتَوَيَا لَمْ يُمْكِنْ الْقَضَاءُ بِالشِّرَاءِ لِإِقْرَانِ الْعِتْقِ بِهِ فَإِنَّ مُعْتِقَ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيِّنَتَهَا أَوْلَى وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَاهُمَا إنْ كَانَ الْعِتْقُ أَوَّلًا فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا تُنَازِعُهُ الْأَمَةُ فِيهِ ثُمَّ هِيَ أَثْبَتَتْ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ لَهَا حَقًّا وَلَوْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ وَلَمْ تُوَقِّتْ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْ التَّدْبِيرِ كَانَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ يَقَعُ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ فَوُجِدَ الْقَبْضُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 61 فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْوَقْتُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَكَانَ الْقَبْضُ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهُ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَلِأَنَّ قَبْضَهُ مُعَايَنٌ وَقَبْضُ الْآخَرِ ثَابِتٌ حُكْمًا فَكَانَ الْمُعَايَنُ أَوْلَى وَحَمْلُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ أَوَّلٌ أَوْ وَقَّتُوا وَقْتًا يُعْرَفُ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ أَوْلَى؛ لِانْعِدَامِ مُزَاحَمَةِ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُوَقِّتْ بَيِّنَةَ الشِّرَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ قَبَضَهُ فَهُوَ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَهُ دَلِيلُ تَقَدُّمِ عَقْدِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ أَوَّلٌ وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْعِتْقِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مَعَ الْقَبْضِ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ أَوْ الْأَمَةُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي بِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِذِي الْيَدِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِتَهَاتُرِ الْبَيِّنَتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ فَانْقَضَى وَقَبْضُ الْخَارِجِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَقِيَامُ قَبْضِ ذِي الْيَدِ دَلِيلٌ بِآخِرِ عَقْدِهِ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَمَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ يَتَأَكَّدُ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ النَّقْضَ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ قَبْضٌ مِنْهُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا أَثْبَتَ الْقَبْضَ كَانَ هُوَ أَوْلَى وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ هِبَةً مَقْبُوضَةً وَادَّعَى الْآخَرُ صَدَقَةً مَقْبُوضَةً وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَمْ تُوَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ سَبَبَ مِلْكٍ حَادِثٍ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا سَابِقًا بِالتَّوْقِيتِ فَيُقْضَى بِهَا لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ مُعَايَنٌ وَالْوَقْتُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مُخْبِرٌ بِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَارِيخٌ وَلَا قَبْضٌ مُعَايَنٌ لِأَحَدِهِمَا فَفِيمَا لَا يُقْسَمُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ وَنَحْوِهِ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُرَجِّحُ إحْدَاهُمَا مِنْ قَبْضٍ أَوْ تَارِيخٍ؛ لِأَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهَا قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِي مُشَاعٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ، قِيلَ: هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 62 وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى قِيَاسِ هِبَةِ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَقِيلَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ الشُّيُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ طَارِئٌ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ إنَّمَا يُقْضَى بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنْ رَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيَكُونَ الشُّيُوعُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعَ صِحَّتِهَا. وَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مِنْ الْعُرُوضِ كَائِنًا مَا كَانَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ وَالدَّعْوَى حَتَّى يُحْضِرَا ذَلِكَ الَّذِي اخْتَصَمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمُدَّعِي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَتَمَامُ الْإِعْلَامِ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ وَإِحْضَارُ مَا يُنْقَلُ بِيُسْرٍ فَيُؤْمَرُ ذُو الْيَدِ بِإِحْضَارِهِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ كُلِّفَ إحْضَارَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يُكَلَّفُ الْحُضُورَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعْدُ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ يُكَلَّفُ بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَقَارًا فَحِينَئِذٍ إحْضَارُهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَسِّرُ وَالْوَاجِبُ مِنْ التَّعْرِيفِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ الْقَدْرُ الْمُتَيَسَّرُ وَهُوَ نَظِيرُ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ الْمُدَّعَى مُسْتَهْلَكًا فَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ إحْضَارُهُ فَيُقَامُ ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْقِيمَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى هُنَا فِي الْحَقِيقَةِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَإِعْلَامُهُ بِذِكْرٍ صِفَتِهِ وَقِيمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَاب الدَّعْوَى فِي النِّتَاجِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا آخَرُ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا عِنْدَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ اسْتِحْسَانًا)، وَفِي الْقِيَاسِ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَجْهُهُ أَنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْبَاتُ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَصْمًا لَا بِدَعْوَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ كَمَا بَيَّنَّا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا لِلْأَثَرِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 63 الْهَيْثَمِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَجُلٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ»؛ وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْبَيِّنَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْمِلْكِ فَهُوَ يُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ. ثُمَّ تَتَرَجَّحُ بِيَدِهِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ إلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ حَاجَةَ ذِي الْيَدِ إلَى دَفْعِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَفِي إقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّهُ نَتَجَهَا انْدَفَعَ اسْتِحْقَاقُ الْخَارِجِ ضَرُورَةً، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الْحَالِ لَا يَبْقَى مِلْكًا كَانَ لِلْخَارِجِ فِيهِ مِنْ قَبْلُ فَلِهَذَا عَمِلْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ هُنَاكَ وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الطَّرِيقُ عِنْدِي فِي النِّتَاجِ تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا إذْ لَا تَصَوُّرَ لِنِتَاجِ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ. فَإِنَّمَا يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ فَصَارَ تَرْكًا لِتَهَاتُرِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْخَارِجَيْنِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ إنَّمَا يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَسِقْطُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِيمَا يُقْضَى بِهَا وَبِالسِّقْطِ لِمَنْ فِي يَدِهِ أَصْلُ الشَّاةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ تَهَاتُرَ الْبَيِّنَتَيْنِ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَيْسَ بِمُعَايَنَةِ الِانْفِصَالِ فِي الْأُمِّ بَلْ بِدُونِهِ الْفَصِيلُ يَتْبَعُ النَّاقَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ اعْتَمَدَ سَبَبًا صَحِيحًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلَا يُصَارُ إلَى التَّهَاتُرِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا وَالنِّتَاجُ فِي الدَّابَّةِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبَهُ نَسَجَهُ فَإِنَّ النَّسْجَ فِي الثَّوْبِ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْمِلْكِ فِيهِ وَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَالنِّتَاجِ فِي الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَالْخَزِّ يُنْسَجُ، ثُمَّ يُنْكَثُ فَيُغْزَلُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّتَاجَ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَا يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُلْحِقَ بِهِ؛ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ مِنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ وَكُلُّ قِيَاسٍ لَا يَنْفَكُّ عَمَّا يُعَارِضُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذَا ثَبَتَ هَذَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 64 فَنَقُولُ مَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَيَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَمَا يَتَكَرَّرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُعَادُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الدَّابَّةَ خَارِجَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا عِنْدَهُ وَيُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ تُوَقِّتْ بَيِّنَةُ الْآخَرِ وَهِيَ مُشْكِلَةُ السِّنِّ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهَا مِنْ حِينِ وُجِدَتْ، وَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ فَلَمْ يَكُنْ التَّوْقِيتُ مُفِيدًا شَيْئًا فِي حَقِّ مَنْ وَقَّتَهُ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةُ السِّنِّ فَكَانَ ذِكْرُهُ كَعَدَمِ ذِكْرِهِ فَإِنْ كَانَ السِّنُّ عَلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، وَقَدْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا قَضَيْتُ بِهَا لِمَنْ وَافَقَ تَوْقِيتُهُ سِنَّ الدَّابَّةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ مَنْ وَافَقَ سِنَّ الدَّابَّةِ تَوْقِيتُهُ. وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ تَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُقْضَى بِالشَّهَادَةِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا عَلَامَةُ الصِّدْقِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْتُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ: جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ سِنُّهَا عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ يُعْلَمُ ذَلِكَ، ظَهَرَ بُطْلَانُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا وَوَقْتُ شُهُودِهِ الْمِلْكَ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بَاطِلَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ سِنُّهَا عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي بِمُجَازَفَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَقَدْ فَعَلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ، جَمَعَ بَيْنَ السُّؤَالَيْنِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي النِّكَاحِ، وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً " أَوْ " تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] مَعْنَاهُ: وَيَزِيدُونَ فَهُنَا أَيْضًا مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ، وَكَانَتْ مُشْكِلَةً فَحِينَئِذٍ الْجَوَابُ صَحِيحٌ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ جَوَابُهُ صَحِيحٌ لِلْفَصْلَيْنِ أَمَّا إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً؛ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمَا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا وَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَبَقِيَتْ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسْجِ وَالثِّيَابِ، وَالنِّتَاجِ وَالْمِلْكِ لَهُ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فَيَتَرَجَّحُ ذُو الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ، وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الدَّابَّةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 65 وَقْتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي قَضَيْتُ بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ شُهُودِ ذِي الْيَدِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي شُهُودِهِ أَوْ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً قَالَ: وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ خَارِجٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ نَسَجَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً فَهُوَ لِذِي الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا لَا يَسْتَبِينُ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ. قَالَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَاصِلِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ؛ لِأَنَّ النِّتَاجَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً فَمَا لَا يَكُونُ إلَّا مُشْكِلًا لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ وَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي. ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي نَصْلِ سَيْفٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ سَيْفُهُ ضَرَبَهُ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مِنْ الصَّيَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاضِي فَيَسْأَلُ عَنْهُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ» فَإِنْ قَالُوا: لَا يُضْرَبُ إلَّا مَرَّةً يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ، وَإِنْ قَالُوا يُضْرَبُ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا؛ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي غَزْلٍ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهَا؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَا يُغْزَلُ إلَّا مَرَّةً فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ قُطْنًا فَغَزَلَهُ بِمِلْكِهِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إذَا غَزَلَهُ، وَنَسَجَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْفَصْلَ، وَلَمَّا جَعَلَهُ هُنَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالنِّتَاجُ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ عَرَفْنَا أَنَّ الْغَزْلَ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْزُولِ لِلَّذِي غَزَلَهُ وَفِي الشَّعْرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ وَيُغْزَلُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ الْمِرْعِزَّى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحُلِيِّ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يُصَاغُ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى خُطَّةِ الدَّارِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْخُطَّةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْفَتْحِ يَخُطُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ خَطًّا فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ يَمْلِكُهُ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ خَطُّهُ لَهُ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَهْلُهَا وَتَصِيرَ مَحْكُومَةً بِأَنَّهَا دَارُ الشِّرْكِ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ثَانِيَةً فَيَقْسِمُهَا الْإِمَامُ بِالْخَطِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 66 مِنْهُمْ كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي صُوفٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ جَزَّهُ مِنْ غَنَمِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْجَزَّ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْمِرْعِزَّى وَالْجَزُّ وَالشَّعْرُ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَإِنْ (قِيلَ): كَيْفَ يَكُونُ الْجَزُّ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الصُّوفَ، وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَكَانَ مَالًا ظَاهِرًا قَبْلَ الْجَزِّ. (قُلْنَا) نَعَمْ، وَلَكِنْ كَانَ وَصْفًا لِلشَّاةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَقْصُودًا إلَّا بَعْدَ الْجَزِّ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْجَزِّ، وَإِنَّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مَالٌ مَقْصُودٌ قَالَ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَخْلُهُ، وَأَرْضُهُ، وَأَنَّهُ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ فِيهَا، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ؟ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ الْكُرُومُ، وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ فَإِنَّ النَّخْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِلْأَرْضِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْضِ مَعْنَى النِّتَاجِ؛ وَلِأَنَّ النَّخْلَ يُغْرَسُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَقَدْ يَغْرِسُ الثَّالِثَةَ إنْسَانٌ، ثُمَّ يَقْلَعُهَا غَيْرُهُ وَيَغْرِسُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْحِنْطَةِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا حِنْطَةٌ زَرَعَهَا فِي أَرْضِهِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ قَدْ تُزْرَعُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُغَرْبِلُ التُّرَابَ فَيُمَيِّزُ الْحِنْطَةَ، ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَرْضٌ فِيهَا زَرْعٌ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالزَّرْعَ لَهُ، وَأَنَّهُ زَرَعَهَا يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ. وَكَذَلِكَ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ هُوَ مَعَ خَارِجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ زَرْعُهُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الزَّرْعَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُزْرَعُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ قَالَ: وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الصُّوفَ وَالْمِرْعِزَّى؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْرَعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ لِلزَّارِعِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْمِرْعِزَّى لَا يَكُونُ إلَّا لِصَاحِبِ الْغَنَمِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّاةِ الَّتِي فِي يَدِ ذِي الْيَدِ مَمْلُوكَةً لَهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَزَّ مِنْهَا مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الزَّرْعِ فِي أَرْضٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِذِي الْيَدِ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ مَمْلُوكًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَّ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَالزَّرْعُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ التَّكَرُّرِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْقُطْنُ شَجَرًا ثَابِتًا فِي أَرْضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَرْضُهُ، وَأَنَّهُ زَرَعَ هَذَا الْقُطْنَ فِيهَا، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَارٍ، وَأَقَامَ كُلُّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 67 وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ يَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا آخَرُ أَنَّهَا أَمَتُهُ، وَأَنَّهَا وُلِدَتْ عِنْدَهُ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ فِي يَدَيْهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي بَنِي آدَمَ كَالنِّتَاجِ فِي الْبَهَائِمِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أُمِّهَا الَّتِي عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا أَمَتُهُ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا، وَبِأُمِّهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَى فِي الْأُمِّ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهَا لِلْمُدَّعِي، ثُمَّ الْوَلَدُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأُمِّ، وَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْأُمِّ لِلْمُدَّعِي الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي صُوفٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جَزَّهُ مِنْ شَاتِه هَذِهِ، وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ شَاةٍ أُخْرَى فِي يَدِهِ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشَّاةِ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا شَاتُهُ، وَأَنَّهُ جَزَّ هَذَا الصُّوفَ فِي مِلْكِهِ مِنْهَا، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي أَصْلِ الشَّاةِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، ثُمَّ الصُّوفُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ. فَإِنْ (قِيلَ): قَدْ يَكُونُ الصُّوفُ وَالْوَلَدُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَصْلِ بِأَنْ يُوصِيَ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِلْإِنْسَانِ وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ أَوْ يُوصِيَ بِالشَّاةِ لِإِنْسَانٍ وَبِصُوفِهَا لِآخَرَ (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَالْوَلَدُ وَالصُّوفُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ غَيْرَهُ بِسَبَبٍ يُنْشِئُهُ مَالِكُ الْأَصْلِ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ وَمِنْ عَبْدِهِ هَذَا، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ لِإِثْبَاتِهِ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَيَكُونُ ابْنُ عَبْدِهِ، وَأَمَتِهِ دُونَ ابْنِ عَبْدِ الْآخَرِ، وَأَمَتِهِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمَّا تَرَجَّحَتْ بِالْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ صَارَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى مَدْفُوعَةً لَا يُقْضَى بِهَا بِالنَّسَبِ كَمَا لَا يُقْضَى بِهَا بِالْمِلْكِ، وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ نِتَاجِ بَائِعِهِ كَمَا هُوَ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ بَائِعِهِ، وَلَوْ حَضَرَ الْبَائِعَانِ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ كَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِتَاجِ بَائِعِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِي مِلْكِهِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِرَاثَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ مِنْ رَجُلٍ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ مُوَرِّثِهِ وَمُوصِيهِ فَيَكُونُ خَصْمًا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 68 عَنْهُ فِي إثْبَاتِ نِتَاجِهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يُسَمُّوا أُمَّهُ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ عِنْدَهُ مِنْ أُمِّهِ هَذِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلَّذِي أُمُّهُ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَفِي بَيِّنَةِ مَنْ عَيَّنَ أُمَّهُ زِيَادَةٌ، وَهُوَ إثْبَاتُ نِسَبِهِ مِنْ أُمِّهِ فَيَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ لَهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ لِأَمَةٍ أُخْرَى قُضِيَ بِهِ لِذِي - الْيَدِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فِي الْوِلَادَةِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ سَوَاءٌ حَصَلَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلَّذِي الْعَبْدُ فِي يَدِهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي الْأُمِّ بِحُجَّةٍ يُقِيمُهَا عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهِ فَلِهَذَا قَضَيْتُ بِهَا لِلَّذِي الْعَبْدُ فِي يَدَيْهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ وَمِنْ عَبْدِهِ هَذَا، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي الْمِلْكِ، ثُمَّ قَالَ، وَيَكُونُ الِابْنُ مِنْ الْأَمَتَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا فَأَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِحَالٍ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ ادَّعَيَا لَقِيطًا أَوْ وَلَدَ جَارِيَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّهُ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ فَإِنْ قَالَ الْقَائِفُ: إنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُت النَّسَب مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لَا يُوجَدُ الْقَائِفُ فِيهِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقْضَى بِالنَّسَبِ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. وَاحْتَجَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ اثْنَيْنِ أَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْمَوْلُودِ مِنْ الْوَالِدِ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ لِلْوَلَدِ كَالْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضِ لِلْفَرْخِ وَالْحَبِّ لِلْحِنْطَةِ فَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَرْخٌ وَاحِدٌ مِنْ سُنْبُلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَبَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلَدٌ وَاحِدٌ مِنْ مَائِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْمَائِينَ إلَى الرَّحِمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا وَصَلَ أَحَدُ الْمَائِينَ فِي الرَّحِمِ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَلَا يَخْلُصُ إلَيْهِ الْمَاءُ الثَّانِي فَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالنَّسَبِ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ مِنْ السُّرُورِ، وَقَالَ أَمَا تَرَيْنَ يَا عَائِشَةُ أَنَّ مُجَزِّزَ الْمُدْلِجِيَّ مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا نَائِمَانِ تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَسُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّ الْقَائِفَ يَعْتَبِرُ الشَّبَهَ؛ وَلِلشَّبَهِ فِي الدَّعَاوَى عِبْرَةٌ كَمَا قُلْتُمْ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إذَا اخْتَصَمَ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي مِلْكِ لَوْحٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ فَإِنْ كَانَ تَصَاوِيرُهُ تُشْبِهُ تَصَاوِيرَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 69 مَا فِي السَّقْفِ وَمَوْضِعِهِ ظَاهِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآجِرِ، وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجَرِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُوجَدُ الْقَائِفُ يُصَارُ إلَى الْإِقْرَاعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ عِنْد الْإِقْرَارِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي دَعْوَى النَّسَبِ حِين كَانَ بِالْيَمَنِ. وَحُجَّتُنَا فِي إبْطَالِ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لَأَمَرَ بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِفِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ وَدَعْوَى لِمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْأَرْحَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]، وَلَا بُرْهَانَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى وَعِنْدَ انْعِدَامِ الْبُرْهَانِ كَانَ فِي قَوْلِهِ قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ وَنِسْبَةُ الْأَوْلَادِ إلَى غَيْرِ الْآبَاءِ وَمُجَرَّدُ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الْأَدْنَى، وَقَدْ يُشْبِهُ الْأَبَ الْأَعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْأَجَانِبِ فِي الْحَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا أَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ، وَقَدْ، وَلَدَتْ امْرَأَتِي، وَلَدًا أَبْيَضَ فَلَيْسَ مِنَى فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَوْنُهَا قَالَ حُمْرٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّ ذَاكَ فَقَالَ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ أَوْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقًا نَزَعَ» فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ، وَفِي مَتَاعِ الْبَيْتِ عِنْدَنَا التَّرْجِيحُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالشَّبَهِ وَفِي اللَّوْحِ التَّرْجِيحُ بِالظَّاهِرِ لَا بِالشَّبَهِ. (أَلَا تَرَى) أَنْ إسْكَافًا وَعَطَّارًا لَوْ تَنَازَعَا فِي أَدَاةِ الْأَسَاكِفَةِ لَا يَتَرَجَّحُ الْإِسْكَافُ بِالشَّبَهِ، وَثُبُوتُ نَسَبِ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بِالْفِرَاشِ لَا بِقَوْلِ الْقَائِفِ إلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ لَوْنِهِمَا، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِنْدَ الْقَافَةِ عِلْمٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّ بَنِي الْمُدْلِجِ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِعَمَلِ الْقِيَافَةِ، وَجَزِّ رِيشِهِمْ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ كَانَ قَوْلُهُ رَدًّا لِطَعْنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَا، لَا لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِفِ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ شَرْعًا. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُمَا حَدِيثُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ قَالَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ إنْ لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَّا لَبُيِّنَ لَهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا، وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْمُدَّعِي قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ لَا بِحَقِيقَةِ انْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ سِرٌّ عَنْ غَيْرِ الْوَاطِئِينَ فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْفِرَاشَ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 70 يَعْتَمِدُ عَلَى مَا عَلِمَ بِهِ مِنْ الْفِرَاشِ، وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ النَّسَبِ الْمِيرَاثُ، وَالنَّفَقَةُ وَالْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَائِينَ فَإِنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ تَيْسِيرًا سَقَطَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَطَأَهَا أَحَدُهُمَا فَلَا يَخْلُصُ الْمَاءُ إلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَطَأَهَا الثَّانِي فَيَخْلُصُ الْمَاءَانِ إلَى الرَّحِمِ مَعًا، وَيَخْتَلِطُ الْمَاءَانِ فَيَتَخَلَّقُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ بِخِلَافِ الْبَيْضَتَيْنِ وَالْحَبَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلِاخْتِلَاطِ فِيهِمَا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِلنَّسَبِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَثُرُوا أَخْذًا بِالْقِيَاسِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُثَنَّى؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ مِنْ اثْنَيْنِ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُوجَدُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَصْمُ لِاسْتِحَالَةِ إثْبَاتِ نَسَبٍ مِنْ عَشَرَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجَمْعِ، وَلَا نِهَايَةَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى التَّفَاحُشِ فَاعْتَبَرْتُ أَدْنَى الْجَمْعِ، وَقُلْتُ يَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْأَمَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ مِنْ الْحُرَّتَيْنِ إذَا ادَّعَتَا لَقِيطًا، وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بِحَالٍ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّانِيَةِ، وَهَذَا سَبَبٌ مُعَايَنٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهُ، وَلَا تَصَوُّرَ لِانْفِصَالِ، وَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ فَيُتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ فَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ فَسَبَبُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ الْفِرَاشُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ نَعَمْ حَقِيقَةُ هَذَا النَّسَبِ مِنْ امْرَأَتَيْنِ مُحَالٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّسَبِ حُكْمُهُ لَا عَيْنُهُ، وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ، وَهَذَا الْحُكْمُ قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَيَكُونُ ذِكْرُ السَّبَبِ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ مَجَازًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ: هَذَا ابْنِي يُعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحُ كَلَامِهِ مُحَالًا، وَلَكِنْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ حُكْمِهِ مَجَازًا. وَمَا قَالَا يَبْطُلُ بِدَعْوَى النِّتَاجِ فَإِنَّ وِلَادَة شَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَاتَيْنِ حَقِيقَةً مُحَالٌ، وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْخَارِجَانِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ يُقْضَى بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ قَبَاءٌ مَحْشُوًّا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ قَطَعَهُ وَحَشَاهُ، وَخَاطَهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ وَالْخِيَاطَةَ قَدْ تَكُونُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 71 غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَالْفَرْوُ، وَكُلُّ مَا يُقْطَعُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ، وَالْأَنْمَاطِ وَالْوَسَائِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْوَرْسِ إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ، وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ صَبْغَهُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُصْبَغُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ يُصْبَغُ عَلَى لَوْنٍ، ثُمَّ يُصْبَغُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ أَوَانِي الصُّفْرِ، وَالْحَدِيدِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصْبَغُ إلَّا مَرَّةً فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ الْأَبْوَابُ، وَالسُّرَرُ وَالْكَرَاسِيُّ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يَجُرُّهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَإِنْ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ لَا يُعْلَمُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَعَلَى هَذَا الْخِفَافُ وَالنِّعَالُ، وَالْقَلَانِسُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ عَصَرَهُ وَسَلَاهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ وَالْعَصِيرُ وَالْخَلُّ وَالْجُبْنُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّاةُ الْمَسْلُوقَةُ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ ضَحَّى بِهَا، وَسَلَخَهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فِي إثْبَاتِ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِهِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي قَالَ: وَإِنْ أَقَامَ خَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ دَعْوَى الدَّابَّةِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ النِّتَاجِ لِإِثْبَاتِهِ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تُتَمَلَّكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي تَمَلُّكَهَا مِنْ جِهَتِهِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّاتِجُ أَحَقُّ مِنْ الْعَارِفِ يَعْنِي بِالْعَارِفِ الْخَارِجِ الَّذِي يَدَّعِي مِلْكًا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي لَحْمٍ مَشْوِيٍّ أَوْ سَمَكَةٍ مَشْوِيَّةٍ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ، وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَوَاهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الشَّيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّ اللَّحْمَ يُشْوَى، ثُمَّ يُعَادُ ثَانِيًا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ. وَكَذَلِكَ الْمُصْحَفُ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُصْحَفُهُ كَتَبَهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَكَرَّرُ يُكْتَبُ، ثُمَّ يُمْحَى، ثُمَّ يُكْتَبُ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي أَمَةٍ فَأَقَامَ أَحَدُ الْخَارِجِينَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ، وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ سُرِقَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ السَّرِقَةِ أَنَّهَا أَمَتُهُ أَبَقَتْ مِنْهُ أَوْ غَصَبَهَا إيَّاهُ ذُو الْيَدِ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى ذَلِكَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ سَابِقًا، وَكَذَلِكَ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 72 الدَّابَّةِ إذَا شَهِدَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا بِالنِّتَاجِ، وَشُهُودُ الْآخَرِ أَنَّهَا دَابَّتُهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَعَارَهَا أَوْ رَهَنَهَا إيَّاهُ فَهِيَ لِصَاحِبِ النِّتَاجِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ دَلِيلُ سَبْقِ مِلْكِهِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَسَجَهُ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ نَصًّا فَقَدْ يَنْسِجُ الْإِنْسَانُ ثَوْبَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ كَالنَّسَّاجِ يَنْسِجُ ثِيَابَ النَّاسِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي دَابَّةٍ أَنَّهَا نُتِجَتْ عِنْدَهُ أَوْ فِي أَمَةٍ أَنَّهَا وُلِدَتْ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ شَهَادَةً بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا ابْنَةُ أَمَتِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ إنَّمَا فِيهِ شَهَادَةٌ بِالنَّسَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي أَمَةً، وَلَهَا ابْنَةٌ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَهِيَ ابْنَةُ أَمَتِهِ، وَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ بِشَيْءٍ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا فَهِيَ ابْنَةُ أَمَتِهِ، وَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى ثَوْبٍ أَنَّهُ غُزِلَ مِنْ قُطْنِ فُلَانٍ وَنُسِجَ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقُطْنِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْغَزْلِ وَالثَّوْبِ، وَإِنَّ الْغَاصِبَ إذَا غَزَلَ الْقُطْنَ وَنَسَجَهُ كَانَ الثَّوْبُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْقُطْنِ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَانَ مَالِكًا لِلْقُطْنِ، وَلَا يَمْلِكُ الثَّوْبَ بِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ نَصًّا فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَمَرْتُهُ أَنْ يَغْزِلَ، وَيَنْسِجَ قُضِيَ لَهُ بِالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَاَلَّذِي غَزَلَهُ وَنَسَجَهُ بِإِنْكَارِهِ الْأَمْرَ يَدَّعِي بِمِلْكِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعٍ حُصِدَ مِنْ أَرْضِ فُلَانٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَخْذَ الْحِنْطَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحِنْطَةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا الْأَرْضَ إلَيْهِ مِلْكًا وَيَدًا فَمَا فِي أَرْضِهِ مِنْ الزَّرْعِ يَكُونُ فِي يَدِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الزَّرْعِ إنَّمَا أَضَافُوا الْأَرْضَ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَالزَّرْعُ الَّذِي فِيهَا لِغَيْرِهِ كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، وَكَذَلِكَ مَا شَهِدُوا بِالْيَدِ فِي الزَّرْعِ، وَلَا فِي الْأَرْضِ نَصًّا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْأَرْضِ مَمْلُوكَةً لَهُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ أَوْ أَنَّ هَذَا التَّمْرَ مِنْ نَخْلٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ، وَأَنَّ هَذَا الزَّبِيبَ مِنْ كَرْمٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَضَافُوا مَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى إلَيْهِ مِلْكًا، وَلَا يَدًا، وَقَدْ يَكُونُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ فِي الْأَرْضِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِلْكًا وَيَدًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أُخِذَ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ مِلْكِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ مِنْ مِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ فَنَوْعُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 73 احْتِمَالِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُنَا مِنْ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّهَادَةِ تَنْصِيصٌ عَلَى مِلْكٍ أَوْ يَدٍ لِلْمُدَّعِي فَالْمُدَّعِي لَا يُقْضَى بِهِ لَهُ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي إقْرَارِهِ بَيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كَانَ فِي يَدِ هَذَا أَمْسِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَفِي الشَّهَادَةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا. قَالَ: وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا التَّمْرَ أَخَذَهُ هَذَا مِنْ نَخْلِ فُلَانٍ قُضِيَ لَهُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِنَخْلِهِ مِنْ التَّمْرِ يَكُونُ فِي يَدِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَخْلِ فُلَانٍ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، وَلَدَتْهُ أَمَةُ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا قُضِيَ لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْوَلَدِ مِنْ مِلْكِهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ مِلْكِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ إلَى أَنْ يَتَمَلَّكَهُ الْغَيْرُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَكَانَ هَذَا، وَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُدَّعَى سَوَاءً. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعِ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا إلَيْهِ بِالْمَلَكِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَكَانَ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْحِنْطَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الزَّبِيبَ مِنْ كَرْمِ هَذَا، وَهَذَا التَّمْرَ مِنْ نَخْلِ هَذَا قُضِيَ لَهُ بِهِ لِشَهَادَتِهِمْ بِالتَّوَلُّدِ مِنْ مِلْكِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا غَزَلَ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ قُطْنِ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُ الْقُطْنَ وَنَسَجَ الثَّوْبَ فَإِنِّي أَقْضِي عَلَى الَّذِي غَزَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقُطْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْقُطْنِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الثَّوْبِ، وَلَكِنْ مَنْ غَزَلَ قُطْنَ الْغَيْرِ، وَنَسَجَهُ فَالثَّوْبُ لَهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقُطْنِ، وَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقُطْنِ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ أَخَذَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْقُطْنِ وَاَلَّذِي غَزَلَ وَنَسَجَ يَدَّعِي تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ فَأَنْكَرَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا طَحَنَ هَذَا الدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَةِ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِحِنْطَةٍ مِثْلِهَا، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْحِنْطَةِ: أَنَا أَمَرْتُهُ أَخَذَ الدَّقِيقَ لِمَا بَيَّنَّا قَالَ: وَإِذَا كَانَ الدَّجَاجُ أَوْ الشَّيْءُ مِنْ الطُّيُورِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ فَرَّخَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لَا يَتَكَرَّرُ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيْضَةَ الَّتِي خَرَجَتْ هَذِهِ الدَّجَاجَةُ مِنْهَا كَانَتْ لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالدَّجَاجَةِ، وَلَكِنْ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِ الدَّجَاجَةِ بِبَيْضَةٍ مِثْلِهَا لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَيْضَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الدَّجَاجَةِ فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ بَيْضَةً وَحَضَنَهَا ذَلِكَ تَحْتَ دَجَاجَةٍ كَانَ الْفَرْخُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ مِثْلُ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الْوِلَادَةَ، وَالنِّتَاجَ؛ لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ أَمَةً أَوْ دَابَّةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ بَلْ هُوَ لِصَاحِبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 74 الْأَصْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ بِالْحَضَانَةِ تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً فَيُحَالُ بِحُدُوثِ الْفَرْخِ عَلَى عَمَلِ الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، وَالْأَمَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً بِالْوِلَادَةِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأَصْلِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ مِلْكِهِ. قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ دَجَاجَةً فَبَاضَتْ عِنْدَهُ فَالْبَيْضَةُ لِصَاحِبِهَا لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ فَإِنْ بَاضَتْ بَيْضَتَيْنِ فَحَضَنَتْ الدَّجَاجَةُ نَفْسَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ وَحَضَنَهَا الْغَاصِبُ عَلَى الْأُخْرَى فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ فَالْفَرْخُ الْأَوَّلُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ الدَّجَاجَةِ وَالْفَرْخُ الْآخَرُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ وَمَا حَصَلَ بِفِعْلِ الدَّجَاجَةِ نَفْسِهَا لَا صُنْعَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُهُ بَلْ يَكُونُ لِمَالِكِ الْأَصْلِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ غَصَبَ حِنْطَةً وَزَرَعَهَا كَانَ الزَّرْعُ لَهُ، وَلَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِالْحِنْطَةِ فَجَعَلَتْهَا مَزْرُوعَةً فِي الْأَرْضِ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى فِعْلِ الرِّيحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُجْعَلُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَضَنَهَا الْغَاصِبُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ وَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ بِالضَّمَانِ فَإِنَّمَا يَتَوَلَّدُ الْفَرْخُ مِنْ مِلْكِهِ فَأَمَّا مَا حَضَنَتْ الدَّجَاجَةُ بِنَفْسِهَا لَمْ تَصِرْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَلَا يَمْلِكُهَا فَبَقِيَ ذَلِكَ الْفَرْخُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ قَالَ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْعُصْفُرَ الَّذِي فِي هَذَا الثَّوْبِ لِفُلَانٍ صَبَغَ بِهِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَا يَدْرِي مَنْ صَبَغَهُ وَجَحَدَ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَادَّعَى صَاحِبُ الْعُصْفُرِ أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَمَانَ قِيمَةِ الْعُصْفُرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَلَيْسَ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَإِنَّ ثَوْبَ الْغَيْرِ إذَا هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ، وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ إنْسَانٍ فَانْصَبَغَ كَانَ الصَّبْغُ لِصَاحِبِهِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَ الثَّوْبِ شَيْئًا، وَلَكِنْ يُقَوَّمُ الثَّوْبُ أَبْيَضَ وَيُقَوَّمُ مَصْبُوغًا فَإِنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَضْمَنُ لَهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي ثَوْبِهِ، وَإِلَّا بِيعَ الثَّوْبُ فَيَصْرِفُ فِيهِ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الْعُصْفُرِ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي ثَوْبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ أَحَدُهُمَا بِالثَّوْبِ وَالْآخَرُ بِالْعُصْفُرِ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ، وَالْعُصْفُرَ فِيهِ وَصْفٌ فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ دُونَ صَاحِبِ الْوَصْفِ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي لَبِنٍ فَأَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ ضَرَبَهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ اللَّبِنَ يُضْرَبُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنْ يُضْرَبَ، ثُمَّ يُكْسَرَ، ثُمَّ يَضْرِبَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَلِهَذَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي. قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي جُبْنٍ فَأَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جُبْنُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ لَا يُصْنَعُ إلَّا مَرَّةً وَهُوَ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 75 إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي صُنِعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنُ مِلْكُهُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي اللَّبَنِ وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ قَامَتْ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنْ حَلْبَ اللَّبَنِ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ مِنْ شَاتِهِ فِي مِلْكِهِ فَيُقْضَى لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْحَلْبَ فِي اللَّبَنِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ. وَالرَّابِعُ: إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ مِلْكُهُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ فِي مِلْكِ الشَّاةِ، وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا قَامَتْ عَلَى الْمُطْلَقِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ شَاتِهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّتَيْنِ قَامَتَا عَلَى النِّتَاجِ فِي الشَّاةِ الَّتِي كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهَا قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي آجُرٍّ أَوْ جِصٍّ أَوْ نَوْرَةٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِذِي الْيَدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِالْآجُرِّ لِلْخَارِجِ، وَيُجْعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ فِي اللَّحْمِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: طَبْخُ الْآجُرِّ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِنَّهُ بِالطَّبْخِ الْأَوَّلِ يَحْدُثُ لَهُ اسْمُ الْآجُرِّ فَإِنْ أُعِيدَ طَبْخُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْدُثُ بِهِ اسْمٌ آخَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ، وَكَذَلِكَ طَبْخُ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي جِلْدِ شَاةٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جِلْدُهُ سَلَخَهُ فِي مِلْكِهِ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ سَلْخَ الْجِلْدِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَلَوْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَهُمَا، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جِلْدُ شَاتِه، وَلَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى صُوفٍ أَنَّهُ صُوفُ شَاتِه أَوْ عَلَى لَحْمٍ أَنَّهُ لَحْمُ شَاتِه قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا غَلَطٌ، وَأَرَى جَوَابَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَالُوا هَذِهِ الْحِنْطَةُ مِنْ زَرْعِ هَذَا أَوْ هَذَا الزَّبِيبُ مِنْ كَرْمِهِ أَوْ هَذَا التَّمْرُ مِنْ نَخْلِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَلْ الْجِلْدُ وَالصُّوفُ وَاللَّحْمُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا بِمِلْكِ الْأَصْلِ أَبْلَغُ مِنْ مِلْكِ الزَّرْعِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِنْ (قِيلَ): إنَّ هُنَا قَدْ يَنْفَصِلُ مِلْكُ الصُّوفِ عَنْ مِلْكِ الْأَصْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَا جَعَلُوا الْمُدَّعَى هُنَا فِي شَهَادَتِهِمْ مِنْ مِلْكِهِ إنَّمَا نَسَبُوهُ إلَى شَاةٍ، ثُمَّ نَسَبُوا إلَيْهِ الشَّاةَ بِالْمِلْكِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ شَهَادَةً بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى نَصًّا فَأَمَّا هُنَاكَ شَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعَاةَ مِنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُدَّعَى نَصًّا. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ شَاةٌ مَسْلُوخَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَجِلْدُهَا وَرَأْسُهَا وَسَقَطُهَا فِي يَدِ آخَرَ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ فِي الشَّاةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ وَالْجِلْدَ وَالرَّأْسَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 76 وَالسَّقْطَ لَهُ، وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ السَّقْطُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ مِلْكًا مُطْلَقًا بِالْبَيِّنَةِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تَتَرَجَّحُ. وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ شَاتُهُ تُنْجِبُ عِنْدَهُ فِي مِلْكِهِ فَذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا، وَأَنَّ لَهُ جِلْدَهَا، وَرَأْسَهَا وَسَقْطَهَا يُقْضَى بِالْكُلِّ لِلَّذِي الشَّاةُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ النِّتَاجَ فِي الشَّاةِ فَاسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ بِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا، وَجِلْدُهَا وَرَأْسُهَا وَسَقْطُهَا بِبَيْعِهَا فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ شَاةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَشَاةٌ أُخْرَى فِي يَدِ آخَرَ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَاةِ صَاحِبِهِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ الْقَائِمَةِ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَاةِ صَاحِبِهِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الشَّاتَيْنِ مُشْكِلًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومًا، وَأَحَدُهُمَا تَصْلُحُ أُمًّا لِلْأُخْرَى وَالْأُخْرَى لَا تَصْلُحُ أُمًّا لَهَا، وَكَانَتْ عَلَامَةُ الصِّدْقِ ظَاهِرَةً فِي شُهُودِ أَحَدِهِمَا وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَاهِرَةً فِي شَهَادَةِ شُهُودِ الْآخَرِ يَقْضِي بِهَا بِمَا ظَهَرَ فِيهِ عَلَامَةُ الصِّدْقِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِشْكَالِ لَا تَظْهَرُ عَلَامَةُ الصِّدْقِ، وَلَا الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَصَاحِبُهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى النِّتَاجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ وَالِدَةً لِصَاحِبَتِهَا وَمَوْلُودَةً مِنْهُمَا، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي يَدِهِ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ شَاةَ صَاحِبِهِ، وَلَدَتْهَا شَاتُهُ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي يَدِهِ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّ شَاةَ صَاحِبِهِ لَهُ، وَلَدَتْهَا شَاتُهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِهِ لِإِثْبَاتِهِ النِّتَاجَ فِيهَا قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ شَاتَانِ فِي يَدِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا بَيْضَاءُ وَالْأُخْرَى سَوْدَاءُ فَادَّعَاهُمَا رَجُلٌ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا لَهُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ، وَلَدَتْ هَذِهِ السَّوْدَاءَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا لَهُ، وَأَنَّ هَذِهِ السَّوْدَاءَ، وَلَدَتْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّاةِ الَّتِي ذَكَرَ شُهُودُهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ النِّتَاجَ فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ وَصَاحِبُهُ أَثْبَتَ فِيهَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النِّتَاجِ أَوْلَى مِنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ الْخَارِجِ. قَالَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 77 وَإِذَا كَانَتْ شَاةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ لِلْقَاضِي: قَدْ قَضَيْتَ لِي بِالْوِلَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا أَعَدْتُهَا فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ الْأُولَى كَانَ عَلَى خَصْمِهِ خَاصَّةً فَيَجْعَلُ إقَامَتَهَا فِي حَقِّ الثَّانِي وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ لِلْمِلْكِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ أَعَادَ بَيِّنَةً قَضَى بِهَا لَهُ تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي فَإِنْ قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي، ثُمَّ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ الْأَوَّلُ شُهُودَهُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَيُبْطِلُ قَضَاءَهُ لِلْآخَرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَيْنَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَصِرْ ذُو الْيَدِ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، وَأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ فَلِهَذَا انْقَضَى قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ (قِيلَ) الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَقَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ. (قُلْنَا) إنَّمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَتُرَجَّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ قَضَائِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ عَلَى اجْتِهَادٍ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يُدْفَعُ مِنْ ذِي الْيَدِ فَإِذَا أَقَامَ حُجَّةَ الدَّفْعِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي بِهَا لَهُ وَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ مِنْهَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى لَهُ بِهَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ بَلْ يَكُونُ مُقَرَّرًا لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ فَسَّرَ شُهُودُ الْقَضَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ آكَدُ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 78 تَنْفِيذِ ذَلِكَ الْقَضَاءِ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ أَوْ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ، وَلَا يَنْقُضُ الْقَاضِي الثَّانِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ أَوْلَى فَيَقْضِي بِهَا لَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ذَا الْيَدِ لَوْ أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ نَقَضَ الْأَوَّلُ قَضَاءَهُ، وَقَضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ قَضَاءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الثَّانِي بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُبَاشَرَتِهِ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمَّا بَيَّنُوا سَبَبَ الْعَقَارِ إلَى احْتِمَالِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْيَدِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ نَفَذَ بِيَقِينٍ فَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَبَيَانُ الِاحْتِمَالِ هُنَا إذَا قَالُوا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلتَّلَبُّسِ عَلَى الْقَاضِي بِأَنْ قَالُوا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذِي الْيَدِ كَانَ أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي فَتَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَقَضَى بِهَا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً نَافِذًا لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ الثَّانِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يُوجَدُ إذَا أَقَامَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى الْوِلَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا فِيهَا خَارِجَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ قَضَى لَهُ بِهَا قَاضِي بَلَدِ كَذَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا لَهُ عَلَى هَذَا، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْقَضَاءِ كَمَا بَيَّنَّا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَوَقَّتُوا وَقْتًا فَكَانَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَصْغَرَ مَعْرُوفٌ فَشَهَادَةُ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ؛ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِمُجَازَفَتِهِمْ فِيهَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي الْقَضَاءِ نِصْفَانِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةٌ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فَالْجَوَابُ بُطْلَانُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوِلَادَةِ وَالنَّسَبِ] (بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوِلَادَةِ، وَالنَّسَبِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَبْدٌ صَغِيرٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 79 نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ، وَقَوْلُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ فَإِنْ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نَسَبَ مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَجُعِلَ حُرًّا؛ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمًا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ، وَمَاءُ الْحُرِّ جُزْءٌ مِنْهُ فَيَكُونُ حُرًّا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِرَحِمِ الْأَمَةِ وَحِينَ لَمْ يُسَمُّوا أَمَةً فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَظْهَرْ اتِّصَالُ مَائِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَبَقِيَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَهَذِهِ مُوجِبَةٌ لِبَيِّنَةِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فَلَا يُعَارِضُهَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ فِي إثْبَاتِ رِقِّهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْمُدَّعِي الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يُعَارِضُهَا الْيَدُ، وَلَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَالْعَبْدُ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَيْتُ بِنَسَبِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ هُنَاكَ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَى بِنَسَبِهِ مِنْ ذِي الْيَدِ وَمِنْ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ جَحَدَتْ هِيَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُحَالُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ وَذَلِكَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُ النَّسَبَ مِنْهُمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ السَّبَبِ ثُبُوتُهُ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَنْتَفِي بِجُحُودِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ الْأَبُ وَادَّعَتْ الْأُمُّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ عَبْدٍ، وَامْرَأَتُهُ الْأَمَةُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُمَا، وَأَقَامَ آخَرُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْمَوَالِي أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ وَهِيَ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الْخَارِجَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِمَا زِيَادَةَ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ، وَهُمَا حُرَّانِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَلَمْ يَنْسِبُوهُ إلَى أُمِّهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي لِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فَلَا إثْبَاتَ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَشَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَمَاعِ الْقَاضِي إقْرَارَهُ، وَذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، ثُمَّ أَعَادَ مَسْأَلَةَ الرَّجُلَيْنِ، وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (فَرْعٌ) عَلَيْهِ مَا لَوْ وَقَّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا قَالَ: يُنْظَرُ إلَى سِنِّ الصَّبِيِّ فَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَهُوَ وَمَا لَمْ يُوَقِّتَا سَوَاءٌ يَقْضِ بِهِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَصْغَرُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 80 مَعْرُوفٌ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ، وَلَمْ تَظْهَرْ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتُوهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهَا قَضَيْتُ بِالنَّسَبِ مِنْهَا لِإِثْبَاتِهَا الدَّعْوَى بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِيهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ (قِيلَ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِهِ مِنْهُ وَمِنْهَا (قُلْنَا) نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا إلَّا بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ تُقِمْ الْمَرْأَةُ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً شَهِدَتْ أَنَّهَا، وَلَدَتْ فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ لَمْ يُقْضَ لِلْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الثَّابِتَ بِالْيَدِ لَا يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لَا يَدَّعِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلْمَرْأَةِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللَّقِيطِ مُسْتَحِقٌّ لِذِي الْيَدِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَمَحَّضَ هَذَا مَنْفَعَةً لِلْوَلَدِ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ، وَحُرِّيَّتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا يَدُهُ فِيهِ صِيَانَةً عَنْ ضَيَاعِهِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ قَالَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةَ الْحُرِّيَّةِ فَلَوْ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ جَعَلْنَاهُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَكَيْفَ يُجْعَلُ مَمْلُوكًا، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذَا شَيْئًا أَمَّا فِي الْكِتَابَةِ لَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِهِ. وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَهُ كَالْعِتْقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ: أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ عِتْقٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ بِبَيِّنَتِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْوَلَاءُ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَالْمِلْكُ بَيْعٌ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ لِهَذَا. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا كَالْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمِلْكُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْإِثْبَاتِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِإِثْبَاتِ الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ إثْبَاتَ الْوَلَاءِ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ أَمَتِهِ فِي مِلْكِهِ حُرُّ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ إثْبَاتُ حُرِّيَّةِ الْعِتْقِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 81 فَعِنْدَ إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ أَوْلَى قَالَ صَبِيٌّ فِي يَدِ امْرَأَةٍ فَأَقَامَتْ شَاهِدَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَأَقَامَتْ الَّتِي هُوَ فِي يَدَيْهَا شَهَادَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا قَضَيْتُ بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ ذِي الْيَدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلَانِ، وَلِلَّتِي هُوَ فِي يَدَيْهَا امْرَأَةٌ قَضَيْت بِهِ لِلْمُدَّعِيَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُقَابِلُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَامْرَأَةٍ يَدَّعِيَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا فَشَهِدَتْ لَهُمَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُقَابِلُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَانِ تَدَّعِيَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا فَشَهِدَتْ لَهُمَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُعَارِضُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَبَقِيَ الْيَدُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْبَيِّنَةُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَالْيَدُ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ ذِمِّيٍّ فَشَهِدَ لَهُ ذِمِّيَّانِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَقَامَ مُسْلِمٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُسْلِمِ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ الذِّمِّيِّ وَبَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ الْمُسْلِمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَضَيْتُ بِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ ذُو الْيَدِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لَا يَتَكَرَّرُ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ ثَالِثٍ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ إسْلَامُ الْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ يُوجِبُ كُفْرَهُ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْكُفْرِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ ابْنِي مِنْ فُلَانَةَ لِامْرَأَةٍ غَيْرِهَا، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ ابْنِي مِنْ زَوْجِي فُلَانٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ جَعَلْته ابْنَ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي يَدِهِمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَاضِرَيْنِ يُنْصَبُ خَصْمًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَائِبَيْنِ وَالْغَائِبَانِ الْخَارِجَانِ لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِأَنْفُسِهِمَا تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَتِهِمَا فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ مُسْلِمٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ الْحُرَّةِ، وَأَقَامَ عَبْدٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ، وَأَقَامَتْ مُكَاتَبَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلْحُرِّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 82 لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ اسْتَوَتْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ وَفِي الْحُرِّ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ الْحُرُّ، وَإِنَّمَا ادَّعَاهُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ فَإِنَى أَقْضِي بِهِ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةً فَإِنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ مُكَاتَبًا، وَالْكِتَابَةُ تُفْسِدُ الْعِتْقَ وَيَثْبُتُ بِهِ لِلْمُكَاتِبِ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمُكَاتَبِ فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ قَضَيْتُ بِهِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا قُوبِلَ بِدَيْنِ الْمَجُوسِيِّ فَدَيْنُ الْمَجُوسِيِّ شَرٌّ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَبَائِحَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى تَحِلُّ، وَكَذَلِكَ مُنَاكَحَتُهُنَّ، وَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ الْمَجُوسِيِّ وَمُنَاكَحَتُهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ حَالُ الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ مَعَ الْمَجُوسِيِّ كَحَالِ الْمُسْلِمِ مَعَ الْيَهُودِيِّ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَوْلُودَ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَالْكِتَابِيِّ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِيِّ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِدَعْوَى النَّسَبِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ وَلَوْ ادَّعَى مُسْلِمٌ، وَكَافِرٌ مِلْكًا، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَوْ كِتَابِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ لَمْ تَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي دَعْوَى الْمِلْكَيْنِ: لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فَأَمَّا فِي النَّسَبِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لِلْوَلَدِ فَتَتَرَجَّحُ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ لِهَذَا قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَادَّعَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ يَقْضِي لِلْحُرِّ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ عَاجِلًا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ لَا يُمْكِنُهُ اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى يَهْدِيهِ فَيُسْلِمَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى فِي حَقِّهِ قَالَ: صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ لَا يَدَّعِيهِ فَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَلَدْته، وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَمْ يُسَمُّوا أُمَّهُ جَعَلْته ابْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ فِي قَبُولِ بَيِّنَتِهَا مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الرَّجُلِ فَقَضَيْنَا بِالنَّسَبِ مِنْهُمَا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَضَاءُ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا وَمَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْمَشْهُودِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ دَعْوَى الرَّهْطِ فِي الدَّارِ] (بَابُ دَعْوَى الرَّهْطِ فِي الدَّارِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ جَمِيعًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَى آخَرُ نِصْفَهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ وَرُبُعُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَسِّمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 83 أَثْلَاثًا؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ، وَأَضْدَادٌ، وَمِنْ نَظَائِرِهَا الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِعَيْنٍ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ. وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةً، وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةٍ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَغَرِمَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَآخَرَ خَطَأً؛ وَلِلْمَقْتُولِ عَمْدًا ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فُضُولِيٌّ بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَبَاعَ فُضُولِيٌّ آخَرَ نِصْفَهُ فَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا. وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَالتَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَمَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِينَ كَانَ فِي الثَّمَنِ يَتَحَوَّلُ بِالشِّرَاءِ إلَى الْمَبِيعِ وَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ لِمَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِي الْعَيْنِ فَمَا مِنْ جُزْءٍ مِنْهُ إلَّا، وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ مُزَاحِمٌ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ. وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ مَعْلُومٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، وَإِذَا كَانَ يُدْلِي لَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَمَا لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ بَيْعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قُوَّةِ السَّبَبِ وَاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ فِي صِفَةِ الصِّحَّةِ فَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشَّهَادَةُ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ مَعْلُومَ الصِّحَّةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَمَا قَالَ يَبْطُلُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَوْلِيًّا. قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعُونَ ثَلَاثَةً يَدَّعِي أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا، وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَهَا، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَتَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 84 مِنْ سِتَّةٍ يَضْرِبُ مُدَّعِي الْكُلِّ بِسِهَامِ الدَّارِ سِتَّةً وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ بِسِهَامِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً وَمُدَّعِي النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ فَيَقْسِمُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيُسَلَّمُ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ فَيَكُونُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ يَبْقَى سِتَّةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَيُسَلِّمُ لِمُدَّعِي النِّصْفِ سُدُسَ الدَّارِ؛ وَلِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ رُبُعَ الدَّارِ؛ وَلِمُدَّعِي الْجَمِيعِ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا وَالْآخَرُ جَمِيعَهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْصَرِفٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا لِيَكُونَ يَدُهُ مُحِقَّةٌ فِي حَقِّهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ فَصَاحِبُ النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالدَّارُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَيْهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ، وَاسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمْ فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الدَّارِ، وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ فِيمَا فَضَلَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا فِي يَدِهِ فَأَمَّا الثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي الْجَمِيعَ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ثُلُثٌ فِي يَدِهِ وَثُلُثٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ دَعْوَاهُ فِيمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّلُثِ فَيُسَلِّمُ نِصْفَ هَذَا الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَاءِ مُنَازَعَتِهِمَا فِيهِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي جَمِيعَهُ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي رُبُعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الثُّلُثُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَكَانَ دَعْوَاهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ السُّدُسِ، وَذَلِكَ رُبُعُ مَا فِي يَدَيْهِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ سَالِمٌ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الرُّبُعِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ يَدَّعِي صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ رُبُعَهُ وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 85 بِقَدْرِ مَا ادَّعَاهُ فَإِنْ جَعَلْت سِهَامَ الدَّارِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ، وَالسَّالِمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ، وَلَهُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةٌ وَيَبْقَى لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ سَهْمَانِ فَجُمْلَةُ مَا سَلَّمَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةٌ وَمِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَهُوَ لَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ سَهْمَيْنِ وَمِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَهْمًا فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِالنِّصْفِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَثْلَاثًا وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِالرُّبُعِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَخْمَاسًا وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ الرُّبُعَ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَأْخُذُ النِّصْفَ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَرْبَاعًا فَقَدْ، وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْأَثْلَاثِ، وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَخْمَاسِ فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ فَصَارَ كُلُّ ثُلُثٍ مِنْ الدَّارِ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا فَيَكُونُ جَمِيعُهَا مِائَةً، وَثَمَانِينَ فَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سِتُّونَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثَاهُ أَرْبَعُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عِشْرُونَ وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ خَمْسَةٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ؛ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَيَأْخُذُ صَاحِبُ النِّصْفِ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ رُبُعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ النِّصْفَ ثَلَاثِينَ فَيَبْقَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْآخَرَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَذَلِكَ نَصِيبُهُ. وَصَاحِبُ الثَّلَاثِينَ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثِينَ، وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ عِشْرِينَ وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ مِائَةً وَثَمَانِينَ مِثْلُ سِهَامِ الدَّارِ فَاسْتَقَامَ قَالَ: دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهَا مَنْزِلٌ وَفِي يَدِ آخَرَ مِنْهَا مَنْزِلٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الدَّارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ هِيَ كُلُّهَا لِي، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِمُدَّعِي الْكُلِّ الْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَنِصْفُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْآخَرِ فِي نِصْفٍ شَائِعٍ فَإِنَّمَا يَدَّعِي هُوَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَا دَعْوَى لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَمُدَّعِي الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ، وَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِي نِصْفَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي يَدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 86 مُدَّعِي النِّصْفِ تَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْآخَرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَإِنْ كَانَ سُفْلُهَا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَعُلُوُّهَا فِي يَدِ آخَرَ وَطَرِيقُ الْعُلُوِّ فِي السَّاحَةِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الدَّارَ لَهُ فَالدَّارُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إلَّا الْعُلُوَّ وَطَرِيقَهُ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُهُ فِي السُّفْلِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِالتَّطَرُّقِ فِيهِ إلَى عُلُوِّهِ فَأَمَّا السُّفْلُ وَالسَّاحَةُ فَفِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ هُوَ الْمُسْتَعْمِلُ لِلسَّاحَةِ بِوَضْعِ أَمْتِعَتِهِ وَصَبِّ وُضُوئِهِ، وَكَسْرِ حَطَبِهِ فِيهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ تَرْجِيحًا لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ النِّصْفَ وَالْآخَرُ الثُّلُثَ وَالثَّالِثُ السُّدُسَ وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ دَعْوَى الْبَعْضِ فَإِنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثَ، فَالثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ لَهُ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ نِصْفَ سُدُسِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّصْفَ، وَفِي يَدِهِ الثُّلُثُ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ هُوَ السُّدُسُ يَدَّعِيهِ، وَفِي يَدِ صَاحِبَيْهِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا يَصْرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَخَذَ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ السُّدُسِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ هُوَ لَا يَدَّعِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ إلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ ذَلِكَ السُّدُسَ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدَّعِي بَعْضَ ذَلِكَ فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ فَكَيْفَ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ وَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ كَانَ صَاحِبُ الثُّلُثِ مُنَازِعًا لَهُ فِي هَذَا السُّدُسِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ السُّدُسِ وَهُوَ لَا يَدَّعِيهِ، وَمَعَ تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ دَعْوَى الْحَائِطِ وَالطَّرِيقِ] (بَابُ دَعْوَى الْحَائِطِ وَالطَّرِيقِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ دَارَيْنِ فَادَّعَاهُ صَاحِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْتَحِقُّ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ تَرْجِيحًا عَلَى صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ عَنْ مِلْكٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ اسْتِعَارَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ غَصْبٍ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَلَنَا أَنَّ وَاضِعَ الْجُذُوعِ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ بِوَضْعِ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 87 الدَّعْوَتَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ؛ وَلِأَنَّ وَضْعَهُ الْجُذُوعَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى الْحَائِطَ لِحَاجَتِهِ إذْ وَضَعَ حِمْلَهُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ تُثَبِّتُ التَّرْجِيحَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يُجْعَلُ مَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَوَادِي أَوْ بَوَارِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهْلٍ مَقْصُودٍ بُنِيَ الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ؛ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مِخْلَاةُ عَلَفِهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْجِيحَ بِخِلَافِ الْجُذُوعِ فَإِنَّهُ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ بِاعْتِبَارِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ أَنِصَالٌ؛ وَلِلْآخَرِ بَوَارِي فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالْأَنْصَالِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ؛ وَلِلْآخَرِ أَنِصَالٌ فَصَاحِبُ الْجِذْعِ أَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا مُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ اسْتِعْمَالٌ لِلْحَائِطِ وَالِاتِّصَالُ مُجَاوَرَةٌ وَالْيَدُ تَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمُجَاوَرَةِ، فَكَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى. كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ، وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ فِي بَعْضِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافٍ لِلَّبِنِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءٍ لِحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. قَالَ فِي الْكِتَابِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُ تَرْبِيعِ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا، وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّصَالُ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فَأَمَّا اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ أُخْرَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ لَهُ يَكُونُ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ؛ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ رَفْعَ جُذُوعِهِ. فَإِنْ (قِيلَ): لَمَّا قَضَى بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ الْآخَرَ بِرَفْعِ الْجِذْعِ؛ لِأَنَّهُ حِمْلٌ مَوْضُوعٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 88 لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ؛ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يَقْضِي لِصَاحِبِ الْحِمْلِ، وَيُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ قُلْنَا: لِأَنَّ وَضْعَ الْمِخْلَاةِ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالدَّابَّةِ لِصَاحِبِ الْحِمْلِ أَمْرُ الْآخَرِ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ، وَقَضَى لَهُ بِهِ يُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا رَفْعَ جُذُوعِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْيَدِ حُكْمًا فَإِنَّهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ دَارَيْهِمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ الْيَدُ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ؛ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي الْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهَا وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَوْضِعِ الْخَشَبِ يُثَبِّتُ يَدَ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ فَصَاحِبُ الْقَلِيلِ فِيهِ يَسْتَوِي بِصَاحِبِ الْكَثِيرِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ عَامَّتُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْآخَرِ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ؛ وَلِيس لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً، وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِأَجْلِهَا أُسْطُوَانَةٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ أَوْلَى بِهِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ مَقْصُودٌ؛ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْحِمْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ خَشَبَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْخَشَبَاتِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَسْتَحِقُّ بِهِ رَفْعَ الْخَشَبَةِ عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ الْخَشَبَةِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِأَيِّهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ يَقْضِي بِالْكُلِّ بَيْنَهُمَا عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ اعْتِبَارٌ لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ مِنْ الْحَائِطِ، وَأَكْبَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 89 خَشَبَاتٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ بِالْخَشَبَةِ لَا بِعَلَامَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ أَوْ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ فَإِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ لَا لِوَضْعِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا كَانَ الْكُلُّ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ لِضَرُورَةِ اسْتِعْمَالِ صَاحِبِهَا. وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوَاضِعَهَا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ؛ وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُ خَشَبَاتٍ فَصَاعِدًا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ بِأَقْصَاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ حِمْلًا مَقْصُودًا يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقِلَّةِ، وَالْكَثْرَةِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ؛ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَمْسُونَ مَنًا؛ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ مَنًا كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ؛ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ حَائِطُ سُتْرَةٍ فَالْحَائِطُ الْأَسْفَلُ لِصَاحِبِ الْخَشَبِ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِوَضْعِ حِمْلٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ؛ وَلِصَاحِبِ السُّتْرَةِ السُّتْرَةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ بِالظَّاهِرِ لَا يَسْتَحِقُّ رَفْعَهُ سُتْرَةً الْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ سُفْلٍ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِآخَرَ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ قَدْ يُبْنَى لِأَجْلِ السُّتْرَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ عَلَامَةً لِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَوَادِي فَإِنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ التَّرْجِيحَ قَالَ: وَإِذَا كَانَ جِصٌّ بَيْنَ دَارَيْنِ يَدَّعِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الدَّارَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِمْطُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي جِصٍّ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمَا فَقَضَى بِالْجِصِّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَصْوَبَهُ» وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ فَقَالَ نَفْسُ الْقِمْطِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلُ الْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِعَيْنِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَّخِذُ جِصًّا وَيَجْعَلُ الْقِمْطَ إلَى جَانِبِ جَارِهِ لِيَكُونَ جَانِبُهُ مُسْتَوِيًا فَيُطَيِّنُهُ وَيُجَصِّصُهُ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ صَاحِبَ الْقِمْطِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ حِينَ تَحَاكَمَا فَقَضَى لَهُ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْبَيِّنَةِ، وَذَكَرَ الْقِمْطَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ كَمَا يُقَالُ قَضَى لِصَاحِبِ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي حَائِطٍ وَوَجْهُهُ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي لِمَنْ كَانَ إلَيْهِ ظَهْرُ الْبِنَاءِ، وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْعَلُ ظَهْرَ الْبِنَاءِ إلَى جَانِبِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ مُسْتَوِيًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ الْعَادَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَدْ يَجْعَلُهَا إلَى جَانِبِ جَارِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُهَا إلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ انْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْحَائِطِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 90 وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الطَّاقَاتُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَهْرَ الْبِنَاءِ كُلَّهُ مُتَنَازَعٌ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا لِلْحُكْمِ بِهِ لِأَحَدِهِمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ سُفْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَهْدِمَ السُّفْلَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ فِيهِ حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مِنْ حَيْثُ قَرَارُ بِنَائِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَيْرِ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا، وَلَا كُوَّةً، وَلَا يُدْخِلُ فِيهِ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَحْفِرْ فِي سُفْلِهِ بِئْرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى عُلُوِّهِ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَشْرَعَ فِيهِ كَنِيفًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَضَرَّ بِالسُّفْلِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَعِنْدَهُمَا إنْ أَضَرَّ بِالسُّفْلِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ لَمْ يُمْنَعْ. حُجَّتُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ الضَّرَرُ بِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ عَلَى الْمُوصِي لَهُ بِالرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إلَّا مَا يَضُرُّ بِالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ حَقُّ بِنَاءِ قَدْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلًا مَعْلُومًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالدَّابَّةِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ لَهُ حَقٌّ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَيْثُ قَرَارُ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ وَفَتْحُ الْبَابِ، وَالْكُوَّةِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ، وَكَذَلِكَ حَفْرُ الْبِئْرِ فِي سَاحَةِ السُّفْلِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصًا لَمْ يُمْنَعْ أَحَدُهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِهِ كَالْجَارَيْنِ قَالَ، وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ قَضَيْتُ لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِقْرَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِضْرَارَ فِيهِ عَلَى الشَّرِيكِ فَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْحَائِطِ الْمُقِرُّ أَوْ الْمَقَرُّ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَلَهُ جُذُوعٌ شَاخِصَةٌ فِيهِ عَلَى دَارِ رَجُلٍ آخَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الدَّارَ فَكَمَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْدِثَ فِي سَاحَةِ دَارِهِ عَلَيْهِ كَنِيفًا فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الدَّارِ حَقٌّ لِصَاحِبِهَا كَسَاحَةٍ بَنَاهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ إحْدَاثُ الْبِنَاءِ فِي هَوَاءِ دَارِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْجُذُوعُ الشَّاخِصَةُ نَوْعٌ ظَاهِرٌ يَدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقَ فَلَا يَسْتَحِقُّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 91 بِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُذُوعَ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ كَذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْجُذُوعِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِهَا فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا إلَّا بِحُجَّةٍ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ جُذُوعًا لَا يَحْمِلُ عَلَى مِثْلِهَا شَيْئًا إنَّمَا هُوَ أَطْرَافُ جُذُوعٍ خَارِجَةٍ فِي دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْجُذُوعِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَمَا لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَطْعُهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَحْدَثَ نَصْبَهَا غَصْبًا قَالَ: وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَالْعُلُوُّ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْمِلْكِ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ فَلَهُ حَقُّ التَّدْبِيرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ كَإِنْشَاءِ بَيْعٍ أَوْ بِنَاءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَاحِبُ السُّفْلِ هُوَ الَّذِي هَدَمَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَدْمِ لِمَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَقِّ قَرَارِ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ فَيُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ بِحَقِّهِ كَالرَّاهِنِ إذَا قَبِلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْمَوْلَى قَبِلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَأَمَّا عِنْدَ الِانْهِدَامِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ فِعْلٌ هُوَ عُدْوَانٌ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ، ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْعُلُوَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِبِنَاءِ السُّفْلِ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ أَنْ يَسْكُنَ سُفْلَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى بِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَالْبِنَاءُ مِلْكُ الثَّانِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ شَرْعًا فَيَكُونُ كَالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ وِلَايَةً. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ فَيَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ السُّفْلِ بِقِيمَتِهِ كَثَوْبِ الْغَيْرِ إذَا انْصَبَغَ بِصَبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ يُعْطِي صَاحِبَ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ مِلْكُ صَاحِبِ الصَّبْغِ فِي ثَوْبِهِ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ السُّفْلَ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ دَارٌ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِقِسْمَةِ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ فَإِنْ بَنَاهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 92 بِخِلَافِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ؛ لِأَنَّ أُسَّ الْحَائِطِ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ نَحْوَ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ بِالْخَشَبَةِ فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى بِنَائِهِ، وَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ، وَامْتَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ لَهُمَا فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ مَعَهُ فِي بِنَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى ذَلِكَ بَنَاهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ وَضْعِ جُذُوعِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِسْمَةِ أُسِّ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الْجُذُوعُ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ أَنْ يَبْنِيَ الْحَائِطَ، وَلَا يُشَاجِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَةِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ بِالْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ رَضِيَ هُوَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ، وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ الْمُشْتَرَكُ إذَا انْهَدَمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ فَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ بَابٌ مِنْ دَارِهِ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي دَارِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَصَاحِبُ الْبَابِ هُوَ الْمُدَّعِي لِلطَّرِيقِ فِي دَارِ الْغَيْرِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَرَبُّ الدَّارِ هُوَ الْمُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَبِفَتْحِ الْبَابِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ جُزْءٍ مِنْ الْحَائِطِ، وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا فَتَحَ بَابًا، وَقَدْ يَكُونُ فَتْحُ الْبَابِ لِدُخُولِ الضَّوْءِ وَالرِّيحِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِالْجَارِ وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى طَرِيقٍ لَهُ فِي الدَّارِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا مَضَى وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ عَايَنَّاهُ مَرَّ فِيهِ مَرَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا ثَابِتًا فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَالطَّرِيقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي دَارِ الْجَارِ فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يُسَمُّوا ذَرْعَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ لَهُ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الدَّارِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ بِذَلِكَ فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا إذَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 93 شَهِدُوا عَلَى الثَّبَاتِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِجَهَالَةٍ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهَا، وَهُنَا لَا يَتَعَذَّرُ فَإِنَّ عَرْضَ الْبَابِ يُجْعَلُ حَكَمًا فَيَكُونُ عَرْضُ الطَّرِيقِ لَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَطُولُهُ إلَى بَابِ الدَّارِ. قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ فَذَلِكَ أَحْوَرُ لِلشَّهَادَةِ وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: وَإِنْ سَمُّوا الطُّولَ، وَالْعَرْضَ فَذَلِكَ أَحْوَرُ لِلشَّهَادَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَرْتَفِعُ بِهِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّحْدِيدِ لِلْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ، وَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ بِذِكْرِهَا الْعَمَلُ بِهَا فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّرُ الطَّرِيقَ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ لِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ فَلَوْ بَيَّنَ الشُّهُودُ عَرْضَ الطَّرِيقِ رُبَّمَا يَذْكُرُونَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ وَالْقَاضِي يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فَيَرُدُّ شَهَادَتَهُمْ، وَإِذَا أَطْلَقُوا عَمِلَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ. فَكَانَ تَرْكُ التَّحْدِيدِ أَنْفَذَ لِلشَّهَادَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَحْوَرُ أَيْ أَنْفَذُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ هَذَا الطَّرِيقَ مِيرَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ بَيَّنُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مِيزَابٌ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ الْمَاءَ فَمَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ الْمَاءَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَسِيلًا؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ مُرَكَّبٌ فِي مِلْكِهِ كَالْبَابِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَقًّا فِي دَارِ الْغَيْرِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ يُسَيِّلُ فِيهِ الْمَاءَ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِيمَا مَضَى، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ أَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي نَهْرٍ، وَأَحَدُهُمَا يُسَيِّلُ فِيهِ مَاءَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ فِي النَّهْرِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ. فَأَمَّا هُنَا لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ قَائِمَةٌ فِي الدَّارِ بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ فِي الْمِيزَابِ فِي، وَقْتٍ سَابِقٍ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا إذَا كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ إلَى جَانِبِ الْمِيزَابِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يُحْدِثْ صَاحِبُ السَّطْحِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْعَلُ سَطْحَهُ إلَى جَانِبِ مِيزَابٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ بِعَمَلِهِ. أَمَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ فِيهَا مِنْ هَذَا الْمِيزَابِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ لِصَبِّ الْوُضُوءِ فِيهِ فَهُوَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بَيَّنُوا صِفَةَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يُفَسِّرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَابِتٌ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَثْبُتُ صِفَتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ الْمَسِيلَ لِمَاءِ الْمَطَرِ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ؛ وَلِصَبِّ الْوُضُوءِ فِيهِ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَيَكُونُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 94 الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى جُحُودِهِ دَعْوَى صَاحِبِهِ اعْتِبَارًا لِلصِّفَةِ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ الَّتِي ادَّعَى الطَّرِيقَ أَوْ الْمَسِيلَ فِيهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَمُرَّ فِيهِ، وَلَا يُسَيِّلُ مَاءَهُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ إلَّا بِنَصِيبِ الْجَاحِدِينَ، وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّطَرُّقِ أَوْ بِسَيْلِ الْمَاءِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ عَنْ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمِلْكِ فَإِنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ يَجْعَلُ الْمُقِرَّ أَحَقَّ بِنَصِيبِ الْمُقِرِّ مِنْ حَيْثُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ تَطَرَّقَ فِيهِ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيُسَيِّلُ مَاءَهُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ غَيْرِهِ يَضْرِبُ الْمَقَرُّ لَهُ بِالطَّرِيقِ أَوْ الْمَسِيلِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِحِصَّتِهِ سِوَى الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَةً ضَرَبَ الْمُقِرُّ بِثُلُثِ الْمَسِيلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِ الطَّرِيقِ أَوْ الْمَسِيلِ، وَأَصْلُهُ فِيمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَإِذَا كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ فِي قَنَاةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِيزَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ أَصْلِ أَهْلِ الدَّارِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمَسِيلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ فِي الْقَنَاةِ الْمَاءَ لَا يَفِيضُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ مُغَوِّرٌ، يَسِيلُ الْمَاءُ فِي بَطْنِهِ وَفِي الْمِيزَابِ يَسِيلُ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَنَاةَ مِيزَابًا فَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ بِأَنْ يَفِيضَ الْمَاءُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْمِيزَابَ قَنَاةً يَحْتَاجُ إلَى حَفْرِ سَاحَةِ الدَّارِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ قَدْرًا مَعْلُومًا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ إلَّا بِرِضَاهُمْ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ تَسْيِيلُ الْمَاءِ فِيهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَنَاةَ مِيزَابًا، وَالْمِيزَابَ قَنَاةً؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ جَارَهُ. قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ مِنْ مِيزَابِهِ أَوْ أَعْرَضَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَهُ أَطْوَلَ كَانَ انْصِبَابُ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ حَقُّهُ فِيهِ، وَإِنْ جَعَلَهُ أَعْرَضَ يَنْصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ حَقُّهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ مَاءَ سَطْحٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ السَّطْحِ حَقُّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 95 تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِي هَذَا الدَّارِ وَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الْمِيزَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يُسْفِلَهُ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ سِوَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِ الْمِيزَابِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُ. قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدَّ مَسِيلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا مَنْعَ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْغَيْرِ فِي دَارِهِمْ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا بِنَاءً يَسِيلُ مِيزَابُهُ عَلَى سَطْحِهِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِ الْمِيزَابِ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَنْصَبَّ مَاءُ الْمَطَرِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ يَبْنُونَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ مَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الطَّرِيقِ مِنْ التَّطَرُّقِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا السَّاحَةَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مِنْ السَّاحَةِ بِقَدْرِ الطَّرِيقِ، وَيُثْبِتُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الطَّرِيقِ فَإِنْ، وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي عَرْضِ مَا يَتْرُكُونَ لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ جَعَلُوهُ قَدْرَ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ مَعَ نَفْسِهِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْخَالِهِ فِي بَابِ الدَّارِ، وَيَتَمَكَّنُ لِذَلِكَ فِي طَرِيقٍ عَرْضُهُ مِثْلُ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ] (بَابُ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ، وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَى فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ إنَّمَا يَجِبُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الدَّعْوَى بِهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْأَوَّلَ يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَ فَإِنَّ بِمَا، وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ مُنْذُ سَنَةٍ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَالتَّنَاقُضُ يَعْدِمُ مِيرَاثًا قَدْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ عَلَى الشِّرَاءِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى أَنَّ ذِي الْيَدِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَةٍ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ دَعْوَاهُ الْأُولَى لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ؛ فَلِانْعِدَامِ الدَّعْوَى أَوَّلًا كَذَلِكَ شُهُودُهُ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلًا مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 96 وَلَوْ ادَّعَى الصَّدَقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ جَحَدَنِي الصَّدَقَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ الشَّهَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِلدَّعْوَى إلَّا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ فَقَدْ يَجْحَدُ الْمُتَصَدِّقُ الصَّدَقَةَ فَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي فَيَقُولُ كَانَ حَقِّي أَلْفًا، وَخَمْسَمِائَةٍ، وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشُّهُودُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولُ جَحَدَنِي الصَّدَقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مُنْذُ شَهْرٍ، وَقَالَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَسَأَلْته فَتَصَدَّقَ عَلَيَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا تَوْفِيقٌ صَحِيحٌ يَنْعَدِمُ بِهِ التَّنَاقُضُ، وَإِكْذَابُ الشُّهُودِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ مُنْذُ سَنَةٍ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ شَهْرٍ فَقَالَ جَحَدَنِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ شَهْرٍ فَهَذَا تَوْفِيقٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَمَةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ بِعَبْدِي هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُطْلَقًا أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إذَا وَفَّقَ أَوْ قَالَ حِينَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِالْعَبْدِ فَاشْتَرَيْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَمَا قُمْنَا مِنْ مَجْلِسِك أَيُّهَا الْقَاضِي وَالْبَيْعُ الثَّانِي يَنْقُضُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ هَذَا التَّوْفِيقِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَدِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ فَالتَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ إنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَارِيخَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى، وَالْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُدَّعَى كَانَ بَعْدَهُ بِزَعْمِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ يَنْقُضُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدِ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَقُمْ بِهِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ قَالَ فَإِنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لَهُ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ ذِي الْيَدِ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ أَوْ، وَهَبَهُ ذُو الْيَدِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مَعْنًى لَا لَفْظًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ أَدَّعِي عَلَيْهِ كَذَا، وَالشَّاهِدُ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَالْمُوَافَقَةُ مَعْنًى مَوْجُودٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ، وَقَدْ شَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهِ، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَبَيَانُ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ إنْ لَمْ يُؤَكِّدْ شَهَادَتَهُمْ بِالْمِلْكِ لَا تَنْدَفِعُ بِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ ذِي الْيَدِ وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 97 الشَّهَادَةَ هُنَاكَ أَزْيَدُ مِنْ الدَّعْوَى فَإِنَّ الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ حَادِثٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يَرْجِعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالثَّمَنِ. فَأَمَّا إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِالشِّرَاءِ فَالْمِلْكُ بِهِ دُونَ الْمُدَّعَى فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِخَمْسِمِائَةٍ تُقْبَلُ. وَلَوْ ادَّعَى خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ فَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ قَدْ نَصَّفَ الْعَيْنَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ بَعْدَ دَعْوَاهُ الْأَوَّلِ، وَلَوْ ادَّعَى أَوَّلَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ لَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهِ بِالْخُصُومَةِ بِمَا ادَّعَاهُ الْأَوَّلَ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ لَا أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْنِ مِنْ جِهَةِ زَيْدٍ لَا بِصِفَةٍ إلَى غَيْرِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَاهُ لِرَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِيهِ بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَكَّلَنِي فُلَانٌ الْمُشْتَرِي بِالْخُصُومَةِ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَقَضَيْتُ بِهِ لِلْمُوَكِّلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ بِتَوْفِيقٍ مُمْكِنٍ لَوْ عَايَنَّا ذَلِكَ صَحَّحْنَا دَعْوَاهُ الثَّانِيَةَ. فَكَذَلِكَ إذَا، وَفَّقَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَيَقْضِي بِهِ لِلْمُوَكِّلِ الْآخَرِ وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الْقَاضِي فِي صَكٍّ جَاءَ بِاسْمِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ قَدْ يُضِيفُ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ] (بَابُ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيْهِ إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَهَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِقَوْلِهِمَا نَأْخُذُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 98 وَلَا يُتَصَوَّرُ تَحْوِيلُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ وَبِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ مِنْهُ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً عَلَيْهِ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ، ثُمَّ يَمْلِكُ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ (قُلْنَا)؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ هُنَاكَ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ فَيُتَصَوَّرُ نَفْيُهُ أَمَّا هُنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ بِتَنْصِيصِهِ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ احْتِمَالُ النَّفْيِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ حَتَّى إذَا عَادَ إلَى يَدِهِ يَوْمًا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْبَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ، وَلَمْ يُقِرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ فَالِاحْتِمَالُ فِيهِ بَاقٍ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِهِ نَصًّا وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ مَرَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى جَارِيَةٍ تَسْقِي مَعَ رَجُلٍ مِنْ بِئْرٍ فَقَالَ لِمَنْ هَذِهِ فَقَالُوا لِفُلَانٍ قَالَ: وَلَعَلَّهُ يَطَؤُهَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ أَمَّا إنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ أَلْزَمَتْهُ وَلَدَهَا وَبِظَاهِرِهِ يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَنَقُولُ الْأَمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْفِرَاشَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَهُنَا الْإِقْرَارُ فِي الْأَجَانِبِ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ. فَأَمَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهَا أُمُّ، وَلَدِهِ أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ حَثُّ النَّاسِ عَلَى تَحْصِينِ الْجَوَارِي، وَمَنْعِهِنَّ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ فَقَدْ ظَهَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُخَالِفُ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ، وَكَانَ يَطَؤُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَفَاهُ، وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا يُلْحَقُ بِآلِ عُمَرَ مَنْ لَا يُشْبِهُهُمْ فَأَقَرَّتْ أَنَّهُ مِنْ فُلَانٍ الرَّاعِي. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَقَالَ كُنْتُ أَطَؤُهَا، وَلَا أَبْغِي، وَلَدَهَا أَيْ أَعْزِلُ عَنْهَا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَنْ وَطِئَ وَلِيدَةً لَهُ فَضَيَّعَهَا فَالْوَلَدُ مِنْهُ وَالضَّيَاعُ عَلَيْهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيدَةَ اسْمٌ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ أَيْ: وَالِدَةٌ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ حَصِّنُوهُنَّ أَوْ لَا تُحَصِّنُوهُنَّ أَيُّمَا رَجُلٌ وَطِئَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ لِلنَّاسِ عَلَى تَحْصِينِ السَّرَارِي وَمَنْعِهِنَّ عَنْ الْخُرُوجِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَالْفِرَاشُ تَارَةً يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَتَارَةً يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَأَمَّا الْفِرَاشُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ النِّكَاحِ ثَبَتَ النَّسَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ النَّسَبُ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ تَارَةً، وَبِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ تَارَةً؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 99 الِاحْتِيَاطِ، وَأَمْرُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ جُعِلَتْ الشُّبْهَةُ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ وَمَتَى ثَبَتَ النَّسَبُ بِالشُّبْهَةِ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ. وَأَمَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا خِلَافَ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ، وَلَا بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ هَلْ يَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِهِ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمَوْلَى بِالنَّسَبِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوَطْءِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْلَى يَطَؤُهَا وَيَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا، وَلَا يَنْفِيَهُ فَإِنَّ الْمِيَرَةَ فِي هَذَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمًا إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدٍ وَلَدَتْهُ زَمْعَةُ فَقَالَ عَبْدٌ وَلَدُ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي وَقَالَ سَعْدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ أَخِي وَأَمَرَنِي أَنْ أَضُمَّهُ إلَى نَفْسِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ لَك يَا عَبْدُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَقَدْ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ زَمْعَةَ بِإِقْرَارِ مَنْ يَخْلُفُهُ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ زَمْعَةَ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَدَلَّ أَنَّ الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوَطْءِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ وَضَعَ مَاءَهُ حَيْثُ لَهُ وَضْعُهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ بَلْ أَقْوَى فَحُرْمَةُ الرَّبِيبَةِ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، وَلَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا، ثُمَّ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ كَمِلْكِهَا وَبِمِلْكِهَا لَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِبَيْعِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِوَطْئِهَا فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِفْرَاشِ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِالْعَزْلِ عَنْهَا عَادَةً، وَيَنْفَرِدُ بِذَلِكَ شَرْعًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى بَعْدَهَا احْتِمَالٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْفِرَاشِ عَادَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ هُنَاكَ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ وَهُنَا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالِاتِّفَاقِ لِلِاحْتِمَالِ فَكَذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِلْكًا بَاتًّا لِلزَّوْجِ، وَهُنَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا. وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ الْمُتَحَقَّقِ بِهِ وَبِهِ فَارَقَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَيْسَ فِي إثْبَاتِهَا إبْطَالُ الْمِلْكِ بَلْ بَابُ الْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ وَلِأَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 100 ثُبُوتَهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الْوَاطِئِينَ حِسًّا حَتَّى تَصِيرَ أُمَّهَاتُهَا، وَبَنَاتُهَا كَأُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّضَاعَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ جُعِلَ كَالنَّسَبِ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَهُوَ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ بِهِ يَعْنِي بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدٍ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي أَنَّ وَلِيدَةَ زَمْعَةَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ «قَالَ وَلَدُ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي لِأَنِّي أَقْرَبه أَبِي» وَعِنْدَنَا إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالنَّسَبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ بِالنَّسَبِ بَلْ هُوَ قَضَاءٌ بِالْمِلْكِ لَهُ لِكَوْنِهِ وَلَدَ أَمَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ لِسَوْدَةِ فَأَمَّا أَنْتِ يَا سَوْدَةُ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ لَك» وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ تَأْكِيدُ نَفْيِ النَّسَبِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَاهِرًا لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِزَمْعَةَ. قَالَ: وَإِذَا حَبِلَتْ الْأَمَةُ عِنْدَ رَجُلٍ، ثُمَّ بَاعَهَا، وَقَبَضَ ثَمَنَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَقَضَى بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَدُهَا حُرُّ الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي، وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ كُنْتُ أَعْتَقْتُهَا أَوْ دَبَّرْتُهَا قَبْلَ أَنْ أَبِيعَهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى بَيْعِهَا إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّ، وَلَدٍ لَهُ، وَلَنَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مِلْكِهِ فَادَّعَى نَسَبَهُ نَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا وَعَنْ وَلَدِهَا. وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ: أَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَتَأْثِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ مَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا إبْطَالَ الْحَالِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ، فَإِذَا بَقِيَ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَهُ بَقِيَ مَا كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي وَخَفَاءِ أَمْرِ الْعُلُوقِ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي إسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ، وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ. كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ ثَبَتَ مِنْهُ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى التَّنَاقُضِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ تَدَيُّنًا أَنَّ الْعُلُوقَ لَيْسَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 101 يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِيهِ فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ لَمْ تَصِحَّ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْتَقَضَ فَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ أَوَّلًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فِي الْحَالِ يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا، وَإِعْتَاقَ، وَلَدَهَا فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ أَيْضًا لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَيَثْبُتُ لَهَا أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهِ. ثُمَّ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ حِينَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ حَقِيقَةُ النَّسَبِ فَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ ضَرُورَةً فَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ عِنْدَنَا، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِيهَا وَفِي، وَلَدِهَا؛ وَلِلْبَائِعِ حَقٌّ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ كَمَا لَوْ جَاءَتْ جَارِيَةُ رَجُلٍ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ هُوَ، وَأَبُوهُ مَعًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِيهَا؛ وَلِلْأَبِ حَقٌّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَقِّ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِيقَةِ، وَلَنَا أَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ دَعْوَةُ اسْتِيلَاءٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ تَجْوِيزٍ فَإِنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يُعَارِضُ دَعْوَةَ التَّجْوِيزِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَا يُعَارِضُ نَفْسَ الْإِعْتَاقِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ بِمَعْنَى أَنَّ دَعْوَةَ الِاسْتِيلَادِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ بَلْ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ سَابِقَةٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهَا سَبَقَتْ صُورَةً بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى مَعَ أَبِيهِ، فَإِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْأَبِ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إذْ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ مِلْكٌ، وَلَا حَقُّ الْمِلْكِ، فَاقْتِرَانُ دَعْوَةِ الْمَوْلَى بِدَعْوَةِ الْأَبِ يَمْنَعُ تَحْصِيلَ هَذَا الشَّرْطِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْ الْمَوْلَى دُونَ أَبِيهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْتَقَ الْأُمَّ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ دَبَّرَهَا، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ وَهُوَ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ، وَحَقُّ الِاسْتِيلَادِ فِي الْأُمِّ يَثْبُتُ تَبَعًا فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْأَصْلِ بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْبَيْعِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ثُبُوتُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ كَمَا فِي، وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَغْرُورِ، ثُمَّ يَرُدُّ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي الْأُمِّ لِمَا جَرَى فِيهَا مِنْ عِتْقِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ أَمَةً تُوطَأُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ مَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهَا، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ الْفَسْخُ فِي الْوَلَدِ، وَقَدْ صَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِهَذَا الِاسْتِرْدَادِ فَتَصِيرُ لَهُ حِصَّةٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 102 مِنْ الثَّمَنِ فَلِهَذَا يَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرُدُّ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُمْسِكُ حِصَّةَ الْأُمِّ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهَا بِالْمَوْتِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تُبْنَى عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَالِيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا قِيمَةَ لِرِقِّهَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ بِالْغَضَبِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ زَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، وَزَعْمُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لِرِقِّهَا قِيمَةٌ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْغَصْبِ فَيُمْسِكَ حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ. ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِي كَذَّبَ الْبَائِعَ فِيمَا زَعَمَ حِينَ جَعَلَهَا مُعْتَقَةً مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَلَمْ يَبْقَ لِزَعْمِهِ غَيْرُهُ فَأَمَّا هُنَا بِمَوْتِهَا لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ الْبَائِعُ فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا رَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الْأُمَّ أَوْ، وَهَبَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ أَجَرَهَا أَوْ كَاتَبَهَا أَبْطَلْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَرَدَدْتُهَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّقْضِ كَالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَكَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ نَقْضُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ أَوْ دَبَّرَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إذَا أَكْذَبَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمُشْتَرِي فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ فَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبِلَ الْوَلَدَ عِنْدَهُ، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ، وَصِحَّةُ دَعْوَةِ الْبَائِعِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ، ثُمَّ لَا يَرُدُّ الْأُمَّ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يَثْبُتُ مَا هُوَ بَيْعٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ كَانَ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا. وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْوَلَدِ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي نِصْفَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْأَقْطَعَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ مَحَلٌّ لِانْتِقَاصِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْأَرْشَ يَبْقَى سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إبَانَةَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَدَعْوَةُ الْبَائِعِ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْيَدِ الْمُبَانَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ بُطْلَانُ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَالٌ لَيْسَ مِنْ النَّسَبِ فِي شَيْءٍ فَيَرُدُّ الْجَارِيَةَ مَعَ، وَلَدِهَا عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ الْيَدِ فَقَدْ احْتَبَسَ بَدَلَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا، وَلَكِنْ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 103 تُسَلَّمُ لِلْبَائِعِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اُحْتُبِسَتْ الْأُمُّ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ يَجْمَعُ الْكُلَّ، وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْ الْوَلَدِ فَدَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْجَانِي، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنَاهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ وَدَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْجَانِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ فَإِنَّ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ إذَا لَمْ تَسْلَمْ لِلْجَانِي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ أَعَادَ الْمَوْلَى إمْسَاكَ الْجُثَّةِ وَالرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْعَيْنَيْنِ رَدَّ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِنُقْصَانِ الْعَيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ أَرَادَ إمْسَاكَ الْجُثَّةِ وَالرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْنَيْنِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي نُقْصَانُ الْعَيْنَيْنِ رَدَّ الْبَائِعُ عَلَيْهِ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ النُّقْصَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فُقِئَتْ عَيْنَا الْأُمِّ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ قُتِلَ الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَعَلَى الْجَانِي مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَ الْوَلَدُ حُرًّا فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِتَكْذِيبِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا حَصَلَتْ الْجِنَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى حُرٍّ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُمِّ كَانَ عَلَيْهِ مَا فِي جِنَايَةِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي إبْطَالِ هَذَا الْبَيْعِ وَعَوْدِهِمَا إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا وَفِي، وَلَدِهَا بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ مَا هُوَ مُنَافٍ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ جَنَى الْوَلَدُ كَانَتْ جِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ الْحُرِّ وَجِنَايَةُ أُمِّهِ كَجِنَايَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهَا بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُمَا قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَهُوَ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِالدَّعْوَةِ قَدْ صَارَ مُبْطِلًا مِلْكَ الْمُشْتَرِي فِيهِمَا بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مُوجِبِ جِنَايَتِهِمَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ مُخْتَارٌ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ لِلْوَلَدِ وَحَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ فَيَكُونُ كَالْمُنْشِئِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَلِهَذَا صَارَ مُخْتَارًا وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَمْ تَلِدْ بَعْدُ فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ حَبَلَهَا مِنْهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَيْسَ بِهَا حَبْلٌ، وَأَرَاهَا النِّسَاءَ فَقُلْنَ هِيَ حُبْلَى أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي بِهَا حَبَلٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْك فَالْبَائِعُ لَا يُصَدَّقُ فِي الدَّعْوَةِ حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَبَلِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَنْ تَلِدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 104 مِلْكِهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهَا تَضَعُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَمْ لَا فَلَعَلَّهَا تُسْقِطُ سِقْطًا غَيْرَ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ أَوْ تَضَعَ الْوَلَدَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فَإِنْ جَاءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ الْآنَ تَصِحُّ تِلْكَ الدَّعْوَةُ كَمَا لَوْ أَنْشَأَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَلَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ، وَقَالَ: أَصْلُ الْحَبَلِ كَانَ عِنْدِي، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ يَكُنْ عِنْدَك إنَّمَا كَانَ الْعُلُوقُ قَبْلَ شِرَائِك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى اتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْبَائِعِ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْعُلُوقِ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ تَارِيخًا سَابِقًا فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعُلُوقِ وَمِلْكُهُ حَقُّهُ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى سَبْقِ التَّارِيخِ فِيهِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَوْلُهُ هَكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَالَ الْبَائِعُ إنَّمَا بِعْتهَا مِنْك مُنْذُ شَهْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي زِيَادَةَ تَارِيخٍ فِي شِرَائِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حُصُولَ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَثُبُوتَ حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ التَّارِيخِ فِي شِرَائِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْبَائِعِ لِهَذَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ بِنْتًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ ابْنَتَهَا ابْنًا فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الِابْنَ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الِابْنَةَ فَهِيَ ابْنَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهَا كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَدَعْوَتَهُ فِيهَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَيُثْبِتُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فِيهَا. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ إبْطَالُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي عَلَى ابْنِهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَطْرَأُ عَلَى الرِّقِّ وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ أَنْ يَنْفَصِلَ الْوَلَدُ مِنْهَا حُرًّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الِابْنَةُ وَلَدَتْ ابْنَتَانِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ وَلَدَتْ جَارِيَتُهُ عِنْدَهُ غُلَامًا، ثُمَّ وُلِدَ لِلْغُلَامِ ابْنٌ فَبَاعَ الْمَوْلَى ابْنَ الْوَلَدِ الَّذِي وُلِدَ عِنْدَهُ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ الَّذِي كَانَ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَبْطُلُ بَيْعُ الِابْنِ وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِصِحَّةِ دَعْوَتِهِ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لِلْأَبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَوْلُودٌ مِنْ أَمَةٍ كَانَتْ لِمُدَّعِي الْأَبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ ابْنِ ابْنِهِ وَعَتَقَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ وَبَطَلَ بِهِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي وَعِتْقُهُ قَالَ: وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْأَمِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّوْأَمَيْنِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّوْأَمُ أَفْصَحُ كَمَا يُقَالُ هُمَا زَوْجٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 105 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّوْأَمَانِ أَفْصَحُ كَمَا يُقَالُ هُمَا كُفْوَانِ، وَأَخَوَانِ. وَبَيَانُهُ جَارِيَةٌ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ مِنْ عُلُوقٍ كَانَ فِي مِلْكِ مَوْلَاهَا فَبَاعَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا، وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَنَّ الْبَائِعَ ادَّعَى نَسَبَ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ نَسَبًا، وَقَدْ كَانَ الْعُلُوقُ بِهِمَا فِي مِلْكِهِ فَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْآخَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلِهِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي وَشِرَائِهِ فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْطُلْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّةِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ ثُبُوتُ أُمِّيَّةِ الْوَلِيِّ لِلْأُمِّ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ أَبْطَلْنَا عِتْقَ الْمُشْتَرِي فِيهَا رَدَدْنَاهَا مِنْ حَالَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَى حَالَةِ الرِّقِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَسْقَطَ الرِّقَّ وَالْمَسْقَطُ مُتَلَاشِي لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَهُنَا لَوْ أَبْطَلْنَا عِتْقَ الْمُشْتَرِي رَدَدْنَاهُ إلَى حَالِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِلْمُشْتَرِي وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فَلِهَذَا أَبْطَلْنَا عِتْقَ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْفُصُولِ. وَلَوْ لَمْ يَبِعْ ابْنَ الِابْنِ، وَلَكِنَّهُ بَاعَ الِابْنَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَةِ الِابْنُ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ فَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ فِيهِ وَعَتَقَ ابْنُ الِابْنِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ لِمَانِعٍ كَانَ عَامِلًا فِي الْحُرِّيَّةِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ هُوَ ابْنِي يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ وَخَرَجَ الْبَيْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ فِيهِ فَلَمْ يُعْمِلْ دَعْوَةَ الْبَائِعِ فِي حَقِّهِ، وَعَتَقَ ابْنُ الِابْنِ بِإِقْرَارِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الِابْنِ بِنْتًا فَمَاتَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي حَقِّهَا، وَلَا فِي حَقِّ ابْنَتِهَا، وَهَذَا، وَالْمُلَاعَنَةُ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَوَلَدَتْ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ، ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ لَمْ يَعْمَلْ إكْذَابُهُ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهَا مَعَ بَقَاءِ ابْنٍ يَخْلُفُهَا فَكَذَلِكَ هُنَا وَالْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ وَهُوَ أَنْ يَنْسِبَ الْوَلَدَ الْقَائِمَ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ فَيَحْمِلَ أُمَّهُ كَالْمَيِّتَةِ لَا عَنْ، وَلَدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذِهِ وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا هُنَاكَ وَلَدُ الِابْنَةِ كَوَلَدِ الِابْنِ فِي قِيَامِهِ مَقَامَ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حَتَّى يَصِحَّ إكْذَابُ الْمُلَاعِنِ نَفْسَهُ وَيُثْبِتَ نَسَبَ، وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَصْلَ النَّسَبِ كَانَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 106 ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ فَاسْتَتَرَ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ فَيُجْعَلُ بَقَاءُ وَلَدِهِ كَبَقَائِهِ فِي صِحَّةِ الْإِظْهَارِ بِالدَّعْوَةِ. وَأَمَّا نَسَبُ وَلَدِ الْمَبِيعَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَلَا تَعْمَلُ دَعْوَتُهُ فِي الْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً إلَّا فِي حَالِ بَقَائِهِ أَوْ بَقَاءِ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَوَلَدُ الِابْنِ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ دُونَ وَلَدِ الِابْنَةِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بَعْدَ مَوْتٍ إلَّا بِنْتٌ بِالدَّعْوَةِ قَالَ: وَإِذَا حَبِلَتْ الْأَمَةُ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ مَوْلَاهَا، ثُمَّ بَاعَهَا فَزَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ عَبْدِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ عَنْهَا فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الَّذِي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَدَعْوَتُهُ فِيهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَيَرُدُّ إلَيْهِ ابْنَ الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمٍّ وُلِدَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْلِدْ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ كَانَا جَمِيعًا مَرْدُودِينَ عَلَيْهِ فَاسْتِيلَادُهُ الْأُمَّ يُثْبِتُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَهُوَ حَقُّ الْعِتْقِ لِلْمُشْتَرِي فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْوَلَدِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ صَاحِبِهِ. فَإِنْ (قِيلَ): هَذَا الْوَلَدُ فِي حُكْمِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ تَبَعٌ لِلْأُمِّ، وَلَا يُثْبِتُ الْبَائِعُ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي الْأُمِّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي وَلَدِهَا (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ هُمَا جَمِيعًا بَائِعَانِ لِلْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ بَيْعٌ، وَلَا بَيْعَ لِلتَّبَعِ فَتَعَذُّرُ رَدِّ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَيُعْتَبَرُ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَتُهَا وَقْتَ الْبَيْعِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَقْتَ الِانْفِصَالِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا حَدَثَ فَحَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهِ ثَابِتٌ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الِانْفِصَالِ فَيُعْتَبَرُ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَتُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَيُعْتَقُ بِمَوْتِ الْبَائِعِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أُمِّ وَلَدِهِ فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ ابْنَ الْعَبْدِ أَنَّهُ ابْنُهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَدَعْوَتُهُ إيَّاهُ كَإِعْتَاقِهِ. قَالَ: وَلَوْ بَاعَهَا وَهِيَ حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ بِيَوْمٍ، ثُمَّ، وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الْوَلَدَيْنِ مَعًا فَهُمَا ابْنَا الْبَائِعِ أَمَّا الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا فَلِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ يُثْبِتُ نَسَبَهُ مِنْهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ مِنْ حِينِ عَلِقَتْ وَالْوَلَدُ الثَّانِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أُمِّ وَلَدِهِ فَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِي مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي مِلْكَ الْغَيْرِ فَلِهَذَا كَانَ دَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِيهِمَا. وَلَوْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْوَلَدَ الْآخَرَ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ بَعْدَهُ الْوَلَدَ الْأَوَّلَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ بِهِ فِي مِلْكِهِ وَيُرَدُّ إلَيْهِ الْوَلَدُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 107 الْبَيْعِ فِي الْأُمِّ لِمَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا مِنْ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الْآخَرَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِالْوَلَدِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ لِلْحَالِ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي فَلَا دَعْوَةَ لَهُ فِيهِ مَقْصُودَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ فِي الَّذِي مَاتَ لَمْ يَصِحَّ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ النَّسَبِ فَلَوْ صَحَّ كَانَ الْآخَرُ مَقْصُودًا وَالْعُلُوقُ بِهِ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهِ. قَالَ: وَإِنْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ الْمَبِيعَةُ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَجَنَى عَلَى أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ جِنَايَةً، وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ، ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ فَدَعْوَتُهُ جَائِزَةٌ فِيهِمَا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ بِهِمَا فِي مِلْكِهِ فَإِنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَاَلَّتِي وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَيْضًا أَنَّ الْعُلُوقَ الثَّانِيَ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ، وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَفِي الْأُمِّ وَلَكِنَّ الْأَرْشَ يَبْقَى سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوَلَدِ الْوَاحِدِ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي الْيَدِ الْمُبَانَةِ لَا تَعْمَلُ فَيَبْقَى الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ اكْتَسَبَ أَحَدُهُمَا كَسْبًا فَقَدْ كَانَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ الْكَسْبُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ بُطْلَانُ مِلْكِهِ فِي الْكَسْبِ فَيَبْقَى سَالِمًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ كَانَ قِيمَةُ الْمَوْصُولِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ بِثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِأَحَدِهِمَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ لِلْآخَرِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ لِوَرَثَتِهِ ضَرُورَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَرْشِ وَالْكَسْبِ؛ لِأَنَّ التَّوْأَمَ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي النَّسَبِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَإِعْمَالُ ذَلِكَ فِي الْأَقْطَعِ مُمْكِنٌ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إعْمَالِهِ فِي إبْطَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْشِ وَالْكَسْبِ فَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ بَدَلَ النَّفْسِ وَمِنْ ضَرُورَةِ إبْطَالِ الْبَيْعِ فِيهِ عِنْدَ بَقَاءِ مَا يَخْلُفُهُ أَنَّهُ لَا يُبْقِي لِلْمُشْتَرِي حَقًّا فِي بَدَلِ نَفْسِهِ فَكَانَ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيُصَدَّقُ الْبَائِعُ فِي بَدَلِ النَّفْسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ لَا يُصَدَّقُ فِي بَدَلِ النَّفْسِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنْ حَيْثُ قَالَ يُصَدَّقُ يَعْنِي فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُبْطِلَ حَقَّهُ عَنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْمَقْتُولِ فِي الْأَصْلِ أَنْ لَا يَمْلِكَ بَدَلَ نَفْسِهِ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَحَيْثُ قَالَ لَا يُصَدَّقُ يَعْنِي فِي حَقِّ الْجَانِي حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بَلْ يَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِهِ فَكَمْ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلدِّيَةِ، وَمَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْجُمْلَةُ دُونَ الْأَحْوَالِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ قُتِلَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا، وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي دِيَتَهُ وَمِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ، وَأَخَذَ الدِّيَةَ وَالْمِيرَاثَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 108 حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمَقْتُولِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِهَا فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِوَلَاءِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا أَخَذَ مِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ فَإِذَا ظَهَرَ الْمُنَافِي لِلْوَلَاءِ وَجَبَ رَدُّهُ. وَلَوْ أَعَادَهُمَا الْمُشْتَرِي أَوَّلًا فَإِنَّهُمَا ابْنَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ مُحْتَاجَانِ إلَى النَّسَبِ فَإِنْ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُمَا عَنْ النَّسَبِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا مِنْ الْمُشْتَرِي قَالَ أَمَةٌ حَبِلَتْ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، وَكَبُرَ فَزَوَّجَهُ الْوَلِيُّ أَمَةً لَهُ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، ثُمَّ بَاعَ الْأَسْفَلَ، وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الِابْنَ الْأَوَّلَ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَيُنْتَقَضُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي، وَعِتْقُهُ فِي ابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ بَيْعِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا وُلِدَ مِنْ أَمَةِ الْمَوْلَى وَمِنْ مِلْكِ ابْنِ ابْنِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَابِقًا عَلَى بَيْعِهِ فَيَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ ضَرُورَةً، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْأَمِ كَمَا قَرَّرْنَا وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ الْبَائِعُ الَّذِي عِنْدَهُ وَلَكِنْ ادَّعَى الَّذِي بَاعَ أَنَّهُ ابْنُهُ كَانَتْ دَعْوَتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ فَقَدْ نَفَذَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي مَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ الْعِتْقُ فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ فِيهَا قَالَ: أَمَةٌ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْحَبَلِ عِنْدَ هَذَا الْمَوْلَى فَبَاعَ أَحَدَهُمَا، وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ فَهُمَا ابْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ عِنْدَهُ فَدَعْوَتُهُ فِيهِ صَادَفَتْ مِلْكَهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَقِضُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي وَلَا الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَدَعْوَتُهُ دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِعْتَاقِ، وَالتَّوْأَمَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْإِعْتَاقِ، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ إبْطَالُ الْبَيْعِ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ بِهِمَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ هُنَاكَ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَثْبُتُ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلَّذِي بَقِيَ عِنْدَهُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِلْآخَرِ فَلِهَذَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِمَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ مَقْصُودًا قَالَ: أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَفِي يَدِهِ وَلَدٌ لَهَا وَفِي يَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَلَدٌ لَهَا فَادَّعَى الَّذِي فِي يَدِهِ الْوَلَدُ أَنَّ الْوَلَدَيْنِ جَمِيعًا ابْنَاهُ وُلِدَا مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي بَطْنَيْنِ، وَأَنَّ الْأَمَةَ أَمَتُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَى الَّذِي فِي يَدَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْأَمَةِ وَالْوَلَدَيْنِ جَمِيعًا لِلَّذِي الْأَمَةُ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي حَقَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 109 الْعِتْقِ فِيهَا بِسَبَبِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَكَانَ دَعْوَاهُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ فِيهَا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتْ لِإِثْبَاتِ الْوَلَاءِ، وَالْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَإِذَا قَضَيْنَا بِالْأَمَةِ لَهُ أَثْبَتْنَا نَسَبَ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا وَلَدُ أُمِّ، وَلَدِهِ قَدْ ادَّعَاهُمَا، وَأَجْنَبِيٌّ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْلِ بِالْبَيِّنَةِ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَفِي يَدَيْهِ وَلَدٌ لَهَا فَجَاءَ آخَرُ يَدَّعِيهَا، وَلَا يَدَّعِي وَلَدَهَا وَفِي يَدِهِ، وَلَدٌ لَهَا آخَرُ يَدَّعِيهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ، وَأَقَامَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَمَةَ أَمَتُهُ، وَلَدَتْ الِابْنَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ مِنْهُ، وَلَا يَعْرِفُ أَيَّ الْوَلَدَيْنِ أَكْبَرُ، وَقَدْ وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنَيْنِ قَضَيْتُ بِالْأَمَةِ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ لِدَعْوَاهُ أَمَتَهُ الْوَلَدَ فِيهَا، وَقَضَيْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِابْنِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي نَسَبَ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ وَخَصْمُهُ لَا يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ، وَذَلِكَ كَافٍ لِلْقَضَاءِ بِنِسْبَةٍ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ إذَا أَثْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الْمُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا هُنَاكَ فِي نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَرَجَّحْنَا الْمَقْضِيَّ لَهُ بِالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الْأَصْلَ شَاهِدٌ لَهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نَسَبِ الْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّا قَضَيْنَا لَهُ بِالْفِرَاشِ حِينَ قَضَيْنَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْأُمِّ، وَثُبُوتِ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ فَإِذَا ادَّعَاهُ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَإِذَا نَفَاهُ ثَبَتَ مِنْ الَّذِي ادَّعَاهُ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِمَا ادَّعَاهُ سَبَبًا صَحِيحًا قَالَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّ الَّذِي الْأَمَةُ فِي يَدَيْهِ زَوْجُهَا مِنْهُ، وَوَلَدَتْ عَلَى فِرَاشِهِ هَذَا الْوَلَدَ، وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْأَمَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَمَةَ لِهَذَا الْمُدَّعِي، وَأَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْهُ وَوَلَدَتْ عَلَى فِرَاشِهِ هَذَا الْوَلَدَ فَالْأَمَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمٍّ مَوْقُوفَةٍ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ لَا يَطَؤُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِوِلَادَتِهَا مِنْهُ وَالْمِلْكُ فِيهَا لِأَحَدِهِمَا فَيُثْبِتُ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ فِيهَا، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَقُولُ: إنَّهَا فِي مِلْكِ صَاحِبِي، وَقَدْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِهَا فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَهُ فَبَقِيَتْ مَوْقُوفَةً لَا يَطَؤُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا، ثُمَّ أَنَّ الْبَائِعَ أَعْتَقَهُ وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفَ الْوَلَاءِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ عَتَقَتْ هِيَ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ مِنْهُمَا قَدْ أَقَرَّ بِعِتْقِهَا بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ إقْرَارَ الْحَيِّ فِيهِمَا كَانَ نَافِذًا فَلِهَذَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَالْوَلَدُ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا فِيهِ دَعْوَى النَّسَبِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ تَتَرَجَّحُ عَلَى جَانِبِ الْخَارِجِ قَالَ أَمَةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَفِي يَدِهِ وَلَدٌ لَهَا فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ إذْنِ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَلَى فِرَاشِهِ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي فِي يَدِ مَوْلَاهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمَوْلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 110 الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِالْوَلَدِ لِلزَّوْجِ، وَأُثْبِتُ نَسَبَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّسَبَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ حِينَ ادَّعَى نَسَبَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَقَرَّ لِلْوَلَدِ بِالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِسَبَبٍ هُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ حَتَّى إذْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِإِقْرَارِهِ فِي إبْطَالِ مَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ النَّسَبُ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمُقِرِّ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لِأَحَدٍ قَالَ حُرَّةٌ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَكَبُرَا وَاكْتَسَبَا مَالًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنَيْنِ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، وَأَنَّهُمَا ابْنَاهُ مِنْهَا، وَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِي كَبِيرٌ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ بِدَعْوَاهُ إلَّا عِنْدَ تَصْدِيقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا ابْنَاهُ قَائِمَانِ مَقَامَهُ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِدَعْوَاهُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهَا فَيُشْرِكُهَا فِي نَصِيبِهَا مِنْ مِيرَاثِ ابْنِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَأَبَوَيْنِ فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَالْبَاقِي لِلِابْنَيْنِ فَقَدْ أَقَرَّتْ بِأَنَّ حَقَّ الْأَبِ وَحَقَّهَا فِي تَرِكَتِهِ سَوَاءٌ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الشَّرِكَةِ فِي الْمِيرَاثِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَإِنَّ الْمَالَ يُسْتَحَقُّ بِأَسْبَابٍ، وَأَصْلُهُ فِي أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ ثَالِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ الثَّانِي بِذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْمُقِرِّ قَدْ ثَبَتَ بِتَصْدِيقِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْآخَرِ فَإِنَّهُمَا تَوْأَمٌ، وَإِنْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْمَيِّتِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ فِي حَيَاتِهِ لَوْ صُدِّقَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُ مَنْ يَخْلُفُهُ قَالَ أَمَةٌ وَلَدَتْ غُلَامًا فَأَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مَعْرُوفٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ أَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا، ثُمَّ ادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ ابْنُهُ عَتَقَ بِدَعْوَاهُ لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ الْمَقَرِّ لَهُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ وَعِنْدَ التَّصْدِيقِ غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَعِنْدَ غَيْبَتِهِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقَرُّ لَهُ حَاضِرًا فَكَذَّبَهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ قَدْ بَطَلَ بِتَكْذِيبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 111 الْمَقَرِّ لَهُ وَبَقِيَ الْوَلَدُ مُحْتَاجًا إلَى النَّسَبِ فَإِذَا ادَّعَاهُ الْمَوْلَى فِي حَالِ حَاجَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِ يَثْبُتُ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالْوَلَاءِ لِلْبَائِعِ، وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ وَالْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، ثُمَّ هُنَاكَ بِالتَّكْذِيبِ يَبْطُلُ إقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: فِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ إقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَالْآخَرُ: خُرُوجُهُ مِنْ دَعْوَى هَذَا النَّسَبِ أَصْلًا، وَبِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ إنَّمَا يَبْطُلُ مَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ فِيهِ بِتَكْذِيبٍ، وَخُرُوجُ الْمُقِرِّ مِنْ دَعْوَى هَذَا النَّسَبِ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَيَبْقَى الْحَالُ فِيهِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِتَكْذِيبِهِ لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ أَصْلًا بَلْ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ فِي حَالِ تَوَقُّفِهِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا ادَّعَى غَيْرُ الْمُلَاعِنِ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّ الْمُلَاعِنِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ دَعْوَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَاءِ فَإِنَّهُ أَثَرٌ مِنْ أَثَرِ الْمِلْكِ وَأَصْلُ الْمِلْكِ مُحْتَمِلُ النَّقْلِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْعِتْقُ مِنْ وَاحِدٍ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ تُصَوِّرَ بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَارْتَدَّتْ، وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَسُبِيَتْ فَمَلَكَهَا رَجُلٌ، وَأَعْتَقَهَا كَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَهُنَا السَّبَبُ كَانَ مَوْقُوفًا لَمْ يَتَقَرَّرْ لِلْبَائِعِ وَيَحْتَمِلُ تَقَرُّرُهُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ بِخِلَافِ النَّسَبِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَجْنَبِيٌّ قَالَ هَذَا الْوَلَدُ ابْنُ الْمَوْلَى فَأَنْكَرَهُ الْمَوْلَى، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ وَرِثَهُ فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ عَتَقَ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا يَتَنَاوَلُ حَقَّ الْمُقِرِّ مَالِكًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِنَسَبٍ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِشَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ قَدْ أَخْرَجَ نَسَبَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّسَبِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى صَبِيٍّ أَنَّهُ ابْنُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِالنَّسَبِ، ثُمَّ ادَّعَتْ الشَّاهِدَةُ أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهَا، وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بِشَهَادَتِهَا قَدْ أَخْرَجَتْ نَفْسَهَا مِنْ دَعْوَى نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَّا بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا وَبَعْدَ مَا زَعَمَتْ أَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهَا لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَدَّعِيَ انْفِصَالَهُ مِنْهَا، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّسَبِ بِدُونِ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَوْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 112 كَبُرَ الصَّبِيُّ فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهَا، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ قَضَى الْقَاضِي بِنَسَبِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَدَّعِي مَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّ نَسَبَهُ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا إلَى أَبِيهِ فَإِذَا كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ يَكُونُ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُمَّ لَوْ كَانَتْ جَاحِدَةً أَصْلًا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُنَاقِضَةً فِي قَوْلِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ صَبِيًّا فِي يَدِ امْرَأَةٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ فَلَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَ ادَّعَى الصَّبِيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ امْرَأَتُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ بِشَهَادَتِهِ صَارَ مُخْرِجًا نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى وَلَوْ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي مَا هُوَ مِنْ حَقِّهَا فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْ رَجُلٍ دَفْعَ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنْهَا حَتَّى تَكُونَ مُحْصَنَةً، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يَمْنَعُهَا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهَا عَلَيْهِ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ صَبِيًّا فِي يَدِ امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هُوَ ابْنِي مِنْهَا بِنِكَاحٍ وَهِيَ تُنْكِرُ، ثُمَّ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَهَذَا الصَّبِيُّ لَهَا مِنْهُ وَشَهِدَ لَهَا بِذَلِكَ الرَّجُلَانِ الْمُدَّعِيَانِ لِلصَّبِيِّ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بِالدَّعْوَى الْأُولَى صَارَا مُنَاقِضَيْنِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتَأْثِيرُ التَّنَاقُضِ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الدَّعْوَى فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّنَاقُضِ يَمْنَعُهُ الدَّعْوَى فَلَأَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ صَبِيٌّ فِي يَدِ امْرَأَةٍ شَهِدَ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ أَنَّهُ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِكَوْنِهِ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ مُتَنَاقِضًا فِيهَا قَالَ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ أُمَّتَهُ حُبْلَى مِنْ رَجُلٍ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهُ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَتَقَ لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ حِينَ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ، وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ سَوَاءٌ فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ الدَّعْوَى لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ. وَهَذِهِ هِيَ الْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً حَامِلًا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ دَعْوَى الْبَائِعِ بِأَمْرِهِ بِأَنْ يُقِرَّ أَنَّ الْحَبَلَ بِهَا مِنْ فُلَانٍ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْمُشْتَرِي فَإِذَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْحَبَلَ بِهَا مِنْ زَوْجٍ، ثُمَّ مَكَثَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ هِيَ حَامِلٌ مِنِّي فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْإِقْرَارِ الْآخَرِ فَهُوَ ابْنُ الْمَوْلَى ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ دَعْوَى نَسَبِهِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا هُوَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ. فَإِنْ (قِيلَ) هُوَ مَالِكٌ لِأُمِّ الْوَلَدِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 113 الْغَيْرِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ دَعْوَى نَسَبِهَا (قُلْنَا) ذَلِكَ الْإِقْرَارُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِنِكَاحِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْعُلُوقِ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ بَقَاءَ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمَنْفِيِّ، وَدَعْوَاهُ نَسَبَ الْوَلَدِ الثَّانِي تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى كَوْنِهَا فِرَاشٌ لَهُ حِينَ عَلِقَتْ بِالثَّانِي فَهَذَا دَلِيلٌ مُوجِبٌ لِفِرَاشِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ حَتَّى يَكُونَ دَافِعًا لَهُ قَالَ: رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ إنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا فَهُوَ مِنِّي، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَهُوَ مِنْ زَوْجٍ زَوَّجْتُهَا إيَّاهُ أَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَلَيْسَتْ مِنِّي فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا وَلَدَاهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرٌ، وَالْآخَرُ لَغْوٌ فَالْمُعْتَبَرُ دَعْوَاهُ نَسَبَ مَا فِي بَطْنِهَا وَاللَّغْوُ التَّقْسِيمُ فِيمَا بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا فَإِنَّ هَذَا رَجْمٌ بِالْغَيْبِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَاعْتُبِرَ مِنْ كَلَامِهِ مَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ، وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِمَا فِي الْبَطْنِ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمَا وَهُمَا تَوْأَمٌ فَدَعْوَاهُ نَسَبَ أَحَدِهِمَا كَدَعْوَاهُ نَسَبَهُمَا فَلِذَا قَضَى بِأَنَّهُمَا وَلَدَاهُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَوَّجَ أُمَّتَهُ رَجُلًا غَائِبًا، وَهُوَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالنِّكَاحِ بِزَوْجٍ مَعْرُوفٍ إقْرَارٌ صَحِيحٌ فَيَثْبُتُ بِهِ نِكَاحُ الْغَائِبِ فِي حَقِّهِ فَدَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ حَقِّ ذَلِكَ الْغَائِبِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إقْرَارِهِ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ لِلْمَجْهُولِ. وَالْإِقْرَارُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي دَعْوَاهُ نَسَبَ وَلَدٍ عَلِقَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِغَيْرِهِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْهُ. قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُ مُكَاتَبِهِ مِنْ زَوْجٍ، ثُمَّ ادَّعَى هُوَ نِسْبَتَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ دَعْوَى نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مُكَاتَبٌ مَعَ أُمِّهِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى كَالْأَمَةِ حَتَّى يَمْلِكَ إعْتَاقَهُ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إقْرَارَهُ فِيهِ بِمَا يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ، وَلَا يَضْمَنُ لِلْمُكَاتَبَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْضُ مَقْصُودِهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا؛ وَلِأَوْلَادِهَا، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ فَأَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ ابْنُ الْآخَرِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ ابْنٌ لِشَرِيكِهِ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ دَعْوَى نَسَبِهِ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى حُرِّيَّتِهِ سَوَاءٌ كَانَ ابْنَهَا لِهَذَا أَوْ لِذَاكَ وَصَارَتْ الْأُمُّ بِمَنْزِلِهِ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفَةً لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا وَنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلْمَيِّتِ، وَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ وَالْمَيِّتُ كَانَ مُقِرًّا بِنُفُوذِ إقْرَارِ الْحَيِّ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ فَلِهَذَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا قَالَ رَجُلٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 114 عَلِقَتْ جَارِيَتُهُ فِي مِلْكِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَى الْوَلَدَ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ لِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ لِلْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَأَثْبَتَ لَهُ حَقَّ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى وَلَدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَحَاجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ إلَى الِاسْتِيلَادِ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ مَعْنِيٌّ بِبَقَاءِ نَسْلِهِ إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ النَّفْسِ أَصْلِيٌّ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ صَرْفِ مَالِ الْوَلَدِ إلَى حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَحَاجَتُهُ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْوَلَدِ عَنْ مَالِيَّةِ الْجَارِيَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِضَمَانِ الْقِيمَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ بِشْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ آخِرُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَيَغْرَمُ الْأَبُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ، وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ مِلْكِ الْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ، وَلَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ وَلَدِهِ، ثُمَّ لَوْ ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةٍ مُكَاتَبَةٍ لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَكِنْ إنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ وَدَعْوَةُ النَّسَبِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقَّ الْمِلْكِ وَذَلِكَ كَافٍ لِثَبَاتِ النَّسَبِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ فِي مَالِ وَلَدِهِ حَقُّ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ فِيهِ إلَّا بِتَقْدِيمٍ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ فِيهِ عَلَى الِاسْتِيلَادِ صِيَانَةً لِمَائِهِ مِنْ الضَّيَاعِ، وَإِذَا صَارَ مُتَمَلِّكًا لَهَا فَإِنَّمَا اسْتَوْلَدَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يَخْلُو عَنْ إيجَابِ حَدٍّ وَعُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ فَيَجِبُ الْعُقْرُ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا فَلَمْ تَحْبَلْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهُ إيَّاهَا أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْعُلُوقِ، وَلَكِنْ لَا يَضِيعُ مَاؤُهُ فَيَبْقَى أَصْلُ الْوَطْءِ حَاصِلًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُ الْأَبِ وَلَنَا أَنَّ مِلْكَهُ إيَّاهَا مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِ الِاسْتِيلَادِ، وَأَصْلُ الْوَطْءِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْعُلُوقُ يَكُونُ اسْتِيلَادًا كَالْجُرْحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ يَكُون قَتْلًا مِنْ الْأَصْلِ فَإِذَا تَقَدَّمَ مِلْكُهُ إيَّاهَا عَلَى فِعْلِ الِاسْتِيلَادِ كَانَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ غَيْرَ أَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْمِلْكِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الِاسْتِيلَادِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ فَفِي حُكْمِ الْإِحْصَانِ لَا يَظْهَرُ هَذَا الْمِلْكُ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 115 فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَقَدْ غَرِمَ بِفِعْلِهِ جَمِيعَ بَدَلِ نَفْسِهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ بَدَلِ الْجُزْءِ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ أَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا الِابْنُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِيَوْمٍ فَادَّعَاهُ أَبُوهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا أَكْذَبَهُ الِابْنُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْأَبِ بِشَرْطِ تَمَلُّكِهَا عَلَى الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَادُ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْعُلُوقِ مَا كَانَتْ فِي مِلْكِ الِابْنِ، وَلَا كَانَ لِلْأَبِ فِيهَا وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى نَفْسِهِ لِحَاجَةٍ؛ وَلِأَنَّ دَعْوَتَهُ هُنَا دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ، وَلَا كَانَ لِلْأَبِ فِيهَا وِلَايَةٌ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْإِعْتَاقِ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فَقَالَ لَوْ جَعَلْتُهُ ابْنَهُ لَمْ أُضَمِّنْهُ قِيمَةَ الْأُمِّ لِتَعَذُّرِ تَمَلُّكِهِ عَلَيْهِ إيَّاهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَكُلُّ وَلَدٍ لَا يَضْمَنُ الْأَبُ فِيهِ قِيمَةَ الْأُمِّ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الِابْنُ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا ادَّعَاهُ فَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا فَمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ مُحْتَمَلٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَقٌّ وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهَا الِابْنُ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَبُ الْبَائِعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ لِتَعَذُّرِ إيجَادِ شَرْطِهِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْأُمَّ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْوَلَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهَا بَعْدَ الْعُلُوقِ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَوَلَدَتْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ دَعْوَتِهِ تَمَلُّكُهَا عَلَيْهِ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا تَخَلَّلَ مِنْ زَوَالِ مِلْكِ الِابْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ بِحَبَلٍ فِي مِلْكِ مَوْلَاهَا، وَتَلِدُ فَادَّعَى الْوَلَدَ الْأَوَّلَ أَبُوهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ النَّقْلُ إلَى مِلْكِ الْأَبِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ مُتَعَذَّرٌ فِي الْمُدَبَّرَةِ. وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَنَفَاهُ الْمَوْلَى فَادَّعَاهُ أَبُوهُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُدَبَّرَةِ أَنَّ دَعْوَةَ الْأَبِ صَحِيحَةٌ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدُ مِنْهُ يَضْمَنُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا، وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ، وَفِي هَذَا الْقِنَّةُ وَالْمُدَبَّرَةُ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ كَمَا انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ انْفَصَلَ مُدَبَّرًا فَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِدَعْوَتِهِ وَفَرَّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالَ: وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ مَوْلَاهَا لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْفِرَاشِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْأَبِ، وَإِنْ نَفَاهُ الْمَوْلَى كَمَا فِي وَلَدِ الْمُلَاعِنَةِ فَأَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ مِنْ مَوْلَاهَا فَتَصِحُّ دَعْوَةُ أَبِيهِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ يَدَّعِيهِ أَبُ مَوْلَاهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ شَرْطِ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ فَإِنْ وَلَدَتْهُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ أَوْ كَاتَبَهَا بَعْدَ مَا وَلَدَتْ أَوْ كَاتَبَ الْوَلَدَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْأَبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 116 فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ مَا يَمْنَعُ نَقْلَهُ إلَى الْأَبِ فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ، وَإِنْ كَاتَبَ الْأُمَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، ثُمَّ ادَّعَى الْأَبُ نَسَبَ الْوَلَدِ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ: لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ، وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَمَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَامِعِ فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ الْأُمَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَبُوهُ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهَا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حِينَ كَاتَبَهَا أَوْ بَاعَهَا فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ كَوَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْأَبِ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِالدَّعْوَةِ قَبْلَ كِتَابَةِ الْأُمِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ كِتَابَةُ الْأُمِّ بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ فِي الْوَلَدِ مُوَازَاتُهُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ لَوْ كَاتَبَهَا جَمِيعًا. قَالَ: وَإِنْ ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَالِابْنُ حُرٌّ مُسْلِمٌ وَالْأَبُ عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ كَافِرٌ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وِلَايَةُ النَّقْلِ فِيهَا إلَى نَفْسِهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ وَالرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ لِتَعَذُّرِ اتِّحَادِ شَرْطِهِ فَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا وَالِابْنُ كَافِرًا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَطَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْحَرْفِ فَقَالَ كَمَا لَيْسَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ حَتَّى لَا يَرِثَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِي صِغَرِهِ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ بِالِاسْتِيلَادِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَادِ إبْقَاءُ أَثَرِ الْوِلَايَةِ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً فِي حَالِ الصِّغَرِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا فَلَا يَكُونُ الِابْنُ مُقَرًّا عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ إسْلَامُ الْأَبِ طَارِئًا، وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ قَبْلَ إسْلَامِهِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ حَقُّ الْمِلْكِ بِالِاسْتِيلَادِ فَأَمَّا الِابْنُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مُسْلِمٌ أَصْلِيٌّ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ قَطُّ فَلَا يَبْقَى أَثَرٌ؛ وَلِابْنِهِ فِي الِاسْتِيلَادِ؛ وَلِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَادِ لِكَرَامَةِ الْأَبِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ الْوِلَايَةُ الَّتِي يَرْجِعُ إلَى كَرَامَةِ الْمُسْلِمِ كَوِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِثْلُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمِلَلُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ جَازَتْ دَعْوَةُ الْأَبِ فِيهِ؛ لِأَنَّ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ وِلَايَةً مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَلِ قَالَ: وَلَا تَجُوزُ دَعْوَةُ الْجَدِّ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَا فِي مَالِهِ فِي حَيَاةِ الْأَبِ فَكَانَ هُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 117 مَيِّتًا فَالْجَدُّ فِي الْوِلَايَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِ ابْنَتِهِ، وَلَا فِي مَالِهِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَادُ شَرْطِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ تَمَلُّكُ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَلَمْ تَدَّعِهِ، وَادَّعَاهُ أَبُوهُ جَازَتْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّ مَوْطُوءَةَ الِابْنِ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّقْلِ إلَى الْأَبِ بِالْعِوَضِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ فَيَتَحَقَّقُ فِيهَا مَا هُوَ شَرْطُ الدَّعْوَةِ قَالَ: وَإِذَا ادَّعَى الْأَبُ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلِابْنِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا، وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةُ الِابْنِ ظَاهِرًا؛ وَلِلْأَبِ حَقُّ الِاسْتِيلَادِ فِي مِلْكِ الِابْنِ فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا فَيَغْرَمُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَيَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا عَلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ فَوَلَدَتْ وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى، وَصَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قَضَى لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ بِالْعُقْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّ لَهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقَّ مِلْكٍ يَكْفِي لِصِحَّةِ اسْتِيلَادِهِ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا فَيَغْرَمُ لِلْمُسْتَحِقِّ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَا غَرِمَ لَهُ مِنْ الْعُقْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَى الْمُكَاتَبِ شَيْئًا فَلَا يُسَلَّمُ لِلْمُكَاتَبِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [الْحَمِيلِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْكَافِرِ] بَابُ (الْحَمِيلِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْكَافِرِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَصْلُ أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ بِالْأَبِ وَالِابْنِ، وَالْمَرْأَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَإِقْرَارَ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ بِالْأَبِ، وَالزَّوْجِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا بِالْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وَعَلَى الْغَيْرِ مَرْدُودٌ لِلتُّهْمَةِ فَالرَّجُلُ بِالْإِقْرَارِ مُقِرٌّ بِالْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَالْمَرْأَةُ تُقِرُّ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ لَا إلَيْهَا فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا وَفِي الثَّلَاثَةِ هِيَ مُقِرَّةٌ عَلَى نَفْسِهَا كَالرَّجُلِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْقَرَابَاتِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْأَعْمَامِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَفِي تِلْكَ الْوَاسِطَةِ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُورَثُ الْحَمِيلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ امْرَأَةً الجزء: 17 ¦ الصفحة: 118 سُبِيَتْ وَمَعَهَا صَبِيٌّ فَأَعْتَقَا، وَكَبُرَ الصَّبِيُّ وَاكْتَسَبَ مَالًا، ثُمَّ مَاتَ فَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ خُذِي مِيرَاثَ ابْنِك فَقَالَتْ لَيْسَ هُوَ ابْنِي، وَلَكِنَّهُ ابْنُ دِهْقَانِ الْقَرْيَةِ وَكُنْتُ ظِئْرًا لَهُ فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ أَنْ لَا يُورَثَ الْحَمِيلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَمِيلُ عِنْدَنَا: كُلُّ نَسَبٍ كَانَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْحَمِيلَ مَنْ يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى الْغَيْرِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَنْ يُحْمَلُ نَسَبُهُ عَلَى الْغَيْرِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَهُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَنْسَابِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ مَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا وَضَعَهُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ إذَا سُبِيَ صَبِيَّانِ فَأَعْتَقَا، وَكَبُرَا فَأَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لَمْ يُصَدَّقَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِ النَّسَبَ عَلَى الْأَبِ فَالْأُخُوَّةُ بَيْنَهُمَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوَرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَسْبِيِّ امْرَأَةٌ فَأُعْتِقَتْ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا وَصَدَّقَهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَعَ الْمَسْبِيِّ رَجُلٌ فَأُعْتِقَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِالنَّسَبِ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ خَفِيٌّ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ فِيهِ مَقْبُولٌ وَسَبَبُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَرْأَةِ وِلَادَةٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَلَا يُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ بَالِغًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إذَا كَانَ التَّصْدِيقُ مُتَأَتِّيًا؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الِانْتِسَابِ إلَيْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا» فَلَا يَثْبُتُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّصْدِيقِ إذَا كَانَ مُحْتَمَلًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ وَصَدَّقَهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، وَلَكِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَارِثٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ إنْشَاءِ سَبَبٍ يَجْعَلُ مَالَهُ لِصَاحِبِهِ كَالْوَصِيَّةِ فِي عَقْدِ الْمُوَالَاةِ فَلَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ، وَقَدْ يَنْفَصِلُ حُكْمُ الْمِيرَاثِ عَنْ النَّسَبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُسْتَحْلَفْ فِي النَّسَبِ، وَيُسْتَحْلَفُ فِي الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ فَإِنْ شَهِدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 119 عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ صَدَّقَهَا الْوَلَدُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ تُظْهِرُ النَّسَبَ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُكَذِّبًا لَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا امْرَأَةٌ وَصَدَّقَهَا زَوْجُهَا أَنَّهُ مِنْهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا أَمَّا مِنْ الزَّوْجِ بِإِقْرَارِهِ فَإِنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ مِنْهُ ثَبَتَ مِنْهُمَا تَبَعًا؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ عَلَيْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يُحَالُ النَّسَبُ عَلَى هَذَا النَّسَبِ الظَّاهِرِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ فَادَّعَى وَلَدَهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مُضَافٌ إلَيْهِ شَرْعًا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ»، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تُؤَثِّرُ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَةِ كَمَا فِي دَعْوَةِ الْأَبِ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ كَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ مَحَلِّهِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِهِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى يُصْرَفَ إلَى دِيَتِهِ، وَلَا يُسَلَّمَ لِلْمَوْلَى مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ فَيَصِيرُ هَذَا شُبْهَةً، وَأَدْنَى الشُّبْهَةِ تَكْفِي لِتَصْحِيحِ دَعْوَةِ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ مَوْلَاهُ لَوْ سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِكَسْبِ الْعَبْدِ حَقِيقَةً إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَصِيرُ بِدَعْوَةِ النَّسَبِ كَأَنَّهُ اسْتَخْلَصَهَا لِنَفْسِهِ قَالَ: وَلَوْ زَوَّجَ الْمَوْلَى هَذِهِ الْأَمَةَ مِنْ عَبْدِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ أَمَةً أُخْرَى لَهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا وَلَدَتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ إقْرَارِهِ فَعِنْدَ شُبْهَةِ النِّكَاحِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمَوْلَى فَوَلَدَتْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَغْوٌ مِنْهُ فِيهَا فَيَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِالْوَلَدِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ النِّكَاحُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ وَلَدَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لَا يَمَسُّ حَقَّ الْمَوْلَى وَفِيمَا لَا يَتَنَاوَلُ حَقَّ الْمَوْلَى إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالْقَوَدِ وَالطَّلَاقِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْحُرُّ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْوَلَدَ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مَا لَمْ يَمْلِكْ بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِذَا مَلَكَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَتَقَ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمَالٍ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى ظُهُورِ حُكْمِهِ بِمِلْكِ الْمَحَلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ إذَا ادَّعَى، وَلَدَ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ وَلَيْسَ فِي إقْرَارِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهَا وَبَيْعِ وَلَدِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا أَحَلَّهَا لَهُ، وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ لَا مُعْتَبَرَ بِإِحْلَالِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 120 الْمَوْلَى فِيمَا هُوَ كَسْبُ الْعَبْدِ فَعِنْدَ تَكْذِيبِ الْمَوْلَى تَصِيرُ دَعْوَى الْإِحْلَالِ كَالْمَعْدُومِ وَبِدُونِهِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْعَبْدِ قَالَ: وَإِنْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ أَمَةٍ لِمَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِ فَادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهُ أَحَلَّهَا لَهُ أَوْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إلَّا أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ فَمَلَكَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ يَدَّعِيهِ، ثُمَّ يَمْلِكُهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا وَفِي دَعْوَى الِاسْتِحْلَالِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ: دَعْوَى الِاسْتِحْلَالِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْإِحْلَالِ، وَالْإِحْلَالُ لَيْسَ بِعَقْدٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا فَكَأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِرِضَاءِ مَوْلَاهَا، وَبِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْإِحْلَالُ مِنْ وَجْهٍ كَالنِّكَاحِ فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يُسَمَّى مِلْكَ الْحِلِّ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ عَيْنِهَا وَمَنَافِعِهَا إنَّمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَانَ الْإِحْلَالُ مُورِثًا شُبْهَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ فَإِنْ صَدَّقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا أَنَّ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَاجُ إلَى التَّصْدِيقِ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةً وَفِي دَعْوَى الْإِحْلَالِ يَحْتَاجُ إلَى التَّصْدِيقِ فِي شَيْئَيْنِ فِي أَنَّهُ أَحَلَّهَا لَهُ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ أَضْعَفُ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْمُتْعَةُ عَقْدٌ، وَالْإِحْلَالُ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَلِضَعْفِهِ قُلْنَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِإِقْرَارٍ بِهِمَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ ثَبَتَ فِي الْمَحَلِّ فَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى بِالْوِلَادَةِ فَأَمَّا الْإِحْلَالُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، قَالَ: وَدَعْوَةُ الْمُكَاتَبِ، وَلَدَ أَمَتِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي كَسْبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ بِعِتْقِهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مِثْلُهُ فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْمَأْذُونِ فَدَعْوَةُ الْمُكَاتَبِ أَوْلَى، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُكَاتَبُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمِلْكِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ مُسْتَنِدٌ بِمِلْكِ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ وَالدَّعْوَى مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَائِهِ مُسْتَنِدٌ بِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَلَا تَنْفُذُ دَعْوَتُهُ بِسَبَبِ الْحَجْرِ الَّذِي أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُكَاتَبُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَجْرِ فِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ كَالْحُرِّ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى وَلَدَ أَمَةِ رَجُلٍ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ، وَكَذَّبَهُ الرَّجُلُ لَمْ يُصَدَّقْ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ إذَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 121 ادَّعَاهُ فَإِنْ عَتَقَ فَمَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَكَانَ كَالْمُجَدِّدِ لِإِقْرَارِهِ حِينَ مَلَكَهُ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَى الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ كَالْحُرِّ، وَإِذَا حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَيُرَدُّ إلَيْهِ الْوَلَدُ مَعَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَادَهُ فِي كَسْبِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَدْخُلُ فِي كِتَابَتِهِ تَبَعًا لَهُ وَثُبُوتُ حَقِّ الْأُمِّ بِثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ فَيُمْنَعُ بَيْعُهَا فَكَانَ هُوَ كَالْحُرِّ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْد الْمَأْذُونِ فَإِنَّ هُنَاكَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ الْوَلَدُ مِنْهُ لَا يَمْتَنِعُ بَيْعُ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ إلَيْهِ الْوَلَدُ، وَلَا أُمُّهُ إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ قَالَ: وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَةَ ابْنِهِ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ مُكَاتَبٌ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا كَذَّبَهُ الِابْنُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ دَعْوَةِ الْأَبِ شَرْطُهُ؛ وَلِأَنَّهُ نَقَلَ الْجَارِيَةَ إلَى نَفْسِهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَإِنْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ بِدَعْوَتِهِ لِعَدَمِ مِلْكِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ مَلَكَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِابْنٍ لَهُ وُلِدَ فِي مُكَاتَبَتِهِ أَوْ اشْتَرَاهُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ جَازَتْ دَعْوَتُهُ وَصَارَتْ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَهْرًا، وَلَا قِيمَةً؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَوْلُودِ فِي كِتَابَتِهِ، وَمَنْ يُكَاتَبُ عَلَيْهِ بِشِرَائِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْمُكَاتَبَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ أَمَتِهِ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ عُقْرًا، وَلَا قِيمَةً قَالَ: رَجُلٌ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ مُكَاتَبٍ لَهُ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ جَعَلَ نَفْسَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّعْوَةُ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَكَانَ حُرًّا بِالْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ عَبْدٌ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ. لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ابْنَ مَوْلَاهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ حَقَّ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ لِلْمَغْرُورِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَلَا وَلَدَ هُنَاكَ يَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الْحُرُّ، وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ، وَكَذَّبَتْهُ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ مَمْلُوكَةٌ لِمَوْلَاهَا فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ وَدَعْوَتُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ وَلَدِ أَمَةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى غَيْرُ مَالِكٍ لِلْأَمَةِ، وَلَا لِوَلَدِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِتْقَهُ هُنَاكَ لَا يَنْفُذُ فِيهَا، وَلَا فِي وَلَدِهَا، وَهُنَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهَا وَفِي وَلَدِهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مَعَ وَلَدِهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِمَا لِلْمُكَاتَبِ بِالْعِتْقِ فَلَا يَنْفَرِدُ الْمَوْلَى بِإِبْطَالِ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 122 بِالدَّعْوَةِ فَأَمَّا، وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى أَنْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمُكَاتَبَةِ وَلَيْسَ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَتِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُكَاتَبِ بَلْ فِيهِ تَحْصِيلُ بَعْضِ مَقْصُودِهَا فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ وَعَتَقَ الْوَلَدُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى، وَلَدَ مُكَاتَبَةٍ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ أَمَةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ سَبَبَ بُعْدِهَا عَنْ الْمَوْلَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ، وَفِي أَمَةِ الْمُكَاتَبِ لِلْعَبْدِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْمُكَاتَبِ بُعْدُهَا مِنْ الْمَوْلَى بِسَبَبَيْنِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي أَمَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا بِالتَّصْدِيقِ فَفِي مُكَاتَبَةِ الْمُكَاتَبِ أَوْلَى غَيْرَ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ دُونَ الْمُكَاتَبِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، وَالْمُكَاتَبُ حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَفِي وَلَدِهَا فَلِهَذَا كَانَ التَّصْدِيقُ إلَيْهَا دُونَ الْمُكَاتَبِ قَالَ: وَإِنْ ادَّعَى وَلَدُ أَمَةِ مُكَاتَبٍ مُكَاتَبَةً، وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهَا وَصَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ الْأَعْلَى لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا لِلْمُكَاتَبِ الْأَسْفَلِ وَالْمُكَاتَبُ الْأَعْلَى مِنْهَا كَالْأَجْنَبِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْوَلَدِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْأَسْفَلِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَوْلَى لَمْ تَصِحَّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ عَجَزَ الْأَسْفَلُ صَارَتْ الْأَمَةُ لِلْمُكَاتَبِ الْأَعْلَى فَيَعْمَلُ تَصْدِيقُهُ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُدَّعٍ لِوَلَدِ أَمَتِهِ، وَقَدْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ الْأَسْفَلُ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَمَكَّنُ هُنَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِك لِرَقَبَةِ الْأَمَةِ، وَلَا لِرَقَبَةِ مَوْلَاهَا بِخِلَافِ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ فَإِنَّ هُنَاكَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ مَوْلَاهَا وَالْكَسْبَ يَمْلِكُ الْأَصْلَ فَيَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ بِمِلْكِهِ رَقَبَةَ مَوْلَاهَا وَهُنَا لَا يَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ؛ وَلِأَنَّ أَسْبَابَ بُعْدِهَا عَنْ الْمَوْلَى هُنَا قَدْ كَبُرَتْ، وَكَانَ هُوَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَفِي أَمَةِ الْمُكَاتَب سَبَبُ الْبُعْدِ وَاجِبٌ فَبَقِيَتْ الشُّبْهَةُ الْمُثْبِتَةُ لِحُكْمِ الْغُرُورِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قِيلَ فِي ابْنِ الْأَخِ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ فَإِنَّ قَرَابَةَ ابْنِ الْأَخِ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ؛ لِأَنَّ الْبُعْدَ سَبَبُ الشَّغَبِ فِي ابْنِ الْأَخِ مِنْ جَانِبِ وَاحِدٍ وَفِي ابْنِ الْعَمِّ التَّشَغُّبُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَنَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ وَلَهَا زَوْجٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى النَّسَبِ صَدَّقَهُ زَوْجُهَا أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ الزَّوْجِ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ لَهُ عَلَيْهَا، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مَعَ فِرَاشِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ يُعْتَقُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِثْلُ أُمِّهِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ إذْ ادَّعَى نَسَبَهُ كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِثُبُوتِهِ مِنْ الزَّوْجِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى أَوْ عَبْدًا لَهُ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 123 مِنْ هَؤُلَاءِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلِقَتْ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، ثُمَّ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ حُرٌّ فَكَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا وَالثَّمَنُ مِنْهُ، ثُمَّ يَغْرَمُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ يَتَمَلَّكُ عَلَى صَاحِبِهِ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَا يُحْتَمَلُ بِالتَّجَزِّي فَإِنَّ سَبَبَهُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَصَارَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ مَالِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَجَّانًا، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَغْرَمُ نِصْفَ عُقْرِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ النِّصْفُ مَمْلُوكًا لَلشَّرِيكِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ نِصْفِ الْعُقْرِ لَهُ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَبِ يَدَّعِي نَسَبَ جَارِيَةِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ مِمَّا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الِاسْتِيلَادِ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِيلَادِ، وَإِذَا قَدَّمْنَاهُ صَارَ وَطْؤُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ وَهُنَا الْمُسْتَوْلِدُ مَلَكَ نِصْفَهَا عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ وَذَلِكَ كَافٍ لِتَصْحِيحِ الِاسْتِيلَادِ فَلَا يُقَدَّمُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَهُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ فَيَبْقَى وَطْؤُهُ حَاصِلًا فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنْ يَمْلِكَ الْأَبُ رَقَبَةَ الْجَارِيَةِ هُنَاكَ شَرْطَ الِاسْتِيلَادِ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ وَهُنَا يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِحُكْمِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ، وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا عِنْدَ الْعُلُوقِ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي جَمِيعِهَا فِي حَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، وَلَكِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِدَعْوَتِهِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ يَدَّعِي نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهَا فِيهِ قَالَ: أَمَةٌ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدِهَا فَادَّعَاهُ الْآخَرُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ مِنْهَا بَعْدَ كِتَابَةِ الشَّرِيكِ، وَقَدْ عُرِفَ الْجَوَابُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهَا تَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَهُ حَقُّ النَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الثَّانِي، وَهُوَ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَعَقْدِ الْكِتَابَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَإِذَا تَصَرَّفَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى شَرِيكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى اتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 124 عَتَقَتْ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الشَّرِيكُ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ الْوُقُوعِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: نَصِيبُ الْمُدَّعِي مِنْهَا يَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَأَمَّا نَصِيبُ الْمُكَاتَبِ لَا يَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَعِنْدَهُمَا الْكُلُّ صَارَ أُمَّ وَلَدِ الْمُسْتَوْلِدِ، وَأَصْلٌ فِي مُكَاتَبَتِهِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْتَصَرُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَإِثْبَاتُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِالنَّقْلِ إلَيْهِ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ كَالْمُدَبَّرَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا يَقْتَصِرُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَادِ حُكْمِيٌّ، وَالْمُكَاتَبُ مَحَلًّا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُكَاتَبَ الْمُكَاتَبِ يُنْقَلُ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ الْأَدَاءِ حَتَّى يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى إذَا أَدَّى قَبْلَ أَدَاءِ الْمُكَاتَبِ الْأَعْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا، وَقَدْ كَاتَبَ الْوَارِثُ عَبْدًا لَهُ يُعَادُ ذَلِكَ الْعَبْدُ إلَيْهِ مُكَاتَبًا؛ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَيَفْسَخُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْلِيلِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَهَا لِحَقِّهَا وَفِي هَذَا تَوْفِيرُ الْحَقِّ عَلَيْهَا بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلِ لِلْفَسْخِ فَلِهَذَا صَارَ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ عِنْدَهُمَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا كَاتَبَ الْكِتَابَةَ بِإِذْنِ الْمُسْتَوْلِدِ فَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَمَلُّكِ الْمُسْتَوْلِدِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُ الَّذِي كَاتَبَ مِنْهَا وَمِنْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ يُلْقِيهَا جِهَةَ حُرِّيَّةِ أَحَدِهِمَا عَاجِلٌ بِعِوَضٍ وَالْآخَرُ آجِلٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَتْ فَإِذَا عَتَقَتْ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُسْتَوْلِدِ أَيْضًا مِنْ الْجَارِيَةِ وَالْوَلَدِ، وَلَا يَسْعَى لَهُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَتَقَوَّمُ، وَإِنَّهَا لَا تَسْعَى لِمَوْلَاهَا عِنْدَ الْعِتْقِ فِي شَيْءٍ كَمَا قَالَ فِي أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَنْقُضُهَا الْقَاضِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ فَإِذَا نَقَضَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ. لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْهَا بِسَبَبِ الِاسْتِيلَادِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُضْهَا حَتَّى أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُكَاتَبِ مِنْهَا وَمِنْ وَلَدِهَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَيَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُسْتَوْلِدِ مِنْهَا أَيْضًا، وَلَا يَسْعَى لَهُ فِي شَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِقْدَامُ الشَّرِيكِ الْآخَرِ عَلَى الِاسْتِيلَادِ لَا يَكُونُ نَقْضًا مِنْهُ لِكِتَابَةِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 125 مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَعَرُّضًا مِنْهُ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ قَالَ: أَمَةٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ عَلِقَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، ثُمَّ ادَّعَيَا الْوَلَدَ مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ تَرْجِيحَ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْلَامِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَالشَّرِيكُ عِنْدَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فَدَعْوَتُهُ تُوجِبُ إسْلَامَ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَقْتَ الْعُلُوقِ كَدَعْوَةِ شَرِيكِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ وَلَدُهَا لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ عَلِقَتْ، ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ ادَّعَيَا الْوَلَدَ فَهُوَ ابْنُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَافِرٌ وَدَعْوَةُ الْكَافِرِ لَا تُعَارِضُ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَصَرُّفٌ وَتَصَرُّفُ الْمُسْلِمِ فِي مِلْكِهِ أَنْفَذُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إعْتَاقَ الْمُرْتَدِّ نَصِيبَهُ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِهَذَا دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ تُرَجَّحُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَارْتَدَّ الْمُسْلِمُ، ثُمَّ ادَّعَيَا الْوَلَدَ فَهُوَ ابْنُ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ الذِّمِّيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، وَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَنْفُذُ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَلِقُرْبِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ جُعِلَ فِي حُكْمِ الدَّعْوَةِ كَالْمُسْلِمِ فَتَتَرَجَّحُ دَعْوَتُهُ عَلَى دَعْوَةِ الذِّمِّيِّ؛ وَلِأَنَّ تَرْجِيحَ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لِلْوَلَدِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي دَعْوَةِ الْمُرْتَدِّ فَالدَّعْوَةُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تُوقَفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَدْعِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَتَوَقُّفُ تَصَرُّفِهِ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي الدَّعْوَةِ كَالْمُسْلِمِ تَرَجَّحَ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَعْوَتِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ، وَيَضْمَنُ الذِّمِّيُّ أَيْضًا لَهُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا فَصَارَ نِصْفُ الْعُقْرِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ قِصَاصًا. قَالَ: أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا، وَقَدْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُنْذُ شَهْرٍ وَالْآخَرُ مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ فَيَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ وَدَعْوَةُ الْآخَرِ دَعْوَةُ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَتَكُونُ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ سَابِقَةً مَعْنًى وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا، وَنِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لِمَنْ يَغْرَمُ قَالُوا: وَإِنَّهُ يَغْرَمُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لَا لِشَرِيكِهِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ لِلْبَائِعِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرِهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا اشْتَرَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَهُوَ ابْنُهُمَا وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَةِ فَكَانَ الْعُلُوقُ حَاصِلًا فِي مِلْكِهِمَا، وَلَا عُقْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 126 أَمَّا لِصَاحِبِهِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ، وَأَمَّا لِغَيْرِهِ؛ فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقْرِ عَلَى مَنْ كَانَ مِلْكُهُ فِيهَا ثَابِتًا وَقْتَ الْعُلُوقِ لِبَائِعِ شَرِيكِهِ. وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ وَالْمَالُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَجْهُولِ. قَالَ أَمَةٌ لِذِمِّيٍّ بَاعَ نِصْفَهَا مِنْ مُسْلِمٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُ الذِّمِّيِّ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ نِصْفَهَا لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ بَيْعِهِ جَمِيعَهَا وَهُوَ أَوْلَى بِالدَّعْوَةِ بَعْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ لِتَيَقُّنِنَا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ فَبَعْدَ بَيْعِ النِّصْفِ أَوْلَى. قَالَ: أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الرَّجُلُ، وَأَبُو الْمَرْأَةِ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا حَقِيقَةً، وَأَبُو الْمَرْأَةِ لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةُ مِلْكٍ، وَلَا حَقَّ مِلْكٍ إنَّمَا لَهُ مُجَرَّدُ التَّأْوِيلِ وَالتَّأْوِيلُ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَةِ أَبِي الْمَرْأَةِ بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ نَصِيبِ وَلَدِهِ عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ لِثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ الشَّرِيكِ فِيهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَدَعْوَةُ الشَّرِيكِ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ تَقْدِيمِ الْمِلْكِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. قَالَ: أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ ابْنُهُ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَفِي هَذَا الْمُنْفَصِلُ مَيِّتًا وَالْمُنْفَصِلُ حَيًّا سَوَاءٌ، وَالْوَلَدُ الْمَيِّتُ كَالْحَيِّ فِي أَنَّ الْجَارِيَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ؛ وَلِمِثْلِهِ حُكْمُ الْوَلَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ وَالْمَرْأَةُ تَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ فَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَابْنِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُ الْأَبِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ نِصْفَهَا حَقِيقَةً، وَصِحَّةُ الدَّعْوَةِ هُنَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَالْحَقُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مُعَارَضَةِ الْحَقِيقَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا لِلِابْنِ فَادَّعَيَا الْوَلَدَ كَانَ دَعْوَةُ الِابْنِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَةِ الْأَبِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ جَانِبَ الْأَبِ يَتَرَجَّحُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي نِصْفِهَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ حَقَّ التَّمَلُّكِ عَلَى وَلَدِهِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ فِي نَصِيبِ الْأَبِ مِلْكٌ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، وَلَا تَأْوِيلُ مِلْكٍ فَكَانَ جَانِبُ الْأَبِ أَرْجَحَ وَالتَّرْجِيحُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ يَحْصُلُ بِمَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ ابْتِدَاءً كَالْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخَرُ لِأَبٍ تَرَجَّحَ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهِيَ لَيْسَتْ بِعِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْعُصُوبَةِ فَإِذَا صَحَّتْ دَعْوَةُ الْأَبِ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ لِلِابْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَمَلُّكَ الْأَبِ نَصِيبَ الِابْنِ هُنَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ لَا شَرْطُهُ فَإِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَلِهَذَا غَرِمَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 127 نِصْفَ عُقْرِهَا وَضَمِنَ الِابْنُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِابْنِهِ أَيْضًا لِإِقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا فَكَانَ نِصْفُ الْعُقْرِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ قِصَاصًا، وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فَأَمَّا الْأَخُ وَالْعَمُّ وَالْأَجْنَبِيُّ فَهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَعْضِ هُنَا تَأْوِيلُ الْمِلْكِ فِي مَالِ الْبَعْضِ، وَلَا حَقَّ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ مُسْلِمٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِهِ يُوجِبُ إسْلَامَ الْوَلَدِ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الذِّمِّيِّ يُوجِبُ كُفْرَهُ فَيَتَرَجَّحُ مُوجِبُ الْإِسْلَامِ تَوْفِيرًا لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ فَادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُمَا، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي رَقَبَتِهَا تَمْنَعُ الْفِرَاشَ الْمُثْبِتَ لِلنَّسَبِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ مَوْلَاهَا لِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ حَرَامٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا فَإِنَّ وَطْأَهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي نِصْفِهَا وَنِصْفِ وَلَدِهَا وَيَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْوَلَدُ لِلشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فَدَعْوَةُ أَحَدِهِمَا لِلْوَلَدِ كَإِعْتَاقِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى لَهُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ لَمَّا صَارَ الْمُدَّعَى نَسَبُهُ كَالْمُعْتِقِ لَهُ جَارِيَةٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَلَدَتْ فَادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُسْلِمِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ابْنُهُمَا، وَلَكِنْ يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَاهُمَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَهُمَا فِي الْمِلْكِ يَسْتَوِيَانِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ يُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُمَا كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَالْإِسْلَامُ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّعْوَةِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ يَتَرَجَّحُ بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ: وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَادَّعَاهُ عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ هَذِهِ الْأَمَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى، وَقَالَ هُوَ عَبْدِي ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا، وَكَانَ عَبْدًا لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا، وَكَانَ حُرًّا، أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 128 بِدَعْوَاهُمَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ثَابِتٌ لِلْمُلْتَقِطِ فَهُمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى يُرِيدَانِ إبْطَالَ الْيَدِ الثَّابِتِ لَهُ فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ اعْتِبَارُ يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يَكُونَ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ لَا لِحَقِّ الْمُلْتَقِطِ، وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِمَّنْ ادَّعَى تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ كَالْحُرِّ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِالدَّعْوَةِ فَأَمَّا حُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ وَفِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ مِنْ الْمَمْلُوكِينَ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ، وَفِي إثْبَاتِ الرِّقِّ إضْرَارٌ بِالْوَلَدِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ ثُبُوتُ الرِّقِّ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِمَا فِيمَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ كَمَا لَوْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ، وَقَدْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْوَلَدِ وَتَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ. وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُمَا فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ وَالْمَخْلُوقُ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ لَا يَكُونُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْأَصْلَيْنِ فَإِذَا كَانَا رَقِيقَيْنِ وَلَيْسَ هُنَا سَبَبٌ يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِدُونِ السَّبَبِ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا، يُقَرِّرُهُ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا إلَّا إذَا تَمَكَّنَ هُنَاكَ غُرُورٌ فِي جَانِبِ الْفَحْلِ، وَهُوَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ لِمَائِهِ، وَلَا غُرُورَ هُنَا فَكَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: الْعَبْدُ إذَا صَارَ مَغْرُورًا بِأَمَةٍ فَوَلَدَتْ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَظِيرُ مَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَجْهُولَةُ الْحَالِ إذَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ إقْرَارِهِمَا كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فَإِنْ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَاتٍ فِي جَسَدِهِ، وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرُ شَيْئًا جَعَلْتَهُ ابْنَ صَاحِبِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّعْوَةِ تَقَعُ بِالْعَلَامَةِ كَمَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ؛ وَلِأَنَّ إصَابَةَ الْعَلَامَةِ دَلِيلُ سَبْقِ يَدِهِ إلَيْهِ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ ابْنًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَعْرَفُ بِعَلَامَاتِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ إذَا أَصَابَ فِي الْعَلَامَاتِ يَوْمَ الْمُلْتَقِطِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَصَابَ فِي بَعْضِ الْعَلَامَاتِ، وَأَخْطَأَ فِي الْبَعْضِ فَهَذَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ الْعَلَامَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَا أَصَابَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَاعْتِبَارَ مَا أَخْطَأَ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ الْعَلَامَاتِ شَيْئًا، وَإِذَا لَمْ يَصِفْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ الْعَلَامَاتِ فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 129 الدَّعْوَى، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ غُلَامٌ مِنْ صِفَةِ جَسَدِهِ كَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ هِيَ جَارِيَةٌ مِنْ صِفَةِ جَسَدِهَا كَذَا فَأَيُّهُمَا أَصَابَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي كَلَامِهِ وَظُهُورِ دَلِيلِ الْكَذِبِ فِي كَلَامِ خَصْمِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ وَاحِدٌ، وَقَالَ هُوَ غُلَامٌ فَإِذَا هِيَ جَارِيَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِظُهُورِ دَلِيلِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَاهُ. وَلَوْ كَانَ سَبَبُ قَضَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُقْضَ بِهَا مَعَ ظُهُورِ دَلِيلِ الْكَذِبِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ سَبَبُ الْقَضَاءِ الدَّعْوَى لَا يُقْضَى بِهَا مَعَ ظُهُورِ دَلِيلِ الْكَذِبِ؛ وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي نَسَبَ الْغُلَامِ، وَلَيْسَ هُنَا غُلَامٌ حَاضِرٌ وَدَعْوَةُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ. قَالَ فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ فَالْقِيَاسُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ فِي دَعْوَةِ اللَّقِيطِ؛ لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الدَّارِ، وَلَا قَوْلَ لِلذِّمِّيِّ فِي دَعْوَةِ نَسَبِ الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ فِي دَعْوَاهُ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ وَالْآخَرُ: كُفْرُ الْوَلَدِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُ الْوَلَدَ دُونَ مَا يَضُرُّهُ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ النَّسَبِ تَبَعَةُ الْأَبَوَيْنِ فِي الدَّيْنِ كَالصَّغِيرِ إذَا سُبِيَ وَلَيْسَ مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ يَكُونُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِيَقِينٍ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقَطُ مُسْلِمًا، وَقَدْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنَسِيَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَكُونُ كَافِرًا فَأَمَّا إذَا، وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى الْعِبْرَةُ لِلْوَاجِدِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُحْكَمُ لِذِي اللَّقِيطِ وَسَمَّاهُ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ أَنَّ الْمَكَانَ إلَيْهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ وَالْحُكْمُ لِلسَّابِقِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَالْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ اللَّقِيطَ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ فَمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ صَارَ مُحْرِزًا لَهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِيَدِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمَكَانِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ بِالْيَدِ دُونَ الْمَكَانِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحُكْمَ بِالزِّيِّ، وَالسِّيمَا وَاجِبٌ كَالْبَالِغِ الَّذِي يُوجَدُ فِي دَارٍ إذَا قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ قُبِلَ قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ، وَعَلَيْهِ ثَوْبُ دِيبَاجٍ وَوَسَطُ رَأْسِهِ مُحْرَزٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ النَّصَارَى فَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِإِسْلَامِهِ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ فَدَعَاهُ ذِمِّيٌّ، وَأَقَامَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 130 شَاهِدَيْنِ ذِمِّيَّيْنِ فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُ ابْنَهُ، وَأَجْعَلَهُ مُسْلِمًا، وَإِذَا وُجِدَ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ، وَأَجْعَلُهُ مُسْلِمًا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ صَحَّحَ رِوَايَةَ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْحَاكِمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَأَمَّا مَعَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّا إذَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ لِلْوَاجِدِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْوَاجِدِ، وَلَا عَلَى مَنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلْوَاجِدِ فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُسْلِمًا، وَإِنْ أَثْبَتْنَا نَسَبَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ قَالَ: وَإِذَا وَجَدْتُهُ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ جَعَلْتُهُ حُرًّا مُسْلِمًا، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الدِّينِ فَأَمَّا فِي حَقِّ النَّسَبِ فَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَضَيْتُ بِهِ لِلَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَفِي بَيِّنَةِ الْآخَرِ إثْبَاتَ رِقِّهِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُرِّيَّةِ لِمَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ الْحُرَّةِ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ قَضَيْتُ بِهِ أَنَّهُ ابْنُ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ يَكُونُ رَقِيقًا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُثْبِتِ لِلْحُرِّيَّةِ. وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ وَوَقَّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا فَإِنْ عُرِفَ أَنَّ الصَّبِيَّ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي شُهُودِهِ بِاعْتِبَارِ سِنِّ الصَّبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ عَلَى أَيِّ الْوَقْتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ لِأَسْبَقِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى سِنِّ الصَّغِيرِ لِيُعْرَفَ بِهِ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ بَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّارِيخِ فَصَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ فِي، وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَالنَّسَبُ لَا يَسْبِقُ وَقْتَ الْعُلُوقِ فَلَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ سَبْقِ التَّارِيخِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُوَقِّتُوا شَيْئًا فَيُقْضَى بِهِ لِلرَّجُلَيْنِ هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْخِلَافَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ جَعَلْته ابْنَهُمَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ ابْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ؛ قَالَ: وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَنْ اللَّقِيطُ خُنْثَى فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ ابْنٌ فَيُثْبِتُ نَسَبَهُ مَنْ أَثْبَتَ بُنُوَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 131 النَّسَبُ مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا فَالْعِبْرَةُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا جَمِيعًا مَعًا فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْعِبْرَةُ لِأَكْثَرِهِمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْبَوْلِ وَقِلَّتِهِ فَيَكُونُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِإِصَابَةِ الْعَلَامَةِ فَاسْتَوَيَا قَالَ فَإِنْ ادَّعَى اللَّقِيطَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ إسْلَامِ الْوَلَدِ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَشُهُودُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ فَيَتَرَجَّحُ مَا كَانَ مُوجِبًا إسْلَامَ الْوَلَدِ. قَالَ: وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ إلَى سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي مُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي حَالِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا بَقِيَتْ فِي دَارِنَا فَهِيَ مُؤَاخَذَةٌ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إلَّا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ، وَامْرَأَتَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمِيرَاثُ، وَلَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَعِنْدَهُمَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ، وَأَصْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ، وَلَا فِرَاشٌ قَائِمٌ، وَلَا إقْرَارَ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ الْمُرْتَدُّ اللَّاحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ هُنَا فَإِنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ تَعْتِقُ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِي وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ اللَّاحِقَةَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ ارْتَدَّتْ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهَا صَارَتْ حَرْبِيَّةً فَلَا تُؤَاخَذُ بِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ عِصْمَةُ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا عِصْمَةُ الْعِدَّةِ قَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْحَرْبِيِّ فَدَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْ الْحَرْبِيَّ وَلَدُهَا إلَّا بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَى سَنَتَيْنِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الْعِدَّةُ، وَإِنْ سُبِيَتْ الْمُرْتَدَّةُ وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ سُبِيَتْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ لِتَيَقُّنِنَا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ قَبْلَ السَّبْيِ، وَالتَّقْدِيرُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 132 لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ السَّبْيَ كَمَا يُبْطِلُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ يُبْطِلُ الْعِدَّةَ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَهِيَ صَارَتْ رَقِيقَةً بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِالسَّبْيِ فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ الَّذِي فِي بَطْنِهَا عِنْدَنَا قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً أَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُرْتَدَّةُ مُسْلِمًا فَوَلَدَتْ مِنْهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ أَوْ أَقْوَى وَيَرِثُهُمَا هَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِ مِنْهُمَا، وَالْمُرْتَدُّ يَرِثُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ سَبَبِ التَّوْرِيثِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الرِّدَّةُ فَتَمَامُهُ يَكُونُ بِالْمَوْتِ فَيُجْعَلُ الْحَادِثُ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ لِإِتْمَامِهِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ اعْتِبَارًا بِوَلَدِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمَوْلُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي انْقِسَامِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ كِتَابِيَّةً فَوَلَدَتْ لَا يَرِثُ الْوَلَدُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَكَوْنُهُ فِي يَدِ الْأَبَوَيْنِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فِي حَقِّهِ كَالصَّغِيرِ إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَالْمُرْتَدُّ إنَّمَا يَرِثُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيَّةُ لَا يَرِثُهَا الْمُرْتَدُّ، وَهَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ تَبَعًا لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ أَمَةُ الْمُرْتَدِّ مِنْهُ، وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ لِهَذَا الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعٌ لَهَا قَالَ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً، وَأُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَأَقَرَّتْ الْوَرَثَةُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ مِنْ الْمَيِّتِ أُثْبِتَ نَسَبُهُ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَتُهُ أَوْ إخْوَتُهُ أَوْ ابْنًا، وَابْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِهَذَا النَّسَبِ فِي حَالَةِ الْحَيَاة عَلَيْهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ حُجَّةً تَامَّةً فَإِذَا أَقَرُّوا بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا حُجَّةً تَامَّةً فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ هُنَاكَ خَصْمٌ جَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ خَصْمٌ جَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ كَلَامُهُ إلْزَامٌ لِلْغَيْرِ وَالْمَلْزُومُ لِلْغَيْرِ شَرْعًا الشَّهَادَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِيهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ كَلَامُهُ إلْزَامٌ لِلْغَيْرِ مِنْ وَجْهٍ وَالْتِزَامٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُمْ وَمَا أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالْإِلْزَامِ شَرَطْنَا الْعَدَدَ فِيهِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ؛ وَلِشَبَهِهِ بِالِالْتِزَامِ أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا فَهُوَ ابْنُهُ ادَّعَاهُ أَوْ نَفَاهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْكِحَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ فَاسِدٌ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ وَالصَّحِيحُ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهِمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 133 ثُمَّ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ أَوْ الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ الْمَجُوسِيَّةَ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِهَذَا النِّكَاحِ مَعَ فَسَادِهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشُّبْهَةِ يَكْفِي لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ، ثُمَّ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا هُنَا. قَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ، وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكَةُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ فَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ عَتَقَا أَوْ أَسْلَمَا لَزِمَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي حَالٍ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فَيَلْزَمُهُ النَّسَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِصَيْرُورَتِهِمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ؛ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ؛ فَإِنْ. (قِيلَ) فَكَذَلِكَ يُتَوَهَّمُ حُصُولُ الْعُلُوقِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّ قَطْعَ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَالِاشْتِبَاهُ يَمْنَعُ قَطْعَ النَّسَبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ قَطْعِ النَّسَبِ هُوَ اللِّعَانُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَمَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحِلَّ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَمَتَى كَانَ الْحِلُّ قَائِمًا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ امْرَأَةٌ كِتَابِيَّةٌ فَوَلَدَتْ فَنَفَاهُ فَهُوَ ابْنُهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ وَنَسَبُ الْوَلَدِ قَدْ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِدُونِ اللِّعَانِ. قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ، وَالزَّوْجُ كَافِرٌ، ثُمَّ نَفَى وَلَدَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ، وَقَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَمَتَى تَعَذَّرَ جَرَيَانُ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ يَلْزَمُ الْحَدُّ، وَلَا يُقْطَعُ النَّسَبُ عَنْهُ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْعُلُوقُ، وَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ. فَنَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَالْآخَرُ: حُكْمُ النَّفْيِ أَمَّا حُكْمُ إثْبَاتِ النَّسَبِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا أَخِيرًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، وَإِنْ نَفَاهُ لَاعَنَهَا وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ عِنْدَ الْعُلُوقِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا أَخِيرًا أَوْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ فَارَقَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ فَإِنْ نَفَاهُ لَاعَنَهَا، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ الْعُلُوقِ يَمْنَعُ قَطْعَ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا أَخِيرًا؛ وَلِسَنَتَيْنِ فَصَاعِدًا مُنْذُ طَلَّقَهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْعُلُوقِ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ الثَّانِي وَيَصِحُّ النِّكَاحُ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 134 فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْحَبَلَ مِنْ الزِّنَا لَا يَمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ عِنْدَهُمَا، وَيَمْنَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُوَ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَالَ: وَلَوْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ غُلَامًا، وَأَمَتُهُ غُلَامًا، ثُمَّ مَاتَتَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ابْنِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ فِي الْمَجْهُولِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الشَّرَفُ بِالِانْتِسَابِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي الْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ وَهُوَ وَلَدُ الْمَنْكُوحَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ وَيُعْتَقَانِ وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ، وَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُعْتِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ أَنَّ وَلَدَ الْمَنْكُوحَةِ حُرٌّ فَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ لَا يُعْتَقُ إلَّا إذَا ادَّعَاهُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ لَهُ عَبْدَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا ابْنِي أَوْ قَالَ هَذَا ابْنِي، أَوْ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْجَهَالَةِ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ إقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ لِلْمَجْهُولِ صَحِيحٌ فَيَسَعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا عِنْدَ فَوْتِ الْبَيَانِ بِالْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ نَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ زَوْجَةٍ مَمْلُوكَةٍ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ تَحْتَهُ أَمَةٌ فَأُعْتِقَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِتْقِ فَنَفَاهُ فَلَمْ يُلَاعِنْهَا حَتَّى اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَالْوَلَدُ لَازِمٌ لَهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ)؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَبِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا بِالْعِتْقِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ كَمَا لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا قَذَفَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِاللِّعَانِ قَطْعُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ انْقَطَعَ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ إيَّاهُ كَانَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ بِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ حِينَ قَذَفَهَا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ. قَالَ: رَجُلٌ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ، وَهِيَ أَمَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَنَفَاهُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهَذَا الْوَلَدِ حَصَلَ مِنْ فِرَاشِ النِّكَاحِ فَلَزِمَهُ نَسَبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ وَصَارَ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِالشِّرَاءِ كَارْتِفَاعِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُنَاكَ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ نَسَبُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا بِأَسْطُرٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ فَوَجْهُهُ مَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: إنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 135 النِّكَاحَ بِالشِّرَاءِ ارْتَفَعَ لَا إلَى عِدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَكَمَا يُنَافِي مِلْكُ الْيَمِينِ أَصْلَ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ يُنَافِي حُقُوقَهُ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ مِنْ مُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ فَقَالَ: لِأَنَّهَا أَمَةٌ يَحِلُّ فَرْجُهَا بِالْمِلْكِ، وَحِلُّ فَرْجِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ حَقِّ النِّكَاحِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ، وَنَسَبُ وَلَدِ الْأَمَةِ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى إلَّا بِالدَّعْوَةِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَا يُنَافِي الْفِرَاشَ فَيَبْقَى بَعْدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْفِرَاشِ بِقَدْرِ مَا يُجَامِعُ مِلْكَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ بِالْمُنَافِي فَبِقَدْرِ الْمُنَافِي يَرْتَفِعُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ إنَّمَا يُنَافِي الْفِرَاشَ الْمُلْزِمَ الْمُثْبِتَ لِلنَّسَبِ، فَإِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ؛ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهَا فِرَاشٌ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْقَدْرُ هُنَا لَهُ قَالَ: فَإِنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ اشْتَرَاهَا، وَإِنْ نَفَاهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ فَإِنْ ادَّعَاهُ لَزِمَهُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ. أَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ فِي الْحَالِ مُحْصَنَةٌ، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ مُوجِبًا الْعِدَّةَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا أَعْتَقَهَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ ظُهُورِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ وَظَهَرَتْ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَالْمُعْتَدَّةُ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَدْرَ الْفِرَاشِ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ بَاقٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَبِالْعِتْقِ زَالَ هَذَا الْفِرَاشُ، وَزَوَالُ الْفِرَاشِ بِالْعِتْقِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ كَمَا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهَا إذْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ أَعْتَقَهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَلَكِنَّ هَذَا الْفِرَاشَ أَثَرُ الدُّخُولِ الْحَاصِلِ فِي النِّكَاحِ لَا فِي الْمِلْكِ فَاعْتَبَرْنَا مُدَّةَ السَّنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْفِرَاشِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِالشِّرَاءِ لَا إلَى عِدَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُنَافِي حُقُوقَ النِّكَاحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَلْزَمُهُ نَسَبُهُ فَبَعْدَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 136 الْعِتْقِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا بِالْعِتْقِ ازْدَادَتْ بُعْدًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْعِتْقِ فَيَبْقَى بَعْدَهُ وَدَعْوَاهُ بَقَاءَ الْفِرَاشِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفِرَاشِ مِنْ سَبَبٍ وَمِلْكُ الْيَمِينِ بِدُونِ الدُّخُولِ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْفِرَاشَ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ مَا لَمْ يَدَّعِ نَسَبَ الْوَلَدِ، وَفِرَاشُ النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقِهِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهُوَ ابْنُهُ لِتَيَقُّنِنَا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ نَفَاهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ نَسَبُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، وَهَذَا وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ، وَإِنْ نَفَاهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي حِجْرِهَا وَلَدًا لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ فَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا حِينَ اشْتَرَاهَا، وَلَكِنَّهُ بَاعَهَا، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فِي النِّكَاحِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ، وَأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حِينَ اشْتَرَاهَا؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فَإِنَّمَا بَاعَ أُمَّ وَلَدٍ، وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ بَاطِلٌ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا فَإِنْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ النِّكَاحُ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا بِدَعْوَتِهِ فَعِنْدَ سَبْقِ النِّكَاحِ أَوْلَى، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ اشْتَرَاهَا؛ وَلِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ زَوَالَ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ عَنْهَا كَزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُنَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَإِذَا ادَّعَى ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَهُنَا قَدْ ثَبَتَ فِيهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِهِ إبْطَالًا لِلْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَاكَ حُكْمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ يَبْقَى إلَى سَنَتَيْنِ، وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ بِالْعِتْقِ لِظُهُورِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَذَلِكَ هُنَا يَبْقَى حُكْمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا يَشْتَرِطُ الدَّعْوَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ دَلِيلُ النَّفْيِ، وَالْقَدْرُ الْبَاقِي مِنْ الْفِرَاشِ بَعْدَ الشِّرَاءِ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ لِيَبْطُلَ بِهِ دَلِيلُ حُكْمِ النَّفْيِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 137 لَيْسَ لِدَلِيلِ النَّفْيِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ قَدْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا الْأَوَّلُ بَطَلَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي وَعِتْقُهُ لِتَيَقُّنِنَا بِأَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ، وَإِنَّ الْوَلَدَ كَانَ حُرًّا قَبْلَ بَيْعِهِ، وَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ لِمَا بَعْدَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ يَمْنَعُ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ، وَلَكِنَّهُ أَعْتَقَ أُمَّهُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إعْتَاقَ الْأُمِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَمْ يَعْتِقْهَا سَوَاءً فِي حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْخِلَافِ. قَالَ: وَإِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ نَفَاهُ لَاعَنَ وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عُلُوقٍ بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْحِلَّ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا فَيَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فِي الْحَالِ فَيُقْطَعُ النَّسَبُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا لَاعَنَ، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ أَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا النَّسَبُ فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ عِتْقِهَا حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْفِرَاشِ إلَى عِدَّةٍ قَالَ: رَجُلٌ أَعْتَقَ أَمَةً وَلَهَا زَوْجٌ حُرٌّ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الْعِتْقِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ لَاعَنَ وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَاعَنَ، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ حِينَ عَلِقَ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأُمِّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِأَنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ فَهُوَ لِمَوْلَى الْأُمِّ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ أَعْتَقَتْ قَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَهِيَ أَمَةٌ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ بِالْوَلَدِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ لَا يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ وَيُضْرَبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَنَسَبُ الْوَلَدِ ثَابِتٌ لِتَوَهُّمِ حُصُولِ الْعُلُوقِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ فِي حِينَ أُعْتِقَتْ فَصَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ، وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ فَجَاءَتْ بِالْوَلَدِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ، وَقَدْ أُعْتِقَتْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ فَالْوَلَدُ ثَابِتُ النَّسَبِ وَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ وَبَيْنَ ارْتِفَاعِهِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْعِدَّةَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى امْرَأَتَهُ، وَقَدْ وَلَدَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا فَنَفَاهُ لَاعَنَ، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا أَخِيرًا أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 138 اشْتَرَاهَا فَنَفَاهُ لَاعَنَ وَلَزِمَ الْوَلَدُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِالشِّرَاءِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَبِالْعِتْقِ صَارَتْ مُحْصَنَةً فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ الْآخَرِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ سَابِقًا عَلَى هَذَا النِّكَاحِ فَلَا يَنْقَطِعُ السَّبَبُ بِاللِّعَانِ، وَلَكِنْ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهَا مُحْصَنَةً فِي الْحَالِ، وَلَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ؛ فَإِنْ نَفَاهُ ضُرِبَ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ مُحْصَنَةٌ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ كِتَابِيَّةً فَحُكْمُ النَّسَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِهِ فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِ. . قَالَ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ فَنَفَاهُ الْوَرَثَةُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَرِثْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ، وَلَا فِرَاشَ قَائِمٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حُبْلَى مِنْهُ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْوَرَثَةُ، وَإِقْرَارُهُمْ كَإِقْرَارِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى كَافِرًا فَشَهَادَةُ الْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ تُقْبَلْ إلَّا شَهَادَةُ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ عَلَى حَقِّ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ النَّسَبَ يَلْزَمُهُ فَيُرَاعَى فِيهِ شَهَادَةُ شَرَائِطِهِ. [بَابٌ مِنْ دَعْوَةِ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ] بَابٌ مِنْ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَيْضًا وَغَيْرِهِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ اشْتَرَى أَمَةً وَوَلَدَهَا أَوْ اشْتَرَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ، ثُمَّ بَاعَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَادَّعَى، وَلَدَهَا فَالدَّعْوَةُ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ الْوَلَدُ يَوْمَ يُدَّعَى فِي مِلْكِهِ)؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ مَمْلُوكِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَنْفَسِخُ شَيْءٌ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْعَقْدِ الَّذِي جَرَى فِيهِ وَفِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَكَانَتْ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ فَلَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْحَبَلِ عِنْدَهُ بَطَلَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْبُيُوعَ وَالْأَشْرِبَةَ كَانَتْ فِي أُمِّ وَلَدِهِ فَكَانَتْ بَاطِلَةً قَالَ رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ وُلِدَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ ادَّعَى نَسَبَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِي مِلْكه فَيَصِحُّ دَعْوَةُ النَّسَبِ فِيهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 139 لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ، وَلَكِنْ لَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، وَأَحَدُهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُمَا الْمُشْتَرِي ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْمُشْتَرِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَاَلَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ يَبْقَى مَمْلُوكًا لَهُ كَمَا كَانَ؛ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا وَاشْتَرَى أَبُوهُ أَخَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَهُمَا تَوْأَمٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الَّذِي فِي يَدَيْهِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِي مِلْكِهِ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيهِ، وَبِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، وَيَعْتِقُ الَّذِي فِي يَدِ الْآخَرِ إنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُدَّعِيَ فَلِأَنَّ الِابْنَ مَلَكَ أَخَاهُ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُدَّعِيَ فَلِأَنَّ الْأَبَ مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا ضَمَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ إلَى صَاحِبِهِ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فِي الثَّلَاثَةِ وَلَدًا، فَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا وَفِي وَلَدِهَا فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ عَتَقَ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَتَعَذَّرَ رَدُّهَا بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَلِهَذَا سَقَطَ خِيَارُهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ فَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَأَنْقَضَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَطَلَتْ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَا وَلَدَهَا وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ. فَإِنْ (قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ مِثْلَهُ (قُلْنَا): ذَاكَ إنْ شَاءَ الْعِتْقَ فَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ تَمَامِ السَّبَبِ فِي الْمَحَلِّ لَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ مِلْكٍ يَحْدُثُ، وَهَذَا إقْرَارٌ بِالْعِتْقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ أَمَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتَا عِنْدَهُ، وَأَقَرَّ بِأَنَّهُمَا مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنْ بِالْبَيْعِ تَنَاوَلَ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَيَتَبَيَّنُ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ بَعْدَ هَذَا إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّهَا وَالْآنَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمُشْتَرَاةِ لِثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَيَّتُهُمَا أَوْلَى حَتَّى مَاتَ فَالْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَعَلَيْهِمْ بِمَنْ مَاتَ أَصَابَ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْ تَرِكَتِهِ فَكَانَ بَيَانُهَا إلَيْهِمْ فَإِنْ قَالُوا لَا نَدْرِي أَيَّتُهُمَا كَانَ عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَنِصْفُ، وَلَدِهِمَا وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَمِنْ وَلَدِهِمَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَلَا إحْدَى الْأَمَتَيْنِ لِثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا بِأَوْلَى مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 140 الْأُخْرَى فَيَسْعَ فِيهِمَا وَيَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّرِكَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ وَارِثٌ قَائِمٌ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ لِتَمَامِ عِلَّةِ الْخِلَافَةِ لَهُ فَاَلَّذِي قَالَ مِنْهُمْ أَوَّلًا هَذِهِ الَّتِي كَانَتْ اسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي أَوَّلًا تَعَيَّنَتْ لِلِاسْتِيلَادِ وَوَجَبَ قِيمَتُهَا فِي التَّرِكَةِ، وَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلرَّدِّ وَتُرَدُّ هِيَ وَوَلَدُهَا إلَى الْبَائِعِ، وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِحَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ زَوَّجَ أَبِي عَبْدًا لَهُ يُقَالُ لَهُ كَيْسَانُ أَمَةً لَهُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ، ثُمَّ مَاتَ أَبِي فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُوَافِيَ بِأَبِي الْمَوْسِمَ فَكُتِبَ إلَيْهِ أَنَّ أَبِي قَدْ مَاتَ فَكَتَبَ أَنْ ابْعَثُوا بِابْنِهِ إلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إلَيْهِ فَقَالَ مَا يَقُولُ ابْنُ كَيْسَانَ فَقُلْتُ قَدْ ادَّعَاهُ أَبِي فَإِنْ كَانَ صَدَقَ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانَ كَذَبَ فَقَدْ كَذَبَ فَقَالَ لَوْ قُلْتَ غَيْرَهَا لَأَوْجَعْتُك، وَأَعْتَقَهُ بِالدَّعْوَةِ، وَجَعَلَهُ ابْنَ الْعَبْدِ بِالْفِرَاشِ فِيمَا يَعْلَمُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِدَعْوَةِ الْأَبِ كَإِقْرَارِ الْأَبِ بِهِ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ كَتَعْيِينِ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ. قَالَ: مُكَاتَبٌ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَ كَسْبِهِ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الِابْنُ عَبْدًا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ الْأَبِ فِيهِ لِهَذَا قَالَ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ بِشُهُودٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدِ لِسِتَّةٍ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مَتَى يَثْبُتُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ، وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ سَبَقَ فِرَاشَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْمَوْلَى اسْتَنَدَتْ إلَى حَالِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى، وَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَلَوْ كَانَ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِ غَيْرِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ حُرٍّ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى صَدَّقَهُ الزَّوْجُ أَوْ كَذَّبَهُ فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ فِي فِرَاشِهِ وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْمَوْلَى بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَتَكُونُ أُمُّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ كَمَا أَقَرَّ الْوَلَدُ بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ النِّكَاحِ؛ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْبَيْعِ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى ذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ إذَا لَمْ تَعْمَلْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ الْعِتْقِ، وَإِقْرَارُ الْبَائِعِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَتْ أَمَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ، وَالْمَوْلَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ عِنْدَ اتِّصَالِ الدُّخُولِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 141 فِي حُكْمِ النَّسَبِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ دُونَ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَاسِدًا كَانَ النِّكَاحُ أَوْ جَائِزًا بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِحُرِّيَّتِهِ. وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِ رَجُلٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَادَّعَيَاهُ أَوْ نَفَيَاهُ أَوْ نَفَاهُ أَحَدُهُمَا، وَادَّعَاهُ الْآخَرُ فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ، وَالْمَوْلَى فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ فِرَاشِ النِّكَاحِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ دَعْوَةِ إحْدَى الْإِمَاءِ] بَابُ دَعْوَةِ إحْدَى الْإِمَاءِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَمَةٌ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ وَلَدَتْهُمْ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ ابْنِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ نَسَبَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى نَسَبُهُ مَجْهُولٌ وَنَسَبُ الْمَجْهُولِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ أَحَدٍ، إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِيَكُونَ مُنْقَطِعًا بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْمَجْهُولِ، وَالْجَارِيَةُ تُعْتَقُ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّ لَهَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ مَوْلَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَتُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَانَتْ إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمْ حُرٌّ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَقُ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثُهُ وَمِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفُهُ وَالْأَصْغَرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَكْبَرَ إنْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَةِ فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوْسَطَ أَوْ الْأَصْغَرَ لَمْ يُعْتَقْ الْأَكْبَرُ فَهُوَ حُرٌّ فِي حَالٍ، عَبْدٌ فِي حَالَيْنِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ. وَأَمَّا الْأَوْسَطُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَكْبَرَ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا تُعْتَقُ أُمُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَصْغَرَ لَمْ يُعْتَقْ الْأَوْسَطُ فَهُوَ يُعْتَقُ فِي حَالَيْنِ، وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ، وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ إلَّا فِيمَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ بِخِلَافِ حَالِ الْحِرْمَانِ فَلِهَذَا يُعْتَقُ نِصْفُهُ. فَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ بِيَقِينٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوْسَطَ أَوْ الْأَكْبَرَ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَعْتَبِرْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 142 النَّسَبُ؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحُرِّيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ، وَحُكْمُهُ مُخْتَلِفٌ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالدَّعْوَةِ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ غَيْرَهُ كَانَتْ حُرِّيَّتُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَقْصُودًا وَتَبَعًا مُنَافَاةٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَحُرِّيَّةِ الْعِتْقِ مُنَافَاةٌ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا فَلِهَذَا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ يُعْتَقُ مِنْ الْأَكْبَرِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ أَمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى فَيَكُونُ حُرًّا كُلَّهُ أَوْ لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فَلَا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلِهَذَا عَتَقَ نِصْفُهُ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا لَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَاحِدٌ فَقَالَ الْمَوْلَى: قَدْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ مِنِّي وَلَدًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ هَذَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ هَذَا الْمُعَرَّفِ وَالْمَوْلَى إنَّمَا أَقَرَّ بِنَسَبِ الْمُنْكَرِ، وَالْمُنْكَرُ غَيْرُ الْمُعَرَّفِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِإِقْرَارِهِ بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا فَيَكُونُ الْوَلَدُ عَبْدًا لَا يُعْتَقُ بِعِتْقِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِنَسَبِهِ، وَلَا بِانْفِصَالِهِ عَنْ الْأُمِّ بَعْدَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا وَالرِّقُّ فِيهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْطُلُ بِالِاحْتِمَالِ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: يُعْتَقُ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ قَدْ أَسْقَطَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ مِنِّي سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَكَانَ يُعْتَقُ بِهِ شَيْئًا مِنْ ابْنِهِ الْكَبِيرِ لَا يُعْتَقُ شَيْءٌ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ لِأُمٍّ مَعْرُوفٍ كَانَ لَهَا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلٍّ وَلَدٍ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِدَعْوَتِهِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالْعِتْقِ لِأَحَدِهِمْ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَحْوَالِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ قَالَ: وَإِذَا وَلَدَتْ أَمَةٌ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَمْ يَدَّعِيهِ الْمَوْلَى حَتَّى كَبُرَ وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ ادَّعَى الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا فَقَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي يَعْنِي الْمَيِّتَ وَابْنَهُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ الْأَصْلُ كُلُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَمَّا لَمْ تَعْمَلْ فِي حَقِّ النَّسَبِ انْقَلَبَ إقْرَارًا بِالْعِتْقِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَقَالَ: أَحَدُهُمَا حُرٌّ عَتَقَ الْحَيُّ مِنْهُمَا عِنْدَهُ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرَ عَتَقَ الْأَسْفَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَةِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَمَنْ مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَتَسْعَى أَمَةٌ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَسْفَلَ فَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ يُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْبَرُ لَمْ يُعْتَقْ هَذِهِ فَلِهَذَا عَتَقَ نِصْفُهَا، وَسَعَتْ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 143 نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَدَّةُ تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِهَذَا قَالَ: أَمَةٌ لِرَجُلِ وَلَدَتْ ابْنَتًا، ثُمَّ وَلَدَتْ ابْنَتَهَا ابْنَتًا فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ: إحْدَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَدِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُ الْعُلْيَا وَجَمِيعُ الْوُسْطَى، وَجَمِيعُ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ الْعُلْيَا تُعْتَقُ فِي حَالَيْنِ فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِالدَّعْوَةِ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ ابْنَتَهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَسْفَلَهَا فَهِيَ أَمَةٌ فَلِهَذَا عَتَقَ نِصْفُهَا فَأَمَّا الْوُسْطَى فَهِيَ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ فَهِيَ حُرَّةٌ بِالنَّسَبِ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَتَهُمَا فَهِيَ حُرَّةٌ بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أُمَّهَا فَهِيَ حُرَّةٌ فَهِيَ بِنْتُ بِنْتِ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ السُّفْلَى حُرَّةٌ بِيَقِينٍ. وَلَمْ يَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِ يُعْتَقُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ حُرَّةٌ، وَقِيلَ بَلْ الْجَوَابُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَا بِجِهَةِ النَّسَبِ كَيْفَ مَا كَانَ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْجِهَاتِ هُنَا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ: وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ ابْنَتًا مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ ابْنَتَيْنِ فِي بَطْنٍ آخَرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ ابْنًا فِي بَطْنٍ آخَرَ، ثُمَّ نَظَرَ الْمَوْلَى إلَى الْأَكْبَرِ، وَإِلَى إحْدَى الِابْنَتَيْنِ فِي صِحَّتِهِ فَقَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَلَدِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَتَقَتْ الْأَمَةُ بِجِهَةِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُعْتَقُ مِنْ الْكُبْرَى نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَيُعْتَقُ مِنْ الْأَوْسَطَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي غَيْرِ الْأُصُولِ قَالَ يُعْتَقُ عَبْدُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِدَعْوَتِهِ انْقَلَبَ إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَيُعْتَقُ نِصْفُ الْكُبْرَى فِي نِصْفِ الْحُرِّيَّةِ وَحَظُّ الْأَوْسَطَيْنِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَيَصِيرُ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ رُبُعُهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُرِّيَّةِ الَّذِي بَقِيَ الْعِتْقُ مِنْ وَسَطَيْنِ، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الْآخَرِ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ، وَلَا فِي النَّسَبِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ لِأَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِهِ لَهُمَا فَمَا يُعْتَقُ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِحُكْمِ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهُوَ نِصْفُ رَقَبَتِهِ يُعْتَقُ مِنْ الثَّانِي مِثْلَهُ. وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِأَنَّهُ، وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا تُعْتَقُ أَمَتُهُ. قَالَ: وَلَوْ نَظَرَ الْمَوْلَى إلَى الْأَصْغَرِ فَقَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ يُعْتَقُ مِنْ الْأَكْبَرِ نِصْفُهُ، وَمِنْ الْأَصْغَرِ أَيْضًا نِصْفُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ صَارَ إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ لَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 144 حُرٌّ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَقُ الْأَصْغَرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ بِيَقِينٍ إمَّا لِأَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ فَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ يُعْتَقُ مِنْ الْأَوْسَطَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرَ فَهُمَا حُرَّانِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْغَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِصْفُهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ مِنْ الْأَوْسَطَيْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَوْلَى لَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا وَقِيلَ بَلْ الْجَوَابُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْعِتْقِ لَهُمَا وَاحِدَةٌ وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ الْحَالَانِ فِي حَقِّهِمَا فَلِهَذَا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ قَالَ: رَجُلٌ لَهُ أَمَةٌ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ، وَلَدَتْهُمْ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْأَكْبَرِ مِنْهُمْ هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلدَّعْوَةِ وَصَارَتْ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْآخَرَيْنِ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرَيْنِ مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُّ، وَلَدٍ وَلَدَتْهُمَا عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينِ عَلِقَتْ بِالْأَكْبَرِ وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ، وَتَخْصِيصُهُ الْأَكْبَرَ بِالدَّعْوَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ النَّفْيِ، وَلَا الْإِثْبَاتِ، وَلَنَا أَنَّ تَخْصِيصَهُ الْأَكْبَرَ بِدَعْوَةِ النَّسَبِ دَلِيلُ النَّفْيِ فِي حَقِّ الْآخَرَيْنِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَرْعًا إظْهَارُ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ الْأَكْبَرَ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِظْهَارِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ دَلِيلُ النَّفْيِ فِي حَقِّ الْآخَرَيْنِ، وَدَلِيلُ النَّفْيِ كَصَرِيحِ النَّفْيِ وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ فَكَذَلِكَ بِدَلِيلِ النَّفْيِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قِيلَ: إنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِالسُّؤَالِ دَلِيلُ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ وَجَبَ عِنْدَ السُّؤَالِ فَكَانَ تَرْكُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ دَلِيلَ النَّفْيِ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْآخَرَانِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا، وَلَدَانِ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَيُعْتَقَانِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ إقْرَارِهِ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَلَمْ يَنْفِهِ الْمَوْلَى، وَلَمْ يَدَّعِهِ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنَّهَا بِالدَّعْوَةِ صَارَتْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُ هَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْفِرَاشَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَهَذَا يَكُونُ طَرِيقًا آخَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: أَنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْفِرَاشِ فِيهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ أُمَّتَهُ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ أَوْ أَسْقَطَتْ مِنْهُ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَرِيضٌ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنْ نَفَاهُ انْتَفَى بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 145 إذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِحَيْضَةٍ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِنْ نَفَاهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا بِالْحَيْضَةِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالْوَطْءِ تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِرَاشِ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَإِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ فَلَا يَنْتَفِي بِنَفْيِهِ كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لِلْمَوْلَى عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشٌ مُجَوَّزٌ لَا مُلْزِمٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ نَقْلَ فِرَاشِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَكَمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْفِرَاشُ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ بِنَقْلِهَا إلَى غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ النَّسَبُ بِحُكْمِهِ يَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ بِنَفْيِهِ بِخِلَافِ فُرُشِ الْمَنْكُوحَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ دَعْوَةِ الْقَرَابَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ ادَّعَى ابْنُهُ أَنَّ أَبَاهُ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ هَذَا الْوَلَدَ، وَأَنْكَرَهُ الْأَبُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَقُومُ عَلَى النِّكَاحِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ تَأْوِيلُ مِلْكٍ، وَلَا لَهُ حَقٌّ بِمِلْكِهَا عَلَى أَبِيهِ فَكَانَ هُوَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ سَبَبُهُ بِالْحُجَّةِ، وَهُوَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ قَالَ: وَإِذَا ادَّعَى الْأَبُ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَالِابْنُ عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ فَدَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ؛ وَلِمَا كَانَ لِلْمَوْلَى فِيهَا مِنْ مِلْكٍ أَوْ حَقِّ مِلْكٍ وَشَرْطُ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْأَبِ نَقْلُهَا إلَى مِلْكِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ مُسْلِمًا وَالْأَبُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: وَإِذَا لَوْ وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّجُلِ فَادَّعَاهُ آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَأَنْكَرَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ الْعَمُّ وَالْخَالُ وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ فَهُمْ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَإِنْ مَلَكَهُ يَوْمًا، وَقَدْ ادَّعَاهُ مِنْ جِهَةِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ مِلْكٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمِلْكِ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهِ مَحْمُولٌ عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ شَرْعًا وَالْأَسْبَابُ الْمُثْبِتَةُ لِلْفِرَاشِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهَا النَّسَبُ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ مَلَكَ أُمَّهُ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ حِينَ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ وَالنَّسَبِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ مُثْبِتٌ لَهَا الْفِرَاشَ وَالْفِرَاشُ ثَابِتٌ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالنِّكَاحِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَذَلِكَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 146 مُوجِبُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا إذَا مَلَكَهَا، وَإِنْ مَلَكَ الْوَلَدَ أَبَ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَجْحَدُ مَقَالَةَ ابْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الِابْنِ، وَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْأَبِ حِينَ ادَّعَاهُ الِابْنُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مَعَ جُحُودِ الْأَبِ، فَإِذَا اعْتَرَضَ مِلْكَ الْأَبِ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لَمْ يُعْتَقُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الِابْنِ. قَالَ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَادِمٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَادَّعَى الزَّوْجُ الْوَلَدَ، وَكَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا، وَكَانَ أَصْلُ الْحَبَلِ عِنْدَ الزَّوْجِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَتَكُونُ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ اسْتِيلَادٍ فَبَطَلَ بِهِ تَمْلِيكُهَا مِنْ الْمَرْأَةِ صَدَاقًا وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بَطَلَتْ بَعْدَ صِحَّتِهَا فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّتْ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْحَبَلِ عِنْدَهُ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ لَوْ أَعْتَقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ عَلَى إبْطَالِ مِلْكِهَا عَنْ عَيْنِ الْخَادِمِ حِينَ كَذَّبَتْهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَنْتَصِفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ الْخَادِمُ الْمَقْبُوضُ فَكَانَ نِصْفُهَا وَنِصْفُ، وَلَدِهَا لِلزَّوْجِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِصِحَّةِ الدَّعْوَةِ فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَهَا عَلَيْهَا بِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ وُجُودَ الصُّنْعِ، وَلَوْ لَمْ يَصْنَعْ فِي عَيْنِهَا شَيْئًا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ لَهَا، وَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ الْقِيمَة، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدَّعْوَةِ حِينَ ادَّعَى لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا فَسَدَ نَصِيبُهَا مِنْ الْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا حُكْمِيًّا وَهُوَ يُنَصِّفُ الصَّدَاقَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ سَبَبَهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُصْرَفُ مِنْهُ فِي الْمَنْكُوحَةِ لِقَطْعِ النِّكَاحِ لَا فِي الصَّدَاقِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ لَمْ يَضْمَنْ مِنْ الْعُقْرِ شَيْئًا. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ ضَمِنَ نِصْفَ الْعُقْرِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ إلَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ أَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْعُقْرِ لَهَا؛ لِأَنَّ بِالْوَطْءِ قَدْ لَزِمَ جَمِيعُ الْعُقْرِ فَإِنَّهُ وَطِئَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 147 مِلْكَ الْغَيْرِ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِشُبْهَةٍ فَيَجِبُ الْعُقْرُ وَالْعُقْرُ زِيَادَةٌ كَالْوَلَدِ فَيُنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ. (قَالَ) وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ ادَّعَى نَسَبَ الْوَلَدِ بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ فِي يَدِهِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبَةِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا زِنًا غَيْرَ مُثْبِتٍ النَّسَبَ، وَإِنْ كَانَتْ، وَلَدَتْ فِي يَدَيْ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ مِنْ الْخَادِمِ وَالْوَلَدِ سَبْيٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ تُمْنَعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا فَيَكُونُ ابْنُهُ بِدَعْوَتِهِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَيُضَمِّنُ الْمَرْأَةَ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِتَيَقُّنِنَا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي حَالِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ تَقُومُ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا ضَمِنَ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا لِنَصِيبِ شُرَكَائِهِ مِنْ الْجَارِيَةِ حِينَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا مِنْ جِهَتِهِ، وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِي حِصَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَبِ مِنْهُ قَدْ عَتَقَ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَيَحْتَبِسُ نَصِيبُ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ. (قَالَ): وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا وَحَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ مَلَكَ جُزْءًا مِنْ وَلَدٍ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَرِيكُهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَلَدِ أَوْ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ الْأَبِ فِيهِ قَبْلَ الْمِلْكِ أَوْ بَعْدَهُ وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الشَّرِيكُ أَوْ يُكَذِّبَهُ، ثُمَّ الْحَاصِلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ الشَّرِيكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَلَدِ، وَالدَّعْوَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ أَوْ بَعْدَهُ صَدَّقَهُ الشَّرِيكُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ فَالْوَلَدُ حُرٌّ كُلُّهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِقَرَابَتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلسِّعَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْأَبِ أَمَّا إذَا انْعَدَمَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى الْمِلْكِ فَلِأَنَّ تَمَامَ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِالْمِيرَاثِ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَإِنْ تَأَخَّرَتْ الدَّعْوَةُ عَنْ الْمِلْكِ فَإِنَّمَا كَانَ عِتْقُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُحَالًا بِهِ عَلَى الْقَرَابَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْأَبِ. وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ وَصَدَّقَهُ الشَّرِيكُ فِيهِ أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَصَدَّقَهُ الشَّرِيكُ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ لِانْعِدَامِ صُنْعٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ إمَّا بِتَقَدُّمِ الدَّعْوَةِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُتَمِّمٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ، وَإِمَّا التَّصْدِيقُ مِنْ شَرِيكِهِ إيَّاهُ فِي الدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْتَحِقُ بِالِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَمَنْ مَلَكَ ابْنَهُ الْمَعْرُوفَ بِالْمِيرَاثِ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 148 نَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ احْتَبَسَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ عِنْدَهُ، فَتَجِبُ السِّعَايَةُ لَهُ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَبِ إنَّمَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ ذَاتِ، وَصْفَيْنِ الْمِلْكُ وَالْقَرَابَةُ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا وَهُوَ الدَّعْوَةُ هُنَا، وَذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ حِينَ كَذَّبَهُ فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا. وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَكَانَ الشَّرِيكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَلَدِ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ إنَّمَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِقَرَابَتِهِ حِينَ صَدَّقَهُ فِي الدَّعْوَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ أَوْ كَانَ الشَّرِيكُ أَجْنَبِيًّا وَالدَّعْوَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ فَصَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَصَدَّقَهُ فَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ تَتْمِيمَ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَبْلَهُ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَعْدَهُ، وَصَدَّقَهُ فَهُوَ كَالِابْنِ الْمَعْرُوفِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ الْأَبُ ضَامِنًا لِشَرِيكِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ ضَامِنًا لِشَرِيكِهِ فِي الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا كَانَ مُوسِرًا يَكُونُ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الِاسْتِيلَادِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ تَمَلُّكِ الْأُمِّ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ هَذَا الضَّمَانُ عِنْدَ الْعُسْرِ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِإِحْصَاءٍ مِنْهُ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْأَبِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ فَالْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ عِنْدَهُمَا، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ مَعَ تَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فَذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَالْأَجْنَبِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ. قَالَ: أَمَةُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَوَلَدَتْ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَقَالَ الْمَوْلَى: بَلْ بِعْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْوَلَدُ مِنْهُ فَالْوَلَدُ مِنْ الزَّوْجِ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْفِرَاشِ الْمُثْبِتِ لِلنَّسَبِ لَهُ عَلَيْهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِهِ، وَيُعْتَقُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُقِرٌّ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَمَتِهِ وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ أَنَّهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْأَبِ فَكَانَ حُرًّا بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، وَأُمُّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُقِرٌّ لَهَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَالْمُسْتَوْلِدُ مُقِرٌّ بِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى فِيهَا نَافِذٌ فَلِهَذَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفَةً لَا تَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلِّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 149 وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَسَعُ الزَّوْجَ أَنْ يُقِرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفَسَادِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا إلَّا بِثُبُوتِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ الْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِلزَّوْجِيَّةِ وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِلشِّرَاءِ، وَبَابُ الْحِلِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقِرَّ بِهَا فَإِذَا مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُقِرٌّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، وَالزَّوْجُ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِيهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ الْعُقْرُ قِصَاصٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعُقْرِ تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ، وَلَا عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فِي ضَمَانِ الْمَالِ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هُوَ غَصْبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ فَهُنَا كَذَلِكَ الزَّوْجُ يُعْطِي بِحِسَابِ الْعُقْرِ وَالْمَوْلَى يَأْخُذُ بِحِسَابِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الثَّمَنِ. (قَالَ): وَهَذَا الْجَوَابُ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاق، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى، وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَنَوَادِرِ هِشَامٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ الْعُقْرَ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى قِصَاصًا مِنْ الثَّمَنِ كَمَا فَسَّرَهُ هُنَا. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْوَلَدَ، وَقَالَ الْمَوْلَى: بَلْ زَوَّجْتُك ثَبَتَ النَّسَبُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعْتَقْ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ الزَّوْجِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِمِلْكِهِ الْأُمَّ كَمَا عُرِفَ بِثُبُوتِهِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ قَالَ: أَمَةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَوَلَدَتْ فَادَّعَى وَلَدَهَا، وَقَالَ لِرَجُلٍ هِيَ أَمَتُك زَوَّجْتنِيهَا، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ أَصْلَهَا كَانَ لِلْآخَرِ فَالْوَلَدُ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ ذِي الْيَدِ وَأُمُّهُ أُمُّ، وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ لِلْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ؛ وَلِلْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ يُرِيدُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا قِبَلَهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ احْتَبَسَتْ عِنْدَهُ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لَهُ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ أَصْلَهَا كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَكَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ؛ لِأَنَّ بِدَعْوَةِ النَّسَبِ هُنَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهَا، وَلَا فِي وَلَدِهَا لِكَوْنِ الْمِلْكِ فِيهَا ظَاهِرًا لِغَيْرِ الْمُسْتَوْلِدِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ لَا يُعْرَفُ لِهَذَا فَقَالَ هَذَا: بِعْتُكهَا، وَقَالَ أَبُ الْوَلَدِ: زَوَّجْتنِي ضَمِنَ أَبُ الْوَلَدِ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ بِإِقْرَارِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْبَيْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا عَلَى وَلَدِهَا سَبِيلٌ بِثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَلِهَذَا ضَمِنَ أَبُ الْوَلَدِ قِيمَتَهَا، وَلَمْ يَضْمَنْ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ جَمِيعَ بَدَلِ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَبُ الْوَلَدِ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 150 وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ زَوَّجْتُك فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْأَصْلَ لِهَذَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْأُمَّ وَوَلَدَهَا مَمْلُوكَيْنِ مَا خَلَا خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنْ تُقِرَّ بِأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا لِإِقْرَارِهِ بِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَغْرَمُ أَبُ الْوَلَدِ الْقِيمَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا بِإِقْرَارِ الْمُقَرِّ لَهُ بِبَيْعِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا، وَأَخْذِ وَلَدِهَا فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ أَبُ الْوَلَدِ الْقِيمَةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ، وَكَانَتْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفَةً لِإِقْرَارِ مَوْلَاهَا بِذَلِكَ قَالَ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا النِّكَاحَ مُنْذُ شَهْرٍ، وَقَالَ الْآخَرُ مُنْذُ سَنَةٍ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْفِرَاشِ فِي الْحَالِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ النِّكَاحَ مُنْذُ شَهْرٍ فَقَدْ ادَّعَى خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. فَإِنْ (قِيلَ): بَلْ صَاحِبُهُ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ. (قُلْنَا) التَّارِيخُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لَهُ فِي حَقِّ النَّسَبِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمُنْكِرَ مُنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَالْآنَ يَدَّعِي فَسَادَهُ بِإِنْكَارِ التَّارِيخِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَوَلَدَتْ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ فَأَحْبَلَهَا فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مُنْذُ شَهْرٍ وَالْوَلَدُ صَغِيرٌ صَدَقَا، وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا قَوْلَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَبَقِيَ الْحَقُّ لَهُمَا، وَمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ يُجْعَلُ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِقِيَامِ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ (قِيلَ): كَيْفَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَدَّعِيهَا (قُلْنَا): مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ يَنْصِبُ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ قَيِّمًا لِيُقِيمَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّهُ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إثْبَاتِهِ بِنَفْسِهِ فَيَنْصِبُ الْقَاضِي عَنْهُ قَيِّمًا لِإِثْبَاتِهِ، وَقِيلَ: بَلْ فِي هَذَا حَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ ثُبُوتُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ حَتَّى لَا تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ ابْنُهُ، وَأَنْ لَا يُنْسَبَ الْوَلَدُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِالْوَلَدِ] (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 151 مَعْرُوفٌ وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ ابْنُهُ يَرِثُهُ، وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ بِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ حَاجَتِهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ فِي مَالِهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَنْهُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ مَعْرُوفٍ لَهُ مَلَكَهُ فِي صِحَّتِهِ، فَيَكُونُ عِتْقُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَلِهَذَا لَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ بِدَلِيلِ الْجَهَازِ وَالْكَفَنِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ يُلَاقِي مَحَلًّا لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ وَاَلَّذِي يَنْبَنِي عَلَى هَذَا السَّبَبِ عِتْقٌ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فِي مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَلَدَتْ فِي صِحَّتِهِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَةِ النَّسَبِ هُنَا حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فِي صِحَّتِهِ وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ، وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ، وَالْوَرَثَةِ فِيهِمَا فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مَلَكَهُ فِي مَرَضِهِ فَادَّعَاهُ قَبْلَ الْمِلْكِ أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَتُهُ هُنَا عِتْقٌ فِي الْمَرَضِ وَذَلِكَ يُلَاقِي مَحَلًّا مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ مُصَدَّقًا فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّ الرِّقَّ قَدْ فَسَدَ بِإِقْرَارِهِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ كَانَ عِتْقُهُ مِنْ ثُلُثِهِ وَعَلَيْهِمَا السِّعَايَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَا يَرِثُهُ الْوَلَدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَةِ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُسْتَسْعَى حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ وَيَرِثُهُ. وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى ابْنَانِ بِحَيْثُ تَخْرُجُ رَقَبَتُهُ مِنْ الثُّلُثِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْجَوَابُ كَذَلِكَ يَسْعَى الْوَلَدُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَارِثًا، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ فِي شَيْءٍ وَيَرِثُهُ، فَقَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِزْ الْوَصِيَّةَ لَهُ، وَأَلْزَمَهُ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ كَانَ مُكَاتَبًا، وَالْمُكَاتَبُ غَيْرُ وَارِثٍ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَسَقَطَتْ السِّعَايَةُ فَصَارَ وَارِثًا فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا، وَالسَّبِيلُ فِي الدَّوْرِ أَنْ يُقْطَعَ فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي خُمُسَيْ الْمَالِ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْهِبَةِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَهُوَ شَاهِدٌ لَهَا بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 152 فِي شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لِلْمَرِيضِ ابْنَهُ الْمَعْرُوفَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سَعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ سَعَى فِي الدَّيْنِ، وَفِي ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ، وَلَهُ الثُّلُثُ وَصِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ سَعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ وَهَبَ لِلْمَرِيضِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مَعْرُوفَةٌ عَتَقَتْ، وَلَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ شَاهِدٌ لَهَا وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْوَرَثَةِ. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ اشْتَرَى بِهِ ابْنَهُ ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ، وَصِيَّةٌ لَهُ وَيَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَارِثٌ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سَعَى فِي الدَّيْنِ وَثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ شَاهِدٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَابَى الْبَائِعَ فِي شَيْءٍ فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ فَالْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ بَيْعِ الْفَضْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ ثُلُثَيْ الْفَضْلِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ يُسَلَّمُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا، وَأَمَةً مَمْلُوكَانِ لِرَجُلٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ فَاشْتَرَاهُمَا رَجُلَانِ أَوْ مَلَكَاهُمَا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهُ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ كَقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْكُلِّ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْوَلَدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ، وَيُضَمِّنُهُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا لِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ حِينَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. (قَالَ): وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْوَلَدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ التَّحْرِيرِ بَعْدَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ إذَا كَذَّبَهُ الشَّرِيكُ، وَكَانَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ صَارَتْ حِصَّتُهُ مُكَاتَبًا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مُلِكَ كُلُّهُ صَارَ الْكُلُّ مُكَاتَبًا مَعَهُ فَكَذَلِكَ إذَا مُلِكَ النِّصْفُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ فَإِذَا ادَّعَى الْمُكَاتَبُ عِتْقًا وَسَعَى الْوَلَدُ لِشَرِيكِهِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْحُرَّ لَوْ اشْتَرَى ابْنَهُ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ صَارَ الْوَلَدُ كُلُّهُ مُكَاتَبًا مَعَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْكِتَابَةُ لَا تُجْزِئُ وَيَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ نِصْفَ قِيمَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 153 ابْنِهِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ نَصِيبَهُ، فَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا فَادَّعَاهُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ مَا مَلَكَاهُ كَانَ لَلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا اسْتَسْعَى الِابْنَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي الدَّعْوَةِ كَالْحُرِّ، وَكَذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الشَّرِيكِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ. وَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ مَعَهُ ضَمِنَ الْمُكَاتَبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ بَيْعُهَا بِمَا ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ الْمِلْكِ فِيهَا وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي مَلَكَ مَعَ الْمُكَاتَبِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَنَسَبُ الصَّبِيِّ مِنْ الْمُكَاتَبِ مَعْرُوفٌ عَتَقَ نَصِيبُ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِالْقَرَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَكَانَ نَصِيبُ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَتَقَ عَتَقَ مَعَهُ، وَإِنْ عَجَزَ سَعَى لِمَوْلَاهُ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُعْتَقُ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَلَا ضَمَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ؛ وَلِوَلَدِهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ، وَلَا السِّعَايَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ دَعْوَةِ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا وَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ] بَابُ دَعْوَةِ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا، وَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ ابْنُهُ مِنْ الزِّنَا، وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ) فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، وَلَا فِرَاشَ لِلزَّانِي، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَظَّ الزَّانِي الْحَجَرَ فَقَطْ وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى الرَّجْمِ وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى الْغَيْبَةِ كَمَا يُقَالُ لِلْغَيْبَةِ الْحَجَرُ أَيْ هُوَ غَائِبٌ لَا حَظَّ لَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْعَاهِرِ مِنْ النَّسَبِ وَبَقِيَ النَّسَبُ مِنْ الزَّانِي حَقُّ الشَّرْعِ إمَّا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ؛ لِيَكُونَ لَهُ زَجْرًا عَنْ الزِّنَا إذَا عَلِمَ أَنَّ مَاءَهُ يَضِيعُ بِهِ أَوْ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ نَائِبُهَا غَيْرُ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَحْصُلُ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا، وَلَا يَرْتَفِعُ هَذَا الْمَعْنَى بِتَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ، أَوْ كَانَ نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الزَّانِي لِحَقِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّانِي وَفِيهِ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ النَّسَبُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُمَا فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ ثَبَتَ بِذَلِكَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهَا الْوِلَادَةُ وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 154 الْقَابِلَةِ، وَلَا صُنْعَ لَهَا فِي الْوِلَادَةِ لِيَسْتَوْجِبَ الْعُقُوبَةَ بِقَطْعِ النَّسَبِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي جَانِبِ الرَّجُلِ الِاشْتِبَاهُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا فَإِنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ عَنْهَا مُعَايَنٌ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهَا. قَالَ وَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَوَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ، وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا أَوْ جَائِزًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِنْ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَتْ مِنْ الْفِرَاشِ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهَا عِنْدَ جُحُودِهِ فَبَقِيَ فِي حَقِّهِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلنَّسَبِ سَوَاءٌ مَلَكَهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَلَكَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ الرِّقُّ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى جُزْئِهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ فَإِنَّ بِدَعْوَاهَا النِّكَاحَ خَرَجَ الْفِعْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا مَحْضًا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَجِبُ الْعُقْرُ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ النَّسَبَ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْفِرَاشُ وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا بِمَا ادَّعَتْ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَثْبُتْ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْتِزَامِ الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا أَخَذَتْ الْمَهْرَ مِنْ الرَّجُلِ حِينَ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَإِنْ ادَّعَى الرَّجُلُ النِّكَاحَ، وَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِمَا ادَّعَى مِنْ الشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَثْبُتُ فِرَاشُهُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُحُودِهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ، وَلَدِهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ مَلَكَ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى جُحُودِهَا وَجُحُودِ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِهِ لِكَوْنِ الْمَحَلِّ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَإِذَا صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَيَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا أَوْ شَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَعْدِلَا؛ لِأَنَّ مَا أَقَامَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوْجَبَتْ الْمَهْرَ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مُثْبِتَةٌ لِلِاحْتِيَاطِ قَالَ: وَإِذَا وَلَدَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ الزَّوْجُ زَنَى بِك فُلَانٌ، وَهَذَا الْوَلَدُ مِنْهُ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَأَقَرَّ فُلَانٌ بِذَلِكَ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهَا بَابًا أَوْ أَرْخَى حِجَابًا، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إنَّمَا كَانَ مُقَرًّا لِلْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخَلْوَةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَفِي بَعْضِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 155 النُّسَخِ قَالَ: مُنْذُ أَغْلَقَ عَلَيْهَا الْبَابَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ النِّكَاحِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُرَدُّ بِالْفَاسِدِ لِيَتَعَرَّفَ حُكْمَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْجَائِزِ وَفِي النِّكَاحِ الْجَائِزِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِدِ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَاعْتِبَارُهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَغْلَقَ الْبَابَ لَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ حَقِيقَةٌ يَحْصُلُ بِهِ، وَإِنْ انْعَدَمَ التَّمَكُّنُ حُكْمًا وَاعْتِبَارُهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا صَحِيحٌ أَيْضًا لِاعْتِبَارِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ، وَمِنْ أَصْلِنَا فِي النِّكَاحِ الْجَائِزَ أَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ النِّكَاحِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِدِ حَتَّى قَالُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ سَنَةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّا نَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا؛ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ حَقِيقَةُ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ، وَذَلِكَ خَفِيٌّ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْوَطْءِ تَكُونُ شِرَاءً عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِينَ وَفِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ خَرَجَ، وَلَكِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ مَا سَقَطَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فِي حَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ وَطْئِهَا، وَتَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا لِلِاسْتِفْرَاشِ وَمَقْصُودِ النَّسْلِ فَيَثْبُتُ الْفِرَاشُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا، وَالصَّغِيرُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا فَلَمْ يَعْمَلْ فِي النَّسَبِ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَهُ فَأَمَّا الْغَائِبُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا كَالْحَاضِرِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْفِرَاشُ الْمُثْبِتُ لِلنَّسَبِ بِنَفْسِ النِّكَاحِ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعُلُوقِ مِنْ مَائِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ طَبَائِعِ النَّاسِ فِيهِ، وَفِي الْأَوْقَاتِ، فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالنَّسَبِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي لَا يُعْقَدُ شَرْعًا إلَّا لِهَذَا الْمَقْصُودِ، وَمَتَى قَامَ النَّسَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ وَدَارَ الْحُكْمُ مَعَ النَّسَبِ الظَّاهِرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ الْمَرَادُ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ فِي إثْبَاتِ الرُّخْصَةِ بِسَبَبِ السَّفَرِ وَأُقِيمَ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ فِي الْأَمَةِ مَقَامَ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَاءِ الْغَيْرِ فِي تَجَدُّدِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ، وَالتَّمَكُّنَ إنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا لِمَعْنَى الْمَاءِ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 156 الْمَاءِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ فَيَسْقُطُ مَا كَانَ مُعَبَّرًا لِأَجْلِهِ أَيْضًا. قَالَ: وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَبِيٍّ فِي يَدَيْ امْرَأَةٍ: هُوَ ابْنِي مِنْ زِنًا، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِكَاحٍ، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ نَفْيٌ لِلنَّسَبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَلَامَهُ الثَّانِي دَعْوَةٌ لِلنَّسَبِ بَعْدَ النَّفْيِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلِانْتِفَاءِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَبْقَى بَعْدَ النَّفْيِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ أَقَرَّتْ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَصَدَّقَهَا فِي ذَلِكَ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَبِثُبُوتِهِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِمَا مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ هُوَ ابْنِي مِنْكِ مِنْ نِكَاحٍ، وَقَالَتْ هُوَ ابْنُكَ مِنْ الزِّنَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لِإِنْكَارِهَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْفِرَاشِ فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ ابْنِي مِنْ نِكَاحٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ مَا أَنْكَرَتْ وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ فَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا قَالَ: امْرَأَةُ رَجُلٍ وَلَدَتْ وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَكَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ ادَّعَتْ وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ ابْنُهُ مِنْهَا لِظُهُورِ النَّسَبِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْفِرَاشُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَك قَبْلِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَلْ هُوَ مِنْك فَهُوَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ وَمَا ادَّعَاهُ الرَّجُلُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ دُونَ مَا لَا يُعْرَفُ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: مِنْ زِنًا فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ ثَبَتَ مِنْهُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ فَلَا يُقْطَعُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا إذَا صَدَّقَتْهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ الزِّنَا، وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ وَجَبَ اللِّعَانُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيُقْطَعُ النَّسَبُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ. قَالَ: وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مَا مَاتَ أَوْ كَانَ حَيًّا قَبْلَ اللِّعَانِ فَهُوَ ابْنُهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ بِالدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِقَطْعِ نَسَبِهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ يَسْتَدْعِي الْمَحَلَّ فَكَذَلِكَ لَوْ قَبْلَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا لِلْأَبِ بِالْمِيرَاثِ عَنْهُ إمَّا بَدَلَ نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ إنْ كَانَ لَهُ، وَالنَّسَبُ بَعْدَ مَا صَارَ مَحْكُومًا بِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلَدٌ وَلَيْسَ فِي يَدَيْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ تَزَوَّجْتُك بَعْدَ مَا وَلَدْتُ هَذَا مِنْ زَوْجٍ قَبْلَك، وَقَالَ الزَّوْجُ بَلْ وَلَدْتِيهِ مِنِّي فِي مِلْكِي فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ، وَمَا ادَّعَتْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَيُحَالُ بِالْوَلَدِ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدَيْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: ابْنِي مِنْ غَيْرِك، وَقَالَتْ هُوَ ابْنُك مِنِّي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قِيَامَ الْفِرَاشِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَا يَمْنَعُ فِرَاشًا آخَرَ لَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 157 عَلَى غَيْرِهَا إمَّا بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهِ كَانَ نَسَبُهُ إلَيْهِ مِنْ أَيِّ فِرَاشٍ حَصَلَ لَهُ، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا يُنَافِي فِرَاشَ آخَرَ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ، وَكَانَ هَذَا الْفِرَاشُ فِي حَقِّهَا مُتَعَيَّنًا، وَبِاعْتِبَارِهِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي يَدِ الرَّجُلِ، وَالْوَلَدُ الَّذِي فِي يَدِهَا مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَأَمَّا الزَّوْجُ لَيْسَ فِي يَدِ امْرَأَتِهِ فَمَا فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ فِي يَدِهَا فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ، وَفَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَبِلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَقْطَعَ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ اللِّعَانِ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ مَا لَمْ يَقْطَعْهُ الْقَاضِي إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ قَطْعُ النَّسَبِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا إذَنْ اعْتَرَضَ قَبْلَ قَطْعِ النَّسَبِ مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الِابْتِدَاءِ مُنِعَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ قَطْعُ النَّسَبِ بِهِ، وَكَمَا يَتَقَرَّرُ حُكْمُ النَّسَبِ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ بِمَوْتِ الْأَبِ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَلَدِ الْمِيرَاثَ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ تَوْأَمًا فَعَلِمَ أَحَدَهُمَا فَنَفَاهُ، وَلَاعَنَ وَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي أُمَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ عَلِمَ بِالْآخَرِ فَهُمَا ابْنَاهُ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، وَإِنَّمَا جَرَى اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَلَدِ الَّذِي نَفَاهُ فَبَقِيَ نَسَبُ الْآخَرِ ثَابِتًا كَمَا كَانَ، وَقَدْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنهمَا فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفِيَ نَسَبَ الْآخَرِ بِاللِّعَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ يُقَرِّرُهُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ أَحَدِهِمَا أَصْلًا، وَإِلْحَاقُ الْآخَرِ بِهِ وَاَلَّذِي انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِاللِّعَانِ مُحْتَمِلٌ لِلثُّبُوتِ مِنْهُ بِالْإِكْذَابِ وَاَلَّذِي نَفَى ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ تَسْمِيَةً لَا تَحْتَمِلُ النَّفْيَ عَنْهُ فَجَعْلُ هَذَا أَصْلًا أَوْلَى. وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ فَلَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ الشُّبْهَةِ فَتَرَجُّحُ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْلَى فَإِنْ عَلِمَ بِالثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَنَفَاهُ أَعَادَ اللِّعَانَ وَأَلْزَمَ الْوَلَدَيْنِ الْأُمَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ عِنْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِقَطْعِ نَسَبِهِ كَالْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ بِالدَّعْوَةِ بَعْدَ مَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ خُصُومَتِهَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الِابْنُ حَيًّا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُمُّ حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ مَاتَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا، ثُمَّ أَعَادَهُ الْأَبُ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُدَّعٍ لِلْمَالِ لَا مُقِرٌّ بِالنَّسَبِ فَإِنَّ الْوَلَدَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الشَّرَفِ بِالنَّسَبِ وَبِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى فَإِذَا كَانَ مُنَاقِضًا أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ابْنَ الْمُلَاعَنَةِ وَلَدًا أَوْ أُنْثَى فَحِينَئِذٍ صَدَقَ الْأَبُ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 158 مُقِرٌّ بِالنَّسَبِ فَإِنَّ وَلَدَ الِابْنِ يُنْسَبُ إلَيْهِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ نَفْسِهِ فَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ ضَرَّ بِالْجَدِّ، وَأَخَذَ الْمِيرَاثَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّسَبَ أَصْلٌ عِنْدَ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فَإِذَا أَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِهِ إنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ نَسَبُهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا عَنْ خَلَفٍ يُقْضَى بِالنَّسَبِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَإِذَا كَانَ مَيِّتٌ إلَّا عَنْ خَلَفٍ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالنَّسَبِ فَلَوْ قَضَى بِالْمَالِ كَانَ قَضَاءً بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَالْمَالُ لَا يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَوْ كَانَتْ الْمَنْفِيَّةُ بِنْتًا فَمَاتَتْ عَنْ ابْنٍ، وَأَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ، وَلَمْ يُصَدَّقْ بِهِ لَمْ يَرِثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يُصَدَّقُ وَيُضْرَبُ الْحَدَّ وَيَرِثُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهَا مَاتَتْ عَمَّنْ يَخْلُفُهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ كَمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ يُنْسَبُ إلَى أُمِّهِ، وَكَمَا يَتَشَرَّفُ بِشَرَفِ الْأَبِ يَتَشَرَّفُ بِشَرَفِ الْأُمِّ وَيَصِيرُ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَأَبُ الْأُمِّ يُسَمَّى أَبًا مَجَازًا كَأَبِ الْأَبِ فَكَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ بَقَاءَ الْوَلَدِ كَبَقَائِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ كَلَامُهُ الْآنَ فِي دَعْوَى الْمَالِ لَا إقْرَارٌ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ قَوْمِ أُمِّهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قُرَشِيًّا لَا قِبْطِيًّا، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ: فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ؛ وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَلَدُ مُنْتَسِبًا إلَى الْمُلَاعِنِ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَلَا يَعْمَلُ إكْذَابُهُ نَفْسَهُ بِخِلَافِ ابْنِ الِابْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَوْ أَرَادَ ابْنُ الْمَلَاعِنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَنْفِيَّةَ نَسَبُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَصَّلَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ اللِّعَانِ كَانَتْ أُخْتًا لَهُ، وَلَمْ يَنْتِفْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ أَكْذَبَ الْمَلَاعِنُ نَفْسَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَكَانَتْ أُخْتًا لَهُ وَشُبْهَةُ الْأُخْتِيَّةِ كَحَقِيقَتِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعِنُ نَفْسُهُ لَوْ قَالَ لَمْ أَدْخُلْ بِالْأُمِّ وَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ابْنَةً لَهُ وَبَعْدَ اللِّعَانِ قُطِعَ النَّسَبُ عَنْهُ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ، لَوْ أَعَادَهَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَشُبْهَةُ الْبَيِّنَةِ كَحَقِيقَتِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِمَنْزِلَةِ ابْنَتِهِ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَذْهَبِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْآخَرُ كَمَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَا مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّهِ لَوْ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا. قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَلَدَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ يَأْتِيَ بِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ، وَلَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَبَقِيَ أَحَدُهُمَا حِينَ وَلَدَتْهُ، ثُمَّ وَلَدَتْ الثَّانِي وَهُمَا ابْنَاهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ نَفَى الْمَوْلُودَ مِنْهُمَا كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 159 قَائِمًا فَوَجَبَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَحِينَ، وَضَعَتْ الْوَلَدَ الْآخَرَ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَا يَتَأَتَّى جَرَيَانُ اللِّعَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا بَعْد مَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً. وَالْقَذْفُ الْمُوجِبُ لِلِّعَانِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بَيْنَهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَنَفَاهُمَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَيُقْطَعُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ عُلُوقَ الْوَلَدَيْنِ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْوَلَدَيْنِ فَإِذَا نَفَى، وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ جَرَى اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ (قِيلَ) لَمَّا حَكَمْنَا بِالرَّجْعَةِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ قَطْعُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. (قُلْنَا): لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِالرَّجْعَةِ الْحُكْمُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ فَالرَّجْعَةُ تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْعَيْنِ عَنْ شَهْوَةٍ بِدُونِ الْوَطْءِ وَالْإِعْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ نَفَى الْوَلَدَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِالثَّانِي فَهُمَا ابْنَاهُ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ فَإِقْرَارُهُ بِأَحَدِهِمَا كَإِقْرَارِهِ بِهِمَا، وَهَذَا مِنْهُ إكْذَابٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ جَاءَتْ بِأَحَدِ الْوَلَدَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبِالْآخَرِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا، وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَالْفَصْلُ الثَّانِي سَوَاءٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّا تَيَقَّنَّا بِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِي مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَكَكْنَا فِي الْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَاتُّبِعَ الشَّكُّ لَا التَّيَقُّنُ فَإِنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ يُجْعَلُ أَصْلًا وَيُرَدُّ الْمَشْكُوكُ إلَيْهِ وَهُمَا قَالَا: لَمَّا وَلَدَتْ الْأَوَّلَ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَلِدْ غَيْرَهُ كَانَ مَحْكُومًا بِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ الْوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ السَّابِقُ مِنْهُمَا أَصْلًا، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا وَضَعَتْهُمَا قَبْلَ السَّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُزَاحِمُهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُزَاحِمِ قَدْ يَتَأَخَّرُ خُرُوجُهُ عَنْ أَوَانِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا السَّابِقَ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِالنَّفْيِ فَهُمَا ابْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَذَفَهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَقَدْ جَاءَتْ بِالْوَلَدَيْنِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِمَا سَابِقًا عَلَى الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا مِنْهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَإِنْ نَفَاهُمَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِأَحَدِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ وَبِالْآخَرِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 160 وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا، وَالْفَصْلُ الثَّانِي سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَنَفَاهُ لَاعَنَهَا لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَيَلْزَمُ الْوَلَدُ أَبَاهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ سَبَقَ النِّكَاحَ الثَّانِي فَكَانَ حَاصِلًا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَبِالْفُرْقَةِ بَعْدَهُ تَقَرَّرَ النَّسَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي بِحَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا النِّكَاحَ الثَّانِي لَاعَنَ وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ قَائِمٌ فَيَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي فَإِذَا نَفَاهُ يُقْطَعُ النَّسَبُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوِلَادَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَةٌ وَلَدَتْ فَادَّعَتْ أَنَّ مَوْلَاهَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ فَجَحَدَ الْمَوْلَى فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَشْهَدُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ عَلَى الْفِرَاشِ وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَعَلَى الْوِلَادَةِ عَلَى فِرَاشِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ شَهِدَا عَلَى الْإِقْرَارِ فَثُبُوتُ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى الْوِلَادَةِ فَقَدْ شَهِدَا بِالسَّبَبِ الْمُثْبِتِ لِلنَّسَبِ مِنْهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى ذِمِّيًّا وَالْأَمَةُ مُسْلِمَةً فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ عَلَى الْمَوْلَى وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُدَّعِي، وَالْأَمَةُ جَاحِدَةٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّينَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مُسْلِمَةً، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَجْحَدُ الْمَمْلُوكِيَّةَ لِلْمَوْلَى فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ تُقِرُّ بِذَلِكَ يَنْفَرِدُ الْمَوْلَى بِدَعْوَةِ نَسَبِ وَلَدِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِتَكْذِيبِهَا. وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَ عَلَى الدَّعْوَةِ أَبُ الْمَوْلَى وَجَدُّهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِالسَّبَبِ لِلْوَلَدِ وَهُوَ ابْنُ ابْنَيْهِمَا، وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِابْنِ ابْنِهِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ ابْنُ الْمَوْلَى جَازَتْ الشَّهَادَةُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى جَاحِدًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَخِيهِمَا عَلَى أَبِيهِمَا وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ عَلَى أَبِيهِ مَقْبُولَةٌ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَبِيهِ، وَإِذَا طَلُقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا فَاعْتَدَّتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ، ثُمَّ جَاءَ الْوَلَدُ حَيًّا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ نَفْيَهُ لَا يُفْسِدُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 161 فِرَاشَهُ، وَالزَّوْجُ الثَّانِي صَاحِبُ الْفِرَاشِ الْفَاسِدِ، وَلَا مُعَارِضَةَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ بِوَجْهٍ بَلْ الْفَاسِدُ مَدْفُوعٌ بِالصَّحِيحِ وَالْمَرْأَةُ مَرْدُودَةٌ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ كَمَنْ زَوَّجَ أُمَّتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ دُونَ الْمَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يُعَارِضُ النِّكَاحَ فِي الْفِرَاشِ بَلْ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ لِصَاحِبِ النِّكَاحِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ هُنَاكَ مِلْكَ الْيَمِينِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْحِلِّ وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْحِلِّ فَإِنْ نَفَى الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ الْوَلَدَ أَوْ نَفَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ ادَّعَيَا أَوْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ حِينَ دَخَلَ الزَّوْجُ الثَّانِي بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ. وَالنَّسَبُ إذَا ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: الْوَلَدُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ الْفَاسِدَ يُثْبِتُ النَّسَبَ كَالْفِرَاشِ الصَّحِيحِ أَوْ أَقْوَى حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ، ثُمَّ الثَّانِي إلَيْهَا أَقْرَبُ يَدًا وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ حَقِيقَةً فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ بِالْقُرْبِ، وَاعْتِبَارٍ لِلْحَقِيقَةِ وَذَكَرَ أَبُو عِصْمَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مَعَ الزَّوْجِ الثَّانِي كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَفِيهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُعْفِيٍّ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ، ثُمَّ مَاتَ وَلَحِقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ إخْوَتُهَا فَجَاءَ ابْنُ الْحُرِّ فَخَاصَمَ زَوْجَهَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَا إنَّكَ الْمُمَالِي عَلَيْنَا عُدْوَانًا فَقَالَ أَيَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ عَدْلِك فَقَالَ لَا فَقَضَى بِالْمَرْأَةِ لَهُ، وَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلزَّوْجِ الْآخَرِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: الْحَدِيثُ غَيْرُ مَشْهُورٍ فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ، وَلَوْ ثَبَتَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي سَوَاءٌ ادَّعَيَاهُ أَوْ نَفَيَاهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ فَبِاعْتِرَاضِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ يَنْقَطِعُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ النَّسَبِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلثَّانِي وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ اعْتِبَارًا لِلْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَوَّلَ يَنْقَطِعُ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ بِدُخُولِ الثَّانِي بِهَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي. وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ لَيْسَ إلَّا لِصِيَانَةِ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّسَبُ بِحَيْثُ يَثْبُتُ مِنْ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي مَعْنًى وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ دَخَلَ بِهَا لِلثَّانِي فَهُوَ الثَّانِي، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ دَخَلَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 162 بِهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي بِالدُّخُولِ لَا بِالنِّكَاحِ وَالْحُرْمَةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ عَلَى الْأَوَّلِ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَتْ حُرْمَتُهَا عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ كَحُرْمَتِهَا بِالطَّلَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ عِنْدَ قِيَامِ الْحِلِّ، وَلَا حِلَّ بَيْنَهُمَا فَالْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي بِهَا فِي حَالِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ فَكَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ انْقَطَعَ هَذَا التَّوَهُّمُ فَكَانَ النَّسَبُ مِنْ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ فَتَزَوَّجَتْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَوَلَدَتْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ، وَاعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ جَاحِدٌ لِذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. قَالَ: أَمَةٌ وَلَدَتْ لِرَجُلٍ فَلَمْ يَنْفِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ، وَلَدِهَا ثَابِتٌ بِالْفِرَاشِ فَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ النَّفْيِ فَأَمَّا الْأَمَةُ الْقِنَّةُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنِّئَ بِالْوِلَادَةِ فَقَبِلَ التَّهْنِئَةَ يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ جَنَى جِنَايَةً فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَسْتَطِعْ نَفْيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَحُكِمَ فِيهِ بِقِصَاصٍ أَوْ أَرْشٍ فَهَذَا كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْمَوْلَى، وَبَعْدَ مَا صَارَ النَّسَبُ مَحْكُومًا بِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ الْحُكْمِ قَالَ: وَإِذَا زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهُوَ ابْنُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَلَّ لِلسَّيِّدِ غِشْيَانُهَا فَعَادَتْ فِرَاشًا لَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ فَإِنَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بِحُقُوقِهِ، وَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ ظُهُورِ حُكْمِ فِرَاشِهِ فَإِذَا عَادَتْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فِي مُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُلُوقٍ بَعْدَ الْفِرَاشِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ ذَلِكَ أَوْ يَجْرِيَ فِيهِ حُكْمٌ وَتَفْسِيرُ هَذَا التَّطَاوُلِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ التَّقْدِيرِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ وَبِمُدَّةِ النِّفَاسِ عِنْدَهُمَا قَالَ: وَلَوْ حَرَّمَ أُمَّ وَلَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا لَمْ يَبْطُلْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ فِرَاشُ النِّكَاحِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ شَرْعًا إلَى أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيَغْشَاهَا، وَفِيهِ نَزَلَ وقَوْله تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَلِهَذَا كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدِ الْمُسْلِمِ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَدُهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ أَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 163 سَبَبَ الْفِرَاشِ قِيَامُ الْمِلْكِ، وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ غِشْيَانُهَا بِالرِّدَّةِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ لَا يَعْتَمِدُ حِلَّ الْغِشْيَانِ كَمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا زَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا قَدْ انْقَطَعَ بِاعْتِرَاضِ فِرَاشِ الزَّوْجِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَاهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْمَوْلَى وَاجِبٌ وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِإِقْدَامِهِ عَلَى وَطْءٍ حَرَامٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحُجَّةِ فَإِنْ ادَّعَاهُ فَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِذَلِكَ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّتْ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى رِدَّتِهَا فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِ الْمَوْلَى عَلَى الْفَسَادِ. قَالَ: وَإِذَا أَقَرَّ بِصَبِيٍّ فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَادَّعَى أَوْلَادُهُ أَنَّ أَبُوهُمْ قَدْ كَانَ زَوَّجَ هَذِهِ الْأَمَةَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ وَالْغُلَامُ وَالْأَمَةُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؛ لَمْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَالْغُلَامُ ابْنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ الْمَوْلَى بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْوَرَثَةِ تَقُومُ عَلَى النَّفْيِ فَلَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنْفُسِهِمْ حَقًّا إنَّمَا يُثْبِتُونَ النَّسَبَ لِلْعَبْدِ وَهُوَ جَاحِدٌ مُكَذِّبٌ لِلشُّهُودِ، وَقَصْدُ الْوَرَثَةِ مِنْ هَذَا نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْمَيِّتِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُمْ فِي مِيرَاثِهِمْ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ، وَهُوَ لَوْ أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مِمَّنْ يَخْلُفُهُ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْفِرَاشِ عَلَيْهَا، وَنَسَبَ وَلَدِهَا فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ لِلْإِثْبَاتِ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ النَّسَبِ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَيُعْتَقُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ حِينَ ادَّعَى نَسَبَهُ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ فَالْمُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْغُلَامِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَاهِدٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى مِنْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَهَا فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ كَمَا يُعْتَبَرُ عِتْقُ الْغُلَامِ مِنْ الثُّلُثِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَإِنْشَاءِ الْعِتْقِ مِنْهُ فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا تَوَقَّفَ حُكْمُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يَحْضُرَ الْعَبْدُ فَيَدَّعِيَ، وَيُنْكِرَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ يَخْتَلِفُ بِدَعْوَى الْعَبْدِ، وَإِنْكَارِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ وُقُوفًا عَلَى حُضُورِهِ. وَلَوْ ادَّعَتْ الْأُمُّ النِّكَاحَ أَوْ ادَّعَاهُ الْغُلَامُ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِلْإِثْبَاتِ فَإِنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّ الْغُلَامِ فَإِذْ الْبَيِّنَةُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ مُثْبِتًا حَقَّ نَفْسِهِ وَالْأُمُّ تُثْبِتُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَذَلِكَ حَقُّهَا. قَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَأَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ قَدْ ظَهَرَ بِخَبَرِهَا فَإِنَّهَا أُمُّهُ شَرْعًا فَإِذَا جَاءَتْ بَعْدَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 164 ذَلِكَ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ فَإِنْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ مَعْنَاهُ إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا فَيَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَذَّبَتْهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهَا وَعَنْ أَوْلَادِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ قَبْلَ إقْرَارِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ حُبْلَى حِينَ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ خَبَرُهَا مُسْتَنْكَرًا مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الْآخَرُ فَهُوَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ سَبَقَ نِكَاحَهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَتُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ فَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي، وَتَأْوِيلُ هَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ أَقَرَّتْ بِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ. قَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَمَاتَ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تَدَّعِيَ الْحَبَلَ أَوْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ كَانَتْ سَاكِتَةً فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ مَاتَ الزَّوْجُ أَوْ فَارَقَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا الْحَبَلَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِالْبُلُوغِ فَهِيَ وَالْكَبِيرَةُ سَوَاءٌ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْفُرْقَةِ أَوْ أَرْبَعِ أَشْهُرٍ، وَعَشْرٍ مُنْذُ مَاتَ الزَّوْجُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ أَقَرَّتْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِقْرَارِ إنْ كَانَتْ بَالِغَةً فَقَدْ ظَهَرَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْفُرْقَةِ، وَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي الْمَوْتِ فَإِنَّمَا، وَلَدَتْ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِتَةً. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ فَارَقَهَا وَلِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ مَاتَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُلُوقٍ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُرَاهِقَةَ بُلُوغُهَا مَوْهُومٌ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَإِذَا لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ، وَالْكَبِيرَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ أَنْ لَا تَكُونَ حَامِلًا، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قِبَلِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 165 عَرَفْنَاهَا صَغِيرَةً وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِهِ وَعِدَّةُ الصَّغِيرَةِ تَنْقَضِي فِي الْفُرْقَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ، وَفِي الْمَوْتِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ، وَلَدِهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ أَقَرَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِتَةً ثَبَتَ نَسَبُ، وَلَدِهَا مِنْهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ مَاتَ الزَّوْج؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالنَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوِلْدَةِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فِي الصَّغِيرَةِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] عَلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ الطُّولَى، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قِبَلِهَا فَمَا لَمْ يُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا تُجْعَلُ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ الصِّغَرَ يُنَافِي الْحَبَلَ فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مُطْلَقًا يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ مَا لَمْ يَدَّعِ حَبَلًا فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْكَبِيرَةِ مِنْ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ إذَا شَهِدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ، وَلَا فِرَاشٌ قَائِمٌ، وَلَا إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ، وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الرَّجُلِ بِيَوْمٍ بِسِقْطٍ قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ مُثْبِتٍ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: وَلَدَتْهُ مَسَاءً، وَقَالَتْ هِيَ كَانَ فَمَاتَ فَشَهِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَلَدِ الْقَابِلَةُ يُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَرِثَ. فَصَلَّى وَعَلَيْهِ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، ثُمَّ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ هُنَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 166 يَقُولُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ تَسْمَعُهُ الرِّجَالُ فَلَا يَكُونُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ حُجَّةً تَامَّةً، وَإِنْ اتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ كَجِرَاحَاتِ النِّسَاءِ فِي الْحَجَّامَاتِ إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَأَمَّا الْمِيرَاثُ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ فَتُسْتَدْعَى حُجَّةٌ كَامِلَةٌ وَذَلِكَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. قَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَجَاءَتْ بِوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ، وَقَالَ انْقَضَتْ عِدَّتُك وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فِرَاشٌ قَائِمٌ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أُخْبِرُك أَنَّ عِدَّتَك قَدْ انْقَضَتْ، وَكَذَّبَتْهُ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعَةً سِوَاهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَلَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالنَّسَبُ مِنْ حَقِّهَا فَصَارَ فِي حَقِّ النَّسَبِ كَأَنَّ الْإِخْبَارَ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ. وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَ أَخْبَرَ الزَّوْجُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَصَارَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مُسْتَنْكَرًا، وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ فَإِنَّمَا تَزَوَّجَ الْأَرْبَعَ وَفِرَاشُهُ عَلَى الْأَوَّلِ قَائِمٌ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي الْفِرَاشِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، فَلِهَذَا بَطَلَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا فَإِنْ كَانَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَلْزَمُهُ النَّسَبُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ هِيَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا فَكَذَلِكَ هُنَا وَمِنْ ضَرُورَةِ مُرَاجَعَتِهِ لَهَا بُطْلَانُ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ فَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ بِغَيْرِهَا فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا تَكُونُ رَجْعَةً بِحَالٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ إقْرَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ صَارَ ثَابِتًا، وَلَكِنْ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ لِلْإِبَانَةِ فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُرَاجِعًا لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْشَأَ الْإِبَانَةَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْوَاقِعَ نِصْفَهُ الرَّجْعَةَ ثَانِيًا أَوْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَانِيًا، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَانِيًا، وَلَا ثَلَاثًا فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْوَاقِعُ مِنْ الطَّلَاقِ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ، وَمِلْكُ الصِّفَةِ تُمَلِّكُ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ أَصْلُهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَبْقَ صِفَتُهَا فِي مِلْكِهِ أَيْضًا وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا هُوَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ بَاطِلٌ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ذَلِكَ الْوَاقِعُ بِغَرَضِ أَنْ يَصِيرَ ثَانِيًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ ثَانِيًا يَجْعَلُهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 167 إيَّاهُ ثَابِتًا، وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ قَطُّ لَا يَصِيرُ ثَلَاثًا فَكَانَ جَعْلُهُ الْوَاحِدَةَ ثَلَاثًا تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلِهَذَا كَانَ لَغْوًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَمْلِكُ جَعْلَ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثًا حَقِيقَةً وَلَكِنْ يَمْلِكُ ضَمَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إلَى الْوَاحِدَةِ بِالْإِيقَاعِ لِتَصِيرَ ثَلَاثًا كِنَايَةً عَنْ قَوْلِهِ أَوْقَعَتْ اثْنَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِتَصْحِيحِ مَقْصُودِهِ كَمَا جَعَلْنَا لَفْظَةَ الْخُلْعِ مَجَازًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ قَالَ: غُلَامٌ مُحْتَلِمٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَنَّهُمَا أَبَوَاهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ، وَامْرَأَتُهُ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُهُمَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْغُلَامِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّهُ فَهُوَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا هُوَ حَقٌّ لَهُ عَلَى مَنْ هُوَ جَاحِدٌ وَالْأَخَوَانِ يُثْبِتَانِ بِالْبَيِّنَةِ مَا هُوَ حَقُّ الْغُلَامِ، وَبَيِّنَةُ الْمَرْءِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَةِ الْغَيْرِ عَلَى حَقِّهِ؛ وَلِأَنَّ الْغُلَامَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي مِثْلِ هَذَا تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُلَامُ نَصْرَانِيًّا وَاَللَّذَانِ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُمَا أَبَوَاهُ نَصْرَانِيَّانِ إذَا كَانَ شُهُودُهُ مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَا أَقَامَ مِنْ الشُّهُودِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ بَيِّنَةُ الْآخَرَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْغُلَامِ. (قُلْنَا): الْيَدُ أَقْوَى مِنْ الدِّينِ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْيَدَ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ ظَاهِرًا وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْيَدِ، وَلَوْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ أَمَتِهِ فُلَانَةَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَقَالَ فُلَانٌ هُوَ عَبْدِي وُلِدَ مِنْ أَمَتِي هَذِهِ زَوَّجْتُهَا مِنْ عَبْدِي فُلَانٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ ابْنُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَوْلَى يُثْبِتَانِ نَسَبُهُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ. وَهُوَ إنَّمَا أَثْبَتَ النَّسَبَ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ انْتَفَى بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ بِمُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، وَالتَّرْجِيحُ بِمَا ذَكَرْنَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ جَعَلْنَا النَّسَبَ مِنْ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إثْبَاتِ النِّكَاحِ؛ وَلِكَوْنِ فِرَاشِ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَقُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِحُرِّيَّتِهِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ، وَالْمَوْلَى مَيِّتَيْنِ فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُ الْمَوْلَى مِنْ أَمَتِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، وَأَقَامَ وَرَثَةُ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ الْعَبْدِ مِنْ أَمَةِ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ هُنَا إثْبَاتُ النِّكَاحِ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَا يُثْبِتُونَ النَّسَبَ لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا يُثْبِتُونَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 168 لِلْعَبْدِ وَمَقْصُودُهُمْ ذَلِكَ نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْمَوْلَى وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ وَفِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ إثْبَاتُ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْمُحْتَلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْ أَمَتِهِ فُلَانَةَ، وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغُلَامَ عَبْدُهُ وَأُمُّهُ أَمَتُهُ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ فُلَانٍ فَوَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي قَضَيْتُ لِلْعَبْدِ بِالنَّسَبِ، وَقَضَيْتُ بِالْأَمَةِ إنْ كَانَتْ حَيَّةً لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ فِي الْأَمَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى وَفِي حَقِّ النَّسَبِ الْخَارِجُ وَالْعَبْدُ بَيِّنَتَانِ يُشَبَّهُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُثْبِتُ نَسَبَ نَفْسِهِ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ، وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْأَمَةِ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ كَانَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا أُثْبِتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْحُرِّ وَهُوَ الْمَيِّتُ الَّذِي أَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ لَيْسَ يُثْبِتُ النَّسَبَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ وَالِابْنُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ هُنَا النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَيِّتٌ وَالنِّكَاحُ بِمَوْتِهِ مُرْتَفِعٌ فَبَقِيَ التَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي أُمِّيَّةِ الْغُلَامِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْأَمَةِ تَتَرَجَّحُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَقَطْ، وَفِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهَا بِجِهَةِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَكَانَ أَوْلَى. قَالَ: غُلَامٌ وَأَمَةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ الْحُرُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ وَفِي مِثْلِهِ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهَا دُونَ الْمِلْكِ، وَقَدْ اسْتَوَى الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَيْهَا فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ ذِي الْيَدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْغُلَامُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مُصَدَّقًا لِذِي الْيَدِ فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُ الْآخَرِ فَإِنِّي أَقْضِي بِالْغُلَامِ وَالْأَمَةِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِذَا صَدَّقَ الْمُدَّعِي كَانَ هُوَ كَالْمُقِيمِ لِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ لِحَقِيقَةِ الْيَدِ؛ وَلِكَوْنِهِ مُثْبِتًا حَقَّ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّهِ قَالَ حُرَّةٌ لَهَا وَلَدٌ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْغُلَامَ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَالْغُلَامُ يَدَّعِي أَنَّ ذَا الْيَدِ أَبُوهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ يَدَّعِي الْغُلَامُ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ حَقَّ نَفْسِهِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ ذِمِّيًّا، وَشُهُودُهُ مُسْلِمُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ أَقَامَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 169 الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتٍ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَقْتٍ دُونَهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ تَارِيخَهُ أَسْبَقُ، وَقَدْ أَثْبَتَ نِكَاحَهُ فِي، وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَلَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلزَّوْجِ، وَأُثْبِتُ نَسَبَهُ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ يَتَرَجَّحُ عَلَى فِرَاشِ الْمِلْكِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُرَّ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ مَا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهَا مِنْ الْحُجَّةِ فَيَقْضِي بِالْأَمَةِ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ إنْ شَهِدَ شُهُودُ الزَّوْجِ أَنَّهَا عَرِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ جَعَلْتُ الْأَمَةَ، وَابْنَهَا مَمْلُوكَيْنِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ وَالْمُوجِبُ لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الْغُرُورُ فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ الْغُرُورَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُدَّعِي ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَتَكُونُ أُمُّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ إثْبَاتِ الْغُرُورِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْرَمَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي بِحُرِّيَّتِهِ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِيهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ يَكُونُ حُرًّا مِنْ الْأَصْلِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا. قَالَ: أَمَةٌ مَعَ وَلَدِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَةُ أَبِيهِ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ فِي مِلْكِهِ، وَأَبُوهُ مَيِّتٌ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي مِلْكِهِ قَضَيْتُ بِالْوَلَدِ لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لَهَا وَفِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إثْبَاتَ رِقِّهَا؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُعْتَقُ إلَّا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْيَدِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ أَمَةٌ لِذِي الْيَدِ يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِوَلَائِهَا لِلْمَيِّتِ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ مَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ دَعْوَى الْعَتَاقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَةٌ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا، وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا آخُذُ بَيِّنَةَ الْوِلَادَةِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَهَا، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ كَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالشِّرَاءِ مَنَعَ صِحَّةَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْوِلَادَةِ سَابِقَةٌ مَعْنَى فَإِنَّ ثُبُوتَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَذَلِكَ كَانَ سَابِقًا عَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 170 الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةَ إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي وَقْتًا لِلشِّرَاءِ قَبْلَ الْحَبَلِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَجَزْتُ الشِّرَاءَ، وَأَبْطَلْتُ النَّسَبَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الَّذِي أَرَّخَ شُهُودُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَ مَا لَا يَمْلِكُهُ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ. وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ يُؤْخَذُ بِالْوَقْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْآخَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ وَإِذَا أَقَامَ عَبْدٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَهُ، وَفُلَانٌ يُنْكِرُ أَوْ يُقِرُّ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَضَيْتُ بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْعَبْدِ مَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِتْقِ فَقَطْ وَالْعِتْقُ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَالِكِ، وَغَيْرِ الْمَالِكِ، وَلَكِنْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تُعَارِضُ يَدَ ذِي الْيَدِ فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ فَلِئَلَّا يَكُونَ مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ كَانَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ فِي يَدَيْهِ إذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا يُوجِبُ نُفُوذَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ بِمِلْكِ الْمَحَلِّ لَا بِالْيَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ يَوْمَئِذٍ أَخَذْتُ بِبَيِّنَةِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَفِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةُ الْعِتْقِ فَكَانَ أَوْلَى قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا كَاتَبَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَفُلَانٌ جَاحِدٌ لِذَلِكَ أَوْ مُقِرٌّ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ وَمَنْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ فَإِنْ (قِيلَ) الْعَبْدُ يُثْبِتُ حَقَّ الْعِتْقِ لِنَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ الْكِتَابَةِ. (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُكَاتَبِ؛ وَلِهَذَا جَازَ عِتْقُ الْمَكَاتِبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ وَلِهَذَا احْتَمَلَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْيَدِ وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي تُثْبِتُ مِلْكَ الْيَدِ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُثْبِتُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ. قَالَ: وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ غَصَبَهُ مِنْهُ ذُو الْيَدِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَبْدًا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَهُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ غَاصِبًا لَا مَالِكًا، وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَارِيَّةٌ لَهُ فِي يَد ذِي الْيَدِ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ إجَارَةٌ أَوْ رَهْنٌ قُضِيَ بِالْمِلْكِ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا قَالَ: عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ فَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 171 وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُثْبِتُ الرِّقَّ فَالْمُثْبِتُ لِلْحُرِّيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهُ ابْنُهُ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ هُنَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ مَعَ الْحُرِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ وَدَبَّرَهُ فَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِي بَيِّنَتِهِ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا بِخِلَافِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ثَمَّةَ، وَلَوْ كَانَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ الْوَلَاءِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْعَبْدِ فَلَمَّا اسْتَوَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الْإِثْبَاتِ تَرَجَّحَ جَانِبُ ذِي الْيَدِ بِيَدِهِ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ بِالتَّدْبِيرِ وَشُهُودُ الْمُدَّعِي بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ قَضَيْتُ بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إبْطَالَ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الْحَالِ يَتَرَجَّحُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ أَمَةً لَكَانَتْ تُوطَأُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ أَحَدُ الْخَارِجِينَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ الثَّانِي وَالْآخَرُ عَلَى التَّدْبِيرِ فَبَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَمَة لَهُ كَاتَبَهَا قَضَيْتُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ هِيَ فِي يَدِ نَفْسِهَا فَتَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَقُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ. (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَى قَوْلِهَا. (قُلْنَا) الْمُكَاتِبَةُ أَمَةٌ، وَلَا قَوْلَ لِلْأَمَةِ فِي تَعْيِينِ مَالِكِهَا بَعْدَ مَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ دَبَّرَهَا، وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَشُهُودُ الْآخَرِ أَنَّهُ كَاتَبَهَا، وَيَمْلِكُهَا فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَتْ أَمَةٌ أَنَّ وَلَدَهَا مِنْ مَوْلَاهَا، وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَأَرَادَتْ يَمِينَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْدُودَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ، وَالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ فَمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ لَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّ فِيهِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ فَكُلُّ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ وَهُنَا دَعْوَاهُ عَلَى الْمَوْلَى دَعْوَى النَّسَبِ فَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْتَحْلَفُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ الْمَوْلَى سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا تَبَعٌ لِنَسَبِ الْوَلَدِ فَكَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَوْلَى عِنْدَ دَعْوَى النَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَزِمَهُ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ إذَا أَنْكَرَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 172 وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الزَّوْجَةُ بِصَبِيٍّ فَادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَفِي اسْتِحْلَافِهِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَوْلَى أَوْ الزَّوْجَ جَاءَ بِصَبِيٍّ وَادَّعَى أَنَّهَا، وَلَدَتْهُ مِنْهُ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى النَّسَبَ عَلَى الْأَبِ أَوْ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُنْكِرِ فَلَا يَمِينَ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ بِذَلِكَ مِيرَاثًا قِبَلَ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمِيرَاثِ دُونَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهِ بِالنُّكُولِ بِخِلَافِ النَّسَبِ، وَإِذَا اسْتَحْلَفَهُ فَنَكَلَ قُضِيَ بِالْمَالِ دُونَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ وَعِنْدَ النُّكُولِ إنَّمَا يُقْضَى بِمَا جَرَى فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ مَالٍ عَلَى رَجُلٍ فَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ يُقْتَضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى مِيرَاثًا بِالْوَلَاءِ فَهُوَ وَدَعْوَاهُ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَرِثَ دَارًا مِنْ أَبِيهِ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ قَدْ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُ هَذِهِ الدَّارِ وَجَحَدَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى النَّسَبِ هُنَا بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا كُلُّ نَسَبٍ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَصِحَّ لَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَالْأُخُوَّةُ لَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ لَوْ أَقَرَّ بِهَا فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ، وَالْبُنُوَّةِ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مَا يَعْلَمُ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ نَصِيبًا كَمَا يَدَّعِي الْمَالَ، وَالِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فِي الْمَالِ إلَّا أَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْإِرْثَ مِنْ الْمَيِّتِ بِسَبَبٍ بَيْنَهُمَا وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الثَّبَاتِ. قَالَ: جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ، ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ الْأَصْغَرَ لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ صَاحِبِ الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِمَا حَصَلَ فِي مِلْكِهِمَا فَحِينَ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَكْبَرِ، ثُمَّ الْأَصْغَرُ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ وَالشَّرِيكُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، وَمَنْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْأَصْغَرِ ادَّعَى الْأَصْغَرَ أَوَّلًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا مَعَ الْوَلَدَيْنِ حِينَ ادَّعَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ، وَمَا ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ، وَتَصِحُّ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ لِلْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَهَا إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلِهَذَا بَقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ ادَّعَاهُ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 173 وَالْإِتْلَافِ فَتَكُونُ دَعْوَتُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ هَلْ يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ الْعُقْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ نِصْفَ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ الْأَمَةِ حَالَ مَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَيَغْرَمُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْهُمَا مَعًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ الْمُدَّعِي الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ بِالدَّعْوَةِ مَعْنًى فَإِنَّ الْعُلُوقَ بِالْأَكْبَرِ كَانَ سَابِقًا فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينِ عَلِقَتْ بِالْأَكْبَرِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ بَيِّنَةُ الْأَصْغَرِ مِنْ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الدَّعْوَةِ كَانَ الْأَصْغَرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ مُحْتَاجًا إلَى النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَصْغَرِ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ صَارَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ فَكَانَ جَمِيعُ قِيمَةِ الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ عَلَيْهِ جَمِيعَ قِيمَةِ الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الْعُقْرِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ، وَلَكِنْ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ إنَّمَا أَجَابَ بِالْحَاصِلِ فَإِنَّ نِصْفَ الْعُقْرِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ قِصَاصٌ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي الْحَاصِلِ نِصْفُ الْعُقْرِ عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ قَالَ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَجَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَبَلَ مِنْ أَبِيهِ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْحَبَلَ مِنْهُ، وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ مِنْهُمَا مَعًا فَالْحَبَلُ مِنْ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَخُوهُ إنَّمَا يَحْمِلُ نَسَبَ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ فَلِهَذَا كَانَ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى فَإِنْ (قِيلَ): الَّذِي ادَّعَى الْحَبَلَ مِنْ أَبِيهِ كَلَامُهُ أَسْبَقُ مَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ. (قُلْنَا): هَذَا إنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الْعُلُوقِ مِنْ أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي ذَلِكَ وَيَغْرَمُ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ عَلَى شَرِيكِهِ فَإِنْ (قِيلَ): كَيْفَ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ الشَّرِيكُ أَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْمَيِّتِ. (قُلْنَا): لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ حِينَ جَعَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ، وَالْمُكَذَّبُ فِي إقْرَارِهِ حُكْمًا لَا يَبْقَى إقْرَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَى الْحَبَلَ لِلْأَبِ بَدَا بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْأَبِ بِقَوْلِهِ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ مِنْ الْأُمِّ وَمِمَّا فِي بَطْنِهَا لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهَا وَيَجُوزُ دَعْوَةُ الْآخَرِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ، وَالنِّصْفُ مِنْهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنَّ إقْرَارَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 174 مِلْكِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فِيهِ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْأُمِّ فَقَدْ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الْأُمِّ بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا إنْ طَلَب ذَلِكَ أَخُوهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا سَابِقًا عَلَى إقْرَارِ أَخِيهِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِنِصْفِ الْعُقْرِ لِأَخِيهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ السَّبَبُ بِإِقْرَارِ أَخِيهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَيَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهُ إنْ شَاءَ قَالَ: عَبْدٌ صَغِيرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ قَضَيْتُ لِلْآخَرِ بِادِّعَاءِ مِلْكِهِ فَلِهَذَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ، وَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلْمُعْتِقِ بِإِعْتَاقِهِ فَإِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ مِنْ الْآخَرِ لَا يَنْتَفِي مَا صَارَ مُسْتَحِقًّا مِنْ الْوَلَاءِ لِلْأَوَّلِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ وُلِدَ عِنْدَهُمَا أَوْ لَمْ يُولَدْ، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ كَبِيرًا فَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي فَإِذَا ادَّعَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَإِنْ جَحَدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ دَعْوَةُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَجُوزُ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِتَصْدِيقِ الْغُلَامِ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَإِذَا تَصَادَقَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَالْمَرْأَةُ امْرَأَةُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهِمَا بِنَسَبِ الْوَلَدِ مَحْمُولٌ عَلَى وَلَدٍ صَحِيحٍ بَيْنَهُمَا شَرْعًا، وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَانَ تَصَادُقُهُمَا عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ تَصَادُقًا مِنْهُمَا عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَمُطْلَقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لَك، وَهَذَا ابْنِي مِنْك، وَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ ابْنِي مِنْك، وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَهُوَ ابْنُهُمَا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِالرِّقِّ، وَهُوَ كَذَّبَهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ الرِّقُّ عَلَيْهَا وَهُوَ قَدْ ادَّعَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَهِيَ قَدْ كَذَّبَتْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ، وَلَكِنْ بِتَكَاذُبِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُثْبِتِ لِلْفِرَاشِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ حُكْمُ الْفِرَاشِ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَقَالَ الرَّجُلُ هِيَ أُمُّ وَلَدِي فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ هَذَا ابْنِي مِنْك مِنْ نِكَاحٍ، وَقَالَتْ صَدَقْتَ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي دَعْوَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ وَتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُمَا بِصِحَّتِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا. وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَنَسَبُ الْوَلَدِ ثَابِتٌ وَسُئِلَ الزَّوْجُ عَنْ الْفَسَادِ مَا هُوَ فَإِذَا أَخْبَرَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِهِ الطَّلَاقَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 175 الْبَائِنَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي فَسَادِ أَصْلِ الْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَكِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يُفَارِقَهَا فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ كَإِنْشَاءِ التَّفْرِيقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْغُرُورِ] بَابُ الْغُرُورِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُصَيْطٍ قَالَ بِعْتُ أَمَةً فَأَبَتْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ فَانْتَمَتْ إلَى بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ فَنَثَرَتْ لِهَذَا بَطْنَهَا، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى بِهَا لِمَوْلَاهَا، وَقَضَى عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تَفْدِيَ الْأَوْلَادَ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ، وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ، وَلَدَ الْمَغْرُورِ يَكُونُ حُرًّا بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْمَغْرُورِ فَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِظَاهِرِهِ فَقَالُوا مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ، وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا فِي الصُّورَةِ)، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى بِالْجَارِيَةِ لِمَوْلَاهَا، وَقَضَى لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَفُكَّ وَلَدَهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ قَضَى بِأَوْلَادِهَا لِمَوْلَاهَا أَنْ يُسَلِّمَ الْأَوْلَادَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَعْلُ الْأَوْلَادِ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُمْ مَمْلُوكِينَ لَهُ حَيْثُ أَوْجَبَ لَهُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْبَائِعِ بِطَرِيقِ أَنَّ قَوَدَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِمَا عَزَّ وَهَانَ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا وَفِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الْمَغْرُورِ هُوَ حُرُّ الْأَصْلِ وَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ كَأَنَّهُ رَقِيقٌ مَمْلُوكٌ لَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ إلَّا هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِيُضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ الْمَمْلُوكُ بِالْمَنْعِ فَيَصِيرُ الْمَغْرُورُ مَانِعًا لِلْوَلَدِ بِمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ حَقًّا لَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ وَالنَّظَرُ فِي جَانِبِ الْمَغْرُورِ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرِقِّ مَائِهِ، وَالنَّظَرُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَحِقِّ فِي رِقِّ الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لَا يَبْطُلُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 176 مِلْكِهِ عَمَّا هُوَ جُزْءٌ مِنْ مِلْكِهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَغْرُورِ يَمْنَعُهُ بُعْدُ الطَّلَبِ؛ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَوْلَادِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَمْ يَضْمَنْ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الطَّلَبِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ أَمَةٌ غَرَّتْ رَجُلًا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَقَامَ مَوْلَاهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ، وَقُضِيَ بِهَا لَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْوَلَدِ أَيْضًا لِمَوْلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْلِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ لَهُ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ وَهُوَ الْغُرُورُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَثْبَتَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ فَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ قِيمَتُهُ وَادَّعَى مَالَهُ حَالًّا وَقْتَ الْقَضَاءِ بِهِ دُونَ مَالِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَنْعُ وُجِدَ مِنْ الْأَبِ دُونَ الْوَلَدِ، وَلَا وَلَاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ جُزْءَ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الرِّقَّ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَإِنَّ وَلَدَ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا، وَإِنْ قَبِلَ الِابْنُ فَأَخَذَ الْجَارِيَةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمُسْتَحِقِّ الدِّيَةِ بَدَلِ نَفْسِهِ وَمَنْعُ الْبَدَلِ كَمَنْعِ الْأَصْلِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَإِنْ قَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ فَلَمْ يَقْبِضْهَا لَمْ يُوجَدْ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ مِنْ الْبَدَلِ فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمَقْبُولِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَحَقَّقَ بِوُصُولِ يَدِهِ إلَى الْبَدَلِ وَيَكُونُ مَنْعُهُ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَنْعِ الْوَلَدِ فِي الْقَضَاءِ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَلَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَدٌ يُحْرِزُ مِيرَاثَهُ وَدِيَتَهُ فَخَرَجَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ دُونَهَا قَضَيْتُ عَلَى الْأَبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ فِي الْبَدَلِ، وَلَا يُقْضَى بِهِ فِي الدِّيَةِ، وَلَا فِي تَرِكَةِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَبِ يَمْنَعُهُ الْوَلَدُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَةِ الِابْنِ مَا يُقَرَّرُ دَيْنًا عَلَى الِابْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا قُضِيَ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْأَبِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ خَاصٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ مِثْلُ دَيْنِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى عِلْمِهِ حَلَّفْتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الثَّبَاتِ قَالَ: وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا عَلَى شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ الْجَارِيَةَ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُرُورِ مِلْكٌ مُطْلَقٌ لِلِاسْتِيلَادِ لَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 177 فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ أَيْضًا وَيَرْجِعُ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَبِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ اسْتَحَقَّ سَلَامَتَهَا لَهُ سَلِيمَةً عَنْ الْعَيْبِ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا يَغْرَمُ بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِالْعَقْدِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَزِمَهُ الْعُقْرُ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ سَلَّمَ الْمُسْتَوْفَى لَهُ مَجَّانًا وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَاطِئِ مَجَّانًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ، وَالْمُتَصَدِّقِ وَالْوَصِيِّ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْغُرُورُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِإِيجَابِهِ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ وَاخْتَارَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُجَرَّدُ الْغُرُورِ لَا يَكْفِي لِإِثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ إنْسَانًا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ آمِنٌ وَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَإِنَّمَا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِهِ، فَأَمَّا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَا تَصِيرُ صِفَةَ السَّلَامَةِ مُسْتَحَقَّةً بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ التَّبَرُّعِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ؛ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى بَائِعِهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ. حُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِيهَا لِلْغَيْرِ فَيُجْعَلُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْمِلْكَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيلَادِهِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُفَوِّتُ صِفَةَ السَّلَامَةِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا كَمَا تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَقَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالْبَائِعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لَوْ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ أَنْشَأَ بِإِيجَابِهِ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ بِالْبَيْعِ فَرُجُوعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِمَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْغُرُورِ لَا بِالْغُرُورِ الَّذِي سَبَقَ مِنْ الْبَائِعِ فَصَارَ مَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْغُرُورِ نَاسِخًا لِغُرُورِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَلْقَى إنْسَانٌ غَيْرَهُ فِيهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْحَافِرِ فَهَذَا مِثْلُهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 178 الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يُخَاصِمُ الْبَائِعَ فِي الْعَيْبِ إذَا كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّمَا لَهُ، وَهُنَا قَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْمِلْكُ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ قَدْ عَادَ إلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الصُّلْحِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ إذَا وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِعَيْبٍ حَدِيثٍ عِنْدَهُ وَرَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لِبَائِعِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عَلَى الْبَائِعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَهُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا غَرِمَ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ نُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ قَالَ: رَجُلَانِ اشْتَرَيَا جَارِيَةً فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَوَلَدَتْ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ، وَلَدِهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا مِنْ جِهَتِهِ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النِّصْفَ مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَلَكِنَّ الْوَاهِبَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا عَلَى مَنْ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا عَلَى الْوَاهِبِ فَيَرْجِعُ بِثَمَنِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَغْرَمْ الْوَاهِبُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَالْعُقْرُ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا ظَاهِرًا فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ صَحِيحٌ فِي إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَنِصْفِ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ وَطْؤُهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ شَرِيكِهِ فَإِنَّ تَمَلُّكَهُ عَلَى شَرِيكِهِ مَا كَانَ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ وَيَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى بَائِعِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ امْرَأَةً حُرَّةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَقُضِيَ بِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 179 لَا يَكُونُ حُرًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا فِيمَا سَبَقَ قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ الْمُكَاتَبُ مَغْرُورًا بِالشِّرَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُنَاكَ الْوَلَدُ يَكُونُ حُرًّا وَهُنَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ مُكَاتَبًا قَالَ: رَجُلٌ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا مَوْلَاهَا قُضِيَ لَهُ بِهَا، وَعَلَى أَبِ الْوَلَدِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَلَا يُقَالُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَأُمِّهِ فَكَيْفَ يُضْمَنُ بِالْغُرُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا بَعْدَ ثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِلْمُكَاتَبَةِ قَالَ: لِأَنَّ الَّذِي غَرَّهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا لَا يَسْتَوْجِبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَبِي يُوسُفَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْغُرُورُ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِوَلَدِهَا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا فَكَذَلِكَ بِبَدَلِ وَلَدِهَا. قَالَ: مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ بَاعَ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ أَبُ الْوَلَدِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِ صِفَةِ السَّلَامَةِ لَهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فِي هَذَا كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَيْهِ قَالَ: رَجُلٌ وَرِثَ أَمَةً مِنْ أَبِيهِ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ لِتَحَقُّقِ الْغُرُورِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَإِنَّمَا اسْتَوْلَدَهَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِكَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي كَانَ بَاعَهَا مِنْ الْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِمُوَرِّثِهِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِلْكًا جَدِيدًا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ، وَيَكُونُ فِيهِ كَالْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِ الْمُوصَى لَهُ بِعَقْدٍ مُتَجَدِّدٍ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ غَيْرُ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْبَائِعِ بِبَيْعِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ. قَالَ: رَجُلٌ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ بِإِقْرَارِ الْأَبِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْمُسْتَحِقِّ بِهَا وَبِوَلَدِهَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ غَيْرُ مَغْرُورٍ هُنَا فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى اسْتِيلَادِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِمُوَرِّثِهِ فَصَارَ رَاضِيًا بِرِقِّ مَائِهِ، وَكَانَ الْوَلَدُ مِلْكًا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ فِيهَا فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 180 بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ فَمَنْ يَقُولُ لَا يَمْلِكُ يَقُولُ سَبَبُ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا تَامٌّ حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغُرُورَ قَدْ تَحَقَّقَ فَكَانَ وَلَدُهُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَتُبَاعُ الْأَمَةُ فِي الدَّيْنِ إنْ اُسْتُغْرِقَتْ التَّرِكَةُ بِالدَّيْنِ يُمْنَعُ عِتْقُ الْوَارِثِ فِيهَا فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ فِيهَا، وَوُجُوبُ الْعُقْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ فَيَغْرَمُ الْعُقْرَ فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَالْعُقْرِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ لِلْمَيِّتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَوَطِئَهَا الْوَارِثُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَضَمِنَ قِيمَتَهَا وَعُقْرَهَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فَيَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا، وَلَكِنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِحَقِّ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَى الْغَرِيمِ بِالِاسْتِيلَادِ قَالَ: وَيَغْرَمُ عُقْرَهَا قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعُقْرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهَا وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَزِيَادَةٌ فَلَمْ يَغْرَمْ الْعُقْرَ؛ وَلِمَاذَا يَغْرَمُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ كَانُوا عَدَدًا فَكَانَ هَذَا اسْتِيلَادَ الشُّرَكَاءِ لِلْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعُقْرِ وَالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الشُّرَكَاءِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ يُقَدَّرُ الدَّيْنُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ أَيْضًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ قِيمَتُهَا، وَعُقْرُهَا يُقْضَى مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ أَوَّلًا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ لَمْ يَغْرَمْ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا قَالَ: رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً مَغْصُوبَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ غَاصِبٌ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا لِانْعِدَامِ الْغُرُورِ حِينَ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِرِقِّ مَائِهِ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ: أَنَا صَاحِبُهَا وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا أَوْ مَاتَ، وَقَدْ أَوْصَى إلَيَّ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَالْوَصَايَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا جَارِيَتَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَإِذْنُهُ فِي بَيْعِهَا لَمْ يَصِحَّ حِينَ أَنْكَرَهُ وَيَأْخُذُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ قَدْ تَحَقَّقَ بِمَا أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَإِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَتْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَهَذَا وَقَوْلُهُ إنَّهَا مِلْكِي سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَلْتَزِمُ سَلَامَتَهَا لَهُ، فَإِذَا غَرِمَ قِيمَةَ الْوَلَدِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا الْتَزَمَ. وَلَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُوَكِّلُ، ثُمَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 181 اُسْتُحِقَّتْ أَخَذَهَا الْمُوَكِّلُ الْمُسْتَحِقُّ وَعُقْرَهَا، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ صِفَةَ السَّلَامَةِ، وَالْوَكِيلُ لَهُ الْيَدُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الْخُصُومَةُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَكِيلِ فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَبِعْ مِنْ أَبِي الْوَلَدِ شَيْئًا أَوْ قَالَ لَمْ أَشْتَرِ هَذَا مِنِّي لَهُ فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِأَمْرِهِ، وَلَكِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِفُلَانٍ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِهَذَا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّا لَوْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الشِّرَاءُ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ وَبَعْدَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُوجِبٌ الْمِلْكَ لَهُ فَكُلُّ أَحَدٍ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِتَصَرُّفِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ الْمُبْتَدِئِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ مَلَكَهُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْمُسْتَوْلِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ مَعَ الْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَقَالَ الْمُسْتَوْلِدُ: اشْتَرَيْتهَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُسْتَحِقُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْجَارِيَةِ وَالْآخَرَانِ يُرِيدَانِ إبْطَالَ مِلْكِهِ فِي الْوَلَدِ بِقَوْلِهِمَا فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ وَصَدَّقَهُ الْمُسْتَحِقُّ فَالْوَلَدُ حُرٌّ لِإِقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ بِحُرِّيَّتِهِ وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، وَأَقَرَّ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ عَتَقَ الْوَلَدُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. قَالَ: رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُضَارِبُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ مَالِكًا نِصْفَهَا فِي الظَّاهِرِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ بِسَبَبٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُضَارِبُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا كَانَ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِرُبُعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ كَانَ بِقَدْرِ الرُّبُعِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا أَدَّى، وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَكُنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 182 مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ فَضْلٌ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا فَكَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِانْعِدَامِ التَّوَارُثِ حِينَ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهَا. وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْلَدَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمُضَارِبُ اشْتَرَاهَا لَهُ بِأَمْرِهِ فَهَذَا، وَفَضْلُ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَاَلَّذِي يَلِي خُصُومَةَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ الْمُضَارِبُ فَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَالرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْمُسْتَوْلِدِ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ هَذَا الْمُقَدَّرُ، وَهُوَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ قَالَ: رَجُلَانِ اشْتَرَيَا مِنْ وَصِيِّ يَتِيمٍ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ وَيَرْجِعُ الْأَبُ بِنِصْفِ تِلْكَ الْقِيمَةِ عَلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ بِبَيْعِهِ فَبِقَدْرِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْوَصِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَبَا الصَّبِيِّ فَهُوَ وَالْوَصِيُّ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا أَوْ مُضَارِبًا إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إلَّا بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عَامِلٌ لَهُ، وَفِي حِصَّةِ نَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا رُجُوعَ بِهِ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. قَالَ: وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْكَفِيلِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَرَكٍ فِي الْجَارِيَةِ إنَّمَا يَفُوتُ بِهَذَا مَا الْتَزَمَ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ يَجِدُهُ بِهَا فَيَرُدُّهَا وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ كَذَلِكَ هُنَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ قَالَ: وَإِذَا غَرَّتْ الْأَمَةُ مِنْ نَفْسِهَا رَجُلًا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَمَةٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ أَبُو الْوَلَدِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ صِفَةِ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْأَمَةِ إنَّمَا الْأَمَةُ أَخْبَرَتْهُ بِخَبَرٍ كَذِبٍ، وَمُجَرَّدُ هَذَا الْخَبَرِ لَا يُلْزِمُهُ ضَمَانَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَالَ: حُرَّةٌ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَكَبُرَا وَاكْتَسَبَا مَالًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُمَا ابْنَاهُ فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ جَحَدَ الِابْنُ الْبَاقِي، وَابْنُ الِابْنِ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يُصَدَّقَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا فَيَثْبُتُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 183 النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا، وَيَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِإِقْرَارِهِمَا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ أَبَوَيْنِ وَابْنًا فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ فَلِهَذَا قُسِمَ مَا فِي يَدِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَرْأَةِ بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَرِثُ بِهَذَا مَعَ ابْنِ الْمَيِّتِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْبَاقِيَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِشَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ فَتَصْدِيقُهُ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَتَكْذِيبُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَالٌ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّسَبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتًا وَسُقُوطًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدَ الرِّقِّ وَاخْتِلَافَ الدِّينِ وَالنَّسَبَ ثَابِتٌ، وَلَا مِيرَاثَ، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ بِأَخٍ آخَرَ فَالشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ ثَابِتَةٌ، وَلَا نَسَبَ وَمَا كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ الضَّرُورَةُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْجُمْلَةُ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْمِيرَاثُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ، وَقَدْ احْتَلَمَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَثُبُوتُ نَسَبِ أَخِيهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَسَبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً وَيَرِثُ مَعَهُ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمِيرَاثِ لَهُ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ سُدُسًا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ خُمُسُ مَا فِي يَدِهِ لِلْأَبِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَمَةً وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَاشْتَرَى رَجُلٌ أَحَدَهُمَا، وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَوَرِثَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ اشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ الِابْنَ الْبَاقِي مَعَ أُمِّهِ فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ إلَّا عَبْدٌ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَيِّتِ أَيْضًا مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ الَّذِي أَخَذَهُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ إيضَاحًا لِمَا سَبَقَ فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ عَلَى الْمَوْلَى بِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ يَقْدِرُ كَوَاحِدٍ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ الْمِيرَاثِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الِابْنَ الْآخَرَ فَيَدَّعِيَ نَسَبَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ مَا لَا يَخْفَى فَقُلْنَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ مِنْهُ ضَرُورَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَاب الْإِقْرَار] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَكِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً بِدَلِيلٍ مَعْقُولٍ وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَفِي حَقِّ الْغَيْرِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 184 بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ لَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ فَلِظُهُورِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جُعِلَ إقْرَارُهُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعًا قَوْله تَعَالَى {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] فَأَمْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ «وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْعَسْفِ «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُومُ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَلَيْهِ مَجْهُولًا فَيَصِحُّ إظْهَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَالْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» فَمَعَ الْجَهْلِ لَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ أَدَائِهَا فَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُحْتَاجٌ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مَعْلُومًا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَجْهُولًا فَقَدْ يَعْلَمُ أَصْلَ الْوُجُوبِ وَيَجْهَلُ قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِالْمَعْلُومِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِذَا احْتَمَلَ بِالْمَجْهُولِ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَلِهَذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلِهَذَا لَا يُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ قَالَ غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا بَيَّنَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَبْيِينِ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ فَالْغَصْبُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 185 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ فَإِذَا تَبَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرِّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ، وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُقِرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّهُ أَخَذَهُ وَإِنْ ادَّعَى غَيْرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ صَارَ رَادًّا إقْرَارَهُ بِنَفْيِ دَعْوَاهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَسْتَوِي إنْ بَيَّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارَ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا بَيَّنَ الْمَغْصُوبُ زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ الصَّغِيرُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَيَانُهُ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ وَفُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخُلْعِ فَإِنَّ مَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَالْخُلْعِ مَجَازًا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَالْفُرْقَةُ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْعَادَةِ فَلَا يَكُونُ فِيمَا صَرَّحَ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ فَأَمَّا الْغَصْبُ لَا يُطْلَقُ فِي الْعَادَةِ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ شَرْعًا إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ وَالْعَصْرُ قَبْلَ التَّخَمُّرِ كَانَ مَالًا فَسَدَ تَقَوُّمُهُ بِالتَّخَمُّرِ شَرْعًا وَصَارَ الْمُسْلِمُ مَمْنُوعًا مِنْ تَمَوُّلِهِ مِنْ غَيْرِ انْعِدَامِ أَصْلِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِالتَّخَلُّلِ يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلِهَذَا صَحَّ بَيَانُهُ ثُمَّ الْخَمْرُ مَحَلٌّ لِحُكْمِ الْغَصْبِ وَلِهَذَا كَانَ غَاصِبُ الْخَمْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ ضَامِنًا لِهَذَا قَبْلَ بَيَانِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمُقَرِّ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا هُنَا ثُمَّ التَّوَسُّعُ فِي الْإِقْرَارِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فَفِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِتَعَيُّنِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَالْإِقْرَارُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ بَلْ يَكُونُ الْمُقِرُّ فِيهِ مَقْبُولًا إذَا لَمْ يُخَالِفْ مَا يَلْفِظْ بِهِ سَوَاءٌ بَيْنَ الرَّدِيءِ أَوْ الْمَعِيبِ فَاسْمُ الْعَبْدِ أَوْلَى تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ فِعْلٌ يَسْتَدْعِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 186 مَحَلًّا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَلَأَنْ يَسْتَدْعِيَ صِفَةَ السَّلَامَةِ فِيهِ وَمِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْغَاصِبِينَ اخْتِيَارُ الْوَسَطِ وَالتَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا يَغْصِبُ الْغَاصِبُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَهَا مُوجِبٌ شَرْعًا فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَكَذَلِكَ لِلنَّاسِ عَادَةٌ فِي إيرَادِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ دُونَ الْمَعِيبِ فَلِهَذَا يُصْرَفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بِعَيْبِهِ مَنْصُوبًا فِي يَدِهِ قَائِمًا رَدَّهُ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ عَدَمِ رَدِّ الْعَيْنِ لِيَكُونَ خُلْفًا عَنْ الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ وَسُمِّيَتْ قِيمَةٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ دَارًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِهَا سَوَاءٌ عَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَذَاكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ. وَلَوْ قَالَ هِيَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي فِي يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ يَقُولُ الدَّارُ دَارِي فَالْقَوْلُ فِي تِلْكَ الدَّارِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُقِرِّ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ كَدَعْوَاهُ أَنَّهَا لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ مَالٌ مَحَلٌّ لِلْغَصْبِ ثُمَّ لَا يَضْمَنُ الْمُقِرُّ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَعْضِهَا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ أَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضَمْنَ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ هَذِهِ الْأَمَةَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ فَادَّعَاهُمَا جَمِيعًا الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْغَاصِبِ: قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَتَخَلَّفَتْ عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ " أَوْ " فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْمَذْكُورَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَقَدْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ حِينَ ادَّعَاهُمَا جَمِيعًا فَيَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَيْنَهُ وَتَبْقَى دَعْوَاهُ الْآخَرَ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ إذَا زَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّ الْمَغْصُوبَ هُوَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ فِي مُنْكَرٍ؛ وَلِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُقَرِّ لَهُ مُعَيَّنٌ، وَالْمُعَيَّنُ عِنْدَ الْمُنْكِرِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إقْرَارُهُ هَذَا الْمَحَلَّ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ثُمَّ هُوَ بِالتَّعْيِينِ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْبَيَانِ الثَّابِتِ لِلْمُقِرِّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبْهَمُ وَمَنْ أَبْهَمَ شَيْئًا فَإِلَيْهِ بَيَانُهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُقِرُّ الْآخَرُ صَحَّ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِهِ بِنَفْيِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 187 دَعْوَى الْمُقَرِّ لَهُ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ جَاحِدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ هَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَخْذِهِ؛ أَخَذَهُ وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اُسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا؟ نَقُولُ: فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ هُنَاكَ يُقَالُ لَهُ قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ عَلَى الْآخَرِ وَهُنَا لَا يُقَالُ لَهُ قِرَّ لِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ مُلْزِمٌ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَعْلُومٌ إنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَيُمْكِنُ إجْبَارُهُ عَلَى الْبَيَانِ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ وَهُنَا إقْرَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ لِلْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ الْغَصْبِ قَدْ بَيَّنَهُ حَالُهُ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَلَكِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لِلْمَجْهُولِ حُجَّةً تَامَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى الْبَيَانِ وَلَكِنَّهُمَا إنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ جَهَالَةٌ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ وَقَدْ يُزَالُ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَكَمَا يُؤْمَرُ الْغَاصِبُ بِالرَّدِّ عَلَى نَائِبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُقِرًّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لَا يَعْدُوهُمَا وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي الْتِزَامِ التَّسْلِيمِ إلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ بِإِقْرَارِهِ فَإِذَا اصْطَلَحَا فَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مِنْهُمَا يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اسْتَحْلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْحَقَّ لِنَفْسِهِ عَيْنًا وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِمُنْكَرٍ مِنْهُمَا وَالْمُنْكَرُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالْمَعْدُومِ وَلِلْقَاضِي الْخِيَارُ فِي الْبِدَايَةِ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَيِّهِمَا شَاءَ وَقِيلَ هَذَا بِالِاسْتِحْلَافِ لِمَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمَا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُحَلِّفْهُ الْآخَرُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فَأَمَّا النُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ لِكُلِّ قَسَمٍ وَمِنْ حُجَّةِ الْآخَرِ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي إنَّمَا نَكَلَ لَهُ؛ لِأَنَّكَ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لَهُ وَلَوْ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لِي لَكَانَ يَنْكُلُ لِي وَفِي الْإِقْرَارِ لَا يُمْكِنُ الْآخَرُ أَنْ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ مِنْهُ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلَّذِي يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ حَلَفَ لَهُ وَقَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَنُكُولُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَبِقِيمَتِهِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بِنُكُولِهِ صَارَ عَقْرًا لَهُ وَغَصَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهُ وَمَا لَوْ قَدَرَ إلَّا عَلَى النِّصْفِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 188 يَرُدُّهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَلَوْ حَلَفَ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْحُجَّةَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَلِحَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَهُمَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ عِنْدَ الِاصْطِلَاحِ ثَبَتَ لَهُمَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ اصْطَلَحَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ فَإِنَّ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ وَالْحَقُّ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَبْطُلُ بِالْيَمِينِ وَالْمَعْنَى الَّذِي فَاتَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالِاسْتِحْلَافِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ هُوَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالِاسْتِحْلَافَ كَانَ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَالْقَاضِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ أَوْ كَاذِبٌ وَلَا تَأْخِيرَ لِلْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ يَمِينَ الْمُقِرِّ يُبْطِلُ حَقَّ مَنْ حَلَفَ لَهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ وَمُزَاحَمَتَهُ ثُمَّ التَّفَقُّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ وَقَعَ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ وَالْمُسْتَحِقُّ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فَاسِدًا وَلَكِنْ أَرَادَ: مَنْعُهُ الْعِبَادَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ بِالِاصْطِلَاحِ مُمْكِنٌ فَإِنْ أَزَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْفَسَادِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا وَإِنْ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعٍ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِخِيَارٍ مَجْهُولٍ أَوْ بِعَمَلٍ مَجْهُولٍ إذَا تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْفَسَادِ بِالْقَضَاءِ وَهُنَا لَمَّا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا. (الثَّانِي) أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا طَلَبَ يَمِينَهُ فَقَدَ عَامِلَةَ الْمُنْكِرِينَ فَصَارَ رَادُّ الْإِقْرَارِ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الِاصْطِلَاحُ أَوْ الِاسْتِحْلَافُ فَكَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاصْطِلَاحِ كَانَا قَابِلَيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاسْتِحْلَافِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاسْتِحْلَافِ كَانَا رَادَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ الِاسْتِحْلَافُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ لِإِقْرَارِهِ قُلْنَا مَحَلُّ الْإِقْرَارِ لَا يَعْدُوهُمَا فَإِذَا وُجِدَ الِاسْتِحْلَافُ مِنْهُمَا فَقَدْ تَيَقَّنَ بِوُجُودِهِ مِمَّنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا لَا بَلْ مِنْ هَذَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلِلْآخَرِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " لِلِاسْتِدْرَاكِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 189 إثْبَاتٌ وَالرُّجُوعُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَإِثْبَاتُ مَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ فِي حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِبَعْضِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ حِينَ سَلَّمَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي قِيمَتُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " مَوْضُوعَةٌ لِمَا قُلْنَا مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِمَجِيءِ زَيْدٍ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الثَّانِي إنَّمَا شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا صَارَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَالشَّاهِدُ بِالْمِلْكِ إذَا أَرَدْتَ شَهَادَتَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَهُنَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَإِذَا أَقَرَّ بِغَصْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ تَاجِرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إنْ كَانَ فَائِتًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ إلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ صَغِيرًا كَانَ الْمُغْتَصَبُ مِنْهُ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ يُفْسَخُ مِنْ الْغَاصِبِ لِفِعْلِهِ فِيهِ وَحَقِيقَةُ انْفِسَاخِ فِعْلِهِ بِرَدِّهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ بِإِزَالَةِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ لِلْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ فِي نَفْسِهِ فَإِذَا أَعَادَهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ بِهِ مُعِيدًا لِمَا أَخَذَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ خَصْمٌ لَهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ فَيَبْرَأُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ انْتَزَعَ خَاتَمًا مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ بَرِئَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ كَمَا كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَبَهَ ثُمَّ نَامَ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَبَهَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْمُنْتَبِهِ فَلَا يَبْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِعَادَتِهِ إلَى أُصْبُعِ النَّائِمِ. كَمَا لَوْ غَصَبَهُ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ ثُمَّ جَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ قَالَ: خَلَا الْوَلَدِ الصَّغِيرُ مَعَ أَبِيهِ الْغَنِيِّ فَلِأَنَّ الْأَبَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى حَاجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِحِفْظِهِ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَا يَكُونُ جَانِبًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الصَّغِيرِ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ ثَابِتَةٌ وَإِنْ غَصَبَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ يَرُدُّهُ أَوْ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ أَمَّا كَسْبُ الْمُكَاتَبِ صَارَ أَحَقَّ بِهِ وَصَارَ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ فَإِذَا أَبَقَ بِهِ عَلَيْهِ صَارَ ضَامِنًا وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ فَكَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ غَاصِبًا وَكَذَلِكَ يُغْصَبُ مِنْ مَوْلَاهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 190 لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْمَوْلَى وَلَهُ ذِمَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا غَصْبَهُ مِنْهُ وَالْعَبْدُ فِيمَا يَغْصِبُ مِنْ مَوْلَاهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الدَّيْنِ فِيهَا لِلْمَوْلَى فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ مَوْلَاهُ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا كَلَامٌ هُوَ عَزِيمَةٌ لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ يُعْمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» وَلَنَا نَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فَكَانَ مُغَيِّرًا لِمُوجَبِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ وَالتَّعْبِيرُ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا مَفْصُولًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ مِنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا أَمَّا هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ لَغْوٌ وَعَزِيمَةٌ فَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ مُتَبَيَّنٌ أَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لَمْ يَكُنْ إيقَاعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيقَاعِ فَصَحَّ ذَلِكَ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. . وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إلَّا نِصْفَهُ صُدِّقَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا قُيِّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى لَا أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مَعْنَاهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْغَلَطِ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ حَتَّى تَدَارَكَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ؛ لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 191 إقْرَارٌ بِغَصْبِ مَا سُمِّيَ عَبْدًا وَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا فَلَمَّا كَانَ تَعْبِيرًا صَحَّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إلَّا مَلْبَسِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْقَرَّارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نُجَوِّزُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3]؛ وَلِأَنَّ طَرِيقَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ لَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّتُهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِطَرِيقِهِمْ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَكَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَالَ إلَّا الْعَبْدَ كُلَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ جُعِلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَكَانَ هَذَا رُجُوعًا لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعُمَرُ فَيَكُونُ إخْبَارًا بِمَجِيئِهِمَا. فَإِذَا قَالَ غَصَبْتُهُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً كَانَ إقْرَارًا بِغَصْبِهَا؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمَذْكُورِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلثَّانِي خَبَرٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ فَكَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ خَبَرًا لَهُ وَكَذَا خَبَرُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةً مَعَ سَرْجِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ بِفِعْلِ الْغَصْبِ فِيهِمَا إذْ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَارَنَةُ مِنْهُ إلَّا فِي هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا بِكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ فَرَسًا بِلِجَامِهِ أَوْ عَبْدًا بِمِنْدِيلِهِ فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَصِيرُ هُوَ مُلْصِقًا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْغَصْبِ وَيَكُونُ مَبْنِيًّا أَنَّ عِنْدَ غَصْبِهِ كَانَ اللِّجَامُ مُلْصَقًا بِالدَّابَّةِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا فَكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُ عَبْدًا فَجَارِيَةً فَإِنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَفِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْقِيبِ وَلَنْ تَتَحَقَّقَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا وَعَلَيْهِ كَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجُهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَغْصُوبَ مَحَلًّا لِمَا ذَكَرَهُ آخِرًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا. وَإِنْ قَالَ كَذَا مِنْ كَذَا بِأَنْ قَالَ غَصَبْتُ مِنْدِيلًا مِنْ غُلَامِهِ أَوْ سَرْجًا مِنْ دَابَّتِهِ كَانَ إقْرَارًا بِالْغَصْبِ فِي الْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ فَعَلَى أَنَّهُ انْتَزَعَ مَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا مِنْ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَقُولُ مِنْدِيلًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ بَدَنِهِ فَلَا يُفْهَمُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا عَلَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ إكَافًا عَلَى حِمَارِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْإِكَافِ خَاصَّةً، وَالْحِمَارُ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْمَغْصُوبِ حِينَ أَخَذَهُ وَغَصْبُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 192 لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا غَصْبَ الْمَحَلِّ وَلَوْ قَالَ كَذَا فِي كَذَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ كَالْمَاءِ نَحْوَ ثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ طَعَامٍ فِي سَفِينَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " فِي " حَقِيقَةً لِلظَّرْفِ فَهُوَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ الثَّانِيَ كَانَ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ مَعَ غَصْبِهِ وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ غَصْبُهُ لَهُمَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ فِي جَوَالِقَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ غَصَبْتُكَ دِرْهَمَيْنِ فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا فَلُغِيَ آخِرُ كَلَامِهِ فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ حَرْفَ " فِي " بِمَعْنَى حَرْفِ " مَعَ "؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْمُولٌ بِمَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] (قُلْنَا) إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْمَجَازِ فَكَمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى " مَعَ " يَحْتَمِلُ مَعْنَى " عَلَى " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ الثَّانِي وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى " مَعَ " لَزِمَهُ وَالذِّمَّةُ فِي الْأَصْلِ بَرِيئَةٌ فَلَا يَجُوزُ شَغْلُهَا بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ الْأَوَّلُ وَسَطَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُكَ ثَوْبًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَشَرَةَ قَدْ تَكُونُ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الثَّوْبَ النَّفِيسَ قَدْ يُلَفُّ عَادَةً فِي الثِّيَابِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ حِنْطَةٌ فِي جُوَالِقٍ أَوْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي ثَوْبٍ وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وِعَاءً لِلْعَشَرَةِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا صَرَّحَ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَعُلِّلَ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَوَابِ وَقَالَ: إنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ وِعَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ الْوِعَاءَ غَيْرُ الْمُوعَى وَالثَّوْبُ إذَا لُفَّ فِي ثِيَابٍ فَكُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ مُوعًى فِي حَقِّ مَا وَرَاءَهُ فَلَا يَكُونُ وِعَاءً إلَّا الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ ثَوْبٌ ظَاهِرٌ فَإِذَا كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَحَمْلُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْمُحْتَمَلِ وَبِتَأْوِيلٍ هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْكِرْبَاسُ وَعَشَرَةُ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكَرَابِيسِ عَادَةً. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ طَعَامًا فِي بَيْتٍ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْبَيْتِ وَالطَّعَامِ إلَّا أَنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُحَوِّلْ الطَّعَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 193 ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ تَامٍّ وَفِي الطَّعَامِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَنْقُلْهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلطَّعَامِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ لِلْبَيْتِ أَيْضًا وَمَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ مَعْرُوفَةٌ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ يَوْمًا وَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَى بَيَانِ صَدْرِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ دَعْوَى مُبْتَدِئٍ أَيْ أَوْفَيْتُهُ مَا لَزِمَنِي مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا دَعْوَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلرَّدِّ كَالْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ إذَا ادَّعَى الْإِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ كَلَامًا مَوْصُولًا وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ عَيْنِهِ أَوْ تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ أَوْ طَعَامًا مِنْ بَيْتٍ أَوْ ظَهْرَ دَابَّةٍ ضَمِنَ التَّمْرَ وَالثَّوْبَ وَالطَّعَامَ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ انْتِزَاعَ الْمَغْصُوبِ كَانَ بَيْنَ هَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ يَدِهِ يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْغَصْبِ فِي الثَّوْبِ دُونَ يَدِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ] (بَابُ إقْرَارِ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ تِجَارَتِهِمَا يُوَحَّدُ شَرِيكُهُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ لَنَا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي حُقُوقِ التِّجَارَةِ صَارَا بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا وَالْإِقْرَارُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَوُجُودُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا كَوُجُودِهِ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ وُجُوبُ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ وَلَكِنَّ الشَّرِيكَ مُطَالَبٌ بِهِ بِسَبَبِ التَّحَمُّلِ الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى صَدْرِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فِي دُيُونِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بِهَذَا فَالْمُفَاوِضُ الْمُقِرُّ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَحَقُّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ ثَابِتٌ أَيْضًا حَتَّى إذَا فَرَغَتْ التَّرِكَةُ مِنْ حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ صَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَرَضِ وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ صَارَ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَتَأَخُّرِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِمَكَانِ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ فِي الشَّرِيكِ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ وَيَكْفُلُ الْبَيَانَ عَنْهُ، يُؤَاخِذُ الْكَفِيلَ فِي الْحَالِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي حَقِّ الْأَصْلِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لَا تَأْجِيلَ فِي أَصْلِ الْمَالِ إنَّمَا التَّأْخِيرُ لِضَرُورَةِ انْعِدَامِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَيَكُونُ مُطَالَبًا فِي الْحَالِ بِإِيفَائِهِ وَلَوْ كَانَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 194 الْمُفَاوِضُ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يُلْزِمْهُ شَرِيكَهُ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا لَصَارَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِالْمَالِ هُنَا وَلَكِنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى الشَّرِيكِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ خِلَافَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَصَارَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِوَارِثِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مُوجِبَةٍ الْمَالَ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُؤَاخَذُ الشَّرِيكُ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِكَفَالَةٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّتُهُمَا أَنَّ دَيْنَ الْكَفَالَةِ لَيْسَ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَنْزِعُ مَا هُوَ تَبَرُّعٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ حَصَلَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا يَكُونُ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِهِ كَمَا يَجِبُ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ بِجِنَايَتِهِ وَكَلَامُهُمَا يَتَّضِحُ فِي الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْكَفِيلُ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ وَجَبَ بِمَا هُوَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ إذَا تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قُلْنَا أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ. الثَّانِي أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الْبُيُوعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهُ مُفَاوَضَةُ أَيِّهِمَا خُصُوصًا فِي الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْأَصِيلِ فَفِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَرِيضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَفِي حَقِّ الْمُفَاوِضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ فَإِذَا صَحَّ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً فَعِنْدَ صَيْرُورَةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مُطَالِبًا لَهُ فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ إقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِنَفْسِهِ تَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ مَا لَزِمَ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا كَإِقْرَارِهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ كَانَ لِسَبَبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 195 الْكَفَالَةِ عَنْ شَرِيكِهِ وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ (قُلْنَا) هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ مُبَاشَرَةُ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ وَهُنَا الْكَفَالَةُ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوُجُودُ وَإِنْ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَمَا كَانَ سَبَبُهُ مَوْجُودًا فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوَاجِبُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَإِنْ (قِيلَ) إذَا كَانَ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ (قُلْنَا) وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ إنَّمَا حَصَلَ فِي الْمَرَضِ فَكَانَ ذَلِكَ مَزِيدَ الْمَرَضِ لِهَذَا الْمَرِيضِ؛ وَلِأَنَّ إقْرَارَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ لِوَارِثِ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ لَزِمَ الصَّحِيحَ كُلُّهُ دُونَ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ كَإِقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَإِقْرَارُهُ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْأَصِيلِ فَلِهَذَا وَجَبَ الْمَالُ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِنْ (قِيلَ) إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتُهْمَةِ الْإِيثَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ إقْرَارِ شَرِيكِهِ (قُلْنَا) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لِوَارِثِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ لِشَرِيكِهِ لِتَقَرُّبِهِ لَهُ ثُمَّ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِ الْمَرِيضِ فَلْيُمَكِّنْ هَذِهِ التُّهْمَةَ؛ (قُلْنَا) لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَلَا تُهْمَةَ فِي مَا يُقِرُّ لَهُ الشَّرِيكُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ. وَلَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ قَالَ لِرَجُلٍ مَا ذَابَ لَكَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا وَجَبَ لَكَ عَلَيْهِ أَوْ مَا قُضِيَ لَكَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ فُلَانٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَقُضِيَ بِهَا لَهُ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمَرِيضَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ صَحَّ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَلَزِمَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ فِي كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرَكَ عَنْ رَجُلٍ فِي دَارٍ بَاعَهَا ثُمَّ مَرِضَ فَلَزِمَ الدَّرَكُ كَانَ مُطَالَبًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَنِدٌ إلَى سَبَبِهِ وَلَمَّا تَمَّ السَّبَبُ هُنَا وَلَزِمَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ لِمَا فِي الْبَطْنِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ لِمَا فِي الْبَطْنِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِقْرَارُ لِمَا فِي الْبَطْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا صَالِحًا مُسْتَقِيمًا بِأَنْ يَقُولَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ جِهَةِ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 196 أَوْ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا بِمَا لَهُ فَاسْتَهْلَكَتْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ)؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَقِيمًا لَوْ عَايَنَهُ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي فَإِنَّ الْمَالَ مَنْفِيٌّ عَلَى حَقِّهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ إلَى وَارِثِهِ أَوْ إلَى مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُوَرِّثُ وَالْمُوصِي مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِدَابَّةِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْصَى لَهُ بِالْعَلَفِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا فَالْمُقَرُّ بِهِ لَهُ وَإِنْ وَلَدَتْهُ مَيِّتًا فَالْمَالُ مَرْدُودٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَالْمُوصِي، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ السَّبَبِ مَقْبُولٌ، وَهَذَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ حَتَّى حُكِمَ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا بِمُسْتَحِيلٍ بِأَنْ يَقُولَ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ بَيْعٍ بَايَعَتْهُ أَوْ قَرْضٍ أَقْرَضَتْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْجَنِينِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الْجَنِينِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْجَنِينِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاذَا كَانَ مَا سَبَّبَهُ مِنْ السَّبَبِ مُحَالًا صَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَإِنْ (قِيلَ) هَذَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارِهِ بِإِذْنٍ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَيَانُ السَّبَبِ مُحْتَمَلٌ فَقْدُ نَسَبِهِ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَتَبَيُّنِ سَبَبِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ. وَالثَّالِثُ أَنْ يُقِرَّ لِلْجَنِينِ بِمَالٍ مُطْلَقٍ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَيَقُولُ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ هَذَا الْعَيْنُ مِلْكٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ فَوَلَدَتْ لِمُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُو بِهِ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ لَا بِمَا هُوَ لَغْوٌ فَيُجْعَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبًا صَحِيحًا لِإِقْرَارِهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مَهْمَا أَمْكَنَ إعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْجَنِينُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِقْرَارُ وَسَبَبُهُ وَيَصِحَّ إعْتَاقُهُ وَالْإِقْرَارُ يَعْتِقُهُ وَيَرِثُ وَيُوصِي لَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 197 فَكَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمُنْفَصِلِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَكُونُ إقْرَارًا صَحِيحًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِ لِلْجَنِينِ وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مَحْمُولٌ عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَمْنَعَانِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ وَيَدْعُو بِهِ إلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ مُطْلَقٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَمْلِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُحْمَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ جِهَةَ التِّجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ ابْتِدَاءً هُنَا يَقَعُ لِلْجَنِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ ابْتِدَاءٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ وَلِهَذَا لَا يَلِي عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْتَبِئًا فِي الْبَطْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِجْرَاءِ وَالْإِبْعَاضِ فَأَمَّا الْعِتْقُ وَالْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالسَّبَبِ لَيْسَ بِإِيجَابِ حَقٍّ لَهُ ابْتِدَاءً بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَهُ لَا يَكُونُ إيجَابًا لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً بَلْ يَكُونُ إقْرَارًا لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ إنْ انْفَصَلَ حَيًّا أَمَّا هَذَا إيجَابُ الْحَقِّ لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارِ] (بَابُ الْخِيَارِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ قَائِمَةٍ أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ أَمَّا جَوَازُ الْإِقْرَارِ فَلِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي لِفُلَانٍ وَأَمَّا الْخِيَارُ فَبَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ إنْ اخْتَارَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَصُدِّقَ اخْتَارَهُ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا مَا يَبَرُّ يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ فِي الْعُقُودِ بِالشَّرْطِ لِيَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرَ مَنْ لَهُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ فَمُنِعَ كَوْنُ الْكَلَامِ إقْرَارًا وَالْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَإِذَا لُغِيَ بَقِيَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اللُّزُومُ ثَانِيًا وَهَذَا كَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُهُ وَيَسْتَوِي إنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ فِي الْخِيَارِ أَوْ كَذَّبَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 198 بَيْعٍ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْخِيَارَ فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ فَمَنْ ادَّعَى دَعْوَةً مُعْتَبَرَةً بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَأَمَّا مَا سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ فِعْلًا مِنْ فَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ وَلَوْ عَايَنَ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِيهِ كَانَ لَغْوًا فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مِنْ كَفَالَةٍ عَلَى شَرْطِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَصِيرَةٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهُ إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ فَيُجْعَلُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْكَفَالَةِ فَقَالَ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَفِي الْكَفَالَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِبَعْضِ الْأَخْطَارِ نَحْوَ قَوْلِهِ مَا ذَابَ لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَنَحْوَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِخَطَرِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا كَانَ هُوَ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْلِيقِ كَانَ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِأَصْلِهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ فَأَمَّا الْبَيْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِتْقِ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ فَقُلْنَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَمْ تَصْدُقْ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْكَفَالَةِ اللُّزُومُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ كَفَلَ بِمَالٍ مُوجَدٍ مُطْلَقًا يُثْبِتُ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ يَأْمُرُهُ كَمَا يُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَمَا يَكُونُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيهِ بِخِلَافِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ التَّاجِرِ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ تِجَارَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ صِيَغِ التُّجَّارِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي التَّاجِرُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ يُعَامِلُهُ إشْهَادُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ كُلَّ مُعَامَلَةٍ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا يَتَحَذَّرُ عَنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا إقْرَارَهُ وَبِخِلَافِ إقْرَارِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ مَا يُقِرُّ الْمَرْءُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ شَهَادَةً فَمِنْ الْأَبِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ الْإِقْرَارُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 199 عَلَى نَفْسِهِ وَيَسْتَوِي إنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ مِمَّا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ أَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَهُ عَنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ يَجُوزُ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ وَذُكِرَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا يَرِثُهُ مِنْ أَبِيهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْإِقْرَارِ فَصَارَ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَاسْتَوْفَى جَمِيعَ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ إنْ أَنْكَرَ شُرَكَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْإِذْنِ وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَدَيْنِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَقَدْ نُفِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِقِيَامِ الصِّغَرِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَوْ أَقَرَّ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ يُؤَاخِذُ بِهِ شَرِيكَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا فَهَذَا مِثْلُهُ. فَالْكَفَالَةُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْزَعُ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 200 [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعَارِيَّةِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعَارِيَّةِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ عِنْدَهُ عَارِيَّةٌ بِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ بِمِيرَاثِهِ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ هَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ)؛ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِلْصَاقِ، فَقَدْ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ مُلْصَقًا بِمِلْكِ فُلَانٍ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ وَكَالَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الصِّلَةِ هُنَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ أَوْ مِيرَاثُ فُلَانٍ أَوْ حَقُّ فُلَانٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] اقْتَضَى الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَارِيَّةً عِنْدِي مِنْ مِلْكِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ " مِنْ " فِي الْأَصْلِ لِلتَّبْعِيضِ فَذَلِكَ إقْرَارٌ يَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وقَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الصِّلَةِ فَهُوَ إقْرَارٌ أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] يَعْنِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ " مِنْ " لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إقْرَارًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَيَّزَ الْمُقَرَّ بِهِ عَنْ سَائِرِ مَا فِي يَدِهِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ. وَلَوْ قَالَ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: وَالثَّوْبُ وَالدَّابَّةُ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ، لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ تَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حُمِلَ قَوْلُهُ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِ فُلَانٍ إقْرَارًا مُؤَكَّدًا، وَأَمَّا إذَا قَالَ لِحَقِّ فُلَانٍ فَنَقُولُ: اللَّامُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَكْرَمْتُكَ لِتُكْرِمَنِي وَزُرْتُكَ لِتَزُورَنِي، وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْحُرْمَةِ كَالرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَنَهَاهُ الْغَيْرُ فَيَقُولُ تَرَكْتُهُ لَكَ أَيْ لِحُرْمَتِكَ وَشَفَاعَتِكَ فَهُنَا قَوْلُهُ لِحَقِّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 فُلَانٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَالْحُرْمَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ وَحُرْمَتِهِ إعَادَةُ صَاحِبِهِ، فَهُنَا قَوْلُهُ " مِنِّي " فَلَمَّا احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجْعَلْ إقْرَارًا لَهُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الْأَلْفُ مُضَارَبَةً عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ أَيْ إنَّمَا رَفَعَهَا صَاحِبُهَا إلَى مُضَارَبَةٍ لِأَجْلِ شَفَاعَةِ فُلَانٍ وَحُرْمَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَرْضِ لِحَقِّ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا تُجْزِئُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ عَادَةً إنَّمَا تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَالَاتُ، فَإِذَنْ انْتَفَى مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي الْقَرْضِ فَبَقِيَ إقْرَارًا لِمِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ تُجَزِّئُ فِيهِمَا الشَّفَاعَاتُ عَادَةً. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عِنْدِي عَارِيَّةٌ لِحَقِّ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَكَانَ هَذَا وَالْإِقْرَارُ بِالْقَرْضِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ. وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْكَ عَارِيَّةً، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ أَخَذْتُهُ مِنِّي بَيْعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْآخِذِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْبَسْهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ فَهَلَكَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى اللَّابِسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَاللَّابِسُ وَصَاحِبُهُ مُنْكِرَانِ، فَإِنْ (قِيلَ) لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيْعَ الثَّوْبِ مِنْ الْغَيْرِ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى لُبْسِهِ فَلَمَّا أَقَرَّ صَاحِبُهُ بِالْبَيْعِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْإِذْنُ فِي اللُّبْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ اللَّابِسُ كَمَا قُلْنَا فِي الْآخِذِ (قُلْنَا) التَّسْلِيطُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ لِيَلْبَسَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ لِإِنْكَارِهِ لَمْ يَثْبُتْ تَسْلِيطُ صَاحِبِهِ إيَّاهُ عَلَى لُبْسِهِ، وَهُوَ فِي اللُّبْسِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْآخِذِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْآخِذِ عَامِلًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ كَالْمُودِعِ فِي أَخْذِ الْوَدِيعَةِ لِيَحْفَظَهَا فَلَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ إذَا لَمْ يُنْكِرْ صَاحِبُهُ أَصْلَ الْإِذْنِ الْإِذْنِ وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ غَصَبَنِي فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَالِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَعِنْدَ التَّصَادُقِ عَلَى الْحُكْمِ لَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ " لَا بَلْ غَصَبَنِي " لَا يَكُونُ رَدًّا لِأَصْلِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ رَدًّا لِلسَّبَبِ فَيَبْقَى إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي وُجُوبِ الْمَالِ لِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بِعَيْنِهَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْمُقِرُّ بِدَعْوَى الْقَرْضِ يَدَّعِي مِلْكَهَا عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِي عَارِيَّةٌ لِفُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَوْ مِنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 قِبَلِ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَتَأَتَّى فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَكَانَتْ الْإِعَارَةُ فِيهَا تَسْلِيطًا بِشَرْطِ ضَمَانِ الرَّدِّ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْقَرْضِ. وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عَارِيَّةٌ بِيَدِي عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إقْرَارٌ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ " عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ " مَعْنَاهُ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا إلَيَّ عَارِيَّةً عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَإِنَّمَا إقْرَارُهُ فُلَانًا كَانَ رَسُولًا فِيهَا فَلَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لَهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ يَدِ فُلَانٍ، وَالْمُتَعَيِّنُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُ الرَّدُّ الْمُكَارِيَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذَا الْإِقْرَارِ رَدُّهَا عَلَى فُلَانٍ فَلِهَذَا كَانَ مِنْهُ إقْرَارًا لِفُلَانٍ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا) (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بِالْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى النُّقْصَانِ إلَّا إنْ بَيَّنَ الْوَزْنَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ فَإِنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْوَزْنِ فِيهِ إلَّا بِذِكْرِ الْعَدَدِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمُطْلَقُ ذِكْرِ الْوَزْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِالْكُوفَةِ فَالْمُتَعَارَفُ بِهَا فِي الدَّرَاهِمِ سَبْعَةٌ وَكَمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ وَزْنُ خَمْسَةٍ بَيَانٌ مُعْتَبَرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا بَيَانَهُ، وَالتَّعْبِيرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا وَمَعْنَى قَوْلِنَا وَزْنُ سَبْعَةٍ أَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَإِذَا كَانَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا تُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الزَّكَاةِ وَنِصَابُ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَوْزَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهَا مَا كَانَ الدِّرْهَمُ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَمِنْهَا مَا كَانَ عَشَرَةَ قَرَارِيطَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنَ خَمْسَةٍ وَمِنْهَا مَا كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنُ سِتَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى نَقْدٍ وَاحِدٍ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا، وَكَانَ الْكُلُّ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا وَأَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةٌ فَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَهُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ الَّتِي جَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهَا النَّاسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَبَايَعُونَ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ بَيْنَهُمْ يَنْقُصُ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 وَزْنِ سَبْعَةٍ لَمْ يَكُنْ نَصٌّ مِنْ لَفْظِهِ إنَّمَا كَانَ بِالْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَوْقَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُرْفُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ سِوَى الْإِقْرَارِ. وَإِنْ اُدُّعِيَ وَزْنٌ دُونَ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا إذَا ذَكَرَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهَا نَقْدًا بِعَيْنِهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ غَالِبًا عَلَى الْبَعْضِ يَنْصَرِفُ إقْرَارُهُ إلَى الْأَقَلَّ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا بَيَانُ التَّفْسِيرِ حِينَ اسْتَوَتْ النُّقُودُ فِي الرَّوَاجِ، وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ صَحِيحٌ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا كَبَيَانِ الزَّوْجِ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ بِالْكُوفَةِ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِيضٌ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ: هِيَ تَنْقُصُ دَانِقًا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِهِ انْصَرَفَ إلَى الْإِقْرَارِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَدَعْوَاهُ النُّقْصَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إسبهبدية عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ هَذِهِ الصِّغَارَ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ مِنْ الإسبهبدية؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إسبهبدية يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ " سُودٌ " يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ الصِّفَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَزْنُ والإسبهدية فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ مَعْنَاهُ اسبه سالادية. وَالصِّغَارُ هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ النَّاسُ مَهْرًا تَكُونُ سِتَّةٌ مِنْهُ بِوَزْنِ دِرْهَمٍ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نُقْصَانِ الْوَزْنِ مَفْصُولًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ السُّودِ الْخِيَارِ، ثُمَّ قَالَ هِيَ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَقَالَ الطَّالِبُ: هِيَ مَثَاقِيلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الدَّرَاهِمِ بَيَانٌ لِلْوَزْنِ، وَقَوْلُهُ " مِنْ السُّودِ " بَيَانٌ لِلصِّفَةِ، وَقَوْلُهُ " الْخِيَارِ " بَيَانُ الْعَرْضِ وَبِهِ لَا يَزْدَادُ الْوَزْنُ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَوَصْفُهُ بِالصِّغَرِ إمَّا لِلْأَثْقَالِ أَوْ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وَبِهِ لَا يُنْتَقَصُ الْوَزْنُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَلَا غَايَةَ لِأَقْصَاهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ الِاسْتِيجَابُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا يُلْفَظُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمَاتٌ فَهُوَ تَصْغِيرٌ بِجَمْعِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا التَّصْغِيرُ لَا يَنْقُضُ الْوَزْنَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ فُلَيْسٌ أَوْ قُفَيْزٌ أَوْ رُطَيْلٌ فَهُوَ وَقَوْلُهُ " فَلْسٌ، وَقَفِيزٌ، وَرِطْلٌ " سَوَاءٌ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى التَّمَامِ مِنْ ذَلِكَ وَزْنًا وَكَيْلًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ كَمَا قَالَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 وَكَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ مِثْقَالٍ عَنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا فَكَذَلِكَ إذَا نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا لَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ رُبْعُ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ رُبْعُ حِنْطَةٍ بِرُبْعِ الْبَلَدِ الْأَكْبَرِ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ الرُّبْعَ الصَّغِيرَ لَمْ يُصَدَّقْ. وَالرُّبْعُ اسْمٌ لِمِكْيَالٍ كَالْقَفِيزِ وَالصَّاعِ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهِ الْأَكْبَرُ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الْوَزْنِ. ثَوْبٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ، فَقَالَ: وَهَبَهُ لِي فُلَانٌ، فَقَالَ: نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ بَلَى أَوْ صَدَقْتَ أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَفْهُومِ الْمَعْنَى، وَهُوَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ لِلْجَوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] أَيْ نَعَمْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ فَيَثْبُتُ الْعَقْدُ بِإِقْرَارِهِ وَالْقَبْضُ مَوْجُودٌ فَيُجْعَلُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ قُبِلَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ يُقْبَضُ بِحُكْمٍ، وَالْقَبْضُ فِعْلٌ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ كَذِبًا فَإِنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَقًّا كَقَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ وَجُحُودِ الْمُبْطِلِينَ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِبَةٍ تَامَّةٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْقَبْضُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا هُوَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. فَإِنْ أَقَرَّ الْوَاهِبُ بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ أَنْكَرَ التَّسْلِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ الْقَاضِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُحَلِّفْهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِحْسَانًا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الْبَائِعُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، ثُمَّ جَحَدُوا أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْقَبْضِ، وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَالِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا عُرِفَ مِنْ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ يُقِرُّ بِالثَّمَنِ لِلْإِشْهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ حَقِيقَةً فَلِلِاحْتِيَاطِ لِحَقِّهِ يَسْتَحْلِفُ الْخَصْمَ إذَا طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 [بَابٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ] (بَابٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ) (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِشْرُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ دُرْجٍ: عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْعَشَرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ تَكُونُ مِائَةً فَإِقْرَارُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ). وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إنَّ حِسَابَ الضَّرْبِ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مَعَ أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْآخَرِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَإِنْ تَكَثَّرَتْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ حَرْفُ " فِي " بِمَعْنَى حَرْفِ " نُونٍ "، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَيْ مَعَ عِبَادِي فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ وَكُنَّا نَقُولُ حَرْفُ " فِي " لِلظَّرْفِ، وَالدَّرَاهِمُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدَّرَاهِمِ وَجَعْلُهُ بِمَعْنَى " مَعَ " مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ " مَعَ "، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ " عَلَى " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُ عَشَرَةٌ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ لَغْوٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ إلَّا أَنْ يَقُولَ: عَنَيْتُ هَذِهِ وَهَذِهِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بَيَانُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ، وَفِيهِ تَسْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الدِّرْهَمُ وَالْقَفِيزُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلدِّرْهَمِ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ حَرْفِ الظَّرْفِ فِيهِ فَيَلْغُو آخِرُ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ وَبِالدِّرْهَمِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ الْقَفِيزَ لِيُعْتَبَرَ كَالْمُقْتَرِنِ بِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الدِّرْهَمُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فِي دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْقَفِيزُ وَبَطَلَ الدِّرْهَمُ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلْقَفِيزِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ فِرْقُ زَيْتٍ فِي عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الزَّيْتُ وَالْحِنْطَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلزَّيْتِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْيَهُودِيُّ هُوَ الدَّيْنُ وَالْخَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَسْلَمَهَا إلَيَّ فِيهِ فَهَذَا بَيَانٌ، وَلَكِنْ فِيهِ يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ كَلَامِهِ كَوْنُ الْخَمْسَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَبِمَا ذَكَرَهُ الْآنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّوْبَ دَيْنٌ عَلَيْهِ دُونَ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ، وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الطَّالِبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ قُلْنَا الْحَقُّ لَا يَدِينُهُمَا فَيَثْبُتُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ جَحَدَ كَانَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يُحَلِّفَهُ وَلِيُّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدَ السَّلَمِ وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقِرُّ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَمَا أَقَرَّ بِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 مَعَ دِرْهَمٍ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى ذُكِرَ الْوَصْفُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ الْوَصْفُ مُنْصَرِفًا إلَى الْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يُقْرَنْ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَالرَّجُلِ يَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو وَيَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٍو يَكُونُ " قَبْلُ " نَعْتًا لِمَجِيءِ عَمْرٍو إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَعَ أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ فَكَلِمَةُ مَعَ الضَّمُّ وَالْقِرَانُ سَوَاءٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا وَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا لِضَمِّهِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ دِرْهَمٍ آخَرَ يَجِبُ عَلَيَّ، وَلَوْ قَالَ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا أَيْ قَبْلَهُ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَعْدَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ قَدْ وَجَبَ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَحَدَهُمَا دِينَارًا أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ الْإِقْرَارُ مُخَالِفٌ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ لَا يَقَعُ وَالدِّرْهَمُ بَعْدَ الدِّرْهَمِ يَجِبُ دَيْنًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَمُوجَبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَدِرْهَمٌ " أَيْ فَعَلَيَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ وَكُنَّا نَقُولُ الْفَاءُ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ، فَقَدْ جُعِلَ الثَّانِي مَوْصُولًا بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْلُ إلَّا بِوُجُوبِهِمَا، وَكَانَ هَذَا الْوَصْلُ فِي مَعْنَى الْعَطْفِ. وَكَذَلِكَ التَّعْقِيبُ يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ وُجُوبَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الْكَلَامِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَهُ الْأَوَّلِ وَالتَّكْرَارُ لَا يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْعَطْفِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْوَاوِ فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ بِدِرْهَمٍ اسْتَقْرَضْتُهُ أَوْ بِدِرْهَمٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَقَدْ أَعَادَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَهُ لَهُ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَبِهَذَا تَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ كَلَامَهُ الْأَوَّلِ وَبِالتَّكْرَارِ لَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ يُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 35]. وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ، ثُمَّ دِرْهَمَانِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْقِيبَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَيْهِ كَانَ بَعْدَ وُجُوبِ الدِّرْهَمِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَتَانِ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِهِ قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ فَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمِائَةِ بَاطِلٌ، وَإِقْرَارُهُ بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِقَامَةِ مَقَامَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَيْنِ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْغَلَطُ يَتَمَكَّنُ فِي الْخَبَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ الْمَالِ الثَّانِي اسْتِدْرَاكُ الْغَلَطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ الْأَوَّلِ لَا ضَمُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ سِنِّي خَمْسُونَ لَا بَلْ سِتُّونَ كَانَ إخْبَارَ السِّتِّينَ فَقَطْ، وَيَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ كَانَ إخْبَارًا بِحَجَّتَيْنِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذَا يَقَعُ فِي الْقَدْرِ عَادَةً لَا فِي الْجِنْسِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْقَدْرَ الْأَوَّلَ فَزَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ عُمْرَتَيْنِ وَيَقُولُ: حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ فَهُوَ إيقَاعٌ وَإِنْشَاءَاتٌ، وَفِي الْإِنْشَاءَاتِ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ هُنَا مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ، وَقَالَ: كُنْتُ طَلَّقْتُهَا أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ كَانَ إقْرَارًا بِاثْنَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَتَانِ لَا بَلْ مِائَةٌ فَعَلَيْهِ أَزْيَدُ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ الْمِائَتَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِدْرَاكَ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَلَمْ يَعْمَلْ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ جِيَادٌ لَا بَلْ زُيُوفٌ، أَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ زُيُوفٌ لَا بَلْ جِيَادٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ أَفْضَلُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَدَدِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 جَمِيعًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ مَالٌ آخَرُ بَلْ قَصْدُهُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا أَوْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَوْ أَقَرَّ بِالْمِائَةِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ذِكْرُ الْمِائَةِ فِي كَلَامِهِ مُنَكَّرٌ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] فَإِنَّ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِفَادَةِ لَا يَحْمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ فَإِذَا صَارَ الْمَالُ الْأَوَّلُ مُسْتَحْكِمًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَلَوْ حَمَلْنَا إقْرَارَهُ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَالٍ آخَرَ كَانَ مُفِيدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْمَالُ لَا يَصِيرُ مُسْتَحْكِمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى تِلْكَ الْمِائَةَ فَأَعَادَهُ مُعَرَّفًا لَا مُنَكَّرًا وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَا كَانَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ مَالَانِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: لِلْمَجْلِسِ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعَلَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ (أَلَا تَرَى) الْأَقَارِيرَ فِي الزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِمِائَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ ثَمَانِينَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِمِائَتَيْنِ، ثُمَّ بِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً قَرْضًا فَهَذَا دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقُرْبَ مِنْ يَدِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالْأَمَانَةِ وَمِنْ ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ بَقِيَ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا لِلْأَمَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِضَاعَةٌ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ خَاصَّةً، وَهُوَ الْقَرْضُ وَمَتَى جُمِعَ بَيْنَ لَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ وَالْآخَرُ الدَّيْنَ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ دَيْنًا يَعْتَرِضُ عَلَى كَوْنِهِ أَمَانَةً فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا اسْتَهْلَكَ أَوْ خَالَفَ وَاسْتَقْرَضَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْأَمَانَةُ لَا تُطْرِي عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّ مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِيرُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِحَالٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَا يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصَّةٌ لِلْإِخْبَارِ وَاسْتِحْقَاقِهِ " مِنْ "، وَإِنَّمَا يَعْلُوهُ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَضَائِهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبْلُ فَهُوَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّكَّ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الدَّيْنِ يُسَمَّى مَالًا وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى بِهِ قَبِيلًا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، وَإِنْ قَالَ: عِنْدِي فَهَذَا إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا كَمَا بَيَّنَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْأَقَلُّ، وَهُوَ الْوَدِيعَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَعِي أَوْ فِي يَدِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ صُنْدُوقِي فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ إنَّمَا تَكُونُ مُحْتَمَلًا لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحِلُّهُ الذِّمَّةُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي مَالِي مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا أَدَّى، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنْ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ لَهُ بِالشَّرِكَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ، فَقَدْ خَلَطَهُ بِمَالٍ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَكَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلِطْهُ فَقَوْلُهُ فِي مَالِي بَيَانُ أَنَّ مَحَلَّ قَضَاءِ مَا أَقَرَّ بِهِ مَالُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالُهُ مَحِلًّا لِقَضَاءِ مَا هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَافُ إلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ خَاصَّةً فَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي مَالِي إلَّا عَلَى بَيَانِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دَرَاهِمِي هَذِهِ دِرْهَمٌ فَهَذِهِ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ بَعْضَ مَالِهِ كَلَامُهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِنْشَاءِ الْهِبَةِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ. وَإِنْ قَالَ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ لِي فِيهَا فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ تَأْخِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَيْسَ الْهِبَةَ فَأَخْبَرَ بِانْتِهَاءِ حَقِّهِ عَنْهُ وَلَا يَنْتَفِي حَقُّهُ عَنْ الْمَوْهُوبِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ فَعَرَفْنَا بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ مِنْ لِلتَّمَيُّزِ لَا لِلتَّبْعِيضِ فَجَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُمَيَّزًا مِنْ مَالِهِ بِإِقْرَارِهِ لِفُلَانٍ لَا حَقَّ لِي فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ قَرْضٌ أَوْ مُضَارَبَةُ قَرْضٍ فَهُوَ قَرْضٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ قَدْ تَنْقَلِبُ قَرْضًا، فَأَمَّا الْقَرْضُ لَا يَنْقَلِبُ وَدِيعَةً وَلَا مُضَارَبَةً. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 وَدِيعَةٌ فَهِيَ وَدِيعَةٌ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا فَسَّرَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَيْ حِفْظُهَا لَا عَيْنُهَا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ وَمَتَى فُسِّرَ كَلَامُهُ بِمَا يَحْتَمِلُ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَكَانَ. وَإِنْ قَالَ: قِبَلِي لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَدِيعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ دَيْنٌ فَهُوَ دَيْنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرِ لِلدَّيْنِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزُّيُوفِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزُّيُوفِ) (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزُّيُوفِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا الِاسْتِيفَاءُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا، وَلَكِنْ فِيهِ تَعْبِيرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ بِيَاعَاتِ النَّاسِ تَكُونُ بِالْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَكُونُ صَحِيحًا إذَا كَانَ مَوْصُولًا كَقَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَفُلَانٍ خَمْسَةٌ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ اسْتِثْنَاءً لِلْوَصْفِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ بِأَنْ قَالَ: الْأَمَانَةُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الزِّيَافَةُ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي سَلَامَةَ الثَّمَنِ عَنْ الْعَيْبِ فَلَا يُصَدَّقُ هُوَ فِي دَعْوَى كَوْنِ الثَّمَنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُعَيَّنًا كَمَا لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ مَعِيبٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْعَيْبَ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا مَا هُوَ مُقْتَضٍ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ، وَفِي قَوْلِهِ كَانَ مَعِيبًا يَصِيرُ رَاجِعًا وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ غَيْرُ صَحِيحٍ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّارِ مُطْلَقًا حَتَّى يُسْتَثْنَى مِنْ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَدْرَ وَاسْتِثْنَاءُ الْمَلْفُوظِ صَحَّ لِيَصِيرَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بَيْعٌ لِلْأَصْلِ فَثُبُوتُهُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا بَعْضُ الْمِقْدَارِ لَا يَتْبَعُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْقَدْرِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلْعَيْبِ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فَكَانَ هُوَ وَثَمَنُ الْبَيْعِ سَوَاءً، وَالِاسْتِقْرَاضُ مُتَعَامَلٌ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ فِي الْجِيَادِ عَادَةً وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هُنَا يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرَضِ بِالْقَبْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ رَدُّهُمْ غَصْبٌ فَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَهُوَ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبَ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُنَا يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِمُقْتَضَى عَقْدِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجُودَةِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا مُطْلَقَ إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ أَوْلَى. وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً، وَقَالَ هُوَ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ زُيُوفٌ صَدَقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي الْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَالْمُودِعَ إنَّمَا يُودِعُ غَيْرَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ أَنَّهَا زُيُوفٌ مُعْتَبَرٌ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا وَلَوْ قَالَ فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ إلَّا أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ، فَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا صُدِّقَ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّحَوُّرُ بِهَا فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَكَانَ فِي هَذَا الْبَيَانِ تَعْبِيرًا لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ صُورَةً وَحَقِيقَةً وَتَأْخِيرُ كَلَامِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ الدَّرَاهِمُ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الزُّيُوفَ دَرَاهِمُ صُورَةً وَحَقِيقَةً فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَعْبِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ كُرْ حِنْطَةً مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فَإِنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْحِنْطَةُ قَدْ تَكُونُ رَدِيئَةً فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيَانِ النَّوْعِ، وَلَيْسَ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مُقْتَضًى فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَلِهَذَا صَحَّ الشِّرَاءُ بِالْحِنْطَةِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيئَةٌ فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ هَذَا تَعْبِيرٌ مُوجِبٌ أَوَّلَ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 مَفْصُولًا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ عَلَى هَذَا فَالرَّدَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْجَيِّدُ أَفْضَلَ فِي الْمَالِيَّةِ لِزِيَادَةٍ الرَّغْبَةِ فِيهِ، وَلَكِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِكُرِّ حِنْطَةٍ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صُدِّقَ فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ فَفِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِطَعَامٍ، قَدْ أَصَابَهُ الْمَاءُ وَعَفَنَ، فَقَالَ هَذَا الَّذِي غَصَبْتُهُ أَوْ أُودِعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي التَّسْلِيمِ مِنْهُ دُونَ الْعَيْبِ، وَلَكِنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُتَّفَقُ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطْلَقًا لِلَفْظِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ ثَوْبًا يَهُودِيًّا، ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مُنْخَرِقٍ خَلَقٍ، فَقَالَ هُوَ هَذَا كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي عَبْدًا، ثُمَّ جَاءَ بِعَبْدٍ مَعِيبٍ، فَقَالَ هُوَ هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا. وَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِهِ لِأَنَّ الْقَابِضَ يُنْكِرُ قَبْضَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ سِوَى مَا عَيَّنَهُ وَالْقَبْضُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ الْوَدِيعَةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا عَيَّنَهُ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ، وَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ قَبْضِ مَا عَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ أَفْلُسٍ قَرْضٌ أَوْ ثَمَنُ بَيْعٍ، ثُمَّ قَالَ هِيَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ فَدَعْوَاهُ الْجِيَادَ فِي الْفُلُوسِ كَدَعْوَى الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْقَرْضِ هُوَ مُصَدَّقٌ إذَا وَصَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَى الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ جِنْسِ الْفُلُوسِ وَبِالْجِيَادِ نُقِلَ رَغَائِبُ النَّاسِ فِيهَا كَمَا نُقِلَ بِالزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ. فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ كَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ يُفْسِدُ الْبَيْعَ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ وَإِقْرَارُهُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارَ الصِّحَّةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْفَسَادِ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا كَمَا لَوْ ادَّعَى الْفَسَادَ لِجِيَادٍ أَوْ أَجَلٍ مَجْهُولٍ بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَعْوَى فَسَادِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَدَّعِي فَسَادَ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ فُلُوسٌ وَبِأَوَّلِ كَلَامِهِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ رُجُوعًا وَبِهِ فَارَقَ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّ بِدَعْوَى الْكَسَادِ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ مُدَّعِيًا أَنَّهُ لَا فُلُوسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ بِالْكَسَادِ لَا يَبْطُلُ الْقَرْضُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَصَلَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَبِيعِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ الْفُلُوسِ مِنْ جِنْسِ الرَّائِجَةِ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ صِفَةُ الثَّمِينَةِ لِيَثْبُتَ الْكَسَادُ فَهُوَ وَدَعْوَاهُ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 سَوَاءٌ، ثُمَّ فَسَادُ الْبَيْعِ وَسُقُوطُ الْفُلُوسِ هُنَا كَانَ لِمَعْنًى حُكْمِيٍّ لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَا يَصِيرُ كَلَامُهُ بِهِ رُجُوعًا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى شَرْطًا مُفْسِدًا؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَاكَ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِذَا صُدِّقَ هُنَا صَارَ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَاهُ اسْتَوَى بِفُلُوسٍ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ بَيْعٍ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ كَالْفُلُوسِ فَإِنَّهُ مُمَوَّهٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَوْلُهُ سَتُّوقَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةُ سِرْطَاقَةَ: الطَّاقُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِضَّةٌ وَالْأَوْسَطُ صُفْرٌ وَالزُّيُوفُ اسْمٌ لِمَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ وَالنَّبَهْرَجَةُ التِّجَارَةُ. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ عَشَرَةَ أَفْلُسٍ أَوْ قَالَ أَوْدَعْتُهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ الْفُلُوسِ مِنْ جِنْسِ الْفُلُوسِ حَقِيقَةً وَصُورَةً، وَلَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي الرَّائِجَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِهِ تَعْبِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مِنْهُ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ] (بَابُ مَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ) (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلُ قَالَ لِآخَرَ: اقْضِي الْأَلْفَ الَّتِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَدْ أَدَّيْتُهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ نَعَمْ أُعْطِيكَ الْأَلْفَ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَعْضُ مَسَائِلِ الْبَابِ وَبَعْضُ الْمَسَائِلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ كَلَامًا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مَفْهُومَ الْمَعْنَى يُجْعَلُ مُبْتَدِئًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَوَابِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا قَالَ سَأُعْطِيكَهَا أَوْ غَدًا أُعْطِيكَهَا أَوْ سَوْفَ أُعْطِيكَهَا فَإِنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ الْمَذْكُورَةِ فَصَارَتْ إعَادَتُهُ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ كَإِعَادَتِهِ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ بِأَنْ يَقُولَ سَأُعْطِيكَ الْأَلْفَ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فَأَقْعِدْهَا فَأَثِّرْ بِهَا فَانْتَقِدْهَا فَأَقْبِضْهَا أَوْ لَمْ يَقُلْ أَقْعِدْ، وَلَكِنْ قَالَ أَبِرَّهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ خُذْهَا؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ فِي هَذَا كُلِّهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَثِّرْنَ أَوْ انْتَقِدْ أَوْ خُذْ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَيُحْمَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكَلَامِ حَقِيقَةً فَتَرْكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ إلَى أَنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 15 يُجْعَلَ كَلَامُهُ لِلْجَوَابِ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَجَعَلْنَا ابْتِدَاءً وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَثِّرْنَ أَيْ اُقْعُدْ وَأَرْثِ لِلنَّاسِ وَاكْتَسِبْ بِهِ وَلَا تُؤْذِينِي بِدَعْوَى الْبَاطِلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ابْتَعِدْ وَقَوْلُهُ خُذْ أَيْ خُذْ حِذْرَكَ مِنِّي فَلَا أُعْطِيكَ شَيْئًا بِدَعْوَى الْبَاطِلِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ ابْتِدَاءً، وَلَوْ قَالَ لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ فَهَذَا إقْرَارٌ فَإِنَّ التَّاءَ فِي قَوْلِهِ لَمْ تَحِلَّ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَكَانَ كَلَامُهُ جَوَابًا، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ دَعْوَى التَّأْجِيلِ وَلَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِأَصْلِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَدًا؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ وَهَذَا اسْتِمْهَالٌ لِلْقَضَاءِ إلَى الْغَدِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَرْسِلْ غَدًا مَنْ يَزِنُهَا أَوْ مَنْ يَقْبِضُهَا؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ وَمُطَالَبَتِهِ بِإِرْسَالِ مَنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَيْسَتْ الْيَوْمَ عِنْدِي؛ لِأَنَّ التَّاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَالتَّعَلُّلُ بِالْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَكَانَ مُقِرًّا بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَيْسَتْ بِمُهَيَّأَةٍ الْيَوْمَ بِمُيَسَّرَةٍ الْيَوْمَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيْسَتْ بِمُيَسَّرَةٍ الْيَوْمَ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ التَّاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَجِّلْنِي فِيهَا فَطَلَبَ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ كَلَامُهُ جَوَابًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا أَكْثَرَ مَا يَتَقَاضَى بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعَمَمْتَنِي بِهَا أَوْ أَبْرَمْتَنِي بِهَا أَوْ أَدَّيْتَنِي فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّبَرُّمَ مِنْ كَثْرَةِ الْمُطَالَبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا الْأَذَى وَلَا انْتِقَادَ لِهَذِهِ الْمُطَالَبَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا يَكُونُ لَا أَفُضَّكَهَا وَلَا أَزِنُهَا لَكَ الْيَوْمَ أَوْ لَا يَأْخُذُهَا مِنِّي الْيَوْمَ، الْكِنَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَرْفِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ الْقَضَاءُ وَالْوَزْنُ وَالْأَخْذُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْمَالِ وَاجِبًا فَالْقَضَاءُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَكُّدِ نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْتَفٍ، وَلَوْ قَالَ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ مَالِي أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيَّ غُلَامِي فَهَذَا إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ لِيَكُونَ مَا ذُكِرَ غَايَةً لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَالِ الْمُدَّعَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أَفُضَّكَهَا حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ مَالِي. وَلَوْ قَالَ: أَقْضِي الْمِائَةَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ فَإِنَّ غُرَمَائِي لَا يَدَعُونِي، فَقَالَ أَحِلْ عَلَيَّ بِهَا بَعْضَهُمْ أَوْ مَنْ تَسَبَّبَ مِنْهُمْ أَوْ ائْتِنِي مِنْهُمْ أَضْمَنَهَا لَهُ أَوْ احْتَالَ عَلَيَّ بِهَا فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ، وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ أَوْ يَكُونُ مِلْكٌ لَهُ فِي يَدِهِ لَهُ بِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ بِهَا. وَلَوْ قَالَ: قَدْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 16 قَضَيْتُهَا فَهَذَا إقْرَارٌ بِذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ، وَلِأَنَّهُ ادَّعَى الْقَضَاءَ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَسْبِقُ وُجُوبَهُ فَصَارَ بِهِ مُقِرًّا بِالْوُجُوبِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَهُوَ يَعْقُبُ الْوُجُوبَ وَلَا يَسْبِقُهُ فَدَعْوَاهُ الْإِسْقَاطَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُوبِ سَابِقٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ حَسَبْتُهَا لَكَ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ دَعْوَى الْقَضَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ حَلَلْتَنِي مِنْهَا فَهَذَا بِمَعْنَى دَعْوَى الْإِبْرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ وَهَبْتَهَا إلَيَّ أَوْ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَيَّ فَهَذَا دَعْوَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَحَلْتُكَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَدَعْوَاهُ الْحَوَالَةَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُوبِهَا لَا مَحَالَةَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ فَادْفَعْهُ إلَيَّ أَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِكَ أَوْ عَارِيَّةٌ فَادْفَعْهُ إلَيَّ أَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِكَ أَوْ عَارِيَّةٌ فَادْفَعْهُ إلَيَّ، فَقَالَ: غَدًا، فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ سَأُعْطِيكَهَا؛ لِأَنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْعَبْدِ فَمَعَ ذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ. وَلَوْ قَالَ بِعْ مِنِّي عَبْدِي هَذَا أَوْ اسْتَأْجِرْهُ مِنِّي أَوْ قَالَ أَكْرَيْتُكَ دَارِي هَذِهِ أَوْ أَعَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْجَوَابِ مَا تَقَدَّمَ يَصِيرُ مُعَادًا فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ادْفَعْ إلَيَّ حُلَّةَ عَبْدِي هَذَا أَوْ أَعْطِنِي ثَوْبَ عَبْدِي هَذَا، فَقَالَ نَعَمْ، فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أُعْطِيكَ ثَوْبَ عَبْدِكَ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ نَصًّا، وَفِي الثَّوْبِ دَلَالَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثَّوْبَ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَضَافَهُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ فَتَرْكُ إضَافَتِهِ إلَى مَمْلُوكِهِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ فَصَارَ بِهِمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ افْتَحْ بَابَ دَارِي هَذِهِ أَوْ خَصِّصْ دَارِي هَذِهِ أَوْ أَسْرِجْ دَابَّتِي هَذِهِ أَوْ أَلْجِمْ بَغْلِي هَذَا أَوْ أَعْطِنِي سَرْجَ بَغْلِي هَذَا أَوْ لِجَامَ بَغْلِي هَذَا، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا إقْرَارٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ صَارَ لَغْوًا وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى اللَّغْوِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَوْ قَالَ لَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ قَالَ يَكُونُ إقْرَارًا. أَمَّا إذَا قَالَ لَا أُعْطِيكَهَا الْيَوْمَ أَوْ قَالَ لَا أُعْطِيكَهَا أَبَدًا فَهَذَا إقْرَارٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْإِعْطَاءِ إمَّا مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا، وَالْكِنَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كَلَامِهِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا سَبَقَ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُعْطِيكَ سَرْجَ بَغْلِكَ أَوْ لِجَامَ بَغْلِكَ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 17 الْعَيْنِ لَهُ، وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ حَرْفَ لَا فَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ هَذَا نَفْيٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْهُ وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ الْإِعْطَاءَ فَكَانَ هَذَا نَفْيًا لِلْإِعْطَاءِ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْعَيْنِ لَهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ أَنْ لَا جَوَابُ هُوَ نَفْيٌ فَيَكُونُ مُوجَبُهُ ضِدَّ مُوجَبِ جَوَابٍ هُوَ إثْبَاتٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ نَعَمْ، فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ إقْرَارًا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَفْيُ جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُعْطِيكَ، وَلَيْسَ الْبَغْلُ وَالسَّرْجُ وَاللِّجَامُ لَكَ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَالِحٌ لِنَفْيِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا أُعْطِيكَهَا وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ إنَّمَا لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ التَّقْرِيرِ فِي الْمِائَةِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا فَعِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ التَّقْرِيرِ أَوْلَى. وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ وَلَكِنْ دِرْهَمٌ فَلَمْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَيْسَ لِلنَّفْيِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْإِثْبَاتِ وَلَا يُقَالُ لِمَا خَصَّ الْمِائَةَ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ عِنْدَنَا وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يُجْعَلُ هَذَا اللَّفْظُ إقْرَارًا بِشَيْءٍ بِاعْتِبَارِ الْمَنْظُومِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ. وَلَوْ قَالَ فَعَلْتُ كَذَا إذَا كَانَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْمَاضِي وَكَلِمَةَ إذَا لِلْمُسْتَقْبِلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ، فَقَدْ عُرِفَ وَقْتٌ فَعَلَيْهِ بِالْمَالِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَصَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فَعَلْت كَذَا يَوْمَ أَقْرَضْتَنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَدْ عُرِفَ الْوَقْتُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْ الْفِعْلِ فِيهِ بِالزَّمَانِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِالْإِقْرَاضِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَا أَعُودُ لَهَا وَلَا أَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا إقْرَارٌ لِوُجُودِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ الْهَاءُ وَلَا يَكُونُ الْعَوْدُ إلَّا بَعْدَ الْبَدْءِ فَيَضْمَنُ هَذَا الْإِقْرَارَ بِابْتِدَاءِ إقْرَاضِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ فِي هَذَا إظْهَارُ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ وَقِلَّةِ مُسَامَحَتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَخَذْتُ مِنِّي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَا أَعُودُ لَهَا فَهَذَا بَيَانٌ لِلْأَخْذِ عِنْدَ نَفْيِ الْعَوْدِ عَلَى مَنْ أَخَذَ ضَمَانَ الْمَأْخُوذِ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ». وَلَوْ قَالَ لَمْ أَغْصِبْكَ إلَّا هَذِهِ الْمِائَةَ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِائَةِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، دَلِيلُهُ كَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِغَصْبِ الْمِائَةِ بِمَا هُوَ آكَدُ الْأَلْفَاظِ، وَغَيْرُ وَسِوَى مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ " إلَّا ". وَكَذَلِكَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 18 لَوْ قَالَ لَا أَغْصِبُكَ بَعْدَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْئًا فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ بَعْدَ غَصْبِي مِنْكَ هَذِهِ الْمِائَةَ لَا أَغْصِبُكَ شَيْئًا فَهَذَا إظْهَارٌ لِلتَّوْبَةِ مِنْ غَصْبٍ بَاشَرَهُ وَوَعْدٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أَغْصِبْكَ مَعَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَعَ لِلضَّمِّ وَالْقِرَانِ، فَقَدْ نَفَى انْضِمَامَ شَيْءٍ إلَى الْمِائَةِ فِي حَالِ غَصْبِهِ إيَّاهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ غَصْبِ الْمِائَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أُغْصَبْ أَحَدًا بَعْدَكَ أَوْ قَبْلَكَ أَوْ مَعَكَ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ غَصَبَهُ إيَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ مَا اسْتَقْرَضْتُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاكَ أَوْ مِنْ أَحَدِ غَيْرَكَ أَوْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكَ أَوْ لَا أَسَتَقْرِضُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَوْ لَمْ أَسْتَقْرِضُ مِنْ أَحَدٍ مَعَكَ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَا اسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ طَلَبُ الْقَرْضِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّحْوِ يُسَمُّونَ هَذِهِ السِّينَ سِينُ السُّؤَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَجَدَهُ وَلَا مَنْ سُئِلَ شَيْئًا أَعْطَى فَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبْ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ مُوجِبٌ لِلْمَالِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ أَقْرَضَنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَإِقْرَارُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِأَنْ يَقُولَ اسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ. وَلَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَوْ سِوَى مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّفْيِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِثْبَاتِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِائَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمِائَةِ وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. وَلَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا أَقَلُّ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا إقْرَارًا بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ، وَلَكِنَّهُ اعْتَبَرَ الْفَرْقَ الظَّاهِرِ، وَقَالَ فِي الْعَادَةِ نَفْيُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي النَّفْيِ كَمَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ وَلَا قَلِيلَ وَلَا كَثِيرَ فَهَذَا لَا يَكُونُ مِسَاسًا، ثُمَّ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الْمِائَةِ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ وَاجِبَةً ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ إذَا وَجَبَتْ كَانَ مَا دُونَهَا وَاجِبًا وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ وُجُوبِ مَا دُونَ الْمِائَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا أَقَلُّ عَطْفٌ وَحُكْمُ الْعَطْفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ نَفْيًا لِلْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ. وَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ بَلْ تِسْعُمِائَةٍ كَانَ إقْرَارًا بِتِسْعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ مَعْنَاهُ بَلْ الْوَاجِبُ تِسْعُمِائَةٍ وَكَلِمَةُ بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، فَقَدْ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي دَعْوَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ. رَجُلٌ قَالَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 19 لِآخَرَ: أَخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ تَامٌّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْآمِرُ بِالْإِخْبَارِ فَكَذَلِكَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْآمِرُ بِالْإِخْبَارِ وَفَائِدَتُهُ طُمَأْنِينَةُ قَلْبِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَنَّهُ غَيْرُ جَاحِدٍ لِحَقِّهِ بَلْ هُوَ يُظْهِرُ لِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ حِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْلِمْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ بَشِّرْهُ أَوْ قُلْ لَهُ أَوْ أَشْهِدْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ بَلْ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا، وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا، وَالْإِعْلَامُ وَالْبِشَارَةُ وَالْإِشْهَادُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا هُوَ صِدْقٌ وَكَلِمَةُ الْإِقْرَارِ فِي هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَ أَخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَعْلِمْهُ أَوْ أَبْشِرْهُ أَوْ أَقُولُ لَهُ أَوْ اشْهَدْ، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ لَيْسَ بِمَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَصَارَ مَا سَبَقَ مِنْ الْخِطَابِ مُعَادًا فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارًا. وَلَوْ قَالَ وَجَدْتُ كِتَابِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ وَجَدْتُ فِي ذِكْرِي أَوْ حِسَابِي أَوْ بِخَطِّي أَوْ قَالَ كَتَبْتُ بِيَدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حَكَى مَا وَجَدَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابِهِ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ كَاتِبًا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْكَاتِبَ لِتَجْزِئَةِ الْخَيْطِ وَالْعِلْمِ وَالْبَيَاضِ فَلَا يَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْإِقْرَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَاكَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَلَامُ إنْشَاءٍ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَنْ مَوْضِعٍ وَجَدَهُ فِيهِ، وَكَانَ إقْرَارًا. وَجَمَاعَةُ أَئِمَّةِ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا فِي يذكار الْبَاعَةِ: إنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَكْتُوبًا بِخَطِّ الْبَيَّاعِ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَبُ فِي يذكاره إلَّا مَا لَهُ عَلَى النَّاسِ وَمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ صِيَانَةً لَهُ عَنْ النِّسْيَانِ كَذَلِكَ بِقَلَمِهِ، وَالنَّبَأُ فِي الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَاجِبٌ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ قَالَ الْبَيَّاعُ وَجَدْتُ فِي يذكاري بِخَطِّي أَوْ كَتَبْتُ فِي يذكاري بِيَدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مُلْزِمًا إيَّاهُ. وَإِنْ قَالَ بِيَدِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ صَكٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ الصَّكَّ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَقَدْ عَابُوا عَلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ كَتَبْتُ بِيَدِي فَقَالُوا الْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْيَدِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَكُنَّا نَقُولُ: مِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تُضَافُ إلَى الْآمِرِ بِهَا عَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ بِيَدِي بَيَانًا يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَلَوْ كَتَبَ لِفُلَانٍ عَلَى نَفْسِهِ صَكًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْقَوْمُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا كَانَ إقْرَارًا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ بِبَيَانِهِ فَكَأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ بِبَيَانِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 20 وَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ إلَّا مَا هُوَ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ. رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اشْهَدْ عَلَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا وَقَوْلُهُ لَا تَشْهَدْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ اشْهَدْ فَكَانَ مُوجَبُهُ ضِدَّ مُوجَبِ قَوْلِهِ اشْهَدْ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِالزُّورِ عَلَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِلْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لَا إقْرَارًا بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا لِفُلَانِ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلَا يُخْبِرْهُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ لَا يَقُلْ لَهُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِالنَّفْيِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ عَلَيَّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخْبِرْهُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَا يَقُلْ لَهُ مَا هُوَ زُورٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَآخِرُ الْكَلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهِ خُصُوصًا إذَا وَصَلَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُهُ نَفْيًا عَرَفْنَا أَنَّ آخِرَهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَلَوْ ابْتِدَاءً، فَقَالَ لَا يُخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ لَا يَقُلْ لِفُلَانٍ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ النَّفْيَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ قَوْلُهُ لَا يُخْبِرْ وَلَا يَقُلْ اسْتِكْتَامًا مِنْهُ لَهُ فَيَكُونُ إقْرَارًا وَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَى سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَلَا تُظْهِرْهُ بِاخْتِيَارِكَ أَوْ قَوْلِكَ لِفُلَانٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي آخِرِ الْبَابِ قَوْلَهُ لَا يُخْبِرْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَخْبَرُوا وَعَلَّلَ، فَقَالَ لَا تُخْبِرْ نَفْيٌ وَقَوْلُهُ أَخْبِرْ إقْرَارٌ فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ أَخْبِرْ رِوَايَتَانِ، وَفِي قَوْلِهِ لَا تَشْهَدْ أَيْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ الرِّوَايَةُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ اشْهَدْ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ الصَّحِيحُ فِي الْإِخْبَارِ هَكَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُخْبِرْ لَا يَكُونُ إقْرَارًا كَمَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَاَلَّذِي وَقَعَ هُنَا غَلَطٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَا تُخْبِرْ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَشْهَدْ، فَقَالَ الشَّهَادَةُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَقِّ، قَوْلُهُ لَا تَشْهَدْ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ فَإِيَّاكَ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ الْوُجُوبِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ عَلَيَّ بِالزُّورِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يُخْبِرُ نَهْيًا عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِكْتَامُ ذَلِكَ وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِحَقِّهِ أَوْ بِحَقِّهِ أَوْ مِنْ حَقِّهِ أَوْ لِمِيرَاثِهِ أَوْ بِمِيرَاثِهِ أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ لِمِلْكِهِ أَوْ بِمِلْكِهِ أَوْ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لِشَرِكَتِهِ أَوْ بِشَرِكَتِهِ أَوْ مِنْ شَرِكَتِهِ أَوْ لِبِضَاعَتِهِ أَوْ بِبِضَاعَتِهِ أَوْ مِنْ بِضَاعَتِهِ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ تَامٌّ بِالدَّيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْكِيدِ مَا عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَنْفِي أَصْلَ الْإِقْرَارِ وَأَنَّ الشَّفَاعَاتِ لَا تَجِيءُ فِي الدُّيُونِ لِيُحْمَلَ مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا بِالْمَالِ. وَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 21 اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ، فَقَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَفْصُولًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ حَرْفٍ مِنْهُ، وَقَالَ إذَا كَانَ مَفْصُولًا لَا يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْمَالِ أَهُوَ ثَمَنُ بَيْعٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ الْبَيْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ: إنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ، وَإِنْ قَالَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سِوَى الْبَيْعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرُّ لَهُ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَلَكِنَّهُ تَفْصِيلٌ فِيمَا أَجْمَلَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بَيَانٌ لِسَبَبِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي هَذَا السَّبَبِ ثَبَتَ السَّبَبُ بِتَصَادُقِهِمَا، ثُمَّ الْمَالُ بِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي إنْكَارِهِ الْقَبْضَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ فَهَذَا بَيَانٌ مُعَبِّرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَلَامِ لِأَنَّ مُقْتَضَى أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَتَاعَ فَكَانَ بَيَانُهُ مُعَبِّرًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا إذَا كَانَ مَفْصُولًا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مَا يَجِبُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَوْلَا هَذَا الْبَيَانُ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَتَاعِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْإِبْطَالِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ ثَمَنِ مَتَاعٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَيْهِ، وَثَمَنُ مَتَاعٍ يَكُونُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَتَاعٍ يُحْضِرُهُ إلَّا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْمَبِيعُ غَيْرُ هَذَا وَتَسْلِيمُ الثَّمَنِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَفَرَّقْنَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ إحْضَارُ الْمَتَاعِ وَلَا طَرِيقَ لِلْبَائِعِ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ ادَّعَى أَجَلَ ذَلِكَ شَهْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، فَإِذَا ادَّعَى أَجَلًا مُؤَبَّدًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فَثَمَنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 22 يَصِحُّ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ السَّبَبِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِبْطَالِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِأَنَّ الْخَمْرَ مُتَمَوَّلٌ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ، وَقَدْ اعْتَادَ الْفَسَقَةُ شِرَاءَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَنَى إقْرَارَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ، وَلَكِنْ فِيهِ تَعْبِيرٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: ابْتَعْتُ مِنْهُ شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ لَا رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ وَسَلَّمَهُ لَهُ أَخَذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِتَصَادُقِهَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ عَبْدُكَ لَمْ أَبِعْكَهُ إنَّمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَخْبَرَ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ لَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ حِينَ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ، ثُمَّ الْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُهُ مِنْكَ إنَّمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعَبْدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ بَيْعِ مَتَاعٍ قَدْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَبِيعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ، فَإِذَا تَحَالَفَا انْتَفَتْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَالْعَبْدُ سَالِمٌ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ اقْبِضْهَا فَهُوَ لَهَا ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ صَرِيحٌ بِإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُودِعًا وَلَا يَحْصُلُ الْمَالُ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا رُجُوعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ وَهَذَا رُجُوعٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا، فَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا كَلَامُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْقَرْضُ وَالسَّلَمُ وَالسَّلَفُ وَالْعَطِيَّةُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا فِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ ابْتَعْتُ مِنْ فُلَانٍ بَيْعًا سَوَاءً. تَوْضِيحُهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 23 أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِهِ الْقَبْضَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَكَذَلِكَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ أَخْذٌ عَاجِلٌ بِآجِلٍ. وَكَذَلِكَ الْإِعْطَاءُ فِعْلٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ مَجَازًا فَقَوْلُهُ بَيَانُ تَعْبِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ لَمْ أَقْبِضْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَالْإِعْطَاءَ سَوَاءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ أَعْطَيْتَنِي فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ دَفَعْتَ إلَيَّ وَبَعَّدَتْنِي؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَهَذَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ مَوْصُولًا لَمْ أَقْبِضْهُ كَانَ مُنْكِرًا لَا رَاجِعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَكَذَلِكَ الدَّفْعُ يَسْتَدْعِي مَدْفُوعًا فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ رُجُوعٌ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا صَحِيحًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْطَيْتَنِي فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعَارُ لِلْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْهِبَةَ تُسَمَّى عَطِيَّةً فَجَعَلْنَا كَلَامَهُ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ إذَا قَالَ مَوْصُولًا لَمْ أَقْبِضْهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النَّقْدِ وَالدَّفْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ) إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَالُوا: إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فَيَقُولُ: إنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَلَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التِّجَارَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِدَيْنٍ أَوْ بِعَيْنٍ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الصِّحَّةِ فَيَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِيَفُكَّ رَقَبَتَهُ، وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ اسْتِيلَادُهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَاعْتُبِرَ الْجِهَازُ وَالْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ أَوْ يَقُولُ صِحَّةُ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قِيَاسِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ آنِسًا لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 24 فِي إقْرَارِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَمَتَى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا قَالَ: كُنْتُ بِعْتُ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ رَاجِعٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْمَوْلَى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا قَالَ فِئْتُ إلَيْهَا كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُوَ مَالِكٌ لِإِيجَابِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِجَمِيعِ الْمَالِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ تَجْمَعُهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ حَالُ الْمَرَضِ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِمَوْتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ إذَا انْفَرَدَ اسْتَنَدَ إلَى سَبَبِهِ فَهُنَا تَعَلَّقَ الدَّيْنَانِ جَمِيعًا بِمَالِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَرَضُ فَاسْتَوَيَا فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا يَصِيرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي يَصِيرُ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ الثَّانِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوَّلًا، ثُمَّ وَهَبَ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ أَوَّلًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْآخِرِ فَيَتَحَاصَّانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِوَدِيعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ تَرِكَتُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي إبْطَالِ مَا كَانَ بِفَرْضِ الثُّبُوتِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِخَرَابِ الذِّمَّةِ وَسَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ الْخَرَابِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَذِهِ الْعَيْنِ حِينَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ صَارَ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهَا وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدِينَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالدَّيْنِ فَالْوَدِيعَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 25 لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ ثَابِتٌ وَلَا كَانَ يُعْرَضُ الثُّبُوتُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ مُطْلَقًا وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَرِكَتِهِ، ثُمَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ شَاغِلًا لِتَرِكَتِهِ لَا لِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ مِلْكِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ عَيْنًا وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ، وَإِنْ نَفَّذَهَا فِي مَرَضِهِ صَارَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَا يَتَبَيَّنُ بِالْهِبَةِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَرِيمِ الْمُقَرِّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَأَمَّا إقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَصِرْ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ وَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَبِسَبَبِ الْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ لَا عَنْ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ فِي مَرَضِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ فِي صِحَّتِهِ. وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إظْهَارٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَالْإِقْرَارُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ. وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ تَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْكَذِبِ بَلْ يَزْدَادُ مَعْنَى رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلِأَنَّ فِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِالْكَذِبِ وَبِالْمَرَضِ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَلَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى صَرْفِ الْمَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قِيلَ إنَّ الْمَرَضَ حَالَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ وَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْإِقْرَارَيْنِ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَالْآخَرَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَيُقَدَّمُ مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ عَلَى مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْحَجْرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ لِيَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَبَرُّعُهُ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطًا وَبِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِتَعَلُّقِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 26 حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَلْحَقُهُ عَنْ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ حَقَّ الْغُرَمَاءِ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ وَكَمَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِالتَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّهُمْ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ مَعَهُمْ فَكَانَ مَجْحُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَحَقِّهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ التِّجَارَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِالْمَالِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ لَا سِيَّمَا الْمَالُ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمُحَابَاةٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ بِمَالِهِ يَسْتَنِدُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أَخْبَرَ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْمِلْكِ إلَى أَوَّلِ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمُشْتَرِي الزَّوَائِدَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِأَوَّلِ الْمَرَضِ وَصَارَ مَالُهُ كَالْمَرْهُونِ فِي حَقِّهِمْ فَبَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الْغَيْرِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمُعَايَنِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ فَيَظْهَرُ السَّبَبُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْمَرَضَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي إقْرَارِهِ قُلْنَا هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَرَجَّحَ أَمْرُ دَيْنِهِ عَلَى هَوَاهُ عَلَى أَمْرِ دَيْنِهِ فَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْمُبَادَرَةِ إلَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ مَا كَانَ قَدِمَ بِعَيْنِهِ فِيهَا فَلَمَّا آيِسَ مِنْ نَفْسِهِ آثَرَ مَنْ يَهْوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِمَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْتَادًا كَنَدْرِ تَمْيِيزِ إحْدَى الْحَالَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَجَعَلْنَا الدَّلِيلَ مَعْنًى شَرْعِيًّا، وَهُوَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَفِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ، فَأَمَّا إذَا مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مَا لِإِنْسَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَبَرُّعِهِ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ مَالًا أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَعَايَنَ الشُّهُودُ قَبْضَهُ ذَلِكَ فَهَذَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيمَا يَثْبُتُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ بَلْ فِيهِ تَحْوِيلُ حَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَانَ صَاحِبُهُ مُزَاحِمًا لَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّرِكَةُ إلَّا عَيْنَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ قَرْضًا أَوْ بَيْعًا فَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَمَّ مِلْكُهُ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَالْبَائِعُ إنَّمَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 27 يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ، فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الِاخْتِصَاصِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا رَدَّ الرَّهْنَ كَانَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ وَلَمَّا الْتَحَقَ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ الْمُعَايِنِ فِي الْمَرَضِ بِالْوَاجِبِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ حَتَّى اسْتَوَى بِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُعَايِنَ أَوْ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَالْحُقُوقُ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّيْنِ فِي التَّرِكَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ، ثُمَّ الدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ هَذَا الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ كَانَ جَائِزًا، وَهُوَ لَهُ دُونَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَضَاءِ لَفْظًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ أَرَأَيْتَ لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؟ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ بَدَلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبَدَّلِ. وَلَوْ قَضَى بَعْضُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ دَيْنَهُ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَقْبُوضَ الْقَابِضُ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَلِّمُ لَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ السَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ سَعْيٌ مِنْهُ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَإِنَّهُ قَضَى دَيْنَ مَنْ كَانَ حَاجَتُهُ أَظْهَرَ وَمَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ يُخَاصِمُهُ فِي الْآخَرِ وَتَصَرُّفُهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ صَحِيحًا لَا يُرَدُّ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِالْمَرَضِ فَهُوَ بِقَضَاءِ دَيْنِ بَعْضِهِمْ مُبْطِلٌ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَمَّا دَفَعَهُ إلَى هَذَا، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَاءِ الثَّمَنِ وَبَدَلَ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ كَمَا قَدَّرْنَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا إيثَارٌ مِنْهُ لِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِمَالِهِ فَهُوَ نَظِيرُ إيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلَوْ قَرَضَ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ قُسِّمَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِثَلَاثَةِ دُيُونٍ فِي مَرَضِهِ فَيُقَسَّمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَيِّتِ أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِي كَانَتْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 28 الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مُزَاحِمَةَ الثَّالِثِ قَدْ زَالَتْ فَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ بِمَا قَالَ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ أَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ صَحِيحًا مُلْزِمًا مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَذَلِكَ كَانَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ مَعَهُ، فَإِذَا رَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ الْأَوَّلُ وَرَدُّهُ عَامِلٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ هَذَا الرَّدِّ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ. رَجُلٌ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ وَجَحَدَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرِضَ الْمُقِرُّ وَمَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ، وَعَلَى الْمُقِرِّ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا وَرِثَهَا عَنْ الْجَاحِدِ. (قَالَ) غُرَمَاءُ الْمُقِرِّ فِي صِحَّتِهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَلْفِ مِنْ غُرَمَاءِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمُقِرِّ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِكَوْنِهِ حَاصِلًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا مَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ الْآنَ صَحَّ إقْرَارُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَرِكَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُقِرِّ إرْثًا وَيُجْعَلُ هُوَ كَالْمَحْدُودِ لِإِقْرَارِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَرِيضٌ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى مُوَرِّثِهِ لَمَّا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالْعَيْنِ. وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ كَالْمُحَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوَرِّثُ حَتَّى نَفَذَ إقْرَارُهُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَرِيضِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ آنِسًا لِلْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ الْإِقْرَارُ فَلَا يُزَاحِمُ الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِثُلُثِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ الْوَرَثَةُ فَهِيَ مِيرَاثٌ كُلُّهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِمَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يُوجَدْ تَمَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِاللُّقَطَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا أَنْ بَيَّنَّا حِفْظًا عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اتِّصَالُ عَيْنِهَا إلَيْهِ يُوصَلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ شَرْعًا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 29 (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَثْبُتَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِاللُّقَطَةِ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مِلْكَهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ، وَالْإِرْثُ عَنْهُ مُنْتَفٍ لِقُرْبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَوَجَبَ تَقْيِيدُ تِلْكَ الْقُرْبَةِ عِنْدَ إقْرَارِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ لِلْمَسَاكِينِ بِزَكَاةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عُشْرٍ أَوْ نَذْرٍ وَجَبَ تَقَيُّدُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اتِّصَالِهَا إلَى مَالِكِهَا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالٍ فِي يَدِهِ لِغَائِبٍ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ وِلَايَةً فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فِي الْمُلْتَقَطِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا لَزِمَهُ عَنْ عُهْدَةِ الْحِفْظِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَعْمُولٌ بِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَةِ خُرُوجِهِ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ بِهَا فَصَارَ إقْرَارُهُ كَالْأَمْرِ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ دَلَالَةً وَمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ أَوْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ يُقَرِّرُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَفِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ الْمَرِيضُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ تَصَرُّفَهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَوَتْ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَيْنِهَا بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْأَصْلِ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ وَبِمَرَضِهِ تَزْدَادُ حَاجَتُهُ إلَى مَا يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ كَاسْتِئْجَارِ الْأَطِبَّاءِ وَشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ، ثُمَّ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ شَرْعًا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ فَلَا يَكُونُ الْمَرِيضُ بِالتَّسْمِيَةِ قَاصِدًا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَتْ مُزَاحِمَةُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمَةً عَلَى مَا أَقَرَّ مَا بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لِقُوَّةِ سَبَبِ حَقِّهَا، وَلَوْ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَهْرَ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ إبْطَالًا لَحَقِّهِمْ بِإِيثَارِهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا بِخِلَافِ بَدَلِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْ الْمُسْتَقْرَضِ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 30 [بَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرِيضِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرِيضِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَكَانَ قَدْرُ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ)؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ إصْرَارٌ بِالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ» وَلَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ سَائِرَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا رَوَيْنَا، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ هُوَ الثُّلُثُ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَيِّتِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» ثُمَّ لَمْ يُجِزْ وَصِيَّتَهُ بِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ اتِّصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْوَارِثِ وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ لَا يَصِحُّ كَإِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ نَفَذَ كَمَا إذَا أَجَازُوا وَصِيَّتَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ مَحَلُّ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّهَا. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْإِقْرَارِ فِي مَالِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَا لَهُ بِمَرَضِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ لِبَعْضِهِمْ إيثَارًا مِنْهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّهِمْ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَقَدْ جُعِلَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِجَارِيَةٍ لَا يَسْتَحْقِقُ أَوْلَادَهَا، فَإِذَا كَانَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ إيجَابُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ وَالْمَرِيضُ مَمْنُوعٌ عَنْ مَيْلِهِ مَعَ الْوَارِثِ أَصْلًا فَرَجَّحْنَا هَذَا الْجَانِبَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَصَحَّحْنَاهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّتِهِ لَهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فَلَمْ يُلَاقِ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَجْرَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 31 بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الْوَارِثُ لَمَّا عَامَلَهُ فِي الصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَاصِلِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ يُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقَبْضِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي هَذَا كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ مَحِلًّا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَمُتْ الْمَرِيضُ حَتَّى صَارَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَرَّ لِأَخِيهِ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَوْ كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَأَسْلَمَ أَوْ عَتَقَ وَصَارَ هُوَ الْوَارِثَ دُونَ الْأَخِ جَازَ إقْرَارُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُهُ وَارِثَهُ وَالْوِرَاثَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ هُوَ وَالْأَجَانِبُ سَوَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمُقِرِّ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ، وَكَانَ هُوَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي أَيَمُوتُ فِي هَذَا الْمَرَضِ أَوْ يَبْرَأُ فَعَرَفْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ لِلْحَالِ صَحِيحٌ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ صَحِيحٌ وَجُعِلَ خُرُوجُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ فِي مَرَضِهِ. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا يَوْمَ مَوْتِهِ بِأَنْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ لَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إقْرَارُهُ لَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَتِهِ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَرِضَ وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَبِهَذَا فَارَقَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 32 الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ وَنُظِرَ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لَا إلَى وَقْتِ الْهِبَةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَنَا أَنَّهُ وَرِثَ بِسَبَبٍ كَانَ يَثْبُتُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوِرَاثَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَثْبُتُ صِفَةُ الْوَارِثَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَارِثَةً بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حِينَ حَصَلَ كَانَ لِلْوَارِثِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مَرَضٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْحَجْرُ بِسَبَبِهِ لَا يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ الْهِبَةِ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ مُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَالْوِرَاثَةُ الثَّابِتَةُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ. فَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا صَارَ مِنْ وَرَثَتِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ كَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا وَقْتَ لُزُومِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَهُوَ نَظِيرُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الْهِبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِنْ كَانَ يَوْمٌ أَقَرَّ لَهُ وَارِثُهُ بِمُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَيَوْمٌ مَاتَ وَارِثُهُ، وَقَدْ خَرَجَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ يُثْبِتُونَهُ أَوْ فَسَخَ الْمُوَالَاةَ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ دَائِرٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا وَرِثَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْأَوَّلِ قَدْ ارْتَفَعَ، وَلَمْ يَرِثْ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ وَالْعَقْدُ الثَّانِي مُتَجَدِّدٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْإِقْرَارُ حَصَلَ لِلْوَارِثِ وَتَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ وَرِثَ بِأُخُوَّةٍ كَانَتْ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لَيُمَكِّنَ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْوِرَاثَةِ مُوجَدًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَانَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ مُتَمَكِّنَةً وَالْعَقْدُ الْمُتَجَدِّدُ قَامَ مَقَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي تَقَرُّرِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَتْ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْوِرَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَرِّرَةٍ ثَمَّةَ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ مُطْلَقًا. وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَرِيضِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 33 - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ، وَسَبَبُ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ قَائِمٌ وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ لِمَنْ هُوَ وَارِثُهُ فَلَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ حَلَفَ عَنْهُ قَائِمٌ فِيمَا هُوَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ وَارِثًا لِلْمُقِرِّ جُعِلَ بَقَاؤُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ كَبَقَاءِ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَفْسِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَيَاةَ الْوَارِثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِيَتَحَقَّقَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ وَهُنَا الْمُقَرُّ لَهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَ بِمِلْكِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقِرِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْإِقْرَارِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ فَبَاعَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ وَارِثِ الْمُقِرِّ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِعَبْدٍ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِأَجْنَبِيٍّ، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ بَلْ هُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِ الْمَرِيضِ لَمْ يَكُنْ لِي فِيهِ حَقٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُ الْمَرِيضِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَمَّا حَوَّلَهُ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ صَارَ كَأَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَهُ بِسَبَبٍ أَنْسَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ آخَرُ يَحْدُثُ لِلْوَارِثِ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ غَيْرِ الْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَهُ بِعَيْنِهِ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْمَرِيضِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِالْمِلْكِ وَإِقْرَارُهُ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ لَهُ لِيُقِرَّ هُوَ لِوَارِثِهِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ فِي الْإِيثَارِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْمَرِيضَ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرِيضِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَالْقَاتِلِ لِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ الْعِتْقُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَهُنَاكَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ بِالْإِقْرَارِ إلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ، وَإِقْرَارُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنْ يُجْعَلَ كَالْقَابِلِ لِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ الْمُسْتَثْنَى لِلْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ جِهَتِهِ. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِقَاتِلِهِ بِدَيْنٍ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اتِّصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 34 لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ (قِيلَ) الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ قَاتِلَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ بِالْإِقْرَارِ لَهُ كَاذِبًا فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ هُنَا (قُلْنَا) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي إقْرَارِهِ لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا، فَقَدْ يُؤْثِرُ الشَّخْصُ قَاتِلَهُ لِمَثَلٍ فِي قَلْبِهِ إلَيْهِ أَوْ قَصْدِهِ إلَى مَجَازَاتِ إسَاءَتِهِ بِالْإِحْسَانِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ خَارِجًا لَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ صَحِيحٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ أَقَرَّ صَاحِبَ فِرَاشٍ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ بِكَوْنِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ مَرَضٍ عَادَةً وَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ مَرِيضٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَالْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ جَائِزٌ لِقَاتِلِهِ وَلِوَارِثِهِ كَمَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذَا كَانَ خَطَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَرِيضٍ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ قَدْ يَمْشِي بِنَفْسِهِ لِجِنَايَتِهِ، وَقَدْ يَتَكَلَّفُ بِخُطُوَاتٍ يَخْطُوهَا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِعَبْدِ وَارِثِهِ وَلَا لِعَبْدِ قَاتِلِهِ وَلَا لِمُكَاتَبٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ بِخُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ لِلْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لِمَوْلَاهُ. وَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ وَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ حَقِيقَةَ مِلْكٍ بِعَجْزِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ إقْرَارُهُ لِلْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِمَوْلَاهُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْهِبَةِ، فَقَالَ إذَا وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ لَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لِأَخِيهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ وَهُنَا جَعَلَهُ كَإِقْرَارٍ لِلْمَوْلَى فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْإِقْرَارِ هُنَا انْتِفَاعُ الْوَارِثِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ وَمَنْفَعَةُ الْمَالِيَّةِ وَتَمَكُّنُ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ لَهُ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَهُنَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْإِقْرَارِ لِلْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ، وَهُنَاكَ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الرُّجُوعِ قَصْدُهُ عِنْدَ الْهِبَةِ إلَى الْعِوَضِ وَالْمُكَافَآتِ وَعَدَمِ سَلَامَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَهُ، وَذَلِكَ قَائِمٌ إذَا كَانَ الْقَائِلُ لِلْهِبَةِ أَجْنَبِيًّا. وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِإِقْرَارِهِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُشَارِكُهُ الْوَارِثُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 35 أَوْصَى لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَأُ عَقْدًا، فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْوَارِثُ. وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ انْتَفَعَ الْوَارِثُ بِالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ لِي عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَارِثِهِ هَذَا شَرِكَةٌ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَصَحَّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّهُمَا بِالْمَالِ وَادَّعَى عَلَيْهِمَا الشَّرِكَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ، وَقَدْ صَدَّقَاهُ فِيمَا أَقَرَّ وَكَذَّبَاهُ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِمَا أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ الَّتِي ادَّعَاهَا إلَيْهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بِقَوْلِهِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بَقِيَ إقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحًا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَانَ مَنْفَعَةَ الْوَارِثِ، وَعِنْدَ انْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ لَا مَنْفَعَةَ لِلْوَارِثِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ وَقَعَ فَاسِدًا بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ قَصْدُهُ إلَى اتِّصَالِ الْمَنْعِ وَإِلَى وَارِثِهِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ مَانِعٌ مِنْ صَيْرُورَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُقَرِّ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى تَصْحِيحِ إقْرَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ لِهَذَا أَوْ هَذَا فَاصْطَلَحَا كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْإِقْرَارِ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ عَجْزُ الْمَجْهُولِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُفْسِدُ مَعْنًى مِنْ جِهَتِهِمَا وَلَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَحَّ مِنْهُمَا إزَالَةُ الْمُفْسِدِ بِالِاصْطِلَاحِ وَكَلَامُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهُمَا بِالْمَالِ إلَّا بِصِفَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مُشْتَرَكًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالْمَالِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَالِ وَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلْمَالِ، وَهُوَ حَقُّ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَبْقَى الْمَالُ كَمَا كَانَ، فَأَمَّا هُنَا كَوْنُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا صِفَةٌ لِهَذَا الدَّيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ، وَإِذَا وَجَبَ مُشْتَرَكًا بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا يَصِيرُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ مَا دَامَ دَيْنًا لِأَنَّ إيقَاعَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ لَا تَجُوزُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ كَانَ تَجَاحُدُهُمَا وَتَصَادُقُهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ سَوَاءً. وَلَوْ اسْتَقْرَضَ الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثِهِ مَالًا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ لِلسَّبَبِ الْمُعَايَنِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِمَهْرٍ لِامْرَأَتِهِ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِثْلِهَا وَيُحَاصُّ غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فَوَجَبَ مِقْدَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِحُكْمِ صِحَّةِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 36 النِّكَاحِ لَا بِإِقْرَارِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِي الْمَرَضِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهَا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِهَا بِقَبْضِ مَهْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهَا، فَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ وَارِثِهِ. وَلَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَارِثِ الْمَرِيضِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَرِيضِ كَانَ إلَى مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لَا إلَى وَارِثِهِ، ثُمَّ وَارِثُهُ إنَّمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي إمَّا بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ أَوْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِوَارِثِهِ فَلَمْ يُمَكَّنْ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ. وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ يُحِيطُ بِمَالِ الْمَرِيضِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْفَيْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِالْمَنْعِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهِ مَا دَامَ دَيْنًا، وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إذَا كَانَتْ الْمُبَايَعَةُ فِي الصِّحَّةِ فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي الْمَرَضِ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَبِيعِ فَتَحَوَّلَ إلَى بَدَلِهِ وَمَا اسْتِحْقَاقُ الْمُشْتَرِي هُنَا بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ مَالٍ يَقُومُ مَقَامَ الْمَبِيعِ فِي حَقٍّ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ فَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ دَيْنًا وَجَبَ فِي مَرَضِهِ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ فَهُوَ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ دَيْنًا وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْمُحَاصَّةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ بِالْمُقَاصَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حِصَّةٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَخْصِيصُ الْمَرِيضِ بَعْضَ غُرَمَاءَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا يَصِحُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمَقْتُولِ عَمْدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ] (بَابُ الْمَقْتُولِ عَمْدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَصْلُ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ نَفْسَ الْمَقْتُولِ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْقَتْلِ أَوْ عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ عَنْ الْقِصَاصِ)؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَالْحَقِّ فِي نَفْسِهِ لَهُ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى عَنْ أَيْسَرِ الْمَالَيْنِ قَضَاءً لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 37 الْوَارِثِ فَلَا يُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ التَّرِكَة تُقَسَّمُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْوَرَثَةِ عَلَى مَا كَانَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ لِأَنَّ ضَرَرَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ أَنْصَابِهِمْ وَيُجْعَلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ كَالْمُتَأَدَّى مِنْ التَّرِكَةِ وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّ مَا يَنْوِي مِنْهُ يَنْوِي عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ قُتِلَ عَمْدًا وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا، وَعَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَرِيمِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ عَفْوُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحِلِّ، فَإِذَا قَبَضَ الْخَمْسَةَ آلَافٍ ضَمَّ ذَلِكَ إلَى الْأَلْفِ الْمَتْرُوكَةِ فَيَكُونُ تَرِكَتُهُ سِتَّةَ آلَافٍ يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا سَهْمٌ لِلْمُعَافِي وَأَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا دَيْنٌ كَانَ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ سَهْمًا هَكَذَا فَإِنَّ الْخَمْسَةَ آلَافٍ كُلُّهَا حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَالْأَلْفُ الْمَتْرُوكَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلْمُعَافِي مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا صَارَ حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَلِلْمُعَافِي سَهْمٌ وَاحِدٌ فَذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَقُسِّمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَقَدْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيَأْخُذُ الْغَرِيمُ كَمَالَ حَقِّهِ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَمِقْدَارُ وَصِيَّتِهِ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَنْفُذُ لَهُ، ثُمَّ مَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ وَالْمُوصَى لَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمَا لِكَوْنِهِ مَحِلًّا لِإِيفَاءِ حَقِّهِمَا مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ تَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَخَاصَمَ الْغَرِيمُ الْقَاضِي فَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحِلُّ الصَّالِحُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ عَفَا أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْآخَرُ نِصْفَ الدِّيَةِ فَإِنَّ الْعَافِيَ يَتْبَعُهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ سُدُسِهَا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ التَّرِكَةَ سِتَّةُ آلَافٍ وَأَنَّ ضَرَرَ قَضَاءِ الدَّيْنِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ حَقِّهِمَا، وَقَدْ صُرِفَ نَصِيبُ جَمِيعِ الْعَافِي مِنْ الْعَبْدِ إلَى الدَّيْنِ وَإِنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ سُدُسِ الدَّيْنِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ التَّرِكَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ اسْتَوَى مِنْ نَصِيبِهِ، وَكَانَ قَضَاؤُهُ وَاجِبًا عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِي ذَلِكَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 38 الْقَضَاءِ إنَّمَا أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ سُدُسِ خَمْسَةِ الْآلَافِ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ الْعَبْدَ وَقَضَى الدَّيْنَ حَتَّى قَبَضَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ خَمْسَةَ آلَافٍ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ جَمِيعَ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ أَيْسَرَ الْمَالَيْنِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْخَمْسَةِ الْآلَافِ كَانَ الْعَبْدُ سَهْمًا، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ مِيرَاثًا عَنْ الْمَيِّتِ وَالْأَرْبَعَةُ آلَافٍ الْبَاقِيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيَرْجِع الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَلَى الْعَافِي بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسِ الدَّيْنِ اُسْتُوْفِيَ جَمِيعُ الدَّيْنِ مِمَّا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّةِ نَصِيبِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَنَصِيبُهُ مِنْ التَّرِكَةِ نِصْفُ سُدُسِهَا فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ سُدُسِ الدَّيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ لِيُسَلِّمَ لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ وَإِمَّا أَنْ يُبَاعَ نَصِيبُهُ مِنْ الْعَبْدِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّرِكَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْوَارِثِ فَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ وَاجِبٍ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَسَّمْنَا الْعَبْدَ هُنَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ وَالْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بَلْ يُقَسَّمُ كُلُّ جِنْسٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ مَعَ الْمَتْرُوكِ مِنْ الْمَالِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلِهَذَا ضَمَمْنَا الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ فِي الْقِسْمَةِ. رَجُلٌ قُتِلَ عَمْدًا وَلَهُ ابْنٌ وَامْرَأَةٌ وَتَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الدَّمِ سَقَطَ نَصِيبُهَا وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الِابْنِ مَالًا فَيُقْضَى لَهُ بِسَبْعَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَإِذَا جَاءَ الْغَرِيمُ قَبَضَ دَيْنَهُ مِمَّا فِي يَدِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَالْعَبْدُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالِابْنِ بِالْمِيرَاثِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهِ، ثُمَّ ضَرَرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ عَلَى الِابْنِ خَاصَّةً فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِمِقْدَارِ حِصَّتِهَا مِنْ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ فِي الْحَاصِلِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَحَقُّ الْمَرْأَةِ ثَمَنُ الْعَبْدِ فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَمَا قَبَضَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَإِذَا جَعَلْتَ عَلَى كُلِّ أَلْفٍ مِائَةً يَكُونُ سَبْعِينَ سَهْمًا وَالْعَبْدُ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ سَهْمًا سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلِابْنِ فَضَرَرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَسَبْعُونَ جُزْءًا مِنْ الدَّيْنِ فِي نَصِيبِهَا، وَقَدْ اسْتَوْفَى مِمَّا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الِابْنِ فَيُرْجَعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ لِيُسَلِّمَ لَهَا ثَمَنَ الْعَبْدِ أَوْ يُبَاعَ ثَمَنُ الْعَبْدِ. وَلَوْ قُتِلَ وَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا وَامْرَأَةً فَعَفَى الِابْنُ عَنْ الدَّمِ فَلِلِابْنَةِ وَالْمَرْأَةِ حِصَّتُهُمَا مِنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 39 الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فَالسَّبِيلُ أَنْ نُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ أَوَّلًا فَنَقُولَ: لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعَةٌ بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ: لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلَابِنَةِ سَبْعَةٌ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَظَهَرَ أَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ وَالِابْنَةِ مِنْ الدَّمِ عَشَرَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ مَالًا فَيَعْفُو الِابْنُ وَمِقْدَارُهُ بِالدَّرَاهِمِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَمِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَإِذَا قَسَمْتَهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ، وَعَشْرُ مَرَّاتٍ أَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ يَكُونُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ لِأَنَّ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَرْبَعُمِائَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَشْرَ مَرَّاتٍ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ يَكُونُ مِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَيُضَمُّ ذَلِكَ إلَى الْأَلْفِ الْمَتْرُوكَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ التَّرِكَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ وَمِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ يُقْضَى جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلًا وَمَا بَقِيَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ تَضْرِبُ فِيهِ الِابْنَةُ بِنَصِيبِهَا مِنْ التَّرِكَةِ وَالدِّيَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَتَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِأَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَيَضْرِبُ الِابْنُ بِنَصِيبِهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَمَانِينَ وَثُلُثٌ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِهَذَا الْقَدْرِ فَقَطْ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَصْحِيحَ الْحِسَابِ بِالسِّهَامِ وَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ مِائَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَنَصِيبُ الِابْنِ يَكُونُ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ وَنَصِيبُ الْمَرْأَةِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ سَهْمًا وَنَصِيبُ الِابْنَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ سَهْمًا، فَإِذَا ضَمَمْتَ إلَيْهِ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ إذَا ضَمَمْتَ إلَيْهِ نَصِيبَ الِابْنِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ يَكُونُ سِتَّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَيَنْقَسِمُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ لِيَكُونَ ضَرَرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ. مَرِيضٌ فِي يَدَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَقَرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ بِعَيْنِهَا لِرَجُلٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَمْدًا فَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْآخَرِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ وَدِيعَتَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُعَافِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَدِيعَةِ فِي الْمَرَضِ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ وَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَيْسَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ بَلْ هِيَ لِلْمُودِعِ يَأْخُذُهَا، وَإِنَّمَا تُرِكَ الدَّمُ فَقَطْ، وَقَدْ عَفَى أَحَدُ الِابْنَيْنِ فَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَالْعَافِي مُسْقِطٌ لِنَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِوَدِيعَةٍ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي مَرَضِهِ وَقَضَاهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَقَضَاؤُهُ إيَّاهُ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ فَخَرَجَ الْمَدْفُوعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنَّمَا تَرِكَتُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ الدَّمُ فَقَطْ، هَذَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 40 وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فَإِنَّ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ اتَّبَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الِابْنَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ سَالِمًا لِلْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي عَفَى وَإِنْ اتَّبَعَ الْغَرِيمُ الثَّانِي الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ اسْتَرَدَّ مِنْهُ الْمَقْبُوضَ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ وَاجِبًا فِي صِحَّتِهِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ دَيْنِهِ الْآنَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا كَانَ حَقُّهُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ وَلَا ثَمَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ شَيْءٌ مِمَّا قَبَضَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَهُ، وَإِذَا نَقَضَ قَبْضَهُ أَخَذَ الْأَلْفَ كُلَّهَا بِدَيْنِهِ وَاتَّبَعَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَرَضِ الِابْنَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَأَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ، ثُمَّ يَتْبَعُ الِابْنُ أَلْفًا فِي الِابْنِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ سُدُسِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَوَّلِ لَمَّا انْتَقَضَ صَارَ كَأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَجُمْلَةُ تَرِكَتِهِ سِتَّةُ آلَافٍ الْأَلْفُ الْمَتْرُوكَةُ مَعَ نِصْفِ الدِّيَةِ فَيُقْضَى الدَّيْنُ أَوَّلًا مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَيَبْقَى أَرْبَعَةُ آلَافٍ سَتُقْسَمُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا كَانَ يُقْسَمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ التَّرِكَةِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَيْنٌ، وَذَلِكَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا سَهْمٌ مِنْهُ لِلْعَافِي وَأَحَدَ عَشَرَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتْبَعْ الْغَرِيمُ الثَّانِي الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْبُوضَ يَبْقَى سَالِمًا لَهُ فَلَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَافِي فَصَارَ رُجُوعُ الْغَرِيمِ الثَّانِي عَلَى الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ نَافِعًا لِلِابْنِ الْعَافِي مُضِرًّا لِلْغَرِيمِ الْأَوَّلِ فِي نَقْضِ قَبْضِهِ كَمَا قِيلَ. مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ. مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدًا لَهُ لِرَجُلٍ وَقَبَضَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرِيضُ عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ بِالْقَبْضِ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ قَائِمًا حَتَّى مَلَكَهُ عَلَى الْوَاهِبِ، وَفِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ إذَا وَجَبَ الْمَالُ كَانَ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ هُنَا يَعْفُو أَحَدُ الِابْنَيْنِ إنْ اخْتَارَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ يُسَلَّمُ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ مَعَ رَقَبَتِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَكَانَتْ الرَّقَبَةُ دُونَ الثُّلُثِ فَتُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ وَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ لِلْعَافِي مِنْهَا نِصْفُ سُدُسِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَضَرَرُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ لِحِصَّتِهِمْ فَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى مَا كَانَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ وَمَا قَضَى بِهِ الدَّيْنَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْعَافِي وَهُنَا مَا يُنَفَّذُ فِيهِ الْهِبَةُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 41 وَالْوَصِيَّةُ إنَّمَا تُنَفَّذُ مِنْ التَّرِكَةِ فَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْعَافِي فَلِهَذَا يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ بِحُكْمِ بَعْضِ الْهِبَةِ فِيهَا وَيَدْفَعُ خُمُسَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيَبْقَى فِي يَدِهِ خُمُسٌ هُوَ سَالِمٌ لَهُ، ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ فِي يَدِ الِابْنَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْعَافِي مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ سَبْعَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُنَفَّذَ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُنَفَّذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَكِنْ نَفَّذَهَا فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ هُنَا لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ يُجْعَلُ عَلَى سِتَّةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثُلُثٍ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ حَتَّى يُدْفَعَ النِّصْفُ بِالْجِنَايَةِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَتُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، وَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَحَدُهُمَا إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَظْهَرُ زِيَادَةُ سَهْمٍ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا غَائِرٌ لِأَنَّكَ كُلَّمَا زِدْتَ فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ يَزْدَادُ الْمَدْفُوعُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَزَالُ يَدُورُ كَذَلِكَ وَالسَّبِيلُ فِي الدَّوْرِ أَنْ يُقْطَعَ وَطَرِيقُ الْقَطْعِ طَرْحُ السَّهْمِ الزَّائِدِ مِنْ جَانِبِ مَنْ خَرَجَ مِنْ قِبَلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُبَاعُ بِالْفَسَادِ فَالسَّبِيلُ نَفْيُهُ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا فَتُرْجَعُ سِهَامُ الْعَبْدِ فَتُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يُدْفَعُ أَحَدُهُمَا بِالْجِنَايَةِ فَحَصَلَ عِنْد الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنَّمَا قَسَّمْنَا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ بَيْنِ الِابْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْعَبْدِ لَمَّا صَارَتْ عَلَى خَمْسَةٍ فَحَقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ، ثُمَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَخَذَ سَهْمًا آخَرَ أَيْضًا فَيَصِيرُ حَقُّهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَنِصْفٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ يُقَسَّمُ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا، وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَاَلَّذِي كَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ صَارَ حَقُّهُ سَبْعَةً وَاَلَّذِي كَانَ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ صَارَ حَقَّةُ خَمْسَةً فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا. وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُجْعَلَ الْعَبْدُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي دِرْهَمَيْنِ وَيُدْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَحَاجَتُهُمْ إلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَاجْعَلْ الدِّرْهَمَ قِصَاصًا بِمِثْلِهِ يَبْقَى فِي يَدِهِمْ دِينَارٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَاجْعَلْ آخِرَ الدَّرَاهِمِ آخِرَ الدَّنَانِيرِ فَتَصِيرُ الدِّينَارُ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ وَالدِّرْهَمُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ فَتَقُولُ كَمَا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا، وَذَلِكَ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ وَدِرْهَمَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ نَفَّذْنَا بِالْهِبَةِ فِي دِرْهَمَيْنِ، وَذَلِكَ خُمُسَا الْعَبْدِ وَاَلَّذِي حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ دِينَارٌ وَبِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ وَدِرْهَمٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَطَرِيقُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِيهِ أَنْ تُنَفَّذَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 42 الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُدْفَعَ نِصْفُهُ بِالْجِنَايَةِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَيَحْصُلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ إلَّا نِصْفُ شَيْءٍ، وَهُوَ حَاجَتُهُمْ إلَى سِتِّينَ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ فَاجْبُرْ الْعَبْدَ بِنِصْفِ شَيْءٍ وَرُدَّ فِيمَا يَعْدِلُهُ نِصْفَ شَيْءٍ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَبْدَ الْكَامِلَ بِمَعْنَى سِتِّينَ وَنِصْفٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِتِّينَ، وَنِصْفٌ خُمُسَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ جَازَتْ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ، وَطَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةٍ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ وَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى أَرْبَعَةٍ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَنَفِّذْ الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ أَوْ بِعَفْوٍ نِصْفٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى سِتَّةٍ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي نُقْصَانُ سَهْمٍ وَنِصْفٍ، وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ فَلَمَّا زِدْنَا فِي الْهِبَةِ سَهْمًا ذَهَبَ ذَلِكَ الْخَطَأُ وَجُلِبَ خَطَأُ سَهْمٍ وَنِصْفٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يُؤَثِّرُ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْهِبَةِ مَا يُذْهِبُ الْخَطَأَ وَلَا يَجْلِبُ إلَيْنَا خَطَأً آخَرَ، وَذَلِكَ خُمُسَا سَهْمٍ فَتُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ فَتَبْقَى فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، ثُمَّ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ نِصْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ، وَهُوَ سَهْمٌ وَخَمْسٌ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَهُوَ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَسَهْمَانِ وَخُمُسَانِ مِنْ سِتَّةٍ يَكُونُ خُمُسَاهَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ وَطَرِيقُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَيَضْرِبَهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَيَصِيرُ تِسْعَةً وَيَأْخُذَ الْمَالَ الثَّانِي، وَهُوَ سِتَّةٌ وَيَضْرِبَهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ سَهْمٌ فَيَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْخَطَأَيْنِ إلَى الزِّيَادَةِ وَالْآخَرَ إلَى النُّقْصَانِ، وَالطَّرِيقُ فِي مِثْلِهِ الْجَمْعُ لَا الطَّرْحُ فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ جُمْلَةُ الْمَالِ، وَبَيَانُ مَعْرِفَةِ مَا جَازَ فِيهِ الْهِبَةُ أَنْ يَأْخُذَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ أَوَّلًا وَذَلِكَ سَهْمَانِ، فَيَضْرِبُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يَضْرِبُ مَا جَازَ فِيهِ الْهِبَةُ ثَانِيًا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ سِتَّةً فَظَهَرَ أَنَّ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ سِتَّةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ خُمُسَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ خُمُسٍ ثَلَاثَةٌ، وَطَرِيقُ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ يُسْهَمُ فَأَضْعِفْ الْمَالَ سِوَى النَّصِيبِ وَالْمَالُ سِوَى النَّصِيبِ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا ضَعَّفْتَهُ كَانَ ثَمَانِيَةً وَجُمْلَةُ سِهَامِ الْعَبْدِ عَشْرٌ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَحَدُهُمَا فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَارِثِ تِسْعَةٌ وَحَاجَتُهُ إلَى أَرْبَعَةٍ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ فَضُرِبَ الْمَالُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ سِتَّةٌ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ ثُلُثَيْنِ وَاضْرِبْ الْمَالَ الثَّانِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ عَشَرَةً الجزء: 18 ¦ الصفحة: 43 وَاطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى عِشْرُونَ فَهُوَ الْمَالُ وَمَعْرِفَةُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةُ أَنْ تَأْخُذَ سَهْمَيْنِ وَتَضْرِبَهُمَا فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَكُونَ عَشَرَةً، ثُمَّ تَأْخُذُ سَهْمَيْنِ، وَهُوَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ ثَانِيًا وَتَضْرِبُهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي جَازَ فِيهِ الْهِبَةُ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ عِشْرِينَ يَكُونُ خُمُسُهَا كُلَّ خُمُسٍ أَرْبَعَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ عَلَى الطُّرُقِ كُلِّهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إقْرَارِ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ] (بَابُ إقْرَارِ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَابْنًا، فَقَالَ الِابْنُ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مَوْصُولٍ لِهَذَا عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِهَذَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَمُوجَبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ، ثُمَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ)؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ تَصِيرُ الْأَلْفُ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَبِآخِرِ كَلَامِهِ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَمَتَى كَانَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ يُوقَفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ كَمَا لَوْ أَلْحَقَ بِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً، ثُمَّ إقْرَارُ الْوَارِثِ عَلَى مُوَرِّثِهِ إنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ هَذِهِ الْعَيْنُ لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَلَوْ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ وَسَكَتَ، ثُمَّ أَقَرَّ لِلثَّانِي فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ حِينَ أَقَرَّ لَهُ وَسَكَتَ فَإِقْرَارُهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مَحِلًّا مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمُوَرِّثِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِزَيْدٍ وَسَكَتَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَرِيضِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ؛ لِأَنَّهُ يُلَاقِي ذِمَّتَهُ فَبِوُجُوبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الذِّمَّةِ وَهُنَا صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ صَادَفَ مَحِلًّا فَارِغًا فَصَحَّ، ثُمَّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مَحِلًّا مَشْغُولًا فَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، فَإِنْ دَفَعَ الْأَلْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا، وَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي خَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي صَارَ مُقِرًّا بِأَنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ حَقُّ الثَّانِي، وَقَدْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَلِهَذَا ضَمِنَ لِلثَّانِي نِصْفَهُ. وَلَوْ قَالَ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ هَذِهِ الْأَلْفُ وَدِيعَةٌ لِهَذَا وَلِهَذَا الْآخَرِ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ كَانَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَحَقُّ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ صَارَتْ هِيَ بِعَيْنِهَا مُسْتَحَقَّةً لِلْمُقَرِّ لَهُ فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، الْوَدِيعَةُ مِنْ التَّرِكَةِ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 44 شَيْءٍ، فَقَدْ جُعِلَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْكَلَامُ الْمَوْصُولُ وَالْمَقْطُوعُ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ بِأَنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَيْسَتْ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ فَظَاهِرٌ، وَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ بِإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ كَمَنْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ الْكَلَامِ هُنَاكَ اسْتِحْقَاقُ الْأَوَّلِ جَمِيعَ التَّرِكَةِ وَيَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِآخِرِ كَلَامِهِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ نَفْسِهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَحَدِهِمَا اسْتِحْقَاقُ مِلْكِ الْغَيْرِ وَمُوجَبَ الْآخَرِ اسْتِحْقَاقُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا مِنْ الْعَيْنِ فَلِعَدَمِ الْمُحَاسِبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَطْفُ فَكَانَ الْمَوْصُولُ وَالْمَقْطُوعُ سَوَاءً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ هُنَاكَ ثَابِتَةٌ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهَذِهِ الْأَلْفُ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ تَحَاصَّا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ صَارَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا مُسْتَحَقَّةً لِلْغَرِيمِ بِالدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ صَادَفَ مَحِلًّا مَشْغُولًا فَمَنَعَ ذَلِكَ اخْتِصَاصَ الْمُودَعِ بِالْعَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَانْقَلَبَ هَذَا إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ بِوَدِيعَةٍ جَهِلَهَا الْمُودِعُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنَيْنِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ تَحَاصَّا فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: لِهَذَا عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِهَذَا فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ لِلثَّانِي وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ فَيَبْقَى الْأَلْفُ كُلُّهَا لَهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلثَّانِي مَعَهُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مِنْ حُكْمِ الْعَطْفِ وَالْوَصْلِ فَكَلِمَةُ لَا بَلْ لِلرُّجُوعِ لَا لِلْعَطْفِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بَعْضًا لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ عَلَى ابْنِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ضَمِنَ لِلثَّانِي مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأَلْفَ كُلَّهَا لِلثَّانِي وَأَنَّهُ غَلِطَ فِي الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْأَبِ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا الْمَدْفُوعَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي تَرَكَهَا أَبُوكَ وَدِيعَةٌ لِي، وَقَالَ آخَرُ: لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى بِهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ أَقْوَى حَتَّى يَصِحَّ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ إذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 45 الْوَدِيعَةِ فَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ يُجْعَلُ الْأَقْوَى مُقَدَّمًا كَدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ مَعَ دَعْوَةِ التَّحْرِيرِ (وَتَقْدِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ) أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ السَّبْقُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالسَّبْقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ الْوَدِيعَةِ فَكَانَ هُوَ الصَّحِيحَ فِي حَالِ الِاقْتِرَانِ، وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ بِالْإِقْرَارِ الْوَدِيعَةِ يَسْبِقُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ يُثْبِتُ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعَيْنَ فَكَانَ سَبْقُ الْوَدِيعَةِ فِي الْمُوجِبِ كَسَبْقِ الْإِقْرَارِ بِهَا نَصًّا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَا ظَهَرَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ إلَّا وَالدَّيْنُ ظَاهِرٌ مَعَهُ فَيَمْنَعُ ظُهُورُ الدَّيْنِ اخْتِصَاصَ الْمُودِعِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَرْفَعُ الشَّيْءَ إذَا سَبَقَهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ لَمَنَعَهُ أَيْضًا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ مَعَ الْأَمَةِ وَهُنَا إنْ سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ رُفِعَ حَقُّ اخْتِصَاصِ الْمَدْفُوعِ الْوَدِيعَةِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاخْتِصَاصِ لَهُ وَصَارَ الْوَارِثُ كَالْمُسْتَهْلِكِ الْوَدِيعَةَ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ وَبِالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ فَيَصِيرُ إقْرَارًا بِدَيْنَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ وَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَيِّهِمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْأَكْبَرُ فِيهَا وَصَدَّقَهُ الْأَوْسَطُ فِي أَلْفَيْنِ مِنْهَا وَصَدَّقَهُ الْأَصْغَرُ فِي أَلْفٍ مِنْهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْأَكْثَرِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَمِنْ الْأَوْسَطِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ مَا فِي يَدِهِ وَمِنْ الْأَصْغَرِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ مِنْ الْأَوْسَطِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَبَاقِي الْجَوَابِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَبْدَأُ بِالْأَكْبَرِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّرِكَةِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَأْخُذُ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ الْأَلْفُ، ثُمَّ يُثَنِّي بِالْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَتِهِ مِنْ الْأَصْغَرِ فَيَقُولُ لِلْأَوْسَطِ قَدْ أَقْرَرْتَ لِي بِدَيْنِ الْعَيْنِ وَمَا وَصَلَ إلَى الْأَلْفِ، فَقَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِي أَلْفٌ بِزَعْمِكَ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْمَالَيْنِ قَضَاءً فَهَاتِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِكَ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ نَعَمْ فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَأْتِي الْأَصْغَرُ بِقَوْلِ أَنَا أَقْرَرْتُ أَنَّ دَيْنَكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُلُثُهُ فِي يَدِي وَثُلُثَاهُ فِي يَدِ شَرِيكِي، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْكَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ وَزِيَادَةٌ فَلَا أُعْطِيكَ إلَّا مَا أَقْرَرْتُ لَكَ بِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا فِي يَدِي فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَالُ الْمُقَرُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ هُوَ الْمَالُ فَيَقُولُ أَلْفٌ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْأَصْغَرُ اتَّفَقَتْ الثَّلَاثَةُ عَلَى كَوْنِهَا دَيْنًا فَيَبْدَأُ الْمُقَرُّ لَهُ بِاسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْأَلْفَ مِنْ ثَلَاثَتِهِمْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ ثُلُثًا، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الْأَصْغَرِ وَيَأْتِي الْأَوْسَطُ فَيَقُولُ الْأَوْسَطُ: أَنَا قَدْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 46 أَقْرَرْتُ لَكَ بِأَلْفٍ أُخْرَى، وَقَدْ سَاعَدَنِي فِيهِ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ نِصْفُهُ فِي يَدِي وَنِصْفُهُ فِي يَدِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ يُسَلَّمُ لَكَ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعْطِيهِ نِصْفَ الْأَلْفِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ مَرَّةً وَنِصْفَ الْأَلْفِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْأَلْفِ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْأَكْبَرِ وَيَقُولُ: إنَّكَ قَدْ أَقْرَرْتَ أَنَّ الدَّيْنَ يُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ وَلَا مِيرَاثَ لَكَ وَأَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بِحُكْمِ إقْرَارٍ. (قَالَ) تَفَرَّقُوا عَلَيْهِ فَلَقِيَ الْأَصْغَرَ أَوَّلًا وَقَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ وَأَيْسَرُ الْأَمْوَالِ فِي حَقِّهِ هُوَ مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَهُ بِدَيْنِ أَلْفٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَقِيَ الْأَوْسَطَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِدَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَلْفٌ وَاحِدٌ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ بِزَعْمِهِ، فَإِنْ لَقِيَ الْأَكْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّ دَيْنَهُ مُحِيطٌ بِالتَّرِكَةِ فَيَتَوَصَّلُ إلَى جَمِيعِ حَقِّهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَقِيَ الْأَكْبَرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ لَقِيَ الْأَوْسَطَ بَعْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ أَلْفٌ، وَإِنْ لَقِيَ الْأَصْغَرَ بَعْدَهُمَا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ أَقَرَّ الْأَصْغَرُ بِأَنَّ أَخَوَيْهِ قَدْ أَقَرَّا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ حَقُّكَ فِي أَلْفٍ ثُلُثُهَا فِي يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فَمَا أَخَذْتَ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّكَ إنَّمَا أَخَذْتَهُ بِإِقْرَارِهِمَا لَكَ بِالْبَاطِلِ فَلَا تَأْخُذْ مِنِّي إلَّا قَدْرَ مَا أَقْرَرْتُ لَكَ بِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَإِنْ جَحَدَ، فَقَالَ لَمْ يُقِرَّ لَكَ أَخَوَايَ إلَّا بِالْأَلْفِ لَمْ يُقْضَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ مَا أَقْرَرْنَا لَكَ إلَّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنٍ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْكَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ التَّرِكَةِ وَزِيَادَةٌ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ دَفْعِ حُجَّتِهِ هَذِهِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ إقْرَارَهُمَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْأَصْغَرِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْأَصْغَرِ بِهِ وَإِنْ لَقِيَ الْأَوْسَطَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَضَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ لَقِيَ الْأَصْغَرَ بَعْدَهُ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إقْرَارِ الْأَصْغَرِ، وَإِنْكَارِهِ فِي الْأَوَّلِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ حَالَ إنْكَارِهِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ لَكَ الْأَوْسَطُ بِأَلْفٍ كَمَا أَقْرَرْتَ بِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ أَقْرَرْنَا لَكَ بِأَلْفٍ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْكَ مِنْ التَّرِكَةِ أَلْفٌ، فَأَمَّا عِنْدَ إقْرَارِهِ بِأَنَّ الْأَوْسَطَ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا نَظِيرُ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْوَجْهِ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَمْسَمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ الْأَلْفَ بِاعْتِبَارِ إقْرَارٍ كَانَ هُوَ صَادِقًا فِي نِصْفِهِ كَاذِبًا فِي نِصْفِهِ فَفِي النِّصْفِ، وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ أَنْتَ مُسْتَوْفٍ حَقَّكَ مِنْهُ وَفِي النِّصْفِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 47 الْآخَرِ أَنْتَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَبْقَى مِنْ دَيْنِهِ بِزَعْمِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مِمَّا فِي يَدِهِ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ إذَا لَقِيَ الْأَكْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَى لَهُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا لِإِقْرَارِهِ أَنَّ الدَّيْنَ مُحِيطٌ بِالتَّرِكَةِ وَأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَلْفَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَبِيهِمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَادَّعَى آخَرُ أَلْفَ دِرْهَمٌ فَأَقَرَّا جَمِيعًا لِأَحَدِهِمَا وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَحْدَهُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ مَعًا فَاَلَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَصَادِقَانِ عَلَى دَيْنِهِ فَيَبْدَأُ بِهِ لِقُوَّةِ حَقِّهِ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دَيْنِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِدَيْنِهِ وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنْ نَصِيبِهِ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ فَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ التَّرِكَةِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ إلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ غَابَ الَّذِي أَقَرَّا لَهُ وَحَصَلَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَحَدُهُمَا فَقَدِمَ الْمُقِرُّ بِحَقِّهِ إلَى الْحَاكِمِ، فَقَالَ: لِي عَلَى أَبِي هَذَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَقَرَّ لِي بِهَا وَصَدَّقَهُ الِابْنُ وَأَوْهَمَ أَنْ يُجْبِرَهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ أَيْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِي يَقْضِي لَهُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الَّتِي فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِدَيْنِ أَلْفٍ وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ قَضَاءً، وَهُوَ مَا فِي يَدِهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ كُلَّهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ جَاءَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ جَمِيعًا وَقَدِمَ أَخَاهُ قَضَى لَهُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَخَوَيْنِ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُتْلِفْ عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا وَمَا أَخَذَ مِنْ يَدِهِ إنَّمَا أَخَذَهُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ حَضَرَ أَوَّلًا فَقَدِمَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ وَحْدُهُ إلَى الْقَاضِي قَضَى لَهُ عَلَيْهِ بِمَا فِي يَدِهِ مُقِرٌّ لَهُ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ جَاءَ الْآخَرُ وَقَدِمَ أَخَاهُ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَخَوَيْنِ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا أَخَذَهُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ مِائَتَيْ دِينَارٍ أَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ فَهَذَا وَالدَّرَاهِمُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَاقْتَسَمَا ذَلِكَ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا، ثُمَّ أَقَرَّا جَمِيعًا أَنَّ أَبَاهُمَا أَعْتَقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِ الْأَصْغَرِ مِنْهُمَا فِي صِحَّتِهِ وَأَقَرَّ الْأَكْبَرُ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 48 الَّذِي فِي يَدِهِ فِي صِحَّتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا فَهُمَا حُرَّانِ أَمَّا الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ مَالِكٌ لَهُ، وَقَدْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَإِقْرَارُ الْمَالِكِ فِي مِلْكه صَحِيحٌ، فَإِذَا أَعْتَقَ ضَمِنَ الْأَكْبَرُ لِلْأَصْغَرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مَا أَعْطَاهُ شَيْئًا فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ كَانَ حُرًّا بِاتِّفَاقِهِمَا وَاَلَّذِي أَخَذَ الْأَكْبَرُ فِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكٌ لَهُمَا وَالْأَكْبَرُ بِالْإِقْرَارِ بِعِتْقِهِ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ الْأَصْغَرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلِهَذَا ضَمِنَ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَهَذَا الضَّمَانُ لَيْسَ بِضَمَانِ الْعِتْقِ حَتَّى يَخْتَلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَكِنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالَهُ بِالْقِسْمَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُ الْقِسْمَةِ، وَلَكِنْ إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ بِعَيْنِهِ بِإِقْرَارِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ هُنَاكَ أَخَذَ أَلْفًا كَمَا أَخَذَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ مَا فِي يَدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِهِ فَلِهَذَا لَا يُتْبِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ. وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ فِي الْعَبْدَيْنِ بِأَنَّ أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَنَّهُ وَدِيعَةُ فُلَانٍ وَأَقَرَّ الْآخَرُ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهَذَا وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْمَعْنَى هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ خَاصَّةً فَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَعْطَى صَاحِبَهُ بَدَلًا مُسْتَحَقًّا، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ نَصِيبِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَتَهُ. وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَبِيهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّا جَمِيعًا أَنَّ عَلَى أَبِيهِمَا أَلْفًا دَيْنًا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ مِقْدَارَ خَمْسِمِائَةٍ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِدَيْنِهِ وَيَخْرُجُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ تَبْقَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ أَلْفٌ فِي يَدِ الْجَاحِدِ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَالدَّيْنُ الَّذِي ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ بِقَدْرِ مَا فِي يَدَيْهِمَا مِنْ التَّرِكَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَأَقَرَّ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مِنْ نَصِيبِهِمَا أَثْمَانًا بِقَدْرِ نَصِيبِهِمَا فَهُنَا أَيْضًا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ الدَّيْنِ بِحِسَابِ مَا فِي يَدَيْهِمَا مِنْ التَّرِكَةِ فَتَكُونُ أَثْلَاثًا، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَدَفَعَهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّا جَمِيعًا بِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ قَضَى بِالْأَلْفِ كُلِّهَا مِمَّا فِي يَدِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَقْضِيٌّ مِنْ التَّرِكَةِ وَبَاقِي التَّرِكَةِ فِي يَدِ الْجَاحِدِ وَالْمُقِرُّ الْأَوَّلُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لِلْجَاحِدِ أَنْ يُتْبِعَ أَخَاهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَيْهِ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبَيِّنُ مَا سَبَقَ مِنْ فُصُولِ الدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَا أَقَرَّا أَوَّلًا لِرَجُلٍ بِدَيْنِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِدَيْنِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْمِائَةُ الْأُولَى عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَقَرَّا بِهِ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّرِكَةِ مِثْلُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ تِلْكَ الْمِائَةِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 49 بَعْدَ ذَلِكَ لِآخَرَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمِائَةَ مِنْ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى أَخِيهِ بِنِصْفِهَا لِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا فَالْمُؤَدِّي مِنْهُمَا لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ هُوَ قَاضٍ دَيْنَ أَبِيهِ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ، وَلَوْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَأَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِآخَرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْأَوَّلُ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِمَّا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِهِ وَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِمَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ تِسْعُمِائَةٍ وَفِي يَدِ الْجَاحِدِ أَلْفٌ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مَا فِي يَدَيْهِمَا مِنْ التَّرِكَةِ، فَإِذَا جَعَلَ كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَإِنْ أَخَذَ الْمِائَةَ مِنْ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْمِائَةُ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى عَلَيْهِمَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَقَضَاهُ مِنْ نَصِيبِهِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا مِمَّا قَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ قَصَدَ تَفْرِيغَ ذِمَّةِ مُوَرِّثِهِ وَمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ بَعْدُ شَيْئًا، ثُمَّ دَفَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَصِيرُ ضَامِنًا، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا فَمَا يَثْبُتُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ التَّرِكَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِتَرْكِ الْيَمِينِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِتَرْكِ الْيَمِينِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (: رَجُلٌ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ يَمِينَهُ فَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي)، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى (قَالَ) وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ حَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ وَحَقُّهُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الْإِقْرَارُ لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاضِي يَقُولُ لَهُ مَاذَا تَقُولُ، وَلَا يَقُولُ مَاذَا تَفْعَلُ، فَإِذَا مَنَعَهُ ذَلِكَ الْجَوَابَ، فَإِنْكَارُهُ حَقٌّ إلَى الشَّرْعِ وَحَقُّهُ الْيَمِينُ، فَإِذَا نَكَلَ يُعَادُ إلَيْهِ أَصْلُ حَقِّهِ هُوَ وَالْإِقْرَارُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُبْطِلًا فِي إنْكَارِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَضَرُورَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِحْلَافِ فِي النِّكَاحِ وَنَظَائِرِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ الْيَمِينِ وَدَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِأَمْرِ الْقَاضِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 50 وَقَضَاؤُهُ لَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا وَإِنْ أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُخَمَّسَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، فَإِنْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ دَفَعَهُ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ جَاءَ الْمُقَرُّ لَهُ الْأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ نُكُولِهِ لَهُ لِلْمُدَّعِي دُونَ اتِّصَالِ تَصْدِيقِهِ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَائِبٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِحَاضِرٍ وَسَلَّمَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَهُ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا، ثُمَّ الْمُدَّعِي عَلَى حُجَّتِهِ مَعَ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا اسْتَحْلَفَهُ عَلَى دَاعُوهُ، وَلَوْ ادَّعَى غَصْبَ الْعَبْدِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ فَقُضِيَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ مُدَّعٍ آخَرُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْغَصْبِ عَلَيْهِ يَدَّعِي ضَمَانَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِلْكًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دَعْوَى الْعَيْنِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ وَالْعَيْنُ لَيْسَتْ فِي يَدِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا دَعْوَى الْغَصْبِ فَدَعْوَى الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَإِنَّ الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ بِالتَّسَلُّمِ يَصِيرُ ضَامِنًا إلَى رَدِّ الْمِلْكِ وَجَمِيعُ أَصْنَافِ الْمِلْكِ فِي هَذَا سَوَاءٌ مَا خَلَا الْعَقَارَ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِلثَّانِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ وَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَصِيرُ ضَامِنًا إذَا لَمْ يَحْلِفْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ غَصْبِ الْعَقَارِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا، وَفِي يَدِهِ عَبْدٌ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ الْعَبْدَ أَبَاهُ فَإِنَّ الِابْنَ يَسْتَحْلِفُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَجُحُودُهُ الْوَدِيعَةَ كَجُحُودِ الْمُوَرِّثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ دَفَعَ الْعَبْدُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ صَارَ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا، فَإِنْ ادَّعَى آخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحْلِفْ لَهُ الِابْنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يَسْتَحْلِفُ عِنْدَ جُحُودِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمْ يُبَاشِرْهَا هُوَ حَتَّى يَكُونَ مُلْتَزِمًا حِفْظَهَا بِعَقْدِهِ، ثُمَّ بِالنُّكُولِ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْحِفْظِ بَلْ هُوَ رَجُلٌ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ وَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِتَسْلِيمِ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِسَبَبِ تَرْكِ الْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ حِينَ أَقَرَّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحْلِفُ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 18 ¦ الصفحة: 51 أَيْضًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلثَّانِي، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِلثَّانِي، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْإِيدَاعَ إذَا كَانَ الدَّفْعُ حَصَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَى عَلَى الْأَبِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ عَارِيَّةٍ فَلَا ضَمَانَ لِلثَّانِي عَلَى الِابْنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الِابْنِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ سِوَى مَا قَضَى بِهِ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ اسْتَحْلَفَ لِلثَّانِي، وَإِذَا أَبَى الْيَمِينَ صَارَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ عَلَى أَبِيهِ لِلثَّانِي فِي الْغَصْبِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ بِمَوْتِهِ مُجَهِّلًا وَصَارَ مُتَمَلِّكًا غَاصِبًا فَيُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ. (قَالَ) وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالتَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ كَالْبَالِغِ، وَهَذَا لَا يُسْتَحْلَف لِرَجَاءِ النُّكُولِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا يُسْتَحْلَفُ إذَا جَاءَ نُكُولُهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النُّكُولُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ وَالْبَذْلُ الْمُقَيَّدُ صَحِيحٌ مِنْ الْمَمْلُوكِ وَالصَّبِيِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَا أَحْلِفُ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلٌ، فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلَا يُوجَبُ بِهِ مَا لَمْ يَقْضِ شَيْئًا الْقَاضِي وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَالشَّهَادَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إذَا قَالَ: أَحْلِفُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ لَزِمَهُ بِالْقَضَاءِ وَتَعَيَّنَ حَقُّهُ بِالْإِقْرَارِ فِي نُكُولِهِ بِالْقَضَاءِ فَلَا رُجُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا اسْتَمْهَلَ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَإِنْ طَلَبَ النَّظْرَةَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأَمُّلِ فِي حِسَابِهِ وَمُعَامَلَتِهِ مَعَ الْمُدَّعِي فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْهِلَهُ، وَإِنْ فَعَلَ وَأَمْضَى عَلَيْهِ الْحُكْمَ جَازَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ الْيَمِينِ قَدْ تَقَرَّرَ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ نَافِذٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْعُرُوضِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْعُرُوضِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رَجُلَانِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْهَا لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي الْحَالِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَيَكُونُ نِصْفُ الْبَيْتِ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِقْرَارُهُ فِي نِصْفِ الْبَيْتِ لَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَشَرِيكُهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَصَوَّرُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِتَفَرُّقِ مِلْكِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرَرَ لَا يَلْحَقُهُ بِالْإِقْرَارِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْقِسْمَةِ مَعَ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 52 الْبَاقِي كَالرَّاهِنِ يُقِرُّ بِالْمَرْهُونِ لِإِنْسَانٍ فَيُعْتِقُهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَالْإِقْرَارُ مِنْهُ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَإِعْتَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ شَرِيكُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّا لَوْ صَحَحْنَا الْإِقْرَارَ فِي الْحَالِ تَضَرَّرَ بِهِ الشَّرِيكُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَتَيْنِ قِسْمَةُ الْبَيْتِ مَعَ الْمُقَرِّ لَهُ وَقِسْمَةُ بَقِيَّةِ الدَّارِ مَعَ الْمُقِرِّ فَيَتَفَرَّقُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ، وَهَذَا الضَّرَرُ يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقِسْمَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فَمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ يُضَافُ إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْأَمْرِ بِالْغَيْرِ، وَلَكِنْ الْمُقَرُّ لَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ شَرِيكِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِعَدَمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ، ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ وَيَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَنَصِيبُ الْمُقِرِّ يُقَسَّمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقِرِّ لَهُ وَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ بِذُرْعَانِ جَمِيعِ الْبَيْتِ وَالْمُقِرُّ بِذُرْعَانِ نِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ لَهُ بِذُرْعَانِ نِصْفِ الْبَيْتِ وَالْمُقِرُّ بِذُرْعَانِ نِصْفِ الدَّارِ سِوَى نِصْفِ الْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَالْبَيْتُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ يَضْرِبُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَالْمُقِرُّ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدِ عَشَرَ سَهْمًا سَهْمَانِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَتِسْعَةٌ لِلْمُقِرِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ وَالْمُقِرُّ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا فَيَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ عُشْرُ نَصِيبِ الْمُقِرِّ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَهُ فِي نِصْفِ الْبَيْتِ صَادَفَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ، وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ حِينَ وَقَعَ الْبَيْتُ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ إلَّا بِقَدْرِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْبَيْتِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ إذَا وَقَعَ هَذَا النِّصْفُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَعِوَضُهُ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرُّ بِهِ إذَا أَخْلَفَ عِوَضًا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ فَلِهَذَا ضَرَبَ بِنَصِيبِهِ بِذُرْعَانِ نِصْفِ الْبَيْتِ وَالْمُقِرُّ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَهُوَ ذُرْعَانُ نِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي الْكُلِّ قَدْ صَحَّ بِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْبَيْتِ فَيَأْخُذُهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعَقَارِ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَلِهَذَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا وَاقْتَسَمَاهَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً فَالْبَيْتُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَعِوَضُهُ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ. وَحُكْمُ الْعِوَضِ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيمَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِهِ أُمِرَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 53 بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ عِوَضُهُ فِي نَصِيبِهِ يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي جَمِيعِهِ فَلِهَذَا ضُرِبَ بِذُرْعَانِ جَمِيعِ الْبَيْتِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْحَاصِلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ كَمَا يَصِحُّ بِمِلْكِهِ يَصِحُّ فِي عِوَضِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الشَّرِيكَ ظَالِمٌ بِجُحُودِهِ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبَيْتِ فَيُجْعَلُ الشَّرِيكُ مَعَ مَا أَخَذَ فِي حَقِّهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ ظُلْمِهِ لَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَبْقَى حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِزَعْمِ الْمُقِرِّ فِي ذُرْعَانِ الْبَيْتِ وَحَقُّ الْمُقِرِّ فِي ذُرْعَانِ نِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ بِطَرِيقٍ لِرَجُلٍ أَوْ بِحَائِطٍ مَعْلُومٍ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي الْبُنْيَانِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْتِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ بِبَيْتٍ مِنْهَا لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ هَذَا وَجَوَابُهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ وَاحِدٌ إلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا إذَا اقْتَسَمَا فَوَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ لِلْمُوصَى لَهُ هُنَا نِصْفُ الْبَيْتِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ هُنَاكَ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصِي فِي نِصْفِ الْبَيْتِ صَادَفَتْ مِلْكَهُ، وَفِي نِصْفِهِ صَادَفَتْ نَصِيبَ شَرِيكِهِ. وَمَنْ أَوْصَى بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيهَا فَلِهَذَا أُمِرَ الْوَرَثَةُ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ الْبَيْتِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، وَفِي الْإِقْرَارِ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ، ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا أَخَذَ الْمُقَرُّ لَهُ جَمِيعَ الْبَيْتِ، وَفِيمَا سِوَى هَذَا مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ سَوَاءٌ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ حَمَّامٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيْتَ الْأَوْسَطَ مِنْهُ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِشَرِيكِهِ بِأَنْ كَانَ لَا يُقَسَّمُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا انْهَدَمَ الْحَمَّامُ يُحْتَمَلُ الْفُرْصَةُ فَلَوْ صَحَحْنَا إقْرَارَ الْمُقِرِّ تَضَرَّرَ بِهِ الشَّرِيكُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ هُنَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ نِصْفَ قِيمَةِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْإِقْرَارِ بِالْقِسْمَةِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْحَمَّامَ لَا يُقَسَّمُ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي قِسْمَةِ الْحَمَّامِ تَعْطِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَمَّامِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْبَيْتَ الْأَوْسَطَ لِلْمُقِرِّ احْتَبَسَ نِصْفَهُ فِي يَدِهِ وَنِصْفَهُ فِي يَدِ شَرِيكِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا احْتَبَسَ مِنْهُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ إذَا احْتَبَسَ مِنْهُ فِي يَدِهِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ لَا يَكُونُ مَجَّانًا بَلْ يَكُون مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الْحَمَّامِ أَوْ بِثُلُثِهِ كَانَ إقْرَارُهُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِجُزْءٍ شَائِعٍ لِلْمُقَرِّ لَهُ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ عِدْلٌ زُطِّيٌّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَوْبٍ مِنْهُ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ كَانَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 54 نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَإِقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ الثَّوْبِ الَّذِي عَيَّنَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَصَحَّ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ هُنَاكَ مُتَّصِلَةٌ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ فَفِي تَصْحِيحِ الْإِقْرَارِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ، وَهُنَا بَعْضُ الثِّيَابِ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِالْبَعْضِ، وَلَيْسَ فِي تَصْحِيحِ الْإِقْرَارِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكُهُ فِي هَذَا الثَّوْبِ الْمُقِرِّ أَوْ الْمُقَرُّ لَهُ، وَالرَّقِيقُ وَالْحَيَوَانُ قِيَاسٌ عَلَى الثِّيَابِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ وَأَقَرَّ بِبَيْتٍ لِآخَرَ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ ذَلِكَ فَالدَّارُ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي نَصِيبِهِ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَصِيبِهِ قُسِّمَ مَا أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الْبَيْتِ، وَعَلَى نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ بَعْدَ الْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَةِ نَصِيبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي إقْرَارِ أَحَدِهِمَا بِهِ. وَلَوْ أَنَّ طَرِيقًا لِقَوْمٍ عَلَيْهَا بَابٌ مَنْصُوبٌ أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقٍ فِيهِ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُرْ إقْرَارُهُ عَلَى شُرَكَائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ حَتَّى يَقْتَسِمُوهَا؛ لِأَنَّ مُرُورَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ وَقَعَ مَوْضِعُ الطَّرِيقِ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الضَّرَرَ قَدْ انْدَفَعَ عَنْ شُرَكَائِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ غَيْرِهِ كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُقَرَّ بِهِ نَصِيبَهُ بِحِصَّةِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَسْأَلَةِ الطَّرِيقِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَأَعَادَهَا هُنَا لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّهْرِ إذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِشُرْبٍ فِيهِ لِرَجُلٍ لَمْ يُجَرْ عَلَى شُرَكَائِهِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ أَنَّ عُشْرَ النَّهْرِ لِهَذَا الرَّجُلِ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى مِقْدَارِ نَصِيبِهِ، وَعَلَى عَشَرَةٍ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عُشْرُ الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ الْمُرُورِ فِي النَّهْرِ يَتَحَاصُّونَ فِيهِ بِقَدْرِ شُرْبِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةً بَيْنَهُمْ فِي الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فَيُمْكِنُ إدْخَالُ الْمُقِرِّ مَعَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى شُرَكَائِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَيْنٌ أَوْ رُكِيٌّ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ أَحَدُهُمْ أَقَرَّ أَنَّ عُشْرَهَا لِرَجُلٍ دَخَلَ الْمُقِرُّ فِي حِصَّتِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُقِرُّ: لَهُ الْعُشْرُ وَلِي الثُّلُثُ فَحِصَّتُهُ تَكُونُ مَقْسُومَةً عَلَى ذَلِكَ يَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ بِسَهْمٍ وَالْمُقِرُّ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ تَصْحِيحَ السِّهَامِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمُقَرِّ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمُقِرِّ عَشَرَةٌ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ الْعُشْرُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَقِسْمَةُ نَصِيبِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْمُقَرِّ لَهُ سَهْمٌ وَلِلْمُقَرِّ ثَلَاثَةٌ. وَلَوْ أَنَّ سَيْفًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ حِلْيَتُهُ فِضَّةٌ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 55 أَنَّ حِلْيَتَهُ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ وَضَمِنَ الْمُقِرُّ لِلْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْحِلْيَةِ مَصُوغَةً مِنْ الذَّهَبِ أَوْ مَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْإِقْرَارِ بِالْقِسْمَةِ غَيْرُ مُمْكِنِ، وَفِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْحِلْيَةَ لِلْمُقَرِّ لَهُ اُحْتُبِسَ نِصْفُهَا فِي يَدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ مِنْ مِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا. وَكَذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ إذَا أَقَرَّ بِجِذْعٍ فِي سَقْفٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجِذْعِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِاحْتِبَاسِ هَذَا النِّصْفِ فِي يَدِهِ مِنْ مِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ بِزَعْمِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِآجُرٍّ فِي حَائِطٍ مِنْهَا أَوْ بِعُودٍ مِنْ قُبَّةٍ أَوْ بِلَوْحٍ مِنْ بَابٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالْقِسْمَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ لِمَا فِي نَزْعِهِ مِنْ الضَّرَرِ. وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ لِرَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ بَيْتٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ بَيْعَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ وَتَسْلِيمُهُ بِالتَّخْلِيَةِ مُمْكِنٌ فَكَانَ بَيْعُهُ صَحِيحًا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ بَيْعُهُ لِنِصْفِ الْبَيْتِ لَتَضَرَّرَ بِهِ شَرِيكُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَتَيْنِ قِسْمَةٌ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْتِ وَقِسْمَةٌ مَعَ الشَّرِيكِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فَيَتَضَرَّرُ بِتَفَرُّقِ مِلْكِهِ، وَالْبَيْعُ إذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ شَرِيكُهُ أَوْلَى. رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: لَكَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى مُكَاتَبِي فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حَقِّهِ كَالْحُرِّ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَكَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى فُلَانٍ الْحُرِّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي هَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ حَرْفَ " أَوْ " فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ عَمَلُهُ فِي إثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْمَالِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ حِينَ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، فَقَدْ ازْدَادَ بُعْدًا مِنْ مَوْلَاهُ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ جَدَّدَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي رَقَبَتِهِ خَلَصَ لَهُ. وَلَوْ اسْتَأْنَفَ الْإِقْرَارَ، فَقَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَتَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يُلْزِمَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ الْآنَ صَارَ الْتِزَامًا بِيَقِينٍ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ يَكُونُ شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ، وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ ذِمَّةِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ صَحَّ أَيْضًا، فَإِذَا جَعَلَ إقْرَارَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا كَانَ صَحِيحًا وَبِهِ فَارَقَ حَالَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى مُكَاتَبِهِ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَعْجِزَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ التَّاجِرِ بِدَيْنٍ وَالْعَبْدُ يَجْحَدُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ وَكَسْبَهُ حَقُّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 56 غُرَمَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إبْطَالَ حَقِّهِمْ وَلَا إثْبَاتَ مُزَاحِمٍ لَهُمْ بِقَوْلِهِ كَالْمَرْهُونِ لَمَّا صَارَ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ لَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ إبْطَالَ حَقِّهِ وَإِثْبَاتَ مُزَاحِمٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الذِّمَّةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ لِغُرَمَائِهِ فِي دَيْنِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْ مَوْلَاهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ وَتَرَكَ مَالًا فَالْإِقْرَارُ يَلْزَمُهُ إرْثًا كَانَ عَلَيْهِ وَإِرْثًا كَانَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ الْإِقْرَارَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَانَ مُلْتَزِمًا إيَّاهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يُوَجِّهُ الْمُطَالَبَةَ بِقَضَائِهِ مِنْ مَالِهِ، وَقَدْ صَارَ هُوَ الْمُطَالَبَ بِقَضَاءِ هَذَا الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ عَيْنًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُهُ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَتَرِكَةُ الْمُوَرِّثِ حَقُّ الْوَارِثِ فَلِهَذَا حَكَمَ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ وَجَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُقِرِّ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ فَالدَّيْنُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَ الْإِقْرَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَبَرٌ مُلْزِمٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ وَإِنَّ جِهَةَ الصِّدْقِ مَنْفِيَّةٌ فِيهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَفَسْخُهُ فِي تَعَيُّنِ جِهَةِ الْكَذِبِ فِيهِ وَبَعْدَ مَا تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الصِّدْقِ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ تَعْيِينُ جِهَةِ الْكَذِبِ فِيهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كَمُجَدِّدِ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ بَعْدَ مَا خَلَصَ الْحَقُّ لَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ فَدَيْنُهُ وَاجِبٌ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يُخْلِصُ حَقًّا لَهُ وَمَا دَامَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَقَرَّ بِهِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ فَلَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي تَرِكَتِهِ فَتُجْعَلُ هَذِهِ الْحَالُ كَحَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ. لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ عَلَى فُلَانٍ لَزِمَ الْمُقِرَّ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَإِلْزَامُ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لَا بَلْ عَلَى فُلَانٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِلِاسْتِدْرَاكِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ وَلَا وِلَايَةُ إلْزَامِ الْمُقَرِّ بِهِ غَيْرَهُ فَيُلْغَى آخِرُ كَلَامِهِ وَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ فَإِنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّشْكِيكِ فَلَا يَكُونُ مَعَ ذِكْرِهِ مُلْتَزِمًا لِلْمَالِ بِإِقْرَارِهِ. دَار بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فُلَانٍ وَأَقَرَّ الْآخَرُ أَنَّهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمُقَرِّ لَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَرْبَاعًا فَإِنَّا نُسَمِّي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَاَلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَحَدُهُمَا مَحْجُورًا وَاَلَّذِي أَقَرَّ لَهُمَا مُقِرًّا وَشَرِيكَهُ مُكَذِّبًا فَنَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْتِي الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ إلَى الْمُقِرِّ فَيَأْخُذُ مِنْهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ فَيَقْسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 57 الْمَجْحُودِ نِصْفَيْنِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ رُبْعُ نِصْفِهِ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَجْعَلُ سِهَامَ الدَّارِ سِتَّةَ عَشَرَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُقِرِّ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ سَهْمَيْنِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ فَيَصِيرُ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ سِتَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَيْنِ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي قَاسَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ وَالْبَاقِي كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِابْنَيْنِ آخَرَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي أَحَدِهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْآخَرِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي قَاسَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُقِرِّ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خُمُسُ مَا فِي يَدِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ يَقُولُ لِلْمُقِرِّ: قَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّ الدَّارَ بَيْنَنَا أَرْبَاعًا فَلِي رُبْعُ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ الدَّارِ، وَفِي يَدِكَ النِّصْفُ فَأَعْطِنِي رُبْعَ مَا فِي يَدِكَ لِإِقْرَارِكَ لِي بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَوْلِهِ نَعَمْ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ ضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: قَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّ حَقَّنَا فِي الدَّارِ عَلَى السَّوَاءِ، وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ فِي حَقِّهِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ لِلْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: أَنَا قَدْ أَقْرَرْتُ بِأَنَّ حَقِّي فِي سَهْمٍ وَحَقَّ الْجُحُودِ فِي سَهْمٍ وَحَقَّكَ فِي سَهْمٍ، وَلَكِنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ حَقُّكَ نِصْفُهُ فِي يَدِي وَنِصْفُهُ فِي يَدِ شَرِيكِي، وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ بِذَلِكَ وَزِيَادَةٍ فَلَا يُضْرَبُ بِمَا فِي يَدِي إلَّا بِمَا أَقْرَرْتُ لَكَ بِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ سَهْمٍ فَأَنْتَ تَضْرِبُ بِمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ وَأَنَا بِسَهْمٍ وَالْمَجْحُودُ بِسَهْمٍ فَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ وَضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ فَاقْتَسَمَا نِصْفَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي الدَّارِ سَوَاءٌ. وَإِذَا تَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي حَائِطٍ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ إلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَحْكِيمُ وَجْهِ الْبِنَاءِ لَبْسٌ وَعِنْدَهُمَا الْحَائِطُ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ وَالْحِصْنِ جَمِيعًا فَإِعَادَتُهُ هُنَا لِفُرُوعٍ ذَكَرْنَاهَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ: قَدْ يَجْعَلُ الرَّجُلُ وَجْهَ الْحَائِطِ إلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَائِطَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ جَانِبَيْ الْحَائِطِ مُجَصَّصًا فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْقَضَاءِ بِالْحَائِطِ لِمَنْ يَكُونُ جَانِبُهُ مُجَصَّصًا. وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ الْحَائِطِ رَوَازِنُ أَوْ طَاقَاتٌ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 58 وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ فِي الْحِصْنِ وَالرَّوَازِنِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَائِطُ مَبْنِيًّا بِطَاقَاتٍ فَالْحَائِطُ لِلَّذِي إلَيْهِ الطَّاقَاتُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الطَّاقَاتِ بِمَنْزِلَةِ وَجْهِ الْبِنَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَبْنِي الْحَائِطَ يَجْعَلُ الطَّاقَاتِ إلَى جَانِبِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْجَانِبَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الطَّاقَاتُ يُبْنَى مُسْتَوِيًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْحَائِطُ مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ لَا مِنْ جَانِبِ جَارِهِ وَلِهَذَا جُعِلَ وَجْهُ الْبِنَاءِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الطَّاقَاتُ، وَقَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الرَّوَازِنُ فِي الْبِنَاءِ مِنْ الْآجُرِّ فَهِيَ مِثْلُ الطَّاقَاتِ فَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا إنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرَا الرَّوَازِنَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْحَائِطِ، فَقَدْ يَحْفِرُ ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَائِطِ، وَقَدْ يَحْفِرُ جَارُهُ لِيَدْخُلَ فِيهِ الضَّوْءُ فَأَمَّا مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ مَعَ الْحَائِطِ مِنْ الرَّوَازِنِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ حُكْمًا عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الطَّاقَاتِ وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ لِمَنْ إلَيْهِ اسْتِوَاءُ تِلْكَ الرَّوَازِنِ؛ لِأَنَّ الْبَانِيَ لِلْحَائِطِ يُرَاعِي الِاسْتِوَاءَ مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ لَا مِنْ جَانِبِ جَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ فِي حَائِطٍ فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَغَلَقُ الْبَابَ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْبَابُ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْبَابُ الَّذِي إلَيْهِ الْغَلَقُ اعْتَبَرَا فِيهِ الْعَادَةَ فَإِنَّ الَّذِي يُرَكِّبُ الْبَابَ عَلَى الْحَائِطِ يَجْعَلُ الْغَلَقَ فِي جَانِبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ الْقِيَاسَ أَنَّ الْغَلَقَ مُتَنَازِعٌ فِيهِ كَالْبَابِ وَالْعَادَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَدْ يَجْعَلُ الْغَلَقَ إلَى جَانِبِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُ إلَى جَانِبِ جَارِهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَلَقَانِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاحِدٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّاهِدِ بِالْعَلَامَةِ، وَلَمَّا تَعَارَضَ الْغَلَقَانِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَا غَلَقَ عَلَى الْبَابِ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَالْحَائِطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَعْلُومٌ وَلَا تَأْثِيرَ لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ بِهِ بِالْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ بِإِجْبَارِ الْمُقِرِّ عَلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ شَاةً بِعَيْنِهَا، فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهَا، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْهَا إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهَا مُنْكِرٌ وَالْمُدَّعِيَ مُعَيِّنٌ، وَالْمُنْكِرُ غَيْرُ الْمُعَيِّنِ فَلَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَوْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِحْلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ بِدَعْوَى هَذِهِ الشَّاةِ صَارَ كَالرَّادِّ لِإِقْرَارِهِ فِيمَا سِوَاهُ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الشَّاةِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُدَّعِي خُصُومَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ شَاةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا أَعْطَاهُ الْمُقِرُّ أَيَّ شَاةٍ شَاءَ مِنْ غَنَمِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَبْهَمَ الْإِقْرَارَ فَكَانَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 59 الْخِيَارُ إلَيْهِ، وَبَيَانُهُ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ فَكَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُقِرُّ عَلَى كُلِّهِنَّ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَاةً مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْإِقْرَارِ، ثُمَّ بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ هُنَاكَ صَارَ رَادًّا لِإِقْرَارِهِ فِيمَا سِوَى الَّتِي عَيَّنَهَا، وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مُوجِبٍ اسْتِحْقَاقَ تِلْكَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ: لَا أَدْرِي أَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ وَجَحَدَ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِيهَا، فَقَدْ جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَأَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لَا أَدْرِي فَهُنَاكَ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ عَشْرًا فَلَهُ عُشْرُ كُلِّ شَاةٍ، وَإِنْ مَاتَتْ شَاةٌ مِنْهَا ذَهَبَتْ مِنْ مَالِهِمَا، وَإِنْ وَلَدَتْ شَاةٌ مِنْهَا كَانَ لَهُمَا جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ الْحِسَابِ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُمَا وَالْهَلَاكَ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا إذَا جَحَدَ الْمُقِرُّ أَصْلًا وَمَنَعَ الْغَنَمَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَنَصِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى إذَا هَلَكَتْ شَاةٌ مِنْهَا ضَمِنَ مِقْدَارَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الْعُشْرُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُقِرُّ فَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّأْنُ لِلْمُقِرِّ لِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ يَمِينَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَأَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ وَالرَّقِيقِ وَالْعُرُوضِ فِي هَذَا مِثْلُ الْغَنَمِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي دَرَاهِمِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ مِائَةٌ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَزْنِ، وَالْمِعْيَارُ فِيهِ وَزْنُ سَبْعَةٍ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَالِهِ، وَفِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّرَاهِمِ صِغَارٌ نَقْصٌ وَكِبَارٌ وَمَالُ الْمُقِرِّ هِيَ عَشَرَةٌ نَقْصٌ لَمْ يَصَّدَّقْ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَغْيِيرُ مُوجَبِ كَلَامِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَفْصُولًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا زُيُوفٌ، فَقَالَ هِيَ مِنْهَا صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ تَغْيِيرِ مُوجَبِ كَلَامِهِ بَلْ فِيهِ تَقْرِيرُهُ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ لَمَّا عَيَّنَ لَهُ مَحِلًّا سِوَى ذِمَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ صُدِّقَ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي طَعَامِي هَذَا كُرُّ حِنْطَةٍ، وَلَمْ يَبْلُغْ الطَّعَامُ كُرًّا فَهُوَ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقِّهِ فِي مَحَلِّ عَيْنٍ، وَلَكِنَّهُ غَلِطَ فِي الْعِبَارَةِ عِنْدَ مِقْدَارِهِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لَوْ لَزِمَتْهُ إنَّمَا تَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ شَيْئًا، وَهَذَا إذَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَوْجُودِ إلَى تَمَامِ الْكُرِّ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَيُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الشَّاةُ أَوْ هَذِهِ النَّاقَةُ، ثُمَّ جَحَدَ ذَلِكَ وَحَلَفَ مَا لَهُ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَادَّعَاهُمَا الطَّالِبُ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ادَّعَاهُمَا صَارَ مُصَدِّقًا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 60 لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مُدَّعِيًا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَتَمَّ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَالْأَوْكَسُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَهُوَ الشَّاةُ فَلِهَذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ شَرِيكًا فِي النَّاقَةِ؛ لِأَنَّهُ بِجُحُودِهِ نَفَى حَقَّهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ نَفَى حَقَّهُ عَنْ النَّاقَةِ وَحْدَهَا بِأَنْ عَيَّنَ الشَّاةَ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ هُنَا يُقْبَلُ مِنْهُ نَفْيُ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ عَنْ النَّاقَةِ فَلَا يَكُونُ شَرِيكًا فِيهَا، وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا سَمَّى لَنَا إحْدَاهُمَا فَنَسِينَاهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْغَفْلَةِ، وَلِأَنَّهُمَا ضَيَّعَا مَا تَحَمَّلَا مِنْ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُمَا تَحَمَّلَاهَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ ضَيَّعَا ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ. وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَقِّ دَارٍ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَبْهَمَ الْإِقْرَارَ بِجُزْءٍ لَهُ مِنْ الدَّارِ فَعَلَيْهِ بَيَانُ مَا أَبْهَمَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعُشْرِ وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَلَّفَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ الزِّيَادَةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَمِّيَ سَمَّى لَهُ الْحَاكِمُ، ثُمَّ وَقَفَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى أَقَلَّ مَا يُقِرُّ بِهِ لَهُ عَادَةً اسْتَحْلَفَهُ مَا لَهُ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْأَقَلِّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ فَيَسْتَحْلِفُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ إذَا ادَّعَاهَا الطَّالِبُ، ثُمَّ يُقْضَى - لَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَالْأَعْيَانُ الْمَمْلُوكَةُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ حَقًّا فِي هَذِهِ الْغَنَمِ قَالَ هُوَ عُشْرُ هَذِهِ الشَّاةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِإِقْرَارِهِ، فَقَدْ يُضَافُ الْمُقَرُّ بِهِ إلَى مَحِلِّهِ الْخَاصِّ تَارَةً وَإِلَى الْعَامِّ مِنْ جِنْسِهِ تَارَةً فَيُقْبَلُ بَيَانُهُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الزِّيَادَةَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ حَقًّا فِي هَذِهِ الدَّارِ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ هَذَا الْجِذْعُ أَوْ هَذَا الْبَابُ الْمُرَكَّبُ أَوْ هَذَا الْبِنَاءُ بِغَيْرِ أَرْضٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُغَيِّرٌ لَمُوجَبِ كَلَامِهِ فَإِنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي رَقَبَةِ الدَّارِ، وَهَذَا الْبَيَانُ يَنْفِي حَقَّهُ عَنْ رَقَبَتِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا مَوْصُولًا. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ أَنَّ فِي الدَّارِ بَيْعًا لِلْأَصْلِ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَيُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ، وَقِوَامُ الْبِنَاءِ بِأَصْلِ الدَّارِ، وَقَدْ أَضَافَ إقْرَارَهُ إلَى أَصْلِ الدَّارِ فَلَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ فِي الصِّفَةِ وَالْبَيْعِ بَعْدُ، فَأَمَّا فِي الْغَنَمِ بَعْضٌ لَيْسَ بَيْعًا لِلْبَعْضِ فَبَيَانُهُ فِي أَصْلِ الْغَنَمِ كَإِقْرَارِهِ فَلِهَذَا قُبِلَ مِنْهُ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ عَنَيْتُ بِهِ الثَّوْبَ أَوْ الطَّعَامَ الَّذِي فِي الدَّارِ أَكُنْتُ أُصَدِّقُهُ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَوْضُوعَ فِي الدَّارِ لَيْسَ مِنْ رَقَبَةِ الدَّارِ فِي شَيْءٍ وَإِقْرَارُهُ يَتَنَاوَلُ رَقَبَتَهَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ حَقًّا، ثُمَّ قَالَ: هُوَ ثَمَرَةُ هَذِهِ النَّخْلَةِ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ إقْرَارَهُ تَنَاوَلَ أَصْلَ الْبُسْتَانِ وَالثَّمَرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَصْلِهِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالنَّخْلَةِ بِأَصْلِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِجُزْءٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 61 مِنْ الْأَرْضِ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطَابِقًا لِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِإِقْرَارِهِ " فَإِنَّ " حَرْفٌ فِي حَقِيقَةٍ لِلظَّرْفِ وَاسْمُ الْبُسْتَانِ لِأَصْلِ الْبُقْعَةِ وَالْأَشْجَارُ فِيهِ وَصْفٌ وَتَبَعٌ؛ لِأَنَّ قِوَامَهَا بِالْبُقْعَةِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَصْلُ إقْرَارِهِ شَيْئًا مِنْ الْبُقْعَةِ أَوْ جَعَلَ الْبُقْعَةَ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْحَقِّ، فَإِذَا فَسَّرَهُ بِالنَّخْلَةِ مِنْ غَيْرِ أَرْضٍ لَمْ يَكُنْ التَّفْسِيرُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ. فَإِنْ قِيلَ الظَّرْفُ غَيْرُ الْمَظْرُوفِ فَإِنَّمَا جَعَلَ الْبُسْتَانَ مَحَلُّ حَقِّهِ، فَإِذَا فَسَّرَهُ بِالنَّخْلَةِ فَالْبُسْتَانُ مَحَلُّ حَقِّهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا فَسَّرَهُ بِالنَّخْلَةِ فَمَحَلُّ حَقِّهِ مَوْضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبُسْتَانِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْبُسْتَانِ ظَرْفًا لِحَقِّهِ إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ جُزْءًا مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ حَقُّهُ فِيهَا أَنِّي أَجَرْتُهَا إيَّاهُ سَنَةً لِيَزْرَعَهَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْحَقِّ فِي رَقَبَتِهَا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُهُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ فِي الدَّارِ حَقًّا، ثُمَّ قَالَ سُكْنَى شَهْرٍ فَتَفْسِيرُهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلَفْظِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِيرَاثًا أَوْ شِرَاءً ثَابِتًا أَوْ بَابًا أَوْ مِلْكًا ثَابِتًا، ثُمَّ قَالَ: هُوَ هَذَا الْبَابُ الْمُغْلَقُ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ رَقَبَةَ الدَّارِ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِجُزْءٍ مِنْ رَقَبَتِهَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي دَارِ وَالِدِي هَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْ وَالِدِي، ثُمَّ قَالَ لَهُ سُكْنَى هَذَا الْبَيْتِ سَنَةً لَمْ يُصَدَّقْ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ بِشَرِكَةٍ فِي أَصْل الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّارَ ظَرْفًا لِلْمُوصَى بِهِ وَالْمَنَافِعُ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا يَكُونُ تَفْسِيرُهُ مُطَابِقًا لِإِقْرَارِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَصْلِ الدَّارِ، وَلَوْ وَصَلَ الْمَنْطِقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَانَ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ إقْرَارِهِ مُنْصَرِفٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَصْلِ الدَّارِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَنْفَعَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَحَلُّ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَهُ مَوْصُولًا قَبْلَ بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُغَيِّرًا لِمُوجَبِ مُطْلَقِ كَلَامِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ فِيهَا مِيرَاثٌ بِسُكْنَى شَهْرٍ، وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُوَرَّثُ عِنْدَنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ بَيَانُهُ هَذَا مَوْصُولًا وَكَذَا يَكُونُ بَيَانُهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَإِنَّ تَوْرِيثَ الْمَنْفَعَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَلَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ فَلَعَلَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى لَهُ بِهِ قَاضٍ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ وَصَلَ لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ لَا يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ شَرْعًا وَعِنْدَهُمَا يُصَدَّقُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ عَلَى ظَنِّهِ. وَكَذَلِكَ هَذَا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَشَرَةٌ مِنْ الْغَنَمِ، فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِيهَا شِرْكُ شَاةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ الْغَنَمُ كُلُّهَا، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْتَ خَلَطْتَ شَاتِي بِغَنَمِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَضْمَنْ الْمُقِرُّ شَيْئًا إذَا حَلَفَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ السَّبَبِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 62 الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَمَانَةٌ، وَالِاخْتِلَاطُ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ فَدَعْوَاهُ الْخَلْطَ دَعْوَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: فِي زَيْتِي هَذَا لِفُلَانٍ رِطْلٌ مِنْ زِئْبَقٍ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْتَ خَلَطْتَهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَى شَرِيكِهِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا حَلَفَا فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الزَّيْتِ يُبَاعُ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الزِّئْبَقِ فِيهِ بِقِيمَةِ رِطْلٍ مِنْ زَيْتٍ لَا بِقِيمَةِ رِطْلٍ مِنْ زِئْبَقٍ وَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الزَّيْتِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ زَيْتًا كُلَّهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الزَّيْتَ هُوَ الْغَالِبُ، وَالزِّئْبَقُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ وَقِيمَةُ الزِّئْبَقِ تُنْتَقَصُ بِالِاخْتِلَاطِ، وَهَذَا النُّقْصَانُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الزِّئْبَقِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ مِلْكِهِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَعَقْدُ الْكُلِّ زَيْتٌ فَلِهَذَا ضَرَبَ بِقِيمَةِ رِطْلٍ مِنْ زَيْتٍ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُونَ رِطْلًا مِنْ زِئْبَقٍ فَأَقَرَّ أَنَّ فِيهِ لِرَجُلٍ رِطْلًا مِنْ بَنَفْسَجٍ بِعْتُهُ وَقَسَمْتُ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ الْبَنَفْسَجِ بِقِيمَةِ رِطْلٍ مِنْهُ وَصَاحِبُ الزِّئْبَقِ بِقِيمَةِ زِئْبَقِهِ؛ لِأَنَّ الْبَنَفْسَجَ بِالِاخْتِلَاطِ بِالزِّئْبَقِ تَزْدَادُ قِيمَتُهُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ حَصَلَتْ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِ الزِّئْبَقِ فَلَا يَضْرِبُ بِهَا مَعَ صَاحِبِ الزِّئْبَقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُهُ بِقِيمَةِ مِلْكِهِ، وَهُوَ رِطْلٌ بَنَفْسَجٍ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الزِّئْبَقِ أَعْطَى صَاحِبَهُ رِطْلًا مِنْ الْبَنَفْسَجِ، وَالزِّئْبَقُ كُلَّهُ لَهُ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ دُونَ صَاحِبِ الْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّ الْبَنَفْسَجَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِالزِّئْبَقِ فَإِنَّ الزِّئْبَقَ هُوَ الْغَالِبُ، وَعِنْدَ الِاخْتِلَاطِ الْأَقَلُّ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا بِالْأَكْثَرِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ لِمَنْ كَانَ حَقُّهُ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى صَاحِبِهِ نَصِيبَهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ثَوْبَ إنْسَانٍ لَوْ وَقَعَ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُعْطِيَ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ قِيمَةَ الصَّبْغِ لِأَنَّ الثَّوْبَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالصَّبْغُ فِيهِ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فَهَذَا مِثْلُهُ. رَجُلٌ فِي يَدِهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: فِي ثَوْبِي هَذَا لَكَ قَفِيزٌ مِنْ عُصْفُرٍ فِي صَبْغِهِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ قَفِيزًا مِنْ عُصْفُرٍ فِي ثَوْبِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُقَرِّ لَهُ صَارَ وَصْفًا لِمِلْكِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِضَمَانِ بَدَلِهِ، وَإِنْ أَبَى بِيعَ الثَّوْبُ وَيَضْرِبُ بِهِ صَاحِبُ الْعُصْفُرِ بِقِيمَةِ مِلْكِهِ، وَهُوَ مَا زَادَ قَفِيزٌ مِنْ عُصْفُرٍ فِي ثَوْبِهِ وَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ، فَإِنْ كَانَ صَبْغُهُ أَكْثَرَ مِنْ قَفِيزٍ ضَرَبَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْفَضْلِ مَعَ قِيمَةِ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَا اسْتَحَقَّ إلَّا مِقْدَارَ قَفِيزٍ مِنْ الْعُصْفُرِ الَّذِي فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِإِقْرَارِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 63 وَإِنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَيْسَ فِي هَذَا الثَّوْبِ زِيَادَةٌ عَلَى قَفِيزٍ مِنْ عُصْفُرٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بَلْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ سَأَلَ الْقَاضِي أَهْلَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مِنْ الصَّبَّاغِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَنْ لَهُ نَظَرٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ كَمَا إذَا احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْعَيْنِ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ لَهُ نَظَرٌ فِيهِ، فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ يَعْرِفُ فِي ذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمْ وَإِلَّا الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْأَصْلِ وَالْمُقَرُّ لَهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي يَدَيْهِ عَبْدٌ، فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ شِرْكٌ أَوْ قَالَ شَرِكَةٌ فَلَهُ النِّصْفُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَاتَّفَقَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٌ أَوْ هُوَ لِي، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّرِكَةِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، ثُمَّ يُسْتَوَى فِيهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " بَيْنَ " يَقْتَضِي الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَمُطْلَقُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ شِرْكٌ أَوْ شَرِكَةٌ فِي الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا ذُكِرَ الشِّرْكُ مُنَكَّرًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] أَيْ مِنْ نَصِيبٍ فَهَذَا وَقَوْلُهُ: لِفُلَانٍ فِي عَبْدِي نَصِيبٌ سَوَاءٌ وَهُنَاكَ الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَإِلَى نَفْسِهِ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَهُنَا جَعَلَهُ صِفَةً لِلْمَقَرِ بِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَلِهَذَا كَانَ هُوَ وَذِكْرُ النَّصِيبِ سَوَاءً، وَإِنْ فَصَلَ الْكَلَامَ، فَقَالَ هُوَ شَرِيكِي فِيهِ بِالْعُشْرِ أَوْ هُوَ مَعِي شَرِيكٌ بِالْعُشْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّرِكَةِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فَكَانَ بَيَانُهُ مُغَايِرًا لِمَا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِي وَلِفُلَانٍ لِي الثُّلُثَانِ وَلِفُلَانٍ الثُّلُثُ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ مَعَهُ شِرْكًا فِي هَذَا فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فِيهِ شُرَكَائِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا قَالَ: قَدْ أَشْرَكْتُ فُلَانًا فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ رُبْعُهُ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُ فُلَانًا فِي هَذَا الْعَبْدِ كَانَ لَهُ نِصْفُهُ، فَإِذَا قَالَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ كَانَ لَهُ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَهُوَ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 64 التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُوجَبِ وَالْقَابِلِ فَبِمَا أُضِيفَ الْإِيجَابُ إلَيْهِ، وَقَدْ أُضِيفَ هُنَا إلَى نِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ لَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَشْرَكْتُ فُلَانًا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ أَيْ بِنِصْفِ الْعَبْدِ، فَقَدْ يُسْتَعَارُ حَرْفُ " فِي " لِمَعْنَى الْبَاءِ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ وَبَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ نَوْعُ إلْصَاقٍ فَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَعَارَ حَرْفُ " فِي " لِمَعْنَى الْبَاءِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ لِعَدَمِ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ جَعَلَ لَهُ رُبْعَ الْعَبْدِ كَانَ شَرِيكًا فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لَا فِي نِصْفِهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُشَارِكٌ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ. وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ حَقَّ الْإِسْلَامِ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ، وَمُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ الدَّيْنُ فَتَفْسِيرُهُ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ مُعْتَبَرٌ لِمُطْلَقِ لَفْظِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ، ثُمَّ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْتِزَامِ الْحَقِّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَحَقُّ الدَّيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَفِي تَخْصِيصِهِ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى عَبْدِي هَذَا حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ بِهِ الدَّيْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " عَلَيَّ " لِلِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُلُوِّ وَمَعْنَاهُ عَلَاهُ مَا أَقَرَّ نَفْيًا لِلْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى صَارَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الشَّرِكَةَ فِي الرَّقَبَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُقِرِّ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِي هَذَا الْعِتْقُ أَوْ قَالَ فِي عَبْدِي فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الرَّقَبَةِ وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ حَقٌّ فِي عَبْدِي هَذَا أَوْ فِي أَمَتِي هَذِهِ فَادَّعَى الطَّالِبُ حَقَّهُ فِي الْأَمَةِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى غَيْرُ مَا أَقَرَّ بِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِحَقِّهِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ إنَّمَا ادَّعَاهُ فِي مُعَيَّنٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِيمَا سِوَى الْمَحِلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ وَمُدَّعِيًا فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ إقْرَارِهِ بِمَا تَضَمَّنَ دَعْوَاهُ مِنْ رَدِّ إقْرَارِهِ الْحَقَّ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ ادَّعَى فِيهِمَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى أَنْ يُقِرَّ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ يَتِمُّ بِتَصْدِيقِهِ فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَبِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ فِي مِقْدَارِ مَا تَنَاوَلَهُ إقْرَارُهُ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ وَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَى الطَّالِبِ إنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَقَرَّ بِحَائِطٍ لِرَجُلٍ، وَقَالَ: عَنَيْتُ الْبِنَاءَ دُونَ الْأَرْضِ لَمْ يُصَدَّقْ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْحَائِطِ بِأَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ اسْمٌ لِلْمَبْنِيِّ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَرْضِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَبْنِيِّ يَكُونُ آجُرًّا وَخَشَبًا وَلَبِنًا وَتَدًا، وَهُوَ لَا يَكُونُ حَائِطًا فَكَانَ فِي إقْرَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْأَرْضِ، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 65 كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَكَانَ بَيَانُهُ هَذَا مُغَايِرًا لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ كَلَامِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأُسْطُوَانَةٍ فِي دَارِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَبْنِيَّ مِنْ الْأُسْطُوَانَةِ بِالْآجُرِّ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ أُسْطُوَانَةً مَا لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا كَالْحَائِطِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأُسْطُوَانَةُ مِنْ خَشَبٍ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الْخَشَبَةُ دُونَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى أُسْطُوَانَةً قَبْلَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا يَعُدُّهُ فَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُقِرِّ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَوْضِعِهِ مِنْ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ رَفْعُهَا بِغَيْرِ ضَرَرٍ أَخَذَهَا الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِضَرَرٍ ضَمِنَ الْمُقِرُّ قِيمَتَهَا لِلطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ سَاجَةً وَبَنَى عَلَيْهَا فَإِنَّ حَقَّ صَاحِبِ السَّاجَةِ يَنْقَطِعُ عَنْ السَّاجَةِ وَيُقَرَّرُ فِيهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِنَاءِ عِنْدَنَا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِنَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ فِي بُسْتَانِهِ فَهِيَ لَهُ بِأَصْلِهَا مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَتُسَمَّى خَشَبَةً فَكَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فِي إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ نَخْلَةً أَوْ شَجَرَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بَاعَهَا بِأَصْلِهَا فَلَهُ مَوْضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنْ بَاعَهَا لِيَقْطَعَهَا الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنْ بَاعَهَا مُطْلَقًا فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَهَا مُطْلَقًا فَلَهُ مَوْضِعُ أَصْلِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَلَهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ عُرُوقُهَا مِنْ الْأَرْضِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَّى بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ، وَقَالَ: الْإِيجَابُ مِنْ الْبَائِعِ كَانَ فِي النَّخْلَةِ وَالشَّجَرَةِ وَلَا تَكُونُ نَخْلَةً وَشَجَرَةً إلَّا وَهِيَ ثَابِتَةٌ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ الْبَيْعُ تَمْلِيكٌ مُبْتَدَأٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ، وَالتَّنْصِيصُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى النَّابِتِ دُونَ مَوْضِعِهِ الَّذِي نَبَتَ عَلَيْهِ وَمَوْضِعُهُ الَّذِي نَبَتَ عَلَيْهِ لَيْسَ مَانِعًا لِلنَّابِتِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِهِ النَّابِتَةَ وَبِالْبَيْعِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي اسْتِدَامَتِهِ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ مِلْكٍ سَابِقٍ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِدَامَتِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ فَاسْتَحَقَّ مَوْضِعَهَا مِنْ الْأَرْضِ بِدَلَالَةِ كَلَامِهِ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ فِي الْإِقْرَارِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِثَمَرَةٍ فِي نَخْلٍ لَمْ تَكُنْ النَّخْلَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّمَرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الِاتِّصَالِ بِالنَّخْلِ بِخِلَافِ اسْمِ الْحَائِطِ وَالنَّخْلَةِ، وَلِأَنَّ اتِّصَالَ الثِّمَارِ بِالنَّخْلِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ هُوَ لِلْإِدْرَاكِ حَتَّى تُجَدَّ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَيَفْسُدُ إذَا تُرِكَ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ بِالثَّمَرَةِ، أَمَّا اتِّصَالُ الْبِنَاءِ بِالْأَرْضِ وَالنَّخْلِ بِالْأَرْضِ فَلِلْقَرَارِ وَلِهَذَا دَخَلَا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِمَوْضِعِهِمَا مِنْ الْأَرْضِ. وَلَوْ أَقَرَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 66 لَهُ بِكَرْمٍ فِي أَرْضٍ كَانَ لَهُ الْكَرْمُ بِأَرْضِهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْكَرْمِ يَجْمَعُ الشَّجَرَ وَالْأَرْضَ عَادَةً وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ فِي الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ عَادَةً فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالْبُسْتَانِ كَانَ لَهُ الشَّجَرُ وَالْأَرْضُ وَالنَّخْلُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبُسْتَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجْمَعُ الْكُلَّ فَأَصْلُ الِاسْمِ لِلْأَرْضِ وَالْأَشْجَارِ وَالنَّخِيلِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ فَيَكُونُ الِاسْمُ جَامِعًا لِلْكُلِّ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا النَّخِيلَ لِفُلَانٍ فَأَرَادَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ النَّخْلُ بِأُصُولِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الطَّرِيقَ وَلَا مَا بَيْنَ النَّخِيلِ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّخِيلَ اسْمٌ لِلشَّجَرِ، وَلَكِنْ لَا يُسَمَّى نَخْلًا إلَّا، وَهُوَ ثَابِتٌ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَلْعِ فَيُسَمَّى جُذُوعًا فَدُخُولُ مَوْضِعِهِ مِنْ الْأَرْضِ لِضَرُورَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى اسْمِ النَّخْلِ فِي إقْرَارِهِ، وَهُوَ لَا يُعَدُّ وَمَوْضِعُ أُصُولِهَا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الطَّرِيقِ وَلَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بَنَى هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ النَّاسِ وَمَا يُطْلِقُونَهُ فِي عِبَارَاتِهِمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِأُصُولِ عَشَرَةٍ مِنْ هَذَا الْكَرْمِ مَعْرُوفَةٍ كَانَ لَهُ تِلْكَ الْعَشَرَةُ بِأُصُولِهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ مَا بَيْنَ الشَّجَرِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْكَرْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالنَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِالْكَرْمِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِأَشْجَارٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْهَا فَتَدْخُلُ أُصُولُهَا لِدَلَالَةِ لَفْظِهِ وَلَا يَدْخُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَرْضِ. وَلَوْ قَالَ: بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ كَانَ لَهُ الْبِنَاءُ دُونَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ فِي لَفْظِهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْأَرْضُ لَيْسَتْ مِنْ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ الْحَائِطِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْبِنَاءِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالنَّخْلِ، فَقَالَ: النَّخْلُ يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِنَاءُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اسْمَ الْبِنَاءِ يَثْبُتُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ فِيمَا ارْتَفَعَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ لَا فِي الْأَرْضِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ بِذِكْرِ الْبِنَاءِ، فَأَمَّا اسْمُ النَّخْلِ فَلَا يَحْدُثُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ بَلْ بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا يُسَمَّى نَخْلًا إلَّا، وَهُوَ نَابِتٌ فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ بِتَسْمِيَةِ النَّخْلِ مَوْضِعَهُ مِنْ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ بِنَاءُ هَذَا الْحَائِطِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْضَ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا أَقَرَّ لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ دَارِهِ يَصِحُّ، وَبَيَانُ الْمِقْدَارِ إلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ إقْرَارِهِ يَحْتَمِلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ فَالْجُزْءُ مِنْ الْجُزْأَيْنِ يَكُونُ نِصْفًا وَمِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ يَكُونُ عُشْرًا فَكَانَ بَيَانُهُ مُقَرِّرًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ لَا مُغَيِّرًا فَصَحَّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا. وَكَذَلِكَ النِّصْفُ وَالنَّصِيبُ وَالْحَقُّ وَالطَّائِفَةُ، الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى الْمُقِرِّ وَيُقْبَلُ بَيَانُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلَفْظٍ عَنْ ظَاهِرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إذَا نَوَى الزَّوْجُ بِهَا شَيْئًا انْصَرَفَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 67 إلَيْهِ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِسَهْمٍ فِي دَارِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ السُّدُسُ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْصَرِفُ السَّهْمُ إلَى السُّدُسِ أَخْذًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ وَعِنْدَهُمَا السَّهْمُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَإِنَّ سَهْمًا مِنْ سَهْمَيْنِ يَكُونُ النِّصْفَ وَمِنْ عَشَرَةٍ يَكُونُ الْعُشْرَ فَهُوَ وَالْجُزْءُ وَالنَّصِيبُ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِنَقْضِ الْحَائِطِ فَلَهُ الْبِنَاءُ دُونَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ اسْمٌ لِمَا يُبْنَى بِهِ الْحَائِطُ مِنْ لَبِنٍ وَآجُرٍّ وَخَشَبٍ فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَوْضِعِهِ مِنْ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِجِذْعِ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَلَهُ الْجِذْعُ دُونَ الْأَرْضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالِ الصِّغَرِ وَمَا أَشْبَهَهَا] (بَابُ إضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالِ الصِّغَرِ وَمَا أَشْبَهَهَا) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ، وَهُوَ صَبِيٌّ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الطَّالِبُ: بَلْ أَقْرَرْتَ بِهَا لِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْوُجُوبَ بِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ هَدَرٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالصِّبَا حَالٌ مَعْهُودَةٌ فِي كُلِّ أَحَدٍ فَكَانَ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُنْكِرًا لِلْمَالِ لَا مُقِرًّا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ هُوَ قَدْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِي إقْرَارِهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ التَّارِيخِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ قُلْنَا: الْمَصِيرُ إلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ مُلْزِمًا، وَإِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الصِّبَا غَيْرَ مُلْزِمٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُدَّعِيًا لِلتَّارِيخِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْمَالِ عَلَيْهِ كَمَنْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُكَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَقْرَرْتُ لَهُ بِهَا فِي حَالِ نَوْمِي لِأَنَّ النَّوْمَ حَالٌ مَعْهُودَةٌ تُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ فِيهَا فَإِنَّ أَصْلَ الْقَصْدِ يَنْعَدِمُ مِنْ النَّائِمِ وَالْقَصْدُ الْمُعْتَبَرُ يَنْعَدِمُ مِنْ الصَّبِيِّ، فَإِذَا كَانَ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالِ الصِّبَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا فَإِضَافَتُهُ إلَى حَالِ النَّوْمِ يَكُونُ إنْكَارًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَقْرَرْتُ بِهَا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَادَةً. وَلَوْ قَالَ أَقْرَرْتُ لَهُ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ مِنْ بِرْسَامٍ أَوْ لَمَمٍ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ فِيهِ فَكَانَ هُوَ فِي الْإِضَافَةِ إلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ مُدَّعِيًا لِمَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 68 يَسْقُطُ عَنْهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْأَصْلِ مُلْزِمٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ مِنْهُ، وَالْمَانِعُ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ مَعْهُودٍ تُنَافِي صِحَّتَهُ فَالْإِضَافَةُ إلَى حَالٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا بَلْ تَكُونُ دَعْوَى الْمُسْقِطِ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ الْمُلْزِمِ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ ذَاهِبُ الْعَقْلِ مِنْ مَرَضٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ أَصَابَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الْآخِذِ صَبِيًّا كَانَ أَوْ بَالِغًا مَجْنُونًا أَوْ عَاقِلًا فَإِنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ عَنْ الْأَقْوَالِ لَا عَنْ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَقْلِ بِوُجُودِهِ فَلَا يَكُونُ الصِّبَا وَالْجُنُونُ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهِ وَظُهُورِ الْفِعْلِ بِإِقْرَارِهِ، فَإِذَا كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا حِينَ أَقَرَّ بِهِ وَالْفِعْلُ مَلْزُومًا فِيهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ تَقَرَّرَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ إيَّاهُ. وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ عَبْدٌ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الذِّمَّةِ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَبِالرِّقِّ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ لَهُ، وَهُوَ عَبْدٌ بِأَلْفٍ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا، وَإِنَّمَا لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقِرُّ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَرَّ لِفُلَانٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي دُخْلَةٍ دَخَلَهَا بِأَمَانٍ، أَوْ قَالَ دَخَلَ عَلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَقْرَرْتُ لَهُ وَأَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُسْلِمُ يُقِرُّ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ بِهِ لِفُلَانٍ حِينَ كَانَ حَرْبِيًّا فَذَلِكَ كُلُّهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَوُجُوبُ الْمَالِ بِهَا فَإِنَّا لَوْ عَايَنَّا إقْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، وَقَالَ فُلَانٌ أَقْرَرْتَ لِي بِهَا بَعْدَمَا أُعْتِقَتْ لَزِمَهُ الْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالِ رَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي كَوْنَ الْإِقْرَارِ مُلْزِمًا فَكَانَ مُلْتَزِمًا الْمَالَ بِإِقْرَارِهِ قَاصِدًا إلَى تَحْوِيلِهِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ إلَى مَوْلَاهُ بِإِسْنَادِهِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالِ رَقِّهِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ مُسْلِمٌ قَدْ كَانَ حَرْبِيًّا أَنَّهُ أَخَذَ فِي حَالِ حِرَابَتِهِ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ مَا كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ حَالَ مَا كَانَ حَرْبِيًّا، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بَعْدَ إسْلَامِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَى حَالِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَادَّعَى تَمَلُّكَهَا عَلَيْهِ بِإِضَافَةِ الْأَخْذِ حَالَ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلِكَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 69 لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِمُعْتَقِهِ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ حَالَ مَا كُنْتَ عَبْدًا لِي أَوْ قُطِعَتْ يَدُكَ حَالَ مَا كُنْتَ عَبْدًا لِي، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَعْتَقْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ وَالْقَطْعِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَيَكُونُ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا كَمَا لَوْ قَالَ لِمُعْتَقَتِهِ وَطِئْتُكِ حَالَ مَا كُنْتِ أَمَةً لِي أَوْ قَالَ لِمُعْتَقِهِ أَخَذْتُ مِنْكَ الْغَلَّةَ شَهْرَ كَذَا حِينَ كُنْتَ عَبْدًا لِي أَوْ قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ مَا عُزِلَ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا فِي حَالِ مَا كُنْتُ قَاضِيًا وَأَخَذْتُهُ فَدَفَعْتُهُ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُعْتِقُ: قَطَعْتُ يَدَكَ وَأَنْتَ عَبْدٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ قَطَعْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ فَقَأْتُ عَيْنَكَ الْيُمْنَى وَعَيْنِي صَحِيحَةٌ، ثُمَّ ذَهَبَتْ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ فَقَأْتَهَا وَعَيْنُكَ ذَاهِبَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَأَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالِ رَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْأَخْذِ وَالْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مَدْيُونًا كَانَ أَخْذُ الْمَوْلَى كَسْبَهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَطْعُ يَدِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ أَخْذُهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمِنًا فِي دَارِنَا فَلَمْ يَكُنْ هُوَ فِي إقْرَارِهِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الِالْتِزَامِ بَلْ كَانَ مُدَّعِيًا لِمَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ، فَإِنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ غَيْرُ مُوجَبٍ عَلَيْهِ الْمَهْرَ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْيُونَةً أَوْ غَيْرَ مَدْيُونَةٍ. وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي حَالِ وِلَايَتِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِحَالٍ فَإِنَّمَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الضَّمَانَ أَصْلًا فَكَانَ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِفْهَامِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِفْهَامِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: أَلَيْسَ قَدْ أَقْرَضْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَمْسِ، فَقَالَ الطَّالِبُ بَلَى فَجَحَدَهُ الْمُقِرُّ فَالْمَالُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " أَلَيْسَ قَدْ أَقْرَضْتَنِي " اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 70 تَعَالَى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وَمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَنَّكَ قَدْ أَقْرَضْتَنِي، قَوْلُ الطَّالِبِ بَلَى تَصْدِيقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَمَا أَقْرَضْتَنِي أَمْسِ أَوْ قَالَ أَلَمْ تُقْرِضْنِي أَمْسِ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الطَّالِبُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ بَلَى كَانَ هَذَا إقْرَارًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَيْسَ اسْتِفْهَامٌ وَقَوْلُهُ بَلَى جَوَابٌ عَنْهُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ بَلَى لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] مَعْنَاهُ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ بَلَى جَوَابُ الِابْتِدَاءِ بَلْ هُوَ نَفْيٌ، وَقَدْ قُرِنَ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ وَكَلِمَةُ نَعَمْ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَتَى كَانَ بِحَرْفِ الْإِثْبَاتِ فَقَوْلُ نَعَمْ جَوَابٌ صَالِحٍ لَهُ وَمَتَى كَانَ بِحَرْفِ النَّفْيِ فَجَوَابُ مَا هُوَ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ، وَهُوَ كَلِمَةُ بَلَى يُقَالُ فِي تَبَدُّلِ الْكَلَامِ لَا بَلْ كَذَا فَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ بَلَى جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " أَلَسْتُ "، ثُمَّ ذُكِرَ مَسَائِلُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ أَقْرَضْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي إذْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْ وَزَادَ هُنَا لَوْ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَتْرُكْنِي أَذْهَبُ بِهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ وَصَلَ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ الْأَخْذُ فَكَانَ هُوَ مُدَّعِيًا إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْغَاصِبِ يَدَّعِي الرَّدَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَانْتَزَعْتُهَا مِنِّي لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِانْتِزَاعِ مِنْهُ دَعْوَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الرَّدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصْلَ بِالْكَلَامِ إنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِيمَا هُوَ بَيَانٌ، فَأَمَّا دَعْوَى الْفِعْلِ الْمُسْقِطِ لِلضَّمَانِ فَلَيْسَ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْمَوْصُولُ وَالْمَفْصُولُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَقَرَّ قَصَّارٌ أَنَّ فُلَانًا سَلَّمَ إلَيْهِ ثَوْبًا يُقَصِّرُهُ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ صُدِّقَ، وَإِنْ قَطَعَهُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَسْلَمَ إلَيْهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالتَّسْلِيمَ لُغَةٌ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ، وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ كَانَ هَذَا بَيَانًا مُعْتَبَرًا لِمُوجَبِ ظَاهِرِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَعْطَيْتَنِي أَمْسِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلْ هِيَ أَلْفٌ؟ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَ كَانَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَ كَانَ إخْبَارًا بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِمُوجِبِهِ، وَإِذَا نَقَدَ الْأَلْفَ، فَقَدْ ضَمَّ صِيغَةَ الْإِخْبَارِ لِلْفِعْلِ بِأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخَذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ} [المائدة: 116]، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا إخْبَارًا عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا إخْبَارًا لَكَانَ تَبَرُّؤُهُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ {سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] تَكْذِيبًا فَعَرَفْنَا مِثْلَ هَذَا إذَا قُرِنَ بِهِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 71 يَكُونَ إخْبَارًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَنِي، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ فَإِنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا قُرِنَ بِهِ، فَإِذَا قُرِنَ بِحَرْفِ النَّفْيِ، وَهُوَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا، وَإِذَا قُرِنَ بِالْفِعْلِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْإِعْطَاءِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَوْ قَالَ أَوْ لَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَقَدْ دَخَلَتْ بَيْنَ نَفْيِ الْإِقْرَارِ وَإِثْبَاتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ فِي اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلِأَنَّ حَرْفَ أَوْ إذَا دَخَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ كَانَ مُقْتَضَاهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. وَقَوْلُنَا إنَّهُ لِلتَّشْكِيكِ مَجَازٌ فَإِنَّ التَّشْكِيكَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِيُوضَعَ لَهُ لَفْظٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مُقْتَضَاهُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّشْكِيكِ مَجَازًا فَهُنَا لَمَّا كَانَ عَمَلُهُ فِي إثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ إمَّا الْإِقْرَارُ وَإِمَّا الْإِنْكَارُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْإِقْرَارُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لَمْ أَغْصِبْكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوْدَعْتَنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لَمْ تُودِعْنِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى فُلَانٍ قَالَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْمَالِ عَيْنًا وَمَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ الْتِزَامًا لَا يَكُونُ إقْرَارًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ ذَلِكَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ حَرْبِيًّا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ ذِمَّةً صَالِحَةً لِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فَإِدْخَالُهُ حَرْفَ أَوْ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَهُ فِيهِ يَقْتَضِي أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ أَنَا أَوْ فُلَانٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ قَالَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ أَوْ الْحِمَارِ لَزِمَهُ الْمَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِهِمَا، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْعَتَاقِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَحَائِطٍ أَوْ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمَا يَقُولَانِ عَمَلُ حَرْفِ " أَوْ " فِي شَيْئَيْنِ ضَمُّ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ آخَرَ إلَيْهِ وَنَفْيُ الِالْتِزَامِ عَنْ نَفْسِهِ عَيْنًا وَهُنَا إعْمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا مُمْكِنٌ، وَهُوَ نَفْيُهُ الِالْتِزَامَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ عَامِلًا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَوْ لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَوْلُهُ لَكَ عَلَيَّ الْتِزَامٌ تَامٌّ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الِالْتِزَامِ بِالتَّرَدُّدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا التَّرَدُّدُ إذَا كَانَ الْمَذْكُورُ آخِرًا مَحِلًّا لِالْتِزَامِ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُهُ فِي مَعْنَى الِالْتِزَامِ لَغْوًا يَبْقَى هُوَ مُلْتَزِمًا الْمَالَ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ عَيْنًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ لِفُلَانٍ آخَرَ عَلَيَّ دِينَارٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ " أَوْ " بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ شَخْصَيْنِ أَقَرَّ لَهُمَا فَمَنَعَ ذَلِكَ تَعَيُّنَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوْ تَعَيُّنَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مُقِرًّا لَهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 72 فَلَا يَكُونُ هُوَ بِهَذَا الْكَلَامِ مُلْتَزِمًا شَيْئًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ. وَلَوْ قَالَ لَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى عَبْدِي فُلَانٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ عَيَّنَ ذِمَّتَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ كَسْبِ عَبْدِهِ، وَهُوَ مِلْكُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ عَبْدِهِ وَمَالِيَّتَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ذَكَرَ غَرِيمَ الْعَبْدِ مَعَ نَفْسِهِ فِي الْإِقْرَارِ وَأَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ سَقَطَ دَيْنُ الْعَبْدِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ عِنْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ عَنْ الْعَبْدِ كَالْمُجَدِّدِ لِإِقْرَارِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِ إنْسَانٍ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِ إنْسَانٍ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ بَيْتِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ هِيَ لِي أَوْ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ آخَرَ تَلْزَمُهُ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ مَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ فِي يَدِهِ فَإِنَّ أَصْلَ الْبَيْتِ فِي يَدِهِ وَيَدُهُ الثَّابِتَةُ عَلَى مَكَان تَكُونُ ثَابِتَةً عَلَى مَا فِيهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ نَازَعَهُ إنْسَانٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ بَيْتِهِ أَوْ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَيَتَرَجَّحُ بِالْبَيِّنَةِ فِي الزَّوْجَةِ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ بَيْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ لِنَفْسِهِ حَقًّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا قَوْلَ لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِآخَرَ وَأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ ضَمِنَ لَهُ مِثْلَهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ وَقَبْضَهُ مَالَ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَرُدَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَصَبْتُهُ مِنْهُ أَوْ أَخَذْتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ وَالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَخْذِ يُطْلَقُ عَلَى قَبْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَفْظَ الْقَبْضِ يُطْلَقُ عَلَى قَبْضٍ بِحَقٍّ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَخْذِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ بِحَقٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي لَفْظَةِ الْقَبْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ صُنْدُوقِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ كِيسِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ سَفَطِ فُلَانٍ ثَوْبًا أَوْ مِنْ قَرِيَّةِ فُلَانٍ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ مِنْ نَخْلِ فُلَانٍ كُرَّ تَمْرٍ أَوْ مِنْ زَرْعِ فُلَانٍ كُرَّ حِنْطَةٍ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ مِنْ يَدِهِ أَوْ جَعَلَ الْمَقْبُوضَ جُزْءًا مِنْ مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ أَرْضِ فُلَانٍ عِدْلَ زُطِّيٍّ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالزُّطِّيِّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَرْضِهِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ الْمُقِرُّ بِمَا بَيَّنَ يَدَّعِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 73 لِنَفْسِهِ يَدًا فِي أَرْضِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ سَبَبُ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَى بَقِيَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَخَذْتُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ كُنْتُ فِيهَا سَاكِنًا أَوْ كَانَتْ مَعِي بِإِجَارَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ سَبَبِ ثُبُوتِ يَدِهِ فِي الدَّارِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ وَأَنَّهُ نَزَلَ أَرْضَ فُلَانٍ أَبْرَأَتْهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ ثُبُوتِ يَدِهِ فِي الْمَكَانِ بِالْحُجَّةِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَلَوْ عُلِمَ كَوْنُ الدَّارِ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ كَوْنُهُ نَازِلًا فِي أَرْضٍ وَعَايَنَاهُ أَنَّهُ أَخْلَاهَا مَتَاعًا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَنَّ هَذَا مِلْكُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهَا لِفُلَانٍ إلَّا بَيْتًا مَعْلُومًا فَإِنَّهُ لِي فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا قُرِنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ مَا سِوَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهَا مِنْ الْبُيُوتِ وَالْمُسْتَثْنَى إذَا كَانَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إخْرَاجِ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا لِي أَوْ قَالَ إلَّا تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ يَبْقَى بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ. وَلَوْ قَالَ الدَّارُ لِفُلَانٍ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِي كَانَتْ كُلُّهَا لِفُلَانٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِي دَعْوَى، وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ فَإِنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَلَا يُعْطَفُ الْمُسْتَثْنَى عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَارَ جَمِيعُ الدَّارِ مُسْتَحَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَانَ الْمُقِرُّ مُدَّعِيًا بَيْتًا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الدَّارُ لِفُلَانٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِي أَوْ قَالَ الدَّارُ لِفُلَانٍ وَبِنَاؤُهَا لِي أَوْ الْأَرْضُ لِفُلَانٍ وَنَخْلُهَا لِي أَوْ النَّخْلُ بِأُصُولِهَا لِفُلَانٍ وَالثَّمَرَةُ لِي لَا يُصَدَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالثَّمَرُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَكَانَ هُوَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مُدَّعِيًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا فَإِنَّهُ لِي لَمْ يُصَدَّقْ أَيْضًا عَلَى الْبِنَاءِ وَالْبِنَاءُ تَابِعٌ، وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ مَفْصُولًا فَإِنَّ اسْمَ الدَّارِ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ مِنْ الْبُقْعَةِ وَالْبِنَاءُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّا تَنَاوَلَهُ الْكَلَامُ نَصًّا لِأَنَّهُ إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُصْرَفُ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ نَصًّا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ عَمَلُ الِاسْتِثْنَاءِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَدْخُلُ الْبِنَاءُ لَوْلَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ أَنَّ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ قَائِمَةٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 74 بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى فَدَلِيلُ الْمُعَارَضَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ قَصْدًا، وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْبُسْتَانُ لِفُلَانٍ إلَّا نَخْلَةً بِغَيْرِ أَصْلِهَا فَإِنَّهَا لِي أَوْ قَالَ هَذِهِ الْحِلْيَةُ لِفُلَانٍ إلَّا بِطَانَتَهَا فَإِنَّهَا لِي أَوْ قَالَ هَذَا السَّيْفُ لِفُلَانٍ إلَّا حِلْيَتَهُ فَإِنَّهَا لِي أَوْ هَذَا الْخَاتَمُ لِفُلَانٍ إلَّا فَصَّهُ فَإِنَّهُ لِي أَوْ هَذِهِ الْحَلْقَةُ لِفُلَانٍ إلَّا فَصَّهَا فَإِنَّهُ لِي فَفِي هَذَا كُلِّهِ مَا جَعَلَهُ مُسْتَثْنًى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ نَصًّا وَإِنَّمَا كَانَ دُخُولُهُ تَبَعًا فَلَا يَعْمَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا بَلْ هُوَ وَالدَّعْوَى الْمُبْتَدَأَةُ سَوَاءٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَأَقَامَ الثَّانِيَ مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الدَّارُ لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ وَلِفُلَانٍ أَوْ لِي وَلِفُلَانٍ فَالدَّارُ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ وَرُجُوعُهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ كَمَا فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ قَالَ ابْتِدَاءً إنَّهَا لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ فَوَصَلَ الْمَنْطِقَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ، وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَايِرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَصَارَ كَقَوْلِهِ هِيَ لَهُمَا، فَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لِفُلَانٍ الثُّلُثَانِ وَلِفُلَانٍ الثُّلُثُ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمُنَاصَفَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا مُغَايِرًا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مَوْصُولًا. وَإِذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ الْجَارِيَةُ لِفُلَانٍ وَالْوَلَدُ لِي فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا نَصَّ الْمُقِرُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الْبِنَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ تَبَعًا لِلْأُمِّ بِخِلَافِ النَّخْلِ وَالْبِنَاءِ فَإِنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَهُ بِهِ اسْتَحَقَّ وَلَدَهَا مَعَهَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيِّنَةِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْأَصْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَاعَةَ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ بِالْيَمِينِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ بِالْإِقْرَارِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْيَمِينِ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ لَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ وَلِهَذَا جُعِلَ الْإِقْرَارُ كَالْإِيجَابِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ مِلْكِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَصْلَيْنِ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ يَسْتَحِقُّ الْوَلَدَ فِيهِمَا، وَفِي قَوْلٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَدَ فِيهِمَا، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَفْصِلُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 75 بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَعَلَى هَذَا وَلَدُ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالثِّمَارِ الْمَجْدُودَةِ مِنْ الْأَشْجَارِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ صُنْدُوقٌ فِيهِ مَتَاعٌ، فَقَالَ: الصُّنْدُوقُ لِفُلَانٍ وَالْمَتَاعُ الَّذِي فِيهِ لِي أَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُ لِنَفْسِهِ نَصًّا، وَهَذَا لِأَنَّ مَا فِي الصُّنْدُوقِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلصُّنْدُوقِ فَالصُّنْدُوقُ وِعَاءٌ لِمَا فِيهِ وَالْمُوعَى لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْوِعَاءِ. وَكَذَلِكَ الْمَتَاعُ يَكُونُ فِي الدَّارِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلدَّارِ. وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ هَذِهِ الدَّارُ لِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ فَفِي قَوْلِهِ " وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ " إقْرَارٌ بِالْأَصْلِ وَالْإِقْرَارُ بِالْأَصْلِ يُوجِبُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَوْ قَالَ أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ لَاسْتَحَقَّ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ الْبِنَاءُ لِفُلَانٍ وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ كَانَ الْبِنَاءُ لِلْأَوَّلِ وَالْأَرْضُ لِلثَّانِي كَمَا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ هُنَا إقْرَارٌ مُعْتَبَرٌ بِالْبِنَاءِ لِلْأَوَّلِ فَهَبْ أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ لِلثَّانِي الْأَرْضَ خَاصَّةً، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَآخِرُ كَلَامِهِ بِالْإِقْرَارِ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ (تَوْضِيحُ الْفَرْقِ) أَنَّ الْبِنَاءَ لَمَّا صَارَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ لِلثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبِنَاءِ، وَفِي الْأَوَّلِ الْبِنَاءُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ مَعًا. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ فَالْعَبْدُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ وَلِلثَّانِي قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْإِقْرَارَ لِلثَّانِي بِالْغَصْبِ فِيهِ مَقَامَ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِذَا صَارَ مُقِرًّا بِالْغَصْبِ مِنْ الثَّانِي وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ ضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ سَوَاءٌ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، قَالَ وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ إنْ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا، وَإِنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي. (وَبَيَانُهُ) إذَا قَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ بِعَيْنِهَا وَدِيعَةٌ عِنْدِي لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا أَوْ مَوْصُولًا لَا بَلْ هِيَ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ أَوْدَعَهَا فُلَانٌ فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ضَمِنَ لِلثَّانِي مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا لَهَا عَلَى الثَّانِي بِالْإِقْرَارِ وَالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ وَالْغَصْبُ سَوَاءٌ، وَإِنْ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لَمْ يُتْلِفْ عَلَى الثَّانِي شَيْئًا وَالدَّفْعُ حَصَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 76 لَا بَلْ لِفُلَانٍ وَدَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُودَعُ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودِعِ، وَقَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ تَارِكًا مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْحِفْظِ لِلثَّانِي بِزَعْمِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى السَّرِقَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَلْتَزِمْ الْحِفْظَ لِلثَّانِي، وَلَكِنَّهُ شَاهِدٌ بِالْمِلْكِ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَالشَّاهِدُ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي فِي يَدِي وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ إلَّا نِصْفَهُ فَإِنَّهُ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُ الْكَلَامُ نَصًّا فَبَقِيَ مُقِرًّا لِلْأَوَّلِ بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إقْرَارَهُ بِالْمُسْتَثْنَى لِلثَّانِي (تَوْضِيحُهُ) أَنَّهُ قَالَ: إلَّا نِصْفَهُ فَإِنَّهُ لِي كَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فَإِنَّهُ لِفُلَانٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَانِ الْعَبْدَانِ لِفُلَانٍ إلَّا هَذَا فَإِنَّهُ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْكَلَامُ نَصًّا. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ إلَّا الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَا يُصَدَّقُ، وَكَانَا جَمِيعًا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى جَمِيعَ مَا تَنَاوَلَهُ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا اسْتِثْنَاءً بَلْ يَكُونُ رُجُوعًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَبْدَيْنِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ اسْتِثْنَاءُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ أَوْ إنَّهُ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةً كَانَ لِلْأَوَّلِ يَغْرَمُ لِلثَّانِي قِيمَتَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِفُلَانٍ إلَّا نِصْفَهُ فَإِنَّهُ لِفُلَانٍ وَإِلَّا نِصْفَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لِفُلَانٍ جَازَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْصُولٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَقَدْ اسْتَثْنَى مِنْ كُلِّ كَلَامٍ بَعْضَهُ فَكَانَ صَحِيحًا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدَّارِ وَالْأَرْضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ أَوْ بِالشَّكِّ] (بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ أَوْ بِالشَّكِّ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا هِيَ فَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْغَصْبِ فَفِي الْوَدِيعَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينٌ فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا بَيَّنَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَا بَيَّنَ سَبَبًا يُقْصَدُ بِهِ الْإِيدَاعُ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ شَيْئًا آخَرَ فَعَلَى الْمُقِرِّ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ مَا ادَّعَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ وَدِيعَةً وَجَاءَ بِهِ مَعِيبًا وَأَقَرَّ أَنَّهُ حَدَثَ بِهِ عِنْدَهُ هَذَا الْعَيْبُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَإِذَا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 77 أَنْ يَكُونَ اسْتَوْدَعَهُ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَمْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ فَصَاحِبُهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ الْأَخْذُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَضَعْتُ خَاتَمَكَ فِي يَدِي فَضَاعَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ فِعْلًا يَضْمَنُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْكَ وَدِيعَةً فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا أَنْكَرَ صَاحِبُ الْإِيدَاعِ كَانَ الْمُودَعُ ضَامِنًا لِإِقْرَارِهِ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَخْذُ، فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى صَاحِبِهِ بِقَوْلِهِ أَوْدَعَنِي أَوْ وَضَعَهُ فِي يَدِي. وَلَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ الْمُودَعُ أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا، ثُمَّ قَالَ: هَلَكَتْ بَعْدَ أَنْ نَزَلْتُ عَنْهَا وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ اللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: رَكِبْتُهَا بِإِذْنِ الْمُودِعِ وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ الْإِذْنَ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِذْنِ لِإِقْرَارِهِ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ صَاحِبِهَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ دَفَعَهَا بِإِذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى صَاحِبِهَا الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِدَعْوَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلضَّمَانِ عَنْهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ مِائَةُ دِينَارٍ أَوْ لِفُلَانٍ فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا عَيْنًا حِينَ لَمْ يَقْرِنْ بِهِ حَرْفَ التَّخْيِيرِ، وَذَكَرَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ فَيَكُونُ الْجَوَابُ فِي حَقِّهِمَا مِثْلَ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ حُكْمِ الِاصْطِلَاحِ وَالِاسْتِخْلَافِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ وَلِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ أَوْ لِفُلَانٍ كُرُّ شَعِيرٍ فَالْمِائَةُ الدِّينَارُ لِلْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا عَيْنًا وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَيَّنَ فِي الْإِقْرَارِ لِوَاحِدٍ مِنْهَا شَيْئًا حِينَ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ أَوْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَرْفَ أَوْ يَمْنَعُ عَيْنًا فِي حَقِّ مَنْ اقْتَرَنَ بِهِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُمَا بِشَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ فَلِلْأَوَّلِ نِصْفُ الْمِائَةِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ فِيمَا هُوَ مُوجَبُ حَرْفِ " أَوْ " فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلِأَحَدِ هَذَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَنِصْفُ الْمِائَةِ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مِنْ الْآخَرَيْنِ إلَّا أَحَدُهُمَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَالْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْحُكْمُ فِيهِ الِاصْطِلَاحُ أَوْ الِاسْتِحْلَافُ. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ قِبَلِي مِائَةُ دِرْهَمٍ أَوْ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 78 فَالنِّصْفُ لِلثَّالِثِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَيْنَ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْإِقْرَارَ لِلثَّالِثِ هُنَا حِينَ لَمْ يَقْرِنْ بِهِ حَرْفَ أَوْ وَأَثْبَتَ الْمُزَاحِمَةَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ وَلِهَذَا عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَنِصْفُ الْمِائَةِ لِلثَّالِثِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ حُكْمُ الِاصْطِلَاحِ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ الِاسْتِحْلَافِ قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيَّ وَقِبَلِي دَيْنٌ وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَقَوْلُهُ مِنْ مِلْكِي وَدِيعَةٌ وَقَوْلُهُ فِي مِلْكِي أَوْ فِي مَالِي شَرِكَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ بِالْمَالِ عَيْنًا، وَفِي حَقِّ الثَّانِي عَلَّقَ الْإِقْرَارَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ يَعْنِي إنْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَبْقَى إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ مُلْزِمًا، وَفِي حَقِّ الثَّانِي بَاطِلًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَلَيَّ حِجَّةٌ لَزِمَتْهُ الْمِائَةُ دُونَ مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ هُنَاكَ آخِرَ كَلَامِهِ تَعْلِيقًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُذْكَرُ عِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِي ظَنِّهِ الْأَوَّلَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ هَذَا الْقَادِمُ زَيْدٌ وَإِلَّا فَعَمْرٌو وَكُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَإِلَّا فَهَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ لِلْأَوَّلِ فَهُنَا أَيْضًا يَكُونُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُقِرًّا لِأَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَإِلَّا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَعَلَيَّ حِجَّةٌ فَإِنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ إنْشَاءِ الْعِتْقِ وَالْتِزَامِ الْحَجِّ حَتَّى يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنَى التَّرَدُّدِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ آخِرِ الْكَلَامِ تَعْلِيقًا، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَفِي جَعْلِنَا إيَّاهُ شَرْطًا إلْغَاؤُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ بِمَعْنَى أَوْ لِيَكُونَ مُقِرًّا لِأَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَلْ لِفُلَانٍ أَوْ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَهُوَ سَوَاءٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْمِائَةِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَالْإِقْرَارُ لِلثَّانِي بِالْمِائَةِ صَحِيحٌ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَلْ عَلَيَّ حِجَّةٌ لَزِمَتْهُ الْمِائَةُ وَالْحِجَّةُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 79 نَفْسُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَقَوْلُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ، فَإِنْ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نَسَبَ مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَجُعِلَ حُرًّا؛ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمًا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ وَمَاءُ الْحُرِّ جُزْءٌ مِنْهُ فَيَكُونُ حُرًّا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِرَحِمِ الْأَمَةِ وَحِينَ لَمْ يُسَمُّوا أَمَةً فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَظْهَرْ اتِّصَالُ مَائِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَبَقِيَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مُوجِبَةٌ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ فَلَا يُعَارِضُهَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ فِي إثْبَاتِ رِقِّهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْمُدَّعِي الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يُعَارِضُهَا الْيَدُ وَلَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَالْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَيْتَ بِنَسَبِهِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ هُنَاكَ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَى بِنَسَبِهِ مِنْ ذِي الْيَدِ وَمِنْ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ جَحَدَتْ هِيَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ - هُوَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا - قَائِمٌ وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُحَالُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَذَلِكَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُ النَّسَبَ مِنْهُمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ السَّبَبِ ثُبُوتُهُ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَنْتَفِي بِجُحُودِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ الْأَبُ وَادَّعَتْ الْأُمُّ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ عَبْدٍ وَامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ آخَرُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْمَوَالِي أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ وَهِيَ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الْخَارِجَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِمَا زِيَادَةَ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ وَهُمَا حُرَّانِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَلَمْ يَنْسُبُوهُ إلَى أَمَةٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي لِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فِي لَا إثْبَاتٍ وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَشَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَمَاعِ الْقَاضِي إقْرَارَهُ، وَذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، ثُمَّ أَعَادَ مَسْأَلَةَ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (فَرْعٌ) عَلَيْهِ مَا لَمْ يُوَقِّتْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا قَالَ: يُنْظَرُ إلَى سِنِّ الصَّبِيِّ، فَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَهُوَ وَمَا لَمْ يُوَقِّتَا سَوَاءٌ يَقْضِي بِهِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَصْغَرُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 80 مَعْرُوفٌ قَضَيْتَ بِهِ لِلْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ، وَلَمْ تَظْهَرْ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتُوهُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهَا قَضَيْتَ بِالنَّسَبِ مِنْهَا لِإِثْبَاتِهَا الدَّعْوَى بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِيهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُعَارِضُهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ (قَبِلَ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِهِ مِنْهُ، وَمِنْهَا (قُلْنَا) نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا إلَّا بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ لَمْ تُقِمْ الْمَرْأَةُ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً شَهِدَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ، فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ لَمْ يَقْضِ لِلْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الثَّابِتَ بِالْيَدِ لَا يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لَا يَدَّعِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلْمَرْأَةِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْضِي لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللَّقِيطِ مُسْتَحَقٌّ لِذِي الْيَدِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَمَحَّضَ هَذَا مَنْفَعَةً لِلْوَلَدِ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا يَدُهُ فِيهِ صِيَانَةٌ عَنْ ضَيَاعِهِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. قَالَ: عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةَ الْحُرِّيَّةِ فَلَوْ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ جَعَلْنَاهُ مَمْلُوكًا لَهُ وَكَيْفَ يُجْعَلُ مَمْلُوكًا، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذَا شَيْئًا. أَمَّا فِي الْكِتَابَةِ لَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِهِ وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهُ كَالْعِتْقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ عِتْقٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ مُعْتَبِرًا بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ بِبَيِّنَتِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْوَلَاءُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمِلْكُ بَيْعٌ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ لِهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا كَالْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمِلْكُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِثْبَاتِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِإِثْبَاتِ الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ إثْبَاتَ الْوَلَاءِ. وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ أَمَتِهِ فِي مِلْكِهِ حُرُّ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ إثْبَاتُ حُرِّيَّةِ الْعِتْقِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 81 بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَكَانَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَنْفَعَةُ الْوَارِثِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. . وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ تَطَوَّعَ بِهِ عَنْ الْوَارِثِ أَوْ أَقَرَّ بِحَوَالَةِ أَجْنَبِيٍّ عَنْ الْوَارِثِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِتَضَمُّنِهِ الْإِقْرَارَ بِبَرَاءَةِ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ مِمَّنْ أَدَّى عَنْهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ جَازَ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَبْضِ الْمُعَايَنِ وَإِنَّمَا فَارَقَ الْمَرِيضُ الصَّحِيحَ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الصِّحَّةِ فِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، وَفِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ الْمَرِيضُ كَالصَّحِيحِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ مِنْ ابْنِ الْآمِرِ، ثُمَّ مَرِضَ الْآمِرُ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ أَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِهِ وَدَفْعِهِ إلَى الْمَرِيضِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَنْ الْيَمِينِ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ قُلْنَا فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ نَعَمْ، فَأَمَّا فِي الْوَاجِبِ مِنْ الْيَمِينِ فَلَا حَقَّ لَهُ بَلْ هُوَ لِلْمُوَكِّلِ، وَفِي هَذَا الْإِقْرَارِ إذَا صَحَّ سَلَامَةُ الْيَمِينِ لِلْوَارِثِ وَسُقُوطُ مُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ الْوَكِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْوَكِيلُ صُدِّقَ، وَإِنْ جَحَدَ الْآمِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْوَكِيلِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَاجِبٍ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ صَحِيحٌ فَلَأَنْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَاجِبٍ لِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى وَحَالُ مَرَضِ الْوَكِيلِ فِي هَذَا الدَّيْنِ كَحَالِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَيْسَ مَعَ وَارِثِهِ وَلَا فِي مَحَلٍّ فِيهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا لِلْوَكِيلِ وَالْآمِرِ وَهُمَا مَرِيضَانِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ مَرَضِ الْآمِرِ يَمْنَعُ صِحَّةَ هَذَا الْإِقْرَارِ فَمَرَضُهُمَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْآمِرِ، فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ إلَى الْآمِرِ أَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ فَقَطْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ فِي الدَّيْنِ بِالْقَبْضِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ إذَا مَاتَ مُقِرًّا بِهِ فَكَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ مِنْهُ إنَّمَا يُبْرِئُ ذِمَّةَ وَارِثِهِ وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ عَنْ وَارِثِهِ بِالْمَالِ أَوْ تَبَرُّعِهِ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا قَالَ: دَفَعْتُهُ إلَى الْآمِرِ أَوْ ضَاعَ مِنِّي فَلَيْسَ فِيهِ الْتِزَامُ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَئِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَارِثِ فَلَيْسَ فِي مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَالْمَرِيضُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ أَقَرَّ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إذَا كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِ الطَّالِبِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَرَضِ الطَّالِبِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي مَرَضِهِ بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 82 مِنْهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَانَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ هُنَاكَ لِحَقِّ الْوَارِثِ وَحَقِّهِمْ يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ أَخًا وَلَهُ ابْنٌ فَمَاتَ الِابْنُ قَبْلَ الْأَبِ حَتَّى صَارَ الْأَخُ مِنْ وَرَثَتِهِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَصَارَ غَيْرَ وَارِثٍ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْفُصُولُ فِي الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ إنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ إذْ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى جُعْلٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ وَلَا فِي الْمَرَضِ كَانَ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَارِثَةً بِيَقِينٍ فَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا وَمِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءٌ وَاشْتِرَاطُهُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ قَبْلَ الْعِدَّةِ تَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُسَاعِدْهُ عَلَى الْخُلْعِ حَتَّى فَارَقَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ وَارِثَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَاعَدَتْهُ عَلَى الْخُلْعِ لِيَتَّضِحَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا فَلِزَوَالِ هَذِهِ التُّهْمَةِ شَرَطَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ. وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يُقِرُّ بِهِ فِي الْمَرَضِ، فَأَمَّا اشْتِرَاطُهُ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الْمَرَضِ فَسَبَبٌ مُعَايَنٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ فَالْمُرَادُ فِي حُكْمِ الِاخْتِصَاصِ أَنَّهَا إنَّمَا تَخْتَصُّ بِمَا فِي ذِمَّتِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُقِرِّ دَيْنٌ فِي مَرَضِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْ قِصَاصٍ فِي مَرَضِهِ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وَارِثِهِ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى وَارِثِهِ؛ لِأَنَّ بِالصُّلْحِ قَدْ انْقَلَبَ الْوَاجِبُ مَالًا فَفِي إقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ مِنْ الْوَارِثِ اتِّصَالُ مَنْفَعَةِ الْمَالِيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَارِثِهِ بِخِلَافِ عَفْوِهِ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمَرِيضُ مِنْ أَنْ يُقِرَّ لِوَارِثِهِ بِمَا هُوَ مَالٌ. وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بِقَبْضِ دَيْنٍ كَانَ لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَبَرَاءَةُ الْمَوْلَى لَا تَكُونُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُ عَبْدَهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ حَتَّى تَتَعَلَّقَ سَلَامَتُهُ لَهُ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ عَنْ الدَّيْنِ لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ لِمَوْلَاهُ فِي مَرَضِهِ إذَا مَاتَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمُوَرِّثِ لِوَارِثِهِ وَكَمَا تُمَكَّنُ هُنَاكَ تُهْمَةُ إيثَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ تُمَكَّنُ هُنَا تُهْمَةُ إيثَارِهِ مَوْلَاهُ عَلَى غُرَمَائِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْمَوْلَى وَارِثُهُ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 83 أَثْلَاثًا وَلِهَذَا نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ وَمِنْ نَظَائِرِهَا الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِعَيْنٍ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةً وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةٍ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَغَرِمَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَهُمَا. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَآخَرَ خَطَأً وَلِلْمَقْتُولِ عَمْدًا ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ. فُضُولِيٌّ بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَبَاعَ فُضُولِيٌّ آخَرُ نِصْفَهُ فَأَجَازَ الْمَوْلَى الْعَيْنَ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَالتَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَمَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ كَانَ فِي الثَّمَنِ يَتَحَوَّلُ بِالشِّرَاءِ إلَى الْمَبِيعِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ لِمَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِي الْعَيْنِ فَمَا مِنْ جُزْءٍ مِنْهُ إلَّا وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ مُزَاحِمٌ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ مَعْلُومٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، وَإِذَا كَانَ يُدْلِي لَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَمَا لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ يَسْلَمُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيَّيْنِ فَإِنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قُوَّةِ السَّبَبِ وَاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ فِي صِفَةِ الصِّحَّةِ فَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ مَعْلُومَ الصِّحَّةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَمَا قَالَ: يَبْطُلُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَوْلِيًّا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعُونَ ثَلَاثَةً يَدَّعِي أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَهَا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَتَكُونُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 84 مِنْ سِتَّةٍ يَضْرِبُ مُدَّعِي الْكُلِّ بِسِهَامِ الدَّارِ سِتَّةً وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ بِسِهَامِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً وَمُدَّعِي النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ فَيَقْسِمُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيَسْلَمُ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ فَيَكُونُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ يَبْقَى سِتَّةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَيَسْلَمُ لِمُدَّعِي النِّصْفِ سُدُسُ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ رُبُعُ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي الْجَمِيعِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا وَالْآخَرُ جَمِيعَهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْصَرِفٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا لِيَكُونَ يَدُهُ مُحِقَّةً فِي حَقِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ فَصَاحِبُ النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالدَّارُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَيْهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ وَاسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمْ فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الدَّارِ وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ فِيمَا فَضَلَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا بَيِّنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَأَمَّا الثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي الْجَمِيعَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ثُلُثٌ فِي يَدِهِ وَثُلُثٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ دَعْوَاهُ فِيمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّلُثِ فَيَسْلَمُ نِصْفُ هَذَا الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ مُنَازَعَتِهِمَا فِيهِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَالثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي جَمِيعَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي رُبُعَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الثُّلُثُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَكَانَ دَعْوَاهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ السُّدُسِ، وَذَلِكَ رُبُعُ مَا فِي يَدَيْهِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ سَالِمٌ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الرُّبُعُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ يَدَّعِي صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ رُبُعَهُ، وَفِي الْمَالِ سَعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 85 ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي وَأَحَدُ الْغُرَمَاءِ وَارِثُهُ وَاكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ مَالَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِدَيْنِهِ وَيَضْرِبُ الْوَارِثُ بِدَيْنِهِ وَلَا يَضْرِبُ الَّذِي أَعْتَقَهُ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يُقْضَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ثَمَنِهِ وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّ دَيْنَ الْمُشْتَرِي قَدْ سَقَطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، وَقَدْ كَانَ يُحَوِّلُ حَقَّهُ إلَى الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ الْقَاضِي فَلَمَّا هَلَكَ ذَلِكَ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ أَصْلًا فَسَقَطَ دَيْنُهُ فَلِهَذَا لَا يَضْرِبُ فِي الْكَسْبِ الَّذِي بَعْدَ الْعِتْقِ بِشَيْءٍ وَأَمَّا وَارِثُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَبْدِ فَدَيْنُهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَدَيْنِ الْآخَرِينَ، وَهُوَ، وَإِنْ صَارَ وَارِثًا لِلْعَبْدِ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ إقْرَارَهُ فَلِهَذَا يَضْرِبُ مَعَ الْآخَرِينَ بِدَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُ غُرَمَاءِ الدَّيْنِ أَقَرَّ لَهُمْ وَارِثُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثَهُ فَلَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ لَهُ، وَإِنْ صَارَ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ عَبْدٌ، ثُمَّ عَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، وَهُوَ وَارِثُهُ فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَهَذَا الْإِقْرَارُ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي الْمَعْنَى لِلْمَوْلَى وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ فَبِأَنْ صَارَ الْعَبْدُ مِنْ وَرَثَتِهِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدَّيْنَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ، وَذَلِكَ لِمَوْلَاهُ دُونَهُ فَبِأَنْ صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ الْمُتَقَدِّمُ، وَإِنْ وَجَبَ قَضَاءُ مَنْ كَسَبَ هُوَ خَالِصَ حَقِّ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ وَرِثَ بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَاجِرًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ التَّاجِرِ لَا يَكُونُ لِمَوْلَاهُ فَفِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَنْفَعَةٌ لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، وَقَدْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ يَكُونُ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ وَيُجْعَلُ هَذَا كَالْإِقْرَارِ لِلْمَوْلَى. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَالِابْنُ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ فَإِقْرَارُهُ لَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا كَانَ مُقِرًّا بِهَذَا الدَّيْنِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لَهُ لِأَنَّهُ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَكَسْبُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَهُ فَكَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ مُوجِبًا إيصَالَ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ فِي مَرَضِهِ لِابْنِهِ الْحُرِّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ مُكَاتَبًا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً أَوْ تَرَكَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 86 وَفَاءً بِالدَّيْنِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا عَاجِزًا فَلَا يَكُونُ ابْنُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَالْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ أَقْوَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا فَهُوَ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيَحْكُمُ بِعِتْقِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَيَكُونُ ابْنُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ وَمُوجَبُ إقْرَارِهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ حَقُّهُ، فَإِذَا حَصَلَ إقْرَارُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَاسْتِثْنَاؤُهُ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْخَمْسِينَ عَلَى التِّسْعِمِائَةِ وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَثْنًى فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ يَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَجَعَلَ الْكَلَامَ عِبَارَةً عَنْهُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ وَالْبَاقِي وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَكَانَ مُقِرًّا بِهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ كَلَامُهُ لِيَصِيرَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ فَيَكُونُ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ مَوْصُولًا مَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيَانِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْإِبْطَالُ لَيْسَ مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا فَالِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَيَطْرَحُ مِنْ الْأَلْفِ قِيمَةَ الدِّينَارِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا فَلْسًا أَوْ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ اسْتَثْنَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ عَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: إلَّا شَاةً أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا مِنْ الْعُرُوضِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ وَيَطْرَحُ عَنْهُ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَعِنْدَهُ مُوجَبُ الِاسْتِثْنَاءِ امْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ، فَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمٌ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا دِرْهَمٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ فَلَا يَلْزَمُ الدِّرْهَمُ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 87 الدَّعْوَتَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَلِأَنَّ وَضْعَهُ الْجُذُوعَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى الْحَائِطَ لِحَاجَتِهِ إذَا وَضَعَ حِمْلَهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ تُثْبِتُ التَّرْجِيحَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يَجْعَلُ مَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَوَادِي أَوْ بَوَارِيٌّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهْلٍ مَقْصُودٍ بُنِيَ الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ عَلَّقَهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْجِيحَ بِخِلَافِ الْجُذُوعُ فَإِنَّهُ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ بِاعْتِبَارِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ اتِّصَالٌ وَلِلْآخِرِ بَوَارِيٌّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَلِلْآخِرِ اتِّصَالٌ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا مُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ اسْتِعْمَالٌ لِلْحَائِطِ وَالِاتِّصَالُ مُجَاوَرَةٌ وَالْيَدُ تَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمُجَاوَرَةِ فَكَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ فِي بَعْضِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ لِلَّبِنِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءٍ لِحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. قَالَ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالَ تَرْبِيعِ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّصَالُ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا، فَأَمَّا اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ أُخْرَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ لَهُ يَكُونُ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ رَفْعَ جُذُوعِهِ، فَإِنْ (قِيلَ) لَمَّا قَضَى بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ الْآخَرَ بِرَفْعِ الْجِذْعِ؛ لِأَنَّهُ حِمْلٌ مَوْضُوعٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 88 لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْحِمْلِ وَيُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمِخْلَاةِ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالدَّابَّةِ لِصَاحِبِ الْحِمْلِ أَمْرُ الْآخَرِ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ يُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ جُذُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا رَفْعَ جُذُوعِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْيَدِ حُكْمًا فَإِنَّهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ دَارَيْهِمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ الْيَدُ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي الْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهَا وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَوْضِعِ الْخَشَبَةِ يُثْبِتُ يَدَ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ فَصَاحِبُ الْقَلِيلِ فِيهِ يَسْتَوِي بِصَاحِبِ الْكَثِيرِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ عَامَّتُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْآخَرِ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِأَجْلِهَا أُسْطُوَانَةُ فَكَانَ صَاحِبُ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ أَوْلَى بِهِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ مَقْصُودٌ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْحِمْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ خَشَبَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْخَشَبَاتِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَسْتَحِقُّ بِهِ رَفْعَ الْخَشَبَةِ عَلَى الْآخَرِ وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ الْخَشَبَةِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِأَيِّهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ يُقْضَى بِالْكُلِّ بَيْنَهُمَا عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ اعْتِبَارًا لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ مِنْ الْحَائِطِ وَأَكْبَرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 89 - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزُ شَعِيرٍ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَلَامَ مَوْصُولٌ، وَفِي حَقِّ الشَّعِيرِ إنَّمَا اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَدَأَ بِاسْتِثْنَاءِ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: إلَّا قَفِيزَ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ اسْتِثْنَاؤُهُ كُرَّ حِنْطَةٍ بَاطِلٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الشَّعِيرِ وَمَتَى تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ لَغْوٌ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْلُ وَالْكَلَامُ اللَّغْوُ فَاصِلٌ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ أَوْ أَبْلَغُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِاللَّغْوِ إعْرَاضٌ عَنْ الْجِدِّ، وَلَيْسَ فِي السُّكُوتِ إعْرَاضٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ لَغْوٌ فَصَارَ فَاصِلًا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَوْصُولًا ظَاهِرًا. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ مِائَتَا دِينَارٍ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرُّ لَهُ إذَا كَانَ مُخْتَلِفًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي وَصَلَهُ بِهِ وَإِنَّمَا وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالدَّنَانِيرِ هُنَا وَاسْتِثْنَاءُ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مِائَتَيْ دِينَارٍ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُسْتَثْنَى الْمُعَيَّنِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى تَأْكِيدِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ بِالسَّكْتَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ تَهْلِيلًا أَوْ تَكْبِيرًا أَوْ تَسْبِيحًا لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الْإِقْرَارِ فِي شَيْءٍ فَيَتَحَقَّقُ الْفَصْلُ بِهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالسُّكُوتِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْلُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ يَا فُلَانُ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا فُلَانُ نِدَاءٌ لِلْمُخَاطِبِ لِيُنَبِّهَهُ فَيَسْتَمِعَ كَلَامَهُ فَكَانَ كَلَامُهُ رَاجِعًا إلَى تَأْكِيدِ الْإِقْرَارِ فَلَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِذَلِكَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أَلْفٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ كَلَامٌ آخَرُ أَعْقَبَ الْإِقْرَارَ بِهِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ الْفَاءُ وَلَوْ عَطَفَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْقَبَهُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُفِيدٌ مَفْهُومُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ بَلْ يَصِيرُ فَاصِلًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا فُلَانُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَكَانَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 90 فَلَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَقَبَضْتهَا إيَّاهُ كَانَتْ عَلَيْهِ الْأَلْفُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتهَا صِفَةُ الْعَشَرَةِ وَقَوْلَهُ إلَّا عَشَرَةً ظَاهِرُهُ اسْتِثْنَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا أَصْلًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الْحَالِ لِسُقُوطِهَا عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ بَيَانُهُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ أَقَبَضْتهَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَإِذَا صَحَّ كَانَ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي الْعَشَرَةِ وَدَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ فِي بَعْضِ الْمَالِ أَوْ فِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى أَصْلُ الْوُجُوبِ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَدْ أَقَبَضْتهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ قَدْ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فَدَعْوَاهُ الْقَضَاءَ فِي الْعَشَرَةِ مَعَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَبِدُونِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ: إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ أَقَبَضْتُهَا إيَّاهُ كَانَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَقَدْ أَقَبَضْتُهَا " كَلَامٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَكُونُ لِلْمُسْتَثْنَى إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْوُصُوفِ وَالْمُوَصَّفِ حَرْفُ الْعَطْفِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي أَصْلِ الْمَالِ فَيَبْقَى اسْتِثْنَاؤُهُ الْعَشَرَةَ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ هُنَاكَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ، وَذَكَرَ الْقَضَاءَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا قَالَ: زَيْدٌ عَالِمٌ كَانَ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَإِذَا قَالَ: زَيْدٌ وَعَالِمٌ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَعَالِمٌ صِفَةً لِزَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُوفِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا أَقَبَضْتُهَا إيَّاهُ كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتُهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ التَّأْنِيثِ فَيَكُونُ صِفَةً لِمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةِ التَّأْنِيثِ وَالْمُسْتَثْنَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةِ التَّذْكِيرِ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ أَقَبَضْتهَا دَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ فِي أَصْلِ الْمَالِ فَبَقِيَ اسْتِثْنَاؤُهُ الدِّرْهَمَ صَحِيحًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانَقٍ مِنْ ثَمَنِ بَقْلٍ قَدْ أَقَبَضْتُهُ إيَّاهُ كَانَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ أَقَبَضْتُهُ صِفَةٌ لِلدَّانِقِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فِي الدَّانِقِ لَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَزِمَهُ دِرْهَمٌ، وَقَالَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إلَّا دَانِقًا قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا أَقْرَبُ إلَى وِفَاقِ مَا اعْتَلَّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ قَطَعَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ بِكَلَامٍ فَصَارَ الْقَضَاءُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ دَعْوَى الْقَضَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ صِفَةً لِلدَّانِقِ إذَا وَصَلَهُ بِهِ، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ آخَرُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ بَقْلٍ فَصَارَ دَعْوَى الْقَضَاءِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمٍ وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرَهُ فِي نُسَخِ أَبِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 91 بِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُذُوعَ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ كَذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْجُذُوعِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِصَاحِبِهَا فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا إلَّا بِحُجَّةِ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ جُذُوعًا لَا يَحْمِلُ عَلَى مِثْلِهَا شَيْئًا إنَّمَا هُوَ أَطْرَافُ جُذُوعٍ خَارِجَةٍ فِي دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا لِأَنَّ عَيْنَ الْجُذُوعِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَمَا لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَطْعُهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَحْدَثَ نَصْبَهَا غَصْبًا. قَالَ: وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْمِلْكِ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ فَلَهُ حَقُّ التَّدْبِيرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ كَإِنْشَاءِ بَيْعٍ أَوْ بِنَاءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَاحِبُ السُّفْلِ هُوَ الَّذِي هَدَمَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَدْمِ لِمَا لِصَاحِبِ الْعُلْوِ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَقِّ قَرَارِ الْعُلْوِ عَلَيْهِ فَيُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ بِحَقِّهِ كَالرَّاهِنِ إذَا قَبِلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْمَوْلَى قَبِلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ، فَأَمَّا عِنْدَ الِانْهِدَامِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ فِعْلٌ هُوَ عُدْوَانٌ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ، ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْعُلْوَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِبِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ، ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ أَنْ يَسْكُنَ سُفْلَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى بِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَالْبِنَاءُ مِلْكُ الثَّانِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ شَرْعًا فَيَكُونُ كَالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ وِلَايَةً وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ فَيَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ السُّفْلِ بِقِيمَتِهِ كَثَوْبِ الْغَيْرِ إذَا انْصَبَغَ بِصِبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ يُعْطِي صَاحِبَ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ مِلْكُ صَاحِبِ الصِّبْغِ فِي ثَوْبِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ السُّفْلَ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلْوِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ دَارٌ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِأَنَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِقِسْمَةِ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ، فَإِنْ بَنَاهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 92 بِخِلَافِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ. وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ؛ لِأَنَّ أُسَّ الْحَائِطِ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ نَحْوَ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ بِالْخَشَبَةِ فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى بِنَائِهِ، وَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا مُنِعَ صَاحِبُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَامْتَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ لَهُمَا فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ مَعَهُ فِي بِنَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى ذَلِكَ بَنَاهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ وَضْعِ جُذُوعِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ وَضَعَ الْجُذُوعَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِسْمَةِ أُسِّ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْجُذُوعُ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَائِطَ وَلَا يُشَاجِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَةِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ بِالْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ رَضِيَ هُوَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ. وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ الْمُشْتَرَكُ إذَا انْهَدَمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ بَابٌ مِنْ دَارِهِ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي دَارِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَصَاحِبُ الْبَابِ هُوَ الْمُدَّعِي لِلطَّرِيقِ فِي دَارِ الْغَيْرِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَرَبُّ الدَّارِ هُوَ الْمُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَبِفَتْحِ الْبَابِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ جُزْءٍ مِنْ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا فَتَحَ بَابًا، وَقَدْ يَكُونُ فَتْحُ الْبَابِ لِدُخُولِ الضَّوْءِ وَالرِّيحِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِالْجَارِ وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى طَرِيقٍ لَهُ فِي الدَّارِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا مَضَى وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ عَايَنَّاهُ مَرَّ فِيهِ مَرَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا ثَابِتًا فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَالطَّرِيقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي دَارِ الْجَارِ فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يُسَمُّوا ذَرْعَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا إنَّ لَهُ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الدَّارِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ بِذَلِكَ فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، فَأَمَّا إذَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 93 وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَمَا كَانَ مَاضِيًا فَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ عِنْدَهُ فِي الْحَالِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ إيَّاهُ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْ مَالِهِ أَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ أَوْ لِمُفْسِدٍ يُمْكِنُ فِي أَصْلِ السَّبَبِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ اسْتِثْنَاءً لِلْيَقِينِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي عِلْمِي وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْفَرْقُ هُنَا أَنَّ حَرْفَ قَدْ لِلتَّأْكِيدِ فَقَدْ أَكَّدَ عِلْمَهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِإِقْرَارِهِ وَالشَّاهِدُ لَوْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا قَدْ عَلِمْت لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي إقْرَارِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا ظَنَنْتُ أَوْ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ فِيمَا حَسِبْتُ أَوْ فِيمَا أَرَى أَوْ فِيمَا رَأَيْتُ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنَّمَا تُذْكَرُ فِي الْعَادَةِ لِبَيَانِ شَكِّهِ فِيهِ وَاسْتِثْنَاءِ بَقِيَّةٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا رَأَيْتُ أَوْ حَسِبْتُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا قَدْ عَلِمْتُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعِلْمِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ بِخِلَافِ الْحُسْبَانِ وَالظَّنِّ وَالرُّؤْيَةِ فَقَدْ يَتَرَاءَى شَيْءٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَالظَّمْآنِ يَرَى السَّرَابَ مِنْ بَعِيدٍ فَيَتَرَاءَى أَنَّهُ مَاءٌ وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي شَهَادَةِ فُلَانٍ أَوْ فِي عِلْمِ فُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا يَشْهَدُ بِهِ فُلَانٌ أَوْ يَعْلَمُهُ وَيَكُونُ هَذِهِ إنْكَارًا لَا إقْرَارًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِشَهَادَتِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقٌ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَعِلْمِهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ فَكَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ بِعِلْمِ فُلَانٍ وَشَهَادَتِهِ. وَإِنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِحِسَابِهِ أَوْ فِي حِسَابِهِ أَوْ فِي كِتَابَتِهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فُلَانٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْمَالِ وَلَا حِسَابِهِ فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ فُلَانٌ وَيَحْسَبُهُ وَيَكْتُبُ بِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِمَّا يُؤَكَّدُ بِهَا الْوَاجِبُ، وَالْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَوْ قَالَ: بِصَكِّهِ أَوْ فِي صَكِّهِ أَوْ فِي صَكٍّ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى أَحَدٍ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّكَّ اسْمٌ خَالِصٌ لِمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ فَهَذَا مِنْهُ تَأْكِيدٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي سِجِلٍّ أَوْ سِجِلِّهِ كَانَ الْمَالُ لَازِمًا لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي كِتَابٍ أَوْ مِنْ كِتَابٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ حِسَابٍ أَوْ فِي حِسَابٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 94 يُذْكَرُ لِبَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ وَبَيَانِ الْمَحَلِّ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ وُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ قَدْحًا فِي إقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَكٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ كِتَابٌ أَوْ حِسَابٌ بِأَلْفٍ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقُ الْأَلْفِ بِالصَّكِّ وَالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ شَرِكَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ تِجَارَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَوْ مِنْ خُلْطَةٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْأَلْفِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي قَضَاءِ فُلَانٍ، وَهُوَ قَاضٍ أَوْ فِي فُلَانٍ الْفَقِيهِ أَوْ هُنَا أَوْ فِي فِقْهِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي قَضَاءِ فُلَانٍ كَقَوْلِهِ فِي شَهَادَةِ فُلَانٍ أَوْ فِي عِلْمِ فُلَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بَيَانُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا فِي عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَقَوْلُهُ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ قَوْلُهُ، فَإِنْ قَالَ: بِقَضَاءِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ قَاضٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ كَقَوْلِهِ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَبِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَلْصَقَ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ فَالْمَالُ الْمَقْضِيُّ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَاضِيًا، فَقَالَ الطَّالِبُ حَاكَمْته إلَيْهِ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْحَكَمِ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ كَقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً فَكَانَ قَوْلُهُ بِقَضَائِهِ بَيَانًا لِتَأْكِيدِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَاكِمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَصِبْ قَاضِيًا فِي حَقِّهِمَا قَطُّ فَلَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا فَهَذَا وَقَوْلُهُ يَقِينُ فُلَانٍ سَوَاءٌ. وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي ذِكْرِهِ أَوْ بِذِكْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي حِسَابِهِ أَوْ بِحِسَابِهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ أَوْ بِكِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كِتَابَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ فَكَيْفَ يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بِسَلَمٍ أَوْ بِسَلَفٍ أَوْ مِنْ سَلَفٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ وَالسَّلَمَ عِبَارَتَانِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَخْذُ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَيَانًا لِسَبَبِ وُجُوبِ الْكُرِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ بِبَيْعٍ أَوْ لِبَيْعٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ إجَارَةٍ أَوْ بِإِجَارَةٍ أَوْ بِكَفَالَةٍ أَوْ لِكَفَالَةٍ أَوْ عَلَى كَفَالَةٍ لَزِمَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ بَيَانٌ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ مِنْهُ، وَهُوَ سَبَبٌ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا شَيْئًا يَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَزِيَادَةٌ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُسْتَثْنَى لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مَا يَبْرَأُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ فَكَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مُثْبَتٌ وَالْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُثْبَتٍ، فَإِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ الْمُسْتَثْنَى سَوَاءٌ بَيَّنَهُ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 95 وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْعَادَةِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُخْتَارُ الْعَادَةُ عَنْ الْوَاجِبِ بِذِكْرِ حَمْلِهِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْوَاجِبِ وَتَتَّضِحُ هَذِهِ الْعَادَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ " إلَّا شَيْئًا " إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَلِيلِ عَادَةً فَهُوَ وَقَوْلُهُ " إلَّا قَلِيلًا " سَوَاءٌ فَلِهَذَا لَزِمَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَزِيَادَةٌ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ سِوَى الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِهِ بِخِلَافِ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ فَإِنَّ هُنَاكَ نَصَّ عَلَى بَيَانِ قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا مَعْنَى لِلْعَادَةِ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عِظَمُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ جُلُّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْوَاجِبَ بِأَنَّهُ عِظَمُ الْأَلْفِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَقَدْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ سِوَى الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُقِرُّ كَانَ الْقَوْلُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، وَقَضَاءُ الْمَالِ مِنْ التَّرِكَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ بَيَانُهُ مَقْبُولًا فَكَذَلِكَ بَيَانُهُمْ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالثِّيَابِ وَكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ حَدًّا وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْمَحْدُودِ كَمَنْ يَقُولُ لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ أَوْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا هَذَا كَذَلِكَ فِي حَدٍّ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَدًّا إذَا كَانَ وَاجِبًا، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُتَصَوَّرُ حَدًّا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْأَصْلُ مَا قَالَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ وَمَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ذِكْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إلَّا أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِهَا؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَاجِبٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي بِدُونِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَسْتَدْعِي ابْتِدَاءً، فَإِذَا أَخْرَجْنَا الْأَوَّلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا صَارَ الثَّانِي هُوَ الِابْتِدَاءُ فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ هَكَذَا بَعْدَهُ فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ أَدْخَلْنَا فِيهِ الْغَايَةَ الْأُولَى وَلَا ضَرُورَةَ فِي إدْخَالِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْنَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 96 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لِأَنَّ الْقَفِيزَ الْآخَرَ مِنْ الْحِنْطَةِ هُوَ الْغَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْكُرَّانِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ عَلَيْهِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ هُنَا، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ: وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ أَوْ اتَّفَقَا فَهُوَ سَوَاءٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْأَكْثَرِ هُوَ الْغَايَةُ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ مَا يُنْتَقَصُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ عِنْدَهُ مِنْ الْأَفْضَلِ أَوْ آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَإِحْدَى الْغَايَتَيْنِ لَمَّا صَارَ خَارِجًا وَجَبَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِ وَجَعْلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْضَلِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِشَيْءٍ غَيْرِ مُسَمَّى الْمَبْلَغِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُسَمِّيهَا لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَيَقَّنِ دَرَاهِمُ ثَلَاثَةٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُثَنَّى؛ لِأَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لِكَلَامِ الْعَرَبِ مَبَانٍ ثَلَاثَةٌ الْفَرْدُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ التَّثْنِيَةِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ فِي الْمُثَنَّى بِتَعَارُضِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ إنَّمَا يُعَارِضُ فَرْضَ الْمُثَنَّى فَيَغْلِبُ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى مَعْنَى الْمُفْرَدِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ لَزِمَهُ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَأَدْنَى التَّضْعِيفِ مَرَّةٌ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ أَضْعَافَ لَفْظِهِ الْجَمْعُ فَيَصِيرُ تِسْعَةً فَبِالْمُضَاعَفَةِ مَرَّةً يَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مُضَاعَفَةً أَضْعَافًا؛ لِأَنَّ بِالْمُضَاعَفَةِ يَصِيرُ سِتَّةً وَالْأَضْعَافُ جَمْعٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ، فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةٌ يَلْزَمُهُ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَأَضْعَافُهَا ثَلَاثُونَ وَهِيَ غَيْرُ الْعَشَرَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَصَارَتْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 97 أَرْبَعِينَ وَبِالْمُضَاعَفَةِ تَصِيرُ ثَمَانِينَ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ عَشَرَةٍ، فَقَالَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ النِّصَابُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْنِي الْجَوَابَ عَلَى اللَّفْظِ وَهُمَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِاللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا عِشْرُونَ دِينَارًا بِاعْتِبَارِ نِصَابِ الزَّكَاةِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ مَرْكَبَيْنِ غَيْرَ مَعْطُوفَيْنِ وَأَدْنَى الْعَدَدَيْنِ الْمُفَسَّرَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ وَأَدْنَى ذَلِكَ فِي الْمُفَسَّرَيْنِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَكَذَلِكَ الْمُبْهَمُ يُعَبَّرُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الدَّنَانِيرُ وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ حَتَّى إذَا قَالَ: كَذَا وَكَذَا مَحْتُومًا مِنْ حِنْطَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ مَحْتُومًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا وَكَذَا وَكَذَا دِينَارًا لَزِمَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ عَشَرَ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْجَمْعِ بِحَالَةِ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَسَّرَهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْ قَالَ: أَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ إبْهَامِ الْعَدَدَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَعَلَيْهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِمَا عِنْدَ الْوَصْفِ بِالْكَثْرَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا وَقِيلَ مَذْهَبُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بَنَى عَلَى لَفْظِ الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ بَنَى عَلَى حَالِ الْمُقِرِّ فِي الْفَقْرِ وَالْغَنِيِّ فَإِنَّ الْقَلِيلَ عِنْدَ الْفَقِيرِ عَظِيمٌ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَنِيِّ لَيْسَ بِعَظِيمِ وَكَمَا أَنَّ الْمِائَتَيْنِ مَالٌ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَالْعَشَرَةُ مَالٌ عَظِيمٌ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَتَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِهَا فَيَتَعَارَضُ فَيَرْجِعُ إلَى حَالِ الرَّجُلِ، وَعَلَى حَالِهِ يَبْنِي فِيمَا بَيَّنَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيَانُ إلَى الْمُقِرِّ فِي ذَلِكَ فَأَيُّ مِقْدَارٍ بَيَّنَ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ حَصَلَ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَالٌ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِشَيْءٍ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ قَوْلِهِ عَظِيمٌ وَلَوْ قَبِلْنَا بَيَانَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كُنَّا قَدْ أَلْغَيْنَا تَنْصِيصَهُ عَلَى وَصْفِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَالٌ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ قَالَ: وَالدِّرْهَمُ مَالٌ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 98 الْكُسُورِ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَالِ عَلَيْهِ عَادَةً قَالَ الْحَسَنُ لَعَنَ اللَّهُ الدَّانِقَ وَمِنْ دَنَّقَ الدَّانِقَ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ حِنْطَةٌ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ رُبُعُ حِنْطَةٍ فَمَا فَوْقَهُ فَإِنَّ الرُّبُعَ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ فِي الْحِنْطَةِ كَالدِّرْهَمِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنَيِّفٌ فَالْقَوْلُ فِي النَّيِّفِ مَا قَالَ دِرْهَمٌ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُ لِأَنَّ النَّيِّفَ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ يُقَالُ جَبَلٌ مُنِيفٌ إذَا كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْجِبَالِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَنْفُ لِزِيَادَةِ خِلْقَتِهِ فِي الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَشَرَةٌ وَزِيَادَةٌ وَاسْمُ الزِّيَادَةِ يَتَنَاوَلُ الدَّانِقَ وَمَا زَادَ، فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ بِضْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَالْبِضْعَةُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُصَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى سَبْعَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] خَاطَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُرَيْشًا عَلَى أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه «كَمْ تَعُدُّونَ الْبِضْعَ فِيكُمْ قَالَ: مِنْ ثَلَاثٍ إلَى سَبْعٍ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِدْ فِي الْخَطَرِ وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبِضْعَ ثَلَاثَةٌ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ أَوْ لَهُ قِبَلِي شَيْءٌ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وَجِنْسِهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي إقْرَارِهِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا قَلَّ وَكَثُرَ مِنْ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَدَانِقٌ فَالدَّانِقُ فِضَّةٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سُدُسِ الدِّرْهَمِ وَالْمَعْطُوفُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطٌ فَالْقِيرَاطُ مِنْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الدِّرْهَمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْمِائَةِ قَوْلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ فَهُوَ كُلُّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِنْ قَالَ: مِائَةٌ وَعَبْدٌ يَلْزَمُهُ الْعَبْدُ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْمِائَةِ قَوْلُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ الثِّيَابِ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَشَاةٌ أَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ: إنَّهُ أَبْهَمَ الْإِقْرَارَ بِالْمِائَةِ وَقَوْلُهُ " وَدِرْهَمٌ " لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَالْعَطْفُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّفْسِيرِ لُغَةً فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مُفَسَّرًا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيمَا أَبْهَمَ قَوْلَهُ. وَكَذَلِكَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمَانِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ التَّفْسِيرُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا لِحَاجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى التَّفْسِيرِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ وَدِرْهَمٌ بَيَانٌ لِلْمِائَةِ عَادَةً وَدَلَالَةً أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ فَلِأَنَّ النَّاسَ يَحْتَرِزُونَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 99 عَنْ تَطْوِيلِ الْعِبَارَاتِ فَيَأْتُونَ بِهِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الدَّرَاهِمِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ عَدَدٍ وَيَكْتَفُونَ بِذَكَرِهِ مَرَّةً، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَيَكْتَفُونَ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَافِ مَعَ الْمُضَافِ إلَيْهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ، ثُمَّ الْمُضَافُ يُجْعَلُ تَعْرِيفًا لِلْمُضَافِ إلَيْهِ إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُ فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ يُجْعَلُ تَعْرِيفًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُ وَالصَّلَاحِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى جَعَلْنَا الْعَطْفَ فِيهَا تَفْسِيرًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَثَوْبٌ وَشَاةٌ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا إلَّا مَبِيعًا مُسَلَّمًا فِيهِ وَالشَّاةُ لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ أَصْلًا يَعْنِي بِهِ ثُبُوتًا لَازِمًا فَلَمْ يَصْلُحْ قَوْلُهُ وَثَوْبٌ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْمِائَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ عِبَارَةٌ عَمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا ثُبُوتًا صَحِيحًا فَلِهَذَا كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثِّيَابَ وَالْغَنَمَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً يَتَحَقَّقُ فِي أَعْدَادِهَا الْمُجَانَسَةُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُفَسَّرُ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ وَمَا لَا يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لَا يَتَحَقَّقُ فِي أَعْدَادِهِ الْمُجَانَسَةُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُفَسَّرُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَمِائَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ مِنْ الثِّيَابِ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَطَفَ الْعَدَدَ الْمُبْهَمَ عَلَى عَدَدِ مُبْهَمٍ، ثُمَّ فُسِّرَ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنْ الثِّيَابِ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِنْسِهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَتَا مِثْقَالٍ فِضَّةً وَذَهَبًا فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ إلَى الْجِنْسَيْنِ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي التَّوَزُّعَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَاوِي إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِثْقَالٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ فَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِينَارٍ تَامًّا قِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمَثَاقِيلِ هُنَا، فَقَالَ: مِائَتَا مِثْقَالٍ، ثُمَّ فَسَّرَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ مِثْقَالٍ وَهُنَاكَ أَطْلَقَ اسْمَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمُ عِبَارَةٌ عَنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ، ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُعَيِّنُ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ مَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ بِأَيِّ سَبَبٍ أَقَرَّ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِالْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ جِنْسِ الثُّلُثُ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ إلَّا رُبُعًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُ كَلَامُهُ وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ مِنْ كُلِّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 100 وَاحِدٍ النِّصْفُ اعْتِبَارًا لِإِقْرَارِهِ بِبَعْضِ الْقَفِيزِ بِإِقْرَارِهِ بِالْكُلِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ قِبَلِي مَثَاقِيلُ مِنْ مِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ فَعَلَيْهِ لَهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قَفِيزٍ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ. وَإِنْ قَالَ: اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابِ زُطِّيٍّ وَيَهُودِيٍّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ: يَهُودِيٌّ وَزُطِّيَّانِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ يَهُودِيًّا وَالْآخَرُ زُطِّيًّا بَقِيَ الثَّالِثُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ وَصْفَيْنِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ بِالْيَهُودِيِّ فَقَدْ الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ بَيَّنَهُ بِالزُّطِّيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ زُطِّيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ، وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي صَكٍّ، فَقَالَ الْمُقِرُّ عَنَيْتُ أَحَدَهُمَا وَادَّعَاهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ فَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ الْغَائِبِ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الدُّيُونِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً، وَتَصْحِيحُ الْإِقْرَارِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ تَصْحِيحِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ صَحِيحٌ وَتَمْلِيكُهَا ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَذَلِكَ لِلْجِنْسِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ فَيَتَنَاوَلُ جِنْسَ مَالِهِ عَلَى فُلَانٍ نَصًّا فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ " عَنَيْتُ أَحَدَهُمَا " يَكُون رُجُوعًا وَلَوْ غَابَ الْمُقِرُّ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَتَقَاضَى الْمَالَ مِنْ الْغَرِيمِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ لَا بِحَقِّ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الدَّيْنِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَيْهِ فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ حَقَّ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ دَفَعَهُ الْغَرِيمُ إلَيْهِ بَرِئَ كَمَا لَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَفِي الْأَصْلِ عَلَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِقْرَارِ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ فِي هَذَا إبْطَالَ حَقِّ الْغَائِبِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِنِصْفِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِغَيْرِهِ جَازَ وَالْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي يُتَقَاضَى فَيُعْطِي الْمُقَرَّ لَهُ نِصْفَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِغَيْرِهِ جَازَ وَالْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي يُتَقَاضَى فَيُعْطِي الْمُقَرَّ لَهُ نِصْفَ مَا يَسْتَوْفِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ، وَقَالَ: أَدَّيْتُهُ بِغَيْرِ أَمْرِي، فَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لِلْمُقِرِّ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْمَالِ دَيْنًا عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ لِأَدَائِهِ فَلَعَلَّهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكٍ مِنْهُ أَوْ بِأَدَائِهِمَا جَمِيعًا فَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ قَالَ: أَدَّيْتُهُ بِأَمْرِكَ كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَذِنَ لَهُ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 101 ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْمُسْقِطَ، وَهُوَ الْإِذْنُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ تَمْرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ فَأَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ طَعَامِهِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ فَلَهُ نِصْفُ الْحِنْطَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا خَاصَّةً لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا فَإِنَّ بَائِعَهَا يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ وَسُوقُ الطَّعَامِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا خَاصَّةً وَالْإِقْرَارُ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَمُطْلَقُ لَفْظِ الطَّعَامِ فِيهِ يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ دُونَ الشَّعِيرِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ وَوَدِيعَةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِهَا قَرْضًا وَالنِّصْفِ الْآخَرِ وَدِيعَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَرْضٌ وَوَدِيعَةٌ تَفْسِيرٌ لِلْأَلْفِ فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا إذْ هُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مُضَارَبَةٌ وَقَرْضٌ، فَإِنْ وَصَلَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: مِائَةٌ مِنْهَا قَرْضٌ وَتِسْعُمِائَةٍ مُضَارَبَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ، وَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُعْتَبَرًا لِظَاهِرِ لَفْظِهِ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ قِبَلِي كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ الْحِنْطَةُ مَحْتُومٌ وَالشَّعِيرُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَحْتُومًا قُبِلَ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ هِبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ وَلَا يَكُونُ هِبَةً؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَهُوَ لَمْ يَقْبِضْهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُكَ شِيَاهًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى أَرْبَعِينَ شَاةً لِمَا قُلْنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِهِ الْغِنَى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَأَدْنَاهُ أَرْبَعُونَ شَاةً. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُكَ إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَمَّا الْخَمْسَةُ، وَإِنْ كَانَتْ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّهَا قَلِيلَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلِقِلَّتِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهَا وَالْكَثِيرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهِ وَأَدْنَى ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَإِذَا قَالَ: حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ وَقِيلَ: الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحِنْطَةِ أَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْحِنْطَةِ مُطْلَقًا وَبَيَّنَهُ بِالرُّبُعِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، فَإِذَا نَصَّ مِنْهُ عَلَى صِفَةِ الْكَثْرَةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُهُ هَذَا اللَّفْظُ. لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي عِنْدَ فُلَانٍ لِفُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْمُسْتَوْدِعِ، وَلَكِنَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 102 الْمُقِرَّ يَأْخُذُهَا فَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الدَّيْنِ، وَفِي هَذَا بَعْضُ إشْكَالٍ فَإِنَّ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ إلَى صَاحِبِهَا، وَلَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ إقْرَارُهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ لَهُ ثُبُوتُ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مُرْتَهِنًا فِيهِ أَوْ بَائِعًا مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ بِالْيَمِينِ فِي يَدِ الْمُودَعِ فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَى الْمُقِرِّ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْمُسْتَوْدِعُ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ بَرِئَ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْمُحْتَمَلِ لَا يَكُونُ بَلْ بِحَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُقِرِّ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ وَدَائِعُ، فَقَالَ: عَنَيْتُ بَعْضَهَا لَمْ يُصَدَّقْ لِإِدْخَالِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الْوَدِيعَةُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ. فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ مَا اسْتَوْدَعَنِي الْمُقِرُّ شَيْئًا، وَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ اسْتَوْدَعْتهَا إيَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِي فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لَهَا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْإِيدَاعِ هُنَا، وَهُوَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْإِذْنُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ إذَا حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدِعُ قَدْ رَدَدْتهَا إلَى الْمُقِرِّ أَوْ قَالَ: دَفَعْتهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَوْ قَالَ: قَدْ ضَاعَتْ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ فِي ذَلِكَ وَاسْتِحْلَافَهُ الْمُقِرُّ إذَا كَانَ أَوْدَعَهُ بِإِذْنِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ إلَيْهِ فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ لَهُ مَعَ الْمُودِعِ فِي الِاسْتِحْلَافِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسْأَلَةً أُخْرَى إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِ سَوَاءٌ فَسَّرَهُ بِمَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ أَوْ لَا يَتَفَاوَت. وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ غَيْرُ الْأَلْفِ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ غَيْرُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ اسْمٌ لِمَا يُقَابِلُ الشَّيْءَ فَيُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فِيهِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ إنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ آخَرَ، وَفِي الْأَلْفِ بِأَلْفٍ آخَرَ، وَفِيمَا دُونَهُ لَا يَتَغَيَّرُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَتِسْعُمِائَةٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمُغَايَرَةُ بِأَلْفٍ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ أَلْفَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِكَذَا لَا بَلْ كَذَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ، فَقَالَ: عَلَيَّ لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ خَمْسُمِائَةٍ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خَمْسُمِائَةٍ لَا بَلْ أَلْفٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَرُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ وَاخْتِيَارُهُ بِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، فَإِذَا قَالَ: خَمْسُمِائَةٍ لَا بَلْ أَلْفٌ فَقَدْ اسْتَدْرَكَ الْغَلَطَ بِالْتِزَامِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَلْفٌ، وَإِذَا قَالَ: أَلْفٌ لَا بَلْ خَمْسُمِائَةٍ فَقَدْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 103 قَصَدَ الِاسْتِدْرَاكَ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَلْفِ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِيضٍ لَا بَلْ سُودٍ أَوْ قَالَ: سُودٌ لَا بَلْ بِيضٌ أَوْ قَالَ: جَيِّدٌ لَا بَلْ رَدِيءٌ أَوْ رَدِيءٌ لَا بَلْ جَيِّدٌ فَعَلَيْهِ أَفْضَلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَقَعُ فَاسْتِدْرَاكُهُ بِالْتِزَامِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ صَحِيحٌ وَرُجُوعُهُ عَنْ وَصْفِ الْتِزَامِهِ بَاطِلٌ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِينَارٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَدِينَارٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ وَالْغَلَطُ لَا يَقَعُ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ عَادَةً فَرُجُوعُهُ عَنْ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَالْتِزَامُهُ الثَّانِيَ صَحِيحٌ وَمَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا قَدْ تَنَاوَلَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصِفَتِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ إلْحَاقُ الْوَصْفِ بِالْأَصْلِ وَهُنَا الْمُرَادُ الْتِزَامُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ شَعِيرٍ فَعَلَيْهِ الْكُرَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: قَفِيزُ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ لَا بَلْ رَدِيءٌ أَوْ رَدِيءٌ لَا بَلْ جَيِّدٌ فَهُوَ قَفِيزٌ جَيِّدٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَحْتُومٌ مِنْ دَقَلٍ لَا بَلْ فَارِسِيٍّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَحْتُومُ دَقِيقٍ رَدِيءٍ لَا بَلْ حَوَارِيٍّ فَهُوَ حَوَارِيٌّ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ الْكَلَامَ الثَّانِيَ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالْتِزَامِ زِيَادَةِ وَصْفٍ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ رَطْلٌ مِنْ بَنَفْسَجٍ لَا بَلْ حَبْرِيٍّ لَزِمَاهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ رَطْلٌ مِنْ سَمْنِ الْغَنَمِ لَا بَلْ مِنْ سَمْنِ الْبَقَرِ فَعَلَيْهِ الرَّطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مُخْتَلِفٌ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّانِي مُكَاتَبًا لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ أَوْ عَبْدًا تَاجِرًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَتَحَقَّقَ إقْرَارُهُ بِشَخْصَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ فِي الْحَالِ، وَفِيمَا لِلْعَبْدِ هُوَ الْمُطَالَبُ دُونَ الْمَوْلَى فَكَانَ إقْرَارُهُ بِشَخْصَيْنِ فَيَكُونُ رُجُوعًا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَفِي قَوْلِهِ لَا بَلْ لِعَبْدِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ كَلَامِهِ فِي أَنَّ لِعَبْدِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَنِيهَا لَا بَلْ فُلَانٌ بَاعَنِيهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَنَّ مُبَايَعَةَ الثَّانِي مَعَهُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْمُكَاتَبَةِ لِلنِّيَابَةِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هُوَ رَاجِعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 104 مِنْهُمَا أَلْفٌ لِإِقْرَارِهِ بِتَقَرُّرِ بَيِّنَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقِرَّ الثَّانِي أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ أَلْفَانِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاجِعٍ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِهِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلثَّانِي، وَهَذَا وَفَصْلُ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِيضٍ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ سُودٍ فَأَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْهُ دِرْهَمًا أَبْيَضَ لَا بَلْ أَسْوَدَ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ دِرْهَمَيْنِ وَأَبَى أَلْزَمَ الطَّالِبَ الدِّرْهَمَ الْأَبْيَضَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَفْضَلُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ وَمِائَةٌ فِي صَكٍّ آخَرَ، فَقَالَ: قَبَضْتُ مِنْكَ عَشَرَةً مِنْ هَذَا الصَّكِّ لَا بَلْ مِنْ هَذَا وَهِيَ عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ فَعَلَى قِيَاسِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَجْعَلُهَا مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ الَّذِي قَضَاهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ فَالِاخْتِيَارُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ إلَيْهِ وَتَتَبَيَّنُ فَائِدَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَفِيلٌ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَقَالَ: قَبَضْتُ مِنْكَ دِينَارًا لَا بَلْ دِرْهَمًا لَزِمَاهُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: قَبَضْتُ مِنْ هَذَا عَشَرَةً لَا بَلْ مِنْ هَذَا لَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ لِاخْتِلَافِ الْمُقَرِّ لَهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَفِيلًا بِذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مِنْ كُلِّ كَفِيلٍ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ لِذَلِكَ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرُّ لَهُ مُخْتَلِفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: دَفَعْتَ إلَيَّ مِنْهَا مِائَةً بِيَدِكَ لَا بَلْ أَرْسَلْتَ بِهَا لِي مَعَ غُلَامِكَ فَهِيَ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَرْسَلْتُ بِهَا إلَيْكَ مَعَ فُلَانٍ وَثَوْبٌ بِعْتُكَهُ بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ الطَّالِبُ: قَدْ صَدَقْتُ فَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ هَذَا تَقْرِيرٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ قَابِضٌ مِنْهُ مَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِ رَسُولُهُ وَقَابِضٌ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْبِضَ حَقَّهُ فَقَبَضَ بِهَذَا الطَّرِيق بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَالْبَيَانُ الْمُقَرَّرُ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ مَقْبُولٌ مِنْ الْمُبِينِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَرْسَلْت بِهَا إلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهَذَا أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْجِهَةِ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ. وَلَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ، فَقَالَ: قَدْ قَبَضْتُ مِنْكَ مِائَةً لَا بَلْ مِنْ كَفِيلِكَ لَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ؛ لِأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْكَفِيلِ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ بِخِلَافِ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْأَصِيلِ فَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ مُخْتَلِفًا فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْمَالَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 105 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ لِلْمُقِرِّ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ آخَرُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ فَهِيَ لِفُلَانٍ فَلَوْ ادَّعَى الْأَلْفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ أَوَّلًا حِينَ الْإِقْرَارِ بِوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ ثُمَّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي حَصَلَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهِ بِيَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا وَالْمَالُ لِلدَّافِعِ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ بَرِئَ مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ فَإِنَّ الْمُودَعَ مِنْ الْغَاصِبِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ مِنْ الْمَالِكِ. وَإِذَا قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْيَدِ لِلثَّانِي لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، فَإِنْ ادَّعَاهَا الدَّافِعُ فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ لِفُلَانٍ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ أَنَا. وَإِنْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّكَ دَفَعْتَهَا إلَيَّ، وَلَكِنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِفُلَانٍ، وَقَدْ رَدَدْتَهَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهَا مَا هِيَ لِفُلَانٍ ضَمِنَ الْمُقَرُّ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ أَمَّا إذَا كَانَ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا إقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمَالَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الثَّانِي، فَإِذَا دَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِتَبَيُّنِ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ مَا أَتْلَفَ عَلَى الثَّانِي شَيْئًا وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي الدَّفْعِ بَلْ الْقَاضِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ فَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِلْأَوَّلِ سَلَّطَ الْقَاضِيَ عَلَى هَذَا الْقَضَاءِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا مِنْ الثَّانِي وَالْمُودَعُ بِهَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ آخَرُ فَادَّعَيَاهَا فَهِيَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهَا أَوَّلًا لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهَا وَلِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ أَلْفًا مِنْ الثَّانِي بِحُجَّةِ الْقَرْضِ وَالْقَبْضُ بِحُجَّةِ الْقَرْضِ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمَقْبُوضِ عَلَى الْقَابِضِ. وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدٌ، فَقَالَ: هُوَ لِفُلَانٍ بَاعَنِيهِ فُلَانٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْآخَرِ فِي بَيْعِهِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ لَهُ وَيَقْضِي بِالْيَمِينِ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشِرَائِهِ مِنْ الثَّانِي وَيَثْبُتُ هَذَا السَّبَبُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ تَامٌّ يَقْبِضُهُ فَيَقْضِي لَهُ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ قَالَ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 106 وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ الْقَرْضُ وَالْبَيْعُ الْوَدِيعَةُ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ عَلَى ظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِجَوَابٍ وَاحِدٍ وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الدَّافِعِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَدِيعَةِ قَالَ: إذَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَغْرَمْ لِلثَّانِي، وَفِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَرْضِ الْوَدِيعَةِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلثَّانِي مَا لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ، وَفِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ الْمَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِلثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا، وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ وَالْمُبَايَعَةَ سَبَبَا ضَمَانٍ بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لِفُلَانٍ غَصَبَهُ فُلَانٌ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَلَا يَقْضِي لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ شَاهِدٌ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لِلثَّانِي وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي لَفْظِ السُّؤَالِ لِفُلَانٍ غَصْبُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغَصْبِ لِلثَّانِي وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لِلْأَوَّلِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ فُلَانٍ غَصَبْتُهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ وَادَّعَى الصَّبِيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَضَى بِهِ لِلْأَبِ، وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ فُلَانٍ أَرْسَلَ بِهِ إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ كَانَ الِابْنُ لِلْأَوَّلِ إذَا ادَّعَاهُ دُونَ الرَّسُولِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ، وَفِي جَمِيعِ هَذَا إنْ ادَّعَى الرَّسُولُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُقِرِّ مِثْلُهُ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ وَتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ مَا خَلَا الِابْنَ، فَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ يَدٌ مُوجِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ فَعَلَى الْمُقِرِّ قِيمَتُهُ لِلرَّسُولِ إذَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ لِصِغَرِهِ يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدٌ مُوجِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ وَدِيعَةً وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ قَالَ: الْأَوَّلُ لَيْسَتْ لِي، وَلَمْ أُرْسِلْ بِهَا فَهِيَ لِلرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ يَدِ الرَّسُولِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 107 لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّسُولِ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا فِيمَا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَحَقُّ الْغَائِبِ فِيهَا ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ مُصَدِّقًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ فَقَدْ انْتَهَتْ الرِّسَالَةُ بِإِيصَالِ الْمَالِ إلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ الْخَيَّاطُ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لِفُلَانٍ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ فِي حَقِّ الثَّانِي فَإِنَّ إسْلَامَهُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّسَالَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصُّنَّاعِ. وَلَوْ كَانَ إقْرَارُهُ بِهَذَا الثَّوْبِ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ لِيَقْطَعَهُ قَمِيصًا، وَهُوَ لِفُلَانٍ وَادَّعَيَاهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهِ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ، وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةٍ أَوَّلَ الْبَابِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: دَفَعَهُ إلَيَّ فُلَانٌ، وَهُوَ لِفُلَانٍ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ فُلَانٍ فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ مَعَ فُلَانٍ فَهُوَ لِلَّذِي أَعَارَهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ لِلْمُعِيرِ الَّذِي اسْتَعَارَهُ مِنْهُ دُونَ الَّذِي أَوْصَلَهُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّسَالَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا أَتَاهُ بِهَذَا الثَّوْبِ عَارِيَّةً مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ فَادَّعَاهُ فَهُوَ لِلرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَوَّلًا بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَذَلِكَ يُلْزِمُهُ الرَّدَّ عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِضَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا، فَقَالَ فُلَانٌ: أَخَذْتَ مِنِّي هَذَا الْمَالَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَرُدَّهُ عَلَيَّ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا وَكُنَّا نَقُولُ الِاقْتِضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ يَسْتَوْفِي مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ مِثْلَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ وَالْقَبْضُ الْمَضْمُونُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِدَعْوَاهُ، وَلَكِنْ يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ، فَإِذَا جَانَبَ لَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ وَدِيعَةً لَهُ عِنْدَهُ أَوْ هِبَةً وَهَبَهَا لَهُ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ مَالِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 108 قَبَضْتَهُ مِنِّي فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ، وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَى مِنْ الْحَقِّ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ قَالَ: أَسْكَنْتُ بَيْتِي فُلَانًا هَذَا، ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إلَيَّ وَادَّعَى السَّاكِنُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى السَّاكِنِ الْبَيِّنَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُصُولِ الْبَيْتِ إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَةِ السَّاكِنِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ فِيهِ مِلْكًا قَدِيمًا، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ كَمَا فِي الْفَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَا أَقَرَّ لِلسَّاكِنِ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ فِي الْبَيْتِ إنَّمَا أَخْبَرَ بِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ بِنَاءً عَنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ السَّاكِنِ تُبْنَى عَلَى الْمَسْكَنِ وَالْحُكْمُ لِلْيَدِ الْأَصْلِيَّةِ لَا لِمَا هُوَ بِنَاءٌ فَلَمْ يَصِرْ مُقِرًّا بِمَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَقَرَّ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ كَانَتْ لَهُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَقَرَّ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَالَ مِنْ فُلَانٍ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ كَانَتْ لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْمَالِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِهِ كَانَتْ لِي عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ بِنَاءً بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ أَصْلِيَّةً فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْإِعَارَةَ بَيْنَ النَّاسِ مَعْرُوفَةٌ، وَفِي الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ هُنَا قَطْعُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ عَنْ النَّاسِ لِأَنَّ الْمُعِيرَ يُتَحَرَّزُ عَنْ الْإِعَارَةِ لِلسُّكْنَى إذَا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِرْدَادِ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ لِتَوْفِيرِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّابَّةُ أَعَرْتهَا فُلَانًا، ثُمَّ قَبَضْتهَا مِنْهُ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لِي أَعَرْتُهُ فُلَانًا، ثُمَّ قَبَضْتُهُ مِنْهُ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصَهُ هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ مِنْهُ الْقَمِيصَ، وَقَالَ الْخَيَّاطُ هُوَ قَمِيصِي أَعَرْتُكَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْأُولَى. وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ أُسْلِمَ إلَى الصَّبَّاغِ. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ خَاطَ لِي الْخَيَّاطُ قَمِيصِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْتُهُ مِنْهُ فَفِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْخَيَّاطِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِيَدِ الْخَيَّاطِ هُنَا فِي الثَّوْبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخِيطُ الثَّوْبَ، وَهُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ بِأَنْ كَانَ أَجِيرًا وُجِدَ فِي بَيْتِهِ يَعْمَلُ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ. وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ مَعْرُوفًا أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ أَوْ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّارُ، فَقَالَ: أَعَرْتُهُ فُلَانًا وَقَبَضْتُهُ مِنْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ مَعْرُوفٌ لِلْمُقِرِّ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدَ الْيَدِ فِيهِ لِغَيْرِهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا أَقَرَّ الْخَيَّاطُ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ لِيَخِيطَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 109 - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخِلَافِيَّاتِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ يَدَ الَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ بِنَاءً لَا ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّ مَشَايِخَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِسْكَانِ أَوْ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُؤْتَمَنٌ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمَا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ فَيَضْمَنُ الثَّوْبَ الَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَذَكَرَ أَيْضًا فِيمَا إذَا قَالَ: هَذَا الْمَالُ لِفُلَانٍ أَرْسَلَ بِهِ إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ وَدِيعَةً أَنَّ الْمَالَ لِلْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلرَّسُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِيَدٍ هِيَ بِنَاءٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلثَّانِي لِمَا أَقَرَّ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ، قَالَ فِي أَحَدِهِمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلدَّافِعِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي الثَّانِي قَالَ: عَلَيْهِ مِثْلُهُ لِلدَّافِعِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا سَكَنَ هَذَا الْبَيْتَ فَادَّعَى فُلَانٌ الْبَيْتَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلسَّاكِنِ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تُثْبِتُ الْيَدَ لِلسَّاكِنِ عَلَى الْمَسْكَنِ وَإِقْرَارُهُ بِالْيَدِ لِلْغَيْرِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ أَوْ الْبُسْتَانَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، فَقَالَ: كُلُّهُ لِي وَاسْتَعَنْتُ بِكَ فَفَعَلْتَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلْتَهُ بِأَجْرٍ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هُوَ مِلْكِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لِلْحَالِ ظَاهِرَةٌ، وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّرَاعَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا يُوجِبُ الْيَدَ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَفْعُولِ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ الْمُعِينُ وَالْأَجِيرُ وَالْمُعِينُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ خَاطَ لِي الْقَمِيصَ سَوَاءٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ الَّذِي بَيَّنَّا فِيمَا إذَا قَالَ لِمُعْتَقِهِ أَخَذْتُ مِنْكَ مَالًا قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ قَطَعْتُ يَدَكَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَإِنَّمَا أَعَادَهَا لِفُرُوعٍ، فَقَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بَلْ فَعَلْتُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهِ لِلْمُتَمَلِّكِ كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمُعْتَقِ فِي نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدًا. وَلَوْ قَالَ: قَطَعْتُ يَدَهُ، ثُمَّ بِعْتُهُ أَوْ وَهَبْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَطْعِ قَبْلَ ظُهُورِ بَيْعِهِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْبَيْعِ بِإِقْرَارِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَطْعِ سَابِقًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 110 إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هِبَتِهِ أَوْ بَيْعِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ بِهَذَا فَيَكُونُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً، ثُمَّ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْكِ هَذَا الْوَلَدَ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَقَالَتْ بَلْ أَخَذْتَهُ مِنِّي بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَالِ الْقَائِمِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ يُصَدَّقُ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي حُرِّيَّتِهِ قَوْلُهَا وَلَوْ لَمْ يَقُلْ أَخَذْتُهُ مِنْكِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَعْتَقْتُكِ بَعْدَ مَا وَلَدْتِيهِ، وَقَالَتْ بَلْ أَعْتَقْتَنِي قَبْلَ أَنْ أَلِدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِيَدٍ فِيهِ لَهَا مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهَا، وَلِأَنَّهَا تَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي الْعِتْقِ حِينَ ادَّعَتْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْعِتْقُ فِعْلٌ حَادِثٌ مِنْ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِيهِ، وَلِأَنَّ عِتْقَهَا ظَهَرَ فِي الْحَالِ وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا وَعِتْقُهَا غَيْرُ مُوجِبٍ الْعِتْقَ لِلْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ يَدَهَا تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي الْحَالِ، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّتِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا فَأَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا، وَهُوَ عَبْدٌ، وَقَالَ الْعَبْدُ أَخَذْتَهَا مِنِّي بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ يَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي قَبْضِهِ وَالتَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ أَخْذُهُ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَالَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَوْلَى فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيَبْقَى الْمَالُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ وَاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهِ لِحَقِّهِ كَالْعِتْقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ عِنْدَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ غَصَبْتَهُ، وَهُوَ عِنْدِي فَالْمَالُ لِلْآخَرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَكَمَا لَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ هُنَاكَ، وَفِيمَا يَدَّعِي مِنْ سَبْقِ التَّارِيخِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ فَقَأَ عَيْنَ فُلَانٍ عَمْدًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ عَيْنُ الْفَاقِئِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ بَلْ فَقَأْتَ عَيْنِي وَعَيْنُكَ ذَاهِبَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَفْقُوءِ عَيْنُهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً وَقْتَ الْفَقْءِ فَالْوَاجِبُ قِصَاصٌ، وَهُوَ فِيهَا وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ ذَاهِبَةً فَالْوَاجِبُ الْأَرْشُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ وَادَّعَى الْفَاقِئُ مَا يُسْقِطُهُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْفَقْءِ وَالتَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا أُعْتِقَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ خَطَأً، وَهُوَ عَبْدٌ، وَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَتَلْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ فِي هَذَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَإِنَّ جِنَايَتَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 111 لَا تُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَوْلَاهُ فِي الْحَالِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَهْرِ أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ لَزِمَهُ وَلَزِمَ صَاحِبَهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَلْزَمُهُ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَا قَوْلَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَجِبُ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ يَبْقَى إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ كَفَالَةَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَوْ إقْرَارَهُ بِالْكَفَالَةِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمَا فَهَذَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لِفُلَانٍ فَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهُ وَالطَّالِبُ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ كَانَ فِي الشَّرِكَةِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمُطْلَقِ الدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَفِيمَا هُوَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى شَرِيكِهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ إذَا أَكْذَبَهُ الطَّالِبُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْإِسْنَادِ لَزِمَ الْمُقِرَّ الْمَالُ بِإِقْرَارِهِ وَلَزِمَ شَرِيكَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ شَرِيكِهِ قَبْلَ الشَّرِكَةِ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِكَةِ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَمْ يُؤْخَذْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِدَيْنِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمُفَاوَضَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا فِيمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ لَا فِيمَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهَا. وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ لِفُلَانٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَالَ لِفُلَانٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْمُقَرِّ لَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ وَهُمَا بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي أَسْبَابِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَفَرَّقَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا فِي الشَّرِكَةِ لَزِمَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْنَادِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَيَبْقَى مُلْتَزِمًا الْمَالَ فِي الْحَالِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ يُوجِبُ كَفَالَةَ صَاحِبِهِ عَنْهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ فِي الْحَالِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ إنْ ادَّعَاهُ الطَّالِبُ. وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِمَا مَالًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 112 الْآخَرُ أَنْ يَحْلِفَ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ عَنْ الْيَمِينِ كَإِقْرَارِهِ وَلِأَنَّ حَلِفَ أَحَدِهِمَا لَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى لَهُمَا عَلَى إنْسَانٍ فَاسْتَحْلَفَ أَحَدُهُمَا الْمَطْلُوبَ فَحَلَفَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ تُجْزِئُ، وَفِي الْحَلِفِ لَا تُجْزِئُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْحَالِفُ مِنْهُمَا نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ مَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَمَّا بَعْدَ مَا اسْتَحْلَفَ أَحَدُهُمَا الْمَطْلُوبَ كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ إيَّاهُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ يَحْلِفُ لَا مَحَالَةَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِابْنِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُوجَبُ لَهُمْ عَلَى الْغَيْرِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا فِي الْمُكَاتَبِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَبِيعُ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَجَحَدَهُ رَبُّ الْمَالِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُضَارِبُ مُسْتَنِدٌ لِمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ فِيهَا بِأَجْرِ أَجِيرِ أَوْ أَجْرِ دَابَّةٍ أَوْ حَانُوتٍ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِإِنْشَاءِ سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ الدُّيُونِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ رَأْسِ مَالِكَ فَاقْبِضْهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ إنَّمَا يَكُونُ سَالِمًا لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إذَا فَرَغَ عَنْ الدَّيْنِ فَكَانَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ مُقِرًّا بِأَنَّهُ لَا دَيْنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ انْتَهَى فِيمَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُضَارِبُ إنْشَاءَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ رَجُلَيْنِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرَبِحَا أَلْفًا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ لِفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ الْأَلْفُ كُلُّهَا رِبْحٌ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُصَدَّقُ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِمَّا فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ فَإِنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ شَائِعَةٍ فِي الْكُلِّ وَنِصْفُهَا فِيمَا فِي يَدِهِ وَنِصْفُهَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ صَحِيحٌ، وَفِيمَا فِي يَدِ الْآخَرِ بَاطِلٌ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 113 فَيَدْفَعُ هُوَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَيُقَسِّمُ مِثْلَهَا بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا بَلْ هِيَ لِفُلَانٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ لِأَبِيهِ أَوْ لِابْنِهِ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُضَارِبِ لِهَؤُلَاءِ صَحِيحٌ وَلِإِنْشَائِهِ التَّصَرُّفَ مَعَهُمْ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِرِبْحِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: غَلِطْت إنَّمَا هُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يُصَدَّقْ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَلِأَنَّهُ جَاحِدٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ بِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ رِبْحًا، وَهُوَ أَمِينٌ فِي الرِّبْحِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ بِالْجُحُودِ. وَإِنْ بَقِيَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، فَقَالَ: هَذَا رِبْحٌ، وَقَدْ دَفَعْت رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ أَمَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ رَبُّ الْمَالِ بِدَعْوَى الْمُضَارِبِ، فَإِنْ حَلَفَ يَأْخُذُ مَا فِي يَدِهِ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ. وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: فُلَانٌ شَرِيكِي مُفَاوَضَةً، فَقَالَ: نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ قَالَ: صَدَقَ أَوْ قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ أَوْ قَالَ: هُوَ صَادِقٌ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي كُلِّ مَالٍ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى مِنْ الْجَوَابِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ مُعَادًا فِيهِ حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ تَصَادُقُهُمَا عَلَى شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَالثَّابِتُ بِاتِّفَاقِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَفْظُ الشَّرِكَةِ يُوجِبُ ذَلِكَ الْإِطْعَامَ مِثْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِسْوَتِهِ وَكِسْوَةِ أَهْلِهِ فَلِمَنْ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَكِنْ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِمَّا هُوَ مُوجَبُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةِ الْمُفَاوَضَةِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَهُمْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إلَّا الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ. وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ بِإِقْرَارِهِمَا. وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مُدَبَّرَتُهُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَالْمُدَبَّرَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلتِّجَارَةِ وَمُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَالٍ قَابِلٍ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا قَدْ كَاتَبَهُ قَبْلَ إقْرَارِهِ فَمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَقَبَةَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 114 الْمُكَاتَبِ لَا تَصِيرُ مِيرَاثًا وَمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ لِلْآخَرِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَثْبُتُ فِي الرَّقَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ قَبْلَ عَجْزِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هُوَ مُفَاوِضِي فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يُضَافُ إلَيْهِمَا تَارَةً وَإِلَى أَحَدِهِمَا أُخْرَى وَثُبُوتُ حُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى أَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُفَاوِضَيْنِ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ مَعَهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ، وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ فَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِهِ كَإِقْرَارِهِمَا فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ. وَإِذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ لِمُسْلِمٍ بِالْمُفَاوَضَةِ أَوْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونَانِ مُتَفَاوِضَيْنِ، وَلَكِنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِي أَنْوَاعِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ إنْشَاءُ هَذَا الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا مَا أَقَرَّا بِهِ فَمُوجَبُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَوْنُ مَا بِيَدِهِمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَمَا فِي يَدِهِمَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلُ الْمُفَاوَضَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابْتِدَاءُ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ يَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ لِعَبْدٍ مَأْذُونٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُ مُفَاوَضَةً أَوْ أَقَرَّ بِهِ لِمُكَاتَبٍ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ وَلَا وَدِيعَةٍ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ إقْرَارِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلَمْ تَصِحَّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ لِصَبِيٍّ تَاجِرٍ بِالْمُفَاوَضَةِ أَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ لِصَبِيٍّ تَاجِرٍ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَمَا فِي أَيْدِيهِمَا بَيْنَهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا تَثْبُتُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ مُوجَبَ الْمُفَاوَضَةِ الْكَفَالَةُ الْعَامَّةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِالشَّرِكَةِ مُفَاوَضَةً وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ مُبْطِلٌ لِلْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ أَنَا شَرِيكُكَ فِيمَا فِي يَدِكَ غَيْرَ مُفَاوَضَةٍ وَلَسْتَ شَرِيكِي فِيمَا فِي يَدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 115 وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي إقْرَارِهِ وَكَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ فَيَثْبُتُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ فِي إنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْجِهَةِ لَا يُوجِبُ تَكْذِيبَهُ فِي أَصْلِ الْمَالِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هِيَ غَصْبٌ يَلْزَمُهُ الْمَالُ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ الْمُفَاوَضَةِ بِتَكْذِيبِهِ انْتِفَاءُ الشَّرِكَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِذَا أَقَرَّ لِصَبِيٍّ لَا يَتَكَلَّمُ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَصَدَّقَهُ أَبُوهُ كَانَ مَا فِي يَدِ الرَّجُلِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ التَّصْدِيقُ مِنْ أَبِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونَانِ مُتَفَاوِضَيْنِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ. وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ شَرِيكُ فُلَانٍ فِي قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَقَالَ فُلَانٌ نَعَمْ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّرِكَةِ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِمَا حِينَ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ عَقْدَ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَهُمَا لَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً إلَّا أَنْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنْ النَّاسِ قَلَّمَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ لِيَذْكُرُوا ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ التَّنْصِيصَ مِنْهُمَا عَلَى لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ مَقَامَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَ عَقْدُ الْإِنْشَاءِ لَا يُثْبِتُ الْمُفَاوَضَةَ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِلَفْظِهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي التِّجَارَاتِ كَانَ مَا فِي يَدِهِمَا مِنْ مَتَاعِ التِّجَارَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَسْكَنٌ وَلَا كِسْوَةٌ وَلَا طَعَامٌ؛ لِأَنَّ التَّصَادُقَ مِنْهُمَا كَانَ مُقَيَّدًا بِمَالِ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَصَادَقَا هُنَاكَ فِي الشَّرِكَةِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الدَّارَ وَالْخَادِمَ وَغَيْرَهُمَا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِمَا دَارٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ تِجَارَتِنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلِأَنَّ التَّصَادُقَ مِنْهُمَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا بِصِفَةِ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا حَصَلَ خَاصًّا فِي مَتَاعِ التِّجَارَةِ، وَالسَّبَبُ مَتَى كَانَ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ التِّجَارَةِ لَا يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ هَذَا مَالٌ فِي يَدِي مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ أَصَبْتُهُ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ جَائِزَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ لِإِنْسَانٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ مِنْ الشَّرِكَةِ أَوْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 116 كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ كَانَ فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُمَا خُلِقَا لِذَلِكَ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِقَدْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلشَّرِكَةِ فِيهِ فَهُوَ يُرِيدُ إخْرَاجَهُ مِنْ الشَّرِكَةِ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِقْرَارُ بِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ فِي التِّجَارَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ الَّتِي بَيْنَنَا، وَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِي قَبْلَ الشَّرِكَةِ كَانَ الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بِثُبُوتِ التِّجَارَةِ فِيهِ صَارَ الْإِقْرَارُ بِالشَّرِكَةِ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إخْرَاجِهِ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِقْرَارُ. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: عَنَيْتُ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ فِي بَيَانِهِ تَقْرِيرًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ لَا تَغْيِيرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالشَّرِكَةِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَحَلٍّ لَا يُثْبِتُ مِنْ الْمَالِ إلَّا قَدْرَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهُمَا إلَّا بِهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَتَحَقَّقُ لَهُمَا بِالشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيُثْبِتُ الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي تِجَارَةِ الزُّطِّيِّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ إقْرَارَهُ بِمَحَلٍّ سَمَّاهُ وَتَقْيِيدُ الْمُقِرِّ إقْرَارَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ صَحِيحٌ. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ تِجَارَةٍ، وَقَالَ فُلَانٌ: أَنَا شَرِيكُكَ فِيمَا فِي يَدِكَ وَلَسْتَ بِشَرِيكِي فِيمَا فِي يَدِي كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَكَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَانُوتٌ، فَقَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِيمَا فِي هَذَا الْحَانُوتِ، ثُمَّ قَالَ: أَدْخَلْتُ هَذَا الْعِدْلَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِي قَالَ: لِأَنَّ الْحَانُوتَ وَمَا فِي الْحَانُوتِ مَعْلُومٌ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِ الْمُقِرِّ فِي مَعْرِفَةِ مَا أَقَرَّ بِهِ بِتَعْيِينِهِ مَحَلَّهُ، وَهُوَ الْحَانُوتُ فَلَا يَبْقَى لَهُ قَوْلٌ فِي الْبَيَانِ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا يُوجَدُ فِي الْحَانُوتِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إلَّا مَا يُثْبِتُ بِالْحُجَّةِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَ غَيْرَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَقَالَ: قَدْ حَدَثَ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَجَبَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا فِي يَدِي مُشْتَرَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ لِمَتَاعٍ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّهُ حَدَثَ فِي يَدِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِهِ هُنَاكَ فَإِنَّ مَا فِي يَدِهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيَانَهُ مَقْبُولًا فِيهِ وَأَوْرَدَ مَسْأَلَةَ الْحَانُوتِ بَعْدَ هَذَا وَأَجَابَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 117 فِيهَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ جَمِيعُ مَا فِي يَدِي بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ إقْرَارَهُ تَقَيَّدَ بِمَحَلٍّ خَاصٍّ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْحَانُوتِ وَقْتَ إقْرَارِهِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْقَيْدُ بِالْحُجَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْحَانُوتِ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَانُوتِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ تِجَارَةٍ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فُلَانٌ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَفِي يَدِهِ مَالٌ، فَقَالَ وَرَثَتُهُ هَذَا مَالٌ اسْتَفَادَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَلَوْ قَالَ: هُوَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِمَالٍ فِي يَدِهِ إنَّهُ حَادِثٌ فِي يَدِي مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ أَقَرُّوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا أَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ فَهُوَ مِنْ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ بِهَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَإِقْرَارِهِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ صَكٌّ بِاسْمِهِ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ تَارِيخُهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ الصَّكِّ بَعْدَ الشَّرِكَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَبُ فِي الصَّكِّ تَارِيخُ وُجُوبِ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنْ كَانَ هَذَا دَيْنًا حَدَثَ وُجُوبُهُ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ وَحَاجَتُهُمْ إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِهَذَا. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي الطَّحْنِ، وَفِي يَدِ الْمُقِرِّ رَحًا وَإِبِلٌ وَمَتَاعُ الطَّحَّانِينَ فَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الشَّرِكَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ اسْمٌ لِلْعَمَلِ دُونَ الْآلَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ كَوْنُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْآلَاتِ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ فِي الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَامِلٍ فِي يَدِهِ حَانُوتٌ، وَفِيهِ مَتَاعٌ مِنْ مَتَاعِ عَمَلِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِفُلَانٍ فِي عَمَلِ كَذَا فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ دُونَ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ أَوْ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا صَرَّحَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ شَرِيكِي فِي هَذَا الْحَانُوتِ فِي عَمَلِ كَذَا فَكُلُّ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ الْحَانُوتِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مَحَلًّا، وَهُوَ الْحَانُوتُ، وَذَكَرَ الْعَمَلَ لِتَقْيِيدِ الْإِقْرَارِ بِمَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَمَا كَانَ فِي الْحَانُوتِ مِنْ مَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ إقْرَارُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الْحَانُوتُ وَمَا فِيهِ فِي أَيْدِيهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا فُلَانٌ شَرِيكِي فِي عَمَلِ كَذَا، فَأَمَّا الْمَتَاعُ فَهُوَ لِي، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ الْمَتَاعُ بَيْنَنَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِمَا عَلَى الْحَانُوتِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُمَا عَلَى مَا فِي الْحَانُوتِ فَكَانَ فِي قَوْلِهِ الْمَتَاعُ لِي مُدَّعِيًا لِلنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 118 بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْحَانُوتَ هُنَاكَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ اشْتَرَيْتُهُ، وَفِي يَدِهِ عِدْلَانِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَحَدَهُمَا وَوَرِثْتُ الْآخَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْمُقَرَّ بِهِ بِالزُّطِّيِّ الْمُشْتَرَى فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْوَصْفُ فِي مَحَلٍّ لَا يَتَنَاوَلُ إقْرَارُهُ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هُوَ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ عِنْدِي لِلتِّجَارَةِ، ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَيْتُ أَحَدَهُمَا مِنْ خَاصِّ مَالِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ فِي الزُّطِّيِّ لَا يَجْعَلُ الْمُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ بِدُونِ النِّيَّةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ التِّجَارَةَ وَنِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا قَيَّدَ الْإِقْرَارَ بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا فِي يَدِهِ لِلتِّجَارَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِنْ خَاصَّةِ مَالِي لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّرِكَةِ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إخْرَاجِهِ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ قَدِمَ لِي مِنْ الْأَهْوَازِ أَمْسِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْأَعْدَالَ الْعَشَرَةَ قَدِمَتْ لَهُ مِنْ الْأَهْوَازِ أَمْسِ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ خَاصَّةِ مَالِي وَالْآخَرُ بِضَاعَةُ فُلَانٍ، وَقَالَ الشَّرِيكُ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الشَّرِكَةِ فَالْكُلُّ مِنْ الشَّرِكَةِ لِثُبُوتِ الْوَصْفِ الَّذِي قَيَّدَ الْإِقْرَارَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَالِ بِإِقْرَارِهِ إلَّا أَنَّ الْعِدْلَ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ يُصَدَّقُ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْهُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِغَيْرِهِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَيَضْمَنُ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ نِصْفَ قِيمَةِ هَذَا الْعِدْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا بِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ وَإِقْرَارُهُ لِلثَّانِي عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَأَقَرَّا بِهِ بَيْنَهُمَا مِنْ شَرِكَتِهِمَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا اسْتَوْدَعَنَاهُ فُلَانٌ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى حِصَّتِهِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَلَا يَضْمَنُ لِلْمُقَرِّ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ قَطُّ وَالْمُودَعُ فِيمَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدُهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ الْمُقِرُّ النِّصْفَ فَقَدْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَإِذَا قَالَ: فُلَانٌ شَرِيكِي فِي هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْتَ أَدَّيْتَهُ بِغَيْرِ إذْنِي، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَرِكَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي بَاعَ الْمَبِيعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَنِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الثَّمَنَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعَ فِيهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْإِذْنُ، وَهُوَ يُنْكِرُ الْإِذْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ أَنَّهُ بَاعَهُ الْمَتَاعَ، فَقَالَ: لَمْ أَبِعْهُ أَنَا، وَلَكِنْ بِعْنَاهُ جَمِيعًا وَكَتَبَ الصَّكَّ بِاسْمِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 119 وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي نَصِيبِهِ بَيْعَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَتْبِهِ الصَّكَّ بِاسْمِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبَاشِرَ لِلْبَيْعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ نِصْفَهُ قِيمَةَ الْمَتَاعِ، وَقَالَ: قَبَضْتَ مَتَاعِي بِغَيْرِ إذْنِي، وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ مَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا بَاعَنِي الْمَتَاعَ الَّذِي الصَّكُّ بِاسْمِهِ فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا، وَهُوَ يُنْكِرُهُ وَلَوْ ضَمَّنَهُ إنَّمَا يُضَمِّنُهُ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي الصَّكِّ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ بِاسْمِهِ الصَّكُّ. وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَقَالَ: هَذَا مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ مَعِي بِالنِّصْفِ، ثُمَّ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، وَقَالَ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُ الْعَبْدَ إلَيْكَ بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْعَبْدِ لَهُ حِينَ قَالَ: إنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ مَعِي هَذَا فَإِنَّ اللَّامَ لِلتَّمْلِيكِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ فِي إقْرَارِهِ وَالثَّمَنُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ ثَمَنِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ فَاسِدَةٌ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِسَبَبِهِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّ مَعَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ رَأْسُ مَالِي أَلْفَا دِرْهَمٍ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ مَالِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ حَاصِلٌ مِنْ مَالِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، وَفِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآنَ فَكَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْمَالُ مَعِي مُضَارَبَةً لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ فَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْأَوَّلِ وَنِصْفَ الرِّبْحِ وَيَدْفَعُ الْآخَرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ غُرْمًا مِنْ مَالِهِ وَلَا يَضْمَنُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ شَيْئًا هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا جَحَدَ، ثُمَّ أَقَرَّ وَتَصَرَّفَ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَهُنَا الْأَوَّلُ لَمَّا تَقَدَّمَ إقْرَارُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 120 الْمُضَارِبِ لَهُ ثَبَتَ حَقُّهُ وَصَارَ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، ثُمَّ بِإِقْرَارِهِ لِلثَّانِي صَارَ جَاحِدًا لِحَقِّ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرَّفَ وَرَبِحَ بَعْدَ جُحُودِهِ فَيَكُونُ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهُ بِسَبَبِ جَلْبِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ أَمَّا لِلْأَوَّلِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَأَمَّا لِلثَّانِي فَلِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ دَفَعَ الْأَمَانَةَ إلَى غَيْرِهِ وَبِإِقْرَارِهِ صَارَ ضَامِنًا لَهُ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ مُضَارَبَةٌ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَصَدَّقَاهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا يَقْتَضِي الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ بَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبَانِ بِمَالٍ فِي أَيْدِيهِمَا أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ وَصَدَّقَهُمَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ بِرُبُعِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُمَا الْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَسْتَوْجِبُ الرِّبْحَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا أَقَرَّ بِمُضَارَبَةٍ لِرَجُلٍ، وَلَمْ يُسَمِّيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُسَمِّي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جُهِلَ الْمُقَرُّ بِهِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ خَلْفٌ عَنْهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْبَرَاءَةِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ لَا حَقَّ لِي عَلَى فُلَانٍ فِيمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَقًّا مُسَمًّى قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا بِقَوْلِهِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْإِقْرَارِ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَكَذَلِكَ فِي الْبَرَاءَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا فَقِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَقِيلَ بَلْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ: إنَّ بِانْتِفَاءِ حُقُوقِهِ عَنْ الْغَيْرِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً فَقَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِنَفْيِ الْيَقِينِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ بِمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ لِلتَّشْكِيكِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي عِلْمِي أَوْ فِي نَفْسِي أَوْ فِي ظَنِّي أَوْ فِي رَأْيِي أَوْ فِيمَا أَرَى أَوْ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ حِسَابِي أَوْ كِتَابِي لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنَّمَا تُذْكَرُ لِاسْتِثْنَاءِ الْيَقِينِ فِيمَا يُقَرِّرُ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَرِيمًا أَوْ مُوجِبًا لِلْبَرَاءَةِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ إلَّا بِتَارِيخٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْبَرَاءَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 121 اسْتَيْقَنْتُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ " قَدْ عَلِمْتُ " خَبَرٌ عَنْ الْمَاضِي، وَقَدْ يُقَرِّرُهُ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَلَوْ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى إلَّا بِتَارِيخٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَكَّدَ بِمَا يُقْرَنُ بِهِ أَوْلَى. وَإِذَا قَالَ: لَا حَقَّ لِي عَلَيْكَ فَأَشْهَدْ لِي عَلَيْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْآخَرُ أَجَلْ لَا حَقَّ لَكَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَشْهَدَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالشُّهُودُ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهَذَا بَاطِلٌ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَسَعُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَصَادُقِهِمَا عَلَى انْتِفَاءِ حَقِّهِ عَنْهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزُّورُ وَالْبَاطِلُ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَصِيرُ بِالْإِشْهَادِ وَاجِبًا، وَإِذَا عَلِمَ الشُّهُودُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْمَالِ حَقِيقَةً لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ شَيْئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ عَلَيْهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ تَلْجِئَةً، فَقَالَ الطَّالِبُ بَلْ هُوَ حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ تَلْجِئَةٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ تَلْجِئَةً كَالرُّجُوعِ مِنْهُ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عَلَى إقْرَارِ حَقٍّ لَازِمٍ وَمَا يَكُونُ تَلْجِئَةً فَهُوَ بَاطِلٌ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ زُورًا وَالْإِقْرَارُ بِالزُّورِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْهَدُوا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ زُورًا وَبَاطِلًا وَكَذِبًا، فَقَالَ فُلَانٌ صَدَقَ فِي جَمِيعِ مَا قَالَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ صَدَقَ فِي الْمَالِ وَكَذَبَ فِي قَوْلِهِ زُورًا وَبَاطِلًا أَخَذْتُهُ بِالْأَلْفِ لِمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمِ تَلْجِئَةً لَزِمَ الْمُقِرَّ الْبَيْعُ إذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَلْجِئَةً، وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَا قَالَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ إذَا لَمْ يَخُصَّ فِيهِ شَيْئًا. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ فُلَانٌ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ فَقَدْ بَرِئَ الْمُقِرُّ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْإِقْرَارِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ لِأَنِّي أَبْرَأْتُكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا كَانَ لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ حَقِّهِ فِي الْمَاضِي نَفْيُهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَعَادَ الْإِقْرَارَ، وَقَالَ: بَلْ لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَجَلْ هِيَ لِي عَلَيْكَ لَزِمَتْهُ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَطَلَ بِالتَّكْذِيبِ فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ بَقِيَ إقْرَارُهُ الثَّانِي، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِيهِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي الْإِبْرَاءُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا وَقْتَ الْإِبْرَاءِ، فَأَمَّا فِيمَا يَجِبُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ ذَلِكَ الْإِبْرَاءُ وَالْإِقْرَارُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبْرَاءِ السَّابِقِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 122 غَصَبَهَا إيَّاهُ فُلَانٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ لِي بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالرَّدِّ، فَإِنْ ادَّعَاهَا الْمُقَرُّ لَهُ وَقَعَتْ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ صَارَ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِقْرَارَ الْآنَ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لَك، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ لِي، ثُمَّ قَالَ: بَلَى هُوَ لِي لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ بَطَلَ بِالتَّكْذِيبِ، وَلَمْ يُوجَدْ إقْرَارٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ وَبَعْدَ مَا قَالَ لَيْسَ هُوَ لِي لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِيهِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ إلَّا عَلَى حَقٍّ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ إلَى غَيْرِ وِلَايَتِهِ وَبِالدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لِي يَصِيرُ مُنَاقِضًا وَبَيِّنَةُ الْمُنَاقِضِ فِي الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خَرَجْت مِنْ الْعَبْدِ أَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِي أَوْ عَنْ يَدِي لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَأُقِيمَ بِهِ وَحْدَهُ فَيَكُونُ هُوَ فِي الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ خَرَجَ عَنْ يَدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَقِّفَ فَيَقُولَ هُوَ مِلْكِي، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِي بِغَصْبِ ذِي الْيَدِ أَوْ إعَارَتِي مِنْهُ فَلَا يَثْبُتُ التَّنَاقُضُ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَزَوُّجًا بَاطِلًا وَتَلْجِئَةً، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ نَعَمْ أَنَا أَفْعَلُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ حَضَرَ الشُّهُودُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، ثُمَّ أَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَازِمٌ لَهُمَا؛ لِأَنَّ بِالْإِشْهَادِ السَّابِقِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمَا بِهَذَا الْعَقْدِ الْهَزْلُ دُونَ الْجِدِّ، وَفِي النِّكَاحِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ سَوَاءٌ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ»، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّلْجِئَةِ انْعِدَامُ ضَامِنِهَا بِالْعَقْدِ النَّافِذِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْخِيَارُ فِي النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ التَّلْجِئَةُ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ التَّلْجِئَةُ فِيمَا هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالنِّكَاحُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّلْجِئَةُ. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ وَالْخُلْعُ وَالْمَالُ وَاجِبٌ فِيمَا سُمِّيَ فِيهِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسَّبَبِ فَكَمَا لَا تُؤَثِّرُ التَّلْجِئَةُ فِي أَصْلِ السَّبَبِ فَكَذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا يَتْبَعُهُ كَالْهَزْلِ وَأَمَّا بِالْكِتَابَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَبَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ كَالْبَيْعِ. وَلَوْ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُلْجِئَ إلَيْكَ دَارِي هَذِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْكَ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ تَلْجِئَةً مِنِّي إلَيْكَ لَا حَقِيقَةً، وَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ فَأُشْهِدَ لَهُ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ حَضَرَ الشُّهُودُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِيمَا أَعْلَمُ يَقَعُ الْبَيْعُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 123 وَالْمَقَالَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ بَاطِلَةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُلْجِئَ أَيْ أَجْعَلَكَ ظَهْرًا لِي لِأَتَمَكَّنَ بِجَاهِكَ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِي يُقَالُ الْتَجَأَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ وَأَلْجَأَ ظَهْرَهُ إلَى كَذَا وَالْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَا مُلْجَأٌ مُضْطَرٌّ إلَى مَا أُبَاشِرُهُ مِنْ الْبَيْعِ مَعَكَ وَلَسْتُ بِقَاصِدٍ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ، ثُمَّ صَحَّحَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ فِيمَا أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ الْغَيْرِ كَالشَّهَادَةِ، وَهَذَا اللَّفْظُ شَكٌّ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنْ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ مُطْلَقًا وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُمَا بَنَيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَمَا ذَكَرَاهُ فِي الْبَيْعِ نَصًّا، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَلَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْمُعَاقَدَةِ وَلَوْ تَبَايَعَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ كَانَ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا تَوَاضَعَا، ثُمَّ تَعَاقَدَا أَوْلَى، وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ أَعْرَضْنَا عَنْهَا فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ وَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَلِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ وَالْآخَرَ بَنَى عَلَيْهَا وَتِلْكَ الْمُوَاضَعَةُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ مِنْهُمَا وَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ، ثُمَّ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ فَمَنْ يَقُولُ لَمْ نَبْنِ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ يَتَمَسَّكُ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِبْطَالِهَا فَإِعْرَاضُ أَحَدِهِمَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ كَإِعْرَاضِهِمَا، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ فَعِنْدَهُمَا، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا مَا قَصَدَا بِالْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ إلَّا بِنَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَنَيَا، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَالْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ كَمَا لَوْ تَوَاضَعَا عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ، وَلَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ وَلَا الْأَجَلُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ قَالَ أَشْهِدْ لِي عَلَيْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا بَاطِلٌ أَوْ عَلَى أَنَّكَ مِنْهَا بَرِيءٌ فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْإِقْرَارِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَلِهَذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مَانِعًا صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَهُوَ وَالْبَيْعُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ إنِّي أُمْهِرُكِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي السِّرِّ وَأَظْهَرَ فِي الْعَلَانِيَةِ أَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَالْمَهْرُ لَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ سَمَّيَاهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 124 سُمْعَة وَبَاطِلًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا. وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ فِي السِّرِّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُمَا يُظْهِرَانِ الْعَقْدَ بِمِائَةِ دِينَارٍ سُمْعَةً فَفَعَلَا ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ وَثُبُوتُ الْمُسَمَّى إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّسْمِيَةِ وَمَا سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ يَقْصِدَانِ بِهِ السُّمْعَةَ فَبَقِيَ النِّكَاحُ خَالِيًا عَنْ تَسْمِيَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَا لَوْ قَالَا هَذَا فِي الْبَيْعِ وَأَمَّا فِي الْأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمِائَةِ دِينَارٍ فَفِي الْقِيَاسُ الْبَيْعُ بَاطِلٌ لَوْ لَمْ يُسَمِّيَا ثَمَنًا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِمِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا قَصَدَا السُّمْعَةَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ أَصْلِ الْعَقْدِ هُنَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِيهِ وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَتَصْحِيحُ أَصْلِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِيهِ مُمْكِنٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَلْفُ وَالْأَلْفَانِ فِي الْبَيْعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إمْلَائِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَصَدَا السُّمْعَةَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ وَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْبَيْعِ إلَى اعْتِبَارِ تَسْمِيَتِهِمَا الْأَلْفَ الثَّانِيَةَ فَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ بَعْضِ الْمُسَمَّى وَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّهِ كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَقِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَلْفَيْنِ غَيْرُ الْأَلْفِ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِالْأَلْفَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ عِنْدَهُ فَهُوَ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا يُنْصِفُ بِالنِّكَاحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ عَلَى آخَرَ وَادَّعَى الْوَلِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُقِرِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِالْقَتْلِ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي النِّصْفِ حِينَ زَعَمَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ وَتَصْدِيقُهُ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ صَحِيحٌ فَإِنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا لَهُ عَلَى الْآخَرِ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، وَهُوَ قَدْ ادَّعَى عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَالشَّهَادَةُ بِالْأَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا لَهُ وَتَكْذِيبُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ وَصَارَ مُكَذِّبًا لِلْمُقِرِّ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَكِنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 125 الْبَعْضِ وَلَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَكِنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِلْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نَعْقِلُ صُلْحًا وَلَا عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا اعْتِرَافًا»، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ عَاقِلَتِهِ وَلَوْ ادَّعَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا لِلْمُقِرِّ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَبَقِيَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الَّذِي شَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَتْلُ الْخَطَأِ بِالْبَيِّنَةِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا وَحْدَهُ وَأَقَرَّ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْوَلِيُّ قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا فَبَعْدَ مَا وُجِدَ التَّصَادُقُ فِي الْحُكْمِ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ فِي السَّبَبِ. وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا أَنْتَ قَتَلْتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّهُ كَذَّبَ الْآخَرَ فِي إقْرَارِهِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَيَبْقَى الْإِقْرَارُ الثَّانِي، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَلَوْ قَالَ صَدَقْتُمَا فِيهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُ الْقَتْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ شَخْصَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ فَكَانَ فِي تَصْدِيقِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَحْدَهُ تَكْذِيبُ الْأَصْغَرِ. وَكَذَلِكَ فِي تَصْدِيقِهِ الْأَصْغَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَحْدَهُ تَكْذِيبُ الْأَكْبَرِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى آخَرَ فَادَّعَى الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقِرَّ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلًا مُشْتَرَكًا وَالشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ انْفَرَدَ هُوَ بِهِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ أَزْيَدَ مِنْ الدَّعْوَى، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فِي السَّبَبِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا غَصْبًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ قَرْضٍ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مِنْ الْإِقْرَارِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ فُلَانٌ مَا كَانَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَكِنَّكَ أَخَذْتَهَا مِنِّي ظُلْمًا أَمَرَ الْقَاضِي بِرَدِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَرَّةً وَأَعَدْنَاهَا لِفُرُوعٍ نَذْكُرُهَا هُنَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَبَضْتُهَا بِوَكَالَةٍ مِنْ فُلَانٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْكَ أَوْ وَهَبْتَهَا لَهُ فَأَمَرَنِي فَقَبَضْتُهَا وَدَفَعْتُهَا إلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ لِغَيْرِهِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَنْتَفِي عَنْهُ فِي الْفَصْلَيْنِ بِثُبُوتِ الْمَالِ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَلِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 126 لَهُ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ بِدَعْوَاهُ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ فُلَانٌ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْأَلْفِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مُوجِبَةٌ لِلِانْقِسَامِ فَصَارَ مُقِرًّا بِنِصْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِنِصْفِهِ عَلَى الْآخَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْآخَرَ لَوْ صَدَّقَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، فَإِذَا كَذَّبَهُ بَطَلَ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَيْهِ وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ النِّصْفُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِمِثْلِهِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ قَتْلِ خَطَأٍ أَوْ جِرَاحَةٍ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ هُوَ وَفُلَانٍ عَمْدًا وَجَحَدَ فُلَانٌ ذَلِكَ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّ الْمُقِرَّ قَطَعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِنِصْفِ الْأَرْشِ فَإِنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ بِنِصْفِ الْأَرْشِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فَكَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ نِصْفُ أَرْشِ الْيَدِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إذَا قَالَ: قَتَلْتَ وَلِيَّ هَذَا عَمْدًا، فَقَالَ بَلْ قَتَلْتُهُ خَطَأً تَقْضِي بِالدِّيَةِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِأَنْ يَقُولَ حَقِّي فِي الْقِصَاصِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي أَنْ آخُذَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْقِصَاصِ، وَهَذَا جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَرْشِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى دَعْوَى الْقِصَاصِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي النَّفْسِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقِرَّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يَقْتُلُ الْوَاحِدَ، وَقَالَ وَالْقِيَاسُ فِي النَّفْسِ هَكَذَا أَنْ لَا يُسْتَوْفَى الْمُثَنَّى بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ وَالْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِلْمُثَنَّى وَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلًا لَهُمَا، وَهُوَ مِثْلٌ لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا وَكُنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي النَّفْسِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِوَاحِدٍ، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ إلَّا هُنَا. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَنَا فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ النِّصْفُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِنِصْفِ الْمَالِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ الْآخَرَ مَعِي فِي الدَّيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الدَّيْنُ لَهُمَا عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا سِتُّمِائَةٍ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُمِائَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يَصِلَ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 127 مُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمُنَاصَفَةُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بَيَانُهُ مُغَيِّرًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا إلَّا أَنَّهُ إذَا فَصَلَ فَعَلَيْهِ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ لَهُ فِي قَدْرِ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ لِلْآخَرِ سِتُّمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ فِي بَيَانِهِ بِمِائَةٍ زَائِدَةٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَعَ فُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ مَعَ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَحَرْفِ الْوَاوِ. وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ فُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَا أَشْرَكَ الثَّانِيَ مَعَ الْأَوَّلِ فِي الْإِقْرَاضِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنْ الْأَوَّلِ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي وَفُلَانًا مَعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فُلَانًا مَنْصُوبًا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ كَالْمُقِرِّ وَأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أُقِرَّ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْأَلْفِ فَلِهَذَا كَانَتْ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفُلَانٌ مَعِي وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ. وَإِنْ قَالَ: أَقْرَضَنِي - وَفُلَانٌ مَعِي شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ - فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْأَلْفُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلثَّانِي خَبَرًا، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً بِاسْتِقْرَاضِ الْأَلْفِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَفُلَانٌ مَعِي حَالَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ هُوَ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ فَإِقْرَارُهُ بِهِ كَإِقْرَارِ الْمُوصِي بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُسْتَوْفَى فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ وَمَا تَمَّ اسْتِيفَاؤُهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّمَا قَبَضْتُ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْغَرِيمُ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ صَحَّ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بَيَانَ الْمِقْدَارِ مِنْ الْوَصِيِّ لِلْمُسْتَوْفَى غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ شَيْئًا، وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِإِقْرَارِهِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْغَرِيمِ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إلْزَامِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَصِيِّ فَإِنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا يُلْزِمُ الْوَصِيَّ فَلَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 128 مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْوَصِيِّ مَعَهُ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَى الْغَرِيمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْغَرِيمِ بِذَلِكَ قَبْلَ إشْهَادِهِ بِالْقَبْضِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ يَوْمئِذٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَانْصَرَفَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ إلَى جَمِيعِهَا، فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَبَضْتُ مِائَةً كَانَ رَاجِعًا عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِجُحُودِهِ، وَلِأَنَّهُ إنْ قَبَضَ الْمِائَةَ فَقَدْ تَعَذَّرَ بِإِقْرَارِهِ اسْتِيفَاءُ مَا بَقِيَ مِنْ الْغَرِيمِ وَصَارَ هُوَ مُتْلِفًا لِذَلِكَ عَلَى الْيَتِيمِ وَالْوَصِيُّ بِالْإِتْلَافِ يَصِيرُ ضَامِنًا وَالْمَنْعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَإِتْلَافِ الْمُسْتَوْفِي إيجَابَ الضَّمَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شُهُودَ الْإِبْرَاءِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ فَصَارُوا مُتْلِفِينَ عَلَيْهِ، وَالْوَكِيلُ فِي الْقَبْضِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّل بِهِ. فَإِذَا قَالَ الْوَصِيُّ: قَبَضْتُ جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ فُلَانٌ كَانَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ قَبَضَهَا الْوَصِيُّ، فَقَالَ الْوَصِيُّ: إنَّمَا قَبَضْتُ مِائَةً فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْغَرِيمِ تِسْعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَالْوَصِيُّ مَا أَقَرَّ إلَّا بِقَبْضِ مِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مُطْلَقَ إقْرَارِهِ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ تَفْسِيرٌ كَانَ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَبَضْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُفَسِّرْ إقْرَارَهُ الْمُبْهَمَ بِشَيْءٍ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْغَرِيمِ قَالَ: وَلَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِائَةٌ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الطَّالِبِ وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ جَمِيعَ مَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ فَالْمَطْلُوبُ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ لِأَنَّ إقْرَارَ الطَّالِبِ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَتَفْسِيرُهُ ذَلِكَ بِالْمِائَةِ كَلَامٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَلْفًا يَكُونُ هُوَ مُبَرَّأً عَنْ الزِّيَادَةِ بِهَذَا وَالْإِبْرَاءُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ فَإِنَّ إبْرَاءَهُمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا فِي إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ إذَا فُسِّرَ إقْرَارُهُمَا بِالْمِائَةِ مَوْصُولًا. (تَوْضِيحُ الْفَرْقِ) أَنَّ الطَّالِبَ صَارَ رَادًّا لِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ بِقَوْلِهِ: إنَّ جَمِيعَ مَالِي عَلَيْهِ مِائَةٌ وَرَدُّ الْإِقْرَارِ مِنْهُ صَحِيحٌ، فَأَمَّا الْوَصِيُّ وَالْوَكِيلُ فَرَدُّ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ وُجُوبُ جَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَهُمَا أَقَرَّا بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَبَقِيَ الْغَرِيمُ مُطَالَبًا بِتِسْعِمِائَةٍ. وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ بَاعَ خَادِمًا لِلْوَرَثَةِ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ ثَمَنِهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ كَانَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 129 لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ بِعَقْدِهِ، وَفِيمَا يَجِبُ فِي الْعَقْدِ الْعَاقِدُ كَالْمَالِكِ وَلِهَذَا صَحَّ إبْرَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَالْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي بَاعَ وَأَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْمُشْتَرِي بَرِيئًا عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ فِي إلْزَامِ الزِّيَادَةِ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْوَصِيِّ فِي إلْزَامِ ذِمَّتِهِ شَيْئًا وَالْوَصِيُّ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَيَّنَ الثَّمَنَ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَوِلَايَةُ بَيَانِ الْمِقْدَارِ لَهُ حَالَ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِالْيَمِينِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ كَالْبَائِعِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَدْ اسْتَقَلَّ بِبَيَانِ مِقْدَارِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ، وَالْوَكِيلُ وَالْمُضَارِبُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ الثَّمَنُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَقَطْ وَقَوْلُهُ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَلَامُ لَغْوٍ وَلَمَّا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَقَرَّ هُنَاكَ بِقَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا بَعْضُ إشْكَالٍ فَفِي قَوْلِهِ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ مَعْنَى الْحَطِّ لِمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ، وَلَكِنْ يَقُولُ الْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْوَاجِبِ بِالْإِسْقَاطِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْوَاجِبِ كَإِنْكَارِ الزَّوْجِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْغَرِيمَ يُؤْخَذُ بِالْمِائَةِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ عَلَى إبْطَالِهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُنَا لَمْ يَكُنْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ فَلَا قَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِائَةُ دِرْهَمٍ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَالَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَكَانَ الْغَرِيمُ مُطَالِبًا بِالْبَاقِي بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُنَاكَ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ فَكَانَ قَوْلُ الْوَصِيِّ قَوْلًا مُطْلَقًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ أَوَّلًا صَحَّ إقْرَارُهُ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، ثُمَّ قَالَ الْوَصِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا قَبَضْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ قَبَضَ الْوَصِيُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 130 وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَّا قَبْضَ الْوَصِيِّ الْأَلْفَ، ثُمَّ جَحَدَ قَبْضَ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا فَالْمَطْلُوبُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ عَلَى الْوَصِيِّ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ، وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيمَا فِي يَدِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ إلَى الْوَصِيِّ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْإِقْرَارُ مِنْ الْوَصِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْأَمَانَاتِ قَوْلَ الْأَمِينِ فِي الدَّفْعِ، وَفِي الدُّيُونِ فِي الْإِيفَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ إقْرَارِ الْوَصِيِّ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ مَقْبُولٌ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَرَاءَةُ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ. وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَبَضَ كُلَّ دَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى النَّاسِ فَجَاءَ غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ، وَقَالَ: دَفَعْتُ إلَيْكَ كَذَا، وَقَالَ الْوَصِيُّ مَا قَبَضْتُ مِنْكَ شَيْئًا وَمَا عَلِمْت أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَيْكَ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُوصِي لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا بِنَفْسِهِ كَانَ بَاطِلًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِالْقَبْضِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ مَتَى كَانَتْ فَاحِشَةً كَانَتْ تَابِعَةً صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَعْنَاهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْغَرِيمِ فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ لِلْغَرِيمِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَيْهِ وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْمَجْهُولِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَبَضْتُ كُلَّ دَيْنٍ لِفُلَانٍ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْوَكِيلُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ. وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا عَلَى مُكَاتَبِ فُلَانٍ الْمِائَةَ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمُكَاتَبُ مَعْرُوفٌ يَدَّعِي ذَلِكَ وَيَقُولُ: قَبَضْتَ مِنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ مُكَاتَبَتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي الْمِائَةِ وَيَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ تِسْعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ، وَقَدْ فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِالْمِائَةِ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِقَبْضِ الْمِائَةِ وَيَبْقَى الْمُكَاتَبُ مُطَالَبًا بِتِسْعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَإِنْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ الْمُكَاتَبَةِ مِنْهُ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الْوَصِيِّ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مُطْلَقًا يُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ كَإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِهِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ أَصْلَ الْمُكَاتَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ الْوَصِيُّ بِالْقَبْضِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 131 بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ ذَلِكَ مُفَسَّرًا. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: قَبَضَ الْمَيِّتُ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ فِي حَيَاتِهِ وَقَبَضْتُ أَنَا مِائَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ بَلْ قَبَضَ مِنِّي الْأَلْفَ كُلَّهَا فَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ لِإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى إقْرَارِ الْوَصِيِّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَتَكُونُ الْأَلْفُ كُلُّهَا عَلَى الْوَصِيِّ فِي مَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَبَضَ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُمْ فَيُسْتَحْلَفُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ إنْكَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ الْوَصِيِّ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَذَا مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبَاشِرَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُبَاشِرًا لِاسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ فَيُضِيفُ الْوَصِيُّ الِاسْتِيفَاءَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ مُتَمِّمٌ لِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمُوجِبٌ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ اسْتَوْفَى الْبَعْضَ وَالْوَكِيلُ فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا كَانَ عَلَى فُلَانٍ مِنْ دَيْنِ الْمَيِّتِ، فَقَالَ الْغَرِيمُ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَدَفَعْتُهَا إلَيْكَ، وَقَالَ الْوَصِيُّ: كَانَ لَهُ عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَكِنَّكَ أَعْطَيْتُهُ خَمْسَمِائَةٍ وَدَفَعْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى الْوَصِيِّ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِإِقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ الرَّدِيَّة عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ قَبْضِ الْمَيِّتِ نَفْسَهُ وَالْإِشْكَالُ فِي هَذَا كَالْإِشْكَالِ فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فِيمَا إذَا انْضَافَ فِعْلُ الِاسْتِيفَاءِ إلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَقَالَ: قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا عَلَى فُلَانٍ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَصِيَّ جَمِيعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ عَلَى النَّاسِ مِنْ دَيْنٍ اسْتَوْفَاهُ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْوَصِيُّ لَيْسَتْ هَذِهِ مِمَّا قَبَضْتُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْوَصِيَّ، وَكُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ مَالًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَصِيَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَإِقْرَارُهُ لِلْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ كَمَا أَقَرَّ بِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ دُيُونِ الْمَيِّتِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَصِحَّةُ الْقَضَاءِ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ كَصِحَّتِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لِكُلِّ مَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا مِنْ الْمَجْهُولِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ يَكْتُبُ عَلَى الْوَارِثِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 132 الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مِيرَاثٍ وَيَكْتُبُ إلَيْهِ عَجَّلْتُ نَصِيبَكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ عَلَى النَّاسِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْوَارِثُ الَّذِي عَجَّلَ لَهُ ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ لِلْمَعْلُومِ صَحِيحٌ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَبَضَ جَمِيعَ مَا فِي مَنْزِلِ فُلَانٍ مِنْ مَتَاعِهِ وَمِيرَاثِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَأَقَامَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلِ فُلَانٍ يَوْمَ مَاتَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ ثَوْبٍ لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَبْضُ الْوَصِيِّ لِذَلِكَ فَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّ الْوَصِيَّ قَبَضَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا مُطْلَقًا مُوجِبٌ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي عَنْ الْكُلِّ فَقَوْلُ الْوَصِيِّ مُتْلِفٌ لِمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي بَيَّنَهُ مَفْصُولًا وَهُنَا إقْرَارُهُ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا فِي الْمَنْزِلِ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ إتْلَافَ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مَقْبُولٌ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ، وَلَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِوُصُولِهِ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مَا فِي ضَيْعَةِ فُلَانٍ مِنْ طَعَامٍ وَمَا فِي نَخْلَةِ هَذَا مِنْ ثَمَرٍ وَأَنَّهُ قَبَضَ زَرْعَ هَذِهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ كَذَا وَادَّعَى الْوَارِثُ أَكْثَرَ مِنْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ الضَّيْعَةِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ إتْلَافَ شَيْءٍ وَلَا يَلْزَمُ إلَّا مَا يَثْبُتُ قَبْضُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قَبْضُهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ قَبَضَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ وَالْعَيْبِ فِيهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ إذَا جَحَدَ الْمُشْتَرِي الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْعَيْبِ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ إسْقَاطَ حَقِّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ فَوَاتُ وَصْفٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْوَصْفُ يُسْتَحَقُّ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ فَصَارَ ذَلِكَ الْجُزْءُ حَقًّا لِلْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِهِ أَصْلَ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِي بُطْلَانَ اسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا أَبْرَأَهُ وَلَا رَضِيَ بِهِ وَلَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 133 ادَّعَى الْبَائِعُ كُلَّهُ، فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الْإِبْرَاءَ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْبَائِعِ فَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ بِقَدْرِ طَلَبِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَاضِي يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُسْقِطَةٌ لِحَقِّهِ فِي الرَّدِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ ادَّعَى جَمِيعَ ذَلِكَ فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ مُفَسِّرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ، وَهُوَ عَيْبٌ يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ وَأَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ وَبِهِ عَيْبٌ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَاهُ مُعَيِّنًا يَصِيرُ مُبْرِئًا لَهُ عَمَّا سِوَاهُ وَالْبَائِعُ مَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِعَيْبٍ مُنْكَرٍ وَالْمُنْكَرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ وَجَحَدَ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ لِنِصْفِهِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ شَرِيكِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا وَلَهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ فَجَحَدَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ وَأَقَرَّ بِهِ شَرِيكُهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التِّجَارَةِ مُلْزِمٌ شَرِيكَهُ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ، وَفِي الْحُكْمِ كَإِقْرَارِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ شَرِيكَ عِنَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ الشَّرِيكَ فِي هَذَا الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ إذَا بَاعَ خَادِمًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَأَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ فِيهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ بِذَلِكَ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُضَارِبِ وَرَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ الْمُضَارِبُ عَنْ الْبَيْعِ لَمْ يَعْمَلْ بِنَهْيِهِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَيْهِ عَقْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا يُثْبِتُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي بَاعَ فَأَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ رَبُّ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقَرَّ الْآمِرُ بِعَيْبٍ وَجَحَدَهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ وَلَا الْآمِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْوَكِيلُ فِيهِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ وَجَحَدَهُ الْآمِرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِقْرَارُهُ بِثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالتَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْوَكِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْزِمًا لِلْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلَهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 134 رَدَّهُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْعَيْبِ بِالْحُجَّةِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْآمِرَ عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَلَ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ، وَفِي شَرِيكَيْ الْعِنَانِ لَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَجَحَدَ شَرِيكُهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا مَا انْتَهَتْ لِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلَكِنَّهَا قَائِمَةٌ بِقِيَامِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَكَانَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا نَافِذًا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَالَ الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَقَرَّ بِالْعَيْبِ لَزِمَهُ وَلَزِمَ رَبَّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي التَّصَرُّفِ بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ أَقَالَهُ الْعَبْدَ أَوْ اشْتَرَاهُ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي سِلْعَةٍ خَاصَّةٍ فَالْبَائِعُ مِنْهُمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ، وَقَدْ انْتَهَتْ وَكَالَتُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ دُونَ شَرِيكِهِ فَلَوْ بَاعَهَا مِنْ آخَرَ فَطَعَنَ فِيهَا الْمُشْتَرِي الْآخَرُ بِعَيْبٍ وَأَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ الثَّانِي، فَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَهُوَ فَسْخٌ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَبَيْعُ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَصَارَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ كَأَنَّ الْبَائِعَ الثَّانِيَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً، وَفِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ، فَقَالَ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِتَيَقُّنِهِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ بِدُونِ الْقَاضِي غَيْرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهَا فَائِدَةً وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ قَبِلَهَا بِقَضَاءٍ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا سَوَاءٌ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِنُكُولِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ وَيُثْبِتَ بِالْحُجَّةِ وُجُودَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ إنْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جُحُودٌ لِلْعَيْبِ نَصًّا، فَإِنْ كَانَ قَالَ: بِعْتُهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْعَيْبُ بِهَا فَاسْتَحْلَفَهُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَأَرَادَ خُصُومَةَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِيهَا وَاحْتَجَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَيْبُ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ جُحُودِهِ كَوْنَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْجُحُودُ مُطْلِقٌ لَهُ الْيَمِينَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ كَالْبَاذِلِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 135 لِفَسْخِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ كَمَا لَوْ قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ. وَإِذَا بَاعَ دَارًا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهَا، وَفِيهَا هَذَا الْعَيْبُ لِصَدْعٍ فِي حَائِطٍ يَخَافُ مِنْهُ أَوْ كَسْرٍ فِي جِذْعٍ أَوْ فِي بَابٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ يُمْكِنُ بِقَضَاءِ بَاقِي الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ يُقَلِّلُ رَغَائِبَ النَّاسِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَهُ بِإِقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَرْضًا فِيهَا نَخِيلٌ فَأَقَرَّ بِعَيْبٍ بِبَعْضِ الثَّمَرِ فِي نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوُجُودُ الْعَيْبِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ وَالْعُرُوضُ وَالْحَيَوَانُ يُقِرُّ الْبَائِعُ فِيهِ بِعَيْبٍ يُنْقِصُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مَا يُنْقِصُ الثَّمَنَ يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا وَيُقَلِّلُ رَغَائِبَهُمْ فِي السِّلْعَةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ وَبِهِ حَرْقٌ فَجَاءَ الْمُشْتَرِي بِحَرْقٍ آخَرَ، فَقَالَ: بِعْتَنِيهِ وَهَذَا بِهِ، وَقَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ هَذَا الَّذِي أَقْرَرْتُ لَكَ بِهِ وَهَذَا حَدَثَ عِنْدَكَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالثَّوْبِ حَرْقٌ غَيْرُهُ لَمْ يُصَدَّقْ الْبَائِعُ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْقَ الْمَوْجُودَ فِي الثَّوْبِ لَا يَنْعَدِمُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُخَاطَ أَوْ يُرْفَأَ وَأَثَرُهُمَا يَكُونُ ظَاهِرًا، فَإِنْ لَمْ يُرَ فِي الثَّوْبِ حَرْقٌ ظَاهِرٌ أَوْ لَا أَثَرَ لِحَرْقٍ سِوَى مَا عَيَّنَهُ الْمُشْتَرِي عَرَفْنَا أَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَرْقُ صَغِيرًا وَزَادَ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْحَرْقِ لَا بِمِقْدَارِهِ فَالْقَدْرُ الَّذِي ادَّعَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْبَائِعِ إقْرَارٌ بِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ لِإِنْكَارِهِ وَالْحَرْقُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْخَرْقِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَرْقٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ وَهَذَا بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْآخَرُ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِمُطْلَقِ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالْحَرْقِ فِي الثَّوْبِ وَاَلَّذِي عَيَّنَهُ سِوَى مَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِهِ فَخَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ يَبْقَى دَعْوَى الْمُشْتَرِي لِلْحَرْقِ الثَّانِي وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُهُ هَذَا الْعَبْدَ وَبِهِ قُرْحَةٌ، ثُمَّ جَاءَ الْمُشْتَرِي يُرِيدُ رَدَّهُ، فَقَالَ الْبَائِعُ قَدْ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْقُرْحَةِ وَهَذِهِ غَيْرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْحَةَ تَزُولُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ إقْرَارُ الْبَائِعِ كَوْنَ هَذِهِ الْقُرْحَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُشْتَرِي مَوْجُودَةً عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى الْبَائِعُ نَوْعًا مِنْ الْعُيُوبِ صُدِّقَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ وَهَذَا غَيْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْرَأُ وَيَذْهَبُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ أَقْطَعَ الْيَدِ فَجَاءَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْعُ الْيَدِ الثَّانِيَةِ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَوْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 136 أَنْكَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْبَائِعُ سَبَبًا مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ، وَقَدْ تَسْتَوِي هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ بَيْنَ حَضْرَةِ الْعَبْدِ وَغَيْبَتِهِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ بِهِ فِي الْحَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي مَوْتِ الْعَبْدِ مَسْمُوعَةٌ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ، وَلَمْ يُسَمِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي الثَّمَنِ يَنْتَهِي بِقَبْضِهِ فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيمَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَيُحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ وَلَوْ سَمَّى وَأَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ كَانَ هَذَا أَجْوَزَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ أَوْ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ، فَإِذَا كَانَ مُسَمًّى لَا تُمْكِنُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ. وَلَوْ سَمَّى ثَمَنًا، وَقَالَ: لَمْ أَقْبِضْهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَقَبَضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ لَازِمٌ لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا ادَّعَى بَقَاءَهُ كَانَ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الثَّمَنِ كَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ السِّلْعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ عَنْ حَالٍ يُثْبِتُ حَقَّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ سَقَطَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ سَلَّمَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُشْتَرِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ الَّذِي لَا يَحِلُّ شَرْعًا كَالْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ مُبْطِلٌ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَبِرُ رِضَاهُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنِّي أَوْ قَبَضَهُ مِنِّي، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُ الْمَدْيُونِ وَلَا يُصَدَّقُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الْبُيُوعِ إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ وَلَا يَأْخُذُ لِلْعَيْبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ فَيَصِحُّ رِضَا الْبَائِعِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي حِصَّةِ الْعَيْبِ فَيَتَحَالَفَانِ عِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَا مَا أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ سَالِمٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ ذَلِكَ مَجَّانًا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الثَّمَنِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 137 قَوْلَ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِاسْتِرْدَادِ مَا بَقِيَ أَوْ لَمْ يَرْضَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ فِي الثَّمَنِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَيُتْبِعَ الْمُشْتَرِيَ بِحِصَّةِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ يَجْرِي التَّحَالُفُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْل أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَعَذُّرَ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِيمَا بَقِيَ كَمَا فِي الْعَبْدَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْقَائِمِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ هَلَاكَ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْآخَرِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ وَهُنَا خُرُوجُ بَعْضِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِيمَا بَقِيَ فَلِهَذَا شُرِطَ رِضَا الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ لِجَرَيَانِ التَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا رَضِيَ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا تَحَالَفَا فِي الْقَائِمِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ فَرِضَاهُ بِذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ فِي تَضْمِينِ الْهَالِكِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُحَالِفَانِ وَيَتَرَادَّانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَقِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ خُرُوجَ جَمِيعِ الْعَبْدِ مِنْ مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ التَّحَالُفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ خُرُوجُ بَعْضِهِ وَمَا بَقِيَ يَتَعَيَّبُ لِخُرُوجِ الْبَعْضِ عَنْ مِلْكِهِ فَثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِعَيْبِهِ فَاسْتَرَدَّهُ مَعَ قِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْهُ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: مَا اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْبَائِعُ مَا بِعْتُكَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَبْطُلْ بِمُجَرَّدِ إنْكَارِهِ الشِّرَاءَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِالشِّرَاءِ فَإِنَّمَا وُجِدَ التَّصْدِيقُ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي حَالِ قِيَامِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِجُحُودِ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْدَ جُحُودِ الْمُشْتَرِي لَوْ اسْتَحْلَفَهُ الْبَائِعُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ الْقَاضِي، فَإِذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَوْلَى أَنْ يُثْبِتَ الْبَيْعَ. وَلَوْ كَانَ حِينَ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ قَالَ الْبَائِعُ: صَدَقْتَ لَمْ تَشْتَرِهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ اشْتَرَيْتُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ حِينَ صَدَّقَهُ فِي إنْكَارِ الشِّرَاءِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ الْعَقْدِ فَتَجَاحُدُهُمَا لَهُ يَكُونُ فَسْخًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْبَيْعِ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُشْتَرِيَ فَكَذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِلتَّنَاقُضِ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَائِعُ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تَصَادُقُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 138 كَانَ تَجَاحُدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ إذْ التَّجَاحُدُ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً ظَهَرَ الْبَيْعُ بِهَذَا التَّصَادُقِ. وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، فَقَالَ فُلَانٌ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَجَحَدَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَإِيجَابِهِ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَالِالْتِزَامُ بِحُكْمِهِ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُلْزِمَهُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى بِهَذَا الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ إلَّا بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَادَّعَى الْبَائِعُ بَيْعَهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَإِقْرَارُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ مُوجِبَهُ إلْزَامُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ إلْزَامِ شَيْءٍ بِحُكْمِهِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى شِرَاءً بِثَمَنٍ مُسَمًّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْبَائِعِ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ إقْرَارٌ بِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ كَانَ لَهُ فَإِنَّ الِاسْتِيَامَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَالشِّرَاءُ أَوْلَى، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا هُوَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ الْمِلْكَ ثَمَنُ الْأَصْلِ بَعْدَ هَذَا مُنَاقِضًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ الْعَبْدَ، ثُمَّ جَحَدَ فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ الْإِلْزَامِ بِحُكْمِهِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْبَيْعِ فِي عَبْدٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ كَإِيجَابِ الْبَيْعِ فِي عَبْدٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ غَيْرَ أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ، وَقَالُوا لَا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ لَوْ أَشْهَدَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ الْإِلْزَامِ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي دَارٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَإِنْ حَدَّدَ الْأَرْضَ وَالدَّارَ وَسَمَّى الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ فِيمَا يَتَعَذَّرُ إحْضَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِيمَا يَتَيَسَّرُ إحْضَارُهُ بِدَلِيلِ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ بِاعْتِبَارِهِ، وَكَانَ هَذَا إقْرَارًا مُلْزِمًا، فَإِنْ جَحَدَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ الْحُدُودَ قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 139 أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا مُتَمَكَّنًا فَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ مَسْمُوعَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ جَحَدَ وَادَّعَى الْبَائِعُ ذَلِكَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَيَجُوزُ إقْرَارُ شَرِيكِ الْعِنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي بَيْعِ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، وَفِي شِرَاءِ شَيْءٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمِلْكٍ أَنْشَأَهُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ مَا دَامَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ إقْرَارِهِ بِذَلِكَ فَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ ثَمَنُ حِصَّتِهِ وَكَمَا لَوْ أَنْشَأَ الشِّرَاءَ أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ شِرَاءِ شَيْءٍ مُسْتَهْلَكٍ يَكُونُ دَيْنًا يَلْزَمُهُ دُونَ شَرِيكِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ شَرِيكُهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَالثَّابِتُ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ جَحَدَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْوَكِيلُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالشِّرَاءِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا فِي إلْزَامِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ يَتَسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى ذِمَّةِ شَرِيكِهِ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِيهَا وَهَذَا الْإِقْرَارُ يُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ يَظْهَرُ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَأَمَّا الْمُضَارِبُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْمُضَارَبَةِ بِبَيْعٍ أَوْ بِشِرَاءٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ فِيهَا أَوْ فِي الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالْإِنْشَاءِ وَلَوْ أَنْشَأَ الشِّرَاءَ صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ حَتَّى إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفِذَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ صَحِيحًا مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا يَبِيعُ عَبْدًا لَهُ وَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ وَجَحَدَ الْوَكِيلُ فَالْعَبْدُ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْأَمْرِ بَاقٍ بَعْدَ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْآمِرَ مَعَ الْمُشْتَرِي لَا يُصَدَّقَانِ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْوَكِيلِ وَمَتَى تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمُوَكِّلُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ صَبِيًّا مَحْجُورًا. وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَهُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَجَحَدَهُ الْآمِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَسَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَثَمَنَهُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ لِلْآمِرِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُ وَجَحَدَ الْآمِرُ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَى الْوَكِيلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهِ وَمُبَاشَرَةِ مَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 140 إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَكَانَ مِثْلُهُ يُشْتَرَى بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَكَلَامُهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِمَا بِهِ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَغْبُونٌ فِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهُ الْآمِرَ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْعَبْدُ فِي الْأَصْلِ مَمْلُوكًا لَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْآمِرَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَلَوْ بَاشَرَ شِرَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِلْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إخْرَاجِ كَلَامِهِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ التُّهْمَةُ إذَا قَصَدَ إلْزَامَ الثَّمَنِ ذِمَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى ذِمَّتِهِ فِي إلْزَامِهِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُ ذِمَّةَ الْآمِرِ شَيْئًا بَلْ يُجْبَرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا يُجْهَلُ إضَافَتُهُ، وَإِذَا كَانَ الْآمِرُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ هَذَا الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ كَانَ الْآمِرُ لَمْ يَدْفَعْ الثَّمَنَ إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ عَلَى الْآمِرِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ فَظَاهِرٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْآمِرِ وَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الثَّمَنِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُرِيدُ إبْطَالَ مِلْكِهِمْ فِي الثَّمَنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ حَيَاةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَائِمَةٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ إخْرَاجَ الثَّمَنِ مِنْ مِلْكِهِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ هُنَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ عَلَى عَمَلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَاهُ لَزِمَهُمْ وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ الْمَيِّتَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَمَا كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ. وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ عَبْدًا وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْآمِرُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْآمِرِ وَالْعَبْدُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ فَإِقْرَارُهُ بِمَا يُبْطِلُ فِيهِ مِلْكَ الْوَارِثِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ إقْرَارُهُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ أَمِينًا فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، فَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ أَنَا أَمَرْتُكَ بِالْبَيْعِ فَلِي الثَّمَنُ، وَقَالَ الْوَكِيلُ لَمْ تَأْمُرْنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ وَلَهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 141 يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ كَانَ مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْعَبْدِ فَالثَّمَنُ يَكُونُ لَهُ وَالْوَكِيلُ بِجُحُودِهِ الْآمِرَ مُنَاقِضٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْعَبْدِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِهَذَا الْجُحُودِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فَلِرَبِّ الْعَبْدِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ وَيَرْجِعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْعَبْدِ مِنْهُ هَذَا الثَّمَنَ بِحِسَابِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مُدَّعِيًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ يَمْلِكُ إجَازَةَ الْبَيْعِ فِيهِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِالْإِذْنِ وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ وَثُبُوتِ حُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ فِي مَحَلٍّ يَصِحُّ إنْشَاءُ الْبَيْعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُسْتَهْلَكٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ حَيَاتَهُ وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ فَإِنَّمَا يُوجِدُ قَطْعَ الْيَدِ وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ، فَإِذَا تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَلَكَ الْأَرْشَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَالْأَرْشُ لِرَبِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ عَلَى مِلْكِهِ الْمُتَقَرِّرِ فَبَدَلُهُ يَكُونُ لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ أَنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ بَعْدَ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِيَوْمٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُجِزْ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ فِي الْحَالِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ فِي الْحَالِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْيَمِينُ عَلَى عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ بِمَا ادَّعَاهُ لَزِمَهُ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَبْلَهُ رَجُلٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِجَازَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ إنْشَاءُ الْعَقْدِ فَهُوَ وَالْمَيِّتُ فِي حُكْمِ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ، ثُمَّ جَحَدَهُ وَصَدَّقَتْهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ظَهَرَ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِهِ رُجُوعُهُ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ اسْتَنَدَ التَّصْدِيقُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 142 إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَكَانَ كَالْمَوْجُودِ يَوْمئِذٍ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَبْطُلُ الْفَضْلُ إذَا كَانَ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِهِ. وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فُلَانًا بِكَذَا، ثُمَّ جَحَدَتْهُ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي حَيَاتِهَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ، وَإِنْ صَدَّقَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَثْبُتُ النِّكَاحُ اعْتِبَارًا لِجَانِبِهَا بِجَانِبِهِ بِعِلَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ فَمُضِيُّ الْمُدَّةِ يُنْهِيه وَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ وَالْمُنْتَهِي مُتَقَرِّرٌ فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي حَالِ تَقَرُّرِ الْمُقَرَّرِ بِهِ كَمَا يَصِحُّ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ عَلَيْهَا لَا لَهَا وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهَا وَالْعِدَّةُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ النِّكَاحِ فِي صِحَّةِ التَّصْدِيقِ وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَا عِدَّةَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَقَدْ فَاتَ الْمُقَرُّ بِهِ لَا إلَى أَثَرٍ فَلَا يَعْمَلُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِحُكْمِ النِّكَاحِ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ الْمِلْكِ وَبَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ حُكْمًا فَيَبْقَى الْمِلْكُ بِبَقَاءِ الْمَحَلِّ فَيُعْمَلُ بِتَصْدِيقِهَا وَلِهَذَا حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَالثَّالِثُ أَنَّ الْفِرَاشَ لَمَّا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا فَالزَّوْجُ فِي التَّصْدِيقِ بَعْدَ مَوْتِهَا مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا لَهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا كَانَ فِي مِلْكِ الْحِلِّ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْمَرْأَةِ إقْرَارٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالْفِرَاشِ فَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ جَحَدَتْ بَعْدَ إقْرَارِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهِيَ أَمَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ أَمَةً، ثُمَّ عَتَقَتْ، وَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ تَزَوَّجْتُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ سَوَاءٌ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى نُفُوذِ النِّكَاحِ إنْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ فَقَدْ كَانَ يُوقَفُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى أَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ، ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مَتَى أَضَافَ الْإِقْرَارَ بِالنِّكَاحِ إلَى حَالٍ يُنَافِي أَصْلَ الْعَقْدِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْآخَرُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُولَدَ أَوْ قَالَ: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 143 تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا صَبِيٌّ فَإِنَّ الصِّبَا يَمْنَعُ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعَقْدِ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ يَقُولُ تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا نَائِمٌ فَإِنَّ النَّوْمَ حَالٌ مَعْهُودَةٌ فِي الْإِنْسَانِ تُنَافِي أَصْلَ الْعَقْدِ، وَإِنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَإِنْ عُلِمَ جُنُونُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ مُنْكِرًا مَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ جُنُونُهُ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى حَالٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ فِيهِ وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْحَالُ بِخَبَرِهِ فَأَمَّا إذَا أَحَدَهُمَا النِّكَاحَ إلَى حَالٍ لَا تُنَافِي أَصْلَ النِّكَاحِ كَانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْحِلِّ وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْإِضَافَةِ وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَهُ فَإِقْرَارُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إقْرَارٌ بِشَرَائِطِهِ فَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِبَاطِلٍ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي حَالٍ ادَّعَى تَمَجُّسَ الْمَرْأَةِ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ أَوْ فِي عِدَّةِ الْغَيْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَأُخْتُهَا تَحْتَهُ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحِلُّ فِي حُكْمِ الْمَشْرُوطِ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ إقْرَارٌ بِشَرْطِهِ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ادَّعَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَازِمٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى ذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَطْلِيقِهِ إيَّاهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَقَالَتْ هِيَ مَا طَلَّقْتَنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ غَيْرَكَ وَدَخَلَ بِي فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُ الْمَهْرِ وَنَفَقَةُ الْعِلَّةِ الدُّخُولُ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا، وَقَالَتْ هِيَ مَا اسْتَثْنَى لَمْ يَلْزَمْهُ النِّكَاحُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ هِيَ بِالنِّكَاحِ وَادَّعَتْ الِاسْتِثْنَاءَ وَادَّعَى هُوَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مَانِعٌ كَوْنَ الْكَلَامِ إيجَابًا فَكَانَ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مُقِرًّا بِهِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ فِي دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى حَالٍ مُنَافِيَةٍ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ كَحَالِ النَّوْمِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ ذَلِكَ أَنَّهُ إصَابَةٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَلَمْ أَتَزَوَّجْكِ أَمْسِ أَوْ أَلَيْسَ تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ أَوْ أَمَا تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ، فَقَالَتْ بَلَى وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ جَوَابَ الِاسْتِفْهَامِ بِنَفْيٍ يَكُونُ حَرْفَ بَلَى وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ، وَعَلَى هَذَا الطَّلَاقِ إذَا قَالَ: مَا طَلَّقْتُكِ أَمْسِ أَوْ لَيْسَ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 144 فَقَالَتْ نَعَمْ أَوْ بَلَى فَهَذَا إقْرَارٌ بِالطَّلَاقِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّوْجُ بَلَى فَهُوَ إقْرَارٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ لَهَا قَدْ تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ، فَقَالَتْ لَا، ثُمَّ قَالَتْ بَلَى، وَقَالَ هُوَ لَا لَزِمَهُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَبْطُلْ بِتَكْذِيبِهَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَصَحَّ تَصْدِيقُهَا بَعْدَ التَّكْذِيبِ وَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِتَصَادُقِهِمَا فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِنْكَارِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلِانْتِفَاعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَ الطَّلَاقُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا إنْ صَدَقَتُهُ فِي الْإِسْنَادِ فَعِدَّتُهَا مِنْ حِينِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فِي الْإِسْنَادِ فَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقَّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ إذَا لَمْ تُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهَا. وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَذَلِكَ اسْمُ امْرَأَتِهِ أَوْ قَالَ: عَنَيْتُ غَيْرَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيقَاعٌ شَرْعِيٌّ، وَلِأَنَّهُ لَهُ الْإِيقَاعُ عَلَى زَوْجَتِهِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْتُ غَيْرَهَا كَانَ الظَّاهِرُ مُكَذِّبًا لَهُ فِي مَقَالَتِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ابْنَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَاسْمُ أَبِيهَا مَا قَالَ طَلُقَتْ، وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَعْنِ امْرَأَتِي. وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهَا إلَى أُمِّهَا أَوْ إلَى وَلَدِهَا، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْتُ غَيْرَهَا يَكُونُ الظَّاهِرُ مُكَذِّبًا لَهُ فِي مَقَالَتِهِ. وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ. وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُنَافِي الْوُقُوعَ فِيهِ فَيُجْعَلُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَنَّهُ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَهْرٌ بِالْوَطْءِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إقْرَارِ الْمَحْجُورِ وَالْمَمْلُوكِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى حُرٍّ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ زِنًا فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ بِسَبَبِ السَّفَهِ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ كَإِقْرَارِهِ قَبْلَهُ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا وَمَعْنَى هَذَا مَعْنَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 145 الِاسْتِشْهَادِ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمًا كَالشَّهَادَةِ، فَإِذَا كَانَ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ عِبَارَتِهِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُلْزَمًا بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ وَلَا بَيْعٍ كَمَا لَا يَجُوزُ مُبَاشَرَتُهُ هَذِهِ الْأَسْبَابَ عِنْدَهُمَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّفِيهِ لَا يَكُونُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ لِمُكَابَرَتِهِ عَقْلَهُ كَمَا أَنَّ فِعْلَ الْهَازِلِ لَا يَكُونُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِهِ غَيْرَهُ فَكُلُّ مَا أَثَّرَ فِيهِ الْهَزْلُ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ، وَلَكِنَّ هَذَا يَبْطُلُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ قَصَدَ الْهَزْلَ بِشَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ الْحَجْرُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْحَجْرِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لِصَبِيٍّ صَغِيرِ لَقِيطٍ بِدَيْنِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى غَيْرِهِ وَتَصْحِيحُ الْإِقْرَارِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ وَالصِّبَا لَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي الصَّبِيُّ وَالصَّبِيُّ بِحَالٍ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُقْرِضُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ بَاشَرَ هَذَا السَّبَبَ وَإِضَافَةُ الْمُقَرِّ بِهِ إلَى الصَّبِيِّ بِطَرِيقٍ بَاشَرَهُ إنَّمَا بَاشَرَهُ لَهُ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَلَكِنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمَالِ بِإِقْرَارِهِ كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي السَّبَبِ بِإِنْ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَقْرَضْتَنِيهِ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَقْرَضْتُكَ بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي فَالْمَالُ لَازِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ السَّبَبُ تَكْذِيبَهُ إيَّاهُ. عَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَوْدَعَنِي هَذَا الصَّبِيُّ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمَجْنُونٍ فَإِقْرَارُهُ بِأَصْلِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَالسَّبَبُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفِيلٌ لِهَذَا الصَّبِيِّ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ كُفِّلَ لِغَائِبٍ بِمَالٍ وَلَا يَقْبَلُ عَنْ الْغَائِبِ أَحَدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ إذَا كُفِّلَ لِصَبِيٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقْدُ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقْدُ صَحِيحٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِلصَّبِيِّ قَالَ: كَأَنْ كَانَ أَبُو الصَّبِيِّ أَوْ وَصِيُّهُ خَاطَبَهُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، فَإِذَا أَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَرَضِيَ بِهَا جَازَتْ، وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الصَّبِيُّ بَطَلَتْ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ لَا يُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَالْكَفَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 146 لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَهُوَ تَمْلِيكٌ لِلدَّيْنِ مِنْ الْكَفِيلِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِحُكْمِ الْأَدَاءِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتِلَافًا فِي بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْحَوَالَةِ وَلَوْ - اجْتَهَدَ قَاضٍ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَضَى بِهِ نَفَذَ، وَفِيهِ إضْرَارُ الصَّبِيِّ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ذَلِكَ بَلْ هُمَا فِيهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ إذَا بَلَغَهُ وَصَحَّ رُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ إجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الصَّبِيِّ إذَا أَدْرَكَ وَصَحَّ رُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ إدْرَاكِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا اللَّقِيطَ لِفُلَانٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَاللَّقِيطُ لَا يَتَكَلَّمُ جَازَ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَعَلَى اللَّقِيطِ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ امْتِنَاعُ وُجُوبِهِ عَلَى الْكَفِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ عَنْ بَالِغٍ وَجَحَدَ الْبَالِغُ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَإِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: كَفَلْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي أَقْرَضْتُهُ أَمْسِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يَقْدَمْ مُنْذُ سَنَةٍ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْكَفِيلِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا. وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ لِرَجُلٍ حَاضِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَقَالَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَدْ رَضِيتُ بِكَفَالَتِكَ، ثُمَّ قَالَ الطَّالِبُ قَدْ رَضِيتُ بِضَمَانِكَ لِي فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ إذَا ادَّعَى الْمَكْفُولُ؛ لِأَنَّ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ حَصَلَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَمَامَهُ بِقَبُولِ الطَّالِبِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِأَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ، فَإِذَا أَدَّى يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلَوْ قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَوَّلًا: قَدْ رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ: قَدْ رَضِيتُ كَانَ رِضَاهُ بَاطِلًا، وَلَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ إذَا أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَمَّتْ بِقَبُولِ الطَّالِبِ وَلَزِمَ الْمَالُ الْكَفِيلَ إذَا أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَمَّتْ بِقَبُولِ الطَّالِبِ وَلَزِمَ الْمَالُ الْكَفِيلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرْجِعُ إذَا أَدَّى فَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِرِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ وَإِجَازَتَهُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَوْقُوفِ لَا فِي النَّافِذِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ الْكَفَالَةُ تَتِمُّ بِالْكَفِيلِ قَبْلَ قَبُولِ الطَّالِبِ فَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي إثْبَاتِ الرُّجُوعِ لِلْكَفِيلِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقَوْلُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَتْ كَفَالَتُكَ أَوْ سَلَّمْتُهَا أَوْ أَجَزْتُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ قَدْ رَضِيتُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْفُصُولَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَا رَضِيَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ رَجَعَ عَنْ الْكَفَالَةِ قَبْلَ رِضَا الْمَكْفُولِ لَهُ بِهَا لَمْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 147 يَلْزَمْهُ الْمَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نُفُوذَ الْعَقْدِ بِرِضَا الْمَكْفُولِ لَهُ فَرُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ نُفُوذِ الْعَقْدِ صَحِيحٌ. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ إجَارَةِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التِّجَارَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ صُنْعِ التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَلَا يُخِلُّ هَذَا الْفَكُّ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَإِقْرَارِهِ قَبْلَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ وَدِيعَةٍ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ فَكَمَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمَرِيضِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَرَقَبَتِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَرَضِ وَهُنَا التَّعَلُّقُ ثَابِتٌ فِي صِحَّةِ الْعَبْدِ وَمَرَضِهِ. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِجِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ فَفِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا أَقَرَّ بِقَتْلٍ عَمْدًا جَازَ إقْرَارُهُ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْقِصَاصِ دَمُهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، وَفِيمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ كَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِإِيقَاعِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَطْعِ، وَفِي إقْرَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ مَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، فَأَمَّا إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ فَصَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَالِ وَالْقَطْعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا بِالْمَالِ فَلِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ، وَأَمَّا بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ مُبْقَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي رَقَبَتِهِ بِمَهْرِ امْرَأَةٍ وَلَا بِكَفَالَةٍ بِنَفْسٍ وَلَا بِمَالٍ وَلَا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ وَلَا بِمُكَاتَبَتِهِ وَلَا بِتَدْبِيرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْمَحْجُورِ. وَإِذَا أَقَرَّ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ جَازَ إقْرَارُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَيَنْفَرِدُ بِهِ الْعَبْدُ إنْشَاءً وَإِقْرَارًا. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَنَّهُ افْتَضَّ امْرَأَةً بِأُصْبُعِهِ أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِافْتِضَاضِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ. (أَلَا تَرَى) الجزء: 18 ¦ الصفحة: 148 أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هَذَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهِ وَلَا يَدْفَعُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحٌ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْغَاصِبَ بِالِافْتِضَاضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا فَإِنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَمْلِكَ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا وَيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ شَرْطًا وَإِقْرَارُهُ بِضَمَانِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْأُصْبُعِ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ وَالْمُتْلَفُ بِهِ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ وَالْمَأْذُونُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ كَالْمَحْجُورِ فَكَمَا أَنَّ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْجُزْءَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ هُوَ مُلْحَقٌ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ عَلَيْهِ حَظُّهُ مِنْهُمَا فَلِشُبْهَةِ الْمَالِ قُلْنَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ سَبَبُهُ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهِ وَلِشَبَهِهِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِفِعْلٍ هُوَ خَطَأٌ إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْقِصَاصِ بِعَمْدِهِ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْقِصَاصُ بِعَمْدِ هَذَا الْفِعْلِ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ دَفْعُ الْعَبْدِ بِهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ جِهَةُ الْبَيْعِ فِيهِ، وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَأَنَّهُ قَدْ أُقْبَضَهَا لَمْ يَلْزَمْ مَهْرٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ فِيهِ فِي الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحُرَّةِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ أَطْلَقَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ لَهَا وَهَذَا الْعَقْدُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَهِيَ قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِهِ حِينَ طَاوَعَتْ الْعَبْدَ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ رَاضِيًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِالْمَهْرِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالِافْتِضَاضِ مِنْ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ شَرْطًا، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِإِتْلَافِ مَالِ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى صَحِيحٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْإِتْلَافِ دُونَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ ثَيِّبًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ بِالْوَطْءِ هُنَا لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَالٌ وَإِنَّمَا وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ الْعَبْدُ بِهَا إلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ بِكْرٌ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَمَوْلَاهَا بِالْخِيَارِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 149 الْعُذْرَةَ بِالْغَصْبِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالْوَطْءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْفَصْلُ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ ذَهَبَ بِهَا إلَى مَنْزِلِ مَوْلَاهُ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَضَمَانُ الْغَصْبِ يُؤَاخَذُ بِهِ الْمَأْذُونُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَهُ مَا ذَهَبَ مِنْ الْعُذْرَةِ عِنْدَهُ لَا بِوَطْئِهِ بَلْ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ كَمَا لَوْ عَايَنَّاهُ أَنَّهُ غَصَبَ أَمَةً عَذْرَاءَ وَرَدَّهَا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرَتِهَا، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْوَطْءِ فَفِي الْوَطْءِ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمَأْذُونُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَعْتِقَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ الْوَطْءِ هُنَا إتْلَافُ الْعُذْرَةِ فَيَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً اشْتَرَاهَا فَافْتَضَّهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ هُنَا بِالْوَطْءِ تَرَتَّبَ عَلَى سَبَبٍ هُوَ تَجَاوُزُهُ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَكَانَ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ فَصَحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَالسَّبَبُ هُنَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْحَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مُعْتَبَرٌ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ضَمِنَ الْقِيمَةَ كَمَا يَضْمَنُهَا بِالْغَصْبِ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْوَكِيلِ فَيُجْعَلُ مُعْتَبَرًا بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْعَيْنِ، قَالَ فِي الْكِتَابِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ عَيْنَهَا ذَهَبَتْ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ عُذْرَتَهَا ذَهَبَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ضَمِنَ كَمَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ الْمُسْتَحِقُّ وَهَذَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النِّكَاحِ فَإِنَّ سَبَبَ النِّكَاحِ لَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ إذَا ذَهَبَتْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ صَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا فَأَفْضَاهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَكَذَا قَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هُنَا فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِعْلَهُ الْكَبِيرَةَ هُنَاكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا ضَمَانُ الْإِفْضَاءِ فَهُوَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَإِقْرَارُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 150 الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِحُّ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَوْلَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً بِشُبْهَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا وَأَفْضَاهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ الْبَوْلُ لَا يَسْتَمْسِكُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِفْضَاءَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ فِي الْحُرَّةِ دُونَ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ قَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَدَّقُ فِي الْمَهْرِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ الْيَوْم وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِفْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْحُرَّةِ يُوجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَالْمَهْرَ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَذْهَبَ عُذْرَتَهَا بِغَيْرِ تَزْوِيجِ الْمَوْلَى وَفِي الْإِفْضَاءِ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْمَهْرِ فَلَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ هُنَا بِالْإِفْضَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إذْهَابُ الْعُذْرَةِ بِالْوَطْءِ مُعْتَبَرًا وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ خَاصَّةً فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا وَإِقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا صَحِيحًا أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَمَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ أَوْ فِي تِجَارَةٍ كَثِيرَةٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِشَرِكَةٍ مُفَاوَضَةً جَازَ عَلَيْهِ فِيمَا فِي يَدِهِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُفَاوِضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ بِهَا وَيَبْقَى مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِقْرَارِ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ بِنِصْفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمُفَاوَضَةِ امْتِنَاعُ ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُرْتَدًّا أَذِنَ لَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ أَوْ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَوْلَى أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالْعَبْدُ فِي أَقَارِيرِهِ فِي حَالِ رِدَّةِ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا لَا تَتَوَقَّفُ. وَكَذَلِكَ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ عَلَى حَالِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِلْكُهُ يَتَوَقَّفُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ نَفْسُهُ وَلِهَذَا قَالَ: يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ، وَإِذْنُهُ لِلْعَبْدِ كَانَ بِمُطْلَقِ مِلْكِهِ، فَإِذَا تَوَقَّفَ مِلْكُهُ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِذْنِ لَا يَبْقَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 151 بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً فِي الرِّدَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ التَّاجِرَةُ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّ وَلَدَهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ كَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَازِمٍ فِي الْأُمِّ هُنَا فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ الْعِتْقُ وَالْوَلَدُ يَنْفَصِلُ عَنْهَا، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ مَالِ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ، وَقَالَ: أَنَا أَجِيرُ لَهُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَمَا فِي يَدِهِ وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كُلُّهُ لَا حَقَّ لِلْأَجِيرِ فِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لَهُ وَالْإِقْرَارُ عَامًّا يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ خَاصًّا غَيْرَ أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَأَجْعَلُهُمَا لِلْأَجِيرِ وَفِي الْقِيَاسِ هُمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ مِنْ قَلِيلٍ فِي يَدِهِ وَكَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ الْأَجِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَحَاجَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اتَّخَذَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ إقْرَارِهِ كَمَا يَصِيرُ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ مِثْلُ مَا اُسْتُحْسِنَا فِي ثِيَابِ بَدَلِ الْأَجْرِ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ الْأُسْتَاذِ عِنْد اخْتِلَافِهِمَا فِيهَا فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجِيرِ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ فِيمَا إذَا قَالَ أَصَبْتُهُ بَعْدَ إقْرَارِي لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا فِي يَدِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي كُلِّ إقْرَارٍ لَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ بَيَانِ الْمُقِرِّ يُجْعَلُ بَيَانُهُ مَقْبُولًا فِيهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَةِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ وَقْتَ إقْرَارِهِ لِفُلَانٍ لِتَقْيِيدِهِ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ وَمَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ لِفُلَانٍ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِهِ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيَانِهِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَالٍ لِفُلَانٍ، وَفِي يَدِهِ صُكُوكٌ وَمَالُ عَيْنٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّ مَا فِي الصُّكُوكِ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَهُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ مَالِهِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ إقْرَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ طَعَامٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ، وَفِي يَدِهِ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ وَسِمْسِمٌ وَتَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِفُلَانٍ إلَّا الْحِنْطَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، وَاسْمُ الطَّعَامِ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 152 لِلْمُقَرِّ لَهُ لِانْعِدَامِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ يَدُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْيَمِينِ وَالْإِقْرَارِ فِي الرِّقِّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ حَلَفَ أَوْ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ أَوْ مَتَى حَلَفَ أَوْ حِينَ حَلَفَ أَوْ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ فِي يَمِينِهِ فَحَلَفَ فُلَانٌ عَلَى ذَلِكَ وَجَحَدَ الْمُقِرُّ بِالْمَالِ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَلَكِنَّهُ مُخَاطَرَةٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِقْرَارَ بِشَرْطٍ فِيهِ خَطَرٌ، وَهُوَ يَمِينُ الْخَصْمِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا شَرْطًا كَانَ جَاعِلًا الْيَمِينَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْمَالِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِسَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا قَالَ. وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَالِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُخَاطَرَاتِ بَاطِلٌ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: إنْ حَلَفْتَ عَلَيْهَا فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهَا فَهَذَا تَعْلِيقُ الشِّرَاءِ بِالْمُخَاطَرَةِ وَالْبَرُّ أَنْ لَا يُحْتَمَلَ التَّعْلِيقُ بِالْأَخْطَارِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ تُوجِبُ بَرَاءَتَهُ شَرْعًا قُلْنَا عَنْ الْيَمِين لَا فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْبَرَاءَةُ. وَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْيَمِينُ لَا تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي بَعْدَهَا مَسْمُوعَةٌ، وَلَكِنْ إنَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ لِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَتَتَأَخَّرُ خُصُومَتُهُ إلَى أَنْ يَجِدَ حُجَّةً لَا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُوجِبَةً لِلْبَرَاءَةِ. وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ فَحَكَّمَا رَجُلًا فَحَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا كَالْقَاضِي وَبِالْيَمِينِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ إلَّا أَنْ يَجِدَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَقَضَى الْحَكَمُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهَا يَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ بِهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِهِ، وَفِي كُلِّ يَمِينٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهَا لَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَالْخُصُومَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّكُولَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَفِيهِ فُصُولٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ أَوْ لَقِيطٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِصُنْعِ الْمُقَرِّ لَهُ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِمَمْلُوكَةِ أَمَّا الْبَالِغُ إذَا أَقَرَّ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا أَقَرَّ بِهِ فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ وَالْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ لَيْسَ مِمَّا يَنْفَعُهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ عَاقِلًا وَجَبَ اعْتِبَارُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 153 قَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ وَمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدٌ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الصَّبِيِّ، وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ إذَا ادَّعَى حُرِّيَّةَ نَفْسِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِ أَيْضًا كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَمَّا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ إذَا أَسْلَمَ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ أَيْضًا، وَلِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَنْفَعُهُ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ سُكُوتٌ مِنْهُ عَنْ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ وَانْقِيَادٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى يُثْبِتَ عَلَيْهِ يَدَهُ، وَإِذَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ، وَهُوَ يَدَّعِي رِقِّيَّتَهُ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ كَمَا إذَا كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ حُرَّ الْأَصْلِ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِيهِ شَرْعًا بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ هَذَا إبْطَالًا لِحُرِّيَّتِهِ وَإِيجَابًا لِلرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْتِقًا لِرَجُلٍ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ وَلَاءَهُ ثَابِتٌ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ وَمَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ الْمَانِعُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ تَصْدِيقِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ هُنَاكَ صَاحِبُ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ فَسُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ كَانَ الْوَلَاءُ عَلَيْهَا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَتَصْدِيقُ الْمُعْتَقِ الْأَوَّلِ هُنَا عَامِلٌ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ. وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِآخَرَ، وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنْتَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ حِينَ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِ رَقَبَتَهُ بِيَدِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِأَحَدٍ فِيهِ فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ لِأَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُنْقَادًا لَهُ فَتَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ كُلِّهِ فِي يَدِهِ فَيُجْعَلُ مَمْلُوكًا لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ قَصَّارٍ أَوْ فِي مَكْتَبٍ، فَقَالَ أَنْتَ عَبْدِي، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ أَسْلَمَنِي إلَيْكَ وَادَّعَاهُ فُلَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَصَّارِ وَصَاحِبُ الْمَكْتَبِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْمِلْكِ قَوْلَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ يَدُهُ فِي نَفْسِهِ مُعْتَبَرَةً وَهِيَ أَقْرَبُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فَلَا تَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ يَدُ ذِي الْيَدِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِفُلَانٍ أَوْ مُكَاتَبَتُهُ أَوْ مُدَبَّرَتُهُ وَصَدَّقَهَا فُلَانٌ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ بَلْ أَنْتِ أَمَةٌ لِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ، وَعَلَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 154 قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمَةِ وَالْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهَا حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ قَالَتْ أَنَا حُرَّةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا وَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ يَدِ ذِي الْيَدِ عَلَيْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا (تَوْضِيحُهُ) أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا كَالْحُرَّةِ فَلَا تَظْهَرُ يَدُ ذِي الْيَدِ فِيهَا مَعَ دَعْوَاهَا أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ كَمَا لَا يَظْهَرُ مَعَ دَعْوَاهَا أَنَّهَا حُرَّةٌ وَهَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقِيَاسُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ الْمُسْقِطِ لِاعْتِبَارِ يَدِهَا فِي نَفْسِهَا فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا إلَّا بِحُجَّةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ لَمْ تُسْمَعْ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ عَلَى غَيْرِهِ وَتَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ أَمَةٌ لِي غَيْرُ مُدَبَّرَةٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ ذِي الْيَدِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهَا فِي التَّدْبِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَمَةً لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَصَدَّقَهَا فُلَانٌ بِذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ أَمَةٌ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ، ثُمَّ ادَّعَتْ زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِالرِّقِّ لِذِي الْيَدِ وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ فَفِي حَقِّ ذِي الْيَدِ هَذَا وَدَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ تَتِمُّ بِهَا وَدَعْوَاهَا الْعِتْقَ مِنْ فُلَانٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَصْدِيقٍ مِنْ فُلَانٍ وَتَصْدِيقُ فُلَانٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى ذِي الْيَدِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ غُلَامٌ، فَقَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَأُمِّي أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأُمُّكَ أَمَتِي، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هُوَ ابْنِي فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا كَالْأَوَّلِ وَهُمَا جَمِيعًا لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَكَمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْأَمَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْأَمَةِ اسْتِحْسَانًا وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ هُنَا أَجْعَلُ الْوَلَدَ حُرًّا ابْنًا لِلَّذِي ادَّعَاهُ اسْتِحْسَانًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَا ابْنُكَ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ لَكَ هَذِهِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَجْعَلُهُ حُرًّا اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْإِقْرَارِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ هُنَا يَدَّعِي حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ ذِي الْيَدِ أَوْ ابْنُ غَيْرِهِ، وَفِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَى هَذَا، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ حُكْمُ إقْرَارِهِ هُنَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ فَكَانَ هَذَا وَدَعْوَاهُ حُرِّيَّةَ الْعِتْقِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ فَإِنَّ حُكْمَ قَوْلِهِ هُنَاكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ غَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْهِ عَبْدٌ، وَقَالَ أَعْتَقْتَنِي فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى كَانَ عَبْدًا لَهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 155 بِالرِّقِّ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدًا لَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ الرَّجُلُ وَالْعَبْدُ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ وَادَّعَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْرِ فِي عِتْقِهِ حُكْمٌ فَهُمَا مُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ وَصَارَ مَمْلُوكًا وَظَهَرَ هَذَا الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ بِتَصْدِيقِهِ أَيْضًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ كَانَ جَرَى فِي عِتْقِهِ حُكْمٌ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَجْرِي فِي الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ فَأَمْضَى الْقَاضِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَرِدُ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ شَرْعًا وَالْمُقِرُّ إذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ مَوْلَاهُ أَنَّهُ اغْتَصَبَهُ مِنْ فُلَانٍ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ بِمَا نَفَذَ فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى هِبَةً مِنْهُ أَوْ شِرَاءً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ فُلَانٌ مَا فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ لَهُ قِيمَةَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ مِنْ غَيْرِهِ يَشْهَدُ بِالْمِلْكِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ أَوْ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالِاسْتِخْدَامِ فَيَكُونُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ عَبْدٌ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ بِالْمِلْكِ، وَهُوَ الْآخَرُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ أُمِّي كَانَتْ أَمَةً لِفُلَانٍ، وَلَمْ أُولَدْ أَنَا قَطُّ إلَّا حُرًّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى أُمِّهِ بِالرِّقِّ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا نَافِذٌ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رِقِّ أُمِّهِ رِقُّهُ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَعْرُوفِ حُرُّ الْأَصْلِ وَالْأُمُّ رَقِيقَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَمَةٍ لِإِنْسَانٍ وَلَهَا وَلَدٌ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْمُقِرِّ دُونَ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمَّا لَمْ يَجْعَلْ إقْرَارَهُ بِالْأُمِّ إقْرَارًا بِالْوَلَدِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارُ الْوَلَدِ بِرِقِّ الْأُمِّ إقْرَارًا بِرِقِّ نَفْسِهِ (تَوْضِيحُهُ) أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ إذَا قَالَ جَدَّتِي كَانَتْ أَمَةً لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أُمِّي كَانَتْ أَمَةً لِفُلَانٍ، فَإِذَا ادَّعَى فُلَانٌ رِقَّهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَلَوْ أَنَّ مَجْهُولَةَ الْأَصْلِ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالْمِلْكِ لِرَجُلٍ فَهِيَ أَمَةٌ لَهُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا أَمَةً لَهُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِكَوْنِهَا أَمَةً فَسَادُ النِّكَاحِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَبُو الزَّوْجِ نَسَبَهَا وَصَدَّقَتْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْ أَبِي الزَّوْجِ انْتِفَاءَ النِّكَاحِ وَمَا ثَبَتَ بِوُجُودِ الْمُنَافِي ضَرُورَةً لَا يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى إقْرَارِهَا وَهُنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ رَقِّهَا فَسَادُ النِّكَاحِ فَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهَا وَإِقْرَارُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ إنَّ رِقَّهَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 156 فِي حَقِّ حُكْمٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّلَافِي وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَثْبُتُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّلَافِي وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّا لَوْ صَدَّقْنَاهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لَحِقَهُ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ؛ لِأَنَّا لَوْ صَدَّقْنَاهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ هُنَا لَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِدَفْعِ الصَّدَاقِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَهَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَ طَلَاقُهَا ثِنْتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَتْ عِدَّتُهَا حَيْضَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا مَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِمْ فِي إبْطَالِ حُرِّيَّتِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي بَطْنِ أُمِّهِمْ بِأَنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَوْلَادِ بَعْدُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمْ أَرِقَّاءُ وَالْوَقْتُ فِيهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمْ أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالنِّكَاحِ اسْتَحَقَّ حُرْمَةَ الْأَوْلَادِ وَهِيَ لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ وَلَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهَا فِي رِقِّ الْأَوْلَادِ تَضَرَّرَ الزَّوْجُ ضَرَرًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ وَطِئَهَا، وَفِيهِ إبْطَالُ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لَهُ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا وَلَدٌ حُرٌّ مِنْ أُمٍّ رَقِيقَةٍ فَيَكُونُ رَقِيقًا كَمَا لَوْ ثَبَتَ رِقُّهَا بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَالزَّوْجُ لَمَّا أَعْلَقَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا فَقَدْ رَضِيَ بِرِقِّ هَذَا الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إقْرَارِهَا، وَفِي قَبُولِ إقْرَارِهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا ضَرَرَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ أَنْ يُعْزَلَ عَنْهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ ثَمَرَةٌ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالنِّكَاحِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ عَقِيمًا لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فَكَيْفَ تَكُونُ صِفَةُ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِالنِّكَاحِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا إقْرَارَهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَجْهُولَ الْأَصْلِ لَهُ أَوْلَادٌ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِكَوْنِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحْتَمَلًا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُدَبِّرِيهِ وَمُكَاتَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الْحُرِّيَّةَ أَوْ حَقَّهَا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رَقِّهِ بُطْلَانُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّهِمْ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَجْهُولَةً فِي يَدِهَا ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ مِنْ فُجُورٍ أَقَرَّتْ أَنَّهَا أَمَةٌ لِفُلَانٍ وَأَنَّ ابْنَهَا عَبْدٌ لَهُ فَهِيَ مُصَدَّقَةٌ عَلَى نَفْسِهَا وَابْنِهَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَهُ فَادَّعَتْ أَنَّهُ عَبْدُهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ ابْنُهَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْبَائِعِ لَا تَقْوَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 157 يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ بَلْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ. وَكَذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ مَجْهُولَانِ لَهُمَا ابْنٌ صَغِيرٌ لَا يَتَكَلَّمُ أَقَرَّا بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَابْنِهِمَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ قَالَا نَحْنُ مَمْلُوكَانِ لِفُلَانٍ وَابْنُنَا هَذَا مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَذَّبَهُمَا مَوْلَاهُمَا فِي الِابْنِ فَالِابْنُ عَبْدٌ لَهُ مَعَهُمَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَ يَدِهِمَا وَيَجْعَلُ يَدَهُمَا لَاغِيَةً فَكَمَا لَا قَوْلَ لَهُمَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي وَلَدِهِمَا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى أَمَةً أَنَّهَا أَمَتُهُ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ أَنَّهُ عَبْدُهَا وَلَا يُعْرَفُ أَصْلُهُمَا، وَلَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِي دَعْوَاهُ جَعَلْتُ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ مُنَافَاةٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِصَاحِبِهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا تَهَاتَرَا إذْ لَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَاَلَّذِي أَقَرَّ أَخِيرًا مَمْلُوكٌ لِلْأَوَّلِ إذَا صَدَّقَهُ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ رَدَّ إقْرَارِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فَيُرَدُّ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ لَهُ وَيَبْقَى إقْرَارُ الثَّانِي بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَبْدًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِإِقْرَارِ الثَّانِي تَصْدِيقُ الْمُقِرِّ وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَنَا عَبْدٌ لَكَ، فَقَالَ الْآخَرُ لَا، ثُمَّ قَالَ بَلَى أَنْتَ عَبْدِي فَهُوَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الثَّابِتَ لَا يَبْطُلُ بِالْجُحُودِ وَالْإِقْرَارُ مَتَى حَصَلَ بِمَا لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمُقَرُّ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى تَصْدِيقِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّبَبِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ فِي يَدَيْهِ، فَقَالَ أَنَا عَبْدُكَ، فَقَالَ لَا، ثُمَّ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَكُنْ عَبْدَهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ يَدَهُ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ ذُو الْيَدِ لِرَجُلٍ هُوَ عَبْدُكَ يَا فُلَانُ، فَقَالَ لَا، ثُمَّ قَالَ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ عَبْدٌ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مِمَّا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ فِيهِ بِالرَّدِّ وَالتَّصْدِيقُ بَعْدَ مَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ بِالرَّدِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ وَالرِّقُّ لَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَلِهَذَا عَمِلَ التَّصْدِيقُ هُنَاكَ بَعْدَ الرَّدِّ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ أَوْ لَا يَكُونَ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا الْفَرْقُ الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ هُوَ عَبْدُكَ يَا فُلَانُ، فَقَالَ فُلَانٌ بَلْ هُوَ عَبْدُكَ، ثُمَّ قَالَ بَلَى هُوَ عَبْدِي وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَلْ هُوَ عَبْدُكَ رَدٌّ لِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارٌ بِمِلْكِ الْعَبْدِ لَهُ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 158 لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُنَاقِضًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ لِلتَّنَاقُضِ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا، فَقَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِي إلَّا هَذَا الْبَيْتَ وَجَحَدَهُ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ، فَإِنْ قَالَ كَانَ الْبَيْتُ لِي فَبِعْتُهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الشُّهُودَ، وَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ إلَّا أَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ بِتَوْقِيفٍ مُحْتَمَلٍ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ، وَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ الْبَيْتُ لِي قَطُّ فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ إذَا شَهِدُوا لَهُ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِبَيَانِهِ مِنْ سُؤَالِهِ، فَإِنْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُكَذِّبٌ شُهُودَهُ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّوْقِيفِ، فَإِذَا أَبَى أَنْ يُوقِفَ نَفَى ظَاهِرَ الْإِكْذَابِ أَرَأَيْتَ لَوْ قُضِيَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُدَّعِي مَا كَانَ الْبَيْتُ لِي قَطُّ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ إبْطَالُ قَضَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُقْضَى إذَا لَمْ يُبَيِّنْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ. وَإِنْ قَالَ كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ فَأَبْرَأْتُهُ مِنْ أَلْفٍ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَفِي الْقِيَاسِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ وَمَا دَامَ التَّوْقِيفُ مُمْكِنًا فَالْمَانِعُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِلْإِكْذَابِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِذَا أَقَرَّتْ الْأَمَةُ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ فَبَاعَهَا الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا بِإِقْرَارِهَا وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِذَا ادَّعَتْ عِتْقًا بَعْدَ الْبَيْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى عِتْقٍ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ الْأَصْلِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا انْقَادَتْ لِلْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِأَنَّهَا لَمْ يَجْرِ فِيهَا مِنْ الْبَائِعِ عِتْقٌ قَبْلَ هَذَا فَتَكُونُ مُنَاقَضَةً فِي دَعْوَى الْعِتْقِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا ادَّعَتْ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فَالتَّنَاقُضُ ظَاهِرٌ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا وَمَعَ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى لَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةً، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ التَّنَاقُضُ بِعَدَمِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ مَعَ التَّنَاقُضِ، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ، فَقَالَ: لِأَنَّ هَذَا فَرْجٌ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ الْفَرْجُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً حِسْبَةً، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَأَمَّا التَّنَاقُضُ مِنْ الْعَبْدِ فَيَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُنَا؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بَعْدَ تَأَكُّدِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ. وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 159 التَّنَاقُضُ فِيهِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ كَالنَّسَبِ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ فِي دَعْوَى النَّسَبِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ حَتَّى أَكْذَبَ الْمُلَاعَنُ نَفْسَهُ لَثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ عَبْدًا وَدَفَعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَقَبَضَ ثَمَنَهُ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَذَهَبَ بِهِ إلَى مَنْزِلِهِ وَالْعَبْدُ سَاكِتٌ، وَهُوَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ إنْقَادٌ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ شَرْعًا إلَّا فِي الرَّقِيقِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي بَعْضِ مَا تَمَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ أَوْ دَفَعَهُ بِجِنَايَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِقِّهِ فَانْقِيَادُهُ لِذَلِكَ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ، ثُمَّ قَالَ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ رِقُّ الْمَحَلِّ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ عِنْدَ إيجَابِهِ أَوْ إيجَابِ الْغَيْرِ بِبَيَانِهِ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ حَقًّا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَخْدُمُهُ، ثُمَّ قَالَ أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا خَدَمَ الْمُسْتَأْجِرَ بِإِجَارَتِهِ، قَالَ: وَالْإِجَارَةُ لَيْسَتْ بِإِقْرَارٍ مِنْ الْخَادِمِ بِالرِّقِّ وَهِيَ إقْرَارٌ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَمُبَاشَرَتُهُ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَأَمَّا إيجَابُ الْمَنْفَعَةِ لِلْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ لِأَحَدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعِرْنِي هَذَا يَخْدُمْنِي كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْ الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى يَدِنَا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ بَلَدٍ وَمَعَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ يَخْدُمُونَهُ فَادَّعَى أَنَّهُمْ رَقِيقُهُ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كَانُوا أَحْرَارًا؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَقْوَى عَلَى مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَغِلْمَةً عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حَبَشًا فَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُنَافِي حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ إنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَقْوَى فَمَا لَمْ يُقِرَّ بِالْمِلْكِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فِي الْحُرِّيَّةِ. وَلَوْ عَرَضَ جَارِيَةً عَلَى الْبَيْعِ وَهِيَ سَاكِتَةٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْجِيبِ أَنَّهُ كَيْفَ تَعْرِضُنِي وَأَنَا حُرَّةٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِخْفَافِ فَعَلَيْهِ لَا الْتِفَاتَ إلَى كَلَامِهِ لِكَوْنِهِ لَاعِبًا فَلِهَذَا يُجْعَلُ إقْرَارًا بِالرِّقِّ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ آخَرَ فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى الَّذِي زَوَّجَهَا أَنَّهَا أَمَتُهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْقِيَادَهَا بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهَا بِالرِّقِّ كَانْقِيَادِهَا لِلْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ مَحَلٌّ لِلنِّكَاحِ. وَلَوْ كَاتَبَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ أَوْ قَالَتْ كَاتِبْنِي أَوْ أَعْتِقْنِي أَوْ بِعْنِي نَفْسِي أَوْ بِعْنِي مِنْ فُلَانٍ أَوْ ارْهَنِّي مِنْ فُلَانٍ أَوْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 160 تَزَوَّجْ فُلَانَةَ عَلَى رَقَبَتِي أَوْ قَالَتْ لِامْرَأَةٍ اخْتَلِعِي مِنْ زَوْجِكَ عَلَى رَقَبَتِي فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ مِنْهَا بِالرِّقِّ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَتْ بِهِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ فِيهَا إلَّا بِرَقَبَتِهَا فَتَصْرِيحُهَا بِذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ أَجِّرْنِي مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالرِّقِّ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْنِي كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِحُّ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الرِّقِّ مِمَّنْ هُوَ يَمْلِكُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَلَمْ تَعْتِقْنِي أَمْسِ أَوَ لَيْسَ قَدْ أَعْتَقْتَنِي أَمْسِ أَوْ مَا أَعْتَقْتَنِي أَمْسِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) امْرَأَةٌ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلِّقْنِي فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ مَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْإِطْلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ أَطْلِقْنِي عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْبَدَلَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْبَدَلُ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَنْهَا بِالْخُلْعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ طَلَّقْتَنِي أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَنْتِ مِنِّي مُظَاهِرٌ أَوْ مُولٍ فَإِنَّ شَيْئًا مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِقْرَارُهَا بِهِ تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ اخْتَلِعِي مِنِّي بِمَالٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي، فَقَالَ لَهَا اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكَ بِيَدِكَ فِي الطَّلَاقِ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ الطَّلَاقَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ لَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيُ مُوجِبِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَنَفْيُ مُوجِبِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنَةٌ أَوْ بَتَّةٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ وَمُوجَبُ النِّكَاحِ ضِدُّهُ، وَهُوَ الْحِلُّ فَوَصْفُهَا بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنْ تَقُولَ لَهُ طَلِّقْنِي فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ أَنَّ مُذَاكَرَةَ الطَّلَاقِ مُعَيِّنَةً لِلطَّلَاقِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْبَيِّنَةِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُولٍ مِنْكَ أَوْ مُظَاهِرٌ كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 161 بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ ضِدُّ مُوجَبِ النِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ أَلَمْ أُطَلِّقْكِ أَمْسِ أَوْ أَمَا طَلَّقْتُكِ أَمْسِ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] أَيْ قَدْ أَتَاكُمْ وَتَقْرِيرُ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْرَارًا بِهِمَا. وَلَوْ قَالَ هَلْ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَتْ هَذَا ابْنِي مِنْكَ، فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً أَنَّهَا حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالشَّرْعُ إنَّمَا يُرِيدُ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ وَلَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا بِالنِّكَاحِ فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى النَّسَبِ اتِّفَاقًا عَلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِحُرٍّ أَوْ لِعَبْدٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ، فَإِنْ عَجَزَ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَصَارَ الْمَوْلَى مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْحُدُودِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَهْرٍ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا هُوَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَقَرَّ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ افْتَضَّ امْرَأَةً بِأُصْبُعِهِ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ صَبِيَّةً فَهَذَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ التَّاجِرَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ. وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْجِنَايَةِ صَحِيحٌ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِيهِ وَكَسْبُهُ حَقُّهُ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَطَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا عَجَزَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ قُلْنَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يَبْطُلُ إقْرَارُهُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِقَتْلِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 162 رَجُلٍ خَطَأً، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ هُنَا الْجَوَابُ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأِ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى كَسْبِهِ بِالْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَدَفَعَ بِهِ، فَأَمَّا جِنَايَتُهُ بِالِافْتِضَاضِ بِالْأُصْبُعِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ مُطَالَبًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ إقْرَارَهُ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِأَرْشِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَدَّى بَعْضَهُ، ثُمَّ عَجَزَ بَطَلَ فِيهِ مَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِهِ إنَّمَا يُطَالَبُ بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ تَاجِرٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ وَأَرَادَ مَوْلَاهُ أَخْذَهُ مِنْ الْمُقِرِّ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا حَتَّى لَا يَتِمَّ كَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ فَأَخْذُ الْمَوْلَى لِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بِوَدِيعَةٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا جَازَ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي يَدِ الْمُودَعِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالٌ فَأَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ صَحَّ إنْ كَانَ مَأْذُونًا، وَلَمْ يَصِحَّ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ دُونَ الْآخَرِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَجَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِشَيْءٍ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا اخْتِصَاصُ الْإِذْنِ يُعَلِّقُ دَيْنَ الْعَبْدِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لَا بِصِحَّةِ الِاكْتِسَابِ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا يُسَلَّمُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ شَيْءٌ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْعَبْدُ دَيْنَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَلَامَةَ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَاكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ ذَلِكَ الْكَسْبُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ وَلَوْ أَقَرَّ هَذَا الْعَبْدُ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ وَنَصِيبُ الَّذِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 163 لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَأَجْعَلُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبٍ يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ التِّجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مِنْ الرَّقَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الَّذِي لَا يَعْتَمِدُ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْإِذْنِ كَالْمَوْهُوبِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَا اكْتَسَبَهُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ سَبَبَ حُصُولِ ذَلِكَ الْكَسْبِ تِجَارَةٌ وَالْإِقْرَارُ مِنْ التِّجَارَةِ وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِسَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ يَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَإِذَا ظَهَرَ فِيهِ لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْإِقْرَارَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ حُقُوقَهُ عَنْ فُلَانٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مِنْ الْمُقِرِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جَمِيعُ مَا فِي يَدِي لِفُلَانٍ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِبَيَانِ الْمُقِرِّ وَلَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ فِي يَدِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِهِ هُنَاكَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كُلُّ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَكُلُّ كَفَالَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ حَدٍّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ فَكُلُّ هَذَا حَقٌّ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ، وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْأَمَانَةُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كَالْوَدِيعَةِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصٌّ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانَةُ إذْ لَا وُجُوبَ فِي ذِمَّةِ الْأَمِينِ. وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عِنْدَهُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْأَمَانَةُ خَاصَّةً، فَأَمَّا الْغُصُوبُ وَالْوَدَائِعُ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا فَقَدْ صَارَ ضَمَانُهَا مُسْتَحَقًّا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الدُّيُونِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ. وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي قِبَلَهُ بَرِئَ مِنْ الْأَمَانَةِ وَالْغُصُوبِ جَمِيعًا، وَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْهَدَ شُهُودُهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ أَوْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّعْوَى إلَّا أَنْ يَعْلَمَ خُرُوجَ مَا ادَّعَاهُ الْعَامَّةُ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 164 الْخُصُوصِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ قِبَلَهُ، ثُمَّ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَيَّ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِنْسِ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي قِبَلَهُ أَوْ مِمَّا لِي قِبَلَهُ أَوْ مِنْ دَيْنِي عَلَيْهِ أَوْ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحُقُوقِ الْكَفَالَةُ وَالْجِنَايَةُ الَّتِي فِيهَا قَوَدٌ أَوْ أَرْشٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى قِبَلَهُ حَدَّ قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ وَدَعْوَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ إنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ قَذْفِهِ إيَّايَ، ثُمَّ طَلَبَهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مُوجِبِ قَذْفِهِ إيَّايَ فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ عَيْنِ الْقَذْفِ لَا تَتَحَقَّقُ وَمُوجَبُ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نَفَى حَقَّهُ مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلسَّبَبِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَا مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ: مَا قَذَفَنِي لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الْقَذْفِ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ. وَلَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ السَّرِقَةِ الَّتِي ادَّعَيْتُهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَلَا قَطْعٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُ وَبِدُونِ خُصُومَتِهِ لَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ. وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالٍ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَرَّضَ فِي كَلَامِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِنَفْسِهِ وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَرَاءَةً مِنْ حَقٍّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبَلَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْحَقُّ مَذْكُورًا بِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفْسِ الْغَيْرِ تَكُونُ إظْهَارًا لِلْعَدَاوَةِ مَعَهُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ إظْهَارٌ لِلْمَحَبَّةِ. وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّارِ عَلَى الْعُمُومِ وَاتِّصَالُهُ بِالدَّارِ مِنْ حَيْثُ مِلْكُهُ أَوْ حَقٌّ لَهُ فِيهِ فَإِخْرَاجُهُ نَفْسَهُ مِنْهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا وَلَا مِلْكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ اتِّصَالَهُ مِنْ فُلَانٍ مِنْ حَيْثُ الْمَحَبَّةُ وَالتَّنَاصُرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا مَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَنَاصُرَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ تَبَرُّؤَهُ عَنْ الْعَيْنِ يَكُونُ إقْرَارًا بِانْقِطَاعِ سَبَبِ اتِّصَالِهِ بِهِ، وَذَلِكَ بِالْمَلْكِ أَوْ الْحَقِّ. وَلَوْ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 165 الدَّارِ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفِعْلِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الدَّارِ وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا انْتِفَاءَ حَقِّهِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ خَرَجْتُ مِنْهَا. وَإِنْ قَالَ: قَدْ خَرَجْتُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضْتُهَا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ إخْبَارًا بِعَيْنِ الْفِعْلِ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ أَوْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضُ وَالدَّيْنُ، فَإِنْ أَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ، وَقَالَ هُوَ لِي، وَقَدْ أَخَذْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ غَصْبًا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِأَخْذِ الْمِائَةِ مِنْهُ وَادَّعَى لِأَخْذِهِ شَيْئًا، وَهُوَ الصُّلْحُ، فَإِذَا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّبَبَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَرِدُّ الْمِائَةَ إذَا حَلَفَ وَيَكُونُ الْمُقِرُّ عَلَى خُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الصُّلْحِ قَدْ بَطَلَ بِإِنْكَارِ صَاحِبِهِ وَاسْتِرْدَادِهِ بَدَلَ الصُّلْحِ. وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ: قَدْ بَرِئْتُ مِنْ دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ كَانَتْ هَذِهِ بَرَاءَةً لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَهَبْتُ الَّذِي لِي عَلَيْهِ لَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ قَابِلٍ لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودٍ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَتَصِيرُ الْهِبَةُ فِيهِ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا يَكُونُ طَلَاقًا وَهِبَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ اعْتَاقَا وَهِبَةُ الْقِصَاصِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَفْوًا، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فَلَمْ يَقْبَلْ الْهِبَةَ أَوْ كَانَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ، فَقَالَ لَا أَقْبَلُ فَالْمَالُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ إبْرَاءَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَيُسْقِطَ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ احْتَمَلَ الِارْتِدَادَ بِرَدِّهِ وَلِكَوْنِهِ إسْقَاطًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ لَهُ بِنَفْسِ الْإِسْقَاطِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَعُودَ بِرَدِّهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ تَمَّ الْإِسْقَاطُ بِمَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْرَاءِ عُرْفًا فَهُوَ وَقَوْلُهُ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ، وَكَانَ بَرَاءَةً مِنْ كُلِّ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلضَّمِّ وَكَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ. وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ إلَيْهِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ مُتَّصِلٍ بِالطَّالِبِ حِينَ وَصَلَهُ بِنَفْسِهِ بِحَرْفِ إلَى، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَتَمَامَهُ مِنْ الطَّالِبِ بِقَبْضِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ وَالْحَدَّ؛ لِأَنَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 166 الْقِصَاصَ اسْمٌ خَاصٌّ لِعُقُوبَةٍ هِيَ عِوَضُ حَقِّ الْعِبَادِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْحَدُّ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْخَطَأِ وَالْحَدِّ مَالٌ وَمُعْظَمُ الْحَقِّ فِي الْحَدِّ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ خَطَأً قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَمْدَ إنْ كَانَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ لَا لِمُوجَبِهِ وَالْعَمْدُ ضِدُّهُ فَلَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِصِفَةٍ نَفْيًا مِنْهُ فِعْلًا بِضِدِّ تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَصْفِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ جِرَاحَةً عَمْدًا وَلَا خَطَأً؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ إذْ الْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ وَنَفْيُ الْفِعْلِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ ضَرُورَةً وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الدَّمَ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ، وَفِيمَا دُونَهَا أَمَانَةٌ لِجُزْءٍ مَا هُوَ دُونَهَا فِي الْجُرْحِ وَلَا مُغَايِرَةَ أَبَيْنَ مِنْ مُغَايِرَةِ مَحَلِّ الْفِعْلِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَادَّعَى سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَى حَدًّا هُوَ حَقُّهُ وَحَدُّ السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَعْمَلَ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَلَا يُعْتَبَرُ خُصُومَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْقَطْعِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي دَعْوَى الْمَالِ، وَهُوَ مَا نَفَى ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دَمًا خَطَأً وَلَا عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ نَفَى بِإِقْرَارِهِ الدَّمَ مُطْلَقًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مُوجَبُ الدَّمِ كَالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا دُونَ الدَّمِ، وَالدَّمُ فِي عَرْفِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ النَّفْسِ نَفْيُ مَا دُونَهَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دِيَةً خَطَأً وَلَا صُلْحًا عَنْ دَمِ عَمْدٍ وَلَا عَنْ كَفَالَةٍ بِدِيَةِ نَفْسٍ وَلَا عَنْ قِبَلِ شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْشِ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ بِالصُّلْحِ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ عَلَى الْكَفِيلِ بِكَفَالَتِهِ بِهِ فَإِقْرَارُهُ بِنَفْيِ الْأَرْشِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَعْتِقْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَكِنَّ دِينَ الْمُقِرِّ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ قَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْمُقِرِّ فِيهِ عِتْقٌ كَانَ خَبَرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا وَالْكَذِبُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّينَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 167 بِهِ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَقُلْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَعْتِقْ لِمَا سَبَقَ أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ كَعَمَلِ الشَّرْطِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْعِتْقِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مَوْصُولًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ الْيَوْمَ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْعِتْقِ فِيهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُكَ قَبْلَ أَنْ اشْتَرَيْتُكَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا لَا بَلْ هَذَا عِتْقًا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِعِتْقِهِ صَحِيحَةٌ فَلِهَذَا عَتَقَا. وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ الْعَبْدُ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ مَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَادَّعَى وُجُوبَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْزِلُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِقَبُولِهِ فَلِهَذَا عَتَقَ الْعَبْدُ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْلِفَ الْعَبْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ أَمْرَك بِيَدِكَ فِي الْعِتْقِ أَمْسِ فَلَمْ تُعْتِقْ نَفْسَكَ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ أَعْتَقْتُ نَفْسِي لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ فِي يَدِهِ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مَا لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَالْعَبْدُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ وَلَا قَوْلَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالِ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُ أَوْ قَالَ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ إعْتَاقَهُ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَوْ أَقَرَّ بِتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْعَبْدِ فِي إيجَادِ الشَّرْطِ وَلَا فِي إنْكَارِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَاخْتَارِي، فَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ عَلَى إعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ، وَلَمْ يُسَمِّ مَالًا، وَقَالَ الْعَبْدُ لَا بَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُصَدَّقَ الْعَبْدُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَيَتَحَالَفَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَيُحْتَمَلُ الْفَسْخُ كَالْبَيْعِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَّتْ بِالْعِتْقِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالطَّلَاقُ بِمَالٍ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي الزِّيَادَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 168 الْكِتَابَةَ عَلَى قِيَاسِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْعِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُدَّعِيًا لِلْكِتَابَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَالًا، ثُمَّ نَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ الْمَوْلَى لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْكَارِ أَصْلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَى مَالًا خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا إذَا ادَّعَى الْمَوْلَى خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ وَتَحَالَفَا فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ الْكِتَابَةَ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي هَذَا قِيَاسُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَيَلْزَمُ الْإِيجَابُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَوْلُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ فُلَانٌ: قَبِلْتُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْإِيجَابُ فِيهِ لَازِمٌ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِفِعْلِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ هَذَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا بَلْ هَذَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكِتَابَةَ جَازَ ذَلِكَ لَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ مَوْصُولًا فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَفِي الْأَوَّلِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرُّجُوعِ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَهُ، وَهُوَ صَبِيٌّ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ بَلْ كَاتَبْتَنِي وَأَنْتَ رَجُلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْكِتَابَةَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ أَوْ أَنَّهُ كَاتَبَهُ أَمْسِ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي أَصْلَ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى: اشْتَرَطْتُ الْخِيَارَ لَانْتَفَى أَصْلُ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْخِيَارِ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ وَجَعْلِ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ لَا أَنْ يَصِيرَ أَصْلُ السَّبَبِ مُتَعَلِّقًا فَلَمْ يَكُنِ الْمَوْلَى بِدَعْوَى الْخِيَارِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْبَيْعِ فِي هَذَا قِيَاسُ الْكِتَابَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْكُفَّارِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَقَرَّ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَيْنٍ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 169 أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِلْمُسْلِمِ بِالْمُعَامَلَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهُ، وَهُوَ سَبَبٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ دُخُولِ دَارِنَا بِأَمَانٍ، فَإِنْ قَالَ أَدَانَنِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ أَوْ مَفْصُولًا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي دَعْوَى التَّارِيخِ، وَإِنْ وَصَلَ كَلَامُهُ، وَلِأَنَّ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ فَإِنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمْ أَوْ يَصِرْ ذِمِّيًّا فَيَصِيرُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْأَجَلِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ أَوْ لِذِمِّيٍّ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لَهُ. وَإِقْرَارُ الْمُسْتَأْمَنِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَلَدِ وَالْجِرَاحَاتِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا كُلِّهِ حَقُّ الْعِبَادِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِذَلِكَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا حَتَّى إذَا بَاشَرَ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِحَدِّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنْ ثَبَتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الذِّمِّيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدَّ وَحَدِّ الْقَذْفِ مَعْرُوفٌ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ إذَا أَقَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَلَوْ أَقَرَّ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فِي يَدِهِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لِلْمُسْلِمِ مَمْلُوكَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيُؤْمَرُ الذِّمِّيُّ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَيُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُخَلِّلَهَا. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِجِلْدِ شَاةٍ مَيِّتَةٍ يُؤْمَرُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِذِمِّيٍّ يَعْنِي بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَأَقَرَّ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَهُ خِنْزِيرًا بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: اسْتَهْلَكْتُهُ قَبْلَ إسْلَامِي فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ. إذَا قَالَ لِحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ أَتْلَفْتُ مَالَكَ أَوْ قَطَعْتُ يَدَكَ حِينَ كُنْتَ حَرْبِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَقَرَّ بِخَمْرٍ، وَقَالَ اسْتَهْلَكْتُهَا وَأَنَا حَرْبِيٌّ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا مِنْ قَبْلُ فَهُوَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 170 عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدِّ بِالْحُقُوقِ جَائِزٌ إنْ أَسْلَمَ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي كَسْبِ إسْلَامِهِ وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدَّةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُمَا جَائِزٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الصَّحِيحِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَهَذَا نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ السِّيَرِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِمُكَاتَبَةِ عَبْدٍ لَهُ أَوْ بِعِتْقِهِ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ. وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمُرْتَدَّةُ أَوْ الْمُرْتَدُّ بِحَدٍّ فِي قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ جِرَاحَةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ، وَلِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعُقُوبَاتِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَالَ فَإِقْرَارُهُ بِهَا يُوقَفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَكُونُ نَافِذًا عِنْدَهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدًا أَتَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى يَدِهِ مُعَلَّقَةً فِي عُنُقِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجَبَةِ لِلْعُقُوبَةِ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الْحَدِيثِ أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ فَقَطَعَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ إقْرَارَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَذُكِرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَتَى عَبْدٌ قَدْ رَأَيْتُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ قَنْبَرًا، وَقَالَ اضْرِبْهُ، فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ فَلَمَّا وَفَّاهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً قَالَ لَهُ الْعَبْدُ اُتْرُكْنِي فَتَرَكَهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلِقَوْلِهِ " فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ " تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلِمَ فِقْهَ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ لَهُ اُتْرُكْنِي إلَّا بَعْدَ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ اُتْرُكْنِي بَعْدَ خَمْسِينَ جَلْدَةً. وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِدَمِ عَمْدٍ وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ مَالٌ فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ يَكُونُ مُوجَبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَكَوْنُ دَمِهِ خَالِصَ حَقِّهِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مَالًا بَطَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ مَوْلَاهُ، وَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ لَا يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقَطْعُ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ وَمَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقٌّ لِمَوْلَاهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 171 إقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْمَالِ بِهَذَا السَّبَبِ صَحِيحٌ كَإِقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ. وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمْ. وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الصَّاحِي بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ يَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَوْ بِالْحَدِّ أَوْ بِمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ أَوْ بِمَا لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ غَلَبَةِ السُّرُورِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ شَيْئًا فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا يَنْفُذُ مِمَّنْ هُوَ صَاحٍ. وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ فَهَذِهِ الْآفَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ وَلَا فِي لِسَانِهِ فَهُوَ فِي أَقَارِيرِهِ كَالصَّاحِي. وَإِقْرَارُ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ يَكْتُبُ وَيَعْقِلُ جَائِزٌ فِي الْقِصَاصِ وَحُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ لَهُ إشَارَةً مَفْهُومَةً تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ مَا خَلَا الْحُدُودَ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يَسْتَدْعِي التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَبِإِشَارَتِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَعَلَّ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِهَا بِإِشَارَتِهِ إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ كُلِّ شَيْءٍ بِإِشَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا لِأَنَّا لَوْ أَقَمْنَاهَا كَانَ إقَامَةً لِلْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ الْمَعْتُوهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالٍ أَوْ جِنَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ لَهُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ قَوْمٍ أَوْ كَتَبَ وَصِيَّةً، ثُمَّ قَالَ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ، وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ الصَّكَّ، وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ إذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِيَدِهِ أَوْ أَمْلَاهُ عَلَى إنْسَانٍ فَكَتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، وَهُوَ بِقَوْلِهِ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ صَارَ مُقِرًّا بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ مُشْهِدًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إظْهَارَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا فَالْإِقْرَارُ بَيَانٌ بِاللِّسَانِ، وَذَلِكَ بِالْإِمْلَاءِ حَاصِلٌ، وَلَكِنْ لَا يُؤْمَنُ النِّسْيَانُ فَالْكِتَاب يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا كِتَابَتَهُ وَلَا إمْلَاءَهُ لَمْ تَجُزْ شَاهِدَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِمَا فِي الْكِتَابِ حِينَ لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إلَى رَجُلٍ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لَكَ عَلَيَّ مِنْ قِبَلِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 172 فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ إذَا كَتَبَ مَا يَكْتُبُ النَّاسُ فِي الرَّسَائِلِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِتَجْرِبَةِ الْخَطِّ وَالْقِرْطَاسِ، وَقَدْ يَكُونُ لِيُعَلَّمَ كَتْبَ الرِّسَالَةِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حَجَّةً، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَكْتُبُونَ كِتَابَ الرَّسَائِلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْلَامِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ، فَإِذَا تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ مُحْتَمِلٍ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مَعْنًى بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَإِنْ جَحَدَ وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ أَوْ أَمْلَاهُ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ فَإِنِّي آخُذُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَاتٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَاحْتِمَالُ جِهَاتٍ أُخْرَى سِوَى مَا تَرَجَّحَ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ حُجَّةً فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْخُصُومَةِ حَقِيقَةً فِي الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ بِهَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَإِنْ كَتَبَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي صَحِيفَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَبْقَى مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَكْتُوبِ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرَّسَائِلِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أُجِيزُ كِتَابَ الْقَاضِي حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَأَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الْكِتَابَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ وَشَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أُجِيزُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَفِي تَكْلِيفِ إعْلَامِهِمْ مَا فِي الْكِتَابِ نَوْعُ حَرَجٍ وَبِالْخَتْمِ يَقَعُ الْأَمْنُ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبُولَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا كِتَابُ الْخُصُومَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى التَّبْدِيلِ لِذَلِكَ كِتَابٌ آخَرُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشُّهُودِ مَا فِي الْكِتَابِ. وَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ صَكَّا، فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالَ نَعَمْ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ اشْهَدْ عَلَى جَمِيعِ مَا قُرِئَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ جَمِيعًا وَهَذَا مِنْ الْمُجِيبِ إقْرَارٌ تَامٌّ فَلِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 173 أَشْهَدَ الرَّجُلُ قَوْمًا عَلَى شَهَادَةٍ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُونَ فَشَهِدُوا فَهِيَ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ. وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ حُضُورٌ، ثُمَّ قَالَ اخْتِمُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتِمُوا مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا تَظْهَرُوهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيَّ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَإِنَّ الشَّيْءَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مَحْفُوظًا تَارَةً وَلِيَكُونَ مَكْتُومًا أُخْرَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا أَنَشْهَدُ عَلَيْكَ، فَقَالَ اخْتِمُوهُ وَلَوْ قَالُوا نَخْتِمُ هَذَا الصَّكَّ، فَقَالَ اشْهَدُوا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلِاسْتِئْمَانِ بِالْحَقِّ وَالْأَمْنِ مِنْ الْجُحُودِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ خَاصٌّ شَرْعًا لِإِظْهَارِ الْحُقُوقِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَوْ أَبْدَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي مِنْهُ شَهَادَتَهُ فَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى الْكِتَابِ إذَا أَبْدَلَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ مُحْتَمِلٌ لَا يَكُونُ إظْهَارًا لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إلَيَّ أَنِّي ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ أَضْمَنْ لَكَ أَلْفًا وَإِنَّمَا ضَمِنْتُ لَكَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ شَهِدَا كِتَابَتَهُ، ثُمَّ مَجِيءُ كِتَابِهِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا اشْهَدَا وَلَا اخْتِمَا فَلِلِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لَا تُكْتَبُ الرِّسَالَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، ثُمَّ مَحْوُهُ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّكِّ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ وَهَذَا فَرْقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ أَيْضًا فَإِنَّ الصُّكُوكَ تَوْثِيقُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا وَكُتُبِ الرَّسَائِلِ تَخْلُو عَنْ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الْكِتَابَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُلْزِمًا إيَّاهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَكُلُّ حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَلَوْ كَتَبَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ قُدَّامَ رَجُلَيْنِ أُمِّيَّيْنِ لَا يَقْرَآنِ وَلَا يَكْتُبَانِ فَأَمْسَكَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدَا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَتَبَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَ الْقَاضِي مَا فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَا مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ يَقْرَآنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي مُفَسَّرًا وَأَصْلُهُ فِيمَا ذُكِرَ كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا وَجَدَ فِي خَرِيطَتِهِ سِجِلًّا فِيهِ حُكْمُهُ وَخَتْمُهُ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تِلْكَ فَيَقُولُ أَصْلُ الْحَادِثَةِ هُنَاكَ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 174 كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ، ثُمَّ نَسِيَهُ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ التَّبْدِيلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ تَحْتَ خَاتِمِهِ وَهُنَا أَصْلُ الْحَادِثَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَعْرِفُ الْكَاتِبَ، وَلَمْ يَسْمَعْ الْكَاتِبَ يُخْبِرْ فَلَمْ يُسْنَدْ عِلْمُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَصْلًا. وَلَوْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّا قُدَّامَ أُمِّيَّيْنِ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيْهِ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِلشَّاهِدِ بَاطِلٌ فَذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ الْإِشْهَادُ عَلَى كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا وَالْإِشْهَادُ عَلَى الصَّكِّ شَرْطٌ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا. وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً فِي تُرَابٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ انْعِدَامِ الْفَرْقِ الْمُرَجِّحِ فِي هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِهَذَا فَحِينَئِذٍ هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ فِي التُّرَابِ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ، فَإِذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَعْلُومٍ صَارَ كَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ بَيْنَ أَيْدِيهمْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَهُ فِي خِرْقَةٍ أَوْ صَحِيفَةٍ أَوْ لَوْحٍ بِمِدَادٍ أَوْ بِغَيْرِ مِدَادٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْخَطَّ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ كَالصَّوْتِ الَّذِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْحُرُوفُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَالْكِتَابَةُ الَّتِي يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ لَا تُوجِبُ إعْلَامَ شَيْءٍ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابِ الْحِفْظُ عَنْ النِّسْيَانِ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَلَوْ كَتَبَ فِي صَحِيفَةِ حِسَابِهِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ حَضَرَا ذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ هُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ فِي صَحِيفَةِ الْحِسَابِ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِيَارَ أَئِمَّةِ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ كَتَبَ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِخَطِّهِ قُدَّامَ شَاهِدَيْنِ وَبِمَحْضَرٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْمَالُ، وَهُوَ كَانَ يَعْرِفُ مَا يَكْتُبُ، ثُمَّ قَالَ لِلشَّاهِدَيْنِ اشْهَدَا، فَقَالَ فُلَانٌ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ نَعَمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُمَا فِي سَعَةٍ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ وَأَشْهَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ صَارَ مَعْلُومًا كَمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا كِتَابَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَتَمَامُ الصَّكِّ بِالْإِشْهَادِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَعَمْ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَقُولُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا فَيَقُولُ مَنْ عَلَيْهِ بَلَى وَبَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 175 [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فِي الْحَيَوَانِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَبْدًا، ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ كَمَا يَقْضِي فِي الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إقْرَارُهُ بِالْعَبْدِ دَيْنًا عَلَيْهِ كَإِقْرَارِهِ بِغَصْبِ عَبْدٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ وَصْفٌ بَلْ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ بَيَّنَهُ قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِوُجُوبِ الْمُقَرِّ بِهِ سَبَبٌ هَذَا لِمُطْلَقِ إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي إقْرَارِهِ لِسَبَبٍ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ مُعَارَضَةٌ فَلَا تَتَعَيَّنُ وَتَعْيِينُ صِفَةِ الْوَسَطِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا فَيُضْرَبُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَى السَّبَبِ الَّذِي يُثْبِتُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. وَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ وَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ صَدَاقًا وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ فِيهِ الْوَسَطُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهِ لِرَجُلٍ فَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ زَوَّجَهُ ثَلَاثَةً عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ فَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلْأَبِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُقِرَّ امْرَأَةٌ فَلَعَلَّهَا ضَمِنَتْ الصَّدَاقَ عَنْ الزَّوْجِ، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَنْكُوحَةُ فَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِأَبِيهَا عَلَى الضَّامِنَةِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ كَمَا يَثْبُتُ صَدَاقًا يَثْبُتُ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْوَاجِبُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فَأَيُّهُمَا أَتَى بِهِ جُبِرَ الطَّالِبُ عَلَى قَبُولِهِ فَبِالْإِقْرَارِ تَثْبُتُ هَذِهِ الصِّفَةُ أَيْضًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ يَنْصَرِفُ إلَى الْتِزَامٍ بِسَبَبِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْجِهَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْجَنِينِ. وَإِذَا قَالَ لَهُ عَبْدٌ فُرِضَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدٍ وَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْقَرْضِ. وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مَعَ تَعْيِينِ الْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَتَتَعَيَّنُ الصِّفَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ بَقِيَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ عَبْدِهِ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ وَاسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْمَقْبُوضُ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِهِ قَوْلَهُ وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ قِيمَتِهِ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَابَّةٌ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَيِّ الدَّوَابِّ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي الجزء: 18 ¦ الصفحة: 176 شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِمَا أَقَرَّ بِهِ وَضْعًا بَلْ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُقِرِّ، فَإِذَا جَاءَ بِدَابَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَقَالَ هِيَ هَذِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنْ جَاءَ بِفَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا هَذِهِ الْأَجْنَاسَ الثَّلَاثَةَ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْبَيَانُ مِنْ الْمُقِرِّ إذَا كَانَ مُطْلِقًا لِلَفْظِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ نَخْلًا أَوْ بُسْتَانًا فَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَكُونُ دَيْنًا بِحَالٍ، وَلَكِنْ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَلَهُ مَجَازٌ مُحْتَمِلٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ رَدُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِغَصْبِ دَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ فَيُؤْخَذُ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ قَبْلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إقْرَارُهُ إلَى الْوَسَطِ عَلَى قِيَاسِ الْعَبْدِ وَصَحَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا دَيْنًا إلَّا فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ وَهُنَا الثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي مُبَادَلَةِ مَالٍ كَالسَّلَمِ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَصْفِ فِيهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِإِقْرَارِهِ هُنَا بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ فَلِهَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي بَيَانِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ شَيْئًا آخَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَى ثَوْبٍ، وَلَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ فَأَيُّ ثَوْبٍ جَاءَ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ اللَّبِيسُ وَالْجَدِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُسَمِّيَ ثَوْبًا؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ اسْمِ الثَّوْبِ لَا يَثْبُتُ الثَّوْبُ دَيْنًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ وَمَعَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْأَجَلِ يَثْبُتُ دَيْنًا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلَ الْمُقِرِّ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا هِبَةَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى صَدَقَةً أَوْ شِرَاءً فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى غَيْرَ مَا نَفَاهُ. وَلَوْ قَالَ لَا بَيْعَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ صُلْحٍ أَوْ قَالَ لَا صُلْحَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا شِرَاءً كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى غَيْر مَا نَفَاهُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ شَيْءٌ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَفِيمَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ مِنْ الْقَبْضِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْعَبْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَوْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ بِالرَّهْنِ فِي السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ حَتَّى يُعَايِنَ الشُّهُودُ التَّسْلِيمَ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 177 وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ تَصَادَقَا فِي رَهْنٍ بِغَيْرِ قَبْضٍ أَوْ عَلَى رَهْنٍ مَشَاعٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ عِنْدَنَا فَإِنَّمَا تَصَادَقَا عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مُلْزِمٍ وَلَوْ عَايَنَا مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَقَالَ فُلَانٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي دَيْنِهِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الرَّهْنِ فَاخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ لَا يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ فَلِهَذَا كَانَ رَهْنًا بِمَا اتَّفَقَا مِنْ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِكَذَا وَإِلَّا فَعَلَيْهِ كَذَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَوْ لِفُلَانٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَفَرَّعَ عَلَى مَا ذُكِرَ ثَمَّةَ، وَقَالَ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَقْرَضَنِيهَا أَمْسِ وَإِلَّا فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَهَذَا مِنْهُ تَأْكِيدٌ لِلْإِقْرَارِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِطَلَاقٍ أَوْ بِحَجٍّ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْإِقْرَارُ لِلْأَوَّلِ جَائِزٌ وَالثَّانِي مُخَاطَرَةٌ لَا يَلْزَمُهُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ فِعْلٌ وَآخِرُ كَلَامِهِ قَوْلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ وَإِلَّا بِمَعْنَى التَّرْدِيدِ كَحَرْفٍ أَوْ فَبَقِيَ مُقِرًّا بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ وَمُعَلِّقًا إقْرَارَهُ لِلثَّانِي بِشَرْطِ عَدَمِ الِاسْتِقْرَاضِ وَالْقَبْضُ مِنْ الْأَوَّلِ وَتَعْلِيقُ الْإِقْرَارِ بِالشَّرْطِ لَا يَجُوزُ. . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ابْتَعْتُ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَادًّا لِإِقْرَارِهِ حِينَ أَنْكَرَ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ. وَلَوْ قَالَ قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا وَإِلَّا فَغُلَامِي هَذَا حُرٌّ عَتَقَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ عِتْقَ الْأَوَّلِ بِالْيَمِينِ بِعِتْقِ الثَّانِي إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِمَحَلِّ قَوْلِهِ أَوْ وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ وَإِلَّا فَهَذَا أَوْ أَعْتَقْتُ هَذَا وَإِلَّا فَقَدْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 178 أَعْتَقْتُ هَذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَجَانَسَ الْكَلَامَانِ فَقَوْلُهُ وَإِلَّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَوْ كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا كُلِّهِ فَالْأَوَّلُ إيجَابٌ صَحِيحٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ فِي نَصِيبِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا لِفُلَانٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ صَحَّ إقْرَارُهُ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ عَلَى نَصِيبِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ نَصِيبِهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ عُشْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الدَّارِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إقْرَارُهُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِأَنْ يُحْمَلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَصِيبِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ رُبْعُ جَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ وَلِي رُبْعٌ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِي رُبْعٌ وَنِصْفُهُ وَجَحَدَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ فَإِنَّ نِصْفَ الدَّارِ حِصَّةُ الْمُقَرِّ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُقِرِّ سَهْمَانِ وَلِلْمُقَرِّ لَهُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامِلُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ نَفْسَهُ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ زَعَمَ الْمُقِرُّ هُنَا أَنْ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي سَهْمَيْنِ مِنْ ثُلُثِهِ وَحَقِّي فِي ثُلُثِهِ وَحَقُّ شَرِيكِي فِي ثُلُثِهِ إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ ظَلَمَهُمَا حِينَ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الظُّلْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً بَلْ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي وَيَبْقَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُقَرُّ لَهُ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُقِرُّ بِثُلُثِهِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا إيَّاهُ فَوَصَلَ الْإِقْرَارُ بِهَذَا، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ قَضَاهَا إيَّاهُ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحَالٌ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَمَا قَضَاهُ قَبْلَ هَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ وَالْكَلَامُ الْمُحَالُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ هَذَا الثَّوْبُ لِلْأَمِيرِ كَسَانِيهِ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِلْأَمِيرِ حَمَلَنِي عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ لَهُ كَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهَا وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ بَيَانٌ مُغَايِرٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ الْإِخْبَارُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إنَّمَا يُسْمَعُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا، فَإِذَا سَكَتَ تَقَرَّرَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَاجِبًا فِي الْحَالِ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 179 قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهَا مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ قَدْ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهِ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ كَذَا لَا يَكُونُ تَصْرِيحًا مِنْهُ بِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَائِمًا بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هُنَا حِينَ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ هُنَا تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ كُنْتُ قَضَيْتُهَا مِنْ قَبْلُ يَكُونُ مُنَاقِضًا فِيمَا صَرَّحَ بِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَوَصَلَهُ بِإِقْرَارِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ أَوْ وَهَبَهُ لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيَّ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ اسْتِحْسَانًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ عَبْدٌ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَيْتُهُ مِنْ فُلَانٍ الْآخَرِ بِخَمْسِمِائَةٍ دِرْهَمٍ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّمَنُ لِلْآخَرِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّعْيِينِ فَقَطْ دُونَ نَقْدِ الثَّمَنِ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا أَقَامَ عَلَى التَّعْيِينِ فَقَطْ فَالْمَبِيعُ مَقْبُوضٌ لَهُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ يَكُونُ مُتَأَكِّدًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ بِالْحُقُوقِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الثَّمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْعَبْدُ لِلْأَوَّلِ إذَا جَحَدَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِمِلْكِ أَصْلِ الْعَبْدِ لَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ شِرَاؤُهُ مِنْهُ حِينَ جَحَدَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ لِلثَّانِي أَنَّهُ قَبَضَ الْعَبْدَ مِنْهُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ فَلَهُ الثَّمَنُ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نَقْدِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ جَحَدَ الْبَيْعَ ضَمِنَ لَهُ الْمُقِرُّ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ إذَا لَمْ يَجِبْ بِهِ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَالْعُرُوضِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ فِي يَدَيْهِ بَيِّنَةَ وَبَيْنَ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ الْآخَرِ، ثُمَّ تَخَاصَمُوا إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْأَوَّلِ بِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَّكَهُ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ ظَاهِرًا فَيَكُونُ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالنِّصْفِ، ثُمَّ سَاوَى الثَّانِيَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ، وَعِنْدَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي مَا كَانَ يَمْلِكُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ إلَّا نِصْفَهُ فَصَارَ مُقَرًّا لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَسَاوَى الثَّالِثَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا رُبْعَهُ فَصَارَ مُقَرًّا لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ الرُّبْعِ، وَهُوَ الثُّمْنُ وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ الثُّمْنُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى مَيِّتٍ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 180 هُوَ وَارِثُهُ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَخْلُفُ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْعَبْدِ كُلِّهِ لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ إلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي إقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ دَابَّةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ، فَقَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ آخَرُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَضْمَنُ لِلثَّالِثِ نِصْفَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ أَنَّهَا لَهُ فَالثَّابِتُ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَيَتَغَايَرَانِ لِلتَّعَارُضِ فَتَبْقَى الدَّارُ فِي يَدِهِ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى أَلْفٍ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ هُنَا لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوَّارَةٌ فِي الْكُتُبِ مَعْرُوفَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا جَمِيعًا، وَقَالَ الْآخَرُ كُنْت وَحْدِي فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَبِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ قَدْ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا فَقَدْ أَقَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ قَدْ أَخَذْتُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ كَمْ وَزْنُهَا أَوْ مَتَى حِلُّهَا أَوْ مَا ضَرْبُهَا أَوْ قَدْ بَرِئْتُ إلَيْكَ مِنْهَا أَوْ قَدْ أَدَّيْتُهَا إلَيْكَ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ قَدْ بَرِئْتُ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ كَانَ لَكَ عَلَيَّ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَلْفِ، وَلَكِنَّهُ إقْرَارٌ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ الْإِيفَاءُ فَيَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَيَكُونُ مُجْبَرًا عَلَى بَيَانِهِ، وَإِذَا بَيَّنَهُ يَحْلِفُ الطَّالِبُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا عَلَيْهِ غَيْرُ هَذَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً، وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ دَارٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَادَّعَى عَلَيْهِ الشَّرِيكُ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 181 نِصْفَ الثَّوْبِ وَأَنْكَرَ الْمُقِرُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْأَخْذِ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالثَّوْبِ غَيْرِ مُتَوَلَّدٍ مِنْ الدَّارِ بَلْ مَوْضُوعٌ فِيهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ سَاكِنٌ فِي الدَّارِ يَضَعُ أَمْتِعَتَهُ فِيهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهَا فَلَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْيَدِ لَلشَّرِيكِ فِي الثَّوْبِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ بَيْتِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ هُوَ لِي فَالْمَالُ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ مِنْ بَيْتِهِ فَهُوَ كَإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ فِي يَدِهِ حُكْمًا لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِآخَرَ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ صُنْدُوقِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ كِيسِهِ أَوْ سَفَطِهِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا أَوْ مِنْ قَرْيَتِهِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مِنْ نَخْلِهِ كُرًّا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مِنْ زَرْعِهِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ أَخَذَ مَا كَانَ فِي يَدِ فُلَانٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ. وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ أَرْضِ فُلَانٍ عِدْلَ زُطِّيٍّ، ثُمَّ قَالَ مَرَرْتُ فِيهَا مَارًّا فَنَزَلْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ إذَا لَمْ يُعْرَفْ نُزُولُهُ فِيهَا وَيُقْضَى بِالزُّطِّيِّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ طَرِيقًا مَعْرُوفًا لِلنَّاسِ أَوْ يَكُونَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حِينَئِذٍ. وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالنُّزُولِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يُمْكِنُ كُلُّ شَرِيكٍ مِنْ السُّكْنَى فِيهَا فَلَا يَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ آخِذٌ لِلْعَدْلِ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ. وَلَوْ قَالَ أَخَذْتُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ كُنْت فِيهَا سَاكِنًا بِأُجْرَةٍ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ بَيَّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يُصَدَّقْ وَأُمِرَ بِرَدِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ يَدِهِ عَلَى الدَّارِ فِي وَقْتٍ مَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَخْذِ الْمِائَةِ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا أَتَى أَرْضَ فُلَانٍ هَذِهِ فَاحْتَفَرَ فِيهَا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ وَادَّعَاهَا رَبُّ الْأَرْضِ وَجَحَدَ الْحَافِرُ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ لَهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ مِلْكِهِ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ يَدِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَ صَاحِبَ الْأَرْضِ حَتَّى أَوْقَعَهُ أَوْ قَاتَلَهُ حَتَّى غَلَبَهُ، ثُمَّ احْتَفَرَ الْأَرْضَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ أَمَا كَانَ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ مَنْزِلِهِ كَذَا أَوْ مِنْ حَانُوتِهِ أَوْ أَخَذَ دُهْنًا مِنْ قَارُورَتِهِ أَوْ سَمْنًا مِنْ زِقِّهِ فَهَذَا وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ سَرْجًا كَانَ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ أَوْ لِجَامًا أَوْ حِمْلًا مِنْ حِنْطَةٍ كَانَتْ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ أَوْ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 182 طَعَامًا كَانَ فِي جُوَالِقِ فُلَانٍ قُضِيَ بِهِ لَهُ لِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ فَإِنَّ دَابَّةَ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ يَدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ بِطَانَةَ جُبَّتِهِ أَوْ سِتْرَ بَابِهِ فَالْإِضَافَةُ لِمِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ فِي أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَكِبَ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ لَبِسَ ثَوْبَ فُلَانٍ أَوْ اسْتَخْدَمَ خَادِمَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ فُلَانٌ آخَرُ مِنْهُ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ هُوَ غَصْبٌ مِنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ كَانَ ضَامِنًا. وَلَوْ قَالَ فُلَانٌ حَمَلَنِي عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ فِي سَفِينَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِفِعْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجَبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ هَذَا فِعْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُضِيفًا لِلْحَمْلِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مُوجَبٍ لِلضَّمَانِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثِيَابًا مِنْ حَمَّامِ فُلَانٍ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ الْحَمَّامَ فَيَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا فَلَا يَتَضَمَّنُ هَذَا اللَّفْظُ الْإِقْرَارَ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ فِي الثِّيَابِ. وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ وَالْكَعْبَةُ وَالْخَانُ وَالْأَرْضُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ وَيَضَعُونَ فِيهَا الْأَمْتِعَةَ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَضَعَ ثَوْبَهُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ ادَّعَاهُ رَبُّ الْبَيْتِ وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا قَالَ أَسْكَنْتُهُ دَارِي، ثُمَّ أَخَذْتهَا مِنْهُ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ طَرِيقِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فِنَاءِ فُلَانٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِنَاءَ اسْمُ لِسَعَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ مِلْكِهِ مُعَدَّةٍ لِمَنَافِعِهِ مِنْ كَسْرِ الْحَطَبِ وَإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ لِلنَّاسِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا. وَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ. وَلَوْ قَالَ أَخَذْتُ ثَوْبًا مِنْ أَجِيرِ فُلَانٍ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ يَدِهِ وَيَدُ الْأَجِيرِ فِي أَمْتِعَتِهِ يَدُ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَجِيرِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ مَسْجِدِ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ لَهُ خَاصَّةً فِي دَارِهِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مِلْكِهِ وَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ وَلَوْ قَالَ مِنْ هَذِهِ الْبِيعَةِ أَوْ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ النَّارِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ أَوْ الْجِسْرِ أَوْ كُلِّ مَوْضِعٍ لِلْعَامَّةِ مِمَّا لَا يَدَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا حَدَّ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا يَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ الْإِقْرَارَ بِأَخْذِهِ مِنْ يَدِ إنْسَانٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ، وَعَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَحَدَ الْآخَرُ لَزِمَ الْمُقِرَّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْآخَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْخَبَرِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى الجزء: 18 ¦ الصفحة: 183 نَفْسِهِ حُجَّةٌ، وَعَلَى الْآخَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى اثْنَيْنِ مَعَهُ لَزِمَهُ الثُّلُثُ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ رَجُلًا لَا يُعْرَفُ فَعَلَى الْمُقِرِّ حِصَّتُهُ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَمَّى ذِمَّتُهُ صَالِحُهُ لِالْتِزَامِ الْمَالِ فَيَتَحَقَّقُ الِاشْتِرَاكُ وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِحِصَّتِهِ خَاصَّةً. وَلَوْ قَالَ إنَّ لِفُلَانٍ عَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَزِمَهُ الْمَالُ كُلُّهُ إنْ ادَّعَاهُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَحَقِيقَةُ لَفْظِ الْجَمْعِ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ إبْهَامَ الْعَدَدِ فِي الْمُقَرِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ إلَيْهِ وَكُنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ لِدَلِيلِ عُرْفِ النَّاسِ فَقَدْ يُخْبِرُ الْوَاحِدُ عَنْ نَفْسِهِ بِعِبَارَةٍ الْجَمْعِ تَارَةً وَبِعِبَارَةِ الْمُفْرَدِ أُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعُظَمَاءَ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَذَا وَأَمَرْنَا بِكَذَا وَنَحْنُ نَقُولُ كَذَا وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وقَوْله تَعَالَى {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] وقَوْله تَعَالَى {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43] وقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فَإِذَا كَانَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ جَعَلْنَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيْنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى آخَرِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِهِ لَا بِإِشَارَتِهِ فَوُجُودُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ كَعَدَمِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ رَهْطٌ قُعُودٌ، فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيْنَا جَمِيعًا أَوْ عَلَيْنَا كُلِّنَا وَأَشَارَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ عَلَى عَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِكَلَامِهِ لَفْظًا يَمْنَعُنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلَامَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُهُ كُلُّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُضِيفٌ الْإِقْرَارَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ جُلُوسٌ مَعَهُ، وَقَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بِإِشَارَتِهِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا حِصَّتُهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَّا كُرٌّ أَوْ رَجُلَيْنِ مِنَّا كُرٌّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَجْهُولٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمُقَرَّ عَلَيْهِ مُنَكَّرًا، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُهُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ يَا فُلَانُ لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْمَالُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ الْمُقَرَّ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ يُخَاطَبُ الْمُفْرَدُ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ يَا فُلَانُ لَكُمْ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ نَحْنُ يَا فُلَانُ لَكَ عَلَيْنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ يَا فُلَانُ لَكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ لِفُلَانٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ الْمُفْرَدُ بِعِبَارَةِ التَّثْنِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ فَإِنَّ فِي عِبَارَةِ الْجَمْعِ لِلْمُفْرَدِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ التَّثْنِيَةِ فَإِنَّمَا صَارَ مُقِرًّا لَهُ وَلِمَجْهُولٍ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الْأَلْفِ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُونَ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ لَهُ فَخِطَابُ التَّثْنِيَةِ لِلْمُفْرَدِ يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 184 الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24]، وَقَالَ تَعَالَى {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق: 26]، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبْقَى الْجَوَابَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ. وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنَا فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ اسْتَوْدَعَنَا أَوْ أَعَارَنَا أَوْ غَصَبْنَا مِنْهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ الْمَالِ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ مَعَهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ وَمَعِي فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ النِّصْفُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَمَعِي فُلَانٌ جَالِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ لِلثَّانِي خَبَرًا لَا يَكُونُ اشْتِرَاكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي الْخَبَرِ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خَبَرًا تَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ لِلْعَطْفِ كَمَا إذَا قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ فِضَّةً، ثُمَّ قَالَ هِيَ سُودٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُقَرِّرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفِضَّةِ يَتَنَاوَلُ السُّودَ وَالْبِيضَ عَلَى السَّوَاءِ فَيَكُونُ بَيَانُهُ مَقْبُولًا. وَلَوْ قَالَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا، وَلَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ وَصَلَ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ هَذَا رُجُوعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ أَوْ غَصْبٌ لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَصِيرُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ وَلَا غَصْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ بَاعَنِيهِ وَنِسَائِي إلَى الْعَطَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْأَجَلِ إذَا أَنْكَرَهُ الطَّالِبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَجَلًا صَحِيحًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، فَإِذَا ادَّعَى أَجَلًا فَاسِدًا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى فِيهِ شَرْطًا يُفْسِدُهُ أَوْ زَادَ مَعَ ذَلِكَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا وَأَوْرَدَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هِيَ جِيَادٌ فَعِنْدَنَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ كَمَا أَقَرَّ بِهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ إقْرَارَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ فَقِيَاسُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا وَأَوْرَدَ أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذَا الْعَبْدِ لَا بَلْ ثَمَنُ جَارِيَةٍ وَادَّعَاهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ أَلْفٌ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ وَلَوْ قَالَ لَا بَلْ هِيَ ثَمَنُ جَارِيَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِقَوْلِهِ لَا بَلْ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هِيَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ إقْرَارُهُ، وَعِنْدَنَا يَكُونُ الْمَالُ الثَّانِي اسْتِحْسَانًا وَنَظَائِرُ هَذَا الْفَصْلِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجَامِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِقْرَارُ الصَّحِيحِ بِالدَّيْنِ وَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ لِوَارِثِهِ وَغَيْرِ وَارِثِهِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 185 وَالْمُكَاتَبَةِ وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ جَائِزٌ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِ الصَّحِيحِ وَلَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ، فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَصَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ عَلَى مَا يَدَّعِي فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ بِخِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دَعْوَاهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» الْحَدِيثَ وَوَصِيَّتُهُ بِخِلَافِ الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ يُصَدَّقُ الطَّالِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِتَسْلِيطِهِ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ فِي مَالِهِ إيجَابًا لَهُ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ تَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ إخْبَارًا بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ حَقًّا لِلْمَرِيضِ لِيَفُكَّ بِهِ نَفْسَهُ وَيَصْرِفَهُ فِي حَوَائِجِهِ وَمِنْ حَوَائِجِهِ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ وَرُبَّمَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِقْدَارُهُ فَيُقِرُّ بِهِ وَيُفَوِّضُ بَيَانَ الْمِقْدَارِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ لِعِلْمِهِ بِأَمَانَتِهِ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا وَصِيَّتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَكِنْ يُحَلِّفُ الْوَرَثَةَ عَلَى عِلْمِهِمْ؛ لِأَنَّا كُنَّا نُصَدِّقُهُ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّةِ الْمُوصِي وَوَصِيَّتُهُ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ مُسَمًّى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الدَّيْنُ الْمُسَمَّى أَوْلَى فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُسَمَّى مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَحَقُّ الْآخَرِ مَجْهُولٌ وَيُشْبِهُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الضَّعِيفِ مِنْ السَّبَبِ وَبَيْنِ الْقَوِيِّ فَلِهَذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمُسَمَّى أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ مُسَمًّى، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَالْمَجْهُولُ لَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي الْكِتَابِ وَأَوْرَدَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إذَا أَخَذَ الثُّلُثَ يُقَالُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ لِآخَرَ فَنُعْطِيَهُ ثُلُثَ ذَلِكَ مِمَّا فِي يَدِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْآخَرِ الْوَارِثِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْمَيِّتُ لِلْآخَرِ بِدَيْنٍ مَجْهُولٍ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَلَا بُدَّ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، وَلَكِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدِّقُوهُ وَهُنَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَصَدِّقُوهُ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ آخَرَ تَخَاصَمُوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ صَارَ مَالُهُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَرِيمِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عَنْهُ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَ دِرْهَمٍ أَوْ نُقْصَانَ دِرْهَمٍ كَانَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 186 الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةً فَتَصْرِيحُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى بِالدَّرَاهِمِ يَكُونُ بَيَانًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ مَتَى بَقِيَ وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْئًا قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْعَشَرَةَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالدِّرْهَمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ " عَشَرَةُ دَرَاهِمَ "، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي قَوْلِهِ " مِائَةُ دِرْهَمٍ ". وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ بَطَلَ الْأَجَلُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ صَارَ كَالْعَيْنِ فِي التَّرِكَةِ وَالْأَعْيَانُ لَا تَقْبَلُ الْآجَالَ فَلَا فَائِدَةَ فِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَهُ وَلَا لِوَارِثِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُرْتَهَنًا بِالدَّيْنِ وَلَا تَنْبَسِطُ يَدُ وَارِثِهِ فِي التَّرِكَةِ لِمَكَانِ الدَّيْنِ. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِقَابِلِهِ وَلَا لِعَبْدِ قَابِلِهِ وَلَا لِمُكَاتَبِ قَابِلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ لِلْقَابِلِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ عَلَى قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ بِدَيْنٍ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ كَاتَبَهُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَهُوَ مِنْ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهُ أَيْضًا كَمَا يَصِحُّ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ فِي الْمَرَضِ لَمْ يَجُزْ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ فِي الصِّحَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ فِي الْمَرَضِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ أَنَّ مِثْلَ الْكِتَابَةِ عِتْقٌ وَسَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّ عَلَى أَبِيهِ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا، وَفِي دَارٍ لِأَبِيهِ، وَعَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ مَعْرُوفٌ فِي الصِّحَّةِ فَدَيْنُهُ الَّذِي فِي الصِّحَّةِ أَوْلَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَرَضِهِ كَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَيُقَدِّمُ دَيْنَ الصِّحَّةِ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ كَانَ دَيْنُ الْأَبِ أَوْلَى فِي تَرِكَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْأَبِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ وَصِحَّةُ إقْرَارِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، فَإِذَا حَصَلَ إقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ صَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِغُرَمَاءِ الْأَبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَاءِ الِابْنِ. وَإِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ، فَقَالَ لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَبِي وَلِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَوَصَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ فِي آخَرِ كَلَامِهِ مَا يُغَايِرُ أَوَّلَهُ فَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِهِ لَهُمَا " عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ". وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ " لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ " وَهَذِهِ وَدِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي لِفُلَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 187 فَإِنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَيَتَحَاصَّانِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ. وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ تَرَكَ عَبْدًا، فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْتَقَنِي أَبُوكَ، فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدَّيْنُ أَوْلَى، وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ عِنْدَ إقْرَارِ الْوَارِثِ كَنُفُوذِهِ لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ فِي مَرَضِهِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا عَنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَتِهِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ وَدِيعَةً فِي يَدِ أَبِيهِ بِعَيْنِهَا وَادَّعَى الْآخَرُ دَيْنًا فَصَدَّقَهُمَا الْوَارِثُ وَهُنَاكَ عِنْدَهُمَا مُدَّعِي الْعَيْنِ أَوْلَى فَكَذَلِكَ هُنَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ مُدَّعِي الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُنَاكَ يَتَحَاصَّانِ وَصَارَتْ دَعْوَى الْعَيْنِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ حِينَ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِهِمَا مَعًا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ مَا صَارَ مُتْلِفًا شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَالدَّفْعُ حَصَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ الثَّانِي خَمْسَمِائَةٍ بِإِقْرَارِهِ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّ الثَّانِي فَيَضْمَنُ لَهُ نَصِيبَهُ. وَلَوْ كَانَ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلثَّانِي وَرُجُوعُهُ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، فَإِذَا دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا جَمِيعَ الْأَلْفِ عَلَى الثَّانِي بِزَعْمِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلَهَا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَذَا لَا بَلْ لِهَذَا فَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ الثُّلُثَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَحِينَئِذٍ يَغْرَمُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْفَعُ ثُلُثًا إلَى الْأَوَّلِ وَثُلُثًا إلَى الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوْصَى أَبِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ، وَعِنْدَنَا الثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرَيْنِ إذَا دَفَعَهُ بِقَضَاءٍ وَهَذَا قِيَاسُ مَا سَبَقَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ فَخَاصَمَهُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجَبَ لِلْمَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْمُبْطِلُ لَهُ، وَهُوَ مَوْتُهُ مِنْ مَرَضِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ فَيَأْمُرُهُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ حِينَئِذٍ فَيَأْمُرُ الْوَارِثَ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 188 [بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِمَّا لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ فُلَانٌ: قَدْ قَبَضْتُ مِنِّي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ قَبْلِ كَذَا، فَقَالَ الطَّالِبُ نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ لَهُ الطَّالِبُ بِاسْتِيفَائِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَوْفَاهُ وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ بِعْتُكَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِمَّا لَكَ عَلَيَّ، فَقَالَ الطَّالِبُ نَعَمْ قَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْبَيْعِ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِالثَّمَنِ وَإِقْرَارُ الطَّالِبِ بِاسْتِيفَائِهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَمَالُ الْمَطْلُوبِ لِسَبَبٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَزْدَادُ مَا أَوْفَاهُ مِنْ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ شَاةٌ، فَقَالَ الطَّالِبُ ابْتَعْتُهَا مِنْكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ لَمْ أَبِعْهَا، وَقَدْ أَخَذْتَ مِنِّي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الشَّاهَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَطْلُوبِ وَادَّعَى الطَّالِبُ تَمَلُّكَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَبْقَى إقْرَارُ الطَّالِبِ بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَذَلِكَ لَازِمٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَى فُلَانٍ وَسَمَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لَهُ فَيَصِحُّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ أَوْ كَفِيلًا عَنْ وَارِثِهِ وَالْوَارِثُ كَفِيلٌ عَنْهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّصَالِ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ، وَإِذَا جَاءَ الْوَارِثُ بِالْمَالِ فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ بَرِئَ الْوَارِثُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي السَّبَبِ الْمُعَايَنِ فَالْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمَطْلُوبِ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ قَالَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا وَالزُّيُوفُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ بَيَانُهُ هَذَا مُقَرِّرًا لِكَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْهُ حَقِّي أَوْ قَبَضْتُ مِنْهُ الَّذِي لِي عَلَيْهِ أَوْ قَبَضْتُ مِنْهُ مَالِي عَلَيْهِ أَوْ الْأَلْفَ الَّتِي كَانَتْ لِي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّق إلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِكَلَامِهِ لِأَنَّ لَفْظَهُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجِيَادُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ زُيُوفًا، وَقَالَ ذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ بِهَا فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُغَايِرًا لِكَلَامِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَيَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا. وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ وَجَدْتُهَا سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالسَّتُّوقُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 189 الدَّرَاهِمِ فَكَانَ بَيَانُهُ هَذَا مُغَايِرًا وَرُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِمَّا لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ إذَا كَانَ مَفْصُولًا فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِبَعْضِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنَّهَا كَانَتْ جِيَادًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اتَّهَمْتُهُ حَلَّفْتُهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ لَمْ يُحَلَّفْ خَصْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحَلَّفُ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ لِلْإِشْهَادِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اعْتَبَرَا التَّنَاقُضَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْعُرْفَ أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالِاسْتِيفَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْفَى جِيَادٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زُيُوفٌ فَلِهَذَا قَالَ إذَا اتَّهَمْتُهُ حَلَّفْتُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ خَمْسِمِائَةٍ وَلَهُ شَرِيكٌ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ زُيُوفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الزُّيُوفَ حَقِيقَةً وَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ الزُّيُوفِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْمَطْلُوبَ الْجِيَادَ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ: هِيَ رَصَاصٌ، لَمْ يُصَدَّقْ وَلِلشَّرِيكِ نِصْفُهَا جِيَادٌ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّصَاصَ حَقِيقَةً، وَإِنْ قَالَ هُوَ رَصَاصٌ مَوْصُولًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّصَاصَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ مَعْنًى فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُغَايِرًا لِظَاهِرِ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا، وَإِذَا صَحَّ فَلَا شَيْءَ لِلشَّرِيكِ مِنْهَا لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الرَّصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ حُقُوقِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ مَالِي وَلِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ خَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ زُيُوفٌ لَمْ يُصَدَّقْ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جِيَادٌ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ مَفْصُولًا كَمَا لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ فَلِهَذَا كَانَ لِلشَّرِيكِ نِصْفُهَا جِيَادًا. وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ بَيَانٌ لِلنَّوْعِ لَا بَيَانٌ لِلْعَيْبِ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَفِي بَيَانِ نَوْعِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِيمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 190 [كِتَابُ الْوَكَالَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْوَكَالَةِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحِفْظِ، وَمِنْهُ الْوَكِيلُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَفِيظِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ: " وَكَّلْتُك بِمَالِي ": إنَّهُ يَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحِفْظَ فَقَطْ، وَقِيلَ مَعْنَى الْوَكَالَةِ: التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89]، يَعْنِي فَوَّضْنَا إلَيْهِ أُمُورَنَا وَسَلَّمْنَا، فَالتَّوْكِيلُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ وَتَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ لِلنَّاسِ إلَى هَذَا الْعَقْدِ حَاجَةٌ مَاسَّةٌ. فَقَدْ يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلسَّفَرِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ، وَقَدْ عُرِفَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] وَهَذَا كَانَ تَوْكِيلًا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ، وَبِهِ وَكَّلَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ فَلَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا أَعْطَاهُ عَلَامَةً، وَقَالَ: ائْتِ وَكِيلِي بِخَيْبَرَ لِيُعْطِيَكَ مَا سَأَلْتنِي بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَ وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَنْ سَالِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ «عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ فَوَكَّلَ أَخَاهُ بِنَفَقَتِي فَخَاصَمْتُهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» فَفِي هَذَا جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: " لَيْسَ لِلْمَبْتُوتَةِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى ". وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهَا كَانَتْ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ بَذِيَّةً عَلَى أَحْمَاءِ زَوْجِهَا فَأَخْرَجُوهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ، فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 سُكْنَى، الثَّانِي - أَنَّهُ وَكَّلَ أَخَاهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَلِهَذَا قَالَتْ: " وَلَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى ". وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ - وَجْهَهُ لَا يَحْضُرُ خُصُومَةً أَبَدًا وَكَانَ يَقُولُ: " إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْضُرُهَا وَإِنَّ لَهَا قُحَمًا " الْحَدِيثُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُصُومَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَوْضِعٌ لِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَمًا أَيْ مَهَالِكَ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ لَا يَزَالَ مُخَاصِمًا، قَالَ: وَكَانَ إذَا خُوصِمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ وَكَّلَ عَقِيلًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -»، وَفِيهِ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَطْلُبْ رِضَا خُصُومِهِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا يَرْضَوْنَ بِتَوْكِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَهْدَى إلَى طُرُقِ الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِوُفُورِ عِلْمِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ عَقِيلًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقْبَلَهُ يَوْمًا وَمَعَهُ عَنْزٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَحْمَقُ، فَقَالَ عَقِيلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا أَنَا وَعَنْزِي فَعَاقِلَانِ، قَالَ فَلَمَّا كَبِرَ سِنُّ عَقِيلٍ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، إمَّا أَنَّهُ وَقَّرَهُ لِكِبَرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ ذِهْنُهُ فَكَانَ يُوَكِّلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ ذَكِيًّا شَابًّا، وَقَالَ: " هُوَ وَكِيلِي فَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَا قُضِيَ لَهُ فَهُوَ لِي ". وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، قَالَ فَخَاصَمَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ضَفِيرٍ أَحْدَثَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ أَرْضِ طَلْحَةَ وَأَرْضِ نَفْسِهِ، وَالضَّفِيرُ: الْمُسَنَّاةُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَصِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا نَظُنُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سِوَى الْجَمِيلِ، لَكِنْ كَانَ يُسْتَبْهَمُ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ فَيَخْتَصِمُونَ إلَى الْحَاكِمِ لِيُبَيِّنَهُ لَهُمْ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْحَاكِمَ فِيهِمْ: الْمُفْتِيَ، فَوَقَعَ عِنْدَ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَضَرَّ بِهِ وَحَمَلَ عَلَيْهِ السَّيْلَ، وَلَمْ يَرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ ضَرَرًا حِينَ أَحْدَثَهُ، قَالَ: فَوَعَدَنَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَرْكَبَ مَعَنَا فَيَنْظُرَ إلَيْهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيمَا تَفَاقَمَ مِنْ الْأَمْرِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَرْكَبَ إنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي وَطَلْحَةَ نَخْتَصِمُ فِي الْمَوَاكِبِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ أَمَامَ الْمَوْكِبِ قَدْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَافِدًا، فَأَلْقَى كَلِمَةً عَرَفْتُ أَنَّهُ أَعَانَنِي بِهَا، قَالَ: أَرَأَيْتُ هَذَا الضَّفِيرَ كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟، قَالَ: قُلْت نَعَمْ، قَالَ: لَوْ كَانَ جَوْرًا مَا تَرَكَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أَوَّلِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 الْأَمْرِ، سِوَى الْجَمِيلِ إلَى أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، قَالَ: فَسَارَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى رَأَى الضَّفِيرَ فَقَالَ: مَا أَرَى ضَرَرًا، وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ كَانَ جَوْرًا لَمْ يَدَعْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعْرُوفًا بِالْعَدْلِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ، عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ قَدِيمًا يُتْرَكُ كَذَلِكَ وَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الضَّفِيرَ عَلَى حَالِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ قَدِيمًا، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُجِيزُ بَيْعَ كُلِّ مُجِيزٍ، الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، وَالْمُجِيزُ: مَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعُقُودَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ يَمْلِكُ إجَازَتَهُ، وَصِيًّا كَانَ، أَوْ وَكِيلًا، أَوْ مَالِكًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ، وَذَلِكَ مَا حَصَلَ بِإِجَازَتِهِ، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ اشْتَرَطَ الْخَلَاصَ فَهُوَ أَحْمَقُ، سَلَّمَ مَا بِعْتَ، أَوْ ذَرَّ مَا أَخَذْتَ وَلَا خَلَاصَ " وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا يُؤَاخَذُ بِخَلَاصِهِ، يَعْنِي: إذَا شُرِطَ. (وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ) الْأَوَّلُ - اشْتِرَاطُ الدَّرَكِ، وَتَفْسِيرُهُ: رَدُّ الْيَمِينِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يُلَائِمُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِدُونِ الشَّرْطِ، فَلَا يَزِيدُهُ الشَّرْطُ إلَّا وَكَادَةً، وَالثَّانِي - شَرْطُ الْعُهْدَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَاطِلٌ، وَتَفْسِيرُهُ: الصَّكُّ الْأَصْلِيُّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالثَّالِثُ - شَرْطُ الْخَلَاصِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ يُخَلِّصْهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، فَالْمُسْتَحِقُّ رُبَّمَا لَا يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَنْسِبُهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى الْحَمَاقَةِ، حَيْثُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ بِالْخُصُومَةِ فِي شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ هُوَ صَكَّهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَقُومَ فِيهِ مَقَامَهُ، وَقَدْ يُحْتَاجُ لِذَلِكَ، إمَّا لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ، أَوْ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الِابْتِذَالِ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ عَلَى التَّوْكِيلِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُضَاةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ ، فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى الَّذِي وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقًا فِي الْقِيَاسِ، لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، أَوْ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 الْقَاضِي إقْرَارُهُ بَاطِلٌ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ، وَالْخُصُومَةُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَالْإِقْرَارُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَجْرِي عَلَى سَبِيلِ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَكَانَ ضِدَّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ الْهِبَةَ وَالْبَيْعَ أَوْ الصُّلْحَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: بُطْلَانُ إقْرَارِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ مَعَ أَنَّ وِلَايَتَهُمَا أَعَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْوَكِيلِ. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " الْمُوَكِّلُ أَقَامَ الْوَكِيلَ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ، وَالْمُوَكِّلُ مَالِكٌ لِلْإِقْرَارِ بِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لَا يَكُونُ مُوجَبًا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ حَصَلَ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ مِنْ الْمُوَكِّلِ، فَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ فِيهِ وَغَيْرُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ. " وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا: حَقِيقَةُ الْخُصُومَةِ مَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَجَعَلْنَا هَذَا تَوْكِيلًا مَجَازًا بِالْجَوَابِ، وَالْإِقْرَارُ جَوَابٌ تَامٌّ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ إنَّمَا يَصِحُّ شَرْعًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَاَلَّذِي يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مُمَلَّكٌ لِلْمُوَكِّلِ الْجَوَابُ لَا الْإِنْكَارُ، فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ شَرْعًا، وَتَوْكِيلُهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَالدِّيَانَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَيَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ مُطْلَقًا لِيُصَحِّحَ عُقْدَةَ هَذَا الطَّرِيقِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنَّمَا سَمَّى الْجَوَابَ خُصُومَةً مَجَازًا، إذَا حَصَلَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى خُصُومَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ سُمِّيَ بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وَالْمُجَازَاةُ لَا تَكُونُ سَيِّئَةً حَقِيقَةً؛ وَلِأَنَّ مَجْلِسَ الْحُكْمِ الْخُصُومَةُ، فَمَا يَجْرِي فِيهِ يُسَمَّى خُصُومَةً مَجَازًا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَعَانَ بِالْوَكِيلِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ - وَذَلِكَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ - فَإِنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْأَنْظَرِ وَالْأَصْلَحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ، فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزٍ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ. كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ، أَوْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 الْوَكِيلِ - بِاعْتِبَارِ تَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ - فَهُوَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَةُ الْخُصُومَةِ، لَا الْجَوَابُ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدِ شَائِعًا مِنْ النَّصِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ، خَاصَّةً عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ، وَالثَّانِي أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ وَإِنْكَارِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِعُمُومِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَوَابٌ، وَلِاعْتِبَارِ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي الدِّيَانَاتِ مُنِعَ مَوْضِعُهُ، فَإِذَا اُسْتُثْنِيَ الْإِقْرَارُ كَانَ هَذَا اسْتِثْنَاءً لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ الْكَلَامِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ مُغَايِرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ صَحِيحًا، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا حَنِثَ لِعُمُومِ الْمَجَازِ، فَإِنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا عَنْ الْوَكَالَةِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا، قَالُوا وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُثْنِيَ الْإِنْكَارُ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا لِأَنَّ إنْكَارَ الْوَكِيلِ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ، بِأَنْ كَانَ الْمُدَّعَى وَدِيعَةً أَوْ بِضَاعَةً فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِنْكَارِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِنْكَارِ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُهُ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ، ثُمَّ إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا، كَانَ خَارِجًا مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُنَاقَضًا فِي كَلَامِهِ، وَالْمُنَاقَضُ لَا دَعْوَى لَهُ فَيُسْتَبْدَلُ بِهِ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُمَا عَلَى الصَّبِيِّ لَا يَمْلِكَانِ الْخُصُومَةَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ يَدَّعِي فِيهَا دَعْوَى، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ الْوَكِيلُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي جَازَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَمْ تَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِتَعْيِينِهِ لِلتَّوْكِيلِ صَارَ خَصْمًا قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ، وَعِنْدَهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا إذَا خَاصَمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ وَلِمَا لَهُ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ فِي جَوَازِهَا دُونَ لُزُومِهَا، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعِيرُهُ مَنَافِعَهُ، وَالْإِعَارَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ - وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ قَدْ أَخَذَهُ حَتَّى جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ - فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْخَصْمِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَّى سَبِيلَهُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَى الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 عَزْلَهُ بِدُونِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ بِأَنْ يَعْزِلَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ وَيُخْفِي شَخْصَهُ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْخَصْمُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْخَصْمِ قُلْنَا: " لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ، كَالْعَزْلِ فِي بَابِ الرَّهْنِ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ لَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ عَزْلَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ". وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: " إذَا وَكَّلَ الزَّوْجُ وَكِيلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِالْتِمَاسِهَا ثُمَّ سَافَرَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهَا " وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي سُؤَالِ الطَّلَاقِ، وَالتَّوْكِيلُ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ، وَهُنَا لِلْخَصْمِ حَقٌّ أَنْ يَمْنَعَ خَصْمَهُ مِنْ أَنْ يُسَافِرَ وَأَنْ يُلَازِمَهُ لِيَثْبُتَ حَقُّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ " كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ " لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَجَدَّدَتْ وَكَالَتُهُ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ " عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ " فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَفَّذِ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجِزْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ بِجَعْلِ الْوَكَالَةِ مِنْ اللَّوَازِمِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْبَلَدِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، إلَّا بِرِضًا مِنْ خَصْمِهِ أَوْ يَكُونُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ " لِلْبِكْرِ أَنْ تُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ "، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: " لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَكِّلَ بِذَلِكَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُرُوءَةٌ "، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، لَهُمْ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ " وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ حَصَلَ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ، كَالتَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ وَالْإِيفَاءِ وَالتَّقَاضِي، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ إنْكَارٌ، وَمَنْ أَفْسَدَ هَذَا التَّوْكِيلَ إنَّمَا يُفْسِدُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ، وَالْإِنْكَارُ خَالِصُ حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الْخَصْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " هُوَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِخَصْمِهِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُ كَالْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ " وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُضُورَ وَالْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ لِيُجِيبَ خَصْمُهُ، وَإِنَّمَا يُحْضِرُهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ، فَرُبَّ إنْكَارٍ يَكُونُ أَشَدَّ دَفْعًا لِلْمُدَّعِي مِنْ إنْكَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ الْوَكِيلِ، وَذَلِكَ الْأَشَدُّ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَوْ أَجَابَ الْخَصْمُ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْخَصْمِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا: ذَلِكَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 لَوْ أَتَى بِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَصِحَّةُ التَّوْكِيلِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ مَا لَيْسَ الْأَشَدَّ لِحَقٍّ لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ هُنَا، وَقَالَ: النَّاسُ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ الْأَبَاطِيلِ، لِيَدْفَعَ حَقَّ الْخَصْمِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا لَا يَمْلِكُ بِدُونِ رِضَاهُ - كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِرُكُوبِهِ أَوْ ثَوْبًا لِلُبْسِهِ - لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ وَلَكِنْ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَيْنُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ، فَكَذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا كَاتَبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ، وَإِنْ حَصَلَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ فِي مِلْكِهِ لَا ضَرَرَ يَتَّصِلُ بِالشَّرِيكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ وَالْإِيفَاءِ، فَإِنَّ الْحَقَّ مَعْلُومٌ بِصِفَتِهِ، فَلَا يَتَّصِلُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ ضَرَرٌ بِالْآخَرِ، وَكَذَلِكَ التَّقَاضِي لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنْ مُجَاوَزَةِ ذَلِكَ الْحَدِّ، لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْخَصْمُ، فَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعْرَفُ حَتَّى إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ فَلِهَذَا شَرَطْنَا رِضَا الْخَصْمِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْخَصْمِ فِي التَّوْكِيلِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَصْمِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِحْضَارِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ فِي التَّوْكِيلِ إسْقَاطُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ عِنْد مَرَضِ الْأُصُولِ وَغَيْبَتِهِمْ مُدَّةَ السَّفَرِ، وَلَا تَصِحُّ عِنْدَ حُضُورِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِ الْحُضُورِ بِأَنْفُسِهِمْ لِلْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ: " الْمَقْصُودُ بِإِحْضَارِ الْبِكْرِ لَا يَحْصُلُ لِأَنَّهَا تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهَا مِنْ ذَلِكَ فَجَازَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ "، وَهَكَذَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُعْتَادَةَ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَإِنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إذَا حَضَرَتْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، فَإِنَّ حِشْمَةَ الْقَضَاءِ تَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِحُضُورِهَا جَازَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ، وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ الْوَكِيلِ، لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْبَلُ التَّوْكِيلَ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي فِي التَّوْكِيلِ، لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ، فَيَصِيرُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَإِذَا وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا، أَوْ رَجُلٌ امْرَأَةً، أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوْ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا، أَوْ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ. قَالَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 وَالْوَكَالَةُ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ جَائِزَةٌ، مَا خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ مِنْ عَيْبٍ، وَالْمُرَادُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبٍ وَشِبْهِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَوْفِيهِ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَبْنَى حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُوَكِّلَ بِاسْتِيفَائِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ كَالْحُدُودِ، وَلِهَذَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ شَهَادَةِ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا بِنَفْسِهِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَفْوِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُوَكِّلُ إلَى ذَلِكَ، إمَّا لِعِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ بِالْعَيْبِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ وَأَنْتَ عَلَى خُصُومَتِك فِي اسْتِحْلَافِ الْمُوَكِّلِ إذَا حَضَرَ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ مَا يُنَافِي أَصْلَ حَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي إسْقَاطَهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ السَّبَبِ الْمُوجَبِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ الِاسْتِيفَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسْقَطُ، فَأَمَّا فِي الْعَيْبِ إنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْبَيْعِ، يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ أَصْلًا، فَالْبَائِعُ لَيْسَ يَدَّعِي مُسْقَطًا بَلْ زَعَمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي - أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا انْفَسَخَ فَلَا يَعُودُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حَقَّ الرَّدِّ عَلَيْهِ تَضَرَّرَ الْخَصْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ فَسْخُ عَقْدٍ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ تَوَصَّلَ الْمَطْلُوبُ إلَى حَقِّهِ، فَلِهَذَا أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَفِي الْوَكِيلِ يَأْخُذُ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ سَلَّمَ وَطَلَبَ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، هَذَا وَمَسْأَلَةُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي مُسْقَطًا بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا وَمَسْأَلَةَ الْعَيْبِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، فَكَمَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفْ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفْ مَا سَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَطْلُوبُ يَمِينَ الْوَكِيلِ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مُدَّعًى عَلَى الطَّالِبِ، وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْوَكِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْوَكِيلَ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمَطْلُوبَ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَسْتَحْلِفُ وَارِثَ الطَّالِبِ عَلَى هَذَا بَعْدَ الطَّالِبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَكِيلُ نَائِبٌ وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ بِخِلَافِ الْوَارِثِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي الْحَقِّ، فَتَصِيرُ الْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةً عَلَى الطَّالِبِ، إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عِلْمًا، فَإِذَا حَضَرَ الطَّالِبُ فَاتَ الْمَطْلُوبُ، إلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ: لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُهُ بِحَقٍّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الشُّهُودِ شَرْعًا بِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ صِدْقَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَكَمَا لَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْلِفُ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِحَقٍّ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا اسْتَوْفَيْتُ دَيْنِي، فَإِنْ حَلَفَ ثُمَّ قَبَضَ الْوَكِيلُ - وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ - لَزِمَهُ الْمَالُ دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ أَوْ بَدَلِهِ، فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ الْوَكِيلِ، فَهُوَ حَقُّ الطَّالِبِ يَقْبِضُهُ مِنْ الْوَكِيلِ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمَطْلُوبِ بِحُكْمِ نُكُولِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْمَطْلُوبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا، فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْمَقْبُوضِ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُوَكِّلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لَهُ فَعُهْدَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أَوْ هَلَكَ مِنِّي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا مُسَلَّطًا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي فَدَفَعْتُهُ إلَى وَكِيلٍ لَهُ أَوْ غَرِيمٍ، أَوْ وَهَبَهُ لِي أَوْ قَضَانِي مِنْ حَقٍّ كَانَ لِي عَلَيْهِ، لَمْ يُصَدَّقْ وَضَمِنَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْمَقْبُوضِ لِنَفْسِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ السَّبَبُ، أَوْ يُقِرُّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَادَّعَى الْأَمْرَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إذَا أَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمَالَ. قَالَ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْوَكِيلِ شَهَادَةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إلَّا وَمَعَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ، فَكَمَا أَنَّ انْعِدَامَ الدَّعْوَى يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ انْعِدَامُ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْكَارُ إلَّا مِنْ خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ، وَيَقُولُ: الْوَكِيلُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ مُوَكِّلِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حُضُورِ الْخَصْمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا سُمِّيَتْ: الْبَيِّنَةَ، لِكَوْنِهَا مُبَيِّنَةً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ - وَالْيَمِينُ مِنْ الْقَاضِي - أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ شُهُودِهِ إلَى قَاضِي بَلَدٍ يَنْقُلُ شَهَادَتَهُمْ فِي كِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ، كَمَا أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ يَنْقُلُونَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ بِعِبَارَتِهِمْ، فَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إشْهَادِ الْفُرُوعِ حَضْرَةُ الْخَصْمِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ قَبِلَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ بِغَيْرِ خَصْمٍ وَقَضَى بِهَا جَازَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى فِي فَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مُخْتَلِفُونَ فِي سَبَبِ الْقَضَاءِ هُنَا: أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ بِغَيْرِ مَحْضَرِ خَصْمٍ أَمْ لَا؟ فَإِذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي فَقَدْ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، فَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ قَضَاؤُهُ، قَالَ: وَلِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُخَاصِمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَوَّلًا بِقَوْلِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْخُصُومَةِ فَقَطْ، وَالْخُصُومَةُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَيْسَ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَيَخْتَارُ فِي الْخُصُومَةِ أَلَحَّ النَّاسِ، وَلِلْقَبْضِ آمَنَ النَّاسِ، فَمَنْ يَصْلُحُ لِلْخُصُومَةِ لَا يُرْضَى بِأَمَانَتِهِ عَادَةً، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَكِيلُ بِالشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ يَكُونُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُصُومَةِ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ يَكُونُ، وَالْوَكِيلُ بِالشَّيْءِ يُحَصِّلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ. قَالَ: فَإِنْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَنَا بِدُونِ مَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْخُصُومَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ، وَرَأْيُ الْمُثَنَّى لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْوَاحِدِ فَرِضَاهُ بِرَأْيِهِمَا لَا يَكُونُ رِضًا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، كَالْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ حَضَرَ لَمْ يُخَاصِمْ إلَّا أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا مَعًا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْقَاضِي مِنْ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَهُمَا، فَلَمَّا وَكَّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا مُتَعَذَّرٌ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ، وَلَكِنْ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْبِضَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا أَوْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقَبْضِ، وَالْحِفْظُ مُتَأَتٍّ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا. وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَعَلَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِدُونِ رِضَاهُ، وَإِنْ قَالَ مَا صَنَعْتُهُ فِي شَيْئِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُوَكِّلِ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُصَالِحَ وَلَا أَنْ يَبِيعَ وَلَا أَنْ يَهَبَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَتْ مِنْ الْخُصُومَةِ، بَلْ هِيَ ضِدُّ الْخُصُومَةِ قَاطِعَةٌ لَهَا، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِقَبْضِ حَقٍّ لَهُ فِي دَارٍ أَوْ بِقِسْمَةٍ أَوْ بِخُصُومَةٍ فَجَحَدَهُ ذُو الْيَدِ، فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ نَصًّا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى تَمْيِيزِ نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا إلَى قَبْضِ حَقِّهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ فِي خُصُومَةٍ فَشَهِدَ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَقُومُ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الْوَكِيلَ، وَالذِّمِّيُّ صَاحِبَ الْحَقِّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ دُونَ الْوَكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ كَالنَّائِبِ إذَا اسْتَشْهَدْنَا الذِّمِّيَّ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى مُسْلِمٍ فَشَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِ لِحَقٍّ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ عَلَى الْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ دُونَ الْوَصِيِّ - وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ - فَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ هُنَا. وَتَوْكِيلُ الرَّجُلِ الصَّبِيَّ بِالْخُصُومَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ فَلَهُ عِبَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا حَتَّى تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُصُومَةِ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ ابْنَ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَكِّلَهُ إلَّا بِإِذْنِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ اسْتِعْمَالَ الصَّبِيِّ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَلَدِ غَيْرِهِ، إلَّا بِإِذْنِ أَبِيهِ. وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ خُصُومَةٍ فَذَهَبَ عَقْلُ الْمُوَكِّلِ زَمَانًا، فَقَدْ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ إنَّمَا انْتَصَبَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ خَرَجَ الْمُوَكِّلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلرَّأْيِ، وَصَارَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ كَمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ، فَأَمَّا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا، فَلَا تَبْطُلُ بِجُنُونِهِ، مِثْلُ: الْأَمِينِ بِالْيَدِ وَالْعَدْلِ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَجُنَّ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ هُنَاكَ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ، وَصَارَ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَبْطُلُ بِجُنُونِهِ وَلَا بِمَوْتِهِ إذَا نُفِيَ الْمَحَلُّ. فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا كَانَ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ، فَجُنَّ الْمُوَكِّلُ أَوْ مَاتَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً عَلَى الْمُوَكِّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا لَا يَعْزِلُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لِدَفْعِ الْغُرُورِ، لَا لِحَقٍّ ثَابِتٍ لِلْخَصْمِ فِي مَحَلٍّ، وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ عَقْلُهُ سَاعَةً، أَوْ جُنَّ سَاعَةً فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَصِيرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الْكِتَابِ، فَذَكَرَ فِي بَابِ وَكَالَةِ الْمُكَاتَبِ، الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جُنُونِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ، وَفِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الطَّلَاقِ ذَكَرَ الْقِيَاسَ فِي الْمُتَطَاوِلِ، وَقَالَ: " لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ عَلَى حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ " ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: " إذَا جُنَّ شَهْرًا فَهُوَ مُتَطَاوِلٌ " ثُمَّ رَجَعَ وَقَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِجُنُونِ سَنَةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِأَكْثَرِ السَّنَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ مُسْقِطًا لِقَضَاءِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ النَّوْمِ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ كَالدَّوَامِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْجُنُونِ وَبَيْنَ النَّوْمِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُتَطَاوِلٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا: أَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْمُتَطَاوِلِ، وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ عَاجِلًا أَوْ عَنْ قَرِيبٍ فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ - وَلَوْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ - كَانَ حَانِثًا، وَلِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ أَسْقَطَ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِخِلَافِ دُونِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَدَّرَهُ بِالسَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْعِبَادَاتُ إلَّا بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ سَنَةً كَامِلَةً، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ فِيهَا بِحَوْلٍ كَالزَّكَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْحَوْلِ كَجَمِيعِهِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ حَتَّى قَالَ: " إذَا جُنَّ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ " فَلِهَذَا قَالَ: " الْمُتَطَاوِلُ مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ " وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ وَلَمْ يُفِقْ، عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ آفَةٌ فِي أَصْلِ الْعَقْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ أَجَلِ الْعِنِّينِ، أَيْ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالسَّنَةِ الْكَامِلَةِ. وَتَوْكِيلُ الصَّبِيِّ رَجُلًا بَاطِلٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنِيبُ نَفْسَهُ مَنَابَ غَيْرِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، وَالصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ. وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهُمَا عَلَى وَكَالَتِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا عَرَضَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ فَلَا يُنَافِي بَقَاءَهَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَهُوَ وَكِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ. كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَالْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - أَوْ وَكَّلَهُ الْحَرْبِيُّ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ بَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تَبْقَى بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتَ الْوَكَالَةُ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِرَأْيِ الْمُوَكِّلِ، وَمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَالْوَكِيلُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الرُّجُوعِ. قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَ الْحَرْبِيُّ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ بِالْوَكَالَةِ تَثْبُتُ حُكْمًا، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ هُنَاكَ بِالِاسْتِيلَاءِ حِسًّا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ مَا أَسْلَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَقَايَا مُعَامَلَاتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْوَكَالَةُ وَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، ثُمَّ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَجَزْت ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَقَدْ وَكَّلَهُ حَرْبِيٌّ آخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِبَيْعِ شَيْءٍ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ مَعَهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ، وَهُمَا مُسْتَأْمَنَانِ فِي دَارِنَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعَهُ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. قَالَ: وَتَوْكِيلُ الْمُرْتَدِّ الْمُسْلِمَ بِبَيْعٍ أَوْ قَبْضٍ أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ أَنَّهَا تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَبْطُلَ بِقَتْلِهِ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ تَنْفُذَ بِإِسْلَامِهِ، فَكَذَلِكَ وَكَالَتُهُ، وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ فَكَذَلِكَ وَكَالَتُهُ، وَلَوْ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ جَعْلِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ تَعُدْ الْوَكَالَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَادَتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ، وَذَلِكَ إبْطَالٌ لِلْوَكَالَةِ وَبَعْدَ مَا تَأَكَّدَ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا نَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ مُسْلِمًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ الْآنَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَا تَرْتَفِعُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ الَّتِي بَطَلَتْ لَا تَعُودُ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: صِحَّةُ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَحَقُّهُ بَعْدَ إلْحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ قَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَارِضٍ، وَالْعَارِضُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ - بَعْدَ رِدَّةِ الْمُوَكِّلِ - عَلَى حَالِهِ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْوَكِيلِ زَمَانًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ. فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَعُدْ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ، فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَّى بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: الْوَكَالَةُ تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ وَلِحَاقِهِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْبَتَاتِ. وَأَمَّا بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ فَلَمْ يَزَلْ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ قَائِمًا، فَكَانَ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَاقِيًا، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَارِضٍ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَجَعَلَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِدَّةَ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِهِ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَحَلَّ وَكَالَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ. وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَادَ مُسْلِمًا يُعَادُ عَلَيْهِ مَالُهُ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، كَمَا لَوْ وُكِّلَ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ - وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - عَادَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا، وَأَحَدُهُمَا يُخَاصِمُ صَاحِبَهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَكِيلَهُمَا فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا مِنْ جَانِبٍ، جَاحِدًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالتَّضَادُّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ - لَا يَصْلُحُ الْوَاحِدُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ - فَفِي الْخُصُومَةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ لَهُمَا مَعَ ثَالِثٍ فَوَكَّلَ وَاحِدًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ وَاحِدٍ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ لَمْ يَنْعَزِلْ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْعَزِلُ لِأَنَّ نُفُوذَ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ بِالْعَزْلِ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ وَيَنْفَرِدُ الْمَرْءُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا. وَالثَّانِي - الْوَكَالَةُ لِلْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 الْعَزْلُ خِطَابٌ مُلْزِمٌ لِلْوَكِيلِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَجَوَّزَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وَلِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَقْصُودٌ لِلْعَمَلِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعَزْلَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ وَالْغَرَرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِضْرَارِ بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ هُنَاكَ حُكْمِيٌّ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ الْمَحَلِّ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ الْعَزْلُ قَصْدًا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، حَتَّى إذَا نَفَّذَ الْقَاضِي الْقَضَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ كَانَ نَافِذًا. وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْخُصُومَةِ لِلْيَتَامَى؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ، وَإِذَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ، بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِيُخَاصِمَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، وَهُنَا رَأْيُ الْمُوصِي ثَابِتٌ، وَالصَّبِيُّ عَاجِزٌ عَنْ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْأَبُ وَصِيًّا لَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّبِيِّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَصِيِّ بِنَفْسِهِ تَارَةً وَالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أُخْرَى، فَلِهَذَا مَلَكَ التَّوْكِيلَ. قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي يَعْرِفُ الْمُوَكِّلَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ يَتِمُّ إذَا عَرَفَ الْمُوَكِّلَ، وَعِلْمُهُ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يَشْهَدَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ شَاهِدَانِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا حَضَرَ خَصْمٌ يَدَّعِي لِمُوَكِّلِهِ قِبَلَهُ مَالًا، وَذَلِكَ الْخَصْمُ يَجْحَدُ وَكَالَتَهُ فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْوَكِيلِ: " قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّاسِ قَدْ وَكَّلَك وَلَكِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ يَدَّعِي لَهُ الْحَقَّ الْآنَ، هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَمْ لَا؟ لِأَنِّي مَا كُنْتُ أَعْرِفُ ذَلِكَ الرَّجُلَ " فَلِهَذَا لَا يَجِدُ الْوَكِيلُ بُدًّا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يَدَّعِي الْحَقَّ لَهُ. وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَ بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ أَوْ إجَارَتِهِ فَادَّعَى الْعَبْدُ الْعِتْقَ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ خَصْمًا، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَدَّعِي الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى غَائِبٌ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 فَقَالَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ الْعَبْدِ دُونَ الْقَضَاءِ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْعِتْقَ، وَمِنْ صَيْرُورَتِهِ قِصَرُ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ قَبْضِهِ وَإِجَازَتِهِ، وَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ قِصَرِ يَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قِصَرِ يَدِهِ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَجَّلَهُ الْقَاضِي ثَلَاثًا، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ إلَّا بِمُهْلَةٍ، فَلَوْ لَمْ يُهْمِلْهُ الْقَاضِي أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَبْدِ، وَمُدَّةُ الثَّلَاثِ حَسَنٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِبْلَاغًا لِلْعُذْرِ كَمَا اشْتَرَطْتُ فِي الْخِيَارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَارٍ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ: أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْعَيْنِ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قِصَرِ يَدِهِ عَنْهُ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ فَأَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ: أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبَ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ خُصُومَتَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فِي أَنَّهُ نَائِبٌ مَحْضٌ، فَتَقْصُرُ وَكَالَتُهُ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَاسَاهُ بِالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَكُونُ خَصْمًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَمْلِكَ الْمَطْلُوبُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَبْضُ الدَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةٌ، وَمِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ غَيْرُ حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ مِنْ الدُّيُونِ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ فَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قُلْنَا: " لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ " وَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَةِ قُلْنَا: " يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ " وَلَيْسَ هَذَا كَالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ فِي الْبَيْعِ لَا يُخَاصِمُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ غَيْرُ الْوَكَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا إلَى الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] وَنَفَى عَنْهُ الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107] فَظَهَرَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَكَالَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي الْوَكَالَةِ مَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ إذَا وَقَعَ فِيهَا الْغَلَطُ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي الْحُجَّةِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ دُونَهُ، وَلَا تَفْسُدُ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهَا كَلَامٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا يَكُونُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى الْوَكَالَةِ وَزَادَا أَنَّهُ كَانَ عَزَلَهُ عَنْهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْوَكَالَةِ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْعَزْلِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فِي الْحَالِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِالْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَزْلُ يَكُونُ إخْرَاجًا لِلْوَكِيلِ مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِهَا تَكُونُ بَاقِيَةً إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْعَزْلُ فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَزْلِ لَمْ يَظْهَرْ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةِ فُلَانٍ فِي دَارِ سَمَّاهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَفِي شَيْءٍ آخَرَ، جَازَتْ الشَّهَادَةُ فِي الدَّارِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَإِنَّهُ أَنَابَهُ وَقَدْ يُنِيبُ الْغَيْرَ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ، وَفِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ تَثْبُتْ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَيْنَبَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَعَمْرَةَ، فَتَطْلُقُ زَيْنَبُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْوَكَالَةِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ وَكَّلَهُ أَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: " أَخْبَرَنِي الشُّهُودُ أَنَّهُ وَكَّلَنِي بِذَلِكَ فَأَنَا أَطْلُبُهَا " فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِخَبَرِ الشَّاهِدَيْنِ يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِهَا، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يَطْلُبَهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْوَكِيلِ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُلْزِمٌ، وَهُوَ نَظِيرُ الْوَارِثِ إذَا أَخْبَرَهُ الشَّاهِدَانِ بِحَقٍّ لِمُوَرِّثِهِ عَلَى فُلَانٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِيَشْهَدَا لَهُ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى وَكَالَتِهِ فِي شَيْءٍ مَعْرُوفٍ، وَالْوَكِيلُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ، وَيَقُولُ: " لَمْ يُوَكِّلْنِي " فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الطَّالِبَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ أَكَذَبَ شُهُودَهُ حِينَ جَحَدَ الْوَكَالَةَ، وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ مَا أَكَذَبَ شُهُودَهُ بِقَوْلِهِ: " لَا أَدْرِي أَوَكَّلَنِي أَمْ لَا؟ " وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِوَكَالَتِهِ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ خَبَرَ الشَّاهِدَيْنِ إيَّاهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْمَطْلُوبَ، فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَبِلَ الْوَكَالَةَ لَزِمَتْهُ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 18 تَوْكِيلَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ مُجْبِرٌ عَلَى جَوَابِ الْخَصْمِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ، فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ - وَقَدْ غَابَ الْمَطْلُوبُ - تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِتَعَذُّرِ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مُلْزِمٌ إيَّاهُ فَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، وَأَنْ يُشْهِدَ عَلَى قَبُولِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَ تَوْكِيلَ الْمَطْلُوبِ إيَّاهُ كَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ شَيْئًا بِدُونِ رِضَاهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ لَمْ نُجْبِرْهُ عَلَى الْجَوَابِ هُنَا لَا يَلْحَقُ الْمُدَّعِيَ ضَرَرٌ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِتَرْكِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبُولِ فَلَوْ لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْجَوَابِ تَضَرَّرَ الطَّالِبُ بِمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْمَطْلُوبَ اعْتِمَادًا عَلَى قَبُولِ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَتَى ثَبَتَتْ اسْتَفَادَ الْمَطْلُوبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ، وَكَانَ الْمَقْبُوضُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَكِيلِ، إذَا هَلَكَ ضَاعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إلْزَامِ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ ذِمِّيًّا وَالْوَكِيلُ مُسْلِمًا وَالْمَطْلُوبُ ذِمِّيًّا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا تُلْزِمُ الْمَطْلُوبَ دَفْعَ الْمَالِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ، وَيَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوَكَالَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهَا إلْزَامَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَطْلُوبِ، فَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ مَتَى ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ. وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالْوَكَالَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِيهَا عَلَى الطَّالِبِ. فَأَمَّا الْإِلْزَامُ عَلَى الطَّالِبِ فَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ وَالْوَكَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ - وَإِنْ لَمْ تَقُمْ - كَانَ هُوَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ بَرَاءَتُهُ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَالطَّالِبُ ذِمِّيٌّ وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا فَادَّعَى الطَّالِبُ فِي دَارِهِ دَعْوَى، وَنَفَاهَا الْمَطْلُوبُ فَشَهِدَ ابْنَا الْمَطْلُوبِ: أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ هَذَا الْوَكِيلَ بِخُصُومَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالْوَكِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِشَهَادَتِهِمَا نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُخَاصِمَ الطَّالِبَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةً لِلدَّفْعِ فَيُقَرَّرَ بِهِ مِلْكُ أَبِيهِمَا، وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ لَا تُقْبَلُ لِأَبِيهِ، قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنْ كَانَ جَاحِدًا لِلْوَكَالَةِ فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَدَّعِيهَا، وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مُدَّعِيًا لِلْوَكَالَةِ فَالطَّالِبُ لَا يَكُونُ مُجْبَرًا عَلَى الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ وَكِيلًا، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّعْوَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 19 عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ مَعَ أَنَّ الِابْنَيْنِ نُصِّبَا نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُثْبِتَا حُجَّةَ الدَّفْعِ لِأَبِيهِمَا عَلَى الطَّالِبِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، فَغَابَ الطَّالِبُ وَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ الْمَالَ إلَى رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الطَّالِبِ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الطَّالِبُ فَجَحَدَ ذَلِكَ فَشَهِدَ لِلْمَطْلُوبِ ابْنَا الطَّالِبِ بِالْوَكَالَةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَوْ انْعَدَمَتْ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي حَقِّهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْ الْوَكِيلَ، وَعِنْدَ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَيَسْتَفِيدُ الْمَطْلُوبُ الْبَرَاءَةَ بِمَا دَفَعَ إلَى الْوَكِيلِ، فَظَهَرَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا، وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى وَالِدِهِ مَقْبُولَةٌ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَغَابَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ابْنَا الطَّالِبِ، وَالْمَطْلُوبُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يُنَصَّبَانِ نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُطَالِبَ الْمَطْلُوبَ بِالدَّيْنِ وَيَسْتَوْفِيَهُ، فَيَتَعَيَّنَ بِهِ حَقُّ أَبِيهِمَا فَكَانَا شَاهِدَيْنِ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوبُ وَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا جَازَتْ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِإِقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ صَارَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ بِدُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تَقُومُ عَلَى الطَّالِبِ فِي إثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ لِلْمَطْلُوبِ عَنْ حَقِّهِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَشَهَادَةُ الِابْنَيْنِ عَلَى أَبِيهِمَا مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ فَشَهِدَ ابْنَا الطَّالِبِ أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَجَحَدَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ أَوْ أَقَرَّ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ، أَمَّا إذَا جَحَدَ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ فَلِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِرْ مُجْبَرًا عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى جَوَابِهِ إنْ خَاصَمَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَوْ لَمْ تَقُمْ هُنَا لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مُجْبَرًا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْبَرًا بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ بِذَلِكَ يَصِيرُ نَائِبًا لِأَبِيهِمَا مُلْزَمًا عَلَى الْغَيْرِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ جَاءَ إلَى الْمَدْيُونِ وَقَالَ: " أَنَا وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْكَ " فَصَدَّقَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ. وَلَوْ جَاءَ إلَى الْمُودَعِ وَقَالَ: " أَنَا وَكِيلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ مِنْكَ " فَصَدَّقَهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، فَهُوَ بِالتَّصْدِيقِ يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْقَبْضِ فِي مِلْكِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ، فَأَمَّا فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ بِالتَّصْدِيقِ يُقِرُّ بِحَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُودِعَ إذَا صَدَّقَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ فِيهَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ يَكُونُ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهَا مِنْهُ، وَالْيَدُ حَقُّهُ فَإِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ يَكُونُ مُلْزِمًا، وَلِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَإِقْرَارُهُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ مُثْبِتٌ إيَّاهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الضَّمَانُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 20 إلَّا بِثُبُوتِ الْوَكَالَةِ، فَأُجْبِرَ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ فِي يَدِهِ دَارٌ ادَّعَى ذِمِّيٌّ فِيهَا دَعْوَى، وَوَكَّلَ وَكِيلًا بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْوَكَالَةِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ بِالْوَكَالَةِ أَوْ أَنْكَرَهَا، أَمَّا إذَا أَنْكَرَهَا فَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إلْزَامَ الْجَوَابِ عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهَا فَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَكَالَةِ لَا يُلْزِمُهُ الْجَوَابَ هُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَيْنٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ وَبِالْوَكَالَةِ، أَجْبَرْتُهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَصَارَ مُجْبَرًا بِإِقْرَارِهِ عَلَى دَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ. قَالَ: " وَلَيْسَ هَذَا كَالْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ " يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ يَكُونُ هَذَا وَكِيلَ الطَّالِبِ بِالْخُصُومَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَنَاوَلُ حَقَّ الْغَيْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ. وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ فُلَانًا بِقَبْضِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ مِنْهُ أَوْ أَرْسَلَهُ لِيَأْخُذَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَالْمَأْمُورَ بِهِ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَطْلُوبِ بِالدَّيْنِ كَالْوَكِيلِ، وَإِنْ جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ هَذَا خَصْمًا لَهُ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَيْضًا، وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ دُونَ الرَّسُولِ، وَالْمَأْمُورُ بِالْقَبْضِ كَالرَّسُولِ فَإِنَّمَا الشَّاهِدُ لَهُ لِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَاحِدٌ، وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ، وَإِنْ شَهِدَا جَمِيعًا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ بِشُهُودٍ، ثُمَّ غَابَ فَشَهِدَ ابْنَانِ لِلطَّالِبِ: أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ شَهَادَتَهُمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْعَزْلَ إذَا ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ الْمَطْلُوبُ مُجْبَرًا عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَشَهَادَتُهُمَا عَلَى أَبِيهِمَا مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ لَمْ نَدَعْ شَهَادَتَهُمَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ ظَاهِرَةٌ، فَجُحُودُهُ الْعَزْلَ إقْرَارٌ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي لَهُ أَنْ يَقْبِضَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، بِخِلَافِ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَيْثُ جَعَلُوا الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي حُجَّةً لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخِلَافِيَّةِ، وَتَكَلَّفُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فِي هَذَا، فَإِنْ جَاءَ الطَّالِبُ بَعْدَ دَفْعِ الْمَالِ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَخْرَجْتُهُ مِنْ الْوَكَالَةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 21 فَأَنَا أَضْمَنُ الْمَطْلُوبَ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى الْعَزْلِ أَمِينَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمَطْلُوبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا الْآنَ لِأَبِيهِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْوَكَالَةِ ثَابِتٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمَطْلُوبِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْعَزْلِ أَجْنَبِيَّيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَالِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا شَهِدَ أَنَّ الْوَكِيلَ عَلِمَ بِالْعَزْلِ، وَإِنْ شَهِدَ الِابْنَانِ قَبْلَ قُدُومِ أَبِيهِمَا: أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ أَخْرَجَ هَذَا مِنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ بِقَبْضِ الْمَالِ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِذَلِكَ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ لِإِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مِلْكِهِ، لَا بِشَهَادَةِ الِابْنَيْنِ بِالْوَكَالَةِ لَهُ، وَإِنْ جَحَدَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ ثَابِتَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِمَا حِينَ أَنْكَرَهُ الْمَطْلُوبُ، فَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ ذِمِّيًّا فَشَهِدَ مُسْلِمَانِ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الْمُسْلِمَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ عَلَى هَذَا، وَالْمَطْلُوبُ مُقِرٌّ وَشَهِدَ الذِّمِّيَّانِ أَنَّهُ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ ثَابِتٌ لَهُ بِظُهُورِ وَكَالَتِهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَشَهَادَةُ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ ذِمِّيًّا جَازَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ أَنَّ الطَّالِبَ أَخْرَجَ أَبَاهُمَا عَنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ بِقَبْضِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْقَبْضِ الثَّابِتِ لَهُ، وَيَشْهَدَانِ لِلْآخَرِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَمِينَيْ الْوَكِيلِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْوَكَالَةِ لِأَبِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ، وَيَجُوزُ عَلَى إخْرَاجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالْعَزْلِ وَبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الْقَبْضِ، وَإِذَا شَهِدَ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تُقْبَلُ فِي الْقَبْضِ إذَا أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الْخُصُومَةِ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الدَّيْنَ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَا تُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا " وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْوَكِيلَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 22 بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَنَا، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْحُكْمَيْنِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّخَلِّي وَالْآخَرُ بِالْهِبَةِ. وَعِنْدَهُمَا الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فَأَمَّا الشَّاهِدُ بِحَقِّ الْخُصُومَةِ لِأَحَدِهِمَا فَيَثْبُتُ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ دُونَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، وَالشَّاهِدُ أَثْبَتَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ، وَقَالَ: " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " فَبَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ " حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ لَفْظٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " فَكَانَ قِيَاسَ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَزْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَلَا يَثْبُتُ مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْعَزْلُ فَهَذَا مِثْلُهُ، فَقَدْ أَشَارَ إلَى الْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ وَقِيلَ: جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ، فَإِنَّمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِوَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ وَالْآخَرُ بِوَكَالَةٍ مُقَيَّدَةٍ، وَالْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ، فَإِنَّهُ رَفْعٌ لِلْوَكَالَةِ لَا يُفْسِدُ لَهَا، وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ: " وَكَّلَ هَذَا بِالْبَيْعِ "، وَقَالَ الْآخَرُ: " وَكَّلَ هَذَا وَهَذَا " لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِوَكَالَةِ الثَّانِي وَاحِدٌ، وَلَا تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَالشَّاهِدُ بِثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لِلْأَوَّلِ بِالْبَيْعِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِوَكَالَتِهِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْآخَرَ شَهِدَ بِوَكَالَةِ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْبَيْعِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ، فَإِنْ قِيلَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْبَيْعِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى نُفُوذِهِ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمُبَاشَرَةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِوَكَالَتِهِ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ مُبَاشَرَتِهِ لِنُفُوذِ هَذَا الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَبْضِ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ، كَانَ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ هُوَ الْخَصْمَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لَهُ فِي الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ فِي الْخُصُومَةِ يَنْفَرِدُ بِهَا، وَلَكِنْ إذَا قَضَى لَهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْقَبْضِ، فَلَيْسَ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لَهُ بِالْقَبْضِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلِهَذَا لَا يَقْبِضُهُ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتَ وَكِيلِي فِي قَبْضِ هَذَا الدَّيْنِ "، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتَ حَسِيبِي فِي قَبْضِهِ " كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّ الْحَسِيبَ نَافِذُ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْوَكَالَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا هَكَذَا فِي الْخُصُومَةِ أَوْ قَبْضِ الْعَيْنِ. وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهُ قَالَ أَنْتَ وَكِيلِي "، وَقَالَ الْآخَرُ: " إنَّهُ قَالَ أَنْتَ وَصِيِّي " لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْوَكَالَةِ فَلَمْ تَبْقَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتَ وَصِيِّي فِي حَيَاتِي " فَالْوَصِيَّةُ فِي الْحَيَاةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 23 تَكُونُ وَكَالَةً؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ هُنَا فِي الْعِبَارَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ قَضَاءُ الْقَاضِي لَا عَيْنُ الْقَاضِي، وَأَقْضِيَةُ الْقُضَاةِ لَا تَخْتَلِفُ بَلْ تَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ قَاضِيًا، فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَعُزِلَ أَوْ مَاتَ فَاسْتَقْضَى غَيْرَهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَحَوَّلَ الْخَصْمُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَ قَاضِيهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ إلَى فُلَانٍ الْفَقِيهِ، وَقَالَ الْآخَرُ إلَى فُلَانٍ الْآخَرَ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ إنَّمَا يَصِيرُ حَاكِمًا بِتَرَاضِيهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ بِحُكُومَةِ إنْسَانٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَكَمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرَاضِيَ الْخَصْمَيْنِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ، بَلْ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ عَدْلِ الْحَكَمِ وَمَيْلِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ إلَى إنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا بِالْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى أَحَدُهُمَا الْقَاضِيَ وَالْآخَرُ الْفَقِيهَ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إلَى فُلَانٍ الْفَقِيهِ لَا يَمْلِكُ التَّحْكِيمَ فَعَرَفْنَا اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ، وَقَالَ الْآخَرُ: " فُلَانَةَ وَحْدَهَا " فَهُوَ وَكِيلٌ فِي طَلَاقِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي طَلَاقِ الْأُخْرَى فَالشَّاهِدُ بِالْوَكَالَةِ وَاحِدٌ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ هَذَا الدَّيْنِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَالتَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ تَوْكِيلٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْعِبَارَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى وَكَالَةِ رَجُلٍ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ فَأَثْبَتَهُ الْقَاضِي وَكِيلًا فِيهَا ثُمَّ رَجَعَا لَمْ أَضْمَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ لَمْ يُتْلِفَا عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَإِنَّمَا نُصِّبَا عَنْ الْمُوَكِّلِ نَائِبًا لِيُطَالِبَ بِحَقِّهِ، وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ بِشَهَادَتِهِ، ثُمَّ رُجُوعُهُمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، فَيَضْمَنُ الْقَاضِي وَكَالَتَهُ عَلَى حَالِهَا. وَإِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ دَعْوَى فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ لِمُوَكِّلِهِ فَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ الْوَكَالَةَ وَالدَّعْوَى، فَشَهِدَ ابْنَا ذِي الْيَدِ عَلَى الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا فَإِنَّهُمَا يُلْزِمَانِهِ الْجَوَابَ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ، وَإِذَا أَشْهَدَا رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ ارْتَدَّ الْأَصْلِيَّانِ، ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عِنْدَ الْآخَرَيْنِ تَبْطُلُ بِارْتِدَادِهِمَا، بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 24 فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي، ثُمَّ ارْتَدَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَطَلَتْ بِشَهَادَتِهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَ الْفَرْعِيَّيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بِرِدَّتِهِمَا لَا يَبْطُلُ أَصْلُ شَهَادَتِهِمَا، إنَّمَا يَبْطُلُ أَدَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَصْلِ الشَّهَادَةِ مَعًا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الرِّدَّةِ بِالتَّحَمُّلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، فَاعْتِرَاضُهُمَا لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَأَمَّا اقْتِرَانُ الرِّدَّةِ بِالْأَدَاءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَدَاءِ، فَاعْتِرَاضُهُمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْفَرْعِيَّيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِأَدَاءِ الْأَصْلِيَّيْنِ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ بِأَنْفُسِهِمَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِبَقَاءِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ لَهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا رَجُلَانِ، ثُمَّ فَسَقَا لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُمَا عِنْدَ الْفَرْعِيَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِمَا، فَكَذَلِكَ فِسْقُهُمَا هُنَا يَمْنَعُ الْفَرْعِيَّيْنِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَلَكِنْ إنَّمَا يَبْطُلُ بِفِسْقِهِمَا أَدَاؤُهُمَا، لَا أَصْلُ شَهَادَتِهِمَا، حَتَّى إذَا تَابَا وَأَصْلَحَا، ثُمَّ شَهِدَا بِذَلِكَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ذَلِكَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا جَازَ، فَإِنْ شَهِدَ الْفَرْعِيَّانِ عَلَى شَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَدَّهُمَا لِتُهْمَةِ الْأَوَّلَيْنِ، لَمْ يَقْبَلْهَا أَبَدًا مِنْ الْأَوَّلَيْنِ وَلَا مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْفَرْعِيَّيْنِ نَقَلَا شَهَادَةَ الْأَصْلِيَّيْنِ إلَى الْقَاضِي فَكَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا، وَالْفَاسِقُ إذَا شَهِدَ فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ تَأَيَّدَ ذَلِكَ الرَّدُّ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يُعْدِمُ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ فَالْمَرْدُودُ كَانَ شَهَادَةً، وَقَدْ حَكَمَ الْقَاضِي بِبُطْلَانِهَا فَلَا يُصَحِّحُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلِيَّانِ عَدْلَيْنِ فَرَدَّ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ لِفِسْقِ الْفَرْعِيَّيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ الْأَصْلِيَّانِ وَشَهِدَا، قَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا أَبْطَلَ هُنَا نَقْلَ الْفَرْعِيَّيْنِ لِفِسْقٍ فِيهِمَا، وَمَا أَبْطَلَ الْمَنْقُولَ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِيَّيْنِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْفِسْقِ الْمَنْقُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْلِ الْفَاسِقِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ النَّقْلَ هُنَاكَ قَدْ ثَبَتَ بِعَدَالَةِ الْفَرْعِيَّيْنِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْقَاضِي الْمَنْقُولَ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِيَّيْنِ فَلَا يَقْبَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ عَلَى مُسْلِمٍ فَرَدَّ الْقَاضِي ذَلِكَ، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدَانِ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْفُسِهِمَا فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا ثُمَّ أَعَادَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَحْكُمْ الْقَاضِي بِبُطْلَانِ مَا هُوَ شَهَادَةٌ هُنَا، فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفَاسِقَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَدَائِهِمَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ الْفَرْعِيَّيْنِ. وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضِهِمْ عَلَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 25 بَعْضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِ الْأَرِقَّاءِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ وَلَا يَجُوزُ لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ إنْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ مَلِكُهُمْ، إمَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَوْ لِأَنَّ مَلِكَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، فَلَا يَكُونُ كِتَابُهُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَاضِي إنَّمَا الْحُجَّةُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَمَلِكُهُمْ لَيْسَ بِقَاضٍ فِي حَقِّ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَلَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ فَلِهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى كِتَابِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْوَكَالَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ لَهُ بِقَبْضِهَا، وَالدَّارُ فِي مِصْرٍ سِوَى الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ كِتَابَ الْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ مَعَ الشَّهَادَةِ، فَيَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَكِتَابُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَاتَمَ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ، وَالْكِتَابُ قَدْ يُفْتَعَلُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَإِنَّ فِيهِ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً مَاسَّةً إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَصْمِ وَبَيْنَ شُهُودِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَرُبَّمَا لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ شُهُودِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ، لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِيَنْقُلَ شُهُودُهُ كِتَابَهُ إلَى مَجْلِسِ قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ وَيُثْبِتَ عَدَالَتَهُمْ فِي كِتَابِهِ، فَلِأَجْلِ الْحَاجَةِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يُحْتَاطَ فِيهِ. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ فَعِلْمُ الْقَاضِي فِيهِ أَبْلَغُ مِنْ الْبَيِّنَةِ، فَلَا يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ مَعْرِفَةً، وَإِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَيَشْتَبِهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي كِتَابِهِ إلَى أَنْ يُعَرِّفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَتَعْرِيفُ الْغَائِبِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ، فَمَا لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ وَزَكَّوْا، كَتَبَ لَهُ وَسَمَّاهُ وَيَنْسُبُهُ إلَى أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ. قَالُوا وَتَمَامُ التَّعْرِيفِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ، وَإِنْ ذَكَرَ قَبِيلَتَهُ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَبْلَغُ وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَزَكَّوْا شُهُودَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ شَاءَ سَمَّى الشُّهُودَ، وَإِنْ شَاءَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 26 تَرَكَ ذِكْرَهُمْ، وَقَالَ: أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَاسْمَهُ وَنَسَبَهُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كِتَابُ الْقَاضِي، لَا شُهُودُهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَهُمْ، ثُمَّ يَكْتُبَ، وَذَكَرَ أَنَّ دَارًا فِي الْبَصْرَةِ فِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ حُدُودَهَا لَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ فِي الْخُصُومَةِ فِيهَا وَقَبْضِهَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَاضِرًا عِنْدَ الْكَاتِبِ جَلَّاهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ، ثُمَّ يَخْتِمُ الْكِتَابَ لِيُؤَمَّنَ بِالْخَتْمِ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ وَيُشْهِدُ عَلَى خَتْمِهِ شَاهِدَيْنِ. وَإِذَا قَدَّمَ الْوَكِيلُ كِتَابَهُ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ وَمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَمَا غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَطَرِيقُ إثْبَاتِهِ عِنْدَهُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ. وَعِلْمُ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا فِي الْكِتَابِ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَدَبِ الْقَاضِي، فَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ فَزَكَّوْا، سَأَلَ الْوَكِيلَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَعْرِفُ الْوَكِيلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِذَا كَانَ يَعْرِفُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ يَقُولُ لِلْوَكِيلِ: " قَدْ عَلِمْتُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَلَكِنْ لَا أَدْرَى أَنَّكَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَمْ لَا " فَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، لِهَذَا فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَزَكَّوْا، ادَّعَى بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ طَالَبَهُ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الْحَقِّ فِي الدَّارِ، فَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكِتَابِ فَذَلِكَ صَوَابٌ وَأَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ مِنْ مُدَّعِيهِ، وَالْمُدَّعِي مَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَكِيلٌ وَأَنَا عُرِفْتُ عِنْدَهُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ، فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ سَمِعَ دَعْوَاهُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ أَحْسَنُ، وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْخَصْمِ فَبِأَيِّهِمَا كَانَتْ الْبُدَاءَةُ جَازَ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْتَحَ كِتَابَ الْقَاضِي إلَّا وَالْخَصْمُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ أَسْبَابِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ فَتَحَ الْكِتَابَ بِدُونِ حُضُورِ الْخَصْمِ رُبَّمَا يَتَّهِمُهُ الْخَصْمُ بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَإِذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ الدَّارَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا وَلَا يَرْهَنَهَا وَلَا يُسْكِنَهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وُكِّلَ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَبِقَبْضِهَا، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فِيهَا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا دَعْوَى فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَلَمْ يُسَمِّ فِي الْوَكَالَةِ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْوَكَالَةِ إنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْصِمَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْوَكَالَةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 27 صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا، وَهَذَا مُقَيَّدٌ، إمَّا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دُونَ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ إنْسَانٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ غَيْرِهِ، لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ. وَالْقَاضِي فِي التَّوْكِيلِ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ وَكِيلِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لِوَكِيلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لَهُ وَلَا لِوَكِيلِهِ، وَكُلُّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ جَازَ قَضَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ إلَى الْقَضَاءِ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ تَصِحُّ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا جَعَلَ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ مَنْ سُمِّيَا بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْقَاضِي، وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِذَلِكَ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَكَمَا لَا يَقْضِي عِنْدَهُ دَعْوَى الْوَصِيِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ لِلْوَصِيِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي أَحَدَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ الْوَارِثُ ابْنَ الْقَاضِي أَوْ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَضَاءِ يُمَهِّدُ مَحَلَّ حَقِّهِ، فَإِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ بِقَضَائِهِ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ اسْتَبَدَّ بِاسْتِيفَائِهِ بِدَيْنِهِ، فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَوْ اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الْقَاضِي أَوْ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ عَلَى خَصْمِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ بِقَضَائِهِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ، فَإِذَا كَانَ عَبْدَهُ أَوْ ابْنَهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لَهُ. وَلَوْ قَضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْوَكِيلِ جَازَ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَبْدِهِ، إذْ لَا تُهْمَةَ فِي قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي قَضَائِهِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى ابْنِهِ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِ لَهُ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ وُلِّيَ الْوَكِيلُ الْقَضَاءَ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَدَّعِيه لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لَهُ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهُ وَكِيلًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَا رَضِيَ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ كَانَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى حَالِهَا، لِأَنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ لَا يُنَافِي الْوَكَالَةَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا، كَمَا لَا يُنَافِي أَصْلَ حُقُوقِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 28 الْقَضَاءِ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُكِّلَ وَهُوَ قَاضٍ كَانَ التَّوْكِيلُ صَحِيحًا وَكَانَ وَكِيلًا، حَتَّى إذَا عُزِلَ كَانَ وَكِيلًا فَإِذَا كَانَ اقْتِرَانُ الْقَضَاءِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا، فَطَرَيَانُهُ لَا يَرْفَعُهَا وَكَانَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ الْقَاضِيَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَبْضٍ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لِلْغَيْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ الْقَاضِيَ بِالْخُصُومَةِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ إذَا عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَوَكَّلَ الْقَاضِي وَكِيلًا يُخَاصِمُ إلَيْهِ بِذَلِكَ فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي وَكَّلَهُ، فَقَضَاؤُهُ لَهُ كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيمَا يَدَّعِيه وَكِيلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا وَكِيلَ ابْنِهِ أَوْ بَعْضَ مَنْ هُوَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ. قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ الْقَاضِي بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَكِيلًا فَبَاعَهُ فَخَاصَمَ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ فِي عَيْبٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ لِمُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ مَا يَلْحَقُ الْوَكِيلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَيْضًا، فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ قَضَى بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ جَازَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ. وَلَوْ وَكَّلَ الْقَاضِي وَكِيلًا يَبِيعُ لِلْيَتَامَى شَيْئًا، ثُمَّ خَاصَمَ الْمُشْتَرِيَ فِي عَيْنِهِ جَازَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَا نَائِبٌ عَنْ الْيَتِيمِ لَا عَنْ الْقَاضِي، حَتَّى إذَا لَحِقَتْهُ عُهْدَةٌ رَجَعَ بِهَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَكُونُ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَضَاءِ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ ابْنُ الْقَاضِي وَكِيلًا فِي خُصُومَةٍ فَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ لِلْوَكِيلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ لَهُ نَصِيبٌ فِيهِ، وَإِنْ قَضَى بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاضِي لَهُ. وَلَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةُ الْقَاضِي وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَقَضَى لِوَكِيلِهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ مُكَاتَبِهِ إذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْقَضَاءِ لَا وَقْتُ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ذَلِكَ سَبَبٌ مُمَكِّنٌ لِلتُّهْمَةِ كَانَ الْقَضَاءُ نَافِذًا وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا كَانَ ابْنُ الْقَاضِي وَصِيًّا لِيَتِيمٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فِي أَمْرِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْيَتِيمِ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْوَصِيِّ، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ ابْنَ الْقَاضِي، كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِابْنِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 29 [بَابُ وَكَالَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَجُوزُ لِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُوَكِّلَ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ أُمُورِ الْيَتِيمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَوْ فَوَّضَ إلَى الْوَكِيلِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِأَنْ قَالَ: مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ جَائِزٌ، كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، فَإِنْ بَلَغَ الْيَتِيمُ قَبْلَ أَنْ يَصْنَعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ لِلْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ، وَبِبُلُوغِ الْيَتِيمِ عَنْ عَقْلٍ انْعَزَلَ الْوَصِيُّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ؛ وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَكَالَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ كَإِنْشَائِهَا، وَلَوْ وَكَّلَهُ الْوَصِيُّ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ، لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى وَكَالَتُهُ، وَإِذَا وَكَّلَ الْيَتِيمُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَكِيلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِجَازَةِ وَصِيِّهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ وَصِيِّهِ فَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ وَصِيَّانِ فَوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، قَامَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَهُ، وَجَازَ لَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ، ثُمَّ إنَّ الْخِلَافَ مَعْرُوفٌ فِي أَنَّ أَحَدَ الْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ يَعُولُهُ، وَلَيْسَ بِوَصِيٍّ لَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ بَيْعٌ، وَلَا شِرَاءٌ، وَلَا خُصُومَةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْيَتِيمِ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَى إجَارَتِهِ، وَقَبْضِ الصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ لَهُ اسْتِحْسَانًا، أَمَّا إجَارَةُ نَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَيَلْزَمُهُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ تَسَلُّمُ نَفْسِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّبِيُّ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ؛ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لَهُ، لَوْ أَرَادَ مَنْ يَعُولُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَخْدِمَهُ فِي ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُعَلِّمَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ، فَإِذَا أَجَّرَهُ لِذَلِكَ لَحَصَلَ لَهُ عِوَضٌ بِإِزَاءِ مَنَافِعِهِ، فَكَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبَ، وَإِلْزَامُ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِيَدِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحَافِظِ، فَإِذَنْ قَبْضُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لَا يَسْتَدْعِي الْوِلَايَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ لِلصَّبِيِّ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ، إذَا كَانَ يَعْقِلُ ذَلِكَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَشُوبُهَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 30 ضَرَرٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْوِلَايَةِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَعُولُهُ يَحْفَظُهُ، وَيَحْفَظُ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ يَحْفَظُ مَا يُوهَبُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ أَجَّرَ عَبْدَهُ أَوْ دَابَّتَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ، وَلَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى أَسْبَابِ الْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الرَّقَبَةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ وَكِيلًا فِي خُصُومَةِ الْيَتِيمِ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، ثُمَّ مَاتَ الْوَصِيُّ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ وَرَأْيِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ أَيْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَكَالَةِ بِالْقِيَامِ عَلَى الدَّارِ وَقَبْضِ الْغَلَّةِ وَالْبَيْعِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِالْقِيَامِ عَلَى دَارِهِ وَإِجَارَتِهَا وَقَبْضِ غَلَّتِهَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَلَا يَرُمَّ شَيْئًا مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ وَرَاءَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِحِفْظِ عَيْنِهَا، وَالِاعْتِيَاضِ عَنْ مَنَافِعِهَا، وَالْبِنَاءُ وَالتَّرْمِيمُ لَيْسَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ إحْدَاثُ شَيْءٍ آخَرَ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُهُ بِدُونِ أَمْرِ صَاحِبِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا كَالْمُودَعِ؛ وَلَا يَكُونُ الْمُودَعُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْوَدِيعَةِ حَقًّا، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَلَوْ هَدَمَ رَجُلٌ مِنْهَا بَيْتًا كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْهَادِمَ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِحِفْظِهِ، وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِإِمْسَاكِ عَيْنِهِ حَالَ بَقَائِهِ، وَلَا بَدَلَ لَهُ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُخَاصِمَ الْمُسْتَهْلِكَ؛ لِيَسْتَرِدَّ فَكَانَ خَصْمًا فِي ذَلِكَ كَمَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ، فَجَحَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْإِجَارَةَ كَانَ خَصْمًا لَهُ حَتَّى يُثْبِتَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعَقْدَ، وَالْإِجَارَةُ أَحَدُ الْبَيْعَيْنِ، وَالْمُبَاشِرُ لِلْبَيْعِ هُوَ الْخَصْمُ فِي إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِجَارَةِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَنَهَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَجَحَدَ الْأَجْرَ فَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ الْأَجْرِ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ وَقَبْضِ الْحَقِّ إلَيْهِ فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهَا بِالْعَاقِدِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهَا، وَذَلِكَ يَهْدِمُ دَعْوَاهُ، فَإِنَّ بَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْعَيْنِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِيهَا مُنَافَاةً، فَإِقْرَارُهُ بِالْوَكَالَةِ يَجْعَلُهُ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِهَا غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا مَلَكَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 31 الْوَكِيلُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْمُوَكِّلِ مَلَكَ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ بِالْوَكَالَةِ، كَمَا فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُوَكِّلُ وَصِيٌّ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ، فَلَا يَكُونُ رِضَاهُ بِرَأْيِهِ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي تَوْكِيلِ الْغَيْرِ بِهِ مُبَاشِرًا غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ وَمُتَصَرِّفًا عَلَى خِلَافِ مَا رَضِيَ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَبِيعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْمُوَكِّلُ، إنَّمَا رَضِيَ بِأَنْ تَتَعَلَّقَ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَلَوْ جَازَ بَيْعُ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ حَاضِرًا فَإِتْمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ فَكَانَ مَقْصُودُهُ حَاصِلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَامًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحَضْرَتِهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ الْعَقْدَ، حَتَّى يَصْلُحَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ جَازَ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ كَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاشِرِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ فِي إجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا، وَرَأْيُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ بِرَأْيِهِمَا؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُنَا اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْعَقْدِ يَتَيَسَّرُ، وَهَذَا عَقْدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا إذَا رَضِيَ الْمُوَكِّلُ بِرَأْيِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْمَرَمَّةُ وَالْبِنَاءُ فِي هَذَا، وَلَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ صَرَّحَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَرِدًّا مُسْتَقْضِيًا قَابِضًا مُسَلِّمًا مُخَاصِمًا فِي الْعَيْبِ وَمُخَاصِمًا، وَفِيهِ مِنْ التَّضَادِّ مَا لَا يَخْفَى، وَلَوْ بَاعَهُ لَهُ مِنْ ابْنٍ لَهُ كَبِيرٍ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالْوَكَالَةِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ يَقُولُ: بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْبُيُوعِ بِالْغَبْنِ الْبَيِّنِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: مَنْ يَقِيسُ هُنَاكَ يَقِيسُ فِي الْوَكَالَةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكِيلَيْنِ وَالْمُضَارِبِ، ثُمَّ وَجَّهَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 32 أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا يَشْتَرِي هَؤُلَاءِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، فَبَيْعُهُ مِنْهُمْ كَبَيْعِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ كَسْبَ عَبْدِهِ لَهُ، وَفِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، فَتَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِالْبَيْعِ مِنْهُمَا، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْإِنْسَانُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ ابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ فِيمَا يُوجِبُهُ لَهُمَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَجُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِعَبْدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، فَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاضِحٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا جَعَلَ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ عَفْوًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ سَبَبٌ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَمَّا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ فَسَبَبٌ يَجُرُّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ لِنُفُوذِ الْوَكَالَةِ، وَإِنْ أُجْرِيَتْ عَلَى إطْلَاقِهَا فَتَخْصِيصُهَا بِالتُّهْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَهُوَ جَعْلُ الْخِلَافِ عَلَى الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ كَالْمُتَصَرِّفِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَهْيُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا، وَأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ فَلَا تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْفَاذٌ فِي الْعَيْنِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، وَفِي الْغَبْنِ هُوَ كَالْمُتَصَرِّفِ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ، فَإِنَّهُ إيثَارٌ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ مَحْضٌ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَفِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ جَمِيعًا نَائِبٌ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَجَازَ لَهُ فِي الْوَكَالَةِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: بِعْ مِمَّنْ شِئْتَ الْعُمُومَ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَكُونُ نَصًّا فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ؛ فَلِهَذَا أَجَازَ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَى بَيْعِهِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ فَإِنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَبَيْعُهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ إطْلَاقِ الْوَكَالَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْعَامِّ، فَلَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ بَيْعٍ يُبَاشِرُهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِتَمَكُّنِ سَبَبِ التُّهْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا لَا يَبِيعُهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ قَالَ وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الدَّارَ وَالْخَادِمَ فَطَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَخُصُومَتُهُ فِي الْعَيْبِ مَعَ الْوَكِيلِ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَكَذَلِكَ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْنِ إلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَقْبِضَهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ عِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حُقُوقُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 33 الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ عَنْ الْمُوَكِّلِ مُعَبِّرٌ عَنْهُ، فَلَا تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ؛ وَلَنَا أَنَّ الْعَاقِدَ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْعَقْدَ بِالْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ، فَالتَّوْكِيلُ لِتَنْفِيذِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ وَالْوِلَايَةِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِالْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَانَ عَقْدُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءً فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَوْ لَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ؛ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَتَّى إذَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْعَقْدُ لَهُ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ لَهُ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَهُ قَبْضُ السِّلْعَةِ، وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مُوجَبُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَالْوَكِيلُ فِيهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مُوجَبُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَالْوَكِيلُ فِيهِ يَكُونُ مُغَايِرًا، فَمُوجَبُ النِّكَاحِ مِلْكُ الْبُضْعِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ، وَمُوجَبُ الشِّرَاءِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّقْلَ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ مَلَكَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ يَقُولُ: الْمِلْكُ أَوَّلًا فَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمِلْكُ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَعْقِدُهُ الْوَكِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْخِلَافَةِ، فَأَمَّا مِلْكُ الْمَالِ فَيَحْتَمِلُ أَلَا تَرَى أَنَّ بِعَقْدِ الْعَبْدِ الْمِلْكَ، يَقَعُ لِمَوْلَاهُ، وَبِعَقْدِ الْمُوَرِّثِ يَقَعُ لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ لَزِمَهُ دُونَ الْآمِرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا فِي الْإِقْرَارِ. أَمَّا وَكِيلُ الْإِجَارَةِ فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ بِدُونِ الْقَاضِي، وَإِذَا قَبِلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَصِيرُ مَقْبُوضًا بِقَبْضِ الدَّارِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ كَانَ فِي ضَمَانِ الْأَجِيرِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَهُ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُ الْآمِرَ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ، فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ فَعُلِّلَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَقَالَ: لِأَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِإِجَارَةٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِيَ فِي الْبَيْعِ، يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَإٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْمُوَكِّلُ غَيْرُهُمَا، فَصَارَ فِي حَقِّهِ كَأَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً فَيَلْزَمُهُ دُونَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 34 الْآمِرِ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُجْعَلُ هَكَذَا، لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْإِجَارَةَ فِي مَعْنَى عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَبَعْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَمْتَنِعُ الِانْعِقَادُ، لَا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عَقْدًا مُبْتَدَأً بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْوَكِيلِ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى الْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَقْدًا مُبْتَدَأً لِيُقَامَ رَقَبَةُ الدَّارِ فِيهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ. قَالَ: وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَمَنْ اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إطْلَاقٍ جُعِلَ أَمْرُهُ كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ، فَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَصْلِ الْبَيْعِ لَا بِصِفَةِ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قُيِّدَ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَمَّا كَانَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ؛ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ. وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ وَالْكَفَالَةَ؛ وَثِيقَةً لِجَانِبِ اللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ لِمُطْلَقِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ مَعَ بَقَاءِ الْكَفَالَةِ وَالْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا كَانَتْ، وَالْمُطَالَبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْوَكِيلِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَوَالَةِ يُحَوِّلُ الثَّمَنَ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، فَإِنْ جُوِّزَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ نَفَذَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ هَذَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَجُوزُ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِبْرَاءِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنَ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَصَارَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قِيَاسًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إبْرَاؤُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ، فَإِنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ. كَمَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَدَلِيلُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا عِنْدَهُمَا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ خَالِصُ حَقِّ الْوَكِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَكَانَ هُوَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقَبْضِ مُسْقِطًا حَقَّ نَفْسِهِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إلَّا أَنَّ بِقَبْضِهِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ الْآمِرِ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا انْسَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ فَبِإِبْرَائِهِ صَارَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ يُعْتِقُ الْمَرْهُونَ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِانْسِدَادِ بَابِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فِي الْإِبْرَاءِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 35 قُلْنَا: الْحَوَالَةُ إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي بِتَحْوِيلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا. كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ بِغَيْرِ حَوَالَةٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ أَوْ بِغَيْرِ عَيْبٍ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ: مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ جَائِزٌ فَهَذَا مِنْ صُنْعِهِ، فَيَجُوزُ فِي حَقِّ الْآمِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ مَتَاعًا، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ فَأَخَذَ مِنْهُ بِهَا دَرَاهِمَ، أَوْ صَالَحَ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَتَاعٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي حَقِّ الْوَكِيلِ وَيَكُونُ ضَامِنًا الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِمَّا صَنَعَ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْضَهُ، وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ مَتَاعًا، كَانَ مُؤْتَمَنًا فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ الثَّمَنِ بِعَيْنِهِ،. كَمَا لَوْ قَبَضَ الْكُلَّ، وَيَكُونُ ضَامِنًا حِصَّةَ مَا اشْتَرَى بِهِ الْآمِرُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِالْكُلِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرِي بِالْكُلِّ، وَهَذَا لِأَنَّ ثَمَن الْمُشْتَرِي وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ صَارَ قَاضِيًا بِالثَّمَنِ دَيْنَ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، لَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ مِنْ الْأَصْلِ، وَكَانَ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِانْفِسَاخِ السَّبَبِ لَا لِلْمُقَاصَّةِ بِالثَّمَنِ، الَّذِي هُوَ لِلْآمِرِ. قَالَ وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ مِنْ الْأَجْنَاسِ لِلْأَمْوَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا بِالنَّقْدِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ مُطْلَقَ الْوَكَالَةِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُعْتَادِ، وَالْبَيْعُ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، فَلَا يَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ بَيْعٌ فِيهِ هِبَةٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ لِهَذَا، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالْعُرُوضِ فَبَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ، شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ، وَمُطْلَقُ الْبَيْعِ يَكُونُ بِالنَّقْدِ دُونَ الْعُرُوضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَشْتَرِي لِلْآمِرِ إلَّا بِالنَّقْدِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ، وَقَدْ أَتَى بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ، وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ بِالْعُرُوضِ، كَمَا يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ وَلَكِنْ مِنْ الْبَيْعِ مَا يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا مُطْلَقًا لَا يَضْمَنُ الشِّرَاءَ فِي جَانِبِ الْعُرُوضِ لَا فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ، وَأَمْرُهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَالْعَقْدُ فِيهِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ فَمَا مِنْ جُزْءٍ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 36 مِنْ الْبَيْعِ إلَّا وَيُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ، وَالشُّفْعَةُ فِي الْهِبَاتِ لَا تَثْبُتُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ بِالْمُحَابَاةِ يَحْنَثُ، وَكَمَا يُرَاعَى الْعُرْفُ فِي الْوَكَالَاتِ يُرَاعَى فِي الْأَثْمَانِ، ثُمَّ جَعَلَ هَذَا بَيْعًا مُطْلَقًا فِي الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَبِيعُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ لِلْبِرِّ فِيهِ، وَفِي هَذَا لَا يُنَافِي قِلَّةَ الثَّمَنِ وَكَثْرَتَهُ، وَقَدْ يَبِيعُهُ لِلِاسْتِرْبَاحِ فَعِنْدَ إطْلَاقِ الْأَمْرِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ تُخَصِّصُهُ التُّهْمَةُ، وَفِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ التُّهْمَةُ مُمْكِنَةٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْجِبْهُ أَخْذُهُ فِي يَمِينِهِ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى الْآمِرِ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُلَاقِي مِلْكَ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِيَنْظُرَ إلَى إطْلَاقِ أَمْرِهِ، وَأَمْرُهُ فِي الْبَيْعِ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْعُمُومَ فِي جَانِبِ الْوَكِيلِ اشْتَرَى ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعُمُومُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَفِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ لَا يُعَدُّ، وَتَصَرُّفُهُ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ، فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ إطْلَاقِ الْأَمْرِ فِيهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِعَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِيه جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ فِي جَانِبِ الْعَرْضِ مُشْتَرٍ فَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَشْتَرِي لِلْآمِرِ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ قُبِلَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا بَاعَهُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ، فَأَمَّا بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّ الْأَجَلَ الْمُتَعَارَفَ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَمَا لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ كَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ، بِأَنْ يُعَاوِضَ عَبْدَهُ هَذَا فُلَانًا بِأَمَتِهِ هَذِهِ فَبَاعَ فُلَانٌ أُمَّتَهُ تِلْكَ مِنْ رَجُلٍ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُعَاوِضَ بِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ تَحْصِيلُ الْأَمَةِ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِتَصَرُّفِهِ مَعَ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَاكَ الثَّمَنُ، وَإِنَّمَا رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لَهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَمَّاهُ وَيَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي مَلَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ: وَلِلْوَكِيلِ بِالْإِجَارَةِ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالنَّقْدِ، وَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، إذَا كَانَ مَعْلُومًا مَوْصُوفًا، وَبِالْمُعَيَّنِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَبِالْمَوْصُوفِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ الثِّيَابِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَقُولَانِ بِتَخْصِيصِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَلَا عُرْفَ هُنَا فَإِنَّ الْأَرْضَ تُؤَاجَرُ بِغَيْرِ النَّقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُدْفَعُ مُزَارَعَةً، وَهِيَ إجَارَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 37 ثُمَّ التَّخْصِيصُ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْآمِرِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْوَكِيلَ مُخَالِفًا، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْآمِرِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْأَمْرَ هُنَا. وَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْأَجْرِ، أَوْ الثَّمَنِ رَجُلًا لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُشْتَرِي بَرِيئَانِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْوَكِيلِ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ ضَامِنٌ لِلْآخَرِ؛ إنْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ وَكِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِهِ كَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينٌ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ؛ صَارَ ضَامِنًا لِلْآمِرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا الْوَكِيلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا، أَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَصَارَ ضَامِنًا لِلْآمِرِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ هِبَتُهُ، وَلَا إبْرَاؤُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّأْجِيلَ، فَقِيلَ: بِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجَوِّزُ - تَأْجِيلَهُ. كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ابْتِدَاءً؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّأْجِيلِ إسْقَاطُ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ وَقِيلَ: بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ، يَصِيرُ الْوَكِيلُ بِهِ ضَامِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ مِنْ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ مَتَى قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، بِمَا سَمَّى لَهُ، جَازَ التَّوْكِيلُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِعَيْنِهَا، بَلْ الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ، يَحْصُلُ لِلْمُوَكِّلِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِمَا سُمِّيَ لَهُ كَانَ هَذَا عَقْدًا مُقَيِّدًا لِلْمَقْصُودِ، فَصَحَّ وَإِلَّا فَلَا. وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ مَا سَمَّاهُ فِي الْوَكَالَةِ؛ إذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يُسَمَّ، لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ جَهَالَةٌ مُتَفَاحِشَةٌ، وَتَسْمِيَةُ الْجِنْسِ وَالثَّمَنِ لَا يُصَيِّرُ الْجِنْسَ مَعْلُومًا بِهَا، فَإِنَّ كُلَّ جِنْسٍ فِيهِ مَا يُوجَدُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَإِذَا سَمَّى الْجِنْسَ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ، أَوْ النَّوْعَ جَازَ التَّوْكِيلُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ بَيَانَ مِقْدَارِ الثَّمَنِ يُصَيِّرُ النَّوْعَ مَعْلُومًا. وَإِنْ سَمَّى الْجِنْسَ وَالنَّوْعَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ جَازَتْ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَ الثَّمَنُ، أَوْ لَمْ يُسَمَّ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِهِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَجْعَلُ الْوَكِيلَ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْبَائِعُ مِنْ الْمُوَكِّلِ. وَكَانَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 38 بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ إلَى أَنْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى إنْسَانٍ؛ لِيَأْتِيَ لَهُ بِرُءُوسٍ مَشْوِيَّةٍ، فَجَعَلَ يَصِفُهَا لَهُ، فَعَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ بِالصِّفَةِ، فَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، وَاشْتَرَى الرُّءُوسَ، وَحَمَلَهَا إلَى عِيَالِهِ، وَعَادَ إلَى بِشْرٍ بَعْدَ مَا أَكَلَهَا مَعَ عِيَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ مَا قُلْت لَك عَنْهُ، فَقَالَ: قُلْت لِي اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، وَقَدْ بَدَا لِي مَا فَعَلْتُ، فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهَا» ثُمَّ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَالْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، وَذَلِكَ عَفْوٌ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الرِّفْقُ بِالنَّاسِ، وَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْوَصْفِ بَعْضُ الْحَرَجِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ؛ لِهَذَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً. أَوْ عَبْدًا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسٌ، وَالْإِنَاثُ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنْ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ: كَالْحَبَشِيِّ، وَالسِّنْدِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ، وَالتُّرْكِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ وَلَمْ يُسَمِّ مِقْدَارَ الثَّمَنِ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، فَيَنْفَرِدُ الْآمِرُ بِمَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا مُوَلَّدًا، أَوْ حَبَشِيًّا، أَوْ سِنْدِيًّا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ؛ وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ، وَهِيَ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ ثَلَاثَةٌ: الْجُودَةُ، وَالْوَسَطُ، وَالرَّدَاءَةُ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الْوَكِيلُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسَمِّ النَّوْعَ وَسَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ صَارَ النَّوْعُ مَعْلُومًا، فَإِنَّ مِقْدَارَ ثَمَنِ كُلِّ نَوْعٍ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ، فَيَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ رَقَبَةً، أَوْ مَمْلُوكًا، لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ لِتَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِي الْجِنْسِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذُّكُورَ مَعَ الْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ. جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى جِنْسَهَا وَثَمَنَهَا فَاشْتَرَاهَا لَهُ عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا؛ أَوْ مُقْعَدَةً، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي قَطْعَاءِ الْيَدِ وَالْعَوْرَاءِ، فَأَمَّا الْعَمْيَاءُ، وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْمُقْعَدَةُ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ، وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَالشِّرَاءَ، وَالْعَمْيَاءُ وَالْمُقْعَدَةُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَّا الْعَوْرَاءُ فَمَعِيبَةٌ، وَشِرَاءُ الْمَعِيبِ مُتَعَارَفٌ تَوْضِيحُهُ: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 39 أَنَّ الْعَمَى وَقَطْعَ الْيَدَيْنِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ اسْتِهْلَاكُ حُكْمٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ، فَأَمَّا الْعَوَرُ وَقَطْعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِهِ يَصِحُّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ، وَقَدْ سَمَّى لَهُ الْجَارِيَةَ مُطْلَقًا، وَاسْمُ الْجَارِيَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَمْيَاءِ، وَمَقْطُوعَةِ، الْيَدَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقَيُّدُ بِالْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَشْتَرِي الْمَرْءُ رَقَبَةً عَمْيَاءَ، تَرَحُّمًا عَلَيْهَا، لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ قَصْدًا إلَى وَلَائِهَا، أَوْ إلَى وَلَاءِ أَوْلَادِهَا، بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ قَدْ قَامَ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ بِالْعَمْيَاءِ وَمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ عَبْدًا لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَبَّازٍ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَاشْتَرَى أَعْمَى أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ، وَهُوَ تَنْصِيصُهُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَى، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا، فَاشْتَرَى مَحْرَمًا مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ مُخْتَصٌّ أَمْرِهِ بِجَارِيَةٍ، يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا. قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ لِمَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ: كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ لِلْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يُؤْخَذُ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِمَارًا، وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ، فَسَخَ الْوَكَالَةَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَمِيرَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِرُكُوبِ الْعُظَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، قُلْنَا: هَذَا اخْتِلَافُ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُوَكِّلِ، حَتَّى قَالُوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حِمَارًا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَرْكَبُهُ مِثْلُهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ، أَوْ الْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْفَالَيْرِيُّ بِذَلِكَ، وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِالتَّسْمِيَةِ لَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا، وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا جَازَ عَلَى الْآمِرِ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي الصِّفَةِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ، إذَا اشْتَرَاهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ عَلَى الْآمِرِ، لِمَا بَيَّنَّا، وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَاقِدِ، فَصَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى ثَمَنًا فَزَادَ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا سَمَّى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 40 لَهُ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ ثَوْبٌ يَهُودِيٌّ يُشْتَرَى لَهُ بِالثَّمَنِ لَا بِمَا دُونَهُ، وَالْجَيِّدُ يُشْتَرَى بِعَشَرَةٍ، فَإِذَا اُشْتُرِيَ بِثَمَانِيَةٍ كَانَ رَدِيئًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَصَفَ لَهُ صِفَةً وَسَمَّى لَهُ ثَمَنًا؛ فَاشْتَرَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ حِينَ اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَخَالَفَهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ حِينَ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ خِلَافًا. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا طَعَامًا، فَاشْتَرَى بِهَا لَحْمًا وَفَاكِهَةً، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ، وَالْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ مَطْعُومٌ، إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّاسِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا فَوَّضَ الْأَمْرَ لِرَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَطْعُومَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَبِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطَّعَامَ عِنْدَ ذِكْرِ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ سُوقَ الطَّعَامِ مَا يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا، وَبَائِعُ الطَّعَامِ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا دُونَ مَنْ يَبِيعُ الْفَوَاكِهَ، فَصَارَ التَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، ثُمَّ إنْ قَلَّتْ الدَّرَاهِمُ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خُبْزًا، وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ؛ لِأَنَّ ادِّخَارَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إنَّمَا يُمْكِنُ الِادِّخَارُ فِي الْحِنْطَةِ فَعِنْدَ كَثْرَةِ الدَّرَاهِمِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخُبْزَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ اتَّخَذَ وَلِيمَةً، فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُ الْخُبْزُ، وَإِنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ، وَجَعَلَ الدَّقِيقَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْخُبْزِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلِيلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يُدَّخَرُ عَادَةً، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ الدَّقِيقَ كَالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدَّخِرُ الدَّقِيقَ كَمَا تُدَّخَرُ الْحِنْطَةُ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالَ: اشْتَرِ لِي حِنْطَةً فَاشْتَرَاهَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ الْقَدْرَ، وَجَهَالَةُ الْقَدْرِ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ بِمَا سَمَّى لَهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً، وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ اللَّآلِئَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ اللَّآلِئِ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ، وَكَذَلِكَ الدُّورُ فِي مَعْنَى الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فِي الْبَلْدَةِ، وَبِقِلَّةِ الْمَرَافِقِ. وَكَثْرَتِهَا؛ وَبِصَلَاحِ الْجِيرَانِ وَفَسَادِهِمْ، وَبِالسَّعَةِ وَالضِّيقِ، فَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ الْمُوَكِّلِ بِمَا سَمَّى لَهُ، قَالَ: وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ جَازَ، وَبِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ يَصِيرُ مَعْلُومًا عَادَةً، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 41 وَإِنْ بَقِيَتْ جَهَالَةٌ فَهِيَ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ فِي دِيَارِنَا: لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ الدُّورَ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ تَتَفَاوَتُ فِي الْقِيمَةِ، وَتُوجَدُ بِمَا سَمَّى لَهُ مِنْ الثَّمَنِ الدَّارُ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ، وَمَقْصُودُ الْآمِرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْمَحَلَّةِ. قَالَ وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ حُرًّا مُسْلِمًا، وَأَبُوهُ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا ارْتَدَّ عَنْ الذِّمَّةِ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ، أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ أَحَدِهِمْ عَلَيْهِ بِبَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ وَلَا تَزْوِيجٍ وَلَا خُصُومَةٍ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّصَرُّفِ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، وَمَلَكَ الْأَبُ مُبَاشَرَةَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَالرِّقُّ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَوْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ أُجِيزَ مَا مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ تَثْبُتُ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِهِ سَبْقُ ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ عَلَيْهِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُسْلِمَ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَتَوَقَّفُ بَيْنَ أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَبْطُلَ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ الْكَبِيرُ إذَا كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّصَرُّفِ لِانْعِدَامِ عَقْلِهِ، فَكَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ أَبُو الصَّبِيِّ وَكِيلًا بِبَيْعِ مَتَاعِ الصَّبِيِّ وَوَارِثُهُ الْأَبُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، إلَّا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ، وَازْدَادَ بِتَقَرُّرِ مِلْكِ الْأَبِ فِي الْمَحَلِّ. لَكِنَّا نَقُولُ: الْأَبُ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ كَانَ نَائِبًا عَنْ الصَّبِيِّ، وَقَدْ انْتَهَتْ هَذِهِ النِّيَابَةُ بِمَوْتِ الصَّبِيِّ وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْأَبَ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِ الصَّبِيِّ، وَرِضَاهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِزَوَالِ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَإِذَا صَارَ الْمِلْكُ لَهُ بِالْإِرْثِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَمُتْ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْأَبَ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، وَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَنَفَاذِ وِلَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَالَ عَقْلُ الْأَبِ أَوْ ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَدْ زَالَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ، فَإِنْ أَسْلَمَ، لَمْ يُعِدْ الْوَكَالَةَ بِمَنْزِلَةِ وَكَالَتِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ، تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ بِإِسْلَامِهِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ فِي تَوْكِيلِهِ بِالتَّصَرُّفِ لِوَلَدِهِ. قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ شَيْءٍ، أَوْ شِرَائِهِ، أَوْ تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، أَوْ بِخُلْعٍ، أَوْ بِمُكَاتَبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ عَلَى مَالٍ، فَفَعَلَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَرِضَاهُ بِرَأْيِ الْمُسَمَّى لَا يَكُونُ إلَّا بِرَأْيِ الْوَاحِدِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 42 سَمَّى الْبَدَلَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ يُمْنَعُ النُّقْصَانُ، وَلَا تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ، وَلَوْ حَضَرَ وَلِيُّهُمَا جَمِيعًا رُبَّمَا يَزِيدَانِ فِي الْبَدَلِ فَيَنْتَفِعُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لَهُمَا مَالًا فَزَوَّجَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ طَلَّقَا امْرَأَتَهُ عَلَى دِرْهَمٍ، أَوْ أَعْتَقَا الْعَبْدَ أَوْ كَاتَبَاهُ عَلَى دِرْهَمٍ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ يُعْمَلُ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَهُوَ التُّهْمَةُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَ أَحَدَهُمَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَلْفِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فِي الْبَيْعِ إضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ، فَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهِمَا جُمْلَةً، فَلَمَّا وَكَّلَهُ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا قُلْنَا كَانَ رَاضِيًا بِبَيْعِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ حِصَّتِهِ وَفِيهِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَسَوَّى فِي الْكِتَابِ بَيْنَ النُّقْصَانِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ يَسِيرًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا سَمَّى الثَّمَنَ بِمُقَابَلَتِهِمَا جُمْلَةً، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَزْرُ وَالظَّنُّ دُونَ الْيَقِينِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يُمْكِنُ التَّجَوُّزُ عَنْ النُّقْصَانِ الْيَسِيرِ، فَجُعِلَ عَفْوًا. كَمَا لَوْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ لِلْوَكِيلِ فَبَاعَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ بَيْعُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَنْصِيصُهُ عَلَى ثَمَنِهَا فِي الْوَكَالَةِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّهُ بِحِصَّتِهِ، وَعِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى الثَّمَنِ إذَا نَقَصَ الْوَكِيلُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ يَصِيرُ مُخَالِفًا سَوَاءٌ قَلَّ النُّقْصَانُ أَوْ كَثُرَ. كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَّا دِرْهَمًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِسِتِّمِائَةٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَلْفِ، أَوْ أَقَلَّ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ، وَصَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهَذَا وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ شِرَائِهِمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ. وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ بَاعَ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ بِمَا صَنَعَ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعَقْدَيْنِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ، فَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيه جُمْلَةً، فَيَحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْعَقْدِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ، فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهُ، وَلَمْ يَبِعْ مَا بَقِيَ، لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُمَا يَقُولَانِ: بَيْعُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 43 النِّصْفِ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ، وَأَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْبَيْعِ لَا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِتَعَيُّبِ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَبِيعَ مَا بَقِيَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَحِينَئِذٍ قَدْ زَالَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَحَصَلَ مَقْصُودُهُ فَيَجُوزُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْوَكِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ، وَالْمُوَكِّلُ مَالِكٌ لِبَيْعِ الْبَعْضِ كَمَا هُوَ مَالِكٌ لِبَيْعِ الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجُزْءِ بَاطِلٌ وَاعْتِبَارَ الْكُلِّ صَحِيحٌ، ثُمَّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ النِّصْفَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا بَيَّنَّا. فَإِذَا بَاعَ الْبَعْضَ بِهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الثَّمَنِ، وَبَقِيَ بَعْضُ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا، فَاشْتَرَى بَعْضَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَقِيَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ كُلُّهُ عَلَى الْآمِرِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَانِبِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَوْ اشْتَرَى بِالزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَالتُّهْمَةُ تَتَمَكَّنُ فِي جَانِبِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَلَعَلَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَلَى الْآمِرِ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ لَيْسَ بِعَبْدٍ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْآمِرِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَقِيَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْبَيْعِ فَصِحَّةُ التَّوْكِيلِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ لِلْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْبَعْضِ وَالْكُلِّ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى النِّصْفَ تَوَقَّفَ شِرَاؤُهُ عَلَى رِضَا الْآمِرِ. عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ نَفْسِهِ يَجُوزُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ حَقَّا لَوْ أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَقِيَ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَوَّلُ إلَى الْآمِرِ، فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ حُصُولُ مِلْكِ الْغَيْرِ لَهُ، وَالْقَدْرُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَقْصُودِهِ وَلَكِنَّهُ مَعِيبٌ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ لَهُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِلْعَيْبِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَى الْعِتْقِ صَارَ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ، فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا رَدَّهُ يَصِيرُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ حِينَئِذٍ. كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَرَدَّهُ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِعَبْدٍ، وَلَكِنَّهُ يُفْرَضُ أَنْ يَصِيرَ مُوَافِقًا بِشِرَاءِ مَا بَقِيَ، فَقُبِلَ وُجُودُ هَذَا لِمُوَافَقَتِهِ، وَكَانَ خِلَافُهُ ظَاهِرًا، وَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، فَنَفَذَ عِتْقُهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ، إذَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ يَتَقَرَّرُ شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ، حَتَّى إنَّهُ وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ لَا يَصِيرُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهُنَا لَوْ اشْتَرَى مَا بَقِيَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ غَرَضَهُ الْمُوَافَقَةُ هُنَاكَ، بِاعْتِبَارِ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 44 وَهُوَ حَطُّ الْأَلْفِ الزَّائِدِ، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، وَهُنَا غَرَضُهُ الْمُوَافَقَةُ بِاعْتِبَارِ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَكَالَةُ، وَهُوَ شِرَاءُ النِّصْفِ الْبَاقِي؛ فَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ شَيْءٍ، وَأَحَدُهُمَا عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، أَوْ صَبِيٌّ، لَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ رَأْيَ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرُ حَاضِرٌ، فَأَجَازَ الْبَيْعَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا وَأَجَازَهُ الْآخَرُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ خَادِمَةٍ لَهُ فَبَاعَهَا، ثُمَّ أَقَالَ الْبَيْعَ الْبَائِعُ فِيهَا، لَزِمَهُ الْمَالُ وَالْخَادِمُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَهُوَ شِرَاءٌ مُبْتَدَأٌ، وَلِلْمُوَكِّلِ غَيْرُهُمَا فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِمَا حَقُّهُ، كَأَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ عَيْبٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ، وَلَوْ وَكَّلَ الصَّبِيَّ بِبَيْعِ خَادِمٍ فَبَاعَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ لَهُ عِبَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِتَوْكِيلِ الْمَالِكِ إيَّاهُ بِذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ عِبَارَتِهِ بِتَمَحُّضِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِيهِ يَمْتَازُ الْآدَمِيُّ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَيَحْصُلُ لَهُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ مَعْنَى التَّجْرِبَةِ، فَيَصِيرُ مُهْتَدِيًا إلَى التَّصَرُّفَاتِ، عَالِمًا بِطُرُقِ التَّحَرُّزِ عَنْ أَسْبَابِ الْغَبْنِ، وَذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ، ثُمَّ الْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ ضَرَرًا، وَالصَّبِيُّ يُبْعَدُ عَنْ الْمَضَارِّ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ انْتَفَعَ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْآمِرُ فَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ، فَحِينَئِذٍ تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ بِالتَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ، وَالْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ يَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَيْسَ بِمُلْزَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مَجْنُونًا لَا يَعْقِلُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ، فَرُكْنُ التَّصَرُّفِ: الْقَوْلُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُرْتَدًّا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلَكِنْ يُوقَفُ حُكْمُ الْعُهْدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ، وَعِنْدَهُمَا الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ يُظْهِرُ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِنَفْسِهِ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً. وَلَوْ وَكَّلَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 45 الصَّبِيَّ أَوْ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَاشْتَرَاهُ فَالثَّمَنُ لَازِمٌ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ مَا لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَحْجُورَ لَا يَمْلِكُ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا وَجَبَ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ الْمِلْكُ، وَهُوَ الْآمِرُ، وَصَارَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ بِالشِّرَاءِ، فَيَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُرْسِلِ، وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ لَزِمَهُمَا الثَّمَنُ، وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِمَا بِتَصَرُّفِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا، فَكَذَلِكَ لِلْغَيْرِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ. وَأَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَقَالَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُمَا الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُمَا مُلْتَزِمَانِ الثَّمَنَ لِمَنْفَعَةٍ لِغَيْرِهِمَا، فَكَانَ هَذَا مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَكَفَالَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُفَ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي التَّصَرُّفَاتِ ظَاهِرٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَكَّلْ هُوَ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَتَوَكَّلُ الْغَيْرُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ الْمَأْذُونِ مُنْفَكٌّ الْحَجْرُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ فِي يَدِهِ فَيَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الْآمِرِ، فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ حَتَّى لَوْ وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ، يَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ مِنْهُ. قَالَ: وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِابْنِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ، انْقَطَعَ إذْنُهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ بِرَأْيِ الْآذِنِ، وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ قَدْ قَطَعَ رَأْيَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، ثُمَّ أَصَابَهُ الْجُنُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَبْطُلْ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ قَدْ لَزِمَهُ فِي حَالِ عَقْلِهِ وَكَمَالِهِ، فَلَا يَبْطُلُ بِجُنُونِهِ، وَهُنَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَالِكًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَبَطَلَ إذْنُهُ بِجُنُونِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَتَقَوَّى رَأْيُهُ بِرَأْيِ وَلِيِّهِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْبُلُوغِ فِي حَقِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجُنُونِ الْوَلِيِّ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُ الْوَكِيلِ وَاخْتَلَطَ، ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ الثَّمَنُ، وَلَزِمَ الْآمِرَ، أَمَّا فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْآمِرِ، فَرِوَايَتَانِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ جُنُونَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَوْ اقْتَرَنَ بِالْوَكَالَةِ لَمَنَعَ صِحَّتَهَا، وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا فَلَأَنْ يَمْنَعَ بَقَاءَهَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقُولُ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ فِي حَالِ كَمَالِ عَقْلِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 46 بِتَصَرُّفِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ مَعَ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ التَّصَرُّفِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قُلْنَا: الْعُهْدَةُ تَكُونُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ لُزُومِ الْعُهْدَةِ وَقْتُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ، لَا وَقْتُ التَّوْكِيلِ، وَهُوَ ذَاهِبُ الْعَقْلِ، فَكَأَنَّ التَّوْكِيلَ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ؛ وَكَّلَ رَجُلًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا، فَاشْتَرَى لَهُ، لَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ بِهِ، صَارَ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَسْبِقْ الْوَكَالَةُ، وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَانِ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُمَا، فَبَاعَ نِصْفَهُ، وَقَالَ: هَذَا نِصْفُ فُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيْعِ النِّصْفَيْنِ، وَالْوَكِيلُ مُعِيرٌ مَنَافِعَهُ لِلْمُوَكِّلِ، فَيَمْلِكُ تَعْيِينَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ الْبَيْعِ أَيَّ النِّصْفَيْنِ يَبِيعُ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى النِّصْفَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ صَرْفُهُ إلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى الْآخَرِ، فَيَشِيعُ فِي النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا شَاعَ فِيهِمَا بِحُكْمِ الْمُعَارَضَةِ لَمْ يَجُزْ فِي شَيْءٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ النِّصْفِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ النِّصْفِ عِنْدَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ الْكُلِّ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ النِّصْفِ، وَفِي، قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ، يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ، فَيُمْكِنُ تَنْفِيذُ بَيْعِهِ هُنَا فِي نِصْفِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى بَاعَ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ جَازَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يُنْظَرُ إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ مَعَ ذَلِكَ وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْآمِرُ: أَمَرْتُكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: أَمَرْتُكَ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِحِنْطَةٍ، أَوْ بِشَعِيرٍ، أَوْ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ، فَقَالَ الْآمِرُ: أَمَرْتُكَ بِالْحَالِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِصِفَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَالنِّكَاحُ وَالْمُكَاتَبَةُ كُلُّهُ عَلَى هَذَا. وَإِذَا قَالَ الْآمِرُ لِلْوَكِيلِ: قَدْ أَخْرَجْتُكَ عَنْ الْوَكَالَةِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: لَقَدْ بِعْتُهُ أَمْسِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَرَّ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ بَعْدَ مَا صَارَ مَعْزُولًا، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَيْضًا، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ الْآمِرُ: قَدْ أَخْرَجْتُكَ مِنْ الْوَكَالَةِ، جَازَ الْبَيْعُ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِهِ حَالَ بَقَاءِ الْوَكَالَةِ، لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْعَزْلِ بَعْدَهُ؛ وَإِذَا اتَّصَلَ التَّصْدِيقُ بِالْإِقْرَارِ كَانَ كَالْمَوْجُودِ يَوْمئِذٍ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ فَبَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 47 وَالْإِعْتَاقُ غَيْرُ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ، وَالْبَيْعُ نَاقِلٌ أَوْ مُوجِبٌ الْمِلْكَ لِلْغَيْرِ؛ أَوْ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُوجِبُ الْوَكَالَةَ لِلْمُوَكِّلِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُلْزِمَهُ الْوَلَاءَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ قَرِيبِ الْعَبْدِ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ مُطْلَقٌ، ثُمَّ الْعِتْقُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْقَرِيبِ بِالشِّرَاءِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْبَيْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِيجَابِ هُنَا قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ هُنَا وَلَاءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ وَلَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى بَيْعِهِ، فَبَاعَهُ، وَلَمْ يُشْهِدْ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَأَمْرُهُ بِالْإِشْهَادِ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، ثُمَّ مَنْ بَاعَ، وَلَمْ يُشْهِدْ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِرَهْنِ ثِقَةٍ بِنَسِيئَةٍ، فَبَاعَهُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِلْصَاقُ الْبَيْعِ بِالرَّهْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشَّرْطِ، فَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ كَانَ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ مِنْ فُلَانٍ بِكَفِيلٍ ثِقَةٍ، فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ كَفِيلٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُقَيَّدٍ، وَاَلَّذِي أَتَى بِهِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ، وَفِي شِرَاءِ الْكَفِيلِ وَالرَّهْنِ مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ لِلْمُوَكِّلِ، وَهُوَ التَّوَثُّقُ بِحَقِّهِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ، وَمَنْ أَوْجَبَ لِغَيْرِهِ بَيْعًا بِشَرْطِ رَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْبَلَ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ: لَمْ يَأْمُرْنِي بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَدَبَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، فَبَاعَهُ مِنْهُ وَمِنْ آخَرَ، جَازَ فِي النِّصْفِ الَّذِي بَاعَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِي الَّذِي بَاعَهُ لِلْآخَرِ مُخَالِفٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ مِنْ الْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، فَإِذَا بَاعَ مِنْ الَّذِي سَمَّى لَهُ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ النِّصْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِهَذَا جَازَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَهُ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْآمِرِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَكُلٌّ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْمُوَكِّلِ، كَاشْتِرَاطِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، ثُمَّ لَا ضَرَرَ عَلَى الْآمِرِ فِي هَذَا الشَّرْطِ، بَلْ فِيهِ نَفْعٌ لَهُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِمَا يُرَادُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْآمِرِ، وَإِذَا قَبِلَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ، بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِخِيَارِ شَرْطٍ، أَوْ رُؤْيَةٍ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذَا فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 48 الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ هُنَا فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ؛ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقَالَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ مُعْتَمَدُهُ التَّرَاضِي؛ فَيَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْآمِرِ. وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ مِنْ أَبِي الْآمِرِ، أَوْ ابْنِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ عَبْدِهِ التَّاجِرِ الْمَدْيُونِ، جَازَ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وُصْلَةٌ، وَكَانَ بَيْعُ الْوَكِيلِ مِنْ هَؤُلَاءِ كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ؛ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ؛ اعْتِبَارًا لِبَيْعِ الْوَكِيلِ بِبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ، فَيُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا، وَلَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، فَبَيْعُهُ الْكَسْبَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُفِيدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ قَالَ: وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ بِعْتُهُ مِنْ هَذَا، وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ، وَهَلَكَ عِنْدِي، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي ذَلِكَ - فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْوَكِيلُ مُصَدَّقٌ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَقَبْضِ الثَّمَنِ، وَقَدْ أُجْبِرَ بِمَا جُعِلَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ؛ فِي حَالِ قِيَامِ التَّسْلِيطِ، وَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي جَبْرِهِ، وَهُوَ أَمِينٌ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ. فَإِذَا أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ قَدْ مَاتَ، وَقَالَ وَرَثَتُهُ: لَمْ نَسْمَعْ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ بِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضْته، وَهَلَكَ عِنْدِي، وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ؛ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعْزَلُ بِمَوْتِ الْآمِرِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُسَلِّطْهُ الْوَارِثُ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ؛ فَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِهِ حَالَ حَيَاةِ الْآمِرِ، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فِي حَيَاةِ الْآمِرِ؛ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ يَمِينِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِذَا أَخَذَتْ الْوَرَثَةُ الْعَبْدَ؛ ضَمِنَ الْوَكِيلُ الْمَالَ لِلْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ مِنْهُ عِوَضًا عَنْ الْيَمِينِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ ضَامِنًا لَهُ مَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَهْلَكًا؛ فَالْوَكِيلُ يُصَدَّقُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ: أَنَّهُ قَدْ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْآمِرِ، وَإِنَّ بَدَلَهُ، وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ صَارَ مِلْكًا لِلْوَارِثِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ الْعَبْدَ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْوَكِيلَ بِمَا يُخْبِرُ هُنَا يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ كَانَ أَمِينًا فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مَقْبُولًا مَعَ يَمِينِهِ، فِيمَا يَنْفِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 49 الضَّمَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ قِيَامِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِلْكًا ظَاهِرًا لِلْوَارِثِ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِهَذَا. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ أَمَةٍ لَهُ؛ فَبَاعَهَا الْمُوَكِّلُ، أَوْ كَاتَبَهَا، أَوْ وَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا؛ فَذَلِكَ نَقْضٌ لِلْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا تَبْقَى الْوَكَالَةُ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، فَلَا تَبْقَى الْوَكَالَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَحَلِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّصَرُّفِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً. وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا الْمُوَكِّلُ، أَوْ وَطِئَهَا وَلَمْ تَلِدْ وَلَدًا مِنْهُ - فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ مَحَلٌّ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي وُكِّلَ الْوَكِيلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا، أَوْ رَهَنَهَا الْمُوَكِّلُ - فَإِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ مِنْ الْآمِرِ صَحِيحٌ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَالْإِجَارَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا؛ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا تُوقَفُ لِحَقِّ الْغَيْرِ، حَتَّى إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ؛ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا نَافِذًا، فَكَذَلِكَ تَوْكِيلُهُ بِبَيْعِهَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَبْقَى صَحِيحًا، وَلَوْ بَاعَهَا الْوَكِيلُ، أَوْ الْآمِرُ، ثُمَّ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ - فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَعَادَتْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَانْتِقَاضُ الْوَكَالَةِ كَانَ حُكْمًا لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا عَادَ مِلْكُهُ عَادَتْ الْوَكَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، كَانَ لِلْبَائِعِ، أَوْ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ تَفْسَخُ الْعَقْدَ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوَكِّلُ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي - لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ بَيْعُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَأِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَانَ الْمُوَكِّلُ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَتْ إلَى الْمُوَكِّلِ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمِلْكِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِلْكٌ جَدِيدٌ سِوَى الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ، إلَّا بِتَجْدِيدِ تَوْكِيلٍ مِنْ الْمَالِكِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً - كَانَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِهَذَا التَّصَرُّفِ، بِمَا أَحْدَثَهُ الْمُوَكِّلُ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْمُوَكِّلُ بِهَذَا الْفِعْلِ عَنْ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، فَبَقَاءُ الْوَكَالَةِ أَوْلَى، وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَيَأْخُذَ الْعَبْدَ، وَيَتْبَعَ الْوَكِيلَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَيْسَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْوَكَالَةُ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 50 وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ بِقَطْعِ يَدِهِ، قُلْنَا: هُوَ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَقَطْعُ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَ هُوَ فِيهَا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَبَّلَهُ، أَوْ اسْتَخْدَمَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ - فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ الْقِيمَةَ، وَيُعْطِيَهُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الْوَكِيلِ، فَيَكُونُ الْوَكِيلُ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ هَذَا، وَوَكَّلَ آخَرَ بِهِ أَيْضًا - فَأَيُّهُمَا بَاعَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، حِينَ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّيْنِ إذَا أَوْصَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ حَيْثُ لَا يَنْفَرِدُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ صَارَا وَصِيَّيْنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهُنَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ، فَإِذَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ اسْتَبَدَّ؛ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ، فَإِنْ بَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ، فَإِنْ عُلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا؛ كَانَ. الْعَبْدُ لَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا حَصَلَ فِي حَالِ قِيَامِ الْوَكَالَةِ، فَنَفَذَ وَصَارَ بَيْعُهُ كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، فَانْعَزَلَ بِهِ الْوَكِيلُ الثَّانِي، وَإِنَّمَا بَاعَهُ بَعْدَمَا انْعَزَلَ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ قَدْ اسْتَوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ، فَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْعَبْدِ، وَقَدْ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ، أَوْ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ - فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ فِيهِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُ تَرْجِيحٍ لِأَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ؛ فَهُوَ لَهُ؛ لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِتَأَكُّدِ شِرَائِهِ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ شِرَائِهِ؛ وَلِأَنَّ بِالْآخَرِ حَاجَةً إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَبِشِرَائِهِ مِنْ الْوَكِيلِ الْآخَرِ، لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِسَبْقِ عَقْدِهِ، فَإِنْ أَوْهَمَ لَبْسُهُ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُ، وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ - فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْآمِرِ حِصَّةُ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُ الْآمِرِ، إذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ وَحْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ مَضْمُومًا إلَيْهِ عَبْدٌ آخَرُ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ، سَوَاءٌ قَلَّتْ حِصَّةُ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى أَوْ كَثُرَتْ، وَعِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجُوزُ؛ إذَا كَانَ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ قَدْرَ قِيمَتِهِ، أَوْ أَقَلَّ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهُ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ بِعْ عَبْدِي هَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَبَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي عَبْدِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 51 كَانَتْ حِصَّةُ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْمُسَمَّى خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقْصُودَ الْآمِرِ بِتَصَرُّفِهِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَمْرُهُ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ مَقْطُوعٌ عَلَى مِقْدَارِهِ بِيَقِينٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ الثَّمَنِ عَلَى الْعَبْدَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْحَرَزُ وَالظَّنُّ، فَكَانَ هَذَا غَيْرَ التَّصَرُّفِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ فَاشْتَرَاهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ - جَازَ إذَا كَانَ حِصَّةُ الْمُشْتَرِي لِلْآمِرِ مِثْلَ قِيمَتِهِ، أَوْ أَكْثَرَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى لَهُ خَمْسَمِائَةٍ فَاشْتَرَاهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ؛ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْآمِرِ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ حِصَّةُ الْمُشْتَرِي لِلْآمِرِ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ الْمُوَكِّلَ، حِينَ أَمَرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ قَالَ لَهُ: هُوَ يُقَوَّمُ عَلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَضَمَّ الْوَكِيلُ عَبْدًا آخَرَ مَعَهُ، يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ - فَهُوَ جَائِزٌ وَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٌ مَضْمُومَةٌ إلَيْهِ رِبْحًا، فَكَانَ هُوَ مُسَمِّيًا بِمُقَابَلَةِ عَبْدِ الْآمِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَزِيَادَةٍ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ، وَكَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ، بَيْعًا فَاسِدًا، فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي - فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ بَيْعًا فَاسِدًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ فِي الْمَبِيعِ، هُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ لِلْفَسَادِ، فَيَبْقَى مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ هُوَ بِالْخِلَافِ بِالْفَسَادِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَسْبَابَ الْفَسَادِ، قَلَّمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا عَادَةً، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ لَا يَكُونُونَ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ، فَلَوْ قُلْنَا: يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْفَسَادِ؛ لَتَحَرَّزَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَكَالَةِ، وَفِيهِ قَطْعُ هَذَا الرِّفْقِ عَنْ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْقِيمَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْ الْعَقْدِ، مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، فَإِذَا كَانَ عَقْدُ الْقَبْضِ لِلْوَكِيلِ فِيمَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَيَقْبِضُ الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعُهَا إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِهَا، إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالصَّحِيحِ جَمِيعًا، وَإِنْ دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْآمِرِ؛ بَرِئَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَأَجْنَبِيٍّ، فَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْوَكِيلُ يَعْمَلُ بِهِ فِي الْقَبْضِ، فَلَيْسَ فِي قَبْضِهِ بِنَفْسِهِ تَفْوِيتُ شَيْءٍ عَلَى الْوَكِيلِ، بَلْ فِيهِ إسْقَاطٌ فَوَّتَهُ بِالْقَبْضِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ، تَوْضِيحُهُ؛ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُبْرِئْ الْمُشْتَرِيَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ قَبْضِهِ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَقَضَ قَبْضَ الْوَكِيلِ وَدَفَعَهُ إلَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 52 الْآمِرِ - لَكَانَ هَذَا اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ، وَإِنْ كَتَبَ الْوَكِيلُ الصَّكَّ بِاسْمِ رَبِّ الْعَبْدِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ، إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَتْبَهُ الصَّكَّ بِاسْمِهِ، إقْرَارٌ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكٌ لَهُ، وَإِقْرَارُهُ بِذَلِكَ نَصًّا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْقَبْضِ حَقًّا لِلْوَكِيلِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ تَوْكِيلَ الْوَكِيلِ إيَّاهُ بِالْقَبْضِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: بِعْ عَبْدَيَّ هَذَا وَهَذَا، أَوْ بِعْ أَحَدَهُمَا، فَأَيَّهمَا بَاعَ جَازَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ، فَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَصْلُحُ، فَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ اللُّزُومُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ، تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيُّ الْعَبْدَيْنِ يَرُوجُ، فَيُوَكِّلَهُ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا؛ تَوْسِعَةً لِلْآمِرِ عَلَيْهِ، وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ نَفْسِهِ فِي الثَّمَنِ. وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْمَوْلَى - بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ، فَكَأَنَّهُ بِنَفْسِهِ بَاعَهُ، ثُمَّ بِقَتْلِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَدْلِ زُطِّيٍّ، فَبَاعَهُ، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ الْآمِرُ: لَيْسَ هَذَا عَدْلِي - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيهِ، وَبَعْدَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَادَ أَمِينًا، كَمَا كَانَ فَالْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْأَمَانَةِ قَوْلُهُ، وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْهُ ثَوْبًا، وَلَمْ يَبِعْ مَا سِوَاهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا؛ إنْ كَانَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالْعَدْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا بَاعَ نِصْفَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ. أَوْ يُوزَنُ، فَبَاعَ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، - جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي بَيْعِ بَعْضِهِ، بِخِلَافِ الدَّارِ، وَالْعَبْدِ عِنْدَهُمَا، وَضَمَانُ الْوَكِيلِ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ لِلْآمِرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ فِي الثَّمَنِ لِلْوَكِيلِ، فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُ عَنْ الْمُشْتَرِي؛ كَانَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، إذْ لَا حَقَّ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَضَمَانُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بَاطِلٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ الثَّمَنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآمِرِ، فَلَوْ صَحَّتْ كَفَالَتُهُ لِلْآمِرِ؛ صَارَ ضَامِنًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَمِينًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ ضَامِنًا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُنَافَاةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ، وَكُلُّ مَالٍ أَصْلُهُ الْأَمَانَةُ، وَإِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ، أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الثَّمَنَ وَالْوَكِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ،، فَقَدْ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ، وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ، قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ جَحَدَهُ؛ كَانَ ضَامِنًا لَهُ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَدْلِ زُطِّيٍّ لَهُ، فَعَمَدَ الْوَكِيلُ إلَى الْعَدْلِ، وَقَصَّرَهُ - فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا هَلَكَ عِنْدَ الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 53 بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِلْقِصَارَةِ، فَيَكُونُ بِهَذَا الدَّفْعِ مُخَالِفًا ضَامِنًا مَا هَلَكَ عِنْدَ الْقَصَّارِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ؛ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ خَالَفَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ، فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا هَلَكَ، وَأُجْرَةُ الْقَصَّارِ تَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الْقِصَارَةِ؛ فَالثَّمَنُ كُلُّهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ لِلْوَكِيلِ، بِاعْتِبَارِ الْأُجْرَةِ لِلْقِصَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا هِيَ إزَالَةُ الدَّرَنِ، وَالْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ، فَإِنَّ اللَّوْنَ الْأَصْلِيَّ لِلْقُطْنِ إنَّمَا هُوَ الْبَيَاضُ، وَيَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْوَسَخِ، فَإِذَا أُزِيلَتْ عِنْدَ الْقِصَارَةُ؛ عَادَ اللَّوْنُ الْأَصْلِيُّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِاعْتِبَارِ الْقِصَارَةِ؛ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةٌ، وَكَذَلِكَ إنْ فَتَلَ الثِّيَابَ، فَأَمَّا إذَا صَبَغَهَا بِعُصْفُرٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ؛ فَهُوَ مُخَالِفٌ بِمَا صَبَغَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَهُوَ كَمُودَعٍ، أَوْ غَاصِبٍ صَبَغَ الثَّوْبَ، فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ مِنْهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ وَالزَّعْفَرَانُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ؛ بَاعَهُ الْوَكِيلُ، وَضَارَبَ الْآمِرُ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ، وَضَارَبَ الْوَكِيلُ، بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ، فَيُسَلِّمُ لِلْوَكِيلِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبَ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الصَّبْغَ تَبَعٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالثَّوْبِ، وَقِيَامُ الْبَيْعِ يَكُونُ بِالْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالصَّبْغُ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السَّوَادُ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ لَا زِيَادَةُ، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلَا يُعْطِيَ الْوَكِيلَ، فَالثَّمَنُ كُلُّهُ لِلْآمِرِ، وَعِنْدَهُمَا السَّوَادُ بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَقِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَإِنَّ لُبْسَ السَّوَادِ، لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَدَّهُ نُقْصَانًا فِي الثَّوْبِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي عَهْدِهِمَا فَقَالَا: زِيَادَةٌ وَقِيلَ: بَلْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّيَابِ: فَمِنْ الثِّيَابِ مَا يُنْقِصُ السَّوَادُ مِنْ قِيمَتِهِ كَالْقَصَبِ وَنَحْوِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ الثِّيَابِ مَا يَزِيدُ السَّوَادُ فِي قِيمَتِهِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ كَمَا قَالَا، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمَّا قُلِّدَ الْقَضَاءَ، وَكُلِّفَ السَّوَادَ؛ احْتَاجَ فِيهِ إلَى مُؤْنَةٍ فَرَجَعَ وَقَالَ: السَّوَادُ زِيَادَةٌ، ثُمَّ الْوَكِيلُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي بَيْعِهِ، لِأَنَّ مَا عَرَضَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ، وَلَا يُخْرِجُ الْمَحَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّصَرُّفِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ جِرَابَ هَرَوِيٍّ؛ يَبِيعُهُ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَبِأَيِّ أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ بَاعَهُ جَازَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ فَبَاعَهُ هُنَاكَ - ضَمِنَهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ عَلَى الْآمِرِ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْبَيْعُ بِالْكُوفَةِ، وَالتَّقْيِيدُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 54 بِالْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ، خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَتَقَيَّدْ الْوَكَالَةُ بِالْكُوفَةِ؛ كَانَتْ مُؤْنَةُ النَّقْلِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النَّقْلِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمُؤْنَةِ، فَرُبَّمَا تَبْلُغُ الْمُؤْنَةُ قِيمَةَ الْمَتَاعِ أَوْ تَزِيدُ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا دَلِيلٌ صَالِحٌ لِتَقْيِيدِ مُطْلَقِ الْوَكَالَةِ، فَإِذَا تَقَيَّدَتْ بِالْمِصْرِ كَانَ هُوَ بِالْإِخْرَاجِ مُخَالِفًا - فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَيَكُونُ ضَامِنًا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا لَمْ يُخْرِجْ الْمَتَاعَ مَعَ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ بَاعَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ: بَيْعُهُ يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْمَبِيعِ، فَلَا يَلْحَقُهُ مُؤْنَةُ النَّقْلِ، وَالْأَصْلَحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَكَانَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ بِالْكُوفَةِ فَفِي أَيِّ أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ بَاعَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِهَذَا التَّقْيِيدِ سِعْرُ الْكُوفَةِ، وَفِي أَيِّ أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ بَاعَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا بَاعَ بِسِعْرِ الْكُوفَةِ، وَإِنْ حَمَلَهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ فَبَاعَهُ - لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، فَكَانَ ضَامِنًا لَهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالْكُوفَةِ نَصًّا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَدْلُ زُطِّيٍّ فَقَالَ لِرَجُلَيْنِ أَيُّكُمَا بَاعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ، وَكَّلْتُ هَذَا أَوْ هَذَا بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا - فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِجَهَالَةِ مَنْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ فَيُحْمَلُ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، ثُمَّ قَدْ نَصَّ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ هُنَا، وَلَمْ يَنُصَّ فِيمَا سَبَقَ مِنْ تَوْكِيلِ الْوَاحِدِ بِبَيْعِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، حَتَّى تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقِرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَجَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ: أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْفَصْلَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِوَاحِدٍ بِعْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ بِعْ ذَا وَذَا - فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَبَاعَهُ بِغَيْرِ خِيَارٍ، أَوْ بِخِيَارٍ دُونَ الثَّلَاثَةِ، فَدَفَعَهُ - فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِعَقْدٍ هُوَ أَضُرُّ عَلَى الْآمِرِ: فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الرَّأْيُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ، بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، أَوْ يُمْضِيَهُ، وَقَدْ أَتَى بِعَقْدٍ لَا يَثْبُتُ فِيهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الرَّأْيِ لِلْآمِرِ، فَكَانَ مُخَالِفًا كَالْغَاصِبِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ، وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ لِي شَهْرًا، فَبَاعَهُ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ - جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا: أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهُ، فَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِعَقْدٍ يَكُونُ فِيهِ الرَّأْيُ إلَى الْآمِرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَكَانَ ضَامِنًا، وَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا هَذَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 55 وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا؛ نَفَذَ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ بَيْعًا فَاسِدًا، فَبَاعَهُ بَيْعًا جَائِزًا، كَانَ هَذَا اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي الْقِيَاسِ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْعَقْدِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِالْهِبَةِ إذَا بَاعَ؛ أَوْ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمُوَكِّلِ فِي الِاسْتِرْدَادِ؛ أَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ، يَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهُ، فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْآمِرِ إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ خِيَارٍ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، وَهُوَ خَيْرٌ لِلْآمِرِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ، إذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَهُ الْحَرَامَ بِالتِّجَارَةِ، وَهُوَ أَطْعَمَهُ الْحَلَال، وَالتِّجَارَةُ مَشْرُوعَةٌ لِاكْتِسَابِ الْحَلَالِ بِهَا دُونَ الْحَرَامِ، بِخِلَافِ الْمَضْمُونِ الْمَأْمُورِ بِالْهِبَةِ، إذَا بَاعَ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمَأْمُورِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ بِأَنْفَعَ لِلْآمِرِ بِهِ، بَلْ هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ: لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ الْجَائِزِ فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا؛ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الِامْتِثَالَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، لَا بِصِفَةِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ. وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ بِشُهُودٍ - لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ الْكُلَّ أَصْلًا، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنْ جِهَتِهِ بِإِثْبَاتِ الْحِلِّ لَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَتُهُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ، يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ، وَمَا أَتَى بِهِ أَنْفَعُ لِلْمُوَكِّلِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ، فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ حَالَّةٍ، فِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَقَدْ أَتَى بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى جِنْسًا خِلَافَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْآمِرُ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي الْمُسَمَّى يَكُونُ مُخَالِفًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ لِلْآمِرِ، كَالتَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، لَا يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ. وَلَوْ قَالَ بِعْهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ بِالنَّقْدِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقْصُودَ الْآمِرِ، وَزَادَهُ خَيْرًا بِزِيَادَةٍ فِي قَدْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ فِي صِفَةِ الْحُلُولِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ بِالنَّقْدِ؛ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَقْصُودَهُ، وَمَا سَمَّى لَهُ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُدْخِلَ فِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 56 مِلْكِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ أَلْفًا، وَقَدْ أَدْخَلَ فِي مِلْكِهِ دُونَ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً؛ جَازَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَى خَيْرٍ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً شَهْرَيْنِ، وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً شَهْرًا - لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا سَمَّى لَهُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُقَابَلَةَ زِيَادَةِ الْقَدْرِ بِالنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ، إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَا سَمَّى لَهُ الْآمِرُ، فَإِذَا خَالَفَ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مِنْطَقَةً فِيهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فِضَّةً، فَقَالَ: بِعْهَا بِخَمْسِينَ، فَبَاعَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا - فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَقَدْ أَتَى بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا نَسِيئَةً، فَبَاعَهَا بِخَمْسِينَ نَقْدًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ جِرَابَ هَرَوِيٍّ فَقَالَ: بِعْهُ نَسِيئَةً أَوْ نَقْدًا، فَمَا بَاعَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ - فَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّهُ وَسَّعَ الْآمِرُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بِعْهُ نَسِيئَةً، أَوْ نَقْدًا، فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ مَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا، وَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَدَفَعَهُ إلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ إلَى الْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ، أَوْ إلَى الْعَطَاءِ، أَوْ إلَى النَّيْرُوزِ - فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِجَهَالَةِ هَذِهِ الْآجَالِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُعَجِّلُ الْمَالَ، وَأَدَعُ الْأَجَلَ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ حَذْفُ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهِيَ زُفَرِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: بِعْهُ كُلُّ كُرٍّ بِخَمْسِينَ، فَبَاعَهُ كُلَّهُ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ كُلٍّ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى الطَّعَامِ، فَيَجْمَعُ كُلَّ كُرٍّ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: بِعْهُ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ الْكُرَّ، فَقَالَ فُلَانٌ: بِعْتُ الْكُرَّ بِأَرْبَعِينَ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ وَجَدَ فُلَانًا بَاعَهُ بِخَمْسِينَ، فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا سَمَّى لَهُ؛ وَأَنَّ فُلَانًا أَخْبَرَ بِالْبَاطِلِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا؛ فَبِالْإِخْبَارِ بِهِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا، وَجَهْلُ الْوَكِيلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَجْعَلُ الْوَكِيلَ مُوَافِقًا، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ بَاعَ كُرًّا بِخَمْسِينَ، فَبَاعَ هَذَا كُرَّارَهُ بِخَمْسِينَ خَمْسِينَ، ثُمَّ بَاعَ فُلَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتِّينَ - فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فِي الْمَاضِي، لَا بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ بَاعَ كُرًّا بِأَرْبَعِينَ، وَكُرًّا بِخَمْسِينَ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ طَعَامَهُ كُلَّ كُرٍّ بِأَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ يَعْتَمِدُ رِضَا الْمُوَكِّلِ، وَفِي رِضَاهُ بِأَرْبَعِينَ شَكٌّ وَلَمَّا كَانَ فُلَانٌ بَاعَ تَارَةً بِخَمْسِينَ، وَتَارَةً الجزء: 19 ¦ الصفحة: 57 بِأَرْبَعِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْآمِرِ بِهَذَا: بِعْ عَلَى مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ لَا أَدْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ، وَاسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ مَا سَمَّى لَهُ، فَإِنَّهُ سَمَّى لَهُ الْبَيْعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ، وَإِذَا كَانَ قَدْ بَاعَهُ بِأَرْبَعِينَ؛ فَهَذَا قَدْ بَاعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْمَنْصُوصَاتِ يُعْتَبَرُ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ لَا نِهَايَتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا شَرَطَ صِفَةَ الْجَوْدَة فِي الْمَبِيعِ يَعْتَبِرُ أَدْنَى الْجُودَةِ لَا أَعْلَاهَا، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُنْفِذْ بَيْعَهُ لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نَجْعَلَ الْوَكِيلَ ضَامِنًا، وَبِالشَّكِّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَقَبِلَ الْوَكَالَةَ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ - فَهُوَ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ فِيمَا يُوَافِقُ أَمْرَ الْآمِرِ، وَعَزْلُهُ يَكُونُ بِالْخِلَافِ، لَا بِالْمُوَافَقَةِ، فَلَا يَعْمَلُ قَصْدُهُ هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشِرَائِهِ، فَاشْتَرَاهُ - فَهُوَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ مِنْهُ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا وَجَدَ الْوَكِيلُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا؛ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَلَا يَسْتَأْمِرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مُسْتَبِدٌّ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ فِي يَدِهِ فَالْوَكَالَةُ قَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّهِ بِيَدِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِئْمَارِ الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْآمِرِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي عَيْبِهِ، إلَّا بِأَمْرِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآمِرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ إلَّا بِإِبْطَالِ يَدِهِ، وَالْيَدُ حَقِيقَةٌ فِيهِ لِلْآمِرِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إبْطَالِ يَدِهِ إلَّا بِرِضَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي فِي هَذَا الْعَبْدِ شَيْئًا بَعْدَ مَا سَلَّمَهُ إلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ. وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِصِنْفِ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، فَاشْتَرَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الصِّنْفِ - لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَ الْآمِرِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الْعَبْدِ لَهُ بِهَذَا الصِّنْفِ الَّذِي سَمَّاهُ، فَإِذَا لَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ؛ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِلْآمِرِ إلَّا بِدَرَاهِمَ، أَوْ بِدَنَانِيرَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ إطْلَاقِ الْوَكَالَةِ فِي الْعِوَضِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَهَذَا الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بَعْضَهُ بِعَيْنِهَا تِبْرًا وَإِنَاءٍ مَصُوغٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرٍ أَوْ بِمَكِيلٍ أَوْ بِمَوْزُونٍ أَوْ عَرَضٍ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ، لَمَّا قُيِّدَ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ - صَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَالتِّبْرُ وَالْمَصُوغُ لَيْسَا بِنَقْدٍ فَكَانَ فِيمَا صَنَعَ مُخَالِفًا أَمْرَهُ؛ فَلِهَذَا صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْآمِرِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى، فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا آخَرَ، فَاشْتَرَاهُ - لَزِمَ الْآمِرَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ وَكِيلِهِ بِالشِّرَاءِ، وَمَا رَضِيَ بِتَوْكِيلِهِ فَهُوَ فِي التَّوْكِيلِ مُخَالِفٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 58 الثَّمَنَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ تَمْنَعُ الزِّيَادَةَ دُونَ النُّقْصَانِ، وَإِذَا صَارَ مُخَالِفًا؛ نَفَذَ شِرَاءُ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخَالِفًا فِيهِ، فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَحْضَرِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ لَزِمَ الْآمِرَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعَقْدَ، وَفِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَشْتَرِيَهُ لَكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْآمِرُ: أَمَرْتُك بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ؛ وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ كُلِّ إنْسَانٍ يَكُونُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ الْآمِرُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ، وَيُثْبِتُ خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِشِرَائِهِ لِلْآمِرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْآمِرُ لِلْوَكِيلِ: أَمَرْتُكَ بِغَيْرِ هَذَا الْعَبْدِ، وَقَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدَ فُلَانٍ بِعَبْدِكَ هَذَا، فَاشْتَرَاهُ جَازَ لِلْآمِرِ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَقْرِضِ لِعَبْدِ الْوَكِيلِ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ لَهُ عَبْدًا، وَاسْتِقْرَاضُ الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَإِذَا تَمَّ؛ كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ؛ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا صَحَّ التَّوْكِيلُ هُنَا، وَاشْتَرَى بِعَبْدِهِ - وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إلَيْهِ، وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِثْلُهُ، وَمِثْلُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَإِنَّمَا صَحَّ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ لَهُ بِعِوَضٍ يَلْتَزِمُهُ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ - كَانَ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لَهُ بِعِوَضٍ يَلْتَزِمُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ يَتَرَادَّانِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَعَ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ السِّلْعَةَ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ بِعِوَضٍ يَسْتَوْجِبُهُ الْوَكِيلُ عَلَيْهِ، وَالْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ؛ فَالْحُكْمُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ، أَوْ يَتَرَادَّانِ». ثُمَّ حَاصِلُ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: هُنَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا - مَا بَيَّنَّا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّخَالُفِ وَالثَّانِي - أَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ مُخْبِرٌ بِمَا يُجْعَلُ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ، وَفِي مِثْلِهِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ مَالَ إلَى هَذَا الْجَانِبِ، وَرَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا قَالَ الْوَكِيلُ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ مِقْدَارِ الثَّمَنِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي يَمِينِ الْأَمِينِ، فَإِذَا حَلَفَ؛ أَخَذَهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمَا قَالَ الْوَكِيلُ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ، وَاَلَّذِي يُبْتَدَأُ بِهِ فِي الْيَمِينِ الْآمِرُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي، فَكَمَا أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْآمِرِ، وَيَحْلِفُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 59 عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَبَعْدَ مَا تَحَالَفَا، فَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَى يَلْزَمُ الْوَكِيلَ؛ لِانْفِسَاخِ السَّبَبِ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ. قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً يَتَّخِذُهَا أُمَّ وَلَدٍ وَيَطَؤُهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى لَهُ أَمَةً رَتْقَاءَ لَا تُوطَأُ، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ أَمَةً لَهَا زَوْجٌ - لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَقْصُودِهِ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِمَحَلٍّ صَالِحٍ لِمَا صَرَّحَ بِهِ، وَهَذَا الْمَحَلُّ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ، وَكَانَ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَصَفَهُ بِصِفَةٍ، فَاشْتَرَاهُ بِصِفَةٍ تُخَالِفُ تِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ، فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ. قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ، وَقَبَضَهُ وَطَلَبَ الْآمِرُ أَخْذَهُ فَأَبَى الْوَكِيلُ، أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ - فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ نَقَدَ الْوَكِيلَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَنْقُدْ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ مَعْرُوفَةٌ فِي الْبُيُوعِ بِفُرُوعِهَا، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافِ، إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الثَّمَنِ كَالْمَرْهُونِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَكُونُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، كَالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ مَعَ الْمُوَكِّلِ لَبَائِعٌ مَعَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَهُ - مَاتَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِلْآمِرِ، فَيَصِيرُ الْآمِرُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ قَابِضًا حُكْمًا مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ، فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَنَعَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِيَدِهِ؛ أَوْ لِأَنَّ بِالْمَنْعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَبْضِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَخَّرَ الْمَالَ عَنْ الْمُشْتَرِي؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْآمِرِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْآمِرِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ بِصِفَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْأَجَلَ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ الْمَبِيعَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ سِوَى عَقْدِ الْمُشْتَرِي، وَالْأَجَلُ الْمَذْكُورُ فِي عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ فِي عَقْدٍ آخَرَ، وَهُنَا الْمُوَكِّلُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِذَلِكَ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ، وَالْأَجَلُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ أَيْضًا، وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعٌ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْوَكِيلِ؛ ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَخْرُجُ قَدْرُ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لِلْوَكِيلِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَطَّ الْكُلِّ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، إذْ لَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَهُوَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 60 فَاسِدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، وَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ بِالشِّرَاءِ لَا بِالْوَلَاءِ، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ إذَا بَرِئَ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ بِالْأَدَاءِ، أَوْ بِمِلْكِهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةٍ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ الْمِائَةَ عَنْ الْمُشْتَرِي - كَانَ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ فَوَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ، ثُمَّ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْآمِرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِتَجْدِيدِ سَبَبٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ، فَإِنَّ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَاكَ، وَإِنْ اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ؛ كَانَ الْعَبْدُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الشِّرَاءِ مُخَالِفٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُنَاكَ عَرَضَتْ الْمُوَافَقَةُ بِفِعْلٍ - يَكُونُ مِنْ الْوَكِيلِ فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَكَالَةُ - قَائِمٍ فَمَنَعَ تَحَقُّقَ الْخِلَافِ، وَهُنَا عَرَضَتْ الْمُوَافَقَةُ بِفِعْلٍ - يُحْدِثُهُ الْوَكِيلُ فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَكَالَةُ - غَيْرِ مَوْجُودٍ، فَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا، وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِفُلَانٍ، فَقَالَ فُلَانٌ: قَدْ رَضِيتُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ نَفَذَ عَلَى الْعَاقِدِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَرِضَا الْغَيْرِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي عَقْدٍ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ، وَهَذَا الْعَقْدُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ، فَرِضَاهُ فِيهِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ لَهُ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمَامُ الرِّضَا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {: إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْقَوْلِ. وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ فَبَعَثَ بِهَا لِلْآمِرِ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ قَالَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ حِينَ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ، قَالَ: هَذِهِ الْجَارِيَةُ الَّتِي أَمَرْتَنِي فَاشْتَرَيْتُهَا لَكَ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَنَّ ثَمَنَهَا أَلْفَانِ، وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، صَارَ مُقِرًّا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْآمِرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، إذَا اشْتَرَاهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّى الْآمِرُ لَهُ، فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفَيْنِ مُنَاقِضًا، وَالْمُنَاقِضُ لَا دَعْوَى لَهُ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ حِينَ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَقُولُ: اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي، وَإِنَّمَا بَعَثْتُهَا إلَيْهِ وَدِيعَةً، أَوْ لِيَنْظُرَ أَنَّهَا تُعْجِبُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَيْتُهَا لَهُ بِهِ أَوْ لَا فَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَعَقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مَغْرُورٌ فِيهَا: فَإِنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً؛ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَهُ وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهَا لَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَانَ مَغْرُورًا. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ مِنْ الْفُرَاتِ، فَاشْتَرَاهَا، وَاسْتَأْجَرَ بَعِيرًا لِحَمْلِهِ عَلَيْهِ - لَمْ يَكُنْ الْكِرَاءُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 61 عَلَى الْآمِرِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكِرَاءِ بِعَقْدٍ آخَرَ سِوَى الْعَقْدِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِي حَمْلِهِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ السُّوقِ فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ حَمَلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ بِكِرَاءٍ كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِالْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحَمْلِهِ دَلَالَةً، فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ الْفُرَاتِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَهُ هُنَاكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ تُحْمَلُ فِي السُّفُنِ إلَى بَغْدَادَ، فَتُشْتَرَى ثَمَّةَ، وَتُنْقَلُ إلَى الْمَنَازِلِ؛ إذْ لَا يَبْقَى هُنَاكَ بِاللَّيْلِ أَحَدٌ يَحْفَظُهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَانُوتٌ تُحْفَظُ فِيهِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا؛ صَارَ الْآمِرُ آمِرًا لَهُ بِالنَّقْلِ دَلَالَةً، وَالنَّقْلُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْكِرَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ السُّوقِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْوَكِيلَ مُضْطَرٌّ فِي هَذَا النَّقْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ هُنَاكَ يَكُونُ مُضَيِّعًا لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِي هَذَا النَّقْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ السُّوقِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى نَقْلِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ التَّرْكِ فِي حَانُوتِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْكُرَّ بِدِرْهَمٍ، فَاسْتَأْجَرَ لَهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَارَ مُخَالِفًا لَهُ، فَكَانَ مُسْتَأْجِرًا لِنَفْسِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ كَحَمْلِهِ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِدِرْهَمٍ؛ جَازَ عَلَى الْآمِرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ حَبْسُ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الطَّعَامِ، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ الطَّعَامُ بِبَدَلِهِ، وَبَدَلُ الْكِرَاءِ هُنَا مَنْفَعَةُ الدَّابَّةِ فِي الْحَمْلِ، وَقَدْ تَلَاشَتْ وَلَيْسَ لِلْحَمْلِ أَثَرٌ قَائِمٌ فِي الْمَحْمُولِ، فَلَا يُحْبَسُ الْمَحْمُولُ بِهِ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، فَإِنَّ أَثَرَ فِعْلِ الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ، فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ نَسِيئَةً - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا أَنَّهُ: إنَّمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِلْآمِرِ بِالنَّسِيئَةِ، إذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ لَا عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ؛ وَبَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، ثُمَّ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْوَكِيلِ كَحَالِ الْوَكِيلِ مَعَ الْبَائِعِ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، فَلِلْآمِرِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ فَحَلَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ - لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَجَلِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِبَقَائِهِ؛ أَوْ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، صَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ فِي تَرِكَتِهِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْآمِرِ مَا بَقِيَ حَيًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ إلَى أَجَلٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ أَعْطَاهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 62 دَنَانِيرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا، ثُمَّ لَمْ يَنْقُدْهَا، حَتَّى دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى الْآمِرِ، وَأَنْفَقَ الدَّنَانِيرَ فِي حَاجَتِهِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ غَيْرَهَا - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ فِي الشِّرَاءِ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الشِّرَاءِ بِالتَّعْيِينِ، فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْآمِرِ، وَقَدْ وَجَبَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ، وَلِلْوَكِيلِ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ، فَالْوَكِيلُ حِينَ أَنْفَقَ دَنَانِيرَ الْآمِرِ فِي حَاجَتِهِ، صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ فَبَقِيَ دَيْنُ الْآمِرِ عَلَيْهِ يَغْرَمُهُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ غَيْرِهَا، ثُمَّ نَقَدَهَا - فَالطَّعَامُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالشِّرَاءِ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِهَا؛ صَارَ مُخَالِفًا فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَقَدَ دَنَانِيرَ الْآمِرِ فِي قَضَاءِ دَيْنِ نَفْسِهِ، فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الشِّرَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، فَشِرَاءُ الْوَكِيلِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا سَوَاءٌ قُلْنَا: لَا نَقُولُ يَتَعَلَّقُ الشِّرَاءُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا تَتَقَيَّدُ الْوَكَالَةُ بِمَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمَالُ الْمُضَافُ إلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهِ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِذَا تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ؛ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ بِغَيْرِهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَكَالَةِ، عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ بَطَلَ بِتَعَلُّقِ الدَّنَانِيرِ الْمُضَافَةِ إلَيْهَا نَوْعَ تَعَلُّقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ، وَنَقَدَهَا - لَمْ يَطْلُبْ لَهُ الْفَضْلَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِغَيْرِهَا وَنَقَدَهَا، وَإِنْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ، وَهُوَ يَنْوِي الشِّرَاءَ بِهَا، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ عَيْنٌ؛ وَصِفَةُ الْعَيْنِيَّةِ تُنَافِي الْأَجَلَ، فَبَيْنَ شِرَائِهِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَبَيْنَ شِرَائِهِ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ مُنَافَاةٌ بَيِّنَةٌ، فَبَيْنَهُ مُخَالَفَةٌ؛ لِمَا صَرَّحَ بِهِ، وَدَعْوَاهُ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِدَنَانِيرَ غَيْرِ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ. سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى طَعَامًا بِمَالٍ، فَنَوَى الشِّرَاءَ بِتِلْكَ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا، فَإِنَّ إضَافَةَ الثَّمَنِ إلَى ذِمَّتِهِ، وَإِلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ، وَكَانَ تَعْيِينُ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ فِي قَلْبِهِ كَتَعَيُّنِهَا بِإِشَارَتِهِ فِي الْعَقْدِ إلَيْهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا: بِأَنْ يَجِدَ مَا يُوَافِقُ الْآمِرَ فِي السُّوقِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ مَعَهُ، فَلَوْ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ؛ لِيَحْضُرَهَا فَاتَهُ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا شِرَاءَهُ لِلْآمِرِ بِمُطْلَقِ الدَّنَانِيرِ، وَإِنْ نَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ نَصًّا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا، وَسَمَّى جِنْسَهُ وَثَمَنَهُ وَوَكَّلَهُ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فَاشْتَرَاهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَقَالَ: نَوَيْتُهُ لِفُلَانٍ فَالْقَوْلُ: قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ، لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، فَيُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَمِينٌ مُسَلَّطٌ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ مَاتَ فِي يَدَيْهِ؛ مَاتَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِهِ لَهُ يَصِيرُ مَنْ وَقَعَ لَهُ الشِّرَاءُ قَابِضًا، وَلَوْ وَكَّلَهُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نِصْفَ عَبْدٍ مَعْرُوفٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى، وَوَكَّلَهُ آخَرُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نِصْفَ عَبْدٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، الجزء: 19 ¦ الصفحة: 63 فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ نِصْفَهُ، وَقَالَ: نَوَيْتُ أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ وَكَالَةَ الثَّانِي صَحِيحَةٌ، وَصَارَ هُوَ مَالِكًا شِرَاءَ النِّصْفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي تَعْيِينِ مَنْ الْمُشْتَرَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَمَّى لَهُ ثَمَنًا مُخَالِفًا لِمَا سَمَّى الْآخَرُ، فَاشْتَرَى أَحَدَ النِّصْفَيْنِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، وَقَالَ: نَوَيْتُهُ لِفُلَانٍ الْآخَرِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ غَيْرِ الثَّمَنِ الَّذِي نَوَاهُ لَهُ بِالشِّرَاءِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا النِّصْفُ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ بِهَذَا الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ لَهُ وَفِيمَا لَيْسَ بِعَيْنٍ لَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَنْقُدَ دَرَاهِمَهُ. قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً بِعَيْنِهَا فَقَالَ الْوَكِيلُ: نَعَمْ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ، وَوَطِئَهَا، فَحَبِلَتْ مِنْهُ - فَإِنَّهُ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، وَتَكُونُ الْأَمَةُ وَوَلَدُهَا لِلْآمِرِ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ لِنَفْسِهِ لَغْوٌ فِي الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ، إلَّا أَنَّهَا فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْوَكِيلَ مَعَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الْبَائِعِ لِلْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ مَعَ وَلَدِهَا لِلْآمِرِ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً، وَسَمَّى جِنْسَهَا، فَاشْتَرَى أَمَةً وَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِهَا، فَاسْتَوْلَدَهَا الْآمِرُ ثُمَّ قَالَ الْوَكِيلُ: مَا اشْتَرَيْتُهَا لَكَ، فَإِنْ كَانَ حِينَ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ أَوْ قَالَ: هِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي أَمَرْتَنِي بِأَنْ أَشْتَرِيَهَا لَكِ لَمْ يُسْمَعْ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقَضًا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَأْخُذُهَا وَعَقْرَهَا، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَارَ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى صَحْرَاءَ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا يُدَارُ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، مَبْنِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ؛ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ الدَّارِ عَلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي لَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا أَثَرٌ، قَالَ الْقَائِلُ: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَقَالَ الْآخَرُ: عَفَتْ الدِّيَارُ مَحِلُّهَا فَمُقَامُهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بَيْتًا، فَاشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِنَاءٌ - لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَبْنِيِّ خَاصَّةً، ثُمَّ الْإِنْسَانُ قَدْ يَشْتَرِي الدَّارَ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ؛ لِيَبْنِيَهَا عَلَى مُرَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ لِمَقْصُودِ الْآمِرِ، بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَخَلُّقِ بِنَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِ الْمَبْنِيِّ، فَإِذَا صَحَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 64 شِرَاءُ الدَّارِ لِلْآمِرِ، وَهَلَكَ الْمَالُ عِنْدَ الْوَكِيلِ فَقَالَ الْآمِرُ: هَلَكَ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: هَلَكَ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْتُهَا - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ لِإِنْكَارِهِ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْكَرَ التَّوْكِيلَ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يَهْلَكْ وَنَقَدَهُ الْبَائِعُ فَاسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَضَمِنَ الْوَكِيلُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ وَنَقَدَ وَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ - رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْآمِرِ بِكَوْنِهِ عَامِلًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ، وَلَكِنْ جَحَدَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْآمِرِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ الْآمِرِ، وَنَقَدَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ ظَلَمَهُ الْبَائِعُ بِتَغْرِيمِهِ الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ الْآمِرَ إنْ ظَلَمَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ الْبَائِعُ، حَتَّى هَلَكَ عِنْدَ الْوَكِيلِ فَأَخَذَهُ مِنْ الْآمِرِ ثَانِيَةً فَهَلَكَ عِنْدَهُ؛ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ وَجَبَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْآمِرِ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَارَ بِهِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ، فَدَخَلَ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهِ وَكَانَ هَلَاكُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَى الْآمِرِ شَيْئًا بَعْدُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْقَبْضِ عَامِلًا لِلْآمِرِ لَا لِنَفْسِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِهِ : قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سَيْفًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى، فَاشْتَرَى نَصْلًا، أَوْ سَيْفًا مُحَلَّى - كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّيْفِ لِلنَّصْلِ حَقِيقَةً، وَشِرَاؤُهُ مُعْتَادٌ، فَقَدْ يَشْتَرِي الْمَرْءُ نَصْلًا لِيَرْكَبَ عَلَيْهِ الْحَمَايِلُ عَلَى مُرَادِهِ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا يَهُودِيًّا؛ لِيَقْطَعَهُ قَمِيصًا، فَاشْتَرَى لَهُ ثَوْبًا لَا يَكْفِيهِ - لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ مَقْصُودَهُ، فَتَقَيَّدَتْ الْوَكَالَةُ بِثَوْبٍ يَصْلُحُ لِمَقْصُودِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً يُسَافِرُ عَلَيْهَا، وَيَرْكَبُهَا، فَاشْتَرَاهَا مَقْطُوعَةَ الْيَدِ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مُهْرًا لَا يُرْكَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَمَّا قَيَّدَ الْآمِرُ التَّوْكِيلَ بِهِ. قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَشَرَةَ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى أَكْثَرَ بِهِ - لَزِمَ الْآمِرَ عَشَرَةٌ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ قَدْرٍ مُسَمًّى، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَمْرُهُ، فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ أَمْرُهُ، قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَزَادَهُ مَنْفَعَةً بِالشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِمَّا سَمَّى لَهُ، فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا اشْتَرَى مَا يُسَاوِي عَشَرَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، أَمَّا إذَا اشْتَرَى، مَا يُسَاوِي عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ - فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْكُلَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 65 لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْآمِرَ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ السَّمِين، الَّذِي يَشْتَرِي مِنْهُ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَقَدْ اشْتَرَى الْمَهْزُولَ؛ فَلَمْ يَكُنْ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْآمِرِ، فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، فَاشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ دَنَانِيرَ، أَوْ بِمِثْلِ وَزْنِهِ دَرَاهِمَ. فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُطْلِقٌ لِلتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالنُّقُودِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ مِنْ النُّقُودِ، وَشِرَاءُ الْإِبْرِيقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَادٌ، لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ لَهُ وَفِي حُكْمِ التَّقَابُضِ الْمُعْتَبَرِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَغَيْبَةُ الْمُوَكِّلِ لَا تَضُرُّ، هَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، لِأَنَّ قَبْضَهُ وَتَسْلِيمَهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، فَفِي حُكْمِ صِحَّةِ التَّقَابُضِ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَشْتَرِهِ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ - فَإِنَّهُ يُلْزِمُ الْمُوَكِّلَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ فِي حَالِ تَمَلُّكِ الْإِنْشَاءِ، فَيَكُونُ إقْرَارُهُ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: أَخَذْتُهُ بِثَمَنٍ دُونَ الَّذِي قُلْتَ، لِأَنَّ تَصَادُقَ الْبَائِعِ مَعَ الْوَكِيلِ عَلَى الشِّرَاءِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِمَا الْعَقْدَ، فَيَكُونُ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ، فَالْمُوَكِّلُ يَدَّعِي عَقْدًا سِوَى الَّذِي ظَهَرَ بِتَصَادُقِهِمَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِشِرَاءِ دَارٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، إذَا كَانَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، فَمُطْلَقُ شِرَائِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ دُونَ مَا لَا يَمْلِكُهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِخَاتَمِ ذَهَبٍ فَصُّهُ يَاقُوتَةٌ. يَبِيعُهُ، فَبَاعَهُ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ، أَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ أَكْثَرَ وَزْنًا مِنْهُ؛ وَلَيْسَ فِيهِ فَصٌّ فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِثْلَ مِنْ الذَّهَبِ يَصِيرُ بِإِزَاءِ الْمِثْلِ وَالْبَاقِي، بِإِزَاءِ الْفَصِّ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا؛ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الذَّهَبِ صَرْفٌ، وَإِنْ بَاعَهُ بِخَاتَمِ ذَهَبٍ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ أَقَلَّ، وَفِيهِ فَصٌّ، وَتَقَابَضَا جَازَ. كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْجِنْسَ يُصْرَفُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَحْيَانًا، لَا لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ، يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ، وَعِنْدَهُمَا: إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُعْتَادِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَإِنْ صَرَفْنَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 66 الْجِنْسَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِدَرَاهِمَ صَرَفَهَا لَهُ، وَصَرَفَهَا الْوَكِيلُ عِنْدَ أَبِيهِ، أَوْ عِنْدَ ابْنِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ - كَانَ بَاطِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي عَبْدِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ثُمَّ زَادَ فَقَالَ: فَإِنْ بَاعَهُ بِالْقِيمَةِ دَنَانِيرَ؛ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَا خَلَا عَبْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ دُونَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا سَبَقَ قَالَ: وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا، فَقَالَ: بِعْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَزْنَ خَمْسَةٍ - فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ تَكُونُ سَبْعمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَزْنَ خَمْسَةٍ يَكُونَانِ أَلْفَ مِثْقَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا سَمَّى لَهُ الْآمِرُ. قَالَ وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُسْلِمُهَا فِي ثَوْبٍ؛ وَلَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَمْ يَصِرْ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ مَعْلُومًا، فَإِنْ أَسْلَمَهَا الْوَكِيلُ فِي ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فَالسَّلَمُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا بَطَلَتْ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَنَفَذَ عَلَى الْوَكِيلِ، ثُمَّ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُضَمِّنَ دَرَاهِمَهُ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِدَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ، فَكَانَ هُوَ ضَامِنًا بِالدَّفْعِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ ضَمِنَهَا الْوَكِيلُ فَقَدْ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَقَدَ دَرَاهِمَهُ بِعَيْنِهَا فَكَانَ السَّلَمُ لَهُ وَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُسَلِّمُ إلَيْهِ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا بَطَلَ السَّلَمُ لِاسْتِحْقَاقِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْمُسَلِّمِ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ سَمَّى ثَوْبًا يَهُودِيًّا جَازَ التَّوْكِيلُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالسَّلَمُ نَوْعُ شِرَاءٍ فَالتَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ سَلَمًا مُعْتَبَرٌ بِتَوْكِيلِهِ بِشِرَائِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الدَّيْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِتَقَاضِي دَيْنِهِ وَبِقَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّقَاضِي فَقَدْ يَمَلُّ الْغَرِيمُ مِنْ تَقَاضِي بَعْضِ النَّاسِ وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِتَقَاضِيهِ بِنَفْسِهِ لَا بِتَوْكِيلِهِ وَالْقَبْضُ بِاعْتِبَارِ الِائْتِمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ فَلَا يَكُونُ رِضَا الْمُوَكِّلِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ رِضًا مِنْهُ بِقَبْضِ غَيْرِهِ فَإِنْ قَبَضَهَا الْوَكِيلُ الثَّانِي لَمْ يَبْرَأْ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الطَّالِبِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ بِقَبْضِهِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْمَالُ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ فَوُصُولُهُ إلَى يَدِهِ كَوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُوَكِّلِ وَلِأَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ أَنْ لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآخَرُ مِمَّا فِي عِيَالِ الْأَوَّلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَبْضُهُ مُبَرِّئًا لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ قَبَضَهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 67 بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْأَمِينُ يَحْفَظ الْأَمَانَةَ تَارَةً بِيَدِهِ وَتَارَةً بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي كُلِّ دَيْنٍ لَهُ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ فَهُوَ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْوَكَالَةِ كُلَّ دَيْنٍ لَهُ وَالدَّيْنُ اسْمٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ الْمُوَكِّلِ دُونَ مَا يَحْدُثُ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعَادَةِ فَإِنَّ النَّاسَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ لَا يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ الْوَاجِبِ عَلَى مَا يَحْدُثُ وُجُوبُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوَكِّلُ الْغَيْرَ بِقَبْضِ غَلَّاتِهِ وَمُرَادُهُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَا يَحْدُثُ وُجُوبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَهُ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ صِيَانَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ مَالِهِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَبَيْنَ مَا يَحْدُثُ وُجُوبُهُ فَإِنْ جَحَدَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي وَالْقَبْضِ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فَيَتَوَقَّفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَ الطَّالِبُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْقَبْضِ فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ حَتَّى يَصِلَ ذَلِكَ إلَى الْآخَرِ وَيَقَعَ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ فِي أَيْدِيهِمَا تَمَّ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ الْآنَ فَكَأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْعَقْدَ بِالْقَبْضِ مِنْ الْغَرِيمِ وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ وَكَّلْتُك بِدَيْنِي فَهُوَ وَكِيلٌ بِقَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا لِجَهَالَةِ مَا وَكَّلَهُ بِهِ مِنْ اسْتِبْدَالٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ قَبْضٍ أَوْ إبْرَاءٍ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ غَيْرُ مُسْتَدْرَكَةٍ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعَادَةِ فَالْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْعَادَةِ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ وَكَّلْتُك بِدَيْنِي لِتَعَيُّنِهِ وَتَعَيُّنُهُ بِالْقَبْضِ يَكُونُ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ مُوجَبٌ الدَّيْنَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَيَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَيْهِ وَهَذَا نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ فِيمَا إذَا وَكَّلَهُ بِمَالِهِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الْوَكَالَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَقَبَضَ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا وَلَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ ارْتَدَّتْ بِرَدِّهِ فَكَانَ هُوَ فِي الْقَبْضِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ بِمَالِهِ عَلَى الْغَرِيمِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا فِي يَدِ الْوَكِيلِ اسْتَرَدَّهُ الْغَرِيمُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ سَلَّمَهُ إلَيْهِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ لَمْ يَسْتَفِدْ وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ رَجَعَ عَلَيْهِ الْغَرِيمُ فَضَمِنَهُ إنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ الْمَالَ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْبَرَاءَةَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَفِدْ هَذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِقَبْضِهِ بَلْ هُوَ فِي حَقِّهِ كَالْغَاصِبِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 68 وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَوْ صَدَّقَهُ وَضَمِنَهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ سَاكِتًا فَإِنَّمَا دَفَعَ الْمَالَ بِزَعْمِهِ وَزَعْمُهُ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْغَرِيمُ الْبَرَاءَةَ بِمَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ فَيُفِيدُ رِضَاهُ بِهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ وَضَمِنَهُ فَقَدْ قَالَ أَنْتَ وَكِيلِي لَا آمَنُ أَنْ يَجْحَدَ الطَّالِبُ إذَا تَصَرَّفَ ضَمِنَ لَهُ مَا يَقْبِضُهُ الطَّالِبُ مِنِّي وَهَذَا ضَمَانٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الطَّالِبَ فِي حَقِّهِمَا غَاصِبٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك مَا يَغْصِبُهُ فُلَانٌ مِنْك وَهَذَا إضَافَةٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ صَحِيحًا فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينٌ وَأَنَّ الطَّالِبَ فِي قَبْضِهِ مِنْ الْغَرِيمِ ثَانِيًا غَاصِبٌ ظَالِمٌ وَمَنْ ظُلِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ قَالَ وَلَوْ قَبِلَ الْوَكَالَةَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمُوَكِّلُ مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَزْلَ حَجْرٌ عَلَيْهِ فِي الْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ حُرٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِرِسَالَةٍ مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا وَلَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِنْهُ إنْ أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ وَإِرْسَالُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فِي مِثْلِ هَذَا مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ عَدْلًا لِيُرْسِلَهُ فِي حَوَائِجِهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ رَبُّ الدَّيْنِ وَكَّلَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْخَبَرُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ إيَّاهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَمْرٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ثُمَّ الْإِخْرَاجُ نَهْيٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَبَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْأَمْرِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَالَ وَإِذَا ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ أَمَّا عِنْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِي الْوَكَالَةَ وَلَكِنَّهُ فِي حَالِ الْجُنُونِ عَاجِزٌ عَنْ الْقَبْضِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي الْمَقْبُوضِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ أَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي قَضَى بِإِلْحَاقِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلِحَاقِهِ فَهَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيمَا سَبَقَ قَالَ وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا وَهَبَهُ الْغَرِيمُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ أَوْ أَخَّرَهُ أَوْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ غَيْرُ مَا أَمَرَ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَهُوَ مُجْبَرٌ عَلَى الْقَبْضِ إذَا أَتَاهُ الْمَطْلُوبُ بِالْمَالِ وَهَذَا قَوْلٌ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ إذَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ وَالِاسْتِبْدَالِ وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ قَدْ بَرَأَ إلَيَّ مِنْهُ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِهَذَا الْقَوْلِ بَرِئَ الْغَرِيمُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ قَالَ وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ جَازَ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 69 أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ تُوَثَّقُ بِهِ وَأَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْقَبْضِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَذَلِكَ يُزَادُ بِالتَّوَثُّقِ بِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَ كَفِيلًا عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ فَحِينَئِذٍ لَا تَجُوزُ الْبَرَاءَةُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْآمِرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَوَثُّقًا لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ لَكِنَّ فِيهِ نَوْعَ ضَرَرٍ عَلَى الْآمِرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْمَرْهُونِ فَهَلَاكُهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْآمِرِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ بِالْحِفْظِ وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ فِي تَقَاضٍ وَلَا شِرَاءٍ وَلَا بَيْعٍ إلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ الَّذِي لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِوِلَايَتِهِ فِي مَالِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ عَرَفْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ جَمِيعَ مَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ هُوَ الْحِفْظُ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَكَّلْتُك بِمَالِي قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنِهِ بِالشَّامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَاضَى دَيْنَهُ بِالْعِرَاقِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَقَيَّدُ بِتَقْيِيدِ الْمُوَكِّلِ وَتَقْيِيدُهُ بِمَوْضِعٍ كَتَقْيِيدِهِ بِشَخْصٍ بِأَنْ يُوَكِّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنِهِ عَلَى فُلَانٍ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْوَكَالَةُ لَا تَعْدُو إلَى غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقَبْضِ لِدُيُونِهِ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا بِتَقَاضِي خَمْرٍ لَهُ عَلَى ذِمِّيٍّ كَرِهْت لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ الْخَمْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاقْتِرَابِ مِنْهَا وَفِي الْقَبْضِ اقْتِرَابٌ مِنْهَا وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ وَجْهِ تَوْكِيلٍ بِتَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَالْوَكِيلُ يُمَلِّكُ الْمَطْلُوبَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يَقْبِضُهُ وَتَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ بِتَمَلُّكِ الْخَمْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنَّ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ تَعْيِينٌ لِمَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلطَّالِبِ دَيْنًا فَكَانَ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ وَمِنْ وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى فِعْلِ الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا أَتَى بِالدَّيْنِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ أَوْ وَكِيلِهِ بَرِئَ فَلَمَّا كَانَ إتْيَانُهُ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا مِنْ الْوَكِيلِ قُلْنَا يَجُوزُ وَلَمَّا كَانَ أَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا يُكْرَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ بِهِ قَالَ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ اقْضِ عَنِّي فُلَانًا مِنْ مَالِك أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقْضِيكَهَا فَقَالَ الْمَأْمُورُ قَدْ دَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ وَصَدَّقَهُ الْآمِرُ فَإِنَّ الطَّالِبَ يَأْخُذُ الْآمِرَ بِمَا لَهُ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَأْمُورِ لِلْقَضَاءِ كَدَعْوَى الْآمِرِ بِمَا لَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَا الْمَأْمُورُ لَا يُصَدَّقُ وَلَكِنْ إذَا حَلَفَ الطَّالِبُ أَخَذَ مَالَهُ مِنْ الْغَرِيمِ وَلَا شَيْءَ لِلْمَأْمُورِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعٍ يَكُونُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 70 حَقِّ الطَّالِبِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ لَمْ يَسْتَفِدْ الْبَرَاءَةَ وَلِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِأَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِبَدَلٍ يُعْطِيهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِينَ رَجَعَ عَلَيْهِ الطَّالِبُ بِدَيْنِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنًا فِي يَدِهِ بِغَيْرِهِ بِشِرَائِهِ لَهُ وَهُنَاكَ لَوْ قَالَ اشْتَرَيْته وَنَقَدَتْ الثَّمَنَ مِنْ مَالِي وَجَحَدَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَأَخَذَ مَتَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْوَصِيُّ وَكِيلًا بِدَفْعِ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ وَصِيَّةٍ إلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الدَّفْعِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَعِينُ فِيهِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَسَمَّاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَدَفَعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَمْ يَكْتُبْ بَرَاءَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مَعَ الْيَمِينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُدْفَعُ إلَّا بِشُهُودٍ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ وَاسْتَثْنَى دَفْعًا بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِشُهُودٍ فَإِذَا دَفَعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَهَذَا الدَّفْعُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَصَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ قَدْ أَشْهَدْت وَجَحَدَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ شُهُودٌ إلَّا قَوْلُهُ أَشْهَدْت كَانَ الْوَكِيلُ بَرِيئًا مِنْ الضَّمَانِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ جَعَلَ إخْبَارَهُ بِأَصْلِ الدَّفْعِ مَقْبُولًا بَرَاءَتُهُ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ خَبَرُهُ بِالدَّفْعِ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا يَكُونُ مَقْبُولًا لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ يُشْهِدُ عَلَى الدَّفْعِ ثُمَّ يَغِيبُ الشُّهُودُ أَوْ يَمُوتُونَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِمْ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَا تَدْفَعْ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ فَدَفَعَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا لِمَا قُلْنَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِدَفْعِ مَالٍ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ لَهُ فَارْتَدَّ الْوَكِيلُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ مَالُ الْمُوَكِّلِ وَالدَّفْعُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْوَكِيلِ مِنْ مَتَاعِ نَفْسِهِ لَا فِي مَالِهِ وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ دَفْعُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَدَفْعِهِ قَبْلَهَا فَإِنْ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقَالَ الْوَكِيلُ دَفَعْت الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ وَكَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ وَإِنْ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ دَفَعَ الْوَكِيلُ الْمَالَ الَّذِي أُمِرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَالَ وَهَذَا مِثْلُ إخْرَاجِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا إخْرَاجٌ حُكْمًا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَبْقَى بَعْدَ قَضَاءِ الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ تَفْوِيتًا لِلْمَحَلِّ وَذَلِكَ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ دَفْعَ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مُوجِبَ الْعَزْلِ حُكْمًا وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ مَنْعَ الْوَكِيلِ عَنْ الدَّفْعِ لِأَنَّهُ لَا يُحَصَّلُ الْمَقْصُودُ بِدَفْعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّالِبَ لَوْ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 71 فَرَدَّهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَانَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَزْلِهِ قَصْدًا لَا حُكْمًا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ لِلْمَطْلُوبِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ قَصْدًا فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمَالِ بِدَفْعِهِ بَلْ يَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ بِالْمَالِ عَلَى الطَّالِبِ إنْ بَيَّنَ هُوَ لِكَوْنِهِ مَالِكًا وَإِنْشَاءُ الْوَكِيلِ لِكَوْنِهِ دَافِعًا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَابِضِ حَقُّ الْقَبْضِ مِنْهُ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْوَكِيلُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ انْعَزَلَ عَنْ الدَّفْعِ حِينَ عَلِمَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ عَنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا دَفَعَهُ كَانَ ضَامِنًا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَقْبُوضَ بِالضَّمَانِ وَقَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَرَقَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَهَذَا فَرْقٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الطَّالِبَ ارْتَدَّ ثُمَّ دَفَعَ الْوَكِيلُ إلَيْهِ بِالْمَالِ فَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَدَفْعُ الْوَكِيلِ إلَيْهِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي كَسْبِ إسْلَامِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَبْضَهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْوَكِيلِ وَاجِبٌ وَإِذَا عَلِمَ انْدَفَعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَدَفَعَ الْمَالَ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ فَصَارَ ضَامِنًا وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَقَدْ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي الدَّفْعِ ظَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمَعْدُودَةُ الَّتِي يَضُرُّ الْعِلْمُ فِيهَا وَهِيَ خَمْسٌ جَمَعْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ وَإِذَا ضَمِنَ الْوَكِيلُ لِعِلْمِهِ رَجَعَ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ حِينَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَطْلُوبِ الْبَرَاءَةُ بِهَذَا الْقَبْضِ فَكَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا لِلْمَطْلُوبِ فِي قَضَائِهِ وَوَكِيلًا لِلطَّالِبِ فِي الِاقْتِضَاءِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وَكِيلًا لِلطَّالِبِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَوَلَّاهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَالَ وَالتَّوْكِيلُ بِالتَّقَاضِي وَالْقَبْضِ جَائِزٌ إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى غَيْرِهِ مَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعْلُومٌ بِجِنْسِ حَقِّهِ لَا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَلَا يَخْرُجُ الْوَكِيلُ وَلَا الطَّالِبُ إلَى التَّقَاضِي مَعَ أَنَّ لِلتَّقَاضِي حَقًّا مَعْلُومًا إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي تَقَاضِي ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 72 الْمَطْلُوبِ بَلْ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ مُسْتَحَقٌّ وَابْتِدَاءُ التَّوْكِيلِ بِالتَّقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ صَحِيحٌ فَبَقَاؤُهُ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الْمَيِّتُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّوْكِيلُ مِنْهُمْ بِقَبْضِهِ فَإِنْ قَالَ قَدْ كُنْت قَبَضْته فِي حَيَاةِ الْمُوَكِّلِ وَدَفَعْته إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي الْإِخْبَارِ وَقَدْ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالدَّيْنُ قَائِمٌ ظَاهِرًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ مِلْكٍ قَائِمٍ لِلْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الطَّالِبُ وَلَكِنَّهُ احْتَالَ بِالْمَالِ عَلَى آخَرَ وَأَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّةِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ وَالتَّوْكِيلُ كَانَ مُقَيَّدًا بِالتَّقَاضِي وَالْقَبْضِ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَوَى مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمْ تُبْطِلْ الْوَكَالَةَ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِالْمَالِ عَبْدًا مِنْ الْمَطْلُوبِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ مِنْ يَدِهِ أَوْ رَدَّهُ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَقَدْ عَادَ دَيْنُهُ كَمَا كَانَ فَبَقِيَتْ الْوَكَالَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَوَجَدَهَا زُيُوفًا لِأَنَّ بِالرَّدِّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ انْتَقَضَ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَلَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَاضَى مِنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُقَيَّدٌ بِالتَّقَاضِي مِنْ الْأَصِيلِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ التَّقَاضِي مِنْ غَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِرَجُلٍ إذَا حَلَّ مَالِي عَلَى فُلَانٍ فَتَقَاضَ أَوْ قَالَ إذَا قَدِمَ فَتَقَاضَاهُ أَوْ اقْبِضْ مَا عَلَيْهِ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْتُهُ شَيْئًا فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي قَبْضِ مَا عَلَيْهِ فَقَدْ أَضَافَ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ إلَى حَالِ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَالْمُسْتَثْنَى لِلْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ قَالَ أَنْتَ وَكِيلِي فِي قَبْضِ كُلِّ دَيْنٍ لِي وَلَيْسَ لَهُ دَيْنٌ يَوْمئِذٍ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ دَيْنٌ كَانَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً وَلَمَّا اُسْتُجِيبَ مَجَازٌ وَلَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً هُنَا فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ وَفِيمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً فَانْتَفَى الْمَجَازُ وَلَوْ قَالَ اذْهَبْ فَتَقَاضَ دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقَاضِي الْقَبْضُ وَالْمَأْمُورُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مَأْمُورًا بِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ اذْهَبْ فَتَقَاضَ دَيْنِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اذْهَبْ وَاقْبِضْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ الرِّسَالَةِ بِالْقَبْضِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِلَفْظَةِ التَّوْكِيلِ قَالَ وَلَوْ كَتَبَ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ أَوْ وَكِيلٌ بِقَبْضِهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْوَكَالَةُ شَيْئًا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لِمَجْهُولٍ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 73 بِالْقَبْضِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَالَ وَلَوْ كَتَبَ فِيهِ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي وَكِيلًا فِي قَبْضِ هَذَا الْحَقِّ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ تَوْكِيلُ الْمَعْلُومِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ يَتِمُّ لِلْمُوَكِّلِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حَضْرَةِ الْوَكِيلِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ فَقَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِلْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ فَإِنْ وَجَدَهُ الْوَكِيلُ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَرَدَّهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ فَقَدْ جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالْجَوَابِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الزُّيُوفُ فَأَمَّا فِي السَّتُّوقِ فَلَا يَضْمَنُ بِالرَّدِّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ دَيْنِهِ وَالسَّتُّوقُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا دَيْنَهُ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ فَرَدَّ الْمَقْبُوضَ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي الزُّيُوفِ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ فَصَارَ بِهِ قَابِضًا وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ فَإِذَا رَدَّهُ عَلَى غَيْرِهِ صَارَ ضَامِنًا وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ انْتَهَتْ بِالْقَبْضِ فَهُوَ فِي الرَّدِّ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَبْضِ أَصْلِ حَقِّهِ بِصِفَتِهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ الصِّفَةَ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى قَبْضِ الصِّفَةِ إلَّا بِرَدِّ الزُّيُوفِ فَصَارَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ دَلَالَةً تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْوَكِيلُ بِالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ يَمْلِكُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي حِنْطَةٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فَقَبَضَهَا وَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِمَّا قَبَضَ حَقَّهُ فَيَرُدُّ الْمَقْبُوضَ لِيَقْبِضَ الْحَقَّ بِصِفَتِهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْآمِرِ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ قَبْلَ الرَّدِّ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الصِّفَةِ فَكَانَ فِي الرَّدِّ إحْيَاءُ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا عَيْبٌ فَاسْتَأْجَرَ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْحَمْلِ فَأَدَاءُ الْكِرَاءِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْآمِرَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمِصْرِ فَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُ عَلَيْهِ وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُتَبَرِّعٌ هُنَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ الظَّاهِرُ هُنَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالْقَبْضِ فِي الْمِصْرِ لِيَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَكْلَ جُمْلَةً إلَى مَنْزِلِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْبَيْعَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ فِي الْمِصْرِ لَا تَخْتَلِفُ بِالسُّوقِ وَغَيْرِهِ فَأَمَّا خَارِجَ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْبَيْعَ فَرُبَّمَا يَبِيعُهُ هُنَاكَ وَلَا يَحْمِلُهُ إلَى الْمِصْرِ إذَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْتِزَامِ الْكِرَاءِ فَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْقَبْضِ أَمْرًا بِالْحَمْلِ إلَى مَنْزِلِهِ وَلِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي الْحَمْلِ إلَى الْمِصْرِ تَقِلُّ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْآمِرِ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لَوْ عَدَّيْنَا حُكْمَ الْآمِرِ إلَى الْحَمْلِ فَأَمَّا خَارِجَ الْمِصْرِ فَالْمُؤْنَةُ تَكْثُرُ فَرُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْآمِرُ فَهَذَا لَا يَتَعَدَّى حُكْمَ الْوَكَالَةِ إلَى الْحَمْلِ وَعَلَى هَذَا لَوْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 74 وَكَّلَهُ بِقَبْضِ رَقِيقٍ أَوْ غَنَمٍ فَقَبَضَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي رَعْيِهَا أَوْ فِي كِسْوَةِ الرَّقِيقِ وَطَعَامِهِمْ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَبْضِ لَا يَتَعَدَّى إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى أَبِي الْوَكِيلِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ قَبَضْته وَهَلَكَ فِي يَدِي وَكَذَّبَهُ الْآمِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا صَحَّتْ بِالْقَبْضِ مِنْ هَؤُلَاءِ صَارَ هُوَ مُسَلَّطًا مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا كَانَ مَدْيُونًا أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَدْيُونًا فَتَوْكِيلُهُ بِالْقَبْضِ يَصِحُّ كَتَوْكِيلِهِ بِالْقَبْضِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِيمَا هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَوْ مُكَاتَبِ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدِهِ يَعْنِي عَبْدَ الْوَلَدِ وَهَذَا الْجَوَابُ وَاضِحٌ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ عَبْدًا فَقَالَ قَدْ قَبَضْت مِنْ مَوْلَايَ أَوْ مِنْ عَبْدِ مَوْلَايَ وَهَلَكَ مِنِّي فَهُوَ مُصَدَّقٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَمَلَكَ إبْرَاءَ الْغَرِيمِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَبْضِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَبَا الطَّالِبِ أَوْ الْمَطْلُوبِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ وَقَدْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ إيَّاهُ بِالْقَبْضِ وَلَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا بِمَالٍ لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالتَّقَاضِي فَإِنَّ هُنَاكَ التَّوْكِيلُ مُضَافٌ إلَى الْمَطْلُوبِ دُونَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يَقُولُ وَكَّلْتُك بِأَنْ تُلَازِمَ فُلَانًا فَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَلِهَذَا يُخْتَارُ لِلْمُلَازَمَةِ أَسَفُهُ النَّاسِ وَمَنْ يَتَأَذَّى الْمَطْلُوبُ بِمُلَازَمَتِهِ وَمُصَاحَبَتِهِ وَيُخْتَارُ لِلْقَبْضِ الْأُمَنَاءُ فَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى التَّوْكِيلُ بِالْمُلَازَمَةِ إلَى الْقَبْضِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ مُرْتَدًّا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَقَبَضَهُ أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَهَلَاكِهِ مِنْهُ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ جَازَ قَبْضُهُ لِأَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِهِ فِي مَنَافِعِهِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَرْبِيًّا فَقَبَضَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ وَكَالَةٍ صَحِيحَةٍ فَبَرِئَ الْغَرِيمُ وَصَارَ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ فُلَانٍ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْبِضَهُ إلَّا جَمِيعًا فَقَبَضَهُ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِوَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَإِنَّ التُّجَّارَ يَرْغَبُونَ فِي قَبْضِ الْحَقِّ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَيَمْتَنِعُونَ مِنْ الْقَبْضِ مُتَفَرِّقًا فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الْكُلَّ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَبْضُ هُوَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَسْتَفِيدُ الْغَرِيمُ بِهِ الْبَرَاءَةَ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ لَا تَقْبِضْ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا لَا تَقْبِضُهُ مُتَفَرِّقًا فَإِذَا قَبَضَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِنْ شَيْءٍ قَالَ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى هَذَا فَلَمْ يُقِرَّ الْغَرِيمُ بِهِ وَدَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَلَى الْإِنْكَارِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 75 يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَإِنَّ قَاضِيَ الدَّيْنِ يَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْ الْمَقْضِيِّ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الطَّالِبُ دَيْنًا عَلَى دَعْوَاهُ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهُ الْوَكِيلُ بِدَعْوَاهُ الْوَكَالَةَ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدْيُونَ يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَحْدٌ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ أَعْلَمُ إنْ شِئْت فَأَعْطِهِ وَإِنْ شِئْت فَاتْرُكْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ الطَّالِبِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَوِلَايَةُ الْإِجْبَارِ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِهِ ثَابِتًا عِنْدَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِجَبْرِ الْوَكِيلِ وَتَصْدِيقِ الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ هُنَا مُكَذِّبٌ لَهُمَا وَكُلُّ خَبَرٍ عِنْدَ الْقَاضِي مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يَأْتِ لَهُ مُعَارِضٌ وَلَكِنْ إذَا حَضَرَ الطَّالِبُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ رَجَعَ عَلَى الْغَرِيمِ بِمَالِهِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الطَّالِبِ لِإِنْكَارِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَرَاءَةِ الْغَرِيمِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ أَيْضًا لِأَنَّ حُجَّةَ الْإِجْبَارِ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَالْوَكِيلِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ قَالَ وَإِنْ أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ الْوَكَالَةَ فَقَالَ الْوَكِيلُ اسْتَحْلِفْهُ أَنَّهُ مَا وَكَّلَنِي لِيَسْتَحْلِفْهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَيْت عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الطَّالِبِ حَتَّى إذَا أَنْكَرَ الطَّالِبُ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَحَلَفَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ مِنْ الْغَرِيمِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ لَا يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَّفَهُ وَلَكِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الِاسْتِحْلَافُ يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَمَا لَمْ يُثْبِتْ كَوْنَهُ نَائِبًا عَنْ الْآمِرِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي عَيْبَ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ لِلْحَالِ وَجَحَدَهُ الْبَائِعُ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى الْعِلْمِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ وَبِدُونِ سَبَبِ الْخُصُومَةِ لَا يُسْتَحْلَفُ وَإِنْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالْوَكَالَةِ وَأَنْكَرَ الدَّيْنَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَحْلِفُ الْمَطْلُوبَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَسْتَحْلِفُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَقَدْ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ قَالَ وَإِذَا دَفَعَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً عَنِّي فَدَفَعَ الْوَكِيلُ غَيْرَهَا وَاحْتَبَسَهَا عِنْدَهُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 76 يَدْفَعَ الْأَلْفَ الَّتِي اُحْتُبِسَتْ عِنْدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِيمَا أَمَرَهُ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ فَفِي دَفْعِ مَالِ الْآمِرِ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الْقَضَاءِ بِمَالِ نَفْسِهِ لِدَيْنِ الْغَيْرِ وَيَرُدُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالَهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِمَقْصُودِهِ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ أَنْ يُحَصِّلَ الْبَرَاءَةَ لِنَفْسِهِ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ بَيْنَ الْأَلْفِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْوَكِيلِ وَبَيْنَ مِثْلِهَا مِنْ مَالِ الْوَكِيلِ وَالتَّقْيِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَا يُعْتَبَرُ ثُمَّ الْوَكِيلُ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا بِأَنْ يَجِدَ الطَّالِبَ فِي مَوْضِعٍ وَلَيْسَ مَعَهُ مَالُ الْمَطْلُوبِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا الْقَدْرُ يَصِحُّ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْمُبَادَلَةِ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يَدْفَعُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَالَ وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يَدْفَعُهَا بِهَا إلَى رَجُلٍ فَدَفَعَهَا أَحَدُهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَمِينٌ فِي النِّصْفِ مَأْمُورٌ بِدَفْعِهِ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا دَفَعَ أَحَدُهُمَا الْكُلَّ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَى الْغَيْرِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ فَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا ظَفِرَ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ أَحَدِهِمَا وَاَلَّذِي دَفَعَ كَأَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى حَقِّهِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ الْقَابِضُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ قَبْضٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِحَقٍّ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى أَحَدٍ فَإِنْ قَالَ خُذْ أَنْتَ يَا فُلَانُ هَذَا الْأَلْفَ فَاقْضِهَا فُلَانًا أَوْ أَنْتَ يَا فُلَانُ فَادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ فَأَيُّهُمَا قَضَى جَازَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ حِينَ خَيَّرَهُمَا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ اقْضِ عَنِّي هَذِهِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَأَيَّهمَا قَضَى جَازَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدَفْعِهِ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكَالَةَ حُكْمُهَا إبَاحَةُ التَّصَرُّفِ لِلْوَكِيلِ وَفِي الْمُبَاحَاتِ حَرْفُ أَوْ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الرَّهْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَتَاعًا فَقَالَ بِعْهُ أَوْ ارْهَنْ بِهِ لِي فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ مِثْلَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِارْتِهَانِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا هُوَ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلُّ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 77 يَحْصُلُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَلَوْ بَاعَهُ وَلَمْ يَرْتَهِنْ بِهِ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْآمِرَ قَيَّدَ التَّوْكِيلَ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ وَهُوَ الِارْتِهَانُ بِالثَّمَنِ لِيَكُونَ حَقُّهُ مَضْمُونًا وَلِيَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُ الثَّوَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا فَإِذَا بَاعَهُ وَلَمْ يَرْتَهِنْ بِهِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. كَمَا لَوْ قَالَ بِعْهُ وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ وَارْتَهِنْ أَمْرٌ مُبْتَدَأٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ. كَمَا لَوْ قَالَ بِعْ وَأَشْهِدْ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَيْ بِعْهُ فِي حَالِ مَا تَرْتَهِنُ بِالثَّمَنِ مَعَ أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ وَارْتَهِنْ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِمَا يَسْتَبِدُّ بِهِ وَذَلِكَ بِرَهْنٍ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْهُ بِشَرْطِ أَنْ تَرْتَهِنَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا وَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ بِخِلَافِ الْإِشْهَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لَازِمًا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ ذُكِرَ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ قَالَ بِعْهُ بِرَهْنِ ثِقَةٍ فَارْتَهَنَ رَهْنًا أَقَلَّ مِنْهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الِارْتِهَانَ هُنَا بِأَنْ يَكُونَ ثِقَةً وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ فِي مَالِيَّتِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا قَالَ وَإِنْ ارْتَهَنَ رَهْنًا ثِقَةً وَقَبَضَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ جَازَ رَدُّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَالِارْتِهَانُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَحَقُّ الْقَبْضِ إلَى الْوَكِيلِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا فَإِذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ الرَّاهِنُ بِسَبَبٍ كَانَ صَحِيحًا أَيْضًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا قِيلَ عَلَى قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ رَدُّ الرَّهْنِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَيَمْلِكُهُ قَالَ وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ كَوْنَ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيْ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ الرَّهْنَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَلَمْ يُقَيِّدْ الْآمِرُ بِيَدِ الْوَكِيلِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ قَبْضُ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِ الْعَدْلِ أَوْ قَبْضِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ مُعْتَبَرٌ فِي مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْقَرْضِ بِرَهْنٍ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا قَالَ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَهُ ائْتِ بِهَا فُلَانًا وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا أَقْرَضَك هَذِهِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَ الرَّهْنَ مِنْك فَآتِيه بِهِ فَفَعَلَ وَقَبَضَ الرَّهْنَ فَهُوَ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ مَقْبُوضٌ وَلِلْآمِرِ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ رَسُولًا حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يُضِيفَ مَا يَقُولُ لَهُ إلَى الْآمِرِ وَقَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ فَأَمَّا شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ فَكَانَ لِلْآمِرِ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ مِنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 78 الْوَكِيلِ وَأَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَقْرِضَ بِدَيْنِهِ إلَّا أَنَّ الرَّهْنَ يَتِمُّ بِقَبْضِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمُرْسِلِ فِي قَبْضِهِ لِنَائِبِهِ فَتَمَّ الرَّهْنُ بِقَبْضِهِ وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ وَإِنْ قَالَ اقْرِضْ أَنْتَ وَخُذْ بِهَا رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ كَانَ وَكِيلًا لَا رَسُولًا فَقَدْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ فَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُهُ بِهِ وَإِنَّمَا رَضِيَ الْمُسْتَقْرِضُ بِكَوْنِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ هَلَكَ مِنْ مَالِ نَفْسِ الْآمِرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فِيمَا صَنَعَ فَقَبْضُهُ كَقَبْضِ الْآمِرِ قَالَ وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَوَكَّلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِعَشَرَةٍ فَفَعَلَ وَقَبَضَ الْعَشَرَةَ فَإِنْ كَانَ قَالَ لِلَّذِي أَعْطَاهُ الْمَالَ إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك بِهَذَا الرَّهْنِ لِتُقْرِضَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَتَرْتَهِنَ هَذَا الثَّوْبَ مِنْهُ بِدَرَاهِمَ فَالدَّرَاهِمُ لِلْآمِرِ وَالْوَكِيلُ فِيهَا أَمِينٌ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ حِينَ أَضَافَهُ إلَى الْآمِرِ فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَسْتَرِدَّ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُطَالَبًا بِالْعَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ قَالَ لِلْمُقْرِضِ أَقْرِضْنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَارْتَهِنْ هَذَا الثَّوْبَ مِنِّي فَالْعَشَرَةُ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَكِيلًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَلْتَزِمُ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ قَالَ بِعْ شَيْئًا مِنْ مَالِك عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ لِي لَا يَصْلُحُ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْتَزِمْ الْعَشَرَةَ فِي ذِمَّتِك عَلَى أَنْ يَكُونَ عِوَضُهُ لِي وَكَانَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ قِيَاسَ التَّوْكِيلِ فَكَانَ بَاطِلًا وَالْعَشَرَةُ لِلْوَكِيلِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْآمِرِ وَإِنْ هَلَكَتْ مِنْ مَالِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْهُ لِلْآمِرِ وَإِنْ كَانَ قَالَ اسْتَقْرِضْ لِي مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ فَاسْتِقْرَاضُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَهَذَا تَقْيِيدٌ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا قَالَ وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ قُلْ لِفُلَانٍ يُقْرِضُنِي وَأَعْطِهِ هَذَا الثَّوْبَ بِرِسَالَتِي رَهْنًا عَنِّي فَأَضَافَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلثَّوْبِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ جَعَلَهُ رَسُولًا وَكِيلًا هُنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ قَالَ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا فَقَالَ لَهُ ائْتِ فُلَانًا وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا يَسْتَقْرِضُك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَرْهَنُك هَذَا الْعَبْدَ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْأَلْفَ وَأَعْطَاهَا الْآمِرَ ثُمَّ جَاءَهُ بِالْمَالِ فَأَمَرَ الرَّاهِنَ فَقَضَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْعَبْدَ إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ رَبُّ الْعَبْدِ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ فِيمَا صَنَعَ كَانَ رَسُولًا وَقَدْ انْتَهَتْ الرِّسَالَةُ بِالتَّبْلِيغِ فَيَكُونُ هُوَ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَإِرْسَالُهُ بِالْمَالِ عَلَى يَدِهِ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ لَهُ بِقَبْضِ الْعَبْدِ فَإِنْ قَبَضَ الْعَبْدَ فَعَطِبَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 79 عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ فَلِلْمَالِكِ الْخِيَارُ يَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ قِيمَتُهُ بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْمُرْتَهِنُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِهَذَا شَيْئًا وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقِيمَةَ الْقَابِضَ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَا قَضَاهُ وَجَعَلَ الرَّهْنَ تَأَدِّيًا فَيُسْقِطُ الدَّيْنَ بِهِ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ مَا قَضَاهُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ غَاصِبٌ فَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ تَأَدِّيًا فَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَإِنْ قَضَاهُ دَيْنَهُ اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَرْتَهِنَ ثَوْبًا لَهُ بِدَرَاهِمَ قَرْضًا فَذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَك اقْبِضْ هَذَا الثَّوْبَ رَهْنًا وَأَعْطِهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَزَادَ عَلَى مَا سَمَّى لَهُ أَوْ نَقَصَ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْمُقْرِضُ لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ رَهْنًا فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ خَالَفَ أَمْرَهُ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَضَرُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ إنْ نَقَصَ عَمَّا سَمَّى لَهُ فَمَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَحْصُلْ وَلَمْ يَرْضَ هُوَ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ مَضْمُونًا بِأَقَلَّ مِمَّا سَمَّى لَهُ وَإِنْ زَادَ عَلَى مَا سَمَّى لَهُ فَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْوَجْهَيْنِ قَالَ فَإِنْ جَاءَ الْوَكِيلُ إلَى الْمُوَكِّلِ بِدَرَاهِمَ مِثْلِ مَا سَمَّى لَهُ فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ فَهُوَ دَيْنٌ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ صَارَ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمُوَكِّلَ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَا يَكُونُ الثَّوْبُ رَهْنًا بِهَا وَإِنَّمَا يَصِيرُ رَهْنًا عِنْدَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَالْوَكِيلُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ كَانَ مُخَالِفًا فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ رَهْنًا وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَقْرِضِ لِنَفْسِهِ أَوْ كَالْقَابِضِ لِمَا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ صَدَّقَهُ فِي الرِّسَالَةِ فَالْوَكِيلُ مُؤْتَمَنٌ إنْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ بَلْ هُوَ مُؤَدٍّ لِلرِّسَالَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ وَإِنْ قَالَ دَفَعْتهَا إلَى رَبِّ الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ فِي حَقِّ رَبِّ الثَّوْبِ بِزَعْمِ أَنَّ الرَّسُولَ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ إنَّمَا أَمَرْتنِي أَنْ أَرْهَنَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُك بِعَشَرَةٍ أَوْ بِعِشْرِينَ فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْإِرْسَالَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ كَانَ هَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَرْهَنَ لَهُ ثَوْبًا بِشَيْءٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَرْهَنُهُ فَمَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 80 رَهَنَهُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ إذَا لَمْ يُقِمْ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ فِيهِ وَدَلِيلُهُ عِنْدَهُمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْعُرْفُ وَلَا عُرْفَ هُنَا فَالرَّهْنُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَادَةً قَالَ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالرَّهْنِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالْمُوَكِّلُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْمُرْتَهِنِ بَيْعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ عَقْدِ الرَّهْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الرَّهْنِ وَالتَّوْكِيلُ بِالرَّهْنِ لَا يَعْدُو مَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ فَفِيمَا وَرَاءَ مُوجَبِ الْعَقْدِ الْوَكِيلُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ قَالَ وَلَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ جَازَ لِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ فِي إتْمَامِ الرَّاهِنِ بِهِ وَالتَّوْكِيلُ بِالْعَقْدِ يَتَضَمَّنُ التَّوْكِيلَ بِمَا هُوَ مِنْ إتْمَامِهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ كَوْنُهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَنْفَعُ لِلرَّاهِنِ مِنْ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِهَذَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَرْهَنَهُ وَأَنْ يَرْهَنَهُ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُسَلِّطَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا مِمَّا يُقْصَدُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ لِإِتْمَامِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْبَيْعِ عِنْدَ قِيَامِ الْعَيْنِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا فَرَهَنَهُ فَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُسَلِّطَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلٌ بِالرَّهْنِ مُطْلَقًا وَتَوْكِيلُ الْأَوَّلِ إيَّاهُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَالِكِ إيَّاهُ بِذَلِكَ قَالَ إلَّا أَنْ يُفَوِّضَ رَبُّ الثَّوْبِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَمُرَادُهُ أَنَّ تَفْوِيضَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الْأَمْرَ إلَى الثَّانِي عَامِلًا لَا يُطْلَق لَهُ لِأَنَّ هَذَا يُسَوِّي غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَيَحْتَاجُ إلَى تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ ذَلِكَ إلَيْهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ دَرَاهِمَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَأَعْطَاهُ رَهْنًا يَرْهَنُهُ وَقَالَ لَهُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَتَعَيَّنَ لِرَجُلٍ وَرَهَنَ لِرَجُلٍ فَإِنَّ الْعَيِّنَةَ لِلْمُوَكِّلِ وَبَيْعُ الْعَيِّنَةِ مَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِالذَّمِّ فِيهِ إذَا اتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَقَعَدْتُمْ عَنْ الْجِهَادِ ذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ وَتَفْسِيرُ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَقْرَضَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَهُ إلَّا بِرِبْحٍ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ رِبًا فَيَبِيعُ الْمُقْرِضُ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ شَيْئًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةِ عَشَرَ فَيَبِيعُهُ الْمُقْتَرَضُ بِعَشَرَةٍ فَسَلِمَ لَهُ مَقْصُودُهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَيَكُونُ لِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ التَّوْكِيلَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالرَّهْنِ وَفِعْلُ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا الْعَيِّنَةُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنْ كَانَ قَالَ لِلْوَكِيلِ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى لِيُحَصِّلَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَالْبَيْعُ مِنْ صُنْعِهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 81 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْبَيْعَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْتَصْنِعِ ذَلِكَ وَإِنْ حَلَّ الثَّمَنُ فَالْمَأْخُوذُ بِهِ هُوَ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِعَقْدِ الشِّرَاءِ قَابِضٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِثَمَنِهِ فَإِذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ وَيَكُونَ أَمِينًا فِيهِ إنْ هَلَكَ قَبْلَ رَدِّهِ عَلَى الْآمِرِ وَيَرْجِعُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ أَوْجَبَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْآمِرِ وَقَدْ قَضَى مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ ائْتِ فُلَانًا وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَك بِعْنِي خَادِمَك فُلَانًا إلَى سَنَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَبْلَغَهُ الْوَكِيلُ ذَلِكَ فَقَالَ قَدْ فَعَلْت فَرَجَعَ الْوَكِيلُ إلَى الْآمِرِ فَأَبْلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَدْ قَبِلْت فَرَجَعَ الْوَكِيلُ إلَى الْبَائِعِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ قَدْ أَجَزْت فَقَدْ وَقَعَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَرَجَعَ الْوَكِيلُ إلَى الْبَائِعِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ قَدْ أَجَزْت فَصْلَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَلْ يَتِمُّ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ بَعْدَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَعَلْت وَقَوْلِ الْمُرْسِلِ قَبِلْت لِأَنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْبَائِعَ وَإِنْ قَالَ قَدْ فَعَلْت مَا لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الْمُبَلِّغُ رَسُولًا يَقْبِضُهُ وَالْمُرْسَلُ الْأَوَّلُ لِيُبَلِّغَهُ فَإِذَا بَلَّغَهُ فَقَالَ قَدْ قَبِلْت يُوقَفُ هَذَا التَّبْلِيغُ عَلَى إجَازَةِ الْبَائِعِ وَمَا لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ التَّبْلِيغُ بِإِجَازَتِهِ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي قَبِلْت فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَالَ فَإِنْ قَبَضَ الْآمِرُ الْخَادِمَ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْخَادِمَ لِأَنَّهُ كَانَ رَسُولًا فَبِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ يَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُرْسِلَ عَبَّرَ بِنَفْسِهِ أَوْ كَتَبَ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ أَنْ يَرْهَنَا لَهُ شَيْئًا بِكَذَا فَرَهَنَهُ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَرْهَنُ عِنْدَهُ وَالْوَضْعُ عَلَى يَدَيْ مُرْتَهِنٍ أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَقَدْ رَضِيَ الْآمِرُ أَيَّهمَا فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَإِنْ رَهْنَاهُ جَمِيعًا وَشَرَطَ لَهُ أَحَدُهُمَا بَيْعَ الرَّهْنِ جَازَ الرَّهْنُ لِاجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ حَتَّى إذَا بَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ لَا يَجُوزُ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَمَرَهُمَا بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَا قَالَا إنَّ فُلَانًا يَسْتَقْرِضُك كَذَا فَأَقْرِضْهُ وَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا أَنْ يَجْعَلَك مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ إذَا بَدَا لَك وَسَكَتَ الْآخَرُ فَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُمَا كَانَا رَسُولَيْنِ وَالرَّسُولُ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُرْسِلِ وَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِهَذَا صَحَّ مَا بَلَّغَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ وَإِنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 82 كَانَا اسْتَقْرَضَا لَهُ الْمَالَ وَقَالَ أَحَدُهُمَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ مُسْتَقْرِضَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ وَإِذَا عَمِلَا لِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَصِحَّ تَسْلِيطُ أَحَدِهِمَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا مُبَاشَرَتُهُمَا الْعَقْدَ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَهُوَ مَا رَضِيَ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مِنْ جِهَتِهِ قَالَ فَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَرْهَنَ لَهُ ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى الْآمِرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ رَهْنًا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَرْهَنَهُ لَا بِأَنْ يَرْتَهِنَهُ وَإِذَا رَهَنَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ كَانَ مُرْتَهِنًا لَا رَاهِنًا وَهُوَ أَمِينٌ فِي هَذَا الثَّوْبِ وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ يَدَ ضَمَانٍ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى أَمِينًا فِي الثَّوْبِ وَإِنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ فِي الثَّوْبِ شَيْئًا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ بَلْ هُوَ حَافِظٌ لِلثَّوْبِ وَبِذَلِكَ أُمِرَ وَالدَّرَاهِمُ قَرْضٌ لَهُ عَلَى الْآمِرِ وَكَذَلِكَ إنْ رَهَنَهُ عِنْدَ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِهَذَا الرَّهْنِ فَهُوَ وَمَا لَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ رَهَنَهُ عِنْدَ عَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَهَذَا وَمَا لَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ سَوَاءٌ قَالَ وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ عِنْدَ ابْنِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ أَوْ عِنْدَ مُكَاتَبِهِ أَوْ عِنْدَ عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ مَعْنَاهُ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ سَوَاءٌ رَهَنَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْإِضْرَارِ بِالْآمِرِ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ هَؤُلَاءِ فَلِهَذَا صَحَّ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ فِي ذَلِكَ عَبْدًا تَاجِرًا أَوْ غَيْرَ تَاجِرٍ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ صَبِيًّا فَإِنْ كَانَ قَالَ إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَك أَقْرِضْنِي كَذَا وَامْسِكْ هَذَا رَهْنًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعِبَادَةِ فَيَكُونُ صَالِحًا لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ قَالَ أَقْرِضْنِي وَامْسِكْ هَذَا رَهْنًا لَمْ يَجُزْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مُسْتَقْرِضَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا وَالْإِقْرَاضُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الضَّمَانَ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَجَازَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ التَّاجِرَ يَمْلِكَانِ الِاسْتِقْرَاضَ وَإِنْ كَانَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِقْرَاضَ قَالَ وَلَوْ كَانَ تَاجِرًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ فَإِنْ قَالَ لَهُ اقْرِضْ فُلَانًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا بَيْنَ مَوْلَاهُ وَبَيْنَ الْآمِرِ وَقَدْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ وَإِنْ قَالَ أَقْرِضْنِي وَامْسِكْ هَذَا رَهْنًا لَمْ يَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَدْيُونًا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الدَّيْنُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الثَّوْبِ قَالَ وَإِذَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 83 وَكَّلَ الذِّمِّيُّ الْمُسْلِمَ أَنْ يَرْهَنَ لَهُ عَبْدًا ذِمِّيًّا بِخَمْرٍ أَوْ يَرْهَنَ لَهُ خَمْرًا بِدَرَاهِمَ فَإِنْ أَضَافَهُ الْوَكِيلُ إلَى الْآمِرِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ صَحَّ لِأَنَّ صِحَّةَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَلَا يَصِيرُ الرَّسُولُ عَاقِدًا وَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ بَلَّغَهُ كِتَابًا كَتَبَ بِهِ الْآمِرُ سَوَاءٌ وَإِنْ قَالَ أَقْرِضْنِي لَمْ يَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَعْقِدُ عَلَى الْآمِرِ بِالْخَمْرِ اسْتِقْرَاضًا وَلَا رَهْنًا بِهَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَكُونَ مَضْمُونًا لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْخَمْرُ مَضْمُونَةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ ائْتِ فُلَانًا وَقُلْ لَهُ أَقْرِضْنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَامْسِكْ هَذَا الْعَبْدَ عِنْدَك رَهْنًا بِهَا فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ أَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يُبَلِّغْ ذَلِكَ الْوَكِيلَ حَتَّى رَهَنَ الْعَبْدَ فَإِنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ حَتَّى يُبْلِغَهُ وَهُوَ خَاطَبَهُ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلَمَّا لَمْ يُبْلِغْهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا جَازَ رَهْنُهُ وَإِنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا فَرَهَنَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ يَعْنِي إذَا وَصَلَ إلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَظْهَرَ الْعَزْلُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَبْلَغَهُ إخْرَاجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ قَبِلَ أَنْ يَرْهَنَهُ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ قَالَ وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْعَبْدِ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ سَلَّمَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلَ حَتَّى رَهَنَهُ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ التَّصَرُّفِ خَرَجَ الْمَحَلِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ أَوْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فِيهِ التَّصَرُّفَ الَّذِي فَوَّضَهُ إلَى الْوَكِيلِ فَيَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا وَالْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بَلْ ثُبُوتُهُ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ رَهَنَهُ ثُمَّ افْتَكَّهُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلَ حَتَّى رَهَنَهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ قَدْ تَمَّ بِمَا بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِانْفِكَاكِ لَا يَنْفَسِخُ رَهْنُهُ مِنْ الْأَصْلِ بَلْ يَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا يُعْقَدُ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ فَكَانَ الْفِكَاكُ تَقْدِيرًا لَا فَسْخًا فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ بِبَيْعِهِ ثُمَّ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ انْفَسَخَ بَيْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ بِسَبَبٍ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ لَمْ يَتِمَّ بِمَا صَنَعَ وَلِأَنَّ بِانْفِسَاخِهِ مِنْ الْأَصْلِ صَارَ ذَلِكَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْآمِرُ آخَرَ بِرَهْنِهِ فَرَهَنَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ فِعْلَ وَكِيلِهِ لَهُ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ رَهَنَهُ ثُمَّ وَكَّلَ الْمَوْلَى بِرَهْنِهِ رَجُلًا ثُمَّ افْتَكَّهُ الْمَوْلَى ثُمَّ رَهَنَهُ الثَّانِي فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ لَمَّا حَصَلَ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ إضَافَةَ التَّوْكِيلِ إلَى حَالِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 84 الْفِكَاكِ مِنْ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ حَضَرَ الْوَكِيلُ فِي وَقْتٍ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَرْهَنَهُ فَإِذَا زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ ذَلِكَ تَضَمَّنَ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَتَحْتُهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ صَارَتْ هَذِهِ الْوَكَالَةُ مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ إحْدَاهُنَّ إذَا فَارَقَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ زَوَّجَهَا الْوَكِيلَ صَحَّ وَمِثْلُهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ وَاَلَّذِي يُوَضِّح الْفَرْقَ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بَعْدَ مَا رَهَنَهُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ بِمَا صَنَعَهُ بَعْدَ التَّوْكِيلِ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِهِ قَالَ وَإِذَا رَهَنَ الْوَكِيلُ عَبْدًا لِلْمُوَكِّلِ ثُمَّ أَنَّهُ نَاقَضَ الْمُرْتَهِنَ أَوْ أَجَّرَهُ إيَّاهُ أَوْ بَاعَهُ فَالْإِجَارَةُ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ تَصَرُّفًا سِوَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَمَّا مُنَاقَضَةُ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ قَالَ إنَّ فُلَانًا يَسْتَقْرِضُك وَقَدْ رَهَنَك هَذَا فَمُنَاقَضَتُهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ خَرَجَ مِنْ الْوَسَطِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ فَمُنَاقَضَتُهُ كَمُنَاقَضَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْعَبْدِ إنْ قَبَضَهُ عَلَى هَذَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ هُوَ أَوْ الرَّاهِنَ فَالْمُنَاقَضَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ فِي الْمُنَاقَضَةِ إلَى رِضَا الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَدَّ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ فَإِذَا صَحَّتْ مُنَاقَضَتُهُ كَانَ هُوَ مُؤْتَمَنًا فِي الْعَقْدِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِحَقٍّ وَعَادَتْ يَدُهُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ ثَانِيَةً لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِالشَّيْءِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُكَرِّرَهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَمُنَاقَضَةُ الرَّهْنِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَالِ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ ثُمَّ كَتَبَ عَلَيْهِ الشِّرَاءَ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي أَنَّهُ رَهَنَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَتَبَ الشِّرَاءَ سُمْعَةً فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَكُونُ رَهْنًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ فِيمَا أَظْهَرَ وَجَعَلَ مِلْكَهُ فِي الْعَيْنِ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ بِمَا كَتَبَ بِهِ مِنْ حُجَّةِ الشِّرَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَصَرُّفٍ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ وَقَدْ أَبَى بِتَصَرُّفِ بَاطِنِهِ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ فَصَارَ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ هَذَا ظَاهِرًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَعْقِدُونَ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالرَّهْنِ مُطْلَقًا فَيَمْلِكُ بِهِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَالضَّرَرُ الْمَوْهُومُ الَّذِي قُلْنَا فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ قَدْ انْدَفَعَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى إقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ رَهْنٌ وَلَيْسَ بِشِرَاءٍ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَرْهَنَ عَبْدًا لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَهَنْته عِنْدَ فُلَانٍ وَقَبَضْت مِنْهُ الْمَالَ وَهَلَكَ وَدَفَعْت إلَيْهِ الْعَبْدَ وَإِنَّمَا قُلْت لَهُ أَقْرِضْ فُلَانًا فَإِنَّهُ أَرْسَلَنِي إلَيْك بِذَلِكَ وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَقْبِضْ هَذَا الْقَرْضَ وَلَمْ يَرْهَنْ الْعَبْدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمَالَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ يَجِبُ لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْآمِرِ لَا عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا لَوْ عَايَنَا هَذَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 85 التَّصَرُّفَ فَإِنَّمَا حَصَلَ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْآمِرِ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّطَهُ عَلَى مَالِ عَيْنٍ بِقَبْضِهِ لَهُ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ قَالُوا وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ الَّذِي اسْتَقْرَضَ الْمَالَ هُوَ الَّذِي أَقْرَضَ الْعَبْدَ وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ رَبُّ الْعَبْدِ كَانَ الْمَالُ دَيْنًا عَلَيْهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْمَالِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَرْهَنَهُ بِمَا يَسْتَقْرِضُهُ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْمُعِيرِ لِلْعَبْدِ مِنْهُ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ وَإِعَارَةُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ صَحِيحَةٌ قَالَ وَإِذَا أَذِنَ الْوَكِيلُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي رُكُوبِ الرَّهْنِ وَاسْتِخْدَامِهِ فَفَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِالتَّوْكِيلِ بِالرَّهْنِ فَإِذْنُهُ فِيهِ وَإِذْنُ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءٌ وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَعْمِلًا مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ صَحِيحٍ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا قَالَ وَطَعَامُ الرَّهْنِ وَعَلَفُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ اسْتَقْرَضَ الْمَالَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَالِكِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى صَارَ قَاضِيًا لِدَيْنِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ بِمِثْلِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ لِلِانْتِفَاعِ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ هُنَاكَ لِلْمُسْتَعِيرِ دُونَ الْمُعِيرِ فَيُقَالُ إمَّا أَنْ تُنْفِقَ لِيُنْتَفَعَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِيُنْفِقَ عَلَى مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَأَجْرُ رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُنْتَفِعُ بِهِ بِخِلَافِ أَجْرِ الْحَافِظِ فَإِنَّ الْحِفْظَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ أَجْرُ الْحَافِظِ عَلَيْهِ وَالْمَكَانُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ عَلَيْهِ أَيْضًا فَأَمَّا الرَّعْيُ فَلَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَكُونُ أَجْرُ الرَّاعِي عَلَيْهِ أَيْضًا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ أَمَانَةٍ لَهُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ ذُو الْيَدِ قَدْ دَفَعْتهمَا إلَى الْمُوَكِّلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الْوَكِيلِ إيَّاهُ بِالرَّدِّ كَمُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ وَدَعْوَى الْأَمِينِ الرَّدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوْ عَلَى الْوَكِيلِ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ سُلِّطَ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مُجْبَرٌ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْرَائِهِ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَنْ الْغَيْرِ حَتَّى إذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَكِيلِ وَحَلَفَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنْ إذَا جَحَدَ وَحَلَفَ وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ وَدِيعَةً فَقَبَضَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ وَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا وَأَمَانَتِهِمَا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ أَوْدَعَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 86 الْآخَرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا امْتَثَلَا أَمْرَهُ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّبْعِيضَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ وَلَمَّا اسْتَحْفَظَهُمَا عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِتَرْكِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ هَذَا فِيمَا يَطُولُ وَهُوَ اسْتِدَامَةُ الْحِفْظِ فَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْقَبْضِ فَيَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلِهَذَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَكَمَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُودِعَهُ مِنْ الْآخَرِ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يُودِعَاهُ عِيَالَ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ يَدَ عِيَالِ الْمُودِعِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِ الْمُودِعِ كَمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ وَاحِدًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْءَ إنَّمَا يَحْفَظُ الْمَالَ بِيَدِ عِيَالِهِ عَادَةً وَإِنْ وَكَّلَ بِقَبْضِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلَيْنِ لِأَنَّ الْحِفْظَ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِوَكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ وَصَارَ تَسْلِيمُ الْمُودِعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ هَذَا التَّوْكِيلِ كَتَسْلِيمِهِ قَبْلَهُ فَكَانَ الْمُودِعُ ضَامِنًا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلَيْنِ فَحِينَئِذٍ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِمَا كَوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ فِي بَرَاءَةِ الدَّافِعِ لَهُ عَنْ الضَّمَانِ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ وَدِيعَتِهِ فَقَبَضَ بَعْضَهَا جَازَ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ قَدْ تَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحْمِلَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي قَبْضِ الْوَكِيلِ بَعْضَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْبِضَهَا إلَّا جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَهَا أَوْ يَصِيرَ ضَامِنًا لَهُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَيَّدَ أَمْرَهُ وَنَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ إلَّا بِصِفَةٍ فَكُلُّ قَبْضٍ لَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَإِنْ قَبَضَ مَا بَقِيَ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكَ الْأَوَّلُ جَازَ الْقَبْضُ عَنْ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ الْكُلُّ عِنْدَ الْوَكِيلِ وَانْدَفَعَ ضَرَرُ التَّفْرِيقِ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ الْكُلَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ وَكَّلَهُ بِعَبْدٍ لَهُ يَدْفَعُهُ إلَى فُلَانٍ وَدِيعَةً فَأَتَاهُ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا اسْتَوْدَعَكَ هَذَا فَقَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ فَهَلَكَ فَلِرَبِّ الْعَبْدِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ حِينَ أَضَافَ الْإِيدَاعَ إلَى الْآمِرِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ رَسُولًا وَتَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ يُخْرِجُ فَكَانَ هُوَ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَصِيرُ الْمُودِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ غَاصِبًا وَهُوَ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ وَلَوْ قَالَ لَهُ الْوَكِيلُ قَدْ أَمَرَك فُلَانٌ أَنْ تَسْتَخْدِمَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَفَعَلَ فَهَلَكَ الْعَبْدُ فَالْمُسْتَوْدِعُ ضَامِنٌ إنْ كَانَ كَذَّبَ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أَوْ بِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ يَصِيرُ غَاصِبًا وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَد مِنْهُ فِعْلٌ مُتَّصِلٌ بِالْعَيْنِ إنَّمَا غَرَّهُ بِخَبَرِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ زُورًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ هَذَا الطَّرِيقُ آمِنٌ فَسَلَكَهُ فَأُخِذَ مَتَاعُهُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُخْبِرُ شَيْئًا وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ عِنْدَ فُلَانٍ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 87 أَوْ عَارِيَّةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوَكِّلُ فَقَدْ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَارِثِ الرِّضَا بِقَبْضِهِ وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ قَدْ كُنْتُ قَبَضْتُهَا فِي حَيَاتِهِ وَهَلَكَتْ عِنْدِي أَوْ دَفَعْتُهَا إلَى الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَوْ ادَّعَى هُنَا الرَّدَّ عَلَى الْوَكِيلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَكِيلُ فَإِذَا صَدَّقَهُ أَوْلَى وَفِي الدَّيْنِ لَوْ ادَّعَى الْمَدْيُونُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَجَحَدَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَتَصْدِيقُهُ كَتَكْذِيبِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ عَبْدَ رَجُلٍ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ فَلَا يُنَافِي بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ فَقُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً كَانَ لِلْمُسْتَوْدِعِ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِإِمْسَاكِ عَيْنِهِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَبَدَلِهِ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْعَبْدِ وَالْقَاتِلُ جَانٍ عَلَى حَقِّهِ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ مِنْ عَاقِلَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَيْسَ لِلْمُودِعِ أَخْذُ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ مُودِعٌ فِي الْعَيْنِ فَتَتَعَذَّرُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْعَيْنِ وَلَا تَتَعَدَّى إلَى مَحَلٍّ آخَرَ فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً بِمِلْكِ أَحَدٍ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْدَادُهَا فَأَمَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْقِيمَةِ ثُمَّ فَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمُودِعِ وَالْوَكِيلِ قَالُوا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ أَنْ يَقْبِضَ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْقَبْضِ وَإِنَّمَا أَنَابَهُ الْمُوَكِّلُ فِي قَبْضِ الْعَبْدِ دُونَ الْقِيمَةِ وَقَدْ يُخْتَارُ الْمَرْءُ بِقَبْضِ شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ لِأَدَائِهِ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ النُّقُودِ فَأَمَّا الْمُودِعُ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ يَدٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَيْنِ فَأَزَالَهَا الْقَاتِلُ بِجِنَايَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقِيمَةَ مِنْ عَاقِلَتِهِ بِحُكْمِ يَدِهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ قَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ قُتِلَ عِنْدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ صَارَ مُودِعًا فِيهِ وَلَوْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ فَأَخَذَ الْمُسْتَوْدِعُ الْأَرْشَ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْعَبْدَ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى قَبْضِ الْأَرْشِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْدِعُ أَجَّرَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْأَجْرَ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَهْرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الْعَبْدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ نَائِبًا فِي قَبْضِ مَا انْقَلَبَ مِنْ الْعَيْنِ دَرَاهِمَ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ أَمَةٍ أَوْ شَاةٍ فَوَلَدَتْ كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِالْوَكَالَةِ فَلَا يَسْقُطُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 88 عَنْ هَذَا الْجُزْءِ بِالِانْفِصَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ وَعِنْدَهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ شَخْصٌ وَلَيْسَ بِجُزْءٍ ثُمَّ نَقُولُ الْوَلَدُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ وَلَا يَبْقَى مَحْفُوظًا إلَّا مَعَ الْأُمِّ وَمَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ مِنْ هَذَا التَّوْكِيلِ صِيَانَةُ مَالِهِ فَلِهَذَا يَتَعَدَّى أَمْرُهُ إلَى مَا يَلِدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَرْشِ وَالْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ وَيَبْقَى مَحْفُوظًا مُنْفَصِلًا مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَضَ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ هُنَاكَ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ قَبْضَ الْوَلَدِ مَعَ الْأَصْلِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنُصَّ فِي التَّوْكِيلِ عَلَيْهَا لِكَوْنِ الْوَلَدِ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّوْكِيلِ فَأَمَّا مَا يَنْفَصِلُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا كَانَ الْمُوَكِّلُ يَعْلَمُ بِهِ لِيَنُصَّ فِي التَّوْكِيلِ عَلَى قَبْضِهِ فَلِهَذَا يَتَعَدَّى حُكْمُ الْآمِرِ إلَيْهِ وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْأَصْلِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَوْدِعُ بَاعَ الثَّمَرَةَ فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ بِأَمْرِ رَبِّ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ لِأَنَّ ائْتِمَانَهُ إيَّاهُ فِي قَبْضِ الْبُسْتَانِ لَا يَكُونُ ائْتِمَانًا فِي قَبْضِ الدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَإِنَّ ائْتِمَانَهُ إيَّاهُ فِي قَبْضِ الْبُسْتَانِ يَكُونُ ائْتِمَانًا فِي قَبْضِ الثِّمَارِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْ الْأَشْجَارِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ قَبْضِهِ مِنْ الثِّمَارِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ رِضَا الْمَالِكِ بِهِ وَكَمَا لَا يَقْبِضُ ثَمَنَ الثِّمَارِ لَا يَقْبِضُ ثَمَنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ وَلَا قِيمَتَهُ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ قَالَ وَإِذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَوَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ فَاسْتَهْلَكَهَا رَجُلٌ وَقَبَضَ الْمُسْتَوْدِعُ مِثْلَهَا مِنْ الْمُسْتَهْلِكِ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمِثْلَ لِأَنَّ الْمِثْلَ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ فَلَا يَتَعَدَّى إذْنُهُ إلَى عَيْنٍ أُخْرَى وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمِثْلَ لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَمَانَتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَقَدْ يُؤَدِّي الْإِنْسَانُ الْأَمَانَةَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعَيْنِ فَائْتِمَانُهُ إيَّاهُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا الْمِثْلُ مِنْ جِنْسِ الْمُتْلَفِ فَائْتِمَانُهُ إيَّاهُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ يَقْتَضِي الِائْتِمَانَ فِي الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يُفِيدُ دُونَ مَا لَا يُفِيدُ أَلَا تَرَى أَنَّ تَعْيِينَ النُّقُودِ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ فِي تَعْيِينِ جِنْسِ النَّقْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُدَهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَكَلَهَا الْمُسْتَوْدِعُ أَمَا لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِثْلَهَا وَالْجَوَابُ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ وَفِيمَا اسْتَشْهَدَ لَهُ سَوَاءٌ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُوَكِّلُ ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ ثَانِيَةً لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِقَبْضِهَا عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ تَمَّ مَقْصُودُهُ فَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ وَلِأَنَّ إيدَاعَهُ ثَانِيًا عَقْدٌ جَدِيدٌ وَالتَّوْكِيلُ بِاسْتِرْدَادِ وَدِيعَةٍ بِحُكْمِ عَقْدٍ لَا يَتَعَدَّى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 89 إلَى اسْتِرْدَادِ وَدِيعَةٍ بِعَقْدٍ آخَرَ كَمَا لَا يَتَعَدَّى مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهَا الْوَكِيلُ أَوَّلًا وَدَفَعَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِاسْتِرْدَادِ الْوَكِيلِ إيَّاهَا فَكَانَ هُوَ فِي اسْتِرْدَادِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَوْدِعِ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِهَا مَا كَانَ عَامِلًا لِلْمُسْتَوْدِعِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَوْدَعُ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ مَكَّنَهَا بِالضَّمَانِ وَمَا رَضِيَ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ لَهُ وَحَالُهُمَا كَحَالِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ مَعَ الْأَوَّلِ وَهَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَقَالَ اقْبِضْهَا الْيَوْمَ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا غَدًا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَوَقَّتُ بِالتَّوْقِيتِ فَإِذَا وَقَّتَهَا بِالْيَوْمِ انْتَهَتْ الْوَكَالَةُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ. كَمَا لَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا الْيَوْمَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ ذِكْرُ الْيَوْمِ لَيْسَ لِتَوْقِيتِ الْوَكَالَةِ بَلْ لِلتَّعْجِيلِ فِي قَبْضِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اقْبِضْهَا السَّاعَةَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ اقْبِضْهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مَتَى شَاءَ فَقَوْلُهُ الْيَوْمَ سُكُوتٌ عَمَّا بَعْدَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَزْلًا عَمَّا كَانَ ثَابِتًا لَهُ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ الْيَوْمَ بِيَدِكِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْمَجْلِسِ فَقَوْلُهُ الْيَوْمَ لِمَدِّ حُكْمِ الْأَمْرِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْغَدِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهَا وَلَوْ قَالَ اقْبِضْهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ فَقَبَضَهَا وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ جَازَ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ اقْبِضْهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا سَوَاءٌ كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَقَوْلُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ سُكُوتٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ فَيَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اقْبِضْهَا بِشُهُودٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا تَقْبِضْهَا إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ هُنَاكَ نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ وَاسْتَثْنَى قَبْضًا بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ وَكُلُّ قَبْضٍ لَا يَكُونُ بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلَانٍ فَهُوَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ لِعُمُومِهِ دُونَ الْإِذْنِ قَالَ وَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ وَدِيعَةَ رَجُلٍ فَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ مَا وَكَّلْتُك وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَضَمِنَ الْمُسْتَوْدِعُ رَجَعَ بِالْمَالِ عَلَى الْقَابِضِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَإِنْ قَالَ هَلَكَ مِنِّي أَوْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَوْدِعُ بِالْوَكَالَةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَوْ صَدَّقَهُ وَضَمِنَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ دَابَّةٍ اسْتَعَارَهَا مِنْ رَجُلٍ فَقَبَضَهَا الْوَكِيلُ وَرَكِبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا لِأَنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا رَضِيَ بِرُكُوبِ الْمُسْتَعِيرِ دُونَ الْوَكِيلِ وَالرُّكُوبُ يَتَفَاوَتُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 90 فِيهِ النَّاسُ فَرُبَّ رَاكِبٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ رُكُوبُهُ وَالْآخَرُ يُتْلِفُ الدَّابَّةَ رُكُوبُهُ فَلِهَذَا كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ فِي الرُّكُوبِ مَا كَانَ عَامِلًا لَهُ وَلَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَتِهِ قَالُوا وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ بِحَيْثُ تَنْقَادُ لِلسُّوقِ مِنْ غَيْرِ رُكُوبٍ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ لَمَّا دَفَعَهَا إلَى الْوَكِيلِ لِيَأْتِيَ بِهَا الْمُسْتَعِيرَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا لَا تَنْقَادُ إلَّا بِالرُّكُوبِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِرُكُوبِهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ أَوْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ رُدَّ الْمُكَاتَبُ فِي الرِّقِّ فَقَبَضَهَا الْوَكِيلُ جَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَبْدًا تَاجِرًا فَحَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ فِيمَا بَاشَرَ الْإِيدَاعَ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمُعَامَلَةَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَيْهِ بَعْدَ الْحَجْرِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ يَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ وَجَعَلَ لَهُ أَجْرًا مُسَمًّى عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا فَيَأْتِيَهُ بِهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ حَمْلُ الْوَدِيعَةِ إلَيْهِ وَذَلِكَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا يَتَقَاضَاهُ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُوَقِّتَ لَهُ أَيَّامًا لِأَنَّ عَمَلَ التَّقَاضِي لَيْسَ بِمَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَجَعَلَ لَهُ أَجْرًا كَانَ فَاسِدًا إلَّا أَنْ يُوَقِّتَ أَيَّامًا لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَإِنْ وَكَّلَ الْوَصِيُّ وَكِيلًا بِدَفْعِ وَدِيعَةٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ بِقَبْضِهِمَا كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي التَّوْكِيلِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْهِبَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ تَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَقُومُ فِعْلُ الْوَكِيلِ فِيهِ مَقَامَ فِعْلِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْقَبْضِ وَالصَّدَقَةُ نَظِيرُ الْهِبَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّوْكِيلُ بِهِ يَصِحُّ وَإِذَا وُكِّلَ الْوَاهِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمَوْهُوبُ بِالْقَبْضِ وَقَامَا جَمِيعًا فَامْتَنَعَ وَكِيلُ الْوَاهِبِ مِنْ التَّسْلِيمِ فَخَاصَمَهُ وَكِيلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ وَكَّلَهُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ وَأُجْبِرَ الْوَكِيلُ عَلَى دَفْعِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْإِخْبَارُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَ الْعَيْنَ لَا أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ فَإِنَّ وَكِيلَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتُ عَلَيْهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 91 أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قَبَضَهُ وَكِيلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِنَفْسِهِ وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ فِي ذَلِكَ دَعْوَى لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَكِيلَيْنِ خَصْمًا فِي خُصُومَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَالْأَمِينُ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمُدَّعِي الْأَمَانَةِ مَا لَمْ يُحْضِرْ صَاحِبَهَا وَلَيْسَ لِوَكِيلِ الْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلًا بِالتَّسْلِيمِ أَوْ بِعَقْدِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْهِبَةُ تَبَرُّعًا مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَكَمَا بَاشَرَ عَقْدَ الْهِبَةِ وَسَلِمَتْ انْتَهَتْ الْوَكَالَةُ وَالْتَحَقَ بِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لِفَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْعِوَضُ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ قَالَ وَلَوْ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ وَهِيَ فِي يَدِ وَكِيلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ خَصْمًا لَهُ فِيهِ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ وَالْعِوَضُ مَقْصُودٌ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَالْقَبْضُ ثَابِتٌ مَحْضٌ فَانْتَهَتْ الْوَكَالَةُ بِقَبْضِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَيَقُولُ سَلِّمْ إلَيَّ مَا وَهَبْتَ لِفُلَانٍ وَلَا يَقُولُ مَا وَهَبْتَهُ لِي وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِقَبُولِ الْهِبَةِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ بِأَنْ يَقُولَ هَبْ لِفُلَانٍ كَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ هَبْ لِي كَانَ الْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَالَ بِعْ مِنِّي لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إلَى الْمُوَكِّلِ هُنَاكَ يُوجِبُ ضَمَانَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ وَلَيْسَ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ ضَمَانُ الثَّمَنِ فَلِهَذَا جُعِلَ مُلْتَمِسًا الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يُضِفْهُ إلَى الْآمِرِ قَالَ وَلَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ وَكَّلَا رَجُلًا بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَا رَجُلَيْنِ أَوْ وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ نَائِبٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ وَيَجُوزُ نِيَابَةُ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ وَعَنْ الِاثْنَيْنِ فَإِنْ دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَيْهِ أَوْ قَبَضَهَا مِنْ غَيْرِ دَفْعٍ جَازَ لِأَنَّهُمَا حِينَ وَكَّلَا هَذَيْنِ بِدَفْعِهَا فَقَدْ سَلَّطَا الْمَوْهُوبَ لَهُ عَلَى قَبْضِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْقَبْضِ عِنْدَ وُجُودِ التَّسْلِيطِ مِنْ الْوَاهِبِ تَصْرِيحًا أَوْ دَلَالَةً قَالَ وَإِذَا وَهَبَ الذِّمِّيُّ لِلذِّمِّيِّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَوَكَّلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِقَبْضِهَا مُسْلِمًا أَوْ وَكَّلَ الْوَاهِبُ بِدَفْعِهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ مُسْلِمًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ غَيْرُ مُمَلَّكٍ وَلَا يَتَمَلَّكُ بَلْ هُوَ نَائِبٌ فِي الْقَبْضِ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْمُسْلِمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ الذِّمِّيِّ أَمِينًا لَهُ فِي قَبْضِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَجُلَيْنِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ فَقَبَضَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِهَا وَكَذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ بِدَفْعِهَا جَازَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 92 يَقْبِضُهَا لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَجَازَ صِفَةً عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صِفَتِهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَهَبَ الثَّوْبَ لِفُلَانٍ عَلَى عِوَضٍ يَقْبِضُهُ مِنْهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ الْعِوَضَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْهِبَةِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَإِنَّ اسْمَ الْعِوَضِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِثْلَ الْمَوْهُوبِ أَوْ دُونَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي تَقْيِيدِ مُطْلَقِ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَكِيلًا بِأَنْ يُعَوِّضَ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَدَفَعَ عِوَضَهُ مِنْ عُرُوضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَا أَمَرَهُ بِدَفْعِهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بِعْ شَيْئًا مِنْ مَالِي وَاسْتَبْدِلْ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ عَوِّضْ لَهُ مِنْ مَالِي مَا شِئْتَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَإِنْ قَالَ لَهُ عَوِّضْ عَنِّي مِنْ مَالِك عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهُ فَعَوَّضَهُ عِوَضًا جَازَ وَرَجَعَ بِمِثْلِهِ عَلَى الْآمِرِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا مِنْهُ بِعِوَضٍ لَهُ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ بِالْقِيمَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَجَهَالَةُ مَا يُعَوِّضُهُ هُنَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ التَّعْوِيضِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَتَعْيِينُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الضَّمَانِ إذَا كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ مَعْلُومَيْنِ وَالْعِوَضُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِقْرَاضِ إذَا كَانَ عِنْدَ الْإِقْرَاضِ مُعَيَّنًا مَعْلُومًا فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ فِي أَصْلُ التَّعْوِيضِ نَائِبٌ فَلَا يَمْلِكُ التَّعْيِينَ إلَّا عَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَعَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ قَالَ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الضَّمَانَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَوَّضَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسْقِطًا عَنْهُ بِهَذَا التَّعْوِيضِ مَا هُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْآمِرِ هُنَاكَ فَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ ذِمَّتِهِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَمْلِكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْمُعَوِّضُ عَنْ الْهِبَةِ لَا يَمْلِكُ بِالتَّعْوِيضِ شَيْئًا فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ قَالَ وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا فِي الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ طَلَبِ وَكِيلِهِ لَهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِذَلِكَ لَمْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 93 يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ بِالْقَبْضِ فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَوْهُوبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَيْنِ بِالْقَبْضِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِهِ دُونَ صَاحِبِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ لَهُ دَيْنًا مِنْ فُلَانٍ فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ هِبَةً مِنْهُ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشَيْئَيْنِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ ثُمَّ بِعَقْدِ الْهِبَةِ فِي الْمَقْبُوضِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِمَا وَتَوْكِيلُهُ بِهِبَةِ دَيْنٍ يَقْبِضُهُ مِنْ مَدْيُونِهِ كَتَوْكِيلِهِ بِهِبَةِ عَيْنٍ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ فَيَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يُضِيفُهُ إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ الْمَدْيُونُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فَدَفَعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالدَّفْعِ يَكُونُ تَسْلِيطًا لِلْآخَرِ عَلَى الْقَبْضِ فَإِنْ قَالَ الْغَرِيمُ قَدْ دَفَعْتُ إلَيْهِ فَصَدَّقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ الْغَرِيمُ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى الْمَوْهُوبِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى الْوَاهِبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ الدَّفْعُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَقَالَ الْغَرِيمُ قَدْ دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ وَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَالْغَرِيمُ وَالْوَكِيلُ بَرِيئَانِ فَتَصْدِيقُ الْوَكِيلِ لِاخْتِيَارِهِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ ادَّعَى ثُبُوتَ وُصُولِ شَيْءٍ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يُثْبِتُ بِقَوْلِهِ وُصُولَ الْهِبَةِ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْوَاهِبُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَهَبُ مَا عَلَى مُكَاتَبِهِ لِرَجُلٍ وَيَأْمُرُ آخَرَ بِقَبْضِهِ وَدَفْعِهِ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ فِي الْحُكْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِعِتْقِ عَبْدِهِ عَلَى مَالِ أَوْ غَيْرِ مَالٍ فَلَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ نَفْسَكَ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْعِتْقِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ وَوُجُوبُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ وَهُنَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ الْوَكِيلِ مِثْلُ الْوَكَالَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ هُنَا لِأَنَّ الْعِتْقَ تَبَرُّعٌ وَإِنْ كَانَ بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَا يَمْلِكَانِهِ فِي عَبْدِ الْيَتِيمِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّبَرُّعِ نَائِبٌ مَحْضٌ وَأَنَّ الْمُعْتِقَ هُوَ الْمَوْلَى دُونَ الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 94 أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَثْبَتَ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَالِبُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ مَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ وَالْوَكِيلُ بِالْعِتْقِ لَا يَكُونُ مُطَالَبًا بِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَلَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ بَلْ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ نَائِبِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ فَدَبَّرَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ سِوَى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ وَالْمَأْمُورِ بِالتَّنْجِيزِ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ وَلَا الْإِضَافَةَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا أَوْ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ آخَرَ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبَرُّعِ الْمَحْضِ وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَقْصُودٌ يُفَوِّتُ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ الْعِوَضِ وَهُوَ الْجَوَازُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ آخَرَ بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ لَا يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ تَوْكِيلِ الْغَيْرِ بِهِ فَإِنَّهُ يُسَاوِي تَأْثِيرَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْعِتْقِ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ وَهُوَ إنَّمَا أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْإِعْتَاقِ خَاصَّةً قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ غَدًا فَأَعْتَقَهُ الْيَوْمَ كَانَ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ أَضَافَ وَكَالَتَهُ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْيَوْمَ فَأَعْتَقَهُ غَدًا جَازَ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ التَّعْجِيلُ وَهُوَ لَا يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ بِالْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَعْتِقْهُ السَّاعَةَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا بِعِتْقِهِ مَا لَمْ يَعْزِلْهُ عَنْهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ أَوْ غَيْرِ مَالٍ أَوْ كَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَمُبَاشَرَةُ هَذَا الْعَقْدِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْعِبَادَةِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِ مَالٍ ثُمَّ دَبَّرَهُ الْمَوْلَى فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ بِجَعْلٍ أَوْ غَيْرِ جَعْلٍ فَلَمْ يَخْرُجْ الْمَحَلُّ بِتَصَرُّفِ الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِمَا فَوَّضَهُ إلَى الْوَكِيلِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ أُمَّتَهُ فَوَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ وَلَدَهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعِتْقِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْلِكُ عِتْقَ شَخْصَيْنِ وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْعِتْقِ لَيْسَتْ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي الْأُمِّ وَإِنَّمَا يَسْرِي عَلَى الْوَلَدِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْأُمِّ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لِلْوَلَدِ عَنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْكِتَابَةُ وَالْبَيْعُ عَلَى هَذَا فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِهِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي الْأُمِّ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأُمِّ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ أَوْ يَبِيعَهُ ثُمَّ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَقَدْ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ بَعْدَ الْبَيْعِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 95 لَا يَمْلِكُ فِيهِ مُبَاشَرَةَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الْبَيْعِ يَتَضَمَّنُ خُرُوجَ الْوَكِيلِ مِنْ الْوَكَالَةِ حُكْمًا فَإِنْ رَجَعَ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ فَقَدْ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ وَكَانَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ رُجُوعَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ كَانَ حُكْمًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا يَظْهَرُ بَعْدَ عَوْدِ ذَلِكَ الْمِلْكِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ هُوَ تَمْلِيكٌ فَسَدَ مِنْ وَجْهٍ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِالْإِقَالَةِ أَوْ الْمِيرَاثِ لَمْ تَعُدْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا كَانَ بِذَلِكَ الْمِلْكِ وَالْعَائِدُ مَلَكَ غَيْرَ ذَلِكَ الْمِلْكِ قَالَ وَلَوْ بَاشَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَدْخَلُوهُ دَارَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمُوَكِّلِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ لَمْ تَعُدْ الْوَكَالَةُ وَلَوْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ بِالثَّمَنِ أَوْ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مِنْ الْغَانِمِينَ بِالْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَقَدْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ الْمِلْكِ فَإِذَا عَادَ عَادَتْ الْوَكَالَةُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ أُمَّتَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ فَأُسِرَتْ وَمَلَكهَا الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْوَكِيلِ فِيهَا لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِإِزَالَةِ رِقٍّ كَانَ فِيهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى وَهَذَا الْحَادِثُ رِقٌّ مُتَجَدِّدُ السَّبَبِ فَلَا يَكُونُ هُوَ وَكِيلًا بِإِزَالَتِهِ إلَّا بِتَوْكِيلٍ مُسْتَأْنَفٍ قَالَ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ فَقَالَ الْوَكِيلُ أَعْتَقْتُهُ أَمْسِ وَجَحَدَ ذَلِكَ رَبُّ الْعَبْدِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْعِتْقِ تَنْتَهِي بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فَكَيْفَ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَيْسَ هُوَ بِوَكِيلٍ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْعِتْقِ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ إنْشَاءَ الْعِتْقِ دُونَ الْإِقْرَارِ وَكَانَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ سِوَى الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْآمِرِ وَيَبْقَى الْمَأْمُورُ عَلَى وَكَالَتِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ فَقَبِلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَبَى أَنْ يُعْتِقَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعِيرٌ لِمَنَافِعِهِ وَالْمُعِيرُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى تَسْلِيمِ مَا أَعَارَهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ الْوَكِيلُ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْتَ فَقَالَ قَدْ شِئْتُ لَمْ يُعْتِقْ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّنْجِيزِ وَقَدْ أَتَى بِالتَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةٍ أَوْ بِتَمْلِيكِ الْآمِرِ مِنْ الْعَبْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى عَلَى وَكَالَتِهِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا مِنْهُ قَالَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْعَبْدِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ وَبِأَيِّ لَفْظٍ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ يَكُونُ كَقَوْلِهِ أَنْتَ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ وَحَرَّرْتُكَ وَكَمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ يَحْصُلُ بِالْكِتَابِ أَيْضًا حَتَّى إذَا كَتَبَ بِعِتْقِهِ جَازَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَشْتَرِيه مُكَفِّرًا فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ يَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا قَالَ وَإِنْ قَالَ لَهُ أَعْتِقْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 96 نَفْسَكَ بِمَا شِئْتَ فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ عَلَى دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ إنْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ فِي حَقِّ الْبَدَلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ لِلْمَوْلَى يَبْقَى قَوْلُ الْعَبْدِ أَعْتَقْتُ نَفْسِي بِدِرْهَمٍ فَيُوقَفُ ذَلِكَ عَلَى رِضَا الْمَوْلَى بِهِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ الْعَبْدُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِعْ نَفْسَكَ مِنْ نَفْسِكَ بِمَا شِئْتَ فَبَاعَ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ جَازَ ذَلِكَ إذَا رَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ وَالطَّلَاقُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قِيَاسُ الْعِتْقِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِي الْبَدَلِ إلَى رَأْيِهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي قَبُولِ الْبَدَلِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ نَائِبًا فِي تَعْيِينِ جِنْسِ الْبَدَلِ وَمِقْدَارِهِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ فَأَعْتَقَهُ عَلَى دِرْهَمٍ جَازَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا إلَّا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِنُقْصَانٍ يَسِيرٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي ثُبُوتِ التَّقْيِيدِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى شَيْءٍ فَمَا أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا هُنَاكَ يَتَقَيَّدُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ بِالْبَيْعِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ هُنَاكَ فَإِنَّ الْإِعْتَاقَ بِغَيْرِ النُّقُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ مُتَعَارَفٌ كَالْإِعْتَاقِ بِالنُّقُودِ فَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى أَيِّ صِنْفٍ مِنْ الْمَالِ يُسَمِّيهِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْوَكِيلُ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ الْبَدَلِ أَوْ فِي مِقْدَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى جَعْلٍ فَأَعْتَقَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ بِمَا صَنَعَ فَإِنَّ الْعِتْقَ بِالْخَمْرِ لَوْ بَاشَرَهُ الْمَالِكُ كَانَ عِتْقًا بِعِوَضٍ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْخَمْرِ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ لَوْ بَاشَرَهُ الْمَالِكُ كَانَ عِتْقًا بِغَيْرِ عِوَضٍ إذْ لَيْسَ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ شُبْهَةُ الْمَالِيَّةِ فَبِتَسْمِيَتِهِ لَا يَصِيرُ مُمْتَثِلًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا بِالْعِتْقِ مَجَّانًا وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِعِتْقٍ بِعِوَضٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ قَالَ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَبْدِ أَوْ عَلَى حُكْمِ الْوَكِيلِ جَازَ الْعِتْقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ لَوْ بَاشَرَهُ الْمُوَكِّلُ كَانَ عِتْقًا بِعِوَضٍ فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ غَيْرَ أَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ الْعَبْدُ أَوْ الْوَكِيلُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَعِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ وَلَكِنْ لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْمَالِ بِهَذَا اللَّفْظِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِالْعِتْقِ مَجَّانًا قَالَ وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْهُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَأَعْتَقَهُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ جَازَ الْعِتْقُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ حِينَ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِيمَا صَنَعَ وَقَدْ سَمَّى مَا هُوَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 97 مَالٌ وَهُوَ الْعَبْدُ فَإِذَا ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ تَبَيَّنَ بِهِ فَسَادُ التَّسْمِيَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى عَبْدٍ وَاسْتُحِقَّ جَازَ الْعِتْقُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَحَقِّ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرَ بَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ بِمَالٍ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ حُكْمُ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى جَعْلٍ فَأَعْتَقَهُ عَلَى شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ عَلَى دَنِّ خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَإِذَا الشَّاةُ مَيِّتَةٌ وَالْخَلُّ خَمْرٌ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ فِي الْخَمْرِ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ وَالْعِتْقُ بَاطِلٌ فِي الشَّاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَيْتَةِ شُبْهَةُ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ بِهَا الْعِتْقُ بِعِوَضٍ بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَفِيهَا شُبْهَةُ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ الْعِتْقُ بِعِوَضٍ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَمْرِ فَلَيْسَ فِي تَسْمِيَةِ الشَّاةِ مَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الْعِوَضِ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْمَيْتَةَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَذْبُوحَةَ بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا هُوَ مَالٌ فَبِذِكْرِهِ يَثْبُتُ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ وَيَصِيرُ الْوَكِيلُ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ عَلَى جَعْلٍ فَأَعْتَقَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ جَازَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْعِتْقِ بِمَالٍ نَائِبٌ مَحْضٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ دَيْنُ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَوْلَى كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَلِهَذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَالْكِتَابَةُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْعِتْقِ بِالْجَعْلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْكِتَابَةِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ أَيْضًا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ وَيَسْأَلَهُ لَهُ الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ وَالْمَوْلَى فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَالْمَالُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ شَيْءٌ هَكَذَا ذَكَرَ هُنَا وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْوَكِيلِ وَهَكَذَا أَجَابَ فِي الْجَامِعِ إلَّا أَنَّ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ وَيَسْأَلُهُ الْعِتْقَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ يَسْأَلُهُ لَهُ الْعِتْقَ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَقَوْلُهُ يَسْأَلُهُ الْعِتْقَ تَفْسِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَبَيَانُ أَنَّهُ جُعِلَ رَسُولًا إلَى الْمَوْلَى وَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ الْعَبْدُ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ إنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَ هُنَا دُونَ مَا قَالَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ بِجَعْلٍ يَكُونُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 98 وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ كَالْوَكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ تَوْكِيلَهُ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِهِ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ فَكَمَا أَنَّهُ هُنَاكَ يَصِيرُ الْمَطْلُوبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ هُنَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى فَإِنَّ الَّذِي فِي جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ بِمَالٍ يَشْتَرِطُهُ وَاَلَّذِي فِي جَانِبِ الْعَبْدِ الْتِزَامُ الْمَالِ فَالْوَكِيلُ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى يَكُونُ وَكِيلًا بِالْإِعْتَاقِ فَكَانَ مُعَبِّرًا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ وَالْوَكِيلُ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ وَكِيلٌ بِالْتِزَامِ الْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا مِنْ الْبَيَانِ فَقَدْ أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَ الْكُلَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الْكُلُّ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَالثَّانِي أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَسْمِيَةُ النِّصْفِ غَيْرُ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ وَالْوَكِيلُ مَتَى زَادَ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَأَتَى بِغَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا فَهُنَا الْمُوَكِّلُ أَمَرَهُ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ وَهُوَ قَدْ سَمَّى الْكُلَّ فَصَارَ مُخَالِفًا فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ وَعَلَى قَوْلِهِمَا الْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ فَالتَّوْكِيلُ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ وَإِعْتَاقِ الْكُلِّ سَوَاءٌ وَيَكُونُ هُوَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِي إعْتَاقِ الْكُلِّ فَلِهَذَا عَتَقَ كُلُّهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ كُلَّهُ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ عَتَقَ النِّصْفُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ نِصْفَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَتَى بِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَيُعْتَقُ نِصْفُهُ وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ عَلَى جَعْلٍ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَأَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفٍ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ مِثْلُهُ يُعْتَقُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً فَإِنَّ اسْمَ الْأَلْفِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْدُودٍ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عِتْقٍ بِغَيْرِ جَعْلٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا مِنْ الْوَكِيلِ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَقُلْنَا الْوَكِيلُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ بِنَفْسِهِ لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى هَذَا كَانَ عِتْقًا بِعِوَضٍ وَكَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا فَعَلَهُ وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ تَسْمِيَةِ النَّقْدِ مَعْرُوفٌ فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِثْلَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الْأَلْفِ هُوَ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ الْإِعْتَاقُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ فَصَارَ الثَّابِتُ بِالْعَادَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ فَكَاتَبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبِضَ الْمُكَاتَبَ لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ فَلَا يَكُونُ إلَيْهِ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلِ شَيْءٌ وَإِنْ دَفَعَهَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 99 إلَيْهِ الْمُكَاتَبُ لَمْ يَبْرَأْ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ قَدْ انْتَهَتْ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ فِي قَبْضِ الْبَدَلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلِهَذَا لَا يَسْتَفِيدُ الْمُكَاتَبُ الْبَرَاءَةَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ فَكَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ الْمُقَيِّدُ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ عِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى غَنَمٍ أَوْ صِنْفٍ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ الْمَوْزُونِ أَوْ مِنْ الْمَكِيلِ جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُشْكِلُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا الِاخْتِصَاصُ بِالنَّقْدِ هُنَاكَ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا فَالْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ النُّقُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ مُتَعَارَفٌ وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَالْكِتَابَةُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَيْنِ لَهُ فَكَاتَبَ أَحَدَهُمَا جَازَ لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِبَيْعِ الْعَبْدَيْنِ يَبِيعُ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُمَا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً وَيَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَكَاتَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ تَرَكَ شَرْطًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُوَكِّلِ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا إنْ كَاتَبَهُمَا مَعًا فَكَانَ الْمُوَكِّلُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالشَّارِطِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَرِّقَ الْعَقْدَ فَإِذَا فَرَّقَ كَانَ مُخَالِفًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْهُ مِنْ فُلَانٍ بِرَهْنٍ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ رَهْنٍ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِعْهُ مِنْ فُلَانٍ بِكَفَالَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ كَفَالَةٍ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِعْهُ بِشُهُودٍ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ إنَّمَا يَشْتَرِطَانِ فِي الْعَقْدِ وَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا بِالشَّرْطِ وَحَرْفُ الْبَاءِ لِلْوَصْلِ فَإِنَّمَا أَقَرَّ أَنْ يَصِلَ شَرْطَ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ بِالْبَيْعِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ فَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا يَتَحَقَّقُ اشْتِرَاطُهُمْ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَخْرُجُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ الْمَوْلَى فَعَجَزَ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُكَاتِبَهُ لِأَنَّ مَا قَصَدَهُ الْمُوَكِّلُ بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ قَدْ حَصَلَ لَهُ بِمُبَاشَرَتِهِ فَتَكُونُ مُبَاشَرَتُهُ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ ثُمَّ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ مِنْ الْأَصْلِ وَلَكِنْ تَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ السَّبَبَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَلِهَذَا لَا تَعُودُ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ أَوْ يَبِيعَهُ ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ فَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ جَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ لَا يَمْنَعُ الْمُوَكِّلَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ أَيْضًا وَابْتِدَاءُ التَّوْكِيلِ صَحِيحٌ بَعْدَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى ثُمَّ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ وَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 100 لِأَنَّ التَّوْكِيلَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِفِعْلٍ مِنْهُ سَبَقَ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ الْمَوْلَى فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا وَلَكِنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ دَبَّرَهُ قَبْلَ جِنَايَتِهِ وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الزِّيَادَاتِ إلَى أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْوَكَالَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ لِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْعَزْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَلَوْ قَالَ بِعْ عَبْدِي هَذَا أَوْ كَاتِبْهُ أَوْ أَعْتِقْهُ عَلَى مَالٍ فَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ قَالَ كَاتِبْ عَبْدِي هَذَا أَوْ هَذَا فَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَوْلَى خَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ أَوْ فَإِنْ كَاتَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ جَازَتْ مُكَاتَبَةُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِكِتَابَةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا كَاتَبَ الْأَوَّلَ انْتَهَتْ وَكَالَتُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَاتَبَهُمَا مَعًا فَكِتَابَتُهُمَا بَاطِلَةٌ إذَا جَعَلَ النُّجُومَ وَاحِدَةً لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمُكَاتَبَتِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ فِيهِمَا وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ النُّجُومَ وَاحِدَةً فَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى يَخْتَارُ أَيَّهمَا شَاءَ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيُحْبَسُ الْآخَرُ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا مُمْكِنٌ فَإِنَّ الْعَقْدَ مُتَفَرِّقً فَهُوَ فِي كِتَابَةِ أَحَدِهِمَا مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمَوْلَى وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِي أَحَدِهِمَا وَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعَبِّرٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ إلَيْهِ مِنْ خِيَارِ الْبَيَانِ شَيْءٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي حُكْمِ الْإِسْقَاطِ دُونَ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهِ مِنْ مِلْكِ الْيَدِ حَتَّى يَصِيرَ لِلْمُكَاتَبِ كَمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ إسْقَاطَ الْحَقِّ عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ لَأَنْ يَكُونَ تَمْلِيكًا مِنْ الْعَبْدِ وَالْجَهَالَةُ إنَّمَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ فِي التَّمْلِيكَاتِ لَا فِي الْإِسْقَاطَاتِ فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَيَّ هَاتَيْنِ فَزَوَّجَهُمَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَزْوِيجِ إحْدَاهُمَا وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِي إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَا فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَعَلَ النِّكَاحَ كَالْكِتَابَةِ فَقَالَ يَجُوزُ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِبَيْعِهَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ الْوَكِيلُ يَوْمَ السَّبْتِ قَدْ كَاتَبْتُهُ أَمْسِ بَعْدَ الْوَكَالَةِ عَلَى كَذَا وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 101 بِالْعَقْدِ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَإِنَّ بِمُضِيِّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَدْ انْتَهَتْ وَكَالَتُهُ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَجُوِّزَ إقْرَارُهُ فَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَقَدْ أَخْبَرَ بِمَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْقِيتَ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ لَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَجُعِلَ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ كَأَنَّ التَّوْكِيلَ كَانَ مُطْلَقًا فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا وَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَقَالَ الْوَكِيلُ وَكَّلَنِي أَمْسِ وَكَاتَبْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ بَعْدَ الْوَكَالَةِ وَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ إنَّمَا وَكَّلْتُكَ الْيَوْمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ التَّوْكِيلَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ التَّوْكِيلَ أَمْسِ وَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ التَّوْكِيلَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَ الْوَكِيلُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ إلَيْهِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا وَلَوْ قَالَ أَيُّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ كَاتِبْهُ فَهُوَ جَائِزٌ فَأَيُّهُمَا كَاتَبَهُ جَازَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالْجَهَالَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ فِيهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَكَّلْتُ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَأَيُّهُمَا كَاتَبَهُ جَازَ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ فَأَبَى الْعَبْدُ أَنْ يَقْبَلَ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ فَكَاتَبَهُ الْوَكِيلُ جَازَ لِأَنَّ بِإِبَاءِ الْعَبْدِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ عَنْ كِتَابَتِهِ وَإِذَا بَقِيَتْ الْوَكَالَةُ نَفَذَتْ الْكِتَابَةُ بِقَبُولِ الْعَبْدِ كَمَا لَوْ قَبِلَ فِي الِابْتِدَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ وَكَالَةِ الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ فِيهِ] قَالَ بَابُ وَكَالَةِ الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَوْكِيلُ الْمُضَارِبِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَالْخُصُومَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْمُضَارَبَةِ جَائِزٌ لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ إقَامَةَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَلَمَّا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ آذِنًا لَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِالْمُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى لَهُ أَخَا رَبِّ الْمَالِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارِبِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ شِرَاءَ وَكِيلِ الْمُضَارِبِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُضَارِبِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ اشْتَرَى أَخَا رَبِّ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُحَصِّلَ الرِّبْحَ بِتَصَرُّفِهِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِشِرَاءِ أَخِي رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ شِرَاؤُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ عَتَقَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إذْ هُوَ فِي يَمِينِهِ قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى أَخَا الْمُضَارِبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 102 فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ كَشِرَاءِ الْمُضَارِبِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ اشْتَرَى أَخَا نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ كَانَ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُضَارِبُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ فِي دَيْنِ الْمُضَارَبَةِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُضَارِبَ قَدْ قَبَضَ ذَلِكَ الدَّيْنَ فَهُوَ جَائِزٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ وَيَكُونُ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي بِقَبْضِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِإِدَانَتِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ وَكِيلِهِ وَإِنْ قَالَ الْمُضَارِبُ لَمْ أَقْبِضْهُ مِنْهُ بَرِئَ الْغَرِيمُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِجَوَابِ الْخَصْمِ وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْخَصْمِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ وُصُولُ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ مَا وُكِّلَ بِذَلِكَ قَالَ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْوَكِيلِ قَدْ أَخَذْتُهُ فَدَفَعْتُهُ إلَيْكَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَمْ تَدْفَعْهُ إلَيَّ وَكَذَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ صَحِيحٌ فِي بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ رَجُلًا بِقَبْضِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِمَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ الْوَكِيلُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي مُبَاشَرَتِهِ قَالَ وَإِذَا أَمَرَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَهْلِهِ فَوَكَّلَ الْمُضَارِبُ وَكِيلًا بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيصَالِ مِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَيْهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَصِّلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ لَهُ النَّفَقَةُ لَهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى هَذَا الْمَالِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ إذَا ظَهَرَ بِهِ وَلِأَنَّ أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى أَهْلِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ أَنْفَقْت مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِمْ وَقَالَ الْمُضَارِبُ أَنْفَقْت مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي مُدَّةٍ يُنْفَقُ مِثْلُهَا عَلَى مِثْلِهِمْ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ مَا أَنْفَقْتَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ وَقَدْ ذَهَبَ مِنْ الْمَالِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ وَهُوَ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَلَوْ ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْإِنْفَاقَ عَلَى أَهْلِهِ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ شَيْئًا لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا وَكَذَلِكَ كُلُّ وَكِيلٍ يُدْفَعُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 103 إلَيْهِ الْمَالُ وَيُؤْمَرُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي النَّفَقَةِ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِطَرِيقٍ مُحْتَمَلٍ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ وَكِيلًا يُنْفِقُ عَلَى رَقِيقٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا فَقَالَ الْوَكِيلُ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لِيَكُونَ أَمِينًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ وَلَكِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ أَمَرَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي مِثْلِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ يُنْفِقُ عَلَى رَقِيقِهِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ مَتَاعًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ الْمَالَ إلَيْهِ فَجَاءَ رَبُّ الْمَالِ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاقَضَ الْمُضَارَبَةَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ التَّوْكِيلِ أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَإِذَا بَقِيَتْ الْوَكَالَةُ كَانَ شِرَاءُ وَكِيلِ الْمُضَارِبِ كَشِرَاءِ الْمُضَارِبِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ انْفَسَخَ بِاسْتِرْدَادِ رَبِّ الْمَالِ مَالَهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ الْبَيْعِ وَنَقَضَ الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ بَاعَهُ الْوَكِيلُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ يَعْلَمُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا بِمِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ نُهِيَ الْمُضَارِبُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَكَانَ وُجُودُ النَّهْيِ كَعَدَمِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ ثُمَّ بَاعَهُ الْوَكِيلُ أَوْ وَكَّلَهُ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَبَاعَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْبَيْعِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَظْهَرُ بِبَيْعِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مِنْ وَجْهٍ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَمْتَنِعُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا بِبَيْعِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ ثُمَّ اشْتَرَى الْعَبْدَ لَزِمَ الْمُضَارِبَ خَاصَّةً لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ انْفَسَخَ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ حِينَ كَانَ الْمَالُ نَقْدًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ فَيَكُونَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِرْدَادِ رَبِّ الْمَالِ مَالَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ الْوَكَالَةُ تَبْقَى وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضِينَ عَبْدًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَوَكَّلَ وَكِيلًا فِي رَدِّهِ أَوْ كَانَ شَرِيكُهُ هُوَ الَّذِي يُخَاصِمُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الَّذِي اشْتَرَى حَتَّى يَحْلِفَ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِالرَّدِّ إلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِحْلَافُ الْوَكِيلِ وَلَا الشَّرِيكِ إذَا كَانَ يُخَاصِمُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْرَى فِي الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَى حَاضِرًا يُخَاصِمُ فَطَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ شَرِيكِهِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَنْبَنِي عَلَى تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَا خُصُومَةَ لِلْبَائِعِ مَعَ الشَّرِيكِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 104 لِأَنَّهُ لَمْ يُعَامِلْهُ بِشَيْءٍ وَكَذَا إنْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي عَبْدٍ بَاعَهُ وَطَعَنَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِعَيْبٍ وَرَدَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَكِيلِ فِيهِ يَمِينٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيهِ نَائِبٌ وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ وَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ الشَّرِيكَ الْآخَرَ وَيُحَلِّفَهُ عَلَى عِلْمِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمُفَاوَضَةِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضِينَ وَكِيلًا بِشَيْءٍ هُوَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ نَقَضَاهَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَمْضَى الْوَكِيلُ مَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ تَوْكِيلَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ بَقَاءِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَوْكِيلِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَنْعَزِلُ بِنَقْضِهِمَا الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِالتَّصَرُّفِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ فُوِّضَ إلَيْهِ الْأَمْرُ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفِ وَاحِدٍ فَصَارَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِالتَّوْكِيلِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُضَارِبِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ التِّجَارَةِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ التِّجَارَةِ فَلِهَذَا نَفَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ تَقَاضِي دَيْنٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ مِنْ الْوَكَالَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا فِي تَقَاضِي الدَّيْنِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ كَمَا جَعَلَ تَوْكِيلَ أَحَدِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِهِمَا فَكَذَلِكَ عَزْلُ أَحَدِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِهِمَا إلَّا فِي تَقَاضِي الدَّيْنِ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِقَبْضِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ شَرِيكُهُ نَهْيَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ نَهْيُ وَكِيلِهِ؛ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الشَّرِيكَ الْآخَرَ لَمَّا جُعِلَ فِي هَذَا الدَّيْنِ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ فَكَذَلِكَ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ النَّهْيُ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الَّذِي أَدَانَهُ لَمْ يَصِحَّ إخْرَاجُ هَذَا الْآخَرِ الْوَكِيلَ مِنْ التَّقَاضِي لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَدَانَهُ هُوَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ فَتَوْكِيلُ الشَّرِيكِ بِقَبْضِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْقَبْضِ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 105 [بَابُ مَا لَا تَجُوز فِيهِ الْوَكَالَةُ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ وَكِيلًا بِطَلَبِ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ وَكَّلَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ جَازَ التَّوْكِيلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ رِضَا الْخَصْمِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِيمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ إنَّمَا يُوَكِّلُ لِيَحْتَالَ الْوَكِيلُ لِإِثْبَاتِهِ وَفِي الْقِصَاصِ إنَّمَا يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَذَلِكَ بِإِثْبَاتِهِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَكَّلَ بِمَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَإِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي فَصَحَّ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي. فَأَمَّا إثْبَاتُ الْقِصَاصِ فَكَإِثْبَاتِ سَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ بِالْقِصَاصِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي دَفْعِ مَا يُطَالَبُ بِهِ وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَظْهَرُ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِصَاصِ جَائِزٌ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْعَفْوِ صَحِيحَةٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ جُعِلَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِ الْمُوَكِّلِ وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى بِحُجَّةٍ قَائِمَةٍ مَقَامَ غَيْرِهَا، تَوْضِيحُهُ: أَنَّا حَمَلْنَا التَّوْكِيلَ عَلَى الْجَوَابِ لِأَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مِنْ الْخُصُومَةِ وَلَكِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالْإِقْرَارُ ضِدُّ الْخُصُومَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَكَذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ حَدِّ الْقَذْفِ أَوْ دَفْعِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَاذِفِ فَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَقَدْ طُلِبَ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 106 الْمَالِ وَالْمَالُ يُثْبَتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ تَثْبُتُ فَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا قَالَ وَإِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُسْتَوْدَعِ أَوْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا الْقِصَاصَ وَإِنْ وَكَّلَهُمَا بِذَلِكَ صَاحِبُهُ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ عَفَا فَلَوْ اسْتَوْفَيْنَا الْقِصَاصَ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الدَّمِ وَالْمُسْتَوْدَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ لَيْسَا بِخَصْمَيْنِ فِي الدَّمِ وَإِنَّمَا خُصُومَتُهُمَا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ وَالْإِعَارَةُ وَكَذَلِكَ عَبْدٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ أَوْ عَبْدَانِ شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَهُ وَإِنْ وَكَّلَهُ الْغَائِبُ بِذَلِكَ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ مِنْ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ قَالَ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ الرَّجُلُ انْطَلِقْ فَاشْتَرِ عَبْدِي مِنْ فُلَانٍ لِنَفْسِك فَذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ وَلَمْ يَكُنْ رَبُّ الْعَبْدِ وَكَّلَ الْبَائِعَ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَجُوزُ وَيَكُونُ أَمْرُهُ لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَكَالَةً لِلْبَائِعِ بِالْبَيْعِ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ أَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لَهُ الْمَالِكُ فَيَصِيرُ ذُو الْيَدِ وَكِيلًا لِعِلْمِهِ بِوَكَالَةِ الْمَالِكِ إيَّاهُ وَمُرَادُهُ بِمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَهُ بِعْ هَذَا الْعَبْدَ مِنِّي فَلَا يَصِيرُ ذُو الْيَدِ وَكِيلًا مَا لَمْ يَعْلَم بِتَوْكِيلِ الْمَالِكِ إيَّاهُ وَإِنْ حَمَلَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا لَمْ يُخْبِرْهُ فَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ مَقْصُودًا لَا بِحَضْرَتِهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ ضِمْنًا لِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِشِرَائِهِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ رِضَا الْمَالِكِ قَدْ تَمَّ بِهَذَا الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ فَلَوْ لَمْ يَنْفُذْ الْبَيْعُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ وَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فِيهِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ قَالَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ اقْبِضْ دَيْنِي مِنْ فُلَانٍ كَانَ جَائِزًا وَلَيْسَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ وَكَّلَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ هُنَا وَقَدْ عَلِمَ الْقَابِضُ بِوَكَالَتِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِ الْمَدْيُونِ بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ وَكَالَتَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ انْطَلِقْ إلَى فُلَانٍ حَتَّى يُكَاتِبَك فَكَاتَبَهُ فُلَانٌ أَمَا كَانَ يَجُوزُ أَوْ قَالَ انْطَلِقْ إلَيْهِ حَتَّى يُعْتِقَك فَأَعْتَقَهُ أَمَا كَانَ يُعْتَقُ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ انْطَلِقِي إلَيْهِ حَتَّى يُطَلِّقَك وَطَلَّقَهَا فُلَانٌ أَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ظَاهِرٌ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 107 لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ قَالَ وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ قَدْ نَهَيْتُ فُلَانًا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالنَّهْيِ حَتَّى طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ وَقَعَ وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ لَمْ يَقَعْ وَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنْ نَهَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ النَّهْيُ فِي حَقِّ فُلَانٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ التَّوْكِيلُ بِخِطَابٍ خَاطَبَ بِهِ الْوَكِيلَ وَبَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ ضِمْنًا بِخِطَابٍ خَاطَبَ بِهِ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ وَكِيلًا لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ قَالَ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ اذْهَبْ بِثَوْبِي هَذَا إلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبِيعَهُ أَوْ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبِيعَك ثَوْبِي الَّذِي عِنْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ إذْنٌ مِنْهُ لِفُلَانٍ فِي بَيْعِ ذَلِكَ الثَّوْبِ إنْ أَعْلَمَهُ الْمُخَاطِبُ بِمَا قَالَهُ الْمَالِكُ جَازَ بَيْعُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اذْهَبْ بِهَذَا الثَّوْبِ إلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يُقَصِّرَهُ أَوْ إلَى الْخَيَّاطِ حَتَّى يَخِيطَهُ قَمِيصًا فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ حَتَّى لَا يَصِيرَ ضَامِنًا بِعِلْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ وَكَالَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكُلُّ مَا جَازَ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ جَازَ لَهُمَا أَنْ يُوَكِّلَا بِهِ مَنْ يَفْعَلُهُ لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ انْفَكَّ عَنْهُمَا فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ أَوْ سَبَبِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مِنْهُمَا وَبَعْدَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِعْلُ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَفْعَلَهُ جَازَ لِوَكِيلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ فَوَكَّلَ بِهِ وَكِيلًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِبَةٍ عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِمُبَاشَرَةِ مَا وُكِّلَ بِهِ فَإِذَا حَجَرَهُ مَوْلَاهُ أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ كِتَابَتِهِ انْقَطَعَتْ وَكَالَةُ وَكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَصِحَّةُ التَّوْكِيلِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ الْحَجْرُ عَلَى الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ لَا يَحْصُلُ وَالطَّارِئُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ التَّقَاضِي لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِالْعَجْزِ وَلَا بِالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَّاهُ الْعَبْدُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 108 لَا يُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَلْ يَبْقَى هُوَ مُطَالَبًا بِإِيفَائِهِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِاسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ بِعَقْدِهِ فَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُ بَقِيَ وَكِيلُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ فِيهِ؛ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْحَجْرِ صَحَّ أَيْضًا فَإِنْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ مَاتَ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حِينَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا يَبْقَى هُوَ مُطَالَبًا بِإِيفَاءِ شَيْءٍ فِي حَالَة الرِّقِّ فَتَبْطُلُ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ حُكْمًا بِخُرُوجِ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ؛ قَالَ: وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَقَاضَى دَيْنَهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ مَا لَمْ يَفْرَغْ مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَوُجُوبُ الْمَالِ بِعَقْدِ الْعَبْدِ وَلَا يَكُونُ هُوَ فِي هَذَا دُونَ الْوَكِيلِ وَمَا وَجَبَ مِنْ الثَّمَنِ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَهُنَا أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُوَكِّلَ بِذَلِكَ وَكِيلًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ أَيْضًا فَإِنْ اقْتَضَى هُوَ شَيْئًا أَوْ وَكِيلُهُ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى لَوْ قَبَضَهُ الْعَبْدُ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْلَى فَإِذَا قَبَضَهُ الْمَوْلَى أَوْ مَنْ وَكَّلَهُ جَازَ كَمَا فِي الْمُوَكِّلِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ كَسْبِهِ كَانَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ الْوَدِيعَةُ وَالْبِضَاعَةُ فِي هَذَا قِيَاسُ الدَّيْنِ قَالَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي التَّزْوِيجِ فَوَكَّلَ الْعَبْدُ وَكِيلًا بِذَلِكَ فَرَجَعَ الْمَوْلَى عَنْ الْإِذْنِ فِي التَّزْوِيجِ فَإِنْ عَلِمَ بِهِ الْوَكِيلُ خَرَجَ عَنْ الْوَكَالَةِ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّوْكِيلَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَهَذَا الْوَكِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ثُمَّ نَهْيُهُ الْعَبْدَ عَنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَزْلٌ لِوَكِيلِهِ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهَذَا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِعَيْبِ الْعَبْدِ بِالنِّكَاحِ وَتَعَلُّقُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِمَالِيَّتِهِ وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ عَقْدِ الْعَبْدِ وَعَقْدِ الْوَكِيلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ لِلْوَكِيلِ قَصْدًا فَإِنْ عَلِمَ بِهِ صَارَ مَعْزُولًا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْزُولًا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْعَبْدُ بِتَقَاضِي دَيْنِهِ وَكِيلًا ثُمَّ بَاعَهُ الْمَوْلَى بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ خَرَجَ وَكِيلُهُ مِنْ الْوَكَالَةِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْعَزْلَ هُنَا ثَبَتَ حُكْمًا لِخُرُوجِ مُوَكِّلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى يَتَقَاضَاهُ لِأَنَّ الْحَقَّ تَخَلَّصَ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ نَصَّبَ الْقَاضِي وَكِيلًا بِتَقَاضِي الدَّيْنَ لِيَقْضِيَ بِهِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَلَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ التَّقَاضِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 109 بِأَنْفُسِهِمْ فَيُنَصِّبُ الْقَاضِي عَنْهُمْ وَكِيلًا بِمَنْزِلَةِ التَّرِكَةِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ؛ فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ لَا يُبْطَلُ بِعِتْقِهِ بَلْ يَتَقَوَّى وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَإِذَا قَالَ الْوَكِيلُ قَبَضْتُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ أَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَدْ صَارَ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى بَعْدَ الْحَجْرِ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ فَهُوَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ قَالَ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا تَاجِرًا لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ وَلَهُ بِهِ كَفِيلٌ فَوَكَّلَ رَجُلًا بِتَقَاضِي دَيْنِهِ لِيَتَقَاضَى دَيْنَهُ عَلَى فُلَانٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَقَاضَاهُ مِنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ وَالْأَصِيلَ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَالْوَكِيلُ صَارَ مَالِكًا الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ طَالَبَ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ فَإِنَّمَا طَالَبَ بِذَلِكَ الدَّيْنَ قَالَ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَوَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَبِقَبْضِهَا فَبَاعَهَا ذُو الْيَدِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُشْتَرِيَ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ بِالْخُصُومَةِ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالدَّارِ لَا بِالْبَائِعِ فَفِي يَدِ مَنْ وُجِدَتْ الدَّارُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةِ فُلَانٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِخُصُومَةِ الْبَائِعِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فَقَدْ يُقَاوِمُ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا فِي الْخُصُومَةِ وَلَا يُقَاوِمُ غَيْرَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ هَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ بَيَّنَّا وَإِنْ قَالَ لَهُ بِعْهُ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ ذُو الْيَدِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ مَعْرُوفًا بَيْنَ النَّاسِ فَلَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مَعَ ذِي الْيَدِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ يُوَكِّلُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ كَانَ هَذَا رِضًا مِنْهُ بِالْخُصُومَةِ مَعَ وَكِيلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا تَوَجَّهَ عَلَى الْوَكِيلِ يَكُونُ عَلَى الْمُوَكِّلِ خَاصَّةً وَالْوَكِيلُ نَائِبٌ عَنْهُ فَلِهَذَا مَلَكَ أَنْ يُخَاصِمَ وَكِيلَهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مَالِكًا فَإِنَّمَا يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْبَائِعِ فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا؛ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فُلَانًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِذَا الدَّارُ فِي يَدَيْ غَيْرِ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ غَيْرَ فُلَانٍ وَلَا فُلَانًا لِأَنَّ الدَّارَ لَيْسَتْ فِي يَدَيْهِ وَالْخُصُومَةُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ ذِي الْيَدِ وَالْوَكَالَةُ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْخُصُومَةِ مَعَ فُلَانٍ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ غَيْرَ فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ أَحَدًا كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ مَنْ وَجَدَ الدَّارَ فِي يَدِهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 110 لِأَنَّ الْوَكَالَةَ هُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْنِ فَإِذَا خَاصَمَ فِيهِ ذَا الْيَدِ فَإِنَّمَا يُخَاصِمُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ فَلِهَذَا سُمِعَتْ خُصُومَتُهُ قَالَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ الْعَبْدِ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهَا لِفُلَانٍ الْمُدَّعِي فَادَّعَاهَا آخَرُ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ وَكِيلًا فِي خُصُومَةِ هَذَا الثَّانِي وَهُوَ وَكِيلٌ فِي خُصُومَةِ الْأَوَّلِ وَخُصُومَةِ وَكِيلِهِ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ مَعَ فُلَانٍ فَلِهَذَا يَمْلِكُ ذَلِكَ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ وَكِيلًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ رَهْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَخْرَجَ الْمَوْلَى الْوَكِيلَ مِنْ الْوَكَالَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ لَوْ نَهَى الْعَبْدَ عَنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ فَكَذَلِكَ إذَا مَنَعَ وَكِيلَهُ مِنْهُ؛ أَوْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ عَنْ التَّوْكِيلِ وَكَمَا لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ تَصَرُّفٍ آخَرَ مَعَ بَقَاءِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّوْكِيلِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ وَكِيلِهِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ وَكَّلَ مَوْلَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا كَمَا لَوْ وَكَّلَ غَيْرَ الْمَوْلَى بِهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ وَلَكِنْ لَوْ وَكَّلَ بِهِ غَيْرَهُ فَبَاشَرَهُ الْوَكِيلُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ جَازَ لَا بِالتَّوْكِيلِ السَّابِقِ مِنْ الْعَبْدِ وَلَكِنْ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ التَّوْكِيلُ مِنْ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ بِهِ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ هَذَا التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ التَّوْكِيلُ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ وَكِيلًا بِخُصُومَةٍ فِي شَيْءٍ لَهُ ثُمَّ حَجَرَهُ مَوْلَاهُ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَمَا أَشْبَهَهُمَا لِأَنَّ هَذَا إذْنٌ حَادِثٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَوَكَالَتُهُ كَانَتْ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ لَا يَنْفُذُ بِالْإِذْنِ الْحَادِثِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِي الْأَوَّلِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِهِ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي قَالَ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَعَلِمَ بِهِ الْوَكِيلُ كَانَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَيَجُوزُ مَا صَنَعَ فِي حِصَّةِ الَّذِي لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 111 لِأَنَّهُمَا لَوْ حَجَرَا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا جُعِلَا فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا حَجَرَا عَلَيْهِ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا جَازَ تَوْكِيلُهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فَكَذَلِكَ يَبْقَى الْوَكِيلُ بِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي تَقَاضِي الدَّيْنِ فَيَجُوزُ قَبْضُهُ فِي نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا لَوْ حَجَرَا عَلَيْهِ لَمْ يُؤَثِّرْ الْحَجْرُ فِي مَنْعِ الْوَكِيلِ مِنْ قَبْضِ الدَّيْنِ بِالتَّقَاضِي وَكَذَلِكَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ مَوْلَيَيْهِ بِبَيْعِ شَيْءٍ أَوْ شِرَائِهِ ثُمَّ حَجَرَا عَلَيْهِ ثُمَّ أَذِنَا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ بَاعَا مَا كَانَ وَكَّلَهُمَا بِبَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِوَكَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِأَنَّ الْمَوْلَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَجَانِبِ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَّا بِتَوْكِيلٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الْإِذْنِ الْأَوَّلِ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِخُصُومَةِ أَحَدٍ يَدَّعِي رَقَبَتَهُ أَوْ يَدَّعِي جِرَاحَةً جَرَحَهَا إيَّاهُ الْعَبْدُ أَوْ جَرَحَ هُوَ الْعَبْدَ وَلَا بِالصُّلْحِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَفْسِهِ بَلْ الْخَصْمُ فِيهَا مَوْلَاهُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِيمَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْخُصُومَةِ فِيهِ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ إنَابَةَ الْوَكِيلِ فِيهِ مَنَابَ نَفْسِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِذَلِكَ فِي خُصُومَةِ آخَرَ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ جَنَى عَبْدُهُ عَلَيْهِ أَوْ يَدَّعِي رَقَبَتَهُ لِأَنَّهُ فِي كَسْبِهِ خَصْمٌ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ قَالَ وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَيَانِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ آخَرَ فَأَذِنَ لَهُ الْمُشْتَرِي فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ جَائِزَةً فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ فِي نَصِيبِ مَنْ بَاعَ نَصِيبَهُ وَإِنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا بِإِذْنٍ حَادِثٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ ثَبَتَ الْحَجْرُ فِي الْكُلِّ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِذْنِ الْحَادِثِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ الْحَجْرُ فِي النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ بِبَيْعِ النِّصْفِ لَمْ يَصِرْ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ يَصِحُّ مِنْهُ بَعْدَ بَيْعِ الْبَعْضِ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ بِهَذَا الشِّرَاءِ إنَّمَا خَلَصَ لِمَنْ هُوَ رَاضٍ بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ أَوْ خَلَصَ الْحَقُّ لِمَنْ هُوَ وَكِيلٌ وَخُلُوصُ الْحَقِّ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِحَقِّهِ فَلِهَذَا بَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي الْكُلِّ قَالَ وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مُؤَجَّرَةً وَعَلَيْهَا دَيْنٌ فَأَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا بِالتَّزْوِيجِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ جَازَ فَإِنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهَا مِنْ مَهْرِهَا وَالزَّوْجُ يُعِينُهَا عَلَى الِاكْتِسَابِ لِتَقْضِيَ بِهِ دُيُونَهُمْ فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَوْ وَكَّلَتْ وَكِيلًا بِذَلِكَ فَإِنْ زَوَّجَهَا وَكِيلُهَا وَهِيَ حَاضِرَةٌ جَازَ وَإِنْ زَوَّجَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلْمَوْلَى وَالْوَكِيلُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِمَا وُكِّلَ بِهِ لِيَعْقِدَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 112 حَاضِرَةً كَانَتْ مُبَاشِرَةً وَكِيلَهَا كَمُبَاشَرَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَتِمَّ عَقْدُ الْوَكِيلِ إلَّا بِرَأْيِهِمَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ رَأْيُهَا بِالْإِجَازَةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ ثُمَّ أُعْتِقَ أَوْ كُوتِبَ أَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّ سَبْقَ ثُبُوتِ حَقِّ التَّصَرُّفِ لِلْعَبْدِ فَكَانَ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ وَالْعِتْقُ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ وَلَا يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ التَّوْكِيلِ بَاطِلًا فَكَانَ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَجُوزُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ لِمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَوَقْتَ التَّصَرُّفِ الْآمِرُ أَهْلٌ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ مُبَاشَرَةُ وَكِيلِهِ لَهُ إمَّا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى فِي مُبَاشَرَةِ تَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ أَوْ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ؛ وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّبِيِّ يُوَكِّلُ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يُدْرِكُ أَوْ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ فِيهِ فَيُمْضِيه الْوَكِيلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الصَّبِيُّ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقٍّ لِنَفْسِهِ وَالْإِذْنُ وَالْإِدْرَاكُ لَا يَسْتَنِدُ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ التَّوْكِيلِ فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ فَصَحِيحٌ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ وَالْعِتْقِ وَالْإِذْنِ نَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ عَلَيْهِ؛ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ امْتِنَاعَ تَوْكِيلِ الصَّبِيِّ كَانَ لِمَعْنًى لَا يَزُولُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْإِذْنِ وَلَا بِالْإِدْرَاكِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ نَفْعٌ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ وَالْإِدْرَاكِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ لَهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ وَأَمَّا امْتِنَاعُ نُفُوذِ تَصَرُّفِ وَكِيلِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِذْنِ كَانَ لِمَعْنًى يَزُولُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ يُلَاقِي حَقَّ الْمَوْلَى وَذَلِكَ يَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْوَكَالَةِ كَإِنْشَائِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْعَبْدُ وَكِيلًا أَنْ يُكَاتِبَ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ فِي عَمَلٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ وَإِنْ ضَمِنَهُ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَاشْتَرَاهُ وَبَيَّنَهُ لِمَوْلَاهُ عَتَقَ وَالْمَالُ عَلَى الْوَكِيلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ فِيمَا سَبَقَ وَأَجَابَ بِخِلَافِ هَذَا وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرَ هُنَا وَفِي الْجَامِعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْعِتْقِ أَنْ يَقُولَ هُوَ لَا يُوجِبُ لِلْعَبْدِ مَالًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ لَهُ مِلْكَ الْيَدِ وَالْمَكَاسِبَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ فِي حَقِّ وَكِيلِ الْعَبْدِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 113 بِمَنْزِلَةِ مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَأَمَّا فِي الْعِتْقِ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى يُزِيلُ عَنْ مِلْكِهِ مَا هُوَ مَالٌ بِإِزَاءِ مَالٍ يَسْتَوْجِبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ وَكِيلِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ ثُمَّ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَوْ لَزِمَهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ. كَمَا لَوْ كَفَلَ بِهِ غَيْرُهُ وَفِي الْعِتْقِ بِمَالٍ إذَا أَدَّاهُ وَكِيلُ الْعَبْدِ غَرِمَهُ نَائِبُهُ إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ يُطَالِبُ الْوَكِيلَ لِيُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِأَمْرِهِ فَحَصَلَ مَقْصُودُهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ مِنْ الْعَبْدِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ وَكِيلِ الْمَوْلَى وَوَكِيلِ الْعَبْدِ أَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ وَالْمُعْتِقُ هُوَ الْمَوْلَى دُونَ الْوَكِيلِ حَتَّى كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْبَدَلِ فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ فَهُوَ الْتِزَامُ الْمَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَكِيلُ مُلْتَزِمًا الْمَالَ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ وَكِيلًا فِي خُصُومَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ ثُمَّ أَبَقَ الْعَبْدُ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مِنْ الْمَأْذُونِ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَبِالْحَجْرِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا عَزْلَ الْوَكِيلِ كَمَا لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ عَبْدًا فَأَبِقَ فَهُوَ عَلَى الْوَكَالَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عُهْدَةٌ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا تُبْقِي صِحَّةَ التَّوْكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِنَّمَا تُبْقِي لُزُومَ الْعُهْدَةِ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ وَعَزْلُ الْمُطَالِبِ يُبْطِلُ وَكَالَةَ وَكِيلِهِ فِي الْعُقُودِ وَالْخُصُومَاتِ إلَّا فِي تَقَاضِي الدَّيْنِ الَّذِي وَلَّاهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ قَضَائِهِ لِأَنَّ عَجْزَهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَنْ أَسْبَابِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَخْرُجُ وَكِيلُهُ مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَاقْتِضَائِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَزْلَ وَكِيلِهِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كُوتِبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَعُدْ الْوَكَالَةُ الَّتِي بَطَلَتْ لِأَنَّ صِحَّتَهَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ عِنْدَ التَّوْكِيلِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَمْ يَعُدْ بِالْكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يُوَكِّلُ وَكِيلًا ثُمَّ يُكَاتَبُ أَوْ يَأْذَنُ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ هُنَاكَ لَمْ تَكُنْ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ نَائِبٌ لِلْآمِرِ وَقْتَ الْوَكَالَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَحْدُثُ لَهُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ الْكِتَابَةِ أَوْ الْإِذْنِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَهَذَا نَظِيرُ رَجُلٍ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَوَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ بَعْدَ مَا فَارَقَ إحْدَاهُنَّ جَازَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا بَعْدَ الْوَكَالَةِ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَاهُنَّ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْوَكَالَةِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا قَالَ وَتَوْكِيلُ الْمُكَاتَبِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي جِنَايَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لَا قِصَاصَ فِيمَا يَدَّعِي قِبَلَهُ أَوْ قِبَلَ عَبْدِهِ جَائِزٌ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 114 لِأَنَّهُ هُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَلِهَذَا صَحَّ تَوْكِيلُهُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي جِنَايَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا فِي كَسْبِهِ فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْخُصُومَةِ وَتَوْكِيلُ الْمُكَاتَبِ بِمُخَاصِمَةِ الْمَوْلَى فِي الْكِتَابَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ مَعَهُ فَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ بِهِ كَمَا فِي الْخُصُومَةِ مَعَ غَيْرِهِ قَالَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَوَكَّلَ الْمُكَاتَبَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ خُصُومَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي نَصِيبِ الَّذِي كَاتَبَهُ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَفْسَخْ شَرِيكُهُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْكِتَابَةِ إذْنًا مِنْهُ لِلْعَبْدِ فِي نَصِيبِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنْ كَاتَبَهُ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ فِعْلُ الْوَكِيلِ فِي نَصِيبِهِمَا اسْتِحْسَانًا أَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ الْأَوَّلِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حِينَ وُكِّلَ ثُمَّ كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ جَازَ تَصَرُّفُ الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ كَعَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَهُمَا فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ فِعْلًا جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي نَصِيبِ الَّذِي عَجَزَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَجَزَ فِي نَصِيبِهِمَا وَلَكِنَّهُ قَالَ مُسَاعَدَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى الْكِتَابَةِ تَكُونُ إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي كِتَابَةِ نَصِيبِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ثُمَّ وَكَّلَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْ الْوَكِيلِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا يَصِحُّ فِي الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يُشْبِهُ ذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ إذْنُهُ لِشَرِيكِهِ مِنْ الْوَكِيلِ فِي أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَهُنَا بَعْدَ الْعَجْزِ لَا يَبْقَى نَصِيبُهُ مَأْذُونًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ فِي نَصِيبِهِ قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ لَازِمَةً فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ كَوْنُ نَصِيبِهِ مَأْذُونًا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ فَسْخِ الْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِهِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ لَا مَحَالَةَ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ مَأْذُونًا كَمَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِقَبْضِ هِبَةٍ لَهُ فَقَبَضَهَا الْوَكِيلُ بَعْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ جَازَ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُوَكِّلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ كَمَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ فَإِنْ قَبَضَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَوْتَهُ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 115 لِلْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَيَكُونُ مُبْطِلًا لِعَقْدِ الْهِبَةِ فَيُوجِبُ إخْرَاجَ الْوَكِيلِ مِنْ الْوَكَالَةِ أَيْضًا قَالَ وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَا بَقِيَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَكَذَلِكَ إنْ وَكَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْآخَرِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَيَيْهِ جَمِيعًا فَوَكَّلَ ابْنَ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ أَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ مَعَ سَائِرِ الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْخُصُومَةَ مَعَهُ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي ذَلِكَ بِابْنِ الْخَصْمِ أَوْ بِعَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ؛ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ هَذَا الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِدَفْعِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ وَغَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْوَكِيلِ شَيْئًا لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِهِ لَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَتِهِ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يُطَالِبُهُ بِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَدَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ فَأَرَادَ مَوْلَيَاهُ أَوْ غَيْرُهُمَا أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ مِنْ الْوَكِيلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَفِي الْمَوْلَيَيْنِ أَوْ غَرِيمٍ آخَرَ يَكُونُ الْحَالُ بَعْدَ التَّوْكِيلِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُطَالِبَ الْمُكَاتَبِ بِنَفْسِهِ لَوْ قَضَى دَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَيَيْنِ عَلَى مَا قَبَضَهُ سَبِيلٌ فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ قَالَ وَإِذَا أَمَرَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَ فُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ سَلَامَةُ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِذَلِكَ الْعَبْدِ وَهُوَ مُشْتَرٍ لِذَلِكَ الْعَبْدِ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ فَحَصَلَ مَقْصُودُهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا لَهُ مِنْ فُلَانٍ فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِوَكِيلِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ مِنْ فُلَانٍ وَلَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْغَرَضُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ إمَّا لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمَلَاءَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ الْعَبْدِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بِالْإِقَالَةِ أَوْ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي أَرَادَ ذَلِكَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْ وَكِيلِ فُلَانٍ يَجُوزُ أَمْ لَا وَعَلَى قَضِيَّةِ الطَّرِيقَةِ الْأَوْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ تَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَبْدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَقَالَ قَدْ قَبَضْت مَا عَلَيْك غَيْرَهَا فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ أَيْضًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 116 لِأَنَّهُ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِعَقْدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فَكَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْحُرِّ بِبَيَانِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ أَوْ قَبْلَهُ وَإِقْرَارُ وَكِيلِهِ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا فَوَّضَهُ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَبْضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ، وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ إذَا زَادَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ عِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا زَادَ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ أَصْلَ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي تَصَرُّفِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ بِغَلَاءِ الثَّمَنِ حَوَّلَهُ إلَى الْآمِرِ، وَفِي النِّكَاحِ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ، وَلَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ دُونَ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الْعَقْدِ لِغَيْرِ مَنْ يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ بَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِمَنْ يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى عَبْدِهِ، وَلَا يَثْبُتُ مِلْكُ النِّكَاحِ بِمِثْلِهِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّيهَا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَلَيْسَتْ بِكُفْءٍ لَهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ جَائِزٌ لِإِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ وَعِنْدَهُمَا فِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ هُنَا فَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ مَنْ لَيْسَتْ بِكُفُؤٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ فَإِنَّ نَسَبَ الْأَوْلَادِ إلَى الْآبَاءِ فَيَبْقَى مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلِ الْعُرْفِ وَلَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فَقَالَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَنْدُوبٌ شَرْعًا أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ يُكَافِئُهُ دُونَ مِنْ لَا يُكَافِئُهُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ الْأَكْفَاءَ. وَالْغَالِبُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ نِكَاحُ مَنْ يُكَافِئُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ بِنَفْسِهِ عَنْ التَّزَوُّجِ إذَا كَانَ يَرْضَى بِمَنْ لَا يُكَافِئُهُ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مِنْ قُرَيْشٍ فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ أَمَةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً أَوْ كِتَابِيَّةً أَنُجِيزُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَبِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَشَارَ إلَى الْخَلِيفَةِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا عَلَى عَبْدٍ لِلزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْهِرَهَا الْعَبْدَ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الزَّوْجَ؛ لِأَنَّهُ مَا سَلَّطَهُ عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ عَيْنِ الْعَبْدِ؛ إذْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 117 لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا أَمَرَهُ بِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ حِينَ سَمَّى مَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَسْمِيَةٍ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّزْوِيجِ فَعَقَدَ بِأَلْفَيْنِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ صَدَاقًا لَمْ يُنْهَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ امْتَنَعَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ أَصْلِ النِّكَاحِ كَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ لِلْغَيْرِ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلَهَا قِيمَةُ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الْعَبْدِ، وَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَلْفَيْنِ حَيْثُ خَالَفَ هُنَاكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا قَالَ: وَإِنْ زَوَّجَهُ عَلَى وَصْفٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْوَصْفِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ضَرُورَةِ مَا أَمَرَ بِهِ الْوَكِيلَ وَهُوَ النِّكَاحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ مِلْكِ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ مِنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُشْكِلُ وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَهُمَا يَتَقَيَّدُ بِالنَّقْدِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ فِي الصَّدَاقِ مُشْتَرَكٌ فَيَصِحُّ تَسْمِيَةُ النَّقْدِ وَغَيْرُ النَّقْدِ حَتَّى إذَا زَوَّجَهُ عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ أَوْ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهُ عَلَى جِرَاحَةٍ جَرَحَهَا الزَّوْجُ وَلَهَا أَرْشٌ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأَرْشِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ كَتَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِأَرْشِ الْجِرَاحَةِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً عَلَى رَقَبَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ عَقْدًا غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ بِعَقْدٍ يَكُونُ الْعَبْدُ مَعْتُوقًا عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى لَا يَنْقَضِيَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ، وَقَدْ أَتَى بِعَقْدٍ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِيهِ مِلْكَ الْبُضْعِ دُونَ الْعَبْدِ حَتَّى لَا يَنْقَضِيَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ؛ وَلِأَنَّ تَقَابُلَ الْعَبْدِ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَ بِهِ عَنْ جِرَاحَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ أَوْ اسْتَأْجَرَ بِهِ لَهُ دَارًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً لَمْ يُسَمِّيهَا فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ وَلَدِهِ لِلتُّهْمَةِ فَالتُّهْمَةُ دَلِيلُ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْقَابِلُ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِهِ مَعَ نَفْسِهِ، وَبِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ مَعَ نَفْسِهِ وَإِنْ زَوَّجَهُ أُخْتَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّهَا قَالَ: وَلَوْ زَوَّجَهُ امْرَأَةً عَمْيَاءَ أَوْ مَعْتُوهَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ مَفْلُوجَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 19 ¦ الصفحة: 118 غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّوْكِيلِ سَمَّى الْمَرْأَةَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُمَا قَالَا النِّكَاحُ لَا يَخْتَلُّ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ وَإِنَّمَا تَخْتَلُّ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ بِالشِّرَاءِ حَقُّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ وَلَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْعَقْدَ عَلَى الْآمِرِ جَعَلْنَا الْوَكِيلَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ شِرَاءً صَحِيحًا وَهُنَا لَوْ لَمْ نُجِزْ عَلَى الْآمِرِ بَطَلَ أَصْلُ الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ مِنْ بَلْدَةٍ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى أَوْ مِنْ بَلْدَةٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ لِتَقْيِيدِ الْوَكَالَةِ بِمَا سَمَّى وَمُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ بِخِلَافِ مَا سَمَّى قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَجَعَلَهَا الْوَكِيلُ طَالِقًا إنْ أَخْرَجَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْكُوفَةِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، ثُمَّ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ وَهُوَ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا بِالْإِخْرَاجِ وَلَئِنْ جُعِلَ هَذَا شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ مِنْ الْوَكِيلِ وَالشَّرْطُ لَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ وَشَرَطَ شَرْطًا بَاطِلًا وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لَهَا الْوَكِيلُ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْكُوفَةِ جَازَ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ إلَّا إنْ حَطَّتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِالنُّقْصَانِ لِمَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَبَتْ فَأَعْطِهَا مَا بَيْنَ مِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ فَأَبَتْ الْمِائَةَ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ عَلَى مِائَتَيْنِ فَذَلِكَ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْغَايَةُ تَدْخُلُ فِي مِثْلِهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي الْإِبَاحَاتِ إذَا قَالَ: خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِائَةَ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَفَعَلَ وَقَالَ الزَّوْجُ عَنَيْتُ أَرْضًا مَيِّتَةً لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَيْتِ فِي الصَّدَاقِ مَتَاعُ الْبَيْتِ وَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ عَلَى بَيْتٍ مِنْ دَارِهِ فَقَالَ الزَّوْجُ: عَنَيْتُ أَثَاثَ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَقَدْ سَمَّى الْوَكِيلُ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا أَصْلًا؛ قَالَ: وَإِنْ أَرْسَلَ رَجُلًا يَخْطُبُ عَلَيْهِ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ الرَّسُولَ بِالْخِطْبَةِ وَتَمَامُ الْخِطْبَةِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْعَاقِدُ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ كَالرَّسُولِ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ أَوْ عَلَى حُكْمِهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَإِنَّمَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ شَرْعًا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ عَلَى دَارِ رَجُلٍ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ جَازَ النِّكَاحُ وَلَهَا قِيمَةُ ذَلِكَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 119 لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ؛ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ عَيْنَ مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهَا قِيمَتُهُ صَدَاقًا عَلَى الزَّوْجِ كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ قَالَ: وَإِنْ زَوَّجَهُ امْرَأَةً مُعْتَدَّةً أَوْ لَهَا زَوْجٌ قَدْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمِمَّا سَمَّى لَهَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ فَسَقَطَ بِهِ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَ الزَّوْجَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الدُّخُولُ لَا بِعَقْدِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا كَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ أُمَّ امْرَأَةِ الزَّوْجِ وَالْوَكِيلُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَلْحَقُ الزَّوْجَ مِنْ الْأَقَلِّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمِمَّا سَمَّى لِلْمَوْطُوءَةِ مِنْ فَسَادِ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الزَّوْجِ لَا بِعَقْدِ الْوَكِيلِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَرَامَتِهَا فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ لَمْ نَرَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ النِّكَاحُ كَانَ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فَهَذَا فِي مَعْنَى تَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ لَهَا فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا سُمِّيَ لَهُ نَصًّا وَيَسْتَوِي إنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ الْكَرَامَةَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى لَهَا الزِّيَادَةَ قَدْرًا مَعْلُومًا ضَمِنَهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ فَهُنَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ مَعَ ذَلِكَ طَلَاقَ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ لَهَا فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ شَرَطَ كَرَامَتَهَا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَةً فَزَوَّجَهُ حُرَّةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَأْمُورَ نَصًّا وَفِي هَذَا التَّقْيِيدِ مَنْفَعَةٌ لِلزَّوْجِ وَهُوَ أَنْ لَا يُؤْوِيَ الْحُرَّةَ الَّتِي تَحْتَهُ فِي الْقِسْمِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الْأَمَةِ دُونَ مُؤْنَةِ الْحُرَّةِ وَإِنْ زَوَّجَهُ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ كَالْأَمَةِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْصَنًا بِالدُّخُولِ بِهِنَّ بِالنِّكَاحِ كَمَا فِي الْأَمَةِ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَرْأَةِ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَمِلْكُ النِّكَاحِ يَثْبُتُ عَلَى الصَّغِيرَةِ حَسْبَمَا يَثْبُتُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُ الْمُجَامَعَةِ مُتَأَخِّرًا لِصِغَرِهَا وَلَوْ كَانَ فَائِتًا بِأَنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ بِهِ مُخَالِفًا فَهُنَا أَوْلَى قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِأَلْفٍ وَشَرَطَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْكُوفَةِ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِاعْتِبَارِ مَا سَمَّى لَهَا إذَا لَمْ يَفِ الزَّوْجُ بِالشَّرْطِ، وَالْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ بِنَفْسِهِ وَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى تَزْوِيجِهِ إيَّاهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً قَدْ حَلَفَ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا أَوْ كَانَ آلَى مِنْهَا أَوْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 120 ظَاهَرَهَا أَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْمَرْأَةِ فِي التَّوْكِيلِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَوَّلًا يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا يَخْتَارُ أَيَّتَهمَا شَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى إحْدَاهُمَا مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الزَّوْجِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ النِّكَاحِ لَهُ فِي امْرَأَةٍ يُعَبِّرُ عَنْهَا وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ثَلَاثًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَلَا يَمْلِكُ إثْبَاتَهُ فِي الْمَجْهُولِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى فِي الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ لِخَطَرِ الْبَيَانِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَا فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِنِكَاحِ امْرَأَتَيْنِ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهُ تِلْكَ وَأُخْرَى مَعَهَا لَزِمَتْهُ تِلْكَ دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فَحَصَلَ مَقْصُودُهُ فَإِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَلِفُ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْوَكِيلُ فَقَالَ الزَّوْجُ زَوَّجَتْنِي هَذِهِ وَقَالَ الْوَكِيلُ لَا بَلْ زَوَّجْتُك هَذِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ مُعَبِّرٌ وَالزَّوْجُ إنَّمَا يَمْتَلِكُ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْوَكِيلِ وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى النِّكَاحِ فَيَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا وَلَا قَوْلَ لِلْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ فَأَيَّتُهُمَا زَوَّجَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَإِنْ زَوَّجَهُمَا جَمِيعًا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِنِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِمَا لِلزَّوْجِ وَلَا نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَا إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً، وَوَكَّلَ آخَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَزَوَّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَةً وَإِذَا هُمَا أُخْتَانِ جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ لَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حَرَامٌ وَقَدْ حَصَلَ بِهِمَا مَعًا وَلَيْسَ تَصْحِيحُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ خَمْسَةَ رَهْطٍ أَنْ يُزَوِّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ امْرَأَةً فَالْجَمْعُ بَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ بِالنِّكَاحِ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَكَانَ هَذَا مِثْلَ الْأَوَّلِ قَالَ: وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ وَكَالَةٍ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ أَوْ خَمْسَ نِسْوَةٍ فِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 121 عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ أَوْ أَيَّ أَرْبَعٍ شَاءَ مِنْ الْخَمْسِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ لَا يَكُونُ نَافِذًا بَلْ مَوْقُوفًا وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ وَلَا يُثْبِتُ الْفِرَاشَ فَلَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ تَوَقُّفِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ امْتِنَاعُ تَوَقُّفِ الثَّانِي وَلَا مِنْ ضَرُورَةِ تَوَقُّفِ الْعَقْدِ الثَّانِي بُطْلَانُ الْأَوَّلِ فَإِذَا تَوَقَّفَ الْكُلُّ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَا بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ شَيْءٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ مَا يَتَصَوَّرُ نُفُوذُ بِالْإِذْنِ السَّابِقِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَنْفُذُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَلَا بِإِذْنِهِ سَابِقًا فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الْمُتَفَرِّقَةِ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ مِنْ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ عَلَى حِدَتِهِ وَهُوَ مِمَّا يَنْفُذُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَبِإِذْنِهِ السَّابِقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ أَيْضًا قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ فَزَوَّجَهُ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً أَوْ أَرْبَعَ إمَاءٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَمُبَاشَرَتُهُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ التَّزْوِيجِ كَمُبَاشَرَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَزَوَّجَهُ وَاحِدَةً جَازَ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ وَحُكْمُ نِكَاحِ هَذِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِضَمِّ نِكَاحِ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ الْوَكِيلِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَهَذَا التَّقْيِيدُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: لَا يُزَوِّجُنِي إلَّا اثْنَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ نِكَاحُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الْعَقْدِ هُنَا وَاسْتَثْنَى عَقْدًا وَاحِدًا فَمَا لَا يَكُونُ بِصِفَةِ الْمُسْتَثْنَى فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّهُ مَا نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ نَصًّا بَلْ أَمَرَهُ وَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِمَا لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا قَالَ: لَا تَبِعْ إلَّا بِشُهُودٍ فَبَاعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ وَقَدْ قَالَ: لَهُ بِعْ بِشُهُودٍ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَإِذَا لَهَا زَوْجٌ فَمَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ زَوَّجَهَا إيَّاهُ الْوَكِيلُ جَازَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَحَلَّا عِنْدَ التَّوْكِيلِ؛ لِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ صَارَ التَّوْكِيلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا مَحَلَّا فَإِنَّ التَّوْكِيلَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ وَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ ثُمَّ أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدَ تَحْصِيلُهُ بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ قَدْ حَصَلَ لَهُ بِمُبَاشَرَتِهِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَزْلَ الْوَكِيلِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ التَّوْكِيلُ بِالْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ لِذَلِكَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ زَوَّجَهَا إيَّاهُ جَازَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَحْصُلْ بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ مَعَ نَفْسِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ الْوَكَالَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 122 بَعْدَهُ صَحِيحٌ حَتَّى إذَا فَارَقَهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ فَبَقَاؤُهَا أَوْلَى وَلَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ وَأَسْلَمَتْ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ الْوَكِيلُ جَازَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا فِي التَّوْكِيلِ يَنْصَرِفُ إلَى الْحُرَّةِ دُونَ الْأَمَةِ وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْحُرَّةِ، فَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ فِي الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَعِنْدَهُمَا يَتَقَيَّدُ بِحَالِ حُرِّيَّتِهَا فَبَعْدَ مَا صَارَتْ أَمَةً لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَقَيَّدُ فَمَتَى زَوَّجَهَا مِنْهُ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ تَزَوَّجْ أُمَّهَا أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ عَزْلٌ مِنْهُ لِلْوَكِيلِ وَقَدْ سَبَقَ نَظَائِرُهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ هَذَا بِإِخْرَاجٍ لَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِمَا أَحْدَثَ فَإِنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ صَحَّ النِّكَاحُ فَيَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ أَيْضًا قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهَا فَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ لَهَا لَمْ يَجُزْ قِيلَ: هَذَا قَوْلُهُمَا وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ نِكَاحُ الْوَكِيلِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ كَانَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا وَالْأَصَحُّ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ، وَمُطْلَقُ التَّوْكِيلِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ شَرْعًا دُونَ مَا يَكُونُ مَمْنُوعًا عِنْدَهُ فَيُقَيَّدُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ بِهَذَا الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهَا لَمْ يَتِمَّ بِالتَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ؛ لِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقَّ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ إلَى عَقْدٍ يَتِمُّ لَهَا بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ كُفْئًا لَهَا غَيْرَ أَنَّهُ أَعْمَى أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ صَبِيٌّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ يَتِمُّ لَهَا بِمَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ خَصِيًّا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَيُؤَجَّلُ. كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا، ثُمَّ عَلِمَتْ بِهَذَا الْعَيْبِ مِنْ الزَّوْجِ قَالَ: وَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَكُونَ مُزَوِّجًا لَا مُتَزَوِّجًا وَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُتَّهَمٌ وَالتُّهْمَةُ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَلَوْ زَوَّجَهَا ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ صَغِيرًا فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ مَعَ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي جَانِبِهِ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ بِشُهُودٍ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى رَجُلٍ وَقَبِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّزْوِيجِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَإِنَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 123 لَفْظَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّزْوِيجِ مَجَازًا وَتَرْكُ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بِالنِّكَاحِ وَلَا وُجُوبَ الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ فَسَادُ التَّسْمِيَةِ كَمَا لَوْ بَاشَرَتْهُ هِيَ بِنَفْسِهَا قَالَ: وَإِنْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ زَادَ عَبْدًا لَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِزَوَالِ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهَا وَلَكِنَّ الزَّوْجَ سَمَّى الْأَلْفَ بِمُقَابَلَةِ نِكَاحِهَا وَالْعَبْدِ فَإِذَا لَمْ تُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ فَبِمَنْعِهَا بَطَلَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَلْفِ وَجَازَ النِّكَاحُ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ. قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَتْ هِيَ قَبْلَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْوَكِيلُ فَقَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهَا حَصَّلَتْ مَا هُوَ مَقْصُودُهَا بِالتَّوْكِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا بِمَا أَحْدَثَتْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا عَزْلًا لِوَكِيلِهَا سَوَاءٌ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ تَلْحَقْ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجٌ فَقَالَتْ لِرَجُلٍ إنِّي أَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِي فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَزَوِّجْنِي فُلَانًا جَازَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَتْ؛ لِأَنَّهَا أَضَافَتْ الْوَكَالَةَ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُجْعَلُ كَمُبَاشَرَتِهَا التَّوْكِيلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْهُ بِأَنْ يُزَوِّجَهَا وَقَالَتْ مَا صَنَعْتَ مِنْ أَمْرِي فِي شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَحَضَرَ الْوَكِيلَ الْمَوْتُ فَأَوْصَى بِوَكَالَتِهَا إلَى رَجُلٍ فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ الثَّانِي بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهَا فَوَّضَتْ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ رَأْيِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي هَذَا قِيَاسُ النِّكَاحِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْهُ بِأَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا مِنْهُ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَأَمْرُهَا بِيَدِهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَسْتَبِدُّ بِهِ الزَّوْجُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِيهِ وَلَا هُوَ حَاصِلٌ بِقَبُولِ الْوَكِيلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا وَكِيلَ الرَّجُلِ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَوْ قَالَ: الزَّوْجُ زَوِّجْنِي امْرَأَةً وَأَمْرُهَا بِيَدِهَا فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا حِينَ يَقَعُ النِّكَاحُ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِذَلِكَ مُضَافًا إلَى النِّكَاحِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِهِ مُنَجَّزًا بَعْدَ النِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي امْرَأَةً وَاشْتَرَطَ لَهَا عَلَى أَنِّي إذَا تَزَوَّجْتهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بَلْ فَوَّضَهُ إلَى الْوَكِيلِ فَمَا لَمْ يُبَاشِرْهُ الْوَكِيلُ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْوَكِيلِ هَذَا الشَّرْطَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَتْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ فَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُعْطِيَ الدَّرَاهِمَ بَطَلَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهَا فِي النِّكَاحِ وَزَادَ تَصَرُّفًا آخَرَ وَهُوَ الشِّرَاءُ، فَإِنَّ مَا يَخُصُّ الْمِائَةَ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ مَبِيعًا وَمَا يَخُصُّ الْبُضْعَ يَكُونُ صَدَاقًا فَلَا تَنْفُذُ حِصَّةُ الشِّرَاءِ إلَّا بِرِضَاهَا إذْ الْوَكِيلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُلْزِمَهَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 124 الْمِائَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ مَا يَخُصُّ الْمِائَةَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ إذَا تَعَذَّرَ بِتَقْيِيدِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ الْمُبَاشِرُ مُعَبِّرًا لَا يَلْزَمُ شَيْئًا بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ تَبَعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْقَبُولِ إذَا قَالَتْ تَزَوَّجْنِي عَلَى هَذَا الْعَبْدِ عَلَى أَنْ أَزِيدَك مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَالَ: فَعَلْتُ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهَا. وَالشِّرَاءُ مَقْصُورًا لَا يَتِمُّ بِهَذَا اللَّفْظِ بِدُونِ الْقَبُولِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا هُوَ بَيْعٌ لَيْسَ نَظِيرَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى دَمٍ عَمْدٍ فِي عِتْقِهَا فَزَوَّجَهَا بَعْضُ أَوْلِيَاءِ ذَلِكَ الدَّمِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الزَّوْجِ مِنْ الدَّمِ كَمَا لَوْ بَاشَرَتْ هِيَ الْعَقْدَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَزَوُّجَ الزَّوْجِ إيَّاهَا عَلَى الْقِصَاصِ يَكُونُ عَفْوًا مِنْهُ عَنْهَا وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِهِ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِينَ مَالًا فَعَلَيْهَا حِصَّةُ الْوَرَثَةِ مِنْ الدِّيَةِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَهَذَا وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ سَوَاءٌ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ بِالتَّزْوِيجِ أَوْ الْخُلْعِ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا عَقْدًا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ بِغَيْرِ مَالٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا جَازَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ بَلْ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى الْعِبَارَةِ وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ تَوْكِيلِ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا التَّبْعِيضِ بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ مَكَّنَهُ مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَكَّنَ الزَّوْجَ مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ فَلَأَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ اثْنَيْنِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَصِرْ مُتَمَكِّنًا مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ بِتَفْوِيضِ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ إيقَاعِهَا وَلَا الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ مَا أَوْقَعَهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ وَزِيَادَةً فَيَعْمَلُ إيقَاعُهُ بِقَدْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً لِأَنَّهُ لَاغٍ فِي قَوْلِهِ: رَجْعِيَّةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفَوَّضٍ إلَيْهِ، يَبْقَى قَوْلُهُ طَلَّقْتُك فَيَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الصِّفَةِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ وَهُوَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 125 نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً لِانْعِدَامِ مَحَلِّهَا يَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ بَائِنًا كَمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ شَرْعًا قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَاغٍ فِي قَوْلِهِ: بَائِنَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ تِلْكَ الصِّفَةَ يَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَا أَلْحَقَ كَلَامَهُ مِنْ الصِّفَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا فِي إيقَاعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْأَصْلَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالصِّفَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخَالِفًا فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ مُؤَلَّفٍ، وَالْوَاحِدَةُ فِي ذَوِي الْأَعْدَادِ أَصْلُ الْعَدَدِ وَلَيْسَ فِيهِ تَأْلِيفٌ وَتَرْكِيبٌ، وَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ بِضَمِّ الثَّانِيَةِ إلَى الْأُولَى لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّ الْأُولَى فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا فِي حَقِّهَا بِخِلَافِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ. وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ لِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَكَالَةَ إلَى وَقْتِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّامَ لِلْوَقْتِ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى {: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْ لِوَقْتِ دُلُوكِ الشَّمْسِ فَلَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ، وَمُبَاشَرَتُهُ مَا لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ لَا يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا فِي وَقْتِ السُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ خَالَعَهَا فَإِنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لِلزَّوْجِ مِنْ الطَّلَاقِ مَحْصُورٌ بِالْعَدَدِ فَلَا يَتَغَيَّرُ مَا أَوْقَعُهُ الزَّوْجُ بِمَا فَوَّضَهُ إلَى الْوَكِيلِ وَلَكِنْ مَا بَقِيَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا يَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ أَيْضًا، وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْوَكِيلِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الزَّوْجِ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالسَّبَبِ الْمُتَجَدِّدِ وَالْوَكَالَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ فَلَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ بِاعْتِبَارِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ أَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَإِنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ يَقَعُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ لِبَقَاءِ تَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالسَّبَبِ الْمُتَجَدِّدِ وَلَوْ قَالَ: لِرَجُلٍ إذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَطَلِّقْهَا فَتَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالطَّلَاقِ وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَاجِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ كَالْمُسْتَثْنَى لِلتَّوْكِيلِ وَلَوْ وَكَّلَ عَبْدًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْإِيقَاعِ لَا يَزُولُ بِبَيْعِهِ وَابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ يَصِحُّ بَعْدَ بَيْعِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ مَجْنُونًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 126 فَقَبِلَ الْوَكَالَةَ فِي حَالِ جُنُونِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالْإِفَاقَةِ يَزْدَادُ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا يَزُولُ مَا كَانَ ثَابِتًا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا بِالطَّلَاقِ فَارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا كَانَ عَلَى وَكَالَتِهِ إذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ فَأَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيهِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ لَا يَعْلَمُ فَطَلَّقَهَا فَالطَّلَاقُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَثْبُتُ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهَا كَمَا فِي الْعَزْلِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ عِلْمِهِ وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا: إنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ مُعَبِّرٌ عَنْ مَنَافِعِهِ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِعِلْمِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا تَصَرَّفَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوَصِيَّةِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ وَهُوَ النَّائِبُ فِيهَا وَلِأَنَّ أَوَانَهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمُوصِي وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَإِنَّمَا جُوِّزَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي تُصْرَفُ إلَى مَنْ يَتَصَرَّفُ قِيَاسِيَّةً، فَأَمَّا هُنَا فَالْوَكَالَةُ إنَابَةٌ وَالْمُوَكِّلُ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ حُكْمِ الْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهَا قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِطَلَاقِهَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ ارْتَدَّتْ بِرَدِّهِ فَكَأَنَّهَا ارْتَدَّتْ بِرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْوَكِيلُ قَبِلْت وَإِنْ قَالَ: رَدَدْت حِينَ طَلَّقَهَا وَقَعَ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعِيرٌ لِمَنَافِعِهِ وَالْإِعَارَةُ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ وَكِيلًا لَا يَعْمَلُ إيقَاعُهُ. ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ دَلِيلَ الْقَبُولِ وَإِقْدَامَهُ عَلَى مَا فُوِّضَ إلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى قَبُولِهِ الْوَكَالَةَ فَقَدْ يُبَاشِرُ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَدْ لَا يُبَاشِرُ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ الصَّحِيحُ وَكِيلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي مَرَضِ الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْ لِأَنَّ إيقَاعَ الْوَكِيلِ كَإِيقَاعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بَقَاءُ مِيرَاثِهَا بِاعْتِبَارِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّوْجِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ التَّوْكِيلَ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي مَالِهِ حَقٌّ يَوْمئِذٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ بَعْدَهُ قُلْنَا: لَا مُعْتَبَرَ لِقَصْدِ الْفِرَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ مَتَى كَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا فِي مَرَضِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى مُضَافٍ إلَيْهِ يُجْعَلُ فَارًّا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنَا مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ بَعْدَ مَرَضِهِ فَاسْتِدَامَةُ الْوَكَالَةِ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَزْلِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ فِي أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَبْدًا فَأُعْتِقَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ، ثُمَّ مَرِضَ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ أَوْ وَكَّلَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ إسْلَامِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَمَرِضَ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْوَكَالَةَ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 127 تَعْلِيقُ الْمُسْلِمِ الْوَكَالَةَ بِمَرَضِهِ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّوْكِيلَ بَعْدَ مَرَضِهِ قَالَ: وَإِذَا شَهِدَ الْمَوْلَيَانِ عَلَى وَكَالَةِ زَوْجِ أَمَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ وَأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ طَلَّقَ أَوْ شَهِدَا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ تَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ تَجْحَدُ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارَ فِي شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ لِأَبِيهِمَا، فَكَذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْمَوْلَيَيْنِ لِأَمَتِهِمَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ الْمَنْفَعَةَ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُمَا فِي مَعْنَى الشَّاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَعُودُ إلَيْهِمَا بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ وَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَقُومُ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ خَصْمًا فِي مُنَافَاةِ الشَّهَادَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ أَحَدٍ خَصْمٌ فِيمَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةً كَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الطَّلَاقِ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا أَوْ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ عَلَيْهِ لَا انْتِقَالُ ذَلِكَ الْمِلْكِ إلَى الْمَوْلَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ مِلْكُ الزَّوْجِ ظَهَرَ مِلْكُ الْمَوْلَيَيْنِ لِفَرَاغِ الْمَحَلِّ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَبِهَذَا لَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ كَصَاحِبَيْ الدَّيْنِ إذَا شَهِدَا لِلْمَدْيُونِ بِمَالِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمَا عَلَى إنْسَانٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَإِنْ كَانَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمَا إذَا قَبَضَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْمَالَ وَإِذَا قَالَ: الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْت أَوْ إنْ هَوَيْت أَوْ أَرَدْت فَقَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْمَشِيئَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَتَمْلِيكِ الْمَشِيئَةِ فِي الْقَبُولِ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ لَهُ وَالْوَكِيلُ هُنَا فِي مَعْنَى الْمُخَيَّرِ وَقَدْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِلرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ، مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَقِيَامُهَا مِنْ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ، فَكَذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَصِيرُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ طَلِّقْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ إنَابَةٌ وَاسْتِعَارَةٌ لِمَنَافِعِهِ فَيَقُومُ هُوَ فِي الْإِيقَاعِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَهَذَا تَفْوِيضٌ لِلْمَشِيئَةِ إلَيْهِ لَا اسْتِعَارَةُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي طَلَاقِهَا إنْ شَاءَتْ أَوْ هَوَيْت أَوْ أَرَادَتْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا حَتَّى تَشَاءَ هِيَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّوْكِيلَ بِمَشِيئَتِهَا، وَلَوْ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِمَشِيئَتِهَا اقْتَصَرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَتَأَخَّرَ الْوُقُوعُ إلَى حِينِ وُجُودِ مَشِيئَتِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ التَّوْكِيلَ وَإِذَا صَارَ وَكِيلًا فَإِنْ قَامَ الْوَكِيلُ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ قَالَ: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 128 عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مَشِيئَتِهَا إنَّمَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي طَلَاقِهَا، وَذَلِكَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ. كَمَا لَوْ نُجِزْ هَذَا اللَّفْظَ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إنْ شَاءَتْ الطَّلَاقَ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ إنْ شَاءَتْ هَذِهِ الْوَكَالَةَ فَثُبُوتُ الْوَكَالَةِ بِالْإِيقَاعِ بِنَاءً عَلَى مَا فُوِّضَ إلَيْهَا مِنْ الْمَشِيئَةِ وَمَشِيئَتُهَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَهُوَ لَا يَتَأَبَّدُ، فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْوَكِيلِ مِنْ الْإِيقَاعِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ بِالْمَشِيئَةِ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ فَسْخَهَا، وَلَوْ جَعَلَ قَوْلَهُ أَنْتَ وَكِيلٌ فِي طَلَاقِهَا مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَشِيئَةِ يَمْلِكُ الزَّوْجُ فَسْخَهَا وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي طَلَاقِهَا إنْ شِئْت فَإِنْ شَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَشَاءَ فَلَا وَكَالَةَ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِمَشِيئَتِهِ يَكُونُ مِلْكًا لِلرَّأْيِ، وَالْمَشِيئَةُ مِنْهُ كَتَعْلِيقِ الْإِيقَاعِ بِمَشِيئَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي طَلَاقِهَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ فُلَانَةَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ بَاشَرَهُ فِي مَنْعِ صِفَةِ اللُّزُومِ وَالْوَكَالَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ بِحَالٍ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيمَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا يَكُونُ بَاطِلًا، وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ التَّفَرُّدِ بِالْفَسْخِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ وَهَذَا فِي الْوَكَالَةِ ثَابِتٌ بِدُونِ اشْتِرَاطِ صَاحِبِ الْخِيَارِ وَكَمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ فِي الْوَكَالَةِ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا لَمْ يَقَعْ وَإِنْ جَاءَ الْغَدُ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ التَّخْيِيرُ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ غَيْرُ التَّخْيِيرِ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَقَعَتْ وَقَعَتْ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ وَالزَّوْجُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْأَلْفِ فَكَانَ بِمَا صَنَعَ مُخَالِفًا وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْإِيقَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَا هُوَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ مِنْ الْمَالِ وَنَفْعُهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ حِينَ اقْتَصَرَ عَلَى إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُلْعِ قَبْضُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فِي بَابِ الْخُلْعِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ، وَالْوَكِيلُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ إمَّا حَقِيقَةً بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ أَوْ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْإِيقَاعِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ نَظِيرُ وَكِيلِ الْمَوْلَى فِي الْعِتْقِ بِجُعْلٍ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَبْضُ الْبَدَلِ قَالَ: وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَإِنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى نِسَائِهِ جَازَ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 129 امْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَقَدْ فَعَلَ، فَإِنْ طَلَّقَهُنَّ جَمِيعًا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ مُبْتَدِئٌ فَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ بِنَفْسِهِ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَلَيْسَ إلَى الْوَكِيلِ مِنْ الْبَيَانِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَنْ الزَّوْجِ وَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ وَكَالَتِهِ بِإِيقَاعِهِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقْهَا تَفْوِيضٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى الْعُمُومَ فِي التَّفْوِيضِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ ثُمَّ الْوَكِيلُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا وَاحِدَةً وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اخْلَعْهَا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَقَعُ فِي الْخُلْعِ وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْ إحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا أَوْ اخْلَعْهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْ أَيَّتَهنَّ شِئْت وَهُنَاكَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي فَبَاعَ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ جَازَ، وَلَوْ قَالَ: الْمُوَكِّلُ لَمْ أَعْنِ هَذَا لَمْ يُصَدَّقْ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ: التَّعْيِينُ مِنْ ضَرُورَةِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَإِنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَهُنَا التَّعْيِينُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَإِنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُنَّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ الْإِيقَاعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ خِيَارِ الزَّوْجِ، قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ خِيَارًا وَهُنَا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُ عِنْدَ انْعِدَامِ تَعَيُّنِ مَحَلِّ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا وَقَعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّوْكِيلِ وَهُوَ إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْإِيقَاعِ عَلَى وَاحِدَةٍ وَهَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا فَكَانَ مُمْتَثِلًا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ بِالْإِيقَاعِ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ لِانْعِدَامِ تَعَيُّنِ مَحَلِّ الطَّلَاقِ وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ قَدْ انْتَهَتْ بِالْإِيقَاعِ فَأَمَّا قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَوَكَالَتُهُ قَائِمَةٌ فَلِهَذَا مَلَكَ الْإِيقَاعَ عَلَى وَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَالٍ أَوْ عَلَى مَا بَدَا لَهُ فَخَلَعَهَا عَلَى الْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهَا وَهُوَ دَيْنٌ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا فَيَقُولُ: اخْلَعْ امْرَأَتَك وَلَا يَقُولُ اخْلَعْنِي، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ أَيْضًا، قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَتْهُ بِالْخُلْعِ فَلَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ مَا لَمْ تَعْزِلْهُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ أَوْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 130 التَّوْكِيلِ بِالْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ، وَوَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَخَلَعَهَا الْوَكِيلُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَلْقَ الزَّوْجَ وَلَا الْمَرْأَةَ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَهُوَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا الْتِزَامٌ لِلْمَالِ بِعِوَضٍ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْخُلْعِ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَالْوَاحِدُ إذَا تَوَلَّاهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَكُونُ مُسْتَزِيدًا أَوْ مُسْتَنْقِصًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَدَلُ مُسَمًّى لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمْنَعُ الْوَكِيلَ مِنْ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ يَمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ. قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِمَا شَاءَ فَخَلَعَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِخَادِمِهَا فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ الزَّوْجُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَخْلَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَخَلَعَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ أَوْ عَرْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِهِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ رَضِيَتْ بِالْخُلْعِ لَا بِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ الْخَادِمِ، وَالزَّوْجُ رَضِيَ بِالْخُلْعِ لَا بِدُخُولِ ذَلِكَ الْعَرْضِ بِعَيْنِهِ فِي مِلْكِهَا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ اشْتَرِي طَلَاقَك مِنِّي بِمَا شِئْت فَقَدْ وَكَّلْتُك بِذَلِكَ فَقَالَتْ قَدْ اشْتَرَيْته بِكَذَا، وَكَذَا كَانَ بَاطِلًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْ الزَّوْجِ فِي تَعْيِينِ جِنْسِ الْبَدَلِ وَتَسْمِيَةِ مِقْدَارِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بِحُكْمِ النِّيَابَةِ تَكُونُ مُسْتَزِيدَةً فِي ذَلِكَ وَبِاعْتِبَارِ جَانِبِهَا تَكُونُ مُسْتَنْقِصَةً، وَلَوْ قَالَ: لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا، وَكَذَا فَفَعَلَتْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَا قَدَّرَ الْبَدَلَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَعَلَهَا نَائِبَةً عَنْهُ فِي الْإِيقَاعِ وَهِيَ تَصْلُحُ مُعَبِّرَةً عَنْ الزَّوْجِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ قَالَ: وَلَا تُنْشِئُ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ كَالْخُلْعِ بِغَيْرِ مَالٍ، وَقِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخُلْعِ بِمَالٍ أَنَّهُ جَائِزٌ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ قِيلَ: مَعْنَاهُ إذَا قَالَ: لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك أَوْ اخْتَلِعِي مِنِّي بِغَيْرِ مَالٍ فَأَوْقَعَتْهُ كَانَ صَحِيحًا، وَلَوْ قَالَ: بِمَا شِئْت لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الزَّوْجُ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ فَخَلَعَهَا الزَّوْجُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ بِوَجْهٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَخْلَعَهَا؛ لِأَنَّ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ خَرَجَ الْمُوَكِّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْخُلْعِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ عَزْلَ الْوَكِيلِ، ثُمَّ لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مُسْتَأْنَفٍ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ الْوَكَالَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَتْهُ هِيَ سَقَطَتْ بِرَدِّهِ أَوْ بِطَلَاقِ الزَّوْجِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ لَهَا عَلَى أَنْ زَادَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمِائَةَ بَطَلَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ شِرَاءٌ وَلَمْ يُفَوِّضْ الزَّوْجُ إلَيْهِ ذَلِكَ وَجَازَ لَهُ حِصَّةُ الْمَهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ نَظِيرَهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَمِنَ الْمِائَةَ لَهَا لَزِمَتْهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 131 بِالضَّمَانِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْبَدَلِ فِي بَابِ الْخُلْعِ مِنْ الْوَكِيلِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُ مَا كَانَ ثُبُوتُهُ تَبَعًا لِلْخُلْعِ. وَالشِّرَاءُ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ يَثْبُتُ تَبَعًا عَلَى مَا قَدَّرْنَا فَيَصِحُّ الْتِزَامُ الْوَكِيلِ ذَلِكَ بِالضَّمَانِ وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ بَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ قَالَ: وَلَوْ خَلَعَهَا الْوَكِيلُ عَلَى حُرٍّ أَوْ خَمْرٍ أَوْ دَمٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ هُنَا وَقَعَ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْقَعَهُ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ وَالْمُوَكِّلُ بِهَذَا لَمْ يَرْضَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ النِّكَاحُ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَانَ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ تَرَكَ تَسْمِيَةَ الْعِوَضِ أَصْلًا قَالَ: وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى دِرْهَمٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِيمَا يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ بِالْعُرْفِ وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى حُكْمِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِ الْوَكِيلِ جَازَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِهَذَا الْخُلْعِ يَقَعُ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الصَّدَاقِ فَإِنْ حَكَمَتْ بِذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ حُكْمُهَا وَإِنْ حَكَمَتْ أَوْ حَكَمَ الْوَكِيلُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْ بَعْضِ مَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمَرْأَةُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا بِخُلْعِهَا مِنْ ذِمِّيٍّ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ جَازَ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا وَالْوَكِيلُ كَافِرًا جَازَ الْخُلْعُ وَبَطَلَ الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ حِينَ سَمَّى مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكُهَا بِالْعَقْدِ فَلِهَذَا بَطَلَ الْجُعْلُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ حَالَ الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِبَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَاكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ هُنَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ وَقَالَ لَهُ إنْ أَبَتْ الْخُلْعَ فَطَلِّقْهَا فَأَبَتْ الْخُلْعَ فَطَلَّقَهَا وَقَعَ بِإِيقَاعِهِ، ثُمَّ هَذَا كَإِيقَاعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَإِيقَاعُ الْمُوَكِّلِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ بِالْخُلْعِ، فَكَذَلِكَ إيقَاعُ الْوَكِيلِ حَتَّى لَوْ قَالَتْ أَنَا أُخَالِعُ فَخَلَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ رَجْعِيًّا وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَمْنَعُ الْخُلْعَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَكَالَةَ بِالْخُلْعِ بَعْدَ مَا أَبَانَهَا فَلِهَذَا صَحَّ الْخُلْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَهْطٍ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمْ وَكِيلًا بِإِجَارَةِ نَصِيبِهِ فَأَجَّرَهُ مِنْ جَمِيعِهِمْ جَازَ وَإِنْ أَجَّرَهُ مِنْ أَحَدِهِمْ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ عِنْدَهُمَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 132 بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَجَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِتَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، وَلَوْ أَجَّرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ مُعْتَبَرٌ بِبَيْعِ الْعَيْنِ فَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُسْتَأْجِرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ نَصِيبٍ مِنْ الْعَيْنِ شَائِعٌ وَالِاسْتِيفَاءُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُنَا إذَا أَجَّرَ نَصِيبَهُ مِنْ جَمِيعِ شُرَكَائِهِ فَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ وَإِنْ أَجَّرَهُ مِنْ أَحَدِهِمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ عِنْدَهُ. وَالْوَكِيلُ بِالْإِجَارَةِ إذَا أَجَّرَهُ بِعَرَضٍ أَوْ خَادِمٍ بِعَيْنِهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا تَقْيِيدُ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ لِدَلِيلِ الْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ فِي الْإِجَارَةِ بَلْ الْعُرْفُ فِيهِ مُشْتَرَكٌ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِعَرَضٍ بِعَيْنِهِ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُنَا تَعْيِينُ الْأُجْرَةِ لَا يُخْرِجُ الْعَقْدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إجَارَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مُخَالِفًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ لِلْعَاقِدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ، وَالْوَكِيلُ بِالْإِجَارَةِ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْإِجَارَةِ وَفِي قَبْضِ الْأَجْرِ وَجِنْسِ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ قِيَاسُ بَيْعِ الْعَيْنِ وَالْوَكِيلُ وَكِيلٌ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ وَكَانَ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ وَهَبَ الْأَجْرَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَيَضْمَنُهُ لِلْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ إبْرَاؤُهُ وَلَا هِبَتُهُ لِأَنَّ الْغَيْرَ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِالْهِبَةِ يُلَاقِي عَيْنًا هِيَ مِلْكُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ بَاطِلًا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْأَجْرُ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ صَحَّ إبْرَاؤُهُ وَصَارَ ضَامِنًا لِلْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهَذَا مِثْلُهُ، وَأَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي الْمُؤَاجِرِ إذَا كَانَ مَالِكًا فَأُبْرِأَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْإِجَارَاتِ وَمَوْتُ الْوَكِيلِ لَا يَنْقُضُ الْإِجَارَةَ، وَمَوْتُ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْقُضُهَا لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ انْقَلَبَتْ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ فَالْمَنَافِعُ بَعْدَ الْمَوْتِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَجِّرَ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا تُنْتَقَضُ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَا يَجْرِي فِي الْمَنَافِعِ الْمُجَرَّدَةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 133 وَعِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ بَعْدَ مَا أَجَّرَ الْعَيْنَ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ نَاقَضَ الْمُسْتَأْجِرَ الْإِجَارَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَتْ مُنَاقَضَتُهُ إنْ كَانَ الْأَجْرُ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا سَبَقَ. (ثُمَّ زَادَ فَقَالَ) إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ قَبَضَ الْأَجْرَ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ مُنَاقَضَتُهُ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْآمِرِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْأَجْرَ يُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ وَفِي هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ إبْطَالُ مِلْكِ الْآمِرِ عَنْ الْعَيْنِ وَإِبْطَالُ يَدِهِ، لِأَنَّ مَقْبُوضَ الْوَكِيلِ صَارَ كَالْمَقْبُوضِ لِلْآمِرِ فَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ عَيْنًا فَلَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا فَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ أَيْضًا لِلْآمِرِ فَلِهَذَا مَلَكَ الْوَكِيلُ نَقْضَ الْعَقْدِ فِيهِ وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مُنَاقَضَةُ الْإِجَارَةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ أَرْضًا لَهُ وَفِيهَا بُيُوتٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْبُيُوتَ فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْبُيُوتَ وَالْأَرْضَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهَا رَحًى لِأَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْبِنَاءِ وَصْفٌ وَتَبَعٌ لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَصْلُ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ إذَا وُكِّلَ الْوَكِيلُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهُ وَإِذَا أَجَّرَ الْأَرْضَ صَاحِبُهَا ثُمَّ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ الْأَجْرِ فَهُوَ جَائِزٌ كَالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنْ أَخَّرَ الْوَكِيلُ الْأَجْرَ عَنْ الْمَطْلُوبِ أَوْ حَطَّهُ عَنْهُ أَوْ صَالَحَهُ عَلَى نَقْضِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ وَهُوَ نَائِبٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إلَّا مَا فُوِّضَ إلَيْهِ، وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا بِدَرَاهِمَ فَأَجَّرَهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَلَوْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَر مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالَفَ اللَّفْظَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَنَحْنُ نَقُولُ إذَا حَصَّلَ مَقْصُودَ الْآمِرِ وَزَادَ خَيْرًا لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ خِلَافًا، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِئْجَارِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَالْوَكِيلُ بِالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَارِعَ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْمُزَارَعَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِدَرَاهِمَ وَلَا حِنْطَةٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا أَمَّا فِي الِاسْتِئْجَارِ بِدَرَاهِمَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا رَضِيَ بِأَنْ يَكُونَ حَقُّ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ لَا فِي ذِمَّتِهِ وَالِاسْتِئْجَارُ بِالْحِنْطَةِ يُوجِبُ الْأَجْرَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ فَرُبَّمَا يُصِيبُ الْخَارِجَ آفَةٌ فَإِذَا كَانَ أَجَّرَهَا مُزَارَعَةً لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَإِذَا اسْتَأْجَرَهُ بِحِنْطَةٍ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْأَجْرِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لَهُ فَأَخَذَهَا لَهُ مُزَارَعَةً لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ أَصْلًا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 134 وَتَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ وَهِيَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ فَإِذَا لَمْ يُسَمِّ لَهُ الْآمِرُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَسْتَأْجِرُهَا لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْآمِرِ فَإِنَّهُ إنْ حَصَلَ الْخَارِجُ يَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ يَجِبُ الْأَجْرُ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَارِجُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَرْضًا فَمَا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ الْأَرْضَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِئْجَارِ مُطْلَقٌ فَمَا اسْتَأْجَرَ بِهِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِالنَّقْدِ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَقِيلَ بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ عُرْفًا ظَاهِرًا فَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُ التَّوْكِيلِ عَلَى الْعُمُومِ حُمِلَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَلَيْسَ فِي الِاسْتِئْجَارِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفَرْقِ فَقَدْ يَكُونُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِالنَّسِيئَةِ كَمَا يَكُونُ بِالنَّقْدِ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْوَكِيلُ بِالِاسْتِئْجَارِ يَمْلِكُ أَخْذَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً وَذَلِكَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا تُخْرِجُهُ تِلْكَ الْأَرْضُ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْآمِرِ فَيَجُوزُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْجِرَابِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِعَيْنِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ خَرَجَ مِلْكُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِ الْآمِرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِإِدْخَالِ الْمَنْفَعَةِ فِي مِلْكِهِ لَا بِنَقْلِ الْمِلْكِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ إلَى غَيْرِهِ قَالَ وَلِلْوَكِيلِ بِالْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ فَإِنْ وَهَبَهُ لِلْعَامِلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ لِأَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ عَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجْرَ إذَا كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً فَأَجَّرَهَا بِحَيَوَانٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا بِجُزْءٍ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَقَدْ خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا وَإِنْ أَجَّرَهَا بِحِنْطَةٍ كَيْلًا أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا يُزْرَعُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقْصُودَ الْآمِرِ بِطَرِيقٍ هُوَ أَنْفَعَ لَهُ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً ثُمَّ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْآمِرَ شَيْئًا وَإِذَا أَجَّرَهَا بِحِنْطَةٍ كَيْلًا كَانَ الْآمِرُ مُسْتَحِقًّا لِلْآجِرِ وَإِنْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ وَفِيهِ يُحَصَّلُ مَقْصُودُهُ لِأَنَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى مِنْ جِنْسِ مَا تُخْرِجُهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 135 الْأَرْضُ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً فَدَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ وَزَرَعَهَا رَطْبَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحُبُوبِ كَانَ هَذَا جَائِزًا لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ وَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ فِيهِ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْغِرَاسَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فِي شَيْءٍ وَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ فِي عَمَلِ الْغِرَاسَةِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَرَرِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فَلِهَذَا كَانَ مُخَالِفًا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَخَذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ الْآمِرُ مَا يَزْرَعُ فِيهَا لَمْ يَجُزْ وَالتَّوْكِيلُ بِدَفْعِهَا مُزَارَعَةً يَجُوزُ فِي هَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ وَتَسْمِيَةُ الْبَدَلِ فِي الْوَكَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْجَهَالَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا صِفَةُ اللُّزُومِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا فِيهَا وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِدَفْعِهَا لِمَنْ يَغْرِسُ فِيهَا النَّخْلَ بِالنِّصْفِ فَدَفَعَهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ لِيَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ يَبْنِي فِيهَا بُيُوتًا وَيُؤَاجِرُهَا بِالنِّصْفِ وَيَكُونُ الْآجِرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُعَامَلَةَ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَلْ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيَانُهُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّسْكَرَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَرْضًا فَاسْتَأْجَرَهَا فَالْأَجْرُ إنَّمَا يَجِبُ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْوَكِيلِ وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَتَّى لَوْ وُهِبَ رَبُّ الْأَرْضِ الْأَجْرَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ وَهَبَهَا لَهُ وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْآمِرِ الْأَجْرَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْآمِرِ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْأَجْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَامِلْهُ بِشَيْءٍ قَالَ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَوْتُ الْعَاقِدِ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْإِجَارَةِ بِعَيْنِهِ بَلْ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَوْرِيثِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْآمِرِ يَسْتَوْفِيهَا قَبْلَ مَوْتِ الْوَكِيلِ وَبَعْدَهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ نَاقَضَ رَبَّ الْأَرْضِ الْإِجَارَةَ فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ الْمُؤَاجِرِ جَازَتْ الْمُنَاقَضَةُ لِأَنَّ الْآمِرَ لَمْ يَتَمَلَّكْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَى شَيْءٍ فَصَحَّتْ الْمُنَاقَضَةُ مِنْ الْوَكِيلِ كَمَا فِي جَانِبِ الْوَكِيلِ بِالْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا إلَى الْآمِرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ نَاقَضَ فَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ الْآمِرَ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً وَكَذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ لِخَرَابِ الدَّارِ كَانَ فِي ضَمَانِ الْآجِرِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ قَبْضُ مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 136 وَهُوَ الْأَرْضُ أَوْ الدَّارُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ عَيْنَ الدَّارِ وَالْأَرْضِ جُعِلَ قَائِمًا مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ قَبْلَ قَبْضِ الدَّارِ وَيَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَتْ يَدُ الْآمِرِ عَلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةً بِقَبْضِهِ وَحُكْمًا بِقَبْضِ الْمُسْتَأْجِرِ وَصَارَ اسْتِدَامَةُ الْيَدِ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ إبْطَالَ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِ لِلْمُنَاقَضَةِ اسْتِحْسَانًا. قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لَهُ سَنَةً فَاسْتَأْجَرَهَا سَنَتَيْنِ فَالسَّنَةُ الْأُولَى لِلْآمِرِ وَالسَّنَةُ الثَّانِيَةُ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَفِي الْمُدَّةِ الَّتِي سَمَّى لَهُ الْآمِرُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ بِالِاسْتِئْجَارِ لَهُ وَحَصَلَ مَقْصُودُهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْشَأَ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ كَالْمُضِيفِ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِئْجَارِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ مَعَ غَيْرِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا ذَلِكَ الشَّيْءَ لِلْآمِرِ وَمَا سِوَاهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ قَالُوا وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ دَارًا فَسَقَطَ بَعْضُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا أَوْ بَعْدَ مَا قَبَضَهَا فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَرْضَى بِهَا فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ دُونَ الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ فَيَرْضَى بِهِ وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ دُونَ الْآمِرِ فَهَذَا مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ هُنَا يَسْتَوِي إنْ كَانَ الِانْهِدَامُ قَبْلَ قَبْضِ الدَّارِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّ بِقَبْضِ الدَّارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ وَانْهِدَامُ بَعْضِ الْبُيُوتِ يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُنْشِئًا الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْآمِرِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَا لَهُ أَرْضًا فَاسْتَأْجَرَهَا أَحَدُهُمَا لَزِمَ الْوَكِيلَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَقَدْ فَوَّضَهُ إلَيْهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْآمِرِ نَفَذَ الْعَقْدُ عَلَى الْمُبَاشِرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ قَالَ الْآمِرُ أَنَا أَرْضَى بِذَلِكَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَارَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ لِلْآمِرِ بِإِجَارَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ وَيُجْعَلُ الْوَكِيلَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، كَأَنْ يَقُولَ أَجَّرْتُك هَذِهِ إلَى كَذَا كَذَا فَهُوَ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ اسْتَأْجَرْته مِنْك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا وَكَّلَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّ بِقَبْضِ خَمْرٍ لَهُ بِعَيْنِهَا فَصَارَتْ خَلًّا فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التَّخَلُّلِ وَالْهَيْئَةُ بَاقِيَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الطَّعْمُ، وَالْوَكَالَةُ إنَّمَا صَحَّتْ لِبَقَاءِ الْعَيْنِ فَمَا بَقِيَتْ الْعَيْنُ صَحَّتْ الْوَكَالَةُ وَبَقِيَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُوَكِّلُ الْمُسْلِمَ بِقَبْضِ عَصِيرٍ لَهُ بِعَيْنِهِ فَيَصِيرُ الْعَصِيرُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 137 خَلًّا فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا صَارَ خَمْرًا وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ قَبْضَهُ بَعْدَ التَّخَمُّرِ فَيَمْلِكُ وَكِيلُهُ قَبْضَهُ أَيْضًا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا بِقَبْضِ جُلُودِ مَيْتَةٍ وَدِبَاغِهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالذِّمِّيِّ وَالْجَوَابُ فِي الْمُسْلِمِ هَكَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَبْطُلْ بِبُطْلَانِ الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ وَضَعَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّدَاوُلِ لِأَعْيَانٍ نَجِسَةٍ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَخَرَجَ وَكِيلُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَطَلَبَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِنَفْسِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا فَطَلَبَ ذَلِكَ الْحَقَّ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا بَعَثَ وَكِيلًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَالتَّوْكِيلُ اسْتِعَانَةٌ بِالْغَيْرِ فِيمَا يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ أَوْ بَيْعِ شَيْءٍ أَوْ شِرَائِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِخُصُومَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ بِهَا، قَالَ فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي وَكَّلَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا انْتَقَلَتْ الْوَكَالَةُ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِأَقْوَى أَنْوَاعِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَأَنْ يَقْطَعَ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى، قَالَ وَإِذَا كَانَ الَّذِي وَكَّلَهُ حَرْبِيًّا مِنْ أَهْلِ دَارِهِ فَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ اتِّفَاقُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا قَدْ انْعَدَمَ هُنَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ عَلَى عَدَمِ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْتَأْمَنًا بِخُصُومَةٍ ثُمَّ لَحِقَ الْمُوَكِّلُ بِالدَّارِ وَبَقِيَ الْوَكِيلُ يُخَاصِمُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي لِلْحَرْبِيِّ الْحَقَّ قُبِلَتْ الْخُصُومَةُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ وَتَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَفِي الْقِيَاسِ تَنْقَطِعُ الْوَكَالَةُ حِينَ يَلْحَقُ بِالدَّارِ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخُصُومَةِ الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْقَاضِي لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ يُرَاعِي دَيْنَ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَبَعْدَ مَا رَجَعَ الْمُوَكِّلُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبِيًّا لَا يَبْقَى لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 138 إلْزَامِ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الْمُدَّعِي فَإِنَّمَا يُوَجِّهُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِخُصُومَةِ وَكِيلِ الْحَرْبِيِّ وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَلِهَذَا بَقِيَتْ الْوَكَالَةُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ مَتَاعٍ أَوْ بِتَقَاضِي دَيْنٍ سِوَى الْخُصُومَةِ ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَحِيحٌ فَبَقَاؤُهُ أَوْلَى قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ ذِمِّيًّا وَالْوَكِيلُ مُسْتَأْمَنًا فَلَحِقَ بِالدَّارِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا كَالْمُسْلِمِ وَمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ فَكَمَا لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْوَكِيلِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ لِحَاقِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَرْبِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ حُكْمًا فَلَا يَصِيرُ الْوَكِيلُ بِاللُّحُوقِ بِالدَّارِ فِي حَقِّهِ كَالْمَيِّتِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَ الْمُرْتَدُّ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ بِلُحُوقِهِ بِالدَّارِ زَالَ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَقْضِي بِالْمَالِ لِوَارِثِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا وُكِّلَ بِبَيْعِ مَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا عِنْدَ التَّوْكِيلِ تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي وَكَالَتِهِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَوْدِ الْمِلْكِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْبَيْعُ، قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزَلْ قَبْلَ لِحَاقِهِ بَلْ تَوَقَّفَ وَبِإِسْلَامِهِ قَبْلَ لِحَاقِهِ يَعُودُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ نَفَذَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ تَبْقَى وَكَالَةُ الْوَكِيلِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا خَلَا النِّكَاحُ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلنِّكَاحِ بِنَفْسِهِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِهِ أَيْضًا ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، قَالَ وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَضَى بِلِحَاقِهِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ ثُمَّ لَا يَعُودُ وَكِيلًا وَإِنْ جَاءَ مُسْلِمًا لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي فَهُوَ غَيْبَةٌ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي فَهُوَ كَالْمَوْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّقْسِيمَ فِيمَا إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّوْكِيلِ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَسَّمَهُ عَلَى أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَعْيِينَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ مِنْ الْمُرْتَدِّ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَانِ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمَا جَارِيَةً بِعَيْنِهَا ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَلَحِقَ بِالدَّارِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ لَزِمَ الْوَكِيلَ نِصْفُهَا وَالْمُوَكِّلَ الثَّانِيَ نِصْفُهَا لِأَنَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 139 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ النِّصْفِ لَهُ، فَفِي نَصِفْ الَّذِي لَحِقَ بِالدَّارِ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا لَحِقَا فَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَفِي نَصِيبِ الَّذِي بَقِيَ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا فِي دَارِنَا فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لَهُ وَهَذَا قِيَاسُ مَوْتِ أَحَدِ الْمُوَكِّلَيْنِ، فَإِنْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُرْتَدِّ اشْتَرَيْتهَا قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ صَاحِبُهَا وَكَذَّبَهُمْ الْوَكِيلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَدَّعُونَ الْإِرْثَ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِمُوَرِّثِهِمْ فِيهِ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِالْحُدُوثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُمْ يَدَّعُونَ فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ نَقَدَ مَالَ الْمُرْتَدِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي تَصَرُّفِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَنْقُدُ مَالَ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْوَرَثَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْمِلْكَ لِمُوَرِّثِهِمْ وَسَبَقَ التَّارِيخُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْمُوَكِّلُ وَحْدَهُ فَالْجَوَابُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ اشْتَرَيْتهَا قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ وَهُوَ لَيْسَ تَعْيِينُ مَالٍ قَائِمٍ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ وُجُوبَ ثَمَنِ الْمُشْتَرَى وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ لِأَنَّ عَيْنَهُ صَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ فَهُوَ بِقَوْلِهِ يُبْطِلُ مِلْكَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ ذَلِكَ فِي مَوْتِ الْمُوَكِّلِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ يُطَلِّقَهَا بَتًّا بِغَيْرِ مَالٍ ثُمَّ ارْتَدَّ الزَّوْجُ وَلَحِقَ بِالدَّارِ أَوْ مَاتَ وَخَلَعَهَا الْوَكِيلُ أَوْ طَلَّقَهَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِي أَوْ بَعْدَ لَحَاقِهِ وَقَالَ الْوَكِيلُ وَالْوَرَثَةُ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ وَإِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَالطَّلَاقُ بَاطِلٌ وَمَالُهَا مَرْدُودٌ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَالْإِيقَاعَ مِنْ الْوَكِيلِ حَادِثٌ وَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ فِيهِ سَبْقَ التَّارِيخِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ التَّارِيخُ بِبَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِ مَالٍ أَوْ مُكَاتَبَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَ فَقَالَ الْوَكِيلُ فَعَلْت ذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِمْ فِي الْعَبْدِ ظَاهِرٌ فَالْوَكِيلُ مُخْبِرٌ بِمَا يُبْطِلُ مِلْكَهُمْ عَنْ الْعَيْنِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَخْلُفُونَهُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ نِكَاحًا فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهَا هُنَاكَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا يُجْعَلُ تَصَرُّفُهُ مُحَالًا بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ فِيهِ سَبْقَ التَّارِيخِ وَلِهَذَا لَوْ قَامَتْ لَهُمْ جَمِيعًا الْبَيِّنَةُ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتَ سَبْقِ التَّارِيخِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 140 وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ تَصَدَّقْ بِهَا أَوْ اقْضِهَا فُلَانًا عَنِّي ثُمَّ ارْتَدَّ الْآمِرُ وَلَحِقَ بِالدَّارِ فَقَالَ الْوَكِيلُ فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُسَلَّطٌ أَخْبَرَ بِمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ فَيُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبُهُ ظَاهِرًا، وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي تَصَرُّفِهِ بِبَيِّنَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ قَدْ بِعْته فِي إسْلَامِهِ وَدَفَعْت إلَيْهِ الثَّمَنَ فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْوَرَثَةِ عَنْهُ بِتَصَرُّفٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ فِي الْمُرْتَدَّةِ اللَّاحِقَةِ بِالدَّارِ لِأَنَّ بَعْدُ اللُّحُوقِ حَالُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيهِ سَوَاءٌ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَادَ مُسْلِمًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْوَكِيلُ فَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَاخْتِلَافِ الْوَكِيلِ مَعَ الْوَرَثَةِ لِمَا قُلْنَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا ثُمَّ ارْتَدَّ الْآمِرُ وَلَحِقَ بِالدَّارِ فَقَالَ الْوَكِيلُ زَوَّجْته فِي إسْلَامِهِ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ وَالْمُوَكِّلُ بَعْدُ جَاءَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَقَدْ انْعَزَلَ بِرِدَّةِ الْآمِرِ وَلَمْ يَعُدْ وَكِيلًا بَعْدَ مَا جَاءَ مُسْلِمًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ نَفْيُ ضَمَانٍ عَنْ نَفْسِهِ بَلْ فِيهِ إيجَابُ الْحَقِّ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ إذَا جَاءَ مُسْلِمًا وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَقَّ لِنَفْسِهَا بِبَيِّنَتِهَا وَتُثْبِتُ سَبْقَ التَّارِيخِ وَالْوَرَثَةُ يَنْفُونَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ يَسْتَحْلِفُ الْوَرَثَةَ عَلَى عِلْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَتْ لَزِمَهُمْ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ بَعْدَ مَا حَلَفُوا ثُمَّ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَحْلِفَهُ أَيْضًا فَلَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَاسْتِحْلَافُ الْوَرَثَةِ لَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا نَائِبِينَ عَنْهُ فَالنِّيَابَةُ فِي الْأَيْمَانِ لَا تُجْرَى قَالَ وَتَوْكِيلُ الْمُرْتَدَّةِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهَا بِنَفْسِهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ وَكَّلْت بِذَلِكَ مُرْتَدَّةً مِثْلَهَا أَوْ مُسْلِمًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ قَبْلَ رِدَّتِهَا يَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهَا تَبْقَى مَالِكَةً لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهَا إلَّا أَنْ تُوَكِّلَ بِتَزْوِيجِهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهَا فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهَا بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ فِي حَالِ رِدَّتِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى أَسْلَمَتْ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ إسْلَامِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ أَوْ الْمَنْكُوحَةِ إذَا وَكَّلْت إنْسَانًا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي إسْلَامِهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ارْتِدَادَهَا إخْرَاجٌ مِنْ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا حِينَ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ وَقْتَ التَّوْكِيلِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي الْحَالِ ثُمَّ بِرِدَّتِهَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنْهَا لِوَكِيلِهَا فَبَعْدَ مَا انْعَزَلَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 141 لَا يَعُودُ وَكِيلَهَا إلَّا بِتَجْدِيدٍ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَتْ الْمُرْتَدَّةُ وَكِيلًا بِخُصُومَةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ تَقَاضِيهِ ثُمَّ لَحِقَتْ بِالدَّارِ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ لَحَاقَهَا بِمَنْزِلَةِ رِدَّتِهَا حُكْمًا كَلِحَاقِ الرَّجُلِ لِأَنَّهَا بِاللُّحُوقِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَأَنْ تُسْتَرَقَّ فَفِيهِ إتْلَافٌ حُكْمًا فَلِهَذَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ فَعَلَتْ فِي حَيَاتِهَا أَوْ قَبْلَ لِحَاقِهَا فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْمُسْتَهْلَكِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِوَرَثَتِهَا، وَلَوْ قَالَ قَدْ قَبَضْت دَيْنًا لَهَا مِنْ فُلَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَهَا فِي الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَالْوَكِيلُ يُخْبِرُ بِتَحَوُّلِ حَقِّهِمْ إلَى الْعَيْنِ فِي حَالِ تَمَلُّكِ إنْشَائِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ إنْ قَالَ قَدْ قَبَضْت الْمَالَ الَّذِي أَعْطَتْنِي فُلَانَةُ وَقَدْ كَانَتْ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ إذَا كَانَ الْمَالُ عَيْنًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَتْ الْمُرْتَدَّةُ وَكِيلًا بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ قَبَضْتهَا وَدَفَعْتهَا إلَيْهَا وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ قَبَضْتهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ الْوَدِيعَةُ مَا كَانَتْ مَضْمُونَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي قَبْضِهِ إذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ الْغَرِيمِ وَلَوْ وَهَبَ لَهَا هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهَا بِصَدَقَةٍ فَوَكَّلَتْ وَكِيلًا بِقَبْضِهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ قَبَضْتهَا وَدَفَعْتهَا إلَيْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا جُعِلَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ أَمِينًا فِيهِ، وَإِنْ قَالَ الْوَاهِبُ قَبَضْتهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوَاهِبَ يَدَّعِي الضَّمَانَ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنَّ كَوْنَ الْقَبْضِ حَادِثًا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ نَوْعٌ مِنْ الظَّاهِرِ وَلَا يَكْفِي الظَّاهِرُ لِإِثْبَاتِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَكِيلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِأَنَّهُ يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الْمَرْأَةِ عَنْهَا وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَتْ هِبَةً فَوَكَّلَتْ بِدَفْعِهَا وَكِيلًا ثُمَّ مَاتَتْ وَدَفَعَهَا الْوَكِيلُ فَقَالَ دَفَعْتهَا فِي حَيَاتِهَا فَصَدَّقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي الدَّفْعِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُمْ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحَالُ بِالدَّفْعِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَالْوَكِيلُ يُبْطِلُ مِلْكَ الْوَرَثَةِ بِاخْتِيَارِهِ بِتَصَرُّفٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بِبَيِّنَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي الْمَوْهُوبِ وَسَبْقَ التَّارِيخِ فِي دَفْعِ الْوَكِيلِ إلَيْهِ قَالَ وَإِذَا رَهَنَتْ الْمُرْتَدَّةُ رَهْنًا أَوْ ارْتَهَنَتْهُ مَعَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ حَلّ الْأَجَلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ لَحِقَتْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 142 بِالدَّارِ إنْ كَانَتْ رَهَنَتْ فَلِقِيَامِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَتْ ارْتَهَنَتْ فَلِقِيَامِ حَقِّ وَرَثَتِهَا وَبَقَاءِ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ جَمِيعًا، قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ الْمُرْتَدُّ وَكِيلًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحُرِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ بَعْدَ الرِّدَّةِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ لِقِيَامِ الْكِتَابَةِ فَيُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَهَذَا لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَالِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِتَصَرُّفِهِ وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِهِ، قَالَ فَإِنْ لَحِقَ الْمُكَاتَبُ بِالدَّارِ مُرْتَدًّا كَانَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أُسِرَ أَوْ سُبِيَ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَانَ بَعْدَ لِحَاقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِحَاقَهُ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ مَوْتِهِ وَمَوْتُهُ عَنْ وَفَاءٍ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ فَكَذَلِكَ لِحَاقُهُ فَلِهَذَا بَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الدَّمِ وَالصُّلْحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ وَكِيلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَجُزْ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنْ يَشْهَدَ هُوَ وَآخَرُ مَعَهُ إنْ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ قَبُولَهُ الْوَكَالَةَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَى مُوَكِّلِهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ عُزِلَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَشَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ تَجُوزُ فَعَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْلَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ صَارَ قَائِمًا مَقَامَ مُوَكِّلِهِ فَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْوَكِيلِ إنْكَارٌ فَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ إنْكَارٌ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ مُنَاقِضٌ وَالشَّهَادَةُ مَعَ التَّنَاقُضِ لَا تُقْبَلُ قَالَ وَالتَّوْكِيلُ بِطَلَبِ دَمِ جِرَاحَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لَيْسَ فِيهَا قَوَدٌ جَائِزٌ مِثْلُ التَّوْكِيلِ فِي الْمَالِ لِأَنَّ الْعَمْدَ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ مُوجَبُهُ مُوجِبُ الْخَطَأِ وَهُوَ الْمَالُ وَهَذَا التَّوْكِيلُ لِإِثْبَاتِ مُوجَبِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ مَالٌ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ وَأَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَصَالَحَهُ الْوَكِيلُ عَلَى مِائَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْمَالُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ فَيَقُولُ صَالِحْ فُلَانًا مِنْ دَعْوَاك عَلَى كَذَا، وَفِي مِثْلِهِ الْعَاقِدُ يَكُونُ سَفِيرًا وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ دُونَ الْوَكِيلِ، قَالَ وَالْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فِي الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ يَنْبَنِي عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَهُوَ ضِدُّ الْخُصُومَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِهِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 143 لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِجَوَابِ الْخَصْمِ وَالْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ لَيْسَ بِوَكِيلٍ بِالْجَوَابِ وَإِنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِعَقْدٍ يُبَاشِرُهُ وَالْإِقْرَارُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ وَفَعَلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَإِنَّمَا رَضِيَ الْمُوَكِّلُ بِرَأْيِهِ دُونَ رَأْيِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مِنْ مَالِ الْآمِرِ رَجَعَ بِهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّهِ حِينَ لَمْ يُبَاشِرْهُ مَنْ رَضِيَ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآمِرُ دَفَعَ الْمَالَ فَصَالَحَ الْوَكِيلُ الْآخَرُ وَدَفَعَ الْمَالَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْ الْأَوَّلَ شَيْءٌ وَجَازَ الصُّلْحُ عَنْ الْمُوَكِّلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بَاشَرَهُ بِأَمْرِ الْأَوَّلِ فَجَازَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ وَكَالَةُ الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّ تَوْكِيلَ الْأَوَّلِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَكِنْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يُصَالِحَ عَلَى مَالٍ وَيَدْفَعَ مِنْ عِنْدِ الْمُوَكِّلِ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ فَهَذَا الصُّلْحُ يَجُوزُ وَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْمُوَكِّلُ الثَّانِي يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ اثْنَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ الْمُوَكِّلِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا الْوَاحِدُ إذَا تَفَرَّدَ بِالصُّلْحِ كَانَ كَالْفُضُولِيِّ وَصُلْحُ الْفُضُولِيِّ صَحِيحٌ إذَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ أَوْ أَدَّى الْمَالَ أَوْ ضَمِنَ الْمَالَ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ أَنَّ مُوجَبَ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الْمُصَالِحِ الْمَدْيُونِ الْبَرَاءَةُ عَنْ الدَّيْنِ، وَالْمُشْتَرِي يَنْفَرِدُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ لِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ سَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِأَلْفٍ وَضَمِنَ الْمَالَ فَصَالَحَ بِأَلْفَيْنِ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَنَقَدَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ مِنْ عِنْدِ الْوَكِيلِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ حِينَ صَالَحَ عَلَى غَيْرِ مَا سُمِّيَ لَهُ كَالْفُضُولِيِّ فِي هَذَا الصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهُ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، فَإِنْ صَالَحَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا سُمِّيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَكُونُ خَيْرًا لِلْمُوَكِّلِ فَهَذَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا وَقَدْ وَقَعَ ضِمْنَ بَدَلِ الصُّلْحِ بِأَمْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ أَوْ دَرَاهِمَ جَازَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْآمِرِ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَصَالَحَ عَلَى أَمَةٍ لِلْوَكِيلِ جَازَ عَلَيْهِ إنْ ضَمِنَ أَوْ دَفَعَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَهُ نَصًّا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَصَالَحَهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ حِنْطَةٍ أَجْوَدَ مِنْهَا وَضَمِنَهَا جَازَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 144 خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا حِينَ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ أَضَرُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ، قَالَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْكُرُّ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ وَسَطٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يُصَالِحَ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهِ وَكَانَ بِهَذَا مُغَيِّرًا الْعَقْدَ إلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ يَجُوزُ صُلْحُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ مَا خَالَفَ أَمْرَهُ بِهِ بِتَسْمِيَةِ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا تَرَكَ التَّعْيِينَ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ التَّقْيِيدِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا فَقَدْ يَتَّفِقُ الصُّلْحُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْحِنْطَةُ، وَلَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى عَيْنِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْئِيٍّ دَخَلَ فِيهِ شُبْهَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ فَتَجُوزُ عَنْ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ كُرٍّ وَسَطٍ مُطْلَقًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْكُرَّ، وَلَمَّا وَكَّلَهُ الْمُوَكِّلُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَبْتَلِي بِهَذَا فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِتَرْكِ التَّعْيِينِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يُصَالِحَ عَلَى بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِعَيْنِهِ فَصَالَحَ عَلَيْهِ وَهُوَ بَيْتٌ وَآخَرُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا بِمَا صَنَعَ وَحَصَّلَ مَقْصُودَهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَالَحَ عَنْهُ وَعَنْ بَيْتٍ آخَرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ فِي حِصَّةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ حِينَ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ عَلَى أَقَلَّ مِمَّا سُمِّيَ لَهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئًا فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ وَضَمِنَ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَصَرُّفَهُ هُنَاكَ يَتَقَيَّدُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا لِلْمُدَّعِي فَصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُدَّعِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّوْكِيلُ مُطْلَقٌ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الدَّعْوَى فَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ الْخَصْمُ مُنْكِرًا وَلَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي أَوَّلًا يُعَرِّفُ مِقْدَارَ مَا يَدَّعِيه مِنْ الدَّارِ فَالصُّلْحُ عَلَى الْبَدَلِ الْيَسِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَعَارَفٌ وَالْحَطُّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ هُنَا فَلِهَذَا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُشْتَرِي الطَّاعِنُ بِالْعَيْبِ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ فَأَقَرَّ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَإِقْرَارُهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 145 بَاطِلٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَتِهِ أَوْ كَوْنِهِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ عَبْدًا فَوَكَّلَ مَوْلَاهُ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَجَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَمَا لَوْ بَاشَرَ الْمَوْلَى الصُّلْحَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ مَوْلَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَحَقُّ غُرَمَائِهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمَوْلَى مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُشْتَرِي قَالَ وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الصُّلْحِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ وَلَدًا مِنْ أَمَةٍ لَهُ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَطَعَنَ بِعَيْبٍ أَوْ طَعَنَ عَلَيْهِ فَوَكَّلَ الْمُكَاتَبَ بِالصُّلْحِ فِي ذَلِكَ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي كِتَابَتِهِ فَكَسْبُهُ يَكُونُ لَهُ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ يَأْخُذُهُ فَيَسْتَعِينُ بِهِ فِي قَضَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ هَذَا الصُّلْحَ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَبِيهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ إنَّمَا بَاشَرَهُ الِابْنُ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهِ بِنَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ أَنْشَأَ عَقْدًا فِي كَسْبِهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ إذَا كَانَ الْكَسْبُ حَقَّهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ وَكِيلًا بِتَقَاضِي دَيْنٍ لِابْنِهِ وَبِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ الِابْنَ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْمُدَايِنَةَ فَحَقُّ الْقَبْضِ وَالتَّقَاضِي إلَيْهِ دُونَ الْمُكَاتَبِ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الْمُكَاتَبِ مَعَ ابْنِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْمَوْلَى مَعَ عَبْدِهِ قَالَ وَإِذَا كَانَ دَيْنٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا فَاقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا كَانَ نَصِفُ مَا أَخَذَ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَقَبْضُ وَكِيلِ أَحَدِهِمَا كَقَبْضِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ وَإِنْ ضَاعَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْوَكِيلِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ نَصِفَ مَا أَخَذَ الْوَكِيلُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ وَكِيلِهِ فَكَانَ هَلَاكُهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ، قَالَ وَإِنْ كَانَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ مَالِهِ كُلِّهِ فَقَبَضَهُ فَهَلَكَ مِنْهُ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ نَصِفَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نَصِيبَهُ بِتَعَدِّيهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ وَلِأَنَّهُ لَحِقَهُ غُرْمٌ فِيمَا بَاشَرَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 146 لِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ نَصِفَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَرِيمَ ثُمَّ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيكِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْوَكِيلِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَرِيمَ دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ لَمْ يُصَادِفْ مَالَهُ ثُمَّ قَبْضُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِنَفْسِهِ جَمِيعَ الدَّيْنِ، ثُمَّ إنْ الْآخَرُ رَجَعَ لِحَقِّهِ عَلَى الْغَرِيمِ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ مِنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ ذَلِكَ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي إنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْقَبْضِ بِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي وَكَّلَهُ بِهِ قَدْ قَبَضَ حِصَّتَهُ جَازَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ مُوَكِّلِهِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ الْخَصْمِ وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيكِ فَلَا يَثْبُتُ قَبْضُهُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ فَلِهَذَا كَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ قَالَ وَلَوْ كَانَ دَيْنٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا يَتَقَاضَاهُ فَاشْتَرَى بِحِصَّتِهِ ثَوْبًا جَازَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ أَتَى بِتَصَرُّفٍ آخَرَ سِوَى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ إذَا تَعَذَّرَ بِتَقَيُّدِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا الثَّوْبَ لِنَفْسِهِ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَبَقِيَ هُوَ مُطَالَبًا بِالثَّمَنِ وَبَقِيَ الْمَطْلُوبُ مُطَالَبًا بِحِصَّةِ الْمُوَكِّلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لِأَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ وَهَذَا التَّصَرُّفُ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِيهِ قَالَ وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا قَرْضًا بَيْنَهُمَا فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا بِقَبْضِ حِصَّتِهِ فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُوَكِّلُ جَازَ لِأَنَّ بَيْعَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَبَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ لَهُ، وَيَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِرُبْعِ الطَّعَامِ إنْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِدَرَاهِمَ وَهَذَا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا عِوَضَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَيُجْعَلُ نَصِيبُهُ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا حِينَ يَمْلِكُ بَدَلَهُ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ، فَقَالَ وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَقَبَضَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 147 يَنْفُذَ الشِّرَاءُ لِلثَّوْبِ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الثَّوْبِ مُشْتَرٍ، وَالشِّرَاءُ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ إذَا تَعَذَّرَ بِتَقْيِيدِهِ عَلَى غَيْرِهِ، قُلْنَا وَلَكِنَّهُ فِي جَانِبِ الطَّعَامِ بَائِعٌ وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَى الطَّعَامِ هُوَ دَيْنٌ لِلْمُوَكِّلِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ إضَافَتِهِ إلَى طَعَامٍ هُوَ عَيْنٌ لَهُ، وَمَنْ بَاعَ طَعَامَ غَيْرِهِ بِثَوْبٍ لَا يَنْفُذُ عَقْدُهُ مَا لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ فَإِذَا أَجَازَ يَكُونُ الثَّوْبُ لِلْعَاقِدِ دُونَ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلثَّوْبِ وَمُسْتَقْرِضٌ الطَّعَامَ مِنْ صَاحِبِهِ فِي جَعْلِهِ عِوَضًا عَنْ الثَّوْبِ فَيَتَوَقَّفُ جَانِبُ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْعَقْدَ نَافِذًا قَبْلَ إجَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسَمَّى مِنْ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِذَا أَجَازَهُ تَمَّ رِضَاهُ الْآنَ فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ فِي الثَّوْبِ لِلْوَكِيلِ وَيَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ حِصَّةُ الْمُوَكِّلِ مِنْ الطَّعَامِ بِسَبَبِ اسْتِقْرَاضِهِ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا بِهِ عِوَضَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لِنَفْسِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُوَكِّلُ أَخَذَ مِنْهُ شَرِيكُهُ نَصِفَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَصَّلَ إلَيْهِ الطَّعَامَ الْأَوَّلَ، فَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَتَمَلَّكْ هُوَ بَدَلًا بِمُقَابَلَتِهِ وَإِنَّمَا تَحَوَّلَ حَقُّهُ مِنْ نَصِيبِهِ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ إلَى مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ الْحَوَالَةَ فِي نَصِيبِهِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْبِضَهُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَمْلِكُ الدَّرَاهِمَ بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الطَّعَامِ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ رُجُوعَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِهِ الدَّرَاهِمَ وَهُنَا هُوَ يَقْبِضُ مِنْ الْوَكِيلِ الطَّعَامَ دُونَ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ رُجُوعُ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِهِ الطَّعَامَ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ فِي دَمِ عَمْدٍ ادَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَ الْوَكِيلَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ يَنْصَرِفُ إلَى بَدَلِ الدَّمِ، وَبَدَلُ الدَّمِ مِقْدَارُ الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ أَلْفُ شَاةٍ عَلَى قَوْلِهِمَا أَوْ مِائَتَا ثَوْبٍ، فَإِذَا صَالَحَ الْوَكِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ صُلْحِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَا سُمِّيَ مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ مِائَتَيْ ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ فَيَكُونُ هُوَ فِي هَذَا الصُّلْحِ وَالضَّمَانِ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْخُلْعِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْبَدَلَ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ أَمْرِهِ فِي جَوَازِ أَصْلِ الصُّلْحِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِدُونِ أَمْرِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ فَيُجْعَلُ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا فِي ذَلِكَ جَائِزٌ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِهَذَا الْعَقْدِ قَدْ يَكُونُ مُلْتَزِمًا إذَا ضَمِنَ لِلْبَدَلِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا إذَا لَمْ يَضْمَنْ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 148 وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَشْرِ وُصَفَاءَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِنَّ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْوُصَفَاءِ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ تَقَيَّدَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَلَوْ ضَمِنَ ذَلِكَ جَازَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِالصُّلْحِ الْبَدَلَ عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مُوَكِّلِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَتَصَرُّفُهُ فِي ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ إذَا ضَمِنَ الْبَدَلَ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الدَّمِ هُوَ الَّذِي وَكَّلَ بِالصُّلْحِ فِي ذَلِكَ فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِ مَا سَمَّيَا كَانَ جَائِزًا وَإِنْ صَالَحَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ عَلَى الطَّالِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْقُصَ مِنْ الدِّيَةِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّهُ الْآنَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ صَالَحَ وَكِيلَ الْمَطْلُوبِ عَلَى عَبْدِ الْمَطْلُوبِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ فَإِنْ شَاءَ الْمَطْلُوبُ أَعْطَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصُّلْحِ وَمَا أَمَرَهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْ عَيْنِ الْعَبْدِ، وَكَانَ لَهُ حَقُّ إمْسَاكِ الْعَبْدِ، فَإِذَا أَمْسَكَهُ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الدَّمِ عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ، وَالصُّلْحُ بِهَذَا لَا يَبْطُلُ وَلَكِنْ يَجِبُ قِيمَةُ الْمُسْتَحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يُعَيِّنُهُ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا بِعَيْنِهِ فَإِنْ شَاءَ الْمُوَكِّلُ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِذَا حَبَسَ الْعَيْنَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَضَمِنَ ذَلِكَ جَازَ عَلَى الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِيمَا صَنَعَ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ وَكِيلًا يُصَالِحُ عَنْهُ وَيَضْمَنُ فَصَالَحَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ وَسَمَّى ذَلِكَ إلَى أَجَلٍ وَضَمِنَ فَهُوَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ لِأَنَّ بِالصُّلْحِ يَجِبُ عَلَى الضَّامِنِ الْمَالُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ حَالًّا كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى بِثَمَنِ غَيْرٍ مُؤَجَّلٍ لِأَنَّ الْوَكِيلَ حِينَ ضَمِنَ الْبَدَلَ فَالْمُطَالَبَةُ لِلطَّالِبِ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ لَا عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَكَمَا تَتَوَجَّهُ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَمْ تُسْقِطْ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ فَلَا تَتَوَجَّهُ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مَا لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ الْوَكِيلُ بِهِ كَفِيلًا لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيلِ إذَا أَدَّى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ عَنْهُ وَلَا بِالْكَفَالَةِ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي كَفَلَ بِهِ فَيَكُونُ رُجُوعُ الْكَفِيلِ عَلَى الْوَكِيلِ وَرُجُوعُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 149 الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَعْطَى الْوَكِيلَ رَهْنًا بِالْمَالِ قِيمَتُهُ وَالْمَالُ سَوَاءٌ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْوَكِيلِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ لِلطَّالِبِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَمَا الْتَزَمَهُ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ مَرَّةً، قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ صَالَحَ لِلطَّالِبِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَطْلُوبِ دُونَ الْوَكِيل كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى مَا قَالَهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ وَأَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ بِالدَّمِ فَكَانَ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ أَعْفُ عَنْهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَعَفَا عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الْمَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَفِي غَيْرِ الدَّمِ الْحُكْمُ هَكَذَا مَتَى أَضَافَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى الْمَطْلُوبِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يَضْمَنْ قَالَ وَلَوْ أَنَّ طَالِبَ الدَّمِ وَكَّلَ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ وَالْقَبْضِ فَصَالَحَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَفَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبِلَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْمَالَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَفْوَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا عَنْهُ فَكَانَ حَقُّ قَبْضِ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَبْضُ الْبَدَلِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالدَّمِ وَكَّلَ وَكِيلًا بِمَا يُطَالَبُ بِهِ أَوْ وَكَّلَهُ بِالدَّمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ لِأَنَّ مَا وُكِّلَ بِهِ مَجْهُولٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَرَادَ الصُّلْحَ أَوْ الْخُصُومَةَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صُلْحُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُرَادُهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ بِالدَّمِ وَكِيلًا يُصَالِحُ عَنْهُ الطَّالِبَ فَالْتَقَى الْوَكِيلَانِ وَاصْطَلَحَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلَيْنِ يَحْصُلُ بِالصُّلْحِ مَعَ وَكِيلِ صَاحِبِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِالصُّلْحِ مَعَ صَاحِبِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا خِلَافًا مِنْ الْوَكِيلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ خَادِمًا بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ لِلْمَوْلَى فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِلْكُ ذَلِكَ الْخَادِمِ بِالشِّرَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ فُلَانٍ فَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ وَكِيلَ فُلَانٍ بِشِرَائِهِ لَهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ قَالَ وَإِذَا كَانَ دَمٌ خَطَأٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمْ بِالصُّلْحِ فِي حِصَّتِهِ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَهَا فَلِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أَنْ يُشَارِكُوا الْمُوَكِّلَ وَيُخَاصِمُوهُ فِيمَا أَخَذَ كَمَا لَوْ أَخَذَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلُ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ وَهُوَ الدِّيَةُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ أَمَانَةٌ لِمَنْ وَكَّلَهُ وَيَدُهُ فِيهِ كَيَدِ مَنْ وَكَّلَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ مُودِعِ الْمَدْيُونِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 150 عِنْدَ الْوَكِيلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، وَلَكِنَّ سَائِرَ الْوَرَثَةِ يَأْخُذُونَ الْمُوَكِّلَ فَيُضَمِّنُونَهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِمْ مِمَّا أَخَذَ وَكِيلُهُ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَقْبُوضِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ قَالَ وَإِذَا قُضِيَ بِالدِّيَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَوَاقِلِهِ فَوَكَّلَ الطَّالِبُ وَكِيلًا بِقَبْضِهَا فَقَبَضَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي عَلْفِهَا وَسَقْيِهَا وَرَعْيِهَا حَتَّى يُبَلِّغَهَا الْمُوَكِّلَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ فَهُوَ أَمِينٌ أَنْفَقَ عَلَى الْأَمَانَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهَا وَلَا أَمْرِ الْقَاضِي، قَالَ وَلَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِبَيْعِهَا فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ عَبْدًا لَهُ فَبَاعَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ دُونَ رَأْيِ عَبْدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحِفْظِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْفَظُ الْمَالَ بِيَدِ عَبْدِهِ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالدَّفْعِ إلَى عَبْدِهِ لِيَحْفَظَهُ وَلَكِنَّهُ يُبَاشِرُ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ فَإِذَا أَمَرَ بِهِ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ. كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهِ أَجْنَبِيًّا آخَرَ، قَالَ وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ عَيْنِهَا فَلِرَبِّ الْإِبِلِ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَسْلِيطِهِ عَبْدَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَبْدَهُ قِيمَةَ الْإِبِلِ فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَقِّهِ قَالَ وَإِذَا قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ جِنْسٍ فَوَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَ بِهِ جِنْسًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَبِقَبْضِ جِنْسٍ آخَرَ مَكَانَهُ يَكُونُ اسْتَبْدَلَ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِبْدَالَ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ وَكِيلًا يُؤَدِّي عَنْهُ وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ بِالدَّرَاهِمِ فَبَاعَ بِهَا وَكِيلُ الطَّالِبِ دَنَانِيرَ أَوْ عَرُوضًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ قَضَى بِالثَّمَنِ دَيْنَ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ أَخَّرَ الدَّيْنَيْنِ يَكُونُ قَضَاءً عَنْ أَوَّلِهِمَا وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بَيْنَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْضِيَ بِأَدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَلِهَذَا جَازَ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِالدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ فَأَدَّى الْوَكِيلُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ لَا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تَكُونُ فِي دَفْعِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَأَمَّا دَفْعُ الْمَالِ فَلَيْسَ مِنْ الْخُصُومَةِ فِي شَيْءٍ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ قَالَ وَإِذَا دَفَعَ الدِّيَةَ دَرَاهِمَ إلَى رَجُلَيْنِ وَقَالَ أَدِّيَاهَا عَنِّي فَصَالَحَا الطَّالِبَ مِنْ الْمَالِ عَلَى دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضٍ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَلَى مِلْكِهِمَا فَكَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا عَقْدًا غَيْرَ مَا أُمِرَا بِهِ، فَإِنَّهُمَا أُمِرَا بِحَمْلِ الْمَالِ لِلْمَطْلُوبِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ بَلْ تَبَرَّعَا بِأَدَاءِ الْمَالِ مِنْ عِنْدِهِمَا فَيَرُدَّانِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دَرَاهِمَهُ، وَلَوْ قَضَى الطَّالِبُ الدَّرَاهِمَ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَا تِلْكَ الدَّرَاهِمَ أَوْ مِثْلَهَا، وَقَدْ يُبْتَلَى الْوَكِيلَانِ بِذَلِكَ بِأَنْ يَتَّفِقَ رُؤْيَتُهُمَا الطَّالِبَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَكُونُ دَرَاهِمُ الْمَطْلُوبِ مَعَهُمَا لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا اسْتِصْحَابُ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَيْهِ اسْتَحْسَنَّا لَهُمَا أَدَاءَ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ لِيَرْجِعَا فِيهَا قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ دِيَةً الجزء: 19 ¦ الصفحة: 151 وَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ فَأَدَّى نِصْفَهُ وَحَطَّ الطَّالِبُ نِصْفَهُ فَهَذَا الْحَطُّ عَنْ الْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْحَطَّ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِلْوَكِيلِ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْهِبَةِ إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ، ثُمَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُقَاصِصْهُ بِمَا فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا فِي يَدِهِ إذَا حَضَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ لِتَسْلِيطِ صَاحِبِ الدَّيْنِ إيَّاهُ عَلَى قَبْضِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَلَكِنْ بِمَحْضَرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَبْضِهِ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَكَالَةِ بِالصُّلْحِ فِي الشِّجَاجِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ فِي شَجَّةٍ اُدُّعِيَتْ قِبَلَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَضْمَنَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ خَطَأً جَازَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَبَطَلَ الْفَضْلُ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّجَّةِ مُقَدَّرٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ شَرْعًا فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ يَكُونُ رِبًا، وَلَوْ بَاشَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ بَطَلَ الْفَضْلُ لِهَذَا فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إذَا كَانَ زَادَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْقَوَدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَشْجُوجُ اُنْتُقِضَ الصُّلْحُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ السِّرَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ صُلْحًا عَنْ السِّرَايَةِ فَإِذَا مَاتَ الْمَشْجُوجُ بَطَلَ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ فِي الدَّمِ دُونَ الشَّجَّةِ فَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى دَعْوَاهُمْ. قَالَ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَالَحَ عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنْ بَرِئَ مِنْ الشَّجَّةِ فَالْجَوَابُ كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ فِي إسْقَاطِ الْمُوجِبِ لِلشَّجَّةِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ ضَمِنَ الْبَدَلَ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَالَحَ عَنْ الدَّمِ، فَإِنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مَأْمُورًا بِالصُّلْحِ عَنْ الشَّجَّةِ فَيَكُونُ هُوَ فِي الصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ مُتَبَرِّعًا بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بِالضَّمَانِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، قَالَ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَالَحَ عَنْ الشَّجَّةِ وَهِيَ خَطَأٌ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا عَلَى خَمْسمِائَةِ فَإِنَّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 152 الْمَشْجُوجَ يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَصِفُ الْعُشْرِ وَيَرُدُّ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ وَنِصْفَ الْعُشْرِ إنْ كَانَ قَبَضَ، لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا النَّفْسُ، وَهُوَ إنَّمَا جَعَلَ الْخَمْسَمِائَةِ بِالصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ بَعْدَ نَصِفْ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيُمْسِكُ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ حِصَّةَ حَقِّهِ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ مَالِ الشَّجَّةِ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يُخْرِجُ مَا حَطَّهُ مِنْ ثُلُثِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ ضَمِنَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصُّلْحِ عَنْ الشَّجَّةِ وَهُوَ إنَّمَا صَالَحَ عَنْ النَّفْسِ وَالْمَشْجُوجُ أَسْقَطَ مِنْ حَقِّهِ مَا زَادَ عَنْ الْخَمْسمِائَةِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَشْجُوجِ مَالٌ إلَّا الدِّيَةَ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ثُمَّ يُخَاصِمُ أَوْلِيَاءَ الْمَشْجُوجِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشَّجَّةَ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَخَذُوا تَمَامَ ذَلِكَ مِنْهُ لِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الْمَشْجُوجِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَشْجُوجَ حَطَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، قِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ وَكِيلَ الْمَشْجُوجِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّجَّةِ مَعْلُومٌ شَرْعًا فَالتَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَكُونُ عَفْوًا لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ. قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ فِي الشَّجَّةِ خَاصَّةً فَصَالَحَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَضَمِنَ الْوَكِيلُ ثُمَّ مَاتَ الْمَشْجُوجُ فَالصُّلْحُ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ دُونَ الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ اسْمَ الشَّجَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ فَالْآمِرُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالصُّلْحِ عَنْ الشَّجَّةِ وَهُوَ قَدْ صَالَحَ عَنْ النَّفْسِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْمُ الشَّجَّةِ يَتَنَاوَلُ الشَّجَّةَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَإِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا كَانَ هُوَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فِيمَا صَنَعَ لَا مُبْتَدِئًا شَيْئًا آخَرَ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي شَجَّةٍ فَصَالَحَهُ عَنْ الشَّجَّةِ وَعَنْ جُرْحٍ آخَرَ مِثْلَهَا جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ النِّصْفُ لِأَنَّهُ فِي حِصَّةِ ذَلِكَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَفِي الْجِرَاحَةِ هُوَ مُبْتَدِئٌ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ الْأُخْرَى أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِحِسَابِ تِلْكَ الشَّجَّةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَصَالَحَ عَنْ مُوضِحَتَيْنِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُمَا وَضَمِنَ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ النِّصْفُ وَلَزِمَ الْوَكِيلَ النِّصْفُ سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ عَاشَ لِأَنَّهُ فِي أَحَدِ الْمُوضِحَتَيْنِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَفِي الْأُخْرَى مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ ادَّعَاهَا قِبَلَ فُلَانٍ فَصَالَحَ الْوَكِيلَ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا جَازَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجُزْ عَلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ وَكِيلَ الطَّالِبِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 153 مُسْقِطٌ الْحَقَّ بِالصُّلْحِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُهُ أَصْلًا قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِالصُّلْحِ فِي شَجَّةٍ تُدَّعَى قِبَلَهُ وَإِنْ يَضْمَنْ الْبَدَلَ فَصَالَحَ عَلَى صِنْفٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ أَوْ عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ الْوَسَطُ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ صَالَحَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَالٌ يَلْتَزِمُهُ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ فِي الْمُسَمَّى لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي مِثْلِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِأَمْرِهِ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَضْمَنَ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْوَكِيلَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ سِنِينَ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ خِدْمَةِ عَبْدِهِ كَتَسْمِيَةِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَنْفَعَةِ عَبْدِهِ فَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِيمَا إذَا سَمَّى فِي الصُّلْحِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى كَاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ التَّسْمِيَةُ وَلَكِنْ يَجِبُ قِيمَةُ الْمُسَمَّى قَالَ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ فَهُوَ عَفْوٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ وَلَا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْمَالُ فِيهِ بِالتَّسْمِيَةِ وَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَالطَّلَاقِ فَإِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبُضْعِ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ هُنَاكَ عَنْ ذِكْرِ الْبَدَلِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْبَدَلِ هُنَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ أُصَالِحُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْخَلِّ فَضَمِنَهُ لَهُ فَإِذَا الْعَبْدُ حُرٌّ وَالْخَلُّ خَمْرٌ فَعَلَى الْوَكِيلِ أَرْشُ الشَّجَّةِ لِأَنَّهُ سَمَّى مُتَقَوِّمًا فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ تَمَكَّنَ الْغَرَرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ بِأَصْلِ حَقِّهِ وَهُوَ أَرْشُ الشَّجَّةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْعِ فِي هَذَا ثُمَّ الْوَكِيلُ قَدْ ضَمِنَهُ فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الضَّمَانِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ أَمْرَهُ فِيمَا الْتَزَمَ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لِلْمُصَالِحِ غَيْرُ الْعَبْدِ الْبَاقِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرُ لَهُ الْعَبْدُ الْبَاقِي وَقِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ الْعَبْدِ الْبَاقِي تَمَامُ أَرْشِ الشَّجَّةِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْخُلْعِ هَكَذَا فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُصَالِحُ سَمَّى عَبْدَيْنِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا تَحَقَّقَ الْغَرَرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ حَقُّ الطَّالِبِ فِي تَمَامِ أَرْشِ الشَّجَّةِ هُنَا وَحَقُّ الرُّجُوعِ لِلزَّوْجِ فِيمَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ فِي الْخُلْعِ هَكَذَا فَيَأْخُذُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 154 وَمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ إلَى تَمَامِ الشَّجَّةِ بِاعْتِبَارِ الْغَرَرِ كَمَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى عَبْدٍ وَاحِدٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْخُلْعُ وَالصُّلْحُ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْبَاقِي صَحِيحٌ وَتَسْمِيَةُ الْحُرِّ مَعَهُ لَغْوٌ فَصَارَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسَمَّى عَبْدًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ هُنَاكَ مُعَاوَضَةً بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ الْبَاقِي فَلِهَذَا جَعَلْنَا التَّسْمِيَةَ فِي الْعَبْدِ الْأَخِيرِ لَغْوًا وَأَصْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَبْدَ الْبَاقِيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ لَهَا الْعَبْدُ الْبَاقِي وَقِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا الْعَبْدُ الْبَاقِي وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا قَالَ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ فَإِذَا هُوَ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ عَلَى أَمَةٍ فَإِذَا هِيَ أُمُّ وَلَدٍ وَضَمِنَ الْوَكِيلُ تَسْلِيمَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَمْلُوكٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِالْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ وَلَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ وَإِذَا شَجَّ رَجُلَانِ رَجُلًا مُوضِحَةً فَوَكَّلَ وَكِيلًا يُصَالِحُ مَعَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ. كَمَا لَوْ بَاشَرَ الصُّلْحَ بِنَفْسِهِ وَعَلَى الْآخَرِ نَصِفُ الْأَرْشِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْجَنَابَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِفُ الْأَرْشِ دُونَ الْقَوَدِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْفِعْلِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَوَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يُصَالِحَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّهمَا هُوَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَمِثْلُهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ ثُمَّ الرَّأْيُ إلَى الْوَكِيلِ يُصَالِحُ أَيَّهمَا شَاءَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّاجُّ وَاحِدًا وَالْمَشْجُوجُ اثْنَيْنِ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُمَا فَصَالَحَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ قَالَ الْوَكِيلُ هُوَ فُلَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ صَالَحَ مَعَهُ وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ مَا بَاشَرَ مِنْ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ يَصِحُّ تَعْيِينُهُ وَيَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ فِيهِ قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّاهَا رَجُلًا فَوَكَّلَ الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ وَكِيلًا فَصَالَحَ عَنْهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَعَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ نَصِفُ ذَلِكَ قَلَّتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ كَثُرَتْ وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ وَإِنَّمَا وَكَّلَا الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِالنِّصْفِ كَانَ الْوَكِيلُ نَائِبًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِفُ الْبَدَلِ. كَمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيُّ صَالَحَا بِأَنْفُسِهِمَا مَعَ الْمَشْجُوجِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى بِهَذَا الصُّلْحِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 155 فَمُوجَبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَمٍ خَطَأً لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدًا وَحُرًّا عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَوَكَّلَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَأَوْلِيَاءُ الْحُرِّ وَكِيلًا فَصَالَحَ الْقَاتِلَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَأَوْلِيَاءُ الْحُرِّ بِالدِّيَةِ. كَمَا لَوْ صَالَحَا بِأَنْفُسِهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَحَقُّ مَوْلَى الْعَبْدِ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ وَحَقُّ أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ فِي الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسِمِائَةٍ وَالْقَتْلُ عَمْدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ دُونَ الْمَالِ وَالْمَالُ فِي الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ شَرْعًا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَلِوَرَثَةِ الْحُرِّ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالْبَاقِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ فِي الْخَطَأِ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِعَشَرَةِ آلَافٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فَلِهَذَا كَانَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ عَشَرَةُ آلَافٍ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قُتِلَ عَمْدًا وَالْحُرُّ خَطَأً فَصَالَحَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا كَانَ لِأَوْلِيَاءِ الْحُرِّ عَشَرَةُ آلَافٍ لِمَا بَيَّنَّا وَمَا بَقِيَ فَلِمَوْلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ هَذَا صُلْحٌ عَنْ الْقَوَدِ فَيَجُوزُ عَلَى قَدْرٍ مِنْ الْبَدَلِ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْحُرُّ قُتِلَ عَمْدًا وَالْعَبْدُ خَطَأً كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا وَهُوَ مِثْلُ الْبَابِ الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا قَالَ وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا شَجَّ مُوضِحَةً فَوَكَّلَ الْمَطْلُوبُ وَكِيلًا مُسْلِمًا فَصَالَحَ عَنْهُ بِخَمْرٍ وَضَمِنَ لَهُ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الذِّمِّيُّ عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بَدَلَهُ حِينَ ضَمِنَهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ وَالْتِزَامُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَمَّا وَكَّلَهُ بِأَنْ يُصْلِحَ وَيَضْمَنَ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا فَيَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا وَالنَّصْرَانِيُّ عَلَى حَقِّهِ قَالَ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ وَكَّلَ مُسْلِمًا فَصَالَحَ عَنْهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ لِأَنَّ وَكِيلَ الطَّالِبِ سَفِيرٌ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ وَلَا إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلِ وَهُوَ قِيَاسُ نَصْرَانِيَّةٍ وَكَّلَتْ مُسْلِمًا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ عَلَى خَمْرٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مُسْلِمَيْنِ وَقَدْ وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِمِّيًّا فَصَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْوَكِلَيْنِ سَفِيرَانِ عَنْ الْمُسْلِمَيْنِ فَلَا يَكُونُ إلَيْهِمَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ شَيْءٌ فَيَكُونُ صُلْحُهُمَا كَصُلْحِ الْمُوَكِّلَيْنِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا قُتِلَ خَطَأً فَوَكَّلَ مَوْلَاهُ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ فَصَالَحَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْعَبْدِ فِي الْخَطَأِ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخْذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تَتَقَدَّرُ نَفْسُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَا يُلْزِمُهُ بِهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَتْ شَجَّةً فَصَالَحَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ جَازَ لِأَنَّ بَدَلَ الطَّرْفِ مِنْ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 156 خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَبْطُلُ مَا بَقِيَ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُسَلِّمُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْمُوضِحَةِ نَصِفَ عُشْرِ بَدَلِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ خَمْسمِائَةِ إلَّا نَصِفَ دِرْهَمٍ وَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا بَقِيَ قَالَ وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فَقْءَ عَيْنٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سِتَّةِ آلَافٍ جَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَلِّمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً وَيَبْطُلُ مَا بَقِيَ وَذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا صَالَحَهُ مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ نُقِصَتْ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ بَدَلَ الطَّرْفِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِبَدَلِ النَّفْسِ وَإِذَا كَانَ بَدَلُ نَفْسِهِ يَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً يُنْقَصُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَدَلِ الْعَيْنِ دِرْهَمٌ فَلِهَذَا يُسَلِّمُ لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا قَالَ وَلَوْ كَانَ وَكِيلُ هَذَا الصُّلْحِ وَكِيلَ الْمَطْلُوبِ فَضَمِنَ ذَلِكَ جَازَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ زَادَ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَزِمَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ حَتَّى يَرْجِعَ الْوَكِيلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي الِالْتِزَامِ وَإِنْ زَادَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بِالضَّمَانِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشَجَّةٍ مُوضِحَةٍ شَجَّهَا إيَّاهُ رَجُلٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ وَلَا يَعْفُوَ وَلَا يُخَاصِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ التَّوْكِيلِ أَنَّهُ بِمَاذَا أَمَرَهُ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ بِمَا سَمَّى لَهُ وَلَوْ أَخَذَ أَرْشَهَا تَامًّا كَانَ بَاطِلًا فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بَاطِلٌ حِينَ لَمْ يَعْرِفْ الْوَكِيلُ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ فَأَخْذُ الْأَرْشِ يَكُونُ صُلْحًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّجَّةِ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَإِنْ كَانَ خَطَأً جَازَ أَخْذُهُ الْأَرْشَ لَا بِانْتِفَاءِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ وَذَلِكَ كَانَ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِدَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِشَجَّةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مُوجَبُ الشَّجَّةِ وَهُوَ الدِّيَةُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَقَاضَى دَيْنَهُ وَلَا يُخَاصِمَ وَإِنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْحِفْظِ لِأَنَّ فِي قَوْلَهُ وَكَّلْتُك بِأَعْيَانِ مَالِي فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى مَا هُوَ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ دُونَ الدَّيْنِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ مُرَادُهُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْحِفْظِ بِيَقِينٍ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إلَّا الْمُتَيَقِّنَ بِهِ قَالَ وَلَوْ قَالَ الْمَشْجُوجُ مَا صَنَعْت فِي شَجَّتِي مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي حِلٍّ فَصَالَحَ عَلَيْهَا أَجَزْت ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ هَذَا وَقَوْلَهُ وَكَّلْته بِالصُّلْحِ عَنْ شَجَّتِي سَوَاءٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ فِي حِلٍّ أَيْ هُوَ مِنْ النُّقْصَانِ فِي حِلٍّ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ صَارَ وَكِيلًا بِالصُّلْحِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 157 وَلَفْظُ الصُّلْحِ يَحْتَمِلُ إسْقَاطَ بَعْضِ الْبَدَلِ لَا كُلِّهِ وَفِي الْإِبْرَاءِ إسْقَاطُ الْكُلِّ وَلَوْ قَالَ مَا صَنَعْت فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَجْزَأَتْ الْبَرَاءَةُ وَالصُّلْحُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ أَجَازَ صُنْعَهُ مُطْلَقًا وَإِسْقَاطُ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ أَوْ الْكُلِّ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ صُنْعِهِ فَلِهَذَا يَجُوزُ وَلَوْ قَالَ قَدْ جَعَلْته وَكِيلًا فِي الصُّلْحِ وَأَمَرْته بِالْقَبْضِ فَصَالَحَ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ نَصًّا وَلَوْ صَالَحَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الصُّلْحِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالصُّلْحِ وَالْقَبْضِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الشَّاجُّ وَكِيلًا بِمَا يُدَّعَى قِبَلَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ وَلَا يُخَاصِمَ وَلَا يَصْنَعَ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُعَيِّنْ مُرَادَهُ عِنْدَ التَّوْكِيلِ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ بِالصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةٍ اُدُّعِيَتْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ ثُمَّ رُدَّ فِي الرِّقِّ ثُمَّ صَالَحَ الْوَكِيلُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِعَجْزِهِ وَضَمِنَ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا لَوْ صَالَحَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَعَجْزُهُ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّوْكِيلِ بَعْدَ عَجْزِهِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ الْعَجْزُ بَعْدَ التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُطَالَبًا بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكَاتَبِ إذَا عَتَقَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي حَقِّهِ صَحِيحٌ وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِالصُّلْحِ فِي شَجَّةٍ اُدُّعِيَتْ قِبَلَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمُوَكِّلُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ انْقَطَعَ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ صَالَحَ الْوَكِيلُ وَضَمِنَ جَازَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الصُّلْحِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَمَاتَ الطَّالِبُ فَصَالَحَ الْوَكِيلُ وَرَثَتَهُ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ وَرَثَةَ الطَّالِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِمُوجَبِ الشَّجَّةِ قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّهَا إيَّاهُ رَجُلٌ فَصَالَحَ عَلَى الْمُوضِحَةِ الَّتِي شَجَّهَا فُلَانٌ وَلَمْ يَقُلْ هِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَرَّفَهَا بِالْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ وَمَحَلُّ فِعْلِ فُلَانٍ مَعْلُومٌ مُعَايَنٌ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْيَدُ وَالْعَيْنُ وَالسِّنُّ فَإِنْ قَالَ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى وَالْمَقْطُوعَةُ هِيَ الْيُمْنَى فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَلَوْ صَالَحَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ عَمَّا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا صَالَحَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ وَكَالَةِ الْوَكِيلِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَوْ الْمَجْنُونَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 158 يَتَكَلَّمُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ لِلْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْعِبَارَةَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ أَوْ مَجْنُونًا يَعْقِلُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ بِأَمْرِهِ يَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فَعُهْدَةُ التَّصَرُّفِ تَكُونُ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَقَالَ مَا صَنَعْت فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ غَيْرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ مِنْهُ عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ قَالَ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْآمِرِ لَا وَكِيلَ الْوَكِيلِ فَإِنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي تَوْكِيلِهِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَصَارَ هُوَ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ وَرَأْيُ الْمُوَكِّلِ بَاقٍ فَلِهَذَا بَقِيَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَزَلَ وَكِيلَهُ وَجَاءَ فُضُولِيٌّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُخْبِرَ إنْ كَانَ عَدْلًا انْعَزَلَ بِخَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا وَفِي الْفُضُولِيِّ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْعَزِلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَزْلَ الْوَكِيلِ فِي هَذَا سَوَاءٌ فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي الْخَبَرِ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مُعَامَلَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مُخْبِرٌ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا فَكَذَلِكَ الْعَزْلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْ كُلُّ خَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَقَوْلُ الْفَاسِقِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَّ عَلَى التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَثَبَّتُوا وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ اللُّزُومِ بِخَبَرِهِ وَالْإِخْبَارُ بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْ التَّصَرُّفِ فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْمُوَكِّلِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُعَبِّرٌ عَنْهُ فَيَكُونُ الْمُلْزِمُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لَا قَوْلَهُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ شَيْئًا بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَصَرَّفَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَصَرَّفْ فَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ اخْتَارَ الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَمَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ فِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 159 الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَازَةُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الْفَسْخِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ أَجَازَ الْوَكِيلُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ حُصُولَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَالشِّرَاء بِهِ كَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ التَّوْكِيلُ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْعُمُومِ لِمَا بَيَّنَّاهُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ فَإِذَا اشْتَرَى لِغَيْرِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَبَاعَهُ فِي بَيْتٍ فِي غَيْرِ سُوقِ الْكُوفَةِ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَجَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ إنَّمَا هُوَ سِعْرُ الْكُوفَةِ لَا عَيْنَ السُّوقِ وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ فُضُولِيٌّ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ فَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَيَانِ جَازَ فِي النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَجَازَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ فِي النِّصْفِ نَصِيبُهُ وَيَبْقَى النِّصْفُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لِأَنَّهُ هَكَذَا يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ فِي جَمِيعِ نَصِيبِ الْمُجِيزِ وَيَصِيرُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَأَنَّهُ بَاشَرَ بَيْعَ النِّصْفِ بِنَفْسِهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ فِي شَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْكَفَالَةِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً الْكَفَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] أَيْ: ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» أَيْ ضَامُّ الْيَتِيمِ إلَى نَفْسِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْخَشَبَةُ الَّتِي تُجْعَلُ دِعَامَةَ الْحَائِطِ كَفِيلًا لِضَمِّهَا إلَيْهِ فَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الْعَقْدِ بِالْكَفَالَةِ أَنَّهُ يُوجِبُ ضَمَّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى وَجْهِ التَّوْثِيقِ (أَحَدُهُمَا) الجزء: 19 ¦ الصفحة: 160 الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ بَلْ أَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى حَالِهِ. وَالْكَفِيلُ يَصِيرُ مُطَالَبًا كَالْأَصِيلِ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَنْفَصِلَ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ ابْتِدَاءً حَتَّى تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَأَصْلُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَنْفَصِلَ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ فَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَأَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَكَذَلِكَ تَنْفَصِلُ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ سُقُوطًا بِالتَّأْجِيلِ فَكَذَلِكَ الْتِزَامًا بِالْكَفَالَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ مَعَ أَصْلِ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ مَعَ مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَمِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ عَنْ الْتِزَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ) أَنْ تَنْضَمَّ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إقْرَاضٌ لِلذِّمَّةِ. وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْتِزَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ وَلَيْسَ ضَرُورَةُ ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ حَقِّ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِمَا، فَلِأَنَّ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ وَلَا يَكُونُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَهُنَا لَا يُوجِبُ مَا لَا تُوجَدُ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا مَلَكَ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ (وَالْحَوَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ) وَمِنْهُ الْحَوَالَةُ فِي الْغَرْسِ بِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَمُوجَبُهُ تَحَوُّلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ وَالْعَقْدَانِ فِي الشَّرْعِ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ) فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَمَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي شَرِيعَتِنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ وَالظَّاهِرُ هُنَا التَّقْرِيرُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَالنَّاسُ يَكْفُلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزَّعِيمُ غَارِمٌ». وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ قَوْلُهُ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» أَيْ فَلْيَتْبَعْ مَنْ أُحِيلَ عَلَيْهِ وَالْكَفَالَةُ مَعَ جَوَازِهَا وَحُصُولِ التَّوَثُّقِ بِهَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الزَّعَامَةُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا غَرَامَةٌ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مُوجَبِ الْعَقْدَيْنِ فَعِنْدَنَا الْكَفَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالْحَوَالَةُ تُوجِبُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَفَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْحَوَالَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مِنْهُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 161 مَحَلٍّ فَمَا دَامَ بَاقِيًا فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ فَرَغَ مِنْهُ سَائِرُ الْمَحَالِّ ضَرُورَةً وَإِذَا ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَرَغَ مِنْهُ الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ ضَرُورَةً لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَاغِلًا لِمَجْلِسٍ وَقَدْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّوَثُّقُ لِحَقِّ الطَّالِبِ وَذَلِكَ فِي أَنْ تُزَادَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لَا أَنْ يَسْقُطَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ وَاخْتِصَاصُ الْعَقْدِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ كَاخْتِصَاصِ الصَّرْفِ بِاسْمٍ كَانَ كَاخْتِصَاصِهِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَهُوَ صَرْفُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى يَدِ صَاحِبِهِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ (وَالسَّلَمُ) اُخْتُصَّ بِاسْمٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَتَأْخِيرُ الْبَدَلِ الْآخَرِ بِالتَّأْجِيلِ فَكَذَلِكَ هُنَا مَعْنَى الْكَفَالَةِ الضَّمُّ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ ضَمَّ أَحَدِ الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ (وَمَعْنَى الْحَوَالَةِ) التَّحْوِيلُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ (ثُمَّ الْكَفَالَةُ نَوْعَانِ) كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ وَقَدْ بَدَأَ بِبَيَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمَالِ عَادَةً وَمُبَاشَرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ أَظْهَرُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَافْتَتَحَ بِحَدِيثِ حَبِيبٍ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شُرَيْحًا حَبَسَ ابْنَهُ بِكَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ قَالَ حَتَّى طَلَبْنَا الرَّجُلَ فَوَجَدْنَاهُ فَدَفَعْنَاهُ إلَى صَاحِبِهِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ عَدْلِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَمْ يَمِلْ إلَى ابْنِهِ بَلْ حَبَسَهُ وَلِهَذَا بَقِيَ عَلَى الْقَضَاءِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَصِحُّ وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ إلَى خَصْمِهِ وَأَنَّ تَسْلِيمَ الْغَيْرِ بِأَمْرِ الْكَفِيلِ كَتَسْلِيمِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ قَالَ طَلَبْنَا الرَّجُلَ فَأَخَذْنَاهُ فَدَفَعْنَاهُ إلَى صَاحِبِهِ. وَجَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ هِيَ ضَعِيفَةٌ وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَقُولُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ لِتَسْلِيمِهِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَا يُثْبَتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً فِي نَفْسِهِ لِتَسْلِيمِهِ كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي الْمَالَ مِنْ مَالِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَهُوَ الْحَرْفُ الثَّانِي لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ أَدَاءِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ مُلْكِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 162 مَالِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِالنَّفْسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَفَلَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» وَالتَّكْفِيلُ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَكَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خُصُومَةٌ فَكَفَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِنَفْسِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَفَلَ حَمْزَةُ ابْنَ عُمَرَ وَالْأَسْلَمِيَّ فِي تُهْمَةِ رَجُلٍ فَاسْتَصْوَبَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اسْتَنَابَ أَصْحَابَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ كَفَلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ وَنَفَاهُمْ إلَى الشَّامِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصْلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ عِنْدَ طَلَبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ مَجْلِسَهُ عِنْدَ طَلَبِ خَصْمِهِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: 48] الْآيَةُ وَإِنَّمَا يُذَمُّ الِامْتِنَاعُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُلُ إلَّا بِنَفْسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ فِي التَّسْلِيمِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ بِالِانْقِيَادِ لَهُ لِتَسْلِيمِهِ إلَى خَصْمِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ كَفَلَ بِالْمَالِ - وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي يَدِ الْكَفِيلِ - فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي مَالِ الْأَصِيلِ فَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَفِي النَّفْسِ لَا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْأَصِيلِ فَيَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِحْضَارِ لِلتَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالًا لِيُحْضِرَهُ الْقَاضِي فَيُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ وَيَكُونَ هَذَا كَذِبًا وَلَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ التَّسْلِيمُ كُلُّهُ فِي إحْضَارِ الْأَصِيلِ إذَا أُتِيَ بِالطَّالِبِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَبِدَفْعِهِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ مَعَ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِالْتِزَامِ كَوْنُ الْمُلْتَزِمِ مُلْتَزِمًا مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَدَائِهِ كَالْتِزَامِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّذْرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ أَلْفَ حَجَّةٍ يَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعِيشُ هُوَ أَلْفَ سَنَةٍ لِيُؤَدِّيَ فَهُنَا أَيْضًا التَّسْلِيمُ يَتَأَتَّى فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَمَاتَ الْمَكْفُولُ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ وَتَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَى الْخَصْمِ الَّذِي سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ مُوجِبٌ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَالثَّانِي أَنَّ مَحَلَّ التَّسْلِيمِ فَاتَ بِمَوْتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ بِدُونِ الْمَحِلِّ فَكَمَا أَنَّ عَدَمَ تَأَتِّي التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْكَفَالَةِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ بَقَاءَهَا ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرَّجُلِ يَكْفُلُ بِنَفْسِ الرَّجُلِ ثُمَّ لَمْ يَأْتِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 163 بِهِ أَنْ يُحْبَسَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الظَّالِمِ وَلَا يَظْهَرُ ظُلْمُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْهُ أَنَّهُ لِمَاذَا يَدَّعِي حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَصْمِ مَعَهُ فَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَصْمِ فَيُسَلِّمَهُ فَإِذَا امْتَنَعَ حِينَ ذَلِكَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ حَبَسَهُ وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُولُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَبْرَأْ الْكَفِيلُ لِأَنَّ لِحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ إلَى الْخَصْمِ فَيَبْقَى الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَكَذَلِكَ الْإِحْضَارُ وَالتَّسْلِيمُ يَتَأَتَّى بَعْدَ رِدَّتِهِ وَعَلَيْهِ تَنْبَنِي الْكَفَالَةُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِحْضَارِهِ أَمْهَلَهُ فِي ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا يَذْهَبُ فَيَأْتِي بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَمْهَلَهُ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ وَيَحْبِسُهُ مَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهُ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا عَاجِزًا عَنْ الْأَدَاءِ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي إلَى وَقْتِ يَسَارِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذَا الْعَجْزِ عِلْمُ الْقَاضِي بِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ فِي مُدَّةِ عَجْزِهِ عَنْ الطَّالِبِ أَنْ يُلْزِمَ الْكَفِيلَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَنَا لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ كَسْبِهِ وَحَوَائِجِهِ وَعِنْدَ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَدْيُونِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي عُسْرَتُهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ وَسَنُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُبِسَ الْمَكْفُولُ بِهِ بِدِينٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِأَنْ يُعْتِقَهُ مِمَّا حُبِسَ فِيهِ إنْ كَانَ دَيْنًا قَضَاهُ عَنْهُ أَوْ حَقًّا آخَرَ أَوْفَاهُ إيَّاهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فِيهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِهِ حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْكَفَالَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ غَيْرِ هَذَا الْقَاضِي فَأَمَّا إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي فَالسَّبِيلُ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ لِلْقَاضِي هُوَ فِي يَدَيْك فَأَخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ لِأُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ حَقُّهُ ثُمَّ يَحْبِسَهُ بِحَقِّهِمَا فَالْقَاضِي يَحْبِسُهُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَحَدٍ فَيَحْبِسَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْكَفِيلِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ وَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُلُوا لَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيمَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 164 مِنْ التَّرِكَةِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ الْمَكْفُولِ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَ الْكَفِيلِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ بِهَذَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْكَفَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ أَوْ وَكِيلًا فِي خُصُومَةٍ لَهُ قِبَلَ ذَلِكَ الرَّجُلِ حَقٌّ فَانْتِفَاءُ حَقِّ نَفْسِهِ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا كَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ بَقِيَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى وَمَقْصُودُ الطَّالِبِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ التَّوَثُّقُ بِحَقِّهِ فَلَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ مُلَاقَاةُ الطَّالِبِ مَعَ الْمَكْفُولِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ كَفَالَتِهِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهَا أَوْلَى وَإِذَا سَلَّمَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ مَا الْتَزَمَهُ لَهُ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ أَتَى بِهِ وَهُوَ كَالْمَطْلُوبِ إذَا أَوْفَى الطَّالِبَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَبْرَأُ بِإِيفَاءِ عَيْنِ مَا الْتَزَمَ فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْمَدْيُونِ إذَا جَاءَ بِالدَّيْنِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ وَتَضَرَّرَ مَنْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إبْقَاءً لِحَقِّ نَفْسِهِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِالْكُنَاسَةِ أَوْ فِي السُّوقِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمِصْرِ بَرِئَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا وَتَقْيِيدُ التَّسْلِيمِ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ رُبَّمَا يَهْرُبُ مِنْهُ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِ بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَمَّا فِي الْمِصْرِ فَالتَّقْيِيدُ بِمَوْضِعٍ مِنْهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ سَلَّمَهُ إلَيْهِ إمَّا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِمَّا بِمُعَاوَنَةِ النَّاسِ إيَّاهُ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا إذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ النَّاسِ يُعَيِّنُونَ الْمَطْلُوبَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحُضُورِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فَتَقْيِيدُ التَّسْلِيمِ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي مُفِيدٌ وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى أَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ كُلَّهَا كَمَكَانٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إذَا شُرِطَ التَّسْلِيمُ فِي مِصْرٍ كَذَا جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ فَإِذَا جُعِلَ الْكُلُّ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ قُلْنَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ فَيَبْرَأُ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 165 وَهُوَ جَائِزٌ ضَامِنٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ يَتَأَتَّى بِإِحْضَارِهِ أَوْ إخْرَاجِهِ مِنْ السِّجْنِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ يَأْبَى التَّسْلِيمَ وَإِذَا طَلَبَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ آخَرَ فَفَعَلَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ وَلَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ أَمَّا الْكَفِيلُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ مَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمُهُ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَشُورَةُ مُلْزِمَةً إيَّاهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا اللُّزُومُ بِالْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرِئَ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْكَفِيلِ حَتَّى لَا يَضِيقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِذَا سَلَّمَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ فَقَدْ أَوْفَى مَا عَلَيْهِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ إذَا قَضَاهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ بَرِئَ وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْبَى الْقَبُولَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَكُونُ لِلْمَكْفُولِ أَنْ يَأْبَى الْقَبُولَ وَإِذَا دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّسْلِيمِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحَكَمِ لِيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إذَا كَانَ مَحْبُوسًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فِي مَفَازَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يَسْتَطِيعُ الْمَكْفُولُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الطَّالِبِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَا يَحْصُلُ لِلطَّالِبِ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُؤَجِّرِ إذَا سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَهُنَاكَ غَاصِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ مُعْتَبَرًا وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ وَفِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ قَاضٍ بَرِئَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَبْرَأُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ فِيهِ قِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِهِ بِالصِّدْقِ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْقُضَاةُ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْمَيْلِ بِالرِّشْوَةِ وَعَامِلُ كُلِّ مِصْرٍ يَنْقَادُ لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَقَعُ التَّفَارُقُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مِصْرٍ آخَرَ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَهَرَ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالْمَيْلِ مِنْ الْقُضَاةِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَقَالَا يَتَقَيَّدُ التَّسْلِيمُ بِالْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَقْصُودَ الطَّالِبِ التَّسْلِيمُ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ فِيهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ شُهُودُهُ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْكَفَالَةُ فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ آخَرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي الْمَفَازَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 166 سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آمِنٍ وَغَابَ فَيَبْرَأُ مِمَّا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي إمَّا لِيَثْبُتَ الْحَقَّ عَلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا وَهَذَا قَدْ حَصَلَ ثُمَّ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَيَتَقَابَلُ الْمَوْهُومَاتُ وَيَبْقَى التَّسْلِيمُ مُتَحَقِّقًا مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِزَامِ فَيَبْرَأُ بِهِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَبَرِئَ مِنْهُ فَلَزِمَهُ الطَّالِبُ فَقَالَ الْكَفِيلُ: دَعْهُ وَإِنَّمَا عَلَى كَفَالَتِي أَوْ عَلَى مِثْلِ كَفَالَتِي أَوْ أَنَا كَفِيلٌ بِهِ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ أَتَى بِلَفْظٍ صَالِحٍ لِإِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ بِهِ أَمَّا قَوْلُهُ أَنَا عَلَى كَفَالَتِي أَيْ بِعَقْدِ إنْشَائِهِ سِوَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إلَّا هَذَا وَوَجْهُ الصِّحَّةِ مَقْصُودُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ عَاقِلٍ أَوْ مَعْنَاهُ فَسَخْنَا ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ الْحَاصِلَ لِي بِالرَّدِّ عَلَيْك فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ كَمَا قُلْت وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَالطَّالِبُ يَدَّعِي قِبَلَهُ مَالًا عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى لِلْجَوَابِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ يَدَّعِي قِبَلَ الْمَطْلُوبِ قِصَاصًا فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا أَوْ حَدًّا فِي قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ لِلْجَوَابِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا إذَا أَعْطَى الْكَفِيلَ بِنَفْسِهِ طَوْعًا فَأَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَأْخُذُهُ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِنَفْسٍ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ أَوْ شَاهِدًا عَدْلًا وَقَالَ لِي شَاهِدٌ آخَرُ حَاضِرٌ حَبَسَهُ الْقَاضِي عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى اسْتِحْسَانًا وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ شَاهِدًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ شَاهِدًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ إذَا ادَّعَى شُهُودًا حُضُورًا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لِيَأْتِيَ بِهِمْ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ وَمَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ الدَّرْءُ وَالْإِسْقَاطُ فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِحَبْسِهِ بَعْدَ إقَامَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ قُلْنَا الْحَبْسُ لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ وَلَكِنْ لِتُهْمَةِ الدَّعَاوَى وَالْفَسَادِ فَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ أَوْ شَهَادَةِ الْمَسْتُورَيْنِ يَصِيرُ مُتَّهَمًا بِذَلِكَ فَيُحْبَسُ تَعْزِيرًا لَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ عُقُوبَةٌ هِيَ أَقْوَى مِنْ الْحَبْسِ إذَا صَارَ مُتَّهَمًا بِهِ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ فَأَمَّا فِي الْمَالِ فَأَقْصَى الْعُقُوبَاتِ إذَا ثَبَتَ الْحَبْسُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ هَذَا فِي دَعْوَى الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بِنَفْسِهِ لَوْ كَفَلَ صَحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ الْحَدِّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 167 وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ فَإِذَا حَصَلَ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ؛ كَانَ بَاطِلًا. فَأَمَّا تَسْلِيمُ النَّفْسِ فَتُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قِبَلَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ، بِنَفْسِهِ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ عِنْدَ دَعْوَاهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَادَّعَى قِبَلَهُ شَيْئًا أَحْضَرَهُ مَجْلِسَهُ لِلْجَوَابِ وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مَا يَنْفِيه؛ فَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَكَانَ التَّسْلِيمُ مُسْتَحَقًّا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مَا يَنْفِيه فَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَكَانَ التَّسْلِيمُ مُسْتَحَقًّا بِمَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ مُنْكِرًا لِلْمَالِ وَجُعِلَ كَالثَّابِتِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِنْ خَاصَمَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ الطَّالِبَ إلَى الْقَاضِي وَقَالَ: إنَّهُ لَا حَقَّ لِهَذَا قِبَلَ الَّذِي كَفَلْتُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مَا يَنْفِيه وَمَا ادَّعَاهُ قِبَلَ الطَّالِبِ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ هُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يُسْأَلُ الْخَصْمُ عَنْهُ وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ الْمَكْفُولِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيٍّ لِمَيِّتٍ قِبَلَهُ خُصُومَةٌ وَلَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَنْفِي اسْتِحْقَاقَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْمُقِرِّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ وَاخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ صَبِيًّا أَوْ وَكِيلًا وَهُنَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِمَا يُبْقِي اسْتِحْقَاقَهُ لِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ الطَّالِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا شَاهِدَانِ؛ بَرِئَ لِظُهُورِ مَا يَنْفِي اسْتِحْقَاقَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ عَنْ الْمَطْلُوبِ. وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ الْعَدَالَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ ضَمِنْت وَكَفَلْت وَهُوَ عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ سَوَاءٌ، يَصِيرُ بِهِ كَفِيلًا بِالنَّفْسِ أَمَّا الضَّمَانُ: فَهُوَ مُوجَبٌ عَقْدِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا لِلتَّسْلِيمِ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ بِمُوجَبِهِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَكَذَلِكَ كَفَلْت فَإِنَّ اسْمَ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الْكَفَالَةُ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ. وَلَفْظُ الْقَبَالَةِ كَلَفْظِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى: قَبِيلًا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِالْتِزَامِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الصَّكُّ - الَّذِي هُوَ وَثِيقَةٌ - قَبَالَةً، وَلَفْظُ الزَّعَامَةِ كَذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَقَوْلُهُ وَهُوَ عَلَيَّ أَيْ أَنَا مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّ مَبْلَغَ كَلِمَاتِ اللُّزُومِ عَلَيَّ وَإِلَيَّ، وَإِلَيَّ هُنَا بِمَعْنَى عَلَيَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» أَوْ قَالَ عَلَيَّ مَعْنَاهُ أَنَا مُلْتَزِمٌ لَهُ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 168 مِنْ الْكَفَالَةِ؛ بَرِئَ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأُلْحِقَ بِمَحِلِّ السُّقُوطِ. وَكَذَلِكَ قَدْ بَرِئَ إلَيَّ صَاحِبِي فَهَذَا إقْرَارٌ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ مُفْتَتِحٌ بِالْكَفِيلِ مُخْتَتِمٌ بِالطَّالِبِ وَذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ يَكُونُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْمَالِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ دَفَعَهُ إلَيَّ، أَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْكَفِيلِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ أَبْلَغُ وُجُوهِ الْبَرَاءَةِ وَإِذَا دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ وَقَالَ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْكَ مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ، وَهَذَا وَمَا لَوْ سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحُضُورِ لِيُسَلِّمَهُ إذَا طُولِبَ بِهِ فَهُوَ إنَّمَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَزِعًا فِيهِ كَالْمُحِيلِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ إنْسَانٌ مِنْ قِبَلِ الْكَفِيلِ مِنْ رَسُولٍ أَوْ وَكِيلٍ أَوْ كَفِيلٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي التَّسْلِيمِ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ. وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِذَا كَفَلَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ؛ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ وَبِنَفْسِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ يُمَلِّكُهُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَتَسْلِيمً نَفْسِ صَاحِبِهِ بِاشْتِرَاطِ كَفَالَةِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَكَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ؛ لِإِبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ - لِإِبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ - مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ إلَى الطَّالِبِ وَأَشْهَدَ بِالْبَرَاءَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ وَصَاحِبَاهُ بَرِيئَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ صَاحِبَيْهِ هُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ كَفِيلِ الْكَفِيلِ كَتَسْلِيمِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَبْرَءُونَ جَمِيعًا عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ كَمَا لَوْ سَلَّمُوهُ جَمِيعًا. وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَيَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ كَفِيلًا عَنْ بَعْضٍ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِصَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُمَا بِنَفْسِهِمَا وَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ بَرِئُوا جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانُوا فِيهِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ إحْضَارُ وَاحِدٍ. فَبِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا إحْضَارُ وَاحِدٍ وَقَدْ أَتَى بِهِ أَحَدُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِي ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ أَتَوْا جَمِيعًا بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمْ بَرِئَ هُوَ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْتَزَمَ الْإِحْضَارَ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَالْإِحْضَارُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا عَلَى صَاحِبَيْهِ وَفِي الْأَوَّلِ الْتَزَمُوا الْإِحْضَارَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ إحْضَارُ وَاحِدٍ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 169 وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَفَلَ بِهِ الثَّانِي بَرِئَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُعْرِضًا عَنْ كَفَالَتِهِ حِينَ اشْتَغَلَ بِأَخْذِ كَفِيلٍ آخَرَ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلُ الثَّانِيَ بِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ فَلَا يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِلْكَفِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ؛ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِحْضَارُ وَلَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ إحْضَارُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسْتَحَقًّا عَلَى شَخْصَيْنِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَكَفَلَ آخَرُ بِنَفْسِ الْكَفِيلِ ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرِئَ مِنْ الْحُضُورِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلُ الْأَوَّلُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ الثَّانِي فَيَبْرَأُ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ مَاتَ الْأَوْسَطُ بَرِئَ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْوَسَطَ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْآخِرِ وَقَدْ بَرِئَ بِمَوْتِهِ وَإِنْ مَاتَ الْأَخِيرُ فَالْأَوْسَطُ عَلَى كَفَالَتِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ عَلَى مَا هُوَ سُقُوطٌ مَحْضٌ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَوْ دَفَعَ الْأَوَّلُ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَالطَّالِبُ غَيْرُ حَاضِرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّالِبُ حَاضِرًا وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ هُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى إذَا بَلَغَ الطَّالِبُ فِعْلَهُ جَازَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّوَقُّفُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى بَيَانِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَلَامُ الْوَاحِدِ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ كَلَامَ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَذَا التَّوَقُّفِ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَائِزٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامٌ مِنْ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ إلْزَامٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِالْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ كَالْإِقْرَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِالْكَفَالَةِ حَقُّ الطَّالِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْكَفَالَةُ تَبَرُّعٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِالْتِزَامِ لَهُ وَإِنْشَاءُ سَبَبِ التَّبَرُّعِ لَا يَتِمُّ بِالتَّبَرُّعِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَقِّ بِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ إيجَابِهِ قَائِمًا مَقَامَ قَبُولِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ إيجَابُهُ شَطْرَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 170 إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَتِمُّ بِالْمُخْبِرِ ثُمَّ قَدْ يَتَعَدَّى ضَرَرُ هَذَا الِالْتِزَامِ إلَى الطَّالِبِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْكَفَالَةُ إذَا صَحَّتْ بَرِئَ الْأَصِيلُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ إلَى الطَّالِبِ وَلَعَلَّ قَاضِيًا يَرَى ذَلِكَ فَيَحْكُمُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ خَاطَبَ فُضُولِيٌّ عَنْ الطَّالِبِ عَلَى قَوْلِهِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الطَّالِبِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ جَائِزٌ قَبِلَهُ الْفُضُولِيُّ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ اضْمَنُوا عَلَيَّ دَيْنِي فَضَمِنُوا فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ حَاضِرٍ فَلَا يَتِمُّ الضَّمَانُ إلَّا بِقَبُولِهِ وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ قَالَ هَذَا لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يَصِحَّ إذَا ضَمِنُوهُ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ بِمَرَضِهِ عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ مِنْ التَّرِكَةِ فَقَامَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِوَرَثَتِهِ مَقَامَ الطَّالِبِ أَوْ نَائِبِهِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ النَّظَرُ لِنَفْسِهِ حَتَّى يُفَرِّغَ ذِمَّتَهُ - بِقَضَاءِ الدَّيْنِ - مِنْ تَرِكَتِهِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ، وَلَا مُطَالَبَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ قِبَلَ وَرَثَتِهِ فَلَا يَقُومُ هُوَ مَقَامَ الطَّالِبِ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ بِهَذَا الضَّمَانِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ فَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ دَيْنَهُ بِالْتِمَاسِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِدُونِ الِالْتِزَامِ، فَكَانَ الْمَرِيضُ فِي حَقِّهِ وَالصَّحِيحُ سَوَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَصَدَ بِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ. وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ قَائِمًا مَقَامَ الطَّالِبِ لِضِيقِ الْحَالِ عَلَيْهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّحِيحِ فَأَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الدَّيْنَ وَلَا صَاحِبَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ لِوَرَثَتِهِ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَهُ. وَوُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ لِحَقِّ الْمُوصِي، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِرَأْسِ رَجُلٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ جَازَ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلِهَذَا صَحَّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقُ بِهِ فَهَذَا وَكَفَالَتُهُ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِرُوحِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ بِالرُّوحِ عَنْ النَّفْسِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنِصْفِهِ أَوْ بِجُزْئِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ وَاحِدَةٌ فِي الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ إحْضَارُهَا. وَإِحْضَارُ بَعْضِ النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَذِكْرُ جُزْءِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ وَلَوْ كَفَلَ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 171 اللَّفْظَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِهِ فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ أَوْ إلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ؛ فَهُوَ كَفِيلٌ لِأَنَّ الْمُوَافَاة بِهِ إحْضَارُهُ لِلتَّسْلِيمِ وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَقَدْ الْتَزَمَهُ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَكْفُلَكَ بِهِ يَعْنِي: عَلَيَّ أَنْ أُحْضِرَهُ وَأُسَلِّمَهُ إلَيْك إذَا الْتَقَيْنَا وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ عَلَيَّ حَتَّى تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمَا وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَالتَّصْرِيحُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ وَإِنْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَ الْمَعْرِفَةَ فَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا ضَامِنٌ لَأَنْ أُدْخِلَكَ عَلَيْهِ أَوْ أُوقِفَكَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ بِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّفْسِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك أَنْ تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا أَوْ مُلَاقَاتَهُمَا فِعْلُهُمَا وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ ضَامِنًا لِفِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: هُوَ عَلَيَّ حَتَّى تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ عَلَيَّ إشَارَةٌ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَذَلِكَ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِفِعْلِهِ دُونَ فِعْلِ الْغَيْرِ. وَإِذَا كَفَلَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ غَرِيمًا لِلْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ مِنْ رَجُلٍ فَدَفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَى الْوَصِيِّ وَبِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُوفِيًا مَا الْتَزَمَهُ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْغُرَمَاءِ وَهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا الْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَائِهِ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ بِالنَّفْسِ فِيمَا بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ وَفِيمَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ كَجَوَازِهَا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ. وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْجَذَاذِ أَوْ إلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إلَى النَّيْرُوزِ جَائِزَةٌ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي سُمِّيَ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ جَهَالَةٍ فَهِيَ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ مُتَقَارِبَةٌ فَإِنَّ الدِّيَاسَ وَالْحَصَادَ يَتَقَدَّمَانِ الْحَرَّ وَتَأَخُّرُهُمَا بِامْتِدَادِ الْبَرْدِ فَتَكُونُ مُتَقَارِبَةً. وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْأَجَلُ - أَوْلَى وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُنَاكَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذْنُ شَرْطٍ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ إلَى الْحَصَادِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 172 الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ مِنْ الْعَقْدِ وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى هَذِهِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا يَقُولُونَ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ إلَى هَذَا الْأَجَلِ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ الْمُتَقَارِبَةَ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْآجَالِ فِيهِ؟ قُلْنَا: جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكُتُبِ وَبَيْنَ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ تَثْبُتُ هَذِهِ الْآجَالُ فِي الصَّدَاقِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اشْتِرَاطَ هَذِهِ الْآجَالِ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَيَبْقَى هَذَا أَجَلًا فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَقْدِ وَالْمَهْرِ تُحْتَمَلُ جَهَالَةُ الصِّفَةِ فَجَهَالَةُ الْأَجَلِ أَوْلَى وَمَنْ يَقُولُ لَا يَثْبُتُ تَحَوُّلُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ الْمَرْأَةُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْكَفَالَةُ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى الرِّزْقِ أَوْ إلَى صَوْمِ النَّصَارَى أَوْ فِطْرِهِمْ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ بِأَجَلٍ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَلَوْ قَالَ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْمَكْفُولُ بِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ قُدُومَ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ سَفَرِهِ مُنْتَشِرٌ لِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى خَصْمِهِ وَالتَّأْجِيلُ إلَى أَنْ يَنْتَشِرَ التَّسْلِيمُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ غَيْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْتَشِرٍ لِتَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَهُ؛ فَيَكُونَ تَعْلِيقًا لِلْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ كَلَامِ زَيْدٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا بَاطِلٌ أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَصَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَفَلَ بِهِ إلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ أَوْ إلَى أَنْ يَمَسَّ السَّمَاءَ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ وَالْأَجَلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْ الْآجَالِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ بِذِكْرِ الزَّمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ هُبُوبُ الرِّيحِ وَإِمْطَارُ السَّمَاءِ بِالْكَفَالَةِ فَيَبْقَى شَرْطًا فَاسِدًا فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْكَفَالَةُ فَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ فَذِكْرُ زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا بِالْعِلْمِ إذْ زَمَانُ الدِّيَاسِ لَيْسَ زَمَانَ الْحَصَادِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْجِيلِ وَلَوْ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ هَذَا إلَى قُدُومِ فُلَانٍ وَذَلِكَ مَعَهُ فِي الدَّيْنِ عَلَيْهِمَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هَذَا الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قُدُومِهِ لِيَنْتَشِرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ يُمَكِّنُ الطَّالِبَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ شَرَطَ قُدُومَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ سَوَاءً وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِقَوْمٍ: اشْهَدُوا أَنِّي كَفِيلٌ لِفُلَانٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَالطَّالِبُ غَائِبٌ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إنْشَاءَ الْكَفَالَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَسَوَاءٌ أَجَازَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ حِينَ حَضَرَ: قَدْ كُنْت كَفَلْت لِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَا حَاضِرٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ إقْرَارًا مِنْك بِالْكَفَالَةِ وَقَالَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 173 الْكَفِيلُ: أَنْشَأْت الْكَفَالَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَمْ يَصِحَّ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ وَلِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ يَصِحَّ. وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ؛ يُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوثَقْ بِهِ غَدًا فَهُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ آخَرَ وَلِلطَّالِبِ قِبَلَهُ حَقٌّ فَذَلِكَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يُوَافِ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهِ الثَّانِي وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْآخَرُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ وَبِنَفْسِ الثَّانِي بَاطِلَةٌ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ بَعْدَ هَذَا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ. وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالشَّرْطِ وَتَعْلِيقُهَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ أَنْ لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ لِكَوْنِهَا مُخَاطَرَةً وَكُنَّا اسْتَحْسَنَّا لِلتَّعَامُلِ الْجَارِي بَيْنَ التُّجَّارِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ سَبَبًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ عَمْرٍو فَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْكَفَالَةِ بِنَفْسِ زَيْدٍ فَلَا اتِّصَالَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ هُنَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَطَرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا: تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِخَطَرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَكَ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَتَيْنِ حَصَلَتَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَ فِي تَصْحِيحِ الثَّانِيَةِ تَأْكِيدٌ يُوجِبُ الْأُولَى لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْمُوَافَاةُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ جَدَّ فِي طَلَبِهِ لِيُوَافِيَ بِهِ حَتَّى يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ الْتِزَامِ الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ وَلَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ كَانَ جَائِزًا بِدَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ الْكَفِيلُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ فَيَبْرَأُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا ثَبَتَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ الْكَفِيلُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ أَحَدِهِمَا إلَى الطَّالِبِ لِإِقْحَامِهِ حَرْفَ أَوْ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ الْخِيَارُ فِي بَيَانِ مَا الْتَزَمَهُ إلَيْهِ وَأَيَّهُمَا سَلَّمَ فَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مَالٌ فَاكْفُلْ لَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت ثُمَّ بَلَغَ الطَّالِبُ فَقَالَ أَجَزْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ وَكِيلَ الطَّالِبِ كَانَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا تَوَقَّفَتْ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَ صَارَ مُلْتَزِمًا وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْكَفَالَةِ قَبْلَ قُدُومِ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ اللُّزُومَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 174 الطَّالِبِ وَلِلْعَاقِدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبِ أَنْ يُبْطِلَ هَذِهِ الْكَفَالَةَ قَبْلَ إجَازَةِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَإِنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخَاطَبِ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ لُزُومِ الْعُهْدَةِ إذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ فُلَانٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَخَذَ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ كَفَلَ لِلْوَكِيلِ؛ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَكْفُلُ لِي وَالْتِزَامُ الْكَفِيلِ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ إلَيْهِ؛ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ كَفَلَ بِهِ لِلْمُوَكِّلِ أَخَذَهُ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ رَسُولًا مِنْ جِهَتِهِ وَالْكَفِيلُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَإِنْ دَفَعَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إلَى الْمُوَكِّلِ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي: فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: فَالْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ وَفَّى الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَهُوَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ وَأَرَادَ يَمِينَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُهُ لَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ؛ يُقَامُ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَخَذَ بِهِ فَاسْتَعْدَى؛ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ أَنْ يَحْضُرَ فَيُبَرِّئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مُقِرًّا بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ أُمِرَ بِأَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ مِنْهَا وَلَا طَرِيقَ لِلْإِخْرَاجِ سِوَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ لِيُسَلِّمَهُ فَإِنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ نَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ: كَفَلَ لِي وَلَمْ آمُرْهُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْحُضُورِ مَعَهُ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهَذَا الِالْتِزَامِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ فَيَقْتَصِرَ وَبَالُ مَا الْتَزَمَهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَحِينَئِذٍ: الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَيُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ مَعَهُ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَمَاتَ الطَّالِبُ فَلِوَصِيِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي حُقُوقِهِ وَكَمَا يُطَالِبُ الْوَصِيُّ الْمَطْلُوبَ بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي فَكَذَلِكَ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ؛ أَخَذَهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ، يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي حُقُوقِهِ وَأَيُّ الْوَرَثَةِ أَخَذَهُ بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ حَتَّى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ شُرَكَائِهِ فِي حُقُوقِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَقْبِضُ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَّا مِقْدَارَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 175 حِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمَالِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ نَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَلَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ فَدَفَعَهُ الْوَكِيلُ إلَى غُرَمَائِهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ وَالْوَرَثَةُ كَالْأَجَانِبِ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ وَقَدْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِالثُّلُثِ فَدَفَعَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الْغُرَمَاءِ أَوْ إلَى الْمُوصِي لَهُ؛ يَبْرَأُ إلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَيِّتِ لِلْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ حَتَّى يُوَصِّلَ إلَى كُلِّ مُسْتَحِقٍّ حَقَّهُ فَأَمَّا الْمُوصِي لَهُ وَالْوَرَثَةُ فَحَقُّهُمْ مُؤَخَّرٌ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْخِلَافَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِدَفْعِهِ إلَى الْوَصِيِّ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا دَفَعَهُ إلَى الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا. قِيلَ: يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لَا يَعْدُوهُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَلَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغُرَمَاءِ حَقُّهُمْ فَإِذَا أَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ وَالْوَصِيَّةَ؛ جَازَ الدَّفْعُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَبَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ قِيَامُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ وَالْغَرِيمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَبَقِيَ الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ فَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ بِنَفْسِ رَجُلٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا بَرِئَ مِنْ كَفَالَةِ هَذَا وَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِمَا، وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْآخَرِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَلَا يَبْرَأُ عَنْ حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّ فِي حَقِّ مَنْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ بِهَذَا التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ خُصُومَتِهِ وَإِثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ: وَصِيَّانِ لِمَيِّتٍ كَفَلَا رَجُلًا بِنَفْسِهِ، لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَدَفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ بَرِئَ مِنْهُ وَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي صَفْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْخُصُومَةِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَلِهَذَا بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَعَلَيْهِ مَالُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَا. فَمَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَهُ بِهِ؛ فَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِالْخَطَرِ. وَتَعَلُّقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ بَاطِلٌ، كَالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَلَّقُ بِالْأَخْطَارِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَكَذَلِكَ بِخَطَرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 176 وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ كَفَلَ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ ثُمَّ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالْمُوَافَاةِ بِنَفْسِهِ وَالْمُوَافَاةُ تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْبَرَاءَةِ عَمَّا الْتَزَمَهُ بِالْكَفَالَةِ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْكَلَامِ صَحِيحٌ. فَإِذَا أَمْكَنَ فِي هَذَا الْوَجْهِ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ حُمِلَ عَلَيْهِ وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَكُونُ كَفِيلًا بِالْمَالِ حِينَئِذٍ. وَفِيهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فَإِنَّهُ يَجِدُّ فِي طَلَبِهِ لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يَصِيرُ كَفِيلًا بِالْمَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَ كَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ هُوَ الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ قِبَلَهُ، وَيَكُونُ لِلْحَقَّيْنِ اتِّصَالٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِذَا عَيَّنَ الْكَفَالَةَ بِأَحَدِهِمَا وَأَخَّرَ الْكَفَالَةَ الثَّانِيَةَ إلَى وَقْتِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ؛ كَانَ صَحِيحًا وَإِذَا لَمْ يُوَافِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لَا يَبْرَأُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِهِمَا مَعًا كَانَ صَحِيحًا. وَبَعْدَ مَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ عَنْهَا إلَّا بِالْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَالَ: فَعَلَيَّ مَا لَكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ هُوَ؛ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ مَعَ أَنَّ عَيْنَ الْجَهَالَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ جَائِزٌ، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْقَفِيزِ لَا تَقْتَضِي الْمُنَازَعَةَ. وَهُنَا الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَإِعْلَامُهُ بِطَرِيقٍ مُمْكِنٍ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك مَا أَدْرَكَك فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَيْت مِنْ دَرَكٍ كَانَ جَائِزًا وَأَصْلُ لُحُوقِ الدَّرَكِ، وَقَدْرُ مَا يَلْحَقُهُ فِيهِ مِنْ الدَّرَكِ مَجْهُولٌ. وَقَدْ اعْتَادَ النَّاسُ الْكَفَالَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِمَا أَصَابَك مِنْ هَذِهِ الشَّجَّةِ الَّتِي شَجَّك فُلَانٌ وَهِيَ خَطَأٌ كَانَ جَائِزًا. بَلَغَتْ النَّفْسَ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ وَمِقْدَارُ مَا الْتَزَمَهُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا يَبْقَى مِنْ الشَّجَّةِ وَأَنَّهُ هَلْ يَسْرِي إلَى النَّفْسِ أَوْ لَا يَسْرِي فَدَلَّ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ الْكَفَالَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَفَلْت بِالْمَالِ الَّذِي لَك عَلَيْهِ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَإِنْ بَرِئَ مِنْهُ كَانَ جَائِزًا عَنْ الْمَالِ إذَا أَسْلَمَ نَفْسَهُ إلَيْهِ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْإِسْقَاطُ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلِأَنَّ الْمُوَافَاةَ بِنَفْسِهِ مُمَكِّنَةٌ لِلطَّالِبِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ وُصُولِ حَقِّ الطَّالِبِ إلَيْهِ فِي إبْرَاءِ الْكَفِيلِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْإِقَامَةَ تَكُونُ عِنْدَ الشَّرْطِ، فَلَا تَثْبُتُ بِدُونِ الشَّرْطِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ رَجُلًا وَقَالَ إنْ لَمْ أُوَافِيكَ بِهِ غَدًا؛ فَعَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 177 الَّتِي لَك فَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ وَفُلَانٌ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالطَّالِبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَالْكَفِيلُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْكَفِيلِ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الطَّالِبِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَكَانَتْ هَذِهِ رِشْوَةً الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ. وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيَّ الْأَلْفُ الَّتِي لَك عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَتِي؛ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَالْمَالُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ؛ لِعِلْمِنَا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فِي الْأَصْلِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي اشْتِغَالِهَا. وَحُجَّتُهُمَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الصِّحَّةَ مَقْصُودُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، فَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ؛ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ عَنْ فُلَانٍ؛ كَانَ صَحِيحًا. فَعَلَيَّ مَا لَكَ عَلَيْهِ - وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ - مُوجِبٌ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ؛ فَيَصِحُّ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الِالْتِزَامِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ كَفَالَةٌ صَحِيحَةٌ عَنْ فُلَانٍ وَالْأَصْلُ: أَنَّ مَا مَبْنَاهُ عَلَى كَلَامٍ صَحِيحٍ؛ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا حَمَلْنَا آخِرَ كَلَامِهِ عَلَى الْكَفَالَةِ؛ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَى فُلَانٍ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ الْمَالَ وَجَحَدَ الْمَطْلُوبُ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَعَلَيْهِ الَّذِي ادَّعَى عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَوْ مَضَى الْغَدُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْمَالُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ عَنْ فُلَانٍ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَى فُلَانٍ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ. وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ فَإِذَا أَدَّاهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ بِالْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِالنَّفْسِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَفِيلُ بِالْمَالِ إذَا أَدَّى يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ يَصِيرُ كَالْمُمَلَّكِ لِذَلِكَ الْمَالِ مِنْ الْكَفِيلِ، أَوْ كَالْمُقِيمِ لَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَبِنَفْسِ الْكَفَالَةِ يَجِبُ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ كَمَا يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَ كَفَالَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ يُجْعَلُ أَصْلُ الْمَالِ كَالثَّابِتِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَتَمَلَّكُهُ بِالْأَدَاءِ وَذَلِكَ يَصِحُّ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 178 عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ. وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَصْلِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهُ بِالْأَدَاءِ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ، فَلِهَذَا لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ عَبْدًا تَاجِرًا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ فِي التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَهُ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ فَلَوْ سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ مَكَانَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ شَرْطَ الْتِزَامِ الْمَالِ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ حِينَ يَطْلُبُهُ مِنْهُ فَإِذَا وَافَاهُ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ؛ فَقَدْ انْعَدَمَ شَرْطُ وُجُوبِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ شَرْطُ وُجُوبِ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: ائْتِنِي بِهِ الْعِشَاءَ أَوْ الْغَدَاءَ فَلَمْ يُوَافِهِ بِهِ عَلَى مَا قَالَ؛ فَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَيْهِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: ائْتِنِي بِهِ غَدْوَةً وَقَالَ الْكَفِيلُ: آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدْوَةٍ فَأَبَى الطَّالِبُ أَنْ يَفْعَلَ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْكَفِيلُ غَدْوَةً فَالْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ اسْتَمْهَلَهُ وَلَهُ أَنْ يَأْبَى الْإِمْهَالَ فَإِذَا أَبَاهُ؛ بَطَلَ ذَلِكَ الِاسْتِمْهَالُ فَيَبْقَى عَدَمُ الْوَفَاءِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ وَإِنْ أَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى بَعْدِ غَدٍ كَمَا قَالَ فَقَدْ أَجَابَهُ إلَى مَا الْتَمَسَ مِنْ الْإِمْهَالِ وَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمُوَافَاةِ بَعْدَ غَدٍ فَإِذَا أَوْفَاهُ بِهِ؛ فَقَدْ بَرِئَ عَنْ الْمَالِ وَإِنْ مَضَى بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يُوَافِهِ بِهِ؛ فَعَلَيْهِ الْمَالُ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ أَنْ يُوَافِيَهُ بِهِ عِنْدَ مَكَانِ الْقَاضِي فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فِي السُّوقِ أَوْ الْكُنَاسَةِ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِالْمُوَافَاةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِمَكَانِ الْقَاضِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى الْخُصُومَةِ مَعَهُ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْمِصْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدَّمِ. وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ، أَوْ شَرَطَ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي فَاسْتُعْمِلَ قَاضٍ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَهُ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّقْيِيدِ عَيْنَ الْقَاضِي وَالْأَمِيرِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ: تَمَكُّنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالِاسْتِيفَاء مِنْهُ بِقُوَّةِ الْوَالِي، وَفِي هَذَا الْمَقْصُودِ: الْأَمِيرُ وَالْقَاضِي الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سَوَاءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا مِنْ التَّقْيِيدِ لَا يُعْتَبَرُ. وَلَوْ كَفَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ لَا عَلَى مَا شَرَطَ، وَلَوْ كَفَلَ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، كَانَ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ الثَّابِتَةَ بِالْمَالِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَفَالَةِ الْأُولَى بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَجْهِ تَصِحُّ. فَإِذَا صَحَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ؛ صَحَّ مَا جُعِلَ بِنَاءً عَلَيْهِ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَقْصُودًا لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا بِالشَّرْطِ، وَتَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 179 يُصَحِّحُهَا اعْتِبَارُ التَّبَعِيَّةِ لِلْكَفَالَةِ الْأُولَى وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْمَتْبُوعِ فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَمَّا صَحَّ الْمَتْبُوعُ؛ صَحَّ التَّبَعُ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْمَتْبُوعُ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ التَّبَعَ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ مَقْصُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَتَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيهِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ بِهِ غَدًا؛ فَالْمَالُ الَّذِي لِلطَّالِبِ عَلَى فُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى الْكَفِيلِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْآخَرِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْأَوَّلِ: الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ بَاطِلَةٌ. (وَهَذِهِ الْفُصُولُ أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَاحِدًا فِي الْكَفَالَتَيْنِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَتَانِ اسْتِحْسَانًا كَمَا بَيَّنَّا (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مُخْتَلِفًا: فَتُبْطَلُ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ. سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاحِدًا، أَوْ اثْنَيْنِ. نَحْوَ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي لِرَجُلٍ آخَرَ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ عَلَى الْكَفِيلِ، أَوْ الْمَالُ الَّذِي لِرَجُلٍ آخَرَ سِوَى الطَّالِبِ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ سِوَى الْمَطْلُوبِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الطَّالِبِ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِلْكَفَالَةِ الْأُولَى وَلَا يَكُونُ تَصْحِيحُهَا مَقْصُودًا لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلِالْتِزَامِ بِالشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ صَحَّحْنَا الْكَفَالَةَ الثَّانِيَةَ حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الطَّالِبِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّالِبُ وَاحِدًا وَالْمَطْلُوبُ اثْنَيْنِ؛ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّا فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ هُنَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْأُولَى بِنَفْسٍ غَيْرِ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ بِالْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمُوَافَاةُ بِنَفْسِهِ مُبَرِّئَةً لَهُ عَمَّا الْتَزَمَهُ عَنْ آخَرَ فَبَقِيَتْ هَذِهِ كَفَالَةً مَقْصُودَةً مُتَعَلِّقَةً بِالشَّرْطِ، وَهِيَ مُخَاطَرَةٌ فَلَا يَصِحُّ كَمَا قَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ هُنَا بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ هُنَا تُوقِنُ بِحَقِّ مَنْ وَقَعَتْ الْكَفَالَةُ الْأُولَى لَهُ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَقَعُ لِلطَّالِبِ. حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِ قَبُولُ الطَّالِبِ وَإِذَا كَانَ الطَّالِبُ وَاحِدًا أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَفَالَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى كَكَفَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِتْبَاعُ الثَّانِيَةِ لِلْأُولَى فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الطَّالِبُ وَلَوْ قَالَ فَإِنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ؛ فَالْمَالُ الَّذِي لَك عَلَيْهِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمَالُ الَّذِي لَك عَلَى فُلَانٍ وَهُوَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ: عَلَيَّ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَطْلُوبِ دُونَ الَّذِي عَلَى غَيْرِهِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِحَالِ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاسْتَشْهَدَ لَهُمَا بِمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِمَا مَالٌ وَاحِدٌ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 180 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكَفَلَ بِنَفْسِ أَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَهُوَ كَذَا عَلَيَّ إنْ لَمْ أُوَافِ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعُذْرُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ هُنَا وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ أَوْ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ مَالٌ فَلَزِمَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ؛ فَالْمَالُ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْمَكْفُولِ بِهِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَعُذْرُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ هُنَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَرِئَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ رَدَّدَ الِالْتِزَامَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَالْخِيَارُ إلَى الْكَفِيلِ وَأَيُّهُمَا سَلَّمَ الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ بَرِئَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَعَزِيمَةُ الْكَلَامِ فِي أَحَدِهِمَا وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِ فُلَانٍ آخَرَ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَأَيَّ ذَلِكَ دَفَعَ الْكَفِيلُ فَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ عَدَمِ التَّنْصِيصِ فَعِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَأَيَّ ذَلِكَ دَفَعَ فَقَدْ وَفَّى بِمَا لَزِمَهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ قَالَ: إنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَهُوَ عَلَيَّ فَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ بِهِ غَدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلِالْتِزَامِ بِالْخَطَرِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْتَ دَارَكَ فَهُوَ عَلَيَّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ جَاحِدٍ وَقَالَ إنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَاَلَّذِي تَدَّعِي عَلَيْهِ لَك عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَائِزَةٌ وَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمَالُ إنْ لَمْ يُوَافِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْتِزَامَ الْمَالِ تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَكَذَلِكَ بِالْمَالِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ وُجُوبُ أَصْلِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوجَبَ الْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ بِمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ وَهُوَ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى الْكَفَالَةِ صَارَ كَالْمُقِرِّ بِوُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَإِقْرَارُهُ بِذَلِكَ مُلْزِمٌ إيَّاهُ، - وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ - بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ إذَا عَلَّقَ الِالْتِزَامَ بِعَدَمِ مُوَافَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً فَكَانَتْ هَذِهِ مُخَاطَرَةً. حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ أَمَرَ الْكَفِيلَ بِالْكَفَالَةِ بِهَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْمَالُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ كَفَلَ رَجُلًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَالْأَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي لَك عَلَيْهِ عَلَى فُلَانٍ آخَرَ سِوَى الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَإِقْرَارُ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 181 ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى نَفْسِهِ يَأْتِي هُنَا أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيُجْعَلَ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ، وَالْآخَرَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ أَنَّ الْكَفِيلَ بِنَفْسِهِ إنْ وَفَّى بِالنَّفْسِ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ جَائِزًا مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُوَافَاةَ بِالنَّفْسِ الطَّالِبُ يَسْتَغْنِي عَنْ الْكَفَالَتَيْنِ؛ فَلِذَا تَعَيَّنَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْكَفَالَتَيْنِ بِسَبَبٍ بِعَيْنِهِ عَنْهُمَا. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْكَفِيلُ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَقِيَ الطَّالِبَ وَخَاصَمَهُ وَلَازَمَهُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى اللَّيْلِ؛ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ مُوَافَاةِ الْكَفِيلِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا، وَإِنْ تَلَاقَيَا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَافَاهُ بِهِ فَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْمَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَطْلُوبِ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ أَنْوَاعٌ قَدْ يَكُونُ عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ فَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْكَفَالَةِ فِي تَسْلِيمِهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَسْلِيمِهِ أَنَّهُ عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِنَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ قَالَ: قَدْ دَفَعْتُ نَفْسِي إلَيْكَ عَنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ فَيَصِحُّ تَعْيِينُهُ لِتِلْكَ الْجِهَةِ؛ لِيُسْقِطَ بِهِ مُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَ هَذَا وَمُوَافَاةُ الْكَفِيلِ بِهِ سَوَاءً فَيَبْرَأُ مِنْ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولِهِ إلَى الطَّالِبِ كَانَ ذَلِكَ مُوَافَاةً مِنْهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْ الْمَالِ وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ الْكَفِيلِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي كَفَلَ عَنْ فُلَانٍ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِ فَوَافَى الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بِالْمَطْلُوبِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فِي الْغَدِ فَالْكَفِيلَانِ بَرِيئَانِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ أَمَّا الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ فَلِوُجُودِ الْمُوَافَاةِ مِنْهُ وَأَمَّا الْكَفِيلُ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ فِي حَقِّهِ أَصِيلٌ. وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي وَوَافَى الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْغَدِ؛ فَإِنَّ الْكَفِيلَ الثَّانِيَ يَبْرَأُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِنَفْسِ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ وَالْتَزَمَ الْمَالَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَالْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ - وَهُوَ مِائَةٌ - عَلَيْهِ ثُمَّ لَقِيَ الطَّالِبُ بِهِ الْمَكْفُولَ قَبْلَ الْأَجَلِ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ بِنَفْسِهِ وَبِالْمَالِ بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا فِي الْأَجَلِ فَإِنَّ الَّذِي وَافَى بِهِ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَلَا يَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَمُوَافَاتُهُ بِهِ تَكُونُ تَسْلِيمًا عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ فَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الجزء: 19 ¦ الصفحة: 182 الْآخَرِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ انْعِدَامُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ الَّذِي وَافَى بِهِ قَدْ دَفَعْتُهُ عَنْ نَفْسِي وَعَنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ عَنْ جِهَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي التَّسْلِيمِ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِالْتِزَامَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهِ أَصْلًا فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ عَنْ فُلَانٍ إلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّالِبُ فَإِذَا قَبِلَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ بَرِئَا جَمِيعًا، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَلَّمَ مَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ وَمَرَّةً عَنْ فُلَانٍ فَإِنَّ الِاسْتِدَامَةَ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ بِكَفِيلٍ فَقَالَ: قَدْ دَفَعْته إلَيْك عَنْ فُلَانٍ لَمْ يَبْرَأْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّالِبُ عَنْهُمَا وَلَوْ قَالَ الْمَكْفُولُ بِهِ: قَدْ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْك عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؛ بَرِئَا جَمِيعًا مِنْ الْكَفَالَتَيْنِ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ هُنَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ إلَيْهِ لِتَسْلِيمِهِ إلَى الطَّالِبِ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِي هَذَا التَّسْلِيمِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُ الطَّالِبِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَتَوْضِيحُ هَذَا الْكَلَامِ لَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ قَاعِدًا مَعَ الطَّالِبِ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ رَجُلٌ لِلطَّالِبِ: قَدْ دَفَعْت إلَيْك هَذَا عَنْ فُلَانٍ فَسَكَتَ الطَّالِبُ أَوْ قَالَ: لَا، لَمْ يَبْرَأْ الْكَفِيلُ، وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: نَعَمْ قَدْ قَبِلْت فَالْكَفِيلُ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ لِلْكَفِيلِ إلَّا بِقَبُولِ الطَّالِبِ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ وَكِيلَ الْكَفِيلِ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ كَتَسْلِيمِ الْمَالِ فِي حُكْمِ الْبَرَاءَةِ. وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا أَدَّى الْمَالَ عَنْ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَبْرَأْ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِقَبُولِ الطَّالِبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُؤَدِّي وَكِيلَ الْمَطْلُوبِ أَوْ الْمَطْلُوبَ نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَوْ كَفَلَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافُوا بِهِ يَوْمَ كَذَا فَعَلَيْهِمْ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُوَافُوا بِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ أَرْسَلُوا الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْمَالِ أَوْ لِلْمُطَالَبَةِ. فَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْجَمَاعَةِ يَتَوَزَّعُ عَلَى عَدَدِهِمْ كَالْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ لِرَجُلِ لَك عَلَيْنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْأَلْفِ فَإِنْ وَافَى بِهِ أَحَدُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُمْ جَمِيعًا بُرَآءُ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا تَسْلِيمَ النَّفْسِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَمُوَافَاةُ أَحَدِهِمْ بِهِ كَمُوَافَاتِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَالَ: فَعَلَيْهِمْ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ بِهَا فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمْ بَرِئُوا جَمِيعًا، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافُوا بِهِ لَزِمَهُمْ الْمَالُ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْتَزَمَ عَنْ الْأَصِيلِ ثُلُثَ الْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ عَنْ صَاحِبِهِ كَفِيلٌ بِالثُّلُثِ الَّذِي الْتَزَمَهُ أَيْضًا فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى صَاحِبِهِ بِثُلُثِهِ إنْ شَاءَ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 183 لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِثُلُثِ الْمَالِ وَأَدَّى ثُلُثَهُ وَيَرْجِعُونَ جَمِيعًا عَلَى صَاحِبِ الْأَصْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ شَاءَ الْمُؤَدِّي رَجَعَ عَلَى أَحَدِ صَاحِبَيْهِ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتَ مُسَاوٍ لِي فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ أَدَّيْت الْمَالَ فَأَرْجِعُ عَلَيْك بِنِصْفِهِ لِنَسْتَوِيَ فِي الْقِيَامِ بِالْكَفَالَةِ كَمَا اسْتَوَيْنَا فِي الْكَفَالَةِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ وَهُوَ إنَّمَا كَفَلَ عَنْهُ الثُّلُثَ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّ الثُّلُثَ الَّذِي عَلَى الثَّالِثِ الْمُؤَدِّي وَهَذَا الْآخَرِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ فَكَانَ لَهُ إنْ يَقُولَ: نِصْفُ ذَلِكَ الثُّلُثِ أَدَّيْته بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْك؛ لِأَنَّك كَفِيلٌ مَعِي عَنْهُ بِذَلِكَ، وَبَعْضُنَا كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ لَقِيَا الثَّالِثَ رَجَعَا عَلَيْهِ بِثُلُثِ الْمَالِ لِيَسْتَوُوا فِي عَدَدِ الْكَفَالَةِ، ثُمَّ إذَا لَقُوا الْمَطْلُوبَ رَجَعُوا عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ فِي الْغَدِ وَقَالَ الطَّالِبُ: وَصَلَنِي الْأَلْفُ وَأَدَّيْته أَلْفًا أُخْرَى أَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ شَيْءٌ وَلَكِنْ أَدَّيْته أَلْفًا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ الْمَالَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لَا عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَذَلِكَ الْمَالُ قَدْ سَقَطَ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ، وَمَا وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدُ الْكَفَالَةِ فَلَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ دِرْهَمٍ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ وَمَا بَاعَهُ مِنْ شَيْءٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ هَذَا الْأَجَلُ لَزِمَهُ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ هُنَا كَمَا تَنَاوَلَتْ الْوَاجِبَ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ تَتَنَاوَلُ مَا يَجِبُ بَعْدَهَا قَبْلَ الْأَجَلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِالْتِزَامَ بِالْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ وَهُوَ الْمُبَايَعَةُ فَمَا كَانَ قَائِمًا مِنْ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ يَصِيرُ الْكَفِيلُ بِهِ كَفِيلًا بِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا مِنْ الْأَجَلِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَمَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ ثُمَّ مَضَى الْأَجَلُ؛ فَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ وُجُوبِ الْمَالِ عَدَمُ مُوَافَاةِ مُسْتَحِقِّهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَالُ وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: إذَا قَالَ: إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ كَذَا فَأُهْرِيقَ الْمَاءُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ شُرْبٍ يَتَأَتَّى أَوْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالْيَمِينِ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا أُهْرِيقَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ نَقُولَ هُمَا جَعَلَا عَدَمَ الْمُوَافَاةِ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ، فَالتَّقْيِيدُ بِمُوَافَاةٍ مُسْتَحَقَّةٍ يَكُونُ زِيَادَةً ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 184 أَنَّ تَصْحِيحَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ هُنَا بِطَرِيقِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَهُوَ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ كَفَلَ بِالْمَالِ لِلْحَالِ ثُمَّ عَلَّقَ التَّرِكَةَ عَنْهُ بِالْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ، وَالْمُوَافَاةُ بِالنَّفْسِ لَا تُوجَدُ بِالْمَوْتِ فَيَبْقَى الْمَالُ وَاجِبًا بِالْكَفَالَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَبَعْدَ الْوُقُوعِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الطَّالِبَ بِالرَّجُلِ؛ فَالْمَالُ دَيْنٌ فِي مَالِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ الْمُوَافَاةُ بِالنَّفْسِ وَلَمْ تُوجَدْ ثُمَّ يَضْرِبُ الطَّالِبُ مَعَ سَائِرِ غُرَمَائِهِ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ قِبَلَهُ فِي حُكْمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ فِي الْوَجْهِ. قُلْنَا: إنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ كَفَلَ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ وَعِنْدَ الْكَفَالَةِ كَانَ صَحِيحًا فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ يَضْرِبُ مَعَهُمْ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ دَفَعُوهُ إلَيْهِ فِي الْأَجَلِ أَوْ دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَالِ وَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ مُوَافَاةَ الْوَارِثِ بِنَفْسِهِ كَمُوَافَاةِ الْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْمَكْفُولِ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْكَفِيلِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِالنَّفْسِ وَإِنْ لَحِقَ الْكَفِيلُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي أَنَّ تَسْلِيمَ الْوَرَثَةِ يَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ فِي بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ فِي أَمْوَالِهِ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لَحِقَ الْمَكْفُولُ بِهِ بِدَارُ الْحَرْبِ فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ الْمُوَافَاةُ بِالنَّفْسِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ لُحُوقُهُ كَمَوْتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِالدَّارِ وَسُبِيَتْ فَوَافَى بِهَا وَهِيَ أَمَةٌ فِي الْأَجَلِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ فِي الْأَجَلِ قَدْ وُجِدَ وَالْمُوَافَاةُ تَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَا صَارَتْ أَمَةً وَلِأَنَّهَا حِينَ سُبِيَتْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْهَا وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ رَجُلًا فَوَافَى بِهِ وَهُوَ حَلَالُ الدَّمِ بِرِدَّةٍ أَوْ قَتْلٍ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الْمُوَافَاةَ بَعْدَ حِلِّ دَمِهِ تَتَحَقَّقُ كَمَا تَتَحَقَّقُ قَبْلَهُ وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَوَافَى بِهِ الْكَفِيلُ وَصِيَّهُ بَرِئَ مِنْ الْمَالِ وَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَيْهِ كَالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُوصِي فَلِهَذَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْبَرَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ فَوَافَى بِهِ وَرَثَتَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ لَمْ يَبْرَأْ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ مَعَ الدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ فَالتَّسْلِيمُ إلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِالْمَالِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 185 عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَبْرَأُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي التَّرِكَةِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِالْمَالِ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِهِ إلَى الطَّالِبِ فِي حَيَاتِهِ وَلَوْ وَافَى بِهِ أَحَدُهُمْ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ لِهَذَا الْوَاحِدِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ وَالِاسْتِيفَاءِ إلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَقَدْ بَرِئَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ غَيْرِهِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لِرَجُلَيْنِ فَإِنْ وَافَاهُمَا بِهِ فَكَذَا وَإِلَّا؛ فَعَلَيْهِ مَا لَهُمَا عَلَيْهِ فَلَوْ وَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ بَرِئَ مِنْ كَفَالَةِ الشَّاهِدِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِالنَّفْسِ، وَلَزِمَهُ نَصِيبُ الْغَائِبِ مِنْ الْمَالِ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ شَرِيكَهُ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِ ثُمَّ مَا أَخَذَهُ الْغَائِبُ مِنْ الْكَفِيلِ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْكَفِيلِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْأَصِيلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا كَانَ وَرَثَتُهُمَا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ حَتَّى إذَا سَلَّمَهُ إلَى وَرَثَةِ أَحَدِهِمَا؛ بَرِئَ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ الْآخَرِ إقَامَةً لِكُلِّ وَارِثٍ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ. وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ وَاحِدًا فَتَغَيَّبَ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ فَطَلَبَهُ الْكَفِيلُ وَأَشْهَدَ عَلَى طَلَبِهِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَبَهُ لِيُسَلِّمَهُ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَغَيَّبَ قَصْدًا مِنْهُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْكَفِيلِ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ وَيُقَامُ هَذَا مَقَامَ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ. قُلْنَا: الْكَفِيلُ هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ بِكَفَالَتِهِ بِالْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لِانْعِدَامِ الْمُوَافَاةِ وَلَكِنَّ الْمُوَافَاةَ بِنَفْسِهِ مُبْرِئَةٌ لَهُ عَنْ الْمَالِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بَقِيَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِكَفَالَتِهِ لَا بِتَغَيُّبِ الطَّالِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَكَانًا فَوَافَى بِهِ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَتَغَيَّبَ الطَّالِبُ؛ لِأَنَّ الْمُبْرِئَ لَهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ دُونَ إحْضَارِهِ ذَلِكَ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ غَائِبٌ فَوُجُودُ إحْضَارِهِ ذَلِكَ الْمَكَانَ كَعَدَمِهِ. وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ اشْتَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ بَرِئَ مِنْهُ إنْ وَافَى بِهِ الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ يَوْمَ كَذَا فَوَافَى بِهِ الْمَسْجِدَ يَوْمَئِذٍ وَأَشْهَدَ وَغَابَ الطَّالِبُ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ بَرَاءَتِهِ إحْضَارَهُ لِلْمَسْجِدِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَيَبْرَأُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا وَكَذَا فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَحْدَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ بِرِدَّتِهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِحُضُورِ الْمَكَانِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ فَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى غَدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ الدِّرْهَمُ الَّتِي الجزء: 19 ¦ الصفحة: 186 لَهُ عَلَيْهِ وَلَوْ اشْتَرَطَ الْكَفِيلُ عَلَى الطَّالِبِ إنْ لَمْ يُوَافِينِي غَدًا عِنْدَ الْمَسْجِدِ لِيَقْبِضَهُ مِنِّي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ فَالْتَقَيَا بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ الْكَفِيلُ: قَدْ وَافَيْت بِهِ، وَقَالَ الطَّالِبُ: قَدْ وَافَيْت وَلَمْ تُوَافِ لَمْ يُصَدَّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُوَافَاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَعُ مُوَافَاتَهُ، وَخَصْمُهُ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ فَلَا تَثْبُتُ مُوَافَاةٌ بِدَعْوَى كُلٍّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَكَانَ الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَالْمَالُ لَازِمٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلْمَالِ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ وَجَعَلَ شَرْطَ بَرَاءَتِهِ مُوَافَاتَهُ وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ؛ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ، وَلَوْ جَعَلَ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عَدَمَ مُوَافَاةِ الطَّالِبِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُثْبِتْ هَذَا الشَّرْطَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُوَافِ أَنْتَ بَلْ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الشَّرْطَ سَوَاءٌ كَانَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الشَّرْطِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُوَافَاةِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَمْ تَشْهَدْ عَلَى دَفْعِ الْكَفِيلِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمَالَ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ شَرْطَ بَرَاءَتِهِ عَنْ الْمَالِ وَهُوَ عَدَمُ مُوَافَاةِ الطَّالِبِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ؛ فَيَبْرَأُ مِنْ الْمَالِ وَلَكِنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ بَرَاءَتَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِمَا كَانَ مُتَقَرِّرًا وَهُوَ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ. وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ فِي الْبَرَاءَةِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يُثْبِتُ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ بِبَيِّنَةٍ وَالْآخَرُ يَنْفِي فَيَتَرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ، وَإِنْ أَقَامَ الْمَطْلُوبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُوَافَاةِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُقِمْ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى الْمُوَافَاةِ وَالْكَفِيلُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ مُوَافَاتَهُ الْمَسْجِدَ؛ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا قَبِلْنَا بِبَيِّنَتِهِ صَارَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ غَدًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَلَوْ اشْتَرَطَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ: إنْ لَمْ تُوَافِنِي فَتَقْبِضَهُ مِنِّي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ وَالْمَالِ فَلَمْ يَلْتَقِيَا مِنْ الْغَدِ؛ فَالْكَفِيلُ بَرِيءٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ أَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُوَافِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الطَّالِبِ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوَافَاةُ الْمَكَانِ مَشْرُوطَةٌ عَلَى الطَّالِبِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا وَمُوَافَاةُ الْكَفِيلِ لَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُجُودَ فِعْلٍ كَانَ مَشْرُوطًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُوَافَاةِ بِنَفْسِهِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ مُوَافَاةَ الْمَكَانِ مَشْرُوطَةٌ عَلَيْهِ فَتَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: فَالْمُوَافَاةُ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ مَشْرُوطَةٌ عَلَى الطَّالِبِ، وَأَنْ يَأْتِيَ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَأْتِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ عَنْ الْمَالِ فَلِهَذَا كَانَ بَرِيئًا وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ بِحَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 187 بِالْأَصْلِ. وَمَنْ يَدَّعِي فِعْلَ نَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ وَقَالَ الْكَفِيلُ لَا شَيْءَ لَك عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَالًا مَوْصُوفًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَصِيرُ هُوَ مُلْتَزِمًا كَمَا لَوْ قَالَ: مَا قُضِيَ بِهِ لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ فَمَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ وَبِقَوْلِ الطَّالِبِ لَمْ يَصِرْ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلُ فِي إنْكَارِهِ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الطَّالِبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى مَا هُوَ فِعْلُ غَيْرِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي تَدَّعِي عَلَيْهِ عَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ هُنَاكَ بِمَا يَدَّعِيه الطَّالِبُ، وَالدَّعْوَى مُتَحَقِّقَةٌ مِنْهُ فَلَمَّا وُجِدَتْ الصِّفَةُ الَّتِي قَيَّدَتْ الْكَفَالَةَ بِمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ لِلْمَالِ؛ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَرَّ الْكَفِيلُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ صُدِّقَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَدَّقْ الْكَفِيلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ وَقْتَ كَفَالَتِهِ، وَإِقْرَارُ الْأَصِيلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْكَفِيلِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَقْتَ الْكَفَالَةِ، فَمَا أَقَرَّ بِهِ الْكَفِيلُ وَهُوَ الْمِائَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَعَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ، وَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ هُنَا بِصِفَةٍ، ثَبَتَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بِإِقْرَارِهِ هُنَاكَ: ثَبَتَ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ هُوَ بِالْكَفَالَةِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقْتَ الْكَفَالَةِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْكَفِيلُ لَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا ادَّعَى الطَّالِبُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوبُ وَجَحَدَهَا الْكَفِيلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ هُنَا بِمَا ادَّعَاهُ الطَّالِبُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الدَّعْوَى مِنْهُ، وَالْإِقْرَارُ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَا ادَّعَاهُ الطَّالِبُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ، وَلَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الدَّعْوَى مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ ادَّعَى الْآنَ أَنَّهُ كَانَ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْكَفَالَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي هَذَا؛ فَالْقَوْلُ لِلْكَفِيلِ فِي إنْكَارِهِ أَنَّك لَمْ تَدَّعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هُنَاكَ إنَّمَا كَفَلَ بِمَا يَدَّعِي الطَّالِبُ عَلَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْمُعَايَنَةِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا جَلَسَ الْقَاضِي فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي لِلطَّالِبِ الجزء: 19 ¦ الصفحة: 188 عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْعُدْ الْقَاضِي أَيَّامًا وَلَمْ يُوَافِ بِهِ وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ إذَا جَلَسَ الْقَاضِي، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ الْقَاضِي لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ أَجَّلَ فِي الْمُوَافَاةِ إلَى جُلُوسِ الْقَاضِي، وَمَا لَمْ يَمْضِ الْأَجَلُ؛ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمُوَافَاةِ. وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَاةٍ مُسْتَحَقَّةٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ جُلُوسِ الْقَاضِي؛ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَقَدْ احْتَالَ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ دِرْهَمٍ الَّتِي لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَالْحَوَالَةُ فِي هَذَا وَالْكَفَالَةُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يُلْزَمُ الْمَالَ، وَتَتَعَلَّقُ بَرَاءَتُهُ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَإِلَيَّ الْمَالُ أَوْ فَعَلَيَّ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَعِنْدِي لَهُ هَذَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ، وَقُرْبُ الدَّيْنِ مِنْهُ إمَّا بِالْتِزَامِ أَصْلِهِ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ بِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ. فَكَانَ هَذَا وَالْكَفَالَةُ سَوَاءً. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ غَدًا فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ وَلَزِمَهُ الْمَالُ ثُمَّ أَخَذَهُ الطَّالِبُ بِكَفَالَةِ النَّفْسِ وَقَالَ: لِي عَلَيْهِ مَالٌ آخَرُ، أَوْ، لِي مَعَهُ خُصُومَةٌ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ الْكَفَالَةِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ وَبِأَدَاءِ الْمَالِ لَمْ يَصِرْ مُسَلِّمًا نَفْسَهُ. وَأَدَاؤُهُ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِهِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهَا كَانَ أَوْلَى وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى مَا طَالَبَهُ الطَّالِبُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ؛ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي طَلَبَهُ الطَّالِبُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَهُ غَدْوَةً فَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ حَتَّى الْعَشِيِّ قَالَ: وَلَا يُبْرِئُهُ مِنْ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ سَاعَةَ طَلَبِهِ مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ، وَشَرْطُ بَرَاءَتِهِ أَنْ يُوَافِيَهُ بِهِ حِينَ يَطْلُبُهُ الطَّالِبُ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ انْعَدَمَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ فَبَقِيَ الْمَالُ عَلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ بِأَصْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَنْفَعُهُ دَفْعُ النَّفْسِ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا عَنْ الْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 189 [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ دَعْوَى وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَوَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ ضَامِنًا لِمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْحَقِّ التَّوَثُّقُ بِحَقِّهِ. وَتَمَامُ التَّوَثُّقِ يَكُونُ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِالْكَفِيلِ، وَيُخْفِي شَخْصَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الطَّالِبِ إثْبَاتُ حَقِّهِ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى حَبْسِ الْكَفِيلِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ يُمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَبَعْدَ الْإِثْبَاتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْوَكِيلَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَرُبَّمَا لَا يَظْفَرُ الْوَكِيلُ بِالْأَصِيلِ فَإِذَا كَانَ ضَامِنًا لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ تَوَصَّلَ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَمَامَ التَّوَثُّقِ بِهَا يَحْصُلُ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الضَّمَانُ لَا يَجُوزُ (وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ) أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُضَافًا إلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ يَجُوزُ عِنْدنَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا بَعَثَ بِهِ فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالِالْتِزَامِ بِالشِّرَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ حَتَّى لَوْ عُلِّقَ بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ؛ لَمْ يَصِحَّ. فَكَذَلِكَ إذَا أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ عِنْدَكُمْ لَوْ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى مَوْتِ الْمَطْلُوبِ؛ كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ أَضَافَهَا إلَى مَوْتِ غَيْرِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَائِنٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا بَايَعْت بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ. فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْمَكْفُولُ بِهِ. وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فَهَذَا الْمُنَادِي أَضَافَ الِالْتِزَامَ بِالْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ وَهُوَ الْمَجِيءُ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ وَإِنَّمَا نَادَى بِأَمْرِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا: فَهُوَ ثَابِتٌ فِي شَرِيعَتِنَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النُّسَخِ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُنَا بَيَانُ الْعِمَالَةِ لِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَعِنْدِي مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَخَاطَبَ جَمَاعَةً وَقَالَ: مَنْ جَاءَ بِهِ مِنْكُمْ فَلَهُ عَشَرَةٌ كَانَ هَذَا صَحِيحًا وَلَكِنَّا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 نَقُولُ: اسْتِدْلَالُنَا بِزَعَامَةِ الْمُنَادِي بِقَوْلِهِ {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ وُجُوبِ ذَلِكَ الْمَالِ فَإِنَّ الْعِمَالَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَمَلُ. فَأَمَّا الْوُجُوبُ عَلَى الْكَفِيلِ فَبِسَبَبِ الْكَفَالَةِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ هَذَا كَفَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ، وَجَهَالَةُ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذْ الْتِزَامُ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ نَظِيرُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ لَا يُقَابِلُهُ إلْزَامٌ عَلَى مَنْ يَلْتَزِمُ لَهُ وَجَهَالَةُ الْمُقِرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا الْتَزَمَهُ بِالْكَفَالَةِ وَجَوَازُ الْكَفَالَةِ فِي الْأَصْلِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إضَافَةِ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْكَفَالَةَ بِالدَّرَكِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ - لِكَوْنِهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ - لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّتَهَا لِمَعْنَى الْخَطَرِ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ كَفَالَةٍ؛ إذْ لَا يَدْرِي أَنَّ الطَّالِبَ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ مَوْتَ الْمَطْلُوبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ وَارِثَهُ؛ فَلِهَذَا تَصِحُّ إضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيقُ بِكَلَامِ زَيْدٍ وَدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِحَالٍ، فَتَمَحَّضَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ وَلَا يَكُونُ الْتِزَامًا. فَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّهُ أَضَافَ الِالْتِزَامَ إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ وَهُوَ الْمُبَايَعَةُ وَالذَّوْبُ فَيَكُونُ الْتِزَامًا صَحِيحًا فَإِنْ وَافَى بِهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِوُجُودِ الْمُوَافَاةِ بِهِ كَمَا الْتَزَمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْكَفَالَةِ، وَيُخَاصِمَهُ فِي دَعْوَاهُ قِبَلَ الْمَكْفُولِ بِهِ وَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لَهُ لِتَحَقُّقِ الذَّوْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَيْهِ. وَالذَّوْبُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ. وَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَأَنَا وَكِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبُ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا شَرَطَ رِضَاهُ فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ نَائِبٌ عَنْهُ وَرُبَّمَا يَتَضَرَّرُ هُوَ بِهِ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَكِيلُ بِدُونِ رِضَا الْمُوَكِّلِ، فَأَمَّا الْكَفَالَةُ: فَالْتِزَامٌ لِلطَّالِبِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَتَى دَعَوْتنِي بِهِ فَلَمْ أُوَافِك بِهِ؛ فَأَنَا وَكِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ ضَامِنٌ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى لِلْوَقْتِ فَمَعْنَاهُ: إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَطْلُبُ مِنِّي وَهَذَا الْوَقْتُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا وَلَكِنْ لَا تُمْكِنُ بِسَبَبِ جَهَالَتِهِ مُنَازَعَةٌ. وَلَوْ كَفَلَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَفُلَانٌ - يَعْنِي: رَجُلًا آخَرَ - وَكِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ فَمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ وَالضَّامِنُ لِلْمَالِ هُوَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ إذَا وُجِدَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 مِنْهُ الْقَبُولُ لِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى نَفْسِهِ؛ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إذَا أَضَافَ كُلَّ عَقْدٍ مِنْ هَذَا إلَى شَخْصٍ مَعْلُومٍ وَقَبِلُوا ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ الْمَطْلُوبُ كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَدَّمَ الْوَكَالَةَ فَقَالَ: هُوَ وَكِيلِي فِي خُصُومَةٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنِك، ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ لَك عَلَيَّ أَوْ لِمَا قُضِيَ لَك بِهِ عَلَيَّ، أَوْ لِمَا لَزِمَنِي لَك، أَوْ بِمَا لَحِقَنِي فَإِنْ وَافَانِي بِهِ غَدًا حَتَّى أَدْفَعَهُ إلَيْك فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَخَّرَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ فَإِذَا قَدَّمَهُ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ وَهَذِهِ كُلُّهَا وَثَائِقُ لِحَقٍّ وَاحِدٍ فَلَا فَرْقَ فِي صِحَّتِهَا بَيْنَ تَقْدِيمِ التَّعْيِينِ وَتَأْخِيرِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى أَجَلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فِيهِ؛ فَهُوَ وَكِيلٌ فِي الْخُصُومَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَطْلُوبُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَائِزَةٌ وَالْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ وَلَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فِي خُصُومَتِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَإِذَا لَمْ يَرْضَ الْمَطْلُوبُ بِوَكَالَتِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَلَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِهَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُمَا صَحِيحَانِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَكَالَةَ أَصْلًا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَهُوَ وَكِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ فَرَضِيَ بِهِ الْمَطْلُوبُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ الْغَدَ فَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِخَطَرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ فَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ. وَبِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لَا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْمَالِ وَلَكِنَّ الطَّالِبَ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ بِثُبُوتِ الْمَالِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَالِ عَلَيْهِ لَا يُغْنِيه عَنْ نَفْسِهِ بَلْ يَحُوجُهُ إلَى ذَلِكَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَكَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ فَإِنْ قَضَى الْكَفِيلُ الطَّالِبَ حَقَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِلْمَالِ وَبِأَدَائِهِ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ خُصُومَةٌ أُخْرَى فَلِهَذَا كَانَ مُتَبَرِّعًا فِي أَدَاءِ الْمَالِ. إنْ شَاءَ الطَّالِبُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى وَطَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ إلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ وَإِنْ كَانَ كَفِيلًا بِالْمَالِ أَجْبَرْتُ الطَّالِبَ عَلَى قَبْضِهِ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَصِيرُ الطَّالِبُ قَابِضًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُبْرِئُ ذِمَّتَهُ بِالْأَدَاءِ وَلِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ مُتَبَرِّعٌ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ عَنْ شَيْءٍ بِمَا يُؤَدِّيه وَلَوْ قَضَاهُ الْكَفِيلُ الْمَالَ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي قَضَاءِ الْمَالِ، وَقَدْ قَبِلَهُ الطَّالِبُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ الطَّالِبُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ حَقُّهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَاهُ بَعْضَهُ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ. وَهَذَا لِأَنَّ الطَّالِبَ لَيْسَ يَمْلِكُ مَا يَقْبِضُهُ مِنْهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 بِإِزَاءِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ مُتَبَرِّعٍ آخَرَ ثُمَّ هُوَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا فَأَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِمَالٍ يَشْتَرِطُهُ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ الْبَرَاءَةِ؛ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ الْمَالُ وَلَوْ أَدَّاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَا تَئُولُ إلَى الْمَالِ بِحَالٍ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ حَتَّى لَا يُوصَفَ بِأَنَّهُ مُلْكُهُ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ مِثْلِهِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْعَتَاقِ بِجَعْلٍ وَالطَّلَاقِ بِجَعْلٍ فَإِنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مُلْكٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُلْكَ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمَالِ فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إزَالَتِهِ بِالْمَالِ أَيْضًا، بِخِلَافِ حَقِّ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِمَالٍ قَطُّ حَتَّى لَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لِيَكْفُلَ بِهِ بِنَفْسِ فُلَانٍ لَا يَصِحَّ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِبْرَاءِ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَفِي حُصُولِ الْبَرَاءَةِ رِوَايَتَانِ: فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَبْرَأُ وَجُعِلَ هَذَا كَحَقِّ الشُّفْعَةِ إذَا سَلَّمَهُ بِمَالٍ يَصِحُّ التَّسْلِيمُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ بِمُقَابَلَتِهِ فَاسِدٌ وَلَكِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يُبْطَلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ مُبْطِلًا لَهُ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولُ: لَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ حَقٌّ قَوِيٌّ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَّا بِإِسْقَاطٍ تَامٍّ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالسُّكُوتِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِسُقُوطِهِ إذَا وَجَبَ لَهُ الْمَالُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ؛ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فَأَمَّا سُقُوطُ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ يَعْتَمِدُ الْإِسْقَاطَ وَتَمَامَ الرِّضَا بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالسُّكُوتِ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَسْقُطُ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَكُنْ لِعَقْدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ مَخْصُوصٍ عَنْهُ وَهُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِهَذَا الضَّرَرِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ بِمَالٍ فَأَمَّا وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِالْكَفَالَةِ فَكَانَ بِقَبُولِهِ الْعَقْدَ فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطٍ يَكُونُ مِنْهُ وَهُوَ إذَا أَسْقَطَهُ بِمَالٍ فَإِنَّمَا يُحَوَّلُ حَقُّهُ إلَى الْمَالِ فَلَا يَسْقُطُ أَصْلًا وَهَذَا التَّحْوِيلُ لَمْ يَصِحَّ؛ فَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ عَلَى حَالِهَا وَلَوْ قَضَاهُ الْمَالَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَبَضَهُ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ. وَالْمُبَادَلَةُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمَالِ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ لِقَضَائِهِ بِعِوَضٍ وَهُنَا نَصَّ عَلَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ حَتَّى شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ مُلْتَزِمٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ يَجِبُ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِيَرْجِعَ بِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَ هُنَاكَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ لَرَجَعَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ وَهَبَ الْمَالَ هُنَا مِنْ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا قَالَ فَإِنْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ عَلَى هَذَا كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا قَضَاهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ بِحُكْمِ تَمْلِيكٍ فَاسِدٍ وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَوْ كَفَلَ نَفْسَهُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ وَكِيلٌ فِي خُصُومَتِهِ فَلَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَا أَنْ يُخَاصِمَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمُدَّةِ لِتَوْسِعَةِ الْأَمْرِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَاشْتِرَاطِ الْمَطْلُوبِ الْأَجَلَ لِنَفْسِهِ فِي الدَّيْنِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ وَضَمَانِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُوَافَاةٍ مُسْتَحَقَّةٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْأَجَلِ فَلِهَذَا لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ. وَعَلَى هَذَا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْكُلَّ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَجَعَلَ الْمَكْفُولَ بِهِ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ ضَامِنًا لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ وَلَهُ مَالٌ؛ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَوَرَثَتِهِ وَلَكِنَّهُ يُخَاصِمُ الْمَكْفُولَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَلَا يَقُومُ رَأْيُ وَارِثِهِ فِي ذَلِكَ مَقَامَ رَأْيِهِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنْ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الذَّوْبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِلْمَالِ. وَالذَّوْبُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ خُصُومَةِ الطَّالِبِ وَإِثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ فَلِهَذَا خَاصَمَ الْمَكْفُولَ بِهِ وَمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ عَلَيْهِ ضَرَبَ بِهِ مَعَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الذَّوْبَ قَدْ تَحَقَّقَ، فَالْوُجُوبُ بِالْكَفَالَةِ يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْسِهِ وَقَدْ كَانَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي صِحَّتِهِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى الْوَاجِبِ مِنْ جُمْلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ يَضْرِبُ بِهِ مَعَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَيْضًا فَخَاصَمَ الطَّالِبُ وَرَثَتَهُ أَوْ وَصِيَّهُ فَقُضِيَ لَهُ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ مِيرَاثَ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الذَّوْبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَيَضْرِبُ فِي مِيرَاثِهِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَفِي مِيرَاثِ الْآخَرِ بِمَا يَبْقَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بَعْضُ حَقِّهِ حِينَ ضَرَبَ مَعَ غُرَمَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ الْآخَرِ إلَّا بِمَا بَقِيَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَى هَذَا الدَّيْنِ فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ آخَرُ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ أَيِّهِمَا شَاءَ أَوَّلًا بِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَفِي الْكِتَابِ أَبْهَمَ فَقَالَ إنْ بَدَأَ فَضَرَبَ مَعَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ رَجَعَ عَلَى وَرَثَةِ الْكَفِيلِ بِمَا أَدَّوْا فِي مَالِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَضَرَبُوا بِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّ كَفَالَتَهُ عَنْهُ كَانَتْ بِأَمْرِهِ وَمَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُؤَدِّيهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيَرْجِعُ بِهِ وَرَثَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ بَدَأَ فَضَرَبَ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَمْ يَرْجِعْ وَرَثَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ فِي تَرِكَةِ الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ كَانَ عَلَى مُوَرِّثِهِمْ وَكَانَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 الطَّالِبُ يَرْجِعُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فَيَضْرِبُ بِهِ مَعَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ إلَّا مِنْ الْقَدْرِ الَّذِي وَصَلَ إلَى الطَّالِبِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَقَطَعَ الْجَوَابَ فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا. وَهُوَ مُبْهَمٌ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ قَاصِرٌ فِي الْبَيَانِ فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرَ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةٌ أَشْكَلُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْحِسَابِيَّاتِ وَغَيْرِهَا فَالْوَجْهُ أَنْ نُصَوِّرَ الْمَسْأَلَةَ لِيَتَبَيَّنَ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فَنَقُولُ: دَيْنُ الطَّالِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ تَرَكَ الْكَفِيلُ عَشَرَةً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ آخَرَ عَشَرَةٌ، وَتَرَكَ الْمَكْفُولُ مِنْهُ أَيْضًا عَشَرَةً وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ عَشَرَةٌ فَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ بَدَأَ بِتَرِكَةِ الْكَفِيلِ؛ ضَرَبَ بِالْعَشَرَةِ فِي تَرِكَتِهِ وَغَرِيمُ الْكَفِيلِ بِالْعَشَرَةِ فَكَانَتْ تَرِكَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَوَصَلَ إلَى الطَّالِبِ خَمْسَةٌ يَأْتِي فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَيَضْرِبُ مَعَ غَرِيمِهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ أَيْضًا بِمَا أَدَّوْا إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيُسَلِّمُ الْغَرِيمُ الْمَطْلُوبَ خَمْسَةً وَلِلطَّالِبِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَلِوَرَثَةِ الْكَفِيلِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ لَا يُسَلِّمُ هَذَا لِوَرَثَةِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَرِكَةُ الْكَفِيلِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِ غَرِيمِهِ خَمْسَةٌ وَمِنْ دَيْنِ الطَّالِبِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ فَيَقْسِمَانِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا فَالثُّلُثُ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ الطَّالِبُ رَجَعَ بِهِ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ الْأُولَى، وَإِنْ اسْتَأْنَفُوا الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الَّذِي ظَهَرَ أَيْضًا يَرْجِعُ بِهِ الطَّالِبُ فِيمَا يَسْتَوْفُونَ وَيَرْجِعُونَ بِمَا يُعْطُونَ إلَيْهِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَتُنْقَضُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا وَلَا يَزَالُ يَدُورُ، هَكَذَا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. وَإِذَا بَدَأَ بِالرُّجُوعِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَضَرَبَ مَعَ غَرِيمِهِ بِالْعَشَرَةِ وَاقْتَسَمَا تَرِكَتَهُ نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فِي تَرِكَةِ الْكَفِيلِ مَعَ غَرِيمِ الْكَفِيلِ فَيَقْتَسِمَانِ الْعَشَرَةَ أَثْلَاثًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ وَرَثَةَ الْكَفِيلِ أَدَّوْا إلَى الطَّالِبِ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا وَيَرْجِعُونَ بِهِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَيَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْنَفُوا الْقِسْمَةَ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَمَا وَصَلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ يَأْخُذُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ حِصَّتِهِ وَيَرْجِعُ بِهِ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. فَهَذَا بَيَانُ مَوَاضِعِ إشْكَالِ الْمَسْأَلَةِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْقُمِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ الْحِسَابِ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ مُفْتَرَيَاتِ الْجَبْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَعْرِفُ مُفْرَدَاتِ الْجَبْرِ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ مُفْتَرَيَاتِ الْجَبْرِ أَصْلًا؛ فَلِهَذَا تَرَكَ بَيَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةَ تَقَعُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِيَضُمَّ ذَلِكَ إلَى مَا يَضْرِبُ بِهِ الطَّالِبُ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ غَرِيمُهُ وَالْعِلْمُ بِمُفْرَدَاتِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 الْجَبْرِ لَا يَهْدِي إلَى ذَلِكَ فَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْأَهْوَازِيُّ مِنْ حِسَابِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا تَعَذَّرَ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ جَذْرِ الْأَصَمِّ وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْجَذْرَ الْأَصَمَّ إلَّا هُوَ وَقِيلَ: الْجَذْرُ الْأَصَمُّ مُغْلَقٌ ضَلَّ مِفْتَاحُهُ فَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعِبَادِ بِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ وَبَرْهَنَ بِمَقَالَتِهِ بِمَسْأَلَةٍ مُجْتَذَرَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَحَقَّقَهَا وَخَرَّجَهَا وَسُئِلَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ الْجَنُوبِيُّ فِي زَمَانِهِ - وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْحِسَابِ - أَنْ يُخَرِّجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ فَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ مُدَّةً وَخَرَّجَهَا بِالتَّقْرِيبِ دُونَ التَّحْقِيقِ (وَالْحَاصِلُ) أَنَّ مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّحْقِيقِ أَصْلًا. وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ عِنْدِي فِي تَصْنِيفٍ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعِي شَيْءٌ مِنْ كُتُبِي وَلَمْ يَجُدْ بِهِ خَاطِرِي الْآنَ. فَإِنْ تَيَسَّرَ وُصُولِي إلَى كُتُبِي أَوْ جَادَ بِهِ خَاطِرِي أَيَّ وَقْتٍ أَتَيْت مِنْهُ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ نُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ بِعَيْنِهَا وَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ يَقُولُ: الطَّالِبُ إذَا اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ ضَرَبَ بَقِيَّةَ دَيْنِهِ فِي تَرِكَةِ الْآخَرِ فَمَا سُلِّمَ لِوَرَثَةِ الْكَفِيلِ لَا يَرْجِعُ فِيهِ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا وَصَلَ إلَى الطَّالِبِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مُلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ يَكُونُ ذَلِكَ سَالِمًا لِغَرِيمِ الْكَفِيلِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يَبْعُدُ؛ فَإِنَّ مَا يَأْخُذُونَ مَالُ الْكَفِيلِ فَكَيْفَ يُسَلَّمُ ذَلِكَ لِأَحَدِ غَرِيمَيْهِ دُونَ الْآخَرِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَهُوَ وَكِيلٌ فِي خُصُومَةِ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ خُصُومَةٍ هِيَ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ فِي أَيِّ خُصُومَةٍ وَكِيلُهُ؛ فَالْوَكِيلُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ مَا وَكَّلَهُ بِهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَلَمْ يُفَوِّضْ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَلَكِنَّ فَسَادَ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ فَالْمُفْسِدُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ وَكَفَالَةُ الصَّبِيِّ التَّاجِرِ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ وَلَا بِإِذْنِهِ كَالْهِبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا فِيمَا يَنْفَعُهُ، وَالتَّبَرُّعُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفَعُهُ عَاجِلًا، وَإِذْنُ الْأَبِ لَهُ لَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ مُبَاشَرَتَهُ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ إقْرَاضٌ لِلذِّمَّةِ بِالْتِزَامِ الْحَقِّ فِيهَا فَكَانَ كَإِقْرَاضِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِإِذْنِ أَبِيهِ وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمَعْتُوهُ وَالْمُبَرْسَمُ الَّذِي يَهْذِي فِي ذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ عَلَيْهِ مَالٌ أَدْخَلَ ابْنًا لَهُ غَيْرَ بَالِغٍ مَعَهُ فِي الْكَفَالَةِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ عَنْ الْغَيْرِ بِإِذْنِ الْأَبِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ عَنْ الْأَبِ؛ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُتَّهَمٌ بِمَا لَا يُتَّهَمُ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَهُوَ صَبِيٌّ؛ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً وَلَوْ عَايَنَّاهُ كَفَلَ فِي صِبَاهُ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَلِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي تِلْكَ الْحَالُ الْكَفَالَةَ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْكَفَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُقِرًّا بِهَا وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِإِضَافَتِهِ الْكَفَالَةَ إلَى مَعْهُودٍ يُنَافِي كَفَالَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالِالْتِزَامِ. وَلَوْ اسْتَدَانَ وَصِيُّ الْيَتِيمِ دَيْنًا فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ فَضَمِنَهُ أَوْ ضَمِنَهُ بِنَفْسِهِ فَضَمَانُ الدَّيْنِ جَائِزٌ وَضَمَانُ النَّفْسِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الدَّيْنِ عَلَى الصَّبِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَصِيَّ يُؤَدِّيه مِنْ مَالِهِ وَلَوْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ بِهَذَا الضَّمَانِ يَلْتَزِمُ مَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِهَا مَا لَيْسَ عَلَيْهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ الصَّبِيَّ بِأَنْ يَسْتَدِينَ فَفَعَلَهُ جَازَ وَكَانَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَ بِنَفْسِهِ وَأَمَرَهُ حَتَّى ضَمِنَ الْمَالَ وَلَا يَمْلِكُ مِثْلَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا اسْتَدَانَ عَلَى الِابْنِ دَيْنًا فِي بَعْضِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْأَبِ عَلَيْهِ أَنْفَذُ مِنْ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ وَالتَّاجِرُ وَغَيْرُ التَّاجِرِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لِصَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ وَلَا لِمَجْنُونٍ وَلَا لِمُغْمًى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَالَةَ لِهَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ. فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُ هَذَا فِي الْكَفَالَةِ لِلْغَائِبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَفِيلُ يَنْفَرِدُ بِالْكَفَالَةِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يَقْبَلْ قَابِلٌ وَقَبُولُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ بَاطِلٌ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ لِلصَّبِيِّ التَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَيْهِ لَا مِنْهُ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ لَهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا قَبِلَهُ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ يُوَافِي بِهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ فَلَوْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَهُ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَلَكِنَّ الذَّوْبَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمَالُ إذَا قَضَى بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا بِصِفَةٍ وَلَيْسَ الْكَفِيلُ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمَا لَمْ يَصِرْ كَفِيلًا بِهِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ الطَّالِبُ أَوْ الْمَطْلُوبُ قَامَ وَارِثُهُ أَوْ وَصِيُّهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 ضَامِنٌ لِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ أَوْ لِمَا قَضَى عَلَيْهِ قَاضِي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَضَى بِذَلِكَ غَيْرُ قَاضِي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا وَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ مُفِيدٌ، فَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْقَاضِي بِهِ قَاضِيَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقَضَاءُ لَا عَيْنُ الْقَاضِي وَفِي الْقَضَاءِ قَاضِي الْكُوفَةِ وَغَيْرُ قَاضِي الْكُوفَةِ سَوَاءٌ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَكْفُولُ وَارِثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَاَلَّذِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ يَكْفُلُ نَفْسَ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِذَلِكَ الدَّيْنِ. يَقْضِيهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَأْخُذُ مِنْ غَرِيمِ الْمَيِّتِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ضَامِنًا لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي، وَكَذَلِكَ الْأَبُ يَأْخُذُ مِنْ غَرِيمِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي ذَلِكَ مَقَامَ وَلَدِهِ أَنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ غَرِيمًا بِمَالٍ لِأَخِيهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ وَكَالَةٍ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ وَأَخَذَ كَفِيلًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ ضَامِنًا لِمَا ذَابَ عَلَيْهِ فَرَضِيَ بِذَلِكَ مُدَّعِي الْمَالَ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ قَبُولَ هَذَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الطَّالِبِ فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ وَلَوْ فَسَخَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الْمَالِ فَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَلْزَمُ الْكَفِيلَ إلَّا بِرِضَا الطَّالِبِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ كَفِيلًا عَنْ غَرِيمِهِ بِنَفْسِهِ ضَامِنًا لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ بِمَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَفَلَ الْكَفِيلُ لِلْوَكِيلِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ مُبَاشِرًا الْعَقْدَ وَإِلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ لِلْمُوَكِّلِ لَمْ يَبْرَأْ بِدَفْعِهِ إلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ رَسُولًا، وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ بَرِئَ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: الْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ فَإِنَّمَا يُطَالِبُ بِمُوجَبِهَا لِمَنْفَعَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يُعْطِيَ فُلَانًا كَفِيلًا بِنَفْسِ الْمُوَكِّلِ ضَامِنًا بِمَا ذَابَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَأَعْطَى الْوَكِيلُ كَفِيلًا بِذَلِكَ فَقُضِيَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَالٍ لِلطَّالِبِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَكِيلَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَسُولًا مِنْ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ فَلَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 (أَلَا تَرَى) لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضْمَنَ رَجُلًا بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَضْمَنَ مَا ذَابَ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ وَلَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ شَيْئًا وَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْمُشِيرِ وَالْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ بِمَا أَدَّى مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ وَكِيلَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ كَكَفَالَتِهِ بِنَفْسِهِ وَالْكَفِيلُ بِالْأَمْرِ إذَا طُولِبَ طَالَبَ وَلَوْ لُوزِمَ لَازَمَ، وَإِذَا حُبِسَ حَبَسَ، وَإِذَا أَدَّى رَجَعَ. وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا: يُطَالِبُهُ أَنْ يَقُولَ: اقْضِ حَقَّ الْمَطْلُوبِ لَا تَخْلُصْ مِنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ وَلَا يُطَالِبُهُ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ وَبِالْقَرْضِ لَا يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ بَعْد إقْرَاضِ الْمَالِ مِنْهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ أَدَائِهِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مَا لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ عَنْ الصَّبِيَّانِ وَالْمَمَالِيكِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ صَبِيٍّ دَعْوَى وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ يُؤَاخَذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ لِلْجَوَابِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْضُرَ إنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ يَحْضُرَ وَلِيُّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لِيَقُومَ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ فَلَمَّا الْتَزَمَ الْكَفِيلُ تَسْلِيمَ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ - وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ -؛ صَحَّ الْتِزَامُهُ. فَإِنْ طَلَبَ الْكَفِيلُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ الصَّبِيُّ لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ الصَّبِيُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ طَلَبَ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَكُونَ تَاجِرًا مَأْذُونًا لَهُ فَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ مُلْزِمٌ فَيُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ بِالْحُضُورِ مَعَهُ لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ تَاجِرٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا فَطَلَبَ أَبُوهُ إلَى رَجُلٍ أَنْ يَضْمَنَهُ فَضَمِنَهُ؛ كَانَ جَائِزًا وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ، وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْغُلَامَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَوْلُهُ مُلْزِمٌ عَلَى وَلَدِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَنْفَعُ الصَّبِيَّ فَكَانَ قَوْلُ الْأَبِ فِيهِ مُلْزِمًا إيَّاهُ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ مَعَهُ فَإِنْ تَغَيَّبَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَبَ حَتَّى يُحْضِرَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ يُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَبِ فِي هَذَا لَمَّا جَازَ عَلَى الْوَالِدِ؛ صَارَ الْوَلَدُ مَطْلُوبًا بِهِ وَكُلُّ حَقٍّ كَانَ الْوَلَدُ مَطْلُوبًا بِهِ فَأَبُوهُ مَأْمُورٌ بِإِيفَائِهِ ذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ مُلْكِ الْوَلَدِ كَمَا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِالْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِإِحْضَارِ الصَّبِيِّ. وَالْوَصِيُّ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلصَّبِيِّ وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ غُلَامٍ لَيْسَ هُوَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 وَصِيَّهُ أُخِذَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَهُ وَلَا يُؤْمَرُ الصَّبِيُّ بِالْحُضُورِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْآمِرِ عَلَيْهِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ، وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْآمِرَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ بِشَيْءٍ. وَالْمَعْتُوهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّبِيِّ عَلَى الْمَعْتُوهِ تَثْبُتُ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ صَبِيٍّ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ غَدًا فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا ذَابَ عَلَيْهِ. فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ بِالْمَالِ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا لِوُجُودِ شَرْطِهِ ثُمَّ الذَّوْبُ عَلَى الصَّبِيِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْمَالِ عَلَى أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ أَوْ قَيَّمَ نَصِيبَهُ الْقَاضِي لَهُ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ لَزِمَ الْكَفِيلَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الصَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ الْوَصِيَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ، وَالْإِقْرَاضُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ وَلِيِّهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَالُ لَازِمًا عَلَيْهِ وَأَمْرُ وَلِيِّهِ بِذَلِكَ كَأَمْرِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ أَوْ غَيْرِ التَّاجِرِ عَنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ أَوْ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَهُوَ مُنْفَكٌّ الْحَجْرُ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ عَنْ سَائِرِ الْأَجَانِبِ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ بِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ. فَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِإِذْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْتِزَامِهِ فِي الْحَالِ حَقُّ مَوْلَاهُ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَا تُلَاقِي حَقَّ مَحَلِّ الْغُرَمَاءِ فَلِهَذَا نَفَذَ مِنْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَفَلَ عَنْ الْمَوْلَى أَوْ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجِبُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ حَبْسُهُ إنْ لَمْ يُحْضِرْ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ يُوقِعُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ خِدْمَتِهِ فَلِهَذَا جَازَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَفَلَ عَنْهُ بِالْمَالِ بِإِذْنِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي مَالِيَّتِهِ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ بِأَنْ يَرْهَنَهُ أَوْ يُقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ حَتَّى كَفَلَ عَنْهُ فَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى سَيِّدِهِ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ مِنْ خَالِصِ مُلْكِهِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْكَفَالَةَ حِينَ وَقَعَتْ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لَهُ شَيْئًا عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى مَوْلَاهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ حَقًّا، وَلِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتِ أَدَائِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ الْأَصِيلُ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ؛ كَانَ صَحِيحًا وَلَا يَرْجِعُ إذَا أَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْكَفَالَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا عَلَى مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 قِيمَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَالَةُ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَغْلَهُ بِالدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ عَلَيْهِ وَلَا بِالرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ بِإِذْنِهِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ. وَلَكِنَّ الِالْتِزَامَ مِنْهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى إذَا عَتَقَ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَتَرَكَ مَالًا وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ غُرَمَاءَ الْعَبْدِ يَسْتَسْعَوْنَهُ فِي قِيمَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِغُرَمَاءِ السَّيِّدِ مِنْ هَذِهِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ؛ بَدَلُ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ. وَغُرَمَاءُ الْعَبْدِ حَقُّهُمْ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ مِنْ حَقِّ غُرَمَاءِ السَّيِّدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ حَتَّى مَاتَ؛ لَكَانَ يُبَاعُ الْعَبْدُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَى غُرَمَائِهِ دُونَ غُرَمَاءِ السَّيِّدِ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ هَذِهِ السِّعَايَةِ وَلَكِنَّ غُرَمَاءَ السَّيِّدِ يَبِيعُونَ مَالَ السَّيِّدِ. وَإِنْ شَاءَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ تَبِعُوا مَالَ السَّيِّدِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ حَقِّهِمْ بِعِتْقِ الْعَبْدِ فَوَجَبَ لَهُمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَنْفُذُ الْكَفَالَةُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ عِنْدَهُ كَالْمُكَاتَبِ. وَكَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ لَمْ تَصِحَّ. وَعِنْدَهُمَا مَتَى عَتَقَ نَفَذَتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالْمَكْفُولُ لَهُ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ مَالَ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دَيْنِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْعَبْدَ لِصِحَّةِ كَفَالَتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُ غُرَمَاءَهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَالِيَّتِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مُزَاحَمَةٌ مَعَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي مَالِيَّتِهِ. فَكَذَلِكَ فِي بَدَلِ الْمَالِيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أُمُّ وَلَدٍ فَعَتَقَتْ فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَفَالَةِ يَسْتَسْعِيهَا مَعَ غُرَمَائِهَا بِمَالِيَّتِهَا إذْ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا وَلَكِنَّ الدُّيُونَ تَتَقَرَّرُ فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَتُؤْمَرُ بِقَضَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْمَكْفُولُ لَهُ أَخْذُهَا. وَالْمُدَبَّرَةُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ مِمَّا يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ الْكَفَالَةِ. وَالْمَمْلُوكُ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى مَالِكِهِ فَإِنَّ فِي الْمُدَبَّرَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لِغُرَمَائِهَا حَقُّ الرُّجُوعِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى بِقِيمَتِهَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ الْمُدَبَّرَةِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَهْلِكًا مِنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ شَيْئًا إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقُّ بَيْعِ الرَّقَبَةِ فِي الدَّيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُمْ فِي الْكَسْبِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذَا اللَّفْظِ: الْمُسَاوَاةُ فِي إيجَابِ السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ عَلَى الْمُدَبَّرَةِ وَالْعَبْدِ دُونَ الْوَلَدِ عَلَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ كَانَتْ قَائِمَةً فِي الْمُدَبَّرَةِ حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ؛ ضَمِنَ قِيمَةَ مَالِيَّتِهَا وَكَانَ ذَلِكَ لِغُرَمَائِهَا فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا لِغُرَمَائِهَا كَالْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَالُ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ كَفَالَةٍ فَأَدَّى عَنْهُ الْعَبْدُ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ. وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا كَفَالَةَ لِلْعَبْدِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ وِلَايَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامٍ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْهُ لِحَقِّ مَوْلَاهُ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 وَكَفَالَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْعَبْدِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَاطِلَةٌ، حَتَّى يَعْتِقُوا فَإِذَا عَتَقُوا لَزِمَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ مَوْلَاهُ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِيهَا جَازَتْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِدَيْنِهِ قَبْلَ دَيْنِ الْكَفَالَةِ. وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُمَا يُسْتَسْعَيَانِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُمَا لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْبَيْعِ فَكَانَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِمَا وَهُوَ السِّعَايَةُ فَيُبْدَأُ بِدَيْنِهِمَا مِنْ سِعَايَتِهِمَا، ثُمَّ بِدَيْنِ الْكَفَالَةِ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى. وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ بِنَفْسِ رَجُلٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَأُوخِذَ الْعَبْدُ بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ لَمْ يَضَعْ عَلَى الْمَكْفُولِ لَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي مُطَالَبَةِ الْعَبْدِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْمَوْلَى الْمَالِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَلَا تَعَلُّقَ لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِالْمَالِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِمَالٍ؛ ضَمِنَ السَّيِّدُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَكْفُولِ لَهُ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ وَقَدْ ظَهَرَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الْكَفَالَةِ فَإِذَا أَتْلَفَهُ بِالْإِعْتَاقِ؛ صَارَ ضَامِنًا ذَلِكَ لِلطَّالِبِ. وَالْغَرِيمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْعَبْدَ بِالْمَالِ لِكَفَالَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ السَّيِّدَ لِإِتْلَافِهِ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَإِنْ تَبِعَ الْعَبْدَ كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتْبَعَ الْمَكْفُولَ بِهِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَتْبَعَ السَّيِّدَ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَيْضًا أَنْ يَتْبَعَ الْمَكْفُولَ بِهِ إنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ طَلَبَ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبَ مِنْ السَّيِّدِ وَلَا مِنْ الْعَبْدِ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَرَّعَا بِالِالْتِزَامِ وَالْأَدَاءِ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ مَوْلَاهُ فَكَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اسْتَدَانَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ الْقَاضِي فِي الدَّيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ ثَمَنَهُ يَضْرِبُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِدَيْنِهِمْ كُلِّهِ، وَيَضْرِبُ فِيهِ أَصْحَابُ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِقْدَارُ الْفَارِغِ مِنْ قِيمَتِهِ عَنْ الدَّيْنِ يَوْمَ كَفَلَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ الْمَالَ بِالْكَفَالَةِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إنَّمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ الْفَارِغِ. وَالْفَارِغُ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِقَدْرِ الْفَارِغِ مِنْ مَالِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ حَتَّى كَفَلَ فَاسْتِدَانَتُهُ مُلْزِمَةٌ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ فَرَاغَ الْمَالِيَّةِ فَثَبَتَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا اسْتَدَانَهُ فَلِهَذَا ضَرَبَ كُلُّ غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَلَا يَضْرِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ إلَّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ وَهُوَ صَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ عَتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ. وَالْتِزَامُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بَعْدَ مَا عَتَقَ وَهُوَ صَبِيٌّ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 الرِّقِّ وَبَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إذْنَ السَّيِّدِ فِي الْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ عَلَيْهِ فِي الرِّقِّ وَبَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَهَذَا لِأَنَّ لِلْمَوْلَى قَوْلًا مُلْزِمًا عَلَى عَبْدِهِ. وَقَوْلُهُ عَلَى عَبْدِهِ أَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ كُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ إذْنِ وَالِدِهِ كَدُيُونِ التِّجَارَةِ يَكُونُ الْوَالِدُ مُؤَاخَذًا بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِنْ كَفَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ بِدِينٍ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ثُمَّ كَفَلَ بِدِينٍ آخَرَ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ بِإِذْنِهِ أَيْضًا؛ لَمْ يَجُزْ الدَّيْنُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ هَذَا الِالْتِزَامِ فَرَاغُ الْمَالِيَّةِ. فَمَا لَمْ يَقْضِ بِالْأَوَّلِ؛ لَا يَصِيرُ هَذَا الشَّرْطُ مَوْجُودًا فَلَا يَثْبُتُ الثَّانِي، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِدِينٍ مُسْتَغْرِقٍ قِيمَتَهُ ثُمَّ بِدَيْنٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ مِنْ تِجَارَتِهِ، وَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ إنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ؛ لَزِمَهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ كَانَ اشْتِغَالُ الْمَالِيَّةِ بِحَقِّ الْأَوَّلِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِبُطْلَانِ الْمَالِيَّةِ بِالْعِتْقِ فَاسْتَوَتْ الدُّيُونُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ صَبِيًّا، فَأَذِنَ هُوَ أَوْ أَبُوهُ، أَوْ وَصِيُّهُ لِلْعَبْدِ فِي الْكَفَالَةِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْكَفَالَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْذَنُ فِيهِ لِعَبْدِهِ. وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْكَفَالَةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا فِي مَالِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ أَذِنُوا لِلصَّبِيِّ حَتَّى كَفَلَ؛ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنُوا فِيهِ لِعَبْدِ الصَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَوْلَاهُ عَبْدًا تَاجِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِذَلِكَ لِعَبْدِهِ فَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِ عَبْدِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ جَازَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ خَالِصُ مِلْكِهِ كَالْأَوَّلِ. فَكَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْأَوَّلِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَكَذَلِكَ مِنْ الثَّانِي. وَإِنْ أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ، وَكَفَلَ بِهَا ثُمَّ اسْتَدَانَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ الْقَاضِي بِأَلْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ فِيهَا أَصْحَابُ الْكَفَالَةِ بِدَيْنِهِمْ كُلِّهِ، وَأَصْحَابُ الدَّيْنِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ الْعَبْدِ حَصَلَتْ فِي حَالِ فَرَاغِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَنَفَذَتْ فِي الْكُلِّ. ثُمَّ اشْتِغَالُهُ بِدَيْنِ الْكَفَالَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدَانَةِ فَيَثْبُتُ الدَّيْنَانِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ فِي ثَمَنِهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ. وَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ الْعَبْدُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ كَفَلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى بِإِذْنِهِ أَيْضًا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ بِالْكَفَالَةِ الْأُولَى اشْتَغَلَتْ جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِحَقِّ الْمَكْفُولِ لَهُ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ: فَرَاغُ الْمَالِيَّةِ. فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدِينٍ بِقَدْرِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15 قِيمَتِهِ ثُمَّ بِدَيْنٍ آخَرَ فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ كَفَلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الثَّالِثَةِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ فَرَاغُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهَا بِقَدْرِهَا فَإِنْ قِيلَ: إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ لِمَاذَا لَمْ تُشْتَغَلْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِالْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ الثَّالِثَةُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَزْدَادُ تَارَةً وَتُنْتَقَصُ أُخْرَى؛ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا - بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ - الْكَفَالَةَ الثَّالِثَةَ دُونَ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ بَاعَهُ الْقَاضِي بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمَكْفُولِ لَهُ الْأَوَّلِ وَالْمَكْفُولِ لَهُ الْآخِرِ نِصْفَيْنِ؛ لِصِحَّةِ هَاتَيْنِ الْكَفَالَتَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ لَهُ وَلَيْسَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَهُ. وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَتَيْنِ - يَعْنِي: الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ - اسْتَوَتَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمِقْدَارِ فَمَا يَحْصُلُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ بِأَنْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ أَوْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ؛ فَالْفَضْلُ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَضْلَ حَقُّ الْمَوْلَى قَدْ رَضِيَ بِصَرْفِهِ إلَى الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ لَوْ كَفَلَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ سَقَطَتْ دُيُونُهُ بِالْأَدَاءِ؛ يُصْرَفُ كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ إلَى دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ: مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَرَضِيَ بِذَلِكَ الطَّالِبُ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الطَّالِبُ: لِي عَلَيْك أَلْفَانِ وَقَالَ الْكَفِيلُ: مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ ثُمَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ يَكُونُ لَازِمًا عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَيَتَحَقَّقُ الذَّوْبُ فِي هَذَا الْقَدْرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى الْكَفِيلِ فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا إلْزَامُ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ بِقَوْلِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ إيجَابُ الْمَالِ عَلَيْهِ بِكَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِالذَّوْبِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الذَّوْبَ قَدْ يَحْصُلُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَقَدْ صَارَ مُلْتَزِمًا ذَلِكَ بِكَفَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا أَقَرَّ لَك بِهِ فُلَانٌ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَمَا صَارَ لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ. وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ إذَا أَنْكَرَ الْوُجُوبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً فَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَكِنَّا نَتْرُكُ هَذَا الْقِيَاسَ لِلتَّنْصِيصِ مِنْ الْكَفِيلِ فِي الْكَفَالَةِ عَلَى مَا يُقِرُّ بِهِ الْمَطْلُوبُ أَوْ عَلَى مَا يَذُوبُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ الذَّوْبِ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا قُضِيَ لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلُ حَتَّى يَقْضِيَ عَلَى الْمَطْلُوبِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 16 بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ مَقْضِيٍّ بِهِ فَمَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا يَتَقَرَّرُ الْوَصْفُ الَّذِي قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: مَا لَكَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ بِإِقْرَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَقْتَ الْكَفَالَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ أَنَّهُ صَارَ وَاجِبًا وَقْتَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يُجْعَلُ كَالْإِنْشَاءِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ هُنَاكَ إنَّمَا كَفَلَ بِمَا يُقِرُّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ بِمَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى لَوْ قَالَ: مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ لَك فُلَانٌ أَمْسِ فَهُوَ عَلَيَّ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: قَدْ أَقْرَرْت لَهُ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْكَفِيلُ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِهِ مِنْ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَلَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ أَمْسِ فَحِينَئِذٍ: الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ قَالَ مَا أَقَرَّ لَك بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ قَبْلَ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ تَلْزَمْ الْكَفِيلَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ إقْرَارٌ يَكُونُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ لِإِيضَاحِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ بِمَا يُقِرُّ بِهِ وَالنُّكُولُ بَدَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. وَعِنْدَهُمَا: هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْكَفِيلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ عَبْدٍ دَعْوَى فَكَفَلَ مَوْلَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَهَذَا الْفَصْلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى عَبْدِهِ بِسَبَبِ مُلْكِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ الْمَوْلَى عَنْ الْعَبْدِ بِالْمَالِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِالْمَالِ فَلَوْ كَفَلَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ صَحَّ فَكَذَلِكَ مَوْلَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: دَيْنُ الْعَبْدِ مُسْتَحِقٌّ الْقَضَاءَ مِنْ مَالِيَّتِهِ وَهُوَ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ؟. قُلْنَا: الْفَائِدَةُ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمَوْلَى إمَّا بِالْمُطَالَبَةِ أَوْ بِأَصْلِ الدَّيْنِ وَاسْتِحْقَاقِ قَضَائِهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ الْكَفَالَةِ وَإِذَا أَدَّى الْمَالَ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الْكَفَالَةِ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ أَحَالَ الْعَبْدُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِدَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ الْعَبْدُ فَمَاتَ الْمَوْلَى - وَلَا مَالَ لَهُ إلَّا الْعَبْدُ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَثِيرٌ - فَلِلْمُحْتَالِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 17 لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ بِدُيُونِهِ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ إلَّا الْعَبْدُ مُفْلِسًا وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ بِعَوْدِ دَيْنِ الْمُحْتَالِ لَهُ إلَى الْعَبْدِ فَيَضْرِبُ بِدَيْنِهِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ مَعَ غُرَمَائِهِ. وَإِنْ كَفَلَ الْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَبْرَأَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَوْلَى الْكَفِيلَ كَانَ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الدَّيْنَ عَنْ الْأَصِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْكَفَالَةِ كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْكَفَالَةِ يَبْقَى الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا بِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ؛ فَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ فَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَإِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَإِسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ، فَكَانَ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ إسْقَاطًا لِلْمُطَالَبَةِ عَنْهُ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَبْدَ بَرِئَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ إسْقَاطٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ضَرُورَةً فَإِنْ كَفَلَ الْمَوْلَى بِنَفْسِ عَبْدِهِ وَضَمِنَ مَا ذَابَ عَلَيْهِ وَغَابَ الْعَبْدُ تَاجِرًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يُؤْخَذُ بِنَفْسِهِ لِكَفَالَتِهِ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَحْضُرَ الْعَبْدُ فَيُخَاصِمَ فَإِذَا قُضِيَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ مَا يَذُوبُ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِحَضْرَتِهِ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ ضَمَانُ الْمَالِكِ؛ لَا يَكُونُ هُوَ خَصْمًا فِيهِ وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيمَا عَلَى عَبْدِهِ بِدُونِ الضَّمَانِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى عَبْدٍ تَاجِرٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ ضَمِنَهُ الْعَبْدُ لَهُ بِأَمْرِهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بِهَذِهِ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إنَّمَا يَلْتَزِمُ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الصَّبِيِّ لَوْ اسْتَدَانَ مَالًا وَأَنْفَقَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ الصَّبِيَّ بِأَنْ يَضْمَنَ هَذَا الْمَالَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ لِلْمَالِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامٌ لِمَا عَلَيْهِ. كَذَا هُنَا وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا أَمْرٌ مِنْ غَرِيمِ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ بِأَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ عَلَيْهِ إلَى غَرِيمِهِ، أَوْ يُوَكِّلَ غَرِيمَهُ فِي أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْعَبْدِ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَكَمَا يَمْلِكُ أَنْ يُطَالِبَ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَالَ لَوْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْعَبْدِ لِلْآمِرِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مَدْيُونِهِ صَحَّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ عَلَيْهِ لِجَوَابِ الْخَصْمِ مُسْتَحَقٌّ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ عَنْهُ كَالْمَالِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ عَنْهُ إنْسَانٌ؛ صَحَّ وَلَيْسَ لِهَذَا الْكَفِيلِ أَنْ يَتْبَعَ الْعَبْدَ بِذَلِكَ حَتَّى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 18 يَعْتِقَ كَمَا أَنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْتِقَ فَإِذَا أُعْتِقَ اتَّبَعَهُ بِكَفَالَتِهِ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ، وَأَمْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ. فَكَانَ مُطَالَبًا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَالٌ لِرَجُلٍ فَكَفَلَ بِهِ عَنْهُ لِآخَرَ، كَانَ جَائِزًا بِخِلَافِ كَفَالَةِ الْمُكَاتَبِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ وَاصْطِنَاعُ مَعْرُوفٍ وَهَذَا لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُ مَالٍ أَصْلُهُ عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ أَوْ إلَى الثَّانِي؛ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ أَمَرَ الْمُكَاتِبُ عَبْدَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِمَالٍ عَلَى الْمُكَاتِبِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَكَاتِبَ مُلْتَزِمٌ فَصَارَ هَذَا الدَّيْنُ مِنْ كَسْبِهِ. وَعَبْدُهُ كَسْبُهُ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْتِزَامٌ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِيمَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَلَا يَمْلِكُ الْمَكَاتِبُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَبَ مِنْ مُكَاتَبٍ أَوْ عَبْدٍ تَاجِرٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَتَاعًا بِمَالِ مُسَمًّى وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا فَاشْتَرَى الْعَبْدُ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي الْقِيَاسِ لِنَفْسِهِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ بِعِوَضٍ يَحْصُلُ لِلْآمِرِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّسِيئَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ بِالنَّقْدِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَهُوَ مُحْتَالٌ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ لَا يُعِينُ غَيْرَهُ؛ لَا يُعَانُ ثُمَّ الْمُشْتَرِي مَحْبُوسٌ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الْآمِرِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يَجُوزُ كَفَالَةُ الرَّجُلِ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِالْمُكَاتَبَةِ لِمَوْلَاهُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلِأَنَّ مَا لِلْمُكَاتِبِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْمَالَ بِأَنْ يُعَجَّزَ نَفْسَهُ. وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ الْكَفِيلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ؛ لَأَثْبَتْنَا أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَى مَالِ الْكِتَابَةِ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ؛ لَمْ يَجُزْ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَّزَ نَفْسَهُ فَكَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ سَائِرُ دُيُونِ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مُكَاتَبَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَفَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَلَى صَاحِبِهِ لِلْمَوْلَى مِنْ الْكِتَابَةِ أَوْ الدَّيْنِ؛ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ لِمُكَاتَبٍ. وَلَا كَفَالَةَ لِلْمَوْلَى عَنْ الْمُكَاتَبِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ الْحُرِّ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ مِنْ الْمُكَاتَبِ كَانَ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُكَاتَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَجُعِلَ نُجُومُهَا وَاحِدَةً فَإِذَا أَدَّيَا؛ عَتَقَا، وَإِنْ عَجَزَا؛ رُدَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ: هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ لِمُكَاتَبٍ وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 19 وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمَوْلَى جَعَلَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَ جَمِيعَ الْمَالِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ عَلَّقَ عِتْقَ صَاحِبِهِ بِأَدَائِهِ وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ مَا بَيْنَهُمَا إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْبَدَلِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَوْلَى: فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَدَّى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبَدَلِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِعِتْقِهِمَا وَلَا عِتْقِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ جَمِيعُ الْبَدَلِ وَإِذَا دَانَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا دَيْنًا بَعْدَ الْمُكَاتَبَةِ فَكَفَلَ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الْآخَرِ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ وَلَا تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِأَدَائِهِ فَكَانَ هَذَا الْتِزَامًا مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ثُمَّ هُوَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ الْمَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُلْتَزِمًا أَدَاءَهُ وَلَوْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ مَالٌ عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ فَضَمِنَهُ لِمَوْلَاهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ أَوْ مِنْ دَيْنٍ لَهُ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ الْمَالِ وَاجِبٌ عَلَى الْكَفِيلِ فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ لَهُ مِنْهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إلَى مَوْلَاهُ أَوْ تَوْكِيلٌ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَقْبِضَ دَيْنَهُ مِنْ غَرِيمِهِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ وَلَوْ كَانَ لِلْمَوْلَى دَيْنٌ عَلَى ابْنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ عَلَى رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ عَلَى عَبْدٍ لَهُ فَكَفَلَ بِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ لِمَوْلَاهُ، وَكَفَالَةُ الرَّجُلِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بَاطِلَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُكَاتِبِ وَالدَّيْنُ الَّذِي لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِ الْمُكَاتِبِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ. فَكَمَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لِلْمَوْلَى بِمَالِهِ عَلَى مُكَاتَبِهِ فَكَذَلِكَ بِمَالِهِ عَلَى عَبْدِ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ الْمُكَاتَبُ عَنْ عَبْدِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا وَرَقَبَتَهُمَا كَذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ يَتَقَرَّرُ مُلْكُهُ فِيهِمَا فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى مُلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ لَيْسَ بِمُلْتَزِمٍ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ عَنْ ابْنِهِ أَوْ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا إذَا كَانَ حُرًّا فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِأَدَائِهِ يَعْتِقُ كَمَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْكَفَالَةُ وَالتَّبَرُّعَاتُ كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْ الْمُكَاتَبِ فَكَفَالَةُ أَحَدِ الْمُكَاتَبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا. وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِمَالِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِلْوَرَثَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَكَمَا لَا تَصِحُّ كَفَالَةُ هَذَا الرَّجُلِ لِلْمُوَرِّثِ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ؛ فَكَذَلِكَ لِوَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ الْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ فَلِمَاذَا إذًا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ؟ قُلْنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا عَجَزَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ مَعَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 20 أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْكَفَالَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ حَتَّى أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إذَا عَجَزَ نَفْسُهُ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ دَيْنٌ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ أَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ مَطْلُوبٌ بِهَذَا الْمَالِ مُطْلَقًا فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْكَفِيلِ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَالَ لَوْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابَةِ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ لِلْمُكَاتَبِ عَنْ الْمَوْلَى صَحَّ فَكَذَلِكَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا ادَّانَ الْعَبَدُ التَّاجِرُ لِمَوْلَاهُ دَيْنًا - وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ - وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ دَيْنَهُ كَسْبُهُ وَكَسْبُهُ مُلْكُ الْمَوْلَى وَمَنْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَيَتَحَقَّقُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى كَمَا يَتَحَقَّقُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ عَنْهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَخُصُومَتُهُ مَعَ الْمَوْلَى لَا تُلْزِمُ الْمَوْلَى تَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَيْهِ لِلْجَوَابِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَوْلَى تَسْلِيمُ النَّفْسِ لِلْجَوَابِ فَيَصِحُّ إلْزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أَخْذُ هَذَا الْكَفِيلِ بِنَفْسِ مَوْلَاهُ فِي خُصُومَةِ شَيْءٍ يَدَّعِيه قِبَلَهُ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْلَى صَحَّ تَوْكِيلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ عَلَى وَكِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَقُّهُ لِمَوْلَاهُ وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ الْمَوْلَى عَبْدَهُ فِي أَنْ يُخَاصِمَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ الْوَكِيلُ بِنَفْسِ الْمَوْلَى وَضَمِنَ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا. فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى صَبِيًّا وَقَدْ أَذِنَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَهْلَكَ الصَّبِيُّ شَيْئًا لِعَبْدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَضَمَانُ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ عَلَى غَرِيمِ الْعَبْدِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ بِرِضَا الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ يُؤْمَرُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ بِقَضَائِهِ مِنْ مَالِهِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْكَفِيلِ بِهِ وَإِذَا كَانَ بِأَمْرِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّاهُ وَإِذَا كَفَلَ الْكَفِيلُ لِلْعَبْدِ بِمَالٍ عَنْ مَوْلَاهُ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَأَدَّى الْعَبْدُ دَيْنَهُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ فَإِذَا سَقَطَ الدَّيْنُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 21 بِهِ كَانَتْ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَهُ ثُمَّ أَدَّاهُ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ إذَا أَدَّى دَيْنَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْأَدَاءِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِالْمُؤَدَّى فِيمَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَمَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ الدَّيْنُ عَنْ الْمَوْلَى بَقِيَ الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالٍ كَانَ لَهُ فِي الرِّقِّ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِالْمُؤَدِّي فِي كَسْبِهِ فَصَارَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى حَقًّا لَهُ فَبِالْخُلُوصِ يَسْقُطُ عَنْهُ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُرُّ فِيمَا إذَا أَدَّى دَيْنَهُ فِي حَالِ الرِّقِّ فَإِنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى يَخْلُصُ لَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَكَفَالَةُ الرَّجُلِ لِلْمُكَاتَبِ بِنَفْسِ مَوْلَاهُ أَوْ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ أَنْفَذُ مِنْهُ فِي كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ كَفَالَةِ الْعَبْدِ عَنْ مَوْلَاهُ إذَا كَانَ مَدْيُونًا فَلِلْمُكَاتَبِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ وَضَمِنَ مَا ذَابَ عَلَيْهِ أَوْ جَعَلَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ كَفَالَةِ الْمَوْلَى عَنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى عَلَى مُكَاتَبِهِ لَا يَقْوَى حَتَّى يَمْلِكَ الْمُكَاتَبُ إسْقَاطَهُ بِالتَّعْجِيزِ فَأَمَّا دَيْنُ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ فَقَوِيٌّ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ عَنْ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ لِابْنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ. وَابْنُ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ لِلْمَوْلَى وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ بَعْدَ مَا عَتَقَ بَعْضُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ كَفَالَةُ أَحَدٍ عَنْهُ بِالسِّعَايَةِ لِمَوْلَاهُ وَلَا بِنَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ إسْقَاطَهُ بِالتَّعْجِيزِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي السِّعَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِالتَّعْجِيزِ إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ فَيَنْبَغِيَ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ. قُلْنَا بَلْ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ وَلَا يَقْوَى دَيْنُ الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ ذِمَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا فَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ حَقَّ السِّعَايَةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عِنْدَ الْمَوْتِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ فَلَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ فَهَذِهِ السِّعَايَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَائِهَا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا عِنْدَ الْمَوْلَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَكَفَلَ كَفِيلٌ لِلْمَوْلَى بِذَلِكَ الْمَالِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ هُنَاكَ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَكَانَ الْمَالُ دَيْنًا قَوِيًّا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَالْمُسْتَسْعَى لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْأَدَاءِ فَلَا يَكُونُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 22 الْمَالُ لَازِمًا فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْقُوَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْأَصْلِ صِلَةٌ. وَكُلُّ مَالٍ يَحْصُلُ بِأَدَائِهِ الْعِتْقُ أَوْ يَتِمُّ بِأَدَائِهِ الْعِتْقُ: يَكُونُ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَأَمَّا الْوَاجِبُ بَعْدَ تَمَامِ الْعِتْقِ فَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأُدَانِهِ أَحَدُهُمَا دَيْنًا وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ إلَّا نِصْفُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الْعَبْدُ نِصْفُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمَوْلَى الْمَدِينَةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِحِصَّةِ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْمَالِ فَوَجَبَ عَلَى الْكَفِيلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي ادَّانَ أَحَدَ مَوْلَيَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ يُؤْخَذُ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ هُنَا ثَابِتٌ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى الَّذِي لَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِقِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ثَبَتَ نِصْفُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ الْمَوْلَى الْآخَرِ فَأَمَّا نَصِيبُهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ لِلْعَبْدِ بِالنِّصْفِ هُنَا دُونَ النِّصْفِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ شَرِيكُ الْمَوْلَى شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَوْ ادَّانَ الْعَبْدُ دَيْنًا فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالدَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنْ حِصَّةِ الْمَوْلَى مِنْ الدَّيْنِ نِصْفُهَا بِقَدْرِ مُلْكِهِ وَمَا سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ سَقَطَ عَنْ الْكَفِيلِ بِقِدْرِهِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَوْلَى شَرِيكُ شَرِكَةِ عَنَانٍ فَادَّانَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالدَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَكَانَ جَمِيعُ دَيْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْعَبْدِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَيَيْنِ جَمِيعًا ادَّانَا الْعَبْدَ دَيْنًا وَاحِدًا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَفِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَخَذَا مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى مُلْكِهِ وَبِقَدْرِ مَا يَبْطُلُ عَنْ الْأَصِيلِ يَبْطُلُ عَنْ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ ادَّانَ مَوْلَيَيْهِ دَيْنًا وَأَخَذَ مِنْهُمَا كَفِيلًا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ كَسْبِ الْعَبْدِ خَالِصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَوْ كَانَ لِلْعَبْدِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَكَفَلَ بِهِ أَحَدُ مَوْلَيَيْهِ أَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ يُؤْخَذُ بِهِ كُلُّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَالْمَوْلَيَانِ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَخَذَ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ كَسْبِهِ لِلْمَوْلَى الَّذِي كَفَلَ وَلَا يَجِبُ لَهُ بِالْكَفَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ الْكَفَالَةُ بِقَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِنْ كَفَلَ لَهُ الْمَوْلَيَانِ جَمِيعًا بِمَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَفَلَ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 23 بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي كَسْبِهِ وَأَيُّهُمَا أَدَّى إلَيْهِ الْمَالَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْكَفَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَطَلَ عَنْهُمَا نِصْفُ هَذَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِنِصْفِ كَسْبِهِ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ فَلِهَذَا بَطَلَ عَنْهُمَا نِصْفُ هَذَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِنِصْفِ كَسْبِهِ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا بَطَلَ عَنْهُمَا نِصْفُ هَذَا الدَّيْنِ وَلَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَضْمَنُ بِأَصْلِ الْكَفَالَةِ صَاحِبَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ صَاحِبُهُ كَفِيلًا عَنْهُ بِذَلِكَ إذْ يَكُونُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَفَلَ مَا جَازَتْ فِيهِ كَفَالَةُ الْمُسْلِمِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عَنْ الذِّمِّيِّ جَازَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ يَسْتَوُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَوْ كَفَلَ الذِّمِّيُّ عَنْ الذِّمِّيِّ لِلذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَهُمْ فَإِنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ عَنْ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا لَا إلَى بَدَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْخَمْرَ وَلَا قِيمَتَهَا ابْتِدَاءً بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى أَحَدٍ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ وَيُجْعَلُ بِإِسْلَامِهِ لَهُ كَمُبْرِئِ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَيَبْقَى الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَطْلُوبِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ قِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَيْهِ لِلذِّمِّيِّ ابْتِدَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ ذِمِّيٍّ أَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا فَأَتْلَفَهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ تَبْقَى الْقِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَقَدْ جَعَلْنَا الطَّالِبَ بِإِسْلَامِهِ كَالْمُبْرِئِ وَالْمَطْلُوبُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِإِسْلَامِهِ كَالْمُبْرِئِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْرِئُ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ لَا يَبْرَأْ الْكَفِيلُ فَيَكُونَ لِلطَّالِبِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْخَمْرِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الْقَرْضِ إذَا سَقَطَتْ بِالْإِسْلَامِ تَسْقُطُ لَا إلَى بَدَلٍ كَمَا إذَا سَقَطَتْ بِإِسْلَامِ الطَّالِبِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الطَّالِبَ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ لَكَانَ بِهِ مُمَلَّكًا مِنْ الْمَطْلُوبِ الْخَمْرَ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ بِبَدَلٍ فَتَسْقُطَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ إسْقَاطِ الْبَدَلِ مَتَى كَانَ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطِ تَمْلِيكِ الْمُبْدَلِ. فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ أَصْلًا كَمَنْ هَشَّمَ قَلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ فَلِصَاحِبِ الْقَلْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يُمَلِّكَهُ الْمَهْشُومَ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مُسْلِمًا وَقْتَ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّ أَصْلَ الْخَمْرِ لَا تَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ وَلَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 24 يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِيمَةِ مُلْكُ مَا يُقَابِلُهُ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا أَوْ أَتْلَفَهُ يُضَمَّنُ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُدَبَّرَ بِهِ. فَإِذَا سَقَطَتْ عِنْدَهُمَا الْخَمْرُ عَنْ الْمَطْلُوبِ لَا إلَى بَدَلٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ خَاصَّةً سَقَطَتْ الْخَمْرُ عَنْ الْكَفِيلِ لَا إلَى بَدَلٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَكَانَتْ الْخَمْرُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى حَالِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْخَمْرِ فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ قِيمَةَ الْخَمْرِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ. وَإِسْلَامُ الطَّالِبِ يُسْقِطُ الْخَمْرَ لَا إلَى بَدَلٍ وَإِنْ أَسْلَمُوا جَمِيعًا يَسْقُطْ الْخَمْرُ لَا إلَى بَدَلٍ؛ لِأَنَّ فِي إسْلَامِهِمْ إسْلَامَ الطَّالِبِ وَزِيَادَةً، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ أَوْ الطَّالِبُ وَالْأَصِيلُ فَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ لَا إلَى بَدَلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ طَالَبَ فِي حَقِّهِ وَلَوْ كَانَتْ الْخَمْرُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ أَوْ الْمَطْلُوبُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ لَا إلَى بَدَلٍ بِالِاتِّفَاقِ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ وَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ خَاصَّةً؛ فَالْبَيْعُ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَيَسْقُطُ الْخَمْرُ لَا إلَى بَدَلٍ مِنْ الْكَفِيلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ وَلَوْ كَانَتْ الْخَمْرُ سَلَمًا - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَإِنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ سَقَطَتْ لَا إلَى بَدَلٍ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ يَبْقَى الْعَقْدُ بَيْنَ رَبِّ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَكِنْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَوَّلَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَتْ الْخَمْرُ صَدَاقًا - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَنَقُولُ: أَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالصَّدَاقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ وَقَدْ كَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فِي يَدِ الزَّوْجِ. وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا صَحِيحَةٌ كَالْمَغْصُوبِ. وَسَوَاءٌ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا فَبَقِيَ حَقُّهَا فِي الْعَيْنِ - كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ - فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعَيْنَ مِنْ الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ الْكَفِيلَ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا بَقِيَ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَ إسْلَامِهِ؛ يَبْقَى الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ خَمْرًا وَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فَحَقُّهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فِي قِيمَةِ الْخَمْرِ وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ مِنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 25 الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهَا طَالَبَتْهُ. وَمَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالنِّكَاحِ بَلْ إنَّمَا وَجَبَ بِالْكَفَالَةِ فَيَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الطَّالِبِ لَا إلَى بَدَلٍ فَأَمَّا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَصَدَاقٌ. وَإِسْلَامُهَا يُحَوِّلُ الْحَقَّ إلَى قِيمَةِ الْخَمْرِ فِي صَدَاقٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فَحَقُّهَا عَلَيْهِ فِي قِيمَةِ الْخَمْرِ، وَإِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ الْكَفِيلَ بِالْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ مَا بَرِئَ بِإِسْلَامِهِ بَلْ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ فِي حَقِّهِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْخَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ فَإِنْ اسْتَوْفَتْ الْخَمْرَ مِنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ مِنْ الْأَصِيلِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إسْلَامُ الْمُسْتَقْرِضِ يُسْقِطُ الْخَمْرَ لَا إلَى بَدَلٍ وَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْخَمْرِ وَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ وَإِسْلَامُ الْمَطْلُوبِ عِنْدَهُ يُسْقِطُ الْخَمْرَ لَا إلَى بَدَلٍ، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ قَدْ سَقَطَ وَمَهْرُ الْمِثْلِ دَيْنٌ حَادِثٌ عَلَى الزَّوْجِ وَالْكَفِيلُ لَمْ يَكْفُلْ بِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ بَرِئَ عَنْ الْخِنْزِيرِ أَصْلًا فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِبَرَاءَتِهِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ دَيْنٌ حَادِثٌ عَلَى الزَّوْجِ فَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَسْلَمَ الْكَفِيلُ سَقَطَ عَنْهُ الْخِنْزِيرُ لَا إلَى بَدَلٍ وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْخِنْزِيرُ أَوْ قِيمَتُهُ عَلَى حَالِهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْجَوَابُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخِنْزِيرِ بِعَيْنِهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجَوَابُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا كَجَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخَمْرِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا إلَّا فِي فَصْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَأَدَّى الْكَفِيلُ عَيْنَ الْخَمْرِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّهِ وَإِسْلَامُ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسْقِطُ الْخَمْرَ إلَى الْقِيمَةِ (وَالثَّانِي) فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الْكَفِيلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَهَا الْخِيَارُ: إنْ شَاءَتْ؛ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِالْخَمْرِ، وَإِنْ شَاءَتْ؛ عَلَى الْكَفِيلِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّهَا وَإِسْلَامُ الْمَطْلُوبِ عِنْدَهُ يُسْقِطُ الْخَمْرَ إلَى الْقِيمَةِ. وَلَوْ كَفَلَ الذِّمِّيُّ بِالْخَمْرِ عَنْ الذِّمِّيِّ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْخَمْرَ دَيْنًا عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ الْخَمْرُ أَيْضًا عَيْنًا مَضْمُونَةً عَلَى أَحَدٍ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَفَلَ عَنْ مُسْلِمٍ لِذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَحَدٍ. وَالْكَفَالَةُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ عَنْ ذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَلْتَزِمُ الْخَمْرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ لِأَحَدٍ فَكَذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَكَفَالَةُ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ لِلْعَبْدِ التَّاجِرِ الذِّمِّيِّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 26 وَالْمُكَاتَبِ الذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُمَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ فِي حَقِّهِمَا: دَيْنُهُمَا لَا دَيْنُ مَوْلَاهُمَا. فَإِنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ لَهُمَا بِالْخَمْرِ كَمَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ وَإِذَا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدَيْنِ لَهُ ذِمِّيَّيْنِ عَلَى خَمْرٍ مُسَمَّاةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا؛ صَارَتْ كُلُّهَا قِيمَةٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا فِي هَذَا الْعَقْدِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَفَالَةِ فَإِذَا كَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحَوُّلِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى الْقِيمَةِ كَإِسْلَامِهِمَا. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا إذَا أَدَّى جَمِيعَ الْبَدَلِ إلَى الْمَوْلَى وَلَوْ تَحَوَّلَ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا إلَى الْقِيمَةِ وَبَقِيَ نَصِيبُ النَّصْرَانِيِّ مِنْهُمَا خَمْرًا لَتَمَيَّزَ مَا عَلَى أَحَدِهِمَا مِمَّا عَلَى الْآخَرِ فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ خِلَافَ شَرْطِ الْمَوْلَى فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى الْكُلُّ خَمْرًا أَوْ يَتَحَوَّلَ قِيمَةً. وَإِبْقَاؤُهُ خَمْرًا بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِحُّ فَيَتَحَوَّلُ الْكُلُّ إلَى الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَبْدٌ وَاحِدٌ مُكَاتَبٌ لِذِمِّيَّيْنِ عَلَى خَمْرٍ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَقَدْ صَحَّ تَحَوُّلُ نَصِيبِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا إلَى الْقِيمَةِ فَيَتَحَوَّلُ نَصِيبُ الْآخَرِ - أَيْضًا - ضَرُورَةً وَلَوْ كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا وَعَبْدًا نَصْرَانِيًّا عَلَى خَمْرٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَقَدْ بَطَلَ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ إذْ لَوْ جَوَّزْنَا الْعَقْدَ فِي نَصِيبِ النَّصْرَانِيِّ لَا يَبْقَى جَعْلُ الْمُسْلِمِ كَفِيلًا بِهِ وَالْمَوْلَى مَا رَضِيَ إلَّا بِذَلِكَ، وَلَوْ غَصَبَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَكَفَلَ بِهِ عَنْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَا قَائِمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ كَمَا لَا يَلْتَزِمُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا بِالْعَقْدِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ عَيْنَيْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ هَلَكَا قَبْلَ الْكَفَالَةِ صَارَتْ الْكَفَالَةُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْمِثْلِ فَالْكَفِيلُ الْمُسْلِمُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْخَمْرَ فِي ذِمَّتِهِ بِالْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَمَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ فَصَحَّ الْتِزَامُ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا جَازَتْ كَفَالَتُهُ عَنْهُ فِي الْخَمْرِ أَيْضًا بَعْدَ هَلَاكِهَا؛ لِأَنَّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْقِيمَةِ كَالْخِنْزِيرِ. وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ فَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهَا؛ فَهَذَا مُسْلِمٌ الْتَزَمَ دَرَاهِمَ هِيَ دَيْنٌ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 20 ¦ الصفحة: 27 يَقُولُ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ.» وَالْمِنْحَةُ نَوْعٌ مِنْ الْعَارِيَّةِ، وَلَكِنْ فِيهَا مَعْنَى الْعَطِيَّةِ فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ غَيْرَهُ شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا؛ يُسَمِّي ذَلِكَ مِنْحَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مَنْ مَنَحَ غَيْرَهُ شَيْئًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ يَكُونُ عَارِيَّةً وَلَا يَكُونُ مِنْحَةً، وَإِنْ مَنَحَهُ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ؛ يَكُونُ هِبَةً لَا عَارِيَّةً، وَالْإِعَارَةُ فِي مِثْلِهِ تَكُونُ قَرْضًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ رَدَّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَرَدَّ الْمِنْحَةِ عَلَى الْمَمْنُوحِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَتْ لَهُ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَدْيُونِ بِقَوْلِهِ: وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ. وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ -: مَعْنَاهُ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ أَيْ ضَامِنٌ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ تَسْلِيمِ نَفْسٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إذَا حَلَّ أَجَلُ مَالِكَ عَلَى فُلَانٍ فَلَمْ يُوفِك مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: إنْ حَلَّ فَهُوَ عَلَيَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ سَبَبٌ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ. وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَيَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ تُوجَدُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَتَعْلِيقُهَا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يُوفِيَكَ مَالَك فَهُوَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمَدْيُونِ سَبَبٌ لِحُلُولِ الْأَجَلِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. فَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَوْتِ رَجُلٍ آخَرَ وَإِذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ حُلُولِ الْمَالِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ كَانَ قَضَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ قَدْ تَقَرَّرَ وَقَدْ يَدَّعِي مَانِعًا مَا لَمْ يَظْهَرْ وَهُوَ قَضَاءُ الْمَطْلُوبِ حَقَّهُ وَلَوْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ الْكَفِيلُ وَلَوْ كَانَ حَالًّا فَقَالَ: إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَالَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ فَتَقَاضَى الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ فَلَمْ يُعْطِهِ سَاعَةَ تَقَاضَاهُ فَهُوَ لَازِمٌ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ امْتِنَاعُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْإِعْطَاءِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَاضِي فَكَمَا تَقَاضَاهُ وَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ فَقَدْ وَجَدَ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَفِيلِ مِنْ هَذَا دَفْعُ مُؤْنَةِ كَثْرَةِ التَّقَاضِي عَنْ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا صَارَ الْكَفِيلُ مُلْتَزِمًا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّقَاضِي وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَضَى بِكَفَالَةٍ وَقَالَ: إنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ. وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا. لَكِنْ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقَّ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّ الْكَفِيلَ غَارِمٌ لَهُ. وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهمَا شَاءَ وَبِمُطَالَبَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي مُطَالَبَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَوْعَ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا. وَنَوْعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ قِبَلَ أَحَدِهِمَا فَيُعَيَّنُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 28 بِاخْتِيَارِهِ وَهُنَا أَصْلُ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي الصُّكُوكِ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَفُلَانٌ بِهِ كَفِيلٌ وَمُوجَبُ الْكَفَالَةِ: زِيَادَةُ الْحَقِّ لِلطَّالِبِ فِي الْمُطَالَبَةِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا تَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ عَلَيْهِمَا، فَلَا تَكُونُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطَةً حَقَّهُ فِي مُطَالَبَتِهِ الْآخَرَ فَإِذَا أَخَذَ الْكَفِيلَ بِهِ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَكْفُولَ بِهِ فَيُعَامِلَهُ بِحَسَبِ مَا يُعَامِلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ الْأَصِيلِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ مُقْرِضٌ لِلذِّمَّةِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَلَكِنْ إنْ قَضَاهُ الْأَصِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ مُتَأَخِّرًا إلَى أَدَائِهِ - وَتَعَجُّلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ - فَإِذَا قَبَضَهُ الْكَفِيلُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ؛ كَانَ مَا رَبِحَ حَلَالًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَقْبُوضَ مُلْكًا صَحِيحًا فَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ لَدَيْهِ يَكُونُ لَهُ وَلَوْ هَلَكَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَعَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُقْتَضِي وَلَوْ اقْتَضَاهُ الطَّالِبُ مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصِيلُ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِيُسَلِّمَ لَهُ بِهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَهُ الْكَفِيلُ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ إلَى الْكَفِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ قَالَ: أَنْتَ رَسُولِي بِهَا إلَى فُلَانٍ الطَّالِبِ فَهَلَكَ مِنْ الْكَفِيلِ؛ كَانَ مُؤْتَمَنًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ حِينَ بَعَثَ بِالْمَالِ عَلَى يَدِهِ إلَى الطَّالِبِ وَلَوْ اسْتَعْمَلَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ الْكَفِيلَ حَتَّى إذَا أَدَّاهُ الْمَطْلُوبُ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ. فَهَلَاكُ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا. وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ عَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ بِمَا صَنَعَ. وَالرِّبْحُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَطِيبُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا فَأَرْسَلَ بِهِ الْأَصِيلُ مَعَ الْكَفِيلِ إلَى الطَّالِبِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْكَفِيلُ فَرَبِحَ؛ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَعْطَاهُ الطَّعَامَ اقْتِضَاءً عَمَّا كَفَلَ بِهِ فَبَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الرِّبْحُ لَهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ قَضَى الطَّالِبَ طَعَامَهُ؛ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْبَحَ عَلَى مُلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ. وَإِنْ قَضَى الْمَطْلُوبُ طَعَامَهُ حَتَّى رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالطَّعَامِ الَّذِي أَعْطَاهُ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لِلْكَفِيلِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مُلْكِهِ كَانَ صَحِيحًا فَبِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بَعْدَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 29 ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ خُبْثٌ فِي الرِّبْحِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: يَرُدُّ الْأَصْلَ، وَالرِّبْحُ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ الشَّرْطُ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ: أَنْ يُفْتِيَ بِرَدِّ الرِّبْحِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. وَهُنَا قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ حِينَ كَانَ قَبَضَهُ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَسْلَمْ ذَلِكَ الشَّرْطُ لِلْمُعْطِي فَيُؤْمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ رِبْحُهُ حَاصِلًا عَلَى عَيْنِ الْمَالِ الْمَقْبُوضِ. فَأَمَّا الطَّعَامُ يُتَعَيَّنُ؛ فَإِنَّمَا رَبِحَ عَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخُبْثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اُكْفُلْ عَنِّي لِفُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ إنْ كَفَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَكْفُلْ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَلَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ، أَوْ يُقْرِضَ ذِمَّتَهُ عَلَى أَنْ يُثْبِتَ فِيهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَقْتَضِي أَمْرُهُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ. وَالثَّابِتُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاكْفُلْ بِهَا عَنِّي. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي الْكَفَالَةِ إلَى أَجَلٍ فَالْكَفِيلُ بِهَا ضَامِنٌ لِلْأَصِيلِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ. وَالْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ بِهَذَا الْمَالِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ يَلْتَزِمُ فِي ذِمَّتِهِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ. وَالثَّابِتُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ. فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ زُيُوفٌ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ، وَالثَّمَنُ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَهُوَ سَبَبٌ مُبْتَدَأٌ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ بِهِ عَلَى الشَّفِيعِ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ إلَّا بِالشَّرْطِ. فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِهَا ابْتِدَاءً وَلَكِنَّهَا الْتِزَامٌ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ. فَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ فَهُوَ عَلَيْهِ حَالٌّ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَجَلِ وَلِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ لِإِبْقَاءِ الْأَجَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ وَارِثِهِ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ لِقِيَامِ الدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَهْلَكُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَالْأَجَلُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ سَقَطَ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصِيلُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يُطَالِبَهُ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ وَلَوْ مَاتَ الْأَصِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ حَلَّتْ عَلَيْهِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ وَلَمْ يَحِلَّ عَلَى الْكَفِيلِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَى الْأَجَلِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 30 سُقُوطُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَ الْكَفِيلُ فِيمَا عَلَيْهِ صَحَّ وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا. وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ فَكَفَلَ بِهَا رَجُلٌ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ وَهَذَا تَأْخِيرٌ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ذِكْرُ حَقٍّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفُلَانٌ كَفِيلٌ بِهَا إلَى سَنَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إلَى سَنَةٍ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ حَالٌّ؛ لِأَنَّهُ أَجَّلَ الْكَفِيلَ خَاصَّةً. وَالتَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى غَايَةٍ فَإِذَا كَانَ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَالتَّأْجِيلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا أَجَّلَ الطَّالِبُ هُنَا أَصْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ - فِي قَوْلِهِ: فَكَفَلَ بِهَا إلَى سَنَةٍ - كِنَايَةٌ عَنْ أَصْلِ الْمَالِ. وَإِضَافَةُ التَّأْجِيلِ إلَى أَصْلِ الْمَالِ يُثْبِتُ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلُ بِمَا الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ؛ يَبْقَى الْمَالُ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ. وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ: إذَا أَضَافَهُ إلَى أَصْلِ الْمَالِ؛ يَكُونُ إبْرَاءً لَهُمَا وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً؛ يَكُونُ مُوجِبًا بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ. وَإِذَا كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ مِنْ وَدِيعَةٍ لِفُلَانٍ عِنْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ الِالْتِزَامَ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ جَمِيعًا. فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْتِزَامِ أَدَاءِ الْوَدِيعَةِ إلَى صَاحِبِهَا أَوْ غَرِيمِ صَاحِبِهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهَا. فَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ الْوَدِيعَةَ فَقَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ الَّذِي الْتَزَمَ فِيهِ التَّسْلِيمَ لِلطَّالِبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّ مُبْطِلٌ لِلْكَفَالَةِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ وَعَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَطَلَبَ مِنْ الَّذِي عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ الْتِزَامَ أَدَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَهُوَ تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَكُونَ ضَامِنًا فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا بَعْدَ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ ثُمَّ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْكَفِيلِ لَا عَنْ حَقِّ الْغَرِيمِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ دَيْنِهِ مِنْهَا بِأَمْرِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ. فَإِذَا هَلَكَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهَا هَلَكَتْ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي هَلَاكِهَا، وَإِنْ اغْتَصَبَهَا إيَّاهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَوْ اغْتَصَبَهَا إيَّاهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَاسْتَهْلَكَهَا؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَيْنِ مَا بَقِيَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا، فَإِذَا لَمْ تَبْقَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ ضَمِنَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبِعْهَا؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 31 وَهُوَ ثَمَنُ الدَّارِ وَلَا يَحْصُلُ ثَمَنُ الدَّارِ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَبِعْ الدَّارَ وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْ بَيْعَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَبِعْ الدَّارَ وَيَقْبِضْ الثَّمَنَ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا؛ فَالْجُعْلُ بَاطِلٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَيْسَ يَسْتَوْجِبُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ زِيَادَةَ مَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عِوَضٌ بِمُقَابَلَتِهِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْجَعْلُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مَشْرُوطًا فِيهِ؛ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُلْتَزِمٌ، وَالِالْتِزَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرِضَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْكَفَالَةِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. فَإِذَا شَرَطَ الْجُعْلَ فِي الْكَفَالَةِ فَهُوَ مَا رَضِيَ بِالِالْتِزَامِ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْجُعْلَ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْكَفَالَةِ؛ فَهُوَ رَاضٍ بِالِالْتِزَامِ مُطْلَقًا فَيَلْزَمْهُ. وَكَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْسٍ كَانَتْ أَوْ بِمَالٍ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ. وَكَفَالَةُ الْمُرْتَدَّةِ جَائِزَةٌ وَإِنْ مَاتَتْ عَلَى الرِّدَّةِ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فِي السِّيَرِ. فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَسُبِيَتْ؛ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَحِقَتْ وَسُبِيَتْ؛ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالَهَا لِوَرَثَتِهَا. وَمَوْتُ الْكَفِيلِ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَمَةٍ كَفَلَتْ بِنَفْسٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَمَّا كَانَتْ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الْمَالِ وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ أَمَةً بِالِاسْتِرْقَاقِ؛ فَكَأَنَّهَا كَفَلَتْ ابْتِدَاءً. وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا تُطَالَبُ بِذَلِكَ لِحَقِّ مَوْلَاهَا وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَقَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى مَا خَلَّفَتْ مِنْ الْمَالِ، فَكَانَ وَارِثُهَا مُطَالَبًا بِقَضَاءِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَإِنْ أُعْتِقَتْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ؛ لَمْ تُؤْخَذْ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَا بِالْمَالِ وَقَدْ أَبْطَلَ السَّبْيُ كُلَّ كَفَالَةٍ وَكُلَّ حَقٍّ قِبَلَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ مِنْهَا وَهِيَ أَمَةٌ؛ كَانَتْ تُؤْخَذُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمَّا تَبَدَّلَتْ نَفْسُهَا بِالرِّقِّ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهَا عَلَى مَا قِيلَ: الْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ وَالرَّقَبَةُ تَلَفٌ. فَبَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَصْلًا وَتَحَوَّلَ الْمَالُ إلَى مَالٍ فَلَا يَعُودُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ كَفَلَ مُسْلِمٌ بِنَفْسِ مُرْتَدٍّ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ فَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَلَحِقَ كَانَ الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ بِفُرُوعِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَنَسِيَتْ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ عَنْهَا بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ سُبِيَتْ فَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْحُضُورِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْإِحْضَارِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهَا لَمَّا تَبَدَّلَتْ نَفْسُهَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ وَمَوْتُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ مَأْخُوذٌ بِقَضَاءِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِذَا أَدَّاهُ رَجَعَ بِهِ فِيمَا تَرَكَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ دُيُونِهَا فَإِنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 32 لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ تَرَكَتْ وَأَدَّى الْكَفِيلُ ذَلِكَ. ثُمَّ إنْ عَتَقَتْ يَوْمًا لَمْ يَتْبَعْهَا مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ السَّبْيَ أَبْطَلَ عَنْهَا كُلَّ دَيْنٍ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَسْبِيِّ تَتَبَدَّلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ مِنْ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ، وَهَذَا الدَّيْنُ حِينَ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ شَاغِلًا لِشَيْءٍ سِوَى الذِّمَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهَا وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ وَلَحِقَا بِالدَّارِ وَقَدْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُمَا بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ فَإِنْ مَاتَا أَوْ سُبِيَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ فَإِنْ أَدَّاهُ ثُمَّ عَتَقَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا بِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَدَّةِ. وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بَاقٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَكَمَا لَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ بِالْخَمْرِ فَكَذَلِكَ كَفَالَةُ الْمُرْتَدِّ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُرْتَدُّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهَا مُسْلِمٌ. فَإِنْ كَفَلَ بِهَا عَنْهُ مُسْلِمٌ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَلَوْ كَفَلَ مُسْلِمٌ لِمُرْتَدٍّ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارُ الْحَرْبِ كَانَ وَرَثَتُهُ عَلَى حَقِّهِ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ لِحَاقِهِ كَمَا يَخْلُفُونَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، فَإِنْ رَجَعَ ثَانِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ قَائِمًا مِنْ حُقُوقِهِ يَعُودُ إلَيْهِ إذَا رَجَعَ ثَانِيًا بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ أَمْلَاكِهِ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ قَدْ اسْتَوْفَوْا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ فَالْكَفِيلُ مِنْ ذَلِكَ بَرِيءٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ إلَى وَارِثِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِهِ وَكَفَالَةُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْكَفَالَةُ لَهُ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ لِيُعَامِلَنَا فَفِي الْمُعَامَلَاتِ يَسْتَوِي بِنَا. فَإِنْ لَحِقَ بِدَارِهِ ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا فَالْكَفَالَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا حُكْمًا فَهُوَ قِيَاسُ مَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَدِّ وَإِنْ أُسِرَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ فِيمَا لَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَبَدَّلَتْ بِالْأَسْرِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحُقُوقِهِ، وَلَمْ يَخْلُفْهُ وَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَأَمَّا فِيمَا عَلَيْهِ فَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالْأَسْرِ كَمَا فِي الْمُرْتَدَّةِ وَبِالْمَالِ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُرْتَدَّةِ الْمَالَ يَتَحَوَّلُ إلَى مَا خَلَّفَتْ وَلَيْسَ هُنَا مَحَلٌّ هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَيْضًا. وَمُكَاتَبُ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَعَبْدُهُ بِمَنْزِلَةِ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُكَاتَبِهِمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ هُمْ بِسَبَبِ عَقْدِ الضَّمَانِ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ عَبِيدُهُمْ وَمُكَاتَبُوهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 33 [بَابُ كَفَالَةِ الرَّهْطِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَبَعْضُهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ وَكُلُّهُمْ ضَامِنُونَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ عَنْ الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ جَائِزٌ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لِلتَّوَثُّقِ بِالْحَقِّ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ. ثُمَّ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْآخَرَيْنِ بِمَا لَزِمَهُمَا بِالْكَفَالَةِ وَالْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَطْلُوبٌ بِمَا الْتَزَمَهُ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَطْلُوبًا بِمَا الْتَزَمَهُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُ الْكُفَلَاءِ الْمَالَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْمَالِ كُلِّهِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا تَحَمَّلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى شَرِيكَيْهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِثُلُثَيْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الِالْتِزَامِ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْغُرْمِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدُهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَقِيَ أَحَدَهُمَا قَالَ لَهُ: أَنَا وَأَنْتَ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّا جَمِيعًا كَفِيلَانِ عَنْ الْأَصِيلِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَيْضًا فَهَاتِ نِصْفَ مَا أَدَّيْت؛ لِنَسْتَوِيَ فِي الْغُرْمِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ رَجَعَا عَلَى الثَّالِثِ إذَا لَقِيَاهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فَيَأْخُذَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ؛ لِيَسْتَوِيَ هُوَ بِهِمَا فِي عَدَمِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْمَالِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَلُوا عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَدَّوْهُ وَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَبَعْضُهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ بِالثُّلُثِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصِيلٌ فِي ثُلُثِ الْمَالِ وَالْمُؤَدِّي قَدْ كَفَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ. أَمَّا الثُّلُثُ فَلِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ وَأَدَّى، وَأَمَّا السُّدُسُ فَلِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ مَعَ الَّذِي لَقِيَهُ كَفِيلَانِ عَنْ الثَّالِثِ بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غُرْمُ هَذِهِ الْكَفَالَةِ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ هَذَا الثُّلُثِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْغُرْمِ ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الثَّالِثِ إذَا لَقِيَاهُ بِالثُّلُثِ فَيَأْخُذَانِ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الْكِتَابِ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلَّابِ أَنَّهُ بَاعَ قَوْمًا غَنَمًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمْ شَاءَ بِحَقِّهِ فَأَبَى شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ، وَقَالَ: اخْتَرْ أَمْلَاهُمْ فَخُذْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّك وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا؛ لِنُبَيِّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ وَيَكُونَ بَعْضُهُمْ كَفِيلًا عَنْ بَعْضٍ بِمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمَا فِي هَذَا مِنْ زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ فَإِنَّ بِدُونِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِمَا عَلَيْهِ - وَهُوَ الثُّلُثُ - وَبَعْدَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمْ شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالثُّلُثِ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 34 أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمْ شَاءَ بِحَقِّهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ أَوْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: مَلِيئُهُمْ عَلَى مُعْدِمِهِمْ أَوْ حَيُّهُمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَلَا يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كَفَالَةٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَلَا يُدْرَى مَنْ يُفْلِسُ مِنْهُمْ؛ لِيَكُونَ الْمَلِيءُ كَفِيلًا عَنْهُ وَلَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ لِيَكُونَ الْحَيُّ كَفِيلًا عَنْهُ فَإِنَّ حَرْفَ عَلَى فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِمَعْنَى عَنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] أَيْ: عَنْ النَّاسِ. وَكَفَالَةُ الْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى أَرْبَعَةِ نَفَرٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، وَكُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ كَفِيلَانِ عَنْ اثْنَيْنِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَإِنَّ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ الْمَالِ - إنْ شَاءَ - وَأَنْ يَأْخُذَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا. أَمَّا أَخْذُهُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ كَفِيلَانِ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْ الْآخَرِ فَأَيَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ شَاءَ فَهُمَا كَفِيلَانِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَأَمَّا إذَا أَخَذَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ فَفِي رُبْعِ الْمَالِ - وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ - هُوَ أَصِيلٌ فَيُطَالِبُهُ بِذَلِكَ وَفِي الْبَاقِي - وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ - هُوَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ كَفِيلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْكَفَالَةِ كَانَ هَكَذَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ مُطَالَبًا بِالْكُلِّ إذَا الْتَزَمَ الْكُلَّ بِالْكَفَالَةِ فَأَمَّا إذَا الْتَزَمَ الْكُلَّ بِالْكَفَالَةِ مَعَ آخَرَ؛ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُطَالَبًا إلَّا بِالنِّصْفِ وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ. فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ يَكُونُ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْوَاحِدَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمْ نِصْفَ الْمَالِ سِتَّمِائَةٍ؛ فَفِي هَذَا النِّصْفِ هُوَ مُؤَدٍّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ - وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ - هُوَ مُؤَدٍّ عَنْ شُرَكَائِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُمْ بِأَمْرِهِمْ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ هَذِهِ الثَّلَثِمِائَةِ - وَهُوَ مِائَةٌ - أَدَّاهَا عَنْهُ فَيَرْجِعُ هُوَ بِهَا عَلَيْهِ بَقِيَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا الَّذِي لَقِيَهُ كَفِيلَانِ عَنْ الْآخَرِينَ بِهِمَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِائَةٍ أُخْرَى لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْآخَرِينَ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْنِ، وَإِنْ لَقِيَا آخَرَ؛ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ إمَّا لِيَسْتَوُوا فِي غُرْمِ الْمِائَتَيْنِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَدٍّ عَنْهُ خَمْسِينَ فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ بَقِيَ مِائَةٌ أُخْرَى هُمَا مَعَ هَذَا الثَّالِثِ كَفِيلَانِ بِذَلِكَ عَنْ الرَّابِعِ وَقَدْ أَدَّيَا فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِثُلُثِ ذَلِكَ - وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ - كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ فَصَارَ حَاصِلُ مَا يَرْجِعُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَإِنْ لَقُوا الرَّابِعَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا عَنْ الرَّابِعِ قَدْرَ الْمِائَةِ فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُلُثِهَا وَلَوْ كَانَ أَدَّى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 35 النِّصْفَ وَلَقِيَ أَحَدَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ لَقِيَ صَاحِبُ الْمِائَتَيْنِ أَحَدَ الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إنَّمَا أَدَّيْتُ الْمِائَةَ عَنْ نَفْسِي وَمِائَةً أُخْرَى عَنْكَ وَعَنْ الرَّابِعِ فَإِنَّمَا أَدَّيْتُ نِصْفَهَا عَنْك وَالنِّصْفَ الْآخَرَ الَّذِي أَدَّيْتُهُ عَنْ الرَّابِعِ أَنْتَ مَعِي فِيهِ فِي الْكَفَالَةِ بِذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ فَأَرْجِعُ عَلَيْك بِنِصْفِ ذَلِكَ أَيْضًا فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَإِنْ لَقِيَ الْأَوَّلُ الثَّالِثَ أَيْضًا أَخَذَهُ بِاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: قَدْ أَدَّيْت عَنْك وَعَنْ الرَّابِعِ مِائَةً فَأَرْجِعُ عَلَيْك بِنِصْفِ ذَلِكَ وَذَلِكَ خَمْسُونَ لِأَنِّي أَدَّيْتهَا عَنْك. وَأَمَّا الْخَمْسُونَ الَّتِي أَدَّيْتهَا عَنْ الرَّابِعِ فَنِصْفُ ذَلِكَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْك الثَّانِي وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَرُجُوعنَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ بَقِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَأَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ؛ لِنَسْتَوِيَ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ عَنْ الرَّابِعِ فَصَارَ حَاصِلُ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ لَقِيَهُمَا الْأَوْسَطُ رَجَعَا عَلَيْهِ بِثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِيَسْتَوُوا فِي الْغُرْمِ فِي حَقِّ الْخَمْسِينَ الَّتِي كَفَلُوا بِهَا عَنْ الرَّابِعِ فَإِنْ لَقُوا الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذُوهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْحَاصِلِ كُفَلَاءُ عَنْهُ بِالْمِائَةِ وَقَدْ أَدَّوْا فَيَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْتَسِمُونَهُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَا غَرِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُرَاجَعَاتِ: ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَدَّى النِّصْفَ لَقِيَ الَّذِي قَبَضَ الْخَمْسَةَ وَالسَّبْعِينَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّا كُنَّا قَدْ الْتَقَيْنَا مَرَّةً وَاسْتَوَيْنَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّالِثِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَنِي نِصْفَ ذَلِكَ لِنَسْتَوِيَ فِي الْغُنْمِ كَمَا اسْتَوَيْنَا فِي الْغُرْمِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهَا ثُمَّ لَقِيَا الَّذِي أَدَّى الْخَمْسَةَ وَالسَّبْعِينَ رَجَعَا عَلَيْهِ بِثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ وَثُلُثٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَوْ لَقِيَاهُ مَعًا رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَا يَرْجِعَانِ بِهِ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا وَالْآنَ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا مِنْهُ مَرَّةً خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَيَرْجِعَانِ بِمَا بَقِيَ إلَى تَمَامِ مِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثٌ يَأْخُذَانِ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ إذَا لَقُوا الرَّابِعَ اتَّبَعُوهُ بِمِائَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى ثَلَاثَةِ رَهْطٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ضَامِنُونَ لَهَا فَأَدَّى أَحَدُهُمْ الْمَالَ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْهِ بِثُلُثِ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ مُؤَدٍّ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الثُّلُثَيْنِ هُوَ مُؤَدٍّ عَنْ شَرِيكَيْهِ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرِهِمَا فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالثُّلُثِ لِأَدَائِهِ مَا يَحْمِلُهُ عَنْهُ وَبِنِصْفِ الثُّلُثِ الْآخَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الثَّالِثِ بِهَذَا الثُّلُثِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 36 فَإِنْ لَقِيَ أَحَدُهُمْ الْغَائِبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنَّهُمَا حِينَ الْتَقَيَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ عَنْ الثَّالِثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُنْمِ أَيْضًا وَاَلَّذِي أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الثَّالِثِ غُنْمٌ بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَفَالَةِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُنْمِ أَوْ لِتَبْقَى الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْغُرْمِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ الْكَفَالَةِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلٌ ثُمَّ إنَّ آخَرَ كَفَلَ بِهَا عَنْ الْأَصِيلِ أَيْضًا؛ فَهُوَ جَائِزٌ يَأْخُذُ الطَّالِبُ أَيَّهمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ عَنْ الْأَصِيلِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى كَمَا كَانَ قَبْلَهَا فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ فَأَدَّاهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا كَفَلَ عَنْهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا كَفَلَ عَنْ الْأَصِيلِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ وَحْدَهُ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا حَتَّى قَالَ الْكَفِيلَانِ لِلطَّالِبِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ضَامِنٌ لِهَذَا الْمَالِ ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُمَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي جَعَلَا أَنْفُسَهُمَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ سَوَاءً. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمَا كَفِيلٌ بِالْمَالِ عَنْ الْأَصِيلِ وَقَدْ كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ أَيْضًا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ بِأَمْرِهِ رَجُلٌ ثُمَّ إنْ الطَّالِبُ أَخَذَ الْكَفِيلَ بِهَا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا آخَرَ بِهَا ثُمَّ أَدَّاهَا الْآخَرُ إلَى الطَّالِبِ؛ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ مَا تَحَمَّلَ بِهَا عَنْ الْأَصِيلِ، وَلَا أَمَرَهُ الْأَصِيلُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ. وَثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِسَبَبِ الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَمَرَهُ بِهِ وَهُوَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ كَفِيلِهِ بِأَمْرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ بِهَذَا الْمَالِ بِمَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ ذَلِكَ بِأَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ رَجُلَانِ وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: كَفَلْت عَنْ صَاحِبِي؛ فَإِنَّ الطَّالِبَ يُطَالِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا الْمَالَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْتَزِمًا لِلنِّصْفِ كَالْمُشْتَرِيَيْنِ أَوْ الْمُقِرَّيْنِ لِرَجُلٍ عَلَيْهِمَا بِالْمَالِ وَأَيُّهُمَا أَدَّى النِّصْفَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ عَنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا إنَّمَا الْتَزَمَ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى قَالَا لِلطَّالِبِ: الجزء: 20 ¦ الصفحة: 37 أَيُّنَا شِئْتَ أَخَذْتَ بِهَذَا الْمَالِ أَوْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِهَا. فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَلْحَقَتْهَا بِالْكَفَالَةِ الْأُولَى وَقَدْ صَحَّتْ مِنْهُمَا فَصَارَتْ كَالْمَذْكُورِ فِي أَصْلِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى؛ أَخَذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي كَفَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ لَقِيَ الطَّالِبُ أَحَدَهُمَا فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ وَعَنْ الْأَصِيلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَفَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأَصِيلِ وَلَوْ كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ كَفِيلَانِ بِهِمَا وَأَيَّهُمَا شَاءَ أُخِذَ بِهَا وَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ وَالْكَفِيلَانِ بِذَلِكَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهُمَا الْإِقْرَارَ إلَى الْمَكْتُوبِ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ تَصْرِيحِهِمَا بِالْمَكْتُوبِ. فَإِنْ أَدَّى أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصِيلُ بِجَمِيعِ الْمَالِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِنِصْفِهِ ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْمَكْتُوبِ فِي الصَّكِّ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْأَصِيلِ لَهُمَا بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَأَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَالَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى عَشَرَةِ رَهْطٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَجَعَلَ كُلَّ أَرْبَعَةِ كُفَلَاءَ عَنْ أَرْبَعَةٍ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ أَرْبَعَةٍ شَاءَ بِالْمَالِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا الْتَزَمُوا بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ أَخَذَ وَاحِدًا مِنْهُمْ رَجَعَ بِثَلَثِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمِائَةِ أَصِيلٌ، وَفِي الْبَاقِي - وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ - هُوَ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَفِيلٌ عَنْ الْبَاقِينَ، فَحَظُّهُ رُبْعُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنْ أَخَذَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِسِتِّمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمِائَتَيْنِ أَصِيلَانِ وَفِي الْبَاقِي وَهُوَ ثَمَانُمِائَةٍ هُمَا مَعَ آخَرِينَ كَفِيلَانِ عَنْ الْبَاقِينَ فَحَظُّهُمَا النِّصْفُ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَإِنْ أَخَذَ ثَلَثَمِائَةٍ مِنْهُمْ؛ أَخَذَهُمْ بِثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ. أَمَّا مِقْدَارُ ثَلَثِمِائَةٍ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلٌ فِي مِائَةٍ وَالْبَاقِي وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ هُمْ مَعَ آخَرَ كُفَلَاءُ بِذَلِكَ عَنْ الْبَاقِينَ فَعَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِنْ أَخَذَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَأَدَّى رُبْعَ الْأَلْفِ؛ فَإِنَّ مِائَةً مِنْهَا حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِيهَا. وَالْأَصِيلُ فِيمَا يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هُوَ مُؤَدٍّ عَنْ أَصْحَابِهِ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التُّسْعُ. فَإِنْ لَقِيَهُمْ جَمِيعًا؛ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ بِسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ هَذَا الْقَدْرَ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ نِصْفِهِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 38 فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الْبَاقِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِهِ أَيْضًا. فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَيْهِ ثُمَّ لَقِيَ الْآخَرُ مِنْهُمَا أَحَدَ الْبَاقِينَ؛ أَخَذَهُ بِنِصْفِ تُسْعِ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْأَوَّلِ قَدْ أَدَّيَا عَنْهُ التُّسْعَ فَنِصْفُهُ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ التُّسْعِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِنِصْفِ ثَلَاثَةِ أَتْسَاعٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الَّذِي لَقِيَهُ مُسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ عَنْ السَّبْعَةِ الْبَاقِينَ وَهَذَا قَدْ أَدَّى عَنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَتْسَاعٍ وَنِصْفًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ فَإِنْ لَقِيَ الْأَوَّلُ الْأَوْسَطَ بَعْدَ مَا قَبَضَ هَذَا؛ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُ كُلَّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حِينَ الْتَقَيَا اسْتَوَيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ وَصَلَ إلَى أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَأَخَذَ الْآخَرُ مِنْهُ نِصْفَهُ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُنْمِ أَيْضًا. فَإِنْ لَقِيَا الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ الثَّالِثُ رَجَعَا عَلَيْهِ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ أَتْسَاعٍ وَثُلُثِ تُسْعٍ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ التُّسْعِ؛ لِأَنَّهُمَا تَحَمَّلَاهُ عَنْهُ وَتُسْعَانِ وَثُلُثٌ لِلْمُسَاوَاةِ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ آخَرَ كُفَلَاءُ عَنْ الْبَاقِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ لَقِيَا الثَّالِثَ مَعًا؛ كَانَ رُجُوعُهُمَا عَلَيْهِ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ أَتْسَاعٍ وَثُلُثِ تُسْعٍ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ لَقِيَاهُ رَجَعَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى ثَلَاثَةِ رَهْطٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ بِهَا فَأَدَّى أَحَدُهُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ ثُلُثِ الْمَالِ أَصِيلٌ، فَمَا يُؤَدِّيه يَكُونُ أَصِيلًا فِيهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ الْمُؤَدَّى بِقَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ دُونَهُ، وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَدَّيْت هَذَا عَنْ صَاحِبَيَّ أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيمَا هُوَ أَصِيلٌ الْمَالَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَفِيمَا هُوَ كَفِيلٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَالِ، وَالْمُؤَدَّى مَالُهُ، فَيَكُونُ إيقَاعُهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ لِيَسْقُطَ عَنْهُ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ أَقْصَرُ فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ الْمُؤَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِ؛ احْتَاجَ إلَى الرُّجُوعِ وَإِذَا جُعِلَ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفْسِهِ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى أَحَدٍ وَلِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبَيْهِ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَقُولَا: أَدَاؤُهُ بِالْكَفَالَةِ بِأَمْرِنَا بِمَنْزِلَةِ أَدَائِنَا. وَلَوْ أَدَّيْنَا؛ كَانَ لَنَا أَنْ نُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْك، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ عَبِيدًا لَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ الْآخَرِينَ ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمْ شَيْئًا لَا يَكُونُ الْمُؤَدِّيَ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً، بَلْ يَكُونُ عَنْهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ جَعَلْنَا الْمُؤَدَّى عَنْ الْمُؤَدِّي خَاصَّةً؛ لَكَانَ يَعْتِقُ إذَا أَدَّى مِقْدَارَ نَصِيبِهِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ وَالْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَفِي جَعْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ نَصًّا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 39 الْمُؤَدَّى مِنْ نَصِيبِهِمْ. وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا وَهَذَا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ عَلَى وَاحِدٍ فَكَفَلَ بِهِ ثَلَاثَةً عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمْ شَيْئًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِثُلُثَيْ مَا أَدَّى، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَصْلُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ لَهُ بِالْكَفَالَةِ فَكَانَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ وَلَوْ رَجَعَ عَلَى شَرِيكَيْهِ بِثُلُثَيْ مَا أَدَّى لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى الدُّورِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّرْنَا فَإِنْ أَدَّى زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ؛ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى صَاحِبَيْهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ مُؤَدٍّ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَهُوَ كَفِيلٌ عَنْهُمَا وَلَوْ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ عَمَّا عَلَيْهِ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الزِّيَادَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَاحِدٌ وَهُوَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّمْيِيزُ فَتَلْغُو نِيَّتُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا أَخْذَهُ بِنَصِيبِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَهُوَ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ ذَلِكَ وَبِنِصْفِ مَا أَدَّى عَنْ الْآخَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الَّذِي لَقِيَهُ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ بِمَا عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى عَنْ الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِبُ أَيَّهمَا شَاءَ فَأَدَّى أَحَدَهُمَا مِائَةً فَقَالَ هَذِهِ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِي الْكَفِيلِ مَعِي؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا قَالَ وَلَكِنَّهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهَا؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْمَالِ وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِلْأَصِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا جَعَلَ الْمُؤَدِّي مَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْهُ فَيُؤَدِّي إلَى الدُّورِ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْغُرْمِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِهَا وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَلَزِمَ أَحَدُهُمَا فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا ثُمَّ أَدَّاهَا الْكَفِيلُ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ مُسْتَقْرِضٌ لِذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً بِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا وَلِمَا لَهُ بِأَدَاءِ مَا الْتَزَمَ. وَثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ، لَا عَلَى غَيْرِهِ وَالْغَرِيمُ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَسْتَقْرِضْ مِنْهُ شَيْئًا فَفِي حَقِّهِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ أَحَدٌ بِالْكَفَالَةِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَيْهِ وَلَكِنْ إذَا رَجَعَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ كَانَ لِلْآمِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا الْمَالَ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ الَّذِي قُلْنَا. وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِأَدَائِهِ مَا اسْتَقْرَضَ وَهُوَ فِي النِّصْفِ كَانَ كَفِيلًا بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ أَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَا طَلَبَا إلَيْهِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 40 أَنْ يَكْفُلَ بِهَا عَنْهُمَا فَفَعَلَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّاهَا الْكَفِيلُ عَنْهُمَا؛ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ الْمَالَ عَنْهُمَا جُمْلَةً؛ كَانَ كَفِيلًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ كَمَا هُوَ قَصْدُ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ إلَى اثْنَيْنِ وَعِنْدَ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا كَفَلَ عَنْهُ. وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَكَفَالَتُهُ عَنْهُ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا هُوَ أَصِيلٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ فِي الشَّرْطِ حِينَ كَفَلُوا بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى الْآخَرُ الْأَلْفَ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى إذَا لَقِيَاهُمَا، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِهِمَا إذَا لَقِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَا أَدَّى أَمَّا النِّصْفُ فَلِأَنَّهُ كَفَلَ بِهِ عَنْ هَذَا الَّذِي لَقِيَهُ وَأَدَّاهُ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَلِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ مَعَ الَّذِي لَقِيَهُ كَفِيلَانِ بِهِ عَنْ الْآخَرِ؛ إذْ هُوَ مُوجَبُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ ذَلِكَ ثُمَّ إذَا لَقِيَا الثَّالِثَ رَجَعَا عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا ذَلِكَ عَنْهُ بِكَفَالَةٍ تَلْزَمُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِهَا فَأَخَذَ الطَّالِبُ أَحَدَهُمَا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ كُلِّهِ ثُمَّ أَخَذَ الْآخَرَ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكَفِيلَ بِالْمَالِ ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَطْلُوبًا بِجَمِيعِ الْمَالِ. وَالْكَفِيلُ كَفِيلٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَعِنْدَ الْأَدَاءِ كَانَ حَقُّ الْبَيَانِ إلَيْهِ يُجْعَلُ أَدَاؤُهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْكُلِّ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ وَبِهِ رَهْنٌ وَأَلْفٌ فِي صَكٍّ آخَرَ وَبِهِ رَهْنٌ آخَرُ فَأَدَّى أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّ الصَّكَّيْنِ شَاءَ فَيَسْتَرِدُّ ذَلِكَ الرَّهْنَ فَكَذَلِكَ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ كَفَالَتِهِ عَنْهُ لَوْ أَدَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْكُلِّ عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْكَفَالَةِ عَنْ الثَّانِي وَلَكِنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الثَّانِي مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى. فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى لَزِمَهُمْ الطَّالِبُ فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ أَدَّاهَا الْكَفِيلُ ثُمَّ أَخَذَ أَحَدَهُمَا؛ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ الْأَخِيرَةَ تَنْقُضُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْكَفِيلُ كَفِيلٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْكُلِّ وَهَذَا الثَّانِي عَقْدٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ كَفِيلٌ مَعَ صَاحِبِهِ عَنْ الْآخَرِ فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي يَكُونُ نَقْضًا مِنْهُمْ لِمَا كَانَ قَبْلَهُ وَتَمَامُ ذَلِكَ الْعَقْدِ كَانَ بِهِمْ وَإِلَيْهِمْ نَقْضُهُ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ جَدَّدَ بَيْعًا بِأَلْفَيْنِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 41 يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - بِحَالِهَا - وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْآخَرَ يَرْجِعُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى لِكَفَالَتِهِ عَنْهُ وَبِنِصْفِ النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الثَّالِثِ بِهَذَا النِّصْفِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلَانِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ إنَّ الطَّالِبَ لَزِمَ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ ثُمَّ لَزِمَ الْآخَرَ فَأَعْطَاهُ هَذَا أَيْضًا كَفِيلًا بِالْمَالِ ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْكَفِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْأَصِيلَيْنِ وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ - لِتَفَرُّقِ الْعَقْدِ فِي كَفَالَتِهِ عَنْهُمَا - لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ. وَلَا يُقَالُ: أَصْلُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ. حَتَّى لَوْ بَرِئَ هُوَ بَرِئَ الْكَفِيلُ الْآخَرُ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَيْهِ، بَلْ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ فَإِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى أَخَذَ الطَّالِبُ الْكُفَلَاءَ فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ كَفِيلًا عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ الْمَالَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَحَدِ الْكَفِيلَيْنِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ تَنْقُضُ الْكَفَالَةَ الْأُولَى فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِهَذِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْكَفَالَةُ يَنْبَغِي لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِأَصِيلٍ بِالْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَفَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَنْ الْأَصِيلِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ - قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ صَارَ الْآخَرُ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ مَعَ الْأَوَّلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَفَلُوا عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ هُنَا. بَلْ بَقِيَ كَفِيلًا عَنْ الْأَوَّلَيْنِ وَإِنَّمَا انْتَقَضَ حُكْمُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَفِيلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ هَذَا كَانَ كَفِيلًا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ وَحْدَهُ، وَالْآنَ صَارَ كَفِيلًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ وَهُوَ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الْآخَرِ بِالنِّصْفِ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَا أَدَّى وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى لَقِيَ الْكُفَلَاءَ الثَّلَاثَةَ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ كُفَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ الْآخَرُ الْمَالَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ انْتَقَضَ مَا كَانَ قَبْلَهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَقَدْ صَارَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ كَفِيلَيْنِ عَنْ الْأَصِيلِ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ كَالْأَوَّلَيْنِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَفَلَ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَهُنَاكَ إذَا أَدَّى أَحَدُهُمْ رَجَعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِثُلُثَيْ مَا أَدَّى، وَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 42 مَا أَدَّى فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا إنْ لَقِيَهُ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ وَالْآخَرَ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ - الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمْ الْآنَ - سَوَاءٌ. وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْكَفَالَةِ الْمُقَدَّمَةِ وَتِلْكَ قَدْ اُنْتُقِضَتْ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَأَدَّى أَحَدُ الْكُفَلَاءِ الْمَالَ ثُمَّ لَقِيَ أَحَدَهُمْ فَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَدَّى، ثُمَّ إنَّ الْأَوَّلَ لَقِيَ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إلَى الْأَوْسَطِ مِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَالْأَوْسَطُ قَدْ غَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ حَتَّى يَبْقَى عَلَيْهِ غُرْمُ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَيْفِيَّةُ أَدَائِهِمَا هَذَا الْمِقْدَارَ وَهُوَ الْأَلْفُ وَإِنَّمَا يُؤَدِّيَانِ نِصْفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ وَثَمَانِينَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ غَرِمَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِلْأَوَّلِ فَيَدْفَعُ إلَى الْأَوْسَطِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ وَثُلُثًا حَتَّى يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْأَلْفِ. وَالْأَوَّلُ قَدْ أَوْصَلَ إلَيْهِ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَدْفَعُ إلَى الْأَوْسَطِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ وَثُلُثًا حَتَّى يَبْقَى الْعَائِدُ إلَيْهِ ثُلُثَا مَا أَدَّى وَيَكُونُ الْغُرْمُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْأَلْفِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَجَعُوا جَمِيعًا عَلَى الْأَصِيلِ بِالْأَلْفِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا رَجُلٌ، ثُمَّ إنَّ الْكَفِيلَ طَلَبَ الرَّجُلَ فَضَمِنَهَا عَنْهُ لِلطَّالِبِ، ثُمَّ إنَّ الطَّالِبَ أَخَذَهُمْ جَمِيعًا حَتَّى جَعَلَ بَعْضَهُمْ كُفَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ إنَّ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ أَدَّى الْمَالَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِنِصْفِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْأَخِيرَةَ نَقَضَتْ الْكَفَالَةَ الْأُولَى فَإِنَّ مُوجَبَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى: الْأَخِيرُ كَفِيلٌ عَنْ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ دُونَ الْأَصِيلِ. وَهُوَ فِي الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ يَصِيرُ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ وَعَنْ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ الْآخَرِ. وَفِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ الْأَخِيرَةِ: الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ يَصِيرُ كَفِيلًا عَنْ الْأَخِيرِ وَإِذَا اُنْتُقِضَتْ الْكَفَالَةُ الْأُولَى كَانَ الْحُكْمُ لِلْأَخِيرَةِ وَهُمَا فِيهَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى؛ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ بِذَلِكَ ثُمَّ أَعْطَاهُ أَحَدُهُمَا كَفِيلًا بِالْمَالِ ثُمَّ أَخَذَ الْآخَرَ فَأَعْطَاهُ أَيْضًا ذَلِكَ الْكَفِيلُ كَفِيلًا بِالْمَالِ ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ الْأَلْفَ؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى أَخَذَهُمْ الطَّالِبُ فَجُعِلَ بَعْضُهُمْ كُفَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ. ثُمَّ إنْ الْكَفِيلُ أَدَّى الْأَلْفَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِثَلَاثَةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 43 أَرْبَاعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ الْأَخِيرَةَ تَنْقُضُ الْكَفَالَةَ الْأُولَى. وَفِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ الْأَخِيرَةِ الْكَفِيلُ يَصِيرُ مُتَحَمِّلًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَالِ، وَيَكُونُ هُوَ مَعَ الْآخَرِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الثَّالِثِ بِنِصْفِ الْمَالِ سَوَاءً. فَلِهَذَا رَجَعَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْأَلْفِ. فَإِنْ لَقِيَ الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ كَانَ لِلَّذِي أَدَّى الثَّلَاثَةَ الْأَرْبَاعَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ مِنْ هَذَا الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا اسْتَوَيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ مَعَ الْآخَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُنْمِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْبَاقِي وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ نِصْفَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْكَفِيلُ شَيْئًا وَلَكِنْ أَدَّى أَحَدُ الْأَوَّلَيْنِ الْمَالَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ فِي نِصْفِ الْمَالِ أَصِيلٌ مُؤَدٍّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ هُوَ مَعَ الْكَفِيلِ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الثَّالِثِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ لِيَسْتَوِيَا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ. فَإِنْ لَقِيَ الْأَوَّلُ صَاحِبَهُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي الْأَلْفِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أُخْرَى؛ رَدَّ عَلَى الْكَفِيلِ نِصْفَهَا لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُنْمِ ثُمَّ يُتْبِعُ هُوَ الْكَفِيلَ الْآخَرَ الْأَوَّلَ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أُخْرَى وَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْحُرِّ وَحْدَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَفَلَا جَمِيعًا عَنْهُ بِالْمَالِ فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا بِالنِّصْفِ. وَكَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي حَالِ الرِّقِّ كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِهَا فَتَبْقَى كَفَالَتُهُ فِي نَصِيبِهِ وَهُوَ النِّصْفُ وَلَا يُقَالُ: لَمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُزَاحَمَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْحُرُّ كَفِيلًا بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُزَاحَمَةُ فِي أَصْلِ الْكَفَالَةِ مُتَحَقِّقَةٌ. فَإِنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا حَتَّى يُطَالِبَانِ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ الْمَالِ وَعَلَى الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ النِّصْفُ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَعَتَقَ الْعَبْدُ وَأَدَّى الْمَالَ كُلَّهُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْحُرِّ بِالنِّصْفِ، ثُمَّ يَتْبَعَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ، فَمَا أَدَّى إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرَكُهُ فِيهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ عَتَقَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى وَالْمَانِعُ مِنْ كَفَالَتِهِ قِيَامُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّتِهِ فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ حُرَّيْنِ عَنْ ثَالِثٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَفَلُوا عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِعَشَرَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ ضَامِنُونَ فِي ذَلِكَ فَلَقِيَ الطَّالِبُ أَحَدَ الْكُفَلَاءِ فَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ لَقِيَ آخَرَ فَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَةَ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ ثُمَّ غَابَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَلَقِيَ الْكَفِيلَانِ الْمُؤَدِّيَانِ الْكَفِيلَ الثَّالِثَ وَأَرَادَا أَخْذَهُ بِمَا أَدَّيَا وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ صَاحِبِهِ فَاَلَّذِي أَدَّى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 44 خَمْسَمِائَةٍ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْكَفَالَةِ بِالْأَلْفِ مُسْتَوُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِهَا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرْجِعَ بِثُلُثَيْ مَا أَدَّى عَنْ صَاحِبَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ وَلِلَّذِي أَدَّى الطَّعَامَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِثُلُثَيْ الطَّعَامِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَلَا يَصِيرُ الْبَعْضُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ. وَالْمُقَاصَّةَ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ: عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِهِمَا وَصِفَتِهِمَا، لَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ. وَلَوْ الْتَقَى هَذَانِ الْمُؤَدِّيَانِ وَلَمْ يَلْقَيَا الثَّالِثَ؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ الْتَقَوْا جَمِيعًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبَهُ بِنِصْفِ مَا أَدَّى لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ ثُمَّ يَتْبَعَانِ جَمِيعًا الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا بِثُلُثِ مَا أَدَّاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ لَقِيَهُ أَحَدُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِ الْغُرْمِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ فَإِنْ لَقِيَ الثَّالِثُ أَحَدَ هَذَيْنِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْفَضْلِ بِثُلُثِ مَا أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَرْجِعُ أَكْثَرُهُمَا أَدَاءً عَلَى أَقَلِّهِمَا أَدَاءً بِنِصْفِ الْفَضْلِ لِلْحَرْفِ الَّذِي قُلْنَا وَعَلَيْهِ يَدُورُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي أَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْكَفَالَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبِهَا. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَيْهِ فَأَدَّاهُ الْكَفِيلُ ثُمَّ لَقِيَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ الطَّالِبِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَأَقَامَ الْكَفِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّ فُلَانًا هَذَا قَدْ أَمَرَهُ فَضَمِنَهَا لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ قَدْ أَدَّاهَا لِفُلَانٍ إلَى فُلَانٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْضِي بِالْمَالِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ مَالًا بِسَبَبٍ وَهُوَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إتْيَانِ ذَلِكَ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهُوَ أَدَاءُ الْمَالِ إلَيْهِ، فَيُنَصَّبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ كَمَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهَا لَهُ اشْتَرَاهَا مَعَ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ يَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُدَّعِي إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا حَضَرَ الْمَكْفُولُ لَهُ؛ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ الْكَفِيلِ لَمْ يُكَلَّفْ الْكَفِيلُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ مَاضِيًا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا فَمَنْ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَيْضًا وَرُجُوعُ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ وَأَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَمَا يَكُونُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ خَصْمًا لِكَفِيلٍ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ عَلَيْهِ. وَالْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْحَاضِرِ يَكُونُ نَافِذًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْغَائِبِ جَمِيعًا. وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 45 أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَأَتَاهَا رَجُلٌ وَأَخْبَرَهَا أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَبَانَهَا وَوَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ وَيَضْمَنَ الْمَهْرَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا وَأَنْ يَكُونَ أَمَرَ هَذَا الرَّجُلَ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ؛ كَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا وَالْكَفَالَةُ الْمُثْبَتَةُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ. وَإِذَا أَقَرَّ لِمَعْرُوفِ نَسَبٍ أَنَّهُ أَخُوهُ؛ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْمِيرَاثِ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْجِعُ هِيَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ الثَّانِي وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَلَوْ أَقَامَ الْكَفِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا أَدَّى مِنْ الطَّلَاقِ وَتَوْكِيلِهِ إيَّاهُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي وَالْكَفَالَةِ؛ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ ثُمَّ يَرْجِعَ الْكَفِيلُ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ فَصَارَ خَصْمًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بَرِيءٌ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَضَمِنَهُ لَهُ عَلَى إبْرَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَلَا يَأْخُذُ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَتَيَا بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِهَا، وَالْأَلْفَاظُ قَوَالِبُ الْمَعَانِي. وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا حَوَالَةً لِتَصْرِيحِهِمَا بِمُوجَبِ الْحَوَالَةِ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ مَلَّكْتُك هَذَا الشَّيْءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ بَيْعًا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ. وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ يَتَقَارَبَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقْرَاضٌ لِلذِّمَّةِ وَالْتِزَامٌ عَلَى قَصْدِ التَّوَثُّقِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْحَوَالَةِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَالِ أَيَّهمَا شَاءَ؛ كَانَتْ الْكَفَالَةَ فَإِذَا شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَصِيلُ بَرِيئًا؛ كَانَتْ الْحَوَالَةَ وَقَوْلُهُ: ضَمِنَتْ وَإِلَيَّ وَعَلَيَّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كَفَلْت. إذَا شَرَطَ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ كَانَتْ حَوَالَةً بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَلَوْ تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَادَ حَقُّ الطَّالِبِ إلَى الْمُحِيلِ وَلِلتَّوَى أَسْبَابٌ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَجْحَدَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الطَّالِبِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَهَذَا أَبْلَغُ أَسْبَابِ التَّوَى كَالدُّرَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْبَحْرِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَمُوتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَيَتَحَقَّقُ بِهِ التَّوَى عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَعُودُ الْمَالُ إلَى ذِمَّةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 46 الْمُحِيلِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَقُولُ: بِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُبْرِئُ الْمُحِيلَ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَعُودُ الْمَالُ إلَيْهِ بِحَالٍ كَمَا لَوْ بَرِئَ بِالْإِبْرَاءِ. (وَبَيَانُ الْوَصْفِ) أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالْمَالِ وَلَا بِشَيْءٍ يُشْبِهُهُ وَهَذَا مُوجَبُ الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْحَوَالَةَ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الذِّمَّةِ بِالذِّمَّةِ وَالدَّيْنِ بِالدَّيْنِ بَاطِلَةٌ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ لَمْ يَكُنْ تَعَذُّرُ الْوُصُولِ إلَيْهِ مَبْنِيًّا عَلَى حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ بَلْ بِالْحَوَالَةِ يَصِيرُ كَالْقَابِضِ مِنْ الْمُحِيلِ وَالْمُقْرِضِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إسْقَاطُ الْمَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَإِيجَابُهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُعَاوَضَةً إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ أَوْ يَجْعَلُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَيَّنَ مَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ تَحَوَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ إلَى هَذَا الْمَحَلِّ حُكْمًا هُوَ قَضِيَّةُ لَفْظَةِ الْحَوَالَةِ وَفَوَاتُ الشَّيْءِ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَوْدِهِ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ بَلْ فَوَاتُهُ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ كَفَوَاتِهِ فِي الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى الطَّالِبِ لَا غَيْرَ. وَعِنْدَ الْحَوَالَةِ الْمُحْتَالُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ فَيَثْبُتَ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ فَيَكُونَ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ. وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعُودُ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ كَالْغَاصِبِ الْأَوَّلِ مَعَ الثَّانِي إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ تَوَى عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ وَالْمَوْلَى إذَا عَتَقَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ وَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ ثُمَّ تَوَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ الضَّمَانِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَمُوتُ مُفْلِسًا «قَالَ: يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ بِالنَّقْلِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ حَقَّهُ مِنْ الْمُحِيلِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ يَعُودُ حَقُّهُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي انْتَقَلَ حَقُّهُ عَنْهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ شَيْئًا أَوْ صَالَحَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى عَيْنٍ (وَبَيَانُ الْوَصْفِ) أَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، فَنَقَلَهُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى الْعَيْنِ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُنَاكَ إذَا هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَادَ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ فَكَذَلِكَ هُنَا وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ مُحْتَمِلُ الْفَسْخِ فَهَذَا السَّبَبُ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ حَتَّى لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى فَسْخِ الْحَوَالَةِ انْفَسَخَتْ (وَتَقْرِيرُهُ) أَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ كَمَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ وَلَا هُوَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْإِقْرَاضِ كَمَا زَعَمَ هُوَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ وَالْحَوَالَةُ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهِ قَابِضًا وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَدَلَ صَرْفٍ أَوْ سَلَمٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 47 بِهِ مَعَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ الْمُحِيلِ وَيَبْطُلُ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ بِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَوْ صَارَ بِالْحَوَالَةِ قَابِضًا ثُمَّ مُقْرِضًا؛ لَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَالِ تَحَوَّلَتْ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ حُكْمًا إذَا تُصُوِّرَ حَقِيقَةً. وَلَيْسَ فِي الذِّمَّةِ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ فَلَمْ يَبْقَ الطَّرِيقُ فِيهِ إلَّا جَعْلُ الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ خَلَفًا عَنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهَا كَمَا فِي حَوَالَةِ الْفِرَاشِ، الْمَكَانُ الثَّانِي يَكُونُ خَلَفًا عَنْ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ الثَّابِتُ فِي الْمَكَانِ الثَّانِي عَيْنَ مَا كَانَ فِي الْمَكَانِ الْأَوَّلِ فَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ هَذَا؛ فَنَقُولُ إنَّمَا رَضِيَ الطَّالِبُ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ عَلَى قَصْدِ التَّوَثُّقِ لِحَقِّهِ فَيَكُونُ رِضَاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ فِي مَالَهُ فِي الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ فَقَدْ انْعَدَمَ رِضَاهُ فَيَعُودُ الْمَالُ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ كَمَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ عَيْنًا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلُّ الَّذِي هُوَ خَلَفٌ فِي يَدِ الْغَرِيمِ فَكَانَ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِهِ وَهُنَا الْمَحَلُّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِي يَدِ الْغَرِيمِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُطَالَبًا بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الطَّالِبِ أَيْضًا فَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِحَقِّهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فَلَا يَكُونُ التَّوَاءُ عَلَيْهِ وَبِهِ فَارَقَ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي وَالْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ. فَإِنَّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِخَلَفٍ عَنْ الْأُخْرَى وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ كَانَ مُخَيَّرًا ابْتِدَاءً. وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْخِلَافَةِ كَانَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَادَ الْحَقُّ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الثَّانِي حَقِيقَةً كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِالدَّيْنِ إذَا أَبَقَ وَاخْتَارَ الطَّالِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ؛ عَادَ حَقُّهُ كَمَا كَانَ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الذِّمَّةَ تَتَعَيَّبُ بِالْإِفْلَاسِ. أَمَّا عِنْدَهُمَا حُكْمًا فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّفْلِيسَ وَالْحَجْرَ يَتَحَقَّقُ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَ الذِّمَّةَ الْمُفْلِسَةَ مَعِيبَةٌ حَتَّى يَعُدُّونَ الْحَقَّ فِيهَا ثَاوِيًا. وَكَمَا أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّ مُوجِبٌ انْفِسَاخَ السَّبَبِ فَتَعَيُّبُهُ مُثْبِتٌ حَقَّ الْفَسْخِ كَمَا إذَا تَعَيَّبَ الْمُشْتَرَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» فَقَدْ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ بِشَرْطِ مَلَاءِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالِاتِّبَاعِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْإِفْلَاسُ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ فَقَدْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فَقِيرًا وَيُمْسِي غَنِيًّا ثُمَّ عَوْدُ الْمَالِ إلَى الْمُحِيلِ التَّوَى لَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِعَيْبِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ وَلَا تَصَوُّرَ لِلتَّوَى فِي الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِخُرُوجِ مَحَلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلِالْتِزَامِ وَبَعْدَ الْإِفْلَاسِ الذِّمَّةُ فِي صَلَاحِيَّتِهَا لِلِالْتِزَامِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 48 كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّوَى وَلَا الْعَيْبُ بِهَذَا السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُفْلِسًا؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِلِالْتِزَامِ فَيَثْبُتُ التَّوَى بِهَذَا الطَّرِيقِ حُكْمًا وَأَمَّا ذَاتُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ الطَّالِبُ: لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: قَدْ تَرَكَ وَفَاءً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَلِأَنَّهُ بِالْحَوَالَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُلْكِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ وَهُوَ حَيٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا زَعَمَ الطَّالِبُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ ذِمَّتَهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِلِالْتِزَامِ وَبِهِ يَتَحَقَّقُ التَّوَى إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَالٌ يَخْلُفُ الذِّمَّةَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الطَّالِبِ فِيهِ فَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي هَذَا الْخَلْفَ، وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ لِهَذَا وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ ثُمَّ إنَّ الطَّالِبَ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ؛ بَرِئَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ إسْقَاطٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ ضَرُورَةً. فَكَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَالٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى بَعْدَ سُقُوطِ الْمَالِ عَنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِالْإِبْرَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْحَوَالَةِ وَاللَّفْظُ إذَا جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ فِي نَفْسِهِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لَا تَكُونُ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ يَكُونُ تَحْوِيلًا إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا. فَأَمَّا إبْرَاءُ الْأَصِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةُ تَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الدَّيْنِ فَكَمَا لَا يَبْقَى عَلَى الْأَصِيلِ مُطَالَبَةٌ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ: مَا أَشَارَ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ التَّاجِرَ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَضَمِنَهُ لَهُ آخَرُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَالٌ لِرَجُلٍ فَضَمِنَهُ لِآخَرَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْمَكْفُولَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا إسْقَاطًا لِأَصْلِ الْحَقِّ عَنْ الْأَصِيلِ؛ مَا مَلَّكَ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِيمَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ. كَإِبْرَاءِ الْأَصِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً مَا مَلَّكَهُ الصَّبِيَّ التَّاجِرَ فِيمَا عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ: الْحَوَالَةُ تَصِحُّ. وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ تَصِحُّ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ السَّلَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَقَبِلَهُ الْأَصِيلُ حَيْثُ يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ السَّلَمِ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ: مَا أَقَرَّ لَك بِهِ فُلَانٌ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 49 الْكَفَالَةِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْمَاضِي فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِمَا سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِمَا يَقِرُّ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَا يَقِرُّ لَك كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك فِي مَعْنَى مَا يَذُوبُ فَهَذَا قِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ ضَمَانِ مَا يُبَايِعُ بِهِ الرَّجُلُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ: بَايِعْ فُلَانًا فَمَا بَايَعْتَهُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْجَهَالَةُ فِي الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى التَّوَسُّعِ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ عَيْنِهَا لَا تُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ. وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ هِيَ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ. وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدَ الْمُبَايَعَةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا بَايَعَهُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَيَسْتَوِي إنْ وَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ إلَّا أَنَّ فِي الْمُوَقَّتِ يُرَاعَى وُجُودُ الْمُبَايَعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا قَالَ: مَا بَايَعْته بِهِ الْيَوْمَ فَبَاعَهُ غَدًا؛ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ إذَا كَرَّرَ مُبَايَعَتَهُ فِي الْيَوْمِ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ مَا يُوجِبُ الْعُمُومَ. وَإِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ وَإِذَا بَايَعْته مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَا يُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ لِوُجُودِ الْحَرْفِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْمِيمِ فِي كَلَامِهِ وَيَسْتَوِي إنْ بَايَعَهُ بِالنُّقُودِ أَوْ بِغَيْرِ النُّقُودِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا بَايَعْته بِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ يَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: بِعْته شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ مِنِّي فَأَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ بَايَعَهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَقَدْ رَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ نَاشِئٌ عَنْ مُبَايَعَتِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ أَنْكَرَا جَمِيعًا يَعْنِي: الْمَطْلُوبَ وَالْكَفِيلَ لَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ لَزِمَهُ دُونَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مَعَ الطَّالِبِ تَصَادَقَا عَلَى الْمُبَايَعَةِ فِي حَالٍ يَمْلِكَانِ إنْشَاءَهَا فَإِنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ الْمُبَايَعَةَ لَزِمَ ذَلِكَ الْكَفِيلَ وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ يَكُونُ مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ. وَالْمُطَلِّقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 50 الْعِدَّةِ إذَا أَقَرَّ بِالرَّجْعَةِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِيمَا أَقَرَّا بِهِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ فَتَصَادَقَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْمُبَايَعَةِ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ أَيْضًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ: مَا لَزِمَهُ لَك مِنْ شَيْءٍ فَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: بِعْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَا بِعْته مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ مَتَاعًا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ حِنْطَةً بِخَمْسِمِائَةٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْمَالَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ بَاعَهُ مَتَاعًا آخَرَ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِمِقْدَارِ الْأَلْفِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: إذَا بِعْته شَيْئًا فَهُوَ عَلَيَّ. فَبَاعَهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَادِمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا التَّكْرَارَ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْمُبَايَعَةَ مَرَّةً فَبِوُجُودِ ذَلِكَ تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا بَايَعْته بَيْعًا فَأَنَا ضَامِنٌ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمًا يَجِبُ بِمُبَايَعَتِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَبَاعَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُشِيرٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَقْرِضْهُ. وَلَوْ قَالَ: مَتَى بِعْته بَيْعًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِثَمَنِهِ أَوْ إنْ بِعْته بَيْعًا فَبَاعَهُ مَتَاعًا فِي صَفْقَتَيْنِ كُلُّ صَفْقَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ ضَمِنَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ وَكَلِمَةَ مَتَى لِلْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ إذَا وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْتَهُ مِنْ زُطِّيٍّ فَهُوَ عَلَيَّ فَبَاعَهُ ثَوْبًا هَرَوِيًّا أَوْ حِنْطَةً؛ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِمُبَايَعَتِهِ مِنْ الزُّطِّيِّ خَاصَّةً فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا أَقْرَضْتَهُ فَهُوَ عَلَيَّ، فَبَاعَهُ مَتَاعًا أَوْ قَالَ: مَا بَايَعْتَهُ فَهُوَ عَلَيَّ، فَأَقْرَضَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِسَبَبٍ فَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا آخَرَ وَالْمُبَايَعَةُ غَيْرُ الْإِقْرَاضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَاضُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ. وَلَوْ قَالَ: مَا دَايَنْته الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ لَزِمَهُ الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُدَايَنَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْآمِرَ بِالْكِتَابَةِ وَالشُّهُودَ جَاءَ بِهِ اسْمُ الْمُدَايَنَةِ وَعُلِمَ الْكُلُّ. فَلَوْ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَنْ هَذَا الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يُبَايِعَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مُبَايَعَتِهِ ثُمَّ بَايَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْكَفَالَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الْمُبَايَعَةِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بِشَيْءٍ وَلَا مُلْتَزِمٌ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا فَيَصِحَّ رُجُوعُهُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ الْمُبَايَعَةِ إنَّمَا أَوْجَبْنَا الْمَالَ عَلَى الْكَفِيلِ دَفْعًا لِلْغَرَرِ عَنْ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا عَقَدْت فِي الْمُبَايَعَةِ مَعَهُ كَفَالَةَ هَذَا الرَّجُلِ وَقَدْ انْدَفَعَ هَذَا الْغُرُورُ حِينَ نَهَاهُ عَنْ الْمُبَايَعَةِ. وَلَوْ قَالَ: مَا بَايَعْته الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 51 لَك عَلَيَّ ثُمَّ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ لَهُ الْمُبَايَعَةَ، وَأَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ بَاعَ الْمَكْفُولُ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا ذَلِكَ الْمَالُ أَيُّهُمَا كَانَ حَضَرَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَالْمَالُ الَّذِي يُطَالِبَانِ بِهِ وَاحِدٌ فَيُنَصَّبُ الْحَاضِرُ مِنْهُمَا خَصْمًا فَيَكُونُ حُضُورُ أَحَدِهِمَا كَحُضُورِهِمَا فَلَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِسَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الَّذِي حَضَرَ إذْ هُوَ بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَعِلْمُهُ يُغْنِي الطَّالِبَ عَنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ بَايَعَ فُلَانًا الْيَوْمَ بِبَيْعٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَبَاعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ، وَجَهَالَةُ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَجَهَالَةِ الْمُقِرِّ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ: عَلَيَّ شَيْءٌ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا. وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ خَاصَّةً: مَا بَايَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ فَهُوَ عَلَيَّ؛ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَبِيعُ بِهِ أُولَئِكَ الْقَوْمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا بَايَعَ غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّهِمْ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ هُوَ مَجْهُولٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَلَكِنْ ضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْتَزِمُهُ لِوَاحِدٍ بِالْكَفَالَةِ مُنْفَصِلٌ عَمَّا يَلْتَزِمُهُ لِلْآخَرِ. وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَا بَايَعْت بِهِ عَبْدِي مِنْ شَيْءٍ أَبَدًا فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَبَدًا فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَزِمَهُ كُلُّ بَيْعٍ بَايَعَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ صَحِيحٌ، كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَا بَايَعْته أَوْ الَّذِي بَايَعْته بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إذَا بَايَعْته أَوْ إنْ بَايَعْته؛ فَهَذَا عَلَى الْأَوَّلِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْت فُلَانًا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَأَسْلَمَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ أَوْ بَاعَهُ شَعِيرًا بِزَيْتٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ فَإِنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا وَكَّلَهُ بِثَوْبٍ يَبِيعُهُ فَأَسْلَمَهُ فِي طَعَامٍ؛ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ غَيْرُ الْبَيْعِ بَلْ إنَّ مُطْلَقَ التَّوَكُّلِ بِالْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْحَوَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ: إذَا أَفْلَسَ فَلَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ مَالَ الطَّالِبِ يَعُودُ فَدَلِيلُهُمَا أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا فَقَدْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ وَوَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ (فَفِي الْكِتَابِ) الجزء: 20 ¦ الصفحة: 52 أَشَارَ إلَى حُرُوفٍ فَإِنَّكَ لَا تَكْتُبُ: ذِكْرُ حَقِّ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ أَحَالَهُ بِهَا عَلَى فُلَانٍ. فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْسُنُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْكَلَامِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَوَّلَهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَحْسُنُ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ ضَمِنَهَا عَنْهُ فُلَانٌ (ثُمَّ وُجُوهُ التَّوَى) قَدْ بَيَّنَّاهَا فِيمَا سَبَقَ. (وَالْجَوَابُ) بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الدُّيُونِ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالْمَهْرِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الْحَقِّ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى؛ لِيَصِحَّ التَّحْوِيلُ. وَلَوْ أَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ بِالْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَوَّلَ الْمَالُ إلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ الْتَحَقَ بِمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَكَمَا يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى ذِمَّتِهِ؛ يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَوَالَةِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَلَكِنْ يُعَامِلُهُ بِحَسَبِ مَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَصْلِ الْكَفِيلِ (وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ) فَإِنَّ فِي الْكَفَالَةِ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ بَاقِيَةٌ، فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ مَا لَمْ يُؤَدِّ، وَبَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا سَقَطَتْ مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمُحِيلِ عَلَى الثَّبَاتِ بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى التَّأْجِيلِ. أَوْ لَمَّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِغَرَضِ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ جُعِلَ كَالْمُتَوَجَّهِ فِي الْحَالِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةٌ بِالثَّمَنِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ بَلْ مُطَالَبَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَكِيلِ فَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَوْ قَضَى الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ؛ كَانَ رِبْحُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ قَدْ اسْتَوْجَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجِّلٌ لِأَدَائِهِ. وَمَنْ اسْتَعْجَلَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَرَبِحَ؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْبَحَ عَلَى مِلْكٍ صَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى آخَرَ فَقَضَاهَا إيَّاهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَالَ الْأَصِيلُ: كَانَتْ لِي عَلَيْك، وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ: مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَائِهِ، وَالْمُحِيلُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِيَجْعَلَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 53 فَإِنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً. بَلْ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ مِنْ وَجْهٍ: فَتَوْكِيلٌ بِالْأَدَاءِ وَالْقَبْضِ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ دَلَالَةُ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْإِنْكَارِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ؛ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْحَوَالَةِ وَالْمُحِيلُ كَانَ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ كَفِيلًا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي لَمْ يَحِلَّهُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ فِي هَذِهِ الْخَمْسمِائَةِ كَانَ كَفِيلًا وَقَدْ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ. فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَرُجُوعِهِ بِذَلِكَ. فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحِيلُ رَجَعَ بِنِصْفِهَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ وَأَدَاءُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَأَدَائِهِ أَدَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَأَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَدَّى إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ بِنَفْسِهَا عَلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى رَجُلَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ إلَيْهِمَا إضَافَةً عَلَى السَّوَاءِ فَيَقْسِمُ عَلَيْهِمَا انْقِسَامًا عَلَى السَّوَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَفَالَةِ نَظِيرَهُ فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِالْأَلْفِ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ بِجَمِيعِ الْمَالِ هُنَا فِي النِّصْفِ عَنْ الْأَصِيلِ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ فَإِذَا أَدَّاهَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى مُكَاتَبٍ مَالٌ فَأَحَالَهُ الْمُكَاتَبُ بِهِ عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِهِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ لِلطَّالِبِ فِي أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مِنْ غَرِيمِهِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ. وَأَمَرَ لِلْغَرِيمِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ. وَهَذَا التَّكَلُّفُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ أَحَالَ الطَّالِبَ حَوَالَةً مُطْلَقَةً؛ يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُكَاتَبِ الْمُقَيَّدَةُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ يَجُوزُ مُقَيَّدًا بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ إلَى الْمُحِيلِ أَوْ إلَى الْمُحْتَالِ. وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي هَذَا كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَاهُ عَلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 54 وَاحِدٍ جَازَتْ الْحَوَالَةُ مِنْهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِالْمَالِ وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَحْتَالُ بِدَيْنِ الْيَتِيمِ عَلَى رَجُلٍ أَمْلَأَ مِنْ غَرِيمِهِ الْأَوَّلِ فَاحْتَالَ بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قُرْبَانُ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ فَإِنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِمَلَاءَةِ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ. وَفِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَمْلَأُ: إظْهَارٌ لِلزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ وَتَيَسُّرُ الْوُصُولِ إلَى مَالِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَظَرًا مِنْ حَقِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَمْرِ بِنَقْدِ الْمَالِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَدَهَا؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْآمِرِ اسْتِقْرَاضٌ مِنْ الْمَأْمُورِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْدُهُ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُودُ مِلْكًا لَهُ وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْأَلْفَ وَوَكَّلَ صَاحِبَ دَيْنِهِ بِأَنْ يَقْبِضَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ مِنْ عِنْدِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنَ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ فَيُؤَدِّيَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ لِلْمَأْمُورِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يُؤَدِّي فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اُنْقُدْ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: اقْضِهِ عَنِّي كَذَا أَوْ قَالَ: اقْضِهِ مَا لَهُ عَلَيَّ، أَوْ ادْفَعْ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ عَلَيَّ، أَوْ ادْفَعْ عَنِّي كَذَا، أَوْ أَعْطِهِ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَوْفِهِ مَالَهُ عَلَيَّ، فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهُ إقْرَارٌ مِنْ الْآمِرِ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ إمَّا لِقَوْلِهِ: عَنِّي أَوْ لِقَوْلِهِ: اقْضِهِ عَنِّي. فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: أَوْفِهِ عَنِّي فَإِنَّ الْإِيفَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَوْ قَالَ: اُنْقُدْهُ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا أَوْ عَلَى أَنِّي كَفِيلٌ بِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ سَوَاءٌ وَإِذَا نَقَدَهَا إيَّاهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْتِزَامِ ضَمَانِ الْمَنْقُودِ لَهُ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي إنْ نَقَدَهُ الدَّرَاهِمَ أَوْ نَقَدَهُ بِهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ بَاعَهُ بِهَا جَارِيَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ. فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ إذَا حَلَفَ لَيَسْتَوْفِيَنَّ مَالَهُ عَلَيْك قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَك وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَضَاءً وَلَمْ يَقُلْ: عَنِّي أَوْ قَالَ: اقْضِ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ فَدَفَعَهَا الْمَأْمُورُ فَإِنْ كَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْقَائِمَةَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْقِضَاءِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ يَنُوبُ عَنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 55 صَاحِبِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ السَّابِقَةِ. وَتِلْكَ الْخُلْطَةُ تُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا يُؤَدِّي بِأَمْرِهِ كَمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا رُجُوعُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ. وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ خَلِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ خَلِيطٍ لِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الدَّفْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ وَإِذَا اعْتَمَدَ فِي الْأَدَاءِ أَمَرَهُ فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ صَارَ مُغَرَّرًا مِنْ جِهَتِهِ. وَالْغَرَرُ مَدْفُوعٌ كَمَا فِي الْخَلِيطَيْنِ (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِ قَضَاءً وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَى الْوُجُوبِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْمُورِ شَيْءٌ وَاجِبٌ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُ الْآمِرِ بِذَلِكَ بَلْ أَمْرُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآمِرِ وَكَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا وَقَوْلُهُ: اقْضِ عَنِّي سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا إنَّ قَوْلَهُ: اقْضِ أَوْ ادْفَعْهُ إلَيْهِ قَضَاءُ كَلَامٍ مُحْتَمَلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيْك فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيَّ. وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْهُ اسْتِقْرَاضًا وَلَا أَمْرًا بِأَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَطَرِيقُ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ هُنَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: قَضَاءً عَنِّي إذَا كَانَ قَضَاءً لِمَا لَهُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ زَالَ هُنَاكَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ أَمْرُهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ادْفَعْهُ إلَيَّ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ بَلْ يَقْضِهِ الْمَالَ مِنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ هُنَا إلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلْمَالِ مِنْهُ دُونَ الْآمِرِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَهَذَا وَأَمْرُهُ لَلْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ. وَيَدُ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِ، وَلَوْ دَفَعَ بِنَفْسِهِ قَضَاءً كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ حَتَّى أَدَّى، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إذَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ زَوْجَهَا فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ أَجِيرًا لَهُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التِّلْمِيذَ الْخَاصَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ شَرِيكًا لَهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ وَحَمْلٌ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 56 لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ أَوْ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ رَجَعَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْآمِرِ بِاعْتِبَارِ الْخُلْطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرَرِ مِنْ جِهَتِهِ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَرْجِعْ الْآمِرُ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ فَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ. وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَابِضَ يَسْتَوْفِي حَقًّا وَاجِبًا لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً. وَلَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَنْقُدَ فُلَانًا عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَجِيَّةٍ فَنَقَدَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ غَلَّةً أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَى بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالنَّجِيَّةِ إذَا أَدَّى بِالْغَلَّةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنَّجِيَّةِ فَإِنَّ رُجُوعَ الْكَفِيلِ بِحُكْمِ الِالْتِزَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ النَّجِيَّةَ فَاسْتَوْجَبَ مِثْلَهَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ثُمَّ إنْ سَامَحَهُ الطَّالِبُ فَتَجُوزُ بِالْغَلَّةِ؛ لَا يَجِبُ أَنْ يُسَامِحَ الْأَصِيلَ بِشَيْءٍ فَأَمَّا الْمَأْمُورُ فَهُوَ غَيْرُ مُلْتَزِمٌ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْأَدَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْمُؤَدِّي. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ رَجُلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَاهَا الْمُحْتَالُ قَالَ الْمُحْتَالُ لِلْمُحِيلِ: كَانَ الْمَالُ لِي عَلَيْك فَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْت حَقَّ نَفْسِي، وَقَالَ الْمُحِيلُ: بَلْ كُنْت وَكِيلِي فِي قَبْضِ مَالِي؛ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ ظَاهِرًا كَالْمَقْبُوضِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ ثُمَّ الْقَابِضُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْبِسَ مَالَهُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إحَالَتَهُ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَيُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ دَيْنُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ وَرَبُّ الْمَالِ غَائِبٌ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ. فَهُوَ مِثْلُ الْحَوَالَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ عَنِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِالْمَالِ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اضْمَنْ عَنِّي لَهُ، بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ مِنْهُ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُوبِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 57 الْمَالِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ إذَا قَالَ: يَحْتَالُ إلَيْك بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْك؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ مُحْتَالٌ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِتُؤَدِّيَهَا عَنِّي مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحْتَالِ. وَإِذَا قَالَ: يَحْتَالُ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالْمَالِ وَلَكِنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَالِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لَهُ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ. وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَ، وَإِنْ أَدَّاهَا وَكَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهَا الْآمِرُ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْحَوَالَةِ نَظِيرَهُ فَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُسَلَّمُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: ادْفَعْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مِنْ الْمَأْمُورِ الْتِزَامُ شَيْءٍ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ. وَهُنَا بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ قَدْ الْتَزَمَ الْمَالَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى إلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ صُلْحِ الْكَفَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِهَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَصَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى إبْرَاءِ الْأَصِيلِ مِنْ الْأَلْفِ؛ جَازَ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى عُشْرَ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْكَفِيلِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ. وَذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أَدَّى دُونَ مَا أَبْرَأَهُ الْأَصِيلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فَلَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْكَفِيلِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ بِهِ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْإِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحَوُّلَ أَصْلِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ؛ لِيَتَمَلَّكَ بِأَدَائِهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْتَوْجِبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُبْرِئَ الْكَفِيل خَاصَّةً مِنْ الْبَاقِي رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ وَلَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ فَيَبْقَى لَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 58 مَا أَبْرَأَهُ الْكَفِيلُ مِنْهُ وَتِسْعُمِائَةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ، وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ. وَبِالْإِبْرَاءِ لَا يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ وَهَبَ التِّسْعَمِائَةِ لِلْكَفِيلِ؛ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْأَلْفُ بَعْضُهَا بِالْأَدَاءِ وَبَعْضُهَا بِالْهِبَةِ مِنْهُ. وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْأَصْلِ. فَمِنْ ضَرُورَةِ تَصْحِيحِهِ: تَحَوُّلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، فَلَا يَبْقَى لِلطَّالِبِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ شَيْءٌ وَيَتَحَوَّلُ الْكُلُّ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهَا بِالْهِبَةِ وَالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَالشِّرَاءِ يَتَمَلَّكُ جَمِيعَ الْأَلْفِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهَا تَحَوُّلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ. فَإِنَّ الصُّلْحَ فِي غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ يَكُونُ تَمْلِيكًا كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ مَتَاعٍ فَالْجَوَابُ فِي الْكُلُّ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ كَفِيلٌ آخَرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ أَوْ الْبَيْعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَهُ. وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الْمَالِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَخَذَ صَاحِبَهُ فِي الْكَفَالَةِ مَعَهُ بِالنِّصْفِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى إنْ أَبْرَأَهُ خَاصَّةً مِمَّا بَقِيَ فَهُوَ جَائِزٌ وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْمُؤَدَّى وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ لِيَسْتَوِيَ مَعَهُ فِي الْغُرْمِ فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي؛ جَازَ كَمَا لَوْ عَامَلَ الْأَصِيلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَكُونُ بَرَاءَةً لِلْأَصِيلِ وَقَدْ كَانَ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مِائَةٌ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَيَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ الْآخَرِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةٍ فَأَيُّهُمَا أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا اقْتَسَمَا الْمَأْخُوذَ اعْتِبَارًا عَلَى قَدْرِ شَرِكَتِهِمَا فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ. لِأَحَدِهِمَا تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَلِلْآخِرِ عُشْرٌ. وَلَوْ صَالَحَ الْمُؤَدِّي صَاحِبَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ عَرَضٍ؛ جَازَ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مَعَ الطَّالِبِ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ. وَيَمْلِكُ الْكَفِيلُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ بِهَذَا الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهَا بِعَيْنِهَا إلَى الْمُؤَدِّي فَيَتْبَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَصِيلَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 59 بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَيُّهُمَا أَخَذَ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ نِصْفُهُ عَلَى حَسَبِ حَقِّهِمَا فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا وَبِهِ كَفِيلٌ فَصَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ رَجَعَ بِالطَّعَامِ كُلِّهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّاهُ الْكَفِيلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الطَّعَامِ فَيَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا بِجَمِيعِ الطَّعَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِالطَّعَامِ ثَوْبًا؛ كَانَ بِهِ مُتَمَلِّكًا جَمِيعَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبِهِ كَفِيلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَصَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ إنْ الْكَفِيلُ الَّذِي قَبَضَ الْمِائَةَ أَدَّى الْمَالَ كُلَّهُ إلَى الطَّالِبِ؛ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِتِسْعِمِائَةٍ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَهُ بِشَيْءٍ وَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِالْمِائَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَعَنْ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْمَالِ، صُلْحُ الْكَفِيلِ مَعَ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ صَحِيحٌ كَمَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مَعَ الطَّالِبِ فَإِذَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مِائَةٍ؛ فَقَدْ صَارَ مُبْرِئًا لَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ مِمَّا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَانَ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَإِذَا أَدَّى الْقَابِضُ لِلْمِائَةِ جَمِيعَ الْأَلْفِ؛ فَإِنَّمَا أَدَّى عَنْ الْأَصِيلِ تِسْعَمِائَةٍ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا عَنْ الْكَفِيلِ مَعَهُ مِقْدَارَ مَا كَفَلَ عَنْهُ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ كَفِيلِهِ عَنْهُ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا وَلَكِنَّ الطَّالِبَ أَخَذَ الْكَفِيلَ الَّذِي أَدَّى الْمِائَةَ وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِتِسْعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْمِائَةَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّاهَا بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ، وَقَدْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ وَأَدَّاهَا؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ أَيْضًا. وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ صَالَحَ صَاحِبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالْخَمْسِمِائَةِ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَيَكُونُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُمَا غَيْرَ جَائِزٍ فِي حَقِّ الطَّالِبِ؛ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَيَّهمَا شَاءَ. فَإِنْ أَخَذَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ الَّذِي أَدَّى بِالْأَلْفِ فَأَدَّاهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا تَامَّةً عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ وَبِخَمْسِمِائَةٍ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ إنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَلْفِ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَبِالنِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا يُقَابِلَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 60 لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْقَابِضَ لِلطَّعَامِ قَبَضَهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُبْرِئَ الْمُؤَدِّيَ مِنْ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُؤَدِّي عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ. فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ خُيِّرَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الطَّعَامَ وَرَدَّ عَلَيْهِ عِوَضَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَإِنْ شَاءَ الْمُؤَدِّي لِلْأَلْفِ رَجَعَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا عَنْهُ بَعْدَ مَا تَحَمَّلَهَا بِأَمْرِهِ، وَرَجَعَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي قَبَضَ الطَّعَامَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ لِمَا بَيَّنَّا. (وَحَاصِلُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي هِيَ عِوَضٌ عَنْ الطَّعَامِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمُؤَدِّي الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُمَلَّكًا إيَّاهَا مِنْ الْمُؤَدِّي لِلطَّعَامِ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَابِضِ لِلطَّعَامِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ ثُمَّ إنْ الطَّالِبُ صَالَحَ الْكَفِيلَ الَّذِي قَبَضَ الدَّنَانِيرَ عَلَى تِلْكَ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ؛ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّنَانِيرَ وَتَمَّ مِلْكُهُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَالْتَحَقَ تَعْيِينُهَا مِنْ دَنَانِيرِهِ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ مَعَ الطَّالِبِ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ تَمْلِيكًا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الرِّبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثُمَّ يَكُونُ لِلْكَفِيلِ الَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعَ الْكَفِيلُ الْآخَرُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ قَدْ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِهَذَا الصُّلْحِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ جَمِيعَ الْأَلْفِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَوْلَا صُلْحُهُ مَعَهُ، وَقَدْ صَحَّ صُلْحُهُ مَعَهُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إذْنِهِ فَيَتَقَرَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْكَفِيلِ الْمُصَالِحِ الْأَوَّلِ عَنْهُ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ. وَأَيُّهُمَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَصِيلِ شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَمَا يَقْبِضُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا وَلَكِنَّ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ أَدَّى الْمَالَ كُلَّهُ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلَ مَعَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ وَقَبَضَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَالصُّلْحُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ جَائِزٌ. وَهُمَا يَتْبَعَانِ الْأَصِيلَ بِالْأَلْفِ تَامَّةً؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُؤَدِّيَيْنِ عَنْهُ جَمِيعَ الْأَلْفِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الدَّنَانِيرِ؛ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 61 نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ مُؤَدِّيَ الدَّنَانِيرِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِلْخَمْسِمِائَةِ بِمَا أَدَّى فَالصُّلْحُ يَصِحُّ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ إذَا أَمْكَنَ. وَالْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ رُجُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى صَاحِبُهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَإِنْ جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصُّلْحِ عَنْهُمَا هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْخَمْسِمِائَةِ بِالْمِائَةِ رِبًا فَالْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مِقْدَارَهَا. وَإِبْرَاءُ مُؤَدِّي الْأَلْفِ صَاحِبَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ لَا يَكُونُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمِائَةِ فَإِذَا اقْتَضَاهُ شَيْئًا مِنْهَا يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا اعْتِبَارًا. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَرَضٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَانَ مِثْلَ الصُّلْحِ عَلَى الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مُمْكِنٌ. وَالصُّلْحُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَ الْأَدَاءِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ كَمَا يَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ بِعَيْنٍ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَفِيلَ يُطَالِبُ الْأَصِيلَ بِحَسَبِ مَا تَعَامَلَهُ الطَّالِبُ مَعَ الْكَفِيلِ وَيَجُوزُ صُلْحُ الْكَفِيلِ مَعَ الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا قَرْضًا أَوْ غَصْبًا فَصَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ خُصُومَتِهِ؛ فَهُوَ مِثْلُ الْبَابِ الْأَوَّلِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ هَذَا الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ مُمْكِنٌ فَإِنْ أَدَّى الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ وَالطَّعَامَ كُلَّهُ؛ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَتْبَعَا الْأَصِيلَ بِذَلِكَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لَلدَّرَاهِمَ كَانَ أَصِيلًا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ. وَأَدَاءُ كَفِيلِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ تَمَّ مِلْكُهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الطَّعَامِ بِمَا أَدَّى مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِذَلِكَ وَالْمُؤَدِّي لِلطَّعَامِ كَفِيلٌ عَنْ الْأَصِيلِ بِالطَّعَامِ وَقَدْ أَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عِوَضُهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ نِصْفُ الطَّعَامِ فَلِهَذَا رَجَعْنَا عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ أَدَّى الطَّعَامَ الَّذِي دَفَعَ الدَّرَاهِمَ اتَّبَعَ صَاحِبَ الْأَصْلِ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِجَمِيعِ الطَّعَامِ وَقَدْ أَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بِنِصْفِ مَا أَدَّى الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ نِصْفِ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ كَفَلَ بِهِ عَنْهُ لِيُؤَدِّيَهُ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يَفْعَلْ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلدَّرَاهِمِ أَنْ يَرُدَّ الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ رَدَّ نِصْفِ الطَّعَامِ وَيُكْمِلَهُ عَلَيْهِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا الضَّرَرَ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَقْبُوضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ الْكَفِيلُ الَّذِي أَدَّى الطَّعَامَ اتَّبَعَ صَاحِبَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِجَمِيعِ الطَّعَامِ لِيُؤَدِّيَهُ عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 62 أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دَرَاهِمَهُ مَكَانَ نِصْفِ الطَّعَامِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ دَرَاهِمَهُ مَعَ نِصْفِ الطَّعَامِ فَالْمَقْبُوضُ مِنْهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا. وَإِنْ كَانَا كَفِيلَيْنِ عَنْ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبهِ بِهَا ثُمَّ إنْ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَالَحَ الْآخَرَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ ثُمَّ صَالَحَ الطَّالِبُ الَّذِي قَبَضَ الْعَشَرَةَ عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ تِسْعَةً وَنِصْفًا عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ ثُمَّ يَرْجِعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْعَشَرَةِ إنَّمَا أَدَّاهَا إلَى صَاحِبِهَا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْعَشَرَةَ وَهُوَ مَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ مِمَّا كَفَلَ عَنْهُ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى إلَيْهِ خَمْسَةً - وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي النِّصْفَيْنِ - نِصْفَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُتَحَمِّلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَدَّى إلَى الطَّالِبِ مِمَّا تَحَمَّلَ عَنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا. وَصَاحِبُهُ إنَّمَا بَرِئَ مِمَّا بَقِيَ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَتَعَدَّدُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ فَلِهَذَا رَجَعَ الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ. ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَدِّي عَنْ الْأَصِيلِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا حُكْمًا فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِالْخَمْسَةِ كَذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ صَالَحَ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِمَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ مِمَّا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ. فَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ الَّذِي أَخَذَ الْعَشَرَةَ إلَى الطَّالِبِ الْمِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ صَالَحَ الْأَصِيلَ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْعَشَرَةِ وَصَارَ مُبَرِّئًا لَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَالْكَفِيلُ مَعَهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لَا بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَكُونُ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ. وَلَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الْآخَرُ الْمِائَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْأَصِيلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا عَنْ الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ مِقْدَارَ الْخَمْسِينَ. وَلَوْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْكَفِيلِ الْآخَرِ وَبَيْنَ الْأَصِيلِ صُلْحٌ؛ كَانَ لِهَذَا الْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ وَهُوَ مِقْدَارُ الْخَمْسِينَ فَبَعْدَ صُلْحِهِ أَوْلَى وَقَدْ كَانَ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ بِالْخَمْسِينَ الْأُخْرَى وَأَدَّاهَا عَنْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَصِيلُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي صَالَحَهُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي كَفَلَ بِهِ عَنْهُ وَنِصْفِهِ مِمَّا كَفَلَ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ تِلْكَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَتَسْلِيمُ الْخَمْسَةِ الْأُخْرَى لِلْمُصَالِحِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْآخَرَ لَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَصِيلِ لَوْلَا صُلْحُهُ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَإِبْرَاؤُهُ إيَّاهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 63 عَمَّا زَادَ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ الْخَمْسِينَ وَلَوْ صَالَحَ الْأَصِيلُ الْكَفِيلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَالَةِ فَهُوَ جَائِزٌ. وَأَيُّهُمَا أَدَّى بِالْكَفَالَةِ الْمِائَةَ إلَى الطَّالِبِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ إلَّا بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالصُّلْحِ قَدْ أَبْرَأَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ إلَى تَمَامِ مَا كَفَلَ عَنْهُ، وَلَوْ أَبْرَأهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَدَاءِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخَمْسَةِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قَبْضُ تِلْكَ الْخَمْسَةِ لِيُؤَدِّيَ إلَى الطَّالِبِ مَا تَحَمَّلَ عَنْ الْأَصِيلِ وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ الْآخَرُ فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِتِلْكَ الْخَمْسَةِ، يَقْبِضُهَا مِنْهُ وَلَا يَتْبَعَانِ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا بِخَمْسَةٍ سِوَى الْخَمْسَةِ الَّتِي قَبَضَهَا صَاحِبُهُ فِي الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ أَدَّى تِلْكَ الْخَمْسَةَ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْأَصِيلِ وَهُوَ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهَا فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْأَصِيلُ عَلَى الْقَابِضِ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَاحِدٌ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ الْمَالَ وَلَكِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ؛ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا الْعَشَرَةَ مِنْهُ لِيُؤَدِّيَا عَنْهُ مَا تَحَمَّلَا مِنْ الدَّيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ أَدَّى هُوَ الْمَالَ بِنَفْسِهِ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ الْعَشَرَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ اسْتِيفَائِهِمَا مِنْهُ لَا بِحُكْمِ إسْقَاطِهِمَا عَنْهُ. وَلَوْ صَالَحَهُمَا عَلَى ثَوْبٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إنَّهُ أَدَّى الْمِائَةَ إلَى الطَّالِبِ؛ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَبْضِ نِصْفِ الثَّوْبِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَوْفِي الْخَمْسِينَ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ حَقَّ الطَّالِبِ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنْ أَدَّاهَا صَاحِبَهُ وَقَدْ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِلْكَ الْخَمْسِينَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ تِلْكَ الْخَمْسِينَ عَنْ الْأَصِيلِ وَقَدْ أَدَّاهَا فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ رَجَعَ بِهَا الْأَصِيلُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الثَّوْبِ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهَا عَنْهُ لِيُؤَدِّيَهَا عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى هُوَ بِنَفْسِهِ إلَى الْكَفِيلِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا إذْ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَكِنَّهُ أَدَّى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَيْهَا الطَّالِبُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَلَكِنَّ الْأَصِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ إلَى الطَّالِبِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَبْضِ نِصْفِ الثَّوْبِ مِنْهُ صَارَ قَابِضًا لِلْخَمْسِينَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ ذَلِكَ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 64 لَمْ يُؤَدِّ إلَى الطَّالِبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا بَرِئَ هُوَ عَنْ تِلْكَ الْخَمْسِينَ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ إيَّاهُ، فَكَانَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِينَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ هُوَ رَدَّ نِصْفِ الثَّوْبِ عَلَيْهِ. وَالْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَابِضِ لِلْخَمْسِينَ مِنْهُ أَيْضًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَدَّى إلَيْهِ عَشَرَةً فَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إنَّمَا بَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْهُ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ بِقَدْرِ الْأَرْبَعِينَ لِذَلِكَ. وَلَا رُجُوعَ لِلْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْ الْأَصِيلِ هَذِهِ الْعَشَرَةَ وَزِيَادَةً فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى شَرِيكِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْأَصِيلَ صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَدَّ الثَّوْبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَوْفِي لِلْخَمْسِينَ مِنْهُ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ. وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ صَالَحَ الْكَفِيلَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَانَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْنِ أَدَّى عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصِيلِ وَزِيَادَةً وَلَكِنْ يَرُدُّ دِرْهَمًا عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْأَصِيلِ خَمْسَةً وَمَا أَدَّى عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ إلَّا أَرْبَعَةً فَإِنَّمَا بَرِئَ عَمَّا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ وَيَرُدُّ صَاحِبُهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَوْفَى مِنْ الْأَصِيلِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا بَرِئَ هُوَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ صَالَحَهُمَا عَلَى ثَوْبٍ ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ دِرْهَمًا، وَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْ الْأَصِيلِ مِقْدَارَ الْخَمْسِينَ بِالصُّلْحِ عَلَى الثَّوْبِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمُصَالِحَ مَعَ الطَّالِبِ يَرُدُّ عَلَى الْأَصِيلِ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَصَاحِبُهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَصِيلِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ الْأَصِيلِ عَلَى أَنْ يَسْتَفِيدَ الْأَصِيلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ بِأَدَائِهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَاَلَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى الدَّرَاهِمِ إنَّمَا أَدَّى عَنْهُ الدَّرَاهِمَ فَقَطْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْخَمْسِينَ وَالْآخَرُ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ شَيْئًا إلَى الطَّالِبِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ فَاوَضَ رَجُلًا، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ؛ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ لَا يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ضَمَانِ الْكَفَالَةِ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا أَوْلَى. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ بَعْدَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 65 الشَّرِكَةِ وَهَذَا الْمَالُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ قَبْلَ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ. وَالْأَجَلُ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنْ الْمُطَالَبَةِ يَرْتَفِعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ فَاوَضَ رَجُلًا. وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ مُؤَجَّلًا وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ ثُمَّ فَارَقَهُ أَوْ صَارَ شَرِيكَهُ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ شَرِيكَهُ جَمِيعَ الْكَفَالَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا كَانَ زَوَالُ الْمَانِعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ وَكَمَا وَجَبَ الْمَالُ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَلَى الَّذِي بَاشَرَهُ وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ؛ فَيَفْسَخُ الشَّرِكَةَ وَانْفِسَاخُهَا بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ مَا كَانَ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ تَفَاسَخَا الشَّرِكَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا الشَّرِيكُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْ بَعْدَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي أَمَرَ شَرِيكَهُ بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّرِيكِ فِي وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَالْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ فَكَذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَجَبَ أَيْضًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصِيلِ الَّذِي أَمَرَ أَحَدَهُمَا بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَحَدَهُمَا كَأَمْرِهِ إيَّاهُمَا فَإِنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَأَنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُفَاوِضُ الَّذِي لَمْ يَكْفُلْ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ؛ فَالْمَالُ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَحِلُّ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَيِّتَ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ وَالْحَيُّ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ. وَالْمَيِّتُ لَا يَنْتَفِعُ بِبَقَاءِ الْأَجَلِ بَلْ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَارِثِ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ وَالْحَيُّ يَنْتَفِعُ بِالْأَجَلِ فَيَبْقَى الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْحَيِّ مِنْهُمَا دُونَ الْمَيِّتِ. وَحُلُولُ الْمَالِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُوجِبُ حُلُولَهُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ. فَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ إذَا كَفَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فِي التِّجَارَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَالدَّيْنُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ يَكُونُ الْآخَرُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةُ سَلَمٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَأَدَّاهُ الْكَفِيلُ ثُمَّ صَالَحَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ لَيْسَ بِسَلَمٍ فَإِنَّ السَّلَمَ اسْمٌ لِمَا يَجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَهَذَا إنَّمَا يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَهُوَ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى السَّلَمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَوْ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَأَدَّاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ فَارَقَ الْأَصِيلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ بِهِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 66 الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ مُقْرِضًا ذِمَّتَهُ مِنْ الْأَصِيلِ بِالِالْتِزَامِ لِلْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ يَصِيرُ مُقْرِضًا مَالَهُ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ فَمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلَ الْقَرْضِ. وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الْقَرْضِ صَحِيحٌ. وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ إلَّا الطَّعَامُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا بِدِينٍ فَأَمَّا إذَا صَالَحَهُ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُبَادَلَةَ هُنَا بَلْ هُوَ تَأْجِيلٌ فِي عَيْنِ مَا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ وَالْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ لَا يَلْزَمُ. قُلْنَا: هُوَ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ بِقَرْضٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِعَقْدٍ مَآلًا، وَهُوَ الْكَفَالَةُ وَالْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ فَلِهَذَا صَحَّ تَأْجِيلُهُ فِيهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ وَجَبَ الدَّيْنُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ. وَالصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ صَحِيحٌ. فَإِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ الطَّعَامَ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِطَعَامٍ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (مَا خَلَا خَصْلَةً وَاحِدَةً) وَهِيَ مَا إذَا كَانَ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْهُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَاسْتِيفَاءً لِلْبَعْضِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَوْفَاهُ وَفِيمَا سِوَاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةً وَكَانَ الْكَفِيلُ كَالْمُسْتَوْفِي مِنْهُ جَمِيعَ الطَّعَامِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ عِوَضِهِ وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ لِيَقْضِيَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ لِلطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُ كَمَا إذَا أَوْفَاهُ الطَّعَامَ حَقِيقَةً. وَلَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ الطَّعَامَ مِنْ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ثُمَّ أَدَّاهُ؛ كَانَ التَّأْجِيلُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الْمَالَ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَالتَّأْجِيلُ فِي الدَّيْنِ بَعْدَ وُجُوبِهِ صَحِيحٌ. وَلَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ عَلَى دَرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ الطَّعَامَ دَيْنًا، فَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ كَانَ دَيْنًا بِدِينٍ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ. وَالدَّرَاهِمُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَا لَمْ تُقْبَضْ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَا خَلَا الطَّعَامَ فَإِنَّهُ إنْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُبَادَلَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الصُّلْحِ، وَإِنَّمَا حَطَّ عَنْهُ نِصْفَ كُرٍّ وَأَجَلُهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ إلَى أَجَلٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَضَمِنَهَا رَجُلٌ عَنْهُ إلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 67 أَجَلٍ دُونَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا سُمِّيَ أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْكَفِيلُ شَيْئًا؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ. وَالْمُطَالَبَةُ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، فَيَثْبُتُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ الْكَفِيلِ أَيْضًا. وَأَمَّا إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَفَالَةِ، وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً أَمَّا إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ دُونَ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِهِ حَالًّا لَزِمَهُ الْمَالُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَزِمَهُ الْمَالُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَكَفَالَتُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ حَالًّا بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَإِذَا جَازَ فِي جَمِيعِ الْأَجَلِ؛ جَازَ فِي بَعْضِهِ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى؛ صَحَّ وَلَمْ يُطَالِبْ الْكَفِيلُ إلَّا بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا فَأَخَذَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ حَتَّى أَقَامَ لَهُ بِهِ كَفِيلًا إلَى سَنَةٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَالتَّأْخِيرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّأْجِيلَ إلَى أَصْلِ الْمَالِ وَأَصْلُ الْمَالِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ فَيَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ ثُمَّ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ بِثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّلَ الْكَفِيلَ سَنَةً؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ هُنَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى أَصْلِ الْمَالِ بَلْ هُوَ مُضَافٌ إلَى الْمُطَالَبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ. وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ أَخَّرَ الْمَطْلُوبَ بَعْدَ الْحِلِّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى كَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ الْمَطْلُوبِ لِلْكَفِيلِ دُونَ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّأْخِيرَ إلَى مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ دَيْنٍ آخَرَ سِوَى دَيْنِ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْكَفِيلِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الطَّالِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ الطَّالِبِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ كَمَا لَوْ أَجَّلَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَالَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَّرَ الطَّالِبُ الْأَصِيلَ سَنَةً فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْهُمَا وَلَوْ أَخَّرَ الْكَفِيلَ سَنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِهَا حَالَّةً اعْتِبَارًا لِلتَّأْجِيلِ بِالْإِبْرَاءِ فَكَمَا أَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ. وَإِبْرَاءَ الْأَصِيلِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ وَبَعْدَ مَا أُخِّرَ الْأَصِيلُ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْكَفِيلِ الْأَجَلَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ، وَدَعْوَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ أَخَّرَ الْكَفِيلَ سَنَةً ثُمَّ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّالِبَ كَانَ يُطَالِبُهُ بِهِ حَالًّا فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يُطَالِبُهُ حَالًّا بَعْدَ الْأَدَاءِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 68 بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَالْكَفَالَةُ بِالْقَرْضِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلٍ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَالًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ بِالتَّأْجِيلِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ مَالًا عَنْ رَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ عَنْ الْكَفِيلِ كَفِيلٌ آخَرُ، وَأَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ سَنَةً فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلَيْنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَإِذَا صَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُؤَجَّلًا ثَبَتَ الْأَجَلُ فِيمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ مِنْهَا؛ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْهُ وَعَنْ الْكَفِيلِ الْآخَرِ وَالْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالَ اعْتِبَارِ التَّأْجِيلِ بِالْإِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ الثَّانِي بِنَاءٌ عَلَى الْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ. فَالتَّأْجِيلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَأْجِيلًا فِي حَقِّ الثَّانِي دُونَ الْأَصِيلِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ إنْ الْكَفِيلَ بَاعَ الطَّالِبَ بِهَا عَبْدًا قَبْلَ الْأَجَلِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ؛ فَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ لِلطَّالِبِ مَعَ الْأَصِيلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا سَقَطَ حُكْمًا لِلْعَقْدِ وَقَدْ انْتَقَضَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصِيلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ فَكَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَوْ رَدّ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَجَلًا فَالْمَالُ حَالٌّ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْجَدِيدِ فَإِنَّهَا تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ فَسْخًا فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا وَالْأَجَلُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَإٍ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي بَدَلِهِ إلَّا بِالشَّرْطِ وَلَوْ كَانَ قَضَاهُ الْأَلْفَ مُعَجَّلَةً نَبَهْرَجَةً فَوَجَدَهَا سَتُّوقَةً فَرَدَّهَا عَلَيْهِ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا صَارَ قَابِضًا لِدَيْنِهِ. وَسُقُوطُ الْأَجَلِ مِنْ حُكْمِ قَبْضِهِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا كَانَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا زُيُوفًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ فَسْخٌ لِلْقَبْضِ مِنْ الْأَصْلِ. بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّادَّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَأَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مَرَّتَيْنِ. فَلَوْ لَمْ يُنْتَقَضْ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ؛ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهَذَا لِأَنَّ الزُّيُوفَ غَيْرُ الْجِيَادِ الَّتِي هِيَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَالْمَقْبُوضُ إنَّمَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ عَلَى أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهِ. فَإِذَا لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهِ وَرَدَّهُ عُرِفَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُ. وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَجَلُ كَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَعْطَاهُ الْمَالَ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زُيُوفٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَجَوَّزَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 69 بِدُونِ حَقِّهِ فَيَصِيرُ الْكَفِيلُ بِهِ قَابِضًا دَيْنَهُ وَلَا يُجْعَلُ هَذَا مُبَادَلَةً لِلْأَجَلِ بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَادَلَةُ إذَا كَانَ شَرْطٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ أَحَالَهُ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ إلَى أَجَلٍ أَوْ حَالٍّ، فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا رَجَعَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِنَّمَا يَعُودُ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَى سَنَةٍ وَعَلَى الْآخَرِ إلَى سَنَتَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الشَّرْطُ أَمْلَكُ» أَيْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ هُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ يَنْفَصِلُ عَمَّا يَلْتَزِمُهُ الْآخَرُ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ عَلَى صَاحِبِ السَّنَةِ بِأَدَائِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ حَالٌّ، وَقَدْ كَفَلَ هَذَا الْكَفِيلُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَدَاؤُهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَتَيْنِ وَهُوَ كَفِيلٌ عَنْهُ إلَى سَنَةٍ فَكَمَا أَنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَتَانِ. وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ بَاعَ الطَّالِبَ عَبْدًا بِالْمَالِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ فَإِنْ رَدَّ الطَّالِبُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَرْجِعْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّدَّ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَأٍ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، وَإِنْ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ فَيَعُودُ مَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةً أَوْ إلَى سَنَةٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى رَجُلٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ؛ وَهِيَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إلَى الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ تَحَوَّلَ أَصْلُ الْمَالِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَثَبَتَ الْأَجَلُ حَقًّا لَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَجَلِ فَيَبْقَى الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُحْتَالُ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ رَجَعَ الْمَالُ إلَى الْمُحِيلِ. فَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ فَهُوَ حَالٌّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَعَادَ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ وَلِلْمَطْلُوبِ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ فَأَحَالَ الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لِلْمَطْلُوبِ عَلَى الْآخَرِ إلَى سَنَةٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ لَهُ إلَى سَنَةٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 70 الْحَوَالَةِ وَالْوَاجِبُ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ كَالْوَاجِبِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ فَصَارَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّ الطَّالِبِ وَلَا يَبْقَى لِلْمُحِيلِ سَبِيلٌ عَلَى أَخْذِهَا لَوْ كَانَتْ عَيْنًا لَهُ فِي يَدِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ تَعَلَّقَ بِهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى الْمُحِيلِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَلَوْ صَحَّ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ بَطَلَ حَقُّ الطَّالِبِ قِبَلَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْحَوَالَةَ بِالْمَالِ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ؛ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَوَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَدِيعَةٍ فِي يَدِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَهَلَكَتْ تِلْكَ الْوَدِيعَةُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَا كَانَ قَبَضَ الْمُحْتَالُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهُ، وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطَّالِبُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ إنْ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ تَرَكَ الْأَجَلَ وَجَعَلَهَا حَالَّةً؛ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْأَصِيلُ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ الْمُحِيلِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْأَجَلِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْمُحِيلِ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلُ قَضَى الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا بِتَطَوُّعٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دَيْنِهِ بَقِيَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الطَّالِبِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الشَّغْلُ بِأَنْ قَضَاهُ الْمَالَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا تَطَوُّعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَخْلِيصَ ذِمَّتِهِ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ هَذَا الْمُؤَدِّي تَخْلِيصَ شَيْءٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُعِيرَ لِلرَّهْنِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَاهُ غَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ الْمُؤَدِّي مُتَطَوِّعًا؛ كَانَ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ، لَا سُقُوطَ دَيْنِ الطَّالِبِ عَنْهُ بِإِبْرَاءِ الْمُتَطَوِّعِ كَسُقُوطِهِ بِأَدَاءِ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ بِمَالٍ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ عَلَى رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكَانِ الْإِبْرَاءَ فِي دَيْنِ الصَّغِيرِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ. وَقَبُولُ الْحَوَالَةِ إبْرَاءٌ لِلْأَصِيلِ وَلَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ. فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ إذَا أَحَالَ رَجُلٌ بِمَالِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ إنْ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَحَالَهُ عَلَى آخَرَ إلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 71 أَجَلٍ مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الطَّالِبِ حَتَّى يَقْبِضَ الطَّالِبُ مَالَهُ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ لَمْ يَصِرْ الطَّالِبُ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا وَالْمَالُ بِعَرَضِ الْعَوْدِ عَلَى الْأَصِيلِ فَإِنَّهُ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَتَانِ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَيْهِمَا مُفْلِسَيْنِ. وَلَوْ احْتَالَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَانَ فِي طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَقِسْمَتِهِ تَأْخِيرٌ بَعْدَ الْأَجَلِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَلِيًّا فَإِنَّ تَرِكَتَهُ خَلَفٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَمَعَ بَقَاءِ الْحَوَالَةِ لَا سَبِيلَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَضْمَنَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ بِخَلِيطٍ لَهُ فَضَمِنَهَا لَهُ؛ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ يَأْخُذُهُ بِهَا الطَّالِبُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ. وَالْمَضْمُونُ مَا يَكُونُ لَازِمًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَكُونُ هُوَ مُجْبَرًا عَلَى أَدَائِهِ فَإِذَا أَدَّاهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْكَفِيلُ لِنَفْسِهِ ضَمَانَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالضَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَافِ مِنْهُ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ وَيُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَأَعَادَهَا فِي الْفُرُوعِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا سَبَقَ وَقَالَ: إنْ قَالَ الْكَفِيلُ: إنِّي لَمْ أَضْمَنْ لَك دَيْنًا كَانَ لَك عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا ضَمِنْت لَك مَالًا لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ، وَلَا عَلَى غَيْرِي؛ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يُكَلَّفُ شَيْئًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُ تَفْسِيرَ وَجْهِ هَذَا الْمَالِ: مِنْ أَيْنَ كَانَ؟ وَكَيْفَ كَانَ؟ وَلَكِنْ كَانَ الْكَفِيلُ يُؤْخَذُ بِالضَّمَانِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَالْكَفِيلُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ حَقَّهُ حِينَ كَفَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَقَدْ بَاشَرَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ ظَاهِرًا. وَوَجْهُ صِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلْمُطَالَبَةِ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ هُوَ مُقِرًّا بِذَلِكَ ثُمَّ هُوَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بَاطِلًا وَإِقْرَارُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَأَنَا بِهَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَنْكَرَ الْأَصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُطَالَبُ بِالْمَالِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ إذَا أَدَّى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: اُكْفُلْ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 72 فَفَعَلَ أَوْ قَالَ: احْتَالَ عَلَيْك فُلَانٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَشْهَدَ لَهُ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: احْتَالَ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ. وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وُجُوبُ أَصْلِ الْمَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ مِنْ الْمُبَاشِرِ كَمَا تَجُوزُ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى الْآمِرِ لِفُلَانٍ؛ تَجُوزُ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى غَيْرِهِ لِفُلَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ رَسُولَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إلَيْهِ أَوْ فُضُولِيًّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْآمِرُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ صَبِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا تَاجِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُرْتَدًّا فَإِنْ أَسْلَمَ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ؛ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِالدَّارِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فَنَقُولُ: إنْ رَجَعَ مُسْتَأْمَنًا أَخَذْنَاهُ بِالضَّمَانِ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالصَّحِيحُ: فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُعْطَى الْأَمَانَ، وَإِذَا خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ الضَّمَانُ بَاطِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ الَّتِي لَهُ عَلَيَّ. أَوْ قَالَ: أَحَلْت لِفُلَانٍ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قَالَ: اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ. أَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا أَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي كَفِيلٌ بِهِ أَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهَا إلَيْك أَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهَا عَنْهُ فَضَمِنَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْآمِرِ إذَا أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْآمِرِ تَصْرِيحًا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلطَّالِبِ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَمْرًا مِنْهُ لِلْمَأْمُورِ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّا يُؤَدِّيهِ مِنْ مَالِهِ أَوْ الْتِزَامًا لَهُ ضَمَانَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى الطَّالِبِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَضْمَنَ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَهَا لَهُ، وَالْآمِرُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ فَأَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ بَيْنَهُمَا تَقُومُ مَقَامَ تَصْرِيحِهِ بِالْأَمْرِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَإِنَّ الْخُلْطَةَ بَيْنَهُمَا مَقْصُودَةٌ لِهَذَا، وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ فَنُزِّلَ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: اضْمَنْ لِفُلَانٍ عَنِّي وَالْخَلِيطُ عِنْدَنَا هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ وَيُدَايِنُهُ وَيَضَعُ الْمَالَ عِنْدَهُ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِيطِ، نَحْوُ ابْنِهِ الْكَبِيرِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ فِي يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَضَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ الِابْنُ أَبَاهُ وَالِابْنُ كَبِيرٌ فِي عِيَالِ أَبِيهِ أَوْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْفَظُ مَالَهُ بِيَدِ صَاحِبِهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِلْمُحِيلِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 73 عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَأَدَّاهَا فَقَالَ الْمُحِيلُ: الْمَالُ لِي، وَقَالَ الْمُحْتَالُ: الْمَالُ لِي فَالْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ. وَوُجُوبُ الْمَالِ لِلْمُحْتَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَوَالَةِ احْتِمَالٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ وَكِيلًا لَهُ فِي قَبْضِهَا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ إسْقَاطَ مُطَالَبَةِ الْمُحْتَالِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِالشَّكِّ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ وَكِيلًا لِلْمُحِيلِ فِي قَبْضِ الْمَالِ. فَإِذَا قَبَضَهَا أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ دَيْنَ نَفْسِهِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ لَهُ أَلْفِي الَّتِي لِي عَلَيْك، أَوْ: اُكْفُلْ لَهُ بِأَلْفِي الَّتِي لِي عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْآمِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ مَدْيُونِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى خَلِيطًا لَهُ فَقَالَ: اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَهَا لَهُ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ فَلِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْمَضْمُونِ لَهُ وَهُوَ وَكِيلٌ لِلْآمِرِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْمَكْفُولِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لَهُ عَلَيْهِ، وَالْخُلْطَةُ بَيْنَ الْآمِرِ وَبَيْنَ الضَّامِنِ، لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ وَتِلْكَ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ دَلِيلَ وُجُوبِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لَهُ عَلَى الْآمِرِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ وَكِيلَ الْآمِرِ، إذَا قَبَضَ الْمَالَ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْمَضْمُونِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ، إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْآمِرُ فَإِنْ حَضَرَ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ لَهُ عَلَى الْمَأْمُورِ كُلِّفَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا حَلَفَ الْمَأْمُورُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا فَإِذَا حَلَفَ؛ بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْآمِرِ. وَالْمَضْمُونُ لَهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَبَرَاءَتُهُ عَنْ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ لَيْسَ بِخَلِيطٍ لِلْآمِرِ؛ كَانَ الضَّمَانُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ. وَالْمَالُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَكِيلًا لِلْآمِرِ هُنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ لِلْآمِرِ عَلَى الْمَأْمُورِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بَدَلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ لَهُ وَكَانَ هَذَا الْتِزَامًا مِنْ الْمَأْمُورِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ خَلِيطًا لِلْمَكْفُولِ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ بَيْنَ الْآمِرِ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ. وَالْخُلْطَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا أَمَرَ الْمَأْمُورَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 74 [بَابُ تَكْفِيلِ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مَالًا عِنْدَ الْقَاضِي فَأَنْكَرَهُ وَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ كَفِيلًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا مَعْرُوفًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا لِآخَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ عَلَى الْخَصْمِ لِكَوْنِ الدَّعْوَى خَبَرًا مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ إلْزَامُ شَيْءٍ أَبَاهُ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلتَّعَامُلِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا. فَإِنَّ الْقُضَاةَ يَأْمُرُونَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْخُصُومِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْضَرَ شُهُودَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْخَصْمِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَهْرَبُ أَوْ يُخْفِي شَخْصَهُ فَيَعْجِزُ الْمُدَّعِي عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ لِيُحْضِرَهُ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِخْلَافِ وَالْخَصْمُ يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي بَعْدَ إنْكَارِهِ. وَإِنْ لَمْ تَتَوَجَّهْ لَهُ حَقٌّ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى وَلَكِنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِيهِ عَلَى الْخَصْمِ إذَا كَانَ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِشْخَاصُ إلَى بَابِهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى بِمَا لَهَا مِنْ النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي فَكَذَلِكَ أَخْذُ الْكَفِيلِ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَا يَحْصُلُ بِالْمَجْهُولِ فَقَدْ يَهْرُبُ ذَلِكَ الْمَجْهُولُ مَعَ الْخَصْمِ وَالتَّعْذِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنْ يَأْخُذُ كَفِيلًا إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِمْ يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَرُبَّمَا يَعْرِضُ لِلْمُدَّعِي عَارِضٌ فَيَتَعَذَّرُ الْحُضُورُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ الْمَجْلِسَيْنِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الْكَفِيلَيْنِ لِنَظَرِ الْمُدَّعِي فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى التَّعَنُّتِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِنْ قَالَ: بَيِّنَتِي غُيَّبٌ؛ لَمْ يَأْخُذْ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ هُنَا فَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُدَّعِي اسْتِحْلَافَ الْخَصْمِ يُمَكَّنُ مِنْهُ فِي الْحَالِ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ لِلْمُدَّعِي شَيْءٌ كَمَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى، وَإِنْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَلِّفَهُ، فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحْلِفُهُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْخُصُومَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ لِلْحَالِ بِكَوْنِ الْمُدَّعِي طَالِبًا لِذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ، وَإِنْ قَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لَهُ: وَلِي كَفِيلٌ. فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الطَّالِبَ أَنْ يَلْزَمَهُ - إنْ أَحَبَّ - حَتَّى يُحْضِرَ شُهُودَهُ؛ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ فِعْلٌ مُتَعَارَفٌ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 75 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يُلَازِمُ غَرِيمًا لَهُ» الْحَدِيثُ. وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يُقْعِدَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيَقْعُدَ إلَى جَنْبِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ دَيْنَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ (تَفْسِيرَ الْمُلَازَمَةِ) أَنْ يَدُورَ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ قَعَدَ مَنْ يُلَازِمُهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ حَيْثُ يَرَاهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ لِيُلَازِمَهُ؛ إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَمْنُ مِنْ هُرُوبِهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ إحْضَارِهِ إذَا أَحْضَرَ شُهُودَهُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ فَعَلَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الدَّعْوَى قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَى حَقِّهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ بِنُكُولِهِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ شَرْحُ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُنَهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْوَى الْعُقُوبَاتِ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: خُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِالْعَيْنِ الَّتِي ادَّعَيْتهَا فِي يَدِهِ أَخَذَ لَهُ كَفِيلًا بِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إلَّا بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ، وَرُبَّمَا يُخْفِيهَا الْخَصْمُ وَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْمُدَّعِي حُجَّتَهُ، وَكَانَ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِهَا وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ الشَّيْءِ وَاحِدًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَوَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ هَكَذَا قَالَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ رُبَّمَا لَا يُبَالِي بِالْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَيَهْرُبُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْكَفِيلِ وَفِي الزِّيَادَاتِ قَالَ: لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْوَكِيلِ فِي خُصُومَتِهِ. هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقُولُ: أَنَا أَهْدَى إلَى الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِي. خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَرُبَّمَا لَا يَنْظُرُ الْوَكِيلُ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالدَّفْعِ بِمَا أَشْتَغِلُ بِهِ إذَا حَضَرْت. فَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ إضْرَارٌ بِهِ، وَالْقَاضِي يَنْظُرُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ. فَإِذَا أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمَا قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُ الْمَطْلُوبَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إثْبَاتِ الدَّيْنِ لَا يُجْبَرُ الْخَصْمُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِهِ فَقَبْلَ إثْبَاتِهِ أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى إلَّا بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ وَهُنَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عِنْدَ إحْضَارِ الْخَصْمِ وَإِنَّمَا الْكَفِيلُ بِالْمَالِ هُنَا لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ لَهُ مُطَالَبَةٌ بِالْمَالِ قَبْلَ إثْبَاتِهِ. فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِهِ؟ وَإِنْ بَعَثَ الْقَاضِي مَعَ الطَّالِبِ رَسُولًا يَأْخُذُ لَهُ كَفِيلًا فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 76 الطَّالِبَ أَوْ أَحْضَرَهُ الْقَاضِي فَكَفَلَ عِنْدَهُ ثُمَّ رَدَّهُ الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ لَهُ وَقَدْ أَوْفَاهُ حَقَّهُ حِينَ سَلَّمَ نَفْسَ الْخَصْمِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لِلْقَاضِي أَوْ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ بِهِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلطَّالِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ وَقَدْ صَرَّحَ الْكَفِيلُ بِالْتِزَامِ النَّفْسِ إلَى الْقَاضِي أَوْ إلَى رَسُولِهِ فَلَا يَبْرَأُ بِدُونِهِ وَإِنْ كَفَلَ لَهُ بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتَغَيَّبَ الطَّالِبُ فَالْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إلَيْهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَا يَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ بِدُونِ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ، مَطْلُوبًا كَانَ أَوْ طَالِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُرْتَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى. وَالدَّعْوَى صَحِيحَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَعَلَيْهِمْ. وَإِنْ قَدَّمَ رَجُلٌ مُكَاتَبَهُ إلَى الْقَاضِي وَادَّعَى مُضِيَّ أَجَلِ الْكِتَابَةِ وَقَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ حَقًّا قَوِيًّا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فِي دَعْوَى ذَلِكَ قِبَلَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ دَعْوَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا. وَلَوْ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ دَيْنًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لِلْمُكَاتَبِ كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْمَوْلَى، لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ مِنْ الْحَقِّ مَا يَسْتَوْجِبُهُ قِبَلَ غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ جَازَ. فَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ لَهُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ يَدَّعِي قِبَلَ مَوْلَاهُ دَيْنًا وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَهُوَ يَسْتَوْجِبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ حَقَّ غُرَمَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ، لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَا حَقَّ بِهِ قِبَلَ مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ دَعْوَى وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَحْبُوسٌ فِي حَقِّ رَجُلٍ، فَأَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يُخَاصِمَهُ فَقَالَ الَّذِي حَبَسَهُ: خُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فِيمَا لِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ لَهُ وَيُخَاصِمُهُ وَهُوَ مَعَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى مَحْبِسِهِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، مَعْنَاهُ: إنَّمَا يُخْرِجُهُ مَعَ أَمِينِهِ، وَهُوَ فِي السِّجْنِ مَحْبُوسٌ فِي يَدِ أَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجَهُ وَلَا غَرَضَ لِلطَّالِبِ هُنَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفِيلِ سِوَى التَّعَنُّتِ، فَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ: لَا يُجْعَلُ لَهَا أَجَلًا إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ خُلُوصِهِ إلَى الْقَاضِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 77 حَتَّى إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى الْقَاضِي فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَى الْمُدَّعِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَخِفْت أَنْ يُغَيِّبَهَا الْمَطْلُوبُ وَكَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَضَعْتهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلَمْ أَجْعَلْ لِذَلِكَ وَقْتًا وَجَعَلْته بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّ فِي التَّعْدِيلِ هُنَا مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُدَّعِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ كَفِيلًا بِتِلْكَ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا لَا يَتِمُّ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِأَنْ يُغَيِّبَهَا الْخَصْمُ وَلَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ أَوْصَافَهَا فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ أَوْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُهُ أَصْلًا؛ لَمْ يَصِفْهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِأَنَّ النَّظَرَ يَتِمُّ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَأَمَّا الْعَقَارُ فَلَيْسَ فِيهِ كَفَالَةٌ وَلَا يُوضَعُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى إحْضَارِهَا لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنَّمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ. فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ وَكَانَتْ أَرْضًا فِيهَا نَخِيلُ تَمْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوضَعَ هَذَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إذَا خِيفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ اسْتِهْلَاكُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ قَضَائِهِ فَمِنْ تَمَامِ النَّظَرِ لَهُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِكَيْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمَطْلُوبُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ وَفِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَجَمِيعِ أَجْنَاسِ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ سَلْهُ أَيُقِرُّ بِمَالِي أَوْ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعَامِلُهُ النَّاسُ. فَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي: أَحْضِرْ بَيِّنَتَك، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ؛ قَالَ لِلْمُدَّعِي: أَحْضِرْ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ السَّاكِتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ يَمِينَهُ فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُهُ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ لِيَتَجَنَّبَ خَصْمَهُ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ قَبْلَ إنْكَارِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُهُ لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِنْكَارِ شَرْعًا حَتَّى يَقْبَلَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ سُكُوتِهِ فَكَذَلِكَ يَعْرِضُ الْيَمِينَ عَلَى السَّاكِتِ حَتَّى يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِحَقِّ الْمُدَّعِي وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ، فَلَا يُعَاقِبُهُ بِالْحَبْسِ. وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ مُمْتَنِعٌ، وَالسَّاكِتَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْقَاضِي: سَلْ الطَّالِبَ مَنْ أَيِّ وَجْهٍ يَدَّعِي عَلَى هَذَا الْمَالَ سَأَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 78 أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَهُ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْمَالِ قَدْ تَمَّ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ مِنْ جَانِبِهِ وَرُبَّمَا يَضُرُّهُ بَيَانُ الْجِهَةِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا عَلَى مَا يَضُرُّهُ وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبَ بِاَللَّهِ مَالَهُ قِبَلَهُ هَذَا الْحَقَّ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ فَإِنْ حَلَفَ دَعَا الْمُدَّعِي مَا عَلَى شُهُودِهِ وَفِي هَذَا بَيَانٌ مَا: أَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْخَصْمَ وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ حُضُورًا، وَهُوَ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَحْلِفُهُ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي مِنْ ذَلِكَ هَتْكُ سِتْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَافْتِضَاحُهُ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هِيَ بِيضٌ وَقَالَ الْآخَرُ: سُودٌ، وَلِلْبِيضِ صَرْفٌ عَلَى السُّودِ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ الْبِيضَ أَوْ ادَّعَى الْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَضَيْت لَهُ بِالسُّودِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّ الْبَيَاضَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمَا وَتَبْقَى شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْأَلْفِ فَيَقْضِي بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الشُّهُودُ. وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي السُّودَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الْبِيضِ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْضِي لَهُ بِالسُّودِ حَتَّى يُحْضِرَ شَاهِدًا آخَرَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْهَدَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: جَيِّدٌ وَالْآخِرُ: رَدِيءٌ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَالْآخِرُ بِكُرِّ شَعِيرٍ؛ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ شَاهِدًا وَاحِدًا. وَالْمُدَّعِي إنَّمَا يَدَّعِي أَحَدَهُمَا فَيَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدٌ، وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ؛ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ عَلَى مِقْدَارِ الْمِائَةِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُمَا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ مَعْنًى يَكْفِي لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُهُمَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَلَوْ ادَّعَى مِائَةً وَخَمْسِينَ فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْمِائَةِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ الْخَمْسِينَ وَهُمَا اسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ. وَلَوْ ادَّعَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ؛ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لَقَدْرٍ مَعْلُومٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَلَا عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ كَالْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَقَلِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ: أَحَدُهُمَا بِتِسْعِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِثَمَانِمِائَةٍ فَقَضَى شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْأَقَلِّ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَمِعْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِرَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الجزء: 20 ¦ الصفحة: 79 وَبَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ إنَّمَا الْهَوَى شَيْءٌ اُفْتُتِنَ بِهِ رَجُلٌ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ بِهِ شَهَادَتُهُ وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْهَوَى لِشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُمْ عَظَّمُوا الذُّنُوبَ حَتَّى جَعَلُوهَا كُفْرًا فَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ الرِّبَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ الْقَتْلُ. ثُمَّ دِمَاءُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَعْظَمُ الدِّمَاءِ وَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمَا كَانَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّوَافِضِ فَإِنَّهُمْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا بِمَا يَدَّعِي وَيَشْهَدُ لَهُ بِهِ إذَا حَلَفَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فَهَذَا مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ فَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِهَذَا. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ قَدْ قَبَضَهُ وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ قَبَضَهُ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ثَمَنِ عَبْدٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ثَمَنِ مَتَاعٍ قَدْ قَبَضَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْتَهَى بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ دَعْوَى الدَّيْنِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشَّاهِدَانِ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ قَبْضَهَا فَشَهَادَتُهُمَا بِأَلْفٍ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِهَا وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالشَّهَادَةِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ وَلَوْ قَضَاهُ جَمِيعَ الْمَالِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ فَكُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُ الشَّاهِدَ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَيُكَذِّبُهُ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرَأَيْت لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَجَرَهُ سَنَةً أَكُنْت تُبْطِلُ شَهَادَتَهُ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بِذَلِكَ؟ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الطَّالِبُ: إنَّمَا لِي عَلَيْك خَمْسُمِائَةٍ وَقَدْ كَانَتْ أَلْفًا فَقَبَضْت مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ. وَوَصَلَ الْكَلَامَ أَوْ لَمْ يَصِلْ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا جَائِزَةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهُمَا بَلْ وَفَّقَ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَشَهَادَتِهِمَا بِتَوْفِيقٍ مُحْتَمَلٍ فَقَدْ يَسْتَوْفِي الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ وَلَا يُعَرِّفُ الشَّاهِدَ بِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْك قَطُّ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا يَشْهَدَانِ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ قَدْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ أَشْهَدَهُمْ الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّيْنِ مَتَاعٌ؛ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا فَالْعَقْدُ فِيهِ مُنْتَهٍ. وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ دَعْوَى الدَّيْنِ وَقَدْ صَدَّقَ الشُّهُودَ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ يُشْهِدْهُمَا بِهَذَا، وَلَكِنْ أَشْهَدَهُمَا أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ؛ أَبْطَلْتُ شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا لَهُ بِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِمَا بِالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 80 كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ مَا أَكْذَبَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَيَجْعَلُ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ يُقِرَّ بِهَذَا وَإِنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ؛ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهُمَا. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ الْمَطْلُوبُ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهَا وَالدَّفْعِ إلَيْهِ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إنْكَارِهِ لِلْمَالِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ مَا ادَّعَى مِنْ الْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُنَا: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ غَيْرُ مُنَاقِضٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَكِنْ افْتَدَيْت نَفْسِي مِنْ الْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَيَّ أَوْ سَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا مَعَ الْعَمَلِ بِهَا وَلَوْ كَانَ قَالَ: لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا، أَوْ لَمْ أُقَبِّضْهُ شَيْئًا، أَوْ لَمْ أَعْرِفْهُ، أَوْ لَمْ أُكَلِّمْهُ، أَوْ لَمْ أُخَالِطْهُ؛ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ. وَشَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فِي دَيْنٍ أَوْ كَفَالَةٍ - وَقَدْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ - جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ جَائِزَةٌ بِإِقْرَارٍ مِنْ الطَّالِبِ، فَلَا يَضُرُّهُمْ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ. وَلَوْ كَانُوا كُفَلَاءَ ثَلَاثَةً بَعْضُهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَنْفَعَانِ أَنْفُسَهُمَا بِذَلِكَ، وَهُوَ إسْقَاطُ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ عَنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا الْمَشْهُودُ لَهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَبْرَآ مِنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا اسْتَفَادَ الْكَفِيلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الدَّافِعُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ مِائَةٍ مِنْهَا فِي صَكٍّ، فَصَكٌّ مِنْهَا قَرْضٌ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ رَجُلٍ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ آخَرَ، فَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَى الطَّالِبِ وَأَشْهَدَ ذَلِكَ الصَّكِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْإِعْطَاءِ بِالْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا الْمَالَ فَتَصْرِيحُهُ بِذَلِكَ نَفَى مِنْهُ الْإِعْطَاءَ بِسَائِرِ الْجِهَاتِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى مِنْ الطَّالِبِ. وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِهَةِ الطَّالِبِ لِلتَّمْلِيكِ قَوْلُ الْمُمَلِّكِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ» وَهَذَا لِأَنَّهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 81 لَوْ أَنْكَرَ التَّمْلِيكَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ. وَالْإِنْسَانُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مَقْبُولُ الْبَيَانِ فِيهِ، فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ وَهَذَا بَيَانٌ مُفِيدٌ فَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ رَهْنٌ فَتَعَيَّنَ الْمَدْفُوعُ مِمَّا بِهِ الرَّهْنُ لِيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ وَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فَتَعَجَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِيُبْرِئَ كَفِيلَهُ، وَإِنْ مَاتَ الدَّافِعُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَتْ الْمِائَةُ مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْمَدْفُوعِ مِنْ بَعْضِهَا بِأَوْلَى بِبَعْضٍ. وَلَا بَيَانَ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ وَالْمَالُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ دَيْنُهُ لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ كَانَ لَهُ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يَصِيرُ مِيرَاثًا وَهُوَ حَقُّ الْبَيَانِ لِمَا أَرَادَهُ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ. وَلَا طَرِيقَ لِوَرَثَتِهِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُونَ فِيهِ مَقَامَهُ كَحَقِّ الْبَيَانِ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَاخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهَا مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مِنْ الدَّافِعِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبِهَا تَعَيُّنُ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَيُجْعَلُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، أَوْ يَتَصَادَقُ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ يَعْنِي وَرَثَةَ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَإِذَا تَصَادَقُوا عَلَى شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ يَكُونُ الْقَابِضُ حَيًّا فَيَقُولُ شَيْئًا فَتُصَدِّقُهُ وَرَثَةُ الدَّافِعِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا فِي الصَّكِّ فَجَعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَوْ بَعْدَ الدَّفْعِ؛ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ بِهَا الْمَكْفُولُ عَنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى. وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُفِيدٌ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ؛ كَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنَ الْكَفَالَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى كَفَلَ الْآخَرُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَمْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصْلِ الصَّكِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ الْقَرْضِ فَأَيُّهُمَا قَضَى شَيْئًا فَهُوَ مِنْ حِصَّتِهِ خَاصَّةً دُونَ حِصَّةِ صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ حِصَّتَهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا كَفِيلٌ عَنْك بِأَمْرِك، وَأَدَاؤُك عَنِّي كَأَدَائِي بِنَفْسِي فَكَانَ لِي أَنْ أُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْك فَأَنَا أَجْعَلُهُ الْآنَ عَنْك فَلَا يَزَالُ يَدُورُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَالْمُؤَدِّي هُنَاكَ إذَا جُعِلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُعَارِضَهُ فَيُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْهُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ. فَإِنْ أَدَّى زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ؛ كَانَتْ مِمَّا كَفَلَ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي مُعَارَضَتِهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ حِصَّتِهِ بِأَدَائِهِ. وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ عِنْدَ الْأَدَاءِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 82 لِلنِّصْفِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ حِصَّتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ زِيَادَةً عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ حَقٌّ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُعَارِضُهُ بِجَعْلِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ كَانَ مَا أَدَّى أَحَدُهُمْ مِنْ حِصَّتِهِ إلَى الثَّلَاثِ فَإِذَا جَاوَزَ الثَّلَاثَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُمَا فَإِذَا جَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْمَجْعُولِ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّا فَتَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَلَوْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى بَعْضُهُمْ طَائِفَةً مِنْ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِمْ جَمِيعًا قَلَّ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثُرَ. وَلَوْ جَعَلَهَا الْمُؤَدِّي مِنْ حِصَّتِهِ أَوْ حِصَّةِ صَاحِبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً. وَالْمُكَاتَبُ الْوَاحِدُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ بَعْضِ نَفْسِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فِي الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَحْرَارِ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي جَعْلِ الْمُؤَدَّى مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي - خَاصَّةً فِي بَابِ الْكِتَابَةِ - إبْطَالَ شَرْطِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمْ الثُّلُثَ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً عَتَقَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَرَاءَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ تُوجِبُ الْعِتْقَ. وَفِي هَذَا إبْطَالُ شَرْطِ الْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَدَّى عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُؤَدَّى هُنَاكَ مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي خَاصَّةً؛ يَبْقَى الْبَائِعُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الطَّالِبُ: هِيَ وَدِيعَتِي وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ وَهِيَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الْمَدْفُوعِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الدَّافِعِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَنَّهُ مِلْكِي وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْوَدِيعَةِ مُسَلَّطٌ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ هَلَاكِهَا، فَيَثْبُتُ الْقَوْلُ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ وَيَبْقَى الدَّيْنُ وَقَدْ دَفَعَ إلَى الطَّالِبِ مِثْلَ الدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 83 هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَبْطُلَ لِمَكَانِ الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بِالتَّرِكَةِ وَيَبْطُلُ إذَا وَقَعَتْ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ وَيَبْطُلُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْمَالِ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنْ يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَتَعَقَّبُهُ بُرْؤُهُ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَمَا لَا يَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ، فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ وَعَنْ الْوَارِثِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْوَارِثِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَارِثِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ. وَلَوْ كَفَلَ الْمَرِيضُ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّ بِدِينٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَاصْطِنَاعُ مَعْرُوفٍ كَالْهِبَةِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ؛ جَازَ ذَلِكَ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهِ أَلْفٌ لِخُرُوجِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ كَفِيلًا بِأَمْرِهِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَاتَ الْكَفِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِدَيْنِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ فَأَصَابَهُ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ ضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فِي مَالِهِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ تَرِكَةِ الْكَفِيلِ وَضَرَبَ وَارِثُ الْكَفِيلِ بِالْخَمْسِمِائَةِ دَرَاهِمَ الَّتِي أَدَّى؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَدَّى بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَمَا أَصَابَ وَارِثُ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ بِالْحِصَصِ وَيَضْرِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ أَيْضًا (وَهَذِهِ) هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ فِي هَذَا جَذْرَ الْأَصَمِّ وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ فَإِنَّ مَا يَسْتَوْفِي الْمَكْفُولُ لَهُ ثَانِيًا مِمَّا فِي يَدِ الْوَارِثِ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ بِهِ وَارِثُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا فَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ الْأُولَى وَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. وَلَوْ أَنَّ مُتَفَاوِضَيْنِ عَلَيْهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَاتَا جَمِيعًا وَتَرَكَا أَلْفًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَهْرُ امْرَأَتِهِ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَضْرِبْ الطَّالِبُ فِي مَالِ أَيِّهِمَا شَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ بَعْضُهَا بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَبَعْضُهَا بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فِي تَرِكَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَضْرِبُ امْرَأَتُهُ بِمَهْرِهَا أَيْضًا ثُمَّ يَضْرِبُ مَعَ امْرَأَةِ الْآخَرِ بِمَا بَقِيَ وَتَضْرِبُ هِيَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. هَكَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ جَوَاهِرُ زَادَهْ وَتَضْرِبُ هِيَ بِاَلَّذِي بَقِيَ لَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَلَا تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ بِاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي مَالِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَصَابَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 84 مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ النِّصْفِ هُوَ أَصِيلٌ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ النِّصْفَ أَوْ مَا دُونَهُ؛ لَا تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْآخَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُونَ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا ذَلِكَ بِجِهَةِ كَفَالَةِ صَاحِبِهِمْ عَنْ شَرِيكِهِ بِأَمْرِهِ. فَإِذَا قَبَضُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْمَقْبُوضُ لِامْرَأَتِهِ وَلِلطَّالِبِ إنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ بِالْحِصَصِ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ الْجَذْرُ الْأَصَمُّ وَمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَوْفِيهِ الطَّالِبُ يُثْبِتُ لَهُمْ حَقَّ الرُّجُوعِ بِهِ فِي تَرِكَةِ الشَّرِكَةِ؛ فَتُنْتَقَضُ بِهِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ ادِّعَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ رِبَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ غَابَ الْأَصِيلُ فَادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِكَفَالَةٍ صَحِيحَةٍ. وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْتِزَامِهِ بِالْكَفَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهَا كَفِيلٌ بِأَمْرِهِ وَجَحَدَ الْأَصِيلُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَا يُسْقِطُ الْمَالَ عَنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعَ هَذَا مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالْكَفَالَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَصِيلَ مُطَالِبٌ بِهَذَا الْمَالِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُونُ مُطَالِبًا بِثَمَنِ خَمْرٍ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، وَالدَّعْوَى مَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَوْ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ وَقَبُولَ الْبَيِّنَةِ تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُنَاقِضٌ وَلَوْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِي ذَلِكَ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْخَصْمِ صَحِيحٌ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ثُمَّ إنَّ أَصْلَ سَبَبِ الْتِزَامِ الْمَالِ جَرَى بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَالطَّالِبِ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ وَيَدَّعِي مَعْنًى كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا بِالْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تَقُومُ لِلْغَائِبِ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ وَعَلَى الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ لِيَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ (وَالْحَوَالَةُ) فِي هَذَا كَالْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 85 هَذَا الْكَفِيلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا عَلَى غَيْرِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَصَحَّ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ وَغَابَ الطَّالِبُ وَحَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَقَالَ: الْمَالُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفِيلِ خُصُومَةٌ فِي ذَلِكَ وَيَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ وَيُقَالُ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ: اُطْلُبْ صَاحِبَكَ فَخَاصِمْهُ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا فِي تَصَرُّفٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، أَوْ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ وَلَوْ أَقَرَّ الطَّالِبُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ مَالِهِ عِنْدَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُوَ إقْرَارٌ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ فَإِذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ بِإِقْرَارِهِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ فَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَأَبْرَأَ الْقَاضِي الْكَفِيلَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ قَرْضٌ؛ لَزِمَهُ الْمَالُ إنْ صَدَّقَهُ الطَّالِبُ بِذَلِكَ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْكَفِيلِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْكَفِيلُ الْبَرَاءَةَ بِمَا سَبَقَ مِنْ إقْرَارِ الطَّالِبِ وَيُجْعَلُ هَذَا مِنْ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِلطَّالِبِ ابْتِدَاءً بِدَيْنٍ آخَرَ سِوَى الدَّيْنِ؛ كَانَ كَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ. وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ مُسْلِمًا خَمْرًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ مُسْلِمًا عَلَيْهِ بِهَا بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَلَوْ أَحَالَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَهَا لَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ غَابَ الْمُحِيلُ وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ: الْمَالُ الَّذِي عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِالْحَوَالَةِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ وَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِي سَبَبًا مُبْطَلًا بِعَقْدٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا دَفَعَ الْمَالَ ثُمَّ حَضَرَ الْمُحِيلُ خَاصَمَهُ: إنْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِذَلِكَ؛ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَكَانَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُحِيلُ فَخَاصَمَهُ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ؛ أَبْطَلَهَا الْقَاضِي عَنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةً بِالْمَالِ الَّذِي لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَتْ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةً، وَإِنْ كَانَ أَحَالَهُ عَلَيْهِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّيهَا وَيَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَسْتَدْعِي مَالًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَا فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 86 لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً يُؤَدِّي الْمَالَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ رَجُلًا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْمَالِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ الْعَبْدَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وُجِدَ حُرًّا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَحَالَ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلَا مَالَ. وَلَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي تَقَيَّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بَطَلَ مِنْ الْأَصْلِ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصِيلِ، وَلَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ؛ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَكَذَلِكَ إذَا بَطَلَ مِنْ الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْحَوَالَةَ لَمَّا صَحَّتْ مُقَيَّدَةً بِمَالٍ وَاجِبٍ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدَّيْنِ بِهَا أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالذِّمَّةِ لَا بِالدَّيْنِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ اسْتِيفَاءً إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ. وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ اسْتِيفَاءَ دَيْنٍ آخَرَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِدَيْنِ الْحَوَالَةِ تَعَلُّقٌ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَصَارَ كَالْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَلَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَحَالَ عَلَى مُودِعِهِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ حَيْثُ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لِلدَّيْنِ تَعَلُّقٌ بِهِ اسْتِيفَاءً لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِبُطْلَانِهِ. وَإِذَا أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ كَانَتْ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَكَانَ مِثْلُهَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ مَالُهُ الَّذِي عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَبَيْنَ الْمُحْتَالِ لَهُ بِالْحِصَصِ وَلَا يَخْتَصُّ الْمُحْتَالُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ الْمُحِيلُ عَنْ اسْتِيفَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهَنِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَالُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. وَمَتَى كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ كَانَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَصَارَ هُوَ وَسَائِرُ غُرَمَائِهِ سَوَاءً. وَإِنَّمَا مُنِعَ الْمُحِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عُرْضَةِ الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ؛ يَكُونُ الْمُحْتَالُ لَهُ أَحَقَّ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ التَّوَى عَلَى الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِهِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 87 [بَابُ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ دَيْنٍ مَا خَلَا دَيْنَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَجْدَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ فِي دَيْنِهِ أَمَّا فِي دَيْنِ غَيْرِهِمْ فَيُحْبَسُ لِأَنَّهُ بِالْمَطْلِ صَارَ ظَالِمًا، وَالظَّالِمُ يُحْبَسُ وَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَدًّا فِي الزِّنَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وَالْمُرَادُ بِهِ: الْحَبْسُ، وَكَذَلِكَ «حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ»، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ سَمَّى أَحَدَهُمَا نَافِعًا وَالْآخَرَ مُخَيَّسًا، وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَحْبِسُ النَّاسَ وَحَبَسَ ابْنَهُ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ عَنْ رَجُلٍ وَلَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَتَقَدَّمُ إلَى الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: قُمْ فَأَرْضِهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَحْبِسْهُ، وَالْقِيَاسُ فِي دَيْنِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدَيْهِ هَكَذَا. إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي دَيْنِ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ الْوَالِدُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» وَلَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالِهِ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ تَأْوِيلٍ فِي مَالِهِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ وَقَالَ فِيهِ أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا ... بَنَيْتُ بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَجِرْنِي فَقَالَ: مِمَّ؟ قَالَ: مِنْ دَيْنٍ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السِّجْنُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَأَنَّك بِالطِّلْبَةِ خِلْوٌ. ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ الْحَبْسَ مَشْرُوعٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُبَاعُ مَالُ الْمَدْيُونِ الْمَسْجُونِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَاصْطَرَفَهَا بِدَرَاهِمَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُبَاعُ مَالُهُ. وَهِيَ مَسَائِلُ الْحَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ فِي أَسْفَعِ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: سَبَقَ الْحَاجَّ فَادَّانَ مُعْرِضًا حَتَّى دِينَ بِهِ. فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَفِدْ عَلَيْنَا فَأَنَا بَائِعٌ مَالَهُ، قَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَإِيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ. وَنِعْمَ مَا قَالَ؛ فَإِنَّ الدَّيْنَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ - خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا - فَيُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النُّفُوسِ وَيَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْمَالِ خُصُوصًا مُدَايَنَةُ الْمَفَالِيسِ. وَالْحَرْبُ هُوَ الْهَلَاكُ ثُمَّ إذَا حُبِسَ الْمَدْيُونُ وَلَمْ يَدَّعِ الْإِعْسَارَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُخْلَى عَنْهُ. أَمَّا إذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دُيُونٍ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْمُبَايَعَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ سِوَى الْمُبَايَعَاتِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 88 اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَدَّقُ وَلَا يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ الْمَالَ اخْتِيَارًا دَلِيلُ قُدْرَتِهِ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا وَجَبَ حُكْمًا بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ وَنَحْوِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا حُبِسَ الرَّجُلُ شَهْرَيْنِ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ سَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ مَا يَحْبِسُهُ وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي إنْ أُخْبِرَ بَعْدَ أُوَيْقَاتٍ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ قَالُوا: وَاجِدٌ أَمَرَ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ فَيَشْهَدُ النَّاسُ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ؛ فَتَبْطُلُ حُقُوقُ النَّاسِ وَإِذَا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ؛ أَخْرَجَهُ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُنْظِرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ مُنْظِرًا بِإِنْظَارِهِ؛ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ هَكَذَا كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْظَرٌ إلَى زَمَانِ الْوُجُودِ وَوُجُودُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ مَوْهُومٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ إذَا وَجَدَ مَالًا أَوْ اكْتَسَبَ شَيْئًا فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّرَاةَ؛ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَالْكَفِيلُ بِالْمَالِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْأَدَاءِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْكَفِيلِ كَمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَذُكِرَ عَنْ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى نَزَلُوا فِي حُكْمِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ حَتَّى ضَرَبَ رِقَابَهُمْ» فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَبْسَ مَشْرُوعٌ وَإِذَا حُبِسَ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ؛ فَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَازَمَهُ الطَّالِبُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِأَمْرِهِ فَكَانَ الْأَصِيلُ مُلْتَزِمًا تَخْلِيصَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَاضِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَإِذَا حُبِسَ رَجُلٌ بِدَيْنٍ فَجَاءَ غَرِيمٌ لَهُ آخَرُ يُطَالِبُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمُدَّعِي فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ قَامَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ؛ كَتَبَ اسْمَهُ فِيمَنْ حُبِسَ لَهُ مَعَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَيُخْلِي سَبِيلَهُ فَيَكْتُبُهُ حَتَّى لَا يُخْلِيَ سَبِيلَهُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَدْ فَلَّسَ الْمَحْبُوسَ؛ جَازَ إقْرَارُهُ لِأَشْخَاصٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: تَفْلِيسُ الْقَاضِي إيَّاهُ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا بِشَيْءٍ يُضِيفُهُ فِي مَالِهِ مَا خَلَا الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالنِّكَاحَ وَالْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ فَإِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ وَنُجَوِّزُهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَعْنِي بِالتَّفْلِيسِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ فَيَجْعَلَهُ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُحْكَمُ بِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَائِهِ فِي مَالِ هَذَا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 89 وَهَذَا نَوْعُ حَجْرٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُمَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْحَبْسُ بِتَفْلِيسٍ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَا دَلَالَةَ الْعَجْزِ وَلَا يُضْرَبُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُقَيَّدُ وَلَا يُقَامُ وَلَا يُؤَاجَرُ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُوبَاتٌ زَائِدَةٌ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْحَبْسِ لِيَكُونَ حَامِلًا لَهُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرْبُ عُقُوبَةٍ بِالنُّصُوصِ وَلَا نَصَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَفَدٌ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غِلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ وَالصَّفَدُ مَا نُقَيِّدُ بِهِ الْأَيْدِي. أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا يُقَامُ يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْمَالِ إهَانَةً لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعَ عُقُوبَةٍ وَلَا يُؤَاجَرُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ فِي نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى. وَيُحْبَسُ الْأَبَوَانِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَلَا تُشْتَبَهُ النَّفَقَةُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْوَلَدِ إنَّمَا شُرِعَ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ عَنْ الْهَلَاكِ. وَالْمُمْتَنِعُ كَالْقَاصِدِ الْهَلَاكَ وَمَنْ قَصَدَ إهْلَاكَ وَلَدِهِ؛ يُحْبَسُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَلَا يَخْرُجُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ بِجُمُعَةٍ وَلَا عِيدٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا جِنَازَةٍ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُحْبَسَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْلُصُ بَعْدَ زَمَانٍ حَتَّى يَضْجَرَ قَلْبُهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيُسَارِعُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَوْ خَرَجَ أَحْيَانًا لَا يَضِيقُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ فِي مَوْضِعٍ خَشِنٍ لَا يُتَبَسَّطُ لَهُ فِي فِرَاشٍ وَلَا وِطَاءٍ وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِيَسْتَأْنِسَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَإِذَا سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي السِّرِّ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَمِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يُخْلِ بَيْنَ غَرِيمِهِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ أَنَّهُ مُوسِرٌ أَوْ أَنَّ لَهُ مَالًا أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمْ وَيَتْرُكُ الْمَسْأَلَةَ فِي السِّرِّ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِلِاخْتِبَارِ وَمَتَى ظَهَرَتْ حَالُهُ بِالشَّهَادَةِ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الِاخْتِبَارِ، وَإِنْ أَدَّى دَيْنَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّلْمَ قَائِمٌ وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي الدِّرْهَمِ وَفِي أَقَلِّ مِنْهُ لِأَنَّ مَانِعَ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ ظَالِمٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْبِسَ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى فِتْنَةٍ وَلَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ دُخُولِ أَخَوَاتِهِ وَأَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُشَاوِرَهُمْ فِي تَوْجِيهِ دُيُونِهِ وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُكْثِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ بِهِمْ وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْحَبْسُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُحْبَسُ بِدِينٍ غَيْرِ الْكِتَابَةِ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَوْلَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ مَوْلَاهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ طَعَامٌ وَمُكَاتَبَتُهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُحْبَسُ فِي دَيْنِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 90 الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي حَقِّ أَكْسَابِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَكُونُ لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنٌ وَلَا يُحْبَسُ لِحَقِّهِ، وَلَكِنْ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي السِّجْنِ مِثْلُ الرَّجُلِ يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ، وَالْغُلَامُ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَتَاعَ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ وَلَيْسَ بِنَاجِزٍ مِثْلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْحَبْسِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ يُحْبَسُ الصَّبِيُّ أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلِيُّهُ وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَوَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاطَبُ بِذَلِكَ لَا هُوَ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْحَبْسُ لِلصَّبِيِّ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ عَلَى مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَدِّي قَصْدًا أَمَّا مَا وَقَعَ خَطَأً مِنْهُ فَلَا وَلَا يَحْبِسُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ الْأَرْشِ بِقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَةِ، وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تُعْطَى مِنْ عَطَائِهِمْ لَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَطَاءٌ يُفْرَضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهِ حُبِسُوا، وَكَذَلِكَ الذُّعَّارُ يُحْبَسُونَ أَبَدًا حَتَّى يَتُوبُوا وَالذَّاعِرُ الَّذِي يُخَوِّفُ النَّاسَ وَيَقْصِدُ أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةَ وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا وَلَهُ دَارٌ وَرَقِيقٌ وَعُرُوضٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ لَمْ يُحْبَسْ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَرَى رَأْيَهُ فِيهِ إنْ شَاءَ جَعَلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ فَيُوفِي الطَّالِبَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْبِسُ مَنْ يُخَاطَبُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لِمَا مَرَّ وَلَا يُحْبَسُ الصَّبِيُّ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِدَيْنِهِ وَالذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ وَيُحْبَسُ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ وَيُحْبَسُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. بَابُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ لِلْكَفِيلِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ: قَدْ بَرِئْتَ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ الَّذِي كَفَلْتَ بِهِ مِنْ فُلَانٍ؛ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْبَرَاءَةِ بِفِعْلِ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَالْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَى الطَّالِبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ الْمَالَ أَوْ نَقَدْتنِي أَوْ قَبَضْتُهُ مِنْك، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ وَإِذَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 91 قَالَ أَبْرَأْتُكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى نَفْسِهِ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ: بَرِئْتَ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ: إلَيَّ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْبَرَاءَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْمَعْهُودِ، وَالسَّبَبُ الْمَعْهُودُ الْإِيفَاءُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَدْنَى أَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَقَدْ مَرَّ هَذَا فِي الْجَامِعِ. وَالتَّحْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ. أَمَّا الْمَالُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الدَّيْنُ فَيُوصَفُ بِهَذَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضُوعِ الدُّيُونَ فَمَتَى حَلَّلَهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَقَّ لِي فِي مَالِك وَلَوْ قَالَ لَهُ هَكَذَا؛ كَانَ إبْرَاءً مُطْلَقًا فَهَذَا كَذَلِكَ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ وَلَوْ وَكَّلَ الطَّالِبُ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: لِلْكَفِيلِ بَرِئْتَ إلَيَّ؛ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ فَيَصِحُّ. وَلَوْ قَالَ الْوَصِيُّ لِلْكَفِيلِ: قَدْ أَبْرَأْتُك أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ إذَا قَالُوا ذَلِكَ لِلْكَفِيلِ؛ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْمَالِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْهِبَةَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ لَهُ فِي مَالِهِ غَيْرُ عَيْنٍ فَصَارَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِسْقَاطِ الْفِعْلِ عَنْهُ وَيُجْعَلُ الْوَاجِبُ لَهُ إسْقَاطًا مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ فَوَفَّرْنَا عَلَى السَّهْمَيْنِ حَظَّهُمَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِشَبَهِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِشَبَهِهِ بِالتَّمْلِيكَاتِ. وَمِثْلُهُ لَوْ وُهِبَ مِنْ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَمَا لَوْ وُهِبَ مِنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَفْظٌ وُضِعَ لِلتَّمْلِيكِ وَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزَةٌ. فَإِذَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ يُجْعَلُ ذَلِكَ نَقْلًا لِلدَّيْنِ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْهِبَةِ مِنْهُ فَيَصِيرُ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ - لَوْ أَمْكَنَ - ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ قَصْدًا بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا لَهُ وَإِذَا اسْتَقَامَ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ كَمَا فِي حَقِّهِ وَجَبَ الْجَرْيُ عَلَى مُقْتَضَى الْهِبَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ الدَّيْنِ؛ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ. وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ مِنْهُ فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 92 فَمَتَى مَاتَ؛ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ فَانْبَرَمَ. بِمَنْزِلَةِ لَوْ تَصَرَّفَ لَهُ فِيهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَيِّتًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي حِلٍّ مِنْهُ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ عَلَيْهِ حُكْمًا فَاحْتَمَلَ الْإِسْقَاطَ فَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ: لَا تُقْبَلُ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَيَقْبِضُونَ الْمَالَ، وَالْكَفِيلُ مِنْهُ بَرِيءٌ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِمْ حَقِيقَةً إنَّمَا عَلَيْهِمْ مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفِيلَ ثُمَّ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَا فِي حَقِّهِمْ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ وَقَدْ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَعْيَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ فَكَانَ أَقْبَلَ لِلتَّمْلِيكِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَالْمِلْكُ بِهَذَا التَّمْلِيكِ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا لَوْ أَضَافَ الْإِبْرَاءَ إلَيْهِمْ تَنْصِيصًا وَإِذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ فَضْلُهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْهُ كَالْهِبَةِ مِنْ كَفِيلِهِ وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ كَفِيلِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ؛ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ إبْرَاءَهُ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِذَا وَهَبَ لِلْكَفِيلِ وَقَبِلَهُ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ. وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا مَلَكَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بَرِيءٌ، أَوْ كَانَتْ حَوَالَةً فَوَهَبَ الطَّالِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ؛ لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ. وَلَوْ وَهَبَ الْكَفِيلُ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَإِنْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ هِبَتَهُ بَاطِلَةٌ لِانْتِقَاضِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ أَحَدِ الْكَفِيلَيْنِ بِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ فَأَقَرَّ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ بِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَأَدَّاهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ: إنَّمَا عَنَيْتُ بِإِقْرَارِي أَنَّهُ عَلَيَّ؛ لِأَنِّي كَفَلْت عَنْك كُلَّ حِصَّتِك؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ كُلُّهُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ بَعْضَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَبَعْضَهُ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 93 كُلَّهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ أَنَّهُ أَصِيلٌ فِي كُلِّهِ وَصَاحِبُهُ كَفِيلٌ عَنْهُ فَيَجْرِي عَلَى قَضِيَّةِ قَوْلِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا خَمْسُونَ دِينَارًا لِرَجُلٍ قَرْضًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ضَامِنٌ لَهُ فَأَشْهَدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ: أَنِّي مَعَك دَخِيلٌ فِي هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْآخَرُ بِذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ دَخِيلٌ مَعِي لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَاصَّةً دُونَ الْآخَرِ. يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَوْنِهِمَا دَخِيلَيْنِ فِي هَذَا الْمَالِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا أَصِيلَيْنِ فِي بَعْضِهِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَدْ نَاقَضَ فِيمَا أَخْبَرَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْمَالَ عَلَيْهِ خَاصَّةً دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ أَنَّهُ كَفِيلٌ أَصِيلٌ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ أَدَّاهُ صَاحِبُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِكُلِّهِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِاسْمِهِ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ضَامِنُونَ لِلْمَالِ كُلِّهِ فَأَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِهِمْ وَأَنَّ الْآخَرَيْنِ كَفِيلَانِ عَنْهُ وَلَمْ يُقِرَّ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إلَيْهِ فِي الصَّكِّ ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْكُفَلَاءِ قَالَ: أَصْلُ الْمَالِ عَلَيَّ وَصَاحِبَايَ مِنْهُ بَرِيئَانِ، ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ صَاحِبَاهُ رَجَعَا بِالْكُلِّ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ أَصِيلٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِاسْمِهِ وَفُلَانٌ بِهَا كَفِيلٌ فَأَقَرَّ الْكَفِيلُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَيْهِ وَأَنَّ فُلَانًا كَفِيلٌ عَنْهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَهُ فِي الصَّكِّ لِشَيْءٍ خَافَهُ فَأَدَّى الْمُقَدَّمُ فِي الصَّكِّ الْمَالَ كُلَّهُ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ قَرْضًا فِي الصَّكِّ أَوْ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ وَنَسَبَهُ إلَى الَّذِي فِي صَدْرِ الصَّكِّ ثُمَّ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ كَانَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَصْدَقَ مِمَّا فِي الصَّكِّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ وَالصَّكُّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِمَا فِيهِ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ بِمَا فِيهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً مَعَ تَكْذِيبِهِ إيَّاهُمْ بِإِقْرَارِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَقْبُولُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلْمَالِ مِنْ صَاحِبِ الصَّكِّ أَوْ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الْمَبِيعَ مِنْ صَاحِبِ الصَّكِّ وَقَبَضَهُ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ - وَهُوَ الَّذِي اسْمُهُ فِي أَوَّلِهِ -: أَجَلْ أَوْ صَدَقَ ثُمَّ ادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ الْمَالَ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْتِزَامِ الْمَالِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 94 يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفِيلٌ بِهِ. وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ قَدْ اسْتَوْجَبَ الْمَالَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَإِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ فَإِنْ أَدَّاهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ؛ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِسَبَبِ إقْرَارِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ قَبْضِهِ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الْمَعْلُومِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ؛ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ فَيَثْبُتُ بِنُكُولِهِ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَنْفِي عَنْ صَاحِبِهِ نَصِيبَهُ وَقِيلَ: هَذِهِ الدَّعْوَى إذَا كَانَ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ؛ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الضَّمَانِ إنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْأَصِيلِ أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَالْآخَرُ كَفِيلٌ وَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْأَصَالَةِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا تُبْطِلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حَقَّ الطَّالِبِ وَلَا تُوهِنُهُ لِأَنَّهَا لَا تَمَسُّ حَقَّهُ، وَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَفِيلٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَشَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلطَّالِبِ ابْنَانِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بَيِّنَةُ أَنَّهُ عَلَيْهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ. فَإِنْ كَانَ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ؛ فَشَهَادَةُ ابْنَيْ الطَّالِبِ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمَا لَا يُثْبِتَانِ بِشَهَادَتِهَا حَقَّ أَبِيهِمَا، وَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ لِأَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الْأَصِيلُ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفِيلٌ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَرِيمَانِ مُقِرَّيْنِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ عَلَيْهِمَا ثَابِتٌ بِإِقْرَارِهِمَا فَشَهَادَةُ ابْنَيْ الطَّالِبِ عَلَى هَذَا لَا تَكُونُ لِأَبِيهِمَا وَإِنَّمَا تَكُونُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى أَبِيهِ، وَالْآخَرَ كَفِيلٌ عَنْ أَبِيهِ؛ جَازَ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى الْآخَرِ وَأَنَّ أَبَاهُمَا كَفِيلٌ بِهِ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَنْ أَبِيهِمَا مَغْرَمًا، وَيَجُرَّانِ إلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَا مُتَّهَمَيْنِ فِيهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 95 [بَابُ بُطْلَانِ الْمَالِ عَنْ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَلَا إبْرَاءٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ اشْتَرَاهُ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ مِنْ الثَّمَنِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ مِنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا تَبْقَى الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِإِقَالَةٍ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ بِفَسَادِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ عَنْ الثَّمَنِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ يَبْطُلُ عَنْ الزَّوْجِ كُلُّهُ بِفُرْقَةٍ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْضُهُ بِالطَّلَاقِ بِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ بِهِ مِمَّا بَطَلَ عَنْ الزَّوْجِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِطَعَامِ السَّلَمِ إذَا صَالَحَ الْأَصِيلُ الطَّالِبَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ عَمَّا كَفَلَ بِهِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى مَا كَفَلَ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَكْفُولِ بِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَدَلًا وَوُجُوبُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، وَوُجُوبُ رَأْسِ الْمَالِ بِانْفِسَاخِ عَقْدِ السَّلَمِ، وَالْبَدَلُ مَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَصْلُ. فَلَوْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْمُشْتَرَى لِغَرِيمِ الْبَائِعِ يَعْنِي: أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي حَوَالَةً مُقَيَّدَةً بِالثَّمَنِ أَوْ كَفَلَ الْمُشْتَرِي لِغَرِيمِ الْكَفَالَةِ الْبَائِعِ كَفَالَةً مُقَيَّدَةً بِالثَّمَنِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ يَنْتَفِي الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ، وَقَدْ كَانَ الْتِزَامًا مُقَيَّدًا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ عِنْدَنَا وَلَا الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ مِنْ الْأَصِيلِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ كَانَ الْتِزَامُهُ مُقَيَّدًا بِهِ (وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِالصَّرْفِ) فَقَالَ: لَوْ بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ مِائَةَ دِينَارٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ صَرْفَهَا وَأَصْلَهَا صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وُجِدَ حُرًّا؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً مِنْ الْأَصِيل وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الزَّوْجُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ لِغَرِيمِهَا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ قِبَلِهَا؛ لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ عَنْ الْكَفَالَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ إذَا أَدَّاهَا رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهَا بِأَمْرِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ بِمَهْرِهَا وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِسُقُوطِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 96 الْمَهْرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمُؤَدَّى، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ وَقَعَتْ بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ مَهْرِهَا. وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَمِنَهَا لِغَرِيمٍ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَبِلَ الْحَوَالَةَ بِهَا؛ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَفَالَةٍ وَلَا حَوَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَوْلَى غَرِيمَهُ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يُطَالِبُهُ الْمَوْلَى بِالْبَدَلِ وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ غَرِيمُ الْمَوْلَى. فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ؛ عَتَقَ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ وَفِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ قَالَ: وَبَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ وَبِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ يَسْقُطُ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُطَالِبَهُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْهُ فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْغَرِيمَ كَانَ يُطَالِبُهُ بِدَيْنِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ دَيْنِهِ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ وَحُكْمُ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لِلْغَرِيمِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْتِزَامِهِ فَأَمَّا الْمَطْلُوبُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ دَيْنُهُ وَمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْعِتْقِ لَا يَبْقَى الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ لَا يَنْفِيَ بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ سَقَطَ عَنْهُ دَيْنُ الْكِتَابَةِ بِالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ مُدَبَّرٌ يُعْتَقُ وَعَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَعَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَحْصُلُ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا يَحْصُلُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ. وَلَوْ كَفَلَ عَبْدٌ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَأَدَّاهُ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى فَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُطَالَبًا فِي حَالِ رِقِّهِ بِالْعِتْقِ وَهُوَ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَغَلَهُ بِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ؛ فَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ أَدَّى مِنْ كَسْبٍ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ حِينَ وَقَعَتْ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِرُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَصْلُ الْكَفَالَةِ كَانَتْ مُوجِبَةً لِرُجُوعِ الْمُكَاتَبِ عَلَى الْمَوْلَى عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا إلَّا أَنَّهُ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُنَا أَصْلُ الْكَفَالَةِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِرُجُوعِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا الْغَرِيمُ لَهُ ثُمَّ إنَّ الْآمِرَ وَهَبَهَا لِلْكَفِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَكَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ أَوْ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ قَدْ اشْتَغَلَتْ بِمَا لِلْآمِرِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لِحَقِّ الطَّالِبِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْآمِرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَرْهُونِ بِالْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ مِنْ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِحَقِّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 97 الْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ مَاتَ الْآمِرُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَقْتَضِ الْمَكْفُولَ لَهُ الدَّرَاهِمَ؛ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بَيْنَ سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَكُنْ الْمَكْفُولُ لَهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَرْهُونِ بِهِ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْغُرَمَاءِ يَثْبُتُ حَقُّهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَصِيلِ وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَالِ فِي حَيَاتِهِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِغُرْمِ هَذَا الْمَالِ، حَتَّى لَوْ بَرِئَ مِمَّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْغُنْمِ، وَبِهِ فَارَقَ الرَّهْنَ فَقَدْ صَارَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ هُنَاكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ ثَبَتَتْ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي اخْتِصَاصُهُ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَهُنَا يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ تَثْبُتْ لِلْمَكْفُولِ لَهُ فِيمَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بَلْ هُوَ مَالُ الْأَصِيلِ فَيُقْسَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ. وَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ حَيًّا فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَهُ وَأَنَّهُ أَمَرَ فُلَانًا فَبَاعَ الْمَبِيعَ الَّذِي هَذَا الْمَالُ ثَمَنُهُ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْكَفَالَةَ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ عِنْدَهُمَا - فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الثَّمَنِ - بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ لَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِ إلَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْقَبْضِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ إلَى أَجَلٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَإِنْ مَاتَ الْأَصِيلُ؛ فَقَدْ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ عَلَى الْكَفِيلِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ اسْتَغْنَى بِمَوْتِهِ عَنْ الْأَجَلِ. وَالْكَفِيلُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَحُلُولُهُ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْكَفِيلِ؛ كَمَا لَوْ كَفَلَ الْكَفِيلُ بِمَالٍ هُوَ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْكَفِيلُ؛ فَقَدْ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَجَلِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَرْجِعُونَ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا دَيْنًا عَلَيْهِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ شَرْعًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُونَ إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ لِمَا أَدَّى عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا قَصَدَ إثْبَاتَ حَقِّ الرُّجُوعِ لِنَفْسِهِ بِتَعْجِيلِهِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَلَمْ يُوجَدْ إذَا كَانَ سُقُوطُ الْأَجَلِ حُكْمًا لِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ مُؤَجَّلًا وَالْأَصِيلُ بَاقٍ مُنْتَفِعٌ بِالْأَجَلِ فَكَمَا بَقِيَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا فِي حَقِّ الطَّالِبِ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لِلطَّالِبِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 98 بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ وَهُوَ حَالٌّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَأَخَّرَ الطَّالِبُ أَحَدَ الْكُفَلَاءِ إلَى سَنَةٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ سَوَاءٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَفَلَ بِهِ مُؤَجَّلًا فِي الِابْتِدَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَالَ يَكُونُ حَالًّا عَلَى الْبَاقِينَ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ. وَإِبْرَاءُ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ لِلْبَاقِينَ كَمَا لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ عَنْ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ إلَى سَنَةٍ. فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبَهُ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ كَمَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي الِالْتِزَامِ بِأَصْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَأْخُذُ الَّذِي أَخَّرَهُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَمَا لَا تَتَوَجَّهُ مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ الْآخَرِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَقَدْ كَانَ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ النِّصْفَ بَيْعًا جَمِيعًا ذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَقَدْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُمَا مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ الْأَجَلَ. وَقَدْ انْعَدَمَ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ؛ لِيَسْتَوُوا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ. فَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَخَّرَ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ سَنَةً؛ كَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا عَنْ جَمِيعِ الْكُفَلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ. وَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ أَوْ لَوْ كَانَ أَخَّرَ كَفِيلًا مِنْهُمْ شَهْرًا وَآخَرَ شَهْرَيْنِ وَآخَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ؛ كَانَ جَائِزًا عَلَى مَا سَمَّى. فَإِنْ حَلَّ عَلَى صَاحِبِ الشَّهْرِ؛ أَخَذَهُ مِنْ سَهْمِهِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْآخَرَيْنِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْأَجَلُ، وَإِنْ أَخَّرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا سَنَةً؛ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ إلَى سَنَةٍ وَدَخَلَتْ الشُّهُورُ تَحْتَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ. وَلَوْ كَانَ أَخَّرَ الْكَفِيلَ شَهْرًا ثُمَّ أَخَّرَهُ سَنَةً؛ دَخَلَ الشَّهْرُ فِي السَّنَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَصْبٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَأَخَّرَ الطَّالِبُ الْأَصِيلَ إلَى سَنَةٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَفِيلِ حَالٌّ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْجِيلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِهِ بِالْإِبْرَاءِ. وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ عَنْهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ حَالًّا، وَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلَ وَلَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الْمَالَ أَنْ يَثْبُتَ حَالًّا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَ الْأَصِيلَ وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ أَجَّلَ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ إنْ الطَّالِبُ وَهَبَ الْمَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْكَفِيلِ تَمْلِيكٌ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ كَمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 99 يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْأَصِيلِ إذَا وَهَبَ مِنْهُ، وَإِنْ قَبِلَ فَقَدْ تَمَلَّكَ الْمَالَ بِقَبُولِ الْهِبَة فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهُ تَمَلُّكَهُ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِالثُّلُثَيْنِ إنْ وَجَدَهُمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ إنْ وَجَدَهُ دُونَ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى الْمَالَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَاتَ؛ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَيَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ إسْقَاطٌ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَلِكَوْنِهِ إسْقَاطًا يُتَّهَمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الرَّدِّ وَيَجْعَلُ تَمَامَهُ كَتَمَامِهِ بِقَبُولِهِ وَوَرَثَتُهُ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُونَ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْكُفَلَاءِ فَقَبِلَا؛ جَازَ وَرَجَعَا بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ شَاءَا رَجَعَا عَلَى الْكَفِيلِ الثَّالِثِ بِالثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّيَا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُتَمَلِّكًا خَمْسَمِائَةٍ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَخَذَا الْكَفِيلَ الثَّالِثَ فَأَدَّى إلَيْهِمَا الثُّلُثَ ثُمَّ أَرَادَ هَذَا الْكَفِيلُ الْغَارِمُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى إلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَلِّكٌ لِلثُّلُثِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّوْا جَمِيعًا الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَتْبَعُونَ الْأَصِيلَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا. فَإِذَا أَخَذُوهَا؛ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمَقْبُوضِ وَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ حِينَ وَهَبَ الْمَالَ لِهَذَيْنِ الْكَفِيلَيْنِ؛ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْهِبَةَ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَقْبَلَ؛ فَلِلَّذِي قَبِلَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ هَذَا النِّصْفِ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ نِصْفَ الْمَالِ بِقَبُولِ الْهِبَةِ كَتَمَلُّكِهِ بِأَدَاءِ النِّصْفِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ مَعًا بِثُلُثَيْ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ ذَلِكَ الثُّلُثِ وَيَأْخُذُ الطَّالِبُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ أَيَّ الْكُفَلَاءِ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَطَلَتْ فِي هَذَا النِّصْفِ بِرَدِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَادَ الْحُكْمُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ. فَإِنْ قَبَضَ الطَّالِبُ مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ شَيْئًا؛ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً، وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مَا وَهَبَهُ مِنْهُ فَهُوَ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَلَاءِ. وَلَوْ وَهَبَ الطَّالِبُ نِصْفَ الْمَالِ لِأَحَدِ الْكُفَلَاءِ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَإِنْ رَجَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ بِثُلُثَيْ ذَلِكَ النِّصْفِ فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا لَمْ يَتْبَعْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقُّ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْأَدَاءِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنْ لَوْ أَدَّيَا إلَى الطَّالِبِ خَمْسَمِائَةٍ؛ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ حَتَّى يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالنِّحْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ. فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُ الْمُبْرَأُ مِنْ الْكُفَلَاءِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ فَسْخٌ لِلْكَفَالَةِ وَلَيْسَ بِتَمَلُّكِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 100 [بَابُ الْحَلِفِ فِي الْكَفَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَضْمَنُ لِفُلَانٍ شَيْئًا فَضَمِنَ لَهُ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ شَيْءٍ مَضْمُونٍ لَهُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ لَهُ وَقَالَ: فِي الْحَوَالَةِ ضَمَانٌ وَزِيَادَةٌ وَالْكَفَالَةُ وَالضَّمَانُ عِبَارَتَانِ عَنْ عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَمْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِضَمَانٍ وَإِنَّمَا هَذَا الْتِزَامٌ لِعَقْدِ الشِّرَاءِ وَعَقْدُ الشِّرَاءِ لَا يُسَمَّى كَفَالَةً عُرْفًا وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ. وَلَوْ ضَمِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ مُضَارِبِهِ أَوْ شَرِيكٍ لَهُ مُفَاوِضٌ أَوْ عَنَانٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَقَعَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ الْمَضْمُونَ مَا تَجِبُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ قِبَلَ الضَّامِنِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إنْ تَوَجَّهَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ دُونَ عَقْدِ الضَّمَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّدَّ وَالْقَبُولَ إنَّمَا يُعْتَبَرَانِ مِمَّنْ ضَمِنَهُ لَهُ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الرَّجُلُ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ صَارَ الضَّمَانُ لَهُ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ الْخِلَافَةُ عَنْ الْمُوَرَّثِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْمَنُ لِأَحَدٍ شَيْئًا فَضَمِنَ إنْسَانٌ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا أَوْ عَبْدٍ؛ حَنِثَ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُسَمَّى فِي النَّاسِ ضَامِنًا مَنْ كَانَ ضَامِنًا لِلدَّرَكِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ يُوَفِّك فُلَانٌ مَالَك إذَا حَلَّ أَوْ: إنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَك؛ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ: فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَيَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا صَرَّحَ بِهِ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ فِي الدَّرَكِ. وَلَوْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ غَائِبٍ لَمْ يُخَاطِبْ عَنْهُ أَحَدٌ؛ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ أَحَدٌ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِهِمَا؛ فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالضَّمَانُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ فَيَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَلَوْ خَاطَبَهُ عَنْهُ مُخَاطِبٌ؛ حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا بَلَغَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَتِمَّ بِهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ ضَمِنَ لِصَبِيٍّ لِأَنَّ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ؛ جَازَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ضَمِنَ الْغَائِبُ فَيَتِمُّ فِي حَقِّهِ إذَا خَاطَبَهُ بِهِ مُخَاطِبٌ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَضَمِنَ؛ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ يَمِينَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَنْعَقِدُ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالِالْتِزَامُ بِالضَّمَانِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 101 ضَمِنَ الْغَائِبُ وَعَنْهُ مُخَاطِبٌ أَوْ ضَمِنَ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ مَا حَلَفَ وَهُوَ مُفْلِسٌ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ بِفُلَانٍ أَوْ لَا يَضْمَنُ فُلَانًا فَكَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ؛ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِفُلَانٍ إذَا أُطْلِقَتْ فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ. وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ فِي الْيَمِينِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، فَإِنْ عَنَى الْمَالَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا عَنَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْجِنْسِ فِي كِتَابٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ بِمَا لَا يَجُوزُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِشَجَّةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ وَلَا بِدَمِ عَمْدٍ فِيهِ قِصَاصٌ حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا مِنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِمَضْمُونٍ تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ. وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهَا فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالْكَفَالَةِ وَالْأَرْشُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَالْكَفِيلُ لَمْ يَكْفُلْ بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهَا وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ - اللَّهِ تَعَالَى - فَيَكُونُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمَانَاتِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِإِيفَائِهَا مِنْ عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ الْإِيفَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ. فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ أَوْ خَالَفَ فِيهَا؛ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلُ ضَمَانَهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ. وَالضَّمَانُ إنَّمَا لَزِمَ الْأَصِيلَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَهُوَ مَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ لَوْ صَالَحَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى مَالٍ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدٍ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَالْكَفَالَةُ مَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ وَكَمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الرَّهْنِ يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ. وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالرَّهْنِ عَنْ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْأَمَانَةِ لَا تَصِحُّ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ لِلْمَوْلَى مَمْلُوكَةٌ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَوْلَاهُ أَوْ قَدْ أَبَقَ عَنْهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ حَقًّا مَضْمُونًا وَهَذِهِ الْكَفَالَةُ دُونَ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَلْمَوْلَى عَنْ مُكَاتَبِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ وَضَمِنَهُ رَجُلٌ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ مَنْ يُشْبِهُهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 102 مِنْ الصُّنَّاعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لَمْ يَضْمَنْ وَأَمَّا فِي قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِأَنَّ الْعَيْنَ عِنْدَهُمَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْقَابِضِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَلَوْ كَفَلَ بِعَبْدٍ رَجُلٌ إنْ هُوَ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَالْإِبَاقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ يُوجِبُ ضَمَانًا لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِدَابَّتِهِ إنْ انْفَلَتَتْ مِنْهُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إنْ تَلِفَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ مُطَالَبَةً هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ هُنَا. وَلَوْ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً عَلَى أَنَّ هَذَا كَفِيلٌ بِهَا إنْ أَكَلَهَا أَوْ جَحَدَهَا؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا صَالَحْته عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مِنْ الْقِصَاصِ الَّذِي تَمْلِكُ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مِنْ مَالٍ لَك عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى سَبَبِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ قَتَلَك فُلَانٌ خَطَأً؛ فَأَنَا ضَامِنٌ لِدِيَتِك فَقَتَلَهُ فُلَانٌ خَطَأً؛ فَهُوَ ضَامِنٌ أَرْشَهُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ بِالْأَرْشِ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لَهُ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَلَوْ قَالَ: إنْ أَكَلَك سَبُعٌ أَوْ ذِئْبٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لِدِيَتِك فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لَهُ وَلَوْ قَالَ: إنْ غَصَبَك إنْسَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَغَصَبَهُ إنْسَانٌ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَمَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَذَلِكَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْكَفَالَةِ مُضَافًا كَانَ أَوْ مُجَرَّدًا وَلَوْ خَصَّ إنْسَانًا أَوْ قَوْمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مَعْلُومٌ. وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ يُقَصِّرُهُ بِأُجْرَةٍ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ إنْ أَفْسَدَهُ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ فَقَدْ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ الضَّمَانَ؛ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِهَذَا. وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ قِصَاصًا فِي نَفْسٍ أَوْ دُونِهَا أَوْ حَدًّا فِي قَذْفٍ وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَقَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ لَمْ يُجِبْهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ الطَّالِبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَالْكَفِيلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ مَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَسْلِيمُ النَّفْسِ هُنَا لِمَقْصُودٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَهُوَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِيهِمَا بِخِلَافِ الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 103 يَسْلُكَ فِيهَا طَرِيقَ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيثَاقِ وَهُوَ ضِدُّ مَوْضُوعِ الْعُقُوبَاتِ وَلَكِنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: الْزَمْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ قِيَامِي فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ. وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَا يَعْرِفْهُ الْقَاضِي فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَوْ وَاحِدًا عَدْلًا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ حِينَ تَمَّ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، وَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ مِثْلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّاعِرَ يُحْبَسُ وَلَا يَكْفُلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لِلِاسْتِيثَاقِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأَمَّا الْحَبْسُ لِلتَّعْزِيرِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَحْبِسُهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَضَاءِ وَلَكِنَّهُ يَكْفُلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ. وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ مَالًا بِسَرِقَةٍ مِنْهُ وَقَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لَهُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى مَالٌ وَالِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ فِيهِ مَشْرُوعٌ فَإِنْ قَالَ: قَبَضْت مِنْهُ السَّرِقَةَ لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْبُرْءِ وَالْإِسْقَاطِ فَلَا يَسْتَوْثِقُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَدُّ الزِّنَا فَإِنْ طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ فَقَالَ الشَّاهِدُ: عِنْدِي بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ؛ أُجِّلَ فِيهِ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي لِيَظْهَرَ عَجْزُهُ بِهَذَا الْإِمْهَالِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُمْ؛ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلَمْ يَحِلَّ عَنْهُ وَلَا يَكْفُلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيثَاقِ وَلَكِنَّ الطَّالِبَ يَلْزَمُهُ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ حَتَّى لَا يَهْرُبَ. فَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ: الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَبْدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حُرِّيَّتِهِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَبِمِثْلِهِ يُدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْحَدُّ، وَإِنْ طَلَبَ الْمَقْذُوفُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا حَتَّى يُحْضِرَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ لَمْ يُؤْخَذْ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِيثَاقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَكِنَّ الْقَاذِفَ يُحْبَسُ عَلَى وَجْهٍ لَهُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ حُرًّا كَانَ الْمَقْذُوفُ أَوْ عَبْدًا وَيُؤَجَّلُ الْمَقْذُوفُ أَيَّامًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِالرِّقِّ فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَكَمَا يُؤَجَّلُ هُنَاكَ أَيَّامًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حُرِّيَّتِهِ بِالْبَيِّنَةِ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ أَقَامَ رَبُّ السَّرِقَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى السَّارِقِ وَعَلَى السَّرِقَةِ وَهِيَ بِعَيْنِهَا فِي يَدَيْهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ وَتُوضَعُ السَّرِقَةُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُزَكِّيَ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ اسْتِيثَاقًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 104 ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَتُوضَعُ السَّرِقَةُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ الْمَالَ إذَا كَانَ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يُتْلِفَ الْمَالَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُزَكِّيَ الشُّهُودُ وَإِخْرَاجُ الْعَيْنِ فِيهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ. وَإِذَا ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ قَذْفًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْذِرَ لَهُ أَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ مَسْأَلَةً فِيهَا تَعْزِيرٌ، وَقَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَفْوُ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَالِ. وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا وَالزَّوْجُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ؛ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ هُنَاكَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدُ قِبَلَ الْوَالِدِ قَذْفًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ وَلَمْ يُتْرَكْ إنْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى وَالِدِهِ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْعُقُوبَةِ تَعْزِيرًا كَانَ أَوْ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ فِي دَيْنٍ لَهُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمُلَازَمَةَ فِي دَعْوَاهُ قِبَلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ قِبَلَ وَالِدَتِهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّ مَوْلَاهُ قَذَفَ أُمَّهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمِلْكِ فِي إخْرَاجِ الْمَمْلُوكِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِاسْتِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَالِكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادَةِ. وَلَوْ ادَّعَى حُرٌّ قِبَلَ عَبْدٍ قَذْفًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ نَفْسِ مَوْلَاهُ وَخَافَ أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ الْكَفِيلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَلَازُمِهِمَا إلَى أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُحْبَسُ لَهُ وَيُؤْخَذُ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحْبَسُ الْعَبْدُ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ لَهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْعَبْدِ خَاصَّةً دُونَ نَفْسِ الْمَوْلَى، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤْخَذُ لَهُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَنَفْسِ مَوْلَاهُ وَاَلَّذِي قَالَ فِي الْكِتَابِ: إنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَخْذَ الْكَفِيلِ مِنْ الْمَوْلَى فَأَمَّا حَبْسُ الْعَبْدِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَا بَيَّنَّا مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعِي قِبَلَهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَالْأُخْرَى: مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْآبِقِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُقَامُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَيْنِ بِنَفْسِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 105 الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى حُضُورِهِ فِي إقَامَتِهِ الْحَدَّ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَلَا يُحْبَسُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَكِنْ يُصَارُ فِيهِ إلَى الْمُلَازَمَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَيَكُونُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُلَازِمَهُمَا وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُحْبَسُ الْعَبْدُ تَعْزِيرًا كَمَا يُحْبَسُ الْحَرُّ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ وَيُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا سَبِيلَ إلَى حَبْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا ارْتَكَبَ حَرَامًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْمَوْلَى هُنَا تَوَثُّقٌ بِحَدٍّ عَلَيْهِ إذْ لَا حَدَّ عَلَى الْمَوْلَى. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَدًّا فِي قَذْفٍ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكْفُلْ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْحُجَّةِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ. وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ أُخِذَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فَإِنْ زَكَّوْا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِرَاحَةٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا لَا فِي دَعْوَى الْمَالِ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ الْمَالُ. فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَمَ عَمْدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَأَقَرَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَشَهِدَا عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ قَتَلَ مَعَهُمَا عَمْدًا فَإِنَّهُمَا يُحْبَسَانِ فَإِقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يُحْبَسُ الْآخَرُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَكْفُلُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ عَلَى الثَّالِثِ فَإِنَّهُمَا فَاسِقَانِ وَلِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِفِعْلٍ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَلَا شَهَادَةَ لَهُمَا فِي مِثْلِهِ فَإِنَّمَا فِي حَقِّ الثَّالِثِ مُجَرَّدُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْحَبْسُ وَلَا التَّكْفِيلُ. وَلَوْ كَانَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ ثَلَاثَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ عَلَى رَجُلٍ وَادَّعَى الْآخَرُ عَلَى الشَّرِيكِ قَتْلَ الْعَمْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي بَيِّنَةً حَاضِرَةً لَمْ يُحْبَسْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا إنْهَاءُ الْمَالِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَالِ يَكْفُلُ بِالنَّفْسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا ثُمَّ أَبْرَأَهُ وَادَّعَاهُ عَلَى الْآخَرِ؛ لَمْ يَكْفُلْ الثَّانِي وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ مِنْهُ فِي الدَّعْوَى فَإِنْ أَقَرَّ الثَّانِي بِذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ صَدَقَ خَصْمُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّعْوَى مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْقِصَاصِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 106 دُونَ الْمَالِ وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ تَنَاقُضُهُ فِي الدَّعْوَى وَفِي مِثْلِهِ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: قَتَلْت وَلِيَّك عَمْدًا فَقَالَ: لَا بَلْ قَتَلْته خَطَأً؛ لَا يُقْضَى بِالْمَالِ وَكُلُّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ حَتَّى إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا أَخَذَ لَهُ مِنْهُمَا الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَإِنَّمَا الدَّعْوَى فِيهِ دَعْوَى الْمَالِ. وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى قَتْلٍ خَطَأٍ؛ قُضِيَ لَهُ بِالدِّيَةِ وَلَا حَبْسَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ وَلَا كَفَالَةَ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَالْخَطَأُ مَوْضِعُ رَحْمَةٍ مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْنَا فَالْخَاطِئُ لَا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِرًا فَيُحْبَسُ لِلدِّعَارَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَبْسِ الدَّاعِرِ تَسْكِينُ الْفِتْنَةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلَيْنِ فَاجْتَمَعَا وَطَلَبَا كَفِيلًا بِنَفْسِهِ؛ لَا يُؤْخَذُ لَهُمَا مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْقِصَاصَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِالْقِصَاصِ وَإِذَا أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُمَا بِالْقِصَاصِ حَتَّى إذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ إلَّا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوْفَيَا الْقِصَاصَ يُقْضَى لَهُمَا حِينَئِذٍ بِأَرْشِ الْيَدِ وَقُضِيَ بِنِصْفِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَى الْقِصَاصِ لَمْ يُؤْخَذْ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَقَالَ الْمُدَّعِي: أَنَا أَخْتَارُ الدِّيَةَ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، أَخَذَ لَهُ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ بِاخْتِيَارِهِ يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمَالِ وَفِي دَعْوَى الْمَالِ تُجْرَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ شَتْمَةً فَاحِشَةً وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالشَّتْمَةِ لَمْ يُحْبَسْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ دَعْوَى التَّعْزِيرِ كَدَعْوَى الْمَالِ. وَفِي دَعْوَى الْمَالِ لَا يُحْبَسُ مَا لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ ثُمَّ الْحَبْسُ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَعْدَ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لَوْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَهُ أَيَّامًا عُقُوبَةً وَلَا يُعَزِّرُ بِالسَّوْطِ؛ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ لَهُ نِهَايَةَ الْعُقُوبَةِ هُنَا؛ لَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ. وَأَشَارَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَى أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ يُحْبَسُ وَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ وَلَكِنْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ (تَأْوِيلُهُ): بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُ بِحَبْسِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي دَعْوَى الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشَّتْمَةَ رَجُلًا لَهُ مُرُوءَةٌ وَخَطَرٌ؛ اسْتَحْسَنْت أَنْ لَا أَحْبِسَهُ وَلَا أُعَزِّرَهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ إحْضَارَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فِيهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ فِي حَقِّهِ فَيَكْتَفِي بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةً وَيُؤْخَذُ بِمَا رَوَاهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 107 الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَجَافَوْا عَنْ ذَوِي الْمُرُوءَةِ إلَّا فِي الْحَدِّ.» وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ شَيْئًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ عُقُوبَةٌ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَرَبَ الْمَكْفُولُ بِهِ وَقَدَّمَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ إلَى الْقَاضِي؛ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ فَيُحْبَسُ لِإِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ. وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَخَنَقَهُ وَشَتَمَهُ وَأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً؛ أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عُزِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا إذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مُتَفَاحِشٍ، وَتَعْزِيرُ الْعَبْدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا عِنْدَهُ ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدٌّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ قِبَلَ زَوْجِهَا أَنَّهُ ضَرَبَهَا ضَرْبًا فَاحِشًا وَادَّعَتْ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَوْ ادَّعَى رَجُلٌ ذَلِكَ قِبَلَ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ قِبَلَ أَخِيهِ؛ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يَدَّعِي الشَّتْمَةَ قِبَلَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ، أَوْ الْعَبْدُ يَدَّعِيهَا قِبَلَ الْحَرِّ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي هَذَا كُلِّهِ دَعْوَى التَّعْزِيرِ. وَالْكَفَالَةُ فِيهِ مَشْرُوعَةٌ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَكَفَلَ ابْنَهُ أَجْنَبِيٌّ لِلْغَرِيمِ بِمَا لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ وَفَاءً؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ الْكَفِيلَ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فِي قَوْلِهِ وَفِي قَوْلِهِمَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا كَفَلَ بِهِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا: نَعَمْ، دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ ذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ؛ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْكَفَالَةِ. وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ «عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَلْيَفْعَلْ فَإِنِّي شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ: وَمَا يَنْفَعُكُمْ صَلَاتِي عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ مُرْتَهِنٌ بِدَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 20 ¦ الصفحة: 108 فَمَنْ ضَمِنَهُ قُمْت فَصَلَّيْت عَلَيْهِ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى تَصْحِيحِ الضَّمَانِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَدْيُونِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِيفَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ انْفِسَاخِ سَبَبِ الْوُجُوبِ. وَبِالْمَوْتِ لَا يَتَحَقَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مَطْلُوبٌ بِهِ وَلَوْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ جَازَ التَّبَرُّعُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَوْتِهِ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَكَالْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ كَفَلَ عَنْهُ كَفِيلٌ بِهِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُطَالِبُهُ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا كَرَامَةٌ اُخْتُصَّ بِهَا الْآدَمِيُّ وَبِمَوْتِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا مُسْتَحِقًّا لِكَرَامَاتِ بَنِي آدَمَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَلِيًّا بَقِيَ الدَّيْنُ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ حُكْمًا لَا لِلِانْتِقَالِ إلَى الْمَالِ وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ الْقَضَاءِ الْوَاجِبِ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ بَقِيَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ عَنْ إفْلَاسٍ بِأَنْ كَانَ الرَّهْنُ مُسْتَعَارًا مِنْ إنْسَانٍ، وَبَقَاءُ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الدَّيْنِ. وَلَوْ قُتِلَ عَمْدًا وَهُوَ مُفْلِسٌ فَكَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ صَحَّ وَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الذِّمَّةُ بَاقِيَةً حُكْمًا؛ لَمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ هُنَا وَهَذَا بِخِلَافِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ فَالْحَقُّ هُنَاكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ فِي الْحُكْمِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالْحَقِّ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْحَقِّ مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُنَاكَ الْحَقُّ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَبِمَوْتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ فَبَقِيَ مَطْلُوبًا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَى وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْقَائِمِ مَثَلًا مِنْ الدَّيْنِ دُونَ التَّاوِي. وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْحَقِّ بِدُونِ مَحَلِّهِ، وَمَحَلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ. وَقَدْ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ بِمَوْتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا فَإِنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعُهْدَةِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه. قَالَ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ وَتَمَامُهُ بِالْإِلْزَامِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَيَاةِ قَبْلَهُ. فَأَمَّا بِالْمَوْتِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَقِّ وَلَكِنَّهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَتَبْقَى الذِّمَّةُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا عَادَةً فَلَا تَبْقَى الذِّمَّةُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَبِاعْتِبَارِ الْمُطَالَبَةِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 109 فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ كَمَا فِي دُيُونِ اللَّهِ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ -. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِابْتِدَاءِ الِالْتِزَامِ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِبَقَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ؛ فَلَا يَبْقَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا. وَالْكَفِيلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَصْلَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ شَيْءٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَهَذَا الدَّيْنُ فِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ دَيْنِ الْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبُ يُطَالَبُ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْبَسُ فِيهِ ثُمَّ هُنَاكَ الْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ فَهُنَا أَوْلَى بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا ابْتِدَاءً فَبَقِيَ الْوَاجِبُ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ أَيْضًا فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةً صَالِحَةً لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا، وَإِنْ ضَعُفَتْ ذِمَّتُهُ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَلِيًّا فَالْمَالُ هُنَاكَ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ وَالِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَكُونُ مِنْ الْمَالِ بِجَعْلِ الْأَصْلِ قَائِمًا حُكْمًا وَهُنَا لَمْ يَبْقَ خَلَفٌ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا، وَتَوَهَّمْ أَنْ يَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِمَالِهِ فَيُقْضَى عَنْهُ الدَّيْنُ لَا يُجْعَلُ مَالُ الْغَيْرِ خَلَفًا عَنْ ذِمَّتِهِ قَبْلَ جَعْلِ صَاحِبِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ هُنَا خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ قَدْ يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ عِنْدَ أَدَاءِ الْكَفِيلِ أَوْ الْهِبَةِ. وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا فَلِهَذَا بَقِيَ الْكَفِيلُ فِي الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ بِقَدْرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَإِذَا قُتِلَ عَمْدًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ: الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَوْ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فَتَوَهُّمُ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَضَاءِ ذَلِكَ الدَّيْنِ يَجْعَلُ الذِّمَّةَ بَاقِيَةً حُكْمًا فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الْبَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ أَوْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ. فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ وَالْعُمُومُ بِحِكَايَةِ الْحَالِ لَا يَثْبُتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا مِنْهُمَا لَا كَفَالَةً وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَنِعُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَظْهَرَ طَرِيقٌ لِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَلَمَّا ظَهَرَ الطَّرِيقُ لِوَعْدِهِمَا؛ صَلَّى عَلَيْهِ لِهَذَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ ذَلِكَ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا: قَضَيْتهمَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ وَلَمْ يَجْبُرْهُ عَلَى الْأَدَاءِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ وَعْدًا لَا كَفَالَةً. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ شَاذٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالًا وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ فَلِهَذَا نَدَبَهُمْ إلَى الضَّمَانِ عَنْهُ لِيُصَلِّيَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 110 عَلَيْهِ ثُمَّ هَذَا حُكْمٌ مَنْسُوخٌ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَنْسُوخِ لَا يَقْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي فِي الْكَفَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ كَفَلَ بِهِ بِأَمْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يُقْبِلَ مَعَهُ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهِ فَأَقَامَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي شَاهِدَيْ عَدْلٍ وَكَتَبَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَنَّهُ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ حَتَّى يُوفِيَ مَكَانَهُ وَيُخَلِّصَهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فِي الذِّمَّةِ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ حِينَ أَمَرَ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ هَهُنَا كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ كَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِمَّا يَلْزَمُهُ بِهِ، فَإِنْ كَفَلَ بِالْبَصْرَةِ وَجَاءَ بِالْكِتَابِ مِنْ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يُوَافِيَهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ فِيهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِمُوَافَاةِ الْآمِرِ مَعَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ كَفَلَ بِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَأَخَذَ الطَّالِبُ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ بِالْبَصْرَةِ حَتَّى يُبْرِئَهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْكُوفَةِ وَأَخَذَهُ الطَّالِبُ بِالْبَصْرَةِ فَطَلَبَ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ لِيَأْمُرَهُ بِأَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ الْبَصْرَةَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَتَبَ لَهُ يُجْبِرُ قَاضِي الْكُوفَةِ الْمَكْفُولَ بِهِ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهُ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ بِالْبَصْرَةِ لَا تُلْزِمُ الْكَفِيلَ شَيْئًا فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ. وَلَوْ طَلَب الْكَفِيلُ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِبَيِّنَةٍ بِالْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إذَا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَطَالَبَ الطَّالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْأَصِيلُ وَجَحَدَ الْآمِرُ بِالْكَفَالَةِ كَانَ كِتَابُ قَاضِي الْبَصْرَةِ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كِتَابًا فِي كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي كَفَالَتِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِذَلِكَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَإِذَا كَانَ الْكُفَلَاءُ بِالْمَالِ ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ وَالْكَفِيلَانِ الْآخَرَانِ فِي بَلَدَيْنِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 111 وَصَاحِبُ الْأَصْلِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِثَلَاثَةِ كُتُبٍ إلَى كُلِّ بَلَدٍ بِصِفَةِ الْكَفَالَةِ وَحَالِهَا وَأَدَاءِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ أَخْذَ الثَّلَاثَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَى كُلِّ قَاضٍ بِمَا كَتَبَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ فِيهِ لِلْخُصُومِ لِكَيْ لَا يَلْتَبِسَ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذَ مَالًا عَلَى حِدَةِ كُلِّ كِتَابٍ عَنْ كُلِّ خَصْمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَ فِي كِتَابَةِ الشُّهُودِ آبَاءَهُمْ وَقَبَائِلهمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكتاب لِنَقْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشَّاهِدِ فِيهِ، وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْكُفَلَاءِ؛ فَقَالَ: قَدْ أَخَذْت مِنْ الْكَفِيلِ مَعِي نِصْفَ الْمَالِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ الْمَالَ؛ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ الْكَفِيلُ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ يَدَّعِي مَانِعًا أَوْ مُسْقِطًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الَّذِي ادَّعَى الْمَالَ وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهُ، وَإِذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ وَأَخَذَ بِهِ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ يَكْتُبُ لَهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ بِمَا أَتَاهُ مِنْ قَاضِي كَذَا؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ وَيَقْبِضَهُ عَلَى مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حَقِّهِ كَمَا هُوَ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّ شُهُودَهُ قَدْ ثَبَتَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِأَدَائِهِمْ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إلَى قَاضِي الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا خَصْمُهُ وَإِنْ رَجَعَ الْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: اُكْتُبْ لِي كِتَابًا آخَرَ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ خَصْمِي فِي الْبَلَدِ الَّذِي كُتِبَ إلَى قَاضِيهِ؛ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ الْأَوَّلَ نَظَرًا مِنْهُ لِخَصْمِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْصِدَ الْمُدَّعِي التَّلْبِيسَ لِيَأْخُذَ مَالًا بِكُلِّ كِتَابٍ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَتَبَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ فَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِ النَّظَرِ لِأَيِّ الْخَصْمَيْنِ وَمَيْلِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَتَمْكِينِهِ مِنْ التَّلْبِيسِ وَلْيُبَيِّنْ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ لَهُ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ إلَى قَاضِي كَذَا وَكَذَا فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بَعْضُ التَّلْبِيسِ وَيَحْصُلُ لِلْقَاضِي الْكَاتِبِ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الظُّلْمِ. وَإِذَا كَتَبَ لِلْقَاضِي بِمَالٍ أَدَّاهُ كَفِيلٌ عَنْ كَفِيلٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ، وَالتَّخْلِيصُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ فِي الْوَرْطَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ، وَأَصْلُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِهِ عَنْ كَفِيلِهِ وَإِذَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 112 ادَّعَى الْكَفِيلُ الْمَال وَكَتَبَ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكْتُب فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ لَا يَرُدُّ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ جَاءَ الْكَفِيلُ بِكِتَابٍ مِنْ قَاضٍ آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ وَيُؤْخَذُ لَهُ بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فِي الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسِ رَجُلٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِ أَوْ فِي الْأَجَلِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إلَى شَهْرٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى شَهْرَيْنِ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: حَالٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى شَهْرٍ؛ فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ وَهُوَ أَصْلُ الْكَفَالَةِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا كَفَلَ لِهَذَا بِنَفْسِ رَجُلٍ لَا نَعْرِفُهُ وَلَكِنْ نَعْرِفُ وَجْهَهُ إنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيُجْعَلُ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ فَيَقْضِي الْقَاضِي بِهِ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا وَلَوْ قَالَا لَا: نَعْرِفُ وَجْهَهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لِهَذَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَيَّ رَجُلٍ أَتَيْت بِهِ، وَقُلْت: هُوَ هَذَا وَحَلَفْت عَلَيْهِ؛ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ وَهَذَا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ الْآخَرِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ فِيهِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ كَفَالَةً بِنَفْسِ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَأَثْبَتَا كَفَالَةَ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفَا فِي الْآخَرِ فَأَثْبَتَهُ أَحَدُهُمَا وَشَكَّ الْآخَرُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْكَفَالَةِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِيهَا قَدْ تَمَّتْ وَفِي الْآخَرِ لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ حِينَ شَكَّ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَالْكَفَالَةُ بِأَحَدِهِمَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْآخَرِ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِأَبِيهِمَا وَلِرَجُلٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَبِيهِمَا فَتَبْطُلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَيْضًا؛ إذْ الْمَشْهُودُ بِهِ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِفُلَانٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 113 فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ إقْرَارِ الْخَصْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْأَجَلِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ إذَا ادَّعَى الطَّالِبُ أَقْرَبَ الْأَجَلَيْنِ فَإِنْ ادَّعَى أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ بِإِقْرَارِهِمَا حِينَ ادَّعَى الْأَبْعَدَ، وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا أَكْذَبَ الشَّاهِدَ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَلْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْمَالِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِدَرَاهِمَ وَالْآخَرُ بِدَنَانِيرَ؛ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى الطَّالِبُ النِّصْفَيْنِ وَقَالَ: لَمْ يَشْهَدْ لِي بِالنِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ أَحَدَهُمَا فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا فِي جَمِيعِ مَا شَهِدَا بِهِ، وَإِنْ ادَّعَى النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَبَطَلَتْ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْذَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيُقْضَى بِشَهَادَتِهِمَا فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْمَالِ أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَرْضٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: ثَمَنٌ مَبِيعٍ، وَقَالَ: لَمْ تَشْهَدْ لِي عَلَى الْقَرْضِ فَقَدْ أَكْذَبَ الشَّاهِدَ بِالْقَرْضِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفَيْنِ: أَلْفٌ قَرْضٌ وَأَلْفٌ ثَمَنُ مَبِيعٍ؛ فَهُوَ مَا أَكْذَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَفِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَقْبَلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِهَةِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا وَلَمْ يَخْتَلِفَا بِقِلَّةٍ وَلِأَنَّ الْجِهَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ اخْتَلَفَا هُنَا فِي جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ كَفِيلَيْنِ بِالْمَالِ عَنْ صَاحِبِ الْأَصْلِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا فَإِنَّ الطَّالِبَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِهِمَا وَوَالِدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُمَا بِشَهَادَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْأَصِيلِ عَلَى الْكَفِيلِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ أَبَاهُ فَإِنَّ الطَّالِبَ إذَا اسْتَوْفَى الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ؛ بَرِئَ الْأَصِيلُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْكَفِيلِ إذَا أَقَرَّ بِهِ الْكَفِيلُ وَأَنْكَرَهُ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ لِأَبِيهِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَإِنْ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَأَقَرَّ بِهِ الْأَصِيلُ جَازَتْ شَهَادَةُ ابْنِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى أَبِيهِ لِلطَّالِبِ بِالْتِزَامِ الْمَالِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ وَشَهِدَا أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَمَرَ الْكَفِيلَ بِذَلِكَ وَالْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ بِهِ يُنْكِرَانِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 114 الْمَالَ وَالْأَمْرَ فَقَضَى الْقَاضِي بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَأَخَذَ الْمَالَ وَأَدَّاهُ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ بِزَعْمِهِ مَظْلُومٌ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَيْسَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَاضِي أَكْذَبَهُ فِي إقْرَارِهِ وَزَعْمِهِ حِينَ أَلْزَمَهُ الْمَالَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ حُكْمًا؛ سَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ؛ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَلَوْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي بِذَلِكَ فَقَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ الْكَفِيلُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ حِينَ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَالْمُنَاقِضُ لَا يُقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى خَصْمِهِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ. وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْقَضَاءُ هُنَاكَ كَانَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ وَلَوْ ادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ وَافَى بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَانِعًا أَوْ مُسْقِطًا بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَا عَلَى الْمُوَافَاةِ أَوْ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إقْرَارِهِ أَوْ وَقْتِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ يُكَرَّرُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَدْوَةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَشِيَّةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا وَقَالَ: دَفَعْته إلَيْهِ غَدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ غَيْرَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ آخَرَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ الرَّجُلَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْمَالَ قَدْ لَزِمَهُ، وَالشُّهُودَ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ وَقَدْ اتَّفَقَتْ شَهَادَتُهُمَا فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِإِكْذَابِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا بِهِ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ حُجَّةُ بَرَاءَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ قَوْلٌ وَصِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِ وَاحِدَةٌ، وَفِي مِثْلِهِ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَا يَضُرُّ كَالْبَيْعِ وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 115 فُلَانٍ وَاخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَفَلَ بِهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: ضَمِنَهَا، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هِيَ لِي، وَقَالَ الْآخَرُ: هِيَ عَلَيَّ؛ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِاتِّفَاقِهِمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْكَفَالَةُ، وَالْأَلْفَاظُ قَوَالِبُ الْمَعَانِي فَعِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَقْدِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَضُرُّهُمَا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ كَمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالنِّحْلَةِ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: احْتَالَ بِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: ضَمِنَهَا لَهُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ أَوْ الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحَوَالَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ أَوْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْتِزَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلْمَالِ كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْحَوَالَةِ ضَمَانًا وَزِيَادَةً فَيُقْضَى بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَالْأَصِيلُ بَرِيءٌ بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ لَا بِشَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْحَوَالَةِ. وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ بِغَيْرِ بَرَاءَةٍ وَقَالَ: لَمْ أُحِلْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الِالْتِزَامِ بِالضَّمَانِ، وَالطَّالِبُ مَا أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ فِي شَهَادَتِهِ لَهُ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَا لَهُ بِالْمَالِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ أَوْ أَنَّهُ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ وَالطَّالِبُ يَقُولُ: لَمْ أُبْرِئْ الْأَوَّلَ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ الْكَفَالَةَ قَضَيْت لِلطَّالِبِ بِالْكَفَالَةِ وَأَبْرَأْت الْأَصِيلَ إذَا كَانَ هُوَ يَدَّعِي شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْبَرَاءَةِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ يَشْهَدَانِ عَلَى الطَّالِبِ لَا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالْحَوَالَةِ وَقَالَ الطَّالِبُ: إنَّمَا كَفَلَ لِي فَهُوَ مَا أَكْذَبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا لَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إلَى سَنَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ حَالَّةً وَادَّعَى الطَّالِبُ حَالَّةً وَجَحَدَ الْكَفِيلُ أَوْ أَقَرَّ وَادَّعَى الْأَجَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُكَذِّبْ شَاهِدَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ بِالْأَجَلِ لِلْكَفِيلِ وَاحِدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخَالِفُنَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ وَأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِكْذَابِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلَيْنِ كَفَالَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِهَا وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الطَّالِبَ يَأْخُذُ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْآخَرِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 116 وَفِي حَقِّ الْآخَرِ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ أَخَذَ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ الثَّالِثِ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ هُوَ وَفُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ وَشَهِدَ لَهُ الْآخَرَانِ عَلَى كَفِيلٍ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْتِزَامِهِ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ آخَرَانِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا وَأَخَذَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْأَجَلِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلِهِ وَالْآخَرَ بِالْمَالِ حَالًّا اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ فِي مَبْلَغِ الْمَالِ أَخَذَ الطَّالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ كَفَالَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ وَقَالَا: رَأَيْنَاهُ وَلَمْ نَعْرِفْهُ، أَوْ لَمْ نَرَهُ وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ أَشْهَدَنَا عَلَى ذَلِكَ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَعْلُومٌ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ دُونَ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إذَا جَحَدَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ حِينَ لَمْ يَعْرِفْهُ الشُّهُودُ أَوْ لَمْ يَرَوْهُ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَحَالَ بِهَا فُلَانٌ الْغَائِبُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ وَلَمْ يُكَلَّفْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْتَزَمَ بِالْحَوَالَةِ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ مَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ خَلَفًا عَنْ الْأَصِيلِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الْمَالُ إلَى الْأَصِيلِ فَانْتَصَبَ هُوَ خَصْمًا عَنْهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ بِالْأَمْرِ: الْقَضَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا فَأَقَامَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَصِيلِ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَحَلْته بِهَا عَلَيَّ وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ؛ قَضَيْت بِهَا لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وَلَا يَتَوَصَّلُ الْأَصِيلُ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ قَبْضِ الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا حَضَرَ وَالْكَفَالَةُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْحَوَالَةِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَوَالَةٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَلَفَ؛ بَرِئَ وَرَجَعَ الْمُدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الْأَصِيلِ بِالْمَالِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 117 الْأَصِيلَ إنَّمَا يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَتْ الْحَوَالَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ حِينَ حَلَفَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ حِينَ جَحَدَ وَحَلَفَ؛ قَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى وَذَلِكَ يُوجِبُ عَوْدَ الْمَالِ إلَى الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّى الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ كَانَ مُقِرًّا أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ. وَجُحُودُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْحَوَالَةَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي ذَلِكَ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ نُكُولَهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بَلْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا النُّكُولِ وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْعَيْبِ فَرَدَّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ كَانَ قَضَى بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَنَّ فُلَانًا أَمَرَهُ بِهِ فَأَدَّى الْمَالَ وَصَاحِب الْأَصْلِ جَاحِدٌ لِلْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّاهُ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْأَصِيلَ بِاَللَّهِ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى النُّكُولِ إلَّا أَنَّ نُكُولَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْأَمْرِ فَيُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَقَالَ الْكَفِيلُ: لَمْ أَكْفُلْ لَهُ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَاسْتَحْلِفْهُ مَا أَبْرَأَنِي وَقَالَ الطَّالِبُ: بَلْ فَاسْتَحْلِفْهُ مَا كَفَلَ بِهِ لِي فَإِنِّي أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قِيَامُ الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ فَيُحَلِّفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ؛ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ مَا أَبْرَأَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ أَنَّهُ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ؛ حَلَفَ الطَّالِبُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الدَّفْعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً فَقَالَ: أَخَذَك غُلَامِي حَتَّى كَفَلْت لِي بِفُلَانٍ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لَهُ بِحَضْرَةِ غُلَامِهِ دُونَهُ فَإِنْ أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ النُّكُولِ. وَإِذَا طَلَبَ مُدَّعِي الْكَفَالَةِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَنْ يَحْلِفَ الْكَفِيلُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلَ؛ لَمْ يَحْلِفْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَك هَذِهِ الْكَفَالَةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْفُلُ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِسَبَبٍ فَلَوْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا كَفَلَ يَضُرُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ الْكَفَالَةَ فِي الْحَالِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فَلِهَذَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ هَذِهِ الْكَفَالَةَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ دَيْنٍ وَمَالِ وَدِيعَةٍ وَعَارِيَّةٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 118 فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ: مَا اشْتَرَيْتَ وَلَا اسْتَوْدَعَكَ وَلَا أَعَارَكَ وَلَا اسْتَأْجَرْتَ مِنْهُ وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ: مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا الْقَاضِي قَدْ يَكْفُلُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَذَا التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلْت؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى جُحُودِهِ وَقَدْ جَحَدَ الْكَفَالَةَ أَصْلًا فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَرَّضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعَرِّضْ؛ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَنْظُرُ الْقَاضِي لَهُ وَلَكِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى جُحُودِهِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هَذَا التَّعْرِيضُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كُلُّ خَصْمٍ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ قَضَاءَ نَفْسِهِ عَنْ الْجَوْرِ وَنَفْسَهُ عَنْ الظُّلْمِ فَيُحَلِّفَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا عَرَّضَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يُعَرِّضْ. وَلَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلْقَاضِي: حَلِّفْ الطَّالِبَ أَنَّ لَهُ قِبَلِي هَذِهِ الْكَفَالَةَ فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ فَإِذَا رَدَدْت الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي؛ فَقَدْ خَالَفْت الْأَثَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى. وَلَوْ جَاءَ الطَّالِبُ بِشَاهِدَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: اسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُهُ عَلَى حَقٍّ؛ لَمْ أَسْتَحْلِفْهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي. فَإِذَا جَعَلْت عَلَيْهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينًا؛ فَقَدْ جَعَلَتْ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى شَرْطِ لُزُومِ الْمَالِ بِتَرْكِ الْمُوَافَاةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ؛ أَدَّى مَا ادَّعَيَا بِهِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ مَا لَهُمَا عَلَيْهِ وَسَمَّى لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمَا الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ إذَا دَعَيَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ فِي حَقِّهِمَا. فَإِنْ دَعَاهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَهُ مَا لَهُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَالُ الْآخَرِ حَتَّى يَدْعُوَهُ بِهِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِالشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ بِشَرْطِ إبْرَائِهِ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُوَافَاتِهِ بِهِ إذَا دَعَيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ. وَإِذَا دَعَاهُ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُوَافِهِ بِهِ فَالْمَوْجُودُ بَعْضُ الشَّرْطِ وَقَالَ: يَلْزَمُهُ الْمَالُ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَافَاةَ كَانَتْ مُبَرِّئَةً لَهُ وَلَمْ تُوجَدْ. وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَالِ فَضَمِنَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَالَ: إنْ وَافَيْتُكُمَا بِنَفْسِهِ إذَا دَعَوْتُمَانِي بِهِ؛ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَتَقْدِيمُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 119 الْمَالِ فِي هَذَا وَتَأْخِيرُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَخَّرَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ فِي لَفْظِهِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ بِنَفْسِهِ إذَا دَعَيَاهُ بِهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ بِكَفَالَتِهِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَفِيلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ لَفْظًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا بِمَالٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ دُونَ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ رَجُلَيْنِ مُتَفَاوِضَيْنِ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ لَهُمَا رَجُلٌ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ وَافَاهُمَا بِهِ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ كَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لِصَاحِبِهِ كَمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي كَوْنِهِ مُطَالَبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ؛ بَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الَّذِي وَافَاهُ بِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْغَرِيمَ بِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ بِمُوَافَاتِهِ بِهِ وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُوَافِيَا بِهِ غَدًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ؛ فَهُمَا بَرِيئَانِ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا التَّسْلِيمَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَوْ الْتَزَمَا مَالًا فَأَدَّاهُ أَحَدُهُمَا بَرِئَا مِنْهُ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ مَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ يُوَافِيَا بِهِ لَزِمَ الْحَيَّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمَالِ، وَفِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْمَالِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَافَى بِهِ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ الْأَجَلِ بَرِئَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ فَاشْتَرَطَ الطَّالِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا؛ فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا فَدَفَعَهُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ وَلَا يَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ هُنَا مُخْتَلِفَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ عَقْدِ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ: دَفَعْتُهُ عَنْ نَفْسِي وَعَنْ صَاحِبِي وَيَقْبَلُهُ الطَّالِبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَاءَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ فَدَفَعَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ عَنْهُمَا جَمِيعًا؛ كَانَا بَرِيئَيْنِ، سَوَاءٌ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَاهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي هَذَا التَّسْلِيمِ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ بِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَلَمْ يُقَدِّمْهُ إلَى الْقَاضِي وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 120 وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدَيْ الْمَطْلُوبِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْقَاضِي يَقْضِي لَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَغْصُوبًا وَالْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ رَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ كَمَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ أَوْ كَبَدَلِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ مَا يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ عَبْدًا فَضَمِنَهُ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِي قِيمَتِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَالْأَصِيلِ فَإِنْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَزِمَهُ الْفَضْلُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ فَقَبَضَهَا وَجَاءَ آخَرُ فَادَّعَاهَا وَأَخَذَ بِهَا كَفِيلًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ فَقُضِيَ لَهُ بِهَا فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: قَدْ مَاتَتْ أَوْ أَبَقَتْ، وَقَالَ الطَّالِبُ: كَذَبْت فَإِنِّي أَحْبِسُ الْكَفِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا كَمَا أَحْبِسُ فُلَانًا الْأَصِيلَ حَتَّى يَثْبُتَ إبَاقُهَا فَإِنْ طَالَ ذَلِكَ - يَعْنِي مُدَّةَ الْحَبْسِ - ضَمَّنَهُمَا قِيمَتَهَا مُرَاعَاةً لِحَقِّ الطَّالِبِ إذَا طَلَبَ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَلَفَا عَلَيْهَا، وَقَالَ الطَّالِبُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ ضَمَّنَهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ انْتَفَتْ أَنْ تَكُونَ قِيمَتَهَا مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ بِهَا. وَيَأْخُذُ بِهَا أَيًّا شَاءَ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَرَدَّ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ وَسُلِّمَتْ الْمِائَةُ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ قَالَ: وَلَا يَسَعُ الْغَاصِبُ أَنْ يَطَأَهَا مَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِيهَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْغَصْبِ بِالْقِيمَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِهَا بِالْبَيْعِ، وَمَا بَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ - يَعْنِي لِلْبَائِعِ - فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانُوا تَصَادَقُوا عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أَوْ نَكَلَا عَنْ الْيَمِينِ فَأَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ الْقِيمَةَ رِضًا مِنْهُ بِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مِلْكٍ. وَكَانَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ لِتَمَامِ التَّمَلُّكِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ وَوَكَّلَ فِي خُصُومَتِهِ وَلَمْ يَغِبْ الْمَطْلُوبُ وَغَيَّبَ الْعَبْدَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ إحْضَارَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ الْمَطْلُوبُ وَغَيَّبَ الْعَبْدَ؛ حُبِسَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تَغْيِيبِهِ قَاصِدًا الْإِضْرَارَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 121 الْمُدَّعِي: أَنَا آتِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَبْدِي قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْعَيْنَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَالْقِيمَةَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَاهُ أَنَّهُ الْعَبْدُ الَّذِي ضَمِنَ هَذَا بِهِ وَسَمَّيَاهُ وَجَلَّيَاهُ عِنْدَ فُلَانٍ قَضَيْت لَهُ بِالْعَبْدِ عَلَى الْكَفِيلِ فَإِنْ أَتَى بِهِ وَإِلَّا قَضَيْت لَهُ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي بِاَللَّهِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قِيلَ: إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى هَذَا عِنْدَ طَلَبِ الْكَفِيلِ وَقِيلَ: بَلْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْكَفِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْ الْقَاضِي لِلْغَائِبِ وَالصِّيَانَةِ لِقَضَائِهِ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ الْفُلَانِيُّ وَجَلَّيَاهُ لِفُلَانٍ لَمْ أَقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يُوَافِقُ الْجَلِيَّةَ فَلَا يُثْبِتُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إحْضَارَهُ بِالْكَفَالَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ أُخِذَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ ظَهَرَ الْعَبْدُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ أَنْ يُوَافِقَ جَلِيَّةَ الْعَبْدِ الَّذِي ظَهَرَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْمَوْلَى بِالْعَبْدِ جُلِيَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا ضَمِنَ شَيْئًا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الِاسْمِ وَالْجَلِيَّةِ وَلَيْسَ الْمَوْلَى فِي هَذَا كَالْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْتَزَمَ الْإِحْضَارَ بِكَفَالَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَالْمَوْلَى لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَلَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ آخَرُ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلَانِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ حُبِسَ الْكَفِيلَانِ حَتَّى يَدْفَعَاهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أُخِذَ الْكَفِيلَانِ بِإِحْضَارِ مَا الْتَزَمَا إحْضَارَهُ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ قَالَا: قَدْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَقَ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً؛ فَإِنِّي أُخْرِجُهُمَا مِنْ السِّجْنِ؛ لِأَنَّهُمَا حُبِسَا لِإِحْضَارِهِ وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَجْزُهُمَا عَنْ إحْضَارِهِ وَلَكِنْ لَا أُبَرِّئُهُمَا مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ بِتِلْكَ الْكَفَالَةِ هُمَا ضَامِنَانِ لِلْقِيمَةِ إذَا ثَبَتَ مِلْكُ الطَّالِبِ فِي الْعَبْدِ بِالْحُجَّةِ وَادَّعَى الطَّالِبُ بِشُهُودِهِ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَخَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْكَفِيلِ وَيُؤَجَّلُ الْكَفِيلَانِ فِي الْإِبَاقِ أَجَلًا حَتَّى يَأْتِيَا بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إذَا غَابَ الْأَصِيلُ عَنْ الْبَلْدَةِ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ فِي يَدَيْ الرَّجُلِ أَرْضًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا وَقَالَ: بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أُخِذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِالْمُدَّعِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُغَيَّبُ وَلَا يُحَرَّكُ وَلَا يُحَوَّلُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِتَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَلَوْ اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَبْدًا فَجَحَدَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ وَأَقَامَ رَبُّ الْعَبْدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا كَانَتْ قِيمَتِهِ يَوْمَ كَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ يَوْمَ اُسْتُوْدِعَهُ عَلَى مَا شَهِدَتْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 122 الشُّهُودُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ. وَالْجُحُودُ مُوجِبٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْيَدِ وَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ لِاعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْتَوْدِعِ وَلَمْ يُثْبِتْ بِالْبَيِّنَةِ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الظَّاهِرِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يَوْمَ اخْتَصَمُوا فِيهِ أَعْمَى وَجَحَدَهُ الْمُسْتَوْدَعُ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ اُسْتُوْدِعَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ وَهُوَ أَعْمَى فَرَفَعُوهُ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ كَذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ وَزَكَّى شُهُودُهُ فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ أَعْمَى عَلَى الْحَالِ الَّذِي جَحَدَ فِيهَا وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عِنْدَ الْجُحُودِ وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي تَغَيُّرَهُ عَنْ الْقِيمَةِ الَّتِي شَهِدَتْ بِهَا الشُّهُودُ فَلَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ هَلَاكَهُ قَبْلَ الْجُحُودِ؛ لَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ؛ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَكِنَّ السُّوقَ اُتُّضِعَتْ، وَجَحَدَهُ يَوْمَ جَحَدَهُ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يُضَمِّنْهُ إلَّا قِيمَتَهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ضَمَّنَ الْمُسْتَوْدَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةً عَلَى اتِّضَاعِ السُّوقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ النَّفْيُ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا جَحَدَ لَوْ قَالَ: قَدْ مَاتَ الْعَبْدُ؛ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ نَفْيُ الضَّمَانِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ جُحُودِهِ أَوْ يُقِرَّ الْخَصْمُ بِهِ وَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ ضَمِنَهَا. وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ. إذَا جَارَ فِي بَعْضِ الْوَدِيعَةِ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِقَدْرِ مَا جَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْعَبْدِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ. فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَالْكَفِيلُ مَا ضَمِنَ الثَّمَنَ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ضَمِنَ الدَّرَكَ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَيْسَ يُدْرَكُ وَإِنَّمَا الدَّرَكُ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ يُدْرَكُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَلَكِنْ اُسْتُحِقَّ بِصِفَةٍ فَرَدَّ الْمُشْتَرِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ؛ لَمْ يَضْمَنْ الْكَفِيلُ إلَّا ثَمَنَ النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ تَحَقَّقَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ الْآخَرِ فَإِنَّمَا رَدَّهُ الْمُشْتَرِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 123 بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِدَرَكٍ. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِالرَّهْنِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ وَلَوْ كَانَ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَا نَقَصَ الرَّهْنُ مِنْ دَيْنِهِ وَكَانَ الرَّهْنُ قِيمَتُهُ تِسْعَمِائَةٍ وَالدِّينُ أَلْفًا؛ ضَمِنَ الْكَفِيلُ مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَلَوْ أَنَّ جَارِيَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَخَذَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَكَفَلَ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ غَاصِبٌ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَلَوْ كَانَ أَخَذَهَا بِرِضَاهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْقَابِضِ وَلَوْ اسْتَعَارَ الرَّهْنَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ عَلَى إنْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَ الرَّاهِنِ؛ كَانَ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَا اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَبْضِ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَيْضًا شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ جَازَ ضَمَانُ الْكَفِيلِ وَأُخِذَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَغْصُوبِ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ فُلَانًا عِنْدَهُ رَهْنًا وَكَفَلَ لَهُ بِذَلِكَ الرَّهْنِ كَفِيلٌ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ لِتَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَلَوْ أَجَرَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً وَعَجَّلَ الْأَجْرَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ وَلَا الدَّابَّةَ، وَكَفَلَ لَهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ؛ فَالْكَفِيلُ يُؤْخَذُ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ مَا اسْتَأْجَرَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ الْأَجْرِ وَالْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِالْأَجْرِ وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَمَةٍ وَهِيَ حُبْلَى وَلِآخَرَ بِمَا فِي بَطْنِهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَأَخَذَ صَاحِبُ الْحَبَلِ مِنْ صَاحِبِ الْأَمَةِ كَفِيلًا بِمَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى صَاحِبِ الْأَمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ الْأَمَةَ إلَى صَاحِبِ الْوَلَدِ تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى إنْ أَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهَا حِينَ قَبَضَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، وَلَوْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهَا، ضَامِنٌ. وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَمَةِ الْأَمَةَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْوَلَدِ وَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بِأَخْذِ الْأُمِّ لَا يَصِيرُ غَاصِبًا ضَامِنًا لِمَا فِي بَطْنِهَا وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَادِمٍ وَلِآخَرَ بِخِدْمَتِهَا؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ كَفِيلًا بِهَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 124 وَقَدْ أَخَذَهَا صَاحِبُ الْخِدْمَةِ بِإِذْنِهِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ تَبَرُّعًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْأَخْذُ مُوجِبًا عَلَيْهِ ضَمَانًا فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ. وَلَوْ أَخَذَهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثُمَّ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ أُخِذَ بِهَا الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ هُنَا وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ بَطَلَ بِمَوْتِهَا وَسَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ مَكَانَ الْخِدْمَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا أَدْرَكَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ وَلَكِنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِمَا أَدْرَكَهُ فِي ذَلِكَ جَازَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَلَوْ ادَّعَى ذِمِّيٌّ قِبَلَ ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا بِعَيْنِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ بِهِ كَفِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ جَازَ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ مُسْلِمٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ تَسْلِيمِهِ بِالْكَفَالَةِ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ثُمَّ ضَمِنَهُ الْمُسْلِمُ لَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ ضَمِنَ قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَضْمَنْ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَقِيمَتُهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا وَلَوْ تَقَبَّلَ مِنْ رَجُلٍ بِنَاءَ دَارٍ مَعْلُومٍ أَوْ كِرَابِ أَرْضٍ مَعْلُومٍ أَوْ كَرْيَ نَهْرٍ مَعْلُومٍ فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ، مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَاهُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ بِأَعْيَانِهَا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا كَانَ جَائِزًا مَا دَامَتْ قَائِمَةً بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِهَا بِالْعَقْدِ فَإِذَا هَلَكَتْ؛ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ فَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْحُمُولَةِ لَمْ يَجُزْ فِيمَا كَانَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِيهِ فَإِنَّ إبِلَ الْكَفِيلِ لَا تَقُومُ مَقَامَ تِلْكَ الْحُمُولَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي إيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَازَ فِيمَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ بِإِيفَائِهِ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِذَا كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى رَجُلٍ وَكَتَبَ فِيهِ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لَهُ وَأَيَّهُمَا شَاءَ فُلَانٌ أَخَذَهُ بِهَذَا الْمَالِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 125 جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ شَتَّى كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمَا هَذَا الْمَالَ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ اخْتِلَافِ الْقُضَاةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ - عِنْدَنَا - أَنَّهُ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَرِئَ الْأَصِيلُ وَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَجَزْته وَأَيُّهُمَا أَجَازَ أَبْرَأْت الْآخَرَ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَتَّى فَأُدْخِلَا فِي الصَّكِّ جَمِيعًا أَوْ شَتَّى لِذَلِكَ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ أُدْخِلَا جَمِيعًا أَوْ شَتَّى؛ أَجَزْته، فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يُفْلِسَ هَذَا أَوْ يَمُوتَ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا فَأُدْخِلَا فِي الصَّكِّ كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ الِاخْتِيَارُ كُلَّ مَرَّةٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلتَّوَثُّقِ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ يَكْتُبُ الْكِتَابَ أَنْ يَحْتَاطَ لِصَاحِبِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَثُّقِ وَيَحْتَاطَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ اخْتِلَافِ الْقُضَاةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابٌ مِنْ الْكَفَالَةِ] أَيْضًا (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ قَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْفُلَ بِهِ فُلَانٌ؛ كَانَ جَائِزًا حَاضِرًا كَانَ فُلَانٌ أَوْ غَائِبًا ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُحِيلَهُ بِهِ عَلَى فُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَلَا يُفْسِدُهُ الْبَاطِلُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِيهِ كَفَالَةً أَوْ حَوَالَةً مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ غَيْرِ حَاضِرٍ؛ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الشُّرُوطِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ. فَأَمَّا ضَمَانُ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ شَرْعًا وَلَا أَثَرَ لِلشُّرُوطِ فِيهِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ عَمْدٍ وَجِرَاحَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا. وَجِنَايَةُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا ضَمِنَهَا فَشَرَطَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَفَالَةً أَوْ حَوَالَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُبْطَلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَلَوْ قَبِلَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ أَوْ الْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ يُطَالِبُ بِهِ الْأَصِيلُ وَتُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَبَدَلُ الْعِتْقِ بِمَالٍ لَيْسَ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَيْنٍ قَوِيٍّ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ فَسَادَ شَرْطِ الْكَفَالَةِ لَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْعُقُودَ: مَا قَالَ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يُرَدُّ وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْفَسْخُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ التَّمَامِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ مِنْ ثَمَنِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 126 بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ نُجُومًا عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ لَهُ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدِمَ الْكَفِيلُ فَأَبَى أَنْ يَضْمَنَ؛ فَالصُّلْحُ مُنْتَقَضٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى التَّنْجِيمِ فِي الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَهُوَ مَا رَضِيَ بِذَلِكَ إلَّا بِكَفَالَةِ الْكَفِيلِ فَإِذَا أَبَى أَنْ يَكْفُلَ كَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَإِنْ ضَمِنَ الْكَفِيلُ بَعْدَ مَا حَضَرَ جَازَ الصُّلْحُ لِتَمَامِ الرِّضَا بِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مِنْ التَّمْلِيكِ شَيْءٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ الرِّضَا بِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مَالٌ بِمَالٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّيِّقِ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ الْكَفِيلُ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ اشْتِرَاطُ كَفَالَتِهِ شَرْطًا فَاسِدًا. وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْكَفَالَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَأَبَى أَنْ يَضْمَنْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ فِي التَّأْخِيرِ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ كُلُّهُ حَالٌّ أَوْ إنْ أَخَّرَ نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ فَالْمَالُ كُلُّهُ حَالٌّ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصُّلْحِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ شَيْءٌ وَهَذَا الشَّرْطُ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا عَلَى أَنْ جَعَلَ لَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا؛ كَانَ جَائِزًا فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ إلَّا الْقَرْضَ فَإِنَّهُ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ حَقُّ الْأَصِيلِ كَالْعَارِيَّةِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ. وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ يَقْبَلُ الْأَجَلَ. وَإِذَا كَفَلَ الْمَرِيضُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَتَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ تَصِحُّ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ فِي الصِّحَّةِ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَارِثٍ وَلَا عَنْ وَارِثٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الصِّحَّةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ مُضَافًا إلَى حَالِ الصِّحَّةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ. وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ وَلِلْوَارِثِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ وَارِثٍ فَهَذَا قَوْلٌ مِنْ الْمَرِيضِ فِيهِ مَنْفَعَةُ وَارِثِهِ. وَالْمَرِيضُ مَحْجُورٌ عَنْ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ فَمَا بَقِيَ دَيْنُ الصِّحَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ، وَإِذَا كَفَلَ فِي الصِّحَّةِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ فُلَانٌ لِفُلَانٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَأَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْمَرِيضَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَالِ قَدْ تَمَّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ، وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يُخَلِّصُ غُرَمَاءَ الْكَفِيلِ بِذَلِكَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 127 لِأَنَّ أَصْلَهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَكَانَ قَدْ لَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَإِبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِمَا ذَابَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَوْ بِمَا صَارَ لَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ أَوْ لِوَارِثٍ عَنْ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ فِي مَرَضِ الْكَفِيلِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ الْمَيِّتِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ كَانَ فِي الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ. وَإِنْ كَفَلَ فِي الْمَرَضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ اسْتَدَانَ دَيْنًا يُحِيطُ بِمَالِهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ فِي الْمَرَضِ مِنْ الدَّيْنِ بِسَبَبٍ مُعَايِنٍ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَصِحُّ إذَا كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُحِيطًا بِمَالِهِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ وَقَالَ: قَدْ كَفَلْت لِفُلَانٍ بِمَالِهِ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ كَفَلْت لِفُلَانٍ الْآخَرَ بِمَالِهِ عَلَى فُلَانٍ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ وَالْمَكْفُولَ عَنْهُ مَجْهُولٌ فَتَكُونُ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ الْكَفَالَةَ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: كَفَلْت لَكَ بِمَالِكٍ عَلَى فُلَانٍ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّالِبَ مَعْلُومٌ فَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنَّمَا بَقِيَ الْخِيَارُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّ الْمَالَيْنِ شَاءَ. وَلَوْ كَفَلَ عَنْ وَاحِدٍ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ؛ جَازَ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمُطَالَبَةُ هُنَاكَ لَا تَتَوَجَّهُ مِنْ الْمَجْهُولِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا مِثْلُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِائَةُ دِينَارٍ أَوْ بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَحَدِهِمَا أَحَدَ الْمَالَيْنِ أَيُّ ذَلِكَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ دَفَعَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِدَفْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِكَفَالَتِهِ فَتَبْطُلُ عَنْهُ كَفَالَتُهُ عَنْ الْآخَرِ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وُجِدَتْ الْمُوَافَاةُ فِي حَقِّ الَّذِي اخْتَارَ فَيَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِهِمَا: كَفَلْت بِنَفْسِ غَرِيمِك فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَمَا لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِهَا لِمَعْلُومٍ مُطْلَقًا وَبَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ فَإِنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ بِالنَّفْسِ وَمَا كَانَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ لِتَثْبُتَ الْكَفَالَةُ بِهَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 128 تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِمَحْضِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِإِنْسَانٍ آخَرَ فَالْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ تَعْلِيقًا لِالْتِزَامِ التَّسْلِيمِ بِمَحْضِ الشَّرْطِ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالَ: كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَمَا لِفُلَانٍ عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيَّ؛ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْآخَرُ فَالْكَفَالَةُ الْأُولَى جَائِزَةٌ وَالنِّيَابَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ. وَلَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ بِمَالِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ كُلُّهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَوْ قَالَ: كَفَلْت لَك بِأَحَدِ غَرِيمَيْك هَذَيْنِ أَوْ بِأَحَدِ مَالَيْك عَلَى هَذَيْنِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ الْمَكْفُولُ لَهُ وَالْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ مِنْ جِهَتِهِ وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ مَا الْتَزَمَهُ الْكَفِيلُ إلَيْهِ. وَإِذَا كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ بِأَمْرِهِ فَرَهَنَهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ رَهْنًا بِهِ وَفَاءً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْكَفِيلِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقِيقَةً حَتَّى إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ الْأَصِيلُ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ حَقِيقَةً. وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا فَوَقَعَتْ الْكَفَالَةُ بِهَذَا بِغَيْرِ شَرْطٍ مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ لَهُ ثُمَّ إنْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَمْ يَقْبِضْهُ وَالرَّهْنُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ عَلَى دَفْعِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَعْدًا مِنْ جِهَتِهِ وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ لِلطَّالِبِ بِالْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ اشْتَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ فَقَالَ لَهُ: أَكْفُلُ لَك بِهَذَا الْمَالِ عَنْ فُلَانٍ عَلَى إنْ رَهَنَ بِهِ فُلَانٌ هَذَا الْعَبْدَ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيَّ؛ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ فَكَفَلَ لَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الرَّهْنَ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ إذَا لَمْ يُعْطِهِ الرَّهْنَ وَالشَّرْطُ أَمْلَكُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا فَوَقَعَتْ الْكَفَالَةُ لِلطَّالِبِ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ إنْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلَ كَفِيلًا فَإِنَّ الْكَفَالَةَ عَلَى الْكَفِيلِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ شَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ: إنْ لَمْ يُعْطِ كَفِيلًا بِهَذَا الْمَالِ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كَفَالَتِي فَهُوَ عَلَيَّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 129 شَرْطُهُ إنْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الرَّهْنِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَعَ الطَّالِبِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَفِيلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّوَثُّقُ وَالنَّظَرُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ غُرْمٌ، وَإِنْ كَتَبَ الْكَفِيلُ عَلَى دَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ شِرَاءً بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهَذَا قَضَاءٌ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَكَأَنَّهُ أَوْفَاهُ الدَّيْنَ حَقِيقَةً وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ لِلْكَفِيلِ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى سَنَةٍ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْطَى الْمَكْفُولَ عَنْهُ رَهْنًا بِالْمَالِ قَبْلَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الشَّرْطِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ نَفْسَهُ إلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّ فِي كَلَامِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَوْ: إنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ ثُمَّ جَعَلَ الْمُوَافَاةَ بِنَفْسِهِ صَرْفًا لَهُ عَنْ الْمَالِ قُلْنَا: ذَلِكَ طَرِيقٌ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بِالْتِزَامِهِ وَهُوَ مَا الْتَزَمَ الْمَالَ إلَّا بَعْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ غَدًا فَلَا يَكُونُ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَخْتَصُّ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِغَيْرِ مَالٍ. وَضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الدَّيْنِ. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِمَا لَمْ يَحِلَّ عَلَيْهِ بَعْدُ فَقَالَ: إذَا حَلَّ الْمَالُ فَهُوَ عَلَيَّ وَأَعْطَى الْمَكْفُولُ عَنْهُ الْكَفِيلَ رَهْنًا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَجَعَلَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْهُ مُتَأَخِّرَةً إلَى مَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِذَا وَجَبَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ تَوَى مَا لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ وَأَعْطَاهُ بِذَلِكَ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَفِّك الْمَالَ فَهُوَ عَلَيَّ فَأَعْطَاهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِهِ رَهْنًا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ فِي الْكَفَالَاتِ وَلَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِالدَّرَكِ رَهْنًا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْكَفِيلِ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّرَكِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَكُلُّ مَا أَبْطَلْنَا فِيهِ الرَّهْنَ بِالْمَالِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 130 فَكَانَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ الْكَفِيلِ حَتَّى يَحِلَّ عَلَيْهِ الْمَالُ وَيُؤْخَذُ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْسِكَ الرَّهْنَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَثْبُتْ بِقَبْضِهِ يَدٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ - وَإِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ - وَلَوْ آجَرَ مِنْهُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ وَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالْأَجْرِ وَبِالْحُمُولَةِ فَأَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْهُ بِذَلِكَ رَهْنًا فَإِنَّ الرَّهْنَ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَأْخُوذٌ بِالْكَفَالَةِ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَبَبُ الْوُجُوبِ مُتَقَرِّرٌ، وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ صَحِيحٌ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ سَوَاءٌ ارْتَهَنَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ ارْتَهَنَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحَالَ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ وَأَعْطَاهُ بِهِ رَهْنًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالْحَوَالَةِ يَجِبُ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا يَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ يَتَأَخَّرُ إلَى حِينِ أَدَائِهِ الْمَالَ. وَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ عَلَى كَافِرٍ مَالًا وَأَدَّى كَفَالَةَ مُسْلِمٍ بِذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ؛ ثَبَتَ الْمَالُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الْكَفِيلِ الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ عَلَى كَافِرٍ فَشَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ أَنَّهُمَا كَفَلَا عَنْهُ بِهَذَا الْمَالِ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَصِيلِ وَعَلَى الْكَفِيلِ الْكَافِرِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْبَعْضِ فَإِنَّمَا يَقْضِي بِقَدْرِ مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ. وَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ مَالًا وَجَحَدَهُ الْمَطْلُوبُ وَادَّعَى الطَّالِبُ كَفَالَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِالْمَالِ بِأَمْرِهِ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ ذِمِّيَّانِ؛ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ تَجُزْ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى إنَّ الْكَفِيلَ إذَا أَدَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الدَّيْنُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهَا أَمْرُ الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِمَا فِي الصَّكِّ وَالْمُسْلِمُ فِي صَدْرِ الصَّكِّ وَالذِّمِّيُّ كَفِيلٌ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ الصَّكُّ عَلَيْهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِهِمَا يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِقَدْرِ مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ فَكَفَلَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ عَنْ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ كَفِيلًا بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَفِيلًا بِالنِّصْفِ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 131 يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ شَرِيكِهِ الْكَفِيلِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ قَبْلَ وُجُوبِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلشَّرِكَةِ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ الْقَبْضُ وَالْكَفَالَةُ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَدَاءِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عَنْ الْمَدْيُونِ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ مُتَقَرِّبًا بِالسَّبَبِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا كَفَلَ بِالْيَمِينِ عَنْ الْمُشْتَرِي لِلْمُوَكِّلِ؛ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ ادَّعَى عَنْهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ إنْسَانٍ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ؛ جَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِوَاحِدٍ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ابْنَاهُ فَكَفَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إرْثًا فَهُوَ قِيَاسُ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْمِيرَاثِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ لِلطَّالِبِ فَإِنَّمَا يُسْقِطُ عَنْ الْكَفِيلِ حِصَّةَ الْمَطْلُوبِ وَلِوَارِثِ الْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّتِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَبْرَأُ بِهِ الْأَصِيلُ وَلَوْ كَانَ احْتَالَ بِهَا عَلَيْهِ فَكَفَلَ بِهَا عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ وَكَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمَطْلُوبِ بِمَوْتِ الطَّالِبِ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً فَلَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِقَضَاءٍ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا رُجُوعٌ مُفِيدٌ فَإِنَّ الْكَفِيلَ وَالْمُحْتَالَ عَلَيْهِ إنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ هُنَا لَا يَسْتَوْجِبَانِ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِ هُنَاكَ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ فَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ مَا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَهُنَا أَصْلُ الْمَالِ تَحَوَّلَ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَالْأَصِيلُ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ إذَا كَانَ دَيْنًا مُفِيدًا. وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ بِدِينٍ عَلَى رَجُلٍ وَعَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِغُرَمَائِهِ. فَهَذِهِ الْكَفَالَةُ فِي الصُّورَةِ لِلْعَبْدِ وَفِي الْمَعْنَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْعَبْدُ الْمَدْيُونُ يَسْتَوْجِبُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 132 عَلَى مَوْلَاهُ الدَّيْنَ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ الدَّيْنَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ صَارَ لَهُ وَلَا يَكُونُ كَفِيلًا لِنَفْسِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَكَانَ الدَّيْنُ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى حَالِهِ يَأْخُذُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمَوْلَى هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ فَلَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ. وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهُ وَالْمَالُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى حِلِّهِ يَأْخُذُهُ بِهِ إنْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ لِلْكَفِيلِ مِيرَاثًا بِمَوْتِ الطَّالِبِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ لَهُ بِهِبَةِ الطَّالِبِ مِنْهُ أَوْ بِقَضَائِهِ إيَّاهُ وَلَوْ قَضَاهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ؛ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَبْرَأَ مِنْهُ الْمَطْلُوبَ عَلَى أَنْ ضَمَّنَهُ هَذَا بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَلَى أَنْ احْتَالَ بِهِ عَلَى هَذَا ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِرْثِ بِمَنْزِلَةِ تَمَلُّكِهِ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْكَفَالَةِ بِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِهِ ثَبَتَ عَلَى الْعَبْدِ بِكَفَالَتِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ حِينَ كَانَ فَارِغًا عَنْ الدَّيْنِ فَلَوْ كَانَ اسْتَدَانَ أَوَّلًا أَلْفًا وَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ لِلْمَدِينِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْهُ كَانَتْ بَعْدَ مَا اُشْتُغِلَتْ مَالِيَّتُهُ بِالدَّيْنِ فَكَفَالَتُهُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى إقْرَارٌ لِلْمَوْلَى فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَيْهِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِأَلْفٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَتْ الْأَلْفُ الْوُسْطَى بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِهَا وَمَالِيَّتُهُ اُشْتُغِلَتْ بِالْكَفَالَةِ الْأُولَى وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الصُّلْحِ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 133 نِهَايَةٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» «وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا هَلْ لَكَ إلَى الشَّطْرِ هَلْ لَكَ إلَى الثُّلُثَيْنِ فَدَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ وَمَا كَانَ يَدْعُوهُمَا إلَّا إلَى عَقْدٍ جَائِزٍ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» وَهَكَذَا كَتَبَ عَلِيٌّ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَوَّلِ لِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَشْعَرِيِّ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَمَا ذُكِرَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا كَانَ أَخْذُ الْمَالِ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ كَانَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَهُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ بِالصُّلْحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَا وَالصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَالصُّلْحُ الَّذِي أَحَلَّ حَرَامًا هُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصُّلْحِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ (ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ) أَنَّهُ أَتَى فِي شَيْءٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَجَوْرٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْتُهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَجَوْرٌ أَيْ هُوَ مَائِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ أَوْ عَمَّا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ اجْتِهَادِي مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْجَوْرُ هُوَ الْمَيْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] أَيْ مَائِلٌ وَفِيهِ قَالَ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُكْمِ جَائِزٌ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا وَبِالتَّرَاضِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِنَقْلِ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلِيٌّ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ عَلَى ثَمَنِهَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَتِلْكَ الرِّيبَةُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الرُّبْيَةُ وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ الشَّكُّ يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَذَلِكَ يُوقِعُهَا فِي الشَّكِّ لَعَلَّ نَصِيبَهَا أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَقَوْلُهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 134 الرُّبْيَةُ تَصْغِيرُ الرِّبَا يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ شُبْهَةُ الرِّبَا بِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَخَذَتْ مِنْ النَّقْدِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ أَوْ فَوْقَهُ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُصَالِحُوا بَعْضَهُمْ عَلَى شَيْءٍ يُخْرِجُوهُ بِذَلِكَ مِنْ مُزَاحَمَتِهِمْ. وَإِنَّ جَهَالَةَ مَا يُصَالِحُ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ مَعَهَا وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ. ثُمَّ إذَا صُولِحَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُ تَرِكَةِ الزَّوْجِ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ فَصَالَحُوهَا عَنْ الْكُلِّ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُمَلَّكَةً نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُمَا يَقُولَانِ: حِصَّةُ الْعَيْنِ هُنَا مِنْ الْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ صَالَحُوهَا مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحُوهَا عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَمَّا الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ فَهُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ مَالِ الرِّبَا بِحِصَّتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ كَانَ الْفَضْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ رِبًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُهَا ثَمَنُ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ فَنَصِيبُهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ. وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ النَّقْدَيْنِ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَتَصْحِيحُ الْعُقُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ وَالصُّلْحُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَإِنْ صَالَحُوهَا عَلَى عَرَضٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِنَفْسِ مَالِ الرِّبَا فَسَوَاءٌ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الرِّبَا فِي حَالِ التَّصَادُقِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا حَالُ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 135 مِمَّا أَخَذَتْ وَعِنْدَ الْإِنْكَارِ الْمُعْطِي يُؤَدِّي الْمَالَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ وَيَفْدِي بِهِ يَمِينَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ لِيَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَالْفَصْلُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى بَقَاءِ الْمَوَدَّةِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ النُّفْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ وَجْهُ الْقَضَاءِ. فَأَمَّا بَعْدَ مَا اسْتَبَانَ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَا فِي الْإِطَالَةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِمَنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَهِيَ تُمَاضِرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ، ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَحَظُّهَا رُبْعُ الثُّمُنِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَلَمْ يُشِرْ لِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَهَذَا دَلِيلُ ثَرْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيَسَارِهِ وَكَانَ قَدْ قَسَمَ لِلَّهِ تَعَالَى مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي حَيَاتِهِ تَصَدَّقَ فِي كُلٍّ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِجَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْغَنِيِّ مِنْ حِلِّهِ فَابْنُ عَوْفٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تَرْكُ الْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّكَ آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَأَقُولُ أَيْنَ كُنْت فَيَقُولُ مَنَعَنِي عَنْكَ الْمَالُ كُنْت مَحْبُوسًا مَا تَخَلَّصْتُ إلَيْكَ حَتَّى الْآنَ» وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَتَخَارَجُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ يَعْنِي يُخْرِجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَيْسِيرِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا بِقِسْمَةِ الْكُلِّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَشُقُّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 136 عَلَيْهِمْ وَيَدِقُّ الْحِسَابُ أَوْ تَتَعَذَّرُ الْقِسْمَةُ فِي الْبَعْضِ كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِذَا أَخْرَجُوا الْبَعْضَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ تَيَسَّرَ عَلَى الْبَاقِينَ قِسْمَةُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ فَجَازَ الصُّلْحُ لِذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَا رَأَيْت شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلَحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا امْرَأَةً اسْتَوْدَعَتْ وَدِيعَةً فَاحْتَرَقَ بَيْتُهَا فَنَاوَلَتْهَا جَارَةً لَهَا فَضَاعَتْ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْحُجَّةِ الَّتِي يَفْصِلُ الْحُكْمُ بِهَا وَمَا كَانَ يُبَاشِرُ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا حُبِسَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَلِأَجْلِهِ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَلِلصُّلْحِ غَيْرُ الْقَاضِي فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا تُعُيِّنَ لَهُ وَيَدَعَ الصُّلْحَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَجْلِ الِاشْتِبَاهِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِهِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ جَارًا لَهُ كَانَ ضَامِنًا فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى الْغَيْرِ فَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ فَلِاشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَالٍ وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ إنْ شِئْتِ عَدَدْتُهَا لِأَهْلِكَ عِدَّةً وَاحِدَةً وَأَعْتَقْتُكِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَاشْتَرَتْهَا وَأَعْتَقَتْهَا وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شُرُوطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَالْوَلَاءُ لِي وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تُؤَدَّى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَهْمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغُرُورِ وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِالْغُرُورِ وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ فَإِنَّ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ مُكَاتَبَةً وَقَدْ اشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِرِضَاهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَازَ شِرَاؤُهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الصُّلْحِ مَا لَا يَكُونُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 137 مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي الصُّلْحِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْحُكْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بَغْلٍ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةِ رِجَالٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ أَنْتَجَهُ وَجَاءَ الْآخَرُ بِشَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ أَنْتَجَهُ فَقَالَ: عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا اقْضِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِذَلِكَ أَمَّا الصُّلْحُ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ فَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَلِهَذَا سَهْمَيْنِ فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ وَغَلَّظْتُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ أَنْ يَسْتَشِيرَ جُلَسَاءَهُ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا لِنَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْخَمْسَةِ أَكْثَرُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى الْمَثْنَى وَرَدَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِفِقْهٍ خَفِيٍّ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعَدَالَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ. وَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ يَكُونُ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَفِي حَقِّ مَنْ أَقَامَ خَمْسَةً زِيَادَةُ عَدَدٍ فِي الْعِلَّةِ فَشَهَادَةُ كُلِّ شَاهِدَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا وَالتَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً الِاسْتِحْقَاقُ لَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ أَكْثَرَهُمَا شُهُودًا، ثُمَّ قَالَ فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ وَأَنَّ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَعَ الْإِنْكَارِ جَائِزٌ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الصُّلْحِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ وَلِلْآخَرِ سُبْعَاهُ وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ هَذَا الظَّاهِرَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْقَوْمُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ سَمَّاهُ صُلْحًا وَأَمَّا الْقَضَاءُ لِأَحَدِهِمَا بِأَخْذِ الْبَغْلِ فَهَذَا مَذْهَبٌ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَكَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ يَمِينَ أَحَدِهِمَا مُرَجِّحَةً لِجَانِبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَا كَقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ فَإِنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ لَا تَثْبُتُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ابْتِدَاءً فَتَقْوَى بِهَا عَلَيْهِ الْعُصُوبَةُ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَقَدْ ثَبَتَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 138 عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا لِهَذَا بِخَمْسَةٍ وَلِهَذَا بِسَهْمَيْنِ وَهُوَ عَوْدٌ مِنْهُ إلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُجَجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَفِيهِ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفَصْلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَحُكْمُ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا أَنْ يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَرَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعِي مَعَ الْحُجَّةِ وَالْأُمَّةُ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الصُّلْحِ فِي الْعَقَارِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ صُلْحٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَصُلْحٌ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَصُلْحٌ مَعَ السُّكُوتِ بِأَنْ لَمْ يُجِبْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ وَلَا بِالْإِنْكَارِ وَيَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالسُّكُوتِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَمْ يَعْمَلْ الشَّيْطَانُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ امْتِدَادِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَمَنْ أَبْطَلَ ذَلِكَ إنَّمَا أَبْطَلَهُ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ وَلِلرِّشْوَةِ وَالْأَعْمَالِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنَّمَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْوَدُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ فَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى وَبِدَعْوَاهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَانَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ وَبِالصُّلْحِ لَا يَحِلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ وَقَاسَ بِصُلْحِ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَالٍ يَأْخُذُهُ لِيُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ أَوْ يُصْلِحَ الْقَائِلُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ الْوَلِيُّ بِمَالٍ يُعْطِيهِ وَيُصْلِحُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 139 مَعْرُوفُ النَّسَبِ مَعَ مُدَّعِي الرِّقِّ عَلَى مَالٍ لِيَسْتَرِقَّهُ. وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ أَوْ عَنْ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ أَوْ عَنْ الْيَمِينِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ. . . الْحَدِيثَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ لَا يَرْجِعُ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى وَلَكِنْ يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعَى لَكِنْ يَعُودُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ دَارًا لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعِي وَالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى أَخْذُ الْمَالِ الْمُدَّعَى فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ أَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ هَلَاكَهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ صَالَحَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى مَا كَانَ بَاطِلًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَبْذُلُ الْمَالَ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَى الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ الْمَالَ لِيَكُفَّ عَنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَخُصُومَتُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظُلْمٌ مِنْهُ شَرْعًا وَأَخْذُ الْمَالِ لِيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ رِشْوَةٌ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ» وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ» وَبِنَحْوِ هَذَا يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَصِيرُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي مَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنَازِعْهُ فِي ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَلَكِنْ الصِّدْقُ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا عَارَضَهُ بِإِنْكَارِهِ فَإِنْكَارُهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ تَخْرُجُ دَعْوَاهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَظْهَرْ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَاكِتًا فَالْمُعَارِضُ لَمْ يُوجَدْ فَتَبْقَى دَعْوَى الْمُدَّعِي مُعْتَبَرَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ لَمْ يَبْقَ لِلدَّعْوَى سَبَبٌ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ رِشْوَةً وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فَالتَّقْيِيدُ بِحَالِ الْإِقْرَارِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ الْمُغَيَّا فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُدَّعِي بِمَالٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 140 يَأْخُذُ مِنْهُ جَازَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ وَخَبَرُهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ، ثُمَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ إنَّ الْعَيْنَ لِي وَإِنِّي أَمْلِكُهُ مِنْ الْمُدَّعِي بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُودِعَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمُودَعِ وَالْمُدَّعِي قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ مِثْلَ مَا وُجِدَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ صُلْحًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَالَ عِوَضٌ مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُهُ فَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَمَا يُعْطَى مِنْ الثَّمَنِ بَدَلُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَهَذَا فِدَاءٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَعْتِقَ الْعَبْدَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَلَوْ أَبْرَأَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ صَحَّ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ صَالَحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ الْمَالِ الْمُدَّعَى دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ثُمَّ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إبْرَائِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْإِبْرَاءُ صَحِيحًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى مُرَاعَاتِ الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي التَّمَلُّكَاتِ فَأَمَّا فِي الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبُولِ الْمَدْيُونِ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَكِنْ ذَاكَ تَبَعٌ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِسْقَاطُ فَشَرْطُ صِحَّتِهِ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْقِطِ وَذَاكَ ثَابِتٌ بِخَبَرِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ الدَّعْوَى سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ ثُمَّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَالْحُضُورَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «لَكَ يَمِينُهُ» فَعَرَفْنَا أَنَّ جَانِبَ الصِّدْقِ تَرَجَّحَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ وَبَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَإِنَّمَا لَا يُعْطَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى الْمَالَ الْمُدَّعَى لِمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ. . .» الْحَدِيثَ فَإِذَا تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ ثَبَتَ الْحَقُّ فِي جَانِبِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِسْقَاطِ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَمَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا فَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِي جَانِبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّوْجَ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَهُ أَوْ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 141 عَلَى مَالِ ضَمِنَهُ يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُعْطِي الْمَالَ لَا يَتَمَلَّكُ بِهِ شَيْئًا وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَقَرَّ مَعِي سِرًّا وَأَنْتَ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاكَ فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ فَصَالَحَهُ صَحَّ الصُّلْحُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهُ عَلَى مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ (يُقَرِّرُهُ) أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا، ثُمَّ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ فَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا فَهُوَ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنْ بَدَلَ الصُّلْحِ كَالْمُقَرِّ بِهِ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصُّلْحِ كَالْمُقِرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ أَلْجَأَتْكَ إلَى الصُّلْحِ وَكَانَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيَّ لِأَمْنَعَ ظُلْمَهُ عَنْكَ فَلَمَّا اخْتَرْتَ الصُّلْحَ صِرْتَ كَالْمُقِرِّ لِمَا ادَّعَى وَلَكِنْ هَذَا إقْرَارٌ ثَبَتَ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ فَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَبْطُلُ مَا كَانَ فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ لِمَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلْبَيْعِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فَلِهَذَا يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَقْدِ الصُّلْحِ وَاسْتِحْقَاقُ الدَّعْوَى بِالشُّفْعَةِ حُكْمٌ وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مَعَ فُضُولِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا فِي حَقِّهِ عَنْ الْمُدَّعِي فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ الْتَمَسَهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَهُ مُسْتَحِقُّ الْهَلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الدَّعْوَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ فِدَاءُ الْمَالِ بِالْيَمِينِ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ وَلَوْ فَدَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَجُوزُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ وَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عَشَرَةٌ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عِشْرُونَ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ ثَلَاثُونَ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ أَرْبَعُونَ فَأَبَى فَحَلَفَ وَمِنْ هَذَا وَقَعَ فِي لِسَانِ الْعَوَامّ أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ يُشْتَرَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَمَّا الْمُودَعُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِجَوَازِ الصُّلْحِ هُنَاكَ أَيْضًا فِدَاءً لِلْيَمِينِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِمُجَرَّدِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 142 قَوْلِهِ رَدَدْتُ وَهُوَ تَسَلَّطَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَ بَرِيئًا وَهُنَا الْيَمِينُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ عَلَى مَا قَدْ قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ هُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بَذْلٌ مُقَيَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهِمَا وَفِي الْحَقِيقَةِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَنِي عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَغْلِبُ فِي الصُّلْحِ فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ جَائِزٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إلَى بَنِي جَذِيمَةَ دَاعِيًا لَا مُقَاتِلًا وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ خَالِدٌ أَعْطَى عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالًا وَقَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَدِّهِمْ كُلَّ نَفْسٍ ذَا مَالٍ فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَدَّاهُمْ حَتَّى مِيلَغَةَ الْكَلْبِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ اذْهَبَا تَحَرَّيَا وَأَقْرِعَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَهَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَفِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَكَيْف يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَجْوَزُ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَنْفَذُ وَأَلْزَمُ فَالصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَفْسُدُ بِأَسْبَابٍ لَا يَفْسُدُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ فَلَا حَاجَة إلَى الصُّلْحِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى بَعْضِ حَقِّهِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّ ثَمَرَةَ الصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا تَمْتَدُّ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَقْدُ الَّذِي يُفِيدُ ثَمَرَتَهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُفِيدًا ثَمَرَتُهُ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ بَيْعًا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 143 وَهَذَا الْعَقْدُ اخْتَصَّ بِاسْمٍ فَلَا بُدَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِحُكْمٍ وَذَلِكَ الْحُكْمُ لَا يَكُونُ إلَّا جَوَازَهُ مَعَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ الْمُدَّعَى بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الصُّلْحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ يُحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الثِّيَابُ فِيهِ دَيْنًا إلَّا مَوْصُوفًا مُؤَجَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِي الْعَيْنِ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَقْدٌ هُوَ فَرْعٌ فَيُعْتَبَرُ بِنَظَائِرِهِ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ حَتَّى إذَا كَانَ عَلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دَيْنٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَإِذَا كَانَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالصُّلْحِ وَمَا لَا فَلَا حَتَّى إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى ثَبَتَ بِعَيْنِهِ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَجُوزُ، وَإِنْ قَالَ: أَبَدًا أَوْ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهُ أَرْضًا بِعَيْنِهَا سِنِينَ مُسَمَّاةً يَجُوزُ وَبِدُونِ بَيَانِ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةٌ أَوْ كَتِفُ شَارِعٍ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ فِيهِ وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَيُخَاصِمُهُ فِي طَرْحِهِ مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ النَّافِذَ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ شَيْئًا فَصَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ بِهَذَا الصُّلْحِ حَقَّ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي طَرْحِهِ وَاَلَّذِي خَاصَمَهُ كَانَ مُحْتَسِبًا فِي ذَلِكَ فَارْتَشَى لِتَرْكِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ وَضَعَ الظُّلَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يُطَالِبَ الرَّفْعَ بَعْدَ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقُّ الْمَنْعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الظُّلَّةِ غَيْرُ دَافِعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ كَمَا لَا يَرْفَعُ بَعْدَ الْوَضْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ الْخَاصِّ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ هُنَاكَ الضَّرَرُ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْمَنْعِ وَالرَّفْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 144 أَصْحَابِ الطَّرِيقِ شَرِكَةُ مِلْكٍ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةَ فَهَذَا الْمَصَالِحُ مَلَكَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِ الظُّلَّةِ وَتُمْلِيك مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ فَإِنْ قِيلَ صَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُخَاصِمُوهُ فِي الطَّرِيقِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْ حَيْثُ إنَّ سَائِرَ الشُّرَكَاءِ لَوْ صَالَحُوهُ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الطَّرِيقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَهُ فَيَصِيرُ كَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي وَضْعِ الظُّلَّةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ حَتَّى إذَا رَضِيَ شُرَكَاؤُهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ حَقُّ قَرَارِ الظُّلَّةِ وَبَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الظُّلَّةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَى الطَّرِيقِ فَالْمَصَالِحُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ وَضْعِ أَصْلِ الْبِنَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ وَتَمْلِيكُ الْأَهْوَاءِ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ كَمَا يَصِحُّ إسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ الظُّلَّةَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَكَانَ الْمُفِيدُ لِلْمَالِ صَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ لِيُوَصِّلَ الْمَنْفَعَةَ إلَيْهِمْ بِإِزَالَةِ الشَّاغِلِ عَنْ هَوَاءِ طَرِيقِهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الظُّلَّةَ كَانَتْ عَلَى بِنَاءٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الظُّلَّةِ يَدَّعِي مِلْكَ ذَلِكَ الْوَضْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَدَّعِي حَقَّ قَرَارِ الظُّلَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَسَقَطَ حَقُّهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ كَصُلْحِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ مَعْلُومٌ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدِمَهُ بَطَلَ الصُّلْحُ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا عَلَى عِوَضٍ فَيَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا خَدَمَهُ نِصْفَ الشَّهْرِ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَاشْتَرَى لَهُ بِالْقِيمَةِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُسْتَأْجَرَ بَطَلَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُصَالَحِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ بَدَلُ الْعَيْنِ لَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا إلَى عِوَضٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَوْتِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 145 الْمُدَّعِي مُمْكِنٌ بِالْإِعَادَةِ إلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى أَنْ نُقِيمَ بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ هَذَا الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِإِعَادَةِ عِوَضِهِ إلَيْهِ فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَقَمْنَا بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ مُوصًى بِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُصَالَحُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ فَإِذَا هَلَكَتْ الْعَيْنُ وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَ الْمُوصَى لَهُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ هُنَاكَ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ فِيهِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَدَلٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْمُصَالَحُ هُنَاكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ وَفِي الْوَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ قُلْنَا إنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعِوَضٍ فَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِذَا تَمَلَّكَ الْمَنْفَعَةَ بِهِ مَلَكَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ الْبَدَلِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْخُلْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ تَوْضِيحُهُ إنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَهُوَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُمْلَكُ بِعِوَضٍ وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ عِوَضٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلِشَبَهِهِ بِالْوَصِيَّةِ قُلْنَا لَا يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ وَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا أُثْبِتَ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي لِحُصُولِ التَّغَيُّرِ لَا فِي ضَمَانِهِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَجِبُ الْقِيمَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْعَبْدِ فَالْمُصَالَحُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْوَارِثَ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْعَبْدَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الرَّقَبَةِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْقِيمَةِ بِالْقَتْلِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُصَالَحِ فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 146 أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَثْبُتُ كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ وَإِلَّا وُجِّهَ أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ هُنَا وَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُسْتَقِيمٌ فَقَدْ قَالَ: إذَا جَنَى الْبَائِعُ عَلَى الْمَبِيعِ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ دَابَّتَهُ هَذِهِ إلَى بَغْدَادَ فَإِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ فِي دَعْوَاهُ بِقَدْرِهِ وَهَذَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْقَيْنَا الصُّلْحَ أَدَّى إلَى تَوْرِيثِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْإِرْثُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الصُّلْحُ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْعَيْنُ صَارَتْ لِوَارِثِهِ وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَفِي سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ فَأَمَّا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَهَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ مَحْفُوظٌ فِي الْأَمَالِي وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا أَوْ ادَّعَى بَيْتًا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهُ شَهْرًا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِمِلْكِهِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ بِعِوَضٍ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَفِي إبْطَالِ هَذَا الصُّلْحِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إعَادَةُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَلِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَبْقَى الصُّلْحُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَارِثُهُ يَنْتَفِعُ بِإِيفَاءِ هَذَا الصُّلْحِ مِثْلَ مَا كَانَ الْمُوَرِّثُ انْتَفَعَ بِهِ وَهُوَ سُقُوطُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ رُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَوَارِثُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الْبَيْتِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِعَقْدِهِ فَأَبْطَلْنَا الصُّلْحَ فَأَمَّا فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 147 الدَّابَّةِ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَارِثِ فِيهِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ فَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ وَيُشْبِهُ هَذَا بِالْمَنْفَعَةِ إذَا جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ عَنْهَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ أَوْ بَدَلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى حَسَبِ مَا تَكَلَّمُوا فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَانْهَدَمَ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَاقٍ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى مُمْكِنٌ إلَّا أَنَّ تَمَامَ الْمَنْفَعَةِ بِالْبِنَاءِ فَإِذَا رَضِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ بِمَالِهِ فِيهِ لِيَسْكُنَهُ بَقِيَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ لِلتَّغْيِيرِ، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَالْجَوَابُ فِي إجَارَةِ الْبَيْتِ هَكَذَا وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى كَذَا كَذَا ذِرَاعًا مُسَمَّاةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّبَرُّعِ فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى عَيْنٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى كَذَا كَذَا جَرِيبًا مِنْ الْأَرْضِ وَلَوْ ادَّعَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً فِي الدَّارِ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ، ثُمَّ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ حَقًّا، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا إقْرَارٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضٌ لِمَا شُرِطَ لَهُ بِالصُّلْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْجَهَالَةُ إنَّمَا تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي أَرْضَ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ مُجَازَفَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمُعَيَّنَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا بِغَيْرِ ذِكْرِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَيَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ أَيْضًا وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ لَوْ كَانَتْ دَارًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَرُدَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فَكَمَا أَنَّ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ الدَّعْوَى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِيمَا بَقِيَ لِعَيْبِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 148 التَّبْعِيضِ فَإِنْ رَدَّ مَا بَقِيَ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فَإِنْ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ مِنْهُ كَانَ عَلَى نِصْفِ دَعْوَاهُ اعْتِبَارًا لِاسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارٍ لِرَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَنْهُ آخَرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِإِنْكَارٍ أَوْ إقْرَارٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ لِلْمُصَالِحِ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمُصَالِحِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ الَّذِي صَالَحَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَالٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَصْمِ إلَّا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ ضَمِنَ الْمَالَ فَهُوَ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِإِزَاءِ مَا اُلْتُزِمَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْقَطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ لِلْمُصَالَحِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْمُدَّعِي لَمْ يَرْضَ سُقُوطَ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ يَجِبُ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعُرْفُ الظَّاهِرُ وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُوَ إقْرَارٌ لَكَانَ هَذَا كَائِنًا لِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا عَادَ فِي دَعْوَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَالْتِزَامُ الْمَصَالِحِ كَانَ بِالْعَقْدِ فَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ عَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ خُصُومَةُ الْمُدَّعِي مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا لَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ وَجَدَ مِنْهَا زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي صَالَحَهُ دُونَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ الْتَزَمَ بِالْمَالِ بِالْعَقْدِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حِينَ ضَمِنَهُ وَبِالرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَا أَصْلُ الْعَقْدِ فَيَعُودُ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ وَضَمِنَهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا أُؤَدِّيهَا أَجْبَرْتُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالضَّمَانِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَشَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ لَازِمٌ خُصُوصًا إذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الصُّلْحَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَإِنْ رَدَّ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 149 عَلَى دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَرَاهِمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ الدَّارِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَدَلِ كَالْمَبِيعِ إذَا اُسْتُحِقَّ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَعْطَى الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَنَّ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْهُ غَيْرَهُ وَضَمِنَ الْمَالَ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِدَرَاهِمِهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ أَدَاءِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ أَدَّى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُهَا أَوْ ثَبَتَ مَعْلُومٌ فِيهَا أَوْ جَمِيعهَا إلَّا مَوْضِعَ ذِرَاعٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَالَحِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ دَعْوَاهُ فِيمَا بَقِيَ دُونَ مَا اسْتَحَقَّ وَهَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا كَانَ حَقِّي مَا بَقِيَ وَقَدْ صَالَحْتُكَ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ جَمِيعُ الدَّارِ وَإِنْ ادَّعَى فِي بَيْتٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحِهِ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَبِيتَ آخَرُ بِعَيْنِهِ سَنَةً وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَالَ:. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ جَازَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى السَّطْحِ الْمُحْجَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّكْنَى عَادَةً فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ لِمَنْفَعَةِ السُّكْنَى قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مَسْكَنٌ كَالْأَرْضِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعْلُومَةً مِنْ الْأَرْضِ لِيَنْزِلَ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ فَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى عَلَيْهِ بِنَصْبِ خَيْمَةٍ فِيهِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَوْ ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ وَأَقَرَّ بِأَنَّ نِصْفَهَا لِذِي الْيَدِ فَصَالَحَهُ ذُو الْيَدِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ وَالْمُسْتَحَقُّ نِصْفٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي لَمْ يُقِرَّ لِذِي الْيَدِ بِحَقٍّ فِيهَا أَوْ قَالَ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ وَقَالَ الْمُدَّعِي كَذَبْتَ بَلْ نِصْفُهَا لِي وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ أَوْ قَالَ: كُلُّهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَقَعَ الصُّلْحِ عَنْهُ بِزَعْمِ الْمُدَّعِي فَهُوَ يَقُولُ: إنَّمَا صَالَحْتُ عَنْ النِّصْفِ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَصَالَحَ الْمُدَّعِي مَنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 150 دَعْوَاهُ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مُودِعٌ فِيهَا لِتَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ مِنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ لَمْ يُعَايِنْهَا الشُّهُودُ وَلَا عَرَفُوا الْحُدُودَ أَوْ صَالَحَهُ مَنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي دَارٍ وَزَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي صَالَحَهُ عَنْهَا وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هِيَ تِلْكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الصُّلْحَ وَعَادَا فِي الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ وَلَوْ أَنَّ دَارًا فِي يَدَيْ وَرَثَةٍ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا حَقًّا وَبَعْضُهُمْ غَائِبٌ فَصَالَحَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ الْمُدَّعِيَ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّةِ شُرَكَائِهِ مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صُلْحَ الْمُتَبَرِّعِ جَائِزٌ إذَا الْتَزَمَ الْعِوَضَ وَالدَّارُ الْمَوْرُوثَةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ غَيْرُ مُتَمَلِّكٍ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِوَضَ فَلَا يَرْجِعُ هَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْوَرَثَةِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَمْلِكُ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الَّذِي يُصَالِحُهُ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْعِوَضِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَجُوزُ ثُمَّ يَقُومُ هَذَا الْمُصَالِحُ مَقَامَ الْمُدَّعِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِ عَلَى حُجَّةِ الْمُدَّعِي فَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ مِلْكَ شَيْءٍ مَعْلُومٍ بِالْحُجَّةِ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِحِصَّةِ شُرَكَائِهِ الَّتِي لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيهِ وَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ، ثُمَّ خَاصَمَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِالْعَبْدِ أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَلَكَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِمَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَقَالَا وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا وَجَحَدَهُمَا الرَّجُلُ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَهُمَا فِي الدَّارِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ثَمَنِهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ أَحَدَهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مَعَ إنْكَارِ ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الدَّارِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ بِقَبُولِهِ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِحَقِّ الْمُصَالِحِ فِيمَا صَالَحَهُ عَنْهُ فَكَيْف يَصِيرُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 151 مُقِرًّا بِحَقِّ غَيْرِهِ فِيمَا لَمْ يَقَعْ الصُّلْحُ عَنْهُ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يُشَارِكُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُشَارِكُهُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُصَالِحَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِجِهَةِ الْمِيرَاثِ عَنْ أَبِيهِ وَلِهَذَا كَانَ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِ الْأَبِ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبِ فَلِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ جَمِيعِ دَعْوَاهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَ لَهُ تَسْلِيمَ أَخِيهِ فَإِنْ سَلَّمَ الْأَخُ ذَلِكَ لَهُ جَازَ وَأَخَذَ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَاشَرَا الصُّلْحَ فَالْبَدَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ وَرَدَّ الْمُصَالِحُ عَلَى الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ بَطَلَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ بِرَدِّهِ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ: هِيَ لِي وَلِإِخْوَتِي فَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِذَلِكَ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِإِخْوَتِهِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصُّلْحِ فَيَقُولُ: هُنَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ أَوْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ فَالْقَوْلُ بِقَطْعِ الشَّرِكَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَاصْطَلَحَا فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا ذُو الْيَدِ سَنَةً، ثُمَّ يَدْفَعَهَا إلَى الْمُدَّعِي فَهَذَا جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْمُدَّعِي سَنَةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا لِذِي الْيَدِ وَهَذَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَتِهَا وَيَبْقَى مِلْكُهُ فِي مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَسْتَوْفِيهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى سَنَةً وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ بَعْضُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ سَنَةٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا الْإِضَافَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يُعِيرُهَا مِنْ ذِي الْيَدِ سَنَةً، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُمَلَّكًا رَقَبَتَهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ مُبْقِيًا مَنْفَعَتَهَا سَنَةً عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَوْفِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ صَارَتْ الدَّارُ لِوَرَثَتِهِ وَبَقِيَتْ السُّكْنَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوصِي يَسْتَوْفِيهَا الْمُوصَى لَهُ بِإِخْلَائِهَا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ الْمُؤَجَّرَةَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَتَبْقَى مَنْفَعَتُهَا عَلَى حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَمْتَلِكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْبَائِعِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 152 لِلْمُدَّعِي فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى حُجَّتِهِمْ فِي إثْبَاتِ أَنْصِبَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شُرَكَاءِ الْمُدَّعِي لِتَمَلُّكِ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ فِي أَرْضِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ذُو الْيَدِ خَمْسَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ رَقَبَتَهَا لِلْمُدَّعِي فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَاِتَّخَذَهَا مَسْجِدًا، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا دَعْوَى فَصَالَحَهُ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ وَاَلَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْمَسْجِدُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الصُّلْحِ وَلَوْ صَالَحَهُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ كَالْفُضُولِيِّ وَالْتَزَمَ الْمَالَ كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا فَإِذَا صَالَحَهُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ أَوْ وَهَبَهَا لِابْنٍ صَغِيرٍ أَوْ جَعَلَهَا مَقْبَرَةً أَوْ غَيَّرَهَا عَنْ حَالِهَا، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهَا الْمُدَّعِيَ فَهُوَ فِيمَا يَلْتَزِمُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ لَا يَكُونُ دُونَ فُضُولِيٍّ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ ثُمَّ صَالَحَهُ جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَنْكَرَ فِي الِابْتِدَاءِ وَصَالَحَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ فَالصُّلْحُ مَاضٍ وَهُوَ آثِمٌ بِالْجُحُودِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِيهِ ظَالِمًا وَلَكِنْ الصُّلْحُ مِنْ الْمُدَّعِي إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ بِعِوَضٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَ الْخَصْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ مِنْ الْمُسْقِطِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّالِبَ لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ وَهُوَ جَاحِدٌ لِلدَّيْنِ كَانَ إبْرَاؤُهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ جُحُودُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْقِطِ فِي حَقِّهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ الزَّوْجِ بِعِوَضٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ إنْكَارُ الْقَاتِلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَفْوِ مِنْ الْوَلِيِّ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً، ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَاحِبُهُ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ صَارَتْ خِدْمَتُهُ لِلْمُدَّعِي وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَصِيبِهِ نَافِذٌ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ نَفَذَ وَكَانَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ عَلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي بَقَاءَهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُدَّعِي لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْخِدْمَةِ وَنُفُوذُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ مِنْ رَقَبَتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فِيهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْآجِرِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُؤَجَّرَ أَوْ الْوَارِثِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَوْ الرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِلْخِدْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ خِدْمَتَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 153 عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ (قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَكَانَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ أَهْلَ الْمُدَّعِي إذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ كَانَ هُوَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ وَالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِهِ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَسْتَخْدِمُ الْعَبْدَ فِي أَهْلِهِ وَتَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْآجِرِ عِنْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ وَتَكْلِيفِهِ خِدْمَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْهَا فِي الْحَضَرِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَاَلَّذِي يَتَرَاءَى لِي مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقِرُّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِالْعَبْدِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُؤَاجِرَ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ فَأَمَّا هُنَا فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْخِدْمَةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ دُونَ الْوَارِثِ فَالْمُدَّعِي هُنَا بِإِخْرَاجِهِ إلَى أَهْلِهِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَ يُخْرِجُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مَوْضِعَ جُذُوعٍ أَوْ ادَّعَى فِي دَارِهِ طَرِيقًا أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ فَجَحَدَهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَجَهَالَةُ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَإِنَّ تَسَلَّمْهُ بِالصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُسْتَحِقًّا وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارِهِ أَوْ عَلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَلَى الْحَائِطِ مِنْ دَارِهِ جِذْعًا فَالصُّلْحُ عَلَى الطَّرِيقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الطَّرِيقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَقَعُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ يَجُوزُ وَبَيْعُ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْمِيزَابِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَكَثْرَتِهِ وَالضَّرَرُ بِحَسَبِهِ يَخْتَلِفُ، وَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْوُضُوءِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ أَيْضًا بِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَتِهَا فَكَذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعِ الْجِذْعِ مِنْ الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ فَاسْتِئْجَارُ الْحَائِطِ لِوَضْعِ الْجِذْعِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شِرْبِ نَهْرٍ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ وَجَرَيَانُ أَصْلِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ عَلَى خَطَرٍ وَمِقْدَارُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسِيلَ مَاءٌ فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ ذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى عُشْرِ نَهْرٍ بِأَرْضِهِ أَوْ عَلَى عُشْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ فَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ هُنَا جُزْءٌ مَعْلُومٌ رُقْبَةُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 154 النَّهْرِ وَاسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ فَهَذَا إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ رَجَعَ فِي نِصْفِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي الْكُلِّ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ أَخَذَ مِنْ الْمُدَّعِي ثَوْبًا رَجَعَ الْمُدَّعِي فِي نِصْفِ الدَّعْوَى وَنِصْفِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي شَيْئَيْنِ الْمُدَّعَى وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّوْبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَعْلُومُ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَجْهُولِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الِانْقِسَامِ سِوَى الْمُنَاصَفَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَدَلُ الْمِائَةِ وَالْعَبْدِ فَكَانَ بِإِزَاءِ الْعَبْدِ نِصْفَ الثَّوْبِ؛ وَنِصْفُ الْمُدَّعَى بِإِزَاءِ الْمِائَةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِمَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ نِصْفُ الدَّعْوَى وَنِصْفُ الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ رَجَعَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ بِحِصَّةِ الثَّوْبِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ ادَّعَى مِنْ الدَّارِ فَيَعُودُ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا وَيُقَوَّمُ الثَّوْبُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً رَجَعَ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالْمُدَّعَى مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا الْمِائَةُ وَالْعَبْدُ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ كَانَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ فِي الدَّارِ فَقَالَ الطَّالِبُ كَانَ لِي نِصْفُ الدَّارِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ لَكَ عُشْرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي الدَّارُ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَأَصْلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الدَّارُ وَالصُّلْحُ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ الزِّيَادَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا وَقَبَضَ الطَّعَامَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ كَانَ طَعَامِي الَّذِي بِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الرَّجُلُ كَانَ نِصْفَ كُرٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا فِي دَارٍ بِعَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ فَقَالَ الَّذِي قَبَضَ الشِّقْصَ كَانَ الْمَبِيعُ ثُلُثَ الدَّارِ وَكَانَ لِلْآجِرِ نِصْفُ الدَّارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَابِضٌ لِلْمُشْتَرَى بِالْعَقْدِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 155 الزِّيَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي أَيْدِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ مِنْهَا وَسَاحَتُهَا عَلَى حَالِهَا وَاخْتَصَمُوا فِيهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ وَحَقُّهُمْ فِي السَّاحَةِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَعْمِلٌ لِلسَّاحَةِ فِي حَوَائِجِهِ وَلِلِاسْتِعْمَالِ يَدٌ فَلِهَذَا قُضِيَ بِالسَّاحَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ لِفُلَانٍ نِصْفَ السَّاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ رُبْعُهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَنْ تَرَاضٍ فِيمَا لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا فَيَجُوزُ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ مَنْزِلِهِ مِنْهُ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَلَّ الْعِوَضُ أَوْ كَثُرَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهَا مَنْزِلٌ وَفِي يَدِ آخَرَ مَنْزِلٌ وَقَالَ أَحَدُهُمَا الدَّارُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَانِ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هِيَ كُلُّهَا لِي فَلِلَّذِي ادَّعَى جَمِيعَهَا مَا فِي يَدِهِ وَنِصْفُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي النِّصْفَ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ شَائِعًا فَيَكُونُ مُدَّعِيًا نِصْفَ كُلِّ جُزْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ وَالْقَوْلُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا فَهُوَ يَدَّعِي نِصْفَ ذَلِكَ وَلَا مُدَّعِيَ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ سِوَى مَنْ يَدَّعِي جَمِيعَهَا وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ كَذَلِكَ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ شَائِعًا فَمُدَّعِي النِّصْفِ مُدَّعٍ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ السَّاحَةِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلِهَذَا كَانَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي الْجَمِيعِ صَاحِبُهُ يَدَّعِي نِصْفَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَد الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ بِعِوَضٍ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَازِلًا فِي مَنْزِلٍ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ فِي عُلُوِّ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ كَالسُّفْلِ فَهُمَا كَبَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْتَيْنِ وَالْمَنْزِلَيْنِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِثُبُوتِ يَدِهِمَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُقَالُ السَّاحَةُ أَرْضٌ مِنْ جِنْسِ حَقِّ صَاحِبِ السُّفْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوْلَى بِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْيَد لَا تَكُونُ بِالْمُجَانَسَةِ بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ وَصَاحِبُ الْعُلْوِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا كَصَاحِبِ السُّفْلِ فَإِنْ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 156 اصْطَلَحَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ الْعُلْوَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ السُّفْلَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ جَازَ لِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ بِالتَّرَاضِي وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ دَارَيْ رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَجُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ جُذُوعِ الْآخَرِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَائِطِ وَأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِوَضْعِ حِمْلٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْحَائِطَ تُبْنَى لِوَضْعِ ثَلَاثَةِ جُذُوعٍ عَلَيْهِ كَمَا يُبْنَى لِوَضْعِ عَشَرَةٍ مِنْ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ عَلَيْهِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ لَا يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلِلْمُسَاوَاةِ هُنَا طَرِيقَانِ إمَّا رَفْعُ فَضْلِ جُذُوعِ صَاحِبِهِ أَوْ بِأَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ وَالرَّفْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ فَالْوَضْعُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَدْمِ الْحَائِطِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ وَيَفْتَحَ فِيهِ كُوَّةً وَجَمْعُهُ كُوًى وَلَا بَابًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يَكُونُ رَفْعًا لِبَعْضِ الْحَائِطِ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِ الْبَعْضِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِّ وَلَا كَذَلِكَ بِنَاءُ الْحَائِطِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَضْعُ حِمْلٍ زَائِدٍ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْحَائِطِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي حَائِطِ سَاحَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بِأَصْلِهِ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ وَعَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا مُسَمًّى مَعْرُوفًا يَحْمِلُ عَلَيْهِ جُذُوعَ عُلُوٍّ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ مَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَإِذَا اخْتَصَمَا فِي حَائِطٍ وَكَانَ مَخُوفًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَهْدِمَاهُ أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَاهُ عَلَى أَنْ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَيْهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَحْمِلَا عَلَيْهِ مِنْ الْجُذُوعِ قَدْرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 157 مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي نَصِيبِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ فِي يَدِ رَجُلٍ لَهُ سَطْحٌ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لِأَحَدِهِمَا وَيَكُونُ سَطْحُهُ لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ إذْ سَطْحُهُ لَا بِنَاءَ عَلَيْهِ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحٍ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ فَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ الْجَوَابَ عَلَى سَطْحٍ مُحْجَرٍ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ السَّطْحُ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْهَوَاء وَهُوَ لَا يُمْلَكُ بِالصُّلْحِ كَمَا لَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ حَجَزَة فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عُلُوُّهُ وَلِلْآخَرِ سُفْلُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ قَوْمٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا فَاخْتَصَمُوا فِي دَرَجٍ فِيهَا مَعْقُودٌ بَازِجٌ سُفْلُهَا وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَظَهَرَ الدَّرَجُ طَرِيقٌ لِلْآخَرِ إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدَّرَجِ كُلِّهَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّهَا فِي يَدِهِ غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ طَرِيقًا عَلَيْهَا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ بِالظَّاهِرِ يَدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقَ وَلَا يَسْتَحِقُّ ابْتِدَاءً وَقَدْ عَرَفْنَا طَرِيقَ صَاحِبِ الْعُلْوِ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ طَرِيقَهُ بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ كَانَ لِإِنْسَانٍ حَائِطٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ وَضْعٍ فَاخْتَلَفَا فِيهِ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَكِنْ تُتْرَكُ جُذُوعُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَسْتَحِقُّ رَفْعَ جُذُوعِ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ رَوْشَنٌ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَوْشَنِي وَهُوَ عَلَى مَنْزِلِ صَاحِبِ السُّفْلِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَعُرِفَ ذَلِكَ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ فَالرَّوْشَنُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ لَا السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَقْفِ مَنْزِلِهِ فَيَكُونُ فِي يَدِهِ وَلَكِنْ صَاحِبُ الْعُلْوِ الْمُحْجَرِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ الْمَمَرَّ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا لَهُ وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ سُفْلٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَبَيْتٌ عُلْوٌ عَلَيْهِ فِي يَدِ آخَرَ فَسَقْفُ السُّفْلِ وَهَوَادِيهِ وَجُذُوعُهُ وَبِوَارِيهِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْتًا بِسَقْفٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَبْنِي الْبَيْتَ يَجْعَلُهُ مُسَقَّفًا وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ سُكْنَاهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ مَا كَانَ مَعْلُومًا بِالسُّكْنَى فَكَذَلِكَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ لِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ بَيْتًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ فِي يَدِ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقِرٌّ لِصَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ فَوَهِيَ الْبُنْيَانَانِ جَمِيعًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَنْقُضَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْتَهُ عَلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 158 مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا اصْطَلَحَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إصْلَاحَ مِلْكِهِ شَرْعًا وَيُؤْمَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ هَدَمَ بِنَاءَ السُّفْلِ وَلَوْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فَإِذَا كَانَ عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ بِنَاءُ السُّفْلِ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا وَلَكِنْ يَبْنِي صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ عُلْوَهُ وَلَا يَسْكُنُهُ صَاحِبُ السُّفْلِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَ سَعَفُهَا إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ الْآخَرُ قَطْعَ سَعَفِهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لِهَوَاءِ مِلْكِهِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالتَّفْرِيغِ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ مِنْ أَنْ يَجُوزَ إلَى هَوَاءِ مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَفْرِيغُ هَوَاءِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ لِصَاحِبِ النَّخْلَةِ فِي قَطْعِ سَعَفِهَا فَإِنْ صَالَحَهُ رَبُّ النَّخْلَةِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّعَفَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ هَوَاءِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالصُّلْحِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ جُزْءٍ مِنْ الْهَوَاءِ بِعِوَضٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ إذْ أَنَّ السَّعَفَ يَطُولُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ. وَلَوْ أَنَّ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى كَرْيِهِ أَوْ بِوَضْعِ مَمْشَاةٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَصْطَلِحُوا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَإِنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ وَاجِبٌ فَإِذَا اصْطَلَحُوا كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا فَفِي الْقَنْطَرَةِ وَالْمَمْشَاةِ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْمُلَّاكِ وَإِنَّمَا يُجْبَرُونَ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْكَرْيُ فَإِنِّي أُجْبِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ ضَرَرًا عَامًّا فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي النَّهْرِ حَقَّ السَّقْيِ فَيَتَضَرَّرُونَ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِمْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِالْكَرْيِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الشُّرَكَاءَ فِيهِ عَلَى الْكَرْيِ وَتَمَامُ هَذَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ. وَلَوْ ادَّعَى زَرْعًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ بِمُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِإِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِفْرَاكِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا وَلِأَنَّ النِّصْفَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 159 الْآخَرَ مِنْ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ مِنْ شَرِيكِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ جَائِزٌ وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ لِرَجُلَيْنِ فِيهَا زَرْعٌ لَهُمَا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَجَحَدَاهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَ الزَّرْعِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِعِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نِصْفَ الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدَيْهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الصُّلْحَ صَارَ نِصْفُ الزَّرْعِ لِلْمُصَالَحِ فَيُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ وَتَفْرِيغِ أَرْضِ الْآخَرِ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِقَلْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْآخَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبِنَاءِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ سَقْفًا فِي دَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعْلُومٍ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنْ أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِحْقَاقُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِالصُّلْحِ كَاسْتِحْقَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ وَلِهَذَا قَالَ: يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا أَجَّرَ الْمُؤَجَّرَ مِنْ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِحْقَاقُهُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَكَمَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ مَعَ غَيْرِ الَّذِي صَالَحَهُ بِالْإِجَارَةِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ مَعَ الَّذِي صَالَحَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اسْتَأْجَرَ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ فَكَانَ عِنْدَهُ حَتَّى مَضَى الْأَجَلُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ قَالَ وَلَوْ بَاعَ هَذَا السُّكْنَى بَيْعًا مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ السُّكْنَى وَهَذَا فَصْلٌ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الْبَيْعِ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ الْبَيْعَ فِي السُّكْنَى وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِتَرْكِ بَيَانِ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 160 امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِ السُّكْنَى لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ فَالْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فِي الْحَالِ وَإِيجَادُهَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْمَوْجُودَ وَهُوَ الدَّارُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ إضَافَةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إلَيْهَا فَأَمَّا لَفْظُ الْبَيْعِ إنْ أُضِيفَ إلَى الدَّارِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا، وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمَنْفَعَةِ فَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْحُرُّ لِرَجُلٍ بِعْتُكَ نَفْسِي شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلٍ فَهَذِهِ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ قَالَ: فَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ الَّذِي كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ مِنْ هَذِهِ السُّكْنَى عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ بِدَرَاهِمَ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصُّلْحُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِذَا كَانَ يَتَمَلَّكُ هُوَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقْدًا فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ لَكِنْ بِشَرْطِ قَبْضِ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ قَبَضَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَفَرَّقَا جَازَ بِمِقْدَارِ مَا قَبَضَ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ قَالَ وَالْإِقْرَارُ مِنْ الْمُدَّعِي لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ الشَّيْءُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّعْوَى إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ وَمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ عِنْدَ الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي يُوجِبُ رَدَّهُ عَلَيْهِ إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مَقْصُودٌ وَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ تَمَامِ الصُّلْحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بُطْلَانِ الصُّلْحِ قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ عُذْرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِنْ مَلَكَهُ لَا يَبْطُلُ بِالْهَلَاكِ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى دَعْوَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَفِي الْعَقَارِ الْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الجزء: 20 ¦ الصفحة: 161 عَبْدَيْنِ فَدَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَالْمُدَّعِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ الَّذِي قَبَضَهُ وَعَادَ فِي دَعْوَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَرَجَعَ فِي حِصَّةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّمَامِ فَإِنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ كَانَ ادَّعَى فِي أَرْضٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَرْضٍ أُخْرَى بِإِقْرَارٍ فَغَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا فَإِنْ شَاءَ الْمُدَّعِي رَضِيَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا إنْ كَانَ قَدْ نَقَصَهَا الْغَرَقُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَ ادَّعَى فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا الْمَصَالِحُ وَنَقَصَهَا الْغَرَقُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِقْرَارِ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُشْتَرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَاصِبٌ بِجُحُودِهِ وَإِنَّهُ بِالصُّلْحِ كَالْمُشْتَرِي فَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَإِنَّمَا تَعَيَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ ادَّعَى سُكْنَى فِي دَارِ وَصِيَّةً مِنْ رَبِّ الدَّارِ فَجَحَدَهُ أَوْ أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى لَا يُؤَاجَرُ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ مُمْكِنٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ صَحِيحٌ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ إنْ أَمْكَنَ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَصَحَّحَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السُّكْنَى لَا تَجُوزُ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى أَنْ يَزِيدَ الْآخَرُ كُرَّ حِنْطَةٍ لِمُدَّةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَبِيعٌ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرَطَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ طَعَامًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ طَرِيقًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارٍ أُخْرَى كَانَ جَائِزًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّرِيقَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي غُرْفَةٍ أَوْ كُوَّةٍ وَآذَاهُ جَارُهُ وَخَاصَمَهُ فَافْتَدَى مِنْ خُصُومَتِهِ بِدَرَاهِمَ وَصَالَحَهُ عَلَيْهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ بَابَهُ وَكُوَّتَهُ عَلَى حَالِهِمَا قَالَ: لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبَابَ وَالْكُوَّةَ يَكُونُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَلَوْ رَفَعَهُ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ بَعْضَهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَارَ ظَالِمٌ لَهُ مُدَّعٍ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لِيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 162 رَدُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصُّلْحِ فِي الشُّفْعَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ صُلْحَ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ يَصِحُّ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَخْذِ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الصُّلْحِ وَفِي وَجْهٍ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَهُنَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ مِنْهُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهَذَا الصُّلْحِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الصُّلْحِ وَتَرْكُ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَئُولُ مَالًا بِحَالٍ فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَبِالصُّلْحِ تَحْدُثُ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ بِمُقَابِلِهِ وَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ الدَّارَ وَزَادَهُ الشَّفِيعُ عَلَى الثَّمَنِ شَيْئًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بِثَمَنٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً وَالثَّمَنُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي مَعْلُومٌ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً بِمَا سَمَّيَا مِنْ الثَّمَنِ وَإِذَا اخْتَصَمَ فِي الشُّفْعَةِ شَرِيكٌ وَجَارٌ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ أَخَذَاهَا نِصْفَيْنِ وَسَلَّمَهُمَا الْمُشْتَرِي جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا مِنْهُمَا ابْتِدَاءً وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ فِي شِقْصٍ مِنْهَا وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ فِيمَا بَقِيَ، ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الدَّعْوَى فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَإِنَّ بَيْعَ نِصْفِ الدَّار مِنْهُ بِالثَّمَنِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ وَشَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدَّعْوَى لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَتَصْحِيحُ هَذَا بِعَقْدٍ مُمْكِنٍ بِأَنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي جُزْءٌ مِنْ هَذَا النِّصْفِ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي تَارِكًا لِلدَّعْوَى فِيهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً وَقَابِضًا لِذَلِكَ الشِّقْصِ بِحَقِّهِ مُشْتَرِيًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ أَوْ مُصَالِحًا فِي ذَلِكَ الشِّقْصِ بِعِوَضٍ يُؤَدِّيهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ حَقًّا أَوْ ادَّعَاهَا كُلَّهَا فَصَالَحَهُ عَلَى دَارَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّارَ لَهُ عَلَى قِدَمِ مِلْكِهِ وَزَعْمُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَكَمَا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِ مَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْبَدَلَ فِدَاءً الجزء: 20 ¦ الصفحة: 163 لِيَمِينِهِ. وَإِنْ خَاصَمَهُ فِي الشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ لَهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِمَا الْمُدَّعِي جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ جَحَدَ التَّسْلِيمَ وَخَاصَمَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ جَازَ وَهَذَا وَالْبَيْعُ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الشَّفِيعُ، ثُمَّ صَالَحَ الْوَرَثَةَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ جَازَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ شُفْعَةً فِي دَارٍ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ دَارًا أُخْرَى بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الشُّفْعَةَ فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَائِعُ الدَّارِ الْأُخْرَى مِنْهُ وَقَدْ شَرَطَ فِيهِ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ وَهُوَ شَرْطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الشُّفْعَةَ وَلَوْ ادَّعَى شُفْعَةً فِي عَبْدٍ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ وَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّسْلِيمِ وَبِفِعْلِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ صَحِيحًا بِالتَّعَاطِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصُّلْحِ الْفَاسِدِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ فِي دَارٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ ذُو الْيَدِ عَلَى عَبْدٍ إلَى أَجَلٍ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فَإِنْ قِيلَ الْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ وَلَكِنْ الْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغُرَّةَ وَجَبَتْ شَرْعًا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ دُونَ جَنِينِ الْأَمَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يُرَدَّدُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْقِيمَةِ وَبِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّوَسُّعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ جَهَالَةِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ فِيهِ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ مِنْ حَقِّهِ فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْحَقِّ وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ تَكُونُ حَقًّا وَقَدْ تَكُون بَاطِلًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَعْوَى لَا يَصِيرُ مُقِرًّا لَهُ بِشَيْءٍ بِهَذَا اللَّفْظِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَكَذَلِكَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 164 لَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ إلَى الْحَصَادِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ كَالْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ هَذِهِ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي عَبْدِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى غَلَّتِهِ شَهْرًا فَهَذَا فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ فَأَمَّا الْغَلَّةُ فَمَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مَقْدُورَةِ التَّسْلِيمِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُؤَاجِرْهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا تَحْصُلُ الْغَلَّةُ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَبَعْدَ مَا أَجَّرَهُ لَا تَجِبُ الْغَلَّةُ إلَّا بِسَلَامَةِ الْعَبْدِ فِي الشَّهْرِ وَلَعَلَّهُ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ فَلِهَذَا بَطَلَ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى غَلَّةِ الدَّارِ وَثَمَرَةِ النَّخْلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِيمَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى شُرْبِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فِي الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِي رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ تَجُوزُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ مُقِرًّا كَانَ أَوْ جَاحِدًا أَمَّا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَلِأَنَّ هَذَا صَرْفٌ بِالنَّسِيئَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ وَفَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ حَرَامٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَصُلْحُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ سُودًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ إلَى سَنَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَخِّيَّةَ لَهَا فَضْلٌ فَالْبَخِيَّةُ الْجِيَادُ الَّتِي هِيَ نَقْدُ بَيْتِ الْمَالِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يَتَمَلَّكهَا بَخٍ بَخٍ، ثُمَّ جُعِلَ هَذَا الْفَضْلُ عِوَضًا عَنْ الْأَجَلِ وَمُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْأَجَلِ لَا يَجُوزُ وَفِي نَظِيرِهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بَخِّيَّةً فَصَالَحَهُ عَلَى سُودٍ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الْمُحْسِنُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَيْثُ أَبْرَأَهُ عَنْ فَضْلِ الْجَوْدَةِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْمِقْدَارِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ جَازَ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ الْإِحْسَانُ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ سُودٍ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ أَوْ زُيُوفٍ حَالَّةٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ مِنْ زِيَادَةِ الْقَدْرِ عِوَضٌ عَنْ الْأَجَلِ أَوْ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّ الزُّيُوفَ دُونَ السُّودِ فِي الْجَوْدَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ رِبًا شَرْعًا وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 165 وَالْمَوْزُونَ إذَا قَابَلَتْهُ الدَّرَاهِمُ يَكُونُ مَبِيعًا وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا وَإِنْ ذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ وَعَقْدُ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بَخِّيَّةٍ نَقْدًا وَنَقَدَهَا إيَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْسِنًا إلَى صَاحِبِهِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَالْمَدْيُونُ أَعْطَى مَا بَقِيَ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْهُ إحْسَانٌ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَهُنَا تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقٍ مُمْكِنٍ فَلَا يَحِلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَلَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ غَلَّةِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَمَّا بَقِيَ وَإِنَّمَا تَبْقَى الْخَمْسُمِائَةِ فِي ذِمَّتِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ وَالْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِحْسَانِ مَطْلُوبَةٌ بِطَرِيقٍ وَلَكِنْ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ دَيْنًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِالْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ الْخَمْسمِائَةِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ بِصِفَةِ الْجَوْدَةِ فِيمَا بَقِيَ وَمُعَاوَضَةُ الدَّرَاهِمِ بِالْجَوْدَةِ لَا يَجُوزُ وَمَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُعَاوَضَةِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْمُبْتَدَأَةِ كَمَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجْعَلُ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةً لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا هَذَا الثَّوْبَ أَوْ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهُ بِهَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ فَهَذَا فَاسِدٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَارٍ وَشَرَطَ أَنْ يَسْكُنَهَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ سَنَةً أَوْ عَلَى عَبْدٍ وَشَرَطَ خِدْمَتَهُ سَنَةً فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، أَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الصُّلْحُ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي غَنَمِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى صُوفِهَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ يَجُزَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى صُوفٍ عَلَى ظَهْرِ شَاةٍ أُخْرَى بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُدَّعِي مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّوفَ وَالشَّاةَ مِلْكُهُ وَإِنَّهُ يَتْرُكُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَيَبْقَى فِي الصُّوفِ لَا إنْ تَمَلَّكَهُ ابْتِدَاءً وَذَلِكَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 166 جَائِزٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِوَجْهِ مَا يَجِبُ تَصْحِيحُهُ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى صُوفٍ عَلَى ظَهْرِ شَاةٍ أُخْرَى وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْبَانِهَا الَّتِي فِي ضُرُوعِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِ الْعَيْنِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ انْتِفَاخُ الْبَطْنِ وَالضَّرْعِ بِالرِّيحِ بِخِلَافِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ فَهُوَ مَالٌ مُتَعَيَّنٌ مُتَقَوِّمٌ مَمْلُوكٌ فَتَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إبْقَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ مُمْكِنٌ وَلَوْ ادَّعَى فِي أَجَمَةٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ صَيْدَهَا لِلْمُدَّعِي سَنَةً فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِصَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَنَهَى عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَإِذَا كَانَ الصَّيْدُ مَحْظُورًا وَهُوَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا أَخَذْتُمْ السَّمَكَ فِي الْمَاءِ أَوْ دَخَلَ الْأَجَمَةَ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ بِسَدِّ فَوْهَةِ الْأَجَمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَأَمَّا إذَا دَخَلَ الْأَجَمَةَ مَعَ الْمَاءِ وَلَمْ يَسُدَّ فَوْهَةَ الْأَجَمَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ بِالدُّخُولِ فِي أَجَمَتِهِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ. وَلَوْ ادَّعَى فِي عَبْدٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَخَاتِيمِ دَقِيقٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ دَقِيقِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ عَلَى أَرْطَالٍ مِنْ لَحْمِ شَاةٍ حَيَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إمَّا؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَسْلِيمِهِ إلَى بَضْعِ الْبِنْيَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ آبِقٍ فَإِنَّ الْآبِقَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ تَاوِيَةٌ بِالْإِبَاقِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ سَلَمًا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الْحِنْطَةِ هُنَا اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ فَيَبْطُلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» وَالْعَقْدُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالصُّلْحُ كَذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَبَعْدَ مَا بَطَلَ فِي الْبَعْضِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 167 فِيمَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا خَمْسَةٌ مِنْهَا رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ السَّلَمِ هَذَا صُلْحٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ وَهُوَ صَرْفٌ مَقْبُوضٌ فِي الْمَجْلِسِ فَيَكُونُ جَائِزًا وَذُكِرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَعْقِلٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لِي عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مِنْهُ أَرْضًا فَقَالَ: لِي خُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْدَالِ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ عِنْدَنَا يَبْقَى عَلَيْهِ طَعَامُ السَّلَمِ بِحَالِهِ أَنَّ الشِّرَاءَ وَالصُّلْحَ إذَا بَطَلَ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا إسْقَاطَ طَعَامِ الْمُسَلِّمِ إلَى عِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ قَصْدُهُمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَرَدُّ رَأْسِ الْمَالِ مُتَعَيَّنٌ لِذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا أَقْوَى وَعَنْ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ فِي حُلَلِ دَقٍّ فَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ حُلَلَ جَلٍّ كُلُّ حُلَّتَيْنِ بِحُلَّةٍ فَسَأَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إلَّا مَكِيلًا يَعْنِي إلَّا مَكِيلًا بَعْدَ الْحَلْبِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَعَنْ بَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَعَنْ بَيْعِ الصَّدَقَةِ حَتَّى تُقْبَضَ وَعَنْ بَيْعِ الْمَغْنَمِ حَتَّى يُقَسَّمَ» وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ بَيْعَ نَصِيبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْآبِقِ بَاطِلٌ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَبَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا لِلْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقُلْتُ إنِّي أَسْلَمْتُ إلَى رَجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ: إنْ أَعْطَيْتنِي بُرًّا فَبِكَذَا وَإِنْ أَعْطَيْتنِي شَعِيرًا فَبِكَذَا فَقَالَ: سَمِّ فِي كُلِّ نَوْعٍ وَزْنًا فَإِنْ أَعْطَاكَ فَذَاكَ وَإِلَّا فَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَبِهِ نَقُولُ إذْ مِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ وَالتَّرَدُّدِ يَمْنَعُ صِحَّةَ السَّلَمِ وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ إلَّا سَلَمَهُ أَوْ رَأْسَ مَالِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ سَلَمِهِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ يَدًا بِيَدٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَالَ رَبِّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ كَحَالِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَكَمَا أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَجِبُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ فَإِنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ أَوْ لِمُقْتَضَى لَفْظِ السَّلَمِ فَهُوَ أَخْذُ عَاجِلٍ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 168 بِآجِلٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْإِقَالَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِبْدَالُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَبْضُ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ لِمَا بَيَّنَّا وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ كَانَ آخِذًا غَيْرَ سَلَمِهِ وَغَيْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي شَيْءٍ سَلَمًا فَاسِدًا وَتَفَرَّقَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَرَاهِمِهِ مَا بَدَا لَهُ يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَبْضُ وَعَقْدُ السَّلَمِ كَانَ بَاطِلًا فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِبَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنْ جَعَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَزْنِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ فَالْمَقْبُوضُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ وَمِثْلُهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَالسَّلَمُ يُضَافُ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَوْ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَهُوَ بَيْعُ الْعَبْدِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَهَذَا تَأْجِيلٌ فِي بَدَلِ الْمَغْصُوبِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّرْفِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مُؤَجَّلٍ جَازَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ مَتَى كَانَ دَيْنًا بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ ثَمَنًا وَلَمْ يَجُزْ إنْ كَانَ هَالِكًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا قُوبِلَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَكُونُ مَبِيعًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمَغْصُوبِ الْهَالِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَلَكِنْ الْعَبْدُ الْهَالِكُ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى عَيْنِهِ فَهُوَ دَيْنٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَلِهَذَا كَانَ فَاسِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجَلٌ جَازَ إنْ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلًا عَنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ دَيْنًا عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ هَالِكٌ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى ثِيَابٍ مُؤَجَّلَةٍ وَالْعَبْدُ هَالِكٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ شَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 169 [بَابُ الْمُهَايَأَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اعْلَمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْمُهَايَأَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي نَوْبَتِهِ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْ انْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِمِلْكِهِ فِي نَوْبَتِهِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَجَوَّزْنَاهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَهَذَا هُوَ الْمُهَايَأَة وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَاذَا تُصْدِقُهَا قَالَ نِصْفَ إزَارِي هَذَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ» وَهَذَا تَفْسِيرُ الْمُهَايَأَةِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْأَعْيَانِ ثُمَّ الْقِسْمَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّعْدِيلِ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ فِي الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلِهَذَا يُجْبِرُ الْقَاضِي الشُّرَكَاءَ عَلَى الْمُهَايَأَةِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى الْبَعْضُ وَاَلَّذِي أَبَى لَمْ يَطْلُبْ قِسْمَةَ الْعَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ اخْتِصَاصَ الْعَقْدِ بِاسْمٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ فَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِاسْمِ الْمُهَايَأَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ وَهُوَ أَنَّ وُصُولَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ يَسْبِقُ وُصُولَ نَصِيبِ الْآخَرِ إلَيْهِ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْعَيْنِ وَهَذَا الْعَقْدُ لَيْسَ كَالْإِجَارَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ بِالْعَقْدِ وَهُنَا مَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَنْفَعَةُ مِلْكِهِ عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْقِسْمَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَكَوْنُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَاتِ فِيهِ بَيْعًا وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَارِيَّةِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الِاسْتِحْقَاقُ وَيَتَعَلَّقُ بِالْمُهَايَأَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَلَكِنْ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُهَايَأَةِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى مَعْنَى أَنْ هُنَاكَ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُنَا يَمْلِكُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخَ الْمُهَايَأَةِ بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَمْيِيزُ الْمِلْكِ قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ خُلُوٌّ عَنْهُ (أَلَا تَرَى) إنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ لَمْ يَشْتَغِلْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْمُهَايَأَةِ فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ إذَا طَلَبَ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قِسْمَةُ الْعَيْنِ لَا تُسْتَدَامُ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَقِسْمَةُ الشَّرِكَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَبْطُلُ وَالْمُهَايَأَةُ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَاهَا اُحْتِجْنَا إلَى إعَادَتِهَا فَالشَّرِيكُ الْحَيُّ أَوْ وَارِثُ الْمَيِّتِ طَالِبٌ لِذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ شَيْءٍ يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ الْمُهَايَأَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْمَكَانِ وَقَدْ تَكُونُ بِالزَّمَانِ فَصُورَةُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 170 الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ فِيمَا بُدِئَ الْبَابُ بِهِ قَالَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَهَايَآ فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلًا مَعْلُومًا وَأَنْ يُؤَاجِرَ كُلٌّ حِصَّةَ مَنْزِلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَفِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ لَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ بِهِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْمُنَازَعَةُ تَنْقَطِعُ بِبَيَانِ مَنْزِلٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَا شَرَطَا فِي الْمُهَايَأَةِ أَنْ يُؤَاجِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ وَمَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْغَلَّةِ حَلَالٌ لَهُ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الشَّاشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مَا شَرَطَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفِعٌ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَالْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يُؤَاجِرُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ فَمَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ يُجْعَلُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاوَتُ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَهُوَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُحْدِثَ فِي مَنْزِلِهِ بِنَاءً وَلَا يَنْقُضَهُ وَلَا يَفْتَحَ بَابًا فِي حَائِطٍ وَلَا كُوَّةً إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْمُهَايَأَةِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُهُ وَبِالْمُهَايَأَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ الْقِسْمَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَفِيمَا لَيْسَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حَالُهُمَا بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ كَمَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَآ عَلَى أَنْ يَكُونَ السُّفْلُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْعُلْوُ فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْكَنٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْزِلَيْنِ فِي عُلْوٍ أَوْ سُفْلٍ وَكَذَلِكَ التَّهَايُؤُ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ جَائِزٌ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمُرَادُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَأَمَّا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَالْقَاضِي لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ لِلْعَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ لَا تَجْرِي فِي الدُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ التَّهَايُؤُ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْمُهَايَأَةِ تُلَاقِي الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ وَمَنْفَعَةُ السُّكْنَى تَتَقَارَبُ وَلَا تَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْعَيْنِ فَالْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ هُنَاكَ مُعْتَبَرَةٌ وَالدُّورُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 171 تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالْجِيرَانِ وَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُؤَاجِرَ مَا فِي يَدِهِ وَيَأْكُلَ غَلَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ سَالِمَةٌ لَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الدَّارَيْنِ إذَا غَلَّتْ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا غَلَّتْ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فَهُنَاكَ إذَا تَهَايَآ فِيهَا عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فَكَانَتْ غَلَّةُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فِي نَوْبَتِهِ أَكْثَرَ فَذَلِكَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ فِي الدَّارَيْنِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَالتَّمَيُّزُ بِالتَّرَاجُعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ صَاحِبُهُ فَمَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَنْ قَدِيمِ مِلْكِهِ يَسْتَوْجِبُهُ بِعَقْدِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي إجَارَةِ نَصِيبِهِ فِي نَوْبَتِهِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالزَّمَانِ وَأَحَدُهُمَا يَصِلُ إلَى الْغَلَّةِ قَبْلَ وُصُولِ الْآخَرِ إلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَضِيَّةَ الْقِسْمَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِهِ وَمَا يَقْبِضُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَمَّا يَقْبِضُ صَاحِبُهُ مِنْ عِوَضِ نَصِيبِهِ فَعِنْدَ التَّفَاضُلِ يَثْبُتُ التَّرَاجُعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِيَسْتَوِيَا وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْفَرْقَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي الْمُهَايَأَةِ فِي الدَّارَيْنِ يُعْتَمَدُ التَّرَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا قِسْمَةُ الْجَبْرِ فِي الدَّارَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجْرِي إلَّا إذَا رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَعِنْدَ التَّرَاضِي يُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّرَاضِي فِي الْمُهَايَأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُهَايَأَةِ فَلِهَذَا يَتَرَاجَعَانِ فَضْلَ الْغَلَّةِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ عَلَى كُلِّ الْغَلَّةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ غَلَّةَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِالْمُهَايَأَةِ أَيْضًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تَبْقَى بَعْدَ حُدُوثٍ وَيَتَأَتَّى فِيهَا قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا جَوَازُ الْمُهَايَأَةِ فِيمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْقِسْمَةُ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ مَا يَكُونُ عِوَضًا مِنْهُ كَغَلَّةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ وَالْأَصْوَافِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ حَقًّا فَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ بَيْتًا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْخُصُومَةِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ سُكْنَى الْبَيْتِ شَيْئًا وَلَا يَلْزَمُهُ بِخُرُوجِهِ حَقٌّ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَعَارَهُ الْبَيْتَ وَالْآخَرَ تَرَكَ الْخُصُومَةَ زَمَانًا وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُجَّتِهِ إذَا بَدَا لَهُ وَالتَّهَايُؤُ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ تَجُوزُ عَلَى الزَّمَانِ هَذَا شَهْرٌ وَهَذَا شَهْرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْخِدْمَةِ بِالزَّمَانِ مُمْكِنٌ وَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ إذَا تَهَايَآ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 172 عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَالْعَبْدُ الْآخَرَ فَذَلِكَ جَائِزٌ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ تَجْرِي فَكَذَلِكَ فِي خِدْمَةِ الرَّقِيقِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرَّقِيقِ لَا تَجْرِي قِسْمَةُ الْجَبْرِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِمَعَانٍ بَاطِنَةٍ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ وَلَوْ تَهَايَآ عَلَى الْغَلَّةِ فِي الْعَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي الْغَلَّةِ بِالِاتِّفَاقِ فَهُمَا يَقُولَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ يَتَرَجَّحُ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ وَفِي غَلَّةِ الدَّارَيْنِ فَأَمَّا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ أَحَدُهُمَا إلَى الْغَلَّةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْآخَرُ إلَيْهِ وَفِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ وَرُبَّمَا يَمْرَضُ الْعَبْدُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا فَيَعْجَزُ عَنْ الْخِدْمَةِ وَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِدْمَةِ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ وَمَعْنَى الْخَطَرِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مُبْطِلٌ لَهُ وَبِهِ فَارَقَ غَلَّةَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ هُنَاكَ الْغَلَّةُ تُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ وَالْغَالِبُ هُوَ السَّلَامَةُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْغَلَّةِ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّ مَا يُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ عَيْنٌ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ لِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِيهَا وَلِشَبَهِهِ بِالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ النَّخْلِ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ سَلَامَةُ سَبَبِ مِلْكِ الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ كَالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَكَالْمُهَايَأَةِ فِي أَوْلَادِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ لَوْ كَانَ يَجُوزُ فِي الرَّقِيقِ لَكَانَ جَوَازُهُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ وَالتَّمْيِيزَ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأُولَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْعَبْدَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَا يَنْقَادُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِنَفْسِهِ فِي نَوْبَتِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَقِيلَ هَذَا الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي قِسْمَةِ الرَّقِيقِ فَالْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالِيَّةُ هُنَا فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ فَكَذَلِكَ فِي غَلَّةِ الرَّقِيقِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي غَلَّةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَجْرِي فِيهِ بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ لِلْخِدْمَةِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْمَنْفَعَةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ فَجَازَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَخَافَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 173 صَاحِبَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَحَدُهُمَا تَكُونُ عِنْدَكَ يَوْمًا وَعِنْدِي يَوْمًا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ نَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَإِنِّي أَجْعَلُهَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمًا وَلَا أَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُسْتَحِقَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ مِلْكِ الْعَيْنِ عَلَيْهِمَا بِطَلَبِ أَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ إبْطَالُ مِلْكِ الْيَدِ وَفِي التَّعْدِيلِ إبْطَالُ الْيَدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ مَا يَخَافُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ وَبِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْمُتَحَقِّقِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَحَقُّ الْعَبْدُ فِي نَوْبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَنْ يَدِ مَا هُوَ مَوْهُومٌ فَإِنْ تَنَازَعَا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمُهَايَأَةِ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى لِلْقَاضِي أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ دُونَ الْمَيْلِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَهُ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ أَوْ الْغَلَّةِ فِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يَعْلَمُهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ فِي الْغَلَّةِ كَالرُّكُوبِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الْغَلَّةِ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى التَّهَايُؤِ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَإِنَّمَا صَحَّتْ الرَّاوِيَةُ هُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ فِيمَا يَعْلَمُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الدَّابَّتَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَتَا كَالْعَبْدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقِسْمَةُ الْجَبْرِ فِي الدَّابَّتَيْنِ تَجُوزُ وَلَا تَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ مِلْكِ الْحَيَوَانِ يُشْبِهُ هَذَا التَّهَايُؤَ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ فَكَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمُهَايَأَةِ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: مَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ كَمَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالسُّكْنَى فِي الدَّارِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِالْإِجَارَةِ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْإِعَارَةِ فَكَمَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: جَوَازُ الْمُهَايَأَةِ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ وَالتَّمْيِيزِ وَذَلِكَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ فَرُبَّ رَاكِبٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ وَيُثْقِلُهَا الْآخَرُ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّابَّتَيْنِ رُكُوبًا بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَوْفَى (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ التَّهَايُؤَ عَلَى الدَّابَّتَيْنِ فِي الرُّكُوبِ لَا يَجُوزُ ثَبَتَ فِي الْغَلَّةِ بِالطَّرِيقِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 174 الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ اسْتِقْلَالَ الدَّوَابِّ بِالْإِجَارَةِ مِمَّنْ يَرْكَبُهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُهَايَأَةِ وَالضَّرَرُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَرْكَبُهَا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّهَايُؤُ فِي رُكُوبِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ التَّهَايُؤَ فِي غَلَّةِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يُجَوِّزَانِ فِي غَلَّةِ عَبْدٍ وَاحِدٍ وَالتَّهَايُؤُ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَلْبَانِ وَالْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَوُجُودُ أَصْلِهِ عَلَى خَطَرٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالتَّهَايُؤُ فِي دَارٍ وَعَبْدٍ عَلَى السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْمُهَايَأَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَوْلَى وَعَلَى الْغَلَّةِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَلَّةُ الْعَبْدِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّهَايُؤِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ غَلَّةِ الدَّارِ يُصَحِّحُهُ وَيَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ وَلَوْ تَهَايَآ فِي أَرْضٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا مَعْلُومَةً وَيُؤَاجِرَهَا جَازَ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى فِي الدَّارِ وَلَهُمَا أَنْ يُبْطِلَا الْمُهَايَأَةَ وَيَقْتَسِمَا إذَا بَدَا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ بِهِ يَحْصُلُ وَوَرَثَتُهُمَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِمَا لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ الْمُهَايَأَةُ فِي دَارٍ وَأَرْضٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا الدَّارَ وَيَزْرَعَ هَذَا الْأَرْضَ، وَكَذَلِكَ الْمُهَايَأَةُ فِي دَارٍ وَحَمَّامٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفَعَتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْمُهَايَأَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا سُفْلَهُ وَالْآخَرُ عُلْوَهُ فَانْهَدَمَ الْعُلْوُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْكُنَ مَعَ صَاحِبِهِ السُّفْلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ سُكْنَى السُّفْلِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ سُكْنَى الْعُلْوِ لَهُ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حِينَ انْهَدَمَ فَكَانَ هُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي سُكْنَى السُّفْلِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ نَصِيبِهِ وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ كَانَا تَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فِي عَبْدٍ وَأَمَةٍ عَلَى أَنْ تَخْدُمَ الْأَمَةُ أَحَدَهُمَا وَالْعَبْدُ الْآخَرَ وَاشْتَرَطَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَعَامَ خَادِمِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَتَنَاوَلُ مِنْ الطَّعَامِ فِي نَوْبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْآدَمِيُّ قَدْ يَنْشَطُ لِلْأَكْلِ فِي وَقْتٍ وَلَا يَنْشَطُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَالطَّعَامُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ لِاسْتِوَاءِ مِلْكَيْهِمَا فِيهِ فَلَا تُمْكِنُ فِي هَذَا الشَّرْطِ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ مَجْهُولٌ وَفِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ هَذَا الْقِيَاسُ أَوْضَحُ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ جَوَازُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ وَاعْتِبَارِ مَا عَلَيْهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ، وَإِنْ اشْتَرَطَا الْكِسْوَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَجُزْ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْكِسْوَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْكِسْوَةِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ مَا يَجْرِي فِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 175 الطَّعَامِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَتَنَاوَلُ يَتَقَوَّى عَلَى الْخِدْمَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَهَالَةُ إذَا كَانَتْ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ إذْ لَيْسَ لِلْكِسْوَةِ تَأْثِيرٌ فِي إحْدَاثِ الْقُوَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَقَّتَا مِنْ الْكِسْوَةِ شَيْئًا مَعْرُوفًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْوَصْفِ وَالْمُنَازَعَةُ تَنْقَطِعُ بِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ هُنَا فِيمَا لَا يَتِمُّ مَعْنَى اللُّزُومِ فِيهِ فَإِنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى الْمُهَايَأَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ اللُّزُومِ لَا يَتِمُّ بِالْمُهَايَأَةِ وَفِي مِثْلِهِ الْبَيَانُ الْمَوْصُوفُ يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ كَانَتْ غَنَمٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَرْعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا أَجِيرًا جَازَ؛ لِأَنَّ الرَّعْيَ فِي الدَّوَابِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي بَنِي آدَمَ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ فَالتَّفَاوُتُ يَنْعَدِمُ هُنَا وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَوَلِيُّ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ - يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَلَوْ تَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي الْأَمَتَيْنِ، ثُمَّ وَطِئَ أَحَدُهُمَا الْأَمَةَ الَّتِي عِنْدَهُ فَعَلِقَتْ فَسَدَتْ الْمُهَايَأَةُ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا بِضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَكَمَا لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْمُهَايَأَةِ إلَّا بِعَمَلٍ مُشْتَرَكٍ فَكَذَلِكَ مَا لَا يَبْقَى وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهَا بَعْدَ مَا اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ أَوْ أَبِقَتْ انْتَقَضَتْ الْمُهَايَأَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِسَلَامَةِ خِدْمَةِ الْأُخْرَى لِشَرِيكِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ خِدْمَةُ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا أَوْ بِإِبَاقِهَا وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا الشَّهْرَ كُلَّهُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، ثُمَّ مَرِضَتْ أَوْ أَبِقَتْ نَقَّصَتْ الْآخَرَ مِنْ شَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِاعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَانِ الْمُهَايَأَةَ وَلَوْ لَمْ يَنْقُصْ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى تَمَّ الشَّهْرُ فِي خِدْمَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَضْلُ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبِقَتْ إحْدَاهُمَا الشَّهْرَ كُلَّهُ وَاسْتَخْدَمَ الْآخَرُ الْأُخْرَى الشَّهْرَ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ ضَمَانٌ وَلَا أَجْرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الشَّرِيكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُهَايَأَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَلَوْ عَطِبَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْخِدْمَةِ لَمْ يَضْمَنْهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْتَعِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَوْ زَوَّجَهَا مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَصَرُّفٌ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَامٍّ فَمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 176 الْمُهَايَأَةِ كَمَا قَبْلَهَا فَإِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْأَرْشِ فَأَمَّا الَّذِي زَوَّجَ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي مَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى وَرِضَاهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُزَوَّجْ فَلَهُ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِالْقِسْمَةِ وَعَلَى هَذَا السُّكْنَى فِي الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ لَوْ انْهَدَمَ مِنْ سُكْنَى أَحَدِهِمَا أَوْ احْتَرَقَ مِنْ نَارٍ أَوْقَدَهَا فِيهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَوْ تَوَضَّأَ فِيهَا فَزَلِقَ رَجُلٌ بِوُضُوئِهِ أَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِيهَا أَوْ جَلَسَ فِيهَا أَوْ رَبَطَ فِيهَا دَابَّةً فَعَبَرَ بِهِ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَسْلِيطِ شَرِيكِهِ كَفِعْلِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً أَوْ احْتَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَهُوَ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فَلَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمُهَايَأَةِ فَكَانَ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالسَّبَبُ مَتَى كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ دُونَ تَضْيِيعٍ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَإِذَا تَهَايَأَ الرَّجُلَانِ فِي خَادِمَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ أَحَدَهُمَا هَذَا سَنَةً لِفَضْلِ خِدْمَتِهَا وَالْأُخْرَى هَذَا الْآخَرَ سَنَتَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُعَادَلَةُ فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا وَمُدَّةُ الْمُهَايَأَةِ طَوِيلَةٌ فَشَبَّ الْوَلَدُ فِيهَا كَانَتْ خِدْمَتُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِدْمَةِ بِالْمُهَايَأَةِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَالْوَلَدُ تَوَلَّدَ مِنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَالْأَصْلِ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْمُهَايَأَةُ مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا فَكَانَتْ خِدْمَتُهُ بَيْنَهُمَا كَخِدْمَةِ الْأَصْلِ قِيلَ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُنَفِّذُوا الْمُهَايَأَةَ وَلَكِنْ نَصِيبُهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ نَصِيبِهِ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ مُبَاشَرَةُ ابْتِدَاءِ الْمُهَايَأَةِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُمْ اسْتِدَامَةُ الْمُهَايَأَةِ وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ إحْدَى الْخَادِمَيْنِ أَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَبَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ لَمْ تَبْقَ بَعْدَ مَا نَفَذَ بَيْعُهُ فِيهِ وَعِتْقُهُ وَإِذَا كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُبْطِلَ الْمُكَاتَبَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى أُدَّتْ بَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَمْ تَبْطُلْ الْمُهَايَأَةُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ سَلَّمَ بَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَفِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَزُولُ مِلْكُهُ فَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 177 بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ يَزُولُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لَمْ تَبْطُلْ الْمُهَايَأَةُ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ صُلْحِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْوَارِثِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ دَارٌ أَوْ عَبْدٌ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَصَالَحَهُ أَبُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَكَانَ مَا أَعْطَى الْأَبُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ مِثْلَ حَقِّ الْمُدَّعِي أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُدَّعِي ظَاهِرٌ شَرْعًا فَالْأَبُ بِهَذَا الصُّلْحِ يَصِيرُ كَالْمُشْتَرِي لِتِلْكَ الْعَيْنِ لِوَلَدِهِ بِمَالِهِ وَالْأَبُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ وَلَدِهِ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ الْأَبُ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ فِي الْعَيْنِ مَنْفَعَةٌ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةً لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ مِنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَا اسْتَحَقَّ شَيْئًا عَلَى الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ سِوَى الِاسْتِحْلَافِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْأَبُ وَلَا الصَّبِيُّ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ إذَا بَلَغَ فَالْأَبُ يَفْدِي هَذِهِ الْيَمِينَ بِمَالِ الصَّغِيرِ وَإِلَّا فَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمُتَقَوَّمَةٍ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ دَفْعِ مَالِ الصَّبِيِّ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ فَإِنْ صَالَحَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ صَالَحَ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَضَمِنَ وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ وَقَبَضَهُ وَهُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي - يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الصَّبِيِّ ظَاهِرٌ شَرْعًا بِالْحُجَّةِ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَهُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى حَقِّهِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَا اسْتَحَقَّ قِبَلَ ذِي الْيَدِ شَيْئًا سِوَى الْيَمِينِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِلصَّبِيِّ فَالْأَبُ جَعَلَ مَالًا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا بَلْ هُوَ نَاظِرٌ لِلصَّبِيِّ بِتَصْيِيرِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ مَالًا وَوَصِيُّ الْأَبِ فِي هَذَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ كَالْأَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَوَصِيُّ الْجَدِّ وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الصُّلْحِ فِي حَقِّهِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْمَعْتُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُ أَبُوهُ عَلَى بَعْضٍ وَحَطَّ عَنْهُ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ مُبَايَعَتَهُ جَازَ الْحَطُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا حَطَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ نَظِيرُ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 178 اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَ مُبَايَعَتَهُ لَمْ يَجُزْ حَطُّهُ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ بِالْحَطِّ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلَوْ ادَّعَى الْوَصِيُّ شِقْصًا فِي دَارٍ فَجَحَدَهُ رَبُّ الدَّارِ فَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ قَبَضَهَا جَازَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْأَصْلِ وَكَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَفِي هَذَا الصُّلْحِ نَظَرٌ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ فَهُوَ بِالدَّعْوَى مَا اسْتَوْجَبَ عَلَى الْخَصْمِ إلَّا الْيَمِينَ وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي مَالٍ يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ وَرَثَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَكَانَ مَا قَبَضَ مِثْلَ قِيمَةِ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا عَلَى الْكِبَارِ فِي حِصَّتِهِمْ إلَّا بِرِضَاهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ وَيَسْتَوِي عِنْدَهُمَا إنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى الْكِبَارِ مِنْ الْوَرَثَةِ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَصُلْحُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ عَلَى الصَّبِيِّ مِثْلُ صُلْحِ وَصِيِّ الْأَبِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ فَأَمَّا فِي الْعَقَارِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِيمَا صَارَ لِلصَّغِيرِ مِنْ هَذِهِ التَّرِكَةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي ذَلِكَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا وَصِغَارًا فَصُلْحُ الْوَصِيِّ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِ النَّظَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ لِلْحِفْظِ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَصَالَحَ الْوَصِيُّ مِنْ دَعْوَى لَهُ فِي دَارٍ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا صِغَارًا؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ لِلْوَصِيِّ فِي الْوِلَايَةِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ وَإِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ الْكَبِيرُ عَلَى الْوَصِيِّ مِيرَاثًا مِنْ صَامِتٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ أَمْتِعَةٍ فَجَحَدَهُ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ مَعْلُومٍ جَازَ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَفْتَدِي مِنْكَ يَمِينِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ فِدَاءٌ لِلْيَمِينِ بِالْمَالِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْفِدَاءِ وَبَيْنَ لَفْظِ الصُّلْحِ فِيهِ وَإِنْ كَانَا وَارِثَيْنِ ادَّعَيَا ذَلِكَ قَبْلَهُ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَرَضٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَصِيِّ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا لَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا فَدَى يَمِينَهُ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِحْلَافِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمَا فَأَسْقَطَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ فَصَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاسْتِحْلَافِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُشَارِكَ أَخَاهُ فِيمَا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 179 قَبَضَ فَلَهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِالصُّلْحِ فَكَأَنَّهُمَا صَالَحَاهُ وَهَذَا إذَا كَانَ مَا ادَّعَيَاهُ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمَا فِي حَقِّهِمَا وَفِي زَعْمِهِمَا أَنَّ قِيمَةَ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَى الْوَصِيِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا وَصَالَحَ الْوَصِيُّ الْكِبَارَ مِنْ دَعْوَاهُمْ وَدَعْوَى الصِّغَارِ عَلَى دَرَاهِمَ وَقَبَضَهَا الْكِبَارُ وَأَنْفَقُوا عَلَى الصِّغَارِ حِصَّتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي عَلَى الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْكِبَارِ عَلَى الصِّغَارِ وَلِلصِّغَارِ أَنْ يَرْجِعُوا بِحِصَّتِهِمْ عَلَى الْوَصِيِّ إذَا أَدْرَكُوا وَيَرْجِعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْكِبَارِ بِحِصَّةِ الصِّغَارِ مِمَّا أَخَذُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الصِّغَارُ نَصِيبَهُمْ عَلَى الْوَصِيِّ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْكِبَارِ وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ عِنْدَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ كَذَا، وَكَذَا دِرْهَمًا فَأَرَادَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْوَصِيِّ بِحِصَّتِهِمْ كَمَا أَقَرَّ لِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا أَقَرَّ بِهِ لِهَذَا فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ وُصُولِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ فَهُنَا أَيْضًا قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَرَاءَتِهِ مَقْبُولٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَلَّمَ نَصِيبَ الْكِبَارِ إلَيْهِمْ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْكِبَارِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي تَخْصِيصِ أَحَدِهِمْ بِهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَا سِوَى هَذَا مِنْ التَّرِكَةِ كَالنَّاوِي فَتَبْقَى الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ عِنْدَهُ لِلْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلِلْمَيِّتِ ابْنَانِ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ حِصَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّلْحِ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَمَانَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمُبَادَلَةُ الْخَمْسمِائَةِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَ الْأَلْفِ مَتَاعٌ فَالْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ هُنَا أَظْهَرُ وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ مَا اُسْتُهْلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهَذَا حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَتَرَكَ رَقِيقًا وَعَقَارًا وَأَمْتِعَةً فَقَبَضَهَا الِابْنُ وَاسْتَهْلَكَهَا أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا ثُمَّ صَالَحَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ عَلَى دَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ حَالَّةٍ جَازَ ذَلِكَ وَصُلْحُهَا مَعَهُ مِثْلُ صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الدَّعَاوَى؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي مِيرَاثًا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 180 قِبَلَهُ فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِذَلِكَ فَالصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ جَائِزٌ وَمَا يُعْطِيهَا عِوَضُ نَصِيبِهَا إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَهِيَ قَدْ اسْتَوْفَتْ بَعْضَ حَقِّهَا وَأَبْرَأَتْهُ عَمَّا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِحَقِّهَا فَالصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ بِطَرِيقِ الْفِدَاءِ لِلْيَمِينِ وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ صُلْحِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ مَعَ الْبَعْضِ وَاسْتَوْفَيْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ فِي الْمِيرَاثِ عَيْنٌ وَدَيْنٌ فَصَالَحَ الِابْنُ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا خَلَا الْمَالِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ مُسْتَثْنًى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدُ الصُّلْحِ فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي التَّرِكَةِ أَصْلًا فَكَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ جَمِيعِ الْمُدَّعِي يَجُوزُ مِنْ بَعْضِهِ فَيَصِحُّ وَهِيَ إنَّمَا صَالَحَتْهُ عَنْ نَصِيبِهَا مِنْ الْعَرُوضِ وَالْعَقَارِ خَاصَّةً وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَتَبَ فِي كِتَابِ الْبَرَاءَةِ إنِّي دَفَعْتُ إلَيْكِ جَمِيعَ حِصَّتِكِ مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا أَقَرَّتْ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَتَبَ إنِّي عَجَّلْتُ لَكِ مِيرَاثَكِ مِنْ كُلِّ مَالٍ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ شَرَطْتِيهِ عَلَيَّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا عَلَى نَفْسِهَا حُجَّةٌ شَرْعًا وَمَا أَقَرَّتْ بِهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهَا فَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ ذَلِكَ الْوَارِثِ الْآخَرِ كَتَبَرُّعِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَمُطْلَقُ هَذَا التَّبَرُّعِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْغَرِيمِ عَنْهُ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لِرَجُلٍ وَتَرَكَ وَرَثَةً وَفِيهِمْ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَطَلَبَ الْمُوصَى لَهُ مُوصِيهِ فَصَالَحَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لَيْسَ فِيهِ مَالُ غَائِبٍ وَلَا عَيْنٌ حَاضِرَةٌ يَكُونُ ثُلُثُهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِنِّي أُجِيزُ الصُّلْحَ إذَا كَانَ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ أَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ رَقِيقًا أَوْ عَقَارًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ فَصُلْحُ الْوَارِثِ مَعَهُ كَصُلْحِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ مَعَ الْآخَرِ وَفِي نَظِيرِ هَذَا صُلْحُ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ مَعَ الْآخَرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ لَهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ صُلْحُ الْوَارِثِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ فَإِنْ كَانَ فِي الْمِيرَاثِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ ذَلِكَ الدَّيْنِ صَارَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ الْوَارِثِ يَأْخُذُ مِنْهُ عِوَضَهُ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنُ ثُلُثِهِ مِثْلَ مَا أَعْطَى أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ مُرَادُهُ بِالْعَيْنِ النَّقْدُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى جِنْسِ ذَلِكَ وَمِقْدَارُ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلُ مَا اسْتَوْفَى أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا الصُّلْحُ يَكُونُ رِبًا وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ وَإِذَا كَانَ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ وَكَانَ مَا أَعْطَى الْوَارِثُ الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ جَازَ ذَلِكَ إذَا قَبَضَ الْوَارِثُ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَإِنْ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَارِثُ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ مِنْ يَدِ الْوَصِيِّ يَنْقُصُ مِنْ الصُّلْحِ حِصَّةُ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي تِلْكَ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 181 الْحِصَّةِ قَدْ صُرِفَ وَيَدُ الْوَصِيِّ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا يَصِيرُ الْوَارِثُ قَابِضًا بِحُكْمِ الصَّرْفِ بِيَدِ الْوَصِيِّ وَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَدْ افْتَرَقَا مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ فَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِي حِصَّةِ ذَلِكَ وَيَجُوزُ فِيمَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الصَّرْفِ وَوُجُوبِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُتَنَاوِلًا لِجِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ النُّقُودِ أَوْ جِنْسَيْنِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِنَصِيبِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَالْمُشْتَرَى مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَفِي حِصَّةِ الْعَيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ يَبْطُلُ هَذَا الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ بِالدَّرَاهِمِ يَكُونُ مَبِيعًا وَإِذَا فَسَدَ فِي الْبَعْضِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى ثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ أَوْ مُؤَجَّلَةٍ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَارِثُ حِصَّةَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ بَطَلَ مِنْ الثِّيَابِ حِصَّةُ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعَقْدِ فِي مَعْنَى السَّلَمِ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَأَلَّا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي مِلْكِ الْحِصَّةِ وَلَكِنْ هَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ فَطَرَيَانُ الْمُفْسِدِ فِي الْبَعْضِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ الْمُقَارَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ فِي مَالِ الْوَارِثِ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ مُوصِيهِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى سِهَامِهِمْ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُ فِي الصُّلْحِ فِي نَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ هُوَ مُتَبَرِّعٌ عَنْهُمْ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهُمْ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَكَأَنَّهُمْ صَالَحُوهُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ وَصُلْحُ الْوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ وَصُلْحُ الْوَارِثِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ شُرَكَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ فَصَالَحَ الْوَارِثَ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْوَارِثُ مِيرَاثَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِمَا يَقْبِضُ مِنْهُ مِنْ الْعِوَضِ فَكَمَا يَجُوزُ فِيهِ صُلْحُ الْوَارِثِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ فِي يَدِهِ يَجُوزُ فِيهِ صُلْحُ الْمُوصَى لَهُ مَعَ الْوَارِثِ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ مَالًا مُعَيَّنًا وَمَتَاعًا وَحُلِيًّا وَفِيهِ جَوْهَرٌ لَا يَخْلُصُ إلَّا بِضَرَرٍ وَالْوَارِثُ رَجُلَانِ كَبِيرَانِ وَصَغِيرٌ لَهُ وَصِيٌّ وَرَجُلٌ مُوصًى لَهُ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ قَوَّمُوا ذَلِكَ قِيمَةَ عَدْلٍ وَسَمَّوْا لِأَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ حُلِيًّا بِعَيْنِهِ وَمَتَاعًا وَمَالًا، وَكَذَلِكَ لِلْآخَرِ وَلِلصَّغِيرِ وَالْمُوصَى لَهُ وَأَنْفَذُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَجَعَلُوهُ لِمُصَالِحِهِمْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ وَلَمْ يَتَقَابَضُوا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا يَخُصُّ الْحُلِيَّ صَرْفٌ وَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ يَفْسُدُ فِيهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْجَوْهَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ إلَّا بِضَرَرٍ وَمِثْلُ هَذَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ فِيهِ بَعْدَ مَا فَسَدَ فِي الجزء: 20 ¦ الصفحة: 182 حِصَّةِ الْحُلِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الصَّرْفِ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى وَلَوْ كَانَ وَارِثٌ مِنْهُمْ اشْتَرَى رَقِيقًا وَمَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَنَّ الْوَارِثَ الْآخَرَ اشْتَرَى مِنْهُمْ حُلِيًّا فِيهِ جَوْهَرٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَحْسِبَ لَهُ مِنْ نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ وَلَمْ يُوجَدْ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَلِأَنَّ حِصَّتَهُ مِمَّا عَلَى أَخِيهِ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ دَيْنٌ وَلَوْ كَانَ بَعْضُ التَّرِكَةِ دَيْنًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ مِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ قَالَ غَيْرُهُ إنَّهُ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ بِحِصَّتِهِ إذَا كَانَ مُمَيَّزًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيَّزٍ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهُ أَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُمَيَّزٍ فَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ مِنْ حِصَّةِ الْحُلِيِّ فَالِافْتِرَاقُ مُفْسِدٌ فِي حِصَّةِ الْجَوْهَرِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مُمَيَّزًا فَإِنْ كَانَ صُلْحُهُ مَعَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ حِصَّةِ الْجَوْهَرِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَا بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي حِصَّةِ الْحُلِيِّ وَذَلِكَ فَسَادٌ طَارِئٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَصِيبَهُ دَيْنٌ فَإِنَّهُ مَا صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى هَذَا الْحُلِيِّ وَإِنَّمَا اشْتَرَى هَذَا الْحُلِيَّ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَحْسِبَ لَهُمْ مِنْ نَصِيبِهِ فَكَانَ فَسَادُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُلِيَّ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَأَنَّ الْوَارِثَ الصَّغِيرَ وَالْمُوصَى لَهُ يَقْبِضَانِ حِصَّتَهُمَا مِمَّا هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْأَخِ الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ فَلِهَذَا يَبْقَى الصُّلْحُ فِي حِصَّةِ الْجَوْهَرِ إذَا كَانَ مُمَيَّزًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 183 [بَابُ الصُّلْحِ فِي الْوَصَايَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً لِرَجُلٍ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَصَالَحَهُ الْوَارِثُ مِنْ الْخِدْمَةِ عَلَى دَارَهُمْ أَوْ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ أَوْ عَلَى خِدْمَةِ خَادِمٍ آخَرَ أَوْ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَاضِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ كَالْمُسْتَعِيرِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْخِدْمَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَعْتَاضُ عَنْ الْخِدْمَةِ مَعَ الْمُعِيرِ فَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصُّلْحَ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ إذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَهُنَا تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ عَلَى الْوَرَثَةِ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ لَهُ فِي الْمُدَّةِ لِيَسْتَوْفِيَ خِدْمَتَهُ، وَهُوَ حَقٌّ لَازِمٌ لَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ إبْطَالَهُ فَيَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْمُعِيرِ حَقًّا لَازِمًا، فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ مَعَهُ اعْتِيَاضًا عَنْ إسْقَاطِ الْخِدْمَةِ فَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَصِيُّ الْوَارِثِ الصَّغِيرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّصَرُّفُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ. وَالْوَصِيُّ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَهُ إسْقَاطًا كَانَ أَوْ تَمْلِيكًا، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ بَعْدَمَا قَبَضَ الْمُوصَى لَهُ مَا صَالَحُوهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ إسْقَاطُ الْحَقِّ فَيَتِمُّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقَطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَالْوَارِثُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَوْفِي خِدْمَتَهُ بِمِلْكِهِ لَا بِالتَّمَلُّكِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِعِوَضٍ فَبَقَاؤُهُ وَمُؤْنَتُهُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ سَوَاءٌ، وَإِنْ صَالَحُوهُ عَلَى ثَوْبٍ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ فِي الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ وَإِذَا كَانَ مَا يُقَابِلُهُ إسْقَاطَ الْحَقِّ كَمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالْمَبِيعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ وَبِرَدِّهِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِذَا انْفَسَخَ رَجَعَ فِي الْخِدْمَةِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الثَّوْبِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ التَّصَرُّفِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ثَوْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَنَّ الْوَارِثَ اشْتَرَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 مِنْهُ الْخِدْمَةَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَفْظٌ خَاصٌّ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ الْوَارِثِ بِخِلَافِ لَفْظِ الصُّلْحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ لَوْ صَالَحَ الْمُدَّعِي عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَصِرْ بِهِ مُقِرًّا حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ عَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُ الْمُدَّعِي صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِالْمِلْكِ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّ الْبَدَلَ لَرَجَعَ بِالْمُدَّعَى، وَلَوْ قَالَ أُعْطِيكَ هَذِهِ الدَّارَ مَكَانَ خِدْمَتِكَ أَوْ عِوَضًا عَنْ خِدْمَتِكَ أَوْ بَدَلًا مِنْ خِدْمَتِكَ أَوْ مُقَاصَّةً بِخِدْمَتِكَ أَوْ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ خِدْمَتَكَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَعْنَى الصُّلْحِ، وَتَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فِي الصُّلْحِ، وَلَوْ قَالَ: أَهَبُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ تَهَبَ لِي خِدْمَتَكَ كَانَ جَائِزًا إذَا قَبَضَ الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْهِبَةِ فِي مَعْنَى لَفْظِ الصُّلْحِ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ كَمَا فِي التَّمْلِيكَاتِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْبَيْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هِبَةَ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكُونُ إقَالَةً إذَا قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَتِمُّ تَبَعًا فَتَصِيرُ عِنْدَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَرَّحَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَكَمَا يَسْتَعْمِلُ الْهِبَةَ فِي الْإِسْقَاطَاتِ مَجَازًا فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ وَيَبِيعُ الْمَرْأَةَ مِنْ نَفْسِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ إسْقَاطًا بِعِوَضٍ بِعِبَارَةِ الْبَيْعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْبَيْعِ وَلَا يُعْتَبَرُ لَفْظَةُ الْبَيْعِ، وَالْبُطْلَانِ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يَحْكُمُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ لَفْظٌ خَاصٌّ بِتَمْلِيكِ مَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَيْعًا بِالتَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا فَالْقَبْضُ لَا يَجْرِي مِنْ الْوَارِثِ لِلْخِدْمَةِ هُنَا فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَا هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَالْمُسْقَطُ بِلَا شَيْءٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَبْضُ فِيهِ لِيَصِيرَ بِهِ بَيْعًا، وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا وَصَرَّحَا بِتَمْلِيكِ الْخِدْمَةِ مِنْهُ بِعِوَضٍ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إسْقَاطًا، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا يُؤَاجِرُ مِنْ الْوَارِثِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا إذَا كَانَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَبْطُلُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى طَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِقَبْضٍ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ بَاعَ الْوَرَثَةُ الْعَبْدَ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ الْبَيْعَ بَطَلَتْ خِدْمَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الثَّمَنِ حَقٌّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْخِدْمَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْبَيْعُ يَنْفُذُ مِنْ الْمَالِكِ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّمَنِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَقِّ الْمُرْتَهَنِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي الثَّمَنِ إذَا نَفَذَ بَيْعُ الرَّاهِنِ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالثَّمَنُ بَدَلُ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ وَحَقُّ الْمُرْتَهَنِ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنُ بَدَلُ الْعَيْنِ وَبِالْبَيْعِ يَتَحَقَّقُ وُصُولُهُ إلَى مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ؛ فَلِهَذَا يَتَحَوَّلُ حَقُّهُ إلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ بِجِنَايَةٍ بِرِضَا صَاحِبِ الْخِدْمَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَرَثَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فَيَجُوزُ دَفْعُهُ بِجِنَايَةٍ بِتَرَاضِيهِمَا وَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ. وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً وَأَخَذُوا قِيمَتَهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْتَرُوا بِهَا عَبْدًا فَيَخْدُمَ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْعَبْدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَمَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْمُبْدَلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْمَنْفَعَةِ فَهِيَ تَتَعَدَّى إلَى الْعَيْنِ حَتَّى يُسْتَحَقَّ عَلَى الْوَارِثِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مَا كَانَ بِرِضَاهُ لِيَقُومَ الْبَدَلُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي إيفَاءِ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ هُنَاكَ نُفُوذَهُ كَانَ بِإِجَازَتِهِ وَذَلِكَ مِنْهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ فِي الْخِدْمَةِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ. وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ أَوْ طَعَامٍ أَجَزْتُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَعْدَ الْقَتْلِ بَاقٍ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَوْ قُطِعَتْ إحْدَى يَدَيْ الْعَبْدِ فَأَخَذُوا أَرْشَهَا فَهُوَ مَعَ الْعَبْدِ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ اعْتِبَارًا لِبَدَلِ الطَّرَفِ بِبَدَلِ النَّفْسِ، وَإِنْ اصْطَلَحُوا مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ بِعَيْنِهَا وَالْعَبْدُ أَجَزْتُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً أَوْ حَيَاتَهُ، ثُمَّ مَاتَ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَصَالَحُوا الْوَارِثَ مِنْهَا عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى سِنِينَ مُسَمَّاةً فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ لَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى لَا تَجُوزُ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى حَيَاتَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ يُتَمَلَّكُ عِوَضًا وَسُكْنَى الدَّارِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْعِوَضِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا عِوَضًا بِالْبَيْعِ وَلَا بِالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ، بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ السُّكْنَى هُنَاكَ تُتَمَلَّكُ بِالْوَصِيَّةِ تَبَرُّعًا بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ مُسَمَّاةٍ فَانْهَدَمَتْ بَطَلَ الصُّلْحُ لِفَوَاتِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ وَيَرْجِعُ فِي دَارِهِ الْأُولَى فَيَسْكُنُهَا حَتَّى يَمُوتَ إنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ سَنَةً رَجَعَ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ عَبْدٍ مُدَّةً فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ غَلَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ دُونَ الْمُبَادَلَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا، وَلَوْ صَالَحَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْغَلَّةُ لَهُ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِغَلَّتِهِ سَنَةً أَوْ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِالتَّمْلِيكِ وَتَمْلِيكُ غَلَّةِ الْعَبْدِ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ مِنْ أَحَدٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ الْعَبْدَ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ غَيْرُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 الْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ فَالْغَلَّةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَإِجَارَتُهُ مِنْ الْوَارِثِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ بِالصُّلْحِ يَمْلِكُ الْغَلَّةَ مِنْ الْوَارِثِ إذَا وُجِدَتْ وَكَانَتْ عَيْنًا، فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا قَبْلَ الْوُجُودِ وَهُنَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ بِالْإِجَارَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُمَلِّكُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَالِكَ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَجَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِثَوْبِ يَهُودِيٍّ بِعَيْنِهِ فَأَجَّرَ بِثَوْبَيْنِ يَهُودِيَّيْنِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَالْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا أَبَدًا فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَمَا خَرَجَتْ ثَمَرَتُهَا وَبَلَغَتْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ غَلَّةٍ تَخْرُجُ أَبَدًا عَلَى حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا جَازَ بِطَرِيقِ تَمْلِيكِ الْغَلَّةِ الْخَارِجَةِ بِعِوَضٍ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَمَّا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادٍ فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ صَالَحُوهُ عَلَى حِنْطَةٍ سَنَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ ثَمَرٌ مَكِيلٌ وَبِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ، فَإِذَا بَطَلَ فِي حِصَّةِ الْمَوْجُودِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْوَزْنِ نَسِيئَةً فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ الْبَدَلَانِ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى تَمْرٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ التَّمْرَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ لِيَكُونَ بِمُقَابَلَةِ مَا فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ مِثْلُهَا وَالْبَاقِي عِوَضٌ عَنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ صَالَحُوهُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا النَّخْلِ عَلَى غَلَّةِ نَخْلٍ آخَرَ أَبَدًا أَوْ سِنِينَ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمَبِيعِ وَتَمْلِيكُ غَلَّةِ النَّخِيلِ قَبْلَ خُرُوجِهَا بِالْبَيْعِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحُوهُ عَلَى غَلَّةِ عَبْدٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ لِلْحَالِّ مَعْدُومَةٌ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا عِوَضًا بِالْبَيْعِ وَبِالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ جَازَ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ بِعِوَضٍ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ وَمَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَحَدٍ، وَلَوْ صَالَحَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ لِتَصْرِيحِهِمَا بِتَمْلِيكِهِ مَا فِي الْبَطْنِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَرَثَةُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَةٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 الْجَارِيَةُ غُلَامًا مَيِّتًا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ بِعِوَضٍ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُصَحِّحُ الصُّلْحَ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ بِعِوَضٍ، وَلَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ أَرْشُ ذَلِكَ لَهُمْ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَبْلَ الصُّلْحِ كَانَ الْأَرْشُ يُسَلَّمُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَصَحَّ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِعِوَضٍ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْهُ مَيِّتًا، فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ، وَلَوْ مَضَتْ السَّنَتَانِ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ شَيْئًا كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَالْجَنِينُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ كَانَتْ بِالْمَوْجُودِ فِي الْبَطْنِ فَالْوَصِيَّةُ بِمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْأَمَةُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِي بُطُونِ الْغَنَمِ وَضُرُوعِهَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْوَرَثَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِمَا فِي الْبَطْنِ بِعِوَضٍ، فَإِنْ قَبَضَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَمِثْلُهُ لَا يُمَلَّكُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ قُبِضَ، مَعَ أَنَّ قَبْضَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِقَبْضٍ لِمَا فِي الْبَطْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَعَارَ الْجَارِيَةَ أَوْ أَجَرَهَا مِنْ إنْسَانٍ لَا يَحْتَاجُ فِي التَّسْلِيمِ إلَى رِضَا الْمُوصَى لَهُ بِمَا فِي الْبَطْنِ، وَإِنَّ الْغَاصِبَ لِلْأَمَةِ الْحَامِلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِمَا فِي بَطْنِهَا فَدَلَّ أَنَّ بِقَبْضِ الْأَمَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا فِي بَطْنِهَا وَبِدُونِ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَرَثَةُ مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا مَا فِي الْبَطْنِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ أَعْتَقُوا الْأَمَةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ رَقَبَتَهَا، فَإِنْ صَالَحَهُمْ بَعْدَ عِتْقِ الْأَمَةِ مِمَّا فِي بَطْنِهَا عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ، وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِإِعْتَاقِهِمْ الْأَمَةَ حَتَّى إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا كَانَتْ الْوَرَثَةُ هُنَا مُلْزَمِينَ لَهُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ فَإِسْقَاطُهُ الْحَقَّ بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ جَائِزٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا سَوَاءٌ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا تَمْلِيكٌ، وَفِي الْإِسْقَاطَاتِ لَا يَجْرِي الرِّبَا، وَإِنْ وَلَدَتْهُ مَيِّتًا بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ حِينَ انْفَصَلَ مَيِّتًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِبَلَهُمْ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ. وَلَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ فَذَبَحَهَا الْوَرَثَةُ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِي بُطُونِهَا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ذَكَاةَ الْأُمِّ لَا تَكُونُ ذَكَاةً لِلْجَنِينِ عِنْدَهُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَرَثَةِ صُنْعٌ فِي الْجَنِينِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لِلْجَنِينِ إذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا، وَإِذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا، فَلَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ لَهُ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ الْجَنِينِ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 الْوَرَثَةِ إتْلَافًا لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ الْوَلَدِ رَقِيقًا بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إتْلَافًا لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَإِنْ صَالَحُوهُ بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ حَقُّ اسْتِحْقَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ لَوْ قَتَلُوهَا هُمْ أَوْ غَيْرُهُمْ كَانَتْ الْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأُمِّ لَا يَكُونُ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَيُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ الْجَنِينِ حَيًّا قَبْلَ الْأُمِّ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَا فِي ضُرُوعِ غَنَمِهِ فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى لَبَنٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ مُجَازَفَةٌ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَحَّحَ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ صَالَحُوهُ عَلَى دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إسْقَاطًا لِلْحَقِّ حُكْمًا فَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ اللَّبَنُ مَوْجُودٌ فِي الضَّرْعِ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ يَكُونُ تَمْلِيكُ اللَّبَنِ بِلَبَنٍ هُوَ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، وَبَابُ الرِّبَا يَنْبَنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الصُّوفُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الرِّبَا كَاللَّبَنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِيمَا إذَا صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ الْوَرَثَةَ عَمَّا فِي بَطْنِ الْأَمَةِ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ تَيَقَّنَّا بِهِ فَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَا قُبِضَ لَا مَحَالَةَ فَالتَّقْوِيمُ تَارَةً بِالدَّرَاهِمِ وَتَارَةً بِالدَّنَانِيرِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِصَبِيٍّ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ أَوْ لِمَعْتُوهٍ فَصَالَحَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ الْوَرَثَةَ عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ حَقِّهِ بِعِوَضٍ فَوَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّظَرِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِمُكَاتَبٍ فَصَالَحَ جَازَ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْحَقِّ بِعِوَضٍ مِنْ بَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْمُكَاتَبُ فِيهِ كَالْحُرِّ. وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِمَا فِي بَطْنٍ فُلَانَةَ لَمْ تَجُزْ لَهُ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحِينَئِذٍ تُيُقِّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ لَهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يُتَيَقَّنُ بِوُجُودِهِ حِينَ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْجَنِينُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ كَالْمُنْفَصِلِ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُوصِي أَنَّهَا حَامِلٌ ثَبَتَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ إنْ وَضَعَتْهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ أَوْصَى؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُوصِي، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ لَهُ مَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَلْحَقُ بِمَا لَوْ صَارَ مَعْلُومًا هُنَا بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ أَبُوهُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ فِعْلُ الْأَبِ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِحَاجَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ إلَى النَّظَرِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْجَنِينِ إلَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ وَجْهٍ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأُمِّ فَكَذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَكَذَلِكَ الْأُمُّ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي صَالَحَتْ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ أَقْوَى مِنْ الْأُمُومَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ لِلْأَبِ فَلِلْأُمِّ أَوْلَى. وَالْجَنِينُ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ أَوْلَى فِي الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسٍ مُودَعَةٍ فِيهَا وَلِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَجْزَاءِ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ مِنْ الْأُمِّ بِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ بِالْإِيجَابِ بِالْعَقْدِ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُسْتَحَقُّ مِيرَاثًا. وَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا، وَهُوَ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ، فَإِنْ وَلَدَتْهُمَا مَيِّتَيْنِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ حَيِيَّيْنِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَالْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ لَوْ انْفَصَلَ حَيًّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مُخَالَفَةٌ لِلْوَصِيَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَادَلَةً، وَالْأَرْشُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالْوَصِيَّةِ كَالْأَصْلِ أَنْ لَوْ انْفَصَلَ حَيًّا فَقَامَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْأَرْشُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالْوَصِيَّةِ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ الْأَصْلُ فِي حُكْمِ تَصْحِيحِ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَلِهَذَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ. وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ عَبْدًا فَصَالَحَ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَمَا لَا تَثْبُتُ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ بِاعْتِبَارِ الْأُبُوَّةِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ، فَإِنْ صَالَحَ مَوْلَى الِابْنِ الْحَمْلِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ عَلَى صُلْحٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْأَمَةَ الْحَامِلَ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ غُلَامًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ مَمْلُوكًا فَصَارَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْأُمِّ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ عَمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ كَسْبِهِ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا فِي الْبَطْنِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ فَالْمَوْلَى يَخْلُفُ الْعَبْدَ فِي اسْتِحْقَاقِ كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ وَمَا لَمْ يَتِمَّ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمَمْلُوكِ لَا يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ السَّبَبُ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا وَالصُّلْحُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ فَالتَّدْبِيرُ لَا يُخْرِجُ الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِكَسْبِ الْمُدَبَّرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، ثُمَّ أَعْتَقَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 الْمَوْلَى الْأَمَةَ وَالْوَلَدَ أَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ دُونَ الْوَلَدِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْغُلَامِ دُونَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مَقْصُودًا أَوْ أَعْتَقَ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَوْتِ. وَلَوْ كَانَ حُرًّا يَوْمَئِذٍ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ دُونَ الْمَوْلَى، وَلَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةَ مِنْ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ وَالصُّلْحُ قَبْلَ ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ عَلَى وَجْهِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا. [بَابُ الصُّلْحِ فِي الْجِنَايَاتِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَالصُّلْحُ مِنْ كُلِّ جِنَايَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ عَلَى مَا قَلَّ مِنْ الْمَالِ أَوْ كَثُرَ فِيهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وَمَعْنَاهُ مَنْ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خَيْرَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا فَادُوا» وَالْمُفَادَاةُ بِالصُّلْحِ تَكُونُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ بَدَلُ الصُّلْحِ بِالْأَرْشِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الدِّيَاتِ، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ» «وَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْكَرَاهِيَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - صَالَحُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى دِيَتَيْنِ وَاسْتَحْسَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِأَنَّ حَقَّ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ قَدْ يَئُولُ إلَى الْمَالِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِمَالٍ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَئُولُ مَالًا بِحَالٍ، ثُمَّ الْبَدَلُ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ هُوَ عَمْدٌ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَيْبًا» وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْجُرْحِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الضَّرْبَةِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الشَّجَّةِ أَوْ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ بَرَأَ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقَّهُ بِعِوَضٍ، وَإِنْ مَاتَ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ آلَ الْجُرْحُ إلَى قَتْلٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الصُّلْحُ مَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لَهُ بِالْجِرَاحَةِ بِالصُّلْحِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ سَبَبُ حَقِّهِ الْجِرَاحَةُ كَمَا بَعْدَ الْبُرْءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ إنَّمَا أَسْقَطَ بِالصُّلْحِ قَطْعًا أَوْ شَجَّةً أَوْجَبَتْ لَهُ قِصَاصًا وَبِالْمَوْتِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَا الْقَطْعُ وَالشَّجَّةُ، فَكَانَ هَذَا إسْقَاطًا لِمَا لَيْسَ بِحَقِّهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 فِي النَّفْسِ فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَصْلَ الْقَتْلِ كَانَ هُوَ الشَّجَّةُ وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَكِنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَفْوِ وَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ كَانَ الصُّلْحُ مَاضِيًا إنْ مَاتَ أَوْ عَاشَ؛ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ السِّرَايَةُ يَكُونُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْ النَّفْسِ بِعِوَضٍ وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْجِنَايَةِ صَحِيحٌ إنْ عَاشَ أَوْ مَاتَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا جِنَايَةَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا شَجَّةَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ وَالصُّلْحُ بِاسْمِ الْجِنَايَةِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ بَرِئَ أَوْ سَرَى، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا صَاحِبَ فِرَاشٍ حِينَ صَالَحَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَمْدِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَوْ أَسْقَطَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِالْعَفْوِ لَمْ يُعْتَبَرْ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا أُسْقِطَ بِالصُّلْحِ بِبَدَلٍ يَسِيرٍ أَوْلَى، وَفِي الْخَطَأِ مَا حَطَّ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ، وَهُوَ مَالٌ فَيَكُونُ مَا حُطَّ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا يُقَالُ هِيَ وَصِيَّةُ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ وَصِيَّةً لِعَاقِلَةِ قَاتِلِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ شُلَّتْ أُصْبُعٌ أُخْرَى سِوَاهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بِالصُّلْحِ مُوجِبَ ذَلِكَ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأُصْبُعَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَسْقَطَ بِالصُّلْحِ قِصَاصًا وَاجِبًا فِي الْأُصْبُعِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الصُّلْحُ الْأُصْبُعَ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُهُ أَرْشُهَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَتَبَيَّنُ بِهَذِهِ السِّرَايَةِ أَنَّ الْأُصْبُعَ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ فَيَبْقَى الصُّلْحُ عَنْهَا صَحِيحًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ بِالسِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الشَّجَّةَ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ قِصَاصًا فَكَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَقِّلَةَ غَيْرُ الْمُوضِحَةِ وَالْمُوضِحَةُ مَا يُوضِحُ الْعَظْمَ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَالْمُنَقِّلَةُ مَا يَكْسِرُ الْعَظْمَ وَيَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ إنَّمَا أَسْقَطَ مِنْ مُوضِحَةٍ مُوجِبَةٍ لَهُ قِصَاصًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَقًّا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الْمُنَقِّلَةِ وَأَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ اسْتَوْفَى مِنْ ذَلِكَ مِائَةً فَالْبَاقِي عَلَيْهِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ. رَجُلٌ قُتِلَ عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا شَرِكَةَ لِأَخِيهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ نَصِيبَهُ مِنْ الْقَوَدِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَازَ وَالْمَالُ عِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ لِلْعَقْدِ، فَلَا شَرِكَةَ لِأَخِيهِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ فِي أَصْلِ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ، ثُمَّ كُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بِالْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ عُذْرٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْهَلَاكِ وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْعَبْدِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقَوَدِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي كَالنِّكَاحِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَاحِشًا فَرَدَّهُ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا. وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الصَّدَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلْقَوَدِ سَقَطَ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي الْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْقَاتِلِ بِمُقَابَلَتِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا فِي الْخُلْعِ بِخِلَافِ الصَّدَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّ هُنَاكَ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ مُوجِبَةٌ مَالًا، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسَمَّى يُصَارُ إلَى مُوجِبِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُنَا لَيْسَ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى مَالٍ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ، وَهُوَ مَالٌ وَجَبَ مُشْتَرَكًا، وَصُلْحُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى شَيْءٍ - صَحِيحٌ، وَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَالِحُ أَنْ يُعْطِيَهُ رُبْعَ الْأَرْشِ وَيُمْسِكَ الْعَبْدَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عَيْنٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ فِي الْعَقْدِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ وَيُعْطِيَ صَاحِبَهُ رُبْعَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ حَقِّهِ فِيمَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَقُولُ إنَّمَا تَوَصَّلْتُ إلَى حَقِّي؛ لِأَنِّي رَضِيتُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 بِدُونِ حَقِّي فَعَلَيْكَ أَنْ تَرْضَى بِهِ أَيْضًا وَتَأْخُذَ نِصْفَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ إنْ شِئْتَ، وَإِلَّا فَاتْبَعْ الْقَاتِلَ بِحَقِّكَ. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَرَضٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَرْضَ بِمُقَابَلَةِ الدِّيَةِ يَكُونُ بَيْعًا وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ مُؤَجَّلًا وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا قُوبِلَ بِالنَّقْدِ يَكُونُ مَبِيعًا، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَاسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَجَعَ بِنِصْفِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ مَالٍ عَلَى مَالٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِلْفَسْخِ فَبِالِاسْتِحْقَاقِ أَوْ الْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ فَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ كَمَا فِي الْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْجَانِي غَيْرَهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ كَمَا فِي الصُّلْحِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْلُومَةَ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا عِوَضًا فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ فَفِي الصُّلْحِ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَا الْعِوَضَ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ وَالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةُ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً بِبَيَانِ الْمُدَّةِ تَثْبُتُ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَيْهِ أَبَدًا أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ أَوْ عَلَى غَلَّةِ نَخْلِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً أَوْ أَبَدًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَثْبُتُ صَدَاقًا بِالتَّسْمِيَةِ فِي النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي الصُّلْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخُلْعِ، وَإِنَّهَا لَوْ اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِالْخُلْعِ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا هُوَ مُتَقَوِّمٌ وَلَكِنْ يَبْطُلُ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا وَالْبُضْعُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَكَانَ الْتِزَامُهَا بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ - وَذَلِكَ صَحِيحٌ - مُضَافًا إلَى مَا فِي الْبَطْنِ وَلِهَذَا لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ فِي مَرَضِهَا اُعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِهَا كَالْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنْ الْقَوَدِ فَالْقَاتِلُ يَسْتَفِيدُ الْعِصْمَةَ وَالْمُتَقَوِّمُ فِي نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَوْ صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَكَانَ الْمَالُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ مَنْ الْتَزَمَهُ فَيَكُونُ نَظِيرَ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ فَيَكُونُ الصَّدَاقُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ مَنْ الْتَزَمَهُ وَالْجَنِينُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي مِثْلِهِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْخُلْعِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ الْآخَرُ، وَالْإِيجَابُ فِي الْجَنِينِ بِمَعْنَى الْمُضَافِ إلَى حَالِ بَعْضِهَا إذَا جُنِيَ، وَهُوَ وَحْدَهُ حَقِيقَةً لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَأَحَدُ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الْقَوَدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ الْآخَرُ، فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِي الْجِنْسِ مُضَافًا، وَلَا يُمْكِنُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 12 تَصْحِيحُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُجُودِ وَالتَّقَوُّمِ فَكَانَ كَالصَّدَاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ الْقَوَدِ كَمَا أَنَّ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ مَجَّانًا، وَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ بِمَا سُمِّيَ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِبَدَلِ مَا سُلِّمَ لَهُ، وَهُوَ الْعِصْمَةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي نَفْسِهِ وَبَدَلُ النَّفْسِ الدِّيَةُ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَا فِي نَخْلِهِ مِنْ ثَمَرَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمَوْجُودَةَ تَسْتَحِقُّ صَدَاقًا وَتَسْتَحِقُّ مَبِيعًا فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهَا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى مَا يَحْمِلُ نَخْلُهُ الْعَامَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ عَفَا الْآخَرُ عَنْ قِصَاصٍ لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ آخَرَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ عَمَّا لَهُ مِنْ الْقَوَدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَقَوِّمٌ صَالِحٌ لِلِاعْتِيَاضِ عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ مَالًا قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَهُنَا الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِالصُّلْحِ مُتَقَوِّمًا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقِصَاصِ كَمَا قَرَّرْنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقَوَدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُسْتَحَقُّ صَدَاقًا. وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى حُرٍّ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَكُونُ هُوَ بِاشْتِرَاطِهِ طَالِبًا لِلْعِوَضِ عَنْ إسْقَاطِ الْقَوَدِ، وَلَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْقَاطِعِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَمَا فِي الْخُلْعِ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ، وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَهْرِ الْمِثْلِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لَا بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ اسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئًا كَانَ الْعَفْوُ مَجَّانًا وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، فَإِنَّا نَجْعَلُ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الزَّوْجَ بِالنِّكَاحِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ، فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِعِوَضٍ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ وَهُنَا مَنْ لَهُ الْقَوَدُ يُسْقِطُ الْقَوَدَ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاتِلُ شَيْئًا وَإِسْقَاطُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَصُونٍ عَنْ التَّبَذُّلِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْمَالُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ رِجْلَهُ فَهَذَا عَفْوٌ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّ عِوَضًا مَالًا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ مِنْ مَالٍ فَيَكُونُ كَسَائِرِ صُلْحِ الدُّيُونِ إذَا بَطَلَ بَقِيَ الْمَالُ وَاجِبًا كَانَ هُوَ الدِّيَةَ. وَلَوْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 13 كَانَ قَتْلَ عَمْدٍ فَصَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَضْمَنْهَا لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، وَالْتِزَامُهُ بِالضَّمَانِ أَوْ بِإِضَافَةِ الْبَدَلِ إلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْقَاتِلِ لِيَكُونَ الْمَالُ عَلَيْهِ إذَا أَجَازَ كَمَا فِي الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَانَ الْبَدَلُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ مُعَبِّرٌ عَنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْخُلْعِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ خَلَاصَهُ جَازَ لِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إلَى مَالِ نَفْسِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ بَدَلِ الصُّلْحِ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ فَيَكُونُ حُكْمُ الِالْتِزَامِ مَقْصُورًا عَلَى الْعَيْنِ فِي حَقِّهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ بَدَلَ الصُّلْحِ هُوَ الْقِيمَةُ دَيْنًا فَيَكُونُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ كَالْأَلْفِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُصَالِحُ تَبَرَّعَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ وَضَمِنَ لَهُ خَلَاصَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَ نَفْسَهُ زَعِيمًا وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ، وَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بَدَلُ الصُّلْحِ قِيمَتُهُ، وَقَدْ ضَمِنَهُ فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِإِيفَائِهِ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهَا لَهُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْعَبْدِ قُلْنَا الْتِزَامُهُ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ وُسْعِهِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ خَلَاصُ الْمَالِيَّةِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِتَسْلِيمِ قِيمَتِهِ إنْ اسْتَحَقَّ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلِلْأَبِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ وَاجِبٍ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَعْتُوهِ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ الْوَاجِبِ لِوَلَدِهِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ كَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَوِلَايَتُهُ عَلَيْهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَوَدَ جَازَ صُلْحُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ تَشَفِّي الْغَيْظِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلصَّبِيِّ فِي الثَّانِي إذَا عَقَلَ، وَإِذَا صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ تَصِلُ إلَيْهِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَالِ، ثُمَّ هُوَ بِالصُّلْحِ يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ حَقِّهِ مَالًا فَيَتَمَحَّضُ تَصَرُّفُهُ نَظِيرَ الصَّبِيِّ. وَإِنْ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ مَا حَطَّ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا حَطَّ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لَهُ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَالْمُقَوِّمُونَ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَفِي الْغَبْنِ الْيَسِيرِ لَا يُتَيَقَّنُ بِتَرْكِ النَّظَرِ فِيهِ بِإِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ وَهُنَا الدِّيَةُ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا فَقَدْ أَسْقَطَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا تُيُقِّنَ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ فَعَلَى الْقَاتِلِ تَمَامُ الدِّيَةِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 14 فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَأَنْ يُصَالِحَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ سُلِكَ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ وَيُقْضَى عَنْهُ بِالنُّكُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَمَا فِي الْأَمْوَالِ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ اسْتِيفَاءً فَكَذَلِكَ فِيمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، فَأَمَّا فِي النَّفْسِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَوَدَ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ تَثْبُتُ فِي الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا فَيَكُونُ الْوَصِيُّ فِي اسْتِيفَائِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَمَا فِي التَّزْوِيجِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ مَحَلٌّ هُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي وِلَايَةِ الْوَصِيِّ شُبْهَةُ الْقُصُورِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَرِئُ بِكُلِّ شُبْهَةٍ وَلِهَذَا حَرَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَحَلٌّ غَيْرُ مَصُونٍ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَقَدْ قَدَّرْنَا ذَلِكَ فِي الدَّعْوَى فَيُمْكِنُ الْوَصِيَّ الِاسْتِيفَاءُ مَعَ قُصُورِ وِلَايَتِهِ وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُصَالِحَ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ عَلَى الدِّيَةِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالدِّيَاتِ: لِلْوَصِيِّ أَنْ يُصَالِحَ مِنْ النَّفْسِ عَلَى الدِّيَةِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ بِوِلَايَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ بِعِوَضٍ مَنْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ فِي الصُّلْحِ اكْتِسَابَ الْمَالِ لِلصَّبِيِّ، وَالْوَصِيُّ مَنْصُوبٌ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِخِلَافِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي شَيْءٍ وَبِخِلَافِ التَّزْوِيجِ فَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِتَمْلِيكِ الْبُضْعِ، وَهُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ مَالٌ فِي الْمَآلِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ، وَفِي الصُّلْحِ تَحْقِيقُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْمَآلِ، وَهُوَ الْمَالُ فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَوَدِ اسْتِيفَاءً وَيَثْبُتُ حَقُّهُ إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الْقَوَدِ فِي الْمَالِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ دَمَ عَمْدٍ بَيْنَ وَرَثَةٍ فِيهِمْ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي مِثْلِهِ الدِّيَاتُ، فَإِنْ صَالَحَ عَنْ الدِّيَةِ فَصُلْحُهُ جَائِزٌ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِ الصَّغِيرِ مِنْ الْقَوَدِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِالصُّلْحِ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا فِي الْأَبِ وَعِنْدَهُمَا صُلْحُهُ عَنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ عَفْوِهِ وَبِهِ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الصَّغِيرِ مَالًا، وَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قُتِلَ رَجُلٌ عَمْدًا، وَلَا وَلِيَّ لَهُ غَيْرَ الْإِمَامِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَوَدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 15 خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجْعَلُ الْإِمَامَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ كَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ وِلَايَتِهِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ كَثُبُوتِ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ وَهُمَا يَجْعَلَانِ الْإِمَامَ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ وِلَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ وَالْمُسْلِمُونَ يَعْجِزُونَ عَنْ الْإِجْمَاعِ لِلِاسْتِيفَاءِ كَالصَّغِيرِ وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الدِّيَةِ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فَيَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ بِالصُّلْحِ عَلَى الدِّيَةِ وَمَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِهَذَا الْقَتْلِ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةُ وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ اسْتِيفَائِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ حَدِيثَ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَتَلَ يَزْدَانَ فِي تُهْمَةٍ لَهُ فِي دَمِ عُمَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اُقْتُلْ عَبْدَ اللَّهِ بِهِ فَقَالَ: عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ، وَإِنَّمَا أَسْتَحْيِي أَنْ يُقْتَلَ أَبُوهُ وَأَقْتُلُهُ هَذَا الْيَوْمَ لَا أَفْعَلُ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ قُتِلَ وَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَعْفُو عَنْ هَذَا وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ صُلْحِ الْإِمَامِ عَنْ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ. وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ رَجُلًا فَوَكَلَ الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ رَجُلًا بِالصُّلْحِ فَصَالَحَ وَلِيَّ الدَّمِ عَنْهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُ الْأَلْفِ وَعَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْهُمَا فَصُلْحُهُ كَصُلْحِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْجِنَايَةِ وَهُمَا فِي الْجِنَايَةِ، وَفِي مُوجِبِهَا سَوَاءٌ يَعْنِي الْحُرَّ عَنْ نَفْسِهِ وَالْمَوْلَى عَنْ عَبْدِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ الْعِوَضِ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ مَوْلَاهُ أَحَدَهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّمِ عَلَى الْعَبْدِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَيُقَالُ لِلَّذِي صَارَ لَهُ الْعَبْدُ ادْفَعْ نِصْفَهُ إلَى شَرِيكِكَ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَكَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ أَسْقَطَ نَصِيبَهُ مِنْ الْقَوَدِ بِعِوَضٍ، وَهُوَ الْعَبْدُ فَصَحَّ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَى الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فَانْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا، وَعِنْدَ انْقِلَابِ نَصِيبِهِ مَالًا، الْعَبْدُ فِي مِلْكِ الْمُصَالِحِ فَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَوْ الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ حِينَ انْقَلَبَ مَالًا كَانَ لِجِنَايَةِ الْخَطَأِ مِنْ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَيُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَ مَوْلَى الْعَبْدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّ مَالًا فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمَالَ فِي مِلْكِ الْمُصَالِحِ وَحَقُّهُ قَائِمٌ لَمْ يُفَوِّتْهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ آخَرَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ حَقٌّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُصَالِحَ إنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْقَوَدِ بِعِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْعِوَضِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي نَصِيبِ الْعَبْدِ الْجَانِي لَا بِالصُّلْحِ، ثُمَّ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ مِنْهُ وَذَلِكَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 16 غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ جَازَ وَصَارَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُصَالِحِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَاسْتَحَقَّ بِهِ نِصْفًا شَائِعًا مِنْ الْعَبْدِ فِي النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا فَيَدْفَعَانِ نِصْفَهُ إلَى الْوَلِيِّ الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيَانِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا حَقَّ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ فِي الصُّلْحِ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ مَوْلَاهُ نِصْفَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْقَلَبَ مَالًا، وَهُوَ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ عَلَى حَالِهِ وَالْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الصُّلْحِ عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ وَالْمَنْفَعَةُ فِي الصُّلْحِ لِلْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّ كَسْبَهُمْ يُسَلَّمُ لَهُ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً فَصَالَحَ الْمَوْلَى وَلِيَّ الدَّمِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى عُرُوضٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِشُرَكَائِهِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَصَالَحَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْوَاجِبِ بِقَتْلِ الْعَبْدِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْحُرِّ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَإِنَّهُ بَدَلُ الْمُتْلَفِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَتَخَلَّصُ بِدَفْعِ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ وَكَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا صَالَحَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ لِلْبَاقِينَ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِيهِ. وَإِذَا قَتَلَتْ الْأَمَةُ رَجُلًا خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ، ثُمَّ وَلَدَتْ الْأَمَةُ ابْنًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى أَحَدَ الْوَلِيَّيْنِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ابْنَ الْأَمَةِ بِحَقِّهِ فِي الدَّمِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْآخَرِ عَلَى الْمَوْلَى خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لَا يَثْبُتُ فِي وَلَدِهَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَأَكَّدٍ لَهُمْ فِي عَيْنِهَا فَصُلْحُ أَحَدِهِمَا عَلَى وَلَدِهَا كَصُلْحِهِ عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ، فَلَا تَتَجَزَّأُ فِي اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَ الْأَمَةِ لِحَقِّهِ مِنْ الدَّمِ كَانَ جَائِزًا أَوْ يَدْفَعَ إلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ الْأَمَةِ أَوْ يَفْدِيَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فَلَمْ يَجْعَلْ اخْتِيَارَهُ الدَّفْعَ فِي الْبَعْضِ اخْتِيَارًا فِي الْكُلِّ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ قَالَ اخْتِيَارُهُ فِي الدَّفْعِ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي نَصِيبِهِمَا كَمَا فِي الْفِدَاءِ وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ. وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا صَالَحَهُ عَلَى ثُلُثِ الْأَمَةِ وَذَلِكَ دُونَ حَقِّهِ فَمِنْ حُجَّةِ الْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِلْآخَرِ إنَّمَا اخْتَرْتُ الدَّفْعَ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَأَنْتَ لَا تَرْضَى بِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُنِي بِذَلِكَ تَسْلِيمُ جَمِيعِ حَقِّكَ إلَيْكَ مِنْ الْأَمَةِ وَلَكِنْ فِي الْحَالِّ فِي نَصِيبِكَ حَتَّى لَوْ كَانَ صَالَحَ أَحَدَهُمَا عَلَى نِصْفِ الْأَمَةِ كَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ الدَّفْعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ وَمَا سِوَى هَذَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 17 مِنْ الْكَلَامِ فِيهِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي إمْلَاءِ شَرْحِ الْجَامِعِ. وَإِنْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ قَتِيلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْهُ مَوْلَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ مُدَبَّرِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ الْعِوَضِ عَنْ الْقَوَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَى مَوْلَاهُ قِيمَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ الْأُولَى خَطَأَ مَنْ قُتِلَ، فَإِنَّ فِي الْخَطَأِ الْمُسْتَحَقِّ نَفْسُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا بِالْجِنَايَةِ وَبِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ الرَّقَبَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَهُوَ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً، فَلَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَمَّا هُنَا فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى نَفْسُ الْعَبْدِ قَوَدًا، وَالْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ غَيْرُ مَانِعٍ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَالُ بِالْتِزَامِهِ بِالصُّلْحِ، وَهُوَ سَبَبٌ آخَرُ سِوَى مَنْعِ الرَّقَبَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ مَنْعِ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ وَلِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْخَطَأِ لَا يَثْبُتُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ فِي الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِذَا كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ خَطَأً فَحَقُّ الثَّانِي يَثْبُتُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِاتِّحَادِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا لِلْقِيمَةِ، وَهُوَ مَنْعُ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ آخَرُ، فَإِنْ صَالَحَ الْمَوْلَى الْآخَرَ عَلَى عَبْدِهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَوَلِيُّ الدَّمِ الْآخَرِ يَتْبَعُ الَّذِي أَخَذَ الْعَبْدَ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ أَوْ نِصْفَ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ صَارَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَمِيعِهِ عَلَى عَبْدٍ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا صَالَحَ عَنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَى عَبْدٍ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمُصَالِحُ دَفْعَ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذَا الْخِيَارِ فِيمَا سَبَقَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُوَ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَتْبَعَ الْمَوْلَى بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُدَبَّرِ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُصَالِحِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي دُفِعَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُدَبَّرِ وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الَّذِي فِي يَدِهِ الْعَبْدُ، وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الدِّيَاتِ نُبَيِّنُهَا ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ هُنَا قَوْلَهُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَغَيْرِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ وَهُمَا يُسَوِّيَانِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَغَيْرِ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا وَقَعَ إلَى الْأَوَّلِ عَيْنُ الْوَاجِبِ وَمَا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُصَالِحْهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَكِنَّ الْقَاضِي قَضَى لَهُ بِالْقِيمَةِ فَاشْتَرَى بِهِ الْعَبْدَ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الْمُدَبَّرِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِالْقِيمَةِ لِلْأَوَّلِ فَيَتَعَيَّنُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 18 حَقُّ الثَّانِي فِيمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا لَوْ كَانَ دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ هُنَا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لَهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ الْعَبْدَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الِاسْتِقْضَاءِ فَيَصِيرُ بِهِ فِي مَعْنَى الْمُسْتَوْفَى بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ فَيَرْجِعُ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ عَفْوٌ فَقَدْ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ حِينَ أَخَذَهُ صُلْحًا فَلِهَذَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْآخَرَ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ صُلْحًا وَبَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا وَلِهَذَا لَوْ صَحَّ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ فَصَارَ هُوَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ مُسْتَوْفِيًا قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ بِالْمُقَاصَّةِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ نِصْفِهَا إلَى الثَّانِي وَالصُّلْحُ يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ صَالَحَ عَنْ الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ يَبْطُلُ الصُّلْحُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْمُصَالِحُ بِهِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا إلَّا لِلْعَبْدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الثَّانِي وَبَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ - عَيْنَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَى مَوْلَاهُ قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي نِصْفِ الدَّيْنِ وَحَقَّ وَلِيِّ الدَّمِ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ وَاحِدَةٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، فَإِنْ صَالَحَ الْمَوْلَى صَاحِبَ الْعَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ سِتُّمِائَةٍ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَالِحَ عَلَى مِائَةٍ وَيُبْرِئَهُ عَنْ الْمِائَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يُبْرِئَهُ عَنْ الْمِائَةِ الْأُخْرَى بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَمَّا إذَا قَبَضَ الْمِائَةَ، وَلَمْ يُبْرِئْهُ عَنْ الْمِائَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُمَا يَقْسِمَانِ هَذِهِ الْمِائَةَ أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا، فَإِنَّ إبْرَاءَهُ عَنْ الْمِائَةِ الْأُخْرَى بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتِلْكَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ حَقِّهِ كَانَ ثَابِتًا عَنْ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ فَبِالْإِسْقَاطِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ بَقِيَّةِ دَيْنِهِ وَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمِائَةِ وَأَبْرَأَهُ عَمَّا بَقِيَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ فَهَذِهِ الْمِائَةُ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا خُمُسُهَا لِصَاحِبِ الْعَيْنِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِوَلِيِّ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ وَهِيَ سِتُّمِائَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِوَلِيِّ الدَّمِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَلِصَاحِبِ الْعَيْنِ مِائَتَانِ فَحَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ بَقِيَ فِي مِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْمِائَةِ، فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا عِنْدَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ حَقُّ وَلِيِّ الدَّمِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَحَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي مِائَةٍ، فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ بَيْنَهُمَا كَانَ قِسْمَةُ الْمَقْبُوضِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، فَأَمَّا إذَا قَبَضَ الْمِائَةَ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْ الْمِائَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَفِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 19 قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُقَسَّمُ هَذِهِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَقْبُوضِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ حَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي مِائَتَيْنِ فَوَجَبَ قِسْمَةُ الْمَقْبُوضِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ الْإِبْرَاءُ فِي ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْمَقْبُوضِ كَمَا لَا يُغَيِّرُ فِي الْمَقْسُومِ، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ قَدْ تَمَّ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَقْبُوضِ قَسَّمَ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُقَسِّمْ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ إبْرَائِهِ فِيمَا بَقِيَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لِصَاحِبِ الْعَيْنِ خُمُسُ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ عَلَى مِقْدَارِ الْقَائِمِ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، وَعِنْدَ الْقِسْمَةِ حَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي الْمِائَةِ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ كَانَ هَذَا وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ لَمْ يَقْضِ لَهُمَا بِشَيْءٍ حَتَّى صَالَحَهُمَا عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا اسْتَوْجَبَاهُ مِنْ الْقِيمَةِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَلَوْ اسْتَوْفَيَا الْقِيمَةَ اقْتَسَمَاهُ أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُمَا عَلَى الْعَبْدِ. وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِكَسْبِهَا، وَقَدْ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ رَقَبَتِهَا بِالِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَصَالَحَهُمَا الْمَوْلَى عَلَى عَبْدٍ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا فَاخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا وَلِيُّ الدَّمِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِي الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي احْتِمَالِ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ مِثْلُ صَاحِبِهِ، فَإِنْ قَالَ مَوْلَى الْمُدَبَّر لِأَحَدِهِمَا: أَنْتَ وَلِيُّ الْقَتْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِالزِّيَادَةِ وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ فِي الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ مَقْبُولٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ حَقَّ الْآخَرِ فِي الزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ بِقَتْلٍ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ بِإِقْرَارِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ نَفْسُهُ قِصَاصٌ، وَهُوَ خَالِصٌ حَقُّهُ وَالتُّهْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ إقْرَارِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَالَحَ مَوْلَاهُ عَنْهُ أَحَدُ وَلِيَّيْ الدَّمِ عَلَى ثَوْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْآخَرِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى الْمَوْلَى إنْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصُّلْحِ لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ دَعْوَى الْقِصَاصِ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ لِرَجُلَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدَهُمَا مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَصِيرُ بِهَذَا الصُّلْحِ مُقِرًّا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ وَإِقْرَارُ الْمُدَبَّرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِجِنَايَتِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى وَبَعْدَمَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا الْمُسْتَحِقَّ لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ الْمُدَبَّرِ مَا لَمْ يُقِرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. وَإِذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَهَا مِنْ الْجِرَاحَةِ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، فَإِنْ أَبْرَأَهَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 20 مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ أَرْشُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنَّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِنْ بَرَأَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ عَلَيْهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ مَالٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا وَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، وَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِذَلِكَ، ثُمَّ التَّزْوِيجُ عَلَى الْيَدِ وَالضَّرْبَةِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الصُّلْحِ بِالسِّرَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَعِنْدَهُمَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ فَهَاهُنَا كَذَلِكَ. عِنْدَهُمَا الْقَوَدُ سَاقِطٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ سَمَّى الْيَدَ فِي التَّزْوِيجِ وَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي النَّفْسِ فَلِهَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَيْسَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْجِنَايَةِ وَهِيَ عَمْدٌ، ثُمَّ مَاتَ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُنَا كَقَوْلِهِمَا إنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى الضَّرْبَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، وَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عَاقِلَتِهَا مَهْرَ مِثْلِهَا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظَةُ بَدَلِ النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ إلَّا إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ فَالزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ لَهَا وَالْوَصِيَّةُ مِنْهُ لَهَا وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ فَالْمُسْتَحَقُّ لَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا يُدْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ مِنْهُ لِعَاقِلَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَصِحُّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَخَذَ مِنْ عَاقِلَتِهَا نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمُسَمَّى سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَنُظِرَ إلَى النِّصْفِ الْبَاقِي فَيَرْجِعُ مِنْهُ عَنْ عَاقِلَتِهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ صَحِيحٌ وَبَقِيَ نِصْفُ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لَهَا فَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى ثُلُثِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُوجِبًا بِذَلِكَ لِعَاقِلَتِهَا فَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَتُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً عَمْدًا فَتَزَوَّجَتْ أُخْتُ الْجَارِحِ الْمَجْرُوحَ عَلَى أَنَّ مَهْرَهَا الْجِرَاحَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهَا خَاصَّةً دُونَ أُخْتِهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنْ بَرِئَ فَهُوَ عَفْوٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 21 وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ، وَقَدْ صَارَ الْمَجْرُوحُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً فَأَرْشُ ذَلِكَ مَهْرُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَالٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لِلزَّوْجِ فِي ذِمَّةِ الْجَارِحِ وَلَكِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ، وَهُوَ الزَّوْجُ دُونَ الْجَارِحِ، وَإِنْ اشْتَرَطَتْ الْعَفْوَ عَنْ أَخِيهَا وَالْبَرَاءَةَ لَهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَأَخُوهَا بَرِيءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهَا بِالتَّسْمِيَةِ فَالْعَفْوُ عَنْ أَخِيهَا وَالْبَرَاءَةُ لَهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهَا فِي شَيْءٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهَا كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ، وَقَدْ بَرِئَ أَخُوهَا بِإِبْرَاءِ الْمَجْرُوحِ إيَّاهُ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ اشْتَرَطَتْ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِهَا فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ مِنْ الْأَخِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ يَمْلِكُهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَقَدْ شَرَطَتْ أَنْ تَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ الْجَارِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ الصَّدَاقُ بِالنِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ مِنْ الْأَخِ بِالشَّرْطِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَتْ؛ لِأَنَّ عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ يَتَنَصَّفُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ شَجَّتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا مُوضِحَةً فَصَالَحَهَا عَلَى أَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَرْشُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْم الْجِنَايَةِ يَعُمُّ أَصْلَ الْفِعْلِ وَالسِّرَايَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ مَهْرًا لَهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أَرْشِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا فَفِي مَالِهَا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهَا. وَإِذَا جَرَحَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ عَمْدًا فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِذَلِكَ الْجُرْحِ فَذَلِكَ جَائِزٌ إنْ بَرِأَتْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ فِي الْخُلْعِ مَا هُوَ حَقُّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهَا، فَلَا تَصِيرُ هِيَ مُسْقِطَةً بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ شَيْئًا عَنْ الزَّوْجِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَهِيَ لَمْ تَغُرَّهُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ طَلْقَةً، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِغَيْرِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 22 جَعْلٍ حِينَ سَمَّتْ مَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهَا وَصَرِيحُ لَفْظِ الطَّلَاقِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ جَعْلٍ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسَمَّى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ قِصَاصٌ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ بِاعْتِبَارِهِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى الْجِنَايَةِ أَوْ الْجُرْحِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَمَاتَتْ، وَهُوَ عَمْدٌ فَهُوَ جَائِزٌ وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنْ قِيلَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قِصَاصٌ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ عَفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّلَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ ثَابِتًا. قُلْنَا: وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ عِنْدَ صَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الزَّوْجِ مَا لَهُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ وَالْمُسْقَطُ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِيرُ بَائِنًا بِاعْتِبَارِ الْإِسْقَاطِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَ رَجُلٍ امْرَأَةٌ وَأَمَتُهُ تَحْتَ عَبْدِهَا فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ طَلَّقَ عَبْدُهَا أَمَتَهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّلَاقَيْنِ يَكُونُ رَجْعِيًّا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِالثُّلُثِ مِنْ تَرِكَتِهَا؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْمَالَ. وَالْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ وَصِيَّةٌ مِنْهَا لِعَاقِلَةِ الزَّوْجِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْبَاقِي وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِجَعْلٍ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَإِذَا جَرَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ رَجُلٍ خَطَأً فَصَالَحَهَا زَوْجُهَا عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى أَنْ عَفَتْ لَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْهُ فَالْعَفْوُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ مَا هُوَ مَالُهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَارِحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ أَوْ التَّمْلِيكِ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِمَالٍ إنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقَوَدُ وَالْقَوَدُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ عَفْوُهَا مِنْ الثُّلُثِ وَتَسْمِيَتُهُ لَا يُثْبِتُ الْبَيْنُونَةَ كَالْخَمْرِ. وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلٌ سِنَّ امْرَأَتِهِ فَصَالَحَهَا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَالٌ فَتَسْمِيَتُهُ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ اسْوَدَّتْ السِّنُّ أَوْ سَقَطَتْ سِنُّ ذَلِكَ مِنْ أُخْرَى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَا دَامَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي صَرْفِ كَسْبِهِ إلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ، فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ فَالْمَالُ لَازِمٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 23 لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ خَلَصَ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ عَجَزَ رُدَّ رَقِيقًا فَبَطَلَ الْمَالُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعَجْزِ الْحَقُّ فِي كَسْبِهِ وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ لِمَوْلَاهُ وَقَوْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فَإِنْ أُعْتِقَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَزِمَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ صِحَّتُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى كَالْعِتْقِ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ كَالْعَبْدِ إذَا كُفِلَ بِمَالٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَهُ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى كَسْبُهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ صَرْفَهُ إلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ عَبْدًا وَكَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ كَانَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَضْمَنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ: إنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ فَالْكَفِيلُ بِهِ يَكُونُ كَفِيلًا بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصَّدَاقِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ وَالْقَتْلُ يُثْبِتُهُ وَكَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ، ثُمَّ عَجَزَ وَرُدَّ رَقِيقًا لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكَاتَبَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُعْتَقَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْتِزَامَهُ الْمَالَ بِالصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْقَوَدِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَبِالْعَجْزِ خَلَصَ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ، فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ حَتَّى يُعْتَقَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ بِهِ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَكَانَ هُوَ مُطَالَبًا فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ وَكَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارٍ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ثَابِتٌ فِيهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ أَحَدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ، ثُمَّ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، ثُمَّ جَاءَ الْوَلِيُّ الْآخَرُ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ أَوْ دَفَعَ نِصْفَهُ إلَى الْوَلِيِّ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِالصُّلْحِ مَعَ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ سَقَطَ الْقَوَدُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ، وَإِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَانَ حَقُّهُ فِي رَقَبَتِهِ وَيَتَخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ دَفْعِ النِّصْفِ إلَيْهِ وَالْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْمَالِ لِلْآخَرِ هُنَا كَانَ حُكْمًا بِسَبَبِ قَتْلٍ ثَابِتٍ بِالْمُعَايَنَةِ فَلِهَذَا يُبَاعُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ بِخِلَافِ الْمَالِ الْوَاجِبِ لِلْمُصَالِحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْتِزَامِ الْمُكَاتَبِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يُبَاعُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ مَا لَمْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 24 يُعْتَقْ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ وَلَكِنَّهُ عَتَقَ، ثُمَّ جَاءَ الْوَلِيُّ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ قَدْ انْقَلَبَ مَالًا وَكَانَ دَفْعُهُ مُتَعَذِّرًا عِنْدَ ذَلِكَ وَبِالْعِتْقِ قَدْ تَقَرَّرَ وُقُوفُ النَّاسِ عَنْ الدَّفْعِ وَكَانَ حَقُّ الْآخَرِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً خَطَأً، ثُمَّ عَتَقَ، وَلَوْ عَفَى أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنْ الدَّمِ بِغَيْرِ صُلْحٍ، فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ انْقَلَبَ مَالًا لِغَيْرِ شَرِيكِهِ فَصَارَ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ خَطَأً. وَمُوجِبُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ فِي الْخَطَأِ قِيمَتُهُ لِتَعَذُّرِ دَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِكَسْبِهِمَا وَمُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ، فَإِنْ صَالَحَهُ الْآخَرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ، وَهَذَا صُلْحٌ عَنْ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ عَلَى عَيْنٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَتَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتُهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ الْعُرُوض؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلَا رِبَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالْعُرُوضِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ رِبًا. وَلَوْ كَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ صَالَحَهُ الْكَفِيلُ عَلَى طَعَامٍ أَوْ ثِيَابٍ جَازَ وَرَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُوفِيًا بِهَذَا الصُّلْحِ إذَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَوْ أَعْطَاهُ الْمُكَاتَبُ رَهْنًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ، وَفِيهِ وَفَاءٌ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ بَطَلَ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ فِي الْفَضْلِ الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ وَذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الصُّلْحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِ رَجُلٍ دَعْوَى فَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ فَرَضِيَ بِهِ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ وَحُكْمُ الصُّلْحِ يَنْتَهِي فِي الْمَقْبُوضِ بِالْقَبْضِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 25 لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ كَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُسَمِّ الْآخَرُ شَيْئًا وَشَهِدَا جَمِيعًا أَنَّهُ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ جَحَدَ صَاحِبُ الدَّارِ وَادَّعَى الطَّالِبُ الصُّلْحَ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مُسَمًّى أَوْ تَرَكَا جَمِيعًا تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ مَعَ الْجَهَالَةِ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِهَا وَشَاهِدٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ قَضَيْتُ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ فِي الْحَاصِلِ دَعْوَى الدَّيْنِ فَالْإِسْقَاطُ قَدْ حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْمِائَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْأَقَلَّ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ تَرَكَ بَيِّنَةَ الصُّلْحِ فَالْمُدَّعِي عَلَى حُجَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِسُقُوطِ حَقِّهِ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ الْعِوَضَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ وَحُجَّتِهِ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى صُلْحٍ بِمُعَايَنَةٍ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هُوَ إقْرَارٌ مَعْنَاهُ أَنَّ صِفَةَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الصُّلْحِ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْعَبْدُ لِلطَّالِبِ يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُهُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الصُّلْحِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ دُونَ إعْتَاقِ الْبَائِعِ إيَّاهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الطَّالِبُ كَانَ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَطَلَ لِفَوَاتِ قَبْضِ الْمُبْدَلِ بِمَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُهُ افْتِرَاقُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى إنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ صَالَحَهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 26 مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَرْفًا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْأَلْفِ بِالْمِائَةِ لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ مُسْقِطًا بَعْضَ الْحَقِّ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ تَرْكِ الْقَبْضِ فِيمَا بَقِيَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ كُرِّ حِنْطَةٍ قَرْضٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ خَمْسَةً، ثُمَّ افْتَرَقَا بَقِيَ الصُّلْحُ فِي نِصْفِ الْكُرِّ بِحِسَابِ مَا قَبَضَ وَبَطَلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَجَدَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ ابْتَاعَ رَجُلٌ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِكُرٍّ مِنْ شَعِيرٍ بِعَيْنِهِ وَقَبَضَ الْحِنْطَةَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ الشَّعِيرَ حَتَّى افْتَرَقَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ عَيْنًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاَلَّذِي لَمْ يُقْبَضْ عَيْنٌ وَالتَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ كَانَ الشَّعِيرُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ تَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ بِالْقَبْضِ كَبَيْعِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي مُبَادَلَةِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ عَفْوًا، فَإِنَّ الْكَيْلَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ كَيْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَيْنًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَرَكَ الْقَبْضَ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ حَتَّى افْتَرَقَا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَيْنًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَالصُّلْحِ جَمِيعًا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حَطٌّ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ، فَإِنَّ الطَّالِبَ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَأَجَّلَهُ فِي الْبَاقِي فَالْإِحْسَانُ مِنْ جِهَتِهِ خَاصَّةً فِي الْحَطِّ وَالتَّأْجِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَبَعْضَ حَقِّهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِضَّةً تِبْرًا بَيْضَاءَ حَالًّا أَوْ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَصِحَّةُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ دُونَ الْمُبَادَلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُهُ سُودًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ غَلَّةً حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ كُلَّهُ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ أَيْضًا، فَلَا تَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ. وَكَذَلِكَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 27 لَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا سُودًا حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ فَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَهُوَ صَرْفٌ وَالتَّأْجِيلُ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أَجَّلَهُ فِي الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَقْصُودَهُ فِي الصَّرْفِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّأْجِيلُ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَّةً وَقَبَضَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَبَضَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ افْتَرَقَا؛ لِأَنَّ الْمُصَارَفَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْمَقْبُوضَ مِمَّا كَانَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الصَّرْفِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَنْقُدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يَنْقُدْهُ الْخَمْسِينَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْعَشَرَةِ مَعَ الدَّنَانِيرِ صَرْفٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ التَّأْجِيلَ فِي بَعْضِ الْمِائَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَاشْتِرَاطُهُ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ يُفْسِدُ الصَّرْفَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَقُولُ إنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ حَالٌّ مَقْبُوضٌ فِي الْمَجْلِسِ وَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي سِتِّينَ مِنْ الْمِائَةِ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَفْسُدُ عَقْدُ الصَّرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَالَ: سِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَى سِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَمَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ الْمُبْتَدَأِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمُوزَنَاتِ. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ بَعْدَ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَنِصْفِ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ فَالصُّلْحُ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الشَّعِيرِ الْعَقْدَ مُبَادَلَةُ نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ بِنِصْفِ كُرِّ شَعِيرٍ وَالْقَدْرُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَجَلِ فِي الْحِنْطَةِ إنَّمَا كَانَ بِنَاءً عَلَى حُصُولِ مَقْصُودِهِمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الشَّعِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ، وَلَوْ لَمْ يَضْرِبْ لِذَلِكَ أَجَلًا أَوْ كَانَ الشَّعِيرُ مَعِيبًا وَالْحِنْطَةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ الَّتِي هِيَ دَيْنٌ بِالشَّعِيرِ بِعَيْنِهِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّعِيرُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحِنْطَةِ مُؤَجَّلَةً أَوْ حَالَّةً قَبَضَهَا؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 28 الْمَجْلِسِ كَالْمُعَيَّنِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُؤَجَّلَةً فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَجَّلَهُ فِي الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي مُبَادَلَةِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ التَّأْجِيلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ صِفَةَ الدَّيْنِيَّةِ وَالتَّأْجِيلِ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّعِيرَ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي حِصَّةِ الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، فَلَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ قِيلَ حِصَّةُ الشَّعِيرِ مِنْ الْحِنْطَةِ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ لِمَنْ عَلَيْهِ حِينَ سَقَطَ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ قُلْنَا صَارَ مَقْبُوضًا دَيْنًا وَالدَّيْنُ بِالسُّقُوطِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ الْمُتْلَفِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِضَّةً تِبْرًا بَيْضَاءَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فِضَّةً تِبْرًا سَوْدَاءَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ حَطٌّ لَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَقِّ مُبْرِئًا عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ مِنْ الْأَلْفِ وَمُتَجَوِّزًا بِدُونِ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَضْرُوبَةٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَضْرُوبَ أَجْوَدُ مِنْ التِّبْرِ فَتُمْكِنُ بَيْنَهُمَا مُعَاوَضَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَا بَقِيَ وَالْجَوْدَةُ الَّتِي شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ فِيمَا بَقِيَ وَمُبَادَلَةُ الْجَوْدَةِ فِي الْأَجَلِ وَالْقَدْرِ رِبًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ حَالَّةٍ، فَإِنْ قَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْبَخِّيَّةِ بِالْغَلَّةِ صَرْفٌ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ، وَإِنْ جَعَلَا لَهَا أَجَلًا بَطَلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بَخِّيَّةٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَاهُ إذَا قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى، وَقَدْ بَرِئَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذَا إبْرَاءً مِنْ الطَّالِبِ لِلْمَطْلُوبِ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَإِحْسَانًا مِنْ الْمَطْلُوبِ فِي قَضَاءِ مَا بَقِيَ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى مُبَادَلَةِ بَعْضِ الْقَدْرِ بِالْجَوْدَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ صَحَّ وَمَقْصُودُهُمَا تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ يَتَعَيَّنُ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُهُمَا، وَإِذَا فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ وَعَدَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا بَقِيَ أَجْوَدَ وَالْإِنْسَانُ مَنْدُوبٌ إلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَّتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ حِينَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَقَالَ الصُّلْحُ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُمَا بَادَلَا صِفَةَ الْجَوْدَةِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ بِبَعْضِ الْقَدْرِ وَهِيَ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَبْرَأَهُ عَنْهَا وَذَلِكَ رِبًا، وَإِنَّمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 29 يَتَأَتَّى حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ إذَا لَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا مَعَ الذَّكَرِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ لَا يَعْرِفَانِ وَزْنَهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِلثَّوْبِ وَجَهَالَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ فَفِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ أَوْلَى، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْوَزْنِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِ قَدْرًا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ حَقِّهِ فَلَفْظَةُ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى دُونَ حَقِّهِ فَصَحَّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ لَهَا أَجَلًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْقَدْرِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ وَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ الطَّالِبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَخْذٌ وَعَطَاءٌ وَبُيُوعٌ وَقَرْضٌ وَشَرِكَةٌ فَتَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ كَمْ هُوَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَرَّعَ بِالتَّأْجِيلِ فِيمَا بَقِيَ. وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ وَدِيعَةً دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ الطَّالِبُ عَلَى دَرَاهِمَ دُونَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ بِالْجُحُودِ صَارَتْ دَيْنًا أَوْ صَارَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبَةِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْمِائَةُ مِنْ يَدَيْ الطَّالِبِ رَجَعَ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ مُسْتَوْفِيًا لِلْمِائَةِ فَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَنْتَقِضُ قَبْضُهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِيمَا أَسْقَطَ سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ نَبَهْرَجَةً رَدَّهَا وَرَجَعَ بِمِائَةٍ جَازَ لِانْتِقَاضِ قَبْضِهِ بِالرَّدِّ فِي الْمُسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَقَبَضَهَا فَوَجَدَهَا بَخِّيَّةً نَبَهْرَجَةً أَوْ وَجَدَهَا سَوْدَاءَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِبَخِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَمْسِينَ مُسْتَوْفٍ، فَإِذَا كَانَ دُونَ حَقِّهِ رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِمِثْلِ حَقِّهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِي الْخَمْسِينَ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا فَوَجَدَهَا حَدِيدًا لَا يُنْفَقُ أَوْ مُقَطَّعَةً لَا تُنْفَقُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِجِيَادِ مِثْلِ حَقِّهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِي الْخَمْسَةِ الْأُخْرَى. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى دَرَاهِمَ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا صَرْفٌ، فَإِذَا انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَرَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَرَاهِمَ لَهُ عَلَيْهِ عَلَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 30 فُلُوسٍ وَقَبَضَهَا فَتَفَرَّقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ انْتَقَضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَصْلِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا مِنْ ضَرْبٍ لَا يُنْفَقُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَعِيرٍ وَقَبَضَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ رَجَعَ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ فِي الْمَرْدُودِ فَظَهَرَ أَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ وَسَطٍ وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا رَجَعَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ بِمِثْلِهِ فِي الْمُسْتَحَقِّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى الْآنَ وَصِفَةُ الدَّيْنِيَّةِ فِي الْمَجْلِسِ لَا تَضُرُّ فَلِهَذَا رَجَعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّعِيرِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ قَرْضًا أَوْ غَصْبًا فَصَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً بَعْدَمَا افْتَرَقَا فَرَدَّهَا بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً فَرَدَّهَا كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَسْتَبْدِلُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسِهِمَا الثَّانِي، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا إذَا وَجَدَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلَ الْقَرْضِ زُيُوفًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَرَدَّهَا وَقَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَكُرَّا حِنْطَةٍ قَرْضًا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ دِرْهَمًا وَأَخَذَ حِصَّةَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَبَعْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ تَبْقَى عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَالطَّعَامُ عَلَى حَالِهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ إلَى أَجَلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ وَالطَّالِبُ بِمُقَابَلَتِهِ أَسْقَطَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، ثُمَّ نَهَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «بَنِي النَّضِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَجَلَاهُمْ قَالُوا إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا» وَكُنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ حُرْمَةِ الرِّبَا، ثُمَّ انْتَسَخَ بِنُزُولِ حُكْمِ الرِّبَا، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْأَجَلِ بِالْمَالِ رِبًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا شُبْهَةَ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْأَجَلِ فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رِبًا حَرَامًا أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 31 مُؤَجَّلَةٌ ثَمَنُ خَادِمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِدْهَا أَوْ انْتَقَدَهَا إلَّا دِرْهَمًا مِنْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِعَيْبٍ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إذَا عَادَ إلَيْهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِهَا أَوْ أَنْكَرَهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَعْطَاهَا إلَى شَهْرٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا بَقِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا إلَى شَهْرٍ فَمِائَتَا دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ حِينَ لَمْ يُقَاطِعْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِبَعْضِ الْمِقْدَارِ أَيْضًا فَيَكُونُ رِبًا حَرَامًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أُصَالِحُكَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ، فَإِنْ عَجَّلْتَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ فَهِيَ مِائَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ سَمَّاهُمَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهِمَا، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ لِتَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مِنْ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الشَّكِّ أَوْ مَعَ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الشَّكِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ يَخْدِمَ الرَّجُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَبِيعٌ، وَقَدْ شَرَطَا التَّأْجِيلَ فِي تَسْلِيمِهِ شَهْرًا أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَارِ وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا شَهْرًا أَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا وَيَخِيطَهُ أَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ عَلَى أَنْ يَطْبُخَهُ لَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنْفَعَةً لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ فِي الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْبُيُوعِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الصُّلْحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) اعْلَمْ بِأَنَّ حُكْمَ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ كَهُوَ فِي الْبَيْعِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَيُمْكِنُ فَسْخُهُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ كَالْبَيْعِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْمُدَّعِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مِثْلِ هَذَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 32 الْعَقْدِ صَحِيحٌ، فَإِنْ اسْتَوْجَبَ الْعَقْدَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَلْفِ لِتَمَامِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَتَقَرَّرَ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَصَارَتْ الدَّنَانِيرُ عَلَى الْمُطَالِبِ الْأَوَّلِ إلَى شَهْرٍ مِنْ يَوْمِ اسْتَوْجَبَ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الدَّنَانِيرِ أَجَلَ شَهْرٍ وَاشْتَرَطَ الْأَجَلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتُوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ وَاشْتَرَطَ الْمَطْلُوبُ الْخِيَارَ ثَلَاثًا وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّوْبَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فِي الثَّلَاثِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ وَمَا لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بَائِعٌ لِلثَّوْبِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْبَائِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَقْبُوضِ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ دَيْنٌ فَصَالَحَاهُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَأَوْجَبَ الصُّلْحَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَرَدَّ عَلَى الْآخَرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْعَبْدِ مِنْهُمَا، وَقَدْ شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ الْخِيَارَ فِي النِّصْفِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ فَكَانَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ دُونَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِيَيْنِ لِلْعَبْدِ مِنْهُ وَأَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا فَمَضَتْ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْخِيَارِ الْفَسْخَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفَسْخِ وَمُدَّعِي الْفَسْخِ يَدَّعِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْفَسْخِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمْضَى فِي الثَّلَاثَةِ أُخِذَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مُدَّعِي الْفَسْخِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الْمُثْبِتُ لِعَارِضِ الْفَسْخِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ بِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِبَيِّنَتِهِ أَوْلَى. وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ: أَخَذَ بِبَيِّنَةِ إمْضَاءِ الصُّلْحِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ: إنَّ فِي بَيِّنَةِ إمْضَاءِ الصُّلْحِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا شُبْهَةَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي الْبُيُوعِ مِنْ الْجَامِعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّلَاثَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ أَنَّهُ وُجِدَ فَسْخٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إذَا شَرَطَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخِيَارَ، ثُمَّ فَسَخَ الْعَقْدَ بِخِيَارِهِ فَالْمُدَّعِي يَعُودُ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَا يَكُونُ مَا صَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إقْرَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْبَاتَّ أَقْوَى مِنْ الصُّلْحِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الصُّلْحِ الْبَاتِّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 33 لَا يَكُونُ إقْرَارًا فَعَلَى الصُّلْحِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْلَى. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الْعَيْنِ مَبِيعٌ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَدْلِ زُطِّيٍّ فَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَرَهُ، ثُمَّ صَالَحَ عَلَيْهِ الْقَابِضُ آخَرَ ادَّعَى قَبْلَهُ دَعْوَى أَوْ قَبَضَهُ الْآخَرُ، وَلَمْ يَرَهُ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الثَّانِي إذَا رَآهُ فَلَمْ يَرْضَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُشْتَرِي شَيْءٍ لَمْ يَرَهُ وَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ إنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ قَدْ سَقَطَ حِينَ مَلَكَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَعُودُ بَعْدَمَا سَقَطَ بِحَالٍّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الدَّعْوَى لَيْسَ بِإِقْرَارٍ فَبَعْدَ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ، وَفِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ أَيْضًا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ يَرْجِعُ فِي الدَّعْوَى إنْ كَانَ رَدُّهُ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَمَةٍ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَبَضَهَا فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ وَجَدَهَا عَوْرَاءَ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِيمَا يُصِيبُ الْعَوَرَ مِنْ الْمِائَةِ، فَإِذَا أَقَامَ أَوْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ أَوْ أَقَرَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ كُرَّ حِنْطَةٍ قَرْضًا فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ زَادَ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَقَطَعَ الثَّوْبَ قَمِيصًا، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ الْعَشَرَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الرَّدَّ لِمَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا نَقَدَهُ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ الْكُرِّ فَيَسْتَوْفِي ذَلِكَ إنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ اسْتَحْلَفَ صَاحِبَهُ فَنَكَلَ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُقِرَّ بِهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى كُرٍّ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكُرَّ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْكُرَّ بِالْعَشَرَةِ وَبِمَا ادَّعَاهُ، وَهُوَ الْمِائَةُ فِي زَعْمِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنْ وَجَدَ بِالْكُرِّ عَيْبًا وَوُجِدَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ وَكَانَ عَيْبُهُ الْأَوَّلُ يُنْقِصُهُ الْعَشْرَ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ مِنْ الْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَيَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ هَذَا، وَهَذَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْمِائَةِ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْكُرِّ عَيْبًا، وَقَدْ حَدَثَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ وَكَانَ الْعَيْبُ الْأَوَّلُ يُنْقِصُهُ الْعُشْرَ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ تِسْعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بَقِيَ حَقُّهُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجَّلَهُ فِي ذَلِكَ إلَى شَهْرٍ، وَإِنَّمَا صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ بِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إلَى تَمَامِ الْمِائَةِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 34 وَذَلِكَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْبَدَلِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي عُشْرِ تِسْعِينَ دِرْهَمًا. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ اشْتَرَى الْحِنْطَةَ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَشَرَطَ لَهُ التَّأْجِيلَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سِوَى الثَّمَنِ إلَى شَهْرٍ وَذَلِكَ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ بِهِ كَفِيلًا وَأَخَّرَهُ بِهِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَعْطَاهُ بِمَا عَلَيْهِ كَفِيلًا، وَالطَّالِبُ أَجَّلَهُ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ هُنَا مَعْنَى مُعَاوَضَةٍ، وَالْكَفَالَةُ بِالْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ سَوَاءٌ سَأَلَ الْمَطْلُوبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَسْأَلْ، وَالتَّأْجِيلُ يُثْبِتُ حَقًّا لِلْمَطْلُوبِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ فَأَبْرَأَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ بِهِ كَفِيلًا آخَرَ وَأَخَّرَهُ سَنَةً بَعْدَ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ يَتِمُّ بِالطَّالِبِ وَالتَّأْخِيرُ بِإِيجَابِ الطَّالِبِ ذَلِكَ لِلْمَطْلُوبِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ لَمَّا كَانَ تَمَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَخْصٍ آخَرَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ نِصْفَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُ مَا بَقِيَ سَنَةً بَعْدَ الْأَجَلِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي نِصْفِ الْمَالِ وَشَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ التَّأْجِيلَ فِيمَا بَقِيَ سَنَةً أُخْرَى فَهَذَا مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِالْأَجَلِ، وَهُوَ رِبًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعَجِّلُ مُؤَجَّلًا بِتَأْخِيرِ شَيْءٍ آخَرَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُعَاوَضَةِ الْأَجَلِ بِالْأَجَلِ. وَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَضَى الطَّالِبَ الْمَالَ قَبْلَ حَلِّهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَصْلِ وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ فِي ضِمْنِ التَّعْجِيلِ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إلَى أَجَلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا، أَمَّا فِي السَّتُّوقِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُوفِيًا لَهُ حَقَّهُ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ، وَفِي الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ قَدْ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالرَّدِّ، وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمَا فِي أَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ حِينَ عَادَ الْأَجَلُ وَلَكِنَّهُمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 35 يَقُولَانِ نَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا إلَّا أَنَّا نَجْعَلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الْأَجَلِ، وَعِنْدَ رَدِّ الزُّيُوفِ رُجُوعُهُ بِأَصْلِ حَقِّهِ، وَهُوَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ حَقِّهِ مُؤَجَّلًا فَلِهَذَا رَجَعَ بِهِ بَعْدَ حَلِّهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ بِهِ عَبْدًا أَوْ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَبْدٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِ أَنْ يُقِيلَهُ الصُّلْحَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْأَجَلِ فَأَقَالَهُ أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ إنْ جُعِلَتْ فَسْخًا عَادَ الْمَالُ إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ جُعِلَتْ كَعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ فَقَدْ شَرَطَ التَّأْجِيلَ فِي الْبَدَلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الْأَجَلُ فَالْمَالُ حَالٌّ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَمُطْلَقُهُ يُوجِبُ الْمَالَ حَالًّا. فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا وَعَوْدُ الْأَجَلِ مِنْ حَقِّهِمَا قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِهِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْأَجَلُ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَالْإِقَالَةُ فِيهِ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ. وَلَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ لَمْ يُعَدْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ آخَرُ سِوَى مَا كَفَلَ بِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ بِهِ رَهْنٌ، وَهُوَ فِي يَدِ الطَّالِبِ حِينَ رَدَّ بِالْعَيْبِ كَانَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْفَسَخَ بِرَدِّ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ الرَّهْنُ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَيَبْقَى مَحْبُوسًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ إلَى أَجَلٍ فَعَجَّلَ لَهُ الْمِائَةَ الدِّينَارَ عَلَى أَنْ أَخَّرَ عَنْهُ الْأَلْفَ إلَى سَنَةٍ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي الدَّنَانِيرِ عِوَضًا عَمَّا أَجَّلَهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَوْ قَالَ: أُعَجِّلُ لَكَ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرَ عَنِّي الدَّنَانِيرَ سَنَةً أُخْرَى فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ عَاجِلًا، فَإِنَّمَا أَجَّلَهُ فِي الدَّنَانِيرِ خَاصَّةً وَلَيْسَ بِمُقَابَلَةِ إسْقَاطِ الْآخَرِ أَجَلَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى أَنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ حَالٌّ وَلَيْسَ هَذَا صُلْحًا، وَإِنَّمَا هَذَا إسْقَاطٌ مِنْ الْمَطْلُوبِ حَقُّهُ فِي الْأَجَلِ وَالْأَجَلُ حَقُّهُ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبْطَلْتُ الْأَجَلَ الَّذِي فِي هَذَا الدَّيْنِ إنْ تَرَكْتُهُ أَوْ جَعَلْتُهُ حَالًّا فَهَذَا كُلُّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِلْأَجَلِ إنْ قَالَ: قَدْ بَرِئْتُ مِنْ الْأَجَلِ أَوْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْأَجَلُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 36 عَلَى حَالِهِ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ حَقُّهُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِظْهَارُهُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْأَجَلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِي الْأَجَلِ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ فِي الْحَالِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ الْأَجَلُ. وَقَوْلُهُ قَدْ بَرِئْتُ مِنْ الْأَجَلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَبْرَأْتُ الطَّالِبَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَغْوٌ، فَإِنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ فَإِبْرَاءُ الطَّالِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ شَيْءٌ يَكُونُ لَغْوًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَبْطَلْتُ الْأَجَلَ فَذَلِكَ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِحَقِّهِ وَتَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ يَجْعَلُهُ حَالًّا وَلَيْسَ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّةِ الطَّالِبِ بِشَيْءٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا. وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَصَالَحْتُكَ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَفْظٌ خَاصٌّ بِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ فَإِقْدَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْعَبْدَ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَالِ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَمْلِيكُ الْمَالِ بِإِزَاءِ إسْقَاطِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا حَتَّى لَوْ قَالَ صَالَحْتُكَ مِنْ حَقِّكَ عَلَى أَنَّ لَكَ هَذَا الْعَبْدَ كَانَ إقْرَارًا بِحَقِّهِ أَيْضًا، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى عَبْدٍ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ مُخَالِفٌ لِلْبَيْعِ يَعْنِي لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ مَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْحَطِّ، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ قَرْضًا فَجَحَدَهُ فَصَالَحَهُ فُضُولِيٌّ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِتَصْيِيرِهِ دَرَاهِمَ وَنَقَدَهَا إيَّاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَصِيرُ الْمُصَالِحُ مُشْتَرِيًا الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنْ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْمُدَّعِي حَقَّهُ قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ لِإِيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْبَيْعِ وَلَفْظِ الصُّلْحِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ حَالٍّ فَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَأْخُذُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ، وَلَا يُشَارِكُهُ الْمُؤَخَّرُ فِي الْمَقْبُوضِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِي الْمَقْبُوضِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُؤَخِّرَ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ نَصِيبِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 37 فِي تَصَرُّفِهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي إسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ، وَلَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَصِيبِهِ لَا إلَى غَايَةٍ بِأَنْ أَبْرَأَ عَنْ نَصِيبِهِ كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا أَسْقَطَ مُطَالَبَتَهُ إلَى غَايَةٍ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى عَيْنٍ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِنَصِيبِهِ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ صَحِيحًا لِمَا أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي خَالِصِ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَ نَصِيبَهُ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِأَنَّ الدَّيْنَ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ وَأَنْكَرَ صَحَّ إقْرَارُ الْمُقِرِّ فِي نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَأَ التَّأْجِيلَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْغَيْرِ مَعَ تَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ بِالْإِنْشَاءِ وَلَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ تَأْجِيلَهُ يُلَاقِي بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ يَبْقَى مُشْتَرَكًا بَعْدَ التَّأْجِيلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ تَأْجِيلَهُ مُضَافًا لِنَصِيبِهِ خَاصَّةً إلَّا بَعْدَ قِسْمَةِ الدَّيْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّمْيِيزُ، وَفِي الْعَيْنِ الْقِسْمَةُ بِدُونِ التَّمْيِيزِ لَا تَحْصُلُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ فَقَالَ: اقْتَسَمْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ لِي وَالْجَانِبَ الْآخَرَ لَكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ تَمْلِيكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَمَّا يَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا قِسْمَةٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا لِنَصِيبِ الْآخَرِ فِي الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَ إلَّا هَذَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَأْجِيلَهُ يُصَادِفُ بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَنَّ الْآخَرَ إذَا قَبَضَ نَصِيبَهُ، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْبَاقِي هُوَ مَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَلَوْ سَلَّمَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ نَوَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ فَيُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهُ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ رَجَعَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ فَسَادُ مَذْهَبِهِمَا، فَإِنَّهُ بَعْدَ التَّأْجِيلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُطَالِبَ بِنَصِيبِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْآخَرُ قَابِضًا لِنَصِيبِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ قِسْمَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُشَارِكَهُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِنْ جُعِلَ قَابِضًا لِبَعْضِ نَصِيبِ الْمُؤَخِّرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَخِّرِ أَنْ يُطَالِبَ بِنَصِيبِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى نَصِيبُهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 38 مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُلَاقِي شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي الثَّمَنِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ فَنَصِيبُ الْمُسْتَوْفِي لَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ أَوْ صَالَحَ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ فِيهِ فَقَدْ وُجِدَ اخْتِلَافُ الْمَحَلِّ، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مُؤَجَّلٌ فَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّيْنَ كُلَّهُ مُؤَجَّلٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ عَنْهُ لَا لِأَنَّ نَصِيبَهُ غَيْرُ مُؤَجَّلٍ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلَا يَكُونُ فِي إعْمَالِ إقْرَارِهِ فِي نَصِيبِهِ مَعْنَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ النَّسَأِ وَالْأَجَلِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ مُؤَجَّلٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ فِي تَصَرُّفِ الْآخَرِ إضْرَارًا لِشَرِيكِهِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِصَاحِبِهِ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ كَمَا لَوْ كَاتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ الْمُكَاتَبَةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنَةَ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَخِّرُ نَصِيبَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، فَإِذَا أَجَّلَ الْأَجَلَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، ثُمَّ يُؤَخِّرُ نَصِيبَهُ مِمَّا بَقِيَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ، فَإِذَا أَجَّلَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ هَكَذَا حَتَّى تَكُونَ مُؤْنَةُ الْمُطَالَبَةِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَبِهِ فَارَقَ الْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ هُنَاكَ إضْرَارٌ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا يَقْبِضُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ أَوْ الشِّرَاءُ بِنَصِيبِهِ أَوْ الصُّلْحُ أَوْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ لَيْسَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ، وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ مُؤَجَّلٌ فَهُوَ غَيْرُ مُلْحِقٍ الضَّرَرَ بِشَرِيكِهِ وَلَكِنْ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الشَّرِيكَ ظَالِمٌ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ فَيَكُونُ هُوَ فِي الْمُطَالَبَةِ ظَالِمًا مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْمُطَالَبَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ، وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمَدْيُونَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَخَّرَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا قَبَضَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ جُزْءٌ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ حَقُّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَعِنْدَهُمَا تَأْخِيرُهُ فِيمَا بَقِيَ صَحِيحٌ وَالْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَهُ كَانَ حَقُّهُمَا فِي الدَّيْنِ سَوَاءً فَصَارَ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَتَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَمَسُّ الْمَقْبُوضَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمِلْكِ، فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ فَتَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 39 وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ دَيْنِهِمَا فَقَدْ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ مِنْ حِصَّتِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ، وَلَا يَكُونُ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ صَارَ قَابِضًا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا مَقْضِيًّا، فَإِنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ أَوَّلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُوبَ، وَإِنَّمَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا يُقْبَضُ، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَابِضًا شَيْئًا لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ نَصِيبِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ عَمْدًا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً يَكُونُ أَرْشُهَا خَمْسَمِائَةٍ أَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مَضْمُونًا أَوْ شَيْئًا قَابِلًا لِلشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا صَارَ مُتْلِفًا لِنَصِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْمَدْيُونِ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِنَصِيبِهِ مَالًا مَضْمُونًا وَضَمَانُ الْغَصْبِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ وَلِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَكُونُ قَابِضًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ يَكُونُ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ. وَلَوْ حَرَقَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا لِلْمَدْيُونِ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَاقِ صَارَ قَابِضًا مُتْلِفًا لِلْمَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَضْمُونًا فَيَكُونُ كَالْغَصْبِ، وَالْمَدْيُونُ صَارَ قَابِضًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَيَجْعَلُ الْمُحْرَقَ مَقْضِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِنَصِيبِهِ بِمَا صَنَعَ لَا قَابِضٌ، وَالْإِحْرَاقُ إتْلَافٌ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ جَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَدْيُونِ حَتَّى يَسْقُطَ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا جَنَى عَلَى مَالِهِ بِالْإِحْرَاقِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَة دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمِائَةِ أَوْ قَبْلَ قَبْضِهَا كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِائَةٌ وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَالْمَقْبُوضُ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّلَ فِيمَا بَقِيَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يُسْقِطُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ حَقُّ الْمَقْبُوضِ فَلِهَذَا بَقِيَ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَ الْمِائَةَ وَقَاسَمَهُمَا شَرِيكُهُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ لَهُ كَانَتْ الْقِسْمَةُ جَائِزَةً لَا تُعَادُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ كَانَ حَقُّهُمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ سَوَاءً فَسُقُوطُ مَا بَقِيَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْإِبْرَاءِ لَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْقِسْمَةَ بَعْدَ تَمَامِهَا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةُ قَرْضٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ حِصَّتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَدْفَعُ إلَى شَرِيكِهِ إنْ شَاءَ رُبْعَ كُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الصُّلْحِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِنَصِيبِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ، وَهُوَ رُبْعُ كُرٍّ كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 40 حَقِيقَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ يُصَحِّحُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ مَا أَمْكَنَ وَمُبَادَلَةُ الْكُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَمِنْ حُجَّةِ الْمُصَالِحِ مُبَادَلَةُ الْكُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحِيحَةٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ إنَّمَا تَوَصَّلْتُ إلَى نَصِيبِي؛ لِأَنِّي تَجَوَّزْتُ بِدُونِ حَقِّي، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُشَارِكَنِي فَتَجَوَّزْ بِمَا تَجَوَّزْتُ بِهِ لِأَدْفَعَ إلَيْكَ نِصْفَ مَا قَبَضْتُ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِقَابِضِ الدَّرَاهِمِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ بَاعَهُ حِصَّةً مِنْ الطَّعَامِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ رُبْعَ الْكُرِّ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَيَصِيرُ هُوَ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَوْفِي بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ، لِشَرِيكِهِ نِصْفَهُ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ ضَمَانٍ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ ضَمَانَ نِصْفِ نَصِيبِهِ وَالصُّلْحُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، ثُمَّ فِي الشِّرَاءِ إذَا رَجَعَ بِرُبْعِ الْكُرِّ فَمَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ نِصْفُ كُرٍّ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَشَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ رَجُلٍ بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَكَتَبَا عَلَيْهِ صَكًّا وَاحِدًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّحَادِ الصَّكِّ كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ وَكَتَبَا بِالْأَلْفِ صَكًّا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ نَصِيبَ فُلَانٍ مِنْهُ مِائَةٌ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ خَمْسُمِائَةِ بَخِّيَّةٍ وَشَرَطَ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةِ سَوْدَاءَ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَفَرَّقَتْ وَيُغْنِي نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَصْفًا، فَأَمَّا إذَا بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَأَيُّهُمَا قَبَضَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا شَرَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ لَهُمَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَقْبِضُ أَحَدُهُمَا شَيْئًا إلَّا بِشَرِكَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ بَدَلًا عَنْهُ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمِ بَخِّيَّةٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ زُيُوفٍ أَوْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ سُودٍ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُشَارَكَةِ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى صِفَةِ الْمَقْبُوضِ فَيُشَارِكُهُ فِيهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ إنَّمَا وَصَلَ إلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ فَعَلَى الْآخَرِ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهِ إذَا أَرَادَ مُشَارَكَتَهُ؛ لِأَنَّ مُشَارَكَتَهُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ رِضَاهُ بِقَبْضِهِ، وَعِنْدَ الرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُمَا قَبَضَا ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 41 أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ وَقَبَضَهُ وَأَعْطَى شَرِيكَهُ رُبْعَ كُرِّ حِنْطَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ بِالشَّعِيرِ عَيْبًا يُنْقِصُهُ الْعُشْرَ، وَقَدْ حَدَثَ بِهِ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ عُشْرِ كُرِّ حِنْطَةٍ، وَهُوَ حِصَّةُ الْعَيْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ بَدَلَ هَذَا الْمَقْبُوضِ لِشَرِيكِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقْبُوضَ بَدَلٌ عَنْ هَذَا الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ، وَقَدْ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ حِصَّةَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ ثَوْبًا بِفِرْقٍ بِثَمَنٍ جَيِّدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى فِرْقِ زَيْتٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ يَسْتَحِقُّ ثَمَنًا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالِاسْتِبْدَالُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَإِذَا تَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ بِالْقَبْضِ فَهُوَ كَالْمُعَيَّنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكُرِّ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَلَوْ كَانَ الشَّعِيرُ بِعَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا سِوَى عَقْدِ الصَّرْفِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا وَمِائَةُ دِينَارٍ لِلْآخَرِ فَصَالَحَاهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ لِوَاحِدٍ فَهُنَاكَ يَصِيرُ مُبْرِئًا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِلْآخَرِ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَهُنَا لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا صَالَحَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ لَهُمَا فَلَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ قَسَمْنَا الدَّرَاهِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ فَيَكُونُ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ رِبًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَلِلْآخَرِ كُرُّ شَعِيرٍ قَرْضٍ فَصَالَحَاهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِسْمَةِ الْمَقْبُوضِ عَلَى قِيمَةِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَقِيمَةِ كُرِّ شَعِيرٍ بَيْنَهُمَا وَقُبِضَتْ الْحِنْطَةُ دُونَ كَيْلِهَا وَذَلِكَ رِبًا، وَلَوْ صَالَحَاهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَاهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَتُقْسَمُ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْبَائِعَيْنِ مِنْهُ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْبَدَلُ يُقْسَمُ عَلَى قِيمَةِ الْمُبْدَلِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى حِصَّةٍ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ بِحِصَّتِهِ شَيْئًا مَقْبُوضًا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى أَحَدٍ، فَلَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَهُوَ كَالْجِنَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَرَوَى بَشِيرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيُضَمِّنَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ وَالصَّدَاقُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، ثُمَّ يَصِيرُ الزَّوْجُ مُسْتَوْفِيًا لِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ دَيْنُ الْمَرْأَةِ فَتَصِيرُ هِيَ قَاضِيَةً بِهِ نَصِيبَ الزَّوْجِ مِنْ الدَّيْنِ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 42 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِامْرَأَتَيْنِ عَلَى زَوْجِ إحْدَاهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْأُخْرَى أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ قَاصَّهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ أَوْ لَمْ يُقَاصَّهَا رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نَصِيبَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، ثُمَّ تَتْبَعُ ابْنَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِتَنَصُّفِ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَتْبَعَانِهَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَيْضًا فَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى حِسَابِ ذَلِكَ أَثْلَاثًا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: قَدْ بَرِئْتَ إلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مُبْتَدَأٍ بِالْمَطْلُوبِ مُتَحَتِّمٍ بِالطَّالِبِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِيفَاءِ فَكَانَ هَذَا وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا دَارًا بِحِصَّتِهِ مِنْهَا وَسَكَنَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ أَوْ اسْتَأْجَرَ بِنَصِيبِهِ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ وَهِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ فَكَذَا هَذَا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَصَابَ قِصَاصًا بِنَصِيبِهِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَجُعِلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ، فَإِذَا كَانَ بَدَلُ نَصِيبِهِ الْمَنْفَعَةَ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِهِ مَالًا مُطْلَقًا لِشَرِيكِهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الصُّلْحِ فِي السَّلَمِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ مِنْ السَّلَمِ عَلَى مَالِهِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَجْهُ رَدِّهِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَقْرَضِ، وَهَذَا لِأَنَّ إقَالَةَ السَّلَمِ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ، فَإِذَا كَانَ فَسْخًا وَجَبَ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ لَا بِسَبَبِ عَقْدِ السَّلَمِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أَدَّى إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْإِقَالَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 43 الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فَاسِدًا شَرْعًا فَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عِوَضًا فَصَالَحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَعَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُنْقَضُ بِهَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْفَسْخِ، فَإِنَّ إقَالَةَ السَّلَمِ بَعْدَمَا صَحَّ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ كَانَ دَيْنًا، وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ، وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ فَسْخَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَتَخَالَفَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضِ قُلْنَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَتَنَاقَضَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّلَمَ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ بَيْعٌ، وَهُوَ قَائِمٌ بِمَحَلِّهِ بَعْدَ هَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، فَإِنْ كَانَ لِلسَّلَمِ كَفِيلٌ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ حِينَ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِئَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْهُ لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ لَكِنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ لَزِمَ الْأَصِيلَ، وَلَمْ يَكْفُلْ بِهِ الْكَفِيلُ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ السَّلَمِ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ سِوَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ، فَلَا تَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ». وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَطٌّ، وَلَا إبْرَاءَ عَنْ جَمِيعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ صَحِيحٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى كُرٍّ رَدِيءٍ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ تَبَرَّعَ بِالتَّأْجِيلِ بَعْدَمَا حَلَّ حَقُّهُ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ أَيْضًا وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: أَحْسِنْ إلَى الشَّرِيكِ». وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى كُرٍّ جَيِّدَةٍ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ رَبُّ السَّلَمِ دِرْهَمًا فِي رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا نَقَدَهُ الدَّرَاهِمَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَذْرُوعِ إلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا، فَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْبُيُوعِ أَعَادَهَا هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كُرَّ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ وَالثَّمَنُ دَرَاهِمُ أَوْ شَيْءٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ زَادَهُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَمُ نِصْفَ كُرِّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 44 حِنْطَةٍ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ كَانَتْ بِرَأْسِ مَالِ دَيْنٍ يَبْتَدِئُ عَقْدَ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الزِّيَادَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ثُلُثَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ وَعَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ تَامٌّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا حَطَّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إنَّمَا زَادَهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَبَقِيَ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ الْكُرِّ، وَالْعَقْدُ فِي جَمِيعِ الْكُرِّ بَاقٍ، فَلَا يَجِبُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الزِّيَادَةُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ فِي السَّلَمِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَجَبَ رَدُّ الدَّيْنِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ هَذَا لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أُلْحِقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ أَبْطَلَا الْعَقْدَ فِي نِصْفِ الْكُرِّ فَيَجِبُ رَدُّ حِصَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَإِقْدَامُهُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ إخْرَاجُ الثُّلُثِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الْكُرِّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ جَعَلَهُ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْكُرِّ جُعِلَ حَطًّا لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ، وَهُوَ إخْرَاجُ الْغَبْنِ مِنْ الْعَقْدِ وَإِدْخَالُ الرُّخْصِ فِيهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَتَاقِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ: هَذَا ابْنِي لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ صَارَ لَغْوًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُجْعَلُ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ مَجَازًا فَهُنَا أَيْضًا تَحْصِيلُ الزِّيَادَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ حِصَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَجَازَ. وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَائِمٌ فِي الذِّمَّةِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي السَّلَمِ مُلْتَحِقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ، ثُمَّ مَجْلِسُ الزِّيَادَةِ فِيمَا زَادَ كَمَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْعَشَرَةَ بَطَلَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الْكُرِّ كَمَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَذْكُورَةً فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَتَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهَا، فَإِنْ كَانَ السَّلَمُ ثَوْبًا يَهُودِيًّا قَدْ حَلَّ فَصَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ الثَّوْبِ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمَا تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي النِّصْفِ وَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ، فَإِنْ أَتَاهُ بِنِصْفِ ثَوْبٍ مَقْطُوعٍ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَخْذِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ لَوْ أَتَاهُ بِالثَّوْبِ مَقْطُوعًا نِصْفَيْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَخْذِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي النِّصْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الثَّوْبِ عَيْبٌ فَكَمَا اسْتَحَقَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ فِي جَمِيعِ الثَّوْبِ بِالْعَقْدِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 45 يَسْتَحِقُّهَا فِي النِّصْفِ الَّذِي بَقِيَ فِيهِ الْعَقْدُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ ثَوْبٍ مَقْطُوعٍ وَلَكِنَّهُ تَأَيَّدَ بِثَوْبٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُهُ وَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ إلَى أَجَلٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ وَيُنَاقِضَهُ السَّلَمَ وَيُعَجِّلَ لَهُ نِصْفَ السَّلَمِ قَبْلَ الْأَجَلِ جَازَ النَّقْضُ فِي نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِي الْإِقَالَةِ تَعْجِيلَ النِّصْفِ الْآخَرِ وَإِسْقَاطَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَسْمِيَةُ الْبَدَلِ فَالْفَاسِدُ مِنْ الشُّرُوطِ لَا يُبْطِلُهَا، وَأَمَّا شَرْطُ التَّعْجِيلِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْأَجَلِ بِشَيْءٍ مِمَّا عَادَ إلَيْهِ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ بِالْإِقَالَةِ فِي النِّصْفِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ كُرَّ حِنْطَةٍ إلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ زَادَهُ فِي الْأَجَلِ شَهْرًا عَلَى أَنْ حَطَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا وَرَدَّ عَلَيْهِ الدِّرْهَمَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْأَجَلِ بِالدِّرْهَمِ الْمَرْدُودِ وَذَلِكَ رِبًا وَلَوْ كَانَ حَالًّا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّ الْكُرَّ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ أَوْ عَلَى أَنْ أَخَّرَهُ شَهْرًا كَانَ جَائِزًا، أَمَّا إذَا شَرَطَ أَنَّ الْكُرَّ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ حَطَّ دِرْهَمًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَخَّرَهُ شَهْرًا، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَلَى أَنْ أَخَّرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَنْهُ شَهْرًا فَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْأَجَلِ بِالدِّرْهَمِ الَّذِي رَدَّهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ رِبًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلَى أَنْ أَخَّرَهُ بِالدِّرْهَمِ الْمَحْطُوطِ شَهْرًا فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ وَاجِبٌ رَدُّهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَالْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مُرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الدِّرْهَمَ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ الْمَحْطُوطَ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ، وَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ وَهِيَ جَارِيَةٌ قَدْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا يَوْمَ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ عَيْنِهَا وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ فَيَكُونُ رِبًا - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ - إلَّا أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَاشْتِرَاطُ رَدِّ عَيْنِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَبَعْدَ صِحَّتِهَا يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَسَّطَهَا لِتَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ فَأَخَذَ أَرْشَهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ بَدَلِهِ فِي يَدِهِ كَقِيَامِ عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَاتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ كَانَ هُوَ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ بِقَبْضِهَا كَانَ لِرَبِّ السَّلَمِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ دَفْعِهَا بِمَنْزِلَةِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 46 مَا لَوْ تَعَيَّبَتْ عِنْدَهُ بِعَيْبٍ آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ بَعْدَ النُّقْصَانِ فَحَقُّ رَبِّ السَّلَمِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ جَازَ رَدُّهُ، فَأَمَّا بَعْدَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الرَّدِّ فَحَقُّ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّبَا، فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِرِضَا رَبِّ السَّلَمِ بِهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ وَلَكِنَّهُ جَنَى عَلَيْهَا فَأَخَذَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ السَّلَمِ إلَّا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَاعَهَا لِرَبِّ السَّلَمِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا لَهُ عَلَى عِوَضٍ فَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ كَالْبَيْعِ، وَإِنْ وَهَبَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ عِنْدَ الْإِقَالَةِ قَدْ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ الْإِقَالَةِ، وَهُوَ عَوْدُ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ مَجَّانًا، فَلَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ الْإِقَالَةِ شَيْئًا آخَرَ، كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا أُجِّلَ، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَهُنَاكَ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَا يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا بِعِوَضٍ غَرِمَهُ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الصَّدَاقِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَوَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا. وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ حِنْطَةً رَأْسُ مَالِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِائَتِي دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ وَلَيْسَ بِإِقَالَةٍ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ، وَالصُّلْحُ إنَّمَا يَكُونُ إقَالَةً إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ اسْتِبْدَالٌ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بَاطِلٌ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ " مِنْ " هُنَا صِلَةٌ فَيَبْقَى الصُّلْحُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ رَأْسِ مَالِهِ وَذَلِكَ إقَالَةٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ رَأْسِ مَالِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ إقَالَةً، فَإِنْ قَالَ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ مَالِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَحِينَ ذَكَرَ فِي الصُّلْحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ كَانَ ذَلِكَ اسْتِبْدَالًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ بَعْضَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ إقَالَةٌ صَحِيحَةٌ، وَشَرْطُ تَرْكِ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَهُ بَاطِلٌ، وَالْإِقَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَإِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، وَفِيهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ سَلَّمَ ذَلِكَ الثَّوْبَ إلَى آخَرَ، ثُمَّ صَالَحَهُ الْأَوَّلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ صَالَحَ الثَّانِي الثَّالِثَ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْأَوَّلُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَالثَّوْبُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِهَذَا الصُّلْحِ رَدُّ قِيمَتِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ الثَّوْبُ بِمِلْكٍ مُسْتَقْبَلٍ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَفِي حَقِّ الْأَوَّلِ عَادَ الثَّوْبُ بِمِلْكٍ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 47 مُسْتَقْبَلٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ قِيمَتَهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى عَيْنِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ الثَّانِي مِنْ الثَّالِثِ، فَإِنْ اصْطَلَحَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ عَائِدٌ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ فَقَدْ انْدَفَعَ الضَّرَرُ فَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ، وَغَيْرُهُ الْمُسْلَمُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ عَوْدُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ مِلْكٍ جَدِيدٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ، وَإِذَا رَضِيَ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْقِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُصَالِحَ الثَّانِي مَعَ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ هُنَاكَ تَقَرَّرَ فِي الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا يَعُودُ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذْ قَدَرَ عَلَى رَدِّهِ، وَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَتَقَرَّرْ حَقُّهُ فِي الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَعُودُ التَّعَيُّنُ إذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ الْآبِقِ إذَا عَادَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَوْ اصْطَلَحَ عَلَى أَخْذِ الْعَبْدِ جَازَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقِيمَةِ الَّتِي قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَهُنَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي قَضَى بِهَا الْقَاضِي رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَوْسَطُ قَبِلَ الثَّوْبَ بِغَيْرِ حُكْمٍ بِعَيْبٍ بَعْدَ الصُّلْحِ الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ بِالْعَيْبِ حُكْمٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَلَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ نَاقَضَ الْأَقَلُّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَجَلِ، أَعَادَ إلَيْهِ الثَّوْبَ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ مِلْكِ الثَّانِي فَهُوَ وَمَا لَوْ صَالَحَ الْأَوَّلَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْعَقْدِ الثَّانِي سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ نَاقَضَهُ السَّلَمَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ فَقَضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِعَوْدِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ عَادَ وَلَكِنَّ الثَّوْبَ رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ، وَإِنَّمَا رَدَّهُ بِالْعَيْبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ لِأَنَّ مُنَاقِضَ السَّلَمِ عَقَدَ الرَّدَّ فَبَطَلَ، وَلَمَّا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ هُوَ الْقِيمَةَ الَّتِي قَبَضَهَا بَقِيَ هُنَا الثَّوْبُ ثَوْبًا بِنَفْسِهِ أَنْ يُسَلَّمَ إلَيْهِ عَلَى رَدِّ السَّلَمِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَيْهِ سَلِيمًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إذَا رُدَّ بِعَيْبٍ فَاحِشٍ يُؤْخَذُ قِيمَتُهُ مِنْ الزَّوْجِ. وَلَوْ كَانَ وَهَبَهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَرِثَهُ، ثُمَّ أَقَالَهُ السَّلَمُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ الثَّوْبُ بِمِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ بِالشِّرَاءِ، وَفِي الْوِرَاثَةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُورِثَ فِي الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِلْمُورِثِ كَانَ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا سِوَى الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، وَاخْتِلَافُ سَبَبِ الْمِلْكِ بِاخْتِلَافِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 48 عَادَ إلَيْهِ عَيْنٌ آخَرُ فَلِهَذَا لَزِمَهُ عِنْدَ الْإِقَالَةِ قِيمَةُ الثَّوْبِ، وَلَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ، ثُمَّ نَاقَضَهُ السَّلَمُ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبِهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْهِبَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ. وَإِذَا مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ أَوْ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ الْحَيُّ الْوَارِثَ وَمَاتَا جَمِيعًا، ثُمَّ صَالَحَ الْوَارِثُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفُ الْمُورِثِ فِيمَا كَانَ لَهُ وَالصُّلْحُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُورِثِ فِي الْمِلْكِ قَامَ مَقَامَهُ فِي الْإِقَالَةِ أَيْضًا. وَإِذَا صَالَحَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ وَبَعْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْمُسْلَمِ فِيهِ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ قَدْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْمُسْلَمِ فِيهِ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِبْدَالًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ عَنْ الطَّعَامِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَبُّ السَّلَمِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَأْخُذُ الْخَمْسَ أَيْضًا بِغَيْرِ شَيْءٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَإِنَّ الطَّعَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ رِبًا، وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرَضًا فَصَالَحَهُ فَبَاعَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ بِطَعَامٍ مِثْلِ طَعَامِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ، وَإِنَّ رَبَّ السَّلَمِ بَائِعٌ لِذَلِكَ الْعَرَضِ، وَقَدْ اشْتَرَى بَعْدَ السَّلَمِ بِمِثْلِ مَا بَاعَهُ أَوْ بِأَكْثَرَ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ السَّلَمِ، وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِرْبَاحٌ عَلَى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الصُّلْحِ. وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ شَاةً فَأَصَابَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَسَمْنِهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ وَعَلَيْهِ ثَمَنُهَا لِمَكَانِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ كَمَا فِي الْوَلَدِ الَّذِي قَدَّمْنَا قَالَ: إلَّا أَنْ يَرْضَى رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّاةَ بِعَيْنِهَا وَمُرَادُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ قَائِمَةً وَلَكِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ هُنَا اسْتَهْلَكَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِوَضٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَفْوِيتِهِ جُزْءًا مِنْ عَيْنِهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ رَدَّ عَيْنِهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ رَبُّ السَّلَمِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَخْلًا فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَتِهِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ فَهُنَاكَ، وَلَاءُ الْوَلَدِ بَاقٍ لَهُ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْوَلَدِ فَيُمْنَعُ رَدُّ عَيْنِهَا، وَإِنْ رَضِيَ رَبُّ السَّلَمِ بِهَا رَهْنًا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَادَةِ فَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَكَلَ مِنْ غَلَّتِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْعَبْدَ، وَلَا يَرُدَّ الْغَلَّةَ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَيْسَتْ مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْبُيُوعِ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 49 السَّلَمُ فَاسِدًا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِرَأْسِ مَالِهِ مَا يَشَاءُ يَدًا بِيَدٍ كَمَا يَشْتَرِي بِالْعَرَضِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَمَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَكُونُ بَدَلًا مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ بَقِيَّةَ السَّلَمِ إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَرْضٍ أَقْرَضَهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الْقَرْضِ جَائِزٌ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي بَابِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْقَبْضِ وَكَانَ السَّلَمُ بَدَلًا عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِ بَعْدَ الْفَسْخِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْفَسْخِ. وَإِذَا كَانَ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ سَلَمٌ عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَأَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي صُنْعِ التُّجَّارِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ شُرَكَاءُ الْعَنَانِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَوْ اشْتَرَيَا عَبْدًا، ثُمَّ أَقَالَ أَحَدُهُمَا الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالصُّلْحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي السَّلَمِ. وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا فَأَسْلَمَ لَهُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، ثُمَّ صَالَحَ الَّذِي وَلِيَ السَّلَمَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ عَلَيْهِ وَيَضْمَنُ كُرَّ سَلَمٍ لِلْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ صُلْحُهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالسَّلَمِ إذَا أَبْرَأَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ جَازَ فِي قَوْلِهِمَا وَكَانَ لِلْآمِرِ مِثْلُ طَعَامِهِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ لَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا أَقَالَ: الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُوَكِّلِ بِعَيْنِهِ وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ تُصَادِفُ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ فَهُوَ دَيْنٌ وَاجِبُ الْعَقْدِ وَالْعَاقِدُ فِيهِ لِغَيْرِهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ إلَّا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالسَّلَمِ فَتَصَرُّفُهُ مِنْ حَيْثُ الْإِقَالَةُ إسْقَاطٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ حَقُّ الْوَكِيلِ فَلِهَذَا صَحَّ وَلَكِنْ إذَا قَبَضَهُ تَعَيَّنَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْآمِرِ، فَإِذَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ مِثْلَهُ، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ الَّذِي صَالَحَ الْمَطْلُوبَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَقَبَضَهُ جَازَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ لَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لَهُ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْإِقَالَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ مِلْكُ الْمَعْقُودِ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَيْنُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لَا غَيْرَهُ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ حَالَ الدَّيْنِيَّةِ هُوَ حَقُّ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ وَبِاعْتِبَارِ حَالِ الْعِينَةِ هُوَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 50 وَالْإِبْرَاءُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ يُلَاقِي مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ. وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلَانِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَنَقَدَ هَذَا مِنْ عِنْدِهِ خَمْسَةً، وَهَذَا مِنْ عِنْدِهِ خَمْسَةً، وَلَمْ يَخْلِطَا الْعَشَرَةَ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ وَأَخَذَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يُشْرِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ أَصْلَ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ أَحَدِ رَبَّيْ السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ الَّذِي نَقَدَاهُ مُخْتَلِطًا أَوْ غَيْرَ مُخْتَلِطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ جَوَابُهُمَا هُنَا كَجَوَابِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ لَهُمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ وُجُوبَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ كَشَطْرِ الْعِلَّةِ - الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ تَجْوِيزَ صُلْحِ أَحَدِهِمَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَيَتَقَرَّرُ فِي رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ يَعُودُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ مُشَارَكَةِ السَّاكِتِ مَعَ الْمُصَالِحِ فِي الْمَقْبُوضِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ هُنَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِيمَا نَقَدَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَقَبَضَ شَيْئًا مِنْ السَّلَمِ شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ طَعَامَ السَّلَمِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْعَقْدُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُشَارِكُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيَّانِ إلَى ذِمِّيٍّ فِي خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَطَلَتْ حِصَّتُهُ مِنْ السَّلَمِ وَرَجَعَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ قَبْضِ الْخَمْرِ بِحُكْمِ السَّلَمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْخَمْرَ لَوْ كَانَتْ مَبِيعًا عَيْنًا بَطَلَ الْعَقْدُ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ دَيْنًا أَوْلَى، فَإِنْ صَالَحَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ أَوْ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّلَمِ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّمَا عَادَ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ صِحَّةِ السَّلَمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَادَ إلَيْهِ بِالْإِقَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِالْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَوِيَ لِنَصْرَانِيٍّ مَالٌ مِنْ هَذَا السَّلَمِ كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْمُسْلِمَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عَادَ إلَى أَحَدِهِمَا بِصِفَةٍ بِطَرِيقٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَيَكُونُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْمَقْبُوضِ إذَا تَوِيَ مَالُهُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْمَقْبُوضِ لَهُ كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَمْرِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا الْمَدْيُونَ عَلَى شَيْءٍ وَأَجَازَ الْآخَرُ اتِّبَاعَ الْمَدْيُونِ بِنَصِيبِهِ، ثُمَّ تَوِيَ مَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 51 يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِيمَا قَبَضَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ نَصْرَانِيٌّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا عَلَى خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ فَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ أَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ هُنَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْخَمْرِ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَعَذَّرَ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِخْلَافِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَالنِّكَاحُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهَا قِيمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَلَوْ أَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ خَمْرًا إلَى نَصْرَانِيٍّ فِي حِنْطَةٍ وَقَبَضَ الْخَمْرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُنْتَقَضْ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ طَرَأَ بَعْدَ قَبْضِ الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ قَبْضُ الْحِنْطَةِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ صَالَحَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ خَمْرٌ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ الْخَمْرَ بِالْعَقْدِ، وَلَا بِالْفَسْخِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ نَصْرَانِيًّا لَوْ بَاعَ نَصْرَانِيًّا جَارِيَةً بِخَمْرٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ تَعَامَلَا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ إذَا صَالَحَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا كَمَا لَا يَتَمَلَّكُ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ بِالْعَقْدِ وَالْفَسْخِ لَا يَمْلِكُ قِيمَتَهَا، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ هَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَصْحِيحَ الْإِقَالَةِ عَلَى قِيمَتِهَا مُمْكِنٌ، وَإِنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ وَهُنَا يَتَعَذَّرُ تَصْحِيحُ الْإِقَالَةِ عَلَى قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا أَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ إلَى نَصْرَانِيٍّ خِنْزِيرًا فِي خَمْرٍ وَقَبَضَ الْخِنْزِيرَ وَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا انْتَقَضَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ مَمْلُوكٌ بِالْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ حِينَ طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَحِينَ اسْتَهْلَكَهُ كَانَ هُوَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمَا فَيُحَوَّلُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى قِيمَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَجَبَ رَدُّ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حِينَ انْتَقَضَ بِهِ السَّلَمُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَ الْوَاجِبُ الرَّدَّ مِثْلَ تِلْكَ الْخَمْرِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ تِلْكَ أَوْ قِيمَتَهَا بِالْإِقَالَةِ لِلْمُسْلِمِ. وَإِذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ بِالسَّلَمِ الطَّالِبَ مِنْ السَّلَمِ عَلَى ثَوْبٍ وَالسَّلَمُ حِنْطَةٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ بِهَذَا الصُّلْحِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا الْحِنْطَةَ مِنْ الْكَفِيلِ بِالثَّوْبِ، وَإِذَا كَانَ تَمْلِيكُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى، ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ عَلَى رَأْسِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 52 الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَوْلَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ صُلْحُهُ مَعَ الْكَفِيلِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِطَعَامِ السَّلَمِ كَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَصُلْحُهُ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَلَى غَيْرِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا وَيَكُونُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ صُلْحُهُ مَعَ الْكَفِيلِ. وَلَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ السَّلَمِ عَلَى أَنْ زَادَهُ رَبُّ السَّلَمِ دِرْهَمًا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَقَبَضَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِي الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالْكَفِيلُ مُطَالَبٌ بِهِ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ إدْخَالِ الشَّيْءِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مَا أَوْجَبَ لَهُ الزِّيَادَةَ إنَّمَا أَوْجَبَهَا لِلْكَفِيلِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُلْحَقَةٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَبِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ طَعَامِ السَّلَمِ، وَلَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ طَعَامِ السَّلَمِ فَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الدَّرَاهِمَ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَثْبُتُ عَلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا وَصْفُ الْعَقْدِ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ، فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَإِذَا عَقَدَ لَمْ يَكُنْ إلَيْهِ تَغْيِيرُ وَصْفِ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ فَسْخِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ قَدْ أَغْلَى عَلَيَّ السَّلَمَ فَزَادَهُ الْكَفِيلُ مَخْتُومَ حِنْطَةٍ فِي السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ زَادَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، وَلَمْ يُحَطّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ حَطَّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ صَارَ مُتَحَقِّقًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَيْسَ إلَى الْكَفِيلِ وِلَايَةُ إسْقَاطِ حَقِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ بِطَعَامِ السَّلَمِ لَا تَمَسُّ رَأْسَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِزِيَادَةِ الْكَفِيلِ فِي طَعَامِ السَّلَمِ. وَلَوْ زَادَ رَبُّ السَّلَمِ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ زَادَهُ الْكَفِيلُ مَخْتُومَ حِنْطَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا ابْتِدَاءَ إسْلَامِ الدَّرَاهِمِ فِي مَخْتُومِ حِنْطَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ وَالزِّيَادَةُ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا سَلَمًا مُبْتَدَأً كَانَ أَصْلًا لَا زِيَادَةً فَيَكُونُ غَيْرَ مَا أَوْجَبَاهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ ثَوْبًا مَرْوِيًّا فَأَعْطَاهُ الْكَفِيلُ ثَوْبًا أَجْوَدَ مِنْهُ أَوْ أَطْوَلَ مِنْهُ عَلَى أَنْ زَادَهُ رَبُّ السَّلَمِ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ زِيَادَةِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ الْتَزَمَهَا بَيْعًا لَا مَقْصُودًا بِالْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا فَرَدَّ عَلَى الْكَفِيلِ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَمْ يُبَايِعْهُ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 53 حَطًّا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ طَعَامًا فَأَعْطَاهُ الْكَفِيلُ طَعَامًا فِيهِ عَيْبٌ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِرْهَمًا مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعَ الْأَصِيلِ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ إقَالَةَ الْعَقْدِ فِي الْوَصْفِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَعْطَاهُ طَعَامًا فِيهِ عَيْبٌ وَتَجَوَّزَ بِهِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا كَفَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَقٌّ مُؤَجَّلٌ إلَى أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ أَعْطَاهُ جِنْسَ حَقِّهِ وَتَجَوَّزَ هُوَ بِالْعَيْبِ فِيهِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا كَفَلَ بِهِ. وَلَوْ أَوْفَاهُ الْكَفِيلُ السَّلَمَ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ فَقَبِلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْكَفَالَةِ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا الْتَزَمَ وَمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَقَبُولُ رَبِّ السَّلَمِ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ الْمَعِيبَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْأَصِيلَ بِمَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ، وَلَوْ صَالَحَهُ الْكَفِيلُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ السَّلَمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَيُعْطِيَهُ الْأَجْرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَيَرُدُّ الْأَجْرَ وَيَرُدُّ الطَّعَامَ حَتَّى يُوَفِّيَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ مَعَ الْأَصِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ بِالسَّوَادِ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْكُوفَةِ وَيَأْخُذَ لَهُ كَذَا مِنْ الْأَجْرِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إنْ كَانَ دَفَعَهُ كَمَا لَوْ صَالَحَ مَعَ الْأَصِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ خَالِيَةٌ عَنْ الْمُقَابَلَةِ. وَإِذَا صَالَحَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْلُ السَّلَمِ الْكَفِيلَ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ ثَوْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ لَهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ بَلْ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ وَالْأَدَاءِ يَصِيرُ كَالْمُقْرِضِ لِمَا أَدَّى إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الْقَرْضِ وَبِالدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِ عَقْدِ السَّلَمِ صَحِيحٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ صُلْحُهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَإِنْ أَدَّى الطَّعَامَ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَا جَمِيعًا لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَدَّاهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُسْلَمِ لَمْ يَحْصُلْ حِينَ احْتَاجَ إلَى أَدَاءِ طَعَامِ السَّلَمِ مِنْ مَالِهِ وَالْكَفِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لِمَا أَخَذَهُ، ثُمَّ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ الرُّجُوعَ فِيهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ بِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أُخِذَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. وَإِذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى رَجُلٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ مَرِضَ رَبُّ السَّلَمِ وَحَلَّ الطَّعَامُ، وَهُوَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 54 يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَتَقَايَلَا السَّلَمَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَجُوزُ فِي ثُلُثِ الْكُرِّ وَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ وَثُلُثَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ بِالْإِقَالَةِ حَابَى بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْمُحَابَاةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا وَجْهَ لِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ فِي الزِّيَادَةِ بِأَنْ يَغْرَمَ ذَلِكَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَوْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَا وَجْهَ إلَى إبْطَالِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ إقَالَةَ السَّلَمِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبْعِيضَ فَيَتَعَيَّنُ الْإِطْلَاقُ الَّذِي قُلْنَا، وَهُوَ تَصْحِيحُ الْإِقَالَةِ فِي ثُلُثَيْ الْكُرِّ وَإِبْطَالُهَا فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَرِيضِ سِوَى هَذَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَكَانَتْ الْإِقَالَةُ تَصِحُّ فِي الْكُلِّ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَالْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ عَشَرَةٍ فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ نَضُمَّ مَا عَدِمْنَا إلَى الْمَوْجُودِ، ثُمَّ نَنْظُرَ إلَى مَا عَدِمْنَا أَنَّهُ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ بِقَدْرِهِ وَالْعَشَرَةُ الَّتِي عَدِمْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ الثُّلُثُ، فَنُبْطِلُ الْإِقَالَةَ فِي ثُلُثِ الْكُرِّ وَنُجَوِّزُهَا فِي ثُلُثَيْ الْكُرِّ بِثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُ كُرٍّ قِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَثُلُثَا رَأْسِ الْمَالِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ وَيُجْعَلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُلُثَا كُرٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّمَا نَفَذَ بِالْمُحَابَاةِ لَهُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ سَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ ضَعْفَ ذَلِكَ فَيَنْقَسِمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ فِي الثُّلُثِ وَالْإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ لَا نَاقَضَ لَهَا؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَالْحُكْمُ فِيهِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ كَمَا قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الصُّلْحِ فِي الْغَصْبِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) رَجُلٌ غَصَبَ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ صَاحِبُهُ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ حَالَّةٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ مِنْهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ جَازَ سَوَاءٌ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَهْلَكًا فَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِمَّا صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِكَثِيرٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَيَرُدُّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَهْلَكًا وَقْتَ الصُّلْحِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَالصُّلْحُ مَاضٍ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَغْصُوبِ الْهَالِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 55 مُسْتَهْلَكًا حَقِيقَةً، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ النُّقُودِ لَا يَجُوزُ، حَتَّى إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُ دُونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الصُّلْحِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ قِيمَتَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِقْدَارُ الْقِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ الْحُجَّةَ لِغَيْبَةِ شُهُودِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ حَضَرَ شُهُودُهُ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّهِ فِي اسْتِرْدَادِ الزِّيَادَةِ كَالْمَرْأَةِ إذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا، ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْلُفُ، فَإِنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا وَتَصَادَقَا أَنَّ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْقِيمَةُ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مِنْ النُّقُودِ شَرْعًا، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِ النُّقُودِ كَانَ رِبًا كَمَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلٌ عَنْ الْقِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ لَجَازَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ عَنْهُ وَبِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ يَكُونُ مَبِيعًا. وَقَاسَا هَذَا بِشَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَيَضْمَنُهُ الْآخَرُ وَصَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الْقِيمَةِ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَصَالَحَ السَّاكِتُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ اسْتَسْعَاهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمُشْتَرِي فَرَضِيَ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ تَقَدَّرَ شَرْعًا بِمَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي فَلَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ تَرْكَ التَّضْمِينِ بَقِيَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى تَكُونَ الْعَيْنُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ آبِقًا فَعَادَ مِنْ إبَاقِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَسْبَهُ، وَلَوْ كَانَ نَصَبَ سِكَّةً فَيَعْقِلُ بِهَا سَيِّدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْكَسْبَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْغَاصِبَ مِنْ إبَاقِهِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ هُوَ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ بِهَذَا الصُّلْحِ، فَإِذَا قَالَ: هُوَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 56 عِنْدِي فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مَحَلُّ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا شِرَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شِرَاءَ الْآبِقِ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ عَبْدِي فَقَدْ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ جَازَ فَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ. قَالَ: وَلَوْ غَصَبَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ عَلَى دَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْحِنْطَةِ يَكُونُ ثَمَنًا وَالشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْمَوْزُونَاتُ كُلُّهَا، فَأَمَّا إذَا صَالَحَهُ عَلَى مَكِيلٍ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسِيئَةُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ مَا خَلَا الطَّعَامَ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مِثْلِهِ إلَى أَجَلٍ حَالًّا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَأْجِيلٌ فِي ضَمَانِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ الْمِثْلِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَتَأْجِيلٌ فَيَبْقَى، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ، نَسِيئَةً كَانَ أَوْ حَالًّا لِأَجْلِ الرِّبَا فَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْمُسْتَهْلَكِ أَوْ عَنْ مِثْلِهِ فَكَيْفَمَا كَانَ فَالْفَضْلُ رِبًا. وَلَوْ غَصَبَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ فَاسْتَهْلَكَهُمَا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْحِنْطَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لِتَغْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، صَحِيحٌ إذَا أَفْرَدَهُ فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمُسْتَهْلَكِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ عَيْنَ حَقِّهِ فِي الْقَائِمِ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ. وَلَوْ غَصَبَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَاسْتَهْلَكَهُمَا، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُمَا عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْكُرَّ وَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ رَجَعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ انْتَقَضَ الصُّلْحُ وَكَانَ قَدْ صَحَّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بَعْدَ انْتِقَاضِهِ بِالْعِوَضِ الَّذِي كَانَ حَقًّا لَهُ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُبْرِئٌ لَهُ عَنْ الدَّنَانِيرِ وَعَنْ بَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَمُؤَجِّلٌ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي الدَّرَاهِمِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَمَا قَبَضَهَا أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا أَوْ سَتُّوقَةً رَجَعَ بِمِثْلِهَا، وَلَوْ لَمْ يُنْتَقَضْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ فَبِاسْتِحْقَاقِ مَا اُسْتُوْفِيَ أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ لَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِي الْمُسْتَوْفَى فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِضَّةً فَصِحَّةُ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهُ مِائَةَ مِثْقَالِ فِضَّةٍ تِبْرًا وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 57 حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مِثْلَ الْفِضَّةِ بِطَرِيقِ الْجَوْدَةِ فِي الْإِسْقَاطِ لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْجَوْدَةِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِمُقَابَلَةِ مَا أَسْقَطَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ رِبًا، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الدَّنَانِيرُ لِإِنْسَانٍ وَالدَّرَاهِمُ لِآخَرَ فَصَالَحَاهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ صَالَحَاهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالُوا يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ مُبْرِئًا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُمْكِنٌ كَمَا إذَا كَانَ الْمَالَانِ لِوَاحِدٍ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ الْمَالَيْنِ إذَا كَانَا لِاثْنَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَةِ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا، وَإِذَا جَعَلْنَا صَاحِبَ الدَّرَاهِمِ مُبْرِئًا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُزَاحِمَ صَاحِبَهُ بِمَا أَبْرَأَهُ عَنْهُ مِنْ الْعَشَرَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْمَالَيْنِ ابْتِدَاءً وَبِاعْتِبَارِهِ يَظْهَرُ الرِّبَا، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالَانِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلِهَذَا صَحَّ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ. وَلَوْ غَصَبَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَالْمَغْصُوبُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ أَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ الْكُرِّ الْمَغْصُوبِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَاسْتَفْضَلَ الثَّانِيَ غَيْرَ أَنَّ طَعَامَ الْغَصْبِ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِمَا حِينَ اصْطَلَحَا فَالصُّلْحُ جَائِزٌ حِينَ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِمَا، فَإِنَّا نُجْبِرُ الْغَاصِبَ عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ فِي الْحَالِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْكُرُّ دَيْنًا فَصَالَحَهُ عَلَى نِصْفِهِ، وَمَا اسْتَفْضَلَ الْغَاصِبُ وَاجِبٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مِلْكِهِ، وَلَا يَتَمَلَّكُهُ الْغَاصِبُ حَقِيقَةً بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ وَجَمِيعِ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي ذَلِكَ كَالْحِنْطَةِ. وَلَوْ غَصَبَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخْفَاهَا وَغَيَّبَهَا عَنْهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَعْطَاهَا إيَّاهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْفَضْلَ كَمَا فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْمِلْكِ، وَفِي الْبَعْضِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ وَالرَّدِّ كَالْحِنْطَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِحَيْثُ يَرَاهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْغَاصِبُ مُنْكِرٌ لِلْغَصْبِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ بِإِنْكَارِهِ الْغَصْبَ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَخْذُ عَيْنِهِ فِي الْحُكْمِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَهْلَكِ، فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلِهَذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ فِي الْحُكْمِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَالْمُنْكِرُ آثِمٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالْغَصْبِ. فَإِنْ وَجَدَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَيِّنَةً الجزء: 21 ¦ الصفحة: 58 عَلَى بَقِيَّةِ مَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ قَضَيْتُ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَزَالَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَتَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ لَا فِي حَقِّهِمَا فَلِهَذَا لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا قَبَضَهُ وَلَكِنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ مَعَ الْغَاصِبِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا فِي دَارِ دَعْوَى مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِمَا فَصَالَحَ رَبُّ الدَّارِ أَحَدَهُمَا عَلَى مَالٍ لَمْ يُشْرِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ إنْ كَانَ الْمُصَالِحُ مُنْكِرًا أَوْ مُقِرًّا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى مِلْكُهُمَا وَأَنَّ الْبَائِعَ لِنَصِيبِهِ وَتَصَادُقَهُمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ وَأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ مِنْ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ وَالصُّلْحُ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْجِنْسِ وَالْمُقَيَّدِ بِعَدَمِ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ. وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَهَدَّدُوهُ وَشَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ حَتَّى صَالَحَ رَجُلًا عَنْ دَعْوَاهُ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا الصُّلْحُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسُلْطَانٍ، وَالْإِكْرَاهُ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا شَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ وَإِقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَائِفًا التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَالسِّلَاحَ مِمَّا لَا يَلْبَثُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُشْهِرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ وَضَرَبُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغِيثُ بِالنَّاسِ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فِي الْمِصْرِ بِالنَّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا عَلَى أَحَدٍ فَالضَّرْبُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ مِمَّا لَا يَلْبَثُ عَادَةً، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا فِي الْمِصْرِ أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ السَّفَرِ أَوْ دَارًا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَالْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ اللُّبْثَ بَعِيدٌ فَصَارَ خَائِفًا التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى النَّاسِ فَهُوَ وَالْمُنَادَاةُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْغَوْثُ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي أَكْرَهَ فِي ذَلِكَ انْتِصَافَهُ فِي الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِسُلْطَانٍ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِكْرَاهِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا الْمُعْتَبَرُ خَوْفُهُمَا التَّلَفَ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: وَلَوْ تَوَعَّدَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالتَّزْوِيجِ عَلَيْهَا أَوْ بِالتَّسَرِّي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُ مَا هَدَّدَهَا بِفِعْلٍ مُتْلِفٍ أَوْ مُؤْلِمٍ بَدَنَهَا إنَّمَا يَغُمُّهَا بِذَلِكَ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَحَقَّقُ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلَيْنِ فَأَكْرَهَ السُّلْطَانُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى صُلْحِ أَحَدِهِمَا فَصَالَحَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ مَعَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الصُّلْحِ مَعَهُ وَجَازَ مَعَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الصُّلْحَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً، وَهُوَ رَاضٍ بِالصُّلْحِ مَعَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ رَاضٍ بِهِ مَعَ الْآخَرِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِأَحَدِهِمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 59 بِدَيْنٍ فَأَقَرَّ لَهُمَا بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ فَلَوْ صَحَّحْنَاهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ فَقَبَضَ نَصِيبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ قُلْنَا لَا يُشَارِكُهُ كَانَ هَذَا إلْزَامَ شَيْءٍ سِوَى مَا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ إنْشَاءُ عَقْدٍ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ جَازَ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ فَهَذَا قِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الصُّلْحِ فِي الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ قَالَ رَدَدْتُهَا عَلَيْكَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَمِينًا، فَإِنْ صَالَحَهُ صَاحِبُهَا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالرِّوَايَةُ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ، ثُمَّ صَالَحَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا قَالَ: فَالْأَجِيرُ عِنْدَهُ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ وَقَالَ: مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصُّلْحُ صَحِيحٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا:) أَنْ يَدَّعِيَ صَاحِبُهَا عَلَيْهِ الِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَالِاتِّفَاقُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا بِسَبَبٍ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَهَذَا صُلْحٌ مَعَ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا. (وَالثَّانِي:) أَنْ يَقُولَ الْمُودَعُ قَدْ هَلَكَتْ أَوْ رَدَدْتُهَا، وَلَا يَدَّعِي صَاحِبُهَا عَلَيْهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَكِنَّهُ يُكَذِّبُهُ فِيمَا يَقُولُ فَفِي هَذَا خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَلَوْ ادَّعَى غَصْبًا عَلَى إنْسَانٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ جَازَ الصُّلْحُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فَهَذَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَاقٍ عَلَى الْمُودَعِ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ بَقِيَ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَنَا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمُودَعُ أَمْثَلُ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِهِ مَا أَخَذَ مِنْ دَعْوَى الرَّدِّ أَوْ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ كَوْنِهِ أَمِينًا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ، فَصَارَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتُوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُودَعِ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَظْهَرُ بِخَبَرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ تَامَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ حُصُولُ الْبَرَاءَةِ بِخَبَرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ عَنْ الْمُسْتَهْلَكِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِالصُّلْحِ فِدَاءُ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمُدَّعِي خَلَفًا عَمَّا فَوَّتَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 60 عَلَيْهِ الْمُنْكِرُ لِلدَّعْوَى بِزَعْمِهِ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ لَيْسَتْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بَلْ هِيَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَيُفْدَى مِثْلُهَا بِمَالٍ، كَالْمَرْأَةِ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْيَمِينِ، وَلَوْ صَالَحَهَا الزَّوْجُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ بِخِلَافِ يَمِينِ الْمُنْكِرِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَاتِ، فَإِنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْمُودِعَ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالرَّدِّ وَالْهَلَاكِ فَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُنْكِرِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، ثُمَّ صَالَحَهُ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ، وَالْعُذْرُ عَنْ الْيَمِينِ مَا ذَكَرْنَا. (الثَّالِثُ:) فِيمَا إذَا قَالَ الْمُودَعُ: رَدَدْتُهَا، وَقَالَ: الْمُودَعُ: اسْتَهْلَكْتَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ هَذَا الصُّلْحُ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُلُ لَهُ بِقَوْلِهِ رَدَدْتُهَا وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ صَاحِبِهَا، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِخَبَرِهِ لَا يَبْطُلُ بِدَعْوَى صَاحِبِهَا الِاسْتِهْلَاكَ فَكَمَا أَنَّ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَوْ صَالَحَ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَى. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الرَّدَّ وَإِنْ ثَبَتَ بِخَبَرِهِ فَصَاحِبُهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ ذَلِكَ كَدَعْوَى مُبْتَدَأَةٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْيَمِينَ هُنَا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُودَعِ مِنْ الرَّدِّ وَأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى عِلْمِهِ بِاَللَّهِ مَا اسْتَهْلَكْتُهَا كَمَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ رَدَدْتُهَا لِكَوْنِهِ أَمِينًا وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْوَدِيعَةِ. وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَدَّعِي صَاحِبُهَا لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ وَهُنَا يَدَّعِي ذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ جَحَدَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْدِعُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ الصُّلْحِ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ قَدْ قَالَهَا فَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَبَعْدَهَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْدَامَ الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى الصُّلْحِ طَائِعًا الْتِزَامٌ مِنْهُ لِلْمَالِ بِسَبَبِ تَصْحِيحٍ ظَاهِرٍ فَهُوَ يُرِيدُ بِهَا تَفْرِيعَ ذَلِكَ أَنْ يَبْطُلَ مَا الْتَزَمَهُ فِيهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، ثُمَّ زَعَمَتْ أَنَّ عِدَّتَهَا كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ قَبْلَ الْخُلْعِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، فَإِنْ أَقَامَ الْمُودِعُ بَيِّنَةً بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بَرِئَ مِنْ الصُّلْحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى الطَّالِبِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُخْتَلِعَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُنَاقِضٌ فِي الدَّعْوَى هُنَا أَيْضًا شَائِعٌ فِي بَعْضِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 61 مَا قَدْ تَمَّ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ، وَلَا يَحْلِفَ خَصْمُهُ كَالْبَائِعِ إذَا زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ بَاعَ الْعَيْنَ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ هَذَا الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ هُنَاكَ هِيَ مُنَاقِضَةٌ فِي الدَّعْوَى أَيْضًا وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى. وَالْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ غَيْرُ مُنَاقِضٍ فِي دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ الصُّلْحَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِوُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ فِي الظَّاهِرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ حُجَّةً وَشَاهِدًا لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ بَعْد إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ لَمْ يَجُزْ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ فَيَكُونُ الصُّلْحُ عَنْهَا مُعَاوَضَةً، وَمُعَاوَضَةُ الْمِائَةِ بِالْمِائَتَيْنِ بَاطِلٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَكَانَ الْمُودَعُ مُنْكِرًا فَالصُّلْحُ جَائِزٌ عِنْدَ دَعْوَى الدَّيْنِ عِنْدَ إنْكَارِ الْمُودَعِ وَعَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ الدَّارِ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَلِهَذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِدُونِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِذَا صَحَّ الصُّلْحُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَى الْمُوَكِّلِ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْحَكَمَيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) الْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ وَلِهَذَا بَدَأَ الْبَابَ بِحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُدَارَأَةٌ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَيْهِمَا وَقَالَ لِعُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَلَا تَبْعَثُ إلَيَّ فَآتِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحُكْمُ " فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا وَأَلْقَى لِعُمَرَ وِسَادَةً فَقَالَ: عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ. وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ أَعْفَيْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ يَمِينٌ لَزِمَتْنِي، فَلَأَحْلِفُ فَقَالَ: أُبَيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَلْ يُعْفَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُدَارَأَةِ الْخُصُومَةُ وَاللَّجَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ شَرِيكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «لَا يُدَارِي، وَلَا يُمَارِي» أَيْ لَا يُلَاحِي، وَلَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 62 يُخَاصِمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَوَائِدَ الْحَدِيثِ. وَإِذَا حَكَمَ الْحَكَمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ تَخَاصَمُوا إلَى حَكَمٍ آخَرَ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْأَوَّلِ، ثُمَّ ارْتَفَعَا إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ الْحُكْمَ الَّذِي يُوَافِقُ رَأْيَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُلْزِمٍ شَيْئًا. وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ حَكَمًا فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَتَجَاحَدَا وَقَالَا لَمْ تَحْكُمْ بَيْنَنَا وَقَالَ الْحَاكِمُ بَلْ حَكَمْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ، وَلَا يُصَدَّقُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَهُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقِيَامِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَالْمُطَلِّقُ إذَا أَقَرَّ بِالرَّجْعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا أَقَرَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَبَيْنَهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ حَكَّمَاهُ وَلَمْ يُشْهِدَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا إيَّاهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْحَكَمِ فِيهِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِمَا وِلَايَةَ تَنْفِيذِ الْقَوْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِمَا إذَا كَانَا يَجْحَدَانِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [كِتَابُ الرَّهْنِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً): (اعْلَمْ) بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ مَشْرُوعٍ لِلتَّوَثُّقِ فِي جَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ، فَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ مُوجَبُهُ ثُبُوتَ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِلْكُ عَيْنِ الْمُسْتَوْفَى، وَمِلْكُ الْيَدِ، فَمُوجَبُ الْعَقْدِ - الَّذِي هُوَ وَثِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ - بَعْضُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): مُوجَبُهُ مَا هُوَ مُوجَبُ سَائِرِ الْوَثَائِقِ كَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَهُوَ أَنْ تَزْدَادَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَيَثْبُتَ بِهِ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ، وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَفَالَةُ، وَالْحَوَالَةُ عَقْدُ وَثِيقَةِ مَا لَزِمَهُ، وَالذِّمَّةُ مَحِلٌّ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِهِمَا بَعْضَ مَا ثَبَتَ لِحَقِيقَةِ الْتِزَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ، وَالرَّهْنُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ بَعْضُ مَا ثَبَتَ لِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ إلَّا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ نَصًّا؟ وَكَمْ مِنْ رَهْنٍ يَنْفَكُّ عَنْ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ مَا لَا يَخْلُو الْعَقْدُ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ، ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 63 فَقَوْلُهُ تَعَالَى {: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وَهُوَ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {: فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وَعَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ، وَالسُّنَّةُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا لِبَيْتِهِ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ». وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِوَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ». وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَهَنَ دِرْعَهُ لِيَهُودِيٍّ فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَاءَ الْيَهُودِيُّ فِي أَيَّامِ التَّعْزِيَةِ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ لِيَغِيظَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ». وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الرَّهْنِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، مَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُعَدًّا لَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِنَّ دِرْعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُعَدًّا لِلْجِهَادِ بِهِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشِّيعَةُ: أَنَّ مَا يَكُونُ لِلطَّاعَةِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ حَبْسِهِ عَنْ الطَّاعَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رَهَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ بِهَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بَلْ ذِكْرُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إمْكَانِ التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَالْمُعَامَلَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَالرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ: عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ يَكُونُ مَضْمُونًا ثُمَّ بَيَانُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ سَقَطَ دَيْنُهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِخَمْسَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالرَّاهِنُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَالْمُرْتَهِنُ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ. وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (رَحِمَهُمْ اللَّهُ) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَعِنْدَنَا هُوَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 64 مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ شُرَيْحٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هُوَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، فَإِنَّهُ قَالَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِي إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ هَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الرَّهْنِ، إلَى أَنْ أَحْدَثَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَوْلًا رَابِعًا أَنَّهُ أَمَانَةٌ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ، وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ " لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ أَيْ: مِنْ ضَمَانِ رَاهِنِهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " أَيْ: عَلَيْهِ هَلَاكُهُ، فَالْغُرْمُ: عِبَارَةٌ عَنْ الْهَلَاكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] أَيْ: هَلَكَتْ عَلَيْنَا أَمْوَالُنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الصَّكِّ وَمَوْتِ الشُّهُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ فَلَوْ قُلْنَا: بِأَنَّهُ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِهَلَاكِهِ كَانَ ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بِهِ يَصِيرُ بِعُرْضَةِ الْهَلَاكِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ - مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ - أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْقَبْضُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ الرَّهْنُ، وَهُوَ الْحَبْسُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الضَّمَانِ بِهَذَا الْقَبْضِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ تَهْلِكُ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِنِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَكَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ وَضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ، وَالدَّيْنِ جَمِيعًا عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَهُ قَبْضَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَاصِبِ، وَعِنْدَكُمْ إذَا اشْتَرَى الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الرَّاهِنِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ لَكَانَ قَبْضُهُ عَنْ الشِّرَاءِ كَقَبْضِ الْغَاصِبِ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَكُمْ كَرَهْنِ الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ الضَّمَانُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَحْبُوسٌ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ حَتَّى إذَا مَاتَ الْآجِرُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا إذَا هَلَكَ، وَكَذَلِكَ زَوَائِدُ الرَّهْنِ عِنْدَكُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ: أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ (- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ يَكُونُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 65 إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ، لَمْ يُسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَطَاءٍ: «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ»، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَهَبَ حَقُّكَ فِي الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَقَّ مُنَكَّرًا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ أَعَادَهُ مُعَرَّفًا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُعَرَّفِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُنَكَّرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ ذَهَبَتْ الرِّهَانُ بِمَا فِيهَا» أَيْ: بِمَا فِيهَا مِنْ الدُّيُونِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ، بَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) كَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِمَا اتَّفَقُوا: أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُحْبَسُ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ احْتِبَاسًا لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لِلْمُرْتَهِنِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَفَارَقْتُكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا يَعْنِي: احْتَبَسَ قَلْبُ الْمُحِبِّ عِنْدَ الْحَبِيبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ، وَلَا هَلَاكٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرْتَهِنُونَ، وَيَشْتَرِطُونَ عَلَى الرَّاهِنِ إنْ لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ إلَى وَقْتِ كَذَا فَالرَّهْنُ مَمْلُوكٌ لِلْمُرْتَهِنِ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقِيلَ: أَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ إنْ لَمْ يَأْتِ بِالدَّيْنِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَالرَّهْنُ بَيْعٌ لِي فِي الدَّيْنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ» يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْ: هُوَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» يَعْنِي فِي حَالِ إبْقَائِهِ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ لَا يَتَمَلَّكُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ فَزَادَ الثَّمَنُ عَلَى الدَّيْنِ فَالزِّيَادَةُ لَهُ، وَإِنْ اُنْتُقِصَ فَالنُّقْصَانُ عَلَيْهِ، وَبِهِ نَقُولُ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّهْنَ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ الَّذِي يَقْبَلُ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ الدَّيْنُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ، وَلَا بِالْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقِصَاصِ، وَالْحُدُودِ، وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذِهِ الْيَدُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 66 فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ تُثْبِتُ الْمِلْكَ، وَالضَّمَانَ فَكَذَا فِيهَا أَيْضًا يَثْبُتُ الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) اسْتِيفَاءُ الْمُسْتَوْفَى يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَوْفِي، وَلَهُ عَلَى الْمُوفِي مِثْلُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ رَهْنًا، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْيَدِ فَإِذَا هَلَكَ وَجَبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِنْ أَوَّلِهَا فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، وَكَانَ الرَّاهِنُ جَعَلَ مِقْدَارَ الدَّيْنِ فِي وِعَاءٍ وَسَلَّمَهُ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَعِنْدَ هَلَاكِهِ فِي يَدِهِ يَتِمُّ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْفَضْلُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَعَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كِيسٍ، وَدَفَعَهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ عَشَرَةَ فَيَكُونَ أَمِينًا فِي الزِّيَادَةِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ تَحْصُلُ مِنْهُ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْعَيْنِ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا، وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَنَا مُسْتَوْفٍ لَا مُسْتَبْدِلٌ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ بِحَبْسِ الْحَقِّ، وَالْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ كَالْكِيسِ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ اتَّضَحَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَتَحَقَّقُ إذَا صَارَ الْمُرْتَهِنُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ قُلْنَا يَتْوَى بَيْنَهُ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَيْسَ مَأْتُوًّا لِلْحَقِّ، ثُمَّ مُوجَبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِصِيَانَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ حَقِّ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَبِهِ لَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ بِالْعَارِيَّةِ مَنْفَعَةُ الْمُسْتَعِيرِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ لَهُ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَوْتَ الشُّهُودِ، وَهَلَاكَ الصَّكِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ إذَا تَمَّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّكِّ وَالشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَاقَى الْعَيْنَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْنَ فِي حُكْمِ الْأَمَانَةِ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَجْلِ الْغَرَرِ، فَالرَّاهِنُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ مِنْهُ حَيْثُ إنَّهُ يَصِيرُ مُوفِيًا ذِمَّتَهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَجَّرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لَيْسَتْ بِيَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَبَضَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِاسْتِيفَاءِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 67 الْأُجْرَةِ مِنْ الْمَالِيَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَهَنَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إذَا هَلَكَ، وَهُوَ رَهْنٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْمَرْهُونَ بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ، وَلَا عَقْدَ هُنَاكَ فَاسِدًا، وَلَا جَائِزًا لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ رَهْنُ الْمُشَاعِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ الرَّهْنِ لَا تَثْبُتُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فَأَمَّا شُرَيْحٌ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَكَانَ يَقِيسُ الْمَرْهُونَ بِالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَالٌ غَيْرُ مَحْبُوسٍ بِدَيْنٍ، هُوَ مَالٌ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ وَلِأَنَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ رَدُّهُ لَا إلَى غَايَةٍ، وَلَوْ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ إلَى غَايَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالَبَ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ مَا لَمْ يُحْضِرْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ لَا إلَى غَايَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا حَقَّقْنَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ سُقُوطَ الثَّمَنِ هُنَاكَ بِسَبَبِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَبِهَلَاكِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ يَنْفَسِخُ جَمِيعُ الْعَقْدِ، وَهُنَا سُقُوطُ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا بَعْدَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَاسْتِيفَاءُ الْعَشَرَةِ مِنْ خَمْسَةٍ لَا يَتَحَقَّقُ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ قَالَ، وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ عَيْنًا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ، وَهُوَ، وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ يَلْزَمُ بِالْقَبُولِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَقَدْ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَيُنْتَقَضُ أَنْ يَكُونَ هَذَا، وَصْفًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ الرَّهْنُ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْصُودُ: إلْجَاءُ الرَّاهِنِ حَيَاتَهُ لِيُسَارِعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِثُبُوتِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا: ثُبُوتُ حَيَاةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ لِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ أَحَقَّ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ: الْقَبْضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ ثَبَتَ بِالتَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، فَكَمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالتَّخْلِيَةِ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 68 ابْتِدَاءً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِالتَّخْلِيَةِ فَالْقَبْضُ الْمُوجِبُ لِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ أَيْضًا ثَبَتَ بِالتَّخْلِيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ، وَمَا لَا يُقْسَمُ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ مَا يُرْهَنُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَيَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمَقْسُومِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَشْرُوعٌ؛ لِصِيَانَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَالْمَشْرُوعُ وَثَائِقُ مِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ جُحُودِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ كَالشُّهُودِ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ سِيَاقِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ التَّوَى بِإِفْلَاسِ مَنْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ إبْرَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ بِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ إيَّاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ: الرَّهْنُ، فَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْوَثِيقَةِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، فَيَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَقْبَلُ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ الْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامِ هَذَا، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الْقَبْضِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ الشَّائِعَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ، وَبَدَلًا عَنْ الصَّرْفِ، وَبِالْإِجْمَاعِ: هِبَةُ الْمُشَاعِ - فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ - تَتِمُّ بِالْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ عِنْدِي: فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزٌ، وَدَوَامُ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَوْ أَعَارَهُ مِنْ الرَّاهِنِ، أَوْ غَصَبَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ يَبْطُلُ بِهِ الرَّهْنُ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى: أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْيَدُ؛ لِأَنَّ بِالْعُقُودِ الْمَشْرُوعَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْيَدُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ لِلتَّصَرُّفِ أَوْ لِلِانْتِفَاعِ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: جَوَازُ رَهْنِ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَهْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعَيْنِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ حَتَّى إذَا هَلَكَ كَانَ نِصْفُهُ مَضْمُونًا بِدَيْنِ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْعَيْنِ لِاثْنَيْنِ إيجَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ ثُمَّ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ مَعَ اثْنَيْنِ يَجُوزُ فِي نِصْفِهِ مَعَ الْوَاحِدِ كَالْبَيْعِ، وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَالَّةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَهْنَ النِّصْفِ الشَّائِعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: رَهَنْتُكَ هَذَا الْعِيرَ يَوْمًا، وَيَوْمًا لَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ دَوَامُ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ انْفِكَاكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشُّيُوعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمُهَايَأَةِ مَعَ الْمَالِكِ فِي الْإِمْسَاكِ، فَيَنْتَفِعُ الْمَالِكُ بِهِ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَيَحْفَظُهُ الْمُرْتَهِنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: رَهَنْتُكَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي يَوْمِ الرَّاهِنِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الشُّيُوعُ، وَمَتَى اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ مَا يَمْنَعُ مُوجَبَهُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الْيَدِ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] هَذَا يَقْتَضِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 69 أَنْ لَا يَكُونَ مَرْهُونًا إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ مَقْبُوضًا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ ضَمَانُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنْ التَّوَى لِجُحُودٍ مِنْهُ عَلَيْهِ فَنُقِلَ الْحُكْمُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالشُّهُودِ إلَى الرَّهْنِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِدَوَامِ الْيَدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ رُبَّمَا يَجْحَدُ الرَّهْنَ، وَالدَّيْنَ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ إلْجَاءُ الرَّاهِنِ لِيُسَارِعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِدَوَامِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ شَيْئًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَوَامُ الْيَدِ مُوجَبَ الْعَقْدِ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَقُولُ: " أَنَا أَشْفَقُ عَلَى مُلْكِي مِنْكَ، وَحَقُّكَ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ، وَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْكَ بِيَدِي "، وَحَيْثُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهِ عَرَفْنَا أَنَّ دَوَامَ الْيَدِ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَسْنَا نَعْنِي: وُجُودَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ حِينًا، وَإِنَّمَا نَعْنِي: اسْتِحْقَاقَ دَوَامِ الْيَدِ، وَبِالْإِعَادَةِ مِنْ الرَّاهِنِ أَوْ الْغَصْبِ لَا يَنْعَدِمُ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ مِنْهُ الرَّهْنُ، وَفِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ اسْتِحْقَاقُ دَوَامِ الْيَدِ ثَابِتٌ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ حَتَّى إذَا قَضَى جَمِيعَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ لِلْآخَرِ حَبْسُ جَمِيعِ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ جَمِيعُهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ حَبْسُ الْعَيْنِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ ثُمَّ الْيَدُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الرَّاهِنِ هُنَاكَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ إعَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْعَيْنِ إلَى يَدِهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ، وَالْعَقْدُ بِهَذَا يَتِمُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّعَذُّرِ بِإِمْسَاكِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ، وَلِلْمَالِكِ فِيمَا لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ، وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْيَدِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِلْكَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِلْكَ الْيَدِ مَقْصُودَةً، وَذَلِكَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُهُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ كَمَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ بِالْيَدِ يَتَوَصَّلُ إلَى التَّصَرُّفِ، وَالِانْتِفَاعِ كَانَتْ الْيَدُ مَقْصُودَةً بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ، إذْ مُوجَبُ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمِنْهُ جَانِبُ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةٌ لَا تَثْبُتُ إلَّا عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْهُونُ جُزْءًا شَائِعًا لَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ، إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّخَلِّي لِجَمِيعِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ نَقْلِ جَمِيعِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً، وَنِصْفُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُوجَبُ الْعَقْدِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ أَصْلًا كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ؛ لِمَنْعِهِ قَرْضَ الثِّيَابِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَيْنَ - فِيمَا هُوَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 70 مُوجَبُ الرَّهْنِ - غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِلتَّجَزِّي، وَعِنْدَ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نِصْفِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُلِّهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ أَصْلًا لِتَعَذُّرِ أَسْبَابِ مُوجَبِهِ فِي النِّصْفِ كَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ لَمَّا كَانَتْ لَا تُجَزَّأُ، فَإِذَا أُضِيفَ النِّكَاحُ إلَى نِصْفِهَا بَطَلَ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَعِنْدَنَا: يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُنَاكَ، وَهُوَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْمَحِلِّ غَيْرَ مُتَجَزِّئٍ ثُمَّ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِينَ عِنْدَ تَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْهَلَاكِ لِلْمُزَاحَمَةِ، وَبِهِ لَا يَظْهَرُ التَّجَزُّؤُ فِي الْمَحِلِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يَسْتَحِقُّ قِصَاصًا ثُمَّ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاثْنَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا لِلنِّصْفِ عِنْدَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَا يَظْهَرَ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ فِي الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً؟ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَشَرَةٌ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَدْيُونُ كِيسًا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ النِّصْفِ شَائِعًا، وَإِذَا كَانَ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ قُلْنَا: مُوجَبُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِلْكُ عَيْنِ الْمُسْتَوْفَى، وَالْيَدُ هِيَ عَلَى الْمِلْكِ، وَالشُّيُوعِ، وَلَا يَمْنَعُ الْمِلْكُ فِيمَا هُوَ الْمُوجَبُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ هُنَاكَ، وَمُوجَبُ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ مُسْتَوْفِيًا فِي حُكْمِ الرَّهْنِ عَمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَعَمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُنَاكَ الْمِلْكُ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُرَاعَى وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَحِلٍّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ هُنَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ مَعَ الشَّرِيكِ أَوْ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَالشُّيُوعُ هُنَاكَ إنَّمَا يُؤْثَرُ لَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ يَنْعَدِمُ بِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْكُلِّ، فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ مَا اسْتَأْجَرَ، لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْوِعَاءِ، وَلَا تُمْنَعُ بِهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَرْهُونِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): عَلَى الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ فِي الْآلَةِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، وَثُبُوتَ مُوجِبِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ غَيْرُهُ بَيْتًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ بَطَلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي الْبَعْضِ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِهِ فَيَبْقَى صَحِيحًا فِيمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 71 بَقِيَ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَبِيعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَحَقِّ يَبْطُلُ مِنْهُ الْأَصْلُ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِهِ فَلَوْ صَحَّ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا إثْبَاتَ حُكْمِ الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ شَائِعًا، وَالنِّصْفُ الشَّائِعُ لَيْسَ بِمَحِلِّ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهَا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهَا، وَلَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ النِّكَاحَ بَطَلَ النِّكَاحُ فِي الْكُلِّ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَأَمَّا الشُّيُوعُ الطَّارِئُ: بِأَنْ رَهَنَ جَمِيعَ الْعَيْنِ ثُمَّ تَفَاسَخَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ بِمَحِلِّ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً فِي النِّصْفِ وَرَدَّهُ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يُذْكَرْ جَوَابُهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ كَالْمُقَارَنِ فِي أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلرَّهْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَلْبِ الْمَكْسُورِ: إذَا مَلَكَ الْمُرْتَهِنُ الْبَعْضَ بِالضَّمَانِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا بَقِيَ مِنْهُ مَرْهُونًا؛ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الشُّيُوعِ، وَقَالُوا فِي الْعَدْلِ إذَا سُلِّطَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ كَيْفَ شَاءَ فَبَاعَ نِصْفَهُ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ لَا يَكُونُ مَحِلًّا بِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ شَرْطَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ تَمَامُ التَّبْعِيضِ، وَذُكِرَ سَمَاعًا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجَعَ عَنْ هَذِهِ، وَقَالَ: الشُّيُوعُ الطَّارِئُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْمُقَارَنِ، وَقَاسَ ذَلِكَ بِصَيْرُورَةِ الْمَرْهُونِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ، وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ حَتَّى إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونُ إنْسَانًا، وَوُضِعَ الْمَرْهُونُ ثَمَنَهُ تَكُونُ الْقِيمَةُ، وَالثَّمَنُ رَهْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَابْتِدَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ مُضَافًا إلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْجُزْءُ الشَّائِعُ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَةً فِي نَخْلٍ دُونَ النَّخْلِ أَوْ زَرْعًا أَوْ رُطَبًا فِي أَرْضٍ دُونَ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ خَلْفَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ النَّخْلَ، وَالشَّجَرَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الْبِنَاءَ دُونَ الْأَرْضِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِاتِّصَالِ الْمَرْهُونِ بِمَا لَيْسَ مَرْهُونًا إلَّا أَنْ يَقُولَ بِأُصُولِهَا فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ مَوَاضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ فِي الرَّهْنِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، فَيَجُوزُ رَهْنُهُ كَمَا لَوْ رَهَنَ بَيْتًا مُعَيَّنًا مِنْ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّخِيلِ ثَمَرٌ تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَلَا، وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إلَّا بِإِدْخَالِ الثِّمَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَهُنَاكَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فِي النَّخِيلِ بِدُونِ الثِّمَارِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَفِي إدْخَالِهِ هُنَاكَ إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ قِيلَ أَلَيْسَ أَنْ لَوْ رَهَنَ دَارًا هِيَ مَشْغُولَةٌ بِأَمْتِعَةِ الرَّاهِنِ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِإِدْخَالِ الْأَمْتِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ الْأَمْتِعَةُ فِي الرَّهْنِ؟ قُلْنَا لَا اتِّصَالَ لِلْأَمْتِعَةِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 72 بِالدَّارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا لَمْ تَدْخُلْ الْأَمْتِعَةُ بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَهِيَ بِالتَّمْلِيكِ، وَالِاتِّصَالِ هُنَا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّخِيلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ النَّخِيلَ كُلَّهُ قَلِيلًا، وَكَثِيرًا، وَهُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا تَدْخُلُ الثِّمَارُ، وَلَوْ رَهَنَ الْأَرْضَ دُونَ النَّخِيلِ لَمْ يُجِزْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ مَرْهُونًا مَعَ مِلْكِ الرَّاهِنِ فَهُوَ كَالدَّارِ الْمَشْغُولَةِ بِمَتَاعِهِ، وَكَمَا لَوْ رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) إنْ رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْأَشْجَارِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى شَجَرٌ وَاسْمُ الشَّجَرِ يَقَعُ عَلَى الثَّابِتِ عَلَى الْأَرْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ الْقَلْعِ يَكُونُ جِذْعًا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَشْجَارَ بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ عَقْدُ الرَّهْنِ سِوَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مَبْنِيًّا دُونَ الْأَرْضِ فَيَصِيرُ رَاهِنًا لِجَمِيعِ الْأَرْضِ، وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَأَعْطَاهُ رَهْنًا بِذَلِكَ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالرَّهْنُ يَخْتَصُّ بِحَقِّ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِجِرَاحَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ أَوْ دَمُ عَمْدٍ، وَلَا يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ، وَالْعَارِيَّةُ، الْوَدِيعَةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّهْنَ بِالْأَعْيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:. (أَحَدُهَا): الرَّهْنُ بِعَيْنٍ هُوَ أَمَانَةٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ فِي الْعَيْنِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَيْنِ مِنْ عَيْنِ آخَرَ مُمْكِنٌ (وَالثَّانِي): الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا. (وَالثَّالِثُ) الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ إنْ أَمْكَنَ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الرَّهْنُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ، وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ، فَكَذَا إذَا كَفَلَ بِالدَّرَكِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْعَقْدُ مُضَافًا، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ ضَمَانٌ يُسْتَحَقُّ فَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُوبَ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ ثَوْبًا، وَقَبَضَهُ فَقِيمَتُهُ، وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَلَوْ اسْتَحَقَّهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 73 رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَرْهُونِ إذَا أَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الرَّاهِنَ كَانَ غَاصِبًا، وَالْمُرْتَهِنَ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَحَقٌّ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الرَّاهِنُ كَانَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنْ رَهَنَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَفِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلرَّاهِنِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيدَ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ الضَّمَانُ، كَمَا يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْآجِرِ، وَالْمُودِعُ عَلَى الْمُودَعِ، قَالَ: وَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ أَيْضًا عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ حَازِمٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الرَّاهِنِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ تَبَعٌ لِمَنْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ صَحَّحَ جَوَابَ الْكِتَابِ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ، فَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ الرَّاهِنَ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، فَمِلْكُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ بَعْدَهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَأَبَقَ فَضَمَّنَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتُهُ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، وَبِالدَّيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَالَ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَهَذَا إشَارَةٌ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْمِلْكَ لِلرَّاهِنِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِقِيمَتِهِ مِنْ وَقْتِ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ كَانَ سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِالِاسْتِحْقَاقِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ، وَأَوْلَادُهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهَا - إنْ شَاءَ - الْمُرْتَهِنَ، - وَإِنْ شَاءَ - الرَّاهِنَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يُحْدِثْ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا، وَمَعْنَى هَذِهِ: أَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ غَاصِبًا لَهُ، وَالزَّوَائِدُ لَا تُضَمَّنُ بِالْغَصْبِ إذَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْغَاصِبِ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ فِي الزِّيَادَةِ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ أَمَةً فَوَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِيَبِيعَهَا عِنْدَ حِلِّ الْمَالِ فَوَلَدَتْ الْأَمَةُ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْوَلَدَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إنَّمَا يَبِيعُهَا بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الْوَلَدِ، وَبِهِ جَازَ لِلْوَكِيلِ بَيْعُ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ وَلَدَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 74 يَبِيعَ، وَلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَخْصٍ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ شَخْصَيْنِ، وَهُنَا إنَّمَا يَبِيعُ الْعَدْلُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَحُكْمُ الرَّهْنِ ثَبَتَ فِي الْوَلَدِ حَتَّى كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الْوَلَدَ مَعَ الْأَصْلِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ فَلِهَذَا مَلَكَ بَيْعَ الْوَلَدِ مَعَهَا إلَّا أَنَّ الْمَرْهُونَ لَوْ قَتَلَهَا عَبْدُهُ فَدَفَعَ بِهَا كَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْمَدْفُوعَ، وَلَوْ أَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي وُكِّلَ الْوَكِيلُ بِبَيْعِهَا قَتَلَهَا عَبْدُهُ، فَدَفَعَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ، فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ الْبَدَلِ فِي سَرَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الزَّوَائِدَ الْمُتَوَلَّدَةَ مِنْهُ حِينَ الرَّهْنِ تَكُونُ مَرْهُونَةً عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِالدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهَا كَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ، وَالرَّاهِنُ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» فَإِطْلَاقُ إضَافَةِ الْغُنْمِ إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْضُ حَقٍّ لَهُ. وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ، وَمَحْلُوبٌ»، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَحْلُوبٌ لِلرَّاهِنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُهُ وَيَحْلِبُهُ نَفَقَتُهُ»، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ كَالْكَسْبِ، وَالْغَلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّهْنِ حَقُّ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَأَكَّدٍ فِي الْقِيمَةِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَحَقِّ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ، وَحَقِّ الدَّفْعِ فِي الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ، وَحَقِّ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِخِلَافِ مِلْكِ الرَّاهِنِ فَهُوَ مُتَأَكَّدٌ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْمَمْلُوكُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ عِنْدَكُمْ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالْكَفَالَةِ، وَهَذَا عَقْدٌ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالْإِجَارَةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، وَبِتَفْصِيلِ الْوَصِيَّةِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْوَلَدِ فَإِنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ يَسْرِي إلَى الْبَدَلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَحَقُّ الْجَارِيَةِ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُعَاذٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِيمَنْ ارْتَهَنَ نَخِيلًا فَأَثْمَرَتْ أَنَّ الثِّمَارَ رَهْنٌ مَعَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) فِي الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إذَا وَلَدَتْ فَوَلَدُهَا رَهْنٌ مَعَهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَأَكَّدٌ فِي الْعَيْنِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَذَلِكَ الرَّاهِنُ، وَبَيَانُ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَنْ تُوصَفَ الْعَيْنُ بِهِ يُقَالُ: مَرْهُونٌ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا يُقَالُ: مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، وَلِهَذَا يَسْرِي إلَى بَدَلِ الْعَيْنِ، وَدَلِيلُ التَّأْكِيدِ أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ إبْطَالُهُ. (وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ) مَا قَرَّرْنَا أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَدُ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَقِيقَةِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 75 الِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَظْهَرُ فِي مُوجَبِهِ مِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلَّدَ مِنْهُ الْأَصْلُ ثَبَتَ فِيهِ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الزِّيَادَةِ لَا مِلْكَ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِمُلْكٍ آخَرَ، وَإِلَى سَبَبٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْكَسْبِ، وَالْغَلَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَلَّدٍ مِنْهُ الْأَصْلُ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَبِخِلَافِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَلِهَذَا لَا يَسْرِي إلَى بَدَلِ الْعَيْن فَكَذَلِكَ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ. (تَوْضِيحُهُ): أَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ مَحِلًّا صَالِحًا، وَالْوَلَدُ مُحْدَثٌ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَحِلًّا صَالِحًا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، فَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ فَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيَكُونُ مَحِلًّا صَالِحًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَرَدَ أَنَّ هَذَا مِنْ الْإِجَارَةِ إنْ، وَلَدَتْ الْمَرْهُونَةُ وَلَدًا حُرًّا بِاعْتِبَارِ الْغُرُورِ فَالرَّهْنُ لَا يَسْرِي عَلَى هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْعُذْرُ عَنْ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّ حَقَّ النِّكَاحِ لَا يَسْرِي إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْحِلِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الْعُذْرُ عَنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحِلًّا صَالِحًا لِلْخِدْمَةِ حَتَّى يَنْفَصِلَ، ثُمَّ حَقُّ الْمُوصَى فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مُتَوَلَّدٍ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالسِّرَايَةُ إلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ لَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ، وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَيْسَ بِمُتَأَكَّدٍ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا عَلَيْهِ تَقَرَّرَ بِإِبْطَالِ حَقِّ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، وَحَقُّ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ فَعَلَ أَشْيَاءَ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ مَنْ عَلَيْهِ مِلْكُ الْأَدَاءِ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ فِي الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْكَفَالَةِ عِنْدَنَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ إذَا كُفِلَتْ أُمُّهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ بِمَالٍ ثُمَّ وَلَدَتْ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَالْحَقُّ بِالْكَفَالَةِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهَا، وَالْوَلَدُ لَا يُتَوَلَّدُ مِنْ الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الضَّمَانِ فِي الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الَّذِي يَجْعَلُ الْعَيْنِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَبْضُ مَقْصُودٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ، وَلَدَ الْمُعْتَقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا إنْ هَلَكَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، وَذَلِكَ لَا يَبْقَى حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَضَافَ الزِّيَادَةَ إلَيْهِ أَضَافَ الْأَصْلَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ مَحْلُوبٌ لِلرَّاهِنِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ فَإِنْ بَاعَهَا الْعَدْلُ، وَسَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ، وَلَا يَعْلَمُ مَكَانَهَا، لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَدْلَ قِيمَةَ الْأَمَةِ، وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ غَاصِبٌ، وَالزِّيَادَةُ - فِي عَيْنِ الْمَغْصُوبِ - تُضَمَّنُ بِالْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، كَالْأَصْلِ لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 76 بِذَلِكَ فِي الثَّمَنِ الَّذِي عِنْدَهُ إنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْعَيْنِ، وَكَمَا أَنَّ الضَّامِنَ لِلْعَيْنِ يَكُونُ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ أَحَقَّ بِبَدَلِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ رَجَعَ بِتَمَامِ مَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ بَاعَهُمَا لِيَقْتَضِيَ الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ، وَيُفْرِغَ ذِمَّةَ الرَّاهِنِ، وَمِنْهُ لَحِقَتْهُ الْعُهْدَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَهُوَ بَدَلُ الْعَيْنِ الَّذِي كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَلَمَّا كَانَ مُرَادُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ كَانَ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ لَهُ، وَالْعَدْلُ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَ الرَّهْنَ بِذَلِكَ، وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ مَا اقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ فَكَانَ الرَّاهِنُ فَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِجَمِيعِ مَا ضَمِنَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَلَّمَ الْمَقْبُوضَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِ الرَّاهِنِ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَا يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنَ إلَّا بِقَدْرِ مَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلٌ رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى الرَّاهِنِ كَمَا لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي قَضَى بِالثَّمَنِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ عَامِلٌ لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّ فِي عَمَلِهِ مَنْفَعَةً لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بِحَقٍّ إلَّا أَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ؛ لِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لَهُ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينُ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَقْبُوضِ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَأَفْلَسَ أَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الْآخَرَ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبٍ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْهَا الْعَدْلُ، وَمَاتَا عِنْدَهُ كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَدْلَ حَقَّ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَيَرْجِعُ بِهَا الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي إمْسَاكِ الرَّهْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّهْنَ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ ضَمِنَ حِصَّتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ لَرَجَعَ بِهَا عَلَى الرَّاهِنِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَوْلَى. قَالَ:، وَقَبْضُ الْعَدْلِ لِلرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ فِي حُكْمِ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَذَهَابِهِ بِالدَّيْنِ إذَا هَلَكَ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَا يَتِمُّ الرَّهْنُ بِقَبْضِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 77 الْعَدْلِ حَتَّى إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ، وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَالْمُرْتَهِنُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ قَالَ: لِأَنَّ الْعَدْلَ نَائِبٌ عَنْ الرَّاهِنِ، هَكَذَا إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةً يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ،، وَكَمَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ بِقَبْضِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ أَشْفَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِقَبْضِ الْعَدْلِ. وَالدَّلِيلُ: أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّاهِنِ بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِهَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَى الْعَيْنِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِ الْعَاقِدِ كَالْمُلْكِ فِي الْبَيْعِ، وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ مِلْكَ الْعَدْلِ رَدُّ الرَّهْنِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِ الرَّاهِنِ لَتَمَكَّنَ الرَّاهِنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ مَتَى شَاءَ، وَبِأَنْ كَانَ يَرْجِعُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَ الرَّاهِنِ كَالْمُرْتَهِنِ نَفْسِهِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ كَالْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ الْبَائِعُ إذَا أَبَى تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَوَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ فِيهِ كَيَدِ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى إذَا هَلَكَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ يَدُ الْعَدْلِ كَيَدِ مَنْ لَهُ الْحَبْسُ، وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُرْتَهِنَ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَتْ جَائِزَةً، وَكَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ فِيهِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنُهُ بِهَلَاكِهِ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ كَيَدِ الرَّاهِنِ لَمْ يَصِرْ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ كَمَا لَوْ عَادَ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ، وَالْغَصْبِ، وَكَانَ هَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ مِنَّا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَلِكَوْنِهِ أَرْفَقَ بِهِمْ فَالرَّاهِنُ لَا يَأْتَمِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى عَيْنِ مَالِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ طَرِيقُ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَضْعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَبِدُونِ تَسْلِيطٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْتَهِنِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إذَا سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَى ذَلِكَ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَعَلَى مَنْ يَحْلِبُهُ، وَيَرْكَبُهُ نَفَقَتُهُ»، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُؤَجَّرِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْآجِرِ، وَكَذَلِكَ كَفَنُهُ إنْ مَاتَ فَإِنَّ الْكَفَنَ لِبَاسُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُعْتَبَرُ بِلِبَاسِهِ فِي حَالٍ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَكَانَ كَفَنُهُ عَلَيْهِ قَالَ، وَإِذَا دَفَعَهُ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيمَا صَنَعَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَعَهُ مِنْهُ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 78 فَيَكُونُ الدَّفْعُ خِيَانَةً فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ أَمِينٌ فِي حِفْظِ الرَّهْنِ كَالْمُسْتَوْدِعِ، وَالْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ أَجْنَبِيًّا صَارَ ضَامِنًا، وَإِنْ أَوْدَعَهُ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَدَفَعَهُ إلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ كَانَ ضَامِنًا لِلْعَيْنِ قَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ رَجُلَيْنِ، وَالرَّهْنُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ فَوَضَعَاهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا كَانَ جَائِزًا، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ كَالْمُودِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا مَعَ عَلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِتَرْكِ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ فَكَانَ عِنْدَ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَإِنْ، وَضَعَاهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَمَنْ الَّذِي وَضَعَ حِصَّتَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ؟ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَعِنْدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْتَمَنٌ فِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَوْ سَافَرَ الْعَدْلُ أَوْ انْتَقَلَ مِنْ الْبَلَدِ فَذَهَبَ بِالرَّهْنِ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ وَفِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ بَعُدَتْ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ نَفْسُهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمْنَعُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرَةُ بِسَبَبِ الرَّهْنِ، وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ ضَامِنًا مُخَالِفًا لِمَا أَوْجَبَ لَهُ نَصًّا فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ مَعَهُ فَإِنْ سُلِّطَ الْعَدْلُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ فَرَفَعَهُ الْمُرْتَهِنُ إلَى الْقَاضِي أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لَيْسَتْ مِنْ ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ اللُّزُومِ فِيهِ، وَتَسْلِيطُ الْعَدْلِ عَلَى الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ، وَهُوَ الرَّهْنُ فَإِنَّ مُوجَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُرْتَهِنِ لَازِمٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْعَدْلُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ نَصًّا تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ نَفْسَهُ. وَأَمَّا الْعَدْلُ: إذَا تَضَرَّرَ مِنْ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ مِنْهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ هَذَا إذَا كَانَ التَّسْلِيطُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا يُجْبَرُ الْعَدْلُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ رِضَا الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ قَدْ تَمَّ بِدُونِهِ هَذَا، وَهُوَ تَوْكِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ: التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ الرَّهْنِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَصِيرُ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ عَزْلَ الْعَدْلِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ - بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ - سَلَّطَهُ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَضَى، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 79 الرَّهْنِ لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ بِدُونِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ إذَا أَرَادَ الْمُوَكِّلُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ الْخَصْمَ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ مَاتَ الْعَدْلُ بَطَلَ تَسَلُّطُهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَأَتَّى بِاعْتِبَارِ رَأْيِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالرَّهْنُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَمَاتَ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِهِ فَلَأَنْ يَبْطُلَ بِمَوْتِ الْعَدْلِ أَوْلَى قَالَ، وَإِذَا أَوْصَى الْعَدْلُ بِبَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ، وَكَّلَ بِبَيْعِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ وَارِثُ الْعَدْلِ بَيْعَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمُوَرِّثِ، وَهَذَا حَقُّ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ وَهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِ الْعَدْلِ، وَمَا رَضِيَا بِرَأْيِ وَارِثِهِ فَإِنْ أَجْمَعَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُمَا رَأَيَا مَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَجَعَلَ الْقَاضِي مِنْهُمَا عَدْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ، وَطَرِيقُ قَطْعِهَا هُنَا أَنْ يُقِيمَ عَدْلًا آخَرَ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَجَعَلَهُ عَدْلًا فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِمَنْزِلَةِ تَرَاضِيهِمَا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَدْلُ، وَمَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ بَيْعِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ كَعَزْلِهِ، وَبَعْدَ الْعَزْلِ فِي الْوَكَالَةِ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ، كَمَا بَيَّنَّا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ تَنْتَقِلُ الْعَيْنُ إلَى الْوَارِثِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِبَيْعِهِ، وَهُنَا الْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ فَكَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ، وَقَضَى الْمَالَ الْمُرْتَهِنَ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَالْخَصْمُ فِيهِ هُوَ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ ثَمَنَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَرَجَعَ فِيهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ حَصَلَتْ لَهُ فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا يُلْحِقُهُ مِنْهُ الْعُهْدَةَ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ الْأُولَى يَبِيعُهُ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْعَيْبِ، وَلَكِنَّ الْعَدْلَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَقِلْ الْعَدْلُ بِالْإِنْكَارِ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَا تَمْنَعُهُ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَلَكِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حَتَّى رَدَّهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 80 فَهُوَ كَالْأَوَّلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -)، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ نُكُولُهُ فِي الْبَيْعِ فَالْعَدْلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى هَذَا الْإِقْرَارِ، فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ السُّكُوتِ لِيَجْعَلَهُ الْقَاضِي مُنْكَرًا، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثُمَّ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ صَدَّقَهُ رَدَّ عَلَيْهِ مَا قَبَضَ مِنْهُ، وَبَيْعُ الرَّهْنِ ثَابِتٌ، وَلَا يَلْزَمُ الرَّاهِنُ مِنْ وَضْعِهِ ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ، فَهُوَ فِي حَقِّهِمَا كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ، أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ لَزِمَ ذَلِكَ الْعَدْلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ كَشِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْبُيُوعِ إلَى الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ، وَغَيْرَ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا، وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبُيُوعِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ هُنَا. وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ ثُمَّ، وَهَبَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ خَاصَّةٌ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَالَ قَدْ قَبَضْتُهُ فَهَلَكَ عِنْدِي كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ الْمَالِ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ، وَمَا ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ كَالْمُعَايَنِ، وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَهِنِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّمَنِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا تَقُولُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ يَثْبُتُ وُصُولُ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الِابْنِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى الْقَرِيبِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمُودَعَ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلَكِنَّهُ يَسْقُطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّمَنِ، وَقَدْ تَوَى بَعْدَ إقْرَارِ الْعَدْلِ بِمَا قَالَ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ، وَهَبَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ مِلْكِ الرَّاهِنِ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمُرْتَهِنِ فَتَصَرُّفُ الْعَدْلِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ بَاطِلٌ، وَلَوْ قَالَ: حَطَطْتُ عَنْكَ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا، وَكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ)؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوْ حَطَّ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ عَلَيْهِ، وَصَارَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا، حَطَّ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ مِثْلَهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ مَالِهِ، وَالْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ حَقُّ غَيْرِهِ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ فَهَاهُنَا أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ بِالْعَقْدِ يَجِبُ لِلْوَكِيلِ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 81 وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُقَرِّرُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ يَنْتَهِي حُكْمُ الشَّيْءِ، وَيَتَقَرَّرُ مَكَانُ إضَافَةِ الْهِبَةِ إلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ وَأَقَرَّ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْبَيْعِ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالدَّيْنُ مِائَةٌ وَأَعْطَيْتُكَهَا وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ وَأَعْطَيْتُكَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا مَعَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ يَبِعْهُ وَقَالَ الْعَدْلُ: بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ، وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي الْحَالِ هَالِكَةٌ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الدَّيْنِ عَنْ الرَّاهِنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَالْمُرْتَهِنُ مَعَ الْعَدْلِ يَدَّعِيَانِ خُرُوجَ الْعَيْنِ عَنْ الرَّهْنِ، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى خُرُوجِ الْعَيْنِ عَنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَوَى الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمَّا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا يُحَوَّلُ حُكْمُ الرَّهْنِ إلَى الثَّمَنِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِهِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ حِينَ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةَ الْعَدْلِ، وَالرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ الزِّيَادَةُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالْمُثْبَتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الشَّيْئَيْنِ أَوْلَى وَإِذَا قَالَ الْعَدْلُ: قَدْ بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ، وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ الرَّاهِنُ: هَلَكَ فِي يَدِكَ قَبْلَ أَنْ تَبِيعَهُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الدَّيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): أَنَّ الْبَيِّنَةَ هُنَا بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْبَيِّنَةِ لَهَا فَكَانَتْ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلَوْ وَكَّلَ الْعَدْلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، وَكِيلًا فَبَاعَهُ، وَالْعَدْلُ حَاضِرٌ جَازَ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَصْلُهُ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا أَوْصَى أَنْ يَتِمَّ الْعَقْدَ بِرَأْيِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ كَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ بَاعَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ سَوَاءٌ فَإِذَا أَجَازَهُ الْعَدْلُ جَازَ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ حَصَلَ بِرَأْيِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ، وَقَّتَ الْعَدْلُ لِلْوَكِيلِ ثَمَنًا فَقَالَ بِعْهُ بِكَذَا فَبَاعَهُ بِهِ كَانَ جَائِزًا أَمَّا إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْعَدْلِ فَغَيْرُ مُشْكَلٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ قَدْ حَصَلَ حِينَ، وَقَّتَ الْعَدْلُ لِلْوَكِيلِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 82 الثَّمَنَ فَإِنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ كَانَ بِرَأْيِهِ، وَمَقْصُودُ الْآمِرِ الثَّمَنُ لَا الْعِبَادَةُ، وَقَدْ حَصَلَ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ يَمْنَعُ النُّقْصَانَ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ حَضَرَ الْعَدْلُ رُبَّمَا يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِجَدِّهِ، وَكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِي التَّزْوِيجِ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ الْآنَ بِخِبْرَةِ الْعَدْلِ ، وَإِذَا بَاعَ الرَّهْنَ مِنْ، وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَفِي قَوْلِهِمَا بَيْعُهُ مِنْهُمْ لِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا - فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ - الْخِلَافَ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ مِنْ مَوْلَاهُ فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ دُونَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ بِخِلَافِ بَاقِي الْبُيُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ هُنَاكَ فَلَوْ أَجَازَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ حَقُّهُمَا، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِجَازَةِ نَفَذَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الرَّهْنَ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ نَصِّ الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ اثْنَيْنِ، وَقَدْ سُلِّطَا عَلَى الْبَيْعِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ نَصَّا بِرَأْيِهِمَا، وَالْبَيْعُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، فَإِنْ أَجَازَ الْآخَرُ جَازَ لِاجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَأَجَازَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ أَجَازَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلرَّاهِنِ مِلْكًا وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقَّ نِصَابِهِ فِي الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَأَجَازَ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَمِيعًا، وَأَبَى الْعَدْلَانِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ مِنْ الْعَدْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُمَا فَإِذَا، وُجِدَ الرِّضَا مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ نَفَذَ بَيْعُهُ أَيْضًا، وَقَدْ خَرَجَ الْعَدْلَانِ مِنْ الْوَكَالَةِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْبَيْعَ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا أَخْرَجَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ الْعَدْلَ مِنْ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، وَسَلَّطَا غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يُسَلِّطَا، فَقَدْ خَرَجَ الْعَدْلُ مِنْ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَالْمُوَكِّلُ مَلَكَ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِعِلْمِهِ، فَإِذَا كَانَ حُصُولُ التَّوْكِيلِ بِرَأْيِهِمَا، فَكَذَلِكَ الْعَزْلُ يَثْبُتُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ الْعَدْلُ بِهِ قَالَ: وَإِذَا أَرَادَ الْعَدْلُ بَيْعَ الرَّهْنِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سُلِّطَ عَلَى الْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّاهِنِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): هَذَا عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيطُ مُضَافًا بِأَنْ قَالَ: إذَا حَلَّ الْأَجَلُ، فَلَمْ أَقْضِ مَالَهُ فَبِعْهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 83 مِنِّي مَتَى شِئْتَ جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا عَقِبَ هَذَا اللَّفْظِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَلَكِنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَحُلَّ الْأَجَلُ فَيَسْتَوْفِيَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْأَجَلُ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْقَوْلُ فِي حِلِّ الْأَجَلِ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا ادَّعَى زِيَادَةً فِيهِ، وَجَحَدَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَأَمَّا التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ فَمِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَيَثْبُتُ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ حُلُولَهُ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الْمَالِ ثُبُوتُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ حِينِ يَحُلُّ الْمَالُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ أَنَّهُ شَهْرٌ وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى ثُبُوتِهِ ثُمَّ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَوْفَاهُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الِاسْتِيفَاءَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْعُرُوضِ، وَأَلْحَقَ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا بِدَرَاهِمَ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ حَتَّى يُوفِيَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -)، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِعَرَضٍ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا أَوْ بَاعَ بِالْعُرُوضِ، وَإِذَا بَاعَ بِالنُّقُودِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيفَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْإِيفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِجِنْسِ الْحَقِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الثَّمَنَ إلَى جِنْسِ الْحَقِّ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ بِهِ، وَكَذَلِكَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ بِالْعُرُوضِ عَلَى قِيَاسِ الْوَكِيلِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ بِطَعَامِ السَّلَمِ فَبَاعَهُ الْعَدْلُ بِجِنْسِ ذَلِكَ الطَّعَامِ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَتَقَيَّدُ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ثُمَّ هَذَا عُرْفٌ، وَعَارَضَهُ نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ بِهِ طَعَامًا لِيَقْضِيَ بِهِ حَقَّ رَبِّ السَّلَمِ فَلِأَجْلِ هَذَا جَوَّزْنَا بَيْعَهُ بِالطَّعَامِ قَالَ: وَلَوْ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ هَذَا الْمَتَاعَ فَإِنِّي مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ أَوْ قَالَ: بِعْهُ فَإِنَّ غُرَمَائِي يُنَازِعُونَنِي، فَبَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ، وَعَلَى قِيَاسِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَدْلِ بِالنَّسِيئَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ لِيُوَفِّيَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، وَإِنْ تَوَى الثَّمَنُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ تَحَوَّلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 84 كَمَا لَوْ قَبِلَ الْمَرْهُونُ تَحَوَّلَ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ الْبَيْعِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، فَكَذَلِكَ إذَا تَوَى الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَرْضَ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ، فَأَخَذَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ أَوْ الْعُشْرَ مِنْ الثَّمَرَةِ كَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ مَا بَقِيَ مَعَ الْأَرْضِ الرَّهْنِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُوَلَّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ مَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ كَالتَّاوِي بِغَيْرِ صُنْعِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَأْخُذُ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَالْخَرَاجُ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ؟ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ أَنَّ الْمُرَادَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْخَرَاجِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ أَوْ الْعُشْرَ مِنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ كُلُّهُ رَهْنٌ يَبِيعُهُ الْعَدْلُ، وَيُوفِيهِ الْمُرْتَهِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ، وَكَذَلِكَ الْعُشْرَ عِنْدَ حَاجَةِ مَصَارِفِ الْعُشْرِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ مَالِكِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْغَلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي رَهَنَ الْعَيْنَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ الثَّمَرَةِ لَزِمَهُ الْأَدَاءُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ بَقِيَتْ الثِّمَارُ مَمْلُوكَةً لِلرَّاهِنِ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِحَقِّهِ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْكُلَّ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ بِتَصَرُّفِهِ قَصَرَ يَدَ نَفْسِهِ عَنْ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ، وَقَدْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَشْغُولَةً بِالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِأَدَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بَقِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ عَلَى حَالِهِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا سَائِمَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَكَاةٌ؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ مَا يَسْتَغْرِقُ رِقَابَهَا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ النَّامِي بِاعْتِبَارِ عَنَاءِ الْمَالِكِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى»، وَبِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ يَنْعَدِمُ الْغِنَاءُ، وَالسَّبَبُ إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِوَاسِطَةٍ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا لِانْعِدَامِ الْوَاسِطَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ هُوَ الرَّاهِنُ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ، وَيَدُ الْمَالِكِ فِي مَالِهِ لَا تَكُونُ نَائِبَةً عَنْ الْغَيْرِ فَلَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ قَابِضًا بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ قَبَضَهُ، وَجَعَلَ الرَّاهِنَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ فَهُوَ رَهْنٌ، وَبَيْعُ الرَّاهِنِ فِيهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْبَيْعِ نَفَذَ بَيْعُ الْمَالِكِ فِيهِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 85 الرَّجُلُ دَارًا أَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ رَجُلًا عَلَى بَيْعِهَا، وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُرْتَهِنُ حَتَّى حَلَّ الْمَالُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ الْمُتَمِّمِ لَهُ، وَإِنْ بَاعَ الْعَدْلُ الدَّارَ جَازَ بَيْعُهُ بِالْوَكَالَةِ لَا بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَبَقَاءُ يَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ التَّبْعِيضُ فِي الْخَادِمِ، وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مُوجَبَ الرَّهْنِ فَلَا يُنَافِي مُوجَبَ الْوَكَالَةِ، وَأَحَدُ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَالرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ صَحِيحٌ، وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ ذَلِكَ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ حِينَ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ فَلِهَذَا يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الرَّهْنِ ثُمَّ يَقْضِي لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ بِحَقِّهِ، وَإِنْ دَفَعَ الْعَدْلُ الْمَالَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ حَصَلَ بِأَمْرِ الْمَالِكِ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ بَيْعِهِ بِالْوَكَالَةِ دُونَ الرَّهْنِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْعَزْلِ، وَمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَالْمُرْتَهِنُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الرَّهْنِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ عَبْدٌ فَدَفَعَ بِهِ أَوْ أَخْفَى عَيْنَهُ فَدَفَعَ بِالْعَيْنِ كَانَ الْعَدْلُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَا دَفَعَ بِهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ فِيهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لِكَوْنِهِ فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ فَيَظْهَرُ بِظُهُورِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهِ. وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِتِسْعِينَ، وَالدَّيْنُ مِائَةٌ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ الرَّاهِنَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ، وَادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْعَدْلِ فِيهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ لِلزِّيَادَةِ فِيمَا تَحَوَّلَ إلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ بِالْبَيْعِ وَقَالَ هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الرَّهْنَ تَثْبُتُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ ثُمَّ إذَا ادَّعَى مَا يَنْسَخُهُ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَإِذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ قَالَ الرَّاهِنُ: بِعْتُهُ بِمِائَةٍ وَقَالَ الْعَدْلُ: بِعْتُهُ بِتِسْعِينَ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُهُ بِثَمَانِينَ، وَقَدْ تَقَابَضَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِتَصَادُقِهِمْ عَلَى مَا يَنْسَخُ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ لِلزِّيَادَةِ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ حَقِّهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي لِزِيَادَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ أَقَامَ الْعَدْلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ بِتِسْعِينَ، وَأَعْطَاهَا لِلْمُرْتَهِنِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ يَبِعْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 86 هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى فَصْلِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ، وَهَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تُقْبَلُ عَلَى النَّفْيِ، وَلَا بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بِلَفْظِ الْإِثْبَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فِي تَرْجِيحِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِيمَا سَبَقَ. وَإِذَا ارْتَدَّ الْعَدْلُ ثُمَّ بَاعَ الرَّهْنَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ بَيْعِهِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَرِدَّتُهُ لَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ فَلَا يُنَافَى الْبَقَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا لَا يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ تَصَرُّفَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ تَصَرُّفِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلرَّهْنِ وَخَلَفَ وَارِثَهُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، فَذَلِكَ أَجْوَزُ لِبَيْعِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَحَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَلِهَذَا يَقْسِمُ الْقَاضِي مِيرَاثَهُ فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فِي الْوَكِيلِ إذَا ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقِيلَ: حُكْمُ الْعَدْلِ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَأَبُو يُوسُفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ رِدَّتُهُ وَلَحَاقُهُ مُوجَبُ عَزْلِهِ، بِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَعَزْلِهِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَدْلِ بَعْدَ الْقَبُولِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ يَبْقَى حُكْمُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ لَحَاقِهِ فَإِذَا رَجَعَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَ بِهَا الِاسْتِحْقَاقُ لِكَوْنِهَا فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَا عَلَى الرِّدَّةِ ثُمَّ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُمَا كَمَوْتِهِمَا، وَالْقَتْلُ مَوْتٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَوْتَهُمَا لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ، وَلَا حُكْمَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ وَضَعَا الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ يَدٍ مُوجَبَةٍ لِتَتْمِيمِ الْعَقْدِ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مَعَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَعَ غَيْرِهِ، قُلْنَا: يَتِمُّ الْعَقْدُ بِيَدِهِ عَلَى أَنْ تَكُونَ يَدُهُ نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا فِي الْحُرِّ فَإِنْ وَضَعًا عَلَى يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعَبْدِ، يَكُونُ آدَمِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مُخَاطِبًا بِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِذْنِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى فِي جَعْلِ يَدِ الْعَبْدِ نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنَّ عُهْدَةَ الْبَيْعِ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتْوِي مَالِيَّتَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَى الْعَاقِدِ تَعَلَّقَتْ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ سَلَّطَهُ عَلَى بَيْعِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ الَّذِي يَعْقِلُ إذَا جُعِلَ عَدْلًا فَهُوَ وَالْعَدْلُ الْعَبْدُ سَوَاءٌ إنْ كَانَ أَبُوهُ أَذِنَ لَهُ فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ أَذِنَ لَهُ فَاسْتَحَقَّ الْبَيْعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 87 فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ الَّذِي قَبَضَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ حِينَ سَلَّمَ الثَّمَنَ لَهُ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بَيْعُهُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ذَهَبَ عَقْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، أَمَّا إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْقِلُ الْبَيْعَ جَازَتْ الْوَكَالَةُ، وَنَفَذَ الْبَيْعُ فَقِيَاسُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ: لَمَّا وَكَّلَهُ وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، فَهُوَ مَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ رَأْيٍ كَامِلٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِجُنُونِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وَكَّلَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِبَيْعِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الرَّأْيِ فَيَكُونُ هُوَ فِي الْبَيْعِ مُمْتَثِلًا أَمَرَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ، وَالتَّسْلِيطِ بَاقٍ بَعْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الرَّاهِنِ بِعَارِضٍ، وَذَلِكَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ كَبِيرًا لَا يَعْقِلُ فَجُعِلَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْيَدِ إذْ هُوَ مُمَيَّزٌ، وَقَبْضُ مِثْلِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ لَا يَحْصُلُ بِقَبْضِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَتْمِيمُ الرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ قَبْضِهِ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَبِرَ، وَعَقَلَ، وَبَاعَ الرَّهْنَ جَازَ الْبَيْعُ لِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَنْفَرِدُ بِالتَّوْكِيلِ، وَنُفُوذُ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ يَعْتَمِدُ عِلْمُهُ بِهِ، فَإِذَا بَاعَهُ بَعْدَ مَا عَقَلَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ نُفُوذُ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْلِيطِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَ غَائِبًا بِبَيْعِ شَيْءٍ فَبَلَغَهُ وَبَاعَهُ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ كَانَ لَغْوًا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يَنْعَدِمُ بِحُدُوثِ الْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَيَصِحُّ تَسْلِيطُهُ، وَعِلْمُهُ بِهِ شَرْطٌ، فَإِذَا وُجِدَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ. وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا، وَالرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْفُذَ بَيْعُهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ، كَمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْحَرْبِيُّ بِالدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ، وَهُوَ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ مَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَتِهِ فِي الرُّجُوعِ إلَى أَمَانٍ جَدِيدٍ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فَإِنْ رَجَعَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَهِنِ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الرَّاجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، هُوَ: الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ، أَوْ الْعَدْلُ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ مُقِيمٌ فِي دَارِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 88 الْإِسْلَامِ بِإِذْنٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ لَحَاقَ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ بِالدَّارِ كَمَوْتِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ بَيْعِ الْعَدْلِ، إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ، وَالتَّسْلِيطِ. وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ ثُمَّ رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ، فَمَاتَ عِنْدَهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ، أَوْ هُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَخَّرَهُ بِالثَّمَنِ حَتَّى أَدَّاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ الثَّمَنَ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الَّذِي غَرِمَهُ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَيْهِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا كَانَ، وَإِذَا بَاعَهُ فَالثَّمَنُ مِلْكُ الرَّاهِنِ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا غَرِمَ فَإِذَا ظَهَرَ حَبَسَ حَقَّهُ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ وَجَبَ بِسَبَبِ هَذَا الْعَبْدِ، وَدَيْنُ الْمُرْتَهِنِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لَا بِسَبَبِ هَذَا الْعَبْدِ، وَكَانَ صَرْفُ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَى دَيْنٍ، وَجَبَ بِسَبَبِ الْعَبْدِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ يَكُونُ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ رِبًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْمَالِكُ، وَلَا يَضْمَنُ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْإِخْلَافِ لَا بِالْفَسَادِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ، كَمَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، وَالرَّاهِنُ، وَالْعَدْلُ ذِمِّيَّيْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسْلِمًا، وَبَاعَهُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ بِالْوَكَالَةِ، وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَالْعَدْلُ، وَالْمُرْتَهِنُ ذِمِّيَّيْنِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَبَيْعُ الْعَدْلِ يَنْفُذُ بِالتَّوْكِيلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ قَضَاهُ الْعَدْلُ الْمُرْتَهِنَ فَفِعْلُهُ كَفِعْلِ الرَّاهِنِ بِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالٍ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ مُسْلِمًا فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الرَّهْنِ الَّذِي لَا يَضْمَنُ صَاحِبُهُ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَهَبَ الْمُرْتَهِنُ الْمَالَ لِلرَّاهِنِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الرَّهْنَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 89 فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ قِيمَتَهُ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ثَبَتَتْ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِبْرَاءِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى، وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ حَتَّى تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونَ بَرِيئًا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ صَحِيحٌ مُوجِبٌ لِرَدِّ الْمُسْتَوْفَى كَالْبَائِعِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ. وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي الرَّهْنِ بِالصَّدَاقِ: إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ لَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ عَلَى الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ هَذَا لَلَزِمَهَا رَدُّ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ يَلْزَمُهَا رَدُّ نِصْفِ الْمُسْتَوْفَى، وَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ الْفَائِتِ فِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ بِسَبَبِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ فَيَبْقَى بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ سَقَطَ الدَّيْنُ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ حَقِيقَةً أَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى عَيْنٍ أَوْ أَحَالَهُ عَلَى إنْسَانٍ آخَرَ بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَإِنْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الرَّاهِنِ عَنْ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ، بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ، وَإِنْ انْعَدَمَ الدَّيْنُ، وَلَوْ تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ بَقِيَ ضَمَانُ الْأَوَّلِ مَا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ فَسْخُ الْبَيْعِ بَقِيَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسْخُ الْبَيْعِ يَبْقَى مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرَى؛ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ، كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ. وَلَا يُقَالُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْإِبْرَاءِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيهِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِالْإِبْرَاءِ، بَلْ الِاسْتِيفَاءِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَبَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُقَاصَّةِ فَيَبْقَى الْمُسْتَوْفِي مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْمُسْتَوْفِي، وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْإِبْرَاءُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ، وَبِالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ انْعَدَمَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ الدَّيْنُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بَعْلَةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِهِمَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ سَقَطَ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أُبْرِئَ مِنْ الدَّيْنِ يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَوْفَى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الدَّيْنَ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَتَقَرَّرُ، فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَحُصُولُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 90 الْمَقْصُودِ بِالشَّيْءِ يُنْهِيه وَيُقَرِّرُهُ، وَلِهَذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ حُكْمًا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مَرَّتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا فَأَمَّا بِالْإِبْرَاءِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ فَلَا يَبْقَى الضَّمَانُ بَعْدَ انْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ أَوْ صَالَحَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى عَيْنٍ فَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَحَالَ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَلَكِنَّ ذِمَّةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَقُومُ مَقَامَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَهُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَعُودَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَلِهَذَا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ، الدَّيْنُ وَالْقَبْضُ بَاقِيَانِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الضَّمَانُ فِيهِ، وَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ فَإِنَّمَا يُسَلِّمُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ تَصَادُقُهُمَا بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَالدَّيْنُ كَانَ وَاجِبًا ظَاهِرًا حِينَ هَلَكَ الرَّهْنُ، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ ظَاهِرًا يَكْفِي لِضَمَانِ الرَّهْنِ فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا فَأَمَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ، وَالرَّهْنُ قَائِمٌ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فَإِنَّ هُنَاكَ تَهْلَكُ أَمَانَتُهُ؛ لِأَنَّ بِتَصَادُقِهِمَا مِنْ الْأَصْلِ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ لَا يَبْقَى بِدُونِ الدَّيْنِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ: أَنَّ مَقْصُودَ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْرِئَ ذِمَّتَهُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ هَلَاكِ الدَّيْنِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ سَبَبًا آخَرَ، كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَ الدَّيْنَ ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ، وَصَاحِبُ الْمَالِ إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ فَهُنَاكَ مَقْصُودُهُ لَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ إنَّمَا بَرِئَتْ بِمَا أَعْطَى مِنْ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ أَوْ صَالَحَ أَوْ أَحَالَ أَوْ تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ، فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْن لَهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَصَلَ بِالتَّصَادُقِ حِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بِطَرِيقِ الْإِيفَاءِ، وَإِنَّمَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ الْإِسْقَاطِ عَنْ الْإِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا. وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ هُوَ غَصْبٌ يَلْزَمُهُ الْمَالُ لِإِيفَاءِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي بِعْتُهَا وَقَالَ فُلَانٌ: الْجَارِيَةُ جَارِيَتُكَ بِعْتَهَا وَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْجَارِيَةِ لَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّيِّدِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالضَّمَانِ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ انْعَقَدَ بِالْقَبْضِ، وَلَكِنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ يَبْطُلُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الرَّدِّ، كَمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 91 يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَهُنَا الْإِبْرَاءُ مَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِلْبَائِعِ لَا يَحْصُلُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ مَا لَمْ يُعَدْ الْمَبِيعُ إلَى يَدِهِ، فَلِهَذَا بَقِيَ الضَّمَانُ، وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَبِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ الْحَقِّ يَصِيرُ غَاصِبًا كَالْمُودِعِ وَلَوْ ارْتَهَنَ الْمَرْأَةَ رَهْنًا بِصَدَاقِهَا، وَهُوَ مُسَمًّى، وَقِيمَتُهُ مِثْلُهُ ثُمَّ أَبْرَأَتْهُ أَوْ، وَهَبَتْهُ لَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَسَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَاتَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ هُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ الصَّدَاقِ بِالْخُلْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ حَصَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَقَدْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ الصَّدَاقِ، وَلَوْ لَمْ تُبْرِئْهُ مِنْ الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ حَقِّهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، أَوْ لَمْ تُبْرِئْهُ حَتَّى هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِيهِ أَمَّا إذَا أَبْرَأَتْهُ فَلِحُصُولِ مَقْصُودِ الزَّوْجِ، وَإِذَا لَمْ تُبْرِئْهُ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ حَقُّهَا فَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ خَاصَّةً فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى، وَأَعْطَاهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا فَمَهْرُ الْمِثْلُ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا سَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ)، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ). وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: الْمُتْعَةُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ مَهْرِ الْمُسَمَّى أَوْ هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ، وَالرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ رَهْنًا بِخَلَفِهِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي السَّلَمِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْمُتْعَةُ دَيْنٌ حَادِثٌ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ ثِيَابٌ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ دَرَاهِمُ، وَلَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْبُضْعِ فِي حَالٍ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا خَلَفًا عَنْ الْآخَرِ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلَفًا، وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ إلَّا بَعْدَ سُقُوطِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قُلْنَا: إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِيهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الزَّوْجِ، وَهُوَ سُقُوطُ مَهْرِ الْمِثْلِ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ مَنَعَتْهُ مَا هِيَ ضَامِنَةٌ قِيمَتَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ فَبِالْهَلَاكِ تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً مِقْدَارَ الْمُتْعَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الزَّوْجِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ مُسَمًّى فَارْتَهَنَ مِنْهُ عَبْدًا يُسَاوِي ذَلِكَ الطَّعَامَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 92 مَالِهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْعَبْدَ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَرْهُونًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ سَقَطَ لَا إلَى بَدَلٍ، وَرَأْسُ الْمَالِ دَيْنٌ آخَرُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ الْقَرْضُ فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَرَاهِمُ، وَدَنَانِيرُ فَرَهَنَهُ بِالدَّنَانِيرِ رَهْنًا ثُمَّ أَبْرَأَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ الدَّنَانِيرِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالدَّرَاهِمِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَهَنَ بِحَقِّهِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا، وَحَقُّهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ قِيَامِ الْعَقْدِ، وَحَقُّهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَنْ ارْتَهَنَ بِالْمَغْصُوبِ بِهِ فَهَلَكَ الْمَغْصُوبُ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْغَصْبِ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ أَحَدُهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْآخَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْإِقَالَةِ، وَالرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ رَهْنًا بِبَدَلِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ فَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَيَأْخُذَ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ صَارَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً بِطَعَامِ السَّلَمِ، وَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ إلَى أَنْ هَلَكَ فَصَارَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا طَعَامَ السَّلَمِ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً قَبْلَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ تَقَايَلَا أَوْ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى، وَاسْتِرْدَادُ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ هُنَاكَ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا فَهَلَاكُ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا طَعَامَ السَّلَمِ وَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ فَصْلِ الْمُتْعَةِ، فَهُنَاكَ جَعَلَ الرَّهْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَحْبُوسًا بِالْمُتْعَةِ، وَجَعَلَهَا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمُتْعَةِ، وَهُنَا جَعَلَ الرَّهْنَ مَحْبُوسًا بِرَأْسِ الْمَالِ، وَجَعَلَهُ هُنَاكَ هَالِكًا بِطَعَامِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ فِي جُزْءٍ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا دَيْنًا آخَرَ ابْتِدَاءً، وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ فَهُوَ كَنِصْفِ الْمُسَمَّى فَإِنَّمَا يَبْقَى حُكْمُ الضَّمَانِ بِقَدْرِهِ، وَهَذَا رَأْسُ الْمَالِ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَعِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِمَا صَارَ مَضْمُونًا بِهِ، وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ بِالطَّلَاقِ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا إلَى بَدَلٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيفَاءُ ضَمَانِ الْمَهْرِ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ وَقَدْ سَقَطَ لَا إلَى بَدَلٍ، فَلِهَذَا بَقِيَ الرَّهْنُ بِقَدْرِ الْمُتْعَةِ رَهْنًا بِالْإِقَالَةِ وَسَقَطَ السَّلَمُ فِيهِ لَا إلَى بَدَلٍ، وَلَكِنْ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْآخَرِ، فَلِهَذَا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ بِالطَّعَامِ، كَمَا انْعَقَدَ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ، وَهَبَ لَهُ رَأْسَ الْمَالِ بَعْدَ الصُّلْحِ ثُمَّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 93 هَلَكَ الْعَبْدُ فَعَلَيْهِ طَعَامُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ بِطَعَامِ السَّلَمِ لَا رَأْسَ الْمَالِ. فَالْإِبْرَاءُ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي إيفَاءِ حُكْمِ الضَّمَانِ بِطَعَامِ السَّلَمِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقْرَضَ رَجُلًا كُرَّ حِنْطَةٍ، وَارْتَهَنَهُ مِنْهُ ثَوْبًا قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَتِهِ فَصَالَحَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْكُرُّ عَلَى كُرَّيْ شَعِيرٍ يَدًا بِيَدٍ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الثَّوْبَ حَتَّى يَدْفَعَ الْكُرَّيْنِ مِنْ الشَّعِيرِ، وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ بَطَلَ طَعَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الشَّعِيرِ سَبِيلٌ، وَبَيَانُ هَذَا الِاسْتِشْهَادِ: أَنَّ حَبْسَ الرَّهْنِ بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ لَا يُمْكِنُ بِاعْتِبَارِ ضَمَانِ الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ مَبِيعُ عَيْنٍ، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ لَا يَجُوزُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بَقِيَ مَرْهُونًا بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ كَانَ بِعِوَضٍ فَبَقِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ فِيهِ مَا لَمْ يَأْخُذْ الْعِوَضَ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ إلَّا أَنَّ هُنَا إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ تَمَّ اسْتِيفَاؤُهُ لِلطَّعَامِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الشَّعِيرِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ شَعِيرًا بِعَيْنِهِ، وَفِي السَّلَمِ أَيْضًا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَلَكِنَّ إقَالَةَ السَّلَمِ - بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ - صَحِيحَةٌ، فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ، وَلَوْ بَاعَهُ كُرًّا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَبَقِيَ الطَّعَامُ عَلَيْهِ، وَالثَّوْبُ رَهْنٌ بِهِ بِخِلَافِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ عَيْنٌ، فَإِنَّمَا الِافْتِرَاقُ هُنَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّعِيرُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَتَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَيَنْبَغِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبَيْعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِمُقَابَلَةِ الْحِنْطَةِ يَكُونُ مَبِيعًا، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ وَإِذَا اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَبَضَ الْأَلْفَ، وَأَعْطَاهُ بِالْمِائَةِ الدِّينَارِ رَهْنًا يُسَاوِيهَا ثُمَّ تَفَرَّقَا فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتِمُّ مَعَ قِيَامِ الرَّهْنِ فَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، فَإِذَا فَسَدَ الصَّرْفُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَلْفِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ حَتَّى يُوفِيَهُ الْأَلْفَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا ارْتَهَنَ بِحَقِّهِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ عَقْدِ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ الْمِائَةُ الدِّينَارُ عِنْدَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَاسْتِرْدَادِ الْأَلْفِ بَعْدَ انْفِسَاخِ عَقْدِ الصَّرْفِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّنَانِيرِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَبْضِ انْعَقَدَ ضَمَانُ الرَّهْنِ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى؛ لِفَسَادِ عَقْدِ الصَّرْفِ، فَهُنَا أَيْضًا تُرَدُّ الدَّنَانِيرُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالْأَلْفِ فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى ضَاعَ الرَّهْنُ فَهُوَ بِالْمِائَةِ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ تَمَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، وَالْبُيُوعِ حُكْمَ الرَّهْنِ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَمِنْ خِلَافِ زُفَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ يَدُ الْعَدْلِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ الرَّاهِنِ ثُمَّ هَلَكَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 94 عِنْدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي ثَبَتَ بِقَبْضِ الرَّهْنِ يَتِمُّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى بِقَبْضِ الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا قَبَضَ لِهَذَا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا قَرْضًا فَاشْتَرَاهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ، وَدَفَعَهَا إلَى الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ ذَلِكَ الطَّعَامِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلطَّعَامِ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ عَنْ الطَّعَامِ حِينَ بَاعَهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ وَلَوْ ارْتَهَنَ رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِيهَا فَقَضَاهَا رَجُلٌ تَطَوُّعًا عَنْ الْمُطَالِبِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَعَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ - عِنْدَهُ - الضَّمَانَ انْعَقَدَ بِالْقَبْضِ، وَصَارَ حَقًّا لِلرَّاهِنِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْقَبْضِ، وَالْمُتَطَوِّعُ يَنْزَعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتَبَرُّعِ الْمُرْتَهِنِ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الضَّمَانِ الثَّابِتِ لَهُ، وَعِنْدَنَا قَضَاءُ الْمُتَبَرِّعِ لِلْمَالِ كَقَضَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاهُ الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ تَمَّ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ مِنْ الْمُتَطَوِّعِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ فَنَقَدَهَا رَجُلٌ عَنْهُ مُتَطَوِّعًا ثُمَّ رَدَّ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ أَوْ اسْتَحَقَّ رَجَعَ الْمَالُ إلَى الْمُتَطَوِّعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً نَقَدَ رَجُلٌ مَهْرَهَا تَطَوُّعًا عَنْ زَوْجِهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ الْمَالُ إلَى الْمُتَطَوِّعِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ نِصْفُ الْمَالِ إلَى الْمُتَطَوِّعِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إلَى الْمُتَطَوِّعِ، وَالْمُتْعَةُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِأَدَاءِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ تَطَوُّعًا بِأَدَاءِ الْمُتْعَةِ، كَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا تَكُونُ كَفَالَةً بِالْمُتْعَةِ وَزُفَرُ مُخَالِفٌ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا. وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الرَّهْنَ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَالدَّيْنُ أَلْفٌ، وَالْجِنَايَةُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَأَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْتَكَّهُ، وَفَدَاهُ الرَّاهِنُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ أَلْفًا؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مِنْ الْمَضْمُونِ فِي الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ مَالِيَّةَ الرَّهْنِ تُجْنَى بِهِ، وَهُوَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَالرَّاهِنُ فِي الْفِدَاءِ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْفِدَاءِ تَخْلِيصَ مِلْكِهِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَيَصِيرُ قِصَاصًا، وَفِي الْمُقَاصَّةِ: آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ أَوَّلِهَا، فَصَارَ الرَّاهِنُ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ مَا اقْتَضَى الدَّيْنَ، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا اقْتَضَى فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَ مَتَاعًا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 95 يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ، فَقَضَاهُ الرَّاهِنُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدَّيْنِ مَالِيَّتُهُ وَهُوَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالرَّاهِنُ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي أَدَاءِ ذَلِكَ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ، كَمَا فِي الْأَوَّلِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ يُسَاوِيهَا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ كَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا ظَاهِرًا، فَيَصِيرُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى انْتِفَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا، وَالِاسْتِيفَاءُ بِدُونِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فِي انْعِقَادِ ضَمَانِ الرَّهْنِ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَةِ السَّوْمِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، فَهَلَاكُ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ هَذَا إيضَاحًا لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ كَوْنَ الدَّيْنِ، وَاجِبًا ظَاهِرًا عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ يَهْلَكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ فَفِيمَا كَانَ وَاجِبًا ظَاهِرًا أَوْلَى، وَلَوْ أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى رَجُلٍ بِالْمَالِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ بَاقٍ بَعْدَ الْحَوَالَةِ فَيَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ؛ فَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَى الطَّالِبُ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْحَوَالَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ رَهْنًا مَكَانَ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ هَلَكَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ رَهْنٌ بِالْمَالِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ وَالدَّيْنِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الثَّانِي إلَيْهِ، وَإِذَا تَمَّ الِاسْتِيفَاءُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ بَطَلَ الرَّهْنُ الثَّانِي، وَلَوْ هَلَكَ الثَّانِي قَبْلَ هَلَاكِ الْأَوَّلِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا مَرْهُونًا مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ إبْقَاءُ ضَمَانِ الدَّيْنِ عَنْ الثَّانِي، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَقْبُوضًا بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَيَكُونُ الْقَابِضُ أَمِينًا فِيهِ إذَا هَلَكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَاقَضَهُ الرَّاهِنُ فَقَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ هَلَكَ فَهُوَ هَالِكٌ بِالْمَالِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ وَالدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَمَا أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الرَّدِّ وَإِذَا زَادَ الرَّهْنُ دَرَاهِمَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَجَعَلَهَا فِي الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الرَّهْنِ، وَهُمَا فَصْلَانِ أَحَدُهُمَا: الزِّيَادَةُ، وَصُورَتُهُ إذَا رَهَنَهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، ثُمَّ زَادَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ ثَوْبًا آخَرَ لِيَكُونَ مَرْهُونًا مَعَ الْأَوَّلِ بِالْعَشَرَةِ فَفِي الْقِيَاسِ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الدَّيْنِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا بِهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 96 الثَّوْبِ الْأَوَّلِ؛ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَاقَصَهُ الرَّهْنَ أَوْ تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ زُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ، وَالْبَيْعُ لَا يَثْبُتُ مُلْحَقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ (رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) وَتَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ رَهَنَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَوْمَيْنِ بِالْعَشَرَةِ جَازَ الرَّهْنُ، وَانْقَسَمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَقْتَ الْعَقْدِ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَادَلَا رَهْنًا بِرَهْنٍ، فَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ اقْتِرَاضٌ مِنْهُمَا عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهِمَا جَمِيعًا. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهُ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى تَصْحِيحِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَرُبَّمَا نَطَقَ الْمُرْتَهِنُ بِالِابْتِدَاءِ أَنَّهُ فِي الرَّهْنِ، وَفَاءً بِدَيْنِهِ ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا يَرْضَى بِرَهْنٍ، لَا وَفَاءَ فِيهِ فَيَحْتَاجُ الرَّاهِنُ بِرَدِّ عَيْنٍ آخَرَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ تَجُوزُ إنْ ثَبَتَ حُكْمًا فَإِنَّ الْمَرْهُونَةَ إذَا وَلَدَتْ يَكُونُ الْوَلَدُ زِيَادَةً تَثْبُتُ فِي الرَّهْنِ حُكْمًا فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا فَصْلًا، وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ بِالدَّيْنِ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا زَادَ الرَّاهِنَ عَشَرَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ رَهْنًا بِهِمَا جَمِيعًا فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَثْبُتُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَثْبُتُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَأَوْجَهَهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّيْنَ مَعَ الرَّهْنِ يَتَحَاذَيَانِ مُحَاذَاةَ الْمَبِيعِ مَعَ الثَّمَنِ حَتَّى يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحْبُوسًا بِالدَّيْنِ مَضْمُونًا بِهِ كَالْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ يُجْعَلُ مُلْحَقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعِ ثَبَتَتْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَهُنَا مِثْلُهُ. وَكَمَا أَنَّ الْحَاجَةَ تُمَسُّ إلَى الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ فَقَدْ تُمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَضْلًا عَلَى الدَّيْنِ، وَيَحْتَاجُ الرَّاهِنُ إلَى مَالٍ آخَرَ فَيَأْخُذَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لِيَكُونَ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَالزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كَالْمَوْجُودِ حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَيْنَ حَوَائِجِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ حَوَائِجِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْعَقْدُ فِيهِ فَأَمَّا جَوَازُ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ فَثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ إذَا هُوَ لِحَاجَةِ الْمَدْيُونِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَدْيُونِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ تُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 97 بَعْضَ الرَّهْنِ يَفْرَغُ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَيَثْبُتُ فِيهِ ضَمَانُ الدَّيْنِ الثَّانِي، وَيَبْقَى حُكْمُ الْأَوَّلِ فِي الْبَعْضِ مُشَاعًا، وَيَثْبُتُ فِيمَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مُشَاعًا، وَالشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فَتُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّيْنِ يَحُولُ ضَمَانُهُ مِنْ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَالشُّيُوعُ فِي الدَّيْنِ لَا يَصِيرُ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ رَهْنًا، وَلَا يُقَالُ الزِّيَادَةُ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فِيهِ؛ لِأَنَّا نُسَلِّمُ هَذَا، وَلَكِنَّهُ مَعَ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَثْبُتُ قِيمَتُهُ مُلْحَقًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثَوْبًا بِعِشْرِينَ نِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ، وَنِصْفُهُ بِعَشَرَةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَالشُّيُوعُ، وَتَفَرُّقُ التَّسْمِيَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الْبَيْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مُلْحَقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُودِ بِهِ، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَلَا بِمَعْقُودٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ بِهِ مَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْعَقْدِ وَالدَّيْنُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ بِسَبَبِهِ، وَيَبْقَى فَسْخُ الرَّهْنِ، فَلَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ فِيهِ مُلْحَقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الرَّهْنُ فَمَعْقُودٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوسًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَلَا يَبْقَى مَحْبُوسًا بَعْدَ فَسْخِ عَقْدِ الرَّهْنِ فَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ زِيَادَةٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ (وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ): أَنَّ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ يَعْسُرُ وَصْفُهُ أَوْ حُكْمُهُ، وَذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ أَنَّ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ مَضْمُونٌ بِعَشَرَةٍ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِخَمْسَةِ فَثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فِيهِ مُلْتَحِقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ فَلَا تُغَيِّرُ وَصْفَ الْعَقْدِ، وَلَا حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ أَوْ لَمْ تُوجَدُ، فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَذَاكَ دَيْنٌ، وَجَبَ لَهُ عَلَى الرَّهْنِ، وَفِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِهِ اخْتِلَافٌ، كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَالدَّيْنُ أَلْفًا فَجَنَى الْمَرْهُونُ، وَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَنِصْفُ الْفِدَاءِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ حِصَّةُ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ لَا يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ فَهُوَ دَيْنٌ حَادِثٌ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا زِيَادَةً فِي الدَّيْنِ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ رَهْنِ الْوَصِيِّ وَالْوَلَدِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَلَهُ وَصِيٌّ، فَرَهَنَ الْوَصِيُّ بَعْضَ مَا تَرَكَهُ عِنْدَ غَرِيمٍ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 98 مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِينَ أَنْ يَرُدُّوهُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَقِيقَةً، وَلَوْ قَبِلَ ذَلِكَ كَانَ لِلْآخَرِينَ أَنْ يُبْطِلُوهُ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ جَمِيعًا تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ فَهُوَ يُبْطِلُ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَنْ عَيْنِ الرَّهْنِ بِتَصَرُّفِهِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ قَضَى دَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُدُّوهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ ارْتَفَعَ بِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ، وَإِثْبَاتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي هَذَا قِيَاسُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ غَرِيمٌ آخَرُ جَازَ الرَّهْنُ وَبِيعَ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْفَاهُ الدَّيْنَ حَقِيقَةً جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا رَهَنَهُ مِنْهُ إذْ لَيْسَ فِي الرَّهْنِ إبْطَالُ حَقِّهِ، وَلَا حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَبَعْدَهُ أَوْلَى. ، وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمُوصِي، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ وَثِيقٌ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي ارْتَهَنَهُ فَوَصِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إمْسَاكِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ بِدُونِ إذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْبَيْعِ بَطَلَ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ فَالرَّاهِنُ إنَّمَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ، وَلَمْ يَرْهَنْ بِرَأْيِ غَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ، وَطَعَامِهِ، وَرَهَنَ بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْجَزَ لِلْيَتِيمِ فَرَهَنَ أَوْ ارْتَهَنَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ حَقِيقَةَ الْإِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ اسْتِحْفَاظًا لَهُ فِي الْحَالِ، وَقَضَاءً لِدَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَالْإِيدَاعِ، وَإِيفَاءِ الدَّيْنِ أَوْ هُوَ إيجَابُ حَقٍّ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْيَتِيمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الَّذِي يَصِيرُ مَقْضِيًّا عِنْدَ هَلَاكِهِ، وَيَكُونُ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَيَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ نَظَرٌ لِلْيَتِيمِ يَتَّجِرُ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ، كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَفْعَلُهُ فِي مَالِ وَلَدِ أَخِيهَا أَوْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ مُضَارَبَةً أَوْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، كَمَا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعْطِي مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ خَادِمًا لِلْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ رَهَنَ خَادِمًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْيَتِيمِ بِحَقٍّ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي دَيْنَ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَعَ نَفْسِهِ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الرَّهْنِ، وَالِارْتِهَانِ، وَكَذَلِكَ الْيَتِيمُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، وَشِرَائِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْآخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَتَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ يَتَقَدَّرُ بِالتَّصَرُّفِ وَهِيَ بِفُرُوعِهَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 99 مَذْكُورَةٌ فِي الْوَصَايَا وَلَوْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا كُلُّهُمْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا بِدَيْنٍ يَسْتَدِينُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا؛ لِأَنَّهُ مُشَاعٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا كِبَارًا مَحْبُوسِينَ عَنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ، وَالرَّهْنُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْعَقَارِ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ، وَإِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِهِ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، وَكَانَ الْكَبِيرُ شَاهِدًا وَاحْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا عَلَى الرَّقِيقِ فَرَهَنَ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الرَّقِيقِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، كَمَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْعُرُوضِ، وَلَا يَمْلِكُ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) بِاعْتِبَارِ وِلَايَتِهِ نَصِيبَ الصَّغِيرِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ أَيْضًا، كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ الرَّقِيقَ إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ، وَكِبَارٌ فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِهِ رَهْنًا وَلَوْ رَهَنَ الْوَارِثُ الْكَبِيرُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الْمَيِّتِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ خَاصَمَ الْغَرِيمَ فِي ذَلِكَ أَبْطَلَ الرَّهْنَ، وَبِيعَ لَهُ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ الَّتِي رَهَنَهَا، فَالْوَارِثُ بِتَصَرُّفِهِ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَارِثِ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ الْمَشْغُولَةِ بِالدَّيْنِ فَإِنْ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ جَازَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْغَرِيمِ، وَقَدْ زَالَ بِوُصُولِ دَيْنِهِ إلَيْهِ فَيَنْفُذُ الرَّهْنُ مِنْ الْوَارِثِ، كَمَا يَنْفُذُ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَرَهَنَ الْوَارِثُ الْكَبِيرُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ بِمَالِ أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْوَصِيُّ ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ سِلْعَةً بِالْعَيْنِ كَانَ الْمَيِّتُ بَاعَهَا فَهَلَكَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَصَارَ ثَمَنُهَا دَيْنًا فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ مَا رَهَنَ بِالنَّفَقَةِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَلَّمَ الرَّهْنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَالْعَيْنُ كَانَتْ مِلْكًا لِلْوَارِثِ فَارِغَةً عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَزِمَهُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ ثُمَّ لِحَقِّ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَدِّ السِّلْعَةِ بِالْعَيْبِ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الرَّهْنِ. وَهَذَا الْخِلَافُ مَا إذَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ الَّذِي كَانَ الْمَيِّتُ بَاعَهُ أَوْ وُجِدَ حُرًّا، فَإِنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَيِّتِ حِينَ رَهَنَ الْوَارِثُ التَّرِكَةَ، فَالْحُرُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَمْلِكُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 100 عَنْهُ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ بَاطِلًا، فَأَمَّا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ بِالْعَيْبِ، وَكَانَ هَذَا دَيْنًا حَادِثًا بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ فَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَلَكِنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ وَصِيًّا كَانَ أَوْ وَارِثًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ وَجَبَ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْوَارِثُ قَدْ مَنَعَ ذَلِكَ بِتَصَرُّفَاتِهِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلِكِ لَهُ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَالْوَصِيُّ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْوَصِيَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَحِقَهُ فِي تَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ لِلْيَتِيمِ فَيَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ زَوَّجَ أُمَّتَهُ، وَأَخَذَ مَهْرَهَا، فَأَعْتَقَهَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَصَارَ الْمَهْرُ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا، وَالِابْنُ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَحِقَ الْمَيِّتَ بَعْدَ مَا نَفَذَ التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَارِثِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ بِهَذَا السَّبَبِ قِيَامُ الدَّيْنِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَارِثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ تَلِفَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَارِثِ، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ الْغَرِيمِ فِي الْعَيْنِ بِتَصَرُّفِهِ وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ عَلَيْهِ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّ اسْتَعَادَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ فَضَاعَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِيمَا يَتَصَرَّفُ لِلْيَتِيمِ قَائِمٌ مَقَامَهُ أَنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا، وَلَوْ كَانَ بَالِغًا فَرَهَنَ مَتَاعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ اسْتَعَادَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَدْيُونَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ بِيَدِ الرَّاهِنِ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا جَعَلَ عَدْلًا فِيهِ، فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى حُكْمُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ مَا رَجَعَ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ، كَمَا كَانَ يَرْجِعُ بِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْوَصِيُّ عَلَى الْيَتِيمِ، وَقَدْ ضَاعَتْ الْعَيْنُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَعَارَهَا لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ، وَإِذَا رَهَنَ الْوَصِيُّ مَتَاعَ الْيَتِيمِ فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ نَفَذَ مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَالِ قِيَامِ وَلَايَتِهِ وَلَزِمَ، فَلَا يَمْلِكُ الْيَتِيمُ إبْطَالَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ كَالْبَيْعِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَتَاعَ الْيَتِيمِ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ أَوْ مِنْ عَبْدٍ لَهُ بِآخَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ يَرْهَنُهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الِابْنِ الصَّغِيرِ هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَرَهْنُهُ مِنْهُ كَرَهْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ رَهَنَهُ مِنْ ابْنٍ لَهُ كَبِيرٍ، أَوْ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدٍ لَهُ بِآخَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِمْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 101 بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالْكَسْبِ مِنْهُ يَصْرِفُونَ ذَلِكَ إلَى حَوَائِجِهِمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ مِنْهُمْ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، وَفِي الرَّهْنِ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ فَلِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ مَالَ الْيَتِيمِ ثُمَّ غَصَبَهُ فَاسْتَعْمَلَهُ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْغَصْبِ صَارَ جَانِيًا عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مُفَوِّتًا لِيَدِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ إذَا كَانَ حَالًّا، وَالْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ فَالْقِيمَةُ رَهْنٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَصْبِ، وَالِاسْتِعْمَالِ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِلْيَتِيمِ فِي مَالِهِ، بَلْ يَكُونُ هُوَ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَدَانَهُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَهَنَ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ فِي هَذِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْيَتِيمِ إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَقْضِيَا دِينَهُمَا بِمَالِ الصَّغِيرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَرْهَنَا مَتَاعَ الْيَتِيمِ بِدَيْنِهِمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ أَنْ يُودِعَا مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْمَنْفَعَةُ لِلصَّغِيرِ فِي الرَّهْنِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْإِيدَاعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِيدَاعِ إذَا هَلَكَ بَطَلَ حَقُّ الصَّغِيرِ، وَفِي الرَّهْنِ إذَا هَلَكَ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ، وَكَانَا ضَامِنَيْنِ لِلصَّغِيرِ مَالِيَّةَ الرَّهْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ مِلْكِ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الصَّغِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِمُقَابَلَتِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَنْفُذُ مِنْهُمَا، فَأَمَّا بِالرَّهْنِ فَلَا تَخْرُجُ الْعَيْنُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَافِظٌ بِحِفْظِهَا، وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَهُوَ كَالْإِيدَاعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ فَهُوَ نَظِيرُ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَلَهُمَا ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ مِنْ غَرِيمِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) تَعَالَى يَصِيرُ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، وَيَصِيرُ هُوَ ضَامِنًا لِلصَّغِيرِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَا يَصِيرُ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَضَاءَ دَيْنِ نَفْسِهِ بِمَالِ الْيَتِيمِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّهْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ. فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّهْنِ ضَرَرٌ عَلَى الصَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَصِيرَ قَاضِيًا دَيْنَهُ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْيَتِيمِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مِنْ نَفْسِهِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ قَالَ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 102 ظَاهِرَةٌ لِلصَّغِيرِ لِخِلَافِ الْوَصِيِّ وَهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِإِعْزَازِ نَفْسِهِ عَلَى الْوَلَدِ، وَالْوَصِيُّ مُتَّهَمٌ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ الْأَبُ مِنْ عَبْدٍ تَاجِرٍ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَسْبُ عَبْدِهِ مِلْكٌ لَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ فِي بَيَانِ الصَّكِّ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْأَبُ إذَا رَهَنَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّبِيِّ: إنِّي اسْتَقْرَضْتُهُ مِنْ مَالِي كَذَا فَأَنْفَقْتُهُ فِي حَاجَتِي، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ، وِلَايَةَ الْإِقْرَاضِ فِي مَالِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ مُعَامَلَتَهُ مَعَ غَيْرِهِ أَقْرَبُ إلَى النُّفُوذُ مِنْهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَالَ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزُ لَهُ إقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُقْرِضُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَلَا يَسْتَقْرِضُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَفِي الْأَبِ رِوَايَتَانِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لِلْأَبِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ وَلَدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يُقْرِضَهُ إلَّا مِمَّنْ يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، وَلِلْقَاضِي، وِلَايَةُ الْإِقْرَاضِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ فَبَاعَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عِنْدَ رَجُلٍ فَأَدْرَكَ الْوَلَدُ، وَمَاتَ الْأَبُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ حَتَّى يَقْضِيَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَزِمَ مِنْ الْأَبِ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَلَدِ أَنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ رَهَنَهُ لِنَفْسِهِ فَقَضَاهُ الِابْنُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُعِيرِ لِلرَّهْنِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِ مَالِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ. وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعًا لِوَلَدِهِ بِمَالِ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَلِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنِ أَحَدِهِمْ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ بِدَيْنِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ عَيْنًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ ابْنِهِ الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْكَبِيرَ؛ لِأَنَّهُ لَا، وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْكَبِيرِ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ، وَنَصِيبُ الصَّغِيرِ شَائِعٌ، فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الرَّهْنِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ضَمِنَ الْأَبُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الصَّغِيرِ وَدَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الصَّغِيرِ فَيَضْمَنُ الصَّغِيرُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَصِيُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ. (أَبُو الْأَبِ) إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ أَحَدِ الصَّغِيرَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ الرَّهْنِ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 103 [بَابُ رَهْنِ الْحَيَوَانِ] قَالَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَهْنُ الْحَيَوَانِ الْمَمْلُوكِ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) أَنَّ الْحَيَوَانَ عُرْضَةٌ لِلْهَلَاكِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَمَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، كَالْخُضَرِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْفَنَاءِ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ عَلَفُهُ، وَطَعَامُ الرَّقِيقِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ مِلْكِ الْعَيْنِ، فَالرَّاهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ مَالِكٌ لِلْعَيْنِ، كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَفِي كَوْنِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلرَّاهِنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهَلَاكِهِ قَاضِيًا لِدَيْنِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، وَالْمُؤَجَّرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ، وَالْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَالِكِ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُوصَى لَهُ، وَإِنَّمَا تَخْلُصُ الْمَنْفَعَةُ لَهُمَا، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا لَا يَرْجِعَانِ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ (تَوْضِيحُهُ): أَنَّ الْإِعَارَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيُقَالُ لِلْمُسْتَعِيرِ: إنْ ثَبَتَ فَأَنْفِقْ عَلَيْهِ، وَانْتَفِعْ بِهِ، وَإِلَّا فَرُدَّهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ بِإِيجَابٍ مِنْ الْوَارِثِ فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ لَازِمٌ بِإِيجَابِ الرَّهْنِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلنَّفَقَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْهُ كَالْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ الرَّاعِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِمَقْصُودِ الرَّاعِي فَيَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ إمَّا فِي مَنْزِلِهِ، وَإِمَّا فِي مَنْزِلٍ يَتَكَارَى لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهُ إلَّا فِي مَنْزِلٍ فَمُؤْنَتُهُ تِلْكَ تَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحِفْظِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ إضْجَارُ الرَّاهِنِ، وَلِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ، فَهُوَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ: إنْ كَانَ فِي مَنْزِلِ الْمُرْتَهِنِ سَعَةٌ، فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَتَكَارَى لَهُ مَنْزِلًا، فَالْكِرَاءُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ كَالنَّفَقَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عَلَى الزَّوْجِ كَالنَّفَقَةِ وَإِنْ أَصَابَ الرَّقِيقَ جِرَاحَةٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ دُبِّرَتْ الدَّوَابُّ، فَإِصْلَاحُ ذَلِكَ، وَدَوَاؤُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ اُنْتُقِصَتْ بِمَا اعْتَرَضَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَسْقُطُ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِبُرْءِ الْمُعَالَجَةِ إعَادَةُ مَا كَانَ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ أَشْرَفَ عَلَى السُّقُوطِ، وَهُوَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لِلْمُرْتَهِنِ، وَالْمُدَاوَاةُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 104 لَا تَكُونُ قِيَاسَ النَّفَقَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ، وَثَمَنَ الدَّوَاءِ إذَا مَرِضَتْ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا، لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَالْمُعَالَجَةُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقَدُّرَ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ أَمَانَةٌ، وَمُعَالَجَةُ الْأَمَانَةِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالْإِصْلَاحِ يَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ فِي الْمَضْمُونِ مِنْهُ، وَفِي الْأَمَانَةِ الْمَنْفَعَةُ لِلرَّاهِنِ وَهُوَ نَظِيرُ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنْ الرَّهْنِ وَالْفِدَاءُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَبِقَدْرِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَنُقْصَانِ السِّعْرِ، وَزِيَادَتِهِ لَا يُغَيَّرُ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ رُهِنَ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ السِّعْرِ، لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَيْنِ، إنَّمَا هُوَ مَنُوطٌ بِرَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَمْكِنَةِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ، كَالْمَبِيعِ، فَإِنَّ نُقْصَانَ سِعْرِهِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرَى، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ كَالْمَغْصُوبِ، فَنُقْصَانُ سِعْرِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا مِنْ الضَّمَانِ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الضَّامِنَيْنِ. وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ بِقَدْرِ مَا يَنْتَقِصُ مِنْ سِعْرِ الْمَرْهُونِ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ وَقَاسَ ذَلِكَ بِنُقْصَانِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الضَّمَانَ الثَّابِتَ بِالرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمَالِيَّةِ يُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ السِّعْرِ، كَمَا يُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الضَّمَانَاتِ، فَضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِهِ، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الْبَيْعِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَيْنِ. وَإِنْ ذَهَبَتْ عَيْنُ الدَّابَّةِ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَقِيمَتُهَا مِثْلُ الدَّيْنِ سَقَطَ رُبْعُ الدَّيْنِ لِحَدِيثِ " زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعُ قِيمَتِهَا " يَعْنِي: إذَا فُقِئَتْ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَيْنِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّ بِذَهَابِ عَيْنِهِ يَسْقُطُ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّوَابِّ مِنْ حَيْثُ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ، وَذَلِكَ يَمَسُّهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ بِأَنْ تَمْشِيَ بِقَوَائِمِهَا، وَتُبْصِرَ بَدَلُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَحِصَّةُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ، فَبِفَوَاتِ أَحَدِهِمَا يَذْهَبُ الرُّبُعُ. وَأَمَّا الْبَصَرُ فِي الْآدَمِيِّ فَمَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ، وَالْبَطْشُ كَذَلِكَ، وَالْمَشْيُ كَذَلِكَ، فَيُجْعَلُ كُلُّ جِنْسٍ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ، فَبِذَهَابِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ يَجْعَلُ نِصْفَ النَّفْسِ كَالْفَائِتِ حُكْمًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَبَنُ النَّاقَةِ رَهْنٌ مَعَهَا، وَكَذَلِكَ أَصْوَافُ الْغَنَمِ، وَأَسْمَانُهَا، وَأَوْلَادُهَا، وَثَمَرَةُ الْأَشْجَارِ، وَمَا يَنْبُتُ مِنْ الْأَشْجَارِ فِي أَرْضِ الرَّهْنِ رَهْنٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُسْتَوْلَدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالدَّارُ تُؤَاجَرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَوَلَّدٍ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمِ الرَّهْنِ، وَإِنْ هَلَكَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ لِانْعِدَامِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 105 السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِيهَا، وَهُوَ الْقَبْضُ مَقْصُودًا ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِالرَّهْنِ بِدُونِ إذْنِ الرَّاهِنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ أَدَّى إلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ فَالْمَنْفَعَةُ تَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ لَا يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ إلَّا بِإِيجَابِهَا لَهُ، وَهُوَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ أَوْجَبَ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَكَانَ مَالَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّاهِنُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَرْهُونِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِيمَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ: لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا: أَنَّ عِنْدَنَا دَوَامُ يَدِ الْمُرْتَهِنِ يُوجِبُ عَقْدَ الرَّهْنِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ يُفَوِّتُ هَذَا الْوَاجِبَ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى يَدِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَعِنْدَهُ يُوجِبُ الرَّهْنُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ بِانْتِفَاعِ الرَّاهِنِ بِهِ ثُمَّ الْحُجَّةُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمَرْهُونُ مَرْكُوبٌ، وَمَحْلُوبٌ، وَعَلَى مَنْ يَرْكَبُهُ، وَيَحْلُبُهُ نَفَقَتُهُ». وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الرَّاهِنِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ لِلرَّاهِنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ، وَلَكِنْ يُوجِبُ لِلْمُرْتَهِنِ حَقًّا، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ مِنْ الرَّاهِنِ يُقَدِّرُهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، كَالْبَيْعِ، وَالرَّاهِنُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَالرَّاهِنُ يَمْلِكُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَهَذَا كَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى عَنْ الْأَمَةِ، وَلَكِنْ يُوجِبُ لِلزَّوْجِ مِنْهَا حَقًّا، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّهِ كَالْوَطْءِ، وَالتَّزَوُّجِ مِنْ الْغَيْرِ يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ، كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ لَا يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى، وَيُوجِبُ لَهَا حَقًّا، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقٍّ لَهَا، كَالْبَيْعِ يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّهَا كَالْوَطْءِ، وَالتَّزْوِيجِ لَا يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْهُ، ثُمَّ الِانْتِفَاعُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُبْطِلًا حَقَّهُ لَكَانَ يَبْطُلُ حَقُّهُ عَنْ الْعَيْنِ، وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَالِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ، كَالْكِتَابَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الرَّاهِنَ أَحَقُّ بِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ الْكَسْبُ، وَالْغَلَّةُ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَنْفَعَةِ أَيْضًا، وَعَقْدُ الرَّهْنِ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ، وَبِالْإِجْمَاعِ الْمُرْتَهِنُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَوْ قُلْنَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّاهِنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَتَعَطَّلَتْ الْعَيْنُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مُشْبِهُ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ إلَّا أَنَّهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 106 إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِالرَّهْنِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِبَيْعِهِ فِي دَيْنِهِ فِي الْمَالِ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَمْنَعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَا يَمْنَعُهُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) فِي الْإِجَارَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، كَمَا لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي، وَطْءِ الرَّاهِنِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا وَلَا يُمْنَعُ إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُمْنَعُ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِلْإِبْطَالِ بِأَنْ تَعْلَقَ مِنْهُ فَتَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَفِي (الِانْتِفَاعِ) لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَحُجَّتُنَا: الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي حَالِ مَا يَكُونُ مَرْهُونًا، وَهُوَ مَرْهُونٌ مِنْ حِينِ يَقْبِضُهُ الْمُرْتَهِنُ إلَّا أَنْ يُعْتِقَهُ الرَّاهِنُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لَهُ، وَانْتِفَاعُ الرَّاهِنِ يُعْدِمُ هَذَا الْوَصْفَ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ هُنَا لِلْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَدِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالرَّاهِنُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَا لَمْ يُحَوِّلْهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إلَى يَدِهِ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ مُوجِبِ الْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ حَالًّا كَانَ الرَّاهِنُ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا (وَفَصْلُ الْبَيْعِ) دَلِيلُنَا: أَنَّ هُنَاكَ مَتَى ثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ كَانَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ هُنَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا فَهُنَا أَيْضًا مَتَى ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَحَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتٌ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا حَتَّى إنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِ الِانْتِفَاعِ، وَفِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، الْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهِ، وَبِهَذَا الْكَلَامِ يَتَبَيَّنُ: أَنَّ انْتِفَاعَ الرَّاهِنِ تَصَرُّفٌ مُبْطِلٌ لَا يَدُلُّ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، وَبِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ إذَا حَصَلَ تَسْلِيطُهُ، فَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَكَمَا فِي الْوَطْءِ، وَتَوَهُّمُ الْعُلُوقِ بِالْوَطْءِ مَوْهُومٌ، وَلَمَّا بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْمَوْهُومِ، وَمِثْلِهِ يَتَحَقَّقُ هُنَا، فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ الْهَلَاكُ فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ صَحِيحٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ إضْجَارُ الرَّاهِنِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ، وَمَرْكُوبٌ ". عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَحْلُوبٌ، وَمَرْكُوبٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَلِلرَّاهِنِ بِإِذْنِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 107 الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ قِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا، وَلَوْ ثَبَتَ، فَالْمُرَادُ انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الدَّرَّ يُحْلَبُ، وَظَهْرُهُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَالنَّفَقَةُ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ تَكُونُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَالِكِ، وَهَذَا حُكْمٌ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَنْتَفِعُ بِالرَّهْنِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ، بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَإِنْ آجَرَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ فَالْغَلَّةُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَثْبُت لَهُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ إيجَابِ الْمَنْفَعَةِ لِلْغَيْرِ إلَّا أَنَّ الْأَجْرَ، وَجَبَ لِعَقْدِهِ، فَيَكُونُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ، وَلَا يَعُودُ فِيهِ إلَّا بِرَهْنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَالْغَلَّةُ لِلرَّاهِنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): " هِيَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهَا، وَالْغَلَّةُ لِلْمُرْتَهِنِ قَضَاءٌ مِنْ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُلَاقِي الْمَحِلَّ الَّذِي لَاقَاهُ عَقْدُ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكُ الْيَدِ إلَّا أَنَّ رِضَا الْمُرْتَهِنِ فِي الْإِجَارَةِ شَرْطٌ يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَالِكُ مِنْ التَّسْلِيمِ فَإِجَارَةُ الْمُرْتَهِنِ، وَإِجَارَةُ الرَّاهِنِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الْأَجْرَ لِلرَّاهِنِ، وَأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدَيْنِ مَا اجْتَمَعَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ يَأْخُذُ الْأَجْرَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: عَقْدُ الْإِجَارَةِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ، فَإِذَا نَفَذَ ذَلِكَ مِنْ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ، كَالْبَيْعِ إذَا نَفَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَتَخْرُجُ الْعَيْنُ مِنْ الرَّهْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا خَرَجَ الرَّهْنُ كَانَتْ الْغَلَّةُ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَبِهِ فَارَقَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ بَدَلُ مَا ثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَيُحَوَّلُ حَقُّهُ إلَيْهِ. فَإِنْ رَكِبَ الْمُرْتَهِنُ الدَّابَّةَ أَوْ كَانَ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ سَيْفًا فَتَقَلَّدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ مِلْكَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَقَلَّدَ السَّيْفَ عَلَى سَيْفٍ أَوْ سَيْفَيْنِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ حِفْظًا، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا فِي (كِتَابِ اللُّقَطَةِ الْوَدِيعَةِ) فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ التَّعَدِّي، وَهُوَ فِي الِانْتِفَاعِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا، فَإِذَا نَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ، وَنَزَعَ الثَّوْبَ، وَكَفَّ عَنْ الْخِدْمَةِ، فَهِيَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهَا إنْ هَلَكَ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ هَلَكَ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ بِإِذْنِهِ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ، كَاسْتِعْمَالِ الْمَالِكِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ اسْتَعْمَلَهُ الرَّاهِنُ فَهَلَكَ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ، وَلَوْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 108 أَعَادَهُ الْمُرْتَهِنُ إلَى يَدِهِ بَعْلَةِ مَا فَرَغَ، فَهَلَكَ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ كَانَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ يَدُهُ يَدُ عَارِيَّةٍ، وَهِيَ غَيْرُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْعَارِيَّةِ لَا يُرْجَعُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، وَبِاعْتِبَارِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ يُرْجَعُ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ تَبْقَ يَدُ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَدَ الْمَقْصُودَةَ الِاسْتِعْمَالِ لَا غَيْرُ، فَظَهَرَ حُكْمُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ أَعَارَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَهُ لِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ مِنْ الرَّهْنِ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا، وَالْإِعَارَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الِاسْتِحْقَاقُ، وَالشَّيْءُ لَا يُنْقَضُ بِطَرَيَانِ مَا هُوَ دُونَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ مِثْلُ الرَّهْنِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلرَّهْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَسَلَّمَهُ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ فَيَبْطُلُ بِهِ الْأَوَّلُ ثُمَّ يَدُ الْعَارِيَّةِ تَتَقَدَّمُ ضَمَانَ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ عَقْدُ الرَّهْنِ حَتَّى وَلَوْ وَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ رَاهِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ كَانَ الْوَلَدُ مَرْهُونًا، وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ فِي هَذَا الْحَالِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ بَاقٍ فَبِبَقَائِهِ يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى يَدِهِ وَإِذَا أَثْمَرَ الْكَرْمُ أَوْ النَّخْلُ، وَهُوَ رَهْنٌ فَخَافَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الثَّمَرَةِ الْهَلَاكَ فَبَاعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيَكُونُ غَاصِبًا فِي ذَلِكَ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الِاسْتِبْدَادِ بِهَذَا الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إنْ اسْتَأْذَنَ الرَّاهِنَ فِيهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي إذَا كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا لِيَبِيعَهُ الْقَاضِي أَوْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ فَإِنَّ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ لِلْقَاضِي فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ جَذَّ الثَّمَرَةَ أَوْ قَطَفَ الْعِنَبَ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْحِفْظِ فَإِنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ فَسَدَ فَالْجِدَادُ فِي أَوَانِهِ حِفْظٌ، وَحِفْظُ الْمَرْهُونِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ قِيلَ: الْبَيْعُ أَيْضًا مِنْ الْحِفْظِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ فِي الْبَيْعِ حِفْظُ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَأَمَّا فِي الْجِدَادِ فَحِفْظُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ لِلْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْجِدَادِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَلْبِ يُفْسِدُ الضَّرْعَ، وَاللَّبَنَ. وَإِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ عَدْلًا زُطِّيًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِمِائَةِ شَاةٍ، أَوْ عَشَرَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ثُمَّ قَضَاهُ بَعْضَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ حَتَّى يَقْضِيَ الْمَالَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 109 كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَمَا لَمْ يَقْضِ جَمِيعَ الدَّيْنِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَعْنَى الْمُثْبَتُ بِحَقِّ الْجِنْسِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرَّهْنِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَهَنَ مِائَةَ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلُّ شَاةٍ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ قَضَاهُ عَشَرَةً، وَفِي (الزِّيَادَاتِ) قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدّ أَيَّ شَاةٍ شَاءَ قَالَ الْحَاكِمُ: فَمَا ذُكِرَ فِي (الزِّيَادَاتِ) قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذُكِرَ فِي (كِتَابِ الرَّهْنِ) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يُنْكِرُ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ. وَيَقُولُ: قَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي (نَوَادِرِهِ) عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ مَا أَجَابَ بِهِ فِي (كِتَابِ الرَّهْنِ) وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرٌ: فَإِنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ كَالْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ ثُمَّ فِي الْبَيْعِ لَا فَرْقَ فِي حُكْمِ الْحَبْسِ بَيْنَ فَصْلِ الثَّمَنِ، وَالْإِجْمَالِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَاتَيْنِ بِعَشَرَةٍ فَنَقَدَهُ عَشَرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ، وَاحِدَةً مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ فَأَمَّا وَجْهُ الرِّوَايَةِ: فَالزِّيَادَاتُ تُفَرِّقُ الْقِيمَةَ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِي الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ: لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلُّ نِصْفٍ بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ نِصْفُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَيْنِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ حَالِ الْإِجْمَالِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ رَهْنُ كُلِّ شَاةٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَهُنَاكَ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا فِي حَالِ الْإِجْمَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْهَلَاكُ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فَبَعْدَ مَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَدَّى إلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بِأَنْ يَهْلَكَ مَا بَقِيَ، فَيُفْسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْهَلَاكَ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، كَمَا أَنَّ بِالِافْتِكَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْبَعْضِ عِنْدَ قَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَهْلَكَ مَا بَقِيَ فَيَنْتَهِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فِي حَالِ الْإِجْمَالِ مَوْجُودٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي حَالِ الْإِجْمَالِ حِصَّةُ كُلِّ شَاةٍ مِنْ الدَّيْنِ غَيْرُ مَعْلُومٍ مُتَعَيَّنٍ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَمَا رَهَنَ بِهِ كُلَّ شَاةٍ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ فَلِهَذَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْبَعْضِ، بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ بِهِ. وَلَوْ رَهَنَهُ شَاتَيْنِ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا إحْدَاهُمَا بِعِشْرِينَ، وَالْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ لِجَهَالَةِ مَا رَهَنَ بِهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ إحْدَاهُمَا لَوْ هَلَكَتْ، وَثَمَنُهَا عِشْرُونَ فَالرَّاهِنُ يَقُولُ: هَذِهِ الَّتِي رَهَنْتُهَا بِعِشْرِينَ، وَالْمُرْتَهِنُ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ بِعَشَرَةٍ فَإِنْ بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَعَ الدَّيْنِ يَتَحَاذَيَانِ مُحَاذَاةِ الْمَبِيعِ مَعَ الثَّمَنِ، وَفِي الْبَيْعِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 110 إذَا عَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَازَ الْعَقْدُ؛ لِانْعِدَامِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَوْ ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ: نِصْفُهُ بِسِتِّمِائَةٍ، وَنِصْفُهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، أَوْ كُلُّ نِصْفٍ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَجُزْ لِتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَصِيرُ مَحْبُوسًا بِمَا سُمِّيَ بِمُقَابَلَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعِ لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ رَهَنْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ خَمْسُمِائَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَهُ بِدَيْنِهِمَا مُجْمَلًا، فَهُنَاكَ جَمِيعُ الرَّهْنِ يَصِيرُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْعَيْنُ، وَعِنْدَ تَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْحَبْسِ فِيمَا أَوْجَبَ لَهُ نِصْفًا، وَهُوَ الْجُزْءُ الشَّائِعُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْعَيْنَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤُ فِي مُوجَبِ الرَّهْنِ، كَالنَّفْسِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ ثُمَّ قَدْ يَثْبُتُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ لِرَجُلَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَثْبُتَ نِصْفُ الْقِصَاصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَبْسِ فِي الرَّهْنِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِشَخْصٍ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَبْسِ فِي الرَّهْنِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِشَخْصٍ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْإِجْمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْحَقُّ فِي النِّصْفِ عِنْدَ الْقَبْضِ. وَإِذَا رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ دَابَّتَيْنِ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ إحْدَى الدَّابَّتَيْنِ فَبَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَقِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقِيمَةُ الْبَاقِيَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ كَالدَّيْنِ الْمَقْبُوضِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْمَقْبُوضِ بِحَقِيقَةِ السَّدَادِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِهَلَاكِ إحْدَى الدَّابَّتَيْنِ مُسْتَوْفِيًا قَدْرَ قِيمَتِهَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَهُنَا أَيْضًا عِنْدَ هَلَاكِ إحْدَاهُمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ رَدُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُخْرَى وَيُقْرِضَهُ فَهُوَ هُنَا مُسْتَقِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِيعَادٌ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْأُخْرَى أَيْضًا عِنْدَ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَدْفَعْ الْمُرْتَهِنُ إلَيْهِ الْمِائَةَ أَوْ قَدْ دَفَعَهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي قِيمَةِ الدَّابَّتَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا مِمَّا سَقَطَ بِهِ دَيْنُهُ الْوَاجِبُ أَوْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا، فَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ، وَالرَّاهِنُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَمَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ، وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَهُوَ مِنْهُ تَطَوُّعٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ، وَيَجْعَلَهُ عَلَى الرَّهْنِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَالْإِنْفَاقِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 111 مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ فِي أَنَّهُ قَالَ: وَيَجْعَلُهُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي (كِتَابِ اللُّقَطَةِ) وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِهِ يَكْفِي؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا (رَحِمَهُمْ اللَّهِ) عَلَى: أَنَّهُ مَا لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ لِإِلْزَامِ الْمَأْمُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ النَّظَرُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ حِسْبَةً وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِيَكُونَ دَيْنًا، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا أَدْنَاهُمَا، وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ أَمْرِ صَاحِبِ الْمَالِ، فَهَذَا اسْتِقْرَاضٌ أَوْ اسْتِيهَابٌ يُثْبِتُ أَدْنَاهُمَا، وَالْأَدْنَى هُنَاكَ الِاسْتِقْرَاضُ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الرَّاهِنُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى رَهْنِهِ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمُنْفِقَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَأْمُورِ، وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ دَابَّتَيْنِ فَنَفَقَتْ إحْدَاهُمَا ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْبَاقِيَةُ مِثْلُهَا، وَلَيْسَ هَذَا كَجِنَايَةِ الرَّقِيقِ مَعْنَاهُ: إذَا رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُمَا رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَيَتَحَوَّلُ إلَى الْقَاتِلِ بَعْدَ مَا كَانَ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي (بَابِ الْجِنَايَاتِ) وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ الدَّابَّتَيْنِ كَانَتْ الْبَاقِيَةُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ إحْدَى الدَّابَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى هَدَرٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ. فَكَانَ قَتْلُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَمَوْتُهَا سَوَاءً، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ جِنَايَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْأَحْكَامِ فَحِصَّةُ الْأَمَانَةِ مِنْ الْجَانِي عَلَى الْمَضْمُونِ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ فِي تَحْوِيلِ مَا كَانَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَى الْجَانِي، وَذَلِكَ نِصْفُ مَا كَانَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا لَمْ تَنْفَكَّ الْأُخْرَى إلَّا بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحْبُوسَةٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ، وَإِنْ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا هَلَكَتْ بِحِصَّتِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا، فَعِنْدَ هَلَاكِ إحْدَاهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهَا فِي الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ يَرْهَنُهَا مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ حَتَّى يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ دَيْنِهِ، وَلَوْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ قِيمَةُ الْأُمِّ ثُمَّ بِيعَتْ الَّتِي لَمْ تَلِدْ ذَهَبَ بِنِصْفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ دَاخِلٌ مَعَهَا فِي حِصَّتِهَا؛ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 112 فَيَقْسِمُ الدَّيْنَ أَوَّلًا: عَلَى قِيمَةِ الدَّابَّتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا ثُمَّ يَقْسِمُ ثَمَنَ الَّتِي وَلَدَتْ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا، فَحِصَّةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ نِصْفُ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ بِمَوْتِهَا نِصْفُ الدَّيْنِ. وَإِنْ بِيعَتْ الَّتِي وَلَدَتْ ذَهَبَ رُبْعُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا فَتَوَسَّطَ مَعَهَا الْوَلَدُ إلَى يَوْمِ الْفِكَاكِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ بَقِيَ، فَكَانَتْ حِصَّةُ الْأُمِّ رُبْعَ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ هِيَ، وَاتَّفَقَ وَلَدُهَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ إذَا كَانَتْ الْوِلَادَةُ لَمْ تُنْقِصْ الْأُمَّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَكَانَ تَابِعًا فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ فَذَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ الْبِنْتُ بِنْتًا مِثْلَهَا كَانَ الثِّنْتَانِ بِثُلُثَيْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ السُّفْلَى كَالْعُلْيَا فِي أَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأُمِّ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّ الْعُلْيَا تَبَعٌ، وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ قِيمَتِهَا، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ مَا فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيمَةِ الْوَلَدَيْنِ أَثْلَاثًا، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ السَّاقِطَ بِمَوْتِ الْأُمِّ ثُلُثُ نِصْفِ الدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْبَيْعِ كَانَ السَّاقِطُ بِمَوْتِ الْأُمِّ رُبْعَ الثَّمَنِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي آخِرِ الْبُيُوعِ: أَنَّ سُقُوطَ الثَّمَنِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ بَعْدَ مَا انْفَسَخَ لَا يَعُودُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ، وَهُنَا سُقُوطُ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ انْتِهَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَالْمُنْتَهِي يَكُونُ مُتَقَرَّرًا فِي تَعَيُّنِهِ؛ فَبِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ يَعُودُ بَعْضُ مَا كُنَّا حَكَمْنَا بِسُقُوطِهِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَفْتَكُّ الرَّاهِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُونَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْإِجْمَالِ وَلَوْ اعْوَرَّتْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ ذَهَبَ بِمَوْتِ الْأُمِّ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الرَّقِيقِ بَقِيَتْ الِاثْنَتَانِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ النِّصْفِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْأَدْنَى نِصْفٌ، وَمِنْ الدِّيَةِ رُبْعُهَا فَفِي الرَّقِيقِ حِينَ اعْوَرَّتْ إحْدَى الِاثْنَتَيْنِ ذَهَبَ نِصْفُهَا، فَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ مَا فِي الْأُمِّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيمَةِ الْعُلْيَا، وَقِيمَةِ نِصْفِ السُّفْلَى، فَيَكُونُ عَلَى خَمْسَةٍ فِي الْأُمِّ: سَهْمَانِ، وَفِي الصَّحِيحَةِ مِنْ الِاثْنَيْنِ: كَذَلِكَ، وَفِي الْعَوْرَاءِ: سَهْمٌ، فَلِهَذَا سَقَطَ بِهَلَاكِ الْأُمِّ خُمُسَا النِّصْفِ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ، وَفِي الدَّوَابِّ بِالِاعْوِرَارِ: ذَهَبَ بِالْعَوَرِ رُبْعُهَا، فَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ نِصْفُ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ وَالصَّحِيحَةِ مِنْ الْوَلَدَيْنِ، وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَوْرَاءِ، فَكَانَتْ الْأُمُّ أَرْبَعَةً، وَالصَّحِيحَةُ كَذَلِكَ، وَالْعَوْرَاءُ ثَلَاثَةً؛ فَلِهَذَا قَالَ: يَذْهَبُ بِمَوْتِ الْأُمِّ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ النِّصْفِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ أَرْضًا، وَنَخْلًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةٍ، وَقِيمَةُ النَّخْلِ خَمْسُمِائَةٍ، فَاحْتَرَقَ النَّخْلُ، فَالْأَرْضُ رَهْنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ ضَمَانُ عَقْدٍ، وَالنَّخْلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعٌ، وَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 113 الْعَبْدِ، فَأَمَّا ضَمَانُ الرَّهْنِ فَضَمَانُ قَبْضٍ، وَالْأَوْصَافُ تُفْرَدُ بِالْقَبْضِ، فَتُفْرَدُ بِالضَّمَانِ، فَلِهَذَا سَقَطَ بِذَهَابِ النَّخْلِ نِصْفُ الدَّيْنِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً كَانَ نَبَتَ فِي الْأَرْضِ نَخْلٌ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، وَالْأَرْضُ، وَالنَّخْلُ بِثُلُثَيْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ زِيَادَةٌ فِي الْأَرْضِ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمَوْجُودِ فِي أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثَبَتَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعًا، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الدَّيْنَ يَنْقَسِمُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ، وَقِيمَةِ النَّابِتِ، وَاَلَّذِي احْتَرَقَ، وَالْقِيَمُ سَوَاءٌ، كَأَنَّمَا سَقَطَ - بِذَهَابِ مَا احْتَرَقَ - حِصَّتُهَا، وَهُوَ ثُلُثُ الدَّيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ: إنْ كَانَ الثَّابِتُ مِنْهُ عُرُوقُ النَّخْلِ الَّتِي احْتَرَقَ سَقَطَ رُبْعُ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَرْضِ سَقَطَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ إذَا كَانَ فِيهِ عُرُوقٌ فَاحْتَرَقَتْ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّخِيلِ خَاصَّةً، فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ أَوَّلًا: عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَقِيمَةِ النَّخِيلِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ تُقْسَمُ حِصَّةُ النَّخِيلِ عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيمَةِ الثَّابِتِ نِصْفٌ، فَسَقَطَ بِاحْتِرَاقِ النَّخِيلِ الْمَوْجُودَةِ رُبْعُ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَتَيْنِ إذَا وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ، وَإِذَا نَبَتَ النَّخِيلُ مِنْ الْأَرْضِ كَانَ زِيَادَةً فِي الْأَرْضِ دُونَ النَّخِيلِ فَبِاحْتِرَاقِ النَّخِيلِ سَقَطَ مَا كَانَ فِيهَا، وَهُوَ نِصْفُ الدَّيْنِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي حِصَّةُ الْأَرْضِ يَنْقَسِمُ عَلَيْهَا، وَعَلَى النَّخِيلِ الثَّابِتِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ أَرْضًا لَيْسَ فِيهَا نَخْلٌ فَنَبَتَ فِيهَا نَخْلٌ، وَقِيمَةُ الْأَرْضِ مِثْلُ الدَّيْنِ، وَقِيمَةُ النَّخْلِ كَذَلِكَ فَمَا رَهَنَ بِالْمَالِ - وَإِنْ ذَهَبَ النَّخِيلُ - لَمْ يُسْقِطْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَضُرَّ مَقْصُودُهُ بِالتَّنَاوُلِ حِينَ هَلَكَتْ قَبْلَ الْفِكَاكِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ كَالْوَلَدِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ أَرْضًا وَكَرْمًا وَقِيمَتَهُ، وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، ثُمَّ أَثْمَرَ ثَمَرًا كَثِيرًا، يَكُونُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ الشَّجَرُ، وَسَلِمَ الثَّمَرُ، وَقِيمَةُ الشَّجَرِ، وَالْأَرْضِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ ثُلُثُ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الثِّمَارَ زِيَادَةٌ فِي الشَّجَرِ، وَالْأَرْضِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ، وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ فَانْقَسَمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ، فَيَذْهَبُ الشَّجَرُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ، فَإِنْ ذَهَبَ الثَّمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ أَيْضًا سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ بِذَهَابِ الثَّمَرِ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ زِيَادَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ، وَفَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؟، وَلَكِنَّ الثِّمَارَ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، فَتَبَيَّنَ: أَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ، وَقِيمَةِ الْأَشْجَارِ نِصْفَيْنِ، وَأَنَّهُ بِذَهَابِ الْأَشْجَارِ سَقَطَ نِصْفُهُ، وَبَقِيَتْ الْأَرْضُ رَهْنًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ. وَإِذَا سَاقَ الْمُرْتَهِنُ دَابَّةَ الرَّهْنِ، أَوْ قَادَهَا فَأَصَابَتْ إنْسَانًا بِيَدِهَا أَوْ وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا فَهُوَ عَلَى الْقَائِدِ، وَالسَّائِقِ؛ لِأَنَّ الْقَائِدَ، وَالسَّائِقَ مُتْلِفٌ بِطَرِيقِ السَّبَبِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا - مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ - وَلَا يَلْحَقُ الدَّابَّةَ، وَلَا الرَّاهِنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْإِتْلَافِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 114 مِنْ الرَّاهِنِ، وَكَوْنِ فِعْلِ الدَّابَّةِ هَدَرًا شَرْعًا. وَإِذَا ارْتَهَنَ ثَوْبًا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِثْقَالَ ذَهَبٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةٍ، فَهَلَكَ الذَّهَبُ، وَلَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ، أَوْ بَدَأَ بِالثَّوْبِ فَلَبِسَهُ قَبْلَ هَلَاكِ الذَّهَبِ فَقَدْ سَقَطَ ثُلُثَا الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَةِ الذَّهَبِ، وَقِيمَةِ الثَّوْبِ، وَحِصَّةُ الذَّهَبِ ثُلُثَا الْخَمْسَةِ، فَذَهَبَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الذَّهَبِ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ بِاللِّبْسِ - حَتَّى تَخَرَّقَ - صَارَ غَاصِبًا مُتْلِفًا، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، يَحْسِبُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْخَمْسَةِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَيُؤَدِّي مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ عِمَامَةً تُسَاوِي نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَدِرْهَمَ فِضَّةٍ بِدِرْهَمٍ، فَهَلَكَتْ الْفِضَّةُ، وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ حَتَّى تَخَرَّقَتْ فَإِنَّ الْفِضَّةَ تَذْهَبُ بِثُلُثَيْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهَا مِنْ الدَّيْنِ الثُّلُثَانِ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْعِمَامَةِ بِالْإِتْلَافِ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا ثُلُثُ الدِّرْهَمِ: حِصَّةُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ. قَالَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ: هَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فِي الْوَضْعِ فَمِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): أَنَّهُ يَرْفَعُ - فِيمَا يُذْكَرُ مِنْهُ - قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يَذْكُرَ ثَوْبًا يُسَاوِي أَلْفًا، وَجَارِيَةً تُسَاوِي عِشْرِينَ أَلْفًا، وَهُنَا قَالَ: عِمَامَةٌ تُسَاوِي نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِمَامَةُ خَيْشًا لَكَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَبِسَ الْعِمَامَةَ حَتَّى تَخَرَّقَتْ، فَلَا تَأْوِيلَ لِهَذَا سِوَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا تَطْيِيبَ قُلُوبِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ؛ لَأَنْ يُثَابَ - بِمَا مِنْهُمْ يَكُونُ - خِلْقَةً فَيَعْمَلُونَ إذَا نَظَرُوا إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَكُونُ ثَوْبُهُ دُونَ ثِيَابِهِمْ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّسَلِّي لَهُمْ. وَلَا يَجُوزُ ارْتِهَانُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا فَإِنْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ - إنْ كَانَ الرَّاهِنُ كَافِرًا - لِأَنَّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْقَبْضِ، كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا، ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ خَمْرَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي حَالَ الْغَصْبِ، وَالْإِتْلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ رَهْنِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ] قَالَ: (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ قُلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ عَشَرَةً، أَوْ: قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً أَوْ: قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ، وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ الْقُلْبُ، أَوْ يَنْكَسِرَ، أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ، فَإِنْ هَلَكَ الْقُلْبُ سَقَطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ فِي وَزْنِهِ، وَقِيمَتِهِ وَفَاءٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 115 بِالدَّيْنِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ بِهَلَاكِهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ): يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ إنْ شَاءَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ خِلَاف جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الرِّبَا، وَيَكُونُ مَا ضَمِنَهُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَحِلّ أَجَلُ الدَّيْنِ ثُمَّ يَسْتَوْفِيَهُ ضَامِنٌ حَقَّهُ، وَالْمَكْسُورُ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ إنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَكْسُورَ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِبَعْضِ الدَّيْنِ، وَرَوَى أَصْحَابُ (الْإِمْلَاءِ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) أَنَّ الرَّاهِنَ يُجْبَرُ عَلَى افْتِكَاكِ اقْتِضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُرْتَهِنَ شَيْئًا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) أَنَّ حَالَةَ الِانْكِسَارِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَالْقُلْبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ دُونَ الْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِانْكِسَارِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ لِلضَّامِنِ، وَضَمَانُ الدَّيْنِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَسَبَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّامِنَيْنِ الْقَبْضُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ ضَمَانَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ أَحَدَهُمَا وَبِالْإِجْمَاعِ فِي حَالَةِ الْهَلَاكِ: الْقُلْبُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ هُنَا، فَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ الِانْكِسَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَبِيعَ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ اسْتَوَى فِيهِ حَالَةُ الْهَلَاكِ، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ، وَالْمَغْصُوبُ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ اسْتَوَى فِيهِ حَالَةُ الْهَلَاكِ، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ، فَهَذِهِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ حُكْمًا بَيْنَ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَكُونُ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةُ فِي مَالِ الرِّبَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ يَكُون بِقَدْرِ الْوَزْنِ، وَالْكَيْلِ فَأَمَّا عِنْدَ الِانْكِسَارِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ لِبَقَاءِ الْوَزْنِ، وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الرَّاهِنَ إنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَكْسُورَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَجَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ فَيَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، كَمَا إذَا انْكَسَرَ الْقُلْبُ الْمَبِيعُ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُؤَدِّيَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَيَجْعَلَهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) قَالَا: ضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّةُ الْقُلْبِ بِاعْتِبَارِ، وَزْنِهِ، وَالْوَزْنُ قَائِمٌ بَعْدَ الِانْكِسَارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَوْفِيًا رَضِيَ بِهِ الرَّاهِنُ أَوْ لَمْ يَرْضَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَسْلِيمِ الرَّاهِنِ الْمَكْسُورَ لِلْمُرْتَهِنِ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَمْتَلِكُ الْمَكْسُورَ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ إذَا لَمْ يَهْلَكْ الرَّهْنُ، لَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ بِهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ عَبْدًا كَانَ كَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَوْفِيًا قُلْنَا: الرَّاهِنُ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ، كَمَا قَبَضَ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِهِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، فَالْقُلْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَالْمَقْبُوضِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِقِيمَتِهِ، وَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 116 أَنْ يُشْتَرَطَ الْمَكْسُورَ، وَلَا يَبِيعُهُ بِشَيْءٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ، وَيَمْلِكَ الْمَكْسُورَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّا لَا نُثْبِتُ ضَمَانَيْنِ بِاعْتِبَارِ قَبْضٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ قَبْضَيْنِ مَعْنَاهُ: أَحَدُهُمَا: قَبْضٌ بِرِضَا الْمَالِكِ، وَالْآخَرُ: قَبْضٌ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَكَالْوَاحِدِ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ أُخْرَى، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ يُوجِبُ ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَلَمْ يَفُتْ شَيْءٌ بِالِانْكِسَارِ مِنْ الْوَزْنِ، إنَّمَا فَاتَتْ الصِّفَةُ، وَلَا قِيمَةَ لِلصِّفَةِ فِي مَالِ الرِّبَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَفَوَاتُهُ لَا يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ، وَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلرَّاهِنِ، كَفَوَاتِ الزِّيَادَةِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِحُدُوثِهَا نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْقُلْبِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ فَهَلَكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلُ مُسْتَوْفِيًا قَدْرَ قِيمَتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَشَرَةِ بِثَمَانِيَةٍ رِبًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ دَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْجَوْدَةِ، وَكَمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ حَقِّهِ فِي الْوَزْنِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاهِنَ، وَلَوْ أَرَادَ قَضَاءَ دَيْنِهِ بِمَا هُوَ دُونَ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا، يُجْعَلُ كَالْمَقْبُوضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عَلَى الْقَابِضِ إذَا هَلَكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: ضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ بِالْوَزْنِ، وَفِي الْقُلْبِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ، فَيُجْعَلُ مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ فِي مَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الرَّهْنَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) إذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَشَرَةُ جِيَادٍ وَسَتُّوقٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى كَانَ زُيُوفًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) نُضَمِّنُهُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ، وَيَرْجِعُ بِحَقِّهِ. ذِكْرُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: عِيسَى، وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، أَمَّا قَوْلُ الْآخَرِ فَكَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ فِي (كِتَابِ الرَّهْنِ) إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ مَقْبُوضٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَهُنَاكَ الْمُسْتَوْفَى إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ لِلْهَلَاكِ سَقَطَ حَقُّهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَكَانِ الْجَوْدَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ - وَعِنْدَهُمَا - هُنَاكَ يَضْمَنُ مِثْلَ الْمُسْتَوْفِي، وَمَقَامُ رَدِّ الْمِثْلِ مَقَامُ رَدِّ الْعَيْنِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 117 فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا الْبِنَاءُ، وَهُنَاكَ عِنْدَ الْقَبْضِ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِصِفَةِ الْمُسْتَوْفَى سَقَطَ حَقُّهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهُنَا عِنْدَ قَبْضِ الرَّهْنِ هُوَ عَالِمٌ بِرَدَاءَةِ الْمَقْبُوضِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنْ عِنْدَ قَبْضِ الرَّهْنِ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَهْلَكُ فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهِ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ هُنَا عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فَبِمُجَرَّدِ قَبْضِ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عِنْدَ الْجَوْدَةِ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ لِاسْتِيفَاءِ حَقَّيْنِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ فِي الْجَوْدَةِ، وَلَوْ انْكَسَرَ الْقُلْبُ هُنَا ضَمَّنَهُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فَظَاهِرٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ حَالَةُ الِانْكِسَارِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَفِي حَالَةِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ: الْقُلْبُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِانْكِسَارِ، وَإِنَّمَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ، فَإِنَّهُ إنْ هَلَكَ الْقُلْبُ سَقَطَ الدَّيْنُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِي الْوَزْنِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَفِي الْقِيمَةِ كَذَلِكَ، وَزِيَادَةُ الْقِيمَةِ عَلَى الدَّيْنِ كَزِيَادَةِ الْوَزْنِ فَيُلْغَى؛ فَتَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ: أَنَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِجَمِيعِ الْقُلْبِ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ: أَنَّ الْجَوْدَةَ لَا تُفْصَلُ عَنْ الْأَصْلِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَفِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّ الرَّاهِنِ عَنْ الْجَوْدَةِ، فَكَمَا يُرَاعَى حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْجَوْدَةِ، فَكَذَلِكَ يُرَاعَى حَقُّ الرَّاهِنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِمَا يُسَاوِي عَشَرَةً مِنْ الْقُلْبِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ؛ لِأَنَّ وَزْنَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَشَرَةِ بِثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ يَكُونُ رِبًا، فَإِذَا تَغَيَّرَ الِاسْتِيفَاءُ قُلْنَا: يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَيَكُونُ مَرْهُونًا بِالدَّيْنِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ زِيَادَةَ الْجَوْدَةِ لَا تَكُونُ أَعْلَى مِنْ زِيَادَةِ الْوَزْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ آمِنٌ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَهَلَاكُهَا فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الرَّاهِنِ. وَأَمَّا إذَا انْكَسَرَ الْقُلْبُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقُلْبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَزْنُ، وَالصِّيغَةُ تَبَعٌ لِلْوَزْنِ، وَلَيْسَ لِلْوَزْنِ هُنَا فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ، فَكَانَ كُلُّهُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ، كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ كُلِّهِ مَضْمُونًا، أَنْ تَكُونَ الْجَوْدَةُ كُلُّهَا مَضْمُونَةً، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ لَيْسَتْ بِحَالَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ ضَامِنًا جَمِيعَ الْقِيمَةِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) مِثْلَ هَذِهِ فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَضْمَنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ، وَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ بِالضَّمَانِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 118 وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَالشُّيُوعِ الْمُقَارَنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ، وَالْأَمَانَ تَبَعٌ فِي الْوَزْنِ، وَالْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ، وَالصَّنْعَةَ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ مَعَ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْقُلْبِ فِي الْقُلْبِ الْمُوصَى بِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ قُلْبَ الْيَتِيمِ بِمِثْلِ، وَزْنِهِ لَا يَجُوزُ، وَيُجْعَلُ مُحَابَاتُهُ بِالْجَوْدَةِ، وَالصَّنْعَةِ كَمُحَابَاتِهِ بِالْوَزْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَلْبِ الْمَغْصُوبِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الصَّنْعَةِ، وَالْجَوْدَةِ يَصِيرُ الْغَاصِبُ ضَامِنًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا قُلْنَا: خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِجُودَتِهِ وَصَنْعَتِهِ، وَسُدُسُهُ أَمَانَةٌ فَالتَّغَيُّرُ بِالِانْكِسَارِ فِيمَا هُوَ أَمَانَةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ مَضْمُونٌ مُعْتَبَرٌ، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ لَيْسَتْ بِحَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لِهَذِهِ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ اُنْتُقِصَ بِالِانْكِسَارِ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَجُبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْوَزْنِ، وَالْأَمَانَةَ فِي الْجَوْدَةِ وَالصَّنْعَةِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَوْدَةَ، وَالصَّنْعَةَ تَابِعَةٌ لِلْوَزْنِ، وَأَنَّ الْأَمَانَةَ فِي الْمَرْهُونِ كَذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْأَصْلُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ، وَالتَّبَعُ بِمُقَابَلَةِ التَّبَعِ، وَهَذِهِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ كَمَا قَرَّرَهُ أَبُو يُوسُفَ: أَنَّهَا مَالٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ فِيمَا هُوَ أَمَانَةٌ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْحَبْسُ بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَانَةُ هُنَا فِي الصَّنْعَةِ، وَالْجَوْدَةِ قُلْنَا: إذَا لَمْ تُنْقَصْ بِالِانْكِسَارِ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمَيْنِ، فَالثَّابِتُ مَا كَانَ أَمَانَةً فَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ، وَإِنْ اُنْتُقِصَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ الْمَضْمُونِ، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ: عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِانْكِسَارِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَيَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ، كَمَا بَيَّنَّا، وَسِوَى هَذَا فَصْلَانِ آخَرَانِ، يَنْقَسِمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا أَنْشَأَهُ مِنْ (شَرْحِ الزِّيَادَاتِ)، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَعْنَاهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا. وَلَوْ ارْتَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَانْكَسَرَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنُهُ بِعُشْرِ قِيمَتِهِ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ، كَمَا قَالَ: فِي الْكِتَابِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِعُشْرٍ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَالْقِيمَةُ مِثْلُ الْوَزْنِ، وَقِيلَ يُؤَوَّلُ مَا ذُكِرَ: أَنَّ قِيمَتَهُ بِدُونِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْوَزْنِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالضَّمَانِ عُشْرَ الْمَكْسُورِ، فَيَضْمَنُهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا، وَإِذَا مَلَكَ عُشْرَ الْإِبْرِيقِ، فَالضَّمَانُ بِمَعْنَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْبَيْعِ، وَيَكُونُ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ مَعَ الذَّهَبِ الَّذِي عَزَلَهُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَدْ ذُكِرَ فِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 119 نُسَخِ ابْنِ حَفْصٍ: أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ: فَالرَّاهِنُ يَجْعَلُ عُشْرَ الْمَكْسُورِ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِهِ، وَيَرُدُّ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِعُشْرِ الْإِبْرِيقِ، وَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ ارْتَهَنَ قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِرْهَمٍ، فَكَسَرَ رَجُلٌ الْقُلْبَ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ، وَكَانَ رَهْنًا، وَالْقُلْبُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ فَاتَ إلَى بَدَلٍ، فَيَقُومُ الْبَدَلُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَيَبْقَى - بِاعْتِبَارِهِ - جَمِيعُ الدَّيْنِ فَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْقُلْبَ، وَرَضِيَا أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ، وَهُوَ مَكْسُورٌ فَهُوَ رَهْنٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْفَائِتَ بِالْكَسْرِ الصَّنْعَةُ، وَهِيَ لَا تَتَقَوَّمُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ، وَكَمَا لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْكَاسِرِ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الرَّاهِنِ بِهِ حِينَ الِانْكِسَارِ، فَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ (فِي الْكِتَابِ) ذُكِرَا بِأَيِّهِمَا جَمِيعًا، وَالْمُعْتَبَرُ إبَاءُ الرَّاهِنِ خَاصَّةً. وَلَوْ ارْتَهَنَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِيضًا صَرْفًا بِعَشَرَةٍ سُودٍ فَهَلَكَتْ فَهِيَ بِالسُّودِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالرَّهْنِ، إذْ فِي الْوَزْنِ، وَالْجَوْدَةِ، وَفَاءٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَزِيَادَةٌ فَيُجْعَلُ عِنْدَ الْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ، وَالزِّيَادَةُ أَمَانَةٌ. وَلَوْ ارْتَهَنَ قُلْبَ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ بَيْضَاءَ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ سَوْدَاءَ فَهَلَكَتْ، فَالْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفٍ لِجَمِيعِ دَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ، وَلَوْ انْكَسَرَ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الرَّاهِنِ، وَكَانَ رَهْنًا، فَالدَّيْنُ، وَالْقُلْبُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّ الْمَكْسُورَ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُرْتَهِنَ مِنْ الْقُلْبِ ذَهَبًا بِقَدْرِ قِيمَةِ فِضَّةِ الْمُرْتَهِنِ السَّوْدَاءِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الْقُلْبِ لِلرَّاهِنِ، يُقْسَمُ ذَلِكَ فَيُجْمَعُ مَعَ الذَّهَبِ الَّذِي ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَيَكُونُ رَهْنًا، وَهَذِهِ مَا ذَكَرْنَا قَبْلَهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ إذَا انْكَسَرَ الْقُلْبُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ. وَلَوْ ارْتَهَنَ قُلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَانْكَسَرَ وَقِيمَتُهُ، وَالدِّينَارُ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يُقَوِّمُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ، فَيَكُونُ رَهْنًا بِالدِّينَارِ، وَالْقُلْبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي وَزْنِ الْقُلْبِ فَضْلٌ عَلَى مَالِيَّةِ الدَّيْنِ، وَحَالَةُ الِانْكِسَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) حَالُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ هَلَكَ هُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ مُقَوَّمٌ بِالْعَشَرَةِ فَفِي مَالِيَّتِهِ، وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي حَالِ الِانْكِسَارِ أَخَصَّ الرَّاهِنَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقُلْبَ مَكْسُورًا، وَأَعْطَاهُ الدِّينَارَ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ الْفِضَّةَ لَهُ بِالدِّينَارِ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْحَالِ بِحَالِ الْهَلَاكِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ قُلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ، سَلَمٌ أَوْ قَرْضٌ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، فَإِنْ هَلَكَ ذَهَبَ فِيمَا فِيهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ فَهُوَ عَلَى مَا وَصَفْتُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 120 لَكَ مَعْنَاهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَكُونُ ضَامِنًا جَمِيعَ قِيمَتِهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ وَزْنُ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ فَصٌّ يُسَاوِي تِسْعَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ فَهَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيمَا بَقِيَ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَلَوْ ارْتَهَنَ سَيْفًا مُحَلَّى قِيمَةُ السَّيْفِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَنَصْلُهُ خَمْسُونَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَلَكَتْ فَهُوَ كَالْخَاتَمِ، وَإِنْ انْكَسَرَ الْفَصُّ، وَالْحِلْيَةُ بَطَلَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ نُقْصَانِ النَّصْلِ؛ لِأَنَّ النَّصْلَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا فَالنُّقْصَانُ فِي عَيْنِهِ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ، فَمِنْ مَالِ الرِّبَا، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُلْبِ عِنْدَ الِانْكِسَارِ، وَفِي الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -). وَلَوْ ارْتَهَنَ كُرَّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِكُرٍّ رَدِيءٍ فَهَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يُفْسِدُهُ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ كُرٌّ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْحِنْطَةِ كَالِانْكِسَارِ فِي الْقُلْبِ، إلَّا أَنَّ الْحِنْطَةَ مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ، وَالْقُلْبُ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ سَلَّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مَعِيبًا، وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْفَسَادِ بِحَالِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ كُرًّا رَدِيئًا، وَالدَّيْنُ كُرًّا جَيِّدًا فَهَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ فِي الْقَدْرِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَالْمُعْتَبَرُ: الْقَدْرُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَمِيعًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ رَهْنِ الْقُلْبِ الرَّدِيءِ، وَالْعَشَرَةِ السُّودِ بِالْعَشَرَةِ الْبِيضِ. وَلَوْ رَهَنَ قُلْبَ فِضَّةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَالَ: إنْ جِئْتُكَ بِالْعَشَرَةِ إلَى شَهْرٍ، وَإِلَّا، فَهُوَ بَيْعٌ لَكَ بِالْعَشَرَةِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ هَذَا، فَفِي الْقَلْبِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدْخُلُهُ مَعْنَى الصَّرْفِ هُنَا. وَإِذَا أَعْطَى رَجُلٌ رَجُلًا قُلْبَ فِضَّةٍ، فَقَالَ: ارْهَنْهُ لِي عِنْدَ رَجُلٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِي الْقُلْبِ عِشْرُونَ - فَأَمْسَكَهُ الْوَكِيلُ عِنْدَهُ، وَأَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ: رَهَنْتُهُ لَكَ كَمَا أَمَرْتَنِي، وَلَمْ يَقُلْ رَهَنْتُهُ عِنْدَ أَحَدٍ فَهَلَكَ الْقُلْبُ عِنْدَهُ فَإِنْ تَصَادَقَا بِاَلَّذِي كَانَ رَجَعَ بِالْعَشَرَةِ وَكَانَ مُؤْتَمَنًا فِي الْقُلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ، فَإِنْ قَبَضَهُ، فَفَضَلَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَهُوَ كَفِيلٌ عَلَى حِفْظِهِ إلَى أَنْ هَلَكَ فَهَلَكَ أَمَانَةً، وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ، وَلَا يَكُونُ هُوَ بِمَا صَنَعَ عَاقِدًا عَقْدَ الرَّهْنِ فِي الْقُلْبِ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ رَهْنًا لَا رَاهِنًا، فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الْقُلْبِ وَإِنْ تَجَاحَدَا، فَقَالَ: الْآمِرُ قَدْ أَقْرَرْتَ لِي أَنَّكَ رَهَنْتَهُ، فَلَا شَيْءَ لَكَ عَلَيَّ، فَهُوَ، كَمَا قَالَ: لِأَنَّ الْقَابِضَ قَدْ أَقَرَّ بِالرَّهْنِ، وَمِنْ حُكْمِهِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْقُلْبِ شَيْءٌ مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْدَ هَلَاكِ الْقُلْبِ، وَالْمُقِرُّ بِوَاحِدٍ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْقُلْبِ بِاَللَّهِ: مَا يَعْلَمُهُ أَمْسَكَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَقَ فِي ذَلِكَ لَرَهَنَهُ إذًا بِعَشَرَةٍ فَيَحْلِفُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 121 عِنْدَ التَّكْذِيبِ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِحْلَافُ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُقِرِّ لِلتَّنَاقُضِ، فَكَيْفَ يَحْلِفُ الْخَصْمُ؟ قُلْنَا: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَالَ: رَهَنْتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَانَ تَوْفِيقُهُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ صَحِيحًا أَنِّي رَهَنْتُهُ عِنْدَ نَفْسِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَقَدَّمَ التَّنَاقُضُ، بِهَذَا التَّوْقِيفِ تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِنْ قَالَ الْآخَرُ: قَدْ أَقْرَرْتَ أَنَّكَ رَهَنْتَهُ ثُمَّ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَنْتِ ضَامِنٌ لِلْقُلْبِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْقُلْبِ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ، وَيَرْجِعُ بِالْعَشَرَةِ قَالَ: عِيسَى هَذَا غَلَطٌ، وَلَا مَعْنًى لِإِيجَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَهَنَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ هُنَا حَالَةٌ ثَالِثَةٌ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا؟ لِلْقِيمَةِ، وَهَذَا نَظِيرُ الظَّنِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي (كِتَابِ الْوَدِيعَةِ) إذَا ادَّعَى الْمُودِعُ الْهَلَاكَ ثُمَّ ادَّعَى الرَّدَّ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ قَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ، وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَكَأَنَّهُ سَاكِتٌ حَابِسٌ لِلْقُلْبِ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: رَهَنْتُهُ أَوْجَبَ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ فَيُجْعَلُ جَاحِدًا الْأَمَانَةَ، بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَمَنْ نَكَلَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ قِيمَتَهُ. وَلَوْ ارْتَهَنَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِيهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِثْقَالًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ، وَالْأَلْفُ عِنْدَ الرَّاهِنِ يَتَّجِرُ فِيهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى الرَّاهِنِ فِي رَهْنِهِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ، فَإِذَا قَبَضَ الْمَالَ، وَرَدَّ الرَّهْنَ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ زَكَاةُ الْأَلْفِ لِمَا مَضَى لِوُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ): أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّيْنِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَعَلَى الرَّاهِنِ زَكَاةُ الطَّوْقِ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الْحَقِّ الْمُرْتَهَنِ فَإِذَا، وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ أَدَّى الزَّكَاةَ لِمَا مَضَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْأَلْفِ زَكَاةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا، وَالْمُسْتَغْرَقُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ نِصَابَ الزَّكَاةِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ كُرَّيْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، فَهَلَكَا عِنْدَهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فَفَسَدَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كُرًّا مِثْلَ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الْكُرَّيْنِ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْفَسَادِ لَيْسَتْ بِحَالِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمَضْمُونُ مِنْهُ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الدَّيْنِ كَيْلًا، فَعِنْدَ الْفَسَادِ يَضْمَنُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَمْكُثُ الْفَاسِدُ بِالضَّمَانِ مِثْلَ مَا ضَمِنَ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَيَنْبَنِي عَلَى قَوْلِهِمَا فِي حَالَةِ الْهَلَاكِ، وَالْفَسَادِ: أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا مِثْلَ أَحَدِ الْكُرَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِالْكُرَّيْنِ لِمَعْنَى الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 122 دَيْنَهُ بِأَحَدِ الْكُرَّيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْجَوْدَةِ. وَإِنْ ارْتَهَنَ شَيْئًا مِمَّا يُوزَنُ بِشَيْئَيْنِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ بِشَيْئَيْنِ مِمَّا يُوزَنُ، وَفِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَفِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ أَفْسَدَهُ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ مِثْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ). وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فُلُوسًا تُسَاوِيهَا فَهَلَكَتْ فَهِيَ بِمَا فِيهَا، وَإِنْ انْكَسَرَتْ دُفِعَتْ فِيهِ، دَيْنُهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَا تَكُونُ مَوْزُونَةً، فَإِنَّمَا رَهَنَهَا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالِ الرِّبَا فَبِالنُّقْصَانِ فِي عَيْنِهَا سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنْ تُقَوَّمَ مَكْسُورَةً، وَغَيْرَ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا جَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفُلُوسَ مَالُ الرِّبَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ، وَلَا يُقَابِلُ أَحَدُ الْفَلْسَيْنِ شَيْئًا مِنْ الْعِوَضِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا، وَغَيْرِهَا، وَلَوْ لَمْ تَنْكَسِرْ، وَلَكِنَّهَا كُسِرَتْ فَهِيَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهَا، فَإِنْ هَلَكَتْ ذَهَبَتْ بِالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ كَسَادَهَا بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ السِّعْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ تَغَيُّرَ السِّعْرِ فِي الْمَرْهُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي سُقُوطِ الدَّيْنِ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ، وَلَوْ رَدَّ الْفُلُوسَ الْمَغْصُوبَةَ بِعَيْنِهَا بَعْدَ مَا كَسَدَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَجَعَلَ الْكَسَادَ بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ السِّعْرِ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ طَسْتًا أَوْ تَوْرًا أَوْ كُوزًا بِدِرْهَمٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الرَّهْنِ وَفَاءً، وَفَضْلٌ، فَإِنْ هَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ فَمَا كَانَ فِيهِ لَا يُوزَنُ، ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ النُّقْصَانِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ يُوزَنُ فَإِنْ شَاءَ الرَّاهِنُ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ الدَّيْنَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَأَخَذَ الرَّاهِنُ الْقِيمَةَ، وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: الْحَاكِمُ، وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَكَانَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى رِوَايَةٍ سِوَى مَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ نَصْلُ السَّيْفِ، وَالشَّيْءُ مِنْ الْحَدِيدِ، وَالصُّفْرُ يَكُونُ مَصُوغًا لَا يُبَاعُ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، كَمَا يَتَبَادَرُ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يُبَاعُ وَزْنًا لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ هُوَ، وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ مَصُوغًا، وَكَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِلْمُرْتَهِنِ، وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُنَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 123 ذُكِرَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ إنْ كَانَ هُوَ، وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، وَلَا إشْكَال فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِذَا ارْتَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ قُلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ دِرْهَمًا، فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ يُعْطِيهِ إيَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْمَوْعُودَ مِنْهُ الدَّيْنُ، كَالْمُسْتَحَقِّ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ فَهَلَكَ فَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَبَيَانُهُ إلَيْهِ فَيُقَالُ لِلْمُرْتَهِنِ: أَعْطِهِ مَا يَثْبُتُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَمْسِكْهُ رَهْنًا بِنَفَقَةٍ يُعْطِيهَا إيَّاهُ وَإِنْ قَالَ: أَمْسِكْهُ رَهْنًا بِدَرَاهِمَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ وَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَرَاهِمَ سَوَاءٌ، وَلَوْ قَالَ: آخُذُهُ رَهْنًا بِمَخْتُومِ حِنْطَةٍ أَوْ مَخْتُومِ شَعِيرٍ فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَخْتُومُ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَعِنْدَ الْهَلَاكِ يُجْعَلُ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْهُ رَهْنًا بِدَيْنٍ أَرَادَ بِدِرْهَمٍ. وَلَوْ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ دِرْهَمٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ، فَأَعْطَاهُ شَعِيرًا بِفَلْسٍ فَغَلَتْ الْفُلُوسُ فَصَارَتْ ثُلُثَيْنِ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ هَلَكَ الْخَاتَمُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَظِيرُ الشَّعِيرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ الْهَلَاكِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَفِي قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَدَتْ، وَلَمْ يَبْقَ أَوْ رَخُصَتْ فَصَارَتْ تِسْعِينَ بِدَانَقٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا تِسْعُونَ فَلْسًا، وَإِنْ هَلَكَ الْخَاتَمُ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ فَإِنْ شَاءَ الْمُرْتَهِنُ أَبْطَلَ حَقَّهُ، وَدَفَعَ بِهِ الْخَاتَمَ مَكْسُورًا، وَإِنْ طَلَبَ حَقَّهُ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ الْخَاتَمِ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ، وَأَخَذَ نِصْفَ الْفِضَّةَ، وَكَانَ الذَّهَبُ وَنِصْفُ الْفِضَّةِ الْبَاقِي رَهْنًا بِتِسْعِينَ فَلْسًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْخَاتَمِ أَمَانَةٌ، وَنِصْفَهُ مَضْمُونٌ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ وَزْنُ دِرْهَمٍ، وَإِنَّمَا رَهَنَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الْخَاتَمِ مَضْمُونٌ، وَنِصْفَهُ أَمَانَةٌ، فَعِنْدَ الِانْكِسَارِ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ الْمَضْمُونِ مِنْ الْخَاتَمِ مِنْ الذَّهَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: الرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ فَاسِدًا، وَأَدَّى الدَّيْنَ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ الْمَضْمُونَ مِنْهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَأَخَذَ الْبَاقِي مِنْهُ، وَيَبْطُلُ قَدْرُ الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِحَالِ الْهَلَاكِ بِحَالِ الِانْكِسَارِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي (الْمُخْتَصَرِ) فِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَإِنْ انْكَسَرَ فَإِنْ شَاءَ الرَّاهِنُ أَبْطَلَ الرَّهْنَ وَأَخَذَ الْخَاتَمَ مَكْسُورًا، وَهَذَا إنْ صَحَّ، فَمُرَادُهُ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مَكْسُورًا بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّسْتِ، وَالتَّوْرِ؛ لِأَنَّ مَصُوغَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَالِ الرِّبَا، فَإِنَّهُ لَا يُوزَنُ، فَأَمَّا الْمَصُوغُ مِنْ الْفِضَّةِ، فَمَالُ الرِّبَا، سَوَاءً الجزء: 21 ¦ الصفحة: 124 كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوزَنُ عَادَةً أَوْ لَا يُوزَنُ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِالْكَسْرِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ إذَا أَرَادَ أَخْذَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الرَّهْنِ] قَالَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَقَدْ قَبْضَهُ، وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ؛ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَتَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ الْمَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَالْمِائَةُ غَيْرُ الْمِائَتَيْنِ، وَبِدُونِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ لَا يَثْبُتُ الرَّهْنُ، وَعِنْدَهُمَا يُثْبِتُ الْمِائَةَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْمِائَتَيْنِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَيُقْضَى الرَّهْنُ بِالْمِائَةِ فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي مِائَةً وَخَمْسِينَ فَالرَّهْنُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمِائَةِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَالْخَمْسُونَ عَطْفٌ عَلَى الْمِائَةِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ مِائَةً بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالثَّمَنُ هُنَاكَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ بِمِائَةٍ غَيْرُ الْعَقْدِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَلَا يُمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ، وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الْمَالُ، وَهُنَا الدَّيْنُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ، وُجُوبُهُ بِالرَّهْنِ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِهِ لَا يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَمَعْنًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَعْنًى عِنْدَهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِدَنَانِيرَ، وَالْآخَرُ بِدَرَاهِمَ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْمَالَيْنِ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَاهِدَهُ الْآخَرَ. وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَهِيَ قِيمَتُهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى مِائَةٍ، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ لِي عَلَيْهِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، وَهَذَا رَهْنٌ بِمِائَةٍ مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الدَّيْنِ، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ رَهْنَ الْعَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الرَّهْنَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِيمَا ثَبَتَتْ فِيهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 125 مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا ثَوْبَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَلَاكِ فَحَاصِلُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِيمَا صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الثَّوْبِ الَّذِي هَلَكَ عِنْدَهُ. وَإِذَا رَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَتَاعٍ بَاعَهُ إيَّاهُ فَيَقْبِضُ الْمَتَاعَ إلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الرَّهْنَ، وَجَحَدَ الرَّاهِنُ، فَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَأَبَى الْآخَرُ مِنْ دَفْعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَا الْبَيْعَ بِشَرْطِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَا يَكُونُ مَرْهُونًا غَيْرَ مَقْبُوضٍ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مَتَاعَهُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الْآخَرُ الْعَبْدَ رَهْنًا أَوْ يُعْطِيَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا آخَرَ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ حِينَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ الْعَبْدَ رَهْنًا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَإِمْضَائِهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ رَهْنًا فَحِينَئِذٍ قَدْ وَفَّى لَهُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَالثَّانِي لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ إلَّا بِرِضَاهُمَا. وَلَوْ لَمْ يَجْحَدْ الرَّاهِنُ، وَلَكِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَحَقَّ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ يَنْقُصُهُ فَلِبَائِعِ الْمَتَاعِ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا آخَرَ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قِيمَةَ ذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ أَوْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَانَ مَنْعُ الرَّاهِنِ الْقِيمَةَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَنْعِ الْعَيْنِ فِي حَالِ قِيَامِهِ فَلِأَجْلِهِ تَخَيَّرَ الْبَائِعُ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَخَذَ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ حَالًّا أَوْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ الرَّهْنِ: دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مَكَانَهُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ حِينَ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ حَالٌّ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ حَالًّا أَوْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلْفٌ عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا آخَرَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى رِضَا الْبَائِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ مَا هَلَكَ إذَا أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا أُخْرَى يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الثَّانِيَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْأَوْلَى إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْقِيمَةَ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى رِضَا الْبَائِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ مَا هَلَكَ إذَا أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَيْنًا أُخْرَى يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِذَا أَعْطَاهُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَطْلُبَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَإِذَا ادَّعَى الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِذِي الْيَدِ قَدْ بِعْتَنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضْتُ مِنْكَ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ إنَّمَا يَقْضِي لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالرَّهْنِ بِنِصْفٍ، وَذَلِكَ يَنْعَقِدُ لِمَكَانِ الشُّيُوعِ، وَلَمْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 126 يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ هُنَا إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ أَوْ ثَبَتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ رَهْنٌ لِأَوَّلِهِمَا، وَقْتًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّهُ بِعَقْدٍ تَامٍّ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَبِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الثَّانِي بَعْدَهُ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأَوَّلِ بِانْفِكَاكٍ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ الْآخَرَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا. وَذُو الْيَدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَكَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْأَوَّلُ فَحِينَئِذٍ شُهُودُهُ صَرَّحُوا بِسَبْقِ تَارِيخِ عَقْدِهِ، وَبِمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَهُ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَالتَّارِيخُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى التَّارِيخِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رَهْنًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقِيَاسِ وَبِهِ يَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ رَهْنًا بِنِصْفِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ، وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ يُعْمَلُ بِالْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ رَهْنٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَرَهْنُ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ صَحِيحٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَالتَّسَاوِي إنَّمَا يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا لِأَجْلِ الشُّيُوعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْعَيْنَ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤُ، وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ هُنَا؛ لِأَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ أَضْعَفُ، وَوَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ حَتَّى إذَا قَبَضَ جَمِيعَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ دَيْنَ الْآخَرِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ فِي الْحَبْسِ مَعَهُ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ رَاهِنٍ بِحَقِّ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ وَاحِدٌ، وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ عَقْدًا آخَرَ. وَالرَّهْنُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِعَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ بَيِّنَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ قَالَ: رَهَنْتُ هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْكُمَا بِأَلْفٍ نِصْفُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَنِصْفُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ ذَكَرَ الِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَالْأَصَحُّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 127 أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) فَقَالُوا: هُنَاكَ لَا يَقْضِي قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى لَمْ يَتَمَكَّنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ قَبْضِ النِّصْفِ، وَقَبْضُ النِّصْفِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ، وَهُنَا الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَهْنِ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالرَّهْنُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ حَقِّهِ يُبَاعُ لَهُ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالتَّخْصِيصِ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّيْنِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) اسْتِحْسَانًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الرَّهْنُ بَاطِلٌ وَهُوَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالتَّخْصِيصِ فَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ، وَسَوَّى بَيْنَ مَا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّاهِنِ، وَحَالِ حَيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالرَّهْنِ إلَّا فِي النِّصْفِ، وَالشُّيُوعُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُمَا فَرَّقَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ إثْبَاتُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْجِنْسِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَيْنِ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ فِي دَيْنِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ مِيرَاثِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أُخْتَانِ نِكَاحَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْمِيرَاثِ، وَبِنِصْفِ مِيرَاثٍ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ دَوَامِ الْيَدِ، وَالْيَدُ فِي حَالِ حَيَاةِ الرَّاهِنِ مُسْتَدَامَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ فَتَمَكُّنُ الشُّيُوعِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُسْتَدَامُ حَبْسُ الرَّهْنِ، وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيْعِ النِّصْفِ فِي دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَهُوَ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِرَاهِنِهِ أَوَّلًا، وَذُو الْيَدِ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ مُرْتَهِنٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ لِلرَّاهِنِ الْخَارِجِ وَهُوَ لَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ دَيْنُهُ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ لَا يَثْبُتُ الرَّهْنُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الدَّيْنِ أَوَّلًا عَلَى رَاهِنِهِ حَتَّى يَثْبُتَ حَقُّهُ فَيَسْتَحِقَّ الْعَيْنَ عَلَى ذِي الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ رَهْنِ الْخَارِجِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَقَّتَ الْمُرْتَهِنُ الْخَارِجَ أَوَّلًا لِهَذَيْنِ الْعَيْنَيْنِ أَنَّهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ مِلْكَ رَاهِنِهِ، وَدِينُهُ عَلَى الرَّاهِنِ لَمَا ثَبَتَ حَقُّهُ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُهُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ، فَإِذَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 128 لَمْ يَسْتَحِقُّوا بَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حَقِّهِ، وَهُوَ لِذِي يَدِهِ وَفِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَكَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا أَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَأَحَدُهُمَا خَارِجٌ، وَالْآخَرُ ذُو الْيَدِ، وَفِي هَذَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَتَاعُ فُلَانٍ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْهُ بِكَذَا، وَقَبَضَهُ فَهُوَ أَيْضًا رَهْنٌ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْآخَرِ بَيِّنَةٌ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى غَائِبٍ لَيْسَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى هَذِهِ قَضَى عَلَى رَاهِنِ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ، وَهُوَ غَائِبٌ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنِيَّيْنِ صَحِيحٌ، يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ شَاهِدًا يَعْنِي رَاهِنَ الْخَارِجِ، وَصَاحِبُ الْآخَرِ غَائِبًا لَمْ أَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ رَاهِنُ هَذَا؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ مُرْتَهِنٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا لِرَاهِنِ الْخَارِجِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ رَاهِنُ ذِي الْيَدِ فَإِذَا حَضَرَ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ، وَجَعَلْتُهُ رَهْنًا لَهُ، وَلَا أَنْظُرُ فِي هَذَا إلَى الْأَوَّلِ، وَالْآخَرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ حُضُورِهِمَا الدَّعْوَى دَعْوَى الْمِلْكِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَنْهُ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَبِالتَّارِيخِ فِي الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ رَهَنَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ، وَفُلَانٌ غَائِبٌ، وَاَلَّذِي فِي يَدَيْهِ يَقُولُ: هُوَ عَبْدِي فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ، وَهُوَ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَنْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فِي الْعَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ عِنْدَ ظُهُورِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَا تُسَلَّمُ الْعَيْنُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْيَدَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ لِغَائِبٍ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِلْغَائِبِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ قَبْضَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ يُكَذِّبَهُ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حَافِظٌ يَتَعَيَّنُ. وَلَوْ غَابَ الرَّاهِنُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: هُوَ رَهْنٌ فِي يَدِي مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ بِكَذَا، وَإِنَّ هَذَا غَصَبَهُ مِنِّي أَوْ اسْتَعَارَهُ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنِّي أَدْفَعُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَكُونُ دُونَ الْمُودِعِ، وَالْمُودِعُ خَصْمٌ لِلْغَائِبِ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِلِاسْتِرْدَادِ فَالْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَثْبَتَتْ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَهُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى رَاهِنِهِ أَوَّلًا، وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ رَاهِنِهِ فِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا يُقْضَى لَهُ بِالرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِأَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ كَانَ مِنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 129 يَدِهِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ، أَوْ الْإِجَارَةِ، أَوْ الْإِعَارَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ، وَذُو الْيَدِ خَصْمٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي لَوْ شَهِدُوا أَنَّ ذَا الْيَدِ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الْمَالَ لَأُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي ادَّعَاهَا، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ثُمَّ الْإِلْزَامُ فِي بَيِّنَتِهِ دُونَ بَيِّنَةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ فَالْعَيْنُ الَّتِي أَثْبَتَ الرَّاهِنُ بَيِّنَةَ الرَّهْنِ مِنْهَا قَدْ انْتَفَى ذَلِكَ بِجُحُودِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ جُحُودَهُ أَقْوَى مِنْ رَدِّهِ وَتَبْقَى دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ اخْتَلَفَا فِيهِمَا قَدْ هَلَكَا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، فَالرَّاهِنُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلزِّيَادَةِ فِيمَا أَوْفَى، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُمَا جَمِيعًا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ رَهَنْتَنِي هَذَا وَحْدَهُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ. وَإِذَا قَالَ: الْمُرْتَهِنُ رَهَنْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضْتُهُ مِنْكَ، وَلِي عَلَيْكَ سِوَى ذَلِكَ مِائَتَا دِينَارٍ لَمْ تُعْطِنِي بِهَا رَهْنًا، وَقَالَ: الرَّاهِنُ غَصَبْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ، وَلَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ رَهْنٍ وَقَدْ رَهَنْتُكَ بِالْمِائَتَيْ الدِّينَارِ أَمَةً يُقَالُ لَهَا فُلَانَةُ، وَقَبَضْتَهَا مِنِّي، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ لَمْ أَرْتَهِنْ مِنْكَ فُلَانَةَ أَمَتَكَ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ بَقِيَا فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ عَلَى دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ مُعَلَّقٌ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ فَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ فَإِنْ حَلَفَ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ. وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا يَحْلِفُ فِي الْأَمَةِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ فَجُحُودُهُ الرَّهْنَ فِي الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّهِ إيَّاهَا، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْهُونَةً عِنْدَهُ فَالِاسْتِحْسَانُ لَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيهَا، وَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَهُمَا أُثْبِتَتْ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلرَّاهِنِ، وَبَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لَا تُلْزِمُ الْمُرْتَهِنَ شَيْئًا فِي الْأَمَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَضَاءِ بِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ قَدْ مَاتَتْ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا الْمِائَتَيْ الدِّينَارِ بِهَلَاكِ الْأَمَةِ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ، وَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ، وَلَا يَدْرِي مَا فَعَلَ الْعَبْدُ فَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 130 إلَيْهِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَبِحُكْمِ الرَّهْنِ يُقَدَّرُ الدَّيْنُ مِنْ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْأَمِينُ يَضْمَنُ الْأَمَانَةَ بِالْجُحُودِ فَإِذَا جَحَدَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ، وَلَمْ يَجْحَدْ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَذَهَبَ الْعَبْدُ بِمَا فِيهِ لِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ أَنَّهُ كَانَ مَرْهُونًا عِنْدَهُ، وَالرَّهْنُ إذَا هَلَكَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ مَوْتِهِ فِي يَدِهِ، وَإِذَا أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ رَهَنَهُ رَهْنًا وَقَبَضَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ الشُّهُودَ وَلَمْ يُعَايِنُوهُ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ الرَّهْنِ، وَالْقَوْلُ فِيمَا يُسَمِّي مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ ارْتَهَنَ مِنْهُ رَهْنًا ثُمَّ قَالَ: هُوَ هَذَا الثَّوْبُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الرَّاهِنُ زِيَادَةً، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الرَّاهِنِ أَنَّهُ رَهَنَ عِنْدَ هَذَا الْمُرْتَهِنِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا بِمِائَةٍ، وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسِينَ، وَجَحَدَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَا يَدْرِي مَا فَعَلَ بِالثَّوْبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ يُحْسَبُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَهُوَ هَالِكٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْهُ وَلَكِنْ جَاءَ بِثَوْبٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَالَ: هُوَ هَذَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَرْهُونَ ثَوْبٌ يُسَاوِي خَمْسِينَ، وَاَلَّذِي أَحْضَرَهُ لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ فَلَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ إذَا جَحَدَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ بَيَانُهُ بَقِيَ الْمَرْهُونُ هَالِكًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَيَطْرَحُ مِنْهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَإِذَا كَانَ الرَّاهِنُ اثْنَيْنِ فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِمَا رَهْنًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ رَهَنَهُ، وَقَبَضَهُ، وَالْمَتَاعُ لَهُمَا جَمِيعًا، وَهُمَا يَجْحَدَانِ الرَّهْنَ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الَّذِي لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ مَا رَهَنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ الرَّهْنُ عَلَيْهِمَا. عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ وَعَلَى الْآخَرِ بِالنُّكُولِ الْقَائِمِ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَإِنْ حَلَفَ رَدَّ الرَّهْنَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الَّذِي حَلَفَ انْتَفَى الرَّهْنُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ نِصْفٌ شَائِعٌ مِنْ الْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ وَاحِدًا وَالْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ارْتَهَنْتُ أَنَا، وَصَاحِبِي هَذَا الثَّوْبَ مِنْكَ بِمِائَةٍ وَأَقَامَ لَهُ الْبَيِّنَةَ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ، وَقَالَ: لَمْ نَرْتَهِنْهُ، وَقَدْ قَبَضَا الثَّوْبَ فَجَحَدَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ: مُحَمَّدٌ أَقْضِي بِهِ رَهْنًا، وَأَجْعَلُهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ - الَّذِي الجزء: 21 ¦ الصفحة: 131 أَقَامَ الْبَيِّنَةَ - مَالَهُ أَخَذَ الرَّهْنَ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ذَهَبَ نَصِيبُ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمَالِ فَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَكَذَبَ شُهُودَهُ بِجُحُودِهِ ثُمَّ قَالَ: أَبُو يُوسُفَ لَمَّا انْتَفَى الرَّهْنُ فِي نَصِيبِ الْجَاحِدِ انْتَفَى فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي أَيْضًا لِأَجْلِ الشُّيُوعِ، كَمَا فِي (الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِجَمِيعِهِ رَهْنًا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ بِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ جَمِيعُ دَيْنِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لَهُ بِالرَّهْنِ فِي نِصْفِهِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: هُوَ قَدْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ، وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي نَصِيبِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْآخَرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيُقْضَى بِالرَّهْنِ فِي جَمِيعِ حَقِّ الْآخَرِ، وَبِجُحُودِهِ صَارَ رَادًّا لِلرَّهْنِ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ فِي نَصِيبِهِ فَلَا يَجُوزُ إعَادَةُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْمُدَّعِي، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ الْجَاحِدِ إمْسَاكَهُ مَعَ رَدِّهِ بِجُحُودِهِ، وَيَتَعَذَّرُ جَعْلُ الْفَضْلِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الْمُدَّعِي لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَيُجْعَلُ عَلَى يَدِهِ، وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ هُوَ دَيْنَهُ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ رُدَّتْ الْعَيْنُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ذَهَبَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الشُّهُودُ مَا شَهِدُوا بِالرَّهْنِ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْمَالَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالرَّهْنِ عَلَى الْمَالَيْنِ بِحُكْمِ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، فَلِهَذَا إذَا حَلَفَ الْمُنْكِرُ رُدَّ الرَّهْنُ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ ذَا الْيَدِ هَذَا الثَّوْبَ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهُ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمُرْتَهِنِ لِإِثْبَاتِهِ حَقًّا لَازِمًا لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ - أَوَّلًا - وَدِيعَةً عِنْدَهُ ثُمَّ يَرْهَنُهُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ، وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّاهِنِ جَعَلْتُهُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لَا يُرَدُّ عَلَى الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلِيَّةِ، وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَكَانَ فِي بَيِّنَةِ الْبَيْعِ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ. وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ الرَّهْنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ، وَهَبَهُ لَهُ وَقَبَضَهُ أَخَذْتَ بِبَيِّنَةِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ، وَالرَّهْنَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ، وَالْقَبْضَ، وَآخَرُ الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ، وَهُوَ فِي يَدَيْ الرَّاهِنِ أَخَذْتَ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الشِّرَاءُ دُونَ الرَّهْنِ لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشِّرَاءِ فِي النِّصْفِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ بِالرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ فَلِهَذَا قُضِيَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 132 بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي بِالْكُلِّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ جَعَلْتَهُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ صَاحِبُ الشِّرَاءِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُرْتَهِنِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشِّرَاءِ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى ذِي الْيَدِ، وَبَيِّنَتُهُ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَالْهِبَةَ فَالصَّدَقَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ الرَّهْنُ عَقْدُ ضَمَانٍ، وَالْهِبَةُ، وَالصَّدَقَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ فَكَانَ صَاحِبُ الرَّهْنِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْقَبْضَ بِعِلْمِ الْبَيِّنَةِ، وَالصَّدَقَةُ كَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ. وَإِذَا اسْتَوْدَعَ رَجُلًا ثَوْبًا ثُمَّ رَهَنَهُ إيَّاهُ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَهُوَ فِيهِ مُؤْتَمَنٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُرْتَهِنُ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ يَدِ الرَّهْنِ لَهُ وَلِأَنَّ الْيَدَ بِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ دُونَ الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَالْأَضْعَفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْأَقْوَى فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لَهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ بَقِيَ مُؤْتَمَنًا فِيهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَإِنْ أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِالرَّهْنِ، وَهَلَكَ بَعْد ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِلرَّهْنِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ إيفَاءَ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ بِبَيِّنَةٍ يَبْقَى قَبْضُهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فَقَالَ: الرَّاهِنُ هَلَكَ فِي يَدِكَ، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ بَلْ قَبَضْتَهُ أَنْتِ مِنِّي بَعْدَ الرَّهْنِ فَهَلَكَ فِي يَدِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِرْدَادًا عَارِضًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْضًا بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِ الْقَبْضِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ. وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُهُ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بِمِائَتَيْنِ، وَقَدْ قَبَضْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ مِمَّا ثَبَتَتْ لَهُ فِيهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ زِيَادَةً فِي الْإِيفَاءِ. وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، وَقَبَضْتَهُمَا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ أَحَدَهُمَا بِعَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَبْدًا وَالدَّيْنُ أَلْفٌ فَذَهَبَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِإِنْكَارِهِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، وَالدَّيْنُ أَلْفًا فَذَهَبَتْ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا فَقَالَ الرَّاهِنُ: كَانَتْ هَذِهِ قِيمَتِهِ يَوْمَ رَهَنْتُكَ فَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ حَقِّكَ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ رُبْعُ حَقِّي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 133 فَقِيمَتُهُ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى قِيمَتِهِ فِيمَا مَضَى وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةٌ فِيمَا أَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَبَيِّنَةُ نَفْيِ مِلْكِ الزِّيَادَةِ بِالْمَيِّتِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ رَهْنِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الرَّهْنِ، وَالِارْتِهَانِ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمُكَاتَبُ فِي إيفَاءِ الدَّيْنِ بِاسْتِيفَائِهِ كَالْحُرِّ، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِهِ فَإِنْ رَهَنَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فِيهِ وَفَاءٌ قَبَضَهُ الْمَوْلَى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ دَيْنٌ يُسْتَوْفَى، وَالرَّهْنُ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْكَفَالَةِ فَالْكَفَالَةُ لَهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ بِجَانِبِ اللُّزُومِ، وَالْكَفِيلُ يَلْتَزِمُ فِي ذِمَّتِهِ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِحَقِيقَةِ الِالْتِزَامِ أَصْلُ الدَّيْنِ، وَالْمُطَالَبُ فِيمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِجَانِبِ بَعْضِهِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُ الْكَفِيلِ مُطَالَبَةً أَقْوَى مِمَّا عَلَى الْأَصِيلِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ضَعِيفَةٌ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَعْجِزَ بِنَفْسِهِ، وَتَعَذُّرُ إثْبَاتِ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدَيْ الْمَوْلَى فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَيُعْتِقُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَوْلَى بَدَلُ الْكِتَابَةِ تَمَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَإِنْ اعْوَرَّ ذَهَبَ نِصْفُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَلَا يُعْتَقُ شَيْءٌ مِنْهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً فَإِنْ خَاصَمَ الْمُكَاتَبُ الْمَوْلَى فِيهِ، وَأَرَادَ دَفْعَ الْمَالِ، وَأَخَذَ رَهْنِهِ فَقَالَ الْمَوْلَى: قَدْ أَبَقَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَتَأَنَّى بِهِ، وَيَنْتَظِرَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَدْ عَيَّنَهُ قَصْدًا مِنْهُ لِلْإِضْرَارِ بِالْمُكَاتَبِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ إذَا زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبَقَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُعَجِّلُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَيَحْلِفُ الْغَاصِبُ عَلَى ذَلِكَ فَهُنَا أَيْضًا يَحْلِفُ الْمَوْلَى فَإِذَا حَلَفَ بَطَلَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْآبِقَ يَتْوَى فَهُوَ كَالْهَالِكِ حَقِيقَةً فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ، وُجِدَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ رُدَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِالْمَالِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِبَاقِ، وَهُوَ حُرٌّ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ الْمَاضِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْعِتْقِ بَعْدَ مَا نَفَذَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَوْفَى الْبَدَلَ فَاسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ كَانَ الْعِتْقُ مَاضِيًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ حَتَّى رَجَعَ الْعَبْدُ فَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْبَدَلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَبَقَ فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ فَهُوَ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَصَارَ الْإِبَاقُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ كَانَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا، وَكَانَ الْعَبْدُ لِلْغَاصِبِ كَذَا هُنَا يَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَعَلَى مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ: زُفَرُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) إذَا عَادَ بَعْدَ قَضَاءِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 134 الْقَاضِي فَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لِتَقْرِيرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَاسَ ضَمَانَ الرَّهْنِ بِضَمَانِ الْغَصْبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ ضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ حَالَةَ الرَّهْنِ دُونَ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِجِنْسِ الْحَقِّ يَتَحَقَّقُ، وَلَا مُحَاسِبَةَ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مَالِكًا لِلْعَيْنِ، وَإِنْ جُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلِهَذَا يَعُودُ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْمُكَاتَبِ، وَأَشْبَهَ هَذَا الْغَصْبَ فِي الْمُدَبَّرَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) قَالَ: إنْ كَانَ هَذَا أَوَّلُ مَا أَبَقَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الْكِتَابَةِ حِصَّةُ نُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ حَدَثَ فِيهِ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَيَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ مَحْسُوسٍ. وَلَوْ رَهَنَ رَجُلٌ عَبْدًا عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمُكَاتَبَتِهِ، وَفِيهِ وَفَاءٌ، وَقَبَضَهُ الْمَوْلَى جَازَ كَمَا لَوْ تَبَرُّع بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ هَلَكَ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ قَدْ تَمَّ، وَلَا يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ فَكَانَ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا صَنَعَ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِمِثْلِهِ عَنْ حُرٍّ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ عَنْ الْمُكَاتَبِ، وَإِذَا كَانَ الْمُكَاتَبَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ فَرَهَنَ أَحَدُهُمَا بِالْمُكَاتَبَةِ رَهْنًا قِيمَتِهِ مِثْلُهَا فَهَلَكَ عِنْدَ الْمَوْلَى عَتَقَا، وَيَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ حَقِيقَةً، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْكِتَابَةِ مُتَحَمِّلٌ عَنْ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى، وَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فَيَبْقَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ بِسَبَبٍ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَرَهَنَاهُ جَمِيعًا فَهَلَكَ عِنْدَ الْمَوْلَى عَتَقَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً تَرَاجَعَا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ قِيمَتِهِمَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفًا، وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَيْنِ كَانَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ أَوْفَاهُ الْعَبْدُ الْأَوْكَسُ مِنْ كَسْبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ، فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ عِنْدَنَا - مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا - وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ: إنْ كَانَ مُوسِرًا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَاحْتَجَّ فَقَالَ: الْإِعْتَاقُ إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ فَلَا يَنْفُذُ مِنْ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ كَالْبَيْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ نُفُوذِ بَيْعِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ حَقَّهُ إمَّا الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ أَوْ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَإِبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْعِتْقِ حَتَّى يَنْفُذَ الْبَيْعُ مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَلَا يَنْفُذَ الْعِتْقُ فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُ الرَّهْنِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَأَنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 135 لَا يَنْفُذَ عِتْقُهُ أَوَّلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْهُونَ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ كَالْجَنِينِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ ضَمِنَ الْأَرْشَ، وَلَوْ وَطِئَهَا، وَهِيَ بِكْرٌ ضَمِنَ النَّقْصَ، وَلَوْ كَانَ زَائِلًا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ بِدَلِيلِ أَنَّ هُنَاكَ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَوْلَى، وَهُنَا يَمْتَنِعُ ثُمَّ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقَ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ نَقُولُ الرَّاهِنُ مَالِكٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ كَالزَّائِلِ عَنْ مُلْكه حُكْمًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ فِي إعْتَاقِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ نَفَذَ عِتْقُهُ فَإِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا فَلَيْسَ فِي الْإِعْتَاقِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ، وَلَوْ أَلْغَيْنَا الْعِتْقَ بَطَلَ حَقُّ الْعَبْدِ أَصْلًا فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْعَبْدِ أَنْفَذْنَا الْعِتْقَ، وَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ تَرْجِيحًا لِأَهْوَنِ الضَّرَرَيْنِ، وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا لَوْ أَنْفَذْنَا الْعِتْقَ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ عِنْدِي لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالسِّعَايَةُ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسٍ يَكُونُ تَاوِيًا فَإِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ صُوَرُ الْإِبْطَالِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ أَسْبَقُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِ فِي إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا لِإِمْكَانِ إيجَابِ الضَّمَانِ، وَيَتَجَزَّأُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، وَيُسْتَدَامُ الرِّقُّ فِيمَا يَبْقَى مُرَاعَاةً لِحَقِّ السَّاكِتِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُلْغَى إعْتَاقُهُ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ: أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ إمَّا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ كَمَا قُلْنَا أَوْ حَقُّ الْبَيْعِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، كَمَا كَانَتْ ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ فِي الرِّقِّ بِالْإِزَالَةِ، وَالرِّقُّ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الرِّقِّ بِدُونِ الْمَالِيَّةِ فِي الْحَبْسِ، وَتَبْقَى صِفَةُ الرِّقِّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ بِدُونِ الْمَالِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةُ تَنْفَصِلُ عَنْ الرِّقِّ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إنْ دَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ يُعْتَقُ، وَبَقِيَتْ الْيَمِينُ بَعْدَ الْبَيْعِ لِبَقَاءِ الرِّقِّ، وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ، وَالْمَالِيَّةُ عَنْهُ، وَالْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ فِي الرِّقِّ، وَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَادَفَ مَحِلًّا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الرَّاهِنِ إلَّا أَنَّ الْمَالِيَّةَ الْمَشْغُولَةَ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَتْلَفُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، وَقِوَامُ تِلْكَ الْمَالِيَّةِ كَانَ بِبَقَاءِ الرِّقِّ فَيَصِيرُ الْمُعْتِقُ ضَامِنًا لِهَذَا، وَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الْحَبْسَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 136 وَيُلَاقِي الْعَيْنَ، وَالْمَالِيَّةَ دُونَ الرِّقِّ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ يَمْنَعُ لِلْعَيْنِ نِصْفَ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَقِيَامُ حَقِّهِ يَمْنَعُ نُفُوذَهُ، كَمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ يَمْنَعُ نُفُوذَ بَيْعِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَمَا يَسْتَدْعِي الْمِلْكَ فِي الْمَحَلِّ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ فِي الْآبِقِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فِي الْمَرْهُونِ لِعَجْزِ الرَّاهِنِ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ مَعَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَالْكُرْهِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ يَمْنَعُ نُفُوذَهُ فَأَمَّا الْعِتْقُ، فَلَا يَعْتَمِدُ نُفُوذُهُ تَمَامَ الرِّضَا حَتَّى يَنْفُذَ مَعَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِذَا كَانَ عَدَمُ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ فَمِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يُرَادُ بِهِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهُوَ الْعَيْنُ فَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ مِنْهُ مَا يُتَصَوَّرُ بِهِ، وَعِتْقُ الْمَرِيضِ عِنْدَنَا لَا يَلْغُو لِقِيَامِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَلَكِنْ يَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ لَا مَحَالَةَ فَهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَلَّا يَلْغُوَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ مَا دَامَ يَسْعَى، وَهُنَا يَكُونُ حُرًّا، وَمُرَادُهُ: إنْ لَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ اعْتِبَارِ الرَّهْنِ - لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ - فَيَجِبْ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَدَلُ رَقَبَتِهِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ الْمُبْدَلُ مَا لَمْ يَرُدَّ الْبَدَلَ، وَهُنَا: السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ. فَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ عِتْقِهِ فِي الْحَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنْ أَيْسَرَ الرَّاهِنُ هُنَا رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ السِّعَايَةِ، وَهُنَاكَ: لَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى أَحَدٍ بِمَا يَنْبَغِي فِيهِ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَا مَعْنَى لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَرْهُونَ فِي حُكْمِ الزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُزِيلُ الْمَوْتَ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي ثَانِي حَالٍ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ لِإِتْلَافِهِ الْمَالِيَّةَ الْمَشْغُولَةَ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَالْمَوْلَى يُتْلِفُ الْمَأْذُونَ فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لُحُوقَ الدَّيْنِ لِلْعَبْدِ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ نَصًّا هُوَ الْمِلْكُ، وَلِلرَّاهِنِ مِلْكٌ حَقِيقَةً فَيَكُونُ كَالشِّرَاءِ بِكَفِيلٍ، وَعِتْقُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ لَا يَمْتَنِعُ بِحَقِّ الشَّرِيكِ فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى. وَلَوْ دَبَّرَ الرَّاهِنُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَمْتَنِعُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَحَقُّ الْعِتْقِ أَوْلَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِحَقِّ الْعِتْقِ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا صَحَّ اسْتِيلَادُهُ عِنْدَنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَمَّا كَانَ يَنْفُذُ بِحَقِّ الْمِلْكِ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَنْفُذَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلرَّاهِنِ فِيهَا أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 137 فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَتَهَا، فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّهُ مُتْلِفٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَالِيَّةِ بِمَا صَنَعَ فَيَكُونُ ضَامِنًا بَدَلَهُ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَيَكُونُ رَهْنًا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ أَجْنَبِيٌّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ حَلَّ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَيَأْخُذُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، وَيَرْجِعُ بِالْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَالرَّاهِنُ مُوسِرٌ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِمَا. وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِمَالٍ آخَرَ لَأُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْن، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمَا، وَيُسْتَسْعَى الْمُعْتَقُ أَلْبَتَّةَ فِي قِيمَةِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُعْتَقَ خَالِصُ حَقِّهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَقْتَضِيَ بِهِ دَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ قَدْ سُلِّمَتْ لَهُ مَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ، وَكَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لِاحْتِبَاسِهِ عِنْدَهُ، كَمَا تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُعْتَقُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ بِخَالِصِ مِلْكِهِ بَلْ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ الرَّاهِنُ وَرَضِيَ بِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ كَالْكَفِيلِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ إذَا أَدَّى، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِفَضْلِ دَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ وَلَدَتْ الْمُدَبَّرَةُ وَلَدًا بَعْدَ مَا قَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ مَاتَتْ اسْتَسْعَى وَلَدَهَا فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا، فَإِذًا التَّدْبِيرُ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَوَلَدُهَا مُدَبَّرٌ لِلْمَوْلَى، وَكَسْبُهُ لَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِسِعَايَتِهِ، فَيَسْتَسْعِي الْوَلَدَ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، كَمَا كَانَ يَسْتَسْعِي الْأُمَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَمْلُوكِ لَمَّا كَانَ لِلْمَالِكِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَالِكِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالرَّاهِنُ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى قَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ، وَوَلَدُهَا يُؤْمَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسِّعَايَةِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ الْمَوْلَى قَدْ ادَّعَاهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ حُرًّا فَكَسْبُهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا دُونَ الْمَوْلَى، وَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى قَادِرًا عَلَى قَضَاءِ دَيْنٍ يَكْسِبُهُ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي انْفَصَلَ مِنْ الْأُمِّ حُرًّا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ وَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي انْفَصَلَ مُدَبَّرًا فَهُوَ جُزْءٌ مِنْهَا انْفَصَلَ بِصِفَتِهَا، وَلَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِسْعَاءِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَقَدْ انْفَصَلَ بِصِفَتِهَا فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِحُكْمِ الرَّهْنِ، كَمَا لَزِمَهَا. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفٍ فَأَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ مَاتَ الرَّاهِنُ، وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَأْخُذُهَا، وَيَسْعَى لَهُ الْعَبْدُ فِي مِائَتَيْنِ، وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّيْنِ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا الْمُرْتَهِنُ مِنْ تَرِكَةِ الرَّاهِنِ نِصْفُهُ مِمَّا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 138 وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِيهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْكَفِيلِ عَنْ الْمَوْلَى، وَالِاسْتِيفَاءُ عَنْ الْأَصْلِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ؛ فَلِهَذَا اسْتَسْعَى فِي نِصْفِ مَا يَبْقَى، وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ سَعَى لَهُ فِي قِيمَتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الرَّاهِنُ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ كَانَتْ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَبْدِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ خَمْسَمِائَةٍ، وَالْعَبْدُ قَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْخَمْسِمِائَةِ فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ دَيْنِهِمَا وَإِذَا رَهَنَ رَجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِخَمْسِمِائَةٍ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَعَلَى شَرِيكِهِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ الرِّقُّ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءُ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ الْحُكْمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فِي تَضْمِينِ الْمُعْتَقِ أَوْ الِاسْتِيفَاءِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي (كِتَابِ الْعَتَاقِ) وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي الْأَلْفِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْمَالِيَّةِ وَقَدْ احْتَبَسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَبْدِ بِمَا انْتَفَعَ هُوَ بِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِهِ عِنْدَهُ، وَهَبْ: أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ مِثْلُهَا؛ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَهُوَ كَمَا وَصَفْنَا لَكَ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ ضَمِنَا الْأَلْفَ لِلْمُرْتَهِنِ وَسَعَى الْمُدَبَّرُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا إلَّا أَنَّهُ بِتَدْبِيرِ نَصِيبِهِ صَارَ مُخْتَارًا سِعَايَةَ الْعَبْدِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مِلْكَهُ فِي نَصِيبِهِ وَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلسِّعَايَةِ فَنَسْتَسْعِيهِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتْلِفُ لِنَصِيبِهِ وَالثَّانِي قَدْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ عَنْ الضَّمَانِ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِذَا اسْتَعَارَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِيَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ ضَمِنَ الْمَالَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَضِيَ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ حِينَ أَعَارَهُ الرَّهْنَ ثُمَّ أَتْلَفَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا أَدَّى دَيْنَ الرَّاهِنِ وَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ لِيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّهُ بِالْإِعْتَاقِ وَضَمِنَهُ لِلْمُرْتَهِنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ مَتَى صَارَ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِمِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 139 رَجَعَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهُ بِمَالٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا وَالرَّاهِنُ مُوسِرًا ضَمِنَ الرَّاهِنُ الْمَالَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ دَيْنِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ الْمُعْتَقُ لِإِتْلَافِهِ مَحِلَّ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى الْعَبْدُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ سُلِّمَتْ لَهُ وَقَدْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ إنْ شَاءَ عَلَى الرَّاهِنِ - لِأَنَّهُ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ رَضِيَ بِهِ الرَّاهِنُ وَهُوَ عَقْدُ الرَّهْنِ - وَإِنْ شَاءَ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى رَجَعَ بِهِ مَوْلَاهُ عَلَى الرَّاهِنِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الَّذِي رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى فَأَدَّاهُ، وَهَذِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ أَمَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ هِيَ قِيمَتُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ بَعْدَ مَا وَلَدَتْهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ ضَمِنَ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ الْأَمَةُ فِي نِصْفِ الْمَالِ وَالْوَلَدُ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَلَدِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ ثُمَّ الرَّاهِنُ بِالدَّعْوَةِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْوَلَدِ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَفِي الْأُمِّ حَقَّ الْعِتْقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفِكَاكِ الْمُقِرِّ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّيْنِ وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الدَّيْنِ لِسَلَامَةِ مَحَلِّ ذَلِكَ لَهُ بِالْعِتْقِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَلَدُ شَيْئًا حَتَّى مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ السِّعَايَةِ سَعَى وَلَدُهَا فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمَوْتِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالِاسْتِسْعَاءِ حِين صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ فَبِمَوْتِ الْأُمِّ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ السِّعَايَةِ لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لَهَا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَانَ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي حِصَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يَتَحَوَّلْ مِنْ سِعَايَتِهِ إلَيْهَا كَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ هِيَ وَيَرْجِعُ الْوَلَدُ بِمَا سَعَى فِيهِ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ قَضَى دَيْنَهُ بِكَسْبٍ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ كَانَ مُجْبَرًا عَلَيْهِ. وَإِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالْعَبْدِ لِرَجُلٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَيَخْرُجُ كَلَامُهُ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إنْ شَاءَ أَدَّى الْمَالَ وَقَبَضَ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَالْمُقَرُّ لَهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُقِرِّ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمُقِرِّ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ وَيَقْبِضَ الرَّهْنَ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ أَدَّاهُ حَالًّا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ حَتَّى يَحِلَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ كَالْمُتَحَمِّلِ عَنْهُ دَيْنًا هُوَ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إذَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 140 عَجَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ فَإِذَا حَلَّ رَجَعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُقَرُّ لَهُ هُنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُضْطَرُّ لِأَدَاءِ هَذَا الْمَالِ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَةَ عَبْدِهِ بِذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى كَالْمُعِيرِ لِلرَّهْنِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ وَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ لَزِمَهُ رَدُّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَلَكِنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بِإِقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ لِلْمُقَرِّ لَهُ سَلَّطَهُ عَلَى إعْتَاقِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ غَيْرَهُ بِتَسْلِيطِهِ وَكَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الرَّاهِنَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى حَقِّهِ لِتَسَبُّبِهِ بِتَنْفِيذِ عِتْقِ الْمُعْتَقِ فِيهِ وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالْمِلْكِ لَهُ - وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِإِعْتَاقِهِ تَسَبَّبَ لِإِتْلَافِ مَحِلِّ حَقِّهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ فَإِنْ أَخَذَهَا الْمُعْتِقُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَغْلَقَ رَقَبَةَ عَبْدِهِ وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَزِمَهُ هَذَا الضَّمَانُ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ اسْتَسْعَى الْمُرْتَهِنُ الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ مَحِلُّ حَقِّهِ سَلِمَتْ لَهُ وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْمُعْتِقَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي رَهْنِهِ وَإِنَّ الرَّاهِنَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ لَهُ وَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِشَيْءٍ لِهَذَا وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ هَذِهِ الْقِيمَةَ بِمَا أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي مَالِيَّتِهِ فَعِنْدَ الْأَدَاءِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَعْرُوفًا لِلْمُعْتِقِ وَقَدْ كَانَ أَعَارَهُ الرَّاهِنُ لِيَرْهَنَهُ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ وَالرَّاهِنُ مُوسِرَانِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمُعْتِقِ دُونَ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ لِإِتْلَافِ مَحِلِّ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الرَّاهِنِ صُنْعٌ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا مِنْهُ لِإِتْلَافِ مَحِلِّ حَقِّهِ فَلِهَذَا كَانَ رُجُوعُهُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُعْتِقِ دُونَ الرَّاهِنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ قَدْ وُجِدَ مِنْ الرَّاهِنِ تَسَبُّبٌ لِمَا بِهِ تَلَفُ مَحِلِّ حَقِّهِ وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالْمِلْكِ وَتَسْلِيطُهُ الْمُقِرِّ لَهُ عَلَى إعْتَاقِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَيَرْجِعُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى الْمُعِيرِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِهِ بَعْدَ مَا رَضِيَ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَالِيَّتِهِ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ تَسَبُّبٌ فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِمَالِيَّتِهِ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ وَرَجَعَتْ الْقِيمَةُ إلَى الْمُعِيرِ بِضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَمِنَ الْقِيمَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً وَاسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 141 دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْمُعِيرِ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ. إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ الرَّهْنَ لِرَجُلٍ غَصَبَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ، وَالْمُرْتَهِنُ حَافِظٌ لِلْعَيْنِ كَالْأَمِينِ، وَإِقْرَارُ الْمُودِعِ الْوَدِيعَةِ لِغَيْرِ الْمُودَعِ بَاطِلٌ إذَا كَانَ الْإِيدَاعُ ظَاهِرًا، فَيُؤَدِّي الرَّاهِنُ الدَّيْنَ وَيَأْخُذُ الْعَبْدَ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُقِرِّ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَا عَلَى مَا أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَخَذَ دَيْنَهُ وَرَدَّ الْعَبْدَ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ فَانْفَسَخَ بِهِ حُكْمُ قَبْضِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ مَالِكًا أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْمُرْتَهِنِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الرَّاهِنِ، فَلَا سَبِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ وَفَاءً بِدَيْنِهِ وَزِيَادَةً فَكَانَ ضَامِنًا جَمِيعَ قِيمَتِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ كَانَ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَقَبْضُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْهَلَاكِ وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يُقِرَّ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ اسْتَهْلَكَهَا، وَقَدْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَالِيَّتَهُ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِدَيْنِ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ الرَّهْنِ غَاصِبٌ فِي حَقِّهِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ لَهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَمَا لَوْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ ظَاهِرًا، وَلِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِيَّتِهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ كَانَ أَحَقَّ بِمَالِيَّتِهِ بِزَعْمِهِ فَيَغْرَمُ لَهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ وَقَدْ كَانَ الرَّاهِنُ جَعَلَ بَيْنَهُمَا عَدْلًا يَبِيعُهُ وَاسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فَبَاعَهُ الْعَدْلُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَدَفَعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَنَقَدَ الْمُرْتَهِنَ مِنْهُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَعْطَى الرَّاهِنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِذَا أَجَازَ الْمُقَرُّ لَهُ الْبَيْعَ أَخَذَ الْأَلْفَ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ حَقُّهُ بِزَعْمِ الْمُرْتَهِنِ وَمَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ وَإِقْرَارُهُ فِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ حُجَّةٌ فِيمَا أَخَذَهُ الرَّاهِنُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَا أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَزْعُمُ أَنَّ عَيْنَ الْعَبْدِ هِيَ مِلْكُهُ وَلَمْ يَصِلْ الْعَبْدُ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ قَطُّ وَيَزْعُمُ أَنَّ الثَّمَنَ مَالُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَالِ مُشْتَرِي الْعَبْدِ فِي يَدِ مَنْ كَانَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مِلْكَهُ فِي الْمُشْتَرَى بِالْحُجَّةِ، وَلَوْ أَثْبَتَ ذَلِكَ كَأَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّمَنِ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَقَبْلَ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ عَلَى الثَّمَنِ سَبِيلٌ. وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يُقِرَّ بِالرَّقَبَةِ وَلَكِنَّهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 142 أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدْفَعُ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَجَازَ الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَمْ تَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَلَا يَضُرُّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يُجِزْ، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ دُونَ عَيْنِهِ، وَعِنْدَ إجَازَتِهِ الْبَيْعَ تُسَلَّمُ لَهُ الْمَالِيَّةُ، فَالتَّمْلِيكُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ وَاَلَّذِي قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهِ مَالِيَّةٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ أَمَّا إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُجِزْ فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ حَابِسٌ لِلْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ ضَامِنٌ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَمَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مَالُهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَانَ يُسَلِّمُ لَهُ مِلْكَ الْعَبْدِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَالِ الْمُشْتَرِي مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ الْمُقَرُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ إقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَحَفَرَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ إنَّ الرَّاهِنَ أَدَّى الدَّيْنَ وَأَخَذَ عَبْدَهُ فَوَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ تُسَاوِي أَلْفًا فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ تَسَبَّبَ لِإِتْلَافِ الدَّابَّةِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَلَوْ أَتْلَفَ الْعَبْدُ دَابَّةً بِيعَ فِي قِيمَتِهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى، فَإِنْ بِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخَذَهَا صَاحِبُ الدَّابَّةِ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي قَضَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَلِفَ بِفِعْلٍ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ الْحَفْرُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ وَيُجْعَلُ هُوَ كَالْهَالِكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِالْهَلَاكِ وَقَدْ اسْتَوْفَاهُ مَرَّةً أُخْرَى فَعَلَيْهِ رَدُّهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ لَوْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَيُجْعَلَ كَالْهَالِكِ قَبْلَ الرَّدِّ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ أُخْرَى تُسَاوِي أَلْفًا فَعَطِبَتْ رَجَعَ صَاحِبُهَا عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ الْأَوْلَى وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الدَّائِنَيْنِ تَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَفْرُ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الدَّابَّتَيْنِ مَعًا فَيَكُونُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ الْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ مِمَّا قَبَضَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبَضَ مَا كَانَ أَعْطَى الْمُرْتَهِنَ بِطَرِيقٍ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ شَيْئًا، وَحَقُّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ لَا فِي مَالٍ آخَرَ مِنْ مِلْكِ مَوْلَى الْعَبْدِ فَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ اسْتَهْلَكَ مَالَ إنْسَانٍ فَبِيعَ فِي قِيمَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 143 إنْسَانٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَفْرِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ جِنَايَةً إذَا اتَّصَلَ الْوُقُوعُ بِهِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِجِنَايَةٍ عَلَى الْآدَمِيِّ نَفْسُهُ، فَعِنْدَ الْوُقُوعِ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَأَصْلُ فِعْلِ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّفْعِ بِفِعْلٍ سَبَقَ مِلْكَهُ، وَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُوجِبٌ سَبَبًا فِي مِلْكِهِ، وَالْبَيْعُ كَانَ بِحَقٍّ شَرْعِيٍّ لَا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَضُرُّ تَعَلُّقُهُ بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاقِعُ دَابَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالْأَوَّلِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّمَنِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَهُنَا الْمُسْتَحَقُّ نَفْسُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مِنْ جِنْسِ حَقِّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ إلَّا قَبْضَ الثَّمَنِ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ حَقِّهِ فِي الثَّمَنِ، وَاسْتِحْقَاقُ نَفْسِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا كَانَ دَمُهُ هَدَرًا. وَإِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ أَمَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ قَبَضَهَا وَكَاتَبَهَا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ الرَّاهِنِ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَفِي عَوْدِهِ إضْرَارٌ بِالْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْسَخُ بَيْعَ الرَّاهِنِ، وَكَمَا يَفْسَخُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، كَدَابَّةِ شَرِيكِهِ وَلَوْ لَمْ يُكَاتِبْهَا، وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهَا فَسَعَتْ فِي خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ بِنْتًا تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَعَلَى وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى فِي خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ هَذَا الْقَدْرُ، وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا يُدَبَّرُ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فَكَمَا كَانَ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تَسْعَى فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّاهِنَ مُوسِرٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا يَسْعَى فِيمَا يُوَفِّي دَيْنَهُ فَإِنْ سَعَتْ الْبِنْتُ فِي مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْبِنْتُ الْأَوْلَى، وَقِيمَةُ الْأَوْلَى وَالسُّفْلَى سَوَاءٌ فَعَلَى السُّفْلَى أَنْ تَسْعَى فِيمَا بَقِيَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهَا كَالْأُولَى مُدَبَّرَةٌ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا، وَالسُّفْلَى جُزْءٌ مِنْ الْأُولَى فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ الْأُولَى. وَلَوْ رَهَنَ أَمَتَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَدَبَّرَهُمَا الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا سَعَتْ الْبَاقِيَةُ فِي نِصْفِ الدَّيْنِ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى نِصْفَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الرَّهْنِ نِصْفَيْنِ، وَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَحُكْمِ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْبَاقِيَةِ نِصْفُ الدَّيْنِ فَتَسْعَى فِيهِ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى نِصْفَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ مُسْتَرِدٌّ لَهَا فَكَأَنَّهُ افْتَكَّهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ ذَهَبَ مَا قُلْتُمْ: أَنَّ السِّعَايَةَ عَلَى الْمُدَبَّرَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالِكَ لِكَسْبِهَا مُوسِرٌ بِهَذَا الطَّرِيق قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ السِّعَايَةَ عَلَيْهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي كَانَتْ هِيَ مَرْهُونَةٌ بِهِ فَلِهَذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَرْهُونَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي دُيُونِ الْمَوْلَى مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 144 مِنْهُمَا كَانَتْ مَرْهُونَةً بِنِصْفِ الدَّيْنِ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالسِّعَايَةُ عَلَى الْوَلَدِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِيهِ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ، وَالْأُمُّ كَانَتْ مَرْهُونَةً بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَكَانَ وَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهَا الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا إذَا كَانَ مِثْلَهَا فِي الصِّفَةِ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْبَاقِيَةُ بِنْتًا ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْعَى فِي شَيْءٍ وَقِيمَتُهَا مِثْلَ قِيمَةِ أُمِّهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ سَعَتْ فِي خَمْسِمِائَةٍ تَامَّةٍ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ، وَقَدْ كَانَتْ مَرْهُونَةً بِخَمْسِمِائَةٍ خَرَجَتْ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الرَّهْنِ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي ذَلِكَ فَتَجِبُ عَلَى وَلَدِهَا الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا السِّعَايَةُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ نِصْفُهَا وَلَوْ كَانَتْ وَلَدَتْهَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ ثُمَّ دَبَّرَهُمَا جَمِيعًا، وَقِيمَتُهَا مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهَا سَعَتْ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثَبَتَ فِي الْوَلَدِ حِينَ انْفَصَلَ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَانْقَسَمَ مَا فِي الْأُمِّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الدَّيْنِ إلَى يَوْمِ الْفِكَاكِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ وَقَدْ بَقِيَ فَإِنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّدْبِيرِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفِكَاكِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الرَّهْنِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِيمَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَإِذَا صَارَ مَقْصُودًا يُوجِبُ السِّعَايَةَ فِيمَا كَانَ عَلَى الْأُمِّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا انْفَصَلَ الْوَلَدُ بَعْدَ مَا خَرَجَتْ الْأُمُّ مِنْ الرَّهْنِ بِالتَّدْبِيرِ فَلَمْ يَصِرْ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالسِّعَايَةِ فِي شَيْءٍ حِينَ لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْأُمِّ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا انْفَصَلَ الْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي انْفَصَلَ حُرًّا لَيْسَ عَلَى صِفَةِ الْأُمِّ فَإِنَّ كَسْبَهُ لَيْسَ لِمَوْلَاهُ، بَلْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا فِي السِّعَايَةِ الْوَاجِبَةِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الَّذِي انْفَصَلَ مُدَبَّرًا، فَهُوَ نِصْفُ الْأُمِّ فَيَلْزَمُهُ مِنْ السِّعَايَةِ مَا كَانَ عَلَى الْأُمِّ. وَلَوْ رَهَنَ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ بِنْتًا تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ دَبَّرَ الْمَوْلَى الْأُمَّ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى الْأُمِّ أَنْ تَسْعَى فِي خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ تَحَوَّلَ مِنْهَا إلَى الْوَلَدِ، وَهُوَ نَائِبٌ فِيهِ مَا بَقِيَ الْوَلَدُ، وَالْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْأُمِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِيمَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِنْ مَاتَتْ ابْنَتُهَا سَعَتْ فِي الْأَلْفِ تَامَّةً؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ حِينَ لَمْ يُدَبَّرْ الْوَلَدُ وَبِالْفِكَاكِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ كَانَ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ الرَّهْنِ بِالتَّدْبِيرِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ فَإِنْ لَمْ تَمُتْ الْبِنْتُ وَمَاتَتْ الْأُمُّ ثُمَّ دَبَّرَ الْبِنْتَ فَعَلَى الْبِنْتِ أَنْ تَسْعَى فِي خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ حِينَ دَبَّرَهَا فَيَسْتَقِرُّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي ذَلِكَ، وَبَعْدَ مَا صَارَتْ مَقْصُودَةً الجزء: 21 ¦ الصفحة: 145 لَا تَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَى أُمِّهَا فَإِنْ وَلَدَتْ الْبِنْتُ بِنْتًا، وَمَاتَتْ الْبِنْتُ الْأُولَى سَعَتْ السُّفْلَى فِي خَمْسِمِائَةٍ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهَا مِائَةً؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْأُولَى، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأُولَى فِي حُكْمِ هَذِهِ السِّعَايَةِ فَإِنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِحُكْمِ الرَّهْنِ. وَلَوْ وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّهْنِ بِنْتًا ثُمَّ وَلَدَتْ الْبِنْتُ بِنْتًا، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ دَبَّرَهُنَّ جَمِيعًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ، وَالْبِنْتُ، الْآنَ كَانَ عَلَى السُّفْلَى أَنْ تَسْعَى فِي نِصْفِ الدَّيْنِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ بِالْوُسْطَى، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَسْعَى فِي ثُلُثِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَابِضِ لِلْوُسْطَى بِالتَّدْبِيرِ، وَكَيْفَ لَا تُحْتَسَبُ بِهَا وَقَدْ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ وَالسُّفْلَى تَابِعَةٌ لِلْأُمِّ كَالْأُولَى فَانْقَسَمَ الدَّيْنُ عَلَيْهِنَّ أَثْلَاثًا ثُمَّ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُنَّ مِنْ الرَّهْنِ، فَيَتَقَرَّرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا كَانَ فِيهَا، وَهُوَ ثُلُثُ الدَّيْنِ فَعَلَى السُّفْلَى السِّعَايَةُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ خَاصَّةً، وَلَا تَأْوِيلَ لِجَوَابِ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) سِوَى أَنَّهُ ذَهَبَ بِالدَّيْنِ إلَى أَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا دَبَّرَ الْأُمَّ وَالسُّفْلَى دُونَ الْوُسْطَى، فَلِهَذَا قَالَ: لَا يُحْتَسَبُ بِالْوُسْطَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَالْبِنْتُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ ثُمَّ دَبَّرَ السُّفْلَى ثُمَّ عَلَّلَ، فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَحْتَسِبُ بِالْوُسْطَى إذَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا التَّدْبِيرُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَا إذَا لَمْ يُدَبِّرْ الْوُسْطَى، فَأَمَّا إذَا دَبَّرَهُنَّ جَمِيعًا فَالْجَوَابُ، كَمَا قَالَ عِيسَى وَلَوْ وَلَدَتْ أَمَةُ الرَّهْنِ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ دَبَّرَهُمَا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالسِّعَايَةِ فِي نِصْفِ الْأَلْفِ فَبِمَوْتِ الْأُمِّ لَا يَتَحَوَّلُ شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهَا إلَى الْوَلَدِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْبِنْتُ سَعَتْ الْأُمُّ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَهَذَا التَّفْرِيعُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي نُسَخِ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي (الْمُخْتَصَرِ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ غَلْقٌ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ فَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَتَحَوَّلُ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ السِّعَايَةِ إلَى الْأُمِّ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي مِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا فَوَجْهُهُ أَنَّ الْأُمَّ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ مَرْهُونَةً بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَتَمَامُ الْفِكَاكِ فِي الْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ بِالتَّدْبِيرِ، وَإِنَّمَا تَمَامُ الْفِكَاكِ بِوُصُولِ حِصَّةِ الْوَلَدِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ فَوَجَبَ عَلَى الْأُمِّ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِسْعَاءِ الْأُمِّ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَانَ ثَابِتًا وَالرَّاهِنُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ ذَلِكَ الْحَقِّ بِتَدْبِيرِ الْوَلَدِ؛ فَلِهَذَا سَعَتْ لَهُ فِي الْأَلْفِ كُلِّهَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ فَالْبِنْتُ مَا كَانَتْ مَرْهُونَةً بِجَمِيعِ الْأَلْفِ قَطُّ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْبِنْتِ السِّعَايَةُ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَا كَانَتْ مَرْهُونَةً بِهِ. وَلَوْ رَهَنَ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَدَبَّرَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ وَهُوَ مُوسِرٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 146 بِالتَّدْبِيرِ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَيَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي خَمْسِمِائَةٍ، مِقْدَارُ مَا كَانَ مَرْهُونًا بِهِ فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ السِّعَايَةِ كَانَتْ الْأُمُّ رَهْنًا بِأَلْفٍ لَا تَفْتَكُّهَا إلَّا بِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّهُ كَانَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى ضَامِنٌ مِنْ الْقِيمَةِ الْوَلَدَ وَبَقَاءُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فَكَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ الدَّيْنِ فِيهِ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْأُمِّ خَمْسُمِائَةٍ وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ كَانَتْ الْأُمُّ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي جِنْسِهَا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ كَانَ ثَابِتًا وَالْمَوْلَى بِتَدْبِيرِ الْوَلَدِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْأُمِّ، وَلَكِنَّ مَوْتَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَبَعْدَ التَّدْبِيرِ سَوَاءٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَكَّ الْأُمَّ إلَّا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ. وَرَهْنُ الْعَبْدَ التَّاجِرِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَارْتِهَانُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَلِكَ إنْ رَهَنَ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ يَتَكَاتَبُونَ عَلَيْهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بَيْعُهُمْ إذَا مَلَكَهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ أَيْضًا وَفِي الْإِخْوَةِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْإِخْوَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ رَهْنُهُمْ بِالدَّيْنِ أَيْضًا. وَإِنْ رَهَنَ الْمَأْذُونُ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ ارْتَهَنَهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ أَكْسَابَهُ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَيْنٍ وَاجِبٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنًا يُطَالِبُهُ بِهِ وَيَسْتَوْفِيهِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ بِهِ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا يُطَالِبُهُ بِهِ وَأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْهُ. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِشَيْءٍ يُقْرِضُهُ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ وَقِيمَتُهُ وَالْقَرْضُ سَوَاءٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى جِهَةِ الشَّيْءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَوْ أَقْرَضَ مَالًا وَقَبَضَ بِهِ الرَّهْنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ هُوَ بِالْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا، وَإِنْ كَانَ أَقْرَضَهُ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا ارْتَهَنَ عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَاضِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى مَالِكِ الرَّهْنِ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَهَنَ بِكَفَالَةٍ بِالْمَالِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ التَّاجِرِ أَنْ يَرْهَنَ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِيهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ رَهْنَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ دَيْنَهُ بِكَسْبِهِ، وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْهُ كَالْإِقْرَاضِ فَلَا يَصِحُّ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُكَاتَبِ كَنَفْسِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 147 الْمَوْلَى، وَلَوْ بَاشَرَ الْمَوْلَى ذَلِكَ فِي كَسْبِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِهِ. وَارْتِهَانُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ مِنْ الْعَبْدِ التَّاجِرِ جَائِزٌ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ التَّاجِرِ أَنْ يَرْهَنَ نَفْسَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ مَا لَا يَمْلِكُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ نَفْسَهُ إذْ مُوجَبُهُ ضِدَّ مُوجَبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ مُوجَبَ الْإِذْنِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَمُوجَبُ بَيْعِ نَفْسِهِ إثْبَاتُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَأَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا رَهَنَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ بَيْعِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِذْنُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِذَا رَهَنَ الْعَبْدُ أَوْ ارْتَهَنَ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَالِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا عَجَزَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْهَنَ، وَلَا يَرْتَهِنَ إلَّا أَنْ يُجْبِرَهُ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَبِمَنْزِلَةِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ. وَإِذَا رَهَنَ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِمَا رَهَنَهُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِإِجَازَتِهِ رَهْنَ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَ الْعَبْدُ سِلْعَةً رَجُلًا أَوْ رَهَنَهُ فَرَهْنُهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ مِنْهُ لِمَالِيَّةِ الْمَتَاعِ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ، فَلَا يَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُمْ لَا يَسْقُطُ بِالْإِجَازَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقْرَضَ الْعَبْدَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْغُرَمَاءُ وَلَوْ رَهَنَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ - مِنْ غَيْرِهِ - رَهْنًا بِأَمْرِ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ بِأَمْرِ أَبِيهِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلرَّاهِنِ فِي الرَّهْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَائِزٌ، كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَلْزَمُ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ وَتَأْثِيرُ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي مَنْعِ اللُّزُومِ مُسْتَفَادٌ، ذَلِكَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلرَّاهِنِ وَلَا مَعْنًى لِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّهِ مَتَى شَاءَ بِغَيْرِ خِيَارٍ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنًى لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ مَتَى شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ رَهْنًا آخَرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَلَمْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 148 يُوجَدْ مِنْهُ الْقَبْضُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، فَلِهَذَا لَا يُثْبِتُ لِلْمُرْتَهِنِ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ رَهْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ] (بَابُ رَهْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرَّهْنِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ فَالرَّهْنُ مِنْهَا، وَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ يُسَوَّوْنَ بِنَا، فَإِنْ رَهَنَهُ خَمْرًا فَصَارَتْ خَلًّا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَتِهَا يَوْمَ ارْتَهَنَهَا فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ، وَمَا لَمْ يُتَقَوَّمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِتَغَيُّرِ هَذَا الْوَصْفِ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، فَبِتَغَيُّرِ الْوَصْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِقَضَاءِ بَاقِي الْمَالِيَّةِ لَا يُعْتَبَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ. وَلَوْ رَهَنَهُ شَاةً فَمَاتَتْ سَقَطَ الدَّيْنُ لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَفِيهَا وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَإِنْ دَبَغَ الْمُرْتَهِنُ جِلْدَهَا فَهُوَ رَهْنٌ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبْغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهُوَ مِمَّا تَنَاوَلَهُ الرَّهْنُ فَبِقَدْرِ مَا جَنَى مِنْ الْمَالِيَّةِ يَعُودُ مِنْ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَدَبَغَ الْبَائِعُ جِلْدَهَا فَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَعُودُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الثَّمَنِ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ، وَبِهِ عَادَ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، فَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَلَا يَعُودُ الْمِلْكُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْفَسَخَ فَأَمَّا سُقُوطُ الدَّيْنِ هُنَا فَبِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْتِهَاءِ حُكْمِ الرَّهْنِ مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ مُتَقَرَّرًا بِالِانْتِهَاءِ، فَلِهَذَا يَعُودُ مِنْ الدَّيْنِ حِصَّةُ مَا جَنَى مِنْ مَالِيَّةِ الْجِلْدِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَكَانَتْ الشَّاةُ تُسَاوِي عَشَرَةً وَالْجِلْدُ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَهُوَ رَهْنٌ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّاةُ تُسَاوِي عِشْرِينَ يَوْمَ ارْتَهَنَ، وَالدَّيْنُ عَشَرَةٌ، وَكَانَ الْجِلْدُ يُسَاوِي دِرْهَمًا يَوْمَئِذٍ، فَالْجِلْدُ رَهْنٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ انْقِسَامَ الدَّيْنِ عَلَى مَالِيَّةِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ الرَّهْنِ نِصْفَ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّاةِ ضِعْفُ الدَّيْنِ فَتَعُودُ مَالِيَّةُ الْجِلْدِ بِعَوْدِ نِصْفِ مَالِيَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتْ الشَّاةُ يَوْمَ اُرْتُهِنَتْ تُسَاوِي خَمْسَةً وَالْجِلْدُ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَقَدْ ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ أَرْبَعَةٌ وَالْجِلْدُ رَهْنٌ بِسِتَّةٍ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ مِنْ الدَّيْنِ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَقَدْ عَادَ مِنْ السَّاقِطِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الْجِلْدِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الرَّهْنِ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْجِلْدُ مَرْهُونًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، وَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 149 بِدِرْهَمٍ. وَلَوْ ارْتَهَنَ الْمُسْلِمُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ خَمْرًا فَصَارَتْ فِي يَدِهِ خَلًّا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ؛ لِانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْخَمْرِ بِخَمْرٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَمُوجَبُ الرَّهْنِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَالْخَمْرُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، وَالْعَقْدُ الْبَاطِلُ بِحُدُوثِ الصَّلَاحِيَّةِ فِي الْمَحَلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ، أَوْ صَيْدًا قَبْلَ الْأَخْذِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْبَائِعُ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ وَلَا يُعْطِيَهُ أَجْرًا؛ لِأَنَّ عَيْنَ مِلْكِهِ تَغَيَّرَ بِطَبْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ زَادَ الْمُرْتَهِنُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ، أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ صُنْعًا وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ إنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ كَافِرًا، وَكَانَتْ قِيمَتُهُ - يَوْمَ رَهْنِهِ - وَالدَّيْنُ سَوَاءً فَلَهُ أَنْ يَدَعَ الْخَلَّ وَيُبْطِلَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْخَمْرَ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ فَخَمْرُ الْكَافِرِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْقَبْضِ وَبِالتَّخَلُّلِ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْمَضْمُونِ لَهُ بِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَهُ وَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَيْنَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ إذَا انْكَسَرَ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ حَالَةُ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) هُنَاكَ فِي حَالِ الِانْكِسَارِ يُوجِبَانِ ضَمَانَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ مِنْ الضَّامِنِ مُمْكِنٌ وَهُنَا ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٌ وَالْمَضْمُونُ بِالرَّهْنِ هُوَ الْخَمْرُ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِسَبَبِ مِلْكِ الْخَمْرِ بِبَدَلٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَدَعَ الْخَلَّ وَيُبْطِلَ الدَّيْنَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدُ صَحِيحٌ، فَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْعَقْدِ يَكُونُ الْمَضْمُونُ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بِالتَّخَلُّلِ وَهُنَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَالْمَضْمُونُ بِالْقَبْضِ هُوَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَبِدُونِهِ أَشْبَهَ قَبْضَ الْغَصْبِ. وَلَوْ غَصَبَ الْمُسْلِمُ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَدَعَ الْخَلَّ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ فَهُنَا أَيْضًا لَهُ أَنْ يَدَعَ الْخَلَّ وَيَخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَظْهَرُ الِاسْتِيفَاءُ عَنْ الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَلْبِ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْقِيمَةَ هُنَاكَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ وَهُنَا الْقِيمَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ مُسْلِمٌ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا، وَالرَّاهِنُ مُسْلِمٌ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُخَلِّلَهَا، وَيَكُونُ رَهْنًا، كَمَا كَانَ يَبْطُلُ مِنْهَا عَلَى حِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بِحُدُوثِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ، وَيَتَقَوَّمُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 150 الْمُرْتَهِنَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إعَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِالتَّخْلِيلِ، فَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَخْذِهَا فَإِذَا خَلَّلَهَا الْمُرْتَهِنُ وَقَدْ عَادَتْ الْمَالِيَّةُ وَبِعَوْدِهَا يَعُودُ حُكْمُ الرَّهْنِ، كَمَا فِي الشَّاةِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ جِلْدُهَا إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَتْ مَالِيَّةُ الْخَلِّ دُونَ مَالِيَّةِ الْعَصِيرِ فَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْمَالِيَّةُ بِتَغَيُّرٍ حَدَثَ فِي عَيْنِ الْمَرْهُونِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ كَافِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ فَيَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُخَلِّلَهَا؛ لِأَنَّ بِحُدُوثِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ لَمْ تَنْعَدِمْ الْمَالِيَّةُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ بِهِ؛ لِأَنَّ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ وَالْمُسْلِمُ لَوْ ارْتَهَنَ خَمْرًا مِنْ كَافِرٍ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ إذَا ارْتَهَنَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَالِيَّةِ لَمْ يَفُتْ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُخَلِّلَهَا هُنَا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ مَقْصُودَةٌ لِلْكَافِرِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبْطِلَهَا عَلَيْهِ بِالتَّخَلُّلِ فَإِنْ خَلَّلَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ خَلَّلَهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ فَهُوَ، كَمَا لَوْ غَصَبَ خَمْرَ ذِمِّيٍّ وَخَلَّلَهَا فَيُضَمَّنُ قِيمَتَهَا، وَالْخَلُّ لَهُ وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ عَنْ الرَّاهِنِ. وَلَوْ رَهَنَ الذِّمِّيُّ عِنْدَ الذِّمِّيِّ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بَيْنَهُمْ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهَا، ثُمَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْهُونًا فَبِحُدُوثِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَرْهُونًا، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ قِيمَةَ الدِّبَاغَةِ إنْ كَانَ دَبْغُهُ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ - كَالْمُقَارَنِ لِلْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ خَلَّلَهَا فَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ صَحِيحًا ثُمَّ فَسَدَ لِانْعِدَامِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِسَبَبِ إسْلَامِهِمَا فِي حَقِّهِمَا، فَإِذَا خَلَّلَهَا الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ عَادَ فِيهَا صِفَةُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، فَكَانَتْ رَهْنًا عَلَى حَالِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ ثُمَّ صَارَ خَلًّا فَهُوَ رَهْنٌ وَيَنْقُصُ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهَا لِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ بِتَغَيُّرِ صِفَةِ الْعَيْنِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الْكَافِرُ مِنْ الْكَافِرِ خَمْرًا وَوَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ مُسْلِمٍ عَدْلٍ وَقَبَضَهَا فَالرَّهْنُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَبْضِ نَائِبٌ عَنْ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَحُكْمُ فِعْلِ النَّائِبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنُوبِ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبْضِ مِنْهُمْ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ لَهُ، فَأَمَّا هُوَ فَمِنْ أَهْلِ الْقَبْضِ مِنْهُمْ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْخَمْرِ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاقْتِرَابِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فَيُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 151 وَيُوضَعُ عَلَى يَدَيْ ذِمِّيٍّ عَدْلٍ دَيْنٌ مُرَاعَاةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ رَهَنَ مِنْ مُسْلِمٍ شَيْئًا وَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَمَاتَ الْعَدْلُ، فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ آخَرَ. وَالْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ كَالذِّمِّيِّ فَإِنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا وَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ رَهْنٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ - فَقَدْ بَطَلَ الدَّيْنُ وَصَارَ الرَّهْنُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُبَاعُ الرَّهْنُ فَيَسْتَوْفِي الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ فِي عَيْنِ أَسْرِهِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: تَبَدَّلَتْ نَفْسُهُ بِالْأَسْرِ وَصَارَ مَمْلُوكًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَالِكًا فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِفَوَاتِ مَحِلِّهِ، وَهُوَ الذِّمَّةُ الْمَشْغُولَةُ فَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ لِضَعْفِ الذِّمَّةِ بِالرِّقِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَقْتَضِي صَفَاءَ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الثَّانِي فَلِفَوَاتِ الْمَحِلِّ يَسْقُطُ الدَّيْنُ ثُمَّ الرَّهْنُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ يَدِ الْأَسِيرِ فَيَصِيرُ هُوَ مُتَمَلِّكًا كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ كَانَ مَعْقُولًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحَرَّرًا لَهَا بِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهَا - أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ دَيْنُهُ وَقَدْ وَقَعَ الْيَأْسُ عِنْدَ ذَلِكَ فَبَقِيَ مَحْبُوسًا فِي يَدِهِ عَلَى التَّأْيِيدِ وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَقَدْ كَانَ هُوَ بِحُكْمِ يَدِهِ أَخَصَّ بِغُرْمِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ سَقَطَ دَيْنُهُ فَيَكُونُ أَخَصَّ بِقِيمَتِهِ فَيَمْلِكُهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَ الِاسْتِرْقَاقِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَفُتْ الْمَحَلُّ هُنَا؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ بَقِيَتْ صَالِحَةً لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ فِيهَا وَالرَّهْنُ خَلْفٌ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْخَلْفِ كَالْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ يَبْقَى الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا خَلْفٌ عَنْ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ بَقِيَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ بِحَقِّ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَهِنِ، فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَإِذَا اسْتَوْفِي دَيْنَهُ سَقَطَ حَقُّهُ فَيَكُونُ الْبَاقِي لِمَنْ أَسَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْبَاقِي كَانَ أَمِينًا يَدُهُ فِيهِ كَيَدِ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمَأْسُورِ وَالْأَسْرُ كَمَا يَمْلِكُ الْمَأْسُورَ بِالْقَهْرِ يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَمْلُوكًا لِلْمُرْتَهِنِ بِضَمَانِ الرَّهْنِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ وَلَا بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ؛ لِأَنَّهُ بِبَقَاءِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَحَقِّهِ يَبْقَى الْإِحْرَازُ، وَلَا يَفُوتُ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاغْتِنَامِ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْإِحْرَازُ كَانَ بِاعْتِبَارِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمَأْسُورِ حَقٌّ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي لِمَنْ أَسَرَهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ رَهْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ رَدَّ الرَّهْنَ عَلَى صَاحِبِهِ وَبَطَلَ دَيْنَهُمْ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِهِ الْمَالَ، فَقَدْ صَارَ مَمْلُوكًا مَا لَمْ يَخْلُفْهُ الثَّانِي فِي مِلْكِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالشَّيْءِ سَقَطَ إمَّا لِفَوَاتِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ أَصْلًا - أَوْ لِأَنَّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 152 الْمُسْلِمَ مُحْرِزٌ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَمْلِكُهُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَالرَّهْنُ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الرَّهْنَ، فَلَا يَمْلِكُهُ الثَّانِي لِبَقَاءِ إحْرَازِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ لَهُ فَلِهَذَا كَانَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الْحَرْبِيُّ مِنْ الْحَرْبِيِّ رَهْنًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ خَرَجَا بِإِمَامٍ فَاخْتَصَمَا فِيهِ لَمْ يَقْضِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْتَأْمَنَا لِيَجْرِيَ عَلَيْهِمَا الْحُكْمُ بَلْ لِيَتَّجِرَا وَيَعُودَا إلَى دَارِهِمَا، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ كَانَتْ مِنْهُمَا حَيْفًا حِينَ لَمْ يَكُونَا تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ فَمَا لَمْ يَلْتَزِمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْضَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ جَاءَا مُسْلِمَيْنِ أَوَذِمِّيَّيْنِ ثُمَّ اخْتَصَمَا فِي الرَّهْنِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ أَبْقَيْتَ الرَّهْنَ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَابْتَدَآ الرَّهْنَ، وَالِارْتِهَانُ صَحِيحُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ هَذَا الِالْتِزَامِ فَيَبْقَى أَيْضًا مَا كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا. وَرَهْنُ الْمُرْتَدِّ وَارْتِهَانُهُ مَوْقُوفٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، فَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، وَقَدْ كَانَ الدَّيْنُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَالرَّهْنُ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ كَانَ الدَّيْنُ فِي رِدَّتِهِ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ وَالرَّهْنُ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ أَيْضًا فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِهِ فَيَتَغَيَّرُ بِحَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ وَإِنَّمَا يُوَفَّى دَيْنُ الْإِسْلَامِ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَدَيْنُ الرِّدَّةِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الرَّهْنِ هُنَا وَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَضْمَنُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْفَضْلِ، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ، وَلَوْ اسْتَدَانَ دَيْنًا فِي رِدَّتِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ، وَكَانَ الدَّيْنُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَالْمَتَاعُ مِنْ كَسْبِهِ فِي الرِّدَّةِ فَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَبَائِعِ مَا اكْتَسَبَ فِي الرِّدَّةِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِمَالِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ كَسَبَ الرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَيْءٌ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ مِيرَاثٌ، فَإِذَا أَوْفَى دَيْنَ الْإِسْلَامِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ فَقَدْ أَوْفَاهُ مِنْ مَحِلٍّ هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُرَدُّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْفَى دَيْنَ الرِّدَّةِ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِمَا هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ دَيْنًا لَزِمَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَمَحَلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ كَسْبُ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ، فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ. وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُف وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) إنَّمَا يُقْضَى الدَّيْنَانِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَذَلِكَ إذَا فَرَغَ عَنْ دَيْنِهِ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَى مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا نَقُولُ: إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ فَهُوَ بِمَا فِيهِ بِأَيِّ الْعَيْنَيْنِ كَانَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) يُقْضَى الدَّيْنَانِ مِنْ كَسْبِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 153 الْإِسْلَامِ إذَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ، وَالْمِيرَاثُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ فَعَلَى هَذَا، إذَا كَانَ الرَّهْنُ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ بِمَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ): حُكْمُ الْكَسْبَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ مِيرَاثٌ عَنْهُ، وَتَصَرُّفُهُ مِنْ حَيْثُ الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ نَافِذٌ، وَكَانَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بِإِسْلَامِهِ يَنْفُذُ الرَّهْنُ، كَمَا يَنْفُذُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَهْنِ الْمُرْتَدَّةِ وَارْتِهَانِهَا كَقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ رَهْنَهَا يَنْفُذُ، كَمَا تَنْفُذُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَا تُقْتَلُ وَالرِّجْلُ يُقْتَلُ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الْمُسْلِمُ مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدًا مُرْتَدًّا وَقَبَضَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَلَالَ الدَّمِ بِقِصَاصٍ فَقُتِلَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ سَرَقَ عِنْدَ الرَّاهِنِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، وَكَانَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ كُلِّهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الزَّانِي، أَوْ الْقَاذِفُ، أَوْ الشَّارِبُ خَمْرًا عِنْدَ الرَّاهِنِ، إذَا ضُرِبَ الْحَدَّ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، فَدَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ نُقْصَانٌ فَذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) مِثْلَ ذَلِكَ إلَّا فِي السَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ سَارِقًا وَيُقَوَّمُ غَيْرَ سَارِقٍ، وَيُقَوَّمُ حَلَالَ الدَّمِ وَمَحْقُونَ الدَّمِ، فَيَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ سَارِقًا أَوْ حَلَالَ الدَّمِ، وَيَكُونُ عَلَى الرَّاهِنِ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ إذَا قُتِلَ، وَفِي السَّارِقِ: يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ نِصْفُ قِيمَتِهِ سَارِقًا، وَيَكُونُ مَرْهُونًا بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيْعِ، إذَا اشْتَرَى عَبْدًا سَارِقًا أَوْ حَلَالَ الدَّمِ، فَقُتِلَ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي (الْبُيُوعِ) وَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَهُ وَهُوَ كَافِرٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ الدَّيْنِ بِمَا فَعَلَ بِهِ عِنْدَهُ وَالرَّاهِنُ يَدَّعِي ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الرَّاهِنِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ رَهْنِ الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ] (بَابُ رَهْنِ الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا رَهَنَ الْمُضَارِبُ رَهْنًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ بِدَيْنٍ اسْتَدَامَهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْتَدِينَ وَيَرْهَنَ، فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، وَالدَّيْنُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ هُوَ الشِّرَاءُ بِالْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ، فَالْمُضَارَبَةُ تَسْتَدْعِي رَأْسَ مَالٍ حَاضِرٍ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 154 فِي الِاسْتِدَانَةِ وَلَكِنَّ اسْتِدَانَةَ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِدَانَتِهِمَا جَمِيعًا فَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ سَوَاءً كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ فَإِذَا رَهَنَ بِهَذَا الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِمَا مَتَاعًا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِلثَّمَنِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ نِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ قَضَى بِهِ دَيْنًا عَلَيْهِمَا بِأَمْرِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ كَالْمُسْتَعِيرِ لِلرَّهْنِ إذَا صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ضَمِنَ مِثْلَهُ لِلْمُعِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَيْهِمَا فَإِنَّمَا اسْتَدَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ ضَامِنًا لَهُ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ كُلِّهِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِلَى الْمُضَارِبِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ لِلْمُضَارَبَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ أَلْفَيْنِ وَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ وَنَقَدَهَا ثُمَّ اشْتَرَى مَتَاعًا بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى وَقَبَضَهُ عَلَى: إنْ أَعْطَاهُ الْعَبْدَ بِهَا رَهْنًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِتَصَرُّفِهِ لِلْمُضَارَبَةِ إنَّمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةُ عُرُوضٌ، فَرَهَنَ الْمُضَارِبُ مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ كَالشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنِضُّ بِهِ الْمَالَ، وَيَرُدُّ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَقْسِمُ الرِّبْحَ مَعَ الْوَرَثَةِ وَالرَّهْنُ لَيْسَ مَعَ هَذَا فِي شَيْءٍ بِمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْهَنَ، فَيَكُونَ هُوَ ضَامِنًا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الَّذِي يَنِضُّ بِهِ الْمَالُ وَإِنْ بَاعَهُ بِالْعَرَضِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَرَضَ رُبَّمَا لَا يُشْتَرَى بِالنَّقْدِ فَتَبَادُلُهُ بِعَرَضٍ آخَرَ يُشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ. وَإِذَا رَهَنَ رَبُّ الْمَالِ مَتَاعًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَفِيهِ فَضْلٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الْفَضْلِ مَمْلُوكٌ فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُطَالِبِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ بِدَيْنِهِ وَلَكِنْ يَضْمَنُ قِيمَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْرِجًا لَهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَكَانَ فِيهِ حَقٌّ لِلْمُضَارِبِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَا يَعْمَلُ بِنَهْيِهِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِحَقِّهِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ: لَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا فَضْلَ فِي الْمَالِ فَعِنْدَنَا: يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَبَيَانُهُ: فِي (الْمُضَارَبَةِ) وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ مَتَاعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَكَلَ ثَمَنَهُ. وَرَهْنُ الْمُفَاوِضِ، وَارْتِهَانُهُ بِدَيْنِ الْمُفَاوَضَةِ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ كَالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ، كَالْوَاحِدِ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ جِنَايَةٍ فَرَهَنَ بِهِ رَهْنًا مِنْ الْمُفَاوَضَةِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 155 كَانَ جَائِزًا، وَهُوَ ضَامِنٌ حِصَّةَ شَرِيكِهِ وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى أَنْ يَرْهَنَ وَيَبِيعَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَلَكِنْ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ صَارَ قَابِضًا، فَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مِنْ الرَّهْنِ دَيْنٌ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ لَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَلَوْ أَعَارَ الشَّرِيكُ إنْسَانًا مَتَاعًا لِيَرْهَنَهُ كَانَ جَائِزًا عَلَيْهِمَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ إذَا كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي (كِتَابِ الْكَفَالَةِ) وَلَوْ اسْتَعَارَ مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَهُ، وَرَهَنَهُ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ، فَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا، فَإِنْ هَلَكَ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ ضَمِنَ الْمَالَ الَّذِي أَعَارَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا دَيْنَهُ بِمِلْكِهِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الْمُفَاوِضُ رَهْنًا فَوَضَعَهُ عِنْدَ شَرِيكِهِ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَحْفَظُ الْمَالَ بِيَدِ صَاحِبِهِ، كَمَا يَحْفَظُهُ بِيَدِ زَوْجَتِهِ فَيُسَلِّمُ إلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِهِ إلَى زَوْجَتِهِ وَإِذَا رَهَنَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ رَهْنًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلرَّهْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فَقَطْ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الرَّهْنَ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَمْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِهِ وَيَكُونُ ضَامِنًا نَصِيبَ صَاحِبِهِ لِلْخِلَافِ، وَلَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُمَا أَدَّيَاهُ وَقَبَضَ لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِذَلِكَ وَلَا مُبَاشِرٍ سَبَبَ وُجُوبِهِ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَرْجِعُ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَيَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ حِصَّتَهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ الرَّهْنَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ طَعْنِ عِيسَى فِي (كِتَابِ الشَّرِكَةِ). وَلَوْ كَانَتْ شَرِكَتُهُمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ فِيهَا فَمَا رَهَنَ أَحَدُهُمَا أَوْ ارْتَهَنَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَجَازَ صَنِيعَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ، وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِذَا اسْتَوْدَعَ الرَّهْنَ صَاحِبَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ عِيَالِهِ لَمْ يَضْمَن؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْمَرْهُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِ هَؤُلَاءِ عَادَةً، فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ لَوْ أَخَذَ رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُمَا وَهَلَكَ عِنْدَهُ فَقَالَ شَرِيكُهُ: لَمْ تَأْخُذْهُ رَهْنًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَخَذْتُهُ رَهْنًا فَهَلَكَ عِنْدِي، فَإِنْ كَانَ هُوَ وَلِيَ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِمُلْكِ الِاسْتِيفَاءِ، فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ بِهِ وَإِنْ وَلِيَهَا الْآخَرُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَجَازَ مَا صَنَعَ، أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فِي الرَّهْنِ فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فِيمَا وَجَبَ بِمُعَامَلَةِ صَاحِبِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالرَّهْنِ فِيهِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ شَرِكَتُهُمَا الثُّلُثَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 156 وَالثُّلُثَيْنِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ فَادَّانَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا مِنْ الشَّرِكَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ بِرَأْيِهِ، فَلَوْ ادَّانَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا مِنْ الشَّرِكَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَالْإِدَانَةُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ رَهَنَ أَوْ ارْتَهَنَ فَهُوَ عَلَى قَدْرِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَالْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا ارْتَهَنَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ رَهْنًا وَقَبَضَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى الْمَالَ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، كَمَا يَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ إذَا طُولِبَ طَالَبَ، وَإِذَا لُوزِمَ لَازَمَ، وَإِذَا أَدَّى رَجَعَ وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ. وَإِذَا افْتَرَقَ الشَّرِيكَانِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ قَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الرَّهْنَ مِنْ فُلَانٍ بِدَيْنِي وَدَيْنُكَ فِي الشَّرِكَةِ قَبْلَ أَنْ نَفْتَرِقَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَخَذْتَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقْنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا أَدَانَ بِدَيْنٍ فِي الشَّرِكَةِ وَحْدَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَخْذَ الرَّهْنِ بِهَا فِي الشَّرِكَةِ وَبَعْدَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَيْهِ خَاصَّةً، فَكَمَا يَصِحُّ مُبَاشَرَتُهُ عَلَيْهَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَدَانَهُ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا صَنَعَ صَاحِبُهُ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِي الشَّرِكَةِ عِنْدَ إجَازَةِ صَاحِبِهِ صَنِيعَهُ كَفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا صَنَعَ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ فِي الشَّرِكَةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدَانَ رَجُلًا أَلْفًا وَاحِدَةً أَخَذَ بِهَا رَهْنًا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَضْمَنُ آخِذُ الرَّهْنِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، وَإِنَّمَا قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَعِيسَى - فِي مَسْأَلَةِ الطَّعْنِ - إنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهَذَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي (كِتَابِ الشَّرِكَةِ) وَلَوْ كَانَ قَالَ: وَكَّلَنِي بِقَبْضِ الْمَالِ. وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ بِهِ مِنْكَ رَهْنًا فَأَخَذَ بِهِ مِنْكَ رَهْنًا قِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ قَالَ: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا، فَكَانَ قَابِضًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ صَدَّقَهُ بِالْوَكَالَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي قَبْضِ الرَّهْنِ، وَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّ الطَّالِبَ ظَلَمَهُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى بِدَيْنِهِ، وَمَنْ ظُلِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: قَدْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 157 وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِأَخْذِهَا مِنْكَ، أَوْ أَبْتَاعَ مِنْكَ بَيْعًا بِهَا، فَاصْنَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ فَأَعْطَاهُ ثَوْبًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَرَهَنَهُ ثَوْبًا بِخَمْسَةٍ وَقَبَضَهَا وَصَدَّقَهُ الْمَطْلُوبُ فِي ذَلِكَ فَهَلَكَ الثَّوْبَانِ عِنْدَهُ ضَمِنَ ثَمَنَ الثَّوْبِ الَّذِي اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ مَطْلُوبٌ بِالثَّمَنِ ضَامِنٌ لَهُ وَلَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الطَّالِبِ حِينَ جَحَدَ الْوَكَالَةَ وَلَمْ يَضْمَنْ الَّذِي ارْتَهَنَهُ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ فِيهِ بِزَعْمِهِمَا، وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّهِ حِينَ جَحَدَ وَحَلَفَ، فَيَرْجِعُ بِمَالِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَارِيَّةِ فِي الرَّهْنِ] (بَابُ الْعَارِيَّةِ فِي الرَّهْنِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا اسْتَعَارَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ ثَوْبًا لِيَرْهَنَهُ فَمَا رَهَنَهُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا جَوَازُ الِاسْتِعَارَةِ لِلرَّهْنِ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَالْمُعِيرُ يَرْضَى بِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ مَالِيَّتِهِ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالدَّيْنِ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ تَبَرُّعٌ صَحِيحٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِمَالٍ صَحَّ وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، فَإِذَا مَلَكَ شَاغِلُ مَالِيَّةِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْإِذْنِ فِي الْكَفَالَةِ - تَمَلَّكَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ لِلرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْضُ مَا ثَبَتَ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكٌ الْيَدِ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا بِإِيفَاءِ غَيْرِ الْمَدْيُونِ مِنْ مَالِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُ الْيَدِ لَهُ بِالرَّهْنِ أَيْضًا، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَفْصِلَ مِلْكَ الْيَدِ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ بَقَاءً لِلْبَائِعِ جَازَ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ ثُبُوتًا لِلْمُرْتَهِنِ ثُمَّ مَا رَهَنَهُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ أَطْلَقَ فَالتَّقْيِيدُ شَيْءٌ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْمُطْلَقِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ لِلِانْتِفَاعِ مُطْلَقًا. وَلَوْ سَمَّى لَهُ سَبَبًا فَرَهَنَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ ضَمِنَهُ أَمَّا إذَا رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ فَلِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُعِيرِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرْضَى بِأَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مَحْبُوسًا بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَضَاؤُهُ دُونَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا إذَا رَهَنَهُ بِأَقَلَّ فَلِأَنَّ الْمُعِيرَ إنَّمَا رَضِيَ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ الْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا لِلْعِشْرِينَ لِيَرْجِعَ هُوَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِذَلِكَ فَإِذَا رَهَنَهُ بِأَقَلَّ فَعِنْدَ الْهَلَاكِ إنَّمَا يَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْيِيدَ مَتَى كَانَ مُفِيدًا فَهُوَ مُعْتَبَرُ وَالتَّقْيِيدُ هُنَا مُفِيدُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ارْهَنْهُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 158 بِجِنْسٍ فَرَهَنَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ فَهُوَ تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَسَّرُ عَلَى الْمُعِير أَدَاءُ جِنْسٍ دُونَ جِنْسٍ وَكَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ التَّقْيِيدَاتِ يَتَمَكَّنُ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ بِأَدَاءِ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ مُتَيَسِّرٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ رَجُلٍ فَرَهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ، فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْحِفْظِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ارْهَنْهُ بِالْكُوفَةِ فَرَهَنَهُ بِالْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ، فَقَدْ يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِأَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي بَلْدَةٍ دُونَ بَلْدَةٍ وَمَتَى صَارَ مُخَالِفًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ وَلِلْمُعِيرِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ، وَتَمَّ عَقْدُ الرَّهْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِمَا ضَمِنَ وَبِالدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَرْهَنَهُ بِعَشَرَةٍ فَرَهَنَهُ بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ الْمَالُ عَنْ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ قَدْ تَمَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الثَّوْبَ وَسَلَّمَهُ بِرِضَاهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِيَّتِهِ وَمَنْ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ يَضْمَنُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِهِ، وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ بِمَالِهِ وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ يُسَاوِي خَمْسَةً، وَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ فَأُعْسِرَ الرَّاهِنُ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَفْتَكُّهُ بِهِ ثُمَّ هَلَكَ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ذَهَبَ بِخَمْسَةٍ وَعَلَى الرَّاهِنِ خَمْسَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مِقْدَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ مِنْ الدَّيْنِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ لِرَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُوفِيًا خَمْسَةً مِنْ دَيْنِهِ بِمَالِيَّةِ ثَوْبِهِ فَيَغْرَمُ لَهُ مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ حِينَ أُعْسِرَ الرَّاهِنُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ إذَا قَضَاهُ دَيْنَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ لَا يَفْتَكَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ بِالْإِيفَاءِ هُنَا يَقْصِدُ تَخْلِيصَ مِلْكِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدْيُونِ الَّذِي يَقْصِدُ بِالْإِيفَاءِ تَفْرِيغَ ذِمَّتِهِ فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ: فَلَا يَقْصِدُ تَخْلِيصَ مِلْكِهِ، وَلَا ذِمَّتِهِ، بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ عَلَى الطَّالِبِ، فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَبَرُّعَهُ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُنَا رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَبَيْنَ مَالٍ آخَرَ يُعْطِيهِ، وَهُوَ فِي الْإِبَاءِ بَعْدَ الرِّضَا يَكُونُ مُتَعَيَّنًا، وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِأَنْ يَصِيرَ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِمِلْكِ الْمُعِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَبَيْنَ مَالٍ آخَرَ يُؤَدِّيهِ، وَلَوْ هَلَكَ ثَوْبُ الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ أَوْ بَعْدَ مَا افْتَكَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ الْعَيْنَ فِي الْحَالَيْنِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَبِالْهَلَاكِ قَبْلَ الرَّهْنِ، أَوْ بَعْدَ الْفِكَاكِ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا شَيْئًا مِنْ دَيْنِهِ بِمَالِيَّتِهِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 159 وَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ وَقَالَ الرَّاهِنُ: هَلَكَ بَعْدَ مَا افْتَكَكْتُهُ أَوْ قَبْلَ أَنْ أَرْهَنَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الثَّوْبِ أَمَّا إذَا قَالَ: هَلَكَ قَبْلَ أَنْ أَرْهَنَهُ فَلِإِنْكَارِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وَحَاجَةُ رَبِّ الثَّوْبِ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: هَلَكَ بَعْدَ مَا افْتَكَكْتُهُ، فَلِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِمَالِيَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ قِيلَ هُنَا الرَّاهِنُ قَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَهْنُهُ الثَّوْبَ بِدَيْنِهِ، أَوْ ادَّعَى نَاسِخُهُ، وَهُوَ الْفِكَاكُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْغَاصِبِ يَدَّعِي رَدَّ الْمَغْصُوبِ، قُلْنَا: لَا. كَذَلِكَ فَالرَّهْنُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِرَبِّ الثَّوْبِ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ عَنْ الدَّيْنِ بِسَبَبِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ. (أَلَا يَرَى): أَنَّهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَبِالرَّهْنِ لَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُ الْهَلَاكَ بَعْدَ الْفِكَاكِ، وَدَعْوَاهُ الْهَلَاكَ قَبْلَ الرَّهْنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَضْتُ مِنْكَ الْمَالَ وَأَعْطَيْتُكَ الثَّوْبَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ أَقْبَضْتُكَ الْمَالَ وَهَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَك، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إيفَاءُ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ يَنْفِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَعْطَيْتُكَ الثَّوْبَ، وَتَرْجِيحُ الثِّيَابِ بِالْإِثْبَاتِ أَصْلٌ فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ عَارِيَّةً فَقَالَ: رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ أَنْ تَرْهَنَهُ بِخَمْسَةٍ وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: بِعَشَرَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ وَحَاجَتِهِ إلَيْهِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَرْهَنَهُ بِأَلْفٍ فَرَهَنَهُ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ كَالدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ لِيَصِيرَ قِصَاصًا فَعَلَيْهِ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى إلَى الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ هَذَا الْقَدْرِ لَهُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ كَسَلَامَتِهِ لَهُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَنْهُ فَإِنْ رَهَنَهُ وَأَخَذَ الْأَلْفَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْغَيْرُ جَازَ عِتْقُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَبْدِ بِمَدِّ الرَّهْنِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي إعْتَاقِ الرَّاهِنِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَالِ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُعِيرُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلرَّهْنِ بِالْإِعْتَاقِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهِ عَلَى رَبِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ بِرِضَاءِ الْمُعِيرِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ بِإِعْتَاقِهِ فَهُوَ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْبِضَ دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 160 ثُمَّ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ وَلَكِنَّ الرَّاهِنَ أَقَرَّ أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ مَاتَ عِنْدَهُ وَادَّعَى ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ، وَكَذَلِكَ الْمُعِيرُ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ يُصَدَّقُ عَلَى قَبْضِهِ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ قَدْ أَقَرَّ بِبَقَاءِ دَيْنِهِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا فَقَبَضَهُ الرَّاهِنُ ثُمَّ قَالَ: اعْوَرَّ عِنْدِي، وَلَمْ أُعْطِهِ الْمَالَ بَعْدُ، وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُوبِ جَمِيعِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَوْ قَضَى الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ الْمَالَ وَبَعَثَ وَكِيلًا يَقْبِضُ الْعَبْدَ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ الْمُسْتَعِيرُ أَيْضًا لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِنْ عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، فَيَدُ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي حِفْظِ الْأَمَانَةِ كَيْدِهِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَرَهَنَهُ بِأَمْرِهِمَا عِنْدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَضَى نِصْفَ الْمَالِ وَقَالَ: هَذَا فِكَاكٌ مِنْ نَصِيبِ فُلَانٍ خَاصَّةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَبْدِ مَرْهُونٌ بِالدَّيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ الْقِيمَةَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَقَالَ: نَصِيبُ فُلَانٍ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَنَصِيبُ فُلَانٍ بِنِصْفِ الْمَالِ، لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَهُوَ فِي الِانْتِهَاءِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ يُرِيدُ إبْطَالَ الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَهَنَهُ بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ قَضَى الْمَالَ، وَهَلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ يَرُدُّهَا عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ، قَالَ عِيسَى (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): هَذَا خَطَأٌ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ: أَنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ، وَالْمُرْتَهِنَ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ لِلرَّاهِنِ لِمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِيفَاءُ الَّذِي انْعَقَدَ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى بِإِيفَائِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الرَّاهِنِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَالرَّاهِنُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمِلْكِ الْمُعِيرِ، فَيَقُومُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الْحَاكِمُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَدَّاهُ، فَقَوْلُهُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ - ضَمَانُ الْقِيمَةِ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ خِلَافٌ يَتْرُكُ اسْتِرْدَادَ الرَّهْنِ مَعَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَرَدَّهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ يَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْخِلَافِ بِالتَّسْلِيمِ لِلْأَجْنَبِيِّ، قَالَ: وَرَأَيْتُ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ: الْمُرْتَهِنُ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ يَرُدُّهَا عَلَى الرَّاهِنِ وَيَرُدُّهَا الرَّاهِنُ عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، كَمَا قَالَ عِيسَى. وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدَ الرَّهْنِ أَوْ دَابَّتَهُ فَاسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهَا بِمَالٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِمَا ثُمَّ قَضَى الْمَالَ وَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَمِينًا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 161 أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا خَالَفَ بِمُجَاوَزَةِ الْمَكَانِ لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِلْ الْعَيْنُ إلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا مُسْتَعِيرٌ قَدْ خَالَفَ، فَكَيْفَ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ قَبْلَ وُصُولِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ كَيَدِ نَفْسِهِ، فَبِالْعَوْدِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ لَا يَصِيرُ أَدَاءً لِلْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا بِخِلَافِ الْمُودِعِ، فَإِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمَالِكِ، فَبِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ يَصِيرُ أَدَاءً عَلَيْهِ حُكْمًا وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ (الْوَدِيعَةِ) لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْمُعِيرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ دَيْنُهُ نَقْضًا فَيَسْتَوْجِبُ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمِثْلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِ حُكْمًا فَلِهَذَا بَرِئَ بِهِ مِنْ الضَّمَانِ قَالَ: وَالْمَالُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعِيرِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: وَالْمَالُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمُعِيرُ، وَقِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَظَهَرَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الرَّهْنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْتَوْفَى ثَانِيًا عَلَى مَنْ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ، وَهُوَ الرَّهْنُ، وَيَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ لِمَا صَارَ قَاضِيًا مِنْ دَيْنِهِ بِمِلْكِهِ وَلَوْ قَبِلَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ رَكِبَ الدَّابَّةَ أَوْ اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْطَبْ فِي الرُّكُوبِ وَالْخِدْمَةِ، ثُمَّ عَطِبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفِكَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ، لَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُودِعُ إذَا خَالَفَ ثُمَّ تَرَكَ الْخِلَافَ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ أَمَةً لِيَرْهَنَهَا فَرَهَنَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ يَدْرَأُ لَهُ الْحَدُّ عَنْهُمَا أَمَّا الْمُرْتَهِنُ، فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَبْدِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ وَأُطْلِقَ الْجَوَابُ هُنَا، وَفُسِّرَ فِي (كِتَابِ الْحُدُودِ) فَقَالَ: إذَا قَالَ: ظَنَنْتُهَا تَحِلُّ لِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَمِلْكُ الْيَدِ الثَّابِتِ لِلْمُرْتَهِنِ هُنَاكَ كَمِلْكِ الْيَدِ لِلزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ فِي حَقِّ الْمَكَانَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يُسْقِطُ الْحَدَّ إذَا قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا الرَّاهِنُ وَقَالَ: ظَنَنْتُهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهَا نَظِيرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَهُ حَقُّ إيفَاءِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّتِهَا، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهَا، فَكَمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ عَنْ الرَّاهِنِ وَيَكُونُ الْمَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ، وَالْمَهْرُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَوْفَى وَالْمُسْتَوْفَى فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا، فَإِذَا افْتَكَّهَا الرَّاهِنُ سَلَّمَتْ الْأَمَةُ مَهْرَهَا لِمَوْلَاهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ، وَلَوْ وَهَبَ لَهَا هِبَةً أَوْ اكْتَسَبَتْ كَسْبًا، فَذَلِكَ لِمَوْلَاهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى هِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّهَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ لِلْمُعِيرِ، فَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ وَالْكَسْبُ يَكُونُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 162 [بَابُ رَهْنِ الْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ارْتَهَنَ أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ وَشَجَرٌ وَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَسَقْيُ النَّخْلِ، وَالشَّجَرِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ سَقْيَ النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ عَلْفِ الدَّوَابِّ، وَنَفَقَةِ الْمَالِكِ؛ لِيَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا، فَيَكُونُ عَلَى الرَّاهِنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَإِنْ أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَجَعَلَهُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةَ النَّخِيلِ وَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَافِظٌ لَهَا وَبِحَقِّ الْحِفْظِ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ حِفْظِ الْعَيْنِ إلَّا بِأَمْرِ الرَّاهِنِ أَوْ بِأَمْرِ الْقَاضِي إنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ، وَبَيْعَ مَا يَخَافُ الْفَسَادُ عَلَى عَيْنِهِ مِنْ النَّظَرِ. وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ، وَالدَّارِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ، كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ ثَمَرُ النَّخِيلِ، وَالشَّجَرِ، وَزَرْعُ الْأَرْضِ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِقَصْدِهِمَا إلَى تَصْحِيحِ الرَّهْنِ، وَقِلَّةُ الضَّرَرِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي دُخُولِهِمَا فِيهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا سَبَقَ. وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ الْعُشْرَ مِنْ الْغَلَّةِ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الرَّاهِنِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الرَّهْنُ فِيمَا يَبْقَى؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعُشْرِ مِنْ الْغَلَّةِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ السُّلْطَانُ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ أَدَّى الْعُشْرَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ جَازَ فَصَحَّ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ خَرَجَ هَذَا الْجُزْءُ بِأَخْذِ السُّلْطَانِ وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ الشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ قَارِنًا وَلَا مُقَارَنًا، وَلَوْ أَخَذَ السُّلْطَانُ الْعُشْرَ مِنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَرْجِعْ الرَّاهِنُ فِي غَلَّةِ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْكُلِّ صَحِيحٌ لِمُصَادَفَةِ الْعَقْدِ مِلْكَهُ، وَلَوْ أَخَذَهَا الْمُرْتَهِنُ فَأَدَّى عُشْرَهَا أَوْ خَرَاجَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَطَوُّعَ بِالْأَدَاءِ فَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَدَّى وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ ظَالِمٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ شَيْءٌ، وَالْمَظْلُومُ لَا يَرْجِعُ إلَّا عَلَى الظَّالِمِ. وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ الْمَرْهُونَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ مِنْهُ بِالْمَرْهُونِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاجِرُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَمْلِيكِ مَنْفَعَتِهَا مِنْ غَيْرِهِ بِبَدَلٍ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِجَارَةِ يُوجِبُ لِلْغَيْرِ حَقًّا لَازِمًا، وَفِي تَصْحِيحِهَا إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِدَامَةِ الْيَدِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَالْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ بَدَلًا عَنْ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ لَا يَزْرَعُهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ فَلَا يَزْرَعُهَا وَلَا يُؤَاجِرُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْ الْأَرْضِ وَتَصَدَّقَ بِالْأَجْرِ إنْ أَجَّرَ، وَيُفْصَلُ الزَّرْعُ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ، فَلِأَنَّهُ بِالزِّرَاعَةِ مُتْلِفٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 163 جُزْءًا مِنْهَا. وَأَمَّا التَّصَدُّقُ فَلِأَنَّهُ فَصْلٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي الْإِجَارَةِ فَفَعَلَ، أَوْ سَلَّمَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ يَرْهَنَ فَفَعَلَ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ، وَلَا يَعُودُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَيُسْتَحَقُّ بِهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ، وَالرَّهْنُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الشَّيْءَ يَنْقُصُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ الْعَقْدِ الثَّانِي بُطْلَانُ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَعَادَهَا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَقَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ مَا دَامَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ خُرُوجَهَا مِنْ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ خُرُوجَهَا مِنْ الضَّمَانِ الثَّابِتِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا تَبْقَى يَدُ الْمُرْتَهِنِ، وَضَمَانُ الرَّاهِنِ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا عَقْدُ الرَّهْنِ فَبَاقٍ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا لَازِمًا لِلْمُسْتَعِيرِ، وَالشَّيْءُ لَا يُنْقِصُهُ مَا هُوَ دُونَهُ، فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ الْحَقُّ الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مَتَى شَاءَ. وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ الْوَلَدُ رَهْنًا مَعَهَا، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُمَا لِمَا، قُلْنَا وَكَذَلِكَ إنْ زَرَعَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ بِإِذْنِهِمَا فَالْإِعَارَةُ لَا تَلْزَمُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ، كَمَا كَانَ قَبْلَهَا. وَلَوْ ارْتَهَنَ أَرْضًا فَغَرِقَتْ وَغَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ حَتَّى جَرَتْ فِيهَا السُّفُنُ، وَصَارَتْ نَهْرًا لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا وَلَا يَنْحَسِرَ عَنْهَا الْمَاءُ فَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَالِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَبِفَوَاتِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ إنَّمَا يُطَالِبُ الرَّاهِنَ بِالدَّيْنِ إذَا قَدَرَ عَلَى تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، كَمَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَبَقَ، فَإِنْ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا فَهِيَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا عَادَتْ بِصَيْرُورَتِهَا مُنْتَفَعًا بِهَا، كَمَا كَانَتْ وَإِنْ أَفْسَدَ مِنْهَا شَيْئًا ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ رَهْنِ الرَّجُلَيْنِ وَارْتِهَانِهِمَا] (بَابُ رَهْنِ الرَّجُلَيْنِ وَارْتِهَانِهِمَا) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا: دَنَانِيرُ وَلِلْآخَرِ: دَرَاهِمُ، أَوْ حِنْطَةٌ، أَوْ غَيْرُهُمَا فَرَهَنَهُمَا بِذَلِكَ رَهْنًا وَاحِدًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، كَالْوَاحِدِ مِنْ الدَّيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَهُوَ نَظِيرُ قِصَاصٍ يَجِبُ لِجَمَاعَةٍ عَلَى شَخْصٍ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 164 فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الشُّيُوعُ فِي الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ قَضَى أَحَدَهُمَا مَالَهُ لَمْ يَأْخُذْ الرَّهْنَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّانِي مَالَهُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ تَلِفَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ اسْتَرَدَّ الَّذِي قَضَاهُ مَا أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ نِصْفِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنَّ فِي الرَّهْنِ وَفَاءً بِدَيْنِهِمَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ ثَانِيًا، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ يَتَقَرَّرُ حُكْمُ ضَمَانِ الرَّهْنِ وَلَا يَبْطُلُ مَا لَمْ يَعُدْ الرَّهْنُ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ دَارًا بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الرَّهْنِ إنَّمَا الشُّيُوعُ فِي مِلْكِ الرَّاهِنَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْمَالِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنْ الدَّارِ حَتَّى يَقْضِيَ صَاحِبُهُ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الدَّيْنِ وَقَدْ رَضِيَا فَذَلِكَ دَيْنٌ أَوْجَبَا لَهُ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً. وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَرَهَنَاهَا مِنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِمَا مَالٌ وَأَحَدُهُمَا شَرِيكٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَالْمَالُ مُتَفَرَّقٌ لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَاهِنًا لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا بِشَيْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ وَبُطْلَانُ الرَّهْنِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ شَائِعٍ يُبْطِلُ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِهَا. وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ أَرْضًا، أَوْ دَارًا وَلِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهَا وَقَبَضَ فَهُوَ جَائِزٌ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَثُبُوتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الْكُلِّ وَانْتِفَاءِ الشُّيُوعِ عَنْ الْمَحَلِّ فِي مُوجِبِ الرَّهْنِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ دَيْنَهُمَا سَوَاءٌ فَصَاحِبُ الْكَبِيرِ كَالْمُعِيرِ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَرْهَنَهُ مَعَهُ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ وَالرَّاهِنُ اثْنَيْنِ، فَرَهَنَاهُمَا دَارًا وَجَعَلَاهَا أَثْلَاثًا أَوْ نِصْفَيْنِ مِنْ قِبَلِ أَيِّهِمَا وَقَدْ فَصَلَا بَعْضَ الرَّهْنِ مِنْ بَعْضٍ مَعْنَاهُ: أَنْ يُفَرِّقَ التَّسْمِيَةَ فِيمَا أَوْجَبَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْعِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِهِ أَوْ يُوجِبُ ذَلِكَ تَفْرِيقُ التَّسْمِيَةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَبِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ يَتَمَكَّنُ الشُّيُوعُ فِي مَحِلٍّ فِيمَا أَوْجَبَاهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلِلْآخَرِ أَلْفَا دِرْهَمٍ عَلَى حِدَةٍ فَرَهَنَاهُمَا الدَّارَ جَمِيعًا كَانَ جَائِزًا، وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ يَعْنِي مِقْدَارَ مَا صَارَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا حَقُّ الْحَبْسِ فَثَبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْجَمِيعِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَالشُّيُوعُ فِي الضَّمَانِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جِنْسُ الْمَالَيْنِ مُخْتَلِفًا فَبِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَالِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْهُمَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ فَوَرِثَهُ الْآخَرُ، فَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 165 الْمَيِّتِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ نَصِيبُهُ فِي حَيَاتِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا شَارَكَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ فِي الرَّهْنِ وَنَقَضَاهُ، وَهُوَ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ انْعَقَدَ بِالْقَبْضِ، وَالدَّيْنُ يَبْقَى شَائِعًا بَيْنَهُمَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَكَمَا أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الرَّدِّ فَإِنْ بَدَا لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْلِكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الرَّدِّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الرَّدِّ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ فَبِهِ تَتِمُّ الْمُعَادَلَةُ، وَإِنْ بَدَا لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتْرُكَهُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْفَسْخِ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَبَعْدَهُ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا رَدَّ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الرَّدِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي الْجَمِيعِ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّ نَصِيبِهِ بَطَلَ بِهِ الرَّهْنُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ، كَالشُّيُوعِ الْمُقَارَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إلْحَاقِهِ بِالضَّرَرِ بِالْعَيْنِ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ رِضَا الرَّاهِنِ بِذَلِكَ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَمْ نَرْتَهِنْ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ قَدْ ارْتَهَنَّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَقَالَ الرَّاهِنُ لَمْ أَرْهَنْهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الدَّعْوَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ، أَوْ مُفَاوَضَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَاَلَّذِي كَانَ رَهْنًا فَنَقَضَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ فِي الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَجُوزُ نَقْضُ أَحَدِهِمَا عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ شَرِيكِهِ فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ فَقَدْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ وَمَعَ إكْذَابِهِ يَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِالرَّهْنِ فِي نَصِيبِهِ فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ. وَلَوْ كَانَا شَرِيكَيْ عَنَانٍ فَرَهَنَا جَمِيعًا رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَهُ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ فِي نَقْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرَّهْنَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ لَا تَتَضَمَّنُ إلَّا الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ نَقَضَهُ، وَقَبَضَهُ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ ضَامِنًا لِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يَنْتَقِضْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا بِرَدِّ حِصَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِمَالِهِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ الَّتِي ضَمِنَ عَلَى الَّذِي قَبَضَ مِنْهُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّهِ، وَالْغَاصِبُ الْأَوَّلُ إذَا ضَمِنَ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي، فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ عِيسَى: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يَرْجِعَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 166 الْمُرْتَهِنُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَمُودِعِ الْغَاصِبِ، فَإِذَا مَلَكَ الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ كَانَ مُسَلِّمًا مِلْكَ نَفْسِهِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ طَوْعًا، وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِ الْقَابِضِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ادَّعَى الْوَكَالَةَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَدَفَعَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْغُرُورِ الْمُمْكِنِ مِنْ جِهَتِهِ بِدَعْوَاهُ الْوَكَالَةَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ أَنَّ حَالَةَ الشَّرِكَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا تُوهِمُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ جَوَازَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا لَهُ فِي حَقِّهِمَا، فَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامُ الْغُرُورِ الَّذِي يُمْكِنُ بِادِّعَاءِ أَحَدِهِمَا الْوَكَالَةَ، فَكَمَا يَرْجِعُ هُنَاكَ بِمَا ضَمِنَ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ثُمَّ نَقَضَ الرَّهْنَ وَقَبَضَهُ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنَ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَهَنَهُ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلرَّهْنِ إذَا نَقَضَ الرَّهْنَ وَاسْتَرَدَّ الْعَيْنَ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ كَانَ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ] (بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِنَّ الْبَاقِيَ يَكُونُ رَهْنًا بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ مَشْغُولٌ بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ، فَالنِّصْفُ الَّذِي هُوَ مَشْغُولٌ مِنْ الْقَاتِلِ جَنَى عَلَى نِصْفٍ شَائِعٍ مِنْ الْمَقْتُولِ نِصْفُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْغُولٌ وَنِصْفُهُ مِمَّا هُوَ فَارِغٌ، وَكَذَلِكَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ فَارِغٌ مِنْ الْقَاتِلِ جَنَى عَلَى نِصْفٍ شَائِعٍ مِنْ الْمَقْتُولِ نِصْفُهُ مِنْ الْمَشْغُولِ وَنِصْفُهُ مِنْ الْفَارِغِ، وَجِنَايَةُ الْفَارِغِ هَدَرٌ، وَجِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ هَدَرٌ، وَجِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، كَمَا كَانَا قَبْلَهُ، وَجِنَايَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ عَلَى الْآخَرِ خَطَأٌ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ نَفْسُ الْجَانِي مِلْكًا، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ الْجِنَايَةُ لَاسْتَحَقَّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ وَهَذَا لَغْوٌ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ لِحَقِّ الرَّاهِنِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَمْيِيزَ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ كَانَ لِثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (أَلَا تَرَى): أَنَّ جِنَايَةَ الرَّاهِنِ عَلَى الْمَرْهُونِ تُعْتَبَرُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مِلْكِ الرَّاهِنِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْفَارِغِ لَوْ اُعْتُبِرَتْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِحَقِّ الرَّاهِنِ إذْ لَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَحَلِّ الْمَجْنِيِّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 167 عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِيفَاءُ، فَلَا يُعْتَبَرُ، وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ غَيْرُ مُفِيدٍ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْقُطَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي أَحَدِهِمَا أَمَّا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إذَا جُعِلَ فَائِتًا لَا إلَى بَدَلٍ. وَأَمَّا الْجَانِي إذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ، فَإِنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَصِيرُ تَاوِيًا، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَجِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ لَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّهِ كَانَ هَدَرًا، وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ لَوْ اُعْتُبِرَتْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِحَقِّ الرَّاهِنِ، فَالْمُرْتَهِنُ يَتَصَوَّرُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُعْتَبَرْ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ سَقَطَ بَعْضُ دَيْنِهِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ. وَأَمَّا جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَفِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَائِتًا لَا إلَى بَدَلٍ فَيَسْقُطُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ دَفَعَ الْجَانِي بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَيَتَحَوَّلُ مَا كَانَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْجَانِي؛ لِفَوَاتِ الْمَشْغُولِ إلَى خَلْفٍ، فَإِذَا ظَهَرَ اعْتِبَارُ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ قَامَ هَذَا الرُّبْعُ مِنْ الْجَانِي مَقَامَ ذَلِكَ الرُّبْعِ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيَتَحَوَّلُ مَا كَانَ فِيهِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ إلَى الْجَانِي وَقَدْ كَانَ فِيهِ خَمْسُمِائَةٍ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، فَتَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَيَسْقُطُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ حِصَّةُ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ هَدَرٌ، فَيَكُونُ كَالْهَالِكِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ وَإِذَا أَرَدْتَ اخْتِصَارَ هَذَا الْكَلَامِ قُلْتَ السَّبِيلُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مِقْدَارِ الْفَارِغِ مِنْ الْجَانِي، فَيَتَحَوَّلُ مِمَّا كَانَ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَدْرُ ذَلِكَ إلَى الْجَانِي إنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَالثُّلُثُ وَإِنْ كَانَ رُبْعًا فَالرُّبْعُ، وَإِنْ كَانَ عُشْرًا فَالْعَشْرُ وَأَبُو يُوسُفَ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ حُكْمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْجَانِي كَذَلِكَ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ لِمَعْنَى الشُّيُوعِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَكِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ الْبَاقِي سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالْمَفْقُوءُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ بِذَهَابِ الْعَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ تَلِفَ نِصْفُ نِصْفِهِ، وَبَقِيَ النِّصْفُ، فَإِنَّمَا يَبْقَى فِيهِ نِصْفُ مَا كَانَ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَاَلَّذِي كَانَ فِي الْعَيْنِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَنِصْفُ الْجَانِي فَارِغٌ فَيَتَحَوَّلُ بِحِسَابِ ذَلِكَ إلَى الْجَانِي بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَيُجْمَعُ فِي الْفَاقِئِ سِتُّمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلَا يَفْتَكُّهُمَا إلَّا جَمِيعًا؛ لِاتِّحَادِ الْعَقْدِ فِيهِمَا وَلَوْ أَنَّ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ فَقَأَ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنَ الْفَاقِئِ بَقِيَ فِي الْفَاقِئِ الْأَوَّلِ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفُ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ فَاتَ بِفَقْءِ الْعَيْنِ، وَقَدْ كَانَ الدَّيْنُ فِيهِ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَبَعْدَ فَوَاتِ النِّصْفِ إنَّمَا يَبْقَى فِيهِ نِصْفُ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 168 ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ، وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَلَحِقَ الْفَاقِئُ الْآخَرُ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ وَرُبْعٌ؛ لِأَنَّ الْفَاقِئَ الْآخَرَ نِصْفُهُ فَارِغٌ بِاعْتِبَارِهِ يَتَحَوَّلُ نِصْفُ مَا كَانَ فِي عَيْنِ الْمَفْقُوءِ إلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ وَاَلَّذِي كَانَ فِي الْعَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ يَسْقُطُ وَيَلْحَقُ الْفَاقِئُ الْآخَرُ نِصْفُهُ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ وَرُبْعٌ مَعَ الْمِائَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ الَّتِي كَانَتْ بَقِيَتْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَأَ عَيْنَ الْآخَرِ مِمَّا ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ رُبْعُهُ، وَبَقِيَ فِي عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ فِي عَيْنَيْ الْفَاقِئِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ يَتَحَوَّلُ نِصْفُ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَى الْجَانِي بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ وَيَسْقُطُ نِصْفُهُ حِصَّةُ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَإِنَّمَا يَسْقُطُ مِمَّا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: رُبْعُ خَمْسِمِائَةٍ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونًا مِنْ الْحَاصِلِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ خَمْسِمِائَةٍ. وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَتَيْنِ قِيمَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنْتًا تُسَاوِي أَلْفًا، وَالدَّيْنُ أَلْفٌ، فَقَتَلَتْ إحْدَى الِاثْنَتَيْنِ صَاحِبَتَهَا لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ مَمْلُوكَةٌ لِلرَّاهِنِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِحَقِّ الرَّاهِنِ، وَلَا مَنْفَعَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ إحْدَاهُمَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْمَقْتُولَةِ بَقِيَتْ الْقَاتِلَةُ وَأُمُّهَا: بِسِتِّمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ، وَنِصْفُ الْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَالْبِنْتُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ وَبِمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ وَنِصْفٍ مِمَّا لَحِقَهَا مِنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لَمَّا وَلَدَتْ انْقَسَمَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَتِهَا، وَعَلَى قِيمَةِ الْبِنْتِ، فَكَانَ فِي الْبِنْتِ الْمَقْتُولَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَفِي أُمِّهَا مِثْلُ ذَلِكَ وَفِي الْبِنْتِ الْقَاتِلَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَلَمَّا قَتَلَتْ إحْدَى الِاثْنَتَيْنِ الْأُخْرَى نَظَرْنَا إلَى مِقْدَارِ الْفَارِغِ مِنْ الْقَاتِلَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا أَلْفٌ وَفِيهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَتَحَوَّلَ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ فِي الْمَقْتُولَةِ إلَى الْقَاتِلَةِ، وَاَلَّذِي كَانَ فِي الْمَقْتُولَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَنِصْفٌ تَحَوَّلَ ذَلِكَ إلَى الْقَاتِلَةِ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَرُبْعُ ذَلِكَ كَانَ عَادَ إلَى أُمِّ الْمَقْتُولَةِ؛ لِفَوَاتِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ وَلَدِهَا لَا إلَى خَلْفٍ، وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا مَعَ مَا بَقِيَ فِيهَا؛ فَلِهَذَا افْتَكَّ الْقَاتِلَةَ مَعَ أُمِّهَا بِسِتِّمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ، وَنِصْفٍ وَلَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا التَّوْزِيعُ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّ الْمَقْتُولَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ إذَا جَاءَ أَوْ أَنَّ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّ الْمَقْتُولَةِ، سَوَاءٌ جُعِلَتْ الْمَقْتُولَةُ فَائِتَةً لَا إلَى بَدَلٍ أَوْ الْقَاتِلَةُ لَمْ يَسْقُطْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 169 شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ إشْكَالٍ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي فِي أُمِّ الْمَقْتُولَةِ إنَّمَا انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَلَدِ عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ، وَلَمْ يَبْقَ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَقْتُولَةِ هَلَكَ، وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا وَهُوَ مَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ، وَبِجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْفَارِغِ، وَبِجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَخْرِيجُ الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ الْمَشْغُولَ مِنْ الْمَقْتُولِ رُبْعُهَا؟ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَاَلَّذِي تُخُيِّلَ لِي بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ جِنَايَةَ الْقَاتِلَةِ عَلَى الْمَقْتُولَةِ فِيمَا جُعِلَ هَدَرًا يَكُونُ كَجِنَايَةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ هَدَرٌ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ مِلْكِهِ، وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُ الْمَمْلُوكِ كَفِعْلِ الْمَالِكِ وَلِأَجْلِهِ جُعِلَ هَدَرًا، وَفِعْلُ الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْفِكَاكِ فَيَتِمُّ بِهِ ذَلِكَ الِانْقِسَامُ، وَلَا يَبْطُلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَمَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ مِنْ أَصْلِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ، فَيَكُونُ هَذَا كَجِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى وَدِيعَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْعَيْنِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ إذَا تَقَرَّرَ، فَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْغَاصِبِ إذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا، فَأَمَّا ضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَيْنِ، فَكَحُكْمِ الْأَمَانَةِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ تَقَرُّرَ هَذَا الضَّمَانِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ جِنَايَتَهُ حَصَلَتْ عَلَى عَبْدٍ غَيْرِ مَالِكِهِ؛ فَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ إلَّا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا. وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: بِخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، وَارْتَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَا الْقَاتِلَ مَكَانَ الْمَقْتُولِ، وَبَطَلَ مَا كَانَ فِي الْقَاتِلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَيَا الْقَاتِلَ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ، وَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْقِيمَةُ هُنَا مَكَان الْمَقْتُولِ، وَكَانَ الْقَاتِلُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ رَهْنٌ عَلَى حِدَةٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَفَرِّقَةٌ وَالدَّيْنَ مُخْتَلِفٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْبُوسٌ بِغَيْرِ مَا كَانَ الْآخَرُ مَحْبُوسًا بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ جِنْسُ الدَّيْنِ مُخْتَلِفًا: بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَ جِنْسُ الْمَالَيْنِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ أَدَّى مَا عَلَى أَحَدِهِمَا مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْتَكَّهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونًا عِنْدَ رَجُلٍ آخَرَ، فَاعْتِبَارُ جِنَايَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الْمَرْهُونِ عَلَى عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ جِنَايَةِ عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 170 عَلَى الْمَرْهُونِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الْآخَرُ مَحْبُوسٌ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا، مِثْلَ الدَّيْنِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ جِنَايَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ هَلْ تُعْتَبَرُ؟ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ لِتَفَرُّقِ الْعَقْدِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -): لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ جِنْسُ الدَّيْنِ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، وَلَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ الْجِنَايَةُ سَقَطَتْ الْأَلْفُ الَّتِي فِي الْمَقْتُولِ؛ لِفَوَاتِهِ لَا إلَى خَلْفٍ، وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ سَقَطَتْ الْأَلْفُ الَّتِي فِي الْقَاتِلِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ، وَلَا فَائِدَةَ لِلْمُرْتَهِنِ يَكُونُ السَّاقِطُ مِنْ دَيْنِهِ هَذَا الْأَلْفُ دُونَ تِلْكَ الْأَلْفِ فَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَاعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ فِي حِصَّةِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ قَامَ الْقَاتِلُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَخَلَا مَكَانُ الْقَاتِلِ، فَيَصِيرُ هُوَ فِي مَعْنَى الْهَالِكِ يَسْقُطُ مَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَتَحَوَّلُ إلَيْهِ مَا كَانَ فِي الْمَقْتُولِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَنِصْفُ الْقَاتِلِ مَضْمُونٌ فَحِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الْفِدَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَنِصْفُهُ أَمَانَةٌ وَحِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الْفِدَاءِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَيَغْرَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، فَيَكُونُ بِمَا كَانَ رَهْنًا فِي الْمَقْتُولِ، وَقَدْ فَرَغَ الْقَاتِلُ مِنْ الْجِنَايَةِ، فَيَبْقَى رَهْنًا عَلَى حَالِهِ وَلَوْ كَانَ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ قِيلَ لَهُمَا: ادْفَعَاهُ أَوْ افْدِيَاهُ بِأَرْشٍ عَلَى الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ دَفَعَاهُ فَقَدْ خَلَا مَكَانُ الْجَانِي فَيَبْطُلُ مَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَإِنْ فَدَيَاهُ كَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَكَانَ الْجَانِي رَهْنًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْفِدَاءُ رَهْنًا مَعَ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ فَاتَ إلَى خَلْفٍ فَيَبْقَى الدَّيْنُ الَّذِي فِيهِ تَبَعًا لِلْخَلْفِ فَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أُبْقِي الْجِنَايَةَ وَأَدَعُ الرَّهْنَ عَلَى حَالِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذِهِ الْجِنَايَةِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ الْعَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ الرَّاهِنِ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ لَمْ تُعْتَبَرْ الْجِنَايَةُ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَيْنَ ذَهَبَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَيَسْقُطُ نِصْفُ مَا كَانَ فِي الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ الْجِنَايَةَ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا أَفْدِيهِ، وَقَالَ: الْمُرْتَهِنُ لَا أَفْدِي وَلَكِنِّي أَخْتَارُ الدَّفْعَ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْدِيَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَلَا يُمْكِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إبْطَالُ هَذَا الْخِيَارِ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ فِي اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ الْفِدَاءَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا فَدَاهُ بِأَرْشِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 171 الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ ذَلِكَ غُرْمًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالرَّاهِنُ غَيْرُ مُتَطَوِّعٍ فِي هَذَا الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ بِهِ مِلْكَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ، فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْفِدَاءِ غُرْمًا لَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي فَيَبْطُلُ مِنْ حَقِّهِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي نِصْفُهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ فِي هَذَا النِّصْفِ، وَيَبْقَى الْجَانِي رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَالْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ مَعَ الْفِدَاءِ رَهْنًا بِمَا كَانَ فِيهِ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَفْدِيَ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَنَا أَفْدِي بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فَدَى وَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِيهِ لَا يَلْحَقُ الرَّاهِنُ مِمَّا فَدَى مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِفِدَاءِ مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ: نِصْفُ ذَلِكَ الْفِدَاءِ دَيْنًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا وَأَصْلُهُ فِي جِنَايَةِ الْمَرْهُونِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ فَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَرْشٌ، وَهَذَا مِثْلُ بَلَاءٍ نَزَلَ بِهِ مِنْ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ - حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا - وَكَأَنَّهُ مَاتَ أَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ مَرْهُونًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ سَقَطَ بِذَهَابِ عَيْنِهِ نِصْفُ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ نِصْفِ قِيمَتِهِ سَقَطَ بِذَهَابِ عَيْنِهِ رُبْعُ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ بِنْتًا تُسَاوِي أَلْفًا فَجَنَتْ الْبِنْتُ فَدُفِعَتْ بِهَا لَمْ يَبْطُلْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ خَلَا مَكَانُهَا بِالدَّفْعِ، فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ، فَإِذَا فَقَأَتْ الْأُمُّ عَيْنَ الْبِنْتِ، فَدُفِعَتْ الْأُمُّ وَأُخِذَتْ الْبِنْتُ فَهِيَ: رَهْنٌ بِأَلْفٍ كَامِلَةٍ مَكَانَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ لَمَّا دُفِعَتْ بِالْجِنَايَةِ صَارَتْ كَأَمَةٍ أُخْرَى لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَتُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْأُمِّ عَلَيْهَا لِحَقِّ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَلِهَذَا تُدْفَعُ الْأُمُّ بِرِضَا الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَتُؤْخَذُ الْبِنْتُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ، ثُمَّ الْبِنْتُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ مَكَانَ الْأُمِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ نُقْصَانُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ، وَتَكُونُ الْبِنْتُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا فَقَأَتْ عَيْنَ عَبْدٍ آخَرَ، فَدُفِعَتْ وَأُخِذَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَانِي حِينَ أُخِذَ بِدَفْعِ الْجَانِي، فَكَأَنَّ الْأَمَةَ مَرْهُونَةٌ بِمَا فِيهَا وَذَهَبَتْ عَيْنَاهَا فَيَسْقُطُ نُقْصَانُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إنَّمَا قَامَ مَقَامَ الْجَانِي عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ دُفِعَتْ بِفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ، فَلَا يَسْتَنِدُ الدَّفْعُ وَالْأَخْذُ إلَى مَا قَبْلَ الْفَقْءِ فَتَبَيَّنَ: أَنَّ الْمَأْخُوذَ قَامَ مَقَامَ الْمَدْفُوعِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي عَيْنِهِ، فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَهَبَتْ عَيْنَا الْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْبِنْتُ مَاتَتْ بِجَمِيعِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 172 الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ أُمِّ الْمَدْفُوعَةِ وَبِمَوْتِهَا كَانَ يَسْقُطُ جَمِيعُ الدَّيْنِ، فَلِذَلِكَ يَمُوتُ مَنْ قَامَ مَقَامَهَا، فَإِنْ فَقَأَتْ الْبِنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنَيْ الْأُمِّ فَدُفِعَتْ وَأُخِذَتْ الْأُمُّ عَمْيَاءَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ الْبِنْتِ الْمَدْفُوعَةِ، وَلَكِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ وَنَجْعَلُ الرَّهْنَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ عَادَ إلَى حَالِهِ فَيَذْهَبُ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْ الْعَيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ كَانَ فِي الْأُمِّ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَعَادَ إلَيْهَا الْمَالُ فَسَقَطَ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوَائِدِ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَرْهُونَةً إلَى الْآنَ، وَذَهَبَتْ عَيْنَاهَا وَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): فِي الْقِيَاسِ: يَتَحَوَّلُ إلَى الْأُمِّ مَا زَادَ عَلَى نُقْصَانِ عَيْنَيْ الْبِنْتِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَتَوَزَّعُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْأُمِّ، وَعَلَى نُقْصَانِ عَيْنِهَا، فَتَسْقُطُ حِصَّةُ نُقْصَانِ الْعَيْنَيْنِ، وَتَكُونُ هِيَ مَرْهُونَةٌ بِمَا بَقِيَ. وَإِذَا اسْتَعَارَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَلْفٌ فَرَهَنَهُمَا بِأَلْفٍ فَفَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ ثُمَّ إنَّ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ فَقَأَ عَيْنَ الْفَاقِئِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَفْتَكُّ الْعَبْدَيْنِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ: حُكْمٍ بَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُرْتَهِنِ فِيمَا يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ وَمَا بَقِيَ، وَحُكْمٍ بَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُعِيرِينَ فِيمَا يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ عَلَيْهِ، وَحُكْمٍ بَيْنَ الْمُعِيرِينَ، أَمَّا الَّذِي بَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُرْتَهِنِ فَيَقُولُ: رَهْنُ الْعَبْدَيْنِ مِنْهُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى مِلْكِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَوَّلِ الْبَابِ: حِينَ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ تَحَوَّلَ إلَى الْفَاقِئِ مِثْلُهُ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَصَارَ الْفَاقِئُ مَرْهُونًا بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، فَلَمَّا فَقَأَ الْآخَرُ عَيْنَهُ فَقَدْ فَاتَ نِصْفُهُ فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ، وَنِصْفٌ، وَسَقَطَ نِصْفُ ثَلَثِمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَهُوَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ وَرُبْعٌ تَحَوَّلَ مِثْلُهُ إلَى الْفَاقِئِ فَكَانَ السَّاقِطُ مِنْ الدَّيْنِ مَرَّةً مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ وَرُبْعًا، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَاحِدٌ وَثَمَانُونَ، وَرُبْعٌ بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ سَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَيَقْبَلُهُمَا بِهَذَا. وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي بَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُعِيرِينَ فَهُوَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا صَارَ قَاضِيًا بِمِلْكِ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أَوَّلًا: مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَيَغْرَمُ لَهُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ وَيَمْلِكُ مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أَخِيرًا مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ وَرُبْعًا فَيَغْرَمُ لَهُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي بَيْنَ الْمُعِيرِينَ: فَإِنَّهُ يُجْبِرُ مَوْلَى الْعَبْدِ الْفَاقِئِ أَوَّلًا بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ عَلَى عَبْدٍ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ عَبْدِكَ أَوْ افْدِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أَرْشِ عَيْنِ الْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الرُّبْعِ مِنْ الْأَرْشِ قَدْ وَصَلَ إلَى مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ، أَوَّلًا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلِهَذَا بَقِيَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 173 الْعَبْدِ، فَإِنْ دَفَعَهُ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ صَارَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أَوَّلًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ جَنَى عَبْدُهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَفِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَيَبْقَى الرُّبْعُ عَلَى مِلْكِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْقَدْرِ يَجْعَلُ جِنَايَةَ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أَوَّلًا عَلَى مِلْكِ مَوْلَى الْفَاقِئِ فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ وَهْمُ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) إلَى أَنَّ الدَّفْعَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَلِهَذَا قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ إذَا طَالَ التَّفْرِيغُ، وَإِنْ فَدَاهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أَرْشِ الْعَيْنِ قِيلَ لِرَبِّ الْعَبْدِ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أَوَّلًا: ادْفَعْ مِنْ عَبْدِكَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ، وَثَلَاثَةَ أَثْمَانِ خُمُسِهِ وَنِصْفَ ثُمُنِ خُمُسِهِ أَوْ افْدِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَرْشِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْفَاقِئَ الْأَوَّلَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ حِينَ فَدَاهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ قَدْ جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ أَوَّلًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ إلَى أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ، وَخَمْسُونَ وَرُبْعٌ، وَذَلِكَ خُمُسُ الْأَرْشِ، وَنِصْفُ خُمُسِهِ، وَنِصْفُ ثُمُنٍ خُمُسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ خَمْسُمِائَةٍ، فَخَمْسُمِائَةٍ وَنِصْفُ خُمُسِهِ: خَمْسُونَ، وَسِتَّةٌ وَرُبْعُ نِصْفِ ثُمُنِهِ: خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ ثُمُنَ الْمِائَةِ: اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، فَنِصْفُ ثُمُنُهَا: سِتَّةٌ وَرُبْعٌ، فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ: ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَثَلَاثَةُ أَثْمَانِ خُمُسِهِ، وَنِصْفُ ثُمُنِ خُمُسِهِ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ وَعَلَى ذَلِكَ يُسَلِّمُ لِصَاحِبِهِ وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. وَإِذَا كَانَ الرُّبْعُ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ جَنَتْ الْأُمُّ جِنَايَةً فَدُفِعَتْ بَقِيَ الْوَلَدُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْوَلَدِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ، وَقَدْ بَقِيَ، فَالْأُمُّ لَمَّا دُفِعَتْ بِالْجِنَايَةِ خَلَا مَكَانُهَا فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ فَلِهَذَا بَقِيَ الْوَلَدُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنْ فَقَأَ الْوَلِيُّ عَيْنَيْ الْأُمِّ فَدُفِعَ بِهَا وَأُخِذَتْ الْأُمُّ عَادَتْ إلَى حَالِهَا الْأُولَى رَهْنًا بِأَلْفٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَذْهَبُ مِنْ الْأَلْفِ بِحِسَابِ مَا ذَهَبَ مِنْ بَصَرِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَ دَفَعَهَا، فَكَأَنَّهُ مَاتَ وَتَبَيَّنَ بِهِ بُطْلَانُ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، وَالْأُمُّ حِينَ أُخِذَتْ عَادَتْ رَهْنًا، كَمَا كَانَتْ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ إلَّا أَنَّ عَيْنَهَا ذَهَبَتْ فَكَأَنَّهَا ذَهَبَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَسَقَطَ حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفِ. وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً بِأَلْفٍ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَجَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً فَدُفِعَ بِهَا ثُمَّ فَقَأَتْ الْأُمُّ عَيْنَهُ فَدُفِعَتْ الْأُمُّ فَأُخِذَ الْوَلَدُ مَكَانَهَا فَهَذَا الْوَلَدُ الْأَعْمَى، وَالصَّحِيحُ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْجَانِي حِينَ دُفِعَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِهِ وَالْتَحَقَ هَذَا بِعَبْدٍ آخَرَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَحِينَ فَقَأَتْ الْأُمُّ عَيْنَهُ فَدَفَعَتْ وَاحِدًا مَكَانَهَا قَامَ مَقَامَهَا وَقَبْلَ جِنَايَتِهَا كَانَتْ هِيَ مَعَ الْوَلَدِ الصَّحِيحِ بِالْأَلْفِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ بِهَا مَعَ الصَّحِيحِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَإِنْ مَاتَ الْأَعْمَى ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ، وَلَوْ مَاتَتْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 174 الْأُمُّ سَقَطَ بِمَوْتِهَا نِصْفُ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ سَقَطَ بِمَوْتِ مَنْ قَامَ مَقَامَهَا فَإِنْ جَنَى الْوَلَدُ الْجَانِي عَلَى الْأُمِّ فَدُفِعَ وَأُخِذَتْ الْأُمُّ مَكَانَهُ عَادَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ، وَذَلِكَ مِنْ الْأَلْفِ بِحِسَابِ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْأُمِّ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّهَا كَانَتْ مَرْهُونَةً فِي الْأَصْل وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَيُجْعَلُ مَا انْتَقَصَ مِنْهَا بِالْجِنَايَةِ كَالثَّابِتِ مِنْ غَيْر صُنْعِ أَحَدٍ فَسَقَطَ حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الدَّيْنِ اسْتِحْسَانًا، كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا اسْتَعَارَ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَرَهَنَهُمَا بِأَلْفٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: كَمَا بَيَّنَّا، أَمَّا الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَالْقَاتِلُ رَهْنٌ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَهُنَاكَ سَقَطَ نِصْفُ مَا كَانَ فِي الْمَقْتُولِ مِنْ الدَّيْنِ وَتَحَوَّلَ نِصْفُهُ إلَى الْقَاتِلِ بِجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ فَيَفْتَكُّ الْقَاتِلُ بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَيَغْرَمُ لِمَوْلَى الْمَقْتُولِ مِائَةً وَخَمْسِينَ مِقْدَارَ مَا صَارَ قَابِضًا مِنْ دَيْنِهِ بِمِلْكِهِ يُقَالُ لِمَوْلَى الْقَاتِلِ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ إلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ أَوْ افْدِهِ بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ رُبُعُ حَقِّهِ مِائَتَانِ، وَخَمْسُونَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَكِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ كَانَا جَمِيعًا رَهْنًا بِثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْ ذَلِكَ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ بِذَهَابِ الْعَيْنِ فَاتَ نِصْفُهُ، وَحِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الدَّيْنِ مِائَتَانِ، وَخَمْسُونَ سَقَطَ نِصْفُهُ، وَتَحَوَّلَ نِصْفُهُ إلَى الْفَاقِئِ بِجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْفَاقِئِ خَمْسُمِائَةٍ؛ فَلِهَذَا يُفْتَكُّ الْفَاقِئُ بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَيَرُدُّ الرَّاهِنُ عَلَى مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا هَذَا الْقَدْرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمِلْكِهِ ثُمَّ يُقَالُ لِمَوْلَى الْفَاقِئِ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ عَبْدِكَ أَوْ افْدِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أَرْشِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ رُبْعُ حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَتَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ إنَّ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ قَتَلَتْ صَاحِبَتَهَا بَطَلَ مِنْ الدَّيْنِ: اثْنَانِ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَنِصْفٌ وَلَزِمَ الْقَاتِلَةَ مِنْ الْجِنَايَةِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ الدَّيْنِ انْقَسَمَ عَلَيْهَا وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَحِينَ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَفِي الْمَقْتُولَةِ مِائَتَانِ، وَخَمْسُونَ فَالْفَارِغُ مِنْ الْقَاتِلَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَبِقَدْرِ الْفَارِغِ مِنْ الْقَاتِلَةِ يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ مِنْ الْمَقْتُولَةِ إلَيْهَا، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ: مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَنِصْفٌ، كُلُّ رُبُعٍ: اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ، فَلِهَذَا سَقَطَ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ بِجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَتَحَوَّلَ مِائَةٌ، وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَنِصْفٌ إلَى الْقَاتِلَةِ بِجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 175 الْمَشْغُولِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَدُ الْقَاتِلَةِ بَطَلَ عَنْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ اثْنَانِ، وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا لَمَّا مَاتَ فَقَدْ بَطَلَ الِانْقِسَامُ فِيمَا كَانَ فِيهَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَهَا كَانَ مَشْغُولًا، وَنِصْفَهَا فَارِغٌ فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ مِنْ الْمَقْتُولَةِ إلَيْهَا بِقَدْرِ الْفَارِغِ وَذَلِكَ: مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَسَقَطَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ كُنَّا أَسْقَطْنَا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا، فَسَقَطَ مِثْلُ ذَلِكَ لِيَكُونَ السَّاقِطُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَإِنْ مَاتَتْ بِنْتُ الْجَارِيَةِ الْمَقْتُولَةِ لَزِمَ الْقَاتِلَ مِنْ الْجِنَايَةِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ انْقِسَامِ الدَّيْنِ بَيْنَ الْمَقْتُولَةِ، وَوَلَدِهَا حِينَ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَمْسِمِائَةِ كَانَ فِيهَا، وَأَنَّ نِصْفَ ذَلِكَ سَقَطَ، وَتَحَوَّلَ نِصْفُهُ إلَى الْقَاتِلَةِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقَاتِلَةُ رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةِ وَخَمْسِينَ، وَالْوَلَدَانِ لَمَّا مَاتَا فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا أَصْلًا وَلَوْ كَانَ الْوَلَدَانِ جَنَيَا فَافْتَكَّهُمَا الرَّاهِنُ رَدَّ عَلَى مَوْلَى الْمَقْتُولَةِ اثْنَيْنِ، وَسِتِّينَ وَنِصْفًا مِقْدَارَ مَا صَارَ قَابِضًا مِنْ دَيْنِهِ بِمِلْكِهِ وَدَفَعَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْقَاتِلَةِ كُلِّهَا إلَّا نِصْفَ ثَمَنِهَا أَوْ فَدَى بِتِسْعِمِائَةٍ، وَسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ، وَذَلِكَ: نِصْفُ ثُمُنِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَلْفِ قِيمَةُ الْمَقْتُولَةِ، وَثُمُنُ الْأَلْفِ: مِائَةٌ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَنِصْفُ ثُمُنِهَا: اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ؛ فَلِهَذَا يَحُطُّ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَنْ مَوْلَى الْقَاتِلَةِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِيمَا بَقِيَ. وَإِذَا رَهَنَ أَمَتَيْنِ بِأَلْفٍ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ إنَّ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ قَتَلَ أُمَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ، وَذَهَبَتْ الْأُمُّ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، كَأَنَّهَا مَاتَتْ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ انْقَسَمَ عَلَيْهَا، وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ وَلَكِنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُوَ تَابِعٌ لَهَا فِي حُكْمِ الرَّهْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ لَحِقَ الْمُرْتَهِنَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، فَيَجْعَلُ جِنَايَةَ الْوَلَدِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ الرَّهْنِ كَجِنَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا كَانَ ذَلِكَ وَمَوْتُهَا سَوَاءً، فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهَا وَلَدُهَا فَيَسْقُطُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الَّتِي قَتَلَتْ وَلَدَهَا، أَوْ فَقَأَتْ عَيْنَهُ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ أَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ قَتَلَ الْوَلَدَ الْآخَرَ كَانَتْ أُمُّ الْمَقْتُولِ وَثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْقَاتِلِ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَخَمْسَةُ أَثْمَانِ الْقَاتِلِ وَأُمُّهُ رَهْنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ الْجَوَابَ هُنَاكَ، فَقَالَ: لَا يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، وَهُنَا بَيَّنَ التَّقْسِيمَ فِي الْقَاتِلِ، وَجْهُ مَا ذَكَرْنَا هُنَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ تَبَعٌ لِأُمِّهِ، فَالنِّصْفُ مِنْهُ تَبَعٌ لِلنِّصْفِ الْفَارِغِ، وَالنِّصْفُ تَبَعٌ لِلنِّصْفِ الْمَشْغُولِ وَقَدْ انْقَسَمَ الدَّيْنُ الَّذِي فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْقَاتِلِ فَارِغٌ وَرُبْعُهُ مَشْغُولٌ وَقَدْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 176 جَنَى هَذَا الْفَارِغَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْفَارِغِ مِنْ الْمَقْتُولِ وَرُبْعُ الْمَشْغُولِ وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَذَلِكَ نِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، وَنِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ يَكُونُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، فَقَامَ نِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا مَقَامَ الْفَائِتِ مِمَّا كَانَ مَشْغُولًا بِمَا كَانَ فِيهَا، فَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْمَقْتُولَةِ، وَثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْقَاتِلِ رَهْنًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمِّ الْمَقْتُولَةِ وَخَمْسَةُ أَثْمَانِ الْقَاتِلِ وَأُمُّهُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نَمَاءً حَادِثًا، وَقَدْ هَلَكَ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الْقَاتِلُ وَمَاتَتْ أُمُّهُ ذَهَبَ رُبْعُ الدَّيْنِ حِصَّةُ مَا كَانَ فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا، وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ، وَالْوَلَدُ بَاقٍ وَإِنَّمَا يَذْهَبُ بِمَوْتِهَا رُبْعُ الدَّيْنِ، وَلَوْ لَمْ تَمُتْ أُمُّهُ، وَمَاتَتْ الْأُخْرَى ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَةُ أَثْمَانِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ خَمْسِمِائَةٍ، وَفِي وَلَدِهَا مِثْلُ ذَلِكَ فَحِينَ قُتِلَ وَلَدُهَا تَحَوَّلَ إلَى الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا كَانَ فِي الْمَقْتُولِ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَلَمْ يُحَوَّلْ الرُّبْعُ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَيَعُودُ ذَلِكَ الْقَدْرُ إلَى أُمِّهِ، وَقَدْ كَانَ فِي أُمِّهِ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ، وَعَادَ إلَيْهَا رُبْعُ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ خَمْسِمِائَةٍ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا وَيَبْقَى فِي عُنُقِ الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ خَمْسِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ثُمُنٍ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ مَعَ مَا كَانَ فِي عُنُقِهِ، وَهُوَ خَمْسُونَ وَمِائَتَانِ مِنْ دَيْنِ أُمِّهِ، فَيَقْبَلُهُمَا الرَّاهِنُ بِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا شُبْهَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِشْكَالِ فِيمَا سَبَقَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ، فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَةً قِيمَتُهَا قَلِيلَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ، فَدُفِعَتْ بِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا يُسَاوِي الْأُمَّ ثُمَّ قَتَلَتْ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ ابْنَ الْأُخْرَى أَوْ قَتَلَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ صَاحِبَهُ، فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّخْرِيجِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمَةٍ دُفِعَتْ بِعَبْدٍ هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، فَهَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي الْأَمَتَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ سَوَاءٌ. وَإِذَا ارْتَهَنَ أَمَةً وَعَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ الْأَمَةُ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَهِيَ، وَوَلَدُهَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْعَبْدُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ زِيَادَةٌ فِيمَا كَانَ فِي أَمَةٍ خَاصَّةٍ فَإِنْ جَنَى وَلَدُهَا عَلَى إنْسَانٍ فَدُفِعَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ مِنْ الرَّهْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ خَلَا مَكَانُهُ بِالدَّفْعِ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ، فَإِنْ فَقَأَ الْوَلَدُ عَيْنَيْ الْعَبْدِ جَمِيعًا فَأُخِذَ الْوَلَدُ وَدُفِعَ الْعَبْدُ، فَالْوَلَدُ بِخَمْسِمِائَةٍ خَاصَّةً، وَأَمَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا دُفِعَ صَارَ كَعَبْدٍ آخَرَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَإِذَا فَقَأَ عَيْنَيْ الْعَبْدِ فَدُفِعَ الْعَبْدُ وَأُخِذَ الْوَلَدُ قَامَ الْوَلَدُ مَقَامَ الْعَبْدِ وَتَحَوَّلَ إلَيْهِ مَا كَانَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَإِنْ قَتَلَتْ الْأُمُّ الْوَلَدَ أَوْ قَتَلَ الْوَلَدُ الْأُمَّ، فَالْقَاتِلُ مِنْهُمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 177 بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ إذَا كَانَ الرَّهْنُ عَبْدَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ هَذَا الْقَاتِلَ فَدُفِعَ بِهِ كَانَ رَهْنًا بِتِسْعِمِائَةٍ، وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ قُدِّرَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَيْنَيْنِ يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ رَهْنًا فِي الِابْتِدَاءِ وَعَادَ رَهْنًا، كَمَا كَانَ وَمَا تَخَلَّلَ مِنْ الزَّوَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَيَسْقُطُ نُقْصَانُ الْعَيْنَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَفْتَكُّهُ بِمَا بَقِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ] (بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَجَنَى عَلَى الرَّاهِنِ جِنَايَةَ خَطَأٍ فِي نَفْسٍ أَوْ دُونِهَا فَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ يَكُونُ هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ بِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمَالِيَّتُهُ فِيهِ فَإِذَا جَنَى عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ دَمُهُ، وَالْمَوْلَى مِنْ دَمِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ بَاطِلٌ، وَبِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ صَحِيحٌ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ بَاطِلٌ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْجِنَايَةَ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ عَلَى الْمَرْهُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِحَقِّ الْمَالِكِ، كَمَا قَبْلَ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى الرَّاهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَمْلُوكِ الرَّاهِنِ، أَوْ عَلَى مَتَاعِهِ فَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِحَقِّ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَالِيَّتُهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا. وَلَوْ كَانَ جَنَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونِهِمَا جِنَايَةَ خَطَأٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هُوَ هَدَرٌ أَيْضًا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) هُوَ مُعْتَبَرٌ فَيُخَاطَبَانِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ مِلْكُ الْعَبْدِ وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ يَعْتَبِرُ جِنَايَتَهُ عَلَيْهِ كَمَا يَعْتَبِرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا: جِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ مُعْتَبَرَةٌ، فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ غَيْرَ مَالِكٍ ثُمَّ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَائِدَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اخْتَارَا الدَّفْعَ تَمَلَّكَ الْمُرْتَهِنُ الْعَيْنَ أَوْ مَنْ يَخْلُفُهُ إنْ كَانَ قُتِلَ وَإِنْ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 178 كَانَ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ، وَلَكِنْ بِضَمَانِ الدَّيْنِ مَا كَانَ يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ فَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ فِي مِلْكِ الْعَيْنِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَيَسْتَفِيدُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ بَقَاءُ الدَّيْنِ مَعَ الْتِزَامِ الْفِدَاءِ أَنْفَعُ لَهُ فَفِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ صَحِيحٌ وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ جَنَى عَلَى مَالِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي اعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمِلْكَ وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالدَّيْنِ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فَتُبَاعُ فِيهِ أَوْ يَقْضِيهَا الْمَوْلَى، وَذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِدَيْنِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالِهِ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ: الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فِي حُكْمِ جِنَايَتِهِ (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْفِدَاءُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَالِكًا فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ كَالْمَالِكِ فَلَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْفَائِتِ وَهُوَ الْأَرْشُ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ بِدَفْعِ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِحْقَاقِ أَصْلِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ قَرَارُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى نَفْسِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِنَايَتِهِ لِمَنْفَعَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْعَبْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاخْتِيَارِ الرَّاهِنِ وَالرَّاهِنُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الْفِدَاءِ شَيْءٌ فَصَارَ هَذَا وَجِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ فِي جَانِبِ الرَّاهِنِ سَوَّى بَيْنَ جِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، كَمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِ الضَّمَانِ فَقَالَ: لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِ الْمَالِكِ فَقَالَ: ضَمَانُ الْغَاصِبِ إذَا تَقَرَّرَ وَجَبَ الْمِلْكُ، فَإِذَا اعْتَبَرْنَا جِنَايَتَهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ: أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِ، فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فَأَمَّا ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَإِنْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ فَلِهَذَا كَانَ هَدَرًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْهُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَضْمُونُ الْمَالِيَّةِ كَالْمَغْصُوبِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْأَمَانَةِ مِنْ وَجْهٍ تُجْعَلُ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمَالِكِ هَدَرًا وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْمَغْصُوبِ مِنْ وَجْهٍ تُجْعَلُ جِنَايَتُهُ عَلَى الضَّامِنِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ عَلَى ابْنِ الرَّاهِنِ أَوْ ابْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يُفْدِي بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ قَالَ: لِأَنَّ ابْنَ الرَّاهِنِ وَابْنَ الْمُرْتَهِنِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ وَمَالِيَّتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ، فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِمَا تُوجِبُ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ): أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى الجزء: 21 ¦ الصفحة: 179 ابْنِ الرَّاهِنِ وَلَا عَلَى ابْنِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِتَرِكَةِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَرْشُ هُنَا لَوَجَبَ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَمَا لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى ابْنِ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ وَالدَّيْنُ أَلْفًا فَجَنَى عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى مَالِهِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَضْمُونٌ، وَنِصْفَهُ أَمَانَةٌ وَحِينَ كَانَ الْكُلُّ مَضْمُونًا لَمْ تُعْتَبَرْ جِنَايَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَعَلَى مَالِهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ هُنَا أَوْلَى، وَلَوْ جَنَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي نَفْسِهِ أَوْ رَقِيقِهِ قِيلَ لِلرَّاهِنِ ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): فَجِنَايَتُهُ هُنَا مُعْتَبَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ): أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ أَمَانَةٌ هُنَا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، وَجِنَايَةُ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ مُعْتَبَرَةٌ وَلَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ كَانَ الْفِدَاءُ فِي هَذَا النِّصْفِ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِذَا جَنَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَعَنْ زُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ: لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ ثُمَّ يُطَالِبَ بِمُوجَبِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ، وَإِذَا أَبْطَلَهُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا، كَفِعْلِهِ عِنْدَ الضَّامِنِ، فَكَيْفَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ الرَّهْنِ فِي ذَلِكَ النِّصْفُ إلَّا أَنْ يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِهَذَا الْوُجُوبِ مَعْنًى ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يُقَالَ لِلرَّاهِنِ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي جِنَايَةِ عَبْدِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ وَقَبِلَهُ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ صَارَ عَبْدًا لَهُ وَبَطَلَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ تَلِفَ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ أُسْوَةُ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَدَفَعَاهُ بِهِ وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ نِصْفُ الْفِدَاءِ، حِصَّةُ الْأَمَانَةِ وَنِصْفُ الْفِدَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حِصَّةُ الْمَضْمُونِ فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا، وَيَسْتَوْفِي مِنْ الرَّاهِنِ حِصَّتَهُ مِنْ الْفِدَاءِ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أُبْقِي الْجِنَايَةَ، فَهُوَ رَهْنٌ، وَعَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ لَحِقَهُ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بَقِيَ مَرْهُونًا عَلَى حَالِهِ. وَإِذَا أَفْسَدَ مَتَاعًا لِلْمُرْتَهِنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ فَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ شَاءَ قَضَى عَنْهُ نِصْفَ ذَلِكَ الدَّيْنِ، وَجَعَلَ نِصْفَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ نِصْفَ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَرَغَ حِصَّةُ الْأَمَانَةِ مِنْهُ وَحِصَّةُ الْمَضْمُونِ فَارِغَةٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 180 الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا فَيَكُونُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَرِهَهُ بِيعَ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ حِينَ أَبَى الْمَالِكُ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ وَبَعْدَ بَيْعِهِ لَا يُمْكِنُ إيفَاءُ الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ، فَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ فِي الرَّهْنِ كَالْمُقَارَنِ وَفِي بَيْعِ الْكُلِّ جُمْلَةً تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا؛ فَلِهَذَا يُبَاعُ الْعَبْدُ كُلُّهُ وَيُقْضَى مِنْهُ ثُمُنُ الدَّيْنِ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الثُّمُنِ شَيْءٌ أَخَذَ الرَّاهِنُ نِصْفَهُ وَالْمُرْتَهِنُ نِصْفَهُ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ مَا بَقِيَ بَدَلُ الْأَمَانَةِ فَيُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ، وَنِصْفُهُ بَدَلُ الْمَضْمُونِ فِي الدَّيْنِ فَيَسْتَوْفِيهِ الْمُرْتَهِنُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ تَاوٍ لِتَلَفِ الْمَالِيَّةِ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ الْعَبْدُ فِي ضَمَانِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الرَّهْنُ مَوْلَاهُ أَوْ الْمُرْتَهِنَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَمْدِ دَمُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَمِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِذَا قُتِلَ قِصَاصًا سَقَطَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ تَلِفَتْ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَالدَّيْنُ أَلْفٌ فَقَتَلَ الْمُرْتَهِنَ عَمْدًا، فَعَفَا أَحَدُ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ وَلِلَّذِي جَنَى: ادْفَعَا نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ افْدِيَاهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْخِطَابُ بِالدَّفْعِ يَكُونُ مَعَ الْمَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الدَّفْعِ إلَّا بِرِضَا الْعَافِي بِمَالِهِ مِنْ الْحَقِّ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الرَّهْنِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يُقَالُ لَهُمَا ادْفَعَا وَإِنَّمَا يَدْفَعَانِ نِصْفَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي نِصْفِ الْجِنَايَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جِنَايَتَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَارَا الدَّفْعَ دُفِعَ جَمِيعُ الْعَبْدِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ إلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَبَطَلَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِدَفْعِ النِّصْفِ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ جَمِيعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نِصْفَ هَذَا الْمَدْفُوعِ مِمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، فَسَقَطَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِهِ، وَكَانَ لَهُمَا عَلَى الرَّاهِنِ نِصْفُ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَجْلِ الشُّيُوعِ فَيَرْجِعَانِ عَلَى الرَّاهِنِ بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ عَلَى الرَّاهِنِ رُبْعَ الدِّيَةِ: حِصَّةُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ وَعَلَى الْعَافِي عَنْ الدِّيَةِ: حِصَّةُ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَضْمُونِ بِالدَّيْنِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِمَا: ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الدِّيَةِ، فَإِذَا فَدَيَاهُ بِذَلِكَ فَرَغَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَكَانَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ بِالدَّيْنِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِأَلْفٍ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ الْبَاقِي، وَلِلَّذِي عَفَا: ادْفَعُوا نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْقَلَبَ مَالًا بِعَفْوِ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 181 صَاحِبِهِ، كَمَا فِي (الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) فَإِنْ دَفَعُوهُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِلشُّيُوعِ، فَبَطَلَ نِصْفُ الدَّيْنِ، فَكَانَ نِصْفُ الرَّاهِنِ بَيْنَهُمْ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ فَدَوْهُ بِسَبْعَةِ أَثْمَانِ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَعَلَى الرَّاهِنِ مِنْ ذَلِكَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ حِصَّةُ الْأَمَانَةِ مِمَّا انْقَلَبَ مَالًا مِنْ الْجِنَايَةِ وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْبَاقِي سَهْمَانِ: حِصَّةُ الْمَضْمُونِ بِدَيْنِهِ مِنْ هَذَا النِّصْفِ وَعَلَى الْمَوْلَى الَّذِي عَلَى حِصَّةِ الْمَضْمُونِ بِدَيْنِهِ مِنْ هَذَا النِّصْفِ، وَقَدْ سَقَطَتْ حِصَّةُ الْمَضْمُونِ بِدَيْنِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ] (بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، فَإِنْ شَاءَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ دَفَعَاهُ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ شَاءَا فَدَيَاهُ بِالدِّيَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ، وَكَانَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالدَّفْعِ هُوَ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّ فِي الدَّفْعِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا مَنْ هُوَ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الدَّفْعَ هُنَا بِدُونِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْفِدَاءُ أَنْفَعَ لِلْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي جِنَايَةِ الرَّهْنِ مَرْعِيٌّ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يُخَاطَبَانِ بِالدَّفْعِ، وَإِذَا دَفَعَاهُ، وَقَدْ تَلِفَ مِلْكُ الرَّاهِنِ فِيهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ دَيْنُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُقَدَّمُ الْفِكَاكُ عَلَى الْبَيْعِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْبَائِعَ افْتَكَّهُ ثُمَّ بَاعَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ وَهُنَا لَا يُقَدَّمُ الْفِكَاكُ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَهُوَ مَرْهُونٌ لِأَنَّهُ جَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ دَفْعُهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِيهَا؛ فَلِهَذَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ بِالْبَيْعِ يَفُوتُ الْمِلْكُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الثُّمُنُ، فَيَبْقَى حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِبَقَاءِ بَدَلٍ صَالِحٍ لِلْإِشْغَالِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَفِي الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَيَاهُ بِالدِّيَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَضْمُونٌ، وَنِصْفَهُ أَمَانَةٌ وَالْفِدَاءُ فِي الْمَضْمُونِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ، وَقَدْ أَشْرَفَتْ مَالِيَّتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ وَبِالْفِدَاءِ يَحْيَا، وَفِيهِ إبْقَاءُ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ الْفِدَاءُ فِي الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ؛ لِهَذَا وَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ، وَثَمَنِ الْأَدْوِيَةِ، فَإِنْ فَدَيَاهُ فَقَدْ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ بِالدَّيْنِ فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَدْفَعُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَفْدِي فَلَيْسَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: ادْفَعْ فَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْلِكَ غَيْرَهُ وَإِنْ قَالَ: الرَّاهِنُ ادْفَعْ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ بِبَدَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ تَمَلُّكِهِ لَا بِبَدَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 182 الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ أَوْلَى فَإِنْ دَفَعَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ غَائِبٌ فَلِلْمُرْتَهِنِ إذَا قَدِمَ أَنْ يُبْطِلَ دَفْعَهُ وَأَنْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّ فِي دَفْعِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ فِي فِدَاءِ الْمُرْتَهِنِ ضَرَرٌ عَلَى الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَالْمُرْتَهِنُ غَيْرُ مَالِكٍ فَكَانَ دَفْعُهُ بَاطِلًا، إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الرَّاهِنُ فَإِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ غَائِبٌ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَطْهُرُ مِلْكُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَ فَإِمَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ مَا فَدَاهُ بِهِ أَوْ يَأْبَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَرْهُونُ هَالِكًا فِي حَقِّهِ وَيَسْقُطُ دَيْنُهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الرَّاهِنُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ الرَّاهِنُ مُتَبَرِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَطْهِيرَ مِلْكِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي نَصِيبِ الْمُرْتَهِنِ كَالْمُعِيرِ لِلرَّهْنِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ ثُمَّ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ نِصْفَ الْفِدَاءِ بَقِيَ مَرْهُونًا، كَمَا لَوْ فَدَيَاهُ بِهِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ حِينَ أَبَى الْفِدَاءَ فَقَدْ رَضِيَ بإتوائه، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُ هَلَكَ، وَمَا تَوَصَّلَ الرَّاهِنُ إلَيْهِ إلَّا بِمَالٍ أُعْطِيَ بِمُقَابَلَتِهِ وَلَوْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الرَّاهِنِ فِي هَذَا الْفِدَاءِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ فِي هَذَا دُونَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ إلَّا أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ إصْلَاحَ رَهْنِهِ، وَإِحْيَاءَ حَقِّهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمَالِكِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَا يَكُونُ هُوَ مُتَطَوِّعًا فِي نَصِيبِ الرَّاهِنِ مِنْ الْفِدَاءِ فَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِنِصْفِ ذَلِكَ الْفِدَاءِ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي نَصِيبِ الرَّاهِنِ مِنْ الْفِدَاءِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَرَوَى زُفَرُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) عَلَى عَكْسِ هَذَا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كَانَ حَاضِرًا، فَالْمُرْتَهِنُ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا مِنْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الرَّاهِنِ حَاضِرًا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَرْهُونِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُودِعُ إذَا فَدَى الْوَدِيعَةَ مِنْ الْجِنَايَةِ كَانَ مُتَطَوِّعًا وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْتِزَامُهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ وَمُجْبَرًا عَلَيْهِ، فَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَلَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَقُولُ: الْمُرْتَهِنُ أَحَدُ مَنْ يُخَاطَبُ بِالْفِدَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ كَالرَّاهِنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْفِدَاءِ تَطْهِيرُ مِلْكِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ قَصَدَ بِالْفِدَاءِ إحْيَاءَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إلَى جَنْيِ الْعَيْنِ، الجزء: 21 ¦ الصفحة: 183 وَاسْتِدَامَةِ الْيَدِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ لَا بِالْفِدَاءِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هَذِهِ الْحَاجَةُ لَهُ عِنْدَ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ، فَأَمَّا عِنْدَ حَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِطْلَاعِ دَائِنِهِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمُسَاعَدَةِ مَعَهُ إمَّا عَلَى الْفِدَاءِ، أَوْ الدَّفْعِ وَفِي حَالِ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى الْفِدَاءِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا قَضَى الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَاضِرًا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَقُولُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ: لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يُخَاطِبُهُ بِالدَّفْعِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْعَبْدِ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الرَّاهِنُ، فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الْفِدَاءِ، فَأَمَّا فِي حَالِ حَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ وَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُرْتَهِنُ إلَى اسْتِدَامَةِ يَدِهِ إلَّا بِالْفِدَاءِ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، كَصَاحِبِ الْعُلْوِ إذَا بَنَى السُّفْلَ ثُمَّ بَنِي عَلَيْهِ عُلُوَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي حَقِّ صَاحِبِ السُّفْلِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ رَهْنًا بِأَلْفٍ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ جَنَى الْوَلَدُ عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَجِنَايَةُ الْأَمَانَةِ عَلَى الْمَالِكِ، وَعَلَى مِلْكِهِ هَدَرٌ، وَلَوْ جَنَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَوْ يَفْدِيَ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْأَمَانَةِ عَلَى الْأَمِينِ كَجِنَايَتِهَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنْ دَفَعَ لَمْ يَبْطُلْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ نِصْفُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ فَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَجِنَايَةِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ انْقَسَمَ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ فَنِصْفُ الْوَلَدِ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ (أَلَا تَرَى): أَنَّ الْأُمَّ لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَلَاكِهَا إلَّا نِصْفُ الدَّيْنِ، فَالْفِدَاءُ فِي جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَفِي جِنَايَةِ الْفَارِغِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَاسْتَهْلَكَ مَالًا لِرَجُلٍ، فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يُبَاعُ فِيهِ وَيَسْتَوْفِي صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْمَالِكِ، ثُمَّ حَقُّ الْمُتْلِفِ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ كَانَ مَا بَقِيَ لِلْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ قَدْ حَلَّ اقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ رَهْنًا مَكَانَ الْأَوَّلِ لِحِصَّتِهِ حَتَّى يَحِلَّ فَيَأْخُذَهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ سَقَطَتْ لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي ضَمَانِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَفَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةً فَدَفَعَ الرَّهْنَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ أَعْمَى، فَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ يَفْتَكُّ بِهَا شَاءَ الرَّاهِنُ أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ حِينَ دَفَعَ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 184 وَأَخَذَ مَكَانَهُ فَكَمَا بَقِيَ جَمِيعُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى حَالِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ - فَكَذَلِكَ يَبْقَى بِبَقَاءِ خَلَفِهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ عَيْبٌ يُنْقِصُهُ ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ ذَلِكَ يَعْنِي إنْ كَانَ الْعَيْبُ يُنْقِصُهُ الْخُمُسَ سَقَطَ خُمُسُ الْأَلْفِ وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ، فَنِصْفُ الْأَوَّلِ، وَإِذَا انْتَقَصَ سِعْرُهُ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): يُقَوَّمُ الْمَأْخُوذُ صَحِيحَ الْعَيْنَيْنِ، وَيُقَوَّمُ أَعْمَى، فَيَبْطُلُ مِنْ الدَّيْنِ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا، وَيَصِيرُ الْأَعْمَى رَهْنًا بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ أَعْمَى، فَكَانَ الْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، فَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ، فَإِنْ شَاءَ الرَّاهِنُ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ رُبَّمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ لِلتَّغَيُّرِ الْحَاصِلِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي - انْكِسَارِ الْقَلْبِ -: أَنَّ الرَّاهِنَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ فَيَجْعَلَهُ فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ] (بَابُ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَتَلَهُ فَإِنْ أَدَّى أَلْفًا، فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي مَالِيَّةِ الرَّهْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّاهِنِ، وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَصْلِ مَشْغُولًا؛ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَيْعٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ فَكُلُّ مَالٍ اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَبَيْعٍ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ يَكُونُ مِنْ الْأَصْلِ وَمَا سِوَاهُ يَكُونُ مِنْ الْبَيْعِ كَمَالَ الْمُضَارَبَةِ إذَا تَوَى بَعْضُهُ عَلَى الْغَرِيمِ كَانَ مَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالتَّاوِي مِنْ الرِّبْحِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي الْأَصْلِ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ قِيمَتِهِ بَيْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ نِصْفَيْنِ، وَمَا تَوَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَشْغُولٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالنِّصْفُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ وَحَقُّ الرَّاهِنِ فِيهِ أَصْلٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا قُتِلَ فَمَا يَخْرُجُ مِنْ قِيمَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَمَا يَتْوَى يَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَكِنَّهُ فُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ تَوَى فَالْأَرْشُ عَلَى الْفَاقِئِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي الْأَصْلِ أَلْفًا فَبِفَوَاتِ نِصْفِهِ يَذْهَبُ نِصْفُ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبِفَوَاتِ الْعَيْنِ يَفُوتُ مِنْهُ نِصْفٌ شَائِعٌ: نِصْفُهُ مِنْ الْمَضْمُونِ، وَنِصْفُهُ مِنْ الْأَمَانَةِ، فَلِفَوَاتِ نِصْفِ الْمَضْمُونِ يَسْقُطُ نِصْفُ الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ جَنَتْ الْأُمُّ جِنَايَةً فَدُفِعَتْ بِهَا ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ تَحَوَّلَ مِنْهُمَا الجزء: 21 ¦ الصفحة: 185 إلَى وَلَدِهَا فَحِينَ دُفِعَتْ خَلَا مَكَانُهَا، فَيَذْهَبُ مَا بَقِيَ فِيهَا، وَهُوَ نِصْفُ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ، وَإِنْ فَدَيَا الْأُمَّ فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَوَّلَ نِصْفُ الدَّيْنِ إلَى الْوَلَدِ بَقِيَ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُهَا، وَالنِّصْفُ أَمَانَةٌ، فَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا لِهَذَا فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَالْفِدَاءُ الَّذِي أَعْطَى الْمَوْلَى قَضَاءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْأُمُّ رَهْنٌ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَ مَاتَ قَبْلَ الْفِكَاكِ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ كَانَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ وَأَنَّ الْفِدَاءَ كُلَّهُ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالرَّاهِنُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا فِيمَا أَدَّى فَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَبَيْعُ الْمُقَاصَّةِ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِهِ، فَيَصِيرُ الرَّاهِنُ قَاضِيًا نِصْفَ الدَّيْنِ، وَتَبْقَى الْحَادِثَةُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً فَدَفَعَ بِهِ فَهُوَ: رَهْنٌ يَفْتَكُّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ أَخَذَهُ، وَأَدَّى الدَّيْنَ كُلَّهُ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ. وَأَمَّا زُفَرُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): فَمَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ، وَتَرَاجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى مِائَةٍ لِنُقْصَانِ السِّعْرِ، فَإِنَّهُ يَفْتَكُّهُ بِمِائَةٍ، وَيَسْقُطُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَدْفُوعِ مَكَانَهُ مِائَةٌ وَعِنْدَنَا بِنُقْصَانِ سِعْرِ الرَّهْنِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ فَكَذَلِكَ هُنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ)؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، فَيَفْتَكُّهُ الرَّاهِنُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَتَحَوَّلُ جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَقْتُولِ إلَى الْمَدْفُوعِ إلَّا أَنَّ لِلرَّاهِنِ الْخِيَارَ لِتَغَيُّرِ الْعَيْنِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ بِمَالٍ مِنْهُ أَوْصَى بِهِ وَافْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَقَصَ سِعْرُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَغَيَّرْ هُنَاكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ إذَا انْتَقَصَ سِعْرُهُ لَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ وَدَفَعَ بِهِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَاجَعَ سِعْرُ الْأَوَّلِ إلَى مِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَهُ حُرٌّ، فَغَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ تِسْعُمِائَةٍ وَيَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ الْمِائَةَ قَضَاءً مِنْ مِثْلِهَا وَزُفَرُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْفَصْلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الدَّرَاهِمُ لَا تُفَكُّ، وَالْمِائَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْهَا بِحَالٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ شِرَاءً، فَكَذَلِكَ جِنْسًا بِالدَّيْنِ، وَيُتَوَهَّمُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِأَنْ تُزَادَ قِيمَتُهُ حَتَّى يَشْتَرِيَ بِأَلْفٍ حَتَّى إنَّ الْحُرَّ الْقَاتِلَ لَوْ عَزَّزَ الدَّنَانِيرَ حَتَّى تَبْلُغَ قِيمَةُ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ صَحِيحًا، فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، فَفَوَاتُ نِصْفِهِ بِذَهَابِ عَيْنِهِ، كَفَوَاتِ نِصْفِ الْمَقْتُولِ بِذَهَابِ عَيْنِهِ. وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَفَاتَ عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَدُفِعَتْ بِهِ فَهُمَا جَمِيعًا رَهْنٌ الجزء: 21 ¦ الصفحة: 186 بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ خَلْفٌ عَنْ الْفَائِتِ مِنْ الْعَيْنِ فَيَتَحَوَّلُ إلَيْهِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ مَاتَتْ الْأَمَةُ، فَكَأَنَّ الْعَيْنَ فَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ هَذَا الْعَبْدَ الْأَعْوَرَ عَبْدٌ فَدُفِعَ بِهِ كَانَ رَهْنًا مَعَ الْأَمَةِ أَيُّهُمَا مَاتَ فَاتَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ بِالْأَعْوَرِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَيَتَحَوَّلُ إلَيْهِ مَا كَانَ فِي الْأَعْوَرِ مِنْ الدَّيْنِ، وَمَوْتُهُ كَمَوْتِ ذَلِكَ الْأَعْوَرِ، فَإِنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَ الْقَاتِلُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ الْمَرْهُونِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَدْفُوعٌ بِعَيْنِهِ، وَالْآخَرَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ فَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ أَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ بَعْدَ مَا فَقَأَتْ الْأَمَةُ عَيْنَهُ وَدُفِعَتْ بِهِ، فَلِهَذَا سَقَطَ - بِقَتْلِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ مِنْ الدَّيْنِ - خَمْسُمِائَةٍ وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ صَاحِبِهِ ذَهَبَ رُبْعُ الدَّيْنِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَعَلَيْهِ عَبْدَانِ يُدْفَعَانِ فَهُمَا جَمِيعًا: رَهْنٌ بِأَلْفٍ فَإِنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَ الْبَاقِي رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا خَلْفٌ عَنْ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْفُوعٌ بِنِصْفِهِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ أَتْلَفَ نِصْفَهُ بِأَنْ فَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ: إنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ جَنَى فَدُفِعَ فَالْبَاقِي رَهْنٌ بِنِصْفِ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ فَزَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَ الْبَاقِي رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ لَوْ كَانَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْجِنَايَةِ نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَارِغٍ، وَنِصْفَهُ مَشْغُولٌ، وَجِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ؛ فَبِاعْتِبَارِهَا يَتَحَوَّلُ نِصْفُ مَا كَانَ فِي الْمَقْتُولِ إلَى الْقَاتِلِ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَكِنْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا فَدُفِعَ بِهِ وَقِيمَةُ الْمَدْفُوعِ بِهِ قَلِيلَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُ الْمَدْفُوعَيْنِ صَاحِبَهُ، كَانَ الْقَاتِلُ رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَ الْمَقْتُولَيْنِ، فَقَتْلُ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ، كَقَتْلِ أَحَدِ الْمَرْهُونَيْنِ فِي الْأَصْلِ صَاحِبَهُ. وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ: عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ، وَقِيمَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَقَتَلَهُمَا عَبْدٌ وَاحِدٌ فَدُفِعَ بِهِمَا، فَفَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ، أَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْمَرْهُونَيْنِ وَجِنَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ لَا تُعْتَبَرُ بِحَالٍ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ سَوَاءً، فَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 187 [بَابُ الْغَصْبِ فِي الرَّهْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتْلًا خَطَأً، ثُمَّ رَدَّهُ، فَدَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الرَّهْنِ وَقَدْ أَزَالَهَا عَنْهُ الْغَاصِبُ، فَكَانَ ضَامِنًا لَهُ مَا لَمْ يُنْتَسَخْ فِعْلُهُ بِالرَّدِّ، كَمَا قَبَضَ، وَلَمْ يَرُدَّهُ هُنَا، كَمَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ فَارِغًا عَنْ الْجِنَايَةِ، وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِهَا وَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الشَّغْلَ حِينَ دَفَعَ بِالْجِنَايَةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُ أَصْلًا وَلَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ قَبْلَ الرَّدِّ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَتْ الْقِيمَةُ الَّتِي يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ لَهُ مَكَانَ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ مَا لَحِقَ مِنْ الْغُرْمِ إنَّمَا لَحِقَهُ بِالْجِنَايَةِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَمَا كَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِالْفِدَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِمَّا فَدَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَيَقَّنُ بِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ مَكَانَ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَفَدَاهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ كَانَتْ الْقِيمَةُ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ الْغَاصِبِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ غُرْمَ الْفِدَاءِ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعَانِ بِالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ مَا غَرِمَا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَجْنِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَلَكِنَّهُ أَفْسَدَ مَتَاعًا لَحِقَهُ مِنْ دَيْنٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ رَدَّهُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، إلَّا أَنْ يُصْلِحَهُ الْمُرْتَهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا بِيعَ بُدِئَ بِحَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ الدَّيْنِ كَانَ فِي الرَّهْنِ وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَا دَفَعُوا فِي الدَّيْنِ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ اُسْتُحِقَّ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ فِيهِ ثُمَّ يَكُونُ رَهْنًا مَعَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ الرَّهْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْ مَالِيَّتِهِ، قَدْ أَخْلَفَ بَدَلًا وَهُوَ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْغَاصِبِ، فَيَبْقَى جَمِيعُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ الْخَلْفِ. وَلَوْ كَانَ حِينَ قَتَلَ قَتِيلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ رَدَّهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَمَاتَ عِنْدَهُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي تَمَلُّكِ نَفْسِهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ حِينَ مَاتَ ثُمَّ يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى يَدِهِ، كَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 إذَا هَلَكَ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ سَلِمَ حِينَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّمُ عَمْدًا فِيهِ قِصَاصٌ فَعَفَى وَلِيُّ الدَّمِ أَوْ عَفَى وَلِيُّ جِنَايَةِ الْخَطَأِ، أَوْ أَبْرَأَ صَاحِبُ الْمَالِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ بِسَبَبِ الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي يَدِ قَيِّمٍ رَدُّهُ، وَانْتَسَخَ بِهِ حُكْمُ فِعْلِهِ. وَلَوْ قَتَلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ قَتِيلًا خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا عَمْدًا، ثُمَّ أَفْسَدَ مَتَاعًا مِثْلَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَارُوا دَفْعَهُ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ بِالْخَطَأِ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ أَصْحَابُ الْعَمْدِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لَوْ نَوَى الْقَوَدَ، وَإِنْ جَنَى وَلِيُّ الْخَطَأِ، وَلَوْ نَوَى بِالدَّفْعِ مَا يُفَوِّتُ حَقَّ وَلِيِّ الْعَمْدِ فِي الْقِصَاصِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْبَدَلِيَّةِ فِي الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ حَقَّ وَلِيِّ الْخَطَأِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِالدَّفْعِ فِي الْخَطَأِ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ أَصْحَابُ الْعَمْدِ قِصَاصًا، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ، وَيُدْفَعُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِي عَبْدٍ فَارِغٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِمْ عَبْدًا مُبَاحَ الدَّمِ بِالْقِصَاصِ، وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْهُ فَثَبَتَ حَقُّهُمْ فِي الْبَدَلِ بِثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا رُفِعَتْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْخَطَأِ أَخَذَهَا الْغُرَمَاءُ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ اُسْتُحِقَّتْ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ هَذِهِ الْقِيمَةَ أَصْحَابُ الْخَطَأِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْأُولَى لَمْ تُسَلَّمْ لَهُمْ، فَإِنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِمْ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ الْقِيمَةَ الثَّانِيَةَ لِلَّذِي اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ الْجِنَايَةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قِيمَةٌ لَا تَبِعَةَ فِيهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ عَبْدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَبِعَةٌ حِينَ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ. وَلَوْ بَدَأَ بِالدَّيْنِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْعَمْدِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْخَطَأِ، فَاخْتَارُوا الدَّفْعُ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ بِالْخَطَأِ، ثُمَّ يُقْتَلُ قِصَاصًا لِمَا قُلْنَا ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَوْلِيَاءِ الْخَطَأِ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مَا ثَبَتَ إلَّا فِي عَبْدٍ مَشْغُولٍ، فَإِنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِمْ كَانَ مَشْغُولًا بِالدَّمِ مُبَاحًا بِالْقِصَاصِ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِشَيْءٍ آخَرَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ يَأْخُذُهَا الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَحَقُّهُمْ كَانَ ثَابِتًا فِي مَالِيَّتِهِ فَثَبَتَ فِي بَدَلِهِ أَيْضًا، فَإِذَا أَخَذَهَا الْغُرَمَاءُ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْأُولَى اسْتَحَقَّهَا الْغُرَمَاءُ بِسَبَبِ مَا فِي الْعَبْدِ مِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً فَغَصَبَهَا رَجُلٌ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ وَلَدًا وَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ وَلَدَهَا يُدْفَعُ أَوْ يُفْدَى، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَا كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ الْوَلَدَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 إذَا اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى الْغَاصِبِ نُسِخَ فِعْلُهُ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ فِي الْوَلَدِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، نُسِخَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ وَهُوَ رَهْنٌ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْغَاصِبِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِهِ، فَإِنَّ الرَّدَّ إنَّمَا لَمْ يُسَلَّمْ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً. (أَلَا تَرَى): أَنَّ قِيمَتَهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ، فَكَذَلِكَ قِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ مِنْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَجَنَى جِنَايَةً لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرُ، وَهُوَ رَهْنٌ بِمِثْلِهِ فَقَتَلَ قَتِيلَيْنِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَتُهُ فِي الْجِنَايَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَغْصِبْهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ، وَلَوْ لَمْ يَفْدُوهُ وَلَكِنَّهُمْ دَفَعُوهُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَيَدْفَعُ نِصْفَهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَارِغًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ الَّتِي قَامَتْ مَقَامَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً ذَهَبَا بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا يَأْخُذُهَا الْمُرْتَهِنُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا يَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّاهِنِ فِي الْأَجَلِ مُرْعًى، وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ: الدَّرَاهِمَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً إلَّا بِمِثْلِهَا وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِهَا مِنْ الدَّيْنِ فَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ الرَّاهِنِ لِفَوَاتِ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ حُرٌّ، وَلَكِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَغْصِبْ، وَلَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَكَانَ مُسَلَّطَا عَلَى بَيْعِهِ فَتَوَى الثَّمَنُ ذَهَبَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَتَحَوَّلُ إلَى الثَّمَنِ، فَهَلَاكُهُ كَهَلَاكِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الْعَدْلُ وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ رَجَعَ بِبَاقِي الدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي هَذَا الْبَيْعِ نَائِبٌ عَنْ الرَّاهِنِ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الرَّاهِنِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفِكَاكِ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ ضَمَانُ الدَّيْنِ إلَى الثَّمَنِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُ وَهُوَ مَرْهُونٌ، فَيَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ مَالِيَّةِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِي (الْأَمَالِي): إنَّهُ إذَا بَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ الْعَدْلُ، فَالثَّمَنُ لَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ، أَوْ عِنْدَ الرَّهْنِ وَجُعِلَ الْبَيْعُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْعَيْنِ هُنَا نَظِيرَ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي الْبَيْعِ هُنَا تَحْقِيقُ مَقْصُودِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُرْتَهِنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ، وَذَلِكَ حَالَ قِيَامِهِ بِالْبَيْعِ يَكُونُ، وَالثَّمَنُ صَالِحٌ لِحَقِّهِ، كَمَا كَانَ الْأَصْلُ صَالِحًا، فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ مَرْهُونًا، فَأَمَّا فِي بَيْعِ الْمُؤَاجِرِ فَإِبْطَالُ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّمَنُ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ، فَيَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ بِرِضَاهُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَرَخُصَ السِّعْرُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً وَحَلَّ الْمَالُ فَقَتَلَهُ حُرٌّ غَرِمَ مِائَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ غَيْرُهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ الرَّاهِنُ، أَوْ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَشْقَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ إلَّا وَقْتَ الْقَتْلِ وَإِنْ غَصَبَهُ الرَّاهِنُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَفَدَاهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الْفِدَاءِ عَلَى الرَّاهِنِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْغَاصِبُ أَجْنَبِيًّا آخَرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ صَارَ مِنْ مَالِيَّتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ، فَغَصْبُهُ إيَّاهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ كَانَ اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا فَدَفَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَّةِ وَلَا يَكُونُ هُوَ فِيهِ دُونَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَتَكُونُ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ مَا دَامَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا حَالَ ثُبُوتِ يَدِ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلَا بَدَلَ لَهُ حَالَ كَوْنِهِ عَارِيَّةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَعَارَهُ رَجُلٌ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ فَجَنَى عِنْدَهُ فَدُفِعَ بِالْجِنَايَةِ كَانَ الرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَالْمُرْتَهِنُ بِالتَّسْلِيمِ، وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْقَبْضِ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إنْ ضَمِنَ فَإِنَّمَا ضَمِنَ بِقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ إنْ ضَمِنَ فَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَهُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَعَارَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَضْمَنَ الْقِيمَةَ إنْ شَاءَ الْمُسْتَعِيرُ، وَإِنْ شَاءَ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ فِي حَقِّهِ، وَحَقُّهُ فِي الرَّهْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّاهِنِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قِيمَتَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ رَهْنًا بِأَلْفٍ فَغَصَبَهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 رَجُلٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً، وَاكْتَسَبَ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَدَّهُ، وَرَدَّ الْمَالَ، وَدُفِعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَالْأَلْفُ الَّتِي اكْتَسَبَ الْعَبْدُ، أَوْ وَهَبَ لَهُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ، لَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْ الْعَيْنِ فَوُجُودَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَعَدَمِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّهُ حِينَ دُفِعَ بِالْجِنَايَةِ، فَالرَّدُّ لَمْ يَصِحَّ، فَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، وَيَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ. وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ عَبْدًا فَجَنَى الْعَبْدُ - الرَّهْنُ - عِنْدَهُ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ، فَذَلِكَ فِي عُنُقِ الْغَاصِبِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يُفْدَى؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ مَالِيَّتُهُ، فَيُبَعْ فِيهِ أَوْ يُفْدَى بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ، فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى (أَلَا تَرَى): أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ كَانَ حُرًّا كَانَتْ الْقِيمَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً، وَلَوْ كَانَ سَبَبُهَا الْجِنَايَةَ، لَكَانَتْ عَلَيْهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْغَاصِبُ يُسَاوِي: عِشْرِينَ أَلْفًا وَالْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ يُسَاوِي: عِشْرِينَ أَلْفًا فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلَيْنِ فَدَفَعَ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ الْغَاصِبِ إلَّا عَشَرَةُ آلَافٍ غَيْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ يُبَاعُ فِيهَا أَوْ يُفْدَى لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْغَاصِبَ قَدْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَّا أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَسْلَمْ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَجْلِ شَغْلِ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِسَبَبِ غَصْبِهِ، فَيُبَاعُ فِيهِ أَوْ يُفْدَى فَصَارَ الْحَاصِلُ: أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَوْلَا غَصْبُهُ مَا ضَمِنَ شَيْئًا بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ وَلَوْلَا جِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ عِنْدَهُ لَكَانَ رَدَّهُ تَامًّا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَلِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً وَلِاعْتِبَارِ غَصْبِهِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يُفْدَى، وَفِي حَقِّ مَنْ يَرْجِعُ، السَّبَبُ هُوَ: الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ يَدِهِ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً، وَفِي حَقِّ مَنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْغَاصِبُ؛ لِسَبَبِ غَصْبِهِ، فَيُبَاعُ فِيهِ. وَلَوْ ارْتَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً، ثُمَّ رَدَّهُ فَغَصَبَهُ آخَرُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ رَدَّهُ فَغَصَبَهُ آخَرُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً، ثُمَّ رَدَّهُ وَاخْتَارُوا دَفْعَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ أَثْلَاثًا سَوَاءً، حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ فِي رَقَبَتِهِ بِالِاسْتِوَاءِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ كَانَ مُسْتَحِقًّا جَمِيعَ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى اُسْتُحِقَّ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، فَيَدْفَعُهَا الْمَوْلَى، وَالْمُرْتَهِنُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 أَيْضًا بِمِثْلِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ فَارِغًا وَمَا سَلَّمَ لَهُ إلَّا ثُلُثُهُ، فَيَرْجِعُ فِي بَدَلِهِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَثُلُثُ الْعَبْدِ فَارِغٌ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي بِثُلُثِ قِيمَتِهِ، فَيَدْفَعُ نِصْفَ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ كَانَ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ وَلِيِّ الثَّانِي فِي نِصْفِهِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الثُّلُثَ، فَيَرْجِعُ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الثُّلُثِ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ النِّصْفَ، ثُمَّ يَرْجِعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي بِذَلِكَ فَيُجْعَلُ فِي يَدِهِ ثُلُثُ الْقِيمَةِ مَعَ ثُلُثِ الْأَوَّلِ مَرْهُونًا وَيَكُونُ عَلَى الثَّالِثِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ مَشْغُولًا بِجِنَايَتَيْنِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ثُلُثَهُ، فَيَجْتَمِعُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قِيمَةٌ كَامِلَةٌ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ): فَيُسْتَوْفَى مِنْ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ مِنْ ثُلُثِ الْقِيمَةِ وَلَا يُدْفَعُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِبَدَلِ مَا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأَوْلَى، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِهِ؟ وَبَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ: يَأْتِي فِي (كِتَابِ الدِّيَاتِ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَاصِبُ وَاحِدًا، فَغُصِبَ ثُمَّ رُدَّ أَوْ كَانَ جَنَى هَذِهِ الْجِنَايَاتِ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُرَدَّ، فَالتَّخْرِيجُ مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ، فَيَأْخُذُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ: ثُلُثَهَا، وَالثَّانِي: سُدُسَهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَفَائِدَةُ وَضْعِهِ فِي ثُلُثِهِ مِنْ الْغَاصِبَيْنِ: إيضَاحُ الْكَلَامِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ أَمَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافٍ بِأَلْفٍ فَغَصَبَهَا رَجُلٌ فَجَنَتْ عِنْدَهُ جِنَايَةً دُونَ الْخُمُسِ ثُمَّ رَدَّهَا فَاخْتَارُوا فِدَاءَهَا فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ خُمُسُ الْفِدَاءِ وَعَلَى الرَّاهِنِ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ؛ لِأَنَّ خُمُسَهَا مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ، وَالْفِدَاءُ بِقَدْرِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا أَمَانَةٌ وَالْفِدَاءُ بِقَدْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ رَجَعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَقِيمَةُ الْأَمَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ. وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ فَاسْتَهْلَكَ عِنْدَهُ مَتَاعًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْمَتَاعِ دَيْنًا فِي عُنُقِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ عِنْدَ الْمَالِكِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا رَدَّهُ فَالْغَرِيمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ، وَإِنْ شَاءَ بِيعَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِوُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ مَحِلَّيْنِ إمَّا مَالِيَّتُهُ فَيُوفِيهِ بِالْبَيْعِ، أَوْ الْكَسْبُ بِالِاسْتِسْعَاءِ وَلَهُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَنْفَعَةُ التَّعْجِيلِ يَعْنِي فِي الْبَيْعِ وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَنْفَعَةُ تَوْفِيرِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 7 حَقِّهِ عَلَيْهِ فَيَخْتَارُ أَيُّ ذَلِكَ صُنْعَ بِهِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ كَانَ بَاشَرَهُ الْغَاصِبُ إلَّا أَنَّ تَمَامَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي مِقْدَارِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ إنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا لَمْ يُسَلَّمْ لِشَغْلِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ، فَالْغَاصِبُ مَا صَارَ ضَامِنًا إلَّا مِقْدَارَ قِيمَتِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَا لَوْ فَاتَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ، وَلَوْ أَلْفًا فَأَدَّاهُ، وَأَخَذُوا مِنْ الْغَاصِبِ قِيمَتَهُ أَيْضًا كَانَتْ هَذِهِ الْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ كَسْبِهِ الَّذِي أَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْكَسْبِ فَكَذَلِكَ فِيمَا قَامَ مَقَامَ الْكَسْبِ، وَالْعَبْدُ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ. وَلَوْ بِيعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ، فَاسْتَوْفَى الْغَرِيمُ حَقَّهُ رَجَعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ وَكَانَتْ رَهْنًا؛ لِأَنَّ مَا يَغْرَمُهُ الْغَاصِبُ هُنَا بَدَلِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَى الْغَرِيمِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ كَانَ ثَابِتًا فِيهِ فَإِنْ بَاعُوهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ، وَالرَّهْنُ الْأَوَّلُ أَلْفٌ قَضَوْا لِلْغُرَمَاءِ أَلْفًا، وَضَمِنُوا لِلْغَاصِبِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَلْفَانِ، وَثُلُثُ الْقِيمَةِ رَهْنًا بِالْمَالِ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفَانِ وَقَدْ بَقِيَ مِثْلُ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْضِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ ثُلُثُ بَدَلِ الْعَبْدِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مَا كَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ ثُلُثَ بَدَلِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانُوا بَاعُوهُ بِأَلْفَيْنِ فَقَضَوْا غَرِيمَ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ رَجَعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ نِصْفُ بَدَلِهِ وَكَانَتْ هَاتَانِ الْأَلْفَانِ رَهْنًا بِالْمَالِ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ تَرَى مَا عَلَى الْغَاصِبِ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي بَقِيَتْ رَهْنًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِيَّةِ تَلِفَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ بِغَصْبِ الْغَاصِبِ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ الْعَدْلُ بِأَلْفَيْنِ، وَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَتَوَتْ إحْدَاهُمَا، وَخَرَجَتْ الْأُخْرَى اسْتَوْفَاهَا الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ مَا تَوَى كَانَ مِنْ الزِّيَادَةِ لَا مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَنِصْفُ هَذِهِ الْأَلْفِ الَّتِي خَرَجَتْ لِلْمُرْتَهِنِ وَنِصْفُهَا لِلرَّاهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَالِيَّةِ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَنِصْفُهَا بِحَقِّ الرَّاهِنِ فَمَا خَرَجَ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ نِصْفَيْنِ وَمَا تَوَى عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَخَرَجَتْ الْأَلْفُ، وَتَوَى أَلْفَانِ كَانَ مَا يَخْرُجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الثَّالِثَةَ زِيَادَةٌ فَيُجْعَلُ التَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ أَصْلًا وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 8 أَلْفَانِ فَكَانَ هَذِهِ، وَمَا لَوْ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفَيْنِ سَوَاءً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ فِي الْحَفْرِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ: أَلْفٌ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ فَحَفَرَ عِنْدَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ وَوَضَعَ فِي الطَّرِيقِ حَجَرًا ثُمَّ رَدَّهُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَافْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ، فَمَاتَ قِيلَ لِلرَّاهِنِ ادْفَعْ عَبْدَكَ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ جَانِيًا عَلَى الْوَاقِعِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ، فَإِنَّهُ بِالْحَفْرِ مُتَسَبِّبٌ لِإِتْلَافِهِ بِإِزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ، وَحِينَ صَنَعَ هَذَا كَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ أَيْضًا، فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّدِّ لَمْ يُسَلَّمْ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَاصِرًا حِينَ اسْتَحَقَّ بِسَبَبِ فِعْلٍ كَانَ بَاشَرَهُ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: بَلْ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ فَوَّتَ يَدَ الْمَرْهُونِ بِغَصْبِهِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دَيْنُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ حَقُّهُ فَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْآنَ حَقُّ الْمَالِكِ، فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ مُفْلِسًا أَوْ غَائِبًا رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِاَلَّذِي قَضَاهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً حَتَّى يَكُونَ الْفِدَاءُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ حَفَرَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الرَّاهِنِ. (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَتَوَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ بِالْفِكَاكِ لَمْ يُسَلِّمْ لِلرَّاهِنِ حِينَ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ قَبْلَ الْفِكَاكِ، فَيُجْعَلُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَفِي هَذَا مَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِالْفِكَاكِ فِي يَدِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ فَإِنْ عَطِبَ بِالْحَفْرِ آخَرُ فَمَاتَ وَقَدْ دُفِعَ الْعَبْدُ إلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ: ادْفَعْ نِصْفَهُ أَوْ افْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ قَدْ حَصَلَتَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَ الْعَبْدِ حِينَ دُفِعَ إلَيْهِ فَقَامَ هُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْحَفْرِ مَقَامَ الْمَوْلَى، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَلَا يَتْبَعُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ سِوَى الَّذِي تَبِعَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا دَفْعَ الْعَبْدِ، وَقَدْ دُفِعَ الْعَبْدُ، وَاَلَّذِي عَطِبَ بِالْحَفْرِ مِثْلُ آخَرَ لَوْ وَقَعَ فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 9 الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَإِذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَوَقَعَ فِيهَا عَبْدٌ فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدَ - الرَّهْنَ - أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيَّ الْعَبْدِ بِيَدِهِ، وَالْفِدَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ فِدَاهُ، فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ، وَأَخَذَ الْمُرْتَهِنُ الْعَبْدَ الْأَعْمَى، فَكَانَ لَهُ مَكَانَ مَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ وَإِنْ دَفَعَ الْعَبْدَ - الرَّهْنَ - وَأَخَذَ الْأَعْمَى كَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ اشْتَرَكُوا فِي الْعَبْدِ الْحَافِرِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ الَّذِي عِنْدَهُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ اسْتَنَدَتَا إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا مَعًا فَيَكُونُ حَقُّ الْوَلِيَّيْنِ فِي الْعَبْدِ وَلَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَانِي فِي حُكْمِ الرَّهْنِ لَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ بِالدَّفْعِ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ وَتَقَرَّرَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى مِنْ جِنَايَتِهِ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ وَعَطِبَتْ أَخَذَ عَنْهَا الْعَبْدَ فِي يَدَيْ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِيَدِهِ، فَإِنْ قَتَلَ إنْسَانًا وَأَتْلَفَ مَالَ آخَرَ فَهُنَاكَ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الدَّيْنَ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ فِي مُوجَبِ الْفِعْلَيْنِ هُنَا فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُهُ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالِاسْتِهْلَاكِ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ، فَلَا تَثْبُتُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّ إيفَاءَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُدْفَعَ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فَلَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ فِي ثَمَنِ الدَّابَّةِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ، وَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ فِيهِ حِينَ حَفَرَ قَدْ فَاتَ وَتَجَدَّدَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ بِسَبَبٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هَذَا الْمِلْكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَدْ فَاتَ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَمْدًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ خَلْفٌ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَبْقَى حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى إذَا وَقَعَ فِيهِ آخَرُ شَارَكَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فِي رَقَبَتِهِ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ أُخْرَى شُرِكُوا أَصْحَابَ الدَّابَّةِ الْأَوْلَى فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الدَّابَّتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ أُسْنِدَ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَهُمَا مُجَانِسَةٌ فِي الْمُوجَبِ فَكَانَ حَقُّهَا فِي الثَّمَنِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفِ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ ثُمَّ جَنَى بَعْدَ الْحَفْرِ عَلَى عَبْدٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَدَفَعَ وَاحِدٌ الْعَبْدَ، فَهُوَ رَهْنٌ مَكَانَهُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ عَبْدٌ آخَرُ فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ قِيلَ لِمَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ: ادْفَعْ نِصْفَهُ وَخُذْ هَذَا الْعَبْدَ الْأَعْمَى أَوْ افْدِهِ بِقِيمَةِ الْأَعْمَى لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ خَلْفٌ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، فَيَبْقَى فِعْلُهُ بِاعْتِبَارِهِ وَمُوجَبُ الْجِنَايَتَيْنِ وَاحِدٌ فَثَبَتَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ حَقُّ مَوْلَى الْعَبْدِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَّا أَنَّهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 10 الْآنَ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَيَقُومُ هُوَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ مَقَامَ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِقِيمَةِ هَذَا الْأَعْمَى، وَأَخَذَ الْأَعْمَى، فَكَانَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا أَدَّى، وَالْعَبْدُ الْأَعْمَى، وَالْأَوَّلُ رَهْنٌ بِأَلْفٍ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَدْفُوعِ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْمَى الْأَوَّلُ أَمَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ، قُسِّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيمَةِ وَلَدِهَا فَيَبْطُلُ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رُهِنَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فَوَلَدَتْ فَيُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَتُهَا عَمْيَاءُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَوَّمُ حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا وَهِيَ عَمْيَاءُ. وَإِذَا احْتَفَرَ الْعَبْدُ - الرَّهْنُ - بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ وَضَعَ فِيهَا شَيْئًا فَعَطِبَ بِهِ الرَّاهِنُ، أَوْ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ ذَلِكَ ضَمَانٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى بِيَدِهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى رَقِيقِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا الْمُرْتَهِنُ، أَوْ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِهِ فَهَذَا وَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِيَدِهِ سَوَاءٌ، فِيمَا اخْتَلَفُوا وَفِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَنْ الدَّيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ، فَكَذَلِكَ فِي جِنَايَتِهِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ. وَإِذَا أَمَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ فَعَطِبَ فِيهَا الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَائِهِ، فَإِنَّ الْفِنَاءَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يَتَّصِلُ بِمِلْكِهِ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُ مُعَدٍّ لِمَنَافِعِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِرَبْطِ الدَّوَابِّ، وَكَسْرِ الْحَطَبِ فِيهِ فَيَكُونُ التَّدْبِيرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ كَفِعْلِ الْمُرْتَهِنِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَعَطِبَ فِيهِ الرَّاهِنُ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ تَقَيَّدَ فِعْلُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِمَا يَعْطَبُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي فَنَاءِ نَفْسِهِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاهِنِ. وَلَوْ أَمَرَهُ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَدُفِعَ بِهِ كَانَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قِيمَتُهُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَمَّا مُوجَبُ الْجِنَايَةِ هُنَا فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكَانِ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ بِأَيْدِيهِمَا، فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُمَا فِي نَقْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا، وَإِذَا بَقِيَ الْعَبْدُ جَانِيًا كَانَ مُؤَاخَذًا بِمُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَوَّلِ، وَاعْتُبِرَ أَمْرُهُمَا فِي الْحَفْرِ فِي الْفِنَاءِ لِمَا قُلْنَا فَيُنْقَلُ فِعْلُ الْعَبْدِ إلَى الْآمِرِ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ثُمَّ الْآمِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ صَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلْعَبْدِ غَاصِبًا، فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ رَهْنًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَهُ لِيَسْتَقِيَ دَابَّتَهُ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ صَارَ غَاصِبًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعَثَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِن دُفِعَ بِالْجِنَايَةِ، وَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 11 حِينَ بَعَثَهُ الرَّاهِنُ فِي حَاجَتِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلَوْ مَاتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعَثَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ اسْتَعَارَهُ مِنْ الرَّاهِنِ فَمَا دَامَ يَعْمَلُ لَهُ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ لَوْ هَلَكَ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالْأَمَةِ - الرَّهْنِ - لِرَجُلٍ فَزَوَّجَهَا ذَلِكَ الرَّجُلَ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ سَلَّطَ الْمُقَرَّ لَهُ عَلَى تَزَوُّجِهَا، وَلَوْ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ النِّكَاحُ، فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا ذَلِكَ الرَّجُلَ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ سَلَّطَ الْمُقَرَّ لَهُ عَلَى تَزْوِيجِهَا وَلَوْ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا غَيْرَهُ بِتَسْلِيطِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْعِتْقِ فَالتَّزْوِيجُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُقِرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ غَشَيَانِهَا بِنَفْسِهِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُقِرُّ لَهُ، أَوْ مَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْمُقِرُّ لَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ غَشِيَهَا الزَّوْجُ رُبَّمَا تَحْمِلُ فَتَنْقُصُ مَالِيَّتُهَا بِسَبَبِ الْحَبَلِ، وَرُبَّمَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهَا الْوِلَادَةُ فَتَمُوتُ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَا لَا يَخْفَى. وَلَوْ رَهَنَ رَجُلٌ أَمَةً لَهَا زَوْجٌ كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهَا بِالْبَيْعِ فَيَكُونُ رَهْنًا جَائِزًا، فَإِنْ غَشِيَهَا الزَّوْجُ، فَهَلَكَتْ مِنْ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ: تَهْلِكُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا غَشِيَهَا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ حِينَ زَوَّجَهَا مِنْهُ، فَيُجْعَلُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الرَّاهِنِ بِنَفْسِهِ (أَلَا تَرَى): أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ الرَّهْنِ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ، فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّزْوِيجُ قَبْلَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا مِنْ الْوَطْءِ لَا مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْوَطْءُ فِي الْفَصْلَيْنِ ابْتِدَاءً فِعْلٌ مِنْ الْوَاطِئِ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا هَالِكَةً مِنْ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُسَلَّطًا عَلَى إتْلَافِهَا بَلْ الْمُرْتَهِنُ حِينَ قَبِلَ الرَّهْنَ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِوَطْءِ الزَّوْجِ إيَّاهَا، وَلَكِنْ لَا مُعْتَبَرَ بِرِضَاهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ بِالرَّهْنِ هُنَا، فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّزْوِيجُ بَعْد الرَّهْنِ، فَقَدْ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ تَسْلِيطُ الزَّوْجِ عَلَى وَطْئِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ بِذَلِكَ وَالزَّوْجُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ هُنَا فَإِنْ حَقَّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ، فَلِهَذَا إذَا هَلَكَتْ مِنْ الْوَطْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلَا يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا أَشْهَدَ الرَّاهِنَانِ بِالرَّهْنِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 12 لِإِنْسَانٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنَيْنِ فَهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدَانِ السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِمَا، وَإِبْطَالِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ الْمُرْتَهِنَانِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا مُمَكَّنَانِ مِنْ رَدِّ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَا، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا بَلْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمَا وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَلَوْ شَهِدَ بِهِ كَفِيلَانِ بِالْمَالِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ ابْنَا الرَّاهِنِ، أَوْ ابْنَا الْكَفِيلِ، وَالْأَبُ مُنْكِرٌ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ بِهِ ابْنَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي ثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ. وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا تَاجِرًا، فَشَهِدَ مَوْلَيَاهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى مُكَاتَبِهِمَا أَوْ عَبْدِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ وَالْكَسْبِ عَلَيْهِ، وَبِبُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الرَّهْنِ أَنَّهُ لَهُ وَأَنَّ رَاهِنَهُ سَرَقَهُ مِنْهُ وَسَأَلَ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَأَبَى ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إخْرَاجِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْعَيْنِ لِيُشِيرَ إلَيْهِ فِي الدَّعْوَى، وَيُشِيرَ إلَيْهِ الشُّهُودُ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْضَارِ مُتَعَنِّتٌ قَاصِدٌ الْإِضْرَارَ بِهِ فَيَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ رَهْنًا وَأَقَرَّ أَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفٌ ثُمَّ جَاءَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَقَالَ الرَّاهِنُ: لَيْسَ هَذَا مَتَاعِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى صِفَةِ مَتَاعِهِ أَنَّهُ يُسَاوِي أَلْفًا، وَاَلَّذِي أَحْضَرَهُ لَيْسَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلرَّاهِنِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَجِيءَ بِمَتَاعٍ يُسَاوِي أَلْفًا أَوْ يَحْكُمَ بِأَنَّ الرَّهْنَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ. وَإِذَا بَاعَ رَجُلَانِ شَيْئًا مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُمَا هَذَا الْعَبْدَ فَفَعَلَ ثُمَّ شَهِدَا أَنَّ الرَّهْنَ لِفُلَانٍ فَإِنْ قَالَا فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا إلَى أَجَلٍ بِغَيْرِ رَهْنٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ حِينَ أَسْقَطَا حَقَّهُمَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِرَهْنٍ آخَرَ بَلْ عَلَيْهِمَا فِيهِ ضَرَرٌ، وَإِنْ قَالَا لَا نَزِيدُ رَهْنًا غَيْرَهُ أَوْ يُرَدُّ عَلَيْنَا مَتَاعُنَا أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا، فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِرَهْنٍ آخَرَ، أَوْ رَدِّ الْمَتَاعِ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا بَاعَ مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ رَهْنًا بِعَيْنِهِ فَاسْتَحَقَّ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ رَهَنَهُ رَهْنًا يَرْضَى بِهِ أَوْ أَعْطَاهُ قِيمَةَ ذَلِكَ الرَّهْنِ فَيَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ، أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 13 الْفَصْلَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا زَادَ الرَّاهِنُ مَعَ الرَّهْنِ رَهْنًا آخَرَ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْأَوَّلِ يَوْمَ رَهَنَهُ، وَإِلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا الْمُرْتَهِنُ فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي قِيمَةِ الْأَصْلِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَرَهَنَهُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا مَا يُسَاوِي عَشَرَةً، ثُمَّ قَضَاهُ عَشَرَةً فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَا فِي الرَّهْنِ وَيَقْبِضَ الرَّهْنَ، أَمَّا جَوَازُ هَذَا الرَّهْنِ فَلِلشُّيُوعِ فِي الدَّيْنِ وَلَا شُيُوعَ فِي الرَّهْنِ وَالشُّيُوعُ فِي الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، ثُمَّ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي مَلَّكَ الْمُسْتَوْفِيَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ، وَإِلَيْهِ بَيَانُ الْجِهَةِ الَّتِي أَوْفَاهَا فَإِذَا قَالَ: إنَّمَا أَوْفَيْتُهَا مِمَّا كَانَ فِي الرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ الثَّوْبَ لِجَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ، أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الدَّيْنِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَلَوْ رَهَنَهُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا ثَوْبًا يُسَاوِي عِشْرِينَ ثُمَّ زَادَهُ ثَوْبًا آخَرَ رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ جَعَلَهُ رَهْنًا بِالْعِشْرِينَ جَمِيعًا فَهُوَ جَائِزٌ فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ، وَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْآخَرُ ذَهَبَ بِثُلُثِ الْعَشَرَةِ الَّتِي بِهَا الرَّهْنُ الْأَوَّلُ، وَبِجَمِيعِ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهُ الثَّوْبَ الْأُخْرَى، بِجَمِيعِ الْعِشْرِينَ كَانَ نِصْفُهُ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي لَا رَهْنَ بِهَا، وَنِصْفُهُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى، فَيَقْسِمُ مِلْكَ الْعَشَرَةِ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ يَوْمَ رَهَنَهُ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ، وَعَلَى قِيمَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ الثَّانِي، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِهِ، وَثُلُثُهَا مَعَ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى فِي الثَّوْبِ الثَّانِي فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَزِيَادَةً. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مَالٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ يُسَاوِيهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ الْآخَرُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ يُسَاوِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ بِنِصْفِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ هُنَا فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي إيفَاءِ هَذَا الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ فَيُجْعَلُ الرَّهْنُ مِنْ الثَّانِي زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ فَيُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنَيْنِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، فَأَيُّهُمَا هَلَكَ ذَهَبَ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ بِهِ كَفِيلٌ، وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) هَذَا الْفَصْلَ، وَقَالَ عِنْدَ زُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا يَهْلَكُ جَمِيعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَضِيَ بِالرَّهْنِ فِي مَتَاعِهِ إلَّا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، فَغَرَضُ الْكَفِيلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ مُوفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ؛ لِيَرْجِعَ بِالْكُلِّ عَلَى الْأَصِيلِ، وَغَرَضُ الْأَصِيلِ أَنْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 14 يَصِيرَ مُوفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) إنْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِالرَّهْنِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ فَالثَّانِي: رَهْنٌ بِنِصْفِ الْمَالِ وَالْأَوَّلُ: رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الثَّانِي بِأَنْ يَكُونَ رَهْنُهُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ حِينَ عَلِمَ بِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَدْيُونَ رَهَنَ مَتَاعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَنْ رَهَنَ بِهِ مَتَاعًا آخَرِ لَهُ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) قَالَ: إنْ هَلَكَ رَهْنُ الْمَطْلُوبِ هَلَكَ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَإِنْ هَلَكَ رَهْنُ الْمُتَبَرِّعِ هَلَكَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْمَطْلُوبِ صَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَمْلِكُ فَيُعْتَبَرُ مُوجَبُ عَقْدِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا رَهْنُ الْمُتَبَرِّعِ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْمَطْلُوبِ، فَيَكُونُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ. وَلَوْ رَهَنَهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا دِينَارًا يُسَاوِي عَشَرَةً ثُمَّ رَخُصَ الْوَرِقُ، فَصَارَتْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ، فَهَلَكَ الدِّينَارُ فَإِنَّمَا يَهْلَكُ بِالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَةَ قِيمَةُ الرَّهْنِ حِينَ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَرَهَنَ لَهُ دِينَارًا يُسَاوِي عَشَرَةً ثُمَّ غَلَا الْوَرِقُ فَصَارَتْ خَمْسَةً بِدِينَارٍ، ثُمَّ رَهَنَهُ دِينَارًا آخَرَ جَمِيعًا رُهِنَ بِالْعَشَرَةِ فَإِنْ هَلَكَ الدِّينَارُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ، وَإِنْ هَلَكَ الْآخَرُ ذَهَبَ بِثُلُثِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ زَادَهُ أَمَةً رَهْنًا بِالْأَلْفِ كُلَّهَا تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ بِنْتًا تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، وَالْأُمَّةُ بَقِيَ الْوَلَدُ بِسُدُسِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِهَا، وَبِثُلُثِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَمَةِ رَهْنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ وَنِصْفَهَا زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْعَبْدِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى فَتُقَسَّمُ تِلْكَ الْخَمْسُمِائَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَقِيمَةِ نِصْفِ الْأَمَةِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ وَصَارَ فِي الْأَمَةِ نِصْفُ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُولَى مَعَ الْخَمْسمِائَةِ الْأُخْرَى، فَلَمَّا وَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ انْقَسَمَ مَا فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا، وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا حِينَ رُهِنَتْ: أَلْفٌ، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا: خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ فِي الْوَلَدِ ثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَسُدُسُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى، فَيَبْقَى ذَلِكَ الْقَدْرُ بِبَقَاءِ الْوَلَدِ، وَيَسْقُطُ مَا سِوَى ذَلِكَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةِ وَهُوَ يُسَاوَى أَلْفًا ثُمَّ زَادَهُ الْمُرْتَهِنُ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْآخَرُ أَمَةً رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) تَكُونُ الْأَمَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ نِصْفُهَا مَعَ الْعَبْدِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى وَنِصْفُهَا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هُمَا جَمِيعًا يَكُونَانِ رَهْنًا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يُجَوِّزُ الزِّيَادَةَ فِي الرَّهْنِ، وَالدَّيْنِ وَهُمَا يُجَوِّزَانِ الزِّيَادَةَ فِي الرَّهْنِ دُونَ الدَّيْنِ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعَ نِصْفِ الْأَمَةِ رَهْنًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 15 وَنِصْفُ الْأَمَةِ رَهْنًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى شَيْءٌ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنًا قِيمَتِهِ مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهِ فَالْأُولَى، وَابْنُهَا، وَنِصْفُ الْآخَرِ، وَنِصْفُ ابْنِهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى، وَنِصْفُ الْآخَرِ وَنِصْفُ ابْنِهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ الْأُخْرَى ذَهَبَ رُبُعُ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي فِيهَا خَاصَّةً، وَيَبْقَى نِصْفُ ابْنِهَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، وَيَذْهَبُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى خَمْسُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْأُخْرَى ثَمَنُهَا خَمْسُمِائَةٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ تَبَعٌ لِأُمِّهِ، فَنِصْفُ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى وَنِصْفُهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَقِيمَةُ هَذَا النِّصْفِ: مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَصَارَ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ مَقْسُومًا عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَوَلَدُهَا وَهُمَا سَوَاءٌ، وَاَلَّذِي فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ رُبُعُهَا: مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ فَلِهَذَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ، وَبَقِيَ نِصْفُ ابْنِهَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الْأُولَى فَانْقَسَمَتْ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى، وَهِيَ: أَلْفٌ وَعَلَى قِيمَةِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ: مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَإِذَا جُعِلَ كُلُّ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بَيْنَهُمَا انْقَسَمَ أَخْمَاسًا: خُمُسُ ذَلِكَ وَهُوَ: مِائَةٌ، فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ انْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَنِصْفِ قِيمَةِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ، فَكَانَ الَّذِي فِيهَا مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى: خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَيَذْهَبُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِهَلَاكِهَا. وَلَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا أَمَةً تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ رَهْنًا بِالْمَالِ كُلِّهِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنًا قِيمَتِهِ مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأَوْلَى ذَهَبَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى السُّدُسُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَمَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ فِي الرَّهْنِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى، وَنِصْفُهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى فَالْخَمْسُمِائَةِ الْأَوْلَى انْقَسَمَتْ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ مِائَتَانِ وَعَلَى نِصْفِ قِيمَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ فَيُقْسَمُ أَثْلَاثًا ثُلُثُهَا فِي الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى، وَثُلُثَاهَا فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ انْقَسَمَ مَا فِي الْأَوْلَى وَهُوَ ثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ، فَحَاصِلُ مَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْخَمْسِمِائَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ، وَثُلُثٌ، فَإِذَا هَلَكَتْ هَلَكَتْ، وَلَوْ لَمْ تَمُتْ الْأَوْلَى، وَمَاتَتْ الْأُخْرَى ذَهَبَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ثُلُثُهَا وَمِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى خُمُسَاهَا؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى كَانَ فِي نِصْفِهَا، وَقَدْ انْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَعَلَى نِصْفِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ ثُلُثُهَا فَيَهْلِكُ بِذَلِكَ وَقَدْ كَانَ نِصْفُهَا مَرْهُونًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ قِيمَةَ نِصْفِهَا: أَرْبَعُمِائَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ مِنْ الضَّمَانِ إلَّا قَدْرَ قِيمَتِهَا ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ قَدْ تَحَوَّلَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 16 إلَى نِصْفِ وَلَدِهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى مِائَتَانِ، وَذَلِكَ خُمُسَاهَا؛ فَلِهَذَا هَلَكَ بِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا، وَرَهَنَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ زَادَهُ أَمَةً رَهْنًا، فَالْمَالُ كُلُّهُ يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَمَتَيْنِ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُخْرَى ذَهَبَ سُدُسُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ زِيَادَةً فِي الْكُلِّ فَنِصْفُهَا مَعَ الْأَمَةِ رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى، وَنِصْفُهَا مَعَ الْعَبْدِ رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ تَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا عَلَى نِصْفِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ مَا هُوَ مَرْهُونٌ بِهَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَلْفٌ فَحَاصِلُ مَا ثَبَتَ فِيهَا بِالِانْقِسَامِ ثُلُثِ الْأَلْفِ ثُمَّ انْقَسَمَ هَذَا الْقَدْرُ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْمَالِ فَيَهْلِكُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ الْأَوْلَى ذَهَبَتْ بِسُدُسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ فِيهَا ثُلُثَا الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ نِصْفُ ذَلِكَ إلَى أَوْلَادِهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْمَالِ، وَهُوَ أَنَّ بِالْعَبْدِ ذَهَبَ ثُلُثُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَصَابَ الْعَبْدُ بِالْقِسْمَةِ ثُلُثَا الْخَمْسِمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الدَّيْنِ فَبِمَوْتِهِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَدَدُ. وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ فَقَضَى الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ خَمْسَمِائَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إنْ شَاءَ الْعَبْدَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ الْأَمَةَ الْأَوْلَى وَابْنَهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ إلَى أَيِّ الرَّهْنَيْنِ شَاءَ فَيَسْتَرِدَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَمَةَ الْآخِرَةَ، وَلَا وَلَدَهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ الْآخِرَةَ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَتُحْبَسُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَالِ، وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ جَارِيَتَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاسْتَحَقَّتْ إحْدَاهُمَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): الْأُخْرَى رَهْنٌ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): الْأُخْرَى رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ إنْ هَلَكَتْ، وَذَلِكَ قِيمَتُهَا يَمْلِكُهَا بِهِ وَلَا يَفْتَكُّهَا إلَّا بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُدَبَّرَةٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ فَالْأُخْرَى رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ هَلَكَتْ هَلَكَتْ بِهِ فَزُفَرُ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): قَاسَ اسْتِحْقَاقَ الْغَيْرِ إحْدَاهُمَا بِاسْتِحْقَاقِهَا نَفْسِهَا وَأَبُو يُوسُفَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -): فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْمُسْتَحِقُّ مَحِلٌّ لِلرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهَا بِرِضَا صَاحِبِهَا جَازَ فَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهَا فَإِنَّمَا صَارَتْ الْأُخْرَى رَهَنَهَا بِحِصَّتِهَا، فَإِذَا هَلَكَتْ هَلَكَتْ بِهِ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلرَّهْنِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ الدَّيْنِ فِي الْأُخْرَى، فَإِذَا هَلَكَتْ، وَفِي قِيمَتِهَا وَفَاءٌ بِذَلِكَ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 17 أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسِ مَالِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّصَرُّفِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْعَقْدَ مُقَارَضَةً وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُقَارَضَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَصَاحِبُ الْمَالِ قَطَعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ عَنْ تَصَرُّفِهِ وَجَعَلَ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَى الْعَامِلِ بِهَذَا الْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا اللَّفْظَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يَعْنِي السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ، وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ فَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ: أَنَّ «الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَأَنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ. فَبَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَاسْتَحْسَنَهُ». وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ مِثْلَ هَذَا. وَرُوِيَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدِمَا الْعِرَاقَ وَنَزَلَا عَلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَوْ كَانَ عِنْدِي فَضْلُ مَالٍ لَأَكْرَمْتُكُمَا وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَابْتَاعَا بِهِ، فَإِذَا قَدِمْتُمَا الْمَدِينَةَ فَادْفَعَاهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكُمَا رِبْحُهُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: " هَذَا مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَرِبْحُهُ لِلْمُسْلِمِينَ " فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: " لَا سَبِيلَ لَك إلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَالَ لَوْ هَلَكَ كُنْت تُضَمِّنُنَا. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: " اجْعَلْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبَيْنِ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفُهُ فَاسْتَصْوَبَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: " قَالَ كَانَ لَنَا مَالٌ فِي يَدِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ تَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً فَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ لِسَعْيِهَا. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدْفَعُ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً عَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَاهُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً وَقَالَ لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا؟ فَعَمِلَ بِهِ بِالْعِرَاقِ وَكَانَ بِالْحِجَازِ، الْيَتِيمُ كَانَ يُقَاسِمُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالرِّبْحِ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتَامَى، وَأَنَّ لِلْمُضَارِبِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ الْمُسَافَرَةَ بِمَالٍ الْيَتِيمِ فِي طَرِيقٍ آمِنٍ أَوْ مَخُوفٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْقَوَافِلُ مُتَّصِلَةً، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى زَيْدَ بْنَ خُلَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالًا مُضَارَبَةً فَأَسْلَمَهُ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 18 فِي حَيَوَانٍ مَعْلُومٍ بِأَثْمَانٍ مَعْلُومَةٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَحَلَّ الْأَجَلُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَأَتَى عِتْرِيسٌ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " خُذْ رَأْسَ مَالِك وَلَا تُسَلِّمْهُ شَيْئًا مِمَّا لَنَا فِي الْحَيَوَانِ ". وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ وَفَسَادِ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا اشْتَدَّ عَلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ أَيْضًا، فَلَا يَظُنُّ بِهِ الْمُمَاطَلَةَ فِي قَضَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.» «وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمْ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَدَبَهُمْ أَيْضًا إلَيْهِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَهُوَ أَسِيرٌ فَأَعِينُوهُ يَا عِبَادَ اللَّهِ ضَارِبُوهُ دَايِنُوهُ»؛ وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى هَذَا الْعَقْدِ فَصَاحِبُ الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفِ الْمُرْبِحِ، وَالْمُهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِمَا يَعْنِي: الْمَالَ وَالتَّصَرُّفَ. فَفِي جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا. وَجَوَازُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالْمَالِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مِنْ جَانِبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ؛ فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً فِي الرِّبْحِ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ. وَلِهَذَا الْعَقْدِ أَحْكَامٌ شَتَّى مِنْ عُقُودٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ رَأْسَ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمِينٌ فِيهِ، كَالْمُودَعِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَالْوَكِيلِ، فَإِذَا حَصَلَ الرِّبْحُ كَانَ شَرِيكَهُ فِي الرِّبْحِ وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً حَتَّى يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَإِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْمَالِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا مَعَ حُصُولِهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُضَارَبَةَ بِالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَزِيَادَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَالَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَرْبَحْ إلَّا تِلْكَ الْعَشَرَةَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ بِأَنْ لَمْ يَرْبَحْ إلَّا تِلْكَ الْعَشَرَةُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ سَوَاءٌ يَتَحَاصُّونَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَالْمُرَادُ مُضَارَبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَالْأَمِينُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ ضَامِنًا فَهُوَ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَأَمَّا مَا كَانَ مُعَيَّنًا مَعْلُومًا فَصَاحِبُهُ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ بِمَوْتِ الْمَدْيُونِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ إلَّا بِمَا كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الْوَصِيِّ يُعْطِي مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً وَإِنْ شَاءَ أَبْضَعَهُ وَإِنْ شَاءَ اتَّجَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {: قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَا تَقْرَبُوا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 19 مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَالْأَحْسَنُ وَالْأَصْلَحُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» يَعْنِي: النَّفَقَةَ فَإِنْ احْتَسَبَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ وَجَدَ أَمِينًا يَحْتَسِبُ ذَلِكَ. وَالْأَنْفَعُ لِلْيَتِيمِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ بِضَاعَةً وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَجَّانًا فَلَا بَأْسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ أَنْفَعُ لِلْيَتِيمِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ وَبِمَا لَا يَتَفَرَّغُ الْوَصِيُّ لِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا جَازَ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ مَعَ نَفْسِهِ فَمَعَ غَيْرِهِ أَوْلَى وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى مَنْ قَاسَمَ الرِّبْحَ ضَمَانٌ " وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ الْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " الْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا عَلَيْهِ " وَبِهِ أَخَذْنَا فَقُلْنَا: " رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لَهُ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً "، وَيَقُولُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ: الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَصِحَّ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ لِعَجْزِ الْيَتِيمِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً أَنْفَقَ فِي مُضَارَبَتِهِ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ رَبِحَ قَالَ يُتِمُّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ وَبِهِ أَخَذْنَا فَقُلْنَا لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا سَافَرَ بِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا فَرَّغَتْ نَفْسَهَا لَهُ، فَقُلْنَا: الرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ اسْمٌ لِلْفَضْلِ فَمَا لَمْ يَحْصُلْ مَا هُوَ الْأَصْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا تَخْلُصُ لَهُ نَوَافِلُهُ مَا لَمْ تَخْلُصْ لَهُ فَرَائِضُهُ» فَالتَّاجِرُ لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَخَرَجَ بِهَا إلَى خُرَاسَانَ وَأَشْهَدَ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُ صَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتُوُفِّيَ فِي الطَّرِيقِ فَأَشْهَدَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا بِذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا جَاءَ بِصَكٍّ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ مُضَارَبَةً مَعَ هَذَا الرَّجُلِ لَهُ بِهَا بَيِّنَةٌ وَهِيَ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَالَ عَامِرٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشْهَدُ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الْمَالَ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ حَقَّ الْآخَرِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِتَجْهِيلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِشَرِكَةِ الْمَيِّتِ لَا بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمَانَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 20 وَإِنَّمَا أَفْتَى الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا لِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْنِ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَا لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِالْبَيِّنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ وَعَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُضَارَبَةَ وَالشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ كَمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ " وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ مُقَابَلَتُهَا بِجِنْسِهَا وَبِخِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعَقْدُ بِهَا يَكُونُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ لَا بَيْعًا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ فَهُوَ وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الْأَصْلِ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَسَدَتْ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ فَهِيَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ مَبِيعٍ مِنْ وَجْهٍ وَهِيَ ثَمَنٌ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَانَتْ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهَا ثَمَنٌ دَيْنًا وَمَبِيعٌ عَيْنُهَا فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ فَقَالَ: " لَوْ جَوَّزْتُ ذَلِكَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالطَّعَامِ بِمَكَّةَ " يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَتَبَايَعُونَ بِالطَّعَامِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ بُخَارَى يَتَبَايَعُونَ بِالْبُرِّ بِعَيْنِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصَّحِيحُ جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا عِنْدِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ عِنْدَنَا كَالدَّنَانِيرِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ ". وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ لَا تَجُوزُ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ دُونَ التِّبْرِ، وَذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ التِّبْرَ لَا يُتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي الرَّوَاجِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُرَوَّجُ التِّبْرُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَعِ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ، أَوْ قَالَ مَا رَزَقَك اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ، أَوْ مَا رَبِحْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 21 بَعْدَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اشْتِرَاطُ التَّنَاصُفِ فِي الرِّبْحِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ عُشْرَ الرِّبْحِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءٌ شَائِعٌ مَعْلُومٌ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَحْصُلُ مِنْ الرِّبْحِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إلَّا وَلَهُ عُشْرٌ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الْأَلْفُ الْمَدْفُوعَةُ جَيِّدَةً أَوْ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تَغْلِبُ عَلَى الْعُشْرِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ مِنْ النَّقْرَةِ فِيهَا وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَرُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إلَّا مِقْدَارَ الْمِائَةِ فَيَأْخُذُهُ مِنْ شَرْطٍ لَهُ وَيُجِيبُ الْآخَرُ وَفِي هَذَا الشَّرْطِ عَيْبٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَيْضًا وَرُبَّمَا يَرْبَحُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يُسَلِّمُ جَمِيعَ الْمِائَةِ لِمَنْ شَرَطَ لَهُ مَعَ حُصُولِ الرِّبْحِ؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ. فَإِنْ عَمِلَ ذَلِكَ فَرَبِحَ مَالًا أَوْ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِرَبِّ الْمَالِ وَابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ حَصَلَ الرِّبْحُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَاوِزُ بِأَجْرِ مَا سُمِّيَ لَهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي شَرِكَةِ الِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: " أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ "؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إلَّا هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَجْهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا الْعَقْدِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حُصُولُ الرِّبْحِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ، ثُمَّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ إذَا كَانَ انْعِقَادُ الْفَاسِدِ مِثْلَ انْعِقَادِ الْجَائِزِ كَالْبَيْعِ وَهُنَا الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةَ إجَارَةٍ، وَالْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عِنْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ، وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، فَقِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ إذَا تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ انْعَقَدَ إجَارَةً وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَالْأَجِيرُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 22 الْمُشْتَرِكُ لَا يُضَمَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ فَمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ رِبْحُ نِصْفِ الْمَالِ أَوْ قَالَ رِبْحُ عُشْرِ الْمَالِ، أَوْ قَالَ: رِبْحُ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى اشْتِرَاطَ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ عُشْرُ الرِّبْحِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ رِبْحَ عُشْرِ الْمَالِ وَلَا أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ هُنَا إنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِانْعِدَامِ مَحَلِّ حَقِّهِ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ رِبْحُ هَذِهِ الْمِائَةِ بِعَيْنِهَا أَوْ رِبْحُ هَذَا الصِّنْفِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْمَالِ فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَرْبَحَ فِيمَا يَشْتَرِي بِتِلْكَ الْمِائَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ بِمَا سَقَتْ السَّوَانِي وَالْمَاذِيَانَاتُ فَأَفْسَدَهَا» وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ الْحُكْمُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ عَمِلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، أَوْ قَالَ: بِالْخُمُسِ، أَوْ قَالَ: بِالثُّلُثَيْنِ، فَأَخَذَهَا وَعَمِلَ بِهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ وَمَا شَرَطَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُضَارِبِ وَمَا بَقِيَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِمَا مَلَكَهُ فَمُطْلَقُ الشَّرْطِ يَنْصَرِفُ إلَى جَانِبِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَعُرْفُ النَّاسِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ مِنْ التَّعْيِينِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لَك حَتَّى إذَا قَالَ: إنَّمَا عَنَيْتُ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِي لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَارَفُ وَالْقَوْلُ فِي الْمُنَازَعَاتِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَحَرْفُ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِالثُّلُثَيْنِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرِّبْحَ عِوَضًا وَهُوَ الْمُضَارِبُ وَأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِلْمُضَارِبِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهَا مُعَاوَضَةً بِالنِّصْفِ أَوْ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ أَوْ الْمَكِيلَ بِأَلْفٍ؟ وَلَوْ قَالَ: خُذْهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا وَلَمْ تَزِدْ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَنْصِيصٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَمُطْلَقُ الِاشْتِرَاكِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 23 يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ إذَا قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ هَذَا الْمَالُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ كَانَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الرِّبْحُ: بَيْنَنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اشْتِرَاطِ الْمُنَاصَفَةِ فِي الرِّبْحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كَلِمَةِ بَيْنَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قَوْله تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَلَوْ قَالَ خُذْهَا فَاعْمَلْ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ مُضَارَبَةً فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِمَعْنَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ لِهَذَا الْعَقْدِ حُكْمٌ يَدُلُّ لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ خَاصَّةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اعْمَلْ بِهَذِهِ الْأَلْفِ عَلَى أَنَّ لَك نِصْفَ رِبْحِهَا أَوْ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ رِبْحِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى شَرْطِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ فَاعْمَلْ بِهَا بِالنِّصْفِ، أَوْ قَالَ: بِالثُّلُثِ فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّنْصِيصِ عَلَى مَا شَرَطَهُ لَهُ الثُّلُثُ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ: إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا فِي الْعُرْفِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ وَحَرْفُ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلِلْقِيَاسِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إيجَابَ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابَ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: فِي عُرْفِ النَّاسِ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ اشْتِرَاطُ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَتَى بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي وَصِيَّتِهِ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِي بَعْدَ مَوْتِي جَازَ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ وَصِيَّةً لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ دَفَعَ الْأَلْفَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَقَبَضَ الْمَالَ عَلَى هَذِهِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ أَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فَهُوَ قَرْضٌ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لَهُ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى تَمْلِيكِ أَصْلِ الْمَالِ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الرِّبْحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَالِ. وَلِلتَّمْلِيكِ طَرِيقَانِ الْهِبَةُ وَالْإِقْرَاضُ فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا أَدْنَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ وَأَدْنَى الْوَجْهَيْنِ الْقَرْضُ فَلِهَذَا جُعِلَ مُقْرِضًا الْمَالَ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، فَهَذِهِ بِضَاعَةٌ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا رِبْحٌ، وَلَا أَجْرٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ مَا ابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَيَكُونُ هُوَ فِي الْعَمَلِ مُعَيِّنًا لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَالْمُعَيِّنُ فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 24 التِّجَارَةِ مُسْتَصْنِعٌ فَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَعْنِهِ فِي شَيْءٍ حِينَ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَقْصُودِ فِي كُلِّ عَقْدٍ دُونَ اللَّفْظِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً وَلَمْ يَذْكُرْ رِبْحًا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا لِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارِبِ وَذَلِكَ الْجُزْءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَمِثْلُهُ إذَا كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلَمْ يُسَمِّ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبَيِّنَا مَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَا مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ فَرَبُّ الْمَالِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الثُّلُثِ لِرَبِّ الْمَالِ اشْتِرَاطُ مَا بَقِيَ لِلْمُضَارِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الرِّبْحِ لِعَامِلٍ آخَرَ يَعْمَلُ مَعَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ وَهُوَ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي حَقِّ الْآخَرِ إنَّ لَهُ مَا بَقِيَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُنَا إلَيْهِ الْمَالُ مُضَارَبَةً فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الرِّبْحِ، يَصِيرُ كَأَنْ قَالَ: وَلَكَ مَا بَقِيَ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلِي مَا بَقِيَ وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْصُوصِ لَا بِالْمَفْهُومِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الرِّبْحِ أَوْ سُدُسَهُ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَلَكِنْ رَدَّدَهُ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالسُّدُسِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ تُمْكِنُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَلَك مَا بَقِيَ النِّصْفُ أَوْ الثُّلُثُ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِجَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيمَا شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ وَلَوْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ فَالثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ كَمَا شُرِطَ إلَيْهِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَمَا شُرِطَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ، وَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ مَا بَقِيَ لِكَوْنِهِ بِمَا مَلَكَهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ لِتَشْتَرِيَ بِهَا هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ أَوْ قَالَ: لِتَشْتَرِيَ بِهَا رَقِيقًا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 25 بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْمُشْتَرَى وَذَلِكَ فَاسِدٌ ثُمَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ اسْتِئْجَارًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ خَاصَّةً وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِالشِّرَاءِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ وَبِالْبَيْعِ وَهُوَ بِالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ. عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ فَبَقِيَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الشِّرَاءِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَهَذَا فَاسِدٌ يَعْنِي بِهِ الْإِجَارَةَ فَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ فَجَائِزَةٌ وَمَا اُشْتُرِيَ بِهَا يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ. وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا اُشْتُرِيَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى فِي عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى إلَّا بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ. فَإِنْ تَلِفَ مَا بَاعَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ حِينَ بَاعَ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ غَاصِبٌ وَالثَّمَنُ الَّذِي بَاعَ بِهِ الْمُضَارِبُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي غَرِمَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُهُ فِي الْمُودِعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ وَإِذَا أَجَازَ رَبُّ الْمَالِ بَيْعَ الْمُضَارِبِ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَائِمٌ أَمْ هَالِكٌ؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ الْمَعْلُومِ وَاجِبٌ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ وَقَدْ عَلِمْنَا قِيَامَهُ فَجَازَ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَالثَّمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ عَلِمَ هَلَاكَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَإِجَارَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَقْبَلُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ كَانَ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ يَوْمَ بَاعَهُ وَالثَّمَنُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ إذَا كَانَ فِيهِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ فَابْتَعْ بِهَا مَتَاعًا فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَلَكَ النِّصْفُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا لِأَنَّ الِابْتِيَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ الشِّرَاءِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ اشْتَرِ بِهَا بِالنِّصْفِ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِابْتِيَاعِ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا وَبِقَوْلِهِ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ. تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمَا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ وَيَبِيعَهُ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَكَانَتْ مُضَارَبَةً جَائِزَةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهَا بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذِهِ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِ اشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هُنَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَرْفًا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ حَرْفُ الْبَاءِ وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْعِوَضِ لَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ، وَعَمَلُهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِهِ عِوَضًا مُسَمًّى هُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 26 الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ جَمِيعًا فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَبِهَذِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ اشْتِرَاطُ نِصْفِ الرِّبْحِ لَهُ فَأَمَّا هُنَاكَ فَنَصَّ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ الْعِوَضَ بِمُقَابِلَتِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَكُونُ اسْتِئْجَارًا بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْهَا عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ عَلَى وَحَرْفَ الْبَاءِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اعْمَلْ بِهَذِهِ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْعَمَلِ هُنَا وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُضَارِبُ رَبَّ الْمَالِ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِأَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ وَعِنْدَ رُجُوعِهِ تَتَمَكَّنُ مِنْهُمَا الْمُنَازَعَةُ بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ مَا بَقِيَ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الشَّرْطِ أَوْ صَاحِبَ مَا بَقِيَ وَلَوْ اشْتَرَطَا لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا قَدْرُ الْمِائَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا لِلْمُضَارِبِ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهَذِهِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ لَا مُضَارَبَةٌ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الرِّبْحِ دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَتَعَذَّرُ مُرَاعَاةُ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا مَعَ حُصُولِ الرِّبْحِ وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى مِثْلِ مَا شَرَطَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا جَمِيعًا مَا شَرَطَهُ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَشْرُوطَ لِفُلَانٍ عِيَارًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا ضَارِبًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدُهُمَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لَهُمَا بِمَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُمَا فَفَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ مُضَارَبَةً وَلَا يَدْرِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا وَزْنُهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِعْلَامِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَالدَّرَاهِمُ تَتَعَيَّنُ فِي الْأَمَانَةِ وَعِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا بِالْوَزْنِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْقَابِضِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 27 ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُهُ وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُهُ وَلِعَبْدِ الْمُضَارِبِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْعَبْدِ الَّذِي دِينَ عَلَيْهِ كَالْمَشْرُوطِ لِمَوْلَاهُ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لِلْعَبْدِ الْمُضَارِبِ وَلَكِنَّهُ شَرَطَ لِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فَقُلْنَا الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِعَبْدِهِ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا فِي حَقِّهِ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الثُّلُثِ لِعَبْدِ الْمُضَارِبِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ فَالثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مُلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَيَكُونُ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَالْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَشْرُوطِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِأَجْنَبِيٍّ كَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِعَمَلٍ أَوْ مَالٍ وَلَيْسَ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ عَمَلٌ وَلَا مَالٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَيَلْغُو مَا شُرِطَ لَهُ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صُلْبُ الْعَقْدِ بَيَانُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ، وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ نَظِيرُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ هُنَاكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ مَا لَوْ شُرِطَ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْوَلِيُّ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ فَالْمَشْرُوطُ لِعَبْدِ الْمُضَارِبِ كَالشَّرْطِ لِلْمُضَارِبِ عِنْدَهُمَا وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِامْرَأَةِ الْمُضَارِبِ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ كَانَ ذَلِكَ الشُّرْطُ بَاطِلًا وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وَالِابْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ وَلَكِنْ مَا شُرِطَ لَهُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَطَ الثُّلُثَ لِامْرَأَةِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ فِي الرِّقَابِ فَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ لَهُ ثُلُثُ الرِّبْحِ لَيْسَ مِنْ جَانِبِهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٌ فَالشَّرْطُ لَهُ يَلْغُو وَاشْتِرَاطُهُ لِلْمَسَاكِينِ تَصَدُّقٌ بِمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ فَكَانَ بَاطِلًا وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَسَدَ جَمِيعُ الْمُضَارَبَةِ كَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بَعْضُ الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالشَّرْطِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 28 أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٌ وَدِيعَةً فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُضَارِبِ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا لَوْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مَغْصُوبَةً فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فَقَالَ: اعْمَلْ بِهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَفِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْوَدِيعَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى رَأْسِ مَالِ عَيْنٍ وَذَلِكَ مِنْهُ رِضَاءً بِقَبْضِ الْمُضَارِبِ وَإِسْقَاطِهِ لِحَقِّهِ فِي الضَّمَانِ فَيَلْحَقُ بِالْأَمَانَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَصْلُحُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَتَّى يَنْسَخَ بِهِ حُكْمَ الْغَصْبِ وَلِهَذَا لَوْ وُكِّلَ الْغَاصِبُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حَتَّى يَبِيعَهُ وَيُسَلِّمَهُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ هُنَا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مُضَارَبَةً وَيَشْتَرِيَ بِهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ عَيْنًا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ. فَالْمَدْيُونُ لَا يَكُونُ قَابِضًا لِلدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ لِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبْرِئَهُ عَنْ الضَّمَانِ مَعَ بَقَائِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ الْمُضَارَبَةُ فَمَا اشْتَرَاهُ الْمَدْيُونُ فَهُوَ لَهُ لَا شَيْءَ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَدَيْنُهُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا اشْتَرَى فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ بَرِيءٌ مِنْ دَيْنِهِ وَلَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا قَالَ لِمَدْيُونِهِ: اشْتَرِ بِمَالِي عَلَيْك ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ فَلِهَذَا كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِرَجُلٍ آخَرَ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَتَنْعَقِدُ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُمَا بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ هَذَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا حَصَلَ بِهِ الرِّبْحُ وَهُوَ تَقَاضَى الدَّيْنَ وَقَبَضَهُ فَالْكَرَاهَةُ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اشْتِرَاطِ بَعْضِ الرِّبْحِ لِغَيْرِهِمَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): " وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 29 بِفَسَادِ الشَّرْطِ فِي الْبَعْضِ لَا يَزْدَادُ الشَّرْطُ فِي جَانِبِ الْمُضَارِبِ فَلَا يَزْدَادُ حَقُّهُ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَثُلُثَهُ يَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْمُضَارِبِ الَّذِي لِلنَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ مَالِي الَّذِي لِفُلَانٍ عَلَيْهِ فَثُلُثُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمُلْكِ نَفْسِهِ فَمَا شَرَطَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُضَارِبِ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِلْمُضَارِبِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ إلَى الْمَدْيُونِ فِي تَعْيِينِ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ وَاَلَّذِي سَبَقَ مِنْهُ وَعْدٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ. وَلَوْ دَفَعَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ رِبْحِ جَمِيعِ الْمَالِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَثُلُثُهُ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ الْمَالِ بِعَيْنِهِ وَالثُّلُثَانِ لِلْآخَرِ فَعَمِلَ الْمُضَارِبُ عَلَى هَذَا وَرَبِحَ فَثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ كَمَا شُرِطَ وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ وَاَلَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ يَكُونُ شَارِطًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ أَوْ عَمَلٌ وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ فَبَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ صَحِيحًا. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَالثُّلُثُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَانِ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ الَّذِي اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَالثُّلُثُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا خَمْسَةٌ لِلَّذِي شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ حِصَّتِهِ ثُلُثَيْ ثُلُثِ الرِّبْحِ وَسَبْعَةٌ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ عَشَرَ فَقَدْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ ذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ثُلُثَا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي شُرِطَ لِثُلُثَيْ الثُّلُثِ وَثُلُثُهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ عَلَى حِدَةٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً، وَالْمُضَارِبُ قَدْ يَسْتَقْصِي فِيمَا يَشْتَرِطهُ لِنَفْسِهِ بِعَمَلِهِ فِيمَا لِزَيْدٍ وَيُسَامِحُ فِيمَا يَشْتَرِطُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ عَمْرٍو فَإِذَا صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ قُلْنَا رَبِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاَلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ أَرْبَعَةً مِنْ نَصِيبِهِ يَبْقَى لَهُ خَمْسَةٌ وَاَلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ سَهْمَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ يَبْقَى لَهُ سَبْعَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي مُقِيمًا بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ سَهْمًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 30 أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ أَوْ عَمَلٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَثُلُثَهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَثُلُثَهُ لِمَنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ فَالثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرْطِ الْمَشِيئَةِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُضَارِبِ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ الْقَدْرُ كَالْمَشْرُوطِ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ بِخِلَافِ الْمَشْرُوطِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَعَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً ظَاهِرَةً لَهُ وَهِيَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ وَلَوْ قَالَا ثُلُثُ الرِّبْحِ لِمَنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ نُصَفُّ الرِّبْحِ وَلِلْآخِرِ سُدُسُ الرِّبْحِ وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ وَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْطِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الْهِدَايَةِ فِي التِّجَارَةِ الْمُرْبِحَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَوْ دَفَعَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِأَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ بِعَيْنِهِ مِنْ الرِّبْحِ الثُّلُثَ وَلِلْآخَرِ السُّدُسَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَاحِبَيْ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ فَعَمِلَا وَرَبِحَا فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ثُلُثَاهُ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُمَا بِالشَّرْطِ وَهَكَذَا شَرَطَ لَهُمَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا بِاعْتِبَارِ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ تَفَاوَتَا فِي ذَلِكَ. فَاشْتِرَاطُ الْفَضْلِ لِأَحَدِهِمَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مَالٌ أَوْ عَمَلٌ يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا وَلَوْ قَالَ لِلْمُضَارِبَيْنِ نِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَكُمَا لِفُلَانٍ مِنْهُ الثُّلُثَانِ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِ صَاحِبَيْ الْمَالِ ثُلُثَاهُ وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِفُلَانٍ الْآخَرُ مِنْهُ الثُّلُثُ ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبَيْ الْمَالِ وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى لَهُ نَصِيبَهُ وَثُلُثُ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَيْنِ فَعَمِلَا فَرَبِحَا فَنِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْآخَرِ خَمْسَةٌ وَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى نَحْوِ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِأَنْ يَجْعَلَ الرِّبْحَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ وَالْمَشْرُوطُ لِأَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ ثُلُثَا الرِّبْحِ وَهُوَ سِتَّةٌ مِنْ تِسْعَةٍ ثُلُثَا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَثُلُثُهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَاَلَّذِي شُرِطَ لَهُ ثُلُثُ النِّصْفِ ثُلُثُهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ مِمَّنْ أَعْطَى الْآخَرُ أَرْبَعَةً وَثُلُثَاهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِمَّنْ أَعْطَى الْآخَرُ سَهْمَيْنِ فَاَلَّذِي شَرَطَ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ أَرْبَعَةً وَالْآخَرُ سَهْمًا وَاحِدًا فَإِذَا دَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ تِسْعَةٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 31 بَقِيَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَالْآخَرُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ سَهْمَيْنِ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ وَاشْتِرَاطُهُمَا الْمُنَاصَفَةَ فِيمَا بَقِيَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا وَإِذَا دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَخْلِطَهَا الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثَاهُ وَلِلدَّافِعِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتِرَاطًا لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ رِبْحَ مَالَ نَفْسِهِ وَثُلُثَ رِبْحِ مَالَ صَاحِبِهِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً بِثُلُثِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُهُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ رِبْحَ مَالِهِ فَيَكُونُ دَافِعًا الْمَالَ مِنْ وَجْهِ الْبِضَاعَةَ وَشَرَطَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِ الْعَامِلِ وَهَذَا مِنْهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ الْعَامِلِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٌ فَيَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ وَيَعْمَلَ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ نِصْفُ ذَلِكَ مِنْ رِبْحِ أَلْفِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُهُ مِنْ رِبْحِ أَلْفِهِ خَاصَّةً وَعَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ لِلدَّافِعِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَا الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شَرَطَ الدَّافِعُ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، ثُمَّ يَقُولُ فِي بَيَانِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ سُدُسَ الرِّبْحِ صَارَ لِلدَّافِعِ مِنْ رِبْحِ مَالِ الْمُضَارِبِ وَصَارَ لَهُ سُدُسُ مِثْلِهِ مِنْ رِبْحِ أَلْفِهِ الَّذِي صَارَ لِلْمُضَارِبِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَصِحُّ فَمُبَادَلَةُ رِبْحٍ لَمْ يُوجَدْ بِرِبْحٍ لَمْ يُوجَدْ كَيْفَ يَكُونُ صِحِّيًّا وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ خَلْطِ الْمَالَيْنِ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ سُدُسِ الرِّبْحِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَلْفِهِ وَبَيْنَ مِثْلِهِ مِنْ أَلْفِ صَاحِبِهِ وَالشَّرْطُ إنَّمَا يُرَاعَى إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَمَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا يَكُونُ لَغْوًا وَيَبْقَى اشْتِرَاطُ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ صَحِيحًا عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَخْلِطَهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ رِبْحَ أَلْفِهِ وَرُبْعَ رِبْحِ مَالِ الدَّافِعِ، وَدَفْعُ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِرُبْعِ الرِّبْحِ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الرِّبْحِ وَلِلْعَامِلِ رُبُعَهُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لِنَفْسِهِ وَطَمِعَ فِي جُزْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٍ فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 32 بَابُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): " ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِ نَأْخُذُ " وَقَالَ: مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَسْتَرِيحُ عَلَيْهِ بِالتِّجَارَةِ عَادَةً فَيَكُونُ كَالنَّقْدِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُضَارَبَةِ وَكَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعَرَضِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهَا بِالْعُرُوضِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ «بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَالٍ يُضَمَّنُ» وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ تُؤُدِّيَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَرُبَّمَا تَرْتَفِعُ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِذَا بَاعَهَا حَصَلَ الرِّبْحُ وَاسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ فِي ضَمَانِهِ بِخِلَافِ النَّقْدِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ فَمَا يَحْصُل لَهُ يَكُونُ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ هُنَا لَمَّا كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِبَيْعِ هَذِهِ الْعُرُوضِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَفِي النَّقْدِ الرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ جَمِيعًا فَتَكُونُ شَرِكَةً؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْ عَرَضِي هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ وَبِعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك. وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك صَحَّ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَأْسُ الْمَالِ إذَا كَانَ عَرَضًا فَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِالرِّبْحِ فِي شَيْءٍ لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ النُّقُودِ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ الْمَالِ بِمِثْلِ الْمَقْبُوضِ ثُمَّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ فِي أَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ كَالْعُرُوضِ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِمَا يَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ يَحْصُلُ بِهَذَا الْبَيْعِ رِبْحٌ بِأَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يُرَخِّصَ سِعْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَظْهَرَ رِبْحُهُ بِدُونِ الشِّرَاءِ فَيَكُونَ هَذَا اسْتِئْجَارًا لِلْبَيْعِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُرُوضِ فَإِنْ اشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالسَّتُّوقَةِ وَالزُّيُوفِ وَالتِّبْرِ. زَادَ هُنَا فَقَالَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 33 لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِذَهَبِ تِبْرٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِفِضَّةِ تِبْرٍ بِعَيْنِهَا فَهَلَكَ التِّبْرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ؟ فَقَدْ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ إلَى أَنَّ التِّبْرَ لَا يُتَعَيَّنُ فِي الشِّرَاءِ وَلَا يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي رَوَاجِ التِّبْرِ نَقْدًا أَوْ عَرَضًا وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ فُلُوسًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَلَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا حَتَّى كَسَدَتْ تِلْكَ الْفُلُوسُ وَأُحْدِثَتْ فُلُوسٌ غَيْرُهَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ إنَّمَا يُجِيزُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَهِيَ ثَمَنٌ مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَإِذَا كَسَدَتْ فَهِيَ قِطَاعٌ صُفْرٌ كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ. وَلَوْ اقْتَرَنَ كَسَادُهَا بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَدَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ شَيْئًا فَضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا انْتَقَضَ الْبَيْعُ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا بِالْكَسَادِ صَارَتْ كَالْعُرُوضِ وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ ثَوْبًا وَدَفَعَهَا وَقَبَضَ الثَّوْبَ ثُمَّ كَسَدَتْ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّوْبِ، وَصَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ الثَّوْبَ دُونَ الْفُلُوسِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالشِّرَاءِ وَمَا يَعْرِضُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ فَإِذَا بَاعَ الثَّوْبَ بِدَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ رَبِحَ رِبْحًا وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ قِيمَةَ فُلُوسِهِ يَوْمَ كَسَدَتْ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ كَانَ فُلُوسًا رَائِجَةً وَهِيَ لِلْحَالِّ كَاسِدَةٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا التَّعَذُّرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ يَوْمَ الْكَسَادِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا غَصَبَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مُتَعَذَّرَةٌ أَوْ أَنَّهُ حَاصِلٌ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ وَهُنَا الْوَقْتُ فِي تَحْصِيلِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ؛ لِأَنَّ مَا كَسَدَ مِنْ الْفُلُوسِ قَدْ لَا يُرَوَّجُ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا يُدْرَى مَتِّي يُرَوَّجُ فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَوَاتِ مِثْلِ تِلْكَ الْفُلُوسِ وَذَلِكَ وَقْتَ الْكَسَادِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا رِبْحٌ عَلَى الشَّرْطِ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَكَةً لِيَصِيدَ بِهَا السَّمَكَ عَلَى أَنَّ مَا صَادَ بِهَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 34 مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَصَادَ بِهَا سَمَكًا كَثِيرًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلَّذِي صَادَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ»؛ وَلِأَنَّ الْآخِذَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ دُونَ الْآلَةِ فَيَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ آلَةُ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِصَاحِبِ الْآلَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الصَّيَّادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ وَيَبِيعُ عَلَيْهَا أَوْ لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الطِّينَ لِيَبِيعَهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ فَالْغَلَّةُ هُنَاكَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ إذَا أَجَّرَ الدَّابَّةَ فَالْأَجْرُ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهَا وَالْعَامِلُ وَكِيلٌ لِصَاحِبِهَا وَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْعَامِلُ فِي نَقْلِ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَبَيْعِ ذَلِكَ فَهُوَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا عَلَى أَنْ يَحُوكَهُ سَبْعَةً فِي أَرْبَعَةٍ ثَوْبًا وَسَطًا عَلَى أَنَّ الثَّوْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَالثَّوْبُ لِصَاحِبِ الْغَزْلِ وَلِلِحَائِك أَجْرُ مِثْلِهِ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا كَذَا كَذَا بَيْتًا وَسَمَّى طُولَهَا وَعَرْضَهَا وَكَذَا كَذَا حُجْرَةً عَلَى أَنَّ مَا بُنِيَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى أَنَّ أَصْلَ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَنَى فِيهَا كَمَا شَرَطَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يَجْعَلَ أَرْضَهُ مَسَاكِنَ بِآلَاتِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا بِالْآلَاتِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَقَدْ جَعَلَ الْعِوَضَ نِصْفَ مَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَسَاكِنِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَرْضِ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ لِيَغْرِسَهَا أَشْجَارًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ فِي الْبِنَاءِ كَذَلِكَ ثُمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي قِيمَةُ مَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ بِنَاءَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَبِنَائِهِ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِمَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ لَهُ وَقَدْ ابْتَغَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَإِذَا لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا دَسْكَرَةً وَيُؤَاجِرَهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَنَاهَا كَمَا أَمَرَهُ فَأَجَّرَهَا فَأَصَابَ مَالًا فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْبِنَاءِ وَالْبِنَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ هُنَا شَرَطَ الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الثَّانِي عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الْبِنَاءِ وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لَهُ فَعَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْبُيُوتَ لِلسُّكْنَى وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبِنَاءِ وَلِهَذَا لَوْ انْهَدَمَ جَمِيعُ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُؤَاجِرِ لِلْمُسْتَأْجَرِ أَجْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ عَلَى الْبَانِي؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْأَرْضَ بِنِصْفِ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّةِ الْبِنَاءِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَقَدْ اسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 35 بِهَذَا الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا وَيَنْقُلُ الثَّانِي بِنَاءَهُ عَنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَلْكِ صَاحِبِهَا فَعَلَى الثَّانِي أَنْ يُفْرِغَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا لِفَسَادِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْضِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ مَا أَجَّرَهَا بِهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِمَا بُنِيَ بِهِ هُنَا بِنِصْفِ الْأَرْضِ، أَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَرْضَهُ دَسْكَرَةً بِآلَاتِ نَفْسِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَلَكِنَّهُ صَارَ قَابِضًا مُسْتَهْلِكًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ بَنَى الْبَانِي وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا أَجَّرَ مِنْ الدَّسْكَرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَامِلٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ الثَّانِي عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَهُنَا أَضَافَ الْبِنَاءَ إلَى نَفْسِهِ حِينَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ وَجَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ أُجْرَةً لِلْبَانِي فَلِهَذَا كَانَ الْبِنَاءُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ هُنَا. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ بَيْتًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِيهِ الْبُرَّ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَقَبَضَ الْبَيْتَ فَبَاعَ فِيهِ وَأَصَابَ مَالًا فَالْمَالُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مُلْكِهِ وَهُوَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَلِرَبِّ الْبَيْتِ أَجْرُ مِثْلِ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْبَيْتَ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ دَفَعَ إلَيْهِ الْبَيْتَ لِيُؤْجَرَهُ لِيُبَاعَ فِيهِ الْبُرُّ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنْ أَجَّرَ الْبَيْتَ فَالْأَجْرُ لِرَبِّ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ هُنَا وَالْعَامِلُ كَالْوَكِيلِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ فِي إجَارَتِهِ وَلَكِنَّهُ ابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ لَهُ عِوَضًا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ. وَإِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْعَبْدَ مُضَارَبَةً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ رَأْسَ مَالِي قِيمَتُهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ وَيَبِيعَ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ أَخَذْت مِنْهُ رَأْسَ مَالِي قِيمَةَ الْعَلَامِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِيهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قِيمَةَ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ وَلَا يُمْكِن تَحْصِيلُهَا يَقِينًا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ بَعْدَهَا وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَا بَاعَ وَاشْتَرَى لِرَبِّ الْعَبْدِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَوْ قَالَ بِعْ عَبْدِي هَذَا وَاقْبِضْ ثَمَنَهُ وَاعْمَلْ فِيهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَمَنِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ أَوَّلًا فَكَانَ بَيْعُ الْوَكِيلِ لَهُ كَبَيْعِهِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ عَقَدَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَضَافَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 36 لَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ غَيْرَ إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِعْهُ وَخُذْ الثَّمَنَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ لَيْسَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ صَارَ كَأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهَا فَلِهَذَا كُرِهَ فَإِنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ كَحَقِيقَتِهِ فِي وُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ» وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ مَنْفَعَةً لَهُ سِوَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ شَرْطُ بَيْعِ الْعَبْدِ لِمَا صَارَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ وَلَا يَذْكُرُ الْمُضَارَبَةَ فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً وَكَذَلِكَ هُنَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعُرُوضِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْعَبْدَ بِعَشَرَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ وَعَمِلَ بِهَا فَهَذَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ مُضَارَبَةً فَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً وَجَمِيعُ مَا رَبِحَ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَجِيرًا بِاعْتِبَارِ الْمُضَارَبَةِ، وَأَوَانُ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ وَجَمِيعُ مَا رَبِحَ لَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِالنُّقُودِ فَإِذَا بَاعَ بِالْحِنْطَةِ كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لَقِيمَةِ الْعَبْدِ كَالْغَاصِبِ، فَإِذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ وَالْحِنْطَةَ الَّتِي قَبَضَهَا لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا رَبِحَ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبِحَ مَا قَدْ ضَمِنَ، فَإِنْ قِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَبِهَذَا اللَّفْظِ يَنْبَغِي أَنْ تَنْفُذَ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ النَّقْدُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَكَوْنُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ فَاسِدَةً مِنْ الدَّقَائِقِ قَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَعَلَّهُ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَيْضًا أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ بِهَا فَمُطْلَقُ الْوَكَالَةِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ وَلَوْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَمِلَ بِهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ فِي الْمِائَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْمُضَارِبُ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَبِيعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ، وَأَكْرَارُ حِنْطَةٍ، وَدَقِيقٌ فَقَالَ خُذْ أَيَّ أَصْنَافِ مَالِي شِئْت وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَأَخَذَ الْمُضَارِبُ أَحَدَ الْأَصْنَافِ فَعَمِلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ أَخَذَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فَعَمِلَ بِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ أَخَذَ غَيْرَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ فَإِذَا اشْتَرَى وَبَاعَ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 37 الضَّارِبِ صِنْفًا بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ كَتَعْيِينِ رَبِّ الْمَالِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ مِنْ النُّقُودِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِلَّا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَالَ خُذْ أَيَّ مَالِي شِئْت فَبِعْهُ ثُمَّ اعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَأَخَذَ عَبْدًا فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً سَنَةً ثُمَّ بِعْهُ وَاعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهِ كَمَا أَمَرَهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ثُمَّ عَمِلَ بِالثَّمَنِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ وَبَيْعِهِ وَكِيلٌ لِلْآمِرِ مُعَيَّنٌ فَكَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إنَّمَا عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ تَعَدٍّ فَكَانَتْ الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةً، وَرَأْسُ الْمَالِ ثَمَنَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ الْمُضَارِبُ فَأَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ بَلْ هُوَ دَيْنٌ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَوْجِبُ الثَّمَنَ عَلَى الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): " وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً وَلَمْ يَقُلْ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَصْنَافِ التِّجَارَةِ وَيَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ " فَإِنَّ قَصْدَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ يُوجِبُ قَصْرَ يَدِهِ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَكُونُ ضِدًّا لِمَا هُوَ مَقْصُودُ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ ". (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ الرِّبْحُ فَالرِّبْحُ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ دُونَ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ؛ وَلِأَنَّ تَسْلِيطَ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ تِجَارَةٌ مُطْلَقَةٌ قَوْله تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التِّجَارَةَ قَدْ تَكُونُ غَائِبَةً وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَيْهِ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ. فَالتِّجَارَةُ نَوْعَانِ حَاضِرَةٌ فِي بَلْدَةٍ، وَغَائِبَةٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ الْإِبْضَاعُ وَالتَّوْكِيلُ وَالْإِيدَاعُ لَفَاتَهُ أَحَدُ نَوْعَيْ التِّجَارَةِ لِاشْتِغَالِهِ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَعَهُ الْأُجَرَاءَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 38 يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَسْتَأْجِرُ الْبُيُوتَ وَالدَّوَابَّ لِأَمْتِعَتِهِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ. فَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ فِي تَحْصِيلِ الرِّبْحِ، وَلِلْمَنَافِعِ حُكْمُ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ تِجَارَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ. وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضُ الْمَالِ لِلْهَلَاكِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمُسَافَرَةِ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ بِالسَّفَرِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْمُودَعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ فَفِي الْمُضَارِبِ أَوْلَى وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إنْ دَفَعَ الْمَالَ فِي مِصْرٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ وَلَا يَسْتَدِيمُ الْغُرْبَةَ مَعَ إمْكَانِ الرُّجُوعِ فَلَمَّا أَعْطَاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى وَطَنِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي مِصْرِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ بِنَاءً عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُودَعِ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ الْوَدِيعَةِ إذَا كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرْضُ مَرَّتَيْنِ صَدَقَةُ مُرَّةٍ»؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِقْرَاضِ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ زِيَادَةُ شَرْطٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْخَلْطِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ إيجَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ مُضَارَبَةُ سِوَى غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ؟؛ وَلِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِي الرِّبْحِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِالشَّرِكَةِ لِغَيْرِهِ فِي رِبْحِ مَالِهِ وَلَا يُشَارِكُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً بَلْ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَأْذَن لِعَبْدٍ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِطْلَاق التَّصَرُّفِ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً أَوْ فَوْقَهُ؟ قُلْنَا قَدْ رَوَى ابْنُ رُسْتُمِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ نَظِيرَ الْإِبْضَاعِ لَا نَظِيرَ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، وَالشَّرِكَةَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 39 جَمِيعَ ذَلِكَ إلَّا الْقَرْضَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِي هَذَا الْمَالِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً فَيَمْلِكُ بِهِ الْمُضَارَبَةَ وَالشَّرِكَةَ وَالْخَلْطَ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ كَمَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ بِمَا وُكِّلَ بِهِ إذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ وَلَا يَمْلِكُ الْقَرْضَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً فَلَا يَمْلِكُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ وَالشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ مَتَى كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِيَكُونَ مَالُهُ مَحْفُوظًا فِي الْمِصْرِ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ وَلِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ بِضَاعَةً مِمَّنْ يَخْرُجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَعِينُ فِي هَذَا الْمَالِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَيُقَاسُ التَّوْقِيتُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ بِالتَّوْقِيتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهَا فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى حَالِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا؛ لِأَنَّ خِلَافَهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مَا لَمْ يَعْمَلْ خَارِجًا مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِالْمَكَانِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ التَّصَرُّفِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِالْإِخْرَاجِ لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافُهُ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَهُوَ أَمِينٌ خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَكُونُ أَمِينًا كَمَا كَانَ وَإِنْ اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ وَاشْتَرَى بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فِي الْكُوفَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ ضَامِنٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِبَعْضِ الْمَالِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا بَقِيَ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ فِيهِ الْخِلَافُ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ شَرْطًا نَصَّ عَلَيْهِ الدَّافِعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَلَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفِهِ بِالسُّوقِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ سِعْرُ الْكُوفَةِ لَا عَيْنَ السُّوقِ فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْكُوفَةِ تَصَرَّفَ كَانَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا عَلَى مَا شَرَطَهُ الدَّافِعُ أَرَأَيْتَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فِي الصَّيَارِفَةِ فَعَمَل بِهَا فِي سُوقٍ آخَرَ أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي بَيْتِ فُلَانٍ فَعَمِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ ضَامِنًا وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمِصْرِ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ وَقَالَ لَهُ لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا فِي السُّوقِ فَعَمِلَ بِهِ فِي غَيْرِ السُّوقِ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 40 مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْمَلْ بِهِ وَاسْتَثْنَى تَصَرُّفَا مَخْصُوصًا وَهُوَ مَا يَكُون فِي السُّوق، فَمَا يَكُون عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى يَنْفُذُ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِشَرْطٍ غَيْر مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَلَوْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً تَعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ أَوْ قَالَ: فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَعَمِلَ بِهِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تَعْمَلُ بِهِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: خُذْهُ مُضَارَبَةً وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرُهُ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَقَوْلُهُ: فَاعْمَلْ بِهِ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ وَاَلَّذِي يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ الْمُبْهَمِ وَيَتَعَقَّبُهُ تَفْسِيرٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ كَلَامِهِ مُلْصَقًا بِالْكُوفَةِ وَمُوجِبُ كَلَامِهِ الْعَمَلُ بِالْمَالِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقُهُ بِالْكُوفَةِ إذَا عَمِلَ بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَكَانِ إنَّمَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلْعَمَلِ إذَا كَانَ حَاصِلًا فِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ فِي الْكُوفَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ. وَلَوْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلِابْتِدَاءِ خُصُوصًا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَقَوْلُهُ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ وَقَوْلُهُ: وَاعْمَلْ عَطْفٌ أَوْ ابْتِدَاءٌ فَيَكُونُ مَشُورَةً أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ لَا شَرْطًا فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْحَالِ هُنَا فَحَالُ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ وَقْتَ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَمَلُ بَعْدَ الْأَخْذِ مَعَ أَنَّ الْوَاوَ تُسْتَعَارُ لِلْحَالِ مَجَازًا وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ صَحِيحٌ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ حَرْف الْوَاوِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ فَاشْتَرِ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ تَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الطَّعَامِ فَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ شَرْطٌ مُفِيدٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُهْتَدِيًا إلَى التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ ثُمَّ يُصْرَفُ لَفْظُ الطَّعَامِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ خَاصَّةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَهُمَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الطَّعَامِ عِنْدَ ذِكْرِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ خَاصَّةً بِاعْتِبَارِ عُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّ بَائِعَ الطَّعَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا، وَسُوقُ الطَّعَامِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَيْمَانِ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ بِبَعْضِهِ شَيْئًا يَجُوزُ فِيهِ الطَّعَامُ أَوْ يَبِيعَهُ فِيهِ أَوْ سَفِينَةً لِيَحْمِلَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 41 فِيهَا الطَّعَامَ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ أَوْ دَوَابَّ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فِي الطَّعَامِ وَلَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا فَلَمَّا أَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ إذْنًا لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كُلُّ صِنْفٍ سَمَّاهُ فَهُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فَإِنْ اشْتَرَى غَيْرَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْخِلَافِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً فِي الرَّقِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَ الرَّقِيقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ فِي الرَّقِيقِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِبَعْضِهِ كِسْوَةً لِلرَّقِيقِ وَطَعَامًا لَهُمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَيَسْتَأْجِرَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ فِي الرَّقِيقِ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا كُلِّهِ عَادَةً فَيَكُونُ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ، وَبِمُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا. وَلَوْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاشْتَرِ بِهِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ وَانْظُرْ فُلَانًا وَعَامِلْهُ فِيهِ وَاشْتَرِيهِ الْبُرَّ وَبِعْ؛ لِأَنَّ هَذَا مَشُورَةٌ لَا شَرْطٌ فَيَبْقَى الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بَعْدَهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَيَبِيعَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ بِشَرْطٍ مُفِيدٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي الِاسْتِقْضَاءِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي مَلَاءَةِ الذِّمَّةِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَيَبِيعَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَا تَقْيِيدُ الْعَمَلِ بِالْكُوفَةِ لَا تَعْيِينُ مَنْ يُعَامِلُهُ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ جَمِيعِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يَتَّفِقُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ تَقْيِيدُ التَّصَرُّفِ بِالْكُوفَةِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ بِالْكُوفَةِ مَعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ مَعَ الْغُرَبَاءِ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ وَمَا بَدَا لَهُ مِنْ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ شَخْصًا لِمُعَامَلَتِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَهُ إلَّا التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهِ حِنْطَةً فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُهُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبُرِّ، وَقَالَ: الْمُضَارِبُ دَفَعْتُهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ "، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ أَمَرْتنِي بِالْبُرِّ وَقَدْ خَالَفْتَ فَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ: رَبُّ الْمَالِ لَمْ أُسَمِّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ بِالْإِنْفَاقِ فَزَفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " الْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ " إذَا أَقَرَّ بِهِ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 42 الْإِجَارَاتِ إذَا قَالَ الْحَائِكُ: أَمَرْتنِي بِسِتَّةٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَقَالَ: رَبُّ الْغَزْلِ أَمَرْتُكَ بِسَبْعَةٍ فِي خَمْسَةٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُعِيرُ، مَعَ الْمُسْتَعِيرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِعَارَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُعِيرِ وَالْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَتَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطْلَقَ الْمُضَارَبَةِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ لِلتَّصَرُّفِ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَصِحُّ وَيَمْلِكُ بِهِ جَمِيعَ التِّجَارَاتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ كَالْوَكَالَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومَ فَالْمُدَّعِي لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرُ يَدَّعِي تَخْصِيصًا زَائِدًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شَرْطًا زَائِدًا مِنْ خِيَارٍ أَوْ مِنْ أَجَلٍ. وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا اسْتَشْهَدَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فَإِنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي التَّخْصِيصَ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَفِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّقْيِيدَ بِالْبُرِّ وَالْآخَرُ بِالْحِنْطَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَغْيِيرِ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ فَأَمَّا هُنَا فَأَحَدُهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ لِذَلِكَ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ تِجَارَةٍ خَاصَّةٍ أُخِذَ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مَا يُعَيِّنُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تَعْمَلْ بِالْمَالِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ الْأَمْرَ بَعْدَ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً لِتَقْيِيدِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَا دَامَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ نَقْدًا فَرَبُّ الْمَالِ يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَيَمْلِكُ تَقْيِيدَ الْأَمْرِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ شَيْءٍ أَصْلًا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَغْيِيرِ وَصْفِهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى، وَبَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا لَوْ قَالَ لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ هَذَا مَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا وَلَوْ نَهَاهُ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ مَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ صِفَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْيِيدِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْمَالِ ثِيَابًا ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ لَا يَعْمَل فِي الْمَالِ إلَّا فِي الْحِنْطَة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا بَقِيَ فِي يَده مِنْ الْمَال إلَّا فِي الْحِنْطَة اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ نَقَدَ فِي الثِّيَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ إلَّا الْحِنْطَةَ وَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِعَمَلِ الْآن اعْتِبَارًا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 43 لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَمَرَهُمَا بِأَنْ يَعْمَلَا فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِمَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ إلَّا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ فِي الْعَمَلِ إلَى رَأْيِهِمَا، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى. فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، وَفِي الْوَكِيلَيْنِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ هَذَا بِنَهْيٍ إنَّمَا هُوَ مَشُورَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ الدَّفْعِ: خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُهُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الطَّعَامِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْمُضَارِبُ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَعْيِينِ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِالتَّقْيِيدِ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا غَيْرَ الطَّعَامِ وَقَدْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ صَدَقَتَا، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْإِذْنِ صَحِيحٌ وَالْإِذْنُ بَعْدَ النَّهْيِ عَامِلٌ، وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا. فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِدَعْوَاهُ الْإِطْلَاقَ؛ وَلِأَنَّ فِي بَيِّنَةِ رَبِّ الْمَالِ زِيَادَةَ إثْبَاتِ التَّقْيِيدِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا خَاصًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ أُخِذَ بِالْوَقْتِ الْأَخِيرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ، وَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمْ تُوَقَّتَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَيَبِيعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِالنَّقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَالِهِ مُسْتَرِدًّا، فَإِنْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَمَرْتنِي بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَمَرْتُكَ بِالنَّقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُعَيَّنِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا يَبِيعَ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا خَيْرٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَالْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَ بِهِ لَا يَكُونُ خِلَافًا فِي الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ مَا بِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَزِيَادَةُ خَيْرٍ، فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِالنَّقْدِ. قَالُوا: وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِمِثْلِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ بِدُونِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْآمِرِ فِي الْقَدْرِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 44 فَالشَّيْءُ يُشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُشْتَرَى بِهِ بِالنَّقْدِ وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ خَاصَّةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِنَفْسِهِ دَابَّةً وَإِذَا خَرَجَ لِلطَّعَامِ خَاصَّةً كَمَا يَسْتَأْجِرُ لِلطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ تِجَارَتِهِ فِي الطَّعَامِ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً يَرْكَبُهَا إذَا سَافَرَ كَمَا يَشْتَرِي التُّجَّارُ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ إذَا سَافَرَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَنَفَقَتِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرُبَّمَا يَكُونُ شِرَاءُ الدَّابَّةِ أَوْفَقَ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ وَذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيْضًا حَمُولَةً يُحْمَلُ عَلَيْهَا الطَّعَامُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً إذَا لَمْ يُوجَدْ الْكِرَاءُ أَوْ يَكُونُ الشِّرَاءُ أَوْفَقَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكِرَاءِ، فَإِنْ اشْتَرَى سَفِينَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا الطَّعَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَلَا يُعَدُّ شِرَاءُ السَّفِينَةِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَشْتَرِي لِلطَّعَامِ الْحَمُولَةِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا فَاشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الْحَمُولَةِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا فِي الْقِيَاسِ شِرَاءُ الْحَمُولَةِ لَيْسَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ عَادَةً إذَا خَرَجُوا فِي حَمُولَةِ الطَّعَامِ فَذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَالِ فِي الطَّعَامِ وَمَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً كَشِرَاءِ السَّفِينَةِ يُؤْخَذُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ فِيهِ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَدَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُسَمِّ فَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَسَفِينَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا الطَّعَامَ أَوْ اشْتَرَى دَوَابَّ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ هُنَا مُطْلَقًا وَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِهَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ فِي الْمِصْرِ خَاصَّةً وَقَالَ الْآخَرُ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لِتَمَسُّكِهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فِي مُقْتَضَاهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مَا رَضِيَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرْضَى بِمَا لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَالِ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَذِنَ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ يَكُونُ كَالْمُوَكِّلِ وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يُوَكِّلَ. وَلَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا وَاحِدًا بِالتَّصَرُّفِ نَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بَيْعًا وَشِرَاءً، فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. وَإِنْ أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَاشْتَرَى الْمُسْتَبْضِعُ وَبَاعَ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَرِبْحُ ذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ الَّذِي أَبْضَعَ وَوَضِيعَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 45 إبْضَاعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَيُجْعَلُ تَصَرُّفُ الْمُسْتَبْضِعِ لَهُ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ إنْ شَاءَ الْمُسْتَبْضِعُ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُسْتَبْضِعُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ غَاصِبٌ فَإِنْ ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَبْضِعِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فَإِنَّمَا أَبْضَعَ مُلْكَ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ عَامِلٌ لَهُ لَوْ لَحِقَهُ ضَمَانٌ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَرُجُوعُ الْآمِرِ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا. فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي أَنْ يُبْضِعَ مَا شَاءَ مِنْ الْمَالِ فَأَبْضَعَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَأَبْضَعَ الْآخَرُ رَجُلًا فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِمَا جَمِيعًا. وَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ نِصْفَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ لِلنِّصْفِ وَحَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَى الْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَقْبِضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ قَبْضِ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلشَّرِيكِ. وَلَوْ قَالَ لَهُمَا حِينَ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِمَا مُضَارَبَةً لَا تُبْضِعَا الْمَالَ فَأَبْضَعَاهُ فَهُمَا ضَامِنَانِ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَهْيٌ مُفِيدُ فَيَكُونُ عَامِلًا مَعَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ أَبْضَعَاهُ رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ رَبِّ الْمَالِ الْبِضَاعَةَ مِنْهُمَا وَالشِّرَاءَ لَهُمَا بِهِ فَسْخٌ مِنْهُ لِذَلِكَ النَّهْيِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُمَا فِي الْإِبْضَاعِ أَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبْضِعَا رَبَّ الْمَالِ أَوْ غَيْرَهُ. وَإِذَا أَبْضَعَ الْمُضَارِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعَرُّفُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْفَاسِدِ إلَّا بِاعْتِبَارِهِ بِالْجَائِزِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْجَائِزَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِيمَا عَمِلَ الْمُسْتَبْضِعُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ لَهُ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ بَعْدَ هَذَا مَا يُنَفِّذُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَثُلُثُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الَّذِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَاسِدَةٌ بِاشْتِرَاطِهِ لَهُ مِقْدَارًا مُسَمًّى مِنْ الْمَالِ، وَهَذَا الْمُفْسِدُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَاسْتَحَقَّ هُوَ ثُلُثَ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَعْمَلَا بِهِ حَتَّى أَبْضَعَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 46 أَحَدُهُمَا الْمَالَ مَعَ صَاحِبِهِ فَعَمِلَ بِهِ أَيُّهُمَا كَانَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ كَعَمَلِهِمَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي حَقِّهِمَا أَوْ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَاسِدًا فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَالْمُضَارِبُ الَّذِي شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْعَمَلِ بِنِصْفِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعَامِلُ أَوْ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي النِّصْفِ لِصَاحِبِهِ وَعَمَلُ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ لَهُ فَيَكُون كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ. . وَإِذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَخَرَّ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِ عَيْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَهُنَاكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ فِي الثَّمَنِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَاعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِمِثْلِهِ مُؤَجَّلًا فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَهُوَ يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ ثَانِيًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَكَذَلِكَ تَأْجِيلُهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَحَالَ بِهِ الْمُضَارِبُ عَلَى إنْسَانٍ أَيْسَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَعْسَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَلَوْ أَقَالَ الْعَقْدَ مَعَ الْأَوَّلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَكِيلَ وَالْمُضَارِبَ فِي هَذِهِ لَيْسَ نَظِيرَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّ قَبُولَهُمَا الْحَوَالَةَ عَلَى مَنْ هُوَ أَعَسْرُ مِنْ الْمُحِيلِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْأَحْسَنِ وَالْأَصْلَحِ لَهُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْلَسَ، وَتَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمِثْلِهِ بَلْ هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَذَلِكَ يُوجَدُ هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّ شَيْئًا بِعَيْبٍ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً، وَلَوْ قَبِلَهُ بِالْعَيْبِ ثُمَّ بَاعَهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ثَانِيًا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا حَطَّ عَنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَإِنْ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا فَاحِشًا أَوْ حَطَّ بِغَيْرِ عَيْبٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " وَهُوَ ضَامِنٌ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ وَمَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَرَأْسُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي " وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَا يَجُوزُ هَذَا الْحَطُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَطَّ " لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَطِّ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ ضَامِنٌ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ وَفِي مِقْدَارِ مَا صَارَ ضَامِنًا يَبْطُلُ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمُضَارَبَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 47 الصَّحِيحَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ. وَإِذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَخَلَطَهُ بِمَالِهِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِتَعْمِيمِ التَّفْوِيضِ إلَى رَأْيِهِ يَمْلِكُ الْخَلْطَ بِمَالِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك كَانَ هُوَ بِالْخَلْطِ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ بِفَوَاتِ شَرْطِهَا، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطْهُ وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِهِ وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ عَبْدًا وَاحِدًا وَقَبَضَهُ وَنَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يَخْلِطَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فِي صَفْقَةٍ وَنِصْفَهُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ إنَّمَا يَحْصُلُ حُكْمًا إمَّا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْ الْمُضَارِبِ فِي الْخَلْطِ وَبِمِثْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ضَامِنًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفَيْنِ يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ فِي النِّصْفِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُ مُخْتَلَطًا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ لَا بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ الْمُضَارِبُ قَصْدًا، فَإِنْ عَزَلَ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ ثُمَّ اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لَهُمَا، نِصْفُهُ لِلْمُضَارِبِ، وَنِصْفُهُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَقِسْمَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقَاسِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ أَمِينًا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ نَفْسِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ فَكَانَ هَذَا وَشِرَاؤُهُ بِبَعْضِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ شِرَاءِ الْمُضَارِبِ وَبَيْعِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): " وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَقَالَ: لَهُمَا اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا أَوْ لَمْ يَقُلْ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ وَبَاعَهُ حَتَّى أَصَابَ مَالًا وَعَمِلَ الْآخَرُ بِنِصْفِ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى أَصَابَ مَالًا فَالْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ لِنِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ فَوَّضَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ إلَى رَأْيِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فِيهِ وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ يَنْفَرِدُ بِالرَّأْيِ فِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَكُونُ مُخَالِفًا ضَامِنًا، وَمَا يُحَصِّلُ بِتَصَرُّفِهِ مِنْ الرِّبْحِ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِحُصُولِهِ لَهُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ، وَأَمَّا الَّذِي عَمِلَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَتَصَرُّفُهُ حَاصِلٌ بِرَأْيِهِمَا حُكْمًا فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا لَوْ عَمِلَا فِيهِ، فَإِنْ تَوِيَ مَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ مِمَّا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 48 الَّذِي عَمِلَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَامِلُ الْآخَرُ تَاوٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ إنْسَانٌ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ وَتَوِيَ بَدَلُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَمِلَا بِمَا بَقِيَ وَفِي هَذَا يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَتَصَرَّفَا فِيهَا حَتَّى أَصَابَا مَالًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ أَوَّلًا؟ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ شَيْءٌ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ نَصِفَهُ وَأَخَذَ هَذَا الْمُضَارِبُ رُبْعَهُ، وَالرُّبْعُ الْبَاقِي نَصِيبُ الْمُضَارِبِ الْمُخَالِفِ مِنْ الرِّبْحِ فَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَأْخُذُهُ لِحَقِّهِ وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ قُلْنَا: إنْ كَانَ هَذَا الرُّبْعُ مِثْلَ مَا تَوِيَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُوَافِقُ رُبْعَ الرِّبْحِ الَّذِي صَارَ لِلْمُخَالِفِ فَاقْتَسَمَاهُ أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فِي الرِّبْحِ. وَإِنْ كَانَ مَا تَوِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَقَلَّ تَرَاجَعُوا بِالْفَضْلِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْمُوَافِقِ إنْ كَانَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا بَقِيَ خَمْسُمِائَةٍ فَيُجْمَعُ إلَى نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ فَيُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَلِلْمُضَارِبِ الْعَامِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الرُّبْعُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَتْ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الرُّبْعُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ يُحْسَبُ لَهُمَا عَلَيْهِ وَيُقَسِّمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةِ الْعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ الَّذِي اسْتَهْلَكَ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيَقْسِمَانِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَإِلَى الْمُضَارِبِ الْمُوَافِقِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَسُلِّمَ لِلْآخَرِ مِمَّا عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ. وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ مَا فِي يَدِهِ وَلَكِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُضَمِّنُ الْمُضَارِبَ الْمُخَالِفَ نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْخِلَافِ، وَتَصَرُّفُهُ كَانَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ حِينَ قَبَضَا الْأَلْفَ مُضَارَبَةً اقْتَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ عَبْدًا ثُمَّ أَجَازَ صَاحِبُهُ شِرَاءَهُ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ بِإِجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَالشِّرَاءُ هُنَا نَافِذٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ إجَازَةُ الْآخَرِ تَنْفِيذًا لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَلَوْ اشْتَرَيَا جَمِيعًا بِالْأَلْفِ عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَجَازَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَاقِدِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لِغَيْرِهِ فَتَكُونُ إجَازَتُهُ، فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 49 نَظِيرُ فُضُولِيٍّ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ فَأَجَازَهُ الْمَالِكُ يَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ وَلَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْعَاقِدِ وَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِجَازَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَهُ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ عَامِلٌ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ فَبِإِجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ أَوْلَى، وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِيَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يُعَامِلْهُ بِشَيْءٍ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَأَجَازَهُ صَاحِبُهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ مُشْتَرِيًا عَرَضَ صَاحِبِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا اشْتَرَاهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِذَا لَمْ تَعْمَلْ إجَازَتُهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ صَاحِبُهُ فَكَذَلِكَ لَا تَعْمَلُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِ وَيَكُونُ بَدَلَهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَرَضِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ بَائِعٌ وَبَيْعُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ وَتُجْعَلُ إجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ أَعْمَالِ إجَازَتِهِ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ بِهِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ أَعْمَالُهُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ شِرَاءٌ وَفِي الْبَدَلِ الْآخَرِ بَيْعٌ وَلَكِنَّا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الْآخَرَ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا قَرَنَا بِهِ حَرْفَ الْبَاءِ وَحَرْفُ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَبْدَالَ وَالْأَثْمَانَ. وَفِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ بِصَحِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَ الْعَاقِدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشَّكِّ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْآخَرُ حَتَّى قَبَضَ الْبَائِعُ مَا بَاعَ بِهِ الْعَبْدُ فَبَاعَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ أَجَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهُ قَبْلَ إجَازَتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْعَرَضِ الْآخَرِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِبَدَلٍ يُسْتَحَقُّ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ جِهَتِهِ وَبَعْدَ مَا نَفَذَ بَيْعُهُ مِنْ جِهَةٍ لَا يَصِيرُ لِلْمُضَارَبَةِ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَازَةُ يُسْتَرَدُّ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ الَّذِي قَبَضَهُ وَبَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَا يُقَابِلُهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ بَاعَهُ فَعَلَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ بَيْعَ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ الْعَامِلُ فِي ثَمَنِهِ شَيْئًا جَازَ بَيْعُ الْعَبْدِ لِلْعَامِلِ الْبَائِعِ وَلَهُ ثَمَنُهُ وَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اشْتَرَى الْعَرَضَ لِنَفْسِهِ وَأَعْطَى الْعَبْدَ بِمُقَابِلَتِهِ قَرْضًا عَلَى نَفْسِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَالِكٌ لِلْإِقْرَاضِ فَيَصِيرُ بِالْإِجَازَةِ كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ الْعَبْدَ وَاسْتَقْرَضَ الْحَيَوَانَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَلَكِنَّهُ يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُسْتَقْرِضِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 50 وَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ لِلْمُقْرِضِ وَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يُنَافِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ الْحُكْمُ عِنْدَ إجَازَةِ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُ إجَازَتِهِ بِطَرِيقِ إقْرَاضِ الْعَبْدِ مِنْ صَاحِبِهِ فَاشْتَغَلْنَا بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ لِإِعْمَالِ إجَازَتِهِ وَرَبُّ الْمَالِ يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فَأَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ إجَازَتَهُ إقْرَاضًا مِنْهُ فَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فِيهِ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمَّا قَبَضَهُ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ وَأَنَا أَنْوِي أَنْ يَكُونَ بِالْمُضَارَبَةِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ وَيَدْفَعُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَالَ: بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ فِي يَدِي يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ ثُمَّ قَالَ الْمُضَارِبُ: اشْتَرَيْتُهُ وَأَنَا أَنْوِي الْمُضَارَبَةَ وَقَدْ كَانَ الشِّرَاءُ قَبْلَ هَلَاكِ الْمَالِ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَبْدُ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُرِيدُ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى لِيَدْفَعَهُ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُسَلَّطًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى ذِمَّتِهِ لِالْتِزَامِ الْمَالِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا يُرِيدُ دَفْعَ الْأَلْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي ثَمَنِهِ، وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ تَمَلُّكٌ هُوَ دَفْعُ مَا فِي يَدِهِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ بِهِ أَيْضًا، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ شَيْءٍ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُضَارِبِ قَبْلَ هَلَاكِ الْمَالِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْعَبْدِ بِطَرِيقِ إنْشَاءِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا حِينَ قَالَ الْمُضَارِبُ هَذَا الْقَوْلُ ثُمَّ ضَاعَتْ الْأَلْفُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُضَارِبُ لِلْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ مَا كَانَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الشِّرَاءِ فِي هَذَا الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ هَالِكًا فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ إقْرَارِهِ كَالْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا أَعْمَلْنَا إقْرَارَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ بِهَلَاكِ الْمَالِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الدَّفْعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُتَمَكِّنًا مِنْ إنْشَاءِ الشِّرَاءِ فِي هَذَا الْعَبْدِ الْقَائِمِ فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ كَإِنْشَائِهِ وَالْمُضَارِبُ، إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 51 رَجَعَ بِمِثْلِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ كَانَ عَامِلًا لَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِضَافَةُ الشِّرَاءِ إلَى الْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِنَقْدِهِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَى ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَى الْمُضَارَبَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِإِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَأْخُذُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا لَهُ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مُضَارَبَةً وَلَا غَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَا يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى السَّوَاءِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ هُوَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُهَا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَنْقُدْهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ كَذَّبَهُ فِيهِمَا، فَالْعَبْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهُ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُ ثَمَنِهِ فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَحِينَ اشْتَرَى الْعَبْدَ الثَّانِيَ هُوَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا شِرَاءَهُ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا فِي ثَمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ نَفَّذَ الشِّرَاءَ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَانَ اسْتِدَانَةً وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَارَ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ الثَّانِيَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ إنَّمَا اشْتَرَيْتُ الثَّانِي لِلْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ الثَّانِيَ لِلْمُضَارَبَةِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا وَذَلِكَ كَالْإِقْرَارِ مِنْ الْمُضَارِبِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَى الْأَوَّلَ لِلْمُضَارَبَةِ فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَوَّلَ لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ مُنَاقِضًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِمَا أَوْ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ مَالِكًا الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ بِيَقِينٍ فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ، وَعِنْدَ الشِّرَاءِ الثَّانِي مَا كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِيَقِينٍ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الثَّانِي مَعَ تَكْذِيبِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ: نَوَيْت كُلَّ وَاحِدٍ بِالْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ لِلْمُضَارِبِ وَنِصْفُهُمَا لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِجَعْلِهِ لِلْمُضَارَبَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ قَبُولُ الْمُضَارَبَةِ فِي أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 52 مِنْهُ فِي الْآخَرِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ لَهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِدَانَة عَلَى الْمَالِ، فَصَارَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْمُضَارَبَةِ وَنِصْفَهُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ لِلْمُضَارَبَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُضَارِبَ مِنْ دَعْوِي الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَيْتهمَا بِأَلْفٍ مِنْ عِنْدِي وَبِأَلْفٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَيْنِهِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ وَالْمُضَارِبُ مُنْكَرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَنِصْفُ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَنِصْفُهُمَا لِلْمُضَارِبِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَنَهْيُ رَبِّ الْمَالِ جَائِزٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ فَسْخَهُ بِنَهْيِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَهَذَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكَالَةٌ، وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ قَبْلَ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ لِانْفِسَاخِ الْمُضَارَبَةِ بِنَهْيِ رَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَهَاهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِالْمَالِ شَيْئًا فَنَهْيُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا بِتَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّهُ فِي الرِّبْحِ فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ إبْطَالَ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَبِخِلَافِ مَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَا حَقَّ هُنَاكَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعُرُوضِ بِمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثُمَّ يَبِيعُ ذَلِكَ بِمَا بَدَا لَهُ كَمَا قَبْلَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ فَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا شَاءَ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ بِمَا شَاءَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ النَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ نَقْدًا فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَيَسْتَوِي إنْ صَارَ بَعْضُ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُ نَقْدًا فِي أَنَّ النَّهْيَ يَعْمَلُ فِيمَا صَارَ مِنْهُ نَقْدًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَبِيعَ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى يُوَفِّيَ رَبَّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَيَعْمَلُ النَّهْيُ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَرُدُّ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا قَبَضَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِمُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخِرِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ سُودًا وَالْحَاصِلُ فِي يَدِهِ بِيضٌ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ فَإِنَّ مَوْتَهُ وَنَهْيَهُ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِلْمُضَارِبِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَجَازَ مَا صَنَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 53 فَاشْتَرَى بِهَا خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ مَيْتَةً، أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ مُكَاتَبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَقَبَضَ ذَلِكَ وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ اشْتَرَى بِهَا مَالًا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ فَلَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ نَفَذَ فِيهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْخِلَافِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِالْمُضَارَبَةِ عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا أَوْ اشْتَرَى بِهَا دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ أَقَلَّ وَدَفَعَ الْمَالَ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا دَفَعَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ. فَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ بِالْفَسَادِ كَالْوَكِيلِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا مُضَارَبَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ضَامِنٌ لِلْمَالِ إنْ دَفَعَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَالْمُضَارِبُ فِي الشِّرَاءِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْخَمْسِينَ فِي الْأَلْفِ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَذَلِكَ عَفْوٌ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَبِيعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ لَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الثِّيَابَ وَيَقْطَعَهَا بِيَدِهِ وَيَخِيطَهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ مِمَّا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ عَلَى قَصْدِ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْجُلُودَ وَالْأَدَمَ وَيَخْرُزَهَا خِفَافًا وَدِلَاءً وَرَوَايَا وَأَجْرِبَةً فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَلَى قَصْدِ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ فَيَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يُسَمِّ نِصْفًا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالشَّرِكَةِ فِي اقْتِضَاءِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّسْوِيَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " هَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ "؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40] فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ نَصِيبًا وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرِيكَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُمَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 54 شَرِيكَانِ وَهُنَا أَضَافَ الشَّرِكَةَ إلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّصِيبُ. وَإِذَا دَفَعَ فِي مَرَضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ الْمُضَارِبُ فَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَأَجَّرَ مِثْلَ الْمُضَارِبِ أَقَلَّ مِمَّا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فِيمَا عَمِلَ وَعَلَى رَبّ الْمَالِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَا بِهِ فَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ دَيْنِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ صَحَّ، فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْمَالِ قَطُّ حَتَّى يَكُونَ إيجَابُهُ لِلْمُضَارِبِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَعْتَبِرُ مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا إنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ كَمَا حَدَثَ ابْتِدَاءً، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ بَعْضُ مَا يَحْدُثُ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ لَهُ بِأَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ رِبْحُهُ كُلُّهُ لَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ وَوَرَثَةِ الْمَرِيضِ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ جَعَلَ بَعْضَ الرِّبْحِ لَهُ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمَرِيضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَيَضْرِبُ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ لِيَسْتَحِقَّ التَّقْدِيمَ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَلَوْ دَفَعَ الصَّحِيحُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً إلَى مَرِيضٍ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ عُشْرَ الرِّبْحِ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَلِلْمُضَارِبِ عُشْرُ الرِّبْحِ، لَا يُزَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ مَا لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَنَافِعِهِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ بِأَنْ عَمِلَ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْبِضَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ سَبِيلٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دُونَ أَجْرِ مِثْلِهِ. وَإِذَا أَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَرُدَّ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِالْعَيْبِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُضَارِبِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى بَيْعٍ مُنْذُ رَآهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَقِيَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا النُّكُولِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مُلْزَمًا لِلْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ الْمُضَارِبُ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْبَيْعِ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقِيلَهُ الْعَقْدَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الرِّضَا عَلَى الْآمِرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُضَارِبَ وَلَا رَبَّ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ دَعْوَى الرِّضَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا لَمْ يَرَهُ وَقَدْ رَآهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 55 رَبُّ الْمَالِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ رَبِّ الْمَالِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَشْتَرِي ذَلِكَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ لَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَلَا عِنْدَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَبَعْدَ الرُّؤْيَةِ لَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُ رُؤْيَتِهِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ مُضَارَبَةً أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ الْخِيَارُ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ. وَلَوْ رَآهُ الْمُضَارِبُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارٌ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ عَالِمٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِأَنَّهُ يَشْتَرِي ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فَالرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِهِ، وَفِيمَا يُبْنَى عَلَى الرِّضَا وَلُزُومِ الْعَقْدِ الْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْوَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُضَارِبُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُضَارِبَهُ يَشْتَرِي ذَلِكَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ، فَعِلْمُهُ بِالْعَوَرِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِعَيْبِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عِلْمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِعَيْبِهِ، فَبِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَبْدَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يَرَهُ وَقَدْ رَآهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الشِّرَاءِ وَرُؤْيَةُ رَبِّ الْمَالِ هُنَا دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَيْبِ حِينَ أَمَرَ نَائِبَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ رَآهُ وَلَمْ يَرَهُ رَبُّ الْمَالِ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْوَرَ وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ مَا اسْتَحَقَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الشِّرَاءِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَلِمَ لَهُ، فَأَمْرُهُ إيَّاهُ بِالشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْعَيْبِ، وَرِضَا رَبِّ الْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِلْمُضَارِبِ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَاهُ وَقَدْ كَانَ الْآمِرُ رَآهُ أَوْ عَلِمَ بِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الثِّيَابَ وَيَبِيعَ فَاسْمُ الثِّيَابِ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَلْبُوسِ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَالْخَزِّ، وَالْحَرِيرِ، وَالْقَزِّ، وَثِيَابِ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْأَكْسِيَةِ، والْأنْبَجانِيَّات، وَالطَّيَالِسَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسُوحَ، وَالسُّتُورَ، وَالْأَنْمَاطَ، وَالْوَسَائِدَ، وَالطَّنَافِسَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ جِنْسِ الْفُرُشِ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الثِّيَابِ فِي الْعَادَةِ مُطْلَقًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَائِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى ثَيَّابًا بَلْ الثِّيَابِيُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ، وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَفْهُومِ عُرْفًا وَلَوْ دَفَعَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 56 الْبَزَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ ثِيَابِ الْخَزِّ وَالْحَرِيرِ، وَالطَّيَالِسَةِ، وَالْأَكْسِيَةِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْبَزَّازَ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ لَا مَنْ يَبِيعُ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ، وَهَذَا شَيْءٌ مَبْنَاهُ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَإِذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ قَبِلَهُ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحُكْمٍ أَوْ إقَالَةٍ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً، وَالْمُضَارِبُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَقَبُولُهُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَكُونُ فَوْقَ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً فَيَجُوزُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُضَارِبُ الْعَيْبَ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى إنْ زَادَهُ مَعَ الْعَبْدِ دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَبْطَلْتُهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ عَلَى مِثْلِ هَذَا مُتَعَارَفٌ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالْمُضَارِبُ يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ بَلْ هُوَ كَالْبُرِّ الْمُبْتَدَأِ، ثُمَّ هُوَ مَأْمُورٌ بِالصُّلْحِ لِإِصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا لِإِفْسَادِ الْمَالِ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى مِثْلِ حِصَّةِ الْعَيْبِ أَوْ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ إصْلَاحٌ فَأَمَّا فِي الصُّلْحِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَإِفْسَادٌ بِهِ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَقَلَّ مِنْهُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " هُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ " إلَّا مَا اشْتَرَى مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُمَا فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْوَكِيلِ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ الشِّرَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَقْسِيمُهُ هُنَا تَقْسِيمٌ فِي الْوَكِيلِ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ فِي الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ التُّهْمَةَ وَذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ مُوجِبُ التُّهْمَةِ فَيُحْمَلُ شِرَاؤُهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ عَلَى أَنَّهُ خَفِيٌّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَفِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى التُّهْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْمُضَارِبِ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِمُوَكِّلِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 22 ¦ الصفحة: 57 أَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ وَإِنْ كَانَ يُعَامِلُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَعَامِلٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا يَشْتَرِيهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتْرُكُ الِاسْتِقْصَاءَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ هَؤُلَاءِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ عَلَى الْمُوَكِّل، يُوضِحُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَكِيلِ وَقَدْ يُسْتَبَدُّ بِالتَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ وَهُوَ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا، وَقَدْ يَكُونُ نَائِبًا مَحْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُسْتَبِدِّ بِالتَّصَرُّفِ قُلْنَا: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَلِشَبَهِهِ بِالنَّائِبِ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَنَائِبٌ مَحْضٌ وَهُوَ نَائِبٌ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَمْ يَبِعْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يُبَيِّنَ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ إلَّا مَا اشْتَرَاهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ وَلَدَهُ وَلَا فَضْلَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ مَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانَ فِي فَضْلِ يَوْمٍ اشْتَرَاهُ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَلَكَ مِنْهُ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجُزْءُ وَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ مَالًا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَبَا رَبِّ الْمَالِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَخَاهُ وَفِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَلَكَهُ رَبُّ الْمَالِ وَعَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ بَيْعِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْمَدْيُونِ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَيَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَقَبَضَ الْمَأْمُورُ نِصْفَ مَا عَلَى الْمَدْيُونِ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِيهِ مَا قَبَضَهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّرْتِيبَ فَكَانَ هُوَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ مَأْمُورًا بِالْقَبْضِ وَالْعَمَلِ بِهِ مُضَارَبَةً فَإِذَا قَبَضَ الْبَعْضَ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ قَالَ لَهُ اقْبِضْ جَمِيعَ الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اعْمَلْ بِهَا مُضَارَبَةً كَانَ مُخَالِفًا فِيمَا صَنَعَ ضَامِنًا لِلْمَالِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 58 وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَهُوَ أَخَّرَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ مُضَارَبَةً عَنْ قَبْضِ جَمِيعِ الْمَالِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الْأَلْفِ لَا يَأْتِي، أَوْ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً فَإِذَا عَمِلَ بِالْبَعْضِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْكُلَّ كَانَ مُخَالِفًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اقْبِضِي جَمِيعَ الْمَالِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَبَضَتْ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ تَطْلُقْ؟ وَلَوْ قَالَ اقْبِضِي جَمِيعَ الْمَالِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ لِلْحَالِ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ شَيْئًا إذَا لَمْ يَزِدْ الزَّوْجُ وَاوَ الْحَالِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الصَّبِيِّ أَوْ إلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِ الصَّبِيِّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ جَازَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لِكَوْنِهِ مُمَيَّزًا وَإِنَّمَا يُلَاقِي تَصَرُّفُهُ مَالَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ. وَلَوْ اسْتَعَانَ بِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ لَهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّهِ فَإِذَا شَرَطَ لَهُمَا نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُمَا، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لَا يَلْحَقُهُمَا الْحَجْرُ بِتَمَحُّضِ مَنْفَعَةٍ، وَالْعُهْدَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَهُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُمَا ضَرَرًا وَهُمَا مَحْجُورَانِ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الضَّرَرِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِمَا لَزِمَتْ الْعُهْدَةُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ بَعْدَهُمَا وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ، ثُمَّ لَا تَنْتَقِلُ الْعُهْدَةُ إلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَبِرَ وَتَنْتَقِلُ إلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ مِنْ أَهْلِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى كَانَ مَانِعًا مِنْ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ أَصْلًا فَلَا يَلْحَقُهُ ذَلِكَ وَإِنْ بَلَغَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَالْإِقْرَارِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ وَقُتِلَ الصَّبِيُّ وَهُوَ فِي عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مَا رَبِحَا فَإِنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ يُضَمِّنُ رَبَّ الْمَالِ قِيمَةَ عَبْدِهِ يَوْمَ عَمِلَ فِي مَالِهِ مُضَارَبَةً بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَجَمِيعُ مَا رَبِحَ الْعَبْدُ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ مَوْلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبٌ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ وَالْكَسْبُ لِلْغَاصِبِ إذَا مَلَكَ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ لِلْعَبْدِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِذَا مَاتَ غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ قِيمَتَهُ وَبَطَلَ الْأَجْرُ عَنْهُ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا قُتِلَ فِي عَمَلِ رَبّ الْمَالِ بَعْدَ مَا رَبِحَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَإِنْ شَاءَ وَرَثَةُ الصَّبِيِّ ضَمَّنُوا عَاقِلَةَ رَبّ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِهِ صَارَ مُتَسَبِّبًا لِهَلَاكِهِ وَهَذَا سَبَبٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا وَقَرَّبَهُ إلَى مَسْبَعَةٍ حَتَّى افْتَرَسَهُ السَّبُعُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ رَبِّ الْمَالِ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 59 مَقَامَ وَرَثَةِ الصَّبِيِّ حِينَ ضَمِنُوا لَهُمْ دِيَتَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُبَاشِرٌ، وَالْمُتَسَبِّبُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَرَّرَ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَتِهِ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُسَلِّمُ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَا يَمْلِكُ بِضَمَانِ الدِّيَةِ؛ وَلِأَنَّ عَاقِلَةَ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا غَرِمُوا الدِّيَةَ بِهَلَاكِ الصَّبِيِّ فِي عَمَلِهِ لِرَبِّ الْمَالِ لَا لِاسْتِعْمَالِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ مَاتَ وَلَمْ يُقْتَلْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَرِيئًا مِنْ دِيَتِهِ؟ فَلِهَذَا يُسَلِّمُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ لِوَرَثَتِهِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً. فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْبَاقِي مِنْهُمَا: قَدْ هَلَكَ الْمَالُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي نِصْفِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِيمَا كَانَ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا أَخْبَرَ بِهَلَاكِهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَأَمَّا الْمَيِّتُ، فَإِنَّ نِصْفَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَقَدْ مَاتَ مُجَهَّلًا، وَالْأَمِينُ بِالتَّجْهِيلِ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا فَيَكُونُ ضَامِنًا. وَإِذَا دَفَعَ الْمُسْلِمُ إلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَلَا نَأْمَنُ أَنْ يُؤَكِّلَهُ حَرَامًا، إمَّا لِجَهْلِهِ، أَوْ لِقَصْدِهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي فَسَادِ أَمْرِ دِينِكُمْ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَعْمَلُ بِالرِّبَا، وَلَا يَتَحَرَّزُ فِي ذَلِكَ، فَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكْتَسِبَ الرِّبْحَ بِتَصَرُّفٍ مِثْلِهِ لَهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْمُضَارِبِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَالنَّصْرَانِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ اتَّجَرَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَرَبِحَ، جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ. وَعِنْدَهُمَا، تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ فَرْعُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ، فِي الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ الذِّمِّيَّ بِشِرَاءِ الْخَمْرِ، فَإِنْ اشْتَرَى مَيْتَةً فَنَقَدَ فِيهَا مَالَ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ فِي الْمَيْتَةِ لَا يَكُونُ نَافِذًا، وَالْمُضَارِبُ لَا يَشْتَرِي بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَالًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ أَرْبَى فَاشْتَرَى دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِفْسَادِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ هُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ. وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ، فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مَالَ النَّصْرَانِيِّ مُضَارَبَةً، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَلِي التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ هُنَا الْمُسْلِمُ، وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 60 يَتَحَرَّزُ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، كَمَا يَتَحَرَّزُ عَنْهُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً، وَنَقَدَ الْمَالَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَإِنْ رَبِحَ فِي ذَلِكَ، رَدَّ الرِّبْحَ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، فَيَسْتَحِقُّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَلَا يُعْطِي رَبُّ الْمَالِ النَّصْرَانِيَّ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَا وَقَعَ لَهُ حِينَ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، وَصَارَ بِهِ مُخَالِفًا وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْلِمُ مَالَهُ مُضَارَبَةً إلَى مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ، جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ هُنَا لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُسَاعِدُهُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْخَمْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُضَارِبُ نَصْرَانِيًّا وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ هُنَاكَ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ مُضَارَبَةً إلَى عَبْدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ إلَى مُكَاتَبِهِ أَوْ إلَى وَلَدِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ هَؤُلَاءِ، كَالْأَجْنَبِيِّ فَكَسَبَ الْعَبْدُ الْمُسْتَغْرِقُ بِالدَّيْنِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ. وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَيَا بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَاهُ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ بِعَرَضٍ يُسَاوِي أَلْفًا، وَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُشْتَرٍ ذَلِكَ الْعَرَضَ لِنَفْسِهِ، مُسْتَقْرِضٌ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ حِينَ جَعَلَهُ عِوَضًا عَمَّا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْإِجَازَةِ صَارَ مُقْرِضًا الْعَبْدَ مِنْهُ، فَتَعْمَلُ إجَازَتُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْعَامِلِ قِيمَةُ الْعَبْدِ، أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، أَلْفٌ مِنْ ذَلِكَ يَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَأَلْفٌ أُخْرَى رِبْحُهُ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ نِصْفَهَا، وَنِصْفُهَا بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ، فَيَطْرَحُ عَنْ الْعَامِلِ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْأَلْفِ، وَيَغْرَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَحَقُّ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بَيْعٌ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهِ نُفُوذُ إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ فِي حِصَّتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، جَازَ عَلَى الْمُضَارِبَيْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَرٍ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَاسْتِقْرَاضُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ ضِمْنًا لِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَ فِعْلَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا، إنْ أَجَازَهُ صَاحِبُهُ نَفَذَ لِاجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَجَازَهُ رَبُّ الْمَالِ نَفَذَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَإِذَا كَانَ يَنْفُذُ الْعَقْدُ بِإِجَازَةِ النَّائِبِ فَبِإِجَازَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَوْلَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَلْفَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَاهُ جَمِيعًا. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْنِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُقْصَانًا يَدْخُلُ عَلَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 61 الْمُضَارِبِ الْآخَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا رِبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يُسْتَوْفَى رَأْسُ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِالْبَيْعِ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ الْعَبْدِ حَتَّى يَبِيعَهُ الْمُضَارِبَانِ جَازَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِغَبَنٍ يَسِيرٍ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ، فَكَذَلِكَ لَا يُمْلَكُ إجَازَةُ الْبَيْعِ بِغَبَنٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إجَازَةَ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْمُضَارِبُ، فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الْغَبَنُ الْيَسِيرُ، وَالْفَاحِشُ كَالْمَرِيضِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ، فَيُجْعَلُ الْغَبَنُ الْيَسِيرُ عَفْوًا فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ شَرْعًا، فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ التَّسْلِيطِ مِنْ جِهَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي بَاعَهُ، وَأَجَازَهُ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدُونِ الْقِيمَةِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُجِيزَاهُ جَمِيعًا. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ بَاعَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الثَّمَنِ فَأَجَازَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ وَلَمْ يُجِزْ رَبُّ الْمَالِ، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ كَانَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ. لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بَاعَاهُ جَمِيعًا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ نَفَقَةِ الْمُضَارِبِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَعَمِلَ بِهِ فِي مِصْرِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، أَوْ الْمُسْتَبْضِعِ عَامِلٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لَمَّا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ لِأَجَلِ الصَّرْفِ، فَبَقِيَ مَا قَبْلَ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي مِصْرِهِ أَوْ فِي أَهْلِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَوَطِّنًا فِيهِ لَا لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُتَوَطِّنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمُضَارَبَةِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 62 الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ، وَفِي الْمِصْرِ الَّذِي يَأْتِيهِ لِأَجَلِ الْعَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ وَسَفَرَهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ، ثُمَّ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِبْحٍ مَوْهُومٍ، عَسَى يَحْصُلُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ، بَلْ إنَّمَا رَضِيَ بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ، بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كِفَايَتِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَالْمُسْتَبْضِعِ، فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ، غَيْرُ طَامِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَجْلِهِ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِبَدَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَقِينٍ، فَأَمَّا هَذَا فَغَيْرُ مُتَبَرِّعٍ، وَلَا هُوَ مُسْتَوْجِبٌ بَدَلًا مَضْمُونًا، بَلْ حَقُّهُ فِي رِبْحٍ عَسَى يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِإِزَاءِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ الْمَشَقَّةِ، شَيْءٌ مَعْلُومٌ. وَذَلِكَ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ، وَالشَّرِيكُ إذَا سَافَرَ بِمَالٍ الشَّرِكَةِ، فَنَفَقَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمُضَارِبُ كَذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ عَنْ أَشْغَالِهِ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا فَرَّغَتْ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا بِالْمُقَامِ فِي بَيْتِهِ، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَمَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ نَفَقَتَهُ فِيهِ. وَنَفَقَتُهُ، طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَدَهْنُهُ، وَغَسْلُ ثِيَابِهِ، وَرُكُوبُهُ فِي سَفَرِهِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَتَاهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي السَّفَرِ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ دَهْنَهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً، فَتَكُونُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ نَادِرَةً، وَالثَّابِتُ عُرْفًا لَا يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ نَادِرٌ. وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا سَافَرَ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً، وَذَلِكَ فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَقُّ نَفَقَةُ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، كَمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حُسِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَفَقَةُ مِثْلِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُ ثِيَابٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ غَيْرُهُ، رَدَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ قَدْ انْتَهَى بِرُجُوعِهِ إلَى مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ، كَالْحَاجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَكَالْمَوْلَى إذَا بَوَّأَ أُمَّتَهُ مَعَ زَوْجِهَا بَيْتًا، ثُمَّ شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ، كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَّا الدَّوَاءُ وَالْحِجَامَةُ وَالْكُحْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُدَّةَ سَفَرِهِ فِي حَاجَتِهِ، كَمَالِ نَفْسِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا يَصْرِفُ فِي النَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَثَمَنُ الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةُ الْحَجَّامِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَاجِ لَيْسَ مِنْ النَّفَقَةِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 63 أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؟ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، بَلْ هِيَ نَادِرَةٌ وَالنَّادِرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ. وَكَذَلِكَ جَارِيَةُ الْوَطْءِ وَالْخِدْمَةِ، لَا يُحْتَسَبُ بِثَمَنِهَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بَلْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّهِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ؛ وَلِأَنَّ مَا قَصَدَ لِشِرَائِهَا، لَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَخْدُمُهُ فِي سَفَرِهِ وَفِي مِصْرِهِ الَّذِي أَتَاهُ لِيَخْبِزَ لَهُ وَيَطْبُخَ وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَيَعْمَلَ لَهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، اُحْتُسِبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ احْتَاجَ إلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِذَا عَمِلَ لَهُ أَجِيرُهُ، تَفَرَّغَ هُوَ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُضَارَبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ غِلْمَانٌ لَهُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ، كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ، وَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ فِي الْمَالِ كَمَا يَعْمَلُ هُوَ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهُ عَلَى إنْسَانٍ يَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ خَادِمِهِ كَالْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي عَمَلِهَا لِلزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَى غِلْمَانٍ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ مَعَهُ، فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمُضَارِبِ دَوَابُّ يُحْمَلُ عَلَيْهَا مَتَاعُ الْمُضَارَبَةِ إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ، كَانَ عَلَفُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَادَامَ فِي عَمَلِهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْعَلَفِ تَتَقَوَّى عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ، وَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ، بَدَأَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَأُخْرِجَ مِنْ الْمَالِ، وَجُعِلَتْ النَّفَقَةُ مِمَّا بَقِيَ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ الرِّبْحُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْبَاقِي وَبَاعَ وَرَبِحَ، اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ يُجْعَلُ كَالتَّاوِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ يَبْقَى فِي الْكُلِّ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ، فَيُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَيْهِ، فَخَرَجَ إلَى السَّوَادِ يَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ فِي طَرِيقِهِ وَمُقَامُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا وَمَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَارَقَ وَطَنَهُ لِعَمَلِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا، فَيَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ، إلَّا أَنَّ الْمِصْرَ عِظَمُ أَهْلِهِ فِي أَقْصَاهُ، وَالْمَقَامُ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَكَانَ يُقِيمُ هُنَاكَ لِيَتَّجِرَ وَلَا يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، فَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُقِيمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمِصْرِ يَكُونُ مُقِيمًا فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهِ؟ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 64 مَا لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَقَامَهُ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ لَوْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْعَمَلِ إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ، وَيَعُودُ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبِيتَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِالْكُوفَةِ وَأَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ، وَوَطَنُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَخَرَجَ بِالْمَالِ مِنْ الْكُوفَةِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا دَامَ بِهَا، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا رَاجِعًا إلَى الْكُوفَةِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا فِي الْبَلْدَتَيْنِ فَهُوَ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ، وَإِقَامَتُهُ فِي أَهْلِهِ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، فَفِي الْبَلْدَتَيْنِ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْمُضَارِبِ بِالْكُوفَةِ، وَأَهْلُ رَبّ الْمَالِ بِالْبَصْرَةِ، فَخَرَجَ بِالْمَالِ إلَى الْبَصْرَةِ مَعَ رَبّ الْمَالِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَنَفَقَتُهُ فِي طَرِيقِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَفِي رُجُوعِهِ إلَى الْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِالْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، إذْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ؛ لِتَكُونَ الْبَصْرَةُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ لَهُ، وَيَسْتَوِي إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ فِي بَلَدِهِ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَبِهَذِهِ النِّيَّةِ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنًا مُسْتَعَارًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ أَوْ تَأَهَّلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنُ إقَامَتِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَهُمَا بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَتْ الْكُوفَةُ بِوَطَنٍ لِلْمُضَارِبِ، لَمْ يُنْفِقْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ مَا دَامَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِالْكُوفَةِ - عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا إلَى وَطَنِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فِي تِجَارَتِهِ، أَنْفَقَ بِالْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَافَرَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَصَارَتْ الْكُوفَةُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِهَا كَانَ مُسْتَعَارًا، وَقَدْ انْتَقَضَ بِالسَّفَرِ، فَرُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكُوفَةِ وَذَهَابُهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا امْرَأَةً وَاِتَّخَذَهَا وَطَنًا، زَالَتْ نَفَقَتُهُ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِهَا بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا وَاِتَّخَذَهَا دَارًا لِأَجْلِ أَهْلِهِ لَا لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ. وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، فَأَعَانَهُ رَبُّ الْمَالِ بِغِلْمَانِهِ يَعْمَلُونَ مَعَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، أَوْ أَعَانَهُ بِدَوَابِّهِ لِحَمْلِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَشْتَرِي بِالْمُضَارَبَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَفْسُدُ بِهَذَا، كَمَا لَوْ أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَنَفَقَةُ الْغِلْمَانِ وَالدَّوَابِّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ وَعَلَفَ دَوَابِّهِ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَوْ سَافَرَ مَعَهُ لِيُعِينَهُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، لَمْ يَسْتَوْجِبْ نَفَقَةً فِي مَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 65 الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا السَّبَبِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ بِخِلَافِ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ وَدَوَابِّهِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ نَفَقَةً فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا سَافَرَ لِأَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غِلْمَانِ رَبّ الْمَالِ وَدَوَابِّهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبّ الْمَالِ، ضَمِنَهُ مِنْ مَالِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى وَجْهٍ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ صَرْفُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِذَلِكَ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ حُسِبَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ إلَى مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ بِمَنْزِلَةِ صَرْفِهِ إلَيْهِ، فَيُحْسَبُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي الْأَصْلِ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَةَ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ تَلْحَقُ الْمُضَارِبَ فِي سَفَرِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَذَلِكَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَنَفَقَةُ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ لَوْ لَمْ أَجْعَلْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى اعْتِبَارُ نَفَقَةِ هَؤُلَاءِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى عَبْدِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مِصْرٍ فَيَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ، فَخَرَجَ بِهِ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبْدِهِ كَنَفَقَتِهِ، وَهُوَ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَذَلِكَ عَبْدُهُ إذَا خَرَجَ. (أَلَا تَرَى) أَنِّي لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِعَانَتِهِ وَإِذْنِهِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَا تَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَجَ رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَانَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْفَقَ نَفْسَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَبْضِعِ نَفَقَةٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ مُتَبَرِّعٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُسَافِرُ عَادَةً لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ، وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَبّ الْمَالِ فَعَمِلَ بِهِ، فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا؛ كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ، إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا، وَلَا نَفَقَةَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضِعِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً، فَسَافَرَ الْآخَرُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ بَعْدَ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ. لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً، وَيَقُومَ هُوَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ رَبِّ الْمَالِ، فَكَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِي سَفَرِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَخَرَجَ الْمُضَارِبُ فِيهَا وَفِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 66 عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ بِهَا وَيَبِيعَ، فَإِنَّ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، جُزْءٌ مِنْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجْلِ مَالِ نَفْسِهِ، احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، فَيَنْظُرُ إلَى مَنْفَعَةِ خُرُوجِهِ وَعَمَلِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَيَقْسِمُ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَغْرَمَ مُقَابِلٌ بِالْمَغْنَمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَخَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ خَرَجَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْخَلْطِ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ الْمَالَيْنِ بَعْدَ الْخَلْطِ؛ كَإِخْرَاجِهِ قَبْلَ الْخَلْطِ، وَكُلُّ مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ فَلَا نَفَقَةَ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ؟ وَالْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِالصَّحِيحَةِ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ بَدَلًا مَضْمُونًا بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ حُسِبَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَأُخِذَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ دَيْنٍ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ مَدْيُونِهِ، وَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَفِي هَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الزِّيَادَةِ. وَإِذَا أَنْفَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا حَتَّى رَجَعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِهِ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانُ مَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ فَإِنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِأَنْ لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَفَرَهُ لَا يَكُونُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ. فَالتَّاجِرُ لَا يَشْتَرِي بِالْمَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَأْتِيهِ لِلتِّجَارَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ مَا يَرْبَحُ عَلَيْهِ اشْتَرَى، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْفَقُ الْوَجْهَيْنِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ، لَا يَخْرُجُ هُوَ بِهِ، مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ. وَإِذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْعَاشِرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَاشِرُ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا - لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَاوِيًا أَوْ مَأْخُوذًا بِحَقٍّ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْعَاشِرَ بِغَيْرِ إلْزَامٍ مِنْ الْعَاشِرِ لَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى. وَكَذَلِكَ إنْ صَانَعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى بِاخْتِيَارِهِ إلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا أَعْطَى، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْجَوَابُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 67 فِي زَمَانِنَا بِخِلَافِ هَذَا. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى سُلْطَانٍ طَمِعَ فِيهِ وَقَصَدَ أَخْذَهُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا صَانَعَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْإِصْلَاحَ بِهَذِهِ الْمُصَانَعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أَخَذَ الطَّامِعُ جَمِيعَ الْمَالِ، فَدَفَعَ الْبَعْضَ لِإِحْرَازِ مَا بَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ فِي زَمَانِنَا، وَالْأَمِينُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ يَكُونُ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ الْمُودَعِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ أَجْنَبِيًّا. فَأَمَّا فِي زَمَانِهِمْ فَكَانَتْ الْقُوَّةُ لِسَلَاطِينِ الْعَمَلِ، فَكَانَ الْأَمِينُ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْأَمْرِ إلَيْهِمْ؛ لِيَدْفَعُوا الظَّالِمَ عَنْ الْأَمَانَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: إذَا صَانَعَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ مَتَاعًا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا، فَنَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَلْدَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، أَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا، مَا بَقِيَ الْمَالُ نَقْدًا فِي يَدِهِ، فَإِذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصِّحَّةِ، وَالْحَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ كَحَالِ الْعَقْدِ فِي انْتِفَاءِ صِفَةِ اللُّزُومِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَانْعِدَامِ حَقِّ الْمُضَارِبِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ. فَأَمَّا بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ؛ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ. فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ رَفْعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ التَّقَيُّدَ فِيمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ؛ لَهُ حَقُّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْمَالِ عُرُوضًا، لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَمَّا صَارَ مُسْتَفَادًا لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَهُوَ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، عَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِمُطْلَقِ الْمُسَافَرَةِ لِدَلَالَةِ اسْمِ الْعَقْدِ، فَالْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ لِمُرَاعَاةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ مِنْ حِفْظِهِ الْمَالَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ يَنْعَدِمُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ يَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ حِينَ صَارَ الْمَالُ عَرَضًا؛ لِأَنَّ رِبْحَهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ، إمَّا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُضَارِبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْبَلْدَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِي أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، وَهَذَا مَمْلُوكٌ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ، ضَمِنَهُ لِلْخِلَافِ، وَالْأَمِينُ مَتَى خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا، كَانَ ضَامِنًا، وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 68 أَوْ عَلَى الْمَالِ، بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ حَدَثًا حَتَّى رَدَّهُ إلَى الْبَلَدِ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ، وَالْعَقْدُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، فَيَعُودُ أَمِينًا كَمَا كَانَ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَنْهَهُ، وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَالِ مَاتَ، وَالْمُضَارَبَةُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَيْنٌ، أَوْ مَتَاعٌ فَسَافَرَ بِهِ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالْمَوْتِ انْتَقِلْ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِسَفَرِهِ بِهِ قَطُّ، وَمَا كَانَ مِنْ رِضَا رَبِّ الْمَالِ بِهِ، قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، بِمَنْزِلَةِ نَهْيِهِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إذَا بَلَغَهُ، فَالنَّهْيُ لَا يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَوْتِ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، فَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ سَافَرَ بِالْمَتَاعِ حَتَّى أَتَى مِصْرًا، فَنَفَقَةُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ قَدْ انْتَهَى بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُضَارِبُ، وَبِاعْتِبَارِهِ كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَفَرِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَتَاعِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى يَبِيعَهُ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ بَاعَهُ؛ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ؛ لِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَقِّ الْمُضَارِبِ. وَقَدْ سَبَقَ ثُبُوتُ حَقِّهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَلَا يَبْطُلُ لِحَقِّهِمْ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ خَرَجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي سَفَرِهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ الْمَتَاعِ؛ كَمَا هُوَ عَادَةُ التُّجَّارِ فَهُوَ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى السَّفَرِ، إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ مُوَافِقٌ لَا مُخَالِفٌ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مَاتَ وَالْمُضَارِبُ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ غَيْرِ مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، وَالْمُضَارَبَةُ مَتَاعٌ فِي يَدِهِ فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا بِالْمَالِ بَعْدَ مَا انْعَزَلَ عَنْهُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعٍ آمِنٍ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا سَفَرُهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَنَفَقَتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ مِصْرَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَفَرٌ لَا يَجِدُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ بُدًّا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ لِيُسَلَّمَ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَالْعَقْدُ يَبْقَى لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ كَمَا إذَا مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَهِيَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، أَوْ مَاتَ الْمُكَارِي لِلدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 69 الْحَجِّ. بِخِلَافِ سَفَرِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَفِي يَدِهِ مَتَاعٌ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُ مَا هَلَكَ مِنْ الْمَتَاعِ فِي سَفَرِهِ، وَأَجْعَلُ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا نَهَاهُ فِي الْمِصْرِ، فَكَمَا أَنَّ نَهْيَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ إيفَاءً لِحَقِّ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ. وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَأَقْبَلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَهَلَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ مِصْرَهُ، فَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ هُنَاكَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ، كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا، وَهُوَ بِمَا صَنَعَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْخِلَافِ، فَلَا يَضْمَنُهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى قَدِمَ، وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى سَفَرِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ نَهْيِهِ، إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا، فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَقْدِ بِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَالِ هُنَا، فَهَذَا الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ، وَالْمُودَعُ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِرَبِّ الْمَالِ؟ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا؟ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا، فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ هُنَاكَ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؟ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَبَاعَ، فَصَارَ الْمَالُ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ أَبَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ، فَيُجْبَرُ عَلَى إكْمَالِ الْعَمَلِ كَالْأَجِيرِ، وَذَلِكَ بِالتَّقَاضِي حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ، فَالْمُضَارِبُ كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفِ، إذَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ تَصَرُّفِهِ شَيْئًا، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَقَاضِي الثَّمَنِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَكَذَلِكَ هُنَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إذَا لَمْ يُعَامِلْهُمْ، وَلَيْسَ فِي امْتِنَاعِ الْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ عَلَيْهِمْ إلَّا التَّعَنُّتُ، وَالْقَصْدُ إلَى إتْوَاءِ مَالِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ، فَلَا بُدَّ لِلْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَيَقْبِضَ، فَإِذَا قَبَضَ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 70 بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ رَبَّ الْمَالِ، لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، ثُمَّ يَقْبِضُ ثَانِيًا مِثْلَهُ فَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَ الْمَالِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمُضَارِبِ إلَى تَقَاضِي شَيْءٍ مِنْهُ؛ إذْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَيُؤْمَرُ أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْوَكِيلُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَهُوَ فِي مِصْرِهِ، فَأَنْفَقَ فِي تَقَاضِيهِ، وَخُصُومَةِ أَصْحَابِهِ، وَطَعَامِهِ، وَرُكُوبِهِ، نَفَقَةً لَمْ يَرْجِعْ بِهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَا دَامَ يَتَصَرَّفُ فِي مِصْرِهِ، لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ يُحْيِي حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ الْعُرُوضَ فِي مِصْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَائِبًا عَنْ مِصْرِ الْمُضَارِبِ، فَأَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ، وَتَقَاضِيهِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، حُسِبَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ وَسَعْيَهُ كَانَ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ؛ كَمَا لَوْ سَافَرَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ؛ بِأَنْ لَا تَصِلَ يَدُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ إلَى نَفَقَةٍ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ كَالْوَصِيِّ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُؤَدِّي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ عَلَى الدَّيْنِ، فَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلَوْ اسْتَوْجَبَ الزِّيَادَةَ، إنَّمَا يَسْتَوْجِبُهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِإِصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلِمَنْفَعَةِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ. وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، وَاسْتَأْجَرَ مَا يَرْكَبُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ حَتَّى تَوِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْمَالِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَبِهَلَاكِ الْمَالِ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ؛ كَالْعَبْدِ الْجَانِي، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ. وَمَالُ الزَّكَاةِ إذَا هَلَكَ، لَا تَبْقَى الزَّكَاةُ وَاجِبَةً بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ مَالَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ ثَمَنُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَأُجْرَةُ الدَّابَّةِ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِالْتِزَامِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْمُضَارَبَةِ، فَضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَنْفُذَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ عُهْدَةِ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ فِي الْأُجْرَةِ فِيمَا تَعَذَّرَ إيفَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ. فَأَمَّا فِيمَا يَشْتَرِي أَوْ يَسْتَأْجِرُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 71 لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِيمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرْجِعُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مَالٍ آخَرَ لِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَإِذَا ادَّانَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ، وَرَبِحَ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَتَقَاضَاهُ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُتَقَاضِي. فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ التَّقَاضِي لِلْمُضَارِبِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ ثَابِتٌ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، وَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ، أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَقَاضٍ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ، فَرَبُّ الْمَالِ فِيمَا يَسْأَلُ يَقْصِدُ إسْقَاطَ حَقِّ الْمُضَارِبِ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ. فَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَنَا أَتَقَاضَاهُ، وَتَكُونُ نَفَقَتِي مِنْهُ حَتَّى أَقْبِضَهُ. وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَحِلْنِي بِهِ أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ هُنَا وَلَا حَقَّ، فَهُوَ بِمُطَالَبَتِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَتَقَاضَى بِنَفْسِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَتَاعًا، وَفِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ، فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَجِدَ بِهِ رِبْحًا كَثِيرًا، وَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنْ كَانَ لَا فَضْلَ فِيهِ، أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُعْطِيَهُ رَبَّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ فِي الْحَالِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ مَالِهِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ عَسَى يَحْصُلُ لَهُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَالِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا، وَالْمَتَاعُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَالْمُضَارِبُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ حَيْلُولَةً بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ مَالِهِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ حِينَ عَاقَدَهُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، إلَّا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ هُنَا أَنْ يُعْطِيَ رَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَتَاعِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيُمْسِكُ رُبْعَ الْمَتَاعِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقٌّ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ شَرِيكِهِ، وَكَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ، يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ، وَالطَّرِيقُ الَّذِي يَعْتَدِلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً، وَأَمَرَ الْمُضَارِبَ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَاسْتَأْجَرَ الْمُضَارِبُ بِبَعْضِهِ أَرْضًا بَيْضَاءَ، وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ طَعَامًا فَزَرَعَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الزِّرَاعَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ يَقْصِدُونَ بِهِ تَحْصِيلَ النَّمَاءِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « الجزء: 22 ¦ الصفحة: 72 الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ». وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ، يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا شَجَرًا أَوْ أَرْطَابًا، فَقَالَ: ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ. فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ يَقْصِدُونَ بِهِ اسْتِنْمَاءَ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ. فَأَخَذَ الْمُضَارِبُ نَخْلًا وَشَجَرًا وَأَرْطَابًا مُعَامَلَةً، عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ بَعْدُ مِنْ ذَلِكَ، فَنِصْفُهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَنِصْفُ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَعَمِلَ، وَأَنْفَقَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ النَّخْلِ وَالْمُضَارِبِ نِصْفَيْنِ، وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ، وَفِي عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ الْعَامِلُ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ، وَصَاحِبُ الْمَالِ إنَّمَا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ يَدِهِ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَتِهِ الْعَمَلَ بِمَنَافِعِهِ، تَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَالنَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَنْفَقَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ، عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا طَعَامًا، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا، فَنِصْفُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَاشْتَرَى طَعَامًا بِبَعْضِ الْمَالِ فَزَرَعَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَنْفَقَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ بِنِصْفِ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِنِصْفِ الْخَارِجِ مِنْهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِذَلِكَ، وَتَصَرُّفُهُ هُنَا فِي الْمَالِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْخَارِجِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِمَا بَذَرَهُ، وَالْبَذْرُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُهُ يُبَاعُ. يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ الْإِشْرَاكَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ بَعْضَ الْمَالِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا صَارَ مُخَالِفًا بِتَصَرُّفِهِ ضَمِنَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ بِهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْ الزَّرْعِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُرَابَحَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِ مَسَائِلِ الْبَابِ فِي الْبُيُوعِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقَ الْمُضَارِبُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْحَقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، بِخِلَافِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَتَاعِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 73 وَالرَّقِيقِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ؛ وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَسِّرَهُ؛ لِوُجُودِ الْعَادَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي إلْحَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَتَاعِ بِرَأْسِ الْمَالِ دُونَ إلْحَاقِ مَا أَنْفَقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ مُضَارِبًا أَوْ مَالِكًا، فَكَمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَلْحَقُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَا تَرْجِعُ إلَى الْمَتَاعِ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ أَلْحَقَ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَبَاعَهُ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَذَلِكَ جِنَايَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْجِنَايَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فِي الْبُيُوعِ. وَفِي قَوْلِ زُفَرَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَقَّمَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ: ابْتَعْهُ مُرَابَحَةً. عَلَى رَقْمِهِ ، فَإِنْ بَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي كَمْ رَقْمُهُ فَهُوَ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَرَقْمُهُ مَا أَخْبَرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ رِوَايَةَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِعَادَةِ التُّجَّارِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي كَمْ رَقْمُهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِذَا عَلِمَ بِالرَّقْمِ كَمْ هُوَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْشَفُ لَهُ الْحَالُ الْآنَ. وَخِيَارُ كَشْفِ الْحَالِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قَبَضَهُ فَبَاعَهُ، ثُمَّ عَلِمَ مَا رَقْمُهُ فَرَضِيَ بِهِ، فَرِضَاهُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَنَفَذَ بَيْعُهُ فِيهِ، وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ بِالرَّقْمِ وَرِضَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْمُفْسِدِ إنَّمَا تُصَحِّحُ الْعَقْدَ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا فِي مِلْكِهِ. وَالتَّوْلِيَةُ فِي هَذِهِ كَالْمُرَابَحَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ وَلَّاهُ رَجُلًا بِرَقْمِهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي مَا رَقَمُهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آخَرَ بَيْعًا صَحِيحًا، جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا، وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، فَصَحَّ الْبَيْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُضَارِبِ وَانْتَقَضَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ. وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ عَلِمَ بِرَقْمِهِ فَسَكَتَ حَتَّى بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ آخَرَ، بَيْعًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ الْأَوَّلُ بَعْدَ مَا عَلِمَ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ آخَرَ بَيْعًا صَحِيحًا، فَالْبَيْعُ لِلثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ قَدْ تَمَّ بِرِضَا الْمُشْتَرِي بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَصَارَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَبَضَ الْمَتَاعَ مِنْ الْمُضَارِبِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبَ مِنْ آخَرَ، كَانَ بَيْعُهُ الثَّانِي بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِالْقَبْضِ صَارَ مَالِكًا فَمَا لَمْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ بِالرَّقْمِ فَنَقَضَ الْبَيْعَ، لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الثَّانِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ عَوْدُ الْمِلْكِ إلَيْهِ، فَلَا يَنْفُذُ بِعَوْدِهِ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ؛ كَمَنْ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ ثُمَّ مَلَكَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 74 اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: أَبِيعُك هَذَا الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةٍ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. وَلَمْ يُسَمِّ رَقْمًا وَلَا غَيْرَهُ، فَاشْتَرَاهُ بِرَقْمِهِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا بَأْسَ لِلْمُضَارِبِ بِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ مَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فِيهِ، بَلْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ، أَوْ بِمَا فِيهِ شُبْهَةُ الْكَذِبِ، فَأَمَّا إذَا خَلَا كَلَامُهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ، وَقَدْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَسْرَفَ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّقِيقِ فَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَى رَأْسِ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ نَفَقَةَ مِثْلِهِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ كَالتَّبَضُّعِ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الْغَرِيمِ، لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ دَيْنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ صُلْحًا، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّجَاوُزِ بِدُونِ الْحَقِّ. فَعِنْدَ ذَلِكَ لَفْظُ الصُّلْحِ يُمْكِنُ شُبْهَةُ الْحَطِيطَةِ، وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَمَانَةِ وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً نَسِيئَةً سَنَةً، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلَ ثَمَنِهَا، فَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِدَانَةً عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ كَالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ، ثُمَّ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ؛ لِمَا فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ شُبْهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْجَارِيَةِ ثِيَابًا، ثُمَّ فَتَلَهَا أَوْ قَصَّرَهَا بِأَجْرٍ أَوْ صَبَغَهَا بِأَجْرٍ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي إلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ، فَعُشْرُهُ لَمْ يَلْحَقْ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً فَلَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فَلَا بَيْعَ عَلَى مَا غُصِبَ مِنْهُ مُرَابَحَةً. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ الْمَالِ ثُمَّ قَصَرَهُ مِنْ مَالِهِ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَةَ تُزِيلُ الدَّرَنَ وَلَا تَزِيدُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُخَالِفًا بِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ الْمَتَاعَ خَيْرًا بِمَا صَنَعَ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَعَمَلُهُ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْمُضَارَبَةِ وَمَتَاعٍ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءٌ. وَإِذَا بَاعَهُ مُسَاوَمَةً أَوْ مُرَابَحَةً كَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ فَتَلَ الثَّوْبَ أَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ مِنْ مَالِهِ فَنَقَصَهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ، وَإِنْ صَبَغَهُ مِنْ مَالِهِ صَبْغًا يَزِيدُ كَالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ. وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 75 لِذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالصِّبْغُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْمُضَارِبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ بِالْخَلْطِ يَصِيرُ ضَامِنًا إذْ لَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ. ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ وَأَعْطَى الْمُضَارِبَ مَا زَادَ عَلَى الصِّبْغ فِيهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ فِيمَا صَنَعَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ ثَوْبَ إنْسَانٍ وَصَبَغَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى بَاعَهَا الْمُضَارِبُ مُسَاوِمَةً أَوْ مُرَابَحَةً، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي الْبَيْعِ كَالْوَكِيلِ، وَالْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ لَا تَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ مِنْ بَعْدِ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ فِي الْمُسَاوَمَةِ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ وَقِيمَةِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ، فَيَكُونُ حِصَّةُ الصِّبْغِ لِلْمُضَارِبِ، وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ لِلْمُضَارِبِ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ كَالثَّوْبِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الْقَصَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ مُرَابَحَةً قَسَّمَ الثَّمَنَ عَلَى مَا اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ وَعَلَى أَجْرِ الصِّبْغِ يَوْمَ صَبَغَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِ. وَفِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ صِبْغُهُ أَسْوَدَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَالْحُمْرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ فِي الثَّوْبِ نُقْصَانٌ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَتْلِ وَالْقَصَّارَةِ فِي أَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلِطْ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لَهُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ الْمَتَاعَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى ضَاعَتْ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى فَيَنْقُدُهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَهُوَ فِي هَذَا كَالْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ يُوجِبُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ، وَلَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَارَ مُقْتَضِيًا مَا اسْتَوْجَبَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ مِنْ ضَمَانِهِ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ إذَا رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَمَا يَقْبِضُهُ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَرُدُّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوَّلًا جَمِيعَ مَا اسْتَوْفَى ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الرِّبْحَ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَإِذَا هَلَكَ ثَانِيًا كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِلَ الثَّمَنُ إلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَبِيعُ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً إلَّا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 76 عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ. وَمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا بَاعَ الْمَتَاعَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْمُضَارِبِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ يُرَدُّ عَلَيْهِ ثُمَّ الْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِأَلْفٍ جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى ادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ قَدْ نَقَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ وَحَلَفَ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى، فَيَدْفَعُهَا إلَى الْبَائِعِ وَيَأْخُذُ الْجَارِيَةَ. فَتَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُهْدَةٌ لَحِقَتْهُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمُضَارَبَةَ، أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لِمَا ذَكَرْنَا وَالْمُضَارِبُ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِلْوَكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَوْ قَالَ: دَفَعْتُ الْأَلْفَ إلَى الْبَائِعِ. وَجَحَدَ الْبَائِعُ، غَرِمَهَا الْوَكِيلُ مِنْ مَالِهِ فَيَدْفَعُهَا إلَى الْبَائِعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْجَارِيَةَ، فَتُسَلَّمُ إلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى دَيْنَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْآمِرِ، وَإِقْرَارُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْبَائِعِ فِي قَضَاءِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مِنْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ وَبَعْدَ مَا صَارَ مُقْتَضِيًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِشَيْءٍ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ يَكُونُ قَاضِيًا لَا مُقْتَضِيًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُقْتَضِيًا كَانَ ضَامِنًا وَرَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فِي الْقَضَاءِ بِجُحُودِ الْبَائِعِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنَ حَتَّى اشْتَرَى، ثُمَّ قَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَالْمُضَارِبُ فِي مِثْلِهِ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَانِيًا حَتَّى يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي. أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِرِبْحِ الدِّرْهَمِ دِرْهَمٌ. فَالثَّمَنُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا رِبْحًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ فِيهِ إذْ لَا مَعْهُودَ لَهُ فِيهِ لَيُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ يَرْبَحُ كُلُّ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا سَوَاءً. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِرِبْحِ كُلِّ دِرْهَمٍ اثْنَيْنِ، فَالثَّمَنُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَلَوْ قَالَ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةٌ أَوْ بِرِبْحِ الدِّرْهَمِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ نِصْفَ دِرْهَمٍ رِبْحًا، أَوْ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةً رِبْحًا. وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا رِبْحًا، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَده يازده سُود فروحب. وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ الْخَمْسَةَ رِبْحٌ وَالْعَشَرَةَ رَأْسُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 77 مَالٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ. أَوْ قَالَ: يَده يازده، فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَمَا يَتَفَاهَمُونَهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ وَنِصْفٌ. فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، أَوْ قَالَ: أَحَدَ عَشَرَ وَدَانِقٌ. فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَدَانِقٌ، وَلَوْ قَالَ: بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ عَشَرَةٌ وَخَمْسَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ وَعَشَرَةٌ. فَالثَّمَنُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي تَسْمِيَةِ الرِّبْحِ وَضَمَّ الْعَدَدَ إلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَ التُّجَّارِ عَادَةً فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَكُونُ رِبْحُهُ الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ انْتَقَصَ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ بَاعَهُ بِوَضِيعَةِ الدِّرْهَمُ دِرْهَمٌ. كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَضِيعَةِ كَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ التَّضْعِيفُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْوَضِيعَةِ يُوجِبُ التَّنْصِيفَ. وَلَوْ كَانَ بِوَضِيعَةِ الدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ ضِعْفَ رَأْسِ الْمَالِ، فَفِي بَيْعِ الْوَضِيعَةِ نِصْفُ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ مِنْ الْعَشَرَةِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِثْلَ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ. فَفِي الْوَضِيعَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مِثْلَ نِصْفِ الْبَاقِي فِي ذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَالنُّقْصَانُ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ اعْتِبَارًا لِلْوَضِيعَةِ بِالْمُرَابَحَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ بِجَارِيَةٍ وَقَبَضَهَا وَدَفَعَ الْعَبْدَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَارِيَةَ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَلَا تَوْلِيَةً إلَّا مِنْ الَّذِي يَمْلِكُ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَزِيَادَةُ رِبْحٍ مُسَمًّى فِي عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْعَبْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَوْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً أَوَتَوْلِيَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ، لَكَانَ هَذَا بَيْعًا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْحَزْرِ وَالظَّنِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَأَمَّا مِمَّنْ يَمْلِكُ الْعَبْدَ، إنَّمَا يَبِيعُهَا عَلَى الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنْ بَاعَهَا تَوْلِيَةً جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ، وَيَأْخُذُ الْعَبْدُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَإِنْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسُ الْمَالِ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ لِيَضُمَّ إلَيْهِ مِقْدَارَ الرِّبْحِ مِنْ جِنْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ اشْتَرَاهَا بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً مِمَّنْ شَاءَ فَسَوَاءٌ سَمَّى مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ قَالَ: بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ وَالْمُشْتَرِي بِالنَّقْدِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَبْدَ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، أَوْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 78 وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً، كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ فِي هَذَا الشِّرَاءِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْغُلَامِ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْغُلَامِ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَأَجَازَ رَبُّ الْعَبْدِ الْبَيْعَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَازَةِ رَبِّ الْعَبْدِ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّ بِمِلْكِهِ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِإِجَازَةِ رَبِّ الْعَبْدِ وَالْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ عَجْزُهُ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ، ثُمَّ الْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ الْغُلَامَ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرَى مِنْهُ الْجَارِيَةَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَيَرْجِعُ مَوْلَى الْغُلَامِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي شِرَائِهَا، فَنَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى إجَازَةِ رَبِّ الْغُلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْغُلَامَ لِيَدْفَعَهُ فِي ثَمَنِهَا، وَهُوَ بِالْإِجَازَةِ صَارَ مُقْرِضًا مِنْهُ وَاسْتِقْرَاضُ الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْغُلَامِ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُسْتَقْرِضِ وَصَيْرُورَتِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ جَارِيَةٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهَا بِغُلَامٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْجَارِيَةِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهَا. وَلَوْ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَيُعْطِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجَارِيَةِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْوَضِيعَةِ نُقْصَانُ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْجَارِيَةِ. وَلَوْ قَالَ أَبِيعُك هَذَا الْغُلَامَ بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ جَائِزًا، وَيَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ مَا سَمَّاهُ رِبْحًا وَضَمَّهُ إلَى الْجَارِيَةِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، وَلَوْ قَالَ أَبِيعُك بِوَضِيعَةٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ لَفْظِ الْوَضِيعَةِ النُّقْصَانَ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ مِقْدَارُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ. وَالْبَيْعُ بِالْوَضِيعَةِ كَالْبَيْعِ مُرَابَحَةً فِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْجَارِيَةُ إلَى التَّقْوِيمِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْغُلَامَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ إلَّا مِقْدَارَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 79 وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا، ثُمَّ بَاعَهُ بِالْكُوفَةِ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفُ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ غَلَّةُ نَقْدِ الْكُوفَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الثَّمَنُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ بَخِّيَّةً؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ ثَمَنِ الْأَوَّلِ بِصِفَتِهِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ الثَّانِي، وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، كَمَا سُمِّيَ فِيهِ وَتَسْمِيَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى غَلَّةِ الْكُوفَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَبِيعُكَ بِرِبْحِ دِينَارٍ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ وَدِينَارًا مِنْ نَقْدِ الْكُوفَةِ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِوَضِيعَةٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ بِوَضِيعَةٍ عَشَرَةً أَحَدَ عَشَرَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ مِنْ الْبَخِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ لَا تَكُونُ أَبَدًا إلَّا مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ طَرَحَ بَعْضَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِأَيِّ لَفْظٍ ذَكَرَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَطْرُوحُ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالرِّبْحُ لَيْسَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا. وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا بِغُلَامٍ وَتَقَابَضَا فَزَادَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ وَلَدَتْ ثُمَّ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْغُلَامَ مِنْ رَبّ الْجَارِيَةِ بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْبَدَنِ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا رَدَّهَا مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَكَانَ وُجُودُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَعَدَمِهَا. وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ فَإِنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَاعَ الْغُلَامَ بِالْجَارِيَةِ، وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا عِنْدَ هَذَا الْعَقْدِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْ الْجَارِيَةَ فَلَا إشْكَالَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا مَعِيبَةً وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ بِعَيْبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُلْفِ فِيهَا نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ فَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْوِلَادَةَ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا بِخِلَافِ رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ثَمَّةَ، وَالتَّوْلِيَةُ فِي هَذَا كَالْمُرَابَحَةِ، وَمَقْصُودُ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ جَازَ بَقِيَ الْوَلَدُ رِبْحًا لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ فَأَمَّا التَّوْلِيَةُ، أَوْ الْمُرَابَحَةُ فَلَا تُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ فِي الْجَارِيَةِ مَعَ سَلَامَةِ الْوَلَدِ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَبَاعَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ بَاعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَّ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 80 وَاعْتِبَارَ الْحَاصِلِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ضَمَانِهِ فَإِنَّ مَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ هُنَا. وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى حَاصِلِ مَا بَقِيَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَجَعَ إلَيْهِ أَلْفٌ وَكُرُّ حِنْطَةٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرْحِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ، وَطَرْحُ الْحِنْطَةِ وَالدِّينَارِ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الصُّورَةِ جِنْسَانِ وَفِي الْمَعْنَى كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَعَلَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ لِلِاحْتِيَاطِ وَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرْحِ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ غَرِمَهَا فِي ثَمَنِهَا مَرَّتَيْنِ، وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْجَارِيَةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، أَوْ بِعَرَضٍ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَا عَادَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا غَرِمَ فِيهَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَضُمَّ بَعْضُ الْعُقُودِ إلَى الْبَعْضِ، كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ النُّقُودِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ هِبَةً، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيمَا غَرِمَ فِيهِ وَفِيمَا عَادَ إلَيْهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِمَّا بَاعَهُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ جَائِزًا بِخِلَافِ النُّقُودِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُضَارِبِ يَبِيعُ الْمَالَ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): قَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّبْ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بُنِيَ الْبَابُ. قَالَ: إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهَا حَتَّى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَائِعُ لَهَا، وَالْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ فِي حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ بَاعَهَا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِمَّا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَكَأَنَّهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 81 بَاعَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ اشْتَرَاهَا الْمُضَارِبُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ يَبِيعُهَا لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ مَا بَاعَهُ وَلَا بِيعَ لَهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: حَقُّ الْمُضَارِبِ تَبَعٌ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَبَيْعُهُ فِي جَمِيعِهَا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ حُكْمًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْفًا مِنْ الثَّمَنِ وَتَوَى عَلَيْهِ أَلْفٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي جَمِيعِهَا وَقَعَ لِرَبِّ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ، أَوْ اشْتَرَاهَا رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ ثَبَتَ لِعَدَمِ قَبْضِ الثَّمَنِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ كَحَقِّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا بِدَنَانِيرَ، قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا ابْنُ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَبُوهُ، أَوْ عَبْدُهُ، أَوْ مُكَاتَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا شِرَاءُ هَؤُلَاءِ جَائِزٌ إلَّا الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ ابْنَهُ بِشِرَائِهَا أَوْ ابْنَ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْوَكِيلِ، وَلِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ فَلَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِغَيْرِهِ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ فِي الْخَمْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ أَجْنَبِيًّا، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ شِرَاؤُهَا لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ الْفَرْقَ بَيْنَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لِلْبَائِعِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ ابْنِ الْآمِرِ لِنَفْسِهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ، أَوْ وَكَّلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ الْهَرَوِيِّ خَاصَّةً، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا يَشْتَرِي بِهَا مِنْ النَّاشِئِ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَمَا يَشْتُ رِيّ بِهَا مِنْ الزُّطِّيِّ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْعَمَلِ إمَّا الْعَمَلُ عَلَى طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبِضَاعَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ الْعَمَلَ، وَالْجَهَالَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَيَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى الْهَرَوِيَّ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا النَّسَائِيَّ فَهُوَ بِضَاعَةٌ فِي يَدِهِ وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا الزُّطِّيَّةَ فَالْمَالُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 82 قَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالرِّبْحُ لَهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ لَقِيَهُ الْمُضَارِبُ وَقَالَ: زِدْنِي فِي ثَمَنِهَا فَزَادَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّهَا بِثَمَنِهَا وَنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أُضِيفَتْ إلَيْهِمَا، وَالْتَزَمَهَا الْمُشْتَرِي بِمُقَابِلِهَا فَيَتَوَزَّعُ عَلَى قِيمَتِهِمَا كَأَصْلِ الثَّمَنِ إذَا سُمِّيَ بِمُقَابِلِهِمَا جُمْلَةً وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي طَعَنَ فِيهِمَا بِعَيْبٍ فَصَالَحَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ بِاَلَّذِي اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَيْبًا رَدَّهَا بِأَلْفٍ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ الْمِائَةَ مِنْ الثَّمَنَيْنِ فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنَيْنِ ثُلُثَاهُ مِنْ ثَمَنِ الَّتِي بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَثُلُثُهُ مِنْ ثَمَنِ الَّتِي بَاعَهَا بِأَلْفٍ، وَثُلُثُ الْمِائَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَلِهَذَا يُنْتَقَصُ مِنْ ثَمَنِهَا وَهُوَ أَلْفٌ هَذَا الْمِقْدَارُ. وَهَذَا لِمَا قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَطَّ مِنْ الثَّمَنِ، وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هِيَ مَالٌ الْتَزَمَهُ الْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ الْجَارِيَتَيْنِ فَهُوَ كَالْمَالِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْجَارِيَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْجَارِيَتَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا بَاعَهُمَا بِهِ، ثُمَّ وَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا رَدَّهَا بِثَمَنِهَا، وَحِصَّتُهَا مِنْ الرِّبْحِ إذَا قُسِمَتْ عَلَى الثَّمَنَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَصْلُهُ وَرِبْحُهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَا غَرِمَ فِي ثَمَنِهِمَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِهَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ. فَإِنْ زَادَ فِي ثَمَنِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً بَاعَهُمَا جَمِيعًا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِمِقْدَارِ مَا غَرِمَ فِي ثَمَنِهِمَا، فَيَبِيعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُرَابَحَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ إحْدَاهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ الزَّائِدَةَ إنَّمَا تُقَسَّمُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَطَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ إحْدَاهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى حِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 83 وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُخَلِّيَ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِذَا اشْتَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَهُ تَنْعَدِمُ هَذِهِ التَّخْلِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا يَعْمَلَانِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَارَقَتْ الشَّرِكَةَ فِي الِاسْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُفَارِقَهَا فِي الْحُكْمِ، وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الشَّرِكَةِ فَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَاسْتَوَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ فِي الْعَمَلِ وَشَرْطِ الرِّبْحِ، فَلَا يَبْقَى لِاخْتِصَاصِ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الِاسْمِ فَائِدَةٌ وَإِذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِرَجُلٍ: اعْمَلْ بِهَذِهِ مُضَارَبَةً فَاشْتَرِ بِهَا وَبِعْ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ إلَى الْمُضَارِبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ دَفْعُ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ لِيَكُونَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَبَقِيَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ، فَإِذَا تَصَرَّفَ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَعَبْدُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ وَالْعَبْدِ نِصْفُ الرِّبْحِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَعَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلْمُضَارَبَةِ يُوجَدُ مَعَ اشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْمَالِ، بِخِلَافِ شَرْطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ مُضَارَبَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي كَسْبِهِ، وَلَيْسَتْ يَدُهُ بِيَدِ رَبِّ الْمَالِ فَيَتَحَقَّقَ خُرُوجُ الْمَالِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ اشْتِرَاطِ عَمَلِ عَبْدِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي عَبْدِهِ فَهُوَ فِي مُكَاتَبِهِ، وَابْنِهِ، وَأَبِيهِ أَظْهَرُ. وَلَوْ اشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَالِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ بِعَمَلِ الْمُضَارِبِ بِمِلْكِهِ رَأْسَ الْمَالِ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِ شَرِيكِهِ كَاشْتِرَاطِ عَمَلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ تَبْقَى الْمُرَابَحَةُ لِمَالِكِ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ فِي الْيَدِ فَتَنْعَدِمُ بِهِ التَّخْلِيَةُ. وَإِنْ كَانَ شَرِكَةَ عِنَانٍ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِهِ فِي بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا يُنَزَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَدْفَعَ إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا مُضَارَبَةً. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ الْأَبُ بِالْمَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 84 عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِلِابْنِ ثُلُثَهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَهُ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ أَخَذَ مَالَ الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً لِيَعْمَلَ فِيهِ بِنِصْفِ الرِّبْحِ جَازَ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً، وَكُلُّ مَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ مُضَارِبًا وَحْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الرِّبْحَ بِالْعَمَلِ لَا بِمِلْكِ الْمَالِ فَكَانَا فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَمَا هُوَ شَرْطُ الْمُضَارَبَةِ؟ وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا بَعْدَ هَذَا الشَّرْطِ يَدُ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ كَيَدِ الْمُضَارِبَ الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ اشْتَرَطَ الِابْنَ مَعَ مُضَارِبٍ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا بِالْعَمَلِ فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ أَوْ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَوْ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ وَشَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَلِكَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ثُمَّ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ عَلَى الْأَبِ، أَوْ الْوَصِيِّ يُؤَدِّيَانِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّمَا يُطَالِبُ بِالْأَجْرِ مَنْ اسْتَأْجَرَهُ، وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ لِلِابْنِ فَيُؤَدَّى أَجْرُهُ مِنْ مَالِ الِابْنِ. وَإِذَا دَفَعَ لِرَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَدَّهُ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَفَعَلَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ فَرَبِحَ، وَلَمْ يَلِ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبِضَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ أَبْضَعَهُ غَيْرُهُ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَبْضَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَدُّهُ الْمَالَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ - عَمَلُهُ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي مَالِ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنَافِعُ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ كَمَنَافِعِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَكَمَا يَجُوزُ إقَامَةُ عَمَلِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَقَامَ عَمَلِ الْمُضَارِبِ مَا اسْتَعَانَ بِهِ بَعْدُ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ إقَامَةُ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَنْزِلِ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ وَرَبِحَ فَقَدْ انْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالرِّبْحُ، كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ هُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّهُ مَا اسْتَعَانَ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ كَانَ غَاصِبًا عَامِلًا لِنَفْسِهِ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا فَعَلَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ أَيْضًا فَانْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ لِفَوَاتِ الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَأَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ فَرَبِحَ فِيهَا جَازَ بَيْعُهُ وَالرِّبْحُ، عَلَى مَا اشْتَرَطَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 85 وَلَا يَكُونُ بَيْعُهُ الْجَارِيَةَ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ أَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ؛ فَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْجَارِيَةِ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَقْضَ الْمُضَارَبَةِ وَمَنْعَ الْمُضَارِبِ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَكُونُ بَيْعُهُ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ أَيْضًا، بَلْ يَكُونُ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُضَارِبِ وَلِنَفْسِهِ، فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يَفُوتَهُ هَذَا الْمُشْتَرِي لَوْ انْتَظَرَ حُضُورَ الْمُضَارِبِ فَأَعَانَهُ فِي بَيْعِهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمَالَ مَا دَامَ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُجْعَلُ إقْدَامُهُ عَلَى الشِّرَاءِ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ ضَمَانِهِ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّ رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ تَأَكَّدَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لِحِصَّةٍ مِنْ الرِّبْحِ إذَا ظَهَرَ، فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ بَيْعَ رَبِّ الْمَالِ الْجَارِيَةَ، فَأَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَأَكَّدْ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ إذَا ظَهَرَ، فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ، قَالَ: بَاعَ رَبُّ الْمَالِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً أُخْرَى فَبَاعَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ضَمِنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِبَيْعِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى صَارَ الْمَالُ نَقْدًا فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ نَقْدًا قَبْلَ شِرَاءِ الْمُضَارِبِ الْجَارِيَةَ بِالْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ فِي الْمَالِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ إذَا عَمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ، فَهُنَا أَيْضًا شِرَاءُ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَهَا حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَضْمَنُ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ كُلِّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فِي مَالِهِ فِي شِرَائِهَا وَبَيْعِهَا. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ دَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا، وَيَبِيعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ جَازَ مَا صَنَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَمَا ضَاعَ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ ضَاعَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ اسْتَعَانَ بِهِ الْمُضَارِبُ فِي الْعَمَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا اسْتَعَانَ بِهِ الْمُضَارِبُ يَكُونُ أَمِينًا فِي الْمَالِ، وَمَا يَهْلَكُ فِي يَدِهِ يُجْعَلُ كَالْمَالِكِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَكَذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذَ الْجَارِيَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ فَبَاعَهَا بِغُلَامٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ مَا دَامَ الْمَالُ عُرُوضًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ وَإِنْ حَوَّلَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ عَرَضٍ إلَى عَرَضٍ لَمْ يَصِرْ الْمَالُ نَقْدًا، فَكَذَلِكَ لَا تُنْتَقَضُ الْمُضَارَبَةُ بِتَحْوِيلِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ عَرَضٍ إلَى عَرَضٍ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ وَلَكِنَّهُ، فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَعْقِدُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 86 لِلْمُضَارِبِ، فَجَمِيعُ مَا يَحْصُلُ يَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَاعَ الْجَارِيَةَ الْأُولَى بِمِائَتَيْ دِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً أُخْرَى كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى لَهُ دُونَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ لَوْ صَارَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَنَانِيرَ عَمِلَ نَهْيُ رَبِّ الْمَالِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرَضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا صَارَ الْمَالُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ دَنَانِيرَ انْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ دَرَاهِمَ، فَكَانَ هُوَ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَاَلَّذِي قُلْنَا أَنَّ تَأْكِيدَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ بِضَمَانِ الثَّمَنِ بِالشِّرَاءِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّنَانِيرِ، كَمَا يَنْعَدِمُ فِي شِرَائِهِ بِالدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ، وَفِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا تَسْلِيمَ الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِهَذَا الْعَقْدِ، أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَرَضُ الْمُشْتَرَى بِمُقَابَلَةِ الْعَرَضِ عَلَى الْمُضَارِبِ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِالدَّنَانِيرِ جَارِيَةً وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا رَأْسَ مَالِهِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ خَاصَّةً مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، أَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَبَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِهِ يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ هَذَا التَّصَرُّفَ لِيُحَصِّلَ بِهِ جِنْسَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ يَكُونُ مُعَيِّنًا لِلْمُضَارِبِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُضَارِبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ مِنْهُ، فَرَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مُعِينًا لَهُ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُضَارِبَ مِنْهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُعِينًا لَهُ. وَإِذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَوْلَاهُ مَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ رُبْعَهُ، وَلِلْمَوْلَى رُبْعَهُ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ هُنَا بِمُلْكِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ عَبْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُضَارِبًا لِعَبْدِهِ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ هُنَا لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَحْدَهُ، فَلِهَذَا كَانَ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ هُنَا لَا بِمِلْكِ الْمَالِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ هُوَ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ إلَّا أَنَّ حَقَّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 87 الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مُضَارِبًا وَحْدَهُ فِي هَذَا الْمَالِ لِاعْتِبَارِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ، وَيَكُونَانِ كَالْمُضَارِبَيْنِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ اشْتَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمَالِكِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَيَدُهُ فِيهِ يَدُ نَفْسِهِ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْمَالِ فَلِهَذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ. وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ مُكَاتَبًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَوْلَاهُ مَعَ الْمُضَارِبِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ، وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي هَذَا الْمَالِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى، وَصَارَ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ بِمِلْكِهِ الْمَالَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ فَإِنْ اشْتَرَيَا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاعَا وَرَبِحَا فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْأَجْرُ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ لِلْعَمَلِ وَالْمُكَاتَبُ بِالْعَجْزِ صَارَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَاسْتِئْجَارُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، وَاسْتِئْجَارُ الْمُكَاتَبِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ يَبْطُلُ بِعَجْزِهِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْتِئْجَارِ بَعْدَ عَجْزِهِ؟، مُوجِبًا لِلْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَا اشْتَرَيَا بِالْمَالِ جَارِيَةً ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَبَاعَا الْجَارِيَةَ بِغُلَامٍ، ثُمَّ بَاعَا الْغُلَامَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَسْتَوْفِي مِنْهَا رَأْسَ مَالِهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُكَاتَبِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ، وَالْمَوْتُ لَا يُبْطِلُ الْمُضَارَبَةَ مَا دَامَ الْمَالُ عُرُوضًا وَإِنَّمَا يَبْطُلُ إذَا صَارَ الْمَالُ نَقْدًا فَهُنَا كَذَلِكَ. وَلَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ مَعَهُ، وَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ رُبْعُ الرِّبْحِ، وَلِلْأَوَّلِ رُبْعُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نَصِفُهُ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يُعَاقِدُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَالِ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُعَاقِدُ غَيْرَهُ عَلَى شَرْطِ عَمَلِهِ مَعَهُ، فَإِنْ عَمِلَا فَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَال عَلَى شَرْطِهِمَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ أَجِيرٌ لِلْأَوَّلِ إجَارَةً فَاسِدَةً. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً لِلْعَمَلِ فِي الْمَالِ كَانَ يُعْطِي أَجْرَهُ مِنْ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 88 الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ دَفَعَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَالْمُضَارَبَةُ الْأَخِيرَةُ بَاطِلَةٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْبِضَاعَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثَّانِيَةُ تَنْقُضُ الْأُولَى، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعِنْدَنَا رَبُّ الْمَالِ، فِي الْعَمَلِ مُعِينٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ قَدْ اسْتَعَانَ بِهِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ الْأَخِيرَةُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَالِكٌ لِلْمَالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ لَا بِمُلْكِهِ الْمَالَ، فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تُصَادِفْ مَحِلًّا فَكَانَتْ بَاطِلَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ وَيَبِيعَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ فَاشْتَرَى لَهُ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ كَانَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَمَلِهِ أَجْرًا بِالشَّرْطِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ دَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالرُّبْعِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ وَرَبُّ الْمَالِ فَعَمِلَا فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِهِ الْمَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي هَذَا الْمَالِ وَحْدَهُ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَإِذَا قَالَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ حُصُولِ الرِّبْحِ: شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ بِمَا مَلَكَ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالشَّرْطِ فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا شُرِطَ لَهُ وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَةٍ. وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ أَشْتَرِطْ لَك الرِّبْحَ، أَوْ قَالَ: اشْتَرَطْتُ لَك مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: " شَرَطْتُ لَك مِائَةَ دِرْهَمٍ " فَظَاهِرٌ فَالْمُضَارَبَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ تَصِيرُ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: " لَمْ أَشْتَرِطْ رِبْحًا "؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيَّنْ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَقَدْ وَفَّى الْعَمَلَ فَاسْتَحَقَّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 89 أَجْرَ الْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، ثُمَّ أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُضَارِبُ، بَلْ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَيُبْطِلَ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ، فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ فِي هَذَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي جَوَازَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ لِلْعَقْدِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِيَارًا أَوْ أَجَلًا مَجْهُولًا لَا بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ إلَّا مِائَةً، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ ثُلُثٌ كَامِلٌ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَنِّتٍ فِي ذَلِكَ، وَالْبَيِّنَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ. وَلَوْ وَضَعَ فِي الْمَالِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الرِّبْحِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً، وَلَمْ تَشْتَرِطْ لِي شَيْئًا فَلِي أَجْرُ الْمِثْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْئًا، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ لِإِثْبَاتِ شَرْطِ نِصْفِ الرِّبْحِ، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ قَامَتْ عَلَى نَفْيِ الشَّرْطِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ رِبْحَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ فَرُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَذَكَرَ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ إذَا قَالَ لِلْعَامِلِ: شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الْخَارِجِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: جَوَابُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ جَوَابٌ فِي الْفَصْلِ الْآخَرِ، وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرْنَا، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْمُزَارَعَةِ: أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُثْبِتُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ؛ لِذَلِكَ، وَأَصَحُّ الْجَوَابَيْنِ مَا ذُكِرَ هُنَا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ. (أَلَا تَرَى) الجزء: 22 ¦ الصفحة: 90 أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَتُرَجَّحُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ الْمُثَبِّتَةُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلَا تَكُونُ لَازِمَةً، فَإِنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْعَمَلِ وَيَفْسَخَ الْعَقْدَ مَتَى شَاءَ فَتُرَجَّحُ هُنَا الْبَيِّنَةُ الَّتِي فِيهَا إلْزَامٌ وَهِيَ الْمُثْبِتَةُ لِلدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ. وَإِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ، أَوْ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: إنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْك الْمَالَ بِضَاعَةً لِتَشْتَرِيَ بِهِ وَتَبِيعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ جُزْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ، أَوْ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ سَبَبَهُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَالْبَيِّنَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ حَقَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تَنْفِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ فَجَاءَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إلَيْك أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَبِحْتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُضَارِبَ أَقَرَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَالْأَصْلُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْبِضَاعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُضَارِبُ: أَلْفٌ مِنْ الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتَهُ لِي بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُقِرَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْءِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَابِضُ هُوَ الْمُضَارِبُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَعْطَاهُ وَهُوَ يُنْكِرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ زِيَادَةَ الْقَبْضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَةِ حُصُولِهِ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ مِنْ الْمَالِ لِي خَلَطْتُهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك الثُّلُثَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا شُرِطَ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: كَانَ الْمَالُ فِي يَدِي بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ فِيمَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 91 الْمَالِ فِي مِقْدَارِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَأْخُذُ الْأَلْفَيْنِ بِرَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ زِيَادَةً فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِيمَا ادَّعَى مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى إنَّ الْأَلْفَ الْفَاضِلَةَ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةً فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَجَاءَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ، وَالرِّبْحُ أَلْفٌ وَصَدَّقَهُ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا وَالرِّبْحُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَيَبْقَى فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الَّذِي صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَلْفٌ: نِصْفُهُ فِي يَدِهِ، وَنِصْفُهُ فِي يَدِ شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ ضِعْفُ حَقِّ الْمُصَدِّقِ فَيَقْسِمَانِ الْحَاصِلَ مِنْ الرِّبْحِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَيُقَاسِمُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا فِي يَدِهِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَيْضًا وَمَنْ فِي يَدِهِ يُنْكِرُ وَيَقُولُ هُوَ رِبْحٌ وَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ ضِعْفُ حَقِّي؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِ الرِّبْحِ، وَحَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ فِي رُبْعِ الرِّبْحِ. فَلِهَذَا يُقَاسِمُهُ خَمْسَمِائَةٍ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا لِرَبِّ الْمَالِ يَأْخُذُهَا بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ بِزَعْمِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي يَدِهِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ رِبْحًا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَيَصِيرُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَفِي يَدِ الَّذِي صَدَّقَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ عَلَى مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِزَعْمِهِمَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ، وَالْبَاقِي مِنْ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ ضِعْفُ حَقِّ الْمُصَدِّقِ فَيَقْسِمَانِ الْحَاصِلَ مِنْ الرِّبْحِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَالْمُكَذِّبُ بِزَعْمِهِمَا اسْتَوْفَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَتُجْعَلُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّهِمَا كَالتَّاوِي، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلٍ مِنْ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ مِمَّا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ تُقَسَّمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ إلَّا نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا: نِصْفُهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَرُبْعُهَا لِلْمُصَدِّقِ، وَرُبْعُهَا لِي، فَالْمُصَدِّق أَقَرَّ بِحِصَّتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ فَيَصِيرُ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 92 أَرْبَاعِهَا، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْمُصَدِّقِ نِصْفُ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّهُ فِي رُبْعِهَا وَحَقِّي فِي رُبْعِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَسَّمَ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّا لَوْ فَعَلْنَا هَكَذَا كُنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا الْمُنْكِرَ جَمِيعَ حِصَّةِ مُدَّعَاهُ مِنْ رِبْحِ الْأَلْفَيْنِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَمَنْ الْأَلْفِ الثَّالِثَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَتُسَلَّمُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ رِبْحِ الْأَلْفَيْنِ بِزَعْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ هُوَ عَلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يُصَدَّقُ صَاحِبُهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ لَمْ يَصِلْ رِبْحًا، كَمَا ادَّعَاهُ هَذَا الْمُضَارِبُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُنْكِرِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَاسَمَتِهِ الْخَمْسَمِائَةِ الْأُخْرَى مَعَهُ؛ فَلِهَذَا قُسِّمَتْ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَهَذَا الْجَوَابُ حَكَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا فَقَالَ الْعَامِلُ: أَقْرَضْتَنِي هَذَا الْمَالَ، وَقَالَ الدَّافِعُ: دَفَعْتُهُ إلَيْك بِضَاعَةً، أَوْ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، أَوْ قَالَ: مُضَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّصَرُّفِ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ الْإِذْنِ وَالتَّسْلِيطِ، فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالْمُضَارَبَةِ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، بَلْ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بِمَا مَلَكَهُ. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِرِبْحِ الثُّلُثِ أَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ وَهُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالثُّلُثِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ فَيَأْخُذُهُ الْمُضَارِبُ قَضَاءً مِمَّا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَيُعْطِيهِ مِقْدَارَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، وَيَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَصْلِ وَالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي الْكُلِّ، وَقَدْ جَحَدَ حَقَّ صَاحِبِ الْمَالِ فِيهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك الثُّلُثَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِسُدُسِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِدَعْوَاهُ الْأَمَانَةَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ وَضَعَ فِي الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ الْعَامِلُ: دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُهُ إلَيْك قَرْضًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَامِلَ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ نَائِبًا عَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي الْعَمَلِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ سَبَبَ تَمْلِيكِ الْمَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 93 مِنْهُ بِالْعَرَضِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَالْقَرْضُ يَرِدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْقَرْضِ، وَالْقَرْضُ يَرِدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْمَالِ وَضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِإِثْبَاتِهِ الضَّمَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُضَارِبِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَتْ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَمَلُ الْعَامِلِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ مُسْقِطٍ لِلضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْمُسْقَطُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقَالُ: تَصَادَقَا أَنَّ عَمَلَهُ حَصَلَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَتَسْلِيطِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ الْمِلْكَ لَهُ لَا يَكُونُ هُوَ عَامِلًا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ، فَيَبْقَى عَامِلًا فِي الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَقَدْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذْتَهُ غَصْبًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَالِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ إذْنَ صَاحِبِهِ فِيهِ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَالِ، وَالْإِذْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ حَتَّى أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ ثُمَّ ادَّعَى الْمَسْقَطُ وَهُوَ إذْنُ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْك مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أُعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِالْمَالِ، فَحِينَئِذٍ هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَجَاءَا بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الجزء: 22 ¦ الصفحة: 94 أَلْفٌ رَأْسُ مَالِكَ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَخَمْسُمِائَةٍ لِفُلَانٍ كَانَ دَيْنًا عَلَيْنَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ بِالدَّيْنِ مِنْ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ الْخَمْسِمِائَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَنِصْفُهُ دَيْنٌ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ إذَا أَقَرَّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالْمُقِرُّ يُعَامِلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ فَلَا يُسَلِّمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ. وَهَاهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ بِسَبَبِ مُعَامَلَتِهِمَا مَعَ الْمُقِرِّ لَهُ، وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِمَّا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يُقَاسِمُ الْمُضَارِبُ الْجَاحِدُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِمَّا فِي يَدِهِ: لَهُ ثُلُثُهَا وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا، بَلْ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْجَاحِدُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبِحَ وَلَكِنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِثْلَ هَذَا بِإِقْرَارِهِ كَاذِبًا فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فَيُقْسَمُ هَذَا الْمِقْدَارُ بَيْن رَبِّ الْمَالِ وَالْجَاحِدِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا، وَلِلْجَاحِدِ ثُلُثُهَا، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ قَدْ أَقَرُّوا جَمِيعًا أَنَّهَا رِبْحٌ فَيَقْتَسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ رُبْعُهَا، وَلَا يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَخَذَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أُدَّعَى لِنَفْسِهِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ مَالِهِ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبَانِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا بِيضٌ. وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ سُودٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْخَمْسُمِائَةِ الْبِيضُ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ عِنْدَنَا، وَالْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ رِبْحٌ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: كُلُّهَا رِبْحٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ السُّودِ، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ الْبِيضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْبِيضِ فِي يَدِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَيَقْسِمُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ وَرَبُّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ الْبِيضِ أَثْلَاثًا: سَهْمَانِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَسَهْمٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَالْمُنْكِرُ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتْلَفَ فَوْقَ حَقِّهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بَقِيَ، بَلْ يُقْسَمُ هَذَا الْمِقْدَارُ بَيْنَ الْجَاحِدِ وَرَبِّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَيَقْسِمُ الْخَمْسَمِائَةِ السُّودَ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 95 عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِلْوَدِيعَةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الْبِيضَ رِبْحٌ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي أَيْدِيهِمَا فَبِاعْتِبَارِ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ هَذِهِ، وَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، بَلْ هِيَ وَدِيعَةٌ لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَدْفَعُهَا لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ وَلَا قَوْلَ، فَلِهَذَا كَانَ الْمُقِرُّ مُصَدَّقًا فِي جَمِيعِهَا هُنَا فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبَانِ حِينَ جَاءَا بِأَلْفَيْنِ كَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْبِيضُ كُلُّهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ فَقَالَ هَذِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَقَالَ الْآخَرُ: وَرَبُّ الْمَالِ كُلُّهُ رِبْحٌ أَخَذَهَا صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهَا، وَالْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رِبْحٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْبِيضُ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ مَالٍ قُسِّمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: لِرَبِّ الْمَالِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْبِيضَ هُنَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي يَدِ الْجَاحِدِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْمَالُ، فَلِهَذَا قُسِمَ الْكُلُّ كَمَا هُوَ زَعْمُ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ، ثُمَّ مَا وَقَعَ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْبِيضِ سَلَّمَهُ إلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ قَدْ وَصَلَ إلَى يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْجَاحِدُ مُقِرٌّ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ بِالْيَدِ فِي نِصْفِهِ وَهُنَا الْجَاحِدُ لَا يُقَرُّ بِالْيَدِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبِيضِ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِثْلَهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهِيَ الْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَعْمَلَا فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِمَا فَجَاءَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَلْفٌ مِنْهَا رَأْسُ الْمَالِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ، وَخَمْسُمِائَةٍ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ خَلَطْنَاهَا بِالْمَالِ بِأَمْرِهِ فَهُوَ شَرِيكُنَا فِي هَذَا الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: يَمْلِكُ الْأَلْفَ كُلّ هَا رِبْحٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِمَّا فِي يَدِ الْمُنْكِرِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ، وَإِنَّ الْمُقِرَّ أَتْلَفَ مِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَانِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رِبْحٌ، فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَيَجْمَعُهَا إلَى مَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ لِلْمُضَارِبِ، وَأَرْبَعَةٍ لِلْمُقِرِّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ، وَتَصَادُقُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا فَمَا وَصَلَ إلَيْهِمَا يُقَسَّمُ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ أَنَّ حَقَّ الْمُقِرِّ لَهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَإِنَّ حَقَّ الْمُقِرِّ فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 96 وَعِشْرِينَ فَاجْعَلْ كُلَّ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، فَيَكُونُ الْخَمْسُمِائَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ: فَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ حَقُّ الْمُقِرِّ لَهُ، وَسَهْمٌ حَقُّ الْمُقِرِّ. فَلِهَذَا قَالَ يُقَسَّمُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا أَخْمَاسًا بَيْنَهُمَا، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِمَا مِنْ الْمَالِ يُجْعَلُ كَالتَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ يَوْمَ أَقَرَّ بِهَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ جَمِيعَ الْخَمْسِمِائَةِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ فِيمَا فِي يَدِهِ مَقْبُولٌ وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا، وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَرْبَاعًا. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَ هُوَ وَالْمُضَارِبَانِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ أَرْبَاعًا، وَمَا أَخَذَهُ الْمُقِرُّ بِالشَّرِكَةِ اقْتَسَمَهُ هُوَ وَالْمُقِرُّ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَى يَدِهِ مِنْ الْمَالِ هَذَا الْمِقْدَارُ، فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا: لِلْمُقِرِّ خُمُسُهُ وَلِلْمُقِرِّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ. قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا غَلَطٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا، أَوْ فِي يَدِ الْمُنْكِر مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَوَّلًا، كَمَا أَجَابَ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبِيضِ وَالسُّودِ قَبْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مُقِرٌّ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَأَنَّ نِصْفَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ هُنَا أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُنْكِرَ وَإِنْ أَقَرَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نِصْفَ الْمَالِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ، وَيَقُولُ يَدُ الْمُقِرِّ لَهُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مَعِي فَلَمْ تَثْبُت يَدُ الْمُقِرِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبِيضِ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرِكَةِ حَقُّ الْمُقِرِّ لَهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَحَقُّ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ شَائِعٌ فَلَمْ يَخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَنْفِيذُ إقْرَارِهِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا فِي الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ مُتَمَيِّزٍ مِنْ حَقِّ الْمُضَارَبَةِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ إلَى الْمُقَاسَمَةِ. وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبَانِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَارَكَنَا فُلَانٌ فِي الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَخَلَطْنَاهُمْ بِالْأَلْفِ، ثُمَّ عَمِلْنَا فَرَبِحْنَا خَمْسَمِائَةٍ، وَقَالَ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مَقْبُولٌ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا رِبْحٌ بَيْنَ صَاحِبِ الشَّرِكَةِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الشَّرِكَةِ أَيْضًا مِنْهَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِإِقْرَارِهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَدْفَعُ مِنْهَا مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَقْسِمُهَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 97 رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ الْمُنْكِرُ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِإِقْرَارِهِمَا أَنَّ هَذَا رِبْحٌ، وَأَنَّ الْمُقِرَّ بِالشَّرِكَةِ أَتْلَفَ مِثْلَ هَذَا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ. وَيُقْسَمُ هَذَا الْقَدْرُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْجَاحِدِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا: ثُلُثَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ لِلْمُضَارِبِ الْجَاحِدِ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرْطِ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الْمُقِرُّ بِالشَّرِكَةِ مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الشَّرِكَةِ فَيَقْسِمَانِ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: لِلْمُقِرِّ سَهْمٌ وَلِلْمُقِرِّ لَهُ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ زَعَمَ أَنَّ لِلْمُقِرِّ لَهُ سَهْمًا أَصْلُ مَالِهِ وَثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ رِبْحٌ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ الرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَرْبَاعًا فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الْمُقِرُّ لِصَاحِبِ الشَّرِكَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ سَهْمَانِ، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ سَهْمٌ، فَذَلِكَ كُلُّهُ إذَا جَمَعْته تِسْعَةُ أَسْهُمٍ؛ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ لِلْمُقِرِّ لَهُ: وَتُسْعُهُ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّهِمَا كَالتَّاوِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُضَارِبِ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ سَوَّى غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلثَّانِي شَرِكَةً فِي رِبْحِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَا رَضِيَ إلَّا شَرِكَتَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسِبَ سَبَبَ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِيهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا مُخَالِفًا بِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ ضَمِنَهُ سُلِّمَتْ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَالْمُضَارِبِ الْآخَرِ عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينَ صَارَ مُخَالِفًا، فَإِنَّمَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي. وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، ثُمَّ الرِّبْحُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي رَبِحَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 98 الْمُضَارِبُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ صَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ، وَمَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا وَدَفَعَهُ مُضَارَبَةً فَعَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَرَبِحَ فَلَا سَبِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الرِّبْحِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ إذَا اسْتَحَقَّ وَضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ فَرَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ أَيْضًا وَهُنَا إذَا رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ؛ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِرْدَادِ الْمُسْتَحِقِّ الْقِيمَةَ مِنْهُ، وَبِدُونِ قَبْضِهِ لَا يَكُونُ مَرْهُونًا، وَهُنَا أَيْضًا اسْتِرْدَادُ الْمِثْلِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْيَدِ لِلْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ، وَاسْتِدَامَتُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى إنَّهُ إذَا رَدَّ الْمُضَارِبُ الْمَالَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ رَدَّ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ عَلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي لَمْ يَعْمَلْ بِالْمَالِ حَتَّى ضَاعَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ الْمَالَ مِنْ الْآخَرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ أَمِينٌ، وَقَدْ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا كَالْمُودِعِ إذَا أَعَارَ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُضَارِبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ، وَأَنْ يُبْضِعَهُ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الدَّفْعِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حِينَ عَمِلَ بِهِ الثَّانِي صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَحْصُلَ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا إذَا صَارَ مُخَالِفًا، وَذَلِكَ بِاشْتِرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ إذَا أَبْضَعَ، أَوْ أَوْدَعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْغَيْرِ فِي الرِّبْحِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ لَا تَتَحَقَّقُ قَبْلَ حُصُولِ الرِّبْحِ؛ لِسَبَبِ الْخِلَافِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا حَصَلَ الرِّبْحُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ فَيُقَامُ سَبَبُ حُصُولِ الرِّبْحِ مَقَامَ حَقِيقَةِ حُصُولِ الرِّبْحِ فِي صَيْرُورَةِ الْمَالِ بِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الدَّفْعِ فَهُوَ لَيْسَ سَبَبًا لِحُصُولِ الرِّبْحِ لِيُقَامَ مَقَامَ حُصُولِهِ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ الْمَالَ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآخَرِ خَاصَّةً دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا الْفِعْلِ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ الْأَوَّلُ فَيُقْصَرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 99 فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهمَا شَاءَ. وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي مَعَ رَجُلٍ يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ مَالَهُ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَمْلِكُ الْإِبْضَاعَ، كَمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَيَكُونُ هُوَ فِيمَا صَنَعَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ كَعَمَلِ الْمُبْضِعِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَلَا رِبْحَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ وَصَارَ الْمَالُ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَبْضِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ وَمَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَيَرْجِعُ بِهِ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ نَفْسَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا ظَهَرَ اسْتِقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ بِهِ وَجْهُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالسُّدُسِ فَعَمِلَ فِيهِ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ، فَالْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي خَالَفَ أَمْرَهُ حِينَ دَفَعَهُ إلَى الْغَيْرِ مُضَارَبَةً، فَلَا يَتَحَوَّلُ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ إلَى الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَالَ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمِنَ الثَّانِي رَأْسَ مَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الثَّالِثُ، وَحَالُ الثَّالِثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَحَالِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، حَتَّى إذَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَإِنْ ضَمِنَ الثَّالِثُ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَى الثَّانِي فَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ حِينَ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي بِالثُّلُثِ، وَقَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ مُضَارَبَةً بِالسُّدُسِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ بِالدَّفْعِ إلَى الثَّالِثِ هُنَا مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْأَوَّلِ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ فَإِنْ ضَمِنَ الثَّالِثُ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي وَرَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِمَعْنَى الْغُرُورِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ مِمَّا ضَمِنَ بَعْدُ، كَمَا اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَتَانِ جَمِيعًا: الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الرِّبْحُ فَلِلضَّارِبِ الْآخَرِ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَلِلثَّانِي سُدُسُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِلثَّانِي شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِنَفْسِهِ ثُلُثَيْهِ فَشَرْطُ الثَّانِي السُّدُسَ لِلثَّالِثِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً دُونَ نَصِيبِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 100 الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْأَوَّلِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلِهَذَا كَانَ لِلثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ حَقِّ الثَّالِثِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَلِلْأَوَّلِ ثُلُثُ الرِّبْحِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمِلَ بِهِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ، أَوْ تَوَى الْمَالُ بَعْدَ مَا عَمِلَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَالتَّوَى مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِإِشْرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، وَبِمَا بَاشَرَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَا يُوجَدُ سَبَبُ الِاشْتِرَاكِ بَلْ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ كَالْإِجَارَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ فِي الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا بِهِ وَجُعِلَ عَمَلُ الْأَجِيرِ كَعَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ وَيَرْجِعُ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَجْرَ مِثْلِ الْعَامِلِ أَوَّلًا مِنْ الْمَالِ، كَمَا اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً، ثُمَّ الرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا، وَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبَيْنِ فِي الْوَضِيعَةِ وَالتَّوَى؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ مَا أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ شَرِكَةً فِي رِبْحِ مَالِهِ، فَإِنَّ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ لَا يَسْتَحِقُّ هُوَ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ فَكَيْفَ يُوجِبُهُ لِغَيْرِهِ؟، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، ثُمَّ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ هُنَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الثَّانِي بِأَمْرِ الْأَوَّلِ كَعَمَلِ الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ مِثْلُ نِصْفِ الرِّبْحِ الَّذِي رَبِحَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ أَطْعَمَهُ فِي نِصْفِ الرِّبْحِ، وَقَدْ حَصَلَ الرِّبْحُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَعَ حُصُولِهِ، بَلْ اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فَسَادُ الْعَقْدِ؛ فَرَجَعَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمِثْلِ نِصْفِ الرِّبْحِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَجْلِ الْغَرَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ بِمَالِهِ فَيَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ وَيُبْضِعُهُ وَيَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ إنْ أَحَبَّ فَاسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ الْأَجِيرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِ، أَوْ أَبْضَعَهُ مَعَ رَجُلٍ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَلِلْأَجِيرِ الْأَوَّلِ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَلِلْأَجِيرِ الْآخَرِ أَجْرُهُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ وَعَمِلَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ الْأَوَّلُ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 101 كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْأَجِيرِ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَجْلِ الْغَرَرِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَصِرْ شَرِيكًا فِي الْمَالِ بِمُضَارَبَتِهِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَلِلْأَوَّلِ سُدُسُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ حِينَ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك، فَالْمُضَارِبُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَمْلِكُ الْخَلْطَ وَالشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رَأْيِهِ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ إلَّا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يُوجِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، بَلْ مَا أَوْجَبَهُ لِلثَّانِي، وَهُوَ ثُلُثُ الرِّبْحِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً، كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا بَاعَ ثُلُثَهُ. وَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَقَدْ أَوْجَبَ لِلثَّانِي الثُّلُثَ بَقِيَ لَهُ السُّدُسُ، وَذَلِكَ طِيبَ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْضَعَ الْمَالَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ أَبْضَعَهُ رَبُّ الْمَالِ لَهُ حَتَّى رَبِحَ كَانَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ طَيِّبًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنْ دَفَعَ الثَّانِي إلَى ثَالِثٍ مُضَارَبَةً وَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ قَالَ لِلثَّانِي: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمُضَارِبُ الثَّانِي فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَالِهِ وَأَنْ يُشَارِكْ فِيهِ، وَأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَوَكَّلَ غَيْرَهُ، وَقَالَ لِلثَّانِي: اعْمَلْ بِرَأْيِك لَمْ يَصِحَّ هَذَا مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ مَحْضٌ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَالِ، فَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُسَوِّيَ غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي تَوْكِيلِ الثَّانِي بِهِ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَهُ فِي الْمَالِ نَوْعُ حَقٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا يُعَامِلُهُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً، وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَهُ وَيَسْتَأْجِرَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْأَعْوَانِ وَالْأُجَرَاءِ لِتَتْمِيمِ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ. وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهِ، أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي دَفْعِهِ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، فَقَدْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَالْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ تُعْتَبَرُ بِالْمُضَارَبَةِ الْجَائِزَةِ فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 102 الْحُكْمِ، فَكَمَا أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ الْجَائِزِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، فَكَذَلِكَ الْفَاسِدَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِي الرِّبْحِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الثَّانِي بِشَرْطِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ الرِّبْحِ وَلَكِنْ عَمَلُ الْمُضَارِبِ الثَّانِي كَعَمَلِ الْأَوَّلِ، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِيمَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ، وَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ مِثْلُ نِصْفِ الرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ. وَقَدْ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخَذَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقِيلَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى آخَرَ، عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَعَمِلَ بِهِ الثَّانِي فَلِلثَّانِي أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي تِلْكَ الْمُضَارَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً كَانَ رُجُوعُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حِينَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِزْقٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَرَبِحَ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَلِلْأَوَّلِ سُدُسُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نَصِفُهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَكُونُ شَارِطًا نِصْفَ رِبْحِ جَمِيعِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ، فَمَا أَوْجَبَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ يَكُونُ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً حَتَّى لَوْ دَفْعَهُ الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ إلَى الثَّانِي. فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ شَرَطَ لِلثَّانِي ثُلْثَيْ الرِّبْحِ فَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي نِصْفُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي إنَّمَا يَتِمُّ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا هُوَ نَصِيبُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النِّصْفُ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بِسُدُسِ الرِّبْحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ، وَهَذَا الشَّرْطُ مِنْ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ رَبِّ الْمَالِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ الْتَزَمَ سَلَامَةَ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِلثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا النِّصْفَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالسُّدُسِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُخَالِفًا بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي رِبْحِ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْأَوَّلِ: مَا رَبِحْتَ فِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فِيهِ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا كَانَ لَك فِيهِ مِنْ فَضْلٍ، أَوْ رِبْحٍ أَوْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 103 قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا كَسَبْتَ فِيهِ مِنْ كَسْبٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا صَارَ لَك فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَدَفَعَهُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، أَوْ بِثُلُثَيْ الرِّبْحِ، أَوْ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الرِّبْحِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحًا، وَلِلثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ جَمِيعُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا يَحْصُلُ لِلْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ بِحَرْفِ الْخِطَابِ وَهُوَ الْكَافُ، أَوْ التَّاءُ فَمَا شَرَطَهُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِمَّا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ، فَيَسْتَحِقُّ الثَّانِي جَمِيعَ مَا شَرَطَ لَهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا حَصَلَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَرَبُّ الْمَالِ هُنَاكَ شَرَطَ نِصْفَ جَمِيعِ رِبْحِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الرِّزْقَ وَالرِّبْحَ إلَى الْمَالِ دُونَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَلِلثَّالِثِ ثُلُثُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الثَّانِي لَهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلِلثَّانِي سُدُسُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلثَّانِي جَمِيعَ نَصِيبِهِ حِينَ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ دَفْعَهُ إلَى الثَّانِي وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى ثَالِثٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ كُلُّهُ، وَسُدُسُ الرِّبْحِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ نِصْفَانِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ، وَالْأَوَّلُ إنَّمَا شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ مَا رَزَقَ اللَّهُ، وَذَلِكَ سُدُسُ الرِّبْحِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لِلْأَوَّلِ: مَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ يَأْخُذُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَيُقَاسِمُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا أَوْجَبَ لِلثَّانِي نِصْفَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَلَّذِي رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَرَاءَ نَصِيبِ الثَّالِثِ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُقَاسِمُ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ ثُلُثَ الرِّبْحِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رُزِقَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ، وَاَلَّذِي رُزِقَ الْأَوَّلُ هَذَا الثُّلُثَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 104 [بَابُ قِسْمَةِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ لِنَفْسِهِ، وَبَقِيَ رَأْسُ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى حَالِهِ حَتَّى هَلَكَ، أَوْ عَمِلَ بِهَا فَوَضَعَ فِيهَا، أَوْ تَوَى بَعْدَ مَا عَمِلَ فِيهَا فَإِنَّ قِسْمَتَهَا بَاطِلَةٌ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ تُحْتَسَبُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَيَغْرَمُ لَهُ الْمُضَارِبُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا هَلَكَ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْلَمُ لَهُ نَوَافِلُهُ حَتَّى تَسْلَمَ لَهُ عَزَائِمُهُ، أَوْ قَالَ فَرَائِضُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَصْلٌ، وَالرِّبْحُ فَرْعٌ وَمَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمِينٌ فِيهِ، فَإِذَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَا هَلَكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْمَالِ كَانَ مِقْدَارَ الْأَلْفِ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَمَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا، حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ كَمَالِ رَأْسِ مَالِهِ، وَقِسْمَةُ الرِّبْحِ هُنَا قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَةِ الْوَارِثِ التَّرِكَةَ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَلَوْ أَنَّ الْوَرَثَةَ عَزَلُوا مِنْ التَّرِكَةِ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَقَيَّمُوا مَا بَقِيَ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَعْزُولُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْغُرَمَاءِ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَخَذُوا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا حَقُّ رَبِّ الْمَالِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّهِمَا فِي الرِّبْحِ. وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ أَيْضًا مَا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَيَسْتَوِي هَلَاكُهُ فِي يَدِهِ وَبَقَاؤُهُ، وَمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِأَخْذِهِ، فَبَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ أَلْفَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ كُلُّهُ وَلَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ رَأْسُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَقِيَامِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا، فَيُجْعَلُ مَا هَلَكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ هُوَ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ مَا أَخَذَهُ الْمُضَارِبُ، وَقَدْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ نِصْفَ تِلْكَ الْأَلْفِ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ الْمَالَ حَتَّى اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْأَلْفِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 105 الَّتِي بَقِيَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ فَرَبِحَ مَالًا كَثِيرًا كَانَتْ الْأَلْفُ الَّتِي قَبَضَهَا رَبُّ الْمَالِ أَوَّلًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُضَارِبُ مِنْ الرِّبْحِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي رِبْحًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، أَوْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ وَكِيلُهُ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ قَسَمُوا الرِّبْحَ جَازَتْ الْمُقَاسَمَةُ، فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَى الْمُضَارِبِ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَهَا بِرَأْسِ مَالِهِ فَقَالَ: خُذْهَا فَاعْمَلْ بِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي كَانَتْ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ جَائِزَةٌ، إنْ رَبِحَ فِيهَا أَوْ وَضَعَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدْ انْتَهَى بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى يَدِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ قِسْمَتُهُمَا الرِّبْحَ حَصَلَتْ فِي أَوَانِهَا فَتَمَّتْ، ثُمَّ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً مُسْتَقِلَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى سِوَى الْأَلْفِ الْأُولَى. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمَا فَدَفَعَ إلَى رَبّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبَقِيَتْ حِصَّةُ رَبّ الْمَالِ وَلَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى ضَاعَتْ فَإِنَّهَا تَضِيعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَرُدُّ الْمُضَارِبُ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ حِينَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ جَمِيعَ الرِّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُسَلَّمُ لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا حَتَّى يُسَلِّمَ لِرَبِّ الْمَالِ مِثْلَهَا رِبْحًا، وَلَمْ يُسَلِّمْ فَعَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ الرِّبْحِ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ هِيَ الَّتِي هَلَكَتْ وَبَقِيَتْ الْأَلْفُ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا تُحْسَبُ عَلَى الْمُضَارِبِ مِنْ حِصَّتِهِ، وَتُسَلَّمُ الْأَلْفُ الَّتِي بَقِيَتْ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ تِلْكَ الْأَلْفَ لِنَفْسِهِ فَصَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ الَّذِي لَزِمَهُ بَعْدَ مَا هَلَكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ قَاسَمَ رَبَّ الْمَالِ الرِّبْحَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ حَتَّى ضَاعَ مَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ هَلَكَ مِنْ مَالِهِمَا وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ بَقِيَ أَمِينًا فِي ذَلِكَ وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الرِّبْحِ الَّذِي كَانَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ بِالْقَبْضِ فَهَلَكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَيَغْرَمُ نِصْفَهُ لِرَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ رِبْحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَيْك وَإِنَّمَا قَاسَمْتنِي بَعْدَ الدَّفْعِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 106 أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ فَتَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ، وَالْأَمِينُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الرَّدِّ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ، غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُودِعَ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَصِيِّ لَيْسَ لِلْيَتِيمِ أَنْ يَضْمَنَ الْوَصِيَّ شَيْئًا، وَإِذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَمَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَيْهِ لَا يُسَلَّمُ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ بِطَرِيقِ الرِّبْحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي خُلُوصَ الْخَمْسِمِائَةِ الْمَقْبُوضَةِ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ اشْتِغَالُهُمَا بِقِسْمَةِ الرِّبْحِ يَكُونُ إقْرَارًا بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ فَهُوَ فِي إنْكَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ، إذْ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ تَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَبَيْنَ التُّجَّارِ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْمُحَاسِبَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعُرْفِ لَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا، ثُمَّ الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْخَمْسِمِائَةِ رِبْحًا، وَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكْفِي، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ دَفْعَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تَنْفِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ الْخَمْسَمِائَةِ رِبْحًا بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً وَهَلَكَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ، فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى أَنَّهَا لَهُ فَصَارَ ضَامِنًا لَهَا. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَذَكَرَ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ قَدْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفًا وَجَاءَ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ جَحَدَ فَقَالَ: لَمْ أَرْبَحْ فِيهَا إلَّا خَمْسَمِائَةٍ فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ فِي يَدِهِ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا قَالَ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي جَحَدَهَا مِنْ الرِّبْحِ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا مِقْدَارَ مَا جَحَدَ مِنْ الْمَالِ كَالْمُودِعِ، وَإِنَّمَا جَحَدَ الْخَمْسَمِائَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ أَمَانَةٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ الْخَمْسِمِائَةِ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَلَوْ كَانَ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ رَبِحَ فِي الْمَالِ شَيْئًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ضَمِنَ الْأَلْفَ الرِّبْحَ كُلَّهَا فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْحَدْهَا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَقَدْ جَحَدَ الْأَلْفَ الَّتِي اعْتَرَفَ أَنَّهَا رِبْحٌ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا مِثْلَهَا يَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَلَوْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفًا وَقَالَ لِرَبِّ الْمَالِ: قَدْ دَفَعْت إلَيْك رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 107 هَذِهِ الْأَلْفُ الرِّبْحُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ أَقْبِضْ مِنْك شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَيَسْتَحْلِفُ الْمُضَارِبَ بِاَللَّهِ مَا اسْتَهْلَكَهَا وَلَا ضَيَّعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ سَلَامَةِ نِصْفِ مَا بَقِيَ لَهُ، وَلَا هُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، بَلْ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ هُوَ وَنَكَلَ الْمُضَارِبُ عَنْ الْيَمِينِ غَرِمَ الْخَمْسَمِائَةِ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ كُلَّهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ تِلْكَ الْأَلْفَ أَوَضَيَّعَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ النِّصْفُ. وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ حِينَ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ اسْتِحْلَافَهُ قَالَ: لَمْ أَدْفَعْهَا إلَيْك وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ مِنِّي، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَيَغْرَمُ نِصْفَهَا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ فِي تِلْكَ الْأَلْفِ حِينَ ادَّعَى مَرَّةً أَنَّهُ دَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْمُودِعَ يَضْمَنُ بِمِثْلِ هَذَا التَّنَاقُضِ فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ. وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ حِينَ قَالَ: دَفَعْتُ إلَيْك رَأْسَ مَالِك وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ الرِّبْحُ فِي يَدِي وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ قَبْضَ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ بِبَيِّنَتِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَنْفِي ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّ الْإِقْرَارَيْنِ أَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ فِي نِصْفِ مَا بَقِيَ بِطَرِيقِ الرِّبْحِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَنْفِي ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَيَّهمَا أَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْإِقْرَارَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّا لَوْ عَايَنَّا الْإِقْرَارَيْنِ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ الْآخَرَ يَصِيرُ بِهِ رَادًّا إقْرَارَ الْأَوَّلِ، وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَعْمُولُ بِهِ آخِرَ الْإِقْرَارَيْنِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ وَرَبِحَ، أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا مُنْذُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، أَوْ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا وَلَمْ يَبِعْهُ حَتَّى زَادَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ السُّدُسَ فَصَارَ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، ثُمَّ رَبِحَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ رِبْحًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا فَعَلَا وَيَقْتَسِمَانِ عَلَى ذَلِكَ مَا حَصَلَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ أَوْ الْحَطِّ، وَمَا حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ وَالزِّيَادَةَ قَدْ نَقَضَا الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ، وَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِالْأَصْلِ فَفِيمَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 108 لَيْسَ بِلَازِمٍ أَوْلَى، وَإِذَا الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا شَرَطَا فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ. وَلَوْ كَانَ رَبِحَ رِبْحًا فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ قَبْلَ الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ، ثُمَّ وَقْع الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: إنَّكَ قَدْ غَبَنْتَنِي فَزَادَهُ سُدُسَ الرِّبْحِ، أَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: قَدْ غَبَنْتنِي فَنَقَصَ الْمُضَارِبُ مِنْ حَقِّهِ سُدُسَ الرِّبْحِ فَهَذَا جَائِزٌ لَازِمٌ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَجُوزُ الْحَطُّ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَقِسْمَةِ الرِّبْحِ وَصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْعَقْدِ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ يَأْخُذُهُ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَقَدْ انْقَضَى عَمَلُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِقِسْمَةِ الرِّبْحِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبَدَلِ، وَتَجُوزُ فِي الْحَطِّ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَيَجُوزُ الْحَطُّ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْقِسْمَةُ تُنْهِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُنْتَهَى مَا يَكُونُ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ دُونَ الْمَفْسُوخِ، فَيَجُوزُ الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ جَمِيعًا، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزِيدُ مِنْ وَجْهٍ، وَيَحُطُّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزِيدُ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ، وَذَلِكَ حَطٌّ مِنْ نَصِيبِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ يَزِيدُ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ حَطٌّ مِنْهُ لِنَصِيبِهِ، فَإِذَا جَازَ مِنْ الْمُضَارِبِ هَذَا بِطَرِيقِ الْحَطِّ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عِتْقِ الْمُضَارِبِ وَدَعْوَتِهِ الْحَطَّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَالْمُضَارِبُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْفَضْلِ فَبِعِتْقِهِ الْعَبْدَ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ، عَتَقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَاَلَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْبَابِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ جَمِيعَ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ الْآخَرِ، فَهُنَا يُعْتَبَرُ الْعَبْدُ كَأَنَّهُ جَمِيعُ الْمَالِ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 109 مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسُ الْمَالِ، خَالِصُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ سِوَى الْعَبْدِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ كُلُّهُ بِإِتْلَافِ رَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَى بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الْأَلْفِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ جَازَ عِتْقُهُ وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ بِعِتْقِهِ فَتَبْقَى الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحًا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَيَقْسِمَانِهَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ جَازَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْعَبْدِ فَإِنَّ نِصْفَهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِعْتَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ صَحِيحٌ فِي حِصَّتِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِيهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ، وَعِنْدَهُمَا قَدْ عَتَقَ كُلُّهُ وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَتَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ جَازَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ، وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُضَمَّنُ الْمُضَارِبَ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَنِصْفِ الرِّبْحِ وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَيَرْجِعُ الْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْعَبْدِ بِجَمِيعِ مَا ضَمِنَ وَهُوَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَيَرْجِعُ الْمُضَارِبُ أَيْضًا عَلَى الْعَبْدِ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَسْتَسْعِيهِ فِيهَا وَذَلِكَ تَمَامُ مَا كَانَ وَجَبَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا نَفَذَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْعَبْدِ، فَالْعَبْدُ كَأَنَّهُ جَمِيعُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَفَّذَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْخَمْسَمِائَةِ الْأُخْرَى مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، وَظَهَرَ أَنَّ الرِّبْحَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ، وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَقَدْ أَتْلَفَ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا ضَمِنَ لِرَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا ضَمِنَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ السَّاكِتِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ إذَا ضَمِنَ؛ وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 110 مَلَكَ نَصِيبَهُ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ لِإِتْمَامِ الْعِتْقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُعْتَقُ الْعَبْدُ كُلُّهُ وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا، فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَافِذٌ فِي رُبْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجْرِي فِي الرَّقِيقِ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فَيُسْتَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ عَلَى حِدَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ عَلَى الرَّقِيقِ عِنْدَ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُعَادِلَةِ إذَا رَأَى الْقَاضِي النَّظَرَ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ عَدَمِ هَذَا الشَّرْطِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ عَلَى حِدَةٍ، لَا فَضْلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْعَبْدَانِ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْفَضْلِ فِيهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ، وَهُوَ الرُّبْعُ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ كَانَ ضَامِنًا حِصَّةَ الْمُضَارِبِ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِذَا ظَهَرَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عِنْدَ إعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ نَصِيبُهُ فِي تَنْفِيذِ الْعِتْقِ كَانَ أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ بِإِعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُمَا يَصِلُ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ؛ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ، فَأَمَّا بِإِعْتَاقِ الْمُضَارِبِ إيَّاهُمَا لَا يَصِلُ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ، وَلَا فَضْلَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ هُنَا حَقًّا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لَا قَبْلَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْبَاقِي كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْعِتْقُ بَاطِلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ نَصِيبَهُ الْآنَ حِينَ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِيهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِمَا، وَمَنْ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ، ثُمَّ مَلَكَ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ مَعًا عَتَقَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَهُ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولًا بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَيَضْمَنُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 111 خَمْسُمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ كُلَّهُ بِإِعْتَاقِ الْمَالِكِ إيَّاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةَ، وَرَبُّ الْمَالِ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ بِالْعِتْقِ؛ فَيَضْمَنُ لَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. فَإِنْ أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ عَتَقَ الْأَوَّلُ كُلُّهُ، وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَيُعْتَقُ مِنْ الثَّانِي نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ كَمَالُ رَأْسِ مَالِهِ وَبَقِيَ الْعَبْدُ الْآخَرُ رِبْحًا، وَالرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ بِإِعْتَاقِ الثَّانِي، أَعْتَقَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَحُكْمُ هَذَا فِي الْخِيَارِ، وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَالتَّضْمِينِ مَعْرُوفٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِهَا عَبْدَيْنِ يُسَاوِي أَحَدُهُمَا أَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ أَلْفًا فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ مَعًا، أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَعِتْقُهُ فِي دَيْنٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَمْلِكُ هُوَ شَيْئًا مِنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَالْمُضَارِبُ مَالِكٌ لِرُبْعِهِ حِينَ أَعْتَقَهُ فَيُعْتِقُ مِنْهُ رُبْعَهُ، ثُمَّ بَاعَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يُحَصَّلُ مِنْ شِرَاءِ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ عِتْقَهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فِي مُعْتَق الْعَبْدِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ كُلَّهُ رِبْحٌ، وَأَنَّ نَصِيبَ الْمَالِ مِنْهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَسْتَسْعِيهِ أَيْضًا فِي خَمْسِمِائَةٍ تَمَامُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعْتَقَ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْهُ إلَّا الرُّبْعَ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ مِلْكٌ فِي رُبْعٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ فِيهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيهِ فِي هَذَا الرُّبْعِ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ. وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُمَا الْمُضَارِبُ، وَأَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْعَبْدُ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ جُزْءٍ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ جُزْءٌ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا نَفَذَ فِيهِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِمَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكًا جَمِيعَ الْعَبْدِ الْأَوْكَسِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْأَرْفَعِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَأَمَّا الرُّبْعُ الْبَاقِي فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُوسِرًا فَالْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ ذَلِكَ الرُّبْعَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ رَبُّ الْمَالِ وَيَرْجِعُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا: فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَضَمَّنَ الْمُضَارِبُ أَيْضًا رَبَّ الْمَالِ تَمَامَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ مُتْلِفًا مِقْدَارَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ: أَلْفٌ مِنْ ذَلِكَ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ، وَقَدْ وَصَلَ إلَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 112 الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، إمَّا بِالتَّضْمِينِ أَوْ بِالِاسْتِسْعَاءِ فَيُسَلِّمُ مِثْلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ بَقِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِمَا أَنْفَقَهُ: فَنِصْفُهَا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ؛ فَلِهَذَا غَرِمَ لَهُ خَمْسَمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ زَادَ بِهِ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ عِتْقِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ فِيهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَكُلُّ مَا كَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ظَاهِرًا لِلْمُضَارِبِ وَقْتَ إعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بِالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءُ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ رَبُّ الْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالْإِتْلَافِ فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَعْتَقَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ أَوَّلًا عَتَقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْآخَرَ كُلَّهُ رِبْحٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهِ فَالْحُكْمُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يُعْتِقُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوَّلًا عَتَقَ الْأَوَّلُ كُلُّهُ وَصَارَ رَبُّ الْمَالِ مُسْتَرِدًّا جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْآخَرَ كُلَّهُ رِبْحٌ، وَأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهِ وَلِلْمُضَارِبِ الْخِيَارُ فِي نَصِيبِهِ، كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفٍ عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ مَعًا، أَوْ أَحَدَهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ فَقَأَ رَبُّ الْمَالِ عَيْنَ أَحَدِهِمَا، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَصَارَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ، أَوْ قَطْعِ الْيَدِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْأَجْنَبِيُّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ الَّذِي كَانَ مِنْ الْمُضَارِبِ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْمِلْكَ فَلَا يَنْفُذُ، وَإِنْ ظَهَرَ الْمِلْكُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَمَّا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْآخَرُ فَيُعْتَقُ مِنْهُ رُبْعُهُ نِصْفُ الْفَضْلِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ إنْ كَانَ مُوسِرًا لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي جَازَ عِتْقُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ رِبْحٌ وَأَنَّ نِصْفَهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُوسِرًا ضَمَانَ الْعِتْقِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِلْكُهُ فِي نِصْفِهِ إلَّا أَنْ أَعْتَقَهُ حِينَ عَتَقَ، مَا نَفَذَ إلَّا فِي رُبْعِهِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِي قِيمَةِ رُبْعِهِ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ فِيهِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 113 وَاحِدِ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ بِانْفِرَادِهِ فَدَعْوَتُهُ حَصَلَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِعُقْرِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا لَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا، فَقَدْ أُبْهِمَ الْجَوَابُ هُنَا وَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ، فَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَقَ شِرَاؤُهُ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِلْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَا لَمْ يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ عُقْرَهَا، فَإِنْ اسْتَوْفَى عُقْرَهَا وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَإِنَّمَا يَبْقَى مِنْ رَأْسِ مَالِهِ تِسْعُمِائَةٍ، وَفِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَتَصِحُّ دَعْوَاهُ، ثُمَّ يَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ تِسْعَمِائَةٍ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِمَّا بَقِيَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَمَدُ الصُّنْعُ، فَإِذَا غَرِمَ لَهُ تِسْعَمِائَةٍ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ تَمَامُ رَأْسِ مَالِهِ، وَصَارَتْ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ قِيمَتِهَا رِبْحًا بَيْنَهُمَا فَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَهُوَ رِبْحٌ كُلُّهُ، وَيُعْتَقُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ وَيُسْتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُعْتِقِ لَهُ، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالصُّنْعِ، وَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ هُنَا حُكْمًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُبَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ عُقْرَهَا حَتَّى زَادَتْ الْجَارِيَةُ فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي قِيمَتِهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْهَا، وَهُوَ الرُّبْعُ فَتَصِيرُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَاهُ نَسَبَ الْوَلَدَ، قَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيلَادِ إذَا حَصَلَ قَبْلَ الْمِلْكِ يُوقَفُ عَلَى ظُهُورِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ، وَبَعْدَ الْمِلْكِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لَهُ، ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّحَرِّي فِي الْمَحِلِّ فَصَارَ هُوَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، أَلْفٌ رَأْسُ مَالِهِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَهُوَ رَقِيقٌ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ، أَوْ يَأْخُذْ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ابْنَ الْمُضَارِبِ، وَيُعْتَقُ مِنْهُ رُبْعُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَمَلَكَ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 114 الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِيهِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ مَتَى سَبَقَ الْمِلْكَ لَمْ يَنْفُذْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ بَعْدَهُ. وَدَعْوَى النَّسَبِ إذَا سَبَقَتْ الْمِلْكَ نَفَذَ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ بَعْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِحَالٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ، ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ حُكْمًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَتِهِ، وَضَمَانُ الْعِتْقِ يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ، وَحِينَ وَجَدَ مِنْهُ الصُّنْعَ وَهُوَ الدَّعْوَى لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ الْقَرَابَةُ وَالْمِلْكُ فَإِنَّ مَا يُضَافُ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ حُكْمًا بِغَيْرِ صُنْعِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ بَعْضُ قَرِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَهُوَ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ بَعْضَ أُمِّ وَلَدِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، فَإِنْ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَارَ مَا بَقِيَ مِنْ الِابْنِ وَمَا بَقِيَ عَلَى الْمُضَارِبِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ وَعُقْرِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ رِبْحًا كُلَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْعُقْرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ضَمَّنَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ الْأَلْفَ كُلَّهَا، وَالْمِائَةَ الدِّرْهَمَ، فَإِذَا أَخَذَهَا كَانَ لِلْمُضَارِبِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ مِنْ الْوَلَدِ قَدْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةٍ، وَيَبْقَى تِسْعُمِائَةٍ فَهُوَ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ فَيُعْتَقُ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ، وَيُسْتَسْعَى الْوَلَدُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي حِصَّتِهِ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَلِرَبِّ الْمَالِ مِنْ وَلَاءِ الْوَلَدِ عُشْرُهُ وَرُبْعُ عُشْرِهِ وَإِلَّا وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا اللَّفْظُ سَهْوٌ فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ وَلَاءِ الْوَلَدِ خُمُسَهُ وَرُبُعَ عُشْرِهِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ أَلْفَانِ، وَاَلَّذِي عَتَقَ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ قَدْرُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ خُمُسُ الْأَلْفَيْنِ، وَالْخَمْسُونَ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنَّ الْعُشْرَ مِائَتَانِ فَعَلِمْنَا أَنَّ لَهُ مِنْ الْوَلَاءِ خُمُسَهُ وَرُبْعَ عُشْرِهِ، وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْأَلْفِ الَّذِي اسْتَوْفَاهَا رَبُّ الْمَالِ، كُلُّهُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَلَا يَكُونُ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ يَضْمَنُ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَاسْتَسْعَى الْوَلَدَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي آخَرِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ خَرَّجَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: تِلْكَ صَحِيحَةٌ وَهِيَ تَنْقُضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَا ذَكَرَهُ عِيسَى هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِهِ هُنَا لِزِيَادَةِ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ. فَأَمَّا لَوْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْقِيَاسِ لَمْ يُعْتَقْ الْوَلَدُ مَجَّانًا إلَّا بِصِفَةٍ، وَإِذَا صِرْنَا إلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَقُ مِنْ الْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَرُبْعُ عُشْرِهِ مَجَّانًا، وَمَبْنَى الْعَقْدِ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ، فَيَتَرَجَّحُ الطَّرِيقُ الَّذِي فِيهَا تَكْثِيرُ الْعِتْقِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 115 ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ تِلْكَ بَيَّنَّاهُ آخِرَ الْبَابِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْجَارِيَةَ فِي رَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفِ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ رَأْسُ مَالِهِ وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْ الْوَلَدِ وَهُوَ الرُّبْعُ عَتَقَ بِالدَّعْوَى فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ صَحِيحٌ، فَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلَا تُعْتَقُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَلَاءِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُضَارِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ عُقْرِهَا كُلِّهِ رِبْحٌ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا سَعَى فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِوَضَ مَا سَعَى فِيهِ قَدْ حَصَلَ لَهُ وَهُوَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ حِينَ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِالْأَلْفِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَلَمْ يَدَّعِهِ، وَلَكِنَّهُ ادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ ابْنُهُ، وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا مِنْ عُقْرٍ وَلَا قِيمَةِ جَارِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْمَال، إذْ لَا فَضْلَ فِيهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَاسْتِيلَادُهُ حَصَلَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَرَدَّهَا بِالْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ عُقْرُهَا وَقَدْ عَلِقَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ قِبَلَهُ مِنْ قِيمَتِهَا، وَلَا مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعَلُوقِ وَإِنَّمَا عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقِيمَتِهِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ. وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ غَرِمَ رُبْعَ قِيمَتِهَا، وَثَمَنُ عُقْرِهَا لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا كَانَ الرُّبْعُ مِنْهَا لِلْمُضَارِبِ فَيَغْرَمُ لَهُ رُبْعَ قِيمَتِهَا، وَقَدْ لَزِمَهُ رُبْعُ عُقْرِهَا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُضَارِبِ لَكِنَّ هَذَا الرُّبْعَ مِنْ الْعُقْرِ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ وَهُوَ ثَمَنُ عُقْرِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَإِنَّ أَصْلَ الْعَلُوقِ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَتَسْتَنِدُ دَعْوَاهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَا وَلَدَتْهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْوَلَدُ وَلَدُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِرُبْعِهَا حِينَ اسْتَوْلَدَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ بِالدَّعْوَى، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ عَبْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 116 لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ ابْنًا مَعْرُوفًا لَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهُ وَيَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَصَارَ بِهِ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا؛ فَلِهَذَا يَغْرَمُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَيَغْرَمُ لَهُ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الْعُقْرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ كُلُّهُ فَيُقَسِّطُ نِصْفَ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ عُقْرِهَا فَإِذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ رِبْحًا كُلُّهُ فَيُعْتَقُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ حُكْمًا بِحُدُوثِ مِلْكِهِ فِيهِ. وَلَا يُقَالُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ كَمَا فِي جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ صَارَ نَاقِضًا لِلْمُضَارَبَةِ بِاسْتِرْدَادِ رَأْسِ الْمَالِ عَنْهُ عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا وَإِنَّمَا يُعْتَقُ إذَا سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ فَغَرَّمَهُ رَبُّ الْمَالِ الْمُقِرَّ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَخَذَهَا صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا تِسْعُمِائَةٍ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَخَمْسُونَ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي هِيَ رِبْحٌ فِي الْجَارِيَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا رَبُّ الْمَالِ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كُلَّهُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَابِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَبَبُ عِتْقِ الْوَلَدِ: اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ، فَلِهَذَا لَا يُجْمَعُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ كُلِّهِ وَهُنَاكَ لَا صُنْعَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ ظُهُورُ الْفَضْلِ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا يُجْمَعُ جَمِيعُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِوُصُولِهِ إلَى جَمِيعِ نَصِيبِهِ بِالتَّضْمِينِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ لِتَغْلِيبِ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَقْوَى هُنَاكَ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ نِصْفُ عُشْرِ الْوَلَدِ، فَالرِّبْحُ مِنْ الْجَارِيَةِ قَدْرُ الْمِائَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَزْدَادُ الْعِتْقُ لِلْوَلَدِ إلَّا بِقَدْرِ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْجَمْعِ هُنَا. وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُعْسِرًا وَقَدْ أَدَّى الْعُقْرَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 117 دِرْهَمًا: تِسْعُمِائَةٍ بَقِيَّةُ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِسْعَاءِ الْجَارِيَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فَلَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا، وَلَكِنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ فِي ذَلِكَ لِيُعْتَقَ، ثُمَّ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهُ رِبْحٌ فَيَسْعَى لِرَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهَا، وَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ الْوَلَدِ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَنِصْفُ عُشْرِهِ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ رِبْحًا كُلَّهَا، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْهَا بِالِاسْتِيلَادِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ، ثُمَّ اشْتَرَى بِبَعْضِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ الْمُتَوَفَّى؛ لِأَنَّ فِي الْحَالِ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَالْقِصَاصُ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ الْمُضَارِب، وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمُضَارِبُ شَرِيكٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ ظَهَرَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ الْمُضَارِبُ شَرِيكًا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَمِعَا فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ كَمَالُ رَأْسِ مَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا قُتِلَ عَمْدًا، وَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ لَهُمَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مَعَ حَقِّ الرَّاهِنِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ مَعَ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ هُنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ لَا يُعَدُّ وَهْمًا، وَلَيْسَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَا يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ حُكْمِ الشَّرْعِ، بَلْ مَالِيَّةُ الرَّهْنِ تَصِيرُ تَاوِيَةً بِهِ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ بِتَرَاضِيهِمَا وَهُنَا فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ سَلَامَةُ شَيْءٍ لِلْمُضَارِبِ قَبْلَ وُصُولِ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الرَّاهِنُ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقٌّ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَهُنَا الْمَالِكُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْحَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ الْمُضَارِبُ شَرِيكٌ فِي الْمَآلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُكَاتَبِ إذَا قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 118 لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَحِقِّ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قُتِلَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا شَرِكَةَ لِلْغَيْرِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَالْمَالِ إذْ لَا فَضْلَ فِي الْمَالِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ صَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالٍ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّصَرُّفُ بَيْعًا وَلَا شِرَاءً؛ فَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ، وَمَا بَقِيَ بِمَنْزِلَةِ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلًا لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْقَوَدُ بِالصُّلْحِ مَالًا، وَالْمَالُ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ الْقَوَدِ، وَحُكْمُ الْعِوَضِ حُكْمُ الْمُعَوَّضِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمُضَارِبِ فِي الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ. فَأَمَّا هُنَا الْعِوَضُ مَالٌ فَيَظْهَرُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِيهِ إذَا وَصَلَ رَبَّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُوصِي لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ؛ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُوصِي لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَى طَلَبِهِ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ هُنَا لِلشَّرِكَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُضَارِبِ فِي الْعَبْدِ حِينَ قُتِلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَصْلًا. وَمَتَى تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ يَجِبُ بَدَلُ الْمَقْتُولِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَبَدَلُ الْمَقْتُولِ قِيمَتُهُ هُنَا فَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُهُ لِكَوْنِهِ عَمْدًا كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَشْتَرِي بِهَا، وَيَبِيعُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ الْعَبْدَ غَاصِبٌ وَتَلِفَ فِي يَدِهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا عَمْدًا فَادَّعَى ذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ، وَالْمُضَارِبُ حَاضِرٌ وَرَبُّ الْمَالِ غَائِبٌ لَمْ يُقْضَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِصَاصِ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ غَائِبٌ مَا لَمْ يُقْضَ بِالْقِصَاصِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْيَدَ لِلْمُضَارِبِ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَنَزَلَ هُوَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 119 وَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْمَالِكِ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقَوَدِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ دَمِهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ حَالَ غَيْبَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْآبِقِ، فَحَالُ غَيْبَةِ الْمُضَارِبِ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ حَضَرَا أَوْ لَمْ يَحْضُرَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَهُمَا حَاضِرَانِ يُكَذِّبَانِهِ فِيهِ، وَلِلْمَقْتُولِ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْآخَرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ دَمُهُ، وَهُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَبَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ الْمُسْتَحَقُّ لِلْآخَرِ هُوَ الْمَالُ، وَإِقْرَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ عَلَى مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ فَالْمُضَارِبُ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِاعْتِبَارٍ لَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى الْمَرْهُونِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ فَقِيلَ لَهُ ادْفَعْ نِصْفَ حِصَّتِك إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ حِصَّتَهُ مِنْ الْفَضْلِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَكَذَلِكَ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَإِذَا احْتَالَ أَحَدُهُمَا بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ صَارَ مُمَلِّكُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ، وَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ؛ بَطَلَ فِي كُلِّهِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ نِصْفَ حِصَّتِهِ الَّذِي بَقِيَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي دَفْعِهِ إلَّا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَنْكَرَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ، وَأَقَرَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَقَلُّ قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ: ادْفَعْ نِصْفَهُ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ صَحِيحٌ، فَإِنْ دَفَعَهُ؛ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِيهِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ صَارَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَهُ بِالدَّفْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ طَرَحَ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرَ قِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ، وَرَأْسُ مَالِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ نِصْفَ حِصَّتِك أَوْ افْدِهِ وَيُسَلِّمُ لِرَبِّ الْمَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 120 نِصْفَ حِصَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ أَرْبَاعًا، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ، فَالدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ تَمْلِيكٌ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَالتَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَكَإِبْطَالِ الْمِلْكِ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى هَذَا الْفِدَاءِ فَهُوَ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَاضِرًا قِيلَ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْعَبْدِ حِينَ جَنَى، وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ أَخَذَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْعَبْدَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، فَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ كَالتَّاوِي حِينَ أَبَى الْمُضَارِبُ أَنْ يَفْدِيَهُ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهُ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَنَا أَفْدِيهِ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَهُ فَأَرْبَحَ فِيهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً، وَبِاعْتِبَارِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ يَدِهِ بِأَدَاءِ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالْفِدَاءِ شَيْئًا مِنْ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِدَاءِ إبْطَالُ الْيَدِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ، بَلْ فِيهِ تَقْرِيرُ يَدِهِ بَعْدَ مَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْفَوَاتِ، وَفِي الدَّفْعِ تَفْوِيتُ يَدِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ إذَا حَضَرَ، فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ خِيَارَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ وَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُ الْفِدَاءِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مِنْ الْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ أَحَبَّ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَهُ حَتَّى يَحْضُرَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا رُبْعُهُ لِلْمُضَارِبِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِدَفْعِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، وَأَيُّهُمَا فَدَاهُ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ هُوَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْفِدَاءِ، وَلَا مُضْطَرٍّ إلَى ذَلِكَ لِإِحْيَاءِ مِلْكِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَإِنْ حَضَرَا وَاخْتَارَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 121 الدَّفْعَ دَفَعَاهُ وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِيهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ بَيْعُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لَهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، وَالْمُضَارِبُ قَدْ رَضِيَ بِفَوَاتِ يَدِهِ وَحَقِّهِ فِيهِ حِينَ أَبَى الْفِدَاءَ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الْفِدَاءَ، وَاخْتَارَ الْمُضَارِبُ الدَّفْعَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَلَهُ مَا اخْتَارَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ دَفْعٍ أَوْ فِدَاءٍ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَخَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنْ دَفَعَ نَصِيبَهُ وَفَدَى الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ، فَقَدْ تَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ دَفَعَ نَصِيبَهُ وَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ فَلِهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ قِسْمَةً بَيْنَهُمَا وَإِبْطَالًا لِلْمُضَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّ بِالتَّخْيِيرِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِهِ حُكْمٌ، لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُزَوِّجُ الْأَمَةَ، وَلَا يُزَوِّجُ الْعَبْدَ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَاسِقَاطَ نَفَقَتِهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا، وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ إضْرَارٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُضَارِبَ فَوَّضَ إلَيْهِ التِّجَارَةَ فِي هَذَا الْمَالِ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّ التُّجَّارَ مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ نَعْرِفْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبُلْدَانِ سُوقًا مُعَدًّا لِلتَّزْوِيجِ، وَفِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةِ الْمُضَارِبِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُكَاتِبُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَدَّى الْكِتَابَةَ فَهُوَ عَبْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَمَا أَدَّاهُ فَهُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ عِنْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْكَسْبُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، فَإِذَا كَانَ الْمُكْتَسِبُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَكَذَلِكَ كَسْبُهُ، وَإِذَا كَانَ كَاتَبَهُ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَكِتَابَتُهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ فَيُؤَدِّي إلَى سَلَامَةِ شَيْءٍ لِلْمُضَارِبِ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ، إلَى رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ هَذَا عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 122 فَهُنَا لِلْمَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ الْكِتَابَةَ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهَا حَتَّى أَدَّى الْبَدَلَ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ، فَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ مِنْهُ يَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ إيَّاهُ، وَإِعْتَاقُ الْمُضَارِبِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ حِصَّةُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ الرُّبْعُ يُسَلَّمُ لَهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَسْبُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارِبِ يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ اقْتَسَمَاهُ عَلَى الشَّرْطِ فِي الرِّبْحِ، ثُمَّ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُضَارِبَ إنْ كَانَ مُوسِرًا نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ بَقِيَ الْعَبْدُ كُلُّهُ رِبْحًا، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ بِإِعْتَاقِهِ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَيَكُونُ لِلثَّالِثِ ثَلَاثُ خِيَارَاتٍ كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَلَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرَّقَبَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِعِوَضٍ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّتِهِ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِعِوَضٍ، وَشَرْطُ الْعِتْقِ قَبُولُ الْعَبْدِ جَمِيعَ الْعِوَضِ، وَقَدْ وَجَدَ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحِصَّةَ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُوسِرًا بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالْإِعْتَاقِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا عَبْدًا فَرَهَنَهُ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ، كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَالرَّهْنُ نَقِيضُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَرْهَنُ بِهِ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَفِيهِ فَضْلٌ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ فَضْلٌ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيفَاءَ دَيْنِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَالْمُضَارِبُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ وَلَوْ لَمْ يَرْهَنْهُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ اسْتَهْلَكَ مَالًا لِرَجُلٍ أَوْ قَتَلَ دَابَّةً فَبَاعَهُ الْمُضَارِبُ فِي ذَلِكَ دُونَ حُضُورِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ بِدَيْنِهِمْ أَوْ قَضَى الدَّيْنَ عَنْهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلُصُ الْمَالِيَّةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِكَاكِ الرَّهْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَتِهِ فِي بِنَى آدَمَ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ تَسْتَنِدُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ. وَلَوْ أَذِنَ الْمُضَارِبُ لِهَذَا الْعَبْدِ فِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 123 التِّجَارَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ. اعْمَلْ بِرَأْيِك جَازَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ مِنْ التِّجَارَةِ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ مَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مُطْلَقًا، فَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِ فَجَنَى عَبْدُهُ جِنَايَةً لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَلَا يَفْدِيَهُ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَجَنَى جِنَايَةً، فَإِنَّ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَدْفَعَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَبْدُ اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِمُوجَبِ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ يُخَاطَبُ بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ. وَأَمَّا عَبْدُ الْمُضَارَبَةِ فَاسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِمُوجَبِ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فِي الدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ قَبْلَ حُضُورِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ مِنْ جِهَةِ الْمُضَارِبِ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًّا فِي التِّجَارَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِبُ لَا يَنْفَرِدُ بِدَفْعِ عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْجِنَايَةِ وَلَا بِالْفِدَاءِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ هَذَا الْمَأْذُونِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَحْسَنُ هَذَا، فَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْتَسِبُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ؛ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ وَجَبَ الْأَجْرُ، حَصَلَ الرِّبْحُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ فَكَانَ أَنْفَعُ الْوُجُوهِ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُجْعَلَ الْمُتَصَرِّفُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ التَّابِعِ فِي النَّظَرِ لِأَجْلِ نَصِيبِ نَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَغْرَمُ الصَّبِيُّ لَهُ شَيْئًا إنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصَّغِيرِ فِي هَذَا أَبْيَنُ فَإِنَّهُ أَشْفَقُ عَلَى مَالِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا فَوْقَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ أَخَذَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ مَالَ رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الْأَبُ لِلِابْنِ فَعَمِلَ بِهِ الْأَبُ فَرَبِحَ فَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْأَبِ نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ يُسْتَوْجَبُ بِالْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْأَبِ فَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الرِّبْحِ يَكُونُ لَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمَنَافِعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الِابْنِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الِابْنِ لَغْوًا إذَا كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْأَبِ. وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ فَأَخَذَهُ الْأَبُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الْغُلَامَ وَيَبِيعَ، وَالرِّبْحُ نِصْفَانِ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالِابْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْأَبُ نَائِبٌ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَفِيمَا هُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 124 مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَهُ الْمُضَارَبَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَمُبَاشَرَةُ الْأَبِ لَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا. وَكَذَلِكَ لَوْ عَمِلَ بِهِ الْأَبُ لِلِابْنِ بِأَمْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْأَبِ فِي إقَامَةِ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعَمَلِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ اسْتَعَانَ بِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ عَمَلُ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعَانَ فِيهِ نَائِبَهُ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعَمَلِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ لَا بِتَصَرُّفِ أَبِيهِ فَيَكُونُ الْأَبُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، بِخِلَافِ مَالِ الصَّبِيِّ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ شَرْعًا لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الصَّبِيِّ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَالرِّبْحُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَالْوَصِيُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلصَّغِيرِ فِي مَالِهِ. وَإِذَا دَفَعَ الْمُكَاتَبُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ، أَوْ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْعَبْدِ، وَإِنْ دَفَعَهُ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي التِّجَارَةِ فَعَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمَالِ، فَإِذْنُ الصَّبِيِّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَدَفْعُهُ الْمَالَ إلَيْهِ بِدُونِ رَأْيِ الْوَلِيِّ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ غَاصِبًا ضَمِنَ الْمَالَ وَمَلَكَ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ، وَالرِّبْحُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مُضَارَبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، أَوْ هُوَ تَوْكِيلٌ مِنْ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَلِيَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِلنَّصْرَانِيِّ بِوَكَالَتِهِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُوَكَّلَ النَّصْرَانِيُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلتَّصَرُّفِ هُنَا النَّصْرَانِيُّ، وَهُوَ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَهْتَدِي إلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ، وَلَا يَتَحَرَّزُ عَنْهَا اعْتِقَادًا. وَكَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ صِحَّتُهَا فِي الْقَضَاءِ. وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَاله إلَى مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْمَالِ دُونَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 125 لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الرِّبَا وَالتَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ، فَكَانَ دَفْعُهُ إلَيْهِمَا مُضَارَبَةً كَالدَّفْعِ إلَى الْمُسْلِمَيْنِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُضَارِبِ وَلَا لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُقَبِّلَهَا، وَلَا يَلْمِسَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ فَهِيَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ، لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لِلْمُضَارِبِ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلَكِنْ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا حَقُّ نِسْبَةِ الْمِلْكِ، حَتَّى إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهَا مِنْهُ وَلَا نَهْيَ الْمُضَارِبِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَكَانَ الْمُضَارِبُ مَمْنُوعًا عَنْ التَّصَرُّفِ، وَاَلَّتِي يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فِيهَا وَالْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ لِقِيَامِ حَقِّ الْمُضَارِبِ فِيهَا، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا رَبُّ الْمَالِ، وَلَا يَعْرِضَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ. وَحَقُّ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِيَّةِ وَحِلُّ الْوَطْءِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ دُونَ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ بِكَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَبِبَعْضِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ وَلَوْ زَوَّجَهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ؛ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، وَمِلْكُ جُزْءٍ مِنْهَا كَمِلْكِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ فِي الْمَنْع مِنْ النِّكَاح ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بَقِيَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ جَازَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَوِلَايَةِ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ أَعْتَقَهَا رَبُّ الْمَالِ، أَوْ دَبَّرَهَا نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَتَنْفِيذُ الْمَوْلَى فِيهَا تَصَرُّفًا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، بَلْ يَكُونُ إخْرَاجًا لَهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَأْذُونِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ النِّكَاحُ، وَخَرَجَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ التِّجَارَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَأْذُونُ بَيْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالٍ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ شِرَاءً مُسْتَقِلًّا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ بِرِبْحٍ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ فَإِنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بَاطِلٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهِيَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَأَحَدٌ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُضَادُّ الْأَحْكَامَ. وَإِنْ كَانَ حِينَ اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ أَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَمَا اشْتَرَى فَهُوَ لَهُ، وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 126 ضَامِنٌ لِرَبِّ الْمَالِ مَا نَقَدَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَالْجَارِيَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا لِلْمُضَارَبَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ فِي مُوَافَقَتِهِ أَمْرَ الْآمِرِ كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، إذَا اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ؛ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمْرِ الْآمِرِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْمَالِ إلَّا لِلْمُضَارَبَةِ، وَيَصِيرُ رَبُّ الْمَالِ بِهَذَا الْإِذْنِ كَالْمُقْرِضِ لِلْمَالِ مِنْهُ إنْ اشْتَرَى بِهِ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَفِيهَا فَضْلٌ فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ فَبَاعَهَا إيَّاهُ رَبُّ الْمَالِ بِرِبْحٍ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَالُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا شَرِكَةٌ، وَشِرَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ جَائِزٌ فِي نَصِيبِهِ، ثُمَّ قَدْ خَرَجَ الْمَالُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَوَّلَ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ إلَى ثَمَنِهَا، وَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَرَادَ أَخْذَ الْجَارِيَةِ لِنَفْسِهِ فَبَاعَهَا إيَّاهُ الْمُضَارِبُ بِزِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِرَبِّ الْمَالِ حَقِيقَةً، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهَا حَقٌّ وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ بِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ مَا كَانَ فِيهَا، وَيُدْخِلُ بِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَهُوَ الثَّمَنُ، وَمَبْنَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْفَائِدَةِ، فَمَتَى كَانَ مُفِيدًا كَانَ صَحِيحًا كَالْمَوْلَى إذَا اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ هُنَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمُضَارَبَةِ مَا انْعَدَمَ بِصَيْرُورَةِ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّ الْعَيْنِيَّةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْمُضَارَبَةِ، فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَكَوْنِهِ فِي ذِمَّةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَسَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَابْتِدَائِهِ، فَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُلُ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَارْتَدَّ الْمُضَارِبُ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَا ارْتَدَّ، ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَ جَمِيعُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ، أَوْ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 127 مُتَصَرِّفٌ فِي مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَالْعُهْدَةُ فِي جَمِيعِ مَا بَاعَ وَاشْتَرَى عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ نِيطَ بِرِدَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ لَكَانَ قَضَى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ. فَإِذَا نُحِّيَتْ الْعُهْدَةُ عَنْهُ بِأَنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَعَلَّقَ بِمَا انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا تَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ، أَوْ بِالْبَيْعِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَحَالُهُ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَحَالِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ، أَوَكَانَتْ مُرْتَدَّةً حِينَ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهَا ثُمَّ فَعَلَتْ ذَلِكَ؛ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَتْ لِنَفْسِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُوقَفُ نَفْسُهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُوقَفُ مَالُهَا أَوْ تَصَرُّفُهَا أَيْضًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَرْتَدَّ الْمُضَارِبُ وَارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ أَوْ كَانَ مُرْتَدًّا، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ، ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَيُضَمِّنُهُ رَأْسَ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - هُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ حِينَ ارْتَدَّ فَقَدْ تَوَقَّفَتْ نَفْسُهُ، وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَتَمَلَّكُ الْمُضَارِبُ التَّصَرُّفَ لَهُ، وَلَكِنْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ مَا نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: تَصَرُّفُهُ نَافِذٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَلَكِنَّ الْإِشْكَالَ فِي تَنْفِيذِ بَيْعِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ رَبِّ الْمَالِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا كَمَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ بَيْعِهِ لِذَلِكَ ثُمَّ شِرَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَعُدْ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَضَاءُ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ، فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، وَلَا بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الِالْتِحَاقِ وَالْقَضَاءِ بِهِ فَالْوَكِيلُ إنَّمَا يَنْعَزِلُ بِخُرُوجِ مَحِلِّ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ إلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ بَعْدَ مَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْمُضَارَبَةِ لِمَكَانِ حَقِّ الْمُضَارِبِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً وَهَذَا الْفَرْقُ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ عَوْدِ رَبِّ الْمَالِ، فَأَمَّا فِيمَا كَانَ أَنْشَأَ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 128 الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مَا نَفَذَ عَلَى الْمُضَارِبِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ غَابَ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَأَسْلَمَ؛ فَيَنْفُذُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ امْرَأَةٌ مُرْتَدَّةٌ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ إنْ أَسْلَمَتْ، أَوْ لَمْ تُسْلِمْ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ لَهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَقْضِ فِي مَاله بِشَيْءٍ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا، وَقَدْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، أَوْ بَاعَ وَرَبُّ الْمَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاشْتَرَى بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَاعَ، ثُمَّ رَجَعَ بِالْمَالِ مُسْلِمًا فَإِنَّ لَهُ جَمِيعَ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِالْمَالِ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ تَمَّ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ أَدْخَلَ مَالَ الْمُسْلِمِ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا الِاسْتِيلَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْلِيًا مُخَالِفًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلتَّقَوُّمِ فِي هَذَا الْمَالِ كَانَ هُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ مُرْتَدًّا ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ الْمَالَ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهَا، ثُمَّ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا، ثُمَّ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْعَرْضَ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ حَقِيقَةً كَانَ لِلْمُضَارِبِ بَيْعُ الْعُرُوضِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا اعْتِبَارًا لِلْمَوْتِ الْحُكْمِيِّ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَيْنَ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا بَدَا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَأَوْدَعَهُ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ دَخَلَ إلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ فَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْتَحَقَ بِحَرْبِيٍّ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِنَا قَطُّ، وَذَلِكَ يُنَافِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ عِصْمَةُ النِّكَاحِ مُنْقَطِعٌ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَانْقِطَاعُ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا السَّبَبِ أَوْلَى، فَإِذَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 129 بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ كَانَ هُوَ فِي التَّصَرُّفِ غَاصِبًا ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ. وَلَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ دَخَلَ بِالْمَالِ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ هُنَاكَ فَهُوَ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْمَالِ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَتَمَّ إحْرَازُهُ لَهَا فَيَكُونُ مُتَمَلِّكًا مُتَصَرِّفًا فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ هُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ فَيَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ هُنَاكَ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَأَجْعَلُ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، إنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَرَجَعَ الْمُضَارِبُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهَدًا، أَوْ بِأَمَانٍ وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمُضَارَبَةِ قَدْ تَحَقَّقَ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَعْدِ تَحَقُّقِ الْمُنَافِي لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى مَالِهِ فِيمَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا فِيهِ أَمْرَهُ، وَإِذَا انْعَدَمَ الِاسْتِيلَاءُ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ بَعَثَ بِمَالِهِ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لَهُ جَازَ، وَتَكُونُ الْوَدِيعَةُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَرَبِحَ فِيهِ وَاشْتَرَى عَرَضًا - فِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ - قَالَ رَبُّ الْمَالِ: يَسْتَوْفِي مِنْ الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ حِصَّةُ الْحَرْبِيِّ، وَالْحَرْبِيُّ صَارَ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَهُوَ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُسْلِمٌ، مَالُهُ مَصُونٌ عَنْ الِاغْتِنَامِ كَنَفْسِهِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَالِ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا حُرْمَةَ لِيَدِهِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي مُسْلِمٍ أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، وَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ سَوَاءٌ، فَلَا يَكُونُ فَيْئًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدُ الْمُودِعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ لَا تَكُونُ دَافِعَةً لِلِاغْتِنَامِ، فَكَذَلِكَ يَدُهُ عَلَى الْوَدِيعَةِ. وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيَّانِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَخَلَ أَحَدُهُمَا دَارَ الْحَرْبِ لَمْ تُنْتَقَضْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاَلَّذِي بَقِيَ مِنْهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأَنَّ زَوْجَتَهُ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا تَبِينُ مِنْهُ، فَانْتِقَاضُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 130 وَالْحَرْبِيِّ الرَّاجِعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ حُكْمًا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا. وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ دَفَعَ إلَى مُسْلِمٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ تَنْتَقِضْ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا حَتَّى لَا تَبِينَ زَوْجَتُهُ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هَذَا السَّفَرُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ دَفَعَ أَحَدُ الْحَرْبِيَّيْنِ إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُمَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالذِّمِّيَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ حِينَ دَخَلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ، فَمَا يَفْسُدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْسُدُ بَيْنَهُمْ، إلَّا التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَى حَرْبِيٍّ مَالًا مُضَارَبَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْحَرْبِيُّ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا حَتَّى إذَا لَمْ يَرْبَحْ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَهِيَ كُلُّهَا لِمَنْ شَرَطَ لَهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَحَالُهُمَا فِي ذَلِكَ كَحَالِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا. وَإِنْ كَانَ رِبْحٌ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لَهُ الْمِائَةَ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إنْ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ حَقِّهِ قَدْ انْعَدَمَ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُ فِي مَحِلٍّ آخَرَ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ. وَإِذَا دَفَعَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ قَدْ أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّبَا أَيْضًا، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فِي حُكْمِ الرِّبَا كَالْحَرْبِيِّ، وَعِنْدَهُمَا كَالتَّاجِرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الصَّرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك، فَدَفَعَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 131 الْمُضَارِبُ الْمَالَ إلَى رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ: اخْلِطْهُ بِمَالِكِ هَذَا، أَوْ بِمَالِي ثُمَّ اعْمَلْ بِهِمَا جَمِيعًا فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ مِنْهُ، فَلَمْ يَخْلِطْهُ حَتَّى ضَاعَ مِنْ يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَخْلِطْهُ، وَالْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ وَالْإِبْضَاعَ فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِالدَّفْعِ مُخَالِفًا، وَلَا الْقَابِضُ بِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ مِنْهُ غَاصِبًا مَا لَمْ يَخْلِطْهُ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حِينَ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً قَالَ لَهُ: شَارِكْ بِهِ فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً جَازَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ إشْرَاكٌ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ، وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إنَّمَا كَانَ لَا يَمْلِكُ الدَّفْعَ مُضَارَبَةً لِمَعْنَى الِاشْتِرَاكِ لِلثَّانِي فِي الرِّبْحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِبْضَاعَ، وَاسْتِئْجَارَ الْأُجَرَاءِ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْإِشْرَاكِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا لَهُ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، وَإِذَا اشْتَرَى الْآخَرُ بِهِ وَبَاعَ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَدَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَخَلَطَهُمَا الْمُضَارِبُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ عَمِلَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَيْنِ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ أَمِينٌ فِيهِمَا، وَالْأَمِينُ بِخَلْطِ الْأَمَانَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ إنَّمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ لِمَالِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا خَلَطَ بِمَالِهِ مَالَهُ، فَإِنْ رَبِحَ فِي الْمَالَيْنِ رِبْحًا قَسَمَا نِصْفَ الرِّبْحِ نِصْفَيْنِ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ حِصَّةُ الْأَلْفِ الْمَدْفُوعَةِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ حِصَّةُ الْأَلْفِ الْمَدْفُوعَةِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، فَمَا يَكُونُ مِنْ رِبْحِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ مُعْتَبَرٌ بِهِ قَبْلَ الْخَلْطِ. وَإِنْ رَبِحَ فِي أَحَدِهِمَا وَوَضَعَ فِي الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَخْلِطَهُمَا فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ الْآخَرِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ فِي الْمَالِ الْآخَرِ، ذُكِرَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِحُكْمٍ، فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْوَضِيعَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا لَا تُعْتَبَرُ كَمَالِهِ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ الْآخَرِ، فَإِنْ خَلَطَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ بِمِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنَّمَا يَخْلِطُ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ مُوجِبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ فَإِنَّمَا خَلَطَهُ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْطَ رَبِّ الْمَالِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 132 بِمَالِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِنْ عَمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ رِبْحُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ لِلْمُضَارِبِ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَالَ فَيَمْلِكُ رِبْحَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَرِبْحُ الْمَالِ الْآخَرِ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهَا وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ جَارِيَةً، ثُمَّ خَلَطَ الْأَلْفَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، ثُمَّ نَقَدَهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالشِّرَاءِ تَحَوَّلَ مِنْ الْمَالِ إلَى الْجَارِيَةِ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ بِالْأَلْفَيْنِ، وَوُجُودُ الْخَلْطِ قَبْلَ النَّقْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَصْرِفَ الْأَلْفَ إلَى غَيْرِهِ، بَلْ عَلَيْهِ دَفْعُهَا إلَى الْبَائِعِ مَعَ الْأَلْفِ مِنْ عِنْدِهِ، وَفِي حَقِّ الْبَائِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَيْنِ مُخْتَلَطًا أَوْ غَيْرَ مُخْتَلَطٍ، وَالِاخْتِلَاطُ الَّذِي فِي الْجَارِيَةِ يُثْبِتُ حُكْمًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا ضَامِنًا بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مُخْتَلَطًا؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ اسْتَوْجَبَ ثَمَنَ الْكُلِّ جُمْلَةً، فَالِاخْتِلَاطُ فِي الثَّمَنِ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الِاخْتِلَاطِ فِي الْجَارِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَبِيعَ فَيَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، حِصَّةَ مَا اشْتَرَى مِنْ الْجَارِيَةِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَنِصْفُهُ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةَ مَا اشْتَرَى مِنْهَا بِمَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ رَبّ الْمَالِ فَقِسْمَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مَعَ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِلْحِيَازَةِ وَالْإِفْرَازِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ حِينَ أَخَذَ الْأَلْفَ الْمُضَارَبَةَ خَلَطَهَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْخَلْطِ بِمَالِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا، أَوْ مُوجِبًا الشَّرِكَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالٍ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا، وَبَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ لَا تَبْقَى الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِهَا. وَلَوْ كَانَ خَلَطَ الْمَالَ بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُدْ حَتَّى ضَاعَ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَدْفَعَهَا مِنْ مَالِهِ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي الْمَالِ، مَا لَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى الْبَائِعِ، وَالْأَمِينُ إذَا خَلَطَ الْأَمَانَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ، فَمَا ضَاعَ يَكُونُ مِمَّا لَهُ، وَعَلَيْهِ دَفْعُ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ بِالشِّرَاءِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِالْأَلْفِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَصَارَ قِصَاصًا، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ مِنْ الْأَلْفِ إلَى الْجَارِيَةِ فَلَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ بِخَلْطِ الْأَلْفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إذَا قَبَضَ الْجَارِيَةَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 133 كَانَ نِصْفُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَنِصْفُهَا لِلْمُضَارِبِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَاشْتَرَى نَصِيبَ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهَا بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارَبَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا يَصِيرُ هُوَ مُخَالِفًا بِشِرَاءِ نِصْفِهَا شَائِعًا لِلْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ مَعَ رَجُلٍ، وَبِأَلْفٍ مَعَ عَبْدِ ذَلِكَ الرَّجُلِ جَارِيَةً وَدَفَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلِطَاهَا، ثُمَّ قَبَضَ الْجَارِيَةَ فَنِصْفُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَنِصْفُهَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهَذَا الشُّيُوعُ لَا يَجْعَلُ الْمُضَارِبَ مُخَالِفًا فِي تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ بَاعَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَقَبَضَا الثَّمَنَ مُخْتَلَطًا؛ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِلَاطٌ ثَبَتَ حُكْمًا؛ لِكَوْنِ الْأَصْلِ مُخْتَلَطًا، فَإِنْ قَاسَمَ الْمُضَارِبُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الثَّمَنَ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ تَمْيِيزًا، أَوْ مُبَادَلَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ بِالْقِسْمَةِ تَمَيَّزَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ مِنْ الْآخَرِ فَالْخَلْطُ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتِرَاكٌ، أَوْ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمِيٌّ بَاشَرَهُ الْمُضَارِبُ قَصْدًا، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ شَارَكَ الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ الْمُضَارِبُ لِلشَّرِيكِ: قَدْ قَاسَمْتُك، وَاَلَّذِي فِي يَدِي مِنْ الْمُضَارَبَةِ كَذَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ وَقَطْعَ الشَّرِكَةِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيَدَّعِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا بَقِيَ دُونَ شَرِيكِهِ بَعْدَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُشْتَرَكًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ فَعَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ أَلْفًا أُخْرَى مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ فَخَلَطَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ بِالْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، ثُمَّ هَلَكَ مِنْهَا أَلْفٌ فَالْهَالِكُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ هُوَ رِبْحُ الْمَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَهْلِكُ مِنْ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْحِسَابِ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ إذَا أَعْطَى فِي يَمِينَيْنِ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ حُكْمَ الْمَالَيْنِ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْأَوَّلَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاَلَّذِي خَلَطَهُ مِنْ الْمَالِ الثَّانِي فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَالْبَاقِي مِنْ الْمَالَيْنِ بِالْحِسَابِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَفَعَ الْأَلْفَ الْأُخْرَى إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً يَعْمَلُ فِيهِ بِرَأْيِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَّةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَاحِدًا وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ الْكُلُّ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ كَمَالٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ اشْتَمَلَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 134 عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَيُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ أَلْفٌ قَبْلَ أَنْ يُخْلَطَ بِالْخَمْسِمِائَةِ يُجْعَلُ الْهَالِكُ كُلُّهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا شَيْئًا مِنْ الْهَالِكِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُسَلَّمَ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ قَبْلَ وُصُولِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلرِّبْحِ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ دَفَعَهُمَا إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِعَقْدَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُضَارِبُ فِي الْأَلْفِ الْأُخْرَى رَجُلًا آخَرَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ حَقًّا مُعْتَبَرًا، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْتَبَرَ اخْتِلَافُ السَّبَبِ، فَجَعَلْنَا الْهَالِكَ مِنْ الْمَالَيْنِ، فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مَعَ الْمَوْلَى وَأَجْنَبِيٍّ إذَا تَنَازَعَا فِي شَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَهُوَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ نِصْفَانِ لِاتِّحَادِ الْمُسْتَحَقِّ فِيمَا فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِ الْعَبْدِ هُنَاكَ غُرَمَاؤُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ حَتَّى عَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفًا أُخْرَى؛ فَخُمْسُ هَذَا الرِّبْحِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ الرِّبْحِ، وَخُمْسُ الرِّبْحِ نَمَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي خَلَطَهَا مِنْ الْأَلْفِ الْأُخْرَى بِالْمَالِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ مَعَ الرِّبْحِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَعْمَلُ فِيهَا بِرَأْيِهِ فَعَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفًا وَأَعْطَى رَبُّ الْمَالِ رَجُلًا آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَعْمَلُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، وَدَفَعَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي الْأَلْفَ إلَى هَذَا الرَّجُلِ أَيْضًا مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ يَعْمَلُ فِيهَا بِرَأْيِهِ فَخَلَطَ الْأَلْفَ بِالْأَلْفَيْنِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ كَانَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ صَحَّ مِنْهُمَا كَمَا يَصِحُّ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْخَلْطِ، فَإِنْ رَبِحَ - عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ - أَلْفًا أَمْسَكَ ثُلُثَهُ لِنَفْسِهِ، وَقَسَمَ الثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ الْمُضَارِبَانِ الْأَوَّلَانِ ثَلَاثًا بِاعْتِبَارِ مَا دَفَعَا إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَيْنِ، وَالْآخَرَ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا، فَإِذَا أَخَذَ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ الثُّلُثَيْنِ مِنْ ذَلِكَ دَفَعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمَا بَقِيَ فَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ مَا كَانَ رَبِحَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ فِي الْمَالِ مِنْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، نِصْفُ ذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا كَانَ مِنْ الرِّبْحِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ سَهْمٌ، وَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ فِي النِّصْفِ وَهُوَ ثُلُثُهُ فَيُجْعَلُ هَذَا الْبَاقِي مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَرُبْعُهُ لِلْمُضَارِبِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 135 وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ مِنْ الْمُضَارِبِ الثَّانِي ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَيُقَاسِمُهُ الرِّبْحَ أَرْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَرُبْعُهُ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ الثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ الْمُتَصَرِّفِ، وَذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ثُلُثُ النِّصْفِ: وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ، وَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ فِي ثُلُثِهِ، فَيُجْعَلُ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا حَتَّى دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ فَعَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُضَارِبُ الثَّانِي الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فَعَمِلَ فَخَلَطَهَا بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ عَمِلَ وَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُضَارِبُ الثَّانِي الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فَخَلَطَهَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ عَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفًا فَإِنَّ الرِّبْحَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْوَضِيعَةَ عَلَى ثَلَاثَةٍ بِحَسَبِ الْمَالِ، فَنَصِيبُ الْأَلْفِ ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ، ثُمَّ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا، وَاقْتَسَمَا مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا لِرَبِّ الْمَالِ: ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَلِلْمُضَارِبِ رُبْعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَمَا أَصَابَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ مِنْهُ، وَمِنْ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ رِبْحٌ وَالْأَلْفُ الْأَوَّلُ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ، وَرَدَّ مَا بَقِيَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا يَبْقَى بَعْدَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ رُبْعُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا يَقْسِمُ الْبَاقِيَ عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ: نِصْفُهَا قَرْضٌ عَلَيْك وَنِصْفُهَا مَعَك مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَأَخَذَهَا الْمُضَارِبُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا سُمِّيَ؛ أَمَّا فِي حِصَّةِ الْمُضَارَبَةِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ شَرْطَهَا كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ يَتَحَقَّقُ، وَأَمَّا الْقَرْضُ فَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، وَالتَّبَرُّعُ يَنْفِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ، وَبِسَبَبِ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَجِبُ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ، فَأَمَّا الْقَبْضُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ فَلَا يَنْفِي وُجُوبَ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَقَبْلَ الشُّيُوعِ إنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَعَ الشُّيُوعِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا، فَالْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُسْتَقْرِضِ فَيَتِمُّ قَبْضُهُ فِي الْمُسْتَقْرِضِ، وَهَذَا لَيْسَ يَقْوَى فَإِنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ لَا تَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَكَوْنُ النِّصْفِ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 136 لَا تَكُونُ أَقْوَى مِمَّا يَكُونُ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ نَقُولَ: الْقَرْضُ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ الْأَصْلَيْنِ مِنْ الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَمِنْ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَيُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ، فَلِشَبَهِهِ بِالتَّبَرُّعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَصْلُ الْقَبْضِ، وَبِشَبَهِهِ بِالْمُعَاوَضَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِهِ، وَهُوَ الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُعَاوَضَةً بَعْدَ تَمَامِهِ بِالْقَبْضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ بِجِهَةِ الْقَرْضِ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ مَا أَخَذَهُ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ عَمِلَ بِهِ فَرَبِحَ كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ، وَنِصْفُهُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ بَعْدَ مَا عَمِلَ بِهِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَقِسْمَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْقِسْمَةِ، فَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الْمَالِ نَصِيبَهُ؛ هَلَكَ مِنْ مَالِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ حَتَّى حَضَرَ رَبُّ الْمَالِ فَأَجَازَ الْقِسْمَةَ فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَجَازَ الْقِسْمَةَ أَيْ قَبَضَ نَصِيبَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ تَجْرِي بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحِيَازَةِ وَالْإِفْرَازِ قَدْ تَمَّ حِينَ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِقْدَارُ نَصِيبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ نَصِيبَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ حَتَّى هَلَكَ؛ رَجَعَ بِنِصْفِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمْ لِلْمُضَارِبِ نَصِيبُهُ؛ إذَا سَلَّمَ لِرَبِّ الْمَالِ نَصِيبَهُ؛ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ الْهَالِكُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، وَالْبَاقِي مِنْ النَّصِيبَيْنِ. وَلَوْ كَانَ هَلَكَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُضَارِبُ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَ مِنْهُ نَصِيبَهُ، وَذَلِكَ مِنْهُ حِيَازَةٌ فِي نَصِيبِهِ، إلَّا أَنَّ شَرْطَ سَلَامَةِ ذَلِكَ لَهُ فِي سَلَامَةِ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ، وَإِنْ هَلَكَ النَّصِيبَانِ جَمِيعًا بَعْدَ رِضَا رَبِّ الْمَالِ بِالْقِسْمَةِ؛ رَجَعَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ بِنِصْفِ مَا صَارَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ سَلَامَةِ النِّصْفِ لَهُ سَلَامَةُ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْمُضَارِبُ قَبَضَ تِلْكَ الْحِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ نِصْفَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ قَرْضٌ: خَمْسُمِائَةٍ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الْأَلْفِ بِحُكْمِ الْقَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ. وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا قَرْضٌ عَلَيْك، وَعَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِنِصْفِهَا الْآخَرَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِي فَهَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً فَإِنَّهُ أَقْرَضَهُ نِصْفَ الْأَلْفِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْعَمَلِ لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً» فَإِنْ عَمِلَ مَعَ هَذَا فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 137 وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ مِلْكُهُ فَقَدْ قَبَضَهُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ بِضَاعَةً فِي يَدِهِ، فَقَدْ قَبَضَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ. وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَنِصْفَهَا هِبَةً لِلْمُضَارِبِ وَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ فَهِيَ هِبَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ بَعْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهَا فَاسِدَةٌ، بِخِلَافِ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْمُوجِبَ لِلْمِلْكِ قَدْ وُجِدَ مَعَ الشُّيُوعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكِنْ شَرْطُ صِحَّتِهِ الْقِسْمَةُ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ تَكُونُ الْهِبَةُ فَاسِدَةً، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهُوَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِلْفَسَادِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَقْبُوضِ بِهِبَةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ ضَمِنَ نِصْفَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ رَبِحَ فِي الْمَالِ؛ كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ حِصَّةَ الْهِبَةِ لِلْمُضَارِبِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَضَعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ مَمْلُوكٌ لِلْمُتَصَرِّفِ فَلَهُ رِبْحُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ. وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا بِضَاعَةٌ، وَنِصْفَهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ دَفْعِ الْمَالِ مُضَارَبَةً، وَلَا صِحَّةَ دَفْعِهِ بِضَاعَةً. وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ؛ كَانَ ضَامِنًا لِلنِّصْفِ حِصَّةَ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَرَبِحَ ذَلِكَ النِّصْفَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِ النِّصْفَيْنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ؛ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالْقِسْمَةِ فَالنِّصْفُ الَّذِي تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا نِصْفُهُ مِمَّا كَانَ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ كَانَ وَدِيعَةً فَلَهُ رِبْحُ حِصَّةِ الْوَدِيعَةِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا ضَامِنًا، وَالْبَعْضُ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ نَقُولُ: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْمُضَارَبَةِ وَلَا يَضْمَنَ اشْتَرَى بِنِصْفِ الْأَلْفِ غَيْرَ مَقْسُومٍ، وَكَانَ الْبَائِعُ شَرِيكًا فِي الْأَلْفِ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ فَيُقَاسِمُهُ، وَمُرَادُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِنِصْفِهِ وَيُسَلِّمَهُ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالتَّسْلِيمِ لَا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَطَلَبَ السَّلَامَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الضَّمَانِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَدْ صَارَ نِصْفُ الْمَالِ شَائِعًا مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، وَنِصْفُهُ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمُودِعُ لَا يَمْلِكُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 138 الْمُقَاسَمَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ لِيُقَاسِمَهُ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّهَا قَرْضٌ يَتَوَثَّقُ بِذَلِكَ، فَعَمِلَ الْمُضَارِبُ بِالْأَمْرِ فَإِنْ تَصَادَقُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْقَرْضِ عَلَى جِهَةِ الثِّقَةِ، فَالْمَالُ عَلَى حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي حَقِّهِمَا. وَكَذَلِكَ إنْ تَكَاذَبَا فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ، وَقَالُوا: أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا إنَّمَا أَشْهَدَا بِالْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ التَّوَثُّقِ، وَلَيْسَ بِقَرْضٍ إنَّمَا هُوَ مُضَارَبَةٌ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْمُضَارَبَةِ، وَشَاهِدَانِ بِالْقَرْضِ، وَلَمْ يُفَسِّرُوا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْقَرْضَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا، وَالْقَرْضُ يُرَدُّ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ لَا تُرَدُّ عَلَى الْقَرْضِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً أَوَّلًا، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ، وَفِي بَيِّنَةِ مَنْ يَدَّعِي الْقَرْضَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَرْضِ عَلَيْهِ إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ جِرَابَ هَرَوِيٍّ فَبَاعَ نِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ، وَيَعْمَلَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَبَاعَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْجِرَابِ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا وَبِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، فَالرِّبْحُ وَالْوَضِيعَةُ نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِمَدْيُونٍ: اشْتَرِ لِي مَتَاعًا بِمَالِي عَلَيْك لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوَكُّلُ، فَإِذَا اشْتَرَى الْمَدْيُونُ؛ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهُنَا أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالشِّرَاءِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي هِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، فَكَانَ هُوَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَأَمْرُهُ الْمَدْيُونَ بِالشِّرَاءِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ صَحِيحٌ، ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الشَّرْطُ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ نِصْفُ مَا اشْتَرَى لِلْآمِرِ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَالَيْنِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارَبَةِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ فَعَمِلَ بِهِ؛ كَانَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَا الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الرِّبْحِ بِذَلِكَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ إنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِثُلُثِ رِبْحِ هَذَا النِّصْفِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ صَارَ مُشْتَرِيًا بِالدَّيْنِ لِنَفْسِهِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ نِصْفَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 139 لَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ ذَلِكَ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَابُ الْمَعْدُومِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَفَعَ إلَى آخَرَ خَمْسَمِائَةٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلِطَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهَا عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَانِ فَعَمِلَ بِهَا فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْمُضَارِبِ بِالْمُضَارَبَةِ فِي الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَاتَ الْمُضَارِبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ دَرَاهِمُ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ بُدِئَ بِرَبِّ الْمَالِ قَبْلَ الْغُرَمَاءِ بِأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، ثُمَّ دَيْنُ الْمُضَارِبِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَرِكَتُهُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ مِلْكُهُ لَيْسَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُضَارِبِ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُضَارِبِ وَالْغُرَمَاءُ: الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَّبَهُمْ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِهِ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ حِينَ مَاتَ الْمُضَارِبُ عُرُوضًا، أَوْ دَنَانِيرَ فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُضَارِبِ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا عَنْ أَخْذِهَا وَبَيْعِهَا؛ لِحَقِّ الْمُضَارِبِ، وَحَقُّهُ بِمَوْتِهِ لَا يَبْطُلُ، وَاَلَّذِي يَلِي بَيْعَهَا وَصِيُّ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَبِيعُهَا لِتَحْصِيلِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ جَعَلَ الْقَاضِي لَهُ وَصِيًّا بِبَيْعِهَا فَيُوَفِّي رَبَّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيُعْطِي حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ غُرَمَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ بِنَصِيبِ الْوَصِيِّ، وَقَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ: يَبِيعُهَا وَصِيُّ الْمَيِّتِ وَرَبُّ الْمَالِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَا كَانَ رَاضِيًا بِتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِهِ، وَالْمَالُ وَإِنْ كَانَ عُرُوضًا أَوْ دَنَانِيرَ فَالْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ ثَابِتٌ، فَلَا يَنْفَرِدُ الْوَصِيُّ بِبَيْعِهَا، وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَبِيعُهَا مَعَهُ وَمَا ذُكِرَ هُنَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَكَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهَا، فَكَذَلِكَ لِوَصِيِّهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ انْضِمَامِ رَأْيِهِ إلَى رَأْيِ الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 140 لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَرَبُّ الْمَالِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَلَا رِبْحَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَقَدْ صَارَ مُجْمَلًا بِتَرْكِ التَّعْيِينِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَكُونُ مُتَمَلِّكًا ضَامِنًا لَهَا، وَهَذَا دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ رَبُّ الْمَالِ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَتَرِكَتُهُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِي الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَأَقَرَّ الْمُضَارِبُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِالْمَالِ فَرَبِحَ أَلْفًا، ثُمَّ مَاتَ وَالْمُضَارَبَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَلِلْمُضَارِبِ مَالٌ فِيهِ وَفَاءً بِالْمُضَارَبَةِ وَبِالرِّبْحِ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُضَارِبِ رَأْسَ مَالِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الرِّبْحَ وَصَلَ إلَيْهِ، إنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهُ رَبِحَ أَلْفًا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ مَا لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِ. وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ وَصَلَ إلَيْهِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْهُ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ مَاتَ مُجْمَلًا لِلْمِلْكِ فَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يَسْتَوْفِيهِ رَبُّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ فِي مَرَضِهِ: قَدْ رَبِحْتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَوَصَلَتْ إلَيَّ فَضَاعَ الْمَالُ كُلُّهُ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَخْبَارِهِ بِضَيَاعِ الْمَالِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ وَرَثَتَهُ عَلَى عِلْمِهِمْ بِضَيَاعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ كَانُوا ضَامِنِينَ لَهُ مِنْ التَّرِكَةِ، فَإِذَا أَنْكَرُوا اسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ لِرَجَاءِ نُكُولِهِمْ وَهُوَ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ بِأَنَّ يَدَهُمْ مَا وَصَلَتْ إلَى الْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ: قَدْ دَفَعْتُ رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ مُخْبِرٌ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحُكْمِ بِإِيصَالِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ حَقِيقَةً فَيَأْخُذُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَالتَّاوِي حِينَ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمُضَارِبَ قَدْ رَبِحَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَوَصَلَتْ إلَيْهِ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِحِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ قَدْ صَارَ دَيْنًا لَهُ فِي تَرِكَتِهِ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الْحِصَّةِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ أَنَّهُ رَبِحَ فِي الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَالرِّبْحَ دَيْنٌ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ أَقَرَّ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَا حَقَّ لِرَبِّ الْمَالِ فِيمَا تَرَكَ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 141 وَذَلِكَ يَمْنَعُ صَيْرُورَةَ الْمَالِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَلَكِنْ يَتْبَعُ رَبُّ الْمَالِ الْمَدْيُونَ بِرَأْسِ مَالِهِ فَيَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْهُ أَيْضًا حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، وَاقْتَسَمَ نِصْفَهُ غُرَمَاءُ الْمُضَارِبِ مَعَ مَالِهِ وَإِنْ قَالَ غُرَمَاءُ الْمُضَارِبِ: إنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَرْبَحْ فِي الْمَالِ شَيْئًا، وَلَيْسَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مَعَ سَائِرِ تَرِكَتِهِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَرَبِّ الْمَالِ بِالْحِصَصِ يَضْرِبُ رَبُّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَلَا يَضْرِبُ بِشَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ وَاجِبٌ بِمُعَامَلَةِ الْمُضَارِبِ، فَيَكُونُ فِي الظَّاهِرِ لَهُ كَالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَإِقْرَارُهُ بِهِ لِرَبِّ الْمَالِ كَإِقْرَارِهِ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِإِنْسَانٍ، وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِعَيْنٍ لِإِنْسَانٍ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، قَدْ عَلِمْنَا وُجُوبَهُ فِي تَرِكَتِهِ وَصَيْرُورَتُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَعْمَلْ بَيَانُهُ، فَهَذَا الْقَدْرُ دَيْنٌ لَزِمَهُ لِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لَوْ لَزِمَهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِ الْمُضَارِبِ بِهِ، وَإِقْرَارُ الْمُضَارِبِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي مُزَاحَمَةِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِقَوْلِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَحْجُورٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، وَالْعَيْنُ بِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ بِالْمُضَارَبَةِ حَاصَّ رَبُّ الْمَالِ الْغَرِيمَ بِرَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِمُضَارَبَةٍ بِعَيْنِهَا كَالْإِقْرَارِ الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْوَدِيعَةِ يَتَحَاصَّانِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ سَلَامَةَ الْعَيْنِ لِلْمُقِرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالْإِقْرَارِ الْوَدِيعَةِ مُسْتَهْلَكَةً. وَلَوْ كَانَ بَدَأَ الْإِقْرَارَ بِالْمُضَارَبَةِ بِعَيْنِهَا بُدِئَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِرَبِّ الْمَالِ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ، فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ شَاغِلًا لِتَرِكَتِهِ لَا لِأَمَانَةِ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا تَحَاصَّا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُضَارَبَةِ الْمَجْهُولَةِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا بِعَيْنِهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِي هَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا تَحَاصَّا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقِرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ وَاخْتِصَاصِهِ بِهِ بَعْدَ مَا صَارَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُقِرِّ لَهُ بِالدَّيْنِ. وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ مُضَارَبَةً لِفُلَانٍ عِنْدِي، وَلِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةُ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ بُدِئَ بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا بِعَيْنِهَا فَبِنَفْسِ الْإِقْرَارِ صَارَتْ الْعَيْنُ مُسْتَحَقَّةً لِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِوَدِيعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا بِعَيْنِهَا كَانَ جَمِيعُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَصَاحِبِ الْمُضَارَبَةِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِأَمَانَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً وَهِيَ فِي هَذَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 142 الصُّنْدُوقِ، وَلِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الصُّنْدُوقِ شَيْءٌ، كَانَ مَا تَرَكَهُ الْمُضَارِبُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْغَرِيمِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ لَمْ يُوجَدْ فِي الصُّنْدُوقِ شَيْءٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَعْيِينَهُ كَانَ لَغْوًا بَقِيَ إقْرَارُهُ بِمُضَارَبَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَبِالدَّيْنِ. وَلَوْ وُجِدَ فِي الصُّنْدُوقِ أَلْفٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَحَقَّ بِهَا؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ التَّعْيِينَ وُجِدَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ ابْتِدَاءً بِالْمُضَارَبَةِ بِعَيْنِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الصُّنْدُوقِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ لِفَوَاتِ مَحِلِّ حَقِّهِ، قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ صَحَّ تَعْيِينُهُ مَعَ فَرَاغِ الصُّنْدُوقِ عَنْهُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ تَجْهِيلٌ مِنْهُ، وَالْمُضَارِبُ بِالتَّجْهِيلِ ضَامِنٌ. وَقَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ: إذَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ كَانَتْ فِي الصُّنْدُوقِ يَوْمَ أَقَرَّ جَعَلْنَاهَا بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَرَبِّ الْمَالِ بِالْحِصَصِ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُضَارِبِ تَعْيِينُ الصُّنْدُوقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَعْيِينُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَ كَانَتْ فِي الصُّنْدُوقِ يَوْمَئِذٍ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ، وَمَا ذُكِرَ هُنَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ الصُّنْدُوقَ مَحِلٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَالِ فَتَعْيِينُهُ كَتَعْيِينِ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَحَقَّ بِهَا. وَلَوْ وُجِدَ فِي الصُّنْدُوقِ أَلْفَانِ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَلْفٌ مِنْهَا خَاصَّةً، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ صَحِيحٌ لِمَا وُجِدَ فِي الصُّنْدُوقِ مِنْ جِنْسِ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَزِيَادَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَلْفَانِ مُخَلَّطَةً أَوْ غَيْرَ مُخَلَّطَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَاخْتِلَاطُ الْأَمَانَةِ بِمَالِ الْأَمِينِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي خَلَطَ الْمَالَ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّ الْمَالِ؛ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُهُ لِلْغُرَمَاءِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ: أَنَّ الْأَمِينَ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْمَخْلُوطِ، وَصَارَتْ الْأَمَانَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَكُونُ رَبُّ الْمَالِ صَاحِبَ دَيْنٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَبِالْخَلْطِ يَصِيرُ ضَامِنًا، وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْضَى بِالْخَلْطِ وَيَخْتَارَ الْمُشَارَكَةَ فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْمَخْلُوطِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَنِصْفُهُ لِلْغُرَمَاءِ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً وَهِيَ الَّتِي عَلَى فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ الدَّيْنُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ لِلْمُضَارَبَةِ الَّتِي عَلَى غَيْرِهِ كَتَعْيِينِهِ أَلْفًا فِي صُنْدُوقِهِ، أَوْ فِي كِيسِهِ، أَوْ بَيْتِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ؛ اخْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ بِهِ. وَإِنْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا فَهِيَ دَيْنٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْأَمِينَ بِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا، فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ أَقَرَّ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 143 ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَصِلْ إلَيَّ ضَمِنَ مَا جَحَدَ مِنْ الرِّبْحِ. وَإِنْ كَانَ دَيْنًا قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا غَلَطٌ وَإِنْ جَحَدَ الدَّيْنَ لَمْ يَضْمَنْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَى الْجُحُودِ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنَّمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ، وَأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ لَهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ بِهَذَا الْجُحُودِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْغَيْرِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَإِنْ قَبَضَهُ عَلَى الْجُحُودِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِقْرَارِ ثُمَّ قَبَضَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ لِرَبِّ الْمَالِ لَك ثُلُثُ الرِّبْحِ وَلِي ثُلُثَاهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ لِلْكَافِي قَالَ: لَيْسَ إقْرَارُهُ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ بِالنِّصْفِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِالسُّدُسِ بَعْدَ الْجُحُودِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ فِي شَرْحِهِ فَقَالَ: جُحُودُهُ الرِّبْحَ إقْرَارٌ بِإِبْرَاءِ الْغَرِيمِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الرِّبْحَ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ كَذَلِكَ، هَذَا إقْرَارٌ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ فَيَكُونُ ضَامِنًا، ثُمَّ سَلَّمَ بِمَا سَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: حَقُّ الْقَبْضِ فِيمَا وَجَبَ بِمُعَامَلَتِهِ لَهُ خَاصَّةً فَكَوْنُهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، وَكَوْنُهُ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا مِقْدَارَ مَا جَحَدَهُ مُتْوِيًا حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ، فَكَانَ قَبْضُهُ عَلَى الْجُحُودِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْجُحُودِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ الْآخَرُ: هَلَكَ الْمَالُ صَدَقَ فِي نَصِيبِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فِيهِ، وَكَانَ نَصِيبُ الْآخَرِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهِلًا لِنَصِيبِهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ أَوْدَعَ نَصِيبَهُ صَاحِبَهُ الْحَيَّ فَقَالَ الْحَيُّ: قَدْ هَلَكَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ، فَقَوْلُ مُودِعِهِ قَدْ هَلَكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمُضَارِبِ فِي حَيَاتِهِ إنَّهُ قَدْ هَلَكَ، وَإِنْ قَالَ قَدْ دَفَعْت ذَلِكَ إلَى صَاحِبِي كَانَ مُصَدَّقًا مَعَ يَمِينِهِ؛ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي مَالِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَاتَ مُجْهِلًا فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ وُصُولُهُ إلَيْهِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُهُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْحَيِّ فَالْحَيُّ كَانَ مُسَلَّطًا مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الرَّدِّ، وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّسْلِيطِ فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ الْمَيِّتِ مُجْهِلًا لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ. وَإِذَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِي الْمَالِ رِبْحًا فَأَقَرَّ بِهِ وَبِرَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ خَلَطْت مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِي قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ وَأَرْبَحَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَهُ، وَيَدَّعِي مِلْكَ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافِ الْحَاصِلِ مِنْهُ بِالْخَلْطِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ وَلِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ الْمَالِ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ إلَّا بِالشَّرْطِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ ادَّعَى زِيَادَةً فِيمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِذَا ادَّعَى سَبَبًا يَمْلِكُ بِهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 144 فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَحَجَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ خَلَطَهُ بِمَالِهِ، ثُمَّ رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ مِلْكُهُ، وَالْأَمِينُ إنْ ادَّعَى الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي الْأَمَانَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ فِي الْمُضَارَبَةِ لِوَلَدِهِ، أَوْ وَالِدِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ لِعَبْدِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ صَحِيحٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ إلَّا لِعَبْدِهِ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ كَالْوَكِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا فِي عَبْدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ، فَالْمُضَارِبُ كَذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ؛ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ بِمَالٍ، وَشَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ فَكَذَلِكَ قَرَارُهُ، إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ بِالْمُعَامَلَةِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يَلْزَمُهُ لِهَؤُلَاءِ، فَلِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ كَإِقْرَارِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ، وَلَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ، وَأَمَّا إقْرَارُهُ لِابْنِهِ وَأَبِيهِ كَإِقْرَارِهِ لِأَخِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْمُقِرِّ بِهِ مِلْكًا وَلَا حَقَّ مِلْكٍ؛ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَقَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ لَزِمَ الْمُضَارِبُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ حِصَّتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ فِي مَرَضِهِ بِمُضَارَبَةٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا بِعَيْنِهَا وَدِيعَةً لِآخَرَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ بُدِئَ بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ عَيْنًا كَمَا أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ هُوَ أَقَرَّ لِلثَّانِي بِوَدِيعَةٍ قَدْ اسْتَهْلَكَهَا بِإِقْرَارِهِ فِيهَا بِالْمُضَارَبَةِ، وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ فَيَتَحَاصَّ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ تَرِكَتِهِ. [بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهَا دَارًا تَسَاوِي أَلْفًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، أَوْ أَكْثَرَ، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعًا بِدَارٍ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 145 مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ الثَّمَنَ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهَا لِرَبِّ الْمَالِ وَمَنْ اُشْتُرِيَ أَوْ اشْتَرَى لَهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنَّمَا تَسْقُطُ شُفْعَةُ مَنْ بَاعَ، أَوْ بِيعَ لَهُ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّارَ عَلَيْهِ بِمَا يُعْطِيهِ مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْمُضَارِبِ دَارًا اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ جَازَ شِرَاؤُهُ؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارًا بِبَعْضِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ إلَى جَنْبِهَا فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَأْخُذُهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُشْتَرٍ، وَالشِّرَاءُ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا شُفْعَةَ الشَّفِيعِ، ثُمَّ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ كَالشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ، وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَيَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ مَا كَانَ فِيهَا. وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفٍ مُضَارَبَةً دَارًا تُسَاوِي أَلْفًا، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعًا فَتَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ بَاعَ الْمُضَارِبُ الدَّارَ فَلَا شُفْعَةَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي بَيْعِهَا، وَمَنْ بِيعَ لَهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الشُّفْعَةَ، كَمَا لَا يَسْتَوْجِبُهَا مَنْ بَاعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا شُفْعَةٌ بِدَارِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا؛ أَخَذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ بَائِعٌ لِهَذِهِ الدَّارِ فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِدَارٍ أُخْرَى لَهُ، لَا يَكُونُ لِمُضَارِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِدَارِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ دَارًا تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعًا فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا بِالشُّفْعَةِ، أَمَّا مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ وَقَعَ مِنْ الْمُضَارِبِ لِرَبِّ الْمَالِ وَأَمَّا حِصَّةُ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ تَبَعٌ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا تَجِبُ فِي التَّبَعِ، وَلِهَذَا لَا يُسْتَحَقُّ الْبِنَاءُ بِدُونِ الْأَصْلِ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَمْنَعُ الْأَصْلَ. وَلَوْ لَمْ يَبِعْهَا الْمُضَارِبُ، وَلَكِنْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارِهِ فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي لَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَا بَاعَ دَارِهِ لِلْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ حَازَ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنَّهُ تَمَلَّكَ حِصَّتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِبَعْضِ الْمَالِ دَارًا فِي قِيمَتِهَا فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَبَاعَ رَجُلٌ إلَى جَنْبِهَا دَارًا، وَفِي يَدِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 146 الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُ ثَمَنِ الدَّارِ الَّتِي بِيعَتْ إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ، فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ أَصْلٌ، وَحَقُّ الْمُضَارِبِ تَبَعٌ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهَا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَالتَّبَعُ لَا يَظْهَرُ مَعَ ظُهُورِ الْأَصْلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِهَا لِلْمُضَارَبَةِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا: حَقُّ رَبِّ الْمَالِ، وَحَقُّ الْمُضَارِبِ وَفِي أَخْذِهَا لِنَفْسِهِ إبْطَالُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُقَدِّمَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الرِّبْحِ، وَيُبْطِلَ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فَتَسَلَّمَ الْمُضَارِبُ الشُّفْعَةَ فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يَصِحُّ مِنْهُ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ جَمِيعًا، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ التِّجَارَةِ كَالْأَخْذِ، قِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا فِي الْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا سَلَّمَا شُفْعَةَ الصَّبِيِّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، الْمُضَارِبُ نَائِبٌ عَنْ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَسَلُّمُ الشُّفْعَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ يَأْخُذُ بِهِ الدَّارَ الَّتِي بِيعَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ أَخْذِهَا لِلْمُضَارَبَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ اسْتِدَانَةً مِنْهُ عَلَى الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْحَقُّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ظَهَرَ حُكْمُ التَّبَعِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَارٍ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ بِمِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا وَإِنَّمَا جِوَارُهُ مِنْ حَيْثُ الْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَبِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ، وَإِنْ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِلْكٌ لِرَبِّ الْمَالِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ بِهِ جَارًا لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُضَارِبُ الشُّفْعَةَ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ، وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَالْمُضَارِبُ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَخْذِ فَلَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ. وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ الَّتِي مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنْفُسِهِمَا فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارٌ لَهَا بِمِلْكِهِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ دَارِ الْمُضَارَبَةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ رُءُوسِ الشُّفَعَاءِ لَا بِاعْتِبَارِ مِقْدَارِ الْأَنْصِبَاءِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ سَبَبًا تَامًّا لِاسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ، وَلَكِنْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 147 لِلْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ طَلَبِهِمَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بِتَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا، كَانَ لِلْآخِرِ أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ قَدْرُ ثَمَنِ الدَّارِ الَّتِي بِيعَتْ فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ، أَوْ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارَبَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُوَ الْأَصْلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِمَا فِي الْأَخْذِ لِلْمُضَارَبَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ، وَفِي أَخْذِ أَحَدِهِمَا لِنَفْسِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الْأَخْذُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْأَصْلِيِّ مُمْكِنًا يُوجِبُ تَرْجِيحَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُضَارِبُ الشُّفْعَةَ؛ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ لَهُمَا، فَيَعْمَلُ تَسْلِيمُهُ أَيْضًا فِي حَقِّهِمَا، أَرَأَيْتَ لَوْ أَخَذَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ أَمَا كَانَ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لَهُ. وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُضَارِبُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى تَنَاقَضَا الْمُضَارَبَةَ وَاقْتَسَمَا الدَّارَ الَّتِي مِنْ الْمُضَارَبَةِ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ، ثُمَّ أَرَادَا أَنْ يَأْخُذَا الدَّارَ الْمَبِيعَةَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنْفُسِهِمَا فَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَقَرَّرُ بِالْقِسْمَةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ، فَإِنَّ السَّبَبَ كَوْنُهُ جَارًا لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ بِمِلْكِهِ فِي دَارِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِالْقِسْمَةِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّ حَقَّ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُقَدَّمًا، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بِقِسْمَتِهَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ، بِالشُّفْعَةِ كَالشَّرِيكِ إذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَلِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَهَا، فَإِنْ طَلَبَاهَا جَمِيعًا فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَأَيُّهُمَا سَلَّمَ أَخَذَ الْآخَرُ الدَّارَ كُلَّهَا؛ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَيَا بِهِ دَارًا، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا بِالشُّفْعَةِ دُونَ حِصَّةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ بِتَعَدُّدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي حُكْمِ الشُّفْعَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَاهَا لِأَنْفُسِهِمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشُّفْعَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِيَانِ مُضَارِبَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّ الْمُضَارِبَيْنِ فِي شِرَائِهِمَا لِلْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَالْمُشْتَرِيَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمَا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ رَبُّ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ وَاحِدًا فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّفِيعُ رَبَّ الْمَالِ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلَانِ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهَا دَارًا، وَأَحَدُ صَاحِبَيْ الْمَالِ شَفِيعُهَا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا بِالشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا كَانَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 148 وَاحِدًا كَانَتْ الصَّفْقَةُ فِي حُكْمِ الشُّفْعَةِ مُتَّحِدَةً، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِأَخْذِ الْبَعْضِ سَوَاءٌ كَانَ الشَّفِيعُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ أَحَدُ رَبِّي الْمَالِ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلَانِ يُوَكِّلَانِ رَجُلًا بِشِرَاءِ دَارٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْوَكِيلِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانَ الْآمِرَانِ غَائِبَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْآمِرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ اثْنَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْآمِرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَاجْتِمَاعِهَا حَالُ الْعَاقِدِ لَا حَالُ مَنْ وَقَّعَ الْعَقْدَ لَهُ، وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْمُضَارَبَةِ فَسَلَّمَ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ الشُّفْعَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَأَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالشِّرَاءِ دُونَ صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ فِي الشُّفْعَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ دُونَ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمَا فَبَعْدَ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ دَارًا تَسَاوِي أَلْفًا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَشَفِيعُهَا رَبُّ الْمَالِ بِدَارُ لَهُ، وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ أَيْضًا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ، أُخْرَى، فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الدَّارَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَحَقَّ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَطَلَبَاهَا أَخَذَاهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ سَلَّمَ رَبُّ الْمَالِ الشُّفْعَةَ، وَأَرَادَ الْأَجْنَبِيُّ أَنْ يَأْخُذَهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْنَبِيُّ نِصْفَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا اشْتَرَاهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَشِرَاءُ الشَّفِيعِ لِنَفْسِهِ يَكُونُ أَخْذًا بِالشُّفْعَةِ، فَكَذَا شِرَاءُ غَيْرِهِ لَهُ، وَأَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ بَعْدَ الْأَخْذِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ قَبْلَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مُزَاحَمَتَهُ فِي الْأَخْذِ تَنْعَدِمُ بِالتَّسْلِيمِ قَبْلَ الْأَخْذِ لَا بَعْدَهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا، أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ حَقٌّ آخَرُ غَيْرُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْمُزَاحِمَةُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْخَالِصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، أُخِذَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَقِّ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ لَهُ فَإِنَّمَا سَلَّمَ قَبْلَ الْأَخْذِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ أَخْذِ النِّصْفِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ كُلَّهَا أَوْ يَدَعُ. [بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ بِمَا عَمِلَ فِي الْمَالِ أَجْرٌ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 149 الرِّبْحِ أَجْرًا؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي مَالٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَجْرًا فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَوْجِبُ حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ أَيْضًا أَجْرًا مُسَمًّى عَلَيْهِ، إذْ يَلْزَمُ عِوَضَانِ لِسَلَامَةِ عَمَلٍ وَاحِدٍ لَهُ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَمَلَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَجْرًا، فَإِنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَرَبِحَ فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَلَا أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا سَلَّمَ عَمَلَهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارَبَةُ شَرِكَةٌ، وَالشَّرِكَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا كَانَ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى يُنَافِي مُوجَبَ الْمُضَارِبَةِ فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهَا، وَاشْتِرَاطُ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى يَجْعَلُ الْعَقْدَ لَازِمًا، وَكُلُّ شَرْطٍ يُضَادُّ مُوجَبَ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْمُضَارَبَةِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا قَالَهُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَفْسُدُ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إنَّهُ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ أَجْرَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَقُلْ: كُلَّ شَهْرٍ فَصَارَ الْأَجْرُ شَرْطًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي قَدْ اشْتَرَطَ لَهُ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ قَالَ: عَلَى أَنَّ لَهُ أَجْرًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ، فَالْأَجْرُ هُنَاكَ مَشْرُوطٌ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ يَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لَهُ شَيْئًا، وَشَرَطَ الرِّبْحَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَكَانَا فِي حُكْمِ عَقْدَيْنِ، إذَا فَسَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَفْسُدْ الْآخَرُ، بِهِ وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: الْمُزَارَعَةُ إجَارَةٌ؛ وَلِهَذَا شَرَطَ التَّوْقِيتَ فِيهَا، وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَشَرِكَةٌ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّوْقِيتُ، وَالشَّرِكَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ قَوْلُهُ: هَذَا الشَّرْطُ يُضَادُّ مُوجَبَ الْمُضَارَبَةِ، قُلْنَا: الشَّرْطُ لَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ صِحَّةَ الشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِهِ يُوجِبُ اللُّزُومَ، وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ صَحِيحٍ هُنَا، بَلْ هُوَ لَغْوٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُمَا صَحِيحَةً كَمَا هُوَ مُوجَبُ الْمُضَارَبَةِ، وَلِذَلِكَ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ الْآجِرَ لِعَبْدٍ لَهُ يَعْمَلُ مَعَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، أَوْ لِبَيْتٍ يَشْتَرِي فِيهِ وَيَبِيعُ فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَلَا أَجْرَ لِعَبْدِ الْمُضَارِبِ، وَلَا لِبَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْبَيْتِ مَشْرُوطٌ لِلْمُضَارِبِ وَعَلَيْهِ حِفْظُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى حِفْظِ الْمَرْهُونِ، وَعَبْدُ الْمُضَارِبِ الَّذِي لَا دَيْنَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 150 عَلَيْهِ كَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ، فَالْمَشْرُوطُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَطَ لَهُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ مُكَاتَبَ الْمُضَارِبِ، أَوْ وَلَدَهُ، أَوْ وَالِدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَلِلَّذِي عَمِلَ بِالْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ هَؤُلَاءِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُمْ لِلْعَمَلِ مَعَهُ، وَيَكُونُ أَجْرُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَبْدَهُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَلَا بَيْتَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِيَبِيعَ فِيهِ وَيَشْتَرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا فَاسِدًا. وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنْ يَعْمَلَ عَبْدُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَجْرًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ مَا عَمِلَ مَعَهُ فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ إذًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَنَفْسِهِ. وَلَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ مَعَهُ بِأَجْرٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَبِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ وَهُوَ بِغَيْرِ أَجْرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ، وَهُنَا الشَّرْطُ لَا يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ أَجِيرُ الْمُضَارِبِ، وَيَدُ الْأَجِيرِ كَيَدِهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدُ رَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاشْتَرَطَ لَهُ أَجْرًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ، أَوْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ لِمُكَاتَبِهِ أَوْ لِابْنِهِ جَازَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِيمَا يُشْتَرَطُ لَهُمْ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا عَشَرَةَ أَشْهُرٍ كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي لَهُ الْبَزَّ وَيَبِيعُ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِهِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ الْأَشْهُرِ مَالًا يَعْمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَعَمِلَ بِهِ الْأَجِيرُ؛ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ مِنْ الرِّبْحِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رِبْحُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَلَا أَجْرَ لِلْأَجِيرِ مَا دَامَ يَعْمَلُ بِهَذَا، وَإِذَا عَمِلَ بِغَيْرِهِ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ؛ فَلَهُ أَجْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الشُّهُورُ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا لِلْإِجَارَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَسْخَ فِي ضِمْنِ الْمُضَارَبَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا تَتَعَدَّى إلَى مَا يَعْمَلُ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَوْجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْأَجْرُ بِمَنَافِعِهِ الْمَصْرُوفَةِ إلَى عَمَلِهِ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ شَرِكَةٌ. وَلَوْ أَنَّ الْأَجِيرَ شَارَكَ رَبَّ الْمَالِ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ خَلَطَهُ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ بِإِذْنِهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَالَيْنِ، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَتْ الشَّرِكَةُ جَائِزَةً عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَلَا أَجْرَ لِلْأَجِيرِ مَا دَامَ يَعْمَلُ بِهَذَا الْمَالِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 151 فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا يُنْتَقَضُ بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ، فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمُضَارَبَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلَا يُنْتَقَضُ الشَّيْءُ بِمَا هُوَ دُونَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ مَنَافِعُهُ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْعَمَلُ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحِلٍّ لَا يُبْطِلُ عَقْدًا مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ آخَرَ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَمَعَ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ الْأَجْرُ وَالشَّرِكَةُ فِي الْحَاصِلِ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ بِإِزَاءِ عَمَلِ نَفْسِهِ بِمَنَافِعَ هِيَ لَهُ، وَهُنَا مَنَافِعُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يُوجَدُ مَا هُوَ مُوجِبُ اسْتِحْقَاقِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمَالِهِ لَا بِعَمَلِهِ، فَبِالْإِجَارَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَنْعَدِمُ مَا بِهِ يَسْتَحِقُّ الشَّرِيكُ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِهَذَا الْعَمَلِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَهُوَ بِعَمَلِهِ بِالْمَالِ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ هُنَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يُرَدُّ عَلَى مَنَافِعِهِ كَمَا قَالَ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَمَلُ، فَإِذَا وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ. وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَمَلِ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ كَالصَّدَاقِ؛ فَإِنَّهُ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا قَدْ يُقَامُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي تَأْكِيدِ الْمَهْرِ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا. وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ دَفَعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مَالًا مُضَارَبَةً يَعْمَلُ بِهِ عَلَى النِّصْفِ جَازَ وَالْأَجِيرُ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُوجِبُ لِلْأَجِيرِ حَقًّا فِي مَنَافِعِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا فِي عَمَلِهِ، فَدَفْعُهُ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بَعْدَ الْإِجَارَةِ كَدَفْعِهِ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ اسْتَبْضَعَ رَبُّ الْمَالِ الْأَجِيرَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَبَضَهُ الْأَجِيرُ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ كَعَمَلِ الْمُبْضِعِ، كَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَالْأَجْرُ عَلَى حَالِهِ لِلْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِذَلِكَ، وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لَا يَفْسُدُ هُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ. فَأَمَّا الْإِبْضَاعُ فَلَا يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لِتَمَكُّنِ الْمُضَارِبِ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَالِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَجْرًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَهَذَا الشَّرْطُ يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَسَدَ الْعَقْدُ، فَإِذَا شَرَطَ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 152 كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَجِيرًا لِغَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْأُجْرَةَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُرَابَحَةِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ الْعَقْدِ مُفِيدًا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُسَاوَمَةً بَاعَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْأَلْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا، فَإِنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ مِلْكِ إنْسَانٍ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ بِمِلْكِهِ، وَلَكِنْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ مَا بَيْنَهُمَا؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا فِي حَقِّهِمَا. فَأَمَّا فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَالْعَقْدُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ بِالْمُسَامَحَةِ وَتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ يَنْفِي عَنْهُ كُلَّ تُهْمَةٍ وَخِيَانَةٍ، وَانْتِفَاءُ التُّهْمَةِ فِي أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، فَبَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَحِينَئِذٍ يَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِالْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرَحَ رِبْحَ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ انْضِمَامِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ إلَى آخَرَ، وَرِبْحُ رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ وَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا بَقِيَ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَاَلَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا عَقْدٌ فِي حَقِّهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ عَقْدًا فَيُعْتَبَرُ هَذَا الْجَانِبُ إذَا كَانَ أَقَلَّ الثَّمَنَيْنِ عِنْدَ اعْتِبَارِهِ، وَانْتِفَاءُ التُّهْمَةِ، إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَقَلِّ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مَلَكَ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى هَذِهِ الْعَيْنِ شِرَاءٌ سِوَى هَذِهِ لِيَبِيعَهُ الْمُضَارِبُ بِهِ مُرَابَحَةً بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، فَإِنْ بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ انْتَفَتْ التُّهْمَةُ. وَلَوْ عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ فِيهَا أَلْفًا، ثُمَّ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِالْأَلْفَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 153 الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ، فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي إذَا لَمْ يُخْرَجْ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ رِبْحُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَمَا اشْتَرَاهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ أَلْفٌ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَبِيعُهُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ وَلِهَذَا لَوْ لَحِقَهُ عُهْدَةٌ فِي ذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ فَيُطْرَحُ مِقْدَارُ رِبْحِ رَبِّ الْمَالِ لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا الَّتِي اشْتَرَى بِهَا رَبُّ الْمَالِ الْعَبْدَ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ. فَأَمَّا أَلْفُ الْمُضَارِبِ الَّتِي طُرِحَتْ مِنْ الثَّمَنِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ تَمَامُ رَأْسِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَقْدُ فِي ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ فَتُطْرَحُ الزِّيَادَةُ إلَى تَمَامِ رَأْسِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَعَلَى حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا رِبْحَ لِلْمُضَارِبِ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَرِبْحُ رَبِّ الْمَالِ يُطْرَحُ مِنْ بَيْعِ الْمُضَارِبِ، فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِالْأَلْفَيْنِ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبْحَ فِي قِيمَتِهِ، فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ لِرَبِّ الْمَالِ كُلَّهُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْفُذُ هَذَا الشِّرَاءُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مِنْ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَشِرَاؤُهُ بِالزِّيَادَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِهِ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ؛ فَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ، بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَفِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَبَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَالْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ كَذَلِكَ بِأَلْفَيْنِ، فَقَوْلُكُمْ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ أَلْفٌ مِنْ أَيْنَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ أَلْفٌ زَائِدَةٌ عَلَى قِيمَتِهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ، فَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ فِيهِ بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَقَدْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ خَمْسُمِائَةٍ: نِصْفُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رِبْحَ الْمَالِ يُطْرَحُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ وَرِبْحُ الْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 154 وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهَا عَبْدًا، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ، فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا كَانَ اشْتَرَى الْعَبْدَ لَهُ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَذَلِكَ مَا اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ وَهُوَ أَلْفٌ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ مُعْتَبَرَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَبِيعُهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ الْمُضَارِبُ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحُ الْمُضَارِبِ، وَيُطْرَحُ عَنْهُ خَمْسُمِائَةٍ: رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ أَيْضًا مِمَّا يَكْمُلُ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ خَمْسُمِائَةٍ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهَا فِي ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْمَالِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ غَيْرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةِ لَوْ ضَاعَتْ كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كُلُّهُ ثَمَنَ هَذَا الْعَبْدِ؛ فَلِهَذَا حُسِبَ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ فِي ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ، فَطُرِحَ تَمَامُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَرِبْحُ رَبِّ الْمَالِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى رِبْحِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَيَشْتَرِي إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمُضَارِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ الثَّمَنُ دُونَ الْعَبْدِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْأَلْفَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخَذَهُمَا مِنْ رَبّ الْمَالِ ثَمَنًا لِلْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَبِيعُهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضُمُّ بَعْضَ الْعُقُودِ إلَى الْبَعْضِ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى حَاصِلِ الضَّمَانِ فِيهِ، فَعَلَى ذَلِكَ يُبَاعُ مُرَابَحَةً فَهُنَا الثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمَّا بَاعَهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ أَلْفٌ، وَحِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَلَمَّا بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ؛ فَقَدْ رَبِحَ فِيهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُطْرَحَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا بَقِيَ، وَإِذَا طَرَحْت ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ؛ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، وَعِنْدَهُمَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 155 لَا يُعْتَبَرُ ضَمُّ الْعُقُودِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ، حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ فَاشْتَرَى بِهَا الْعَبْدَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفٍ وَسِتُّمِائَةٍ ثُمَّ عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ فَاشْتَرَى بِهَا الْعَبْدَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً فِي قَوْلِهِمَا عَلَى أَلْفَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ رَبِحَ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ رَأْسَ الْمَالِ، وَحِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ، فَحِينَ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مِنْ ذَلِكَ رِبْحُ الْمَالِ، فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ، وَيَطْرَحُ أَيْضًا مَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا طَرَحْت ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ؛ يَبْقَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَلَى ذَلِكَ يَبِيعُهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً، وَإِنَّمَا يَطْرَحُ مَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَبِحَ ذَلِكَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بَيْعًا وَشِرَاءً لَكَانَ يَطْرَحُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَلَأَنْ يَطْرَحَ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّ الْمَالِ أَوْلَى. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِأَلْفٍ مِنْهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَلَّاهُ رَبُّ الْمَالِ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ، وَعِنْدَهُمَا بَيْعُهُ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ رَبِّ الْمَالِ لَا يَجُوزُ؛ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مُرَابَحَةً، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ حَطَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الثَّمَنِ ثَلَثَمِائَةٍ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَحُطُّ عَنْ الْمُضَارِبِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ أَرْبَعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا كَانَا مُرَابَحَةً فَإِذَا خَرَجَ الْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ بِحَطِّ رَبِّ الْمَالِ عَنْهُ، يَخْرُجُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي عَقْدِ الْمُضَارِبِ أَيْضًا، وَالْمَحْطُوطُ فِي عَقْدِ رَبِّ الْمَالِ خُمُسُ الثَّمَنِ، وَفِي عَقْدِ الْمُضَارِبِ جُمْلَةُ الثَّمَنِ أَلْفَانِ، فَيَحُطُّ عَنْهُ خُمُسَ الثَّمَنِ، وَفِي عَقْدِ الْمُضَارِبِ جُمْلَةُ الثَّمَنِ أَلْفَانِ فَيَحُطُّ عَنْهُ خُمُسَهَا أَيْضًا، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ لِمُضَارِبٍ مُرَابَحَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ كَانَ رَبِحَ فِيهِ خَمْسَمِائَةٍ، فَلَمَّا حَطَّ ثَلَثَمِائَةٍ كَانَ الْحَطُّ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ: ثُلُثَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَبَقِيَ رِبْحُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَطْرَحُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 156 الْمُضَارِبُ هَذِهِ الْأَرْبَعَمِائَةِ، مَعَ الْأَرْبَعِمِائَةِ الَّتِي سَقَطَتْ عَنْهُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَبِينَ الْأَمْرُ عَلَى وَجْهِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ حَطَّ عَنْ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي وَلَّاهُ بِهِ الْعَقْدَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَحُطُّ الْمِائَتَيْنِ وَحِصَّتَهَا مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ حَطَّ عَنْهُ خُمُسَ الثَّمَنِ، وَبَيْعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَانَ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَيَطْرَحُ عَنْهُ أَيْضًا خُمُسَ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ، ثُمَّ يَحُطُّ الْأَجْنَبِيُّ عَنْ الْمُضَارِبِ هَذِهِ الثَّلَثَمِائَةِ: حِصَّتَهَا مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ مِائَةٌ لِمَا قُلْنَا، فَيَبْقَى الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ شِرَاءً مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ مَا رَبِحَ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ حَاصِلُ ضَمَانِهِ الْأَوَّلِ فِيهِ ثَمَانُمِائَةٍ، وَحَاصِلُ مَا سُلِّمَ لَهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ رِبْحَهُ كَانَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَحُطُّ الْمُضَارِبُ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، وَهُوَ عَلَى أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ لِمَا بَيَّنَّا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ فَعَمِلَ فَرَبِحَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ فَخَلَطَ هَذِهِ الْأَلْفَ الْأَخِيرَةَ بِالْأَلْفِ الْأُولَى، ثُمَّ عَمِلَ بِالْمَالِ كُلِّهِ فَرَبِحَ أَلْفًا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْأَخِيرَةِ بِرَأْيِهِ فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ الْأَخِيرَةِ بِالْخَلْطِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ خَمْسَمِائَةٍ، فَهَذَا مِنْهُ خَلْطُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنْ كَانَ رَبِحَ بَعْدَ هَذَا الْخَلْطِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَثُلُثُ ذَلِكَ حِصَّةُ الْأَلْفِ الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ ضَمِنَهَا الْمُضَارِبُ، فَيَكُونُ رِبْحُهَا لَهُ، فَيَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَ، وَرِبْحُهَا ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى إنَّمَا خَلَطَ رَبُّ الْمَالِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُضَارِبُ إلَّا الْأَلْفَ الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ إنَّمَا وُجِدَ فِيهَا خَاصَّةً. وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فِي الْأُولَى، أَوْ أَمَرَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْمَالُ كُلُّهُ مُضَارَبَةً عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 157 فِي الْمُضَارَبَةِ الْأَخِيرَةِ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا بِالْخَلْطِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى إنَّمَا خَلَطَ مَالَ رَبِّ الْمَالِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ بِرَأْيِهِ فَخَلَطَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَرْبَحَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَطَ مَالَ رَبِّ الْمَالِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَلَوْ كَانَ رَبِحَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ رِبْحًا، ثُمَّ خَلَطَهُمَا ضَمِنَهُمَا جَمِيعًا مَعَ حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ خَلْطُ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي كُلِّ مَالٍ، وَمَا رَبِحَ فِيهِمَا بَعْدَ مَا خَلَطَهُمَا فَهُوَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَالَيْنِ بِالضَّمَانِ، فَمَا رَبِحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ إلَّا حِصَّةَ رِبْحِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلِطَهَا فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ لَا حِنْثَ فِيهِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ عَلَى ضَمَانِهِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الْمُودِعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ، وَإِذَا كَانَ أَمَرَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِوُجُودِ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ فِي الْمُضَارَبَتَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْجَوَابُ فِي الْمُضَارِبَيْنِ إذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَرْبَحَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا، أَوْ بَعْدَ مَا رَبِحَ أَحَدُهُمَا فِي مُضَارَبَتِهِ شَيْئًا، نَحْوُ الْجَوَابِ فِي الْمُضَارِبِ الْوَاحِدِ لِاسْتِوَاءِ الْفَصْلَيْنِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُرَابَحَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَدَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ: الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ لِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُفِيدٌ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مُضَارَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَهُ مُسَاوَمَةً كَيْفَ شَاءَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ الَّتِي اشْتَرَاهُ بِهَا الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ خُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَمَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ كُلُّهُ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامِلٌ لَهُ، فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا يَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي دَفَعَهَا الْأَوَّلُ إلَى الْبَائِعِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الجزء: 22 ¦ الصفحة: 158 اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ فَيَبِيعُهُ عَلَى ذَلِكَ مُرَابَحَةً، وَيَشْتَرِي النِّصْفَ الْآخَرَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فِيهِ، وَثَمَنُ هَذَا النِّصْفِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَانَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، فَيَبِيعُ الْعَبْدَ كُلَّهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، فَإِنْ بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْجِنَايَةِ تَنْعَدِمُ بِبَيَانِ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ. وَلَوْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَدَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ الْأَلْفَ عَبْدًا بِهَا، وَبَاعَهُ مِنْ آخَرَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمِ الْمُضَارَبَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ رَبِحَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ، إلَّا أَنَّ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ تُطْرَحُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ، وَالْأَلِفُ الَّتِي غَرِمَهَا الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ فِي ثَمَنِهِ فِيهِ، فَيَبِيعُهُ الْآخَرُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِهَذَا. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَبَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْ الْمُضَارَبَةِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ: خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَقَدَ فِي الْعَبْدِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحُ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَطَلَتْ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَخَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى تَمَامُ رَأْسِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ رَأْسُ الْمَالِ فِي كُلِّ جِنْسٍ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى كَانَ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ مَحْسُوبًا مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، بِمِقْدَارِ مَا يَكْمُلُ بِهِ رَأْسُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَيُطْرَحُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، كَمَا يُطْرَحُ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْح؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ، وَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ إنَّمَا اشْتَرَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْأَوَّلُ كَذَلِكَ بَاعَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ أَنَّهُ يُطْرَحُ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْ الْمُضَارَبَةِ وَأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ثُلُثَهُ لِنَفْسِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، وَاشْتَرَى ثُلُثَيْهِ بِأَلْفَيْ الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى فِيهِ ثُلُثَا الْأَلْفِ، وَرِبْحُ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِيهِ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا ضَمَمْت خَمْسَمِائَةٍ إلَى ثُلُثَيْ الْأَلْفِ؛ يَكُونُ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَيَضُمُّ إلَيْهِ الْأَلْفَ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ ثُلُثِ الْعَبْدِ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ وَيُطْرَحُ مَا سِوَاهُ يَعْنِي: حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَمَا يَكْمُلُ بِهِ رَأْسُ مَالِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 159 مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَطْرُوحَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَى ثُلُثَهُ لِنَفْسِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ كُلُّهُ، وَاشْتَرِي ثُلُثَهُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ فِيهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كَانَ مِقْدَارُهُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَيُطْرَحُ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَمَا يَكْمُلُ بِهِ رَأْسُ مَالِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا طَرَحْت مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ يَبْقَى أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَعَمِلَ الْآخَرُ بِالْمَالِ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى الْأَوَّلُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا فَبَاعَهُ مِنْ الْآخَرِ بِالْأَلْفَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي يَدِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَإِنَّ الثَّانِيَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ الْأَوَّلِ فِيهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ حِصَّةُ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَتَبْطُلُ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ فَلِهَذَا بَاعَهُ الثَّانِي مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اشْتَرَى نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَبَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفٍ، فَيَبِيعُ ذَلِكَ النِّصْفَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ، وَاشْتَرَى الْأَوَّلُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَبَاعَهُ مِنْ الْآخَرِ بِأَلْفٍ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ هَذَا النِّصْفَ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ بَاعَهُ الْآخَرُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اشْتَرَى ثُلُثَيْهِ لِنَفْسِهِ، وَبَاعَ ذَلِكَ مِنْ الْآخَرِ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَأَمَّا الثُّلُثُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِلْمُضَارَبَةِ وَبَاعَهُ مِنْ الْآخَرِ لِلْمُضَارَبَةِ بِمَا لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، فَإِنَّمَا يَبِيعُ هَذَا الثُّلُثَ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَإِذَا ضَمَمْت الْخَمْسَمِائَةِ إلَى الْأَلْفِ وَثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ كَانَتْ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَبِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ؛ فَإِنَّ الْآخَرَ يَبِيعُهُ أَيْضًا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 160 اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُلُثَهُ، وَبَاعَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ، وَاشْتَرَى ثُلُثَهُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَبَاعَهُ بِثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَيَطْرَحُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ خَاصَّةً، وَإِذَا طَرَحْت مِنْ الْأَلْفَيْنِ مِائَةً وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ؛ كَانَ الْبَاقِي أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَإِلَى آخَرَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى الْأَوَّلُ بِأَلْفٍ عَبْدًا مِنْ مَالِهِ وَبِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْآخَرِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ مَالِهِ وَأَلْفَيْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ الْآخَرَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اشْتَرَى ثُلُثَيْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، وَبَاعَهُ مِنْ الْآخَرِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيُعْتَبَرُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَاشْتَرَى ثُلُثَهُ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ إنَّ الْآخَرَ اشْتَرَى مِنْهُ ثُلُثَ هَذَا الثُّلُثِ لِنَفْسِهِ بِثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، لَا يُنْتَقَصُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاشْتَرَى ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ مِنْهُ لِلْمُضَارَبَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْأَلْفِ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَيَطْرَحُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ جَمَعْتَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَسِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، وَحَاصِلُ مَا طَرَحَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَذَلِكَ رِبْحُ ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَى الْعَبْدَ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، بَاعَهُ الثَّانِي مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اشْتَرَى ثُلُثَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، وَبَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، فَاشْتَرَى الثُّلُثَيْنِ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ اشْتَرَى مِنْهُ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ لِنَفْسِهِ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، فَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَاشْتَرَى مِنْهُ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ لِلْمُضَارَبَةِ بِأَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، فَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ: مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ، وَالْمَطْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ: مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَمَا يَكْمُلُ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَدَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى الْأَوَّلُ جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ، وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَبَاعَهَا مِنْ الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَأَلْفَيْنِ مِنْ مَالِهِ؛ فَإِنَّهُ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اشْتَرَى ثُلُثَيْهَا لِنَفْسِهِ، وَبَاعَ ذَلِكَ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 161 دِرْهَمٍ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَاشْتَرَى ثُلُثَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَ ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ مِنْ الثَّانِي، وَاشْتَرَى الثَّانِي لِنَفْسِهِ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاشْتَرَى ثُلُثُ هَذَا الثُّلُثِ لِلْمُضَارَبَةِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حِصَّةُ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا جَمَعْت هَذَا كُلَّهُ كَانَ أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّتَهُ: أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَقْسُومٌ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَثُلُثُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ كَانَ لَهُ خَاصَّةً مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ جُزْءًا، وَالْبَاقِي يَكُونُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ مَالِهِ، وَثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ وَسَهْمٍ، فَصَارَ الْأَلْفَانِ اثْنَيْ عَشَرَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثَا خَمْسِمِائَةٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُضَارَبَةِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ اثْنَا عَشَرَ فَعَلَى ذَلِكَ يُقَسَّمُ الْأَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَدَفَعَ آخَرُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى الْأَوَّلُ جَارِيَةً بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ، وَبَاعَهَا مِنْ الْآخَرِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَبِأَلْفَيْنِ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ اشْتَرَى ثُلُثَ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِنَفْسِهِ، وَبَاعَ ذَلِكَ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْأَوَّلُ كَانَ اشْتَرَى ثُلُثَ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِنَفْسِهِ، وَبَاعَ ذَلِكَ بِثُلُثِ الْأَلْفِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ أَيْضًا، وَكَانَ اشْتَرَى ثُلُثَيْ الثُّلُثِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَبَاعَهَا لِلْمُضَارِبِ بِثُلُثَيْ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ رَأْسُ مَالِ هَذَا الْجُزْءِ وَفِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَيُطْرَحُ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ بِهَذَا، فَإِذَا قَسَمَ الثَّمَنَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الْجَوَابُ خَطَأٌ، فَإِنَّمَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ بَاعَهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الثَّانِي لِلْمُضَارَبَةِ أَيْضًا، فَلَا يُعْتَدُّ بِرِبْحِ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ، وَذَلِكَ إذَا تَأَمَّلْتَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَطْرُوحَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ: مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مَرَّتَيْنِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّمَا يَصِحُّ مَا ذَهَب إلَيْهِ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَوْ كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الثُّلُثِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ مُقَرَّرًا فِي مَمْلُوكٍ، أَوْ فِي مَبِيعٍ عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 162 فِي جُمْلَةِ مَمْلُوكٍ قَدْ بِيعَ بَيْعًا وَاحِدًا، وَسَائِرُ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ مُجْمَلٌ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُ جَمِيعِ ثَمَنِ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ اشْتَرَى الثُّلُثَيْنِ لِنَفْسِهِ بِأَلْفَيْنِ مِنْ مَالِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ دَعْوَى الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ فَاشْتَرَى بِالْأَلْفِ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالْمَالِ مَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِرْبَاحُ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ لَهُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشِرَاءِ مَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، وَقَرِيبُ رَبِّ الْمَالِ لَوْ قَالَ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَتَقَ وَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا فَاشْتَرَى أُخْتَ الْمُوَكِّلِ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً، لَمْ تَلْزَمْ الْآمِرَ لِهَذَا، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ شِرَاؤُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ الْمُضَارِبُ عَلَى الْبَائِعِ بِمِثْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالْمُضَارَبَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى دَيْنَ نَفْسِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلُّ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ عَبْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَا رِبْحَ فِيهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِهِ، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى أَلْفٍ عَتَقَ وَيَسْعَى فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ مَلَكَ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الْفَضْلِ فَيُعْتِقُ ذَلِكَ الْجُزْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جُزْءًا مِنْ قَرِيبِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُضَارِبِ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، بَلْ عَتَقَ حُكْمًا وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ احْتَبَسَ ذَلِكَ الْقَدْرَ عِنْدَهُ مِنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى لَهُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ مَالًا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، كَمَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ فِي تَضْمِينِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ أَيَّهمَا شَاءَ، كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ، فَقَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ: هَذَا ابْنُك، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَذَبْت فَإِنَّ الْغُلَامَ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَالِكٌ مِقْدَارَ رُبْعٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 163 مِنْهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِفَسَادِ الرِّقِّ فِيهِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ فَيُعْتَقُ لِذَلِكَ، وَيَسْعَى الْغُلَامُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ. وَرُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُضَارِبَ كَاذِبٌ، وَأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارِبُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ، قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرًى عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ يَكُونُ الْمُضَارِبُ مُقِرًّا بِفَسَادِ الرِّقِّ فِيهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ إقْرَارِ الْمُضَارِبِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِهِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُقِرٌّ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا ابْنُك، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ هَذَا ابْنُك، وَقَالَ صَدَقْت فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُضَارِبِ، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقْت فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى ابْنَهُ الْمَعْرُوفَ، وَأَمَّا إذَا قَالَ: بَلْ هُوَ ابْنُك فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ فَالْمُضَارِبُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ابْنَهُ، أَوْ ابْنَ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ كَانَ رَبُّ الْمَالِ شَاهِدًا عَلَى الْمُضَارِبِ لِلْعَبْدِ بِالْعِتْقِ وَالنَّسَبِ، وَبِشَهَادَةِ الْفَرْدِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمُضَارِبُ يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ فَلِهَذَا يَفْسُدُ الرِّقُّ فِيهِ بِإِقْرَارِ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَقَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ: هُوَ ابْنُك وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْعَبْدُ عَلَى حَالِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَفْسُدُ الرِّقُّ فِيهِ بِإِقْرَارِهِ، وَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى زَادَ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عَتَقَ لِإِقْرَارِ الْمُضَارِبِ أَنَّهُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَيَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِإِقْرَارِهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي قِيمَتِهِ، فَيَفْسُدُ الرِّقُّ فِيهِ لِذَلِكَ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِالْعِتْقِ، أَوْ فَسَادُ الرِّقِّ فِيهِ كَانَ حُكْمًا عِنْدَ ظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ، فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ السِّعَايَةِ؛ فَلِهَذَا يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: صَدَقْت وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَالْغُلَامُ لِلْمُضَارِبِ، وَيَضْمَنُ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ كَذَبْت، وَلَكِنَّهُ ابْنُك فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، إذْ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 164 رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ يَشْتَرِي ابْنَ نَفْسِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِيمَا يَقُولُ إنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ اسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ، وَالْمُضَارِبُ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ قَدْ عَتَقَ وَرَبُّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ الْمُضَارِبِ، وَأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ قَدْ عَتَقَ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْهُمَا تُفْسِدُ الرِّقَّ، فَلَا تُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ السِّعَايَةِ عَنْ الْعَبْدِ حَقِيقَةً فَيَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَرُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِأَلْفٍ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ: هَذَا ابْنُك، وَقَالَ الْمُضَارِبُ كَذَبْت، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَيَسْعَى فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ خَمْسِمِائَةٍ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَتَبَرَّأُ مِنْ السِّعَايَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَلَا يَسْعَى الْعَبْدُ لَهُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ، وَإِنَّمَا سَعَى لِلْمُضَارِبِ فِي خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سِعَايَتَهُ، وَيَقُولُ قَدْ فَسَدَ الرِّقُّ فِيهِ بِشَهَادَةِ رَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ كَاذِبًا وَلَمْ يَجِبْ لِي ضَمَانٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا حَقِّي فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِي نَصِيبِي؛ فَلِهَذَا يُسْتَسْعَى لَهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ حُرًّا عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا إيَّاهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي قِيمَتِهِ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ هُوَ ابْنُك، وَقَالَ الْمُضَارِبُ، بَلْ هُوَ ابْنُك فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُضَارِبِ، وَضَمِنَ لَهُ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ابْنَ رَبِّ الْمَالِ كَمَا ادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ؛ فَقَدْ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ ابْنَ الْمُضَارِبِ كَمَا زَعَمَ رَبُّ الْمَالِ؛ فَقَدْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ فِيهِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ فِيهِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ بِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِهِ لِرَبِّ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْتَقْ فَرَبُّ الْمَالِ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ فِي مِلْكِهِ، وَبِشَهَادَتِهِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ: هُوَ ابْنُك، وَقَالَ الْمُضَارِبُ كَذَبْت فَالْعَبْدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ ابْنُ الْمُضَارِبِ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا لَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، إذْ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ إقْرَارُ رَبِّ الْمَالِ بِنَسَبِهِ لِلْمُضَارِبِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عَتَقَ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَيَصِيرُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 165 كَالْمُجَدِّدِ لِإِقْرَارِهِ بَعْدَ مَا زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَقَدْ صَارَ الرُّبْعُ مِنْهُ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ، فَفِي زَعْمِ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الرِّقَّ فِيهِ قَدْ فَسَدَ بِمِلْكِ الْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنْهُ؛ فَلِهَذَا عَتَقَ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ وَلَا فَضْلَ فِي الْغُلَامِ؛ فَهُوَ ابْنُهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى ابْنَهُ الْمَعْرُوفَ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ عَتَقَ وَسَعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ مِنْهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْعِتْقَ حَصَلَ مِنْهُ حُكْمًا لِظُهُورِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ كَذَبْتَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ بَعْدَ مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ النَّسَبَ فِيهِ، ثُمَّ هَذِهِ دَعْوَى تَحْرِيرٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ بِهِ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَرَبُّ الْمَالِ فِي نَصِيبِهِ بِالْخِيَارِ - إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُوسِرًا -: بَيْنَ الْإِعْتَاقِ، وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَالتَّضْمِينِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ الْخِيَارُ: بَيْنَ الْإِعْتَاقِ، وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ عَتَقَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ حِينَ أَعْتَقَهُ، أَوْ اسْتَسْعَاهُ، وَرُبْعَهُ عِتْقٌ مِنْ جِهَةِ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ عَتَقَ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَلَكِنَّهُ ادَّعَى ثُبُوتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ابْنُ الْمُضَارِبِ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ابْنَ رَبِّ الْمَالِ كَمَا زَعَمَ؛ فَقَدْ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ ابْنَ الْمُضَارِبِ فَكَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ تَرَجَّحَتْ دَعْوَاهُ بِالسَّبْقِ، وَبِالْمِلْكِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ رَبُّ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَقَالَ الْمُضَارِبُ: هُوَ ابْنِي وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ الْمَعْرُوفِ، وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ لِتَصِحَّ دَعْوَاهُ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ تَكْذِيبِ رَبِّ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ، فَإِنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ عَتَقَ رُبْعُهُ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ بِظُهُورِ الْفَضْلِ صَارَ هُوَ مَالِكًا لِرُبْعِهِ، وَهُوَ كَالْمُجَدِّدِ لِدَعْوَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ حُكْمًا بِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ صَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 166 مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِلْمُضَارِبِ؛ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ عَتَقَ رُبْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ صَارَ مَالِكًا رُبْعَهُ، وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ قَبْلَ دَعْوَى الْمُضَارِبِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرُبْعِهِ حِينَ ادَّعَى نَسَبَهُ، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ رُبْعِهِ، فَيُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ: بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ الِاسْتِسْعَاءِ، وَالْإِعْتَاقِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِذَا ضَمِنَ الْمُضَارِبُ لَمْ يَرْجِعْ الْمُضَارِبُ بِهَا عَلَى الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالضَّمَانِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَإِذَا اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ أَوْ الْإِعْتَاقَ؛ فَلِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَلَائِهِ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ عَتَقَتْ مِنْ قِبَلِهِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَدَّقَهُ؛ فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَلَهُ أَنْ يُسْتَسْعَى الْغُلَامَ، أَوْ يُعْتِقَهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ عَتَقَ عَلَى الْمُضَارِبِ رُبْعُهُ حُكْمًا عِنْدَ ظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ مَعْرُوفٍ لَهُ. وَلَوْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُ عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ كَذَبْت، وَلَكِنَّهُ ابْنِي فَهُوَ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرًى عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ كُلُّهُ فَتَصِحُّ دَعْوَاهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، وَيُعْتَقُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ رَأْسَ مَالِهِ، وَمُشْتَرِي الِابْنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَدَعْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ، فَقَالَ الْمُضَارِبُ: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَذَبْت وَلَكِنَّهُ ابْنِي فَهُوَ ابْنُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ادَّعَى نَسَبه كَانَ مَالِكًا لِرُبْعِهِ فَثَبَتَ نَسَبَهُ مِنْهُ ثُمَّ رَبُّ الْمَالِ ادَّعَى نَسَبَهُ مِنْهُ، بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَقَدْ عَتَقَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي أَنَّهُ لَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ حُرٌّ كُلُّهُ بِإِقْرَارِ الْمُضَارِبِ، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُضَارِبِ رَأْسَ مَالِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي التَّضْمِينِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ، أَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَرَبُّ الْمَالِ بِدَعْوَاهُ النَّسَبَ يَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ لِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ ادَّعَى نَسَبَ مَمْلُوكِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ، وَنَقَدَ ثَمَنَهُ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ ابْنِي وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَعَتَقَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ بِدَعْوَاهُ إيَّاهُ، وَالْمُضَارِبُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّبْعِ كَمَا وَصَفْنَا فِي رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتِقِ لَهُ، فَإِنَّ دَعْوَى التَّحْرِيرِ كَالْإِعْتَاقِ وَلَوْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْمُضَارِبُ، وَلَكِنْ صَدَّقَهُ فَالْغُلَامُ ابْنٌ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَبْدٌ لِلْمُضَارِبِ، الجزء: 22 ¦ الصفحة: 167 وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ رَأْسَ مَالِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ، وَلَكِنْ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُضَارِبُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: كَذَبْت بَلْ هُوَ ابْنِي، فَهُوَ ابْنُ الْمُضَارِبِ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ ادَّعَى نَسَبَهُ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ، وَيَضْمَنُ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ يُسَاوِي أَلْفًا فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ ابْنِي، وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ فَهُوَ ابْنُهُ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُضَارِبُ، كَانَ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِرَبِّ الْمَالِ فَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيَكُونُ عَبْدًا لِلْمُضَارِبِ، وَهُوَ ضَامِنٌ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُضَارِبُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ كَذَبْت وَلَكِنَّهُ ابْنِي فَهُوَ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ حُرٌّ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ ادَّعَى نَسَبَهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَا يَضْمَنُ رَبُّ الْمَالِ لَهُ شَيْئًا مِنْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ ابْنِي، وَقَالَ الْمُضَارِبُ كَذَبْت ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَعَتَقَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِهِ، وَالْمُضَارِبُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّبْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَرَبُّ الْمَالِ صَارَ كَالْمُعْتِقِ فَيَتَخَيَّرُ الْمُضَارِبُ فِي نَصِيبِهِ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُضَارِبُ بِمَا قَالَ فَهُوَ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُضَارِبِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ رَبُّ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: كَذَبْت بَلْ هُوَ ابْنِي فَالْغُلَامُ ابْنُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ بِالدَّعْوَى فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَعَتَقَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ مِنْ قِبَلِهِ، ثُمَّ الْمُضَارِبُ ادَّعَى نَسَبَهُ وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتِقِ لِنَصِيبِهِ فَلَا ضَمَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. [بَابُ ضَيَاعِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا، ثُمَّ ضَاعَتْ الْأَلْفُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُضَارِبُ الْبَائِعَ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، كَمَا قَبْلَهُ فَهَلَكَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَمْ يَبْطُلْ الشِّرَاءُ بِهَلَاكِ الْأَلْفِ، وَالْمُضَارِبُ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الشِّرَاءِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِأَلْفٍ أُخْرَى عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَيَدْفَعُهَا إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ قَبَضَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 168 يَدْفَعْهَا إلَى الْبَائِعِ حَتَّى ضَاعَ، رَجَعَ بِمِثْلِهَا أَيْضًا. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ضَاعَ مِمَّا يَقْبِضُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ كَانَ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الرِّبْحِ يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مَا قَبَضَهُ فِي الْمَرَّاتِ كُلِّهَا، وَرَأْسُ الْمَالِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِلَ الثَّمَنُ إلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَرَّةً بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَرْجِعْ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ يَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْمُوَكِّلِ مُقْتَضِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَهُنَا قَبْضُ الْمُضَارِبِ لَا يَكُونُ اقْتِضَاءً لِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ، كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْمَقْبُوضُ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَبَضَهُ، وَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً وَلَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَيْنِ حَتَّى ضَاعَا، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي شِرَاءِ رُبْعِ الْجَارِيَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ الرُّبْعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَفِي شِرَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا دَفَعَ الْأَلْفَيْنِ إلَى الْبَائِعِ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَبَاعَهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَهُ رُبْعُ ثَمَنِهَا وَهُوَ: حِصَّةُ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ رَأْسَ مَالِهِ، وَالرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا أَخَذَ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ كَانَ الْبَاقِي رِبْحًا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَاعَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالشِّرَاءِ تَحَوَّلَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَهَلَاكُ الْأَلْفِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَحِلَّ الْمُضَارَبَةِ. وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً فَضَاعَتْ الْأَلْفُ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ ضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا، وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْت بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَاكُ ذَلِكَ الْمَالِ عَارِضٌ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فِيهِ سَبْقَ تَارِيخٍ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُهُ، قُلْنَا: هَذَا مُتَعَارِضٌ، فَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ عَلَى هَلَاكِ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُهُ، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ كَانَ التَّرْجِيحُ فِيمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ هَلَاكِ الْمَالِ مُحَالًا بِهِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 169 عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ نَوْعٌ مِنْ الظَّاهِرِ، وَبِالظَّاهِرِ يُرْفَعُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَحَاجَةُ الْمُضَارِبِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا، وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَضِيعَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَةٍ، وَرَبُّ الْمَالِ يَنْفِي ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ الْأَلْفَ، وَلَمْ يَنْقُدْهَا فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ، وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً أُخْرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَقَالَ: أَبِيعُهَا فَأَنْقُدُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّمَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ الْأَخِيرَةَ لِنَفْسِهِ، وَلَا تَكُونُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، فَقَدْ اشْتَرَى الْأُخْرَى وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، كَانَ هَذَا اسْتِدَانَةً مِنْهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ وَلَوْ اشْتَرَى بِالْجَارِيَةِ الَّتِي قَبَضَ جَارِيَةً أُخْرَى جَازَ، وَكَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ بِالشِّرَاءِ مِنْ الْأَلْفِ إلَى الْجَارِيَةِ، فَإِنَّمَا أَضَافَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارِبُ كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالنَّقْدِ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِالْعَرَضِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأُخْرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ثَمَنَهَا لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى دَيْنٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَلَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لَصَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفَا دِرْهَمٍ فِي ثَمَنِ الْمُشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ جَارِيَتَيْنِ بِالْأَلْفَيْنِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذِهِ الْأَلْفِ، وَقَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ الْمُضَارَبَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ لَا إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى أَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَلْفُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ، فَيَكْتَفِي بِبَيِّنَتِهِ لِلْمُضَارَبَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ. وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً سَنَةً يُرِيدُ بِهَا الْمُضَارَبَةَ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مِثْلَ مَا اشْتَرَى بِهِ، وَالشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ وَبِالنَّقْدِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَبَضَهَا فَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ إلَى الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَإِنَّمَا أَضَافَ الشِّرَاءَ الثَّانِيَ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِالْجَارِيَةِ، وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ الَّتِي فِي يَدِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ إلَى الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَلَمَّا أَضَافَ الشِّرَاءَ الثَّانِيَ إلَى أَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَقَدْ أَضَافَهُ إلَى غَيْرِ مَحِلِّ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَلْفَ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، فَلَوْ صَارَ مُشْتَرِيًا الْأُخْرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 170 لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدَانَةً، وَإِذَا اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ حِنْطَةً، أَوْ غَيْرَهَا، ثُمَّ اشْتَرَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَنْقُدَ الْأَلْفَ، وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالْأَلْفِ وَفَضْلٌ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ غَيْرَ مَا اشْتَرَى بِهِ يَعْنِي: أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ إلَى الْحِنْطَةِ، وَهِيَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ اشْتَرَى بِغَيْرِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ إذْ لَوْ جَازَ شِرَاؤُهُ بِالدَّرَاهِمِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ مِنْهُ. وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ حِنْطَةً، ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسْطَ نَسِيئَةِ شَهْرٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَفِي يَدِهِ حِنْطَةٌ مِثْلَ مَا اشْتَرَى بِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَهُ فِي تَرْكِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعَيْنِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَهُوَ: ثُبُوتُ الْأَجَلِ فِي ثَمَنِ الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِتِلْكَ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمِثْلِهَا مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَمْلِكُ إيفَاءَ الثَّمَنِ بِغَيْرِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عَلَيْهَا جَارِيَةً بِخَمْسِينَ دِينَارًا، وَقَبَضَهَا وَصَرَفَ الدَّرَاهِمَ فَنَقَدَهَا الْبَائِعُ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا: هُوَ مُشْتَرٍ لِلْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى عَلَيْهَا بِدَرَاهِمَ فَصَرَفَهَا، وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي الْفَصْلَيْنِ: أَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْر مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِالْحِنْطَةِ وَالْمَالُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيفَاءَ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالْمُبَادَلَةِ، أَوْ رِضَا الْبَائِعِ بِهِ كَمَا فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَحُجَّةُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ صُورَةً، وَلَكِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى، وَمَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ بِهِمَا الثَّمَنِيِّةُ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الرَّوَاجُ وَالنَّفَاقُ وَهُمَا فِي ذَلِكَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ هُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ بِهَا يَكُونُ شِرَاءً مَحْضًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَيَسِيرُ عَلَيْهِ إذْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْآخَرِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مُصَارَفَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ دَرَاهِمَ بُخْتِيَّةً لَهَا فَضْلٌ فِي الصَّرْفِ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ غَلَّةِ الْبَلَدِ جَارِيَةً، وَصَرَفَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ صَرَفَهَا بِدَرَاهِمَ غَلَّةِ الْبَلَدِ، وَأَعْطَاهَا الْبَائِعُ فَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخَالِفُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 171 فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا، وَلَكِنْ مِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِينَارٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِخَمْسِينَ دِينَارًا مِنْهَا جَارِيَةً، وَقَبَضَهَا ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا وَبِدَرَاهِمَ أَوْ فُلُوسٍ طَعَامًا يَأْكُلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِالْفُلُوسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا فِي الْفُلُوسِ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا: إنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ يَصِحُّ، وَهُوَ كَالنُّقُودِ فِي الصَّلَاحِيَةِ لِرَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَلَيْهَا بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسٍ، أَوْ صِنْفٍ آخَرَ غَيْرَ مَا فِي يَدِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى بِهِ فِي الصُّورَةِ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّرَاهِمَ حَتَّى بَاعَ الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ، وَهَلَكَتْ الْجَارِيَةُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ مَعًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَلْفًا أُخْرَى مَكَانَ الْأَلْفِ الْأُولَى الَّتِي اشْتَرَى بِهَا الْجَارِيَةَ فَيَدْفَعُهَا الْمُضَارِبُ إلَى الَّذِي بَاعَهُ الْجَارِيَةَ، وَيَغْرَمَ رَبُّ الْمَالِ أَيْضًا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَيَدْفَعُهَا إلَى الْمُضَارِبِ فَيُؤَدِّيهَا الْمُضَارِبُ مَعَ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ إلَى مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، قَدْ هَلَكَتْ، وَكَانَ الْمُضَارِبُ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى لِيُؤَدِّيَ مِنْهَا ثَمَنَهَا بِهِ حِينَ بَاعَ الْجَارِيَةَ، وَقَبَضَ ثَمَنَهَا كَانَ هُوَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ، وَكَانَ فِي الرُّبْعِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَبِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ عَمَلُهُ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَيَغْرَمُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ مِقْدَارَ مَا كَانَ عَمَلُهُ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِنْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْأُولَى أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمَقْبُوضَةُ، وَالْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالثَّلَاثَةُ الْآلَافُ كُلُّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْأُولَى حِينَ هَلَكَتْ اسْتَوْجَبَ الْمُضَارِبُ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لِحَقِّ الْمُضَارِبِ، وَيَصِيرُ رَأْسُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ بِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَلْفًا أُخْرَى، ثُمَّ تَصَرَّفَ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ، وَرَبِحَ يُحَصِّلُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ أَوَّلًا، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا رِبْحَ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَأَنَّهُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْجَارِيَةِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ فِي جَمِيعِهِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَلْفًا مِنْ الْأَلْفَيْنِ الْمَقْبُوضَةِ وَجَبَ دَفْعُهَا إلَى بَائِعِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 172 الْجَارِيَةِ، وَالْأَلِفُ الْأُخْرَى مَشْغُولَةٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا رِبْحَ فِيهَا، وَالْمُضَارِبُ إنَّمَا يَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ مَعًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، وَهَذَا هَلَاكُ الْمَالِ كُلِّهِ مَعًا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ لَا يَزْدَادُ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا يَلْحَقُ الْمُضَارِبَ دَيْنٌ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُضَارِبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي قَبْضِ رُبْعِ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ الْآخَرُ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ الْأَوَّلُ؛ فَهَذَا وَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَالَانِ بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ مَعًا سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَاءِ الْفَصْلَيْنِ فِي الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عَلَيْهَا جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، وَكُرَّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ فَقَبَضَ الْجَارِيَةَ وَهَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ عِنْدَ الْمُضَارِبِ، فَالْمُضَارِبُ مُشْتَرٍ لِلْجَارِيَةِ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهِ ثَمَنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ جِنْسُ مَا اشْتَرَى مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ صُورَةً لَا مَعْنًى فَيَكُونُ شِرَاؤُهُ لِلْمُضَارَبَةِ اسْتِدَانَةٍ عَلَيْهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ لَا يَمَسُّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا ضَامِنًا إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، عَلَى خِلَافِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَمَسَّ تَصَرُّفُهُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ؛ لَا يَكُونُ ضَامِنًا. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا فَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى ضَاعَتْ الدَّرَاهِمُ؛ رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا اسْتِحْسَانًا؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْمُجَالَسَةَ بَيْنَ مَا اشْتَرَى بِهِ، وَبَيْنَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَوْجُودٌ مَعْنًى؛ فَصَارَ مُشْتَرِيًا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَا اشْتَرَى بِهِ الْجَارِيَةَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا فَيُعْطِيهَا بَائِعَ الْجَارِيَةِ، فَإِذَا بَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ: أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا، وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا ثَبَتَ الْمَالُ فَاشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ غَلَّةٍ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَقَبَضَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّرَاهِمَ حَتَّى بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، فَقَبَضَهُمَا وَلَمْ يَدْفَعْ الْجَارِيَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَدْفَعْ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ كُلُّهَا، وَالْجَارِيَتَانِ جَمِيعًا فَعَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ خَمْسَةَ آلَافٍ: إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، ثَمَنِهَا أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَرُدَّ عَلَى مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ الْأُولَى مَا قَبَضَ مِنْهُ مِنْ ثَمَنِهَا، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ فِيهَا بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثَمَنَهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَهَا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ بِقَبْضِهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفٌ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ مِمَّا قَبَضَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 173 مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى بَعْدَ بَيْعِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَلْفَيْنِ كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَفِي الرُّبْعِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ وَقَبْضِهَا، كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَفِي الرُّبْعِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ فَلِهَذَا يَغْرَمُ أَلْفًا مِنْ مَالِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْأَلْفُ الْأُولَى ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ مَعًا يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْخَمْسَةِ آلَافٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْأَلْفِ الْأُولَى لَحِقَ الْمُضَارَبَةَ دَيْنٌ بِقَدْرِ أَلْفٍ، وَصَارَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِلطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْجَارِيَةِ، وَقَبْضِ ثَمَنِهَا كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِالْكُلِّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ الْأَخِيرَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ مَعًا رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ لَا يَلْحَقُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُضَارِبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الرُّبْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ الْأُولَى أَوَّلًا، أَوْ هَلَكَتْ الْأَلْفَانِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ فَهَذَا وَمَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ مَعًا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا وَقَبَضَهَا وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْجَارِيَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْعَبْدِ جِرَابَ هَرَوِيٍّ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ الْعَبْدَ، فَهَلَكَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا، وَرَأْسُ مَالِ الْأَوَّلِ مَعًا فَعَلَى الْمُضَارِبِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفٌ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَأَلْفَانِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِالْجَارِيَةِ، وَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ؛ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ، وَالثَّلَاثَةُ آلَافٍ قِيمَةُ الْجِرَابِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الْجِرَابَ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْجِرَابِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ؛ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَفِي الرُّبْعِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ، وَفِي شِرَاءِ الْجِرَابِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مَشْغُولٌ مِنْهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي شِرَاءِ الْجِرَابِ فِي الثُّلُثِ، فَحَاصِلُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُضَارِبِ رُبْعُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَثُلُثُ قِيمَةِ الْجِرَابِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ. وَلَوْ هَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا سِوَاهُ مَعًا رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى الجزء: 22 ¦ الصفحة: 174 رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ هَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ أَوَّلًا فَقَدْ لَحِقَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَصَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ، فَهُوَ فِي شِرَاءِ جَمِيعِ الْعَبْدِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَمَّا فِي شِرَاءِ الْجِرَابِ فَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي السُّدُسِ: بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ سُدُسِ الْجِرَابِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَيَرْجِعُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ هَلَكَ الْجِرَابُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ مَعًا؛ رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لِهَلَاكِ الْجِرَابِ لَا يَلْحَقُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَوْ هَلَكَتْ أَوَّلًا انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْعَبْدَ حِينَ بَاعَهُ بِالْجِرَابِ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَلَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلُ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَذَلِكَ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ غُرْمُ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ: خَمْسُمِائَةٍ، وَذَلِكَ رُبْعُهُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى، ثُمَّ كَانَ مُشْتَرِيًا رُبْعَ الْجِرَابِ لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَحَاصِلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْغُرْمِ فِي مَالِهِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْجِرَابِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ فِي الْجِرَابِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْجِرَابِ دُونَ رَأْسِ مَالِهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا رِبْحَ فِيهَا؛ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْجِرَابِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ مَعَ الْأَلْفَيْنِ وَالْخَمْسِمِائَةِ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَ الْجَارِيَةِ، وَغَرِمَ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَرْبَاعًا، ثُمَّ بَاعَ الْجِرَابَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ أَخَذَ الْمُضَارِبُ رُبْعَهَا لِنَفْسِهِ، وَاحْتَاجَ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ وَلَا وَفَاءَ فِيهِ فَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَقَطْ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا رِبْحَ لَهُ فِي الْجِرَابِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَقَبَضَهَا، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْجَارِيَةِ جَارِيَتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَبَضَهُمَا، ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَوَارِي وَرَأْسُ الْمَالِ الْأَوَّلُ مَعًا، فَعَلَى الْمُضَارِبِ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأُولَى أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَأَلْفَانِ قِيمَةُ الْجَارِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْفَسَخَ فِيهِمَا بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهَا؛ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا، وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَارِيَتَيْنِ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِرَأْسِ الْمَالِ، إذْ لَا فَضْلَ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُضَارِبُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، فَكَانَ هُوَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي جَمِيعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 175 مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِالْجَارِيَةِ الْأُولَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَقَبَضَهَا فَهَلَكَتْ الْجَارِيَتَانِ وَرَأْسُ الْمَالِ مَعًا، فَإِنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفٌ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأُولَى وَأَلْفَانِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ فَضْلًا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بِقَدْرِ الْأَلْفِ، فَكَانَ الْمُضَارِبُ فِي رُبْعِهَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ؛ فَيَغْرَمُ رُبْعَ قِيمَتِهَا مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ مَعًا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْأُولَى إنْ هَلَكَتْ أَوَّلًا فَبِهَلَاكِهَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلَمْ يَلْحَقْ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْجَارِيَةِ الْأُولَى وَإِنْ هَلَكَتْ الْأُخْرَى أَوَّلًا لَمْ يَنْتَقِضْ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ قَبَضَ لَهَا. وَلَوْ هَلَكَتْ الْأَلْفُ الْأُولَى أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا بَقِيَ مَعًا رَجَعَ بِالثَّلَاثَةِ آلَافٍ كُلِّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْأَلْفِ الْأَوَّلِ لَحِقَ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِي جَمِيعِهَا إذْ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا وَقَبَضَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَدْفَعْ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى وَهِيَ فِي يَدَيْهِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ دَفَعَ رَأْسَ الْمَالِ الْأَوَّلَ إلَى صَاحِبِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَدَفَعَ الْأَلْفَيْنِ إلَى الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الْجَارِيَةَ الْأَخِيرَةَ فَإِنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ لِلَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الْجَارِيَةَ الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفَانِ مِنْهَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُمَا الْأَلْفَانِ الْأُخْرَيَانِ، وَأَلْفٌ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، فَشِرَاؤُهُ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى يَكُونُ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَارَ مُشْتَرِيًا ثُلُثَ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهَا، وَثُلُثَاهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَ الْأُولَى حَتَّى هَلَكَ، وَبَاعَ الْجَارِيَةَ الْأَخِيرَةَ بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ حِصَّةُ ثُلُثِهَا الَّذِي كَانَ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، يُؤَدِّي مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى الَّذِي اشْتَرَى الْأَوَّلَ مِنْهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَيْنِ اللَّتَيْنِ اشْتَرَى بِهِمَا الْجَارِيَةَ الْأَخِيرَةَ حَتَّى ضَاعَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ ثُلُثَيْ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ رِبْحٌ؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ ثَمَنِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ دَفَعَ أَلْفًا مِنْ ذَلِكَ إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَأَلْفَيْنِ إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَلْفٌ يَأْخُذُهُ رَبُّ الْمَالِ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى وَبَاعَ بِالْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى صَارَ فِي يَدِهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَقَبَضَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِأَرْبَعَةِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 176 آلَافِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً مِنْهُ، وَقِيمَتُهَا يَوْمَ بَاعَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ فَدَفَعَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ هَلَكَتْ الْأَلْفَانِ الْأُولَيَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ بَائِعِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَيُؤَدِّيهَا مَعَ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي شِرَاءِ رُبْعِ الْجَارِيَةِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ الْأَرْبَعَةُ آلَافٍ كَانَ لِلْمُضَارِبِ رُبْعُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رُبْعُ ثَمَنِهَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُشْتَرِيًا رُبْعَهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ، وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ رَأْسَ مَالِهِ: أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ هَذَا الْمِقْدَارَ فِي دُفْعَتَيْنِ، وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا بِجَارِيَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا فَقَبَضَهَا، ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَارِيَتَانِ جَمِيعًا: فَعَلَى الْمُضَارِبِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ فِيهَا بِهَلَاكِ مَا يُقَابِلُهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ هُوَ فِي شِرَائِهَا عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فِي الْكُلِّ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْفَضْلِ فِيمَا اشْتَرَى بِهِ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، وَلَا فَضْلَ فِيهَا. وَلَوْ عَمِلَ بِالْمُضَارَبَةِ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ أَلْفَيْنِ، وَقَبَضَهَا فَهَلَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَهُ مَعًا: فَعَلَى الْمُضَارِبِ أَلْفَا دِرْهَمٍ ثَمَنُ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهَا وَهَلَاكِهَا فِي يَدِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الْوَاجِبُ دُونَ قِيمَتِهَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ عَمِلَ بِالْمُضَارَبَةِ حَتَّى صَارَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ: أَلْفَانِ مِنْهَا دَيْنٌ، وَأَلْفَانِ عَيْنٌ فِي يَدِهِ، فَاشْتَرَى بِهَاتَيْنِ الْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى هَلَكَتْ الْأَلْفَانِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي هَاتَيْنِ الْأَلْفَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ الدَّيْنَ، وَالْعَيْنَ فِي مَعْنَى جِنْسَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ فِي كُلِّ جِنْسٍ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ تَوَى كَانَ رَأْسُ الْمَالِ كُلُّهُ فِي الْأَلْفَيْنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ رِبْحَهُ فِي الْأَلْفَيْنِ بِقَدْرِ الرُّبْعِ، فَكَانَ هُوَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الشِّرَاءِ بِرُبْعِهَا، وَلِرَبِّ الْمَالِ فِي الشِّرَاءِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْجَارِيَةَ كَانَ لَهُ رُبْعُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى رُبْعَ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ، فَرَأْسُ مَالِهِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ وَلَا يَرْجِعُ الْمُضَارِبُ فِي هَاتَيْنِ الْأَلْفَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ رُبْعُ الْجَارِيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا نَقَدَ، وَقَدْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ فَقَدْرُ الرُّبْعِ مِنْهَا هَلَكَ فِي ضَمَانِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَهْلِكْ، وَبَاعَهَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 177 بِعَشَرَةِ آلَافٍ كَانَ لَهُ رُبْعُ ثَمَنِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِمَّا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي خَرَجَ. [بَابُ الْمُضَارِبِ يَأْمُرهُ رَبُّ الْمَالِ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:) وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ شِرَاءٌ بِالنَّسِيئَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فَقَدْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى كُلُّهُ لِلْمُوَكِّلِ جَازَ، فَكَذَلِكَ النِّصْفُ فَإِنْ اشْتَرَى بِالْمُضَارَبَةِ غُلَامًا، ثُمَّ اشْتَرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنًا، وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ الْمَالَ ثُمَّ هَلَكَ مَا قَبَضَ وَلَمْ يَدْفَعْ مَا بَاعَ وَمَا كَانَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَلْحَقُهُ نِصْفُ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ، وَيَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ نِصْفُ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّهُ فِيمَا اسْتَدَانَ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ، وَنِصْفَهُ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُضَارَبَةِ الْمُنَاصَفَةُ وَلَا تَكُونُ الْمُنَاصَفَةُ فِي الرِّبْحِ فِي الْمُشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهَا لِنَفْسِهِ؛ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ ثَمَنِهَا، وَنِصْفُ ثَمَنِهَا كَانَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهَا لَهُ بِأَمْرِهِ وَلَوْ لَمْ تَهْلِكْ الْجَارِيَةُ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يُؤَدِّيَانِ مِنْ ثَمَنِهَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْبَاقِي عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ وَلَكِنَّهُ أَعْتَقَهَا وَلَا فَضْلَ فِيهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ نِصْفَهَا بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا: لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَاهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُهُ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبَاعَهُمَا جَمِيعًا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَإِنَّ ثَمَنَ الْجَارِيَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا: ثُلُثَاهُ لِلْمُضَارِبِ، وَثُلُثُهُ لِرَبِّ الْمَالِ. وَأَمَّا ثَمَنُ الْغُلَامِ فَيُؤَدِّي مِنْهُ ثَمَنَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ كَانَ مُطْلَقًا، فَالْمُشْتَرَى بِالدَّيْنِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَمَعَ الْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمُشْتَرَى لَا يَصِحُّ شَرْطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ اشْتَرَكَا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 178 بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالدَّيْنِ وَيَبِيعَا، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَاشْتَرَيَا، وَبَاعَا وَرَبِحَا كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاشْتِرَاطُهُمَا الثُّلُثَيْنِ، وَالثُّلُثُ فِي الرِّبْحِ يَكُونُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَا ضَمِنَهُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَمَرَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَشَرَطَ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ فِي الرِّبْحِ لَا فِي أَصْلِ الِاسْتِدَانَةِ، فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ مِنْ شَيْءٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُهُ، وَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثَاهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَاشْتَرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً بِأَلْفٍ دَيْنًا تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَحِصَّةُ جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ يَأْخُذُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ: أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ مَا يَسْتَدِينُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ لِلْمُضَارِبِ، فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي الرِّبْحِ فِي هَذَا يَكُونُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ رِبْحَ مَا قَدْ ضَمِنَ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، فَاشْتَرَى بِالْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا بَعْدَ مَا يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَحِصَّةُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ، فَاشْتِرَاطُ كَوْنِ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الضَّمَانِ يَكُونُ بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اسْتَدِنْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَقَوْلُهُ اسْتَدِنْ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْمَعْنَى، وَمَا اسْتَدَانَ سَوَاءٌ كَانَ بِقَدْرِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَرِبْحُهُ وَوَضِيعَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِالدَّيْنِ كَانَ ضَمَانُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى نَفْسِهِ، كَانَ مَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِالدَّيْنِ لَهُ خَاصَّةً دُونَ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ أَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ وُجُودُ أَمْرِهِ فِيهِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ أَوْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، أَوْ عَلَى الْمَالِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ أَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمْرُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْمَالِ كَأَمْرِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمَالُ مَحِلٌّ لِقَضَاءِ الْوَاجِبِ لَا لِلْوُجُوبِ فِيهِ، فَالْوَاجِبُ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ أَمْرُهُ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 179 بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَسْتَدِينُ، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الشَّرِكَةُ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَأْسِ مَالِ عَيْنٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي مَعْنَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، فَيَكُونُ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا شَرْطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ مَعَ مُسَاوَاتِهِمَا فِي الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى. وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ، أَوْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَاشْتَرَى بِالْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ الْمُضَارِبُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَالْقَرْضُ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْهُمْ، مَنْ يَقُولُ: إنَّ الِاسْتِدَانَةَ هُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ وَالِاسْتِقْرَاضُ غَيْرُهُ؟ فَلَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَسْتَقْرِضَ لَهُ أَلْفًا مِنْ فُلَانٍ فَاسْتَقْرَضَهَا كَمَا أَمَرَهُ كَانَ الْأَلْفُ لِلْمُسْتَقْرِضِ دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَإِذَا كَانَ الْبَدَلُ فِي ذِمَّتِهِ؛ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي ذَلِكَ إلَى أَمْرِ الْآمِرِ، وَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِقْرَاضِ إلَّا نَظِيرَ الْأَمْرِ بِالتَّكَدِّي وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُتَكَدِّي يَكُونُ لَهُ دُونَ الْآمِرِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ مَا اسْتَقْرَضَهُ الْمُضَارِبُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَقَدْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا الْجَارِيَةَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ، فَاشْتَرَى بِأَلْفٍ ثِيَابًا فَأَسْلَمَهَا إلَى صَبَّاغٍ يَصْبُغُهَا صُفْرًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَوَصَفَ لَهُ شَيْئًا مَعْرُوفًا فَصَبَغَهَا، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ بَاعَ الثِّيَابَ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ: أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَيُؤَدِّي الْمُضَارِبُ أَجْرَ الصَّبَّاغِ: مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ قُسِّمَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الشَّرْطِ، وَسَهْمٌ حِصَّةُ الْمِائَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ فَقَدْ مَلَكَ بِهِ خَلْطَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالٍ آخَرَ، وَالصَّبْغُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ، وَهُوَ فِي الصَّبْغِ مُسْتَدِينٌ بِأَمْرِهِ، فَلَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِخَلْطِ مَا اسْتَدَانَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ الثَّمَنُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يَكُونُ مَقْسُومًا عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ ثَمَنُ ثِيَابِ الْمُضَارَبَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَثَمَنُ الصَّبْغِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَيُحَصِّلُ مِنْ ثَمَنِ الْبَاقِي رَأْسَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَيُعْطِي الْمِائَةَ ثَمَنَ الصَّبْغِ، وَالْبَاقِي رِبْحٌ، فَيَكُونُ مَقْسُومًا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةُ رِبْحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الشَّرْطِ، وَسَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ رِبْحُ مَا اسْتَدَانَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِاسْتِوَاءِ مِلْكَيْهِمَا فِيمَا اسْتَدَانَ. وَلَوْ كَانَ بَاعَ الثِّيَابَ مُسَاوَمَةً قَسَّمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الثِّيَابِ، وَعَلَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 180 الْمُسَاوَمَةِ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ أَصْلُ الثِّيَابِ، وَالصَّبْغُ الْقَائِمُ فِيهَا فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ جُمْلَةً عَلَى قِيمَةِ الثِّيَابِ غَيْرِ مَصْبُوغَةٍ، وَعَلَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهَا، فَمَا يَخُصُّ قِيمَةَ الثِّيَابِ فَهُوَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ يُعْطَى مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الشَّرْطِ، وَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الصَّبْغِ يُعْطَى مِنْهُ أَجْرُ الصَّبَّاغِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ حِصَّةِ الِاسْتِدَانَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ ثِيَابًا، وَاسْتَقْرَضَ عَلَى الْمَالِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهَا زَعْفَرَانًا فَصَبَغَ بِهِ الثِّيَابَ، ثُمَّ بَاعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَى مَا اسْتَقْرَضَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَسَهْمٌ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَا اسْتَقْرَضَ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَمَا اشْتَرَى بِهِ مِنْ الزَّعْفَرَانِ مَمْلُوكٌ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا إذَا صَبَغَ الثِّيَابَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ بِرَأْيِهِ، وَالثَّمَنُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَقْسُومٌ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةُ أَسْهُمٍ حِصَّةُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَسَهْمٌ حِصَّةُ الصَّبْغِ وَهُوَ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً، فَيَكُونُ بَدَلُهُ لَهُ. وَلَوْ بَاعَهَا مُسَاوَمَةً قَسَمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الثِّيَابِ، وَعَلَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي الثِّيَابِ، فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الثِّيَابِ كَانَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الصَّبْغِ كَانَ لِلْمُضَارِبِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الزَّعْفَرَانَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَصَبَغَ الثِّيَابَ بِهِ، كَانَ هَذَا وَاَلَّذِي كَانَ اسْتَأْجَرَ الصَّبَّاغُ بِمِائَةٍ لِيَصْبُغَهَا سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الزَّعْفَرَانِ بِالنَّسِيئَةِ اسْتِدَانَةٌ، فَيَنْفُذُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَعَلَى الْمُسْتَدِينِ، وَيَكُونُ الصَّبْغُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَهُوَ وَمَسْأَلَةُ اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ لِنِصْفِهَا سَوَاءٌ. وَلَوْ خَرَجَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ فَاشْتَرَى بِهَا كُلِّهَا ثِيَابًا ثُمَّ، اسْتَكْرَى عَلَيْهَا بِغَالًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَهُ إلَى مِصْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ مِمَّا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ بَيْنَ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ إنَّمَا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي إلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَلْحَقَهُ بِهِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَعَلَى هَذَا أَجْرُ السِّمْسَارِ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَتْ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَحِصَّةُ الْكِرَاءِ سَهْمٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَقْسُومٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي غَرِمَهَا فِي شِرَاءِ الثِّيَابِ، وَالْمِائَةُ الَّتِي غَرِمَهَا فِي الْكِرَاءِ، فَإِذَا جَعَلْتَ كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا، كَانَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةُ الْكِرَاءِ وَهُوَ اسْتِدَانَةٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ بَاعَهَا مُسَاوَمَةً كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الشَّرْطِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 181 الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ الثِّيَابُ دُونَ مَنْفَعَةِ الْحَمْلِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ، وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ الثِّيَابِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الشَّرْطِ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُهُ الْبَيْعُ، ثُمَّ غُرْمُ الْكِرَاءِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ مُسْتَدِينًا فِيهَا بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، فَفِعْلُهُ كَفِعْلِهِمَا جَمِيعًا؛ فَلِهَذَا كَانَ غُرْمُ الْكُلِّ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ اسْتَكْرَى بِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاسْتَكْرَى بِهَا بِأَعْيَانِهَا دَوَابَّ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ كَذَا وَكَذَا ثَوْبًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَبِيعُ الثِّيَابَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَا يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ حِصَّةَ الْكِرَاءِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اكْتَرَى دَوَابَّ لِلثِّيَابِ بِمِائَةٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَقْرَضَ لَهُ خَاصَّةً ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي الْكِرَاءِ. وَلَوْ تَطَوَّعَ إنْسَانٌ آخَرُ بِحَمْلِ الثِّيَابِ عَلَى دَوَابِّهِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُلْحِقَ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَطَوَّعَ الْمُضَارِبُ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمُضَارِبُ فِي حَمْلِ الثِّيَابِ كَالْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ حِصَّةِ الرِّبْحِ، وَالْمَالِكُ لَوْ اسْتَكْرَى دَوَابَّ لِلثِّيَابِ الْمُشْتَرَاةِ بِمَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَكَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُلْحِقَ الْكِرَاءَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَيَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ، فَإِنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ كَانَتْ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا. مِنْ ذَلِكَ حِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَسَهْمٌ وَاحِدٌ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً، وَإِنْ بَاعَهَا مُسَاوَمَةً كَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الثِّيَابِ هُنَا، وَالثِّيَابُ كُلُّهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَضَمَانُ الْكِرَاءِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقْرِضُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا اسْتَقْرَضَهُ، فَإِنْ قَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ: إنَّمَا اسْتَكْرَيْتُ الدَّوَابَّ لَكَ: تَحْمِلُ ثِيَابَكَ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: إنَّمَا اسْتَكْرَيْتُ بِمَالِكَ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ حَمَلْتَ ثِيَابِي عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَكْرَى بِالْمِائَةِ الَّتِي اسْتَقْرَضَ بِعَيْنِهَا، وَمِلْكُ الْمِائَةِ لِلْمُضَارِبِ، فَإِضَافَتُهُ الْعَقْدَ إلَى مَالِ نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَكْرَاهَا لِنَفْسِهِ. وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ بِرَأْيِهِ فَاشْتَرَى بِهَا كُلِّهَا ثِيَابًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ عِنْدِهِ عُصْفُرًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَبَغَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثِّيَابِ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَى مِنْ الصَّبْغِ لَهُ، وَقَدْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِهِ حِينَ صَبَغَ الثِّيَابَ، وَالْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا يَمْلِكُ الْخَلْطَ، فَيَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا ضَامِنًا، وَصَاحِبُ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ثِيَابَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي ثِيَابِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ ثِيَابَهُ غَيْرَ مَصْبُوغَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ فَكَانَتْ الثِّيَابُ لِلْمُضَارِبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، فَإِنْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 182 لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى بَاعَ الْمُضَارِبُ الْمَتَاعَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ بَاقٍ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الْمَالِ، وَإِنْ صَارَ مُخَالِفًا وَنُفُوذُ بَيْعِ الْمُضَارِبِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لَا يَنْفِي جَوَازَ بَيْعِهِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الثِّيَابِ، وَمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ زِيَادَةَ الصَّبْغِ فَهُوَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، وَمَا أَصَابَ الثِّيَابَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ مِنْ الْمُضَارِبِ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِبَيْعِ الثِّيَابِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا، وَالِاخْتِلَاطُ الَّذِي فِي الثَّمَنِ حُكْمِيٌّ، وَبِهِ لَا يَكُونُ الْمُضَارِبُ مُخَالِفًا ضَامِنًا، فَإِنْ كَانَتْ الثِّيَابُ حِينَ اشْتَرَاهَا الْمُضَارِبُ تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَصَبَغَهَا بِعُصْفُرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ ضَمَّنَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الثِّيَابِ، وَسَلَّمَ الثِّيَابَ لِلْمُضَارِبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثِّيَابِ، وَأَعْطَى الْمُضَارِبَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الرُّبْعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِالصَّبْغِ، فَإِنَّ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ مَمْلُوكٌ لَهُ فِي الثِّيَابِ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا هُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِهِ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ بِالْخَلْطِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَتَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثِّيَابِ فِي هَذَا الْفَصْلِ نَظِيرَ جَمِيعِ الثِّيَابِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَالْخِيَارِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى بَاعَهَا الْمُضَارِبُ جَازَ بَيْعُهُ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الصَّبْغِ، وَكَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الصَّبْغِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْبَاقِي مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا. وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَصْبُغْ الثِّيَابَ، وَلَكِنْ قَصَّرَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَذَلِكَ يَزِيدُ فِيهَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إنْ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلِطْ بِهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْخَلْطِ لَا بِعَمَلِ الْقَصَّارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ فَضْلٌ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ الثِّيَابَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إنْ زَادَتْ، أَوْ نَقَصَتْ فَكَذَلِكَ إذَا قَصَّرَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الصَّبْغِ فَإِنَّهُ عَيْنٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ، فَيَصِيرُ بِخَلْطِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ ضَامِنًا هُنَاكَ، فَإِنْ بَاعَهَا بِرِبْحٍ، أَوْ وَضِيعَةٍ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا غَرِمَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي قَصَّارَتِهَا، قِيلَ: هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقَصَّارَةِ جَرَى الرَّسْمُ بِإِلْحَاقِهَا بِرَأْسِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْكِرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا تُسَاوِي أَلْفًا فَصَبَغَهَا أَسْوَدَ فَهَذَا وَالْقَصَّارَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ وَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلِطْ مَالًا مِنْ عِنْدِهِ بِالْمُضَارَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلسَّوَادِ فِي الثِّيَابِ، وَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ الَّذِي دَخَلَ فِي الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يَمْلِكُ أَنْ يَصْبُغَ الثِّيَابَ بِالسَّوَادِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 183 فَضَلَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَصَبَغَ الثِّيَابَ بِهَا سَوَادًا لَمْ يَضْمَنْ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالسَّوَادُ كَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا فِي ثِيَابٍ يَنْقُصُ السَّوَادُ مِنْ قِيمَتِهَا، فَأَمَّا فِي ثِيَابٍ يَزِيدُ السَّوَادُ فِي قِيمَتِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَبَغَهَا أَصْفَرَ أَوْ أَحْمَرَ وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ بِرَأْيِهِ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا ثُمَّ صَبَغَهَا بِعُصْفُرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الثِّيَابِ بِمَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْخَلْطَ عِنْدَ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِي الْمُضَارَبَةِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَأَصْلُ الثِّيَابِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالصَّبْغُ فِيهِ مِلْكٌ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ، فَاشْتَرَى بِهَا وَبِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى، وَالْجَارِيَةُ وَثَمَنُهَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ: فَعَلَى الْمُضَارِبِ تِسْعَةُ آلَافٍ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا وَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، وَخَمْسَةُ آلَافٍ لِمُشْتَرِي الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَوَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ فِي مَالِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهَا اشْتَرَاهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ: فَأَلْفٌ مِنْهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ: نِصْفُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَ الْجَارِيَةَ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ هُوَ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي مِقْدَارِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحِصَّتُهَا مِنْ الرِّبْحِ. وَذَلِكَ فِي الْحَاصِلِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ: خَمْسَةُ آلَافٍ، مِقْدَارُهُ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَخَمْسَةُ أَثْمَانِ هَذِهِ: الْخَمْسَةُ الْآلَافُ كَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، حِصَّةُ أَلْفِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبْحَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَلِلْمُضَارِبِ ثَبَتَ ذَلِكَ، وَثُلُثُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ، فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ يَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ أَيْضًا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا، هَذَا حَاصِلُ مَا عَلَى الْمُضَارِبِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ تِسْعَةِ آلَافٍ كُلُّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَوَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، وَإِذَا جَمَعْت حَاصِلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مُتَفَرِّقًا بَلَغَ هَذَا الْمِقْدَارَ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْأَلْفُ الْمُضَارَبَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ، وَالْخَمْسَةُ آلَافٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَعًا، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا يُؤَدِّي تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 184 وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى حِينَ هَلَكَتْ فَقَدْ لَحِقَ رَبَّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دَيْنٌ، وَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ لَا رِبْحَ فِيهَا، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى الْمُضَارِبِ إلَّا حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ وَرِبْحُهَا، فَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَذَلِكَ: ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَيَتَحَوَّلُ غُرْمُ ذَلِكَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مَعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَوَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثَيْنِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ خَمْسَةَ آلَافٍ وَسِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ بِسُدُسِ الرِّبْحِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: لِي نِصْفُ الرِّبْحِ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ: فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ لَفْظًا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالثُّلُثُ غَيْرُ النِّصْفِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ كَانَ لِلْمُضَارِبِ مَا أَقَرَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى ثُلُثِ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعْنًى، وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الثُّلُثِ، فَالشَّاهِدُ بِالنِّصْفِ شَاهِدٌ بِالثُّلُثِ وَزِيَادَةٍ فَيَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِثُلُثِ الرِّبْحِ، وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ وَاحِدٌ. وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْمُضَارِبُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ عَلَى نِصْفِ الرِّبْحِ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمُضَارِبُ يَدَّعِي الْأَكْثَرَ، فَلَا يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُهُ إلَيْك بِضَاعَةً، وَادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ أَجْرٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا؛ فَتَبْطُلُ الشَّهَادَةُ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ الْمِائَةِ مَعْنًى؛ فَيُوجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِفَسَادِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ ادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ شَرَطَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِهَا، وَشَاهِدٌ بِمِائَةٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عِنْدَهُمْ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 185 جَمِيعًا لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمِائَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ يَدَّعِي الْمِائَةَ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَعَمِلَا بِهَا وَرَبِحَا رِبْحًا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرَطَ لَهُمَا نِصْفَ الرِّبْحِ، وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُمَا الثُّلُثَ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، فَهُمَا يَدَّعِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ جُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ أَقَامَا شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الرِّبْحِ، وَالْآخَرُ بِثُلُثِ الرِّبْحِ، فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، يَكُونُ لِلْمُضَارِبَيْنِ أَجْرُ مِثْلِهِمَا فِيمَا عَمِلَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ لَهُمَا بِذَلِكَ فَيَأْخُذَانِ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيَانِهِ، وَعِنْدَهُمَا الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِلْمُضَارِبِ الَّذِي ادَّعَى نِصْفَ الرِّبْحِ، وَيَكُونُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِلْأَكْثَرِ، فَلَا يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَلَكِنَّ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ لَهُ فِي مِقْدَارِ مَا اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ مَعْنًى، وَهُوَ سُدُسُ الرِّبْحِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ. فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَمِنْ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ قَالَ: وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ خَادِمًا، ثُمَّ هَلَكَتْ الْأَلْفُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَنَقَدَهَا ثُمَّ بَاعَ الْخَادِمَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيُؤَدِّي مِنْ عِنْدِهِ خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ رَجَعَ بِمِثْلِ الْأَلْفِ الَّتِي هَلَكَتْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَقَدْ لَحِقَ رَبَّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَصَارَ رَأْسُ مَالِهِ أَلْفَيْنِ فَلَمَّا بَاعَ الْغُلَامَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَأَلْفَانِ مِنْ ذَلِكَ مَشْغُولَانِ بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحِينَ اشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا كَانَ هُوَ فِي الشِّرَاءِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَغْرَمُ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، وَفِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ، وَحِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَإِنْ بَاعَ الْمَتَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ كَانَ لِلْمُضَارِبِ سُدُسُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ سُدُسَ الْمَتَاعِ كَانَ مَمْلُوكًا، فَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سُدُسُ الثَّمَنِ لَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهَا رَبُّ الْمَالِ مَا غَرِمَ فِي الْمَرَّاتِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا عَمِلَ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَوَضَعَ أَوْ رَبِحَ، فَقَالَ عَمِلْتُ بِهِ مُضَارَبَةً فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي حَالِ الْوَضِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسَلَّطًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَهُوَ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 186 بِمُقَابَلَتِهِ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَالِ الرِّبْحِ حَتَّى يَشْهَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ الْمَالِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْيَتِيمِ بِمِلْكِ الْمَالِ، وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَمَانَةِ لِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِمَا مِنْهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا: أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً فَيَعْمَلَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ اسْتَقْرَضْتُهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ حَتَّى يَشْهَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الرِّبْحِ مُسْتَحَقٌّ لِلْيَتِيمِ بِمِلْكِهِ أَصْلَ الْمَالِ فِي الظَّاهِرِ، فَالْوَصِيُّ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَشْهَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، ضَامِنٌ لِمَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَالَ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْقَرْضِ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، فَيَكُونُ الرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِعَمَلٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ وَضِيعَةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ اسْتَقْرِضْهُ أَقَرَّ لِلْيَتِيمِ عَلَى نَفْسِهِ بِالضَّمَانِ وَفِي مِقْدَارِ الْوَضِيعَةِ وَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ فَعَمِلَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: دَفَعْتُهُ قَرْضًا لِيَعْمَلَ بِهِ، وَصَدَّقَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَهُوَ يُقِرُّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ قَالَ: مُضَارَبَةً لِلْيَتِيمِ، أَوْ بِضَاعَةً لَهُ وَصَدَّقَهُ الرَّجُلُ وَفِيهِ وَضِيعَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي تَصَادُقِهِمَا انْتِفَاءَ الضَّمَانِ عَنْ الْعَامِلِ، لَا إثْبَاتَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَلِلْوَصِيِّ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَإِنَّهُ يُودِعُ مَالَ الْيَتِيمِ وَيُبْضِعُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهُوَ لِلْيَتِيمِ كُلُّهُ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ الرِّبْحِ بِمِلْكِهِ أَصْلَ الْمَالِ، فَإِقْرَارُ الْوَصِيِّ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِلْعَامِلِ يَكُونُ إقْرَارًا فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَنْ الْوَصِيِّ، وَكُلُّ هَذَا يَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى مَا قَالَ: إنْ كَانَ صَادِقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِمَا، عَالِمٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَأَصْلُهُ فِي الْوَصِيِّ إذَا عُرِفَ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلَكِنْ إنْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي ضَمَّنَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بَيِّنَةٌ عَلَى حَقِّهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 187 [كِتَابُ الْمُزَارَعَةُ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَالِاكْتِسَابُ بِالزِّرَاعَةِ مَشْرُوعٌ، أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ آدَم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِحِنْطَةٍ وَأَمَرَهُ بِالزِّرَاعَةِ، وَازْدَرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجُرْفِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اُطْلُبُوا الرِّزْقَ تَحْتَ خَبَايَا الْأَرْضِ» يَعْنِي: عَمَلَ الزِّرَاعَةِ، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ يُسَمَّى مُزَارَعَةً، وَيُسَمَّى مُخَابَرَةً أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَقِيلَ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ» وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُخَابَرَةً مِنْ تَسْمِيَةِ الْعَرَبِ الزَّارِعَ خَبِيرًا وَقِيلَ: هَذَا الِاشْتِقَاقُ مِنْ مُعَامَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ فَسُمِّيَتْ مُخَابَرَةً بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ، وَبَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بُدِئَ الْكِتَابُ بِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي الْمُطَرِّفِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْيَهُودِ حِينَ عَامَلَهُمْ عَلَى خَيْبَرَ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ» وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْسَلَ الْحَدِيثَ حِينَ لَمْ يُبَيِّنْ اسْمَ الرَّاوِي، وَرَوَاهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَقَدْ عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الشَّطْرِ، وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ اسْتَرَقَّهُمْ وَتَمَلَّكَ أَرَاضِيَهُمْ وَنَخِيلَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَهَا فِي أَيْدِيهِمْ يَعْمَلُونَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ فِي نَخِيلِ مَوَالِيهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِيَتَفَرَّغُوا لِلْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَبْصَرَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 الْمُسْلِمَيْنِ، وَمَا جُعِلَ لَهُمْ مِنْ الشَّرْطِ بِطَرِيقِ النَّفَقَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ مَمَالِيكُ لِلْمُسْلِمِينَ، يَعْمَلُونَ لَهُمْ فِي نَخِيلِهِمْ فَيَسْتَوْجِبُونَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ نَفَقَتَهُمْ فِيمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ نِصْفَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِمْ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضَرِيبَةً عَلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى يُشَارِطُ عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا، وَقَدْ نُقِلَ بَعْضُ هَذَا عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ وَنَخِيلِهِمْ، وَجَعَلَ شَطْرَ الْخَارِجِ عَلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي الْأَرْضِ الْمَمْنُونِ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا إنْ شَاءَ جَعَلَ عَلَيْهَا خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ عَلَيْهَا خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْوُلَاةِ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي رِقَابِهِمْ، أَوْ رِقَابِ أَوْلَادِهِمْ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَمَالِيكِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْلَاهُمْ، وَلَوْ كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَمَا أَجْلَاهُمْ، فَالْمُسْلِمُ إذَا كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ إمْسَاكِهِ وَاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِنَخِيلِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ " وَهَذَا مِنْهُ شِبْهُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَقُّ الْمَقَامِ فِي نَخِيلِهِمْ عَلَى التَّأْيِيدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِجْلَائِهِمْ فَتَحَرَّزَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَالْغَدْرِ وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الْمَنَّ الْمُؤَقَّتَ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ، وَأَنَّ الْغَدْرَ يَنْتَفِي بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ الْخَصْمُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ صَحَّ مِنْهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْغَدْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ: وَإِنَّ بَنِي عُذْرَةَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَجَاءَتْهُ يَهُودُ وَادِي الْقُرَى: شُرَكَاءُ بَنِي عُذْرَةَ بِالْوَادِي فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ وَخَشَوْا أَنْ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَؤُلَاءِ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَأَنَّ الْيَهُودَ بِالْحِجَازِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَقَدْ كَانُوا أَعَزَّ الْيَهُودِ بِالْحِجَازِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِخَيْبَرَ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا صَارُوا مَقْهُورِينَ ذَلَّتْ سَائِرُ الْيَهُودِ، وَانْقَادُوا لِطَلَبِ الصُّلْحِ، فَمِنْهُمْ يَهُودُ وَادِي الْقُرَى جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ أَيْ: انْقَادُوا لَهُ وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، وَخَشَوْا أَنْ يَغْزُوَهُمْ فَكَانَ هَذَا مِنْ النُّصْرَةِ بِالرُّعْبِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» فَلَمَّا أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَالْوَادِي حِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ لِبَنِي عُذْرَةَ، وَنِصْفٌ لِلْيَهُودِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَادِيَ أَثْلَاثًا: ثُلُثًا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَثُلُثًا خَاصَّةً لِبَنِي عُذْرَةَ، وَثُلُثًا لِلْيَهُودِ فَكَانَ هَذَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ بَلَدِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَالْأَرَاضِي إذَا رَضُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ هَمَّ بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ إلَى الشَّامِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ " وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأُخْرِجَنَّ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارُ فَضِيلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضِيلَةِ أُمَّتِهِ، حَيْثُ إنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ مَوْلِدُهُ وَمَنْشَؤُهُ - طَهَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ عَنْ سُكْنَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ فِيهَا - وَهِيَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْحَرَمُ، وَبَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى حَرَمُ اللَّهِ تَعَالَى، نَعَمْ مُشَارَكَةُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمُؤْمِنِ فِي السُّكْنَى فِيهَا إلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُتَمِّمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَفَرَّغْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ كَانَ مَشْغُولًا بِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْلَى الْيَهُودَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَمَرَ يَهُودَ الْوَادِي أَنْ يَتَجَهَّزُوا بِالْجَلَاءِ إلَى الشَّامِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ إنَّمَا جَاءُوا مِنْ الشَّامِ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ مَقْصُودُ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ ذَلِكَ طَلَبَ الْحَنِيفِيَّةِ لِمَا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَعْتِ أُمَّتِهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتَنَعُوا مِنْ مُتَابَعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ الَّذِي دَعَا إلَيْهِ حَسَدًا وَكُفْرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] الْآيَةُ فَجُوزُوا عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ بِأَنْ لَا يُمَكَّنُوا مِنْ الْمُقَامِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَنْ يَعُودُوا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ آبَاؤُهُمْ، فَلِهَذَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِ يَهُودُ الْوَادِي بِقَوْلِهِمْ: إنَّمَا نَحْنُ فِي أَمْوَالِنَا قَدْ أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَاسَمَنَا، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةُ مِنْهُمْ إلَى الْفِرَاقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ خَيْبَرَ قَدْ افْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فَصَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، فَأَمَّا نَحْنُ فَصَالَحَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ الْأَرَاضِي فَأَقَرَّنَا فِي أَمْوَالِنَا عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنَّا خِيَانَةٌ فَلَيْسَ لَك أَنْ تُجْلِيَنَا مِنْ أَرْضِنَا، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَكُمْ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ " يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ، فَلَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ إجْلَائِكُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَهِدَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ، وَإِنِّي مُجْلٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: عَهْدًا خَاصًّا سِوَى ذَلِكَ الصُّلْحِ الْعَامِّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَأَنَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 مُقَوِّمٌ أَمْوَالَكُمْ هَذِهِ فَمُعْطِيكُمْ أَثْمَانَهَا، يَعْنِي بِهَذَا الْإِجْلَاءِ لَا أُبْطِلُ حَقَّكُمْ عَنْ أَمْوَالِكُمْ وَلَا أَتَمَلَّكُهَا عَلَيْكُمْ مَجَّانًا، وَلَكِنِّي أُعْطِيكُمْ قِيمَتَهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِمِلْكِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِمِلْكِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ إيفَاءُ الْعَيْنِ فِي مِلْكِهِ يَجِبُ إزَالَتُهُ بِالْقِيمَةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ تَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَحَسَّ بِالْغَدْرِ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمَيْنِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى، وَأَنَّهُ يُقَوِّمُ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ مَا يَتَعَذَّرُ نَقْلُهُ، فَيُعْطِيهِمْ عِوَضَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى إنْ كَانَتْ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمَيْنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ فَقُوِّمَتْ بِتِسْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ وَأَجْلَاهُمْ وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ: " إنَّا لَنْ نَظْلِمَكُمْ، وَلَنْ نَسْتَأْثِرَ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْتُمْ نِصْفَ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَأَعْطَيْتُكُمْ نِصْفَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ سَلَّمْتُمْ لَنَا الْبَيْعَ فَتَوَلَّيْنَا الَّذِي لَهُمْ " وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ، فَقَدْ كَانَتْ بَنُو عُذْرَةَ فِي الْوَادِي شُرَكَاءَ، وَإِنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا اشْتَرَى فَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَى كَمَا لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِيهِ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَالِ بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ لِيُسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّ الْإِشْكَالَ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا الشُّفْعَةَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ، وَالشُّفْعَةُ تُبْطَلُ بِتَرْكِ الطَّلَبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ، فَقِيلَ: هُمْ قَدْ طَلَبُوا الشُّفْعَةَ وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ احْتَشَمُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُجَاهِرُوهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ طَلَبُهُمْ قَالَ مَا قَالَ، وَقِيلَ فَهِمَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ شَرْعِيٌّ، وَأَنَّ لَهُمْ الشُّفْعَةَ بِذَلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبُوا الشُّفْعَةَ، وَقَالُوا: بَلْ نُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي أَعْطَيْتُمْ مِنْ الْمَالِ وَتُقَاسِمُونَا أَمْوَالَهُمْ فَبَاعَتْ بَنُو عُذْرَةَ فِي ذَلِكَ الرَّقِيقَ وَالْإِبِلَ وَالْغَنَمَ حَتَّى دَفَعُوا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ الْوَادِيَ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْإِمَارَةِ وَبَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ، وَذَلِكَ زَمَانَ التَّحْظِيرِ حِينَ حَظَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوَادِيَ نِصْفَيْنِ يَعْنِي: جَمَعَ أَنْصِبَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَانِبٍ، وَأَنْصِبَاءَ بَنِي عُذْرَةَ فِي جَانِبٍ وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي الْعَرَبِ حَتَّى جَعَلُوهُ تَارِيخًا، وَكَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ زَمَانَ التَّحْظِيرِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كُنْت زَمَانَ التَّحْظِيرِ ابْنَ كَذَا سَنَةٍ كَمَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا إذَا حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ فِي النَّاسِ يُجْعَلُ التَّارِيخُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْوَبَاءِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ أَعْطَاهُمْ النَّخْلَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا وَيُقَاسِمَهُمْ نِصْفَ الثِّمَارِ، وَكَانَ يَبْعَثُ لِقِسْمَةِ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ: إنْ شِئْتُمْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا» وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ حُكْمَيْنِ: حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَحُكْمُ الْخَرْصِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي يَكُونُ لِلْإِمَامِ خَرَاجُهَا خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ، وَفِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَخْرُصُ الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ عَلَى أَرْبَابِهَا، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا الْخَرْصُ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ، حَتَّى إذَا ادَّعَوْا النُّقْصَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَنَا هَذَا الْخَرْصُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْرُصُ إنَّمَا يَقُولُ شَيْئًا بِظَنٍّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى النُّقْصَانِ، وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْعَ الْعَرَايَا وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ مَجْدُودٍ عَلَى الْأَرْضِ خَرْصًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَقَالَ: الْخَرْصُ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ، وَلَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا: الْخَرْصُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ تَظْهَرُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فَيَكُونُ هَذَا بَيْعَ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ مُجَازَفَةً. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»، وَتَأْوِيلُ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ حَتَّى يَتَحَرَّزَ الْيَهُودُ مِنْ كِتْمَانِ شَيْءٍ، فَقَدْ كَانُوا فِي عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُونَ مِمَّا يَقْدِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ كَانَ ابْنُ رَوَاحَةَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ حَتَّى كَانَ خَرْصُهُ بِمَنْزِلَةِ كَيْلِ غَيْرِهِ لَا يَتَفَاوَتُ، قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، أَوْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِكَوْنِهِ مَبْعُوثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِيمَا رَوَاهُ بَعْدَ هَذَا، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا " أَيْ: إنْ شِئْتُمْ أَخَذْتُمْ مَا خَرَصْت وَأَعْطَيْتُمُونَا نِصْفَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخَذْنَا ذَلِكَ وَأَعْطَيْنَاكُمْ نِصْفَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، فَهَذَا مِنْهُ بَيَانٌ، أَنَّهُ عَدَلَ فِي الْخَرْصِ وَلَمْ يَمِلْ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا قَصَدَ الْحَيْفَ عَلَى الْيَهُودِ، وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ خَيْبَرَ إلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ الثِّمَارُ كَانَ لَهُمْ النِّصْفُ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ، فَبَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ الْحَدِيثِ، وَفِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَرَاضِيِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ نِصْفَ الْخَارِجِ بِطَرِيقِ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ، وَعَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ فَالنِّصْفِ فَقَالَ: أُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَهْلُوهُمْ إلَى يَوْمِهِمْ هَذَا يَفْعَلُونَهُ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 6 اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ، فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَجَوَازِهَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُعَامَلَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ خَيْبَرَ فِي النَّخِيلِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ بِخَيْبَرَ نَخِيلٌ وَمَزَارِعُ، فَقَدْ كَانَ عَقْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَقْدَ مُزَارَعَةٍ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ قَالَ لِلْيَهُودِ: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ» وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهُمْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الصُّلْحِ، وَقَدْ يَجُوزُ مِنْ الْإِمَامِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ بَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقِ الصُّلْحِ، مَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَضْعُفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِمُعَامَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلُ هِدَايَةِ ابْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَابِ الْخَرْصِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ نَخْلٍ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَصَابَ فِي الْخَرْصِ حِينَ رَغِبُوا فِي أَخْذِ ذَلِكَ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا لَك وَخَفِّفْ عَنَّا وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسَمِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إنَّكُمْ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، أَمَّا الَّذِي عَرَضْتُمْ مِنْ الرِّشْوَةِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ» وَإِنَّمَا طَلَبُوا مِنْ ابْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ الْمَيْلِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ وَتَرْكِ بَيَانِ الْحَقِّ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّهُمْ كَتَمُوا بَعْثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْثَ أُمَّتِهِ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وَمَا طَلَبُوا مِنْهُ التَّخْفِيفَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ وَخِيَانَةٍ، فَقَدْ كَانَ ابْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِمْ وَبِهِ كَانَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِلْخَرَّاصِينَ: خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَارِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ» ثُمَّ إنَّهُ قَطَعَ طَمَعَهُمْ بِمَا قَالَ: " إنَّكُمْ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيَّ " وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ فِي بُغْضِ الْيَهُودِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُمْ فِي عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا خَلَا يَهُودِيٌّ بِمُسْلِمٍ إلَّا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِقَتْلِهِ» وَكَانَ شَكْوَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ وَقْتٍ حَتَّى قَالَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 7 : «لَوْ آمَنَ بِي اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ آمَنَ بِي كُلُّ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبُغْضَ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيْفِ وَالظُّلْمِ عَلَيْهِمْ، فَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ مَا عَرَضُوا مِنْ الرِّشْوَةِ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهِمْ؟، وَقَالَ: " أَمَّا الَّذِي عَرَضْتُمْ مِنْ الرِّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ يَعْنِي تَنَاوُلَ السُّحْتِ مِنْ مُعَامِلِيكُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] وَالسُّحْتُ هُوَ الْحَرَامُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِئْصَالِ، مَأْخُوذٌ مِنْ السُّحْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} [طه: 61] أَيْ يَسْتَأْصِلَكُمْ فَقَالُوا بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، يَعْنِي: مَا يَقُولُهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَمْتِعَةَ النَّسَاءِ وَحُلِيَّهُنَّ لَمْ تَزَلْ عُرْضَةً لِحَوَائِجِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ تَحَكَّمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ فَجَمَعُوا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ يَسَارٍ فَسَأَلَهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهَا لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَأَبَتْ فَقَالَ: لَا تَكُونِي أَكْفَرَ مِنْ نِسَاءِ خَيْبَرَ كُنَّ يُوَاسِينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِحُلِيِّهِنَّ وَأَنْتِ تَأْبَيْنَ ذَلِكَ «، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ: بَعَثَنِي إلَيْكُمْ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَلَأَنْتُمْ عَلَيَّ أَهْوَنُ مِنْ الْخَنَازِيرِ، وَلَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ هَكَذَا» يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ نَالَ الْعِزَّ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] يَعْنِي بِمُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَصْدِيقِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَنْزِلَةِ أَيْضًا، فَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَنَازِيرِ فِيمَا أَظْهَرُوا مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدًا وَتَعَنُّتًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مُسِخَ مِنْهُمْ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَسَمِعَ مِنْ بَعْضِ سُفَهَائِهِمْ شَتِيمَةً فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَتَشْتُمُونَنِي يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ " فَقَالُوا: " مَا كُنْت فَحَّاشًا يَا أَبَا الْقَاسِمِ " قَالَ: " وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ " فَقَالُوا: " بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ " أَيْ: بِالْحَقِّ وَمُخَالَفَتِهِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: " قَدْ خَرَصْت عَلَيْكُمْ نَخِيلَكُمْ " فَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ النَّخِيلَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، وَأَنَّ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فَإِنْ شِئْتُمْ فَخُذُوهُ وَلِي عِنْدَكُمْ الشَّطْرُ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخَذْته، وَلَكُمْ عِنْدِي الشَّطْرُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 8 فَخُذُوهُ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهِ مَنَافِعُ فَأَخَذُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ فَضْلًا قَلِيلًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حَذَاقَتِهِ فِي بَابِ الْخَرْصِ، وَأَنَّ خَرْصَهُ بِمَنْزِلَةِ كَيْلِ غَيْرِهِ حِينَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْفَضْلُ الْيَسِيرُ، وَإِنَّمَا تَجَوَّزَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَمَرَهُ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ، وَلَمْ يَتْرُكْ النَّصِيحَةَ لَهُمْ فِي الْأَخْذِ مَعَ شِدَّةِ بُغْضِهِ إيَّاهُمْ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ النَّصِيحَةَ لِأَحَدٍ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ عَدُوٍّ إذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيحَتَهُ بِحَقِّ الدَّيْنِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ وَقَالَ: لَكُمْ السَّوَاقِطُ» قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ السَّوَاقِطِ مَا يُكْسَرُ مِنْ الْأَغْصَانِ مِنْ النَّخِيلِ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَقَطَ مِنْ الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُمْكِنْ ادِّخَارُهُ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ فَشُرِطَ ذَلِكَ لَهُمْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُجْعَلُ عَفْوًا فِي حَقِّ الْمُزَارِعِ وَالْمُعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّحَرُّزُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ مِائَةَ وَسْقٍ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: أَشْطَطْتُمْ عَلَيْنَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَحْنُ نَأْخُذُهُ وَنُعْطِيكُمْ خَمْسِينَ وَسْقًا فَقَالَتْ: بِهَذَا تُنْصَرُونَ وَقَوْلُهُ: أَشْطَطْتُمْ عَلَيْنَا أَيْ: ظَلَمْتُمُونَا وَزِدْتُمْ فِي الْخَرْصِ»، وَالشَّطَطُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ»، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ الْكَذِبُ، وَقَوْلُ الزُّورِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَنُّتَهُمْ بِمَا قَالَ: إنَّا نَأْخُذُهُ وَنُعْطِيكُمْ خَمْسِينَ وَسْقًا فَقَالُوا بِهَذَا تُنْصَرُونَ أَيْ: بِالْعَدْلِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الظُّلْمِ، فَالنَّصْرُ مَوْعُودٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَادِلِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] يَعْنِي إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَدْلِ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَا بَأْسَ بِالْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ " وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فِي جَوَازِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَكَانَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَهُمْ وَاشْتَبَهَتْ فِيهَا الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا نُقِلَ مِنْ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ بَيَانَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْيَمَنَ وَنَحْنُ نُعْطِي أَرَاضِيَنَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَفِيهِ بَيَانٌ: أَنَّ تَرْكَ التَّكَثُّرِ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 9 دَلِيلُ التَّقْرِيرِ، فَقَدْ كَانَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَعَيَّنًا لِلْبَيَانِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ إلَيْهِمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الْأَحْكَامَ، وَاسْتَدَلَّ بِتَرْكِ التَّكَثُّرِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا اُشْتُهِرَ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمْضَى ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْفَتْوَى بِالْجَوَازِ وَعَنْ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُخَابَرَةِ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: " خَابِرُوا عَلَى الشَّطْرِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَلَا تُخَابِرُوا عَلَى كَيْلٍ مَعْلُومٍ " فَكَأَنَّ طَاوُسًا تَعَلَّمَ مِنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى كَيْلٍ مَعْلُومٍ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا لَا تَجُوزُ، وَبِهِ يَأْخُذُ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: أَقْطَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَالزُّبَيْرَ، وَخَبَّابًا وَرَأَيْت هَذَيْنِ يُعْطِيَانِ أَرْضَهُمَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَعَبْدَ اللَّهِ وَسَعْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ مُفَسَّرًا بَعْدَ هَذَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَكَانَا يُبَاشِرَانِ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ: أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْإِقْطَاعِ فِيمَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى، كَمَا يَفْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: إنَّا كُنَّا لَنُزَارِعُ عَلَى عَهْدِ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَمَا يَعِيبَانِ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَهُمَا مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفَتْوَاهُمَا فِي ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ فَتْوَى عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حُجَّةٌ أَيْضًا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعِ بْن خَدِيجٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا إلَى قَوْمٍ يَطْمِسُ عَلَيْهِمْ نَخْلًا فَجَاءَ أَرْبَابُ النَّخِيلِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فُلَانًا قَدْ طَمَسَ عَلَيْنَا نَخْلَنَا فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ بَعَثْت رَجُلًا فِي نَفْسِي أَمِينًا فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا نَصِيبَكُمْ بِمَا طَمَسَ، وَإِلَّا أَخَذْنَا وَأَعْطَيْنَاكُمْ نَصِيبَكُمْ فَقَالُوا: هَذَا الْحَقُّ وَبِالْحَقِّ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْمُرَادُ بِالطَّمْسِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ " الْحَزْرُ " وَالْمَذْكُورُ ثَانِيًا " الظُّلْمُ " فَالطَّمْسُ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَمِنْهُ يُقَالُ عَيْنٌ مَطْمُوسَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {. فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] وَكَانَ الْحَدِيثُ فِي ابْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَهْلِ خَيْبَرَ وَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَعَثْت رَجُلًا فِي نَفْسِي أَمِينًا " فِي مَعْنَى الرَّدِّ لِتَعَنُّتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ لِعَمَلِهِ مَنْ هُوَ أَمِينٌ عِنْدَهُ، ثُمَّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ وَلَا يَرُدُّهُ لِطَعْنِ الطَّاعِنِينَ، فَالْقَائِلُ بِحَقٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَطْعَنَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَالنَّاسُ أَطْوَارٌ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ تَعَنُّتُهُمْ لَمَّا خَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 23 ¦ الصفحة: 10 فَقَالُوا: " هَذَا الْحَقُّ وَبِالْحَقِّ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ " وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، وَعَنْ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُكْرِي الْأَرْضَ الْجُرُزَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَكَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِمَّنْ يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يُجَوِّزُهَا «وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ عُمُومَتِك فِي كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ: دَخَلَ عُمُومَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ خَرَجُوا إلَيْنَا فَأَخْبَرُونَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ كُنْت أَعْلَمُ إنَّا كُنَّا نُكُرِي الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ مَاءً فِي الرَّبِيعِ السَّاقِي الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الدَّيْنِ قَالَ: لَا أَدْرِي كَمْ هُوَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا عِنْدَنَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَهَا بِشَيْءٍ لَا يَدْرُونَ كَمْ هُوَ وَلَا مَا يُخْرِجُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ النَّهْيَ الْعَامَّ يَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَيَّدَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّهْيَ الْمُطْلَقَ بِمَا عُرِفَ مِنْ السَّبَبِ وَالْخُصُوصِيَّةِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ النَّهْيِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهَا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ الْخَارِجُ فِي الْجَانِبِ الَّذِي شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالرَّبِيعُ السَّاقِي الْمَاءَ وَهُوَ مَاءُ السَّيْلِ يَنْحَدِرُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ فَيَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ، يَسْقِي مِنْهُ الْأَرْضَ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِعُمُومِ النَّهْيِ بِحَدِيثَيْنِ رُوِيَا فِي الْبَابِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِحَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ لِمَنْ هَذَا فَقَالَ رَافِعٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِي اسْتَأْجَرْته فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقُلْت إنَّا نُكْرِيهَا بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ السَّاقِي فَقَالَ لَا فَقُلْت إنَّا نَكْرِيهَا بِالتِّبْنِ فَقَالَ: لَا فَقُلْت إنَّا نُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاك»، وَهَذَا إنْ ثَبَتَ فَهُوَ نَصٌّ وَكَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَهَا، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ الْقَدْرُ الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ أَسَدَ بْنَ ظُهَيْرٍ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا بَنِي خَارِجَةَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 11 قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ مُصِيبَةٌ قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُكْرِيهَا بِمَا يَكُونُ عَلَى الرَّبِيعِ السَّاقِي مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاك» وَإِنَّمَا سَمَّى ذَلِكَ مُصِيبَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُمْ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ، وَكَانُوا قَدْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُهَا، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّأْوِيلَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ مُصِيبَةٍ؛ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِدَفْعِ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الْخَارِجِ، فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاك " يَدُلُّ عَلَى سَدِّ بَابِ الْمُزَارَعَةِ عَلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَعَسِّفَةِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَقْصُودِ الزِّرَاعَةِ، وَلَكِنْ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُهُ لِي اسْتَأْجَرْته دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا آثَارًا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْمُرَادُ هَهُنَا الِانْتِدَابُ إلَى مَا هُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِأَنْ يَمْنَحَ الْأَرْضَ غَيْرَهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ زِرَاعَتِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ أَجْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى نَجْرَانَ فَكَتَبَ إلَيْهِ يَذْكُرُ لَهُ أَرْضَ نَجْرَانَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ مِنْ أَرْضٍ بَيْضَاءَ يَسْقِيهَا السَّمَاءُ، أَوْ تُسْقَى سَحًّا فَادْفَعْهَا إلَيْهِمْ، لَهُمْ الثُّلُثُ وَلَنَا الثُّلُثَانِ وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضٍ تُسْقَى بِالْغُرُوبِ فَادْفَعْهَا إلَيْهِمْ، لَهُمْ الثُّلُثَانِ وَلَنَا الثُّلُثُ، وَمَا كَانَ مِنْ كَرْمٍ يَسْقِيهِ السَّمَاءُ أَوْ يُسْقَى سَحًّا فَادْفَعْهُ إلَيْهِمْ لَهُمْ الثُّلُثُ، وَلَنَا الثُّلُثَانِ، وَمَا كَانَ يُسْقَى بِالْغُرُوبِ فَادْفَعْهُ إلَيْهِمْ، لَهُمْ الثُّلُثَانِ وَلَنَا الثُّلُثُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرَاضِيِ الَّتِي هِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ مُزَارَعَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فَاوَتَ فِي نَصِيبِهِمْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ عَمَلِهِمْ بَيْنَ مَا تَسْقِيهَا السَّمَاءُ، أَوْ تُسْقَى بِالْغُرُوبِ وَهِيَ الدَّوَالِي، فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ يُجَوِّزُ الْمُزَارَعَةَ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْت لِطَاوُسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَعْلَمُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: يَمْنَحُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ خَرْجًا مَعْلُومًا، أَوْ قَالَ خَرَاجًا مَعْلُومًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " أَعْلَمُهُمْ " (مُعَاذٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» أَوْ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي مُعَلِّمِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ أَقْرَانِهِ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ، ثُمَّ قَدْ دَعَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ وَالِاخْتِلَافِ فَأَبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ الْجَوَازَ كَمَا تَعَلَّمَهُ مِنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 12 أُسْتَاذِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُبَاشَرَةِ مَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ تَرْكًا لِلِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: " يَمْنَحُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ " إشَارَةً إلَى الِانْتِدَابِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمْ يَنْهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا حَتَّى تَظَالَمُوا كَانَ الرَّجُلُ يُكْرِي أَرْضَهُ وَيَشْتَرِطُ مَا يَسْقِيهِ الرَّبِيعُ وَالنُّطَفَ فَلَمَّا تَظَالَمُوا نَهَى عَنْهَا، وَالنُّطَفُ جَوَانِبُ الْأَرْضِ» فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَنَّ النَّهْيَ كَانَ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْخُصُومَةِ، فَكَانَ تَقْيِيدًا بِهَا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا فَتَرَكْنَا مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ يَعْنِي: مِنْ أَجْلِ رِوَايَتِهِ وَابْنُ عُمَرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْجَوَازَ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَهَا لِحَيْثِيَّةِ مُطْلَقِ النَّهْيِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَمْ مِنْ حَلَالٍ يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ عَلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْجَوَازَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ مَحْضَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَكْثَرَ رَافِعٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى نَفْسِهِ لِيُكْرِيَهَا كِرَاءَ الْإِبِلِ مَعْنَاهُ: شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِرِوَايَتِهِ النَّهْيَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ رُجُوعِهِ إلَى سَبَبِ النَّهْيِ، وَلِأَجْلِ رِوَايَتِهِ يَتْرُكُ الْمُزَارَعَةَ وَيُكْرِي الْأَرْضَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كِرَاءَ الْإِبِلِ، فَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ فِي الْأَرَاضِي لِمَقْصُودِ الزِّرَاعَةِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَكْرَى الْأَرْضَ اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ لَا يُدْخِلَهَا كَلْبًا، وَلَا يَعْذِرَهَا وَهَذَا مِنْ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي اخْتَارَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الْكَلْبِ الْأَرْضَ لِحِفْظِ الزَّرْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي ثَمَنِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَقَوْلُهُ: " لَا يَعْذِرَهَا " أَيْ: لَا يُلْقِي فِيهَا الْعَذِرَةَ وَهُوَ مَا يَنْفَصِلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ، فَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَنْهَى عَنْ إلْقَاءِ الْعَذِرَةِ فِي الْأَرْضِ وَعَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَعَاتَبَهُ إنْسَانٌ عَلَى ذَلِكَ فَجَعَلَ يَقُولُ: مَكِيلُ بُرٍّ بِمَكِيلِ بُرٍّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَجُوزُ إلْقَاؤُهَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالتُّرَابِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا مَخْلُوطًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ إذَا صَارَ مَغْلُوبًا بِالتُّرَابِ فَحِينَئِذٍ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 13 يَجُوزُ إلْقَاؤُهَا فِي الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوطَةٍ بِالتُّرَابِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلَا اسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَرْضِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِاحْتِرَامِ بَنِي آدَمَ فَبَيْعُ السِّرْقِينِ، وَإِلْقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ جَائِزٌ وَلَكِنْ لِاحْتِرَامِ بَنِي آدَمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الرَّجِيعِ وَهُوَ كَالشَّعْرِ فَإِنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ مَا بَانَ عَنْهُ، بِخِلَافِ شَعْرِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَصُوفِهَا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَلْقَاهَا فِي الْأَرْضِ وَخَلَطَهَا بِالْأَرْضِ، وَصَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً فِيهَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا غَيْرَ مَخْلُوطَةٍ بِالتُّرَابِ، وَعَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَرَفَعَ طَاوُسٍ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدْرَهُ ثُمَّ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْيَمَنَ وَكَانَ يُعْطِي الْأَرْضَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِهِ إلَى الْيَوْمِ، وَمَعْنَى مَا قَالَهُ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ النَّهْيُ الَّذِي رَوَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَقَدْ كَانَ يُبَاشِرُ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَنَحْنُ نَتَبَرَّمُ فِي ذَلِكَ وَنَحْمِلُ النَّهْيَ عَلَى مَا حَمَلَهُ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ كَانَ دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا وَفَّقَهُ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ أَعْطَانِي أَرْضَهُ بِالنِّصْفِ فَزَرَعْتهَا بِبَذْرِي وَبَقَرِي، ثُمَّ قَاسَمْته فَقَالَ: حَسَنٌ وَفِيهِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ يُفْتِي بِمَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْجَوَازَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاشِرُهُ فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَرَكَ الْمُزَارَعَةَ لِأَجْلِ النَّهْيِ، ثُمَّ أَفْتَى بِحُسْنِهَا وَجَوَازِهَا لِلسَّائِلِ وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ فَقَالَ يَا أُمَّ مُبَشِّرٍ مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ؟ قَالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلَ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا سَبُعٌ وَلَا طَيْرٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ يَعْنِي الطُّيُورَ الْخَارِجَةَ عَنْ أَوْكَارِهَا، الطَّالِبَةَ لِأَرْزَاقِهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى الِاكْتِسَابِ بِطَرِيقِ الزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسَةِ وَلِهَذَا قَدَّمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الزِّرَاعَةَ عَلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ صَدَقَةً، وَقَدْ بَاشَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ ازْدَرَعَ بِالْجُرْفِ، وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَكْرَهُ مِنْ الْمُتَعَسِّفَةِ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ وَقَالُوا: إنَّهُ يَرْكَنُ بِهِ إلَى الدُّنْيَا وَيُنْتَقَصُ بِقَدْرِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى، وَهَذَا غَلَطٌ ظَنُّوهُ فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهَذَا الِاكْتِسَابِ إلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 14 وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِعْمَ مَطِيَّةُ الْمُؤْمِنِ الدُّنْيَا إلَى الْآخِرَةِ: الْغَرْسُ، وَالْبِنَاءُ» وَإِنْ كَانَ حَسَنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ إذَا بَاشَرَهُ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَابَةِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْغَرْسِ، وَلَكِنْ قَدْ وَرَدَ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَأْثُرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي» فَلِهَذَا قُلْنَا هَذَا الْفِعْلُ حَسَنٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِكِرَاءِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَعَنْ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ بِطَعَامٍ مُسَمًّى، وَقَالَ هَلْ ذَلِكَ إلَّا مِثْلُ دَارٍ أَوْ بَيْتٍ؟، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ إجَارَةُ الْأَرْضِ بِالطَّعَامِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَأْجِرُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَرْضُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ، وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ الِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ هِيَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَهَذَا يَنْعَدِمُ فِي الِاسْتِئْجَارِ بِطَعَامٍ مُسَمًّى، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي هَذَا نَوْعُ رِفْقٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ لِلزِّرَاعَةِ فَأَدَاءُ الطَّعَامِ أُجْرَةً أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ الدَّرَاهِمِ؛ لِقِلَّةِ النُّقُودِ فِي أَيْدِي الدَّهَاقِينِ، وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ»، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ مَجْدُودٍ عَلَى الْأَرْضِ خَرْصًا فَالنَّهْيُ عَنْهَا حُجَّةٌ لَنَا فِي إفْسَادِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَالْمُحَاقَلَةُ قِيلَ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ الْحَقْلَةُ تُنْبِتُ الْحَقْلَةَ أَيْ: الْحِنْطَةُ تُنْبِتُ السُّنْبُلَةَ وَقِيلَ الْمُحَاقَلَةُ الْمُزَارَعَةُ وَهَذَا أَظْهَرُ فَقَدْ فَسَّرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: " إنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ " فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ، وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ يَسْتَكْرِيَ أَحَدُكُمْ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَامًا بِعَامٍ يَعْنِي: أَبْعَدَهَا عَنْ الْمُنَازَعَةِ، وَالْجَهَالَةِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْأَمْثَلَ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ وَالصِّحَّةِ وَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ شُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ.، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ «اشْتَرَكَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمْ: مِنْ عِنْدِي الْبَذْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: مِنْ عِنْدِي الْعَمَلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: مِنْ عِنْدِي الْفَدَّانُ. وَقَالَ الْآخَرُ: مِنْ عِنْدِي الْأَرْضُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 15 فَقَضَى فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ، وَأَلْحَقَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَأَلْغَى الْأَرْضَ» وَبِهَذَا يَأْخُذُ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُزَارَعَةَ فَيَقُولُ: الْمُزَارَعَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاسِدَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْفَدَّانِ وَهِيَ الْبَقَرُ وَآلَاتُ الزِّرَاعَةِ عَلَى أَحَدِهِمْ مَقْصُودًا بِهِ وَبِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً عَلَى الِانْفِرَادِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَا بَذَرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَقَهُ بِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَأَلْغَى الْأَرْضَ يَعْنِي: لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْخَارِجِ شَيْئًا، إلَّا أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ، بَلْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَصَاحِبِ الْفَدَّانِ، وَقَدْ أَعْطَاهُ أَجْرًا مُسَمًّى، وَالْمُرَادُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَصَاحِبِ الْعَمَلِ فَقَدْ أَعْطَاهُ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَجْرَ مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ سَلَّمَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مَنْفَعَةَ الْفَدَّانِ، وَالْعَامِلُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِلْغَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ، فَكَانَ الطَّحَاوِيُّ لَا يُصَحِّحُ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ: " الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ " أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي الْمُشْكِلِ وَقَالَ: الْبَذْرُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا؛ لِأَنَّ النَّبَاتَ يَحْصُلُ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ النَّابِتُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَجَعْلُ الْأَرْضِ كَالْأُمِّ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ الْوَلَدُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأُمِّ لَا لِصَاحِبِ الْفَحْلِ، وَلَكِنْ هَذَا وَهْمٌ مِنْهُ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَكُلُّ قِيَاسٍ بِمُقَابَلَتِهِ مَتْرُوكٌ، ثُمَّ فِي الْحَيَوَانَاتِ تُوجَدُ الْحَضَانَةُ مِنْ الْأُمِّ لِمَاءِ الْفَحْلِ فِي رَحِمِهَا، وَفِي حِجْرِهَا بِلَبَنِهَا نُمُوُّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلِهَذَا جُعِلَتْ تَابِعَةً لِلْأُمِّ فِي الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ الْخَارِجُ نَمَاءُ الْبَذْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ وَقُوَّةِ الْأَرْضِ، وَيَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ جِنْسُ الْخَارِجِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْبَذْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَكُونُ نَمَاءَ الْبَذْرِ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُزَارَعَةٍ فَاسِدَةٍ أَنَّ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ إنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأُجَرَائِهِ أَوْ بِغِلْمَانِهِ، أَوْ بِقَوْمٍ اسْتَعَانَ بِهِمْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، قَوْلُ جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَهُمَا الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ هُنَا كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ صَاحِبُ الْبَذْرِ يُؤْمَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْخَارِجِ فَيَدْفَعَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَذَرَ وَمِقْدَارَ مَا غَرِمَ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ وَلِصَاحِبِ الْبَقَرِ فَيَطِيبَ لَهُ ذَلِكَ بِمَا غَرِمَ فِيهِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِتَمَكُّنِ الْحِنْثِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 16 أَنَّهُ مَتَى رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ، وَإِنْ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [بَابُ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فِي النِّصْفِ وَالثُّلُثِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ فَاسِدَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى هُمَا جَائِزَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُعَامَلَةُ فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ، وَالْأَشْجَارِ صَحِيحَةٌ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ مُسَاقَاةً، وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْكَرْمَ مُعَامَلَةً، وَفِيهِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ بِالنِّصْفِ أَيْضًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْأَخْبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُمَا يَقُولَانِ: الْمُزَارَعَةُ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُعَامَلَةُ كَذَلِكَ فَتَصِحُّ كَالْمُضَارَبَةِ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّبْحَ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِالْمَالِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا فَتَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَمَلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُمَا بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَبَذْرٍ وَأَرْضٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، أَوْ نَخِيلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ أَنَّ الْغَاصِبَ لِلْبَذْرِ أَوْ الْأَرْضِ إذَا زَرَعَ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ وَجُعِلَ الزَّرْعُ حَاصِلًا بِعَمَلِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَاحِبُ الْمَالِ قَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لَا يَجِدُ مَالًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، فَيَجُوزُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا، فَكَذَلِكَ هُنَا صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ قَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ وَالْعَامِلُ لَا يَجِدُ أَرْضًا وَبَذْرًا لِيَعْمَلَ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً فِي الْخَارِجِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا، وَفِي هَذَا الْعَقْدِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَيَجُوزُ بِالْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَاهُ كَالِاسْتِبْضَاعِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُعَامَلَةَ وَلَمْ يُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ فِي الْمُعَامَلَةِ الشَّرِكَةَ فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ وَهُوَ النَّخِيلُ، كَمَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَ الشَّرِكَةَ فِي الْفَضْلِ دُونَ أَصْلِ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا دَفْعَ الْبَذْرِ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، فَجَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ مَقْصُودًا لِهَذَا وَلَمْ نُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ إلَّا تَبَعًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي ضِمْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الشَّيْءِ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 17 كَالْوَقْفِ فِي الْمَنْقُولِ، وَبَيْعِ الشُّرْبِ وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ دَفْعِ الْغَنَمِ مُعَامَلَةً بِنِصْفِ الْأَوْلَادِ أَوْ الْأَلْبَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الزَّوَائِدَ تَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِ الرَّاعِي وَالْحَافِظِ فِيهَا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الزِّيَادَةُ بِالْعَلْفِ وَالسَّقْيِ، وَالْحَيَوَانُ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَيْسَ لِعَمَلِ الْعَامِلِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِي عَامَّةِ الْبُلْدَانِ أَيْضًا، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ الْغَاصِبُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الزَّوَائِدِ، فَأَمَّا هُنَا فَلِعَمَلِ الزَّارِعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ لِعَمَلِ الْعَامِلِ مِنْ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ تَأْثِيرٌ فِي جَوْدَةِ الثِّمَارِ؛ لِأَنَّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْحَشَفِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ وَلَمْ نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ فِي الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَدُودِ الْقَزِّ وَالدِّيبَاجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ فِي وُجُودِهَا خَطَرٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ، وَالِاسْتِئْجَارُ بِمَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الْإِجَارَةِ بِالْخَطَرِ، وَالِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، ثُمَّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ يَكُونُ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ سَنَدُهُ الْأَثَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَبَيَانُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِمَا سَمَّى لِصَاحِبِهَا مِنْ الْخَارِجِ، وَفِي حُصُولِ الْخَارِجِ خَطَرٌ وَمِقْدَارُهُ مَجْهُولٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا إجَارَةً لَا شَرِكَةً أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَالِ، وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا اللُّزُومُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَاشْتِرَاطُ بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِإِعْلَامِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنَا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ " وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ " وَكَمَا وُجِدَ الْعُرْفُ هُنَا فَقَدْ وُجِدَ الْعُرْفُ فِي دَفْعِ الدَّجَاجِ مُعَامَلَةً بِالشَّرِكَةِ فِي الْبَيْضِ، وَالْفُرُوجِ، وَفِي دَفْعِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مُعَامَلَةً لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ وَالسُّمُونِ وَفِي دَفْعِ دُودِ الْقَزِّ مُعَامَلَةً لِلشَّرِكَةِ فِي الْإِبْرَيْسَمِ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ يُوجَدُ هُنَاكَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْحَاجَةِ فَهُنَا كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ الْعَقْدِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 18 لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْبَذْرِ هُوَ الْعَامِلُ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ نِصْفَ الْخَارِجِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِمَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْعَامِلُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَطِيبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ التَّفْرِيعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ، وَعَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَوْ كَانَ يَرَى جَوَازَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الَّذِي فَرَّعَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَفَرَّعَ عَلَى أُصُولِهِ أَنْ لَوْ كَانَ يَرَى جَوَازَهَا ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا تَسْتَدْعِي شَرَائِطَ سِتَّةً: أَحَدُهَا: التَّوْقِيتُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ بِعِوَضٍ وَالْمَنْفَعَةُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَانَتْ الْمُدَّةُ مِعْيَارًا لِلْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ بِالتَّصَرُّفِ الْمَالَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ اللُّزُومِ، كَذَلِكَ الْعَقْدُ وَهُنَا الْبَذْرُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ، فَبِنَا حَاجَةٌ إلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ عِلْمِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ مِنْ الْبَذْرِ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ، فَإِنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ هُوَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ جِهَتِهِ تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ جِنْسِ الْأُجْرَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَمَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَصِحُّ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْعَقْدِ شَرْطًا. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، حَتَّى إذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ مَا تَنْعَدِمُ بِهِ التَّخْلِيَةُ وَهُوَ عَمَلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ الْعَامِلِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ. وَالسَّادِسُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَ حُصُولِهِ حَتَّى إنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَآلَاتُ الْعَمَلِ كُلِّهِ مِنْ الْآخَرِ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّ، فَكَذَا إذَا أَسْتَأْجَرَهَا بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْ الْخَارِجِ شَائِعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْآلَاتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ مِنْ الْآخَرِ فَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 19 لِيَعْمَلَ بِآلَاتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ صَاحِبِ الثَّوْبِ، أَوْ طَيَّانًا لِيَجْعَلَ الطِّينَ بِآلَةِ صَاحِبِ الْعَمَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْبَقَرُ وَالْآلَاتُ مِنْ الْعَامِلِ وَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَعْمَلَ بِآلَاتِ نَفْسِهِ وَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ، أَوْ قَصَّارًا لِيُقَصِّرَ الثَّوْبَ بِآلَاتِ نَفْسِهِ، أَوْ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ الثَّوْبَ بِصَبْغٍ لَهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ وَالْآلَاتِ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْعَمَلِ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ نَابِعًا لِعَمَلِ الْعَامِلِ فِي جَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِ بِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرُ مِنْ قِبَلِ رَبّ الْأَرْضِ وَهَذَا فَاسِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ، وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مَقْصُودًا لَا يَجُوزُ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قُوَّةٌ فِي طَبْعِهَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ، وَمَنْفَعَةُ الْبَقَرِ يُقَامُ بِهِ الْعَمَلُ، فَلِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْبَقَرِ تَبَعًا لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ مَقْصُودًا بِالْمُزَارَعَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَقَرُ مَشْرُوطًا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ فِي اشْتِرَاكِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا النَّوْعَ جَائِزٌ أَيْضًا لِلْعُرْفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ مَعَ الْبَذْرِ مَشْرُوطًا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ بِدُونِ الْأَرْضِ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ، كَمَا فِي جَانِبِ الْعَامِلِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مَعَ الْبَقَرِ مَشْرُوطًا عَلَى الْعَامِلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ بِدُونِ الْبَذْرِ، ثُمَّ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ إنْ حَصَلَ الْخَارِجُ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَئِنْ كَانَ إجَارَةً فَالْأُجْرَةُ يَتَعَيَّنُ مَحِلُّهَا بِتَعْيِينِهَا وَهُوَ الْخَارِجُ وَمَعَ انْعِدَامِ الْمَحِلِّ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَهَكَذَا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ. فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْغَيْرُ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يُوجَدْ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ وَبَقَرِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَرْضِهِ وَبَقَرِهِ أَنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ أَجْرَ مِثْلِ الْأَرْضِ مَكْرُوبَةً، فَأَمَّا الْبَقَرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا، وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ بِدُونِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فَالْمَانِعُ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ، وَمَنَافِعُ الْبَقَرِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 20 عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بِصِفَةِ الْفَسَادِ، وَيَجِبُ أَجْرُ مِثْلِهَا كَمَا يَجِبُ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْبَقَرِ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا فَسَدَ بَعْضُهُ فَسَدَ كُلُّهُ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ يَفْسُدُ فِي حِصَّةِ الْبَقَرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَقَرِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ أَصْلًا، وَحِصَّةُ الْأَرْضِ مِنْ الْمَشْرُوطِ مَجْهُولٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الصُّلْحِ إذَا صُولِحَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ عَلَى شَيْءٍ فِي التَّرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ فَأَجْرُ الْمِثْلِ وَاجِبٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْأَجْرِ هُنَا الذِّمَّةُ دُونَ الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ سَوَاءٌ أَحَصَلَ الْخَارِجُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَا يُزَادَ بِأَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ وَبَقَرِهِ عَلَى نِصْفِ الْخَارِجِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى قِيَاسِ الشَّرِكَةِ فِي الِاحْتِطَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَاشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ عِنْدَهُ مَعَ الْعَامِلِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ كَاشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَفِي قَوْلِهِمَا كَذَلِكَ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً إلَى عَامِلَيْنِ، عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْخَارِجِ، حَتَّى إنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْعَمَلَ عَلَى الْعَبْدِ فَفِي قَوْلِهِمَا: الْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ وَلَا عَمَلٍ، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَاشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ ثُلُثَ الْخَارِجِ لِعَبْدِ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُ الْخَارِجِ، وَالْبَاقِي لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِ الْبَقَرِ، وَالْمَشْرُوطُ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ لِعَبْدِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ وَلَمْ يَشْرِطْ عَلَى عَبْدِهِ عَمَلًا فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هَذَا جَائِزٌ وَالْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 21 الْمَشْرُوطَ لِلْعَبْدِ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فَهُوَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَالْعَبْدُ مَدْيُونٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْهُ كَأَجْنَبِيٍّ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ عَمَلَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ الْآخَرِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي آخَرِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَاشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ هُوَ مَعَ الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ وَالْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَا يَكُونُ فَاسِدًا مِنْ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ، وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ مَشْرُوطًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْعَمَلُ وَالْأَرْضُ مَشْرُوطًا عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا فَاسِدٌ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ هَذَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْمُضَارَبَةِ دَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْعَامِل، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ دَفْعُ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَمَلِ. فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَصَاحِبُ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَتَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَارَ الرِّيعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْ قِبَلِ فَسَادِ الْمُزَارَعَةِ، وَالْأَرْضُ لَهُ لَمْ يَتَصَدَّق بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي الْخَارِجِ خُبْثٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ نَمَاءُ الْبَذْرِ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ، وَالْأَرْضُ مِلْكُهُ وَالْبَذْرُ مِلْكُهُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ لَهُ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ خُبْثٌ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ الْخَارِجَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا جَعَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْخَارِجَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ إنَّمَا سَلِمَتْ لَهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا بِمِلْكِهِ رَقَبَةَ الْأَرْضِ فَيَتَصَدَّقُ لِذَلِكَ بِالْفَضْلِ، وَنَعْنِي بِالْفَضْلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ مِنْ الْخَارِجِ مِقْدَارَ بَذْرِهِ وَمَا غَرِمَ فِيهِ مِنْ الْمُؤَنِ وَالْأَجْرِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَامِلَ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ أَجْرَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَا تَتَقَوَّمُ بِدُونِ الْعَقْدِ، وَلَا عَقْدَ عَلَى مَنَافِعِهِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلِهَذَا لَا يَرْفَعُ أَجْرَ مِثْلِ نَفْسِهِ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَقَرِ مِنْ الْخَارِجِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ لِصَاحِبِ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِنَفْسِهِ فَالْمَشْرُوطُ لَهُ كَالْمَشْرُوطِ لِصَاحِبِهِ، وَمَا يُشْتَرَطُ لِلْمَسَاكِينِ لِلْخَارِجِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِمْ أَرْضٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا بَذْرٌ، وَاسْتِحْقَاقُ الْخَارِجِ فِي الْمُزَارَعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُمْ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِمِلْكِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 22 الْبَذْرِ لَا يُشْتَرَطُ، وَالْأُجْرَةُ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مِقْدَارَ مَا شُرِطَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُسَمَّ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَسُمِّيَ مَا لِلْآخَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَذْرِ فَيَسْتَحِقُّ بِمِلْكِهِ الْبَذْرَ، فَلَا يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُهُ بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ سَمَّى نَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا لِلْآخَرِ فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى ذِكْرِهِ وَتَرَكُوا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَمَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَبِدُونِ الشَّرْطِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ الْخَارِجُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَيَانَ أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْآخَرِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ فَكَأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الْبَذْرِ: عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَيْ الْخَارِجِ وَلَك الثُّلُثُ وَإِذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِبَذْرِي فِي أَرْضِي بِنَفْسِك وَبَقَرِك وَأُجَرَائِك فَمَا خَرَجَ فَهُوَ كُلُّهُ لِي جَازَ، وَالْعَامِلُ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ اسْتَعَانَ بِهِ فِي الْعَمَلِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا؛ وَلِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ مَنْفَعَةٌ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا لَمْ يُسَمِّ لَمْ تَتَقَوَّمْ مَنَافِعُهُ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ مُعِيرٌ لِأَرْضِهِ مُقْرِضٌ لِبَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ جَمِيعَ الْخَارِجِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْخَارِجِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِلْكًا لَهُ، وَلِتَمْلِيكِ الْبَذْرِ مِنْهُ هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْهِبَةُ، وَالثَّانِي: الْقَرْضُ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى وَهُوَ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ ثُمَّ الْبَذْرُ عَيْنٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهُ عَنْهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْهِبَةِ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ بِنَفْسِهَا فَلَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَتِهَا وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا كَانَ مُعِيرُ الْأَرْضِ مُقْرِضًا لِلْبَذْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ حَانُوتًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اعْمَلْ بِهَا فِي حَانُوتِي عَلَى أَنْ الرِّبْحَ كُلَّهُ لَك فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقْرِضًا لِلْأَلْفِ مُعِيرًا لِلْحَانُوتِ وَلَوْ قَالَ: ازْرَعْ فِي أَرْضِي كُرًّا مِنْ طَعَامِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك لَمْ يَجُزْ هَذَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ. وَحُكِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ جَمِيعَ الْخَارِجِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمِلْكِ الْبَذْرِ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْبَذْرَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي إلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الْأَرْضِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: " عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِي " مُحْتَمَلٌ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْخَارِجَ لِي عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْخَارِجَ لِي بِحُكْمِ اسْتِقْرَاضِ الْبَذْرِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ بِهِ وَلَا يَثْبُتُ تَمْلِيكُ الْبَذْرِ مِنْهُ بِالْمُحْتَمَلِ فَكَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 23 الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ ابْتَغَى عَنْ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ وَلَوْ قَالَ: ازْرَعْ لِي فِي أَرْضِي كُرًّا مِنْ طَعَامِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِي أَوْ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ نِصْفَيْنِ جَازَ عَلَى مَا قَالَ، وَالْبَذْرُ قَرْضٌ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ازْرَعْ لِي تَنْصِيصٌ عَلَى اسْتِقْرَاضِ الْبَذْرِ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَامِلًا لَهُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَاضِهِ الْبَذْرَ مِنْهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَذْرًا مِثْلَ مَا اسْتَقْرَضَ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَالَ: إنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَهِيَ مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِي فَهُوَ اسْتِعَانَةٌ فِي الْعَمَلِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مُزَارَعَةٌ شُرِطَ فِيهَا الْقَرْضُ إذَا قَالَ: عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَالْمُزَارَعَةُ كَالْإِجَارَةِ تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: الِاسْتِقْرَاضُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُزَارَعَةِ فَهَذَا قَرْضٌ شُرِطَ فِيهِ الْمُزَارَعَةُ، وَالْقَرْضُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالْهِبَةِ وَفِي الْأَصْلِ اسْتَشْهَدَ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ قَالَ أَقْرِضْنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرِ لِي بِهَا كُرًّا مِنْ الطَّعَامِ، ثُمَّ اُبْذُرْهُ فِي أَرْضِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا جَائِزًا؟ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ إلَّا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً وَلَوْ دَفَعَ بَذْرًا إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَفْيُ الْإِشْكَالِ فِي أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الْأَرْضَ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ؟، وَلَكِنَّا نَقُولُ صَارَتْ مَنْفَعَتُهُ وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ حُكْمًا كُلُّهَا مُسَلَّمَةً إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ لِسَلَامَةِ الْخَارِجِ لَهُ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ بِأَمْرِهِ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَصَاحِبُ الْبَذْرِ مُعِينٌ لَهُ فِي الْعَمَلِ مُعِيرٌ لِأَرْضِهِ لِأَنَّهُ مَا شَرَطَ بِإِزَاءِ مَنَافِعِهِ وَمَنَافِعِ أَرْضِهِ عِوَضًا فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنْ قَالَ ازْرَعْهُ لِي فِي أَرْضِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لَك لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ بِجَمِيعِ الْخَارِجِ حِينَ قَالَ: ازْرَعْهُ لِي فِي أَرْضِك، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ وَعَمَلِهِ، وَإِنْ قَالَ ازْرَعْهُ فِي أَرْضِك لِنَفْسِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ازْرَعْهُ لِنَفْسِك تَنْصِيصٌ عَلَى إقْرَاضِ الْبَذْرِ مِنْهُ، ثُمَّ شَرَطَ جَمِيعَ الْخَارِجِ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَمَّا أَقْرَضَهُ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا، وَلَكِنَّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 24 الْقَرْضَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَذْرِ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ، وَيَعْمَلَ فِيهَا مَعَهُ هَذَا الْأَجْنَبِيُّ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُمَا جَائِزٌ، وَثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ اسْتَأْجَرَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ الْعَامِلِ وَلَكِنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ، فَالْمُفْسِدُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ، فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّجُلِ الَّذِي عَمِلَ مَعَهُ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْدَ هَذَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ الرَّجُلُ الْآخَرُ فَبِهَذَا اللَّفْظِ يَصِيرُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فَيَفْسُدُ كُلُّهُ، وَهُنَا قَالَ وَيَعْمَلُ مَعَهُ الرَّجُلُ الْآخَرُ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ لَا لِلشَّرْطِ، فَقَدْ جُعِلَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا مَشْرُوطًا فِيهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبّ الْأَرْضِ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً، وَالْخَارِجُ أَثْلَاثًا كَمَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ اسْتَأْجَرَ عَامِلَيْنِ وَشَرَطَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْخَارِجِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا لِلْمُزَارِعِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ يَزْرَعُهَا هَذِهِ السَّنَةَ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ وَلَمَّا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الَّذِي أَخَذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً: قَدْ بَدَا لِي فِي تَرْكِ زَرْعِ هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَالَ أُرِيدُ أَنْ أَزْرَعَ أَرْضًا أُخْرَى سِوَى هَذِهِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا إجَارَةٌ، وَالْإِجَارَةُ تُنْقَضُ بِالْعُذْرِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَأْجَرَ الْعَيْنَ لِأَجْلِهِ عُذْرٌ لَهُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا لِيَتَّجِرَ فِيهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ تَرْكُ التِّجَارَةِ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ لِيَزْرَعَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ تَرْكُ الزِّرَاعَةِ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ إيَّاهُ بَعْدَ مَا بَدَا لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ الْعَمَلِ إضْرَارٌ بِهِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى مَوْضُوعِهِ بِالْإِبْطَالِ، وَالضَّرَرُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 25 اللَّازِمِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أُرِيدُ أَنْ أَزْرَعَ أَرْضًا أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ وَفِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ إتْلَافُ الْبَذْرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْخَارِجُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْخَارِجُ، وَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ صَاحِبَ الْبَذْرِ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَلْزَمُ إتْلَافُ مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ لَهُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهِ أَرْضًا أُخْرَى غَرَضٌ صَحِيحٌ فَتِلْكَ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ أَوْ يَمْنَحُهُ إيَّاهَا صَاحِبُهَا، أَوْ تَكُونُ أَكْثَرَ رِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُلْزِمَهُ زِرَاعَةَ هَذِهِ الْأَرْضِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ إذَا أَرَادَ زِرَاعَةَ أَرْضٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِيَارِهِ أَرْضًا أُخْرَى لِلزِّرَاعَةِ مَنْفَعَةً لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَا فَائِدَةَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مَعَ امْتِنَاعِهِ مِنْ زِرَاعَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي الْغَلَّةِ، وَالْغَلَّةُ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الزِّرَاعَةِ فَلِهَذَا قُلْنَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ إذَا أَرَادَ تَرْكَ الزِّرَاعَةِ أَصْلًا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ عَنْ إتْلَافِ الْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ أَرْضًا أُخْرَى لَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْأَرْضِ أُجْبِرَ الْعَامِلُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا إنْ أَرَادَ تَرْكَ الزِّرَاعَةِ سَنَتَهُ تِلْكَ أَوْ لَمْ يُرِدْ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا أَجِيرٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْإِيفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِهِ سِوَى مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ إقَامَةَ الْعَمَلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَةِ الْعَمَلِ، كَمَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَمُوجَبُ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ إيَّاهُ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَفِي إلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ إتْلَافُهُ وَإِنْ بَدَا لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ أَنْ يَتْرُكَ الزِّرَاعَةَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي إلْزَامِ الْعَقْدِ إيَّاهُ إتْلَافُ بَذْرِهِ، وَالْبَذْرُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزِمَهُ إتْلَافَهُ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ مَوْهُومٌ عَسَى يَحْصُلُ، وَعَسَى لَا يَحْصُلُ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَ الزَّارِعَ مِنْ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجِّرٌ لِأَرْضِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِإِيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْأَرْضِ، وَقَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ الزِّرَاعَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، وَالْعُذْرُ دَيْنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إلَّا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَإِنْ حُبِسَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا لِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ هُنَا إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 26 مِثْلَ هَذَا عُذْرٌ لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْقَاضِي هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِبَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَوْ دَفَعَ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ بَدَا لِلْعَامِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ أَوْ يُسَافِرَ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ، أَمَّا إذَا بَدَا لَهُ تَرْكُ الْعَمَلِ؛ فَلِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ إقَامَةَ الْعَمَلِ، وَلَا يَلْحَقُهُ سِوَى ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالِامْتِنَاعِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ وَفِيمَا ذَكَرَ هُنَا لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّلُ بِالسَّفَرِ لِيَمْتَنِعَ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَقِيلَ: إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، فَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِيَدِهِ، وَبَعْدَ السَّفَرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَفَرٍ يُبْتَلَى بِهِ فِي الْمُدَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَهُنَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ بِأُجَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ وَغِلْمَانِهِ بَعْدَ السَّفَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَا لِصَاحِبِ النَّخِيلِ أَنْ يَمْنَعَ الْعَامِلَ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَدْفَعَهُ إلَى عَامِلٍ آخَرَ، فَذَلِكَ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ بِخِلَافِ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى إتْلَافِ بَذْرِهِ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَهُنَا رَبُّ النَّخِيلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا مِنْ جَانِبِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي جَانِبِ الْعَامِلِ، وَإِنَّمَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ النَّخْلِ، فَإِذَا حُبِسَ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْمُعَامَلَةِ لِلْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْأَرْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَرْضِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَدْفَعُهَا أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَفَعَهَا أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ كَأَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِهِ: ازْرَعْ نَصِيبَك مِنْ الْأَرْضِ بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَهَذِهِ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ قَالَ: وَازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ وَهِيَ مَطْعُونَةٌ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهَا بِالْأَمْسِ؛ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ، وَازْرَعْ نَصِيبَك بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ حَتَّى تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ فِي نَصِيبِ الدَّافِعِ مِنْ الْأَرْضِ، قُلْنَا: لِأَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 27 انْتِهَابَ الْمَعْدُومِ وَطَمَعًا فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا بِمَا أَخْرَجَهُ نَصِيبُ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَرْضٌ أَوْ بَذْرٌ أَوْ عَمَلٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ بِكَلَامِهِ عَادَةً، فَلِذَلِكَ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَفْسَدْنَا الْمُزَارَعَةَ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلزَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَيَطِيبُ لَهُ نِصْفُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى نِصْفَ الزَّرْعِ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَيَأْخُذُ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ مَا أَنْفَقَ فِيهِ وَغَرِمَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الدَّافِعِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبِي مِنْ الْأَرْضِ بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي، وَهَذِهِ اسْتِعَانَةٌ صَحِيحَةٌ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَازْرَعْ نَصِيبَك مِنْ الْأَرْضِ بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَهَذَا أَيْضًا إقْرَاضٌ صَحِيحٌ لِلْبَذْرِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُظْهِرُ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِ الدَّافِعِ مَنْفَعَةَ إقْرَاضِ الْبَذْرِ إيَّاهُ، أَوْ تَمْلِيكَ الْبَذْرِ مِنْهُ هِبَةً فِي مِقْدَارِ مَا يَزْرَعُ بِهِ نَصِيبَ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّ إقْرَاضَ شَيْءٍ مِنْ الْبَذْرِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُثْبِتُ التَّصْحِيحَ لِلْعَقْدِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَلَا يَجْعَلُ مُقْرِضًا شَيْئًا مِنْ الْبَذْر مِنْهُ، فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْعَامِلِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ وَأَجْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ حِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَنْفَعَةَ عَمَلِهِ سُلِّمَتْ لِلدَّافِعِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَيَطِيبُ لَهُ نِصْفُ الرِّيعِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ نِصْفَ الْبَذْرِ وَمَا غَرِمَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ وَنِصْفِ أَجْرِ مِثْلِ الْعَامِلِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ عَلَى أَنَّ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ لَهُ وَلِلدَّافِعِ الثُّلُثُ جَازَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبَك بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك وَهِيَ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ، وَازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ مِنْهُ لِي وَالثُّلُثُ لَك وَهِيَ مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَسَادٌ فَكَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الدَّافِعِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ لَك ثُلُثَ الْخَارِجِ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَازْرَعْ نَصِيبَك بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَهَذَا إقْرَاضٌ لِلْبَذْرِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ الْفَسَادُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ لَهُ بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْخَارِجِ وَمَنْفَعَةَ إقْرَاضِ نَصِفْ الْبَذْرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ لِلدَّافِعِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 28 لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ ازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي، وَهَذِهِ اسْتِعَانَةٌ صَحِيحَةٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَازْرَعْ نَصِيبَك بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَهَذَا دَفْعُ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَلِهَذَا كَانَ فَاسِدًا وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنَّ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ لِلْعَامِلِ، وَثُلُثَهُ لِلْآخَرِ فَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْبَذْرِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ يُلَاقِي بَذْرًا أَوْ زَرْعًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِعَمَلِهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى صَاحِبِهِ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ طُيِّبَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِهِ وَلَا أَجْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا عَمِلَ فِيمَا هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ وَهُوَ لِعَمَلِهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ فِي الْمَعْمُولِ يَمْنَعُ تَسْلِيمَ الْعَمَلِ إلَى غَيْرِهِ، وَبِدُونِ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فَاسِدًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ لِلدَّافِعِ، وَمَعْنَى الْفَسَادِ هُنَا أَبْيَنُ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِمَّا يَحْصُلُ فِي أَرْضِ الْعَامِلِ بِبَذْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَرْضٌ وَلَا بَذْرٌ وَلَا عَمَلٌ، وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُعِينٌ لِلدَّافِعِ هُنَا، فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْبَذْرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ أَرْضَك بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَازْرَعْ أَرْضِي بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي وَهَذِهِ اسْتِعَانَةٌ صَحِيحَةٌ فَيَكُونُ الْعَامِلُ مُعِينًا لَهُ فِي نَصِيبِهِ وَلَوْ اشْتَرَطَا ثُلُثَيْ الْبَذْرِ عَلَى الدَّافِعِ وَثُلُثَهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَالرِّيعُ نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ ازْرَعْ أَرْضِي بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي، وَازْرَعْ أَرْضَك بِبَذْرِك وَبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك وَبِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِهِ مَنْفَعَةَ إقْرَاضِ ثُلُثِ الْبَذْرِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ جُزْءًا مِنْ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِهِ بِعَمَلِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَمَا خَرَجَ فَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ ثُلُثَيْ الْبَذْرِ، وَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْبَذْرِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَالْأَجْرُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي شَيْءٍ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَغْرَمُ أَجْرَ مِثْلِ سُدُسِ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ ثُلُثِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَرْضِ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْأَجْرِ عَلَى الشَّرِيكِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ بَيْتًا لِيَحْفَظَ فِيهِ الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، ثُمَّ يَطِيبُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِهِ وَيَبْقَى سُدُسُ الزَّرْعِ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ رُبُعَ بَذْرِهِ وَمَا غَرِمَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ سُدُسِ الْأَرْضِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 29 أَرْضِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ ثُلُثَ الْبَذْرِ عَلَى الدَّافِعِ وَثُلُثَيْهِ عَلَى الْعَامِلِ وَالْخَارِجَ نِصْفَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ بِبَذْرِك نَصِيبَك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِي وَبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي، وَهَذِهِ مَطْعُونَةُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَقْدُ فِيهَا فَاسِدٌ عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ الْبَذْرِ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ بِجَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فَيَكُونُ لِلْعَامِلِ ثُلُثَا الرِّيعِ، وَعَلَيْهِ سُدُسُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي ثُلُثِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِ ذَلِكَ، وَيَطِيبُ لَهُ نِصْفُ الرِّيعِ وَيَرْفَعُ مِنْ السُّدُسِ الْبَاقِي رُبُعَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبَذْرِ وَمَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَثُلُثُ الرِّيعِ طُيِّبَ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ وَلَوْ اشْتَرَطَا الْبَقَرَ عَلَى الدَّافِعِ، وَالْبَذْرَ عَلَى الْعَامِلِ وَالْخَارِجُ نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبَك بِبَذْرِك وَبَقَرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَازْرَعْ نَصِيبِي بِبَذْرِي وَبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِهِ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لِيَعْمَلَ بِهِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ كُلُّهُ مِنْ الْعَامِلِ، وَالْبَقَرُ مِنْ الدَّافِعِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ لَهُ بِزِرَاعَتِهِ نَصِيبَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلزِّرَاعَةِ ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُ أَجْرِ بَقَرِهِ وَأَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ يَسْتَوْفِي الزَّارِعُ نِصْفَ الْخَارِجِ فَيَطِيبُ لَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ نِصْفَ الْبَذْرِ، وَنِصْفَ أَجْرِ الْبَقَرِ، وَنِصْفَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا الثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِيبِي مِنْ الْأَرْضِ بِبَذْرِك وَبَقَرِي عَلَى أَنَّ لَك ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَقَرَ إذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَلَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ إنَّ الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ فَاسِدَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اجْتِمَاعِ صَاحِبِ الْأَرْضِ مَعَ الْآخَرِ عَلَى الْعَمَلِ وَالْبَذْرُ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِنَفْسِهِ وَبَقَرِهِ، وَالْبَذْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ازْرَعْ نَصِفَ الْأَرْضِ بِبَذْرِي عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِي، وَازْرَعْ نَصِفَ الْأَرْضِ بِبَذْرِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لَك، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ صَحِيحٌ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَعَانَ بِالْعَامِلِ، وَالْآخَرَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 30 أَعَارَهُ الْأَرْضَ وَلَكِنْ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ الْمُفْسِدُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلْعَامِلِ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ فِي نِصْفِ الْأَرْضِ مَنْفَعَةَ نَصِفْ الْأَرْضِ وَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَا يَجُوزُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي شَيْءٍ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ بَذْرًا مُشْتَرَكًا ثُمَّ عَمِلَ فِي زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ نِصْفُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ مِثْلِ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مَشْغُولٌ بِزَرْعِ الْعَامِلِ، ثُمَّ يَطِيبُ نِصْفُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِهِ، وَأَمَّا الْعَامِلُ فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ لِلْعَامِلِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ وَالْفَسَادُ هُنَا أَبْيَنُ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَمَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ جَعَلَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ نِصْفِ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْخَارِجِ مِنْهُ، وَعَمَلُهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْأَرْضِ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ ثُلُثَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَاشْتَرَطَ الرِّيعَ عَلَى قَدْرِ الْبَذْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ إنْ كَانَ ثُلُثَا الْبَذْرِ مِنْ الْعَامِلِ فَلِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ ثُلُثَيْ الْأَرْضِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي ثُلُثِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ الْبَذْرِ مِنْ قِبَلِ الدَّافِعِ فَلِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ ثُلُثِ الْأَرْضِ بِعَمَلِهِ فِي ثُلُثَيْ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَا أَنَّ الرِّيعَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْفَسَادُ هُنَا أَبْيَنُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّافِعُ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَبَعْضَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِهِ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِهِ، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْبَذْرِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَرْضًا لَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا رَبُّ الْأَرْضِ، وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ سَنَتَهُ هَذِهِ بِبَذْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَعَارَهُ نِصْفَ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَهُ بِبَذْرِ نَفْسِهِ، وَزَرَعَ نَصِفَ الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ، وَلَا يَظْهَرُ فَسَادٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ اشْتَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ وَلَكِنْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَهُ، وَهَذَا شَرْطٌ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا وَلَا أَجْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَطِيبُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 31 لِصَاحِبِ الْأَرْضِ نَصِيبُهُ، وَيَتَصَدَّقُ الْعَامِلُ بِمَا زَادَ عَلَى الْبَذْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْأَجْرِ الَّذِي غَرِمَهُ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ اشْتَرَطَا الثُّلُثَيْنِ لِلْعَامِلِ كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَشَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَهُ ثُمَّ جَعَلَ لَهُ مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ مَعَ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْخَارِجِ فَلِهَذَا كَانَ فَاسِدًا، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا أَجْرَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مَا ابْتَغَى عَلَى مَنَافِعِ أَرْضِهِ عِوَضًا حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ فَضْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ شَرَطَ الْفَضْلَ لِنَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ابْتَغَى عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ عِوَضًا، وَلَمْ يَنَلْ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ يَطِيبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ مِنْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرُ عَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ كَانَ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ، وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ فَيَطِيبُ لَهُ الْخَارِجُ وَلَوْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْبَذْرُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ خَاصَّةً فَعَمِلَا أَوْ عَمِلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَحْدَهُ جَعَلَ لَهُ مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مَعَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ مَعَ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ إقْرَاضِ نِصْفِ الْبَذْرِ مِنْهُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ نَصِفُ أَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ نَفْسِهِ فِي عَمَلِهِ إنْ كَانَ عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الْخَارِجِ هُنَا، فَصَاحِبُ الْبَذْرِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ وَعَمَلِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الرِّيعِ لِأَحَدِهِمَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَطَا أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ بَذْرَهُ مِنْ الرِّيعِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ أَيًّا مَا كَانَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُهَا لِمُتَابَعَةِ الْآثَارِ، فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَتَى كَانَ الْعَقْدُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ أُخِذَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا مَعَ حُصُولِ الْخَارِجِ فِي بَعْضِهِ أَوْ فِي كُلِّهِ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْرُ الْبَذْرِ مِنْ جُمْلَةِ الرِّيعِ فَإِنَّ الْبَذْرَ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ يَتْلَفُ، فَهَذَا الشَّرْطُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الرِّيعِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ إذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَارِجِ إلَّا قَدْرُ الْبَذْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُنَا لَيْسَ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنَّ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَتْلَفُ رَأْسُ الْمَالِ، فَاشْتِرَاطُ دَفْعِ رَأْسِ الْمَالِ لَا يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ اشْتِرَاطُهُ دَفْعَ الْبَذْرِ هُنَا فِي كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُوجَبِ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 32 كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الرِّبْحَ وَرَأْسَ الْمَالِ كُلَّهُ نِصْفَانِ فَسَدَ الْعَقْدُ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عُشْرَ الْخَارِجِ لِنَفْسِهِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّيعِ بَيْنَهُمَا مَعَ حُصُولِ الْخَارِجِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ قَدْرٍ يَخْرُجُ إلَّا وَيَبْقَى بَعْدَ رَفْعِ الْعُشْرِ مِنْهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، ثُمَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى اشْتِرَاطُ خَمْسَةٍ وَنِصْفٍ مِنْ عَشَرَةٍ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَأَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ لِلْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اُشْتُرِطَ الْعُشْرُ لِمَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اشْتَرَطَا رَفْعَ الْخَرَاجِ مِنْ الرِّيعِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ، أَوْ حِنْطَةٌ مُسَمَّاةٌ فَاشْتِرَاطُ رَفْعِ الْخَرَاجِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّيعِ مَعَ حُصُولِهِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَحْصُلَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ أَوْ دُونُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَاشْتَرَطَا رَفْعَ الْعُشْرِ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَشْرَبُ سَحًّا، أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ إنْ كَانَتْ تَشْرَبُ بِدَلْوٍ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مِقْدَارٍ تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إلَّا وَإِذَا دُفِعَ مِنْهُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ يَبْقَى شَيْءٌ لِيَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ حَصَلَ الْخَارِجُ أَخَذَ السُّلْطَانُ حَقَّهُ مِنْ عُشْرٍ أَوْ نِصْفٍ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا كَذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ السُّلْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا، أَوْ أَخَذُوا بَعْضَ طَعَامِهِمْ سِرًّا مِنْ السُّلْطَانِ فَإِنَّ الْعُشْرَ الَّذِي شُرِطَ مِنْ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قِيَاسِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّ مَنْ أَجَّرَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ فَالْعُشْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَفِي الْمُزَارَعَةِ رَبُّ الْأَرْضِ مُؤَجِّرٌ لِلْأَرْضِ أَوْ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَالْعُشْرُ عَلَيْهِ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - فِي الْوَجْهَيْنِ فَالْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ مَشْرُوطٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ السُّلْطَانُ مِنْهُمَا الْعُشْرَ أَوْ أَخَذَا بَعْضَ الطَّعَامِ سِرًّا مِنْ السُّلْطَانِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَكَذَلِكَ الْمَشْرُوطُ لِلْعُشْرِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا لَهُمَا وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ قَالَ لِلْعَامِلِ: لَسْت أَدْرِي مَا يَأْخُذُ السُّلْطَانُ مِنَّا الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ، فَإِنَّمَا تِلْكَ عَلَى أَنَّ النِّصْفَ لِي مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ بَعْدَ الَّذِي يَأْخُذُ السُّلْطَانُ وَلَك النِّصْفُ فَهَذَا فَاسِدٌ فِي قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 33 - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - هُوَ جَائِزٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَالَا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تَكُونُ بِحَيْثُ تَكْتَفِي بِمَاءِ السَّمَاءِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَقَدْ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُسْقَى بِالدِّلَاءِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَطَرِ، وَفِي مِثْلِهِ السُّلْطَانُ يَعْتَبِرُ الْأَغْلَبِ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ فَكَأَنَّهُمَا قَدْ قَالَا لَا نَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمَطَرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَاذَا يَأْخُذُ السُّلْطَانُ مِنْ الْخَارِجِ فَتَعَاقَدَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَبِهَذَا الشَّرْطِ هُمَا شَرَطَا لِرَبِّ الْأَرْضِ جُزْءًا مَجْهُولًا مِنْ الْخَارِجِ إمَّا الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ يَزْرَعُهَا بِنَفْسِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا دَفَعَ مِنْهُ حَظَّ السُّلْطَانِ وَهُوَ النِّصْفُ مِمَّا تُخْرِجُ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَانِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَإِنَّمَا يَعْنِي خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي الْخَرَاجِ بَيْنَ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ وَبَيْنَ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ حَتَّى لَا يَجِبَ إلَّا بِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْخَارِجِ بِخِلَافِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَالْمَشْرُوطُ لِخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ كَالْمَشْرُوطِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ وَعِنْدَهُمَا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُمَا شَرَطَا الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ فِي جَمِيعِ الْخَارِجِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِنْ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ الْخَرَاجَ وَتَرَكَ الْمُقَاسَمَةَ فَالنِّصْفُ الَّذِي شَرَطَاهُ لِلسُّلْطَانِ هُوَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ يَفْتَحُ بَلْدَةً وَيَمُنُّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا، ثُمَّ يَتَرَدَّدُ رَأْيُهُ فِي تَوْظِيفِ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَعْزِمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ الْخَارِجُ، أَوْ كَانَ جَعَلَ عَلَيْهِمْ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَدْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُعَطِّلُوا الْأَرَاضِيَ فَيَكُونَ هَذَا مِنْ الْإِمَامِ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْخَرَاجِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ بَعْدَ حُصُولِ الْخَارِجِ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، ثُمَّ النِّصْفُ الْمَشْرُوطُ لِلسُّلْطَانِ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ فَالْمَشْرُوطُ لَهُ مَشْرُوطٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ بَدَلَ ذَلِكَ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغُنْمُ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ فَمَا شُرِطَ لِخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 34 بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ السُّلْطَانُ خَرَاجًا وَلَا مُقَاسَمَةً وَتَرَكَ ذَلِكَ أَصْلًا، أَوْ أَخَذَا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ سِرًّا، ثُمَّ قَاسَمَهُمْ السُّلْطَانُ مَا بَقِيَ فَأَخَذَ نِصْفَهُ فَإِنَّ مَا أَخَذَاهُ سِرًّا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ وَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثَاهُ، فَقَدْ عَطَفَ أَحَدَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: " وَكَذَلِكَ وَجَوَابُهُمَا يَخْتَلِفُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ السُّلْطَانُ شَيْئًا " فَعَطْفُ ذَلِكَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوطَ لِخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَفِيمَا إذَا أَخَذَا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ سِرًّا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا فَفِيمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ نَوْعٌ مِنْ التَّشْوِيشِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْرُوطُ لِلْخَرَاجِ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِرَبِّ الْأَرْضِ فَفِي الْفَصْلَيْنِ يَكُونُ النِّصْفُ الْمَشْرُوطُ لِخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فِي الْخَارِجِ إلَّا إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا أَوْ أَخَذَا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ سِرًّا فَذَلِكَ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمَا عَلَى أَصْلِ الْمُشْتَرَطِ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ وَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثَاهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ مَا أَخَذَاهُ سِرًّا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثَاهُ وَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثُهُ، فَعَلَى هَذَا يَتَّفِقُ الْجَوَابُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَيَتَحَقَّقُ الْعَطْفُ فَإِنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالثُّلُثُ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ، فَإِذَا أَخَذَ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالتَّخْرِيجُ مَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ وَاجِبَةٌ بِاسْمِ الْخَرَاجِ كَالْوَظِيفَةِ، وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ تَجِبُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَالْمَشْرُوطُ لِلْخَرَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ لِرَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ. وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يَأْخُذُ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُقَاسَمَةَ أَوْ الْخَرَاجَ فَإِنَّمَا تِلْكَ عَلَى أَنْ أَرْفَعَ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ حَظَّ السُّلْطَانِ مُقَاسَمَةً كَانَ أَوْ خَرَاجًا أَوْ يَكُونَ مَا بَقِيَ بَيْنَنَا لِي الثُّلُثُ وَلَكَ الثُّلُثَانِ فَرَضِيَ الْمُزَارِعُ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِ الْخَارِجِ عُشْرًا بِأَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ وَيَكُونَ الْخَارِجُ بِقَدْرِ ذَلِكَ أَوْ دُونِهِ، ثُمَّ الرِّيعُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْخَرَاجُ وَالْمُقَاسَمَةُ أَيُّهُمَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةٌ لِلْأَرْضِ فَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ وَلَوْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 35 إذَا اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَرَبُّ الْأَرْضِ مُؤَجِّرٌ لِلْأَرْضِ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ تَحْصُلُ لَهُ بِهَذِهِ الْإِجَارَةِ كَمَا يَحْصُلُ إذَا اسْتَوْفَاهَا بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ مِنْ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يُفْسِدُهَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ الْحَصَادَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْخَارِجُ أَوْ يَتَرَبَّى فِي الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ يَكُونُ عَلَى الْعَامِلِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَرَأْسُ مَالِ الْعَامِلِ فِيهَا عَمَلٌ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ إلَى أَنْ يُقْسَمَ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِلْكُهُمَا فَالْمُؤْنَةُ فِيهِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَالْحَمْلِ إلَى الْبَيْتِ وَالطَّحْنِ يَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ بِالْمُقَاسَمَةِ تَمَيَّزَ مِلْكُ أَحَدِهِمَا عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ التَّدْبِيرُ فِي مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ، فَإِذَا شَرَطَا الْحَصَادَ عَلَى الْعَامِلِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْأَرْضِ الْحَمْلَ، وَالطَّحْنَ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْتَهِي بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّرْعَ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ لَوْ دَفَعَهُ مُعَامَلَةً إلَى رَجُلٍ لِيُقِيمَ فِيهِ هَذِهِ الْأَعْمَالَ بِالثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا فَدَفَعَهُ مُعَامَلَةً إلَى مَنْ يَحْفَظُهُ وَيَسْقِيهِ بِالثُّلُثِ فَإِذَا شَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْعَامِلِ فَهَذَا عَمَلٌ شُرِطَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ عَلَيْهِ عَمَلًا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَرَوَى بِشْرٌ وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَشْتَرِطَا فَهُوَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ شَرَطَا فَهُوَ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُزَارِعَ يُبَاشِرُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، فَهَذَا شَرْطٌ يُوَافِقُ الْمُتَعَارَفَ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَلَكِنْ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْعُرْفِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى حَطَبًا فِي الْمِصْرِ بِشَرْطِ أَنْ يُوَفِّيَهُ فِي مَنْزِلِهِ. وَفِي الْمُعَامَلَةِ قَالَ: هَذَا الشَّرْطُ يُفْسِدُ الْمُعَامَلَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ وَكَانَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَقُولَانِ: هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ شُرِطَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ؛ لِأَنَّ فِيهِ عُرْفًا ظَاهِرًا يَتَنَاوَلُهُ وَالْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ فَقَدْ جَوَّزْنَا بَعْضَ الْعُقُودِ لِلْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 36 يَأْبَاهُ كَالِاسْتِبْضَاعِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي دِيَارِنَا أَيْضًا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اُسْتُفْتِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: فِيهَا عُرْفٌ ظَاهِرٌ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَعَطَّلَ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِمَّا هُوَ الْعُرْفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ فَسَادُ الْعَقْدِ بِهَذَا الشَّرْطِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَاءَ إلَى رَجُلٍ قَدْ صَارَ زَرْعُهُ بَقْلًا فَعَامَلَهُ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ عَامَلَهُ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ عَلَى أَنْ يَحْصُدَهُ وَيَدُوسَهُ وَيَذْرِيَهُ وَيُنَقِّيَهُ وَيَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا إنَّمَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا جَاءَ فِي مُزَارَعَةٍ يَكُونُ لِلْعَمَلِ فِيهَا تَأْثِيرٌ فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُوجَدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ بِمَنْزِلَةِ الثِّمَارِ تَخْرُجُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ فَلِهَذَا صَحَّ الْعَقْدُ هُنَاكَ، وَلَمْ يَصِحَّ هُنَا، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَصَارَ قَصِيلًا فَأَرَادَا أَنْ يَقْصِلَاهُ وَيَبِيعَاهُ، فَحَصَادُ الْقَصِيلِ وَبَيْعُهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَنْهَيَا الْعَقْدَ بِمَا عَزَمَا عَلَيْهِ، وَالْقَصْلُ فِي الْقَصِيلِ كَالْحَصَادِ بَعْدَ الِاسْتِحْصَادِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي زِيَادَةِ الْخَارِجِ فَكَمَا أَنَّ الْحَصَادَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ حَصَادُ الْقَصِيلِ عَلَيْهِمَا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، أَوْ الْمُزَارِعِ، وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ فَمَنَعَهُمْ السُّلْطَانُ مِنْ حَصَادِهِ إمَّا ظُلْمًا، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ رَأَى فِي ذَلِكَ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُمْ الْخَرَاجَ فَالْحِفْظُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ بَعْدَ الِاسْتِحْصَادِ بِمَنْزِلَةِ الْحَصَادِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَنْتَهِي بِالْحَصَادِ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلْحِقَهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَعَلَى الْعَامِلِ حِفْظُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَتَّى يَصِيرَ تَمْرًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَصِرْ تَمْرًا، وَالْحِفْظُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ، فَإِذَا صَارَ تَمْرًا فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ وَبَقِيَ التَّمْرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَكَانَ الْحِفْظُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجُذَاذُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَطَ صَاحِبُ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ فِي أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ بَعْدَ مَا يَصِيرُ تَمْرًا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَرَادَ فِي الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ أَنْ يَجُدَّاهُ بُسْرًا فَيَبِيعَانِهِ، أَوْ يَلْقُطَانِهِ رُطَبًا فَيَبِيعَانِهِ فَإِنَّ اللِّقَاطَ وَالْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا أَنْهَيَا الْعَقْدَ بِمَا عَزَمَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْجُذَاذَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ بِمَنْزِلَتِهِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، وَلَكِنَّ الْحِفْظَ عَلَى الْعَامِلِ مَا دَامَ فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 37 حَتَّى يَصِيرَ تَمْرًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا بَاقٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْتَهِي ضِمْنًا لِلْجُذَاذِ وَاللِّقَاطِ، فَلَا يَكُونُ مُنْتَهِيًا قَبْلَهُ، وَحَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ الْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَامِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّرْطِ فِيمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ وَفِي الْكِرَابِ وَغَيْرِهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ: اكْرِبْهَا ثُمَّ ازْرَعْهَا فَقَالَ الْعَامِلُ: أَزْرَعُهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ تُزْرَعُ بِغَيْرِ كِرَابٍ وَيَحْصُلُ الرِّيعُ إلَّا أَنَّ بِالْكِرَابِ أَجْوَدَ فَإِنْ شَاءَ الْعَامِلُ كَرَبَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَكْرُبْ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَرْعًا بِغَيْرِ كِرَابٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ إلَّا بِكِرَابٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُزَارَعَةِ تَحْصِيلُ الْخَارِجِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِتَحْصِيلِ الْخَارِجِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَمَا يَحْصُلُ الْخَارِجُ بِدُونِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُسْتَحَقُّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ إلَّا بِالشَّرْطِ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ رِيعُهَا إلَّا بِكِرَابٍ فَهَذَا عَمَلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَّا إنْ شَاءَ أَنْ يَدَعَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي حَقِّهِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الرِّيعُ يَحْصُلُ بِغَيْرِ كِرَابٍ، وَمَعَ الْكِرَابِ يَكُونُ أَجْوَدَ، وَلَكِنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ لَا تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَبِدُونِ الْكِرَابِ صِفَةُ السَّلَامَةِ تَحْصُلُ فِي الرِّيعِ فَيَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تُخْرِجُ بَعْدَ الْكِرَابِ شَيْئًا قَلِيلًا نَظَرْت فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ النَّاسُ ذَلِكَ بِالزِّرَاعَةِ تُخَيِّرُ الْمُزَارِعَ فِي الْكِرَابِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَى الْكِرَابِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْصَدُ تَحْصِيلُهُ بِالزِّرَاعَةِ عَادَةً يَكُونُ مُعَيَّنًا. وَقَضِيَّةُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ صِفَةُ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ فَيَصِيرُ الْكِرَابُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْعَامِلِ لِتَحْصِيلِ صِفَةِ السَّلَامَةِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ، وَإِذَا كَانَ يَخْرُجُ بِغَيْرِ كِرَابٍ مَا يُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ فَأَدْنَى السَّلَامَةِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ كِرَابٍ، وَالْأَعْلَى لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا إلَّا بِالشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ إنْ زَرَعَ ثُمَّ قَالَ: لَا أَسْقِي وَلَكِنْ أَدَعُهَا حَتَّى تَسْقِيَهَا السَّمَاءُ، فَإِنْ كَانَتْ تَكْتَفِي بِمَاءِ السَّمَاءِ إلَّا أَنَّ السَّقْيَ أَجْوَدُ لِلزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى السَّقْيِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَكْفِيهِ سَقْيُ السَّمَاءِ أُجْبِرَ عَلَى السَّقْيِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِالنِّصْفِ فَأَرَادَ أَنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 38 يَزْرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْكِرَابِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرِّيعِ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِغَيْرِ كِرَابٍ، فَمَعَ الْكِرَابِ أَجْوَدُ، وَصِفَةُ الْجَوْدَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِالشَّرْطِ كَصِفَةِ الْجَوْدَةِ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَصِفَةُ الْكِتَابَةِ وَالْحِبْرِ فِي الْعَبْدِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِالشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ فِي مِصْرِ كَذَا فَلَهُ أَنْ يُوَفِّيَهُ فِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمِصْرِ شَاءَ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّيعُ يَحْصُلُ بِالْكِرَابِ وَغَيْرِ الْكِرَابِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْكِرَابُ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالزَّرْعِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ قُوَّةِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْكِرَابَ يُحْرِقُ الْأَرْضَ وَالزَّرْعَ، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَنْ يَكْرُبَهَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشَّرْطِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلضَّرَرِ، وَاشْتِرَاطُ التَّثْنِيَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ فِي الْمُزَارَعَةِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ قَالَ: لِأَنَّهُ يُبْقِي مَنْفَعَتَهَا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَة بِخِلَافِ الْكِرَابِ فَإِنَّهُ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، فَاشْتِرَاطُهُ لَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ. وَتَكَلَّمُوا فِي تَفْسِيرِ التَّثْنِيَةِ فَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَزْرَعُ فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ التَّثْنِيَةِ فِي دِيَارِنَا لَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، وَفِي الدِّيَارِ الَّتِي تَبْقَى مَنْفَعَتُهَا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ بَيْنَهُمَا سَنَةً وَاحِدَةٍ يَفْسُدُ بِهَذَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهَا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَقِيلَ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ: أَنْ يَكْرُبَهَا بَعْدَ مَا يَحْصُدُ الزَّرْعَ فَيَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَهَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْتَهِي بِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ فَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلًا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَقِيلَ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ: أَنْ يَجْعَلَهَا جَدَاوِلَ كَمَا يَفْعَلُ بِالْمَبْطَخَةِ فَيَزْرَعُ نَاحِيَةً مِنْهَا وَيُبْقِي مَا بَيْنَ الْجَدَاوِلِ مَكْرُوبًا فَيَنْتَفِعُ رَبُّ الْأَرْضِ بِذَلِكَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُزَارَعَةِ وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ مَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْمُزَارَعَةُ تَفْسُدُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْرُبَ أَنْهَارَهَا وَالْمُزَارَعَةُ بَيْنَهُمَا سَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَرَبَ الْأَنْهَارَ تَبْقَى مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ إصْلَاحَ مَشَارِبِهَا أَوْ بِنَاءَ حَائِطٍ فِيهَا، أَوْ أَنْ يُسَرْجِنَهَا فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ، فَتَكُونُ مُفْسِدَةً لِلْمُزَارَعَةِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَ بِغَيْرِ كِرَابٍ فَلِلْمُزَارِعِ رُبُعُ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَرَبَهَا ثُمَّ زَرَعَهَا فَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثُ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَرَبَ وَثَنَّى ثُمَّ زَرَعَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ جَائِزَةٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 39 الْعَمَلِ وَأَوْجَبَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ نَوْعٍ شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الْخَارِجِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ فَقَالَ: إنْ خِطْته رُومِيَّةً فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته فَارِسِيَّةً فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَانَ لُزُومِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْكِرَابُ وَالتَّثْنِيَةُ كُلُّ ذَلِكَ يَسْبِقُ إلْقَاءَ الْبَذْرِ، فَعِنْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ نَوْعُ الْعَمَلِ مَعْلُومٌ، وَبَدَلُهُ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَمَلِ مَعْلُومٌ، وَالْبَدَلُ مَعْلُومٌ، وَقَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّثْنِيَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهُنَا قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّثْنِيَةَ، وَضَمَّ إلَيْهِ نَوْعَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ فَتَمَكَّنَتْ الْجَهَالَةُ هُنَا مِنْ الْعَمَلِ، وَمِقْدَارُ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدُ مَعَ اشْتِرَاطِ التَّثْنِيَةِ، فَلَأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ إذَا كَرَبَهَا أَوْ زَرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدَ إذَا ثَنَّى؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ فَكَانَ شَرْطُ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ، أَمَّا إذَا جَعَلْنَا تَفْسِيرَ التَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ أَنْ جَعَلْنَا تَفْسِيرَ التَّثْنِيَةِ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ، فَهُنَاكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّثْنِيَةُ بِالشَّرْطِ وَهِيَ مِمَّا تَبْقَى مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُزَارِعُ عَلَى إقَامَتِهَا، وَهُنَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّثْنِيَةُ بَلْ يَتَخَيَّرُ هُوَ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَهَذَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، كَمَا إذَا أُطْلِقَ الْعَقْدُ يَصِحُّ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُزَارِعُ بَيْنَ أَنْ يُثَنِّيَ الْكِرَابَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَدَعُ التَّثْنِيَةَ فَإِنْ زَرَعَ بَعْضَهَا بِكِرَابٍ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ وَبَعْضَهَا بِكِرَابٍ وَثُنْيَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا زَرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ أَرْبَاعًا وَمَا زَرَعَهَا بِكِرَابٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَمَا زُرِعَ بِكِرَابٍ وَثُنْيَانٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ شَرْطُ عَقْدِهِ بِهَذَا التَّبْعِيضِ، وَهُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَ الْأَرْض بِكِرَابٍ وَثُنْيَانٍ، وَبَعْضَهَا بِكِرَابٍ، وَبَعْضَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخِيطَ بَعْضَ الثَّوْبِ رُومِيَّةً وَبَعْضَهُ فَارِسِيَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَنْ يُخَاطَ بَعْضُهُ رُومِيَّةً، وَبَعْضُهُ فَارِسِيَّةً، بَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ عَيْبًا فِي الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَا زُرِعَ بِكِرَابٍ وَثُنْيَانٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ هُنَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَعْضَ بِكِرَابٍ، وَالْبَعْضَ بِثُنْيَانٍ، وَالْبَعْضَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 40 بِغَيْرِ كِرَابٍ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ أَوْ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ، إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَذْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَفْسَدُوا الْعَقْدَ بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى إلَّا أَنَّا نَقُولُ: حَرْفُ " مِنْ " قَدْ يَكُونُ لِلصِّلَةِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْكَلَامُ بِدُونِهِ مُخْتَلًّا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. وَإِذَا كَانَ حَرْفُ " مِنْ " صِلَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْكُلَّ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْأُولَى سَوَاءٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ فِي جِنْسِ الْبَذْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ رُبُعُهُ، فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَوَانَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَالْبَذْرُ مَعْلُومٌ. وَالْجَهَالَةُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ زَرَعَهَا بَعْضَهَا حِنْطَةً، وَبَعْضَهَا شَعِيرًا، وَبَعْضَهَا سِمْسِمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ عَلَى مَا اشْتَرَطَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ رَبُّ الْأَرْضِ بِأَنْ يَزْرَعَ كُلَّهَا عَلَى صِفَةٍ يَكُونُ رَاضِيًا بِأَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَبِذَلِكَ الْبَذْرِ، كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا ثَلَاثِينَ سَنَةً عَلَى أَنَّ مَا زَرَعَ فِيهَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ غَلَّةِ الصَّيْفِ أَوْ الشِّتَاءِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا غَرَسَ فِيهَا مِنْ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ كَرْمٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثُ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَانِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا سَوَاءٌ زَرَعَ الْكُلَّ عَلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ أَوْ زَرَعَ بَعْضَهَا، وَجَعَلَ فِي بَعْضِهَا كَرْمًا قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ الْبُيُوعُ فِي هَذَا الْإِجَارَاتِ، وَالْإِجَارَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا تَجُوزُ، وَذَكَرَ حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ الْأَجِيرِ، أَقُولُ لَهُ: إنْ عَمِلْت فِي كَذَا كَذَا فَبِكَذَا، وَإِنْ عَمِلْت كَذَا فَبِكَذَا؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ. قِيلَ: مَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْبُيُوعِ إذَا اشْتَرَى أَحَدٌ شَيْئَيْنِ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَفِي الْإِجَارَاتِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِدُونِ شَرْطِ الْخِيَارِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْخِيَارُ فِيهِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَالثَّمَنُ مَجْهُولًا عِنْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَفِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ الْعَقْدُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي الْإِجَارَةِ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْبَدَلَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 41 لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْعَمَلُ وَالْبَدَلُ مَعْلُومٌ، وَجَهَالَةُ صِفَةِ الْعَمَلِ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَقِيلَ: بَلْ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْبَيْعِ إذَا قَالَ: إلَى شَهْرٍ بِكَذَا أَوْ إلَى شَهْرَيْنِ بِكَذَا فَهَذَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ، وَفِي الْإِجَارَةِ وُجُوبُ الْبَدَلِ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ مَعْلُومٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْبُيُوعَ وَالْإِجَارَاتِ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، إذْ فِي الْمُزَارَعَةِ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً، وَبَعْضَهَا شَعِيرًا، وَفِي الْإِجَارَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ لَيْسَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعَقْدَ فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا فِي التَّبْعِيضِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زَرْعِهِ الْبَعْضَ حِنْطَةً وَالْبَعْضَ شَعِيرًا مَعْنَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ قَعَدَ فِيهِ طَحَّانًا فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ قَعَدَ يَبِيعُ الطَّعَامَ فِيهِ فَأَجْرُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِجَارَاتِ، وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَعِنْدَ التَّخْلِيَةِ مِقْدَارُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ مَجْهُولٌ، وَأَمَّا فِي الْمُزَارَعَةِ فَالشَّرِكَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَةٌ، فَيَكُونُ هَذَا قِيَاسَ مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً، وَبَعْضَهَا شَعِيرًا، وَبَعْضَهَا سِمْسِمًا فَمَا زَرَعَ مِنْهَا حِنْطَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا زَرَعَ مِنْهَا شَعِيرًا فَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، وَمَا زَرَعَ مِنْهَا سِمْسِمًا فَلِرَبِّ الْأَرْضِ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُهُ، فَهَذَا فَاسِدٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّبْعِيضِ هُنَا، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً فَلَا يَعْلَمُ مَاذَا يَزْرَعُ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْهَا فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِهَذَا، وَعِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ حَرْفَ " مِنْ " صِلَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْكُلَّ شَعِيرًا إنْ شَاءَ، وَحِنْطَةً إنْ شَاءَ، وَهُنَا نَصَّ عَلَى التَّبْعِيضِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا كُلَّهَا أَحَدَ الْأَصْنَافِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهَا عَلَى أَنَّ مَا زَرَعْت مِنْهَا حِنْطَةً فَالْخَارِجُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَمَا زَرَعْت مِنْهَا شَعِيرًا فَلِي ثُلُثُهُ وَلَك ثُلُثَاهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 42 وَمَا زَرَعْت مِنْهَا سِمْسِمًا فَلِي ثُلُثَاهُ، وَلَك ثُلُثُهُ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا الطَّاعِنُ قَالَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَجَدْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَى أَنْ يَزْرَعَ كُلَّ ذَلِكَ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ حَرْفِ " مِنْ " التَّبْعِيضُ، فَهُوَ وَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى التَّبْعِيضِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا سَبَقَ أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا تَتَمَكَّنُ فِي سَلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْبَذْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَجْرُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَمَكِّنَةً فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ فَالْجَهَالَةُ لَمْ تَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَالْعَقْدُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ بِدُونِ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الْجَهَالَةُ الْمُتَمَكِّنَةُ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ هُنَاكَ يُوَضَّحُ الْفَرْقُ أَنَّ الْكِرَابَ وَالثُّنْيَانَ كُلُّ ذَلِكَ يَسْبِقُ إلْقَاءَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَانْعِقَادُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ وَعِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي ثُنِّيَ، وَالْبَعْضُ الَّذِي كُرِبَ مَعْلُومٌ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، وَأَمَّا هُنَا عِنْدَ إلْقَاءِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ مِنْ الْبَذْرِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، الْعَقْدُ فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى مَجْهُولٌ فِي حَقِّ جِنْسِ الْبَذْرِ وَجِنْسِ الْبَدَلِ؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ إلَيْهِ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا حِنْطَةً فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَالْخَارِجُ لِلْعَامِلِ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِعَارَةِ، فَاشْتِرَاطُ الْخَارِجِ كُلِّهِ لِلْعَامِلِ يَكُونُ إعَارَةً لِلْأَرْضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحِنْطَةِ يَكُونُ مُزَارَعَةً صَحِيحَةً، وَلَا يَتَوَلَّدُ مِنْ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ سَبَبٌ مُفْسِدٌ، وَإِنْ سَمَّى الْخَارِجَ مِنْ الشَّعِيرِ لِنَفْسِهِ جَازَ فِي الْحِنْطَةِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الشَّعِيرِ، وَهِيَ مَطْعُونَةُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا دَفَعَ الْأَرْضَ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ مَا جَعَلَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْآخَرِ، فَإِنْ زَرَعَهَا حِنْطَةً فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا، وَكُرَّ حِنْطَةٍ، وَكُرَّ شَعِيرٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَ الْحِنْطَةَ فِيهَا فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالشَّعِيرُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَرَعَهَا الشَّعِيرَ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيَرُدُّ الْحِنْطَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْعَامِلِ فِي أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ، وَاسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ الْخَارِجِ فِي الْآخَرِ، وَخَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ الْخَارِجَ مِنْ الشَّعِيرِ لِلْعَامِلِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 43 جَمِيعِ الْخَارِجِ لَهُ يَكُونُ إقْرَاضًا مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا أَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ وَحْدَهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا حِنْطَةً فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا شَعِيرًا فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؟؛ فَلِهَذَا جَازَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَا قَالَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْحِنْطَةِ مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ، وَفِي الشَّعِيرِ إعَارَةٌ لِلْأَرْضِ مِنْ الْعَامِلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي السِّمْسِمِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي السِّمْسِمِ يَكُونُ دَافِعًا لِلْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ، وَهِيَ مَطْعُونَةُ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ جَازَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحِنْطَةِ الْعَقْدُ مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ، وَفِي السِّمْسِمِ اسْتِعَانَةٌ بِالْعَامِلِ، وَفِي الشَّعِيرِ إقْرَاضٌ لِلْبَذْرِ مِنْهُ، وَإِعَارَةٌ لِلْأَرْضِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ الْبَعْضَ مَشْرُوطًا فِي الْبَعْضِ إنَّمَا عَطَفَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ مَعْنًى يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْعُذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَرْضَهُ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ بِالنِّصْفِ، فَلَمَّا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ أَرْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا الَّذِي قَبَضَهَا شَيْئًا، وَبَعْدَ مَا كَرَبَهَا، وَحَفَرَ أَنْهَارَهَا، وَسَوَّى مَسَاقِيَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُؤَاجِرٌ لِأَرْضِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْمُضِيِّ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ إلَى إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ، فَيُلْزَمَ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهَا إلَّا بِعُذْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ حُبِسَ فِي الدَّيْنِ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْأَرْضِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا عُذْرًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ وَبَيْعِ الْأَرْضِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُضِيِّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي مَالِهِ يَدْفَعُ صِفَةَ اللُّزُومِ فَالضَّرَرُ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ أَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمْتَنِعُ صِحَّتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ؛ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ جِذْعًا مِنْ سَقْفٍ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَلَوْ أَجَّرَ مَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي تَسْلِيمِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِجَارَةُ، فَكَذَلِكَ تَنْعَدِمُ صِفَةُ اللُّزُومِ بِعُذْرِ الدَّيْنِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِنْ بَاعَهَا بَعْدَ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ الْعَامِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ عِنْدِهِ، وَاَلَّذِي أَتَى بِهِ مُجَرَّدُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَالْعَقْدِ، وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ هُنَا جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ بِأَنْ لَمْ يَزْرَعْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 44 أَصْلًا لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا آخَرَ، وَلِأَنَّ الْمُزَارِعَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ، وَالْعَامِلُ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى زَرَعَهَا فَنَبَتَ الزَّرْعُ، وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ حَتَّى حَبَسَ الْقَاضِي رَبَّ الْأَرْضِ فِي الدَّيْنِ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِيَبِيعَهَا، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَأَكَّدَتْ بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ، وَفِي الْبَيْعِ إضْرَارٌ بِالْعَامِلِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فِي الزَّرْعِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ ضَرَرٌ بِالْغُرَمَاءِ؛ فَإِنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِمْ أَيْضًا، وَمَا فِيهِ مِنْ النَّظَرِ لِلْكُلِّ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا فِيهِ إضْرَارٌ بِالْبَعْضِ، وَلَئِنْ كَانَ فِي التَّأْخِيرِ إضْرَارٌ بِالْغُرَمَاءِ فَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا تَرَجَّحَ أَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ، وَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْبِسُهُ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْأَرْضِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ بَيْعِهَا شَرْعًا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فِي تَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ الظَّالِمُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا ثَبَتَ إفْلَاسُهُ عِنْدَ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ، فَهُنَا أَيْضًا يُخْرِجُهُ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ مُلَازَمَتِهِ، كَمَا فِي الْمُفْلِسِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَإِذَا كَانَ مُلَازِمًا لَهُ أَخَذَ ذَلِكَ الْمَالَ بِحَقِّهِ، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، فَإِذَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ رُدَّ فِي الْحَبْسِ حَتَّى يَبِيعَ الْأَرْضَ، وَنَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ قَدْ انْتَهَتْ وَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِبَيْعِ مِلْكِهِ فَيَحْبِسُهُ؛ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ لَمْ يُسْتَحْصَدْ حَتَّى مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ، فَأَرَادَ وَرَثَتُهُ أَخْذَ أَرْضِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَلَكِنَّ الْأَرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الزَّارِعِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ، وَفِي الْقِيَاسِ الْمُزَارَعَةُ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِعَقْدِهِ مَا يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ إنَّمَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْعَقْدُ يَبْقَى بَيْنَهُمَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُزَارِعِ؛ فَإِنَّ فِي قَلْعِ الزَّرْعِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ النَّقْضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ ابْتِدَاءً لِدَفْعِ الضَّرَرِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلْأَرْضِ، إذَا زَرَعَهَا ثُمَّ بَدَا لِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَتُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الزَّرْعِ، وَكَذَلِكَ إذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ إجَارَةِ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَإِنَّهَا تُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي الْمُزَارَعَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَقْلَعُ زَرْعَهُ وَيُعْقَدُ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 45 الْإِجَارَةِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَذَلِكَ هَذَا كَانَ مُحِقًّا فِي الِابْتِدَاءِ فَتَبْقَى الْإِجَارَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُكَارِي فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، أَوْ مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ، وَالسَّفِينَةُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، فَإِذَا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ أَخَذُوهَا، وَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السِّنِينَ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ، وَأَخَذَ الْوَارِثُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إيفَاءِ الْعَقْدِ هُنَا؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ مَا تَأَكَّدَ بِالزِّرَاعَةِ، وَلَيْسَ فِي إعْمَالِ سَبَبِ النَّقْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْعَامِلِ عَنْ الزَّرْعِ ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَى الْوَارِثِ مِنْ نَفَقَةِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ جُزْءُ الْخَارِجِ، وَلَمْ يَحْصُلْ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ سَنَةً وَاحِدَةً، فَأَخَّرَ الْعَامِلُ الزَّرْعَ حَتَّى زَرَعَ فِي آخِرِ السَّنَةِ لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ، فَإِنْ اُنْتُقِضَتْ الْمُدَّةُ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ بَعْدُ، فَالزَّرْعُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ، كَمَا كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ عَلَى الْمُزَارِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ انْتَهَتْ الْمُدَّةُ، وَالْعَمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الزَّرْعِ، فَالْعَمَلُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمَا كَنَفَقَةِ، الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا انْتَهَتْ لَمْ يَبْقَ لِلْعَامِلِ حَقٌّ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَهُوَ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِتَرْبِيَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الْمُدَّةِ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ التَّقَضِّي بَقِيَ الْعَقْدُ، كَمَا كَانَ فَلَا يَلْزَمُهُ أَجْرٌ، وَهُنَا الْعَقْدُ مَا تَنَاوَلَ مَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَالْمَنْفَعَةُ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ لَا تُسَلَّمُ لَهُ إلَّا بِأَجْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْعَامِلِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، وَهُوَ كَانَ مُحِقًّا فِي الزِّرَاعَةِ، فَيَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ يُسَلِّمُ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ كَانَ هُوَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْقَلْعِ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُتْرَكُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ أَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَفِي نَصِيبُهُ بِذَلِكَ ثُمَّ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: اقْلَعْهُ، فَيَكُونُ بَيْنَكُمَا، أَوْ أَعْطِهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْهُ، أَوْ أَنْفِقْ عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَارْجِعْ بِحِصَّتِهِ مِمَّا يُنْفَقُ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ زَرْعٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا، فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا فِي الْبِنَاءِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 46 وَالْأَشْجَارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا رَضِيَ بِالْقَلْعِ فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ حِصَّتِهِ مَجَّانًا، فَيَكُونُ أَرْضَى بِذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَةُ حِصَّتِهِ أَوْ رَضِيَ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ بَعْدَ الْقَلْعِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مَقْلُوعًا، وَقِيمَةُ حِصَّتِهِ قَبْلَ الْقَلْعِ أَكْثَرُ، فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ سَاعَدَهُ عَلَى الْقَلْعِ، فَيَكُونُ الْمَقْلُوعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إبْقَاءِ حَقِّهِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ لِصِغَرِهِ وَزَمَانَةٍ بِهِ، وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، بَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يُنْفِقُ فِي نَصِيبِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ حَتَّى إذَا كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ النَّفَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَا كَانَ مُجْبَرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي نَصِيبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ سَلَامَةَ ذَلِكَ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْ النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِنْفَاقِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِضْرَارِ بِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَبَدَا لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ بَعْدَ مَا كَرَبَهَا الْعَامِلُ، وَحَفَرَ أَنْهَارَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إتْلَافُ الْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَعْلَمُ أَيُحَصِّلُ الْخَارِجَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْعَامِلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى لِلْعَامِلِ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ بَعْضُ الْخَارِجِ، وَلَمْ يُحَصِّلْ الْخَارِجَ قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ يَعْنِي بِأَنْ يُعْطِيَ الْعَامِلَ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَغَلَ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ لِيَزْرَعَ فَيَحْصُلُ لَهُ الْخَارِجُ، فَإِذَا أَخَذَ الْأَرْضَ بَعْدَ إقَامَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَانَ هُوَ غَارًّا لِلْعَامِلِ مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِهِ، وَالْغُرُورُ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَبَقِيَ بِأَنْ يَطْلُبَ رِضَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ وَصَارَ الزَّرْعُ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إخْرَاجُ الْعَامِلِ مِنْهُ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَأَكَّدَ بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَانْعَقَدَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ، وَفِي الْبَيْعِ إضْرَارٌ بِالْمُزَارِعِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ عَمِلَ الْمُزَارِعُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ انْقَضَتْ السَّنَةُ، وَالزَّرْعُ لَمْ يُحْصَدْ تُرِكَ فِي الْأَرْضِ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 47 الْمُزَارَعَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ قَبْلَ الِاسْتِحْصَادِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ كَانَ فِي الْمُدَّةِ خَاصَّةً، وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ لِتَرْبِيَةِ حِصَّتِهِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، وَلَا أَمْرِ قَاضٍ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَكَانَ الْمُنْفِقُ مِنْهُمَا مُتَطَوِّعًا، كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا إذَا اُشْتُرِيَتْ فَأَنْفَقَ أَحَدُهُمَا فِي مَرَمَّتِهَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَزَرَعَهَا وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ حَتَّى هَرَبَ الْعَامِلُ فَأَنْفَقَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَمْرِ الْقَاضِي عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ ثُمَّ قَدِمَ الْمُزَارِعُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُوَفِّيَ صَاحِبَ الْأَرْضِ جَمِيعَ نَفَقَتِهِ أَوَّلًا؛ لِقَوْلِ الْقَاضِي: لَا نَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَقُولُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَاضِي فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا الزَّرْعِ، وَلَا يَعْرِفُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ فَيُكَلِّفُهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ مِنْهُ؛ لِيَكْشِفَ الْحَالَ بِغَيْرِ خَصْمٍ أَوْ يَكُونَ الْقَاضِي فِيهِ خَصْمَهُ، كَمَا يَكُونُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَانَ أَمْرُ الْقَاضِي إيَّاهُ بِالْإِنْفَاقِ كَأَمْرِ الْمُودِعِ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَرُجُوعُهُ هُنَاكَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالْإِنْفَاقَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْعَامِلِ، وَأَمْرُ الْقَاضِي إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْغَائِبِ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لَهُ، وَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ لَا فِي إيجَابِ الزِّيَادَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُنَا الْعَمَلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُزَارِعِ، لَوْ كَانَ حَاضِرًا أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَيَعْتَبِرُ أَمْرَهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ نَفَقَتَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ إنَّمَا هُوَ بِالْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِمَا أَنْفَقَ، كَالْآبِقِ يُحْبَسُ بِالْجَعْلِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَ نَصِيبَهُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْأَرْضِ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا عَنْهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً فِيمَا اسْتَوْجَبَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ الَّذِي كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَهْرُبْ، وَلَكِنْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَالْمَزَارِعُ غَائِبٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ شِئْت، فَإِذَا اُسْتُحْصِدَ لَمْ يَصِلْ الْعَامِلُ إلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُعْطِيَكَ نَفَقَتَك فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَك نَفَقَتَك أَبِيعُ حِصَّتَهُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَأُعْطِيكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 48 مِنْ ثَمَنِهِ حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ حِصَّتُهُ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَك عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ الْمُزَارِعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَأَمْرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَقْصُرَ الرُّجُوعَ عَلَى مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ يَلْحَقُهُ خُسْرَانٌ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِيَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ الْقَاضِي غَارًّا يَحْسِبُ حِصَّتَهُ مِنْ الزَّرْعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ حَيِيَ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ النَّفَقَةَ بَاعَ الْقَاضِي حِصَّتَهُ، قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَا يَبِيعُ الْقَاضِي حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ، وَبَيْعُ مَالِهِ عَلَيْهِ فِي دَيْنِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَزِمَهُ تَعَلَّقَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ سَلَامَتَهُ لَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوُصُولِ النَّفَقَةِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَيُبَاعُ فِيهِ، كَمَا يُبَاعُ الْمَرْهُونُ وَالتَّرِكَةُ فِي الدَّيْنِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الزَّرْعِ الَّذِي صَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ خُبْثٌ، وَلَا فَسَادٌ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ سَلَّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، فَزَرَعَ الْأَرْضَ ثُمَّ مَاتَ الْمُزَارِعُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ فَقَالَ وَرَثَتُهُ: نَحْنُ نَعْلَمُهَا عَلَى حَالِهَا فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُورَثِ فِي مِلْكِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْعَمَلِ إذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ رَبِّ الْأَرْضِ إقَامَةُ الْعَمَلِ لَا عَيْنُ الْعَامِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِمْ فِي حَيَاتِهِ، لِيُقِيمُوا الْعَمَلَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ إذَا اخْتَارُوا الْعَمَلَ، وَلَا أَجْرَ لَهُمْ فِي الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيمَا لَهُمْ فِيهِ شَرِكَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ مُورَثِهِمْ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ إنْ عَمِلُوهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُورَثِهِمْ، وَعَقْدُ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ مُورَثِهِمْ إذَا اخْتَارُوا الْعَمَلَ، وَإِنْ قَالُوا: لَا نَعْمَلُهَا لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إيفَاءُ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى مُورَثِهِمْ مِنْ مِلْكِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْ مِلْكِهِمْ، فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى إقَامَةِ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِمَنَافِعِهِمْ، وَقِيلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: اقْلَعْ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ، أَوْ أَعْطِهِمْ قِيمَةَ حِصَّتِهِمْ مِنْ الزَّرْعِ، وَأَنْفِقْ عَلَى حِصَّتِهِمْ، فَتَكُونَ نَفَقَتُكَ فِي حِصَّتِهِمْ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ الْعَامِلِ إذَا أَبَى الْوَارِثُ إقَامَةَ الْعَمَلِ؛ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا إلَى خَلَفٍ، وَبَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعَمَلِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْلَعَ نَصِيبَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَهُوَ قِيَاسُهُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 49 الْإِنْفَاقَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ النَّفَقَةِ فِي نَصِيبِ الْعَامِلِ، وَهُنَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتِحْقَاقَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ فِي الْمُدَّةِ لَا بَعْدَهَا، وَقَدْ انْتَهَتْ الْمُدَّةُ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَهُنَا الْمُدَّةُ لَمْ تَنْتَهِ، وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُزَارِعِ بِمُقَابَلَةِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ نِصْفِ الزَّرْعِ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ يَجِبُ إيفَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يُسَلِّمُ التَّرِكَةَ لِلْوَرَثَةِ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا رَجَعَ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقَ فِي حِصَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَسْتَوْفِيهِ ثُمَّ يُعْطِيهِمْ الْفَضْلَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي مَاتَ رَبَّ الْأَرْضِ وَبَقِيَ الْعَامِلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إنْ شَاءَ الْمُزَارِعُ إنْ كَانَ حَيًّا أَوْ وَرَثَتُهُ إنْ كَانَ مَيِّتًا أَنْ يَمْضُوا عَلَى الْمُزَارَعَةِ، فَذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا خُيِّرَ رَبُّ الْأَرْضِ وَوَرَثَتُهُ بَيْنَ الْقَلْعِ، وَإِعْطَاءِ قِيمَةِ حِصَّةِ الْعَامِلِ وَبَيْنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَلَمَّا صَارَ الزَّرْعُ بَقْلًا انْقَضَى وَقْتُ الْمُزَارَعَةِ، فَأَيُّهُمَا أَنْفَقَ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى نَصِيبِهِ مُتَطَوِّعًا، وَلَا أَجْرَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالْتِزَامِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُهُ إمْسَاكَ الْأَرْضِ إلَى وَقْتِ الِاسْتِحْصَادِ بَعْدَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِالتَّفْرِيغِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَإِنْ رَفَعَ الْعَامِلُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ، فَإِنَّهُ يُكَلِّفُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّرْعِ أَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ الْغَائِبِ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَخِيفَ عَلَى الزَّرْعِ الْفَسَادُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ؛ أَمَرْتُكَ بِالْإِنْفَاقِ إنْ كُنْت صَادِقًا، وَالنَّظَرُ لِهَذَا يَحْصُلُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ فَالْأَمْرُ مِنْ الْقَاضِي فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، فَإِنْ أَنْفَقَ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ ثُمَّ حَضَرَ رَبُّ الْأَرْضِ كَانَ الْمُزَارِعُ أَحَقَّ بِحِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ نَفَقَتَهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ أَكْثَرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي إنَّمَا نَفَذَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: أَنْفِقْ عَلَى أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُكَ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ لِدَفْعِ الْغَرَرِ، وَيَجْعَلُ الْقَاضِي عَلَيْهِ مِثْلَ أَجْرِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَامَ مَقَامَ الْغَائِبِ فِي مَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا يُلْزِمُهُ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ بِتَرْبِيَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُلْزِمُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 50 فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ عَنْ الْغَائِبِ نَائِبٌ لِيُلْزِمَهُ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَائِبِ بِحِصَّتِهِ فِيمَا أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَجْرِ الْقَاضِي، وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ فِي أَجْرِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ حَضَرُوا جَمِيعًا فَقَالَ الْمُزَارِعُ: يَقْلَعُ الزَّرْعَ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَآخُذُ مِنْك أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَ الْمُزَارِعُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَرُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُزَارِعُ بِأَنْ لَا يَفِيَ نَصِيبُهُ مِنْ الزَّرْعِ بِذَلِكَ، فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي لِصَاحِبِ الزَّرْعِ: إنْ شِئْتَ فَاقْلَعْ الزَّرْعَ مَعَ الْمُزَارِعِ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَعْطِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الزَّرْعِ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْفِقْ عَلَى الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَتَكُونُ حِصَّتُهُ إلَى حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ النَّفَقَةِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُزَارِعُ عَلَى نَفَقَةٍ وَلَا أَجْرٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافَ مِلْكِهِ، وَأَحَدٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ قَالَ الْمُزَارِعُ: يُنْفِقُ عَلَى الزَّرْعِ، وَأَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَقَالَ: يَقْلَعُ الزَّرْعَ أَمْرُ الْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى حِصَّةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ فِي اخْتِيَارِ الْإِنْفَاقِ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يُحْيِي بِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَيُسَلِّمُ لَهُ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ فِي الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتٌ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ، فَلَا يَلْتَفِتُ الْقَاضِي إلَى تَعَنُّتِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُزَارِعَ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ الْإِنْفَاقِ، وَلَوْ سَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ بِالْإِبَاءِ يَدْفَعُ الْغُرْمَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُنَا صَاحِبُ الْأَرْضِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَمَرَ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا بِالنَّفَقَةِ كُلِّهَا، وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّرِكَةِ، فَإِنْ خِيفَ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَمَرْتُكَ بِالنَّفَقَةِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْتَ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ هَذَا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَلَمَّا صَارَ الزَّرْعُ بَقْلًا قَالَ الْعَامِلُ: لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا أَسْقِيهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَيَسْقِيَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ طَائِعًا فَيُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ، فَلَوْ أَجْبَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا أَنْفَقَ أُمِرَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ يُجْبَرُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، فَلَمْ يُنْفِقْ، فَأَمَرَ الْقَاضِي صَاحِبَهُ بِالنَّفَقَةِ، فَأَنْفَقَ رَجَعَ بِكُلِّهَا عَلَى شَرِيكِهِ هَلَكَتْ الْغَلَّةُ أَوْ بَقِيَتْ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَأَنْفَقَ شَرِيكُهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْفِقِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ أَصَابَ الْغَلَّةَ آفَةٌ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 51 إيفَاؤُهُ لِلْإِفْلَاسِ فَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَلَا يَبْطُلُ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَكُونُ الْآخَرُ كَالْفَائِتِ عَنْهُ شَرْعًا فِيمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مُجْبَرًا عَلَيْهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الِالْتِزَامُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْقَاضِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُ، وَمَعْنَى النَّظَرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْإِلْزَامُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغَلَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بِبَقَائِهِ، وَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَلَاكِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ أَمْرُ الْقَاضِي إلَّا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا صَغِيرًا لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عِنْدِي مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا مَا أَسْتَرْضِعُ بِهِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ شَرِيكَهُ فَاسْتَرْضَعَ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَجْرِ بَالِغًا مَا بَلَغَ إذَا كَانَ رَضَاعُ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ بَقِيَ الصَّبِيُّ أَوْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُجْبَرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ كَانَ أَمْرُ الْقَاضِي شَرِيكَهُ بِالْإِنْفَاقِ، كَأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي إيفَاءِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَبِمِثْلِهِ فِي الدَّابَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي الْقَضَاءِ، فَإِذَا أَنْفَقَ الشَّرِيكُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ نَصِيبِهِ، وَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الدَّابَّةِ؛ فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنَخْلٍ وَلِآخَرَ بِغَلَّتِهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ تُسَلَّمُ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا يُنْفِقُ، وَالْغُرْمُ مُقَابَلٌ بِالْغَنْمِ، فَإِنْ أَحَالَهُ، فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا فِي سَنَتِهِ لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى النَّفَقَةِ، أَمَّا صَاحِبُ النَّخْلِ فَلِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْغَلَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِهِ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ إنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ لِتُسَلَّمَ لَهُ الْغَلَّةُ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْغَلَّةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى النَّفَقَةِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ صَاحِبُ النَّخْلِ حَتَّى حَمَلَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ شَيْءٌ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَاحِبُ النَّخْلِ النَّفَقَةَ مِنْ الْغَلَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْغَلَّةِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ غُرْمُ نَفَقَتِهِ، وَإِنَّمَا نَفَقَتُهُ فِيمَا أَخْرَجَتْ النَّخْلُ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ إنَّمَا حَصَلَتْ بِالنَّفَقَةِ، فَلَا تُسَلَّمُ لَهُ الْغَلَّةَ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا أَنْفَقَ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْغَلَّةِ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَلَا يَرْجِعُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الزَّرْعُ الَّذِي وَصَفْنَا قَبْلَ هَذَا، وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُزَارِعُ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ مَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقْرَضَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَافِذٌ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَأَمْرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مُجْبَرًا عَلَيْهِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا مَا بَدَا لَهُ عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ مِنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 52 شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَغَرَسَهَا نَخْلًا أَوْ كَرْمًا أَوْ شَجَرًا فَأَثْمَرَ وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ حَتَّى مَاتَ الْمُزَارِعُ أَوْ رَبُّ الْأَرْضِ، فَالثَّمَرُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الثِّمَارِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، كَالزَّرْعِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، لِمَا فِيهِ مِنْ النَّظَرِ لَهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ ثَمَرٌ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ، وَصَارَ الشَّجَرُ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ نِصْفَيْنِ؛ فَإِنَّ الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فِي تَفْرِيغِ الْأَرْضِ مِنْهُ، وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْوَارِثُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا يَبْقَى زَرْعُ الْمُسْتَعِيرِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بِأَجْرٍ وَلَا يُفْعَلُ مِثْلُهُ فِي الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمُزَارِعُ، وَبَقِيَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَإِنْ قَالَ الْمُزَارِعُ: أَنَا آخُذُ مِنْ الْوَرَثَةِ نِصْفَ قِيمَةِ الْغَرْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا إنْ شَاءُوا قَلَعُوا ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا أَعْطَوْا الْمُزَارِعَ أَوْ وَرَثَتَهُ نِصْفَ قِيمَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ فِي أَرْضِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا، وَالْخِيَارُ فِي التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَلَوْ اتَّصَلَ صَبْغُ إنْسَانٍ بِثَوْبِ غَيْرِهِ كَانَ الْخِيَارُ فِي التَّمَلُّكِ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ لَا إلَى صَاحِبِ الصَّبْغِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْأَرْضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ فَلَا تَصِيرُ تَبَعًا لِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَهُوَ الشَّجَرُ، وَلَا فِي أَنْ يَتَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَقَّ قَرَارِ الْأَشْجَارِ بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ إنْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ كَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ حَقَّ قَرَارِ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْجَارِ فِي أَرْضِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا حَيَّيْنِ، فَلَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْأَرْضِ، وَلَا ثَمَرَ فِي الشَّجَرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ الْإِجَارَةَ، وَيُجْبَرُ رَبُّ الْأَرْضِ، فَإِنْ شَاءَ غَرِمَ نِصْفَ قِيمَةِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ، وَإِنْ شَاءَ قَلَعَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الدَّيْنِ الْفَادِحِ بِقَدْرِ إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فَيَنْقُضُ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ لِيَبِيعَ الْأَرْضَ فِي الدَّيْنِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ انْتِقَاضِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَبَقِيَتْ الْأَشْجَارُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ أَخَذَ الْأَرْضَ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ خِيَارٌ، وَلَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لَهُ: اقْلَعْ شَجَرَكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ مِنْ وَجْهٍ تَبَعٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 53 لِلْأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهٍ أَصْلٌ؛ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْأَشْجَارِ بِدُونِ الْأَرْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ، فَيَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالْأَصْلِ مِنْ وَجْهٍ: لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْأَشْجَارِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ السُّفْلِ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ بِالْقِيمَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِشَبَهِهِ بِالتَّبَعِ مِنْ وَجْهٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ إذَا كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي الْأَشْجَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي الْأَشْجَارِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَرِيكَهُ مِنْ قَلْعِ الْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّهُ يُبْقِي نَصِيبَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الْحَقَّ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْعِ نَصِيبِ نَفْسِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونَ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ تُقْلَعُ الْأَشْجَارُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا لِأَحَدِهِمَا، وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ فَصَاحِبُ الْأَشْجَارِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَلْعِ أَشْجَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ الْأَشْجَارَ بِقِيمَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَلْعُ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْأَرْضِ إضْرَارًا شَدِيدًا وَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهَا وَفَسَادًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَغْرَمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَشْجَارِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ الْفَاحِشَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ فَقَدْ بَعُدَ الْقَلْعُ، وَاحْتُبِسَتْ الْأَشْجَارُ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَتُحْبَسُ بِالْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ سَاحَةً، وَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَأْخُذَ السَّاحَةَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مُزَارَعَةً سَنَتَهُ هَذِهِ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَكَرَبَهَا الْعَامِلُ، وَبَنَاهَا وَحَفَرَ أَنْهَارَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ عَلَى الَّذِي دَفَعَهَا إلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهِ وَعَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ إنَّمَا أَقَامَ الْعَمَلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ بَعْضُ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، فَهَذِهِ أَعْمَالٌ تَسْبِقُ الْعَقْدَ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِسَبَبِهَا شَيْئًا عَلَى الدَّافِعِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّهَا بَعْدَ مَا زَرَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ، وَيَأْمُرُ الْمُزَارِعَ وَصَاحِبَ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَا الزَّرْعَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَغْصُوبَةً، وَالْغَاصِبُ لَا يَكُونُ فِي الزِّرَاعَةِ مُحِقًّا فَلَا يَسْتَحِقُّ إبْقَاءَ زَرْعِهِ، ثُمَّ الْمُزَارِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الزَّرْعِ عَلَى حَالِهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ لِلْآخَرِ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الَّذِي دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً نِصْفَ قِيمَةِ الزَّرْعِ نَابِتًا فِي الْأَرْضِ، وَتَسَلَّمَ الزَّرْعَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَعْطَاهُ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 54 مِلْكُهُ، وَاَلَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَثْبُتُ الْغُرُورُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ إبْقَاءَ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا فَاتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ نَابِتًا فِي الْأَرْضِ، كَالْمُشْتَرِي لِلْأَرْضِ إذَا زَرَعَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، وَقَلَعَ زَرْعَهُ، وَإِنْ أَخَذَ نِصْفَ الزَّرْعِ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِعَقْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَقَدَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَجَّرَ الدَّارَ أَوْ الْأَرْضَ فَالْأَجْرُ لَهُ، فَكَذَا هُنَا يَكُونُ نِصْفُ الزَّرْعِ لِلدَّافِعِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ لِلزَّارِعِ خَاصَّةً، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ نُقْصَانَ الْأَرْضِ الدَّافِعَ، وَإِنْ شَاءَ الزَّارِعَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُزَارِعُ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ غَصْبِ الْعَقَارِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِالْإِنْفَاقِ، وَفِي الْغَصْبِ خِلَافٌ، فَالدَّافِعُ غَاصِبٌ، وَالْمُزَارِعُ فِي مِقْدَارِ النُّقْصَانِ مُتْلِفٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِمُبَاشَرَتِهِ الْمُزَارَعَةَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ الضَّمَانُ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ الْغَاصِبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ الْخِيَارُ ثُمَّ الْمُزَارِعُ إذَا ضَمِنَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ ضَمِنَ لَهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ سَلَامَةَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ لَهُ، وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ كَالْمَغْرُورِ فِي جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا، وَاسْتَوْلَدَهَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ الَّذِي ضَمِنَ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ غَرَسَهَا نَخْلًا وَكَرْمًا وَشَجَرًا، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لَهُ الدَّافِعُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ، وَأَثْمَرَ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ أَرْضَهُ، وَيَقْلَعُ مِنْ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّجَرِ مَا فِيهَا، وَيَضْمَنَانِ لِلْمُسْتَحِقِّ نُقْصَانَ الْقَلْعِ إذَا قَلَعَا ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ بِالْقَلْعِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا الْقَلْعَ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا وَيَضْمَنُ الْغَارِسُ لَهُ أَيْضًا نُقْصَانَ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ نُقْصَانِ الْقَلْعِ وَالْغَرْسِ عَلَى الدَّافِعِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ جَمِيعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنَّ فِي النُّقْصَانِ بِالْغَرْسِ الْغَارِسُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِتْلَافِ، وَالدَّافِعُ غَاصِبٌ فِي ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: الْغَاصِبُ ضَامِنٌ كَالْمُتْلِفِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ الْغَاصِبِ، ثُمَّ الْغَارِسُ يَرْجِعُ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَجْلِ الْغُرُورِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 55 [بَابُ الْعُذْرِ فِي الْمُعَامَلَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، وَيَسْقِيَهُ، وَيُلَقِّحَهُ فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَقَامَ عَلَيْهِ، وَلَقَّحَهُ حَتَّى إذَا صَارَ بُسْرًا أَخْضَرَ مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، وَكَانَ الْبُسْرُ بَيْنَ وَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا مَاتَ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ثُمَّ انْتِقَاضُهَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى نَقْضِهَا فِي حَيَاتِهِمَا، وَلَوْ نَقَضَاهُ، وَالْخَارِجُ بُسْرٌ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَقُومُ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرَ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ فِي انْتِقَاضِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ إضْرَارًا بِالْعَامِلِ، وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ فِي الْأَشْجَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ يُكَلَّفُ الْجِدَادَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ ابْتِدَاءً لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إبْقَاؤُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ قَالَ الْعَامِلُ: أَنَا آخُذُ نِصْفَ الْبُسْرِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ بِمَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فَإِنْ شَاءُوا صَرَمُوا الْبُسْرَ، فَقَسَمُوهُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ شَاءُوا أَعْطَوْهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْبُسْرِ، وَصَارَ الْبُسْرُ كُلُّهُ لَهُمْ وَإِنْ شَاءُوا أَنْفَقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَرْجِعُوا بِنِصْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ، لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْبُسْرِ، وَاخْتِصَاصِ الْوَرَثَةِ بِمِلْكِ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ. وَاتِّصَالُ الثَّمَرِ بِالنَّخْلِ كَاتِّصَالِ النَّخْلِ بِالْأَرْضِ، وَاتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ فِي النَّخْلِ وَالْبِنَاءِ يَكُونُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَرِهَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، وَفِي قِيَامِهِمْ عَلَى النَّخْلِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ رَبِّ النَّخْلِ، وَتَوْفِيرُ حَقِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ نَصِيبِ مُورَثِهِمْ مِنْ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، كَمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَصْرِمُهُ بُسْرًا كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْخِيَارِ مِثْلُ مَا وَصَفْنَا لِوَرَثَتِهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا كَانَ الْخِيَارُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ إلَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 56 وَرَثَةِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْعَامِلِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَوْرِيثِ الْخِيَارِ بَلْ مِنْ بَابِ خِلَافَةِ الْوَارِثِ الْمُورَثَ فِيمَا هُوَ حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ، وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى النَّخِيلِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ كَانَ الْخِيَارُ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُعَامَلَةِ وَالْبُسْرُ أَخْضَرُ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْعَامِلِ، فَإِنْ شَاءَ عَمِلَ عَلَى مَا كَانَ يَعْمَلُ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، وَيَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْجِذَاذِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ إضْرَارًا بِهِمَا، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الزَّرْعِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَامِلُ إذَا اخْتَارَ التَّرْكَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ صَحِيحٌ، فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى نِصْفِ الْأَرْضِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَهُنَا لَا أَجْرَ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ النَّخِيلِ لِتَرْكِ الثِّمَارِ عَلَيْهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بَاطِلٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ اشْتَرَى زَرْعًا فِي أَرْضٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ اشْتَرَى ثِمَارًا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَشْجَارَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرٌ، وَإِذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ ابْتَنَى عَلَى الْفَرْقِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ الْعَمَلُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ مِلْكِهِمَا فِي الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمَّا اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَهُنَا الْعَمَلُ عَلَى الْعَامِلِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ رَبُّ النَّخِيلِ عَلَيْهِ أَجْرًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، كَمَا كَانَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، كَمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْعَامِلُ خُيِّرَ رَبُّ النَّخِيلِ بَيْنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ يَنْقُضْ الْمُعَامَلَةَ، وَلَكِنَّهُ لَحِقَ رَبَّ النَّخْلِ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا بِبَيْعِ النَّخْلِ، وَفِي النَّخْلِ بُسْرٌ أَوْ طَلْعٌ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ النَّخْلِ، وَيُخْرَجُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، وَتَنْقَضِيَ الْمُعَامَلَةُ ثُمَّ يُعَادُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ضَرَرًا بِالْعَامِلِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، وَفِي التَّرْكِ إضْرَارٌ بِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِمْ، وَبِمُقَابَلَةِ هَذَا الضَّرَرِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ إدْرَاكُ نَصِيبِ غَرِيمِهِمْ مِنْ الثَّمَرِ؛ لِيُبَاعَ فِي دَيْنِهِمْ فَتَكُونَ مُرَاعَاةُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ أَوْ لَحِقَ صَاحِبَ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ، وَقَدْ سَقَى الْعَامِلُ النَّخْلَ، وَقَامَ عَلَيْهِ، وَحَفِظَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا انْقَضَتْ الْمُعَامَلَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ شَيْءٌ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ مُعَامَلَةً؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ بَعْدُ لَمْ تَنْعَقِدْ الشَّرِكَةُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 57 بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ قَبْلَ انْعِقَادِ الشَّرِكَةِ، كَاعْتِرَاضِهَا فِي الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدُ يُنْتَقَضُ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِهِ بِالْمُسَمَّى، وَلَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الطَّلْعُ قَدْ خَرَجَ، وَهُوَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَا يَبْدُو مِمَّا هُوَ أَصْلُ التَّمْرِ مِنْ النَّخْلِ أَوْ صَارَ بُسْرًا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْأَرْضُ كَانَ النَّخْلُ وَمَا فِيهِ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ، وَكَمَا أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْضِ يُسْتَحَقُّ الْبِنَاءُ، فَكَذَلِكَ يُسْتَحَقُّ النَّخْلُ، وَالتَّمْرُ زِيَادَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ النَّخْلِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ يَثْبُتُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا إذَا كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ النَّخْلَ مُعَامَلَةً بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ ثُمَّ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْضِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ مُسْتَوْفًى بِعَمَلٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَاسْتُحِقَّ بَعْدَ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ زَرْعًا لَهُ فِي أَرْضٍ قَدْ صَارَ بَقْلًا مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، وَيَسْقِيَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى دَفْعِ النَّخِيلِ مُعَامَلَةً؛ لِأَنَّ الْحَبَّ يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّبَاتِ بِعَمَلِ الْعَامِلِ، كَالتَّمْرِ مِنْ النَّخِيلِ، وَلِأَنَّ الرِّيعَ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ هُنَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مُزَارَعَةً بَلْ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْغَرَرِ، فَهُنَاكَ لَا يُدْرَى أَيَكُونُ الزَّرْعُ أَوْ لَا، وَهُنَا الزَّرْعُ ثَابِتٌ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَحْصُلَ الرِّيعُ بِعَمَلِهِ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ آفَةٌ، وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ ثَمَّةَ فَهُنَا أَوْلَى، فَإِذَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى انْعَقَدَ حَبُّهُ، وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْعَامِلُ أَوْ وَرَثَتُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، فَيَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْمُعَامَلَةَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَحَقَّ بِتَرْبِيَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَوَارِثُهُ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَارَ نَقْضَ الْمُعَامَلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الزَّرْعِ أَوْ وَرَثَتُهُ بَيْنَ الْقَلْعِ وَبَيْنَ إعْطَاءِ قِيمَةِ نَصِيبِ الْعَامِلِ يَوْمئِذٍ، وَبَيْنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، ثُمَّ يَرْجِعَ بِنِصْفِ نَفَقَتِهِ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي التَّبَعِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَا جَمِيعًا، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَانَ دَفَعَهُ إلَيْهِ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً، فَانْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْأَشْجَارِ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِي الْفَصْلِ هَذَا عَلَى قِيَاسِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنْ قَالَ الْعَامِلُ أُرِيدُ قَلْعَهُ خَيَّرَ صَاحِبَ الْأَرْضِ بَيْنَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 58 الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا وَصَفْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ فِي النَّخِيلِ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَلْعَهُ، وَقَالَ الْعَامِلُ: أَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي لَهُ: أَنْفِقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، وَعَلَيْك أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ، فَإِذَا اسْتُحْصِدَتْ أُخِذَتْ نِصْفَ النَّفَقَةِ مِنْ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُخْتَارُ مِنْ الْإِنْفَاقِ بِقَصْدِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَصَاحِبُ الْأَرْضِ إذَا أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَنِّتًا، فَلَا يَلْتَفِتُ الْقَاضِي إلَى تَعَنُّتِهِ، وَلَوْ لَمْ تَنْقَضِ الْمُدَّةُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ الْأَرْضَ بِزَرْعِهَا أَخَذَهَا كُلَّهَا، وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الدَّافِعِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ ثُمَّ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حِينَ اسْتَحَقَّ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا فِيهِ طَلْعُ كُفُرَّى عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، وَيُلَقِّحَهُ، وَيَسْقِيَهُ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ وَقْتًا، أَوْ بَيَّنَ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ الطَّلْعِ لِإِدْرَاكِ الثِّمَارِ نِهَايَةٍ مَعْلُومَةً بِطَرِيقِ الْعَادَةِ، وَالْمَعْلُومُ بِالْعَادَةِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ، فَلَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ التَّوْقِيتِ ثُمَّ التَّمْرُ هُنَا يَحْصُلُ أَوْ يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ، فَبِاعْتِبَارِهِ تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا، كَمَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ قَبْلَ خُرُوجِ الطَّلْعِ، فَإِنْ قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ بُسْرًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، وَانْقَضَى وَقْتُ الْمُعَامَلَةِ فَالْخِيَارُ فِي الْعَمَلِ إلَى الْعَامِلِ، أَوْ وَارِثِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَعْمَلَ خَيَّرَ صَاحِبَ النَّخْلِ بَيْنَ إحْدَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هُنَا فِي الْجَوَابِ بَيْنَ الْمَوْتِ، وَبَيْنَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ خَارِجٌ عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ، فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا تَحْصُلُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ رَبُّ النَّخْلِ الْأَجْرَ عَلَى الْعَامِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، كَمَا لَا يُسْتَوْجَبُ عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ، وَالْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ إذَا اخْتَارَ التَّرْكَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ كَانَ عَلَى الدَّافِعِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ، وَقَدْ حَصَلَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ مَا سَقَاهُ الْعَامِلُ، وَقَامَ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَزْدَدْ شَيْئًا حَتَّى أَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ عَلَى الدَّافِعِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَجْرَ عَمَلِهِ نِصْفُ مَا تَحَصَّلَ بِعَمَلِهِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ أَصْلِ ثَمَرَةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ: إنَّ الشَّرِكَةَ تَحْصُلُ هُنَا عَقِيبَ الْعَقْدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ فِيمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ حَاصِلٌ قَبْلَ عَمَلِهِ تَابِعًا لَهُ فَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ حَاصِلٌ قَبْلَ عَمَلِهِ مَقْصُودًا فَلَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُعَامَلَةِ فِي النَّخِيلِ، وَلَوْ شَرَطَا هُنَاكَ الشَّرِكَةَ فِي النَّخِيلِ الْحَاصِلِ وَالثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا الشَّرِكَةُ فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 59 يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَحَقَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْعَامِلِ بِعَمَلِهِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ، وَمَاتَ أَحَدُهُمَا، اُنْتُقِضَتْ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِعَمَلِهِ شَيْءٌ، فَهُوَ نَظِيرُ مَوْتِ رَبِّ النَّخِيلِ فِي الْمُعَامَلَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الثِّمَارِ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، بِشَيْءٍ، فَكَانَ الْكُفُرَّى كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخِيلِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ مَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُزَارِعِينَ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا اشْتَرَطَا فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْبَذْرِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَنَّ لِلزَّارِعِ مَا أَخْرَجَتْ نَاحِيَةٌ مِنْ الْأَرْضِ مَعْرُوفَةٌ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ مَا أَخْرَجَتْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا أُخْرَى مَعْرُوفَةٌ، فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّيعِ مَعَ حُصُولِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ الرِّيعُ فِي النَّاحِيَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ الْعَمَلَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةُ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالْخَارِجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي أَرْضَيْنِ، وَفِي الْأَرْضَيْنِ إذَا شَرَطَ أَنْ يَزْرَعَ أَحَدُهُمَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْأُخْرَى بِبَذْرِهِ لِنَفْسِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ زَرْعٍ عَلَى السَّوَّاقِي فَهُوَ لِلْمُزَارِعِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَتْوَارِ وَالْأَوَاعِي فَهُوَ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا التِّبْنَ لِأَحَدِهِمَا، وَالْحَبَّ لِلْآخَرِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ التِّبْنُ دُونَ الْحَبِّ بِأَنْ يُصِيبَ الزَّرْعَ آفَةٌ قَبْلَ انْعِقَادِ الْحَبِّ، وَكُلُّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التِّبْنِ فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا إذَا شَرَطَا الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَهُمَا فِي الزَّرْعِ أَوْ الرِّيعِ أَوْ الْخَارِجِ مُطْلَقًا فَالْحَبُّ وَالتِّبْنُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِ الزَّارِعِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَهُمَا فِي التِّبْنِ، وَالْحَبُّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَهَذَا الْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَبُّ دُونَ التِّبْنِ، فَهَذَا شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُنَاصَفَةَ فِي الْحَبِّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلتِّبْنِ بِشَيْءٍ، فَهَذَا مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ وَالْحَبُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالتِّبْنُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَيْسَ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 60 الْأَجْرَ بِالشَّرْطِ، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: فِي هَذَا الْفَصْلِ التِّبْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيمَا لَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ الْمُنَاصَفَةُ بَيْنَهُمَا فِي التِّبْنِ وَالْحَبِّ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ التِّبْنَ فِي مَعْنَى التَّبَعِ لِلْحَبِّ وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي الْمَقْصُودِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّبَعِ مَا لَمْ يُفْصَلْ عَنْهُ بِشَرْطٍ آخَرَ فِيهِ مَقْصُودٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَبِّ، وَالتِّبْنُ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ ذِكْرِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَإِذَا نَصَّا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا صَرَّحَا بِمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ وَصْفُ الْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، فَلَوْ صَحَّحْنَا هَذَا الْعَقْدَ أَدَّى إلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ دُونَ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَحْصُلَ التِّبْنُ دُونَ الْحَبِّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَاسْتِحْقَاقُ رَبِّ الْبَذْرِ لَيْسَ بِالشَّرْطِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ ثُمَّ التِّبْنُ لِلْحَبِّ قِيَاسُ النَّخْلِ لِلتَّمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ لِصَاحِبِهِ لَا بِشَرْطِ الْمُزَارَعَةِ، وَالتَّمْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ لِلْعَامِلِ بِالشَّرْطِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالتَّمْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَوْ سَمَّيَا لِأَحَدِهِمَا أَقْفِزَةً مَعْلُومَةً فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ الْأَقْفِزَةَ الْمَعْلُومَةَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا عِشْرِينَ سَنَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا، وَيَغْرِسَهَا مَا بَدَا لَهُ عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّالَةَ لِلْأَشْجَارِ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ لِلْخَارِجِ، وَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ فِي الْمُزَارَعَةِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْغَرْسِ عَلَى الْعَامِلِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، وَمَا زُرِعَ وَغُرِسَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ حَبُّهُ وَتِبْنُهُ وَثَمَرُهُ وَرُطَبُهُ وَأُصُولُ الرُّطَبِ وَعِنَبُهُ وَكَرْمُهُ وَأُصُولُ الْكَرْمِ وَحَطَبُهُ وَعِيدَانُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِهِ وَبِقُوَّةِ أَرْضِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْغُرُوسَ تَتَبَدَّلُ بِالْعُلُوقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ غَصَبَ تَالَةً فَغَرَسَهَا كَانَ الشَّجَرُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ حَاصِلًا بِعَمَلِهِ، وَقَدْ اشْتَرَطَا الْمُنَاصَفَةَ فِي جَمِيعِهِ كَانَ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَهُمَا جَازَ وَالثَّمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، فَأَمَّا الشَّجَرُ وَالْكَرْمُ وَأُصُولُ الرُّطَبَةِ فَهُوَ لِلْغَارِسِ يَقْلَعُهُ إذَا انْتَقَضَتْ الْمُعَامَلَةُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا إذَا شَرَطَ الْمُنَاصَفَةَ فِي الْحَبِّ أَنَّ التِّبْنَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَهَذَا أَيْضًا الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، كَمَا شَرَطَا، وَالشَّجَرُ وَأُصُولُ الرُّطَبَةِ كُلُّهُ لِلْغَارِسِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالشَّرْطِ وَيَقْلَعُهُ انْقَضَتْ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الْأَرْضِ إلَى صَاحِبِهَا فَارِغَةً وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِقَلْعِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 61 الْأَشْجَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرَطَا ذَلِكَ لِلْغَارِسِ وَإِنْ كَانَا شَرَطَاهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً كَمَا بَيَّنَّا فِي التِّبْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ رَبِّ الْأَرْضِ بِالشَّرْطِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الشَّرْطَ أَدَّى إلَى أَنْ يَثْبُتَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْخَارِجِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لِصَاحِبِهِ بِالشُّرُوطِ، وَرُبَّمَا لَا يَثْبُتُ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ لَا تَحْصُلَ لَهُ الثِّمَارُ، وَلَوْ كَانَ الْغَرْسُ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ جَائِزًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّجَرَ وَالْكَرْمَ وَأُصُولَ الرُّطَبَةِ لِلْعَامِلِ، فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ هُنَا بِالشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ شَرَطَا الثَّمَرَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُعَامَلَةِ الشَّرِكَةُ فِي الثِّمَارِ، فَهَذَا شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْمُزَارَعَةِ الْحَبَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالتِّبْنَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَإِنْ اشْتَرَطَا فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ حِنْطَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ شَعِيرٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ كُلُّهُ يَسْتَوْفِيه فَيَأْخُذُهُ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَا الشَّعِيرَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهَا لِلَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ الْبَذْرُ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحِنْطَةِ حَبَّاتُ شَعِيرٍ، فَتُقْلَعُ، وَذَلِكَ إذَا اشْتَدَّ حَبُّهُ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ الْحِنْطَةُ وَتَجِفَّ فَإِذَا شَرَطَا ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيعٌ مَقْصُودٌ، فَهَذَا الشَّرْطُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي رِيعٍ مَقْصُودٍ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ الشَّعِيرُ، وَيُصِيبَ الْحِنْطَةَ آفَةٌ فَيَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَذَلِكَ يَنْفِي صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ دَفَعَ زَرْعًا فِي أَرْضٍ قَدْ صَارَ بَقْلًا مُزَارَعَةً وَاشْتَرَطَا أَنَّ الْحَبَّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالتِّبْنَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ سَكَتَا عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالتِّبْنُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَوْ شَرَطَا التِّبْنَ لِلْعَامِلِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّرْعِ الَّذِي صَارَ بَقْلًا مُزَارَعَةً كَدَفْعِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مُزَارَعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً، فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ الْفَضْلَ مُزَارَعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى شَرْطَيْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَالثُّلُثَانِ مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَالثُّلُثُ لِلْمُزَارِعِ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ، وَالثَّانِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 62 فَاسِدٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ إذَا دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ، فَقَالَ: إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ مُؤَاجِرٌ أَرْضَهُ مِنْ صَاحِبِ الْبَذْرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ إقَامَةَ الْعَمَلِ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بَدَلًا مُخَالِفًا لِلْبَدَلِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ فِي الْيَوْمِ، وَفِي الْغَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّرْطُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ إمَّا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَوَّلِ، أَوْ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ سَبَبَانِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، فَإِنْ زَرَعَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ زَرَعَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَأَجْرُ مِثْلِ الْعَامِلِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَعِنْدَهُمَا الشَّرْطَانِ جَمِيعًا جَائِزَانِ، فَإِنْ زَرَعَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَرَعَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي يَوْمِ كَذَا فَالْخَارِجُ مِنْهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا زَرَعَ مِنْهَا فِي يَوْمِ كَذَا فَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثُ الْخَارِجِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَاهُ، فَهَذَا فَاسِدٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَهَا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ؛ فَإِنَّ مِقْدَارَ مَا يَزْرَعُ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عَلَى شَرْطِ النِّصْفِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَكَذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يَزْرَعُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي عَلَى شَرْطِ الثُّلُثِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ لِلْجَهَالَةِ، كَمَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى خَيَّاطٍ عَلَى أَنَّ مَا خَاطَ مِنْهُ الْيَوْمَ فَبِحِسَابِ دِرْهَمٍ، وَمَا خَاطَ مِنْهُ غَدًا فَبِحِسَابِ نِصْفِ دِرْهَمٍ كَانَ فَاسِدًا كُلُّهُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى زَرَعَ نِصْفَهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَنِصْفَهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَمَا زَرَعَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَمَا زَرَعَ فِي الْوَقْتِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ صَحِيحًا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي الشَّرْطَانِ صَحِيحَانِ فَزِرَاعَةُ الْبَعْضِ مُعْتَبَرَةٌ بِزِرَاعَةِ الْكُلِّ، إذْ لَيْسَ فِي هَذَا التَّبْعِيضِ إضْرَارٌ بِأَحَدٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ إذَا خَاطَ نِصْفَ الثَّوْبِ الْيَوْمَ، وَنِصْفَهُ غَدًا فَلَهُ - فِيمَا خَاطَهُ الْيَوْمَ - نِصْفُ دِرْهَمٍ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَفِيمَا خَاطَهُ غَدًا - رُبُعُ دِرْهَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُنْقَصُ عَنْ رُبُعِ دِرْهَمٍ، وَلَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ مَا زَرَعَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَرَّحَ بِالتَّبْعِيضِ، وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَاوَلَهُ كُلُّ شَرْطٍ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ الْعَقْدُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 63 فَاسِدًا وَهُنَا أَضَافَ كُلَّ شَرْطٍ إلَى جُمْلَةٍ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ، وَالتَّبْعِيضُ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ، وَلَا جَهَالَةَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا بِدَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَالثُّلُثَانِ لِلْمُزَارِعِ، وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنْ زَرَعَهَا بِمَاءٍ سِيحَ أَوْ سَقَتْ السَّمَاءُ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَفْسُدُ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ، وَجَعَلَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءًا مِنْ الْخَارِجِ مَعْلُومًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ خَاطَهُ خِيَاطَةً رُومِيَّةً فَأَجْرُهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ خِيَاطَةً فَارِسِيَّةً فَأَجْرُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا زُرِعَ مِنْهَا بِدَلْوٍ فَلِلْعَامِلِ ثُلُثَاهُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، وَإِنْ زَرَعَ مِنْهَا بِمَاءٍ سِيحَ فَلِلْعَامِلِ نِصْفُهُ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِجَهَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلَيْنِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّبْعِيضِ، وَشَرَطَ أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا بِدَلْوٍ عَلَى أَنَّ لَهُ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَطَ الزِّرَاعَةَ بِمَاءِ السَّيْحِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَفَعَ إلَى الْخَيَّاطِ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ يَقْطَعُهَا قُمُصًا عَلَى أَنَّ مَا خَاطَ مِنْهَا رُومِيًّا فَلَهُ دِرْهَمٌ فِي كُلِّ ثَوْبٍ، وَمَا خَاطَ مِنْهَا فَارِسِيًّا فَلَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ ثَوْبٍ، وَهُنَاكَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ لِلْجَهَالَةِ، فَهَذَا قِيَاسُهُ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا يَزْرَعُهَا خَمْسَ سِنِينَ مَا بَدَا لَهُ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثُ، وَلِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَانِ، وَسَمَّيَا لِكُلِّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ أَيِّهِمَا شَرَطَ الْبَذْرَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْبَعْضِ، فَفِي السَّنَةِ الْأُولَى عَقْدُ إجَارَةٍ مُطْلَقٌ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْإِجَارَةِ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ كَأَنَّهُمَا أَفْرَدَا ذَلِكَ الْعَقْدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَالْعَقْدُ هُنَاكَ وَاحِدٌ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ فِي شَرْطِ الْبَدَلِ، ثُمَّ جَوَازُ الْمُزَارَعَةِ لِلْحَاجَةِ، وَهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ عَمَلٍ لِتَحْصِيلِ الرِّيعِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الْعَمَلِ لِنُقْصَانِ تَمَكُّنٍ فِي قُوَّةِ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَيَشْتَرِطُ لِلْمُزَارِعِ زِيَادَةً فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الْبَذْرَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ قِبَلِ الزَّارِعِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَبَيَّنَّا نَحْوَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ، فَفِي السَّنَةِ الْأُولَى الْعَامِلُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَفَعَ عَبْدَهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 64 إلَى حَائِكٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْحِيَاكَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْحَائِكُ فِي خَمْسَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بِبَذْرِهِ مَا بَدَا لَهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَعَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا فِي الثَّالِثَةِ بِبَذْرِ رَبِّ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْمُزَارِعِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا جَائِزٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى مُزَارَعَةٌ صَحِيحَةٌ بِنِصْفِ الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامِلُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ رَبُّ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَكُلُّ عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ، وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا أُرْزًا أَوْ قَالَ: رُزًّا - كُلُّ ذَلِكَ لُغَةٌ - عَشْرَ سِنِينَ، وَيَغْرِسَهَا نَوَى بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ، وَعَلَى أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأَرْضِ، وَيَسْقِيَهُ، وَيَقُومَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا مُزَارَعَةٌ بِشَرَائِطِهَا، وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْعَقْدِ زِيَادَةُ شَرْطِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْعَامِلِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِهِ يَزْكُو الرِّيعَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ عَمَلِ الْكِرَابِ وَالسَّقْيِ عَلَيْهِ ثُمَّ الْحَوَالَةُ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرَعُ كَالْبَاذِنْجَانِ وَالْأُرْزِ وَالْأَشْجَارِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ مَا يُحَوِّلُهُ بِعَيْنِهِ إمَّا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، أَوْ لِأَنَّ فِي شَرْطِ إعْلَامِ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَيْنِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ هَذِهِ أُرْزًا أَوْ هَذِهِ أُرْزًا بِبَذْرِهِ، وَعَلَى أَنْ يُحَوِّلَ مَا يَزْرَعُ فِي هَذِهِ فِي هَذِهِ الْأُخْرَى، وَمَا يَزْرَعُ فِي هَذِهِ فِي هَذِهِ الْأُخْرَى، وَيَسْقِيَهُ، وَيَقُومَ عَلَيْهِ، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي أَرْضَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا بِالزِّرَاعَةِ، وَفِي الْأُخْرَى بِالْحَوَالَةِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ مِنْ إحْدَاهُمَا، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا لَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ تَحْوِيلُ جَمِيعِ مَا يَنْبُتُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْضَيْنِ إلَى الْأَرْضِ الْأُخْرَى، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ لَا تَتَّسِعَ لَهُ الْأَرْضُ الْأُخْرَى، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يُحَوِّلُ جَمِيعَ مَا يَزْرَعُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إلَى الْأَرْضِ الْأُخْرَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 65 إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقْلَعَهُ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي زَرَعَ فِيهَا وَعَقْدُ الْمُزَارَعَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْضَيْنِ مَعْقُودٌ عَلَى حِدَةٍ، فَبِالْقَلْعِ يَنْتَهِي، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَقْدٍ عَمَلًا بَعْدَ انْتِهَاءِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ الْوَاحِدَةِ، فَالْعَقْدُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَا يَنْتَهِي بِتَحْوِيلِ بَعْضِ مَا نَبَتَ فِيهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْأَرْضَيْنِ لَوْ شَرَطَا الزَّرْعَ فِي إحْدَاهُمَا، وَالتَّحْوِيلَ إلَى الْأُخْرَى، وَالْغَرْسَ فِي إحْدَاهُمَا، وَالتَّحْوِيلَ إلَى الْأُخْرَى أَوْ كَانَتْ أَرْضًا وَاحِدَةً وَشَرَطَا أَنْ يَزْرَعَ أَوْ يَغْرِسَ نَاحِيَةً مِنْهَا مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا أُخْرَى مَعْلُومَةٍ، فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَيَّزَ إحْدَى النَّاحِيَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى كَانَتَا فِي مَعْنَى أَرْضَيْنِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَا يُحَوَّلُ، كَالزَّعْفَرَانِ، وَنَحْوِهِ إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضَهُ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ قُرْطُمًا، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ عُصْفُرٍ فَهُوَ لِلْمُزَارِعِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ قُرْطُمٍ فَهُوَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْقُرْطُمَ وَالْعُصْفُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيعٌ مَقْصُودٌ فِي هَذِهِ الزِّرَاعَةِ فَاشْتِرَاطُ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ شَرْطٌ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ بِالْمُزَارَعَةِ، وَهُوَ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّيعِ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّيعِ مَعَ حُصُولِهِ بِأَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْعُصْفُرُ ثُمَّ تُصِيبُهُ آفَةٌ فَلَا يَحْصُلُ الْقُرْطُمُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي شُرِطَ لَهُ الْعُصْفُرُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا؛ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً وَشَعِيرًا عَلَى أَنَّ الْحِنْطَةَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَالشَّعِيرَ لِلْآخَرِ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ نَوْعَانِ مِنْ الرِّيعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ كَبَذْرِ الْكَتَّانِ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ الْكَتَّانُ وَلِلْآخَرِ الْبَذْرُ وَالرُّطَبَةُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بَذْرَ الرُّطَبَةِ وَلِلْآخَرِ الْعِنَبَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَلَوْ شَرَطَا الْقُرْطُمَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالْعُصْفُرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ الْعُصْفُرَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالْقُرْطُمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيعٌ مَقْصُودٌ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ رِيعٍ مَقْصُودٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْكَتَّانِ وَبَذْرِهِ وَالرُّطَبَةِ وَبَذْرِهَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التِّبْنِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ لِصَاحِبِهِ الْبَذْرَ وَالْحَبُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ التِّبْنَ لَيْسَ بِرِيعٍ مَقْصُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالزِّرَاعَةِ لِمَقْصُودِ التِّبْنِ خَاصَّةً، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحَبُّ، فَإِذَا شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ جَازَ الْعَقْدُ إنْ شَرَطَا تَخْصِيصَ صَاحِبِ الْبَذْرِ بِمَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مَقْصُودٌ، فَاشْتِرَاطُ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُ بَذْرِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 66 الْبِطِّيخِ أَوْ الْقِثَّاءِ لِأَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ التِّبْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِلْمَقْصُودِ كَالتِّينِ بِخِلَافِ بَذْرِ الرُّطَبَةِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ، وَرُبَّمَا بَلَغَ قِيمَةَ الْقَتِّ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ، وَالْكَتَّانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اشْتِرَاطِ عَمَلِ الْعَبْدِ وَالْبَقَرِ مِنْ أَحَدِهِمَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هُوَ وَعَبْدُهُ هَذَا فَمَا خَرَجَ فَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثُهُ وَلِعَبْدِهِ ثُلُثُهُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَمَا خَرَجَ فَلِلْمُزَارِعِ ثُلُثَاهُ: نَصِيبُهُ وَنَصِيبُ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ بَلْ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ مَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ، فَاشْتِرَاطُ الثُّلُثِ لِعَبْدِ الْمُزَارِعِ يَكُونُ اشْتِرَاطًا لِلْمُزَارِعِ، وَاشْتِرَاطُ عَمَلِ عَبْدِ الْمُزَارِعِ مَعَهُ، كَاشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الزِّرَاعَةِ يَتَأَتَّى لَهُ بِالْبَقَرِ، وَبِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ ثُمَّ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمُزَارِعِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ عَمَلِ عَبْدِهِ مَعَهُ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا عَلَى الْعَبْدِ عَمَلًا، وَلَكِنَّهُ شَرَطَ لِعَبْدِهِ ثُلُثَ الرِّيعِ، فَالْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ مَشْرُوطٌ لِمَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ لِلْمُزَارِعِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَ الثُّلُثَ لِبَقَرِهِ، فَذَلِكَ اشْتِرَاطٌ مِنْهُ لِصَاحِبِ الْبَقَرِ، وَسَوَاءٌ شَرَطَ الْعَمَلَ بِبَقَرِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَوْ شَرَطَ الثُّلُثَ لِمُكَاتَبِهِ، أَوْ لِمُكَاتَبِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَمَلَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ مُزَارِعٌ مَعَهُ لَهُ ثُلُثُ الرِّيعِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا، فَهَذَا فِي مَعْنَى دَفْعِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مُزَارَعَةً إلَى حُرَّيْنِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ عَمَلًا فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الْأَرْضِ، فَاشْتِرَاطُ ثُلُثِ الْخَارِجِ لِلْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُكَاتَبِ لَا يَكُونُ مَشْرُوطًا لِمَوْلَاهُ؛ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ، فَالْمَشْرُوطُ لَهُ كَالْمَشْرُوطِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَبُطْلَانُ هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ بَذْرٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا عَمَلٌ، وَالْخَارِجُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّرْطَ وَرَاءَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الْأَرْضِ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، بَلْ يَكُونُ ثُلُثُ الرِّيعِ لِلْمُزَارِعِ كَمَا شُرِطَ لَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِرَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَالْمُزَارِعُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، فَمَا وَرَاءَ الْمَشْرُوطِ لَهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْبَذْرِ، وَيُجْعَلُ مَا بَطَلَ الشَّرْطُ فِيهِ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الثُّلُثَ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِأَبِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، إنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ مَعَهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 67 عَلَيْهِ الْعَمَلَ مَعَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَالْمُزَارَعَةُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ صَحِيحَةٌ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا شَرَطَ لِعَبْدِ الْعَامِلِ، فَهُوَ لِلْعَامِلِ سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ، وَمَا شَرَطَ لِمُكَاتَبِهِ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ الثُّلُثُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا شُرِطَ لَهُ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَعَمِلَ مَعَهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ؛ لِيَعْمَلَ مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَفْسُدُ بَيْنَهُمَا؛ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ حِينَ شَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَرْضِ مَعَ الْعَامِلِ الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ فَبِفَسَادِ أَحَدِهِمَا لَا يَفْسُدُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ لِلْعَامِلِ الْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَثُلُثَا الزَّرْعِ طَيِّبٌ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ خُبْثٌ مِنْ جَانِبِ الْأَرْضِ، حَيْثُ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ فَيَطِيبُ لَهُ ثُلُثُ الرِّيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِ بَقَرِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَعَبْدُ رَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ مَدْيُونًا بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَالْمَشْرُوطُ لَهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوطًا لِمَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَالْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوطًا عَلَى مَوْلَاهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ بَيْنَ الْعَامِلِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَذْرُ وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ كَمَا شُرِطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثُهُ، وَعَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا، وَيُعَالِجَهَا بِبَقَرِ فُلَانٍ عَلَى أَنَّ لِفُلَانٍ ثُلُثَ الْخَارِجِ، فَرَضِيَ فُلَانٌ بِذَلِكَ، فَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَقَرِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَقَرَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي الْمُزَارَعَةِ، فَكَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا فَاسِدًا، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ بَقَرِهِ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَيْهِ، وَثُلُثُ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ طَيِّبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الثُّلُثَانِ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ مَقْصُودٌ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ كَانَا اشْتَرَطَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ مَعَ بَقَرِهِ بِالثُّلُثِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ جَازَ، وَهُمَا مُزَارِعَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْبَقَرِ هُنَا تَبَعٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ اشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَى الْعَامِلِ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلَيْنِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 68 أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا كَسَائِرِ الْآلَاتِ إذَا شَرَطَ عَلَى أَحَدِ الْعَامِلَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ، وَالْعَمَلُ مِنْ ثَالِثٍ كَانَ فَاسِدًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ مُزَارَعَةً، وَدَفْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَقْصُودًا يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ، فَدَفْعُهُمَا أَوْلَى ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ يَتَصَدَّقُ صَاحِبُ الْبَذْرِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمْ، وَالْبَقَرُ مِنْ الْآخَرِ، وَالْأَرْضُ وَالْعَمَلُ مِنْ الْآخَرِ كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا، وَفِيهِ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ فِيهَا أُجَرَاءَ مِنْ مَالِ الزَّارِعِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَقْتَضِيه الْعَقْدُ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كُلِّهِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الزَّارِعِ، وَلَهُ أَنْ يُقَيِّمَهَا بِنَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ وَأُجَرَائِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَأْجِرُهُمْ؛ لِذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً، وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْأَرْضِ يَكُونُ أَجِيرًا لَهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَامِلًا لَهُ، وَاشْتِرَاطُ عَمَلِ أَجِيرِ رَبِّ الْأَرْضِ، كَاشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ الْمُزَارِعِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَا أَنْ يَسْتَأْجِرَا الْأُجَرَاءَ مِنْ مَالِ الْمُزَارِعِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِيمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي شَرَطَا فِيهِ رُجُوعَ الْمُزَارِعِ مِنْ الرِّيعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ لِلْمُزَارِعِ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ أَقْفِزَةً مَعْلُومَةً مِنْ الْخَارِجِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلَ رَبِّ الْأَرْضِ فَاشْتَرَطَ عَلَى الزَّارِعِ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ مِنْ مَالِهِ جَازَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إقَامَتِهَا بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ، وَلَوْ شَرَطَ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مَعَ الْمُزَارِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَاهُ عَلَى الزَّارِعِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَا لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدَ مِنْ الْخَارِجِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ الرِّيعُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَأَجْرُ مِثْلِ أُجَرَائِهِ فِيمَا عَمِلُوا، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُضَارَبَةَ فَإِنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ مِنْ الْمَالِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يَقْتَضِيه الْعَقْدُ، فَإِنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الْمُضَارِبِ إذَا خَرَجَ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْمَالِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَأُجَرَاءُ الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 69 فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُضَارَبَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ خَاصَّةً، وَالرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ أَجْرِ الْأُجَرَاءِ، كَمَا لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِ الْمَالِ، فَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَأَمَّا عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فَمُقْتَضَاهُ الشَّرِكَةُ فِي جَمِيعِ الرِّيعِ، فَاشْتِرَاطُ أَجْرِ الْأُجَرَاءِ مِنْ الرِّيعِ أَوْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْعَامِلُ فِي الرِّيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ رَفْعِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بَذْرَهُ مِنْ الرِّيعِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَا اشْتَرَطَا أَنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، وَتَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً كَانَ هَذَا شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُوجَبِ الْعَقْدِ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ التَّوْلِيَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) -: رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ فِيهِ الْأُجَرَاءَ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الزِّرَاعَةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ بِأَعْوَانِهِ وَأُجَرَائِهِ، وَلَمَّا اسْتَأْجَرَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مُطْلَقًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَلَى إقَامَةِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يُبْتَلَى بِسُوءٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْعَمَلِ مَعَهُ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِإِقَامَتِهِ الْعَمَلَ بِأَعْوَانِهِ وَأُجَرَائِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهَا أَحَدًا، فَيَدْفَعَهَا إلَيْهِ مَعَ الْبَذْرِ يَعْمَلُهَا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلْغَيْرِ شَرِكَةً فِي الْخَارِجِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنَّمَا رَضِيَ رَبُّ الْأَرْضِ بِشَرِكَتِهِ لَا بِشَرِكَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَصِيبَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِهِ لِغَيْرِهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِ نَصِيبِ رَبِّ الْأَرْضِ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَمِلَهَا الرَّجُلُ فَالزَّرْعُ بَيْنَ الْآخَرِ وَالْأَوْسَطِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ بِتَوَلِّيهِ الْعَقْدَ فِيهِ إلَى الثَّانِي، وَإِيجَابِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَبَذْرًا وَدَفَعَهُمَا مُزَارَعَةً كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى شَرْطِهِمَا لَا شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ بَذْرَهُ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ فَتَعَدَّى فِي حَقِّهِ الثَّانِيَ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ لَا عَلَى وَجْهٍ رَضِيَ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْأَوَّلُ بِالدَّفْعِ إلَى الثَّانِي مَعَ إيجَابِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ: يُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ، فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ: فَإِنَّمَا يُضَمِّنُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ الثَّانِيَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ بِعَمَلِهِ وَالْعَقَارُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 70 يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ دُونَ الْغَصْبِ عِنْدَهُمَا، فَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ الثَّانِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْبَذْرَ بِالضَّمَانِ، فَإِنَّمَا دَفَعَ بَذْرَهُ مُزَارَعَةً، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّ الثَّانِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا يَضْمَنُهُ لِأَجْلِ الْغُرُورِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالتَّوْلِيَةُ جَائِزَةٌ، وَنِصْفُ الْخَارِجِ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالدَّفْعِ إلَى الْغَيْرِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ مِنْ رَأْيِهِ، فَيَقُومُ هُوَ مَقَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ ثُمَّ هُوَ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشَّرِكَةِ لَهُ فِي الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ عِنْدَ حُصُولِهِ، وَقَدْ رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ حِينَ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ إذَا قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَأَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا بِبَذْرٍ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْبَذْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَعَمِلَا عَلَى هَذَا، فَجَمِيعُ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ ضَامِنٌ لِبَذْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى وَجْهٍ يُثْبِتُ لِلْغَيْرِ شَرِكَةً فِي الْخَارِجِ مِنْهُ، وَإِنْ خَلَطَهُ بِبَذْرِ الْآخَرِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِالْخَلْطِ؛ لِأَنَّهُ اشْتِرَاكٌ لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ، وَالْبَذْرِ ثُمَّ هُوَ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ بَذْرَ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَظَهَرَ أَنَّهُمَا زَرَعَا بِبَذْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْبَذْرِ، وَهُمَا ضَامِنَانِ نُقْصَانَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا عَمَلَ الزِّرَاعَةِ، فَكَانَا مُبَاشِرَيْنِ إتْلَافَ الْجُزْءِ الَّذِي تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الْأَرْضِ بِذَهَابِ قُوَّتِهَا فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ ذَلِكَ، وَلَا يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ مِنْ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَالْأَوَّلَ كَالْمُعِيرِ مِنْهُ لِنِصْفِ الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعِيرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مَا غَرِمَ، وَمَا أَنْفَقَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِرَأْيِهِ، وَيُشَارِكَ فِيهَا مَنْ أَحَبَّ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ، وَنِصْفُ الْخَارِجِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَنِصْفُهُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْمُزَارِعُ مُوَافِقٌ لَهُ فِي عَمَلِ الزِّرَاعَةِ فِيهِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 71 لِأَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ زَرَعَهُ الْأَوَّلُ، وَنِصْفَهُ زَرَعَهُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ كَالْمُعِيرِ مِنْهُ لِذَلِكَ النِّصْفِ، وَقَدْ رَضِيَ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَأَنْ يُشَارِكَ مَنْ أَحَبَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَارَكَهُ، وَلَكِنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْبَذْرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، وَيَبْذُرَ مِثْلَهُ مِنْ عِنْدِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ الْأَوَّلَ قَائِمٌ فِي الدَّفْعِ مَقَامَ الْمَالِكِ حِينَ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالِكَ إذَا دَفَعَ الْبَذْرَ وَالْأَرْضَ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا مَعَ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ لَهُ بِإِزَاءِ عَمَلِهِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ الْمُزَارِعُ الْآخَرُ لَهُ نِصْفُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ نِصْفِ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَاَلَّذِي يَلِي قَبْضَهُ مِنْ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الزَّرْعِ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْمَزَارِعُ الْأَوَّلُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا لَهُ بِالدَّفْعِ إلَى الثَّانِي بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْفَسَادِ، وَيَطِيبُ لَهُمَا هَذَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَارَ هَذَا النِّصْفُ مِنْ الزَّرْعِ مُرَبًّى فِي أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخُبْثُ، وَأَمَّا الْمُزَارِعُ الْآخَرُ، فَيَأْخُذُ مِمَّا أَخْرَجَ بَذْرَهُ وَنَفَقَتَهُ، وَمَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ رَبُّ الْأَرْضِ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، أَوْ يُشَارِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ ضَامِنًا بَذْرَ رَبِّ الْأَرْضِ بِالْخِلَافِ، فَالْخَارِجُ نَمَاءُ بَذْرِهِمَا بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ جَرَى بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْبَذْرِ، وَلِلْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ جَرَى بَيْنَهُمَا، وَالْأَوَّلُ، وَإِنْ صَارَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ، وَلَكِنَّ وُجُوبَ أَجْرِ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْعَاقِدُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، وَأَجَّرَهَا، وَيَضْمَنُهَا رَبُّ الْأَرْضِ نُقْصَانَ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ، وَالثَّانِي مُتْلِفٌ فِي مِقْدَارِ النُّقْصَانِ فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْآخَرُ عَلَى الْأَوَّلِ، إذَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْغُرُورُ يَتَمَكَّنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، كَمَا يَتَمَكَّنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُضَمِّنُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ النُّقْصَانِ أَيَّهمَا شَاءَ، فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 72 يُضَمِّنُ جَمِيعَ النُّقْصَانِ الْمُزَارِعَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ فِي الْعَقَارِ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ الْغَاصِبِ عِنْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمُزَارِعُ الْآخَرُ عَلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِالنِّصْفِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِذَلِكَ الْبَذْرِ عَلَى أَنَّ لِلْآخَرِ ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَلِلْأَوَّلِ ثُلُثَاهُ، فَعَمِلَهُمَا الثَّانِي عَلَى هَذَا فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثٌ، كَمَا شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا، وَالْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ صَارَ مُخَالِفًا بِإِشْرَاكِ الْغَيْرِ فِي الْخَارِجِ بِغَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَالِ، فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ بَذْرَهُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، فَإِنْ ضَمَّنَهَا الْآخَرَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنْ ضَمَّنَهَا الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّمَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ لِلْأَجْرِ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْأَوَّلُ مِنْ نَصِيبِهِ بَذْرَهُ الَّذِي ضَمِنَ وَمَا غَرِمَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فِي تَصَرُّفِهِ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ الْآخَرُ بِشَيْءٍ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَهُوَ سَهْوٌ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَاصِبًا مُخَالِفًا فَالثَّانِي إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَى عَمَلِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ الثَّانِي إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْخَارِجَ بِكَوْنِهِ نَمَاءَ بَذْرِهِ، وَقَدْ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِلْآخَرِ، وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَسُدُسُهُ لِلْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ إلَى الثَّانِي، وَلَكِنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ ثُلُثَ الْخَارِجِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ ثُلُثَا نَصِيبِهِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِ الْخَارِجِ، كَمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ، وَيَبْقَى ثُلُثُ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سُدُسُ جَمِيعِ الْخَارِجِ لَهُ بِضَمَانِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الْبَذْرَ وَالْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ فَمَا رَزَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ مَعَهُ بَعْدَ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِ الْأَوَّلِ عَلَى الْعُمُومِ، كَعَقْدِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَيَسْتَحِقُّ هُوَ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ هُنَا نِصْفَ جَمِيعِ الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مَا وَرَاءَ نَصِيبِ الْآخَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 73 إنَّمَا شَرَطَ رَبُّ الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الْخَارِجِ، فَلَا يَنْتَقِضُ حَقُّهُ بِعَقْدِ الْأَوَّلِ مَعَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَكَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ أَوْ قَالَ: مَا أَصَبْتُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَهَذَا، وَقَوْلُهُ وَمَا رَزَقَكَ اللَّهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا ضَامِنًا حِينَ زَرَعَهَا الْآخَرُ لِمَا قُلْنَا، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَيُضَمِّنُ رَبَّ الْأَرْضِ بَذْرَهُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَفِي نُقْصَانِ الْأَرْضِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ يَزْرَعْ الْآخَرُ حَتَّى ضَاعَ الْبَذْرُ مِنْ يَدِهِ أَوْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ فَفَسَدَتْ، وَدَخَلَهَا عَيْبٌ يُنْقِصُهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ إلَى الثَّانِي لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْبَذْرَ وَالْأَرْضَ، وَاسْتَعَانَ بِهِ فِي عَمَلِ الزِّرَاعَةِ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَا بِدَفْعِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْخَارِجِ، وَسَبَبُهُ إلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا السَّبَبُ لَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُخَالِفًا، فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ لَا تَكُونُ فِي الْبَذْرِ بَلْ تَكُونُ فِي النَّمَاءِ الْحَاصِلِ مِنْ الْبَذْرِ وَسَبَبُهُ لَيْسَ هُوَ قَبْضُ الْمُزَارِعِ الْبَذْرَ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ إلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ إلَى آخَرَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ، وَلِلْأَوَّلِ الثُّلُثُ، فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ، وَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ نَصِيبِهِ إنَّمَا يُوجِبُهَا لَهُ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الْخَارِجِ؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا حَصَلَ الْخَارِجُ كَانَ لِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ جَرَى بَيْنَهُمَا، وَالزَّرْعُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ عَمَلِ أَجِيرِهِ أَنْ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِالدَّرَاهِمِ إجَارَةً صَحِيحَةً، وَذَلِكَ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَيَطِيبُ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا الْفَسَادُ فِي الْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَى عَمَلِ الْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَلِسَبَبِهِ لَا يَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الْخَارِجِ. قَالَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُضَارَبَةَ يُرِيدُ بِهِ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ: فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ نِصْفَ الرِّبْحِ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 74 بِسُدُسِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَاسْتِحْقَاقُ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَ مَا شَرَطَهُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ يُثْبِتُ لِلْآخَرِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَوَّلِ بِمِثْلِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا، فَاسْتُحِقَّتْ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ طَعَامٌ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْآخَرِ، وَبَيْنَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْأَجْرُ مِنْ جِنْسِ الرِّبْحِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُ مِمَّا شُرِطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ مِقْدَارُ مَا تَمَكَّنَ الْأَوَّلُ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ أَثْلَاثًا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَيُضَمِّنُ رَبُّ الْأَرْضِ بَذْرَهُ أَيَّهمَا شَاءَ وَفِي نُقْصَانِ الْأَرْضِ اخْتِلَافٌ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ قَالَ لِلْأَوَّلِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ ثُلُثَا الزَّرْعِ لِلْآخَرِ، وَالثُّلُثُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مَا شَرَطَ هُنَا لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْخَارِجِ، بَلْ نِصْفَ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمُزَارِعَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ مَا وَرَاءَ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ الْآخَرِ، فَكَانَ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ جَمِيعُ مَا شُرِطَ لَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ عَلَى شَرْطِهِمَا [بَابُ تَوْلِيَةِ الْمُزَارِعِ وَمُشَارَكَتِهِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَرْضًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ بِبَذْرِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِك أَوْ لَمْ يَقُلْ فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ، وَبَذْرًا مَعَهَا إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُنَا مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا بِالدَّفْعِ مُزَارَعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا مَعَ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ الْمُزَارِعُ أَجَّرَ رَبَّ الْأَرْضِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِلْأَجِيرِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَمَّ الْأَجِيرُ عَامِلُ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِلْآخَرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 75 ثُمَّ إذَا حَصَلَ الْخَارِجُ هُنَا فَنِصْفُهُ لِلْآخَرِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، كَمَا أَوْجَبَهُ لَهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ، كَمَا شَرَطَ لَهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِغَيْرِهِ جَمِيعَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ ثُمَّ أَجَرَهَا مِنْ الْآخَرِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَاجِرَ فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي اسْتِيفَائِهِ، وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ ثُلُثَ الْخَارِجِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا جَازَ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ النِّصْفُ، وَلِلْأَوَّلِ السُّدُسُ طَيِّبٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ فَاضِلٌ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عَاقِدُ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَيُسَلَّمُ الْفَضْلُ لَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِهِ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مُسْتَأْجِرُ الْأَرْضِ، وَقَدْ أَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ أَنْ زَادَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَطِيبَ لَهُ الزِّيَادَةُ، قُلْنَا: هَذَا فِي أَجْرٍ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، فَيُقَالُ: إنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ فَأَمَّا فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْعَقْدِ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ، وَسَلَامَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ قَالَ: مَا أَصَبْت أَوْ مَا خَرَجَ لَك مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ، وَبَذْرًا مَعَهَا إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ، فَنِصْفُ الْخَارِجِ لِلْآخَرِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ إنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ هُنَا نِصْفَ مَا يَرْزُقُ اللَّهُ الْمُزَارِعَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ الْآخَرِ، فَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْأَوَّلِ أَوْ الْآخَرِ، وَلَوْ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْأَوَّلِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَهَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَدَفَعَهَا الْأَوَّلُ إلَى الْآخَرِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَهَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنَّ لِلْآخَرِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ، وَلِلْأَوَّلِ الثُّلُثُ، فَعَمِلَهَا عَلَى ذَلِكَ فَثُلُثَا الْخَارِجِ لِلْآخَرِ نَمَاءَ بَذْرِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْغَيْرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ لِلْأَوَّلِ ثُلُثَ الْخَارِجِ ثُمَّ هَذَا الثُّلُثُ يَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ ثُلُثِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ثُلُثَ ذَلِكَ النِّصْفِ بَلْ اسْتَحَقَّهُ الْمُزَارِعُ لِلْأَجْرِ، وَاسْتِحْقَاقُ بَعْضِ مَا هُوَ أَجْرٌ لِلْأَرْضِ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَهُ رَجَعَ بِأَجْرِ مِثْلِ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ ثُلُثَهُ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْأَوَّلِ كَانَ ثُلُثَا الْخَارِجِ لِلْأَجِيرِ، كَمَا أَوْجَبَهُ لَهُ الْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ، وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ ثُلُثِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 76 أَرْضِهِ عَلَى الْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ هُنَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالشَّرْطِ، وَشَرْطُ النِّصْفِ لِرَبِّ الْأَرْضِ كَانَ أَسْبَقَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ بِإِيجَابِ الْأَوَّلِ لَهُ شَيْئًا مِنْ النِّصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْأَرْضِ، قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةً قَبْلَ حُصُولِ الْخَارِجِ، وَحُكْمًا قَبْلَ لُزُومِ السَّبَبِ، وَالسَّبَبُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَصَحَّ مِنْهُ اشْتِرَاطُهُ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ لِلْآخَرِ يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَا اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ فِي بَعْضِ مَا شُرِطَ لَهُ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لَهُ بَيْنَ أَجْرِ الْمِثْلِ وَشَيْءٍ مِنْ الْخَارِجِ، فَإِنَّهُ يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، وَلَوْ أَبْطَلْنَا حَقَّ رَبِّ الْأَرْضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ الْخَارِجِ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْأَرْضِ، فَالضَّرَرُ الَّذِي يَلْحَقُهُ يُعَوَّضُ بِعَدْلِهِ، وَالضَّرَرُ الَّذِي يَلْحَقُ الْآخَرَ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ دَفَعَهَا إلَى الْآخَرِ مِنْحَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ مِنْهُ شَيْئًا لِغَيْرِهِ، وَالْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مِنْهُ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ، وَاسْتَحَقَّهُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بِاسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْأَوَّلِ، فَاسْتَعَانَ بِإِنْسَانٍ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَعْمَلُ لَهُ فِيهَا فَنِصْفُ الْخَارِجِ لِلْأَوَّلِ وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ وَمُعِينِهِ، كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ بِالنِّصْفِ، وَلَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَشَارَكَ فِيهَا رَجُلًا آخَرَ، فَأَخْرَجَا جَمِيعًا بَذْرًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ جَازَ لِأَنَّ؛ الْأَوَّلَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ، فَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِلْأَرْضِ، وَالْمَالِكُ لِلْأَرْضِ لَوْ شَارَكَ فِيهَا رَجُلًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرٍ بَيْنَهُمَا، وَالْخَارِجُ نِصْفَانِ جَازَ، وَيَكُونُ هُوَ مُعِيرًا نِصْفَ الْأَرْضِ مِنْ الْآخَرِ، كَذَلِكَ هُنَا ثُمَّ نِصْفُ الْخَارِجِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَنِصْفُهُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَهَذَا الْخَارِجُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ خَارِجٌ مِنْ نِصْفِ الْأَرْضِ، فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ بِالشَّرْطِ وَعَلَى الْأَوَّلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ قَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُزَارِعُ الْآخَرُ، وَقَدْ كَانَ الْمُزَارِعُ الْأَوَّلُ أَوْجَبَ لِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، وَلَوْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى الْأَجِيرِ خَاصَّةً فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوَّلَ جَعَلَ لِلثَّانِي مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْأَرْضِ لَهُ، وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَحْتَمِلُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 77 مِثْلَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ نِصْفُ الزَّرْعِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ لِلْمُزَارِعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَيَتَصَدَّقُ الْمُزَارِعُ الْآخَرُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ تَمَكَّنَ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُ الزَّرْعِ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا، فَمَا سَلِمَ لَهُمَا يَكُونُ عَلَى الشَّرْطِ بَيْنَهُمَا طَيِّبًا لَهُمَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يُخْرِجُ لَهُ جَمِيعُ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا أَخْرَجَهُ نِصْفُ الْأَرْضِ، فَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُزَارِعُ الْأَجْرَ كُلَّهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ دَفْعِ الْمُزَارِعِ الْأَرْضَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مَمْلُوكِهِ مُزَارَعَةً] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَقَبَضَهَا ثُمَّ اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى عَمَلِهَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْأَجْرُ لَهُ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِعَانَتَهُ بِرَبِّ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعَانَتِهِ بِغَيْرِهِ، وَعَمَلُ الْمُعِينِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلِ الْمُسْتَعِينِ بِهِ، ثُمَّ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ عَلَى سَبِيلِ النَّقْضِ مِنْهُ لِلْمُزَارَعَةِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ مِنْهُ عَلَى عَامِلِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ كَانَ الْأَجْرُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ يَعْتَمِدُ تَسْلِيمَ الْعَمَلِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ بِبَذْرِهِ، فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ كَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ عَمِلَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعَانَةِ سَوَاءً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَمَلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّخْلِيَةَ شَرْطُ الْعَقْدِ، فَكُلُّ شَرْطٍ يَفُوتُهُ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَا يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُ التَّخْلِيَةِ بِإِعَانَةِ رَبِّ الْأَرْضِ الْمُزَارِعَ، فَهُوَ قِيَاسُ الْمَرْهُونِ إذَا أَعَادَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ أَوْ غَصَبَهُ مِنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الرَّهْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ يَزْرَعُهَا عَلَى أَنَّ لَهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ، فَعَمِلَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُزَارَعَةِ الْأُولَى لَا يُفْسِدُهَا مَا صَنَعَا وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى الْمُزَارِعِ، فَكَمَا لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 78 دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ، بَلْ يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا مِنْ الْمُزَارِعِ بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ لِبَعْضِ نَصِيبِهِ، فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْخَارِجِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ حَطَّ ثُلُثَهُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؟ قُلْنَا لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا كِنَايَةً عَنْ الْحَطِّ، كَمَا لَا يُجْعَلُ بَيْعُ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ هِبَةً ثُمَّ هَذَا الْحَطُّ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، بَلْ هُوَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَكَمَا لَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي أَرْضِهِ وَبَذْرِهِ عِوَضًا عَلَى الْغَيْرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ حَطَّ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الْغَيْرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَلِ أُجَرَاءَ كَانَ أَجْرُ الْأُجَرَاءِ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُمْ لِإِيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُمْ بِمُقَابَلَةِ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ عَلَى ذَلِكَ عَبْدَ رَبّ الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ، فَكَمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ أَجْرًا عَلَى الْمُزَارِعِ وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِ عَبْدِهِ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، وَالْأَجْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِغُرَمَائِهِ، فَاسْتِئْجَارُ الْعَبْدِ عَلَى الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَاسْتِئْجَارِ بَعْضِ غُرَمَائِهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبَ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ ابْنَهُ جَازَ، لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ، وَابْنُهُ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَهُمَا فِي الْمَعْنَى مُسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فِي أَرْضِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْمُعَامَلَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قِيَاسُ الْمُزَارَعَةِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِالنِّصْفِ، فَلَمَّا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبَذْرَ، فَبَذَرَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُزَارِعِ فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، فَذَلِكَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْفَرِدُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَقَدْ صَارَ فَاسِخًا حِينَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُزَارِعِ وَزَرَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعِينًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعِينَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَكَانَ فَاسِخًا لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعِينًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ، فَلَا يُجْعَلُ فَاسِخًا لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى اسْتَعَانَ بِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ قَصْدَهُ إعَانَتُهُ لَا فَسْخُهُ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْبَذْرِ حِينَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُزَارِعِ، فَالْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُزَارِعِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 79 قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْعَقْدَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَيَصِيرُ هُوَ غَاصِبًا لِلْبَذْرِ، وَمَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَذْرُ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لِلْمُزَارِعِ شَيْءٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ فَوَّتَهَا غَاصِبٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ شَيْءٌ فَهَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) -: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يَكْرِيَ الْعَامِلُ أَنْهَارَهَا فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُؤَاجِرٌ أَرْضَهُ بِنِصْفِ الْخَارِجِ وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِكَرْيِ الْأَنْهَارِ يَأْتِيهَا الْمَاءُ وَيَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كَرْيَ الْأَنْهَارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، قُلْنَا: إذَا شُرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَعَ نِصْفِ الْخَارِجِ مُؤْنَةَ كَرْي الْأَنْهَارِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ثُمَّ مَنْفَعَةُ كَرْي الْأَنْهَارِ تَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ، وَشَرْطُ مَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَى الْمُزَارِعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَإِنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا، وَكَرَى الْأَنْهَارَ كَانَ الْخَارِجُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلِلْعَامِلِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَرْيُ الْأَنْهَارِ مَشْرُوطًا عَلَى الْعَامِلِ فِي الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ كَرَى الْأَنْهَارَ بِنَفْسِهِ، فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي كَرْيِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِإِيفَاءِ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَوَّطَهَا، وَكَذَلِكَ إصْلَاحُ الْمُسَنَّاةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَى الْمُزَارِعِ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ بَاشَرَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَقَدْ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَرَاءَ مَا يَقْتَضِيه الْمُزَارَعَةُ وَمَنْفَعَةُ هَذَا تَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ عَمَلِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ اشْتَرَطَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَرْيَ الْأَنْهَارِ، وَإِصْلَاحَ الْمُسَنَّاةِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الشُّرْبُ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً عَلَى شَرْطِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 80 لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْعَامِلِ، فَاشْتِرَاطُهُمَا عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ عِوَضٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ يُطَيِّنَ رَبُّ الدَّارِ سُطُوحَهَا، وَعَلَى أَنْ يُصْلِحَ مَسَارِبَهَا لِمَسِيلِ الْمَاءِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ بِدُونِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَبُّ الدَّارِ فَوُكِفَتْ الْبُيُوتُ، وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ بَيِّنٌ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً، وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ عَلَيْهِ، كَاشْتِرَاطِ مُؤْنَتِهَا لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّارِ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ، وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كِرَابَهَا أَوْ الْكِرَابَ وَالثُّنْيَانَ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي جَانِبِ الْأَرْضِ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَمُوجَبُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ، وَاشْتِرَاطُ الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ عَلَيْهِ يُفَوِّتُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ثُمَّ الْكِرَابُ وَالثُّنْيَانُ مِنْ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ، وَاشْتِرَاطُ بَعْضِ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ الْحِفْظِ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ وَعَمَلِهِ فِي الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ يُتَقَوَّمُ عَلَى الْعَامِلِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يَغْرَمُ أَجْرَ مِثْلِ الْأَرْضِ مَكْرُوبَةً أَوْ مَكْرُوبَةً مُسَنَّاةً؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا فِي وَقْتِ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا، وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَا يَكُونُ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْكِرَابُ وَالثُّنْيَانُ يَسْبِقُ ذَلِكَ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الْكِرَابَ فِي الثُّنْيَانِ بِالْبَقَرِ يَكُونُ، وَاشْتِرَاطُ الْبَقَرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا يَجُوزُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَنْ يُسَرْقِنَهَا أَوْ يَعْذِرَهَا، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ فَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ إتْلَافَ عَيْنِ مَالٍ لَا يَقْتَضِيه عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ وَقِيمَةُ سِرْقِينِهِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيمَا بَقِيَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 81 لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا عَمِلَ لِنَفْسِهِ، وَمَا بَقِيَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَثَرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُتَقَوَّمْ أَصْلُ عَمَلِهِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَكَذَلِكَ أَثَرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْكِرَابِ وَالثُّنْيَانِ، وَهَذَا، لِأَنَّ إلْقَاءَ السِّرْقِينَ وَالْعُذْرَةِ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَقَبْلَ الْكِرَابِ أَيْضًا، وَأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ إلْقَاءِ الْعُذْرَةِ وَالسِّرْقِينِ، وَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى الْعَامِلِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا عَلَى الْعَامِلِ مَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَقِيمَةُ مَا طَرَحَ مِنْ السِّرْقِينِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ كُلَّهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا إجَارَةً فَاسِدَةً لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ بِصَبْغٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَقِيمَةُ صَبْغِهِ وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يَعْذِرَهَا، وَلَا يُسَرْقِنَهَا، وَالْبَذْرُ مِنْهُ أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا طَالِبَ بِهِ، فَإِنَّ فِي إلْقَاءِ الْعُذْرَةِ وَالسِّرْقِينِ فِي الْأَرْضِ مَنْفَعَةٌ لِلْأَرْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ يَكُونُ لِتَوَفُّرِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي هَذَا الشَّرْطِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا مُطَالِبَ بِهِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَجَّرَ أَرْضَهُ اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ لَا يُدْخِلَهَا كَلْبًا، وَلَا يَعْذِرَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ لِمَعْنَى التَّقَذُّرِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ مَا اشْتَرَطَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَرَأَيْتَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهَا كَلْبًا، كَمَا اشْتَرَطَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ هَذَا مُفْسِدًا لِلْمُزَارَعَةِ، وَلَيْسَ يُفْسِدُهَا هَذَا، وَيَتَخَيَّرُ الْمُزَارِعُ إنْ شَاءَ أَدْخَلَهَا كَلْبًا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُدْخِلْهَا، فَكَذَلِكَ إذَا شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْذِرَهَا، وَلَا يُسَرْقِنَهَا يَتَخَيَّرُ الْمُزَارِعُ فِي ذَلِكَ، فَلَوْ اشْتَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ دُولَابًا أَوْ دَالِيَةً بِأَدَاتِهَا، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَاشْتَرَاهُ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَعَمِلَ عَلَى هَذَا، وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ رَبُّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْقِي بِهِ الْأَرْضَ، وَالسَّقْيُ عَلَى الْعَامِلِ، فَاشْتِرَاطُهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ السَّقْيُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَيْسَ السَّقْيُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَاشْتِرَاطُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ السَّقْيُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ السَّقْيِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الَّتِي يَسْقِي عَلَيْهَا بِالدُّولَابِ إنْ اشْتَرَطَهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، الجزء: 23 ¦ الصفحة: 82 وَإِنْ اشْتَرَطَهَا عَلَى الْعَامِلِ جَازَ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الدُّولَابِ لِلسَّقْيِ، كَاشْتِرَاطِ الْبَقَرِ لِلْكِرَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَقَرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَاشْتِرَاطُهَا عَلَى الْعَامِلِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الدَّوَابِّ لِلسَّقْيِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ الدُّولَابَ وَالدَّوَابَّ عَلَى الْعَامِلِ، وَشَرَطَ عَلَفَ الدَّوَابِّ كَذَا مَخْتُومًا شَعِيرًا وَسَطًا كُلَّ شَهْرٍ وَكَذَا مِنْ الْقَتِّ وَكَذَا مِنْ التِّبْنِ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِطُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِعَلْفِ دَوَابِّ الْمُزَارِعِ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِلْمُزَارِعِ، وَاشْتِرَاطُ شَيْءٍ لَهُ مِنْ غَيْرِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْمُزَارَعَةِ؛ فَإِنَّهَا شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهَا مَالٌ آخَرُ، فَإِنْ حَصَلَ الْخَارِجُ فَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ وَمِثْلِ مَا أَخَذَ مِنْ الْمُزَارِعِ مِنْ الشَّعِيرِ وَالْقَتِّ وَالتِّبْنِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذَلِكَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْعَامِلِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَلْفَ دَوَابِّهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْعَمَلِ جَازَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْبَقَرِ لِلْكِرَابِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْبَقَرَ لِلْكِرَابِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الدُّولَابَ وَالدَّوَابَّ لِلسَّقْيِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ أَجِيرُهُ، فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ؛ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ بِأَدَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِذَا اشْتَرَطَا الدَّوَابَّ وَالدُّولَابَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَفَ الدَّوَابِّ شَيْئًا مَعْرُوفًا عَلَى الْمُزَارِعِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُزَارِعِ عَلْفَ دَوَابِّ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ رَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ طَعَامَ غُلَامِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ سَوَاءٌ سَمَّى طَعَامًا مَعْرُوفًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاشْتِرَاطِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا الدَّوَابَّ وَالدُّولَابَ عَلَى الْمُزَارِعِ وَعَلْفَ الدَّوَابِّ عَلَى رَبِّ الْأَرْضَ وَلَوْ اشْتَرَطَا الدَّابَّةَ وَعَلْفَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالدُّولَابَ عَلَى الْآخَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَلْفَ الدَّابَّةِ مَشْرُوطٌ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ اشْتِرَاطُ الدَّوَابِّ وَالدُّولَابِ عَلَى أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ أَيَّهمَا كَانَ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ يَكُونُ صَحِيحًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُزَارَعَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْمُعَامَلَةُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) -: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ مُزَارَعَةً، وَفِيهَا نَخِيلٌ عَلَى أَنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 83 يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَاشْتَرَطَا ذَلِكَ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأَرْضِ الْعَامِلَ مُسْتَأْجِرٌ لَهَا بِنِصْفِ الْخَارِجِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ، وَفِي حَقِّ النَّخِيلِ رَبُّ النَّخِيلِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِنِصْفِ الْخَارِجِ، فَهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ جُعِلَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ. ثُمَّ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيَتَصَدَّقُ الْمُزَارِعُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَالْخَارِجُ مِنْ النَّخْلِ كُلِّهِ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ فِي النَّخِيلِ، وَيَطِيبُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا فِي النَّخْلِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ فِي الزَّرْعِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْجَوَابُ وَاحِدٌ، وَهَذَا أَبْيَنُ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ مُخْتَلِفٌ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ لِيَعْمَلَ فِي أَرْضِهِ وَنَخْلِهِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَاحِدًا لِاتِّحَادِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَيْنِ مُزَارَعَةً؛ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا عَلَى الْعَامِلِ فِي النَّخِيلِ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الثِّمَارِ، وَفِي الزَّرْعِ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ الْمَشْرُوطِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبِدِينَارٍ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْعَقْدُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَمَلُ الْعَامِلِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَكَرْمًا عَلَى نَحْوِ هَذَا كَانَ الْجَوَابُ كَالْجَوَابِ فِي النَّخْلِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا بَيْضَاءَ فِيهَا نَخِيلٌ فَقَالَ: أَدْفَعُ إلَيْك هَذِهِ الْأَرْضَ تَزْرَعُهَا بِبَذْرِك وَعَمَلِك عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ، وَأَدْفَعُ إلَيْك مَا فِيهَا مِنْ النَّخِيلِ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ، وَتَسْقِيَهُ، وَتُلَقِّحَهُ، فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَانِ أَوْ قَالَ: لَك مِنْهُ الثُّلُثُ، وَلِي الثُّلُثَانِ، وَقَدْ وَقَّتَا لِذَلِكَ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ هُنَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ لَا لِلشَّرْطِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ جَعَلَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ لِأَنَّ حَرْفَ عَلَى لِلشَّرْطِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبِيعُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَسْتَأْجِرَ مِنِّي هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إجَارَةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفٍ وَأُؤَجِّرُ كَهَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدَهُمَا شَرْطًا فِي صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الدَّارَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 84 بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ هَذِهِ الْأَمَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَأَبِيعُكَ هَذِهِ الْأَمَةَ، وَقَدْ أَجَابَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَاتِ وَالتَّوْفِيقَ فِيمَا أَمْلَيْنَا مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَكَرْمًا، وَقَالَ: ازْرَعْ هَذِهِ الْأَرْضَ بِبَذْرِكَ عَلَى هَذَا الْكَرْمِ فَاكْسَحْهُ وَاسْقِهِ، فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَا شَرَطَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ فَلَا يَفْسُدُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْخِلَافِ فِي الْمُزَارَعَةِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ سَنَتَهُ هَذِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُسَمِّيَا الْبَذْرَ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ ثُمَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِك، وَلَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْآخَرِ، وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، أَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُشْتَرَكًا فَأَمَّا فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ تَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ لِلْعُرْفِ، فَتَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِالرُّجُوعِ إلَى الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمُزَارِعِ: عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا سَنَتَكَ هَذِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَالْمَزَارِعُ هُوَ الَّذِي يَزْرَعُ الْبَذْرَ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا سَنَتَكَ هَذِهِ لِنَفْسِك بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ هُوَ أَجِيرًا عَامِلًا لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَفِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبَذْرِ عَلَى الْمُزَارِعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الزَّرْعِ أَضَرُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَا لَمْ يُبَيَّنْ جِنْسُ الْبَذْرِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ مَا يَسْتَوْفِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُطَالِبُهُ بِأَنْ يَزْرَعَ فِيهَا أَقَلَّ مَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمُزَارِعُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 85 يَأْبَى إلَّا أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا أَضَرَّ الْأَشْيَاءِ بِالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ فِي جَهَالَةِ جِنْسِ الْبَذْرِ جَهَالَةُ جِنْسِ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِتَسْمِيَةِ جِنْسِ الْبَذْرِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُجِيزَ الْعَقْدَ، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالرُّطَبَةِ وَالسِّمْسِمِ وَالشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ يَحْصُلُ تَعْيِينُ جِنْسِ الْبَذْرِ بِتَعْيِينِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ يَعْلَمُونَ كُلَّ أَرْضٍ صَالِحَةٍ لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ فِيهَا أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجْرِي الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ فِيهَا لِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْحَظِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ مَعْلُومَةٌ بِتَعْيِينِ الْأَرْضِ، وَالضَّرَرُ فِي أَنْوَاعِ مَا يَزْرَعُهَا فِيهَا يَتَفَاوَتُ فَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، كَمَا لَوْ أُسْتَأْجَر دَارًا لِلسُّكْنَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَسْكُنُهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا كَرْمًا وَلَا شَجَرًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْعَقْدِ: ازْرَعْهَا لِنَفْسِكَ، وَعَمَلُ الْغَرْسِ غَيْرُ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الضَّرَرِ عَلَى الْأَرْضِ فَاحِشٌ فَلَا يَسْتَفِيدُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِأَدْنَاهُمَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا لِيَسْكُنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِيهَا قَصَّارًا، وَلَا حَدَّادًا، وَلَوْ كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ سَنَتَهُ هَذِهِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ زَارِعًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ هُوَ أَجِيرًا لَهُ فِي الْعَمَلِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الزَّارِعَ فِي زِرَاعَةِ مَا بَدَا لَهُ فِيهَا مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ اسْتِحْسَانًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا يَزْرَعُ، أَوْ يَشْتَرِطَ التَّعْمِيمَ، فَيَقُولَ: عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لِي مَا بَدَا لِي مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاضَلُ فِي ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الزَّرْعِ يَكُونُ أَشَدَّ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا أَنْ يُبَيِّنَ جِنْسَ الْبَذْرِ لِيَصِيرَ مِقْدَارُ الْعَمَلِ بِهِ مَعْلُومًا، أَوْ يُصَرِّحَ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ هَذَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ مَا بَدَا لِلْمُزَارِعِ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَلَوْ قَالَ: مَا بَدَا لِرَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى كَوْنِ الرَّأْيِ فِيهِ إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُزَارِعَ عَامِلٌ لَهُ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: تَزْرَعُهَا مَا أَحْبَبْتُ أَنَا أَوْ مَا شِئْت أَنَا أَوْ مَا أَرَدْت أَنَا فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَوْ قَالَ: مَا شِئْتَ أَنْتَ أَوْ مَا أَحْبَبْتَ أَنْتَ، أَوْ مَا أَرَدْتَ أَنْتَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ، وَالْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْفَصْلَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَا مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ أَيُّهُمَا هُوَ؛ لِأَنَّ مَعَ اشْتِرَاطِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 86 الرَّأْيِ لِأَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِذَلِكَ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، فَإِذَا سَكَتَا عَنْ ذِكْرِهِ كَانَ مَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ مَجْهُولًا مِنْهُمَا، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ فِي الْبَذْرِ عَلَى الْعُمُومِ لِمَنْ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ يَبْقَى مُعْتَبَرًا، كَتَقْدِيمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ يَكُونُ إذْنًا فِي التَّنَاوُلِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ، فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا فِي التَّنَاوُلِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ بِالرُّبُعِ، وَلَمْ يُسَمِّيَا غَيْرَ ذَلِكَ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ، وَالرُّبُعُ لِلزَّارِعِ إنْ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِنَّمَا يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، فَيَكُونُ هَذَا اشْتِرَاطَ الرُّبُعِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ عِوَضًا، وَهُوَ الْمُزَارِعُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُزَارِعَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ نَصِيبِهِ بِالشَّرْطِ، فَاشْتِرَاطُ الرُّبُعِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى بَيَانِ نَصِيبِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ: دَفَعْت إلَيْك هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا بِبَذْرِك وَعَمَلِكَ بِالرُّبُعِ كَانَ الرُّبُعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ هُنَا عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الشَّرْطِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا حِنْطَةً مِنْ عِنْدِهِ بِالنِّصْفِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا زِرَاعَةَ الْحِنْطَةِ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ، وَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، فَزَرَعَهَا شَيْئًا هُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَضْمَنْ، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْحِنْطَةِ هُنَاكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ، وَهُوَ دَرَاهِمُ يَسْتَوْجِبُهَا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهَا بِالْحِنْطَةِ إلَّا فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا زَرَعَ فِيهَا مَا هُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا أَمَّا فِي الْمُزَارَعَةِ فَتَعْيِينُ الْحِنْطَةِ شَرْطٌ مُفِيدٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْأَرْضِ فِي نِصْفِ الْخَارِجِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْأَجْرَ مِنْ الْحِنْطَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقَّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بِزِرَاعَتِهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ ضَرَرًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَرْضَ لِتَزْرَعَهَا حِنْطَةً، فَهَذَا شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُزَارِعِ رُبُعُ الْخَارِجِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الزَّرْعِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، لِأَنَّ الْمُزَارِعَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا شُرِطَ لَهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 87 لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ يَكُونُ نَمَاءَ بَذْرِهِ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا، فَقَالَ: قَدْ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ هَذِهِ السَّنَةَ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ أَوْ لِتَزْرَعَهَا بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُؤَاجِرٌ لِلْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلَ الْعَامِلِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالنِّصْفِ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ زَرْعًا وَلَا غَرْسًا، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الضَّرَرِ عَلَى الْأَرْضِ فَاحِشٌ، وَرَبُّ الْأَرْضِ هُوَ الْمُؤَاجِرُ لِأَرْضِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنَا ذَلِكَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، فَإِنْ لَمْ يَتَفَاسَخَا حَتَّى زَرَعَهَا أَوْ غَرَسَهَا، وَقَدْ أَجَّرَهَا إيَّاهُ سِنِينَ مُسَمَّاةً كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ قَبْلَ وُجُوبِ الْبَدَلِ فَيُجْعَلُ كَتَعَيُّنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أَوْ ثَوْبًا لِلُبْسٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا، وَلَا مَنْ يَلْبَسُهَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ: اسْتَأْجَرْتُكَ هَذِهِ السَّنَةَ تَزْرَعُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ بِالنِّصْفِ جَازَ، وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَمَا أَعْطَاهُ مِنْ حُبُوبٍ أَوْ رُطَبَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزْرَعَهَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِاسْتِئْجَارِهِ لِلزِّرَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرًا لِلزَّرْعِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَجَرًا أَوْ كَرْمًا يَغْرِسُهُ فِيهَا فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلزِّرَاعَةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّرَاعَةِ مُطْلَقًا إنَّمَا يُسَمَّى غِرَاسَةً، وَمَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ عَمَلُ الْغِرَاسَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ تَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ عَشْرَ سِنِينَ بِالنِّصْفِ، فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَبَيْنَ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَاسَخَا حَتَّى أَعْطَاهُ رَبُّ الْأَرْضِ بَذْرًا فَبَذَرَهُ، أَوْ غَرْسًا فَغَرَسَهُ، وَعَمِلَهُ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا اسْتِحْسَانًا، وَجُعِلَ التَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ بِتَرَاضِيهِمَا، كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُزَارَعَةِ فِيمَا شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا فَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَك الثُّلُثَ، وَقَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْخَارِجَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ بِالشَّرْطِ، فَهُوَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا شَرَطَ لَهُ، وَرَبُّ الْأَرْضِ يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُزَارِعِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَى وَتَتَرَجَّحُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 88 بَيِّنَتُهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَا قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ شَيْئًا تَحَالَفَا، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُنَا أَوَّلُ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ فِيهِ حَالَ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا، وَتَرَادَّا، وَيُبْدَأُ بِالْمُزَارِعِ فِي الْيَمِينِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الْبُدَاءَةَ فِي الْبَيْعِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ، فَأَوَّلُ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُزَارِعِ ثُمَّ الْعَقْدُ لَازِمٌ فِي جَانِبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَصَاحِبُ الْبَذْرِ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ أَلْزَمَ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَبْلَ التَّحَالُفِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا، وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَقَدْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الزَّرْعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا ادَّعَى زِيَادَةً فِيمَا شُرِطَ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِالْبَيِّنَةِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْيَمِينُ؛ لِإِنْكَارِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ تَحَالَفَا، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ هُنَا فِي جَانِبِهِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا يَزْرَعُهَا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ ثُلُثَ الْخَارِجِ ثُلُثُهُ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالثُّلُثَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَلَهُ سِتَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْهُ لِلَّذِي شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَسَبْعَةٌ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ أَجِيرُهُمَا فِي الْعَمَلِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَاهُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَبَيَّنَّا مِقْدَارَ مَا لَهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، فَالْأَجِيرُ قَدْ تَسَامَحَ مَعَ أَحَدِ الْمُسْتَأْجِرِينَ دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ تَعَيَّنَتْ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَطَلَبَ الْأَجْرَ مِنْ الْآخَرِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ احْتَجْنَا فِي التَّخْرِيجِ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ إلَّا أَنَّ أَصْلَ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَلَيْسَ لِتِسْعَةٍ نِصْفٌ صَحِيحٌ فَيَضْعُفُ الْحِسَابُ، وَيُجْعَلُ الْخَارِجُ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ، وَقَدْ شَرَطَا لِلْمُزَارِعِ ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَهُوَ سِتَّةٌ ثُلُثَا ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَنَصِيبُهُ كَانَ تِسْعَةً، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمُزَارِعُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةً بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ، وَثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَقَدْ كَانَ نَصِيبُهُ تِسْعَةً، فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُزَارِعُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةً بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ، وَثُلُثُ ذَلِكَ هُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَقَدْ كَانَ نَصِيبُهُ تِسْعَةً، فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُزَارِعُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَيْنِ بَقِيَ لَهُ سَبْعَةٌ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَا لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 89 لِلْمُزَارِعِ مُطْلَقًا يَكُونُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمُزَارِعُ ثُلُثَ الْخَارِجِ بَقِيَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ أَصْلَ الْخَارِجِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَوْ كَانَا اشْتَرَطَا الثُّلُثَ لِلزَّارِعِ ثُلُثُهُ مِنْ نَصِيبِ هَذَا بِعَيْنِهِ، وَالثُّلُثُ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ نِصْفَيْنِ، فَلِلْمُزَارِعِ الثُّلُثُ سِتَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ سَبْعَةٌ، كَمَا خَرَّجْنَا، وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا بَقِيَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِهِ بِاشْتِرَاطِ الْمُنَاصَفَةِ فِي الْبَاقِي يَسْتَوْهِبُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ سَهْمًا وَاحِدًا؛ لِيَكُونَ سِتَّةً لَهُ مِنْ الْبَاقِي، وَلِصَاحِبِهِ سِتَّةٌ، وَاسْتِيهَابُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ، وَهُوَ طَمَعٌ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ وَلَا بَذْرٌ وَلَا عَمَلٌ، وَعَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ، وَالشَّرْطُ الْبَاطِلُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ، وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَرْضًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِيَزْرَعَاهَا بِبَذْرِهِمَا وَعَمَلِهِمَا عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْخَارِجِ ثُلُثُهُ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَثُلُثَاهُ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْأَرْضَ مِنْهُمَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ الْأَجْرَ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فِي حَقِّهِ بِهَذَا التَّفَاوُتِ، فَإِذَا حَصَلَ الْخَارِجُ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ سِتَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، خَمْسَةٌ لِلَّذِي شَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ تِسْعَةً، وَقَدْ أَوْجَبَ لِلْمُزَارِعِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةً، فَبَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ، وَالْآخَرُ إنَّمَا أَوْجَبَ لِرَبِّ الْأَرْضِ سَهْمَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ، فَبَقِيَ لَهُ سَبْعَةٌ، فَإِذَا كَانَا اشْتَرَطَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ عَاقَدَهُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِهَذَا السَّهْمِ الَّذِي شَرَطَ لَهُ، وَشَرَطَ عَمَلَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ لَيْسَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ شُبْهَةُ عَقْدٍ، فَاشْتِرَاطُ أَحَدِهِمَا لِنَفْسِهِ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ اسْتِيهَابٌ لِلْمَعْدُومِ، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ، أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ مُمْكِنٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فِي الْعَقْدِ الَّذِي فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ قُلْنَا: الْعَقْدُ كُلُّهُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْضُهُ مَشْرُوطٌ فِي الْبَعْضِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ مِنْهُ، وَفِي جَانِبٍ مِنْهُ يُفْسِدُ الْكُلَّ، ثُمَّ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ لِرَبِّ الْأَرْضِ مِنْ نَصِيبِهِ كَأَنَّهُ شَرَطَ رُبُعَ ذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 90 عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فِيمَا بَقِيَ، وَاشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْرِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْإِجَارَةِ وَلَوْ دَفَعَ رَجُلَانِ أَرْضًا وَبَذْرًا إلَى رَجُلٍ؛ لِيَزْرَعَهَا عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَالثُّلُثَانِ مِنْ ذَلِكَ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِلْآخَرِ رُبُعُهُ، فَعَمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَلِلْعَامِلِ ثُلُثُ الْخَارِجِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْعَامِلُ أَجِيرُهُمَا بِالثُّلُثِ، فَاسْتَحَقَّ الثُّلُثَ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ مِنْ نَصِيبِهِمَا سَهْمَيْنِ، وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَاَلَّذِي شُرِطَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ يَكُونُ شَرْطُهَا لَهُ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ صَاحِبِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْهُ اسْتِيهَابُ الْمَعْدُومِ، أَوْ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، فَيَلْغُو، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ، وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلَّذِي شُرِطَ ذَلِكَ لَهُ، وَرُبُعُهُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ الْخَارِجِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارُ مَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْآخَرِ الرُّبُعُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَاسْتِحْقَاقهمَا هُنَاكَ يَكُونُ مِنْ الْخَارِجِ نَمَاءَ بَذْرِهِمَا لَا بِالشَّرْطِ فَإِنْ قِيلَ: هُنَا الْعَامِلُ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا نَصِيبَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأَرْضِ بِجَمِيعِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ نِصْفِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ مِثْلُ مَا شُرِطَ لَهُ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ بِجَمِيعِ الْخَارِجِ لَا يَجُوزُ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا يُمَيِّزُ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الْعَقْدِ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يُمَيِّزْ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْمَعْنَى، فَبَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ بِثُلُثَيْ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ صَاحِبِ الْبَذْرِ ثُمَّ جَعَلَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالرُّبُعَ بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَرْضًا يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِمَا وَعَمَلِهِمَا عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْخَارِجِ وَلِلْعَامِلَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، الرُّبُعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلْآخَرِ، فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَا الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الرُّبْعُ مِنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ قَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ مَا يُخْرِجُهُ بَذْرُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَرَطَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا شَرَطَا لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ، وَذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِمَا نِصْفَيْنِ، فَلَمَّا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ، فَكَأَنَّ الْآخَرَ عَقَدَ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ بِنِصْفِ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ مَعَهُ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ وَإِذَا فَسَدَتْ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعَيْنِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَرْضًا يَزْرَعُهَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 91 بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْخَارِجُ قَالَ صَاحِبُ الْبَذْرِ شَرَطْتُ لَكَ عِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ نِصْفِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ، وَلَا يُقَالُ: الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَصْلُ فِيهِ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يَصْلُحُ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ بِهِ، وَحَاجَةُ رَبِّ الْأَرْضِ إلَى ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا حَلَفَ صَاحِبُ الْبَذْرِ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَقَالَ الْمُزَارِعُ شَرَطْتُ لَهُ النِّصْفَ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتَ لِي عِشْرِينَ قَفِيزًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ أَجْرَ الْمِثْلِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُزَارِعِ وَالْمُزَارِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، ثُمَّ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُزَارِعِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ، وَحَاجَةُ الْمُزَارِعِ إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِذَلِكَ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ اشْتِرَاطَ نِصْفِ الْخَارِجِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ لَيْسَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِاشْتِرَاطِ عِشْرِينَ قَفِيزًا، وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ بَلْ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ مَنْ تُثْبِتُ بَيِّنَتُهُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصِحَّةَ الشَّرْطِ، وَلَوْ لَمْ يَزْرَعْ حَتَّى اخْتَلَفَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهَا بِأَقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَوُجُوبَ تَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ دَفَنَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُزَارِعِ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ قَفِيزًا مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْخَارِجِ عَلَيْهِ، وَالْمُزَارِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَقِيلَ لَا مَعْنَى لِيَمِينِ الْمُزَارِعِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ ادَّعَى مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ مِنْهُ ثُمَّ الْيَمِينُ إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى مُلْزِمَةٍ، وَدَعْوَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا تُلْزِمُهُ شَيْئًا قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَلَمَّا أَدْرَكَ الزَّرْعَ قَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ عِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالشَّرْطِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، فَقَالَ الْعَامِلُ: الجزء: 23 ¦ الصفحة: 92 شَرَطْتَ لِي عِشْرِينَ؛ قَفِيزًا، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي أَجْرَ الْعَمَلِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَيَشْهَدُ شُهُودُهُ بِاشْتِرَاطِ مَا يُثْبِتُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْآخَرُ إنَّمَا يَشْهَدُ شُهُودُهُ بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُزَارَعَةِ، فَكَانَ الْإِثْبَاتُ فِي بَيِّنَةِ رَبِّ الْأَرْضِ أَظْهَرَ، وَلَوْ لَمْ يَزْرَعْ حَتَّى اخْتَلَفَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَدَّعِي الْفَسَادَ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْمُزَارَعَةَ بِالنِّصْفِ أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَكَوْنَهُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَخْرَجَ زَرْعًا كَثِيرًا، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّصْفِ ثُمَّ ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَالْعَامِلُ مُنْكِرٌ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ رَبُّ الْأَرْضِ مُتَعَنِّتٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِزِيَادَةٍ لِيُبْطِلَ بِهِ أَصْلَ اسْتِحْقَاقِهِ، لَا لِيُثْبِتَ حَقَّهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَقَوْلُ الْمُتَعَنِّتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةَ الشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ فَسَادَ الْعَقْدِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ بِاتِّفَاقِهِمَا مَا هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ نِصْفِ الْخَارِجِ فَالزِّيَادَةُ هَاهُنَا فِي بَيِّنَتِهِ، وَلَوْ ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ اشْتَرَطَ لَهُ نِصْفَ مَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ إلَّا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ الْعَامِلُ: لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَالْمُزَارِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ نِصْفٍ كَامِلٍ بِالشَّرْطِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ يُنْكِرُ الشَّرْطَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ النِّصْفِ مَعْنًى، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِإِنْكَارِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ، وَالْفَضْلَ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ إنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، وَقَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّصْفِ، وَتَفَرَّدَ الْمُزَارِعُ بِدَعْوَى الزِّيَادَةِ لَا لِيَسْتَحِقَّهَا، بَلْ لِيُبْطِلَ الْعَقْدَ بِهَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ بِبَيِّنَتِهِ، وَيُثْبِتُ لِنَفْسِهِ أَجْرَ الْمِثْلِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَوْ قَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ إلَّا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ، وَلَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ يَدَّعِي الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا قَبْلَ الْعَمَلِ فَقَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 93 النِّصْفَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُزَارِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ. بَيَانُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي السَّلَمِ إذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْأَجَلَ فِي السَّلَمِ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَجَلَ أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ إذَا كَانَ يَدَّعِي الْأَجَلَ، وَرَبُّ السَّلَمِ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي إنْكَارِهِ إفْسَادُ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُنْكِرًا لِلْأَجَلِ فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يُقِرُّ لَهُ بِالْأَجَلِ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ تَعَنُّتًا لِيُفْسِدَ بِهِ الْعَقْدَ فَهُنَا كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُمَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ، فَرَبُّ الْأَرْضِ يَدَّعِي عَلَى الْمُزَارِعِ اسْتِحْقَاقَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي إنْكَارِهِ إفْسَادُ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ السَّبَبَ الْمُفْسِدَ بَعْدَ تَصَادُقِهِمَا عَلَى مَا هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ، وَلَا يُثْبِتُ الْفَضْلَ فِيمَا شَرَطَ لَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ إلَّا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَلِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُتَعَنِّتٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُقِرُّ لَهُ بِزِيَادَةٍ فِيمَا شَرَطَ لَهُ، وَالْمُزَارِعُ يُكَذِّبُهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، لِيُفْسِدَ بِهِ الْعَقْدَ، فَكَانَ مُتَعَنِّتًا، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْعَمَلِ عَلَى الْمُزَارِعِ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَوْ قَالَ الْمُزَارِعُ قَبْلَ الْعَمَلِ: شَرَطْتُ لِي النِّصْفَ وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ النِّصْفِ ثُمَّ رَبُّ الْأَرْضِ يَدَّعِي شَرْطَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِيُفْسِدَ بِهِ الْعَقْدَ، وَالْمُزَارِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِإِثْبَاتِهِ الشَّرْطَ الْمُفْسِدَ مَعَ تَصَادُقِهِمَا عَلَى مَا هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: شَرَطْتُ لَكَ النِّصْفَ إلَّا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَقَالَ الْمُزَارِعُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ أَقْفِزَةٍ فِيمَا شُرِطَ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُنْكِرٌ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْكَلَامَ الْمُصَدَّرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْفَضْلَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 94 فِي الْمَشْرُوطِ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ كَانَ حَالُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ حَالِ رَبِّ الْأَرْضِ حَتَّى كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلَيْنِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَاهَا سَنَتَهُمَا هَذِهِ، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ فَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ الثُّلُثُ مِنْهُ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْآخَرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَحَدَهُمَا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ لِعَمَلِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَاسْتَأْجَرَ الْآخَرَ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَا عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا فَاخْتَلَفَ الْعَامِلَانِ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا صَاحِبُ الثُّلُثِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الثُّلُثَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ فَإِذَا صَدَقَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالثُّلُثِ وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ ثُلُثِ الْخَارِجِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ بِإِقْرَارِهِ وَأَخَذَ الْآخَرُ الثُّلُثَ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ ابْتِغَاءَ الْأَجْرِ الَّذِي بِهِ أَقَرَّ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ، وَلَوْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا صَاحِبُ الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِائَةُ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا بِإِقْرَارِ رَبِّ الْأَرْضِ لَهُ، وَلِلْآخَرِ بِإِثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ رَبِّ الْأَرْضِ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ بَيِّنَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا الْمُدَّعِيَانِ لِلْحَقِّ قَبْلَهُ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلَوْ كَانَ دَفَعَ الْأَرْضَ إلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَاهَا بِبَذْرِهِمَا عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ نِصْفُهُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الزَّرْعِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ سُدُسُ الزَّرْعِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْأَرْضَ مِنْهُمَا نِصْفُهَا مِنْ أَحَدِهِمَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِصْفُهَا مِنْ الْآخَرِ بِثُلُثِ مَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ صَحِيحٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَإِنْ زَرَعَهَا، فَلَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَبِّ الْأَرْضِ: أَنَا شَرَطْتُ لَكَ سُدُسَ الزَّرْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُصَدِّقُ أَحَدَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَيَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ وُجُوبَ الْأَجْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 95 لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِلْآخَرِ بِبَيِّنَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ أَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لَهُ الْأَجْرَ، وَادَّعَى صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى أَحَدِهِمَا الْأَجْرَ، وَعَلَى الْآخَرِ سُدُسَ الزَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَيْهِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَفِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْضِ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْخَارِجِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَيُقَالُ لِرَبِّ الْأَرْضِ: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى السُّدُسِ الَّذِي ادَّعَيْتَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْمُثْبِتُ لِحَقِّهِ بِبَيِّنَتِهِ وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ، وَالثُّلُثُ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ بِعَيْنِهِ، وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَجْرُ نَصِيبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى، وَاسْتَأْجَرَ مِنْ الْآخَرِ نَصِيبَهُ بِثُلُثِ مَا يُخْرِجُهُ نَصِيبُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِيمٌ، فَإِنْ أَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ أَنَّهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّارِعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْخَارِجِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ الْبَيِّنَةَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَالْآخَرُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ اسْتِحْقَاقَ ثُلُثِ الْخَارِجِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ الْمُزَارِعِ مَعَ بَيِّنَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا الْمُدَّعِيَانِ، وَالْبَيِّنَةُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلَيْنِ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ وَلِلْآخَرِ عِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ مَا بَقِيَ، فَزَرَعَاهَا، فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا فَالثُّلُثُ لِلَّذِي سُمِّيَ لَهُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ: أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا، أَوْ لَمْ تُخْرِجْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الثُّلُثُ صَحِيحٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ شَرْطًا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ، وَالْمُزَارَعَةُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ تَفْسُدُ، وَلَكِنَّ عَقْدَهُ مَعَ أَحَدِهِمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ الْآخَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِيهِ، فَفَسَادُ الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الَّذِي شُرِطَ لَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا بِإِقْرَارِ رَبِّ الْأَرْضِ لَهُ بِهِ، وَلِلْآخَرِ بِإِثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْأَرْضِ فِي الَّذِي لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الدَّعْوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ شَرْطَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 96 صِحَّةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ وَالْآخَرُ يَنْفِي ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُثْبِتُ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ تَتَرَجَّحُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ صَحِيحٌ، فَلَا يَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ بِبَيِّنَتِهِ مُثْبِتًا شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ اثْنَيْنِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ دَفَعَاهُ إلَى وَاحِدٍ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ كَانَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَّا مِنْ حُكْمِ صَاحِبِ الْأَرْضِ حِينَ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَتَّضِحُ لَك إذَا تَأَمَّلْتَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْعُشْرِ فِي الزِّرَاعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) -: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ، فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا، وَالْأَرْضُ أَرْضُ عُشْرٍ، فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ يَكُونُ لِلْمُزَارِعِ نِصْفُ الْخَارِجِ كَامِلًا، وَيَأْخُذُ السُّلْطَانُ عُشْرَ جَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، إنْ كَانَتْ تَشْرَبُ سَحًّا أَوْ تَسْقِيهَا السَّمَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْقَى بِدَلْوٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَنِصْفُ عُشْرِ جَمِيعِ الْخَارِجِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَاجِرٌ لِأَرْضِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَمِنْ أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ أَجَّرَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ فَالْعُشْرُ يَكُونُ عَلَى الْآخَرِ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُنَا أَيْضًا عِنْدَهُمَا الْعُشْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْخَارِجِ نِصْفَانِ، وَإِنْ سُرِقَ الْخَارِجُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْحَقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُشْرُ جَمِيعِ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنْ سُرِقَ الطَّعَامُ بَعْدَ مَا حُصِدَ أَوْ حُرِقَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ الْعُشْرَ يَبْطُلُ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُهُ، وَلَزِمَهُ فِي مَالِهِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ النِّصْفِ الَّذِي صَارَ لِلْمُزَارِعِ مِنْ الْعُشْرِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ، وَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ رَبِّ الْأَرْضِ الْعُشْرُ بَاقٍ فِي عَيْنِهِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَ عُشْرُ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، فَيَكُونُ عُشْرُ الْكُلِّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، كَالْخَرَاجِ، وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْأَرْضِ، فَإِذَا سُرِقَ الطَّعَامُ بَعْدَ الْحَصَادِ سَقَطَ عَنْهُ النِّصْفُ حِصَّةُ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَرَاجِ، وَأَمَّا حِصَّةُ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مِنْ الْمُزَارِعِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ، وَلَوْ أَجَّرَ أَرْضِهِ مِنْ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يَزْرَعُهَا هَذِهِ السَّنَةَ، فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا ثُمَّ تَوِيَ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ - فَعُشْرُ جَمِيعِ الطَّعَامِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 97 فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلِلْآخَرِ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ تَوِيَ دَيْنُهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ سُرِقَ طَعَامُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُؤَاجِرِ الْعُشْرُ الَّذِي صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ فَلَمْ يُحْصَدْ حَتَّى هَلَكَ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً، وَلَا عُشْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ عِنْدَ الْحَصَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَإِنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْآجِرِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَإِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ قَبْلَ الْحَصَادِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ قَدْ تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ هُنَا وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْآجِرِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ إذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ قَبْلَ أَنْ يُحْصَدَ فَلَا عُشْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ فَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ وُجُوبِ الْعُشْرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اُسْتُهْلِكَ النِّصَابُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَالْهَلَاكُ هُنَا فِي حَقِّ الْمُؤَاجِرِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ حَتَّى إذَا اُسْتُهْلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ هُنَا بَعْدَ الْحَصَادِ يَكُونُ الْعُشْرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مُعَامَلَةِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَوَابِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْجُذَاذِ فَلَا عُشْرَ عَلَى رَبِّ النَّخِيلِ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْجُذَاذِ فَعُشْرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْجُذَاذَ فِي الثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ الْحَصَادِ فِي الزَّرْعِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ رَجُلٌ فَلَيْسَ عَلَى رَبِّ النَّخِيلِ فِي حِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُشْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ مِنْ الْمُسْتَهْلِكِ، فَحِينَئِذٍ يُؤَدِّي عُشْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا، وَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْضَ الْبَدَلِ يُؤَدِّي الْعُشْرَ بِقَدْرِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. وَلَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ صَارُوا ذِمَّةً لَهُ، وَوَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَجَعَلَ خَرَاجَ أَرَاضِيِهِمْ وَنَخِيلِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ الْمُنَاصَفَةَ - فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَرُبَّمَا يَكُونُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ أَنْفَعُ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ. فَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ أَرْضًا مُزَارَعَةً وَالْبَذْرُ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ، أَوْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ، أَوْ أَعَارَهَا رَجُلًا لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ دَفَعَ الْأَشْجَارَ مُعَامَلَةً - كَانَ الْجَوَابُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ هُنَا بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ كَانَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَإِذَا دَفَعَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ وَبَذْرًا إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 98 عِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا - فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ عُشْرُ جَمِيعِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لِلْعَمَلِ - كَانَ عُشْرُ جَمِيعِ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَا يَرْفَعُ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ نَفَقَةً وَلَا أَجْرَ عَامِلٍ؛ لِأَنَّ بِإِزَاءِ مَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ الْعِوَضُ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ، وَصَارَ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِأَجِيرِهِ كَإِقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ كَانَ عَلَيْهِ عُشْرُ جَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بَذْرًا أَوْ نَفَقَةً أَنْفَقَهَا فَكَذَلِكَ أَجْرُ الْعَامِلِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ، ثُمَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُشْرُ جَمِيعِ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ اعْتِبَارًا لِلْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرٍ مِنْهُمَا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؟ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ مُقَابِلَةً عَمَلَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، ثُمَّ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْخَارِجُ نَمَاءُ الْبَذْرِ، وَعُشْرُ الطَّعَامِ كُلُّهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤَاجِرًا نِصْفَ الْأَرْضِ بِمَا شَرَطَ بِمُقَابَلَتِهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُ أَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْعُشْرُ فِي نَصِيبِ الْعَامِلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضَ عُشْرٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ فَاسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُحْصَدْ حَتَّى اسْتَهْلَكَهُ رَجُلٌ أَوْ سَرَقَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ - فَلَا عُشْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمُسْتَهْلِكُ مَا عَلَيْهِ، وَمَا أَدَّى مِنْ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ عُشْرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَسَلَامَتُهُ بِأَنْ يُسْتَوْفَى مِمَّنْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ كَالتَّاوِي، وَفِي قَوْلِهِمَا: مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ أَخَذَ السُّلْطَانُ عُشْرَ ذَلِكَ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مِمَّا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ جَعَلَ خَرَاجَهَا نِصْفَ الْخَارِجِ - فَإِنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَجَّرَ أَرْضِهِ الْعُشْرِيَّةَ بِدَرَاهِمَ فَزَرَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَاسْتُحْصِدَ زَرْعُهَا ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَهْلِكٌ - فَلَا عُشْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمُسْتَهْلِكُ مَا عَلَيْهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 99 مِنْ الْبَدَلِ، فَإِذَا أَدَّى شَيْئًا مِنْهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عُشْرُ مِقْدَارِ مَا وَصَلَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَعِنْدَهُمَا عُشْرُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ فِي حُكْمِ الْعُشْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ زَرَعَهَا بِنَفْسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، وَلَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ شَيْئًا - فَالْخَارِجُ عَلَى الزَّارِعِ، وَالْعُشْرُ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَلَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ مَنْعِ الْغَاصِبِ إيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ عُشْرٌ وَلَا خَرَاجٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ سَلِمَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَكَمَا الْتَحَقَ هُوَ بِالْمَالِكِ فِي سَلَامَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ نَقَصَتْ الْأَرْضَ فَعَلَى الزَّارِعِ غُرْمُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ تَلِفَ بِفِعْلِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، ثُمَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ: عُشْرُ جَمِيعِ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْفَى هُوَ مِنْ قِيمَةِ النُّقْصَانِ مَنْفَعَةٌ سَلِمَتْ لَهُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ الْأَرْضَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِثْلَ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ الْوَاجِبِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ نُقْصَانَ الْأَرْضِ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَتِهَا، وَإِنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَنْ يُنْظَرَ بِكَمْ تُؤَجَّرُ الْأَرْضُ قَبْلَ الْمُزَارَعَةِ وَبَعْدَهَا فَمِقْدَارُ التَّفَاوُتِ هُوَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ. وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ بَلْخِي، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَنْفَعَةَ عِنْدَنَا لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَكِنَّ النُّقْصَانَ فِي حُكْمِ بَدَلِ جُزْءٍ فَائِتٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ يُنْظَرَ بِكَمْ كَانَتْ تُشْتَرَى تِلْكَ الْأَرْضُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَبِكَمْ تُشْتَرَى بَعْدَهَا، فَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا هُوَ النُّقْصَانُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ بِنَاءً عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ النُّقْصَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ مِثْلَ الْخَرَاجِ أَوْ أَكْثَرَ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ قِيمَةُ النُّقْصَانِ عَلَى الْغَاضِبِ، وَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. يُعْطِيهِ بِمَا يَسْتَوْفِي، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النُّقْصَانِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ مُوجَبَيْنِ عَلَى الْغَاصِبِ بِسَبَبِ زِرَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَجِبَ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَفِي الْخَارِجِ، وَالْخَارِجُ لِلْغَاصِبِ فَيُؤَدِّي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 100 عُشْرَ الْخَارِجِ وَيَغْرَمُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ النُّقْصَانَ مَعَ ذَلِكَ كَمَا يَغْرَمُ الْأَجْرَ لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ. وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ سَهْوٌ، إنَّمَا الصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُعَامَلَةِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا مُعَامَلَةً سِنِينَ مَعْلُومَةً بِالنِّصْفِ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ. وَكَذَلِكَ مُعَامَلَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ إلَّا فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ بِالْأَثَرِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا كَمَا يَعْمَلُونَ فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ، ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِمَّنْ لَا يَرَى تَعْلِيلَ النُّصُوصِ، فَإِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى تَعْلِيلَ النُّصُوصِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهُ مَعْنًى؛ فَيَصِيرُ حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ عَلَى النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَثَرَ وَرَدَ فِيهَا، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ النَّخِيلِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُلْقِيَ بَذْرَهُ فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ إتْلَافُ مِلْكِهِ؛ فَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِهِ، وَهُنَا صَاحِبُ النَّخِيلِ لَا يَحْتَاجُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَى إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِفَسْخِهِ إلَّا بِعُذْرٍ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَالْعُذْرُ هُنَا أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا بِبَيْعِ النَّخِيلِ، أَوْ يَكُونَ الْعَامِلُ سَارِقًا مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ فَخَافَ مِنْهُ عَلَى أَخْذِ سَعَفِ النَّخْلِ وَسَرِقَتِهِ أَوْ عَلَى سَرِقَتِهِ الثِّمَارَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا عُذْرٌ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ نَحْوِ إجَارَةِ الظِّئْرِ لِمَا يَلْحَقُهُ فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ قَدْ خَرَجَ وَلَمْ يَبْلُغْ، ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ عِنْدَهُ إلَّا بِبَيْعِ النَّخِيلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمُعَامَلَةَ، وَلَا يَبِيعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، فَيُبَاعَ نَصِيبُ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ النَّخْلِ مِنْ الثَّمَرِ فِي الدَّيْنِ وَتُنْتَقَضَ الْمُعَامَلَةُ فِيمَا بَقِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَرِ، وَلِإِدْرَاكِهِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَفِي الِانْتِظَارِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي نَقْضِ الْمُعَامَلَةِ فِي الْحَالِ إضْرَارٌ بِالْعَامِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ الثَّمَرِ، فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قُلْنَا: يُخْرِجُ رَبُّ النَّخِيلِ مِنْ الشَّجَرِ وَتَبْقَى الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا خَرَجَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 101 مِنْ الثَّمَرِ، وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ الْعَمَلِ قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَمْرَضَ مَرَضًا يَضْعُفُ عَنْ الْعَمَلِ مَعَهُ فَيَكُونَ ذَلِكَ عُذْرًا، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ فِي الْمَرَضِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَامِلًا لِيُقِيمَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْحَاقَ ضَرَرٍ بِهِ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ يَصِيرُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْمُعَامَلَةِ، قَالَ فِي الْأَصْلِ: أَوْ يُرِيدُ سَفَرًا أَوْ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا لَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ رِوَايَتَيْنِ، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ مَشْرُوطًا بِيَدِهِ. وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا أَوْ كَرْمًا مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُسَمِّ الْوَقْتَ - جَازَ اسْتِحْسَانًا عَلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْمُزَارَعَةِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِإِدْرَاكِ الثَّمَرِ أَوَانًا مَعْلُومًا فِي الْعَادَةِ، وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ إيفَاءَ الْعَقْدِ مَقْصُودٌ هُنَا إلَى إدْرَاكِ الثِّمَارِ، وَالثَّابِتُ بِالْعَادَةِ كَالثَّابِتِ بِالشَّرْطِ فَصَارَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، وَإِنْ تَقَدَّمَ، أَوْ تَأَخَّرَ فَذَلِكَ يَسِيرٌ لَا يَقَعُ بِسَبَبِهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ آخِرَ الْمُدَّةِ هُنَاكَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّ مَا يُزْرَعُ فِي الْخَرِيفِ يُدْرَكُ فِي آخِرِ الرَّبِيعِ، وَمَا يُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ يُدْرَكُ فِي آخِرِ الصَّيْفِ، وَمَا يُزْرَعُ فِي الصَّيْفِ يُدْرَكُ فِي آخِرِ الْخَرِيفِ، فَلِجَهَالَةِ وَقْتِ ابْتِدَاءِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ يَصِيرُ وَقْتُ النِّهَايَةِ مَجْهُولًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ. ثُمَّ فِي الْمُعَامَلَةِ يُتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ أَوَّلَ ثَمَرِهِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ، وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ ثَمَرُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ اُنْتُقِضَتْ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمُدَّةِ، فَكَأَنَّهُمَا نَصَّا عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أُصُولَ رَطْبَةٍ ثَابِتَةً فِي الْأَرْضِ مُعَامَلَةً وَلَمْ يُسَمِّ الْوَقْتَ - فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَةَ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا نُمُوُّهَا، وَلَكِنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَإِنَّ لَهَا غَايَةً تَنْتَهِي إلَيْهَا، فَإِذَا تُرِكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْسُدُ، فَإِنْ كَانَتْ لِلرَّطْبَةِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ تَنْتَهِي إلَيْهَا فِي نَبَاتِهَا حَتَّى تُقْطَعَ ثُمَّ تُخْرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ - فَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ جَائِزَةٌ، وَالْمُعَامَلَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ كَمَا فِي الثِّمَارِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَخَّرْنَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْمُعَامَلَةَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعَادَةِ مِنْ الْمُدَّةِ لَمَّا جُعِلَ كَالْمَشْرُوطِ لَهَا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي لُزُومِهِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ نَخْلًا فِيهِ طَلْعٌ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ الْوَقْتَ أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَا صَارَ بُسْرًا أَخْضَرَ أَوْ أَحْمَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ عِظَمُهُ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَنْمُو بِعَمَلِ الْعَامِلِ وَلَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا تَنَاهَى عِظَمُهُ وَلَيْسَ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْطِبْ - فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 102 لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِعَمَلِهِ، وَالشَّرِكَةُ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا يَحْدُثُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ أَوْ يَزْدَادُ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا. وَإِنْ عَمِلَ فِيهِ الْعَامِلُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَلْعًا فِي نَخْلٍ، أَوْ بُسْرًا أَخْضَرَ؛ فَتَرَكَهُ فِي النَّخْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى صَارَ تَمْرًا - تَصَدَّقَ الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فِي الْمُشْتَرَى بِالزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ مِنْ نَخْلِ صَاحِبِ النَّخْلِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ بُسْرٌ أَحْمَرُ قَدْ انْتَهَى عِظَمُهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ مِنْ النَّخْلِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا النُّضْجُ وَاللَّوْنُ وَالطَّعْمُ يَحْدُثُ فِيهِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَبَبُ ذَلِكَ عَلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ خُبْثٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَصْلِ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَطْبَةً لَهُ فِي أَرْضٍ قَدْ صَارَتْ بَلَحًا وَلَمْ تَنْتَهِ إلَى أَنْ تُجَذَّ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يَسْقِيَهَا وَيَقُومَ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ، وَلَمْ يُسَمِّ وَقْتًا مَعْلُومًا - فَهُوَ فَاسِدٌ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّطْبَةِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ تَنْتَهِي إلَيْهَا - فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَطْبَةً قَدْ انْتَهَى إحْرَازُهَا عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تُخْرِجَ بَذْرَهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ مِنْ الْبَذْرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يُسَمِّيَا وَقْتًا - فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الْبَذْرِ أَوَانًا مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُزَارِعِينَ، وَالْبَذْرُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ فَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِيهِ يَكُونُ صَحِيحًا، وَالرَّطْبَةُ لِصَاحِبِهَا. وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الرَّطْبَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِيمَا لَا يَنْمُو بِعَمَلِ الْعَامِلِ، وَالرَّطْبَةُ لِلْبَذْرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْجَارِ لِلثِّمَارِ، فَكَمَا أَنَّ شَرْطَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَشْجَارِ الْمَدْفُوعَةِ إلَيْهِ مَعَ الثِّمَارِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَهِيَ قِدَاحٌ لَمْ تَتَنَاهَ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الرُّطَبَةَ هُنَا تَنْمُو بِعَمَلِهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِيهِ، وَلِإِدْرَاكِ الْبَذْرِ أَوَانٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ التَّوْقِيتِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ غِرَاسَ شَجَرٍ أَوْ كَرْمٍ أَوْ نَخْلٍ قَدْ عَلِقَ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَ نَخْلَهُ، فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ فَاسِدَةٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّي سِنِينَ مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ تَحْمِلُ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ وَالْكَرْمُ، وَالْأَشْجَارُ تَتَفَاوَتُ فِي ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَإِنْ بَيَّنَّا مُدَّةً مَعْلُومَةً صَارَ مِقْدَارُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ مَعْلُومًا فَيَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ نَخْلًا أَوْ كَرْمًا أَوْ شَجَرًا قَدْ أَطْعَمَ، وَبَلَغَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَ نَخْلَهُ وَيَكْسَحَ كَرْمَهُ، عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ وَالشَّجَرَ وَالْخَارِجَ كُلَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهَذَا فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ حَاصِلٌ لَا بِعَمَلِ الْعَامِلِ وَهُوَ الْأَشْجَارُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 103 أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أُصُولَ رَطْبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهَا وَيَنْقَطِعَ نَبْتُهَا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ، وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ فِي الْمُعَامَلَةِ تُفْسِدُ الْمُعَامَلَةَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا أَوْ كَرْمًا مُعَامَلَةً أَشْهُرًا مَعْلُومَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُخْرِجُ ثَمَرَةً فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، بِأَنْ دَفَعَهَا أَوَّلَ الشِّتَاءِ إلَى أَوَّلِ الرَّبِيعِ - فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُعَامَلَةِ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَمْنَعُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ. وَلَوْ اشْتَرَطَا وَقْتًا قَدْ يَبْلُغُ الثَّمَرُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا - جَازَ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ تَفْوِيتَ مُوجَبِ الْعَقْدِ، فَهَذَا الشَّرْطُ إنَّمَا يُوهِمُ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّوَهُّمُ فِي كُلِّ مُعَامَلَةٍ وَمُزَارَعَةٍ، فَقَدْ يُصِيبُ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، فَإِنْ خَرَجَ الثَّمَرُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، إنْ كَانَ تَأْخِيرُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ ذَهَابٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا سَمَّيَا مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَا تَخْرُجُ الثِّمَارُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَوَابِ مَسْأَلَةِ السَّلَمِ أَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ بِآفَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَالَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا فَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ جَائِزَةٌ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْآفَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثِّمَارَ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْمُفْسِدَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَمُوجِبًا الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَلَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ انْقَضَى قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الثَّمَرُ - فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا ذَكَرَا مُدَّةً كَانَتْ الثِّمَارُ لَا تَخْرُجُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ فِي الِانْتِهَاءِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ رَبَّ النَّخِيلِ اسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابٌ مِنْ الْمُعَامَلَةِ] قَالَ [- رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ سِنِينَ مُسَمَّاةً عَلَى أَنْ يَغْرِسَهَا نَخْلًا وَشَجَرًا وَكَرْمًا، عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ كَرْمٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 104 لَا بِعَمَلِهِ، وَهُوَ الْأَرْضُ، فَإِنْ قَبَضَهَا وَغَرَسَهَا فَأَخْرَجَتْ ثَمَرًا كَثِيرًا، فَجَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ لِمَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ نِصْفَ الْغَرْسِ بِنِصْفِ الْأَرْضِ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الْغَرْسِ بِنِصْفِ الْأَرْضِ. وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَجْعَلَ أَرْضَهُ بُسْتَانًا بِآلَاتِ نَفْسِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ نِصْفَ الْبُسْتَانِ الَّذِي يَظْهَرُ بِعَمَلِهِ وَآلَاتِهِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، ثُمَّ الْغِرَاسُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمَةٌ كَانَتْ لِلْعَامِلِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَيْهِ لِلِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا مَعَ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ظِهَارَةً عَلَى أَنْ يُبَطِّنَهَا أَوْ يَحْشُوَهَا وَيَخِيطَهَا جُبَّةً بِنِصْفِ الْجُبَّةِ - كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَكَانَتْ لَهُ قِيمَةُ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ لَك عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ كُرَّ حِنْطَةٍ، أَوْ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ أَرْضٍ أُخْرَى مَعْرُوفَةٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِجَهَالَةِ الْغِرَاسِ الَّذِي شَرَطَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الزَّرْعِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالنِّصْفِ، وَعَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِائَةَ دِرْهَمٍ - كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِاشْتِرَاطِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى لِلْمُزَارِعِ مَعَ نِصْفِ الْخَارِجِ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ مِثْلُ الْكُرِّ الَّذِي بَذَرَهُ الْمُزَارِعُ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ، أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُزَارِعِ فِي ذَلِكَ لِرَبِّ الْأَرْضِ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ كَعَمَلِ رَبِّ الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَرْسُ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْضِ وَاشْتَرَطَ مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِائَةَ دِرْهَمٍ - فَهُوَ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِ أَجْرِ الْمُسَمَّى لِلْعَامِلِ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ هَذَا كَانَ شَرِيكًا فِي الْخَارِجِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَإِذَا عَمِلَ عَلَى هَذَا فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، أَوْ شَرَطَ أَنَّ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَلَوْ كَانَ الْغَرْسُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَقَدْ اشْتَرَطَ أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ مِائَةَ دِرْهَمٍ - فَهَذَا فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَ هُوَ يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ فِيمَا هُوَ مَشْغُولٌ مِنْ الْأَرْضِ بِنَصِيبِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الْغِرَاسِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ وَعَمِلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ حِينَ شَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى نَفْسِهِ أَجْرًا مِائَةَ دِرْهَمٍ مَعَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 105 بَعْضِ الْخَارِجِ، فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ كَانَ الْغَرْسُ وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ مِائَةَ دِرْهَمٍ - فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ وَقِيمَةُ غَرْسِهِ وَبَذْرٌ مِثْلُ بَذْرِهِ عَلَى الزَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُشْتَرِي لِلْبَذْرِ وَالْغَرْسِ بِبَعْضِ الْمِائَةِ الَّتِي شَرَطَهَا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ مُشْتَرٍ لِلْغَرْسِ وَالْبَذْرِ بِالْمِائَةِ وَبِنِصْفِ الْخَارِجِ، فَفَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الْغَرْسِ، ثُمَّ صَارَ قَابِضًا لِلْغَرْسِ وَالْبَذْرِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَيُلْزِمُهُ الْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ، وَالْمِثْلُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَيُلْزِمُهُ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لَهُ الْغَارِسُ مَكَانَ الْمِائَةِ حِنْطَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ - فَالْكُلُّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ سَوَاءٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَغْرِسَهَا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْغَرْسِ وَيَزْرَعَهَا مَا بَدَا لَهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ لِلْغَارِسِ عَلَى رَبّ الْأَرْضِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ سَمَّى شَيْئًا غَيْرَ الْمِائَةِ - فَهُوَ فَاسِدٌ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْغَارِسِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ وَإِنْ صَارَ كَالْمُشْتَرِي لِلْغَرْسِ وَالْبَذْرِ بِمَا شَرَطَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ الْمُسَمَّى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَانْعِدَامِ الْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَكُونُ الْغَارِسُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، فَكَانَ الْكُلُّ لَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ الْغَارِسُ يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا. فَإِنْ قِيلَ: هُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ رَبُّ الْأَرْضِ قَابِضًا أَيْضًا بِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ. قُلْنَا: ابْتِدَاءُ عَمَلِهِ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ هُوَ فِي يَدِ الْغَارِسِ حَقِيقَةً، وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرَى بِالْقَبْضِ فَرَدُّهُ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا مَعَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ يَدَ الْبَائِعِ فِيهِ يَدٌ بِحَقٍّ وَيَدَ الْمُشْتَرِي مُحَرَّمٌ شَرْعًا، فَأَمَّا فِيمَا سَبَقَ فَبِنَقْضِ الْعَامِلِ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ الْعَامِلُ قَابِضًا لَهُ حَقِيقَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِائَةَ وَاشْتَرَطَ أَنَّ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْغَرْسُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، عَلَى أَنْ يَغْرِسَهُ وَيَبْذُرَهُ الْعَامِلُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ أَجْرًا مِائَةَ دِرْهَمٌ - فَهُوَ فَاسِدٌ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي كَلَامِهِ بِمَا يَنْفِي بَيْعَ الْغَرْسِ وَالْبَذْرِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَامِلًا لِرَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْغَرْسُ وَالْبَذْرُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 106 مِنْ جِهَتِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِلِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ بِإِزَاءِ نِصْفِ الْخَارِجِ لِنَفْسِهِ أَيْضًا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَكَانَ فَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَامِلَ اشْتَرَى مِنْهُ بَعْضَ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ مَعْدُومٌ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْمِائَةِ، فَكَانَ الْخَارِجُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ نَخْلًا مُعَامَلَةً سِنِينَ مُسَمَّاةً، عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَهُ، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْعَامِلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ اشْتَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبّ الْأَرْضِ مِائَةَ دِرْهَمٍ - فَهُوَ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِ الْأَرْضِ الْمُسَمَّاةِ مَعَ بَعْضِ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ نَخِيلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ لِلْعَامِلِ: اعْمَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِك، أَوْ قَالَ: اعْمَلْ لِي أَوْ قَالَ اعْمَلْ، وَلَمْ يَقُلْ لِي وَلَا لَك، فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النَّخِيلَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا عَامِلًا لَهُ، سَوَاءٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَوْ بِخِلَافِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَرْضِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَعْمَلَانِ فِيهَا أَوْ أَحَدُهُمَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاشْتَرَطَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا سَنَتَهُمَا هَذِهِ بِبَذْرِهِمَا وَبَقَرِهِمَا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامِلٌ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ مِنْهُ، فَإِنْ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ، كَأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً بِثُلُثِ الْخَارِجِ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ مَعَهُ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلِأَنَّ مَا شُرِطَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ، يَكُونُ أَجْرَهُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا أَثْلَاثًا وَالْخَارِجُ كَذَلِكَ - كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ كَأَنَّهُ أَعَارَ شَرِيكَهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَعَانَهُ بِبَعْضِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ نِصْفَانِ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ ثُلُثُ الْبَذْرِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِ شَرِيكِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، إذْ هُوَ يَصِيرُ دَافِعًا سُدُسَ الْأَرْضِ مِنْ شَرِيكِهِ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْهُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، ثُمَّ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِ ثُلُثَيْ الْبَذْرِ أَجْرُ مِثْلِ سُدُسِ الْأَرْضِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ طَيِّبًا لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 107 لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا سُدُسُ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ مِنْهُ رُبُعَ بَذْرِهِ الَّذِي بَذَرَهُ وَمَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ وَالنَّفَقَةِ فِيهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ طَيِّبًا لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ وَالْبَذْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إلَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهُمَا اشْتَرَطَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ خَاصَّةً - جَازَ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَقَرِ مُعِينٌ لِصَاحِبِهِ بِبَقَرِهِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ اشْتَرَطَا لِصَاحِبِ الْبَقَرِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْبَقَرَ مِنْ صَاحِبِهِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ فِي الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا لَا يَجُوزُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَلِصَاحِبِ الْبَقَرِ أَجْرُ مِثْلِ بَقَرِهِ فِيمَا كَرَبَتْ، لِأَنَّهَا كَرَبَتْ الْأَرْضَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الزَّرْعِ، فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ بَقَرِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ اشْتَرَطَا الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَالْبَقَرَ مِنْ الْآخَرِ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَقَرِ يَصِيرُ دَافِعًا أَرْضَهُ وَبَقَرَهُ مُزَارَعَةً بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَقَدْ شُرِطَ فِي ذَلِكَ عَمَلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ مَعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ، وَكُلُّ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ بِانْفِرَادِهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَإِذَا حَصَلَ الْخَارِجُ فَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِصَاحِبِ الْبَقَرِ أَجْرُ مِثْلِ بَقَرِهِ، وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَأَجْرُ مِثْلِ حِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ، ثُمَّ يَطِيبُ نِصْفُ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ نِصْفَ مَا غَرِمَ لِصَاحِبِ الْبَقَرِ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ بَقَرِهِ، وَأَجْرِ عَمَلِهِ، وَجَمِيعَ مَا غَرِمَ لَهُ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَنِصْفِ الْبَذْرِ مَعَ نِصْفِ مَا أَنْفَقَ فِيهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّى هَذَا النِّصْفَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا لِصَاحِبِ الْبَذْرِ ثُلُثَيْ الْخَارِجِ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَ الْخَارِجِ - فَهَذَا وَمَا سَبَقَ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلَانِ أَرْضًا لَهُمَا وَبَذْرًا إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَتَهُ هَذِهِ فَمَا خَرَجَ فَنِصْفُهُ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ الْأَرْضِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِلْعَامِلِ السُّدُسُ - فَهَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الدَّافِعَيْنِ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ فِي نَصِيبِهِ بِجُزْءٍ مِمَّا يُخْرِجُهُ نَصِيبُ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَذَلِكَ جَمِيعُ مَا تُخْرِجُهُ أَرْضُهُ وَبَذْرُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَعَلَ أَجْرَ الْعَامِلِ فِي نَصِيبِهِ جُزْءًا مِنْ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ. وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ حِينَ اشْتَرَطَ السُّدُسَ سَمَّى أَنَّ ذَلِكَ السُّدُسَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً، وَهُوَ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ السُّدُسَ - فَهَذَا تَصْرِيحٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 108 بِالْمَعْنَى الْمُفْسِد لِلْعَقْدِ فَلَا يَزْدَادُ الْعَقْدُ بِهِ إلَّا فَسَادًا. وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَاشْتَرَطَ حِفْظَ الزَّرْعِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ. وَلَوْ شَرَطَ الْكِرَابَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ: فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْعَقْدُ فِي جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلُزُومُ الْعَقْدِ فِي جَانِبِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْكِرَابُ يَسْبِقُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضٍ مَكْرُوبَةٍ. وَإِذَا كَانَ النَّخِيلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ سَنَتَهُ هَذِهِ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَهُ فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا: لِلْعَامِلِ ثُلُثَاهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ - فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَ لِنَفْسِهِ اسْتَأْجَرَ صَاحِبَهُ لِلْعَمَلِ فِي نَصِيبِهِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ، وَاسْتِئْجَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ صَاحِبَهُ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ بَاطِلٌ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُلَاقِيهِ عَمَلُهُ يَمْنَعُ تَسْلِيمَ عَمَلِهِ إلَى صَاحِبِهِ. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ نِصْفَانِ جَازَ وَكَانَ الْعَامِلُ مُعِينًا لِشَرِيكِهِ بِعَمَلِهِ فِي نَصِيبِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ أَمَرَ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يُلَقِّحُ بِهِ النَّخْلَ فَاشْتَرَاهُ - رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ثَمَنِ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي شِرَاءِ نِصْفِ مَا يُلَقِّحُ بِهِ النَّخْلَ لَهُ وَقَدْ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْعَمَلِ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمٍ تَامٍّ إلَى مَنْ يَكُونُ الْعَمَلُ لَهُ، وَالشَّرِكَةُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفَقَةً فَيُنْفِقَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْلِقَ رَأْسَهُ بِأَجْرٍ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ عَلَى شَرِيكِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ مَا يَذْكُرُ مِنْ التَّلْقِيحِ فِي النَّخْلِ أَنْوَاعٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَرْبَابِ النَّخِيلِ: مِنْهَا مَا يُشْتَرَى فَيُدَقُّ وَيُذَرُّ عَلَى مَوَاضِعَ مَعْلُومَةٍ مِنْ النَّخِيلِ. وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ مِنْ فُحُولَةِ النَّخْلِ مِمَّا يُشْبِهُ الذَّكَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ ثُمَّ يَشُقُّ النَّخْلَةَ الَّتِي تَحْمِلُ فَيَغْرِزُ ذَلِكَ فِيهَا عَلَى صُورَةِ الْوَطْءِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا النَّوْعَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَحَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَحْشَفَتْ النَّخْلُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَقَالَ: عَهْدِي بِثِمَارِ نَخِيلِكُمْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالُوا: نَعَمْ. وَإِنَّمَا كَانَتْ تُجِيدُ الثِّمَارَ بِالتَّلْقِيحِ فَانْتَهَيْنَا إذْ مَنَعْتنَا فَأَحْشَفَتْ. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 109 فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَإِذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَبْصَرُ بِدُنْيَاكُمْ. وَقِيلَ إنَّ النَّخِيلَ عَلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّ النَّخْلَةَ خُلِقَتْ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا عَمَّتُكُمْ»، وَلِهَذَا لَا تُثْمِرُ إلَّا بِالتَّلْقِيحِ كَمَا لَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ إلَّا بِالْوَطْءِ، وَإِذَا قُطِعَتْ رَأْسُهَا يَبِسَتْ مِنْ سَاعَتِهَا كَالْآدَمِيِّ إذَا جُزَّ رَأْسُهُ. وَلَوْ اشْتَرَطَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا جَمِيعًا فِيهِ وَيَسْقِيَاهُ وَيُلَقِّحَاهُ بِتَلْقِيحٍ مِنْ عِنْدِهِمَا هَذِهِ السَّنَةَ فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ الثُّلُثَانِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ - فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ الْخَارِجِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نَخْلٌ وَلَا عَمَلٌ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ صَاحِبُهُ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ إنْ كَانَ عَمَلُهُ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِ صَاحِبِهِ. وَلَوْ دَفَعَ نَخْلًا إلَى رَجُلَيْنِ يَقُومَانِ عَلَيْهِ وَيُلَقِّحَانِهِ بِتَلْقِيحٍ مِنْ عِنْدِهِمَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَلِلْآخَرِ سُدُسَهُ وَلِرَبِّ النَّخْلِ ثُلُثَهُ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ النَّخْلِ اسْتَأْجَرَهُمَا لِلْعَمَلِ فِي نَخِيلِهِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَجْرِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَهُمَا لِلْعَمَلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ أَجْرَ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى رَبِّ النَّخِيلِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَ الْخَارِجِ، وَلِرَبِّ النَّخِيلِ ثُلُثَاهُ، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ - كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى، وَالْآخَرَ بِعَيْنِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يَصِحُّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَطُوا لِصَاحِبِ النَّخْلِ الثُّلُثَ، وَلِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرًا مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ - كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ النَّخْلِ الثُّلُثَ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَيْنِ، وَعَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِلُ فُلَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ - فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالْمُعَامَلَةُ تَفْسُدُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ إجَارَةً فِي إجَارَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا هَذِهِ السَّنَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يَقُومُ عَلَى الْعَمَلِ فِي نَخِيلِهِ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ فُلَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا - كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ إجَارَةً فِي إجَارَةٍ، وَاشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ يَكُونُ مُفْسِدًا لَهُمَا. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا سَنَتَهُ هَذِهِ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ فُلَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ - كَانَ فَاسِدًا. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالشَّرْطُ كَمَا وَصَفْنَا - كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أَيْضًا. هَكَذَا ذَكَرْنَا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ وَشَرَطَا أَنْ يَعْمَلَ فُلَانٌ مَعَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ، وَهُوَ فَاسِدٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 110 بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَبَيْنَ فُلَانٍ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ جَازَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِينَ جَمِيعًا، وَهُنَا أَجَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا اخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ وَيَعْمَلُ مَعَهُ فُلَانٌ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَحَرْفُ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ هَذَا عَطْفُ عَقْدٍ فَاسِدٍ عَلَى عَقْدٍ جَائِزٍ لِاشْتِرَاطِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ. وَهُنَاكَ قَالَ: وَعَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ فُلَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحَرْفُ عَلَى لِلشَّرْطِ فَيَكُونُ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: هُنَاكَ الْمَشْرُوطُ لِلْآخَرِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ شَرِكَةً مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْإِجَارَةِ إذَا فَسَدَتْ، وَالشَّرِكَةُ لَا تُفْسَدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَلَمَّا غَلَبَ هُنَاكَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ صَحَّحْنَا الْعَقْدَ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ وَإِنْ فَسَدَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْعَامِلِ الْآخَرِ لِاشْتِرَاطِ عَمَلِهِ مَعَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَهُنَا إنَّمَا شَرَطَا لِلْعَامِلِ أَجْرًا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ الْمُغَلَّبُ هُنَا مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَاَلَّذِي كَانَ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ إجَارَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إجَارَةً لِلْأَرْضِ أَوْ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجَارَةً مَشْرُوطَةً فِي إجَارَةٍ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إجَارَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ النَّخِيلِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ وَلِهَذَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِاشْتِرَاطِ إجَارَةٍ فِي إجَارَةٍ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الزَّرْعِ وَأَجْرُ مِثْلِ الَّذِي عَمِلَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا لَهُ فَعَمَلُهُ كَعَمَلِ الْمُزَارِعِ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى الزَّارِعِ أَجْرُ مِثْلِ الَّذِي عَمِلَ مَعَهُ فِيمَا عَمِلَ لَا يُزَادُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمِقْدَارِ الْمِائَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الزَّارِعِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَأَجْرُ مِثْلِ الَّذِي عَمِلَ مَعَهُ لَا يُزَادُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُزَادُ بِأَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ عَلَى نِصْفِ الْخَارِجِ عَلَى قِيَاسِ شَرِكَةِ الِاحْتِطَابِ. وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ يَدْفَعُهُ الرَّجُلُ إلَى رَجُلَيْنِ مُعَامَلَةً عَلَى هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الْخَارِجِ لِصَاحِبِهِ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِيَ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى شَرِيكِهِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي عَمَلِهِ - فَهُوَ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاطِ إجَارَةٍ فِي إجَارَةٍ. يُوَضِّحُ جَمِيعَ مَا قُلْنَا أَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَامِلِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ سِوَى عَمَلِهِ - بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَلَوْ كَانَ نَخْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَفَعَاهُ إلَى رَجُلٍ سَنَةً يَقُومُ عَلَيْهِ فَمَا خَرَجَ فَنِصْفُهُ لِلْعَامِلِ، ثُلُثَا ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَثُلُثُهُ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبَيْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 111 النَّخْلِ، ثُلُثَاهُ لِلَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَ مِنْ نَصِيبِهِ لِلْعَامِلِ، وَثُلُثَهُ لِلْآخَرِ - فَهُوَ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ نَصِيبِهِ. أَحَدُهُمَا بِثُلُثَيْ نَصِيبِهِ، وَالْآخَرُ بِثُلُثِ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَكَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ مَا شُرِطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ إلَّا قَدْرُ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فَسَادٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ نِصْفَ الْخَارِجِ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ النَّخْلِ بِعَيْنِهِ نَصِيبُهُ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْعَامِلِ ثُلُثَاهُ وَلِصَاحِبِ النَّخْلِ ثُلُثُهُ - فَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ خَاصَّةً، ثُمَّ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَتَصَدَّقَانِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَعَلَيْهِمَا أَجْرُ مِثْلِ الْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ لَهُمَا. وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ عَلَى الَّذِي شَرَطَ النِّصْفَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لِلْعَامِلِ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ وَلَكِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَبْقَى أَصْلُ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ لَهُ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ: ثُلُثُهُ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَثُلُثَاهُ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَعَلَى أَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ صَاحِبَيْ النَّخْلِ نِصْفَيْنِ - فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَ ثُلُثَيْ نَصِيبَهُ لِلْعَامِلِ لَا يَبْقَى لَهُ مِنْ نَصِيبِهِ إلَّا الثُّلُثُ، فَاشْتِرَاطُ نِصْفِ مَا بَقِيَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ طَمَعًا فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَهُوَ بِهَذَا الشَّرْطِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ مَا جَعَلَهُ أُجْرَةً لِلْعَامِلِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ نِصْفِ النِّصْفِ لَهُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ ثُلُثَيْ النِّصْفِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ النِّصْفِ أُجْرَةً لَهُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا، وَقَالَ: اشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي بَاطِلٌ وَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُنَا أُفْسِدَ الْعَقْدُ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا رِوَايَتَانِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقَالَ: هُنَاكَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَصْلَ الْبَذْرِ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ بَيْنَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ، وَهُنَا أَصْلُ النَّخْلِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ جَعَلَا الشَّرْطَ الْفَاسِدَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوطًا فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ وَأَحَدُ صَاحِبَيْ النَّخْلِ بِعَيْنِهِ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا - فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ تَنْعَدِمُ فِيهَا التَّخْلِيَةُ، وَالْعَامِلُ مِنْ رَبَّيْ النَّخِيلِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَعْضِ نَصِيبِهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ مَعَهُ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا لِلَّذِي يَعْمَلُ مِنْ صَاحِبَيْ النَّخِيلِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَالْبَاقِيَ بَيْنَ الْآخَرِ وَالْعَامِلِ نِصْفَيْنِ - كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 112 مِنْ رَبَّيْ النَّخِيلِ عَامِلٌ فِي نَخِيلِ نَفْسِهِ إذْ لَا عَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ أَجَّرَ الْآخَرَ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنْ يَعْمَلَا جَمِيعًا مَعَ الْعَامِلِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا - فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَعْضِ نَصِيبِهِ وَشَرَطَ عَمَلَهُ مَعَهُ فَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ لَا يُوجَدُ فِيهَا التَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّخِيلِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ. وَلَوْ كَانَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ وَحْدَهُ فِي سَنَةٍ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ - فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ، وَإِضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ، وَعَطْفُ الْعَقْدِ الْجَائِزِ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُفْسِدُ الْمَعْطُوفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى هَذَا مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ فِي الْمُزَارَعَةِ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ وَاسْتِئْجَارَ الْعَامِلِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلَانِ إلَى الرَّجُلَيْنِ نَخْلًا لَهُمَا مُعَامَلَةً هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنْ يَقُومَا عَلَيْهِ فَمَا خَرَجَ فَلِلْعَامِلَيْنِ نِصْفُهُ: لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَا ذَلِكَ النِّصْفِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبَيْ النَّخْلِ نِصْفَانِ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ نَصِيبِهِمَا وَفَاوَتَا بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِهِ بِعَمَلِهِمَا وَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ الْحَذَاقَةِ أَوْ الْكَثْرَةِ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ النِّصْفَ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ نِصْفَانِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَاحِبَيْ النَّخْلِ: ثُلُثُهُ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَثُلُثَاهُ لِلْآخَرِ - فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَا اشْتَرَطَا لِلْعَامِلَيْنِ إلَّا رُبُعَ الْخَارِجِ، فَاشْتِرَاطُ أَحَدِهِمَا الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ إذْ هُوَ اشْتِرَاطُ أُجْرَةِ بَعْضِ أَجْرِهِ عَمَلُهَا لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ النِّصْفَ لِلْعَامِلَيْنِ: مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَا ذَلِكَ النِّصْفِ، وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَالْبَاقِيَ بَيْنَ صَاحِبَيْ النَّخِيلِ: ثُلُثَاهُ لِلَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَ، وَثُلُثُهُ لِلَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَيْنِ لِلْعَمَلِ فِي نَصِيبِهِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ نَصِيبِهِ، وَمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ إلَّا مِقْدَارَ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَا شَرَطَ لِلْعَامِلَيْنِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِدُونِ الشَّرْطِ فَلَا يَزِيدُهُ الشَّرْطُ إلَّا وِكَادَةً. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ صَاحِبَيْ النَّخْلِ: ثُلُثَاهُ لِلَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَيْنِ، وَثُلُثُهُ لِلَّذِي شَرَطَ الثُّلُثَ - كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ زِيَادَةً عَلَى الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَهُوَ بِالشَّرْطِ الثَّانِي كَأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ مَا اسْتَوْجَبَهُ لِلْعَامِلَيْنِ أُجْرَةً مَشْرُوطَةً عَلَى صَاحِبِهِ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا ثُلُثَ الْخَارِجِ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبَيْ النَّخْلِ، وَلِلْعَامِلِ الْآخَرِ أَجْرٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى صَاحِبَيْ النَّخْلِ - جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَا أَحَدَ الْعَامِلَيْنِ بِثُلُثِ الْخَارِجِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 113 وَهِيَ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ، وَاسْتَأْجَرَا الْعَامِلَ الْآخَرَ لِلْعَمَلِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى، وَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ. وَلَوْ كَانُوا اشْتَرَطُوا الْمِائَةَ عَلَى أَحَدِ صَاحِبَيْ النَّخْلِ بِعَيْنِهِ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَحَدُهُمَا بِالدَّرَاهِمِ إنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ فَعَمَلُ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ يُفْسِدُهَا، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَعْمَلَ لَهُمَا فَاشْتِرَاطُ أَجْرِ أَجِيرِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ جَعَلَا ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْمُعَامَلَةِ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبَيْ النَّخْلِ، وَلِلْعَامِلِ عَلَى الَّذِي شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى صَاحِبَيْ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَتَسْمِيَةُ الثُّلُثِ لَهُ بَعْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلِلْعَامِلِ الْآخَرُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى الَّذِي شَرَطَ لَهُ الْمِائَةَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَاقَدَهُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَالْتَزَمَ الْبَدَلَ لَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُمَا جَمِيعًا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ عَنْهُ فِي الِاسْتِئْجَارِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْغُرْمِ فِي نَصِيبِهِ. وَلَوْ كَانُوا اشْتَرَطُوا أَنَّ الْمِائَةَ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي شَرَطُوا لَهُ الثُّلُثَ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَامِلُ وَاحِدًا أَنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِاشْتِرَاطِ الْإِجَارَةِ فِي الْإِجَارَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَامِلُ اثْنَيْنِ وَالْخَارِجُ لِصَاحِبَيْ النَّخْلِ، وَعَلَيْهِمَا لِلَّذِي شُرِطَ لَهُ الثُّلُثُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَأَجْرُ مِثْلِ صَاحِبِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَجَّرَهُ وَعَمَلُ أَجِيرِهِ يَقَعُ لَهُ فَيَكُونُ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ صَحَّ رِضَاهُ بِقَدْرِ الْمِائَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَرْضًا لَهُ هَذِهِ السَّنَةَ يَزْرَعَانِهَا بِبَذْرِهِمَا وَعَمَلِهِمَا فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهَا فَنِصْفُهُ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ بِعَيْنِهِ، وَثُلُثُهُ لِلْآخَرِ، وَالسُّدُسُ لِرَبِّ الْأَرْضِ - فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَا الْأَرْضَ وَشَرَطَا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْرِ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً، فَإِنَّ الْآخَرَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِهِ، وَلَوْ اشْتَرَطُوا لِأَحَدِهِمَا أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ الْخَارِجِ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ مَا بَقِيَ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ: أَحَدُهُمَا بِخُمُسَيْ نَصِيبِهِ، وَالْآخَرُ بِثُلُثِ نَصِيبِهِ، وَكَمَا يَجُوزُ التَّفَاوُتُ فِي أُجْرَةِ الْعَامِلَيْنِ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ مِنْهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَطُوا أَنَّ نِصْفَ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ السُّدُسُ - جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَأْجَرَ نِصْفَ الْأَرْضِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى، وَالْآخَرَ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ، وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْأَجْرِ أَوْ مَنْفَعَةِ الْعَقْدِ لَا تَتَفَرَّقُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 114 الصَّفْقَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الشُّيُوعُ. وَلَوْ اشْتَرَطُوا عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ - كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي الْتَزَمَ الْمِائَةَ جَمَعَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ نَصِيبِهِ بَيْنَ أَجْرِ الْمُسَمَّى وَبَعْضِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطُوا الْمِائَةَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَهُمَا كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ الْتَزَمَ لَهُمَا مَعَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْخَارِجِ، فَفِيمَا يَخُصُّ الْمِائَةَ مِنْ الْخَارِجِ هُوَ مُشْتَرًى مِنْهُمَا، وَشِرَاءُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ فَفَسَدَ الْعَقْدُ لِذَلِكَ. وَلَوْ اشْتَرَطَا الْمِائَةَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَقَدْ اشْتَرَطُوا أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثٌ. فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ: هَذِهِ مُزَارَعَةٌ فَاسِدَةٌ، وَالْخَارِجُ لِصَاحِبَيْ الْبَذْرِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَيْهِمَا أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: الْمُزَارَعَةُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ الَّذِي لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الْمَالَ جَائِزَةٌ، فَيَأْخُذُ هُوَ الثُّلُثَ، وَرَبُّ الْأَرْضِ السُّدُسَ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْخَارِجِ لِلْمُزَارِعِ الْآخَرِ، وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ هُنَا إنَّمَا صَارَ مُشْتَرِيًا بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْمِائَةِ، فَإِنَّمَا تَمَكَّنَ الْمُفْسِدُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّفْقَةَ الْوَاحِدَةَ إذَا فَسَدَ بَعْضُهَا فَسَدَ كُلُّهَا. وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْفَسَادَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي الْبُيُوعِ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى إجَارَةِ الْمُشَاعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمَّا فَسَدَ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ الْمِائَةَ: فَلَوْ صَحَّ فِي حَقِّ الْعَامِلِ الْآخَرِ كَانَ إجَارَةُ نِصْفِ الْأَرْضِ مُشَاعًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْفَسَادِ مُنْعَقِدٌ عِنْدَنَا فَلَا يَتَمَكَّنُ بِهَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مُشَارَكَةِ الْعَامِلِ مَعَ آخَرَ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ وَيَسْقِيَهُ، وَيُلَقِّحَهُ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ نِصْفَانِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَدَفَعَهُ الْعَامِلُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ، مُعَامَلَةً عَلَى أَنَّ لِلْآخَرِ ثُلُثَ الْخَارِجِ فَعَمِلَ عَلَى ذَلِكَ - فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَلِلْعَامِلِ الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلَا أَجْرَ لِلْأَوَّلِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ خَالَفَ أَمْرَ رَبِّ النَّخْلِ حِينَ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُعَامَلَةً، فَإِنَّ رَبَّ النَّخِيلِ إنَّمَا رَضِيَ بِشَرِكَتِهِ فِي الْخَارِجِ لَا بِشَرِكَةِ الثَّانِي، فَهُوَ حِينَ أَوْجَبَ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ لِلْعَامِلِ الثَّانِي صَارَ مُخَالِفًا لِرَبِّ النَّخْلِ فِيمَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 115 أَمَرَهُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بَعْدَ مَا صَارَ غَاصِبًا، سَوَاءٌ أَقَامَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، ثُمَّ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ اسْتَأْجَرَ الثَّانِيَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ لِاسْتِحْقَاقِ رَبِّ النَّخْلِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ نَخْلِهِ فَلَا يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ بِدُونِ رِضَاهُ، وَهُوَ مَا رَضِيَ بِأَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّانِيَ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ فَفَسَدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ، فَإِنْ هَلَكَ الثَّمَرُ فِي يَدِ الْعَامِلِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ، وَهُوَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِآفَةٍ أَصَابَتْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبَيْنِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ إذَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً. وَإِنْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ شَيْءٌ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَمَلًا خَالَفَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ فَالضَّمَانُ فِيهِ لِصَاحِبِ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ أَنْشَأَهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ الْغَاصِبِ. وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدَيْ مَنْ عَمِلَ فِي شَيْءٍ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْأَوَّلُ فَلِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّ الْعَامِلَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَإِنْ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ، وَلَكِنْ كَانَ عَامِلًا ذَلِكَ الْعَمَلَ لِلْأَوَّلِ حِينَ اسْتَوْجَبَ بِمُعَامَلَتِهِ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ كَعَمَلِ الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ فَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمِنَ الْآخَرَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ عَمِلَ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ضَمِنَ صَارَ كَالْمَالِكِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ النَّخْلِ أَمَرَ الْأَوَّلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَدَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ - جَازَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِشْرَاكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْغَيْرِ مُعَامَلَةً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ نِصْفُ الْخَارِجِ لِرَبِّ النَّخْلِ، وَثُلُثُهُ لِلْآخَرِ كَمَا أَوْجَبَهُ لَهُ الْأَوَّلُ مِنْ نَصِيبِهِ، وَبَقِيَ السُّدُسُ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ طَيِّبٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْتِزَامِ الْعَمَلِ بِالْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ النَّخْلِ لِلْأَوَّلِ: مَا رَزَقَك اللَّهُ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَدَفَعَهُ إلَى آخَرَ مُعَامَلَةً بِالثُّلُثِ أَوْ النِّصْفِ - كَانَ جَائِزًا، وَالْبَاقِي بَعْدَ الْمَشْرُوطِ لِلْآخَرِ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ نِصْفَيْنِ كَمَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الَّذِي رَزَقَ اللَّهُ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاقِي، وَقَدْ شَرَطَا الْمُنَاصَفَةَ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُزَارِعِ مِنْ الْخَارِجِ عِشْرِينَ قَفِيزًا، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ مَا بَقِيَ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فِيهِ أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَدَفَعَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ مُزَارَعَةً فَعَمِلَ - فَالْخَارِجُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَقَدْ كَانَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 116 الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَاسِدًا بِاشْتِرَاطِ مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ بِالْعَقْدَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلثَّانِي فِي الْخَارِجِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرُهُ لَا شَرِيكُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إشْرَاكُ الثَّانِي فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ فِيمَا فَعَلَهُ فَيَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِلْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْأَرْضِ، وَلِلْأَوَّلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا لِرَبِّ الْأَرْضِ كَانَ عَمَلُ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَلَّمَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ الثَّانِي، فَالثَّانِي إنَّمَا أَقَامَ الْعَمَلَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ رَبُّ الْأَرْضِ إجَارَةً فَاسِدَةً. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك أَوْ لَمْ يَقُلْ فَدَفَعَهَا إلَى آخَرَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ لِلْآخَرِ مِنْهُ عِشْرِينَ قَفِيزًا - فَالْمُزَارَعَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَاسِدَةٌ، وَلِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ، وَعَمَلُ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الْأَرْضِ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِعِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ وَالْبَاقِي لِلْمُزَارِعِ، أَوْ كَانَ شَرَطَ أَقْفِزَةً لِلْمُزَارِعِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَدَفَعَهَا الْمُزَارِعُ إلَى الْآخَرِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَالْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ فَعَمِلَ - فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ إجَارَةً فَاسِدَةً، فَيَصِحُّ مِنْهُ اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ لِلْعَمَلِ فِيهِ، أَوْ إجَارَتُهَا مِنْ غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعَيْنِ نِصْفَانِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَا تَعَاقَدَا الْمُزَارَعَةَ حَتَّى أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَخْذَ الْأَرْضِ وَبَعْضَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ - كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَالْإِجَارَةُ تُنْقَضُ بِالْعُذْرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ يُنْقَضُ الْعَقْدُ الثَّانِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ؛ لِاسْتِحْقَاقِ نَقْضِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ الْأَوَّلِ يُنْقَضُ اسْتِئْجَارُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي لِفَسَادِ الْعَقْدِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ زَرَعَ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَخْذُ أَرْضِهِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ الْآخَرَ مُحِقٌّ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 117 الْأَرْضِ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالِ حَقِّهِ، فَيَتَأَخَّرُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِك أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَدَفَعَهَا الْأَوَّلُ وَبَذْرًا مَعَهَا إلَى الثَّانِي مُزَارَعَةً بِعِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ شَرَطَاهُ لِلثَّانِي أَوْ لِلْأَوَّلِ - فَالْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِدٌ، وَلِلْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ الْعَمَلَ بِأَجِيرِهِ كَإِقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْآخَرِ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَاسِدٌ، وَالْخَارِجُ نَمَاءُ بَذْرِهِ وَعَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَجَّرَ الْأَرْضَ مِنْهُ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْأَرْضَ بِنِصْفِ الْخَارِجِ وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ الْآخَرُ فَيَرْجِعُ رَبُّ الْأَرْضِ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَدَفَعَهُ الْعَامِلُ إلَى آخَرَ مُعَامَلَةً بِعِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ - فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ نِصْفَانِ، وَلِلْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ، ثُمَّ الْأَوَّلُ هُنَا لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا لِرَبِّ النَّخْلِ بِالدَّفْعِ إلَى الثَّانِي وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ حِينَ وُجِدَ الْعَقْدُ الثَّانِي، وَكَانَ عَمَلُ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ النَّخْلِ نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ فِي الْمُعَامَلَةِ الْأُولَى عِشْرِينَ قَفِيزًا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ النِّصْفَ - فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ الثَّانِي، إذْ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِشَرِيكٍ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ الشَّرِكَةَ لِغَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ، وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ لِلثَّانِي لَمْ يَصِرْ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا فَيَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَلِلْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَلِلْأَوَّلِ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ أَجْرُ مَا عَمِلَ الْآخَرُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْخِلَافُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مُزَارَعَةِ الْمُرْتَدِّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَفَعَ الْمُرْتَدُّ أَرْضَهُ وَبَذْرَهُ إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، فَعَمِلَ عَلَى ذَلِكَ وَخَرَجَ الزَّرْعُ: فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالْخَارِجُ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْبَذْرِ وَنُقْصَانُ الْأَرْضِ لِلدَّافِعِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 118 الْمُزَارَعَةَ، أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا هَذِهِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةٌ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ. عِنْدَهُمَا تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ كَمَا تَنْفُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُوقَفُ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَبَطَلَ أَيْضًا إذْنُهُ لِلْعَامِلِ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِذَلِكَ فَيَصِيرُ الْعَامِلُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْبَذْرِ وَنُقْصَانُ الْأَرْضِ، أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْبَذْرَ بِالضَّمَانِ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ عَلَى الْعَامِلِ، وَقُتِلَ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ: فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُقْصَانٌ غَرِمَ الْعَامِلُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ بَطَلَتْ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْأَرْضِ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ نُقْصَانٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ لِلْأَرْضِ لَا يَضْمَنْ شَيْئًا إلَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهَا نُقْصَانٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ عَقْدِهِ كَانَ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فِي مَالِهِ، وَالنَّظَرُ لِلْوَرَثَةِ هُنَا فِي تَنْفِيذِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَفَذَ الْعَقْدُ سَلِمَ لَهُمْ نِصْفُ الْخَارِجِ، وَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ فَنَفَذَ عَقْدُهُ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ لَوْ نَفَذَ الْعَقْدُ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ نُقْصَانُ الْأَرْضِ، وَرُبَّمَا كَانَ نُقْصَانُ الْأَرْضِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ نِصْفِ الْخَارِجِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ، فَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنًا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلِمَ وَجَبَ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِلْمَوْلَى. وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةٌ إنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْمُزَارِعُ وَالْبَذْرُ مِنْهُ - فَالْخَارِجُ لَهُ وَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الْأَرْضِ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ وَغَيْرِهِ إذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ سَلَّطَهُ عَلَى عَمَلِ الزِّرَاعَةِ، وَهُوَ تَسْلِيطٌ صَحِيحٌ، وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَتِهِ، وَقَدْ بَطَلَ الْتِزَامُهُ لِلْعِوَضِ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِ الْمُرْتَدِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ لِرَبِّ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الدَّافِعِ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْمُرْتَدِّ بِنِصْفِ الْخَارِجِ، وَحَقُّ وَرَثَتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَنَافِعِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعَانَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَرَثَةِ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ هُنَا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَصِحَّ إجَارَتُهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْخَارِجِ شَيْءٌ؟ وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 119 الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ. وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا مُرْتَدَّيْنِ وَالْبَذْرُ مِنْ الدَّافِعِ فَالْخَارِجُ لِلْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْبَذْرِ وَنُقْصَانُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ صَارَ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ حِينَ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الدَّافِعِ إيَّاهُ بِالزِّرَاعَةِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ لَهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْبَذْرِ وَنُقْصَانِ الْأَرْضِ لِوَرَثَةِ الدَّافِعِ. وَلَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ صَاحِبُ الْبَذْرِ، كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ لَهُ فَإِسْلَامُ مَنْ اسْتَأْجَرَهُ يَكْفِي لِفَسَادِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ هُوَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَقَدْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ - كَانَ الْخَارِجُ لَهُ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الدَّافِعِ لَهُ فِي عَمَلِ الزِّرَاعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ، فَيَغْرَمُ لَهُمْ نُقْصَانَ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نُقْصَانٌ فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْعَامِلِ الْأَرْضَ بِنِصْفِ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِهِ بَاطِلٌ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ رَبُّ الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ الْمُزَارِعُ وَقُتِلَ الْآخَرُ عَلَى الرِّدَّةِ ضَمِنَ الْمُزَارِعُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالْمُزَارَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يُنْقِصْهَا شَيْئًا فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْمُزَارِعِ، وَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ حِينَ قُتِلَ رَبُّ الْأَرْضِ عَلَى رِدَّتِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ بِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فِي تَنْفِيذِ الْعَقْدِ هُنَا كَمَا بَيَّنَّا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ إنْ قُتِلَا أَوْ أَسْلَمَا أَوْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُزَارَعَةِ الْمُرْتَدَّةِ وَمُعَامَلَتِهَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الْمُسْلِمَةِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ. وَإِذَا دَفَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى مُرْتَدٍّ أَوْ مُسْلِمٍ نَخِيلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قُتِلَ صَاحِبُ النَّخِيلِ عَلَى رِدَّتِهِ - فَالْخَارِجُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْلٍ هُمْ أَحَقُّ بِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَقَدْ بَطَلَ اسْتِئْجَارُهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ. وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ النَّخِيلِ مُسْلِمًا وَالْعَامِلُ مُرْتَدًّا فَقُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ بَعْدَ مَا عَمِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَسْلَمَ - فَهُوَ سَوَاءٌ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي مَنَافِعِهِ، وَفِي تَنْفِيذِ هَذَا الْعَقْدِ مَنْفَعَةُ وَرَثَتِهِ. وَلَوْ كَانَا عَقَدَا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَهُمَا مُسْلِمَانِ، وَالْبَذْرُ مِنْ الدَّافِعِ أَوْ الْعَامِلِ، ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا أَيَّهمَا كَانَ، ثُمَّ عَمِلَ الْعَامِلُ وَأَدْرَكَ الزَّرْعُ، ثُمَّ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ - كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ إنَّمَا تُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُنْشِئُهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَأَمَّا مَا نَفَذَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِرِدَّتِهِ، فَوُجُودُ الرِّدَّةِ فِي حُكْمِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ كَعَدَمِهَا. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 120 [بَابُ مُزَارَعَةِ الْحَرْبِيِّ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ أَرْضًا لَهُ وَبَذْرًا مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةَ بِالنِّصْفِ - فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا دَامَ فِي دِيَارِنَا، وَالْمُزَارَعَةُ إجَارَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعَامَلَةٌ تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ كَامِلٌ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا تَمَامَ مُدَّةِ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ، وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا، وَلَمْ يَدَعْهُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً، فَدَفَعَهَا إلَى مُسْلِمٍ مُزَارَعَةً - جَازَ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَيُوضَعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَرْضِهِ الْخَرَاجُ، وَلَا يُتْرَكُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَلْ يَجْعَلُهُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الرُّءُوسِ تَبَعٌ لِخَرَاجِ الْأَرَاضِي، فَإِذَا الْتَزَمَ خَرَاجَ الْأَرْضِ كَانَ مُلْتَزِمًا خَرَاجَ الرَّأْسِ أَيْضًا، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي ذِمِّيًّا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَأْمَنًا. وَلَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَدَفَعَهَا إلَى حَرْبِيٍّ مُزَارَعَةً، أَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْحَرْبِيِّ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ - جَازَ؛ لِأَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ - بِالشَّرِكَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ - لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ اُشْتُرِطَ لِأَحَدِهِمَا عِشْرُونَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، يَأْخُذُهَا مَنْ سُمِّيَتْ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، وَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْآخَرِ الْأَجْرُ إذَا أَسْلَمَ وَخَرَجَ إلَيْنَا، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي تَفْسُدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَعَقْدِ الرِّبَا هَلْ يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ. وَالْمُزَارَعَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ التَّاجِرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى الْإِحْرَازِ فِي مَالِهِمَا قَائِمٌ، وَمُبَاشَرَتُهُمَا الْمُزَارَعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ فِيمَا يَصِحُّ وَيَفْسُدُ. وَالْمُزَارَعَةُ بَيْنَ مُسْلِمٍ تَاجِرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ رَجُلٍ أَسْلَمَ هُنَاكَ جَائِزَةٌ بِالنِّصْفِ، وَكَذَا بِعِشْرِينَ قَفِيزًا مِنْ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الرِّبَا بَيْنَ التَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاَلَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ وَبَيْنَ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَا وَلَمْ يُهَاجِرَا. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَوْ التَّاجِرُ أَرْضًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَدَفَعَهَا إلَى حَرْبِيٍّ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، فَلَمَّا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ - فَالزَّرْعُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 121 وَالْأَرْضُ كُلُّهُمَا لِمَنْ افْتَتَحَهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْلِمِ فَهِيَ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ، فَتَصِيرُ غَنِيمَةً لِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ، وَالزَّرْعُ قَبْلَ الْحَصَادِ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا، وَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ حُصِدَ وَلَمْ يُحْمَلْ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ - كَانَتْ الْأَرْضُ وَنَصِيبُ الْحَرْبِيِّ مِنْ الزَّرْعِ فَيْئًا، وَلِلْمُسْلِمِ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ زَالَتْ بِالْحَصَادِ، وَصَارَتْ كَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ فَنَصِيبُ الْحَرْبِيِّ مِنْ ذَلِكَ يَصِيرُ غَنِيمَةً كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَنَصِيبُ الْمُسْلِمِ لَا يَصِيرُ غَنِيمَةً كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِ التَّبَعِيَّةِ حُكْمُ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الزَّرْعَ الْمَحْصُودَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ مِنْ الْأَرْضِ. وَمِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ فَالْجَوَابُ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ هُوَ الْحَرْبِيُّ وَالزَّارِعُ هُوَ الْمُسْلِمُ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يُحْصَدْ فَتَرَكَ الْإِمَامُ أَهْلَهَا، وَتَرَكَهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَهْلِ السَّوَادِ - كَانَتْ الْأَرْضُ لِصَاحِبِهَا أَيَّهُمَا كَانَ، وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَرَّرَ مِلْكَهُمَا فِيهِ بِالْمَنِّ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْحَرْبِيِّ فَفِي حِصَّةِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى. وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا أَرْضًا فَدَفَعَهَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، فَاسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يَحْصُدْ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ - فَالْأَرْضُ وَالزَّرْعُ فَيْءٌ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا بَعْدَ مَا حُصِدَ الزَّرْعُ فَالْأَرْضُ فَيْءٌ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَصِيرُ غَنِيمَةً بِالظُّهُورِ عَلَى الدَّارِ. وَإِنْ دَفَعَهَا الْمُسْلِمُ إلَى حَرْبِيٍّ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ وَالْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الزَّرْعَ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ وَقَدْ اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ، أَوْ لَمْ يُسْتَحْصَدْ - جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَرَاجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْآخَرِ الْأَجْرُ، وَهَذَا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ مَعَ الْمُزَارِعِ فِي الْمُزَارَعَةِ إنَّمَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُ الدَّارِ. وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ - كَانَتْ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا فَيْئًا وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَجْرٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُطَالِبُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إنْ كَانَتْ لِلْحَرْبِيِّ فَقَدْ صَارَتْ غَنِيمَةً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِأَجْرِهَا، وَنَفْسُ الْحَرْبِيِّ تَبَدَّلَتْ بِالرِّقِّ فَلَا تَتَوَجَّهُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَجْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَا لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكَهُمْ الْإِمَامُ فِي أَرْضِهِمْ كَمَا تَرَكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْلَ السَّوَادِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 122 فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إسْلَامِهِمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَهُمْ فِي أَرَاضِيِهِمْ وَحُرِّيَّتَهُمْ فِي رِقَابِهِمْ بِالْمَنِّ كَمَا يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ لَوْ أَسْلَمُوا. وَالْمُعَامَلَةُ كَالْمُزَارَعَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ بِالنِّصْفِ أَوْ بِأَقْفِزَةٍ مُسَمَّاةٍ مِنْ الْخَارِجِ، فَأَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُحْصَدَ الزَّرْعُ وَقَدْ اُسْتُحْصِدَ أَوْ بَعْدَ مَا حُصِدَ - جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْعَقْدَ حِينَ لَمْ يَكُونَا مُلْتَزِمَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا قَبْلَ إسْلَامِهِمَا، فَيَتَأَكَّدُ مِلْكُهُمَا بِالْإِسْلَامِ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ ثُمَّ زَرَعَ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً عَلَى شَرْطِ الْأَقْفِزَةِ الْمُسَمَّاةِ، وَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، فَالْإِسْلَامُ الطَّارِئُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ. وَلَوْ كَانَ زَرَعَ ثُمَّ أَسْلَمُوا وَهُوَ بَقْلٌ لَمْ يُسْبِلْ، ثُمَّ عَمِلَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ - كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَبُّ وَالْإِسْلَامُ حَصَلَ قَبْلَ حُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَبِّ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ الِاسْتِحْصَادِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فِيهَا، فَإِسْلَامُهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ بِشَرْطِ عِشْرِينَ قَفِيزًا، وَكُلُّ حَالَةٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فِيهَا فَإِسْلَامُهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْبَقَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَمَا دَامَ الزَّرْعُ بَقْلًا فَابْتِدَاءُ الْمُزَارَعَةِ فِيهِ يَصِحُّ، فَإِذَا أَسْلَمُوا وَكَانَ الْعَقْدُ بِشَرْطِ عِشْرِينَ قَفِيزًا فَسَدَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِاسْتِحْصَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مُزَارَعَةِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِلْأَرْضِ أَوْ لِلْعَامِلِ، أَوْ هُوَ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الْخَارِجِ، وَالتُّجَّارُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ، فَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْحُرِّ الْبَالِغِ، فَإِنْ زَارَعَ الْعَبْدُ إنْسَانًا فَلَمْ يَزْرَعْ حَتَّى حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ فَحَيْثُ كَانَ لِلْحُرِّ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلِمَوْلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْهُ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِحَجْرِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِالْحَجْرِ كَامْتِنَاعِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ مَنْعُ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ اللَّازِمَ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ وَلَا يُمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ إبْطَالِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 123 يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَذْرُ وَالْأَرْضُ مِنْ الْعَبْدِ فَحَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّارِعَ مِنْ الزِّرَاعَةِ. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ أَرْضَ الْغَيْرِ مُزَارَعَةً لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ ثُمَّ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَنَفْسُ الْحَجْرِ مَنْعٌ مِنْهُ لِلْمُزَارَعَةِ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَبْدُ فَفِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ إتْلَافٌ لَهُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ، فَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ الْمُزَارِعُ مِنْ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُزَارِعُ بِبَذْرِهِ فَبِنَفْسِ الْحَجْرِ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْبَذْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي مَنَافِعِهِ بِإِقَامَةِ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى، فَلِهَذَا جَعَلَ نَفْسَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَسْخًا لِلزِّرَاعَةِ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ يَحْجُرُ عَلَيْهِ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ. وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَةُ فِي الِاسْتِئْجَارِ إلَّا أَنَّ فِي الْمُعَامَلَةِ الْحَجْرَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، أَيَّهمَا كَانَ الْعَامِلُ، لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ تُلْزَمُ بِنَفْسِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ نَهَاهُ أَوْ نَهَى مُزَارِعَهُ عَنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ نَهَاهُ عَنْ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ كَانَ نَهْيُهُ بَاطِلًا وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ وَيَعْمَلَ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ لِأَنَّ هَذَا حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ وَهُوَ بَاطِلٌ [أَلَا تَرَى] أَنَّ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ لَوْ اسْتَثْنَى الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ إذَا نَهَاهُ عَنْ الْعَقْدِ أَوْ الْمُضِيِّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ. فَإِذَا اشْتَرَى الصَّبِيُّ التَّاجِرُ أَرْضًا ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ أَبُوهُ فَدَفَعَهَا مُزَارَعَةً إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ فَالْخَارِجُ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ بَعْدَ الْحَجْرِ بَاطِلٌ فَكَانَ الْعَامِلُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي الْأَرْضِ نُقْصَانٌ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصَّبِيِّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَوْ بَطَلَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَحْجُرُ الصَّبِيَّ عَمَّا يُتَمَحَّضُ مَنْفَعَتُهُ مِنْ الْعُقُودِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْبَالِغِ أَوْ الْمَأْذُونِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الدَّافِعِ كَانَ الْخَارِجُ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْبَذْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نُقْصَانُ الْأَرْضِ إنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرَجْ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ فِي الزِّرَاعَةِ وَإِلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الْأَرْضِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْمُزَارِعُ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غُرْمُ الْبَذْرِ وَنُقْصَانُ الْأَرْضِ، وَالْخَارِجُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا. وَإِذَا دَفَعَ الْحُرُّ إلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَرْضًا وَبَذْرًا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ سَنَتَهُ هَذِهِ فَزَرَعَهَا فَحَصَلَ الْخَارِجُ، وَسَلَّمَ الْعَامِلُ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ لِلْعَمَلِ بِالنِّصْفِ الْخَارِجِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 124 عَلَيْهِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ مَاتَ فِي الْعَمَلِ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْصَادِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، فَإِنَّمَا أَقَامَ عَمَلَ الزِّرَاعَةِ بِعَبْدِ نَفْسِهِ، فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَلِكَوْنِهِ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ لَا يَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الزَّرْعِ. وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ مِنْ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا طَيِّبٌ لَهُمَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ لِأَنَّ بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ تَأَكَّدَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ، وَالصَّبِيُّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، فَإِنْ مَاتَ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ دِيَةُ الصَّبِيِّ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِإِتْلَافِهِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ. لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَهُوَ حُرٌّ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ اكْتَسَبَهُ بِعَمَلِهِ، وَالْعَبْدُ فِي الِاكْتِسَابِ كَالْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا فَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الْأَرْضِ مِنْ نُقْصَانٍ وَلَا غَيْرِهِ مَا لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّهُ شَرَطَ بَعْضَ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِعَقْدِهِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ حَالَ رِقِّهِ، وَإِنَّمَا زَرَعَ الْأَرْضَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِ الْأَرْضِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَغْرَمُ نُقْصَانَ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ، فَإِذَا عَتَقَ رَجَعَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ بِأَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ لِأَنَّهُ كَانَ شَرَطَ لَهُ نِصْفِ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَحَصَلَ الْخَارِجَ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا يُرْجَعُ عَلَى الصَّبِيِّ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَثُرَ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالْعَقْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ فِي عَمَلِ الْأَرْضِ لَمْ يَضْمَنْهُ رَبُّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا لِأَنْفُسِهِمَا فَلَا يَكُونُ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُسْتَعْمِلًا لِلْعَبْدِ وَلَا مُتَسَبِّبًا لِإِتْلَافِ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ ضَمَانِ بَذْرِهِمَا وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا لِأَنْفُسِهِمَا فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَمَلٌ فِي بَذْرِهِمَا تَسَبُّبًا وَلَا مُبَاشَرَةً. وَإِذَا حَجَرَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ ابْنِهِ وَفِي يَدِهِ نَخْلٌ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ مَا لَمْ يُعْتَقْ، فَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَامِلِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمَوْلَى الْخَارِجَ بَعْدَ مَا حَصَلَ الْخَارِجُ. وَإِذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَرْضًا مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ أَرْضًا أَخَذَهَا مِنْ أَرَاضِيِ مَوْلَاهُ إلَى رَجُلٍ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 125 وَعَمَلِهِ هَذِهِ السَّنَةَ بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهَا الْعَامِلُ فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا وَنَقَصَ الزَّرْعُ الْأَرْضَ فَالْخَارِجُ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ لِرَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى إلَى مَوْلَاهُ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِمُبَاشَرَتِهِ عَقْدَ الضَّمَانِ، وَالْعَبْدُ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْغَرُورِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُزَارِعِ نِصْفَ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِمَا فَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فَإِذَا أَخَذَا نِصْفَ الْخَارِجِ بَاعَهُ وَاسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ مَا غَرِمَهُ لِلْمُزَارِعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ كَانَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبٌ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَمَا اكْتَسَبَ الْعَبْدُ فِي حَالِ رِقِّهِ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى. وَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ أَنَا آخُذُ نِصْفَ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَلَا أُضَمِّنُ الْعَامِلَ نُقْصَانَ الْأَرْضِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إنْ عَتَقَ الْعَبْدَ أَوْ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُزَارِعِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِعَوْدِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ أَوْ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ فَيَكُونُ رِضَاهُ بِهِ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ شَيْئًا فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُزَارِعِ نِصْفَانِ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْعَقْدِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَوْلَى وَهُوَ سَلَامَةُ نِصْفِ الْخَارِجِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ صِحَّتُهُ فِي حَقِّهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَا ضَرَرَ هُنَا. وَإِذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ مَوْلَاهُ وَبَذْرًا مِنْ بَذْرِ مَوْلَاهُ أَوْ مَا كَانَ مِنْ تِجَارَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهَا الْمُزَارِعُ فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ وَقَدْ نَقَصَ الْأَرْضَ الزَّرْعُ أَوْ لَمْ يُنْقِصْهَا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُزَارِعَ بَذْرَهُ وَنُقْصَانَهُ أَرْضَهُ لِأَنَّ الزَّارِعَ غَاصِبٌ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ فَإِنَّ إذْنَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَاطِلٌ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ ذَلِكَ ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُزَارِعُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْغَرُورِ وَكَانَ نِصْفُ الْخَارِجِ لِلْعَبْدِ يُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا ضَمِنَ وَيَكُونُ الْفَضْلُ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى أَخَذَ نِصْفَ الزَّرْعِ فَكَانَ لَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الزَّارِعُ مِنْ الْبَذْرِ وَالنُّقْصَانِ شَيْئًا لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُزَارِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ رِضَاهُ بِهِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ تَمَّ الْعَقْدُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْكَفَالَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا لَهُ يَزْرَعُهَا هَذِهِ السَّنَةَ بِالنِّصْفِ وَضَمِنَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 126 لَهُ رَجُلٌ الزِّرَاعَةَ مِنْ الزَّارِعِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ عَامِلٌ، وَالْمُزَارَعَةُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُسْتَحَقًّا لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ لِلْمَضْمُونِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الضَّمَانُ شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ لِلْأَرْضِ فَتَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلَاهُ شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ وَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ جَازَ الضَّمَانُ وَالْمُزَارَعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَقَدْ صَارَتْ إقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي تَسْلِيمِهِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ مَقْصُودًا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْأُجْرَةِ، وَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ تَعَنَّتَ الزَّارِعُ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِإِيفَاءِ مَا كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ، فَإِذَا عَمِلَ وَبَلَغَ الزَّرْعُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُزَارِعُ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا لِأَنَّ الْكَفِيلَ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ، وَلِلْكَفِيلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَلَ بِأَمْرِهِ وَأَوْفَاهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ؛ وَمِثْلُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ كَالْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ إذَا أَدَّى، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ عَلَى الزَّارِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ الْعَامِلُ هُنَا لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَهُوَ عَمَلُ الْمُزَارِعِ بِنَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْكَفِيلِ إبْقَاءُ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ الضَّمَانُ، وَتَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا إنْ كَانَ الضَّمَانُ شَرْطًا فِيهَا، وَالْمُعَامَلَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُزَارَعَةِ، وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ كَفَلَ لِرَبِّ الْأَرْضِ بِحِصَّتِهِ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ - وَالْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ - فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مَا يَهْلَكُ مِنْهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَالْكَفَالَةُ بِالْأَمَانَةِ لَا تَصِحُّ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ الْوَدِيعَةِ، إنَّمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَالْمُعَامَلَةُ فِي هَذَا كَالْمُزَارَعَةِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ لِأَحَدِهِمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ إنْ اسْتَهْلَكَهَا صَاحِبُهَا - فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْمُزَارَعَةِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ، وَإِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ هَذَا دَيْنٌ يَجِبُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَا بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ. وَعَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَفِيلًا بِدَيْنٍ آخَرَ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ - يَكُونُ صَحِيحًا كَعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِذَا شَرَطَا الْكَفَالَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 127 فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ وَالْكَفَالَةُ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْمَضْمُونُ مِنْهُ شَيْئًا ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ وَيَأْخُذُ بِهِ الطَّالِبُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَضَمِنَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ حِصَّتَهُ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ - فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ فَسَادِ الْمُزَارَعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ. وَالْكَفَالَةُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصْلِ بَاطِلٌ، وَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِأَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الطَّعَامَ، وَأَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ دَرَاهِمُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ غَيْرُ مَا الْتَزَمَهُ. وَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ لِلْعَامِلِ أَوْ لِرَبِّ الْأَرْضِ كُرَّ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ، وَمَا كَانَ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْمَبِيعِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْعَمَلِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى فِي تَحَكُّمِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ بَعْضَ الْخَارِجِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ فَاسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ أَوْ لَمْ يُحْصَدْ أَوْ بَلَغَ التَّمْرُ وَلَمْ يُحْرَزْ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْآخَرِ كَالْوَدِيعَةِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَلَاكَ الْأَمَانَةِ فِي يَدِ الْأَمِينِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا أَحَدُهُمَا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مِلْكًا تَامًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَضْمَنُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ جُبْرَانًا لِمَا أَتْلَفَ مِنْ مِلْكِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مُزَارَعَةِ الْمَرِيضِ وَمُعَامَلَتِهِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ الْمَرِيضُ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَذَا فَزَرَعَهَا فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، وَأَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَضْعَافًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، وَأَجَّرَ الْأَرْضَ ثُمَّ مَاتَ، وَالْمُزَارِعُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ أَحَدُ وَرَثَتِهِ، وَنُقْصَانُ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ مِنْ الْأَجْرِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ حَصَلَ فِيمَا لَا حَقَّ فِيهِ لِغُرَمَائِهِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ الَّتِي تُوجَدُ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ إيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَرِيضُ مِنْ صَاحِبِ الْبَذْرِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 128 أَرْضَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي صِحَّتِهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهَا مُزَارَعَةً بِجُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ الْخَارِجِ وَفِي تَصَرُّفِهِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَهُوَ سَلَامَةُ مِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ لَهُمْ، وَلَوْلَا عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ مَا سَلِمَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ تَصَرُّفِهِ وَكَانَ عَمَلُ الْعَامِلِ فِي الْأَرْضِ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَسَمَّى لِلْعَامِلِ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْخَارِجِ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا مَالَ غَيْرُ الْأَرْضِ وَالطَّعَامِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الزَّرْعِ يَوْمَ خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ وَصَارَ لَهُ قِيمَةٌ كَمْ يُسَاوِي تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ؟ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ أَجْرِ الْأَرْضِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَلَمَّا قَامَ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ صَارَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ وَأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْمُزَارِعِ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْخَارِجِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ حِينَ خَرَجَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الْمُزَارِعِ فَقَامَ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ صَارَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ وَأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا - أَخَذَ الزَّارِعُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْخَارِجِ أَجْرَ مِثْلِهِ وَثُلُثَ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمُزَارِعُ بِإِيجَابِهِ شَرِيكًا فِي الْخَارِجِ حِينَ ثَبَتَ الْخَارِجُ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ مَا نَبَتَ مِثْلَ أَجْرِ مِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ لَمْ تُمْكِنْ فِي تَصَرُّفِهِ مُحَابَاةٌ فَيُقَدَّرَ. ثُمَّ مِلْكُ الْمُزَارِعِ فِي نَصِيبِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ حِينَ نَبَتَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ لَهُ وَالْمُحَابَاةُ لَا تُسَلَّمُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، فَبَقِيَ الثَّابِتُ كُلُّهُ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ فَلَا يَسْلَمُ لِلْمُزَارِعِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ إلَّا مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمَشْرُوطِ لَهُ يَكُونُ وَصِيَّةً فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ فَيُحْتَاجُ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عَمَلَ الْمُزَارِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَبِالْعَقْدِ يَتَقَوَّمُ بِمِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَلَا وَصِيَّةَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ لَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْمَرِيضُ أَجِيرًا لِعَمَلٍ آخَرَ لَهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتَأْجَرَهُ بِمَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ لَا بِعَمَلِهِ، وَهُنَا اسْتَأْجَرَهُ بِمَالٍ يَحْصُلُ أَوْ يَزْدَادُ بِعَمَلِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ حِصَّتِهِ حِينَ يَصِيرُ لِلزَّرْعِ قِيمَةٌ لَا حِينَ نَبَتَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهُ نَصِيبَهُ بِعِوَضٍ، وَالتَّمْلِيكُ إنَّمَا يَجُوزُ فِي الزَّرْعِ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا كَالتَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ وَإِنْ صَارَ شَرِيكًا فِيمَا نَبَتَ وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِيمَةِ نَصِيبِهِ لِيُقَابِلَ ذَلِكَ بِأَجْرِ مِثْلِهِ، وَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 129 لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَتِهِ فَيُعْتَبَرُ أَوَّلُ أَحْوَالِ إمْكَانِ التَّقَوُّمِ فِيهِ، كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْجَنِينِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ يَضْمَنُ لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُعْتَبَرًا بِمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ. قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ فِي مَرَضِهِ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ سَنَتَهُ بِجَارِيَةٍ لَهُ بِعَيْنِهَا لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، وَخَدَمَهُ الرَّجُلُ السَّنَةَ كُلَّهَا وَوَلَدَتْ الْجَارِيَةُ وَزَادَتْ فِي بَدَنِهَا، ثُمَّ صَارَتْ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الرَّجُلِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ وَقَبَضَهَا الْأَجِيرُ مِثْلَ أَجْرِ مِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ كَانَتْ لَهُ بِزِيَادَتِهَا لِأَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِيهَا وَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمئِذٍ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى الْأَجْرَ مِنْهَا مِقْدَارَ أَجْرِ مِثْلِهِ وَثُلُثَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا وَصِيَّةً لَهُ وَيَرُدُّ قِيمَةَ الْبَقِيَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا مَعْنَى الْوَصِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمُحَابَاةِ فَلَا تَكُونُ سَالِمَةً لِلْأَجِيرِ، وَتَبْقَى مَوْقُوفَةً عَلَى حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الزِّيَادَةِ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً، فَلَا يَسْلَمُ لِلْأَجِيرِ مِنْهَا إلَّا مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ وَثُلُثُ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا وَمِنْ وَلَدِهَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ، إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ لِمَكَانِ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا يَمْلِكُهَا فَرَدَّ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ سَبَبٍ فَاسِدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَيْنَهَا مَعَ الزِّيَادَةِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ بَلْ كَانَ السَّبَبُ صَحِيحًا يَوْمئِذٍ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ نُفُوذِهِ يَكُونُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ، ثُمَّ يُنْقَضُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا يَتَعَذَّرُ تَنْفِيذُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْضِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِرَدِّ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي رَدِّ الْعَيْنِ إلَّا ضَرَرُ التَّبْعِيضِ عَلَى الْأَجِيرِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي تَحَوُّلِ حَقِّهِمْ إلَى الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُزَارِعُ وَارِثَ الْمَرِيضِ كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِهِ أَجْرَ مِثْلِ الْمُزَارِعِ أَوْ أَقَلَّ حِينَ نَبَتَ الزَّرْعُ وَصَارَتْ لَهُ قِيمَةٌ - فَجَمِيعُ الْمَشْرُوطِ سَالِمٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ حِينَ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِيرَاثٌ عَنْ الْمَيِّتِ. وَإِنْ كَانَ الْمُزَارِعُ أَجْنَبِيًّا وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ كَانَ الْمُزَارِعُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْحِصَّةِ فِي الزَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قِيمَةِ حِصَّتِهِ حِينَ صَارَ مُتَقَوِّمًا زِيَادَةٌ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ فَقَدْ صَحَّ تَسْمِيَةُ حِصَّتِهِ لَهُ فِي الْكُلِّ، وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ لَا تَسْلَمُ لَهُ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 130 إلَّا بَائِعًا اشْتَرَى مِنْهُ مَا تَكُونُ مَالِيَّتُهُ مِثْلَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ مَا يُخْرِجُهُ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ الْعَامِلُ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُ بِسَبَبٍ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ كَانَ هُوَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي الْخَارِجِ بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ حِينَ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ وَصِيَّةً لَهُ وَلَا وَصِيَّةَ مَعَ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْجَارِيَةِ هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيمَا ثَبَتَ لَهُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ الْفَرْقِ، بَيْنَمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا حِينَ قَبَضَهَا مِثْلَ أَجْرِ مِثْلِهِ فِي خِدْمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تُشْبِهُ الْمُزَارَعَةُ فِي هَذَا الْمُضَارَبَةَ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّبْحِ وَرَبِحَ عَشَرَةَ آلَافٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَأَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَأْخُذُونَ رَأْسَ الْمَالِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ عَلَى الشَّرْطِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى أَجْرِ مِثْلِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ رَأْسُ الْمَالِ قَدْ رَجَعَ إلَى وَرَثَتِهِ، وَالرِّبْحُ بِمَالٍ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ بِأَنْ أَقْرِضَ الْمَالُ مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا؟ فَفِي اشْتِرَاطِهِ بَعْضَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ لِغُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ. وَالْبَذْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ جَمِيعُ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا؛ فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ، وَلَوْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ رَأْسُ مَالِهِ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا لَكُنَّا نُجَوِّزُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا نُجَوِّزُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى قِيمَةِ الْبَذْرِ وَيُقَابَلَ ذَلِكَ بِأَجْرِ مِثْلِهِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الْخَارِجِ. قُلْنَا: إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ مَا يُوجِبُهُ لِلْمُزَارِعِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْبَذْرِ إنَّمَا يُوجِبُ لَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الْخَارِجِ؛ فَلِهَذَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ مَا يُوجِبُهُ لَهُ وَإِلَى أَجْرِ مِثْلِهِ. وَإِذَا دَفَعَ الصَّحِيحُ إلَى مَرِيضٍ أَرْضًا لَهُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ بِبَذْرِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَزَرَعَهَا الْمَرِيضُ بِبَذْرِهِ مِنْ قِبَلِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ يَوْمَ صَارَ الزَّرْعُ مُتَقَوِّمًا، كَمْ قِيمَتُهُ؟ لِأَنَّ الْمَرِيضَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ هُنَا بِمَا أَوْجَبَ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْحِصَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ يَوْمَئِذٍ مِثْلَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ فِيهَا وَلَا مُحَابَاةَ، وَقَدْ تَمَّ مِلْكُ رَبِّ الْأَرْضِ فِي نَصِيبِهِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ حَادِثَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَابِضٌ لِنَصِيبِهِ بِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ فِي يَدٍ أَمِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ أَمِينٌ فِي نَصِيبِ رَبِّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 131 الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ نُظِرَ إلَى حِصَّتِهِ يَوْمَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُحَابَاةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْمَرِيضِ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّمَا يُعْطَى رَبُّ الْأَرْضِ مِنْهَا مِقْدَارَ أَجْرِ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا بَقِيَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ أَحَدَ وَرَثَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا قَدْرَ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ الْخَارِجِ يَوْمَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَتَمَكَّنُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يُدْخِلْ فِي مِلْكِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ فَيَبْطُلُ تَخْصِيصُهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ هُوَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِمَا ثَبَتَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بُدِئَ بِحَقِّ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ غَرِيمِ الصِّحَّةِ يُقَدَّمُ حَقُّهُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ، إلَّا أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ مَا لَمْ يُقْضَ الدَّيْنُ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ فِي الْمَرَضِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ الْوَصِيَّةِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّ الدَّيْنَ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْوَصِيَّةَ مِنْ الثُّلُثِ؟. وَإِذَا دَفَعَ الْمَرِيضُ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ فَقَامَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ وَلَقَّحَهُ وَسَقَاهُ حَتَّى أَثْمَرَ ثُمَّ مَاتَ رَبُّ النَّخِيلِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ النَّخِيلِ وَثَمَرِهِ - فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الثَّمَرِ يَوْمَ طَلَعَ مِنْ النَّخْلِ وَصَارَ كُفُرَّى وَصَارَتْ لَهُ قِيمَةٌ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ قِيمَتِهِ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ أَوْ أَقَلَّ فَلِلْعَامِلِ نِصْفُ الثَّمَرِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ نُظِرَ إلَى مِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِ الْعَامِلِ يَوْمَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ فَيُعْطَى الْعَامِلُ ذَلِكَ، وَثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ وَصِيَّةٌ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرِيضَ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الثَّمَرِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثَّمَرِ بَعْدَ طُلُوعِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهَا حِينَ تَصِيرُ لَهَا قِيمَةٌ؛ فَلِهَذَا يَعْتَبِرُ قِيمَةَ حِصَّتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ: فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ النِّصْفِ مِنْ الْكُفَرَّى حِينَ طَلَعَتْ مِثْلَ أَجْرِهِ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِنِصْفِ جَمِيعِ التَّمْرِ لِأَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ هُنَا وَلَا وَصِيَّةَ، فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً عَلَى مِلْكٍ تَامٍّ لَهُ إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَهُ إيَّاهُ بِقَضَاءِ حَقِّهِ يَبْطُلُ، فَيَكُونُ هُوَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِنِصْفِ جَمِيعِ التَّمْرِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ نِصْفِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ ضَرَبَ مَعَهُمْ فِي التَّرِكَةِ بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِهِ لِتَمَكُّنِ الْوَصِيَّةِ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُحَابَاةِ. وَلَوْ دَفَعَ الصَّحِيحُ إلَى الْمَرِيضِ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ جُزْءًا مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ فَقَامَ عَلَيْهِ الْمَرِيضُ بِأُجَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَقَاهُ وَلَقَّحَهُ حَتَّى صَارَ تَمْرًا ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَرَبُّ النَّخْلِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَجْرُ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 132 أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ - فَلَيْسَ لَهُ إلَّا مَا شَرَطَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا تَصَرَّفَ هُنَا فِيمَا لَا حَقَّ فِيهِ لِغُرَمَائِهِ وَلِوَرَثَتِهِ وَهُوَ مَنَافِعُ بَدَنِهِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ لَوْ أَعَانَهُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَلَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ؟ فَفِي اشْتِرَاطِهِ جُزْءًا مِنْ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ - وَإِنْ قَلَّ - مَنْفَعَةُ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَرِيضُ إلَى رَجُلٍ زَرْعًا لَهُ فِي أَرْضٍ لَمْ يُسْتَحْصَدْ، أَوْ كُفُرَّى فِي رُءُوسِ النَّخِيلِ، أَوْ ثَمَرًا فِي شَجَرٍ حِينَ طَلَعَ وَلَكِنَّهُ أَخْضَرُ، وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْدُ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ بِالنِّصْفِ فَقَامَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ حَتَّى بَلَغَ ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَلَمْ يَدَعْ مَالًا غَيْرَهُ - فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حِصَّةِ الْعَامِلِ يَوْمَ قَامَ عَلَيْهِ فَزَادَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ شَرِيكًا عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ إيجَابُ الشَّرِكَةِ فِيمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ، وَأَوَّلُ أَحْوَالِ ذَلِكَ حِينَ تَظْهَرُ زِيَادَةٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ كَانَ لَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ وَثُلُثُ التَّرِكَةِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدَ وَرَثَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ وَكَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ ضَرَبَ الْعَامِلُ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَهَذَا فِي التَّخْرِيجِ وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَوَاءٌ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرِيضُ رَجُلًا يَخْدُمُهُ هَذِهِ السَّنَةَ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَمَّا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لَمْ يَخْدُمْهُ حَتَّى زَادَتْ الْأَمَةُ وَكَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ مِثْلَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَجِيرِ فَخَدَمَهُ السَّنَةَ كُلَّهَا، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْأَجِيرِ ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا - فَلِلْأَجِيرِ مِنْ الْجَارِيَةِ وَأَوْلَادِهَا مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ وَالثُّلُثُ مِمَّا يَبْقَى بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، فَمَا زَادَ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمَرِيضِ، وَتُجْعَلُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَالْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَمَكَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ حِينَ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ إلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْخِدْمَةِ وَحُدُوثِ الزِّيَادَةِ؛ فَإِنَّمَا السَّالِمُ لَهُ مِنْهَا وَمِنْ أَوْلَادِهَا مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ عِوَضًا عَنْ الْخِدْمَةِ، وَالثُّلُثُ مِمَّا يَبْقَى بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ أُعْطِيَ وَصِيَّةً مِنْ الْجَارِيَةِ. فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لَهُ مِنْ أَوْلَادِهَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْجَارِيَةَ أَصْلٌ وَالْأَوْلَادَ تَبَعٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْوَصَايَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ قِيمَةَ مَا بَقِيَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَرُدَّ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا وَيَكُونُ لَك أَجْرُ مِثْلِك فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ عَيْبُ التَّبْعِيضِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِذَلِكَ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ، وَلَكِنْ إذَا رَدَّهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا أَعْطَى الْوَرَثَةَ قِيمَةَ مَا بَقِيَ لِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ، وَبِرَدِّ الْقِيمَةِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ فِي الرَّدِّ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ لَمْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 133 يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ حِينَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ دَفَعَهَا الْمَرِيضُ إلَى الْأَجِيرِ فَلَمْ يَخْدُمْ الْأَجِيرُ حَتَّى زَادَتْ فِي يَدِهِ وَصَارَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ ثُمَّ خَدَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تَمَّتْ السَّنَةُ، وَمَاتَ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَدَعْ مَالًا غَيْرَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ أَوْلَادًا - فَالْجَارِيَةُ وَجَمِيعُ أَوْلَادِهَا لِلْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهَا وَلَيْسَ فِيهَا فَضْلٌ فَتَمَّ مِلْكُهُ فِي جَمِيعِهَا لِانْعِدَامِ الْمُحَابَاةِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكٍ تَامٍّ لَهُ فَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَجِيرُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَوْ زَوْجَةً فَرَدَّ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ مِيرَاثًا؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى الْخِدْمَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ الْأَجْرَ بِهَذَا الْعَقْدِ فَتَثْبُتُ هِيَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا مَعَ الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَالزَّوْجَةَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا دَيْنًا بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ وَكَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَا فَضْلَ فِيهَا عَنْ أَجْرِ مِثْلِهِ يَوْمَ قَبَضَهَا الْأَجِيرُ قُسِّمَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ، وَيَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَجِيرُ بِقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ لَا مُحَابَاةٌ فِي تَصَرُّفِهِ هُنَا؛ وَلَكِنْ فِيهِ تَخْصِيصُ الْأَجِيرِ بِقَضَاءِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ وَذَلِكَ يُرَدُّ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، إلَّا أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ؛ فَلِهَذَا ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا، فَمَا أَصَابَهُ كَانَ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ، وَمَا أَصَابَ الْغُرَمَاءَ قِيلَ لَهُ: أَدِّ قِيمَةَ ذَلِكَ إلَى الْغُرَمَاءِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَبِأَدَاءِ الْقِيمَةِ يَصِلُ إلَيْهِمْ كَمَالُ حَقِّهِمْ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ ضَرَرُ التَّبْعِيضِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بِيعَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا فَقُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ، يَضْرِبُ الْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ وَيَضْرِبُ الْأَجِيرُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَبَى ذَلِكَ تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِسَبَبِ عَيْبِ التَّبْعِيضِ أَوْ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ زِيَادَةِ مَالٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْأُجْرَةُ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا فَرُدَّتْ بِالْعَيْبِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَتَبْقَى الْمَنْفَعَةُ مُسْتَوْفَاةً بِحُكْمِ عَقْدٍ قَدْ انْفَسَخَ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ؛ فَلِهَذَا يَضْرِبُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ. وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ: فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ بَعْدَ تَمَامِ الْمِلْكِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَيَبْقَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَلَكِنْ يَغْرَمُ لِلْغُرَمَاءِ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الزِّيَادَةُ إنَّمَا تَمْنَعُ الرَّدَّ إذَا لَمْ يَجِبْ رَدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ رَدِّ الْأَصْلِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ ثَابِتٌ فِي الزِّيَادَةِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُمْ فِيهِ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ السَّبَبِ وَخُلُوِّهِ عَنْ الْمُحَابَاةِ - فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ بِبُطْلَانِ تَخْصِيصِ الْأَجِيرِ بِإِيفَاءِ حَقِّهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِمْ. وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا الْأَجِيرُ فَضْلٌ عَنْ أَجْرِ مِثْلِهِ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ وَقَعَتْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 134 الْإِجَارَةُ مِثْلَ أَجْرِ الْأَجِيرِ إلَّا أَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَخْدُمْ الْمَرِيضَ حِينَ قَبَضَ الْجَارِيَةَ يَضْرِبُ الْأَجِيرُ فِي الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِهِ، فَمَا أَصَابَهُ كَانَ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا وَقِيلَ لَهُ: أَدِّ قِيمَةَ مَا أَصَابَ الْغُرَمَاءُ، فَإِنْ أَبَى بِيعَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا وَاقْتَسَمُوا الثَّمَنَ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَجِيرُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ لَمَّا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ بَقِيَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى حَقِّ الْمَرِيضِ لِتَمَكُّنِ الْوَصِيَّةِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْمُحَابَاةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ رَجُلًا يَخْدُمُهُ بِجَارِيَةٍ قِيمَتُهَا ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَجْرُ مِثْلِ الْأَجِيرِ فِي خِدْمَتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ فَخَدَمَهُ الْأَجِيرُ حَتَّى أَتَمَّ الْخِدْمَةَ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا - فَالْأَجِيرُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ قِيمَتِهَا، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْإِجَارَةَ وَرَدَّهَا عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ حَابَى بِقَدْرِ ثُلُثَيْهَا حِينَ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ مِثْلَ قِيمَةِ ثُلُثِهَا، وَالْمُحَابَاةُ وَصِيَّةٌ فَلَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لِثُلُثَيْهِ ثُلُثٌ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، فَثُلُثُهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَسْلَمُ لَهُ، وَمِنْ الثُّلُثَيْنِ يَسْلَمُ لَهُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ إزَالَةُ الْمُحَابَاةِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهَا، فَإِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ فَقَدْ وَصَلَ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَالُ حَقِّهِمْ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ فِي الْعَقْدِ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ نَقَضَ الْإِجَارَةَ وَرَدَّهَا كَانَ لَهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ أَجْرُ مِثْلِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتُبَاعُ الْجَارِيَةُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ حِينَ اخْتَارَ نَقْضَ الْعَقْدِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا وَصَفْتُ لَكَ قَبْلَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ إذَا كَانَ فِيهَا مُحَابَاةٌ، فَإِنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ وَالثُّلُثُ مِمَّا يَبْقَى بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَيَرُدُّ الْفَضْلَ. وَإِذَا قَالَ: أُعْطِي قِيمَةَ الْفَضْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ يَحْتَمِلُ التَّبْعِيضَ فَلَا يَتَضَرَّرُ هُوَ بِرَدِّ الْفَضْلِ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْوَرَثَةِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ. وَلَوْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَجِيرِ يَوْمَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَرِيضُ الْجَارِيَةَ، وَخَدَمَهُ الْأَجِيرِ جَمِيعَ السَّنَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَقَدْ زَادَتْ الْجَارِيَةُ فِي بَدَنِهَا أَوْ فِي السِّعْرِ أَوْ وَلَدَتْ فِي يَدِ الْأَجِيرِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَرِيضِ بَعْدَ مَا كَمُلَتْ السَّنَةُ أَوْ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ، وَعَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ كَثِيرٌ - فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بِزِيَادَتِهَا وَوَلَدِهَا بَيْنَهُمْ، يَضْرِبُ الْأَجِيرُ فِي ذَلِكَ بِقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَتَضْرِبُ الْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ هُنَا فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا لِلْأَجِيرِ، إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَرِيضِ إيَّاهُ بِقَضَاءِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ يُرَدُّ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَلِهَذَا ضَرَبَ هُوَ بِقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ فَمَا أَصَابَ الْأَجِيرُ كَانَ لَهُ مِنْ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي عَيْنهَا، وَمَا أَصَابَ الْغُرَمَاءُ قِيلَ لِلْأَجِيرِ: أَدِّ قِيمَتَهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 135 دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ أَبَى أُخِذَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا وَبِيعَا فَضَرَبَ الْأَجِيرُ فِي الثَّمَنِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ وَالْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ حِينَ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ وَانْتُقِضَ قَبْضُهُ فِيهَا بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى قَبْضِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَلِدْ وَلَكِنَّهَا نَقَصَتْ فِي السِّعْرِ عِنْدَ الْأَجِيرِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ فِي نُقْصَانِهَا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ فُتُورُ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَيَضْرِبُ الْغُرَمَاءُ فِي الْجَارِيَةِ بِدَيْنِهِمْ وَالْأَجِيرُ بِقِيمَتِهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ الْأَجِيرَ بِقَضَاءِ حَقِّهِ مَرْدُودٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْأَجِيرُ فَهُوَ لَهُ مِنْ عَيْنِهَا، وَمَا أَصَابَ الْغُرَمَاءُ قِيلَ لِلْأَجِيرِ: أَعْطِهِمْ قِيمَةَ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ أَبَى بِيعَتْ الْجَارِيَةُ وَضَرَبَ الْأَجِيرُ فِي ثَمَنِهَا بِأَجْرِ مِثْلِهِ ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِانْتِقَاضِ قَبْضِهِ فِيهَا، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِأَجْرِ مِثْلِهِ وَالْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ لَمْ يُنْتَقَضْ قَبْضُهُ فِيهَا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ نَقَصَتْ فِي الْبَدَنِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا الْأَجِيرُ وَهِيَ ثَلَثُمِائَةٍ بَيْنَ الْأَجِيرِ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَمَا أَصَابَ الْغُرَمَاءُ ضَمِنَهُ لَهُمْ الْأَجِيرُ فِي مَالِهِ وَتَسْلَمُ لَهُ الْجَارِيَةُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ يَوْمَ قَبَضَهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ بِالنُّقْصَانِ الْحَاصِلِ فِي بَدَنِهَا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَرُدَّهَا لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ، وَلَكِنْ يَغْرَمُ لِلْغُرَمَاءِ حِصَّتَهُمْ فِي مَالِيَّتِهَا يَوْمَ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَرِيضُ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ فَأَخْرَجَ النَّخْلُ كُفُرَّى يَكُونُ نِصْفُهُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ أَوْ أَقَلَّ فَقَامَ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ حَتَّى صَارَ تَمْرًا يُسَاوِي مَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ صَارَ حَشَفًا قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْكُفُرَّى يَوْمَ خَرَجَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ - فَإِنَّ مَالَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْعَامِلِ، يَضْرِبُ فِيهِ الْعَامِلُ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْحَشَفِ فَقَطْ، فَمَا أَصَابَهُ كَانَ لَهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الْحَشَفِ، وَمَا أَصَابَ الْغُرَمَاءَ بِيعَ لَهُمْ فِي دَيْنِهِمْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ بِالنُّقْصَانِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي الْخَارِجِ، فَالزِّيَادَةُ إنَّمَا حَصَلَتْ فِي عَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَتَلِفَتْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْهَا لِأَحَدٍ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْجَارِيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الَّتِي وَلَدَتْ فِي يَدِ الْأَجِيرِ أَوْ مَاتَ أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَضْمَنْهُ الْأَجِيرُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهَلَكَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِلْأَصْلِ. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كَانَ لِلْعَامِلِ نِصْفُ الْحَشَفِ وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا صَارَ مِنْ ذَلِكَ حَشَفًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْكُلُّ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَامِلِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ شَيْئًا، فَإِذَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 136 صَارَ حَشَفًا أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ لَهُمْ النُّقْصَانَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بِأَرْضٍ لَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةَ فَدَفَعَهَا مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ - فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حِينَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الْخَارِجِ فَقَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى رَأْيِهِ، فَبِأَيِّ مِقْدَارٍ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا بِشَيْءٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ حَابَى فِيهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ عِنْدَهُمْ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ، فَإِنْ زَرَعَهَا الْمُزَارِعُ فَخَرَجَ الزَّرْعُ فَهُوَ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْوَكِيلِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، لَا شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا مُخَالِفًا، وَغَاصِبُ الْأَرْضِ إذَا دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ نُقْصَانَ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنْ شَاءَ الْوَكِيلَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُزَارِعَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُزَارِعَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِهِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ يُضَمِّنُ الْمُزَارِعَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ. فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَغَاصِبٌ وَالْعَقَارُ عِنْدَهُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُزَارِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِلْغَرُورِ، فَإِنْ كَانَ حَابَى فِيهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ نَصِيبَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ الْأَرْضَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ نَصِيبُ رَبِّ الْأَرْضِ بِعَقْدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْوَكِيلِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ أَمَرَ الْوَكِيلَ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً وَلَمْ يُسَمِّ سَنَةً وَلَا غَيْرَهَا جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً سَنَتَهُ الْأُولَى، فَإِنْ دَفَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا هَذِهِ السَّنَةَ لَمْ يَجُزْ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَفِي أَيِّ سَنَةٍ دَفَعَهَا وَفِي أَيِّ مُدَّةٍ دَفَعَهَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِهِ، فَجَازَ كَالْوَكِيلِ بِإِجَارَةِ الدُّورِ وَالرَّقِيقِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ دَفْعُ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنْ السَّنَةِ عَادَةً، وَالتَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ فِي الْوَكَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا دَخَلَهُ التَّقْيِيدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ وَقْتُ الزِّرَاعَةِ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى، كَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي الْأُضْحِيَّةَ يَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ السَّنَةِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 137 الْأُولَى، بِخِلَافِ إجَارَةِ الدُّورِ وَالرَّقِيقِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ عُرْفًا، فَرَاعَى فِيهَا مُطْلَقَ الْوَكَالَةِ، إنَّمَا الْمُزَارَعَةُ نَظِيرُ التَّوْكِيلِ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ إلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِأَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ عُرْفًا فَيُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ وَقْتُ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى خَاصَّةً. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ هَذَا أَيْضًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالِاسْتِئْجَارِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالِاسْتِئْجَارِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إذَا كَانَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَرَبُّ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَ حِصَّتِهِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ قَبْضُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ هُنَا مَا اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ بَلْ بِكَوْنِهِ نَمَاءَ بَذْرِهِ، فَإِنْ دَفَعَهَا الْوَكِيلُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ بِالْخِلَافِ صَارَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ لِلْمُوَكِّلِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ نُقْصَانٌ بِالزِّرَاعَةِ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ النُّقْصَانَ أَيَّهمَا شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُتْلِفٌ وَالْوَكِيلَ غَاصِبٌ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُزَارِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ لِلْغَرُورِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ الزَّارِعُ بِشَيْءٍ مِمَّا صَارَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَأْخُذُ مِثْلَ مَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ، وَبَذْرًا مِثْلَ الَّذِي غَرِمَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ تَمَكَّنَ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ حِينَ صَارَ كَالْغَاصِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُهَا لِلْوَكِيلِ مُزَارَعَةً هُنَا أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا، فَإِنْ دَفَعَهَا بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّنَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ وَيَزْرَعَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالِاسْتِئْجَارِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ. وَزِرَاعَةُ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا صَنَعَ الْوَكِيلُ دَلِيلُ الرِّضَا بِهِ فَهُوَ كَصَرِيحِ الرِّضَا، فَإِنْ زَرَعَهَا الْمُوَكِّلُ فَحَصَلَ الْخَارِجُ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْمَأْخُوذُ بِحِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ الْمُوَكِّلِ فَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَخَذَ ذَلِكَ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ بَرِئَ الْوَكِيلُ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَخَذَهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَهُوَ لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ حَتَّى زَرَعَهَا الْمُوَكِّلُ، وَقَدْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 138 أَمَرَهُ الْوَكِيلُ بِزِرَاعَتِهَا كَانَ الْخَارِجُ لِلْمُزَارِعِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ اسْتَأْجَرَهَا بِمَا سَمَّى مِنْ الْخَارِجِ وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمُوَكِّلُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْوَكِيلِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِزِرَاعَتِهَا وَقَدْ كَانَ اسْتِئْجَارُهُ نَافِذًا عَلَيْهِ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ بِأَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِزِرَاعَتِهَا وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا أَخَذَهَا بِهِ فَالْخَارِجُ لِلْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْوَكِيلِ هُنَا؛ لِأَنَّ الزَّارِعَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ حِينَ زَرَعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَكِيلِ. وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَصَبَهَا غَاصِبٌ وَزَرَعَهَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُهَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هُنَاكَ الْوَكِيلُ أَمَرَ الزَّارِعَ بِزَرْعِهَا فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَرَعَهَا بِنَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ عَلَى الزَّارِعِ هُنَا نُقْصَانُ الْأَرْضِ لِرَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ زَرَعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَغُرَّهُ بَلْ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ حِينَ لَمْ يَسْأَلْ الْوَكِيلَ وَلَمْ يَسْتَكْشِفْ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَيَتَصَدَّقُ الزَّارِعُ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْوَقْتَ لِلْوَكِيلِ هُنَا فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ سَنَةٍ وَأَوَّلِ زِرَاعَةٍ اسْتِحْسَانًا. وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَرْضَ فُلَانٍ وَبَذْرًا مُزَارَعَةً فَإِنْ أَخَذَهَا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ، وَرَبُّ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ نَصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ بِكَوْنِهِ نَمَاءَ بَذْرِهِ لَا بِشَرْطِ الْوَكِيلِ لَهُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ أَخَذَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُوَكِّلِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ، فَإِنْ عَمِلَ الْمُزَارِعُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فَحَصَلَ الْخَارِجُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَخَذَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ حِصَّةِ الْمُزَارِعِ وَأَمَرَ الْمُزَارِعَ فَعَمِلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لَهُ - فَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ فِي عَمَلِهِ فِي الْقِيَاسِ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَمْ يَنْفُذْ عَلَى الْمُوَكِّلِ مُعِينًا فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ الْمُوَكِّلُ بِالْغَبْنِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَالضَّرَرُ هُنَا فِي امْتِنَاعِ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ مَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْعَبْدِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 139 إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ وَسَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يُسَمِّ لِلْوَكِيلِ الْوَقْتَ فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ سَنَةٍ وَزِرَاعَةٍ اسْتِحْسَانًا، فَإِنْ مَضَتْ السَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ ثُمَّ أَخَذَ لَمْ يُجْبَرْ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْعَمَلِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَعَمِلَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ أَرْضًا وَبَذْرًا لِيَزْرَعَهَا. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ نَخْلًا وَوَكَّلَهُ بِأَنْ يَدْفَعَهَا مُعَامَلَةً هَذِهِ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ وَقْتًا - فَهَذَا عَلَى أَوَّلِ سَنَةٍ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ وَصَاحِبُ النَّخْلِ هُوَ الَّذِي قَبَضَ نَصِيبَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّمْرَ بِمِلْكِهِ النَّخْلَ لَا بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِاسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَقَدْ حَصَلَ الْخَارِجُ وَاسْتَحَقَّهُ رَبُّ النَّخْلِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِأَجْرِ مِثْلِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ نَخْلًا بِعَيْنِهِ فَأَخَذَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ عَلَى الشَّرْطِ، وَصَاحِبُ النَّخْلِ هُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ تَوَلُّدِهِ مِنْ نَخْلِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ نَصِيبِ الْعَامِلِ لَمْ يَلْزَمْ الْعَامِلَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَإِنْ عَمِلَهُ وَقَدْ عَلِمَ نَصِيبَهُ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ لَهُ نَصِيبُهُ الَّذِي سَمَّى لَهُ، أَمَّا إذَا عَلِمَ بِهِ فَلِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا. وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ نَخْلًا مُعَامَلَةً أَوْ أَرْضًا وَبَذْرًا مُزَارَعَةً وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّخْلِ وَالْأَرَاضِي عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوقَفَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَإِذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً أَوْ أَنْ يَدْفَعَ نَخْلَهُ مُعَامَلَةً إلَى رَجُلٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ الرَّجُلَ - جَازَ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِمَنْزِلَةِ إجَارَتِهَا. وَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يُؤَاجِرُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْأَرَاضِي وَهِيَ مَعْلُومَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَوْفِي، وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَةِ مِقْدَارُ الْعَمَلِ قَدْ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ النَّخْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ هَذِهِ مُزَارَعَةً فَأَعْطَاهَا رَجُلًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَزْرَعَهَا حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ سِمْسِمًا أَوْ أُرْزًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً لِهَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَعَارَفٌ، فَمُطْلَقُ التَّوْكِيلِ يَنْصَرِفُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَالْوَكِيلُ يَكُونُ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الْأَرْضَ وَبَذْرًا مَعَهَا مُزَارَعَةً فَأَخَذَهَا مَعَ بَذْرٍ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ غَيْرَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 140 ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ - جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ لِيُؤَاجِرَهُ فِي عَمَلِ الزِّرَاعَةِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ، فَمُطْلَقُ التَّوْكِيلِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً فَأَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا لِلْمُوَكِّلِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا حِنْطَةً أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شَعِيرًا أَوْ غَيْرَهُ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ إلَّا مَا شَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا امْتَثَلَ أَمْرَهُ كَانَ عَقْدُهُ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ أَخَذَ أَرْضًا مُزَارَعَةً لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ إنَّمَا رَضِيَ بِأَنْ يَكُونَ أَجْرَ أَرْضِهِ الْحِنْطَةُ فَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةَ فَأَجَّرَهَا لِيَزْرَعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ أَوْ بِكُرٍّ مِنْ شَعِيرٍ وَسَطٍ أَوْ سِمْسِمٍ أَوْ أُرْزٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ - فَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُزَارَعَةِ لِيَكُونَ شَرِيكًا فِي الْخَارِجِ وَقَدْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ حِينَ أَجَّرَهَا بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الْآمِرِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَنْفَعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً فَلَمْ يَزْرَعْهَا أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَهُنَا تَقَرَّرَ حَقُّ رَبِّ الْأَرْضِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ أَوْ أَصَابَ الْأَرْضَ آفَةٌ، وَمَتَى أَتَى الْوَكِيلُ بِجِنْسِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ أَنْفَعُ لِلْآمِرِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا كَانَ عَقْدُهُ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَزْرَعَ مَا بَدَا لَهُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ غَيْرُ مُفِيدٍ هُنَا فِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بِخِلَافِ الدَّفْعِ مُزَارَعَةً. وَإِنْ أَجَّرَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا لَا يُزْرَعُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ، فَرَبُّ الْأَرْضِ نَصَّ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً وَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ، فَإِذَا أَجَّرَهَا الْوَكِيلُ بِشَيْءٍ لَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ كَانَ مُخَالِفًا فِي جِنْسِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ مُزَارَعَةً فِي الْحِنْطَةِ خَاصَّةً فَأَجَّرَهَا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ جَازَ، وَيَزْرَعُهَا الْمُزَارِعُ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الزِّرَاعَاتِ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ رَبِّ الْأَرْضِ الْحِنْطَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَرْضِ بِهِ، وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْهُ فِي الْجِنْسِ حِينَ سَمَّى الْآخَرُ كُرَّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، وَإِنْ أَجَّرَ بِغَيْرِ الْحِنْطَةِ صَارَ مُخَالِفًا لِلْمُوَكِّلِ فِي جِنْسِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ أَجْرِ الْأَرْضِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ فَدَفَعَهَا عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ جَازَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 141 الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، وَرَبُّ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى اشْتِرَاطِ الثُّلُثِ لَهُ. فَإِنْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ إنَّمَا عَنَيْت أَنَّ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه يُخَالِفُ الظَّاهِرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْخَارِجَ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ فَأَجَّرَهَا لِرَجُلٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ هُنَا نَصَّ عَلَى مَا هُوَ مَنَافِعُ أَرْضٍ وَهُوَ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَقَدْ أَجَّرَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ هُنَا نَصَّ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ وَالْإِجَارَةُ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ فَكَانَ هَذَا مُخَالَفَةً فِي الْجِنْسِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَإِنْ زَرَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ الْخَارِجُ لِلْمُزَارِعِ وَعَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ لِلْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ صَارَ غَاصِبًا لِلْأَرْضِ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ نُقْصَانَ الْأَرْضِ: إنْ شَاءَ الْمُزَارِعَ، وَإِنْ شَاءَ الْوَكِيلَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ غَاصِبٌ وَالْمُزَارِعُ مُتْلِفٌ، فَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُزَارِعُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَجْلِ الْغَرُورِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤَاجِرُ مِنْ الْكُرِّ الَّذِي أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مَا ضَمِنَ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ خَبِيثٌ. وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهَا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ فَدَفَعَهَا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ أَضَرُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعَقْدٍ يَتَقَرَّرُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ؛ وَلِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى إجَارَةٍ مَحْضَةٍ وَقَدْ أَتَى بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ مُخَالِفًا، وَتَفْرِيعُ هَذِهِ كَتَفْرِيعِ الْأُولَى. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً فَاسْتَأْجَرَهَا الْوَكِيلُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ - لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ أَضَرُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ الْكُرَّ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ، وَهُوَ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَأْخُذَهَا لَهُ مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ فَأَخَذَهَا الْوَكِيلُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا الْمُزَارِعُ وَيَكُونَ لِلْمُزَارِعِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَاهُ - لَمْ يَجُزْ هَذَا عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ الْمُزَارِعُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، فَمَا يَصْحَبُهُ حَرْفُ الْبَاءِ يَكُونُ حِصَّتَهُ مِنْ الْخَارِجِ، وَقَدْ أَتَى بِضِدِّهِ. وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ عَمَلُ الْعَامِلِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، فَإِذَا شَرَطَ الثُّلُثَ لَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَدْفَعَ نَخْلَهُ هَذَا مُعَامَلَةً بِالثُّلُثِ فَدَفَعَهَا عَلَى أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْعَامِلِ - لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 142 النَّخِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ أَمْرُ رَبِّ النَّخِيلِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَى اشْتِرَاطِ الثُّلُثِ لَهُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ نَخْلَ فُلَانٍ هَذِهِ السَّنَةَ مُعَامَلَةً بِالثُّلُثِ فَأَخَذَهُ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِرَبِّ النَّخْلِ جَازَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ هَذِهِ الْأَرْضَ هَذِهِ السَّنَةَ وَبَذْرًا مَعَهَا مُزَارَعَةً فَأَخَذَ الْوَكِيلُ الْبَذْرَ وَالْأَرْضَ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ لِلْمُزَارِعِ كُرُّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ - فَهَذَا جَائِزٌ، كَانَ الْبَذْرُ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مِنْ الْعَقْدِ أَنْفَعُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ، وَإِنْ شَرَطَ الْآخَرُ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ إذَا شَرَطَ لَهُ شَيْئًا مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إنْ أَجَّرَهُ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لَهُ بِالثُّلُثِ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - لَمْ يَجُزْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ هُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ ثُلُثَ الْخَارِجِ يَكُونُ مِثْلَ مَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا النَّخْلَ مُعَامَلَةً فَأَخَذَهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلِلْعَامِلِ كُرٌّ مِنْ تَمْرٍ فَارِسِيٍّ عَلَيْهِ - جَازَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ لَهُ أَفْضَلَ مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ، وَهَذَا الْعَقْدُ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لَهُ كُرًّا مِنْ دَقَلٍ جَيِّدٍ نُظِرَ فِي النَّخْلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَقَلًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ فَارِسِيًّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَ لَهُ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ النَّخْلَ فِي الْمُعَامَلَةِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُخْرِجُ ذَلِكَ النَّخْلُ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ نَخْلَ فُلَانٍ مُعَامَلَةً بِالثُّلُثِ فَأَخَذَهُ بِكُرِّ تَمْرٍ فَارِسِيٍّ جَيِّدٍ لَمْ يَلْزَمْ الْعَامِلَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الثُّلُثَ أَكْثَرُ مِمَّا شُرِطَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ أُمِرَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْإِجَارَةِ غَيْرُ الشَّرِكَةِ - قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِعَيْنِهَا بَلْ بِمَقَاصِدِهَا، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ السَّبَبِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، فَأَمَّا إذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يَقِينًا فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ؛ فَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: الْأَصْلُ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَلِ وَالْحَطِّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 143 نَظِيرُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ تَصِحُّ حَالَ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يُبْطِلُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالْحَطُّ صَحِيحٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ إسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَفِي الزِّيَادَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَإِذَا تَعَاقَدَ الرَّجُلَانِ مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ وَعَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ حَتَّى حَصَلَ الْخَارِجُ ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنْ نَصِيبِهِ السُّدُسَ وَحَصَلَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْآخَرُ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ وَلَمْ يَتَنَاهَى عِظَمُ الْبُسْرِ - جَازَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ مَا دَامَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ أَيْضًا مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ وَتَنَاهِي عِظَمِ الْبُسْرِ: فَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ صَاحِبَ النَّخْلِ وَصَاحِبَ الْبَذْرِ فِي الْمُعَامَلَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ فَكَانَ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَهَى فَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُ الزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَهِيَ فِي الْحَالِ هِبَةُ غَيْرِ مَقْسُومٍ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الزَّائِدُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَوْجَبُ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ حَطًّا لَا زِيَادَةً، فَإِنْ كَانَ شَرَطَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ نِصْفَ الْخَارِجِ ثُمَّ حَطَّ ثُلُثَ هَذَا النِّصْفِ وَاكْتَفَى بِثُلُثِ الْخَارِجِ وَالْحَطُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الَّذِي لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ هُوَ الَّذِي زَادَ صَاحِبَ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ يُسْتَوْجَبُ بِالشَّرْطِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ حَطًّا لَا زِيَادَةً، وَإِذَا اشْتَرَطَا الْخَارِجَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْمُزَارَعَةِ نِصْفَيْنِ وَاشْتَرَطَا لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ. مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ أَوْ الشَّرْطُ -؛ لِتَضَمُّنِ هَذَا الْعَقْدِ شِرَاءَ الْمَعْدُومِ أَوْ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ وَالْأُجْرَةِ دَيْنًا فِي الذِّمَةِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ أَوْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلِصَاحِبِ النَّخْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ - هَذَا هُوَ حُكْمُ فَاسِدِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عِشْرِينَ قَفِيزًا إلَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِ الْخَارِجِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ النِّكَاحِ وَالصُّلْحِ مِنْ الْجِنَايَةِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ] وَالْمُكَاتَبَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ. [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:] وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِمُزَارَعَةِ أَرْضِهِ هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهَا وَعَمَلِهَا فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِاشْتِرَاطِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 144 فِي الْأَجْرِ وَالْمُزَارَعَةُ كَالْبَيْعِ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ. هَكَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ: النِّكَاحُ يَهْدِمُ الشَّرْطَ، وَالشَّرْطُ يَهْدِمُ الْبَيْعَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، وَصَدَاقُهَا أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ بِأَجْرِ مِثْلِ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَحِينَئِذٍ لَهَا أَجْرُ مِثْلِ جَمِيعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بَذْلُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْخَارِجِ، وَبِمُقَابَلَةِ نِصْفِهَا فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَنِصْفُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنَّمَا تَتَوَزَّعُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ - كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْمُقَابَلَةِ - وَنِصْفُ الْخَارِجِ مَجْهُولٌ أَصْلًا وَجِنْسًا وَقَدْرًا؛ فَكَانَ مَا يُقَابِلُ الْبُضْعَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مَجْهُولًا أَيْضًا جَهَالَةَ التَّسْمِيَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ؛ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بِثَوْبٍ إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا، يَكُونُ صَدَاقُهَا مَنْفَعَةَ جَمِيعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِهِ بِمُقَابَلَةِ سِنِينَ كَانَتْ بِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا أَرْضَى؛ فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِالصَّدَاقِ أَجْرَ مِثْلِ جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الِانْقِسَامُ بَيْنَ الْبُضْعِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؛ فَيَتَوَزَّعُ نِصْفَيْنِ - كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْمُقَاسَمَةِ بَيْنَ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُومِ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ، كَانَ لِفُلَانٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، فَهُنَا أَيْضًا يَكُونُ الصَّدَاقُ مَنْفَعَةَ نِصْفِ الْأَرْضِ، وَالْمَنْفَعَةُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ، فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَيَلْزَمُ تَسْلِيمُ مَنْفَعَةِ نِصْفِ الْأَرْضِ إلَيْهَا، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْمُزَارَعَةِ؛ فَيَكُونُ لَهَا أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، كَانَ لَهَا - فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَهُوَ رُبُعُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهَا الْمَنْفَعَةُ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ. وَإِنْ زَرَعْت الْمَرْأَةُ زَرْعًا فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ شَيْئًا أَوْ لَمْ تُخْرِجْ، فَجَمِيعُ الْخَارِجِ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهَا، وَعَلَيْهَا - فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - نِصْفُ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَلَا صَدَاقَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا اسْتَوْفَتْ مَنْفَعَةَ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُ ذَلِكَ صَدَاقُهَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوْفَتْهُ بِحُكْمِ مُزَارَعَةٍ فَاسِدَةٍ؛ فَعَلَيْهَا أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهَا أَجْرُ مِثْلِ جَمِيعِ الْأَرْضِ؛ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ فَضْلًا إنْ كَانَ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ دَفَعَ أَرْضًا وَبَذْرًا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ شَرَطَ لَهَا نِصْفَ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَبِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَالْخَارِجُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَوُجُودُ أَصْلِهِ عَلَى خَطَرٍ؛ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ صَدَاقًا، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَشْرُوطُ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ بَعْضَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 145 الْخَارِجِ فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَمَتَى كَانَ الْمَشْرُوطُ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ أَوْ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ فَفِي صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ اخْتِلَافٌ - كَمَا بَيَّنَّا - حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَرْضَهَا لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ - فَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ شَرَطَ لَهَا نِصْفَ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَرْضَهَا وَبَذْرًا مَعَهَا مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ - فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهَا شَرَطَتْ عَمَلَ الزَّوْجِ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَنِصْفِ الْخَارِجِ؛ فَيَكُونُ الصَّدَاقُ نِصْفَ عَمَلِ الزَّوْجِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهَا نَخْلًا مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ - فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ شَرَطَ لَهَا نِصْفَ الْخَارِجِ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَعَمَلِهَا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ دَفَعْت إلَيْهِ نَخْلًا مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ - فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ الْتَزَمَ الْعَمَلَ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَنِصْفِ الْخَارِجِ. فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ فِي النِّكَاحِ، وَسِتٌّ أُخْرَى فِي الْخُلْعِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. فَالْمَرْأَةُ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْخُلْعِ عَلَيْهَا لَهُ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا فَفِي الْخُلْعِ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَقَوَّمُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِاعْتِبَارِ رَدِّ الْمَقْبُوضِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ السِّتُّ فِي الصُّلْحِ مِنْ جِنَايَةِ الْعَهْدِ، إلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَاجِبُ فِي النِّكَاحِ صَدَاقَ مِثْلِهَا - فَفِي الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ الْوَاجِبِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ هُوَ الدِّيَةُ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا كُلُّ جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا قِصَاصٌ أَوْ جِنَايَةٌ خَطَأٌ وَقَعَتْ عَلَى الصُّلْحِ عَنْهَا عُقْدَةٌ مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا - فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ مَالٍ عَلَى مَالٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَمَا تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ، فَاشْتِرَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ يُفْسِدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْعِتْقُ عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ - فَعَلَى الْعَبْدِ فِيهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُزِيلُ عَنْ مِلْكِهِ فِي الْعِتْقِ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَعِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ. وَلَا يَدْخُلُ هُنَا الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى قِيَاسِ جَعْلِ الْعِتْقِ إذَا كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَاسْتُحِقَّ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّسْمِيَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً وَهُنَا التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ الْعِتْقِ عَلَى الْخَمْرِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ مَعَ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، وَهُوَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ فَاشْتِرَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ يُفْسِدُهُمَا جَمِيعًا. فَإِنْ عَمِلَهَا الْمُكَاتَبُ عَتَقَ إنْ خَرَجَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 146 شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ إذَا كَانَ مَحَلُّهُ مَحَلَّ آخَرَ بِأَنْ كَانَ الْمَوْلَى صَاحِبَ النَّخْلِ أَوْ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ رَقَبَتِهِ، وَمَعَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ يُتْرَكُ الْعِتْقُ بِإِيفَاءِ الْمَشْرُوطِ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى الْخَمْرَ. ثُمَّ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ رَقَبَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ - لَمْ يَكُنْ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَالَ الْعِتْقَ بِمُقَابَلَةِ مَا أَوْفَى مِنْ الْعَمَلِ فَلَا يَتَمَكَّنُ اسْتِرْدَادُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَاسْتِرْدَادُ بَدَلِهِ كَاسْتِرْدَادِهِ. ثُمَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ فَلَا يُتَقَوَّمُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُكَاتَبُ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ وَإِذَا كَانَ مَحَلُّ الْمُكَاتَبِ مَحَلَّ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُكَاتَبِ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وَحَصَلَ الْخَارِجُ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ هُنَا بَعْضُ الْخَارِجِ وَهُوَ مَجْهُولُ اللَّوْنِ وَالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ الْعِتْقَ وَإِنْ أَدَّى، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ، ثُمَّ الْخَارِجُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْعَبْدِ هُنَا إلَى أَنْ يَرُدَّهُ الْمَوْلَى رَقِيقًا، وَإِذَا رَدَّهُ الْمَوْلَى رَقِيقًا كَانَ الْخَارِجُ لِلْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْكِتَابَةِ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عَمَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فِيهَا بِأَمْرِ الْعَامِلِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ بِالنِّصْفِ فَبَذَرَهُ الْعَامِلُ وَسَقَاهُ فَلَمَّا نَبَتَ قَامَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ وَسَقَاهُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُزَارِعِ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا قَدْ انْعَقَدَتْ فِي الْخَارِجِ حِينَ بَذَرَهُ الْعَامِلُ وَسَقَاهُ، وَصَارَ الْعَقْدُ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْأَرْضِ فَسْخَهُ، فَإِقَامَةُ الْعَمَلِ بَعْدَ ذَلِكَ كَإِقَامَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَلَوْ عَمِلَ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ فِيهَا كَانَ مُتَطَوِّعًا فِيمَا صَنَعَ وَالْخَارِجُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ رَبُّ الْأَرْضِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ لِذَلِكَ فَعَمَلُ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ وَأَجْرُ الْأَجِيرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، ثُمَّ رَبُّ الْأَرْضِ إنَّمَا عَمِلَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُزَارِعُ بَذَرَ الْبَذْرَ فَلَمْ يَنْبُتْ وَلَمْ يَسْقِهِ حَتَّى سَقَاهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَنَبَتَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْقِيهِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ - فَالْخَارِجُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ فِي عَمَلِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَيُجْعَلُ رَبُّ الْأَرْضِ مُتَطَوِّعًا فِيمَا عَمِلَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 147 رَبَّ الْأَرْضِ اسْتَرَدَّ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ قَبْلَ انْعِقَادِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ لَا فِي الْبَذْرِ وَبِمُجَرَّدِ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ وَكَوْنِهِ فِي الْجَوَالِقِ سَوَاءٌ وَلَوْ أَخَذَ رَبُّ الْأَرْضِ الْبَذْرَ وَزَرَعَ بِنَفْسِهِ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرَدًّا فِي حَالٍ هُوَ يَمْلِكُ فَسْخَ الْمُزَارَعَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّهُ بَعْدَ الْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ السَّقْيِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ إلْقَاءُ الْبَذْرِ فَيُقَامُ هَذَا السَّبَبُ مَقَامَ حَقِيقَةِ الشَّرِكَةِ بِبَيَانِ الزَّرْعِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْأَرْضِ فَسْخَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَصْدًا وَمَنْعَ الْمُزَارِعِ مِنْ الْعَمَلِ فَيَكُونَ هَذَا مِنْهُ إعَانَةً لِلْمُزَارِعِ أَوْ عَمَلَهُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَذَرَ أَرْضًا لَهُ فَلَمْ يَنْبُتْ حَتَّى سَقَاهُ رَجُلٌ فَنَبَتَ كَانَ الزَّرْعُ الَّذِي سَقَاهُ فِي الْقِيَاسِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ بَذْرًا وَزَرَعَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَاَلَّذِي سَقَاهُ مُعِينٌ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ يَكُونُ إذْنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَقْيِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ دَلَالَةً فَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ نَصًّا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَلَهُ تَدْبِيرٌ فِي تَقْدِيمِ عَمَلِ الزِّرَاعَةِ وَتَأْخِيرِهِ وَاخْتِيَارِ مَا يَزْرَعُهُ فِي كُلِّ أَرْضٍ، فَلَا يَكُونُ هُوَ آمِرًا لِلْغَاصِبِ بِأَنْ يَزْرَعَ بَذْرَهُ فِي أَرْضِهِ فَيَكُونَ الْغَاصِبُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ مَا بَذَرَهُ الْمُزَارِعُ هُوَ كَالْمُسْتَعِينِ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي سَقْيِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ نَصًّا، فَيَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ عَامِلًا لَهُ لَا لِنَفْسِهِ. وَلَوْ بَذَرَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَلَمْ يَسْقِهِ وَلَمْ يَنْبُتْ حَتَّى سَقَاهُ الْمُزَارِعُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُزَارِعِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَذَرَهُ وَسَقَاهُ كَانَ مُعِينًا لِلْمُزَارِعِ، فَإِذَا بَذَرَهُ وَلَمْ يَسْقِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِالسَّقْيِ وَالْعَمَلِ بَعْدُ، وَقَدْ بَاشَرَهُ الْمُزَارِعُ فَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الْفَسْخِ مِنْهُ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَلِلْعَامِلِ كَيْ لَا يَفُوتَ الْوَقْتُ لِاشْتِغَالِ الْمُزَارِعِ بِعَمَلٍ آخَرَ أَوْ لِمَرَضٍ حَلَّ بِهِ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ أَخَذَهُ رَبُّ الْأَرْضِ فَبَذَرَهُ فِي الْأَرْضِ وَسَقَاهُ فَنَبَتَ ثُمَّ إنَّ الْمُزَارِعَ يَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْقِيه حَتَّى اُسْتُحْصِدَ - فَالْخَارِجُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ فِي عَمَلِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحْكَمَ اسْتِرْدَادُ رَبِّ الْأَرْضِ حِينَ بَذَرَهُ وَسَقَاهُ حَتَّى نَبَتَ مِنْ حَيْثُ إنَّ بِالنَّبَاتِ تَحْصُلُ الشَّرِكَةُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 148 فِي الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ الْمُزَارِعِ لِيَكُونَ شَرِيكًا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّمَا نَبَتَ الْخَارِجُ كُلُّهُ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَانْفَسَخَ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ الْمُزَارِعُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مُتَطَوِّعٌ فَلَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ فَبَذَرَهُ وَلَمْ يَسْقِهِ حَتَّى سَقَاهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ اسْتِحْسَانًا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَذَرَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَلَمْ يَسْقِهِ حَتَّى سَقَاهُ الْمُزَارِعُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ بَذَرَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَسَقَاهُ حَتَّى نَبَتَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ الْمُزَارِعُ وَسَقَاهُ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمِثْلِ مَا أَخَذَ مِنْ الْبَذْرِ، وَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ فِي عَمَلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا لِمَا أَخَذَ مِنْ الْبَذْرِ، وَقَدْ اسْتَحْكَمَ ذَلِكَ بِنَبَاتِ الْخَارِجِ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَتْ زِرَاعَتُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى سَوَاءً فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي زَرْعِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ فَقَامَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ وَسَقَاهُ وَحَفِظَهُ فَلَمَّا خَرَجَ طَلْعُهُ أَخَذَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْعَامِلِ وَقَامَ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ وَلَقَّحَهُ حَتَّى أَدْرَكَ الْخَارِجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ بِخُرُوجِ الطَّلْعِ فَيَكُونُ رَبُّ النَّخْلِ بَعْدَ ذَلِكَ مُعِينًا لِلْعَامِلِ فِي النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِعَيْنِهِ، وَلَا أَجْرَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فِي تَلْقِيحِهِ وَعَمَلِهِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيهِ لَمْ يَأْمُرْهُ الْعَامِلُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ حِينَ قَبَضَ النَّخْلَ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى طَلَعَ طَلْعُهُ ثُمَّ قَبَضَ مِنْهُ الْعَامِلُ فَلَقَّحَهُ وَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ تَمْرًا - فَجَمِيعُ مَا خَرَجَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِ الطَّلْعِ، وَحِينَ خَرَجَ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ مِنْ الْعَامِلِ عَمَلٌ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَيَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ النَّخْلِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعَمَلِ الْعَامِلِ بَلْ هُوَ فِيمَا عَمِلَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ النَّخْلِ قَبَضَهُ وَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْرُجْ طَلْعُهُ حَتَّى قَبَضَهُ الْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ طَلْعُهُ ثُمَّ لَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ تَمْرًا - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ حُصُولِ الطَّلْعِ، وَقَدْ وُجِدَ الْعَمَلُ مِنْ الْعَامِلِ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمُعَامَلَةُ فَيَصِيرُ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ يَمْلِكُ فَسْخَ الْعَقْدِ قَصْدًا قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَهُنَا لَا يَمْلِكُ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا يُجْعَلُ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَرِدًّا فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ وَيُجْعَلُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَوْ كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فِعْلُ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الْعَامِلِ وَالْمُزَارِعِ كَانَ الْخَارِجُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 149 بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ اسْتَعَانَ بِهِ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ قَصْدُ إعَانَتِهِ لَا إقَامَةُ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ أَوْ رَبَّ النَّخْلِ عَلَى ذَلِكَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِذَلِكَ أُجَرَاءَ فَفَعَلَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَأَجْرُ الْأُجَرَاءِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ الْأُولَى بِالنِّصْفِ ثُمَّ دَفَعَهَا الْعَامِلُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ لِيَعْمَلَ عَلَى أَنَّ لَهُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَارِجِ وَالثُّلُثَ لِلْعَامِلِ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ لِلْعَمَلِ بِجُزْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِجُزْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ، وَلَا يُجْعَلُ هَذَا حَطًّا مِنْهُ لِبَعْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَطَّ مِنْ ضِمْنِ الْعَقْدِ الثَّانِي لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي فَيَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اشْتِرَاطِ بَعْضِ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يُلَقِّحَهُ؛ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ صَاحِبُ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَالْعَمَلِ شَيْئًا غَيْرَ التَّلْقِيحِ - نَظَرْت فِيهِ: فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إلَّا الْمَشْرُوطُ، وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ لَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فَمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَكُونُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُعَامَلَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ النَّخِيلِ، فَاشْتِرَاطُ بَعْضِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْخَارِجُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَسْلِيمِ نَصِيبِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَارِجِ إلَيْهِ كَمَا شَرَطَهُ لَهُ، فَإِنْ لَقَّحَهُ الْعَامِلُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَقِيمَةُ مَا لَقَّحَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ عَيْنَ مَالِهِ وَمَنَافِعِهِ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ بِإِزَاءِ مَنَافِعِهِ وَقِيمَةِ مَا لَقَحَهُ بِهِ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ الَّذِي صَرَفَهُ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنْ ابْتَغَى الْعِوَضَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَمْ يَنَلْ حِينَ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَقِيمَةُ مَا لَقَّحَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 150 لَا يَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَلَا إلَى سَقْيٍ وَلَا عَمَلَ غَيْرُ التَّلْقِيحِ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ وَلَكِنْ لَوْ سُقِيَ كَانَ أَجْوَدَ لِثَمَرَتِهِ إلَّا أَنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّهُ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ صِفَةُ السَّلَامَةِ فِي الْعِوَضِ، فَأَمَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ شَيْءٌ مِنْ الْعَمَلِ هُنَا. وَإِنْ كَانَ تَرْكُ السَّقْيِ يَضُرُّهُ وَيُفْسِدُ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ كُلُّهُ - فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الْعَامِلِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ اشْتِرَاطَ التَّلْقِيحِ عَلَيْهِ وَقَدْ اشْتَرَطَ مَا سِوَاهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّلْقِيحِ يَضُرُّهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّخِيلَ إذَا لَمْ يُلَقَّحْ أَحْشَفَ التَّمْرُ، فَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا يَصْلُحُ النَّخْلُ إلَّا بِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ عَلَى الْعَامِلِ. وَلَوْ كَانَ النَّخْلُ نَخْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّلْقِيحِ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ ثَمَرُهُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ إلَّا أَنَّ التَّلْقِيحَ أَجْوَدُ لَهُ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لَا صِفَةَ الْجَوْدَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ النَّخْلَ مُلَقَّحًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْعَامِلِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلَافِ مَا إذَا دُفِعَ إلَيْهِ غَيْرَ مُلَقَّحٍ، وَاشْتِرَاطُ التَّلْقِيحِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَنْعَدِمُ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَمَا يُلَقِّحُهُ صَاحِبُ النَّخْلِ، وَالْمُعَامَلَةُ تَلْزَمُ بِنَفْسِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَاشْتِرَاطُ مَا يُفَوِّتُ مُوجَبَهَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَفِي الْأَوَّلِ التَّلْقِيحُ مِنْ رَبِّ النَّخْلِ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالنَّخْلِ عَقِيبَ الْعَقْدِ مَوْجُودٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يُلَقِّحَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، فَالشَّرْطُ مُفَوِّتٌ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ فَرَاغِ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ التَّلْقِيحِ - فَذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي يُعَجِّلُهُ صَاحِبُ النَّخْلِ أَوْ يُؤَخِّرُهُ، وَالْجَهَالَةُ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ مُفْسِدَةٌ لِلْمُعَامَلَةِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُلَقِّحَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ صَاحِبُ النَّخْلِ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ مِنْ غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ - فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ هُنَا فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَالْمُعَامَلَةُ عَقْدُ إجَارَةٍ فَتَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَاشْتَرَطَ التَّلْقِيحَ وَالسَّقْيَ عَلَى الْعَامِلِ وَالْحِفْظَ عَلَى رَبّ النَّخْلِ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 151 جَمِيعِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ، فَالْحِفْظُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا الْآنَ لِدَرْكِ الثِّمَارِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ فَتَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا، فَأَمَّا مَا لَا يُفِيدُ فَالذِّكْرُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ. وَلَوْ اشْتَرَطَ التَّلْقِيحَ وَالْحِفْظَ عَلَى الْعَامِلِ وَالسَّقْيَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ بِغَيْرِ سَقْيٍ إلَّا أَنَّ السَّقْيَ أَفْضَلُ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ تَحْصُلُ بِمَا شُرِطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ السَّقْيُ لَا يَزِيدُ فِيهِ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ، فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ سَقْيًا وَلَا حِفْظًا: فَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا يَسْقِيهَا السَّمَاءُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى سَقْيٍ وَلَا حِفْظٍ مِثْلَ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَنَحْوِهَا - فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ قَدْ شُرِطَ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ إلَّا الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ وَلَكِنَّهُ لَوْ سُقِيَ كَانَ أَجْوَدَ لَهُ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لَا نِهَايَةَ الْجَوْدَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ إذَا تَرَكَ السَّقْيَ هَلَكَ بَعْضُهُ وَخَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا عَامِرًا عَطْشَانَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْعَامِلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. وَلَوْ اشْتَرَطَ جَمِيعَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ إلَّا الْحِفْظَ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ تَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ السَّقْيَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْذُرَهُ كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، فَالتَّخْلِيَةُ تَنْعَدِمُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ السَّقْيَ وَالسَّقْيُ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَكِنَّهُ أَجْوَدُ لِلزَّرْعِ إنْ سُقِيَ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ السَّقْيُ لَا يَزِيدُهُ خَيْرًا فَالْمُزَارَعَةُ جَائِرَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ رُبَّمَا قَلَّ فَزَادَ الزَّرْعُ وَرُبَّمَا كَثُرَ فَلَمْ يَزِدْهُ السَّقْيُ خَيْرًا - لَمْ تَجُزْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُعْتَبَرٌ مُقَيَّدٌ مِنْ وَجْهٍ. وَالْأَصْلُ فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 152 الشَّرَائِطِ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا إلَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِخُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ، وَيَبْقَى هُنَا مُوجَبُ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ. وَإِذَا بَذَرَ الرَّجُلُ فَلَمْ يَنْبُتْ شَيْءٌ حَتَّى دَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَسْقِيَهُ وَيَحْفَظهُ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَقِيبَ الْعَقْدِ. وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبْذُرَهَا عَلَى أَنْ يَبْذُرَهَا رَبُّ الْأَرْضِ وَيَسْقِيَهَا الْمُزَارِعُ وَيَحْفَظَهَا - فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَالتَّخْلِيَةُ تَنْعَدِمُ إلَى أَنْ يَبْذُرَهَا رَبُّ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ اشْتَرَطَ لَهُ أَنْ يَبْذُرَ عَلَى أَنْ يَحْفَظَ الزَّرْعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْقِيَهُ - لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى وَقْتِ فَرَاغِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الْبَذْرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَقَدْ يُعَجِّلُ رَبُّ الْأَرْضِ الْبَذْرَ وَقَدْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ، وَجَهَالَةُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَزْرَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ مِنْ غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ - فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بَعْدَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالتَّخْلِيَةُ تُوجَدُ عَقِيبَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ. وَلَوْ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْمُزَارِعِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَلِي طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ رَبُّ الْأَرْضِ وَاشْتَرَطَا لِذَلِكَ وَقْتًا يَكُونُ السَّقْيُ وَالْحِفْظُ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُؤَاجِرٌ لِأَرْضِهِ، وَالْعَقْدُ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ بِنَفْسِهِ فَيُلْزِمُهُ تَسْلِيمَ الْأَرْضِ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا شَرْطٌ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ إضَافَةَ الْمُزَارَعَةِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ الْمُعَامَلَةُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ بِنَفْسِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَوَابَ فِيهَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ - سَوَاءٌ. فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: اشْتِرَاطُ طَرْحِ الْبَذْرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ - غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَا طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَهَذَا شَرْطٌ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِالنِّصْفِ - جَازَ وَكَانَ السَّقْيُ وَالْحِفْظُ عَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ إنَّمَا أَجَّرَ أَرْضَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ عَلَى الْمُزَارِعِ، فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الِاشْتِرَاطِ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهَا، فَلَمَّا صَارَ الزَّرْعُ بَقْلًا بَاعَ رَبُّ الْأَرْضِ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ زَرْعَهَا - فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 153 لِلْأَرْضِ، وَمَعَ الْمُؤَاجِرِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ ضَرَرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَتَوَقَّفُ الْبَيْعُ عَلَى إجَازَتِهِ كَالرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ: فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُزَارِعُ جَازَ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْمَانِعُ مِنْ نُفُوذِ الْعَقْدِ حَقُّهُ وَقَدْ زَالَ بِإِجَازَتِهِ، ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ أَوْ يَدَعَ إذَا كَانَ بَاعَهَا بِزَرْعِهَا؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَبَعُ الْأَرْضِ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِهَا فَيَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيهِ. وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ أَخْذَ الْأَرْضِ وَحِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ دُونَ حِصَّةِ الْمُزَارِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْكُلِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ، فَحِصَّةُ الْأَرْضِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَحِصَّةُ الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ الْعَقْدُ لَزِمَ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمُزَارِعِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ وَمَضَتْ السَّنَةُ وَقَدْ بَاعَهَا مَعَ الزَّرْعِ - فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ وَنِصْفَ الزَّرْعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِّمَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الزَّرْعِ يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ فِيمَا هُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ كَانَ جَائِزًا فِي الْأَرْضِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ ثُمَّ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ قَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ، ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا تَمَّ فِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الْأَرْضُ وَحِصَّةُ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَمْ يُحْصَدْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. وَالْجَوَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ قِيَاسُ الْجَوَابِ فِي الْمُزَارَعَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْعَامِلِ، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ رَبِّ النَّخْلِ فِي التَّمْرِ مَعَ النَّخْلِ، وَفِي حِصَّةِ الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ، فَإِنْ جُدَّ النَّخْلُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ عَلَى الزَّرْعِ وَلَا عَلَى التَّمْرِ سَبِيلٌ لِزَوَالِ الِاتِّصَالِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِحِصَّتِهِمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَائِعُ التَّمْرَ وَالزَّرْعَ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ فِي الْبَيْعِ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مُرَافِقُهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ يَدْخُلُ التَّمْرُ وَالزَّرْعُ. وَإِنْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا - دَخَلَ الزَّرْعُ وَالتَّمْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 154 قَالَ: مِنْ حُقُوقِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ. وَلَوْ اخْتَصَمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَتَكْمُلَ السَّنَةُ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ، وَقَدْ أَبَى الْمُزَارِعُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ - فَالْأَمْرُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَمَّا أَبَى الْمُزَارِعُ الْإِجَازَةَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَرَادَ نَقْضَ الْبَيْعِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ نَافِذٌ مِنْ جِهَتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إبْقَائِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَهَكَذَا فِي الْمَرْهُونِ إذَا أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُسَلِّمَ. فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا أَبَى الْمُشْتَرِي. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمُزَارِعَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ إذَا أَرَادَ نَقْضَ الْبَيْعِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا، إنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْيَدَ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْعَقْدِ. فَإِنْ لَمْ يُرِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ، وَحَضَرَ الشَّفِيعُ فَأَرَادَ أَخْذَ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ - فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي إنْ سَلَّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَإِلَّا نَقَضَهُ، فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي: لَا يَسْلَمُ لَك الْبَيْعُ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ سَابِقٌ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي شَرْعًا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الشَّفِيعِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حِينَ قَدَّمَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ. وَإِنْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِهَذَا الشِّرَاءِ فَلَمْ يَطْلُبْهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ سَلِمَ الشِّرَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ - فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ حَقِّهِ قَدْ تَقَرَّرَ فَتَرْكُهُ الطَّلَبَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ. وَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمَ فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: هَاتِ الثَّمَنَ وَخُذْهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِلَّا فَلَا شُفْعَةَ لَك: فَإِنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْأَرْضَ لِلشَّفِيعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْأَرْضَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَمْنَعَ الثَّمَنَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ، وَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ شُفْعَتَهُ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَبَهَا حِينَ عَلِمَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي مُعَامَلَةِ النَّخِيلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَوْتِ الْمُزَارِعِ وَلَا يُدْرَى مَا صَنَعَ فِي الزَّرْعِ] وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَذْرِ وَالشَّرْطِ. [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 155 وَلَا يُدْرَى مَا فَعَلَ - فَضَمَانُ حِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ فِي مَالِ الْمُزَارِعِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُزَارِعِ، فَإِذَا مَاتَ مُجْهِلًا لَهُ كَانَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَصِيرُ دَيْنًا بِمَوْتِ الْمُودِعِ فِي تَرِكَتِهِ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مَا صَنَعَ بِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْعَامِلُ بَعْدَ مَا طَلَعَ التَّمْرُ فَبَلَغَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ فَلَمْ يُوجَدْ فِي النَّخِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ النَّخْلِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْعَامِلِ. وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ أَوْ الْمُزَارِعُ أَوْ مَاتَا جَمِيعًا فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا مَعَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فِي شَرْطِ الْأَنْصِبَاءِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَذْرِ أَوْ وَرَثَتِهِ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ. فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَشْرُوطِ وَأَنْكَرَهُ هُوَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ كَانَ حَيًّا. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ بِاَللَّهِ عَلَى عِلْمِهِمْ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآجِرِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ. فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْبَذْرِ أَيْضًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الثَّبَاتِ إنْ كَانَ حَيًّا. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ أَوْ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ. وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا فَأَقَامَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ وَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ، وَأَقَامَ الْمُزَارِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ وَأَنَّهُ شَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ - فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ. وَإِذَا مَرِضَ رَجُلٌ وَفِي يَدِهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرَطَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْغَ رَمَاءُ: فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ - بُدِئَ بِدَيْنِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَرِيضُ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّة فَيُبْدَأُ بِدَيْنِهِمْ فَيُقْضَى، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهَا مِنْ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ أَقَرَّ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ كَانَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ مِنْهُ، وَالْمَرِيضُ لَوْ أَنْشَأَ الْمُحَابَاةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اُعْتُبِرَتْ مِنْ ثُلُثِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ حِينَ طَلَعَ الزَّرْعُ وَفِي ثُلُثَيْ الزَّرْعِ فَضْلٌ عَنْ أَجْرِ الْمِثْلِ يَوْمَ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُثْبِتْ حَتَّى اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ مَاتَ - فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 156 الْأَرْضِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ إدْرَاكِ الزَّرْعِ صَحِيحٌ فَتُنْفَى التُّهْمَةُ عَنْ إقْرَارِهِ فِي مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ وَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ ابْتِدَاءً فَتَثْبُتُ الْمُزَاحَمَة بَيْنَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَعْدَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَمَكَّنُ فِي إقْرَارِهِ تُهْمَةٌ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فِي الْمَرَضِ فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَتَحَاصُّونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ تَعَيَّنَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي بُدِئَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فِي حَالٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْشَاءِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا كَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَمَنْ يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الْمَرِيضُ مُصَدَّقًا فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْبَذْرِ هُنَا فِي مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ. وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُزَارَعَةً بِجُزْءٍ يَسِيرٍ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ - لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُنَا تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مَنَافِعِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْمَرِيضُ رَبَّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ أَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ مَاتَ - بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْعَيْنِ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلْمُزَارِعِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ ثُلُثَيْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ يُقِرُّ بِالْعَيْنِ بِسَبَبٍ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَصِيَّةٌ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مُحَابَاةٌ فَيَكُونُ وَصِيَّةً تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَنْشَأَهَا. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ حِينَ زَرَعَ الْمُزَارِعُ وَفِي ثُلُثَيْ الزَّرْعِ يَوْمئِذٍ فَضْلٌ عَنْ أَجْرِ مِثْلِهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ يُحَاصُّ الْمُزَارِعُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ ثُلُثَيْ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْقَدْرِ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، ثُمَّ الْبَاقِي وَصِيَّةٌ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَرِيضِ بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَحَاصُّونَ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بُدِئَ بِأَجْرِ مِثْلِ الْمُزَارِعِ. وَحَالُ رَبِّ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَحَالِ الْمُزَارِعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُعَامَلَةِ إذَا مَرِضَ صَاحِبُ النَّخْلِ وَأَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّخْرِيجِ. وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْعَامِلُ فَقَالَ: شَرَطَ لِي صَاحِبُ النَّخْلِ السُّدُسَ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ مُجَرَّدُ الْعَمَلِ. وَلَوْ قَالَ كُنْت مُعِينًا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 157 قَوْلَهُ فَهُنَا أَوْلَى وَلَا يَقْبَلُ بَيِّنَةَ غُرَمَاءِ الْعَامِلِ وَوَرَثَتِهِ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يُثْبِتُونَ الْحَقَّ لَهُ، فَبَعْدَ مَا أَكَذَبَهُمْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ وَالْوَرَثَةُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ. وَلَوْ ادَّعَى هُوَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فَكَذَلِكَ غُرَمَاؤُهُ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَا يَمِينَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ صَاحِبَ النَّخْلِ وَالْعَامِلُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ فَأَقَرَّ لَهُ بِشَرْطِ النِّصْفِ بَعْدَ مَا بَلَغَ التَّمْرُ - فَإِقْرَارُهُ بَاطِلُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ لَهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِالْعَيْنِ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ حِينَ بَدَأَ بِالْعَمَلِ وَطَلَعَ الْكُفُرَّى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مَا بَلَغَ التَّمْرُ - أَخَذَ الْعَامِلُ مِقْدَارَ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ نِصْفِ التَّمْرِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ فَلَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ بِقَدْرِ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَيُحَاصُّ أَصْحَابَ دَيْنِ الصِّحَّةِ بِهِ وَيُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَصِيَّةٌ لِلْوَارِثِ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَإِنْ أَرَادَ الْوَارِثُ الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَقِيَ لَهُ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمَرِيضُ بَعْدَ مَا أَخَذَ أَجْرَ مِثْلِهِ - فَإِنَّ إقْرَارَ الْمُعَامَلَةِ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَى لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَيْءٌ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا فِي الْمَرَضِ - اُسْتُحْلِفُوا عَلَى عَمَلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُمْ، فَإِنْ أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى عَمَلِهِمْ لِرَجَاءِ نُكُولِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْعَامِلُ وَرَبُّ النَّخْلِ مِنْ وَرَثَتِهِ صُدِّقَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ قِلَّةِ نَصِيبِهِ، كَمَا لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَنَافِعِهِ وَلِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ عَلَى وَارِثِهِ إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ مَقْبُولَةٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَرَثَةِ بَاطِلٌ. وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ مَقْبُولَةً وَيُسْتَحْلَفُ الْخَصْمُ إذَا أَنْكَرَ، فَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ إقْرَارَهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ فِي الرَّهْنِ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: رَجُلٌ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ أَرْضًا وَنَخْلًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لَهُ، فَلَمَّا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ قَالَ لَهُ الرَّاهِنُ: احْفَظْهُ وَاسْقِهِ وَلَقِّحْهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَفَعَلَ ذَلِكَ - فَالْخَارِجُ وَالْأَرْضُ وَالنَّخِيلُ كُلُّهُ رَهْنٌ وَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَرْهُونِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الرَّاهِنِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحِفْظِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ؟ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا سِوَى الْحِفْظِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَتَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً وَالْخَارِجُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 158 كُلُّهُ لِرَبِّ النَّخْلِ إلَّا أَنَّهُ مَرْهُونٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ عَيْنِ رَهْنٍ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي التَّلْقِيحِ وَالسَّقْيِ دُونَ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، أَمَّا التَّلْقِيحُ وَالسَّقْيُ فَقَدْ أَوْفَاهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ هُوَ النَّخْلُ وَالْأَرْضُ وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ يَتَنَاوَلُ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ، وَالْعَقْدُ فِي مَحَلٍّ لَا يَرْفَعُ عَقْدًا آخَرَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا مَزْرُوعَةً وَقَدْ صَارَ الزَّرْعُ فِيهَا بَقْلًا. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَزَارَعَهُ الرَّاهِنُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ، وَالْبَذْرُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ - جَازَ وَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنْ الرَّاهِنِ يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَلْزَمُ مِنْ الرَّهْنِ، وَقَدْ طَرَأَ الْعَقْدَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ الثَّانِي رَافِعًا لِلْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَهَا رَهْنًا. وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ لِبُطْلَانِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الرَّاهِنِ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَ الْأَرْضَ فِي الرَّهْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَا يُرَدُّ عَلَى عَمَلِ الْمُزَارِعِ فَلَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ كَالْمُعِيرِ لِلْأَرْضِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ. [أَلَا تَرَى] أَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ مُزَارَعَةً بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ كَالْمُعِيرِ لِلْأَرْضِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ هُوَ بِالْأَرْضِ؟ وَذَلِكَ بِإِعَارَةٍ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ أَضْعَفُ مِنْ الرَّهْنِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْأَرْضَ فِي الرَّهْنِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا بَيْضَاءَ وَفِيهَا مَحَلٌّ فَأَمَرَهُ الرَّاهِنُ بِأَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ، وَيَقُومَ عَلَى النَّخْلِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَهُ وَيَحْفَظَهُ بِالنِّصْفِ أَيْضًا فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ خَرَجَتْ الْأَرْضُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَهَا فِيهِ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ. وَأَمَّا النَّخْلُ وَالتَّمْرُ فَلَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النَّخْلِ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ فَلَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، وَبِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ الْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، ثُمَّ النَّخْلُ وَالتَّمْرُ لَا يَفْتَكُّهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنَ. وَإِنْ هَلَكَ النَّخْلُ وَالتَّمْرُ هَلَكَ بِحِصَّةِ قِيمَةِ النَّخْلِ مِنْ الدَّيْنِ مَعَ قِيمَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَضْمُونًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ حِينَ رَهَنَهُ، وَالتَّمْرُ الَّذِي هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي النَّخْلِ لَا فِي الْحِفْظِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ تَعُودُ رَهْنًا هُنَا إذَا انْقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُنَا فِي مَعْنَى الْمُعِيرِ لَهَا مِنْ الرَّاهِنِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ مَا انْقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ أَوْ قَبْلَهَا لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَاخْتِصَاصِ الْمُرْتَهِنِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 159 بِالْمَرْهُونِ بِحُكْمِ عَقْدِ الرَّهْنِ. وَإِنْ نَقَصَهَا الزَّرْعُ شَيْئًا ذَهَبَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ حِينَ كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُعِيرًا مِنْ الرَّاهِنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تَبْطُلُ وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ] [قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -]: وَإِذَا شَرَطَ الْمُزَارِعُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ - فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ عَلَيْهِ تَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ، وَبِاشْتِرَاطِ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهِ يَجْتَمِعُ الْإِجَارَةُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ. فَإِنْ قَالَ: أُبْطِلَ الشَّرْطُ لِتَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَبْطُلْ بِإِبْطَالِهِ، لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ تَمَكَّنَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَمِنْ مُوجَبَاتِهِ، فَبِإِسْقَاطِهِ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ مَعَ الْأَلْفِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْحَصَادَ أَوْ الدِّيَاسَ أَوْ التَّنْقِيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ الْعَقْدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ وَمَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا إذَا أَسْقَطَهُ مَنْ شُرِطَ لَهُ. وَلَوْ اشْتَرَطَا لِأَحَدِهِمَا خِيَارًا مَعْلُومًا فِي الْمُزَارَعَةِ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ خِيَارًا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ أَوْ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ وَأَجَازَ الْمُزَارَعَةَ جَازَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ زَائِدٌ عَلَى مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِيمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ، وَالْمُعَامَلَةُ قِيَاسُ الْمُزَارَعَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّ مَا صَارَ لَهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَمْ يَهَبْهُ - فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَيْسَ لَهُ مُطَالِبٌ فَيَلْغُو وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ لِأَحَدِهِمَا، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا. قَالَ: لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فِيهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةً، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُطَالِبُ بِهِ الْمُنْتَفِعُ، وَالشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ أَحَدٍ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الشَّرْطِ شَرْطَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ تَجُزْ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُبْطَلُ الشَّرْطُ بِإِبْطَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى إبْطَالِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 160 نَصِيبَهُ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِلْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَبْطَلَهُ صَاحِبُهُ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ خَاصَّةً فَتَسْقُطُ، وَهُوَ شَرْطٌ وَرَاءَ مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ، فَإِذَا سَقَطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الشِّرْبِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الشِّرْبَ هُوَ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ لِلْأَرَاضِيِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَقَالَ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] وَقِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَائِزَةٌ. بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَهُوَ قِسْمَةٌ تَجْرِي بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ إذْ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، وَالْقِسْمَةُ تَجْرِي تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَالْمُشْتَرَى وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ كَقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» وَالْمُرَادُ الْحَفْرُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْحَفْرَ فَقَطْ وَمِثْلُ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُثْبِتُ نَفْسَ الْحَفْرِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ إلَّا بِزِيَادَةٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، فَلَا يَقْوَى الِاسْتِدْلَال بِهَا ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ لَهَا حَرِيمٌ مُسْتَحَقٌّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ إلَّا بِمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ يَسْقِي الْمَاءَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْمَعُ فِيهِ الْمَاءَ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى مَوْضِعٍ تَنَامُ فِيهِ مَوَاشِيهِ بَعْدَ الشُّرْبِ فَاسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ لِذَلِكَ. وَقَدَّرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ النَّصُّ دُونَ الرَّأْيِ إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 161 عَشَرَةُ أَذْرُعٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ التَّقْدِيرُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ إلَيْهَا مَا بِبِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ رُبَّمَا لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُتَيَقَّنُ بِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَيَسْتَوِي فِي مِقْدَارِ الْحَرِيمِ بِئْرُ الْعَطَنِ وَبِئْرُ النَّاضِحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَاسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا»؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْبِئْرِ النَّاضِحِ إلَى الْحَرِيمِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يَسِيرُ فِيهِ النَّاضِحُ لِيَسْتَقِيَ فِيهِ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ بِذَلِكَ، وَفِي بِئْرِ الْعَطَنِ إنَّمَا يَسْتَقِي بِيَدِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْحَرِيمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعَيْنِ يَفِيضُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى اتِّخَاذِ الْمَزَارِعِ حَوْلَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَفِيضُ مِنْ الْمَاءِ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ غَدِيرًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ زِيَادَةَ الْحَرِيمِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَلَيْسَ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بِئْرِ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِهَذَا رَجَّحَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» عَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَعَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَرَجَّحَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» عَلَى خَبَرِ الْعَرَايَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ. ، وَعَمَلُهُ فِي مَوْضِعِ الْبِئْرِ خَاصَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْحَرِيمِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ فَبِقَدْرِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّكِّ هَذَا أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسَائِلِ الْحَرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي لِفَرَسِهِ إلَّا سَهْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَأَمَّا حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 162 وَلَكِنْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْخَمْسُمِائَةِ فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي هَذَا مُفَسَّرًا فِي بِئْرِ النَّاضِحِ قَالَ: يَتَقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِسِتِّينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّشَا أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ التَّقْدِيرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الذُّرْعَانِ، ثُمَّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ بِمَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ. أَمَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا حَتَّى لَوْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا، فَجَاءَ آخَرُ وَحَفَرَ عَلَى مُنْتَهَى حَدِّ حَرِيمِهِ بِئْرًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ حَرِيمُ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأُخَرِ فِيمَا لَا حَقَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مِنَّا مُبَاحٌ مَنْ سَبَقَ» فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَيُشَارِكَهُ فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَسْفَلُ النَّهْرِ آمِرٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا النَّهْرَ وَيَحْبِسُوا الْمَاءَ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ جَمِيعًا ثَابِتٌ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ وَيَخْتَصَّ بِذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ حَيْثُ لَا يَجْرِي فِي أَرْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِالسَّكْرِ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا لِيَرْتَفِعَ الْمَاءُ إلَى أَرَاضِيِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ آمِرًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ تَلْزَمُك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك. بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ»؛ لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِانْتِظَارِهِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ، وَفِيهِ حِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ رَكِبَ مَعَ الْخَلِيفَةِ يَوْمًا فَتَقَدَّمَهُ الْخَلِيفَةُ لِجَوْدَةِ دَابَّتِهِ فَنَادَاهُ أَيُّهَا الْقَاضِي الْحَقْ بِي فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ دَابَّتَك إذَا حُرِّكَتْ طَارَتْ، وَإِنَّ دَابَّتِي إذَا حُرِّكَتْ قَطَفَتْ، وَإِذَا تُرِكَتْ وَقَفَتْ فَانْتَظِرْنِي فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ» فَأَمَرَ بِأَنْ يُحْمَلَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَنَبَةٍ لَهُ وَقَالَ: أَحْمِلُ إيَّاكَ عَلَى هَذَا أَهْوَنُ مِنْ تَأْمِيرِك عَلَيَّ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ الْأَسْفَلِ»، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْوَادِي وَالْوَادِي اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْجَبَلِ فَيَجْتَمِعُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 163 فِيهِ، وَيَجْرِي إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فَقَوْلُهُ: إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِالْكَعْبَيْنِ بَلْ الْإِشَارَةُ إلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ الْوَادِي سَعَةً، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ فِيهِ هَذَا الْمِقْدَارَ فَهُوَ كَثِيرٌ يَتَوَصَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ عَادَةً فَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ فَكَانُوا مُتَعَنِّتِينَ فِي ذَلِكَ لَا مُنْتَفِعِينَ بِالْمَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِ الْأَعْلَى فَهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْحَبْسِ، وَالْمَاءُ الَّذِي يَنْحَدِرُ مِنْ الْجَبَلِ إلَى الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَمَنْ يَسْبِقْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، بِمَنْزِلَةِ النُّزُولِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُبَاحِ. كُلُّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ، وَيَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فِي مَنْعِهِ عَمَّا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَعِنْدَ قِلَّةِ الْمَاءِ بَدَا أَهْلُ الْأَعْلَى أَسْبَقَ إلَى الْمَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ. بِهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَادِثَةٍ مَعْرُوفَةٍ»، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْمَاءِ يَتِمُّ انْتِفَاعُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ بِحَبْسِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ. وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» وَفِي الرِّوَايَاتِ: النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَوْدِيَةِ، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ، وَفُرَاتٍ، وَدِجْلَةٍ، وَنِيلٍ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ، وَالْهَوَاءِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّطَرُّقُ فِيهَا. ، وَمُرَادُهُمْ مِنْ لَفْظَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَيَانُ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَالْمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ. فَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ فَفِيهِ نَوْعُ شَرِكَةٍ لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ حَقُّ السَّعَةِ مِنْ حَيْثُ الشِّرْبُ، وَسَقْيُ الدَّوَابِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ أَخَصُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَسْقُوا نَخِيلَهُمْ، وَزُرُوعَهُمْ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فِيهِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبِئْرِ شَرِكَةٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَهُوَ السَّعَةُ، وَكَذَلِكَ الْحَوْضُ فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَاءَ فِي حَوْضِهِ، وَكَرْمِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ بِذَلِكَ الْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّ السَّقْيِ فِيهِ لِلنَّاسِ، حَتَّى إذَا أَخَذَ إنْسَانٌ مِنْ حَوْضِهِ مَاءً لِلشُّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِذَا أَتَى إلَى بَابِ كَرْمِهِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ مِنْ حَوْضِهِ لِلشُّرْبِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ كَرْمَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ خَاصٌّ لَهُ. وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ قَرِيبًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 164 مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَخُذْ حَاجَتَك مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إلَيْهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَأْخُذَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ السَّعَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي حَوْضِهِ عَنَدَ الْحَاجَةِ. فَأَمَّا إذَا أَحْرَزَ الْمَاءَ فِي جُبٍّ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ قِرْبَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِسَرِقَتِهِ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِي الْكَلَإِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ. فَأَمَّا مَا نَبَتَ مِنْ الْكَلَإِ فِي أَرْضِهِ مِمَّا لَمْ يُنْبِتْهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ أَيْضًا حَتَّى إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ لِيَأْخُذَ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَأْمُرُهُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ إلَيْهِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ فَيَأْخُذَ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ. فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَنْ سَقَى أَرْضَهُ، وَكَرَبَهَا لِنَبْتِ الْحَشِيشِ فِيهَا لِدَوَابِّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبِهِ، وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا لَمْ يُنْبِتْهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ دُونَ الْأَشْجَارِ، فَأَمَّا فِي الْأَشْجَارِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَشْجَارِ النَّابِتَةِ فِي أَرْضِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ تُحْرَزُ عَادَةً، وَقَدْ صَارَ مُحْرِزًا لَهُ مِنْ يَدِهِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَرْضِهِ، فَأَمَّا الْحَشِيشُ فَلَا يُحْرَزُ عَادَةً. وَتَفْسِيرُ الْحَشِيشِ مَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَالشَّجَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وَالنَّجْمُ مَا يَنْجُمُ فَتَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ. وَبَيَانُ الشَّرِكَةِ فِي النَّارِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي صَخْرٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاءُ بِهَا، وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ، وَالْعَمَلُ بِضَوْئِهَا، فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا مَنَعَهُ صَاحِبُ النَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَطَبٌ أَوْ فَحْمٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ، وَإِنَّمَا الشَّرِكَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّارِ، وَالنَّارُ جَوْهَرُ الْحَرِّ دُونَ الْحَطَبِ، وَالْفَحْمِ فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَا لَهُ قِيمَةٌ إذَا جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ. وَلَهُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَمْنَعُونَ هَذَا الْقَدْرَ عَادَةً، وَالْمَانِعُ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا لَا مُنْتَفِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَعَنِّتَ مَمْنُوعٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 165 مِنْ التَّعَنُّتِ شَرْعًا. ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ بُقَعِ الْمَاءِ» يَعْنِي الْمُسْتَنْقَعَ فِي الْحَوْضِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَيَسْتَدْعِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا، وَالْمَاءُ فِي الْحَوْضِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلشُّرَكَاءِ، وَالْبَيْعُ لَا يَسْبِقُ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَاءِ مِنْ حَيْثُ سَقْيُ النَّخِيلِ، وَالزَّرْعِ، وَلِصَاحِبِ الْمُسْتَنْقَعِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ الْهَيْثَمِ أَنَّ قَوْمًا، وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ أَعْنَاقَنَا، وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تُقْطَعُ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ فَهَلَّا، وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا مَنَعُوهُمْ لِيَسْتَقُوا الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ فَإِذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى ظُهُورِهِمْ مِنْ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمْ فِي الْبِئْرِ حَقُّ السَّعَةِ، فَإِذَا مَنَعُوا حَقَّهُمْ، وَقَصَدُوا إتْلَافَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَعَنْ ظُهُورِهِمْ كَمَا لَوْ قَصَدُوا قَتْلَهُمْ بِالسِّلَاحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَاءُ مُحْرَزًا فِي إنَاءٍ فَلَيْسَ لِلَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ أَنْ يُقَاتِلَ صَاحِبَ الْمَاءِ بِالسِّلَاحِ عَلَى الْمَنْعِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيُقَاتِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْرَزٌ لِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْآخِذُ ضَامِنًا لَهُ فَإِذَا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ لِحَاجَتِهِ فَالْمَانِعُ يَكُونُ دَافِعًا عَنْ مَالِهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» فَكَيْفَ يُقَاتِلُ مَنْ إذَا قَتَلَهُ كَانَ شَهِيدًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا الْبِئْرُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي الْمَنْعِ دَافِعًا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُقَاتِلَ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَاء مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةَ عَنْهُ فَهُوَ فِي الْمَنْعِ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَحِلُّ فَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَلَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُقَاتَلَةَ بِالسِّلَاحِ عَلَى مَنْعِ الدَّلْوِ فَإِنَّ الدَّلْوَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَهَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ أَيْ رَهَنْتُمْ عِنْدَهُمْ مَا مَعَكُمْ مِنْ السِّلَاحِ لِيَطْمَئِنُّوا إلَيْكُمْ فَيُعْطُونَكُمْ الدَّلْوَ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ. ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ مِنْ الْأَرَاضِي يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمَوَاتِ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ فِي طَرَفِ الْعُمْرَانِ فَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَإِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي صَوْتُهُ، يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّ سُكَّانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 166 لِرَعْيِ الْمَوَاشِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاتِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، وَمَلَّكَهَا مِمَّنْ أَحْيَاهَا أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا فَكُلُّ مَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهَا، وَتَمَّ إحْرَازُهُ لَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا كَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا، أَوْ حَطَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ وَجَدَ مَعْدِنًا، أَوْ رِكَازًا فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ»، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمِنْ أَصْلِهِ: أَنَّ الْعَامَ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا أَنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ هِيَ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنْ بَعْدُ» فَمَا كَانَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَسْتَبِدُّ أَحَدٌ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَشَارَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ صَارَتْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ فَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ هُوَ الْإِحْيَاءُ، وَلَكِنَّ إذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَنْفِي هَذَا الشَّرْطَ بَلْ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» إشَارَةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْإِنْسَانُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَالْأَخْذُ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ فِي مَعْنَى عِرْقٍ ظَالِمٍ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرَسَ أَشْجَارًا فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَتْ عُرُوقُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ، أَوْ خَرَجَتْ أَغْصَانُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَرْضِ جَارِهِ بِتِلْكَ الْأَغْصَانِ وَالْعُرُوقِ الظَّالِمَةِ فَالظُّلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِعِرْقٍ ظَالِمٍ أَنْ يَتَعَدَّى فِي الْإِحْيَاءِ مَا وَرَاءَ أَحَدِ الْمَوَاتِ فَيَدْخُلَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ وَالْمُرَادُ بِالْمُحَجَّرِ الْمُعَلَّمُ بِعَلَامَةٍ فِي مَوْضِعٍ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْحَجْرِ، وَهُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّ مَنْ أَعْلَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ عَلَامَةً فَكَأَنَّهُ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ تَحْجِيرًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَرَّ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ فَقَصَدَ إحْيَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَوَضَعَ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَحْجَارًا أَوْ حَصَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ، وَالشَّوْكِ، وَجَعَلَهَا حَوْلَ ذَلِكَ فَمَنَعَ الدَّاخِلَ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا فَهَذَا تَحْجِيرٌ، وَلَا يَكُونُ إحْيَاءً إنَّمَا الْإِحْيَاءُ أَنْ يَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 167 كَرَبَهَا أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ أَوْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا ثُمَّ بَعْدَ التَّحْجِيرِ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ، وَيُهَيِّئَ أَسْبَابَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُحْيِيَهُ فَيُجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ لِلرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ سَنَةً، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِ فِي وَطَنِهِ سَنَةً، وَالرُّجُوعِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَنَةً فَإِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ إحْيَاؤُهَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الدِّيَانَةِ فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إذَا أَحْيَاهَا إنْسَانٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْأَوَّلِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْإِحْيَاءُ دُونَ التَّحْجِيرِ، وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»، وَالْمُرَادُ الْمَوَاتُ مِنْ الْأَرَاضِي سَمَّاهُ عَادِيًّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَا خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ عَادٍ، وَفِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ مَا يُوصَفُ بِطُولِ مُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهِ يُنْسَبُ إلَى عَادٍ فَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي مُعَسِّرٍ عَنْ أَشْيَاخِهِ رَفَعُوهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى فِي السِّرَاجِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَنْ لَا يَحْبِسَهُ إلَّا عَلَى جَارِهِ» قَالَ أَبُو مُعَسِّرٍ السِّرَاجُ: السَّوَاقِي، وَهِيَ الْجَدَاوِلُ الَّتِي عِنْدَ سَفْحِ الْجَبَلِ يَجْتَمِعُ مَاءُ السَّيْلِ فِيهَا ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْوَادِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِبَارَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ تَطَوَّقَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَضَعُ عَلَيْهِ الْقَدَمَ بِمَنْزِلَةِ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ نَقَصَ مِنْ الْمُسَنَّاةِ فِي جَانِبِ أَرْضِهِ بِأَنْ حَوَّلَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَذَلِكَ قَدْرُ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ أَوْ كَانَ أَرْضُهُ بِجَنْبِ الطَّرِيقِ فَجَعَلَ الْمُسَنَّاةَ عَلَى الطَّرِيقِ لِتَتَّسِعَ بِهِ أَرْضُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الطَّرِيقِ. يَعْنِي الْعَلَامَةَ بَيْنَ الْأَرَضِينَ. وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّبْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقَ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عِظَمِ الْمَاءِ ثُمَّ فِي غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْأَرَاضِي فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَّنَ جَزَاءَ الْآخِذِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ ثَابِتًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَمَسُّ ثُمَّ جَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْوَعِيدِ جَمِيعَ جَزَائِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَعْدُ جَمِيعَ جَزَائِهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 168 وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَمْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِي الْقِيَامَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ مَا فَعَلَهُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ تُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ». وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لَا حَقِيقَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الْمَاءَ مَخَافَةَ الْكَلَإِ» يُرِيدُ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ إذَا كَانَ لَهُ مَرْعًى حَوْلَ بِئْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِظُهُورِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَ ظَهْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَإِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي حَقِّ الشُّقَّةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَمْنَعُهُ حَقَّهُ، وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَانِبَ أَرْضِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَإِ حَتَّى لَا يُدْخِلَ دَابَّةَ الْمُسْتَقِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَخْرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، وَحَاجَةَ ظَهْرِهِ، وَعَنْ نَافِعٍ رَفَعَ حَدِيثَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا مَاءً وَلَا كَلَأً وَلَا نَارًا فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِلْمُقْوِينَ وَقُوَّةٌ لِلْمُسْتَعِينِينَ»، وَالْمُقْوِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ زَادُهُ، وَالْمُسْتَعِينُ هُوَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَثْبَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِكَةً عَامَّةً بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَقًّا لَهُ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا فَيَشْرَبَ، وَيَسْقِيَ دَابَّتَهُ، وَبَعِيرَهُ، وَشِيَاهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّقَّةِ، وَالشُّقَّةُ عِنْدَنَا الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمَاءَ مِنْ وَطَنِهِ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَخْذِ الْمَاءِ مِنْ الْآبَارِ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَعْجِزُ عَنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، وَغَسْلِ الثِّيَابِ، وَأَحَدٌ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لَهُ جَدْوَلٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ، وَبِجَنْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَاحِبُ مَاشِيَةٍ إذَا شَرِبَتْ الْمَاشِيَةُ مِنْهَا انْقَطَعَ الْمَاءُ لِكَثْرَةِ الْمَوَاشِي، وَقِلَّةِ مَاءِ الْجَدْوَلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مِنْ الشُّقَّةِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْجَدْوَلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الشُّقَّةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهِ، وَيَقْطَعُ حَقَّهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَالنَّخِيلِ وَالشَّجَرِ، وَالزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ، وَزَرْعِهِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ أَوْ بِئْرِهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 169 أَوْ عَيْنِهِ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَالنَّهْرُ وَالْقَنَاةُ إنَّمَا يُشَقُّ لِهَذَا الْمَقْصُودِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِالْمُسْتَحِقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الشُّقَّةِ، فَذَلِكَ بَيْعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ، وَالْقَنَاةَ لَا يُشَقُّ فِي الْعَادَةِ لِأَجْلِهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ إلَى أَرْضِهِ فَيَكْسِرَ بِهِ ضِفَّةَ النَّهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسِر ضِفَّة نَهْر الْغَيْر، وَكَذَلِكَ فِي الْبِئْر يَحْتَاج إلَى أَنْ يَشُقّ نَهْرًا مِنْ رَأْس الْبِئْر إلَى أَرْضه، وَمَا حَوْل الْبِئْر حَقُّ صَاحِب الْبِئْر حَرِيمًا لَهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنه، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَجْرِي مَاؤُهُ فِي هَذَا النَّهْر مَعَ صَاحِب النَّهْر لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضه؛ لِأَنَّ النَّهْر مِلْك خَاصّ لِأَهْلِ النَّهْر فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَنْتَفِع بِمُلْكِ الْغَيْر إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّخَذَ شَجَره أَوْ خَضِرَة فِي دَاره فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِي ذَلِكَ الْمَوْضِع بِحَمْلِ الْمَاء إلَيْهِ بِالْجَرَّةِ فَقَدْ اسْتَقْضَى فِيهِ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّة بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالُوا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِب النَّهْر، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَا يَمْنَع مِنْ هَذَا الْمِقْدَار؛ لِأَنَّ النَّاس يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ، وَالْمَنْع مِنْهُ يُعَدُّ مِنْ الدَّنَاءَة قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّ اللَّه يُحِبّ مَعَالِي الْأُمُور، وَيُبْغِض سَفْسَافهَا» فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِب النَّهْر فِي سُقِيَ أَرْضه أَوْ عَادَة ذَلِكَ الْمَوْضِع فَلَا بَأْس بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْع كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقّه فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِع. وَإِنْ بَاعَهُ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إنَّمَا هُوَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي مِقْدَارَ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ غَرَرٌ فَلَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي النَّهْرِ أَوْ لَا يَجْرِي، وَإِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ تَمَكُّنُ إجْرَائِهِ «، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْ تَسْلِيمَ مَا لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْجَارِ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ، وَالِاسْتِئْجَارُ الْمَقْصُودُ لِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِئْجَارِ الْمَرْعَى لِلرَّاعِي، وَاسْتِئْجَارِ الْبَقَرَةِ لِمَنْفَعَةِ اللَّبَنِ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَإِنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ عُضْوٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ فَمَنْفَعَةُ الثَّدْيِ اللَّبَنُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْفَعَةِ التَّرْبِيَةِ، وَاللَّبَنُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى غَسْلِ الثِّيَابِ فَالْحَرَضُ وَالصَّابُونُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّ الصُّنْعَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا هُنَا لَا مَقْصُودَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ سِوَى الْمَاءِ، وَهُوَ عَيْنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي إجَارَتِهِ أَوْ شَرَابِهِ شُرْبَ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا الشَّجَرِ، وَهَذَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 170 الزَّرْعِ أَوْ قَالَ حَتَّى يَكْتَفِيَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ، وَالْغَرَرِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِرْبَ مَاءٍ، وَمَعَهُ أَرْضٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فَالْعَقْدُ يَرِدُ عَلَيْهَا، وَالشِّرْبُ يَسْتَحِقُّ بَيْعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْأَطْرَافِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْعًا فِي بَيْعِ الْأَصْلِ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَفْتَى أَنْ يَبِيعَ الشِّرْبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْضٌ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِنَسَفَ قَالُوا الْمَأْجُورُ الِاسْتِصْنَاعُ لِلتَّعَامُلِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَاهُ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعَ شِرْبِهَا جَازَ كَمَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ الزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالشِّرْبِ فَذِكْرَ الشِّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَحْقِيقِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبُهَا، وَلَا مَسْكُ مَا بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ عَيْنَ الْأَرْضِ بِذِكْرِ حُدُودِهَا فَمَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ حُدُودِهَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ خَارِجٌ مِنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ اشْتَرَطَ شِرْبَهَا فَلَهُ الشِّرْبُ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَسِيلُ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ غَيْرُ الْمَسِيلِ فَالْمَسِيلُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالشِّرْبُ الْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ فِي الْمَسِيلِ فَبِاشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ خَاصَّةً، وَيُجْعَلُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا. وَلَوْ اشْتَرَطَ مَسِيلَ الْمَاءِ مَعَ الشِّرْبِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ الْمَسِيلُ، وَالشِّرْبُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِهَا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَرَاضِيِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِالْمَسِيلِ، وَالشِّرْبِ فَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِهَا كَالطَّرِيقِ لِلدَّارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ مَرَافِقَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ مَا يُتَرَفَّقُ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَأَتَّى التَّرَفُّقُ بِالْأَرْضِ بِالشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ كُلَّ قَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا كَانَ لَهُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْهَا أَيْ مِنْ حُقُوقِهَا، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ عُرْفُ أَهْلِ اللِّسَانِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَيْسَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ، وَلَا شِرْبٌ فِي الْقِيَاسِ إذَا أَطْلَقَ الْعَقْدَ كَمَا فِي الشِّرَاءِ فَالْمُسْتَأْجِرُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ كَالْمُشْتَرِي فَكَمَا أَنَّ الشِّرْبَ، وَالْمَسِيلَ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَسِيلَ الْمَاءِ، وَالشِّرْبِ هُنَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ كَالْمُهْرِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 171 الصَّغِيرِ، وَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَالْمُتَعَاقِدَانِ قَصَدَا تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فَكَانَ هُنَا ذِكْرُ الشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَمُوجَبُهُ مِلْكُ الْعَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شِرَاءَ مَا لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ جَائِزٌ نَحْوَ الْأَرْضِ السَّبْخَةِ، وَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ مَا وَرَاءَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِ الْحُدُودِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ حَرْفًا آخَرَ فَقَالَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا يَعْنِي أَنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَوْ أَدْخَلْنَا الشِّرْبَ، وَالْمَسِيلَ لَمْ يَتَضَرَّرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا، وَفِي إدْخَالِهِمَا تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَأَمَّا الْبَيْعُ يُزِيلُ مِلْكَ الْعَيْنِ عَنْ الْبَائِعِ فَفِي إدْخَالِ الشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ فِي الْبَيْعِ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَمَّا لَمْ يُظْهِرْ رِضَاهُ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثِّمَارَ، وَالزَّرْعَ يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الْأَشْجَارِ، وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْهِبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِدُونِ الشَّرْطِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ فِي الْأَشْجَارِ فَمَعَ الشَّرْطِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مَرَافِقَهَا أَوْ كُلَّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا فَعِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ فِي الشِّرَاءِ فَفِي الْإِجَارَةِ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْف كَانَ أَصْلُهُ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ فَإِنَّ الشِّرْبَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشِّرْبِ سَقْيُ الْأَرَاضِي، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْأَرَاضِي، وَكَثْرَتِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الشِّرْبِ بِقَدْرِ أَرْضِهِ، وَقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ فِي النَّهْرِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَالْيَدُ لَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ لِأَحَدٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْتِفَاعَ مَنْ لَهُ عَشَرُ قِطَاعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ الْمَاءُ لَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا إحْرَازُهُ بِسَقْيِ الْأَرَاضِي فَإِنَّمَا ثَبَتَ الْيَدُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَصَمَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي مِلْكِ رُقْبَةِ الطَّرِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَعَةُ الدَّارِ، وَضِيقُهَا؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ عَيْنٌ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّطَرُّقُ فِيهِ، وَالتَّطَرُّقُ فِيهِ إلَى الدَّارِ الْوَاسِعَةِ، وَإِلَى الدَّارِ الضَّيِّقَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الشِّرْبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ عَلَى الْأَسْفَلِ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي نَصِيبِ شُرَكَائِهِ يُوضِحُهُ أَنَّ فِي السَّكْرِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 172 إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَرَقَبَةُ النَّهْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا شَيْئًا بِدُونِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ، وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ النَّهْرُ بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا عِنْدَ السَّكْرِ فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ الْأَعْلَى يَسْكُرُ النَّهْرَ حَتَّى تُشْرَبَ حِصَّتُهُ أَجَزْت ذَلِكَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُمْ، وَقَدْ انْعَدَمَ بِتَرَاضِيهِمْ فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ أَجَزْته أَيْضًا فَإِنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ تَكُونُ بِالْأَجْرِ تَارَةً، وَبِالْأَيَّامِ أُخْرَى فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ بِالْأَيَّامِ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَقِلُّ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّكْرِ، وَلَكِنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِالطِّينِ وَالتُّرَابِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَنْكَسِرُ النَّهْرُ عَادَةً، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالشُّرَكَاءِ إلَّا أَنْ يُظْهِرُوا التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ نَهْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَرِي النَّهْرِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَدْرِ فُوَّهَةِ النَّهْرِ الَّذِي يُكْرِيه، وَفِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ أَصْحَابِهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ إحْدَاثَ بَابٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضًا مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُنْصَبُ مِنْ الرَّحَا إنَّمَا يَضَعُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَحًا لَا تَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَلَا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ عَنْ سُنَّتِهِ. وَلَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْمَاءِ بِسَبَبِ الرَّحَا بَلْ يَجْرِي كَمَا كَانَ يَجْرِي قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَضَعُ الرَّحَا فِي مِلْكٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَبْنِيَةِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَبِسَبَبِ الرَّحَا لَا يَنْتَقِصُ الْمَاءُ بَلْ يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الرَّحَا بِالْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ فَمَنْ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ لَا دَافِعًا الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَعَنُّتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهَا دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً، وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَلَا بِالشِّرْبِ، وَكَانَ بِنَاءُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَنْ يُكْرُوا هَذَا النَّهْرَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ عَلَيْهِمْ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْكِرَاءُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ، وَالْأَرَاضِي، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا كَانُوا عَشَرَةً فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضَ أَحَدِهِمْ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى الْبَاقِينَ اتِّسَاعًا إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 173 أُخْرَى ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْبَاقِينَ أَثْمَانٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى آخِرِ النَّهْرِ وَعِنْدَهُمَا الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ اعْتِبَارًا مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ فَإِذَا سَدَّ ذَلِكَ فَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِهِ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْرِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَعْلَى، وَأَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْغُنْمِ يَسْتَوُونَ فِي الْغُرْمِ أَيْضًا، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ بِسَقْيِ الْأَرْضِ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الشُّقَّةِ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ شَيْءٌ، وَإِذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي كِرَاءِ مَا بَقِيَ مَنْفَعَةُ سَقْيِ الْأَرْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ مِنْ حَيْثُ إجْرَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْمَسِيلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ سَطْحِ جَارِهِ بِهَذَا الْحَقِّ ثُمَّ هُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ كَرِي أَسْفَلِ النَّهْرِ بِأَنْ يَسُدَّ فُوَّهَةَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ الْحَاجَةُ إلَى سَقْيِ الْأَرْضِ. فَرَّعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْكِرَاءَ إذَا انْتَهَى إلَى فُوَّهَةِ أَرْضِهِ مِنْ النَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ الْكِرَاءِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّ أَرْضِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّحَادِ فُوَّهَةِ الْأَرْضِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَأَسْفَلِهَا فَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِالْكِرَاءِ مَنْفَعَةَ سَقْيِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَرْضَهُ، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَسَقَطَ عَنْهُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ هَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ قَدْ انْتَهَى فِي حَقِّهِ حِينَ سَقَطَتْ مُؤْنَته، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ مِنْ الْكَرِي كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ عَلَى شُرَكَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْذُونِ شُرَكَاؤُهُ، وَلِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ جَرَى الرَّسْمُ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْكِرَاءِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ أَوْ يَتْرُكَ بَعْضَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَسْفَلِهِ قَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا أَعْلَمُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشُّقَّةِ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ لَا تُسْتَحَقُّ عَلَى قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الْأَتْبَاعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَصْحَابِ الْحِطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ، وَالسُّكَّانِ. قَالَ: وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا شُرَكَاءُ فِي الْفُرَاتِ، وَفِي كُلِّ نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ وَادٍ يَسْتَقُونَ مِنْهُ، وَيَسْقُونَ مِنْهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 174 الشُّقَّةَ، وَالْخُفَّ، وَالْحَافِرَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَنْهَارِ كَالِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ فَكَمَا لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ التَّطَرُّقِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا النَّهْرِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَهْرِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ شِرْبُ أَرْضِهِمْ، وَنَخْلِهِمْ، وَشَجَرِهِمْ، لَا يُحْبَسُ عَنْ أَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا فِي أَرْضِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَرُّقِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ رُبَّمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ ضَرَرًا عَامًّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاءَ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» فِي الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إنْ احْتَاجَ إلَى الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَالَ الْمُسْلِمِينَ أُعِدَّ لِلصَّرْفِ إلَى مَصَالِحِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالَ الْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَالرِّبَاطَاتِ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَكَذَلِكَ إصْلَاحُ مَسَنَّاتِهِ إنْ خَافَ مِنْهُ غَرَقًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحْرِجَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعَامَّةِ فَفِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ، وَالْإِمَامُ نُصِّبَ نَاظِرًا فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فِيمَا كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ عَامًّا؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ قَلَّ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا النَّهْرَ خَاصٌّ لِقَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ نَهْرِهِمْ أَرْضَهُ، وَشَجَرَهُ، وَزَرْعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةُ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فِي الْوَادِي، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَإِنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ ثُمَّ فِي الشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ التَّدْبِيرُ فِي الْكِرَاءِ إلَيْهِمْ، وَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَيْهِمْ فِي مَالِهِمْ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الْبَاقِينَ عَلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَأَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكِرَاءِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهمْ، وَدُورِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشُّقَّةِ فِي النَّهْرِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الرَّجُلِ اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ يَصِيدُ فِيهِ السَّمَكَ أَوْ اسْتَأْجَرَ جِهَةً يَصِيدُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 175 فِيهَا السَّمَكَ قَالَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَا هُوَ عَيْنٌ، وَهُوَ السَّمَكُ؛ وَلِأَنَّ السَّمَكَ فِي النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ بِهِ لِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَالْبَيْعِ ثُمَّ اسْتِئْجَارُ النَّهْرِ لِصَيْدِ السَّمَكِ كَاسْتِئْجَارِ الْمَقَابِضِ لِلِاصْطِيَادِ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ. وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ عُشْرَ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ بِأَرْضِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلَهَا مَمْلُوكَةٌ فَقَدْ اشْتَرَى جُزْءًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مِنْ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عُشْرَ الطَّرِيقِ يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ حَقَّ التَّطَرُّقِ فِيهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أَوْ بِرْكَةً أَوْ بِئْرًا يَسْتَقِي مِنْهُ الْمَاءَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ بِالْإِجَارَةِ. نَهْرٌ جَارٍ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُسَنَّاةَ، وَلَا يُعْرَفُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ لِرَبِّ الْأَرْضِ يَغْرِسُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمُلْقَى طِينِهِ، وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ حَتَّى إذَا كَانَ قَدَّرَ عَرْضَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فَلَهُ مِنْ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي اخْتِيَارِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذِرَاعٌ، وَنِصْفٌ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا فَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ، وَالْعَيْنِ، وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا تَعَدَّى الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفَرْعِ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ النَّهْرِ إلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيْ النَّهْرِ لِيُجْرِيَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا احْتَبَسَ بِشَيْءٍ وَقَعَ فِي النَّهْرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يُلْقِي فِيهِ الطِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْكِرَاءِ لِمَا فِي النَّقْلِ إلَى أَسْفَلِهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ، وَجْهٍ، وَالنَّهْرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبِئْرِ، وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ هُنَاكَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْحَالِ، وَهُنَا الْحَاجَةُ مَوْهُومَةٌ بِاعْتِبَارِ الْكِرَاءِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ ثُمَّ هُنَاكَ الِانْتِفَاعُ لَا يَتَأَتَّى بِالْبِئْرِ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَهُنَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي أَنْ يُلْحِقَهُ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَرَجِ فِي نَقْلِ الطِّينِ أَوْ الْمَشْيِ فِي، وَسَطِ النَّهْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ بَنَى قَصْرًا فِي مَغَارَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ لِذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 176 حَرِيمًا، وَإِنْ كَانَ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لَا يَكُونُ بِدُونِ التَّقْدِيرِ فِيهِ، وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ قُلْنَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمَا يَقُولَانِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لِحَرِيمِ النَّهْرِ لِاسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وَإِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدْفَعُهَا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ اخْتَصَمَا فِي ثَوْبٍ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْحَرِيمُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ صَالِحٌ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَرْضُ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهْرِ، وَمِنْ حَيْثُ الِانْتِفَاعِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَمْسِكُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ فِي نَهْرِهِ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ يَدْفَعُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ عَنْ أَرْضِهِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَرِيمِ، وَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهُ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَقُّ اسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي نَهْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ بِهَدْمِهِ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ لِرَجُلٍ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ صَاحِبِ الْجُذُوعِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ اسْقِنِي يَوْمًا مِنْ نَهَرِك عَلَى أَنْ أَسْقِيك يَوْمًا مِنْ نَهْرِي الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا لِجَهَالَةِ الشِّرْبِ وَمَعْنَى الْغَرَرِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزُ مُعَاوَضَةُ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ، وَمَعْنَى الْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ اسْقِنِي يَوْمًا نَخْدُمُك عَبْدِي هَذَا شَهْرًا أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُكُوبِ دَابَّتِي هَذِهِ شَهْرًا أَوْ بِرُكُوبِهَا كَذَا كَذَا يَوْمًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ، وَعَلَى الَّذِي أَخَذَ الْعَبْدَ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ خِدْمَتَهُ شَهْرًا، وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ، وَرَقَبَتَهُ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ، وَلَيْسَ لَهُ بِمَا أَخَذَ الْآخَرُ مِنْ شِرْبِهِ قِيمَةٌ، وَلَا عِوَضٌ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَا جَائِزًا، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ فَهُوَ كَالْإِذْنِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ سَقَى أَرْضَهُ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ عِوَضِ الْمَاضِي فَكَذَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ فِيهِ لَا يَتَقَوَّمُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ، وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ قَرِيبٌ مِنْ الْفُرَاتِ إذَا دَخَلَ مَرْوَ كَانَ مَاؤُهُ قِسْمَةً بَيْنَ أَهْلِهِ بِالْحِصَصِ لِكُلِّ قَوْمٍ كُوًى مَعْرُوفَةٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 177 النَّهْرِ شِرْبٌ ثُمَّ كَرَى لَهَا نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ قَالَ إنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَضُرُّ بِأَهْلِ مَرْوَ ضِرَارًا بَيِّنًا فِي مَائِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَمْنَعُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَقَاسِمِ لَا يَصِيرُ الْحَقُّ فِيهِ خَالِصًا لِلشُّرَكَاءِ، وَلِهَذَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَرَى نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَبِصَرْفِهِ لَا يَمَسُّ حُقُوقَهُمْ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِمْ فَلَا يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَكُلُّ أَحَدٍ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْعَامَّةِ، وَالسُّلْطَانُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي النَّظَرِ لَهُمْ فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ إلَى تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ أَقْرَبُ فَأَمَّا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالضَّرَرُ يُتَوَهَّمُ مِنْ، وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ كَسْرِ ضِفَّةِ الْوَادِي، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ، وَرُبَّمَا يَتَحَوَّلُ أَكْثَرَ الْمَاءِ إلَى هَذَا الْمَاءِ لِيَضُرَّ بِأَهْلِ مَرْوَ، وَقِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ كُوًى مَعْرُوفَةٌ أَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا قَالَ إنْ كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَزَادَ فِي مِلْكِهِ كُوَّةً أَوْ كُوَّتَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَقَعْ فِي الْمُقَاسِمِ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَرْوَ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ أَوْ كُوَّتَيْنِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَبْقِ نَهْرٍ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فَهَذَا مِثْلُهُ. فَإِنْ كَانَ نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ فَأَخَذَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي هَذَا النَّهْرِ كُوًى مُسَمَّاةً لِشِرْبِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ قَدْ، وَقَعَ فِي الْمُقَاسَمَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي هَذَا النَّهْرِ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ حَتَّى يَسْتَحِقَّ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا يَسْتَوْفِي عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ فِي فُوَّهَةِ أَرْضِهِ يَكُونُ لِيَزْدَادَ فِيهِ دُخُولُ الْمَاءِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ، وَهُوَ كَالشُّرَكَاءِ فِي الطَّرِيقِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ طَرِيقًا لِدَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَرِيقًا فِي هَذِهِ السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ بِفَتْحِ بَابٍ حَادِثٍ فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ الْكُوَّةِ فِي لَوْحٍ، وَهُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْكُوَى مِنْهُمْ سَبَبٌ لِبَيَانِ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ زِيَادَةَ حَقٍّ، وَاسْتَدَلَّ بِالْكُوَى إنْ كَانَ الْمَاءُ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى فِي الْحَالِ فَسَبَبُ الْمَنْعِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهِ فِي النَّهْرِ. وَكَانَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 178 سَأَلَ عَنْهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ، وَأَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوِيَّانِ أَبَا يُوسُفَ أَوْ ابْنَ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثُمَّ فَرَّعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فَسَأَلَتْهُ هَلْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ رَحَا مَاءٍ يُكْرِي لَهَا نَهْرًا مِنْهُ فِي أَرْضِهِ يَسِيلُ فِيهِ مَاءُ النَّهْرِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ الشِّرْبِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ حَدَثًا، وَلَا يَتَّخِذُ عَلَيْهِ جِسْرًا، وَلَا قَنْطَرَةً إلَّا بِرِضَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ، وَيُرْفَعُ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْخَشَبِ، وَالْأَلْوَاحِ. وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْآجُرِّ، وَالْحَجَرِ، وَيَكُونُ مَوْضُوعًا، وَلَا يُرْفَعُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ مَنْ يَتَّخِذُهُ إذَا كَرَى لَهُ نَهْرًا مِنْهُ فَفِيهِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَتَغْيِيرُ الْمَاءِ عَنْ سُنَنِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِصَ الْمَاءُ مِنْهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَجْرِي عَلَى سُنَنِهِ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ، وَإِذَا انْفَرَجَ يَتَبَيَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ أَوْ الْبِرْكَةُ يَكُونُ بَيْنَ قَوْمٍ فَالشَّرِكَةُ فِيهِمَا خَاصَّةٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ خَمْسُ كُوًى مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى هَذَا النَّهْرِ، وَالْآخَرُ أَرْضُهُ فِي أَسْفَلِ هَذَا النَّهْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشَدَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكُوَى؛ لِأَنَّ مَاءَ النَّهْرِ يَكْثُرُ فَيُفِيضُ فِي أَرْضِي، وَأَتَأَذَّى مِنْهُ، وَلَا يَبْلُغُك حَتَّى يَقِلَّ فَيَأْتِيك مِنْهُ مَا يَنْفَعُهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِشَرِيكِهِ ثُمَّ ضَرَرُ النُّزَلَاءِ يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَعْلَى بِفِعْلِ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ بَلْ تَكُونُ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى النَّهْرِ، وَبِمُقَابَلَةِ هَذَا الضَّرَرِ مَنْفَعَةٌ إذَا قَلَّ الْمَاءُ. وَلَوْ سَدَّ بَعْضَ الْكُوَى يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ ضَرَرٌ لِنُقْصَانِ صَاحِبِ الْأَعْلَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُرَ النَّهْرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اجْعَلْ لِي نِصْفَ هَذَا النَّهْرِ، وَلَك نِصْفُهُ فَإِذَا كَانَ فِي حِصَّةٍ سَدَدْت مِنْهَا مَا بَدَا لِي، وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك تَفْتَحُهَا كُلُّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ بَيْنَهُمَا مَرَّةً بِالْكُوَى فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى، وَفِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَدَامٌ، وَفِيمَا يُطَالَبُ هَذَا بِهِ يَكُونُ انْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَاءِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَا عَلَى هَذَا التَّرَاضِي زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الشِّرْبِ فِي نَوْبَتِهِ مِنْ الشَّهْرِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ، وَكَذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مُبَادَلَةً فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ، وَإِجَارَةَ الشِّرْبِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 179 بِالشِّرْبِ بَاطِلٌ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ أَرْبَعُ كُوًى فَأَضَافَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ كُوَّتَيْنِ فِي نَهْرِهِمَا بِرِضَاهُمَا حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى أَسْفَلِ النَّهْرِ كَرَى مِنْهُ نَهْرًا إلَى أَرْضِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَدَا لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقْضُهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَعَارُوا الْأَجْنَبِيَّ النَّهْرَ لِيُجْرِيَ مَاءَهُ فِيهِ إلَى نَهْرِهِ خَاصَّةً فَلَهُمْ أَنْ يَسْتَرِدُّوا الْعَارِيَّةَ مَتَى شَاءُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ أَيْضًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رِضَا بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ شَرِكَةً خَاصَّةً فَيَرْضَى بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ التَّرَاضِي عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَصِيبِ الْمَانِعِ إلَّا بِرِضَاهُ. ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ قَوْمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُوَّتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثَلَاثٌ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِكُمْ؛ لِأَنَّ دَفْقَةَ الْمَاءِ، وَكَثْرَتَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ، وَكَثْرَتَهُ مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ فَدَخَلَ فِي كُوَاكُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَلَا مَاءَ هُنَا إلَّا، وَهُوَ قَلِيلٌ غَائِرٌ فَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَنْقُصَكُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَنَجْعَلُ لَكُمْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، وَنَسُدُّ فِيهَا كُوَانَا، وَلَنَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً تَسُدُّونَ فِيهَا كُوَاكُمْ قَالَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ مَرَّةً فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى ثُمَّ الْأَصْلُ إنَّ مَا وُجِدَ قَدِيمًا فَإِنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ الْوَكَالَةِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ أَرَأَيْت هَذَا الضَّفِيرَ أَكَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ كَانَ جَوْرُ الْمَاءِ تَرَكَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَهْلُ الْأَسْفَلِ نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُوَسِّعَ رَأْسَ النَّهْرِ، وَنُزِيدُ فِي كُوَاهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْأَعْلَى إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كَثُرَ الْمَاءُ حَتَّى يَفِيضَ فِي أَرْضِنَا، وَيَنِزُّ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَسْفَلِ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ عَلَى، وَجْهٍ يَضُرُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كُوَّةً لَهُ فِيهِ كُلُّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أُجْرَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمِلْكٍ، وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ بَاطِلٌ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ إذَا خَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الدُّخُولِ مَعَهُمْ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَجْبَرْتُهُمْ جَمِيعًا عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجْبَارِ هُنَا تَهْيِيجُ الْفِتْنَةِ، وَتَسْكِينُ الْفِتْنَةِ لَازِمٌ شَرْعًا فَلِأَجْلِ التَّسْكِينِ يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 180 فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَوْ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَرْت كُلَّ إنْسَانٍ أَنْ يُحَصِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ يَعْنِي بِطَرِيقِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمِلْكِ يَكُونُ إلَى الْمَالِكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْجِيلِ، وَالتَّأْجِيلِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي كُلِّ، وَقْتٍ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَرْيِ فَإِنَّ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْكَرْيِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ قَدْ الْتَزَمُوهُ عَادَةً فَحَاجَةُ النَّهْرِ إلَى الْكَرْيِ فِي كُلِّ، وَقْتٍ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ فَاَلَّذِي يَأْبَى الْكَرْيَ يُرِيدُ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَشُرَكَائِهِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْبَثْقُ فَمَوْهُومٌ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ لِشَرِيكِهِ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ اتَّخَذَ فِي أَرْضٍ لَهُ رَحَا مَاءٍ عَلَى هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لِلْعَامَّةِ مِفْتَحُهُ فِي أَرْضِهِ، وَمَصَبُّهُ فِي أَرْضِهِ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَأَرَادَ بَعْضُ جِيرَانِهِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَشَقُّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِمَنْفَعَةِ الرَّحَا كَشِقِّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا أَحْيَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ الْمَاءَ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ خَدَّهَا الْمَاءُ فَنَقَصَ الْمَاءُ، وَجَرَزَ عَنْ أَرْضٍ فَاِتَّخَذَهَا هَذَا الرَّجُلُ، وَجَرَّهَا إلَى أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ جَرَزَ عَنْهَا الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ حَقُّ الْعَامَّةِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى هَذَا الْجَانِبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي جَرَزَ، وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27]. وَسَأَلَتْهُ فَقُلْت بَلَغَنِي أَنَّ الْفُرَاتَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ يَجْرُزُ عَنْ أَرْضٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ مَزْرَعَةً، وَهِيَ فِي حَدِّ أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْنُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ قَالَ، وَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ أَحْيَاهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِلزِّرَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ زِرَاعَتِهَا لِأَجْلِ الْمَاءِ فَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْهُ فَقَدْ أَحْيَاهَا فَأَمَّا سَائِرُ الْأَرَاضِي فَبِمُجَرَّدِ التَّحْصِينِ لَا يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ بَلْ ذَلِكَ تَحَجُّرٌ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ إذَا أَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فِيهَا، وَبَقِيَ الْحَشِيشُ مِنْهَا، وَكَرَبَهَا فَبِذَلِكَ يَتِمُّ إحْيَاؤُهَا. وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ قَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَهُ فِيهِ كُوًى مُسَمَّاةٌ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسُدَّ كُوَّةً لَهُ، وَيَفْتَحُ كُوَّةً أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ قَالَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 181 لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي أَعْلَى النَّهْرِ مِنْ كُوَّةٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ دُخُولِهِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْكَوَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ فَمَنْ يَكُونُ طَرِيقُهُ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السِّكَّةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَزِيدُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ كَانَ بَابُ دَارِهِ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ أَوْ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي حَائِطٍ هُوَ مِلْكُهُ بِفَتْحِ بَابٍ فِي أَسْفَلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْكُوَى فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً أُخْرَى مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذِهِ الْكُوَى لَوْ أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُكْرِيَهَا فَيُسْفِلَهَا عَنْ مَوْضِعِهَا لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِأَخْذِهَا مِنْ الْمَاءِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَرْيِ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ جَمِيعَ النَّهْرِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ هَذَا الْمَوْضِعَ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ كَانَتْ مُسَفَّلَةً فَارْتَفَعَتْ بِانْكِبَاسِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بِالْكَرْيِ يُعِيدُهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ حَقُّهُ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُسَفِّلَهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ الْكُوَى، وَكَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لِيَكُونَ أَقَلَّ لِلْمَاءِ فِي أَرْضِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى مَا قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا كَانَ هُوَ بِالرَّفْعِ يُعِيدُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -)، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍّ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ، وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ السُّفْلِ، وَالتَّرَفُّعُ هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ أَهْلِ مَرْوَ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ مَنْ يُوَسِّعُ الْكُوَّةَ، وَيُضَيِّقُهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُسْفِلَهَا أَوْ يَرْفَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ مَا، وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَيْهِ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ فِيهِ، وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَنْطَرًا أَوْ مُسْتَوْثِقًا مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي أَخْذِ الْمَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ بِنَاءً هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي أَخْذِهِ الْمَاءَ مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ يَرْفَعُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَزِيدُ عَلَى هَذَا مِقْدَارَ حِصَّةٍ فِي أَصْلِ الْمَاءِ أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى فَغَيْرُ مُشْكِلٍ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى إذَا، وَسَّعَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 182 فَمَ النَّهْرِ، وَاحْتَبَسَ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا لَمْ يُوَسِّعْ فَمَ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْكُوَى عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَجَعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ فَمِ النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُحْتَبَسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي فَمِ النَّهْرِ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ مِمَّنْ لَهُ هَذَا الشِّرْبُ قَالَ الشِّرْبُ مِيرَاثٌ بَيْنَ، وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَحُقُوقِهِ، وَقَدْ تَمَلَّكَ بِالْمِيرَاثِ مَا لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْقِصَاصِ، وَالدَّيْنِ، وَالْخَمْرِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ الشِّرْبُ، وَإِنْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ثُمَّ مَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالصَّدَقَةُ فِي الشِّرْبِ لِلْغُرُورِ، وَالْجَهَالَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَالْوَصِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَبْطُلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامُّ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ. ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ إذَا جَعَلَ لِرَجُلٍ شِرْبًا فِي هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَذَلِكَ الشِّرْبُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى أَوْ كَانَ لَهُ شِرْبُ كُوَّتَيْنِ فَزَادَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَقْطَعَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَ مُفَتَّحَةً فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا الرَّجُلُ أَوْ فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا قَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ النَّظَرِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ فَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ مِنْهُ نَظَرًا لِمَنْ أَقَطَعَهُ إيَّاهُ، وَفِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ يُوضِحُهُ أَنَّ فِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْنَعَ فَالْإِمَامُ فِي الْإِقْطَاعِ يَكُونُ مُبْطِلًا حَقَّهُ، وَلَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْعَامَّةِ لَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ، وَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِمْ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إقْطَاعٍ مِنْ الْإِمَامِ فَبَعْدُ الْإِقْطَاعِ أَوْلَى، وَإِذَا أَصْفَى أَمِيرُ خُرَاسَانَ شِرْبَ رَجُلٍ، وَأَرْضُهُ، وَأَقْطَعَهَا لِرَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ، وَيَرُدُّ إلَى صَاحِبِهَا الْأَوَّلِ، وَإِلَى، وَرَثَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِصْفَاءِ الْغَصْبُ، وَلَكِنْ حَفِظَ لِسَانَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي أَفْعَالِ السَّلَاطِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوَحْشَةِ، وَاخْتَارَ لَفْظُ الْإِصْفَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى تَوْقِيرِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُوَقِّرًا لِسُلْطَانِهِ ثُمَّ فِي هَذَا الْفِعْلِ السُّلْطَانُ كَغَيْرِهِ شَرْعًا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَتُمْلِيك مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ لَغْوًا فَيَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَعَلَى، وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَكَذَا فِيمَا حَازَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَمْلَاك النَّاسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَمَرَ بِرَدِّ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا أَخَذُوهَا ظُلْمًا. وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 183 فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ بِدُونِ الْأَرْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِعَقْدٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً فَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ كَانَ بَاطِلًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الَّذِي أَخَذَتْ؛ لِأَنَّهَا أَطْمَعَتْ الزَّوْجَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَتَكُونُ غَارَّةً لَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَالْغُرُورُ فِي الْخُلْعِ يُلْزِمُهَا رَدَّ مَا قَبَضَتْ كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِذَا لَيْسَ فِي بَيْتِهَا شَيْءٌ، وَالصُّلْحُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الشِّرْبِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، وَصَاحِبُ الدَّعْوَى عَلَى دَعْوَاهُ، وَحَقِّهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرِبَ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ أَصْلًا فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ كَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَجَازَ الْعَفْوُ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ، وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْقَوَدِ عَلَى شِرْبٍ نَظِيرَ الْخُلْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ، وَإِنْ تَفَاحَشَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْخُلْعُ، وَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطٌ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْقَوَدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسَمَّى، وَتُمْكِنُ فِي التَّسْمِيَةِ مَعْنَى الْغُرُورِ يَجِبُ رَدُّ الدِّيَةِ، وَفِي الْخُلْعِ يَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَتَقَوَّمُ بِالدِّيَةِ، وَالْبِضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ فَيَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ. وَلَوْ مَاتَ صَاحِبُ الشِّرْبِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لَمْ يَبِعْ فِي دَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيُبَاعُ مَعَ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْإِمَامَ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَذَا الشِّرْبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا، وَيَجْمَعُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي كُلِّ يَوْمِهِ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْحَوْضِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ - فَيَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ. (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَنْظُرُ صَاحِبَ أَرْضٍ لَيْسَ لَهُ شِرْبٌ فَيَضُمُّ ذَلِكَ الشِّرْبَ إلَى أَرْضِهِ، وَيَبِيعُهَا بِرِضَاهُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ، وَمَعَ الشِّرْبِ فَيَجْعَلُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مَصْرُوفًا إلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَمَا، وَرَاءَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ثُمَّ ضَمَّ هَذَا الشِّرْبَ إلَيْهَا، وَبَاعَهَا فَيَصْرِفُ الثَّمَنَ إلَى قَضَاءِ ثَمَنِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ، وَمَا يَفْضُلُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 184 مِنْ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ يُوهَبَ لَهُ أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجْرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ يُرِيدُ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ أَوْ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ. قَالَ: وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ فُلَانٍ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مِنْ شِرْبِهِ أَجَزْت ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالشِّرْبِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ الْمَجْهُولَةِ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ، وَصِيَّتُهُ فِي الشِّرْبِ قَالَ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخِدْمَةِ يَعْنِي إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ كَالْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَالْخِدْمَةُ تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشِّرْبِ بِالْوَصِيَّةِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْمُوصَى لَهُ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ فَيَبْطُلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِيمَا كَانَ مِلْكًا أَوْ حَقًّا مُتَأَكِّدًا لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الشِّرْبِ كَمَا فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشِرْبِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَسَاكِينِ إلَى الطَّعَامِ دُونَ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الشِّرْبِ مَنْ لَهُ أَرْضٌ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ ذَلِكَ، وَلَا بَدَلَ لِلشِّرْبِ حَتَّى يَصْرِفَ بَدَلَهُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَالْإِجَارَةَ فَكَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: هُوَ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَفَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِتَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي عَيْنِ الشِّرْبِ، وَلَا فِي بَدَلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ، وَصِيَّتُهُ، وَنَذْرُهُ فَتَنْعَقِدُ - يَمِينُهُ فَإِذَا حَنِثَ يَجِبُ تَنْفِيذُهُ فِي التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَسْقِيَ مِسْكِينًا بِعَيْنِهِ فِي حَيَاتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ - بِعَيْنٍ بِخِلَافِ مَا أَوْصَى بِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَتَصْحِيحُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إلَى سَدِّ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ. وَلَوْ بَاعَ الشِّرْبَ بِعَبْدٍ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ، وَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْعَبْدِ فَاسِدٌ فَإِنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ يَكُونُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الشِّرْبِ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَعَقْرُهَا، وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْدَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ قَالَ فِي الْبُيُوعِ فِي الْمُشْتَرَاةِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 185 شِرَاءً فَاسِدًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرٌ فِي، وَطْئِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ، وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهُ بِعَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْقَبْضِ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ. وَلَوْ ادَّعَى شِرْبًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ، وَالشِّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَلِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالشِّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى، وَالْخُصُومَةَ. كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يُقْبَلُ بِبَيِّنَةٍ، وَيَقْضِي لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَمُنْتَفَعٌ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَرْضِ بِالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَبْقَى لَهُ الشِّرْبُ، وَحْدَهُ فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يُمَلِّكُهُ بِالْقَضَاءِ شَيْئًا ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِقَضَاءِ حَقِّهِ أَوْ مِلْكِهِ، وَالشِّرْبُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ابْتِدَاءً. وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا نَهْرٌ يَجْرِي فَأَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرِيَ النَّهْرَ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا سَأَلْتُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ قَضَيْت بِهِ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ، وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ حَتَّى يَسْقِيَهَا مِنْهُ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ الْمَجْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ هَذَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْمَسِيلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْمَجْرَى هُنَا، وَكَذَلِكَ الْمَصَبُّ إذَا كَانَ نَهَرُهُ ذَلِكَ يَصُبُّ فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ السُّفْلَى الْمَجْرَى، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ أَنَّهُ لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ مَصَبًّا أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصَبَّ كَالْمَسِيلِ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةً فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ شَجَرَهَا أَوْ مَلَأَهَا مَاءً فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 186 مِلْكِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي أَرْضِهِ فَوَقَعَ الْحَرِيقُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْمَاءِ سَمَكٌ فَصَادَهُ رَجُلٌ كَانَ لِلصَّيَّادِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ»، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اصْطَادَ مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ ظَبْيًا فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ. وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ فِيهَا مَرَاعِي فَأَجَّرَ مَرَاعِيهَا أَوْ بَاعَهَا كُلُّ سَنَةٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَرْعَى فِيهَا غَنَمٌ مُسَمَّاةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَلَأُ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِ شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ لِصَاحِبِ الْمَرْعَى بِهِ ثُمَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ الْمَقْصُودُ بِهِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ، وَشِرَاءُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ، وَإِجَارَتِهِ. وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَأَحْرَزَهُ ثُمَّ بَاعَهُ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي أَحْرَزَهُ فِي الْأَوَانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِالْإِحْرَازِ فِيهِ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ. وَلَوْ كَانَ زَرَعَ رَجُلٌ قَصِيلًا فِي أَرْضِهِ ثُمَّ أَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ يَرْعَى فِيهِ غَنَمَهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْقَصِيلُ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةُ مَا رَعَتْ غَنَمُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مُسْتَهْلِكًا لَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمَرَاعِي فَقَدْ نَبَتَ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ إنْبَاتِ أَحَدٍ فَكَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا مِمَّا اسْتَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهُ لِمَا قُلْنَا، وَلِمَعْنَى الْغَرَرِ فِيهِ فَإِذَا أَتْلَفَ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَرْعًى لِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَرَعَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ يَضْمَنْ مَا رَعَى، وَيَأْخُذُ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ فَاسِدًا فَيَسْتَرِدُّ عَبْدَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَاجِرُ قَدْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَحَلٌّ لِلْمِلْكِ فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشِرْبٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالرِّبْحِ فَهُنَاكَ، وَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا يُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَبْدِ بِحَالٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا فَبِتَسْمِيَتِهِ يَخْرُجُ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ مَالٍ بِمَالٍ فَأَمَّا الشِّرْبُ، وَالْكَلَأُ فَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِحْرَازُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَبْلَ الْإِحْرَازِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِتَسْمِيَتِهِ عَلَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 187 مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا فِي أَرْضِهِ سَنَةً كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بِذِكْرِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ، وَالْكَلَأُ، وَالشِّرْبُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي النِّكَاحِ. وَلَوْ أَوْصَى بِكَلَأٍ فِي أَرْضَهُ سِنِينَ أَوْ، وَهَبَهُ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الشِّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْقًى عَلَى شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. وَلَوْ أَحْرَقَ كَلَأً أَوْ حَصَائِدَ فِي أَرْضَهُ فَذَهَبَتْ النَّارُ يَمِينًا، وَشِمَالًا، وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ فِي مِلْكِ نَفْسه مُطْلَقًا، وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً حِينَ أَوْقَدَ النَّارَ فَأَمَّا إذَا أَوْقَدَ النَّارَ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَلَى، وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِالنَّارِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ صَبَّ فِي مِيزَابٍ مَائِعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا تَحْتَ الْمِيزَابِ إنْسَانٌ جَالِسٌ فَأَفْسَدَ ذَلِكَ الْمَائِعُ ثِيَابَهُ كَانَ الَّذِي صَبَّهُ ضَامِنًا، وَإِنْ كَانَ صَبَّهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى طَائِفَةً مِنْ الْبَطِيحَةِ مِمَّا لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ مِمَّا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْمُسَنَّاةَ، وَاسْتَخْرَجَهُ، وَأَحْيَاهُ، وَقَطَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصَبِ رَأَيْتهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَكَذَلِكَ مَا عَالَجَ مِنْ أَجَمَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ فِي بَحْرٍ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْمَوَاتِ فَأَعَادَ ذَلِكَ هُنَا، وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ مِنْ السَّوَادِ، وَالْجِبَالِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا مِلْكٌ فَهُوَ كُلُّهُ مِنْ الْمَوَاتِ، وَمُرَادُهُ مَا كَانَ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ السُّكَّانِ فِي الْعُمْرَانِ، وَلَوْ أَحْيَاهُ، وَكَانَ لَهُ مَالِكٌ قَبْلَ ذَلِكَ رَدَدْته إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أَجْعَلْ لِلثَّانِي فِيهِ حَقًّا، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ مُحْتَرَمٌ لِحُرْمَةِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ بِالْأَحْيَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَكِنَّهُ أَتْلَفَ مَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا، وَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ زَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا. وَإِنْ احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي مَفَازَةٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، وَاحْتَفَرَ فِي حَرِيمِهَا الْمَذْكُورَةِ بِئْرًا كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَسُدَّ مَا احْتَفَرَهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ صَارَ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْبِئْرِ إذَا حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا التَّصَرُّفِ شَيْئًا؛ وَلِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِسَدِّ مَا احْتَفَرَ، وَهُوَ عِرْقٌ ظَالِمٌ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 188 وَلَا حَقَّ لَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى أَوْ زَرَعَ أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمِلْكِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الثَّانِي فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ. وَلَوْ أَنَّ الثَّانِيَ حَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ، وَعَرَفَ أَنَّ ذَهَابَ ذَلِكَ مِنْ حَفْرِ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ بَلْ هُوَ مُحِقٌّ فِي الْحَفْرِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ، وَالْمَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي تَحْوِيلِ مَاءِ بِئْرِهِ إلَى بِئْرِ الثَّانِي كَالتَّاجِرِ إذَا كَانَ لَهُ حَانُوتٌ فَاِتَّخَذَ آخَرُ بِجَنْبِهِ حَانُوتًا لِمِثْلِ تِلْكَ التِّجَارَةِ فَكَسَدَتْ تِجَارَةُ الْأَوَّلِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ. وَلَوْ احْتَفَرَ قَنَاةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَفَازَةٍ ثُمَّ سَاقَ الْمَاءَ حَتَّى أَتَى بِهِ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِقَنَاتِهِ، وَمَخْرَجِ مَائِهِ حَرِيمًا عَلَى قَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْمَاءُ فِيهِ عَلَى، وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَ عَيْنًا إلَّا أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ بَيَانِ الْمِقْدَارِ فِيهِ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْقَنَاةِ نَصًّا بِعَيْنِهِ فَقَالَ: حَرِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ مَاؤُهُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْقَنَاةِ فَبِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ إلَّا أَنَّهُ يَجْرِي تَحْتَ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْحَرِيمِ لِلنَّهْرِ فَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَنَاةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اسْتَحْيَا أَحَدُهُمَا أَرْضًا أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَهْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَيُثْبِتُ لِهَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى شِرْبًا مِنْ هَذِهِ الْقَنَاةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ. وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرَضُونَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْضٌ مَعْلُومَةٌ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ فِيمَا مَضَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ غَيْرَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ يَسْقِي أَرْضَهُ الَّتِي لَهَا شِرْبٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ الْأَوَّلَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِلْأَرْضِ شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّهْرِ الْمُعَدِّ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ شِرْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي فَوْقَ حَقِّهِ فَالْأَرْضُ تَنْشُفُ بَعْضَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 189 الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ بَيْنَ قَوْمٍ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ طَرِيقًا فِي دَارٍ أُخْرَى، وَسَاكِنُ تِلْكَ الدَّارِ غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا، وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ نَخِيلًا فِي أَرْضٍ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي هَذَا النَّهْرِ شِرْبٌ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ زَرْعًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَصْحَابُ النَّهْرِ رَجُلًا يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ الشِّرْبَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَيَقُومُ عَلَى نَهْرِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَالْبَدَلُ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهَا مَعْلُومٌ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ بِشِرْبٍ مِنْ النَّهْرِ مَكَانَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَهِيَ كَالْمَبِيعِ، وَالشِّرْبُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا مَقْصُودًا، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ أَعْطَوْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ تَسْلِيمِ الشِّرْبِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ. وَإِذَا احْتَفَرَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ نَهْرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى مِسَاحَةِ أَرَاضِيِهِمْ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ غَلَطًا رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِمْ رَدُّهُ، وَلَوْ، وَضَعُوا عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهِ - رَجَعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَوْفَاهُمْ بَعْضَ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ. وَإِذَا كَانَ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شِرْبًا مُسَمًّى، وَفِيهِمْ الْغَائِبُ، وَالشَّاهِدُ فَقَدِمَ الْغَائِبُ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَتِهِ، وَلَا بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِي تَمْيِيزِ نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَإِنْ كَانُوا أَوْفَوْهُ حَقَّهُ، وَحَازُوهُ، وَقَسَّمُوهُ، وَأَبَانُوهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَانَ فِي النَّقْضِ مُتَعَنِّتًا. ، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِثَمَنِ الشِّرْبِ، وَلَا بِالْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا يَصْلُحُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ نَقَدَ الْكَفِيلُ الثَّمَنَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي نَقَدَهُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُؤَدِّي بِالضَّمَانِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا، وَكَّلَ رَجُلٌ، وَكِيلًا بِشِرْبِهِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 190 فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الِانْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ تَتَعَيَّنُ، وَقَدْ أَنَابَ الْوَكِيلَ فِيهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ لِتَمَكُّنِ الْوَكِيلِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا تَكُونُ الْجِهَةُ مُتَعَيِّنَةً فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شِرْبَ أَرْضِهِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الشِّرْبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ، وَبِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِمَالِهِ مَلَكَ الْحِفْظَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُونَ التَّبَرُّعِ. وَإِذَا اتَّخَذَ الرَّجُلُ مَشْرَعَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا السَّقَّاءُونَ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَجْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَعْهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يُؤَاجِرْهُمْ أَرْضًا، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ فِي أَوَانِيهِمْ، وَالْمَاءُ فِي الْفُرَاتِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْمَشْرَعَةِ ثُمَّ الْمَوْضِعُ الَّذِي اتَّخَذَ فِيهِ الْمَشْرَعَةَ مِنْ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ لَمْ يُؤَاجِرْهُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ، وَشَرْطُ إجَارَةِ الْأَرْضِ تَسْلِيمُهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَاءِ فَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْمَاءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ تَقَبَّلَ هَذِهِ الْمَشْرَعَةَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَقُومُ فِيهِ الدَّوَابُّ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِنَّ إيقَافَ الدَّوَابِّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ انْتِفَاعٌ بِهَا، وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهَا، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ قِطْعَةً مِنْهَا يَوْمَ يُقِيمُ فِيهَا بِغَيْرِ آلَةٍ جَازَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ السَّقَّائِينَ مَا اسْتَأْجَرُوا مَوْضِعًا مَعْلُومًا، وَلَا بَيَّنُوا لِوُقُوفِهِمْ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَبَطَلَتْ الْإِجَارَةُ هُنَاكَ لِلْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشْرَعَةُ لَا يَمْلِكُهَا الَّذِي اتَّخَذَهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا، وَلَا يَصِحُّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا فِي الطَّرِيقِ لِيُؤَاجِرَهُ مِنْ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْمَشْرَعَةِ مِنْ شَطِّ الْفُرَاتِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ حَقِّهِمْ بِاِتِّخَاذِ الْمُشَرَّعَةِ فِيهِ لِيُؤَاجِرَهُ فَيَكْتَسِبُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَاِتَّخَذَ مَشْرَعَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ فِيهِ مَشْرَعَةٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ حَوَائِجِهِمْ، وَإِنَّمَا أُرَخِّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لَهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ خُصُوصًا فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَمُرُّوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لِيَسْقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَمَنَعَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 191 وَلَكِنَّهُمْ يَمُرُّونَ فِي أَرْضِهِ، وَمَشْرَعَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ، وَالضَّرُورَةِ فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْعَالَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا آخَرَ كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُتَعَيَّنًا لِوُصُولِهِمْ مِنْهُ إلَى حَاجَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقٌ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى التَّطَرُّقِ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا فِي التَّنَاوُلِ مِنْ إتْلَافِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُنَا لَيْسَ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ أَرْضِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ لِيُعَالِجَ مِنْ النَّهْرِ شَيْئًا فَمَنَعَهُ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ فِي بَطْنِ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ، وَالْبِئْرُ، وَالْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَرْضِهِ، وَلَا نَفْعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّطَرُّقِ فِي أَرْضِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي أَرْضِ النَّهْرِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ خَاصٌّ، وَفِي الْأَوَّلِ ضَرَرٌ عَامٌّ، وَقَدْ يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ مَا لَا يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ فَإِنْ كَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِهِ إلَى النَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالْقَنَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ. وَإِذَا اصْطَلَحَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَا نَفَقَةً يَحْفِرَانِ بِهَا بِئْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْحَرِيمُ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا قَصْدًا التَّفَرُّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا، وَهُوَ الْبِئْرُ، وَالْحَرِيمُ ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِتَمَكُّنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّرْطِ مَقْصُودًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْبِئْرِ ثُمَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَرِيمٍ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلضَّرَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَهُمَا مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَّفِقَةً، وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْحَرِيمُ، وَالْبِئْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُنْفِقُ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَشَرْطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي الْمِلْكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ شَرْعًا فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنْ فَعَلَا كَذَلِكَ رَجَعَ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ بِنِصْفِ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ. وَإِذَا كَانَتْ بِئْرٌ فِي أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبِئْرِ بِطَرِيقِهِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ طَرِيقًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ آخَرَ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ طَرِيقًا فِيهَا إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْبِئْرِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ جَازَ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 192 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْبِئْرِ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا أَنْ بِتَسْمِيَةِ الدَّارِ، وَالْبَيْتِ فِي الْبَيْعِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ، وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَرْضِ مَعَ الْبِئْرِ، وَنَصِيبُهُ نِصْفُ الْأَرْضِ جَازَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْلُومٌ، وَالْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الشِّرْبِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ شِرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَسِيلُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ لَا تَمْنَعُ إثْبَاتَهُ بِالْبَيِّنَةِ. وَلَوْ ادَّعَى يَوْمَيْنِ فِي الشَّهْرِ فَجَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى يَوْمٍ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، وَشَاهِدٍ آخَرَ عَلَى يَوْمَيْنِ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَقْضِي بِيَوْمٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي التَّطْلِيقَةِ، وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ، وَالْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي شِرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ شِرْبَ يَوْمٍ، وَلَمْ يُسَمُّوا عَدَدًا، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ شَيْئًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ مَعَهَا. وَإِنْ ادَّعَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ قَنَاةٍ فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِالْعُشْرِ، وَالْآخَرُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالْإِقْرَارِ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُمْسِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَرْضًا عَلَى نَهْرٍ شِرْبُهَا مِنْهُ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ سَبَبًا فَإِنِّي أَقْضِي لَهُ بِهَا، وَبِحِصَّتِهِ مِنْ الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ تَبَعُ الْأَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقُ التَّبَعِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ، وَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِالشِّرْبِ دُونَ الْأَرْضِ لَمْ نَقْضِ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ تَبَعٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَصْلَ بِاسْتِحْقَاقِ التَّبَعِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا لَهُ بِالْبِنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ مَوْضِعَهُ مِنْ الْأَرْضِ. وَلَوْ شَهِدُوا لَهُ بِالْأَرْضِ اسْتَحَقَّ الْبِنَاءَ تَبَعًا، وَكَذَلِكَ الْأَشْجَارُ مَعَ الثِّمَارِ. وَإِذَا ادَّعَى أَرْضًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهَا لَهُ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِإِقْرَارٍ هُوَ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَالْآخَرُ شَهِدَ لَهُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 193 عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ أَوْ عَلَى أَرْضٍ، وَشِرْبٍ لَمْ يَجُزْ أَمَّا الشِّرْبُ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِعَيْنِهَا فَهِيَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ دَيْنًا بِشَيْءٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا بِعَيْنِهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَسْتَدْعِي تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ فَتَسْمِيَةُ عَيْنٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَالْبَيْعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَإِنَّمَا يَصِيرُ هُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَوْلَى مُبَادَلَةَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ فُلَانًا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ أَرْضِهِ، وَثُلُثِ شِرْبِهِ، وَشَهِدَ آخَرُ بِثُلُثِ شِرْبِهِ دُونَ أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِثُلُثِ الشِّرْبِ لَهُ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَلَيْسَ لَهُ فِي ثُلُثِ الْأَرْضِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ شِرْبِهِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي الْحَجِّ أَوْ الْفُقَرَاءِ أَوْ فِي الرِّقَابِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ صَرْفَ الْمُوصَى بِهِ إلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ يَكُونُ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ أَوْ بِالْبَيْعِ، وَصَرْفِ الثَّمَنِ إلَيْهَا، وَالشِّرْب لَا يَحْتَمِل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ حَقِّهِ فِي النَّهْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ النَّهْرِ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَعَ الْأَرْضِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ، وَشِرْبٌ فَادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ بِأَلْفٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّرْبَ، وَالْأَرْضَ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَرْضَ، وَحْدَهَا بِغَيْرِ شِرْبٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ شِرْبًا فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشِّرْبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى شِرَاءِ الشِّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ وَاحِدٌ، وَالْمُدَّعِي غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي شَهِدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَهُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ يَدْخُلُ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمَا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ، وَالْآخَرُ بِالنِّحْلَةِ، وَلَوْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ بَاعَهَا بِأَلْفٍ بِغَيْرِ شِرْبٍ فَزَادَ أَحَدُ شَاهِدَيْهِ الشِّرْبَ أَوْ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ شِرْبًا بِأَمَةٍ، وَقَبَضَهَا فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَمْ يُذْكَرْ الْعُقْرُ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ خُصُوصًا فِيمَا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِأَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ وَطِئَهَا رَجُلٌ بِشُبْهَةٍ، وَأَخَذَ بَائِعُ الشِّرْبِ الْمَهْرَ أَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهَا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 194 أَوْ فَقَأَ - عَيْنَهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَالْأَرْشُ وَالْمَهْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ مِلْكُهُ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ الْأَرْشُ، وَالْعُقْرُ حَاصِلًا بَعْدَ مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَوْ، وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ فَالْمُشْتَرِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْوَلَدِ مَعَ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ جُزْءٍ مَضْمُونٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ لَهُ الْمِلْكُ بِالضَّمَانِ فَيَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ أَوْ فِيمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمَضْمُونِ أَوْ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ يَمْلِكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَالْوَلَدُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ، وَلَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمَضْمُونِ، وَلَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ رَدِّ الْوَلَدِ بِتَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا الْأَرْشُ فَبَدَلُ جُزْءٍ مَضْمُونٍ، وَقَدْ سَلَّمَ بَدَلَ هَذَا الْجُزْءِ لِمُشْتَرِي الشِّرْبِ حِينَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا صَحِيحَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ بَدَلٌ آخَرُ إذْ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَرْءِ بَدَلَانِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ فَإِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ، وَالْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَقَدْ ضَمِنَ قِيمَةَ جَمِيعِ الْعَيْنِ فَيُسَلِّمُ لَهُ مَا كَانَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ، وَلَكِنَّهُ جُزْءٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِالْوَطْءِ نُقْصَانٌ فِيهَا، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْعُقْرِ مِنْ الْوَاطِئِ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا قُلْنَا نَعَمْ الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ جُزْءٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونٌ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ وَطْءَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ هُوَ ثَمَرَهُ كَالْكَسْبِ فَالْكَسْبُ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ الْعُقْرُ الْمُسْتَوْفِي مِنْ الْوَاطِئِ فَإِنْ قِيلَ: فَالْوَلَدُ أَيْضًا خَلْفٌ عَنْ جُزْءٍ هُوَ مَضْمُونٌ، وَهُوَ النُّقْصَانُ الْمُتَمَكِّنُ بِالْوِلَادَةِ، وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِهِ قُلْنَا الْخِلَافَةُ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ لَا؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ رَدُّ الْعِوَضِ لِوُصُولِ مِثْلِهِ إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ. وَلَوْ كَانَتْ حَيَّةً فَأَخَذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ تَبِعَهَا الْأَرْشُ، وَالْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا بَلْ انْعَدَمَ مِنْ الْأَصْلِ بِرَدِّهَا؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ هَذَا الْجُزْءِ حَالَ قِيَامِهِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ مَعَ رَدِّ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الشِّرْبِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا بِشِرْبِهَا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ قَدْ اشْتَرَطَهُ مَعَهَا ثُمَّ سَقَى الزَّرْعَ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ سَقَى بِذَلِكَ الشِّرْبِ زَرْعًا فِي أَرْضٍ أُخْرَى أَوْ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فَهَذَا رِضًا، وَقَطْعٌ لِلْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمُشْتَرَى تَصَرُّفًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 195 بِصِفَةِ الْمَالِكِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ شَرْعًا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَيَقْصِدُ بِمُبَاشَرَتِهِ إصْلَاحَ الْمِلْكِ، وَإِحْرَازَهُ فَكَانَ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَصَنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمِلْكِهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نَخِيلًا فَلَقَّحَهَا أَوْ أَرْضًا فَكَرَبَهَا أَوْ سَرْقَنَهَا فَهُوَ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَدَّ النَّخِيلَ أَوْ قَطَفَ الْكَرْمَ فَهَذَا كُلُّهُ تَصَرُّفٌ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَيُقْصَدُ بِهِ إحْرَازُ الْمِلْكِ، وَإِصْلَاحُهُ. وَإِذَا اشْتَرَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سَقَى أَرْضًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا قَطْعٌ لِلْخِيَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَقَى مِنْهُ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا أَوْ اسْتَقَى لِلشُّقَّةِ مِنْ الْبِئْرِ أَوْ لِلْوُضُوءِ فَهَذَا لَا يَكُونُ رِضًا؛ لِأَنَّ سَقْيَ الْأَرْضِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَرْعًا إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ يَكُونُ تَقْرِيرًا لِمِلْكِهِ، وَأَمَّا الِاسْتِقَاءُ لِلشُّقَّةِ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهْرِ، وَالْبِئْرِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا بِمِلْكِهِ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ يَمْلِكُ الِاسْتِقَاءَ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ لِلشُّقَّةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ بِمِلْكِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْبَيْعِ فِيهِ، وَأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فَأَمَّا سَقْيُ الْأَرْضِ فَمَا كَانَ يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلَا بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ بَلْ إنَّمَا يُمَكَّنُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ لِلْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالِاسْتِقَاءُ لِلشُّقَّةِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ شَرْعًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرْضِ مِنْهُ. وَإِذَا اشْتَرَى نَهْرًا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسَقَى أَجْنَبِيٌّ أَرْضًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ هَذَا بِقَطْعٍ لِلْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ، وَلَا، وَجَدَ مِنْ الْمُشْتَرِي دَلِيلَ الرِّضَا بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ خِيَارَهُ إنَّمَا يَسْقُطُ هُنَاكَ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ، وَعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَ. وَإِذَا اشْتَرَى نَهْرًا بِقَنَاةٍ، وَأَسْقَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ مِمَّا اشْتَرَى فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ سَقَاهَا مِمَّا بَاعَ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ فِيمَا بَاعَ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَسَقْيِهِ لِلْأَرْضِ مِمَّا بَاعَ دَلِيلُ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيمَا بَاعَ، وَفِيمَا اشْتَرَى دَلِيلُ الرِّضَا بِتَمَلُّكِهِ. وَلَوْ أَنَّ الْآخَرَ هُوَ الَّذِي سَقَى أَرْضَهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْبَيْعِ، وَلَا إجَارَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِهِ لَازِمٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ إسْقَاطِ خِيَارِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِجَارِيَتِهِ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَعْتَقَ مَا بَاعَ فَهُوَ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا اشْتَرَى فَهُوَ إجَازَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا، وَلَا إجَازَةً؛ لِأَنَّ عِتْقَ صَاحِبِهِ فِيمَا بَاعَ لَمْ يَنْفُذْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 196 لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَفِيمَا اشْتَرَى لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَإِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِئْرًا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَبَضَهَا فَانْخَسَفَتْ أَوْ انْهَدَمَتْ أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا أَوْ نَقَصَ نُقْصَانًا فَاحِشًا لَزِمَهُ الْبَيْعُ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ يَمْلِكُ الرَّدَّ كَمَا قَبَضَ، وَلَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْبَائِعِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مُتَغَيِّرًا، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَذَهَبَ مَاؤُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ، وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ خِيَارِهِ، وَإِذَا فَسَخَ الْبَيْعَ بَقِيَتْ مَضْمُونَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ بِجِهَةِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَبَنَاهَا، وَطَوَاهَا حَتَّى عَادَتْ كَمَا كَانَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَهُوَ مَسْقِطٌ لِلْخِيَارِ فَكَيْف يَعُودُ بِهِ خِيَارُهُ الَّذِي سَقَطَ. وَإِذَا اشْتَرَى بِئْرًا، وَحَرِيمَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَفِي حَرِيمِهَا كَلَأٌ فَأَرْعَاهَا الْغَنَمَ، وَأَبَانَهَا فِي عَطَنِ الْبِئْرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا رِضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَقَى مِنْهَا غَنَمًا لَهُ أَوْ أَبَانَهَا فِي الْعَطَنِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْكَلَإِ شَرْعًا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَبَعْدَ فَسْخِ الْبَيْع بِخِلَافِ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهَا أَوْ بَنَى فِيهَا فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَيَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلَ الرِّضَا. وَلَوْ كَانَ فِيهِ شَجَرٌ مِمَّا تُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَفْسَدَتْهُ الْغَنَمُ أَوْ قَلَعَتْهُ كَانَ هَذَا مُلْزِمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ. وَلَوْ هَدَمَ الْبِئْرَ إنْسَانٌ فَضَمِنَهُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَدْمِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَطْعًا لِلْخِيَارِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ التَّضْمِينِ سَقَطَ خِيَارُهُ لِلتَّعْنِيتِ، وَالتَّضْمِينُ تَصَرُّفٌ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ بِهِ مَا سَقَطَ مِنْ الْخِيَارِ، وَكَرِي النَّهْرِ، وَكَسْرُ الْبِئْرِ رِضًا بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يُفْعَلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ كَالْبِنَاءِ، وَالْحَفْرِ فِي الْقَنَاةِ، وَإِنْ، وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مَا يُنَجِّسُهُ مِنْ عُذْرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ فَأْرَةٍ فَمَاتَتْ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ سَوَاءً، وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ أَوْ نَزْحُ بَعْضِ الدِّلَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ تَنَجَّسَ بِمَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ النَّزْحِ مِنْهُ فَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ عَيْبٌ فِي الْعُرْفِ، وَالتَّعَيُّبُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ. وَإِذَا اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ نَهْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهُ بِهِ أَرْضَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ سَقَى بِهِ أَرْضَهُ فَهَذَا قَطْعٌ لِلْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ إنَّمَا سَقَى بِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ لَا بِحُكْمِ الِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَنْقَطِعُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ الثَّابِتِ فِي حَقِّهِ فَتُقَدَّمُ الِاسْتِعَارَةُ وُجُودًا، وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الشِّرْبَ بِغَيْرِ أَرْضٍ أَوْ سَاوَمَ بِهِ أَوْ أَجَّرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً الجزء: 23 ¦ الصفحة: 197 أَوْ أَجَّرَ الشِّرْبَ إجَارَةً فَاسِدَةً أَوْ رَهَنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَزَرَعَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ أَوْ سَقَى بِالشِّرْبِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَهَذَا كُلُّهُ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْمَالِكُ عَادَةً فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى رَحَا مَاءٍ بِنَهْرِهَا، وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَمَتَاعَهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَإِنْ طَحَنَ بِهَا لَمْ يَكُنْ رِضًا بِهَا؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ لِلِاخْتِبَارِ لَا لِلِاخْتِيَارِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَنْظُرُ هَلْ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ بِهَا أَوْ لَا يَتِمُّ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّحْنِ فَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِخْدَامِ فِي الْمَمَالِيكِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِلنَّظَرِ إلَى سَيْرِهَا فَإِنْ نَقَصَهَا الطَّحْنُ أَوْ انْكَسَرَتْ فَهَذَا رِضًا مِنْهُ بِسَبَبِ التَّعَيُّبِ فِي ضَمَانِهِ لَا بِسَبَبِ الطَّحْنِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا، وَشِرْبًا، وَقَالَ لِي الرِّضَا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ رَضِيتُ أَجَزْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُ تَرَكْتُ، أَوْ قَالَ: لِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَإِذَا بَاعَ أَرْضًا، وَشِرْبًا بِجَارِيَةٍ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ مَعَ الْجَارِيَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا رِضًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَّلَ الْجَارِيَةَ أَوْ جَامَعَهَا أَوْ عَرَضَهَا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَقْدِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى تَصَرُّفٍ فِيهَا هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهَا، وَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلْخِيَارِ فَأَمَّا الْمِائَةُ الَّتِي قَبَضَهَا فَغَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْعَقْدِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَانَ لِمُشْتَرِي الْأَرْضِ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهَا، وَإِنَّهُ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ إنْفَاقِهَا. وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا، وَشِرْبًا، وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْأَرْضِ دُونَ الشِّرْبِ أَوْ فِي الشِّرْبِ دُونَ الْأَرْضِ فَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَالثَّمَنَ جُمْلَةٌ، وَاَلَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ فِيهِ يَتِمُّ الْبَيْعُ فِيهِ، وَثَمَنُهُ مَجْهُولٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَرْضًا، وَشِرْبًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَنَقَضَ مَوْلَاهُ الْبَيْعَ أَوْ أَجَازَهُ فَنَقْضُهُ بَاطِلٌ سَوَاءً كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ، وَإِجَازَتُهُ تَصِحُّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَبْدِ لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهُ إسْقَاطُ خِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُسْقِطِ لِخِيَارِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِهِ فِيهِ قَصْدًا. وَإِنْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ، وَلِبَعْضِ أَرْضِهِمْ سَوَانِي فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، وَلِبَعْضِهَا دَوَالِي، وَبَعْضِهَا لَيْسَتْ لَهَا سَاقِيَّةٌ، وَلَا دَالِيَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا شِرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فَاخْتَصَمُوا فِي هَذَا النَّهْرِ، وَادَّعَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 198 صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا فِيهِ شِرْبًا، وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَ أَصْحَابِ السَّوَانِي وَالدَّوَالِي دُونَ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ يَدَ أَصْحَابِ السَّوَانِي، وَالدَّوَالِي ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَدِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي ثَوْبٍ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ، وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: النَّهْرُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهمْ الَّتِي عَلَى شَطِّ النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِحَفْرِ النَّهْرِ سَقْيُ الْأَرَاضِي لَا اتِّخَاذُ السَّوَانِي وَالدَّوَالِي، فَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ عَلَى حَالِهِمْ عَلَى السَّوَاءِ فِي إثْبَاتِ الْيَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جَرَادِي أَوْ بَوَارِي أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِمَا مِخْلَاةٌ أَوْ مِنْدِيلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَحَمُّلٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ السَّوَانِي، وَالدَّوَالِي عَلَى النَّهْرِ تَبَعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ فَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ لَهُمْ شِرْبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لِحَاجَةِ الْأَرَاضِي فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْأَرْضِ شِرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّهْرِ فَلَهَا شِرْبُهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْوَاحِدَةَ لَا يُجْعَلُ شِرْبُهَا مِنْ نَهْرَيْنِ عَادَةً فَكَوْنُ شِرْبٍ مَعْرُوفٍ لَهَا مِنْ نَهْرٍ آخَرَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شِرْبَ لَهَا فِي هَذَا النَّهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى شَطِّهِ؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْأَرْضِ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ لَهَا شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ لِحَاجَةِ الْأَرْضِ إلَى الشِّرْبِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالشِّرْبِ الْمَعْرُوفِ لَهَا مِنْ نَهْرٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شِرْبٌ مِنْ غَيْرِهِ قَضَيْتُ لَهَا فِيهِ بِشِرْبٍ، وَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِهَا أَرْضٌ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لَيْسَ لَهَا شِرْبٌ مَعْلُومٌ فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَ لِأَرَاضِيِهِ كُلِّهَا إنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الشِّرْبِ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ الشِّرْبَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ لِلْأَرْضِ الْأُخْرَى إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِالنَّهْرِ بَلْ الْأَرْضُ الْأُولَى حَائِلَةٌ بَيْنَ النَّهْرِ وَبَيْنَهَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلْأَرْضِ مِنْ شِرْبٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالشِّرْبِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَ اتِّصَالِ أَرَاضِيه بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَنْ تَشْرَبَ كُلُّهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَيَجِبُ الْبِنَاءُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يُعْتَبَرُ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا فِي إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُتَنَازِعِينَ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ غَيْرُ ثَابِتٍ إلَّا بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ فَيَصْلُحُ هَذَا الظَّاهِرُ لَهُ مُعَارِضًا، وَمُزَاحِمًا لِخُصَمَائِهِ، وَإِنْ كَانَ إلَى جَانِبِ أَرْضِهِ أَرْضٌ لِآخَرَ، وَأَرْضُ الْأَوَّلِ بَيْنَ النَّهْرِ، وَبَيْنَهَا، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ شِرْبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ كَانَ شِرْبُهَا فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهَا شِرْبًا الجزء: 23 ¦ الصفحة: 199 مِنْ هَذَا النَّهْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا قَرَّرْنَا مِنْ الظَّاهِرِ لَا يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ مَالِكِ الْأَرَضِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمَالِكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ مَعْرُوفًا لِقَوْمٍ خَاصًّا بِهِمْ فَلَا أَجْعَلُ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ شِرْبًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَازِعِينَ هُنَا دَلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ إضَافَةُ النَّهْرِ إلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ إحْدَاثٍ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ حَفَرُوا هَذَا النَّهْرَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَصُبُّ فِي أَجَمَةٍ، وَعَلَيْهِ أَرْضٌ لِقَوْمٍ مُخْتَلِفِينَ، وَلَا يَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ، وَلَا لِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ فَتَنَازَعَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَأَهْلُ الْأَجَمَةِ فِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَرْضِ بِالْحِصَصِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَجَمَةِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْمَسِيلِ فِي أَجَمَتِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ إنَّمَا يُحْفَرُ لِسَقْيِ الْأَرَاضِي فِي الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ فِيهِ شَاهِدٌ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي، وَهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِالنَّهْرِ فِي سَقْيِ أَرَاضِيهمْ مِنْهُ، وَلَكِنْ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ أَيْضًا، وَهُوَ فَضْلُ الْمَاءِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَجَمَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي قَطْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالظَّاهِرِ، وَلِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي مَنْفَعَةٌ فِي مَسِيلِ فَضْلِ الْمَاءِ فِي الْأَجَمَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلَانِ، وَلِأَحَدِهِمَا فِيهِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَ الْآخَرَ رَفْعَ جُذُوعِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُغَيَّرُ عَنْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ، وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى حَائِطًا مِنْ حِجَارَةٍ فِي الْفُرَاتِ، وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًا يَطْحَنُ بِالْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ النَّاسِ فِيهِ هَدَمَهُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْفُرَاتِ حَقُّ الْعَامَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَهْدِمَهُ فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَائِطُ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْفُرَاتِ يَضُرُّ بِمَجْرَى السُّفُنِ أَوْ الْمَاءِ بِأَنْ لَمْ يَسَعْهُ وَهُوَ فِيهِ أَثِمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ إذَا بُنِيَ فِيهِ بِنَاءٌ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ سَوَاءُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلذِّمِّيِّ حَقَّ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ كَمَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِثْلَ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ، وَالْمُكَاتَبُونَ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ، وَالْفُرَاتُ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَرْأَةِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ تَبَعٌ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَغْلُوبُ، وَالْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 200 وَصِيُّهُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْجَوَابِ الَّذِي قَالَ أَنَّهُ يُخَاصِمُ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّهُمَا يُخَاصِمَانِ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَا قَدْ أَسْقَطَا حَقَّهُمَا فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا مَعْنَى لِخُصُومَتِهِمَا عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ، وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا. وَإِنْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْهُ يَوْمًا، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَوْمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا اقْتَسَمَا مَاءَ النَّهْرِ بَيْنَهُمَا عَلَى تَرَاضٍ، وَالْمُنَاوَبَةُ بِالْأَيَّامِ فِي هَذَا كَالْقِسْمَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28]، وَقَالَ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]. وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَدَمَ الْبَائِعُ بِنَاءَهَا أَوْ أَفْسَدَ نَهْرَهَا أَوْ بِئْرَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بِخِيَارِهِ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَيَضْمَنُ الْبَائِعُ قِيمَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ جِهَتِهِ تَمَّ بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ لَازِمًا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَعَلَى الْبَائِعِ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا، وَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَرَهُ فَحَرَقَهُ الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَزِمَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِمَا أَحْدَثَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَيْسَ الْبَائِعُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ عِنْدَ التَّعَيُّبِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الرِّضَا بِهَذَا الضَّرَرِ حِينَ عَيَّبَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ بَيْنَهُمْ حَرْثٌ حَصَدُوهُ، وَجَمَعُوهُ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمْ وَضَعُوهُ؛ لِيَحْفَظَ لَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ نَصِيبَ الرَّجُلَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا، وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ دَفَعَ إلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يَقُولُ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِي أَوْ بَقِيَ الثُّلُثُ فِي يَدِ الثَّالِثِ، وَقَالَ الدَّافِعُ دَفَعْتُ إلَى صَاحِبِي ثُلُثَهُ أَوْ حَقَّهُ ثُمَّ قَالَ دَفَعْتُ إلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ ثُلُثَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ، وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ قَالَ يَقْتَسِمُونَ الثُّلُثَ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَيَضْمَنُ ثُلُثَ مَا دَفَعَ فَيَكُونُ لِلْآخَرَيْنِ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ حُكْمُ الِاخْتِصَاصِ، وَحُكْمُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَحُكْمُ الْخِلَافِ فَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاخْتِصَاصِ فَنَقُولُ جَمِيعُ الزَّرْعِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ، وَكَانَ الْحَافِظُ أَمِينًا فِي نَصِيبِ الْآخَرَيْنِ، وَدَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى أَحَدِهِمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ دَفْعَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَكِنْ قَوْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالثُّلُثُ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 201 بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ نَصِيبِ الْآخَرَيْنِ مِنْ هَذَا الثُّلُثِ عَلَيْهِمَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَيُقَسَّمُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْأَصْلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَكِيلَ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَظَهَرَ نِصْفُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَزَعَمَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ اسْتَوْفَى النِّصْفَ الْآخَرَ، وَجَحَدَ صَاحِبُهُ، وَحَلَفَ يُجْعَلُ هَذَا النِّصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كَالتَّاوِي فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا حَلَفَ الْآخَرَانِ عَلَى دَعْوَاهُ يُجْعَلُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانَةِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ادَّعَى رَدَّ الْأَمَانَةِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنْ بِيَمِينِهِ تَثْبُتُ بَرَاءَتُهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الْوُصُولُ إلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَصِيِّ فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلصَّبِيِّ شَيْئًا بِيَمِينِ الْمُودَعِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْخِلَافِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إلَى شَرِيكِهِ، وَدَفْعُ الْأَمِينُ الْأَمَانَةَ إلَى غَيْرِ صَاحِبِهَا مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا فَقَدْ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ، وَادَّعَى الْمُسْقِطَ، وَهُوَ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ فَإِذَا حَلَفَ غَرِمَ لَهُ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا، وَأَنَّ هَذَا الْمَقْبُوضَ جُزْءٌ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا أَوْ بَدَلُ جُزْءٍ مُشْتَرَكٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا. رَجُلٌ عَمَدَ إلَى نَهْرِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً أَوْ نَهْرٍ خَاصٍّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعَامَّةِ أَوْ لِقَوْمٍ خَاصٍّ فَاِتَّخَذَ عَلَيْهِ قَنْطَرَةً، وَاسْتَوْثَقَ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ، وَالدَّوَابُّ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى انْكَسَرَ أَوْ وَهَى فَوَقَعَ إنْسَانٌ فِيهِ أَوْ دَابَّةٌ فَمَاتَ أَوْ عَبَرَ بِهِ إنْسَانٌ، وَهُوَ يَرَاهُ مُتَعَمِّدًا يُرِيدُ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ حِسْبَةً، وَقَدْ، وَجَدَ الرِّضَا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِاِتِّخَاذِهِمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَمَرًّا فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ، وَإِنْ، وَضَعَ عَارِضَةً أَوْ بَابًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَشَى عَلَيْهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدٌ لِذَلِكَ فَانْكَسَرَ الْبَابُ، وَعَطِبَ الْمَاشِي فَضَمَانُ الْبَابِ عَلَى الَّذِي كَسَرَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْبَابِ الَّذِي عَطِبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ مُتَعَمِّدٌ الْمَشْيَ عَلَى الْبَابِ مُبَاشِرٌ كَسْرَهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَوْطَأَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ مُبَاشِرًا لِقَتْلِهِ حَتَّى تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَوَاضِعُ الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَسَبُّبِهِ مُتَعَدِّيًا، وَلَكِنَّ الْمَاشِيَ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَبُّبُ إذَا طَرَأَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ إنْسَانٌ إلْقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْبِئْرِ، وَأَلْقَاهُ فِيهِ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا مَنْ رَشَّ الطَّرِيقَ فَتَعَمَّدَ إنْسَانٌ الْمَشْيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَزَلَقَتْ رِجْلُهُ، وَعَطِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الجزء: 23 ¦ الصفحة: 202 الَّذِي رَشَّ ضَمَانٌ بِخِلَافِ مَنْ مَشَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَانَ لَا يُبْصِرُهُ بِأَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ كَانَ لَيْلًا فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي رَشَّ الطَّرِيقَ إذَا عَطِبَ بِهِ الْمَاشِي، وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الدِّيَاتِ، وَإِصْلَاحُ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ الْوَالِيَ أَذِنَ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْصِبَ طَاحُونَةً عَلَى مَاءٍ لِقَوْمٍ خَاصَّةً فِي أَرْضٍ لِرَجُلٍ، وَلَا يَضُرُّ أَهْلَ النَّهْرِ شَيْءٌ، وَأَهْلُ النَّهْرِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَوْ يَضُرُّهُمْ، وَالْوَالِي يَرَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَصَاحِبِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَاصٌّ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِإِنْسَانٍ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ فِيهِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ الْمَالِكِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَخْمَصَةِ فَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْإِمَامِ هُنَا. أَهْلُ مَدِينَةٍ بَنَوْهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْوَالِي بَيْنَهُمْ، وَتَرَكَ فِيهَا طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ فَرَأَى الْوَالِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الطَّرِيقِ أَحَدًا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَدِينَةُ لِلْوَالِي فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي يُعْطَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثَابِتٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ دُونَ الْإِسْقَاطِ، وَإِيثَارُ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا جَاءَ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ أَخَذْتهَا مِنْ الْفَيْءِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرِي فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَهُوَ لَك فَلَمَّا تَحَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَخْصِيصِهِ بِتِلْكَ الْكُبَّةِ دُونَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ عَرَفْنَا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَالِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا. قَوْمٌ اقْتَسَمُوا أَرْضًا لَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ حَقَّ الْغَيْرِ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَفْرُغُوا مِنْ الْقِسْمَةِ جَعَلُوا الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا شَاءُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الطَّرِيقِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ فِيهِ بِالتَّقْدِيرِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ هُنَا فَقَالَ بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَثَرٌ يَرْفَعُهُ «إذَا اشْتَجَرَ الْقَوْمُ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ»، وَلَا نَأْخُذُ بِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَحَقٌّ هَذَا الْحَدِيثُ أَمْ لَا. وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ أَخَذْنَا بِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ فِيمَا يَحْتَاجُ الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي تَقْدِيرِ الطَّرِيقِ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّاسِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 203 وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتَقْدِيرٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِالرَّأْيِ، قَوْلُهُمْ عَشْرُ بِسِتَّاتِ مِنْ مَاءٍ يَجْرِي لَهُمْ جَمِيعًا فِي نَهْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَشْرَ منتات، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ، وَكُلُّ منت سِتُّ بِسِتَّاتِ، وَكُلُّ بِسِتٍّ سِتُّ شَعَرَاتٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ مَرْوَ، وَمَقْصُودُهُ مَا قَالَ إذَا أَصْفَى مِنْهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَقَطَعَ ذَلِكَ مِنْ نَهْرِهِمْ بِحَقِّ الَّذِي أَصْفَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِيمَا بَقِيَ، وَاَلَّذِي أَصْفَى مِنْ حَقِّهِمْ جَمِيعًا فَالْإِصْفَاءُ هُوَ الْغَصْبُ فَمَعْنَاهُ إذَا غَصَبَ الْوَالِي نَصِيبَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ مِنْ الشِّرْبِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا الْمَغْصُوبُ يَكُونُ مِنْ حَقِّ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ، وَمَا بَقِيَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمْ أَنَّ الْمَغْصُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ، وَمَا تَوَى مِنْ الْمُشْتَرَكِ يَتْوِي عَلَى الشَّرِكَةِ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ، رَجُلٌ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ يَجْرِي إلَى بُسْتَانِهِ أَوْ يَجْرِي إلَى دَارِ قَوْمٍ مِيزَابٌ لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ مَمْشًى فِي دَارِ قَوْمٍ قَدْ كَانَ يَمْشِي فِيهِ إلَى مَنْزِلِهِ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي قَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّ لَهُ طَرِيقًا فِيهَا أَوْ مَجْرَى مَاءٍ أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، وَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَمَا غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَالْحُجَّةُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، وَلَا حَاجَةَ بِالشَّاهِدَيْنِ إلَى بَيَانِ صِفَةِ الطَّرِيقِ، وَالْمَجْرَى، وَالْمَسِيلِ، وَإِنْ كَانُوا لَوْ بَيَّنُوا ذَلِكَ كَانَ أَحْسَنَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 204 [كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ] قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إمْلَاءً اعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ.: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ، وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى أَنْ قَالَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَمْرُ مُهْلِكَةٌ لِلْمَالِ مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُبَيِّنُهَا لَنَا فَجَعَلَ يَقُولُ اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فَامْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُصِيبُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَنَدَعُ الْمَأْثَمَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللَّهُمَّ زِدْنَا فِي الْبَيَانِ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: لَا خَيْرَ لَنَا فِيمَا يَمْنَعُنَا مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصِيبُ مِنْهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ زِدْنَا فِي الْبَيَانِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْخَمْرُ، وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا». وَالْخَمْرُ هُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ بَعْدَمَا غَلَى، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى هَذَا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {: إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] أَيْ عِنَبًا يَصِيرُ خَمْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، وَالْأَنْصَابُ ذَبَائِحُهُمْ بِاسْمِ آلِهَتِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ، وَالْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ كَقَوْلِك قَلَمٌ، وَأَقْلَامٌ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانُوا يَعْتَادُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا أَخَذَ سَهْمَيْنِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهِمَا أَمَرَنِي رَبِّي، وَالْآخَرُ نَهَانِي رَبِّي فَجَعَلَهُمَا فِي وِعَاءٍ ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ، وَجَبَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ حَرُمَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رِجْسٌ. وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَإِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَا يَنْتَهِي عَنْهُ مُتَابِعٌ لِلشَّيْطَانِ مُجَانِبٌ لِمَا فِيهِ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ {: فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] أَمْرٌ بِالِاجْتِنَابِ مِنْهُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، وَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْإِثْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ،: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وَفِي قَوْلِهِ {: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى {: قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ، وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33]، وَالْإِثْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ قَالَ الْقَائِلُ. شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ ، وَقِيلَ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ، {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ دَلِيلُ نِهَايَةِ التَّحْرِيمِ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ»، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا، وَضَعَ الرَّجُلُ قَدَحًا فِيهِ خَمْرٌ عَلَى يَدِهِ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَإِنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا فَهُوَ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»، وَكَانَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَرَّزُ عَنْ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ، وَيَقُولُ الْعَاقِلُ يَتَكَلَّفُ لِيَزِيدَ فِي عَقْلِهِ فَأَنَا لَا أَكْتَسِبُ شَيْئًا يُزِيلُ عَقْلِي، وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَكَفَى بِالْإِجْمَاعِ حُجَّةً هَذِهِ حُرْمَةٌ قَوِيَّةٌ بَاتَّةٌ حَتَّى يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَيَفْسُقَ شَارِبُهَا. . ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مِنْهَا، وَهِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً لَا يُعْفَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا»، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ يُفَصِّلُونَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ مِنْهَا فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ، وَيَقُولُونَ الْمُحَرَّمُ مَا هُوَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ، وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ الْكَثِيرُ دُونَ الْقَلِيلِ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ الْقَلِيلُ مِنْهَا، وَالْكَثِيرُ فِي الْحُرْمَةِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ سَوَاءٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا، وَكَثِيرُهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»، ثُمَّ فِي تَنَاوُلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا مَعْنَى الْعَدَاوَةِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَلِيلُ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ عَلَى مَا قِيلَ: مَا مِنْ طَعَامٍ، وَشَرَابٍ إلَّا وَلَذَّتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ تَزِيدُ عَلَى اللَّذَّةِ فِي الِانْتِهَاء إلَّا الْخَمْرَ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ لِشَارِبِهَا تَزْدَادُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَلِهَذَا يَزْدَادُ حِرْصُهُ عَلَى شُرْبِهَا إذَا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا، فَكَانَ الْقَلِيلُ مِنْهَا دَاعِيًا إلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا فَيَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْكَثِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرِّبَا لَمَّا حُرِّمَ شَرْعًا حُرِّمَ دَوَاعِيهِ أَيْضًا، وَأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ. . وَأَمَّا السَّكَرُ، فَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءٍ التَّمْرِ الْمُشْتَدِّ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ، وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَرِزْقًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 حَسَنًا} [النحل: 67]، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ شَرْعًا مَا هُوَ حَلَالٌ، وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَيَبْقَى مَا سِوَى الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْآيَاتِ بَيَانُ حُكْمِ الْخَمْرِ، وَمَا كَانَ يَكْثُرُ وُجُودُ الْخَمْرِ فِيهِمْ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ مِنْ الشَّامِ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَابُهُمْ مِنْ التَّمْرِ، وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ» فَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى التَّنْصِيصُ عَلَى حُرْمَةِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَيْدِيهمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْكَرْمِ، وَالنَّخْلِ»، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ بَيَانَ الِاسْمِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ مَا بُعِثَ مُبَيِّنًا لِذَلِكَ، وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَوَاضِعُ اللُّغَةِ خَصَّ كُلَّ عَيْنٍ بِاسْمٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى الْغَيْرُ بِهِ مَجَازًا لِمَا فِي الِاشْتِرَاكِ مِنْ اتِّهَامِ غَفْلَةِ الْوَاضِعِ، وَالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ لِأَجْلِ الصُّفْرِ،: قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، فَقَدْ قِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ إضْمَارٌ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، أَيْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا؟ فَإِنْ طُبِخَ مِنْ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخِهِ، أَوْ ذَهَبَ مِنْهُ بِالطَّبْخِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ اشْتَدَّ، وَغَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا طُبِخَ حَتَّى نَضِجَ حَلَّ شُرْبُهُ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ: إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ النِّصْفُ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ الثُّلُثَانِ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَرِهَ الثُّلُثَ أَيْضًا، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَطَرِيقُ مَنْ تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَانَ الْكُلُّ مُبَاحًا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَمَا عَرَفْنَا هَذِهِ الْحُرْمَةَ إلَّا بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ فِي الْكُلِّ قَالَ: نَصُّ التَّحْرِيمُ بِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مُسْكِرًا، فَهُوَ مُخَامِرٌ لِلْعَقْلِ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الِاسْمُ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَقِيقَةً، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 وَمَتَى كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِاللَّفْظِ تَنَحَّى الْمَجَازُ، وَهَبْكَ أَنَّ الْخَمْرَ يُسَمَّى لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ يُسَمَّى خَمْرًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْفَرَسَ الَّذِي يَكُونُ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَبْيَضَ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ يُسَمَّى أَبْلَقَ، ثُمَّ الثَّوْبُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ لَوْنُ السَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَكَذَلِكَ النَّجْمُ يُسَمَّى نَجْمًا لِظُهُورِهِ، قَالُوا: نَجَمَ أَيْ ظَهَرَ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَظْهَرُ يُسَمَّى نَجْمًا، وَإِمَامُنَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَسَدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ بِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّرَابَ الْمُثَلَّثَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ، وَكَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَا أَدَعُ شُرْبَهَا بَعْدَ مَا رَأَيْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَشْرَبُهَا، وَيَسْقِيهَا النَّاسَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الَّذِي سَأَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ، أَوْ يَسْقِي النَّاسَ مَا تَنَاوَلَهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ بِوَجْهٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا كَانَ يَشْرَبُ الْحُلْوَ مِنْهُ دُونَ الْمُسْكِرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَدْ ذَهَبَ بِالطَّبْخِ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ وَرِبْحُ جُنُونِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَشْرَبُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْمُشْتَدِّ مِنْهُ دُونَ الْحُلْوِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْآثَارُ الَّتِي بَدَأَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَا الْكِتَابَ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ زِيَادٍ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شُرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي، فَغَدَوْت عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ، فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ، وَالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِي غَيْرَهُ مَا لَا يَشْرَبُهُ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا سَقَاهُ كَانَ مُشْتَدًّا حَتَّى أَثَّرَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مَا كَانَ يَهْتَدِي إلَى أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّأْثِيرِ فِيهِ لَا حَقِيقَةَ السُّكْرِ، فَإِنْ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَفِي قَوْلِهِ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ شَرَابُ الْخَلِيطَيْنِ. وَإِنْ كَانَ حُلْوًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ شَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ»، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ كُرِهَ لِلْأَغْنِيَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ، وَعَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ، وَعَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَحْطِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْت أَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرًا، فَلَمْ يَسْتَمْرِئْهُ، فَأَمَرَنِي، فَأَلْقَيْت فِيهِ زَبِيبًا»، وَلَمَّا جَازَ اتِّخَاذُ الشَّرَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَاءِ السُّكَّرِ، وَالْفَانِيذِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُسْكِرِ، فَقَالَ الْخَمْرُ لَيْسَ لَهَا كُنْيَةٌ، وَفِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمِ السُّكْرِ، فَإِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ السُّكْرَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُهُ غَيْرَ اسْمِ الْخَمْرِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ الْفَضِيخِ قَالَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الْفَضُوحُ، وَالْفَضِيخُ الشَّرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ بِأَنْ يُفْضَخَ التَّمْرُ أَيْ يُشْدَخَ، ثُمَّ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ الْمَاءُ حَلَاوَتَهُ، ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي مِنْ شَرَابِ التَّمْرِ إذَا اشْتَدَّ، فَهُوَ حَرَامٌ سُكْرًا كَانَ، أَوْ فَضِيخًا، فَإِنَّ السُّكْرَ مَا يَسِيلُ مِنْ التَّمْرِ حِين يَكُونُ رُطَبًا، وَفِي قَوْلِهِ بِذَلِكَ الْفَضُوحِ بَيَانٌ أَنَّهُ يَفْضَحُ شَارِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِارْتِكَابِهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ، وَالزَّبِيبِ يُعَتَّقُ شَهْرًا، أَوْ عَشْرًا قَالَ الْخَمْرُ أُخْتُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ اجْتَنِبْهَا أَيْ هِيَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ، فَاجْتَنِبْهَا، فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لَا يَحِلُّ مَاءُ الزَّبِيبِ مَا لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الْخَمْرُ اجْتَنِبْهَا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ أَيْ الزَّبِيبِ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَبَّبَ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَبَّبَ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ الثُّلُثَانِ، فَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ بِخِلَافِ مَاءِ التَّمْرِ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَبِيذُ التَّمْرِ وَمَاءُ التَّمْرِ سَوَاءٌ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ يَحِلُّ شُرْبُهُ مُشْتَدًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَشْبِيهُهُ النِّيءَ مِنْهُ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ «انْهَهُمْ عَنْ نَبِيذِ السُّكْرِ، وَالْمُرَادُ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ الْمُشْتَدِّ»، وَقَدْ عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَةَ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي شُرْبِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا خَصَّهُ بِالْأَمْرِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَسَمَّاهُ نَبِيذَ الْحُمْرَةِ فِي لَوْنِهِ، وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كَانَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ كَرْمٌ بِزُبَالَةٍ كَانَ يَبِيعُهُ عِنَبًا، وَإِذَا أَدْرَكَ الْعَصِيرَ بَاعَهُ عَصِيرًا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ، وَالْعِنَبِ مُطْلَقًا مَا دَامَ حُلْوًا. كَمَا لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعِنَبِ. وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِهِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ، وَالْعِنَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي قَصْدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ قَصْدَهُ التِّجَارَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ حَلَالٌ لِاكْتِسَابِ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ قَصْدُ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنْهُ، وَهُوَ كَبَيْعِ الْجَارِيَةِ مِمَّنْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا، أَوْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَكَبَيْعِ الْغُلَامِ مِمَّنْ يَصْنَعُ بِهِ مَا لَا يَحِلُّ. وَعَنْ الضَّحَّاكِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» مَعْنَاهُ، فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُجَاوِزِينَ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ الْكَامِلَ؛ لِأَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 6 الْحُدُودَ ثَبَتَتْ شَرْعًا جَزَاءً عَلَى أَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ، فَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ يَكُونُ بِالرَّأْيِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْحُدُودِ لَا فِي إثْبَاتِ أَصْلِهَا، وَلَا فِي تَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ خَمْرٌ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالُوا: تَخْلِيلُ الْخَمْرِ جَائِزٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ خَلِّ الْخَمْرِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ»، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَصْطَبِغُ الْخُبْزَ بِخَلِّ خَمْرٍ، وَيَأْكُلُهُ، وَإِذَا كَانَ بِالِاتِّفَاقِ يَحِلُّ تَنَاوُلُ خَلِّ الْخَمْرِ، فَالتَّخْلِيلُ بِالْعِلَاجِ يَكُونُ إصْلَاحًا لِلْجَوْهَرِ الْفَاسِدِ، وَذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اسْتَشَارَ النَّاسُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَرَابٍ مُرَقَّقٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى: إنَّا نَصْنَعُ شَرَابًا فِي صَوْمِنَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ: فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ كَيْف تَصْنَعُونَهُ؟ قَالَ نَطْبُخُ الْعَصِيرَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، فَصَبَّ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاءً، وَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ عُبَادَةُ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ يَا أَحْمَقُ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا؟ ثُمَّ يَصِيرُ خَلًّا، فَنَأْكُلَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَشَارَهُمْ فِي الْمُشْتَدِّ دُونَ الْحُلْوِ، وَهُوَ مِمَّا يَكُونُ مُمْرِيًا لِلطَّعَامِ مُقَوَّيَا عَلَى الطَّاعَةِ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَسَنَ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ مَشُورَةً فِي أُمُورِ الدِّينِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَّصِلُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِحْضَارِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَجْلِسَ الشُّورَى، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي قَالَ مَا قَالَهُ قَدْ كَانَ حَضَرَ مَجْلِسَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلشُّورَى، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ خَبَرَ النَّصْرَانِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ، وَقَدْ اسْتَوْصَفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَوَصَفَهُ لَهُ، وَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ طَعَامِهِمْ، وَشَرَابِهِمْ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ جَوَّزَ الشُّرْبَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَمَنْ يَسْتَقْصِي فِي هَذَا الْبَابِ يَقُولُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ جِزْيَةً لِبَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُثَلَّثَ إنْ كَانَ غَلِيظًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرَقَّقَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يُشْرِبَ مِنْهُ كَمَا، فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى الْعَبَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَتَاهُ بِشَرَابٍ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 7 عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَهُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا رَابَكُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِنَبِيذِ الزَّبِيبِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، وَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، وَقَالَ إنَّ لِنَبِيذِ زَبِيبِ الطَّائِفِ غَرَامًا، وَفِي مُنَاوَلَتِهِ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ بَعْضَهُ، وَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ أَنْتَ عَلَى يَمِينِي، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: الْأَعْرَابِيُّ مَا أَنَا بِاَلَّذِي أُوثِرَ غَيْرِي عَلَى سُؤْرِكَ، فَثَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ»، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: ثَلَاثَةٌ يَمْنَةٌ تَدُورُ ... الْكَأْسُ وَالطَّسْتُ وَالْبَخُورُ ثُمَّ أُشْكِلَ عَلَى عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخَ بِالنَّارِ حَرَامٌ، فَبَعْدَ الطَّبْخِ كَذَلِكَ إذْ النَّارُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا أَحْمَقُ أَيْ يَا قَلِيلَ النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا؟ ثُمَّ يَكُونُ خَلًّا؟ فَنَأْكُلُهُ يَعْنِي أَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ تَزُولُ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ، وَلَكِنْ بِالطَّبْخِ تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ كَالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ عَيْنُهُ لَا يَكُونُ مُحَلِّلًا، وَلَكِنَّهُ مُنْهِرٌ لِلدَّمِ، وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، فَتَسْيِيلُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ يَكُونُ مُحَلِّلًا لِانْعِدَامِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا، وَبِهَذَا أَخَذْنَا، وَقُلْنَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ، وَإِتْلَافُ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحَرِّمًا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُلُّ نَبِيذٍ يَفْسُدُ عِنْدَ إبَّانِهِ، فَهُوَ نَبِيذٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكُلُّ نَبِيذٍ يَزْدَادُ جَوْرُهُ عَلَى طُولِ التَّرْكِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النِّيءَ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ، أَوْ التَّمْرِ أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا، وَلَمْ يَصِرْ مُعَتَّقًا، فَهُوَ بِحَيْثُ يَفْسُدُ عِنْدَ إبَّانِهِ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَإِذَا صَارَ مُعَتَّقًا بِأَنْ غَلَا، وَاشْتَدَّ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَهُوَ يَزْدَادُ جَوْرُهُ عَلَى طُولِ التَّرْكِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِابْتِدَاءِ فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ إنَّهُ إذَا صَارَ مُعَتَّقًا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَفْسُدُ إذَا تُرِكَ عَشَرَةً، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النِّيءِ خَاصَّةً، فَهُوَ النَّبِيذُ حَقِيقَةً مُشْتَقٌّ مِنْ النَّبْذِ، وَهُوَ الطَّرْحُ أَيْ يُنْبَذُ الزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ فِي الْمَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ حَلَاوَتَهُ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ، فَالطَّبْخُ يُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّبِيذِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى بِهِ مَجَازًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حُرِّمَتْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 8 الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا، وَكَثِيرُهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَخِيرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ السُّكْرُ كَالْمُؤْلِمِ اسْمٌ لِمَا يَتَوَلَّدُ الْأَلَمُ مِنْهُ، وَإِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ لِعَيْنِهَا، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَفِي الْمُثَلَّثِ، وَالْمَطْبُوخِ مِنْ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ يُفَصَّلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ مِنْهُ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْكَأْسُ الْمُسْكِرَةُ هِيَ الْحَرَامُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا مِثْلُ ذَلِكَ دَمٌ فِي ثَوْبٍ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ إنْ كَانَ قَلِيلًا، فَإِذَا كَثُرَ لَمْ تَحِلَّ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَمِثْلُهُ رَجُلٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَسْرَفَ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى طَعَامٍ، وَلَا خَيْرَ فِي الْمُسْكِرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ، فَإِذَا جَاءَ السُّكْرُ، فَلْيَدَعْ الشُّرْبَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّبَنَ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الشَّرَابِ حَلَالٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَ يُسْكِرُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَنْجَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَدَاوَى بِهِ الْإِنْسَانُ، فَإِذَا كَادَ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ مِنْهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ السُّكْرُ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ كَمَا قَرَّرْنَا، فَيَحْرُمُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ فِي الْمُثَلَّثِ لَا يُوجَدُ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ لَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ بَلْ بِالْقَلِيلِ يَسْتَمْرِئُ طَعَامَهُ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْكَثِيرُ يُصَدِّعُ رَأْسَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِينَ يَعْتَادُونَ شُرْبَ الْمُسْكِرِ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْمُثَلَّثِ أَصْلًا، وَلَا يُقَالُ: الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُسْكِرٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ السُّكْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْخِمِ مِنْ الطَّعَامِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الطَّعَامِ بِقَدْرِ مَا يُغَذِّيهِ، وَيُقَوِّي بَدَنَهُ حَلَالٌ، وَمَا يُتْخِمُهُ، وَهُوَ الْأَكْلُ، فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ مِنْهُ الْمُتْخِمُ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَكُونُ مُتْخِمًا إلًّا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّرَابِ. . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ إنْسَانًا أَتَاهُ، وَفِي بَطْنِهِ صَفْرَاءُ، فَقَالَ وُصِفَ لِي السُّكْرُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: كُلُّ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ، فَلَا يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى يَسْتَأْذِنُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِكَ صَفْرَاءُ، فَعَلَيْك بِمَاءِ السُّكَّرِ، وَإِنْ كَانَ بِك رُطُوبَةٌ، فَعَلَيْك بِمَاءِ الْعَسَلِ، فَهُوَ أَنْفَعُ لَك، فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ مَا يَكُونُ حَلَالًا، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي رِجْسٍ شِفَاءً»، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الشِّفَاءِ أَصْلًا، فَقَدْ يُشَاهَدُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ رِجْسًا لِلشِّفَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ مِنْ الْحَلَالِ مَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، أَوْ يَكُونُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 9 أَقْوَى مِنْهُ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا، وَعَنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهُ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَمْسَكُوهُ مَا بَدَا لَكُمْ، وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِيَتَّسِعَ بِهِ مُوسِرُكُمْ عَلَى مُعْسِرِكُمْ، وَعَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «، وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، فَاشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»، وَهَذَا اللَّفْظُ رَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ أَيْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ أُذِنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ مَا كَانَ نُهِيَ عَنْهَا، وَبِالْإِذْنِ يُنْسَخُ حُكْمُ النَّهْيِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا مُنِعُوا عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ قَطُّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ قَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، وَكَانَتْ قَدْ مَاتَتْ مُشْرِكَةً، وَرُوِيَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَهَا فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ فَوَقَفُوا بِالْبُعْدِ، وَدَنَا هُوَ مِنْ قَبْرِهَا، فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ، وَقِيلَ: إنَّمَا نُهُوا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْدُبُونَ الْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَرُبَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ كَذِبٌ، أَوْ مُحَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا» أَيْ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ التَّكَلُّمُ بِاللَّغْوِ، فَذَلِكَ مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ، وَيَتَأَمَّلَ فِي حَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا قَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ إلَّا أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ عَنْ الْهَجْرِ مِنْ الْكَلَامِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الزِّيَارَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقُولُوا هُجْرًا، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: الْإِذْنُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ يُمْنَعْنَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - خَرَجَتْ فِي تَعْزِيَةٍ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّك أَتَيْت الْمَقَابِرَ قَالَتْ لَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ أَتَيْت مَا فَارَقْت جَدَّتُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ كُنْت مَعَهَا فِي النَّارِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ الرُّخْصَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَزُورُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ حَاجَّةً زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنْشَدَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ قَوْلَ الْقَائِلِ: وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا ، فَلِمَا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا ، وَالنَّهْيُ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَدْ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 24 ¦ الصفحة: 10 «فَامْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا»، فَإِنَّ الْقُرْبَةَ تُنَادِي بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَالتَّدْبِيرُ فِي اللَّحْمِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَكْلِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَالْإِطْعَامِ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنَّهُ لِلضِّيقِ وَالشِّدَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْسَاكِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ لِيَتْبَعَ مُوسِرُهُمْ عَلَى مُعْسِرِهِمْ، وَلَمَّا انْعَدَمَ ذَلِكَ التَّضْيِيقُ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ، فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي، فَقَدْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي الْمُتَثَلِّمَةِ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ، وَشَقِّ الرَّوَايَا، فَلَمَّا تَمَّ انْزِجَارُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ، وَأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ، وَهُوَ الْكَأْسُ الْأَخِيرُ. . وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أُتِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَعْرَابِيٍّ سَكْرَانَ مَعَهُ إدَاوَةٌ مِنْ نَبِيذٍ مُثَلَّثٍ، فَأَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، فَمَا أَعْيَاهُ إلَّا ذَهَابُ عَقْلِهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَحُبِسَ حَتَّى صَحَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ الْحَدَّ، وَدَعَا بِإِدَاوَتِهِ، وَبِهَا نَبِيذٌ، فَذَاقَهُ، فَقَالَ: أَوَّهْ هَذَا فَعَلَ بِهِ هَذَا الْفِعْلَ، فَصَبَّ مِنْهُ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ، وَقَالَ إذَا رَابَكُمْ شَرَابُكُمْ، فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْتَالَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةٍ يُظْهِرُهَا كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا، وَفِي حَدِيثِ الشُّرْبِ عَلَى الْخُصُوصِ لِضَعْفٍ فِي سَبَبِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ حَدًّا، فَيَمُوتُ، فَآخُذُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِآرَائِنَا، فَلِهَذَا طَلَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَخْرَجًا لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ يُحْبَسُ حَتَّى يَصْحُوَ، ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْإِقَامَةِ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ، فَإِنَّهُ لِاخْتِلَاطِ عَقْلِهِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّارِبَ يُمَازِحُهُ بِمَا يَضْرِبُهُ، وَالْمَقْصُودُ إيصَالُ الْأَلَمِ إلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَصْحُ. وَتَأْخِيرُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِعُذْرٍ جَائِزٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَزِمَهَا حَدُّ الزِّنَا بِالرَّجْمِ، وَهِيَ حُبْلَى لَا يُقَامُ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ نَبِيذِ الزَّبِيبِ إذَا كَانَ مَطْبُوخًا، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الشُّرْبِ مِنْ إدَاوَتِهِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ شَرِبَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَتَضْرِبُنِي فِيمَا شَرِبْته، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا حَدَدْتُك لِسُكْرِكَ، فَهُوَ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ الَّذِي يَجُوزُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَعَنْ حَمَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ دَخَلْت عَلَى إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ يَتَغَذَّى، فَدَعَا بِنَبِيذٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَانِي، فَرَأَى فِي الْكَرَاهَةَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلْقَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 11 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَيَتَغَدَّى عِنْدَهُ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهُ النَّبِيذَ يَعْنِي نَبِيذَ الْجَرِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْتَادُ شُرْبَهُ حَتَّى ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ أَرَاهُمْ الْجَرَّ الْأَخْضَرَ الَّذِي كَانَ يَنْبِذُ فِيهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنَّا عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ يُحَدِّثُنَا بِحُرْمَةِ النَّبِيذِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ شَرِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَبِيذًا مُشْتَدًّا صُلْبًا، وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَبِيذًا مُشْتَدًّا كَانَ يَعْتَادُ شُرْبَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ سَقَانِي عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَبِيذًا، فَلَمَّا رَأَى مَا بِي مِنْ التَّغَيُّرِ بَعَثَ مَعِي قَنْبَرًا يَهْدِينِي، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنَّ الْقَوْمَ لَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ، وَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَلَا يَزَالُونَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ يَعْنِي إذَا بَلَغُوا حَدَّ السُّكْرِ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ، وَيَأْمُرُ بِاِتِّخَاذِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الطِّلَاءُ الَّذِي يَأْمُرُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِاِتِّخَاذِهِ لِلنَّاسِ، وَيَسْقِيهِمْ مِنْهُ كَيْفَ كَانَ قَالَ كَانَ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمْ بَعْدَ مَا يَشْتَدُّ لِمَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّا نَنْحَرُ جَزُورًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْعُنُقُ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا النَّبِيذِ، فَيُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا، وَلِكَثْرَةِ مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا عَدَّ مِنْ خِصَالِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنْ لَا يُحَرَّمَ نَبِيذُ الْجَرِّ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ، فَأَنْقَطِعَ نِصْفَيْنِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَرِّمَ نَبِيذَ الْجَرِّ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا فِي التَّحْرِيمِ مِنْ رَدِّ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِسَاءَةِ الْقَوْلِ فِي الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ، فَأَمَّا مَعَ الْإِبَاحَةِ، فَقَدْ لَا يُعْجِبُ الْمَرْءَ الْإِصَابَةُ مِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ لِلِاحْتِيَاطِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ تَثْبُتُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، فَقَدْ كَانُوا فِي الِابْتِدَاءِ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: شَهِدْت تَحْرِيمَهُ كَمَا شَهِدْتُمْ، ثُمَّ شَهِدْت تَحْلِيلَهُ، فَحَفِظْت ذَلِكَ، وَنَسِيتُمْ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ الْآثَارِ فِي حُرْمَتِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ بَعْدَ الْحُرْمَةِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إنَّمَا كُرِهَ التَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ لِشِدَّةِ الْغِشِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا كُرِهَ اللَّحْمُ، وَالتَّمْرُ، وَكَمَا كُرِهَ أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ عَنْ شَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ الْيَوْمَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَوْلُ النَّاسِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 12 فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ خَطَأٌ مِنْهُمْ، إنَّمَا أَرَادَ السُّكْرُ حَرَامٌ، فَأَخْطَئُوا، وَسَنُبَيِّنُ تَأْوِيلَ هَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ هَذَا، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ يُزَفِّتُونَ، فَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ، فَقِيلَ: أَصَابُوا مِنْ شَرَابٍ لَهُمْ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ رَاجِعًا مِنْ غُزَاتِهِمْ شَكَوْا إلَيْهِ مَا لَقُوا مِنْ التُّخَمَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُسْكِرِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ بَعْدَ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَاهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحَقُّقِ الزَّجْرِ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَبْلُغُوا حَدَّ الْمُسْكِرِ، وَالزَّبِيبُ الْمُعَتَّقُ إذَا لَمْ يُطْبَخْ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ مِمَّا لَمْ يَغْلِ، فَإِذَا غَلَا، وَاشْتَدَّ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي الْخَمْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي، فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعَصِيرُ، وَإِنْ أَشْتَدَّ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ مَا لَمْ يَغْلِ، وَيَقْذِفْ بِالزَّبَدِ، فَإِذَا غَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَهُوَ خَمْرٌ حِينَئِذٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إذَا اشْتَدَّ، فَهُوَ خَمْرٌ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الشِّدَّةِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لِمَا فِي شُرْبِهَا مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللَّذَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَالْقُوَّةِ الْمُسْكِرَةِ فِيهَا، فَأَمَّا بِالْغَلَيَانِ، وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ، فَيَرِقُّ، وَيَصْفُو، وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي إحْدَاثِ السُّكْرِ، فَبَعْدَمَا صَارَ مُشْتَدًّا، فَهُوَ خَمْرٌ سَوَاءٌ غَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، أَوْ لَمْ يَغْلِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَالُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَيَحْتَالُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْغَلَيَانِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ غَلَيَانٌ، وَلَا قَذْفٌ بِالزَّبَدِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَدَّ لِيَكُونَ مُسْكِرًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشِّدَّةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُسْكِرَ صِفَةُ الْعَصِيرِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِمَا يُعْصَرُ مِنْ الْعِنَبِ، وَمَا بَقِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ، فَالْحُكْمُ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَعَ بَقَاءِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحِطَّةِ فِي الْمَحَلَّةِ لَا يُعْتَبَرُ السُّكَّانُ. ، ثُمَّ حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَالْحَدُّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ، وَلَكِنْ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَالنَّصُّ إنَّمَا، وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْخَمْرُ مُغَايِرٌ لِلْعَصِيرِ، وَلَا تَتِمُّ الْمُغَايِرَةُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْعَصِيرِ، وَقَدْ كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا فِيهِ، وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْغَلَيَانِ، وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ، وَالْأَصْلُ فِي الْحُدُودِ اعْتِبَارُ نِهَايَةِ الْكَمَالِ فِي سَبَبِهَا كَحَدِّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْفِعْلِ اسْمًا، وَصُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلِهَذَا اسْتَقْصَى أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ: لَا تَتَوَفَّرُ أَحْكَامُ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ بِمُجَرَّدِ الشِّدَّةِ إلَّا بَعْدَ الْغَلَيَانِ، وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ. . فَأَمَّا نَبِيذُ التَّمْرِ، وَنَبِيذُ الزَّبِيبِ، فَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 13 بِالزَّبَدِ، فَهُوَ حَرَامٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ فِيهِ، وَبَعْدَ الطَّبْخِ يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَإِنْ اشْتَدَّ، وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ فِي التَّمْرِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَدْنَى الطَّبْخِ، وَهُوَ أَنْ يَنْضَجَ، وَفِي الزَّبِيبِ الْمُعَتَّقِ كَذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُكْسَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تُسْتَخْرَجَ حَلَاوَتُهُ بِالْمَاءِ كَمَا فِي التَّمْرِ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّبْخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ كَمَا فِي الْعَصِيرِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْعَصِيرُ ابْتِدَاءً إذَا أُعِيدَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَحُكْمُ مَا يُعْصَرُ مِنْهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ، وَمَا لَا يَكُونُ مِنْهُ الْعَصِيرُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْعَصِيرِ فِي الِانْتِهَاءِ، فَمَا يَسِيلُ مِنْ الرُّطَبِ فِي الِابْتِدَاءِ يَحِلُّ بِأَدْنَى الطَّبْخِ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَمَا يَسِيلُ مِنْ الْعِنَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، فَالزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ سَوَاءٌ، وَإِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَإِنْ اشْتَدَّ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ الَّذِي كَانَ فِي الْعِنَبِ قَدْ ذَهَبَ حِينَ زُبِّبَ، وَالزَّبِيبُ عَيْنٌ آخَرُ سِوَى الْعِنَبِ. (أَلَا تَرَى) إنْ غَصَبَ عِنَبًا، فَجَعَلَهُ زَبِيبًا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، فَإِذًا تُعْتَبَرُ حَالُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ وَالتَّمْرُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ الَّتِي مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، فَهُوَ لَيْسَ نَظِيرُ الْخَمْرِ فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالشُّرْبِ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَصَّفُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِالطَّبْخِ نِصْفُهُ إذَا غَلَا، وَاشْتَدَّ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا، وَفِي النَّادِقِ، وَهُوَ مَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ، وَكَانَ دُونَ النِّصْفِ، فَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَصَّفِ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَالْحَدِّ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْخَمْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا حُكْمُ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْبَلْوَى أَيْضًا، وَبِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَخِفُّ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَأَمَّا فِي حُكْمِ الْحَدِّ، فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَتِهِ، فَالِاخْتِلَافُ الْمُعْتَبَرُ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحَدُّ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ، فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ عَيْنَهُ مُحَرَّمَةُ التَّنَاوُلِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي هَذَا الْمَشْرُوبِ سِوَى الشُّرْبِ، وَإِذَا كَانَ مُحَرَّمَ الشُّرْبِ شَرْعًا كَانَ، فَاسِدًا لِمَالِيَّتِهِ، وَالتَّقَوُّمِ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 24 ¦ الصفحة: 14 سَوَّى فِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشُّرْبِ حِينَ لَعَنَ بَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ تَسْلِيطًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشُّرْبِ عَادَةً، فَإِذَا كَانَ الشُّرْبُ حَرَامًا حَرُمَ الْبَيْعُ أَيْضًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا شَرَابٌ مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُثَلَّثِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ حُرْمَةُ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الدُّهْنَ النَّجِسَ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ السِّرْقِينِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ تَنَاوُلُهُ حَرَامًا، وَالسِّرْقِينُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَصَّفُ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَبُطْلَانُ بَيْعِ الْخَمْرِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْحَدِّ، وَحُكْمِ النَّجَاسَةِ، فَجَازَ بَيْعُهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا الْمُثَلَّثُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهُ حَرَامٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ شُرْبَهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ شُرْبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «مَا أَسْكَرَتْ الْجَرْعَةُ مِنْهُ، فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»؛ وَلِأَنَّ الْمُثَلَّثَ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ خَمْرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ لَا لِكَوْنِهِ مَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَصِيرَ الْحُلْوَ لَا يُسَمَّى خَمْرًا، وَإِنَّمَا تَسْمِيَتُهُ بِالْخَمْرِ لِمَعْنَى مُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ». وَلَوْ سَمَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خَمْرًا لَكَانَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ هَذَا الِاسْمِ لَهُ، فَإِذَا سَمَّاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ أَوْلَى، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مُسَاوٍ لِلْكَثِيرِ مِنْ الْخَمْرِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيلُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَمَا، وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ إنَّمَا حَصَلَ بِشُرْبِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ جَمِيعًا، فَبِاعْتِبَارِ جَانِبِ الْحَلَالِ يُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، وَالْمُسْقِطُ لَهُ تَرَجَّحَ الْمُسْقِطُ عَلَى الْمُوجِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ قَوْلُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ»، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 15 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى خَمْرًا لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» لَا يَكَادُ يَصِحُّ، فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثٌ لَا يَصِحُّ فِيهِنَّ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهَا كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، ثُمَّ مُرَادُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَشْبِيهُ الْمُسْكِرِ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الْحَدُّ، فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسَامِي، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمُسْكِرَ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُشْبِهٌ لِلْخَمْرِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى يَوْمَ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنْ السِّقَايَةِ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَرَدَّهُ قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَرَامٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَعَا بِمَاءٍ، وَصَبَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، وَقَالَ إنَّهُ إذَا اسْتَلْبَثَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ»، فَقَدْ كَانَ مُشْتَدًّا، وَلِهَذَا قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَرَدَّهُ ثُمَّ لَمَّا خَافَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَخَذَهُ، وَشَرِبَهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا قَطَّبَ وَجْهَهُ لِحُمُوضَتِهِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ السِّقَايَةِ إنَّمَا كَانَ يُتَّخَذُ لِشُرْبِ الْحَاجِّ، وَلَا يُسْقَى الْخَلُّ الْعَطْشَانَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ لِلشِّدَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ مَوْعُودٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا مُبَاحًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ لِيَعْلَمَ بِالْإِصَابَةِ مِنْهُ تِلْكَ اللَّذَّةِ، فَيَتِمُّ التَّرْغِيبُ فِيهِ، وَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ كَالْأُنْمُوذَجِ لِمَا هُوَ مَوْعُودٌ فِي دَارِ الْآخِرَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الشُّرْبَ فِي الْكَأْسِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ الْكَأْسِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الزُّجَاجِ، وَالْبَلُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْحِلِّيَّةَ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، وَتَقَرَّرَ هَذَا الْحَرْفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ إنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ لِيَكُونَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَمَلًا بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ، وَتَعَاطِيهَا لِلْأَمْرِ، وَحَقِيقَةُ تِلْكَ اللَّذَّةِ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْوَصْفِ بَلْ بِالذَّوْقِ، وَالْإِصَابَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِتَصِيرَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِهِ مَعْلُومَةً بِالتَّجْرِبَةِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالزِّنَا، وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ، فَفِيهَا مِنْ الْغِلَظِ، وَالْكَثَافَةِ مَا لَا يَدْعُو قَلِيلُهَا إلَى كَثِيرِهَا، فَكَانَ الْقَلِيلُ مِنْهَا مُبَاحًا مَعَ وَصْفِ الشِّدَّةِ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 16 الْمُسْكِرَ هُوَ الْكَأْسُ الْأَخِيرُ، وَأَنَّهُ مُبَايِنٌ فِي الْحُكْمِ لِمَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ مِنْهُ، وَهُوَ كَمَنْ شَرِبَ أَقْدَاحًا مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ شَرِبَ قَدَحًا مِنْ الْخَمْرِ، فَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْخَمْرُ، وَبِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ دُونَ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَقْدَاحِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. فَإِنْ كَانَ يَسْكَرُ بِشُرْبِ الْكَثِيرِ مِنْهُ، فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الْقَلِيلِ مِنْهُ كَالْبَنْجِ، وَلَبَنِ الْفَرَسِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ عِنْدَنَا حَرَامٌ، وَذَلِكَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيلِهِ: إذَا كَانَ يَشْرَبُ عَلَى قَصْدِ السُّكْرِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حَرَامٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْرَبُ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ فَلَا، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَشْيِ عَلَى قَصْدِ الزِّنَا يَكُونُ حَرَامًا، وَعَلَى قَصْدِ الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ هُوَ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْقَدَحُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ مُسْكِرٌ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ، ثُمَّ هَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ دَلِيلُنَا، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا هُوَ الْكَثِيرُ مِنْهُ يَكُونُ مُسْكِرًا، فَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ قَلِيلٌ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الْمُحَرَّمَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ، فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الْكُلَّ مُحَرَّمًا، فَلَا يَكُونُ الْمُحَرَّمُ قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ، ثُمَّ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآثَارِ، فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِبَعْضِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضِهَا، وَلَا بَأْسَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ جَمِيعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ إذَا طُبِخَ؛ لِأَنَّ الْبُسْرَ مِنْ نَوْعِ التَّمْرِ، فَإِنَّهُ يَابِسُ الْعَصَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْمَطْبُوخَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ شُرْبُهُ حَلَالٌ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، أَوْ الْبُسْرُ وَالزَّبِيبُ، وَهُوَ شَرَابُ الْخَلِيطَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ، وَبَعْدَ مَا طُبِخَ مُعَتَّقُهُ، وَغَيْرُ مُعَتَّقِهِ سَوَاءٌ فِي إبَاحَةِ الشُّرْبِ يَعْنِي الْمُشْتَدَّ مِنْهُ، وَغَيْرَ الْمُشْتَدِّ مِنْهُ، وَالْمُحَرَّمُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِغَيْرِ الْمُشْتَدِّ لَا يَحْصُلُ. وَلَوْ حَصَلَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ، وَلَا بَأْسَ بِهَذِهِ الْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا مِنْ الْعَسَلِ، وَالذُّرَةِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّبِيذِ عُتِّقَ، أَوْ لَمْ يُعَتَّقْ خُلِطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ لَمْ يُخْلَطْ بَعْدَ أَنْ يُطْبَخَ أَمَّا الْكَلَامُ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، فَفِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ مَطْبُوخًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَطْبُوخٍ، وَفِي النَّوَادِرِ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ شُرْبَ النِّيءِ مِنْهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ النَّخْلِ، وَالْكَرْمِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ»، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خَمْرٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ بِالْخَمْرِ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ النِّيءَ مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ إذَا كَانَ مُشْتَدًّا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، فَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 17 مَعْنَى الشِّدَّةِ يَجْمَعُ الْكُلَّ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَسَلَ، وَالذُّرَةَ، وَالشَّعِيرَ حَلَالُ التَّنَاوُلِ مُتَغَيِّرًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَكَذَلِكَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الطَّعَامِ، وَالتَّغَيُّرُ فِي الطَّعَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ، فَكَذَلِكَ نَفْسُ الشِّدَّةِ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ، فَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ كَالْبَنْجِ، وَفِي بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ كَاللَّبَنِ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ شَاذٌّ وَالشَّاذُّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَكُونُ مَقْبُولًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الرُّخْصَةِ لِتَحَقُّقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ. وَلَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْفَانِيدِ، وَالتُّوتِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ أَسْكَرَ، أَوْ لَمْ يُسْكِرْ؛ لِأَنَّ النَّصَّ، وَرَدَ بِالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الْحَدُّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ، وَدُعَاءُ الطَّبْعِ إلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يَكُونُ كَدُعَاءِ الطَّبْعِ إلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ الزَّبِيبِ، وَالْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ الزَّجْرُ أَيْضًا، وَإِنْ اشْتَدَّ عَصِيرُ الْعِنَبِ، وَغَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، ثُمَّ طُبِخَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ بِالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَاقَى عَيْنًا حَرَامًا، فَلَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِ كَطَبْخِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّارِ تَأْثِيرٌ فِي الْحِلِّ، وَلَا فِي تَغْيِيرِ طَبْعِ الْجَوْهَرِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ الْحُلْوِ إذَا طُبِخَ، فَالطَّبْخُ هُنَاكَ حَصَلَ فِي عَيْنٍ حَلَالٍ، وَلِلطَّبْخِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ صِفَةِ الْحُرْمَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ، فَإِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ، ثُمَّ اشْتَدَّ، فَهُوَ حِينَ اشْتَدَّ مَا كَانَ نِيئًا، فَلَا يَكُونُ خَمْرًا، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحِينَ اشْتَدَّ كَانَ نِيئًا، وَصَارَ خَمْرًا، ثُمَّ الطَّبْخُ فِي الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ عَيْنِهِ، وَلِهَذَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا. وَلَا بَأْسَ بِنَبِيذِ الْفَضِيخِ يَعْنِي إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، ثُمَّ طُبِخَ، وَتُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَاقَى عَيْنًا حَلَالًا، وَلِأَنَّهُ إنْ رَقَّ فَرِقَّتُهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ حَلَالُ الشُّرْبِ وَحْدَهُ، وَالْفَضِيخُ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قُلْت، فَهَلْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَطْبُوخِ عَلَى النِّصْفِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ حُلْوٌ، قَالَ لَا أُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ، وَهُوَ غَيْرُ حُلْوٍ، فَالْحُلْوُ حَلَالٌ، وَإِنْ كَانَ نِيئًا كَيْفَ لَا يَحِلُّ بَعْدَ الطَّبْخِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ طُبِخَ، وَهُوَ حُلْوٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ حِينَ ذَهَبَ مِنْهُ النِّصْفُ، أَوْ أَقَلُّ، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ، فَهَذَا هُوَ الْمُنَصَّفُ، وَالْقَاذِفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِمَا فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ. . وَإِذَا، وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ، أَوْ مُسْكِرٍ، أَوْ نَقِيعِ زَبِيبٍ قَدْ اشْتَدَّ فِي قَدَحٍ مِنْ مَاءٍ أَمَرْت بِإِرَاقَتِهِ، وَكَرِهْت شُرْبَهُ، وَالتَّوَضُّؤَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِمَا وَقَعَ فِيهِ، وَالتَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا شَرِبَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَارِبًا لِلْقَطْرَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 18 وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ، فَإِنْ شَرِبَ رَجُلٌ مَاءً فِيهِ خَمْرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ، وَلَا رِيحُهُ، وَلَا لَوْنُهُ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ مَاءٌ نَجِسٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ عَلَى قَصْدِ التَّلَهِّي، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا حَتَّى كَانَ يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُهُ، وَرِيحُهُ، وَتَبَيَّنَ لَوْنُهُ حَدَدْتُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْخَمْرُ؛ وَلِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ لِلتَّلَهِّي، وَقَدْ يُؤْثِرُ الْمَرْءُ الْمَمْزُوجَ عَلَى الصِّرْفِ، وَقَدْ يَشْرَبُ بِنَفْسِهِ صِرْفًا، وَيَمْزُجُ لِجُلَسَائِهِ، وَهُوَ وَإِنْ مَزَجَهُ بِالْمَاءِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا اسْمًا، وَحُكْمًا، وَمَقْصُودًا وَلَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهِ رِيحَهَا، وَوَجَدَ طَعْمَهَا حُدَّ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي شُرْبِهَا لِطَعْمِهَا لَا لِرِيحِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِإِذْهَابِ رِيحِهَا، وَلِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي طَبْعِهَا. وَلَوْ مَلَأَ فَاهُ خَمْرًا، ثُمَّ مَجَّهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَاقَ الْخَمْرَ، وَمَا شَرِبَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الشُّرْبِ بِهَذِهِ، وَأَنَّ الصَّائِمَ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَكَذَلِكَ الطَّبْعُ لَا يَمِيلُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ الزَّجْرُ بِخِلَافِ شُرْبِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ، وَالطَّبْعُ مَائِلٌ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ قُلْت، وَالتَّمْرُ الْمَطْبُوخُ يُمْرَسُ فِيهِ الْعِنَبُ، فَيَغْلِيَانِ جَمِيعًا، وَالْعِنَبُ غَيْرُ مَطْبُوخٍ قَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أَحُدُّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَسْكَر، وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي طَبْخِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يُعْصَرَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرُ يَكْفِي أَدْنَى الطَّبْخِ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَا مَا فِيهِ بِالطَّبْخِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْعِنَبِ هُوَ الْعَصِيرُ، وَالْعَصْرُ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ التُّفْلِ وَالْقِشْرِ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ الْعَصِيرُ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، فَكَذَلِكَ الْعِنَبُ. فَإِنْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، أَوْ بَيْنَ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَلَطَ عَصِيرَ الْعِنَبِ بِنَقِيعِ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ، وَفِي مِثْلِهِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ نَقِيعَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ ثُمَّ نُقِعَ فِيهِ تَمْرٌ، أَوْ زَبِيبٌ، فَإِنْ كَانَ مَا نُقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُطْبَخْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَقِيعٍ مَطْبُوخٍ، وَلَوْ صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ نَقِيعٍ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ، وَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 19 عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَا يُحَدُّ فِي شُرْبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْكِرْ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَفِي الْحُدُودِ يُحْتَالُ لِلدَّرْءِ، وَلِلْإِسْقَاطِ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَإِنْ خَلَطَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَشَرِبَهُ رَجُلٌ، وَلَمْ يَسْكَرْ، فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةُ حَدَدْتُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيذُ هُوَ الْغَالِبُ لَمْ نَحُدَّهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَهَذَا فِي الْجِنْسَيْنِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيذُ، وَالْخَمْرُ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَإِنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنْ طُبِخَ الزَّبِيبُ وَحْدَهُ، أَوْ التَّمْرُ، ثُمَّ مَرَسَ الْعِنَبُ فِيهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ مَا دَامَ حُلْوًا، فَإِذَا اشْتَدَّ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ مُرِسَ الْعِنَبُ فِي نَبِيذِ الْعَسَلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَصِيرٍ خُلِطَ بِنَبِيذٍ، وَاشْتَدَّ، فَإِنْ طُبِخَا جَمِيعًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ، ثُمَّ اشْتَدَّ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الشَّرْطُ فِي الْعَصِيرِ، وَهُوَ ذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ قَدْ وُجِدَ، وَالْعِنَبُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ يُعْصَرَانِ لَا بَأْسَ بِعَصِيرِهِمَا مَا دَامَ حُلْوًا، فَإِذَا اشْتَدَّ فَهُوَ خَمْرٌ، وَإِنَّمَا، أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ الْعِنَبِ الْأَسْوَدِ دُونَ الْأَبْيَضِ هَذَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْكُلُ عَلَى الْفُقَهَاءِ، فَلِرَدِّ مَا، وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاصْطِيَادِ بِالْكَلْبِ الْكُرْدِيِّ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَمَا طُبِخَ مِنْ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَعُتِّقَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَكْرَهُ الْمُعَتَّقَ مِنْ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَأَنْهَى عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: كُلُّ نَبِيذٍ يَزْدَادُ جَوْدَةً عِنْدَ إبَّانِهِ، فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذُكِرَ رُجُوعُهُ فِي رِوَايَاتِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ نَبِيذُ التَّمْرِ الْمُعَتَّقِ يُجْعَلُ فِيهِ الرَّازِيّ، وَهُوَ شَيْءٌ يَجْعَلُونَهُ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ الطَّبْخِ لِتَقْوَى بِهِ شِدَّتُهُ، وَيُنْتَقَصُ مِنْ النَّفْخِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالشِّدَّةُ بَعْدَ الطَّبْخِ لَا تَمْنَعُ شُرْبَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا جُعِلَ فِيهِ مَا تَتَقَوَّى بِهِ الشِّدَّةُ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ شُرْبُهُ، وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ. وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَتَدَلَّكُ بِدُرْدِيِّ الْخَمْرِ فِي الْحَمَّامِ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ حَتَّى لَعَنَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ بَعْدَ مَا أَنْكَرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْكَرْ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ، وَفِي الدُّرْدِيِّ قَطَرَاتٌ مِنْ الْخَمْرِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ، وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الزَّجْرُ فِيمَا تَمِيلُ إلَيْهِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالطِّبَاعُ لَا تَمِيلُ إلَى شُرْبِ الدُّرْدِيِّ بَلْ مَنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 20 يَعْتَادُ شُرْبَ الْخَمْرِ يَعَافُ الدُّرْدِيَّ، فَيَكُونُ شُرْبُهُ كَشُرْبِ الدَّمِ، وَالْبَوْلِ، ثُمَّ الْغَالِبُ عَلَى الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءُ تُفْلِ الْعِنَبِ مِنْ الْقِشْرِ، وَغَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْمَاءُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ كَمَا بَيَّنَّا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْغَالِبُ تُفْلُ الْعِنَبِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي خَلٍّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ يَصِيرُ خَلًّا إذَا تُرِكَ كَذَلِكَ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَلُّ، أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَخَلُّ الْخَمْرِ حَلَالٌ وَإِذَا طُبِخَ فِي الْخَمْرِ رَيْحَانٌ يُقَالُ: لَهُ سَوْسَنٌ حَتَّى يَأْخُذَ رِيحَهَا ثُمَّ يُبَاعُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْهُنَ، أَوْ يَتَطَيَّبَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْخَمْرِ، وَإِنْ تَكَلَّفُوا لِإِذْهَابِ رَائِحَتِهِ بِرَائِحَةِ شَيْءٍ آخَرَ غَلَبَ عَلَيْهَا، وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَشْرًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا»، وَقَالَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا تَمْتَشِطُ الْمَرْأَةُ بِالْخَمْرِ فِي الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّهَا فِي خِطَابِ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا عِنْدَ الشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ حَيْثُ الِامْتِشَاطِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ يَصْنَعُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي تَرْنِيقِ الشَّعْرِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَنْهَى النِّسَاءَ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْقَى الصِّبْيَانُ الْخَمْرَ لِلدَّوَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَسْقِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَكِنْ مَنْ يَسْقِيهِ مُخَاطَبٌ، فَهُوَ الْآثِمُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّ أَوْلَادَكُمْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَا تُدَاوُوهُمْ بِالْخَمْرِ، وَلَا تُغَذُّوهُمْ بِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي رِجْسٍ شِفَاءً، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ سَقَاهُمْ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُدَاوِيَ بِهَا جُرْحًا فِي بَدَنِهِ، أَوْ يُدَاوِيَ بِهَا دَابَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِالْخَمْرِ وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْحَلَالِ مَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي الْمُدَاوَاةِ. . وَإِنْ غُسِلَ الظَّرْفُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْخَمْرُ، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ النَّبِيذُ، وَالْمُرَبَّى؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ كَانَ تَنَجَّسَ بِمَا جُعِلَ فِيهِ مِنْ الْخَمْرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ بِجَعْلِ الْبَوْلِ، وَالدَّمِ فِيهِ، فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَإِذَا صَارَ طَاهِرًا بِالْغَسْلِ حَلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ، وَذَكَرَ فِيهَا الْخَمْرَ»، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَطْهُرُ الثَّوْبُ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُ الْخَمْرُ بِالْغَسْلِ فَكَذَلِكَ الظُّرُوفُ وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ، وَشَقِّ الرَّوَايَا» قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، ثُمَّ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِهِ الْمُرَادُ مَا يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ بِالْغَسْلِ، وَتُوجَدُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِنْ كُلِّ مَا يُجْعَلُ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهُوَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، فَلَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 21 يَحِلُّ كَثِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ شَرْعًا. قُلْت: فَالْخَمْرُ يُطْرَحُ فِيهَا السَّمَكُ، وَالْمِلْحُ، فَيُصْنَعُ مُرَبَّى قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا تَحَوَّلَتْ عَنْ حَالِ الْخَمْرِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ بِالْعِلَاجِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُ الْخَلِّ بَعْدَ التَّخْلِيلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخْلِيلُ حَرَامٌ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِي الْخَمْرِ مِنْ مِلْحٍ، أَوْ خَلٍّ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالتَّخْلِيلُ مِنْ غَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ، أَوْ إيقَادِ النَّارِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ إذَا تَخَلَّلَ، فَلَهُ قَوْلَانِ فِي إبَاحَةِ تَنَاوُلِ ذَلِكَ الْخَلِّ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْخَمْرُ خَلًّا»، وَفِي «حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ خُمُورٌ لِيَتَامَى، فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ مَاذَا أَصْنَعُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَرْقِهَا قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا»، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِرَاقَةِ. وَلَوْ كَانَ التَّخَلُّلُ جَائِزًا لَأَرْشَدَهُ إلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِصْلَاحِ فِي حَقِّ الْيَتَامَى، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ التَّخَلُّلِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُرَخِّصَ فِيهِ فِي خُمُورِ الْيَتَامَى، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ التَّخْلِيلَ حَرَامٌ، فَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْحِلِّ كَذَبْحِ الشَّاةِ فِي غَيْرِ مَذْبَحِهَا؛ وَلِأَنَّ الْخَمْرَ عَيْنٌ مُحَرَّمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالتَّخْلِيلُ تَصَرُّفٌ فِيهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ، فَيَكُونُ حَرَامًا كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَكَمَا لَوْ أَلْقَى فِي الْخَمْرِ شَيْئًا حُلْوًا كَالسُّكَّرِ، وَالْفَانِيذِ حَتَّى صَارَ حُلْوًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ تُوجِبُ الِاجْتِنَابَ، وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ نَصًّا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {، فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِلْإِرَاقَةِ، فَإِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْهُ، ثُمَّ مَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ نَجِسٌ بِمُلَاقَاةِ الْخَمْرِ إيَّاهُ، وَمَا يَكُونُ نَجِسًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إذَا أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ، وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ شَيْءٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ تَنْجِيسُ شَيْءٍ بِإِلْقَائِهِ فِيهِ، وَلَا مُبَاشَرَةُ فِعْلٍ حَرَامٍ فِي الْخَمْرِ، فَهُوَ نَظِيرُ الصَّيْدِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ حَلَّ اصْطِيَادُهُ. وَلَوْ أَخْرَجَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَحِلَّ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحَرَمِ وَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ بِمُبَاشَرَتِهِ فِعْلًا حَرَامًا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بِنَفْسِهِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَإِذَا تَخَلَّلَتْ، فَقَدْ تَحَوَّلَتْ بِطَبْعِهَا، وَصَارَتْ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ، فَأَمَّا التَّخْلِيلُ، فَلَيْسَ بِتَقْلِيبٍ لِلْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ تَقْلِيبُ الطِّبَاعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي إلَيْهِمْ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا تَنْجِيسًا لِمَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ لَا تَقْلِيبًا لِطَبْعِ الْخَمْرِ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّابِّ يَصِيرُ شَيْخًا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَبِتَكْلِيفِهِ لَا يَصِيرُ شَيْخًا، فَإِذَا لَمْ يَتَبَدَّلْ طَبْعُهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 22 بِهَذَا التَّخْلِيلِ بَقِيَ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْهُرْ كَمَا إذَا أُلْقِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحَلَاوَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْجِلْدِ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ، وَالدَّبْغُ إزَالَةٌ لِتِلْكَ الدُّسُومَةِ، وَإِلَى الْعِبَادِ الْفَصْلُ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، فَكَانَ فِعْلُهُ إصْلَاحًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمَيَّزُ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجِسِ، فَأَمَّا نَجَاسَةُ الْخَمْرِ، فَلِعَيْنِهَا لَا لِغَيْرٍ اتَّصَلَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ هَذِهِ الصِّفَةُ بِتَحَوُّلِهَا بِطَبْعِهَا، وَلَا أَثَرَ لِلتَّخْلِيلِ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ، فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ يُخَلَّلُ، فَيَحِلُّ»، وَلَا يُقَالُ: قَدْ رُوِيَ كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ، فَحَلَّ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْخَبَرَيْنِ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا، ثُمَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ دَبْغَ الْجِلْدِ بِهِ، وَالدَّبْغُ يَكُونُ بِصُنْعِ الْعِبَادِ لَا بِطَبْعِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْلِيلُ الَّذِي يَكُونُ بِصُنْعِ الْعِبَادِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ لِجَوْهَرٍ فَاسِدٍ، فَيَكُونُ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَالشَّرْعِ أَنْ لَا يَنْهَى عَمَّا هُوَ حِكْمَةٌ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْخَمْرَ جَوْهَرٌ، فَاسِدٌ، فَإِصْلَاحُهُ بِإِزَالَةِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ عَنْهُ، وَالتَّخْلِيلُ إزَالَةٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إصْلَاحٌ لَهُ، وَهُوَ كَدَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ عَيْنَ الْجِلْدِ نَجِسٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ لَجُوِّزَ بَيْعَهُ كَالدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ، وَلَكِنَّ الدَّبْغَ إصْلَاحٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْصِمُهُ عَنْ النَّتْنِ، وَالْفَسَادِ، فَكَانَ جَائِزًا شَرْعًا، وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ إنَّ هَذَا إفْسَادٌ فِي الْحَالِ لِمَا يُلْقَى فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ إفْسَادٌ لِمَا يُجْعَلُ فِيهِ مِنْ الشَّبِّ، وَالْقَرَظِ، وَهَذَا إصْلَاحٌ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَآلِ لَا لِلْحَالِ، فَإِنَّ إلْقَاءَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ إتْلَافًا لِلْبَذْرِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ إصْلَاحٌ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّخْلِيلَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْخَمْرِ عَلَى قَصْدِ تَمَوُّلِ الْخَمْرِ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ، وَبَيْنَ تَمَوُّلِ الْخَمْرِ، وَإِتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ مُنَافَاةٌ، فَمَا كَانَ الِاقْتِرَابُ مِنْ الْعَيْنِ لِإِتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ إلَّا نَظِيرَ الِاقْتِرَابِ مِنْهَا لِإِرَاقَةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ شَرْعًا، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَقْلِيبَ الطِّبَاعِ لَيْسَ إلَى الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا إلَيْهِمْ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ، وَلَكِنَّ إحْدَاثَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْخَلِّ وَالْخَمْرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقْوَى عَلَى إتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ بِتَحَوُّلِهَا إلَى طَبْعِ الْحِلِّ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ، فَكَانَ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا جَازَ الْإِمْسَاكُ إلَى أَنْ يَتَخَلَّلَ، فَالتَّخْلِيلُ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَأَمَّا إذَا أَلْقَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحَلَاوَةِ، فَذَلِكَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَصِيرَ حُلْوًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الشِّدَّةِ، وَالْمَرَارَةِ قَائِمٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ لِغَلَبَةِ الْحَلَاوَةِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مِنْ طَبْعِ الْخَمْرِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا، فَيَكُونُ التَّخْلِيلُ إتْلَافًا لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ وَجْهٍ، فَعَلَيْهِ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 23 الْخَمْرِيَّةِ كَمَا قُلْنَا، فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا، فَيَقُولُ لِاعْتِبَارِ جَانِبِ إحْدَاثِ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَحِلُّ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْحَلَاوَاتِ فِيهِ، وَلِاعْتِبَارِ جَانِبِ إتْلَافِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ يَحِلُّ التَّخْلِيلُ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ، فَالْمُرَادُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخَمْرُ اسْتِعْمَالَ الْخَلِّ بِأَنْ يُؤْتَدَمَ بِهِ، وَيُصْطَبَغَ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَأَنْ تُتَّخَذَ الدَّوَابُّ كَرَاسِيَّ»، وَالْمُرَادُ الِاسْتِعْمَالُ «، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ، وَيَنْهَوْنَ، فَيُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هُوَ ذَاكَ» قَدْ فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ، «أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ نَعَمْ»، وَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ، فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ التَّخْلِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، فَقَدْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِانْزِجَارُ عَنْ الْعَادَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ، وَنَهَى عَنْ التَّخْلِيلِ لِذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ، ثُمَّ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعِفُّوا فِي خُمُورِ الْيَتَامَى إذْ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ فِي خُمُورِ الْيَتَامَى أَيْضًا بِالْإِرَاقَةِ لِلزَّجْرِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ الْمَنْعُ مِنْ إفْسَادِ مَالِ الْيَتِيمِ لَا إصْلَاحُ مَا فَسَدَ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنْ شَاةَ الْيَتِيمِ إذَا مَاتَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ دَبْغُ جِلْدِهَا، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّخْلِيلُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَهُ كَانَ جَائِزًا إذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّخْلِيلِ، فَكَذَلِكَ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْمُرَبَّى مِنْ الْخَمْرِ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ، وَالسَّمَكِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا فِي التَّخْلِيلِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ مَا بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السِّيَاسَةِ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْخَمْرِ، وَلَا أَكْلُ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا رِجْسًا، فَيَقْضِي ذَلِكَ بِنَجَاسَةِ الْعَيْنِ، وَفَسَادِ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقْوِيمِ كَمَا فِي الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُسْلِمِ الِاقْتِرَابُ مِنْهَا عَلَى جِهَةِ التَّمَوُّلِ بِحَالٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ أَبَا عَامِرٍ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ كُلَّ عَامٍ، فَأَهْدَى لَهُ فِي الْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ فِيهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي خَمْرِك قَالَ: خُذْهَا، وَبِعْهَا، وَانْتَفِعْ بِثَمَنِهَا فِي حَاجَتِك، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا.» «، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ ثَمَنِهَا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 24 حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا، وَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَ الشُّرْبَ حَرَّمَ بَيْعَهَا، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا، وَمِمَّنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ بَائِعُهَا، وَمُشْتَرِيهَا.». فَإِنْ صُنِعَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ، ثُمَّ طُبِخَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَلَا يَحِلُّ هَذَا الصُّنْعُ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْخَمْرِ كَاسْتِعْمَالِ الْخَلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ الطَّبْخُ فِي الْخَمْرِ لَا يُحِلُّهَا، وَلَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِيهَا كَمَا لَوْ طَبَخَهَا لَا فِي مَرَقَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ تِلْكَ الْمَرَقَةَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا غَيْرُ الْخَمْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْغَالِبُ فِي حُكْمِ الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْمَرَقَةُ تُؤْكَلُ مَعَ الطَّعَامِ، وَالْأَكْلُ غَيْرُ الشُّرْبِ، وَلِهَذَا لَا نُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّرْدِيِّ؛ لِأَنَّهُ إلَى الْأَكْلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الشُّرْبِ، وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ، وَالْإِقْطَارُ مِنْهَا فِي الْإِحْلِيلِ، وَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ أَمَّا الِاسْتِشْفَاءُ بِعَيْنِ الْخَمْرِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ ذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّ شِفَاءَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي إبَاحَةِ هَذَا الْفِعْلِ، وَلِحَاجَتِهِ إلَى التَّدَاوِي، ثُمَّ مَا يُقَطَّرُ فِي إحْلِيلِهِ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ، وَلِهَذَا لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالْحُقْنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُفْطِرَةً، فَالْحَدُّ لَا يَلْزَمُهُ فِيمَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ أَسَافِلِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَالطَّبْعُ لَا يَمِيلُ إلَى ذَلِكَ، وَالتَّمْرُ يُطْبَخُ، وَيُطْبَخُ مَعَهُ الْكَشُوثَاءُ فَنُبِذَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُطْبَخُ مَعَهُ يَزِيدُ فِي شِدَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّدَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ التَّمْرِ وَلَوْ عُجِنَ الدَّقِيقُ بِالْخَمْرِ، ثُمَّ خُبِزَ كَرِهْتُ أَكْلَهُ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ تَنَجَّسَ بِالْخَمْرِ، وَالْعَجِينُ النَّجِسُ لَا يَطْهُرُ بِالْخَبْزِ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَلَوْ صَبَّ الْخَمْرَ فِي حِنْطَةٍ لَمْ يُؤْكَلْ حَتَّى تُغْسَلَ؛ لِأَنَّهَا تَنَجَّسَتْ بِالْخَمْرِ، فَإِنْ غَسَلَ الْحِنْطَةَ، وَطَحَنَهَا، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا طَعْمُ الْخَمْرِ، وَلَا رِيحُهَا، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَقَدْ زَالَتْ بِالْغَسْلِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِهَا، فَهُوَ، وَمَا لَوْ تَنَجَّسَتْ بِبَوْلٍ، أَوْ دَمٍ سَوَاءٌ، فَإِنْ تَشَرَّبَتْ الْخَمْرُ فِي الْحِنْطَةِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ تُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَتَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَطْهُرُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ إنَّمَا يُزِيلُ مَا عَلَى ظَاهِرِهَا، فَأَمَّا مَا تَشَرَّبَ فِيهَا، فَلَا يُسْتَخْرَجُ إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْعَصْرُ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَتَأَتَّى، وَهُوَ إلَى الْقِيَاسِ أَقْرَبُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ لِأَجْلِ الْبَلْوَى، وَالضَّرُورَةِ فِي جِنْسِ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي فُصُولٍ مِنْهَا التَّرَوِّي إذَا تَشَرَّبَ الْبَوْلُ فِيهِ، وَاللَّوْحُ، وَالْآجُرُّ، وَالْخَزَفُ الْجَدِيدُ، وَالنَّعْلُ فِي الْحَمَّامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِلتَّجْفِيفِ أَثَرًا فِي اسْتِخْرَاجِ مَا تَشَرَّبَ مِنْهُ، فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُقَامُ الْعَصْرِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْعَصْرُ، فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ. . وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْقَى الدَّوَابُّ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِالْخَمْرِ، وَاقْتِرَابٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 25 مِنْهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْقِيَهَا، أَوْ الْمُسْكِرُ الذِّمِّيَّ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْرَبَهَا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ سَاقِيهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، فَقَضَاهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَافِرًا، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ الْمُسْلِمُ يَأْخُذُ مِلْكَ مَدْيُونِهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ عِوَضٌ عَنْ دَيْنِهِ فِي حَقِّهِ لَا ثَمَنَ الْخَمْرِ، فَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ، فَبَاطِلٌ، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بَلْ هُوَ، وَاجِبُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لَيْسَ يَأْخُذُ مِلْكَ مَدْيُونِهِ بَلْ مِلْكَ الْغَيْرِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ، فَاسِدٍ شَرْعًا، فَيَكُونُ هُوَ بِهَذَا الْأَخْذِ مُقَرِّرًا الْحُرْمَةَ، وَالْفَسَادَ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ. وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ خَمْرًا؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ حَلَالٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَأَكْلُ ثَمَنِهِ، وَلَا، فَسَادَ فِي قَصْدِ الْبَائِعِ إنَّمَا الْفَسَادُ فِي قَصْدِ الْمُشْتَرِي، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ الْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ الْخَمْرَ مِنْ عَيْنِهِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْأَرْضِ مِمَّنْ يُغْرَسُ فِيهَا كَرْمًا لِيَتَّخِذَ مِنْ عِنَبِهِ الْخَمْرُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَصِيرِ، وَالْعِنَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَمْكِينٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ الْبَيْعِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي اتِّخَاذُ الْخَمْرِ، فَكَانَ فِي الْبَيْعِ مِنْهُ تَهْيِيجُ الْفِتْنَةِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ تَسْكِينُهَا. وَمَنْ أَهْرَاقَ خَمْرَ مُسْلِمٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَإِتْلَافُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَإِتْلَافِ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ جَبْرًا لِمَا دَخَلَ عَلَى الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ سُكَّرًا، أَوْ طِلَاءً قَدْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ، فَأَهْرَاقَهُ رَجُلٌ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ كَانَتْ الْمَالِيَّةُ، وَالتَّقَوُّمُ فِيهَا ثَابِتَةً، فَقَالَ إنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَلَكِنْ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مُتْلِفِهَا أَيْضًا، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ قُلْت مِنْ أَيْنَ اخْتَلَفَا؟ قَالَ: الْخَمْرُ حَرَامٌ، وَهَذَا لَيْسَ كَالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ نَحْنُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، فَتَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمِ، وَحُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَمْ تَكُنْ بِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَلَا تَسْقُطُ الْمَالِيَّةُ، وَالتَّقَوُّمُ بِهِ، فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا، فَصَارَتْ فِي يَدِهِ خَلًّا، ثُمَّ، وَجَدَهَا صَاحِبُهَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 26 فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التَّخَلُّلِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا، وَفِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دَبَغَهُ الْغَاصِبُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. . وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ مَا خَلَا الذَّبَائِحِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ بَعْضِهِمْ تَأْلِيفًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا بَأْسَ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ، وَلَكِنْ غَسْلُهَا أَحَبُّ إلَيَّ، وَأَنْظَفُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ طَبْخِ الْمَرَقَةِ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اغْسِلُوهَا، ثُمَّ اُطْبُخُوا فِيهَا»؛ وَلِأَنَّ الْآنِيَةَ تُتَّخَذُ مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ فِي سَرَاوِيلِ الْمَجُوسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَلَا بَأْسَ بِالْجُبْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَنْعَةِ الْمَجُوسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ بِسَلَّةٍ فِيهَا جُبْنٌ، وَخُبْزٌ، وَسِكِّينٌ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُ مِنْ ذَلِكَ الْجُبْنِ لِأَصْحَابِهِ، فَيَأْكُلُونَهُ، وَيُخْبِرُهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُ الْجُبْنَ؛ وَلِأَنَّ الْجُبْنَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَجْلِبُهُ الْمَجُوسُ مِنْ اللَّبَنِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ إذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ مَجُوسِيًّا، أَوْ مُشْرِكًا، وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِتَنَاوُلِ اللَّبَنِ، وَالْجُبْنِ، فَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ بِخِلَافِ الذَّبَائِحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الشَّاةُ إذَا مَاتَتْ، وَفِي ضِرْعِهَا لَبَنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَنَجَّسُ اللَّبَنُ بِمَوْتِهَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَتَنَجَّسُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَهُ حَيَاةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَتَنَجَّسُ بِتَنَجُّسِ الْوِعَاءِ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ صُبَّ فِي قَصْعَةٍ نَجِسَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ كَانَ اللَّبَنُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لَتَنَجَّسَ بِالْحَلْبِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مَيِّتٌ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُحْلَبَ اللَّبَنُ، فَيُشْرِبَ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بِنَجَاسَةِ وِعَائِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَلَا يُعْطَى الشَّيْءُ فِي مَعْدِنِهِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْأَصْلَ، اللَّبَنُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]، وَعَلَى هَذَا إنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَاهِرَةٌ مَائِعَةً كَانَتْ، أَوْ جَامِدَةً بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَتْ مَائِعَةً، فَهِيَ نَجِسَةٌ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ كَاللَّبَنِ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ لَا يَتَنَجَّسُ بَاطِنُهَا، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهَا يَزُولُ بِالْغَسْلِ، وَأَشَارَ لِأَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 27 - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ إلَى حَرْفٍ، فَقَالَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إنْفَحَةً، وَلَا لَبَنًا، وَهِيَ مَيِّتَةٌ، وَلَا يَضُرُّهَا مَوْتُ الشَّاةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّبَنَ، وَالْإِنْفَحَةَ تَنْفَصِلُ مِنْ الشَّاةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ حَيَّةً كَانَتْ الشَّاةُ، أَوْ مَيِّتَةً ذُبِحَتْ، أَوْ لَمْ تُذْبَحْ، فَلَا يَكُونُ لِمَوْتِ الشَّاةِ تَأْثِيرٌ فِي اللَّبَنِ، وَالْإِنْفَحَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَتْ دَجَاجَةٌ، فَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا بَيْضَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْبَيْضَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ إنْ كَانَتْ صُلْبَةً، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَيِّنَةً لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَاللَّبَنِ، وَالْإِنْفَحَةِ عَلَى أَصْلِهِ. . وَلَوْ سَقَى شَاةً خَمْرًا ثُمَّ ذُبِحَتْ سَاعَتَئِذٍ، فَلَا بَأْسَ بِلَحْمِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً بِالْوُصُولِ إلَى جَوْفِهَا، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي لَحْمِهَا، وَلَا فِي لَبَنِهَا، وَهِيَ عَلَى صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ بِحَالِهَا، فَلِهَذَا لَا بَأْسَ بِأَكْلِ لَحْمِهَا، وَشُرْبِ لَبَنِهَا وَلَوْ صَبَّ رَجُلٌ خَابِيَةً مِنْ خَمْرٍ فِي نَهْرِ مِثْلِ الْفُرَاتِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَمَرَّتْ بِهِ الْخَمْرُ فِي الْمَاءِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُهَا، أَوْ رِيحُهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ، وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْإِنَاءِ قَدْ تَنَجَّسَ، فَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ، وَأَمَّا الْفُرَاتُ، فَلَا يَتَنَجَّسُ إذْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَلَا رَائِحَتُهُ بِمَا صُبَّ فِيهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، أَوْ رِيحَهُ»، وَالْمُرَادُ الْمَاءُ الْجَارِي، ثُمَّ مَا صُبَّ فِي الْفُرَاتِ يَصِيرُ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا بِالْمَاءِ، فَمَا يَشْرَبُهُ الرَّجُلُ مَاءُ الْفُرَاتِ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ إلَّا إذَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ، أَوْ طَعْمُهَا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ عَيْنِ الْخَمْرِ فِيمَا شَرِبَهُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ فِي الْجِيفَةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَهْرٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ، أَوْ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، فَذَلِكَ الْمَاءُ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُجْعَل تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. وَإِذَا خَافَ الْمُضْطَرُّ الْمَوْتَ مِنْ الْعَطَشِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَ مِنْ الْخَمْرِ مَا يَرُدُّ عَطَشَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلْعَطَشِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَرُدُّ الْعَطَشَ بَلْ تَزِيدُ فِي عَطَشِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَارَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] الْآيَةَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَيْتَةِ، فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِصَابَةِ مِنْهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ يَرُدُّ عَطَشَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ رُطُوبَةً، وَحَرَارَةً، فَالرُّطُوبَةُ الَّتِي فِيهَا تَرُدُّ عَطَشَهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ بِالْحَرَارَةِ الَّتِي فِيهَا يَزْدَادُ الْعَطَشُ فِي الثَّانِي، وَإِلَى أَنْ يَهِيجَ ذَلِكَ بِهِ رُبَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 28 مِنْهَا إلَى السُّكْرِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ سَكِرَ نَظَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يُسَكِّنُ عَطَشَهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ هَذَا الْمِقْدَارِ حَلَالٌ، وَهُوَ وَإِنْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ سَكِرَ مِنْ اللَّبَنِ، أَوْ الْبَنْجِ، وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ مَا سَكَنَ عَطَشُهُ حَتَّى سَكِرَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ بَعْدَ مَا سَكَنَ عَطَشُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَالْقَلِيلُ، وَالْكَثِيرُ مِنْهَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِهِ، فَمِقْدَارُ مَا شَرِبَ بَعْدَ تَسْكِينِ الْعَطَشِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ إذَا شَرِبَ مِنْهُ، فَوْقَ مَا يُجْزِئُهُ حَتَّى سَكِرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْرَ مِنْ النَّبِيذِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي شُرْبِ الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مَعَ رَقِيقٍ لَهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُحَرَّزٌ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ كَانَ مُبَاحًا مُشْتَرَكًا، وَذَلِكَ الْأَصْلُ بَقِيَ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، فَلِاعْتِبَارِ إبَاحَةِ الْأَصْلِ قُلْنَا يُقَاتِلُهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، وَلِكَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ فِي الْحَالِ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»، فَكَيْفَ يُقَاتِلُ بِالسِّلَاحِ مَنْ إذَا قَتَلَهُ كَانَ شَهِيدًا، وَفِي الْمَاءِ الْمُبَاحِ إذَا مَنَعَهُ مِنْهُ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، فَأَمَّا فِي الطَّعَامِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، وَلَكِنَّهُ يَغْصِبُهُ إيَّاهُ إنْ اسْتَطَاعَ، فَيَأْكُلُهُ، ثُمَّ يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ حَقٌّ فِي هَذَا الطَّعَامِ قَطُّ، وَلَكِنَّ الطَّعَامَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهِ، فَهُوَ يَمْنَعُ الْغَيْرَ مِنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ لَهُ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُضْطَرَّ يَخَافُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبِيحٌ لَهُ التَّنَاوُلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِفِعْلٍ مَقْصُورٍ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرِ مُتَعَدٍّ إلَى صَاحِبِهِ، وَالْمَقْصُورُ عَلَى الطَّعَامِ الْأَخْذُ، فَأَمَّا الْقِتَالُ، فَيَكُونُ مَعَ صَاحِبِ الطَّعَامِ لَا مَعَ الطَّعَامِ، فَلِهَذَا لَا يُقَاتِلُهُ بِالسِّلَاحِ، وَلَا بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَاف عَلَى نَفْسِهِ الْمَوْتَ إنْ لَمْ يُحْرِزْ مَاءَهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ بَعْضَهُ، وَيَتْرُكُ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ يَنْظُرُ لِلْكُلِّ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ شَرْعًا دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ هَلَاكُ غَيْرِهِ، وَفِي أَخْذِ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنْهُ هَلَاكُ صَاحِبِ الْمَاءِ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مَسَائِلَ قَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَهَا فِي الْحُدُودِ، فَقَالَ يُضْرَبُ الشَّارِبُ الْحَدَّ بِالسَّوْطِ فِي إزَارٍ، وَسَرَاوِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُغَلَّظَةٌ كَجِنَايَةِ الزَّانِي، فَيُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِيَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَالرَّجُلِ عَلَى قِيَاسِ حَدِّ الزِّنَا، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 29 أَعْضَائِهَا كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهَا؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ يُنْزَعُ عَنْهَا الْحَشْوُ، وَالْفَرْوُ لِكَيْ يَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا غَيْرُ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ لَمْ يُنْزَعْ ذَلِكَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُطْرَحُ عَنْهَا خِمَارُهَا، وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُضْرَبُ الرِّجَالُ قِيَامًا، وَالنِّسَاءُ قُعُودًا. وَالْأَصْلُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ، وَعِنْدَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَضَرَبُوهُ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَعْلَيْهِ»، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَوْطًا، وَالْخَبَرُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَهُوَ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّمَا الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ سَوْطًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَعْلَيْهِ كَانَ الْكُلُّ فِي مَعْنَى ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ، فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ، وَفِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ، فَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَا الْأُنْثَى مِنْ الذَّكَرِ، وَلَا نَفْسَهُ مِنْ حِمَارٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ، فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي خِطَابٍ، وَلَا جَوَابٍ، وَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ بِالشُّرْبِ يُسَمَّى سَكْرَانَ فِي النَّاسِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ النِّهَايَةَ، فَقَالَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ تُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ كَمَا فِي السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَنِهَايَةُ السُّكْرِ هَذَا أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى لَا يُمَيِّزَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ. وَإِذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِعَقْلِهِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ السُّرُورِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةُ السُّكْرِ، وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا، وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الشُّرْبُ إذْ الْمُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيهِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَأَيَّدَ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ بَاتَ سَكْرَانًا بَاتَ عَرُوسَ الشَّيْطَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَصْبَحَ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مَنْ لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُصْنَعُ بِهِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِمَا، وَحُكِيَ أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَقْرَأُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا، فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ حَتَّى حُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ أَتَاهُ بَعْضُ الشُّرَطِ بِسَكْرَان، فَأَمَرَهُ الْأَمِيرُ أَنْ يَقْرَأَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، فَقَالَ السَّكْرَانُ لِلْأَمِيرِ: اقْرَأْ أَنْتَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَالَ الْأَمِيرُ {: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]: فَقَالَ قِفْ، فَقَدْ أَخْطَأْت مِنْ وَجْهَيْنِ تَرَكْت التَّعَوُّذَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ، وَتَرَكْت التَّسْمِيَةَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 30 وَهِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَالْقُرَّاءِ، فَخَجِلَ الْأَمِيرُ، وَجَعَلَ يَضْرِبُ الشُّرَطِيَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَيَقُولُ لَهُ أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَكْرَانَ، فَجِئْتنِي بِمُقْرِئِ بَلْخِي.، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالشُّرْبِ، وَهُوَ سَكْرَانُ حَبَسَهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَالْمَمْلُوكُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ كَالْحُرِّ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّرَابِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ الشُّرْبِ، وَاعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ شَرْطٌ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ، وَبِدُونِ اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَعْتَقِدُونَ، وَلِهَذَا بَقِيَ الْخَمْرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ، وَلِهَذَا قُلْنَا: الْمَجُوسِيُّ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّهُ، وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالزِّنَا. وَلَا يُحَدُّ الْمُسْلِمُ بِوُجُودِ رِيحِ الْخَمْرِ مِنْهُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا، أَوْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّ رِيحَ الْخَمْرِ شَاهِدُ زُورٍ، فَقَدْ يُوجَدُ رِيحُ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ أَكْلِ السَّفَرْجَلِ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الْخَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ يَقُولُونَ لِي أَنْتَ شَرِبْت مُدَامَةً ... فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا ، وَقَدْ تُوجَدُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِمَّنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا، أَوْ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْعَطَشِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ رِيحُهَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَآخَرُ أَنَّهُ قَاءَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ مَنْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا، أَوْ مُضْطَرًّا قَدْ يَقِيءُ الْخَمْرَ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَى الشُّرْبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى الشُّرْبِ، وَالرِّيحُ مِنْهُ مَوْجُودٌ، فَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ فُعِلَ، فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْوَقْتِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِفِعْلِ آخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِشُرْبِهَا، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ، فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِالْفِعْلِ، وَالْآخَرُ بِالْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَكْرَانُ مِنْ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَكْرَانُ مِنْ السُّكَّرِ، فَإِنَّمَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلٍ آخَرَ، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا يُرَى مِنْ سُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَكْرَانَ مِنْ غَيْرِ الشُّرْبِ، أَوْ مِنْ الشُّرْبِ بِالْإِيجَارِ، أَوْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الشُّرْبِ، أَوْ كَانَ شَرِبَ عَلَى قَصْدِ التَّدَاوِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ. وَلَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ، وَبِضِدِّهِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 31 الْإِقْرَارِ بِالسَّبَبِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِيجَابِ حَدِّ الْخَمْرِ. وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ شَرِبَ أَمْسِ خَمْرًا لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يُحَدُّ إذَا أَتَاهُ سَاعَةَ شُرْبٍ، وَالرِّيحُ يُوجَدُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ مَتَى جَاءَ مِثْلَ حَدِّ الزِّنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا. وَإِذَا أُكْرَهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَقَدْ كَانَ مُنْزَجِرًا حِينَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الشُّرْبِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِالْإِكْرَاهِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، وَجَاءَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمَوْلُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَدْ اشْتَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُ الْمَوْلُودَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَقُولُ، وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُ الَّذِي جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فِيمَا يَقُولُ، فَيُعْذَرُ بِجَهْلِهِ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى، أَوْ شَرِبَ، أَوْ سَرَقَ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ لَمْ أَعْلَمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَالظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ إذَا قَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا؛ وَلِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا مِمَّا تَجُوزُ إقَامَتُهُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ، أَوْلَى أَنْ يُقَامَ بِخِلَافِ حَدِّ الْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِنَصٍّ يُتْلَى، وَحَدُّ الْخَمْرِ بِخَبَرٍ يُرْوَى، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الدَّرْءِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَيَسْتَوِي فِي حَدِّ الزِّنَا إنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَكْرَهَهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا قَدْ اشْتَهَرَتْ، وَإِذَا شَرِبَ قَوْمٌ نَبِيذًا، فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ حُدَّ مَنْ سَكِرَ؛ لِأَنَّ مَشْرُوبَ بَعْضِهِمْ غَيْرَ مَشْرُوبِ الْبَعْضِ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَالُهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَوْمَ إذَا سُقُوا خَمْرًا عَلَى مَائِدَةٍ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَمْرٌ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَالْمُحْرِمُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ كَالْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْمُحْرِمِ، وَالْإِحْرَامِ فِي إبَاحَةِ الشُّرْبِ، وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْ إقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ. وَإِذَا قَذَفَ السَّكْرَانُ رَجُلًا حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ، ثُمَّ يُحَدَّ لِلْقَذْفِ، وَيُحْبَسَ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ، ثُمَّ يُحَدَّ لِلسُّكْرِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي مَعْنَى حَقِّ الْعِبَادِ، وَسُكْرُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ سُكْرِهِ مُخَاطَبٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَذَ حَدَّ الشُّرْبِ مِنْ الْقَذْفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا شَرِبَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً. وَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حُدَّ حَدَّ الْخَمْرِ، ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ، ثُمَّ يُعَزَّرُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 32 لِإِفْطَارِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، وَمُهْتِكُ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَالصَّوْمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ أَقْوَى مِنْ التَّعْزِيرِ، فَيُبْتَدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُوَالِي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّعْزِيرِ لِكَيْ يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الْحَارِثِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَحَدَّهُ، ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى إذَا كَانَ الْغَدُ أَخْرَجَهُ، فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا، وَقَالَ: هَذَا لِجَرَاءَتِك عَلَى اللَّهِ، وَإِفْطَارِك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْإِمَامَ، وَقَدْ شَرِبَ خَمْرًا، أَوْ سَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ، وَأَسْلَمَ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا خَلَا الْخَمْرِ، وَالسُّكْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَافِرٌ، وَحَدُّ الْخَمْرِ، وَالسُّكْرِ لَا يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ ارْتِكَابُهُ سَبَبَهُ فِي حَالٍ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ لَا يُقَامُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، فَيُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ لِاعْتِقَادِهِ حُرْمَةَ سَبَبِهِ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَيْضًا كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاشَرَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْلَمَ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى رِدَّتِهِ، وَمَتَى اجْتَمَعَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى النَّفْسُ، وَمَا دُونَهَا يُقْتَلُ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ، فَفِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَإِنْ شَرِبَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَلَمَّا، وَقَعَ فِي يَدِ الْإِمَامِ ارْتَدَّ، ثُمَّ تَابَ لَمْ يَحُدَّ، وَإِنْ كَانَ زَنَى، أَوْ سَرَقَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ مِنْ الرِّدَّةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ حَدِّ الْخَمْرِ، وَالسُّكْرِ عَلَيْهِ، فَيَمْنَعُ بَقَاءَهُ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ سَرَقَ، أَوْ زَنَى، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ سَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَابَ، وَأَسْلَمَ لَمْ يُحَدَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَذْفِ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ غَيْرَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَيُقْتَلُ، وَإِنْ أَخَذْتَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ شَارِبًا خَمْرًا، أَوْ زَانِيًا، أَوْ سَارِقًا، فَلَمَّا، وَقَعَ فِي يَدِك ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَاسْتَتَبْتَهُ، فَتَابَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا زَنَى، أَوْ سَرَقَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ تَوْبَتِهِ كَمَا لَا يُقَامُ قَبْلَ تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ، فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ مُحَارَبَتَهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهَا، وَالْحَرْبِيُّ إذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ، وَفُرِّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى، أَوْ سَرَقَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ هُنَاكَ حِينَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ مَا كَانَ حَرْبِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلْحَدِّ، وَلَمْ يَزُلْ تَمَكُّنُ الْإِمَامِ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ لِاسْتِحْقَاقِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 33 وَقَدْ انْعَدَمَ بِالْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ، وَتَزْوِيجُ السَّكْرَانِ، وَلَدَهُ الصَّغِيرَ، وَهِبَتُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ قَوْلًا، أَوْ فِعْلًا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي، وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَصَرُّفِهِ سَوَاءٌ كَانَ شَرِبَ مُكْرَهًا، أَوْ طَائِعًا، فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ، أَوْ شَيْئًا حُلْوًا، فَذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْتُوهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ. وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ سَكْرَانُ، أَوْ شَهِدَ السَّكْرَانُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ رَجُلٌ، فَاسِقٌ، وَأَنَّهُ سَكْرَانُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ، وَلِهَذَا لَوْ ارْتَدَّ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا قَالَ: لَا أَظُنُّ سَكْرَانًا يَنْفَلِتُ مِنْ هَذَا، وَأَشْبَاهِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السِّيَرِ، وَإِذَا أُتِيَ الْإِمَامُ بِرَجُلٍ شَرِبَ خَمْرًا، وَشَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ، فَقَالَ: إنَّمَا أُكْرِهْت عَلَيْهَا، أَوْ قَالَ: شَرِبْتهَا، وَلَمْ أَعْرِفْهَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ يَدَّعِي عُذْرًا مُسْقِطًا، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ إذْ لَوْ صُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ حَدِّ الْخَمْرِ أَصْلًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّانِي إذَا ادَّعَى النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يُنْكِرُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ، فَبِالنِّكَاحِ يَخْرُجُ الْفِعْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا مَحْضًا، وَهُنَا بَعْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْجَهْلِ لَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا هَذَا عُذْرٌ مُسْقِطٌ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى ذَلِكَ. ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ هَكَذَا نُقِلَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الْمُسْلِمُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ»؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ جَمْعِ الْفَسَقَةِ، وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِصَنِيعِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فِي عَشْرِ دَوَارِيقَ عَصِيرِ عِنَبٍ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ يُطْبَخُ، فَيُغْلَى، فَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ ذَلِكَ الزَّبَدَ حَتَّى جَمَعَ قَدْرَ دَوْرَقٍ، فَإِنَّهُ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى ثَلَاثَةَ دَوَارِيقَ ثُلُثُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الزَّبَدِ انْتَقَصَ مِنْ أَصْلِ الْعَصِيرِ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي الْحِسَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْعَصِيرِ تِسْعَةُ دَوَارِيقَ، فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُثَلَّثًا إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ ثَلَاثَةُ دَوَارِيقَ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ دَوْرَقٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْغَلَيَانِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ مَا نَقَصَ بِالْغَلَيَانِ فِي مَعْنَى الدَّاخِلِ فِيمَا بَقِيَ، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الطَّبْخُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ. وَلَوْ صَبَّ رَجُلٌ فِي قِدْرٍ عَشَرَةَ دَوَارِيقَ عَصِيرًا، وَعِشْرِينَ دَوْرَقًا مَاءً، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَذْهَبُ بِالطَّبْخِ قَبْلَ الْعَصِيرِ، فَإِنَّهُ يَطْبُخُهُ حَتَّى يَذْهَبَ ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ، وَيَبْقَى التُّسْعُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالْغَلَيَانِ، فَالذَّاهِبُ هُوَ الْمَاءُ فَقَطْ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْبُخَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْعَصِيرِ، وَيَبْقَى ثُلُثَهُ، وَهُوَ سُبْعُ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ بِالْغَلَيَانِ مَعًا طَبَخَهُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ ثُلُثَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 34 الْعَصِيرِ، وَثُلُثَا الْمَاءِ، وَالْبَاقِي ثُلُثُ الْعَصِيرِ، وَثُلُثُ الْمَاءِ، فَهُوَ، وَمَا لَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي الْعَصِيرِ بَعْدَ مَا طَبَخَهُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ سَوَاءٌ. وَإِذَا طُبِخَ عَصِيرٌ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ، ثُمَّ صَنَعَ مِنْهُ مُلِيقًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ صَنَعَهُ بَعْدَ مَا غَلَى فَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَى، وَاشْتَدَّ صَارَ مُحَرَّمًا، وَالْمُلِيقُ الْمُتَّخَذُ مِنْ عَيْنِ الْمُحَرَّمِ لَا يَكُونُ حَلَالًا كَالْمُتَّخَذِ مِنْ الْخَمْرِ، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، فَهُوَ حَلَالُ الشُّرْبِ، فَأَمَّا صَنِيعُ الْمُلِيقِ مِنْ عَصِيرٍ، فَحَلَالٌ، وَإِذَا طَبَخَ الرَّجُلُ عَصِيرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَدَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الطَّبْخَ حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُ مَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَ أَعَادَ عَلَيْهِ الطَّبْخَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ، أَوْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ فِي دُفْعَتَيْنِ إلَى ذَهَابِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ، وَفِي دُفْعَةٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ صَنَعَهُ بَعْدَ مَا غَلَى، وَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِ الْعَصِيرِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْخَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَاقَى شَيْئًا مُحَرَّمًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خَمْرٍ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِهِ، وَإِذَا طَبَخَ الرَّجُلُ عَصِيرًا حَتَّى ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، ثُمَّ قَطَعَ عَنْهُ النَّارَ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُثَلَّثًا بِقُوَّةِ النَّارِ، فَإِنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ مِنْ الْحَرَارَةِ بَعْدَ مَا قُطِعَ عَنْ النَّارِ أَثَرُ تِلْكَ النَّارِ، فَهُوَ، وَمَا لَوْ صَارَ مُثَلَّثًا، وَالنَّارُ تَحْتَهُ سَوَاءٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُثَلَّثًا؛ لِأَنَّ الْغَلَيَانَ بَعْدَمَا انْقَطَعَ عَنْهُ أَثَرُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَحِينَ اشْتَدَّ، فَقَدْ صَارَ مُحَرَّمًا بِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْغَلَيَانَ بِقُوَّةٍ لَا يُنْقِصُ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ يَزِيدُ فِي رِقَّتِهِ بِخِلَافِ الْغَلَيَانِ بِقُوَّةِ النَّارِ، فَإِنْ شَرِبَ الطِّلَاءَ الَّذِي قَدْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ عُشْرُهُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْكَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ذَهَبَ بِالطَّبْخِ شَيْءٌ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا، وَفِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ. . وَإِذَا اسْتَعَطَ الرَّجُلُ بِالْخَمْرِ، أَوْ اكْتَحَلَ بِهَا، أَوْ اقْتَطَرَهَا فِي أُذُنِهِ، أَوْ دَاوَى بِهَا جَائِفَةً، أَوْ آمَّةً، فَوَصَلَ إلَى دِمَاغِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَعْتَمِدُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَصِيرُ شَارِبًا، وَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ مَا يَدْعُوهُ إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِتَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ عَنْهُ. وَلَوْ عَجَنَ دَوَاءً بِخَمْرٍ، وَلَتَّهُ، أَوْ جَعَلَهَا أَحَدَ أَخْلَاطِ الدَّوَاءِ، ثُمَّ شَرِبَهَا، وَالدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةُ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ التَّعْزِيرِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا، وَبِهِ أَخَذَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 35 أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ سَوْطًا أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْعَبِيدِ فِي الْقَذْفِ، وَالشُّرْبِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ»، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً، وَسَبْعِينَ سَوْطًا؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْحَدِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ الْحُرِّ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً، وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَمَّا تَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّعْزِيرِ بَيْنَ خَمْسَةِ أَسْوَاطٍ، وَيَضْرِبُ دُفْعَةً، فَإِنَّمَا نَقَصَ فِي التَّعْزِيرِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْوَاطٍ. . وَإِذَا أُخِذَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ أَصَابَ مِنْهَا كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ عُزِّرَ بِتِسْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ كُلَّ مِنْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، ثُمَّ الرَّأْيُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، وَيَبْنِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جَرِيمَتِهِ، وَهَذِهِ جَرِيمَةٌ مُتَكَامِلَةٌ، فَلِهَذَا قُدِّرَ التَّعْزِيرُ فِيهَا بِتِسْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ تَخْفِيفٌ مِنْ حَيْثُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ يُنْزَعُ ثِيَابُهُ عِنْدَ الضَّرَرِ، وَيُضْرَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ، وَإِذَا نَقَبَ السَّارِقُ النَّقْبَ، وَأَخَذَ الْمَتَاعَ، فَأُخِذَ فِي الْبَيْتِ، أَوْ أُخِذَ، وَقَدْ خَرَجَ بِمَتَاعٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا، وَالْمَرْأَةُ فِي التَّعْزِيرِ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ، فَاسِقًا مُتَّهَمًا بِالشَّرِّ كُلِّهِ، فَأُخِذَ عُزِّرَ لِفِسْقِهِ، وَحُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَقَدْ «حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ.». وَاَلَّذِي يَزْنِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا، فَيَدَّعِي شُبْهَةً يَدْرَأُ بِهَا الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ يُعَزَّرُ لِإِفْطَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْحَرَامِ بِإِفْطَارِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا بِمَا ادَّعَى مِنْ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُحْبَسُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ، فَأَمَّا جَزَاءُ الْفِعْلِ الَّذِي بَاشَرَهُ، فَالتَّعْزِيرُ، وَقَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَأْكُلُ الرِّبَا، أَوْ يَبِيعُ الْخَمْرَ، وَلَا يَنْزِعُ عَنْ ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ يُعَزِّرُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُ، وَالنَّائِحَةُ، وَالْمُغَنِّيَةُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَزَّرُونَ بِمَا ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِمْ مُصِرُّونَ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَذَلِكَ، فَوْقَ التُّهْمَةِ فِي إيجَابِ حَبْسِهِمْ إلَى أَنْ يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ، وَإِذَا شَتَمَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً، أَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا عُزِّرَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَلَكِنَّ قَاذِفَهَا مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَيُعَزَّرُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ، أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَلَكِنَّ الْقَاذِفَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 36 مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَهُوَ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ، وَهَتْكٌ لِلسِّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَطَعَ اللُّصُوصُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَإِذَا اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَتَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَرْضٌ، وَبِذَلِكَ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. قُلْت، وَالرَّجُلُ يَخْتَرِطُ السَّيْفَ عَلَى الرَّجُلِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ شَدَّ عَلَيْهِ بِسِكِّينٍ، أَوْ عَصًا، ثُمَّ لَمْ يَضْرِبْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يُعَزَّرُ قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَخْوِيفِ الْمُسْلِمِ، وَالْقَصْدُ إلَى قَتْلِهِ، قُلْت، وَالرَّجُلُ يُوجَدُ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ فَاسِقٌ، أَوْ يُوجَدُ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ يَشْرَبُونَهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ جَلَسُوا مَجْلِسَ مَنْ يَشْرَبُهَا هَلْ يُعَزَّرُونَ قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَعِدُّ الْخَمْرَ لِلشُّرْبِ، وَأَنَّ الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا لِإِرَادَةِ الشُّرْبِ، وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْزِيرُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَلِهَذَا يُعَزَّرُونَ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوجَدُ مَعَهُ رَكْوَةٌ مِنْ الْخَمْرِ بِالْكُوفَةِ، أَوْ قَالَ رَكْوَةٌ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى الشَّارِبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَشْرَبُ بَعْضَهَا، وَيَقْصِدُ الشُّرْبَ فِيمَا بَقِيَ مَعَهُ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لِهَذَا الْقَائِلِ لِمَ تَحُدَّهُ قَالَ: لِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الشُّرْبِ، وَالْفَسَادِ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَارْجُمْهُ إذًا، فَإِنَّ مَعَهُ آلَةَ الزِّنَا، فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَالتُّهْمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَنْ طَبَخَ الْعَصِيرَ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ طَبَخَ عَشَرَةَ أَرْطَالِ عَصِيرٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ رِطْلٌ، ثُمَّ أَهْرَاقَ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ الْبَقِيَّةَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهَا كَمْ يَطْبُخُهَا قَالَ: يَطْبُخُهَا حَتَّى يَبْقَى مِنْهَا رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ؛ لِأَنَّ الرِّطْلَ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ، وَكَانَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ رِطْلٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى رِطْلٍ، وَتُسْعٍ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ اقْتَسَمَ عَلَى مَا بَقِيَ أَتْسَاعًا، فَإِنْ انْصَبَّ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ، وَثَلَاثَةُ أَتْسَاعِ رِطْلٍ يَكُونُ الْبَاقِي سِتَّةَ أَرْطَالٍ، وَسِتَّةَ أَتْسَاعِ رِطْلٍ، فَيَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ الثُّلُثُ، وَهُوَ رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ. وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ ثُمَّ إهْرَاقَ مِنْهُ رِطْلَانِ قَالَ: يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 37 ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ، فَالْبَاقِي ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ كُلُّ رِطْلٍ فِي مَعْنَى رِطْلٍ، وَرُبْعٍ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْهُ رِطْلَانِ، فَاَلَّذِي انْصَبَّ فِي الْمَعْنَى رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ، وَالْبَاقِي مِنْ الْعَصِيرِ سَبْعَةُ أَرْطَالٍ، وَنِصْفٌ، وَإِنْ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، ثُمَّ انْصَبَّ رِطْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُ رِطْلًا قَالَ يَطْبُخُ الْبَاقِيَ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، فَمَا ذَهَبَ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ، وَصَارَ كُلُّ رِطْلٍ بِمَعْنَى رِطْلَيْنِ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْ الْبَاقِي رِطْلٌ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ مِنْ الْعَصِيرِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، فَيَطْبُخُهُ إلَى أَنْ يَبْقَى ثُلُثُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ، وَذَلِكَ رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فِي تَخْرِيجِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقَالَ: السَّبِيلُ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ، فَيَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مَا انْصَبَّ مِنْهُ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ، فَمَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ، فَهُوَ حَلَالٌ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَبَيَانُ هَذَا: أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ ثَلَاثَةً، وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَمَا انْصَبَّ مِنْهُ، وَهُوَ سِتَّةٌ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَإِذَا قَسَمْت عِشْرِينَ عَلَى تِسْعَةٍ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ تَأْخُذُ أَيْضًا ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَقْسِمُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّبْخِ قَبْلَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ، وَنِصْفٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَأْخُذُ ثَلَاثَةً، وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَثُلُثًا، ثُمَّ تَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ قَبْلَ الِانْصِبَابِ بَعْدَ الطَّبْخِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، فَيَكُونُ كُلُّ قِسْمٍ اثْنَيْنِ، وَثُلُثَيْنِ، فَلِهَذَا قُلْنَا يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، وَثُلُثُ خُمُسٍ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ ثُلُثَيْ رِطْلٍ إذَا تَأَمَّلْت، وَرُبَّمَا يَتَكَلَّفُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْإِكْرَاهِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً الْإِكْرَاهُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 38 مُبْتَلًى، وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَنَوَّعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَلْزَمُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، وَتَارَةً يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَتَارَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ، وَالِاخْتِيَارِ بِالْإِكْرَاهِ، كَيْفَ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي الْأَفْعَالِ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ، وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى الْقَتْلِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ، فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الِاخْتِيَارُ مِنْهُ أَصْلًا، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ فَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ، وَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدَ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ مِنْهُ، وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ كَالْآلَةِ لِلْمُكْرِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ فِيهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ كَالتَّصَرُّفَاتِ قَوْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ، وَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي انْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ الشَّبَهِ. وَشَبَّهَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِالْهَزْلِ، فَإِنَّ الْهَزْلَ عَدَمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي نَفْسِ السَّبَبِ، فَالْإِكْرَاهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْهَازِلَ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى التَّكَلُّمِ، وَالْمُكْرَهَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ اخْتِيَارُهُ كَمَا بَيَّنَّا، وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُعْدِمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ دُونَ نَفْسِ السَّبَبِ، ثُمَّ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ، وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ. وَفِي الْمُكْرَهِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً مَحْمُولًا طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ، وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا، أَوْ مُزْمِنًا، أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا، أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ، أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ آخَرَ، أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 39 يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابِ لِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِسَبَبِ تَصْنِيف هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَمَّا صَنَّفَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْكِتَابِ سَعَى بِهِ بَعْضُ حُسَّادِهِ إلَى الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: إنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاكَ فِيهِ لِصًّا غَالِيًا فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَأَتَاهُ الشَّخْصُ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْوَزِيرِ أَوَّلًا فِي حُجْرَتِهِ، فَجَعَلَ الْوَزِيرُ يُعَاتِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا، فَلَمَّا عَلِمْتُ السَّبَبَ أَسْرَعْتُ الرُّجُوعَ إلَى دَارِهِ، وَتَسَوَّرْتُ حَائِطَ بَعْضِ الْجِيرَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَمَّرُوا عَلَى بَابِهِ، فَدَخَلْتُ دَارِهِ، وَفَتَّشْت الْكُتُبَ حَتَّى وَجَدْتُ كِتَابَ الْإِكْرَاهِ، فَأَلْقَيْتُهُ فِي جُبٍّ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ الشُّرَطَ أَحَاطُوا بِالدَّارِ قَبْلَ خُرُوجِي مِنْهَا، فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أَخْرُجَ، وَاخْتَفَيْتُ فِي مَوْضِعٍ حَتَّى دَخَلُوا، وَحَمَلُوا جَمِيعَ كُتُبِهِ إلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ بِأَمْرِ الْوَزِيرِ، وَفَتَّشُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ السَّاعِي لَهُمْ، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ، وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَرَادَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُعِيدَ تَصْنِيفَ الْكِتَابِ، فَلَمْ يُجِبْهُ خَاطِرُهُ إلَى مُرَادِهِ، فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ وُكَلَائِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَامِلٍ يُنَقِّي الْبِئْرَ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا قَدْ تَغَيَّرَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَامِلُ فِي الْبِئْرِ، وَجَدَ الْكِتَابَ فِي آجُرَّةٍ، أَوْ حَجَرِ بِنَاءٍ مِنْ طَيِّ الْبِئْرِ لَمْ يَبْتَلَّ، فَسُرَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِذَلِكَ، وَكَانَ يُخْفِي الْكِتَابَ زَمَانًا، ثُمَّ أَظْهَرَهُ، فَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ مُحَمَّدٍ، وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ تَفْرِيعِهِ لِمَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الرَّجُلِ يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، فَيُطَلِّقُ، أَوْ يُعْتِقُ، وَهُوَ كَارِهٌ إنَّهُ جَائِزٌ وَاقِعٌ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالُوا: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ، وَاقِعٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ، أَوْ غَيْرِ مُتْلِفٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلِهَذَا اسْتَكْثَرَ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الرِّضَا بِحُكْمِ الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ، وَلِهَذَا وَقَعَ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْإِيقَاعِ، وَمَعَ الْهَزْلِ مِنْ الْمُوقِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا اللَّفْظَ مِمَّا ذَكَرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: إنَّهَا اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهَا بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَجَازَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ غُلَامَهُ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعَ، وَإِنَّمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِهَذَا الْفَتْوَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 40 قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ: أَيْ هُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِئْسَ مَا صَنَعَ أَيْ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ يَقُولُ: مُرَادُ سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِئْسَ مَا صَنَعَ فِي اكْتِسَابِهِ بِالْإِكْرَاهِ، وَتَضْيِيعِهِ، وَقْتَ نَفْسه، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ قَصْدَهُ، وَجَعَلَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَغْوًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ. وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا بَاعَ رَجُلًا عَيْنًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَالِكَ بِهِ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: نِعْمَ مَا صَنَعْت، أَوْ أَحْسَنْت، أَوْ أَصَبْت، فَإِنَّ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ الْكَرَاهَةِ لِصُنْعِهِ، وَفِي اللَّفْظِ الثَّانِي إظْهَارُ الرِّضَا بِهِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى عَكْس هَذَا: أَنَّ قَوْلَهُ نِعْمَ مَا صَنَعْت يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فِي الْعَادَةِ، فَيَكُونُ رَدًّا لَا إجَازَةً، وَقَوْلُهُ بِئْسَ مَا صَنَعْت يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَا فَاتَهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ، وَزَالَ مِلْكُهُ، فَجَعَلْنَاهُ إجَازَةً لِذَلِكَ، وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو الطَّائِيِّ أَنَّ «رَجُلًا كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ نَائِمًا، فَأَخَذَتْ سِكِّينًا، وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، فَوَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَلْبَتَّةَ أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْإِقَالَةِ، وَالْفَسْخِ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، وَالْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ مَا يَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ، أَوْ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُرَادَ إنَّمَا اُبْتُلِيَتْ بِهَذَا لِأَجْلِ يَوْمِ الْقَيْلُولَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ امْرَأَتِهِ إلَى الْجَبَلِ لِيَمْتَارَ الْعَسَلَ، فَلَمَّا تَدَلَّى مِنْ الْجَبَلِ بِحَبْلٍ، وَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى الْحَبْلِ، فَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا، أَوْ لَأَقْطَعَنَّهُ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَفْتِيَ، فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَأَمْضَى طَلَاقَهُ»، وَذُكِرَ نَظِيرُ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ مُبْغِضَةً لِزَوْجِهَا، فَرَاوَدَتْهُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَبَى، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَامَتْ إلَى سَيْفِهِ فَأَخَذَتْهُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ بِرِجْلِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَتْ لَهُ، وَاَللَّهِ لَأُنْفِذَنَّكَ بِهِ، أَوْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَاسْتَغَاثَ بِهِ فَشَتَمَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ، فَقَالَتْ بُغْضِي إيَّاهُ، فَأَمْضَى طَلَاقَهُ.، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا كُلِّهِ إنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ كَانَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 41 الصِّفَةِ يَتَحَقَّقُ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ صَارَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ إيقَاعِ مَا خَوَّفَتْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ: فَشَتَمَهَا أَيْ نَسَبَهَا إلَى سُوءِ الْعِشْرَة، وَالصُّحْبَةِ، وَإِلَى الظُّلْمِ كَمَا يَلِيقُ بِفِعْلِهَا لَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بُهْتَانٌ لَا يُظَنُّ بِهِ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ جَائِزٌ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَرْبَعٌ وَاجِبَاتٌ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ يَعْنِي النَّذْرَ الْمُرْسَلَ إذْ الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ يَمِينٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ لَازِمٌ إنْ كَانَ جَادًّا فِيهِ، أَوْ هَازِلًا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَمَامُ الرِّضَا، وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالصَّدَقَةُ يَعْنِي النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ، فَالْهَازِلُ لَاعِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُرِيدُ بِالْكَلَامِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ. وَذُكِرَ نَظِيرَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ بِهِنَّ، وَاللَّعِبُ فِيهِنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ»، وَإِنَّمَا، أَوْرَدَ هَذِهِ الْآثَارَ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْمُكْرَهِ، فَلِلْوُقُوعِ حُكْمُ الْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ الْوُقُوعُ مَعَ وُجُودِ مَا يُضَادُّ الْجِدَّ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ الْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُضَادُّ الْجِدَّ، فَإِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ، وَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ضِدُّ الْإِكْرَاهِ الرِّضَا، فَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْبَيِّنَةِ لُزُومُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لُزُومُهَا بِمَا هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ لُزُومُهَا مَعَ جِدٍّ أَقْدَمَ عَلَيْهِ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْلَى، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ، وَقَوْلُهُ مُبْهَمَاتٌ أَيْ وَاقِعَاتٌ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اللُّزُومِ مُكْرَهًا كَانَ الْمُوقِعُ أَوْ طَائِعًا يُقَالُ: فَرَسُ بَهِيمٍ إذَا كَانَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ مُقْفَلَاتٌ أَيْ لَازِمَاتٌ لَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا أَجْبَرَ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِصًّا فَلَا شَيْءَ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: الْإِكْرَاهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ إذَا كَانَ سُلْطَانًا يَقَعُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ لِصًّا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادُهُ بَيَانُ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ جَائِزٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 42 فَإِذَا كَانَ لِصًّا، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ اللِّصِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ، وَإِنَّمَا اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِمَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُمَا حَكَمَا بِلُزُومِ كُلِّ طَلَاقٍ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمُكْرَهُ لَيْسَ بِصَبِيٍّ، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا لِبَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فَتًى أَسْوَدَ كَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا يَسْعَى عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِهَذَا الْغُلَامِ مَعَك يَرْعَ غَنَمَك، وَيُعِنْك، فَتُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِك فَذَهَبَ بِالْفَتَى فَرَجَعَ، وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: زَعَمُوا أَنِّي سَرَقْتُ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ، فَقَطَعَنِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لِأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ قَالَ فَلَبِثُوا مَا لَبِثُوا، ثُمَّ إنَّ مَتَاعًا لِامْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ سُرِقَ، وَذَلِكَ الْأَسْوَدُ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَرَفَعَ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ، فَوَجَدُوا ذَلِكَ الْمَتَاعَ عِنْدَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيْحَكَ مَا أَجْهَلَك بِاَللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا، فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ الْفَتَى كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِجْلَهُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ هُنَا لِحَرْفٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ، (وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ) وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا، فَأَمَرَ رَجُلًا بِقَطْعِ يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فِعْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِأَنَّ أَمْرَ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْعُمَّالِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يُعَاقِبُونَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ، وَغَيْرِهِ، وَالْفِعْلُ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، وَاللَّعِينُ مَا كَانَ يُبَاشِرُ حَقِيقَتَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا بِأَمْرِهِ، وَالْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. . ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ اللَّهَ، وَرَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْك، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك؟ قَالَ: أَجِدُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنْ عَادُوا، فَعُدْ»، فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 43 الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ اعْتِقَادَهُ بِمَا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ حَالِ قَلْبِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» عَلَى ظَاهِرِهِ يَعْنِي إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ، فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي، وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرٍ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ، فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ وَإِنْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَفْضَلُ. (أَلَا تَرَى) «أَنَّ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ: هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ وَقِصَّتُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ، وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ، وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْرٍ، فَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَوْجَزَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْتُ لِكَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدًا لِلَّهِ حِينَ يَقْتُلُونَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ، فَأَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ احْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا، وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: وَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ، وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْرِئُهُ سَلَامَ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ، وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ»، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ أَفْضَلُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ} [النحل: 106] قَالَ ذَلِكَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] «عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَكْرَهُوهُ عَلَى مَا أَكْرَهُوا عَلَيْهِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ مُعْتَقِدًا، فَأَكْرَمُوهُ، وَكَانَ مَعَهُمْ إلَى أَنْ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ أَنْ يُبَايِعَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]»، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إذَا بَدَّلَ الِاعْتِقَادَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ، أَوْ طَائِعًا، وَهَذَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 44 لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ} [النحل: 106]، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، فَهُوَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: قَائِلٌ: يُقْتَلُ الْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْقَتْلِ مُكْرَهًا أَنَّهُ عَلَى مَنْ يَجِبُ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ خَالَفَ أَمْرَهُ كَأَمْرِ السُّلْطَانِ فِي حَقِّ رَعِيَّتِهِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَ الرَّابِعَ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ، وَإِنَّمَا سَبَقَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاسْتَحْسَنَهُ، وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَقْطَعُ الْجَوَابَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَادِثَةِ كَمَا، فَعَلَهَا الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي مِمَّنْ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ، وَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِبَيَانِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَلَا بُدَّ لِلْمُفْتِي مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَهُ لِلْأَخْذِ بِهِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً، وَبِهِ نَأْخُذُ. ، وَالتَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إنَّهُ مِنْ النِّفَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وَإِجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِيهِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّقِيَّةِ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ، وَلَكِنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ الْقَوْلَ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ تَقِيَّةً، وَالْقَوْلُ بِهَذَا مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً: يَعْنِي إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِيثَارِ رُوحِهِ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وِزْرًا، وَأَشَدُّهَا تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّماَوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ مِنْهُ} [مريم: 90] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ، وَلَدًا} [مريم: 91]، ثُمَّ يُبَاحُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 45 وَلَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِالْيَدِ يَعْنِي الْقَتْلَ، وَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ هُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا، وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ قَالُوا لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ لَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَرْكَبَ الْخَشَبَ يَعْنِي الَّذِي يُرَادُ صَلْبُهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَصْعَدَ السُّلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرَادُ بِهِ إذَا صَعِدَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالضَّرْبِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ الْعَذَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أَيْ عَذَّبُوهُمْ، فَمَعْنَاهُ عَذَابُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْأَلَمَ فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ يَكُونُ فِي سَاعَتِهِ، وَتَوَالِي الْأَلَمِ فِي الضَّرْبِ بِالسَّوْطِ إلَى أَنْ يَكُونَ آخِرَهُ الْمَوْتُ، وَقَدْ «كَانَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ التَّقِيَّةَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ يُدَارِي رَجُلًا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك مُنَافِقٌ، فَقَالَ لَا، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمْ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ»، وَذَكَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَمَاثِيلَ مِنْ صُفْرٍ تُبَاعُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، فَمُرَّ بِهَا عَلَى مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتُهَا، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَيَفْتِنَنِي، وَاَللَّهِ لَا أَدْرِي أَيَّ الرَّجُلَيْنِ مُعَاوِيَةُ رَجُلٌ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، أَوْ رَجُلٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ الْآخِرَةِ، فَهُوَ يَتَمَتَّعُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ هَذِهِ تَمَاثِيلُ كَانَتْ أُصِيبَتْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِبَيْعِهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ لِيَتَّخِذَ بِهَا الْأَسْلِحَةَ، وَالْكُرَاعَ لِلْغُزَاةِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ بَيْعِ الصَّنَمِ، وَالصَّلِيبِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ. وَقَدْ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَمَسْرُوقٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ يُزَاحِمُ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْفَتْوَى، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ يُلْحِقُ بَعْضُهُمْ الْوَعِيدَ بِالْبَعْضِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِقَوْلِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الجزء: 24 ¦ الصفحة: 46 مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ عَنْ اعْتِقَادٍ، وَقَدْ كَانَ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ كَاتِبَ الْوَحْيِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمًا إذَا مَلَكْتَ أَمَرَ أُمَّتِي، فَأَحْسِنْ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ نَوْبَتَهُ كَانَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ نَوْبَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَضَى مُدَّةُ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي مُزَاحَمَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَارِكًا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَيُحْكَى أَنَّ أَبَا بَكْرِ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَنَالُ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ شَعْرَةً تَدَلَّتْ مِنْ لِسَانِهِ إلَى مَوْضِعِ قَدَمِهِ، فَهُوَ يَطَؤُهَا، وَيَتَأَلَّمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْطُرُ الدَّمُ مِنْ لِسَانِهِ، فَسَأَلَ الْمُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّك تَنَالُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِيَّاكَ، ثُمَّ إيَّاكَ. وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ كَانَتْ صِغَارًا لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَيْهِ نَقْشُ رَجُلٍ بَيْنَ أَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مَا صَغُرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مَسْرُوقًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يُبَالِغُ فِي الِاحْتِيَاطِ، فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا بَيْعُهُ، ثُمَّ كَانَ تَغْرِيقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَبْيِينُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ التَّقِيَّةِ، وَأَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ بَعْضِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالسَّوْطِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتهَا، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَيَفْتِنَنِي، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَيَّ فِي طَاعَةِ الظَّالِمِ إذَا أَكْرَهَنِي عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ جَوَازِ التَّقِيَّةِ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُ عَلَيْهَا، فَالظَّالِمُ هُوَ الْكَافِرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ طَاعَةَ الظَّالِمِ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْقَتْلِ لَا يَنْدَفِعُ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ بَلْ إذَا قَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ آثِمًا إثْمَ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ غَيْرُ الْمُتَأَوِّلِينَ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لُصُوصًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَجَمَّعُوا، فَغَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَأَخَذُوا رَجُلًا، فَقَالُوا لَنَقْتُلَنَّكَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 47 أَوْ لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَحْمَ هَذَا الْخِنْزِيرِ، فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَنَا فِي سَعَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ، وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّنَاوُلِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ آثِمًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ آثِمًا، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ آثِمًا، فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِثْمَ يَنْتَفِي عَنْ الْمُضْطَرِّ، وَلَا تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ بِالضَّرُورَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وَقَالَ تَعَالَى {: فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِصِفَةِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، أَوْ خَمْرٌ، وَبِالضَّرُورَةِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ الْحَرَامُ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِيهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَتَنَاوَلُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: يَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، أَوْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَامْتِنَاعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى تَلِفَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ حَتَّى تَلِفَتْ نَفْسُهُ، فَيَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ، وَصِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الرِّفْقِ بِالْمُتَنَاوِلِ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ، وَيَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَا فِي طَبْعِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الِانْتِهَابِ، وَلِلْغِذَاءِ أَثَرٌ فِي الْخَلْقِ، وَالرِّفْقُ هُنَا فِي الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ أَهْوَنُ مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّنَاوُلِ هَلَاك الْكُلُّ، فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْعَدَ بِقَطْعِ عُضْوٍ، أَوْ بِضَرْبِ مِائَةِ سَوْطٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ الْإِنْسَانِ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ لَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالضَّرْبُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ، وَالْأَعْضَاءُ فِي هَذَا سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَوْعَدَهُ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ، أَوْ أُنْمُلَةٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِلْجَاءُ، فَكُلّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِاحْتِرَامِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ سَوْطَيْنِ لَمْ يَسَعْهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 48 تَنَاوُلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا هَدَّدَهُ بِهِ إنَّمَا يَغُمُّهُ ذَلِكَ، أَوْ يُؤْلِمُهُ أَلَمًا يَسِيرًا، وَالْإِلْجَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ تَنَاوُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالْغَمُّ الَّذِي يُصِيبُهُ بِالْحَبْسِ رُبَّمَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ سَوْطَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجُهَّالَ يَتَهَازَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ضَرْبٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسٍ، أَوْ ذَهَابَ عُضْوٍ فِي أَكْثَرِ الرَّأْيِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُقَامُ مُقَامَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً، قَالَ: وَقَدْ وَقَّتَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَدْنَى الْحُدُودِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، فَإِنْ هُدِّدَ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَالتَّعْزِيرُ يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نَصْبُ الْمِقْدَارِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا نَصَّ فِي التَّقْدِيرِ هُنَا، وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَحَمُّلِ أَبْدَانِهِمْ لِلضَّرْبِ، وَخِلَافِهِ، فَلَا طَرِيقَ سِوَى رُجُوعِ الْمُكْرَهِ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَتْلَفُ بِهِ نَفْسُهُ، وَلَا عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً، وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ مِنْهُ يَصِيرُ مُلْجَأً. وَإِنْ كَانَ التَّهْدِيدُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّعْزِيرِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَغَلَّبَ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصُ عَلَى بَلَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا رَجُلًا فِي طَرِيقٍ، أَوْ مِصْرٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى غَوْثٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُهُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدُوهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْغَوْثُ، وَلَوْ تَوَعَّدُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَبْسِ سَنَةٍ، أَوْ بِقَيْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ طَعَامًا، وَلَا شَرَابًا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ، وَالْقَيْدَ يُوجِبُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ، وَلَا عُضْوٍ، وَلِدَفْعِ الْحَزَنِ لَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ، وَإِنْ قَالُوا لَنُجِيعَنَّكَ أَوْ لَتَفْعَلَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ شَيْءٌ يُهَيِّجُ مِنْ طَبْعِهِ، وَبَادِي الْجُوعِ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ إنَّمَا يُخَافُ التَّلَفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْجُوعِ بِأَنْ تَخْلُوَ الْمَعِدَةُ عَنْ مَوَادِّ الطَّعَامِ فَتَحْتَرِقَ، وَشَيْءٌ مِنْهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي هَذَا مُعْتَبَرٌ بِالضَّرُورَةِ، وَالْمُضْطَرُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ، وَالْجُوعِ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا هَدَّدُوهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 49 فَإِنَّ هُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الضَّرْبُ حَدًّا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ، فَيَنْظُرُ إلَى مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ يُجْعَلُ كَحَقِيقَةِ الْإِيقَاعِ، وَالرُّجُوعُ هُنَا يُهَيِّجُ مِنْ طَبْعِهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْجُوعَ صَارَ بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَكَّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ إلَّا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ حَالُهُ إلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِأَدْنَى الْجُوعِ قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ جَازَ لَهُ فِيهِ تَنَاوُلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْإِكْرَاهِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَنَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا يَجُوزُ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ مُضَمَّنَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَالرُّخْصَةُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُلْجَأِ بِشَرْطِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ امْتَنَعَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، فَهُوَ فِي الِامْتِنَاعِ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْمُتَمَسِّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُتَرَخِّصِ بِالرُّخْصَةِ قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا مِنْ كَلَامٍ أَتَكَلَّمُ بِهِ يَدْرَأُ عَنِّي ضَرْبَتَيْنِ بِسَوْطِ غَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ إلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ، وَإِنَّمَا نَضَعُ هَذَا عَلَى الرُّخْصَةِ فِيمَا فِيهِ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سَوْطَيْنِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ السَّوْطَانِ اللَّذَانِ لَا يُخَافُ مِنْهُمَا تَلَفٌ يُوجِبَانِ الرُّخْصَةَ لَهُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنُّ بِعَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا تَصَرُّفُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، فَلِبَيَانِ الرُّخْصَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَقِيلَ السَّوْطَانِ فِي حَقِّهِ كَانَ يُخَافُ مِنْهُمَا التَّلَفُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، فَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ «صَعِدَ شَجَرَةً يَوْمًا، فَضَحِكَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَضْحَكُوا، فَهُمَا ثَقِيلَانِ فِي الْمِيزَانِ». وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصَ قَالُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ لَا يَرَى أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُ التَّلَفِ، وَلَا يَصِيرُ خَائِفًا التَّلَفَ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَدَّدُوهُ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً يُعْتَبَرُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ حَتَّى يُعَاوِدُوهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُعَاوِدُوهُ، وَهَذَا عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّك لَوْ رَأَيْت رَجُلًا يَنْقُبُ عَلَيْك دَارَك مِنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 50 خَارِجٍ، أَوْ دَخَلَ عَلَيْك لَيْلًا مِنْ الثُّقْبِ بِالسَّيْفِ، وَخِفْت إنْ أَنْذَرْتَهُ يَضْرِبُكَ، وَكَانَ عَلَى أَكْثَرِ رَأْيِك ذَلِكَ وَسِعَك أَنْ تَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ تُعْلِمَهُ إذَا خِفْت أَنْ يَسْبِقَك إنْ أَعْلَمْته، وَفِي هَذَا إتْلَافُ نَفْسٍ، ثُمَّ أَجَازَ الِاعْتِمَادَ عَلَى غَالِبِ الرَّأْيِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. ، وَلَوْ هَدَّدُوهُ بِقَتْلٍ، أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ، أَوْ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ لِيُقِرَّ لِهَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ، فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَمَّا إذَا هَدَّدُوهُ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ، فَهُوَ مُلْجَأٌ إلَى الْإِقْرَارِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحَقَّ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْإِلْجَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ هَدَّدُوهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ بِهِ، وَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إقْرَارِهِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَظِيرُ الْهَزْلِ، وَمَنْ هَزَلَ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ، وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ هَزَلَ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ؟، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ مَتَى صَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى لَوْ قَالَ: كَفَلْت لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ. فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمَاضِي، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ، وَالْإِكْرَاهُ هُنَا مُتَحَقِّقٌ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَوْضِعٍ يَصِحُّ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُنَاكَ الْإِلْجَاءُ، وَذَلِكَ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَهُنَا الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الْمَالِ انْعِدَامُ الرِّضَا بِالِالْتِزَامِ، وَقَدْ انْعَدَمَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ قَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَيْدُ كُرْهٌ، وَالْوَعِيدُ كُرْهٌ، وَالضَّرْبُ كُرْهٌ، وَالسِّجْنُ كُرْهٌ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمِينٍ إذَا ضَرَبْتَ، أَوْ بَغَيْتَ، أَوْ جَوَّعْتَ أَيْ هُوَ لَيْسَ بِطَائِعٍ عِنْدَ خَوْفِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَائِعًا كَانَ مُكْرَهًا، وَلَوْ تَوَعَّدُوهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ، أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ، فَأَقَرَّ بِهِ كَانَ الْإِقْرَارُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُكْرَهًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ، فَالْجُهَّالُ قَدْ يَتَهَازَلُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيَحْبِسُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ يَوْمًا، أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ يُقَيِّدُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغُمَّهُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَجْعَلُ الْقَيْدَ فِي رِجْلِهِ، ثُمَّ يَمْشِي تَشْبِيهًا بِالْمُقَيَّدِ أَرَأَيْت لَوْ قَالُوا لَهُ لَنَطْرُقَنَّكَ طَرْقَةً، أَوْ لَنَسِمَنَّكَ، أَوْ لَتُقِرَّنَّ بِهِ - أَمَا كَانَ إقْرَارُهُ جَائِزًا، وَالْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ فِي هَذَا مَا يَجِيءُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ، وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ. ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 51 مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَمَا رَأَى أَنَّهُ إكْرَاهٌ أَبْطَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَالْوَجِيهُ الَّذِي يَضَعُ الْحَبْسَ مِنْ جَاهِهِ تَأْثِيرُ الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ يَوْمًا فِي حَقِّهِ، فَوْقَ تَأْثِيرِ حَبْسِ شَهْرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا لَمْ تُقَدَّرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَجَعَلْنَاهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِيَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ. . وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَلْفٍ، فَقَدْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا، فَالْخَمْسُمِائَةِ بَعْضُ الْأَلْفِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ إذَا كَانَ مُكْرَهًا امْتِنَاعُ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَاتِ الظَّلَمَةِ أَنَّهُمْ يُكْرِهُونَ الْمَرْءَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَبَدَلِ الْحَطِّ بِأَلْفٍ، وَيَقْنَعُونَ مِنْهُ بِبَعْضِهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جُعِلَ مُكْرَهًا عَلَى مَا دُونَ الْأَلْفِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ لَزِمَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْرَارِ فِي أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ عَادَاتِ الظَّلَمَةِ أَنْ يَتَحَكَّمُوا عَلَى الْمَرْءِ بِمَالٍ، وَمُرَادُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَ هُنَاكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِقَدْرِ أَلْفٍ، وَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ تُعْتَبَرُ الْمُوَافَقَةُ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُوَافَقَةُ لَفْظًا، فَالْأَلْفُ غَيْرُ الْأَلْفَيْنِ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَقَدْ قُصِدَ الْإِضْرَارُ بِهِ بِإِلْزَامِ الْأَلْفِ إيَّاهُ بِإِقْرَارِهِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَزِمَتْهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ هُوَ طَائِعًا فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْجِنْسِ الْآخَرِ. وَلَا يُقَالُ: الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ جُعِلَا كَجِنْسٍ، وَاحِدٍ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْإِنْشَاءَاتِ، فَأَمَّا فِي الْإِخْبَارَاتِ، فَهُمَا جِنْسَانِ كَمَا فِي الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى الدَّرَاهِمَ، وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِالدَّنَانِيرِ لَا تُقْبَلُ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ هُنَا، فَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ فِيهِ جِنْسَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ غَيْرِ مَا أَكْرَهُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، فَهُوَ طَائِعٌ مَتَى أَقَرَّ بِهِ. . وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِأَلْفٍ، فَأَقَرَّ لَهُ، وَلِفُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفٍ، فَالْإِقْرَارُ كُلُّهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْغَائِبُ بِالشَّرِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ صَدَّقَهُ الْغَائِبُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ بَطَلَ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ، وَإِنْ قَالَ لِي عَلَيْهِ نِصْفُ هَذَا الْمَالِ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنِي، وَبَيْنَ هَذَا الَّذِي أَكْرَهُوهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنهمَا، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِلْوَارِثِ، فَيَبْطُلُ الْإِقْرَارُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 52 كُلُّهُ، وَهُنَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَلَهُ نِصْفُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَادَّعَى عَلَيْهِ شَرِكَةَ الْوَارِثِ مَعَهُ، وَهُنَا أَيْضًا أَقَرَّ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ طَائِعًا، وَادَّعَى عَلَيْهِ شَرِكَةَ الْحَاضِرِ مَعَهُ، فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْغَائِبِ بِنِصْفِ الْمَالِ صَحِيحًا، وَدَعْوَاهُ الشَّرِكَةَ بَاطِلَةٌ. وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللَّه، وَزَيْدٍ، وَقَبَضَاهَا بِأَمْرِهِ جَازَتْ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نِصْفَ الْجَارِيَةِ طَائِعًا، وَالشُّيُوعُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْإِكْرَاهِ، ثُمَّ الْهِبَةُ إنْشَاءُ التَّصَرُّفِ، فَبُطْلَانُهُ فِي نَصِيبِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَالْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى لِوَارِثِهِ، وَلِأَجْنَبِيٍّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ بَطَلَتْ الْهِبَةُ كُلُّهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هِبَةُ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ رَجُلَيْنِ إذَا كَانَ طَائِعًا فِي حَقِّهِمَا، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا كَانَ أَوْلَى، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَطَلَتْ فِي نَصِيبِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَوْ صَحَّتْ فِي نَصِيبِ زَيْدٍ كَانَتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ، وَهَبَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي الثَّانِي، وَاسْتُشْهِدَ لِهَذَا بِمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا، وَهُوَ شَفِيعُهَا مَعَ رَجُلٍ غَائِبٍ فَقَبَضَهَا، وَوَهَبَهَا، وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ، فَأَخَذَ نِصْفَهَا بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ الْهِبَةُ تَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ. ، وَكَذَلِكَ لَوْ، وَهَبَ لِرَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا خَمْرًا، فَالْهِبَةُ تَبْطُلُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لِبُطْلَانِهَا فِي النِّصْفِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخَمْرُ عِوَضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا وَهَبَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تُنْتَقَضُ فِي الثُّلُثَيْنِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَتَبْقَى فِي الثُّلُثِ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْكُلِّ صَحِيحَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا تُنْتَقَضُ فِي الثُّلُثَيْنِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاهِبِ، فَكَانَ الشُّيُوعُ فِي الثُّلُثِ طَارِئًا، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ، الْمُبْطِلُ لِلْهِبَةِ فِي النِّصْفِ مُقْتَرِنٌ بِالسَّبَبِ، فَبَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الْأَصْلِ، فَالشُّيُوعُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي يَكُونُ مُقَارِنًا لَا طَارِئًا. وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَوَهَبَ، وَدَفَعَ، فَأَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ جَازَ عِتْقُهُ، وَغَرِمَ الْمُعْتِقُ قِيمَتَهَا، أَمَّا قَوْلُهُ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ، فَهُوَ فَصْلٌ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى الدَّفْعِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 53 عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَبْضُ، فَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَهُ الْمُكْرَهُ، وَهُوَ إزَالَةُ مِلْكِهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ تَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْبَيْعُ، فَمُوجِبُ الْمِلْكِ بِنَفْسِهِ، وَالْإِضْرَارُ بِهِ يَتَحَقَّقُ مَتَى صَحَّ، فَلَا يَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ عَنْ الْبَيْعِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَإِذَا سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْبَيْعِ يُوجِبُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ مَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَلَا يَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَيْهِ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فِي بَابِ الْهِبَةِ، فَيُوجِبُ الْمِلْكَ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْهِبَةِ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَلِهَذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ تَفْسُدُ الْهِبَةُ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ الْفَاسِدَةَ تُوجِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا أَعْتَقَهَا، أَوْ دَبَّرَهَا أَوَاسْتَوْلَدَهَا، فَقَدْ لَاقَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْهُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَكَانَتْ نَافِذَةً، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا، وَإِذَا شَاءَ الْمُكْرَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ رَجَعَ عَلَى الَّذِينَ أَكْرَهُوهُ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ مِلْكَهُ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مُلْجَأً، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً، وَهُوَ فِي التَّسْلِيمِ، وَالْإِتْلَافِ الْحَاصِلِ بِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَإِذَا صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُمْ الْقِيمَةَ رَجَعُوا بِهَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَقَامَ مَنْ صَحِبَهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالصُّحْبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً مِنْ هَذَا الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا مِنْهُ، وَإِذَا أَتْلَفُوهَا بِالْإِعْتَاقِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَتَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ مِنْ جِهَتِهِمْ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ مَا وَهَبُوهَا لَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا الْإِضْرَارَ بِالْمُكْرَهِ لَا التَّبَرُّعَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا وَهَبَ الْمَغْصُوبَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ، فَإِنَّ هُنَاكَ قَصْدُ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ نَفَذَتْ الْهِبَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَصَدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، فَفَعَلَ، فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً، فَاسْتَوْلَدَهَا نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْمُكْرَهِ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ مَالِكًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ دُونَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَالْبَائِعُ هُنَاكَ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَالْبَيْعُ هُنَاكَ يَتِمُّ بِمَوْتِ الْبَائِعِ، وَهُنَا لَا يَتِمُّ، ثُمَّ هُنَاكَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، فَهُنَا أَوْلَى إذْ بَيْعُ الْمُكْرَهِ كَبَيْعِ الْهَازِلِ. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 54 وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا هَزْلًا لَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مُكْرَهًا، وَكَلَامُهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِالْإِلْجَاءِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ طَوْعًا صَحَّ: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ، فَاسِدٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَصِيرُ مَالِكًا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِالْإِكْرَاهِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَهُوَ الرِّضَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وَتَأْثِيرُ انْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَ الْعَقْدُ، فَاسِدًا، وَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ. فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّى بِالْخِيَارِ شَرْطٌ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَيَكُونُ دَاخِلًا عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، فَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِهِ قَبْلَ الشَّرْطِ، فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ بَيْعِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ رَاضٍ بِالسَّبَبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِ السَّبَبِ، وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُكْرَهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحُكْمِ مُقَيَّدًا لِحُكْمِهِ، فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ، وَكَذَلِكَ الْهَازِلُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِأَصْلِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ لِلْجِدِّ الَّذِي لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ. وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ دُعِيَ إلَى الْجِدِّ، وَقَدْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِغَيْرِهِ كَانَ طَائِعًا، فَكَانَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ أَقْوَى مِنْ بَيْعِ الْهَازِلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ إذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرَهِ، وَفِي الْبَيْعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُكْرَهُ مُبَاشِرًا لِلْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ فِي التَّسْلِيمِ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمُكْرَهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي قُلْت: هُوَ فِي التَّسْلِيمِ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه فِي تَسْلِيمِ ابْتِدَاءِ غَصْبٍ. وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى تَسْلِيمٍ هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ عَلَى الْمُكْرَهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 55 أَيْضًا؛ يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْفِعْلِ، وَلَوْ أَخْرَجْنَا هَذَا التَّسْلِيمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْعَقْدِ جَعَلْنَاهُ غَصْبًا ابْتِدَاءً بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُكْرَهِ، فَيَتَبَدَّلُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ ذَاتُ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْفِعْلِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَتَبَدَّلَ ذَاتُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ عَلَّلَ لِتَنْفِيذِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمِلْكِ، فَنَقُولُ: إيجَابُ الْبَيْعِ مُطْلَقًا تَسْلِيطٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْعِتْقِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْعِتْقِ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ بِحُكْمِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الْإِكْرَاهُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ فِي عِتْقِ عَبْدِهِ، فَفَعَلَ، وَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالِاسْتِيلَاءِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ عَيْنِهَا، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْبَائِعِ، فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ ضَمَّنَ الَّذِينَ أَكْرَهُوهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ، وَمَا يُتَمِّمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُضَافًا إلَيْهِمْ، فَالْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ بِهِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِمْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُمْ فِي الْإِتْلَافِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ قِيمَتَهَا، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالضَّمَانِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِمْ طَوْعًا بِالْإِعْتَاقِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِي أَتْلَفَهَا، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَفْعَلْ بِهَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَاعَهَا، أَوْ وَهَبَهَا، وَسَلَّمَهَا، أَوْ كَاتَبَهَا كَانَ لِمَوْلَاهَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، فَيُنْقَضُ لِحَقِّ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُنْتَقَضُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالْكِتَابَةُ تُنْتَقَضُ لِحَقِّهِ فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً، فَاسِدًا لَا يُنْقَضُ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بَعْدَ الْقَبْضِ لِحَقِّ الْبَائِعِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْبَائِعُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ رَاضِيًا بِهِ، فَيَصِيرُ بِالتَّسْلِيمِ مُسَلَّطًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَوْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ تَمَّ الْبَيْعِ، فَوَازَنَهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً، فَاسِدًا إذَا أُكْرِهَ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَسَلَّمَهُ مُكْرَهًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ، وَفِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ يُنْقَضُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِإِبْقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ. قَالَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا، وَهُوَ يُرَدُّ إلَّا مَا جَرَى فِيهِ عِتْقٌ، أَوْ تَدْبِيرٌ، أَوْ وِلَادَةٌ، أَوْ طَلَاقٌ، أَوْ نِكَاحٌ، أَوْ نَذْرٌ، أَوْ رَجْعَةٌ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ فِي الْإِيلَاءِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَجُوزُ فِي الْإِكْرَاهِ، وَلَا تُرَدُّ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُكْرَهِ قَوْلًا مُنْعَقِدٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ يُفْسَخُ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْعَتَاقِ، وَجَمِيعِ مَا سَمَّيْنَا، فَهُوَ لَازِمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ قَوْلًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 56 يَكُونُ لَغْوًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَتْلٍ. وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ لِمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي الدِّينِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ حُكْمُهُ، وَإِثْمُهُ، وَعَيْنُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، فَالْإِكْرَاهُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ حُصُولَ الْفُرْقَةِ كَالرِّدَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفَاتِ شَرْعًا بِكَلَامٍ يَصْدُرُ عَنْ قَصْدٍ، وَاخْتِيَارٍ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ، وَلَيْسَ لِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ هُوَ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ، وَالْإِكْرَاهُ يُضَادُّ الِاخْتِيَارَ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا بِالْبَاطِلِ، وَلِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا الْتَحَقَ بِالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَوْلَى بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ شَرْعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِ مَالِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ، وَالذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ، فَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ قَالَ: وَعَلَى هَذَا قُلْت، وَإِذَا أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ إسْلَامُهُ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمُسْتَأْمَنُ، أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ السَّكْرَانُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ شَرْعًا، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالْمُكْرَهِ بِحَقٍّ، فَيَكُونُ قَصْدُهُ، وَاخْتِيَارُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَلِهَذَا نَفَذَ مِنْهُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ هُنَاكَ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ إنْشَاؤُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ مُخْتَارٌ لَهُ، فَإِنَّ بَابَ الْهَزْلِ وَاسِعٌ، فَلَمَّا اخْتَارَ عِنْدَ الْهَزْلِ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِحُكْمِهِ، فَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَغَيْرُ مُخْتَارٍ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ النَّجَاةُ إذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَةً، وَهِيَ أُمُّ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا ادَّعَيْنَا هَذَا فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي يَكُونُ ثُبُوتُهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ، فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَتَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا حِسًّا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنُونِ كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ أَيْضًا، فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِكْرَاهِ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى قُلْتُمْ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ: الْمُكْرِهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِلْمُكْرَهِ، وَكَمَا تَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ تَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ سِوَى أَنْ يُجْعَلُ الْفِعْلُ عَدَمًا فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ، وَيُجْعَلُ هُوَ آلَةً الجزء: 24 ¦ الصفحة: 57 لِلْمُكْرِهِ، وَإِذَا صَارَ آلَةً لَهُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّهُ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً، فَإِنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُ آلَةً حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْعَتَاقِ، وَضَمَانُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْمُكْرَهِ يُجْعَلُ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ، فَيَلْغُو طَلَاقُهُ، وَعَتَاقُهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَلَا يُلْغَى كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ كَلَامٌ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْكَلَامِ يَكُونُ مُمَيِّزًا، وَمُخَاطَبًا، وَبِالْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يُنَوَّعُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَرَّرْنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْحَالِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ، وَاعْتِبَارُ كَلَامِهِ شَرْعًا تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ مَتَى قَامَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا، وَبَيَانُ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُصَادِفًا مَحَلَّهُ، وَلَيْسَ لِلطَّوَاعِيَةِ تَأْثِيرٌ فِي جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ مَحَلًّا، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ صَادَفَ مَحَلَّهُ إلَّا أَنَّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا مِنْهُ بِحُكْمِ السَّبَبِ، وَلَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ، وَالِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ، فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا دَلِيلُ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا لِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ قَاصِدٌ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ. وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ، وَلَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ مُخْتَارٌ لَهُ لَا لِحُكْمِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْهَزْلُ، ثُمَّ طَلَاقُ الْهَازِلِ وَاقِعٌ، فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرِّضَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَى السَّبَبِ، وَالِاخْتِيَارِ لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْمُكْرَهِ فِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ، فَوْقَ حَالِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ، وَالْمُكْرَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْجِدِّ؛ لِأَنَّهُ يُجِيبُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ، فَإِنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِخَبَرٍ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ، وَأَنَّهُ فِي إخْبَارِهِ كَاذِبٌ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ، وَالْإِقْرَارُ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الطَّائِعِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ، فَإِنَّ دِينَهُ، وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى ذَلِكَ. ، وَفِي حَقِّ الْمُكْرَهِ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا، فَالْإِخْبَارُ بِهِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 58 الْمُقِرُّ بِاخْتِيَارِهِ لَا يَصِيرُ كَائِنًا حَقِيقَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَزَلَ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدِّينِ، فَإِنَّ الْهَازِلَ مُسْتَخِفٌّ لَا مَحَالَةَ إذْ الِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ، فَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَغَيْرُ مُسْتَخِفٍّ، وَلَا مُعْتَقِدٍ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ مُكْرَهًا، ثُمَّ إنْ وَجَبَ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُوسِرٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى السَّاكِتِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْعِتْقِ، وَلَا يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ بِإِبْطَالِ عِتْقِ الْمُعْتِقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى شَيْئَيْنِ: التَّكَلُّمُ بِالْعَتَاقِ، وَالْإِتْلَافُ، وَهُوَ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ تَكَلُّمَهُ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَفِي الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ، فَجَعَلْنَا الْإِتْلَافَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَحَكَمْنَا بِنُفُوذِ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ التَّكَلُّمُ فِي جَانِبِهِ حُكْمًا. قُلْنَا هَذَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ هُنَا، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، وَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ، وَالْإِلْغَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ التُّهْمَةِ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَهَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُح أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَلَوْ اعْتَبِرْنَا ذَلِكَ لَانْعَدَمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِلْغَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ نَفْيُ الْإِثْمِ لَا رَفْعُ الْحُكْمِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الْإِثْمَ يَرْتَفِعُ بِالْإِكْرَاهِ حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَوْ الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ آثِمًا إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَنْعَقِدُ شَرْعًا، فَمَا لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرِهِ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْهُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا حَتَّى إنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا، وَمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا قُلْنَا لَا يَكُونُ لَازِمًا إذَا صَدَرَ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ مَلَكَ بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخ إلَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ نَافِذٌ قَبَضَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 59 لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ، فَاسِدٌ، فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْقَبْضِ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، فَصَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَبَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ، فَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، وَيَصِيرُ بِالْعِتْقِ قَابِضًا لَهُ: يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا لَهُ عَلَى الْعِتْقِ، وَهُوَ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِتَسْلِيطِهِ أَيْضًا، ثُمَّ كَانَ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ إذَا كَانَ الْوَعِيدُ بِقَتْلٍ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْعِتْقُ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكْرِهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ، فَيَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ الْمُكْرَهَ، أَوْ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ قِيمَتِهِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا. ، فَيَرْجِعُ هُوَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ، أَوْ ضَمِنَهُ الْمُكْرِهُ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالْمُشْتَرِي الْآخَرِ، وَكَانَ الثَّمَنُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِوُصُولِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ. . وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِقَيْدٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِعَقْدٍ آخَرَ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَالْبَيْعُ بِخَمْسِمِائَةٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ بِدَلِيلِ الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ، وَإِذَا أَتَى بِعَقْدٍ آخَرَ كَانَ طَائِعًا فِيهِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ فَوَهَبَ لَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ، فَقَدْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمُكْرَهِ، وَفِي مَعْنَى الْإِضْرَارِ هَذَا الْمَبِيعُ، فَوْقَ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ، فَكَانَ هُوَ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ، فَلِهَذَا كَانَ مُكْرَهًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، فَوْقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا، وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْإِضْرَارِ دُونَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ، فَلَمْ يَكُنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 60 هُوَ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ فِيمَا بَاشَرَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ. . وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْبَيْعِ، فَوَهَبَهُ نَفَذَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْبَيْعِ قَدْ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ لِلْقَصْدِ إلَى الْإِنْعَامِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لَلْمُكْرِهِ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُحَصِّلًا مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ بَلْ يَكُونُ طَائِعًا مُخَالِفًا لَهُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَهُنَاكَ مَا خَالَفَ الْمُكْرِهَ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُكْرِهِ فِيمَا بَاشَرَهُ إثْمٌ، فَكَانَ مُكْرَهًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَهَبَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الْإِقْرَارِ مِنْ التِّجَارَةِ، وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْإِقْرَارِ قَدْ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ، فَكَانَ هُوَ فِي الْهِبَةِ طَائِعًا. وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ، وَلَمْ يُسَمُّوا أَحَدًا، فَبَاعَهَا مِنْ إنْسَانٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمُكْرَهِ لَا مَنْفَعَةَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُشْتَرِي لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِ الْمُكْرَهِ، فَكَانَ هُوَ مُكْرَهًا فِي الْبَيْعِ مِمَّنْ بَاعَهُ، وَلَوْ أَخَذُوهُ بِمَالٍ لِيُؤَدِّيَهُ، وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ، فَاكْرَهُوهُ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ بَيْعَ جَارِيَتِهِ، فَبَاعَهَا لِيُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ: وَوَجْهُهُ أَنَّ بَيْعَ الْجَارِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَدَاءِ الْمَالِ، فَقَدْ يَتَحَقَّقُ أَدَاءُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَالِاسْتِيهَابِ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَهَذَا هُوَ عَادَةُ الظَّلَمَةِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُصَادِرُوا رَجُلًا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَلَا يَذْكُرُونَ لَهُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ حَتَّى إذَا بَاعَهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ، فَالْحِيلَةُ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: مِنْ أَيْنَ أُؤَدِّي وَلَا مَالَ لِي؟ فَإِذَا قَالَ لَهُ الظَّالِمُ: بِعْ جَارِيَتَك، فَالْآنَ يَصِيرُ مُكْرَهًا عَلَى بَيْعِهَا فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهَا. وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ جَارِيَتَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَنَانِيرَ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ حَقِيقَةً، وَهُوَ فِي الِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَالْمَقْصُودِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَفِي شِرَاءِ الْمُضَارِبِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَرَأْسِ الْمَالِ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ، وَفِي الْإِخْبَارَاتِ هُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ الَّذِي سَبَقَ فَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ فِي ذَلِكَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَهُنَا إنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى إنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ فِي ذَلِكَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهَا بِعَرَضٍ، أَوْ حِنْطَةٍ، أَوْ شَعِيرٍ جَازَ الْبَيْعُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ، وَهُوَ آتٍ بِعَقْدٍ آخَرَ سِوَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 61 مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا. ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ لِمَا لَهُ مِنْ الْغَرَضِ فِي ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، فَالْمُكْرَهُ عَلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ يَكُونُ طَائِعًا فِي الْعَقْدِ الْآخَرِ إذَا بَاشَرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي التَّكَلُّمِ بِالْعِتْقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ آلَةً لَلْمُكْرِهِ، فَيَبْقَى تَكَلُّمُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ بِهِ مُعْتِقًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ اخْتِيَارَهُ لَكِنْ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا، وَفِيمَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ يُجْعَلُ الْمُكْرَه آلَةً لَهُ، فَرَجَحَ الِاخْتِيَارُ الصَّحِيحُ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ يَبْقَى مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَهُ مِنْ الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانُ قِيمَتهِ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ الْمُكْرَهَ يُصْبِحُ آلَةً لَلْمُكْرِهِ، فَيَصِيرُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ تَرْجِيحًا لِلِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا، أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ، فَيَكُونُ جُبْرَانًا لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارَةِ، وَالْعُسْرَةِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ يَعْتِقُ عَبْدَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَهُنَاكَ يَجِبُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ صَارَ هُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ نَاقِصَ الْمِلْكِ لِوُجُوبِ النَّظَرِ لَهُ شَرْعًا، وَهُنَا بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِرْ نَاقِصَ الْمِلْكِ، وَمَعْنَى النَّظَرِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، ثُمَّ الْوَلَاءُ يَكُونُ لِلْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتِقُ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَهُ يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاء ضُمِّنَا قِيمَتَهُ، وَالْوَلَاءُ ثَابِتٌ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَيْسَ لِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمَوْلَى، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْرِهَ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلْعَبْدِ بِالضَّمَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُكْرَهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا حَتَّى أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 62 كُلُّهُ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمَانُ جَمِيعِ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا الْمِلْكَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ إتْلَافَ نَصِيبِهِ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرَهِ إتْلَافُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ قَصْدًا، وَلَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَيْهِ التَّلَفُ حُكْمًا، فَيَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ، وَالْمُعْتِقُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. أَمَّا عَلَى الْعَبْدِ، فَلِأَنَّهُ سَعَى فِي بَدَلِ مَا سُلِّمَ لَهُ، وَأَمَّا الْمُكْرِهِ، فَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ الْمُكْرَهِ مُوسِرًا كَانَ، أَوْ مُعْسِرًا، وَفِي نَصِيبِ السَّاكِتِ إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا، فَالسَّاكِتُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِهَذَا النِّصْفِ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَاسْتَسْعَاهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ فِي ذَلِكَ، وَصَارَ مُتَمَلِّكًا لِنَصِيبِهِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُكْرَهِ، وَالْمُكْرِهِ نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُعْسِرًا، فَلِلسَّاكِتِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُكْرَهِ نِصْفَانِ لِأَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ. ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَفَعَلَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ سَمَّى لَهَا مَهْرًا، وَالْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمهُ ذَلِكَ الْمَالَ حُكْمًا، فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا إذَا كَانَ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الزَّوْجِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ نِصْفُ الصَّدَاقِ بِالنَّصِّ، وَالْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْفُرْقَةَ مُضَافَةً إلَى الزَّوْجِ بِإِكْرَاهِهِ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَ الزَّوْجَ ذَلِكَ الْمَالَ، أَوْ فَوَّتَ يَدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ كَالْغَاصِبِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَضْمَنُ شَاهِدًا الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ كُلَّهُ تَقَرَّرَ عَلَى الزَّوْجِ بِالدُّخُولِ، وَالْمُكْرِهِ إنَّمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَنَا، وَلِهَذَا لَا نُوجِبُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ ضَمَانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ إنْ ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَا عَلَى الْقَاتِلِ لِمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْبُضْعَ مَضْمُونًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْبِضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 63 بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَتَقَوُّمُهُ عِنْدَ النِّكَاحِ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَمْلُوكِ، وَهَذَا الْخَطَرُ لِلْمَمْلُوكِ لَا لِلْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَبِغَيْرِ، وَلِيٍّ صَحِيحٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إظْهَارِ الْخَطَرِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ شَيْئًا. . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَجَامَعَهَا يُرِيدُ بِهِ الْفَسَادَ عَلَى أَبِيهِ، وَلَمْ يَدْخُلُ بِهَا أَبُوهُ كَانَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ، وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الْأَبِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمهُ ذَلِكَ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الِابْنِ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا الْفَصْلُ، أَوْرَدَهُ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ، وَقَوْلُهُ بَرِيدُ بِهِ الْفَسَادَ أَيْ يَكُونُ قَصْدُهُ إفْسَادَ النِّكَاحِ، فَأَمَّا الزِّنَا، فَلَا يَكُونُ إفْسَادًا. . وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرِ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِدَّ، وَالْهَزْلَ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ، وَالطَّوَاعِيَةُ، وَلِلْمَرْأَةِ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَيَخْتَلِفُ بِالْجِدِّ، وَالْهَزْلِ، فَيَخْتَلِفُ أَيْضًا بِالْإِكْرَاهِ، وَالطَّوْعِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ الزَّوْجِ الْتِزَامُ الْمَالِ مُكْرَهًا إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ لَا مَحَالَةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ، فَعِنْدَ قَبُولِ التَّسْمِيَةِ فِيهِ مُكْرَهًا، أَوْلَى أَنْ يَجِبَ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَبْطُلُ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الزَّوْجِ بِالْتِزَامِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي أُكْرِهَتْ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةُ آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا مُكْرَهِينَ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَتَقَوُّمُهُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيمَا هُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي لِلزَّوْجِ: إنْ شِئْت، فَأَتْمِمْ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَهِيَ امْرَأَتُك إنْ كَانَ كُفُؤًا لَهَا، فَإِنْ أَبَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لَهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ كُفُؤًا لَهَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ بِنُقْصَانِ حَقِّهَا عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَالزَّوْجُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ بِأَنْ يَلْتَزِمَ لَهَا كَمَالَ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ، وَإِنْ أَبَى، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا مُكْرَهَةً، فَلَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهَا بِالنُّقْصَانِ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ انْدَفَعَ حِينَ اسْتَحَقَّتْ كَمَالَ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، وَهِيَ طَائِعَةٌ، أَوْ رَضِيَتْ بِمَا سَمَّى لَهَا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ كُفُؤٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، فَلَهَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 64 أَنْ لَا تَرْضَى بِالْمَقَامِ مَعَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ الزَّوْجُ لَهَا كَمَالَ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ مِنْ اسْتِفْرَاشِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، وَهِيَ طَائِعَةٌ، أَوْ رَضِيَتْ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ طَلَبِ الْكَفَاءَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا طَائِعَةً مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، فَهُنَا أَيْضًا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ فِي الْكَفَاءَةِ، وَالزَّوْجُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، فَيَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ رَضِيَ بِأَنْ يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا، وَجَبَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي نَفْسٍ، أَوْ فِيمَا دُونَهَا، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى عَفَا فَالْعَفْوُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ نَظِيرُ الطَّلَاقِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إبْطَالُ مِلْكِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمِلْكِ شَيْءٌ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ عِوَضًا، وَلَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَتُقَوَّمُ النَّفْسُ بِالْمَالِ عِنْدَ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْإِهْدَارِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْإِسْقَاطِ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَالْبَدَلُ فِيهِ صَحِيحٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلِهَذَا لَا يُضَمَّنُ شُهُودُ الْعَفْو إذَا رَجَعُوا، وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ. وَلَوْ، وَجَبَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ مَالٍ، أَوْ كَفَالَةٍ بِنَفْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَبْرَأَ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ تَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمَدْيُونِ، وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ، فَرْعٌ لِإِبْرَاءِ الْأَصِيلِ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا بِاعْتِبَارِ دَعْوَى الْمَالِ، فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ مَا طَلَبهَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلِهَذَا مَلَكَهُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالتِّجَارَةُ تَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَذَلِكَ يُعْتَمَدُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ حِينَ عَلِمَ بِهَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِطَلَبِهَا، فَأُكْرِهَ حَتَّى سَدَّ فَمَهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ يَنْطِقُ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا خَلَّى عَنْهُ، فَإِنْ طَلَبَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلشُّفْعَةِ تَرَكَ الطَّلَبَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ لَا يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَبِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 65 وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَبِ هُنَا حِينَ سَدَّ، فَمَهُ، أَوْ قِيلَ: لَهُ لَئِنْ تَكَلَّمْت بِطَلَبِ شُفْعَتِك لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَنَحْبِسَنَّكَ، فَهَذَا لَا يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ، فَأَمَّا بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِتَرْكِ الطَّلَبِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِمَنْزِلَةِ الْهَزْلِ، وَالْهَازِلُ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ قُلْنَا إذَا هَزَلَ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِتَرْكِ الطَّلَبِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا بِالْهَزْلِ بِالتَّسْلِيمِ، فَأَمَّا إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَهَا هَازِلًا، وَاتَّفَقَا أَنَّهُ كَانَ هَازِلًا فِي التَّسْلِيمِ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا. فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: إنَّهُ لَمْ يَكُفَّ عَنْ الطَّلَبِ لِلْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: مَا كَفَفْت إلَّا لِلْإِكْرَاهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَفَّ عَنْ الطَّلَبِ لِلْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إلَّا الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ. . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ، وَلَهُ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَفَعَلَ، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَقَالَتْ: قَدْ كَفَرْتَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَبِنْتُ مِنْك، وَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا أَظْهَرْت ذَلِكَ، وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ سِرِّهِ، فَوَجَبَ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُوقَفُ عَلَيْهِ مَقَامَ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ، فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ قَدْ سُمِعَ مِنْهُ كَلِمَةُ الرِّدَّةِ، فَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَبِلَ قَوْلَ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَمْ يُجَدِّدْ النِّكَاحَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ»، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ حَتَّى تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِالتَّكَلُّمِ إلَّا دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مُعْتَقِدًا، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْإِكْرَاهِ، فَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ يُصَارُ إلَى ظَاهِرِ مَا سُمِعَ مِنْهُ، فَأَمَّا الشِّرْكُ مِمَّا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ، وَالْإِكْرَاهُ، فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَقِدٌ، فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إذَا أَجْرَى كَلِمَةَ الشِّرْكِ مُكْرَهًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكْرَهَهُ لِصٌّ بِالْقَتْلِ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ، فَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 66 فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا»، ثُمَّ حُرْمَةُ الطَّرَفِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَالتَّابِعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْأَصْلِ، فَفِي إقْدَامِهِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَعْرِيضُ النَّفْسِ، وَتَلَفُ النَّفْسِ يُوجِبُ تَلَفَ الْأَطْرَافِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ لِإِبْقَاءِ الْكُلِّ يَكُونُ، أَوْلَى مِنْ إتْلَاف الْكُلِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ، وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكَلَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ، فَعَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَهَذَا الْمُكْرَهُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ طَرَفِهِ إلَّا أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَكَلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحُرْمَةُ الطَّرَفِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، فَلِهَذَا تَحَرَّزَ عَنْ الْإِثْبَاتِ فِي الْجَوَابِ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَ نَفْسِهِ، ثُمَّ خَاصَمَ الْمُكْرِهَ فِيهِ قَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْقَوَدِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِمَا تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ بَاشَرَ قَطْعَ يَدِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَقِيلَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْيَدِ فِي مَالِهِ، وَقِيلَ هُنَا يَجِبُ الْقَوَدُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً فِي قَتْلِ الْغَيْرِ لِكَوْنِهِ آثِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ، وَهُنَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ، فَكَانَ هُوَ آلَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، فَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهُ. . ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ فِي النَّارِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، فَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا إنْ كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، فَإِنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ عَلَى قَصْدِ النَّجَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ أَلَمَ النَّارِ عَلَى أَلَمِ السَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَلَمَ السَّيْفِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي النَّارِ بَعْضُ الرَّاحَةِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ إذَا كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ، وَحَيْثُ يَسَعُهُ الْإِلْقَاءُ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَوْدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَشْكُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ مِنْ، فَوْقِ بَيْتٍ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْمُكْرِهُ بِنَفْسِهِ. ، وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 67 ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَهُوَ، وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي النَّارِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ فِي مَاءٍ، وَهُنَا الْقَوْدُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يُرْجَى النَّجَاةُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ، وَهْبٍ قَالَ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا عَلَى جَيْشٍ، فَخَرَجَ نَحْوَ الْجَبَلِ، فَانْتَهَى إلَى نَهْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ جِسْرٌ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ، فَقَالَ أَمِيرُ ذَلِكَ الْجَيْشِ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَابْغِ لَنَا مَخَاضَةً نَجُوزُ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي أَخَافُ إنْ دَخَلْت الْمَاءَ أَنْ أَمُوتَ قَالَ، فَأَكْرَهَهُ، فَدَخَلَ الْمَاءَ قَالَ يَا عُمَرَاهُ، يَا عُمَرَاهُ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ هَلَكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ قَالَ يَا لَيْتَكَاهُ، يَا لَيْتَكَاهُ،، فَبَعَثَ إلَى أَمِيرِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَنَزَعَهُ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَأَقَدْتُهُ مِنْك، ثُمَّ غَرَّمَهُ الدِّيَةَ، وَقَالَ: لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا قَالَ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ الْأَمِيرُ بِهَذَا عَلَى غَيْرِ إرَادَةِ قَتْلِهِ بَلْ لِيَدْخُلَ الْمَاءَ، فَيَنْظُرَ لَهُمْ مَخَاضَةَ الْمَاءِ، فَضَمَّنَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِيَتَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَمَرَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُ بِذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً يَعْنِي فِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْصِدُ الْقَتْلَ، وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ، فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ قَاصِدًا إلَى قَتْلِهِ بِمَا لَا يُلْجِئُهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْقَوَدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَقَدْ يُهَدِّدُ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ، وَيَتَحَرَّزُ فِيهِ عَنْ الْكَذِبِ بِبَعْضِ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. . وَلَوْ قَالَ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ نَفْسِك، أَوْ لَأَقْطَعَنَّهَا أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يَنْجُو عَمَّا هُدِّدَ بِهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَهُنَا فِي الْجَانِبَيْنِ عَلَيْهِ ضَرَرُ قَطْعِ الْيَدِ، وَإِذَا امْتَنَعَ صَارَتْ يَدُهُ مَقْطُوعَةً بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ، وَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ صَارَتْ مَقْطُوعَةً بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بِمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَيَقَّنُ بِمَا هَدَّدَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ، فَرُبَّمَا يُخَوِّفُهُ بِمَا لَا يُحَقِّقُهُ، فَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ قَطْعُهَا، وَلَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِكْرَاهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا اقْتَصَرَ حُكْمُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ نَفْسَكَ بِهَذَا السَّيْفِ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ بِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا إكْرَاهًا لِمَا قُلْنَا. ، وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ بِالسِّيَاطِ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ نَفْسَك بِهَذَا السَّيْفِ، أَوْ ذَكَرَ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْقَتْلِ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ قُتِلَ بِهِ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ هُنَا تَحَقَّقَ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ دَفْعَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ، فَالْقَتْلُ بِالسِّيَاطِ أَفْحَشُ، وَأَشَدُّ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسَّيْفِ يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ، وَبِالسِّيَاطِ يَطُولُ، وَيَتَوَالَى الْأَلَمُ، وَإِلَيْهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 68 أَشَارَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ النَّفْسِ لَوْ قِيلَ: لَهُ لَتُحْرِقَنَّ يَدَك بِالنَّارِ، أَوْ لَتَقْطَعَنَّهَا بِهَذَا الْحَدِيدِ، فَقَطَعَهَا قُطِعَتْ يَدُ الَّذِي أَكْرَهَهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَدَدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي يَدِهِ قَوَدٌ، وَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْيَدِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِخِلَافِ النَّفْسِ. ، وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ يَدَ رَجُلٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْقَوَدُ عِنْدَنَا، وَلَوْ قَتَلُوا رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ، وَيَأْتِي هَذَا الْفَرْقُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي الْبَحْرِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَهُ، أَوْ يَكْسِرَ مَتَاعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ يَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا لِلْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ بِيَدِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُنَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا صَارَ الْإِقْدَامُ مُبَاحًا لَهُ كَانَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً، وَأَصْحَابُهُ خَرَّجُوا لَهُ قَوْلَيْنِ سِوَى هَذَا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِصَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي، أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْلَافِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَالْقَصْدُ إلَى الْإِضْرَارِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرِهِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْإِتْلَافِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ، وَلَا قَوَدٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَصِيرُ كَالْآلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْإِلْجَاءِ، وَهُوَ مَا إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْد مَعْنَى خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَيُؤَاخِذُ بِحُكْمِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ إلَّا هَمٌّ يَلْحَقُهُ، وَمَنْ يُتْلِفُ مَالَ الْغَيْرِ اخْتِيَارًا، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ دَفْعَ الْغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِحَسَدِهِ إيَّاهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِتَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا لَهُ، أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا لَهُ، فَلَبِسَهُ مُكْرَهًا حَتَّى تَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسَادٍ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى حَاجَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَسَادًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ، وَالْوَصِيَّ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ، وَلَا يَكُونُ فَسَادًا مِنْهُمَا، ثُمَّ هَذَا مِنْ وَجْهٍ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ التَّقْتِيرَ وَتَرْكَ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ وُجُودِ السَّعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ دَفْعُ الْفَسَادِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ لَيْسَ بِفَسَادٍ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ إحْرَاقِ الْمَالِ بِالنَّارِ أَوْ طَرْحِهِ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ، فَسَادٌ لَا انْتِفَاعٌ بِالْمَالِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 69 عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ، وَالْمِلْكِ، فَكَمَا لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِحُرٍّ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ إلَى حَاجَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، فَإِنْ، فَعَلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ قَوَدًا بِعَبْدِهِ إنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَيَأْخُذَ دِيَةَ يَدِهِ إنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْمُكْرِهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلنَا أَنَّ الْقَوَدَ يَجْرِي بَيْنَ الْأَحْرَارِ، وَالْمَمَالِيكِ فِي النَّفْسِ، وَلَا يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَدَبُ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، وَالْإِلْجَاءُ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَكَانَ فِعْلُ الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَى الْمَوْلَى، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى سِوَى الْإِثْمِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى، وَلَا يَسْتَوْجِبُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ عُقُوبَةً، وَلَا مَالًا، فَأَمَّا الْإِثْمُ، فَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ، فَكَمَا يَصِيرُ آثِمًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ رُوحَهُ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَيُطِيعُ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمَوْلَى يَكُونُ آثِمًا بِهَذَا الطَّرِيقِ. ، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا أَكْرَهَ رَجُلًا بِتَهْدِيدِ ضَرْبٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ حَتَّى يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَدٍّ، أَوْ قِصَاصٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَالتَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ يَمْنَعُ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمِينٍ إذَا ضَرَبْتَ أَوْ أَوْثَقْتَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - صِحَّةُ الْإِقْرَارِ مَعَ التَّهْدِيدِ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ فِي حَقِّ السَّارِقِ، وَغَيْرِهِ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ بَعَثَ إلَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَرْبِ السَّارِقِ لِيُقِرَّ، فَقَالَ مَا لَمْ يَقْطَعْ اللَّحْمَ أَوْ يُبِينَ الْعَظْمَ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَقَالَتِهِ، وَجَاءَ بِنَفْسِهِ إلَى مَجْلِسِ الْأَمِيرِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ حَتَّى اعْتَرَفَ، وَجَاءَ بِالْمَالِ، فَلَمَّا رَأَى الْمَالَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْ الْأَمِيرِ قَالَ: مَا رَأَيْت ظُلْمًا أَشْبَهَ بِالْحَقِّ مِنْ هَذَا، فَإِنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ مُكْرَهًا، ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَجِيءَ بِهِ، فَأَقَرَّ بِمَا كَانَ تَهَدَّدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ مُسْتَقِلٍّ أُخِذَ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَالتَّهْدِيدِ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا حَتَّى أُخِذَ الْآنَ فَأَقَرَّ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْلَ سَبِيلُهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَهُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا أَقَرَّ إنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ بِإِقْرَارِك الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ، وَلَا أَضْرِبُك، وَلَا أَحْبِسُك، وَلَا أَعْرِضُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 70 لَك، فَإِنْ شِئْت فَأَقِرَّ، وَإِنْ شِئْت، فَلَا تُقِرَّ، وَهُوَ فِي يَدِ الْقَاضِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ كَيْنُونَتَهُ فِي يَدِهِ حَبْسٌ مِنْهُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ، فَمَا دَامَ حَابِسًا لَهُ كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ بَاقِيًا، وَقَوْلُهُ لَا أَحْبِسُكَ نَوْعُ غُرُورٍ، وَخِدَاعٍ مِنْهُ، فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لِأَجْلِ إقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ، وَأَنَّهُ إذَا تَنَاقَضَ كَلَامُهُ يَزْدَادُ التَّشْدِيدُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ قَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَصَارَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الذَّهَابِ إنْ شَاءَ، فَيَنْقَطِعُ بِهِ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. وَإِنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ، وَرَدَّهُ إلَيْهِ، فَأَقَرَّ بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ، فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ، وَحَبْسِهِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ حِينَ رَدَّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَحْبِسْهُ، وَلَكِنَّهُ هَدَّدَهُ، فَلَمَّا أَقَرَّ قَالَ: إنِّي لَسْت أَصْنَعُ بِك شَيْئًا، فَإِنْ شِئْت فَأَقِرَّ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ، فَأَقِرَّ لَمْ يَأْخُذْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِي سِجْنِهِ، فَكَانَ أَثَرُ التَّهْدِيدِ الْأَوَّلِ قَائِمًا أَرَأَيْت لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَقَرَّ أَكَانَ يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ أَوْ لَا يُؤْخَذُ بِهِ؟؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ يَحْفَظُهُ لَهُ كَيَدِهِ فِي ذَلِكَ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ قَاضٍ بِضَرْبٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى يُقِرَّ بِسَرِقَةٍ، أَوْ زِنًا، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ قَتْلٍ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ، فَأَقَامَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِيهِ، وَيُضَمَّنُ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِصَاصُ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَالْإِقْرَارُ الْبَاطِلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَبَقِيَ هُوَ مُبَاشِرًا لِلْجِنَايَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، وَيُدْرَأُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَاَلَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلِّ سَامِعٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي إقْرَارِهِ لِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَذَلِكَ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ؛ وَلِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْبُرَ الْمَعْرُوفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، فَإِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ قَلَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا، وَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا عِنْدَهُمْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، فَيَصِيرُ اخْتِلَاف الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - شُبْهَةً، وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ فِي مَا صَنَعَ، فَهَذَا اجْتِهَادٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَيَكُونُ مُسْقِطًا لَلْقَوَدِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِمَّا يُثْبِتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَبِالْإِقْرَارِ الْبَاطِلَ لَمْ تَسْقُطْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ، وَأَطْرَافِهِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَطَرَفِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِمَّا رُمِيَ بِهِ أَخَذْتُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 71 وَأَوْجَبْتُ الْقِصَاصَ عَلَى الْقَاضِي فِي مَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَيْهِ، أَوْهَامُ النَّاسِ أَنَّهُ بَرِيءُ السَّاحَةِ مِمَّا رُمِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قِيلَ: فِيمَنْ دَخَلَ عَلَى إنْسَانٍ بَيْتَهُ شَاهِرًا سَيْفَهُ مَادًّا رُمْحَهُ فَقَتَلَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ، أَوْلِيَاؤُهُ مَعَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، فَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ كَانَ هَارِبًا مِنْ اللُّصُوصِ مُلْتَجِئًا إلَيْكَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيْتِ: بَلْ كَانَ لِصًّا قَصَدَ قَتْلِي، فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالدِّعَارَةِ، فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ مُكَابِرًا، وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: مُجَرَّدُ الظَّاهِرِ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ النُّفُوسِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُ الدِّمَاءِ الْمَحْقُونَةِ، وَلَكِنْ يَصِيرُ الظَّاهِرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدْرِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَاب تَعَدِّي الْعَامِلِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا عَلَى كُورَةٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ الْمُكْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوْلَانِ. ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ، وَزَادُوا عَلَى هَذَا، فَأَوْجَبُوا الْقَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ حَتَّى إذَا أَمْسَكَ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ عَدُوُّهُ قَالُوا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُمْسِكِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَمَّا زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، وَالْمُرَادُ سُلْطَانُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْ الْقَاتِلِ وَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَقِيقَةً، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ يُعْتَمَدُ بِحَقٍّ مَضْمُونٍ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، فَقَتَلَ إنْسَانًا، وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مَحْسُوسٌ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَالطَّائِعِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ قَاتِلٌ حَقِيقَةً، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ أَنَّهُ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَتْلِ، وَإِثْمُ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 72 بَاشَرَ الْقَتْلَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ إذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِ الْمُكْرِهَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا، وَبِهِ نُعَلِّلُ. ، فَنَقُولُ: كُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ كَالْإِثْمِ، وَالتَّفْسِيقِ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الضَّرُورَةِ فِي إسْقَاطِ الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ، وَيَكُونُ ضَامِنًا، ثُمَّ هُنَا لَا يَسْقُطُ إثْمُ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ أَوْلَى، وَلَمَّا جَعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي إثْمِ الْفِعْلِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا يَأْثَمُ إثْمَ سُوءِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ إثْمَ جَعْلِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَمَا هُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقَتْلِ. وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْضًا لِلسَّبَبِ الْقَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْقَتْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرٌ مِنْ الْمُتَخَيِّرَيْنِ، وَالْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، فَيُقَامُ السَّبَبُ الْقَوِيُّ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ لِتَغْلِيظِ أَمْرِ الدَّمِ، وَتَحْقِيقِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا قَالَ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ يَلْزَمُهُمْ الْقَوَدُ قَالَ، وَعَلَى أَصْلِكُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ يَجِبُ عَلَى الرَّدَى بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الزَّجْرِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ يَسْتَدِلُّ بِهَا أَيْضًا، فَنَقُولُ الْمُمْسِكُ قَاصِدٌ إلَى قَتْلِهِ مُسَبِّبٌ لَهُ، فَإِذَا كَانَ التَّسْبِيبُ يُقَامُ مُقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي أَخْذِ بَدَلِ الدَّمِ، وَهُوَ الدِّيَةُ يَعْنِي حَافِرَ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ إذَا قَصَدَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ عَامِدًا، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِتَسَبُّبِهِ شَخْصًا بِعَيْنِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْطِئِ، فَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ الْمُكْرَهَ مَعَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرِهِ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهُوَ الِانْتِقَامُ يَحْصُلُ لَهُ، وَالْمُبَاشَرَةُ وُجِدْت مِنْ الْمُكْرَهِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ، ثُمَّ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْمُكْرِهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا كَشَرِيكَيْنِ أَنَّهُمَا مُشْتَرَكَانِ فِي إثْمِ الْفِعْلِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَهُمَا جَمِيعًا. ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا الْفِعْلِ، وَالْإِلْجَاءُ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ يَجْعَلُ الْمُلْجَأَ آلَةً لِلْمُلْجِئِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ كَمَا فِي إتْلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيَصِيرُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَاشِرَ، وَالْمُتَسَبِّبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْإِتْلَافِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُتَسَبِّبِ، وَلَمَّا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمُكْرِهِ عُلِمَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا طَرِيقَ لِلنِّسْبَةِ إلَيْهِ سِوَى جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيهِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 73 مَعَ السِّكِّينِ، فَيَقْتُلَ بِهِ غَيْرَهُ، وَتَفْسِيرُ الْإِلْجَاءِ أَنَّهُ صَارَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، فَالْإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ، وَإِذَا فَسَدَ اخْتِيَارُهُ الْتَحَقَ بِالْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى مَنْ فَسَدَ اخْتِيَارُهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لَا عَلَى الْآلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ مِنْ قِصَاصٍ، وَلَا دِيَةٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكْرَهِ، فَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ مِنْ أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ، فَأَمَّا الْإِثْمُ، فَبَقَاءُ الْإِثْمِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اقْطَعْ يَدِي، فَقَطَعَهَا كَانَ آثِمًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقَطْعِ بَلْ فِي الْحُكْمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ، فَسَادِ الِاخْتِيَارِ يَبْقَى مُخَاطَبًا، فَلِبَقَائِهِ مُخَاطَبًا كَانَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ، وَلِفَسَادِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ، ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْعُذْرِ عَنْ فِعْلِ الْإِثْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِلْجَاءِ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ لَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ هُوَ الْفَاعِلُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ أَخَّرَ جِنَايَةَ الْمُكْرَهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْآثِمِ تَبَدَّلَ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْآثِمَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى حَدِّ الدِّينِ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ فِي هَذَا آلَةً كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَدِّ دِينِ الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَإِذَا قُلْنَا: الْمُكْرَهُ آثِمٌ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فِي حَقِّ الْآثِمِ كَانَتْ جِنَايَةً عَلَى دِينِهِ بِارْتِكَابِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَتَبَدَّلُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَمَحَلُّ الْجِنَايَةِ نَفْسُ الْمَقْتُولِ سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ، أَوْ إلَى الْمُكْرِهِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حَدِّ دِينِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي - أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَانَ ذَلِكَ إهْدَارًا، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ الْإِلْجَاءِ فِي الْإِهْدَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُ الْمُكْرَهِ كَفِعْلِ بَهِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، وَالْمُكْرِهُ آثِمٌ بِإِكْرَاهِهِ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُكْرَهُ آثِمًا كَانَ هَذَا إهْدَارًا لِلْآثِمِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِلْجَاءِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً فِيهِ كَانَ الْمُكْرِهُ مُؤَاخَذًا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَدَرًا، وَلَا يُقَالُ: الْحَرْبِيُّ إذَا أَكْرَهَ مُسْلِمًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَكُمْ، وَفِي هَذَا إهْدَارٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُكْرَهِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِهْدَارٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْحَرْبِيُّ قَتْلَهُ فَيَكُونُ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا، وَلَا يَكُونُ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ هَدَرًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ الضَّمَانِ إذَا أَسْلَمَ، وَبِهِ، فَارَقَ الْمُضْطَرَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لِيَصِيرَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 74 هُوَ آلَةً لِلْمُلْجِئِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمَالِ الضَّمَانُ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْمُكْرَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَيُعْتَمَدُ الْمُسَاوَاةُ حَتَّى أَنَّ بِدُونِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْتَأْمَنِ، وَكَمَا فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالتَّسَبُّبِ، وَلَا طَرِيقَ لِجَعْلِ الْمُكْرَهِ شَرِيكًا إلَّا بِنِسْبَةِ بَعْضِ الْفِعْلِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِلْجَاءِ تَأْثِيرٌ فِي نِسْبَةِ بَعْضِ الْفِعْلِ إلَى الْمُلْجِئِ، فَكَذَلِكَ فِي نِسْبَةِ جَمِيعِ الْفِعْلِ إلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُمْسِكِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِي التَّسَبُّبِ نُقْصَانٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمَالُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ، وَالرِّدْءُ مُبَاشِرٌ لِلْمُحَارِبَةِ كَالْقَاتِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السَّرِقَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَصْبِرُ الصَّابِرُ، وَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ» أَيْ يُحْبَسُ الْمُمْسِكُ، وَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ. فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِثْمِ فِي حَقِّ الْمُكْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةٍ تَامَّةٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ مِنْ الْمُكْرِهِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَاخَذُ بِحُكْمِ الْقَتْلِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْإِكْرَاهِ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرَهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُكْرَهُ مُبَاشِرٌ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ سِوَى الْقِصَاصِ نَحْوُ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَالْكَفَّارَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ، وَالدِّيَةِ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُكْرَهُ فَكَذَلِكَ الْقَوَدُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، فَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ الْفِعْلَ إلَى الْمُعِينِ، وَهُوَ مَا كَانَ يُبَاشِرُ صُورَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا فَأَمَرَ بِهِ، وَأَمْرُهُ إكْرَاهٌ إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرَهُ بَالِغًا عَاقِلًا، أَوْ كَانَ مَعْتُوهًا، أَوْ غُلَامًا غَيْرَ يَافِعٍ فَالْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ صَارَ كَالْآلَةِ، وَالْبُلُوغُ. وَالْعَقْلُ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي حَقِّ الْآلَةِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ تَحَقُّقُ الْإِلْجَاءِ لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ غَيْرَ بَالِغٍ، وَلَكِنَّهُ مُطَاعٌ بِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ، أَوْ كَانَ رَجُلًا مُخْتَلَطَ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَتْلِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، وَرَجَمَهُ النَّاسُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ - إنَّ عَلَى الرَّاجِعِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 75 الْقَتْلَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَكِنْ قَصْدَ بِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ دَفْعَ النِّسْبَةِ عَمَّنْ تَمَسَّكَ بِالصُّورَةِ، وَيَقُولُ كَيْفَ أَوْجَبْتُمْ الْقَتْلَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ حِسًّا؟ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْل الْمَدِينَةِ فِي الْمُمْسِكِ: وَيُقْتَلُ الرِّدْءُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوا قَتْلَ أَحَدٍ حِسًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْعَامِلُ لَهُ لَتَقْطَعَنَّ يَدَهُ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِأَطْرَافِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُرْمَةِ مِثْلَ مَا لِنَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَ الْغَيْرِ لِيَأْكُلَهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْجُزْءِ بِمَنْزِلَةِ حُرْمَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالْمُكْرَهُ مَظْلُومٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، وَلَوْ ظُلِمَ، وَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْإِثْمُ، فَأَمَّا الْفِعْلُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَقَدْ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِوُجُودِ الْإِلْجَاءِ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ رَأَى الْخَلِيفَةُ أَنْ يُعَزِّرَ الْمُكْرَهُ، وَيَحْبِسَهُ، فَعَلَ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ سَوْطًا وَاحِدًا، أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، أَوْ لِحْيَتَهُ، أَوْ أَنْ يَحْبِسَهُ، أَوْ أَنْ يُقَيِّدَهُ، وَهَدَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا فِي فِعْلِهِ، وَلَا فِي تَرْكِهِ أَمَّا فِي تَرْكِهِ، فَلِأَنَّهُ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالْكَفُّ عَنْ الْمَظَالِمِ، هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْمُتَمَسِّكُ بِالْعَزِيمَةِ لَا يَكُونُ آثِمًا، وَأَمَّا إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، فَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ بِهَمٍّ، وَحُزْنٌ يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ، وَبِحَلْقِ اللِّحْيَةِ، وَضَرْبِ سَوْطٍ يَدْخُلُهُ هَمٌّ، وَحُزْنٌ، وَلَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ قَدْ رَخَّصَ لَهُ الشَّرْعُ فِي إدْخَالِ الْهَمِّ، وَالْحُزْنِ عَلَى غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْخُذُ طَعَامَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ يَلْحَقُهُ حُزْنٌ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ الْجَوَابَ بِالْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ نَصًّا، وَالْفَتْوَى بِالرُّخْصَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، فَلِهَذَا قَالَ رَجَوْت، وَإِنْ كَانَ يُهَدِّدُهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، أَوْ ضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ حَلْقِ رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الظُّلْمِ قَلَّ ذَلِكَ، أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ بِمَا هَدَّدَهُ هُنَا لَا يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ كَانَ الْقَوَدُ فِيهِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ بِالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ، وَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ فِي الْمَالِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَخَافُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ بِاعْتِبَارِ خَوْفِهِ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ هُنَا، وَمِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعُ عَنْ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُمْ يَأْمُرُونِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 76 ثُمَّ لَا يُعَاقِبُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُمْ إلَّا بِالْقَتْلِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْعَادَةِ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى يَفْتَرِيَ عَلَى مُسْلِمٍ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّتْمَ لَهُ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ شَتْمِ الْمَخْلُوقِ إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَلَا اطِّلَاعَ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَعَالَى أَنْ يَدْخُلَهُ نُقْصَانٌ بِافْتِرَاءِ الْمُفْتَرِينَ، وَفِي الِافْتِرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ هَتْكُ عِرْضِهِ، وَذَلِكَ يُنْقِصُ مِنْ جَاهِهِ، وَيُلْحِقُ الْحُزْنَ بِهِ، فَلِهَذَا عَلَّقَ الْجَوَابَ بِالرَّجَاءِ. قَالَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شَتْمِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلٍ كَانَ فِي سَعَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ قَذْفِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَلَوْ تَهَدَّدَهُ بِقَتْلٍ حَتَّى يَشْتُمَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَقْذِفَ مُسْلِمًا، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ تَمَسُّكٌ بِمَا هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَلَمَّا «امْتَنَعَ خُبَيْبٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى قُتِلَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ.». وَلَوْ تَهَدَّدَهُ بِقَتْلٍ حَتَّى يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ خِفْت أَنْ يَكُونَ آثِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا بِلَفْظٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا شَرْعًا، فَإِنَّهُ قَالَ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَأَكْلَ الْمَيْتَةِ لَمْ يُحَرَّمْ إلَّا بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا، وَبَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَيَانِهِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ فُلَانٍ، فَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَخْذِهِ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ لِيَدْفَعَ بِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَ الْجَوَابَ بِالرَّجَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ مِنْ وَجْهٍ فَالْعُذْرُ هُنَاكَ، وَهُوَ الْجُوعُ مَا كَانَ بِصُنْعٍ مُضَافٍ إلَى الْعِبَادِ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِاعْتِبَارِ صُنْعٍ مُضَافٍ إلَى الْعَبْدِ، وَبَيْنَهُمَا، فَرْقٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُقَيَّدَ إذَا صَلَّى قَاعِدًا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إذَا أُطْلِقَ عَنْهُ الْقَيْدُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ قَالَ: وَالضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فَيَصِيرُ الْأَخْذُ، وَالدَّفْعُ كُلُّهُ مَنْسُوبًا إلَى الْآمِرِ، وَالْمُكْرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسَعُهُ هَذَا مَا دَامَ حَاضِرًا عِنْدَ الْآمِرِ، فَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ لِيَفْعَلَ، فَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ ظَفِرَ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا هُدِّدَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَا دَامَ فِي يَدِ الْمُكْرِهِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 77 مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ بَعِدَ عَنْهُ، وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَقْدِرُ؟، وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ يَبْعَثُ عَامِلًا إلَى مَوْضِعٍ لِيَأْخُذَ مَالًا، فَيَتَعَلَّلُ الْعَامِلُ بِأَمْرِهِ، وَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ مِنْ جِهَتِهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآمِرِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَعُدَ مِنْ الظَّالِمِ، فَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الْآمِرِ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَحْتَ يَدِ رَسُولِهِ كَكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَيَتَمَكَّنُ الرَّسُولُ مِنْ رَدِّهِ إلَيْهِ لِيُعَاقِبَهُ بِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ كَانَ فِي سَعَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَرَّزَ عَمَّا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامَ صَاحِبِهِ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرُورَةُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى تَلِفَ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ، أَوْ الْقَيْدِ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ وَالضَّرُورَةَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ لَا يَتَحَقَّقُ. وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، فَقَتَلَهُ، فَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقَتْلِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِيَدِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَنْبَنِي مَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ أَنَّ لِصَّيْنِ أَكْرَهَا رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا كَانَ ذَلِكَ كَقَطْعِهِمَا بِأَيْدِيهِمَا، فَعَلَيْهِمَا أَرْشُ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا فِي سَنَتَيْنِ، وَلَا قَوْدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ، وَاحِدَةٍ، وَإِنْ مَاتَ فِيهِمَا، فَعَلَى الْمُكْرِهَيْنِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ كَانَ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ، وَلَوْ بَاشَرَا قَتْلَهُ لَزِمَهُمَا الْقَوَدُ، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ وَاحِدًا، وَالْمَأْمُورُ اثْنَيْنِ كَانَ عَلَى الْآمِرِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ إنْ عَاشَ، وَفِي الْبَدَنِ إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لَوْ بَاشَرَ قَطْعَ يَدِهِ، أَوْ قَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ وَآخِذِهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى أَعْطَى رَجُلًا مَالِهِ، وَأَكْرَهَ الْآخِرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ مِنْهُ، وَدَفَعَهُ، فَهَلَكَ الْمَالُ عِنْدَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهُهُمَا دُونَ الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ وَالْقَابِضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْجَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ فِي الدَّفْعِ، وَالْقَبْضِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقَابِضُ مُكْرَهٌ عَلَى قَبْضِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِهِ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 78 الضَّمَانَ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ كَمَنْ أَخَذَ آبِقًا، أَوْ، وَجَدَ لُقَطَةً، وَأَشْهَدَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ إنْ هَلَكَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْقَابِضَ عَلَى قَبْضِهِ لِيَدْفَعهُ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ فَقَبَضَهُ، وَضَاعَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَابِضِ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا أَخَذَهُ إلَّا لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ طَائِعًا، وَمَا أَخَذَهُ إلَّا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ عَلَى دَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ، وَيَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ مُكْرَهًا عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ عَلَى قَصْدِ الدَّفْعِ إلَى الْمُكْرِهِ طَائِعًا، وَدِينُهُ، وَعَقْلُهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى مَا يَحِلُّ دُونَ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا أَنَّ فِي اللُّقَطَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُشْهِدْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْإِشْهَادِ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ عَاقَبَهُ الْمُكْرِهُ، فَلِهَذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَمِينِ. وَلَوْ كَانَ أَكْرَه صَاحِبَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ لِصَاحِبِهِ، وَأَكْرَهَ الْآخِرَ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ مِنْهُ، وَيَقْبِضَهَا بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَقَبَضَهَا، فَضَاعَتْ عِنْدَهُ، فَإِنْ قَالَ الْقَابِضُ: أَخَذْتُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي يَدِي مِثْلَ الْوَدِيعَةِ حَتَّى أَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شَاهِدٌ لَهُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ رَاغِبٍ فِي تَمْلِيكِهَا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً، وَإِنْ قَالَ أَخَذْتُهَا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ لِتَسْلَمَ لِي كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَهُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرِهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَهُوَ طَائِعٌ فِي ذَلِكَ الْقَبْضِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَأَمَّا الْمُكْرِهُ، فَلِأَنَّ الدَّافِعَ مُلْجَأٌ مِنْ جِهَتِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ - رَجَعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ مَا قَصَدَ مُبَاشَرَةَ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ، وَفِي الْأَصْلِ أَشَارَ إلَى حَرْفٍ آخَرَ، فَقَالَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَدْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا يُجْعَلُ الَّذِي أَكْرَهَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْقَابِضَ مُكْرَهًا، وَكَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ نِسْبَةِ الْقَبْضِ إلَيْهِ لَا يَبْقَى فِي جَانِبِ الْقَابِضِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ لِلْقَابِضِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِشْهَادِ عِنْدَ الْهِبَةِ أَنْ يَقْبِضَهُ لِلرَّدِّ، فَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ ضَامِنًا بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ عَمَلٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ إلَّا عِنْدَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 79 الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا فِي ضَمِيرِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ إذَا قَالَ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ كُنْت مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَأَمَّا عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِشْهَادِ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَجَدَ عَبْدًا آبِقًا لِرَجُلٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ مِنْهُ إلَّا بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ فَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى، وَهَبَ لَهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ، فَإِذَا أَشْهَدَ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِشْهَادِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِي عَلَى شِرَائِهِ، وَأَكْرَهُهُمَا عَلَى التَّقَابُضِ، فَهَلَكَ الثَّمَنُ، وَالْعَبْدُ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا، فَضَمَانُ الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ، وَضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْجَأٌ عَلَى دَفْعِ مَالِهِ إلَى الْآخَرِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ سُئِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ قَبْضِهِ، فَإِنْ قَالَ: قَبَضْتُهُ عَلَى الْبَيْعِ الَّذِي أُكْرِهْنَا عَلَيْهِ لِيَكُونَ لِي، وَقَالَا ذَلِكَ جَمِيعًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْبَيْعِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعِ، ثُمَّ تَقَابَضَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، وَإِنْ قَالَ قَبَضْتُهُ مُكْرَهًا لِأَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَآخُذَ مِنْهُ مَا أَعْطَيْت، وَحَلَفَ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ضَمِيرِهِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَأَبَى الْآخَرَانِ يَحْلِفُ لَمْ يَضْمَنْ الَّذِي حَلَفَ؛ لِأَنَّ بِيَمِينِهِ قَدْ انْتَفَى عَنْهُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَهُ صَاحِبُهُ بِالْحُجَّةِ، وَيَضْمَنُ الَّذِي لَمْ يَحْلِفْ مَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَبَى الْيَمِينَ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ ضَمِنَ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِالدَّفْعِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقَابِضُ كَانَ طَائِعًا حِينَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، فَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُكْرِهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالضَّمَانِ، وَمَا قَصَدَ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَهَا بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَبْضِ، وَقَدْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الشِّرَاءِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ لِلرَّدِّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 80 عَلَيْهِ، وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، فَلَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ طَوْعًا، وَأَنَّهُ كَانَ رَاضِيًا بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ، وَأَبَى الْبَائِعُ الْيَمِينَ، فَلَا ضَمَانَ فِي الْعَبْدِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ، وَأَمَّا الثَّمَنُ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي ضَمَّنَهُ الْمُكْرَهَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْبَائِعَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِنُكُولِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ طَائِعًا، وَفِعْلُ الدَّافِعِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِلْإِلْجَاءِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلٍ كَانَ عَامِلًا فِيهِ لِنَفْسِهِ طَائِعًا، وَإِنْ ضَمَّنَهُ الْمُكْرَهَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمَّنَهُ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَالْقَابِضُ كَانَ طَائِعًا فِي قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، فَيَضْمَنُ لَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ أَكْرَهَهُمَا عَلَى الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمَا قَبْضًا، فَلَمَّا تَبَايَعَا لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى فَارَقَا الَّذِي أَكْرَهَهُمَا، ثُمَّ تَقَابَضَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَهَذَا رِضًا مِنْهُمَا بِالْبَيْعِ، وَإِجَازَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَانَ مُنْعَقِدًا، وَلَمْ يَكُنْ نَافِذًا جَائِزًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُمَا، فَإِذَا وُجِدَ دَلِيلُ الرِّضَا نَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالرِّضَا بِالْإِجَازَةِ طَوْعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْهِبَةِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْقَبْضِ بِغَيْرِ تَلَفٍ بَلْ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، وَتَقَابَضَا عَلَى ذَلِكَ مُكْرَهَيْنِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ تَمَامُ الرِّضَا، فَإِنْ ضَاعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا، فَلَا ضَمَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَيْهِ بِالْإِلْجَاءِ، وَالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ، وَلَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا قَبَضَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ، فَاسِدٍ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَوْ قَبَضَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِرِضَا صَاحِبِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُودِعَ مَالَهُ هَذَا الرَّجُلَ، وَأَكْرَه الْآخَرَ بِالْحَبْسِ عَلَى قَبُولِهِ، وَدِيعَةً، فَقَبِلَهُ، وَضَاعَ عِنْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ أَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ، فَلِانْعِدَامِ الْإِلْجَاءِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَابِضِ، فَلِأَنَّهُ مَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ لِيَحْفَظَهُ وَدِيعَةً، وَيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْقَبْضِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْعَدَمَ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ، وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ، فَأَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَهَلَكَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَهَبَ مَالَهُ لِهَذَا، أَوْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، وَأَكْرَهَ الْآخَرَ بِالْحَبْسِ عَلَى قَبُولِهِ، وَقَبْضِهِ، فَهَلَكَ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، وَفِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 81 فَإِنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْقَابِضَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ الْقَابِضُ، وَلَا الْمُكْرِهُ شَيْئًا. أَمَّا الْقَابِضُ، فَلِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى الْقَبْضِ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا الْمُكْرِهُ، فَلِأَنَّ الدَّافِعَ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا بِالْحَبْسِ، فَبَقِيَ حُكْمُ الدَّفْعِ مَقْصُورًا عَلَى الدَّافِعِ قَالَهُ أَبُو حَازِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّافِعِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَفِعْلُ الْقَابِضِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَبْضَ مُتَمِّمٌ لِلْهِبَةِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَصْلُحُ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ بِهِ، ثُمَّ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ تَفْوِيتُ الْيَدِ عَلَى الْمَالِكِ، وَذَلِكَ بِالدَّفْعِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِمَا لَا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مَحْفُوظَةٌ بِالْأَيْدِي، وَفِعْلُ الدَّافِعِ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْوَاهِبَ بِتَلَفٍ، وَأَكْرَهَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِحَبْسٍ كَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ - إنْ شَاءَ - الْمُكْرِهَ، - وَإِنْ شَاءَ - الْقَابِضَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّافِعِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ لِكَوْنِهِ مُلْجَأً مِنْ جِهَتِهِ، فَيَكُونُ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا لَهُ، وَفِعْلُ الْقَابِضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَبْضِ بِالْحَبْسِ، وَقَدْ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، فَكَانَ لِلدَّافِعِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا أَكْرَهَ الْبَائِعُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الْبَيْعِ، وَالتَّقَابُضِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، فَتَقَابَضَا، وَضَاعَ الْمَالُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا قَبَضَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي أَنَّهُ قَبَضَهُ لِلرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّن الْمُكْرَهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُلْجَأً إلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْفُذْ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرَهِ، وَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ. فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ ضَمَّنَهَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِسَبَبِهِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْقِيمَةِ، وَلَا بِالثَّمَنِ أَمَّا الْقِيمَةُ، فَلِأَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَهَا بِقَبْضٍ كَانَ هُوَ فِيهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الثَّمَنُ، فَلِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ بِالْحَبْسِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَفِي هَذَا طَعَنَ أَبُو حَازِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْبَائِعَ بِالْحَبْسِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ، فَلَا ضَمَانَ لِلْبَائِعِ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُلْجَأٌ إلَى الْقَبْضِ، فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا، وَالْبَائِعُ مَا كَانَ مُلْجَأً إلَى الدَّفْعِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، فَيَقْتَصِرُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 82 حُكْمُ الدَّفْعِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الثَّمَنَ - إنْ شَاءَ - الْبَائِعَ - وَإِنْ شَاءَ - الْمُكْرَهَ لِأَنَّهُ كَانَ مُلْجَأً إلَى دَفْعِ الثَّمَنِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، وَكَانَ الْبَائِعُ غَيْرَ مُلْجَأٍ إلَى قَبْضِهِ، فَاقْتَصَرَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ، وَلَمْ يَنْفُذْ الْبَيْعُ مِنْ جِهَةِ مَنْ تَمَلَّكَ الثَّمَنَ، فَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ مِنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ غَيْرِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِعِتْقٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ نِكَاحٍ، وَهُوَ يَقُولُ لَمْ أَفْعَلْهُ، فَأَقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ، وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ كَمَا كَانَ، وَالْمَرْأَةُ زَوْجَتُهُ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَالْإِكْرَاهُ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ قَاصِدٌ إلَى دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِرْيَةَ الْمُفْتَرِينَ، وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ لَا يَصِيرُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ إمْسَاكَهَا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْذِبُ فِيمَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا، وَجَبَ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ، فَلِهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ، وَالْقَتْلِ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلِ، وَيَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالرَّجْعَةِ، أَوْ الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ، أَوْ الْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي عَبْدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، أَوْ جَارِيَتِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ سَابِقٍ خَفِيٍّ، فَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذَا: ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فِيمَا قَالَ فَوْقَ مَا يُتَيَقَّنُ بِالْكَذِبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُكْرَهًا، فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ ثَمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ هُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى قُلْنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ ذَلِكَ الْكَلَامَ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْتُهُ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ، وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ كَمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 83 بِالنَّسَبِ. . ، وَلَوْ أَكْرَهَ نَصْرَانِيًّا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ كَانَ مُسْلِمًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِلِسَانِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ، فَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»، وَقَدْ قَبِلَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَا أَظْهَرُوا مِنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ، وَهَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ فِيمَا يَقُولُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا، وَالْحَرْبِيُّ سَوَاءٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ إكْرَاهَ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَقَالَ: الرِّدَّةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُبَدِّلٍ لِاعْتِقَادِهِ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُقْتَلْ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ بَدَّلَ الدِّينَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ، فَاقْتُلُوهُ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ كَانَ الْمُكْرَهِ كَالطَّائِعِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ إسْقَاطَ الْقَتْلِ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فُعِلَتْ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ سِرَّهُ حَقِيقَةً، وَالْأَدِلَّةُ قَدْ تَعَارَضَتْ، فَكَوْنُ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَقِدٌ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِمَا يَقُولُ، وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ فِي صِغَرِهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ لِلشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيهِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ. - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ - بِإِسْلَامٍ مَاضٍ مِنْهُ، فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ مَاضِيًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ غَيْرِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَا قَوْدَ لَهُ قِبَلَ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِهِ، فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إنْشَاءِ الْعَفْوِ، فَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِهِ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ؛ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْعَفْوِ قَدْ بَطَل، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، وَأَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَبْدِهِ، وَأَنَّهُ حُرُّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 84 الْأَصْلِ فَإِقْرَارُهُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَ بَيِّنَتِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّكَاحِ، وَالرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا هَازِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَ وَسِعَهُ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ مِنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ رَجِلًا أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ مُكْرَهَةٍ، فَالْخُلْعُ، وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ، فَكَذَلِكَ بِالْجُعْلِ، وَلِلزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ الْتَزَمَتْ الْأَلْفَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سَلَّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمِلْكِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ أَصْلًا بَلْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ، وَالْمَضْمُونُ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ لَا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا جَازَ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَلَا عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ، وَلِيُّ الْعَمْدِ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ مِنْهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ إسْقَاطَ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إسْقَاطَهُ بِالصُّلْحِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْأَلْفِ عَلَى الَّذِي كَانَ قِبَلَهُ الدَّمُ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الدَّمِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَا الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ، وَالْمُكْرِهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَهُوَ مِلْكُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ، وَهَذَا مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْعَفْوِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ شَرْعًا، وَبِهِ، فَارَقَ النَّفْسَ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ خَطَأً صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْإِهْدَارِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلَهُ الْعَبْدُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَلَى الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إسْقَاطِ الرِّقِّ بِالْعِتْقِ، وَالْعَبْدُ الْتَزَمَ الْمِائَةَ طَوْعًا، ثُمَّ يُتَخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَمِلْكُهُ فِي الْعَبْدِ مِلْكُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُتْلِفِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ حِينَ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى أَخَذَ الْعَبْدَ بِالْمِائَةِ، وَرَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 85 بِتِسْعِمِائَةٍ تَمَامَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِيَّةِ أَتْلَفَهُ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَقَدْ أَتْلَف عَلَيْهِ مِقْدَارَ الْمِائَةِ بِعِوَضٍ قُلْنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِوَضَ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَهُوَ كَالتَّاوِي، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ اخْتِيَارُهُ لِلْمُسَمَّى إبْرَاءً مِنْهُ لِلْمُكْرِهِ قُلْنَا فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ يُجْعَلُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَحَقُّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْعِتْقِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ بِبَدَلٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْعَبْدَ بِالْأَلْفَيْنِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ طَوْعًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ قَامَ الْمُكْرِهُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْمُسَمَّى عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْسَكَ أَلْفًا مِقْدَارَ مَا غَرِمَ، وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَإِنْ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْعَبْدِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِمَا صَنَعَ حِينَ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَلْفَانِ نُجُومًا، فَحَلَّ نَجْمٌ مِنْهَا، فَطَلَبَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ بِذَلِكَ النَّجْمِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَهَذَا مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِإِتْبَاعِ الْعَبْدِ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ النَّجْمِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ كَالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا، وَذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا تَطْلِيقَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، وَمَهْرُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْبَدَلِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِالْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ، أَوْ بِقَتْلٍ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَبُولِ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَبُولُ، فَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا، ثُمَّ الْوَاقِعُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ يَكُونُ رَجْعِيًّا إذَا لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ بِمُقَابَلَتِهِ، وَهُنَا لَا عِوَضَ عَلَيْهِ، فَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا شَرَطَتْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الطَّلَاقِ بِمَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ وَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ لَازِمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَزَلَتْ بِقَبُولِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ. وَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ، فَبِالْكُلِّ حَاجَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ، وَمَسْأَلَةِ الْخِيَارِ، وَالْهَزْلِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَقَالَ الْإِكْرَاهُ لَا يُعْدِمُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 86 الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، فَلِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ تَمَّ الْقَبُولُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلِانْعِدَامِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْمَالُ، فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا، فَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ، فَلِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَبِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِالْحُكْمِ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ الْهَزْلُ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَعْدَمُ الرِّضَا، وَالِاخْتِيَارَ بِالْحُكْمِ، فَتَوَقُّفُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ الْتِزَامُ الْمَالِ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: الْإِكْرَاهُ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَلَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِانْعِدَامِ الرِّضَا بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ، فَأَمَّا الْهَزْلُ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ، فَلَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ السَّبَبِ، فَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِيهِمَا يَكُونُ رِضًا بِالْحُكْمِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ تَبَعًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحُكْمِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ انْعَدَمَ الرِّضَا بِالسَّبَبِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا يَعْتَمِدُ ثُبُوتُهُ الرِّضَا، وَهُوَ الْمَالُ، وَيَثْبُتُ مِنْ الْمَالِ مَا لَا يَعْتَمِدُ ثُبُوتُهُ الرِّضَا، وَهُوَ الطَّلَاقُ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ رَضِيتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ بِذَلِكَ الْمَالِ جَازَ، وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَتَكُونُ التَّطْلِيقَةُ بَائِنَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إجَازَتُهَا بَاطِلَةٌ، وَهِيَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، فَقِيلَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي جَعْلِهَا بَائِنَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، فَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَقَعُ أَصْلُ الطَّلَاقِ، وَيَبْقَى لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ فَهُنَا أَيْضًا وَقَعَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا، وَبَقِيَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي صِفَتِهِ، فَإِذَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَوْعًا صَارَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لَهَا مَشِيئَةٌ بَعْدَ وُقُوعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا، فَلَا رَأْيَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ لِتَغَيُّرِ صِفَةِ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ، وَمَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ، فَرْعًا؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: جَعَلْتُهَا بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَصِيرُ بَائِنًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَصِيرُ بَائِنًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاقِعَ بِصِفَةِ الرَّجْعِيَّةِ بَائِنًا، فَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ وِلَايَةٌ جَعَلَ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ بَائِنَةً، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهَا ذَلِكَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّطْلِيقَةِ خُلْعٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ بَائِنٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَالِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْخَلْعِ، وَالِانْتِزَاعِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 87 فَفِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَعَ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ، وَقَبِلَتْ كَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا بِخِلَافِ لَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا أُكْرِهَ الْقَاتِلُ بِقَتْلٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيَّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، فَصَالَحَهُ بَطَلَ الدَّمُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَيَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ. وَلَوْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبِلَتْ، وَقَعَ الْخُلْعُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مِنْهَا، وَلَمْ يَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يُنَافِي التَّكَلُّمَ بِالْقَبُولِ، وَلَكِنْ يُنَافِي صِحَّةَ الْتِزَامِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْهُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، فَعَنْ غَيْرِ مَالٍ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَمُ عَمْدٍ، فَصَالَحَهُ عَنْهُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ عَلَى مَالٍ ضَمِنَهُ لَهُ الْغُلَامُ عَلَى إنْ عَفَا جَازَ الْعَفْوُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مِمَّنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ يُنَافِي الْتِزَامَ الْمَالِ بِجِهَةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا، أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ الْعَبْدُ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ الْعِتْقَ مِنْ مَوْلَاهُ بِمَالٍ قَلِيلٍ، أَوْ كَثِيرٍ عَتَقَ لِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْعَبْدِ بِالْتِزَامِ الْمَالِ. وَلَوْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ فِي الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِهِ، وَالْمَالُ لَا يَجِبُ بِدُونِ الرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْقَوَدِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ التَّامِّ، وَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَالْقَطْعِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا لَوْ أَنَّ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ أَكْرَهَ رَجُلًا حَتَّى زَنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، وَهُوَ قَوْلُهُمَا: وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ، وَلَا تَنْتَشِرُ آلَتُهُ إلَّا بِلَذَّةٍ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ، فَمَعَ الْخَوْفِ لَا يَحْصُلُ انْتِشَارُ الْآلَةِ، وَفَرَّقَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قَالَ الْمَرْأَةُ فِي الزِّنَا مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَمَعَ الْخَوْفِ يَتَحَقَّقُ التَّمْكِينُ مِنْهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ، وَهِيَ نَائِمَةٌ، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ جَانِبِ الرَّجُلِ، وَفَرَّقَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 88 بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ قَالَ: لَا قَوْدَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْحُرْمَةُ لَا تَنْكَشِفُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَبِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ يَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ صَارَ الْمُكْرَهُ آلَةً، فَأَمَّا الزِّنَا، فَفِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُون الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لَلْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِآلَةِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَبَقِيَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْزَجِرٌ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ، وَخَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ الْخَوْفِ، فَقَدْ تَنْتَشِرُ الْآلَةُ طَبْعًا بِالْفُحُولَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّجَالِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ طَوْعًا. (أَلَا تَرَى) أَنْ النَّائِمَ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا قَصْدٍ، ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ غَيْرَ السُّلْطَانِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُكْرَهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ قِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ، فَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ مُطَاعًا فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِكْرَاهِ، فَأَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُ النَّاسِ فِي عَهْدِهِمَا، وَظَهَرَ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ فِي مَوْضِعٍ، فَأَجَابَا بِنَاءً عَلَى مَا عَايَنَا، وَقِيلَ بَلْ هُوَ اخْتِلَافُ - حُكْمٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ - هُوَ الْإِلْجَاءُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ خَوْفَ التَّلَفِ لِلْمُكْرَهِ بِذَلِكَ يَحْصُلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ السُّلْطَانَ لَوْ هَدَّدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا، وَخَوْفُ التَّلَفِ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ بَلْ خَوْفُ التَّلَفِ بِإِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِإِكْرَاهِ السُّلْطَانِ، فَالسُّلْطَانُ ذُو أَنَاةٍ فِي الْأُمُورِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ، وَغَيْرُ السُّلْطَانِ ذُو عَجَلَةٍ فِي ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَفُوتُهُ ذَلِكَ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ سَاعَةً فَسَاعَةً. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ الْإِلْجَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِإِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِالْتِجَاءِ إلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ اللِّصِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالِالْتِجَاءِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ نَادِرٌ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ لَا عَلَى الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ يُمْكِنُ دَفْعُ إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ إكْرَاهِ السُّلْطَانِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مَا يَكُونُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 89 مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّلْطَانُ كَتَغْيِيرِ الْفَرَائِضِ مِنْ الْأَرْبَعِ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّلْطَانُ، وَلَا يَقُومُ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَقَامِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْحُدُودِ إذْ الْحَدُّ، وَالْمَهْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ، أَوْ مَهْرٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ مُحْتَرَمٌ كَاحْتِرَامِ النُّفُوسِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ اسْتَكْرَهَهَا أَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا، فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ عِوَضًا عَمَّا أُتْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْهَا بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَأَمَّا إذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا شَرْعًا أَنْ تَأْذَنَ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إذْنُهَا لَغْوًا لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فِي إتْلَافِ مَالِهِ، أَوْ هِيَ مُتَّهَمَةٌ فِي هَذَا الْإِذْنِ لِمَا لَهَا فِي هَذَا الْإِذْنِ مِنْ الْحَظِّ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ إذْنَهَا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِلتُّهْمَةِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ لِصِيَانَةِ الْمَحَلِّ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ لَا تَنْعَدِمُ بِالْإِذْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَجَبَ الْمَهْرُ، وَلَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ، وَلَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَالًا وَجَبَ الْمَالُ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا، فَإِنَّهُ ظَالِمٌ، وَحُرْمَةُ الظُّلْمِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إذْنَهَا لَغْوٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، ثُمَّ حُرْمَةُ الزِّنَا حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا، وَلَمْ يَحِلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْيَانِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَتِلْكَ الْحُرْمَةُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِوُجُودِ التَّنْصِيصِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الزِّنَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوُقُوفِ عَلَى حَدِّ الدِّينِ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ مُجَاوَزَتِهِ، وَفِيمَا يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، فَمَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الزِّنَا بِحَبْسٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِلْجَاءِ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ سَوَاءٌ. . وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ هَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: قَدْ أَذِنْت لَك فِي الْقَطْعِ، فَاقْطَعْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ لَا يَسَعُ الْمُكْرَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَظَالِمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ طَرَفَهُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسَعُهُ كَمَا لَوْ رَأَى مُضْطَرًّا، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ لِيَدْفَعَهَا إلَيْهِ حَتَّى يَأْكُلَهَا، وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ لَمْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 90 يُوجَدْ الْإِذْنُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَإِنْ قَطَعَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ اقْطَعْ يَدِي، فَقَطَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ مُكْرَهًا أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَسْقَطَهُ بِالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي الْأَمْوَالِ الْبَدَلُ مُفِيدٌ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ عَامِلٌ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ حَتَّى إذَا قَالَ لَهُ: أَحْرِقْ ثَوْبِي هَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ فَعَلَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْبَدَلُ الْمُفِيدُ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ أَكَلَةٌ، فَأَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ فِيهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُكْرَهًا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْمُكْرِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْقَطْعِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ يَلْغُو إذْنُهُ، وَفِعْلُ الْقَطْعِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَقْصُودُ اُقْتُلْنِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَقَتَلَهُ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى الْآمِرِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مُلْجَأٌ إلَى الْقَتْلِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُلْجِئِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْقِصَاصِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْمُكْرِهِ، فَإِنَّ زُفَرَ لَا يَرَى الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ إذَا قَالَ: اُقْتُلْ أَبِي، أَوْ ابْنِي، فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ هُوَ الْوَارِثَ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْ ابْنِي كَقَوْلِ زُفَرَ، وَفِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبَعْدَمَا جَرَحَهُ لَوْ عُفِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَاتَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَمَا فِي الطَّرَفِ: وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ، وَالْحَقُّ عِنْدَ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، فَإِذْنُهُ فِي الْقَتْلِ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ، فَكَانَ لَغْوًا، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ بَدَلِ الطَّرَفِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 91 فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُ بَعْدَ تَمَامِ الْفِعْلِ فَيُعْتَبَرُ إسْقَاطُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَالْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَقَبْلَ الْوُجُوبِ يَصِحُّ، فَأَمَّا الْإِذْنُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَبِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ الْإِذْنُ لَاقَى حَقَّ الْغَيْرِ، فَلَا يَصِحُّ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَتْلِ بِاعْتِبَارِ ابْتِدَائِهِ صَادَفَ حَقَّهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَآلِهِ صَادَفَ حَقَّ الْوَارِثِ، فَلِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ يُمْكِنُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِاعْتِبَارِ الْمَالِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْآذِنِ فِي قَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَاقَى حَقَّ الْغَيْرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ لَاقَى حَقَّهُ، فَيَصِيرُ الْمَالُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. . وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ بِإِذْنِهِ، فَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا عَلَى الْآمِرِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ صَارَ هَدَرًا، فَلَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ كَانَ قَتْلًا، فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِهِ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَصْنَعَ بِهِ شَيْئًا لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفٌ مِنْ ضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَجَوْت أَنْ لَا يَأْثَمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ رَخَّصَ لَهُ الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْغَيْرِ، فَيَتَنَاوَلُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَمَاتَ مِنْهُ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّهُ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ، وَهُوَ يُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ طَوْعًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِهِ بِإِذْنِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ رَجُلٍ، فَيَرْمِيَ بِهِ فِي مَهْلَكَةٍ، فَأَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ، فَفَعَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ طَوْعًا، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ صَاحِبَ الْمَالِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَيْضًا عَلَى أَنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَإِذْنُهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَغْوٌ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَاعِلِ إنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مُكْرَهٌ عَلَى الْإِذْنِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِلْجَاءِ يَصِيرُ كَالْآلَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْإِذْنِ طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا، وَلَوْ كَانَ الْفَاعِلُ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ مَالًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَلَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ بِدُونِ الْإِلْجَاءِ، وَبِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَحِينَئِذٍ لَا شَيْءَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 92 عَلَيْهِ مِنْ إثْمٍ، وَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ صَارَ بَاذِلًا مَالَهُ بِالْإِذْنِ، وَالْمَالُ مُبْتَذَلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إتْلَافِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ طَوْعًا كَانَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ فِيمَا يَأْذَنُ فِيهِ مَوْلَاهُمَا فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةِ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَغْرَمُ نَفْسَ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَالْمَآلِ، فَيُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ كَمَا يُعْتَبَرُ إذْنُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي إسْقَاطِهِ حَقِّهِ فِي بَدَلِهِ عَنْ الْقَاطِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ أَوَيُعْتِقُهُ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ لَهُ يُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ، وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَقَابَضَا، وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ الْبَيْعِ، فَقَدْ وُجِدَ مَا بِهِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مِنْ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ نُفُوذُهُ؛ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَإِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَقَدْ تَمَّ رِضَاهُ بِهِ، وَلَوْ أَجَازَ بَيْعًا بَاشَرَهُ غَيْرُهُ نَفَذَ بِإِجَازَتِهِ، فَإِذَا أَجَازَ بَيْعًا بَاشَرَهُ هُوَ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَلِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ، وَالْفَسَادُ بِمَعْنَى وَرَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، فَبِإِجَازَتِهِ يَزُولُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ إذَا أَسْقَطَ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ، أَوْ الْخِيَارُ مَا شُرِطَ لَهُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَقَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ طَائِعًا، فَإِنَّهُ قَبَضَهُ لِتَمَلُّكِهِ مِلْكًا حَلَالًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إجَازَةِ الْبَيْعِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَفِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا قَبَضَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ رِوَايَتَانِ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الْبَائِعِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُهُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَمَامِ الْبَيْعِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالْفَرْقُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ انْعِدَامُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِ خِيَارٍ مَشْرُوطٍ نَصًّا، وَقَبْضُ الثَّمَنِ لَا يُنَافِي شَرْطَ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً، فَلَا يُنَافِي بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُنَا الْخِيَارُ ثَبَتَ حُكْمًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، وَبَيْنَ قَبْضِ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ مُنَافَاةٌ، وَبِقَبْضِ الثَّمَنِ طَوْعًا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 93 الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَبِقَبْضِ الثَّمَنِ لَا يَصِيرُ الشَّرْطُ مَوْجُودًا، وَهُنَا الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مُنْعَقِدٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ لِانْعِدَامِ الرِّضَا، وَقَبْضُ الثَّمَنِ دَلِيلُ الرِّضَا، فَيَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، فَعِتْقُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنَّمَا أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ كَانَتْ إجَازَتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَحَلًّا لِحُكْمِ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً، وَبَعْدَ الْعِتْقِ، أَوْ التَّدْبِيرِ، أَوْ الِاسْتِيلَادِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِذَلِكَ، فَلَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّ الْفَسَادَ قَدْ تَقَرَّرَ حِينَ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَمَا تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ وَجَبَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ فَبَعْدَمَا تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِيهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَانْتَهَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلُ مَمْلُوكًا لَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يُحْدِثْ فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُجْزِ الْبَائِعُ الْبَيْعَ حَتَّى الْتَقَيَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ نَقَضْت الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنِي، وَبَيْنَك، وَقَالَ الْبَائِعُ لَا أُجِيزُ نَقْضَك، وَقَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ، فَقَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الْقَبْضِ - كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَإِنَّ فَسْخَهُ لِأَجَلِ الْفَسَادِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ شَرْعًا يَتِمُّ بِمُبَاشَرَتِهِ، فَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ لَا الْمَفْسُوخَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ، أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ، وَهُنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَوْ الْأَجَلُ الْفَاسِدُ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ عَلَى مَا، فَسَّرَهُ فِي آخَرِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ الْعَقْدُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ الضَّعِيفِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْدُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَانْضِمَامِ مَا يُقَوِّيهِ إلَيْهِ، وَهُوَ الْقَبْضُ، فَالْمُنْفَرِدُ بِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ، وَلَا أَجَلٌ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا قَدْ تَمَّ، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ مَنْ شُرِطَ الْخِيَارُ، وَالْأَجَلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ مِنْهُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ الْمُكْرَهُ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِ، وَالْآخَرُ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ مَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ مُتَمَكِّنٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّصْحِيحَ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ، فَلِتَمَكُّنِ الْمُفْسِدِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَانَ ضَعِيفًا قَبْلَ الْقَبْضِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 94 وَبَعْدَهُ، فَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفَسْخِهِ، وَاَلَّذِي شَرَطَ الْخَمْرَ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، وَصَاحِبُهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِوُجُودِ بَدَلٍ آخَرَ عَلَيْهِ سِوَى الْمُسَمَّى، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ، فَالْمُفْسِدُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ لِمَعْنًى وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، وَلِهَذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِالْإِجَازَةِ، فَمَنْ لَيْسَ فِي جَانِبِهِ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ قَدْ تَمَّ الرِّضَا مِنْهُ بِمِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ الْمُسَمَّى، وَبِإِجَازَةِ صَاحِبِهِ لَا يَثْبُتُ إلَّا ذَلِكَ، فَلِهَذَا لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ. وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ مِنْ آخَرَ، وَقَدْ كَانَ قَبَضَهُ بِتَسْلِيمِ الْبَائِعِ مُكْرَهًا، فَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِي، وَأَخَذَ عَبْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِي فِي كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالْأَوَّلِ، وَالْبَائِعُ غَيْرُ رَاضٍ بِوَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهِ، وَبِاسْتِرْدَادِهِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعَانِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ، فَبَاعَهُ كَانَ جَائِزًا لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْعَقْدِ الثَّانِي حِينَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا اسْتَرَدَّهُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِشَرْطِ أَجَلٍ، أَوْ خِيَارٍ لِمَجْهُولٍ، فَالْمُشْتَرِي هُنَاكَ إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَفَذَ بَيْعُهُ لَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِي حَصَلَ بِرِضَا الْبَائِعِ الْأَوَّلِ تَسْلِيطَهُ عَلَيْهِ، فَتَسْلِيمُهُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي طَائِعًا يَكُونُ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَهُنَا الْبَيْعُ الثَّانِي كَانَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْبَيْعَيْنِ، وَاسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ، فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِهِ، وَيَدِهِ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَبَاعَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَقَبَضَهُ جَازَ الْبَيْعُ الثَّانِي لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ يَجُوزُ كُلُّ بَيْعٍ جَرَى فِيهِ، وَإِنْ تَنَاسَخَهُ عَشَرَةُ بِيَعٍ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِإِجَازَةِ الْبَائِعِ كَذَلِكَ الْبَيْعُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَاعَ مِلْكَهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ حَقُّ الْفَسْخِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِالْإِجَازَةِ نَفَذَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُكْرَهِ لَوْ تَنَاسَخَهُ عَشَرَةُ بِيعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَانَ لِلْمُكْرَهِ أَنْ يَنْقُضَ الْبُيُوعَ كُلَّهَا، وَيَأْخُذَ عَبْدَهُ، فَإِنْ سُلِّمَ بَيْعٌ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ الْأَوَّلُ، أَوْ الثَّانِي، أَوْ الْآخِرُ جَازَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِحَقِّهِ فِي اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ. فَأَمَّا الْبَيْعُ مِنْ كُلِّ مُشْتَرٍ، فَكَانَ فِي مِلْكِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ يُوقَفُ نُفُوذُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُكْرَهِ فِي الْفَسْخِ، وَبِالْإِجَازَةِ سَقَطَ حَقُّهُ، فَتَنْفُذُ الْبُيُوعُ كُلُّهَا كَالرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ، وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ، أَوْ الْآجِرُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 95 بَاعَ الْمُسْتَأْجِرَ، فَأَجَازَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَاشِرِ، وَالْمُجِيزِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُمَلَّكًا بِإِجَازَتِهِ، وَإِذَا جَازَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا كَانَ الثَّمَنُ لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلِكُلِّ بَائِعٍ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ نَفَذَ بَيْنَ الْمُكْرَهِ، وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ، وَكُلُّ عَقْدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا نَفَذَ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ، وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى تَنَاسَخَتْهُ بُيُوعٌ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعًا مِنْ تِلْكَ الْبُيُوعِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مَا أَجَازَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، فَكُلُّ بَيْعٍ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ يُوقَفُ عَلَى إجَازَتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، فَتَكُونُ إجَازَتُهُ لِأَحَدِ الْبُيُوعِ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْفُذُ مَا سِوَاهُ، وَهُنَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ كَانَ مَالِكًا، فَالْبَيْعُ مِنْ كُلِّ مُشْتَرٍ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ نُفُوذُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُكْرَهِ فِي الِاسْتِرْدَادِ. وَعَلَى هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ إجَازَةِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، أَوْ الْآخِرِ، فَلِهَذَا نَفَذَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا بِإِجَازَتِهِ عَقْدًا مِنْهَا، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ قَبْلَ إجَازَةِ الْبَائِعِ، وَقَدْ تَنَاسَخَ الْعَبْدُ عَشَرَةً كَانَ الْعِتْقُ جَائِزًا مِنْ الَّذِي أَعْتَقَهُ إنْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَائِعٍ صَارَ مُسَلِّطًا الْمُشْتَرِي مِنْهُ عَلَى إعْتَاقِهِ بِإِيجَابِهِ الْبَيْعَ لَهُ مُطْلَقًا، وَصَحَّ هَذَا التَّسْلِيطُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ أَنْ يُسَلِّطَ الْغَيْرَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي أَنَّ الْآخَرَ قَبَضَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ بَائِعِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ بِالِاسْتِرْدَادِ، وَفِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ الْمُشْتَرِي تَمَلَّكَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ قَبَضَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ فَاسِدٌ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ رِضَا الْبَائِعِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مَالِكًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْمُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ تَقَرَّرَ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ، فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ، وَإِنَّ الْمَحَلَّ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً، فَلَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَةَ عَبْدِهِ أَيَّهُمْ شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّسْلِيمِ كَانَ مُكْرَهًا مِنْ قِبَلِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَيَصِيرُ الْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ بِهِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكْرَهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرَهِ حِين ضَمِنَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْبَيْعَ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا رَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ جَازَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمَّنَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ بَرِئَ الَّذِي أَكْرَهَهُ، وَتَمَّتْ الْبُيُوعُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 96 الْبَاقِيَةُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَقَرَّرَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مِنْ حِينِ قَبَضَهُ، وَهُوَ إنَّمَا بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ بَائِعٍ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّهُ فِي هَذَا لَا يَكُونُ دُونَ الْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ إذَا بَاعَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَنْفُذُ بَيْعُهُ، فَهُنَا كَذَلِكَ، فَإِنْ ضَمَّنَهَا أَحَدَ الْبَاعَةِ الْبَاقِينَ سَلَّمَ كُلَّ بَيْعٍ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَإِنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلَوْ اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ مِنْهُ بَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّ الْقِيمَةَ، وَجَازَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَقَرَّرَ لِلضَّامِنِ حِينَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ جَائِزًا حَتَّى إذَا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ بَطَلَتْ الْبُيُوعُ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُشْتَرٍ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا إلَى الْبَائِعِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْبُيُوعَ كُلَّهَا قَدْ انْقَضَتْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبَضَ الثَّمَنَ بِحُكْمِ بَيْعِهِ، فَبَعْدَ الِانْتِقَاضِ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ. وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لَهُ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَالْبَائِعُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَأُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ، وَدَفْعِ الثَّمَنِ، فَلَمَّا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا، أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ، أَوْ قَالَ: قَدْ رَضِيتُهَا، فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَامٌّ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لُزُومُهُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِحُكْمِهِ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا، فَإِذَا أَجَازَهُ فَقَدْ تَمَّ رِضَاهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ مِنْهُ كَصَرِيحِ الْإِجَازَةِ، وَمُبَاشَرَتُهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ حَالًّا، أَوْ مَنْقُودًا دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، فَلِهَذَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَبَدًا، وَقَبَضَهَا، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَجَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ بِتَصَرُّفِهِ صَارَ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ مُزِيلًا لِلْمُفْسِدِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْحَصَادِ، أَوْ الدِّيَاسِ، فَالْبَيْعُ، فَاسِدٌ، فَإِنْ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ، وَأَعْطَى الثَّمَنَ حَالًّا جَازَ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْوَطْءِ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ شَرْطُ الْأَجَلِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَتِهِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ، وَالْإِكْرَاهِ الْمُفْسِدِ انْعَدَمَ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحُكْمِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، فَلِهَذَا نَفَذَ بِهِ الْبَيْعُ. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْبَائِعُ، وَلَمْ يُكْرِهْ الْمُشْتَرِيَ، فَلَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ حَتَّى أَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يَمْلِكُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِعْتَاقُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي جَازَ الْبَيْعُ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَحَلًّا لِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي كَانَ مِنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 97 الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، فَلَا يَنْفُذُ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَ الْغَيْرِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَلَوْ أَعْتَقَا جَمِيعًا الْعَبْدَ جَازَ عِتْقُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَانْتَقَضَ بِهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ، فَوَّتَ بِإِعْتَاقِهِ مَحَلَّ الْبَيْعِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَعْتَقَهُ هُوَ، وَالْمُشْتَرِي جَازَ عِتْقُ الْبَائِعِ، وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَاهُ جَمِيعًا عَتَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ صَارَ مَالِكًا، فَعِتْقُهُ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَعِتْقُ الْبَائِعِ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ، فَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. وَلَوْ كَانَا مُكْرَهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْعَقْدِ، وَالتَّقَابُضِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا مِنْ قِبَلِهِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَجَازَ صَارَ رَاضِيًا بِهِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ رَاضِيًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُفُوذَ الْبَيْعِ مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ الْمُكْرَهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارَ، ثُمَّ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَهُ نَفَذَ الْعَقْدُ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَانَ الْآخَرُ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ أَجَازَا جَمِيعًا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ جَازَ الْبَيْعُ لِوُجُودِ تَمَامِ الرِّضَى بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ، وَلَوْ لَمْ يُجِيزَا حَتَّى أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، فَكَانَ ضَامِنًا لَقِيمَتِهِ، فَإِنْ أَجَازَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إجَازَتِهِ لِتَقَرُّرِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَفَوَاتِ مَحَلِّ حُكْمِ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا، فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِكْرَاهِ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ كَافٍ لِفَسَادِ الْبَيْعِ. فَإِنْ أَعْتَقَاهُ جَمِيعًا مَعًا، وَقَدْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ، فَعِتْقُ الْبَائِعِ فِيهِ جَائِزٌ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَإِعْتَاقُهُ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْبَيْعَ، وَقَدْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَهُ، فَهَذَا إجَازَةٌ مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْإِعْتَاقِ رِضًا مِنْهُ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُفُوذَ الْعِتْقِ مِنْ قِبَلِهِ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ نُفُوذُهُ لِعَدَمِ الرِّضَى مِنْ الْبَائِعِ، فَإِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ تَمَّ بِتَرَاضِيهِمَا، وَالثَّمَنُ الْمُسَمَّى لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالْعِتْقُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَعْتَقَ أَوَّلًا، فَهُوَ بِإِعْتَاقِهِ قَدْ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَنَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ إجَازَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَجَازَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يُجِزْهُ الْبَائِعُ، فَعِتْقُ الْبَائِعِ جَائِزٌ فِيهِ، وَقَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بِهِ إنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْمُشْتَرِي، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بَعْدَ إجَازَةِ الْمُشْتَرِي، فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ يُصَادِفُ مِلْكَهُ فَيَنْفُذُ، وَيُنْتَقَضُ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلٌ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ أَبَدًا، فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَعْتَقَاهُ، فَعِتْقُ الْبَائِعِ جَائِزٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 98 لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُفْسِدُ الْبَيْعَ، وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَقَ الْبَائِعُ بِالْعِتْقِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّ عِتْقَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْإِعْتَاقُ إذَا لَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنَجْعَلُ عِتْقَهُ إيَّاهُ رِضًا بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ الْفَاسِدَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْخِيَارِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ خِيَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ كَانَ إعْتَاقُهُ إسْقَاطًا مِنْهُ الْخِيَارَ، وَبِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ يَزُولُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِحُكْمِ الْبَيْعِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْعِتْقِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، فَيُقَدَّمُ الرِّضَى، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ عَلَى الْعِتْقِ لِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ كَمَا قَصَدَهُ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ تَنْفِيذَ تَصَرُّفٍ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ شَرْطٍ فِي الْمَحَلِّ بِعَدَمِ ذَلِكَ لِيَصِحَّ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَيَقُولُ قَدْ أَعْتَقْت، أَوْ يَقُولُ صَاحِبُ الْعَبْدِ: أَعْتَقْت عَبْدِي عَنْك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ رَضِيت عِتْقَ الْعَبْدِ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ وَوَقَعَ الْعِتْقُ، وَالْمِلْكُ مَعًا بِرِضَاهُ بِذَلِكَ، أَوْ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ عَلَى الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْعَبْدَ فِي الْإِكْرَاهِ، وَفِي الْخِيَارِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْبَائِعِ فِيهِ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ زَالَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْبَيْعُ مُطْلَقًا مِنْ جِهَتِهِ، وَجَازَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْإِكْرَاهِ - الْبَائِعُ جَازَ الْعِتْقُ، وَالْبَيْعُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ مُجِيزًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَجَازَ الْبَيْعَ - الْمُشْتَرِي جَازَ عِتْقُهُ، وَغَرِمَ الْقِيمَةَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِانْعِدَامِ الرِّضَى مِنْ الْبَائِعِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ حَاسَبَهُ بِهِ، وَأَعْطَاهُ، فَضْلًا إنْ كَانَ لَهُ. وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ، وَدَفْعِ الثَّمَنِ، وَلَمْ يُكْرَهْ الْبَائِعُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ الْتَقَيَا، فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ نَقَضْت الْبَيْعَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَى آخِر الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ بَعْدَ الْقَبْضِ إنَّمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ مَنْ كَانَ مُكْرَهًا مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَقَبْلَ الْقَبْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ النَّقْضِ بَعْدَ صِحَّةِ النَّقْضِ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 99 [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا يَجِبُ بِهِ عِتْقٌ أَوْ طَلَاقٌ.] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَعَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ، وَقَبْضِ الْعَبْدِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ شِرَاءَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ، وَبِالْمِلْكِ يَتِمُّ شَرْطُ الْعِتْقِ فَاسِدًا كَانَ السَّبَبُ، أَوْ صَحِيحًا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ، فَيَعْتِقُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ مِقْدَارَ الْقِيمَةِ، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي مِلْكِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا يُعَدُّ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ تَلَفٌ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرِهِ إكْرَاهٌ عَلَى هَذَا الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ الْعِتْقِ فَأَمَّا السَّبَبُ، وَهُوَ الثَّمَنُ السَّابِقُ، فَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِعْتَاقِ، وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وُجِدَتْ فِي الْيَمِينِ دُونَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا، وَقَضَى الْقَاضِي بِالْعِتْقِ، ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْحُكْمَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدِي، وَلِهَذَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ، فَكَذَا فِي الْإِكْرَاهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ عَلَى الشَّرْطِ لِحُصُولِ تَلَفِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرِهُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِكْرَاهِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّلَفُ بِعَيْنِهِ. وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَعَلَى قَبْضِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَاشْتَرَاهُ، وَقَبَضَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ فَاسِدٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمُشْتَرِي لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَيَبْطُلُ عَنْهُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ مُكْرَهًا، وَالْتِزَامُ الْمَالِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِقَرَابَتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرَهِ إكْرَاهٌ عَلَى تَحْصِيلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الْعِتْقُ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَالْمَالِكُ هُنَا مُتَمِّمٌ عَلَيْهِ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ إنَّمَا يَعْتِقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمِلْكِ جَمِيعًا، وَالْحُكْمُ مَتَى تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ، وَصْفَيْنِ يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ نَاوِيًا عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُعْتِقًا مُتَمِّمًا لِعِلَّةِ الْعِتْقِ، فَهُنَا الْمُكْرَهُ يَكُونُ مُتَمَّمًا عَلَيْهِ الْعِتْقُ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِعَيْنِهِ قُلْنَا نَعَمْ الْمِلْكُ مُتَمِّمٌ عَلَيْهِ الْعِتْقَ، وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 100 وُجِدَتْ فِي حَقِّهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ، فَالشِّرَاءُ لَيْسَ بِمُتَمِّمٍ عَلَيْهِ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ صُنْعِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إتْلَافًا فِي حَقِّهِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي الْكَفَّارَةِ، فَالشِّرَاءُ مُتَمِّمٌ لِلْعِلَّةِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالْقَرِيبِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا، وَالثَّانِي أَنَّ عِتْقَ الْقَرِيبِ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ، وَقَعَ عَمَّا نَوَى، وَلَمْ يَكُنْ مُجَازَاةً لِلْقَرَابَةِ، فَتَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا هُنَا، فَالْمُكْرَهُ مَا نَوَى شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْمُجَازَاةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى شَيْئًا آخَرَ يَصِيرُ طَائِعًا، وَالْمُكْرِهُ إنَّمَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ، فَيَكُونُ هَذَا إكْرَاهًا عَلَى إقَامَةِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ، أَوْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شِرَاءِ أَمَةٍ قَدْ، وَلَدَتْ مِنْهُ، أَوْ أَمَةٍ مُدَبَّرَةٍ إنْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالِاسْتِيلَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَاسْتُوْضِحَ بِفَصْلِ الشَّهَادَةِ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ هِيَ قِيمَتُهُ، وَالْبَائِعُ يَدِّعِي الْبَيْعَ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَ إنْ مَلَكْتَهُ، فَهُوَ حُرٌّ، فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ رَجَعَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ حُرٌّ لَا بِشِرَائِهِ، وَالشُّهُودُ مَا أَثْبَتُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى دَخَلَ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ، فَأُدْخِلَ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُدْخَلٌ لَا دَاخِلٌ، فَلَا يَصِيرُ الشَّرْطُ بِهِ مَوْجُودًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: إنْ صِرْت فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ، فَحَمَلَهُ الْمُكْرِهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الدَّارَ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا حَصَلَ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ لَا بِحُصُولِهِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ قَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ لَا مِنْ مُوجِبَاتِ دُخُولِ الدَّارِ، فَالْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى مَنْ أَدْخَلَهُ الدَّارَ. وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَأُكْرِهَ عَلَى تَزَوُّجِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا طَلُقَتْ، وَلَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا بِسَبَبِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ إنَّمَا أَكْرَهَهُ عَلَى التَّزَوُّجِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِالتَّزَوُّجِ مَا يُعَادِلُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 101 الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إنْ شَجَّنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، فَشُجَّ، إنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ، وَالْمَرْأَةُ تَطْلُقُ، وَعَلَى الشَّاجِّ أَرْشُ الشَّجَّةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ شَيْءٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكُلِّ مُخَالِفٌ، وَلَكِنَّ مِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِشْهَادَ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ. وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى يُحَصِّلَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي يَدِ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَفَعَلَهُ، فَطَلَّقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ، وَالطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ بِهَا عَلَيْهِ، وَصِحَّةُ تَمْلِيكِهِ مِنْ غَيْرِهِ تَجْعَلُهُ فِي يَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي هَذَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَفْوِيضِ الْعِتْقِ إلَى الْغَيْرِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَغْرَمَ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى السَّبَبِ الْمُتْلِفِ، فَإِنَّ السَّبَبَ قَوْلُ الْمَجْعُولِ إلَيْهِ لِلْعَبْدِ أَنْتَ حُرٌّ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِهَذَا تَقَدَّمَ التَّفْوِيضُ مِنْ الْمَالِكِ، فَالْمُكْرِهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْوِيضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَصْلُ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ عَبْدِهِ فِي الْعِتْقِ فِي يَدِ فُلَانٍ، أَوْ أَمْرَ امْرَأَتِهِ فِي الطَّلَاقِ، ثُمَّ أَعْتَقَ فُلَانٌ الْعَبْدَ، وَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ التَّفْوِيضُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَنِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي غَرِمَ لِامْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إكْرَاهٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ بِعَيْنِهِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُتْلِفًا عِنْدَ وُجُودِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُفَوِّضِ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَوْقَعَهُ كَانَ ضَامِنًا، وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِإِيقَاعِهِ إنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا بِإِكْرَاهِهِ عَلَى جَعْلِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ، وَالْأَخْذُ بِالْقِيَاسِ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى إعْتَاقِهِ كَانَ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا، فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى جَعْلِ الْعِتْقِ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ، فَأَعْتَقَهُ الْمُكْرَهُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ، وَالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُكْرَهَ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، فَيَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَى مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرَرُ، وَالشَّاهِدُ مُحْتَسِبٌ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَلَا تَتَعَدَّى شَهَادَتُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ إلَى غَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ يُجْعَلُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْهِبَةِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً عَلَى التَّسْلِيمِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ مُخْبِرٌ عَنْ تَفْوِيضٍ قَدْ كَانَ مِنْهُ، وَالْإِيقَاعُ مِنْ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَبَرِ بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِمَا ثَبَتَ بِإِخْبَارِ الشَّاهِد، فَأَمَّا الْمُكْرِهُ، فَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى إنْشَاءِ التَّفْوِيضِ، فَيُمْكِنُ جَعْلُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 102 إيقَاعِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ مُتَمِّمًا لِمَا أَكْرَهَهُ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ هُوَ مُتْلِفًا. وَفِي الْكِتَابِ اسْتَشْهَدَ لِإِيضَاحِ هَذَا الْفَرْقِ، فَقَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ، وَقَالُوا شَهِدْنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا غُرْمٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْإِحْصَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَأَنَّهُ لَا رَجْمَ، وَلَكِنِّي أَرْجُمُهُ، وَأَكْرَهَ النَّاسَ حَتَّى رَجَمُوهُ كَانَ ضَامِنًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ، وَالْإِكْرَاهِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِشْكَالُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَضْمَنُ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ رَجْمًا عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، فَبِالْحِجَارَةِ أَوْلَى، فَإِنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ عِنْدَهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لِدَمِهِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الزِّنَا، فَإِنَّ عِنْد ظُهُورِ إحْصَانِهِ إنَّمَا يُرْجَمُ لِزِنَاهُ لَا لِإِحْصَانِهِ، فَيَصِيرُ هَذَا السَّبَبُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ بَعْضَ الرَّجْمِ قَائِمٌ مَقَامَ إقَامَةِ الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا رَجَمَهُ الْقَاضِي بَعْضَ الرَّجْمِ لَوْ بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاضِي، وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ ثَبَتَ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ حُرًّا فَفَعَلَ، ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَتَقَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا حَصَلَ بِاعْتِبَارِ صُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، وَهُوَ قَبُولُ الشِّرَاءِ، وَالْهِبَةِ، أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعِتْقِ، فَيَكُونُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ، وَرِثَ مَمْلُوكًا، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ لَا يَحْصُلُ الْإِتْلَافُ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ انْحِلَالِ الْيَمِينِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْيَمِينِ، أَوْ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ إكْرَاهًا عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّلَفُ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْمُكْرَهُ ضَامِنُ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ الَّذِي وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَنْزِلُ الْعِتْقُ بِتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِ الْعِتْقِ، وَقَدْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَرِثهُ، فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ، وَرِثَ مَمْلُوكًا يَعْتِقُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ قَصَدَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 103 إتْلَافَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِكْرَاهِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ شِئْت، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَشَاءَ الْعَبْدُ عَتَقَ، وَغُرِّمَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ مَشِيئَتِهِ عَتَقَ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَدْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ دَخَلَهَا الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ الْعِتْقِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، وَإِنْ شَاءَ الْعِتْقَ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْعِتْقِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْبَيْعُ لَا يَتِمُّ بِهِ، وَحْدَهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ، وَبِالْمُشْتَرِي، وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيهِ مِنْهُ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِهَذَا الطَّرِيقِ رَاضِيًا. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ صَلَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ إنْ أَكَلْت، أَوْ شَرِبْت، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ صَنَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ، وَيُغَرَّمُ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ، فَرِيضَةٍ لَا يَجِدُ الْمُكْرَهُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يَصِير رَاضِيًا بِالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ التَّلَفَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَيَخَافُ الْعُقُوبَةَ بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، فَيَكُونُ هُوَ مُضْطَرًّا فِي الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْمُضْطَرُّ لَا يَكُونُ رَاضِيًا، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَكَلْت، أَوْ صَلَّيْتِ الظُّهْرَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ، فَارًّا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ لَهُ فُلَانٌ: إنْ تَقَاضَيْت دَيْنِي الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، أَوْ أَكَلْت طَعَامَ كَذَا لِطَعَامٍ خَاصٍّ بِعَيْنِهِ، أَوْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ، فَأَنْتِ حُرٌّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ فَعَلَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلَ بُدًّا، فَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ رَاضِيًا بِالْعِتْقِ، وَيَخْرُجُ الْإِتْلَافُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَقَاضَيْت دَيْنَك الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا انْعِدَامُ الرِّضَا مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ، فَارًّا لَا الْإِلْجَاءُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهَا بِالْحَبْسِ حَتَّى سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ كَانَ الزَّوْجُ، فَارًّا؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَكَذَلِكَ الرِّضَا يَنْعَدِمُ مِنْهَا إذَا كَانَتْ تَخَافُ هَلَاكَ دَيْنِهَا عَلَى فُلَانٍ بِتَرْكِ التَّقَاضِي، فَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِلْجَاءُ، وَالضَّرُورَةُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ لَا انْعِدَامَ الرِّضَا مِنْ الْمُكْرَهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّق الْإِلْجَاءُ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 104 بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، فَأَمَّا خَوْفُهُ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ، فَلَا يُوجِبُ الضَّرُورَةَ، وَالْإِلْجَاءَ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ شَيْئًا. . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ قَتْلًا خَطَأً، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إلَى الْقَاضِي، فَأَكْرَهَ الْقَاضِي الْمَوْلَى عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بِالْإِلْجَاءِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، أَوْ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ، فَيَأْخُذُهَا الْمَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ، وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا التَّهْدِيدِ، وَيَغْرَمُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مُلْتَزِمًا لِلدِّيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْلِكًا - لِلرَّقَبَةِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ. . وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى قَتَلَ عَبْدَهُ عَمْدًا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَصَارَ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ بِالْإِلْجَاءِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ مِلْكُهُ، فَبِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ يُخْلِفُهُ فِي عِوَضِ نَفْسِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ، وَيَبْطُلُ حَقُّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِمْ، فَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ غَيْرُ صَالِحٍ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ إكْرَاهُهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُلْجَأً بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَكَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْتِزَامِ الدِّيَةِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاه بِالْحَبْسِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ لِلِاسْتِهْلَاكِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لِلَّهِ، أَوْ صَوْمًا، أَوْ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً، أَوْ غَزْوَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ بَدَنَةً، أَوْ شَيْئًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْيَمِينِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، أَوْ الْمَعَاصِي، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخَذُوهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ حَلَفَ مُكْرَهًا، ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 24 ¦ الصفحة: 105 أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكُرْهُ، وَالطَّوْعُ، وَالنَّذْرُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّذْرُ يَمِينٌ»، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ التَّلَفُ الْحَاصِلُ بِهِ، وَلَا يُتْلَفُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِهَذَا الِالْتِزَامِ، ثُمَّ الْمُكْرِهُ إنَّمَا أَلْزَمهُ شَيْئًا يُؤْثَرُ الْوَفَاءُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، فَلَوْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا كَانَ يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا ضَمِنَ فِي الْحُكْمِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُظَاهِرَ مِنْ امْرَأَتِهِ كَانَ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ، وَالْهَزْلُ، وَقَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ بِهِ حُرْمَةً مُوَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ. فَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ، فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْ حَقٍّ لَزِمَهُ، وَذَلِكَ مِنْهُ حَسَنَةٌ لَا إتْلَافَ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ عَنْ ظِهَارٍ، فَفَعَلَ عَتَقَ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى إبْطَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ كَانَ، وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَالْمَعْدُومِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ إبْطَالَ مِلْكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، ثُمَّ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْعَبْدِ بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُبْرِئُهُ مِنْ الْقِيمَةِ حَتَّى يَجْزِيَنِي مِنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَقْدٌ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَهُ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ، وَبِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ حِينَ أَكْرَهَنِي، وَأَرَدْت بِهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَلَمْ أُعْتِقْهُ لِإِكْرَاهِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا فِي تَصَرُّفِهِ قَاصِدًا إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْعِتْقَ عَنْ الظِّهَارِ كَمَا أَمَرَنِي، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْزِهِ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ الْمُكْرِهَ إلَى مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا كَانَ التَّلَفُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 106 مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ لِإِكْرَاهِهِ بَلْ لِاخْتِيَارِهِ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِهِ طَوْعًا، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِانْعِدَامِ الْإِلْجَاءِ، وَجَازَ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ الظِّهَارِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ، أَوْ هُوَ يَمِينٌ فِي الْحَالِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَبَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ كَالرَّاضِي بِمَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ قَرِبَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى عَلَى سُنَنِ إكْرَاهِهِ، فَإِنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ مَنَعَهُ مِنْ الْقُرْبَانِ، وَقَدْ أَتَى بِضِدِّهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَعْنِي بِهَا، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانٍ يُحْبَسُ بِهِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ إنْ قَرِبْتُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَرِبَهَا، فَطَلُقَتْ، وَلَزِمَهُ مَهْرُهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ، فَإِنَّمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ بِإِكْرَاهِهِ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ لَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجَامِعَهَا، فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِجِمَاعِهِ إيَّاهَا لَا بِمَا أَلْجَأَهُ إلَيْهِ الْمُكْرِهُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنْ قَرِبْتهَا، فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ، فَإِنْ قَرِبَهَا عَتَقَ عَبْدُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى عَلَى سُنَنِ إكْرَاهِهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا، فَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَرِمَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ يَقْرَبُهَا فَيَسْقُطُ الْإِيلَاءُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قَبِلَ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ، وَبِالْمُشْتَرِي، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إزَالَةِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ قُلْنَا هُنَاكَ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَبِمَشِيئَةِ الْعِتْقِ، وَلَا يَتَّفِقُ وُجُودُ مُشْتَرٍ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمُدَّةِ، وَهُنَا الْوَقْتُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً هِيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَإِنْ قَرِبَ الْمَرْأَةَ عَتَقَ هَذَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 107 الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ لِيَسْقُطَ بِهِ الْإِيلَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ فِي مَعْنَى مَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَمِنْ قِيمَةِ الَّذِي اسْتَحْلَفَهُ عَلَى عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ فِي الْتِزَامِ الْأَقَلِّ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَيَبْطُلَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ، أَوْ لَا يَدْخُلَ بِهَا، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَانَ مُلْجَأً مُضْطَرًّا فِي أَقَلِّهِمَا، وَالْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ. ، وَجَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَقِيلَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: الْجَوَابُ قَوْلُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ تَحْقِيقِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ إنْ قَرِبْتهَا، فَمَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَتَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَبَانَتْ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَلَزِمَتْهُ الصَّدَقَةُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَرِبَهَا، فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ كَانَ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ، وَيَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ صَدَقَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى النَّذْرِ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إكْرَاهِ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِنْ غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَرْضٍ، وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهُمْ، ثُمَّ أَكْرَهُوا رَجُلًا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا، وَصَفْنَا فِي إكْرَاهِ اللُّصُوصِ، أَوْ إكْرَاهِ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَجُلًا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي إكْرَاهِ اللُّصُوصِ، فَهَذَا فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ فِيمَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَسَعُهُ بِمَنْزِلَةِ إكْرَاهِ اللُّصُوصِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ تَحَقَّقَ بِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اللُّصُوصِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِنْ الْخَوَارِجِ، فَأَمَّا مَا يَضْمَنُ فِيهِ اللُّصُوصُ أَوَيَلْزَمُهُمْ بِهِ الْقَوَدُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا عَلَى الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا الْإِتْلَافَ بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا انْضَمَّتْ الْمَنَعَةُ بِالتَّأْوِيلِ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَتْلَفُوا مِنْ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ أَنَّ الْفِتْنَةَ وَقَعَتْ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِي دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا حَدَّ فِي، فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا ضَمَانَ فِي مَالٍ اُسْتُحِلَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 108 بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، فَيُرَدُّ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي السِّيَرِ. . وَلَوْ أَنَّ الْمُتَأَوِّلِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْنَا بِالشِّرْكِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِمَالِنَا اقْتَسَمُوهُ، وَأَخَذُوا جَوَارٍ مِنْ جَوَارِينَا، فَاقْتَسَمُوهُنَّ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ، وَاسْتَوْلِدُوهُنَّ، ثُمَّ تَابُوا أَوْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ رُدَّتْ الْجَوَارِي إلَى مَوَالِيهنَّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهُنَّ إمَّا لِانْعِدَامِ تَمَامِ الْإِحْرَازِ، فَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، أَوْ لِبَقَاءِ إحْرَازِ الْمُلَّاكِ لِبَقَاءِ الْجَوَارِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ مِنْهُنَّ، وَلَا عُقْرَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ هُوَ عَيْنٌ، وَإِتْلَافُ الْجُزْءِ مُعْتَبَرٌ بِإِتْلَافِ الْكُلِّ، وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ بِعَيْنِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَغْرُورِ إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَغْرُورُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِمْ، فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ، وَهُنَا هُوَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ بِالْإِتْلَافِ لِصَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِيمَا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُدَّبَّرَةٍ، أَوْ أُمِّ وَلَدٍ، أَوْ مُكَاتَبَةٍ فَوَلَدَتْ لَهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُمْلَكُونَ بِالْإِحْرَازِ، فَيَكُونُ حَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ كَحَالِ الْخَوَارِجِ فِي الْجَوَارِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [بَابُ مَا يُخَالِفُ الْمُكْرَهُ فِيهِ مَا أُمِرَ بِهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ، أَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ مَقْسُومًا، وَلَا غَيْرَهُ، وَأُكْرِهَ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَوَهَبَ الدَّارَ كُلَّهَا، وَسَلَّمَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَالْجَمِيعُ غَيْرُ النِّصْفِ، وَهِبَةُ نِصْفِ الدَّارِ غَيْرُ مَقْسُومٍ هِبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ قَدْ أَتَى بِهِبَةٍ صَحِيحَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُمِرَ بِهِبَةِ الدَّارِ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ بِصَدَقَتِهَا عَلَيْهِ، فَوَهَبَهَا لَهُ، وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الصَّدَقَةِ، فَالْهِبَةُ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْعِوَضُ، وَالصَّدَقَةُ جَعَلَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، ثُمَّ الصَّرْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ لِتَكُونَ كِفَايَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ لَا تَجُوزُ، وَالْهِبَةُ لَهُمْ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ ثَابِتٌ لِلْوَاهِبِ، وَفِي الْهِبَةِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إنَّمَا لَا يَرْجِعُ لِصِيَانَةِ الرَّحِمِ عَنْ الْقَطِيعَةِ، أَوْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْهِبَةِ، وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 109 مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا كَانَ طَائِعًا فِيهِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْهِبَةِ، فَنَحَلَهَا، أَوْ أَعْمَرَهَا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ النِّحْلَةَ، وَالْعُمْرَى هِبَةٌ، فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكُلِّ وَاحِدٌ، وَفِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي لَفْظَةِ الْهِبَةِ، وَالنِّحْلَةِ، وَالْعُمْرَى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَاخْتِلَافَهُمَا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ أَجْنَبِيًّا. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ، وَالدَّفْعِ، فَوَهَبَ عَلَى عِوَضٍ، وَتَقَابَضَا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ بَيْعٌ، فَكَأَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ فَبَاعَ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إذَا وَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْهِبَةِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَيَدْفَعَهُ، فَبَاعَهُ بِذَلِكَ، وَتَقَابَضَا كَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالتَّقَابُضِ فَوَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَتَقَابَضَا كَانَ بَعْدَ التَّقَابُضِ، وَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يُثْبِتَ فِيهِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ هُوَ مُجِيبًا إلَى مَا طَلَبَ الْمُكْرِهُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارَ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ لَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ، وَيَدْفَعَهُ، فَفَعَلَ، فَعَوَّضَهُ الْآخَرُ مِنْ الْهِبَةِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَقَبِلَهُ كَانَ هَذَا إجَازَةٌ مِنْهُ بِهِبَتِهِ حِينَ رَضِيَ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ إمَّا يَكُونُ عَنْ هِبَةٍ صَحِيحَةٍ فَرِضَاهُ بِالْعِوَضِ يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْهِبَةِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، فَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْعِوَضَ، فَإِنْ قَبَضَهُ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِغَيْرِ كُرْهٍ، فَعَوَّضَهُ، وَكَمَا فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ، وَقَالَ: قَدْ سَلَّمْت الْهِبَةَ حِينَ رَضِيت بِالْعِوَضِ، فَلَا أَدْفَعُ إلَيْك الْعِوَضَ، وَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّضَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعِوَضِ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَوْ، وَهَبَهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ سَلَّمْته عَلَى أَنْ يُعَوِّضَنِي كَذَا، فَأَبَى لَمْ يَكُنْ هَذَا تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْهِبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ وَهَبَ جَارِيَةَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِرَجُلٍ، وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْجَارِيَةِ: عَوِّضْنِي مِنْهَا، فَعَوَّضَهُ عِوَضًا، وَقَبَضَهُ كَانَ هَذَا إجَازَةً مِنْهُ لِلْهِبَةِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعَوِّضَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إجَازَةً مِنْهُ لِلْهِبَةِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى دَفْعِهِ، وَقَبْضِ الثَّمَنِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: زِدْنِي فِي الثَّمَنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَزِيدَهُ، فَإِنْ زَادَهُ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْهُ، فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ أَجَزْت ذَلِكَ الْبَيْعَ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي الجزء: 24 ¦ الصفحة: 110 أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعِوَضَ، وَالزِّيَادَةَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّفْعِ، فَبَاعَهُ، وَدَفَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ شَيْءٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ إذَا كَانَ هُوَ الدَّافِعُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا مِنْ مَوْضِعِ الْإِكْرَاهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ. (أَلَا تَرَى) لَوْ أَنَّ لِصًّا قَالَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّهُ عَبْدَك هَذَا، فَإِنِّي قَدْ حَلَفْت لَتَبِيعَنَّهُ إيَّاهُ، فَبَاعَهُ خَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ يَمِينِهِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ إشْكَالٍ يُقَالُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ تَمَامُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُكْرَهِ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ يَتَأَتَّى فِي الْهِبَةِ أَيْضًا، وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ لَهُ، فَوَهَبَهُ، وَدَفَعَهُ، فَقَالَ قَدْ وَهَبْتَهُ لَك، فَخُذْهُ، فَأَخَذَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ لِلْمُكْرَهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهٌ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَهَبَ جَارِيَتَهُ هَذِهِ لِفُلَانٍ، فَأَخَذَهَا الْمَأْمُورُ، فَوَهَبَهَا، وَدَفَعَهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جُعِلَ التَّوْكِيلُ بِالْهِبَةِ تَوْكِيلًا بِالتَّسْلِيمِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْأَصْلِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ، وَهُوَ أَنَّ إيجَابَ الْهِبَةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبِضَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَنْهَهُ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ إيجَابُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْهِبَةِ نَظِيرُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فَيَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْآمِرِ بِالْقَبْضِ لَيَسْقُطَ بِهِ حَقُّهُ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَبَاعَهُ بَيْعًا جَائِزًا جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيْعُ الْجَائِزُ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 111 مِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ الْجَائِزِ فَهُوَ طَائِعٌ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ بَيْعًا جَائِزًا، وَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرَهَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ أَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِكَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَتَى بِدُونِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ الْجَائِزِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ جَازَ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مَقْسُومًا، وَيَدْفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَوَهَبَ لَهُ الدَّارَ كُلَّهَا، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ، فَحِينَ، وَهَبَ الدَّارَ كُلَّهَا قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ، فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْبَيْعِ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَ الدَّارِ مَقْسُومًا، فَبَاعَهُ الدَّارَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَهُوَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مُخَالِفًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا نَدْرِي، أَيَّ شَيْءٍ يَضْمَنُهُ؟؛ لِأَنَّ بَيْنَ نِصْفَيْ الدَّارِ مَقْسُومًا تَفَاوُتًا فِي الْمَالِيَّةِ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا أُجِيزُ هِبَتَهُ، وَلَا بَيْعَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَبْطُلَ هِبَتُهُ، فَمَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ هِبَتَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا بَطَلَتْ فِي الْبَعْضِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ بَيْتًا مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ، فَبَاعَهُ الْبُيُوتَ كُلَّهَا، أَوْ، وَهَبَهَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَطَلَ فِي بَعْضِ الْبُيُوتِ لِلْإِكْرَاهِ، فَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَجَهَالَةِ مَا يَنْفُذُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَبِلَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ طَائِعًا، فَالْعَبْدُ حُرٌّ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَالْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ طَائِعًا فِي هَذَا الْإِيجَابِ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا عَلَى الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُكْرَهًا إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْعِتْقِ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ طَائِعًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعِتْقِ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمُكْرَهِ بِعِوَضٍ يَكُونُ فَاسِدًا، وَالْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 112 الْقَبْضُ، فَكَيْفَ يُعْتِقُ الْعَبْدَ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ؟ قُلْنَا هَذَا التَّمْلِيكُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِتْقِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ هَذَا التَّمْلِيكِ بِدُونِ الْقَبْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّمْلِيكَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا، فَسَبَبُهُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَإِذَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقُولَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقُولَ الْآخَرُ: أَعْتَقْت يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ هُنَاكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ هُنَا عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُجْعَلُ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَقَالَ: أَعْتَقْت يَصِيرُ الْآمِرُ قَابِضًا بِنُفُوذِ الْعِتْقِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ الْمُنْدَرِجُ فِي كَلَامِهِ فَاسِدًا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي بَابِ الظِّهَارِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ. فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ، ثُمَّ رَبُّ الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ قِيمَةَ عَبْدِهِ الْمُعْتَقَ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ عَنْهُ قَبِلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَالْمُكْرَهُ مُتْلِفٌ مِلْكَهُ عَلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُكْرَهُ إنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ، وَهُوَ الْأَلْفُ، فَكَيْفَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا هُوَ أَكْرَهَهُ عَلَى إبْطَالِ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ، وَلَيْسَ بِإِزَائِهِ عِوَضٌ، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ بِمُقَابَلَةِ التَّمْلِيكِ الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَالْمُقْتَضَى تَابِعٌ لِلْمُقْتَضَى، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَبِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ هُوَ مُتْلِفٌ عَلَيْهِ مِلْكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُعْتَقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَوْلَى حِينَ ضَمِنَ لَهُ الْقِيمَةَ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْمُعْتَقِ عَنْهُ حِينَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ، وَكَانَ هُوَ الْمُعْتِقُ بِقَوْلِهِ طَوْعًا، فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا، وَإِنْ ضَمِنَهَا الْمُعْتَقُ عَنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِاحْتِبَاسِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِحَبْسٍ كَانَتْ الْقِيمَةُ لَهُ عَلَى الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَبِدُونِهِ لَا يَصِيرُ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْمُعْتِقَ، وَالْمُعْتَقَ عَنْهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى، فَعَلَا ذَلِكَ فَالْعَبْدُ حُرٌّ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، وَضَمَانُ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً لِمَوْلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ عَنْهُ مُلْجَأٌ إلَى الْقَبُولِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الضَّرُورَةِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا مُسْتَوْجِبًا لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْمُتْلِفُ هُوَ الْمُكْرِهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ طَائِعٌ فِي الْقَبُولِ فَيَصِيرُ بِهِ مُتْلِفًا لِلْعَبْدِ ضَامِنًا، فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ قَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُلْجَأً فِي الْقَبُولِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 113 قُلْنَا الْمُحْتَبَسُ عِنْدَهُ مِقْدَارَ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْوَلَاءِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا لَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لِلْمُعْتِقِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ الْوَلَاءُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الْوَلَاءُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَأَكْرَهَ الْآخَرَ عَلَى شِرَائِهِ، وَقَبْضِهِ، وَعِتْقِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَفِي هَذَا الضَّمَانُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَلَوْ أَكْرَهَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، فَفَعَلَا ضَمِنَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُلْجَأٍ هُنَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ حَاصِلٌ بِقَبُولِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَقَدْ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً إلَى ذَلِكَ، فَكَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْقَبُولِ، وَالْمُعْتَقُ عَنْهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الضَّمَانَ هُنَا بِقَوْلِهِ، وَهُوَ الْقَبُولُ. قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُلْتَزَمٌ لِصَيْرُورَتِهِ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ مُتْلِفًا، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْإِتْلَافِ مِنْهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ الْمَوْلَى بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَأَكْرَهَ الْآخَرَ بِحَبْسٍ حَتَّى، فَعَلَا ذَلِكَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ أَلْجَأَ الْمَوْلَى إلَى إتْلَافِ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهُ، وَالْمُعْتَقَ عَنْهُ بِالْقَبُولِ مُتْلِفٌ مُعْتِقٌ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُلْجَأً إلَيْهِ، فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ ضَمَانَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُضَمِّنَ الْآخَرَ شَيْئًا، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ رَجَعَ عَلَى الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُعْتَقَ عَنْهُ مُتْلِفٌ لِلْمِلْكِ بِفِعْلٍ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْمَوْلَى بِالْحَبْسِ، وَأَكْرَه الْمُعْتَقَ عَنْهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَالْعَبْدُ حُرٌّ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، ثُمَّ الْمُعْتَقُ بِقِيمَتِهِ غَيْرُ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ حِينَ ضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ يُضَمِّنُ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى الْقَبُولِ مِنْ جِهَتِهِ، وَبِهِ تَلِفَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، فَكَانَ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهُ، وَإِذَا قَبَضَهَا دَفَعَهَا إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْمَوْلَى لِكَوْنِهِ مُكْرَهًا بِالْحَبْسِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَتَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُلْجَأً مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُمَا بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى دَبَّرَهُ صَاحِبُهُ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فَالتَّدْبِيرُ جَائِزٌ عَنْ الَّذِي دَبَّرَهُ عَنْهُ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْعَبْدِ، وَمِنْ شَرْطِهِ مِلْكُ الْمَحَلِّ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَالْإِكْرَاهُ كَمَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّدْبِيرِ، ثُمَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَتَهُ عَبْدًا غَيْرَ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إلَى تَدْبِيرِهِ عَنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 114 الْغَيْرِ، وَفِي حَقِّهِ هَذَا، وَالْإِلْجَاءُ إلَى الْإِعْتَاقِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِذَا ضَمَّنَهُ ذَلِكَ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الَّذِي دَبَّرَهُ عَنْهُ بِقِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَلَا يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ التَّدْبِيرِ، وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالتَّدْبِيرِ كَانَ بِقَبُولِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُلْجَأً إلَى الْقَبُولِ مِنْ جِهَتِهِ، فَصَارَ هَذَا النُّقْصَانُ كَجَمِيعِ الْقِيمَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا نَظِيرَهُ فِي الْعِتْقِ أَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَهُنَا أَيْضًا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ مُدَبَّرَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمُدَبَّرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ مَجَّانًا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِاحْتِبَاسِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ انْعَدَمَ الصُّنْعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مُلْجَأً إلَى الْقَبُولِ كَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ وَرِثَهَا مَعَ غَيْرِهِ يَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا لِاحْتِبَاسِهَا عِنْدَهُ بِالِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ كَانَ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ شَاءَ مَوْلَى الْعَبْدِ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ مُدَبَّرًا عَلَى الَّذِي دَبَّرَهُ عَنْهُ لِاحْتِبَاسِهِ عِنْدَهُ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنُقْصَانِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ تَلِفَ بِفِعْلٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْمُكْرِهِ لِوُجُودِ الْإِلْجَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ إنَّمَا أَكْرَهَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، فَالْعَبْدُ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَهُ عَنْهُ يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ تَامَّةً عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ بِالتَّدْبِيرِ، وَمَا اُحْتُبِسَ عِنْدَهُ صَارَ كُلُّهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً إلَى الْقَبُولِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مُدَبَّرٍ. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْمَوْلَى بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَأَكْرَهَ الْآخَرَ بِالْحَبْسِ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهِ قِيمَتَهُ عَبْدًا غَيْرَ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُلْجَأً مِنْ جِهَتِهِ إلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُدَبَّرَ عَنْهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى الْقَبُولِ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِتْلَافِ، وَالْحَبْسِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ بَعْدَ مَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَهُ حَتَّى أَبْرَأَ الْمَوْلَى الْمُكْرِهَ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي ضَمَّنَهَا إيَّاهُ، أَوْ وَهَبَهَا لَهُ، أَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ شَهْرًا، فَكَانَ لَلْمُكْرَه أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَبَّرُ عَنْهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهُ الْقِيمَةَ الَّتِي عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِبْرَاؤُهُ إيَّاهُ، وَتَأْجِيلُهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمُكْرِهَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا أَبْرَأَ عَنْ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ إذَا أَبْرَأَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْأَصِيلِ، وَهُنَا بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينُ الْمُكْرَهِ سَقَطَ حَقُّهُ عَنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ، وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ حَقًّا لِلْمُكْرَهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ، وَأُكْرِهَ الْآخَرُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى، فَعَلَا ذَلِكَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ عَنْهُ بِقِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِاحْتِبَاسِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ مُدَبَّرًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 115 لِسَبَبٍ فَاسِدٍ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنُقْصَانِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّ تَلَفَ هَذَا الْجُزْءِ حَصَلَ بِقَبُولِ الْمُدَبَّرِ عَنْهُ، وَهُوَ كَانَ مُلْجَأً إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُلْجَأً بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ التَّدْبِيرِ عَلَى الْمُكْرِهِ يَكُونُ لِلْمُدَبَّرِ عَنْهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ هُنَا كَجَمِيعِ الْقِيمَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْمُعْتَقَ عَنْهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْقِيمَةَ، فَيَدْفَعُهَا إلَى الْمُكْرَهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُدَبَّرِ عَنْهُ، ثُمَّ صَارَ مُدَبَّرًا، وَالْمَوْلَى كَانَ مُكْرَهًا مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ بِالْحَبْسِ، وَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْإِكْرَاهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَذَلِكَ إنَّمَا وُجِدَ بَيْنَ الْمُكْرَهِ، وَالْمُدَبَّرِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَوْ أَكْرَهَهُمَا بِالْبَيْعِ، وَالْقَبْضِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى التَّدْبِيرِ، فَهُوَ فِي التَّخْرِيجِ نَظِيرُ مَا سَبَقَ. ، وَلَوْ أَكْرَهَهُمَا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا، وَيَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُكْرِهَ بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ، وَالْقَتْلِ كَانَ مُلْجَأً مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ، وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فِي مَالِهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُكْرَهَيْنِ، فَالْمُشْتَرِي صَارَ مَالِكًا بِالْقَبْضِ ثُمَّ قَتْلُهُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ طَائِعًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ، فَلَوْ قَتَلَهُ مُكْرَهًا لَا يَكُونُ قَتْلُهُ أَيْضًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِهَذَا الْقَوَدِ مُسَبِّبُهُ، فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي الْقَوَدُ يَجِبُ لَهُ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ الْحَاصِلِ بِقَبُولِهِ، وَقَبْضِهِ، وَقَتْلِهِ آلَةٌ لَلْمُكْرَهِ الْقَوَدُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ، وَعِنْدَ اشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالْمُكَاتِبِ إذَا قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ، وَلَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَتَلَفُ الْمَالِ بِهِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَالْمُشْتَرِي فِي الْقَتْلِ، وَالْقَبْضِ كَانَ لَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ بَلْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُمَا بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الْقَتْلِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَلِلْبَائِعِ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ كَانَ فَاسِدًا، وَلَكِنَّ الْقَبْضَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَهُوَ إنْ كَانَ مُلْجَأً إلَى الْقَتْلِ، فَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ الْفِعْلِ فِي جَانِبِهِ، فَكَأَنَّهُ تَلِفَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَيَصِيرُ فِعْلُ الْقَتْلِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 116 قِيلَ: كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ؟ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ مِنْ أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ عِنْدَ، فَسَادِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَلَا يَكُونُ الْقِصَاصُ، وَاجِبًا لَهُ قُلْنَا: أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَعْتَبِرُونَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ هَذِهِ التَّفْرِيعَاتِ مِنْهُمْ، وَخِلَافُ زُفَرَ فِي هَذَا كَخِلَافِهِ فِي الْمَبِيعِ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نُلْزِمَهُ الْقَوَدَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْقَتْلِ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ. وَلَوْ أَكْرَهَ الْبَائِعُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الشِّرَاء، وَالْقَبْضِ، وَالْقَتْلِ بِالْحَبْسِ، فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُلْجَأً مِنْ جِهَتِهِ إلَى الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، فَيَكُونُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ مِلْكَهُ، وَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ رَجَعَ الْمُكْرَهُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً إلَى الْقَتْلِ، وَلَا إلَى الْعِتْقِ، وَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ، وَالْعِتْقِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الشِّرَاءِ بِالْحَبْسِ، وَعَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا بِالْقَتْلِ، فَالْبَائِعِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُلْجَأً إلَى الْقَتْلِ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِيَدِهِ، وَذَلِكَ اسْتِرْدَادٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ، وَزِيَادَةٌ، فَلَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْتُلَ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَقَرَّرَ فِي مِلْكِهِ مِنْ حِينِ قَبْضِهِ حِينَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ عَمْدًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَ الْبَائِعُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالدَّفْعِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ، وَالْقَتْلِ بِالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ لِلْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَيَغْرَمُ الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَالْقَتْلِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ هُوَ الَّذِي، فَعَلَ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ اسْتِحْسَانًا لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَأَكْرَهَهُ عَلَى الْقَتْلِ، أَوْ الْعِتْقِ، أَوْ التَّدْبِيرِ بِالْحَبْسِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ الْعِتْقِ، أَوْ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 117 الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَنْسُوبٍ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، فَلِهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا مِنْهُ أَنْ لَوْ كَانَ طَائِعًا، وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ تَمَامَ الرِّضَا، فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ. . وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ غَيْرَ مُكْرَهٍ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنْ يُكْرِهَ الْمُشْتَرِيَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْنِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَيَقْبِضَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ عَمْدًا أَوْ يَعْتِقَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، فَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَة فِيهِ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَبَ الْمُكْرَهَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاسْتِرْدَادِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّمَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي فِيهِ آلَةً لَلْمُكْرَهِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِقَتْلٍ حَتَّى دَبَّرَ الْعَبْدَ، فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُهُ بِالتَّدْبِيرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِقِيمَتِهِ مُدَبَّرًا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ اُحْتُبِسَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً اسْتَخْدَمَهَا، وَاسْتَكْتَبَهَا، وَوَطِئَهَا، فَكَيْفُ يُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ مَجَّانًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ تَلِفَ بِالتَّدْبِيرِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُلْجَأً إلَى التَّدْبِيرِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْبَائِعِ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ بِالْحَبْسِ، وَالْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ كَانَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرِهَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْعِتْقِ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى التَّدْبِيرِ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي، وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ضَمَّنَهُ وَرَثَةَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِهِ حَصَلَ بِذَلِكَ التَّدْبِيرِ، وَقَدْ كَانَ مُلْجَأً إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْحَبْسِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ مَعَ الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ بِهِ الْعَبْدُ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَلَكِنَّهُ يُضَمِّنُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ تَلَفُ الْعَبْدِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ فُلَانٍ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ، أَوْ خَمْسُمِائَةٍ بِطَلَبٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَقَبِلَهُ مِنْهُ، فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبُولِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَلَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 118 ضَمَان عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْمُكْرَهِ أَمَّا عَلَى الْقَابِلِ، فَلِأَنَّهُ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا الْقَبُولِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ نِسْبَةَ التَّلَفِ إلَيْهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَلِأَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ مَا حَصَلَ بِهِ تَلَفُ الْعَبْدِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرَهَ شَيْئًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللِّصُّ أَنْ يُكْرِهَ هَذَا الرَّجُلَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقْبِضَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَمَاتَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرَهُ، وَلَا الْمُشْتَرِي لِلْمَوْلَى شَيْئًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَأَلَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى عِتْقِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَفَعَلَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْعِتْقِ بِغَيْرِ سُؤَالٍ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِتَلَفِ الْعَبْدِ، وَهُنَا قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الرِّضَا بِذَلِكَ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ الْمَوْلَى بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالدَّفْعِ، وَأَكْرَهَ الْآخَرَ يَوْمئِذٍ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَكْرَهَ الْمَوْلَى بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ الْمُشْتَرِيَ بِالْعِتْقِ، وَأَكْرَهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَفَعَلَا كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا، وَكَانَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْبَائِعِ إيَّاهُ بِالْعِتْقِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِالْحَبْسِ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ أَمْرِ الْبَائِعِ فِي رِضَاهُ بِهِ لِيُسْقِطَ حَقَّهُ فِي الضَّمَانِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا بِالْحَبْسِ حَتَّى يَأْذَنَ لِلْمُكْرَهِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ بَاطِلٌ، فَهَذَا كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ أَمْرِهِ بَقِيَ إكْرَاهُهُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الْعِتْقِ بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُودِعَ مَالَهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَأَوْدَعَهُ، فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُسْتَوْدَعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَوْدَعُ، وَلَا الْمُكْرَهُ شَيْئًا أَمَّا الْمُكْرَهُ، فَلِأَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الدَّفْعَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَوْدَعُ، فَلِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِتَسْلِيمِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ التَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً إلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْدَعَ مَالَهُ غَيْرَهُ عِنْدَ خَوْفِهِ مِنْ اللُّصُوصِ، أَوْ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَرِيقِ فِي دَارِهِ، وَهُنَاكَ لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَوْدَعَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي التَّسْلِيمِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِلْإِلْجَاءِ فَكَأَنَّ الْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الدَّفْعَ إلَيْهِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 119 مِنْهُمَا جَانِيًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ إنْ ضَمِنَ، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِكَوْنِ الدَّفْعِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَدِيعَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُودَعِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ؛ فَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَبْضِ طَائِعًا، وَبِهِ صَارَ ضَامِنًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَبْضِ عَامِلًا لِلْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ لِيُسَلِّمَهُ إلَى الْمُكْرَهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِتَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ رَجُلًا بِقَبْضِ الْمَالِ، فَأَمَرَ بِقَبْضِهِ، وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَالْقَابِضُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ مِنْهُ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يُبْطِلُ قَوْلَهُ فِي مِثْلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَبْطُلُ شِرَاؤُهُ، وَبَيْعُهُ، فَكَانَ كَالْقَابِضِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ هُوَ الدَّافِعُ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ لَا يُعْدِمُ فِعْلَهُ فِي الدَّفْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، فَفَعَلَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي مَاءٍ، أَوْ نَارٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَفَعَلَهُ الْمَأْمُورُ كَانَ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّارِحُ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيَهَبَهُ، أَوْ يَأْكُلَهُ، أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ لَغْوٌ، فَكَأَنَّهُ، فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِذْنِهِ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ كَانَ بَاطِلًا، فَإِنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ مَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ مِنْ أَقَاوِيلِهِ، وَالْإِذْنُ إنَّمَا كَانَ مُؤَثِّرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ الْإِذْنُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي هَذَا، فَقَالَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ دُونَ الْبَعْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقِصَاصُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلِهَذَا سَقَطَ الْقَوَدُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ بِوَعِيدِ التَّلَفِ مَوْجُودٌ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْإِكْرَاهُ بِوَعِيدِ التَّلَفِ مُؤَثِّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْإِتْلَافِ حَتَّى يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، ثُمَّ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالْعَفْوُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ صَحِيحٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَافِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، فَالْعَفْوُ هُنَاكَ صَحِيحٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 120 عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَتْلَفُ بِهِ مِمَّا هُوَ مُتَقَوِّمٌ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ قُلْنَا: يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِالْقَتْلِ غَيْرَ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يُوَكَّلَ بِبَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، فَفَعَلَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ قَوْلٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الْمُوَكِّلِ بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّوْكِيلِ، ثُمَّ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ، وَالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا بِعِتْقِ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ مُكْرَهٍ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا عَنْ مَوْلَاهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ، وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ. وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا أَعْتَقَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهُ دُونَ الَّذِي وَلِيَ الْعِتْقَ أَمَّا نُفُوذُ الْعِتْقِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَلِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ، وَحُصُولُ التَّلَفِ بِالْأَمْرِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَوْلَى عِنْدَ إعْتَاقِ الْمَأْمُورِ لَا بِإِعْتَاقِ الْمَأْمُورِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْأَمْرُ كَانَ إعْتَاقُهُ لَغْوًا، وَبِهِ فَارَقَ الْقَتْلَ، وَالْقَطْعَ، فَالْإِتْلَافُ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ أَمْرٌ فَإِذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ طَائِعًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَقْتُلَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَقَتَلَهُ كَانَ الْقَاتِلُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا، فَأَعْتَقَهُ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِدُونِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي لَغْوٌ، فَيَكُونُ إعْتَاقُ الْمَأْمُورِ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي، وَالْقَتْلُ بِدُونِ أَمْر الْمُشْتَرِي يَتَحَقَّقُ، فَيَكُونُ مُوجِبَ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عِتْقِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى، وَيَضْمَنُ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَلْجَأَهُ إلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا، فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَا سَبَقَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ إكْرَاهٍ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ نَحْوُ الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْقَتْلِ، وَاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 121 فَإِكْرَاهُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَيْدٍ، أَوْ حَبْسٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، وَإِنَّمَا الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْرَارِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَالْوَكَالَةُ بِذَلِكَ، وَالْأَمْرُ بِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا كُلِّهِ تَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا، ثُمَّ، أَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَالًا، فَدَفَعَهُ إلَى عَبْدٍ آخَرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِي، ثُمَّ يَرْجِعَ مَوْلَاهُ بِمَا ضَمِنَ فِي رَقَبَةِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِمُولَى الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَ دَفْعِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ أَمْرِهِ، وَلَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَ دَفْعِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ التَّلْجِئَةِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُلْجِئَ إلَيْكَ عَبْدِي هَذَا فَأَبِيعُكَهُ تَلْجِئَةً، وَبَاطِلًا، وَلَيْسَ بِشِرَاءٍ، وَاجِبٍ لِشَيْءِ أَخَافُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ وَحَضَرَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ شُهُودٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَدْ بِعْتُكَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ قَدْ فَعَلْت، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّلْجِئَةَ بِمَنْزِلَةِ الْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ وَالْهَازِلُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْحُكْمِ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ، وَيَكُونُ مُخْتَارًا لِلسَّبَبِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ السَّبَبُ، فَالْمُلْجِئُ أَيْضًا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلسَّبَبِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ السَّبَبُ، وَلَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْحُكْمِ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ. فَلَا يَمْنَعُ الْهَزْلُ، وَالتَّلْجِئَةُ انْعِقَادَ السَّبَبِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ لِمَا لَمْ يَنْعَدِمْ هَذَا الْوَصْفُ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَبَدًا يَكُونُ مُنْعَقِدًا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ لَهُمَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: إنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا يَعْزِلَانِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ وَهَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُوَاضَعَةِ، وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ فَاسِخًا لِلْعَقْدِ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهَا، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَفِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ: وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَمَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجِبُ - حَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 122 إلْغَاءُ كَلَامِهِمَا مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا مَا تَوَاضَعَا إلَّا لِيَبْنِيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا خِلَافُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْعَلْ بِنَاءً كَانَ اسْتِعْمَالُهُمَا بِتِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ اسْتِعْمَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةَ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ فِي الْإِطْلَاقِ، فَيُرَجَّحُ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جُعِلَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْرَضْنَا عَنْهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخُصُومَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لِمَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّا نَجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَصَدَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَكِنْ بِإِعْرَاضِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ بَنَيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ أَجَازَ الْعَقْدَ أَحَدُهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي اللُّزُومَ فَدَعْوَى الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ كَدَعْوَاهُ شَرْطَ الْخِيَارِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَيْنَهُمَا، فَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهَا بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الْمُوَاضَعَةُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، ثُمَّ اخْتِلَافُهُمَا فِي بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَصْلِ الْمُوَاضَعَةِ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، وَجَحَدَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِلْآخَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ مِنْهُمَا، فَالْمُجِيزُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ، وَلَكِنَّ خِيَارَ الْآخَرِ يَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ: قَدْ أَجَزْتُ أَنَا أَيْضًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا خِيَارَهُمَا، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ هَزْلًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفِيدًا حُكْمُهُ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمَا لِلْحُكْمِ، وَقَدْ اخْتَارَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزَاهُ حَتَّى قَبَضَ الْمُشْتَرِي، فَأَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا شَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ - وَهُوَ الْمِلْكُ - غَيْرُ ثَابِتٍ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِمَا لِلْحُكْمِ بِالْقَصْدِ إلَى الْهَزْلِ، فَتَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِبَارِهِمَا لَهُ، وَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَالْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ لِلْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ، فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِهِ تَلْجِئَةً، فَبَاعَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 123 رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك تَزَوُّجًا هَزْلًا، فَقَالَتْ نَعَمْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَلِيُّ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثَةٌ جِدّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلهنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ»، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تَمْتَنِعُ صِحَّتُهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْعَ الْهَازِلِ مُنْعَقِدٌ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ بِالْهَزْلِ لَوْ كَانَ يَنْعَدِمُ اخْتِيَارُ أَصْلِ السَّبَبِ لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ مِنْ الْهَازِلِ، وَأَصْلُ السَّبَبِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ، أَوْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ عَلَى مَالِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ، وَقَدْ تَوَاضَعَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ هَزْلٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ، وَهَذَا عِنْدَنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَيَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ عَلَى وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي جَانِبِهِمَا مَالٌ، فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْدِ الَّذِي هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَعِنْدَهُمَا شَرْطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، أَوْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَأَمَّا الْمَالُ، فَتَبَعٌ فِيهِ، وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ الْهَزْلُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْقِسْمَةُ، وَالْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حُكْمِ التَّلْجِئَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّقْضِ بَعْدَ وُقُوعِهَا كَالْبَيْعِ. وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُجِيزَا أَنَّهُمَا تَبَايَعَا هَذَا الْعَبْدِ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: قَدْ كُنْت بِعْتُك عَبْدِي يَوْمَ كَذَا بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ: صَدَقْت، فَلَيْسَ هَذَا بِبَيْعٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا، فَبِالْإِخْبَارِ بِهِ لَا يَصِيرُ حَقًّا، وَلَوْ أَجْمَعَا عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ، وَبِالْإِقْرَارِ كَاذِبًا لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ صَنَعَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ نِكَاحٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَلَا عَتَاقًا، وَلَا نِكَاحًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَلَا عَتَاقًا، وَلَا نِكَاحًا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يُصَدِّقُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَنَّهُ كَذِبَ إذَا أَقَرَّ طَائِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ، وَالْإِنْشَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَكَذَلِكَ مَعَ التَّلْجِئَةِ، وَلَوْ كَانَ قَبْضُ الْعَبْدِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا قَالَ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ مِنْ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَرُدَّ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ إقْرَارَهُمَا كَانَ كَذِبًا، وَأَنَّ إعْتَاقَهُ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 124 فَكَانَ لَغْوًا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ، وَوَلِيِّهَا، أَوْ قَالَ لِوَلِيِّهَا دُونَهَا: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتُسَمِّي أَلْفَيْنِ، وَالْمَهْرُ أَلْفٌ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: نَعَمْ أَفْعَلُ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ عَلَانِيَةً كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَالصَّدَاقُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إذَا تَصَادَقَا عَلَى مَا قَالَا فِي السِّرِّ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَالْمَالُ مَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ وَصَارَ ذِكْرُ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي النِّكَاحِ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَا فِي الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَالِ، وَالْعَتَاقِ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي قُصِدَ الْهَزْلُ بِهَا يَكُونُ ذِكْرُهَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا قُصِدَ الْهَزْلُ بِهِ فَذِكْرُهُ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِدُونِ ذِكْرِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى فِيهِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجِبُ الْمُضِيُّ إلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَعِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْمُوَاضَعَةِ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ. وَلَوْ قَالَ: الْمَهْرُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلَكِنَّا نُسْمِعُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ وَمَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ الْمَالُ، وَمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمُسَمَّى لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ، فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ قَدْ سَمَّيَا فِي الْعَقْدِ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَزِيَادَةً؛ لِأَنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْأَلْفَيْنِ تَسْمِيَةُ الْأَلْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا فِي السِّرِّ: عَلَى أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَمْ يُسِمَّ لَهَا مَهْرًا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَقَدْنَا عَلَى مَا تَرَاضَيْنَا بِهِ مِنْ الْمَهْرِ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْمِيَةِ مِنْهُمَا لِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَسْمَعُوا مَا سَمَّيَا مِنْ مِقْدَارِ الْمَهْرِ، وَلَكِنْ سَمَاعُ الشُّهُودِ التَّسْمِيَةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْبَيْعِ، فَقَالُوا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 125 الْبَيْعُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَّا أَنَّا نُظْهِرُ بَيْعًا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَا، وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا بَيْنَهُمَا، فَبَقِيَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، وَهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ هُنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعْقَدَ الْمُسَمَّى فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ أَعْمَالُ الْهَزْلِ فِي الْمُسَمَّى مَعَ تَصْحِيحِ أَصْلِ الْعَقْدِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ: يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مُبْطِلًا الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، فَإِنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ تَبَايَعَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ بِخِلَافِ جِنْسِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْمُوَاضَعَةِ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَالْعَقْدُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ جَدَّدَ الْعَقْدَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ الثَّانِي. فَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ الدَّرَاهِمِ فِي الْعَقْدِ بَعْدَ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ دَنَانِيرَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَكُلُّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ كَالْقِسْمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْخُلْعِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِجُعَلٍ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَجِبُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، فَلَوْ أَعْمَلْنَا الْهَزْلَ فِي الْمُسَمَّى لَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِغَيْرِ جُعْلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا الرِّضَا بِذَلِكَ، فَلِهَذَا صَحَّحْنَا ذَلِكَ بِالْمُسَمَّى فِيهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَهُنَاكَ، وَإِنْ جَعَلْنَا مَا سَمَّيَا فِي الْعَقْدِ هَزْلًا انْعَقَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مُوَاضَعَةً بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْمُوَاضَعَةَ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِقَصْدِهِمَا الْجِدَّ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ مَا سَمَّيْنَا مِنْ الْبَدَلِ فِيهِ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا الْمَالَ عَلَيْهَا، وَجَعَلْنَا الطَّلَاقَ ثَابِتًا. ، وَلَوْ كَانُوا عَقَدُوا الْبَيْعَ، أَوْ الطَّلَاقَ، أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النِّكَاحَ، أَوْ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا كَانُوا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ ثُمَّ أَظْهَرُوا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَادَّعَى أَحَدُهُمْ السِّرَّ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَى الْآخَرُ الْعَلَانِيَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ، وَأُبْطِلَ السِّرُّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْعَلَانِيَةِ دَافِعَةٌ لِدَعْوَى مُدَّعِي السِّرَّ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ إقْدَامُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ دَعْوَى شَيْءٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ فِي السِّرِّ، أَوْ يُجْعَلُ هَذَا الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي السِّرِّ إنَّا نَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِسَمْعِهِ، فَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ الَّذِي زَوَّجَ، أَوْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 126 الَّذِي وَلِيَ مَا ادَّعَى مِنْ الْعَلَانِيَةِ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ أَصْحَابِ السِّرِّ، وَأُبْطِلَتْ الْعَلَانِيَةُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعَلَانِيَةِ، أَوْ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ، وَبِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْعَلَانِيَةِ كَانَ تَحْقِيقًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي السِّرِّ لَا، فَسْخًا لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا كَانَ مَهْرُ سِرٍّ، وَمَهْرُ عَلَانِيَةٍ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْلَمَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الَّذِي فِي السِّرِّ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَلَوْ قَالَ فِي السِّرِّ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ بَيْعًا عَلَانِيَةً، وَهُوَ بَيْعُ تَلْجِئَةٍ وَبَاطِلٌ، ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا قَالَ عَلَانِيَةً وَصَاحِبُهُ حَاضِرٌ: إنَّا قَدْ قُلْنَا كَذَا، وَكَذَا فِي السِّرِّ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَجْعَلَهُ بَيْعًا صَحِيحًا، وَصَاحِبُهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ تَبَايَعَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَيْنَهُمَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِبْطَالِهَا، ثُمَّ إقْدَامُ الْآخَرُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَ مِنْهُ إبْطَالَ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّمَا تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْآخَرِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلُزُومِهِ حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِمُنَاقَضَةِ صَاحِبِ الْمُوَاضَعَةِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْبَائِعُ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ رَاضِيًا بِلُزُومِ الْعَقْدِ حِينَ أَبْطَلَ الْمُوَاضَعَةَ وَالْمُشْتَرِي صَارَ رَاضِيًا بِذَلِكَ حِينَ أَعْتَقَهُ، فَيَتِمُّ الْبَيْعُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا، ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ خِيَارَهُ، وَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَهُ لَمْ يَجُزْ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَقْدِ كَانَ خِيَارُهُ بَاقِيًا، وَبَقَاءُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ. وَلَا يَجُوزُ الْعِتْقُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، فَلَا يَنْفُذُ، وَإِنْ حَدَثَ لَهُ الْمِلْكُ مِنْ بَعْدُ وَإِنْ بَلَغَ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مَقَالَةَ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، فَرَضِيَ بِالْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ بِنَقْضِ الْمُوَاضَعَةِ صَارَ رَاضِيًا وَالْآخَرُ بِالرِّضَا بَعْدَ مَا بَلَغَهُ مَقَالَةُ صَاحِبِهِ صَارَ رَاضِيًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ حَتَّى نَقَضَ صَاحِبُهُ الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَا لَمْ يَتَقَابَضَا فَنَقْضُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لِلَّذِي الْمُفْسِدُ مِنْ قِبَلِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ ذَلِكَ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ، وَالْأَمْرُ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ رِضَا الْبَائِعِ قَدْ تَمَّ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُفْسِدُ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوَاضَعَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَالْأَمْرُ إلَى الْبَائِعِ إنْ شَاءَ نَقَضَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ، وَلَيْسَ إلَى الْمُشْتَرِي مِنْ النَّقْضِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الرِّضَا قَدْ تَمَّ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي قَالَا فِي السِّرِّ نُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ بَيْعًا هَزْلًا، وَبَاطِلًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 127 وَنُظْهِرَ أَنَّهُ غَيْرُ هَزْلٍ، وَلَا بَاطِلٍ، وَنُظْهِرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا إنْ كُنَّا جَعَلْنَا فِي السِّرِّ هَزْلًا، فَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ، وَجَعَلْنَاهُ جِدًّا جَائِزًا، وَأَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَا عَلَانِيَةً: قَدْ أَبْطَلْنَا كُلَّ هَزْلٍ فِي هَذَا الْبَيْعِ، وَنَحْنُ نَجْعَلُهُ بَيْعًا صَحِيحًا فَتَبَايَعَا عَلَى هَذَا، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا جَوَازَ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدِّعِي جَوَازَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَمَا كَانَ مِنْهُمَا فِي الْعَلَانِيَةِ مِنْ إبْطَالِ كُلِّ هَزْلٍ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَا تَوَاضُعًا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ لَا إبْطَالٍ لَهُ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بَاطِلًا وَإِنْ كَانَا قَالَا فِي الْعَلَانِيَةِ: إنَّا قُلْنَا فِي السِّرِّ نُرِيدُ أَنْ نَتَبَايَعَ فِي الْعَلَانِيَةِ بَيْعًا بَاطِلًا هَزْلًا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ فَقَالَ صَاحِبُهُ: صَدَقْت، ثُمَّ تَبَايَعَا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْإِبْطَالَ تَحْقِيقٌ مِنْهُمَا لِلْمُضِيِّ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ: إنَّا كُنَّا قُلْنَا فِي السِّرِّ أَنَّا نَتَبَايَعُ بَيْعًا هَزْلًا، وَقُلْنَا فِي السِّرِّ أَيْضًا أَنَّا نُظْهِرُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا كُلَّ قَوْلٍ قُلْنَاهُ فِي السِّرِّ مِنْ هَذَا، وَأَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا جَمِيعَ مَا قُلْنَا فِي السِّرِّ مِنْ هَذَا، وَأَنَّا بِعْنَا بَيْعًا صَحِيحًا، فَإِذَا قَالَا هَذَا، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ يَسْمَعُ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا وَضَعَا جَمِيعَ مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ، ثُمَّ أَبْطَلَا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِبْطَالِ لَيْسَ يَمْضِي عَلَى مُوَافَقَةِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ إبْطَالٌ لِذَلِكَ، وَتِلْكَ الْمُوَاضَعَةُ مَا كَانَتْ لَازِمَةً فَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِمَا، فَأَمَّا إذَا، وَضَعَا إبْطَالَ مَا قَالَا فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً، وَأَبْطَلَا ذَلِكَ، فَهَذَا مُضِيٌّ مِنْهُمَا عَلَى مُوَافَقَةِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ لَا مُصَحِّحٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعُهْدَةِ فِي الْإِكْرَاهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ سِجْنٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَ اللِّصِّ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ مُنْعَقِدٌ، وَالْمَالِكُ رَاضٍ بِنُفُوذِهِ، وَالْمُشْتَرِي رَاضٍ بِهِ أَيْضًا، وَالثَّمَنُ لِلِّصِّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ وَعُهْدَةُ الْبَيْعِ لَا تَلْزَمُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَى الْعَاقِدِ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَالِكُ كَمَا لَوْ أَمَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ صَبِيًّا بِبَيْعِ مَتَاعِهِ، فَبَاعَهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ، فَإِذَا طَلَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي دَفْعُهُ إلَيْهِ، وَتَكُونُ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 128 لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَأُعْتِقَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. . وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ رَجُلٍ، فَاشْتَرَاهُ كَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُكْرَهِ الرَّاضِي بِذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ لَهُ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي الْمَتَاعَ مِنْ الْبَائِعِ، فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ حِينَ طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ طَائِعًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ حِينَ طَلَبَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَبَعْدَ مَا لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ بِرِضَاهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْبَى كَمَا لَوْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، فَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ حَتَّى أَكْرَهَهُ لِصٌّ عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ سِجْنٍ، فَدَفَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُعْدِمُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْقَبْضِ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِأَنَّ إسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَيُرْجِعَ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ تَسْلِيمٍ مِنْهُ، وَتَصَرُّفٍ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ، وَالْهِبَةَ يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ، فَيُنْتَقَضُ لِقِيَامِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ، وَيُنَاقِضَهُ الرَّهْنَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ، وَهَبَهُ، وَسَلَّمَهُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَنْ يُبْطِلَ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَ اسْتِرْدَادِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْمُكْرَهِ مِنْ غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ قَدْ كَفَرْتُ بِاَللَّهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّا، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ قَدْ خَطَرَ عَلَى بَالِي أَنْ أَقُولَ لَهُمْ قَدْ كَفَرْت بِاَللَّهِ أُرِيدُ بِهِ الْخَبَرَ عَمَّا مَضَى، فَقُلْت ذَلِكَ أُرِيدُ بِهِ الْخَبَرَ، وَالْكَذِبَ، وَلَمْ أَكُنْ، فَعَلْت ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَهَذَا مَخْرَجٌ لَهُ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ جِنَايَةٌ صُورَةً مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ الصِّدْقِ بِاللِّسَانِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 129 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً مَعْنًى لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ، وَلَكِنْ لَا يُظْهِرُهُ لِلنَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرَ هَذَا الْمُرَادَ لِلنَّاسِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ تَبِنْ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَقَدْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالْإِقْرَارِ فَكَانَ طَائِعًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ طَائِعًا بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا تَبِينُ مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ: خَطَرَ عَلَى بَالِي ذَلِكَ ثُمَّ قُلْت قَدْ كَفَرْت بِاَللَّهِ أُرِيدُ بِهِ مَا طَلَبَ مِنِّي الْمُكْرِهُ، وَلَمْ أُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي، فَهَذَا كَافِرٌ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا خَطَرَ هَذَا بِبَالِهِ قَدْ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ بِهَذَا التَّمَكُّنِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنْشَاءُ الْكُفْرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَجْرَى كَلِمَةَ الشِّرْكِ طَائِعًا عَلَى قَصْدِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ لَا عَلَى قَصْدِهِ، وَلَكِنْ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كَفَرَ، وَفِي هَذَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَلِكَ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي شَيْءٌ، وَلَكِنِّي كَفَرْت بِاَللَّهِ كُفْرًا مُسْتَقْبَلًا، وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَتْ الضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةً وَمَتَى تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ لِهَذَا الصَّلِيبِ، وَمَعْنَاهُ يَسْجُدُ لِهَذَا الصَّلِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ تَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا بَعْدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ فَصَلَّى يُرِيدُ الصَّلَاةَ لِلصَّلِيبِ كَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا خَطَرَ بِبَالِهِ قَدْ وَجَدَ الْمَخْرَجَ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَافِرًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كُفْرٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنْ أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ رَجُلٌ مِنْ النَّصَّارِي يُقَال لَهُ مُحَمَّدٌ فَإِنْ شَتَمَ مُحَمَّدًا، وَيُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ وَقَدْ أَظْرَفَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَال لَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا قَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ فِي حَقِّ النَّصَارَى أَهْوَنُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ تَرَكَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، وَشَتَمَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَلْبُهُ كَارِهٌ لِذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا خَطَرَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 130 بِبَالِهِ قَدْ، وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنْ شَتَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ كَفَرَ، وَكَرَاهَتُهُ بِقَلْبِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا. وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ، فَخَطَر عَلَى بَالِهِ أَنْ يَقُولَ هُوَ حُرٌّ بِهِ يُرِيدُ الْخَبَرَ، وَالْكَذِبَ، وَسِعَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ إذَا كَانَ بَاطِلًا، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ حَقًّا، وَلَكِنْ إنْ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ أَيْ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى إنْشَاءِ الْعِتْقِ، وَالْإِقْرَارُ غَيْرُ الْإِنْشَاءِ وَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ مَمْلُوكِهِ طَائِعًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ مُغْرِيًا الْمُكْرِهَ عَلَى الضَّمَانِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ كَيْفَ تُكْرِهُونَنِي عَلَى الْعِتْقِ، وَهُوَ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوْ قَدْ أَعْتَقْته أَمْسِ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ خَطَرَ ذَلِكَ عَلَى بَالِي فَقُلْت هُوَ حُرٌّ أُرِيدُ بِهِ عِتْقًا مُسْتَقْبِلًا كَانَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لَوْ فَعَلَهُ عَتَقَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا، فَإِتْلَافُ الْمَالِيَّةِ بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ فِي الْقَضَاءِ مُتَحَقِّقٌ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ كَانَ الْإِتْلَافُ فِي الْقَضَاءِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، ثُمَّ قَدْ أَنْشَأَ عِتْقًا مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ يَجْعَلُ الْمَمْلُوكَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا، أَوْلَمَ يَكُنْ مُكْرَهًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَتَى بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ قِيمَتَهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، فَإِنْ قَالَ الْمُكْرِهُ: قَدْ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ الْخَبَرُ بِالْكَذِبِ، فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ يُرِيدُ الْخَبَرَ الْكَذِبَ، فَأَنَا أُرِيدُ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ مُكْرِهًا إيَّاهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَرَدْت الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ أَوْ أَنَّهَا طَالِقٌ عَنْ وَثَاقٍ، أَوْ قَيْدٍ، وَسِعَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ، فَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ طَائِعًا فِيمَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى قَصْدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: قَدْ كَانَ خَطَرَ بِبَالِي أَنْ أَقُولَ هِيَ طَالِقٌ أُرِيدُ الْخَبَرَ، أَوْ إنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَمْ أَقُلْ ذَلِكَ، وَقُلْت هِيَ طَالِقٌ أُرِيد طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا كَانَتْ طَالِقًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ فِي الْقَضَاءِ سَوَاءٌ قَصَدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَهُوَ، وَمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. وَإِنْ قَالَ الْمُكْرَهُ إنَّمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 131 قَالَ ذَلِكَ يُرِيدُ الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ، أَوْ طَلَاقًا مِنْ قَيْدٍ، فَطَلَبَ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتَحْلَفَ لَهُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ. [بَابُ زِيَادَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، وَلَمْ يَدْخُلُ بِهَا، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالثَّلَاثِ لِانْتِفَاءِ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحِلِّ، وَأَمَّا بِوَاحِدَةٍ، فَتَحْصُلُ إزَالَةُ الْمِلْكِ مَعَ بَقَاءِ الْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، وَهُمَا غَيْرَانِ، فَكَانَ هُوَ طَائِعًا فِيمَا أَتَى بِهِ، وَلِأَنَّ مَا زَادَ مِمَّا لَمْ يُكْرِهُوهُ عَلَيْهِ يُبَيِّنُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ اثْنَتَيْنِ، وَهُمَا كَافِيَتَانِ فِي الْبَيْنُونَةِ وَتَأَكُّدِ نِصْفُ الصَّدَاقِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، أَوْ قِيلَ: لَهُ طَلِّقْهَا اثْنَتَيْنِ، وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي غَرِمَ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ بَعْضَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّلَفُ الْحَاصِلُ بِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ إذَا، أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ هَذَا بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ فَيَقْطَعَ يَدَهُ، فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ ثَنَّى، فَقَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي طَائِعٌ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ عَلَى الْمُثَنَّى بِقَتْلِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا فَفَعَلَ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى بِعَصًا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَضَرَبَهُ مِائَةً، وَعَشَرَةً، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلًا بِالْعَصَا، وَالسَّوْطِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. فَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ بِالسَّيْفِ مُكْرَهًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ خَمْسِينَ سَوْطًا، فَمَاتَ، فَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْمَحَلِّ الْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ، وَغَيْرُ الْمُوجِبِ، فَسَقَطَ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ وَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 132 فِعْلَهُ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً، وَلَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ. وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ كُلَّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَمَا أَتَى بِهِ غَيْرُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِيرُ الْإِتْلَافُ بِهِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ كُلَّهُ كَانَ بَاطِلًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْإِكْرَاهُ عَلَى إعْتَاقِ النِّصْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إعْتَاقِ الْكُلِّ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ، فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَالْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ طَائِعًا، وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكْرِهِ بِنِصْفِ قِيمَتهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ ثَابِتًا فِيمَا أَتَى بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ نَفَذَ، فَإِنْ نَوَى مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيَرْجِعَ الْمُكْرِهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ صَارَ كَالْمُعْتَقِ لِذَلِكَ النِّصْفِ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إفْسَادٌ لِمِلْكِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَةَ النِّصْفِ الْآخَرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ النِّصْفَ بِالضَّمَانِ، فَيَسْتَسْعِيه فِيهِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّصْفَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْمُكْرَهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ قَالُوا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ مُوسِرًا عَلَى قِيَاسِ ضَمَانِ الْمُعْتِقِ. وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أُكْرِهَتْ امْرَأَتُهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا كَمَا سَأَلَتْ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ بَاطِلٌ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ سُؤَالِهَا فِي الرِّضَا مِنْهَا بِالْفُرْقَةِ، وَإِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَوْ سَأَلَتْهُ تَطْلِيقَتَيْنِ بَائِنَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ غَيْرَ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا زَادَتْ مِنْ عِنْدِهَا كَافٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ بَائِنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّة لَمْ تَرِثْهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا إلَيْهِمَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلٍ يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً إذَا شَاءَ، وَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ فِي يَدِ ذَلِكَ الرَّجُلِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى فَفَعَلَ فَطَلَّقَهَا الرَّجُلُ التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 133 الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ فِي هَذِهِ طَائِعًا كَافٍ لِتَقْرِيرِ الصَّدَاقِ بِهِ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا الزَّوْجُ إلَيْهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا دُونَ الْأُخْرَى رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إذَا شِئْت، ثُمَّ أُكْرِهَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ قَبْلَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إذَا شِئْت، فَقَالَ لَهَا ذَلِكَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا غَرِمَ لَهَا الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أَكْرَهَهُ عَلَيْهَا خَاصَّةً، وَثَبَتَ ذَلِكَ رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُسَلِّطَةُ، فَأَكْرَهْته عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا لِلْإِلْجَاءِ، فَكَأَنَّ الْفُرْقَةَ، وَقَعَتْ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْرَهَتْهُ بِالْحَبْسِ أَخَذَتْهُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهَا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِكْرَاهِ، فَبَقِيَتْ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا. وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ الزَّوْجَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَوَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَيْهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْمَهْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ الزَّوْجُ مِنْ عِنْدِهِ طَائِعًا كَافٍ فِي تَقْرِيرِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَفَعَلَ وَقَبِلَتْ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نِصْفِ مَهْرِهَا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَدَّى الزَّوْجُ إلَيْهَا الْفَضْلَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهِ الْأَلْفُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ إذْ الْخُلْعُ يُوجِبُ بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ قَوْلَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَفِيهِ شُبْهَةُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ لَفْظِ الْخُلْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الطَّلَاقِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا قَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ بَدَلَ الطَّلَاقِ، وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ مَهْرِهَا فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَيُؤَدِّي الزَّوْجُ إلَيْهَا الْفَضْلَ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَلَوْ عَتَقَتْ أَمَةٌ لَهَا زَوْجٌ حُرٌّ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَأُكْرِهَتْ بِوَعِيدِ تَلَفٍ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 134 أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا بَطَلَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ عَنْ زَوْجِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا، فَالشَّرْعُ مَلَّكَهَا أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِكْرَاهِ إبْطَالُ شَيْءٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلْمَوْلَى دُونَهَا، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْمَهْرِ عَادَ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الصَّدَاقُ لِمَوْلَاهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَ الزَّوْجَ عَلَى شَيْءٍ، وَلِأَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمُكْرِهُ مِلْكَ الْبُضْعِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدِ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارِ فِي الْإِكْرَاهِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا قَالَ اللِّصُّ الْغَالِبُ لِرَجُلٍ لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَعْتِقَنَّ عَبْدَك، أَوْ لَتُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَك هَذِهِ أَيُّهُمَا شِئْت، فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ، فَمَا بَاشَرَ نَافِذٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَهُ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَيَغْرَمُ الْمُكْرَهُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ بِمُبَاشَرَتِهِ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا، فَالْإِتْلَافُ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ الْتَزَمَ الْأَكْثَرَ، فَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ لَهُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِ الْأَقَلِّ، فَيَكُونُ هُوَ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ غَيْرَ مُضْطَرٍّ، وَرُجُوعُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِسَبَبِ الِاضْطِرَارِ، فَيَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ لِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرِهُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فَالْمَهْرُ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ مِلْكَ الْبُضْعِ، وَذَلِكَ لَا يُضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ، فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي إيقَاعِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ، وَالْإِلْجَاءِ. وَلَوْ قِيلَ: لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَكْفُرَنَّ بِاَللَّهِ أَوْ تَقْتُلُ هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، فَإِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ مِنْهُ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِحَالٍ، فَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 135 لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ نَعَمْ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّا الْأَوَّل، فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ»، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ، وَلِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جِنَايَةً مَعْنًى عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ صُورَةً، وَمَعْنًى سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْلَى، فَإِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ. فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِعِ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ فِيهِ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الشِّرْكِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ مُضَمَّنَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ يُتَحَرَّزُ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ سَبَبُهَا خَفِيٌّ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ لَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْقَوَدَ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَالِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّقَى لَهُ شُبْهَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَضُرُّهُ الْعِلْمُ فِيهَا، وَيَخْلُصُ فِي جَهْلِهِ. وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ خَمْسُ مَسَائِلَ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَاب الْوِكَالَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ قَصَدَ مُغَايَظَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَيُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ لِمَا يَكُونُ فِيهِ كَبْتٌ، وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيُقَاتِلَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَفِي نَفْسِ الْغَيْرِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَوَدِ عَنْهُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَقْتُلَن هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ لِمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 136 بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا، فَالْتَحَقَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ الطَّعَامِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ وَقَتَلَ الْمُسْلِمَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ حِينَ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْمُبَاحِ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْقَوَدُ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْفُرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي هَذَا بِوَعِيدٍ أَوْ سِجْنٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَكْفُرَ، فَإِنْ، فَعَلَ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَطْشَانَ الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَالْمُكْرَهُ بِالْحَبْسِ قِيَاسُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَحَقَّقَ بِهِ الْإِلْجَاءُ صَارَ شُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحًا لَهُ، فَإِذَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فِي الْحُرِّ، وَفِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِوَطْئِهَا؛ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ مُعْتَبَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَعْضِ، وَحَدُّ الْخَمْرِ ضَعِيفٌ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ حَدٌّ فَيَمُوت، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِآرَائِنَا، فَلِهَذَا صَارَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْإِكْرَاهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ هَذَا الْحَدِّ خَاصَّةً وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ قُتِلَ بِهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ وَلَا فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ، فَلَا يَصِيرُ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاتِلِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، أَوْ تَزْنِي بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَصْنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ صَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَهُوَ آثَمُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَحِلُّ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ، وَقِيلَ بِاَلَّذِي قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ ظُلْمًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ زَنَى كَمَا أَمَرَهُ، فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ، وَبِالِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ الْآخَرُ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ. ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 137 قَوْلِهِ الْآخَرِ: وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ إذَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ كَانَ آلَةً فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَكَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُكْرِهُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا كَانَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِحُكْمِهِ، فَهُوَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا هُنَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْفِعْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا دَفْعًا لِلْقَتْلِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا دَفْعًا لِلْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ، فَهَذَا مِثْلُهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَحَقَّقَتْ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ حِينَ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَانَ الْمُكْرَهُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْزِيرِ، وَالْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَلِذَلِكَ إذَا أَقْدَمَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَمْدًا كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ إذَا قَتَلَ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِهِ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ أُخِذَ بِحَدِّ الزِّنَا إنْ زَنَى، وَبِالْقَوَدِ إنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ بِهِ، فَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي مُوجِبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ دُرِئَ عَنْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ يَسَعُهَا التَّمْكِينُ، وَلَا تَأْثَمُ فِيهِ، فَإِذَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا، فَرَّقْنَا بَيْنَ جَانِبِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مُبَاشِرٌ لِفِعْلِ الزِّنَا مُسْتَعْمِلٌ لِلْآلَةِ فِي ذَلِكَ، وَحُرْمَةُ الزِّنَا حُرْمَةٌ تَامَّةٌ، فَلَا تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِحُرْمَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَهِيَ مَفْعُولٌ بِهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَاشَرَةٌ لِلْفِعْلِ إنَّمَا الَّذِي مِنْهَا التَّمْكِينُ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الِامْتِنَاعِ إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ لِوُجُوبِ دَفْعِ الْمُبَاشَرَةِ لِلزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، فَلَا يَأْثَمُ فِي تَرْكِ الِامْتِنَاعِ كَمَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ أَوْ تَأْخُذَ مَالَهُ، فَتَسْتَهْلِكَهُ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلُّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ، أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 138 عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَيُبَاحُ إتْلَافُ الْمَالِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَيَصِيرُ هُوَ فِي ذَلِكَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ قُتِلَ بِهِ الَّذِي، وَلِيَ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَلَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ إثْمٌ، وَلَا ضَمَانَ كَانَ هُوَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِعِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَالَةُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْحُرْمَةِ شَرْعًا، وَهُنَا بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ مَالِ الْغَيْرِ، وَاسْتِهْلَاكَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ظُلْمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ يُبَاحُ لَهُ الْإِتْلَافُ شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ، فَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ جُبْرَانًا لِحَقِّهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الظُّلْمِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَأْخُذْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي تَرْكِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَدُلَّنَا عَلَى مَالِك، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، فَإِذَا كَانَ لَوْ قُتِلَ فِي دَفْعِهِ عَنْ مَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، فَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى قُتِلَ قَالَ: وَلَوْ أَثِمَ فِي هَذَا فِي مَالِهِ، أَوْ مَالِ غَيْرِهِ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ أَشَارَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ قُتِلَ دَفْعًا عَنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ كَانَ شَهِيدًا، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا فِي دَفْعِ مَا لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَكَ، أَوْ لَتُعْتِقَنَّ عَبْدَك، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَأْثَمْ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ دَفْعًا عَنْ مِلْكٍ مُحْتَرَمٍ لَهُ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُحْتَرَمٌ لِمِلْكِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاحْتِرَامُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ أَظْهَرُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ آثِمًا، وَإِنْ كَانَ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا وَقِيمَتُهُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ يَسْتَهْلِكَ مَالَهُ هَذَا، وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ لَمْ تَنْكَشِفْ بِالْإِكْرَاهِ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ قَائِمَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ السَّفَهِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ مِنْ السَّفَهِ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي إتْلَافِ الْمَالِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِيمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 139 دُونَ نَفْسِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك، وَنَفْسَك دُونَ دِينِك»، فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ، وَلَمْ يَسْتَهْلِكْ الْمَالَ، فَهُوَ آثِمٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ، فَبَقِيَ فِعْلُهُ فِي الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوَدٌ، وَلَا قِيمَةٌ. . وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ هَذَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ الْآخَرِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُكْرِهَ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ هُنَا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَتْلِ، فَحُكْمُ الْقَتْلِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ كَهُوَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ، وَاذَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ صَارَ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَالْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي الْأَدْنَى وَالْأَدْنَى اسْتِهْلَاكُ الْمَالِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَبَقِيَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ مُخْتَارًا، وَهُنَا حُرْمَةُ نَفْسِ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ، أَوْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا، فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْأَطْرَافُ مُحْتَرَمَةٌ كَالنُّفُوسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدَ نَفْسِهِ، فَبِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزَنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِ عَبْدِهِ فَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي قَطْعِ طَرَفِهِ، فَوْقَ الضَّرَرِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَافَ عَلَى عَبْدِهِ الْهَلَاكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِكْرَاهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ مِائَةَ سَوْطٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَحَدِهِمَا، فَمَاتَ مِنْهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ إنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ أَقَلُّهُمَا قِيمَةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِيَّةِ الضَّرُورَةُ لِلْمَوْلَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ، فَهُوَ أَقْدَمَ عَلَى ضَرْبِ أَكْثَرِهِمَا قِيمَةً كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ مُوجِبُ الْفِعْلِ الْقَوَدُ يَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْقِيمَةِ، وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ، وَهُنَا مُوجِبُهُ الْمَالُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِمَا، فَاتَ عَنْ الْمَوْلَى، وَبَيْنَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ تَفَاوُتٌ وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ لَهُ الضَّرُورَةُ فِي أَقَلِّهِمَا، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي كُلِّهِ بِوَعِيدِ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 140 مَالَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ تَنَاوَلَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي بَقَاءِ الْحُرْمَةِ، وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَحَقِّ الْمَالِكِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ صَاحِبِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ حَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي الْغِنَى، فَالْأَخْذُ مِنْ الْفَقِيرِ يُلْحِقُ بِهِ هَمًّا عَظِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَخْذِ مِنْ الْغَنِيِّ فِي مُبَاسَطَةِ الشَّرْعِ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْفُقَرَاءِ يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ، وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ، وَالنَّفَقَةِ، فَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا، فَإِنْ كَانَا فِي الْغِنَى عَنْهُ سَوَاءٌ قُلْنَا: خُذْ أَقَلَّهُمَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ، وَفِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَالِ مِنْ التَّسَاهُلِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ، وَقِيلَ إنْ اسْتَوَيَا فِي الْمِقْدَارِ قُلْنَا خُذْ مَالَ أَحْسَنِهِمَا خُلُقًا، وَأَظْهَرِهِمَا جُودًا، وَسَمَاحَةً؛ لِأَنَّ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ يَتَفَاوَتُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَسُوءِ خُلُقِهِ، وَبُخْلِهِ وُجُودِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ، وَاسْتَهْلَكَهُ كَمَا أَمَرَهُ غَرِمَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا تَنَاوَلَهُ صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَهُمَا، فَاسْتَهْلَكَهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ مِقْدَارَ أَقَلِّهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ فِيهِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَهْلِكُ الْفَضْلَ لِصَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ لَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ هَذَا الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الْآخَرِ، أَوْ مَالَ صَاحِبِ الْعَبْدِ، فَيَطْرَحَهُ فِي مُهْلِكَةٍ، أَوْ يُعْطِيَهُ إنْسَانًا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِيهِ، وَغُرْمُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَتْلَ هُنَا إذْ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْقَتْلِ، وَحُرْمَةِ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ طَائِعًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ الْأَدَبُ، وَالْحَبْسُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ. وَلَوْ كَانَ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَالَ، وَيَضْرِبَ الْعَبْدَ مِائَةَ سَوْطٍ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ يَخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكَ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ، فَإِنْ ضَرَبَهُ، فَمَاتَ مِنْهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّخْلِيصِ بِدُونِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُ إثْمٌ، وَلَا ضَمَانٌ، وَالْقَتْلُ بِالسَّوْطِ يَكُونُ سَبَبُهُ الْعَمْدُ، فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ، وَالْمَالُ لِلْمُكْرَهِ لَمْ يَسَعْهُ ضَرْبُ عَبْدِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَهْلِكُ مَالَهُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنْ ضَرَبَ عَبْدَهُ، فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 141 لَمَّا كَانَ يَتَخَلَّصُ بِدُونِ الضَّرْبِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ طَائِعًا، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ طَائِعًا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ الَّذِي أَكْرَهَهُ، أَوْ يَقْتُلَ ابْنَهُ، أَوْ قَالَ اُقْتُلْ عَبْدَك هَذَا الْآخَرَ، أَوْ اُقْتُلْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا هَدَّدَهُ بِقَتْلِ مَنْ سَمَّاهُ دُونَ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُلْجَأً بِهِ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ قَتَلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ سِوَى الْأَدَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ آلَةً لِلْمُكْرِهِ حِينَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ لَا يَخَافُ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ، وَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَسْتَهْلِكَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ يَقْتُلُونَ أَبَاهُ، فَاسْتَهْلَكَهُ ضُمِّنَّهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُلْجَأً إلَى هَذَا الْفِعْلِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ قَتْلَ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْقَتْلِ، أَوْ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ اقْتَصَرَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ هَهُنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ، وَكَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ، أَوْ لِنَفْسِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَخْذِ طَعَامِ الْغَيْرِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَقْوَى عَلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَدْفَعَهُ إلَى الْمُضْطَرِّ، فَيَأْكُلَهُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَأْخُذُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ شَرْعًا دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُضْطَرِّ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَسَعُهُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِلْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى قَتَلَ الرَّجُلُ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَكُونُ لِلْقَوِيِّ فِي فَضْلِ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حُرْمَةَ أَبِيهِ فِي حَقِّهِ لَا تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ، وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَفِي حَقِّ أَبِيهِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ اسْتِهْلَاكَهُ ثُمَّ يَغْرَمَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ أَبِيهِ بِالْغُرْمِ الْيَسِيرِ يَعْنِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي، فَصْلِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ غُرْمِهِ وَيَدَعَ أَبَاهُ يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّاسِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْتِزَامِ الْقَلِيلِ لِإِحْيَاءِ أَبِيهِ يُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ، وَالْعُقُوقُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 142 حَرَامٌ. ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَحَبُّ لِلْقَوِيِّ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ لَا يُجْحِفُ بِهِ غُرْمَهُ، وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ يُجْحَفُ بِهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ، وَلَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ رَجُلًا وَهُوَ يَقْوَى عَلَى مَنْعِهِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى نَفْسِ الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ، فَضْلِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا بِهَذَا الدَّفْعِ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِ الْقَاصِدِ، فَالْقَاصِدُ بَاغٍ قَدْ أُبْطِلَ دَمُهُ بِمَا صَنَعَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا قَصَدَ قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ، فَقَتَلَهُ هَذَا الَّذِي يَقْوَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي فَضْلِ الْمَال الْقَوِيِّ، فَيَلْتَزِمُ الْغُرْمَ بِمَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ لِلْمُضْطَرِّ لَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ، وَالْقِيمَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ انْتَهَوْا إلَى بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ، فَمَنَعَ الْمُضْطَرَّ مِنْ الشُّرْبِ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْوَ عَلَيْهِمْ، وَقَوِيَ صَاحِبُهُ عَلَى قِتَالِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَاءَ، فَيَسْقِيَهُ إيَّاهُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ أَتَى عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ، فَحَقُّ السُّقْيَا فِي مَاءِ الْبِئْرِ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَلَوْ قَوِيَ الْمُضْطَرُّ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ مِنْ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ رُفَقَائِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا يَفْعَلُهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْقَاصِدِ إلَى قَتْلِ الْغَيْرِ، فَأَمَّا فِي الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقٌّ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَيْهِ إنْ مَنَعُوهُ، فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ الْغُرْمِ بِأَخْذِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْبِئْرِ لَوْ بَاعُوهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ. . وَلَوْ بَذَلُوا لَهُ الطَّعَامَ، أَوْ الشَّرَابَ بِثَمَنِ مِثْلِ مَا يُشْتَرَى بِهِ مِثْلُهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَاتِلِ نَفْسِهِ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ مَعَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وَلِأَنَّهُ مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ عِنْدَ عَرْضِهِمْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ، وَاجِدًا لِلثَّمَنِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا، أَوْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَلَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا، أَوْ أَبَاك، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ، فَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يُهَدَّدُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِمَا هُدِّدَ بِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهُ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ رَاضِيًا عَادَةً بِقَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ، ثُمَّ هَذَا يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَالْإِكْرَاهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 143 بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَيْعِ، وَالْإِقْرَارَ، وَالْهِبَةَ وَالْعُقُودَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِقَتْلِ ابْنِهِ وَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادَةِ فِي حُكْمِ الْإِحْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَنَحْبِسَنَّ أَبَاك فِي السِّجْنِ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ، فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدَّدْ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ، وَحَبْسُ ابْنِهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ وَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَهِبَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ كُلُّهُ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ ابْنِهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحَزَنِ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ، أَوْ أَكْثَرُ فَالْوَلَدُ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْبَسُ، وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا، وَيُحْبَسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ، فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ يُعْدِمُ تَمَامَ الرِّضَا، فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ فِيمَا يُوجَبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينًا قَدْ حَنِثَ فِيهَا، فَكَفَّرَ بِعِتْقٍ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِسْقَاطِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَذَلِكَ مِنْ بَاب الْحِسْبَةِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَأَنَّهُ يُعَوِّضُهُ مَا جَبَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِسُقُوطِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَلِأَنَّ الْفِعْلَ فِي التَّكْفِيرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ مُكَفِّرٍ يُقْدِمُ عَلَى التَّكْفِيرِ خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَهُ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ هَذَا عَنْهَا، فَفَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا الْكَفَالَةُ لَا إبْطَالُ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَالْمُكْرِهُ فِي إكْرَاهِهِ عَلَى إعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ فِي الْإِتْلَافِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَإِذَا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِانْعِدَامِ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ حِينَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَتَّى بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ دُونَ الْمُكْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ، فَتَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ نُظِرَ فِيمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 144 تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرِّقَابِ، وَمِنْ أَدْنَى الْكِسْوَةِ الَّتِي تُجْزِئُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرَهُ شَيْئًا لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي التَّكْفِيرِ، فَيَكُونُ الْمُكْرَهُ مُكْتَسِبًا سَبَبَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ غَيْرِهَا ضَمِنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْبَنُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ، وَلَا هَذَا النَّوْعِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ شَرْعًا بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِاخْتِيَارِهِ أَقَلَّهَا، فَيَكُونُ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَضْمَنُهُ لَهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَاسِدٌ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَالتَّمْلِيكُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ. فَإِنْ أَمْضَاهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَمْ يَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ، فَإِمْضَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا، فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهُ إذَا أَكْرَهَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ ضَمَانٌ، وَيُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ عَيْنٌ فِي الظِّهَارِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيهِ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُ فِي الْقَدْرِ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْعَيْنِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إعْتَاقُ هَذَا بِعَيْنِهِ، وَلِلنَّاسِ فِي الْإِعْتَاقِ أَغْرَاضٌ فَيَلْزَمُ الْمُكْرِهَ الضَّمَانُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِذَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ بَدَنَةٍ، أَوْ هَدْيٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ حَجٍّ، فَأُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ، فَفَعَلَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْمُكْرِهُ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيُجْزِئُ عَنْ الرَّجُلِ مَا أَمْضَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُكْرِهَ مُحْتَسِبٌ حِينَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَمْرِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَالْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. فَإِنْ، أَوْجَبَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ، فَأُكْرِهَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ جَازَ مَا صُنِعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا الْتَزَمَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا كَمَا الْتَزَمَهُ، فَإِذَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَيْنِ، وَالْمُكْرِهُ مَا زَادَ فِي أَمْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِمَا رَجُلٌ حَتَّى فَعَلَهُمَا أَجْزَأَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمَقْصُودُهُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 145 أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ، وَاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنْ عَلَيْهِ يَقْضِي بِأَدَائِهِ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ هَدْيٌ أُهْدِيهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَأُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ بَعِيرًا، أَوْ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا وَيَتَصَدَّقَ بِهَا، فَفَعَلَ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا، وَلَا تَجْزِيهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِلَفْظِ الْهَدْيِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَعِيرُ، وَلَا الْبَقَرَةُ، وَلَكِنْ يُخْرِجُ عَنْهُ بِالشَّاةِ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْبَدَنَةِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِحُصُولِ الْعِوَضِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْهَدْيِ فِي الْقِيمَةِ، وَغَيْرِهَا فَأَمْضَاهُ لَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا. . وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بِقَتْلٍ، فَأَعْتَقَهُ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَالْمُكْرِهُ فِي أَمْرٍ بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ، وَأَجْزَأَ عَنْ الْمُعْتِقِ لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: إنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَضْمَنُ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يُجْزِي إنَّمَا أَخَذَ جَوَابَهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، وَعَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الْجَوَابِ الْمُخْتَارِ هَذِهِ لَا تُشْبِهُ تِلْكَ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِالْمَنْذُورِ مِنْ أَعْيَانِ مِلْكِهِ، فَيَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ لِلْأَدْنَى عَنْ نَذْرِهِ، فَأَمَّا فِي الْكَفَّارَةِ، فَالْوَاجِبُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ أَعْيَانَ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْكَفَّارَاتِ قَدْ يُخْرِجُ بِغَيْرِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاقِ، وَفِي النَّذْرِ لَا يُخْرِجُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يَكُونُ الْإِعْتَاقُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، أَوْ مَرْوِيٍّ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِأَنَّهُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي الْقِيمَةِ، وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَلْزَمَهُ بِالْإِكْرَاهِ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِنَذْرِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ نُظِرَ إلَى فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَغَرِمَ الْمُكْرِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَقَضُ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ بَعْضَهُ صَارَ نَاقِضًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ، فَلِهَذَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَالتَّصَدُّقُ بِالثَّوْبِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي ثَوْبًا كَمَا لَزِمَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَنَحْنُ، وَإِنْ، أَوْجَبْنَا ضَمَانَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَقَعَ الْمُؤَدَّى فِي مِقْدَارِ الْأَدْنَى مُجْزِيًا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 146 عَنْ الْوَاجِبِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي التَّصَدُّقِ تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ مَكَانَ الثَّوْبِ وَعِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْقِيمَةِ يَظْهَرُ الْفَضْلُ، وَفِي الْهَدَايَا، وَالضَّحَايَا وَعِتْقِ الرِّقَابِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْقِيمَةِ، فَلِهَذَا قُلْنَا إذَا صَارَ ضَامِنًا لِلْبَعْضِ ضَمِنَ الْكُلَّ. وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِطَعَامِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَخْرُجُ عَنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَجْوِيزُهَا عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى النَّاذِرِ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى، فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ طَعَامَهُ مِثْلَ طَعَامِهِ، وَعَلَى النَّاذِرِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَوَجَبَ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ وَسَطٌ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ غَرِمَ الْمُكْرِهُ، فَضْلَ قِيمَتِهَا عَلَى قِيمَةِ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي إلْزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ فِي مِقْدَارِ الْوَسَطِ، فَلَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، فَيُمْكِنُ تَجْوِيزُ بَعْضِهِ عَنْ كُلِّهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ، فَبَلَغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ، فَلِهَذَا لَا تُوجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ إلَّا ضَمَانُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِكْرَاهِ فِي الْوِكَالَةِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ، أَوْ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ التَّوْكِيلُ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ مُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِمَا أَيْضًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ مُعَبِّرٌ، فَعِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْإِيقَاعِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جَعْلِ الْأَمْرِ فِي يَدِ الْغَيْرِ عَنْ إكْرَاهٍ، فَالتَّوْكِيلُ قِيَاسُهُ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَكْرَهَهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ، وَدَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَالْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ طَائِعًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ طَائِعًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 147 الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ، وَالتَّسْلِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ، وَالضَّمَانِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمَكِيلَ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ، وَعَلَى الْوَكِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ الثَّمَنُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ، وَنَقَضَ مَا ضَمِنَهُ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ، وَقَدْ نَقَضَ الْمُكْرَهُ الْبَيْعَ بِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْغَصْبَ يَعْنِي أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ هُنَاكَ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَهُنَا بَاعَهُ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ عَنْ الْمُكْرَهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ رَضِيَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ نُفُوذَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمُشْتَرَى بِالْقَبْضِ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْوَكِيلِ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يُسَلِّمُ لَهُ الثَّمَنَ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْوَكِيلُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ بِالْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ كَانَ طَائِعًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُكْرِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ لِلْمُكْرِهِ: لَا أَضْمَنُ لَك شَيْئًا؛ لِأَنَّك أَنْتَ الَّذِي أَمَرْته أَنْ يَدْفَعَ إلَيَّ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُكْرَهٍ عَلَى قَبْضِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبِضَهُ، وَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقَبْضِهِ، وَتَسْلِيمِهِ. فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ حِينَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ: أَنَا أُجِيزُ الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنِي، وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ مُكْرَهَيْنِ بِالْقَتْلِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ طَائِعًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ عَلَى الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مُكْرَهِينَ بِالْقَتْلِ. فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 148 مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْمُكْرَهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرِهُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْآلَةِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُتْلِفِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآلَةِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ بِالْحَبْسِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْوَكِيلِ فِي التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ بِمَا دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْتِزَامَهُ الْعُهْدَةَ بِالْعَقْدِ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ إذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي وَتَكُونُ الْخُصُومَةُ فِيهِ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ صَبِيًّا مَحْجُورًا بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ خَاصَمَ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يُخَاصِمُهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الضَّمَانِ حِين اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْعَقْدِ بِالْحَبْسِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ فِي التَّسْلِيمِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَفِعْلُ الْوَكِيلِ، وَالْمُشْتَرِي مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي ضَمِنَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَالْبَيْعِ، وَالدَّفْعِ حِينَ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، وَالْمُكْرِهُ بِالضَّمَانِ يَصِيرُ كَالْمَالِكِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ، وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْهُ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَتَهُ إنْ شَاءَ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِنَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمَا كَانَ حُكْمُ قَبْضِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ، فَمَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ لِيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمُكْرِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا الْوَكِيلَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 149 يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْغَيْرِ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُكْرَهًا هُنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبْض مُكْرَهٌ بِالْقَتْلِ، فَلَا يَكُونُ قَبْضُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَقْلَ الْفِعْلِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ قُلْنَا الْمَالِكُ إنَّمَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاَلَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا إكْرَاهُهُ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ، فَأَمَّا إكْرَاهُهُ الْمُشْتَرِيَ، فَهُوَ سَبَبٌ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُشْتَرِي، فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ، وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ، وَتَفْوِيتُ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ لَا بِاعْتِبَارِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ، فَوَّتَ يَدَهُ حِينَ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَأَيُّهُمَا ضُمِّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ أَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْوَكِيلَ، فَلِأَنَّهُ مَا كَانَ عَامِلًا فِي الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْمُكْرِهِ، وَفِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ فَلِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، وَدَفْعِهِ حِينَ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَبْضِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ. وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ هَذَا لِهَذَا الرَّجُلِ، فَوَكَّلَهُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَهُ الْوَكِيلُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَمَاتَ فِي يَدِهِ، وَالْوَكِيلُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ، فَيَكُونُ ضَامِنًا كَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ إنْ شَاءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَرَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا فِي، فَصْلِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ إنْ شَاءَ الْوَكِيلَ وَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمَّنَهُ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَنْفِيذَ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ مُتَمَلِّكٌ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 150 [بَابُ مَا يَسَعُ الرَّجُلَ فِي الْإِكْرَاهِ وَمَا لَا يَسَعُهُ.] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ التَّحْرِيمِ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْخَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتْلَفُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً، أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ الْخَمْرُ، وَالتَّحَرُّز عَنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفْنَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ، وَفَائِدَةٌ: وَذَكَرَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ، أَوْ دَمٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا دَلِيلُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِدُخُولِ الدَّارِ لِمَنْ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ حَتَّى اشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ بِهَذَا اللَّفْظِ قَالُوا: مُرَادُهُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أَيْ دَاخِلُهَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ الْجَزَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَكِنْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ الْمَشِيئَةِ، وَقَطْعَ الْقَوْلِ بِالْعَذَابِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ دَلِيلُهُ خَفِيٌّ، فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْجُورٌ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ الْمُجْبَرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ، وَحَدِيثُ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ مَعْرُوفٌ، وَأَشَارَ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُخْصَةٌ لَهُ، وَالِامْتِنَاعُ هُوَ الْعَزِيمَةُ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ وَسِعَهُ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ إعْزَازُ الدِّينِ، وَغَيْظُ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ لَهُ: لَئِنْ صَلَّيْت لَأَقْتُلَنَّكَ فَخَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ، فَقَامَ، وَصَلَّى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ فَلَمَّا صَلَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ صَوْمُ رَمَضَانَ لَوْ قِيلَ لَهُ: وَهُوَ مُقِيمٌ لَئِنْ لَمْ تُفْطِرْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 151 لَنَقْتُلَنَّكَ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَفِيمَا، فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ أَفْطَرَ وَسِعَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ آثِمًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا، فَصَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتُفْطِرَنَّ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِمَا أَيَّامُهُ كَلَيَالِيِهِ، وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَيَكُونُ فِي الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، فَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وَالْفِطْرُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُفْطِرًا بِالتَّنَاوُلِ مُكْرَهًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مُفْطِرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْخَاطِئَ، وَالْمُكْرَهَ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَقَالَ: الْمُكْرَهُ مَسْلُوبُ الْفِعْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ الْحَاصِلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرَهُ إنَّمَا يُجْعَلُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ، وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْغَيْرِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ فِعْلِهِ فِي حَقِّ الْإِفْطَارِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ كَانَ صَائِمًا لَمْ يَصِرْ مُفْطِرًا بِهَذَا، فَلَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ رَجَعَ إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَبِهِ فَارَقَ حُكْمَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَا إلَى تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ. . وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُعْطِينِيهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَقِيَامُ الْحُرْمَةِ، وَالتَّقَوِّي حَقًّا لِلْمَالِكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَزِيمَةُ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ، فَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَقَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِعَيْنِهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، فَكَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَزِيمَةٌ، وَإِبَاحَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ رُخْصَةٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 152 عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْقَاتِلِ الْكَفَّارَةُ أَمَّا الْآمِرُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ بِالْإِلْجَاءِ التَّامِّ، فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ، فَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْلَى، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ فَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ، فَجِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إنَّ فِي حَقِّ الْآثِمِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ جِنَايَةً عَلَى حَقِّ دِينِهِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْآثِمِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْآمِرِ هُنَا شَيْءٌ، فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْقَاتِلِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ جَمِيعًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ أَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَلِأَنَّهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، فَكَفَّارَةُ الصَّيْدِ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَصْلُ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَبِهِ فَارَقَ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نِسْبَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى الْمُكْرَهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِعْلٌ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ، وَهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَعْتَمِدُ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ، فَيَجُوزُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعَلَى الْمُكْرِهِ بِالتَّسْبِيبِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا هُنَاكَ، فَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَفِي الْقِيَاسِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِعْلٌ، وَلَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ أَمَّا عَلَى الْقَاتِلِ، فَلَا يَشْكُلُ، وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 153 وَالْإِشَارَةِ، فَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُكْرِه؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، فَلَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ عِنْدَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكِرٍ، فَخَافَ إنْ، فَعَلَ أَنْ يُقْتَلَ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَإِنْ فَعَلَ، فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَرْضٌ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] الْآيَةَ، وَالتَّرْكُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ رُخْصَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا. وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ غَيْرِ، فَائِدَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ قَوْمًا مِنْ، فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكِرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ الْإِسْلَامَ فَزَجْرُهُ إيَّاهُمْ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ اعْتِقَادًا لَا مَحَالَةَ، وَأُولَئِكَ غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ، فَالشَّرْطُ أَنْ يَنْكِيَ فِعْلُهُ فِيهِمْ حِسًّا، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ. وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ فَعَلَ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَسَدَ إحْرَامُهُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الَّذِي أَكْرَهَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ وَلَوْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ مُحْرِمَةٌ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَا، وَسِعَهَا أَنْ تُمُكِّنَ مِنْ نَفْسِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ جَانِبِهَا، وَجَانِبِ الرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْإِثْمِ، فَأَمَّا فَسَادُ الْإِحْرَامِ فَلَا فَرْقَ حَتَّى يَفْسُدَ إحْرَامُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينهَا مِنْ نَفْسِهَا جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهَا، وَهِيَ لَا تَصْلُحْ فِي ذَلِكَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى تُقْتَلَ، فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا، وَالْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَهِيَ فِي الِامْتِنَاعِ تَتَمَسَّكُ بِالْعَزِيمَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمهُ كَفَّارَةً يَفِي بِهَا، وَلَوْ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا الْتَزَمَهُ، وَكُلُّ أَمْرٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَحَلَّ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَغَيْرِهَا، وَالْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ آثِمٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 154 يَجِئْ فِيهِ إحْلَالٌ إلَّا أَنْ فِيهِ رُخْصَةً، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى قُتِلَ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا إغْرَارٌ بِالدِّينِ، وَلَيْسَ فِي الْأَوَّلِ إغْرَارٌ بِالدِّينِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُحْرِمًا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، وَإِلَى ذَبْحِ صَيْدٍ حَلَّ لَهُ عِنْدَنَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَبْحُ الصَّيْدِ مَا دَامَ يَجِدُ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالصَّيْدُ جَاءَ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ جُمْلَةً، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً أَيْضًا، فَيَصِيرُ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ ذَبْحِ الصَّيْدِ وَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَإِذَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحِلُّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِأَنَّهُ قَصَدَ الدَّفْعَ عَنْ مَالِهِ وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَلِأَنَّ فِي دَلَالَتِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يَدُلَّهُمْ وَإِنْ دَلَّهُمْ حَتَّى أَخَذُوهُ ضَمِنُوا لَهُ لِأَنَّ بِدَلَالَتِهِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا غَاصِبِينَ لِمَالِهِ مُتْلِفِينَ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ اللِّعَانِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ بَاطِلٌ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا قَذْفًا وَجَحَدَهُ الرَّجُلُ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَزُكُّوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ أَنْ يُلَاعِنَهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَالَ لَمْ أَقْذِفْهَا وَقَدْ شَهِدُوا عَلَيَّ بِالزُّورِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُهُ عَلَى اللِّعَانِ وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَلَا يَضْرِبُهُ الْحَدَّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ فَإِنْ حَبَسَهُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُلَاعِنَ وَقَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا قَالَهُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ أَيْضًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ اللِّعَانَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا وَيُبْطِلُ الْفُرْقَةَ وَيَرُدُّهَا إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا يُقَالُ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِكْرَاهٍ مِنْ الْقَاضِي إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَ هَذَا الرَّجُلَ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ قِيلَ ذَاكَ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 155 قُلْنَا هَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ظَاهِرًا فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَحْبِسْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَلَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك بِالْقَذْفِ وَقَضَيْت عَلَيْك بِاللِّعَانِ فَالْتَعَنَ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى هَذَا فَالْتَعَنَ الرَّجُلُ كَمَا لَوْ وَصَفْت لَك وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يُمْضِي اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَتَمْضِي الْفُرْقَةُ وَيَجْعَلُهَا بَائِنًا مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا لَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أُشْهِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَنَّى لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بَعْدَ مَا جَحَدَ ثُمَّ الْتَعَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيقًا صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك أَنَّك قَذَفْت هَذَا الرَّجُلَ بِالزِّنَا وَقَدْ قَضَيْت عَلَيْك بِالْحَدِّ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَجَلٌ قَدْ قَذَفْته بِالزِّنَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ ضَرَبَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَذْفِ وَلَوْ قَالَ قَدْ شَهِدَ عَلَيْك الشُّهُودُ بِالْقَذْفِ فَلَتُقِرَّنَّ بِذَلِكَ أَوْ لَأَحْبِسَنَّكَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَذَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ اللِّعَانِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَلَكِنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِزُورِ فَالْتَعْنَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْحَجْرِ] [الْفَصْل الْأَوَّل الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ] كِتَابُ الْحَجْرِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءٌ: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجَا، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولُو الرَّأْيِ، وَالنُّهَى وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا وَاعْتِبَارًا بِالْحَجْرِ الثَّابِتِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ بَعْدَمَا صَارَ مُمَيِّزًا بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ اسْتِدْلَالًا بِالنُّصُوصِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 156 بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا دُونَ حَالِ الصَّبِيِّ فَالصَّبِيُّ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّبِيِّ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا، فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَمُرَادُهُ إذَا بَلَغَ عَاقِلًا، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَعَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ، وَعَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ إذَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِمْ، فَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ يُفْسِدُ أَبْدَانَهُمْ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ يُتْلِفُ أَمْوَالَهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. فَإِنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَرَأَى هَذَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالْآخَرُ الْحَجْرُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، وَالسَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَالْحِجَى، وَأَصْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ شَرْعًا، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ مَذْمُومٌ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَلِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ بِسَبَبِ السَّفَهِ، وَلَا يُجْعَلُ السَّفَهُ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ، وَلَا فِي إهْدَارِ عِبَارَتِهِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِسَبَبِ السَّفَهِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لِلْفَسْخِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ، وَالْعُقُوبَةِ لَهُ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، فَالْفَاسِقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا وُجِدَ شَرْطٌ، تُعَدَّى وِلَايَتُهُ لِغَيْرِهِ أَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، فَقَدْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ، وَأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5] إلَى أَنْ قَالَ {وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] وَهَذَا أَيْضًا تَنْصِيصٌ عَلَى إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُ وَرُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِآمَّةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ، فَسَأَلَ أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 157 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا بَايَعْت، فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ فِي الْمَالِ مَشْرُوعًا عُرْفًا لَمَا سَأَلَ أَهْلُهُ ذَلِكَ، وَلَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى دَارًا لِلضِّيَافَةِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ وَلَأَسْأَلَنَّهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَاءَ إلَى الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْرَكَنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرَغْبَتِهِ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي تَصَرُّفِهِ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَغَلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ، وَاهْتَمَّ لِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاحْتَالَ الزُّبَيْرُ لِدَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالشَّرِكَةِ، فَيَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِهَذَا السَّبَبِ. وَإِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهَا كَانَ لَهَا رِبَاعٌ، فَهَمَّتْ بِبَيْعِ رِبَاعِهَا لِتَتَصَدَّق بِالثَّمَنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا، أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ، فَيَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ مِنْهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّبْذِيرُ، وَالْإِسْرَافُ هُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْلَى، وَتَحْقِيقُهُ، وَهُوَ أَنَّ لِلصَّبِيِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: حَالُ عَدَمِ الْعَقْلِ، وَحَالُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بَعْدَ مَا صَارَ مُمَيِّزًا وَحَالُ السَّفَهِ، وَالتَّبْذِيرِ بَعْدَ مَا كَمُلَ عَقْلُهُ بِأَنْ قَارَبَ أَوَانَ بُلُوغِهِ، ثُمَّ عَدَمُ الْعَقْلِ، وَنُقْصَانِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يُسَاوِي عَدَمَ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفَهُ، وَالْبُلُوغُ يُسَاوِي السَّفَهَ قَبْلَ الْبُلُوغِ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْلِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ، وَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا، فَهُوَ مُسْتَحِقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ نَظَرًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حَقِّ مَنْعِ الْمَالِ يُجْعَلُ السَّفَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَالسَّفَهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ، وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَكَانَ مَنْعُ الْمَالِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يُقْطَعْ لِسَانُهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِذَا كَانَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ، وَتَكَلُّفٍ عَلَى الْمَوْلَى فِي حِفْظِ مَالِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 158 إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، فَقَدْ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي مَالِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ، فَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَغَيْرِهَا، فَفِي هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَسْبَابُهَا شَرْعًا سَفِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَفِيهٍ، وَارْتِكَابُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ اخْتِيَارًا نَوْعٌ مِنْ السَّفَهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ مَعَ السَّفَهِ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إتْلَافِ جَمِيعِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ، فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا نُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا، وَالْكَلَامُ الْمُمَيِّزُ بِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالْمَحَلِّيَّةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ خَالِصَ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْمَالِكِ وَبَعْدَ مَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ، وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْحُرِّيَّةِ، وَالْخِطَابُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يَظْهَرُ نُقْصَانُ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ، وَيُتَابِعُ هَوَاهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ، وَكَوْنُهُ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ أَنَّ زَوَالَ الْحَجْرِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي الْأَصْلِ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ إلَّا أَنَّ اعْتِدَالَ الْحَالِ بَاطِنًا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ تُقَامُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ مَقَامَهَا كَمَا أُقِيمَ السَّيْرُ الْمَدِيدُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ، وَأُقِيمَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ ذَلِكَ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ السَّفَهُ، وَالتَّبْذِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى، فَدَارَ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ أَوْلَى. ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 159 إنَّمَا يَكُونُ شَرْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِبَادِ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي بَاطِنِهِ حَقِيقَةً فَلَمَّا أُقِيمَ هُنَاكَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَإِقَامَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي هَذَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى، وَمَا قَالَا مِنْ أَنَّ النَّظَرَ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ يُضَعَّفُ بِهَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ النَّظَرِ جَائِزٌ لَا، وَاجِبٌ كَمَا فِي الْعَفْوِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَمِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لَهُ بِطَرِيقٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرِ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ إلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ فَيَكُونُ الضَّرَرُ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ النَّظَرِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي الْحَجْرِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ إنَّمَا بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُ، فَعَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ، وَالْعُقُوبَاتُ مَشْرُوعَةٌ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ. فَأَمَّا إهْدَارُ الْقَوْلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَمَعْنًى حُكْمِيٌّ، وَالْعُقُوبَاتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ كَالْحُدُودِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ، فَإِنَّهُ مُتَمِّمٌ لِحَدِّهِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ تَابِعًا لِمَا هُوَ حِسِّيٌّ، وَهُوَ إقَامَةُ الْجَلْدِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، وَلَئِنْ ثَبَتَ جَوَازُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَةِ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِمَنْعِ الْمَالِ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَلَا نَصَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ الْبِكْرَ إذَا كَانَتْ مَخُوفًا عَلَيْهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الْبَالِغُ إذَا كَانَ مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ، وَبِأَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى لِمَعْنَى الزَّجْرِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ نِكَاحًا، أَوْ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ أَثَرَ الصَّبِيِّ يَبْقَى زَمَانًا فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ، وَلِهَذَا لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ مِنْهُ، وَبِأَنْ جَعَلَ أَثَرَ الصَّبِيِّ كَنَفْسِ الصِّبَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَعْمَلُ عَمَلَ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ دُونَ إيفَاءِ الْحِلِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ نِعْمَةٌ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 160 زَائِدَةٌ، وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ فِي التَّصَرُّفَاتِ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ، فَبَانَ جَوَازُ إلْحَاقِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ بِهِ فِي مَنْعِ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ لِتَوَفُّرِ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِ بِتَفْوِيتِ النِّعْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، فَأَمَّا الْآيَاتُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّفِيهِ الصَّغِيرُ، أَوْ الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِفَّةِ وَذَلِكَ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى {، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282] أَيْ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {، وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5] إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصِّبْيَانَ أَوْ الْمَجَانِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ يَقُولُ: إنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ تَزُولُ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، أَوْ الْمُرَادُ نَهْيُ الْأَزْوَاجِ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَى النِّسَاءِ، وَجَعْلُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِنَّ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ، وَأَمْوَالَكُمْ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ أَمْوَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا النَّهْيِ لَا أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَحَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ دَلِيلُنَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرُ لِقَوْلِهِ لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ وَمَنْ يَجْعَلُ السَّفَهَ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ لَا يَقُولُ يُطْلَقُ عَنْهُ الْحَجْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا لَازِمًا. وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلِيلُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَعَ سُؤَالِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي التَّصَرُّفِ غَبْنٌ ذَلِكَ حِينَ رَغِبَ الزُّبَيْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشَّرِكَةِ وَلَكِنَّ الْمُبَذِّرَ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاحِدًا عَلَى وَجْهٍ لَا غَبْنَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ فَلَمَّا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلُنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمَا اسْتَجَازَتْ هَذَا الْحَلِفُ مِنْ نَفْسِهَا مُجَازَةً عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الزُّبَيْرَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْنَى مَالُهَا، فَتُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، فَتَصِيرُ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ يَعُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ نِسْبَةِ السَّفَهِ، وَالتَّبْذِيرِ إلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَمْ يُدْفَعْ الْمَالُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَ خَمْسًا، وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمْ بِمُطَاوَلَةِ الْمُدَّةِ وَلِأَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 161 السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] مَعْنَاهُ أَنْ يَكْبَرُوا يَلْزَمُكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، وَالْمُرَادُ الْبَالِغِينَ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، وَهُوَ مَا تَلَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ، فَيَكُونُ بَيْنَ إنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ، وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ، فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ بِمَا تَلَوْنَا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَمُدَّةُ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً فَقَدَّرْنَا مُدَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ التَّمْيِيزِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَثَرَ الصِّبَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَبَقَاءُ أَثَرِ الصِّبَا كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، وَلَا يَبْقَى أَثَرُ الصِّبَا بَعْدَ مَا بَلَغَ خَمْسًا، وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ مُنْذُ بَلَغَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ أَوْ مَنْعُ الْمَالَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً يَتَحَقَّقُ، فَإِذَا أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إنَّ وَلَدَهُ أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَ سَنَةٍ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ صَارَ الْأَوَّلُ جَدًّا بَعْدَ تَمَامِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا، فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ انْقَطَعَ مِنْهُ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَصَارَ وَلَدُهُ قَاضِيًا، أَوْ نَافِلَتُهُ أَكَانَ يُحْجَرُ عَلَى أَبِيهِ وَحْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ الْمَالُ مِنْهُ هَذَا قَبِيحٌ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ، أَوْ الِامْتِحَانِ، فَإِنْ كَانَ مَنْعُ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةٌ بِإِصَابَةِ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ، وَالْعُقُوبَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ رُشْدًا مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ، وَلَا تَعُمُّ، فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] الجزء: 24 ¦ الصفحة: 162 أَيْ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَحْصُلُ لَهُ رُشْدٌ مَا وَفِي الْكِتَابِ تَتَبُّعٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ مَعَ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ وَفِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ زَمَانًا ثُمَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْفَرْقَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّفِيهُ إنَّمَا يُبَذِّرُ مَالَهُ عَادَةً فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مِنْ اتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ، أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ، فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ حَجْرِ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظِيرَ الْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ وَالْحَجْرُ يَثْبُتُ بِهِمَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَهِ وَقَاسَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالرِّقِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ، فَفِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي: تَوْضِيحُهُ أَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُغْبَنَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّفَهِ، وَقَدْ تَكُونُ جِبِلَّةٌ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِرِينَ فَإِذَا كَانَ مُخْتَبَلًا مُتَرَدِّدًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الصِّغَرِ، وَالْجُنُونِ وَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِهَذَا السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ. وَالْكَلَامُ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ إذَا خِيفَ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ، فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ، وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَازَ عِنْدَهُمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ، فَكَذَلِكَ يُحْجَرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ، وَلِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا، وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَخَوْفُ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ، فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ مَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. ثُمَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 163 هَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَيَقُولُ: هُنَا الْحَجْرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى طَلَبِ أَحَدٍ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ] وَالْفَصْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعُرُوض، وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا مُبَادَلَةَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِثَمَنِهِ لِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ، وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ»، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ، وَالدَّيْنُ، فَإِنْ أَوَّلُهُ هَمٌّ، وَآخِرُهُ حُزْنٌ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجُّ، فَادَّانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ، وَقَدْ دِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ فَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيَفْدِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَاَلَّذِي إذَا أَسْلَمَ عَبْدَهُ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِهَذَا وَالتَّعْيِينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَاجِرُهُ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ إذَا وَجَبَ عَلَى امْرَأَةٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُزَوِّجُهَا لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُحْبَسُ لِتُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ». وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِبَيْعِ الْقَاضِي مَالَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِهَذَا الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ: بَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَجِهَةُ بَيْعِ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالِاسْتِيهَابِ، وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 164 لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ، وَضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ»، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا حَبَسَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِيَسَارِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ وَمَعَ ذَلِكَ اشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَبْسِهِ حَتَّى بَاعَ بِنَفْسِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَدْيُونَ يُحْبَسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِي الْحَبْسِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَفِي اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى حَبْسِهِ فِي الدَّيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِهِ فِي دَيْنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَالتَّسْرِيحُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ، فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ، وَاحِدٌ مَعْنَى، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِحَبْسِ حَقِّهِ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً، وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا، فَلِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى قُلْنَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ، فَجَعَلْنَا لَهُ وِلَايَةَ الِاجْتِهَادِ هُنَا فِي مُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَدْيُونِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالِ حَقِّهِ عَنْ عَيْنِ مِلْكِهِ، وَلِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِغُرَمَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ، فَوْقَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي النُّقُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَنَقُولُ إنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ، وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 165 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَصِيرُ فِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا، فَإِذَا امْتَنَعَ، فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيث أُسَيْفِعَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَفِدُوا إلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ. ، ثُمَّ قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ، فَنَقُولُ بَيْنَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْحَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَجْرُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْحَجْرِ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ بِاللِّسَانِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهَا، أَوْ بِالْإِقْرَارِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ، فَكَمَا أَنَّ بَعْدَ الرِّقِّ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ حَتَّى فِيمَا لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا، وَهُنَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِهِمَا الْقَاضِي يَنْظُرُ فِيمَا بَاعَ وَاشْتَرَى هَذَا السَّفِيهُ. فَإِنْ رَأَى إجَازَتَهُ أَجَازَهُ، وَكَانَ جَائِزًا لِانْعِدَامِ الْحَجْرِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِإِجَازَةِ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ لَا يَكُونُ دُونَ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا كَانَ عَاقِلًا، وَهُنَاكَ إذَا بَاعَ وَاشْتَرَى، وَأَجَازَهُ الْقَاضِي جَازَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ لَهُ فِي إجَازَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَلِهَذَا نَفَذَ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي سَوَاءٌ بَاشَرَهُ السَّفِيهُ، أَوْ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ قَالَ: وَهُمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 166 سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ هَذَا الَّذِي بَلَغَ، وَهُوَ سَفِيهٌ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْإِذْنِ لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ، وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَلَغَ عَاقِلًا لَا يَبْقَى لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ صَارَ وَلِيَّ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ وَلِيَّ نَفْسِهِ انْتِفَاءُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلِ مُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْلًى عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، وَلَا أَثَرَ لِلْهَزْلِ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِلْوَصِيِّ، وَلِلْهَزْلِ تَأْثِيرٌ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِهِ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَقُومُ هُوَ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ مَقَامَ الْقَاضِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ لَا يَتْرُكُهُ لِيَمُوتَ جُوعًا، وَلَكِنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فِيهِ مَقَامَهُ وَالثَّانِي - أَنَّ السَّفِيهَ إذَا أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، ثُمَّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرِ لَيْسَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَعَى إنَّمَا يَسْعَى لِمُعْتِقِهِ، وَالْمُعْتِقُ لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ قَطُّ لِحَقِّ مُعْتَقِهِ بِحَالٍ إنَّمَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ غَيْرِهِ وَالثَّانِي - أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ هَازِلًا لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ: وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ، وَوَرَثَتِهِ، ثُمَّ هُنَاكَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا، وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ أَوْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا مَالٌ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، فَهُنَا أَيْضًا رَدُّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، فَهُنَا أَيْضًا وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي حُكْمِ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ السِّعَايَةِ. وَالثَّالِثُ - أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَهَذَا السَّفِيهُ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُدَبَّرِ، فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 167 هُنَاكَ تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَهُنَا لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ فِي مَالِ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَخْدِمُهُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا تَعَذَّرَ إيجَابُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ بِمَالٍ وَقَبِلَهُ الْعَبْدُ كَانَ التَّدْبِيرُ صَحِيحًا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا لَاقَاهُ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُصْلِحًا لَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِغُرَمَائِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَالرَّابِعُ أَنَّ، وَصَايَا الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَاَلَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا إذَا أَوْصَى بِوَصَايَا فَالْقِيَاسُ فِيهِ كَذَلِكَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَبَرُّعَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنَّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْفِسْقِ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ سَرَفٌ، وَلَا أَمْرٌ يَسْتَقْبِحُهُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ حَتَّى لَا يَتْلَفَ مَالُهُ فَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي وَصَايَاهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْمَالِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، فَإِذَا حَصَلَتْ وَصَايَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْهُ لِأَمْرٍ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لِاكْتِسَابِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِنَفْسِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصَايَا وَالتَّدْبِيرُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَقُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِهَذَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ وَلَكِنَّهُ، أَوْجَبَ السِّعَايَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إبْطَالِ الْمَالِيَّةِ، فَكَلَامُ أَبِي يُوسُفَ يَتَّضِحُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَلَفُوا فِي، وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُجَوِّزُونَ مِنْ وَصَايَاهُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ الْآثَارُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَاعٍ، وَفِي رِوَايَةِ يَافِعٍ، وَهُوَ الْمُرَاهِقُ، وَأَنَّ شُرَيْحًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ عَنْ وَصِيَّةِ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَقَالَ إنْ أَصَابَ الْوَصِيَّةَ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَحَالُ هَذَا الَّذِي بَلَغَ وَصَارَ مُخَاطَبًا بِالْأَحْكَامِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، فَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ فِي وَصِيَّةِ السَّفِيهِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ، فَهَذَا وَجْهٌ آخَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ. ، ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ السَّفَهَ لَا يُجْعَلُ كَالْهَزْلِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَا كَالصِّبَا، وَلَا كَالْمَرَضِ، وَلَكِنَّ الْحَجْرَ بِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ تَوَفُّرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ، وَبَحْثُهُ يُلْحَقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُصُولِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 168 فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، فَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ كَانَتْ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَوَفُّرِ النَّظَرِ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ، وَصِيَانَةِ مَائِهِ، وَيَلْحَقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى أَنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَسْعَى هِيَ، وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدٍ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِجَارِيَتِهِ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ، فَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لَهَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، فَإِنَّهُ لَا شَاهِدَ لَهُ هُنَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَهُوَ ابْنُهُ يَعْتِقُ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعُلُوقِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ كَانَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى تَحْرِيرٍ، فَيَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ، وَسَعَى فِي قِيمَتِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ، فَاسِدًا، وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ حِينَ قَبَضَهُ، وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ابْنَهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ فِي مَالِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ، أَوْ الْقِيمَةِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَحْجُورِ شَيْءٌ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهِ فَتَكُونُ السِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ، فَقَبَضَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ، وَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ لَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ فِي مَرَضِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ لِغُرَمَائِهِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهُ، وَيُنْظَرُ إلَى مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَإِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَيَلْزَمُهُ أَقَلُّهُمَا وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا سَمَّى، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ التَّزَوُّجَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ وُجُوبُ مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَالْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَالْمَرِيضِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 169 إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمُسَمَّى مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَتَنَصُّفُ الْمَفْرُوضِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، أَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ إتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ يُتْلِفُ مَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا أُعْجِزَ عَنْ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَالْمَذَمَّةَ فِي التَّزَوُّجِ، وَالطَّلَاقِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنْ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ»، وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ نَذَرَ نُذُورًا مِنْ هَدْيٍ، أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يُنَفِّذْ لَهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَعْهُ يُكَفِّرُ أَيْمَانَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَجَرَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ إذَا، أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ النَّذْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِكُلِّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَالِكًا لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ مَقْصُورَةٌ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ، أَوْ غَصْبًا فِي يَدِهِ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ كَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ ظَاهَرَ هَذَا الْمُفْسِدُ مِنْ امْرَأَتِهِ صَحَّ ظِهَارُهُ كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَيُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: هُنَاكَ لَوْ كَانَ فِي مَالِهِ عَبْدٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَقْدِرُ عَلَى إعْتَاقِهِ عَنْ ظِهَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَهُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَمَعَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ عَنْ الظِّهَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَرِيضًا مُصْلِحًا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، أَوْ قَتَلَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِلسِّعَايَةِ الَّتِي وَجَبَتْ فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِهِ قُلْنَا لَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابَ لَكَانَ إذَا شَاءَ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، وَقِيلَ: لَهُ إنَّ عِتْقَكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالسِّعَايَةِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، أَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ، وَحَنِثَ فِيهَا، ثُمَّ أَعْتَقَ ذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنْ التَّبْذِيرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ هَذَا الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ، فَلِزَجْرِهِ عَنْ هَذَا الْقَصْدِ، أَوْجَبْنَا السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَهُ، وَعَيَّنَّا عَلَيْهِ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ صَامَ الْمُفْسِدُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ صَارَ مُصْلِحًا لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقَ بِمَنْزِلَةِ مُعْسِرٍ أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْسِرًا ابْتِدَاءً، وَقَدْ وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى الْمَالِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 170 قَبْلَ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ بِالصَّوْمِ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ. ، وَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الْمُفْسِدِ مِنْ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، أَوْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَإِنْ كَانَ مُفْسِدًا، وَبِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي يُقَصِّرُ فِي أَدَاءِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ، فَيُمْكِنُ فِيهِ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ التَّصَدُّقِ، فَأَمَّا فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فَهُوَ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَلَبه مِنْ أَدَاءِ زَكَاةِ مَالِهِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَا يُخَلِّي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّتِهِ، فَلِهَذَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ مِنْ زَكَاتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي مَالًا يَصِلُ بِهِ قَرَابَتَهُ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِمْ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ يَكُونُ شَرْعًا لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِي لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ بَلْ يَدْفَعُهُ بِنَفْسِهِ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهِ وَنِيَّتِهِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْقَرَابَةِ، وَعِشْرَةِ الْقَرَائِبِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا إلَّا فِي الْوَالِدِ، فَإِنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى النَّسَبِ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّسَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّفَهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي عُسْرَةِ الْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ كَذَلِكَ كَمَا عُسْرَةِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ. وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ التَّزَوُّجِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَيَجِبُ لَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَيُعْطِيَهَا الْقَاضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ حُكْمًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى بَعْدَ إقْرَارِهِ أَشْهُرٌ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ فِي أَوَّلِ تِلْكَ الشُّهُورِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَهَا، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لِزَوْجَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِقْرَارُهُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 171 ثُمَّ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَيُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْطَى نَفَقَةَ السَّفَرِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَا حَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي، فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ، وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فَهَذَا مِنْهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ لَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِنَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وَسَوْقَ بَدَنَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فَضْلٌ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْلَى، ثُمَّ الْقَارِنُ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ، وَيُجْزِيهِ فِيهِ الشَّاةُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْبَدَنَةَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بَقَرَةٌ، أَوْ جَزُورٌ، فَهُوَ حِينَ سَاقَ الْبَدَنَةَ قَدْ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَأَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ فِي سَوْقِ الْبَدَنَةِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِأَدَاءِ ذَلِكَ نَظَرَ الْحَاكِمُ إلَى ثِقَةِ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِي الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِلْكِرَاءِ، وَالنَّفَقَةُ، وَالْهَدْيُ فَيَلِي ذَلِكَ الرَّجُلُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ، وَمَا أَرَادَ مِنْ الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ مَخَافَةَ أَنْ يُتْلِفَهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ضَاعَ مِنِّي، فَأَعْطُونِي مِثْلَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ وَلِيِّهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ، وَإِذَا وَلَّاهُ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ، وَلِيِّهِ فِي الْهَدْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يُبَاشِرَهُ، أَوْلَى بِأَمْرِهِ، أَوْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ، فَإِنْ اصْطَادَ فِي إحْرَامِهِ صَيْدًا، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ أَذًى أَوْ صَنَعَ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْ مَالِهِ لِمَا صَنَعَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ جِنَايَةٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فَيُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ لِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ السَّفَهِ. فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ إنْ اُبْتُلِيَ بِأَذًى فِي رَأْسِهِ، أَوْ أَصَابَهُ وَجَعٌ احْتَاجَ فِيهِ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ، أَوْ يَتَصَدَّقَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا بَأْسٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ إلَّا بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ الثَّابِتَةَ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ لَمْ تَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْعِبَادَةُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 172 لَا تَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَإِنْ تَطَيَّبَ الْمَحْجُورُ فِي إحْرَامِهِ بِطِيبٍ كَثِيرٍ، أَوْ قَبَّلَ لِلشَّهْوَةِ أَوْ صَنَعَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الدَّمُ، أَوْ الطَّعَامُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ، فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ يُؤَدَّى إذَا صَارَ مُصْلِحًا وَلَا يُؤَدَّى عَنْهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ، وَأَنَّهُ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَلَكِنْ سَبَبُ هَذَا الِالْتِزَامُ مِنْهُ، فَلَا يُؤَدَّى مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا إذَا صَنَعَ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ إذَا، فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى عَنْهُ الْحَاكِمُ هَذَا فَعَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَفْنَى مَالُهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا، وَإِنْ جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُمْنَعْ نَفَقَةَ الْمُضِيِّ فِي إحْرَامِهِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَلَا يُمْنَعُ نَفَقَةَ الْعَوْدِ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَلَيْهِ شَرْعًا وَيُمْنَعُ مِنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَفِي هَذَا السَّبَبِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْعُمْرَةُ فِي هَذَا كَالْحَجِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ غَيْرَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جُومِعَتْ فِي إحْرَامِهَا مُطَاوِعَةً، أَوْ مُكْرَهَةً مَضَتْ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَلَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْعَوْدِ لِلْقَضَاءِ مَعَ الْمَحْرَمِ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تُمْنَعُ هِيَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمْ يُمْنَعْ الْمَحْجُورُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَجْلِ الْحَجْرِ. وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إلَّا طَوَافَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَطُفْ طَوَافَ الصَّدْرِ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ وَيَصْنَعُ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ مَا لَمْ يَطُفْ لِلزِّيَارَةِ، فَالرُّجُوعُ لِلطَّوَافِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلتَّحَلُّلِ، وَلَكِنْ يَأْمُرُ الَّذِي يَلِي النَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَحْضُرَهُ، وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ لِسَفَهِهِ رُبَّمَا يَرْجِعُ وَلَا يَطُوفُ، ثُمَّ يَطْلُبُ النَّفَقَةَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَكَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَفْنَى مَالُهُ، فَلِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ طَافَ جُنُبًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ لِلطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَشَاةٌ لِطَوَافِ الصَّدْرِ يُؤَدِّيهِمَا إذَا صَلَحَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ مِنْ الْغَشَيَانِ يَعْنِي طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا وَتَرْكَ طَوَافِ الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ أَحْصَرَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلَّذِي أَعْطَى نَفَقَتَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ، فَيَحِلَّ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَمَالُهُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَأُحْصِرَ وَجَبَ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ لِيَحِلَّ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 173 بِهِ، وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ تَطَوُّعًا لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهِ فِي قَضَائِهَا نَفَقَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ إذَا أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إحْرَامِهِ وَلَا يُزَادُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ فِي السَّفَرِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ، وَالرَّاحِلَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنْ شِئْت، فَاخْرُجْ مَاشِيًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْطُونِي مِنْ مَالِي شَيْئًا أَتَصَدَّقُ بِهِ لَمْ يُعْطَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا فِي الْمَعْنَى مُلْتَمِسٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ نَفَقَتِهِ فِي مَنْزِلِهِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى رَبِّهِ، فَلَا يُعْطَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَثِيرَ الْمَالِ وَقَدْ كَانَ الْحَاكِمُ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ، فَكَانَ فِيمَا يُعْطِيهِ مِنْ النَّفَقَةِ، فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ، فَقَالَ أَنَا أَتَكَارَى بِذَلِكَ، وَأُنْفِقُ عَلَى نَفْسِي بِالْمَعْرُوفِ أَطْلَقَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ النَّفَقَةَ وَلَكِنْ يَدْفَعُهَا إلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا أَرَادَ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّدْبِيرَ دَلِيلُ الرُّشْدِ، وَالصَّلَاحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مَاشِيًا وَمَكَثَ حَرَامًا، فَطَالَ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَهُ مِنْ إحْرَامِهِ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا، أَوْ غَيْرَهُ، فَلَا بَأْسَ إذَا جَاءَتْ الضَّرُورَةُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ إحْرَامَهُ، وَيَرْجِعَ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ مَالِهِ لِتَوْفِيرِ النَّظَرِ لَهُ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ، وَمِنْ النَّظَرِ هُنَا لَهُ أَنْ يُعْطِيَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ مَا الْتَزَمَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ إحْرَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْصِرَ فِي إحْرَامِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَبْعَثْ الْهَدْيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِسَبَبٍ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفَقَتِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِذَلِكَ مِنْهُ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى تَأْتِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي وَصَفْت لَكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ عَنْهُ بِهَدْيٍ مِنْ مَالِهِ يَحِلُّ بِهِ. وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى مَا يُصْلِحُهُ، وَيُصْلِحُ مَالَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَالِهِ، فَالْمَقْصُودُ إصْلَاحُ نَفْسِهِ، فَيَنْظُرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ مَالَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ مُفْسِدَةً، فَاخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا جَازَ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ يَعْتَمِدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ لَا وُجُوبَ الْمَقْبُولِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا، وَكَأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِقَبُولِهَا الْجُعْلَ، فَإِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ، وَإِنْ صَارَتْ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ لَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، وَلَا لِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ كَالصَّغِيرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا كَالْمَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، فَهُوَ يَمْلِكُ رَجَعْتهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا عِنْدَ وُجُوبِ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ هُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ الْخُلْعِ الْبَيْنُونَةُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ فِي الجزء: 24 ¦ الصفحة: 174 كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ الَّتِي يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَمَةِ الْمَالَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهَا حَتَّى يَلْزَمَهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ، فَلِوُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَفِي الْمُفْسِدَةِ، وَالصَّغِيرَةِ الْمَالُ لَا يَجِبُ بِقَبُولِهَا أَصْلًا حَتَّى إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مَعَ رِقِّهَا مُفْسِدَةً مِمَّنْ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يُجِزْ أَمْرَهَا فِي مَالِهَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهَا حَتَّى لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ. وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ مُفْسِدًا، فَلَمْ يَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ، وَأَقَرَّ بِدُيُونٍ، وَوَهَبَ هِبَاتٍ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ، وَمَنْ يَقُولُ: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ جَائِزًا، فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا الْحَجْرَ شَيْئًا، فَإِنَّا مَا احْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ إلَّا بِهَذَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا الْقَائِلِ وَبَيْنَهُمْ افْتِرَاقٌ فِي رَدِّ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فَإِنَّمَا عَرَضَ فِي هَذَا الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ جَاوَزَ حَدَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُرَاعِ حَقَّ الِاسْتِنَادِ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ حَتَّى لَمْ يُكْثِرْ لَهُ تَفْرِيعُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَحْيَاءِ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ، وَكُلَّ مَجْرَى فِي الْحَلَائِسِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُفْسِدُ قَبَضَ ثَمَنَ مَا بَاعَ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَأَى مَا بَاعَ بِهِ رَغْبَةً أَجَازَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا جَازَ بِإِجَازَتِهِ. وَإِنْ كَانَ ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلسَّفِيهِ فِي التِّجَارَةِ إذَا رَآهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ تَصَرُّفُهُ، وَإِذَا رَأَى النَّظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَالْبَيْعُ بَيْعُ رَغْبَةٍ، فَالنَّظَرُ فِي إجَازَتِهِ، فَإِذَا ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ، فَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُسَلَّمُ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ إجَازَةٌ مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مَالَ إنْسَانٍ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ كَانَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَهَذَا كَذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِجَازَةِ نَظَرٌ لَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ، وَلَا يَكُونُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 175 لِلْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي ضَاعَ فِي يَدِ الْمُفْسِدِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ بِتَسْلِيمٍ مِنْهُ، وَتَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهِ، وَهُوَ فِي هَذَا كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ - يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ بَيْنَ يَدَى الشُّهُودِ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بَيْعَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَحْجُورَ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ الثَّمَنِ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ إنْ رَأَى النَّظَرَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ، أَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْجُورُ حِينَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ حَجَّ بِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَدَّى مِنْهُ زَكَاةَ مَالِهِ، أَوْ صَنَعَ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصْنَعَهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ رَغْبَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ أَجَازَ الْبَيْعَ، وَأَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ مِنْ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُنَفِّذَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى الْفَسَادِ، فَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ، هُوَ كَغَيْرِهِ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذَا التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَاجَةٍ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ الْبَيِّنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ مُحَابَاةٌ، فَأَبْطَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ الثَّمَنُ عَنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صُرِفَ الْمَالُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ هُوَ كَالرَّشِيدِ، فَيَصِيرُ الْمَقْبُوضِ دَيْنًا عَلَيْهِ يَصْرِفُهُ لَهُ فِي حَاجَتِهِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا، فَقَضَى بِهِ مَهْرَ مِثْلِ الْمَرْأَةِ قَضَى الْقَاضِي الْقَرْضَ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَهُ حَالَ فَسَادِهِ، وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْمَالَ إلَى وَجْهِ التَّبْذِيرِ، وَالْفَسَادِ وَهُوَ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، فَأَمَّا مَا صَرَفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّمَا صَرَفَهُ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّدَاقِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَحْبُوسًا فِيهِ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنْهُ لِذَلِكَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مَمْنُوعٌ مِنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ إلَى تَبْذِيرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْفَسَادِ، فَيَكُونُ مُضَيِّعًا مَالَهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مُضَيِّعًا مَالَهُ، وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا، فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِإِسْرَافٍ حَسَبِ الْقَاضِي لِلْمُقْرِضِ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 176 مِثْلَ نَفَقَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ، وَأَبْطَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي مَقْدُورِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ لَا فَسَادَ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَعْنَى الْفَسَادِ وَالْإِسْرَافِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ هُوَ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ. فَأَمَّا فِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ فَهُوَ كَالرَّشِيدِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا بِهِ يَحْصُلُ التَّطْهِيرُ لِنَفْسِهِ، وَآثَرَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا أَسْرَفَ فِي جَهَازِ الْمَيِّتِ، وَكَفَنِهِ، فَإِنَّهُ يَحْسِبُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ مِقْدَارَ جِهَازِ مِثْلِهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسْرَافٌ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ الْمَالَ، وَهُوَ فِيهِ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا أَبَدًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ فَكَذَلِكَ هُنَا. ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا وَاسْتَهْلَكَهُ، وَعَلَّلَ فِي هَذَا بِمَا عَلَّلَ بِهِ هُنَاكَ، فَقَالَ: لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِذَا أَوْدَعَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَفْعَالِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَالْأَفْعَالُ حِسِّيَّةٌ تَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا أُودِعَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَقَتَلَهُ قَالَ: فَإِنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَدَرٌ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، أَوْ الْإِلْزَامُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ صَلَحَ، فَيُسْأَلُ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ مِنْ مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ يَظْهَرُ هَذَا الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ الْقَتْلِ، وَابْتَدَأَ الْأَجَلُ مِنْ حِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا الْآنَ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ خَطَأً فَهُوَ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَمُخَاطَبٌ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ عَمْدًا كَانَ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي مُوجِبِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ خَطَأً يَكُونُ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ مَا صَلَحَ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 177 عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ حَقًّا أُخِذَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ وَلَكِنْ أَقَرَّ بَعْدَمَا صَلُحَ ابْتِدَاءً أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ سِوَى الْإِقْرَارِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ: إنِّي قَدْ كُنْت أَقْرَرْت، وَأَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ أَنِّي اسْتَهْلَكْت لَك أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَرْت لِي بِذَلِكَ فِي حَالِ صَلَاحِكَ، أَوْ قَالَ قَدْ أَقْرَرْت بِهِ فِي حَالَ فَسَادِك، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا، فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ قَدْ كُنْت أَقْرَرْت بِذَلِكَ فِي حَالِ الْفَسَادِ، وَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ الْآنَ، فَيُلْزِمُهُ الْقَاضِي ذَلِكَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ، أَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا، ثُمَّ كَبِرَ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: اسْتَهْلَكْتَهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ اسْتِهْلَاكَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ هُوَ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَنَا أَقْرَضْتُكَ، أَوْ أَوْدَعْتُكَ بَعْدَ الْكِبَرِ فَاسْتَهْلَكْته، وَقَالَ الْغُلَامُ اسْتَهْلَكْته قَبْلَ الْكِبَرَ كَانَ الْغُلَامُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَدَّعِي إسْنَادَ الْإِيدَاعِ، وَالْإِقْرَاضِ إلَى حَالَةِ الصِّغَرِ لِيَثْبُتَ بِهِ تَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ مُطْلَقًا، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِذَا قَبِلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بَقِيَ اسْتِهْلَاكُهُ لِلْمَالِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ، وَقَالَ أَتْلَفْته بِإِذْنِكَ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْمَالِ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِذَا بَلَغْت الْمَرْأَةُ مَحْجُورًا عَلَيْهَا لِفَسَادِهَا، فَزُوِّجَتْ كُفُؤًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا قِيلَ: لِزَوْجِهَا إنْ شِئْت، فَأَتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُحَابَاةِ فَلَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ زِيَادَةً لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ. وَإِنْ شَاءَ أَبَى فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 178 اسْتِدَامَةِ إمْسَاكِهَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِذَا أَبَاهَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهِ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَهُ تَسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ تَمَكَّنَ الْفَسَادُ فِي تَسْمِيَتِهَا فَكَأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَدَخَلَ هُوَ بِهَا، فَيَلْزَمُهُ تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ كَانَ لِلنُّقْصَانِ عَنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَقَدْ انْعَدَمَ حِينَ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِالدُّخُولِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَالْجَوَابُ مَا بَيَّنَّا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا بَطَلَ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا عَنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْمُفْسِدِ لِلزِّيَادَةِ بِالتَّسْمِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ فِي الْتِزَامِ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مَعْنَى الْفَسَادِ، ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ، وَقَدْ سُلِّمَ لَهَا ذَلِكَ، وَانْعِدَامُ الرِّضَا مِنْهَا لِتَمَلُّكِ الْبُضْعِ عَلَيْهَا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ إيَّاهَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَتْ هِيَ، وَوَلِيُّهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا فُلَانًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا غَيْرَ كُفُؤٍ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ فِيهِ حَقُّهَا، وَحَقُّ الْوَلِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْوَلِيِّ بِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ، وَرِضَاهَا بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا لِمَا تَمَكَّنَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ، وَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِخُصُومَتِهَا وَخُصُومَةُ أَوْلِيَائِهَا، وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ، وَهُوَ مُصْلِحٌ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ فَدَفَعَ إلَيْهِ وَصِيُّهُ، أَوْ لِلْقَاضِي مَالَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفْسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَارَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ مَعْتُوهًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي يَسْتَرِدُّ الْمَالَ مِنْهُ، وَيَجْعَلُهُ فِي يَدِ، وَلِيِّهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ مُفْسِدًا؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ مِنْهُ شَرْطٌ لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِالنَّصِّ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِإِبْقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِهِ اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ شَرْطَ بَقَائِهِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا، وَفَسَادُهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ دَلِيلُ أَثَرِ الصِّبَا، فَمُنِعَ الْمَالِ مِنْهُ إلَى أَنْ يَزُولَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ فَأَمَّا فَسَادُهُ بَعْدَمَا بَلَغَ مُصْلِحًا، فَلَيْسَ بِدَلِيلِ أَثَرِ الصِّبَا، فَلَا يُوجِبُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةً مِنْهُ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْجِنَايَةِ فِي قَطْعِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَلَا فِي قَطْعِ لِسَانِهِ عَنْ الْمَالِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَاعَ عَبْدًا، وَلَمْ يَدْفَعْهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ وَهُوَ حَالٌّ، أَوْ مُؤَجَّلٌ حَتَّى فَسَدَ فَسَادًا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ بِهِ، ثُمَّ دَفَعَ الْغَرِيمُ إلَيْهِ الْمَالَ فَدَفْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى الجزء: 24 ¦ الصفحة: 179 النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ دَفْعُ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا، وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ حَتَّى صَارَ مَعْتُوهًا إلَّا أَنَّ مِثْلَهُ يُقْبَضُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لِلثَّمَنِ هُنَاكَ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ شَيْئًا، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْرَأْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَلِيِّ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعُ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الصَّبِيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُبْرِئًا لِلْمُشْتَرِي إذَا تَأَيَّدَ رَأْيُهُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَيْهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُنَا قَبْضُهُ إنَّمَا كَانَ مُبَرِّئًا لِلْمُشْتَرِي بِكَوْنِهِ رَشِيدًا حَافِظًا لِمَالِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِفَسَادِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ، وَهُوَ مُصْلِحٌ، فَبَاعَهُ، ثُمَّ صَارَ الْبَائِعُ مُفْسِدًا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ الثَّمَنَ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُوصِلَهُ الْقَابِضُ إلَى الْآمِرِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ الْمُشْتَرِي بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْآمِرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْآمِرِ فِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ لِلثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُصْلِحٌ حَافِظٌ لِلْمَالِ، فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنَ فَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهَا لِنَهْيِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْفَسَادُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِهِ، فَمَعْنًى - حُكْمِيٌّ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْمُفْسِدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُشْتَرِي. وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ بِالنَّهْيِ قَصَدَ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ الْقَبْضِ بَعْدَمَا صَارَ مُفْسِدًا دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْآمِرِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَرْضَ الْآمِرُ بِالْتِزَامِهِ، فَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالْمَأْمُورُ مُفْسِدٌ فِيمَا بَاعَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ جَازَ بَيْعُهُ وَقَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ الضَّرَرِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا مَحْجُورًا، أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ بِبَيْعِ مَا لَهُ، فَبَاعَهُ جَازَ، وَلَوْ أَمَرَهُ وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، ثُمَّ صَارَ مَعْتُوهًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْآمِرُ يَعْلَمُ بِفَسَادِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِالرِّضَى بِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِهِ وَجَهْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَ الْمُفْسِدُ مَتَاعَهُ بِثَمَنٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُجِيزُ الْبَيْعَ، وَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي إجَازَةِ الْبَيْعِ نَظَرًا لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهِ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 180 وَلَيْسَ فِي مُبَاشَرَتِهِ قَبْضُ الثَّمَنِ نَظَرًا لَهُ بَلْ فِيهِ تَعْرِيضُ مَالِهِ لِلْهَلَاكِ، فَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَإِنْ دَفَعَهُ بَعْدَ مَا نَهَاهُ، فَضَاعَ فِي يَدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ ثَمَنٍ آخَرَ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لَمَّا صَحَّ صَارَ حَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِلْقَاضِي، أَوْ لِأَمِينِهِ، فَدَفْعُهُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَدَفْعِ ثَمَنِ مَا بَاعَهُ الْقَاضِي، أَوْ أَمِينُهُ مِنْ مَالِهِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بَعْد مَا نَهَاهُ الْقَاضِي، وَأَسَاءَ الْأَدَبَ بِمُخَالَفَةِ الْقَاضِي فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ لِسَعْيِهِ تَخْفِيفًا، وَلَا خِيَارًا وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي حِينَ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ بَيْعِهِ إجَازَةٌ لَدَفْعِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَمُطْلَقُ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى وَجْهٍ فَيَقُولُ: قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ، وَلَا أُجِيزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ. ، وَحُكْمُ الْقَاضِي يُقَيَّدُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ، وَلَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ فِي الِابْتِدَاءِ جُمْلَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ نَهَيْت الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ كَانَ نَهْيُهُ بَاطِلًا وَكَانَ دَفْعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا قَالَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ بِإِجَازَتِهِ الْبَيْعَ جُمْلَةً، ثُمَّ نَهْيُهُ إيَّاهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ خِطَابٌ نَاسِخٌ، أَوْ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَفِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ إضْرَارٌ، فَإِذَا بَلَغَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَمَا بَلَغَهُ النَّاسِخُ، وَهَذَا نَظِيرُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا، وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، وَفِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، وَمَنْ أَعْلَمُهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ خَبَرُهُ حَقًّا، فَهُوَ إعْلَامٌ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ مُلْتَزِمًا، أَوْ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَاسِقًا كَانَ، أَوْ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُون الْخَبَرُ حَقًّا. (أَلَا تَرَى) لَوْ أَنْ مُفْسِدًا قَالَ لَهُ الْقَاضِي بِعْ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَبَاعَهُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَضَاعَ عِنْدَهُ كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ، وَلَا تَقْبِضْ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَدَائِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ عَلِمَ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا بَاعَ الجزء: 24 ¦ الصفحة: 181 فَلَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ، فَإِنَى نَهَيْته عَنْ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ، وَيَقْبِضَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ نَهْيُ الْقَاضِي، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْيَتِيمُ مُفْسِدًا، فَحَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَحْجُرْ فَسَأَلَ، وَصِيَّهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَضَاعَ فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ مُفْسِدٌ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَرَحَ الْوَصِيُّ مَالَهُ فِي مُهْلِكَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ أَوْدَعَهُ الْمَالَ إيدَاعًا؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى إتْلَافِهِ حِينَ مَكَّنَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ لِمَالِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَدَفْعِ الْوَصِيِّ مَالَ يَتِيمٍ مُصْلِحٍ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ وَدِيعَةً، أَوْ لِيَبِيعَ بِهِ وَيَشْتَرِي بِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا ضَاعَ مِنْهُ، أَوْ ضَيَّعَهُ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُصْلِحَ مَأْمُونٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَلَا يَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَى مِثْلِهِ تَضْيِيعًا لَهُ، وَأَمَّا الْكَبِيرُ الْمُفْسِدُ، فَدَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ مَا دَامَ هُوَ عَلَى فَسَادِهِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ عَالَمٌ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ لَمْ يَجُزْ إذْنُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُصْلِحِ اخْتِبَارُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْمُفْسِدِ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَمَنَعَ الْمَالَ مِنْهُ فَيَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَصِيِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغُلَامَ الْمُصْلِحَ لِمَالِهِ لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَكَانَ مِمَّنْ يَشْتَرِي، وَيَبِيعُ وَيَرْبَحُ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ رَفَعَ هَذَا الْمُفْسِدُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُ الْوَصِيِّ فِيهِمَا، وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَ هَذَا الْمُفْسِدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَيَشْتَرِي بِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ هَذَا إخْرَاجًا مِنْ الْقَاضِي لَهُ مِنْ الْحَجْرِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لِيَنْفُذَ مِنْهُ، وَلَا يَنْفُذُ مِثْلُهُ مِنْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ، فَإِنْ وَهَبَ، أَوْ تَصَدَّقَ هَذَا الْمُفْسِدُ بِذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا دَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ خَاصَّةً. ، وَحُكْمُ الْقَاضِي يَتَقَيَّدُ تَنْفِيذُهُ، فَبَقِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا الْإِذْنِ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْغُلَامَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى، وَبَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ إلَّا الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِذْنِ يُنِيبُهُ مَنَابَ نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى رَأْيِهِ، وَلَكِنْ رَأَى فِيهِ رَأْيَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الجزء: 24 ¦ الصفحة: 182 مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْهُ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبُرِّ، وَبَيْعِهِ خَاصَّةً دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ التِّجَارَاتِ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ إطْلَاقٌ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ مُفَوِّضًا إلَى رَأْيِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْفَاسِدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَقْدِرُ عَلَى إفْسَادِ مَالِهِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ بِطَرِيقِ التِّجَارَاتِ فِي الضَّرَرِ دُونَ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ مِثْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، فَلَيْسَ فِي تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ مَعْنَى النَّظَرِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ، فَلَا يَكُونُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَكًّا لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التَّبَرُّعِ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي فِي السُّوقِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: قَدْ أَذِنْتُ لِهَذَا فِي التِّجَارَةِ، وَلَا أُجِيزَ لَهُ مِنْهَا إلَّا مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَى، أَوْ بَاعَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ، فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَيْهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ فِي حَقِّ السَّفِيهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَابِعًا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِخِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ تِجَارَتِهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ هَذَا التَّصْرِيحِ مَعَ بَقَاءِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا إنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَمَّنْ يُعَامِلُهُ. وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ جَعَلَ الْقَاضِي هَذَا الْقَيْدَ مَشْهُورًا كَإِشْهَارِ الْإِذْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغُلَامِ الْمُصْلِحِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ، أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُمْ، وَمَا أَقَرُّوا بِهِ مِثْلَ مَا يَلْزَمُهُمْ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ، وَلَا لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْإِذْنِ فَيَلْغُو بِقَيْدِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، وَفِي التَّقْيِيدِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ، فَيَسْتَقِيمُ مِنْ الْقَاضِي. وَفِي حَقِّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى مَالِهِ، أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَيْسَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ مَعْنَى التَّطْوِيلِ بَلْ هُوَ تَقْيِيدٌ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِتَتَعَلَّقَ دُيُونُهُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الدَّيْنِ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْفَاسِدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ - كُلُّ مَنْ كَانَ مُضَيِّعًا مَالَهُ مُفْسِدًا لَهُ لَا يُبَالِي مَا صَنَعَهُ مُنْتَفِعًا بِالسَّرَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَلَى جِهَةِ الْمُجُونِ، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي دَيْنِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا غَيْرَهُ إلَّا أَنَّهُ حَافِظٌ لِمَالِهِ حَسَنُ التَّدْبِيرِ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ لِإِبْقَاءِ الْمَالِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْفَاسِدِ الَّذِي هُوَ حَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي مَالِهِ إنَّمَا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 183 الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُبَذِّرِ الْمُتْلِفِ لِمَالِهِ. وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا حَجَرَ عَلَى فَاسِدٍ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ وَأَجَازَ مَا كَانَ بَاعَ، أَوْ اشْتَرَى، وَلَمْ يَرَ حَجْرَ الْأَوَّلِ شَيْئًا، فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ جَازَ إطْلَاقُ هَذَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ جَازَ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَنَفْسُ الْقَضَاءِ مَتَى كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ يُوقَفُ عَلَى إمْضَاءِ غَيْرِهِ فَإِذَا أَبْطَلَهُ بَطَلَ، ثُمَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُ، وَقَدْ رَأَى الْآخَرُ النَّظَرَ لَهُ فِي الْإِطْلَاقِ عَنْهُ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ بُيُوعِهِ، أَوْ شِرَائِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ، فَأَبْطَلَ مُبَايَعَاتِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى هَذَا الْقَاضِي الْآخَرِ فَأَبْطَلَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ، وَأَجَازَ مَا كَانَ أَبْطَلَهُ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ، أَوْ لَا يَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجِيزَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ، وَأَشْرِيَتِهِ وَيَبْطُلُ قَضَاءُ الثَّانِي فِيمَا أَبْطَلَهُ مِنْ قَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً تَامًّا بِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْإِبْطَالُ مِنْ الثَّانِي حَصَلَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ قَضَاءً أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُفُوذِهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، فَهَذَا يَبْطُلُ، الثَّالِثُ - قَضَاءُ الْقَاضِي بِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَيَمْضِي قَضَاءُ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ، أَوْ أَشْرِيَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 184 [كِتَابُ الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا وَرَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لَا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ، وَالْإِذْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَخَلُّوهُ عَنْ الْعِوَضِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَعَ الْمُسْتَفَادِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ بَعْدَ حُدُوثِ الرِّقِّ فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ وَاعْتِبَارُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ صَادِرًا عَنْ مُمَيَّزٍ أَوْ مُخَاطَبٍ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ وَمَحِلُّ التَّصَرُّفَاتِ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ فَإِنَّ صَلَاحِيَّةَ الذِّمَّةِ لِلِالْتِزَامِ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ وَبِالرِّقِّ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَشَرِ إلَّا أَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالرِّقِّ فَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِيهَا إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ فَكًّا لِلْحَجْزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ نَظِيرُ مِلْكِ الْحِلِّ فَإِنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَقَصُ حَتَّى أَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ نِصْفُ مَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرِّ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمَالِكِيَّةِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا نِكَاحًا. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَدِمَ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمِلْكِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ عَلَيْهِ. قُلْنَا إنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا بِنَفْسِهِ بَيْعًا أَوْ تَزْوِيجًا فَلَا جَرَمَ تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَيَكُونُ نَائِبًا فِيهِ عَنْ الْمَوْلَى مَتَى بَاشَرَ بِأَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَتَبْقَى لَهُ الْأَهْلِيَّةُ فِي مِلْكِ هَذَا التَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ فِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 2 الْإِقْرَارِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ بَقِيَ مَالِكًا لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَإِنْ قِيلَ انْعِدَامُ الْأَهْلِيَّةِ لِخُرُوجِهِ بِالرِّقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُرَادُ لِعَيْنِهَا بَلْ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ، وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى): أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ الْحَاجَةِ مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْعِتْقِ مَشْرُوعٌ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ، ثُمَّ مَاتَ فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ شَرْعًا الْآثَارُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الْكِتَابَ. فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ كَانَ يَعْتَادُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا» وَرُوِيَ «أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ وَأَرْدَفَ» وَذَلِكَ مِنْ التَّوَاضُعِ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ مَنْ رَكِبَ الْحِمَارَ وَسَعَى فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ»، وَفِي لِسَانِ النَّاسِ رُكُوبُ الْفَرَسِ عِزٌّ، وَرُكُوبُ الْجِمَالِ كَمَالٌ، وَرُكُوبُ الْبَغْلِ مَكْرَمَةٌ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ ذُلٌّ وَلَا ذُلَّ كَالتَّرَجُّلِ وَكَذَلِكَ إجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ». وَرُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الرَّجُلِ الدُّونِ يَعْنِي الْمَمْلُوكَ»، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَادِ الدَّعْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَطَرِيقُ الِاكْتِسَابِ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَأَنَّ مَا يَكْسِبُهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ حَلَالٌ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِأَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ بَعْدَ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَكَانَ يَقُولُ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ». ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ كُلُّ دَيْنٍ حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ إذَا حَجَرَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ كُلُّ دَيْنٍ يَكْتَسِبُ سَبَبَ وُجُوبِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْإِقْرَارِ، وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَنْ الْتَزَمَ الدَّيْنَ بِسَبَبِهِ كَالْحُرِّ وَإِذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَيْ لَا يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ بِمُبَاشَرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ الْحَجْرِ فِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 3 حَقِّ الْمَوْلَى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ فَكَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَجْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا مُنْتَشِرًا، وَأَنَّ الِانْتِشَارَ فِيهِ بِكَوْنِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَأَنَّهُ رَفَعَ الْإِذْنَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ مُنْتَشِرٌ، وَفِي تَصْحِيحِهِ بِدُونِ الِانْتِشَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ، وَالْغُرُورِ كَمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ رَأَيْتُ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلَّهُمْ يَتَّجِرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْإِذْنِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاكْتِسَابِ الْغِنَى، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِلِّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى غِنَى الْعَبَّاسِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا رَأْسُ مَالِ كُلِّ عَبْدٍ عَشَرَةٌ آلَافٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ سَبَبُ ثَرْوَتِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ فِي الْفِدَاءِ حِينَ أُسِرَ فَلِمَا أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] وَكَانَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُظْهِرُ السُّرُورَ بِغِنَاهُ وَيَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَنِي بِشَيْئَيْنِ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا، وَالْمَغْفِرَةَ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ أَنْجَزَ لِي أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْرِمَنِي مِنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ الضَّرِيبَةَ فَهِيَ تِجَارَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنْ الْمَوْلَى اسْتَأْدَى عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ فَذَلِكَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَلِتَحَصُّلِهِ طَرِيقَانِ التَّكَدِّي، وَالتِّجَارَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ الْمَالَ بِالتَّكَدِّي فَالسُّؤَالُ يُدْنِي الْمَرْءَ وَيَبْخَسُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ» أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الِاكْتِسَابُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَرِضَاهُ بِالتِّجَارَةِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ كَمَا ثَبَتَتْ نَصًّا. ، وَعَنْ شُرَيْحٍ فِي عَبْدٍ تَاجِرٍ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ مَحْسُوسٌ لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ فَكَذَلِكَ دَيْنُ التِّجَارَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُبَاعُ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ رَجُلًا فِي دَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سَرَفٌ» فَحِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ جَائِزًا بَاعَ الْحُرُّ فِي دَيْنِهِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ فِي الْحَالِ فَيُبَاعُ فِي كُلِّ دَيْنٍ يَظْهَرُ وُجُوبَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى. ، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى عَبْدِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 4 رَجُلٍ دَيْنًا فَقَالَ الرَّجُلُ عَبْدِي مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي فِي السُّوقِ وَيَبِيعُ بِعِلْمِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى مِنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْإِذْنَ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ يُثْبِتُهُ بِالدَّلَالَةِ، وَأَنَّ مَنْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ. ، وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ خَيَّاطًا وَأَذِنَ آخَرُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ صَبَّاغًا فَأَجَازَ شُرَيْحٌ عَلَى الْخَيَّاطِ ثَمَنُ الْإِبَرِ، وَالْخُيُوطِ وَأَجَازَ عَلَى الصَّبَّاغِ ثَمَنُ الْغَلِيِّ، وَالْعُصْفُرِ وَمَا كَانَ فِي عَمَلِهِ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ مَبْنَى الْإِذْنِ عَلَى التَّعَدِّي، وَالِانْتِشَارِ، وَأَنَّ الْمَوْلَى، وَإِنْ خَصَّ نَوْعًا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِالْبَعْضِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى فَإِنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ الصَّبْغِ، وَالْخَيَّاطَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ السِّلْكِ، وَالْإِبْرَةِ وَالْخُيُوطِ، ثُمَّ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يُبَاعُ بِالنَّقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيُعْطِيَهُ فِي ثَمَنِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُصَارَفَةِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ لِيَحْصُلَ الثَّمَنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّعَدِّي، وَالِانْتِشَارِ فَيَتَعَدَّى الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَأْخُذُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيَقُولُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ خَاصَّةً وَعِنْدَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ، وَمَا اسْتَدَارَ فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ يُكَاتَبَ فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّتَهُ فَأَكَلَ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ وَأَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَقَبِلَهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ». (قَالَ الشَّيْخُ) الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْلَمْ أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ يَطْلُبُ الْحَقَّ حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ وَقَدْ قَرُبَ أَوَانُهَا وَعَلَيْكَ بِيَثْرِبَ، وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَرَقَّهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الطَّرِيقِ وَجَاءَ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهُ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَكَانَ يَعْمَلُ فِي نَخِيلِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ «فَأَتَاهُ سَلْمَانُ بِطَبَقٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ فَقَالَ: صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، فَقَالَ سَلْمَانُ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ، فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 5 قَالَ هَدِيَّةٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا فَقَالَ سَلْمَانُ: هَذِهِ أُخْرَى، ثُمَّ تَحَوَّلَ خَلْفَهُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَادَهُ فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ كَتِفَيْهِ حَتَّى نَظَرَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَأَسْلَمَ». وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونَ أَنْ يَهْدِيَ فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّتَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ قَالَ بَنَيْتُ بِأَهْلِي وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالُوا لَهُ: أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِهِ فَقَدَّمُونِي وَصَلَّيْتُ بِهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ كَمَا يَتَّخِذُ الدَّعْوَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا أَتَوْهُ بِتِجَارَةٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجَابُوا دَعْوَتَهُ وَأَبُو ذَرٍّ مَعَ زُهْدِهِ أَجَابَ دَعْوَتَهُ وَهُوَ عَبْدٌ. وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَؤُمَّ غَيْرَهُ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي ذَرٍّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْعَبْدِ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَلَا بَأْسَ بِإِمَامَتِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَبَا ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ زُهْدِهِ قَدَّمَهُ وَاقْتَدَى بِهِ لِفِقْهِهِ وَوَرِعِهِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذَنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْإِذْنِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَى أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَكٌّ لِلْحَجْرِ كَالْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَوْلَى عَادَةً أَنْ يُحَصِّلَ الْعَبْدُ الرِّبْحَ بِكَسْبِهِ وَاعْتِبَارُ إذْنِهِ شَرْعًا لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَاشْتِرَاطِ مَالًا يُفِيدُ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ قِيَامُ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا وَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّنْصِيصِ عَلَى جِنْسِ مَا يَشْتَرِيهِ لَهُ، ثُمَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَتَمَّ رِضَا الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ هُوَ حَقُّهُ مِنْ تَعَامُلِهِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَلِأَنَّ الْمَأْذُونَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ حِسْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْجَارِ الْإِجْرَاءَ لِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فِيمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ عِنْدَنَا. وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 6 كَسْبَهُ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَهُوَ إنَّمَا جَعَلَهُ نَائِبًا فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، وَمَنَافِعُ بَدَنِهِ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا قَبِلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا رَهْنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ وَمَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ الْمَأْذُونِ فَكَانَ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يُقَالُ الْكِتَابَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْإِذْنُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ لَا يَخْتَلِفُ لِكَوْنِهِ لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ مَعَ الْهِبَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْمُوجِبُ الرُّجُوعَ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً، وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُ وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا الْإِذْنَ بِالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ، ثُمَّ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ يَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ عَلَى مَنَافِعِهِ فَيَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَلَيْهَا كَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَلَمَّا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْمَوْلَى مِنْ الْإِعَانَةِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ، وَالْمُسْتَعِيرُ إنَّمَا لَا يُؤَاجِرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا، ثُمَّ إجَارَةُ النَّفْسِ نَوْعُ تِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ التِّجَارَةِ وَهُمْ الْبَاعَةُ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ، وَالْمَوْلَى حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا بِرَأْسِ مَالٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ رَأْسَ مَالِهِ مَنَافِعَهُ وَطَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِمَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ نَفْسَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى وَلِأَنَّ حُكْمَهُ ضِدُّ حُكْمِ الْإِذْنِ فَإِنَّ بَيْعَ الرَّقَبَة إذَا صَحَّ أَوْجَبَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ لَا يَرْهَنُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ الْإِذْنَ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا يُسْتَفَادُ مَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ ضِدُّهُ مُوجِبُهُ. وَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَلَا تُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَرَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ كَسْبَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَهَا مُزَارَعَةً كَمَا يَأْخُذُ الْحُرُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْمَأْذُونُ مُؤَاجِرُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَجْرُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَارِجُ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَهُنَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ فَإِذَا مَلَكَ اسْتِئْجَارَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 7 بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ فَبِبَعْضِ الْخَارِجِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مِنْ التِّجَارَةِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبُّهُ»، وَالتُّجَّارُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَادَةً قَالَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ طَعَامًا إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِهِ بِالنِّصْفِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَرْضًا وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَلَطٌ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً، وَدَفْعُ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ، وَشَرْطُ الْإِجَارَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْأَرْضِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهُ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِهِ. هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَفِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ قَالَ إذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا مَا قَالَ فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ نَمَاءُ الْبَذْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَوَجْهُ مَا قَالَ هُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا يَرْضَى بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّصْفِ فَبِدُونِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بَلْ الزَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِبَذْرِهِ. وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ بَذْرًا وَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الْخَارِجُ لِلزَّارِعِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُرِّ وَإِذْنُ الْحُرِّ فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ فَسَدَتْ بَقِيَ إذْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْبَذْرِ كَإِلْقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَأَمَّا إذْنُ الْعَبْدِ فِي اسْتِهْلَاكِ بَذْرِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْذَنَ فِي إتْلَافِ الْبَذْرِ وَلَا أَنْ يُقْرِضَ الْبَذْرَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ إذْنِهِ فَكَانَ لِزَارِعٍ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ الْمُسْتَهْلِكِ لِلْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ لِلْعَبْدِ. (قَالَ الشَّيْخُ) الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ بِالنِّصْفِ فَمَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " ازْرَعْهَا لِنَفْسِكَ " يَكُونُ إقْرَاضًا لِلْبَذْرِ، ثُمَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالزَّارِعُ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ. وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُشْهَدْ الشُّهُودَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُنْدَبُ الْإِشْهَادُ لِمَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 8 يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ كَمَا يُنْدَبُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَازِمٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ إنْ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَإِنْ قَالَ: اعْمَلْ فِي الْبُرِّ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي النَّوْعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً فَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفَ لِلْمَوْلَى بِإِذْنِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ كَالْوَكِيلِ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْمُسْتَبْضِعِ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعَنَانِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَالرِّقُّ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى، وَأَنَّ الْعَبْدَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ بِالْكِتَابَةِ عِنْدِي يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ حَقٌّ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يَدًا، ثُمَّ الْمَأْذُونُ عِنْدِي يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ لِرُجُوعِهِ مَحِلًّا وَهُوَ كَسْبُهُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَهَكَذَا مَذْهَبِي فِي الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي التَّصَرُّفِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَمَقْصُودَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ، وَلَئِنْ كَانَ الْإِذْنُ إطْلَاقًا وَتَمْلِيكًا لِلْيَدِ مِنْهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُكُمْ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ إطْلَاقٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْوِلَايَةِ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالْإِعَارَةَ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْإِذْنِ كَذَلِكَ وَهَذَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 9 لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُفِيدٌ فَمَقْصُودُ الْمَوْلَى تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِيهِ، ثُمَّ يَفُوتُ ذَلِكَ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ آخَرَ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ إنَّمَا أَثْبَتْنَا حُكْمًا عَامًّا عِنْدَ سُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ إذَا صَرَّحَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ مَضَى شَهْرٌ أَوْ يَوْمٌ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْإِذْنُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ طُرُقٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ يَسْتَدْعِي الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي الْبُرِّ بِمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ الْبُرَّ بِالطَّعَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِ الْبُرِّ بِالْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ، وَكَمَا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَكَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بِمُطْلَقِ الْإِذْنِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى التَّصَرُّفِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ لِلْغَيْرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَأَنَّهُ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَكَانَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا يُؤَدِّي مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ كَالْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُ الْوَكِيلِ فِيمَا يَحْصُلُ تَصَرُّفُهُ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْفَوَاتِ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُنَا، وَإِنْ هَلَكَ كَسْبُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ وَدَلَّ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرِّقِّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَلَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى كَسْبِهِ وَلَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَالْإِذْنُ لِإِزَالَةِ الْمَنْعِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ بِالْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ أَوْ يُجْعَلُ كَالْحُرِّ يَدًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِحَقِّ الْعِتْقِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالِاسْتِيلَادِ فَثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ، وَالْإِذْنُ مِثْلُهُ، ثُمَّ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْفَكِّ التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَوْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ يُلَاقِي مَحِلًّا هُوَ مِلْكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 10 غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ مِنْ الْعَبْدِ شِرَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَشْتَرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ وَهُوَ بِالشِّرَاءِ يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّمَّةَ مَمْلُوكَةٌ بِمَنْزِلَةِ ذِمَّتِهِ فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى هُنَا لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَالرِّضَى بِصَرْفِهَا إلَى الدَّيْنِ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ وَنَوْعٍ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ غَيْرِ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو أَوْ رَضِيَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الْمُشْتَرَى مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ نَوْعٍ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إسْقَاطَ حَقِّ الْمَبِيعِ فَأَهْلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَالرِّقُّ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَكَانَ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَوْلَى يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَأَمَّا هَذَا التَّصَرُّفُ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى إسْقَاطًا لِحَقِّهِ لَا إنَابَةَ الْعَبْدِ مَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَيْف يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ بِإِيجَابِ صَاحِبِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِيجَابُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِإِيجَابِ الْمَوْلَى لَهُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْف يُوجِبُ لَهُ مَالًا يَمْلِكُهُ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ عَنْ النَّهْيِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ إذْنًا قَبْلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ نَصًّا فِي نَوْعٍ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَكَذَلِكَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَوْعٍ فَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ إذْنُهُ فِي نَوْعٍ يُوجِبُ الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِدَفْعِ الْغُرُور، وَالضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ فَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفًا مِنْهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ وَحُجَّتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلرِّضَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 11 بِتَصَرُّفِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى إنْسَانًا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِإِذْنٍ فَالْإِذْنُ مَا يَقَعُ فِي الْإِذْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ كَيْفَ يَكُونُ إذْنًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يُبَاشِرُهُ لَا يَنْفُذُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى، وَأَنَّهُ إذَا رَآهُ يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ فَسَكَتَ لَا يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَالْحَاجَةُ إلَى رِضًى مُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ كَمَنْ رَأَى إنْسَانًا يُتْلِفُ مَالَهُ فَسَكَتَ فَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِسُكُوتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ سُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِتَرْجِيحِ الرِّضَا فِيهِ وَهُوَ أَنَّ لَهَا عِنْدَ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ كَلَامَيْنِ " لَا " أَوْ " نَعَمْ "، وَالْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَعَمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَهِيَ تُسْتَقْبَحُ مِنْهَا لَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَا فَسُكُوتُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجَوَابِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ هَهُنَا فَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِالطَّلَبِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ، وَهَهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الرِّضَا الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ فَإِعْرَاضُهُ عَنْ الطَّلَبِ الْمُؤَكِّدِ لِحَقِّهِ يَجْعَلُ دَلِيلَ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ إذَا بَقِيَ حَقُّ الشَّفِيعِ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى فَأَمَّا هُنَا فَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مُتَأَكِّدٌ، وَفِي إسْقَاطِهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ عِنْدَ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ مَعَهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، وَقَالَ «أَلَا مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا عِنْدَ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَحْضَرِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ سَاكِتًا وَإِذَا لَحِقَتْهُ دُيُونٌ، ثُمَّ قَالَ الْمَوْلَى كَانَ عَبْدِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَتَتَأَخَّرُ الدُّيُونُ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يُعْتَقُ وَهَلْ يُعْتَقُ أَوْ لَا يُعْتَقُ فَيَكُونُ فِيهِ أَنْوَاءُ حَقِّهِمْ وَيَلْحَقُهُمْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَيَصِيرُ الْمَوْلَى غَارًّا لَهُمْ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ جَعَلْنَا سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالسُّكُوتُ مُحْتَمَلٌ كَمَا قَالَ وَلَكِنْ دَلِيلُ الْعُرْفِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرِّضَا فَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يُظْهِرُ النَّهْيَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 12 يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ شَرْعًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ كَمَا فِي سُكُوتِ الشَّفِيعِ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِحَّ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَجْرِهِ نَصًّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى وَلَئِنْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ يُبْنَى عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهَا أَوْضَحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مِنْ يُعَامِلُ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَ الْمُوَكِّلِ رِضًى فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ نَافِذٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ يُعَامِلُهُ لَا يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْوَكِيلَ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: " هَذَا التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ " قُلْنَا: لِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إزَالَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَمَّا يَبِيعُهُ، وَفِي إزَالَةِ مِلْكِهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَوْلَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الدَّيْنُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِهِ تَضَرَّرَ النَّاسُ الَّذِينَ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الْعَبْدُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَأَمَّا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَالْحَاجَةُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِأَجْلِ الرِّضَا تَصَرُّفُ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ إلَى الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ وَسُكُوتُهُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ جَانِبِ الرِّضَا هُنَاكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مُلْتَزِمُ الضَّرَرِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْدَاءُ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ يَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِالِاكْتِسَابِ ضَرُورَةً وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ بِالتَّكَدِّي فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الِاكْتِسَابُ بِالتِّجَارَةِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا فِي الْحُكْمِ كَصَرِيحِ الرِّضَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ حَثَّهُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ بِإِزَاءِ الْمَالِ مِنْ الْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَدَاءَ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا الْمُفِيدُ فِي حَقِّهِ أَدَاءُ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ كَسْبٍ يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتِ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 13 يُؤَدِّ. وَلَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْتَ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَدَّى أَوْ لَمْ يُؤَدِّ وَلَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَتَّصِلُ بِالشَّرْطِ عَلَى أَنْ يَتَعَقَّبَ نُزُولَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ، وَالتَّعْقِيبِ فَيَتَّصِلُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا حَرْفُ الْوَاوِ فَلِلْعَطْفِ لَا لِلْوَصْلِ وَعَطْفُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ تَنْجِيزًا، وَأَمَّا جَوَابُ الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَالِ أَيْ، وَأَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ أَدَائِكَ وَأَمَّا صِفَةُ الْأَمْرِ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ يَقُولُ الرَّجُلُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ أَتَاكَ الْغَوْثُ فَإِذَا قَالَ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّكَ حُرٌّ فَلِهَذَا يَتَنَجَّزُ بِهِ الْعِتْقُ فِي الْحَالِ وَعَلَى هَذَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ افْتَحُوا الْبَابَ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ فَمَا لَمْ يَفْتَحُوا لَا يَأْمَنُوا وَلَوْ قَالَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فَتَحُوا أَوْ لَمْ يَفْتَحُوا وَلَوْ قَالَ إذَا فَتَحْتُمْ الْبَابَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَا لَمْ يَفْتَحُوا، وَلَوْ قَالَ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ فَأَجِّرْ نَفْسَكَ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اُقْعُدْ قَصَّارًا وَصَبَّاغًا فَإِنَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ مَنْ يُعَامِلُهُ فَقَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَهُنَا عَيَّنَ مَنْ يُؤَاجِرُ الْعَبْدَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُفَوِّضْ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِيهِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ رَسُولًا قَائِمًا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَنَافِعِهِ هَهُنَا وَمَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَاسْتَشْهَدَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ عَبْدًا لَهُ يُؤَاجِرُ عَبْدًا لَهُ آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لِوَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ قَالَ: اعْمَلْ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ فِي الْحَنَّاطِينَ أَوْ قَالَ أَجِّرْ نَفْسَكَ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ الْحَنَّاطِينَ فَهَذَا مِنْهُ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُعَامِلُهُ بَلْ جَعَلَ تَعْيِينَهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِهِ وَالنَّقَّالُونَ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الْخَشَبَ مِنْ الشَّطْءِ إلَى الْبُيُوتِ، وَالْحَنَّاطُونَ يَنْقُلُونَ الْحِنْطَةَ مِنْ مَوْضِعِ السَّفِينَةِ إلَى الْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْعَبِيدُ، وَالْأَقْوِيَاءُ. وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ يَشْتَرِي لَهُ ثَوْبًا أَوْ لَحْمًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ إذْنٌ لَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 14 فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اخْتِيَارَ مَنْ يُعَامِلُهُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ فِي عَادَةِ النَّاسِ هَذَا اسْتِخْدَامٌ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ إذْنًا فِي التِّجَارَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى اسْتِخْدَامُ الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ الِاسْتِخْدَامَ يَكُونُ فِي حَوَائِجِ الْمَوْلَى وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَقْدِ مِنْ حَوَائِجِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ التِّجَارَةَ بِهَذَا الشِّرَاءِ إنَّمَا يَقْصِدُ كِفَايَةَ الْوَقْتِ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالتِّجَارَةِ مَا يَقْصِدُ بِهِ الْمَالَ، وَالِاسْتِرْبَاحَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبَ كِسْوَةٍ لِلْمَوْلَى أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ أَوْ طَعَامًا رِزْقًا لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَقْلًا بِفَلْسَيْنِ أَكَانَ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَاقْطَعْهُ قَمِيصًا أَوْ اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ طَعَامًا فَكُلْهُ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَاوِيَةً وَحِمَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِمَوْلَاهُ وَلِعِيَالِهِ وَلِجِيرَانِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: اسْتَقِ عَلَى هَذَا الْحِمَارِ الْمَاءَ وَبِعْهُ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ وَقَصَدَ بِهِ تَحْصِيلَ الْمَالِ، وَالرِّبْحِ. وَلَوْ أَنَّ طَحَّانًا دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ حِمَارًا لِيَنْقُلَ عَلَيْهِ طَعَامًا لَهُ فَيَأْتِيهِ بِهِ لِيَطْحَنَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ فِي نَقْلِ الطَّعَامِ إلَيْهِ، وَمَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَاتِ وَلَا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَمَلِ لَا تَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ الطَّعَامَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الطَّعَامَ مِنْ النَّاسِ بِأَجْرٍ وَيَنْقُلَهُ عَلَى الْحِمَارِ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَأَمَرَهُ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ تَاجِرًا وَلَهُ غِلْمَانٌ يَبِيعُونَ مَتَاعَهُ بِأَمْرِهِ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَةِ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ جُعِلَ إذْنًا فَتَمْكِينُهُ إيَّاهُمْ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِ فِي حَانُوتِهِ أَوْ أَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إذْنًا وَلِذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا لِغَيْرِهِ مَتَاعَهُ فَإِنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِمْ وَرَضِيَ بِالْتِزَامِهِمْ الْعُهْدَةَ فِيمَا يَبِيعُونَهُ لِغَيْرِهِمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ مَتَاعًا أَوْ يَشْتَرُوا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَاشْتَرَوْهُ لَزِمَهُمْ الثَّمَنُ وَهُمْ تُجَّارٌ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمْ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبَهُمْ بِالثَّمَنِ. وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ فِي حَانُوتِهِ مَتَاعَهُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ مَأْذُونًا لِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ مَا بَاعَ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ جَوَازَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 15 الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ يَعْتَمِدُ التَّوْكِيلَ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَمْرِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ أَمْرًا وَلَا إجَازَةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْكِيلُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِيمَا يَبِيعُ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى بِأَمْرِهِ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى، وَأَنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَتَاعِ فِي الْحَالِ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالسُّكُوتِ بِخِلَافِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ الرِّضَى لَا التَّوْكِيلَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ عَبْدٌ دَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ مَتَاعًا لِيَبِيعَهُ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى يَرَاهُ يَبِيعُ وَلَا يَنْهَاهُ فَهُوَ إذْنٌ مِنْ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَتَاعِ جَائِزٌ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ لَا بِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى وَإِنْ نَهَاهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ تَأَثُّرَ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعُهْدَةَ تَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ نَهَاهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَرَهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَلْزَمُ الْعُهْدَةَ فِي تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ الْعُهْدَةُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ لَهُ. وَإِذَا اغْتَصَبَ الْعَبْدُ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعًا فَبَاعَهُ وَمَوْلَاهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ وَلَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ مَتَاعًا لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتِجَارَتِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً، وَإِنْ فَسَدَ ذَلِكَ الْعَقْدُ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ خَمْرًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْفُصُولَ لِإِزَالَةِ إشْكَالِ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِسُكُوتِهِ فَكَيْف يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ بِهِ مَأْذُونًا. وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ إلَى أُفُقٍ مِنْ الْآفَاقِ بِمَالٍ عَظِيمٍ يَشْتَرِي لَهُ الْبَزَّ وَنَهَاهُ عَنْ بَيْعِهِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَهُوَ شِرَاءُ الْبَزِّ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِشِرَاءِ الْبَزِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَشْتَرِي بِمَالِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَالُ الْمَوْلَى دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الَّذِي أَجَازَهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يُعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى بِسُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ رَاضِيًا بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَكِنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 16 لَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَوْلَى مَالٌ آخَرُ لَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ كَالْمُسْتَقِرِّ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْإِقْرَاضُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ فَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَقْبُوضِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُهُ وَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَوْلَى ذَلِكَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ، وَالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَهُ انْتَقَضَ شِرَاءُ الْعَبْدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فَصَارَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ فَإِذَا فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى بَطَلَ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا دَفَعَ إلَى غُلَامِهِ مَالًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا وَيَدْفَعُهُ إلَى فُلَانٍ فَيَشْتَرِي بِهِ الْبَزَّ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ مَوْلَاهُ فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ حِينَ أَمَرَهُ بِحَمْلِ الْمَالِ إلَيْهِ وَلَمْ يُفَوِّضْ شَيْئَا مِنْ الْعُقُودِ إلَى رَأْيِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشِّرَاءَ بِهِ إلَى فُلَانٍ، ثُمَّ الْعَبْدُ يَأْتِيهِ بِمَا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ لَهُ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِخْدَامًا وَإِرْسَالًا لَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ أَرْضًا لَهُ بَيْضَاءَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فَيَزْرَعَهَا وَيَتَقَبَّلَ الْإِجْرَاءَ فِيهَا فَيَكْرِيُونَ أَنْهَارَهَا وَيَسْقُونَ زُرُوعَهَا وَيَكْرُبُونَهَا وَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ الْعَقْدِ إلَى رَأْيِهِ وَقَصَدَ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ، وَالْمَالِ بِتَصَرُّفِهِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ ثَمَنِ الطَّعَامِ وَأُجْرَةُ الْإِجْرَاءِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ثَوْبًا وَاحِدًا يُرِيدُ بِذَلِكَ الرِّبْحَ، وَالتِّجَارَةَ فَهُوَ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ بِاخْتِيَارِ مَنْ يُعَامِلُهُ فِي عَقْدٍ هُوَ تِجَارَةٌ وَكَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَصَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ قَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِذَا مَضَى رَأَيْتُ رَأَيَا فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَبَدًا حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ؛ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْوَقْتِ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْمَكَانِ. وَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الْحَانُوتِ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَكَّ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ تَامٌّ كَالْإِعْتَاقِ وَنَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ غَيْرُ تَامٍّ كَالْكِتَابَةِ وَنَوْعٌ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا تَامٍّ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَمَا أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَقْبَلَانِ التَّخْصِيصَ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ فَكَذَلِكَ هَذَا النَّوْعُ، ثُمَّ تَقْيِيدُ هَذَا الْإِذْنِ بِوَقْتٍ كَتَقْيِيدِهِ بِنَوْعٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي يَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 17 الشَّهْرِ فَإِذَا مَضَى هَذَا الشَّهْرُ فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ فَلَا تَبِيعَنَّ وَلَا تَشْتَرِيَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَجْرُهُ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَجْرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ كَانَ هَذَا بَاطِلًا فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَحْجُورِ: إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِطْلَاقِ مَعْنَى إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فَأَمَّا الْحَجْرُ فَمِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إحْرَازٌ لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ، وَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَوْ يُجْعَلُ الْحَجْرُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَبِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فِي الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ. وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَاجِرُهُ لِلِاسْتِخْدَامِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَهُ لِنَفْسِهِ لَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ لَهُ الْبُرَّ وَيَشْتَرِيَهُ جَازَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فَصَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ، وَالْتِزَامِهِ الْعُهْدَةَ لِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِلْمُسْتَأْجِرِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ نَائِبٌ كَالْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التُّجَّارُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمَأْذُونُ، وَالْمُكَاتَبُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى الْمُضَارِبِ مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ. وَاخْتَلَفَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 18 مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ إذَا أَذِنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ أَمْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَتِهِ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -)، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ فَكُّ الْحَجْرِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْآذِنُ لَهُ مُضَارِبًا لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ لِعُهْدَةِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَذَا الْعَبْدُ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ، وَالْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ لَوْ جَنَى جِنَايَةً لَا يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لِهَذَا الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُضَارِبِ وَلَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِقَبْضِ غَلَّةِ دَارٍ أَوْ أَمَرَهُ بِقَبْضِ كُلَّ دَيْنٍ لَهُ عَلَى النَّاسِ أَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِيَامِ عَلَى زَرْعٍ لَهُ أَوْ أَرْضٍ أَوْ عَلَى عُمَّالٍ فِي بِنَاءِ دَارِهِ أَوْ أَنْ يُحَاسِبَ غُرَمَاءَهُ أَوْ أَنْ يُقَاضِيَ دَيْنَهُ عَنْ النَّاسِ وَيُؤَدِّيَ مِنْهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ أَوْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ دَيْنًا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِخْدَامِ لَا مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ مَا فَوَّضَ شَيْئًا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَلَا رَضِيَ مِنْهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا. فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَفِي الْقَبْضِ اكْتِسَابُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مُسْتَحَقٌّ. قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى بِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا قَبَضَ مَالًا مِنْ إنْسَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ أَنْ يَرْضَى الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِسَبَبٍ لَوْلَا إذْنُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَرْيَةٍ لَهُ عَظِيمَةٍ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهَا وَيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَيَزْرَعَ فِيهَا وَيَبِيعَ الثِّمَارَ فَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا كَانَ إذْنًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التِّجَارَاتِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِتِلْكَ التِّجَارَاتِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لِي الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ اشْتَرِ لِفُلَانٍ الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 19 رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْعَبْدِ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لِنَفْسِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا إلَّا أَنَّهُ يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا فِي تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي لِعَبْدِهِ الْيَتِيمِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا لِلْأَبِ ذَلِكَ وَلِلْوَصِيِّ، ثُمَّ إذْنُهُمَا فِي التِّجَارَةِ لِعَبْدِ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي. وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي لِلْعَبْدِ اتَّجِرْ فِي الطَّعَامِ خَاصَّةً فَاتَّجَرَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَالِغًا فَقَالَ لِعَبْدِهِ: اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْقَاضِي لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَفْعَهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي: اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً وَلَا تَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَقَوْلُ الْقَاضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ كَانَ بَاطِلًا، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ أَوْ حَجْرٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ دَفَعَ هَذَا الْعَبْدِ إلَى الْقَاضِي، وَقَدْ اتَّجَرَ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنٌ فَأَبْطَلَهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَمْضَى قَضَاءَهُ وَأَبْطَلَ دَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ بِقَضَائِهِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ هَلْ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ إيَّاهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي كَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمْرِ فَأَمَّا قَضَاؤُهُ بِإِبْطَالِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ فَقَضَاءٌ صَحِيحٌ مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى سَفِيهٍ فَإِنَّ حَجْرَهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً مِنْهُ حَتَّى أَنَّ لِغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَ حَجْرَهُ وَلَوْ تَصَرَّفَ هَذَا السَّفِيهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَرَفَعَ تَصَرُّفَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَبْطَلَهُ كَانَ هَذَا قَضَاءً صَحِيحًا مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُصَحِّحَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِذْنِ لِلصَّبِيِّ الْحُرِّ وَالْمَعْتُوهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ فِي جِنْسٍ مِنْهَا وَهُوَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 20 يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا مِثْلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بَاطِلٌ إذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَعْتُوهًا حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِبَارَتَهُ صَالِحَةٌ لِلْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَضَرَّةِ وَعِنْدَهُ هِيَ غَيْرُ صَالِحَةٍ حَتَّى لَوْ تَوَكَّلَ بِالتَّصَرُّفِ عَنْ الْغَيْرِ نَفَذَ تَصَرُّفَهُ عِنْدَنَا وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فَقَدْ شَرَطَ الْبُلُوغَ وَإِينَاسَ الرُّشْدِ لِجَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وَالْمُرَادُ الصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينَ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فَالْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا تُبْنَى الْأَهْلِيَّةُ عَلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِكَلَامٍ مُلْزِمٍ شَرْعًا وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لِعَدَمِ الْخِطَابِ بَقِيَ مُولًى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ صَارَ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ أَهْلًا لِمُبَاشَرَتِهَا لَمْ يَبْقَ مُولًى عَلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُولًى عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِنَفْسِهِ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلتَّصَرُّفِ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ مَعَ النُّقْصَانِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ فَجُعِلَ عَقْلُهُ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرًا؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَخِيرَتُهُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فِيهِ وَلِأَنَّ مَا بِهِ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ يَزُلْ بِالْإِذْنِ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الصِّبَا أَوْ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ لَا لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ إذْ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَلَوْ زَالَ سَبَبُ الْحَجْرِ بِإِذْنِ الْوَلِيّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْحَجْرَ هُنَاكَ لَحِقَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ وَبِالْإِذْنِ صَارَ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ فِي كَسْبِهِ وَبِخِلَافِ السَّفِيهِ فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ لَازِمٍ وَلَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ إلَّا أَنَّ إذْنَ الْقَاضِي إيَّاهُ دَلِيلُ زَوَالِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، وَالِابْتِلَاءُ هُوَ الِامْتِحَانُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُ وَصَلَاحُهُ فَلَوْ تَصَرَّفَ بِدُونِ مُبَاشَرَتِهِمْ لَا يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، ثُمَّ عَلَّقَ إلْزَامَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِالْبُلُوغِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَوَالِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَبْلُغْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَاسْمُ الْيَتِيمِ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ فَعَرَفْنَا أَنْ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ وَتَمْكِينَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 21 مِنْ التَّصَرُّفَاتِ جَائِزٌ إذَا صَارَ عَاقِلًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5] الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَوْ الْمُرَادُ النِّسَاءُ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَدْفَعُ الْمَالَ لِزَوْجَتِهِ وَيَجْعَلُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَنَا. «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: وَقُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَبِيعُ لُعَبَ الصِّبْيَانِ فِي صِغَرِهِ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ» فَقَدْ مَكَّنَ الصَّبِيَّ مِنْ التَّصَرُّفِ فَدَلَّ أَنَّ عِبَارَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ لَهُ وَعَرَّفَهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالْعَبْدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الصِّغَرِ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ إذَا كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ مُمَيِّزٌ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلتَّصَرُّفِ بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عَنْ تَمْيِيزٍ وَبَيَانٍ لَا عَنْ تَلْقِينٍ وَهَذَيَانٍ وَقَدْ صَارَ مُمَيَّزًا إلَّا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ؛ لِأَنَّ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ إضْرَارًا بِهِ عَاجِلًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ جُعِلَ أَهْلًا لِلنَّوَافِلِ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ رُبَّمَا لَا يُؤَدِّي لِلْحَرَجِ وَيَبْقَى فِي وَبَالِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُقَرَّبُ مِنْ الْمَنَافِعِ وَيُبَعَّدُ مِنْ الْمَضَارِّ فَإِنَّ الصِّبَا سَبَبٌ لِلْمَرْحَمَةِ وَاعْتِبَارُ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِالْبَيَانِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا لَهُ بِرَأْيِ الْمَوْلَى؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً وَهُوَ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَضَرَّةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ انْضِمَامُ رَأْيٍ إلَى رَأْيِهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَلَوْ نَفَّذْنَا ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِذْنِ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَيَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَ إذْنِ الْوَلِيِّ فَأَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ عِنْدَنَا. وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ حَالُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ بِمَا أَصَابَ مِنْ الْعَقْلِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ بِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلَا يَحِلُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ شَرْعًا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ حُسْنُ النَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ إذْنُ الْوَلِيِّ لَهُ دَلِيلُ كَمَالِ عَقْلِهِ أَوْ حُسْنِ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ كَإِذْنِ الْقَاضِي لِلسَّفِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ حِينَ لَزِمَ التَّصَرُّفَ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ فَإِذَا اعْتَبَرْنَا عَقْلَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اتَّسَعَ تَوْفِيرُ طَرِيقِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَنْفَعَةُ التَّصَرُّفِ بِمُبَاشَرَتِهِ وَبِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهِ أَخْذَ النَّاسِ وَيَجْعَلَ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ طَرِيقًا وَاحِدًا إلَّا أَنَّ نَظَرَهُ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ مُتَرَدِّدٌ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ ظَاهِرًا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَلِتَوَهُّمِ الْقُصُورِ فِيهِ يَبْقَى وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ مَا أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 22 إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْجُرَ وَعَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إقْرَارُهُ بَعْدَ إذْنِ الْوَلِيِّ لَهُ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِغَيْرِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَهَذَا إشْكَالُ الْخَصْمِ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ يَقُولُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ بَاطِلٌ فَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ هُوَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ مَا لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ مُبَاشَرَتَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَلِيُّ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالْإِقْرَارُ قَوْلٌ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا ثَبَتَ عَلَى الْغَيْرِ فَهُوَ شَهَادَةٌ وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيّ قَوْلٌ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ شَهَادَةٌ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَأَمَّا قَوْلُهُ " بَعْدَ الْإِذْنِ " إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَمَنْ يُعَامِلُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ فَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ يَجُوزُ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِي كَسْبِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي التِّجَارَاتِ وَهَذِهِ الْحَاجَة تَنْعَدِمُ فِي الْمَوْرُوثِ مِنْ أَبِيهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِي حُكْمِ إقْرَارِهِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فَكَذَلِكَ فِيمَا وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ مَلَكَهُ وَهُوَ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا انْضَمَّ رَأْيُ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ الْتَحَقَ بِالْبَالِغِ؛ وَلِهَذَا نَفَّذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ يَلْتَحِقُ بِالْبَالِغِ، ثُمَّ صِحَّةُ الْإِذْنِ لَهُ فِي وَلِيِّهِ وَوَلِيُّهُ أَبُوهُ، ثُمَّ وَصِيِّ الْأَبِ، ثُمَّ الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ، ثُمَّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ وَصِيِّ الْقَاضِي فَأَمَّا الْأُمُّ أَوْ وَصِيُّ الْأُمِّ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ مِنْهُمْ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَلِيٍّ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَ عَقَارِهِ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ فِي حَالِ إذْنِهِ أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا قَبْلَ الْإِذْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَالِاسْتِهْلَاكِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْإِذْنِ. وَلَوْ كَاتَبَ هَذَا الصَّبِيُّ مَمْلُوكَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَمْلِكُهَا وَلَا يُقَالُ فَالْأَبُ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فِي عَبْدِ الصَّبِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَيَتَحَقَّقُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 23 فِي الْكِتَابَةِ النَّظَرُ وَأَمَّا تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَمُقَيَّدٌ بِالتِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكَانِ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْعَبْدِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَلَا يَمْلِكُهُ أَبُوهُ وَوَصِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَإِلْزَامُ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلصَّبِيِّ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَبُرَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ وَلَا مُجِيزَ لِهَذَا التَّصَرُّفِ حَالَ وُقُوعِهِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ فِي الْحَالِ بِبَدَلٍ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسِهِ وَلَوْ أَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْكِبَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجِيزَ لَهُ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ زَوَّجَ الْأَجْنَبِيُّ أُمَّتَهُ أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَأَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لِهَذَا التَّصَرُّفِ مُجِيزًا حَالَ وُقُوعِهِ وَهُوَ وَلِيُّهُ، وَالْوَلِيُّ فِي الْإِجَازَةِ نَاظِرٌ لَهُ فَإِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالنَّظَرِ لِنَفْسِهِ نَفَّذَ بِإِجَازَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ، وَالْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَاهُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَإِذَا فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ تَنْفُذُ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ مِمَّنْ قَامَ رَأْيُهُ مَقَامَ رَأْيِ الصَّبِيِّ فَيَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْآذِنِ أَوْ مِنْ الصَّبِيِّ بَعْدَ مَا كَبِرَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا النَّظَرِ وَلَوْ زَوَّجَ هَذَا الصَّبِيُّ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ بِيعَتْ فَأُعْتِقَتْ لَحِقَ الْعَبْدَ نَفَقَتُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الضَّرَرِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَوِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ لَا تَتَعَيَّنُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ امْرَأَةٌ فَخَلَعَهَا أَبُوهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَجَازَ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَا كَبِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجِيزَ لِهَذَا التَّصَرُّفِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ مَحْضُ ضَرَرٍ عَاجِلٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَلَا وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَإِذَا قَالَ حِينَ كَبِرَ قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهَا فُلَانٌ أَوْ قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَى الْعَبْدِ ذَلِكَ الْعِتْقِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فُلَانٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إيقَاعُ مُسْتَقْبَلٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ ابْتِدَاءً بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَكُونُ إضَافَتُهُ إلَى أَوْقَعَ، فُلَانٌ لِتَعْرِيفِ الْعَدَدِ وَالصِّفَةِ لَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْإِيقَاعِ مِنْ فُلَانٍ لَكِنَّهُ مِنْ الْمَوْقِعِ فِي الْحَالِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 24 وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ تَقَيُّدٌ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي بَاشَرَهُ فُلَانٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً وَقَدْ تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَإِجَازَتُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَكُونُ لَغْوًا. وَإِذَا بَاعَ الصَّبِيُّ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَدَفَعَ الْعَبْدُ، ثُمَّ ضَمِنَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مَا أَدْرَكَهُ فِي الْعَبْدِ مِنْ دَرَكٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ فَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مُطَالَبٌ بِضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُ الْكَفِيلِ عَنْهُ ذَلِكَ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ عَلَى الصَّبِيِّ لَا مِنْهُ وَهُوَ فِي التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ كَالْبَالِغِ وَأَمْرُ الْغَيْرِ بِالْكَفَالَةِ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مَأْذُونًا بِمَنْزِلَةِ اسْتِقْرَاضِهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَالضَّمَانُ عَنْهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ فَالْكَفِيلُ عَنْهُ الْتَزَمَ مَا لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ أَيْضًا إنْ كَانَ الثَّمَنُ قَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ بِتَسْلِيطٍ صَحِيحٍ مِنْ الْمُشْتَرِي حِينَ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَصْلِ الشِّرَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الصَّبِيِّ، ثُمَّ وَقَعَ الثَّمَنُ عَلَى لِسَانِ الْكَفِيلِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْكَفِيلَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الصَّبِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ لَهُ فَتَسْلِيمُهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا الضَّمَانِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الدَّفْعُ حَصَلَ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ ضَامِنٌ لَهُ، وَالصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ هَذَا الضَّمَانِ، ثُمَّ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْتَزَمَ مُطَالَبَةً لَيْسَتْ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَانَ بَاطِلًا ". (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا حَتَّى أَرُدَّهَا عَلَيْكَ، وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَفَعَلَ كَانَ ضَمَانُهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ الدَّرَاهِمَ أَوَّلًا إلَى الصَّبِيِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ ضَمِنَهَا لَهُ رَجُلٌ بَعْدَ الدَّفْعِ كَانَ ضَمَانُهُ بَاطِلًا، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا. وَإِذَا اشْتَرَى الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَكَذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا فِي كَسْبِهِ، وَإِنَّ مَأْذُونًا صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 25 دَيْنَ الْحُرِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ بِخِلَافِ دَيْنِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَصِيرُ الْمَوْلَى - مِنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقَا وَإِذْنُ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لِعَبْدِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ لِلْقَاضِي أَوْ الْوَالِي وَإِذْنُ أَمِيرِ الشَّرْطِ، وَمِنْ لَمْ يُوَلَّ الْقَضَاءَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. ، وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُولًى عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ وَلَكِنَّهُ يَعْقِلُ التَّصَرُّفَ، وَفِي اعْتِبَارِ عَقْلِهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَرَّرْنَا فِي الصَّبِيِّ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ عَقْلُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى مَنْ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالْآدَابِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّخْيِيرِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي فِيهَا الْمَنْفَعَةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ بَلْ هُوَ نَظِيرُ الْهِبَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْتُوهُ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فَأَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ هَذَيَانٍ لَا عَنْ بَيَانٍ وَلَوْ أَذِنَ لِلْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فِي التِّجَارَةِ ابْنَهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَعَلَى هَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَقْرِبَائِهِ سِوَى الْأَبِ، وَالْجَدِّ فَإِذْنُهُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا [بَابُ الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَعْتُوهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَاشْتَرَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ، ثُمَّ أَرَادَ مَوْلَاهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَكُونُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إلَّا فِي أَهْلِ سُوقِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِعِلْمِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ عِلْمِ الْعَبْدِ وَبِغَيْرِ عِلْمِ أَهْلِ السُّوقِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ عِنْدَهُ إنَابَةٌ كَالتَّوْكِيلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ بِهِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا فِي أَهْلِ سُوقِهِ لَثَبَتَ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ الْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَهْلُ سُوقِهِ فَكَذَلِكَ الْحُرُّ الَّذِي يَرْفَعُهُ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ صَحِيحٌ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَنْ يُعَامِلُهُ فَكَذَلِكَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 26 الْحَجْرُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَكِنَّا نَشْتَرِطُ عِلْمَ أَهْلِ السُّوقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْهُمْ فَإِنْ الْإِذْنُ عَمَّ وَانْتَشَرَ فِيهِمْ فَهُمْ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ صَحَّ الْحَجْرُ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ تَضَرَّرُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنْ اكْتَسَبَ رِبْحًا أَخَذَهُ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ إنْ كَانَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ فَتَتَأَخَّرُ حُقُوقُهُمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا نَدْرِي أَيُعْتَقُ أَمْ لَا وَمَتَى يُعْتَقُ، وَالْمَوْلَى بِتَعْمِيمِ الْإِذْنِ يَصِيرُ كَالْفَارِّ لَهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قُلْنَا لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَهْلُ سُوقِهِ، ثُمَّ هُوَ بِالْحَجْرِ يَلْزَمُهُمْ التَّحَرُّزُ عَنْ مُعَامَلَتِهِ، وَالْخِطَابُ الْمُلْزِمُ لِلْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَجُوِّزَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الِائْتِمَارِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْوَكَالَةِ شَرَطْنَا عِلْمَ الْوَكِيلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ أَهْلِ السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَزْلِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُمْ مَعَهُ نَافِذٌ سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ الْحَجْرُ رَفَعَ الْإِذْنَ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الشَّيْءَ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ فَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ مُنْتَشِرًا لَا يَرْفَعُهُ إلَّا حَجْرٌ مُنْتَشِرٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ إعْلَامَ جَمِيعِ النَّاسِ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَوْلَى، وَالتَّكْلِيفُ ثَابِتٌ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ إشْهَارُ الْحَجْرِ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ سُوقِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُعَامَلَاتِهِ مَعَ أَهْلِ سُوقِهِ وَمَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ يَصِلُ خَبَرُهُ إلَى غَيْرِهِ عَنْ قَرِيبٍ. فَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ بَاعَ الْعَبْدُ أَوْ اشْتَرَى مِمَّنْ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْحَجْرِ التَّشْهِيرُ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَالْإِذْنِ وَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَوْ ثَبَتَ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ كَانَ حَجْرًا خَاصًّا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ مِنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَنَهَاهُ عَنْ آخَرِينَ فَبَايَعَ الَّذِينَ نَهَاهُ عَنْهُمْ كَانَ جَائِزًا، وَهَذَا بِخِلَافِ خِطَابِ الشَّرْعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ ثَبَتَ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِمَّا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَإِذَا أَتَى الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ فَقَالَ: قَدْ حَجَرْتُ عَلَى هَذَا فَلَا تُبَايِعُوهُ كَانَ هَذَا حَجْرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أُتِيَ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَهُوَ تَشْهِيرُ الْحَجْرِ فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ عِلْمِ جَمِيعِ أَهْلِ السُّوقِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ بِالشَّرَائِعِ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى زَمَانٌ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِإِشْهَارِ حُكْمِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَرْبِيُّ إذَا - أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مَا لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ غَيْرُ مُنْتَشِرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ الْمَوْلَى قَدْ أَنْذَرَهُمْ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ، وَقَدْ أَعْذَرَ مِنْ أَنْذَرَ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 27 غَارًّا لَهُمْ أَوْ مُضِرًّا بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ بِمَحْضَرِ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ فَإِنْ كَانَ إنَّمَا حَضَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَجْرًا حَتَّى يَحْضُرَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ عَيْنَ السُّوقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ إلَى سُوقِهِ لَيْلًا وَجَعَلَ يُنَادِي قَدْ حَجَرْتُ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ أَهْلِ السُّوقِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إعْلَامُ الْكُلِّ فَيُقَامُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَحُضُورِ جَمَاعَتِهِمْ فَثَبَتَ حُكْمُ الْحَجْرِ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ، وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّوقِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَعَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ إلَى بَيْتِهِ وَحَجَرَ عَلَيْهِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا وَلَوْ دَعَا إلَى مَنْزِلِهِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ كَانَ حَجْرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَلَّ مَا يَخْفَى فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِمَحْضَرِ الْوَاحِدِ، وَالْمُثَنَّى فَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْجَمَاعَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْحَجْرِ تَشْهِيرُهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ. وَلَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ إلَى بَلَدٍ لِلتِّجَارَةِ فَأَتَى الْمَوْلَى أَهْلَ سُوقِهِ فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا حَجْرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَرَجَ لِيُعَامِلَ غَيْرَ أَهْلِ سُوقِهِ فَبِإِعْلَامِ أَهْلِ السُّوقِ لَا يَتِمُّ مَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ وَلِأَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ بِالْحَجْرِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ كَعِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْغُرُورِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتَضَرَّرُ لِصِحَّةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَبْلَ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ فَإِذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ وَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَرَ عَلَيْهِ تَأَخَّرَ دُيُونُهُ إلَى عِتْقِهِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي الْمِصْرِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَجْرِ فَلَيْسَ هَذَا بِحَجْرٍ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَ أَهْلِ سُوقِهِ وَمَعَ غَيْرِهِمْ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَجْرِ فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ حِينَ عَلِمَ وَمَا اشْتَرَى وَبَاعَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْحَجْرِ عِلْمُهُ بِهِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ سَبَقَ مَا هُوَ شَرْطُ الْحَجْرِ فَهُوَ كَالتَّصَرُّفِ الَّذِي سَبَقَ الْحَجْرَ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ كَانَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْحَجْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ قَدْ حَصَلَ بِعِلْمِهِ بِالْحَجْرِ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى يَرَاهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ بَعْدَ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ بِهِ الْعَبْدَ فَلَمْ يَنْهَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْعَبْدُ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى بَعْدَ عِلْمِهِ فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا، وَأَنْ لَا تَكُونَ رُؤْيَتُهُ إيَّاهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي إذْنًا مُسْتَقْبَلًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا عَلَى حَالِهِ حِينَ رَآهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ دَلِيلُ الرِّضَا فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا لِرَفْعِ الْحَجْرِ بِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَأْذُونٌ فَسُكُوتُهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 28 عَنْ النَّهْيِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَتِهِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ وَجُعِلَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَ أَشْهَدَ بِهِ مِنْ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِ الْعَبْدِ بِهِ، وَالْحَجْرُ الْمَوْقُوفُ دُونَ الْحَجْرِ النَّافِذِ، ثُمَّ رُؤْيَتُهُ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ وَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ لَمَّا كَانَ رَافِعًا لِلْحَجْرِ النَّافِذِ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَبْدُ فَلَأَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلْحَجْرِ الْمَوْقُوفِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجْرِ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ كَانَ هَذَا إذْنًا مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْحَجْرِ الْمَوْقُوفِ فَكَذَلِكَ إذَا سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ كَانَ لِكَرَاهَةِ تَصَرُّفِهِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ، وَالرِّضَا بَعْدَ الْكَرَاهَةِ كَامِلٌ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ سِوَى الْعَبْدِ حَتَّى حَجَرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِوُصُولِ الْحَجْرِ إلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْإِذْنُ وَهُوَ الْعَبْدُ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَجْرَ مِثْلُ الْإِذْنِ، وَالشَّيْءُ يَرْفَعُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ عِلْمِ أَهْلِ السُّوقِ بِالْحَجْرِ كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالْإِذْنِ لِيُعَامِلُوهُ بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمُوهُ فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلُ سُوقِهِ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فَالْحَجْرُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَجْرُ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالْإِذْنِ فَقَدْ بَطَلَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا عَلِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِإِذْنٍ بَاطِلٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمُوا بِالْإِذْنِ قَبْلَ قَوْلِ الْمَوْلَى حَجَرْتُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَامِلُوهُ حَتَّى كَانَ الْحَجْرُ مِنْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ هَهُنَا بَاطِلٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَهْلُ سُوقِهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ انْتَشَرَ فِيهِمْ حِينَ عَلِمُوا بِهِ فَلَا يُبْطِلُهُ إلَّا حَجْرٌ مُنْتَشِرٌ فِيهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ غَيْرُ الْعَبْدِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَاشْتَرَى وَبَاعَ كَانَ مَأْذُونًا، وَالْحَجْرُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَا وَصَلَ الْحَجْرُ إلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْإِذْنُ وَهُوَ الْعَبْدُ وَهُوَ نَظِيرُ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ لَا يَصِيرُ مَعْزُولًا سَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ عَبْدًا لَهُ أَوْ حُرًّا فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَجْرِ. وَإِذَا أَذِنَ الْعَبْدُ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ فَلَيْسَ هُوَ بِمَأْذُونٍ وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُلْزِمًا إيَّاهُ وَهَذَا خِطَابٌ مُلْزِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِعُهْدَةِ تَصَرُّفَاتِهِ مَعَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْحَالِ وَيُطَالَبُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْآنَ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِذْنِ فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَبَاعَ وَاشْتَرَى جَازَ مَا فَعَلَهُ بَعْد الْعِلْمِ بِالْإِذْنِ وَلَمْ يَجُزْ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَلِمَ فَإِنَّمَا تَمَّ شَرْطُ الْإِذْنِ فِي حَقِّهِ الْآنَ وَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا الْإِذْنُ فِيمَا كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ وَلَوْ أَمَرَ الْمَوْلَى قَوْمًا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَبَايَعُوهُ، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى كَانَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ مَعَهُمْ جَائِزًا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 29 هَكَذَا ذُكِرَ هُنَا. وَفِي الزِّيَادَاتِ قَالَ إذَا قَالَ الْأَبُ لِقَوْمٍ: بَايِعُوا ابْنِي، وَالِابْنُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَخْبَرُوهُ بِمَقَالَةِ الْأَبِ قَبْلَ أَنْ يُبَايِعُوهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُمْ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرُوهُ لَمْ يَنْفُذْ، وَفِي الْوَكَالَةِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إذَا قَالَ اذْهَبْ فَاشْتَرِ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ قَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إنْ أَعْلَمَهُ بِمَقَالَةِ الْمُوَكِّلِ صَحَّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جَازَ شِرَاؤُهُ فَقِيلَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِجَازَتُهُ كَامِلَةٌ فِي نُفُوذِ التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ هُوَ مُلْزَمٌ فِي حَقِّ الْمُتَصَرِّفِ، وَالْإِلْزَامُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَفِي الزِّيَادَاتِ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْحُرِّ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ ابْنِهِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْ الِابْنُ بِإِذْنِ الْأَبِ لَا يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فِي حَقِّهِ وَلِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ شَغْلِ مَالِيَّةِ عَبْدِهِ بِدَيْنِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرْهَنُهُ بِالدَّيْنِ فَيَصِحُّ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْإِذْنِ هَهُنَا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لَا لِثُبُوتِهِ فِي الْعَبْدِ فَالدَّيْنُ بِالْمُعَامَلَةِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ تَصَرُّفُ مَنْ أَمَرَهُ الْمَوْلَى بِالْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِمَقَالَةِ الْمَوْلَى. وَقَدْ قَرَّرْنَا تَمَامَ هَذَا فِي الزِّيَادَاتِ فَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَبَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ مَعَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى بِمُبَايَعَتِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ، وَالْإِذْنُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى أَنْ يُبَايِعُوهُ لَمْ يَفْعَلُوا وَبَايَعَهُ غَيْرُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَيْضًا كَانَتْ مُبَايَعَتُهُمْ إيَّاهُ بَاطِلَةٌ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ مَقَالَةِ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْإِذْنِ فِي حَقِّ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ ضِمْنًا لِتَصَرُّفِهِمْ مَعَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْهُمْ وَمَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِشَيْءٍ لَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ وَثُبُوتُ حُكْمِ الْإِذْنِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ مَعَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى بِمُبَايَعَتِهِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ قَبْلَ تَصَرُّفِهِ مَعَهُمْ فَإِنْ بَايَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَايَعَ الْعَبْدُ بَعْدَهُمْ قَوْمًا آخَرِينَ جَازَتْ مُبَايَعَتُهُ مَعَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى بِهَا وَمَعَ مَنْ بَايَعَهُمْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ تَصِحَّ الْمُبَايَعَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَّا نُفُوذُ مُبَايَعَتِهِ مَعَ الدَّيْنِ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى بِهَا فَلِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْهُمْ وَنُفُوذُهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الَّذِينَ كَانَ عَامَلَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَ الْإِذْنُ فِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 30 حَقِّ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ ثَبَتَ حُكْمُهُ مَقْصُودًا، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ، وَالتَّبَعُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ وَلَا يَسْبِقُهُ. وَإِذَا بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَهَذَا حَجْرٌ عَلَيْهِ عَلِمَ بِهِ أَهْلُ سُوقِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهُ فَإِنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْبَيْعِ بِدُونِ رِضَا الْغُرَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ تَمَكُّنَ الْغُرَمَاءِ مِنْ نَقْضِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ عِتْقُهُ نَافِذًا وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ ثَابِتٌ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ فَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ حُكْمِ ذَلِكَ الْإِذْنِ فِيهِ فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْإِذْنِ وَذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ أَهْلِ السُّوقِ بِهِ كَمَا لَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ وُكِّلَ الْوَكِيلُ بِبَيْعِهِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ تَجَدَّدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى يَصِيرُ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَهْلُ سُوقِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِذْنِ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْمَوْلَى وَقَدْ انْقَطَعَ رَأْيُهُ بِالْمَوْتِ وَحُكْمُ الْإِذْنِ هُوَ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَقَدْ صَارَ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ بِمَوْتِهِ حَقَّ وَرَثَتِهِ وَجَدَّدَ لَهُمْ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ هُوَ الَّذِي كَانَ لِلْمَوْلَى وَلَكِنَّ رِضَا الْمَوْلَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ وَرَثَتِهِ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَلِتَحَقُّقِ الْمُنَافِي قُلْنَا لَا يَبْقَى حُكْمُ الْإِذْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى. وَإِذَا أَشْهَدَ الْمَوْلَى أَهْلَ سُوقِهِ أَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَرْسَلَ إلَى الْعَبْدِ بِهِ رَسُولًا أَوْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ كِتَابًا فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ، وَالْكِتَابُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ وَهُوَ مِمَّنْ يَأْتِي كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّبْلِيغِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، ثُمَّ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى دِينِ الْحَقِّ وَكَانَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا تَامًّا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ لَمْ يُرْسِلْهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْعَبْدُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ حَقًّا وَهَذَا الْخِلَافُ فِي فُصُولٍ: مِنْهَا عَزْلُ الْوَكِيلِ، وَمِنْهَا سُكُوتُ الْبِكْرِ إذَا أَخْبَرَهَا الْفُضُولِيُّ بِالنِّكَاحِ، وَمِنْهَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ الطَّلَبِ إذَا أَخْبَرَهُ فُضُولِيٌّ بِالْبَيْعِ، وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْجَانِي بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ فُضُولِيٌّ بِجِنَايَتِهِ فَطَرِيقُهُمَا فِي الْكُلِّ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 31 بِالْوَكَالَةِ وَبِالْإِذْنِ لِلْعَبْدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ ضَرْبُ حَرَجٍ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ عَدْلٍ عِنْدَ كُلِّ مُعَامَلَةٍ؛ وَلِهَذَا سَقَطَ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ فَلِذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِيهِ وَمَتَى كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا فَالْمُخْبِرُ بِهِ كَأَنَّهُ رَسُولُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ حَجَرَ عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ الْحَجْرَ دَلَالَةً، وَالدَّلَالَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَالصَّرِيحِ خُصُوصًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوَسُّعِ وَلَوْ أَرْسَلَهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ صِفَةُ الْعَدَالَةِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَذَلِكَ مَنْعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْحَجْرَ، وَالْعَزْلَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا يُخَالِفُ النَّصَّ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ عَنْ الْمُرْسِلِ فَعِبَارَةُ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَأَمَّا الْفُضُولِيُّ فَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَبْقَى حُكْمَ الْخَبَرِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِهِ بِالنَّصِّ، ثُمَّ هَذَا خَبَرٌ مُلْزِمٌ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمَ الْعَبْدَ الْكَفُّ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَالشَّفِيعُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةَ، وَالْبِكْرُ حُكْمُ النِّكَاحِ، وَالْمَوْلَى حُكْمُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا كَخَبَرِهِ فِي الدِّيَانَاتُ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ بِالْوَكَالَةِ، وَالْإِذْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُلْزِمٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَصَرَّفَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَصَرَّفْ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ أَنَّ لِهَذَا الْخَبَرِ شَبَهَيْنِ شَبَهُ رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ مِنْ حَيْثُ إلْزَامُ الْعَمَلِ بِهِ وَشَبَهُ الْإِخْبَارِ بِالْوَكَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَامَلَةٌ وَمَنْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ شَرَطْنَا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَلِشَبَهِهِ بِالْمُعَامَلَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَاسِقَانِ فَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقَيْنِ كَخَبَرِ فَاسِقٍ وَاحِدٍ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا، وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَمَنْ اخْتَارَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ " عَدْلٌ " يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْوَاحِدِ، وَالْمُثَنَّى، يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وَرِجَالٌ عَدْلٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَاسِقَانِ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَدَالَةِ الْوَاحِدَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الشَّهَادَةِ الْعَدَدَ، وَالْعَدَالَةَ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِهَا وَتَأْثِيرُ الْعَدَدِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَدَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَنْفُذُ وَبِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ إذَا وُجِدَتْ الْعَدَالَةُ هَهُنَا بِدُونِ الْعَدَدِ يَثْبُتُ الْحَجْرُ بِالْخَبَرِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْعَدَدُ دُونَ الْعَدَالَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ تَزْدَادُ بِالْعَدَدِ كَمَا تَزْدَادُ بِالْعَدَالَةِ. وَيَخْتَلِفُونَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذِّمِّيِّ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 32 الْقَضَاءُ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ، وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الْحَجْرِ، وَالْعَزْلِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ فَهُوَ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ بِالتَّبْلِيغِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» وَقَدْ بَيَّنَّا فِي خَبَرِ الرَّسُولِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْمُرْسِلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِلْزَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْفَاسِقِ فِي الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ كَوْنُ الْمُخْبَرِ بِهِ حَقًّا وَهَهُنَا نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ حَقٌّ فَيَثْبُتُ - حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ أَخْبَرَهُ الْفَاسِقُ بِهِ حَتَّى يَلْزَمَ الْقَضَاءَ فِيمَا يَتْرُكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِبَاقُهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْإِبَاقِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِذْنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ رَأْيِهِ وَلَمْ يَخْتَلَّ ذَلِكَ بِإِبَاقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ فَإِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَبَقَ فَأَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي التِّجَارَةِ وَعَلِمَ بِهِ الْعَبْدُ كَانَ مَأْذُونًا وَمَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ دَلَالَةَ الْإِذْنِ كَالتَّصْرِيحِ بِهِ فَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الْحَجْرِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْحَجْرِ وَقَدْ وُجِدَتْ دَلَالَةُ الْحَجْرِ بَعْدَ إبَاقِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ مَا بَقِيَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ بَعْدَ تَمَرُّدِهِ وَإِبَاقِهِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ بَعْدَ الْإِبَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الدَّلَالَةِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ رِضَا الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَقَدْ تَوَتْ الْمَالِيَّةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ هَذَا وَزَوَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى عَنْهُ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ وَحُجِرَ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الْقَاضِي مَوَّتَهُ حَقِيقَةً بِالْقَتْلِ وَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ الشَّرْعُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى يُقَسِّمَ الْقَاضِي مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنْ بَايَعَهُ رَجُلٌ بَعْدَ الْإِبَاقِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى كَانَ آبِقًا، وَقَالَ مَنْ بَايَعَهُ لَمْ يَكُنْ آبِقًا لَمْ يُصَدَّقْ الْمَوْلَى عَلَى إبَاقِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَأْذُونًا مَعْلُومٌ وَسَبَبُ الْحَجْرِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ حَجَرَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ قَبْلَ مُبَايَعَةِ الْعَبْدِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ آبِقًا فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَ الْحَجْرَ الْعَارِضَ بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 33 أَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ مِنْهُ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَأَقَامَ الَّذِي بَايَعَ الْعَبْدَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَوْلَى أَرْسَلَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَشْتَرِي فِيهِ وَيَبِيعُ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي بَايَعَ الْعَبْدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ إرْسَالَ الْمَوْلَى إيَّاهُ وَإِذْنَهُ فِي الذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبَيِّنَةُ الْمَوْلَى تَنْفِي ذَلِكَ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مِنْ بَائِعِ الْعَبْدِ يَثْبُتُ لِذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْمَوْلَى يَنْفِي فَكَانَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى. فَإِنْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، ثُمَّ تَصَرَّفَ فَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ بَطَلَ جَمِيعُ مَا صَنَعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَمِيعُ ذَلِكَ جَائِزٌ إنْ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ لِنَفْسِهِ يُوقَفُ إذَا كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً جَازَ جَمِيعُ مَا صَنَعَتْ فِي رِدَّتِهَا إنْ أَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تُسْلِمْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُرْتَدَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا فَكَمَا يُوقَفُ نَفْسُهُ يُوقَفُ تَصَرُّفُهُ فِي كَسْبِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ فَلَا يُوقَفُ تَصَرُّفُهَا فِي كَسْبِهَا كَمَا لَا تُوقَفُ نَفْسُهَا، ثُمَّ الْمُرْتَدُّ هَالِكٌ حُكْمًا لِاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، وَالْمَوْتُ حَقِيقَةً يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَوَقَّفَ حُكْمُ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ بِتَوَقُّفِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَبَدًا وَبِهِ فَارَقَ الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ نَافِذٌ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ، وَمَوْتُهُ حَقِيقَةً لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ عَنْ وَلَدٍ يَسْعَى فِي بَقِيَّةِ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ وَأَحْرَزُوهُ فِي دَرَاهِمَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ فَإِنْ انْفَلَتَ مِنْهُمْ أَوْ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَرَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يُعَدَّ مَأْذُونًا إلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بَطَلَ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حُكْمِهِ، وَالْإِذْنُ بَعْدَ بُطْلٍ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ لَمْ يُحْرِزُوهُ فِي دَرَاهِمَ حَتَّى انْفَلَتَ مِنْهُمْ فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَرَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِمْ مَا لَمْ يُحْرِزُوهُ، وَالْغَصْبُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى الْمَأْذُونِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزُوهُ نَفَذَ عِتْقُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ. وَإِذَا بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ لَهُ بَيْعًا فَاسِدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَبَاعَ وَاشْتَرَى فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْبَائِعِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ الْبَيْعِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِأَمْرِ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ أَوْ قَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا لَمْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 34 يَصِرْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ يَكُونُ رِضًى بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يَكُونُ رِضًى مِنْ الْبَائِعِ بِقَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَفِي الْمَجْلِسِ إنَّمَا يَقْبِضُهُ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَمْلِكُهُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ نَصًّا فَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْمَجْلِسَ وَمَا بَعْدَهُ فَمَتَى قَبَضَهُ كَانَ قَبْضُهُ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُهُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِالْمَيْتَةِ لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا وَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ قَبَضَهُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا لَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ هَهُنَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ. وَعِنْد أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ زَوَالَهُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ قَدْ تَمَّ وَلِذَلِكَ يَفُوتُ مَحَلُّ حُكْمِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَجْرًا إلَّا أَنْ يُتِمَّ الْبَيْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَا بَقِيَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ فِيهِ يَبْقَى مَحَلُّ - حُكْمِ الْإِذْنِ وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ وَهَبَهُ فَالْهِبَةُ الصَّحِيحَةُ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ نَظِيرُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَتَأَخَّرُ إلَى وُجُودِ الْقَبْضِ لِضَعْفِ السَّبَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَ حُكْمِ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَفِي الْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ فَجَحَدَهُ الْغَاصِبُ وَحَلَفَ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ بَيِّنَةٌ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْغَاصِبُ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَرَاهُ فَلَمْ يَنْهَهُ، ثُمَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ جَمِيعَ مَا بَاعَ وَاشْتَرَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآذِنَ لَهُ كَانَ غَاصِبًا، وَإِذْنُ الْغَاصِبِ لَا يُوجِبُ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَفِي الْقِيَاسِ سُكُوتُ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ وَلَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ ذَلِكَ لِقِيَامِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ جَاحِدًا لَهُ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ فَقَالَ السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ مَعَ التَّمْكِينِ مِنْ النَّهْيِ دَلِيلُ الرِّضَا فَأَمَّا بِدُونِ التَّمَكُّنِ مِنْ النَّهْيِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ عِنْدَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الطَّلَبِ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ وَسُكُوتَ الْبِكْرِ كَذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ النَّهْيِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى نَهْيِهِ لَوْ نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَلْ يَسْتَخِفُّ بِهِ فَلِصِيَانَةِ نَفْسِهِ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 35 الْعَبْدَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ فَجَعَلَ الْقَاضِي الْقَوْلَ قَوْلَهُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ، وَالْمَوْلَى يَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَا يَنْهَاهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ وَلَا بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ كَانَ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ. وَإِذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ فَهُوَ عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِذْنِ ابْتِدَاءً فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يُثْبِتُ لِلْمُدَبَّرِ حَقَّ الْعِتْقِ وَحَقُّ الْعِتْقِ إنْ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَجْرًا عَلَيْهَا فِي الْقِيَاسِ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا بَيَّنَّا فِي التَّدْبِيرِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ اسْتِيلَادُ الْمَوْلَى حَجْرٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُحْصِنُ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَا يَرْضَى بِخُرُوجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالتِّجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ، وَدَلِيلُ الْحَجْرِ كَصَرِيحِ الْحَجْرِ وَلَا تُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ الْعَادَةِ فِي الْمُدَبَّرِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ هُنَاكَ بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا فَأَمَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِ الْعَادَةِ فَلَا كَتَقْدِيمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ يُجْعَلُ إذْنًا فِي التَّنَاوُلِ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ فَإِنْ قَالَ لَا تَأْكُلْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا. وَإِذَا أَذِنَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ الْأَوَّلِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَالْعَبْدُ الْآخَرُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ فَحَجْرُهُ عَلَيْهِ حَجْرٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ حَجْرُهُ عَلَيْهِ حَجْرًا عَلَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ فَالْعَبْدُ الثَّانِي خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ابْتِدَاءً فَجُعِلَ الثَّانِي مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى لَا بِاعْتِبَارِ الْعَبْدِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِذْنِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَوْلَى الْأَوَّلَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَى مِنْهُ بِتَصَرُّفِ الثَّانِي وَهَذَا الرِّضَا يُثْبِتُ الْإِذْنَ مِنْ جِهَتِهِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ يَبْقَى وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي كَسْبِ عَبْدِهِ الْمُسْتَغْرِقِ بِالدَّيْنِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الثَّانِي مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْأَوَّلِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ وَقَدْ انْقَطَعَ رَأْيُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الثَّانِي مَأْذُونًا مِنْ جِهَتِهِ دُونَ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالثَّانِي عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى كَانَ حَجْرًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالثَّانِي كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْأَوَّلِ وَقَدْ صَارَ الْأَوَّلُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الثَّانِي. وَإِذَا أَذِنَ الْمُكَاتَبُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ عَجَزَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ حَجْرٌ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 36 الْمُكَاتَبِ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَبْدَهُ يَكُونُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَهُنَا أَوْلَى وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَفَاءٍ أَوْ عَنْ وَلَدٍ مَوْلُودٍ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا وَعَجْزُهُ فِي حَيَاتِهِ يَكُونُ حَجْرًا عَلَى عَبْدِهِ فَمَوْتُهُ عَاجِزًا أَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَهُوَ كَالْحُرِّ وَمَوْتُ الْحُرِّ حَجْرٌ عَلَى عَبْدِهِ بِانْقِطَاعِ رَأْيِهِ فِيهِ فَإِنْ أَذِنَ الْوَلَدُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ إذْنُهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَشْغُولٌ بِدَيْنِهِ فَلَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْهُ مِيرَاثًا لِلْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ دَيْنِهِ وَكَمَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ عَبْدٌ فَأَذِنَ لَهُ وَارِثُهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِذْنُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ التَّرِكَةَ الْمُسْتَغْرَقَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ فِيهَا مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ كَمَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي حَالِ حَيَاةِ مُوَرِّثِهِ فَإِنْ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَنْفُذْ إذْنُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِيمَا قَضَى مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اسْتِخْلَاصَ التَّرِكَةِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى وَيَقُومُ دَيْنَهُ مَقَامَ دَيْنِ الْغَرِيمِ فَلَا يَنْفُذُ إذْنُهُ لِبَقَاءِ الْمَانِعِ فَإِنْ أَبْرَأَ أَبَاهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي قَضَى عَنْهُ بَعْدَ إذْنِهِ لِلْعَبْدِ نَفَذَ إذْنُهُ وَجَازَ مَا اشْتَرَى قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ زَالَ حِينَ سَقَطَ دَيْنُهُ بِالْإِبْرَاءِ وَصَارَ هُوَ مِلْكًا لِلتَّرِكَةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَنْفُذُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ إذْنُهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَذِنَ الْوَارِثُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ لَا يُمْلَكُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ مَعَ تَعَلُّقِهِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مَا كَانَ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ وَارِثِهِ بِخِلَافِ دَيْنِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِمَوْتِهِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ لَوْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ الَّذِي تَرَكَهُ أَبُوهُ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ مَالًا مِنْ إنْسَانٍ فَقَضَى بِهِ الْكِتَابَةَ لَمْ يَكُنْ إذْنُهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى لِيَقْضِيَ بِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَقِيَامُ دَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ دَيْنِ الْمَوْلَى فِي أَنَّهُ يَمْنَعُ مِلْكَهُ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ إذْنُهُ وَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِابْنِ الْمُكَاتَبِ مَالًا فَقَضَى بِهِ الْكِتَابَةَ جَازَ إذْنُهُ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ مَا وَهَبَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ، وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِأَكْسَابِ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِيَقْضِيَ بِهِ مَالَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ قَضَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ هَذَا الْكَسْبِ كَقَضَائِهِ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْوَلَدُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ بِهِ زَوَالُ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ إذْنِهِ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ جُنَّ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا دَائِمًا فَهُوَ حَجْرٌ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مَوْلًى عَلَيْهِ فِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 37 التَّصَرُّفِ وَانْقَطَعَ رَأْيُهُ بِمَا أَعْرَضَ فَكَانَ ذَلِكَ حَجْرًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبِقٍ فَالْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَصِرْ مَوْلًى عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْجُنُونِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ، وَالْمَرَضِ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى الْعَبْدِ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَبَقَاءِ وِلَايَتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْبِقِ مِنْ الْجُنُونِ وَغَيْرِ الْمُطْبِقِ بَيَّنَّاهُ فِي الْوَكَالَةِ. وَلَوْ ارْتَدَّ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَاعَ الْعَبْدَ وَاشْتَرَى فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْعَبْدُ بَعْدَ رِدَّةِ الْمَوْلَى بَاطِلٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا أَوْ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَرَجَعَ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: جَمِيعُ ذَلِكَ جَائِزٌ إلَّا مَا صَنَعَ الْعَبْدُ بَعْدَ لِحَاقِ الْمَوْلَى بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِذْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَإِنْشَائِهِ وَتَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ مُعْتَبَرٌ بِتَصَرُّفِ الْآذِنِ. وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ تُوقَفُ لِتَوَقُّفِ نَفْسِهِ وَيُوقَفُ مَالُهُ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ فَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهِ وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ وَبَعْدَ لِحَاقِهِ يَتَوَقَّفُ بَيْنَ أَنْ يُبْطِلَ الْقَضَاءَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ وَكَوْنِ الْمَالِ لِوَارِثِهِ مِنْ حِينِ لَحِقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْفُذَ بِرُجُوعِهِ مُسْلِمًا فَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ، ثُمَّ صَنَعَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ مِنْهَا صَحِيحٌ بَعْدَ رِدَّتِهَا وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ كَتَصَرُّفِ الْآذِنِ وَتَصَرُّفُهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ نَافِذٌ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَإِنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ بِالرِّدَّةِ وَلَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ بَاعَ الْعَبْدُ أَوْ اشْتَرَى فَإِنْ رَجَعَتْ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِلِحَاقِهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ حَتَّى قَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهَا وَقَسَّمَ مِيرَاثَهَا وَأَبْطَلَ مَا صَنَعَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ مَا صَنَعَ بَعْدَ لِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا بِاللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَوَقَّفَتْ عَلَى أَنْ تُسَلِّمَ لَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَفُوتُ عَلَيْهَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَيَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهَا أَيْضًا وَكَمَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِلِحَاقِهَا جَعَلَ الْمَالَ لِوَارِثِهَا مِنْ وَقْتِ لِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهَا وَقْتَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهَا زَالَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِتَصَرُّفَاتِ الْعَبْدِ وَكَمَا أَنَّ إذْنَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَالْعَنَانِ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي التِّجَارَةِ يُجْعَلُ كَإِذْنِهِمَا فَكَذَلِكَ حَجْرُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ كَحَجْرِهِمَا؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ. وَإِذَا أَذِنَ الْمُضَارِبُ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 38 رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ أَعَمُّ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ فَكٌّ لِلْحَجْرِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ الْمُضَارِبُ مُفَوِّضٌ إلَيْهِ وُجُوهَ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ فَحَجْرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ فَيُوَفِّيَ رَأْسَ الْمَالِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ نَهَى الْمُضَارِبَ لَمْ يُعْتَبَرْ نَهْيُهُ وَنَفْسُهُ أَقْرَبُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ مِنْهُ فِي مَنْعِ الْمُضَارِبِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ فَلَأَنْ لَا يَعْمَلَ نَهْيُهُ فِي مَنْعِ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَانَ أَوْلَى. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَحَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَحَجْرُهُ بَاطِلٌ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ وَهُوَ بَاطِلٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ لَوْ قَالَ لَا تَأْذَنْ لِعَبْدِكَ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ نَهْيُهُ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ لَوْ نَهَاهُ عَنْ بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْأَوَّلُ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَنَهَاهُ الْمَوْلَى كَانَ نَهْيُهُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ وَقَبَضَهُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْلَى إيَّاهُ مِنْ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْأَوَّلِ فَإِنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَوَّلِ دَيْنٌ فَقَبَضَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْآخَرَ وَحَجَرَ عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْأَوَّلِ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فَبِقَبْضِهِ مِنْهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْأَوَّلِ وَصَارَ الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ بَاعَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَلِهَذَا صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَجْرِ الْمَوْلَى. وَإِذَا دَفَعَ الْمَوْلَى إلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ مَالًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَبْدًا وَيَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَفَعَلَ، ثُمَّ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْمُولَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَجْرٍ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي شِرَاءِ الثَّانِي، وَالْآذِنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَيَكُونُ الثَّانِي مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَا يَصِيرُ الثَّانِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَجْرِ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّل، وَأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى عَلَى الْآخَرِ كَانَ حَجْرُهُ عَلَيْهِ جَائِزًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى كَالْأَوَّلِ. وَحَجْرُ الْأَبِ أَوْ وَصِيِّهِ عَلَى الصَّبِيِّ الْحُرِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِثْلُ الْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى كَالْأَوَّلِ وَحَجْرُ الْأَبِ أَوْ وَصِيِّهِ عَلَى الصَّبِيِّ الْحُرِّ اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ جِهَتِهِ وَوِلَايَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَكَمَا مَلَكَ الْإِذْنَ بِوِلَايَتِهِ يَمْلِكُ الْحَجْرَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْنَسُ مِنْهُ رُشْدًا فَيَأْذَنُ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 39 الْحَجْرَ عَلَيْهِ أَنْفَعُ فَيَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَذَا يَحْصُلُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ تَارَةً وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ تَارَةً حَتَّى تَتِمَّ هِدَايَتُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَكَذَلِكَ حَجْرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ حَسَبِ مَا كَانَ لِلْأَبِ أَوْ لِلْوَصِيِّ وَكَذَلِكَ حَجْرُ هَؤُلَاءِ عَلَى عَبْدِ الصَّبِيِّ بَعْدَ مَا أَذِنُوا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الصَّبِيِّ قَامُوا مَقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ، وَالْحَجْرِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ كَالْإِذْنِ فَكَمَا صَحَّ مِنْهُمْ الْإِذْنُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ الْحَجْرُ. وَمَوْتُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ حَجْرٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَعَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ رَأْيِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَوَفُّرَ النَّظَرِ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ إلَى رَأْيِ الصَّبِيِّ وَقَدْ انْقَطَعَ رَأْيُهُمَا بِمَوْتِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ حَجْرًا عَلَى الصَّبِيِّ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الصَّبِيِّ إنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ وَقِيَامِ وِلَايَتِهِمَا عَلَيْهِ وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمَا وَكَذَلِكَ جُنُونُهُمَا جُنُونًا مُطْبِقًا فَإِنَّهُ كَالْمَوْتِ فِي قَطْعِ وِلَايَتِهِمَا عَنْهُ وَفَوَاتُ رَأْيِهِمَا فِي النَّظَرِ لَهُ وَكَذَلِكَ عَزْلُ الْقَاضِي الْوَصِيَّ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ وِلَايَتَهُ وَيَقْطَعُ تَدْبِيرَهُ فِي النَّظَرِ لَهُ فَيَكُونُ حَجْرًا عَلَى مَنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ بِاعْتِبَارِ رَأْيِهِ وَهُوَ الصَّبِيُّ أَوْ عَبْدُهُ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي أَذِنَ لِلصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ عَزَلَ الْقَاضِي كَانَ الصَّبِيُّ، وَالْمَعْتُوهُ عَلَى إذْنِهِمَا؛ لِأَنَّ إذْنَ الْقَاضِي يَكُونُ - قَضَاءً مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ غَيْرُ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَبِعَزْلِ الْقَاضِي لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ قَضَايَاهُ وَلِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّظَرِ لِهَذَا الصَّبِيِّ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْإِذْنِ وَغَيْرِهِ لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَبَعْدَ مَا عَزَلَ الْقَاضِي لَمْ يَتَبَدَّلْ حَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْوِلَايَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَزِلْ وَصِيُّهُ وَقَيِّمُهُ بِعَزْلِهِ فَكَذَلِكَ مَأْذُونُهُ. وَإِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ أَوْ جَدٌّ أَبُو الْأَبِ فَرَأَى الْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَأَذِنَ لَهُ وَأَبَى ذَلِكَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ فَإِذْنُ الْقَاضِي لَهُ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إذْنَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ مِنْهُ وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ لَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْأَبِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّظَرُ فِي الْإِذْنِ فَكَذَلِكَ بِمَا يَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْعَلَهُ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنَفِّذَهُ كَالْوَلِيِّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا مِنْ كُفُؤٍ زَوَّجَهَا الْقَاضِي إذَا طَلَبَتْ فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَحَجْرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا يُرِيدُ أَنْ يَفْسَخَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ وَلِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَيْهِ كَإِبَائِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَمَا أَنَّ إبَاءَهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إذْنِ الْقَاضِي لَهُ فَكَذَلِكَ حَجْرُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِذْنِ وَإِنْ مَاتَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَحَجْرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بِعَزْلِ الْقَاضِي وَبِمَوْتِهِ لَا تَزْدَادُ وِلَايَتُهُمْ عَلَى الصَّبِيِّ فَكَمَا لَا يَنْفُذُ حَجْرُهُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ عَزْلِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَاضِي بَعْدَ - عَزْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِسَائِرِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 40 الرَّعَايَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي حُقُوقِ هَذَا الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ إلَى الْقَاضِي الَّذِي يَسْتَقْضِي بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ أَوْ عَزْلِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ كَوِلَايَةِ الْأَوَّلِ وَلَا يُقَالُ الثَّانِي بِالْحَجْرِ كَيْفَ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ قَاضِيًا بَعْدَ حَجْرِهِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ نَقَضَ لِقَضَائِهِ بِالْإِذْنِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ أَنْشَأَ - نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّظَرَ قَدْ يَكُونُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي وَقْتٍ، وَالْحَجَرِ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَالثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إنْشَاءِ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَوَارِثُهُ الْأَبُ فَهَذَا حَجْرٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إذْنِهِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الِابْنِ وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الِابْنِ بِمَوْتِهِ وَلَا يُقَالُ الْأَبُ يَخْلُفُهُ فِي هَذَا الْمِلْكِ وَهُوَ رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ الْأَبُ مِنْ الِابْنِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ انْتَقَلَ فِيهِ مِنْ الِابْنِ إلَى الْأَبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ أَوْ كَانَ مَعْتُوهًا فَأَفَاقَ فَالْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْأَبِ نَفَذَ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ وِلَايَتِهِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، ثُمَّ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَفِّكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِتَابَةِ وَلَوْ كَاتَبَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ لَمْ تَبْطُلْ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ إدْرَاكِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَعْتُوهِ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إدْرَاكِهِ الْعَبْدُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّ الْأَبَ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فَهَذَا وَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ابْتِدَاءً سَوَاءٌ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الْإِذْنِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَاسْتِدَامَتُهُ الْإِذْنَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَجْرِ كَإِنْشَائِهِ وَلَا تَتَغَيَّرُ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ بِمَوْتِ الْأَبِ. وَإِذَا ارْتَدَّ الْأَبُ بَعْدَ مَا أَذِنَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَجْرُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ فَيَنْفُذُ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَذَلِكَ حَجْرٌ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ وَابْنُهُ صَغِيرٌ، وَلَوْ أَذِنَ لِابْنِهِ فِي التِّجَارَةِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى وَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الِابْنُ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ قُتِلَ ذَلِكَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ كَانَ جَمِيعُ مَا صَنَعَ الِابْنُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلًا وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إذْنَهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتُهُ عَلَيْهِ تَوَقَّفَتْ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَنْ يَتَقَرَّرَ بِالْإِسْلَامِ وَيَبْطُلَ بِالْقَتْلِ وَكَذَلِكَ تَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا بِخِلَافِ تَصَرُّفِهِ بِحُكْمِ مِلْكِهِ فَإِنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِرِدَّتِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُ تَصَرُّفِهِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ. وَالذِّمِّيُّ فِي إذْنِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَعْتُوهِ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ عَلَى ذِمِّيَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 41 أَوْ بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ بِأَنْ عَقَلَ فَأَسْلَمَ كَانَ إذْنُ الْأَبِ الذِّمِّيِّ لَهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصِحَّةُ إذْنِهِ بِاعْتِبَارِ وِلَايَتِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْإِذْنُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ قَبْلَ ثُبُوتِ وَلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفُذُ بِوَلَايَتِهِ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ كَالْأَبِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَأَذِنَ لِوَلَدِهِ الْحُرِّ، ثُمَّ عَتَقَ لَمْ يُنَفَّذْ ذَلِكَ الْإِذْنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَبْدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَأْذَنُ لَهُ أَحَدُهُمَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي نَصِيبِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكٌّ لِلْحَجْرِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ فِي نِصْفِ التَّصَرُّفِ دُونَ النِّصْفِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الْفَكِّ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ وَاسِقَاطٌ لِحَقِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ شَغْلِ مَالِيَّةِ نَصِيبِهِ بِالدَّيْنِ، وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقَطِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَهَذَا الرِّضَى مِنْ الْآذِنِ الْآنَ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِالدَّيْنِ كَمَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُ جَمِيعِهِ فَكَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا لِلْوَصْفِ بِالتَّجَزِّي فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ أَصَابَهُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَقَالَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنَا آخُذُ نِصْفَ هَذَا الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْهُ جَمِيعُ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ الْمَوْلَى وَاَلَّذِي وَجَبَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ هَهُنَا بِسَبَبٍ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُقَدَّمُ مِنْ كَسْبِهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ زَادَ الدَّيْنُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي نَصِيبِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ خَاصَّةً مِنْ الرَّقَبَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ نَصِيبِهِ بِالدَّيْنِ وَانْعِدَامِ الرِّضَا بِهِ مِنْ الْآخَرِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَسْبِ، وَالرَّقَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ مِنْ الْكَسْبِ مَصْرُوفٌ إلَى الدَّيْنِ دُونَ نَصِيبِهِ مِنْ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَتَمَلَّكُهُ الْمَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَسَلَامَتُهُ لَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ فَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الدَّيْنِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ فَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَلَمْ تَحْصُلْ لِلْمَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى يَصْرِفُهُ إلَى دُيُونِهِ وَلَمْ يُوجَدْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا لَحِقَهُ بِسَبَبِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْكَسْبُ، وَالْغُنْمُ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ فَكَمَا يَكُونُ نِصْفُ الْكَسْبِ لِلَّذِي. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 42 لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صَرْفُ ذَلِكَ الْكَسْبِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّ حُصُولَ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى مَا كَانَ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ فَلَا تُصْرَفُ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ إلَى الدَّيْنِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ فَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِهِ نَظِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمُبَايَعَةِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ مَالًا بِبَيِّنَةٍ كَانَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ رَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلُ وَأَذِنَ أَحَدُهُمَا لَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَحِقَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَقْوَالِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا مَحْسُوسَةٌ تَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الصَّبِيِّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَفْعَالِ فَبِسَبَبِ الرِّقِّ أَوْلَى فَإِذَا تَحَقَّقَ السَّبَبُ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَوْجُودٌ فَالدَّيْنُ بِالْمُبَايَعَةِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَيَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ. قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ فِيمَا ثَبَتَ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّقِّ لَا يَظْهَرُ وُجُوبُ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إلَّا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَفَكُّ الْحَجْرِ وُجِدَ مِنْ الْآذِنِ خَاصَّةً وَلَكِنَّ حُكْمَ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَظَهَرَ فِي الْكُلِّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوَاضِعَهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ ظُهُورُ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ عَنْ الْغَيْرِ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَلَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي سَلَامَةِ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى ظُهُورُ الدَّيْنِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْكَسْبِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ. فَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ وَبَاعَ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ يَرَاهُ فَلَمْ يَنْهَهُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ النَّهْيِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ نَهْيِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ النَّهْيِ هَهُنَا لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يُجْعَلُ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ. قُلْنَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ وَإِزَالَةِ احْتِمَالِ مَعْنَى الرِّضَا مِنْ سُكُوتِهِ فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمْكَانِ أَقَامَ ذَلِكَ مِنْهُ مَقَامَ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ الْآخَرُ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ فَقَالَ: إنِّي لَسْتُ آذِنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ بَايَعْتُمُوهُ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِي فَبَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاشْتَرَى، وَالشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إذْنًا مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ لِتَصَرُّفِهِ وَبَقِيَ الضَّرَرُ، وَالْغُرُورُ، وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا إذْنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَيُقَاسُ بِمَا لَوْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِهِ وَلَوْ أَتَى بِعَبْدِهِ إلَى السُّوقِ، وَقَالَ: لَسْتُ آذَنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا تُبَايِعُوهُ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ كَانَ إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 43 عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ كُلُّهُ لَهُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ حِين رَآهُ يَتَصَرَّفُ فَيُجْعَلُ سُكُوتُهُ عَنْ الْمَنْعِ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ قَبْلَ هَذَا فَقَدْ يَرْضَى الْمَرْءُ بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَكْرَهُهُ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ إظْهَارُ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَنْفَسِخُ ذَلِكَ بِسُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ يَتَصَرَّفُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَايَعَهُ بَعْدَ مَقَالَتِهِ جُعِلَ هَذَا نَاسِخًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فَإِنَّ مُبَايَعَتَهُ إيَّاهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ فَهُوَ وَقَوْلُهُ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ سَوَاءٌ. وَإِذَا قَالَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ لِصَاحِبِهِ ائْذَنْ لِنَصِيبِكَ مِنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَفَعَلَ فَالْعَبْدُ كُلُّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ مِنْ الْآذِنِ بِالْإِذْنِ، وَمِنْ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ ائْذَنْ لِنَصِيبِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ وَإِذَا جُعِلَ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ دَلِيلَ الرِّضَا فَأَمْرُهُ بِالتَّسْلِيطِ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلَ الرِّضَا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَكَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهُ فَهَذَا وَأَذِنَ مِنْهُ لِنَصِيبِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ بِالْكِتَابَةِ أَقْوَى مِنْ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ، وَالْأَقْوَى يَنْتَظِمُ الْأَضْعَفَ، ثُمَّ هُوَ رِضًا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ رَغِبَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَأَدَائِهِ لِيُعْتِقَ نَصِيبَهُ وَلِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِعِتْقِ نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَبِهِ فَارَقَ الْإِذْنَ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِذْنِ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْآخَرُ الْكِتَابَةَ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ فِي نَصِيبِ الَّذِي كَاتَبَ خَاصَّةً لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِنَصِيبِهِ، وَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ الْكِتَابَةُ حَتَّى رَآهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إجَازَةً لِلْكِتَابَةِ وَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا وَكَانَ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ يَثْبُتُ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي تَنْفِيذِ الْكِتَابَةِ فَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ لِتَكُونَ مُبَاشَرَةَ الشَّرِيكِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالسُّكُوتِ لَا يُثْبِتُ وَلِأَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمَلٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا فِيهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ إذَا جُعِلَ السُّكُوتَ إذْنًا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ إجَازَةً لِلْكِتَابَةِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَإِنَّ رَدَّ الْمُكَاتَبَةِ وَقَدْ لَحِقَ الْعَبْدُ دَيْنُ بَيْعٍ كُلِّهِ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ فَكَاتَبَ نِصْفَهُ كَانَ هَذَا إذْنًا لِجَمِيعِهِ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْكُلُّ مُكَاتَبًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا وَمَا اكْتَسَبَ مِنْ مَالٍ فَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي لَمْ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 44 يُكَاتَبْ مِنْهُ وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبِ بِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي يُكَاتَبُ مِنْهُ وَمَا لَحِقَهُ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِيهِ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَةَ النِّصْفِ كَمُكَاتَبَةِ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِيمَا لَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُدَبَّرًا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ فَكَاتَبَهُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّ الْكِتَابَةَ تَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى أَنَّ نِصْفَ كَسْبِهِ لِلْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ وَأَمْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ سَوَاءٌ فَكَمَا أَنَّ تَسْلِيطَهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ رَضِيَ مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ إلَّا أَنَّ تَسْلِيطَهُ إيَّاهُ عَلَى الْكِتَابَةِ يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْوَكِيلِ الْكِتَابَةَ فِي نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ رِضًا مِنْهُ بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ وَبِنُفُوذِ الْكِتَابَةِ فِي نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً مِنْهُ لِلْمُكَاتَبَةِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَمَا اكْتَسَبَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ نِصْفُهُ لِلْمَكَاتِبِ وَنِصْفُهُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَصِرْ مُكَاتَبًا عِنْدَهُ. وَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ اشْتَرَى نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْهُ، ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاعَ، وَالْمَوْلَى لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ، وَالْآخَرَ كُلُّهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالنِّصْفِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ الرِّضَا فِيمَا اشْتَرَى مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ تَصَرُّفًا بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بَيْعَهُ وَشِرَاءَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى نَصِيبَ صَاحِبِهِ كَانَ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لِلنِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَتَهُ الْإِذْنَ السَّابِقَ وَتَقْرِيرَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ الرُّؤْيَةُ هَهُنَا إنَّمَا اُعْتُبِرَ الْعِلْمُ بِتَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ وَاعْتِبَارُ السُّكُوتِ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ وَهَذَا فِي الْمَأْذُونِ لَا يَتَحَقَّقُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عِلْمُهُ بِتَصَرُّفِهِ لِيَكُونَ مُقَرَّرًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَكِّ السَّابِقِ، ثُمَّ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ حِينَ اكْتَسَبَ الْعَبْدَ بِسَبَبِهِ لَمْ يَكُنْ الْآذِنُ مَالِكًا إلَّا لِذَلِكَ النِّصْفِ، وَالدَّيْنُ الْآخَرُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اكْتَسَبَ بِسَبَبِهِ كَانَ جَمِيعُهُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْآذِنِ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ فِي التِّجَارَةِ وَأَبَى الْآخَرُ وَذَهَبَ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ مُبَايَعَتِهِ، ثُمَّ إنَّ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ اشْتَرَى نَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 45 لِأَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ فِي نَصِيبِ الْبَائِعِ، وَقَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مَأْذُونًا فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ يُعْتَبَرُ بِالْكُلِّ فَإِنْ رَآهُ الْمُشْتَرِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فَيُجْعَلُ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا سَبَقَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مُبَايَعَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ الْعَبْدَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ نَظَرَ إلَيْهِ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ هَذَا رِضًا مِنْهُ بِالْعَبْدِ وَلَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَالْعَبْدُ مَأْذُونٌ لَهُ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِتَقْرِيرِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ إسْقَاطٌ مِنْهُ لِخِيَارِهِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْإِذْنِ لِلنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَكَانَ سُكُوتُهُ كَإِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَذِنَ الْبَائِعُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِذَلِكَ وَلَمْ يُنْتَقَضْ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلٍ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ هَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ مُقَرَّرًا بِهِ مِلْكَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْفَسْخِ، وَمِنْ أَصْل أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِذْنُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ لِلْبَيْعِ وَإِجَازَتُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ صَحِيحَةٌ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُ الْبَائِعُ فَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ فِي الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّبَ بِهَذَا الْعَيْبِ بِسَبَبِ الْإِذْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْبَائِعِ فَالتَّعَيُّبُ مِنْ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَسْخٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ دَيْنٌ حَتَّى مَضَتْ الثَّلَاثُ تَمَّ الْبَيْعُ وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَقَدْ تَحَوَّلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى الْمُشْتَرِي وَمَا اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ فَيَسْتَنِدُ مِلْكُهُ فِي حُكْمِ الْكَسْبِ إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهُ قَبْلَ الِاكْتِسَابِ طَابَ لَهُ الْكَسْبُ، وَإِنْ كَانَ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ عَلَى ضَمَانِهِ فَيَطِيبُ لَهُ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ الْعَبْدُ هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ وَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ وَصَدَّقَهُ الَّذِي أَذِنَ لَهُ، وَقَالَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ هَذَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 46 مَالٌ وُهِبَ لَكَ وَلِي نِصْفُهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لَهُ وَلَكِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ وَنَجْعَلُهُ كُلَّهُ لِلْغُرَمَاءِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمَالَ وَهَبَهُ رَجُلٌ لِلْعَبْدِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ كَانَ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الدَّيْنِ أَوْ مِنْ كَسْبٍ كَسَبَهُ بَعْدَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ قِبَلِهِ الدَّيْنُ فَنِصْفُ هَذَا الْمَالِ لِلْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْغُرَمَاءِ أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ فِي يَدِهِ فَسَلَامَةُ نِصْفِهِ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَا كَانَ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا بِسَبَبٍ تُمْكِنُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْآذِنِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ صَحِيحٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ مِنْ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ بِمَنْزِلَةِ نَصِيبِهِ مِنْ الرَّقَبَةِ فَكَمَا لَا يُصْرَفُ نَصِيبُهُ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى دَيْنِهِ فَكَذَلِكَ نَصِيبُهُ مِنْ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ قِبَلِهِ الدَّيْنُ فَنِصْفُ هَذَا الْكَسْبِ كَانَ سَالِمًا لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ أَوْ كَانَ يُسَلَّمُ لَهُ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ لُحُوقِ الدَّيْنِ وَاَلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَا رَضِيَ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ فَلَا تَمْتَنِعُ سَلَامَةُ نَصِيبِهِ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا فِيمَا اكْتَسَبَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ لَحِقَهُ الدَّيْنُ فَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكَسْبِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الرِّضَا بِاكْتِسَابِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِذَلِكَ الْكَسْبِ أَرَأَيْتَ لَوْ اسْتَقْرَضَ الْعَبْدُ مِنْ رَجُلٍ مَالًا، ثُمَّ جَاءَ مِنْ الْغَدِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّذِي اسْتَقْرَضْتُ أَكَانَ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ ذَلِكَ الْمَالِ مِنْ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْعَبْدُ: هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ، وَقَالَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ: بَلْ هُوَ فِي يَدِكَ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ سَلَامَةِ نِصْفِ هَذَا الْمَالِ لَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فِيهِ، وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ كَمَا لَوْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا وَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ الْمَوْلَى كَانَ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ حَصَلَ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ ظَهَرَ عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورِ هَذَا الْكَسْبِ فِي يَدِهِ وَلَا يُعْلَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ فَيُجْعَلُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ سَبَبًا وَاحِدًا، ثُمَّ كَسْبُ الْعَبْدِ يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ أَوْ بِشَرْطِ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِهِ كَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبَبِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 47 الَّذِي بِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَوْلَى فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ الَّذِي بِهِ وَجَبَ الدَّيْنُ لِلْمَوْلَى بَقِيَ مَشْغُولًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَقُلْنَا يُصْرَفُ جَمِيعُ الْكَسْبِ إلَى دُيُونِهِمْ إلَّا مَا عَلِمَ أَنَّهُ مَوْهُوبٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الدَّيْنِ يَلْحَقُ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَ فِي كَسْبِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ عِنْدَ طَلَبِ الْغَرِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي دُيُونِهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وَالْعَبْدُ الَّذِي لَا كَسْبَ فِي يَدِهِ مُعْسِرٌ فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلنَّظِرَةِ شَرْعًا وَلَوْ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ رَقَبَتِهِ فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْظَرَهُ الشَّرْعُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنْ تِجَارَتِهِ وَلَا تُبَاعُ فِي دَيْنِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى قَبْلَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَلَا رَهْنَهَا وَتَأْثِيرُهُ وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ قَضَاءِ دَيْنِ التِّجَارَةِ شِبْهُ الِالْتِزَامِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ الْتَزِمْهُ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ عَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ دُونَ الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ لَهُ يَكُونُ مُلْتَزِمًا عُهْدَةَ تَصَرُّفَاتِهِ فِي أَكْسَابِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ لَا إتْلَافَ مِلْكِهِ وَهَذَا كَإِذْنِ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ لِعَبْدِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إذَا كَانَ رُجُوعُ الْعَبْدِ بِالْعُهْدَةِ مَقْصُورًا عَلَى كَسْبِهِ فَصَارَ فِي حَقِّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مَا بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا قَبْلَهُ وَكَمَا لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي دُيُونِ التِّجَارَةِ قَبْلَ الْإِذْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ يَتَقَرَّرُ سَبَبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ رِضَا الْمَوْلَى وَاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمَوْجُودَةَ مِنْ مِلْكِهِ كَالْجِنَايَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ هُنَاكَ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَأَخُّرِ حَقِّهِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ إضْرَارٌ بِهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَهُنَا صَاحِبُ الدَّيْنِ عَامَلَ الْعَبْدَ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ حِينَ عَامَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ كَسْبٌ، وَالْمَوْلَى غَيْرُ رَاضٍ بِإِتْلَافِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَمُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمَوْلَى أَوْلَى، وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ رَجُلًا فِي دَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سُرْفٌ» فَحِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ جَائِزًا بَاعَهُ فِي دَيْنِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 48 بَيْعِ الْحُرِّ فِي دَيْنِهِ بَيْعُ الْعَبْدِ فِي دَيْنِهِ، وَمَا ثَبَتَ بِضَرُورَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ، ثُمَّ انْتَسَخَ بَيْعُ الْحُرِّ وَبَقِيَ بَيْعُ الْعَبْدِ مَشْرُوعًا فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَإِذَا كَانَ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ مُسْتَحَقًّا بِهَذَا النَّصِّ ظَهَرَ أَنَّهُ مُوسِرٌ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَالْإِنْظَارُ شَرْعًا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعُسْرَةِ فَأَمَّا مَعَ الْيَسَارِ فَلَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُبَاعُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَأْثِيرُهُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَدَيْنُ التِّجَارَةِ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إنَّمَا لَا يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَأَمَّا بَعْدَ الْإِذْنِ دَيْنُ التِّجَارَةِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَأْثِيرَهُ الْإِذْنُ فِي ظُهُورِ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِتَعَلُّقِهِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ يَصِيرُ كَالْمُحْتَمِلِ لِمِقْدَارِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مِنْ دُيُونِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ رِضَى الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَوْ قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَتِهِ، وَالْقِيمَةُ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَكَمَا يَسْتَحِقُّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ رَأْسُ مَالِ تِجَارَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا رَهْنَهَا؛ لِأَنَّ بَيْنَ مُوجِبِ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعِ وَبَيْنَ مُوجِبِ الْإِذْنِ تَضَادًّا فَإِنْ مَنَعَ اسْتِحْقَاقَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ فَنَقُولُ الْأَصْلُ أَنَّ بَدَلَ الرَّقَبَةِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ كَالدِّيَةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ فِي وُجُوبِ صَرْفِهِ إلَى غُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْحُرِّ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالدِّيَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الذِّمَّةِ وَهُنَا الْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْ رَقَبَتِهِ وَقَدْ كَانَ حَقُّ غُرَمَائِهِ مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَى الْمَأْذُونِ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ أَوْ كَانَ وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ سَبَبِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهِ حَتَّى إذَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ مِنْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ جَحَدَهَا أَوْ دَابَّةٍ عَقَرَهَا فَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ بِالضَّمَانِ وَهَذَا إذَا كَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بِإِقْرَارِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْمُعَايَنَةِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِي هَذَا وَكَذَلِكَ - أَجْرُ الْأَجِيرِ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِهِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَكَذَلِكَ مَهْرُ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 49 فَوَطِئَهَا فَاسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّيْنِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَيُبَاعُ فِيهِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ مَهْرِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ الدَّيْنِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ بِأَمْرِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَلِوُصُولِهِمْ إلَى حَقِّهِمْ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا آجِلٌ، وَفِيهِ وَفَاءٌ بِحُقُوقِهِمْ وَهُوَ الِاسْتِكْسَابُ، وَالثَّانِي عَاجِلٌ وَلَكِنْ رُبَّمَا لَا يَفِي بِحُقُوقِهِمْ، وَهُوَ بَيْعٌ لِرَقَبَةٍ فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ، وَفِي بَيْعِ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِدُونِ رِضَاهُمْ قَطْعُ خِيَارِهِمْ وَإِبْطَالُ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ عَلَيْهِمْ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَابِتٌ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْبَاقُونَ حَقَّهُمْ كَانَ الْمَنْعُ بَاقِيًا لِحَقِّ هَذَا الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ إذَا رَضِيَ بَعْضُهُمْ وَلَوْ رَفَعَهُ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ إلَى الْقَاضِي، وَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ غَائِبٌ فَبَاعَهُ الْقَاضِي لِلْحُضُورِ أَوْ أَمَرَهُ مَوْلَاهُ بِبَيْعِهِ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرِينَ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ وَيُنْصِفَهُمْ بِإِيصَالِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْقَاضِي نَظَرًا لِلْحَاضِرِ، وَالْغَائِبِ جَمِيعًا وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْغَائِبِ وِلَايَةُ النَّظَرِ فَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ مِنْ الْقَاضِي أَوْ بِأَمْرِهِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِهِ، ثُمَّ الْقَاضِي يَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِينَ حِصَّتَهُمْ مِنْ الثَّمَنِ وَيُمْسِكُ حِصَّةَ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَبِثُبُوتِ دَيْنِهِ ثَبَتَ مُزَاحَمَتُهُ مَعَ الْحَاضِرِينَ فِي الثَّمَنِ فَلَا يَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِينَ إلَّا مِقْدَارَ حِصَّتِهِمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَلِفَ فِيهِ مَالُ إنْسَانٍ فَبَاعَهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُتْلَفَ فِي الْبِئْرِ مَالٌ لِآخَرَ فَيَكُونُ شَرِيكًا مَعَ الْأَوَّلِ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ هَهُنَا حَقُّ الطَّالِبِ خَاصَّةً وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَلَا يُنْقَضُ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ لِمَكَانِ هَذَا الْمَوْهُومِ وَهَهُنَا حَقُّ الْغَائِبِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّرِكَةِ إذَا حَضَرَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ وَغَابَ الْبَعْضُ فَبَاعَ الْقَاضِي التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِينَ إلَّا حِصَّتَهُمْ لِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ: إنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ الْمَالِ كَذَا فَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ وَفُلَانٌ غَائِبٌ وَكَذَّبَهُ الْحُضُورُ مِنْ غُرَمَائِهِ فَالْعَبْدُ مُصَدَّقٌ فِيهِ وَيُوقِفُ حِصَّةَ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْضُرَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا لَمْ يُبَعْ فِي الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى إذْنِهِ. وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فِي مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ اجْتَمَعَتْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْإِذْنِ فَكَأَنَّهَا حَصَلَتْ جُمْلَةً وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ مَا بَاعَهُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 50 الْقَاضِي وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْبَيْعِ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْمَوْلَى وَيَدْفَعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَى الْغُرَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّهِ اتَّبَعَ الْغُرَمَاءَ بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَخَذُوا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ دَيْنِهِ كَالثَّابِتِ بِمُعَايَنَةِ سَبَبِهِ أَوْ بِتَصَادُقِهِمْ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى مَوْلَاهُ الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ حَادِثٌ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ بِمِلْكِهِ، وَالْمَوْلَى الْبَائِعُ مَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِغُرَمَائِهِ إلَّا مِقْدَارَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ صَارَتْ مَصْرُوفَةً إلَى الْغُرَمَاءِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَكُونُ مُطَالَبًا بِشَيْءٍ حَتَّى يُعْتَقَ وَيَتْبَعُهُ تَحَوُّلُ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى الثَّمَنِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَالثَّمَنُ فِي يَدِ الْغُرَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ فَلِهَذَا شَارَكَهُمْ الْغَائِبُ بِحِصَّةِ مَا أَثْبَتَ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ الْغُرَمَاءِ بِكَفِيلٍ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ فَأَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يَفْعَلُوا لَا يُجْبَرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْغَائِبِ مَعَهُمْ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي إلْزَامِ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ (أَرَأَيْتَ) لَوْ أَبَوْا أَنْ يُعْطُوا كَفِيلًا أَوْ لَمْ يَجِدُوا كَفِيلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ بِسَبَبِ إقْرَارِ الْعَبْدِ وَلَكِنْ إنْ أَعْطَوْا ذَلِكَ وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ جَازَ، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْقَاضِي يَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي إعْطَاءِ كَفِيلٍ وَأَصْلُهُ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إذَا قَسَّمَ الْقَاضِي التَّرِكَةَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ الْوَرَثَةِ هَلْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا لِحَقِّ وَارِثٍ أَوْ غَرِيمٍ بِتَوَهُّمِ حُضُورِهِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا هُنَاكَ يُحْتَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ فَلَأَنْ يُحْتَاطَ هَهُنَا بَعْدَ إقْرَارِ الْعَبْدِ فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْعَبْدِ بِدَيْنِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مَعَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ إنْ شَاءَ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ الْكَفِيلِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاكْتَسَبَ مَالًا فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَوْلَى الْمَالَ أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُؤْخَذُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْأَخْذِ غَاصِبٌ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ، وَالدَّيْنُ، وَإِنْ قَلَّ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْكَسْبِ مَشْغُولٌ بِهِ فَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ الْمَقْبُوضُ لِلْمَوْلَى وَلَا يَخْرُجُ بِقَبْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبَ الْعَبْدِ بَلْ كَوْنُهُ فِي يَدِ الْمَوْلَى وَكَوْنُهُ فِي يَدِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ فَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ بِالْحِصَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ وَلَا دَيْنَ فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى لَحِقَهُ دَيْنٌ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى مَا قَبَضَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 51 الْمَوْلَى سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ الْفَارِغَ عَنْ الدَّيْنِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحِقٌّ فِي أَخْذِهِ وَيَخْرُجُ الْمَقْبُوضُ بِقَبْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبَ الْعَبْدِ وَيَلْتَحِقُ بِسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى فَإِذَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْضِي مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِ الْعَبْدِ مِنْ الْكَسْبِ وَمِمَّا يَكْسِبُهُ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ قَضَاءِ الدَّيْنِ كَسْبُهُ وَمَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ مَا دَامَ فِي يَدِهِ فَهُوَ كَسْبُهُ مِثْلُ مَا اكْتَسَبَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ فَيَصْرِفُ جَمِيعَ ذَلِكَ إلَى دَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَخَذَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ لَحِقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ آخَرُ يَأْتِي عَلَى قِيمَتِهِ وَعَلَى مَا قَبَضَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى يَغْرَمُ الْأَلْفَ كُلَّهَا فَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ أَيْضًا فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى غَاصِبٌ لِلْمَأْخُوذِ بِاعْتِبَارِ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ دُونَ الْمَأْخُوذِ فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ مِقْدَارِ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يُسَلَّمْ ذَلِكَ لِلْغَرِيمِ الْأَوَّلِ بَلْ يُشَارِكُهُ الْغَرِيمُ الثَّانِي فِيهِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي كَسْبِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَسْتَوْجِبُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فَإِذَا قَبَضَ ذَلِكَ شَارَكَهُ فِيهِ الْغَرِيمُ الثَّانِي فَلَا يَزَالُ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَوْلَى جَمِيعَ الْأَلْفِ فَقُلْنَا فِي الِابْتِدَاءِ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْكُلَّ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّرْتِيبِ، وَالتَّكْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ الْعَبْدَ دَيْنٌ آخَرُ لَمْ يَغْرَمْ الْمَوْلَى إلَّا نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ لِلْغَرِيمِ خَمْسَمِائَةٍ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ سَلَامَةِ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى فَيُسَلَّمُ لَهُ مَا بَقِيَ وَإِذَا لَحِقَ الْمَأْذُونَ دَيْنٌ يَأْتِي عَلَى رَقَبَتِهِ وَعَلَى جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَوْلَاهُ الْغَلَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ حَتَّى أَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا. فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذَ لِأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى وَإِنْ اسْتَأْدَاهُ الضَّرِيبَةَ فَذَلِكَ لَا يَصِيرُ دَيْنًا لَهُ عَلَى عَبْدِهِ فَيَسْتَرِدُّ الْمَأْخُوذَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ الْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْمَوْلَى الْغَلَّةَ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْقِيهِ عَلَى الْإِذْنِ بِسَبَبِ مَا اتَّصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْغَلَّةِ فَيَكْتَسِبُ وَيَقْضِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ مِنْ كَسْبِهِ وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ الْغَلَّةَ لِلْمَوْلَى حَجَرَ عَلَيْهِ فَيَنْسَدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ بَابُ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِمْ مِنْ كَسْبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي هَذَا مَنْفَعَةً لِلْغُرَمَاءِ، وَالْمَوْلَى يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ مِنْ تَصَرُّفِ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَمَا دَفَعَ الْعَبْدُ مِنْ الْغَلَّةِ إلَى الْمَوْلَى مِثْلَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِ وَكَمَا أَنَّ قَدْرَ نَفَقَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ مِقْدَارُ مَا دَفَعَ إلَى الْمَوْلَى مِنْ غَلَّةِ مِثْلِهِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ مَنَافِعُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْغَلَّةَ بَدَلًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 52 مِائَةَ دِرْهَمٍ كَانَ بَاطِلًا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى غَلَّةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ فِي قَبْضِ الزِّيَادَةِ عَلَى غَلَّةِ الْمِثْلِ ضَرَرًا عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَدَاءِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ إلَى الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى غَاصِبًا لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِدَيْنِ خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَفَادَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى، ثُمَّ لَحِقَ الْمَأْذُونَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ يَأْتِي عَلَى قِيمَتِهِ وَعَلَى قِيمَةِ مَا قَبَضَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَوْلَى فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى غَاصِبٌ فِي أَخْذِ الْعَبْدِ مِنْهُ لِمَكَانِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنْ أَدَّى الْمَوْلَى الدَّيْنَ الْأَوَّلَ لِيَسْلَمَ الْعَبْدُ لَهُ لَمْ يَسْلَمْ وَبِيعَ لِلْآخَرِينَ فِي دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي يَدِ الْمَوْلَى كَكَوْنِهِ فِي يَدِ الْعَبْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ كُلِّ غَرِيمٍ، ثُمَّ الْمَوْلَى أَسْقَطَ حَقَّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ بِإِيفَاءِ دَيْنِهِ وَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِإِبْرَائِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّ الْغَرِيمِ الثَّانِي عَنْ الْعَبْدِ الْمَأْخُوذِ فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ بِإِيفَاءِ الْمَوْلَى إيَّاهُ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُخَاصِمَهُمْ بِمَا أَدَّى مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَالْمُزَاحَمَةُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الدُّيُونِ الْوَاجِبَة عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمَوْلَى وَلَكِنْ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ أَبْرَأَ الْعَبْدَ مِنْ دَيْنِهِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ بِيعَ الْعَبْدُ وَقَبَضَهُ الْمَوْلَى فِي دَيْنِ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّ بِإِبْرَائِهِ يَسْقُطُ دَيْنُهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ الْمَأْخُوذِ، وَإِنْ كَانَ أَبْرَأَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ سَلَّمَ الْعَبْدُ الَّذِي قَبَضَهُ الْمَوْلَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ سَلَامَتِهِ لَهُ قَدْ انْعَدَمَ بِسُقُوطِ دَيْنِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى بَعْدَمَا سَقَطَ دَيْنُهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ وَبِهَذَا الْأَخْذِ يَخْرُجُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْمَأْذُونِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ حَتَّى لَحِقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ، ثُمَّ أَقَرَّ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَاطِلًا وَسَلَّمَ الْعَبْدُ الَّذِي قَبَضَهُ الْمَوْلَى لَهُ وَلَا يَتْبَعُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ بِالْإِبْرَاءِ يَسْقُطُ دَيْنُهُ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَأَمَّا بِإِقْرَارِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ، وَأَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ سَالِمًا لِلْمَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ حِينَ لَحِقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ كَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا ظَاهِرًا فَبِاعْتِبَارِهِ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرُ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ، ثُمَّ إقْرَارُ الْأَوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ الْمُبْتَدَأِ. قُلْنَا هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي تَنَاوَلَهُ إقْرَارُهُ حَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ وَلَا حَقَّ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَهُ فَيَكُونُ قَرَارُهُ فِيهِ صَحِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ سَالِمًا لِلْمَوْلَى، وَأَنَّهُ خَرَجَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 53 بِقَبْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِلْأَوَّلِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ، ثُمَّ قَالَ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَإِقْرَارُهُ لِي كَانَ بَاطِلًا فَإِنَّ الْغَرِيمَ الْآخَرُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الَّذِي قَبَضَهُ الْمَوْلَى لِيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ كَانَ وَاجِبًا، وَأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي أَخْذِ الْعَبْدِ وَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِهِمْ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى هَهُنَا أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ فِيمَا قَبَضَهُ هُوَ ثَمَّ سَقَطَ حَقُّ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ إقْرَارِهِ فَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُ الْأَوَّلِ، وَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يُقِرَّ الْمَوْلَى بِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَخَذَهُ وَلَكِنْ إنَّمَا كَانَ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْغَرِيمِ الثَّانِي لِوُجُوبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ. فَإِذَا ظَهَرَ بِإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ قَبَضَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ وَلَا شَرِكَةَ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ لَحِقَ الْمَأْذُونَ بَعْدَمَا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ فَلَحِقَهَا دَيْنٌ، ثُمَّ وَهَبَ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهَا بِصَدَقَةٍ أَوْ اكْتَسَبَتْ مَالًا مِنْ التِّجَارَةِ فَغُرَمَاؤُهَا أَحَقُّ بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ مَوْلَاهَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حَقَّ لِغُرَمَائِهَا إلَّا فِيمَا اكْتَسَبَتْ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَمَا كَانَ مِنْ كَسْبِ تِجَارَتِهَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِ تِجَارَتِهَا فَهُوَ كَسَائِرِ أَمْلَاكَ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ غُرَمَائِهَا بِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ، ثُمَّ لَحِقَهَا دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غُرَمَائِهَا بِوَلَدِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ مَا كَانَ بِسَبَبِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ الْإِذْنُ كَانَ يُثْبِتُ لَهُ الْمِلْكَ فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ كَسْبِ التِّجَارَةِ فَحُصُولُهُ كَانَ بِسَبَبِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. فَقُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمْ لِلْمَوْلَى مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ فَلَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ كَكَسْبِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَسْبَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ إلَّا أَنَّ الْمُكْتَسِبَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ مَوْلَاهُ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرَّثِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ وَحَاجَتُهُ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ مَوْلَاهُ فِي كَسْبِهِ فَمَا لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ لَا يُسَلَّمْ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْكَسْبُ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ يَدَهَا فِي الْكَسْبِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى لَوْ نَازَعَهَا فِيهِ إنْسَانٌ كَانَتْ خَصْمًا لَهُ فَبِاعْتِبَارِ بَقَاءِ يَدِهَا تَبْقَى حَاجَتُهَا فِيهِ مُقَدَّمَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 54 أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهَا الدَّيْنُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَا لَحِقَهَا الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهَا وَلَكِنَّهُ جُزْءٌ مُتَوَلَّدٌ مِنْ عَيْنِهَا فَكَمَا أَنَّ نَفْسَهَا لَا تَكُونُ مِنْ كَسْبِهَا وَلَا يَكُونُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي نَفْسِهَا مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَتِهَا فَكَذَلِكَ فِي وَلَدِهَا إلَّا أَنَّ نَفْسَهَا تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِالْتِزَامِ الْمَوْلَى ذَلِكَ بِالْإِذْنِ لَهَا فِي التِّجَارَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَلَا يَعْلَقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ وَلَا سِرَايَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لَحِقَهَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، ثُمَّ وَلَدَتْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِهَا فِي حَالِ مَا كَانَ الْوَلَدُ جُزْءًا مُتَّصِلًا بِهَا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ بِحُكْمِ الِاتِّصَالِ وَيَنْفَصِلُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، ثُمَّ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا لَا يَكُونُ قَبْلَ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا بَعْدَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْوَلَدِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ إذَا وَلَدَتْ فَلَا حَقَّ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ هُنَاكَ فِي بَدَلِ الْمُتْلَفِ وَهُوَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَوْ فِي نَفْسِهَا جَرَى عَلَى الْجِنَايَةِ وَلَكِنْ ذَاكَ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَأَكَّدٍ بِدَلِيلِ تَمَكُّنِ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَهَهُنَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَأَكِّدٌ فِي ذِمَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّتِهَا بِصِفَةِ التَّأْكِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْلَى فِيهَا بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغُرَمَاءِ حَقُّهُمْ فَيَسْرِي هَذَا الْحَقُّ الْمُتَأَكِّدُ إلَى الْوَلَدِ وَلَوْ وَلَدَتْ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ ثُمَّ لَحِقَهَا دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَكَ الْغُرَمَاءُ جَمِيعًا فِي مَالِيَّتِهَا إذَا بِيعَتْ فَأَمَّا وَلَدُهَا فَلِأَصْحَابِ الدَّيْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْهَا وَحَقُّهُمْ ثَابِتٌ فِيهَا فَسَرَى إلَى الْوَلَدِ وَأَصْحَابُ الدَّيْنِ الْآخَرِ إنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِيهَا بَعْدَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي وَلَدِهَا وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدَّيْنِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ الدَّيْنِ لَحِقَ الْوَلَدَ الدَّيْنُ الْآخَرُ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ انْفَصَلَ عَنْهَا قَبْلَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهَا وَيُعْتَبَرُ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْوَلَدُ الْآخَرُ. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً فَاسْتُوْفِيَ أَرْشَهَا مِنْ الْجَانِي أَوْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا فَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِهَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى لَا مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنْ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا فَيَكُونُ حُكْمُ الْأَرْشِ حُكْمَ وَلَدِهَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَفِي الْجَارِيَةِ الْجَانِيَةِ إذَا جَنَى عَلَيْهَا بِدَفْعِ الْأَرْشِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا وَحَقُّ الدَّفْعِ كَانَ ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ اعْتِبَارًا لِبَدَلِ طَرَفِهَا بِبَدَلِ نَفْسِهَا فَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَيْسَ بِبَدَلِ جُزْءٍ فَائِتٍ مِنْ عَيْنِهَا وَلَكِنَّهُ زِيَادَةٌ انْفَصَلَ عَنْهَا فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِوُجُوبِ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ بِالْجِنَايَةِ فَكَانَ الْوَلَدُ فِي هَذَا قِيَاسَ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِعَقْدِهَا فَكَذَلِكَ بِوَلَدِهَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 55 وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ دَبَّرَهُ مَوْلَاهُ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا الْعَبْدَ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ التَّدْبِيرِ كَانَ لِوُصُولِهِمْ إلَى حَقِّهِمْ طَرِيقَانِ بَيْعُ الرَّقَبَةِ فِي الدَّيْنِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءُ، وَالْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ فَوَّتَ عَلَيْهِمْ أَحَدَ الطَّرِيقِينَ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ وَمَا يَعْرِضُ لِلطَّرِيقِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَسْبُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَبْقَى الْخِيَارُ لَهُمْ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى لِإِتْلَافِهِ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَوْا ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِبَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ حَتَّى يُعْتَقَ فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ بِتَضْمِينِ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ اتَّبَعُوهُ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الدَّيْنِ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ وَخَالِصُ مِلْكِهِ مَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَأَمَّا مَا كَانَ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى قَدْ ضَمِنَ لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَإِنْ اخْتَارُوا اسْتِسْعَاءَ الْمُدَبَّرِ اسْتَسْعَوْهُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ كَمَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ كَانَ لَهُمْ حَقُّ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى رَاضٍ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمَوْلَى ضَمِنَ مَالِيَّةَ - الرَّقَبَةِ فَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِصَرْفِ مَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ لِلْغُرَمَاءِ إلَى دُيُونِهِمْ فَإِذَا اخْتَارُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمَوْلَى فَقَدْ سَلَّمُوا مَا يَكْتَسِبُهُ الْمُدَبَّرُ لِلْمَوْلَى. وَإِنْ اخْتَارُوا اسْتِسْعَاءَ الْمُدَبَّرِ فَقَدْ أَبْرَءُوا الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَإِنْ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ اقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَالْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ فَإِنْ اشْتَرَى وَبَاعَ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ كَانَ لِأَصْحَابِ هَذَا الدَّيْنِ أَنْ يَسْتَسْعُوهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ حِينَ وَجَبَ دَيْنُهُمْ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِالْكَسْبِ خَاصَّةً وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْأَوَّلُونَ فِي سِعَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْمَوْلَى أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ عَنْ كَسْبِ رَقَبَتِهِ وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِذْنِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَإِنْشَائِهِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ عَنْ دَيْنِ الْآخَرِينَ كَانَ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَوَّلَيْنِ. وَإِذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ كَانَتْ قِيمَتُهُ لِلْآخَرِينَ دُونَ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ كَالْكَسْبِ فِي وُجُوبِ صَرْفِهَا إلَى الدَّيْنِ وَلِأَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِمْ بَدَلُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ حِينَ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْ الْقَاتِلِ وَلَمْ يُسَلَّمْ لِلْآخَرِينَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا لَحِقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 56 دَيْنٌ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ دَبَّرَهُ الْمَوْلَى فَاخْتَارَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ اتِّبَاعَ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ وَبَعْضُهُمْ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ فَذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا اخْتَارَ غَرَضًا صَحِيحًا، وَقَدْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ هَذَا الْخِيَارُ فِي دَيْنِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ إلَّا أَنَّ قَبْلَ التَّدْبِيرِ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمْ الْبَيْعَ فَبِيعَ لَهُ لَا يَمْلِكُ إيفَاءَ حَقِّ الْبَاقِينَ فِي الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ قَدْ انْحَجَرَ عَلَيْهِ وَهَهُنَا بَعْدَ التَّدْبِيرِ الْعَبْدُ عَلَى إذْنِهِ فَيُمْكِنُ إيفَاءُ حَقِّ مَنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ اخْتَارَ ضَمَانَ الْمَوْلَى اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَ لَهُمَا ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَسَلَّمَ لِلْمَوْلَى ثُلُثَ الْقِيمَة؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى أَثْلَاثًا بَيْنَهُمْ لَوْ اخْتَارُوا تَضْمِينَهُ وَاَلَّذِي اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ مِنَّا أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا وَلَكِنْ عَيَّنَ لِحَقِّهِ شَيْئًا مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْكَسْبُ فَيَكُونُ مُزَاحَمَتُهُ مَعَ الْأَوَّلِينَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى قَائِمًا حُكْمًا فَلِهَذَا يُسَلِّمُ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَيَغْرَمُ لِلْآخَرِينَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، ثُمَّ الَّذِي اخْتَارَ السِّعَايَةَ إنْ أَخَذَهَا مِنْ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ إنْ شَاءَ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا حَقَّهُ عَنْ السِّعَايَةِ بِاخْتِيَارِ التَّضْمِينِ فَانْقَطَعَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي السِّعَايَةِ وَإِذَا أَرَادَ الَّذِي اخْتَارَ السِّعَايَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى نَصِيبَهُ أَوْ شَارَكَ صَاحِبَهُ فِيمَا يَقْبِضَانِ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْآخَرَانِ بَعْدَ اخْتِيَارِهِمَا ضَمَانَ الْمَوْلَى. وَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَتْبَعَا الْمُدَبَّرَ بِدَيْنِهِمَا وَيَدَعَا تَضْمِينَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ لَهُمَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ صَارَ حَقًّا لِلَّذِي اخْتَارَ السِّعَايَةَ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ دَيْنِهِ وَحَقُّهُ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَتَبَيَّنُ رِضَى الْمَوْلَى فِي مُزَاحَمَةِ الْآخَرِينَ مَعَهُ فِي السِّعَايَةِ بَعْدَمَا أَسْقَطَا حَقَّهُمَا عَنْهَا بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْمَوْلَى فَإِنْ اشْتَرَى الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاعَ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ كَانَ جَمِيعُ كَسْبِ الْمُدَبَّرِ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي اخْتَارَ سِعَايَتَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الدَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ آخِرًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَقِيَ عَلَى إذْنِهِ فَهَذِهِ الدُّيُونُ جَمِيعُهَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الْإِذْنِ فَيَكُونُ الْكَسْبُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَّةِ فَأَيُّهُمْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا شَارَكَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا اكْتَسَبَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ أَوْ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَارَ سِعَايَتَهُ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ سِعَايَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ سَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَهُ مَا كَانَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ حَقٌّ فِي الْكَسْبِ وَمَا قَبَضَهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآخَرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي قَبَضَهُ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ أَوْ قَالَ كَانَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَيَسْعَى لَهُ الْمُدَبَّرُ مَعَ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إذْنِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ بِمَنْزِلَةِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 57 مَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ فَمَا سَعَى فِيهِ مِنْ شَيْءٍ اشْتَرَكُوا فِيهِ وَلَا يُصَدَّقُ الْمُدَبَّرُ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ هَذَا فِي الْقِيمَةَ الَّتِي كَانَتْ وَجَبَتْ لِلْأَوَّلِينَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى مَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ الْمُزَاحَمَةِ لَهُ مَعَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَاخْتَارَ هَذَا الْغَرِيمُ اتِّبَاعَ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ إلَى الْغَرِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَارَا ضَمَانَهُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي دَفَعَ إلَى هَذَا الْمُقَرِّ لَهُ سُدُسَ الْقِيمَةِ وَهُوَ نِصْفُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْمَوْلَى مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ حَقُّهُمَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَأَنَّ عَلَيْهِمَا رَدُّ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي اسْتِرْدَادِ شَيْءٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ مَا دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي وَمَا بَقِيَ بِزَعْمِهِ بَيْنَ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنَّ الَّذِي اخْتَارَ السِّعَايَةَ يُسَلِّمَ لِلْمَوْلَى حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِقْدَارُ نِصْفِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ، ثُمَّ اتَّبَعَ هَذَا الْغَرِيمُ الْمُدَبَّرَ بِثُلُثِ دَيْنِهِ فَيَسْعَى لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَامُ حَقِّهِ فِي رُبْعِ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ لَهُ سُدُسَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا حَقِّهِ وَلَوْ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي جَمِيعِ دَيْنِهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَسْعِيهِ فِي ثُلُثِ دَيْنِهِ حِينَ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ مِنْ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَا يُبْطِلُ اخْتِيَارُهُ ضَمَانَ الْمَوْلَى حَقَّ اسْتِسْعَائِهِ فِي هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ ضَمَانَ الْمَوْلَى مُعْتَبَرٌ فِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ دُونَ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ، وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ ثُلُثَا نَصِيبِهِ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الِاخْتِيَارُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَإِنْ كَانَ دَفَعَ الثُّلُثَيْنِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ غَرِمَ لِلْمُقَرِّ لَهُ رُبْعَ جَمِيعِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُقِرٌّ أَنَّ حَقَّهُ فِي رُبْعِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَمَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهِمَا هَهُنَا مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا غَرِمَ لَهُ جَمِيعَ نَصِيبِهِ وَهُوَ رُبْعُ الْقِيمَةِ، ثُمَّ لَا يَبِيعُ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُدَبَّرَ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ حَتَّى يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ مِنْ بَدَلِ الرَّقَبَةِ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ غُرَمَاءَهُ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلِينَ لَوْ اخْتَارُوا ضَمَانَ الْمَوْلَى فَضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ عَلَى الْمُدَبَّرِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَصَدَّقَهُ الْمُدَبَّرُ، وَالْمَوْلَى فِي ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ وَلَا عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يُبْطِلُ اخْتِيَارُهُ ضَمَانَ الْمَوْلَى حَقَّهُ فِي سِعَايَةِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى الْأَوَّلِينَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِلدَّافِعِ كَمَالَ حِصَّتِهِ وَهُوَ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى دَبَّرَ عَبْدَهُ وَلَكِنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّهُمْ فِي مَالِيَّتِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ فَإِذَا اتَّبَعُوهُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 58 بِالْقِيمَةِ أَخَذَا الْعَبْدَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ خَالِصُ حَقِّهِ، وَالْبَاقِي مِنْ الدَّيْنِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مِنْ مِلْكِهِ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّ كَسْبَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مَالُ الْمَوْلَى، وَقَدْ ضَمِنَ الْمَوْلَى لَهُمْ بَدَلَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْتَقَ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا جَمِيعَ دَيْنِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ وَأَبْرَءُوا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُتَوَلِّي خَالِصُ حَقِّهِمْ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِمْ وَيَبْقَى أَصْلُ دُيُونِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ وَقَدْ عَتَقَ فَيَتْبَعُوهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَارُوا اتِّبَاعَ الْعَبْدِ بِدَيْنِهِمْ وَلَمْ يُبْرِئُوا الْمَوْلَى مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَرَاءَةً مِنْهُمْ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ مُحْتَمِلٌ لَهُمْ عَنْ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ وَمُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ بِالدَّيْنِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ بِدُونِ الْإِبْرَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَارُوا ضَمَانَ الْمَوْلَى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ إذَا لَمْ يَقْبِضُوا مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُمْ تَضْمِينَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْرِئٍ لِلْأَصِيلِ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَهُنَاكَ حَقُّهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى أَوْ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَاخْتِيَارُهُمْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ وَهَهُنَا قَدْ ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِمَا فِي مُطَالَبَةِ الْمُعْتِقِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَفِي مُطَالَبَةِ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الْقِيمَةَ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُمْ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا إبْرَاءً لِلْآخَرِ. وَلَوْ اخْتَارَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ اتِّبَاعَ الْمَوْلَى وَأَبْرَءُوا الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ يَتْبَعُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتْبَعُوهُ بِشَيْءٍ لِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنْهُمْ لَهُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ كُلُّهَا لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ الَّذِينَ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ كَانَ لِمُزَاحَمَةِ الْآخَرِينَ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِبْرَاءِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا دَيْنَهُمْ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَهُنَاكَ مُزَاحَمَةُ الَّذِينَ اخْتَارُوا اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ لَمْ يَنْعَدِمْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ سِعَايَتَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلِهَذَا لَا يَدْفَعُ إلَى الَّذِينَ اخْتَارُوا ضَمَانَهُ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُمْ مِنْ الْقِيمَةِ وَهُنَا مُزَاحَمَةُ الَّذِينَ أَبْرَءُوا الْمَوْلَى قَدْ انْعَدَمَتْ فِي حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ دَيْنَهُمْ مِنْ سِعَايَةٍ هِيَ خَالِصُ مِلْكِ الْمُعْتِقِ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ دَفْعُ جَمِيعِ الْقِيمَةِ إلَى الَّذِينَ اخْتَارُوا تَضْمِينَهُ وَلَهُمْ الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ آخَذُوا الْمَوْلَى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِإِتْلَافِهِ مَحِلَّ حَقِّهِمْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ بِهَذَا التَّحَمُّلِ شَيْئًا عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ آخَذُوا الْعَبْدَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ قَضَى دَيْنَهُ بِمِلْكِهِ وَمَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي عَلَى الْمَوْلَى اشْتَرَكَ فِيهَا جَمِيعُ مَنْ اخْتَارَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 59 ضَمَانَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ كَالثَّمَنِ لَوْ بِيعَتْ الرَّقَبَةُ فِي دُيُونِهِمْ وَمَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُرَمَاء مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَدَيْنُ الْحُرِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَسْبِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ دَيْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مَمْلُوكٌ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ شَاغِلًا لِكَسْبِهِ فَلِهَذَا إذَا خُصَّ أَحَدُهُمْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ دُونَ أَصْحَابِهِ لَمْ يَسْلَمْ ذَلِكَ لَهُ. وَلَوْ لَحِقَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ دَيْنٌ كَبِيرٌ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَأَخَذَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ اخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اتِّبَاعَ الْعَبْدِ وَأَخَذُوا مِنْهُ الدَّيْنَ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ مِنْ الدَّيْنِ وَضَمَّنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ إنَّمَا كَانَ يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى بِشَرْطِ بَرَاءَتِهِ عَنْ الدَّيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ وَهُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِيمَا أَدَّى مِنْ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى فِيمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ كَسْبِهِ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمَوْلَى اتَّبَعَهُ الْعَبْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا أَدَّى وَمَا فَضَلَ مِنْهُ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُوَفِّ الْعَبْدُ الدَّيْنَ وَلَكِنَّ الْغُرَمَاءَ أَبْرَءُوهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا مَالَهَا وَوَلَدَهَا وَأَرْشَ يَدِهَا وَقَدْ كَانَ الدَّيْنُ لَحِقَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ، وَالْجِنَايَةِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهَا مَالَهَا لِتَقْضِيَ دَيْنَهَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهَا لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْوَلَدِ، وَالْأَرْشِ إنْ كَانَ لَمْ يُعْتِقْهَا وَلَكِنْ تُبَاعُ فَيُقْضَى مِنْ ثَمَنِهَا، وَمِنْ أَرْشِ الْيَدِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهَا فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى كَرَقَبَتِهَا وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُعَيِّنُوا عَلَى الْمَوْلَى قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ وَلَكِنَّ الْخِيَارَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فَإِنْ أَرَادُوا بَيْعَ الرَّقَبَةِ لَهُمْ فِي دُيُونِهِمْ، وَفِي الرَّقَبَةِ وَفَاءٌ بِحُقُوقِهِمْ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِمْ كَمَالُ حَقِّهِمْ وَأَرْشُ الْيَدِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ فَإِذَا اسْتَوْفَوْا حَقَّهُمْ مِنْهُ لَا يَبْقَى لَهُمْ عَلَى الْوَلَدِ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالِيَّتَهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُبَاعُ وَلَدُهَا فِي دَيْنِهِمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِيَّتِهَا وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْمَوْلَى الْأَرْشَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا كَانَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، ثُمَّ يَتْبَعُونَ الْأَمَةَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أُعْتِقَتْ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوهَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَتَرَكُوا اتِّبَاعَ الْمَوْلَى فَإِنْ اتَّبَعُوهَا بِدَيْنِهِمْ فَأَخَذُوهُ مِنْهَا سُلِّمَ لِلْمَوْلَى وَلَدًا لِأَمَةٍ وَمَا أَخَذَ مِنْ أَرْشِ يَدِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِالْوَلَدِ، وَالْأَرْشِ كَمَا لَا تَرْجِعُ بِقِيمَةِ نَفْسِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَتِهَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 60 وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ مِنْ مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَمَلَّكُهَا مِنْ جِهَتِهَا فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَرَاءَتِهَا عَنْ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا لِلْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِمْ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ أَخَذُوا الثَّمَنَ وَاتَّبَعُوا الْجَارِيَةَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهَا فَعَلَيْهَا قَضَاؤُهُ مِنْ مِلْكِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوهَا بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ فَإِنْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْهَا سُلِّمَ لِلْمَوْلَى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَالْمَوْلَى فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ كَالْكَفِيلِ، وَالْأَصِيلُ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْلَى كَاتَبَهَا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا جَمِيعَ مَا يَقْبِضُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبُهَا وَحَقُّهُمْ بَاقٍ فِي كَسْبِهَا، وَإِنْ نَفَذَتْ الْكِتَابَةُ فِيهَا بِرِضَاهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِمْ مَا دَامَتْ مُكَاتَبَةً؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ الَّتِي اسْتَوْفُوا فِي مَعْنَى بَدَلِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ بَدَلُ الرَّقَبَةِ لَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبِهَا مَا لَمْ تُعْتَقْ (أَلَا تَرَى) أَنَّ كِتَابَةَ الْمَوْلَى إيَّاهُمْ بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ كَبَيْعِهَا وَلَوْ بَاعَهَا بِرِضَاهُمْ وَأَخَذُوا ثَمَنَهَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَى كَسْبِهَا سَبِيلٌ مَا لَمْ تُعْتَقْ فَكَذَلِكَ هَهُنَا فَانٍ قَبَضَ الْمَوْلَى جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ وَعَتَقَتْ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا أَخَذُوا الْمُكَاتَبَةَ مِنْ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ، ثُمَّ اتَّبَعُوا الْأَمَةَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَتَقَتْ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الْأَمَةَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ فَإِنْ أَخَذُوهُ مِنْهَا سُلِّمَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِلْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْمَوْلَى بِبَيْعِهَا بِرِضَاهُمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلُ الرَّقَبَةِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى مَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَتِهَا وَهِيَ فِيمَا قَضَتْ مِنْ الدَّيْنِ أَصْلٌ فَلَا تَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ بِمَا كَانَ مُتَحَمِّلًا عَنْهَا لِغُرَمَائِهَا. وَإِذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى كَاتَبَهُ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَفْسَخُوا الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِمَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ، وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَفْسَخُونَهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَمَا يَفْسَخُونَ الْبَيْعَ وَكَمَا يَفْسَخُ الشَّرِيكُ الْكِتَابَةَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الْكِتَابَةَ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ عَتَقَ بِأَدَائِهَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَالْمَوْلَى كَانَ يَمْلِكُ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فِيهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَيْضًا تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَيُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ، ثُمَّ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا الْكِتَابَةَ مِنْ الْمَوْلَى فَيَقْتَسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى كَسْبُ الْعَبْدِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُنْتَقَصُ الْعِتْقُ بِاسْتِيفَائِهِمْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا نَاقِضَ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهَا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَهُنَاكَ إنَّمَا كَاتَبَهُ بِرِضَاهُمْ فَكَذَلِكَ يَضْمَنُ لَهُمْ الْقِيمَةَ، ثُمَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 61 يَتْبَعُوا الْعَبْدَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ. وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ مَا عَتَقَ وَتُسَلَّمُ الْكِتَابَةُ لِلْمَوْلَى وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ بَدَلُ مَا سُلِّمَ لِلْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْعِتْقُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَالْغُرَمَاءُ إذَا اسْتَوْفَوْا الْكِتَابَةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الرَّقَبَةِ سُلِّمَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَلَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ رَقَبَتِهِ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا إذَا أَخَذَ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَأَعْتَقَهُ فَقَضَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ كَسْبِهِ. قُلْنَا الْمَوْجُودُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ كَسْبُ الْعَبْدِ وَاسْتِيفَاءُ الْكَسْبِ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ عَنْ بَدَلِ الرَّقَبَةِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ الْمَوْلَى، وَالْمُكَاتَبِ فَهُوَ بَدَلٌ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِلْمُكَاتَبِ وَقَدْ سُلِّمَ ذَلِكَ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ جِهَتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْ كَسْبِهِ فَيَأْخُذُونَ مِنْ الْمَوْلَى مَا اسْتَوْفَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ الْغُرَمَاءُ فَلَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا الْكِتَابَةَ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ لَهُمْ فِي دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْكِتَابَةِ بِالْفَسْخِ بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَيَأْخُذُونَ مَا قَبَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِذَا أَجَازُوا الْمُكَاتَبَةَ جَازَتْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَمَا كَانَ قَبْضُ الْمَوْلَى وَمَا بَقِيَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَسْبُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ مَا قَبَضَ الْمَوْلَى مِنْهَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُمْ بِقَبْضِ مَا قَبَضَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ أَمِينًا فِيهِ غَيْرَ ضَامِنٍ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ وَلَوْ أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ نَقْضِ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِ دَيْنِهِمْ وَبَعْضُهُمْ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ النَّقْضِ وَاَلَّذِي أَجَازَ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا حَقُّ الَّذِي لَمْ يُجِزْ وَلَوْ أَرَادُوا رَدَّ الْمُكَاتَبَةِ فَأَعْطَاهُمْ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ أَوْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا وَأَرَادُوا رَدَّ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي دُيُونِهِمْ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ كَمَالُ حَقِّهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ نُفُوذِ الْكِتَابَةِ وَهُمْ مُتَعَنِّتُونَ فِي الْإِبَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْسَخُونَ الْكِتَابَةَ لِيَبِيعُوهُ فِي دُيُونِهِمْ وَقَدْ وَصَلَتْ إلَيْهِمْ دُيُونُهُمْ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْكِتَابَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَبْدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَلْحَقُهُ دَيْنٌ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 62 مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ قُتِلَ وَاسْتُوْفِيَتْ الْقِيمَةَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ قَاتِلِهِ أَوْ مَاتَ وَخَلَفَ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ كَسْبِهِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقَسَّمُ هَذِهِ الْمِائَةَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْمَوْلَى الدَّائِنِ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ يَضْرِبُ الْأَجْنَبِيُّ فِيهِ بِمِائَةٍ، وَالْمَوْلَى الدَّائِنُ بِخَمْسِينَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِلْأَجْنَبِيِّ وَرُبْعُهَا لِلْمَوْلَى الدَّائِنِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نِصْفَ الْمِائَةِ نَصِيبُ الْمَوْلَى الدَّائِنِ وَدَيْنُهُ لَا يَثْبُتُ فِي نَفْسِهِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً وَنِصْفُهُ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يُدَنْ وَقَدْ اسْتَوْفَى فِيهِ حَقَّ الْأَجْنَبِيِّ وَحَقُّ الْمَوْلَى الدَّائِنِ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مِقْدَارُ خَمْسِينَ فَيُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَحَلُّ الدَّيْنِ هُوَ الذِّمَّةُ، وَإِنَّمَا الْمَالُ مَحَلُّ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا مَحَلَّ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَجَمِيعُ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَالثَّابِتُ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ مِلْكُهُ وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ مَا ثَبَتَ مِنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ كَسْبِ الْعَبْدِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ كَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مِائَةٌ لِرَجُلٍ وَدَيْنٌ خَمْسُونَ لِآخَرَ، وَالتَّرِكَةُ مِائَةٌ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَتَكُونُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَظَائِرِهَا وَأَضْدَادِهَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فَلِهَذَا اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذَا الْحَرْفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ الْبَابِ عَلَى هَذَا تَدُورُ، وَلَوْ أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَنِصْفُ الْمِائَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَنِصْفُهَا لِلْمَوْلَيَيْنِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ نَصِيبَ الْأَكْبَرِ فَارِغٌ عَنْ دَيْنِهِ وَقَدْ اسْتَوَى فِيهِ الْأَصْغَرُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِقَدْرِ خَمْسِينَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُمَا فَارِغٌ عَنْ دَيْنِهِ، وَقَدْ اسْتَوَى فِيهِ حَقُّ الْأَكْبَرِ، وَالْأَجْنَبِيِّ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَبِالْقِسْمَتَيْنِ يُسَلَّمُ لِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْمِائَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ رُبْعُ الْمِائَةِ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ خَمْسُونَ وَدَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ ثَابِتٌ كُلُّهُ فَيَضْرِبُ الْأَجْنَبِيُّ بِمِائَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ بِخَمْسِينَ فَكَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْمِائَةِ وَلِلْمَوْلَيَيْنِ نِصْفُهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ أَوْ عَنَانٍ وَبَيْنَهُمَا عَبْدٌ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَأَدَانَهُ أَحَدُهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ مِائَةً أَوْ بِيعَ بِمِائَةٍ فَلِلْأَجْنَبِيِّ ثُلُثَاهَا وَلِلشَّرِيكَيْنِ ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّ إدَانَةَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ كَإِدَانَتِهِمَا جَمِيعًا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدِينًا لَهُ بِقَدْرِ الْخَمْسِينَ، ثُمَّ نَصِيبُ الْأَكْبَرِ مِنْهُمَا فَارِغٌ عَنْهُ حَقُّهُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 63 فِيهِ مِنْ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَمِنْ دَيْنِ الْأَصْغَرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَدِينًا بِجَمِيعِهِ خَمْسِينَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَصْغَرِ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْأَصْغَرِ، وَالْأَجْنَبِيِّ أَثْلَاثًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَبِالْقِسْمَةِ يَحْصُلُ لِلْأَجْنَبِيِّ ثُلُثَا الْمِائَةِ وَلِلْمَوْلَيَيْنِ ثُلُثُ الْمِائَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ مِائَةٌ كُلُّهُ ثَابِتٌ، وَالثَّابِتُ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ مِقْدَارُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا صَارَتْ الْمَالِيَّةُ الَّتِي لِلْأَجْنَبِيِّ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ سَهْمٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى سِتَّةٍ: أَرْبَعَةٌ لِلْأَجْنَبِيِّ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْمِائَةِ، وَسَهْمَانِ لِلْمَوْلَيَيْنِ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمِائَةِ. وَلَوْ كَانَتْ شَرِكَتُهُمَا شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَالْعَبْدُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَأَدَانَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ كَانَ ثُلُثَا الْمَالِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَثُلُثُهُ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مَدِينًا لَهُ فِي مِقْدَارِ خَمْسِينَ نِصْفُ ذَلِكَ لَا فِي نَصِيبِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَنِصْفُهُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ شَرِيكِهِ فَكَانَ الثَّابِتُ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَدَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ ثَابِتٌ كُلُّهُ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَدَانَاهُ وَأَدَانَهُ أَحَدُهُمَا مِائَةً مِنْ شَرِكَتِهِمَا وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْمِائَةُ كُلُّهَا لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ، وَالْمَالَ كُلَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَيَيْنِ لِاتِّحَادِ الْمُسْتَحَقِّ وَاتِّحَادِ حُكْمِ الْوَاجِبِ، وَالْمَحِلِّ الَّذِي يُقْضَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ فَأَدَانَهُ مِائَةً وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةً وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةٍ فَإِنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ لِعَبْدٍ بَيْنَهُمَا فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ أَدَانَهُ أَحَدُهُمَا مِائَةً وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لِلْعَبْدِ غَابَ وَحَضَرَ الْأَجْنَبِيُّ فَأَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِ الْمَوْلَى الَّذِي أَذِنَ الْعَبْدُ فِي دَيْنِهِ بِيعَ لَهُ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ مُتَعَلِّقٌ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحَاضِرُ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي نَصِيبِهِ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ وَلَكِنْ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ يَنْفَرِدُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْبَيْعِ فِي الدَّيْن فَلَا يَتَأَخَّرُ بَيْعُ نَصِيبِ الْحَاضِرِ لِغَيْبَةِ الْآخَرِ فَإِنْ بِيعَ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا أَخَذَهَا الْأَجْنَبِيُّ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى الدَّائِنِ فِي نَصِيبِهِ فَيُسَلَّمُ نَصِيبُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَضَرَ الْمَوْلَى الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ نَصِيبُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلِلْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَهُ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي نَصِيبِهِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ فِيهِ خَمْسُونَ، وَالثَّابِتُ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى الدَّائِنِ فِيهِ خَمْسُونَ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ نَصِيبُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا شَاهِدٌ لَهُمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَدْ تَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِ الْآخَرِ هَهُنَا حِينَ بِيعَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 64 مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَوْ كَانَ ثَمَنُ نَصِيبِ الْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَ الْعَبْدَ تَوَى عَلَى الْمُشْتَرِي وَبِيعَ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يُدَنْ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا سَهْمٌ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَسَهْمٌ لِلْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْأَجْنَبِيِّ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ وَجَمِيعُ دَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ يَضْرِبُ بِمِائَةٍ، وَالْمَوْلَى الدَّائِنُ يَضْرِبُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ دَيْنِهِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَلِهَذَا قُسِّمَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ بَعْضُ الْعَبْدِ عَنْ الْبَعْضِ فَإِنْ اقْتَسَمَاهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَتْ الْخَمْسُونَ الْأُولَى أَخَذَهَا الْأَجْنَبِيُّ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ هَذَا الْقَدْرُ وَزِيَادَةٌ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى الدَّائِنِ فِي ثَمَنِ نَصِيبِهِ فَيَأْخُذُهَا الْأَجْنَبِيُّ كُلُّهَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا حَتَّى تَزِيدَ عَنْ ثُلُثَيْ الْمِائَةِ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِلْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ كَمَالُ حَقِّهِ، وَالْبَاقِي ثَمَنُ نَصِيبِ الْمَوْلَى الدَّائِنِ قَدْ فَرَغَ مِنْ الدَّيْنِ وَسُلِّمَ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُدَنْ اُسْتُحِقَّ بِدَيْنٍ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَصِيبِهِ بِرِضَاهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ وَكَذَلِكَ بِخُرُوجِ مَا تَوَى لَا يَتَبَيَّنُ فَسَادٌ فِي سَبَبِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ جَمِيعَ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا يَوْمَئِذٍ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَانَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً، ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْمِائَةُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْمَوْلَيَيْنِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدُّيُونِ ثَابِتٌ بِكَمَالِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَوْلَى إنَّمَا لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا لِنَفْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي الْإِدَانَةِ هَهُنَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ فَكَانَ صَاحِبُ الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَدَانَهُ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْمِائَةُ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمْ وَلَوْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي أَدَانَهُ الْمَوْلَيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ بَيْنَ الْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَهُ وَبَيْنَ أَجْنَبِيٍّ قَدْ أَمَرَهُ بِإِدَانَتِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْمِائَةَ تُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةٌ لِلْأَجْنَبِيِّ الَّذِي أَدَانَ الْعَبْدَ وَأَرْبَعَةٌ لِلْأَجْنَبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ شَارَكَهُمَا الْمَوْلَيَانِ فِي الْمِائَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ نَائِبٌ عَنْ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ مَا أَدَانَة فَيَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ جَمِيعُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، وَفِي النِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَائِنٌ لِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَثْبُتُ نِصْفُهُ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ الثَّابِتُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْ الْمَوْلَيَيْنِ خَمْسُونَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا كَانَ الْكُلُّ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 65 فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً فَحَضَرَ الْغَرِيمُ وَطَلَبَ دَيْنَهُ وَغَابَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ فَإِنَّ نَصِيبَ الْغَائِبِ لَا يُقْضَى فِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْضُرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ خَصْمٌ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَأَحَدُهُمَا لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ صَاحِبِهِ فِي نَصِيبِهِ وَلَكِنْ بَيْعُ نَصِيبِ الْحَاضِرِ يَتَأَتَّى مُنْفَرِدًا عَنْ نَصِيبِ الْغَائِبِ فَلِهَذَا يُبَاعُ نَصِيبُ الْحَاضِرِ فَإِنْ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَخَذَهَا الْغَرِيمُ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِهِ كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ وَاَلَّذِي بِيعَ جُزْءٌ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَلَى دَيْنِهِ فَيَأْخُذُ جَمِيعَ ذَلِكَ قَضَاءً بِدَيْنِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كَانَ لِلَّذِي بِيعَ نَصِيبُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ بِخَمْسِينَ فِي نَصِيبِهِ حَتَّى يُبَاعَ فِيهِ أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ كَانَ قَضَاؤُهُ مُسْتَحَقًّا مِنْ نَصِيبِ هَذَا الَّذِي حَضَرَ وَقَدْ اُسْتُوْفِيَ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِتَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي نَصِيبِهِ بِخَمْسِينَ بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثَيْنِ لَوْ اقْتَسَمَا التَّرِكَةَ وَغَابَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ حَضَرَ الْغَرِيمُ وَاسْتَوْفَى جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُ الْغَرِيمُ مِنْهُ فَهَذَا كَذَلِكَ وَإِذَا رَجَعَ فِي نَصِيبِهِ بِخَمْسِينَ فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي نَصِيبِهِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يَقْضِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قُتِلَ فَأَخَذَ الْحَاضِرُ نِصْفَ قِيمَتِهِ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا حَضَرَ وَقَبَضَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ بَدَلُ الْعَبْدِ كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ ثَمَنُ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ أَلْفَا دِرْهَمٍ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ فَاسْتَهْلَكَهَا وَمَاتَ الْعَبْدُ فَلِلْغَرِيمَيْنِ أَنْ يَأْخُذَا الْمُسْتَهْلِكَ بِالْأَلْفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَيَيْنِ فَالْمُسْتَهْلِكُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فَإِنْ رَفَعَاهُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إلَيْهِمَا وَلَمْ يَقْبِضَا شَيْئًا حَتَّى أَبْرَأَ أَحَدُ الْغَرِيمَيْنِ الْعَبْدَ، وَالْمَوْلَيَيْنِ مِنْ دَيْنِهِ فَإِنَّ الْغَرِيمَ الْآخَرَ يَأْخُذُ الْمُسْتَهْلِكَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بِأَنْ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ جَمِيعُ الْأَلْفِ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ إلَّا أَنْ هُنَاكَ يُفْصَلُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُمَا بِالدَّارِ وَمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ بِالْقَضَاءِ يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ بُطْلَانُ حَقِّ صَاحِبِهِ عَنْ ذَلِكَ النِّصْفِ وَهَهُنَا بِالْقَضَاءِ لَا يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَمَا قَبْلَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 66 وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّرِكَةِ. فَإِنَّ حُرًّا لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِقِسْمَتِهَا بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَقْسِمَاهَا وَلَمْ يَقْبِضَاهَا حَتَّى أَبْرَأَ أَحَدُ الْغَرِيمَيْنِ الْمَيِّتَ مِنْ دَيْنِهِ كَانَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا لِلْغَرِيمِ الْبَاقِي وَلَوْ اقْتَسَمَاهَا وَقَبَضَاهَا، ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْمَيِّتَ مِنْ دَيْنِهِ سُلِّمَ لَهُ مَا أَخَذَ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إسْقَاطٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ دُونَ مَا تَمَّ اسْتِيفَاؤُهُ فَكَذَلِكَ فِي غَرِيمَيْ الْعَبْدِ لَوْ أَخَذَ الْأَلْفَ مِنْ الْمَوْلَى الْمُسْتَهْلِكِ، ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْعَبْدَ مِنْ دَيْنِهِ سَلَّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا قَبَضَ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَوْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِرَجُلٍ، وَأَنْكَرَ الْمَوْلَيَانِ فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ نِصْفَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ كَسْبُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفُهُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَيُسَلَّمُ لَهُ نِصْفُ الْأَلْفِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ لِلْمُسْتَوْدِعِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنَجْعَلُ الْأَلْفَ كُلَّهَا لِلْمُسْتَوْدِعِ؛ لِأَنَّ إذْنَ أَحَدِهِمَا فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ كَإِذْنِهِمَا، وَالْإِقْرَارُ مِنْ التِّجَارَةِ فَكَمَا يَنْفَدُ جَمِيعُ تِجَارَةِ الْعَبْدِ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا وَيَتَبَيَّنُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْمَالَ لِلْمُودِعِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمَوْلَيَيْنِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ وَإِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ كَانَ لِلْمُودِعِ كُلُّهُ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْوَدِيعَةِ حَتَّى قَبَضَ الْمَوْلَيَانِ مِنْهُ الْأَلْفَ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ وَكَذَّبَاهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ بِأَخْذِ الْمَوْلَيَيْنِ خَرَجَ الْمَقْبُوضُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فِيهِ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ نُفُوذِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَهُنَاكَ الْمَالُ بَاقٍ فِي يَدِهِ فَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ وَيَكُونُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً لِهَذَا الرَّجُلِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا بِعَيْنِهَا فَقَالَ الْعَبْدُ هِيَ هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا كَانَ إقْرَارُهُ بَعْدَ أَخْذِ الْمَوْلَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظَا، وَإِنَّمَا أَخَذَهَا الْمَوْلَيَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ أَخَذَهَا أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ غَصْبًا وَجَحَدَهَا لَمْ يَضْمَنْ الْعَبْدُ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهَا الْمَوْلَيَانِ مِنْهُ. وَلَوْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ فِي التِّجَارَةِ فَأَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ مِائَةً وَأَدَانَهُ الَّذِي أَذِنَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَلَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَإِنَّ شَرِيكَهُ لَمْ يَضْمَنْ بِاسْتِحْقَاقِ نَصِيبِهِ بِالدَّيْنِ فَلِهَذَا يُبَاعُ نَصِيبُهُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ أَدَانَهُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 67 الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَدَانَهُ قَبْلَ إدَانَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِدَانَتُهُ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ مِنْهُ مَعَ الْعَبْدِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَلِيلَ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا أَدَانَهُ الْأَجْنَبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ إذَا بِيعَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَرْبَاعًا فِي قَوْلِهِمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَوَّلِ الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ أَدَانَهُ بَعْدَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ الْعَبْدِ نِصْفُهُ، وَهُوَ حِصَّةُ الْمَوْلَى الَّذِي كَانَ أَذِنَ لَهُ فَيَضْرِبُ فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَيَضْرِبُ فِيهِ الْمَوْلَى الَّذِي أَدَانَهُ بِخَمْسِينَ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ النَّقْصَ أَثْلَاثًا وَلَا يَلْحَقُ حِصَّةَ الَّذِي أَدَانَهُ مِنْ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِذْنِ فِي نَصِيبِهِ كَانَ ضِمْنًا لِإِدَانَتِهِ وَقَدْ حَصَلَ بَعْدَ إدَانَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّيْنُ السَّابِقُ عَلَى الْإِذْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ وُجِدَ الْإِذْنُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ بِتِجَارَتِهِ، ثُمَّ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَلْحَقُهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ مَا لَمْ يُعْتَقْ فَهَذَا كَذَلِكَ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ نَصِيبَ الْمَدِينِ فَارِغٌ عَنْ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ بَقِيَ جَمِيعُ دَيْنِهِ فِي نَصِيبِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى الدَّائِنِ خَمْسُونَ فَلِهَذَا قُسِّمَ ثَمَنُ نَصِيبِهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ يَدْفَعُ إلَيْهِ مَوْلَاهُ مَالًا يَعْمَلُ بِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ مَالًا يَعْمَلُ بِهِ بِشُهُودٍ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ مَاتَ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ وَلَا يَعْرِفُ مَالُ الْمَوْلَى بِعَيْنِهِ فَجَمِيعُ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ لَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَقَدْ مَاتَ مَجْهَلًا لَهُ، وَالْأَمَانَةُ بِالتَّجْهِيلِ تَصِيرُ دَيْنًا، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَمَا فِي يَدِهِ كَسْبُهُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى غُرَمَائِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى مِنْهُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ شَيْءٌ لِلْمَوْلَى بِعَيْنِهِ فَيَأْخُذُهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مُلْكِهِ وَلَيْسَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ عُرِفَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ اشْتَرَاهُ بِمَالِ الْمَوْلَى أَوْ بَاعَ بِهِ مَالَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ بِعَيْنِهِ وَحُكْمُ الْمُبْدَلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَيْنُ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي يَدِ عَبْدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ حُرٍّ. وَلَوْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ فَمَاتَ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِمَا عَرَفَ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِبَدَلِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ بِعَيْنِهِ صَارَ دَيْنًا وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى الْحُرِّ وَهُنَا يَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى عَبْدِهِ فَيَبْطُلُ وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ فِي حِصَّتِهِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ بِأَنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ هُوَ مَالُ مَوْلَاهُ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 68 لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمَالِ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَالْمَوْلَى يَخْلُفُ عَبْدَهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ، ثُمَّ إقْرَارُ الْمُوَرَّثِ لِوَارِثِهِ بِعَيْنٍ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ مُتَّهَمٌ فَيَجْعَلُ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْعِتْقِ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ يُقِرُّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فِي الصِّحَّةِ وَهُنَاكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَهَذَا كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْرِفَهُ الشُّهُودُ بِعَيْنِهِ فَحِينَئِذٍ قَدْ ثَبَتَ مِلْكُهُ بِحُجَّةٍ لَا تُهْمَةَ فِيهَا أَوْ يُقِرَّ بِهِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ فِي حَقِّهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ بِوَدِيعَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ أَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ عَبْدًا وَقَبَضَهُ الْمَرِيضُ إلَّا أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقِرِّ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ وَلَكِنْ إذَا مَاتَ الْمَرِيضُ بِيعَ الْعَبْدُ فَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُسْتَوْدَعُ يَضْرِبُ فِيهِ الْمُسْتَوْدَعُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ الْعَبْدَ وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ تَعْيِينُ الْعَبْدِ فَقَدْ مَاتَ مَجْهُولًا لَهُ، الْوَدِيعَةُ بِالتَّجْهِيلِ تَصِيرُ دَيْنًا، وَوُجُوبُ هَذَا الدَّيْنِ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَالْقَوْلُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ إنْ اخْتَلَفُوا قَوْلُ الْغُرَمَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ الزِّيَادَةَ. وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا لِأَجْنَبِيٍّ كَانَ إقْرَارُهُ جَائِزًا، وَالْأَجْنَبِيُّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَصْلِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ أَقَرَّ بِعَيْنٍ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدَّفْعِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ دَيْنٌ صَحِيحٌ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْعَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ اسْتَحَقَّ الْمُقَرُّ لَهُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ اسْتَحَقَّ الْعَيْنَ دُونَهُمْ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَوْلَى إلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ مَالًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ خَاصَّةً فَاشْتَرَى بِهِ رَقِيقًا فَشِرَاؤُهُ إيَّاهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْمَوْلَى وَتَنْفِيذُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي دُيُونَهُ مِنْ كَسْبِهِ لَا مِنْ أَمَانَةٍ لِلْمَوْلَى فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ وَلَكِنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فَقَدْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِنَوْعٍ مِنْ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَتْبَعَ الْبَائِعَ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ أَوْ مِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي قَبْضِهِ مَالَ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ وَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَبَقِيَ كَمَا كَانَ وَلِلْبَائِعِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 69 أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى اشْتَرَى مَتَاعًا مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَهُوَ كَالْمَرِيضِ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ. قُلْنَا مُنِعَ الْمَرِيضُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ مَعَ الْوَارِثِ عَبْدِهِ لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَعْضِ بِالْعَيْنِ فَأَمَّا هَهُنَا الْمَنْعُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَ إكْسَابَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَإِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ طَالَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ بِالثَّمَنِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ سَوَاءٌ سَلَّمَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ كَسْبِهِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ وَلَوْ حَابَّا فِيهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَيُقَالُ لِلْمَوْلَى أَنْتَ بِالْخِيَارِ إنْ شِئْتَ فَانْتَقَضَ الْبَيْعُ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَدِّ جَمِيعَ قِيمَةِ مَا اشْتَرَيْتَ وَخُذْ مَا اشْتَرَيْتَ؛ لِأَنَّ فِي الْمُحَابَاةِ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالْمُحَابَاةُ الْيَسِيرَةُ، وَالْفَاحِشَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَا كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا. فَإِنْ قِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَمَّا تَمَكَّنَتْ تُهْمَةُ الْإِيثَارِ فِي تَصَرُّفِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ مَوْلَاهُ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَبَضَهُ وَاسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تُسَلَّمُ لَهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي فَضْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْغُرَمَاءُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاعَ مَتَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى مَا كَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَيَدْخُلُ بِهِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَهَذَا التَّكَلُّفُ عِنْدَهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَمَا لَا يَمْلِكُ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْبَيْعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَهَذَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 70 لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْعِتْقَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يُزِيلُ مِلْكَ الْيَدِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَيَبْقَى مِلْكُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَى فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَوْلَى فِيمَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَلَفَ عَنْ الثَّمَنِ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَلَوْ سَلَّمَ الْمَوْلَى مَا بَاعَهُ إلَى الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَى الْعَبْدِ فَقَبْضُ الْعَبْدِ لِمَا اشْتَرَى جَائِزٌ وَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى مِنْ الثَّمَنِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ هَذَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَقْبُوضُ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الْعَبْدِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَتَسَلَّمُ الْمَبِيعَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْحِسِّ وَمِلْكِ الْيَدِ الَّذِي كَانَ بَاقِيًا لَهُ فَلَوْ بَقِيَ الثَّمَنُ بَقِيَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَالْمَوْلَى لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الْعَيْنِ عَلَى حَالِهِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ مَا بَقِيَتْ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ فِيمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ فِيهِ فَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ، فَقَدْ صَارَ دَيْنًا. وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عُرُوضًا كَانَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ مَلَكَ الْعَرْضَ بِعَيْنِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَيَّنَ مِلْكَهُ فِي عَبْدِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَ مَتَاعَهُ مِنْ عَبْدِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَالزِّيَادَةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمَوْلَى بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرَ قِيمَةِ مَا بَاعَ وَأَبْطَلَ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ. وَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ إلَى مِصْرٍ فَاتَّجَرَ فِيهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ قَالَ لَمْ يَأْذَنْ لِي مَوْلَايَ فُلَانٌ فِي التِّجَارَةِ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ: قَدْ أَذِنَ لَكَ فَلِلْغُرَمَاءِ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فِي دَيْنِهِمْ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِمَّا فِي يَدِهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى فَتَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ، وَالْغُرَمَاءُ يَدَّعُونَ عَارِضَ الْإِذْنِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ مُعَامَلَتُهُ مَعَهُمْ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَوْلَى، وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ مِلْكُ الْمَوْلَى كَرَقَبَتِهِ فَكَمَا لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ لَا يُبَاعُ كَسْبُهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَادَ الْعَبْدِ بِالتَّصَرُّفِ مَعَهُمْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَوْنِهِ مَأْذُونًا، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ الْإِنْسَانُ لَا يَبْعَثُ عَبْدَهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ حُجَّةٌ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا فِي إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِي حَقِّ الرَّقَبَةِ حَاجَتُهُمْ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 71 إلَى اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّتِهَا عَلَى الْمَوْلَى، وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى لِاتِّبَاعِ الرَّقَبَةِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَسْبِ فَحَاجَتُهُمْ إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْكَسْبَ مِنْ جِهَةِ عَبْدِهِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ عَنْ دَيْنِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ فِي يَدِهِ بِسَبَبِ مُعَامَلَتِهِ وَدُيُونُهُمْ وَجَبَتْ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَيْضًا فَهُمْ أَحَقُّ بِالْكَسْبِ حَتَّى يَسْتَوْفُوا دُيُونَهُمْ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ إقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَسَلَامَتُهَا لِلْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجَبَتْ الدُّيُونُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا تُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْغُرَمَاءُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْذُونٌ لَهُ وَهُوَ يَجْحَدُ، وَالْمَوْلَى غَائِبٌ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُمْ لِخُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ حَقَّهُمْ ثَابِتٌ فِي الْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ فَلَوْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِذْنِ وَأَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ بِيعَ مَا فِي - يَدِهِ أَيْضًا، وَلَمْ تُبَعْ رَقَبَتُهُ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِي الرَّقَبَةِ الْمَوْلَى وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنْ حَضَرَ مَوْلَاهُ بَعْدَ مَا بَاعَ الْقَاضِي مَا فِي يَدِهِ فَقَاضَاهُ الْغُرَمَاءُ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْغُرَمَاءَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عَلَيْهِ الْإِذْنَ الْعَارِضَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامُوا وَإِلَّا رَدُّوا مَا أَخَذُوا. فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَتِهِ لِلْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةً مَا لَمْ يَحْضُرْ فَيُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ، وَقَالَ: هُوَ حُرٌّ أَوْ مِلْكُ فُلَانٍ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي كَسْبِهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ حَقِيقَةً فَأَمَّا بَعْدَمَا حَضَرَ وَادَّعَى رَقَبَتَهُ فَقَدْ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهُ حَقِيقَةً لِكَسْبِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الظَّاهِرِ بَعْدَ هَذَا وَيَحْتَاجُ الْغُرَمَاءُ إلَى إثْبَاتِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى، وَذَلِكَ الْإِذْنُ فَإِذَا لَمْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُمْ رَدُّ مَا أَخَذُوا. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعًا فَقَالَ الرَّجُلُ لِلْعَبْدِ: أَنْتَ مَحْجُورٌ عَلَيْكَ فَلَا - أَدْفَعُ إلَيْكَ مَا اشْتَرَيْتَ مِنِّي، وَقَالَ الْعَبْدُ: أَنَا مَأْذُونٌ لِي فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مُعَامَلَةَ الرَّجُلِ مَعَهُ إقْرَارٌ مِنْهُ بِصِحَّةِ الْمُعَامَلَةِ وَكَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعَامِلَ عَبْدَ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ " أَنْتَ مَحْجُورٌ عَلَيْكَ " مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَدَعْوَى الْحَجْرِ بَاطِلَةٌ لِلتَّنَاقُضِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ مَا بَاعَ وَأَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُ كَمَا الْتَزَمَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْبَائِعُ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَنْتِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 72 مَحْجُورٌ عَلَيْكَ، وَقَالَ الْعَبْدُ: أَنَا مَأْذُونٌ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ مَا اشْتَرَى وَدَفْعِ الثَّمَنِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى إقْرَارِ الْعَبْدِ بِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي رَدَّ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ، وَإِنْ كَانَ مُنَاقِضًا فَقَدْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ، وَالْمُنَاقِضُ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَلَوْ تَقَابَلَا الْبَيْعَ عَنْ تَرَاضٍ جَازَ فَإِنْ حَضَرَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ كُنْتُ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ النَّقْضُ الَّذِي كَانَ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ مِنْهُمَا، وَالْإِقَالَةُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَمْ آذَنْ لَهُ وَلَكِنْ أَجَزْتُ بَيْعَهُ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ النَّقْضُ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْبَيْعِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، وَالْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ دُونَ الْمُنْتَقِضِ وَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ الْقَاضِي بِنَقْضِ الْبَيْعِ حَتَّى حَضَرَ الْمَوْلَى، فَقَالَ كُنْتُ أَذِنْتُ لَهُ أَوْ قَالَ لَمْ آذَنْ لَهُ وَلَكِنِّي أَجَزْتُ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُتَنَاقِضَيْنِ فِي كَلَامِهِمَا فَبِنَفْسِ التَّكَلُّمِ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ قَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِنَقْضِهِ لِحَقِّهِ الْإِجَازَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَيَنْفُذُ بِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يُنْكِرَانِ أَصْلَ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ نَقْضِ الْبَيْعِ بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَنَقْضُ الشَّيْءِ تَصَرُّفٌ فِيهِ بَعْدَ صِحَّتِهِ، وَإِنْكَارُ الشَّيْءِ مِنْ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالنَّقْضِ بَعْدَ صِحَّتِهِ كَمَا أَنَّ إنْكَارَ الزَّوْجِ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالطَّلَاقِ فَإِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ مَتَاعًا لِرَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الَّذِي بِعْتُكَ لِمَوْلَايَ لَمْ يَأْذَنْ لِي فِي بَيْعِهِ وَأَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي كَذَبْتُ، وَأَنْتَ مَأْذُونٌ لَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُمَا عَلَى الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِصِحَّتِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي بُطْلَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ قَالَ أَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ لَمْ يُصَدَّقْ وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ فَإِنْ حَضَرَ الْمَوْلَى، وَقَالَ لَمْ آذَنْ لَهُ فِي شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيُرَدُّ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُدَّعًى عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ يُنْكِرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ عَبْدًا ابْتَاعَ مِنْ عَبْدٍ شَيْئًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا، وَأَنْتَ مَأْذُونٌ لَنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَدَّعِي مِنْهُمَا الْجَوَازَ لِلْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ بِالْحَجْرِ وَلَا عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي لِكَوْنِهِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 73 مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي أَخَذَ بِذَلِكَ وَأَبْطَلَ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ وَبَاعَ وَلَا يُدْرَى أَحُرٌّ هُوَ أَوْ عَبْدٌ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ قَالَ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ، وَقَالَ هُوَ عَبْدِي مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ هُوَ حُرٌّ فَالدَّيْنُ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ يُبَاعُ بِهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَجْهُولِ الْحَالِ الْحُرِّيَّةُ وَقَدْ ثَبَتَ لِلْغُرَمَاءِ حَقُّ مُطَالَبَتِهِ بِدُيُونِهِمْ فِي الْحَالِ فَهُوَ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَقَدْ زَعَمَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَأَخِّرٌ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمَدْيُونُ أَجَلًا فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الرِّقِّ بِإِقْرَارِهِ أَنْ تَتَأَخَّرَ دُيُونُهُمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالدِّينِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَحْجُورِ فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فَهُوَ نَظِيرُ مَجْهُولَةِ الْحَالِ إذَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهَا فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا بَقِيَ مُطَالَبًا فِي الْحَالِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ رَقِيقٌ بِيعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ وُجُوبُ هَذَا الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَلَوْ جَنَى عَبْدُهُ جِنَايَة بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ قَالَ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ فَصَدَّقَهُ فُلَانٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَلْ هُوَ حُرٌّ فَهُوَ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلَا حَقَّ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ حَقَّهُمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يَعْرِفُ لَهُ عَاقِلَةً، ثُمَّ بَيْنَ ثُبُوتِ الرِّقِّ بِإِقْرَارِهِ وَوُجُوبِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُنَافَاةً وَبَيْنَ حُرِّيَّتِهِ كَمَا زَعَمُوا وَاسْتِحْقَاقِ رَقَبَتِهِ بِالْجِنَايَةِ مُنَافَاةٌ، وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْحَقِّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ لَا مَحَالَةَ فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى أَخْذِ - الرَّقَبَةِ سَبِيلٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالدَّيْنُ هُنَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا إلَّا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ رِقُّهُ يَسْتَوْفِي الدَّيْنَ مِنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ أَوْ مِنْ كَسْبِهِ وَقَدْ ثَبَتَ رِقُّهُ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ غُرَمَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ قَدْ أَعْتَقْتُهُ، وَقَالَ الْمَوْلَى: لَمْ أُعْتِقْهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الْعِتْقَ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عِتْقُهُ بَقِيَ مُسْتَحَقَّ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ وَلَوْ كَانَ جَنَى جِنَايَةً فَقَالَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ لِلْمَوْلَى: قَدْ أَعْتَقْتَهُ، وَقَالَ الْمَوْلَى: لَمْ أُعْتِقْهُ فَالْعَبْدُ عَبْدُ الْمَوْلَى عَلَى حَالِهِ لِإِنْكَارِهِ الْعِتْقَ وَلَا شَيْءَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ قِبَلَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ قِبَلَ الْمَوْلَى وَهُوَ الْفِدَاءُ إذَا كَانَ عَالِمًا، وَالْقِيمَةُ بِالِاسْتِهْلَاكِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَسَقَطَ حَقُّهُمْ عَنْ الْعَبْدِ لِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي رَقَبَتِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَهُنَاكَ مَا أَقَرُّوا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ عَنْ ذِمَّةِ الْعَبْدِ بِالْعِتْقِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا ادَّعَوْا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 74 مِنْ الْعِتْقِ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا بَقِيَ الدَّيْنُ بَعْدَهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَفِي الْجِنَايَةِ لَوْ كَانَ الْعِتْقُ ظَاهِرًا فَرَغَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْمَأْذُون بِالدَّيْنِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِهِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِمِثْلِهِ صَحِيحٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَانَ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَوُجُوبُ الْعَقْدِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الشِّرَاءِ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْوَاجِبُ الْحَدَّ وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً بِكْرًا فَافْتَضَّهَا رَجُلٌ فِي يَدِهِ، ثُمَّ هَرَبَ كَانَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ بِعُقْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالِافْتِضَاضِ جُزْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهَا وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْعَبْدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَإِذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهَا فِي ضَمَانِهِ كَانَ عَلَيْهِ بَدَلُ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ فِي الْحَالِ إمَّا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ غَصْبِ، وَالْعَبْدُ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْغَصْبِ فِي الْحَالِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا أَوْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ هَذَا الرَّجُلِ بِنِكَاحٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَافْتَضَّهَا لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ بُدِئَ بِدَيْنِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَخَذَهُ مَوْلَى الْجَارِيَةِ مِنْ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ حَقُّ مَوْلَى الْعَبْدِ وَتَصْدِيقُ مَوْلَى الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ مُعْتَبَرٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا السَّبَبُ مُعَايِنًا كَانَ لِمَوْلَى الْجَارِيَةِ أَنْ يَأْخُذَ عُقْرَهَا مِنْ كَسْبِهِ فِي الْحَالِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَعَلَيْهِ دَيْنُ امْرَأَةٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَبِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى صَحِيحٌ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، ثُمَّ فِي النِّكَاحِ مَنْفَعَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِفُّ بِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُعِينُهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَظَهَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَنَفَقَتِهَا وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ وَجَحَدَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْمَهْرِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَالْمَأْذُونُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 75 فِيهِ، وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُؤَاخِذْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً بِنِكَاحٍ فَافْتَضَّهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَمَوْلَاهُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَإِقْرَارُهُ بِهَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَظْهَرُ الدَّيْنُ بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا النِّكَاحُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَة فَلِهَذَا لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ افْتَضَّهَا بِإِصْبَعِهِ غَاصِبًا كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ فَهُوَ كَإِقْرَارِهِ بِقَطْعِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُهُ جَائِزٌ وَيَضْرِبُ مَوْلَاهَا بِمَهْرِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَار بِدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْفَائِتُ بِهَذَا الْفِعْلِ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِيَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَوْ كَانَ مُعَايِنًا يُبَاعُ وَلَا يُدْفَعُ بِهِ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحٌ فِي مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهَا، ثُمَّ افْتَضَّهَا بِإِصْبَعِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَرُّ لَهُ التَّضْمِينَ بِالْغَصْبِ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ صَحِيحٌ وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ غَيْرَهُ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ فِي ضَمِّنَا الْعَبْدَ، وَإِنْ اخْتَارَ التَّضْمِينَ بِالِافْتِضَاضِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَتَخَاصَمُوا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ مَادَامَ مَأْذُونًا، وَإِنْ لَحِقَهُ الدَّيْنُ فَإِقْرَارُهُ يَكُونُ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَعَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ مَتَى جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ يُجْعَلَانِ كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا وَكَمَا وَجَبَ تَصْحِيحُ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي تِجَارِيَّتِهِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُمْ لَا يَصِحُّ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ تَحَرَّزُوا عَنْ مُعَامَلَتِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ بُدِئَ بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ مَا دَامَ مَأْذُونًا وَيَكُونُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَبَيْنَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ أَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ لَمْ يُمْلَكْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مِلْكَهُ عَنْ هَذَا الْعَيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ سَبَبُ الْمِلْكِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ، وَالْيَدُ فِي الْآدَمِيِّ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَسْتُ بِمِلْكٍ لَهُ بَلْ أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَأْذُونُ وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 76 الْبَائِعَ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ، وَأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ لِلْمَأْذُونِ فِيهِ قَدْ ظَهَرَ وَهُوَ شِرَاؤُهُ وَانْقِيَادُ الْعَبْدِ لَهُ عِنْدَ الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ حَتَّى لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَأَنَّ الْبَائِعَ أَعْتَقَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ مَعَ إنْكَارِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقٍ مَعَ إيَّاهُ، وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُوجِبُ الْعَتَاقَ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ بَعْدَ ظُهُورِهِ فِي الْمَحَلِّ بِظُهُورِ سَبَبٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَاَلَّذِي ظَهَرَ لِلْمَأْذُونِ هُنَاكَ الْيَدُ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ لَيْسَ بِدَلِيلِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ كَلَامُهُ إنْكَارًا لِتَمَلُّكِهِ لَا إبْطَالًا لِلْمِلْكِ الثَّابِتِ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَقَرَّ بِوِلَادَتِهَا مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمَمْلُوكِ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إيجَابِهِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ لِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا بَيْنَهُمَا وَهُمَا يَمْلِكَانِ نَقْضَ الْبَيْعِ بِاتِّفَاقِهِمَا بِالْإِقَالَةِ فَيُعْمَلُ بَعْدَ تَصَادُقِهِمَا عَلَى بُطْلَانِهِ وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَالْحُرِّيَّةُ أَوْ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ لِلْمَمْلُوكِ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْبَائِعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْبَائِعُ أَهْلٌ لِإِيجَابِ ذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَعْتِقَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْبَائِعُ مُنْكِرٌ، وَالْبَيْعُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ أَوْ حَقُّهَا لِلْمَمْلُوكِ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْمَأْذُونِ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَأْذُونُ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَجَاءَ فُلَانٌ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ وَيَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تُوجِبَ الْمِلْكَ لَهُ فِيهِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةُ فَيَكُون قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمِلْكِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُقَرِّ لَهُ هَهُنَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَكَلَامُهُ هُنَاكَ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِقِيمَتِهَا عَلَى مَا ادَّعَى أَوْ يُقِرُّ الْبَائِعُ بِهِ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ مُسْتَحِقُّ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْبَيْعِ ظَاهِرًا فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ إقْرَارِهِ وَهُوَ النُّكُولُ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمَأْذُونِ أَوْ يَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى دَعْوَاهُ وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ يَكُونُ تَنَاقُضًا. قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ بِسَبِيلٍ مِنْ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُشْتَرِي أَوْ بَائِعٌ لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُجِيزَهُ الْمُشْتَرِي فَإِذَا أَبَى أَنْ يُجِيزَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا بَيِّنَتَهُ عَلَى. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 77 ذَلِكَ وَحَلَّفْنَا الْبَائِعَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْجَارِيَةِ وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهَا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا ابْنَتُهُ وَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ الْمُشْتَرِي، وَالْعَبْدُ فَالْجَارِيَةُ ابْنَةُ الرَّجُلِ وَتُرَدُّ إلَيْهِ وَلَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا جَرَى مِنْ الْبَيْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ بِنْتُ الْمُدَّعِي وَإِقْرَارُهُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيجَابَ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا مِنْ قِبَلِهِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ قَدْ اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا انْقَادَتْ لِلْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ فَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْعَبْدِ حَتَّى لَوْ ادَّعَتْ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ يَكُونُ إبْطَالًا لِمِلْكِهِ الثَّابِتِ فِيهَا ظَاهِرًا، وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالْحُرِّيَّةِ لَهَا بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي رُجُوعُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَهَا مِنْهُ فَأَقَرَّ الْبَائِعُ بِذَلِكَ أَيْضًا انْتَقَضَتْ الْبُيُوعُ كُلُّهَا وَيَرْجِعُوا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ بَائِعَهَا مِنْ الْعَبْدِ أَهْلٌ لِإِيجَابِ الْحُرِّيَّةِ لَهَا فِي مِلْكِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحُرِّيَّتِهَا وَيَكُونُ هَذَا تَصَادُقًا مِنْهُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ جَمِيعًا وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ ذَلِكَ بِنَقْضِ الْبَيْعَيْنِ بِالْإِقَالَةِ فَيَعْمَلُ تَصَادُقُهُمْ عَلَى إبْطَالِهَا وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ لَوْ عَمِلَ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ وَكَسْبُ الْمَأْذُونِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ بِمَحْضَرٍ مِنْهَا وَقَبَضَهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ لَا تُنْكِرُ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ ادَّعَى أَجْنَبِيٌّ أَنَّهَا ابْنَتُهُ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ الْمَأْذُونُ، وَالْجَارِيَةُ، وَالْمُشْتَرِي، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَائِعُ مِنْ الْعَبْدِ فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ بِنْتُ الَّذِي ادَّعَاهَا بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَبْدِ يَمْلِكُ إيجَابَ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا فَيَعْمَلُ تَصْدِيقُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي مِلْكِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي كَسْبِهِ فَلَا يَعْمَلُ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْآخَرُ أَنَّ الَّذِي بَاعَهَا مِنْ الْعَبْدِ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ وَلَدَتْ وَصَدَّقَهُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فَإِقْرَارُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَبْدِ بِذَلِكَ صَحِيحٌ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إيجَابِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَهَا وَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ إيَّاهُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالْحُرِّيَّةِ فَهِيَ حُرَّةٌ مَوْقُوفَةُ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفِي وَلَاءَهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ أَعْتَقَهَا وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَتَكُونُ مَوْقُوفَةَ الْوَلَاءِ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ فِيهَا بِتَدْبِيرٍ أَوْ وِلَادَةٍ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ فَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 78 الْآخَرُ مُقِرٌّ بِأَنَّ عِتْقَهَا تَعَلَّقَ بِمَوْتِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ مُقِرٌّ أَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي الْآخَرَ فِيهَا نَافِذٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتِقَ فَيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ رَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِهَذَا مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ لِحَقِّ مَوْلَاهُ وَغُرَمَائِهِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ أَوْ مَهْرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُنْكِرًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ رَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَمَا لَمْ يُثْبِتْ الْمُشْتَرِي دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْعَبْدُ مُصَدَّقٌ لَهُ مُقِرٌّ بِوُجُوبِ رَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيُجْعَلُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ ادَّعَى أَنَّ الَّذِي بَاعَهَا مِنْ الْعَبْدِ كَانَ كَاتَبَهَا قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا وَصَدَّقَهُ الْمَأْذُونُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مُكَاتَبَةً وَهِيَ أَمَةٌ لِلْمُشْتَرِي يَبِيعُهَا إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَقَدْ عَجَزَتْ هِيَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِجَهَالَةِ مَنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْآخَرَ يَزْعُمُ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهَا دَفْعُ الْبَدَلِ إلَيْهِ، وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ بِإِقْرَارِهِ فَصَارَتْ كَمَا لَوْ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ لِعَدَمِ مَا تُؤَدِّي الْبَدَلَ بِهِ فِي يَدِهَا وَذَلِكَ مُوجِبٌ انْفِسَاخَ الْكِتَابَةِ فَإِذَا انْفَسَخَتْ كَانَتْ أَمَةً فَالْمُشْتَرِي يَبِيعَهَا إنْ شَاءَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَأَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِمَوْلَاهُ أَوْ لِابْنِ مَوْلَاهُ أَوْ لِأَبِيهِ أَوْ لِعَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ أَوْ لِأُمِّ وَلَدِهِ فَإِقْرَارُهُ لِمَوْلَاهُ وَلِمُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَائِهِ تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ، وَالْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرَّثِ فَكَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التُّهْمَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ وَكَذَلِكَ لِعَبْدِ مَوْلَاهُ أَوْ لِأُمِّ وَلَدِهِ فَإِنَّ كَسْبَهُمَا لِمَوْلَاهُ وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فَأَمَّا إقْرَارُهُ لِابْنِ مَوْلَاهُ أَوْ لِابْنِهِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى فِي مِلْكِهِمَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِأَبِي وَارِثِهِ أَوْ لِابْنِ وَارِثِهِ جَازَ إقْرَارُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ صَارَ الْمُقِرُّ بِهِ - بِعَيْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ لَهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَانَ إقْرَارُهُ جَائِزًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي كَسْبِهِ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْد ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِوَارِثِهِ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ فَإِقْرَارُهُ يَكُونُ صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 79 أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقِرِّ لَهُ شَيْءٌ إنْ كَانَ هُوَ الْمَوْلَى أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدَهُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَإِقْرَارُهُ لَهُ مَا كَانَ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا بِخِلَافِ إقْرَارِهِ لَهُ بِالْعَيْنِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى عَيْنٌ فِي يَدِ عَبْدِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ كَسْبُهُمَا لِلْمَوْلَى فَالْإِقْرَارُ لَهُمَا كَالْإِقْرَارِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ أَقَرَّ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ أَوْ لِابْنِهِ، ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ اشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ هَهُنَا مِمَّنْ يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ، وَقَدْ صَحَّ إقْرَارُهُ لَهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حِينَ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ أَحَدِهِمَا بِمَالِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ فَيَشْتَرِكُونَ فِي كَسْبِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَأْذُونُ لِابْنِهِ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ لِمُكَاتَبِ ابْنِهِ أَوْ لِعَبْدِ ابْنِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ جَائِزٌ وَيُشَارِكُونَ الْغُرَمَاءَ فِي كَسْبِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ فِيهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ أَوْ حَقُّ مَوْلَاهُ وَإِقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بَاطِلٌ لَوْ كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَبْدًا، وَفِي قَوْلِهِمَا إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِأَخِيهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي إقْرَارِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِأَبِيهِ أَوْ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَالشَّرِكَةِ أَوْ هُوَ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْوَكِيلِ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِالْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَأَذِنَ لِجَارِيَةٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهَا دَيْنٌ، ثُمَّ أَقَرَّتْ لَهُ بِوَدِيعَةٍ فِي يَدِهَا لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونَ لِمَوْلَاهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا لَهُ وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِقْرَارُهَا لَهُ الْوَدِيعَةِ إقْرَارٌ لِعَبْدِ مَوْلَاهَا وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لِعَبْدِ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ لَهَا بِوَدِيعَةٍ فِي يَدِهِ صُدِّقَ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَتَكُونُ هِيَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى الْمَأْذُونِ فَإِقْرَارُهُ لَهَا كَإِقْرَارِهِ لِأَمَةِ مَوْلَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ. قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ إنْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَجَمِيعُ مَا أَقَرَّ لَهَا بِهِ قَدْ يَعُودُ إلَيْهِ وَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى غُرَمَائِهِ كَسَائِرِ إكْسَابِهَا، فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَلَا إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ إقْرَارِهِ لِأَمَةِ مَوْلَاهُ فَلَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 80 عَلَيْهَا دَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ لَهَا يَكُونُ إقْرَارًا لِغُرَمَائِهَا وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لِغُرَمَائِهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ فَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ لَهَا بِخِلَافِ إقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إقْرَارُهَا لَهُ يَخْرُجُ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهَا وَيَبْطُلُ حَقُّ غُرَمَائِهَا عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ إلَّا أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ هِيَ تُشَارِكُ غُرَمَاءَ الْمَأْذُونِ فِي كَسْبِهِ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ هِيَ أَوْلَى بِالْعَيْنِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ غُرَمَائِهَا مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ لَهَا بِالدَّيْنِ، الْوَدِيعَةِ صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِذَلِكَ لِغُرَمَائِهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ لَهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ شَارَكَ الْمُكَاتَبُ، وَالْعَبْدُ بِدَيْنِهِمَا سَائِرَ غُرَمَائِهِ فِيهِ وَإِقْرَارُهُ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ أَوْ لِعَبْدِ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لَهُمَا يَكُونُ بَاطِلًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِقَوْمٍ شَتَّى، ثُمَّ حَضَرَ رَجُلًا آخَرَ الْمَوْتُ فَأَقَرَّ لِلْمَيِّتِ بِوَدِيعَةٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي يَدِهِ أَوْ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ وَبَعْضُ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَحَدُ وَرَثَةِ آخَرَ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إقْرَارُهُ ثَبَتَتْ لِوَارِثِهِ الشَّرِكَةُ فِي الْمُقِرِّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ غُرَمَاءِ الْجَارِيَةِ أَبًا لِلْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ فَأَقَرَّ لَهُمَا الْعَبْدُ بِوَدِيعَةٍ أَوْ دَيْنٍ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ لِأَبِ مَوْلَاهُ أَوْ ابْنِهِ بِالدَّيْنِ، وَالْعَيْنُ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ لَهُمَا وَلَوْ كَانَ بَعْضُ غُرَمَائِهَا أَبَ الْعَبْدِ أَوْ ابْنَهُ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِلٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِأَبِيهِ أَوْ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لَهُمَا فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْضُ غُرَمَائِهَا مُكَاتَبًا لِأَبِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ لِابْنِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُ غُرَمَائِهَا أَخًا لِلْعَبْدِ كَانَ إقْرَارُهُ لَهَا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ لِأُخْتِهِ فَكَذَلِكَ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ لَهَا، وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ لِأُخْتِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَأْذُونُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ اسْتَهْلَكَهَا فَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَكَ مَوْلَاكَ فِي التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقِرُّ لَهُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ فِي الْحَالِ وَقَدْ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ لَا تُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَالَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ سَاءَ عِتْقُهُ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مُنْكِرًا وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُدَّعٍ أَجَلًا فِيهِ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يُعْتِقَ إلَّا بِالْغَصْبِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 81 خَاصَّةً فَضَمَانُ الْغَصْبِ يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذَ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَى مِنْ الْأَجَلِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَكَأَنَّهُ ادَّعَى الْأَجَلَ إلَى شَهْرٍ فِي دَيْنٍ أَقَرَّ بِهِ مُطْلَقًا وَقِيلَ فِي الْقَرْضِ، الْوَدِيعَةِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَدِيعَةِ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ وَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيُقِرُّ بِنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ نَافِذٌ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ وَكَمَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يُؤَاخَذَانِ بِالْقَرْضِ، الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إذَا صَدَّقَهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ بَعْد الْكِبَرِ، وَالْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ فَقَالَ: هَذَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ، وَهُوَ خَطَأٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ إذَا أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: غَصَبْتُكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَنَا حَرْبِيٌّ فَاسْتَهْلَكْتهَا، وَقَالَ الرَّجُلُ: غَصَبْتَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمُعْتَقِهِ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ مَا كُنْتَ عَبْدِي فَاسْتَهْلَكْتُهَا، وَقَالَ الْعَبْدُ: بَلْ أَخَذْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ أَصْلًا بِإِضَافَتِهِ الْإِقْرَارَ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي أَضَافَ إلَيْهَا فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، وَالْمَعْتُوهُ فَإِنَّهُمَا يُنْكِرَانِ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِمَا أَصْلًا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ الْحَجْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَالُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْإِضَافَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصَحُّ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْبِيِّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ حَالَ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا، وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْلَى لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْعَبْدِ فِي حَالِ قِيَامِ رِقِّهِ، وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمَالٍ لَوْ عَلِمَ صِدْقَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ قَبْلَ تَبَدُّلِ الْحَالِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا شَيْئًا، وَالصَّبِيُّ أَقَرَّ بِمَا كَانَ يَجِبُ رَدُّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا حَالَ قِيَامِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَقْرَضَهُ الصَّبِيُّ أَوْ أَخَذَهُ وَدِيعَةً يَجِبُ رَدُّهُ مَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْرُجُ إقْرَارُهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا فِي الْأَصْلِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْإِضَافَةِ كَمَا فِي فَصْلِ الْعَبْدِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ وَأَقَامَ الْمُقَرُّ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُقَرُّ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إلْزَامَ الْمَالِ، وَالْبَيِّنَاتِ لِذَلِكَ شُرِعَتْ وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَقَاءَ الْعَيْنِ فِي يَدِهِمَا بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ وَذَلِكَ يَدْفَعُ بَيِّنَتُهُمَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتَهُ. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 82 ثُمَّ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ اسْتَقْرَضَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ إذْنِهِ الْأَوَّلِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ اسْتَوْدَعَهُ فِي حَالِ إذْنِهِ الْأَوَّلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَيُخَلِّصُ بِهِ غُرَمَاءَهُ الْمَعْرُوفِينَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ فِي الْحَالِ وَأَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ لَا تُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا فِي الْمُحَاصَّةِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، وَالْمَعْتُوهُ فِي نَحْوِ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ بِذَلِكَ السَّبَبِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ أَصْلًا، وَعَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يُعْتَقْ فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ فِي ذَلِكَ وَتَكْذِيبِهِ هُنَاكَ وَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا هَهُنَا. وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِغَصْبٍ اغْتَصَبَهُ فِي حَالِ إذْنِهِ أَوْ بِقَرْضٍ أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ اسْتَهْلَكَهَا فِي حَالِ إذْنِهِ فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ فِي يَدِ الْعَبْدِ لَمْ يُصَدَّقْ حَتَّى يُعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقَرَارِ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إذَا كَذَّبَهُ وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى عَنْهُ بِالْعِتْقِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْ حَتَّى أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى مَرَّةً أُخْرَى سَأَلَهُ الْقَاضِي عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدِ الْإِذْنِ الْأَخِيرِ أَخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى الْآنَ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ حِين أَقَرَّ بِهِ الْآنَ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ قَالَ لَمْ يَكُنْ إقْرَارِي ذَلِكَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كُنْتُ أَقْرَرْتُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ مِنْهُ إقْرَارٌ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَإِقْرَارُهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ مِمَّا كَانَ مُلْزِمًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الْآنَ وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ كَانَ فِي مَجْلِسِهِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي الْإِذْنِ الْآخَرِ مَا لَمْ يُعْتَقْ فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ بِقَوْلِهِ " الْآنَ "، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَعْتُوهُ فِي ذَلِكَ كَالْعَبْدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ فِي حَالِ حَجْرِهِ وَلَكِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ إذْنِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَرَّ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ إذْنِهِ الْأَوَّلِ أَوْ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أَوْ مُضَارَبَةً فَاسْتَهْلَكَهَا وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ بِتَصَادُقِهِمَا ظَهَرَ إقْرَارُهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ وَلَوْ كَانَ إقْرَارُهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ قَدْ أَقْرَرْتَ لِي بِذَلِكَ فِي حَالِ إذْنِكَ الْأَوَّلِ أَوْ قَالَ فِي حَالِ إذْنِكَ الْآخَرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ أَضَافَ الْإِقْرَارَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 83 إلَى حَالٍ لَا يُنَافِي الْتِزَامَ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إلَى الْعِتْقِ فَكَانَ مُدَّعِيًا لِلْأَجَلِ لَا مُنْكِرًا لِلْمَالِ فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ الْأَجَلِ أَخَذَ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُقَرِّ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَلِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا وَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ الْحَجْرِ وَأَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَقَرَّ بِهِ فِي الْإِذْنِ الْآخَرِ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمَا كَمَا لَزِمَ الْعَبْدَ بِإِقْرَارِهِمَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِمَا أَصْلًا فَكَانَا مُنْكِرَيْنِ لِلْمَالِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَهُوَ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةِ الْحَجْرِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِهِ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ الْآخَرِ أَخْذًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَالِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فِي يَدِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْ فُلَانٍ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ عَلَى الْأَلْفِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى، وَيَتْبَعُ الْمُقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فِي رَقَبَتِهِ فَيَبِيعُهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي فَالْأَلْفُ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا هِيَ لِلْمَوْلَى وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُ بَاطِلٌ وَمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالْحَجْرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَأَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ بِدَيْنٍ وَهُنَاكَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَاطِلٌ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ إقْرَارَهُ مُعْتَبَرٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ وَلَوْ أَنْشَأَ تَصَرُّفًا آخَرَ فِيمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَنْعًا لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ وَلَوْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي التِّجَارَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حُرٌّ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا أَنَّ إقْرَارَهُ فِي هَذَا الْمَالِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَالِ إذْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَأْذُونًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ يَدُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَيَدُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْحَجْر الجزء: 25 ¦ الصفحة: 84 عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِنْهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيهِ كَمَا قَبْلَ الْحَجْرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ. وَالثَّانِي أَنَّ بَقَاءَ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ أَثَرُ ذَلِكَ الْإِذْنِ، وَبَقَاءُ أَثَرِ الشَّيْءِ كَبَقَاءِ أَصْلِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا أَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ يُجْعَلُ كَبَقَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَصِحَّةِ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ، وَالْعَيْنِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الَّذِينَ يُعَامَلُونَ مَعَهُ، وَالْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْحِجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا صَارَ الْكَسْبُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ جَعَلْنَا بَقَاءَ أَثَرِ الْإِذْنِ كَبَقَاءِ أَصْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ الْإِذْنِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مُسْتَمِرٌّ فَإِنَّهُ جَعَلَ السُّكْرَ فِي الْعَصِيرِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ بَقَاءِ صِفَةِ الْحَلَاوَةِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ هُوَ الْخَصْمُ فِي حُقُوقِ تِجَارَاتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَجَدَ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ بِالْمُشْتَرِي عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ كَمَا قَبْلَ الْحَجْرِ وَصِحَّةُ إقْرَارِهِ مِنْ حُقُوقِ تِجَارَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى ذَلِكَ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ كَانَ كَلَامُهُ اسْتِحْقَاقًا لِلْمِلْكِ عَلَى الْمَوْلَى ابْتِدَاءً وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَأَمَّا مَا بَقِيَ الْكَسْبُ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ فِي الْمَعْنَى إنْكَارًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً وَبِخِلَافِ إنْشَاءِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ إثْبَاتُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ وَإِقَامَةُ أَثَرِ الْإِذْنِ مَقَامَ الْإِذْنِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ الثَّانِي فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فَيُجْعَلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ الْعَيْنُ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا إقْرَارُهُ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي إقْرَارًا بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ اتَّبَعَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي رَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَقَرَّ لِهَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ قَدْ أَقْرَرْتَ لِي بَعْدَ الْإِذْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ لَا تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِ فَإِنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ مُلْزِمٌ إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا أَوْ كَانَ صَغِيرًا حُرًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَأَقَرُّوا بَعْدَ الْإِذْنِ أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِمْ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمْ فِي الْحَالِ إقْرَارًا بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ أَقْرَرْتُ لَكَ بِأَلْفٍ قَبْلَ أَنْ أُولَدَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْمَالِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 85 [بَابُ إقْرَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَهَذَا الْبَابُ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِيَّةِ؛ الَّتِي بَيَّنَّاهَا إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ قَائِمَةٍ فِي يَدِهِ مَضْمُونَةٍ أَوْ أَمَانَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَهْلَكَةٍ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي اسْتِهْلَاكِ رَقَبَتِهِ بِالْإِنْفَاقِ حَتَّى إذَا لَمْ يَفِ مَا فِي يَدِهِ بِمَا عَلَيْهِ لِاتِّبَاعِ رَقَبَتِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَصِحَّ رِقٌّ بَعْدَ الْحَجْرِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَقَامَ أَثَرَ الْإِذْنِ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي تَصْحِيحِ إقْرَارِهِ. وَهَذَا الْأَثَرُ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لَا رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ فِي - رَقَبَتِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ - رَقَبَتَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ خَصْمًا لَهُ وَلَا كَسْبُهُ مُسْتَفَادًا لِلْمَوْلَى مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ - وَرَقَبَتِهِ كَانَتْ لِلْمَوْلَى قَبْلَ الْإِذْنِ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي حَالِ إذْنِهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ لَزِمَهُ حَالَ الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ سَبَبُهُ أَقْوَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَالضَّعِيفُ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ كَالدَّيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي الْمَرَضِ مَعَ دَيْنِ الصِّحَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْغُرَمَاءِ الَّذِينَ وَجَبَتْ دُيُونُهُمْ فِي حَالِ الْإِذْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ حَتَّى أَخَذَ مَوْلَاهُ الْمَالَ مِنْهُ أَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ أَمَّا إذَا أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ - أَثَرُ ذَلِكَ الْإِذْنِ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَأَمَّا إذَا بَاعَ فَلِأَنَّهُ يُحَوَّلُ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ مُفَوِّتٌ مَحَلَّ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ كَانَ مِلْكَ الْإِذْنِ وَإِقَامَةِ الْأَثَرِ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي حَالِ بَقَاءِ مَحَلِّ الْأَصْلِ لَا بَعْدَ فَوَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ هُوَ الْخَصْمُ فِي بَقَاءِ تِجَارَتِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ عَامَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ بَعْدَ مَا بَاعَهُ الْمَوْلَى فِي عَيْبٍ وَلَا غَيْرُهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَالِ رِقِّهِ وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ إذَا عَتَقَ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حُكْمِ الِالْتِزَامِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ أَخَذَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَكُونُ الْتِزَامُهُ صَحِيحًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَإِذَا حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا الْمَوْلَى، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ فِيهَا يَدٌ حِينَ أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَكَانَ صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَإِنْ عَتَقَ لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 86 ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَالَ كَانَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَقَدْ أَخَذَهَا الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ رِضَا الْعَبْدِ وَتَسْلِيطِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ غَصَبَ الْوَدِيعَةَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْمُودَعِ، وَالْبِضَاعَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَلَوْ كَانَ غَصْبًا أَخَذَ بِهِ إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ أَوْ مُضَارَبَةٌ أَوْ قَرْضٌ أَوْ غَصْبٌ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَخَذَهَا صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ حَقِّهِ، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ كَانَتْ الْأَلْفُ دَيْنًا عَلَيْهِ يُؤَاخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُجْعَلُ كَأَنَّمَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَضَى - بِعَيْنِ مَالِ الْغَيْرِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونًا وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ فَالْأَلْفُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ صَارَ الْمُقَرُّ بِهِ مُسْتَحَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ لِإِبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ مِثْلَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ فَإِذَا صَرَفَ الْمَالَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ عَتَقَ اتَّبَعَهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى الْوَدِيعَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ وَاسْتَفَادَ بِهِ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ فَيَتْبَعُهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ بِمِثْلِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ بِخِلَافِ مَا يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا قَضَى بِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إنَّمَا أَزَالَ الْمَوْلَى يَدَهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَالْهَلَكِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ أَوَّلًا الْوَدِيعَةِ كَانَتْ الْأَلْفُ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَيَتْبَعُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَاطِلٌ، وَالْأَلْفُ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى وَلَا يَتْبَعُهُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ إذَا عَتَقَ فَأَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ بِالدَّيْنِ فَيَبِيعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ صَحِيحٌ. وَلَوْ أَقَرَّ إقْرَارًا مُتَّصِلًا فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهَذِهِ الْأَلْفُ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَايِرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَدِيعَةِ مُتَّصِلًا بِالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ قَدْ صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِلْوَدِيعَةِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَدَيْنٌ فِي كَلَامِهِ مَوْصُولٌ فَيَكُونُ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا عَتَقَ أَخَذَاهُ بِمَا بَقِيَ لَهُمَا وَلَوْ بَدَأَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ الْمُتَّصِلِ الْوَدِيعَةِ كَانَتْ الْأَلْفُ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْعَيْنَ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ، وَالدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَسْتَحِقُّ بِهِ كَسْبَهُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ كَسْبًا لَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 87 فَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِالدَّيْنِ وَلَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا فَقَالَ صَدَقْتُمَا كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا ظَهَرَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ إلَّا، وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ كَمَا أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْوَارِثِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ وَالْحُرُّ الصَّغِيرُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يُؤَاخَذَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْبُلُوغِ بِشَيْءٍ مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ الْعَبْدُ الْكَبِيرُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا فِي حَقِّهِمَا لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ لَمْ يَلْحَقْ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِهَلَاكِ مَا فِي يَدِهِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ وَلَا مَالَ فِي - يَدِهِ فَإِذَا عَتَقَ أَخَذَ بِالدَّيْنِ دُونَ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعَايَنًا مَعْلُومًا لَمْ يَلْحَقْهُ مَعَهُ بَعْدَ هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِالدَّيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَذِنَ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ آخَرَ أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ فَالْأَلْفُ الَّتِي فِي يَدِهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الثَّانِيَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيمَا فِي يَدِهِ مِمَّا كَانَ فِي الْإِذْنِ الْأَوَّلِ وَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَمَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ صَارَ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ كَانَ فِي حَالِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْإِسْنَادِ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِرَجُلٍ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ فِي حَالِ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِالْأَلْفِ وَيَتْبَعُ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ الْعَبْدُ بِهَا فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى الْوَدِيعَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ وَعِنْدَهُمَا الْأَلْفُ لِمَوْلَاهُ وَيَتْبَعُ بِالدَّيْنِ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الثَّانِيَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ يَصِيرُ كَالْمُخْرِجِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ يَدِهِ وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ فِي الْإِذْنِ الثَّانِي صَحِيحٌ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ خَمْسُمِائَةٍ فَأَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَقَرَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ الَّتِي كَانَتْ فِي - يَدِهِ وَدِيعَةٌ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ هَذَا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَالْأَلْفِ الَّتِي فِي يَدِهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ بِالْأَلْفِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ الْأَوَّلِ مُقَدَّمٌ فِيمَا فِي يَدِهِ فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ كَمَالَ حَقِّهِ، ثُمَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 88 الْحَجْرِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَأْخُذُهُ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتْبِ وَيَتْبَعُ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ الْعَبْدُ بِوَدِيعَتِهِ كُلِّهَا فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَدِيعَةِ حَصَلَ فِي حَالِ الْإِذْنِ الثَّانِي وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَقَدْ قُضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ فَيُؤَاخَذُ بِبَدَلِهِ فِي الْحَالِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَخَمْسِمِائَةٍ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَيَتْبَعُ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ فِيهِ الْعَبْدُ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَبْطُلُ مِنْ وَدِيعَتِهِ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَدِيعَةِ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِمَا قَضَى بِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ دُونَ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا قَضَى الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا فَيَتْبَعُ بِذَلِكَ خَاصَّةً، وَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى أَخَذَهَا الْمَوْلَى فَهِيَ فِي حَقِّهِ وَمَا لَوْ أَخَذَهَا غَاصِبٌ آخَرُ سَوَاءٌ فَإِنْ هَلَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ خَمْسُمِائَةٍ فِي يَدِ الْعَبْدِ كَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ فِي كَسْبِهِ عَلَى حَقِّ مَنْ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ وَيَلْزَمُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِنْ الْوَدِيعَةِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَضَى الدَّيْنَ الْوَدِيعَةِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ خَاصَّةً وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هَالِكٌ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ. وَإِذَا وَهَبَ لِعَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا الْعَبْدُ فَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ الْمَوْلَى حَتَّى اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ اُسْتُهْلِكَ أَلْفٌ آخَرُ بِبَيِّنَةٍ فَالْأَلْفُ الْهِبَةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ فِي يَدِهِ صُورَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ فِي ذَلِكَ إنْسَانٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ خَصْمًا لَهُ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ سَوَاءٌ فَمَا يَلْحَقُهُ مَنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ إنْسَانٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ خَصْمًا لَهُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ دُونَ مَالٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا قَبْلَ الْهِبَةِ كَانَتْ الْهِبَةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ بِالْقَبْضِ صَارَ كَسْبًا لَهُ وَحَقِّ غُرَمَائِهِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ إنَّمَا يَسْلَمُ لِلْمَوْلَى بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ وَبِقِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاكْتِسَابِ يَتَعَذَّرُ هَذَا الشَّرْطُ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ حِينَ صَارَتْ الْأَلْفُ كَسْبًا لَهُ مَا كَانَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَتَمَّ شَرْطُ سَلَامَةِ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْدَ الْهِبَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ آخَرَ بِبَيِّنَتِهِ كَانَتْ الْهِبَةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِهِ يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْلَى، وَثُبُوتَ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ حُكْمًا فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَأْذُونًا وَلَكِنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ لَمْ يَثْبُتْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الثَّانِي. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 89 حَقٌّ فِي ذَلِكَ الْكَسْبِ فَتَأَثَّرَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ وَاسْتِحْقَاقُ الْغَرِيمِ ذَلِكَ الْكَسْبَ بِهِ فِي نَفْيِ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَرِيمِ الثَّانِي مِنْهُ لَا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْمَالِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْلَى إيَّاهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْغَرِيمِ الثَّانِي فِيهِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ إيَّاهُ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ فِي حَقِّهِ جَمِيعِهِمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْإِذْنِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الدَّيْنَيْنِ وَجَبَا عَلَيْهِ مَعًا فَيَسْتَوِيَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَسْبِ بِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ خُصُومَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِهِ شَغَلَ مَالِيَّتَهُ بِالثَّمَنِ وَالْمَوْلَى غَيْرُ رَاضٍ بِهِ وَفِيهِ إدْخَالُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَيْسَ لِلْحُرِّ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى حُرٍّ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ أَوْلَى وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يُدْخِلُ الْعَيْنَ فِي مِلْكِهِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِمِلْكِ رَقَبَتِهِ مَا قَصَدَ إلَّا تَحْصِيلَ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِمَا هُوَ انْتِفَاعٌ مَحْضٌ مُحَصَّلٌ لَهُ بِمِلْكِ رَقَبَتِهِ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الشِّرَاءِ جَازَ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ فِيهِ وَامْتَنَعَ نُفُوذُهُ بِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَوْلَى وَبِإِجَازَتِهِ يَرْتَفِعُ هَذَا الْمَانِعُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الثَّمَنِ بِمَالِيَّتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالٍ مَوْلَاهُ أَوْ مِمَّا وَهَبَ لِلْعَبْدِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَمِثْلُهُ مِنْ الْحُرِّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ رِضَاهُ بِهِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الرِّضَا بِإِجَازَتِهِ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ وَالْقَرْضُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّبِيُّ وَالْحُرُّ وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ فِي ذَلِكَ كَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ عِنْدَ انْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَتَاعًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا اسْتَقْبَلَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَصَارَ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِشَغْلِ مَالِيَّتِهِ بِمَا يُنْشِئُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَلَا يُؤْثِرُ ذَلِكَ فِي تَصَرُّفٍ سَبَقَ الْإِذْنُ فَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ مِنْهُ وَهِيَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 90 بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ رَاضِيًا بِتَصَرُّفِهِ فَتَكُونُ إجَازَتُهُ ذَلِكَ الْعَقْدَ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى كَإِجَازَةِ الْمَوْلَى. وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَوْلَى وَوِلَايَتُهُ عَنْهُ فَإِجَازَتُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُ كَإِجَازَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَطَلَ الشِّرَاءُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْعَقَدَ حَالَةَ الرِّقِّ فَإِنَّهُ انْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ لَوْ نَفَذَ كَانَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْعَبْدِ مَقْصُودًا عَلَيْهِ وَبِهِ فَارَقَ الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا بَعْدَ الْإِذْنِ كَانَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ إذَا تَمَّ بِإِجَازَتِهِ وَإِجَازَةِ مَوْلَاهُ وَهَهُنَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَبْقَى كَذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفُذَ الْعَقْدُ مُوجِبًا حُكْمًا غَيْرَ الْحُكْمِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ وَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ إجَازَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ فِيهِ وَلَا إجَازَةَ الْمَوْلَى وَلَا إجَازَتِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ تَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيهِ فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى نَفَذَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْعَقَدَ مُوجِبًا مِلْكَ الْحِلِّ لِلْعَبْدِ عِنْدَ نُفُوذِهِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ إذَا نَفَذَ ثَبَتَ مِلْكُ الْمَحَلِّ لِلْعَقْدِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَكَانَ الْمَانِعُ مِنْ نُفُوذِهِ حَقَّ الْمَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ نَفَذَ. فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ فِي الْمُشْتَرِي لِلْمَوْلَى عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ وَلَا يُمْكِنُ إنْفَاذُهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي شِرَاءَ الْجَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ بِإِجَازَتِهِ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَتْ إجَازَتُهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّةِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَبِعْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ مَاتَ فَوَرِثَهُ وَارِثُهُ فَأَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّمَلُّكِ بِالْعَقْدِ فَتَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي هَذَا الشِّرَاءِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قَبَضَ الْعَبْدُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ هُوَ جَانِيًا فِي الْقَبْضِ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْعُقُودِ فِي حَالِ قِيَامِ الرِّقِّ وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالْعَقْدِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ دُونَ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ لَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ الَّذِي قَبَضَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 91 فَاسِدًا لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِيهِ وَهُوَ إذْنُ الْمَوْلَى وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَ الْعَبْدُ حِينَ قَبَضَهُ مِنْ الْبَائِعِ قِيلَ لِمَوْلَاهُ ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَحَقَّ بِاسْتِرْدَادِهِ مِنْهُ وَمِلْكُهُ لَمْ يَزُلْ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ فَكَانَ الْعَبْدُ فِي قَتْلِهِ جَانِيًا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ ثِيَابٌ أَوْ عُرُوضٌ أَوْ دَوَابُّ فَاسْتَهْلَكَهَا الْعَبْدُ حِينَ قَبَضَهَا لَمْ يَضْمَنْهَا حَتَّى يُعْتَقَ فَإِنْ عَتَقَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْدِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَلَا يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِضَمَانِ الْعُقُودِ حَتَّى يُعْتَقَ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ بِهِ الْمَضْمُونَ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ الدَّفْعُ دُونَ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ تَسْلِيطٌ مِنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الِاسْتِهْلَاكِ كَالْأَكْلِ فِي الطَّعَامِ وَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ فَلَا يَكُونُ هَذَا السَّبَبُ مُوجِبًا الضَّمَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ كَأَصْلِ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَهُ يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ لِلْفَرْقِ فَقَالُوا: الْبَيْعُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ التَّسْلِيطِ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ، فَأَمَّا الْإِيدَاعُ فَإِنَّهُ اسْتِحْفَاظٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ وَلَكِنَّهُ نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اسْتِقْرَاضِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ وَالْإِقْرَاضُ تَمْلِيكٌ كَالْبَيْعِ قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ لِذَلِكَ الْعَبْدِ عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ صَبِيًّا مَأْذُونًا لِأَنَّهُمَا فِي انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُمَا كَالْحُرِّ الْكَبِيرِ فَيَصِحُّ مِنْهُمَا التَّسْلِيطُ ضَمَانًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَعْتُوهًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُمَا إذَا قَتَلَا الْمُشْتَرِيَ كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَاهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَا يَلْحَقُهُمَا ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَا مِنْ هَذَا إذَا كَبُرَ الصَّبِيُّ وَعَقَلَ الْمَعْتُوهُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُمَا الضَّمَانَ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمَا فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ الْعَقْدَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَيْضًا عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَخَذَ الْمُشْتَرِي بِضَمَانِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيطَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إيَّاهُ عَلَى الْقَبْضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهِ وَالْقَبْضُ وَالِاسْتِهْلَاكُ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ إذَا حَصَلَ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ فَلَا يَسْقُطُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 92 ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَسْلِيطٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى أَوْ الْجَارِيَةَ كَانَ مَوْلَاهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَاعَ الْعَبْدَ فِي رَقَبَتِهِمَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِمَا فَيَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ أَحَدُهُمَا الْقَبْضُ وَالْآخَرُ الْقَتْلُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ التَّضْمِينَ بِالْقَبْضِ صَارَ الْعَبْدُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ فَيُبَاعُ فِي قِيمَتِهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ وَإِنْ اخْتَارَ التَّضْمِينَ بِالْجِنَايَةِ أُمِرَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ عَبْدًا وَقَتَلَهُ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ مِنْ مَالِهِ حَالًّا بِالْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُوجِبًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِاعْتِبَارِ قَتْلِهِ إيَّاهُ خَطَأً. وَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ فَبَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِثَمَنِهِ وَبَاعَ حَتَّى صَارَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ حَضَرَ الْبَائِعُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ مِمَّا فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ مِلْكُ مَوْلَاهُ وَدَيْنُ الْبَائِعِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي يَدِهِ حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي فِي يَدِهِ قَائِمًا بِعَيْنِهِ كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِاسْتِرْدَادِهِ فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا اسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِمَّا فِي يَدِهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى إذَا عَلِمَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَلْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى وَالْعَبْدُ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلْمَوْلَى. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَجَّرَ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ ثَمَنِ عَبْدِهِ الَّذِي بَاعَهُ فَذَلِكَ الْمَالُ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَائِعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ بَدَلٌ عَمَّا كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَلِلْمَوْلَى فِيهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ الْمَحْجُورِ فِي تَقْدِيمِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إضْرَارٌ بِالْمَوْلَى وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ فِيمَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمَوْلَى لَا يَكُونُ نَافِذًا وَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى هَذَا الْمَالُ ذَهَبَ لِعَبْدِي أَوْ أَصَابَهُ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ عَبْدُك الَّذِي بِعْت وَقَالَ الْبَائِعُ أَصَابَهُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدِي وَصَدَّقَهُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ لِهَذَا الْمَالِ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ لَا يَنْفَعُ الْبَائِعَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ لَا قَوْلَ لَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ شِرَاءِ الْعَبْدِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 93 قَرْضٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ وَدِيعَةٌ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عُرُوضٌ فَتَصَرَّفَ فِيهَا الْعَبْدُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ الْعَبْدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَصْلِ مَا وَجَدَهُ فِي يَدِهِ بِمَا هُوَ بَدَلُ مِلْكِهِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ بِمَا بَقِيَ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ شَيْئًا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ مَتَاعًا بِضَاعَةً فَبَاعَهُ الْعَبْدُ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ وَبَيْعُهُ لَاقَى مِلْكَ الْمُبْضِعِ بِرِضَاهُ فَيَنْفُذُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ بِالتَّكَلُّمِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ وَاذَا جَازَ الْبَيْعُ كَانَ الثَّمَنُ لِلْآمِرِ وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى يُعْتِقَ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ الْعَبْدَ إضْرَارًا بِمَوْلَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعِدَّةِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ الْعُهْدَةُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ هُوَ الْمُبْضِعُ فَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ لَزِمَهُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لُزُومُهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ. وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمُبَاعِ عَيْبًا فَالْخَصْمُ الْآمِرُ مَا لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدَ كَمَا لَوْ كَانَ بَاشَرَ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ إذْ جَعَلَ الْعَبْدَ رَسُولًا فِيهِ إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّهِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ وَفِي اسْتِحْلَافِهِ عَلَى الْبَتَاتِ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إضْرَارٌ بِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ مَوْلَاهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ صَارَتْ الْخُصُومَةُ لِحَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَمَا يَصِيرُ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ وَهُوَ انْعِدَامُ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدُ، ثُمَّ عَتَقَ فَهُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ يُقْضَى بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إعَادَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنْ هُوَ خَصْمٌ وَهُوَ الْآمِرُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا وَإِنْ تَحَوَّلَتْ الْخُصُومَةُ إلَى الْعَبْدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ حُرًّا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَهُ وَارِثُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يُكَلِّفْ إعَادَتَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَيْحكُمْ عَلَيْهِ إذَا أَقَامَ شَاهِدًا آخَرَ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ. فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْعَبْدِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَنَقْضِ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَزِمَ الثَّمَنُ الْآمِرَ وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْهُ لَا قَلِيلَ وَلَا كَثِيرَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ رَدِّ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ وَالْقَابِضُ كَانَ هُوَ الْآمِرُ دُونَ الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ حُرًّا وَكَانَ الْمُوَكِّلُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ الْعَبْدُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ أَخَذَ الْعَبْدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْآمِرِ؛ وَلِهَذَا بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِهِ فَكَانَ هَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 94 فِي يَدِ الْآمِرِ وَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ عَامِلًا لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ أَوْ مَعْتُوهٌ كَانَتْ الْعُهْدَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الْآمِرِ وَالْخُصُومَةِ مَعَهُ وَالْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ الَّذِي يَرُدُّ وَلَا تَنْتَقِلُ الْعُهْدَةُ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بِالْإِدْرَاكِ وَالْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُمَا الْعُهْدَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِمَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَاقِدُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ وَجَبَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْآمِرُ الْمُنْتَفِعُ بِهِ. وَإِذَا وَجَبَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعِ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ، ثُمَّ حَجَر عَلَيْهِ مَوْلَاهُ فَالْخَصْمُ فِيهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الِالْتِزَامِ فِي حَالِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ وَتَأْثِيرُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ ابْتِدَاءً لَا فِي إسْقَاطِ مَا كَانَ لَزِمَهُ فَإِنْ دَفَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إلَى الْعَبْدِ بَرِئَ كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَامَلَ الْعَبْدَ فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى مَوْلَاهُ بَرِئَ أَيْضًا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى وَبِقَبْضِ الْعَبْدِ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُوَكِّلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَبْرَأُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ كَسْبَهُ الْآنَ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى مِنْ كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَا لَمْ يَقْضِ دَيْنَ غُرَمَائِهِ فَلَا يَبْرَأُ الْمَدْيُونُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمَوْلَى صِيَانَةً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الدَّيْنَ فَإِنْ قَضَاهُ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَهُوَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ وَاسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي الْمَقْبُوضِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ عَنْ الْعَبْدِ كَإِنْشَائِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِنَقْضِ شَيْءٍ لِيُعَادَ مِثْلُهُ وَبَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ عَنْ الْعَبْدِ لَوْ نَقَضْنَا قَبْضَ الْمَوْلَى احْتَجْنَا إلَى إعَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَقْبِضُهُ فَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ بِخِلَافِ حَالِ قِيَامِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ لِيَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ. فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ حَجْرِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْخَصْمُ فِي ذَلِكَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ النَّاسِ بِاسْتِيفَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي فَالْمَقْبُوضُ يُسَلَّمُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصْرِفَ الْمَنَافِعَ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَبْضِ وَالْخُصُومَةِ فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَائِعُ وَإِنْ قَبَضَ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا فِيهِ حُكْمًا فَكَانَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالْمَقْبُوضُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَبْرَأُ الْمَدْيُونُ بِتَسْلِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَةُ الْعَبْدِ عَنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْمُشْتَرِي صَارَ الْعَبْدُ فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ كَالْمُسْتَهْلَكِ فَإِنَّ تَجَدُّدَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 95 سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ عَيْنِهِ وَلَكِنَّ الْخَصْمَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلَفًا عَنْ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا هُوَ غَنِمَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْغُرْمِ وَالْخُصُومَةُ فِيهِ يَكُونُ خَلَفَا عَنْهُ فَيَقْبِضُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ أَيْضًا فِي الْخُصُومَةِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ عَلَى النَّاسِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَضَى بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْغُرَمَاءِ بِقَبْضِ الْمَوْلَى لِذَلِكَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَأَمَّا أَنْ يَقْبِضَ الْغُرَمَاءُ دَيْنَهُمْ مِنْ الْمَقْبُوضِ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَعْتَقَهُ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْخَصْمَ فِي قَبْضِ جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِسَبَبِهِ وَقَدْ خَلَصَتْ لَهُ مَنَافِعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَالْعَبْدُ هُوَ الْخَصْمُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِخُلُوصِ مَنَافِعِهِ لَهُ وَقَدْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ الْخُصُومَةِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَوْنَ مَنَافِعِهِ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ. وَإِذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَتَاعِ عَيْبًا فَالْخَصْمُ فِيهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ بَاقٍ بَعْدَ الْحَجْرِ وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَحُكِمَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ فَأَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَلِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ أَنْ لَا يَرُدَّهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِالْمَتَاعِ فَبِيعَ وَأُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَتَاعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّ دَيْنَهُ بَدَلُ هَذَا الْمَتَاعِ وَالْمَتَاعُ مَحْبُوسٌ بِهِ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِهَذَا يُبْدَأُ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ بِدَيْنِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ شَيْءٌ فَهُوَ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ وَإِنْ نَقَصَ فَالْمُشْتَرِي شَرِيكُ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ لِأَنَّ دَيْنَهُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ. وَإِنْ جَهِلَ الْمُشْتَرِي فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَتَاعَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُ الثَّمَنَ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَتَاعِ وَفِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَهُ عَلَيْهِمْ فِي ثَمَنِ الْمَتَاعِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ أُسْوَةَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى الْعَيْبِ وَطَلَبَ الْيَمِينَ فَالثَّمَنُ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ هَذَا الْبَيْعَ وَهُوَ الْخَصْمُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْعَيْبِ فِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ كَمَا قَبِلَهُ فَيَكُونُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ رَدَّ الْمَتَاعَ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ وَكَانَ حَالُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْعَيْبِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 96 هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاضِحٌ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ أَثَرَ الْإِذْنِ فِي بَقَايَا تِجَارَتِهِ بِحَاصِلِ الْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَحَقَّ رَدَّ الْمَتَاعِ عَلَيْهِ وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ نُكُولِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَهُوَ عَيْبٌ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ وَالْقَاضِي يَتَيَقَّنُ بِدُونِ إقْرَارِهِ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ تَصَرُّفٍ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَهُنَا لَا كَسْبَ فِي يَدِهِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا مَوْلَاهُ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ هُوَ خَصْمًا فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْكَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ كَالْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ عَلَى الْيَتِيمِ بِدَيْنِ لَا يَكُونُ هُوَ خَصْمًا فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ فِيهِ لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْهُ فِي غُنْمِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُصُومَةِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ رَدَّهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْمَوْلَى عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْلَفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَأَقَرَّ بِالْعَيْبِ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَذَّبَ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ وَالسَّيِّدَ بِمَا أَقَرَّا بِهِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِقْرَارُهُمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّهِمَا دُونَ الْغُرَمَاءِ وَيُبَاعُ الْمَتَاعُ الْمَرْدُودُ فِي ثَمَنِهِ فَأَعْطَى ثَمَنَهُ الْمُشْتَرِيَ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ الْآخَرِ شَيْءٌ عَلَى ثَمَنِهِ الْأَوَّلِ كَانَ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ كَسْبُ الْعَبْدِ فَيُصْرَفُ إلَى غُرَمَائِهِ وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ كَانَ الْفَضْلُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُبَاعَ فَيُبْدَأُ مِنْ ثَمَنِهِ لِغُرَمَائِهِ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْفَضْلِ كَانَ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيُبْدَأُ مِنْ ثَمَنِهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ وَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِمْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ مُقِرٌّ بِدَيْنِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَانَ ثَمَنُ الْمَتَاعِ فِي رَقَبَتِهِ وَفِي الْمَتَاعِ يُبَاعَانِ فِيهِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْحَقُّ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ وَإِنْ حَلَفَ الْمَوْلَى لَمْ يَرُدَّ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا عَتَقَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ الْعَمَلِ حَقَّ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ صَارَ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَالْمَتَاعُ لَهُ. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مَتَاعًا لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْأَلْفَ فَضَاعَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فِي الْمَتَاعِ فَأَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ وَمِثْلُهُ يَحْدُثُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ رَدِّ الْمَتَاعِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُطْلَقًا وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَصِحُّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 97 فِي قَوْلِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَبَضَ مِنْ يَدِهِ ذَلِكَ الْمَالَ قَبْلَ إقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ حِينَ قَبَضَ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ لِغُرَمَائِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ إقْرَارِهِ فِيهِ وَحَالُهُ كَحَالِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَاهُ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ مَتَاعًا لَهُ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَاعَهُ مَوْلَاهُ فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَتَاعِ عَيْبًا فَلَيْسَ الْعَبْدُ خَصْمًا فِيهِ وَلَكِنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْمَوْلَى إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حِينَ بَاعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ بِالْبَيْعِ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إلَى خُصَمَائِهِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْعَيْبِ رُدَّ الْمَتَاعُ وَبِيعَ فِي ثَمَنِهِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ لَمْ يَفِ بِحَقِّهِ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَلَكِنْ أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى وَنُكُولَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ إنَّمَا قَبَضُوا ثَمَنَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمْ بِهِ، وَلَوْ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ وَلَمْ يَبِعْهُ ثُمَّ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فِي الْمَتَاعِ فَصَدَّقَهُ بِهِ الْعَبْدُ وَنَاقَضَهُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَالْعَيْبُ مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَمُنَاقَضَتُهُ إيَّاهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَالْإِقَالَةُ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَشِرَاءِ الْعَبْدِ إيَّاهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْحَجْرِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ تِلْكَ الْإِقَالَةُ إلَّا أَنْ يُجِيزَ أَوْ يُجَدِّدَ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ أَوْ يُجَدِّدَهُ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِالْعَيْبِ فِي حَالِ الْحَجْرِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي التِّجَارَةِ لَمْ يُؤْخَذْ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِذْنِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُنْشِئُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا فِي تَنْفِيذِ مَا كَانَ سَبَقَ الْإِذْنَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ إقْرَارًا جَدِيدًا بَعْدَ الْإِذْنِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَقْرَرْتَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْإِذْنِ وَقَالَ الْعَبْدُ أَقْرَرْتُ بِهِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ لَا تُنَافِي الْإِلْزَامَ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَبِيًّا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ حِينَئِذٍ لِإِضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الِالْتِزَامَ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ أَصْلًا إلَّا لَأَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْآخَرِ أَوْ فِي الْإِذْنِ الْأَوَّلِ فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ يَكُونُ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. وَلَوْ دَفَعَ أَجْنَبِيٌّ مَتَاعًا لَهُ إلَى عَبْدٍ مَأْذُونٍ يَبِيعُهُ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَبَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 98 وَالْمَأْذُونُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِالنَّاسِ فِي مِثْلِهِ وَمَنْ لَا يُعِينُ غَيْرَهُ لَا يُعِينُهُ غَيْرُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ - دَفَعَ مَوْلَاهُ إلَيْهِ مَتَاعًا يَبِيعُهُ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ دُونَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ، ثُمَّ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فِي الْمَتَاعِ فَالْعَبْدُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ بَاعَ الْمَتَاعَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَحَقَّ الْخُصُومَةَ مَعَهُ فِي الْعَيْبِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِحَجْرِ الْمَوْلَى فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَتِهِ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ أَوْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِيعَ الْمَتَاعُ فِي الثَّمَنِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعُهْدَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إنْ كَانَ بَاعَهُ لَهُ وَعَلَى الْمَوْلَى إنْ بَاعَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ لِغُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ الْعُهْدَةُ بِسَبَبِ عَقْدٍ بَاشَرَهُ لَهُ فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيُّ مُعْسِرَيْنِ حَاصَّ الْمُشْتَرِي الْغُرَمَاءَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الْآمِرِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ أَيْضًا بِمَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ حَقُّهُمْ وَقَدْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ ذَلِكَ بِسَبَبِ دَيْنٍ كَانَ الْعَبْدُ فِي الْتِزَامِهِ عَامِلًا لِلْآمِرِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَقْتَسِمُونَهُ بِالْحِصَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءِ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَتَاعِ هُوَ الْخَصْمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَانَتْ لَهُ فَإِنَّ أَبَى الْيَمِينَ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْعَيْبِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ إنْ كَانَ قَبَضَهُ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ هَلَكَ عِنْدَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ وَكِيلًا عَنْهُ فَيَدُهُ فِي الثَّمَنِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْعَيْبِ ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ وَرَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الَّذِي كَانَ فِي حَالِ الْحَجْرِ وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَكَانَ الْمَتَاعُ لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ فِي حَقِّهِ وَقَدْ خَلَصَ الْحَقُّ لَهُ بِالْعِتْقِ [بَابُ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَنْكَرَهُ الْعَبْدُ فَالدَّيْنُ كُلُّهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي الصُّورَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَفِي الْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ بَيْعُ الرَّقَبَةِ فِي الدَّيْنِ أَوْ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَذَلِكَ اسْتِحْقَاقٌ عَلَى الْمَوْلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 99 وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُخَيَّرُ الْمُقَرُّ لَهُ بَيْنَ أَنْ يَطْلُبَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ اسْتِسْعَاءَهُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِكَفَالَةٍ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى صَحِيحَةٌ مُلْزِمَةٌ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُمْ قِيمَتَهُ وَيَرْجِعُونَ أَيْضًا عَلَى الْعَبْدِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ هِيَ حَقُّهُمْ سُلِّمَتْ لِلْعَبْدِ بِالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْمَالِيَّةِ وَهُوَ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِتَصَرُّفِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ فُلَانٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَلَكِنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَهَذِهِ الْمَالِيَّةُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَالذِّمَّةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْعَبْدِ وَفِي مِقْدَارِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إقْرَارُ الْمَوْلَى كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِيهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ فَلَا يَسْعَى الْعَبْدُ فِيهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بَعْدَ الْعِتْقِ خَالِصُ مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ. فَأَمَّا قَبْلَ الْعِتْقِ فَالْكَسْبُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْكَسْبِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا يُقْضَى جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ، ثُمَّ وُجُوبُ قِيمَةِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إتْلَافُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُرَاجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهِ يَتَصَرَّفُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ هَذَا الْقَدْرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَعَى لَهُمْ الْعَبْدُ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى لَهُمْ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْفَوْا كَانَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ يَتَصَرَّفُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ أَقَلَّ مِنْهَا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي الْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَعَى فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْغُرَمَاءِ كَمَالُ حَقِّهِمْ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَيْضًا لَزِمَهُ الدَّيْنُ كُلُّهُ كَمَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 100 لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمَوْلَى بِهِ أَصْلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْعَبْدِ الْتِزَامٌ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَفِي الذِّمَّةِ سِعَةٌ فَيَثْبُتُ جَمِيعُ الدَّيْنِ بِإِقْرَارِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَأَمَّا إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَحَلُّ. وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ عَشَرَةِ آلَافٍ وَأَنْكَرَهَا عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَبِيعَ فِي الدَّيْنِ وَاقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَهُنَاكَ إذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ رَاضٍ بِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَلَا يُسَلِّمُ الثَّمَنَ لِلْغُرَمَاءِ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ عَنْ مُطَالَبَةٍ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُمْ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْ مُطَالَبَتِهِ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْغُرَمَاءُ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْقِيمَةِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ ثَبَتَ لُزُومُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ أَوْ بِتَصَرُّفِهِ فَكَمَا يُطَالَبُ هُنَاكَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْعِتْقِ يُطَالَبُ هَهُنَا بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْ فِي الدَّيْنِ حَتَّى دَبَّرَهُ الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ الْخِيَارُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَبَيْنَ اسْتِسْعَاءِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُفَوِّتًا عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ فَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِعْتَاقِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هُنَاكَ إذَا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ رَجَعُوا عَلَى الْعَبْدِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ أَيْضًا وَهَهُنَا لَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتِقَ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُدَبَّرِ لِلْمَوْلَى وَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا عَلَى الْمَوْلَى مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ حِينَ ضَمَّنُوهُ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى وَهُنَاكَ كَسْبُ الْمُعْتَقِ مِلْكُهُ فَتَضْمِينُهُمْ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُعْتَقِ بِقِيمَتِهِ لِيُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهِ وَالثَّانِي أَنَّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ لَهُمْ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ إلَّا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ وَهُنَا لَهُمْ حَقُّ اسْتِسْعَاءِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَكَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ أَحَقَّ بِالْكَسْبِ مِنْهُ وَهُنَاكَ الْكَسْبُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِلْكُ الْعَبْدِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلدَّيْنِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ هَهُنَا أَخَذُوهُ بِقِيمَتِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بَعْدَ الْعِتْقِ مِلْكُهُ وَإِنْ أَدَّى خَمْسَةَ آلَافٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَخَذُوا مِنْهُ أَيْضًا قِيمَتَهُ وَبَطَلَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ مِقْدَارِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِنُفُوذِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ. وَلَوْ لَمْ يُدَبِّرْهُ حَتَّى مَرِضَ الْمَوْلَى فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 101 فِي قِيمَتِهِ فَيَأْخُذُهُ الْغُرَمَاءُ دُونَ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ صَارَ ضَامِنًا مِقْدَارَ قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَيَأْخُذُهُ الْغُرَمَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ وَلَا لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا سَعَى فِيهِ الْعَبْدُ بَدَلُ مَالِيَّتِهِ وَدَيْنُهُ فِي مَالِيَّتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ بِمَرَضِهِ وَحَقَّ غَرِيمِ الْعَبْدِ كَانَ ثَابِتًا فِي مَالِيَّتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى مُزَاحَمَةٌ مَعَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَعَى فِيهِ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَقَرَّ عَلَى الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَانَتْ الْقِيمَةُ الْأُولَى لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ لِمَرَضِ الْمَوْلَى فَإِقْرَارُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَمَا لَا مُزَاحَمَةَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ مَعَ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ هَهُنَا وَالْقِيمَةُ الْأُولَى الَّتِي سَعَى الْعَبْدُ فِيهَا تَرِكَةُ الْمَوْلَى فَتَكُونُ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى خَاصَّةً ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ ذَلِكَ لِغُرَمَائِهِ خَاصَّةً وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ سُلِّمَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَالِيَّةُ. وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَلَكِنْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ خَطَأٍ فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ بِهَا أَوْ يَفْدِيهِ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنْ الْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْمُعَايَنَةِ فَيَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى أَمَةٍ فِي يَدَيْ الْعَبْدِ أَوْ عَبْدٍ فِي يَدَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ كَانَ مِثْلَ إقْرَارِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مِلْكُ الْمَوْلَى كَرَقَبَتِهِ فَإِنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إعْتَاقِهِ الْعَبْدَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ. وَإِقْرَارُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا فِي مَالِهِ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ يَكُونُ شَهَادَةٌ وَبِشَهَادَةِ الْفَرْدِ لَا يُسْتَحَقُّ شَيْءٌ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ فِي إقْرَارِهِمَا عَلَيْهِ فِي مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ عَاجِلًا. وَلَوْ أَذِنَ الصَّبِيُّ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ أَقَرَّ الصَّبِيُّ عَلَى عَبْدِهِ بِدَيْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ خَطَأٍ وَجَحَدَهُ الْعَبْدُ كَانَ إقْرَارُ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَإِقْرَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 102 ثُمَّ يُقِرُّ عَلَيْهِ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْحُرِّ عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِيرُ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مِلْكُ الْمُقِرِّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فِي هَذَا أُسْوَةُ الْحُرِّ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ أَوْ وُلِدَ لَهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ وَلَدٌ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُكَاتَبُ قَالَ: لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ مَعَهُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا وَوَلَدُهُ وَوَالِدُهُ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَكَمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ هَذَا السَّبَبِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ يَدًا إذَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ يَحْتَمِلُ هَذَا الْقَدْرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ فَيَصِحُّ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يُكَاتَبُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فَذَلِكَ وَهْمٌ مِنْهُ قَالَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَنْصُوصَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا فَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ بِالْكِتَابَةِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبُ بِدَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ كَنَفْسِ الْمُكَاتَبِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى مُكَاتَبِ مَوْلَاهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْغَلَهُ بِالدَّيْنِ بِطَرِيقِ الرَّهْنِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَحَقُّ بِمَا يَكْسِبُهُ وَبِمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ كَانَ اكْتَسَبَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ كَانَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَأَخَذَهُ فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ أَحَقُّ بِهَذَا الْكَسْبِ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ قَبْلَ إقْرَارِهِ مَالًا فَإِنْ ذَكَرَ الْمُكَاتَبُ أَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ الْمَالَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا حَقَّ لِلْغَرِيمِ فِيمَا قَبَضَهُ لِأَنَّ بِقَبْضِ الْمُكَاتَبِ يَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ وَالدَّيْنُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ أَوْ مَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَالْغَرِيمُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ لِإِقْرَارِهِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَرِيمِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ الْمَوْلَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَيْهِ وَالْمُكَاتَبُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبُ بِالدَّيْنِ ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ هَذَا مَعَهُ لِكَوْنِهِ دَاخِلًا فِي كِتَابَتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ أَمَّا عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ عَلَى الْغُرَمَاءِ شَيْئًا مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِمْ إذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِمْ مَا دَامَ مُكَاتَبًا وَأَمَّا عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ كَسْبَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُكَاتَبِ أَحَقُّ بِذَلِكَ الْكَسْبِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ الْكَسْبُ خَالِصُ مِلْكِهِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 103 فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ بِإِقْرَارِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فِيهِ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَكَاتَبُونَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَكَاتَبُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَعَتَقُوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَيَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ يَوْمَ عَتَقَ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْمُقَرِّ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حِينَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ. وَلَوْ كَانَ حِينَ اشْتَرَى ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ خَطَأٍ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ يَكُونُ عَلَيْهِ دُونَ مَوْلَاهُ وَمَنْ يُكَاتِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ؛ فَلِهَذَا بَطَلَ إقْرَارُ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ اكْتَسَبَ مَالًا كَانَ الْمُكَاتِبُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تَكُونُ مَالًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلِهَذَا لَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ، ثُمَّ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي وَلَا يُبَاعُ فِيهِ فَقَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا تَكُونُ جِنَايَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِكَسْبِهِ فَلِهَذَا كَانَ كَسْبُهُ لِلْمُكَاتَبِ دُونَ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُكَاتَبُ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ الْمَقَرُّ لَهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ أَخَذَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ دَفْعِهِ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ مَالًا بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فِي يَدِهِ فَهُوَ فِي كَسْبِهِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُ الْمُكَاتِبِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتِبُ قَبَضَ مِنْهُ كَسْبَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَصِيرُ جِنَايَتُهُ مَالًا بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَا أَخَذَهُ قَبْلَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَسْبَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بَعْدَ مَا أَخَذَهُ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ كَسْبَهُ حَتَّى أَدَّى الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَا فَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِيهِ وَلَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا قَبْلَ الْعِتْقِ وَقَدْ ازْدَادَ بِالْعِتْقِ بُعْدًا عَنْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْجِنَايَةُ إنَّمَا تَصِيرُ مَالًا بَعْدَ الْعِتْقِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ خَطَأٍ ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ اكْتَسَبَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ مَالًا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَصِيرُ مَالًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا لَمْ يَصِرْ مَالًا لَا يَتَعَلَّقْ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ بِالْكَسْبِ فَيَكُونُ مَا اكْتَسَبَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ خَاصَّةً إذْ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ تَحَاصَّ فِيهِ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَاحِبُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 104 الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ النَّاسَ عَنْ الدَّفْعِ بِمَوْتِهِ فَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ مَالًا وَالْكَسْبُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ بِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَقَدْ كَانَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَكَانَ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ نَوْعَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهٍ أَمَّا حَقُّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فَلِسَبْقِ السَّبَبِ وَأَمَّا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْكَسْبِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ فَلِهَذَا الْحَقِّ سَبْقٌ مِنْ حَيْثُ التَّعَلُّقُ بِالْكَسْبِ وَلِلْآخَرِ سَبْقٌ مِنْ حَيْثُ السَّبَبُ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقُوَّةِ وَيَتَحَاصَّانِ فِي الْكَسْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَخَذَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ كَانَ أَخْذُهُ غَصْبًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ فَكَوْنُهُ فِي يَدِهِ وَكَوْنُهُ فِي يَدِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ الْمُكَاتَبَ أَدَّى الْكِتَابَةَ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَوْ صَارَتْ مَالًا إنَّمَا تَصِيرُ مَالًا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ لِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ فَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُقَرِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ كَسْبِهِ وَالْجِنَايَةُ إنَّمَا تَصِيرُ مَالًا عَلَى أَنْ تَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَقْضِي مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ. وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ أَوْ لَا بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِجِنَايَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ بُدِئَ مِنْهُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ أَسْبَقُ سَبَبًا وَتَعَلُّقًا بِالْكَسْبِ وَاعْتِبَارُ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْكَسْبِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ إذَا فَرَغَ الْكَسْبُ عَنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَحَقُّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ فِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِيهِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ الَّذِي كَانَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ بِمَوْتِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ صَارَتْ مَالًا وَهَذَا الْفَاضِلُ مِنْ الْكَسْبِ حَقُّ الْمُكَاتَبِ فَأَخَذَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْجِنَايَةِ لِحُكْمِ إقْرَارِهِ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِجِنَايَةٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ وَهُوَ يَجْحَدُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ مِنْهُ بِالدَّيْنِ أَوَّلًا لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ لِلسَّبْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْكَسْبِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِالْكَسْبِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ تَحَاصَّ فِيهِ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّهُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَأَنَّمَا يَفِي هُوَ جَمِيعَ الْكَسْبِ وَقَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ وَفِي هَذَا هُمَا يَتَحَاصَّانِ لِقُوَّةٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ الْمُكَاتَبَ أَدَّى فَعَتَقَ بُدِئَ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ فَمَا فَضَلَ عَنْ الدَّيْنَيْنِ فَهُوَ لِلْمُكَاتَبِ لَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا وَجْه لِإِيجَابِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُكَاتَبِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بَعْد الْعِتْقِ فَكَأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ إلَّا بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ فَيَبْدَأُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 105 مِنْ كَسْبِهِ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلضَّعِيفِ مَعَ الْقَوِيِّ ثُمَّ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَقَرُّ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَإِنَّهُ يَتَحَاصُّ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَصَاحِبُ الدَّيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نَوْعُ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ مَعَ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّهُ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ وَحَقُّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَالْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْكَسْبِ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ مَالًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَإِذَا كَانَ صَيْرُورَةُ الْجِنَايَتَيْنِ مَالًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْكَسْبِ كَمَا لَوْ أُقَرَّ بِهِمَا مَعًا؛ فَلِهَذَا دَخَلَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ مَعَ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ لَا يَسْلَمُ لَهُ وَأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ مَا اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ وَيَقُولُ حَقِّي مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّك فِي الْكَسْبِ قُلْنَا الْقَوْلُ بِهَذَا يُؤَدِّي إلَى دَوْرٍ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إذَا أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ حَقِّي فِي الْكَسْبِ مِثْلُ حَقِّك فَلَيْسَ لَك أَنْ تَفْضُلَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْكَسْبِ فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ أَتَاهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَاسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِثْلُ حَقِّهِ فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِقَطْعِ هَذَا الدَّوْرِ قَالَ: لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ سَبِيلٌ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَصَاحِبُ الدَّيْنِ حَقَّهُمَا وَبَقِيَ شَيْءٌ أُضِيفَ ذَلِكَ الْبَاقِي إلَى مَا أَصَابَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَاقْتَسَمَ جَمِيعَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي الْكَسْبِ سَوَاءٌ وَالْمَانِعُ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِوُصُولِ كَمَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْمُكَاتَبُ أَدَّى فَعَتَقَ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِمَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ فَمَا فَضَلَ عَنْهُ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَتَيْنِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ بِجِنَايَةٍ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْقَطِعٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ تَحَاصَّا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ إنَّمَا تَصِيرُ مَالًا بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَعَلُّقُهُمَا بِالْكَسْبِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَفِي مِثْلِهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ سَوَاءٌ كَالْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ تَحَاصَّا فِي تَرِكَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْقَطِعٍ. وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنَيْنِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 106 لِرَجُلَيْنِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ تَحَاصَّا أَيْضًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ وَأَنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ الْكَلَامِ اخْتِصَاصُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْكَسْبِ وَيَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ لِلثَّانِي فَيَصِيرُ مُوجَبُهُ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَسْبِ وَمَتَى كَانَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ تَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ كَلَامَهُ بَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَإِنْ فَضَلَ عَنْهُ شَيْءٌ كَانَ لِلثَّانِي سَوَاءٌ مَاتَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ أَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ وَكَمَا أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ بِالدَّيْنِ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْكَسْبِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْوَارِثِ إذَا أَقَرَّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِمَا فِي يَدِهِ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَادَّانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهُ فَالْغَرِيمُ الَّذِي ادَّانَ الْعَبْدَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ مَعَ الْقَوِيِّ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَاهُ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ بِإِتْلَافِهِ الْمَالِيَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لَهُ بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دَيْنَهُ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَبِالْعِتْقِ ازْدَادَ قُوَّةً وَوَكَادَةً فَإِنْ ضَمِنَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ أَمَّا عَلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ إلَّا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَقَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ بَدَلِهَا مَرَّةً وَأَمَّا عَلَى الْعَبْدِ فَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَسْعَى إلَّا فِي مِقْدَارِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ وَهُنَا لَا فَضْلَ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ عَلَى دَيْنِ الْعَبْدِ فَيَبْطُلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْغَرِيمُ أَخْذَ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مُتْلِفًا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَغْرَمْ لِصَاحِبِ دَيْنِ الْعَبْدِ شَيْئًا حِينَ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْعَبْدِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ سِوَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَدَّقًا عَلَى عَبْدِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَى الْعَبْدِ بِدَيْنٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَجَحَدَهُ الْعَبْدُ، ثُمَّ صَارَ عَلَى الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَمَنِهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ صَادَفَ مَحَلًّا فَارِغًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ حِينَ أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى فَيَثْبُتُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى فِي حَالِ رِقِّهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِبَقَائِهِ مَأْذُونًا بَعْد إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَإِذَا بِيعَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 107 ضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَمَنِهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْإِقْرَارَانِ مِنْ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارُ الْعَبْدِ أَوَّلًا بُدِئَ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِهِ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَإِقْرَارُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ صَادَفَ مَالِيَّةً مَشْغُولَةً وَصِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرَاغِ فَلَا يَظْهَرُ مَعَ الشُّغْلِ؛ فَلِهَذَا بُدِئَ مِنْ ثَمَنِهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسه بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارَانِ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ لَا بِاعْتِبَارِ الْفَرَاغِ، وَكَذَلِكَ إنْ بِيَع بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَخَرَجَ مِنْهُمَا أَلْفُ وَتُوِيَتْ أَلْفٌ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ التَّاوِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَبِاعْتِبَارِ الْحَاصِلِ إقْرَارُ الْمَوْلَى لَمْ يُصَادِفْ الْفَرَاغَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيَتَحَاصُّ فِي ثَمَنِهِ اللَّذَانِ أَقَرَّ لَهُمَا الْعَبْدُ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي الْقُوَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ جَمِيعِهِمَا حَالَةَ الْإِذْنِ وَلَا مُزَاحَمَةَ مَعَهُمَا لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَضْعَفُ فَإِقْرَارُ الْمَوْلَى مَا صَادَفَ فَرَاغًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِمَا كَانَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ لِلْمَوْلَى وَقَدْ زَعَمَ هُوَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَزَعْمُهُ فِي نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَم، ثُمَّ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي كَلَامٍ مُنْقَطِعٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فَيُبْدَأُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ أَقْوَى فَإِقْرَارُ الْمَوْلَى لَهُ صَادَفَ فَرَاغًا وَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَقَدْ صَارَتْ الْمَالِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلثَّانِي مَعَهُ وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي الْأَوَّلُ دَيْنَهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلثَّانِي، وَإِنْ كَانَ وَصَلَ كَلَامَهُ فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَى عَبْدِي هَذَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَاصَّا فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِ كَلَامِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ فِي أَحَدِهِمَا وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ تَحَاصَّا فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالتَّصْدِيقِ صَارَ مُقِرًّا بِدَيْنِ أَحَدِهِمَا فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ، وَفِي هَذَا يَتَحَاصَّانِ فِي ثَمَنِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي أَوَّلِهِمَا بُدِئَ بِهِ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ مَتَى اتَّصَلَ بِالْإِقْرَارِ كَانَ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِغَائِبٍ، ثُمَّ حَضَرَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَصَدَّقَهُ جُعِلَ ذَلِكَ دَيْنَ الصِّحَّةِ فَهَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِالتَّصْدِيقِ كَالْمُقِرِّ بِذَلِكَ الدَّيْنِ حِينَ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِهِمَا مُنْقَطِعًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا تَحَاصَّا فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ مِنْ الْمَوْلَى وُجِدَا مَعًا فَتَثْبُتُ الْمُحَاصَّةُ بَيْنَهُمَا فِي ثَمَنِهِ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا أَوْجَبَ الدَّيْنَيْنِ فِي رَقَبَتِهِ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 108 بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفٍ ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَيَضْرِبُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى فِي ثَمَنِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ جَمِيعَهُمَا حَالَةَ الْإِذْنِ فَيَثْبُتُ جَمِيعُ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ مِنْ الْمَوْلَى فَحِينَ وُجِدَ كَانَ الْفَارِغُ مِنْهُ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْأَلْفِ مِنْ مَالِيَّتِهِ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ غَرِيمِ الْعَبْدِ، وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرَاغِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْمُزَاحَمَةِ بِقَدْرِ الْفَارِغِ مِنْهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا كَانَ الثَّابِتُ عَلَى الْعَبْدِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ فَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ عَلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خُمُسَاهُ وَلِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ خُمُسُهُ، وَلَوْ لَمْ تُبَعْ وَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ كَانَ ضَامِنًا لَهُمَا قِيمَتَهُ بِالْإِعْتَاقِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَدَلُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ كَالثَّمَنِ لَوْ بِيعَ الْعَبْدُ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْعَبْد بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ثَلَثُمِائَةٍ فَبَقِيَ مِنْ هَذَا الثَّابِتِ مِائَتَانِ، وَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ تَرَكُوا الْمَوْلَى وَاتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِالثَّابِتِ مِنْ دُيُونِهِمْ، فَإِنْ اتَّبَعُوهُ أَخَذَ مِنْهُ الْغَرِيمَانِ اللَّذَانِ أَقَرَّ لَهُمَا الْعَبْدُ جَمِيعَ دَيْنِهِمَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ مِنْهُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى خَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَلَا يُطَالِبُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ إلَّا بِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُقِرٌّ بِأَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ رَقَبَتَهُ بِالْإِعْتَاقِ وَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِإِبْرَائِهِمَا إيَّاهُ فَكَانَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَجَمِيعُ الثَّمَنِ لِلدَّيْنِ أَقَرَّ لَهُمَا الْعَبْدُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي مَالِيَّتِهِ شَيْءٌ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ غَرِيمِ الْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرَاغِ فَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى فِي مُزَاحَمَةِ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ، وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ إقْرَارِ الْمَوْلَى إذْ لَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَحِينَ بِيعَ فَلَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَلَى حَقِّ غَرِيمَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِغَرِيمَيْ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ كَالثَّمَنِ، وَلَوْ اخْتَارَ اللَّذَانِ أَقَرَّ لَهُمَا الْعَبْدُ اتِّبَاعَهُ وَأَبْرَآ مِنْ الْقِيمَةِ الْمَوْلَى كَانَ لِلَّذِي أَقَرَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 109 لَهُ الْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى بِجَمِيعِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَهْلَكَ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ كَانَ ثَابِتًا فِي هَذِهِ الْمَالِيَّةِ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ حَقُّهُ ثَابِتٌ فِي هَذِهِ الْمَالِيَّةِ إذَا فَرَغَ مِنْ حَقِّ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ أَبْرَآهُ عَنْ دَيْنِهِمَا بِيعَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَحِينَ اخْتَارَ الْمُقِرُّ اتِّبَاعَ الْعَبْدِ فَقَدْ فَرَغَتْ هَذِهِ الْمَالِيَّةُ مِنْ حَقِّهِمَا؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ هَذِهِ الْمَالِيَّةَ وَيَسْتَوْفِيَهُ بِدَيْنِهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ أَلْفٍ، ثُمَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ فِي كَلَامٍ مُنْقَطِعٍ، ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَهُوَ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ أَثْلَاثًا يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِأَلْفٍ وَالثَّانِي بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ فَإِنَّهُ صَادَفَ مَحَلًّا فَارِغًا، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ دَيْنِ الثَّانِي نِصْفُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ مِنْ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّمَنِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ مِنْ دَيْنِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُسْتَهْلَكِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ ثُمَّ يَقْتَسِمُ الْأَوَّلَانِ هَذِهِ الْقِيمَةَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ الثَّابِتِ مِنْ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي ثُبُوتِ الدَّيْنِ يُعْتَبَرُ الْفَرَاغُ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَيْنِهِمَا عَلَى الْعَبْدِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَقَدْ اسْتَوْفَيَا مِنْ الْمَوْلَى مِقْدَارَ أَلْفٍ فَيَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا بَقِيَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ مِنْ دَيْنِهِمَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَقْتَسِمَانِهَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ طَلَبَا أَوَّلًا أَخْذَ الْعَبْدِ أَخَذَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِقْدَارِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِهِ إلَّا مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ مِقْدَارِ قِيمَتِهِ وَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ الثَّابِتِ مِنْ دَيْنِهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَوْلَى بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَوْفَيَا ذَلِكَ مِنْهُ وَصَلَ إلَيْهِمَا جَمِيعُ دَيْنِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا ضَمَّنَا الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ فَهُنَاكَ لَا يَتْبَعَانِ الْعَبْدَ إلَّا بِالْبَاقِي مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ مِنْ دَيْنِهِمَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مُنْكِرًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا أَتْبَعَا الْعَبْدَ أَوَّلًا بِمِقْدَارِ قِيمَتِهِ وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ أَنَّ جَمِيعَ دَيْنِهِمَا ثَابِتٌ فَبِحُكْمِ إقْرَارِهِ يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْمَوْلَى بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ حَتَّى يَصِلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُ حَقِّهِ، وَإِذَا أَتْبَعَا الْمَوْلَى فَاسْتَوْفَيَا مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ اقْتَسَمَا ذَلِكَ أَثْلَاثًا أَيْضًا، ثُمَّ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ كَمَالُ حَقِّهِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ عَلَى الْمَوْلَى يَسْتَوْفِيهَا الْمُقَرُّ لَهُ الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِهَذِهِ الدُّيُونِ إقْرَارًا مُتَّصِلًا كَانُوا شُرَكَاءَ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْهُ لَهُمْ حَصَلَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مَعًا، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَتْبَعُوا الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 110 بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ تَاوٍ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَغْرَمُ إلَّا قِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ وَالْعَبْدُ بَعْد الْعِتْقِ لَا يَغْرَمُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ إلَّا مِقْدَارَ قِيمَتِهِ. حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ أَلْفُ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ أَلْفِ، ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَلْفٍ، ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ نِصْفَانِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوْسَطِ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ ثَبَتَ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ لِفَرَاغِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَالِيَّتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّالِثِ ثَبَتَ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي مَالِيَّتِهِ فَضْلًا عَلَى حَقِّ الْأَوَّلِ بِقَدْرِ الْأَلْفِ وَإِقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ مَتَى صَادَفَ مَحَلًّا فَارِغًا كَانَ صَحِيحًا؛ فَلِهَذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ نِصْفَيْنِ وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ اسْتَوْفَى الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ دَيْنَهُمَا وَكَانَ الْفَضْلُ لِلْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ مِنْ حَقِّهِمَا لِلْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ لِلثَّانِي عَلَيْهِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ أَخَذَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ كَالثَّمَنِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ أَخَذَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ مِنْ الْمَوْلَى أَلْفَيْنِ وَكَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ لِلْأَوْسَطِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ دَيْنِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَإِنْ تَوَى بَعْضُ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى كَانَ التَّاوِي مِنْ نَصِيبِ الْأَوْسَطِ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْفَاضِلِ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ كَمَالَ حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا تَوَى مِنْهُ كَانَ التَّاوِي مِنْ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ، ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَسْتَوْفِي أَلْفَ دِرْهَمٍ تَمَامَ دَيْنِهِ وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَيَبْقَى أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ لِلثَّالِثِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَتَوَى الْبَاقِي كَانَ ثُلُثَا الْأَلْفِ لِلْأَوَّلِ وَثُلُثُهَا لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالثَّابِتُ مِنْ حَقِّ الثَّانِي بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَارِغَ عَنْ مَالِيَّتِهِ يَوْمئِذٍ كَانَ هَذَا الْمِقْدَارَ فَيَقْتَسِمَانِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قَدْرِ الثَّابِتِ مِنْ دَيْنِهِمَا فَيَكُونُ الْخَارِجُ تَمَامَ دَيْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الثَّالِثِ فَالْإِقْرَارُ لَهُ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ سَابِقًا عَلَى الْإِقْرَارِ لِلثَّالِثِ فَمَا يَتْوِي يَكُونُ عَلَى الْغَرِيمِ الثَّالِثِ، وَإِنْ اسْتَوْفَى الثَّانِي جَمِيعَ دَيْنِهِ ثُمَّ خَرَجَ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِلثَّالِثِ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ مُتَّصِلًا كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِمْ وَالتَّاوِي بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَ الْإِقْرَارُ لَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ أَلْفٍ، ثُمَّ بِيعَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَإِنَّ الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ وَاَلَّذِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 111 أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى يَأْخُذُ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا شَيْءَ لَلثَّالِثَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ دُونَ حَقِّ الثَّانِي وَحَقُّ غَرِيمِ الْعَبْدِ ثَابِتٌ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ الْإِذْنِ فَإِنْ تَوَى مِنْ الثَّمَنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَرَجَتْ أَلْفَانِ كَانَتَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَاَلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ وَجَمِيعَ دَيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ ثَابِتٌ وَالثَّابِتُ، لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ؛ فَإِنَّ الْفَارِغَ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ يَوْمئِذٍ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْخَارِجِ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الثَّابِتِ مِنْ دَيْنِهِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ أَلْفَيْنِ أَوْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لِلْأَوَّلِ خُمُسَاهُ وَلِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ خُمُسَاهُ وَلِلثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى خُمُسُهُ. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ حَتَّى صَارَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ فَالْأَلْفُ الَّذِي فِي يَدِهِ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ كَمَا يُقْضَى مِنْ بَدَلِ رَقَبَتِهِ وَبِاعْتِبَارِهِمَا جَمِيعًا إقْرَارُ الْمَوْلَى صَادَفَ مَحَلًّا فَارِغًا فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْإِقْرَارَانِ مِنْ الْعَبْدِ فَيُقَسَّمُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ مَعًا قُسِّمَ ثَمَنُ الْعَبْدِ وَمَالُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْفَارِغِ مِنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ أَلْفٍ؛ فَلِهَذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْعَبْدِ خَمْسَمِائَةٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفٍ، ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنٍ أَلْفٍ لَمْ يَضْرِبْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ مَعَ غَرِيمَيْهِ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ حِينَ أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ فَيَثْبُتُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى وَجَمِيعُ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ ثَابِتٌ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ الْمَوْلَى قَبْلَ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ وَمَالُهُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ أَقَرَّ عَلَيْهِ كَانَ الْعَبْدُ فَارِغًا عَنْ كُلِّ دَيْنٍ فَثَبَتَ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى فِي حَالِ رَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَضْرِبُ فِي الثَّمَنِ وَالْكَسْبِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى فِي جَمِيعِ دَيْنِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إقْرَارُ الْمَوْلَى وُجِدَ بَعْدَ اشْتِغَالِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ الْفَاضِلِ مِنْ مَالِيَّتِهِ عَلَى دَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْفَاضِلِ فَارِغٌ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 112 [بَابُ إقْرَارِ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْمَدْيُونُ مَتَاعًا لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إسْقَاطُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَرْقَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ فَإِذَا سَلَّمَ الْمَتَاعَ إلَى مَوْلَاهُ وَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ إقْرَارِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ، وَالْعَبْدُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ لِمَوْلَاهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ مَوْلَاهُ عَلَى غُرَمَائِهِ وَإِقْرَارُ الْمُتَّهَمِ لَا يَصِحُّ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَالْمَقْبُوضُ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ، ثُمَّ يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وَإِقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ، وَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَتَاعَ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ لَهُ الْخِيَارَ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ لَهُ صَحِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ مَعَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْفَسْخِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ قَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْهَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهُ لِلْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الْفَسْخِ لَهُ هَهُنَا إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَا يَبْرَأُ الْمَوْلَى مِنْهُ حَتَّى يُعَايِنَ الشُّهُودُ الْقَبْضَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ إقْرَارُ وَكِيلِ الْعَبْدِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلُ بِهِ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ أَذِنَ لَهُ وَصِيُّ الْأَبِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ بَاعَ عَبْدًا مِنْ ابْنِهِ أَوْ مِنْ وَصِيِّ ابْنِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا بَاعَهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي تِجَارَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 113 يُجْعَلُ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي تِجَارَتِهِ مَعَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِشَيْءٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ وَالْعَبْدَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الصَّبِيِّ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ بِمُحَابَاةٍ فَاحِشَةٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا فِي بَيْعِ الصَّبِيِّ مِنْ وَلِيِّهِ بِالْمُحَابَاةِ فَرِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ رَأْيَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ إذَا انْضَمَّ إلَى رَأْيِ وَلِيِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رَأْيِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعَامَلَتُهُ مَعَ وَلِيِّهِ أَوْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ وَلِيِّهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ فِي هَذَا الرَّأْيِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَبِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ يَنْعَدِمُ انْضِمَامُ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ عَنْ وَلِيِّهِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى مَلَكَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى النِّيَابَةِ قُلْنَا لَا يَبِيعُ مِنْ وَلِيِّهِ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ كَمَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ قُلْنَا يَبِيعُ مِنْ وَلِيِّهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِغَبَنٍ يَسِيرٍ مَعَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْيَتِيمِ مِنْ الْوَصِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي السُّؤَالِ هَهُنَا نَظَرًا فَقَدْ ذُكِرَ مُفَسَّرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ نَائِبٍ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَلَا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ الْيَتِيمُ بَعْدَ إذْنِ الْوَصِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ وَأَنَّ الْوَصِيَّ مَا قَصَدَ بِالْإِذْنِ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَإِنَّمَا قَصَدَ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِغَبَنٍ يَسِيرٍ وَلَا يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ جَازَ بِخِلَافِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِأَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي مَالِهِ وَقَدْ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، فَأَمَّا دَيْنُ الْعَبْدِ فَمُعَلَّقٌ بِكَسْبِهِ فَإِقْرَارُهُ لِلْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْهُ يُصَادِفُ مَحَلًّا مَشْغُولًا بِحَقِّ غُرَمَائِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ. وَإِذَا وَكَّلَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ الْمَدْيُونُ وَكِيلًا يَبِيعُ مَتَاعًا لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَبَاعَهُ جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمَوْلَى وَدَفَعَهُ إلَى الْعَبْدِ وَصَدَّقَهُ الْعَبْدُ أَوْ كَذَّبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ الشُّهُودُ الْقَبْضَ لِأَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 114 الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَبِقَبْضِهِ يَصِيرُ الْمَقْبُوضُ لِلْمُوَكِّلِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى إقْرَارِهِ لِلْمَوْلَى بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ أَوْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ؛ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بِزَعْمِهِ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الْوَكِيلَ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَإِذَا فَسَخَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّى الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ لِيَسْتَفِيدَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الثَّمَنِ بِقَبْضِهِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ ذَلِكَ حِينَ غَرِمَ الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْقَبْضُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْقِيمَةِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ ظَهَرَ الْقَبْضُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ لَمَا غَرِمَ لَهُ الْمَوْلَى الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى. وَلَوْ دَفَعَ الْعَبْدُ إلَى مَوْلَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أَوْ بِضَاعَةً أَوْ مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِهَا مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ قَالَ: دَفَعْتُهَا إلَيْهِ وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَبْضِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لِلْمَوْلَى فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ بِقَوْلِهِ دَفَعْتُهَا وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ الْعَبْدُ بِخِلَافِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْيَمِينِ عَنْ الْمَوْلَى قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي يَمِينِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَإِنَّمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ إذَا سَقَطَ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ مَعَ أَنَّ الْغُرَمَاءَ إنْ ادَّعَوْا عَلَى الْمَوْلَى أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ دَفَعَ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْلَى أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهِ الْمَوْلَى أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ الْعَبْدُ قَدْ أَخَذْتُ مِنْ الْمَوْلَى رَأْسَ الْمَالِ وَحِصَّتِي مِنْ الرِّبْحِ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ أَوْ ادَّعَى ذَلِكَ الْمَوْلَى وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ وَالْغُرَمَاءُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَهُوَ فِيمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْعَبْدِ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَوْلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَوْلَى لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَوْلَى حِصَّتَهُ الَّتِي قَبَضَ مِنْ الرِّبْحِ بَلْ يُجْعَلُ مَا ادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْعَبْدِ كَالتَّاوِي فَكَأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيهِ الْعَبْدُ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ حِصَّةُ الْمَوْلَى مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ. وَلَوْ شَارَكَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ شَرِكَةَ عَنَانٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 115 مِمَّا فِي يَدَيْهِ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَا وَيَشْتَرِيَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنْ اشْتَرَيَا وَبَاعَا فَلَمْ يَرْبَحَا شَيْئًا، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ قَدْ قَاسَمَ مَوْلَاهُ الْمَالَ وَاسْتَوْفَى مِنْهُ نِصْفَهُ وَدَفَعَ إلَى الْمَوْلَى نِصْفَهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى نِصْفَ مَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْلَى مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ ضَمَانِ مَا زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا لِاخْتِصَاصِ الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ لَمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ فَيُجْعَلُ مَا تَصَادَقَا عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْعَبْدِ كَالتَّاوِي وَكَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ هُوَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْ الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى نِصْفَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ إلَّا إنْ تُعَايِنَ الشُّهُودُ ذَلِكَ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ الْمَأْذُونُ الْمَدْيُونُ رَجُلًا يَبِيعُ لَهُ مَتَاعًا مِنْ مَوْلَاهُ فَبَاعَهُ، ثُمَّ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَبِالْحَجْرِ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِقَبْضِهِ لَيَصْرِفَهُ إلَى غُرَمَائِهِ فَكَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِهِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ حَجْرِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي بَاعَ الْعَبْدَ لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ، ثُمَّ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمَوْلَى فَضَاعَ فِي يَدِهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فَقَدْ خَرَجَ الْوَكِيلُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ وَلَكِنَّهُ نَائِبٌ عَنْ غُرَمَائِهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ لَهُمْ فَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْغُرَمَاءِ بِقَبْضِهِ وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ بَاشَرَ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِغُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلَهُ قُلْنَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمَوْلَى إيَّاهُ وَالْوَكِيلُ نَائِبٌ عَنْ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَأَخَذَ الْمَوْلَى جَارِيَةً مِنْ رَقِيقِهِ فَبَاعَهَا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَتَوَى الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ أَمَرَ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِذْنَ لِلْمَوْلَى فِي بَيْعِهَا فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْجَوَابِ وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْعَبْدُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهَا حِينَ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْعَبْدِ إيَّاهُ بِبَيْعِهَا فَفِي إقْرَارِ الْعَبْدِ بَرَاءَةٌ لِمَوْلَى مِنْ شَيْءٍ قَدْ لَزِمَهُ وَبِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْعَبْدِ لَا يَبْرَأُ الْمَوْلَى عَمَّا لَزِمَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 116 حَقِّ غُرَمَائِهِ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ، وَمَسْأَلَةُ الْإِجَازَةِ ذَكَرَهَا بَعْدَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ كَانَ أَجَازَ بَيْعَ الْمَوْلَى فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ مَا ذَكَره فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ فَإِنَّ فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِقَبْضِ دَيْنٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْمَوْلَى وَكَانَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَكَانَ فِي إقْرَارِهِ إسْقَاطُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَهَهُنَا هُوَ يُقِرُّ بِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَانَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إسْقَاطًا مِنْهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ بَلْ إنْكَارُ الثُّبُوتِ حَقَّهُمْ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ وَهَبَ شَيْئًا مِنْ عَبْدِهِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ كَانَ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى، وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَإِقْرَارُهُ بِالْإِجَازَةِ قَبْلَ هَلَاكِهَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِبَيْعِهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِهَا يَكُونُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْأَمْرِ يَكُونُ صَحِيحًا، وَلَوْ أَنْكَرَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ الْمَوْلَى بِبَيْعِهَا ضَمِنَ الْمَوْلَى قِيمَةَ عَبْدِهِ فَكَانَتْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَهَذَا اللَّفْظُ غَلَطٌ بَلْ إنَّمَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا فِي بَيْعِهَا وَتَسْلِيمِهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِعَبْدِهِ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لَمْ آمُرْ الْمَوْلَى بِذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَوْ لَا يَدْرِي مَا فَعَلَتْ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَقَدْ بَرِيءَ الْمَوْلَى مِنْ ضَمَانِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ أَجْنَبِيٌّ وَالْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا فَعَلَتْ لِأَنَّا قَدْ عَرَفْنَا قِيَامَهَا وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ وَكَمَا يَصِحُّ مِنْهُ ابْتِدَاءُ الْإِجَازَةِ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْإِجَازَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إنْشَاءُ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي حَالَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ فِيهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ وَيَكُونُ الْمَوْلَى ضَامِنًا قِيمَةَ الْجَارِيَةِ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ فِي حَالٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحَجْرِ كَمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ أَمْرَ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ فَيَكُونُ هُوَ مُتَّهَمًا فِي إخْرَاجِهِ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا قِيمَتَهَا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَلَوْ بِيعَ الْمَأْذُونُ فِي دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ أَمَرَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 117 صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَصْدًا فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَمْرِ بِالْبَيْعِ كَمَا لَا قَوْلَ لَهُ فِي إنْشَائِهِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَبَاعَ جَارِيَةً لَهُ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ أَوْ أَبِيهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدٍ تَاجِرٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَدَفَعَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ جَازَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ إلَّا فِي الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَلِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فَهُمَا فِي حُكْمِ هَذَا الْإِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُشْتَرِي فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إقْرَارَهُ لِعَبْدِ مَوْلَاهُ أَوْ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِمَوْلَاهُ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَبِ وَالِابْنِ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِي مِلْكِهِمَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ لِأَبِي مَوْلَاهُ أَوْ ابْنِهِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ وَوَكِيلُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْعَبْدِ حُرًّا فَاسْتَهْلَكَ مَالًا لِلْعَبْدِ الَّذِي هُوَ أَبُوهُ أَوْ امْرَأَتُهُ أَوْ مُكَاتَبُ ابْنِهِ أَوْ عَبْدُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَهْلِكِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي إقْرَارِهِ كَمَا أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ حَقُّ مَوْلَاهُ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى أَيْضًا فِي إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ أَخَاهُ كَانَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْهُ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَخِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بَلْ الْأَخُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لَهُ وَفِي الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْأَخِ بَعْدَ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَدَفَعَ مَتَاعًا إلَى مَوْلَاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَهُ إلَى الْعَبْدِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَمِينٌ فِي بَيْعِ الْمَتَاعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَإِذَا ادَّعَى أَدَاءَ الْأَمَانَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ مَنْ عَامَلَهُ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَلَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَالِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَجَرَ عَلَى الْعَبْدِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 118 أَوْ بَاعَ عَبْدَهُ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ بَيْعِهِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ وَالْمُشْتَرِي بَرِيءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَمْلِكُ قَبْضَ الثَّمَنِ بِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَهُ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَجْرِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا بِبَيْعِهِ وَهُوَ أَمِينٌ فِي الثَّمَنِ الَّذِي يَقْبِضُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى عَبْدِهِ وَبَيْعِهِ كَمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ ضَاعَ فِي يَدِهِ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي بَاعَ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْهُ بِالدَّيْنِ لِلْمُشْتَرِي إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ إقْرَارِ مَنْ عَامَلَهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ بَعْدَ الْحَجْرِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ صَحِيحًا أَيْضًا وَهُوَ شَاهِدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ عَايَنَتْ الشُّهُودُ دَفْعَ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَعْدَ مَا بِيعَ فَالثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ حُكْمًا لِتَجَدُّدِ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ هُوَ فِي مَعْنَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ كَمَا لَا حَقَّ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ فَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبِعْهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَ مَتَاعَ الْعَبْدِ بِأَمْرِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي لِعَبْدِهِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ فِي حُكْمِ قَبْضِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْمُطَالَبَةِ وَبِالْقَبْضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ عَزْلُهُ عَنْهُ فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُ عَنْ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ بِالثَّمَنِ فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُ عَنْ الْمُشْتَرِي لَصَارَ ضَامِنًا مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْأَمَانَةِ، وَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى قَدْ قَبَضَ الْعَبْدُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَانْكَرْهُ الْعَبْدُ وَالْغُرَمَاءُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَوْلَى لَمَّا بَطَلَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ فَإِنَّ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ يَكُونُ صَحِيحًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ فِي يَدِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ الثَّمَنَ فَالْمُشْتَرِي بَرِيءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ إقْرَارِ مَنْ عَامَلَهُ بِبَرَاءَتِهِ عَنْ الثَّمَنِ وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْغُرَمَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا الثَّمَنَ بِإِقْرَارِهِ كَاذِبًا وَأَنَّهُ ضَامِنٌ الثَّمَنَ لَهُمْ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ لَوْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 119 أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّ الْمَوْلَى قَبَضَ الثَّمَنَ وَجَحَدَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ وَكِيلَهُ قَدْ قَبَضَ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ فَهُوَ مُبْرِئٌ لِلْمُشْتَرِي فَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا ضَمَانَ، وَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُ شَيْءٍ إلَى الْمَوْلَى فِي حَقِّهِ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلْعَبْدِ فَضَمِنَهَا عَنْهُ الْمَوْلَى جَازَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَهْلِك وَهُوَ فِي هَذَا الضَّمَانِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَبْضِ الْمَالِ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ الْمُسْتَهْلِكِ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي إقْرَارِهِ هَذَا مَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمَوْلَى عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ لِلْعَبْدِ فَإِنَّ قَبْضَ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَكَذَلِكَ قَبْضُهُ مِنْ الْكَفِيلِ يُوجِبُ بَرَاءَتَهُ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ الْمُوجِبِ بَرَاءَةَ مَوْلَاهُ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَوْلَى فَاسْتَهْلَكَهُ وَالْأَجْنَبِيُّ كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ الْكَفِيلِ فَإِقْرَارُهُ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمَوْلَى لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ بِالْإِيفَاءِ تُوجِبُ بَرَاءَة الْأَصِيلِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بِغَيْرِ قَبْضٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَإِنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِبْرَاؤُهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ أَوْ الْكَفِيلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَرِيمُ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيُّ كَفِيلٌ بِهِ أَوْ كَانَ الْغَرِيمُ هُوَ الْأَجْنَبِيُّ وَالْكَفِيلُ مُكَاتَبٌ لِلْمَوْلَى كَفَلَ بِمَالٍ عَلَيْهِ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى وَكَفِيلِهِ لِمَا لِلْمَوْلَى مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ، وَلِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ لِمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ كَإِقْرَارِهِ لِمَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِقَبْضٍ يُوجِبُ بَرَاءَةَ مُكَاتَبِ مَوْلَاهُ عَنْ الدَّيْنِ يَكُونُ بَاطِلًا، وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ أَبْرَأَ الْمَوْلَى أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ ابْنَ الْمَوْلَى كَانَ الْعَبْدُ مُصَدَّقًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ الْأَصِيلِ أَوْ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِأَبِ الْمَوْلَى أَوْ ابْنِهِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِقَبْضٍ يُوجِبُ بَرَاءَةَ ابْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَبِيهِ عَنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ يَكُونُ صَحِيحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ وَكَالَةِ الْأَجْنَبِيِّ الْعَبْدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا وَكَّلَ الْأَجْنَبِيُّ عَبْدًا تَاجِرًا عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ فَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى مَوْلَاهُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ قَضَاءَ هَذَا الدَّيْنِ مِنْهُ وَهُوَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 120 فَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ كَغَيْرِهِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ كَإِقْرَارِ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ لَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَتَّى يُحَلِّفَهُ فَإِنْ نَكَلَ الْعَبْدُ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الْمَالُ فِي عِتْقِهِ يُحَاصُّ بِهِ الْمُوَكِّلُ غُرَمَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَدَّعِي عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِمَالِهِ بِإِقْرَارِهِ كَاذِبًا أَوْ مَانَعَ مِنْهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ مِنْ غَرِيمِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَيُقَامُ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيَكُونُ لِلْمُقِرِّ لَهُ الْمُزَاحَمَةُ بِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ دَيْنٍ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا يَبْرَأُ الْعَبْدُ مِنْ الدَّيْنِ بِدَفْعِهِ إلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ مُسْتَحِقٌّ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ كَسْبُ الْعَبْدِ أَوْ مَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ وَمَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْمَرْءِ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَصْلُحُ هُوَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ كَمَا لَوْ وُكِّلَ الْمَدْيُونُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِقَبْضِهِ يُسَلِّمُ لَهُ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ وَكَوْنُهُ أَمِينًا فِي الْمَقْبُوضِ وَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مُتَّهَمٌ لِمَالِهِ مِنْ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا هُوَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ بِقَبْضِهِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ مِنْ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ جَازَ التَّوْكِيلُ وَكَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ اُعْتُبِرَ جَانِبُ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَيَكُونُ تَوْكِيلُهُ الْمَوْلَى وَتَوْكِيلُهُ أَجْنَبِيًّا آخَرَ سَوَاءً وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ مَا ذُكِرَ هَهُنَا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدَانِ تَاجِرَانِ فَوَكَّلَ أَجْنَبِيٌّ أَحَدَهُمَا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ وَهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُسْتَحِقَّ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْمَوْلَى وَأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْوَكَالَةِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ فِي دَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِهْلَاكَ مَالِهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُحَلَّفُ عَلَى ذَلِكَ وَيُجْعَلُ نُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي عِتْقِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ عَبْدِهِ. وَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ غُرَمَائِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ بِهِ رَهْنًا فَلِلْآخَرِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ وَفِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إيثَارُهُ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ كَالْمَرِيضِ إذَا خَصَّ بَعْضَ غُرَمَائِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْمَقْصُودُ بِالرَّهْنِ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 121 مُوجِبَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا فَرَهَنَهُ بِدَيْنِهِ رَهْنًا وَوَضَعَاهُ عَلَى يَدِ الْمَوْلَى فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ ضَاعَ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى لَا تَصْلُحُ لِلنِّيَابَةِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْعَبْدِ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ لَا تَصْلُحُ النِّيَابَةُ لِلْقَبْضِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَحِقٍّ عَلَى الْمَوْلَى فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى مَا لَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ وَجَعَلَ الرَّاهِنَ عَدْلًا فِيهِ فَتَرَكَهُ عَلَى يَدِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَجِبُ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَلَوْ وَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَبْدٍ لَهُ آخَرَ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ يَدِ ابْنِهِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْعَبْدِ ذَهَبَ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَصْلُحُونَ لِلنِّيَابَةِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ فِي يَدِ الِاسْتِيفَاءِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، ثُمَّ هَلَاكُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْعَدْلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَبْدٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ يَصْلُحُ وَكِيلًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مَعَ عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ هُوَ الْعَدْلُ فِي الرَّهْنِ فَهَلَكَ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِ مَا عَلَى مَوْلَاهُ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي الرَّهْنِ بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ هَلَاكَهُ إلَّا بِقَوْلِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَصَبَ عَدْلًا كَانَ أَمِينًا فِيهِ وَالْأَمِينُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِخْبَارِ مِنْ جِهَةِ مَنْ ائْتَمَنَهُ فَإِخْبَارُهُ بِالْهَلَاكِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهِ دَيْنَهُ. وَإِذَا أَذِنَ الْمَأْذُونُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَوَكَّلَ بَعْضُ غُرَمَاءِ الْأَوَّلِ الْعَبْدَ الْآخَرَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ عَبْدِهِ وَالدَّيْنُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا عَبْدَهُ بِحَالٍ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ، وَلَوْ أَنَّ بَعْضَ غُرَمَاءِ الْآخَرِ وَكَّلَ الْأَوَّلَ أَوْ مَوْلَاهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَعْنَى الْمَوْلَى لِلْآخَرِ فَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ فَكَذَلِكَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ كَمَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَيُسَلِّمُ لَهُ إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا يُسَلِّمُ لَهُ الْأَوَّلُ فَكَمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ مِنْ مَوْلَاهُ، وَلَوْ رَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِدَيْنِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْآخَرِ فَضَاعَ الرَّهْنَانِ فَرَهْنُ الْأَوَّلِ يَذْهَبُ بِمَا فِيهِ وَرَهْنُ الثَّانِي يَذْهَبُ مِنْ مَالِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 122 فِي الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ وَالْأَوَّلُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الثَّانِي وَلَا يَصِيرُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ أَحَالَ أَحَدَ غُرَمَائِهِ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ فَإِنْ كَانَ أَحَالَهُ بِمَا كَانَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ كَسْبَهُ وَهُوَ حَقُّ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ فَهُوَ بِهَذِهِ الْحَوَالَةِ يَخُصُّ الْمُحَالَ بِذَلِكَ الْمَالِ وَيَبْطُلُ حَقُّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا مِنْ الْعَبْدِ كَمَا لَوْ خَصَّ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لَوْ صَحَّتْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَلَا لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ مُطَالَبَةٌ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ دَيْنَ الْمُحْتَالِ بِالْحَوَالَةِ لِيَقْضِيَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَالٌ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَالْحَوَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ تَبَرَّعَ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَاضِ دَيْنِهِ مِنْهُ لِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فِيهَا لِلْمُحْتَالِ وَالتَّبَرُّعُ عَلَى الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَالْعَبْدُ مَالِكٌ لِلِاسْتِقْرَاضِ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَوَالَةِ إبْطَالُ حَقِّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ فَإِنْ وَكَّلَ الطَّالِبُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ الْعَبْدَ أَيْ كَانَ عَلَيْهِ أَصْلُ الدَّيْنِ أَوْ مَوْلَاهُ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَيْنُ مَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ لِتَحْوِيلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَحِينَ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ مَا كَانَ لَا يَصْلُحُ هُوَ وَلَا مَوْلَاهُ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّحَوُّلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ بِهَذِهِ الْحَوَالَةِ لَمْ يَسْتَفِدْ الْبَرَاءَةَ الثَّانِيَةَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ فَلَوْ صَحَّ التَّوْكِيلُ لَكَانَ يُثْبِتُ لَهُ الْبَرَاءَةَ بِقَبْضِهِ وَمَوْلَاهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضٍ يُوجِبُ بَرَاءَةَ عَبْدِهِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنْ قَبَضَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْوَكَالَةِ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ شَرْعًا وَإِنْ ضَاعَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِتَسْلِيمٍ صَحِيحٍ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ إلَيْهِ فَيَكُونُ أَمِينًا فِي الْمَقْبُوضِ وَإِنْ كَانَ وَكَّلَ بِقَبْضِهِ عَبْدًا آخَرَ لِلْمَوْلَى أَوْ مُكَاتَبَهُ أَوْ ابْنًا لِلْمَوْلَى أَوْ عَبْدًا لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ هَذَا الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ كَانَ هَذَا الْوَكِيلُ صَالِحًا لِلتَّوْكِيلِ فِي قَبْضِهِ مِنْهُ وَاسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَوْلَى فَأَحَالَ بِهِ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْغَرِيمَ وَكَّلَ عَبْدًا لِلْمَوْلَى يَقْبِضهُ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْمَوْلَى حِينَ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ التَّوْكِيلُ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ عَبْدًا لِلْمَوْلَى بِقَبْضِهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا وَكَّلَ الْأَجْنَبِيُّ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى عَبْدٍ مَأْذُونٍ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 123 ابْنَ الْعَبْدِ وَالِابْنُ حُرٌّ أَوْ وَكَّلَ بِهِ مُكَاتَبَ ابْنِهِ أَوْ عَبْدًا لِابْنِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ابْنَ الْعَبْدِ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ فِي وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ مِنْهُ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِقَبْضِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ هُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يَنْفَعُ أَبَاهُ وَيُبْرِئُ ذِمَّتَهُ عَنْ الدَّيْنِ وَمِنْ - أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الِابْنَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْإِقْرَارِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَنْفَعَةِ أَبِيهِ قُلْنَا هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَهَهُنَا لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ سَلَّطَهُ فَالْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ رِضًا؛ فَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ. وَإِذَا غَصَبَ الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهَا مِنْهُ رَجُلٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا فَاخْتَارَ ضَمَانَ الْأَجْنَبِيِّ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَكَأَنَّهُ مَا كَانَ الْوَاجِبُ إلَّا مَا اخْتَارَهُ وَهَذَا لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا تَمْلِيكٌ لِلْمَضْمُونِ مِنْهُ وَبَعْدَ مَا صَحَّ التَّمْلِيكُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيُطَالِبَ الْآخَرَ بِهِ بِحَالٍ فَإِنْ وَكَّلَ الْعَبْدَ أَوْ مَوْلَاهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ جَازَ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُ ذَلِكَ الدَّيْنِ إلَيْهِ بِحَالٍ فَيَكُونُ هُوَ وَمَوْلَاهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ ضَمَانَ الْعَبْدِ، ثُمَّ وَكَّلَ الْأَجْنَبِيَّ بِقَبْضِهِ مِنْهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بَعْدُ فَالِاخْتِيَارُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَوْ وَكَّلَ الْمُوَكَّلَ بِقَبْضِهِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الْمَوْلَى وَلَا إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ تَعَيَّنَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَبْضِ مَا عَلَى عَبْدِهِ. وَلَوْ دَبَّرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ تَضْمِينَهُ الْقِيمَةَ، ثُمَّ وَكَّلُوا الْمُدَبَّرَ بِقَبْضِهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ وَلَا إقْرَارُ الْمُدَبَّرِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ بَاقٍ عَلَى الْمُدَبَّرِ حَتَّى كَانَ مُطَالِبًا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ بِالْقَبْضِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ يُبْرِئُ نَفْسَهُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ دَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارُوا اتِّبَاعَ الْمُدَبَّرِ وَوَكَّلُوا الْمَوْلَى بِقَبْضِهِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَكَسْبُهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ مَا عَلَى مَمْلُوكِهِ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ يَسْتَخْلِصُ الْكَسْبَ، لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ مُسْتَأْنَفًا؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ إذْ الْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ وَكَسْبُهُ كَانَ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَبِالْإِعْتَاقِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُمْ عَنْ الْكَسْبِ بَلْ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُمْ بِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ لَهُمْ، فَإِنْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 124 الْمُدَبَّرِ عَنْ الْوَكَالَةِ الْأُولَى لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْوَكَالَةَ بَاطِلَةٌ وَلَمْ يُنْتَصَبْ هُوَ وَكِيلًا بِهَا فَلَا تَنْقَلِبُ وَكَالَةً صَحِيحَةً بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ وَكَّلُوهُ بَعْدَ الْعِتْقِ جَازَ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعِتْقِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِاخْتِيَارِ الْغُرَمَاءِ اتِّبَاعَ الْعَبْدِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَتَّبِعُوا الْعَبْدَ بِدَيْنِهِمْ كُلِّهِ وَيَتَّبِعُوا الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ وَلَا يَكُونُ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إبْرَاءً لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى كَانَ مُتَحَمِّلًا مِنْ دُيُونِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ وَمُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَكَذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَإِنْ أَبْرَءُوا الْعَبْدَ عَنْ دَيْنِهِمْ بَرِئَ الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَصِيلٌ فِي هَذَا الدَّيْنِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ بِالْإِبْرَاءِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَبْرَءُوا الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ بِالْإِبْرَاءِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَإِنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ فَسْخٌ لِلْكَفَالَةِ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَبْقَى جَمِيعُ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُمْ فَإِنْ وَكَّلُوا الْمَوْلَى بَعْدَ مَا أَبَرَءُوهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِإِبْرَائِهِمْ إيَّاهُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَسْبِ مُعْتَقِهِ، وَلَوْ كَانُوا وَكَّلُوهُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ يُبْرِئُ نَفْسَهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَإِنْ أَبْرَءُوهُ بَعْدَ الْوَكَالَةِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّوْكِيلَ كَانَ بَاطِلًا فَالْإِبْرَاءُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يُوَكِّلُوهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ فَيَصِحُّ إنْشَاءُ التَّوْكِيلِ الْآنَ، وَلَوْ كَانُوا أَبْرَءُوا الْعَبْدَيْنِ مِنْ دَيْنِهِمْ عَلَى أَنْ يَتَّبِعُوا الْمَوْلَى بِقَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ دَيْنِهِمْ وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا كَانَ جَائِزًا وَيَبْرَأُ الْعَبْدُ مِنْ الدُّيُونِ وَيَتَّبِعُونَ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ حَوَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَوْلَى بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ كَالْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ فَكَانَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْحَوَالَةِ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَالْحَوَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَلَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ تَوَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى رَجَعُوا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ دَيْنِهِمْ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ وَمَتَى تَوِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا أَوْ بِجُحُودِهِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فَإِنْ لَمْ يُتْوَ مَا عَلَى الْمَوْلَى حَتَّى وَكَّلُوا الْعَبْدَ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ وَلَا قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَسْتَفِدْ الْبَرَاءَةَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مُطْلَقًا حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَوَالَةِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَهُ عَبْدٌ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 125 مَدْيُونٌ فَوَكَّلَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ الْوَارِثَ بِقَبْضِ دَيْنِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُورِثِ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ مَا عَلَى عَبْدِهِ فَكَذَلِكَ وَارِثُهُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلُوا بَعْضَ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي رَقَبَتِهِ وَكَسْبُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ وَقَدْ تَرَكَ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ سِوَى الْعَبْدِ وَقَدْ أَوْصَى بِنِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا لِرَجُلٍ فَوَكَّلَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَالْوَارِثُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَفِي فَرَاغِهِ عَنْ الدَّيْنِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَأَقَرَّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ كَانَ يَقْضِي ذَلِكَ الدَّيْنَ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَيُسَلِّمُ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى إنْسَانٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ الْعَبْدَ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ عِتْقُهُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ قَالَ: لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ فِي الْقِصَاصِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ اسْتِغْرَاقُ رَقَبَتِهِ بِدَيْنِ الْمَوْلَى يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فَاسْتِغْرَاقُهُ بِدَيْنِ نَفْسه أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِلْكَ الْوَارِثِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَارِثُ يَخْلُفُ مِلْكَ الْمُورِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ كَانَ الْمُورِثُ مَالِكًا رَقَبَةَ الْعَبْدِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَغْرِقًا بِدَيْنِهِ فَكَذَلِكَ وَارِثُهُ بِخِلَافِ دَيْنِ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى كَانَ مَالِكًا رَقَبَتَهُ فِي حَيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَبِمَوْتِهِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِتَرِكَتِهِ؛ وَلِهَذَا حَلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَنَعَ دَيْنُ الْمَوْلَى مِلْكَ الْوَارِثِ، فَأَمَّا دَيْنُ الْعَبْدِ فَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّعَلُّقِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الْوَارِثِ كَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَإِنْ اخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اتِّبَاعَ الْعَبْدِ وَأَبْرَءُوا الْوَارِثَ مِنْ الْقِيمَةِ، ثُمَّ وَكَّلُوا الْمُوصَى لَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ فِي التَّرِكَةِ شَرِيكُ الْوَارِثِ، وَلَوْ وَكَّلُوا الْوَارِثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْقَبْضِ جَازَ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ مُطْلَقًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَسْبِ الْمُعْتَقِ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلُوا الْمُوصَى لَهُ بِقَبْضِهِ، وَلَوْ وَكَّلُوا الْمُوصَى لَهُ بِقَبْضِهِ قَبْلَ إبْرَاءِ الْوَارِثِ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ وَكَّلُوا الْوَارِثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلُوا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 126 الْمُوصَى لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلُوهُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ مِنْ الْوَارِثِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي عَلَى الْوَارِثِ مَالُ الْمَيِّتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ وَظَهَرَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ وَجَبَ قَضَاؤُهُ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ مِنْ الْوَارِثِ. وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ لِلْغُرَمَاءِ بِرِضَاهُمْ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَاسْتَهْلَكَهُ فَلَا شَيْءَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمُطَالَبَةِ تَحَوَّلَ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَبِاسْتِهْلَاكِ الْمَوْلَى الثَّمَنَ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ وَلَا يَعُودُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُطَالِبُونَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ فَإِنْ وَكَّلَ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْلَى مِنْهُ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ وَلَا قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ عَلَى الْعَبْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا عَتَقَ كَانَ مُطَالِبًا بِجَمِيعِهِ خُصُوصًا إذَا تَوِيَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْأَلْفِ عَبْدًا وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى وَكَّلَ الْبَائِعُ الْمَأْذُونَ أَوْ مَوْلَاهُ أَوْ بَعْضَ غُرَمَائِهِ بِقَبْضِ ذَلِكَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ وَلَا الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِلْعَبْدِ وَمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ بِتَصَرُّفِهِ مُسْتَحِقٌّ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ بَعْضَ هَؤُلَاءِ بِقَبْضِهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ جَازَ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ وَكَّلَ مَوْلَاهُ أَوْ غَرِيمَهُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرَى فَهُنَاكَ التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ. وَلَوْ وَجَبَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلِرَجُلٍ حُرٍّ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرِيكَ وَكَّلَ الْعَبْدَ بِقَبْضِ نَصِيبِهِ فَقَبَضَهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَهْلَكُ مِنْ مَالَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِنَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَبِدُونِ الْقِسْمَةِ الْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ مُشْتَرَكًا وَالْعَبْدُ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ أَمِينٌ بِحُكْمِ التَّوْكِيلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْهَلَاكُ مِنْ مَالَيْهِمَا جَمِيعًا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَبَضَ مِنْ الْغَرِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَهَلَكَ كَانَ هَالِكًا مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً بِهِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ التَّوْكِيلِ كَانَ يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ فَبَقِيَ مَالِكًا لَهُ بَعْدَ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ نَصِيبِهِ فَإِنْ هَلَكَ كَانَ مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً وَإِنْ لَمْ يَهْلَكْ كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ جُزْءٌ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 127 مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ وَكَّلَ مَوْلَى الْعَبْدِ بِقَبْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهَذَا وَوَكَالَةُ الْعَبْدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مِلْكُ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَوْ جَعَلْنَا الْمَقْبُوضَ مِنْ نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ خَاصَّةً كَانَ الْمَوْلَى وَكِيلًا عَنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ نَصِيبِهِمَا وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَانَ قَبْضُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَتَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهُ بِقَبْضِ نَصِيبِهِ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِهِ وَإِنْ تَوِيَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْمَوْلَى تَوِيَ مِنْ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِهِ لَهُ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالْقَبْضِ كَانَ إقْرَارُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّوْكِيلِ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ كَإِقْرَارِ الْأَجْنَبِيِّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِالْقَبْضِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً فَإِنَّ مَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ يَخْلُصُ لِلْعَبْدِ إذَا صَحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْقَبْضِ وَفِي مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ مَنْفَعَةُ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ خُصُومَةِ الْمَأْذُونِ إذَا مَاتَ الْغَرِيمُ فَادَّعَى أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ قَبَضَ حِصَّتَهُ فَجَحَدَهُ الشَّرِيكُ وَوَكَّلَ الشَّرِيكُ مَوْلَى الْعَبْدِ فِي خُصُومَةِ الْعَبْدِ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى الشَّرِيكِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ وَلَمْ يَكُنْ وَكِيلًا لَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ عَبْدِهِ وَقَدْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى جَوَابِ الْكِتَابِ إنَّ الْمَوْلَى لَا يُخَاصِمُ عَبْدَهُ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُخَاصِمُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ وَكِيلًا هُنَا لَكَانَ يُخَاصِمُ الْعَبْدَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَهُوَ يُخَاصِمُ الْأَجْنَبِيَّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يُخَاصِمَ الْأَجْنَبِيَّ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا صَحَّ التَّوْكِيلُ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ لَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ. وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ مِنْ عَبْدِ الْوَكِيلِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ عَبْدِهِ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مِلْكُهُ وَلَهُ حَقُّ اسْتِخْلَاصِهِ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ عَبْدِ الْوَكِيلِ فَبَاعَهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ الْآنَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَالَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ الثَّمَنَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ مِنْ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مَالَ الْغَيْرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعُهْدَةِ الْبَائِعُ لِغَيْرِهِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 128 كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ حُقُوقِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَوْلَى تَعَلَّقَ بِمَنْ انْتَفَعَ بِهِ وَهُوَ الْآمِرُ فَهُوَ الَّذِي يَلِي التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا حَقَّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَى الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَى الْعَبْدِ لِلْأَجْنَبِيِّ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ وَلَا مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ أَجْنَبِيٌّ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الْمَأْذُونُ هُوَ الْوَكِيلَ لِلْأَجْنَبِيِّ بِبَيْعِ شَيْءٍ أَوْ شِرَائِهِ مِنْ مَوْلَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ وَكِيلًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَوْلَى وَيَصْلُحُ مُطَالِبًا لِلْمَوْلَى بِالثَّمَنِ إذَا بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ أَكْسَابِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ غُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ الْآمِرُ إلَى الْعَبْدِ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَوَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ جَازَ شِرَاؤُهُ وَأَخَذَ الثَّمَنَ مِنْ الْآمِرِ وَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي التَّوْكِيلِ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمَوْلَى كَهُوَ فِي التَّوْكِيلِ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَلَوْ دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ حَتَّى وَكَّلَ الْعَبْدُ أَوْ مَوْلَاهُ أَوْ بَعْضُ غُرَمَائِهِ أَجْنَبِيًّا بِبَيْعِ شَيْءٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمَالٍ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُشْتَرٍ لِرَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ هُوَ الْعَبْدُ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ مَوْلَاهُ أَوْ غَرِيمُهُ يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْبَيْعِ مِنْ مُضَارِبِهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ جَازَ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ انْتَفَتْ بِقَبْضِ الْمُوَكَّلِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ وَلَكِنَّ الْعُهْدَةَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ مَا عَلَى مُضَارِبِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَكَذَلِكَ مَوْلَاهُ وَغَرِيمُهُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَاقِدَ مَتَى لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِعُهْدَةِ الْعَقْدِ فَالْعُهْدَةُ تَكُونُ عَلَى الْآمِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ، وَكُلُّ مَنْ وَصَفْنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِهِ وَكُلُّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي قَبْضِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ تَحْقِيقُهُ لِلِاسْتِيفَاءِ [بَابُ بَيْعِ الْقَاضِي وَالْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا دَفَعَ الْغُرَمَاءُ الْمَأْذُونَ إلَى الْقَاضِي وَأَرَادُوا بَيْعَهُ فِي دُيُونِهِمْ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرُ هَلْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ يَرْجُو وُصُولَهُ؛ لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْعَبْدِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 129 مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ الْحَاصِلُ بِتِجَارَتِهِ كَمَا أَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ بِتِجَارَتِهِ، وَمَقْصُودُ الْمَوْلَى اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَقْصُودِ عَلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَالِ الْحَاضِرِ أَوْ الْغَائِبِ الَّذِي يُرْجَى وُصُولُهُ عَاجِلًا، وَلَوْ انْتَظَرَ الْقَاضِي وُصُولَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ فَلِهَذَا يَتَأَنَّى الْقَاضِي كَمَا يَتَأَنَّى فِي الْقَضَاءِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بَعْدَمَا أَبَقَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى ضَمِنَ لِلْغُرَمَاءِ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيفَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ أَوْ غَائِبٌ لَا يُرْجَى وُصُولُهُ؛ لِأَنَّ فِي انْتِظَارِ ذَلِكَ تَأَخُّرَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ كَضَرَرِ الْإِبْطَالِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ قَضَاءً عَلَى الْمَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَإِزَالَةِ مِلْكِهِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ اسْتِخْلَاصِ - الرَّقَبَةِ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقَّ بِبَيْعِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ فَإِذَا بَاعَهُ ضَرَبَ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثَّمَنِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ وَإِذَا قَسَّمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْقِ لِقَضَاءِ حَقِّهِمْ مَحَلًّا فِي حَالِ رِقِّهِ وَكَسْبُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَرْضَ بِصَرْفِهِ إلَى دُيُونِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ مَوْلَاهُ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُتَّبَعْ بِشَيْءٍ بِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ هَذَا الْمَوْلَى بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَبِيعَ لِغُرَمَائِهِ لَمْ يُشَارِكْ الْأَوَّلُونَ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ اسْتَوْفُوا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ مَرَّةً فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي هَذَا الْمِلْكِ الْمُتَجَدِّدِ كَعَبْدٍ آخَرَ فَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ إنَّمَا رَضِيَ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآخَرِينَ بِمِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا يُبَاعُ لَهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِلْأَوَّلِينَ عَلَى الثَّمَنِ حَتَّى يُعْتَقَ فَإِذَا عَتَقَ بِيعَ بِجَمِيعِ دُيُونِهِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالذِّمَّةُ بِالْعِتْقِ تَزْدَادُ قُوَّةً فَيُؤْمَرُ بِقَضَائِهَا مِنْ كَسْبٍ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ. وَإِذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَالْغُرَمَاءِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ وَهَذَا لِأَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِي دَيْنِهِمْ فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى جَمِيعِ دَيْنِهِمْ فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَقَّ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَإِنْ أَجَازُوا الْبَيْعَ أَوْ قَضَاهُمْ الْمَوْلَى الدَّيْنَ أَوْ كَانَ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ نَفَذَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ بِوُصُولِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ إلَيْهِمْ كَالرَّاهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ، الجزء: 25 ¦ الصفحة: 130 فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْغُرَمَاءَ وَجَدُوا الْمُشْتَرِيَ وَالْعَبْدَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَجِدُوا الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي خَصْمًا لَهُمْ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ خَصْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مَالِكُ الرَّقَبَةِ وَهُمْ يَدَّعُونَ اسْتِحْقَاقَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ هُوَ خَصْمًا لَهُ كَمَا لَوْ ادَّعَوْا مِلْكَ الْعَبْدِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْغُرَمَاءُ لَا يَدَّعُونَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا فِي مِلْكِهِ حَقًّا؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْبَائِعِ فِي إثْبَاتِ حَقِّهِمْ عَلَيْهِ وَنَقْضُ الْبَيْعِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ يُحَوِّلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِيَّةِ - الرَّقَبَةِ إلَى الثَّمَنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَهُ الْقَاضِي أَوْ الْمَوْلَى فَأَجَازَهُ الْغُرَمَاءُ كَانَ حَقُّهُمْ فِي الثَّمَنِ لَا فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَبَعْدَ مَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي لَا طَرِيقَ لِإِثْبَاتِ حَقِّهِمْ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ سِوَى نَقْضِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا جَرَى الْبَيْعُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ وَبِدُونِ نَقْضِ الْبَيْعِ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَوْا مِلْكَ الْعَبْدِ لِأَنْفُسِهِمْ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَدَّعُونَ عَيْنَ مَا يَزْعُمُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الشُّفْعَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي لَا يَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الثَّمَنُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ فَيُنْتَظَرُ حُضُورُهُ لِيَأْخُذَ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَلَوْ حَضَرَ الْبَائِعُ وَغَابَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ الْعَبْدَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْغُرَمَاءِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ لِلْمُشْتَرِي وَإِبْطَالُ ذَلِكَ بِدُونِ حُضُورِهِ لَا يُمْكِنُ فَمَا لَمْ يَبْطُلْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَا تَكُونُ الرَّقَبَةُ مَحَلًّا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ إلَّا أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ صَارَ مُفَوِّتًا مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَإِذَا ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ وَبِتَضْمِينِ الْقِيمَةِ يَسْقُطُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ فِيهِ وَإِنْ أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ وَاقْتَسَمُوهُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَى الْمَبِيعِ حَتَّى يُعْتَقَ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِمْ وَهُوَ الثَّمَنُ فَالْمَوْلَى بِإِجَازَتِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَانِيًا ضَامِنًا لَهُمْ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَتَتَأَخَّرُ دُيُونُهُمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْقَابِضِ لَهُ حَتَّى يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِمْ بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْمَوْلَى فِي الْبَيْعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ؛ وَلِهَذَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ اتَّبَعَهُ الْغُرَمَاءُ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازُوا الْبَيْعَ بَعْدَ مَا هَلَكَ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ وَمَحَلُّ الْعَقْدِ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَإِذًا كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْبَيْعِ بِالْإِجَازَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 131 ثُمَّ الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ إجَازَتِهِمْ الْبَيْعَ أَوْ بَعْدَهَا فَكَذَّبُوهُ فِي الْقَبْضِ فَقَدْ أَجَازُوا الْبَيْعَ قَبْلَ إقْرَارِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِجَازَتِهِمْ صَارَ أَمِينًا كَمَا يَصِيرُ أَمِينًا فِي الثَّمَنِ بِإِذْنِهِمْ فِي الْبَيْعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَحَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَهُ فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يُعْتَقَ الْعَبْدُ فَإِذَا عَتَقَ اتَّبَعُوهُ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ، وَلَوْ اخْتَارَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ الْقِيمَةَ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ الثَّمَنَ كَانَ لِلَّذِينَ اخْتَارُوا ضَمَانَ الْقِيمَةِ حِصَّتُهُمْ مِنْ الْقِيمَةِ وَلِلَّذِينَ اخْتَارُوا الثَّمَنَ حِصَّتُهُمْ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ رَأْيًا وَاسْتِحْقَاقُ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَوْلَى وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلُّ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةٌ مِمَّا اخْتَارَ وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ مِمَّا ضَمِنَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَوْ أَجَازَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَهُ بَعْضُهُمْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ سَبَبٌ تَامٌّ لِلْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ الْبَيْعِ. وَلَوْ بَاعَ الْقَاضِي الْمَأْذُونَ لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ أَوْ بَاعَهُ أَمِينَهُ فَضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْأَمِينِ الَّذِي بَاعَهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَى الْأَمِينِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ الْأَمِينَ بِأَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُبَيِّنَ عَيْبَهُ أَمَّا لَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْأَمِينِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ ذَلِكَ الْأَمِينَ أَوْ غَيْرَهُ بِأَنْ يُخَاصِمَ الْمُشْتَرِيَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا رَدَّهُ بِالْعَيْبِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مَعَ بَيَانِ عَيْبِهِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إيفَاءِ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ وَطَرِيقُهُ بَيْعُ الرَّقَبَةِ وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ عَيْبَهُ لِكَيْ لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَإِذَا أَخَذَ الثَّمَنَ بَدَأَ بِالْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِيَ بَدَلُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالثَّمَنَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بَدَلُ مَالِيَّةِ - الرَّقَبَةِ أَيْضًا فَكَانَ هُوَ مُقَدَّمًا فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالْفَضْلُ لِلْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ غَرِمَ الْغُرَمَاءُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ تَمَامَ حَقِّهِ وَلَا غُرْمَ عَلَى الْأَمِينِ فِي ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْعُهْدَةِ وَلَكِنَّ بَيْعَهُ كَانَ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ لِمَنْفَعَتِهِمْ فَمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعُهْدَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ الْفَضْلُ لَهُمْ فَكَذَلِكَ النُّقْصَانُ يَكُونُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاعَهُ لِلْغُرَمَاءِ بِأَمْرِهِمْ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إبَاءِ يَمِينٍ أَوْ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُهُ وَيُوفِي الْمُشْتَرِيَ ثَمَنَهُ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ نَقَصَ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ غَرِمَ الْبَائِعُ نُقْصَانَهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ فَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الرَّدِّ يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ بَاعَهُ لِمَنْفَعَةِ الْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 132 إقْرَارُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا رَجَعَ هُوَ بِمَا لَحِقَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِيعَ الْعَبْدُ - وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ ضَمِنَ الْبَائِعُ النُّقْصَانَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ بِالْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِمَا غَرِمَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِتَصْدِيقِ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَسْتَحْلِفُ الْغُرَمَاءَ عَلَى عِلْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ مَا لَوْ أَقَرُّوا بِهِ لَزِمَهُمْ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ رَدَّ عَلَى أَمِينِ الْقَاضِي أَوْ الْمَوْلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ الْبَيْعُ الثَّانِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إنْ كَانَ أَمِينُ الْقَاضِي بَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَمِينِ فِيهِ وَلَا عُهْدَةَ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْبَائِعَ ضَمِنَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِمَنْفَعَتِهِمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي رَدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَا يَرْجِعُ حِينَئِذٍ بِالثَّمَنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الْعَيْبِ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ وَصَارَ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَالنُّقْصَانِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي أَوْ الْمَوْلَى الْبَائِعَ قَبِلَ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَمَاتَ فِي يَدِهِ غَرِمَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إنْ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَهُ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي بِعَيْنِهِ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءُوا الْبَائِعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ فَإِنْ ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ إنْ لَوْ ظَفِرُوا بِهِ وَلَمْ يُسَلَّمْ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ سُلِّمَ الْمَبِيعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَأَيَّهُمَا اخْتَارَ الْغُرَمَاءُ ضَمَانَهُ بَرِئَ الْآخَرُ حَتَّى لَوْ تَوَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الَّذِي اخْتَارَهُ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْآخِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ قِبَلَ أَحَدِهِمَا وَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِمْ فِي التَّعْيِينِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا اخْتَارُوا ضَمَانَ أَحَدِهِمَا فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى لَهُمْ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الَّذِي اخْتَارُوا ضَمَانَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ تَحَوَّلَ حَقُّهُمْ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَقَدْ ادَّعَى الْغُرَمَاءُ أَكْثَرَ مِنْهُ فَهُمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا رَضُوا بِالْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءُوا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 133 رَدُّوهَا وَأَخَذُوا الْعَبْدَ فَبِيعَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ كَمَالُ حَقِّهِمْ بِزَعْمِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَغْصُوبِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ. وَإِنْ اخْتَارُوا الْبَائِعَ فَضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ فَاقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ - وَسُلِّمَتْ الْقِيمَةُ إلَى الْغُرَمَاءِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّ مِنْ الْغُرَمَاءِ مَا أَعْطَاهُمْ وَبِيعَ الْعَبْدُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ - بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ عَلَى صِفَةِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مَعَ بَائِعِهِ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ عَادَ حَقُّهُمْ فِي الْعَبْدِ كَمَا كَانَ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الْعَيْبِ فَإِنْ كَانَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْقِيمَةَ وَيُسَلِّمَ لَهُمْ الْعَبْدَ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِمْ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُمْ وَأَمْسَكَ الْعَبْدَ وَإِنْ ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ وَبِهِ الْعَيْبُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ مُنْدَفِعٌ عَنْ الْمَوْلَى وَقَدْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ فَانْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ جَهْلِهِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ لَهُمْ الْقِيمَةَ مَعِيبًا؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ وَاقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ وَالْبَيْعُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى قَدْ انْفَسَخَ وَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُبَاعُ لَهُمْ. وَإِنْ كَانُوا ضَمَّنُوا الْبَائِعَ الْقِيمَةَ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَيْبًا فَرَدَّهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ وَالْعَيْبُ مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ أَوْ يَأْبَوْا الْيَمِينَ وَإِنْ رَدَّهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْعَيْبُ مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْعَبْدِ فَرَدَّهُ بِالْخِيَارِ بَعْدَ مَا ضَمَّنَ الْغُرَمَاءُ الْبَائِعَ الْقِيمَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمْشْتَرِيَ إنَّمَا رَدَّهُ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ عَامِلٍ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَ الْعَبْدَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرُدَّهُ فَضَمَّنَ الْغُرَمَاءُ الْبَائِعُ الْقِيمَةَ، ثُمَّ رَأَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ فَلَمْ يَرْضَهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ أَنَّ سَبَبَ - الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لِلْغُرَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 134 يَوْمئِذٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ وَقَدْ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي فَضَمَّنَ الْغُرَمَاءُ الْبَائِعَ الْقِيمَةَ، ثُمَّ اخْتَارَ الْبَائِعُ رَدَّ الْعَيْبِ وَاسْتَوْضَحَ بِالْمَغْصُوبِ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْغَاصِبِ لَوْ بَاعَ الْمَغْصُوبَ وَدَفَعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْعَبْدِ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ كَانَ الْغَاصِبُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَفَسَخَ الْبَيْعَ أَوْ أَجَازَ سُلِّمَتْ الْقِيمَةُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ فِي فَصْلِ الْمَأْذُونِ. وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْغُرَمَاءِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَعِتْقُهُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ الْمْشْتَرِيَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يَتَمَلَّكُ الْعَبْدَ مِلْكًا تَامًّا فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْغُرَمَاءِ وَبِالسَّبَبِ الْمَوْقُوفِ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ الْمَوْقُوفُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ الضَّعِيفُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا قَوِيًّا وَالْعِتْقُ مَنْهِيٌّ لِلْمِلْكِ فَإِذَا كَانَ مَوْقُوفًا فَمَا يُنْهِيهِ يُوقَفُ بِتَوَقُّفِهِ فَإِذَا تَمَّ الْبَيْعُ بِإِجَازَتِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ كَانَ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ فَأَخَذُوهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ أَبْطَلَهُ الْقَاضِي وَبَاعَ الْعَبْدَ فِي دَيْنِهِمْ نَظَرًا مِنْهُ لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَّلَ فَقَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْإِجَازَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ نَفَذَ الْبَيْعُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ وَهَهُنَا يَنْفُذُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِدِ فِي الضَّعْفِ لِأَجْلِ التَّوَقُّفِ، وَلَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الضَّعِيفَ بِالْقَبْضِ يَقْوَى كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الْفَاسِدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ وَتَمَامُ هَذَا التَّسْلِيطِ بِالتَّسْلِيمِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ تَمَامِ هَذَا التَّسْلِيطِ وَالْمُسَلِّطُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَأَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالتَّسْلِيطُ غَيْرُ تَامٍّ وَلَكِنَّ تَمَامَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبْضِ فَيَتَوَقَّفُ الْعِتْقُ أَيْضًا وَهُوَ نَظِيرُ الرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ، ثُمَّ يُعْتِقُهُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِبَعْضِ مَا وَصَفْنَا جَازَ مَا فَعَلَ الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِهِ قَدْ زَالَ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ إذَا تَصَرَّفَ ثُمَّ أَجَازَ الْمُكْرَهُ الْبَيْعَ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ ضَمَّنَهُ الْغُرَمَاءُ الْقِيمَةَ نَفَذَتْ الْهِبَةُ فَإِنْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ بِحُكْمٍ أَوْ غَيْرِ حُكْمٍ سُلِّمَ الْعَبْدُ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْقِيمَةِ وَلَا لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يُنْقِصُ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي غَرِمَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ عَلَى صِفَةِ السَّلَامَةِ وَبِالرُّجُوعِ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ رَجَعَ بِمَا بَيْنَ الْعَيْبِ وَالصِّحَّةِ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 135 الرَّدُّ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ هُوَ رَاضِيًا فَيَرْجِعُ بِالتَّفَاوُتِ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْقِيمَةَ وَيُتَّبَعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِمْ بِسَبَبِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَإِذَا رَضُوا بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمَوْلَى أَنْ لَا يُطَالِبَهُمْ بِالنُّقْصَانِ وَيَرْضَى بِهِ مَعِيبًا وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي جَارِيَةٍ قَدْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَوَجَبَ لَهَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ مِنْ أَجْلِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَرَدُّوا نُقْصَانَ الْعَيْبِ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ وَعَيَّبَهُ الْمُشْتَرِي فَضَمَّنَ الْغُرَمَاءُ الْمَوْلَى، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَحَدَثَ بِهِ عَيْبٌ آخَرُ فَرَجَعَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِالْقِيمَةِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي غَرِمَهَا لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَعِيبًا إلَى قِيمَتِهِ سَلِيمًا أَخَذُوهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِمْ رَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ [بَابُ بَيْعِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ فَيَجُوزُ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَأْذُونِ إلَى أَجَلٍ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ بِسَبَبِ التَّأْجِيلِ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ وَامْتِنَاعُ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَحَقُّهُمْ فِي الْمَالِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَبِسَبَبِ التَّأْجِيلِ سَقَطَ هَذَا الْحَقُّ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَلِانْعِدَامِ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى فِيهِ يَنْفُذُ بَيْعُهُ فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الرَّاهِنَ مِنْ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ الْمُبْطِلَ لِحَقِّهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا أَوْ هُوَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ الْمُبْطِلَ لِحَقِّهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهَذَا مِثْلُهُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ مِلْكُ الْيَدِ، وَذَلِكَ قَائِمٌ مَعَ التَّأْجِيلِ فِي الدَّيْنِ وَبِهِ يَعْجِزُ الرَّاهِنُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ مِلْكُ الْيَدِ فِي الْمَأْذُونِ وَلَا فِي كَسْبِهِ وَإِنَّمَا لَهُمْ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَالِهِ نَافِدٌ مَا دَامَ حَيًّا وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَبْقَى الْأَجَلُ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَارِثُ فِي تَرِكَتِهِ وَيُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ الْأَجَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ الدَّيْنُ الْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً وَإِنَّمَا لَمْ يَبْقَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 136 الدَّيْنِ مِنْهُ. فَأَمَّا ذِمَّةُ الْعَبْدِ فَمَحَلٌّ صَالِحٌ لِذَلِكَ فَالدَّيْنُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْأَجَلُ فِيهِ صَحِيحٌ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى مَنْعِ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ أَوْ مُطَالَبَتِهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُمْ فَإِذَا حَلَّ ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْمُحْتَمِلِ عَنْ الْعَبْدِ لِغُرَمَائِهِ مِقْدَارَ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَالدَّيْنُ إذَا حَلَّ عَلَى الْأَصِيلِ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ حَلَّ عَلَى الْكَفِيلِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَتَهُ بَعْد حَلِّ الْمَالِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الثَّمَنِ أَجَازُوا الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا بِدُونِ إجَازَتِهِمْ وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْمَوْلَى سَالِمًا كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهِمْ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ دَيْنٌ لَهُمْ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَيُعْتَبَرُ مَحَلُّ قَضَاءِ الدَّيْنِ إلَى الْمَدْيُونِ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الثَّمَنِ كَمَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ بَعْدَ حَلِّ الْمَالِ فَأَجَازُوهُ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ هُنَاكَ يَكُونُ بِإِجَازَتِهِمْ فَيَتَحَوَّلُ حَقُّهُمْ عَنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ إلَى بَدَلِهِ وَهَهُنَا نُفُوذُ الْبَيْعِ كَانَ بِدُونِ إجَازَتِهِمْ وَكَانَ الثَّمَنُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ حَلِّهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ فَإِنْ تَوِيَ مَا عَلَى الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ تَجَدَّدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْعَبْدِ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى نَقْضِ سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بَاشَرَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ دَيْنَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ يَتَأَخَّرُ إلَى عِتْقِهِ بِمَنْزِلَةِ مَرِيضٍ وَهَبَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَبَاعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَائِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا لَهُمْ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا مَحَلَّ حَقِّهِمْ بِتَصَرُّفِهِ فَإِنْ تَوَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ سَبِيلٌ. وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا كَانَ دَيْنُهُ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ رَقَبَتِهِ وَالْمَنْفَعَةُ تُمَلَّكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ فِي مُطَالَبَتِهِ بِشَيْءٍ فِي الْحَالِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى اسْتِخْدَامُهُ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِمْ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالِاسْتِسْعَاءِ فِيهِ وَبِاسْتِخْدَامِ الْمَوْلَى إيَّاهُ يَفُوتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ فِي مُطَالَبَتِهِ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُمْ السَّبِيلُ عَلَى الْمَوْلَى فِي مَنْعِهِ مِنْ السَّفَرِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُمْ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِ الرَّقَبَةِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 137 وَيَرْهَنَهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ حَلَّ الدَّيْنُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ كَانَ عُذْرًا وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَنْقُضُوا الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْعُقُودِ فَإِنَّهَا تُنْتَقَضُ بِالْعُذْرِ، وَالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُنْتَقَضُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُبَاشِرِ لِلْعَقْدِ فَلَأَنْ تُنْقَضَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ أَوْلَى وَتُنْقَضُ لِلرَّدِّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ وَالرَّدِّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ فَيُنْقَضُ أَيْضًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِبَيْعِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ حَلِّ الْمَالِ. فَأَمَّا الرَّهْنُ فَهُوَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ نَقْضُ الرَّهْنِ كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ نَقْضِ الْبَيْعِ الَّذِي نَفَذَ مِنْ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُمْ يُضَمِّنُونَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَقِّهِمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَبِالْبَيْعِ فَيَضْمَنُ لَهُمْ الْقِيمَةَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ وَبِالْإِعْتَاقِ فَإِذَا أَرَادُوا تَضْمِينَهُ فَافْتَكَّهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ وَإِنْ افْتَكَّهُ بَعْدَ مَا قَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي بِضَمَانِ الْقِيمَةِ فَالْقِيمَةُ عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ لَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَحَوَّلَ - بِقَضَاءِ الْقَاضِي إلَى الْقِيمَةِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لَهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْقَضَاءِ فَلَا يَعُودُ حَقُّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِانْعِدَامِ الْحَيْلُولَةِ بِالْفِكَاكِ كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْتَكَّهُ فَقَضَى الْغُرَمَاءُ الدَّيْنَ لِيَبِيعُوهُ فِي دَيْنِهِمْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَحَقُّهُ يَسْقُطُ بِوُصُولِ دَيْنِهِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا تَخْلِيصَ مَحَلِّ حَقِّهِمْ فَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ مَوْلَاهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ فَقَالَ الْعَبْدُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ: إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَا لَكَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَهُوَ عَلَيَّ فَالضَّمَانُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كَانَ مَحْجُورًا عَنْ الْكَفَالَةِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا رَضِيَ الْمَوْلَى بِكَفَالَتِهِ كَانَ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَلَمْ يُعْطِكَ هَذَا الْمَالَ الَّذِي لَك عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ مَعْنَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْمَوْلَى عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَكْفُولَ لَهُ حَقَّهُ فَإِنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ يُضَمِّنُ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ وَمِنْ قِيمَتِهِ وَلَا يَبْطُلُ بَيْعُ الْمَوْلَى فِي الْعَبْدِ وَلَا هِبَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى الْعَبْدِ حِينَ تَصَرَّفَ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بِشَيْءٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَإِنْ وَجَدَ سَبَبَهُ وَهُوَ الْكَفَالَةُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ الْغَرِيمَ لَا يُبْطِلُ تَصَرُّفَ الْمَوْلَى فَهَهُنَا أَوْلَى وَأَمَّا تَضْمِينُ الْمَكْفُولِ لَهُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ فَلِأَنَّهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 138 فَوَّتَ عَلَيْهِ مَحَلَّ حَقِّهِ بِتَصَرُّفِهِ وَقَدْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ مُنْعَقِدًا وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَأَخِّرَةً فَيَكُونُ الْمَوْلَى ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهُ بِتَفْوِيتِ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي ضَمَانِ الدَّرَكِ لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَضْمَنَ الدَّرَكَ فِي دَارِ بَاعَهَا الْمَوْلَى، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى بَاعَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ مَحَلَّ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَوْلَى مِنْ مِلْكِهِ حَتَّى لَحِقَ الْعَبْدَ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْعَبْدَ يَلْزَمُهُ مَا ضَمِنَ مَعَ الدَّيْنِ الَّذِي فِي عُنُقِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِلدَّرَكِ كَانَ صَحِيحًا لِكَوْنِ الْعَبْدِ فَارِغًا عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُجُوبُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ هَذَا دَيْنًا؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْعَبْدِ كَسَائِرِ دُيُونِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلَوْ حَفَرَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمَوْلَى مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَطِبَتْ فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الْمَوْلَى مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مُطَالَبًا بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْعَبْدِ صُنْعٌ هُوَ جِنَايَةٌ فِي الْمِلْكِ الَّذِي تَجَدَّدَ لِلْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يُضَمِّنُ مَوْلَاهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّابَّةِ فِي الْبِئْرِ يَصِيرُ الْعَبْدُ مُتْلِفًا لَهُ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَذَلِكَ الْحَفْرُ جِنَايَةٌ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ لَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَوْلَى عَنْ مِلْكِهِ فَبِإِخْرَاجِهِ يَكُونُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ مَحَلَّ حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ فَإِنْ تَوِيَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ لَمْ يَتَّبِعْ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يُعْتَقَ فَيُؤْخَذُ بِقِيمَةِ الدَّابَّةِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ وَكَانَ لَا يُطَالِبُ بِهِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ الَّذِي حَدَثَ لَهُ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ كَانَ مُطَالِبًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ رَجَعَ إلَيْهِ بِإِقَالَةٍ أَوْ عَيْبٍ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ حَلَّ الدَّيْنُ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ أَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْمِلْكَ مُتَجَدِّدٌ لَهُ بِتَجَدُّدِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعٍ مُتَجَدِّدٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْعَوْدِ إلَيْهِ كَعَدَمِهِ وَعَوْدُ هَذَا الْعَبْدِ إلَيْهِ كَعَوْدِ عَبْدٍ آخَرَ فَإِنَّ اخْتِلَافَ سَبَبِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ؛ فَلِهَذَا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ، وَلَوْ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ، ثُمَّ حَلَّ الدَّيْنُ أَخَذُوا الْعَبْدَ بِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ غُرَمَائِهِ وَيَنْعَدِمُ بِهِ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّهِمْ. وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَوْلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 139 بَعْدَ مَا رَجَعَ إلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ دَيْنُهُمْ، ثُمَّ حَلَّ الدَّيْنُ فَلَا ضَمَانَ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حِينَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى ضَمَانٌ إذَا حَلَّ دَيْنُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى لَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَبْرَأُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْهِبَةِ فَإِذَا عَادَ مَحَلُّ حَقِّهِمْ صَارَتْ الْإِزَالَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَلَوْ بَاعَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي بَرِئَ الْمَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَوْ تَقَرَّرَ السَّبَبُ بِالْبَيْعِ فَبِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ مِنْ الْأَصْلِ وَيَعُودُ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ كَمَا كَانَ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ ثُمَّ مَاتَ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْعَبْدِ وَقَدْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِمَوْتِهِ وَوُجُوبُ الدَّيْنِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الدَّيْنِ فِيهِ فَهُوَ وَمَوْتُ الْحُرِّ سَوَاءٌ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ إلَى أَجَلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَمْ يَقَعْ لَهُ فِيهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ الْقِيمَةِ وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا حَلَّ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ يَبْقَى الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ حَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجِدْ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَّا إلَى الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَقِيَامِ ذِمَّتِهِ مَحَلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَلْفٌ حَالَّةٌ وَأَلْفٌ إلَى أَجَلٍ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ أَنْ يَنْقُضَهُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ فِي حُكْمِ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى كَالْمَعْدُومِ وَقِيَامُ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ كَافٍ فِي نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى فَإِنْ قَضَاهُ جَازَ مَا صَنَعَ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ حَقِّهِ وَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْحَالِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ الْآخَرُ لَمْ يُشَارِكْ الْأَقَلَّ فِيمَا أَخَذَ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مِنْ مَحَلٍّ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ مِنْ دَيْنِهِ وَمِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآخَرِ سَقَطَ بِوُصُولِ دَيْنِهِ إلَيْهِ وَكَانَ الْمَوْلَى مُتَطَوِّعًا فِيمَا قَضَاهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَصَارَ كَانَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الدَّيْن الْمُؤَجَّلَ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى حَلَّ الدَّيْنُ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ يُبَاعُ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ فِي دَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ كَانَ ضَامِنًا بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِ الْمَوْلَى صَاحِبَ الدَّيْنِ الْحَالِّ حَقَّهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 140 فَنَقَضَ الْبَيْعَ وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُهُ بِمُطَالَبَتِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ بِبَيْعِ الْقَاضِي يَتَحَوَّلُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ إلَى الْعَبْدِ مِنْ الثَّمَنِ وَأَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ مُتَأَخِّرَةً إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ مِنْ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بَائِعًا سَلَامَةً جَمِيعَ الثَّمَنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الثَّمَنِ وَيَدْفَعُ النِّصْفَ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَلَكِنَّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ تَتَأَخَّرُ إلَى حُلُولِ الدَّيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ حُلُولِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَذَلِكَ عَلَى بَدَلِ الرَّقَبَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ كَانَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَّبِعُ الْقَاضِيَ بِحَلِّ الدَّيْنِ الْآخَرِ عَلَى الْعَبْدِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَحَوَّلُ بِبَيْعِ الْقَاضِي إلَى الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ عَيْنٌ لَا يَقْبَلُ الْأَجَلَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الدَّيْنُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى إذَا عَتَقَ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ إنْ شَاءَ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِبَقَاءِ الْأَجَلِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ الْآخَرُ أَعْطَاهُ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى فِيهِ ضَمَانٌ وَيَتَّبِعُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْغَرِيمَ الْأَوَّلَ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُ الْمَقْبُوضَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْبَاقِي لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ فَإِنْ لَمْ يَهْلَكْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا الْغَرِيمَ أَبَرَأَ مِنْ دَيْنِهِ أَوْ وَهَبَهُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الْمَوْلَى لِتَمَامِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ الْعَيْنِ بِدَيْنِهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ سَلَامَةُ النِّصْفِ لَهُ لِمُزَاحَمَةِ الْآخَرِ وَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ بِالْإِبْرَاءِ وَلِأَنَّ نِصْفَ دَيْنِ الْأَوَّلِ بَاقٍ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى نَقَدَ غَرِيمًا لَهُ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهَا قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ كَتَصَرُّفِهِ فِي الرَّقَبَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ لِحَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَلَكِنْ إذَا حَلَّ دَيْنُهُ ضَمِنَ الْمَوْلَى لَهُ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ مَحَلَّ حَقِّهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِنْ تَوِيَتْ عَلَيْهِ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ فِيمَا قَبَضَ فَيُشَارِكُهُ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَا عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي قَضَاهُ الْمَوْلَى بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمَوْلَى وَنَقَضَ تَصَرُّفَ الْمَوْلَى فِيهِ، ثُمَّ يُشَارِكُ فِيهِ الْغَرِيمَ الْآخَرَ فَلَا يَزَالُ هَكَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمَا حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعِ عَلَى الْقَابِضِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنْ الْمَوْلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 141 وَلَوْ لَمْ يَبِعْ الْقَاضِي الْعَبْدَ لِلْغَرِيمِ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى بَاعَهُ بِرِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ مُسْقِطٌ حَقَّهُ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ وَلَا حَقَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ ثُمَّ يُعْطِي نِصْفَ الثَّمَنِ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْحَالِّ وَيُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى نِصْفَ الثَّمَنِ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ الْآخَرُ أَخَذَ صَاحِبُهُ مِنْ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُفَوِّتٌ عَلَيْهِ مَحَلَّ حَقِّهِ وَلَيْسَ بِمُحَوَّلٍ حَقَّهُ إلَى الثَّمَنِ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ تَحْوِيلِ حَقِّهِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا بَاعَهُ الْقَاضِي وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ تَحْوِيلِ وِلَايَةِ الْحَقِّ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الثَّمَنِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا نِصْفَ الْقِيمَةِ لِلثَّانِي هَهُنَا وَمَا قَبَضَ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ فَهُوَ مَالٌ سَالِمٌ لَهُ فَإِنْ تَوِيَ مَا عَلَى الْمَوْلَى مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي أَخَذَ نِصْفَ الثَّمَنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ هَهُنَا مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الدَّيْنِ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَا يَأْخُذُ الْأَوَّلُ جَمِيعَ الثَّمَنِ مِنْ الْمَوْلَى؟ لِمَ لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي شَرِكَةٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الثَّمَنِ؟ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى ضَامِنٌ لِلثَّانِي نِصْفَ الْقِيمَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ - يُسَلِّمَ مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الثَّمَنِ لِلْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا يُعْطِي لِلْأَوَّلِ نِصْفَ الثَّمَنِ وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي إلَّا نِصْفَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نِصْفَ بَدَلِ الْمَالِيَّةِ فَمَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتَ حَقِّ الثَّانِي فِي تَضْمِينِ الْمَوْلَى جَمِيعَ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دُيُونٌ إلَى آجَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ حَلَّ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ تُقَسَّمُ عَلَى الدَّيْنِ مَا حَلَّ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَحُلَّ فَمَا أَصَابَ الَّذِي حَلَّ مِنْهَا مِنْ الْقِيمَةِ أَخَذَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَلَّ دَيْنُهُ مِنْ غُرَمَائِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى ضَامِنٌ قِيمَتَهُ بِتَفْوِيتِهِ مَحَلَّ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ إلَّا بَعْدَ حَلِّ دَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَحَلَّ أَلْفٌ مِنْهَا فَطَلَبَ صَاحِبُهَا مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ وَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ثَمَنِهِ وَيَضَعُ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْآخَرَيْنِ فِي يَدِ الْمَوْلَى حَتَّى يَحُلَّ دَيْنُهُمَا فَإِذَا حَلَّ دَيْنٌ آخَرُ أَعْطَى صَاحِبَهُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ ثُلُثَ الثَّمَنِ فَإِذَا حَلَّ الثَّالِثُ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ فَإِنْ تَوِيَ الثُّلُثُ الْبَاقِي عَلَى الْمَوْلَى رَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ فَيَأْخُذُ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا حِينَ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ الْقَاضِي وَكَانَ شَرْطُ سَلَامَةِ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَوَّلَيْنِ أَنْ يُسَلِّمَ الثُّلُثَ لِلثَّالِثِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ التَّاوِي مِنْ حُقُوقِهِمْ وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمْ فَرَجَعَ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ بِثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمَا لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي ثَمَنِهِ فَإِنْ لَقِيَ أَحَدَهُمَا أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي الثَّمَنِ سَوَاءٌ ثُمَّ يَرْجِعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْآخَرِ بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِيُسَلِّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ وَيَسْتَوُوا فِي الضَّرَرِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 142 الْحَاصِلِ بِالتَّوَى فَإِنْ لَقِيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَحْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ رُبُعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي يَدِهِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَفِي يَدِ مَنْ لَقِيَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ وَفِي يَدِ مَنْ لَقِيَهُ الثُّلُثُ فَيَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الْبَاقِي فِي يَدِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَفِي يَدِ هَذَا الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ أَيْضًا فَإِنْ لَقِيَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ الْآخَرُ أَخَذَ مِنْهُمَا تُسْعَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ تَحْصُلُ وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ جَعَلْت الثَّمَنَ كُلَّهُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَسِهَامُ الثُّلُثَيْنِ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ وَثُلُثَا سَهْمٍ وَاَلَّذِي فِي يَدِ هَذَا الَّذِي لَقِيَهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ سَهْمَانِ وَفِي يَدِ الْآخَرِ سِتَّةٌ فَيَأْخُذُ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ سَهْمٍ وَثُلُثَا سَهْمٍ مِنْ سِتَّةٍ يَكُونُ تُسْعُهَا فَيَحْصُلُ لَهُ سَهْمَانِ وَثُلُثَا سَهْمٍ وَبَقِيَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَثُلُثَا سَهْمٍ. وَإِذَا قَالَ الْمَأْذُونُ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَلَمْ يُعْطِكَ أَلْفَكَ الَّتِي عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهَا حَتَّى أَدْفَعَهَا إلَيْكَ، ثُمَّ لَحِقَ الْعَبْدَ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِهِمْ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ - يَدْفَعُهَا كُلَّهَا إلَى الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمُزَاحَمَةَ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَمْ يَجِبْ لِلْمَكْفُولِ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ قَبْلَ شَرْطِهِ وَبِهِ فَارَقَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَتَأْثِيرُ الْأَجَلِ فِي الْمَنْعِ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي نَفْيِ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَ الشَّرْطِ فَإِذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْغَرِيمِ اسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَكْفُولِ لَهُ بِعَرْضِ اللُّزُومِ فَإِنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْكَفَالَةُ مُقَرَّرٌ فَلِتَقَرُّرِ السَّبَبِ يَجِبُ النَّظَرُ لَهُ بِالِاسْتِيثَاقِ فَإِذَا لَزِمَ الْعَبْدَ ضَمَانُ مَا كَفَلَ بِهِ أَخَذَ الْمَكْفُولُ مِنْ الْغَرِيمِ نِصْفَ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِي الصِّحَّةِ كَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ دُيُونِ الصِّحَّةِ بِقَدْرِهِ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَكْفُولِ بِقَدْرِهِ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَكْفُولِ لَهُ أَخَذَ سَبَبَهَا مِنْ الدَّيْنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوُجُوبَ يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَمِنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ كَانَ مُتَقَرِّرًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَتَوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَيَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالدَّيْنِ الْحَالِّ يَدْفَعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَى الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ دَيْنُ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وَلِشَبَهِهِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قُلْنَا إذَا تَحَقَّقَ لُزُومُ دَيْنِ الْكَفَالَةِ رَجَعَ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ حَالٌّ فَوَهَبَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ مِنْ الْمَوْلَى وَفِي الْهِبَةِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّهِمْ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَتِهِمْ فَإِنْ أَجَازُوهَا بَطَلَ دَيْنُهُمْ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَقَطَ عَنْ ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 143 عَلَى الْمَوْلَى وَلَا عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِصُنْعِ الْمَوْلَى وَالْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ حَادِثٌ بَعْدَ الدَّيْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَكِنْ يَتَأَخَّرُ حَقُّهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِانْعِدَامِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا عَتَقَ اتَّبَعُوهُ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ إلَى أَجَلٍ جَازَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَلِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ إذَا حَلَّ دَيْنُهُمْ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا أَخَذُوا الْقِيمَةَ مِنْهُ أَوْ قَضَى بِهَا - الْقَاضِي عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا عِنْدَ الْقَضَاءِ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ الْآخَرِ خَاصَّةً لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ هَذَا الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا سَبِيلَ لِلْأَوَّلِينَ عَلَى هَذَا الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَكَمَا لَا سَبِيلَ لِلْآخَرِينَ عَلَى الْقِيمَةِ إذَا أَخَذَهَا الْأَوَّلُونَ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِلْأَوَّلِينَ عَلَى الثَّمَنِ وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ بِيعَ فَبُدِئَ بِدَيْنِ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِينَ أَيْضًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى يَتَّبِعُوهُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمْ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالِ رِقِّهِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِ الْآخَرِينَ كَانَ لِلْأَوَّلِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَدَيْنُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ يُقْضَى مِنْ مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ سِوَى ذَلِكَ اقْتَسَمَ هَذَا الْبَاقِيَ الْأَوَّلُونَ وَأَصْحَابُ دَيْنِ الْمَوْلَى تَصَرَّفَ فِيهِ أَصْحَابُ دَيْنِ الْمَوْلَى بِدُيُونِهِمْ الْأَوَّلُونَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَوَهَبَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ لَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ تَمْنَعُ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ وَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَحُلَّ دَيْنُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَى دَيْنِهِ عَلَى الْعَبْدِ كَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فَإِنْ حَلَّ دَيْنُ الْآخَرِ ضَمِنَ الْمَوْلَى قَدْرَ الْقِيمَةِ لَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ لِلْغَرِيمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِإِجَازَةِ الْهِبَةِ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي حَالِ رِقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ دَيْنِهِ وَقَدْ فَوَّتَ الْمَوْلَى عَلَى الْآخَرِ مَحَلَّ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ لَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْحَالِّ لَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَأَخِّرَةً وَالْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْعَبْدِ كَالثَّمَنِ عِنْدَ بَيْعِ الْقَاضِي إيَّاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 144 لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ إلَّا حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَهَهُنَا أَيْضًا لَا يُسَلِّمُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْحَالِّ إلَّا حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ النِّصْفِ فَإِنْ ضَمِنَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الْعَبْدُ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ سَقَطَ عَنْ الْعَبْدِ بِوُصُولِ حِصَّتِهِ مِنْ الضَّمَانِ إلَيْهِ وَالدَّيْنُ الْآخَرُ مُؤَجَّلٌ لَا يَمْنَعُ الْهِبَةَ فَإِذَا حَلَّ دَيْنُ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْمَوْلَى بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَحَلَّ حَقِّهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِنْ شَارَكَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ لَهُمَا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى مُشْتَرَكَةً بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا - يُسَلِّمُ الْمَقْبُوضَ لِلْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِلْآخَرِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ، ثُمَّ يَتَّبِعَانِ الْمَوْلَى بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمَّا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَانَ الْبَاقِي مُشْتَرَكًا أَيْضًا. وَلَوْ لَمْ يَحُلَّ الدَّيْنُ الثَّانِي حَتَّى رَجَعَ الْمَوْلَى فِي هِبَتِهِ، ثُمَّ حَلَّ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّبِعَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَحَوُّلَ حَقِّهِ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ أَوْ - بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِهَا وَلَمْ يُوجَدْ فَقَدْ عَادَ الْعَبْدُ بِالرُّجُوعِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَيْعِ حِصَّتِهِ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ، وَذَلِكَ نِصْفُهُ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ لَهُمَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَأَبَقَ، ثُمَّ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَاصَمَ الْغَاصِبَ وَضَمَّنَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَإِنْ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ يُبَاعُ نِصْفُ الْعَبْدِ فِي دَيْنِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمَّا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَانَ الْبَاقِي كَذَلِكَ فَيُبَاعُ نِصْفُهُ فِي دَيْنِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا النِّصْفِ الْحَقَّ بَاقٍ فِي الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ اعْوَرَّ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ الْوَاهِبُ ضَمَّنَ الْمَوْلَى رُبُعَ قِيمَتِهِ وَبِيعَ نِصْفُهُ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، وَلَوْ عَادَ الْكُلُّ إلَيْهِ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ كَانَ يُبَاعُ نِصْفُهُ فِي الدَّيْنِ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَتِهِ فَالْجُزْءُ يُعْتَبَرُ بِالْكُلِّ وَلِفَوَاتِ النِّصْفِ ضُمِّنَّ الْمَوْلَى رُبُعَ قِيمَتِهِ وَبِعَوْدِ النِّصْفِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالرُّجُوعِ يُبَاعُ نِصْفُهُ فِي دَيْنِهِ، وَلَوْ اعْوَرَّ بَعْدَ مَا رَجَعَ إلَى الْمَوْلَى لَمْ يَضْمَنْ مِنْ عَوَرِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَإِنَّهُ بِالرُّجُوعِ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَعَوَرُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَهَلَاكِهِ قَبْلَ الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ إذَا اعْوَرَّ قُلْنَا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى شَيْئًا وَلَكِنْ يُبَاعُ نِصْفُهُ أَعْوَرَ فِي دَيْنِهِ. وَإِذَا كَفَلَ الْمَأْذُونُ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِمْ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَلِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْكَفَالَةِ وَيُبَاعُ لَهُ فِيهِ كَمَا يُبَاعُ فِي سَائِرِ دُيُونِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 145 لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَالِيَّتِهِ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ بِبَيْعِهِ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَكَانَتْ الْمَالِيَّةُ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إنَّمَا يَنْقُضُ بَيْعَ الْمَوْلَى لِيَسْتَسْعِيَهُ فِي دَيْنِهِ وَلَا حَقَّ لِصَاحِبِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فِي اسْتِسْعَائِهِ فِي شَيْءٍ وَلَكِنْ يَبِيعُ الْعَبْدَ بِكَفَالَتِهِ حَيْثُ كَانَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِبَيْعِ الْمَوْلَى إيَّاهُ وَهَذَا عَيْبٌ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَيُؤْمَرُ بِطَلَبِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لِيُسَلِّمَهُ وَفِيهِ حَيْلُولَةٌ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ لِأَجْلِهِ كَمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ رَدِّ الْجَارِيَةِ بِعَيْبِ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى أَنَّهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ إنْ لَمْ يُعْطِ الْمَطْلُوبَ مَا عَلَيْهِ إلَى كَذَا، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ بِشَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْحَالِ فَالْتِزَامُ تَسَلُّمِ النَّفْسِ مِنْهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا حِينَ اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِدْمَةِ بِسَبَبٍ كَانَ سَابِقًا عَلَى بَيْعِهِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى السَّبَبِ وَإِنْ كَأَنْ عَلِمَ بِهَا حِينَ اشْتَرَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِهَذَا الْعَيْبِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ. قَالَ: وَالْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ رَقِيقِ الْمَأْذُونِ أَوْ هِبَتِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْمَأْذُونِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ فَكَمَا أَنَّ فِي الرَّقَبَةِ إذَا انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ لِلتَّأْجِيلِ فِي الدَّيْنِ جُعِلَ فِي حَقِّ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي تَصَرُّفِهِ فِي كَسْبِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فِي حُكْمِ النُّفُوذِ وَحُكْمِ تَضْمِينِ الْمَوْلَى عِنْدَ حَلِّ الدَّيْنِ وَفِي الْأَصْلِ إشَارَةٌ إلَى مُخَالِفٍ لَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَعْتَقَ رَقِيقَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ دَيْنُ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ عِتْقَهُ فِي الرَّقِيقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَكَانَ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ (أَرَأَيْت) لَوْ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ حَجَر عَلَيْهِ وَالدَّيْنَ عَلَيْهِ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّقِيقَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَبَيْعُ الْمَوْلَى فِي هَذَا كُلِّهِ جَائِزٌ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَقِيلَ الْمُخَالِفُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَوْلَى كَسْبَ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِالتَّأْجِيلِ لَا يَنْعَدِمُ وُجُوبُ أَصْلِ الدَّيْنِ وَحَاجَةُ الْمَأْذُونِ إلَى قَضَائِهِ وَحَاجَتُهُ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 146 فَكَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ فِيهِ وَيَجُوزُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْعِتْقِ لَا يَسْتَدْعِي الْيَدَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُ عَبْدَهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ وَالدَّيْنُ عَلَى الْمُورِثِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ وَنُفُوذَ عِتْقِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَخِيرِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الزِّيَادَاتِ فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي كَسْبِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ عِتْقَهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ بِمَنْزِلَةِ الرَّقَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَإِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ فَكَمَا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي مِلْكَ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ فِي كَسْبِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَهُ مِلْكٌ مُطْلَقٌ فِي رَقَبَتِهِ فَيَمْلِكُ كَسْبَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَرَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا وَقَدْ مَلَكَ بَدَلَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ بَقَاءَ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَالِكًا كَسْبَهُ، فَأَمَّا رَقَبَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ فَمَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فِي التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْفَاضِلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَشْغُولَ بِالْجِهَازِ وَالْكَفَنِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ فَكَذَلِكَ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ وَهَهُنَا مِلْكُ الْمَوْلَى كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّق بِفَرَاغِهِ مِنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَتْ سَلَامَتُهُ لَهُ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حَاجَتَهُ إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ فَكَذَلِكَ حَاجَتُهُ إلَى الدَّيْنِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الدَّيْنِ فَحَالُ قِيَامِ الدَّيْنِ كَحَالِ حَيَاةِ الْمُورِثِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَوْ أَنَّ الْمِيرَاثَ وَالْحُكْمَ لَا يُسْبَقُ أَوَانُهُ، فَأَمَّا خِلَافَةُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ وَاعْتِبَارُ الرِّقِّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِمِلْكِ الْمَالِ وَالْكَسْبُ مُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الْمَكْسُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَسِبُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِمَنْ يَخْلُفُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ حَالَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمَوْلَى يَخْلُفُ عَبْدَهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ خِلَافَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِإِكْسَابِهِ وَسَلَامَتُهُ لَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ فَكَمَا أَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 147 الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُحِيطُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْمِلْكِ فِي الْمُكْتَسَبِ فَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ كَالرَّقِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَالْمَوْتُ يُنَافِي ذَلِكَ كَالرِّقِّ بَلْ أَظْهَرُ فَالرِّقُّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ لِقِيَامِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ يُجْعَلُ كَالْمَالِكِ حُكْمًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَارِثُ كَسْبَهُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لِقِيَامِ حَاجَتِهِ يُجْعَلُ كَالْمَالِكِ حُكْمًا وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَيْسَتْ كَالْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَإِنَّ الرَّقِيقَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ الْكَسْبُ نَظِيرَ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ بَلْ كَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ لَا بِالِاكْتِسَابِ مِنْ الْعَبْدِ فَبَقِيَ مِلْكُهُ فِي الرَّقَبَةِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُكَاتَبِ فَالْمَوْلَى مَالِكٌ رَقَبَتَهُ حَتَّى يَنْفُذَ مِنْهُ الْعِتْقُ فِي - رَقَبَتِهِ وَتُؤَدَّى بِهِ كَفَّارَتُهُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِلْكَهُ فِي الرَّقَبَةِ مُطْلَقٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِقِيَامِ حَاجَتِهِ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى كَسْبَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ. وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ فَإِذَا عَتَقَ أَخَذَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْإِقْرَارِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَبِإِقْرَارِهِ لَا يَظْهَرُ وُجُوبُ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَكِنْ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِنْ ضَمِنَ عَنْهُ رَجُلٌ هَذَا الدَّيْنَ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ أُخِذَ بِهِ الْكَفِيلُ حَالًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ فِي حَقِّهِ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ فَإِذَا ضَمِنَهُ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَدْ ضَمِنَ دَيْنًا وَاجِبًا فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى مُفْلِسٍ إذَا ضَمِنَهُ إنْسَانٌ أُخِذَ بِهِ فِي الْحَالِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا اشْتَرَاهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ أَمْسَكَهُ بَطَلَ دَيْنُهُ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ بِالْأَقَلِّ مِنْ الثَّمَنِ وَمِمَّا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عَلَى الْعَبْدِ تَحَوَّلَ بِالْبَيْعِ إلَى الثَّمَنِ سَوَاءٌ بِيعَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَهَذَا الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَيُحَوَّلُ إلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ مِنْ الثَّمَنِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَكُون الْكَفِيلُ مُطَالِبًا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ سَقَطَ عَنْ الْكَفِيلِ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْأَصِيلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ وَهَبَهُ مِنْهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ بَطَلَ دَيْنُهُ عَنْ الْعَبْدِ وَعَنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ هَهُنَا سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلَمْ يُخَلِّفْ الْعَبْدُ مَحَلًّا آخَرَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ إلَيْهِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَأَنْ تُوجِبَ بَرَاءَةَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 148 الْكَفِيلِ فَإِنْ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ لَمْ يَعُدْ الدَّيْنُ أَبَدًا وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعُودُ الدَّيْنُ بِرُجُوعِهِ فِي الْهِبَةِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الدَّيْنِ الْمَعْرُوفِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَهُنَا إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الزِّيَادَاتِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدَّيْنَ بِالْهِبَةِ سَقَطَ عَنْ الْعَبْدِ لَا إلَى بَدَلٍ فَكَانَ كَالسَّاقِطِ عَنْهُ بِالْإِبْرَاءِ وَبَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُ الدَّيْنِ إذَا تَمَّ السُّقُوطُ بِالْقَبُولِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَالْعَوْدُ يُتَصَوَّرُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْمُتَلَاشِي بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ شَيْئًا أَوْ صَالَحَ عَلَى عَيْنٍ فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُنَاكَ لَمْ يَسْقُطْ وَإِنَّمَا تَحَوَّلَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِهَا وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالتَّوَى إلَى الْمُحِيلِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَتَعُودُ الْعَيْنُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَسُقُوطُ الدَّيْنِ كَانَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ فَإِذَا انْفَسَخَ عَادَ الدَّيْنُ كَمَا إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الصُّلْحِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَوَهَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَقَبَضَهُ هُوَ أَوْ وَصِيُّهُ سَقَطَ الدَّيْنُ، ثُمَّ إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَعُودُ الدَّيْنُ كَانَ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالصَّبِيِّ وَإِسْقَاطُ دَيْنُهُ مَجَّانًا، وَذَلِكَ مَمْلُوكٌ لِلصَّبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِعَوْدِ الدَّيْنِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى زِيَادَةٍ حَادِثَةٍ فِي مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَذِهِ زِيَادَةٌ لَا تُغَيِّرُ صِفَةَ الْعَيْنِ فَتَكُونُ كَزِيَادَةِ السِّعْرِ فَلَا يَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَقَرَّ عَلَى الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا وَالْمُشْتَرِي بِالتَّعَيُّبِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْيِيبَ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يُجْعَلْ بِهِ قَابِضًا فَهَذَا مِثْلُهُ وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ هَذِهِ الْفُصُولَ بِفُرُوعِهَا. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ لِشَرِيكَيْنِ وَبَعْضُهُ حَالٌّ وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلٌ فَوَهَبَهُ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الْهِبَةَ لِمَكَانِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ الْحَالِّ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ نَقَضَهَا بِيعَ الْعَبْدُ فَاسْتَوْفَى الْهِبَةَ حَقَّهُ مِنْ الثَّمَنِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ حِينَ قَبَضَ الْعَبْدَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ فَقَدْ مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مُسْتَحِقًّا لِحَقِّ الْآخَرِ كَالْمَرِيضِ إذَا وَهَبَ عَبْدَهُ وَسَلَّمَهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِذَا مَلَكَهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 149 سَقَطَ دَيْنُهُ وَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ إذْن فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إذَا نَقَضَ الْآخَرُ الْهِبَةَ عَادَ الدَّيْنُ كُلُّهُ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ. وَلَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَأَبْطَلَ الْآخِرُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ بِيعَ لَهُمَا فَاقْتَسَمَا ثَمَنَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ مِنْ دَيْنِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ تَحَوَّلَ حَقُّهُ إلَى الثَّمَنِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ لَا يَسْقُطُ بِهِ دَيْنُهُ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ إلَى الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ فَلِهَذَا يُبَاعُ الْعَبْدُ هَهُنَا فِي دَيْنِهِمَا بَعْدَ نَقْضِ الْبَيْعِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَالثَّمَنُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَحُلَّ الدَّيْنُ فَيَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْغَرِيمِ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحُلُّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَيْعِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْغَرِيمِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبَيْعِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي بَاشَرَهُ حَتَّى يُحَوِّلَ بِهِ الدَّيْنَ إلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ جَانِيًا فِي حَقِّهِ ضَامِنًا لَهُ شَيْئًا فَإِنْ تَوِيَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ عَلَى الْمَوْلَى سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا فِي حَقِّ الْغَرِيمِ فَهَلَاكُ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لِآخَرَ مِثْلُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي فَحَلَّ ضَمِنَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ جَانٍ بِتَفْوِيتِ مَحَلِّ حَقِّهِ بِالْبَيْعِ فَيَضْمَنُ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يُشَارِكُهُ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَانَ شَرِيكًا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَانٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حِينَ سَاعَدَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ فِي قِيمَتِهِ، وَلَوْ شَارَكَ الْآخَرَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، ثُمَّ يَأْتِي الشَّرِيكُ الْآخَرُ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ. وَلَوْ أَمَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ فَكَفَلَ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ عَلَى أَنَّ الْغَرِيمَ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَدْفَعْ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَالْعَبْدُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَفَالَتَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَكَفَالَةِ الْحُرِّ فَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أَوْ بِأَقَلَّ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَيْنِ الْكَفَالَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ كَانَ لِلَّذِي اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ الْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَى الْعَبْدِ مُضَافًا إلَى سَبَبِهِ وَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَيَتَحَوَّلُ إلَى الثَّمَنِ بِبَيْعِهِ إيَّاهُ مِنْ الطَّالِبِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ هَلَكَ مِنْ الْمَوْلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 150 لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَانٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ لَهُ حِينَ اشْتَرَى مِنْهُ الْعَبْدَ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الشِّرَاءِ يَكُونُ رِضًا بِبَيْعِهِ مُحَالَةً وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِدَيْنِهِ وَالْهَالِكُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ مِنْ الْمَوْلَى، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا رَدَّهُ إنْ شَاءَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى كَانَ عَامِلًا لَهُ فِي بَيْعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ حَقَّهُ تَحَوَّلَ إلَى الثَّمَنِ وَكَانَ هُوَ أَحَقَّ لَهُ عِنْدَ وُجُوبِ دَيْنِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِوُجُودِ شَرْطِهِ فَلَوْ رَجَعَ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَيْضًا وَهَذَا لَا يَكُونُ مُفْسِدًا وَلَكِنْ يُبَاعُ لَهُ الْعَبْدُ الْمَرْدُودُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ الثَّمَنَ الَّذِي نَقَدَ الْبَائِعَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَ هَذَا الْفَضْلَ مِنْ دَيْنِهِ الْأَوَّلِ وَإِنْ نَقَصَ الْآخَرُ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ مِنْ النُّقْصَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ تَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْخُصُومَةِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) تَوْكِيلُ الْمَأْذُونِ بِالْخُصُومَةِ لَهُ وَعَنْهُ جَائِزٌ مِثْلُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا لَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ فِيهِ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ فَكُلُّ مَا يَصِحُّ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهُوَ صَحِيحٌ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ مَوْلَاهُ أَوْ بَعْضَ غُرَمَائِهِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ ابْنَ الْمُدَّعِي أَوْ مُكَاتَبَهُ أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلنِّيَابَةِ عَنْهُ فِي تِجَارَاتِهِ وَاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ فَيَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا وَإِقْرَارُ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي جَائِزٌ وَإِنْ أَنْكَرَ مَوْلَاهُ أَوْ غُرَمَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيمَا هُوَ مِنْ جَوَابِ الْخَصْمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَإِقْرَارُ وَكِيلِ الْعَبْدِ هَهُنَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ مَوْلَاهُ وَغُرَمَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ وَكِيلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي فَقَدَّمَهُ خَصْمُهُ إلَى الْقَاضِي وَادَّعَى إقْرَارَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ هَذَا إقْرَارٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مَعَ حِكَايَتِهِ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ فَإِقْرَارُهُ الْمُسْتَأْنَفُ مُلْزِمٌ لِمُوَكِّلِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْحِكَايَةِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُوكِلَنِي وَقَالَ الْخَصْمُ أَقَرَّ بِهِ فِي الْوَكَالَةِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إقْرَارٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْهُ وَسَوَاءٌ كَانَ إقْرَارُهُ السَّابِقُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ الْمُسْتَأْنَفِ فِي مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَدَّعِي هُوَ تَارِيخًا سَابِقًا فِي إقْرَارِهِ حِينَ أَسْنَدَهُ إلَى مَا قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَخَصْمُهُ يُنْكِرُ هَذَا التَّارِيخَ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 151 فِيهِ أَنَّهُ يُنْكِرُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ مُقِرًّا قَبْلَ التَّوْكِيلِ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا فِي الْخُصُومَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَبُولُهُ الْوَكَالَةَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِصِحَّتِهَا فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً كَانَ مُنَاقِضًا وَإِنْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِي أَنَّهُ أَقَرَّ قَبْلَ الْوَكَالَةِ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ وَكِيلًا، وَإِنْشَاءُ الْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مِمَّنْ هُوَ وَكِيلٌ يَكُونُ مُلْزِمًا لِلْمُوَكِّلِ وَإِذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ وَكِيلًا لَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْمُوَكِّلِ بِإِقْرَارِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ إنْشَاءَ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ جَحَدَ الْوَكِيلُ الْإِقْرَارَ لَمْ يَسْتَحْلِفْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْئًا عَلَى الْوَكِيلِ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَكَيْفَ يَسْتَحْلِفُهُ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ فَإِنْ أَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ قَبْلَ الْوَكَالَةِ أَوْ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوَكَالَةِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ إقْرَارُ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ وَهُوَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ وَأَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِإِحْضَارِ الْوَكِيلِ لِلْخُصُومَةِ مَعَهُ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَإِنَّمَا لَا يَسْتَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحْلَفَ كَانَ فِي مَعْنَى النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَالنِّيَابَةُ لَا تُجْزِئُ فِي الِاسْتِحْلَافِ وَتُجْزِئُ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ. وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي عَلَى الْعَبْدِ وَكَّلَ مَوْلَى الْعَبْدِ بِخُصُومَتِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ كَانَتْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ نَفَذَ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِعَبْدِهِ وَقَوْلُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الطَّالِبَ إذَا وَكَّلَ مَوْلَى الْعَبْدِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ بِهِ غَرِيمًا مِنْ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْغَرِيمِ فِيهِ أَظْهَرُ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ ابْنَ الْغَرِيمِ أَوْ مُكَاتِبَهُ أَوْ عَبْدَهُ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ مُوَكِّلُهُ بِالْقَبْضِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِلْوَكِيلِ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ بِهِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى وَالْغَرِيمِ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا قَبَضَ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَوَكَّلَ الْعَبْدُ بِخُصُومَتِهِ وَكِيلًا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ خَصْمًا فِيهِ وَتَوْكِيلُهُ فِيمَا لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ بَعْدَمَا وَكَّلَ الْعَبْدُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ الْوَكِيلُ بِمَا ادَّعَى الْمُدَّعِي، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا فِيهِ قَبْلَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 152 الْوَكِيلِ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُ الْمُوَكَّلِ بِهِ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْهُ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْوَكِيلِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَانَتْ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةً وَالْإِقْرَارُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ لِمَكَانِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَأْخُوذُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبَ الْعَبْدِ وَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ وَكِيلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَيْهِ وَقَبَضَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ فَتَوْكِيلُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ بِمَا فَعَلَهُ الْمَوْلَى وَتَوْكِيلُ الْمَوْلَى بِالْخُصُومَةِ فِيهِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُ وَكِيلِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَوَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ بَعْدَمَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى جَازَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَصْمُ فِي بَقَاءِ تِجَارَاتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ كَانَ إقْرَارُهُ بِهِ أَيْضًا كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ فَيَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ قِبَلَ الْخَصْمِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ أَيْضًا كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِهِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ دُونَ - رَقَبَتِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ. وَإِذَا وَجَبَ لِلْمَأْذُونِ وَلِشَرِيكٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَحَدَهَا فَوَكَّلَ الْعَبْدُ وَشَرِيكُهُ بِخُصُومَتِهِ مَوْلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عِنْدَ الْقَاضِي بِاسْتِيفَائِهِ مَا الْمَالَ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ جَحَدَاهُ فَإِنْ ادَّعَى الشَّرِيكُ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ حِصَّتِهِ فَيُبَاعُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى ثَبَتَ وُصُولُ نَصِيبِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ فَكَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى نَصِيبُ الشَّرِيكِ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي الْخُصُومَةِ مَعَ الْمَطْلُوبِ لَا مَعَ الْعَبْدِ وَصِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي الْخُصُومَةِ، وَلِأَنَّ فِي ثُبُوتِ وُصُولِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُسَلِّمُ الْمَقْبُوضَ أَوْ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَبَضَ شَيْئًا وَإِقْرَارُ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ بِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ حِصَّتِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَوْلَاهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِوُصُولِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ وَهُوَ كَانَ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ مَعَ الْمَطْلُوبِ لَا مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِقْرَارُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْآنَ كَإِقْرَارِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَإِذَا اسْتَوْفَى الْعَبْدُ دَيْنَهُ وَفَضَلَ شَيْءٌ رَجَعَ الْأَجْنَبِيُّ بِحِصَّتِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 153 خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَقَدْ أَقَرَّ بِوُصُولِ نَصِيبِ الْعَبْدِ إلَيْهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ بِنِصْفِهِ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ صَدَّقَ الْمَوْلَى فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَيْهِمَا وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ بِتَصْدِيقِ الشَّرِيكِ ثَبَتَ وُصُولُ نَصِيبِهِ إلَيْهِ وَبِإِقْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ثَبَتَ وُصُولُ نَصِيبِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ وُصُولَ نَصِيبِهِ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَيَكُونُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ ثُمَّ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ ثَبَتَ وُصُولُ نَصِيبِهِ إلَيْهِ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي وَكَّلَ الْعَبْدَ بِالْخُصُومَةِ فِي دَيْنِهِ وَلَمْ يُوَكِّلْ الْمَوْلَى بِذَلِكَ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ قِبَلَ الْغَرِيمِ أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ الْغَرِيمِ نَصِيبَهُ وَجَحَدَ ذَلِكَ الشَّرِيكُ بَرِئَ الْغَرِيمُ مِنْ حِصَّةِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ وَكِيلِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَإِقْرَارِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَرَاءَةِ خَصْمِهِ وَيَتْبَعُ الْعَبْدُ الْغَرِيمَ بِنِصْفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ فَإِذَا أَخَذَهُ شَارَكَهُ الْغَرِيمُ فِيهِ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ شَيْئَيْنِ إبْطَالَ حَقِّ الشَّرِيكِ عَلَى الْغَرِيمِ، وَسَلَامَةَ مَا يَقْبِضُهُ لَهُ وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الشَّرِيكِ عَلَى الْغَرِيمِ لَا بِتَوْكِيلِهِ بِخُصُومَتِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي سَلَامَةِ الْمَقْبُوضِ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مِنْهُ فَكَانَ الْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ دَيْنٍ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ الْمُودَعِ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سَلَامَةِ الْبَاقِي لِلْآخَرِ بَلْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ لِلْعَبْدِ وَلِشَرِيكِهِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ هُوَ مُقِرٌّ بِهَا فَغَابَ الْغَرِيمُ وَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ قَبَضَ حَقَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ فَجَحَدَ الشَّرِيكُ وَوَكَّلَ مَوْلَى الْعَبْدِ بِخُصُومَةِ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ وَكَّلَ الشَّرِيكُ بَعْضَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّ الشَّرِيكَ قَدْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ مِنْ الْغَرِيمِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهِ إلَى نَفْسِهِ مَالًا فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ عَلَى الشَّرِيكِ سَلَّمَ لِلْعَبْدِ مَا قَبَضَهُ مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ نَصِيبِهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِمَوْلَاهُ وَلِغُرَمَائِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِيهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الطَّعْنِ، لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِيفَاءَ فَوَكَّلَ الْعَبْدُ بِالْخُصُومَةِ لِمَوْلَاهُ أَوْ بَعْضِ غُرَمَائِهِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى الْعَبْدِ بِالِاسْتِيفَاءِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُقِرِّ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 154 بَلْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ وَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِيهِ وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ عِنْدَ الْقَاضِي كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ فَهَذَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِذَا حَضَرَ الْغَرِيمُ وَادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ قَبَضَ مَا قَالَ الْوَكِيلُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ مَعَ الشَّرِيكِ لَا مَعَ الْغُرَمَاءِ فَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ لَا يَكُونُ نَافِذًا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ لِضَرُورَةِ أَنَّهُ مِنْ جَوَابِ الْخَصْمِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ خَصْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَرِيمِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الْمَوْلَى فَيُصَدِّقُ عَلَى عَبْدِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ الْآنَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ الْخَصْمِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي ذَلِكَ الْغَرِيمُ وَالْخَصْمُ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ التَّوْكِيلِ لَوْ أَقَرَّ بِهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَازَ إقْرَارُهُ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَصِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ الْغَرِيمُ قَدْ بَرِئَ مِنْ نِصْفِ حَقِّ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَرِيمِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الشَّرِيكُ بِنِصْفِ حَقِّهِ عَلَى الْغَرِيمِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَمَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ شَيْءٍ اقْتَسَمَاهُ أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا عَلَى الْغَرِيمِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَلْفٌ فَادَّعَى الْعَبْدُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَوْلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ فَالتَّوْكِيلُ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُ الْمَوْلَى بِهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ فِي إقْرَارِهِ مَنْفَعَةَ الْمَوْلَى وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ عَبْدِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَسَلَامَةُ مَالِيَّتِهِ لِلْمَوْلَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَرِيمُ الْآخَرُ فَادَّعَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى شَرِيكِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى بِهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ غَرِيمًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْإِقْرَارِ أَظْهَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مُوَكِّلُهُ مِنْ مُزَاحَمَتِهِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَكَّلَ صَاحِبَهُ بِخُصُومَةِ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ فَادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَبْدِ حِصَّتَهُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ وَيَبْطُلُ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ، ثُمَّ مَا أَخَذَ الشَّرِيكُ الْوَكِيلُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ أَخَذَ صَاحِبُهُ مِنْهُ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِي بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ لَا فِي سَلَامَةِ الْبَاقِي لَهُ إذْ هُوَ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ غَرِيمًا لِلْعَبْدِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ شَرِكَةٌ فِي الْمَالِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِيمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَهُوَ دَفْعُ مُزَاحَمَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا وَجَبَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى عَبْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الجزء: 25 ¦ الصفحة: 155 صَاحِبِهِ أَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْنِ فَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ وَوَكَّلَ بِذَلِكَ مَوْلَى الْعَبْدِ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ غَرِيمًا لِلْعَبْدِ بِخُصُومَتِهِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ قَبَضَ مَا ادَّعَاهُ شَرِيكُهُ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ وَلَا إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنْ كَانَ هُوَ الْوَكِيلُ فَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُبْرِئُ نَفْسَهُ وَالْمَوْلَى يُبْرِئُ بِهِ عَبْدَهُ وَالْغَرِيمُ يُزِيلُ بِهِ مُزَاحَمَةَ الْمُوَكَّلِ مَعَهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَازَ إقْرَارُ الْمَوْلَى أَوْ الْغَرِيمِ بِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ مَا قَبَضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُبْرِئُ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُوَكِّلَ فَأَقَرَّ وَكِيلُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا جَازَ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُدَّعَى وَكَانَ حَقُّهُمَا عَلَى الْعَبْدِ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْوَكِيلِ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ وَهُوَ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ شِرَاءِ الْمَأْذُونِ وَبَيْعِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) شِرَاءُ الْمَأْذُونِ وَبَيْعُهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَائِزٌ حَالًّا كَانَ أَوْ إلَى أَجَلٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْعًا بِثَمَنٍ أَوْ مُقَابَضَةَ عَرَضٍ بِعَرَضٍ أَوْ سَلَمًا؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَاتِ، وَالتَّاجِرُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا يَعْنِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ وَالْإِسْلَامُ إلَى الْغَيْرِ وَقَبُولُ السَّلَمِ مِنْ الْغَيْرِ وَالْمُحَابَاةُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَمَا لَا يَقْدِرُ التَّاجِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِظْهَارِ الْمُسَامَحَةِ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ. فَأَمَّا تَصَرُّفُهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَجَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْعًا كَانَ أَوْ شِرَاءً سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَتَصَرَّفُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَطَرِيقُهُمَا أَنَّ الْمُحَابَاةَ الْفَاحِشَةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ وَأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ كَالْهِبَةِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْهِبَةَ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ ضِدٌّ؛ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتِّجَارَةِ فَالْمَقْصُودُ بِالتِّجَارَةِ الِاسْتِرْبَاحُ دُونَ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِنَّمَا لَمْ يَنْفُذْ هَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّبِيِّ فَإِذْنُهُمَا لَهُ إنَّمَا يَصِحُّ لِتَوَفُّرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ فَحَالُهُ فِيمَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا قَبْلَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِي وُجُوهِ التِّجَارَاتِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 156 بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ تِجَارَةٌ فَإِنَّ التِّجَارَةَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ الْمَحَلِّ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِي الْكُلِّ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَبِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْوِلَايَةُ فِي التِّجَارَةِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ الْأَحْسَنِ وَالْأَصْلَحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّصَرُّفُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، ثُمَّ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، وَالْعَقْدُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا وَرُبَّمَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُهَاجِرِينَ فَيُسَامِحُونَ فِي التَّصَرُّفِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ الرِّبْحِ فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ سَوَاءً، وَبِأَنْ كَانَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ لِعَدَمِ الرِّضَى بِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَفِي تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ سَوَّى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْغَبْنُ أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْآمِرُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَحَدٍ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً. وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمَأْذُونِ جَارِيَةٌ فَبَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ لِغُلَامٍ وَسَلَّمَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْغُلَامَ حَتَّى ذَهَبَتْ عَيْنُ الْجَارِيَةِ أَوْ شَلَّتْ يَدُهَا، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ فَالْمَأْذُونُ بِالْجَارِيَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَارِيَتَهُ وَلَا يَتْبَعُ الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْتَقَضَ بِمَوْتِ الْغُلَامِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمِلْكِهِ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلْجَارِيَةِ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا كَمَا قَبَضَهَا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ فَيَثْبُتُ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي نُقْصَانُهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْأَوْصَافِ وَالْفَائِتُ وَصْفٌ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ فَاتَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ لَمْ يَتْبَعْ الْبَائِعَ بِشَيْءٍ مِنْ النُّقْصَانِ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ فَكَذَلِكَ إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِذَا أَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا فَقَدْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ رَدِّهَا مَعَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا حِينَ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْقَبْضِ فَيَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا عِنْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَغْصُوبَةِ، وَلَوْ كَانَ حَدَثَ لَهَا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 157 الْغُلَامِ أَخَذَ الْمَأْذُونُ جَارِيَتَهُ وَنُقْصَانَهَا؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْغُلَامِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ مَقْبُوضَةً بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِي الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِهِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالْأَوْصَافِ تَفَرَّدَ بِالْقَبْضِ وَالتَّنَاوُلِ فَتَفَرَّدَ بِضَمَانِ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْعَقْدُ صَحِيحٌ وَضَمَانُ الْمَقْبُوضِ بِمَا يُقَابِلُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ وَالْأَوْصَافِ لَا تُفْرَدُ بِالْعَقْدِ فَلَا تُفْرَدُ بِضَمَانِهِ فَإِنْ كَانَ حَدَثَ بِهَا عَيْبَانِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ هَلَاكِ الْغُلَامِ وَالْآخَرُ بَعْدَ هَلَاكِهِ، فَإِنْ شَاءَ الْمَأْذُونُ أَخَذَهَا وَنُقْصَانَ عَيْبِهَا الْآخَرَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ يَوْمَ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فِي نُقْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَنَيْنِ كَأَنَّهُ لَا عَيْبَ سِوَاهُ. وَلَوْ لَمْ يَحْدُثْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهَا أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ أَوْ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، ثُمَّ هَلَكَ الْغُلَامُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْذُونِ إلَّا قِيمَتُهَا يَوْمَ دَفْعِهَا؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِيهَا زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ عُقْرٍ أَوْ أَرْشٍ أَوْ وَلَدٍ، وَذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُنِعَ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهَا لِمَعْنَى الرِّبَا حَقٌّ لِلشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِضَا الْغَيْرِ وَيَكُونُ حَقُّهُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَيَجِبُ قِيمَتُهَا يَوْمَ دَفْعِهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْغُلَامِ أَخَذَ الْمَأْذُونُ جَارِيَتَهُ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْغُلَامِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَكَانَتْ كَالْمَقْبُوضَةِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبَةِ فِي أَنَّهَا تُرَدُّ بِزَوَائِدِهَا الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَفِي أَرْشِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ يَتَخَيَّرُ الْعَبْدُ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ الْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ ذَلِكَ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ بِهِ الْجَانِي وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ هَذَا التَّفْرِيعَ فِي الْبَيْعِ إذَا كَانَ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ فَهُوَ أَيْضًا فِيمَا إذَا فَسَدَ الْعَقْدُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ، ثُمَّ هَلَكَ الْغُلَامُ فَلَمْ يُقْضَ لَهُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ حَتَّى هَلَكَ الْوَلَدُ فَيَقُولُ الْوَلَدُ حِينَ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ فِي الْجَارِيَةِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ انْتَقَصَتْ بِعَيْبٍ حَادِثٍ فِيهَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ قَبْلَ هَلَاكِ الْغُلَامِ فَيَتَخَيَّرُ الْمَأْذُونُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ دَفْعِهَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْجَارِيَةِ دَابَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ وَأَخَذَ الْأُمَّ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ نُقْصَانٌ فِي بَنِي آدَمَ دُونَ الدَّوَابِّ وَالْوَلَدُ إذَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ لِلْغُلَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأُمَّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهَا كَمَا قَبَضَ فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَ الْغُلَامُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَلَا يَرُدُّ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْوَلَدِ وَالْعِتْقُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالنَّهْيُ يَكُونُ مُتَقَرِّرًا؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 158 وَلَاؤُهُ لَهُ وَمَعَ سَلَامَةِ الْوَلَدِ لَهُ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّ الْجَارِيَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَأَرَادَ الْمَأْذُونُ جَارِيَتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ تَرَكَ وَلَدًا آخَرَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَقَاءَ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ بَقَاءِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ جُزْءٌ مِنْ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَلَدًا آخَرَ وَلَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ إنْ شَاءَ وَلَا يَأْخُذَ نُقْصَانًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَاتَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّ الْعِتْقَ أَنْهَى لِلْمِلْكِ قُلْنَا الْمُنْهَى يَكُونُ مُتَقَرِّرًا إلَى أَنْ انْتَهَى فَلَا يَكُونُ قَائِمًا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَا يَكُونُ بَاقِيًا بَعْدَهُ، وَالْمَانِعُ مِنْ رَدِّ الْجَارِيَةِ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ الزِّيَادَةِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ رَدِّهَا، وَذَلِكَ يُوجَدُ عِنْدَ بَقَاءِ الْوَلَاءِ عَلَى الْوَلَدِ وَلَا يُوجَدُ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ لَا إلَى خَلَفٍ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَحَوَّلَ إلَى قِيمَتِهَا بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ قَبْضِهَا قَطَعَ يَدَهَا أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ الْمَأْذُونُ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ يَوْمَ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ تَامٍّ فَكَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي كَحُدُوثِهَا بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهُنَاكَ يَتَخَيَّرُ الْمَأْذُونُ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَهَا لَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا فَهَذَا كَذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ وَطْءَ الثَّيِّبِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ حَتَّى لَا يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ بَعْدَهُ إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ كَمَا لَوْ كَانَتْ بِكْرًا فَهَهُنَا كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ بَهِيمَةً فَوَلَدَتْ فَقَتَلَ الْمُشْتَرِي وَلَدَهَا وَلَمْ تُنْقِصْهَا الْوِلَادَةُ شَيْئًا فَالْمَأْذُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ دَفْعِهَا إلَيْهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ الْمُشْتَرِي اسْتَفَادَ هَهُنَا بِمِلْكِ الْوَلَدِ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمَأْذُونِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْوَلِيُّ فَهَلَكَ فَإِنَّ هُنَاكَ بِمِلْكِهِ مَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بَاطِلٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَقَتْلُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ الْوَلَدُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَإِتْلَافُ وَلَدِهَا كَإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمَأْذُونِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَابِسٌ لِذَلِكَ الْجُزْءِ حُكْمًا بِالْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ إذَا رَضِيَ الْمَأْذُونُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 159 بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بَقَاءُ الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ رَدِّهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ هَلَاكِ الْغُلَامِ فَإِنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ وَعُقْرَهَا وَأَرْشَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا إذَا قُتِلَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ هَلَاكِ الْغُلَامِ كَالْمَقْبُوضَةِ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ، وَفِي إيجَابِ الْعُقْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْحُرِّ بِوَطْءِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي الْعُقْرِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَادَتْ فِي بَدَنِهَا قَبْلَ هَلَاكِ الْغُلَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَخَذَهَا الْمَأْذُونُ بِزِيَادَتِهَا أَمَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْغُلَامِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهَا كَالْمَقْبُوضَةِ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ وَأَمَّا قَبْلَ هَلَاكِ الْغُلَامِ فَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ حَيْثُ نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُخَالِفِ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ مَا ذَكَرَهُ هُنَا فَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَبَعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحَقُّ الْمَأْذُونِ فِي اسْتِرْدَادِهَا عِنْدَ هَلَاكِ الْغُلَامِ حَقٌّ قَوِيٌّ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ وَلَكِنَّ الْمَأْذُونَ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَرَدَّهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِ حُكْمٍ أَوْ رَدَّهُ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ فَالرَّدُّ فِي هَذَا وَالْمَوْتُ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فِي الْغُلَامِ بِالرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْغُلَامِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَقَبَضَهُ وَدَفَعَ الْجَارِيَةَ فَذَهَبَ عَيْنُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ أَوْ وَطِئَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ إنَّ الْمَأْذُونَ رَدَّ الْغُلَامَ بِخِيَارِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا وَعُقْرَهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ عَيْنُهَا ذَهَبَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ فِعْلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، وَإِنْ ذَهَبَتْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ شَاءَ مِنْ الْجَانِي وَإِنْ شَاءَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ الْخِيَارَ فِيمَا اشْتَرَى اشْتِرَاطٌ فِيمَا بَاعَ وَخِيَارُهُ فِيمَا بَاعَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَالْمَقْبُوضُ يَتْبَعُ فِيهِ خِيَارَ الْبَائِعِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا؛ فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي وَقَدْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا حَالَّةً إنْ شَاءَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ قَتْلِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ الْمَأْذُونُ رَجَعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبَةِ هَهُنَا دُونَ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَمَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ لَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ بَائِعِهَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَالْمَغْصُوبَةِ، ثُمَّ إنْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 160 اخْتَارَ الْمَأْذُونُ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهَا بِالضَّمَانِ فَجِنَايَةُ الْقَاتِلِ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِقِيمَتِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ فَإِنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ الْقَتْلِ، وَسَوَاءٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَا وَصَفْنَا قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَأْذُونُ نَقْضَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِنَفْسِهَا مَمْلُوكَةٌ لِبَائِعِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَعْتَقَ الْغُلَامَ الَّذِي بَاعَ أَوْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ الَّتِي اشْتَرَى لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ مَا دَامَ خِيَارُ الْمَأْذُونِ بَاقِيًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَأْذُونِ فِيمَا بَاعَ خِيَارُ الْبَائِعِ فَيُمْنَعُ دُخُولُهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَخِيَارُهُ فِيمَا اشْتَرَى خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ خَارِجًا مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَوْ قَبَضَ لِكَوْنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا فِي جَانِبِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً لِرَجُلٍ بِغُلَامٍ فَقَبَضَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَدْفَعْ الْغُلَامَ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْجَارِيَةِ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْجَارِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فِيهَا فِي الِابْتِدَاءِ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهَا فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِيهَا بِهَلَاكِ الْغُلَامِ يَبْقَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِبَقَاءِ قَبْضِهِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا وَلَا سَبِيلَ لِلْمَأْذُونِ عَلَى الْقَاتِلِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ صَادَفَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي لَا مِلْكَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَقْبِضْ الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَأْذُونِ حَتَّى أَعْتَقَهَا فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ مَوْتِ الْغُلَامِ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَعِتْقُهَا بَاطِلٌ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهَا بِمَوْتِ الْغُلَامِ، وَالْمُشْتَرَاةُ شِرَاءً فَاسِدًا لَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ قَبَضَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَدْفَعْ الْغُلَامَ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَرَدَّهُ الْمَأْذُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَوْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِحُكْمٍ أَوْ رَدَّهُ بِالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا الْعَقْدَ انْفَسَخَ فِيهِمَا جَمِيعًا أَمَّا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ فِي الْجَارِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَعَادَتْ هِيَ إلَى مِلْكِ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ الْغُلَامُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدَ فِي الْجَارِيَةِ قَدْ فَسَدَ وَلَمْ يُنْتَقَضْ بِغَيْرِ نَقْضٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ اشْتَرَاهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْهَالِكِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فِيهَا وَيَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا مَا لَمْ يُنْتَقَضْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ بَقِيَتْ هِيَ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فِيهَا فَتُعْتَقُ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 161 [بَابُ هِبَةِ الْمَأْذُونِ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَدَفَعَهَا، ثُمَّ وَهَبَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ بَعْضَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ حَطَّ عَنْهُ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَبَرُّعٌ كَالتَّمْلِيكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ وَهَبَ بَعْضَ الثَّمَنِ أَوْ حَطَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِعَيْبٍ طَعَنَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، ثُمَّ هُوَ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْإِسْقَاطِ عِوَضٌ وَهُوَ إسْقَاطُ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ وَهَذَا إسْقَاطٌ بِحِصَّةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الثَّمَنِ وَعَجْزُهُ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ الْجُزْءِ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي عِوَضِهِ فَكَانَ هَذَا إسْقَاطًا بِعِوَضٍ، وَلَوْ حَطُّوا عَنْهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ إسْقَاطًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ حَطُّ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ بَرٌّ مُبْتَدَأٌ وَحَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَقْدٌ بِمَا بَقِيَ فَيَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ مُفِيدًا. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا، ثُمَّ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْعَبْدِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُتَبَرِّعُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهُ لِلْمَوْلَى وَقَبِلَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ هِبَتِهِ لِلْعَبْدِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُ الْعَبْدَ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ وَهِبَةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورِثِ بِمَنْزِلَةِ هِبَتِهِ مِنْ الْمُورِثِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْمُورِثِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ الْمَوْلَى هَهُنَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا الْعَبْدُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْهِبَةُ بَاطِلَةً وَالْمَالُ عَلَى الْعَبْدِ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْهِبَةِ امْتِنَاعٌ عَنْ التَّمَلُّكِ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ وَهَذَا الِامْتِنَاعُ صَحِيحٌ مِنْ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ جَمِيعًا بِخِلَافِ هِبَةِ شَيْءٍ مِنْ أَكْسَابِهِ ابْتِدَاءً فَإِنْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْعَبْدِ أَوْ لِمَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا رَدَّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمَقْصُودُ بِالرَّدِّ سَلَامَةُ الثَّمَنِ لَهُ، وَقَدْ سُلِّمَ لَهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ عِنْدَ الرَّدِّ شَيْئًا آخَرَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرُدُّهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَرُدُّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ ثَمَنٍ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا بِعَيْنِهِ فَوَهَبَ الْمَأْذُونُ الْعَرَضَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ إذَا سَاعَدَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَبِيعِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 162 قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ وَالْفَسْخُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَلَفْظُ الْهِبَةِ فِيهِ تَوَسُّعٌ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْفَسْخِ إذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي الْهِبَةَ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يُفْرَدُ بِالْفَسْخِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَهَبَ الْجَارِيَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْعَبْدُ فَقَبِلَهَا الْعَبْدُ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَإِنْ وَهَبَهَا لِلْمَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَهَذَا نَقْضٌ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِطَرِيقِ النَّقْضِ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى وَقَبَضَهَا فَهَذَا لَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَ بَيْعِهِ وَلَكِنَّ هَذِهِ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ الْمَوْلَى وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَصِحُّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَصِحُّ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَسْلِيطٌ عَلَى الْقَبْضِ، وَالْقَابِضُ نَائِبٌ عَنْ الْمُشْتَرِي وَهُوَ إنَّمَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَلَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ وَهَبَ الْعَبْدُ الْعَرَضَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَقَبِلَهُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَكُونُ فَسْخًا فَإِنَّ كَوْنَهُ فَسْخًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ، وَلَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ لِلْمَأْذُونِ أَوْ لِمَوْلَاهُ جَازَتْ الْهِبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ الْمُبْتَدَأِ فَإِنْ وَجَدَ الْمَأْذُونُ بِالْعَرَضِ عَيْبًا وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ رَدَّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ عِوَضُ الْعَرَضِ قَدْ عَادَتْ بِعَيْنِهَا إلَى مَا كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْهِبَةُ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقَدْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ لِلْعَبْدِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَوْ رَدَّ الْعَرَضَ رَدَّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَهَبَهَا لِمَوْلَاهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْعَرَضَ بِالْعَيْبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ وَهَبَهَا الْمُشْتَرِي لِأَجْنَبِيٍّ كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرُدَّ الْعَرَضَ بِالْعَيْبِ وَعِنْدَ الرَّدِّ يَجِبُ عَلَى بَائِعِ الْعَرَضِ رَدُّ الْجَارِيَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً بِعَرَضٍ بِعَيْنِهِ وَتَقَابَضَا فَحَدَثَ فِي الْجَارِيَةِ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ أَوْ مِنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ فِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَوْ وُطِئَتْ وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ، ثُمَّ وَهَبَهَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 163 الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ أَوْ لِمَوْلَاهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَأْذُونُ بِالْعَرَضِ عَيْبًا رَدَّهُ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ هَهُنَا قَبْلَ الرَّدِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَهَبْ الْجَارِيَةَ حَتَّى رَدَّ الْعَرَضَ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَلَا يَسْتَرِدَّ الْجَارِيَةَ إمَّا لِلزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي يَدِ مُشْتَرِيهَا أَوْ لِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِيهَا فَإِذَا كَانَ حَقُّهُ هَهُنَا فِي اسْتِرْدَادِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لَا يَبْطُلُ بِعَوْدِ الْجَارِيَةِ بِالْهِبَةِ وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَرَضِ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ بِغُلَامٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَهَبَ الْبَائِعُ بِالْأَلْفِ وَالْغُلَامِ الْغُلَامَ لِلْمَأْذُونِ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَأْذُونُ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا بِمُقَابَلَةِ الْغُلَامِ وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ الْغُلَامُ بِعَيْنِهِ بِالْهِبَةِ، فَلَوْ رَدَّ ذَلِكَ النِّصْفَ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ تَعَذَّرَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ بِتَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ لِلْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْهِبَةُ لِلْمَوْلَى كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْجَارِيَةَ بِالْعَيْبِ وَيَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْهِبَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنْ تَصَرَّفَ الْعَبْدُ كَانَ لِغُرَمَائِهِ دُونَ مَوْلَاهُ إنْ أَخَذَ ذَلِكَ ثُمَّ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ أَوْ لِلْمَوْلَى أَوْ وَرَثَةِ الْمَوْلَى مِنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَرُدَّ عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ السَّبَبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَخْذَ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ وَأَنَّ قِيمَةَ الْغُلَامِ مَعَ الْأَلْفِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَهُ يَوْمئِذٍ وَالْعَارِضُ مِنْ السَّبَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا انْتَهَى حُكْمُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْإِقَالَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْمَأْذُونُ فِي إقَالَةِ الْبَيْعِ كَالْحُرِّ لِأَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ أَقَالَهُ الْبَيْعَ فِيهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَأْذُونَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ التَّصَرُّفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِحَقِّ الْمَوْلَى أَوْ لِلْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 164 الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَالْإِقَالَةُ مِنْ الْمَأْذُونِ بَعْدَ حَجْرِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الْحَجْرِ. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى، ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى أَقَالَ الْبَيْعَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمَأْذُونُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ فَمَا صَنَعَ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ خَالِصُ حَقِّهِ وَالْمَأْذُونُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ كَانَ مُتَصَرِّفًا لَهُ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَوْمئِذٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ لَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ قَائِمًا عِنْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَوْلَى هَذَا التَّصَرُّفُ كَمَا لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ قَائِمًا يَوْمَئِذٍ صَحَّ مِنْهُ لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَ الْإِقَالَةِ فَقَضَى الْمَوْلَى الدَّيْنَ أَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ مِنْ دَيْنِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْقَاضِي الْإِقَالَةَ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ ثُمَّ سَقَطَ دَيْنُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْإِقَالَةَ، ثُمَّ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ الدَّيْنِ فَالْفَسْخُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِفَسْخِ الْإِقَالَةِ وَهُوَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ قَائِمًا حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْفَسْخُ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ بَعْدَهُ كَمَا إذَا زَالَ الْعَيْبُ بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْفَسْخِ. وَإِذَا بَاعَ عَرَضًا بِثَمَنٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْعَرَضُ بَاقٍ وَالثَّمَنُ هَالِكٌ قَبْلَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَالْإِقَالَةُ مَاضِيَةٌ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا وَالْعَرَضُ هَالِكًا قَبْلَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَذِهِ فُصُولٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْبُيُوعِ فِي بَيْعِ الْعَرَضِ بِالثَّمَنِ، وَفِي بَيْعِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَفِي السَّلَمِ، وَفِي بَيْعِ النُّقُودِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَمَا فِيهَا مِنْ الْفُرُوقِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا فِي بَيَانِهَا فِي الْبُيُوعِ، فَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً بِأَلْفٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهَا أَوْ وَطِئَهَا أَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ وَلَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْإِقَالَةِ عَلَى أَنْ تَعُودَ إلَيْهِ كَمَا خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ غَيْرَ مَعِيبَةٍ وَالْآنَ تَعُودُ إلَيْهِ مَعِيبَةً فَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَحَالُ الْبَائِعِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ كَحَالِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ إذَا وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثَيِّبًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ وَهَهُنَا قَالَ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الْإِقَالَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمُشْتَرَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِيبِ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي - حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا بَعْدَ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ وَطْءُ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا فِي حُكْمِ الْإِقَالَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِيبِ؛ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 165 الْعَبْدُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي زَمَانًا، ثُمَّ يَقْبَلُ الْعَقْدَ فِيهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، فَالْمُشْتَرِي هُنَاكَ يَرْغَبُ فِيهَا بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ وَطِئَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاطِئُ أَوْ الْقَاطِعُ أَجْنَبِيًّا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ أَوْ الْأَرْشُ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ وَالْعَبْدُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَسْخًا كَانَ بَاطِلًا وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَذَلِكَ وَبَعْدَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ فَسْخًا، وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْإِقَالَةُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ تَكُونُ فَسْخًا، فَأَمَّا بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْرِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ تَكُونُ بَيْعًا مُسْتَقْبَلًا وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ إنَّمَا يَكُونُ فَسْخًا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْفَسْخِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِذَلِكَ كَانَ بَيْعًا مُبْتَدَأً وَوُجُوهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَالْآنَ نَقُولُ الْعُقْرُ وَالْأَرْشُ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ وَهِيَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ بَعْدَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْفَسْخِ فَجَوَّزَ الْإِقَالَةَ هَهُنَا بِطَرِيقِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا وَلَمْ يَدْفَعْ الثَّمَنَ حَتَّى وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْعَبْدِ، ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا هَهُنَا فَسْخًا فَإِنَّهُ بِالْفَسْخِ يَرُدُّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَهَبْ الثَّمَنَ مِنْهُ كَانَ الْفَسْخُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حُرًّا كَانَ الْفَسْخُ صَحِيحًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ وَالْإِقَالَةَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ صَحَّتْ كَانَ فَسْخًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ رَدِّ الْجَارِيَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهَا ابْتِدَاءً مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَيَأْخُذُ الْعَبْدُ الْأَلْفَ مِنْ الْبَائِعِ وَيَدْفَعُ إلَيْهِ الْجَارِيَةَ، وَلَوْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِجَارِيَةٍ أُخْرَى أَوْ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَاطِلَةً فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ عِنْدَهُ وَمَا سُمِّيَ فِيهَا مِنْ الثَّمَنِ بَاطِلٌ فَلَوْ رَدَّهَا رَدَّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هَذَا جَائِزٌ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْإِقَالَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ تَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً فَكَأَنَّهُ بَاعَهَا ابْتِدَاءً بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ فَيَكُونُ صَحِيحًا. وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ لَمْ يَقْبِضْ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 166 الْجَارِيَةَ حَتَّى وَهَبَ الْبَائِعُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُمَا بَيْعًا فَيَكُونُ فَسْخًا، فَلَوْ صَحَّحْنَاهَا لَكَانَ مُخْرِجًا إيَّاهَا مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَالَهُ بِثَمَنٍ آخَرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الْفُصُولِ سَوَاءً، وَلَوْ لَمْ يَتَقَايَلَا الْبَيْعَ وَلَكِنَّهُ رَأَى بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَلَمْ يَرْضَ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ رَآهَا فَلَمَّا رَآهَا لَمْ يَرْضَ بِهَا فَنَقَضَ الْبَيْعَ وَقَدْ كَانَ الْبَائِعُ وَهَبَ لَهُ الثَّمَنَ فَقَبَضَهُ بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ فِي الرَّدِّ إخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ حِينَ اشْتَرَاهَا اشْتَرَطَ فِيهَا الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ وَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، ثُمَّ رَدَّهَا بِالْخِيَارِ فَرَدُّهُ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ بِهَذَا الرَّدِّ لَا يُخْرِجُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ كَالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ الْهِبَةِ وَعِنْدَهُمَا السِّلْعَةُ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهَذَا الرَّدُّ إخْرَاجٌ لَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمُكَاتَبُ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا كَالْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِكَسْبِهِ كَالْمَأْذُونِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَتَبَرَّعُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَمِنْ الْمَأْذُونِ يَصِحُّ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ تَقَايَلَا فَلَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدُ الْجَارِيَةَ حَتَّى قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهَا أَوْ وَطِئَهَا فَنَقَصَهَا الْوَطْءُ كَانَ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ لِلتَّغْيِيرِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَلَوْ اخْتَارَ أَخْذَهَا أَتْبَعَ الْوَاطِئَ أَوْ الْجَانِيَ بِالْعُقْرِ أَوْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى مِلْكِهِ فَفِعْلُ الْوَاطِئِ أَوْ الْجَانِي حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْعُقْرُ وَالْأَرْشُ لَهُ، أَوْ إنْ نَقَضَ الْإِقَالَةَ فَالْعُقْرُ وَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِقَالَةِ وَصَارَ الْحَالُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ هَهُنَا كَالْجَانِي بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعَةُ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ وَنَقَصَهَا الْوَطْءُ، أَوْ جَنَى عَلَيْهَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَتْبَعَ الْجَانِيَ أَوْ الْوَاطِئَ بِالْعُقْرِ وَالْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَالْعُقْرُ وَالْأَرْشُ لِلْبَائِعِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَلْفِ عَرَضٌ بِعَيْنِهِ كَانَ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَأَتْبَعَ الْجَانِيَ أَوْ الْوَاطِئَ بِالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي يَوْمَ قَبَضَهَا وَسَلَّمَ لَهُ الْجَارِيَةَ وَأَرْشَهَا وَعُقْرَهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ هَهُنَا لَا تَبْطُلُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَلَكَتْ فَإِنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ هَلَاكَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ كَمَا لَا يُمْنَعُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 167 بَقَاءُ الْإِقَالَةِ لَا يُمْنَعُ ابْتِدَاءُ الْإِقَالَةِ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ وَإِذَا بَقِيَتْ الْإِقَالَةُ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ عَيْنِ الْجَارِيَةِ لِلتَّغْيِيرِ الْحَاصِلِ فِيهَا فِي ضَمَانِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبَضَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَبِلَهَا الْجَانِي كَانَ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَتْبَعَ عَاقِلَةَ الْجَانِي بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِقِيمَتِهَا حَالَّةً؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَمْ تَبْطُلْ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهَا فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا، وَهَذِهِ الْقِيمَةُ ضَمَانُ الْعَقْدِ فَتَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي بِقِيمَتِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى أَصْلِ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَلَاكَ الْجَارِيَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِقَالَةِ كَمَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا، وَلَوْ كَانَ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مِنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْإِقَالَةِ يُخَيَّرُ الْعَبْدُ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهَا كَمَا قَبَضَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَرَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ مَضْمُونَةٌ بِنَفْسِهَا حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ يَجِبُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا فَتَكُونُ كَالْمَغْصُوبَةِ فَيَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نُقْصَانَ الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتْبَعَ الْبَائِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الْقِيمَةِ إذَا أَرَادَ أَخْذَهَا وَلَكِنْ يُسْقِطُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِيبَ حَصَلَ بِقَوْلِ الْبَائِعِ وَالْأَوْصَافُ بِالتَّنَاوُلِ تَصِيرُ مَقْصُودَةً، وَلَوْ كَانَ الْعَيْبُ أَحْدَثَهُ فِيهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِقَالَةِ، ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ عَلِمَ الْعَبْدُ بِالْعَيْبِ تَخَيَّرَ لِمَكَانِ التَّغْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مَعِيبَةً وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي حَصَلَ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَهُوَ وَمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَفِعْلُ الْمُشْتَرِي هُنَاكَ لَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِقَالَةِ عَادَتْ إلَى الْعَبْدِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَلَوْ كَانَ الْعَيْبُ أَحْدَثَهُ فِيهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ وَلَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْجَارِيَةِ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبَضَهَا؛ لِأَنَّهُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِيهَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ وَمَوْتُهَا قَبْلَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَيَكُونُ حَقُّ الْعَبْدِ فِي قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبَضَهَا لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ فِي قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ. وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ تَقَايَلَا وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ مُنْتَقَضَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْإِقَالَةِ كَالْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّرْفِ أَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْجَدِيدِ فِي حُكْمِ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَالرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 168 الْإِقَالَةِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ فُسِخَ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ التَّقَابُضِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ بِجَارِيَةٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ تَقَايَلَا وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهِ فَلَهُمَا أَنْ يَتَقَابَضَا الْجَارِيَتَيْنِ وَوَلَدَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَادَتْ بِالْإِقَالَةِ إلَى مِلْكِ مَنْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ وَلَدَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ وَلَدِهَا كَالْمَبِيعَةِ إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَأَرَادَا أَخْذَ الْوَلَدَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ الْوَلَدَ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِينَ وَلَدَتْ فَالْأُخْرَى تَنْقَسِمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَتْ نِصْفَيْنِ وَقَدْ هَلَكَتْ الْأَمَتَانِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ الْوَلَدَ الَّذِي فِي يَدِهِ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ أُمِّهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ خَمْسَمِائَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَيَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْأُمِّ الَّتِي هَلَكَتْ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُمِّ وَعَلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ أَثْلَاثًا فَبَعْدَ هَلَاكِ الْأَمَتَيْنِ إنَّمَا تَبْقَى الْإِقَالَةُ فِيمَا هُوَ حِصَّةُ الْوَلَدِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَحِصَّةُ وَلَدِ هَذِهِ مِنْ الْأُخْرَى الثُّلُثُ فَعَرَفْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْإِقَالَةِ فِي ثُلُثِ الْأُخْرَى فَيَرْجِعُ بِثُلُثِ قِيمَتِهَا، فَأَمَّا فِي ثُلُثَيْهِمَا فَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ بِهَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَالِانْقِسَامُ هُنَاكَ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ الْقِيمَتَيْنِ فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ بِبَقَاءِ الْإِقَالَةِ فِي نِصْفِ الْأُمِّ الْأُخْرَى حِصَّةَ هَذَا الْوَلَدِ فِيهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ وَبَقِيَتْ الْأَمَتَانِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَارِيَةَ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ وَمَاتَ كَذَلِكَ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ هَلَكَتْ الْأَمَتَانِ وَأَخَذَا الْوَلَدَيْنِ فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْوَلَدُ الْحَيُّ يَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ قِيمَةِ الْأُمِّ الَّتِي هَلَكَتْ فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِقَالَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَلَدِ الْحَيِّ وَإِنَّمَا يَبْقَى فِيمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى وَحِصَّةُ ثُلُثِ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى؛ فَلِهَذَا رَجَعَ بِثُلُثِ قِيمَتِهَا، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ كُلُّهَا بِهَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الرَّدِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ تَأْخِيرِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الدَّيْنَ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا وَجَبَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَصْبٍ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 169 أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَخَّرَهُ الْعَبْدُ عَنْهُ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يُسْقِطُ الدَّيْنَ وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ، وَلَوْ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ زَمَانًا مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَبَرِّعًا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ سَنَةً، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَخَّرَ ثَمَنَ بَعْضِهِ وَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ كَانَ الْحَطُّ بَاطِلًا وَالتَّأْخِيرُ جَائِزًا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ لَهُ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ فَتَأْجِيلُهُ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ. وَلَوْ وَجَبَ لِلْمَأْذُونِ وَلِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ فَأَخَّرَ الْعَبْدُ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَالتَّأْخِيرُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْحُرَّيْنِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ مَعَ الْحُرِّ وَبَيَّنَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا الَّذِي لَمْ يُؤَخِّرْ الدَّيْنَ يَأْخُذُ حِصَّتَهُ فَيَكُونُ لَهُ خَاصَّةً فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ شَرِيكِهِ نِصْفَ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ دَيْنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَبِالتَّأْجِيلِ لَمْ تَبْطُلْ الشَّرِكَةُ فَإِنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنَّ الْأَجَلَ كَانَ مَانِعًا مِنْ مُشَارَكَةِ الْقَابِضِ فَإِذَا ارْتَفَعَ هَذَا الْمَانِعُ كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، ثُمَّ يَتْبَعَانِ الْغَرِيمَ بِالْبَاقِي وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ الْمَقْبُوضَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْغَرِيمِ بِنَصِيبِهِ فِي الدَّيْنِ، وَلَوْ اقْتَضَى الْعَبْدُ شَيْئًا قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ سَقَطَ فِيمَا اقْتَضَاهُ الْعَبْدُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ وَلَا مَانِعَ لِلشَّرِيكِ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْنِ حَالٌّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مُؤَجَّلًا فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ قَبْلَ حَلِّهِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ فَهُوَ فِي مِقْدَارِ مَا أَوْفَى قَبْلَ حَلِّهِ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْأَجَلِ فَسَقَطَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا وَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْحُرِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ حَالًّا فَلِلَّذِي لَمْ يَقْبِضْ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِي الْمَقْبُوضِ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَأَجَّلَهُ الْعَبْدُ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْغَرِيمُ الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلَهُ الْعَبْدَ بِرِضًى مِنْهُ قَبْلَ مُضِيِّهِ فَقَدْ بَطَلَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْغَرِيمِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا قَبَضَ شَرِيكُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّأْجِيلِ - حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا سُقُوطُ حَقِّهِ عَنْ مُشَارَكَةِ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ وَالْآخَرُ سُقُوطُ حَقِّهِ عَنْ مُطَالَبَةِ الْمَدْيُونِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ فَإِسْقَاطُ الْغَرِيمِ الْأَجَلَ عَامِلٌ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ فِي حَقِّ الْقَابِضِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ كَالْقَائِمِ، وَهُوَ نَظِيرُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ فَأَسْقَطَ الْأَصِيلُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 170 الْأَجَلَ بَقِيَ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ إنْ شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ الْأَجَلُ وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ مَاتَ فَحَلَّ عَلَيْهِ شَارَكَ الْعَبْدُ شَرِيكَهُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ ثَابِتٌ حُكْمًا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ وَحَقِّ مُشَارَكَةِ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ كَانَ عَنْ قَصْدٍ مِنْ الْغَرِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكَفِيلِ فَإِنَّ الْأَصِيلَ إذَا مَاتَ بَقِيَ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَجَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ مَقْصُودٌ وَالْغَرِيمُ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَجَلِ وَالْكَفِيلُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَبَقِيَ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْأَجَلُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ خَاصَّةً، فَأَمَّا مُشَارَكَةُ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَا أَجَلَ فِيهِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ - عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الْمَانِعِ فِي حَقِّ الَّذِي أَجَّلَهُ وَلَمْ يَبْقَ الْمَانِعُ بَعْدَ مَوْتِ الْغَرِيمِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَأَمَّا بَعْدَ إسْقَاطِ الْأَجَلِ مِنْ الْغَرِيمِ قَصْدًا فَالْمَانِعُ كَالْقَائِمِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ حُكْمًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ. وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُمَا تَنَاقَضَا الْأَجَلَ، ثُمَّ قَبَضَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُشَارِكَهُ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ تَنَاقَضَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْأَجَلِ حَقٌّ سِوَى الْغَرِيمِ فَصَحَّتْ مُنَاقَضَتُهُ مُطْلَقًا فَصَارَ الدَّيْنُ حَالًّا فَإِذَا قَبَضَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ حِينَ تَنَاقَضَا كَانَ حَقُّ الشَّرِيكِ ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ مِنْ حَيْثُ تَأَخُّرُ رُجُوعِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَا يَعْمَلُ انْقِضَاضُهُ فِي حَقِّهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ حِينَ قَبَضَ مَعَ قِيَامِ الْأَجَلِ لَمْ يَثْبُتْ لِلشَّرِيكِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ إلَّا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ فَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَصَرُّفِ الْغَرِيمِ وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَهَا هُنَا حِينَ قَبَضَ بَعْدَ مُنَاقَضَةِ الْأَجَلِ حَقُّ الشَّرِيكِ ثَابِتٌ فِي الْمُشَارَكَةِ وَمُنَاقَضَةُ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَكَانَ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ حَالًّا فَقَبَضَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ أَخَّرَ الْغَرِيمُ حَقَّهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِقَبْضِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَتَأْخِيرُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَا قَبَضَ شَرِيكُهُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ نَصِيبِهِ مُؤَجَّلًا مَانِعٌ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْمَقْبُوضِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَانِعُ قَائِمًا عِنْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَانِعُ بِالتَّأْجِيلِ بَعْدَ قَبْضِهِ وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ فِي حِصَّةِ الْغَرِيمِ عَلَى حَالِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْغَرِيمِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَإِذَا صَحَّ تَأْجِيلُهُ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِي الْمَقْبُوضِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ فَإِذَا حَلَّ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ إنْ شَاءَ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ تَصَرُّفُهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ حَيْثُ التَّأْجِيلُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي مُشَارَكَةِ الْقَابِضِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَأْجِيلِهِ فِي نَصِيبِهِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 171 وَبَيْنِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ وَبِتَأْجِيلِهِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مَا لَهُمَا إلَى سَنَةٍ فَقَبَضَ الشَّرِيكُ عَاجِلًا، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ أَخَّرَ حَقَّهُ لِلْغَرِيمِ سَنَةً أُخْرَى، وَهُوَ يَعْلَمُ بِقَبْضِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَتَأْخِيرُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَا قَبَضَ شَرِيكُهُ حَتَّى يَمْضِيَ السَّنَتَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَجَلِ بَعْدَ قَبْضِ الشَّرِيكِ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِ التَّأْجِيلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُشَارَكَةِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ حَالًّا فَأَخَذَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ فَسَلَّمَهُ لَهُ الْعَبْدُ كَانَ تَسْلِيمُهُ جَائِزًا عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ بِعِوَضٍ، وَهُوَ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتْوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ فَإِذَا تَوِيَ مَا عَلَيْهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيُشَارِكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْمَقْبُوضَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمَ عَادَ حَقُّهُ كَمَا كَانَ كَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ إلَى سَنَةٍ فَاشْتَرَى الْعَبْدُ مِنْ الْغَرِيمِ جَارِيَةً بِحِصَّتِهِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ بِنِصْفِ حَقِّهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نَصِيبَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْعَبْدُ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا فَرَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِقَضَاءِ قَاضٍ عَادَ الْمَالُ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ مِنْ حُكْمِ الْبَيْعِ وَوُقُوعُ الْمُقَاصَّةِ بِالثَّمَنِ وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ فَعَادَ الْمَالُ إلَى أَجَلِهِ وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدُ مِنْ شَرِيكِهِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ بِالْمُقَاصَّةِ وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ، وَلَوْ كَانَ رَدَّهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِإِقَالَةٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّرِيكِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْمُبْتَدَأِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانُ الْمُقَاصَّةِ وَحُكْمُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعَبْدِ لِنَصِيبِهِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَيَكُونُ لِلْعَبْدِ وَلِشَرِيكِهِ عَلَى الْغَرِيمِ الْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ إلَى أَجَلِهَا وَلِلْعَبْدِ عَلَى الْغَرِيمِ خَمْسُمِائَةٍ حَالَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا وَالْأَجَلَ فِي هَذَا الْمَالِ مِنْ حَقِّهِمَا وَلَكِنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ خَاصَّةً، فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ يَكُونُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 172 بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَعَوْدُ الْأَجَلِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مُطْلَقَةٍ فَتَكُونُ حَالَّةً. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مِنْ الْغَرِيمِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنِصْفِ الْأَلْفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ الدَّيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ حِينَ إقَالَةِ الْبَيْعِ أَوْ رَدِّهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ شَرَطَ عَلَيْهِ الْبَائِعٌ أَنَّ الثَّمَنَ إلَى أَجَلِهِ كَانَ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ لَكِنْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ شَرْطًا، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي بِالنِّسْبَةِ إذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ مُطْلَقًا يَكُونُ الثَّمَنُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَالًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ فِي التَّوْلِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ إلَى أَجَلِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُؤَجَّلًا كَمَا شَرَطَ. [بَابُ وَكَالَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْبَيْعِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ بِمُقَابَلَةِ مِلْكٍ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ عَنْ الْغَيْرِ وَالْمَأْذُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ تَبَرُّعًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَوَكَّلُ بِالشِّرَاءِ لِغَيْرِهِ بِالنَّسِيئَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْذُونِ يَجِبُ لَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَتَكُونُ الْعَيْنُ مَحْبُوسَةً فِي يَدِهِ إلَى أَنْ يَصِلَ الثَّمَنُ إلَيْهِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ بِالْكَفَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ فِي - يَدِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةً وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ حَبْسَ الْعَيْنِ بِالثَّمَنِ هَاهُنَا كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ، ثُمَّ هَذَا التَّوْكِيلُ مَنْفَعَةٌ لِلْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ وَمَنْ لَا يُعِينُ غَيْرَهُ لَا يُعَانُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَإِذَا تَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَفَذَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ إذَا اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا إنَّمَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ وَلَا يَلْتَزِمُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا مِنْ الْبَدَلِ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ عَنْ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْبَيْعِ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً وَهُمْ الْبَاعَةُ يَتَوَكَّلُونَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 173 لِلنَّاسِ. وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَيْرَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ الْحُرُّ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ فِي تِجَارَتِهِ فَإِنَّ التِّجَارَةَ نَوْعَانِ حَاضِرَةٌ وَغَائِبَةٌ وَإِذَا اشْتَغَلَ بِأَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَعِينَ فِي الْآخَرِ بِغَيْرِهِ لَكِنْ لَا يَفُوتُهُ مَقْصُودُ النَّوْعَيْنِ. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةَ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ قَتَلَهَا الْآمِرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ نَائِبِهِ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ لَوْ هَلَكَ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَافَاةِ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْقِيمَةُ بِحُقُوقِ فَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ حِينَ تَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُخَلِّفْ بَدَلًا بَطَلَ الْبَيْعُ فَإِنْ قَتَلَهَا الْمَأْذُونُ قِيلَ لِمَوْلَاهُ ادْفَعْهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ افْدِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالْوَكَالَةِ لَا يَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَقَتْلُهُ إيَّاهَا جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ حِينَ تَحَوَّلَ الْبَيْعُ إلَى الْبَدَلِ فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا قَامَ مَقَامَ الْجَارِيَةِ وَأَدَّى الثَّمَنَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا آخَرَ سِوَى الْوَكِيلِ، وَلَوْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهَا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَالْقِيمَةَ لَلْمُوَكِّلِ وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الثَّمَنَ فَاسْتَوْفَى قِيمَتَهَا مِنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ بَاعَ جَارِيَةً مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ رَجُلٍ بِجَارِيَةٍ، ثُمَّ قَتَلَهَا الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ كَالْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ بِمَا يُقَابِلُهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ بَائِعٌ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَطَلَ مِلْكُ الْمَوْلَى عَمَّا يُقَابِلُهَا فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهَا الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِغُرَمَائِهِ، وَلَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ ضَامِنًا لَقِيمَتِهَا لِغُرَمَائِهِ فَبَعْدَ الْبَيْعِ أَوْلَى وَهَذِهِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْلَمُ لَهُ إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تُتَحَمَّلُ عَنْهُ لَهُ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ قَتَلَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَغْيِيرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَكَانَتْ الْقِيمَةُ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ وَأَدَّى الثَّمَنَ وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ. وَلَوْ كَانَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 174 الْمَوْلَى دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ جَارِيَةً لَهُ لَيْسَتْ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا فَبَاعَهَا وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى قَتَلَهَا مَوْلَى الْعَبْدِ فَالْبَيْعُ مُنْتَقَضٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ كَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى كَالْحُرِّ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمَوْلَى بِالثَّمَنِ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ لِتَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفَعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ وَالْعَبْدُ إنَّمَا جَنَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَهُنَاكَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهَا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ وَإِذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ قَامَ الْعَبْدُ مَقَامَ الْجَارِيَةِ وَيُخَيِّرُ الْمُشْتَرِي لِلتَّغْيِيرِ وَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ صَارَ الضَّمَانُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَإِذَا صَارَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بَطَلَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَوُجُوبُ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ كَوُجُوبِ تَسْلِيمِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَتْلِ. وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَبَيْنَ حُرٍّ جَارِيَةٌ فَأَمَرَهُ الْحُرُّ بِبَيْعِهَا فَبَاعَهَا الْعَبْدُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ قَبَضَ جَمِيعَ الثَّمَنِ أَوْ نِصْفَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي وَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ صَحِيحٌ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِي النِّصْفِ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ، وَهُوَ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كَإِنْشَاءِ الْقَبْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْعَبْدُ بِدَعْوَى الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّهُ فِي الثَّمَنِ بِإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ كَاذِبًا، وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَهُ يَحْلِفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ حُجَّةٌ لَهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ ضَمَانِ ذَلِكَ النِّصْفِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي وُصُولِ ذَلِكَ إلَى الشَّرِيكِ حَقِيقَةً وَلَا فِي سَلَامَةِ مَا بَقِيَ لَهُ خَالِصًا فَهَذَا الَّذِي يَقْبِضُهُ جُزْءٌ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ صَارَ كَالتَّاوِي وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ غَرِمَ نِصْفَ الثَّمَنِ لِلشَّرِيكِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ أَتْلَفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ فَيَسْلَمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الشَّرِيكِ جَمِيعُ حَقِّهِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فَالْمُشْتَرِي لَمْ يُعَامِلْهُ بِشَيْءٍ وَالْعَبْدُ بِالنُّكُولِ صَارَ مُقِرًّا بِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الْقَبْضِ لِتَخَلُّفِهِ، وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ قَبَضَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا يَمْلِكُ قَبْضًا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي الجزء: 25 ¦ الصفحة: 175 وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ إقْرَارُهُ مُبْرِئًا لِلْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ قَبَضَهُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ بَعْدَ إقْرَارِ الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ كَمَا لَا دَعْوَى فِي ذَلِكَ لِلْوَكِيلِ بَعْدَ إبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَيُحَلِّفُ الْآمِرُ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ دَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ نِصْفُ الثَّمَنِ لِلْآمِرِ وَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنْ نَصِيبِ الْآمِرِ وَأَخَذَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْآمِرُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَهُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْعَبْدَ قَبَضَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُشَارَكَةُ الْعَبْدِ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ نَصِيبِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْآمِرُ أَنَّ الْعَبْدَ قَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ رُبُعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ مَا أَقَرَّ بَعْضُهُ نَصِيبُ الْآمِرِ، وَهُوَ فِي نَصِيبِهِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ فَإِذَا بَرِئَ مِنْ رُبُعِ الثَّمَنِ بَقِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَمَا قَبَضَ الْعَبْدُ مِنْهُمَا فَلِلْآمِرِ ثُلُثُهُ وَلِلْعَبْدِ ثُلُثَاهُ عَلَى قَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِمَا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ بَقِيَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي خَمْسِمِائَةٍ وَحَقُّ الْآمِرِ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَلَوْ أَقَرَّ الْآمِرُ أَنَّ الْعَبْدَ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ وَالثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَا هِبَةَ الْعَبْدِ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَانَ بَاطِلًا فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فِيمَا بَاعَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ وَأَنْكَرَهُ الْآمِرُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ أَيْضًا. وَلَوْ كَانَ شَرِيكُ الْعَبْدِ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ بِأَمْرِ الْعَبْدِ، ثُمَّ أَقَرَّ عَلَى الْعَبْدِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ بِقَبْضِ حِصَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَالْحُرَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ يَسْتَوِيَانِ كَمَا فِي إنْشَاءِ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ كَانَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ عَايَنَا الْإِبْرَاءَ وَالْهِبَةَ مِنْ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَنَّهُ وَهَبَ الثَّمَنَ أَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ الْإِبْرَاءَ عَنْ الثَّمَنِ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ جَمِيعَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ نَكَلَ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْرَأُ مِنْ حِصَّةِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 176 خَاصَّةً، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ. وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْآمِرُ أَنَّ الْبَائِعَ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ وَادَّعَاهُ الْعَبْدُ وَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الْآمِرِ مِنْ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِيهِ بِإِبْرَاءٍ صَحِيحٍ فَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا دَعْوَى لَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ إقْرَارِ الْآمِرِ بِمَا يُبْرِئُ الْمُشْتَرِيَ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ فَيَسْلَمُ لَهُ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْآمِرُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يَدَّعِي أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ نَصِيبَهُ بِالْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيُسْتَحْلَفُ وَإِذَا حَلَفَ صَارَ الْآمِرُ هُوَ الْمُتْلِفَ لِنَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِإِقْرَارِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَسْلَمُ لِلْبَائِعِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُ الْآمِرِ بَاطِلٌ وَجَمِيعُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْبَائِعِ لَا قَوْلَ لَهُ وَفِي نَصِيبِهِ إبْرَاءُ الْبَائِعِ عِنْدَهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَقَرَّ أَنَّ شَرِيكَهُ أَبْرَأَ الْعَبْدَ مِنْ حِصَّتِهِ أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ حِصَّتَهُ وَجَحَدَهُ الشَّرِيكُ وَادَّعَاهُ الْعَبْدُ فَإِنَّ الْعَبْدَ بَرِئَ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ، وَهُوَ الْقَبْضُ أَوْ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْآمِرِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَعْوَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَكِنْ يَرْجِعُ الْآمِرُ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ نِصْفُهُ فَيُضَمِّنُهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِإِقْرَارِهِ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِقْرَارُهُ عَلَى الْآمِرِ بِالْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ إبْرَائِهِ إيَّاهُ عَنْ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحْلِفُ الْآمِرَ عَلَى مَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا قَالَ الْبَائِعُ وَإِنْ حَلَفَ بَقِيَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِذَا دَفَعَ الْمَأْذُونُ إلَى رَجُلٍ جَارِيَةً يَبِيعُهَا فَبَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ وَدَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ وَجَبَ لِلْمَأْذُونِ حَتَّى إذَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَلِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمَأْذُونِ مِثْلُ ذَلِكَ دَيْنًا فَيَصِيرُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْمَأْذُونِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْبُيُوعِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ أَلْفٌ وَعَلَى الْوَكِيلِ أَلْفٌ كَانَ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ قِصَاصًا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 177 بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ جُعِلَ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ فَكَانَتْ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ أَقْرَبَ إلَى انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَإِلَى إظْهَارِ فَائِدَةِ الْمُقَاصَّةِ، ثُمَّ الثَّمَنُ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ وَالْمُطَالَبَةُ حَقُّ الْوَكِيلِ وَعِنْدَ الْمُعَارِضَةِ الْمِلْكُ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ؛ فَلِهَذَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ [بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ الْمَأْذُونِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ جَازَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا مِنْ الْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِي شِرَائِهِ مِنْ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ وَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ صَارَ مَالِكًا الْمَبِيعَ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ مَا يَنْفُذُ فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ لَتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ مِنْ الْعَبْدِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ كَالْتِزَامِ ضَمَانِ الثَّمَنِ فَإِذَا غَلَّتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي غَلَّةً ثُمَّ بَاعَهَا الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ فَالْغَلَّةُ تَسْلَمُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ حِينَ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا وَلَكِنْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ فَالْغَلَّةُ مَرْدُودَةٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ يَفْسَخُ الْبَيْعَ مِنْ الْأَصْلِ وَالْمُشْتَرَاةُ شِرَاءً فَاسِدًا كَالْمَغْصُوبَةِ فِي أَنَّهَا تُرَدُّ بِزَوَائِدِهَا الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ فَتُرَدُّ الْغَلَّةُ أَيْضًا، ثُمَّ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ حَصَلَتْ لَا عَلَى مِلْكِهِ وَلَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي بَاعَ الْجَارِيَةَ أَوْ الْغُلَامَ بَيْعًا فَاسِدًا، ثُمَّ أَغَلَّ غَلَّةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي فَالْغَلَّةُ لَهُ لِتَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِي الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ حِينَ حَصَلَتْ كَانَ مِلْكُهُ فِيهَا بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَالْمَبِيعُ كَالْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ تُسْتَرَدُّ بِزَوَائِدِهَا الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ، وَلَوْ رَدَّهُمَا مَعَ الْغَلَّةِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَمْ يَتَصَدَّقْ الْمَأْذُونُ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَلَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ الْمَأْذُونُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ فَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الصَّدَقَةَ وَالْغَلَّةُ صَارَتْ مِنْ أَكْسَابِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهَا شَرْعًا لَكِنْ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ الْغَلَّةَ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِمْ وَلَمْ يَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا بَدَلًا عَنْ دَيْنِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَنْبَغِي لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَأْذُونِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَصَدَّقَ كَانَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 178 عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهَذِهِ الْغَلَّةِ فَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلُفُهُ، وَهُوَ الْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ التَّصَدُّقِ فَيُحْتَسَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَسَلَّمَهَا فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَأْذُونِ أَوْ مِنْ وَكِيلِ مَوْلَاهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَأْذُونِ كَسْبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُصَادِفُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّائِبِ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فَالرَّدُّ لِأَجَلِ الْفَسَادِ مُسْتَحَقٌّ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا بَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَيْضًا وَبَيْعُهُ مِنْ وَكِيلِ الْمَوْلَى كَبَيْعِهِ مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَهُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَيَكُونُ لَهُ الثَّمَنُ عَلَى مَنْ بَاعَهَا مِنْهُ وَإِنْ بَاعَهَا مِنْ عَبْدٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى بِأَجْرٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْآخَرِ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِهَا مِنْ وَكِيلِ الْمَوْلَى وَلَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا إلَّا بِرَدِّهَا عَلَى الْمَأْذُونِ أَوْ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا دَيْنٌ فَهُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْبَائِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ بَيْعًا جَائِزًا فَكَذَلِكَ مِنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ فِي هَذَا الشِّرَاءِ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ لِمَوْلَاهُ بَلْ لِغُرَمَائِهِ فَبَيْعُهَا مِنْهُ كَبَيْعِهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَتَقَرَّرُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ لِلْمَأْذُونِ وَلَهُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَإِذَا بَاعَهَا مِنْ مُضَارِبِ الْمَأْذُونِ الْبَائِعِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَشْتَرِي حَقًّا فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِهِ وَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْمُضَارِبِ جَازَ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَهَا مِنْ مُضَارِبِ الْبَائِعِ جَازَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهَا مِنْ مُضَارِبِ الْمَوْلَى وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ ابْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَبِيهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ الْمَوْلَى لِابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ فِي عِيَالِهِ فَهُوَ كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْحَاصِلَ لِهَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ دُونَ تَصَرُّفِ مُضَارِبِ الْبَائِعِ وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الشِّرَاءِ الثَّانِي هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَكَّلَ الْمَوْلَى بِشِرَائِهَا فَاشْتَرَى لَهُ أَوْ وَكَّلَ الْمَأْذُونَ بِشِرَائِهَا لَهُ فَاشْتَرَاهَا لَهُ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِلْآمِرِ وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الْآمِرِ وَلِلْعَبْدِ عَلَى الْآمِرِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 179 فَتَكُونُ الْقِيمَةُ قِصَاصًا بِالثَّمَنِ وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي مُوجِبًا حُكْمًا فِي الْمِلْكِ وَالضَّمَانِ غَيْرِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ سِوَى مَا كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ وَالضَّمَانِ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي وَكَّلَ إنْسَانًا بِشِرَائِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي لَهُ فَفَعَلَ وَقَبَضَهَا فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ وَالضَّمَانِ لَا يُوجِبُ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ وَبِقَبْضِ الْوَكِيلِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَمَرَ رَجُلًا بِشِرَائِهَا لَهُ فَهَذَا وَشِرَاءُ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَإِذَا قَتَلَهَا الْمَأْذُونُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهَا وَزِيَادَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْإِتْلَافِ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ فَوَقَعَتْ الْجَارِيَةُ فِيهَا أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُ حَتَّى مَاتَتْ مِنْ حَفْرِهِ فَهُوَ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْحَفْرِ صَارَ جَانِيًا عَلَى الْوَاقِعِ فِي بِئْرِهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ حُكْمًا فَكَأَنَّهُ حَفَرَ بِيَدِهِ وَالْبَائِعُ إذَا أَتْلَفَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ عَيَّبَهُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ هَهُنَا مُسْتَحَقٌّ كَالْقَبْضِ هُنَا إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ مَنَعَهَا مِنْهُ بَعْدَ التَّعْيِيبِ بَطَلَ حُكْمُ اسْتِرْدَادِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بِمَنْعِ الْمُشْتَرِي كَمَا يَبْطُلُ حُكْمُ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِمَنْعِ الْبَائِعِ بَعْدَ مَا عَيَّبَهَا الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ فَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا لِفَسَادِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْعَبْدِ وَكَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْبَائِعَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَكُونُ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِيمَا فَعَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ حَدَثَ الْعَيْبُ مِنْ فِعْلِهِ وَالْمَوْتُ مِنْ غَيْرِهِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا بِسَبَبِ الْقَبْضِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي مَالِهِ حَالًّا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِجِنَايَةِ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمَأْذُونُ فِي دَارِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَمَاتَتْ أَوْ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمَوْلَى فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْحَافِرَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ جَانِيًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَيْهِ إذَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 180 كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ مُضَافًا إلَيْهِ لِانْعِدَامِ التَّعَدِّي كَانَ هَذَا وَمَوْتُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي سَوَاءً يُعْطِي الْمُشْتَرِي ضَمَانَ قِيمَتِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ قَبْضِ الْمَأْذُونِ فِي الْبُيُوعِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَحُكْمُ الْمَأْذُونِ فِي قَبْضِ مَا اشْتَرَاهُ بِالْيَدِ أَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَحُكْمِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالشِّرَاءِ كَمَا لِلْحُرِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَنَقَصَهَا الْوَطْءُ أَوْ لَمْ يُنْقِصْهَا، ثُمَّ مَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَبْدِ فَعَلَى الْعَبْدِ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْمُسْتَوْفَى بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ الْوَطْءُ مِنْ الْحُرِّ يُجْعَلُ قَبْضًا فَكَذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُفَارِقُ الْحُرَّ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي حُكْمِ الْحَلِّ وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَلِّ بَلْ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا حَالَةَ الْوَطْءِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتِيفَاءُ جُزْءٍ مِنْهَا حُكْمًا وَفِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ قَبْضًا فَإِقْرَارُهُ بِالْوَطْءِ كَإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِقَبْضِ مَا اشْتَرَاهُ صَحِيحٌ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَصَبَّ الْعَبْدُ فِيهِ مَاءً قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَأَفْسَدَهُ فَصَارَ يُسَاوِي ثَمَانِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ ذَلِكَ صَبَّ فِيهِ مَاءً فَأَفْسَدَهُ فَصَارَ يُسَاوِي سِتِّينَ دِرْهَمًا فَالْمَأْذُونُ بِالْخِيَارِ لِلتَّغْيِيرِ الْحَاصِلِ فِيهِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ بِمَا صَنَعَ صَارَ مُسْتَرِدًّا مُحْدِثًا لِلْعَيْبِ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْعَبْدِ الرِّضَا بِذَلِكَ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ أَخَذَ الْكُرَّ أَخَذَهُ بِأَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ مُتْلِفًا خُمُسَ الْمَبِيعِ فَسَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ الْخُمُسُ وَخُمُسُ ثَمَانِينَ سِتَّةَ عَشْرَ فَإِذَا سَقَطَ مِنْ الْمُشْتَرِي سِتَّةَ عَشْرَ دِرْهَمًا بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ فَإِنْ قِيلَ أَتْلَفَ الْبَائِعُ رُبُعَ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حِينَ أَفْسَدَهُ الْبَائِعُ كَانَ ثَمَانِينَ وَقَدْ تَرَاجَعَ إلَى سِتِّينَ قُلْنَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا أَتْلَفَ الْبَائِعُ مِنْ الْمَبِيعِ وَالْمَبِيعُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَالْجُزْءُ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي تَقَرَّرَ الْبَيْعُ فِيهِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ خُمُسُ الثَّمَنِ فَإِنْ تَرَكَهُ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِمَا أَفْسَدَ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ بِعَيْنِهِ قَدْ رَجَعَ إلَى الْبَائِعِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الْفَائِتُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي مُجَرَّدَ الْجَوْدَةِ وَلَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ وَقَدْ صَارَ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِذَلِكَ حِينَ اسْتَرَدَّهُ بِالْإِفْسَادِ بَعْدَ فِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ ضَمِنَ لَهُ الْمُشْتَرِي النُّقْصَانَ عَادَ إلَيْهِ الْكُرُّ تَامًّا مَعَ زِيَادَةِ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ رِبًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 181 لَوْ أَفْسَدَ الْكُرَّ بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَخْذَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ فَإِنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ مَا أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا بَلْ يَسْلَمُ الْكُرُّ لِلْمُشْتَرِي بِأَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْ خُمُسِ الثَّمَنِ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي صَبَّ فِيهِ الْمَاءَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمُشْتَرِي صَبَّ فِيهِ الْمَاءَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِالتَّعْيِيبِ الْحَاصِلِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ حِينَ قَبَضَهُ بِالتَّعْيِيبِ بَعْدَهُ وَيُؤَدِّي أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَرَضًا أَفْسَدَهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا، ثُمَّ أَفْسَدَهُ الْبَائِعُ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَهُ الْبَائِعُ وَإِنْ شَاءَ نَقَصَ الْبَيْعَ وَأَدَّى مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا فَيَكُونُ لِلْوَصْفِ مِنْهُ قِيمَةٌ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ بِالتَّنَاوُلِ تَصِيرُ مَقْصُودَةً وَيُقَابِلُهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ تَنَاوَلَهَا الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَفْسَدَهُ بَعْدَ الْبَائِعِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَسَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَهُ الْبَائِعُ لِوُجُودِ الْقَبْضِ وَالرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّعْيِيبِ الَّذِي كَانَ مِنْ الْبَائِعِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ كُرَّ تَمْرٍ جَيِّدٍ بِعَيْنِهِ بِكُرِّ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِعَيْنِهِ فَصَبَّ الْعَبْدُ فِي الْكُرِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ مَاءً فَأَفْسَدَهُ، ثُمَّ صَبَّ الْبَائِعُ فِيهِ مَاءً فَأَفْسَدَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَيَّبَهُ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ بَعْدَ تَعْيِيبِ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِذَلِكَ فَيَتَخَيَّرُ لِهَذَا إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَدَفَعَ الْكُرَّ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِ الْكُرِّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا إذَا رَدَّهُ فَظَاهِرٌ وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَهُ فَلِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ جِنَايَةَ الْبَائِعِ هَهُنَا سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الْعِوَضِ فَيَصِيرُ بِأَقَلَّ مِنْ كُرٍّ، وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي صَبَّ فِيهِ الْمَاءَ بَعْدَ الْبَائِعِ لَزِمَهُ الْكُرُّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ حِينَ عَيَّبَهُ بَعْدَ الْبَائِعِ وَلَا يَسْقُطُ بِتَعْيِيبِ الْبَائِعِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ لِأَجْلِ الرِّبَا وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبٍ إنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِالتَّعَيُّبِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمَا صَبَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ عَشَرَةَ أَرْطَالِ زَيْتٍ بِدِرْهَمٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِي قَارُورَةٍ جَاءَ بِهَا فَكَالَ الْبَائِعُ الزَّيْتَ فِي الْقَارُورَةِ فَلَمَّا كَالَ فِيهَا رَطْلَيْنِ انْكَسَرَتْ وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمَانِ فَكَالَا بَعْدَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ مِنْ الزَّيْتِ فِيهَا فَسَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْعَبْدُ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا عَنْ الرَّطْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَارُورَةَ بِالِانْكِسَارِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ حِينَ أَمَرَهُ بِالصَّبِّ كَانَتْ الْقَارُورَةُ صَحِيحَةً وِعَاءً صَالِحًا لِلزَّيْتِ فَيُقَيَّدُ أَمْرُهُ بِحَالِ بَقَائِهَا وِعَاءً؛ لِمَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 182 عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْمُشْتَرِي إذْ مَقْصُودُهُ كَانَ هُوَ الْإِحْرَازُ دُونَ الْإِتْلَافِ وَقَدْ صَبَّ الرَّطْلَ الْأَوَّلَ فِي الْقَارُورَةِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِذَلِكَ الرَّطْلِ بِمِلْكِهِ، ثُمَّ انْكَسَرَتْ الْقَارُورَةُ فَسَالَ ذَلِكَ الرَّطْلُ بَعْدَ مَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُهُ، ثُمَّ بِالِانْكِسَارِ خَرَجَتْ الْقَارُورَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً فَبَطَلَ حُكْمُ أَمْرِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ الْبَائِعُ بِصَبِّ مَا بَقِيَ فِيهَا مُتْلِفًا الْمَبِيعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي فَسَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي ثَمَنُ مَا بَقِيَ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ فِيهِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَ الرَّطْلُ الْأَوَّلُ لَمْ يَسِلْ كُلُّهُ حِينَ صَبَّ الْبَائِعُ الرَّطْلَ الثَّانِيَ فِيهِ فَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ الرَّطْلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَارُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمَّا انْفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مَا بَقِيَ مِنْ الرَّطْلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَارُورَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَمَنْ خَلَطَ زَيْتَ غَيْرِهِ بِزَيْتِ نَفْسِهِ يَكُونُ ضَامِنًا لِصَاحِبِهِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ مَا بَقِيَ سَوَاءٌ كَانَ نِصْفَ الرَّطْلِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقَارُورَةُ مَكْسُورَةً حِينَ دَفَعَهَا إلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَ فِيهَا وَلَا يَعْلَمَانِ بِذَلِكَ فَكَالَ الْبَائِعُ فِيهَا عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَسَالَتْ كُلُّهَا فَالثَّمَنُ كُلُّهُ لَازِمٌ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَمَرَهُ لَمْ تَكُنْ الْقَارُورَةُ وِعَاءً صَالِحًا لِإِحْرَازِ الدُّهْنِ فِيهَا فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْإِتْلَافِ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْبَائِعَ أَنْ يُتْلِفَهُ فَفَعَلَ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَائِعِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرَى كَإِتْلَافِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْقَبْضِ وَالْإِتْلَافِ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ سَوَاءٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِ الْمُشْتَرِي وَجَهْلِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا جَهْلَهُ بِذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَكَمَا يَجِبُ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي يَجِبُ دَفْعُ ضَرَرِ الْبَائِعِ وَلِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبِّ فِيهِ وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا مُعْتَبَرَ بِجَهْلِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَتْلِفْ هَذَا الْمَالَ فَأَتْلَفَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لِلْآمِرِ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْمَأْمُورُ شَيْئًا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْرَازِ لِكَوْنِ الْقَارُورَةِ صَحِيحَةً عِنْدَ الْأَمْرِ بِالصَّبِّ فِيهَا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ بِالْإِتْلَافِ صَرِيحًا؛ فَلِهَذَا قَيَّدْنَاهُ بِحَالِ بَقَاءِ الْقَارُورَةِ صَحِيحَةً. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَقَبَضَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَمَاتَتْ عِنْدَهُ أَوْ قَتَلَهَا مَوْلَاهَا وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَبْدَ وَلَا الْمَوْلَى قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ بِهَذَا الْقَبْضِ وَضَمَانُ الْقِيمَةِ مَعَ ضَمَانِ الثَّمَنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَكِنَّهُ يُطَالِبُ الْعَبْدَ بِالثَّمَنِ فَيُبَاعُ لَهُ فِيهِ فَإِنْ نَقَصَ ثَمَنُهُ عَنْ حَقِّهِ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ كَسْبًا لِلْعَبْدِ وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى بِالْقَتْلِ أَوْ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَسْلَمُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ فَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنَ الْعَبْدِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 183 كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا الْفَضْلَ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِهَا فَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ الْوَكِيلُ قِيمَتَهَا لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي حَقِّ الْبَائِعِ حِينَ قَبَضَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَتَهَا كَالرَّاهِنِ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِاسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ فَاسْتَرَدَّهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ تَكُونُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ أَوْفَى الْعَبْدُ الثَّمَنَ رَجَعَتْ الْقِيمَةُ إلَى الْوَكِيلِ وَإِنْ هَلَكَتْ الْقِيمَةُ مِنْ الْوَكِيلِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ عَيْنِهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لَحِقَهُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حُرًّا فَوَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِهَا أَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِهَا فَقَتَلَهَا وَهَذَا فَصْلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آخِرِ الْبُيُوعِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِنْ يُعْتِقَهَا فَأَعْتَقَهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْبُيُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمَأْذُونِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَقَبِلَهَا الْعَبْدُ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ إقَالَةٌ وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ فَسْخًا كَانَ أَوْ بَيْعًا مُبْتَدَأً، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ بِالْعَيْبِ فَهَذَا كُلُّهُ فَسْخٌ يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ رَدَّهَا وَأَخَذَ الثَّمَنَ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدْ كَانَ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَكَذَلِكَ الْبَائِعُ إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْفَسْخِ عَلَى أَنْ تَعُودَ إلَيْهِ كَمَا خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي إنَّمَا قَضَى بِالْفَسْخِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي تَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِهَذَا؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي انْفَسَخَ ذَلِكَ الْفَسْخُ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْجُزْءِ الْفَائِتِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا الْعَبْدُ حَتَّى حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّهُ. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 184 يُمَكِّنُهُ مِنْ رَدِّهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي وَفِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَهُ إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْفَسْخِ إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَدْ تَعَيَّبَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْبِهَا الَّذِي حَدَثَ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُشْتَرِي وَرُبَّمَا يَكُونُ قَبُولُهَا مَعَ الْعَيْبِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ أَخَذَهَا وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْعَبْدِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَسْخَ قَدْ انْفَسَخَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِهِ حِينَ قَبِلَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ وَيُمْكِنُهُ مِنْ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَيْبُ الْآخَرُ جِنَايَةً مِنْ الْعَبْدِ أَوْ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى كَسْبِهِ لَا تُلْزِمُهُ أَرْشًا وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْمُسْتَوْفَى بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ وَطِئَهَا فَوَجَبَ الْعُقْرُ أَوْ الْأَرْشُ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْفَسْخِ وَكَمَا أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَكَذَلِكَ حُدُوثُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْفَسْخِ وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا تَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَدَّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْعَبْدِ أَوَّلًا بِالْعَيْبِ فَقَبَضَهَا الْعَبْدُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِيَ قَدْ قَطَعَ يَدَهَا أَوْ وَطِئَهَا فَلَمْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ حَتَّى حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْعَبْدِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشٌ وَلَا عُقْرٌ بِمَا فَعَلَهُ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ فَهُوَ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَقَدْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْعَبْدِ فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَعْطَى الْعَبْدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَى الْعَبْدِ نُقْصَانَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ مِنْ الثَّمَنِ يَعْنِي فِي الْجِنَايَةِ فِي الْوَطْءِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا حَتَّى نَقَصَهَا الْوَطْءُ فِي مَالِيَّتِهَا فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَلَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ شَيْئًا لَمْ - يَرْجِعْ الْعَبْدُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَلَمْ يَرُدَّ الْعَبْدُ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ هُوَ ثَمَرَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِيفَاءَهُ لَمْ يُوجِبْ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنُ إنَّمَا يُقَابِلُ الْمَالِيَّةَ فَمَا لَا يَكُونُ مَالًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهَا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا قَبْلَ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 185 الرَّدِّ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كَالْخِيَارِ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ الرَّدِّ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ قُلْنَا امْتِنَاعُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الْوَطْءِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْوَطْءِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ بِالِاسْتِرْدَادِ رَدَّهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهَا عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ وَطِئَهَا بَعْدَ مَا بَاعَهَا مِنْهُ وَهِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ قَطَعَ يَدَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَطِئَهَا فَوَجَبَ الْعُقْرُ، ثُمَّ رَدَّهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ صُنْعَ الْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ حَدَثَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْجَارِيَةَ تُرَدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْفَسْخِ لِلزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ مِنْ الْعَيْنِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَعَهَا نُقْصَانُ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ قَبَضَهَا بِحُكْمِ فَسْخٍ فَاسِدٍ وَالْمَقْبُوضُ بِفَسْخٍ فَاسِدٍ كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ تَلِفَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَبْدُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَدْ رَدَّهُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ الَّذِي حَدَثَ بِهَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ النُّقْصَانَ مِنْ الْعَبْدِ وَرَجَعَ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ اعْتِبَارًا لِلْمَقْبُوضِ بِفَسْخٍ فَاسِدٍ بِالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إذَا جَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِي الْمُشْتَرِي فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ وَيَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي تَضْمِينِ النُّقْصَانِ الْجَانِيَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْبَائِعُ قَتَلَهَا أَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَبْدِ قِيمَتَهَا وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ بِفَسْخٍ فَاسِدٍ وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا صَادَفَتْ مِلْكَهُ لَا مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِأَخْذِ قِيمَتِهَا مِنْ الْبَائِعِ لِتَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتِرْدَادَ الْأَصْلِ لَمْ يَتَعَذَّرْ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ فَكَذَلِكَ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ فَسْخٍ فَاسِدٍ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَاعَهَا بَعْدَمَا قَبَضَهَا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 186 الْمُشْتَرِي جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ فَاسِدًا فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَقِيمَتُهَا كَاسْتِرْدَادِ عَيْنِهَا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِنُقْصَانِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَدَّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إذَا كَانَا حُرَّيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ الْمَأْذُونِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَالْمَأْذُونُ مِثْلُ الْحُرِّ فِي حُكْمِ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْحُرِّ. وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مَتَاعًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَنَقَضَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فِي الثَّلَاثَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَجْرِ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنْ الْعَبْدِ تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ فَالْمَوْلَى يَفْسَخُ هَذَا التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ بِحَجْرٍ عَلَيْهِ مِنْ إمْضَائِهِ بِالْإِجَازَةِ وَالْحَجْرُ الْخَاصُّ مَعَ قِيَامِ الْإِذْنِ الْعَامِ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٍ مِنْ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إتْمَامٌ لِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ مُتَصَرِّفٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَيُعْمَلُ إجَازَةُ الْمَوْلَى كَمَا يُعْمَلُ إجَازَةُ الْمُوَكِّلِ لِتَفَرُّقِ الْوَكِيلِ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ إجَازَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِتَصَرُّفِهِ تَصَرُّفُهُ لِغُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ فَلِهَذَا لَا تُعْمَلُ إجَازَتُهُ فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ أَوْ لِلْبَائِعِ مَعَ الْعَبْدِ فَنَقَضَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْبَيْعَ بِحَضْرَةِ الْمَوْلَى وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَنَقْضُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِأَنَّ النَّقْضَ تَصَرُّفٌ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ لَا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ وَالْمَوْلَى فِي أَصْلِ السَّبَبِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَسْخُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ عَاقِدِهِ لَا يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ فَالْإِجَازَةُ تَصَرُّفٌ فِي الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ أَوْ التَّقْرِيرِ وَالْمَوْلَى فِي الْحُكْمِ لَيْسَ كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ بَلْ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِبِ عَنْهُ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَأَخَذَ الْمَوْلَى الْجَارِيَةَ فَبَاعَهَا. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 187 أَوْ وَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخَذَهَا فَإِنْ كَانَ الْمَأْذُونُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهَذَا نَقْضٌ لِلْبَيْعِ وَالْجَارِيَةُ لِلْمَوْلَى وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ كَسْبَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى مَالِكٌ لِكَسْبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْهُ وَإِحْدَاثُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْهُ يُوجِبُ تَقْرِيرَ مِلْكِهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فَسْخُ ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ حُرًّا مَالِكًا فَتَصَرَّفَ فِيهِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِهِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا فَعَلَهُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حُكْمًا وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَوْلَى حَجْرًا خَاصًّا فِي إذْنٍ عَامٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهَا الْمَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: قَدْ نَقَضْتُ الْبَيْعَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ مُنْتَقَضٌ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ فَنَقْضُهُ الْبَيْعَ فِيهَا لَا يَكُونُ حَجْرًا خَاصًّا فِي إذْنٍ عَامٍّ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الْعَامَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ، وَلَوْ قَبَضَهَا وَلَمْ يَنْقُضْ الْبَيْعَ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ جَازَ الْبَيْعُ وَالثَّمَنُ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ أَخْذِهَا لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ فَالْأَخْذُ قَدْ يَكُونُ لِلْحِفْظِ وَالنَّظَرِ فِيهَا هَلْ تَصْلُحُ لَهُ أَمْ لَا وَإِذَا لَمْ يَفْسَخْ الْبَيْعَ بِالْأَخْذِ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ وَتَمَلَّكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا فَنَقْضُ الْمَوْلَى الْبَيْعَ وَأَخْذُهُ الْجَارِيَةَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعُ وَالْخِيَارُ فِيهَا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا لِمَكَانِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَخْرُجُ بِأَخْذِهِ إيَّاهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ نَقْضُهُ لِلْبَيْعِ فِيهَا حَجْرًا خَاصًّا فِي إذْنٍ عَامٍّ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِمَوْلَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ فَهُوَ نَقْضٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِمَوْلَاهُ اشْتِرَاطٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ الْمَوْلَى نَائِبًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لِمَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَ الْعَقْدَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ فَإِنْ نَقَضَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ وَأَجَازَهُ الْعَبْدُ فَالسَّابِقُ مِنْهُمَا أَوْلَى نَقْضًا كَانَ أَوْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ بِإِجَازَةِ أَحَدِهِمَا أَوَّلًا يَتِمُّ الْبَيْعُ فَلَا يَنْفَرِدُ الْآخَرُ بِفَسْخِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَبِنَقْضِ أَحَدِهِمَا أَوَّلًا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا فَالنَّقْضُ أَوْلَى مِنْ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ يُرَدُّ عَلَى الْإِجَازَةِ فَالْبَيْعُ التَّامُّ يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَالْإِجَازَةُ لَا تُرَدُّ عَلَى النَّقْضِ فَالْبَيْعُ الْمَنْقُوضُ لَا تُمْكِنُ إجَازَتُهُ وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْوَارِدُ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ. قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجَارِيَةِ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ عَتَقَتْ وَجَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 188 خِيَارَهُ فِيهَا خِيَارُ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمْلِكُ تَنْفِيذَ الْعِتْقِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهَا وَلَكِنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ عَتَقَ، وَهُوَ فَسْخٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا بَاعَ وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ انْفِسَاخُ الْبَيْعِ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا جَازَ عِتْقُهُ فِيهَا أَيْضًا وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ نُفُوذِ عِتْقِهِ فِيمَا بَاعَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهَا لَمَّا نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهَا وَقَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا وَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الِاسْتِشْهَادِ بَيَانُ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى مِنْ الْإِجَازَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْبُيُوعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِمَوْلَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَنَقَضَهُ الْعَبْدُ وَأَجَازَهُ الْمَوْلَى مَعًا فَالنَّقْضُ أَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَقَدْ رَآهَا مَوْلَاهُ وَلَمْ يَرَهَا الْعَبْدُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلِلْعَبْدِ الْخِيَارُ إذَا رَآهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَثْبَتَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي وَالْعَبْدُ فِي أَصْلِ التَّسَبُّبِ مُبَاشِرٌ لِنَفْسِهِ كَالْحُرِّ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْمَوْلَى لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَبْدَهُ يَشْتَرِيهَا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ رَآهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَرَهَا الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّهَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الشِّرَاءِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتُهُ قَبْلَ الْعَقْدِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِهَا وَالْفَسْخُ مِنْ الْمَوْلَى يَكُونُ حَجْرًا خَاصًّا فِي إذْنٍ عَامٍّ، وَلَوْ لَمْ يَرَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ رَأَيَاهَا فَالْخِيَارُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالْعَبْدُ فِي أَصْلِ السَّبَبِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ فَإِنْ رَضِيَهَا الْمَوْلَى جَازَتْ عَلَى الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الرِّضَا تَقْرِيرٌ بِحُكْمِ السَّبَبِ وَالْعَبْدُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَرِضَا الْمَوْلَى بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ أَجْنَبِيٌّ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ نَقَضَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْبَائِعِ فَنَقْضُهُ بَاطِلٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ مِنْهُ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ، وَلَوْ رَضِيَهَا الْمَوْلَى وَرَدَّهَا الْعَبْدُ مَعًا كَانَ رَدُّ الْعَبْدِ أَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّقْضَ يُرَدُّ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْإِجَازَةُ لَا تُرَدُّ عَلَى النَّقْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّادَّ يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَدَّ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ بِهِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ رَضِيَهَا الْمَوْلَى وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَرِضَاهُ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَى ثَمَنِهَا جَازَ رِضَا الْمَوْلَى عَلَيْهِ كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ نَقَضَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فَنَقْضُهُ بَاطِلٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 189 خَاصٌّ. قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى لِرَجُلٍ جَارِيَةً بِأَمْرِهِ فَلَمْ يَقْبِضْهَا الْوَكِيلُ حَتَّى وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَضِيَهُمَا الْآمِرُ جَازَ وَإِنْ نَقَضَ الْآمِرُ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْحَرْفِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الرِّضَا تَصَرُّفٌ فِي الْحُكْمِ وَحُكْمُ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ وَالنَّقْضُ تَصَرُّفٌ فِي السَّبَبِ وَالْوَكِيلُ أَصْلٌ فِي السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْمُوَكِّلِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَأْذُونِ مَعَ مَوْلَاهُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَتَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا صَاحِبَتَهَا فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا مَوْتًا أَخَذَ الْبَاقِيَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الدَّابَّتَيْنِ فَهُنَاكَ سَوَاءٌ قَتَلَتْ أُخْتُهُمَا صَاحِبَتَهَا أَوْ مَاتَتْ أَخَذَ الْبَاقِيَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ هَدَرٌ شَرْعًا فَاَلَّتِي هَلَكَتْ فَاتَتْ وَلَمْ تُخَلِّفْ بَدَلًا فَسَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ وَفِعْلُ الْآدَمِيِّ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فَإِذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الْبَاقِيَةِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي الَّتِي هَلَكَتْ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَدَفَعَ الْقَاتِلُ بِالْمَقْتُولِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَبْقَى الْعَبْدُ بِبَقَاءِ الْبَدَلِ؛ فَلِهَذَا أَخَذَ الْبَاقِيَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الثَّمَنِ فَذَلِكَ اشْتِرَاطٌ مِنْهُ لِلْخِيَارِ فِي الْجَارِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا دَفَعَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِفَسْخِ الْعَقْدِ أَوْ لَا لِتَنْعَدِمَ صِفَةُ اللُّزُومِ بِهِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَكُونُ اشْتِرَاطًا فِي الْآخَرِ ضَرُورَةً وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ رَضِيتَ أُسَلِّمْ لَكَ الثَّمَنَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَلَّمْت وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتَ الثَّمَنَ وَلَمْ أُسَلِّمْهُ لَك، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ شَرْطًا لِلْخِيَارِ فِي الْعِوَضَيْنِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدَّ الْآخَرَ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي فِيهِمَا وَاَلَّذِي هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَبْقَى هُوَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْبَاقِي، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ حُكْمًا كَمَا قَبَضَهُ فَيَتَعَيَّنُ الْبَيْعُ فِيهِ، ثُمَّ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنِ الرَّدِّ فِي الْآخَرِ، وَلَوْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَزِمَهُ الَّذِي حَدَثَ بِهِ الْعَيْبُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ بِهِمَا فَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ يَلْزَمُهُ أَيُّهُمَا شَاءَ بِعَشَرَةٍ وَيَرُدُّ الْآخَرَ فَهَذَا وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ وَالْقِيَاسُ فِيهَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 190 هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَمِينٌ فِيمَا هَلَكَ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ لَزِمَهُ الْبَاقِي بِعَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ أَحَدَهُمَا عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَالْآخَرُ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ فَكَانَ أَمِينًا فِيمَا قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ هَهُنَا فِي الْهَالِكِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بَلْ تَعَيَّنَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَائِعَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْهَالِكُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْبَيْعِ فِيهِ كَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَإِنْشَاءُ الْبَيْعِ فِي الْهَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَذَلِكَ تَعَيُّنُ الْبَيْعِ فِيهِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ مُتَعَيَّنٌ فِي الْبَاقِي فَالْبَائِعُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَبَتَ بِعَيْنِ الْأَمَانَةِ فِي الْهَالِكِ، وَلَوْ لَمْ يَهْلَكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَكِنْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الْبَائِعِ فَالْمَعِيبُ مَحَلُّ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَالتَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْهَالِكِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ يَلْزَمُهُ أَيُّهُمَا شَاءَ فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فِيهِمَا أَخَذَهُمَا وَنِصْفَ قِيمَةِ الْمَعِيبِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعِيبَ كَانَ مُتَرَدَّدَ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً بِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِ الْبَيْعِ فِي الْآخَرِ وَبِحُدُوثِ الْعَيْبِ فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ فَيَتَنَصَّفُ ضَمَانُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِاعْتِبَارِ التَّرَدُّدِ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ الصَّفْقَةَ فِيهِ كَانَ فَوَاتُ ذَلِكَ الْجُزْءِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَوْ لَزِمَهُ فِي الْآخَرِ كَانَ فَوَاتُ ذَلِكَ الْجُزْءِ عَلَى الْبَائِعِ فَإِذَا نَقَضَ الْبَيْعَ فِيهِمَا كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ قِيمَةِ الْمَعِيبِ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُ مِنْ قِيمَةِ الْمَعِيبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْجُزْءِ مُعْتَبَرٌ بِفَوَاتِ الْكُلِّ، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَضْمَنْ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا لِلْبَائِعِ وَإِنْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي وَإِنْ شَاءَ نَقَضَهُ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ خَرَجَ مِنْ الْعَقْدِ فَيَبْقَى خِيَارُ الْبَائِعِ فِي الْبَاقِي كَمَا كَانَ، وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ وَحَدَثَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ فَإِنْ اخْتَارَ إلْزَامَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ الْمَعِيبَ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا عَيَّنَ الْعَقْدَ فِيهِ الْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ تَعَيَّبَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ وَإِذَا رَدَّهُ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ الْعَيْبَ فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْعَقْدِ عَنْ الْآخَرِ ضَرُورَةً فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ بَعْدَ مَا انْتَفَى الْعَقْدُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 191 [بَابُ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْحُرِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّرْطُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إنْ رَدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَالْبَيْعُ تَامٌّ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ فَإِنْ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الثَّمَنَ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْجَارِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ بَيْعِهِ فِيهَا سُقُوطَ خِيَارِهِ؛ وَلِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِمَنْزِلَةِ فَسْخِ الْبَيْعِ مِنْهُ، وَفَسْخُهُ لِلْبَيْعِ فِيهَا بَعْدَ مَا بَاعَهَا بَاطِلٌ فَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ، وَالْجَارِيَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهَا. وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ أَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ آخَرُ حَتَّى غَرِمَ قِيمَتَهَا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ يَكُونُ مُسْقِطًا خِيَارَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ مَحَلِّ الْفَسْخِ، وَهَذَا فِي الْمَوْتِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي قَتْلِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَجْلِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالْعَقْدُ فِيهَا فَلَا يَنْتَهِي بِالْقَبْضِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْعَقْدُ إلَى مِلْكِ الْقِيمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَسْخُ بِالتَّحَالُفِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْقَاتِلِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ الْفَسْخُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 2 وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ جَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً أَوْ أَصَابَهَا عَيْبٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ ثُمَّ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ نَقْصِ الثَّمَنِ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ فَسْخٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ، وَلَوْ فُسِخَ الْبَيْعُ قَصْدًا تَخَيَّرَ الْبَائِعُ لِحُدُوثِ مَا حَدَثَ فِيهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ، وَلَوْ كَانَ الْوَاطِئُ أَوْ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا فَوَجَبَ الْعُقْرُ أَوْ الْأَرْشُ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ عَلَى الْجَارِيَةِ سَبِيلٌ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي الْمُشْتَرِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ. وَإِنَّمَا لَهُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ حَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ مِنْ فِعْلِ الْجَانِي الْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِمُوجَبِ مَا أَحْدَثَهُ فِيهَا مِنْ وَطْءٍ أَوْ جِنَايَةٍ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَإِنْ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْأَجْنَبِيَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَضْمُونَةً بَعْدَ الْفَسْخِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا حَدَثَ فِيهَا بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالزِّيَادَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ فِيهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَسْخِ يَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ. وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَجْنَبِيُّ وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ حَتَّى تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي مَالِيَّتِهَا بِالْوَطْءِ فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ أَخَذَهَا الْبَائِعُ، وَأَخَذَ عُقْرَهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ فِي الْمَالِيَّةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْجَوَابِ، وَقَالَ: لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ كَالْجِنَايَةِ، وَالْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَقِيلَ فِي تَخْرِيجِهِ: إنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ هُوَ الْوَاطِئُ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَخَيَّرْ الْبَائِعُ فَإِذَا كَانَ الْوَاطِئُ أَجْنَبِيًّا فَوَجَبَ الْعُقْرُ، وَتَمَكُّنَ الْبَائِعِ مِنْ أَخْذِهَا مَعَ الْعَقْدِ أَوْلَى أَنْ لَا يُثْبِتَ لَهُ الْخِيَارَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يَتَخَيَّرْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي مَعَ عُقْرِهَا وَلَمْ يَتَخَيَّرْ فَكَذَلِكَ الْبَائِعُ فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَ الْجَارِيَةِ أَوْ افْتَضَّهَا، وَهِيَ بِكْرٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، وَنِصْفَ ثَمَنِهَا فِي الْقَطْعِ؛ لِتَغَيُّرِ الْجَارِيَةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالتَّنَاوُلِ مَقْصُودَةً فَيَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْيَدِ مِنْ الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنَايَةٍ جَنَى عَلَيْهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 3 أَخَذَ نُقْصَانَهَا مِنْ الثَّمَنِ إذَا اخْتَارَ الْبَائِعُ أَخْذَهَا، وَإِنْ كَانَ افْتَضَّهَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى عُقْرِهَا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَصَهَا الْوَطْءُ مِنْ قِيمَتِهَا فَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْ عُقْرِهَا وَمِمَّا نَقَصَ الْوَطْءُ مِنْ قِيمَتِهَا فَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ شَيْئًا أَخَذَهَا الْبَائِعُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْوَطْءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَعَلَى عُقْرِهَا فَيَأْخُذُهَا الْبَائِعُ، وَحِصَّةَ الْعُقْرِ مِنْ ثَمَنِهَا. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَائِعِ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فَحَالُ الْمُشْتَرِي هَهُنَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهَا فِي ضَمَانِ مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الرَّدِّ كَانَ هَلَاكُهَا عَلَى مِلْكِهِ كَمَا فِي الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَسْتَوِي تَخْرِيجُ الْفَصْلَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ وَلَدًا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ مَضَتْ الْأَيَّامُ، وَهُمَا حَيَّانِ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَالْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَلَوْ لَمْ تَلِدْ، وَلَكِنَّهَا قَدْ ازْدَادَتْ فِي يَدِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِزِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُمْنَعُ الْفَسْخُ؛ لِأَجْلِهَا كَمَا فِي الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا مِنْ اعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْفَسْخِ بِسَبَبِ التَّحَالُفِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ، وَنَقَّصَتْهَا الْوِلَادَةُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لِلنُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِيهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ آخَرَ. وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا، وَتَأْثِيرُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لَا فِي تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِهِ، وَلَوْ مَاتَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ تَلِدْ فَعَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ انْفَسَخَ فَقَدْ تَعَيَّبَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا هَلَكَتْ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَسْخُ كَمَا إذَا هَلَكَتْ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ مَاتَتْ وَبَقِيَ وَلَدُهَا فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ الْوَلَدَ لِلْمُشْتَرِي وَأَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَلَدَ وَرَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّةِ الْأُمِّ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا صَارَ مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْدَادِ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ فَكَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي هُنَاكَ يَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ هُنَا. وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُعْطِ الْبَائِعُ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ حَدَثَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ وَطِئَهَا، وَهِيَ بِكْرٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 4 أَوْ ثَيِّبٌ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ مَضَتْ الْأَيَّامُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَائِعُ فَهَذَا وَمَا وَصَفْنَا مِنْ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَلَوْ مَضَتْ الْأَيَّامُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مَا شَرَطَهُ ثُمَّ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوَقَتَلَهَا كَانَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَهَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُقَابَضَةِ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْفَسْخِ؛ لِبَقَاءِ الْعَرْضِ الْآخَرِ، وَإِذَا بَقِيَ الْفَسْخُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ عَيْنِهَا فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ، وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا أَوْ فَقَأَهَا الْمُشْتَرِي أَخَذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ، وَنِصْفَ قِيمَتِهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَفَوَاتُ نِصْفِهَا بَعْدَ الْفَسْخِ مُعْتَبَرٌ بِفَوَاتِ كُلِّهَا، وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ فَقَأَ عَيْنَهَا أَوْ قَتَلَهَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهَا فِي الْقَتْلِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي حَالًّا، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْفَسْخِ مَمْلُوكَةٌ لِلْبَائِعِ مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ، وَأَمَّا فِي فَقْءِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَيَتَّبِعُ بِأَرْشِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرِيَ أَوْ الْجَانِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ حَالًّا كَمَا فِي الْمَغْصُوبَةِ إذَا فَقَأَ إنْسَانٌ عَيْنَهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْجَانِي، وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ ذَلِكَ إلَّا بِفَسْخِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَبَقَاءُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا حِينَ حَدَثَ مَا حَدَثَ، وَمُضِيُّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ مِنْ الْمُشْتَرِي قَصْدًا، وَفَسْخُهُ بَعْدَ مَا تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا لِلْبَائِعِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ الْفَرْقُ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ أَوْ الْحُرُّ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقَابَضَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إنْ رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَطِئَ الْجَارِيَةَ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ رَدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جَارِيَتَهُ، وَيُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ بِالْوَطْءِ عُقْرَهَا، وَفِي الْفَقْءِ نِصْفَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعَةُ قَائِمَةٌ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فِي يَدِهِ عَلَى خِيَارِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ ظَهَرَ أَنَّ جِنَايَةَ الْمُشْتَرِي وَوَطْأَهُ حَصَلَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَالْأَرْشُ، وَإِنْ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ تَمَّ الْبَيْعُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعُقْرِ وَالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ إذَا سَقَطَ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِزِيَادَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَالْأَرْشُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَخَذَ جَارِيَتَهُ، وَنِصْفَ قِيمَتِهَا فَفِي فَقْءِ الْعَيْنِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 5 إنْ شَاءَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْفَاقِئِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ الْفَاقِئِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْبَائِعِ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَالْمَغْصُوبَةِ. وَفِي الْوَطْءِ إنْ كَانَتْ بِكْرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُ مَالِيَّتَهَا، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ أَخَذَهَا الْبَائِعُ، وَاتَّبَعَ الْوَاطِئَ بِعُقْرِهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَالِيَّتُهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ فِي مَالِيَّتِهَا بِهَذَا الْوَطْءِ، وَهِيَ كَالْمَغْصُوبَةِ إذَا وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَهِيَ ثَيِّبٌ، وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ تَمَّ الْبَيْعُ، وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي الْفَاقِئَ أَوْ الْوَاطِئَ بِالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ. لِأَنَّهُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ مِلْكُهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِزَوَائِدِهَا الْمُنْفَصِلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا وَفَقَأَ عَيْنَهَا فَقَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ رَدَّ الثَّمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرُدَّ، وَيَأْخُذُ جَارِيَتَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمِلْكِهِ حِينَ عَجَزَ نَفْسُهُ عَنْ تَسْلِيمِهَا كَمَا بَاعَهَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يَرُدَّ الثَّمَنَ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ تَمَّ الْبَيْعُ وَتَأَكَّدَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ فَفِعْلُ الْبَائِعِ فِيهَا كَفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ عَقْرُهَا، وَأَرْشُهَا لِلْمُشْتَرِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشُّفْعَةِ فِي بَيْعِ الْمَأْذُونِ وَشِرَائِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى فِيمَا بَاعَ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ أَوْ اشْتَرَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ الْمُوَلِّي لَهُ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ لِمَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ لَهُ، وَلَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِ مَا اشْتَرَاهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ لَا بِطَرِيقِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ مَالِكٌ لِكَسْبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، وَشِرَاؤُهُ كَسْبَ عَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيمَا بَاعَ مَوْلَاهُ أَوْ اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ مَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِالشُّفْعَةِ لَهُ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْبَائِعِ، وَلَا يُفِيدُ أَخْذُهُ بِمَا اشْتَرَاهُ الْمَوْلَى بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِرْدَادِ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَنْعِهِ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ فَيَكُونُ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفِيدًا بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً لَا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ الْعَبْدُ دَارًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ أَخَذَهَا مِنْ الْعَبْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ مُتَمَلِّكًا. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 6 عَلَيْهِ الدَّارَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ مِنْهُ بِالْغَبْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ وَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِمْ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ، وَالْفَاحِشُ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَا يَثْبُتُ ثَمَنًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ. وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ دَارًا، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَالْأَجْنَبِيُّ شَفِيعُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً فَالْبَيْعُ وَالثَّمَنُ كِلَاهُمَا خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَمُبَادَلَةُ مِلْكِهِ بِمُلْكِهِ لَا تَجُوزُ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهَا بِدُونِ هَذَا الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْبَيْعُ مُفِيدًا. وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ تَلْغُو إذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنْ فَائِدَةٍ فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ بَيْنَهُمَا فَالدَّارُ كَانَتْ حَقًّا لِغُرَمَائِهِ، وَكَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ أَخْذِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَبِالشِّرَاءِ يَصِيرُ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَبِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ بَيْعَ الْمَأْذُونِ مِنْ مَوْلَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بَاطِلٌ كَبَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ، فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالشُّفْعَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَعِنْدَهُمَا لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا أَوْ يَتْرُكَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يُزِيلَ الْمُحَابَاةَ فَيَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِحُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ ثَابِتٌ لِلْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إذَا رَضِيَ بِهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ فَإِنْ تَرَكَهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا الْمَوْلَى بِتَمَامِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْبَائِعَ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِبَيْعٍ مُفِيدٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا، وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ بَاعَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ وَكَوْنُ الْعَبْدِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ إقْرَارَهُ لِمَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ، وَالزِّيَادَةُ مِنْهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ، وَعِنْدَهُمَا الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ الدَّارَ لِلْعَبْدِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعَبْدِ الزِّيَادَةَ لِمَوْلَاهُ لَمْ تَصِحَّ، وَأَمَّا أَصْلُ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَصَحِيحٌ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمَوْلَى؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ سَلَّمَهَا لَهُ بِالْقِيمَةِ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ ثَابِتٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ رِضَاهُ بِهَا، وَإِنْ أَبَى كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْمَوْلَى بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ رَهْنَا الْمَوْلَى قَدْ تَمَّ بِالْبَيْعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ يَكْفِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 7 لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعِهَا، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً. وَإِذَا سَلَّمَ الْمَأْذُونُ شُفْعَةً وَجَبَتْ لَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَتَسْلِيمُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَيَمْلِكُ تَسْلِيمَهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَمَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ فَتَسْلِيمُهَا بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الشِّرَاءِ، وَالْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمَأْذُونُ مَالِكٌ كَذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمَهَا مَوْلَاهُ جَازَ تَسْلِيمُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَمَا أَخَذَهَا الْعَبْدُ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَ شَفِيعُهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَتَسْلِيمُ الْمَوْلَى بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ إقَالَتِهِ وَبَيْعِهِ ابْتِدَاءً؛ وَهَذَا لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَالْمَوْلَى جُعِلَ كَالْأَجْنَبِيِّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ الْعَبْدُ حَتَّى اسْتَوْفَى الْغُرَمَاءُ دَيْنَهُمْ أَوْ أَبْرَءُوا الْعَبْدَ مِنْ دَيْنِهِمْ سُلِّمَتْ الدَّارُ؛ لِلْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الْمَوْلَى الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَوْلَى الشُّفْعَةَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَنْفُذُ بِسُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، التَّبَرُّعَاتُ وَالْمُعَاوَضَاتُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لَهُ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ابْتِدَاءً بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ الْمَوْلَى الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَأْخُذُ لِلْمَوْلَى، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِكَسْبِ عَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْغُرَمَاءَ دَيْنَهُمْ فَإِنْ قَضَاهُمْ دُيُونَهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْجَوَازِ، وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، وَالْغُرَمَاءُ مِنْ مِلْكِ عَيْنِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ كَسْبُ الْعَبْدِ كَالْأَجَانِبِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْغُرَمَاءِ اسْتِخْلَاصُهَا، وَأَمَّا حَقُّهُمْ فِي مَالِيَّتِهَا فَبِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ بِخِلَافِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ. وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إنْ سَلَّمَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْحَجْرِ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأَخْذَ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ أَلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْغُرَمَاءَ دَيْنَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِزَوَالِ الْمَانِعِ سَوَاءٌ سَلَّمَ الْعَبْدُ الشُّفْعَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 8 وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْمَوْلَى مَالِكٌ؛ لِكَسْبِهِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ، وَالشُّفْعَةُ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبٍ مِنْهَا كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ مَا قَضَى الدَّيْنَ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَوَكَّلَ الشَّفِيعُ مَوْلَى الْعَبْدِ يَأْخُذُهَا لَهُ، وَبِالْخُصُومَةِ فِيهَا، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّوْكِيلُ مَلَكَ الْوَكِيلُ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَفِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ؛ لِلْمَوْلَى وَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ عَبْدِهِ فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ غَرِيمُ الْعَبْدِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَلَّمَهَا الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى بِالشُّفْعَةِ صَارَتْ الدَّارُ لِلشَّفِيعِ، وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْلَى الدَّارَ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الشَّفِيعِ حَتَّى يَقْبِضَهَا الشَّفِيعُ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْعُهْدَةُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَالشَّفِيعِ، وَلَا عُهْدَةَ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ صَارَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ؛ لِلشَّفِيعِ فَإِذَا سَلَّمَهَا الْعَبْدُ إلَيْهِ مَلَكَهَا الشَّفِيعُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَهُ يَقْبِضُ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ الْعَبْدُ بِقَبْضِ الْمَوْلَى حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَى الْغَرِيمِ فَإِذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ بَرِئَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهَا الْغَرِيمُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بَعْضَ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْغَرِيمِ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَوْلَى فَإِنَّ حَقَّهُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الشَّفِيعَ فَوَكَّلَ مَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ لَهُ أَوْ بَعْضِ غُرَمَائِهِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ، كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ الْعَبْدُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي تَسْلِيمِهِ إقْرَارَهُ إضْرَارًا بِالْمَوْلَى وَالْغَرِيمِ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِيهِ فَإِنْ سَلَّمَ الْمَوْلَى الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ تَسْلِيمُهُ. وَإِنْ سَلَّمَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُهَا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ: تَسْلِيمُهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّا فِي الشُّفْعَةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَنْ مَلَكَ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ مَلَكَ تَسْلِيمَهَا، وَإِنْ كَانَ نَائِبًا كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ يَجُوزُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ. فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ كَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 9 يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا سَلَّمَهَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْأَخْذِ، وَإِذَا سَلَّمَهَا فِي غَيْرِ مَجْلِس الْقَاضِي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَقَّ وَاجِبٌ لَهُ لَا بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْغُرَمَاءِ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْ الْخُصُومَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى حَقِّهِ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍّ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْأَخْذِ فَكَذَلِكَ التَّسْلِيمُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَالتَّسْلِيمُ إسْقَاطٌ، وَهُوَ ضِدُّ مَا وَكَّلَهُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ وَكِيلُ الْعَبْدِ بِالْأَخْذِ بَعْضَ غُرَمَائِهِ فَتَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ سَلَّمَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إقْرَارُهُ بِذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ وَكِيلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ، وَإِقْرَارِ وَكِيلِ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ. رَجُلٌ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَبَاعَ الْوَصِيُّ دَارًا لِلْمَيِّتِ لَهَا شَفِيعٌ فَوَكَّلَ الشَّفِيعُ بَعْضَ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا بِيعَتْ لَهُ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ بِيعَتْ لَهُ لَا يَأْخُذُهَا لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُهَا لِغَيْرِهِ بِوَكَالَتِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا فِيمَا بَاعَهُ الْعَبْدُ: إنَّ الْمَوْلَى أَوْ الْغَرِيمَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ لِغُرَمَائِهِ مِنْ وَجْهٍ وَلِمَوْلَاهُ مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ اشْتَرَى فِي حَيَاتِهِ دَارًا، وَقَبَضَهَا ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَطَلَبَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، وَوَكَّلَ فِي الْخُصُومَةِ فِيهَا بَعْضَ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّوْكِيلُ مَلَكَ التَّسْلِيمَ، وَالْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ فَإِنْ - سَلَّمَهَا الْوَصِيُّ بِغَيْرِ خُصُومِهِ كَانَتْ لِلشَّفِيعِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَقْبِضَهَا، وَلَكِنَّ الشَّفِيعَ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُهَا، وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا بَطَلَتْ صَارَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ لِلشَّفِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ وَارِثًا بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي التَّسْلِيمِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَنْفَعَةَ الْوَارِثِ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْغَرِيمِ. وَلَوْ بَاعَ الْمَأْذُونُ دَارًا وَسَلَّمَهَا وَلَهَا شَفِيعٌ فَوَكَّلَ الشَّفِيعُ بِخُصُومَةِ الْمُشْتَرِي مَوْلَى الْعَبْدِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ وَكَّلَ بَعْضَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَائِعٌ لِلدَّارِ لِغُرَمَائِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ مَالِيَّتَهَا حَقُّهُمْ، لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ إذَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 10 فَرَغَ مِنْ الدَّيْنِ، وَمِنْ بَيْعٍ لَهُ؛ لِيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَأْخُذُ؛ لِنَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا بَاعَ دَارَ الرَّجُلِ بِأَمْرِهِ فَوَكَّلَ الشَّفِيعُ الْآمِرَ بِخُصُومَةِ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا؛ لِأَنَّهَا بِيعَتْ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَوَكَّلَ شَفِيعُهَا رَبَّ الْمَالِ بِالْخُصُومَةِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لَهُ بِغَيْرِ خُصُومَةٍ جَازَ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الَّذِي قَبَضَهَا، وَالْعُهْدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ لَهُ حِينَ يَطْلُبُ الْوَكَالَةَ، وَعِبَارَةُ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهَا بِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيْعِ الْمَأْذُونِ الْمَكِيلَ أَوْ الْمَوْزُونَ مِنْ صِنْفَيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ رَجُلٍ عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ، وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فَقَالَ: أَبِيعُك هَذِهِ الْعَشَرَةَ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ الْأَقْفِزَةُ شَعِيرٌ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَعْلُومٌ، وَالثَّمَنُ مَعْلُومٌ وَكُلٌّ مَتَى أُضِيفَتْ إلَى مَا يُعْلَمُ مُنْتَهَاهُ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَإِنْ تَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْحِنْطَةِ عَيْبًا رَدَّهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى حِسَابِ كُلِّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ اشْتَرَى وَعِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنَّمَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَتِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ دِرْهَمًا رَدَّهَا بِذَلِكَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الْقَفِيزُ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَكُلُّ قَفِيزٍ مِنْ الشَّعِيرِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كُلُّ قَفِيزٍ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْحِنْطَةِ عَيْبًا، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى حِسَابِ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَالنِّصْفُ مِنْ الشَّعِيرِ بِدِرْهَمٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسِّمَ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَقِيمَةِ الشَّعِيرِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَةُ الشَّعِيرِ عَشَرَةً رَدَّ الْحِنْطَةَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَفِيزَ الَّذِي جَعَلَ الدِّرْهَمَ بِمُقَابَلَتِهِ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا. وَمُطْلَقُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ نِصْفُ كُلِّ قَفِيزٍ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَنِصْفٍ مِنْ الشَّعِيرِ، فَلِهَذَا يُقَسَّمُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ ذَكَرَ الْقَفِيزَ مُطْلَقًا، وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ دِرْهَمٌ، وَبِمُقَابَلَةِ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الْقَفِيزُ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ فَهَذَا وَقَوْلُهُ كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَهَذَا الشَّعِيرَ، وَلَمْ يُسَمِّ كَيْلَهُمَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْجُمْلَةُ مَعْلُومَةً، فَإِنَّ مَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ قَفِيزًا وَاحِدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 11 هَذَا الْأَصْلَ فِي الْبُيُوعِ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَفِيزَ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ مِنْ الشَّعِيرِ فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِلْجَهَالَةِ حَتَّى يُعْلَمَ الْكَيْلُ كُلُّهُ فَإِنْ عَلِمَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِدِرْهَمٍ، وَكُلَّ قَفِيزِ شَعِيرٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَهَكَذَا يَكْشِفُ الْحَالُ عِنْدَهُ إذَا صَارَتْ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومَةً لَهُ الْآنَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَخْذِ، وَالتَّرْكِ، وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ جَائِزٌ كُلُّ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِدِرْهَمٍ، وَكُلُّ قَفِيزٍ مِنْ الشَّعِيرِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجُمْلَةِ لَا تَقْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ وَاقِعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَفِيزٍ وَاحِدٍ نِصْفُهُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَنِصْفُهُ مِنْ الشَّعِيرِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ، وَثَمَنُهُ مَعْلُومٌ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْقَفِيزِ الْوَاحِدِ إذَا عَلِمَ بِكَيْلِ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْبَيْعُ لَازِمٌ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ نِصْفُهُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَنِصْفُهُ مِنْ الشَّعِيرِ. وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ كُرٍّ فَاشْتَرَاهَا عَلَى ذَلِكَ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ كُرٍّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَوَجَدَهُ عَلَى شَرْطِهِ الَّذِي سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ، وَالثَّمَنُ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، وَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ كُرٍّ أَوْ كُرًّا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ كُرٍّ كَمَا سُمِّيَ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمُشْتَرَى أَقَلُّ مِنْ الْكُرِّ بِقَفِيزٍ أَوْ قَفِيزَيْنِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تَقْتَضِي الْمُنَازَعَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ كُرٍّ فَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ كُرٍّ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا عَلَى شَرْطِهِ، وَالْبَيْعُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعًا، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ كُرٍّ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا حِصَّةَ مَا نَقَصَ مِنْهَا مِمَّا شَرَطَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطِ حِصَّةِ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ، وَأَقَلُّ مِنْهُ فَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا عَلَى شَرْطِهِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ كُرٍّ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ ذَلِكَ كُرٌّ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُنْقِصَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَهَا كُرًّا كَانَ الْكُلُّ مُسْتَحَقًّا لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الْكُرِّ مُسْتَحَقًّا لِلْمُشْتَرِي، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكُرِّ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتَنَاوَلُهَا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ أَوْ أَكْثَرُ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قَسَّمَ عَلَى كُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مِقْدَارِ الْكُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهَا كُرًّا لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فَإِذَا كَانَ أَنْقَصَ مِنْ كُرٍّ فَقَدْرُ النُّقْصَانِ مَعْلُومٌ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَيَتَخَيَّرُ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَرْفَ أَوْ؛ لِلتَّخْيِيرِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 12 فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفٍ أَوْ فِي الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ رَدَّدَ الْكَلَامَ بَيْنَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَوْ النُّقْصَانُ عَنْهُ إلَّا أَنَّ فِي ذِكْرِ النُّقْصَانِ لِلْبَائِعِ فَائِدَةً، وَهُوَ أَنْ لَا يُخَاصِمَهُ إنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ وَفِي ذِكْرِ الزِّيَادَةِ لِلْمُشْتَرِي فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ رَدُّ شَيْءٍ إذَا وَجَدَهُ أَكْثَرَ. وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الدَّارِ صِفَةٌ، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْوَصْفِ فَإِنْ وَجَدَهَا أَزِيدَ مِمَّا قَالَ وَصَفًّا لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْبَيْعِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ فَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا عَلَى شَرْطِهِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ أَوْ أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا أَنْقَصَ مِمَّا سَمَّى الْبَائِعُ لَهُ مِنْ الْوَصْفِ فَيَتَخَيَّرُ؛ لِذَلِكَ فَإِذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْوَصْفِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ رَجُلٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَجَدَهُ ثَمَانِيَةً فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك عَلَى أَنَّهُ ثَمَانِيَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي زِيَادَةَ وَصْفِ شَرْطِهِ؛ لِيَثْبُتَ لَهُ الْخِيَارُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ فَوْتِهِ فَإِنَّ الذُّرْعَانَ فِي الثَّوْبِ صِفَةٌ، وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ الْعَبْدَ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهُ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهُ ثَمَانِيَةَ أَذْرُعٍ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ عَلَى أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ أَشْتَرِطْ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هَهُنَا بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ كَانَ ذُرْعَانُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ فَإِذَا كَانَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَالثَّمَنُ ثَمَانِيَةٌ إذَا كَانَ ذُرْعَانُ الثَّوْبِ ثَمَانِيَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ التَّحَالُفُ وَالتَّرَادُّ، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي إثْبَاتَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لِفَوْتِ وَصْفٍ شَرَطَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرَطَهُ كَاتِبًا أَوْ ادَّعَى شَرْطَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ، وَلَا تَحَالُفَ فِي ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ؛ لِلشَّرْطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عِتْقِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ وَرَقِيقَهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ؛ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ بَالِغَةً الجزء: 26 ¦ الصفحة: 13 مَا بَلَغَتْ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ بِالْإِعْتَاقِ، وَهَذِهِ الْمَالِيَّةُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَيَضْمَنُهَا لَهُمْ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَالرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ، وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنَّهُ قَتَلَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا خَطَأً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ، وَالْفِدَاءُ الدِّيَةُ إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا، وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ إنْ كَانَ عَبْدًا إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْمَمْلُوكِ بِالْقَتْلِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ غَرِمَ قِيمَةَ عَبْدِهِ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَيَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ، وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ. فَإِذَا أَعْتَقَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِمَنْعِ الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لِلْفِدَاءِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلْعَبْدِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ جَزَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ، وَلَا يُزَادُ قِيمَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِيمَةٌ لَزِمَتْهُ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْمَمْلُوكِ فَيُقَاسُ بِقِيمَةٍ تَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ فَإِذَا كَانَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةٍ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ مِنْ الْمَمْلُوكِ. وَهَذَا يُخَالِفُ فَضْلَ الدَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ عِلْمَ الْمَوْلَى وَعَدَمَ عِلْمِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ تَبَعًا فِي الدَّيْنِ وَإِعْتَاقُ الْمَوْلَى إتْلَافٌ؛ لِذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْمُسْتَحَقُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَفِي حُكْمِ الِاخْتِيَارِ يَخْتَلِفُ الْعِلْمُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هُنَاكَ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ تِلْكَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالِيَّةَ مِنْ غَصْبٍ وَشِرَاءٍ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَهَا هُنَا وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا غَرِمَ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ عَبْدِهِ، وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَيَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ. لِأَنَّ الْأَقَلَّ هُوَ الْمُتَيَقِّنُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَا يُزَادُ الْوَاجِبُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَجِنَايَاتٌ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ غَرِمَ؛ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَاتِ ثُمَّ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ فَيُسَلِّمُ الْمَالِيَّةَ لِلْغُرَمَاءِ بِكَمَالِهَا، وَيَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِالْجِنَايَاتِ حُرٌّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَتَخَلَّصُ الْمَوْلَى مِنْ جِنَايَاتِهِ بِدَفْعِهِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِإِعْتَاقِهِ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 14 إلَّا عَشَرَةً، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمَا فِي سَبَبِ وُجُوبِ حَقِّهِمَا، وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَاتِ كُلِّهَا أَوَّلًا ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ فِي دُيُونِهِمْ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَاتِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي الْجِنَايَات فَيَضْمَنُهَا كُلَّهَا، وَصَارَ ضَامِنًا الْقِيمَةَ لِلْغُرَمَاءِ بِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، وَلَا شَرِكَةَ؛ لِبَعْضِهِمْ مَعَ الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَبِيرٌ لَمْ يَغْرَمْ لِلْمَوْلَى شَيْئًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ هَاهُنَا مَا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَلْ بِالْكَسْبِ، وَبِالْإِعْتَاقِ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ حَقِّهِمْ فَلَا يَغْرَمُ الْمَوْلَى لَهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْقِنِّ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى أَمَةً مِنْ رَقِيقِهِ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ عِتْقُهُ بَاطِلٌ مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ، وَفِي قَوْلِهِمْ عِتْقُهُ نَافِذٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا يَنْفُذُ فِي رَقَبَتِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ فَإِنْ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَضْلٌ عَلَى دَيْنِهِ حَتَّى جَازَ عِتْقُ الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ فَالْمَوْلَى ضَامِنٌ قِيمَةَ الْأَمَةِ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَشْغَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْكَسْبِ، وَالْمَوْلَى يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ الْمُعْتَقَةِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا عَلَى الْجَارِيَةِ الْمُعْتَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ سُلِّمَتْ لَهَا، وَاحْتُبِسَتْ عِنْدَهَا بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وُجِدَ مِنْ الْمَوْلَى، وَكَانَ الضَّمَانُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ هِيَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى. وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَالتَّدْبِيرُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، وَذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْذُونِ فَهُوَ كَإِعْتَاقِهِ إيَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عِتْقُهُ وَتَدْبِيرُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ قِيمَةَ الْأَمَةِ بِإِتْلَافِ مَالِيَّتِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُضَمِّنُوهَا الْقِيمَةَ وَيُرْجَعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا. وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ إذَا أَعْتَقَ جَارِيَةً مِنْ التَّرِكَةِ، وَفِيهَا دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا فَإِنَّ الْوَارِثَ مَالِكٌ لِلتَّرِكَةِ هَاهُنَا فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَيَكُونُ التَّحْرِيجُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي إعْتَاقِ الْمَوْلَى كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ. وَلَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى أَمَةَ الْمَأْذُونِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَصَارَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَلَا يَضْمَنُ عُقْرَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 15 الْمَوْلَى فِي كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ أَقْوَى مِنْ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهَا؛ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ ثُمَّ هُنَاكَ اسْتِيلَادُهُ صَحِيحٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا دُونَ الْعُقْرِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الِاسْتِيلَادِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ أَنَّ صِحَّةَ دَعْوَتِهِ اسْتِحْسَانٌ يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا كَمَا لَا يَمْلِكُ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ دَعْوَاهُ وَلَدَ أَمَةٍ مُكَاتَبَةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ، فَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ وَلَدَ أَمَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ هُنَاكَ: لَا يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُعْتَبَرُ بِالِاسْتِيلَادِ كَأَنَّهُ اسْتَخْلَصَهَا لِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ قِيمَتِهَا، وَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي انْتِقَاءِ الْعُقْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَمْلِكُهَا مَادَامَ مَشْغُولَةً بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيُقَدِّمُ تَمْلِيكَهَا مِنْهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ وَاسِقَاطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْهَا عَلَى الِاسْتِيلَادِ؛ لِيَصِحَّ الِاسْتِيلَادُ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا حَقِيقَةً، وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُمْ جَمِيعَ قِيمَةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ عُقْرَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْذُونِ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْمَأْذُونِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ، وَمَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَضَى الْغُرَمَاءُ الدَّيْنَ أَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ أَوْ بَعْضُهُمْ حَتَّى صَارَ فِي قِيمَتِهِ وَفِيمَا فِي يَدِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ جَازَ عِتْقُ الْمَوْلَى الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعْتَقَهَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا تَامًّا، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ مَانِعًا فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ نَفَذَ الْعِتْقُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَبَطَلَ الْعِتْقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ وَطِئَهَا الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَدَعْوَاهُ جَائِزَةٌ، وَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَتَهَا لِلْغُرَمَاءِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِي الِاسْتِيلَادِ لِأَمَتِهِ، إذَا كَانَ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ ثُمَّ الْجَارِيَةُ حُرَّةٌ؛ لِسُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْهَا، وَالِاسْتِيلَادِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حَقَّهُمْ عَنْهَا بِالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَتْ حُرَّةً بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَعَلَى الْمَوْلَى الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ سَابِقًا عَلَى الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ كَانَ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ ذَلِكَ الْعِتْقِ فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ عَنْهَا زَالَ الْمَانِعُ عَنْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ، وَهِيَ حُرَّةٌ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَخْلُو عَنْ حَدٍّ أَوْ عُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ. فَإِذَا ادَّعَى الْمَوْلَى بَعْضَ رَقِيقِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 16 الْمَأْذُونِ أَنَّهُ وَلَدُهُ، وَلَمْ يَكُنْ وَلَدٌ فِي مِلْكِ الْمَأْذُونِ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا ضَمِنَ الْوَلَدَ، وَرَجَعَ بِهِ عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ فَإِنَّ أَصْلَ الْعَلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ كَالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْإِعْتَاقِ. وَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَمَةً مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَدَثَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُنَاكَ: إنَّمَا أَعْتَقَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ. وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ تَمَامَ سَبَبِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ فَأَمَّا سَبَبُ الْمِلْكِ فَتَامٌّ لِلْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَلِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ فَيَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ عَلَى أَنْ يَتِمَّ بِتَمَامِ الْمِلْكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ، وَتَرَكَ ابْنَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ فَأَسْلَمَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ كَانَ الْمِيرَاثُ لِلِابْنَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ تَمَامُ سَبَبِ الْمِلْكِ عِنْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ كَانَ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلِابْنِ النَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْمَأْذُونِ عَلَى عَبْدِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا جَنَى الْمَأْذُونُ عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ جِنَايَةَ خَطَأٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قِيلَ لِمَوْلَاهُ: ادْفَعْهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ، وَفِي الْبُدَاءَةِ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، وَفِي الْبُدَاءَةِ بِالْبَيْعِ بِالدَّيْنِ إبْطَالُ حَقِّ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا فِيهِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، وَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءُ فَقَدْ طَهُرَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِيهِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِمْ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ اتَّبَعَهُ الْغُرَمَاءُ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَبَاعُوهُ فِي دَيْنِهِمْ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ فِيهِ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثِ يَخْلُفُونَهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْعَبْدُ الْمَدْيُونُ إذَا مَاتَ مَوْلَاهُ اتَّبَعَهُ الْغُرَمَاءُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ فَبَاعُوهُ فِي دَيْنِهِمْ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْوَارِثُ دَيْنَهُمْ فَكَذَلِكَ يَتْبَعُونَهُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِمْ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ دُيُونَهُمْ. وَإِنْ كَانَ لِلْمَأْذُونِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 17 جَارِيَةٌ مِنْ تِجَارَتِهِ فَقَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَإِنْ شَاءَ الْمَأْذُونُ دَفَعَهَا، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهَا إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كَسْبِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِ بِنَفْسِهِ فَالتَّدْبِيرُ فِي رَقَبَتِهِ لَيْسَ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَيَمْلِكُ بَيْعَ كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ نَفْسًا وَقِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَفَدَاهُ الْمَأْذُونُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا: أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيُطَهِّرُهَا مِنْ الْجِنَايَةِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهَا بِمَا يَفْدِيهَا بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ بِمِقْدَارِ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهَا فَصَالَحَ الْمَأْذُونُ عَنْهَا جَازَ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْذُونُ هُوَ الْقَاتِلَ فَصَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي التَّدْبِيرِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِهِ، وَفِي التَّدْبِيرِ فِي نَفْسِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْتِزَامَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِهَذَا الصُّلْحِ، وَيَجِبُ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ الْتَزَمَهُ بِالْكَفَالَةِ أَوْ بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَأْذُونِ دَارٌ مِنْ تِجَارَتِهِ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِهَذِهِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَدِيَةُ الْمَقْتُولِ الْمَوْجُودِ فِي الْمِلْكِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِ لَهُ بِيَدِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلدَّارِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ يُخَاطَبُ بِدَفْعِ الْعَبْدِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَمِلْكِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَبْدَ قَتَلَهُ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَالْمَوْلَى أَحَقُّ النَّاسِ بِمِلْكِ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ وَيَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِ بِيَدِهِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ سَبَبِ الْمِلْكِ التَّامِّ لَهُ فِيهَا مَقَامَ الْمِلْكِ وَنَظِيرُهُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدَّيْنِ إذَا وُجِدَ فِي دَارٍ مِنْهَا قَتِيلٌ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَارِثِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْمِلْكِ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَفِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ الْغُرَمَاءُ كَالْأَجَانِبِ وَيُجْعَلُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا كَأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لَهَا لَمَّا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْغُرَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِي حَائِطٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 18 مَائِلٍ فَلَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى، وَقَالَا: هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا قُلْنَا. وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ عَلَى دَابَّةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّ قِيمَتَهَا فِي عُنُقِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهَا أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ، وَالْمَوْلَى مِنْ مَالِيَّتِهِ أَجْنَبِيٌّ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ فَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَالِ بِيَدِهِ، وَأَمَّا حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ عَلَى مَوْلَاهُ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَفِي جِنَايَةٍ يَتْرُكُ هَدْمَ الْحَائِطِ الْمَائِلِ أَوْ يَتْرُكُ صِيَانَةَ دَارِهِ حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ يُسْتَحَقُّ مُوجِبُهُ عَلَى الْمَوْلَى أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى صَارَ الْمَوْلَى فِيهِ كَالْمَالِكِ لِلدَّارِ، وَكَانَ الْإِشْهَادُ وُجِدَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ أَنَّ جِنَايَةَ مَمْلُوكِهِ كَجِنَايَتِهِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَجَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِمْ، وَلَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ بَيْعِ الْجَانِي فَإِذَا نَفَذَ بَيْعُهُ كَانَ مُفَوِّتًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ حَقَّهُمْ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَمْ يَحْضُرُوا، وَلَكِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا عَلَى الْغُرَمَاءِ مَحَلَّ حَقِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثَابِتٌ فِي عِتْقِهِ، وَالْمَوْلَى فَعَلَ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي غَيْرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي أَنْ لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ثُمَّ هُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى الْغُرَمَاءِ مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ فِي مِلْكِ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ بِقَضَاءِ قَاضٍ. وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ مَحَلِّ حَقِّهِمْ فَإِنْ جَعَلْنَا هَذَا تَسْلِيمًا؛ لِمَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِالْجِنَايَةِ لَا يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّهِمْ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَا يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّهِمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ، فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ بَيْعِهِ إيَّاهُ فِي الدَّيْنِ فَفِيهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَا سَبِيلَ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَقْصِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى طَالَبَهُ الْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ، وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى، وَالْغُرَمَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَبِعْهُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 19 فِي الدَّيْنِ مِنْ الْقَاضِي إبْطَالَ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا فَإِنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّهِمْ. وَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى ضَامِنًا شَيْئًا إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي يَبِيعُهُ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ مِنْ حَيْثُ تَأَخُّرُ حَقِّهِمْ؛ لِلِانْتِظَارِ، وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الِانْتِظَارِ فَلِهَذَا يَصِيرُ إلَى الِانْتِظَارِ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي أَنْ يُبَاعَ لَهُمْ وَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ غَائِبٌ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ ثَابِتٌ فِي مَالِيَّتِهِ، وَهُوَ طَالِبٌ بِحَقِّهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ صَاحِبَ الْجِنَايَةِ هَلْ يَحْضُرُ فَيَطْلُبُ حَقَّهُ أَوْ لَا يَحْضُرُ فَلَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُ قَضَاءِ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ؛ لِهَذَا ثُمَّ لَا شَيْءَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ أَيْضًا أَمَّا عَلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الَّذِي بَاعَ وَبِبَيْعِ الْقَاضِي لَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُفَوِّتًا مَحَلَّ حَقِّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ. وَالْقَاضِي فِيمَا يَقْضِي مُجْتَهِدٌ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا، وَالْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ شَيْءٌ فَإِنْ بَاعَهُ الْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ الْفَضْلُ عَنْ الدَّيْنِ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْعَبْدِ، وَكَانَ حَقُّهُمْ ثَابِتًا فِي الْعَبْدِ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِي إذَا قَتَلَ ثَبَتَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي قِيمَتِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِرْدَادِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِحَقِّهِمْ فَيُجْعَلُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَحِينَئِذٍ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي مِقْدَارِ الْأَرْشِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، وَقَدْ فَرَغَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى بِأَمْرِ الْقَاضِي فَهَذَا، وَبَيْعُ الْقَاضِي سَوَاءٌ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدَيْنُهُ أَلْفٌ، وَجِنَايَتُهُ قَتْلُ رَجُلٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَدْفَعُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ مِقْدَارَ دَيْنِهِ، وَهُوَ أَلْفٌ، وَإِلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْفَى صَاحِبَ الدَّيْنِ كَمَالَ حَقِّهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ إلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِيُفَوِّتَ مَحَلَّ حَقِّهِ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ كَانَ الْبَاقِي لِلْمَوْلَى. فَإِذَا قُتِلَ الْمَأْذُونُ عَمْدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي مَالِيَّتِهِ، وَقَدْ فَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ بَدَلًا، فَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَالِيَّةِ، وَحَقُّهُمْ فِي مَحَلِّ تَمَكُّنِ إيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنْ صَالَحَ الْمَوْلَى الْقَاتِلَ مِنْ دَمِهِ عَلَى مَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ جَازَ، وَأَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ بِدَيْنِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِيعَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بَدَلُ الْعَبْدِ، وَقَدْ كَانُوا أَحَقَّ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِبَدَلِهِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 20 إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مَحَلًّا صَالِحًا؛ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ صَارَ مَحَلًّا صَالِحًا؛ لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَالْغَرِيمُ لَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ، وَنَفَذَ الصُّلْحُ مِنْ الْمَوْلَى عَلَى أَيِّ قَدْرٍ مِنْ الْبَدَلِ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ بَلْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ بِتَحْصِيلِ مَحَلٍّ هُوَ صَالِحٌ؛ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ الْمَأْذُونَ، وَلَكِنْ قَتَلَ عَبْدًا لَهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى دُونَ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْقَتْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِمَّا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ، وَلَا فِي الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَخَذَهُ مِنْهُ فَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْلَى، وَالْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ مَا بَقِيَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَدَلًا عَنْ كَسْبِهِ، وَالْغُرَمَاءُ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِأَصْلِ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ إذَا قَتَلَ وَفِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ اجْتَمَعَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ؛ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي وَجَبَ الْمَالُ، وَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَكِنَّهُ فِي مَالِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ الْقِيمَةُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْمَمْلُوكِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ مِنْهُ. وَإِذَا جَنَى عَبْدٌ لِرَجُلٍ جِنَايَةً خَطَأً فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا وَيُقَالُ لَهُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ لَا يَمْنَعُ دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يَمْنَعْ دَفْعَهُ بِهَا فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنْ دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ اتَّبَعَهُ الْغُرَمَاءُ فَبِيعَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ صَارَتْ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَدَاهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ رَجَعَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَسُلِّمَتْ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 21 بِجِنَايَتِهِمْ عَبْدًا فَارِغًا. وَإِنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ عَبْدًا هُوَ مُسْتَحَقُّ الْمَالِيَّةِ بِالدَّيْنِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّ مِنْ دَيْنِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ الدَّيْنُ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا اسْتَحَقُّوا الْعَبْدَ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ مُسْتَحَقُّ الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اغْتَصَبَ عَبْدًا مَدْيُونًا ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَبِيعَ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ. وَلَوْ غَصَبَهُ فَارِغًا فَلِحَقِّهِ دَيْنٌ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِأَنْ أَفْسَدَ مَتَاعًا ثُمَّ رَدَّهُ فَبِيعَ فِي الدَّيْنِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِيَّةِ بِالدَّيْنِ كَانَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِهِ، وَهُوَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ لَا فِي مَالِيَّتِهِ فَكَيْف يَغْرَمُ الْمَوْلَى لَهُمْ بِاعْتِبَارِ اكْتِسَابِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِيَّةِ؟ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَانِيَ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَسْتَحِقُّ نَفْسَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ نَفْسَ الْقِنِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمْ يَلْحَقْهُ دَيْنٌ حَتَّى جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَهُ الدَّيْنُ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِذْنِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَنْهَهُ فَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لَحِقَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَرْجِعْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْجِنَايَةِ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَحِقَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْجِنَايَةِ إلَّا، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَحِقَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَأَلْفُ دِرْهَمٍ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ بِيعَ فِي الدَّيْنَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ بِيعَ أَوْ فَدَاهُ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ بِالدَّيْنَيْنِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَوْلَى بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ حِصَّةُ أَصْحَابِ الدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ اعْتِبَارًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ بِمَا لَوْ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ إنَّمَا أَخَذَهُ بِاسْتِدَامَةِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْحَقْهُ الدَّيْنُ لِلْآخَرِ فِي حَالِ رِقِّهِ فَلِهَذَا صَارَ الْمَوْلَى ضَامِنًا لِمَا وَصَلَ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الْآخَرِ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ لَمْ يُسَلَّمْ؛ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ مُحِيطٌ بِمَالِيَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمَوْلَى لَهُمْ شَيْئًا قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ مَا أَخَذَهُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ الْآخَرِ لَا يُسَلَّمُ لَهُمْ إلَّا بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ. وَبِاعْتِبَارِ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْهُ هُوَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 22 سَالِمٌ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ لَوْلَا اسْتِدَامَةُ الْمَوْلَى الْإِذْنَ لَهُ حَتَّى لَحِقَهُ الدَّيْنُ الْآخَرُ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمَوْلَى ذَلِكَ؛ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمَحْجُورُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ فَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّ هَذَا الدَّيْنَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِتَصَرُّفِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى فَاشْتُغِلَتْ مَالِيَّتُهُ بِالدَّيْنِ. كَمَا لَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ الْجَانِيَ ثُمَّ يَرْجِعُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَتِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ بِاكْتِسَابِهِ سَبَبَ اشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً، وَكَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ مِنْهُ فِيهِ. وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ فَيَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ رَجَعَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْمَوْلَى بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَحَقُّوا جَمِيعَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ حِينَ أَقَرَّ لَهُمْ الْمَوْلَى بِذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا عَلَيْهِمْ نِصْفَ الرَّقَبَةِ بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ الْإِتْلَافُ بِدَفْعِ النِّصْفِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا يَغْرَمُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا يَثْبُتُ حَقُّهُ إلَّا فِي النِّصْفِ، فَإِنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَهُ بِالْجِنَايَةِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى ثَابِتَةً، وَهِيَ مُزَاحِمَةٌ لِلْأُخْرَى فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَقَدْ سَلَّمَ نِصْفَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارَهُ لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ رَقَبَتِهِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ تَصَرُّفٌ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ الدَّيْنِ فَيَزُولُ الْمَانِعُ بِهِ وَيَصِيرُ كَالْمَحْدُودِ؛ لِإِقْرَارِهِ بَعْدَمَا سَقَطَ الدَّيْنُ فَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِيَهُ. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا عَمْدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَصَالَحَ الْمَوْلَى صَاحِبَ الْجِنَايَةِ مِنْهَا عَلَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ صُلْحَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ عِوَضًا عَمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَوْ مَلَكَهُ عِوَضًا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِمْ كَالْبَيْعِ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَكِنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صُلْحَهُ كَعَفْوِهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ الْبَدَلَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَدَلِ فِي الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ الْقَوَدِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي دَيْنِهِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ بَعْدَ الدَّيْنِ كَانَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا نَفْسَ الْعَبْدِ بِالصُّلْحِ مَتَى سَقَطَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ كَانَ الْعَبْدُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 23 سَالِمًا لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ مَا يَفْرُغُ مِنْ بَدَلِهِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالِ رِقِّهِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا الْتَزَمَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا سَلِمَ لِلْعَبْدِ الْقِصَاصُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُهُ الْعَبْدُ بِاحْتِبَاسِهِ عِنْدَهُ أَوْ سَلَامَتِهِ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُصَالِحْ، وَلَكِنْ عَفَا أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الَّذِي أَسْقَطَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَهَذَا، وَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِي الِابْتِدَاءِ سَوَاءٌ فَيَدْفَعُ الْمَوْلَى إلَيْهِ نَصِيبَهُ أَوْ يَفْدِيهِ ثُمَّ يُبَاعُ جَمِيعُ الْعَبْدِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ لَا يَسْقُطُ عَنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ بِدَفْعِ نِصْفِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إقْرَارِهِ اسْتِحْقَاقُهُ دَمَهُ، وَدَمُهُ خَالِصٌ حَقَّهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَبْقَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ حَقُّ الْغَرِيمِ فِي مَالِيَّتِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ دَمِهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْغَرِيمِ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْعَافِي قَدْ سَقَطَ بِالْعُقْرِ، وَلَوْ بَقِيَ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ لَكَانَ مُوجِبَهُ الدَّفْعَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً بَاطِلٌ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فِيهِ، فَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِنْ فَدَاهُ، وَقَدْ صَدَّقَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ قِيلَ لَهُ: ادْفَعْ النِّصْفَ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى إذَا فَدَاهُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إذَا كَذَّبَ الْعَبْدَ فِيهِ. وَإِذَا وَجَدَ الْمَأْذُونُ فِي دَارِ مَوْلَاهُ قَتِيلًا، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى فِي مَالِهِ حَالًّا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ دَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى الْقَتِيلَ بِيَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ عِنْدَ الْغَيْرِ قَتِيلًا فِي دَارِهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ عِنْدَهُ قَتِيلًا فِيهِ وَلَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ فِي مَالِهِ حَالًّا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْغَرِيمِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَلَوْ وَجَدَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَأْذُونِ قَتِيلًا فِي دَارِ الْمَوْلَى، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ رَقَبَةِ الْمَأْذُونِ وَلِأَنَّهُ كَالْقَاتِلِ لَهُ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِقِيمَتِهِ وَكَسْبِهِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَالًّا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يُحِيطُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 24 بِجَمِيعِ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِيمَةُ حَالَّةً فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى بِيَدِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا فَالْمَوْلَى مَالِكٌ لِكَسْبِهِ كَمَا هُوَ مَالِكٌ؛ لِرَقَبَتِهِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْغَرِيمِ فِي مَالِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَتْلُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِهِ عِنْدَ الْأَجْنَبِيِّ، فَتَكُونُ الْقِيمَةُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمَالِكِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِخْلَاصِهِ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ قَتَلَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ أَوْ عَبْدَ مُكَاتَبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ، فَإِنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، لِلْمَوْلَى رَقَبَتُهُ مِنْ وَجْهٍ كَالزَّائِلَةِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا فَتَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَتَكُونُ مُؤَجَّلَةً، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ مِنْ وَجْهِ أَنَّ لَهُ فِي كَسْبِهِ حَقَّ الْمِلْكِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً عِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَذَلِكَ. وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْقِيمَةِ، وَفِي تَرِكَتِهِ وَفَاءٌ لِمُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُبْقِي عَقْدَ الْكِتَابَةِ وَيُؤَدِّي الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهِ وَبَدَلَ نَفْسِهِ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءً فِيهِمَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى فِي قَتْلِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدَهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَلَوْ وُجِدَ الْمَوْلَى قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَانَتْ دِيَةُ الْمَوْلَى عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِوَرَثَتِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا دَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهَا أَجْنَبِيٌّ قَتِيلًا كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةٍ الْمَوْلَى فَإِذَا وُجِدَ الْمَوْلَى قَتِيلًا فِيهَا فَهَذَا رَجُلٌ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ. وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ دَارِهِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ دِيَتِهِ حَالًّا فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّ دَارَ الْعَبْدِ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْعَبْدُ فِيهَا قَتِيلًا، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ وُجِدَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ دَارِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي دَيْنِ ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّةِ كَسْبِهِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 25 وَبِذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَتِيلُ عَبْدًا لِلْغَرِيمِ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَبْدُهُ فِي ذَلِكَ كَعَبْدِ غَيْرِهِ وَإِذَا أَذِنَ الْمُكَاتِبُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَوُجِدَ فِي دَارِ الْمَأْذُونِ قَتِيلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ حَالَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِهِ فَيَصِيرُ كَالْجَانِي بِيَدِهِ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ هُوَ الْمُكَاتَبَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا كَمَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمُوجَبَ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ هُوَ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَأْذُونِ فِي مَالِهِ حَالًّا لِغَيْرِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا كَدَارٍ أُخْرَى لِلْمُكَاتَبِ وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمُكَاتَبِ كَانَ الْمُكَاتَبُ كَالْجَانِي عَلَيْهِ بِيَدِهِ فَيَلْزَمُهُ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ فِي مَالِهِ حَالًّا لِغُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الدَّارِ قَتِيلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ، وَلَكِنَّهَا عَقْدُ إرْقَاقٍ يُقْصَدُ بِهَا الْإِعْتَاقُ، وَالْمَأْذُونُ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ كَالْمَحْجُورِ كَالتَّزْوِيجِ ثُمَّ الْفَكُّ بِالْكِتَابَةِ فَوْقَ الْفَكِّ الثَّابِتِ بِالْإِذْنِ، وَلَا يُسْتَفَادُ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ فَوْقَهُ فِي مَحَلٍّ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ كَاتَبَهُ، وَأَجَازَ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُنَجَّزٌ حَالَ وُقُوعِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى يَمْلِكُ فِيهِ مُبَاشَرَةَ الْكِتَابَةِ فَيَمْلِكُ فِيهِ الْإِجَازَةَ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى قَبْضِ الْبَدَلِ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَائِبٌ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ، وَالْكِتَابَةُ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي يَكُونُ الْعَاقِدُ فِيهَا مُعْتَبَرًا، فَيَكُونُ قَبْضُ الْبَدَلِ إلَى مَنْ نَفَّذَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْمُكَاتَبُ إلَى الْعَبْدِ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْمَوْلَى بِقَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ قَبْضِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 26 بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّ بِإِجَازَتِهِ صَارَ الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا لَهُ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِعَبْدِهِ فَالدَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُ الْعَبْدَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ، وَكَاتَبَهُ أَوْ لَمْ يُكَاتِبْهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ فَمُكَاتَبَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ يُخْرِجُ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ، وَقِيَامُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَةَ حَتَّى أَدَّاهَا فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَمْ يُجِزْهَا لَمْ يَعْتِقْ، وَرُدَّ رَقِيقًا لِلْمَأْذُونِ فَبِيعَ فِي دَيْنِهِ، وَصَرَفَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ فِي دَيْنِهِ. لِأَنَّ الْكِتَابَةَ بِدُونِ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَغْوٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ فَأَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حَالِ تَوَقُّفِ الْعِتْقِ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ لَهُ، وَالْعَبْدُ حِينَ قَبَضَ الْبَدَلَ مِنْهُ يَصِيرُ كَالْمُعْتَقِ لَهُ، وَإِعْتَاقُهُ لَغْوٌ، وَالْمَقْبُوضُ مِنْ إكْسَابِهِ يُصْرَفُ إلَى دَيْنِ الْمَأْذُونِ مَعَ رَقَبَتِهِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ وَأَمَرَ الْعَبْدَ بِقَبْضِهَا، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ الْمُكَاتَبَةَ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ الْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ فِيهِ فَلَا يَعْمَلُ إجَازَتُهُ أَيْضًا، وَلَا يَعْتِقُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَصْدًا، وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ حُرُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُحِيطًا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَ مُكَاتَبَتَهُ، وَقَبَضَ الْبَدَلَ هُوَ أَوْ الْعَبْدُ بِأَمْرِهِ يُجْعَلُ كَالْمُعْتَقِ لَهُ، فَيَكُونُ حُرًّا وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ. لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ كَانَتْ حَقًّا لَهُمْ وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ الَّتِي قَبَضَهَا الْمَوْلَى تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْمَأْذُونِ لَا يُحِيطُ بِهِ، وَبِمَا لَهُ عِتْقٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ كَمُبَاشَرَتِهِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ وَقَبَضَ الْبَدَلَ عَتَقَ فَإِنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا لَا يَمْنَعُ مِلْكَهُ، وَلَا إعْتَاقَهُ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ، وَيَأْخُذُ الْغُرَمَاءُ الْمُكَاتَبَةَ الَّتِي قَبَضَهَا الْمَوْلَى أَوْ الْمَأْذُونَ مِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي كَسْبِهِ، وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ أَتْلَفَ الْمَوْلَى مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسٍ وَلَا مَالَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالتَّبَرُّعُ ضِدُّ التِّجَارَةِ، وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ خَاصَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فِي الْحَجْرِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ بَلْ هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التُّجَّارَ لَا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَيَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَايَةَ التَّحَرُّزِ، وَكَذَلِكَ لَا يَهَبُ، وَلَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 27 يَتَصَدَّقُ بِالدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَا يُعَوِّضُ مَا وُهِبَ لَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَبَرُّعٌ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَلَا يُقْرِضُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قَرْضُ مَرَّتَيْنِ صَدَقَةُ مَرَّةٍ فَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى هَذِهِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ، وَمَنَافِعِهِ كُلِّهَا لِمَوْلَاهُ فَإِجَازَتُهُ كَمُبَاشَرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا أَهْدَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ هَدِيَّةً أَوْ دَعَا رَجُلًا إلَى مَنْزِلِهِ فَغَذَّاهُ أَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً يَرْكَبُهَا أَوْ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الرَّجُلِ إنْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ، وَلَا يَجِدُونَ مِنْهُ بُدًّا فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى اسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِعَارَةِ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ وَالْوِسَادَةِ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ؛ لِيُعَامِلَهُمْ فَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْذُونِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَأَيَّدَ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ مَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَأَنَّ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ مَمْلُوكٌ فَقَبِلَهُ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِهَا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَبْدِ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ فَقَالَ: بِالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: يَتَصَدَّقُ الْمَأْذُونُ بِالطَّعَامِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَمَرَ الطَّعَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِدُونِ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الزَّوْجِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً، وَالْمُكَاتَبُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْحَاجِزَ لَهُ عَنْ التَّبَرُّعَاتِ قَائِمٌ فِيهِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ خَالِصُ كَسْبِ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ كَسْبِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَأْذُونُ أُمَّتَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَالْمَالُ دَيْنٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَأْذُونِ لَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ مُعَبِّرًا عَنْ الْمَوْلَى فَهُوَ فِي قَبْضِ الْبَدَلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ حُرٍّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ جَازَ الْعِتْقُ بِإِجَازَةِ الْمَوْلَى أَيْضًا؛ لِكَوْنِهِ مَالِكًا فِيهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْغُرَمَاءِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 28 لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي مَالِيَّتِهَا، وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ ثُمَّ الْمَالِ عَلَيْهَا لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ لِغُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ هَاهُنَا تَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، وَمَا تَكْتَسِبُ بَعْدَ ذَلِكَ خَالِصَ مِلْكِهَا فَإِنَّمَا يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ يُحِيطُ بِالْمَأْذُونِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمَأْذُونِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَأْذُونُ امْرَأَةً حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بِهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْمَحْجُورِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْمَهْرِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ عَقْدٍ هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ كَدَيْنِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ، وَإِنَّ فِي تَزْوِيجِهِ أَمَتَهُ خِلَافًا، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ فِي مَالِهِ بِأَجْرٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ الرِّبْحِ يَكُونُ أَنْفَعُ لَهُ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِيَسْتَفِيدَ الرِّبْحَ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الشِّرَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَرْجِعُ فِيهِ بِالْعُهْدَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَحْصُلُ الرِّبْحُ لِنَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى. وَإِذَا اشْتَرَكَ الْعَبْدَانِ الْمَأْذُونُ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ شَرِكَةَ عِنَانٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ مِنْ ذَلِكَ النَّسِيئَةُ وَجَازَ النَّقْدُ؛ لِأَنَّ فِي النَّسِيئَةِ مَعْنَى الْكَفَالَةِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ عِنَانًا لَا مُفَاوَضَةً لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْمَوْلَيَانِ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَذِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَاهُ بِالْكَفَالَةِ أَوْ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، وَبَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لَمْ يَبِعْهُ الْمَوْلَى مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُسَامَحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ بَاعَهُ مِنْ أَمَةٍ لِعَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهَا فِي التِّجَارَةِ فَتُهْمَةُ الْمُسَامَحَةِ بَيْنَهُمَا مُتَمَكِّنَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ اشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ مُكَاتَبٍ لِلْمَوْلَى أَوْ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ أَوْ مِنْ عَبْدٍ لِمُكَاتَبِ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ مُضَارِبٍ لِلْمَوْلَى أَوْ مِنْ مُضَارِبِ الْمُكَاتَبِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ ابْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 29 فِي مَالِ هَؤُلَاءِ مِلْكٌ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَقَدْ أَذَنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ، وَبَايَعَهُ أَيْضًا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَعْلَمْ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا أَوْ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَعَلَى الَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ لِلَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ وَلِسَائِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ صَارَ غَارًّا لَهُمْ فَإِنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ مَعَهُ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يَصْرِفُ مَالِيَّتَهُ إلَى دُيُونِهِمْ إذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ، وَيَصِيرُ الْآمِرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ لَهُمْ بِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَمَا قَالَهُ كَانَ حَقُّهُمْ ثَابِتًا فِي مَالِيَّتِهِ، وَكَانَ الْمَوْلَى كَالْكَفِيلِ لَهُمْ عَنْ عَبْدِهِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْغُرُورِ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا وُجِدَ فِيهِ الْغُرُورُ أَوْ الْكَفَالَةُ، وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ دُيُونِهِ، وَمَنْ خَاطَبَهُ بِكَلَامِهِ وَلَمْ يَحْضُرْ مَقَالَتَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ إذَا كَانَ عَامًّا مُنْتَشِرًا يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ، وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالْكَفَالَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ أَذَنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَالْغُرُورُ وَالْكَفَالَةُ تَثْبُتُ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ، وَأَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَلَا يَضْمَنُ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَكْسُوبِهِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى، وَلَا يَدْرِي أَيَحْصُلُ أَمْ لَا يَحْصُلُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْكَفَالَةِ وَالْغُرُورِ، وَإِنْ شَاءُوا رَجَعُوا بِدَيْنِهِمْ عَلَى الَّذِي وَلِيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْتِزَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّتِهِ، وَإِنْ اخْتَارُوا ضَمَانَ الْمَوْلَى ثُمَّ تَوَى مَا عَلَيْهِ اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ فِي ذِمَّتِهِ صَحِيحٌ، وَالْمَوْلَى كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ إذَا عَتَقَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَكِنَّ الْعَبْدَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ الَّذِي أَذِنَ لَهُ كَانَ دَبَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِمْ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ؛ لِثُبُوتِ حَقِّ عِتْقِهِ لَهُمْ عِنْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 30 وَإِذَا اخْتَارُوا أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِمَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ حَتَّى يَعْتِقَا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ غَرِمَ الْمَوْلَى لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: عَبْدِي هَذَا، وَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَمْ يَقُلْ بَايِعُوهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا غُرُورًا وَلَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْآذِنَ ضَمَانُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِخَبَرٍ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ مَعَهُ، وَحُكْمُ الْغُرُورِ وَالْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ إنْسَانًا بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَغْرُورُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ زَوْجَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى الْمُزَوِّجِ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ أَوْلَادِهَا فَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ هَهُنَا فِي حُكْمِ الْغُرُورِ نَظِيرُ التَّزْوِيجِ هُنَاكَ، وَالْإِخْبَارُ بِالْمِلْكِ وَالْإِذْنِ هَاهُنَا نَظِيرُ الْإِخْبَارِ بِالْحُرِّيَّةِ هُنَاكَ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فِي الْبَزِّ فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فِي غَيْرِ الْبَزِّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لِلْغُرَمَاءِ مِنْ دَيْنِهِمْ، وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْبَزِّ فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ لَغْوٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ فَكَانَ هَذَا، وَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ مُطْلَقًا سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِحُرٍّ: مَا بَايَعْت بِهِ مِنْ الْبَزِّ فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ فَبَايَعَهُ غَيْرُهُ فِي الْبَزِّ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَفَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ مَعَ الْعَبْدِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا. (أَرَأَيْت) لَوْ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ فَاسْتَقْرَضَ ثَمَنَ الْبَزِّ مِنْ رَجُلٍ فَقَضَى بِهِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ أَمَّا كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِالْمُبَايَعَةِ وَهُوَ مَغْرُورٌ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلِهِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ (أَرَأَيْت) لَوْ اشْتَرَى بَزًّا عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ عَنْهُ رَجُلٌ فَأَدَّى الْكَفِيلُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ أَمَّا كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمُبَايَعَتِهِ ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى أَمَرَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ أَوْ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَبَايَعُوهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ عَلِمُوا بِأَمْرِ الْمَوْلَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا فَلِلَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمُبَايَعَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ حِصَّتِهِمْ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَمِنْ دَيْنِهِمْ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ دُونَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ كَانَ لِخَاصِّ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ هُنَاكَ عَامٌّ مُنْتَشِرٌ، وَهَذَا نَظِيرُ الْحَجْرِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ إذَا نَهَى وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ عَنْ مُبَايَعَتِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ ذَلِكَ النَّهْيِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَامًّا مُنْتَشِرًا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ، وَفِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 31 فَنَقُولُ إنَّمَا يَغْرَمُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ حَقًّا، وَذَلِكَ الْأَقَلُّ مِنْ حِصَّتِهِمْ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ دُيُونِهِمْ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِي حَقِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ بِمُبَايَعَتِهِ فِي الْبَزِّ فَبَايَعُوهُ فِي غَيْرِهِ وَفِيهِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ لَهُمْ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي حَقِّهِمْ فِي الْبَزِّ لَغْوٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الْعَامِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِنْ أَتَى بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: بَايِعُوهُ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ عَبْدِي فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَشُورَةٌ أَشَارَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْغُرُورُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِ، وَالْغُرُورُ وَالْكَفَالَةُ تَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُمْ مَالِيَّةَ مَمْلُوكِهِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَطْمَعًا لَهُمْ فِي سَلَامَةِ مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ. وَلَوْ كَانَ أَتَى بِهِ إلَى السُّوقِ، وَقَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ قِنًّا كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَبِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ أَحَدٍ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَكُونُ هُوَ بِالتَّدْبِيرِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْغُلَامَ يَسْعَى فِي الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ ثُمَّ لَحِقَهُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ لَاقَى خَالِصَ مِلْكِهِ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ ثُمَّ بَايَعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَانَ حَقًّا فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَجْلِ الْغُرُورِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَصَرَّفَ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ. وَلَوْ جَاءَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا، وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ عَبْدٌ مَأْذُونٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ فِي ذَلِكَ عَلِمَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِحَالِ الْآمِرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمِينٌ فَالْآمِرُ يَصِيرُ كَالْكَفِيلِ لِلْغُرَمَاءِ عَنْهُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَكَفَالَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِحَالٍ عَلِمَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِحَالِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لَا تُلْزِمُهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَعْتِقَا فَإِذَا عَتَقَا رَجَعَ عَلَيْهِمَا غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِالْأَقَلِّ مِنْ دَيْنِهِمْ، وَمِنْ قِيمَةِ الَّذِي بَايَعَهُمْ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُمَا بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا. قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِي اشْتَرَى الْمَغْرُورُ مِنْهُ لَوْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لِلْآمِرِ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّهِ لَا بِمَنْزِلَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 32 الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْآمِرُ مُكَاتِبًا جَاءَ بِأَمَتِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذِهِ أَمَتِي فَبَايِعُوهَا فَقَدْ أَذِنْت لَهَا فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهَا دَيْنٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَكَاتِبَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَمَةً، وَمِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَارًّا لَهُمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُمْ عَنْهَا بِمِقْدَارِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهَا، وَضَمَانُ الْمُكَاتِبِ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ مَالًا يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ كَسْبَهَا لِلْمَكَاتِبِ، فَيَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ أَوْ وُجِدَتْ حُرَّةً؛ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِكَسْبِهَا، وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ. وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْآخَرُ إلَى السُّوقِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ؛ لِأَنَّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَمْتَنِعْ سَلَامَةُ شَيْءٍ مِمَّا ضَمِنَ سَلَامَتَهُ لَهُمْ، فَإِنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَلَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِلْمُسْتَحِقِّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ضَمِنَ لَهُ الْغَارُّ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ، وَمِنْ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ مَا ضَمِنَ الْآمِرُ سَلَامَتَهُ لَهُمْ، وَهُوَ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا لِلْآمِرِ يَضْمَنُ لَهُمْ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ وَمِنْ دَيْنهمْ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا لِغَيْرِهِ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَأَتَى بِهِ هَذَا إلَى السُّوقِ، وَقَالَ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْغَارِّ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ سُلِّمَتْ لَهُمْ بِالْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَالِكِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَمَا سَلَّمَ لَهُمْ بِالْإِذْنِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَقْتَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ، وَلَوْ كَانَ لَحِقَهُ دَيْنُ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَبْلَ إذْنِ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ إذْنِهِ فَإِنَّ عَلَى الْغَارِّ الْأَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ لَا يُسَلِّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِالْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَوْلَى بَعْدَ وُجُوبِ دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْغَارُّ حَقًّا كَأَنْ سَلَّمَ لَهُ نِصْفَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْغَارِّ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ دَيْنِهِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ فُلَانٍ قَدْ وَكَّلَنِي بِأَنْ آذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَأَنْ آمُرَكُمْ بِمُبَايَعَتِهِ، وَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ، وَأَنْكَرَ التَّوْكِيلَ فَالْوَكِيلُ ضَامِنُ الْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فَإِنَّ فِي مَعْنَى الْغُرُورِ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ، فَيَصِيرُ هُوَ بِالْأَخْبَارِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 33 ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ حِينَ أَنْكَرَ الْمَوْلَى التَّوْكِيلَ وَحَلَفَ، وَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمُخْبِرَ قِيمَتَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُشْتَرِيَ الْأَرْضِ إذَا بَنِي فِيهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ لِلْغُرُورِ سَوَاءٌ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَتِهِ إذَا أَنْكَرَ الْمَالِكَ التَّوْكِيلَ، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ أَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِمَوْلَاهُ فَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّتِهِ، وَلَمْ تَسْلَمْ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْكِيلِ الَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكَّلِ فِيمَا بَاشَرَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أَنْكَرَ التَّوْكِيلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يُثْبِتَهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا عَبْدُ ابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ فِي عِيَالِي فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا ضَمِنَ الْأَبُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ صَارَ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِاعْتِبَارِ كَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبُ وَالْجَدِّ فَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأَخُ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَإِنْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ غُرُورًا، وَلَمْ يَلْحَقْهُ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ تَسْلَمْ لَهُمْ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ بِاعْتِبَارِ كَلَامِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْإِذْنَ لِعَبْدِ الْيَتِيمِ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُمْ شَيْئًا. وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِصَبِيٍّ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا ابْنِ ابْنِي فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ يَبْطُلُ عَنْ الصَّبِيِّ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَيْنٌ بِالْمُبَايَعَةِ أَبَدًا، وَيَرْجِعُ الْغُرَمَاءُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُمْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ لَهُمْ حَقُّ مُطَالَبَةِ الصَّبِيِّ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ عَلَى الصَّبِيِّ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ، فَيَصِيرَ الْآمِرُ بِمُبَايَعَتِهِ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ دُيُونِهِمْ، وَإِنْ أَخْبَرَهُمْ بِحُرِّيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمُوا رَجَعُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ، وَلَا وَصِيُّ أَبٍ. وَلَوْ أَتَى بِعَبْدِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدِي وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ لَهُ بَطَلَ عَنْ الْمُدَبَّرِ الدَّيْنُ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَارِّ مِنْ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ، وَلَا مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ حِينَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ، وَالْغُرُورُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَيَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ، وَلَوْ قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ضَمِنَ الْغَارُّ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ بَدَلِ نَفْسِهِ مُدَبَّرًا إذَا قُتِلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَوُجُودُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 34 كَوُجُودِ الْبَدَلِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغُرُورِ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ. وَلَوْ أَتَى بِجَارِيَةٍ إلَى السُّوقِ فَقَالَ: هَذِهِ أَمَتِي فَبَايِعُوهَا فَلَحِقَهَا دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَهَا وَوَلَدَهَا ضَمِنَ الْغَارُّ قِيمَتَهَا، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَهُوَ يُسَلِّمُ لِلْغُرَمَاءِ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ حَقًّا كَنَفْسِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَسْبِ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنهَا فَلَا يُجْعَلُ وُجُودُهَا كَوُجُودِ الْكَسْبِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَوُجُودِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْوَلَدُ فَمُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا فَوُجُودُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَوُجُودِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً كَانَ وَلَدُهَا كَنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ بِخِلَافِ كَسْبِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ اُسْتُحِقَّتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهَا أَوْ أَقَلَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ سَلَامَةُ الْمَالِيَّةِ لَهُمْ حِينَ اُسْتُحِقَّتْ، وَقَدْ صَارَ الْغَارُّ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ الْغَارُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهَا فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ أَنْ يَغُرَّهُمْ أَوْ بَعْدَ مَا غَرَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ تُسَلَّمُ لِلْغُرَمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَكَذَلِكَ الضَّمَانُ يُنْفَى عَنْ الْغَارِّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَأْذُونِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ بِغَصْبٍ أَوْ بِبِضَاعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا وَيَقْضِي الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فَالْتَحَقَ فِي ذَلِكَ بِالْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، فَيَكُونُ الْخَصْمُ فِيمَا يَدَّعِي أَوْ يَدَّعِي قِبَلَهُ هُوَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى حُضُورِ مَوْلَاهُ إلَى الْقَضَاءِ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِالْمَكَاتِبِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ وَالْمَوْلَى غَائِبٌ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَقْضِي مَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ خَصْمًا فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَته بِجِهَةِ التِّجَارَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِإِقْرَارِهِ وَبِمُبَاشَرَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا فَكَذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى هَاهُنَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 35 يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قِبَلَهُ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ فَإِذَا حَضَرَ قُضِيَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ، فَيُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى يَعْتِقَ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقْضِي عَلَيْهِ بِمَا اسْتَهْلَكَ مِنْ الْأَمَانَاتِ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانُوا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَمَوْلَاهُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْتِقَ فَإِذَا عَتَقَ لَزِمَهُ مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِالْقَوْلِ لَحِقَ مَوْلَاهُ، وَالْإِقْرَارُ الثَّابِتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَلَا نُلْزِمُهُ شَيْئًا مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَوْلَى عَنْهُ بِقَبْضِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حَدٌّ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَمَوْلَاهُ غَائِبٌ فَفِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَفِيمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَفِيمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْمُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَهُوَ دَمُهُ فَإِنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ النَّفْسِيَّةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا تُقَامُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا أَوْ مُكَذِّبًا لَهُ، وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى؛ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُمَا يَقُولَانِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَوْلَى إبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَوْفِي هَذِهِ الْعُقُوبَةَ فَتَفُوتُ بِهِ مَالِيَّةُ الْمَوْلَى أَوْ تُنْتَقَصُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى إذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالْيَدُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَهُ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَبِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ يَبْطُلُ حَقُّ الطَّعْنِ الثَّابِتِ لَهُ، وَإِبْطَالُ حَقِّهِ بِالْقَضَاءِ حَالَ غَيْبَتِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَلَا تَفُوتُ بِهِ يَدُهُ، وَلَا حَقُّهُ فِي الطَّعْنِ ثُمَّ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ بِالضَّرَرِ بِذَلِكَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ مَوْلَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَعَانِي فِي كِتَابِ الْآبِقِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ الْمَأْذُونُ لَهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبِينَ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْعُقُوبَةِ تَنْبَنِي عَلَى كَوْنِ الْمُبَاشِرِ مُخَاطَبًا لَا فِي الْقَتْلِ خَاصَّةً إذَا كَانَ أَبُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ أَوْ وَصِيُّهُمْ حَاضِرًا فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 36 وَفِي حَالَةِ غَيْبَةِ الْوَلِيِّ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ، وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْخَصْمُ فِي إثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ فَبِدُونِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَبَعْدَ حُضُورِهِ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنَّهُ مِمَّا يُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ حَاضِرًا قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ يَدَّعِي الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ مَتَى ثَبَتَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ عِنْدَ الْقَاضِي اسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَوْلَى، وَلَا يَثْبُتُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَتَبْقَى دَعْوَى الْمَالِ، وَالْعَبْدُ خَصْمٌ فِيمَا يُدَّعَى قِبَلَهُ مِنْ الْمَالِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبِ الْغَصْبِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ضَمِنَ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ الْأَخْذُ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَالْأَخْذِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ مَأْذُونٍ لَهُمَا بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمِ أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ غَائِبًا؛ لِأَنَّ جِهَةَ السَّرِقَةِ كَجِهَةِ الْغَصْبِ فِي حَقِّهِمَا إذْ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ خَصْمٌ فِيمَا يُتَّهَمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ غَائِبًا، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ حَضَرَ مَوْلَاهُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ جَاحِدًا وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً عَلَى مَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْمَالِ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى عَبْدٍ مَحْجُورٍ بِسَرِقَةِ عَشَرَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمَوْلَاهُ غَائِبٌ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ عَلَيْهِ كَدَعْوَى الْغَصْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمَحْجُورِ مِنْ الْغَصْبِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَدَّعِي قِبَلَهُ مِنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ حَاضِرًا قُطِعَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْعُقُوبَةِ ظَهَرَ بِشَهَادَتِهِ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَجْحَدُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَالِ بَاطِلٌ حَتَّى يَعْتِقَ، وَفِي حَقِّ الْقَطْعِ الْإِقْرَارُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ أَوْ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيَّنَهُ أَصْحَابُنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. قَالَ: وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَهُوَ جَائِزٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَيُرَاعَى حَالُهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 37 الْخِلَافَةِ كَمَا يَتَمَلَّكُ الْوَارِثُ مَالَ مُوَرِّثِهِ، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ بِالْمِيرَاثِ، وَلَوْ اشْتَرَى مَيْتَةً أَوْ دَمًا أَوْ بَايَعَ كَافِرًا بِرِبًا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَتَصَرُّفُ الْحُرِّ الْكَافِرِ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ وَهُوَ فِي جَمِيعِ بِيَاعَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِغَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ وَمَوْلَاهُ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَضَرَّرُ بِهَا فَإِنَّ الْكَسْبَ، وَمَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَوْلَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ لَا تَكُونُ حُجَّةً. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى فَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ بِالْإِذْنِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ وَالْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْكَافِرُ يَأْذَنُ لَهُ وَصِيُّهُ الْمُسْلِمُ أَوْ جَدُّهُ أَبُ أَبِيهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مُسْلِمًا، وَمَوْلَاهُ كَافِرًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْخَصْمُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ جَاحِدٌ لِذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدَ الْكَافِرَانِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ الْكَافِرِ بِغَصْبٍ، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمٌ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ مَوْلَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى مُسْلِمًا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ كَافِرًا فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ. قَالَ: وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِجِنَايَةٍ خَطَأً أَوْ بِقَتْلٍ عَمْدًا أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِقَذْفٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِالزِّنَا وَهُوَ وَمَوْلَاهُ مُنْكِرَانِ لِذَلِكَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هَاهُنَا الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمَوْلَى أَمَّا فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ فَغَيْرِ مُشْكِلٍ، وَفِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 38 كَافِرًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ قُضِيَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الْعُقُوبَةِ لِإِسْلَامِ الْمَوْلَى فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَالْمَوْلَى كَافِرًا كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ. فَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ لِكَافِرٍ أَوْ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ، وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَافِرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَهُوَ بِالْعِتْقِ، وَالْحُرُّ الْكَافِرُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ كَافِرًا بِيعَ فِي الدَّيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بِيعَ الْعَبْدُ، وَمَا فِي يَدِهِ فِي الدَّيْنِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ دَيْنِهِ فَإِنْ فَضَلَ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ الْآن؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اُسْتُحِقَّ كَسْبُهُ، وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ فَلَوْ قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْكَافِرِ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلثَّانِي مَعَهُ تَضَرَّرَ الْمُسْلِمُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: حَقُّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ فِي رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ مَقْبُولَةٌ فِي حَقِّ مَوْلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ قُلْنَا: الْمَوْلَى الْمُسْلِمُ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرَ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَة فَأَمَّا الْغَرِيمُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ، وَفِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ لِأَحَدِهِمَا مُسْلِمَانِ وَشَهِدَ لِلْآخَرِ بِدَيْنِهِ كَافِرَانِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَيْهِ، فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ خَاصَّةً، وَثُبُوتُ الْحَقِّ بِحَسَبِ السَّبَبِ فَكَانَ دَيْنُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ثَابِتًا فِي حَقِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ، وَدَيْنُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَلِهَذَا يَبْدَأُ مِنْ كَسْبِهِ وَثَمَنِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ، وَلَوْ صَدَّقَ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ اشْتَرَكَا فِي كَسْبِهِ وَثَمَنِ رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ، وَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَأْذُونِ مِنْ الدَّيْنِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ وَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ مُسْلِمًا وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ كَافِرًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 39 وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِيعَ الْعَبْدُ وَاقْتَسَمَا ثَمَنَهُ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى خَصْمِهِ فَاسْتَوَى الدَّيْنَانِ فِي الْقُوَّةِ. وَلَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ ثَلَاثَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَحَدُهُمْ مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَيُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ كُلَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ، وَالْكَافِرِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْد، وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَأَمَّا الثَّالِثُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ فَقَدْ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِم الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي ثَمَنِهِ. وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُزَاحَمَةُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَاسْتَوَى دَيْنُ الْآخَرَيْنِ فِي الْقُوَّةِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سُلِّمَ لِلْمُسْلِمِ نِصْفُهُ، وَالنِّصْفُ الَّذِي صَارَ لِلْكَافِرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى هَذَا الْكَافِر، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُورًا لِحَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي هَذَا النِّصْفِ لِلْمُسْلِمِ حَقٌّ، وَبَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ فِي قُوَّةِ دَيْنٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَيُقَسَّمُ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِ هَذَا الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا إذَا أَخَذَ ذَلِكَ أَتَاهُ الْكَافِرُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَاسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الثَّمَنِ فَلِهَذَا لَا يَشْغَلُ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ مُسْلِمًا شَهِدَ كَافِرَانِ، وَالْآخَرَانِ كَافِرَانِ شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَافِرَانِ بُدِئَ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ، وَدَيْنُهُمَا ثَبَتَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِهِ كَانَ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَالْمَوْلَى كَافِرًا وَالْغُرَمَاءُ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ وَالْآخَرُ كَافِرٌ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ، وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ دَعْوَى الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ، وَيُبَاعُ الْعَبْدُ الْآخَرُ فِي دَيْنِهِ، فَيُوَفِّيهِ حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا أَقَامَ شُهُودًا كُفَّارًا عَلَى دَيْنِهِ، وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِهِ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُسْلِمِ أَنْ يُزَاحِمَ الْغَرِيمَ الْكَافِرَ فِيمَا يَأْخُذُهُ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا مِمَّا بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ الدُّيُونُ كُلُّهَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ أَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا مَحْجُورًا، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمًا وَالْغُرَمَاءُ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمْ مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ وَالْآخَرُ كَافِرًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 40 شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ بِأَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْكَافِرِ، وَلَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْغَضَبِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْمُسْلِمِ، وَلَكِنْ إذَا أَخَذَ الْكَافِرُ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَارَكَهُ الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دَيْنِ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ عَلَى الْعَبْدِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ هَاهُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى عَمَّا أَخَذَهُ الْكَافِرُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَقُّ الْكَافِرِ وَدَيْنُ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ، وَعَلَى الْعَبْدِ كَدَيْنِ الْكَافِرِ، وَلِهَذَا شَارَكَهُ فِيمَا أَخَذَهُ وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِمُسْلِمِ أَوْ كَافِرٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ غَصْبٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَبَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَاهَا الْغَرِيمَ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ، فَيَدْفَعُهَا إلَى هَذَا الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي كَافِرًا أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى الْبَيْعِ، فَيَلْتَحِقُ بِالدَّيْنِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ كَافِرًا وَشَاهِدَاهُ مُسْلِمَيْنِ وَالثَّانِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَشَاهِدَاهُ كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الثَّانِي ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وَدَيْنُ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ فَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ يُجْعَلُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ هَلَكَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَسْلَمَ وَارِثُهُ، وَأَقَامَ كَافِرٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي ثُمَّ إنَّ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَقَامَ عَلَى الْمَيِّتِ شَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا أَخَذَ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا وَاسْتِحْقَاقُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ كَاسْتِحْقَاقِ كَسْبِ الْعَبْدِ وَثَمَنِ رَقَبَتِهِ بِدَيْنِهِ. قَالَ: وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى ثُمَّ أَسْلَمَ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ دَيْنًا فَجَاءَ أَحَدُهُمَا بِشَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنًا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ كُفْرِهِ، وَجَاءَ الْآخَرُ بِشَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَالْمُدَّعِيَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ كَافِرَانِ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ فَشَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ جَائِزَةٌ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُسْلِمٌ حِينَ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ أَوْ أَرَّخَ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى إسْلَامِهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْعَبْدُ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ لِكَافِرٍ أَوْ لِمُسْلِمٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 41 بِمَالٍ وَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ بِمَالٍ فَشَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ جَائِزَةٌ وَشَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ بَاقٍ فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَا تَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ وَشَهِدَ عَلَيْهِ ذِمِّيَّانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْتَأْمَنَانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ شَهَادَةَ الْمُسْتَأْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ ذِمِّيٌّ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الذِّمِّيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيُقْضَى بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعُ الْعَبْدَ، فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَعَلَى خَصْمِهِ الْآخَرِ إنَّمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ لَا عَلَى خَصْمِهِ فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُ حَقَّهُ، وَبَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْعَبْدِ، وَلَكِنْ كَانَ مَحْجُورًا لِحَقِّ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ زَالَ الْحَجْرُ حِينَ اسْتَوْفَى الْمُسْلِمُ حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ دَيْنِهِ كَانَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ دَيْنَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْتَأْمَنَانِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِشَهَادَةِ الْحَرْبِيَّيْنِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ حَقُّ مَوْلَاهُ فَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَعَبْدُهُ حَرْبِيَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُضِيَ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَبِيعَ فِيهِ، فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ثُمَّ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ مَا فَضَلَ يَكُونُ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ هَهُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُورًا بِحَقِّ الْآخَرَيْنِ فَإِذَا زَالَ الْحَجْرُ كَانَ الْبَاقِي لَهُ فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ كُلُّهُمْ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُحَاصُّ فِي ثَمَنِهِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ، وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَدَيْنُ الثَّالِثِ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْد خَاصَّةً، فَلَا يُزَاحِمُهُمَا فِي ثَمَنِهِ، وَلَكِنْ يُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَتَحَاصَّانِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ، وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ كُلُّهُمْ مُسْتَأْمَنِينَ تَحَاصُّوا جَمِيعًا فِي دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَالْعَبْدُ حَرْبِيًّا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَاهُ هَذَا الْمَوْلَى، وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْحَرْبِيَّيْنِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ ذِمِّيًّا حِينَ دَخَلَ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ حُجَّةً. وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَتْ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِينَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ كَمَا تَجُوزُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِمَوْلَاهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ ثَلَاثَةً الجزء: 26 ¦ الصفحة: 42 مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ حَرْبِيَّانِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَذِمِّيٌّ شَهِدَ لَهُ ذِمِّيَّانِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَحَرْبِيٌّ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الْأَلْفُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى صَاحِبِهِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ دَيْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْحَرْبِيَّيْنِ فَلِهَذَا لَا يُزَاحِمُهُمَا، وَإِذَا اقْتَسَمَا ثَمَنَهُ نِصْفَيْنِ أَخَذَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْحَرْبِيِّ نِصْفَ مَا صَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِحَقِّ الذِّمِّيِّ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الذِّمِّيِّ عَنْ هَذَا النِّصْفِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَالَ: عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا خَطَأٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ وَالذِّمِّيَّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ اسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ صَاحِبِهِ فَلَيْسَ جَعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُزَاحَمَةِ؛ لِأَجْلِ الذِّمِّيِّ بِأَوْلَى مَنْ جَعْلِ الذِّمِّيِّ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُزَاحَمَةِ لِأَجْلِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ ثَبَتَ دَيْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَدَيْنُ الْحَرْبِيِّ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقِيلَ فِي تَصْحِيحُ جَوَابِ الْكِتَابِ: إنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَشَهَادَةُ الذِّمِّيِّ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا تُقْبَلُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ يَثْبُتُ لِلْحَرْبِيِّ بِهَذَا الْمُسْلِمِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَلَيْسَ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الذِّمِّيِّ فَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلذِّمِّيِّ أَقْوَى وَأَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ مِنْ شَهَادَةِ الْمُسْتَأْمِنِينَ لِلْمُسْلِمِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ لِهَذَا. وَلَوْ كَانَتْ شُهُودُ الذِّمِّيِّ حَرْبِيَّيْنِ، وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إنَّمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ الذِّمِّيُّ مَحْجُوبًا بِهِ بَقِيَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ، وَقَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الذِّمِّيُّ نِصْفَ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيَّ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْ هَذَا النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ذِمِّيًّا، وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ حَرْبِيًّا وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ مُسْلِمًا فَإِنَّ الثَّمَنَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَدَيْنُ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الذِّمِّيِّ فَكَانَ هُوَ مَحْجُوبًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْفَصْلِ طَعْنٌ، فَإِنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الذِّمِّيِّ مُسْلِمُونَ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُ نِصْفَ مَا أَخَذَ الْحَرْبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا بِالذِّمِّيِّ، وَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 43 قَالَ: فَإِذَا لَحِقَ الْعَبْدَ دَيْنٌ فَقَالَ مَوْلَاهُ: هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ: هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّقِّ؛ وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَدَّعُونَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ كَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ إثْبَاتُ هَذَا السَّبَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ جَاءُوا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الْإِذْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبَزِّ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الْإِذْنِ فَأَمَّا هَذَا التَّقَيُّدُ بِالْبَزِّ وَالطَّعَامِ فَلَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبَزِّ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ وَالْآخَرُ شَهِدَ بِقَوْلٍ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَلَمْ يَنْهَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ الْآخَرُ بِمُعَايَنَتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ كُلِّ فِعْلٍ إلَّا شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ الشِّرَاءُ جَائِزًا، وَكَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَا الْمَوْلَى رَآهُ يَبِيعُ الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَمَوْلَاهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي يَدِهِ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ: هُوَ مَالِي وَقَالَ مَوْلَاهُ: بَلْ هُوَ مَالِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي كَسْبِهِ مُعْتَبَرَةٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ مَا فِي يَدِهِ لِحَقِّهِمْ. فَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِ كَكَوْنِهِ فِي يَدِ غُرَمَائِهِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ مَا كَانَتْ لَازِمَةً وَبِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ صَارَتْ لَازِمَةً فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَوْلَى فِيمَا فِي يَدِهِ كَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَفِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي دَعْوَى الْيَدِ، وَالْعَيْنُ ظَهَرَتْ فِي يَدَيْهِمَا فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى وَيَدِ الْعَبْدِ وَيَدِ أَجْنَبِيٍّ فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ فِيهِ كَيَدِ غَرِيمِهِ فَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْمَوْلَى وَيَدِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 44 الْمُزَاحَمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمَالُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ وَيَدِ مَوْلَاهُ وَاحِدٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَيَدُهُ فِيهِ كَيَدِ مَوْلَاهُ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ، وَأَحَدُهُمَا مُمْسِكٌ لَهُ بِيَدَيْهِ، وَالْآخَرُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِذَلِكَ نِصْفَانِ هَذَا، وَلَوْ كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ حُرٍّ، وَعَبْدٍ مَأْذُونٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ وَمُعْظَمُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِطَرَفِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ وَيَدُهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ كَيَدِهِ عَلَى جَمِيعِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ طَرَفٌ مِنْ الثَّوْبِ، وَلَيْسَ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَنَازَعَا فِيهِ كَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى بِجَمِيعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُعْظَمَ الثَّوْبِ أَوْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُئْتَزِرًا بِهِ مُرْتَدِّيًّا أَوْ لَابِسًا، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبٌ عَلَيْهَا، وَالْآخَرُ مُتَمَسِّكٌ بِاللِّجَامِ فَهِيَ لِلرَّاكِبِ وَاللَّابِسِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْعَيْنِ، وَالْيَدُ بِالِاسْتِعْمَالِ تَثْبُتُ حَقِيقَةً دُونَ التَّعْلِيقِ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فِي الْعَادَةِ إلَّا صَاحِبُ الْيَدِ، وَيَتَمَكَّنُ الْخَارِجُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ، وَالْمَرْكُوبُ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَاكِبُهَا، وَكَانَ الْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا لَا يَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ بِتَعَلُّقِهِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا رَاكِبُهَا، وَلَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا كَانَ الرَّاكِبُ أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مِثْلُهُ كَانَ هُوَ أَوْلَى. وَلَوْ أَنَّ حُرًّا أَوْ مَأْذُونًا آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ يَبِيعُ مَعَهُ الْبَزَّ أَوْ يَخِيطُ مَعَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبٍ فِي يَدِ الْأَجِيرِ فَإِنْ كَانَ فِي حَانُوتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ حَانُوتَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ فَمَا فِي الْحَانُوتِ يَكُونُ فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ لَا يَنْقُلُ أَمْتِعَتَهُ إلَى حَانُوتِ الْمُسْتَأْجِرِ عَادَةً خُصُوصًا مَا لَيْسَ مِنْ أَدَاةِ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي السِّكَّةِ أَوْ فِي مَنْزِلِ الْأَجِيرِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا وَيَدُ الْأَجِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الثَّوْبِ حَقِيقَةً، وَبِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَمْتِعَتِهِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ دَافِعَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ آجَرَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ، وَكَانَ مَعَ الْعَبْدِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: هُوَ لِي وَقَالَ مَوْلَاهُ: هُوَ لِي كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السِّكَّةِ أَوْ فِي السُّوقِ أَوْ فِي حَانُوتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 45 فِي دَابَّةٍ، وَالْعَبْدُ رَاكِبُهَا؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ حِينَ آجَرَهُ فَقَدْ حَوَّلَ يَدَهُ فِيهِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فِي ثُبُوتِ يَدِهِ، وَعَلَى مَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ فَقَدْ بَقِيَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَمْتِعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْأَمْتِعَةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَكَانَ هُوَ، وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ قَبْلَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ حَوَّلَهُ بِالْإِجَارَةِ إلَى يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: هُوَ لِي وَقَالَ الْمَوْلَى: هُوَ لِعَبِدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُنْقَلُ إلَى يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ عُرْيَانًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْعَادَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَتَاعٌ آخَرُ فِي يَدِهِ إلَّا مَا يُذْكَرُ فَلَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ قَوْلٌ، وَلَا يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى، وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: هُوَ لِي، وَقَالَ الْمَوْلَى: هُوَ لِي فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى، وَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا كَانَتْ يَدُهُ لَا تَظْهَرُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى كَانَ الْمَتَاعُ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى، وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمَوْلَى: هُوَ لِي، وَقَالَ الْعَبْدُ: هُوَ لِي فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ كَسْبُهُ. وَالْحَقُّ فِي كَسْبِهِ لِغُرَمَائِهِ فَيَدُهُ فِيهِ كَيَدِ الْغَرِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى، وَيَدُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لَابِسًا ثَوْبًا فَقَالَ الْعَبْدُ: هُوَ لِي، وَقَالَ الْمَوْلَى: هُوَ لِي فَهُوَ لِلْعَبْدِ يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ وَالْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمَأْذُونِ يَأْسِرُهُ الْعَدُوُّ أَوْ يَرْتَدُّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): قَدْ بَيَّنَّا فِي السِّيَرِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ ثُمَّ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَعُودُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ يَدِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 46 يَعُودُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَعُودُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الْمِلْكُ الْقَائِمُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَا يَبْقَى حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَسَوَاءٌ عَادَ ذَلِكَ الْمِلْكُ أَوْ لَمْ يَعُدْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لَا يَجِبُ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَلِهَذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ، وَإِنْ ارْتَدَّ الْمَأْذُونُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ جِنَايَةٌ خَطَأً، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَمَوْلَاهُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِزْهُ الْمُشْرِكُونَ إنَّمَا هُوَ أَبِقَ إلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ بَقِيَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ بِحَالِهِمَا يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ قَالَ: وَإِذَا أَدَانَ الْمُسْلِمُ دِينًا ثُمَّ ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أُسِرَ فَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ بَطَلَ الدَّيْنُ إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ؛ لِأَنَّ مَالَهُ الَّذِي خَلَفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَتِهِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فِي وُجُوبِ - قَضَاءِ الدَّيْنِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ الدَّيْنِ حِينَ قُتِلَ فَبَطَلَ دَيْنُهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ مَدْيُونٍ يَمْلِكُ مُفْلِسًا. وَلَوْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً فَسُبِيَتْ وَأَسْلَمَتْ فَهِيَ أَمَةٌ لِلَّذِي اسْتَوْلَدَهَا، وَقَدْ بَطَلَ الدَّيْنُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا تَبَدَّلَتْ بِالْأَسْرِ فَصَارَتْ كَالْهَالِكَةِ لَا إلَى خَلَفٍ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقُّ تَلَفٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الدَّيْنِ تَغَيَّرَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَجَبَ الدَّيْنُ كَانَ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَحَلٍّ آخَرَ، وَبَعْدَ مَا صَارَتْ أَمَةً فَالدَّيْنُ عَلَيْهَا يَكُونُ شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهَا أَنْ لَوْ بَقِيَ وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَادِثَةٌ لَا يُمْكِنُ شَغْلُهَا بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَيَسْقُطُ بِهَذِهِ الْمُنَافَاةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدٍّ وَقِصَاصٍ كَانَ عَلَيْهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَبْلَ الرِّدَّةِ؛ لِتَغْيِيرِ حُكْمِهِ بِرِقِّهَا فَالرِّقُّ يُنَصِّفُ الْحُدُودَ وَيُنَافِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالرِّقِّ، وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمَرْأَةُ الذِّمِّيَّةُ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَلْتَحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَوْمَ يُؤْسَرُ فَهُوَ رَقِيقٌ، وَقَدْ بَطَلَ الدَّيْنُ، وَكُلُّ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ دُونَ النَّفْسِ كَانَ عَلَيْهِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِرِقِّهِ، وَيُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ وَالرَّقِيقَ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِذَا اسْتَدَانَ الْحُرُّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أُخِذَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ؛ لِبَقَاءِ دَيْنِهِ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ إلَيْنَا، وَلَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا مُتَمَكِّنًا؛ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ فِي الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْنَا حَتَّى أُسِرَ فَصَارَ عَبْدًا بَطَلَ الدَّيْنُ لِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالرِّقِّ، وَلَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَ حَرْبِيًّا ثُمَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 47 أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ الْحَرْبِيَّ فَصَارَ عَبْدًا بَطَلَ الدَّيْنُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِمَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ الرِّقِّ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ. وَالْأَسْرُ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي مِلْكِ الدَّيْنِ فَسَقَطَ عَمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُسْتَوْفِي لَهُ، فَإِنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ بِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالرِّقِّ فَإِنْ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ جَرَتْ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمِّيًّا فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَصَارَ مِنَّا دَارًا وَدِينًا، وَالدَّيْنُ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ عَلَى حَالِهِ، وَبَقَاءُ الطَّلَبِ أَهْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دُيُونِ التِّجَارَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ يَشْغَلُ كَسْبَهُ وَمَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ مَوْلَاهُ وَصِحَّةُ إقْرَارِهِ اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى بِهِ، وَاسْتِدَامَةُ الْإِذْنِ بَعْدَ مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ، وَإِذَا كَانَ صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِسَبَبٍ يُضَافُ إلَى الْمَوْلَى صَارَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى، وَإِقْرَارُ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَمِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَكَسْبِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَكَسْبِهِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ وَرَقَبَتَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ، فَإِقْرَارُهُ فِيهِ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَصْرُوفًا إلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْمَوْلَى غَائِبًا فَقَضَى الْقَاضِي دَيْنَ الْمَوْلَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَمَا فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ مَالُ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ فَيَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْعَبْدِ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْعَبْدِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَقَدْ قَضَى بِهِ دَيْنَ الْمَوْلَى فَيَقُومُ غَرِيمُ الْعَبْدِ مَقَامَ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي الرُّجُوعِ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ إذَا ظَهَرَ مَالُهُ؛ لِيَأْخُذَهُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَمَالِيَّةِ كَسْبِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَوْلَى لِوَارِثِهِ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ فِي. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 48 كَسْبِ الْعَبْدِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنُ الصِّحَّةِ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى كَمَا وَصَفْنَا بُدِئَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِدَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِهِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَقَدْ كَانَ حَقُّ غَرِيمِ الْعَبْدِ فِيهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ثُمَّ يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمَوْلَى الَّذِي كَانَ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِهِ مِمَّا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ فِيهِ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ، وَلَا يَكُونُ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى مُزَاحَمَةُ غَرِيمِ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى وَغَرِيمُ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى حَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يُزَاحِمُهُ مَنْ كَانَ حَقُّهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى. ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ زَاحَمَهُ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَأْخُذُهُ غَرِيمُ الْمَوْلَى مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ غَرِيمُ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ فَلِخُلُوِّهِ مِنْ الْفَائِدَةِ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يُحَاصُّ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَقَدْ جَمَعَ الْإِقْرَارَيْنِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الْإِذْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُزَاحِمًا لِصَاحِبِهِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ وَرَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا بِالدَّيْنِ مَعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيُسَلَّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ مَا دَامَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَتَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ غُرَمَائِهِ بِكَسْبِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ، فَحَالُ مَرَضِهِ فِي أَقَارِيرِ الْعَبْدِ كَحَالِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ، وَلَكِنَّهُ الْتَزَمَهُ بِسَبَبٍ عَايَنَهُ الشُّهُودُ لَزِمَهُ ذَلِكَ مِثْلُ مَا يَلْزَمُهُ فِي صِحَّةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ عَلَى حَالَةٍ، وَلَا تُهْمَةَ فِي السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ هَذَا الدَّيْنَ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِهِ مُسَاوِيًا لِدَيْنِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمَوْلَى فَمَا لَمْ يَقْضِ دُيُونَهُ لَا يُسَلَّمُ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ مَرِضَ الْمَوْلَى، وَلَا دَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فَيَتَحَاصَّ الْغَرِيمَانِ فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ يُحَاصُّ الْغَرِيمَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ جَمِيعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 49 فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارُ الْعَبْدِ أَوْ لَا بُدِئَ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِعَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى بِالْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ يَتَحَاصَّانِ فِيهِ، فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ مَعَ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا سَبَقَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِمَالِ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ نَادِرٌ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ غَرِيمِ الْمَوْلَى بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ فَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَبَقَ إقْرَارُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ مَعَ غَرِيمِ الْعَبْدِ. وَلَوْ بَدَأَ الْمَوْلَى فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ الثَّلَاثَةَ يَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى لَمَّا جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ مَعًا، وَلَا حَقَّ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ حِينَ وَجَدَ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْذُونٌ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ قَدْرَ مَالِيَّتِهِ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ. فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ضَرَبُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ أَقَارِيرَ الْعَبْدِ حَصَلَتْ، وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَقَارِيرِ الْمَوْلَى، وَقَدْ جَمَعَ الْكُلَّ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ يَتَحَاصُّونَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى لَمَّا سَبَقَ كَانَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فَنَزَلَ إقْرَارُهُ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى، وَقَدْ جَمَعَ الْأَقَارِيرَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ قَبْلَ إقْرَارِ الْمَوْلَى ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ لِغَرِيمِهِ دُونَ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْعَبْدِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ أَوَّلًا، فَكَانَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْعَبْدِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فَيُوَفَّى غَرِيمُ الْعَبْدِ حَقَّهُ وَغَرِيمُ الْمَوْلَى حَقَّهُ؛ لِأَنَّ فِي الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَبِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهِيَ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَالِيَّتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى؛ لِتَقَدُّمِ إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حَقُّ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي الْفَضْلِ. وَلَمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 50 يَفْضُلْ شَيْءٌ، وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ كَانَتْ أَلْفٌ مِنْهَا لِغَرِيمِ الْعَبْدِ وَالْبَاقِي لِغَرِيمِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْفَاضِلِ، وَصَارَ هَذَا نَظِيرَ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ مَعَ حَقِّ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي رَأْسِ الْمَالِ أَصْلٌ، وَحَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ تَبَعٌ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْفَضْلِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْفَضْلُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فَإِنْ قَلَّ الْفَضْلُ كَانَ حَقُّهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَبِيعَ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ اقْتَسَمَهُ الْغُرَمَاءُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى فَضْلًا عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ أَلْفٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْغَرِيمِ فِيهِ ثُمَّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْعَبْدِ صَحِيحٌ؛ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ جَمِيعُ مَالِيَّتِهِ بِالدَّيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الدُّيُونُ كُلُّهَا ثَابِتَةً عَلَيْهِ اقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهُ أَثْلَاثًا وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ اقْتَسَمُوهُ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى إنَّمَا ثَبَتَ فِيهِ بِقَدْرِ الْفَضْلِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ حِينَ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ دَيْنِ غَرِيمِهِ فِي حَقِّ مُزَاحَمَةِ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ، فَإِذَا ضَرَبَ هُوَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّك تَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا، وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَتْ لِغَرِيمَيْ الْعَبْدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْفَاضِلِ، وَلَمْ يَفْضُلْ مِنْ مَالِيَّتِهِ شَيْءٌ عَلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ حِينَ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ بَدَأَ الْمَوْلَى فَأَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَانِ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي مَالِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ حَقُّ غَرِيمِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ حَقُّ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى آخِرًا قَدْ ثَبَتَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْمَوْلَى جَمِيعُهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ. وَلَوْ بَدَأَ الْعَبْدُ فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَبِيعَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى كُلُّهُمْ بِأَلْفٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْأَلْفِ مِنْ مَالِيَّتِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِدَيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِقْرَارَانِ مِنْ الْمَوْلَى جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا، وَالْفَاضِلُ مِنْ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى مِقْدَارُ أَلْفٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَاصَّةً فَلِهَذَا ضَرَبَ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَلَوْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ، وَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى كُلُّهُمْ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ عَنْ أَقَارِيرِ الْمَوْلَى بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 51 الثَّمَنُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خُمُسَاهُ سِتُّمِائَةٍ، وَلِغَرِيمِ الْمَوْلَى خُمُسُهُ ثَلَثُمِائَةٍ فَإِنْ اقْتَسَمُوهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ عَلَى النَّاسِ فَخَرَجَ مِنْهُ أَلْفٌ أَوْ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَزِيَادَةٌ، وَلَا حَقَّ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى، وَهُمْ مَا ضَرَبُوا مَعَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ بِقَدْرِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَلِهَذَا كَانُوا أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ أَخَذَ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَسَبْعَمِائَةٍ، وَأَخَذَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى أَلْفَانِ وَسَبْعُمِائَةٍ فَيَأْخُذُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ يَقْضِي بِقَدْرِ ثَلَثِمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ دَيْنَ الْمَوْلَى فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى فَيَأْخُذُونَ هَذِهِ الثَّلَثَمِائَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَسِتَّمِائَةٍ يَأْخُذُ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَأَخَذَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ خُرُوجُهُ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى مُعْتَبَرٌ بِمَا لَوْ تَقَدَّمَ خُرُوجُهُ عَلَى قِسْمَةِ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَلَوْ تَقَدَّمَ خُرُوجُ هَذَا الْمِقْدَارِ كَانَ كُلُّهُ لِغُرَمَاءِ السَّيِّدِ ثُمَّ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَدَيْنُ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِمِقْدَارِ دَيْنِهِ، وَإِذَا ضَرَبَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِأَلْفَيْنِ، وَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ كَانَ السَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ أَرْبَعِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ حَقُّ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَحَقُّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى سَهْمًا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَلَّمَ لَهُمْ سُدُسَ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَقَدْ اسْتَوْفُوا ثَلَثَمِائَةٍ فَعَلَيْهِمْ رَدُّ مَا أَخَذُوهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَمْ يُقِرَّ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ غُرَمَاءُ السَّيِّدِ مَا خَرَجَ مِنْ دَيْنِ السَّيِّدِ، وَهُوَ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ ثُمَّ يُبَاعُ الْعَبْدُ فَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ لَهُمْ، وَغَرِيمُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَهُوَ أَلْفٌ فَكَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَسْبَاعًا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ، وَسُبُعَاهُ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْعَبْدُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ، وَقَبَضَهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فَمَاتَ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ فَبِيعَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ اقْتَسَمَهُ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمْ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ، وَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا بِدَيْنِ أَلْفٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَلَى دَيْنِ الْمُعَايَنَةِ، وَعَلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ أَوَّلًا. وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ بَطَلَ دَيْنُ الْمَوْلَى فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 52 وَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، وَقَبَضَهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ مَرَضِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَبِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فِي مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ عَلَى الْمَوْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِاسْتِدَامَةِ الْمَوْلَى الْإِذْنِ لَهُ فَلِهَذَا بُدِئَ بِدَيْنِ الْبَائِعِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى أَوْ فِي مَرَضِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِذْنِ بَعْدَ الْمَرَضِ كَاكْتِسَابِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَرِضَ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ لِبَعْضِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَنَّ إقْرَارَهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَاسْتِدَامَةُ إذْنِهِ فِي مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ ثُمَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَصَارَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي حَيَاتِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ إذْنُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ إذْنِهِ بِدَيْنٍ جَازَ إقْرَارُهُ وَشَارَكَ الْمُقَرُّ لَهُ أَصْحَابَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ خَلَفٌ عَنْ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بَعْد مَا لَحِقَهُ دُيُونٌ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ شَارَكَ الْمُقَرُّ لَهُ أَصْحَابَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَهُ حَصَلَ فِي حَالِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ فَهَذَا مِثْلُهُ. ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ إذْنُ الْوَارِثِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَتَصَرُّفَهُ، فَإِنْ قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَالِيَّةُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى فَيُجْعَلُ دَيْنُ الْمَوْلَى كَالْمَعْدُومِ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إذْنُهُ فِي التِّجَارَةِ قُلْنَا: دَيْنُ الْمَوْلَى لَا يَظْهَرُ فِي مُزَاحَمَةِ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فَأَمَّا فِي حَقِّ وَارِثِ الْمَوْلَى فَهَذَا ظَاهِرٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ دَيْنُ الْعَبْدِ كَانَ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى دُونَ وَرَثَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيْعِ الْمَأْذُونِ وَشِرَائِهِ وَإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ مَرِضَ الْمَوْلَى فَبَاعَ الْعَبْدُ بَعْضَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 53 مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَتِهِ، وَاشْتَرَى شَيْئًا فَحَابَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ، وَمَا فِي يَدِهِ فَجَمِيعُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مَالِكًا لِلْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ وَالْمَوْلَى حِينَ اسْتَدَامَ الْإِذْنَ بَعْدَ مَرَضِهِ جَعَلَ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ بِإِذْنِهِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ وَحَابَى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْمُحَابَاةُ الْيَسِيرَةُ وَالْفَاحِشَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مُحَابَاتُهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَذَلِكَ فَأَمَّا مُحَابَاتُهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَبَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ فِي الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ كَانَ قَوْلُهُمْ فِي إمْضَاءِ مُحَابَاةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ مُحَابَاةُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى وَقِيلَ: لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ، وَإِنْ شِئْت فَأَدِّ الْمُحَابَاةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ، وَكَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فَمُحَابَاةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِذْنَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ. وَالْمُحَابَاةُ، وَإِنْ جَازَتْ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَابَاهُ الْعَبْدُ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بَاطِلَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَبْدِ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ الْمُحَابَاةَ فِي شَيْءٍ مَعَ وَارِثِهِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ إلَى هَذَا الْعَبْدِ جَارِيَةً يَبِيعُهَا لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى فَبَاعَهَا مِنْ وَارِثِ الْمَوْلَى وَحَابَاهُ فِيهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ لَيْسَتْ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ نُفُوذُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِوَكَالَتِهِ، وَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ اشْتَرَى، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا اشْتَرَى أَوْ بِقَبْضِ ثَمَنِ مَا بَاعَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ، وَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَبِيرٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ كَثِيرٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ، وَمَا فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْقَبْضِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَعْنَى إقْرَارٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 54 بِالدَّيْنِ. فَإِنَّهُ يَقُولُ: وُجُوبُهُ عَلَيَّ بِالْقَبْضِ مِثْلَ مَا كَانَ لِي عَلَيْهِ ثُمَّ صَارَ قِصَاصًا وَدَيْنُ الْعَبْدِ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ، وَأَمَّا دَيْنُ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ فَيَمْنَعُ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إنْ شِئْت فَأَدِّ الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِمَا. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إقَالَةِ الْعَقْدِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي بَايَعَهُ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِالْقَبْضِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَامَلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْعَبْدِ فِي مَرَضِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ فَأَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التِّجَارَاتِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصِّحَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَوْقَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَفِي حَقِّ الْحُرِّ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ قِيلَ: فِي حَقِّ الْحُرِّ الْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ بِمَرَضِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي صِحَّتِهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِكَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ قَبْلَ مَرَضِهِ، وَالْحَقُّ فِي كَسْبِهِ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ، وَهُوَ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ فَرْعُ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، وَالْفَرْعُ يَلْتَحِقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ عِلَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ كَانَ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا فِي مَالِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ شَارَكُوا أَصْحَابَ دَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 55 وَفِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ هُوَ كَالْحُرِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْحُرِّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَجَبَ لَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى قَبْضِهِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ الدَّيْنَ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، وَالْمَرِيضُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، فَلِهَذَا كَانَ مَا عَلَى الْغَرِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ. وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَقَضَى بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بَعْضَهُمْ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ لِلْآخَرِينَ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْكُلِّ بِكَسْبِهِ فَإِذَا قَضَاهُ فِي مَرَضِهِ أَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيثَارِهِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إسْقَاطَ حَقِّ الْبَاقِينَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ شَيْئًا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ، وَهَلَكَ الشَّيْءُ فِي - يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ عَلَى الْبَائِعِ سَبِيلٌ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْحُرِّ صَحِيحٌ مُطْلَقًا فَمِنْ الْعَبْدِ كَذَلِكَ. (أَرَأَيْت) لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهَا أَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ مِثْلَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ أَوْلَى فِيمَا إذَا فَعَلَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا أَجْرَ أَجِيرٍ أَوْ مَهْرَ امْرَأَةٍ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُشَارِكُوا الْمَرْأَةَ وَالْأَجِيرَ فِيمَا قَبَضَ، وَهَذَا فَرْقٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُرِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ظَاهِرًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِمَالٍ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ؛ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى إيثَارِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فِيمَا قَبَضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ. قَالَ: وَإِذَا حَابَى الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمُحَابَاةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ، وَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِمُحَابَاتِهِ، وَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَوَفَّى مَالَهُ فِي الدَّيْنِ، وَلَمْ يَفِ مَالُهُ بِالدَّيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ وَمُحَابَاتِهِ، فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمَرِيضِ، وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ فَوَجَبَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهَا لَهُ لَزِمَتْهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 56 بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي تَرِكَتِهِ حَقٌّ سِوَى مَوْلَاهُ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَضَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا قَضَاهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ، وَدَيْنُهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِالدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمُعَايَنَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ حِينَ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ فَلِهَذَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَمِنْ كِتَابِ الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ تَاجِرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجُلٍ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَوَّلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَشِرَاءُ الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِبَيْعِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لِغَيْرِهِ ثُمَّ قَدْ صَارَ هَذَا الْمُشْتَرَى مِلْكًا لِمَوْلَى الْمُشْتَرِي، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَشِرَاؤُهُ الثَّانِيَ مِنْ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي عَبْدَ مَوْلَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مِنْ الْمَأْذُونِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمُ أَيُّ الْبَيْعَيْنِ أَوَّلُ؛ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَا مَعًا؛ وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ شِرَاءُ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ غُرَمَاؤُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَوْلَاهُ إيَّاهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ كَبَيْعِهِ مِنْ حُرٍّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِدُونِ إجَازَةِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّهُمْ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ فَادَّعَى الْوَلَدَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَصَرُّفٌ مِنْهُ، وَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَثُبُوتِ النَّسَبِ كَوْنُ الْأَمَةِ حَلَالًا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ، وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لِمَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ تِجَارَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَدَعْوَاهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ، وَهُوَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَلَمْ تَلِدْ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَا مَهْرَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ أَمَّا فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي جِمَاعِهَا فَفِعْلُهُ بِهَا يَكُونُ زِنًا، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 57 وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَقَرَّرُ مَعْنَى الزِّنَا. ، وَأَمَّا فِي الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَسْبِهِ فَإِقْرَارُهُ بِوَطْئِهَا صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِزِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا ادَّعَاهُ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَخَذَهُ بِالْعُقْرِ فِي الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ وَطْأَهَا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فِي التِّجَارَةِ فَتَصَرَّفَ، وَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَهُوَ مَرْهُونٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُثْبِتُ الدَّيْنَ بِهِ عَلَيْهِ فِي مُزَاحَمَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَالَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ سَقَطَ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يُعْتَقَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَرْهُونًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَاجِرًا، وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ وَهَبَ الْعَبْدَ، وَقَبَضَهُ جَازَتْ الْهِبَةُ، وَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وَهَبَ الْعَبْدَ دُونَ الْمَالِ، وَالْمَالُ كَسْبُ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ نَظِيرُ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ، وَلَكِنَّهُ سَالِمٌ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ إخْرَاجِهِ الْعَبْدَ مِنْ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنُ خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَكَفَلَ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ كَفَلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ أَمَّا الْكَفَالَةُ الْأُولَى فَيَبْطُلُ نِصْفُهَا، وَيَضْرِبُ صَاحِبُهَا بِنِصْفِهَا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَارِغَ عَنْ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ، وَكَفَالَتُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ مَالِيَّتِهِ عَنْ حَقِّ غَرِيمِهِ وَقْتَ الْكَفَالَةِ فَيَثْبُتُ مِنْ دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ الْأَوَّلِ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَفَلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهِ فَارِغًا فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ الثَّانِي بِجَمِيعِ دَيْنِهِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَصَاحِبُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَصِيرُ ثَمَنُ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا غَيْرَ أَنَّك تَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ لِصَاحِبِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى، وَمِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْأَوْجُهِ وَقِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الدِّيَاتِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامِ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 26 ¦ الصفحة: 58 {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَقَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا إنَّ أَعْتَى النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِ أَبِيهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ قَبْل أَنْ يَدْخُل الْجَاهِلِيَّةَ وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ»، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَاتٍ «أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَنُفُوسَكُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا» «وَلَمَّا قَتَلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يُرْحَمُ فَدُفِنَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دُفِنَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا تَقْبَلُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ حُرْمَةَ الْقَتْلِ» وَفِي قَتْلِ النَّفْسِ إفْسَادُ الْعَالَمِ وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَانِيَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الزَّجْرِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ مَا انْزَجَرَ إلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إنَّمَا يَنْزَجِرُونَ مَخَافَةَ الْعَاجِلَةِ بِالْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مُتْلِفًا لِلْجَانِي أَوْ مُجْحِفًا بِهِ فَشَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ لِتُحَقِّقَ مَعْنَى الزَّجْرِ. وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابَ الدِّيَاتِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِالْقَتْلِ أَعَمُّ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي الْخَطَأِ، وَفِي شَبَهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْعَمْدِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَنَوَّعُ فَلِهَذَا رَجَحَ جَانِبُ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا وَاشْتِقَاقُ الدِّيَةِ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُودَى فِي مُقَابِلَةِ مُتْلَفٍ لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النَّفْسُ، وَالْأَرْشُ الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُؤَدًّى أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ خَاصٌّ فِي بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَطْرُدُونَ الِاشْتِقَاقَ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهِ؛ لِقَصْدِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْرِيفِ، وَسُمِّيَ بَدَلُ النَّفْسِ عَقْلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اعْتَادُوا ذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْإِبِلِ لَيْلًا إلَى فِنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَتُصْبِحُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ، وَالْإِبِلُ مَعْقُولَةٌ بِفِنَائِهِمْ فَلِهَذَا سَمَّوْهُ عَقْلًا. ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ الْعَمْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ أَمَّا الْعَمْدُ فَهُوَ مَا تَعَمَّدْتَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَتْلُ، وَقَصْدُ إزْهَاقِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ لِقَصْدِ أَخْذِهَا فَيَكُونُ الْقَصْدُ إلَى إزْهَاقِ الْحَيَاةِ بِالضَّرْبِ بِالسِّلَاحِ الَّذِي هُوَ جَارِحٌ عَامِلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذَا الْفِعْلِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: الْمَأْثَمُ وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 59 فِيهَا} [النساء: 93] الْآيَةَ. وَمِنْهَا الْقِصَاصُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَكَانَ حَيَاةً لَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ يَقْصِدُ إفْنَاءَهُمْ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ فِي دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ فَإِنَّ نَفْسَ الْعَمْدِ لَا يَكُونُ قَوَدًا، وَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» أَيْ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، وَفِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الشَّيْءِ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِذَلِكَ. وَمِنْ حُكْمِهِ: حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا شَيْءَ لِلْقَاتِلِ» أَيْ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَمِنْ حُكْمِهِ: وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ عِنْدَ التَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى الْفَضْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا رَغِبَ الْقَاتِلُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ فَالْمَوْلَى مَنْدُوبٌ إلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْقَاتِلِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ إذَا سَاعَدَهُ الْوَلِيُّ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعْنَى الزَّجْرِ، وَمَعْنَى الزَّجْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُجْحِفًا بِهِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْ مَالِهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ بِالْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 60 عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ الْقَتْلِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا «، وَلَمَّا أُتِيَ بِالْقَاتِلِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْوَلِيِّ أَتَعْفُو فَقَالَ: لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ: لَا فَقَالَ الْقَتْلَ فَقَالَ نَعَمْ» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَسْتَبِدُّ بِأَخْذِ الدِّيَةِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِالْعَفْوِ، وَالْقَتْلِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا إتْلَافُ حَيَوَانٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ كَإِتْلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِتْلَافُ الْمُقَوَّمِ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِصِفَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ، وَالْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ مَا هُوَ الْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ بِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَشِفَاءِ الصَّدْرِ لِلْوَلِيِّ، وَدَفْعِ الْغَيْظِ عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، وَالْإِتْلَافُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِمُقَابَلَةِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ لَيْسَ بِمِثْلٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِمَعْنَى زِيَادَةِ النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُ فِي الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ بَلْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ أَوْ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي لِهَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ بِحُرْمَتَيْنِ، وَفِي إتْلَافِهَا هَتْكُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ حَقِّ صَاحِبِ النَّفْسِ وَجَزَاءُ حُرْمَةِ اللَّهِ الْعُقُوبَةُ زَجْرًا وَجَزَاءُ هَتْكِ حُرْمَةِ الْعَبْدِ الْغَرَامَةُ جَبْرًا. وَلَكِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ إسْقَاطُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَةِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَأَثْبَتْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَقُلْنَا: إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جَانِبِ هَتْكِ حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ حُرْمَةِ حَقِّ الْعِبَادِ فَاسْتَوْفَى الدِّيَةَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّمِ إذَا عَفَا أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَمَا وَجَبَ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مُسْقِطٌ، وَلَوْ وَجَبَ بِالْعَفْوِ لَوَجَبَ عَلَى الْعَافِي، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَلَمَّا وَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ عَلَى الْقَتْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْفُ فَكَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَافِي إذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فَقُلْنَا: يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ بَعْدَمَا اسْتَحَقَّتْ نَفْسُهُ قِصَاصًا مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا شَرْعًا كَالْمُضْطَرِّ إذَا وَجَدَ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ، وَمَعَهُ ثَمَنُهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ شَرْعًا لِهَذَا الْمَعْنَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 61 فَكَذَا هَاهُنَا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» فَقَدْ أَدْخَلَ الْأَلِفَ، وَاللَّامَ فِي الْعَمْدِ، وَذَلِكَ لِلْمَعْهُودِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَعْهُودٌ فَكَانَ لِلْجِنْسِ، وَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ فَمَنْ جَعَلَ الْمَالَ وَاجِبًا بِالْعَمْدِ مَعَ الْقَوَدِ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ الْعَمْدُ قَوَدٌ، وَلَا مَالَ لَهُ فِيهِ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: فِي دَمٍ عَمْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَتَخْصِيصُهُمَا غَيْرَ الْعَافِي بِوُجُوبِ الْمَالِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَافِيَ لَا شَيْءَ لَهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ «فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا فَادَوْا». ، وَالْمُفَادَاةُ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْقَتْلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالتَّرَاضِي، وَذَلِكَ أَخْذُ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ: وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ مِنْ جِهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ رِضَا الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ الْمَالِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِإِبْقَاءِ مَنْفَعَةِ الْمَالِ سَفَهٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بَعْدَمَا تَلِفَتْ نَفْسُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُذْ سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك»، وَهُوَ فِي أَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمُسَلِّمِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى لَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ غَيْرَهُ عَلَى أَدَاءِ الدِّيَةِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَفِّ عَنْ الْقَتْلِ فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَمَّا أَنْتُمْ يَا مَعَاشِرَ خُزَاعَةَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلَتُهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ الْيَوْمِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» فَقَدْ أَجْبَرَ الْوَلِيَّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ انْتَسَخَ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَرَضَ الدِّيَةَ عَلَى الْوَلِيِّ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ رِضَا الْقَاتِلِ مَشْرُوطًا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّبَرُّعَ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْقَاتِلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ رَغْبَةَ الْمَوْلَى فِي أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِاسْتِرْضَاءِ الْقَاتِلِ كَمَنْ سَعَى بِالصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَسْتَرْضِي أَحَدَهُمَا فَإِذَا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ اسْتَرْضَى الْآخَرَ. وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَتْلَفَ شَيْئًا مَضْمُونًا فَيَتَقَدَّرُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ مَا أَمْكَنَ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَتَفْوِيتُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 62 الْمِثْلُ إذَا أَمْكَنَ. وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِثْلِ ظُلْمٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي، وَفِي النُّقْصَانِ يَحْسُنُ بِالْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ بِالْمِثْلِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الدِّيَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ لِلْمُتْلِفِ، وَالْقِصَاصُ مِثْلٌ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ بِمِثْلٍ؛ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تُعْرَفُ صُورَةً أَوْ مَعْنًى، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَالِ، وَالْآدَمِيِّ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، وَالنَّفْسُ مَخْلُوقَةٌ لِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ؛ لِيَكُونَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَالْمَالُ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْآدَمِيِّ بِهِ لِيَكُونَ مُبْتَذَلًا فِي حَوَائِجِهِ. فَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ فَلِأَنَّهُ قَتْلٌ بِإِزَاءِ قَتْلٍ وَإِزْهَاقُ حَيَاةٍ بِإِزْهَاقِ حَيَاةٍ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إلَّا الِانْتِقَامُ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الِانْتِقَامِ كَالْأَوَّلِ، وَبِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا ثُمَّ الْمِثْلُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ، وَلَا يُجْعَلُ جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِحَيَاةٍ مِثْلِهَا، وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْقِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقِصَاصِ عَقَلْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، ثُمَّ هُوَ مَعْقُولٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ، وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ كَمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا حَقَّ لِلْعَبْدِ إلَّا فِي الْمِثْلِ، فَأَمَّا أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ فَتَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا حَاجَتُنَا إلَى أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ وَقَدْ أَثْبَتنَا ذَلِكَ فَقُلْنَا: لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ قَتْلًا إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ بِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْمَالُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ عَلَيْهِ، وَنَفْسُ الْمَقْتُولِ مُحَرَّمَةٌ لَا يَسْقُطُ جُزْءٌ مِنْهَا بِعُذْرِ الْخَاطِئِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْهَدَرِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْمَالَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ كَمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ مِثْلُ الصَّوْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ لَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْمَالِ وَكَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخَطَأِ قُلْنَا: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَمْدِ بِتَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى نُوجِبُ هَذَا الْمَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْمَالُ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ. وَإِذَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 63 عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَجِبُ لِلْآخَرِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَتَّى يَقُصَّ نَفْسَهُ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَوَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ، وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى الْعَافِي بِإِسْقَاطِهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، ثُمَّ إقْدَامُ الْعَافِي عَلَى الْعَفْوِ يَكُونُ تَعْيِينًا مِنْهُ لِحَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعْتَرَفُ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِيهِ، وَمَعَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجِبُ لَهُ الْمَالُ. وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنَّمَا لَا نُوجِبُ الْمَالَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَوْ أَلْحَقْنَا هَذَا بِالْخَاطِئِ لِمَعْنَى التَّعَذُّرِ كَانَ قِيَاسًا، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ بِصِفَتِهِ لَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَلْ لِمَعْنًى فِي الْجَانِي فَإِنْ شَاءَ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ كُرَّ حِنْطَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ إلَّا كُرًّا رَدِيئًا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالْقِيمَةِ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ بِصِفَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْقَاطِعِ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُنَاكَ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ حُكْمًا حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ، وَمَا قَالَ أَنَّ فِي النَّفْسِ حُرْمَتَيْنِ فَنَقُولُ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ حُرْمَتَانِ كَمَا فِي نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ يَحْصُلُ بِهِ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُمَا لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ لَا يَبْقَى حُرْمَةٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا اسْتِيفَاءً كَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ يَجْمَعُ بَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَالَةِ؛ لِحُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الضَّمَانِ لِحَقِّ الْمَالِكِ. وَفِيمَا قَرَّرْنَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَ: إنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى هُوَ الْقِصَاصُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَاَلَّذِي قَالَ: إنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ إنَّمَا كَانَ بِالْقَبِيلِ السَّابِقِ فَأَمَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ. وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ: فَهُوَ مَا تَعَمَّدْت ضَرْبَهُ بِالْعَصَا أَوْ السَّوْطِ أَوْ الْحَجَرِ أَوْ الْيَدِ فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلَ مَعْنَيَيْنِ: الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ إلَى الضَّرْبِ، وَمَعْنَى الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 64 انْعِدَامِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا آلَةُ الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ دُونَ الْقَتْلِ، وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَقْصِدُ كُلَّ فِعْلٍ بِآلَتِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ آلَةَ التَّأْدِيبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ صُورَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ قَاصِدًا إلَى الضَّرْبِ، وَإِلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا الْقَتْلُ نَوْعَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى شِبْهِ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ فِيهِ مُغَلَّظَةً مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شِبْهُ الْعَمْدِ الضَّرْبَةُ بِالْعَصَا وَالْعَزْقَةُ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ. فَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ شِبْهُ الْعَمْدِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ انْعِدَامُ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ تَعَمُّدُ الْمُسَاوَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ قَتْلٍ مَقْصُودٍ وَقَتْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ، ثُمَّ هَذَا الْقَتْلُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَالْآخَرُ يَمْنَعُ تَرَجَّحَ الْمَانِعُ عَلَى الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ فِي إبْقَاءِ النَّفْسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ الْإِبْقَاءَ حَيَاةٌ حَقِيقَةً، وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَوَدِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا التَّغْلِيظُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ إذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ مِنْهَا لَا فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِحَالٍ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] «؛ وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي رِمْثَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» أَيْ لَا يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِك، وَلَا تُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ. وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُتْلِفِ فِي إتْلَافِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَتِهِ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ عَقْلَ جِنَايَةِ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ»، وَفِي حَدِيثِ «حَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَابِغَةَ قَالَ: كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ أَحَدُهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمِسْطَحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 26 ¦ الصفحة: 65 لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ دُوهُ فَقَالَ أَخُوهَا عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمِرٌ الْأَسْلَمِيُّ أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ، وَلَا اسْتَهَلَّ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ بَطَلَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «دَعْنِي، وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ» الْحَدِيثَ. فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ إنَّمَا يَقْصِدُهُ الْقَاتِلُ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ لَهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّنَاصُرِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا التَّنَاصُرِ أَسْبَابٌ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الدِّيوَانِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَشَائِرِ، وَأَهْلِ الْمَحَالِّ، وَأَهْلِ الْحِرَفِ فَإِنَّمَا يَكُونُ تَمَكُّنُ الْفَاعِلِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ بِنُصْرَتِهِمْ فَيُوجِبُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ؛ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ غَلَبَةِ سُفَهَائِهِمْ؛ وَبَعْثًا لَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِهِمْ لِكَيْ لَا تَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هَذَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَلَّمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا لِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ تَكُونُ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِنَصْرِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ مَالٌ عَظِيمٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ دَفْعًا لِضَرَرِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ كَمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ؛ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ. وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مُؤَجَّلًا عَلَى وَجْهٍ يَقِلُّ مَا يُؤَدِّيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ نَجْمٍ لِيَكُونَ الِاسْتِيفَاءُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهَذَا يُوَاسِي ذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ، وَذَلِكَ يُوَاسِي هَذَا فَيُدْفَعُ ضَرَرُ الْإِجْحَافِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَحْصُلُ مَعْنَى صِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ، وَمَعْنَى الْإِعْسَارِ لِوَرَثَتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ وِزْرَ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ مَا نُوجِبُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فِي الْمُوَاسَاةِ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مَالًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَلَّ مَا يَعْظُمُ هُنَاكَ بَلْ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمُتْلَفِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِالْمُتْلِفِ أَنْ لَوْ ضَمِنَ بِهِ، وَهَذَا لَا نُوجِبُ الْقَلِيلَ مِنْ الْأَرْشِ، وَهُوَ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَمِنْ مُوجِبِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَيْضًا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَبِهَذَا ثَبَتَ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَهُوَ مَا أَصَبْت مِمَّا كُنْت تَعَمَّدْت غَيْرَهُ. وَالْخَطَأُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى صَيْدٍ أَوْ هَدَفٍ أَوْ كَافِرٍ فَيُصِيبُ مُسْلِمًا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَ وَالثَّانِي: أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ فَهَذَا خَطَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي قَصْدِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَاصِدًا إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَهُ وَحُكْمُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 66 الْخَطَأِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَقَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَبَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ؛ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ فَاسْتِحْقَاقُ صِيَانَةِ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْخَاطِئِ، وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قَلَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ تَهَاوُنٌ فِي التَّحَرُّزِ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّحَرُّزِ لِكَيْ لَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مُلْتَزِمًا بِتَرْكِ التَّحَرُّزِ فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ إلَّا بِنَوْعِ خِذْلَانٍ، وَهَذَا الْخِذْلَانُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذُنُوبٍ سَبَقَتْ مِنْهُ، وَالْحَسَنَةُ تُذْهِبُ السَّيِّئَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِتَكُونَ مَاحِيَةً لِلذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بَعْدَهَا، وَفِي سَيِّئَةِ الْعَمْدِ مَعْنَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَظْهَرُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالْقَصْدِ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ. وَفِيهِ حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ حَيْثُ قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ»، وَإِيجَابُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلٍ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَعَرَفْنَا: أَنَّ الْمُرَادَ شِبْهُ الْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَعْنَى فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ نَقَّصَ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمَعَ، وَالْجَمَاعَاتِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ مَا أَتْلَفَ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إحْيَاءً فَعَلَيْهِ إقَامَةُ مَقَامِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ تَحْرِيرًا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقُّ تَلَفٌ. وَبِهَذَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ شُكْرًا لِلَّهِ حِين أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ بِعُذْرِ الْخَطَأِ مَعَ تَحَقُّقِ إتْلَافِ النَّفْسِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي أَنَّ تَحَرُّرَ نَفْسٍ مِنْهُ؛ لِتَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ وَنُوجِبُهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ. وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يُبَيَّنُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إطْعَامٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 67 الظِّهَارِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي حَادِثَيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا، وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ. فَأَمَّا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فَهُوَ النَّائِمُ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْقَصْدِ مِنْ النَّائِمِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ تَرْكُ الْقَصْدِ أَوْ تَرْكُ التَّحَرُّزِ، وَلَكِنَّ الِانْقِلَابَ الْمُوجِبَ لِتَلَفِ مَا انْقَلَبَ عَلَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النَّائِمِ فَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْكَفَّارَةُ وَيَثْبُتُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِيُوهِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَهَاوِنًا، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا قَصْدًا مِنْهُ إلَى اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ، وَأَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقَصْدَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ. فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ، وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ فَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ بِإِيصَالِ فِعْلٍ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْأَرْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلِ عَمْدٍ، وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ، وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ بَلْ هُوَ بِسَبَبٍ مُتَعَدٍّ فَنُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ عَنْ الْهَدَرِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ فِي بَابِهِ قَالَ: وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، مَعْنَاهُ بِسَبَبِ إتْلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً، وَالنَّفْسُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدِّيَةِ بَلْ قَتْلُهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ كَمَا يُقَالُ فِي النِّكَاحِ حَلَّ، وَفِي الشِّرَاءِ مَلَكَ. وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَمَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنْ أَعْضَاءٍ أَوْ مَعَانٍ مَقْصُودَةٍ فَإِتْلَافُهَا كَإِتْلَافِ النَّفْسِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ بِهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ ثَلَاثَةٌ الْأَنْفُ، وَاللِّسَانُ، وَالذَّكَرُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَطْعُ الْأَنْفِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ وَمَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ وَامْتِيَازُ الْآدَمِيِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَاتَ بِهِمَا فَتَفْوِيتُهُمَا فِي مَعْنَى تَفْوِيتِ النَّفْسِ فَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الْأَنْفِ بِحَيْثُ يُقْطَعُ الْمَارِنُ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ بِهِ يَحْصُلُ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْأَنْفِ اجْتِمَاعُ الرَّوَائِحِ فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ؛ لِنَقْلِهِ مِنْهَا إلَى الدِّمَاغِ، وَذَلِكَ تَفْوِيتٌ بِقَطْعِ الْمَارِنِ وَالْمَارِنُ: مَا دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِاللِّسَانِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] الجزء: 26 ¦ الصفحة: 68 وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَطْعِ اللِّسَانِ فَفِيهِ تَفْوِيتُ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ فِي الْآدَمِيِّ. وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ بَعْضَ الْكَلَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَالْجَوَابُ الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ الدِّيَةَ تُقَسَّمُ عَلَى الْحُرُوفِ فَحِصَّةُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ مِنْ الْحُرُوفِ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَحِصَّةُ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ مِنْ الْحُرُوفِ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكُونُ بِاللِّسَانِ فَأَمَّا الْهَاءُ، وَالْحَاءُ، وَالْعَيْنُ لَا عَمَلَ لِلِّسَانِ فِيهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ. وَفِي الْكِتَابِ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي اللِّسَانِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الْأَنْفِ بِالدِّيَةِ قَالَ: وَفِي الذَّكَرِ دِيَةٌ»؛ لِأَنَّ فِي الذَّكَرِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ، وَمَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ، وَالرَّمْيِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَقْصُودِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَشَفَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الذَّكَرِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بِاعْتِبَارِهِ. وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ فِي الْبَدَنِ الْعَقْلُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالذَّوْقُ، وَالشَّمُّ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَمَنْفَعَةَ ذَكَرِهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآدَمِيُّ، وَبِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، وَبِهِ يَمْتَازُ مِنْ الْبَهَائِمِ، فَالْمُفَوِّتُ لَهُ كَالْمُبْدِلِ لِنَفْسِهِ الْمُلْحِقِ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ بِهَا يَنْتَفِعُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الْبَصَرِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُدْفَنْ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الشَّمِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْبَدَنِ وَمَنْفَعَةُ الذَّوْقِ كَذَلِكَ فَتَفْوِيتُهَا مِنْ وَجْهٍ اسْتِهْلَاكٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَيُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ كَامِلَةً إذَا مَنَعَ الْجِمَاعَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَدِبَ فَإِنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ لِلْآدَمِيِّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، قِيلَ فِي مَعْنَى: قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]: مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، وَذَلِكَ يَفُوتُ إذَا حَدِبَ، وَالْجَمَالُ لِلْآدَمِيِّ مَطْلُوبٌ كَالْمَنْفَعَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ دِيَةً كَامِلَةً فَإِنْ عَادَ إلَى حَالِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنَّ فِيهِ أَثَرَ الضَّرْبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَفَى بَعْضَ الشَّيْئَيْنِ بِبَقَاءِ أَثَرِ الضَّرْبَةِ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمَ عَدْلٍ. وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِفْضَاءُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبَ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 69 لَا ثَانِيَ لَهَا فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ. وَذَكَر الْمُبَرِّدُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: فِي الصَّعْرِ الدِّيَةُ» وَفَسَّرَ الْمُبَرِّدُ ذَلِكَ بِتَعْوِيجِ الْوَجْهِ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ زَوْجًا فِي الْبَدَنِ فَفِي قَطْعِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَزْوَاجٌ فِي الْبَدَنِ الْعَيْنَانِ، وَالْأُذُنَانِ الشَّاخِصَتَانِ، وَالْحَاجِبَانِ، وَالشَّفَتَانِ، وَالْيَدَانِ وَثَدْيَا الْمَرْأَةِ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالرِّجْلَانِ أَمَّا فِي الْعَيْنَيْنِ إذَا فُقِئَا الدِّيَةُ كَامِلَةً بِتَفْوِيتِ الْجَمَالِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَأَمَّا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ فَالدِّيَةُ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهِمَا تَفْوِيتَ الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَتَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ تَجْتَمِعُ فِيهَا، وَتَنْفُذُ إلَى الدِّمَاغِ، وَبِهِمَا تُقَى الْأَذَى عَنْ الدِّمَاغِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِبَيْنِ إذَا حَلَقَهُمَا عَلَى وَجْهٍ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ نَتَفَهُمَا فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي فُصُولِ الشَّعْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي الشَّفَتَيْنِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ فَبِقَطْعِهَا تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَبِقَطْعِ إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْعُلْيَا، وَالسُّفْلَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فِي السُّفْلَى ثُلُثَا دِيَةٍ، وَفِي الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُلْيَا جَمَالًا فَقَطْ، وَفِي السُّفْلَى جَمَالًا وَمَنْفَعَةً، وَهِيَ اسْتِمْسَاكُ الرِّيقِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ فِي الْآدَمِيِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَفِي قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي قَطْعِ إحْدَاهُمَا تَنْقِيصُهُ، وَكَذَلِكَ فِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ رَضَاعِ الْوَلَدِ، وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ ثَدْيَيْهَا تَجِبُ بِقَطْعِ حَلَمَتَيْهَا؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الثَّدْيِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَشَفَةِ مَعَ الذَّكَرِ، وَالْمَارِنِ مَعَ الْأَنْفِ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْإِمْنَاءِ، وَالنَّسْلِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْمَشْيِ، وَانْتِفَاعُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَمَكَّنَ الْمَرْءِ مِنْ الْمَشْيِ فَقَطْعُ الرِّجْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِهِ حُكْمًا. وَأَمَّا مَا يَكُونُ أَرْبَاعًا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ يَجِبُ فِي كُلِّ شَفْرٍ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ نَتَفَ الْأَهْدَابَ فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ كُلَّهَا بِالْأَشْفَارِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْدَابَ، وَالْجُفُونَ تَقِي الْأَذَى عَنْ الْعَيْنَيْنِ وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ بِنَقْصٍ مِنْ الْبَصَرِ، وَيَكُونُ آخِرُهُ الْعَمَى فَيَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَهِيَ أَرْبَاعٌ فِي الْبَدَنِ فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 70 فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ. فَأَمَّا مَا يَكُونُ أَعْشَارًا فِي الْبَدَنِ كَالْأَصَابِعِ يَعْنِي أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَإِنَّ قَطْعَ أَصَابِعِ الْيَدِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَالْبَطْشُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مَذْكُورٌ فِيمَا «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفِيهَا: وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الِابْتِدَاءِ يَقُولُ فِي الْخِنْصَرِ سِتٌّ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرٌ، وَفِي السَّبَّابَةِ، وَالْإِبْهَامِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ إلَى الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ. وَاَلَّذِي تَبَيَّنَّاهُ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ، وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ كَمَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي أَعْضَائِهِ عُرْضَةً لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ مَا لَمْ يُصِبْهَا آفَةٌ فَفِي تَفْوِيتِهَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ. وَأَمَّا مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَدَنِ فَهِيَ الْأَسْنَانُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَنْيَابُ، وَالنَّوَاجِذُ، وَالضَّوَاحِكُ، وَالطَّوَاحِينُ وَمِنْ النَّاسِ مِنْ فَضَّلَ الطَّوَاحِينَ عَلَى الضَّوَاحِكِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ثُمَّ إنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ جَمَالٍ، وَالْجَمَالُ فِي الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ حَتَّى قِيلَ: إذَا قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِهِ فَعَلَيْهِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا فَإِذًا الْوَاجِبُ فِي كُلٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُمِائَةٍ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ جِنْسٌ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ سِوَى الْأَسْنَانِ فَإِنْ قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِ الْكَوْسَجِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا؛ لِأَنَّ أَسْنَانَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، هَكَذَا حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: يَا كَوْسَجُ: فَقَالَ إنْ كُنْت كَوْسَجًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ تُعَدُّ أَسْنَانُهُ فَإِنْ كَانَتْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَلَيْسَ بِكَوْسَجٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ كَوْسَجٌ. قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ إذَا حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 71 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُسْتَمَدٌّ مِنْ الْبَدَنِ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ إنَّمَا فِيهِ فَقَطْ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْجَمَالِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ نَوْعُ شَيْنٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لِغَيْرِ الْكَوْسَجِ بِقِلَّةِ شَعْرِهِ، وَوُجُوبِ كَمَالِ الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يُوجِبُ فِي الْحُرِّ كَمَالَ الدِّيَةِ يُوجِبُ فِي الْعَبْدِ كَمَالَ الْقِيمَةِ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ حَلَقَ لِحْيَةَ عَبْدِ إنْسَانٍ لَا يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرِّ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ جَمَالًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ جَمَالًا كَامِلًا فِي أَوَانِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالٌ كَامِلٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَدِمَ ذَلِكَ خِلْقَةً تَكَلَّفَ لِسَتْرِهِ، وَإِخْفَائِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالًا كَامِلًا، وَبَعْضَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَمَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْجَمَالِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللُّحَى وَالنِّسَاءَ بِالْقُرُونِ وَالذَّوَائِبِ» ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَمَا إذَا ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى انْقَطَعَ مَاؤُهُ فَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لِلْعُقَلَاءِ فِي الْجَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ، وَالسَّاقِ فَلَيْسَ فِي حَلْقِهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي النُّقْصَانِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ. فَأَمَّا فِي لِحْيَةِ الْعَبْدِ فَرِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَالَ: الْقِيمَةُ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَمَا يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي الْحُرِّ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فِي الْعَبْدِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: الْجَمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْفَعَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَبِحَلْقِ لِحْيَتِهِ أَوْ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْهُ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْجَمَالُ فَمَقْصُودٌ فِي الْأَحْرَارِ وَبِتَفْوِيتِهِ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَتَكَلَّمُوا فِي حَلْقِ لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ، وَالْأَصَحُّ فِي ذَلِكَ مَا فَصَّلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ الثَّابِتُ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةُ فَلَيْسَ فِي حَلْقِ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ لَا يُزَيِّنُهُ، وَرُبَّمَا يَشِينُهُ، وَإِنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 72 كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَى الذَّقَنِ، وَالْخَدِّ جَمِيعًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا بَعْضَ الْجَمَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ، وَفِي لِحْيَتِهِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ فَإِنْ نَبَتَ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِ الْجَانِي أَثَرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يَزْدَادُ بِبَيَاضِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ بَيَاضَ الشَّعْرِ جَمَالٌ فِي أَوَانِهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَيَشِينُهُ فَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِاعْتِبَارِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ إنْ انْخَسَفَتْ أَوْ ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ ابْيَضَّتْ حَتَّى ذَهَبَ الْبَصَرُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْعَيْنِ تَفُوتُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَقِيلَ: ذَهَابُ الْبَصَرِ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ الْعَيْنِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهَا بَعْدَمَا ذَهَبَ الْبَصَرُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ خَنَقَ إنْسَانًا حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا، وَكَذَلِكَ الْيَدُ إذَا شُلَّتْ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِهَا فَفِيهَا أَرْشُهَا كَامِلًا إمَّا؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ دَلِيلُ مَوْتِهَا أَوْ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ تَحَقَّقَ فَوَاتُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ قُطِعَتْ الْيَدُ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ. قَالَ: وَفِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ أَنْ يَقُولَ: الشِّجَاجُ الْحَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ وَمِنْهُ يُقَالُ: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ الدَّامِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الدَّامِيَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ بَعْضَ اللَّحْمِ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ أَكْثَرَ اللَّحْمِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي مَأْخَذِ الْكَلِمِ لَا فِي الْحُكْمِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِك الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ مَا تُظْهِرُ اللَّحْمَ، وَلَا تَقْطَعُهُ، وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُتَلَاحِمَةُ: مَا تَعْمَلُ فِي قَطْعِ أَكْثَرِ اللَّحْمِ فَهِيَ بَعْدَ الْبَاضِعَةِ ثُمَّ السِّمْحَاقُ: وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتُظْهِرُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ، وَالْعَظْمِ فَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تُسَمَّى سِمْحَاقًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ سَمَاحِيقَ ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ حَتَّى يَبْدُوَ ثُمَّ الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الْعَظْمُ أَوْ تَجْعَلُ الْعَظْمَ كَالنَّقْلَةِ، وَهِيَ كَالْحَصَى ثُمَّ الْآمَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الْجِلْدَ بَيْنَ الْعَظْمِ، وَالدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ أُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الدِّمَاغَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَذْكُرْ الدَّامِغَةَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 73 بَعْدَهَا عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَارِصَةَ، وَالدَّامِيَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ، وَبِدُونِ بَقَاءِ الْأَثَرِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ. فَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا فِي الْمُوضِحَةِ: فَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفِيمَا يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُوضِحَةُ خَطَأً فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنَّ عَمَلَهَا فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ، وَالْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا، فَأَمَّا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إذَا كَانَتْ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَمْدًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ فَرُبَّمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الثَّانِي فَوْقَ مَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهَا فِي الْجِلْدِ أَعْظَمُ، وَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُسْبَرَ غَوْرَهَا بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ يَتَّخِذُ حَدِيدَةً بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ بِهَا مِقْدَارَ مَا قَطَعَ، وَإِيجَابُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْخُدُوشِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي السِّمْحَاقِ بِأَرْبَعٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِقْدَارَ حُكُومَةِ عَدْلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَعْرِفَةِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمَ مَعَ هَذَا الْأَثَرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمْ هُوَ؟ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ رُبُعِ الْعُشْرِ يَجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالشِّجَاجِ الَّتِي قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُوجِبَ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مِنْ الدِّيَةِ فَوْقَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ؟ لِأَنَّ وُجُوبَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِيهِ. فَأَمَّا فِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَتُسَمَّى الْمَأْمُومَةُ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِيمَا كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ «فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، وَالْجَائِفَةُ كَالْآمَّةِ يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ وَاصِلَةٌ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ، وَهُوَ جَوْفُ الْبَطْنِ فَتَكُونُ كَالْوَاصِلَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 74 إلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، وَهِيَ الدِّمَاغُ، وَإِنْ نَفَذَتْ الْجَائِفَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَائِفَتَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ، وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ الْأَصَابِعِ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعُ إذَا كَانَ فِيهَا ثَلَاثَةِ مَفَاصِل وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ؛ لِأَنَّ الْمَفَاصِلَ لِلْأُصْبُعِ كَالْأَصَابِعِ لِلْيَدِ فَكَمَا أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْأَصَابِعِ عَلَى التَّسَاوِي فَكَذَلِكَ دِيَةُ الْأُصْبُعِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْمَفَاصِلِ عَلَى التَّسَاوِي، فَالْأُصْبُعُ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَفْصِلَيْنِ كَالْإِبْهَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَإِذَا كَانَتْ ذَاتَ ثَلَاثَةِ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا لَا يُفَضَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ بِنْتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ. وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْإِبِلِ مِائَةٌ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ فِي الدِّيَةِ أَصْلٌ أَمْ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الْإِبِلِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا أَصْلٌ، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَدْخُلَانِ عَلَى وَجْهِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَتَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا وُجُوبُهُمَا عَلَى سَبِيلِ قِيمَةِ الْإِبِلِ، وَلَكِنَّهُمَا قِيمَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِالنَّصِّ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُمَا أَصْلَانِ فِي الدِّيَةِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةٌ ثُمَّ غَلَبَ الْإِبِلُ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةً وَنِصْفًا ثُمَّ غَلَبَتْ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّتَيْنِ فَمَا زَالَتْ تَعْلُو حَتَّى جَعَلَهَا عُمَرُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ»، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ». وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَضَاؤُهُ ذَلِكَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلَ، وَهِيَ دَيْنٌ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ عَنْهَا كَانَ هَذَا دَيْنًا بِدَيْنٍ وَنَسِيئَةً بِنَسِيئَةٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 75 يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْأَصْلُ فِي الْقِيمَةِ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ إلَّا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِبِلِ كَانَ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْإِبِلِ، وَكَانَتْ النُّقُودُ تَتَعَسَّرُ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْفُونَ الدِّيَةَ عَلَى أَظْهَرِ الْوُجُوهِ؛ لِيَنْدَفِعَ بِهَا بَعْضُ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي الْإِبِلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النُّقُودِ فَكَانَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ. ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْإِبِلِ تَجِبُ أَخْمَاسًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسِّنُّ الْخَامِسُ عِنْدَنَا ابْنُ مَخَاضٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ابْنُ لَبُونٍ فَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» يَعْنِي مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ، وَابْنُ مَخَاضٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِابْنِ اللَّبُونِ مَدْخَلٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ». وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَاسْمُ الْإِبِلِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَابْنُ الْمَخَاضِ أَدْنَى مِنْ ابْنِ اللَّبُونِ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ابْنَ اللَّبُونِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ فِي الزَّكَاةِ فَإِيجَابُ ابْنِ اللَّبُونِ هَاهُنَا فِي مَعْنَى إيجَابِ أَرْبَعِينَ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَالْمُرَادُ إعْطَاءُ الدِّيَةِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِحَاجَتِهِمْ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ ابْنُ الْمَخَاضِ يَدْخُلُ فِي الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدْخُلُ ابْنُ اللَّبُونِ؛ لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ عِنْدَنَا يُسْتَوْفَى بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ ابْنُ الْمَخَاضِ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَجِبُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ ابْنِ لَبُونٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ: تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلٍ وَكُلُّهَا خَلِفَةٌ، وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَامِلُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً. وَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَجِبُ أَثْلَاثًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْنَانِ مِنْ كُلِّ سِنٍّ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي خُطْبَةِ عَامِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 76 «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَضَاؤُهُ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ احْتَجَّا بِحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَطَأَ؛ لِأَنَّهَا فِي الْخَطَأِ تَجِبُ أَخْمَاسًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَقَالَ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ»، وَالْمُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَدْنَى، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِوَضًا عَنْ الْمَقْتُولِ، وَالْحَامِلُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ فَكَذَلِكَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الدِّيَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِفَةَ الْحَمْلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَنِينَ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى إيجَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ عَدَدًا، وَبِالِاتِّفَاقِ صِفَةُ التَّغْلِيظِ لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ بَلْ مِنْ حَيْثُ السِّنُّ ثُمَّ الدِّيَاتُ تُعْتَبَرُ بِالصَّدَقَاتِ. وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ أَخْذِ الْحَوَامِلِ فِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهَا كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ مِنْهُمْ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فِي عِدَادِ الصِّبْيَانِ، وَقَدْ خَفِيَ الْحَدِيثُ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَقَاوِيلَ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالْحَدِيثِ فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفُوا مَعَ هَذَا النَّصِّ، وَلَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى بِالْأَخْذِ بِهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْخَاصِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ صِفَةَ التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ فَقَطْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا عَرَفْنَا صِفَةَ التَّغْلِيظِ إلَّا بِالنَّصِّ فَإِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمُتْلَفِ، وَلَا يَخْتَلِفُ التَّلَفُ بِالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ صِفَةُ التَّغْلِيظِ بِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ خَاصَّةً قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةً، وَالْحُلَّةُ: اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الدِّيَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِمَّا تَكُونُ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ دِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 77 فَكَأَنَّمَا حَرَّرَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ.» وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَكَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بَعْدَمَا قَالَ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ رُبُعَ دِينَارٍ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِرْهَمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ دُحَيْمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ»، وَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَقْدِيرِ الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَقَدْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحَدِيثٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ خِلَافُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَرَكُوا الْمُحَاجَّةَ بِهِ ثُمَّ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمُسَاعَدَةُ الصَّحَابَةِ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اتِّفَاقِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَلِيلِ النَّصِّ الْمَرْوِيِّ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ حَيْثُ قَالَ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ضَجِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَيْتَ لِي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ صَرْفَ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ، وَنِصَابُ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ دِينَارٍ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عُمَرَ وَقَالَا: الدِّيَةُ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَقَدَّرَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ يُتَّفَقُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا أَخَذَ عُمَرُ مِنْ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحُلَلِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْوَالَهُمْ فَكَانَ الْأَدَاءُ مِنْهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذُهَا بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ التَّقْدِيرِ لِلدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَلَمَّا صَارَتْ الدَّوَاوِينُ، وَالْإِعْطَاءَاتُ جُلَّ أَمْوَالِهِمْ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ، وَالْإِبِلُ فَقَضَى بِالدِّيَةِ مِنْهَا ثُمَّ لَا مَدْخَلَ لِلْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ أَصْلًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْجَوَارِي، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِبِلُ إلَّا أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ صَالَحَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 78 الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فِي الدِّيَةِ أُصُولٌ مُقَدَّرَةٌ عِنْدَهُ كَمَا هِيَ عِنْدَهُمَا. قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَكَذَا إلَّا فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَأَرْشِ السِّنِّ فَإِنَّهَا تَسْتَوِي فِي ذَلِكَ بِالرَّجُلِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ: إنَّهَا تُعَادِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعَ امْرَأَةٍ؟ قَالَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ مِنْهَا؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا قَالَ: أَأَعْرَابِيٌّ أَنْتَ فَقُلْت لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَفْتٍ فَقَالَ: إنَّهُ السُّنَّةُ. فَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْوُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «تُعَادِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ رَبِيعَةُ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ مَا سَقَطَ بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ الرَّابِعِ عَشْرٌ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْقَطْعِ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ لَا فِي إسْقَاطِهِ فَهَذَا مَعْنًى يُحِيلُهُ الْعَقْلُ ثُمَّ بِالْإِجْمَاعِ بَدَلُ نِصْفِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ بَدَلِ نَفْسِ الرَّجُلِ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً إذَا أَخَذْنَا حُكْمَهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْسِ إلَّا إذَا أَفْرَدْنَاهَا بِحُكْمٍ آخَرَ، وَقَوْلُ سَعِيدٍ: إنَّهُ السُّنَّةُ يَعْنِي سُنَّةَ زَيْدٍ، وَقَدْ أَفْتَى كِبَارُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا نَادِرٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَانَ يَقُولُ: فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي أَرْشِ السِّنِّ، وَالْمُوضِحَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ قَضَى بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ» وَيُسَوِّي بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ، وَبَدَلُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَرْشُ السِّنِّ، وَالْمُوضِحَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْجَنِينِ: إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى صِفَةِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ فِي الْجَنِينِ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ قَطْعِ السُّرِّ فَقَطْ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَهَاهُنَا الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَالُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 79 الْأُنْثَى فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الذَّكَرِ فَالذَّكَرُ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَالْأُنْثَى أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَفِي هَذَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالَ: وَفِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَالرِّجْلِ الْعَرْجَاءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوَرِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَذَكَرِ الْعِنِّينِ حُكْمُ عَدْلٍ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ كَمَالِ الْأَرْشِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَانَتْ فَائِتَةً قَبْلَ جِنَايَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ حَتَّى شُلَّتْ أَوْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فَلَوْلَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ لِمَا حَلَّ بِهَا لَمَا لَزِمَهُ كَمَالُ الْأَرْشِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِالْقَطْعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْشًا كَامِلًا مَرَّةً أُخْرَى أَدَّى إلَى إيجَابِ أَرْشَيْنِ كَامِلَيْنِ عَنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْشُ كَامِلًا، وَنَقُولُ: فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ، وَالْجَمَالُ مَطْلُوبٌ مِنْ الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ بَلْ الْجَمَالُ يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ فَوْقَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَقْصُودُ الْمَنْفَعَةَ، وَالْجَمَالُ تَبَعٌ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فِي الْأَرْشِ. ثُمَّ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوْرَاءِ جَمَالٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَلَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ كَامِلَةٍ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ فَلِوُجُودِ بَعْضِ الْجَمَالِ فِيهَا أَوْجَبْنَا حُكْمَ عَدْلٍ فَلِانْعِدَامِ الْكَمَالِ فِيهَا لَا يُوجِبُ كَمَالَ الْأَرْشِ، وَفِي الضِّلْعِ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي السَّاعِدِ إذَا كُسِرَ أَوْ كُسِرَ أَحَدُ الزَّنْدَيْنِ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي السَّاقِ إذَا انْكَسَرَتْ حُكْمُ عَدْلٍ، وَفِي التَّرْقُوَةِ حُكْمُ عَدْلٍ عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِظَامِ إذَا كُسِرَتْ إلَّا فِي السِّنِّ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ»؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرَادُ كَسْرُهُ، وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ فَأَمَّا فِي السِّنِّ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَبَيَّنَ الْأَطِبَّاءُ كَلَامًا فِي السِّنِّ أَنَّهُ عَظْمٌ أَوْ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ كَوْنَ السِّنِّ عَظْمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ وَيَنْمُو بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَيَلِينُ بِالْحِلِّ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ مَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَظْمٍ وَلَئِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَظْمٌ، وَفِي سَائِرِ الْعِظَامِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْرُدَ بِالْمِبْرَدِ بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَلَعَ السِّنَّ فَإِنَّهُ لَا يُقْلَعُ مِنْهُ قِصَاصًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 80 بِهِ لَهَاتُهُ وَلَكِنْ يَبْرُدُ بِالْمِبْرَدِ إلَى مَوْضِعِ أَصْلِ السِّنِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْأَرْشُ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِسَائِرِ الْعِظَامِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ثُمَّ إنْ - ضَرَبَ عَلَى سِنِّهِ حَتَّى اسْوَدَّتْ أَوْ احْمَرَّتْ أَوْ اخْضَرَّتْ فَعَلَيْهِ أَرْشُ السِّنِّ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ، وَالْمَنْفَعَةَ يَفُوتُ بِذَلِكَ. وَقَالَ: السَّوَادُ فِي السِّنِّ دَلِيلُ مَوْتِهَا فَإِذَا اصْفَرَّتْ فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ، وَفِي الْحُرِّ لَا شَيْءَ، وَفِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ فِي بَيَاضِ السِّنِّ فَبِالصُّفْرَةِ يَنْقُصُ مَعْنَى الْجَمَالِ فِيهَا، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصُّفْرَةُ مِنْ أَلْوَانِ السِّنِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ مَوْتِ السِّنِّ، وَالْمَطْلُوبُ بِالسِّنِّ فِي الْإِحْرَازِ الْمَنْفَعَةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَمَا اصْفَرَّتْ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْمَمْلُوكِ فَالْمَالِيَّةُ وَقَدْ تُنْتَقَصُ بِاصْفِرَارِ السِّنِّ وَعَلَى هَذَا لَوْ قُلِعَ سِنٌّ فَنَبَتَتْ صَفْرَاءَ أَوْ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ فَسَادِ الْمَنْبَتِ، وَحِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ ثُمَّ وُجُوبُ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْأَثَرِ، وَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ حِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَنْدَمِلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْأَلَمِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِقَدْرِ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى انْدَمَلَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ ضُرِبَ ضَرْبَةً تَأَلَّمَ بِهَا، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَرَأَيْت لَوْ شَتَمَهُ شَتِيمَةً أَكَانَ عَلَيْهِ أَرْشٌ بِاعْتِبَارِ إيلَامٍ حَلَّ فِيهِ. قَالَ: وَفِي الْيَدِ إذَا قُطِعَتْ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ دِيَةُ الْيَدِ وَحُكْمُ عَدْلٍ فِيمَا بَيْنَ الْكَفِّ إلَى السَّاعِدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمِرْفَقِ كَانَ فِي الذِّرَاعِ بَعْدَ دِيَةِ الْيَدِ حُكْمُ عَدْلٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ إذَا قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا قَطَعَهَا مِنْ الْمَنْكِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»، وَالْيَدُ: اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حَارِثَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 81 عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ». وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ؛ وَلِأَنَّ السَّاعِدَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْكَفِّ فَإِنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ثُمَّ لَوْ قَطَعَ الْكَفَّ مَعَ الْأَصَابِعِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَتُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ الْمِرْفَقِ أَوْ الْمَنْكِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ سِوَى الْأَصَابِعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْحَشَفَةَ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ وَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَ الْأَنْفِ أَوْ جَمِيعَ الذَّكَرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ مِنْ السَّاعِدِ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ أَوْ الْكَفِّ، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَالتَّابِعُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْكَفِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ فِي نَفْسِهِ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ، وَلَا تَبِعَ لِلتَّبَعِ فَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَبَعًا، وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمِفْصَلِ أَوَّلًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ السَّاعِدَ، وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ بِدَلِيلِ آيَةِ السَّرِقَةِ. وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِذَا كُسِرَ الْأَنْفُ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِمَا أَنَّ كَسْرَ الْأَنْفِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ كَكَسْرِ السَّاعِدِ، وَالسَّاقِ فَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْيَدِ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي أَرْشِ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً جُعِلَ كَقِيَامِ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ الْكَفُّ تَابِعًا لَهَا، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْكَفِّ أُصْبُعَانِ أَوْ أُصْبُعٌ فَقَطَعَ الْكَفَّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا كَانَ قَائِمًا مِنْ الْأَصَابِعِ وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى أَرْشِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ، وَإِلَى أَرْشِ الْكَفِّ، وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا فَائِتَةٌ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَفَوَاتِ الْكُلِّ، وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَصَابِعِ كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ تَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ فَيُعْتَبَرُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ، وَأَمَّا بِبَقَاءِ أُصْبُعٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَرْشِ الْأُصْبُعِ الْمَقْطُوعَةِ بِالنَّصِّ وَمِنْ اعْتِبَارِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ لِمَا قُلْنَا، وَلَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 82 وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْإِتْلَافِ فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَجَعَلْنَا الْأَقَلَّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي بَابِ الْأَرْشِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَرْشُ الْأُصْبُعِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَلَيْسَ لِلْكَفِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا يُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَلِهَذَا جَعَلَ الْكَفَّ تَبَعًا لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْعًا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَالْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ، وَالتَّقْوِيمِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ بِالنَّصِّ وَسِوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ، وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَفِّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى الْبَطْشِ يَكُونُ بِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْأُصْبُعِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأُصْبُعِ تَبَعًا لِلْكَفِّ؛ لِأَنَّ لِلْأُصْبُعِ أَرْشًا مُقَدَّرًا شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا فَيَجِبُ أَرْشُهُمَا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْأُصْبُعِ الْقَائِمَةِ، وَمَوْضِعُهَا مِنْ الْكَفِّ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْكَفِّ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ الْكَفِّ تَبَعًا لِذَلِكَ الْأُصْبُعِ فَعِنْدَ قِيَامِ الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ الْبَعْضُ بِالْكُلِّ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَفْصِلٌ مِنْ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ وَيُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ أَرْشَ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ قَلَّ فَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ كَمَا إذَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ الْمَحَلَّةِ لَا يُعْتَبَرُ السُّكَّانُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا كَانَ الْبَاقِي دُونَ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَقَلُّ، وَالْأَكْثَرُ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا أَرْشُ كُلِّ مَفْصِلٍ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنَوْعِ رَأْيٍ، وَكَوْنُهُ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ فِي أَرْشِ مَفْصِلٍ وَاحِدٍ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْأَقَلَّ، وَالْأَكْثَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ. قَالَ: وَفِي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكْمُ عَدْلٍ وَيُسَمَّى الثَّنْدُوَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَلَا جَمَالٌ كَامِلٌ فَإِنَّهُ مَسْتُورٌ بِالثِّيَابِ عَادَةً لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ، وَفِيمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ بَعْضُ الشَّيْنِ فَيَجِبُ بِحُكْمِ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ. وَفِي الْأُذُنِ إذَا يَبِسَتْ أَوْ انْخَسَفَتْ وَرُبَّمَا تَقُولُ: انْخَنَسَتْ حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ لَا تَفُوتُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الصَّوْتِ إلَى الصِّمَاخِ، وَكَذَلِكَ لَا يَفُوتُ بِهِ الْجَمَالُ كُلُّهُ بَلْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ؛ لِأَجْلِهِ يَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 83 إلَّا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَطَأِ يَبْلُغُ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَهَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا صُلْحًا، وَلَا اعْتِرَافًا، وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَلِأَنَّ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يُفَارِقُ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ فِي كَوْنِهِ مُقَدَّرًا شَرْعًا، وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَالًّا فِي مَالِهِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ الْفَضْلَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ ذَلِكَ الْفَضْلَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ فَرَضَ الْعَطَاءَ، وَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ الثُّلُثَ فِي سَنَةٍ، وَالنِّصْفَ فِي سَنَتَيْنِ، وَالثُّلُثَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْفِي كُلَّ ثُلُثٍ فِي سَنَةٍ، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ سَنَةً وَاحِدَةً ثَبَتَ فِي أَبْعَاضِ ذَلِكَ الثُّلُثِ مِمَّا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّانِي لَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِهِ. قَالَ: وَدِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ رِجَالُهُمْ كَرِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَنِسَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ وَجِنَايَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَمَا دُونَ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ يَتَعَاقَلُونَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَفِي مَالِ الْجَانِي؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَتُهُمْ مِثْلُ دِيَةِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَلِقَوْلِهِ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَدَلَّ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى فِي دِيَةِ الْكِتَابِيِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ»، وَفِي رِوَايَةٍ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْكُفْرِ فَوْقَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ تَنْقُصُ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ فَبِالْكُفْرِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 84 انْتَقَصَتْ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ؛ لِنُقْصَانِ دِينِ النِّسَاءِ كَمَا وَصَفَهُنَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ» وَتَأْثِيرُ عَدَمِ الدَّيْنِ فَوْقَ تَأْثِيرِ نُقْصَانِ الدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ يُنْتَقَصُ بِالرِّقِّ، وَالرِّقُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَأَثَرُ الشَّيْءِ دُونَ أَصْلِهِ فَلَأَنْ يُنْتَقَصَ بِأَصْلِ الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى، وَيَتَفَاحَشُ النُّقْصَانُ إذَا انْضَمَّ إلَى كُفْرِهِ عَدَمُ الْكِتَابِ نِسْبَةً فَتَنَاهِي النُّقْصَانِ نِسْبَةً حَتَّى لَا يُوجِبَ إلَّا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَى الْعَامِرَ بَيْنَ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَكَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: دِيَةُ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ؛ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَمَا نَقَلُوا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ بِخِلَافِ هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ دِيَةِ الذِّمِّيِّ فَقَالَ: مِثْلُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَقُلْت: إنَّ سَعِيدًا يَرْوِي بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ ارْجِعْ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ. ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَضَى بِثُلُثِ الدِّيَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا قَضَى بِهِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ، وَقَوْلُهُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُهُمْ فَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَرَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَيَسْتَوُونَ بِهِمْ فِي الدِّيَةِ كَالْفُسَّاقِ مَعَ الْعُدُولِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِهَذَا تَنَصَّفَتْ بِالْأُنُوثَةِ لِتَنَصُّفِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَهْلُ مِلْكِ الْمَالِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَانْتَقَصَ عَنْ ذَلِكَ بِصِفَةِ الِاجْتِنَانِ فِي الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ أَهْلًا فِي الثَّانِي، وَانْتَقَصَ بِنُقْصَانِ الرِّقِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ وَمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْهَدَرِ، وَهَذَا الْخَطَرُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 85 بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَبِصِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَصِيرُ مُتَبَدِّلًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِلْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْكِتَابِ فِي نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ فَتَسْتَوِي دِيَةُ الْكَافِرِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ نَعْتَقِدُهُ دُونَ مَا لَا نَعْتَقِدُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَلِهَذَا يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيمَةِ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِنَاثُ فَإِنَّهُمْ فِي الْإِحْرَازِ يُسَاوِينَ الذُّكُورَ، وَلَكِنْ تُنَصَّفُ الدِّيَةُ فِي حَقِّهِنَّ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِأَنَّهُنَّ تِبَاعٌ فِي مَعْنَى الْإِحْرَازِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهِنَّ وَقَصْدُنَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ سَوَّيْنَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَجِنَايَاتُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا كُلُّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَفِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْإِتْلَافُ الْمُوجِبُ لِلْمَالِ يَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ فَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ فَصَاعِدًا فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. بَلَغَنَا أَنَّ مَجْنُونًا سَعَى عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَضَرَبَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي قَالَ: عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ لُغَةً الْقَصْدُ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْخَطَأِ فَمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخَطَأُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوَدُ، وَالْآخَرُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالًّا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مَالِهِ كَمَا فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّرِقَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: عُقُوبَةٌ، وَهِيَ الْقَطْعُ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَالْآخَرُ: غَرَامَةٌ وَهُوَ الضَّمَانُ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَيُسَوَّى بِالْبَالِغِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَمْدَ فِي بَابِ الْقَتْلِ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا عَلَّقَ الشَّرْعُ بِهِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ شَرْعًا فِي بَابِ الْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ قَصْدٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْأَحْكَامِ شَرْعًا فَأَصْلُ الْقَصْدِ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَلَا يُوصَفُ فِعْلُهَا بِالْعَمْدِيَّةِ، وَقَصْدُ الصَّبِيِّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِبِنَاءِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فَاعْتِبَارُ قَصْدِهِ شَرْعًا فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلِهَذَا كَانَ عَمْدُهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ مَعَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 86 قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْقَصْدِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ. وَالْمَجْنُونِ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِذَلِكَ ثُمَّ خَطَأُ الْبَالِغِ إنَّمَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ صِفَةِ الْخَطَأِ؛ وَلِكَوْنِ فِعْلِ الصَّبِيِّ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ فِي الْحُكْمِ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْقَتْلِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ. وَإِذَا ضَرَبَ الرَّجُلُ بَطْنَ الْمَرْأَةِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ يَعْدِلُ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْغُرَّةُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَمْلُوكُ الْأَبْيَضُ وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي عَلَى جَبِينِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْغُرَّةُ الْجَيِّدُ يُقَالُ: هُوَ غُرَّةُ الْقَبِيلَةِ أَيْ كَبِيرُ أَهْلِهَا ثُمَّ الْقِيَاسُ فِي الْجَنِينِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مَحَلٍّ هُوَ حَيٌّ، وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ، وَلَا يُقَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ وَبِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نُقْصَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّارِبَ مَنَعَ حُدُوثَ مَنْفَعَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُزْهِقِ لِلْحَيَاةِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْبَدَلِ كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ ثُمَّ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَيُجْعَلُ كَالْحَيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ كَمَا يُجْعَلُ بَيْضُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِكَسْرِهِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُوصِمَ إلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَرَوَى حَدِيثَ الضَّرَّتَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ مِنْ يَشْهَدُ مَعَك فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ مَا رَأَيْنَا فِيمَا فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَضَى بِالْغُرَّةِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فُلَيْحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْجَنِينُ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ بِالِاتِّفَاقِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَقَدْ قُدِّرَ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً نَصَّ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْدَالِ الْمُقَدَّرَةِ النُّفُوسُ، وَأَنَّ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْجَنِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْمُنْفَصِلِ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 87 وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ إلَّا أَنَّ الضَّارِبَ إنْ كَانَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَكُونُ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ، وَبَدَلُ الطَّرَفِ هُوَ الَّذِي يَتَأَجَّلُ فِي سَنَةٍ، وَأَمَّا بَدَلُ النَّفْسِ فَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ عِشْرُونَ رَجُلًا فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دُوهُ» أَيْ أَدُّوا دِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ وَسُمِّيَ الْوَاجِبُ فِي بَدَلِهِ دِيَةً، وَهُوَ: اسْمٌ لِبَدَلِ النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَدَلَ الْجُزْءِ لَا يَجِبُ بِدُونِ بَقَاءِ النُّقْصَانِ حَتَّى لَوْ قَلَعَ سِنًّا فَنَبَتَ مَكَانَهُ سِنٌّ أُخْرَى لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَهَاهُنَا يَجِبُ بَدَلُ الْجَنِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ نُقْصَانٌ دَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْ صَاحِبِهَا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْسٌ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى تَنْفَصِلَ عَنْهَا حَيَّةً فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا قَبْلَ الِانْفِصَالِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ وَجْهِ نِسْبَةِ الْجُزْءِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ التَّأْجِيلِ فِيهِ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَعَلَى الْأَصْلِ قُلْنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الضَّارِبِ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا احْتِيَاطًا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، وَمَعَ الشَّكِّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ، وَأَلْحَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ بِالنُّفُوسِ ثُمَّ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ حَيْثُ سَلَّمَ الشَّرْعُ نَفْسَهُ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَوَدُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ كَمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا فَإِتْلَافُ الْجَنِينِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِحَالٍ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالنُّفُوسِ ثُمَّ يَقُولُ: الْبَدَلُ الْوَاجِبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأُمِّهِ لَا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ عُشْرُ بَدَلِ الْأُمِّ، وَعِنْدَنَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ أُنْثَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى قَالَ: لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ دُونَ النَّفْسِيَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِالْأُنُوثَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ النَّفْسِيَّةِ فِي الْجَنِينِ لَيْسَ يُبْنَى عَلَى سَبَبٍ مَعْلُومٍ حَقِيقَةً فَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ لَا ضَرُورَةَ فَإِيجَابُهُ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَكَانَ الْوَاجِبُ عُشْرَ دِيَةِ الْأُمِّ إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ فِي جَنِينِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 88 الْأَمَةِ. ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي حَقِّ الْمَمَالِيكِ كَالدِّيَةِ فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَنِينُ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ النُّفُوسِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِبَدَلِ النَّفْسِ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ صَاحِبِ النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْأُمِّ لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّةُ إذَا كَانَتْ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ زَوْجٍ مُسْلِمٍ فَيَضْرِبُ إنْسَانٌ بَطْنَهَا يَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً، وَمَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُهُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ، وَالْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي الْجَنِينِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى خُصُوصًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ خَلْقُهُ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفَضُّلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ لَا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ثُمَّ جَازَتْ التَّسْوِيَةُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ التَّفَضُّلُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَطَعَ التَّسْوِيَةَ لَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكِيَّةَ فِي الْجَنِينِ. وَالْأُنْثَى فِي مَعْنَى النُّشُوِّ يُسَوَّى بِالذَّكَرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْأُنْثَى أَسْرَعَ نُشُوًّا كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَفْضِيلَ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ كَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ بَدَلِ جَنِينِ الْآدَمِيَّةِ؛ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ وَجَنِينُ الْأَمَةِ فِي ذَلِكَ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ النَّفْسِ، وَلِهَذَا لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ بِحَالٍ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ. وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا بَعْدَ الضَّرْبَةِ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَصَلَ حَيًّا كَانَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَالْكَفَّارَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَلَوْ قُتِلَتْ الْأُمُّ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا مَيِّتًا فَفِي الْأُمِّ الدِّيَةُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِ الْجَنِينِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْفَصِلَ مَيِّتًا، وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ، وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الضَّارِبَ أَتْلَفَ بِفِعْلِهِ نَفْسَيْنِ فَيَلْزَمُهُ بَدَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنَّا إنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَلَ فِي الْجَنِينِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَوُرُودُ النَّصِّ بِهِ فِيمَا إذَا انْفَصَلَ مِنْهَا، وَهِيَ حَيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 89 قَالَ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْإِلْقَاءَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً فَبَقِيَ مَا إذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَلَاكِهِ إذَا انْفَصَلَ بَعْد مَوْتِهَا فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالضَّرْبَةِ وَرُبَّمَا كَانَ بِانْحِبَاسِ نَفْسِهِ بِهَلَاكِهَا، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا عَنْهَا ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِين فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ بِالسُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى الْوُسْعِ فَبَقِيَ الْقِيَاسُ مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينَانِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَخَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُمَا مَيِّتَانِ فَفِي الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا شَيْءٌ اعْتِبَارًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا سِوَى الضَّرْبَةِ، وَاشْتَبَهَ السَّبَبُ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ثُمَّ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا مَيِّتًا لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً بَعْدَمَا وَجَبَ بَدَلُ هَذَا الْجَنِينِ بِانْفِصَالِهِ مَيِّتًا فَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ زَالَ حِينَ انْفَصَلَ حَيًّا، وَقَدْ مَاتَ بِالضَّرْبَةِ بَعْدَمَا صَارَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ وَمِمَّا وَرِثَتْ أُمُّهُ مِنْ أَخِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ أَبٌ حَيٌّ فَلَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ أَخِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَيَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهُمَا. وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَجْدَادِ، وَالْجَدَّاتِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ رَمَى الْأَبُ وَلَدَهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَقَتَلَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِالْعَمْدِ، وَجِنَايَةُ الْأَبِ أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إلَى تَعَمُّدِهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقِّ، وَارْتِكَابُهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ مَعَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ مَا يَلْزَمُهُ إذَا زَنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِتَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ هَاهُنَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ شُبْهَةِ الْخَطَأِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ يَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ قَصَدَ تَأْدِيبَهُ لَا قَتْلَهُ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْنَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّفَقَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 90 فَجَعَلْنَا الرَّمْيَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَمْدًا مَحْضًا. فَأَمَّا إذَا أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَلَيْسَ هَاهُنَا شُبْهَةُ الْخَطَأِ بِوَجْهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَى الِابْنِ بِقَتْلِ أَبِيهِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُسَاوِيًا لَهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» فَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يُوجِبُ كَوْنَ الْوَلَدِ مَمْلُوكًا لِأَبِيهِ ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ كَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ يَنْبَغِي بِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى بِهَا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي حُكْمِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ وَبِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ تَزْدَادُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الِابْنِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهَا تُوجِبُ الْحِلَّ بِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ، وَيُوجِبُ شُبْهَةً أَيْضًا فَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ لَا يُورِثُ الْحِلَّ فَالْإِضَافَةُ لَا تُورِثُ الشُّبْهَةَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ كَمَا يُبِيحُ الْوَطْءَ يُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لِمَا مَلَكَ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ تُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْفَصْلَيْنِ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ فَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْوَطْءِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ. وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ أَوْ لِوَلِيِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ، وَالِابْنُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ عَلَى أَبِيهِ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ شَرْعًا بِحَالِ ابْتِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ زَانِيًا، وَهُوَ مُحْصَنٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِ الْوَلَدِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ إفْنَائِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ إتْلَافٌ حُكْمًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ دُونَ الْوُجُوبِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15]، وَلَيْسَ الْقَتْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ، وَالْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ فَكُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ لِلْوَالِدِ عَلَيْهِ شَرْعًا؛ لِيَعْرِفَ الْعَاقِلُ بِحَقِّ الْوَالِدِ عَظِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَا سَبَبَيْنِ لِوُجُودِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَعْرِفُ الْعَاقِلُ بِهَذَا أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَالِدِ بِقَتْلِ الْوَلَدِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 91 عَلَى الْوَالِدَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا أَوْجَبُ. فَكَذَلِكَ الْأَجْدَادُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ لِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَانَ بِوَاسِطَةٍ فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَعَمِلَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَ وَالِدَهُ فَالْوَلَدُ مَا كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِ وَالِدِهِ، وَالْوَلَدُ يُقَابِلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْوَالِدِ بِضِدِّهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ مَنَعَ مَالِكٌ هَذَا بِغَيْرِ الْكَلَامِ فِيهِ فَنَقُولُ: لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ إنَّمَا يَجِبُ لَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ الضَّمَانُ لِلْمَوْلَى فَإِذَا قَتَلَهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْآبَاءِ، وَالْأَجْدَادِ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الِابْنِ عَمْدًا فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ حَالَّةً، وَإِنَّمَا لَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» يَعْنِي الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ يَكُونُ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي مَالِهِ حَالًّا كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ عِنْدَ الْخَطَأِ ثَبَتَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمَّا كَانَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِمَعْنَى الْجُبْرَانِ، وَحَقُّ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ كَانَ ثَابِتًا حَالًّا فَلَا جُبْرَانَ فِي حَقِّهِ إلَّا بِبَدَلٍ هُوَ حَالٌّ؛ وَلِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ شَرْعًا إلَى بَدَلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَالًّا، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَا وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَمَا لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ شَرْعًا، وَالشَّرْعُ إنَّمَا قَوَّمَ النَّفْسَ بِدِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالْمُؤَجَّلُ أَنْقُصُ مِنْ الْحَالِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْعُرْفِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ فَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا بِالْقَتْلِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مَعْنًى، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ الزِّيَادَةُ فِي الدِّيَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَالِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَصْفًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ بَلْ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ النَّفْسِ شَرْعًا دِيَةٌ مُؤَجَّلَةٌ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ مِنْ الْقَاتِلِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ الْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 92 وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ شَرْعًا حَتَّى لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرًا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْوَاضِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ قَتَلَ وَلَدَهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ كَفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ. ، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ: إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ لَمَّا سَلَّمَ الشَّرْعُ لَهُ نَفْسَهُ فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنْهُ؟ فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى هَاهُنَا وَقُلْتُمْ: بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا: إسْقَاطُ الْقَوَدِ عَنْهُ شَرْعًا مَتَى كَانَ بِطَرِيقِ الْعُذْرِ لَهُ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهَاهُنَا امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ لَا بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعُذْرِ لِلْأَبِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ حَرَامًا مَحْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى قَتَلَ مَمْلُوكَهُ عَمْدًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَبُوهُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَمْلُوكِ مَنْزِلَةَ وَارِثِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا بِعَصًا، وَالْآخَرُ بِحَدِيدَةٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْعَصَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ التَّأْدِيبُ، وَالْآلَةُ آلَةُ التَّأْدِيبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْخَاطِئِ، وَالْخَاطِئُ، وَالْعَامِدُ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَقَدْ انْزَهَقَتْ الرُّوحُ عَقِيبَ فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بِأَيِّ الْفِعْلَيْنِ أُزْهِقَ الرُّوحُ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْمَالُ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْقَتْلُ إلَى فِعْلِ مَنْ اسْتَعْمَلَ السِّلَاحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ آلَةٌ لِلْقَتْلِ دُونَ الْعَصَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْلَمُ مِنْ الْجُرْحِ بِالْحَدِيدِ، وَيَتْلَفُ مِنْ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَرَحَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ عَشَرَةَ جِرَاحَاتٍ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيدَةِ فِي مَالِهِ، وَنِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَاهُ بِسِلَاحٍ، وَأَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ مَعْتُوهٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ قِيَاسًا عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَأَمَّا الْأَبُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 93 أَوْ الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ الْوَلَدِ، وَالْمَمْلُوكِ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَاهُ عَمْدًا مَحْضًا مَضْمُونٌ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا. وَتَفْسِيرُ الْعَمْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ، وَبِالْأُبُوَّةِ وَالْمِلْكِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ إلَى الْفِعْلِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّ الْعَمْدِ الْخَطَأُ فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْفَاعِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَمْدَ مَا يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدًا صَحِيحًا فَكَانَ فِعْلُهُمَا عَمْدًا، وَلِلْعَمْدِ تَفْسِيرٌ آخَرُ فِي الْقَتْلِ شَرْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ شَرْعًا الْعُقُوبَةُ قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، وَلَا تَجِبُ الْعَقُوبَةُ إلَّا جَزَاءً عَلَى فِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَفِعْلُ الْأَبِ وَالْمَوْلَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأَبِ قَدْ انْضَمَّ إلَى ارْتِكَابِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ. وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى انْضَمَّ إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ الْإِتْيَانُ بِضِدِّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ، وَالْقَتْلُ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْمِلْكِيَّةِ بِحَالٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ شُبْهَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَرِبَ خَمْرَ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مَحْضًا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبٌ لِقَوَدٍ عِنْدَهُ ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِعَفْوِ الشَّرْعِ مِنْهُ عَنْ الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَوَانِ السُّقُوطِ أَحَدُ الْقَاتِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الْقَوَدِ شَرْعًا هُوَ الْعَمْدُ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَتْ الْأُبُوَّةُ لَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَا يُسْتَوْفَى لِكَيْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ سَبَبَ إفْنَاءِ الْوَالِدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْوَالِدُ سَبَبَ إيجَادِهِ، وَهَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ حُكْمًا لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَيَسْقُطُ شَرْعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَالِدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ، وَإِنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ الْوَلَدُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ، وَإِنَّمَا لَا يُغَسَّلُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمَالِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَاخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 94 يُقَرِّرُهُ: أَنَّ الْخَطَأَ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُوصَفُ الْفِعْلُ بِهِ فَيُقَالُ: قَتْلُ خَطَأٍ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْأُبُوَّةُ فَمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْفَاعِلَ يُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ أَبٌ قَاتِلٌ فَأَحَدُ الْفَاعِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ ثَمَّ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ إذَا اشْتَرَكَا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الْفِعْلِ الدِّيَةُ لَا غَيْرُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ فَإِذَا كَانَ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إلَّا الدِّيَةُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي قَتْلِ الْأَبِ دُونَ الْقِصَاصِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ، وَبَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ كَمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِدُونِ مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالَ مُسْلِمٍ لَا أَمَانَ لَهُ أَوْ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَالْبَيْعُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يُبَاشِرُهُ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: الْعَمْدُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي قَتْلِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، وَلَا فِي قَتْلِ الْأَبِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْقَتْلُ عَلَى وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَهْلًا لِمُبَاشَرَةِ إتْلَافِهِ حَقِيقَةً بِصِفَةِ الْإِبَاحَةِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ إتْلَافِهِ شَرْعًا، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا الدِّيَةَ الْمُغَلَّظَةَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الشُّبْهَةُ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، وَفِي غُسْلِهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ مُوجِبٌ لِلْمَالِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى حُكْمِ الْغُسْلِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى يَسْقُطَ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَجِبُ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْأَبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِهِ حُكْمًا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَارِثَةِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الْحُكْمِيَّ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ أَنْ يَرِثَهُ الْوَلَدُ بَلْ فِي ثُبُوتِ الْإِرْثِ لِلْوَلَدِ إحْيَاءٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 95 لِلْأَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ إذَا وَرِثَهُ الِابْنُ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَرِثْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْوَلَدِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَالِدَهُ ثُمَّ يَشْتَرِي وَالِدَهُ الْمَمْلُوكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُبُوَّةَ لَوْ طَرَأَتْ عَلَى قِصَاصٍ مُوجِبٍ أَسْقَطَتْهُ، وَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ دَفَعَتْ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ مُقْتَرِنًا بِالسَّبَبِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِهِ طَارِئًا عَلَى السَّبَبِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ غَيْرُ مُوجِبٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: الْأُبُوَّةُ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَاعِلِ فَقَدْ تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَهُوَ نَظِيرُ الْخَطَأِ فِي الْفَاعِلِ بِأَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ يَظُنُّهُ كَافِرًا، وَهُوَ مُسْلِمٌ فَإِنَّ الْخَطَأَ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَلَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فِي الْفِعْلِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ رَمَيَا إلَى صَيْدِ أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ، وَالْآخَرُ بِبُنْدُقِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلَ الصَّيْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ إلَى الصَّيْدِ، وَفِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ الْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمُوضَعِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَجُوسِيًّا لَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ الْتَحَقَ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي الْفِعْلِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةُ رَهْطٍ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِصِيَانَةِ الْمَحَلِّ عَنْ الْهَدَرِ فَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ وَبِإِيجَابِ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمْ يُتِمُّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةُ نَفَرٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ تَمَامُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ ثُلُثٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي سَنَةٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ كُلِّ ثُلُثٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ الَّذِي هُوَ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ الثَّانِي خَاصَّةً. وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ مَا يَجِبُ بِالِاعْتِرَافِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَا اعْتِرَافًا»؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَأَمَّا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِالْتِزَامِ قَوْلًا دُونَ عَاقِلَتِهِ، وَكُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ شِبْهُ عَمْدٍ فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي مُغَلَّظًا أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَلِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي النَّفْسِ خَاصَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 96 أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ، وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ، وَكَمَا جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ. وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ، وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ، وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ وَمَا فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ، وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي، وَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يُنَفِّذُ كِتَابَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 97 الشَّرْعُ مَا أَمَرَنَا بِالِانْتِظَارِ إضْرَارًا بِالْمَضْرُوبِ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَنَّهُ حَادِثٌ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ لَرَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ، وَلَوْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَضْرُوبُ: صَارَتْ مُنَقِّلَةً مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: الضَّارِبُ حَدَّثَتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ بِخِلَافِ السِّنِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا فِعْلُ الضَّارِبِ إنَّمَا عَمِلَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ، وَالْمُنَقِّلَةُ مَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الْعَظْمِ فَالضَّارِبُ يُنْكِرُ فِعْلَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُؤَثِّرُ فِعْلًا آخَرَ إلَّا نَادِرًا. فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ مَا اسْوَدَّتْ السِّنُّ الَّتِي حَلَّتْ الضَّرْبَةُ بِهَا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ هُنَاكَ، وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ ثُمَّ نَبَتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَالِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِهِ أَثَرٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ الَّذِي لَحِقَهُ، وَكَذَلِكَ الظُّفْرُ إذَا قَلَعَهُ فَنَبَتَ فَلَيْسَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَلَا أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَثَرٌ، وَإِنْ نَبَتَتْ السِّنُّ سَوْدَاءَ فَفِيهَا أَرْشٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَقْلُوعَةِ فَكَأَنَّ الْأُولَى بَاقِيَةٌ قَدْ اسْوَدَّتْ، وَإِنْ نَبَتَ الظُّفْرُ أَغَوْرَ وَمُتَغَيِّرًا فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ لَوْ أَغْوَرَ بِالضَّرْبَةِ أَوْ تَغَيَّرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظُّفْرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْجَمَالِ فَإِذَا اسْوَدَّ أَوْ تَغَيَّرَ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْجَمَالِ، وَلَا يَكُونُ السَّوَادُ فِي الظُّفْرِ دَلِيلُ مَوْتِ الظُّفْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي أَنْوَاعِ بَنِي آدَمَ مَنْ يَكُونُ ظُفْرُهُمْ أَسْوَدَ خِلْقَةً حَتَّى قَالُوا: إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَقَصُ فِي حَقِّهِ مَعْنَى الْجَمَالِ قَالَ: وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ خَطَأً فَأَخَذَ الْمَقْلُوعُ سِنَّهُ فَأَثْبَتَهَا مَكَانَهَا فَثَبَتَتْ فَعَلَى الْقَالِعِ أَرْشُهَا؛ لِأَنَّهَا، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَا تَصِيرُ كَمَا كَانَتْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَتَّصِلُ بِعُرُوقِهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تِلْكَ السِّنَّ كَالْمَيِّتَةِ حَتَّى قَالَ: إذَا كَانَتْ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ مَعَهَا، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ مَا إذَا أَثْبَتَ فِي مَوْضِعِهَا سِنَّ نَفْسِهِ أَوْ سِنَّ غَيْرِهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَلَا يَحْضُرُنِي، وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ إذَا أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ الْتَصَقَتْ فَأَمَّا إذَا ابْيَضَّتْ الْعَيْنُ مِنْ ضَرْبَةِ رَجُلٍ ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ مِنْهَا فَأَبْصَرَ فَلَيْسَ عَلَى الضَّارِبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَلَمُ الَّذِي لَحِقَهُ بِالضَّرْبَةِ وَبِاعْتِبَارِهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَبْقَ، وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً خَطَأً فَسَقَطَ مِنْهَا شَعْرُ رَأْسِهِ كُلُّهُ فَلَمْ يَنْبُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ تَامَّةً لِإِفْسَادِ الْمَنْبَتِ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ بِنَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ إفْسَادُ مَنْبَتِ الشَّعْرِ جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 98 تَدْخُلُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَإِذَا وَجَبَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ مَا دُونَهُ بِاعْتِبَارِهِ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ ذَهَبَ مِنْ الشَّعْرِ بَعْضُهُ فَعَلَى الْجَانِي الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ الشَّعْرِ وَمِنْ أَرْشِ الشَّجَّةِ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأَكْثَرِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ مَعْنًى كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَاجِبِ فَإِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ، وَالْآمَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الرَّأْسِ أَوْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالدِّمَاغِ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْجَائِفَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ، وَالْجَنْبِ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْجَوْفِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَدُبُرِهِ جِرَاحَةً وَاصِلَةً إلَى جَوْفِهِ تَكُونُ جَائِفَةً فَأَمَّا فِي الْفَخِذِ، وَالْعَضُدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْجَائِفَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُنُقِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا وَصَلَتْ الْجِرَاحَةُ إلَى مَوْضِعٍ يَحْصُلُ الْفِطْرُ لِلصَّائِمِ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ تَكُونُ جَائِفَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْفِطْرُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ لَا تَكُونُ جَائِفَةً، وَلَوْ شَجَّهُ فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الْعَقْلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَدْخُلُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ الْمُوضِحَةِ غَيْرُ مَحَلِّ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ مَعَ الْمُوضِحَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ، وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ وَدَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الشَّجَّةِ. فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ مِنْ الشَّجَّةِ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَفِي السَّمْعِ، وَالْكَلَامِ يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي الدِّيَةِ، وَفِي الْبَصَرِ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ ظَاهِرٌ كَالْمُوضِحَةِ فَقَدْ يُبَايِنُ الْمَحَلَّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَأَمَّا السَّمْعُ وَالْكَلَامُ فَمَعْنًى بَاطِنٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْلِ فَكَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِذْهَابِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا تَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَحَلُّ السَّمْعِ غَيْرُ مَحَلِّ الشَّجَّةِ، وَكَذَلِكَ مَحَلُّ الْكَلَامِ وَبِتَفْوِيتِهِمَا لَا تَتَبَدَّلُ النَّفْسُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْبَصَرِ بِالشَّجَّةِ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالشَّجَّةِ الْعَقْلُ، وَالسَّمْعُ، وَالْكَلَامُ، وَالْبَصَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ دِيَاتٍ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَيٌّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَلَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؟ وَبِمَوْتِهِ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَبِفَوَاتِ هَذِهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 99 قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا، وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ أَوْ أَبْلُغُ، وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ، وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا، وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ. وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ السَّدِي عَبْدِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أُجْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُقْبَلُ. (قَالَ:) وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عُنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 100 الْمَحَلَّانِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَعْنَى نَفْسَيْنِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَأَصَابَ السِّكِّينُ يَدَ آخَرَ فَقَطَعَ يَدَهُ يَجِبُ الْأَرْشُ لِلثَّانِي، وَالْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ جِنَايَةٌ وَسِرَايَتُهَا. وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ سِرَايَتِهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا كَمَا لَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا فَشُلَّتْ الْأُصْبُعُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ مَعَ أَصْلِ الْجِنَايَةِ فِي حُكْمِ فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سِرَايَتَانِ أَنَّ فِعْلَهُ أَثَّرَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَالسِّرَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آلَامٍ تَتَعَاقَبُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَدَنِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُمَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّرَفِ مَعَ أَصْلِ النَّفْسِ إذَا مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ الثَّانِيَةِ مُبَاشَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى إذْ لَا تُتَصَوَّرُ السِّرَايَةُ مِنْ نَفْسٍ إلَى نَفْسٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ خَطَأٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ أُصْبُعٍ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَصَابِعِ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْكَفِّ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْيَدَيْنِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَلَا اتِّصَالَ لِمَنْفَعَةِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمُوضِحَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِيهِمَا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِي الْمُوضِحَةِ، وَالدِّيَةَ فِي الْبَصَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ إذْهَابَ الْبَصَرِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سِرَايَةَ الْفِعْلِ لَا تُخَالِفُ أَصْلَ الْفِعْلِ فِي الصِّفَةِ بِخِلَافِ الشَّلَلِ فَإِنَّ الشَّلَلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْهُ عَمْدًا فَقُطِعَتْ أُصْبُعٌ أُخْرَى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا شُلَّتْ أُخْرَى؛ لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ أَصْلِ الْأُصْبُعَيْنِ عَمْدًا الْقِصَاصَ، وَالسِّرَايَةَ بِصِفَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ فِي تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّلَلِ قِصَاصٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً أَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ فَشُلَّ السَّاعِدُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السِّرَايَةِ هَاهُنَا مُتَّصِلٌ بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَ الْفِعْلُ وَاحِدًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَبِاعْتِبَارِ مَا لَهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقِصَاصِ إذْ لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَسَوَادِ السِّنِّ، وَالشَّلَلِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِذَا شَجَّهُ مُنَقِّلَةً عَمْدًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ غُلِّظَ عَلَيْهِ فِي الْأَسْنَانِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي الْآمَّةِ وَغَيْرِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فَإِنَّ صِفَةَ التَّغْلِيظِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 101 ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَثَبَتَ فِي أَبْعَاضِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً وَجَبَ الْأَرْشُ أَخْمَاسًا اعْتِبَارًا بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّ فِي الْعَمْدِ تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مِنْهَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْجُزْءَ بِالْكُلِّ، وَاعْتَبَرَ ضَمَانَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِضَمَانِ إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي حَقِّ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَجَعَلْنَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ خَطَأً مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ مَعْنَى الرِّبَا وَبِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ لَا تَخْرُجُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَصْلًا فِي الدِّيَةِ فِي حَقِّهِ، وَعِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا عَيْنَا الدَّرَاهِمِ أَوَّلًا ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ رِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الصِّنْفُ الْوَاجِبُ مِنْهُ مُقَدَّرًا شَرْعًا، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ إذَا أَوْقَعَ الصُّلْحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ، وَإِذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ. وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُ فَالْمَالُ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْقَوَدِ، وَلَا رِبَا بَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ مَا رُوِيَ أَنَّ فَارِسًا مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ فَلَمَّا خَرَجَ لِيُقْتَلَ رَأَتْ الصَّحَابَةُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجُوا وَصَالَحُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى دِيَتَيْنِ دِيَةٍ يُعْطِيهَا الْقَاتِلُ وَدِيَةٍ يَتَبَرَّعُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَدَائِهَا فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَالَحَهُ فِي الْخَطَأِ أَوْ الْعَمْدِ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ جَازَ أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ، وَفِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْوَاجِبِ. وَلَوْ أَسْقَطَ الْكُلَّ بِالْعَفْوِ لَجَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْقَطَ الْبَعْضَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ: إنَّمَا صَالَحْتُك عَنْ الدِّيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَأَنَّهُمَا عَيَّنَا الدَّنَانِيرَ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ النِّصْفَ وَرَضِيَ بِالنِّصْفِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 102 وَيَكُون الْبَاقِي مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْأَجَلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ فَلِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إبْرَاءٌ عَنْ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا بَقِيَ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْكُلُّ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ شُرِطَ الْأَجَلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ هَذَا فِي مَعْنَى نَسِيئَةٍ بِنَسِيئَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْمُبَادَلَةِ، وَلَا مُبَادَلَةَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ نِصْفِ الْوَاجِبِ فَقَطْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْإِبِلِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا فَرَضَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَضْعَافًا وَيَأْخُذُهُ حَالًّا؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ بِدَيْنٍ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا وَبِنَفْسِ الِاسْتِبْدَالِ يَمْلِكُهُ عَيْنًا، وَالْأَجَلُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ جَازَ، وَإِنْ جَعَلَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ أَجَلًا بِأَنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، فَيَكُونُ هَذَا شِرَاءَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَجُوزُ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، وَادَّعَى وَلِيُّهُ الْعَمْدَ فَلَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْوَلِيَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَهُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ وَادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْقَاتِلُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى دَعْوَاهُ بِأَنْ يَقُولَ حَقِّي فِي الْقِصَاصِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي أَنْ آخُذَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا صَارَ مُكَذِّبًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ، وَأَقَرَّ الْقَاتِلُ بِالْعَمْدِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَجْحَدُ مُوجِبَ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِصَاصَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عِوَضٌ عَنْ الْمَالِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْوَلِيَّ حِينَ ادَّعَى الْعَمْدَ فَقَدْ ادَّعَى أَصْلَ الْقَتْلِ، وَالصِّفَةَ، وَالْمُقِرُّ بِالْخَطَأِ صَدَّقَهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ أَصْلِ الْقَتْلِ وَجَحَدَ مَا ادَّعَى مِنْ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ بَعْدَ مَا كَذَّبَهُ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَصْلِ الَّذِي صَدَّقَهُ فِيهِ يُخَالِفُ مُوجِبَ الْأَصْلِ بِالصِّفَةِ الَّتِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 103 كَذَّبَهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ مِنْهُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا قَتَلَ النَّائِمُ إنْسَانًا بِأَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ فَضَرَبَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً فَإِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهُ مَحْرُومًا مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ تَنَاوَمَ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا حَقِيقَةً، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِتَرْكِهِ التَّحَرُّزَ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلًا لِإِنْسَانٍ فِي نَوْمِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَتْ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الدِّيَاتِ.] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْقَاتِلِ بِذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِفِعْلٍ، وَالْآخَرَ بِقَوْلٍ، وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي إلَّا بِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْقَتْلِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ الْمَكَانِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ خُصُوصًا الْقَتْلُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَا يَشْهَدُ بِهِ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشُهُودِ الْغَصْبِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ، ثُمَّ هَاهُنَا الْقَاضِي يُوقِنُ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا قَبِلَ فِي يَوْمٍ وَفِي مَكَان لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِي مَكَان آخَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَبَعْدَمَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشَّاهِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا قَتَلَهُ بِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ بِحَجَرٍ وَقَالَ الْآخَرُ: بِعَصًا؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ غَيْرُ الْقَتْلِ بِالْعَصَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ خَطَأً، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ الْعَمْدِ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ: لَا أَحْفَظُ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: لَا أَحْفَظُ ضَيَّعَ بَعْضَ شَهَادَتِهِ وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسِّلَاحِ وَلَا يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: لَا نَدْرِي بِمَ قَتَلَهُ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 104 وَلِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْآلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ فَأَمَّا إذَا قَالَا: لَا نَدْرِي فَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا وَنُوجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ اتِّفَاقُهُمَا فِيمَا صَرَّحَا بِهِ فِي شَهَادَتَيْهِمَا وَذَلِكَ أَصْلُ الْقَتْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصٍّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَأَصْلُ الْقَتْلِ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَيْهِ يَكُون اتِّفَاقًا عَلَى هَذَا الْمُوجِبِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشُّهُودُ لِذَلِكَ وَبِاخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْقِصَاصِ. فَتَوَهُّمُ اخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ هُنَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ مَعْنَى الشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَمْدًا لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَمَعَ الشَّكِّ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَتْ فِي مَالِهِ يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَرَفَا الْآلَةَ، وَأَنَّ الْفِعْلَ كَانَ عَمْدًا بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ، وَالْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ بِآلَتِهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ السِّلَاحُ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ مِنْ الْعَامِدِ إلَّا أَنَّهُمَا سَتَرَا ذَلِكَ لِدَرْءِ الْقَوَدِ وَيُحْمَلُ الْوَلِيُّ عَلَى أَنْ يَكْتَفِيَ بِالدِّيَةِ، وَقَدْ نُدِبَا إلَى ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَهَادَتَهُمَا، بَلْ - يَقْضِي بِالدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ شَهَادَتِهِمَا. وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ جَائِزَةٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَفِي كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا تَجُوزُ فِيمَا فِيهِ قِصَاصٌ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ، وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا بَدَلٌ وَفِي الْبَدَلِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْأَصْلِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَيَثْبُتُ بِهِ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْمَالُ، ثُمَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقِصَاصِ لَا يَقْضِي بِالْمَالِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ يَقْضِي بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِقَامَةِ حُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ، وَالْوَلِيُّ لَا يَنْفَرِدُ بِأَخْذِ الْمَالِ بِدُونِ رِضَا الْقَاتِلِ وَهُنَاكَ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالْخَطَأِ، فَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّضَا مِنْهُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مَكَانَ الْقِصَاصِ بِرِضَا الْقَاتِلِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنْ أَخْذِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ، وَهُوَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 105 الْمَالُ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي إنَّمَا يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ هَاهُنَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِالْعَمْدِ حُبِسَ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ، وَالسَّبِيلُ فِي الْمُتَّهَمِ أَنْ يُحْبَسَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي التُّهْمَةِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يَعْدُو عَلَيْهِ وَيَقُولُ أَجِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مِنْ مَاذَا فَقَالَ مِنْ الدَّمِ فَقَالَ احْبِسُوهُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ فِي الْعُقُوبَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّوَثُّقِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَأَنَّهُ يُصَارُ فِيهِ إلَى الْحَبْسِ، فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ حَبَسَهُ أَيْضًا أَيَّامًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ بِالْحُجَّةِ فَتَثْبُتُ بِهِ التُّهْمَةُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا؛ وَلِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ: الْعَدَدُ، وَالْعَدَالَةُ، وَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ هَاهُنَا، وَهُوَ الْعَدَالَةُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ وَلَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمْ فَكَمَا يُحْبَسُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يُحْبَسُ هَاهُنَا، فَإِنْ جَاءَ شَاهِدٌ آخَرُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَالْعَمْدُ فِي ذَلِكَ، وَالْخَطَأُ وَشِبْهُ الْعَمْدِ سَوَاءٌ. وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُحْبَسَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الْمَالُ وَفِي الدُّيُونِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يُحْبَسُ مَا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ لِظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ فَفِيمَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا إلَى الْعَاقِلَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِالدَّمِ يُحْبَسُ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ؛ لِظُهُورِ عُذْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ انْتِفَاءِ عُذْرِهِ، فَإِذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، وَالْقَتْلُ خَطَأٌ أُخِذَ بِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ مَا إذَا زَعَمَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ غَيْبٌ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى دَعْوَى الدَّيْنِ، فَالْخَطَأُ مُوجِبُ الدِّيَةِ دَيْنًا. وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ صَحِيحٌ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُصَارُ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَلَكِنْ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُلَازِمُهُ الْمُدَّعِي وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْبِسُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْقَسَامَةِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْسِمَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ. بَلَغَنَا هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَهْلٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 106 وَحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى خَيْبَرَ وَتَفَرَّقُوا بِحَوَائِجِهِمْ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ خَيْبَرَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرُوهُ فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْكِبَرَ الْكِبَرَ، فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا: وَمَنْ يَقْتُلُهُ سِوَى الْيَهُودِ قَالَ: تَبَرُّكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا، فَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ». وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي حَيٍّ لِيَهُودَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ وَفِي رِوَايَةٍ «فَكَتَبَ إلَيْهِمْ إمَّا أَنْ يَدُوهُ، أَوْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ». وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ فَكَتَبُوا إلَيْهِ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمْرًا، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ مِثْلَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ قَالُوا: لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ يَعْنِي بِالْوَحْيِ» وَرَوَى حُنَيْفٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: اخْتَرْ مِنْ شُيُوخِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا قَالَ: وَلَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا قَالَ: نَعَمْ وَمِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبُ فَقَضَى عَلَيْهِمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فَقَالَ حَارِثُ بْنُ الْأُصْبَعِ الْوَادِعِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَيْمَانُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَمْوَالِنَا وَلَا أَمْوَالُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَيْمَانِنَا فَقَالَ: حَقَنْتُمْ دِمَاءَكُمْ بِأَيْمَانِكُمْ وَأُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى أَهْلِهَا وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَأْتِي مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ؛ لِيُقْتَلَ مُخْتَارًا فِيهَا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِقُوَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ فَكَانُوا كَالْعَاقِلَةِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 107 الْهَدَرِ وَأَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ لِرَجَاءِ أَنْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَتَخَلَّصَ غَيْرُ الْجَانِي إذَا ظَهَرَ الْجَانِي؛ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ حِفْظُ مَحَلِّهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لِتَفْرِيطٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْحِفْظِ حِينَ تَغَافَلُوا عَنْ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَوْثٌ وَتَأْثِيرُهُ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ اللَّوْثِ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْقَاتِلِينَ أَوْ يَكُونَ هُوَ مَشْهُورًا بِعَدَاوَتِهِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِذَا حَلَفَ اُقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْقَاتِلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: فَإِذَا حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَوْ أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يَحْلِفَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَاحْتَجَّ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ.» وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْوَلِيِّ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ» وَقَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَتَلْنَا قَاتِلَ وَلِيِّنَا فِي الْقَسَامَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لَنَا حُجَّةٌ سِوَى اللَّوْثِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» فَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقَسَامَةِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُدَّعَى، وَهُوَ الْقَوَدُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نُرَجِّحُ جَانِبَهُ، وَلَكِنْ بِحُجَّةٍ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَأَمَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ قِيَامِ اللَّوْثِ وَقُرْبِ الْعَهْدِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ وَحُجَّتُنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْيَمِينَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ صَالِحَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ فَلْسٍ بِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ نَفْسٍ خُصُوصًا فِي مَوْضِعٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ الْحَالِفَ مُجَازِفٌ يَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِحَالٍ مُحْتَمَلٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ اللَّوْثُ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 108 يُسْتَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَا تَكَادُ تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، أَوْهَمَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَلَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ لَكَانَ يَقُولُ أَتَحْلِفُونَ فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ فَعَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَحْلِفُونَ مَعْنَاهُ أَتَحْلِفُونَ كَقَوْلِهِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] مَعْنَاهُ أَتُرِيدُونَ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى مِنْهُمْ الرَّغْبَةَ فِي حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ أَبَوْا أَيْمَانَ الْيَهُودِ وَبِقَوْلِهِمْ: لَا نَرْضَى بِيَمِينِ قَوْمٍ كُفَّارٍ. فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ فَلَمَّا عَرَفُوا كَرَاهَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ رَغِبُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِنَقْلِ الْقَتِيلِ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى إلَى مَحَلَّتِهِمْ فَصَارُوا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْيَمِينَ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رُؤَسَاءُ النَّاسِ فَخُوصِمَ إلَيْهِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ وَأَبُو قِلَابَةَ جَالِسٌ عِنْدَ السَّرِيرِ أَوْ خَلْفَ السَّرِيرِ فَقَالَ النَّاسُ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ فَنَظَرَ إلَى أَبِي قِلَابَةَ، وَهُوَ سَاكِتٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ قَالَ: عِنْدَك رُؤَسَاءُ النَّاسِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ ثَمَّ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يَرَيَاهُ أَكُنْت تَقْطَعُهُ فَقَالَ: لَا قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْت تَرْجُمُهُ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ إلَّا رَجُلًا كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إيمَانِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَانْقَادَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمَرَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقَوَدُ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ؛ فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو قِلَابَةَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي الْقَسَامَةِ يَعْنِي الْأَيْمَانَ مُكَرَّرَةً فِي الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى مَعْنَاهُ لَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ، بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى، ثُمَّ إنَّمَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُنَا دُونَ حَالِ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ خَطَأً الجزء: 26 ¦ الصفحة: 109 وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهَاهُنَا أَوْلَى. ، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسُونَ رَجُلًا كُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ الْأَيْمَانُ حَتَّى يُكْمِلُوا خَمْسِينَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَهْلِ وَدَاعَةَ كَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَحَلَّفَهُمْ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ وَاحِدًا فَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْعَدَدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ تَكْرَارُ الْيَمِينِ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ أَنْ يَخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ صَالِحِي الْعَشِيرَةِ مِنْ الَّذِينَ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَتِيلُ فَيُحَلِّفُونَهُمْ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَخِ الْقَتِيلِ اخْتَرْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا» فَدَلَّ أَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ، وَهُوَ حَقُّهُ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ مَنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقَّهُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الشُّبَّانَ، وَالْفَسَقَةَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْمَشَايِخَ، وَالصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَرَّزُ الْفَسَقَةُ، فَإِذَا عَلِمُوا الْقَاتِلَ مِنْهُمْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَحْلِفُوا وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قِيَاسًا لِأَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يَجْرِي فِي الدِّيَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْيَمِينِ. وَلَوْ اخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ أَعْمَى، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةُ غَيْرِهِمْ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ، وَالنُّكُولِ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَيْهِمْ دُونَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اللِّعَانِ فَإِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ، وَالْأَعْمَى لَيْسَ لَهُمَا شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَأَمَّا هَذِهِ فَيَمِينٌ مَحْضَةٌ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ يَلْزَمُ أَهْلَ الدِّيوَانِ، وَالْمُعَاقَلَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَلَا يَلْزَمُ النِّسَاءَ، وَالذُّرِّيَّةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الرَّجُلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَفَرَضَ الْأَعْطِيَاتِ جَعَلَ الْمَعَاقِلَ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةً وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَاقِلَةُ هُمْ الْعَشِيرَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ قُومُوا فَدُوهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا كَانَتْ الدَّوَاوِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَرَابَةِ بَعْدَ الدِّينِ فَلَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدَّوَاوِينَ جَعَلَ التَّعَاقُلَ بِالدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ، وَالتَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ دُونَ الْقَبِيلَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى يَقُومُ بَعْضُهُمْ بِنُصْرَةِ بَعْضٍ وَرُبَمَا تَظْهَرُ الْعَدَاوَةُ مَعَ مَنْ هُوَ مِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ آخَرَ أَكْثَرَ مِمَّا تَظْهَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى مَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 110 رُوِيَ أَنَّهُ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ كَانَ يَقُومُ أَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ أَحَدِ الصَّفَّيْنِ بِمُقَاتَلَةِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ مِنْ الصَّفِّ الْآخَرِ، ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ الْقَدْرُ الَّذِي سُمِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْ دِيوَانُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ فِي النَّسَبِ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْبَعَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النِّسَاءُ، وَالذَّرَارِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَا تَقُومُ النُّصْرَةُ بِهِمْ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ، وَالْقَبَائِلِ. وَاَلَّذِي حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَاَلَّذِي لَمْ يَقْبَلْ، وَلَمْ يَشْهَدْ فِي ذَلِكَ كُلٌّ سَوَاءٌ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ، وَقَدْ اسْتَوَى فِي الْأَعْطِيَاتِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ، وَمَنْ غَابَ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ كَانَ غَائِبًا، وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ سَوَاءٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَا أُدْخِلُهُ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا فِي حِفْظِ الْمَحَلَّةِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا حِين وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا تُهْمَةُ الْقَتْلِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ، وَالْمَشَايِخَ وَصَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَحْلِفُونَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَهَذَا السَّبَبُ لَا يَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ الْمَحَلَّةِ. ، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ سِكَّتَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ أَمَرَ بِأَنْ يُقَاسَ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ مَنْ يَقْرَبُ مِنْ مَوْضِعٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالتَّدْبِيرُ فِيهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الدَّمِ، وَمَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ مَقْصُودٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيُوَفِّيَ كَمَا كَلِمَاتُ اللِّعَانِ. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى فِيهِمْ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ، وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا مِنْ الْيَهُودِ»، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَفِي أَمْوَالِهِمْ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْقَتْلَ خَطَأً. ، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ بِالْكُوفَةِ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَفِيهَا مَنْ قَدْ اشْتَرَى مِنْ دُورِهِمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 111 فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ السُّكَّانِ، وَالْمُشْتَرِينَ وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي الْمَحَلَّةِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ وَلِأَنَّهُمْ مُلَّاكٌ لِبَعْضِ الْمَحَلَّةِ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَفِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ مُشْتَرِيًا، أَوْ صَاحِبَ خُطَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَحَلَّةَ تُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِينَ قَلَّ مَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْخُطَّةِ فِي التَّدْبِيرِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ فَكَانَ صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِحُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمَّا كَانَ هُوَ أَخَصَّ بِالتَّدْبِيرِ فِي دَارِهِ كَانَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُشْتَرُونَ أَتْبَاعٌ لِأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ دُونَ التَّبَعِ وَقِيلَ: إنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْخُطَّةِ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ هُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَمُشْتَرُونَ فَهِيَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانُوا سُكَّانًا». (أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْلَاهُمْ مِنْهَا إلَى الشَّامِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إلَى أَصْحَابِ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ؛ لِأَنَّ السُّكَّانَ يَتَنَقَّلُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ دُونَ أَصْحَابِ الْمِلْكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَنْبَنِي مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا عَلَى الْقُرْبِ يَخْتَصُّ بِهِ أَصْحَابُ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُلَّاكًا قَدْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ؛ فَلِهَذَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا وَظَّفَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ الْأَرَاضِيَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي السِّجْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا دَامُوا فِيهِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: أَهْلُ السِّجْنِ مَقْهُورُونَ فِي الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ قَلَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 112 مَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ إلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُعَدٌّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَدِيَةُ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ رَجُلٍ قَدْ اشْتَرَاهَا، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْخُطَّةِ فَأَهْلُ الْخُطَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ الْخَاصِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ يُجْعَلُ كَأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ هُوَ الْقَاتِلُ لَهُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ نَصِيبًا مِنْ الْآخَرِ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِحِفْظِ الْمَكَانِ، وَالتَّدْبِيرَ فِيهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا بِاعْتِبَارِ قَدْرِ الْمِلْكِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي الْمَغْنَمِ الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْغُرْمِ. ، وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي هَذِهِ الدَّارِ جُعِلَ هُوَ كَالْمُبَاشِرِ لِقَتْلِهِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَ نَفْسِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا لَوْ أَنَّ عَبْدَهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَ مُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَدُوهُ فِيهَا قَتِيلًا لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كَوْنِ الدَّارِ فِي الْحَالِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ وَعِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَالَ لَكَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ مُفْرَحٌ» أَيْ مُهْدَرُ الدَّمِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي مَوْضِعٍ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِ كَمَا لَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ فِيهِ قَتِيلًا لَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّبَبَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. وَحِينَ وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْوَارِثِ، وَالْمُوَرِّثِ تَتَّحِدُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَخْتَلِفُ الْعَاقِلَةُ فَيَنْبَغِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 113 عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ، ثُمَّ إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ إنَّمَا يَجْعَلُ الدِّيَةَ، وَالْقَسَامَةَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا وَجَدُوهُ قَتِيلًا فِيهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّ غَيْرَهُ قَتَلَهُ وَعِنْدَ الْقَتْلِ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِ، فَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ إذَا قُلْتُمْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَعْقِلُوا عَنْهُمْ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ، ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ يُوجَدُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ بَاقٍ بَعْدَمَا وُجِدَ فِيهِ قَتِيلًا؛ فَلِهَذَا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَأَمَّا هَاهُنَا إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ إلَى وَرَثَتِهِ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، وَالْقَتِيلُ عِنْدَنَا كُلُّ مَيِّتٍ بِهِ أَثَرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ - أَثَرٌ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إنَّمَا هَذَا مَيِّتٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسَامَةِ ثَبَتَ شَرْعًا فِي الْمَقْتُولِ، وَالْمَقْتُولُ إنَّمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَمَنْ لَا أَثَرَ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتٌ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى صِيَانَةِ دَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ بِخِلَافِ مَنْ بِهِ أَثَرٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ يَكُونُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأُذُنِ، فَهُوَ قَتْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهِيدِ. ، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ بِدَعْوَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لَنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى شَيْئًا لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فَتَبْقَى الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَمَا كَانَ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَوْلَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ يَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ فِي قَتِيلٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ صَارَ مُبَرِّئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 114 وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ. وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانُوا بِمَعْنَى الشَّاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُمْ يُحَلِّفُهُمَا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ الْقَاتِلَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفَانِ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْلِفَانِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا سِوَى فُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ ادَّعَى الْأَوْلِيَاءُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَقَدْ أَبْرَأَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلتَّنَاقُضِ، فَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ بِذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمْ، فَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْغَرَضِيَّةُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَصْلًا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ فِيهَا كَالشَّفِيعِ إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ بَعْدَمَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ، ثُمَّ شَهِدَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِهِمْ عَلَى الْبَتَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِشَيْءٍ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ فِيهَا وَلِأَنَّا إنَّمَا كُنَّا نُحَلِّفُهُمْ عَلَى الْعِلْمِ لِيُظْهِرُوا الْقَاتِلَ إنْ عَلِمُوا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُظْهِرُونَهُ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ، بَلْ يُسْقِطُونَ بِهِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ صَارُوا خُصَمَاءَ فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ كَالْوَكِيلِ إذَا خَاصَمَ فِي الْمَجْلِسِ يَعْنِي مَجْلِسَ الْحُكْمِ، ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلدِّيَةِ، وَالْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَبِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ خَرَجُوا مِنْ الْخُصُومَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خُصَمَاءَ لِكَوْنِ الْوَلِيِّ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 115 عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِالشَّهَادَةِ تَأْكِيدَ تِلْكَ الْبَرَاءَةِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ قَصَدَ بِتِلْكَ الْبَرَاءَةِ تَصْحِيحَ - شَهَادَتِهِمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَلِيِّ فَتَوَاضُعُهُمْ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِيَشْهَدُوا لَهُ فَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ امْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عِنْدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَأَقَامُوا عَلَيْهِ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِهِمْ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْخُصُومَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَنْ ادَّعَى نَفْيَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْنَ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَخَذُوهُ بِالدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي إسْقَاطِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا فِي إثْبَاتِ مُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ، إنَّمَا الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ الْوَلِيُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُ؛ لِيَقْضِيَ بِمُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ. وَإِذَا وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ، أَوْ نِصْفُ الْبَدَنِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ فِي مَحَلَّتِهِمْ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ، أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ، أَوْ وُجِدَتْ رِجْلُهُ أَوْ يَدُهُ، أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ بِقَتِيلٍ إذْ الْأَقَلُّ لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ، ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا بِوُجُودِ النِّصْفِ فِي هَذِهِ الْمَحَلَّةِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نُوجِبَ إذَا وَجَدْنَا النِّصْفَ الْآخَرَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا. وَتَكْرَارُ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَإِذَا وُجِدَ الْعَبْدُ، أَوْ الْمُكَاتَبُ، أَوْ الْمُدَبَّرُ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ، وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْمَمَالِيكِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ وَلِنَفْسِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْحُرْمَةِ وَوُجُوبِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ مَا لِنَفْسِ الْحُرِّ بِدَلِيلِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ. وَأَمَّا الدَّوَابُّ، وَالْبَهَائِمُ، وَالْعُرُوضُ فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا وَلَا قِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِلنَّفْسِ وَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ، أَوْ سَقْطٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ كَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَبِهِ أَثَرٌ، فَهُوَ قَتِيلٌ وَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ لِنَفْسِ الصَّغِيرِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِ الْكَبِيرِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَوْ وُجِدَ الْحُرُّ قَتِيلًا فِي دَارِ أَبِيهِ، أَوْ أُمِّهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ زَوْجِهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 116 فَفِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الْخَطَرِ، وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ خَاصَّةً لِلصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّسَبُّبِ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ خَاصَّةً دُونَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً فِي مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ، فَالْقِيمَةُ عَلَى مَوْلَاهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَبَدَلُهُ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لَهُ فَيَكُونُ فِي مَالِهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَمَا بَقِيَ يَكُون مِيرَاثًا. وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ، أَوْ يَقُودُهَا أَوْ هُوَ رَاكِبُهَا، فَهُوَ عَلَى الَّذِي مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَبِالْيَدِ عَلَيْهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ وَطِئَتْ إنْسَانًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّابَّةِ أَحَدٌ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّابَّةُ مَوْقُوفَةً فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَدْبِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَتَدْبِيرِ مَا فِيهَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ قَتِيلًا، فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ عَلَى دَارِهِ، وَإِذَا وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَانَتْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ عَلَى رَأْسِهِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي سَفِينَةٍ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ الرُّكَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ السُّكَّانَ، وَالْمُلَّاكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ سَوَاءً فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَفِي الْمَحَلَّةِ السُّكَّانُ لَا يُشَارِكُونَ الْمُلَّاكَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمَحَلَّةِ إلَى الْمُلَّاكِ دُونَ السُّكَّانِ وَفِي السَّفِينَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فِي تَدْبِيرِهَا سَوَاءٌ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدَ دُونَ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا مَرْكَبٌ كَالدَّابَّةِ فَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَهُمْ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ يَجْرِي الْمَاءُ بِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّهْرِ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فَقَهْرُ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَغَارَةِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 117 يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا لِقَوْمٍ مَعْرُوفِينَ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كَرْيِهِ وَإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ إلَيْهِمْ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالِانْتِفَاعِ بِمَائِهِ سَقْيًا لِأَرَاضِيِهِمْ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ، وَالصَّغِيرِ مَا بَيَّنَّا فِي الشُّفْعَةِ، فَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ مِثْلُ الْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ، فَإِنْ كَانَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ مَحْبِسًا، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى إلَيْهِ، وَالْأَرَضِينَ، فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ كَالْمُلْقَى عَلَى الشَّاطِئِ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِقُرْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَخَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْمَاءَ مِنْهُ وَيَسُوقُونَ دَوَابَّهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلسَّقْيِ، وَإِذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ صَوْتَ مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي فَلَاةٍ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَعْلَى صَوْتِهِ أَهْلَ الْعُمْرَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُهُ مِنْ الْعُمْرَانِ وَهُمْ أَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنْ وُجِدَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ، فَهُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ سُوقُ الْعَامَّةِ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ فِي التَّدْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِهِ سَوَاءٌ وَمَا يَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَسَامَةِ نَفْيُ تُهْمَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي سُوقٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ صَنْعَةٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ السُّوقُ إلَيْهِمْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ فَتْحُ الْبَابِ وَإِغْلَاقُهُ وَنَصْبُ الْمُؤَذِّنِ. وَالْإِمَامُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي مَحَلَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ خَاصٍّ يَمْلِكُهَا فِي السُّوقِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ مِلْكِهِ وَبِالْأَمْرِ بِحِفْظِ مِلْكِهِ لِكَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الْمَحَلَّةِ. ، وَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يَجِيءُ وَيَذْهَبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 118 الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ، وَالْجَرِيحُ غَيْرُ الْقَتِيلِ، وَلَوْ جُعِلَ مَوْتُهُ مُحَالًا عَلَى تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَعْدَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْجَارِحُ مَعْلُومًا. وَجْهُ قَوْلِنَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَهُوَ مَرِيضٌ، وَالْمَرَضُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ مِنْ أَوَّلِ سَبَبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحَالُ كَالْحَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ جُرِحَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَيِّتِ مِنْ حِينِ جُرِحَ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا الْجَرِيحِ إذَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانِ يَحْمِلُهُ إلَى بَيْتِهِ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الْعَسْكَرِ، وَالْعَسْكَرُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ، فَهُوَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي وُجِدَ فِي رِحَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَادَامُوا نَازِلِينَ وَأَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَنْزِلُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُنَازِعُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي تَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَكَانُوا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْيَدُ وَأَهْلُ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي رِحَالِهِمْ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهِ وَوِلَايَةُ حِفْظِ مِلْكِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا مُعْتَبَرَ بِالسُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ وَقِيلَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّازِلِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ السُّكَّانُ كَالْمُلَّاكِ، وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فُسْطَاطِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَتَكُونُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِحِفْظِ الْفُسْطَاطِ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي دَارِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ إذَا كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا، أَوْ أَكْثَرُ وَأَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ خَمْسِينَ مَرَّةً هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ عَلَى وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الضَّرُورَةُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ أَوْ فُسْطَاطِهِ، وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَسْكَرِ فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ إذَا كَانَ الْقَتِيلُ إلَيْهِمَا سَوَاءً، بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ الْمَحَلَّتَيْنِ إذَا كَانَ إلَيْهِمَا سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَدْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ فَلَا قَسَامَةَ فِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 119 الْقَتِيلِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلُ الْأَعْدَاءِ عِنْدَمَا الْتَقَى الصَّفَّانِ لِلْقِتَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا يَقْتُلُ مَنْ يُعَادِيهِ لَا مَنْ يُؤَازِرُهُ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِاعْتِبَارِ نَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَقَدْ انْعَدَمَ هَاهُنَا، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ مُخْتَلِطًا فَوُجِدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَتِيلٌ، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ أَهْلِ الْأَخْبِيَةِ إلَيْهِ عَلَى مَنْ فِي الْخِبَاءِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْبَ مُعْتَبَرٌ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْقَسَامَةِ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْمَمَالِيكُ مِنْ الْمُكَاتَبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعٌ فِي السُّكْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْقَبِيلَةِ فِي التَّدْبِيرِ فِي قَتِيلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا دُونَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ النُّصْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ فِي مِصْرٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ عَشِيرَتِهَا أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى تَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، ثُمَّ تُفْرَضُ الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ يُضَمُّ إلَيْهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ مِنْهَا فَيُقْسِمُونَ وَيَعْقِلُونَ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ كَالصَّبِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الصَّبِيِّ، فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْمَرْأَةِ، وَعَاقِلَتُهَا هُمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَالدِّيوَانِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَالْمَرْأَةُ فِي الْمِلْكِ كَالرَّجُلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهَا، وَأَنَّ الْوِلَايَةَ فِي حِفْظِ مِلْكِهَا إلَيْهَا فَكَانَتْ كَالرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا يَقُومُ بِحِفْظِ مِلْكِهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهَا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ، وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْقَسَامَةُ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مُلْزِمٍ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ، فَالْمَرْأَةُ فِي الْمَحَلَّةِ مِثْلُ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَقُومُ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ، وَالدَّفْعِ عَنْهَا، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا. ثُمَّ ظَاهِرِ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ فِي مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ فَعَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ، وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هِيَ لَا تَدْخُلُ فِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 120 جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُبَاشِرَةُ لِلْقَتْلِ فَعَلَيْهَا جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ أَحَقُّ مِنْ الْعَوَاقِلِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَعَلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ جُزْءٌ مِنْهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وُجُوبُ جُزْءٍ عَلَى الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مِلْكِهِ إلَيْهِ وَفِي هَذَا: الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي تَدْبِيرِ مِلْكِهِ كَالْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ الذِّمِّيُّ نَازِلًا فِي قَبِيلَةٍ مِنْ الْقَبَائِلِ فَوَجَدَ فِيهَا قَتِيلًا لَمْ يَدْخُلْ الذِّمِّيُّ فِي الْقَسَامَةِ وَلَا فِي الْغَرَامَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُزَاحِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّدْبِيرِ فِي الْقَبِيلَةِ، وَالْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَتْبَاعٌ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَإِذَا كَانَتْ مَدِينَةً لَيْسَ فِيهَا قَبَائِلُ مَعْرُوفَةٌ وُجِدَ فِي بَعْضِهَا قَتِيلٌ فَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْمُجَاوَرَةِ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ تَجْمَعُهُمْ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَلَا دِيوَانٌ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ مَعْنَى النُّصْرَةِ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُمْ الدِّيَةَ، وَالْقَسَامَةَ، وَإِذَا أَبَى الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ أَنْ يَقْسِمُوا حُبِسُوا حَتَّى يُقْسِمُوا؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ تُهْمَةِ الْقَتِيلِ، وَقَدْ ازْدَادَتْ بِنُكُولِهِمْ، وَالْأَيْمَانُ مَقْصُودَةٌ هَاهُنَا فَيُحْبَسُونَ لِإِيفَائِهَا. وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَالْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، فَالدَّارُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقُومُ بِالتَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِاسْتِدَامَةِ الْمَوْلَى الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَوْلَى أَخَصُّ بِهَذِهِ الدَّارِ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُمْ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيَسْتَخْلِصَ الدَّارَ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَأْذُونِ وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ دِيَةِ الْقَتِيلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِيَدِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَالْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ فِيهِ قَوْلًا مُلْزِمًا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي ذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي دَارِهِ كَالْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْمَوْلَى. وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ؛ لِيَتَامَى صِغَارٍ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ عَشِيرَتِهِمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ عَلَى الْيَتَامَى قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلَكِنْ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الدِّيَةُ، وَالْقَسَامَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرُوا الْقَتْلَ بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُدْرِكًا فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا مُلْزِمًا فِي الْجِنَايَةِ، ثُمَّ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ الدِّيَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ الْيَتَامَى فَإِنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَالتَّنَاصُرِ بِالدِّيوَانِ، فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ النِّسَاءِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 121 [بَابُ الْقِصَاصِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْقَوَدِ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ السِّلَاحُ هَكَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَمْدُ السِّلَاحُ وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا قَوَدَ إلَّا بِسِلَاحٍ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالسَّيْفِ عَنْ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُعَدَّ لِلْقِتَالِ عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَ الْأَسْلِحَةِ هُوَ السَّيْفُ فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْقِتَالِ، وَقَدْ يُرَادُ بِسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى الْقِتَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ» يَعْنِي السِّلَاحَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْقِتَالِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالسِّلَاحِ حَتَّى إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَوْ خَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْآلَةِ جَارِحَةً زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْقَتْلُ وَلَا يُعْرَفُ مَحْضُ الْعَمْدِ إلَّا بِهَذَا. وَالْآلَةُ الْجَارِحَةُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهَا كَانَ عَمْدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ وَمَا لَا تَلْبَثُ وَلَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ فِي كَوْنِهِ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ أَبْلَغُ مِنْ الْفِعْلِ الْجَارِحِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهِ، وَالْفِعْلُ الْجَارِحُ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِوَاسِطَةِ الْجِرَاحَةِ، وَالْجُرْحُ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ وَمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ يَكُونُ أَبْلَغَ مِمَّا يَكُونُ عَامِلًا بِوَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فِي قَصْدِ النَّاسِ إلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِإِلْقَاءِ الْأُسْطُوَانَةِ، أَوْ رَفْعِ حَجَرِ الرَّحَى عَلَيْهِمْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَهَذَا أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفَ وَفِي كُلِّ خَطَإٍ الدِّيَةُ» وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِجَارَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآلَةَ لَا تَجْرَحُ وَلَا تَقْطَعُ، فَالْقَتْلُ بِهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْقَتْلِ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَخْتَصُّ بِقَتْلٍ هُوَ عَمْدٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 122 مَحْضٌ. وَصِفَةُ التَّمَحُّضِ أَنْ يُبَاشِرَ الْقَتْلَ بِآلَتِهِ فِي مَحَلِّهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ هِيَ الْآلَةُ الْجَارِحَةُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ يَعْمَلُ فِي نَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَمَا سِوَاهَا يَدِقُّ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا وَقِوَامُ الْبِنْيَةِ بِالظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، فَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُون قَاصِرًا فِي نَفْسِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَمَا ادَّعَوْا مِنْ أَنَّ الْجُرْحَ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ غَلَطٌ فَإِنَّ إزْهَاقَ الرُّوحِ يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ، وَكَمَالُ الْجِنَايَةِ مِمَّا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ بِجُرْحٍ فِي الرُّوحِ لَا يَتَأَتَّى؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَسُّ وَيَفْعَلُ فِي الْجِسْمِ مَا لَا يَكُونُ كَامِلًا فَإِنَّمَا الْكَامِلُ مِنْهُ مَا يَكُونُ بِفِعْلٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ الْفِعْلُ الْجَارِحُ الْمُؤَثِّرُ فِي تَسْيِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الذَّكَاةِ فَإِنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ جَارِحٍ مُسِيلٍ لِلدَّمِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَحْصُلُ بِمَا يَعْمَلُ فِي الْجِسْمِ فَلَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْبِنْيَةِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَدِقُّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ كَالْقَوَدِ. وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ النَّارُ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا. وَقِيلَ فِي الذَّكَاةِ أَيْضًا: إذَا قَرَّبَ النَّارَ مِنْ مَذْبَحِ الشَّاةِ حَتَّى انْقَطَعَ بِهَا الْأَوْدَاجُ وَسَالَ الدَّمُ تَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ لَمْ يَحْصُلْ، وَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ الْحَدِيدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، وَالْمُرَادُ الْقَتْلُ، وَكَذَلِكَ خَزَائِنُ أَسْلِحَةِ الْمُلُوكِ تَكُونُ مِنْ الْحَدِيدِ فَأَمَّا الْخَشَبُ، وَالْأَحْجَارُ فَمُعَدَّةٌ لِلْأَبْنِيَةِ، وَالْحَدِيدُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يُنْصَبُ الْمَنْجَنِيقُ لِتَخْرِيبِ الْأَبْنِيَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَدِيدَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ غَرَزَهُ بِمِسَلَّةٍ، أَوْ إبْرَةٍ فِي مَقْتَلِهِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى الْحَدِيدِ الصَّغِيرِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بِهِ الْقَتْلُ، وَالْفِعْلُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِآلَتِهِ فَبِقُصُورٍ فِي الْآلَةِ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ النُّقْصَانِ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ الْقَتْلُ بِمُثْقِلِ الْحَدِيدِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ نَحْوَ مَا إذَا ضَرَبَهُ بِعَمُودِ حَدِيدٍ أَوْ بِصَنَجَاتِ الْمِيزَانِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ فِي كَوْنِهِ آلَةَ الْقَتْلِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ عَيْنَ النَّصِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُحَدَّدًا نَحْوَ سَنِّ الْعَصَا، وَالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَقُولُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا بِمَا هُوَ مُحَدَّدٌ، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 123 فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السِّيَاسَةِ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهَا وَبِهَا رَمَقٌ فَقِيلَ لَهَا أَقَتَلَك فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا لَا حَتَّى ذَكَرُوا الْيَهُودِيَّ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، وَإِنَّمَا يَعُدْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْ يَكُونُ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِهِ وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ فَأَمَّا الدَّمُ. . الْعَصَا الصَّغِيرَةُ إذَا، وَالَى بِهَا فِي الضَّرَبَاتِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا ضَرَبَهُ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصًا، وَهُوَ يَقُولُ الْقَصْدُ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْمُوَالَاةِ الْقَتْلُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ بِهَا عَمْدًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرَةِ إذَا ضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَاكَ التَّأْدِيبُ، وَالْغَالِبُ مَعَهُ السَّلَامَةُ وَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ بِهَا إلَّا نَادِرًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَأَمَّا مَعَ الْمُوَالَاةِ، فَالْقَصْدُ مِنْهُ الْقَتْلُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ مَعَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّهْدِيدِ فَالْقَتْلُ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ بِخِلَافِ التَّهْدِيدِ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ حُصُولُ الضَّرَبَاتِ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَتْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مَعْمُودَةً لَا التَّيَقُّنُ بِكَوْنِ فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الضَّرْبَةِ، وَالضَّرَبَاتِ أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى سَكِرَ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ مُمْرِئٌ لِلطَّعَامِ، وَالْكَثِيرَ مُسْكِرٌ. وَإِذَا حَصَلَ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا يُمَيَّزُ بَعْضُ الْفِعْلِ عَنْ الْبَعْضِ، بَلْ يُجْعَلُ الْكُلُّ كَفِعْلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الْحَدُّ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ وَبِالرَّفْعِ قَتِيلُ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فَيَكُونُ خَبَرًا لِلِابْتِدَاءِ وَفِي كِلَيْهِمَا بَيَانُ أَنَّ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا يَكُونُ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ، وَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ أَفْعَالٍ لَوْ حَصَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِهَا كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَاتٍ خَطَأً، أَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ إذَا انْفَرَدَ فَانْضِمَامُ مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَإِذَا انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 124 إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ أَوْلَى بِخِلَافِ الْأَقْدَاحِ فَهُنَاكَ لَوْ حَصَلَ السُّكْرُ بِالْقَدَحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ إذَا لَمْ يُسْكِرْ بِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهُنَا لَوْ حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يُوجِبُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْحُجَّةِ وَشَرْطُ الْحُجَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ فِعْلٍ صَالِحٍ لِكَوْنِهِ عِلَّةً تَامَّةً، وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ وَمَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الضَّرْبَةَ الْوَاحِدَةَ يُقْصَدُ بِهَا التَّأْدِيبُ قُلْنَا حَقِيقَةُ الْقَصْدِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْقَتْلُ حَرَامًا، وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ الْيَسِيرُ مَشْرُوعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِشْفَاءِ كَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَصْدِ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ، وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ بِأَنْ كَانَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَرْفِ أَيْضًا فَيُقَالُ الْعَصَا الْكَبِيرُ مَجْمُوعُ أَجْزَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ حَصَلَ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ بِمَجْمُوعِهَا. فَأَمَّا بَيَانُ نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَبِهَا يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَتَى وَجَبَ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ حَزِّ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا بِهِ حَصَلَ الْقَتْلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْظَرُ إلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا حَصَلَ، فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَنْ سَقَاهُ الْخَمْرَ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ لَاطَ بِصَغِيرٍ حَتَّى قَتَلَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُمْهَلُ مِثْلُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ نَحْوَ مَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِرَضْخِ رَأْسِ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَاعْتَرَفَ الْيَهُودِيُّ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ وَأَمَرَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الْتَقَى الدَّيْنَانِ فَتَقَاصَّا أَيْ تَسَاوَيَا أَصْلًا وَوَصْفًا وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 125 الْمُسَاوَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ وَتَعَذُّرُهُ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا، أَوْ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ مَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لَهُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْأَوَّلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَجُعِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ»، وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا فَيُسْتَوْفَى بِالسَّيْفِ كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمُسْتَحَقُّ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ طَرِيقٌ لَهُ وَحَزُّ الرَّقَبَةِ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا لِذَلِكَ إلَّا بِشَرْطٍ، وَهُوَ السِّرَايَةُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ هَذَا الْفِعْلُ غَيْرُ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا وَصُورَةُ الْفِعْلِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إزْهَاقُ الرُّوحِ عُرْفًا لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ شَرْعًا فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَلَا يُقَالُ لَا يَقْمَعُ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مُؤَثِّرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْمَعُ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَقْصُودِ صَاحِبِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، ثُمَّ هَذَا اعْتِبَارُ مُعَادِلَةٍ تُوقِعُنَا فِي الظُّلْمِ فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ، وَالْفِعْلُ الثَّانِي بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَكُونُ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ بِدَلِيلِ الْخَطَأِ فَيُؤَدِّي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَى الْمُثْلَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، فَإِنْ قِيلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ تَسْقُطُ حُرْمَةُ ذَبْحِ الْقَاتِلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ فِي مَذْبَحِ الْمَقْتُولِ قُلْنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسْقُطُ عِنْدَكُمْ حُرْمَةُ مَذْبَحِهِ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ قَطْعِ الْيَدِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَا بَيَّنَّا وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالْقِصَاصِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَوْ قَالَهُ الرَّاوِي بِنَاءً عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ. ، وَإِنْ اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِالسِّلَاحِ فَعَلَيْهِمْ فِيهِ الْقِصَاصُ بَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْقِصَاصُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّي وَلِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ الْبَخْسِ بِحَقِّ الْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ، وَالْوَاحِدِ وَهَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 126 وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ وَلِأَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ كَمَا قَرَّرْنَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّغَالُبِ، وَالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْقِصَاصَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ وَإِبْطَالِ الْحِكْمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالنَّصِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِي الْقَتْلِ سِوَى التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ بِكَمَالِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْوَاحِدُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِمْ جَمِيعًا عَلَى سَبِيلِ الْكَفَاءَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُقْضَى بِالدِّيَاتِ لِمَنْ بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي تَرِكَتِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَيُقْضَى بِالْقَوَدِ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَبِالدِّيَةِ لِلْبَاقِينَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ قِصَاصًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النُّفُوسِ قِصَاصًا بِالرَّأْيِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْعَشَرَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْقَتْلِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى التَّعَاوُنِ، وَالتَّغَالُبِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ هُنَاكَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الزَّجْرِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَمَا قَتَلَ الْوَاحِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ، وَإِنْ قَتَلَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ أَخَذَ يَتَجَاسَرُ عَلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى الدِّيَاتُ مِنْ تَرِكَتِهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ الْعَنَاءِ لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيمَا قُلْنَا وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ عَشَرَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِإِسْقَاطِ مَا بَقِيَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَمَا إذَا غَصَبَ سَاحَةً وَبَنَى عَلَيْهَا سَقَطَ حُرْمَةُ بِنَائِهِ لِوُجُوبِ رَدِّ السَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدِي فِي السَّاحَةِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَقْتُولِينَ قَدْ اسْتَحَقَّ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسًا كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءٌ بِالنُّفُوسِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ أَوَّلُهُمْ بِالسَّبْقِ فَإِنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ فَارِغٍ، وَإِذَا قَتَلَهُمْ مَعًا رَجَّحَ بِالْقُرْعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبِي فِي نَظَائِرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ يَسْتَوْفِي الْجَزَاءَاتِ فِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ مُخْطِئًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 127 مَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً بَعْضَهُمْ عَمْدًا وَبَعْضَهُمْ خَطَأً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِمَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا يَقْتُلُونَ بِهِ وَكَانُوا مَثَلًا لَهُ جَزَاءً لِدَمِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ وَاحِدًا يُقْتَلُ بِهِمْ وَيَكُونُ مَثَلًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَثَلًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مَثَلًا لَهُ كَأَسَمِّ الْأَخِ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ أَخًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَخًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ لِرَدِّ غَلَّةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْقَدْرِ أَبْلَغَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْوَصْفِ، وَإِذَا كَانَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَعَلَى قَوْلِهِ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى رَدِّ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَأَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ نَحْوِ كَسْرِ الْعِظَامِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَالْحَاجَةُ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ هَاهُنَا بِغَيْرِ حَقٍّ يَتَحَقَّقُ هُنَا وَمَعَ ذَلِكَ يُوهَمُ الزِّيَادَةَ بِمَنْعِ الْقِصَاصِ فَتَحَقَّقَ الزِّيَادَةُ؛ لَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ. وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَأَمَّا أَنْ يَنْعَدِمَ أَصْلًا أَوْ يَتَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِوُجُوبِ كَمَالِ الشَّرْطِ وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكَفَّارَةُ كَامِلَةً وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِقَتْلٍ كَامِلٍ فَأَمَّا الدِّيَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ فَلِصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْفِعْلِ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِمُقَابِلَتِهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَتْلَ يَخْرُجُ بِبَعْضِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ حِسًّا فَطَرِيقُ أَثَرِهَا فِيهِ قَصْدًا هَذَا وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ يُضَافُ جَمِيعُهُ إلَى كُلِّ عِلَّةٍ فَيُجْعَلُ زَهُوقُ الرُّوحِ مُحَالًا بِهِ عَلَى فِعْلٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي التَّزْوِيجِ بِتَكَامُلِ الْوِلَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ، وَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا اجْتَمَعُوا وَقَتَلُوا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَا بِكَمَالِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَزَاءِ، وَالْعُدْوَانِ، وَهُوَ يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ بِكَمَالِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَصِيرِ إلَى الدِّيَةِ وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفِرَاشُ، وَالنَّسْلُ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالِاشْتِرَاكِ فَلَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 128 ثُمَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّجَزُّؤَ فِي الْمَحَلِّ انْعَدَمَ أَصْلًا عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ الْقَتْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامُلٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عُشْرُ الْقَتِيلِ كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ اسْتِيفَاءً لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وُجُوبًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ نَفْسِهِ قِصَاصًا وَكَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَوْ عَفَى أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى حَيِيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَقْتُولِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ، فَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَبْقَ مُسْتَحَقًّا فِي بَعْضِ النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ النُّفُوسِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْلَى وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ سِوَى مَا قُلْنَا إنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ إذَا اجْتَمَعُوا وَاسْتَوْفَوْا الْقِصَاصَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لَهُ عَلَى الْكَمَالِ مِقْدَارَ حَقِّهِ لِيُحْيُوهُ بِدَفْعِ شَرِّ قَاتِلِ أَبِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَكَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى - الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ وَلَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالسَّبْقِ، أَوْ إلَى الْقُرْعَةِ. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْمَمْلُوكُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وَمُقَابَلَةُ الْحُرِّ بِالْحُرِّ يَقْتَضِي نَفْيَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْقِصَاصِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فَيَكُونُ بَيَانُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ مُعْتَبَرَةٌ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَا عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَا: السُّنَّةُ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِ كَالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الطَّرَفِ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ، فَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ طَرَفُ الْحُرِّ لَا يُقْطَعُ بِطَرَفِ الْعَبْدِ مَعَ خِفَّةِ حُرْمَةِ الطَّرَفِ فَلَأَنْ لَا يَقْتُلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مَعَ عِظَمِ حُرْمَةِ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ، وَالْعَبِيدِ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا، وَالْحُرُّ مَالِكٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ الْعِزِّ، وَالْكَمَالِ، وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي نِهَايَةٍ مِنْ الذُّلِّ، وَالنُّقْصَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقَّ تَلَفٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا بِالْوَلَاءِ إلَى الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِالْإِعْتَاقِ حُكْمًا وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْهَالِكُ مِنْ وَجْهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّفَاوُتَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْمَالُ وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ الرِّقَّ أَثَّرَ فِي النَّفْسِيَّةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَوْلَى بِقَتْلِ عَبْدِهِ وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِي النَّفْسِيَّةِ لَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مِنْ خَوْلِ الْقَاتِلِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 129 بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ كُلِّ قَتْلٍ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، فَهُوَ ذَكَرَ بَعْضَ مَا شَمَلَهُ الْعُمُومُ عَلَى مُوَافَقَةِ حُكْمِهِ فَلَا يَجِبُ تَخْصِيصُ مَا بَقِيَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَمَا قَابَلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ قَابَلَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مُقَابَلَةَ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَفِي مُقَابِلَةِ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرَّةِ بِقَتْلِ الْأَمَةِ وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتْ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ وَكَانُوا يَعُدُّونَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُمْ فَتَوَاضَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ بِمُقَابَلَةِ الذَّكَرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا أَنَّ الْحُرَّ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ، وَالْعَبْدَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِمُقَابَلَةِ الْأُنْثَى مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّيِّدِ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ، فَقَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الْعَمْدِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ فَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا كَدَمِ الْحُرِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَتَلَ عَبْدًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبُهَا انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْحُرُّ، وَالْعَبْدُ فِيهِ سَوَاءٌ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الذِّمِّيِّ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، فَالرِّقُّ، وَالْمَمْلُوكِيَّة لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْقَهْرِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْجِسْمِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ فِيهِ إقْرَارًا عَلَيْهِ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءً مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِي بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ، وَالْقَتْلِ لَا يُحَرِّمُهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا الْعُقُوبَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَنُقْصَانَ بَدَلِ الدَّمِ كَنُقْصَانِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ لَا فِي غَيْرِهِ كَنُقْصَانِ بَدَلِ الدَّمِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَحِلُّهَا الْأُنُوثَةُ، وَالثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ إنَّمَا يَكُونُ بِالدَّارِ، أَوْ بِالدَّيْنِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي ذَلِكَ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ، وَالْحِكْمَةُ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ الْحَيَاةُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 130 وَفِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْحُرُّ، وَالْمَمْلُوكُ سَوَاءٌ، وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ قِيَاسُ الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ هُنَاكَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَالرِّقُّ ثَابِتٌ فِي أَجْزَاءِ الْجِسْمِ فَتَنْعَدِمُ بِسَبَبِهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ مَعَ أَنَّ طَرَفَ الْعَبْدِ فِي حُكْمِ الْمَالِ عِنْدَنَا؛ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ عَلَى أَحَدٍ عَبْدًا كَانَ، أَوْ حُرًّا بِخِلَافِ النَّفْسِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحَيَاةِ؛ وَلِهَذَا لَا نَقْتُلُ النَّفْسَ الصَّحِيحَةَ بِالنَّفْسِ الزَّمِنَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ هَاهُنَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ صَبِيًّا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَتَخَيَّرُ أَوْلِيَاؤُهَا بَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفُوا دِيَتَهَا وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوا الْقَاتِلَ نِصْفَ دِيَتِهِ، ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ كَانَ أَفْقَهَ مَنْ أَنْ يَقُولَ الْقِصَاصُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، ثُمَّ يَجِبُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ عَمْدًا، وَالْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَرَى اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ قِصَاصًا، وَإِنَّمَا يَأْبَى اسْتِيفَاءُ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ فِي قَتْلِ حُرَّةٍ، أَوْ أَمَةٍ فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ حُرٍّ. ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَحْكِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَضَى بِالْقِصَاصِ عَلَى هَاشِمِيٍّ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ فَجَعَلَ أَوْلِيَاءُ الْقَاتِلِ يُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُونَ يَا جَائِرُ يَا قَاتِلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ فَشَكَاهُمْ إلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ اُرْفُقْ بِهِمْ فَلَمَّا عَلِمَ مُرَادَ الْخَلِيفَةِ خَرَجَ وَأَمَرَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ هَاتُوا بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ طَوْعًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؛ فَلِهَذَا قَتَلَهُ وَلَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ فَدَرَأَ الْقَوَدَ بِهِ وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَضَحِكَ وَقَالَ مَنْ يُقَاوِمُكُمْ يَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، فَالْقِصَاصُ يَبْنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَبَعْدَ مَا انْتَفَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا يُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْوُجُوبِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَنْقُوصٌ بِنَقْصِ الْكُفْرِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ أَعْظَمِ النَّقَائِصِ، فَالْكَافِرُ كَالْمَيِّتِ مِنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 131 وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ هُوَ مَيِّتٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ حَيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا، فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَاكَ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةً حَصَلَتْ عَلَى حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي النَّفْسِ، وَالطَّرَفِ جَمِيعًا، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِبَاحَةِ، فَإِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُبَحْ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ مُبِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يُبَحْ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ أَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ، وَالذَّرَّارِي إذَا قَتَلَهُمْ إنْسَانٌ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا لِوُجُودِ الْمُهْدِرِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا الْكُفْرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكُفَّارِ لِكُفْرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] يَعْنِي فِتْنَةَ الْكُفْرِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَهَذَا الْكُفْرُ قَائِمٌ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إلَى الدَّيْنِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَبَقِيَ بِاعْتِبَارِهِ شُبْهَةً يَنْتَفِي بِهَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ بِمَنْزِلَةِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَعَ طَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ فَإِنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ الَّذِي هُوَ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ مَعَ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي الْوَقْتِ وَمَعَ هَذَا لَا تَكُونُ طَهَارَتُهَا طَهَارَةَ الْأَصِحَّاءِ حَتَّى لَا تَصْلُحَ لِإِمَامَةِ الْأَصِحَّاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ، وَهُوَ الْكُفْرُ لَيْسَ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ، فَهُوَ نَظِيرُ حَقِيقَةِ الْإِبَاحَةِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْمَالِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدٍ بِقَتْلِهِ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوُجُوبُهُ يَعْتَمِدُ الْجِنَايَةَ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْمُسَاوَاةِ وَمَعْنَى الْجِنَايَةِ يَتَحَقَّقُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ بِثُبُوتٍ إلَّا مَنْ لَهُمَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ الْقَطْعُ إلَّا نَظِيرَ الْكَفَّارَةِ، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ كَمَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» وَهَذَا التَّعْلِيلُ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ». وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 132 ذِمِّيٍّ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ فَارِسٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ فَكَتَبَ فِيهِ أَنْ لَا يُقْتَلَ يَعْنِي يَسْتَرْضُوا الْأَوْلِيَاءَ فَيُصَالِحُوا عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَتَلَ هُرْمُزَانَ بِتُهْمَةِ دَمِ أَبِيهِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ فَطَلَبَ مِنْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ يُدَافِعُ فِي ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ فَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أَقْتُلَهُ الْيَوْمَ، وَإِنَّ هُرْمُزَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ وَأُؤَدِّي الدِّيَةَ فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقِصَاصِ عَلَى مُسْلِمٍ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ رَأَى الْوَلِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْت قَالَ: إنِّي رَأَيْت أَنَّ قَتْلِي إيَّاهُ لَا يَرُدُّ أَخِي، وَقَدْ أَعْطَوْنِي الْمَالَ فَقَالَ: فَلَعَلَّهُمْ خَوَّفُوكَ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ الدِّيَةَ وَتَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُكُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُكُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ حَتَّى إذَا كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا لَيْسَ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الِابْنِ، بَلْ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْأُبُوَّةِ تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا الْقَوَدَ عَلَى وَالِدِهِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُبَاحَ الدَّمِ بِأَنْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا، أَوْ زَانِيًا، وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُبُوَّةَ إذَا طَرَأَتْ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَالشُّبْهَةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ وَحَيْثُ كَانَ طَرَيَان الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ قِيَاسٌ، أَوْ اسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَقَالُوا: مَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ بِنَاءً عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ عَنْ الدَّمِ تُنْفَى بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا فَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَقُولُ بَقِيَتْ الشُّبْهَةُ الْمُبِيحَةُ فِي دَمِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْلِمًا وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا لِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي حَقْنِ الدَّمِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ فَإِنَّ حَقْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَبَّدٌ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 133 خَلْفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي مَعْنَى الْحَقْنِ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ وَهَذَا الْحَقْنُ، وَالتَّقَوُّمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالذِّمِّيُّ فِي الْإِحْرَازِ مُسَاوٍ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِحْرَازَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا، ثُمَّ فِي الْمَالِ إحْرَازُ الذِّمِّيِّ كَإِحْرَازِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ يُبَاحُ قَتْلُهُ لِنُقْصَانٍ فِي إحْرَازِ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى جَرِيمَتِهِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ فَقَائِمٌ فِي الْمَالِ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا وَهَاهُنَا إنْ سَلَّمَ لَنَا أَنَّ الْإِحْرَازَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاَلَّذِي سَوَاءٌ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَاءَ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ هُوَ الْقِتَالُ دُونَ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَلَمَّا «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ»، وَالْقِتَالُ يَنْعَدِمُ بِالْإِحْرَازِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ أَصْلًا كَمَا يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي السِّيَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَضِيلَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَاتِلِ مَانِعًا؛ لِأَنَّ طَرَيَان هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ فَلَوْ كَانَ اقْتِرَانُهَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لَكَانَ طَرَيَانُهَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ كَفَضِيلَةِ الْأُبُوَّةِ وَفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لِلْكَافِرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَ بَعْدَ النِّكَاحِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ، فَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُحْرِزٍ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْرِزٌ نَفْسَهُ بِدَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا الْآيَاتُ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي آخِرِ كُلِّ آيَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيَانُ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فَهُوَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَسْلَمَ يُقْتَلُ قِصَاصًا وَفِيهِ قَتْلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَعْنِي مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 134 الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» أَيْ وَلَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا ابْتِدَاءٌ أَيْ لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ فِي مُدَّةِ عَهْدِهِ قُلْنَا ابْتِدَاءُ الْوَاوِ حَقِيقَةً لِلْعَطْفِ خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ وَلَا بِذِي عَهْدٍ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُقْتَلُ بِذِي الْعَهْدِ قُلْنَا إنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَتْلِ ذِمِّيٍّ قُتِلُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِينَ. وَكُلُّ قَطْعٍ مِنْ مَفْصِلٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَفِي الْقَطْعِ مِنْ الْمَفَاصِلِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فَأَمَّا كُلُّ قَطْعٍ لَا يَكُونُ مِنْ مَفْصِلٍ، بَلْ يَكُونُ بِكَسْرِ الْعَظْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الزَّجْرِ، وَالْجِنَايَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَلَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَوْ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ» وَلِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعِظَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَرِئَ كَسْرُهُ وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَا خَلَا السِّنَّ، فَالْقِصَاصُ يَجِبُ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَا تُقْطَعُ الْيَسَارُ بِالْيَمِينِ وَلَا الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ وَلَا الْيَدُ بِالرِّجْلِ وَلَا الْإِبْهَامُ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَلَا أُصْبُعٌ مِنْ يَدٍ بِأُصْبُعٍ مِنْ الرِّجْلِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا لَا مُسَاوَاةٌ يَعْنِي مَقْصُودُ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ، وَالْعَمَلِ بِهَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ، وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ تَفَاوُتٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ، وَالْهَيْئَةِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَبَيْنَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ وَأَصَابِعِ الْيَدِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلِ فَيُمْتَنَعُ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَظْمٍ مَا خَلَا السِّنَّ، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ قَوْله تَعَالَى {، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وَرُوِيَ «أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، أَوَيُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ بِسِنِّ جَارِيَةٍ فَرَضُوا بِالْأَرْشِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَوْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ لَأَبَرَّهُمْ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ»، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمَحَلِّ أَمَّا الْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَا يَتَأَتَّى، وَالْمُتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَعْنِي بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَأْخُوذِ بِالْفِعْلِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 135 اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَلَأَنْ تَنْعَدِمَ الْمُمَاثَلَةُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى انْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمُبْدَلِ، وَهُوَ قِيمَتُهُ، فَالتَّفَاوُتُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْمُبْدَلِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْأَطْرَافِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَجْرِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيَسْلُكُونَ فِي الْبَابِ طَرِيقًا سَهْلًا، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَطْرَافِ بِالنُّفُوسِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَكَمَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي النُّفُوسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ طَرَفِ الرَّجُلِ وَطَرَفِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْبَدَلِ، وَالْمُمَاثَلَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُسْتَوْفَى بِالشَّلَّاءِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ، وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ الشَّلَّاءَ مَيِّتَةٌ لَا رُوحَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ وَبِقَطْعِهَا يَتَأَلَّمُ صَاحِبُهَا وَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِقَطْعِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا بَاقِيَةٌ، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَدَلِ فَلَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِهَا بِخِلَافِ النُّفُوسِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى تُسْتَوْفَى النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالزَّمِنَةِ، فَإِنْ قِيلَ التَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ وَلَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ حَتَّى إنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَعِنْدَكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ قُلْنَا نَعَمْ إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِسَبَبٍ حِسِّيٍّ كَالشَّلَلِ وَفَوَاتُ بَعْضِ الْأَصَابِعِ، فَهُوَ كَمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ فِي التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ بِنُقْصَانٍ حِسِّيٍّ فَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ هُوَ بِالْبَعْضِ حَقَّهُ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى الْأَكْمَلُ بِالْأَنْقَصِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْقَاطِعُ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّضَا يَكُونُ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ بِالْبَدَلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَلَا وَجْهَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْبَعْضِ وَلَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْحُرِّ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَلَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيَمُ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوَتْ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْحَزْرِ كَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا وَلَا يُقَالُ نِصَابُ السَّرِقَةِ يُعْرَفُ بِالتَّقْوِيمِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 136 وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِيمَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ مَعْرِفَةَ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ، وَالظَّنِّ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ ثُبُوتَ الْمُسَاوَاةِ بِالْحَزْرِ قَطْعًا وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ لَا إلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا يُقَالُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَهَاهُنَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي بَدَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ فَأَمَّا بَدَلُ طَرَفِهِ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ شَرْعًا، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَمْوَالِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ طَرَفُ الذِّمِّيِّ بِطَرَفِ الْمُسْلِمِ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْمُسْلِمِ بِطَرَفِ الذِّمِّيِّ اعْتِبَارًا بِالنَّفْسِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلِ، وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ وَتَأْثِيرُ التَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ التَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ، ثُمَّ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ هَاهُنَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ كَالصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ أَوْلَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ إذَا وَضَعَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا لِلْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إلَّا أَنَّ فِي الْأَطْرَافِ إذَا وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ وَأَمَرَّا حَتَّى الْتَقَى السِّكِّينَانِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقٌ لِلْحَيَاةِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ فَبِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا يَثْبُتُ التَّجَزُّؤُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا لَوْ اتَّحَدَ مَحَلُّ فِعْلِهِمَا فَأَمَّا الْقَطْعُ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مَحْسُوسٌ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ نَوْعٌ مِنْهُ يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْرَارُ السِّلَاحِ إلَّا عَلَى بَعْضِ الْعُضْوِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ مَحَلُّ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَّ السِّلَاحَ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَحَلِّ فَيُقَالُ الْقَطْعُ بِفِعْلِ هَذَا دُونَ فِعْلِ ذَلِكَ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يُقَالُ هَذَا الْجَانِبُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ هَذَا، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَجَزِّي كَانَ قِيَاسُ النَّفْسِ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا بِجَمِيعِ الْيَدِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ عِنْدَ تَمَيُّزِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَكُمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 137 نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ لَوْ أَنَّ مُحْرِمَيْنِ قَتَلَا صَيْدًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَوْ جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَةِ صَاحِبِهِ فَبِهِ يَتَّضِحُ هَذَا الْفَرْقُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، أَوْ اتَّحَدَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هُوَ الْفِعْلُ بَيْنَ مُتَّصِلَيْنِ؛ وَلِهَذَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخَشَبِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْجِبَالِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ مَا انْقَطَعَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِفِعْلِ الْآخَرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلَاحُ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ إمْرَارَ السِّلَاحِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْقَطْعِ بِهِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَمَا انْقَطَعَ بِقُوَّةِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِقُوَّةِ الْآخَرِ هَذَا شَيْءٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعُ بَعْضِ الْيَدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ يَدِهِ بِقَطْعِهِ بَعْضَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ لَا مُحَالَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَمَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إذَا اشْتَرَكَ فِيهِ اثْنَانِ يُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّي كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي تَمْزِيقِ ثَوْبٍ، أَوْ فِي اسْتِهْلَاكِ دُرَّةٍ، أَوْ فِي جَمَلٍ حَبَسَهُ يُضَافُ نِصْفُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّئٍ فَأَمَّا النَّفْسُ، فَالْقِيَاسُ فِيهَا هَكَذَا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ حَدِيثُ عُمَرَ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنْ يُقْطَعَ بَعْضُ الْيَدِ وَيَتْرُكَ مَا بَقِيَ وَفِي النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ إزْهَاقُ بَعْضِ الْحَيَاةِ دُونَ الْبَعْضِ فَلِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هُنَاكَ يُجْعَلُ كَامِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِاحْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هَاهُنَا يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا لِلْبَعْضِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ لَوْ جُرِحَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ كَانَ مُبَاشِرًا قَتْلَهُ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ لَا يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ الْفِعْلِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ فَسَرَى إلَى مَا بَقِيَ حَتَّى سَقَطَ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَسِرَايَةُ فِعْلِهِ أَقْرَبُ إلَى فِعْلِهِ مِنْ فِعْلِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَكْمِيلُ فِعْلِهِ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ تَكْمِيلُهُ بِفِعْلِ شَرِيكِهِ أَوْلَى. وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الزَّجْرِ. فَإِنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ وَلَا الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْقَطْعُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ وَاحِدٍ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دُرَّةً لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 138 مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُمَا الْقَتْلُ، نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَيُعْتَبَرُ حَقُّ الْعَبْدِ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا قُلْنَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ لِلنِّصْفِ، وَالْفِعْلُ عَمْدٌ، وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ فَإِنَّا إنْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطَعَ نِصْفَ الْيَدِ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَطَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ النِّصْفِ. وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ نِصْفِ السَّاقِ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَحَلِّ فَإِنَّ فِعْلَهُ كَانَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ دُونَ الْقَطْعِ مِنْ الْفَصْلِ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيْ رَجُلٍ الْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى قُطِعَتْ يَدَاهُ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَطَعَهُمَا مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَحَلِّ، وَالْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ مَوْجُودٌ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَإِذَا قَطَعْنَا يَدَهُ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ قُلْنَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ مَا يَسْتَوْفِيهِ هُوَ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا، وَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ، فَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ مَشْرُوعٌ إذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكُ الْحُكْمِيُّ. وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ قُطِعَتْ يَمِينُهُ بِهِمَا وَغَرِمَ دِيَةُ يَدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ قَطَعَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا وَلِلثَّانِي الْأَرْشُ، وَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَ الْقِصَاصُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَالْأَرْشُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَطَعَ يَدَ أَحَدِهِمَا، فَقَدْ صَارَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّهِ مُسْتَحِقَّةً لَهُ قِصَاصًا، وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ كَمَنْ رَهَنَ عَيْنًا مِنْ إنْسَانٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَهَنَهَا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الثَّانِي مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَهُنَا حَقُّ الْأَوَّلِ بَاقٍ فَمَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ حَقِّ الثَّانِي فِي الْيَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عُفِيَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ إذَا بَادَرَ الثَّانِي وَاسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ لِفَوَاتِهِ فَكَانَ الثَّانِي مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، فَإِذَا حَضَرَا جَمِيعًا فَحَقُّ الْأَوَّلِ قَائِمٌ فَيَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى إنَّ عِنْدَكُمْ يَقْضِي بِأَرْشِ يَدٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قُطِعَا جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا لَمْ يَجِبْ لَهُمَا شَيْءٌ آخَرُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي عَيْنِهِ وَفَاءً بِحَقِّ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 139 مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَرَجَّحْنَا بِالسَّبْقِ أَوْ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ أَصْلٌ، ثُمَّ فِيمَا قُلْتُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ فِعْلِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِكُمْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقَطْعُ الْمَحْسُوسُ وَكَوْنُهُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ تَقَرُّرَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ هُنَاكَ بِطُرُقِ الْحُكْمِ وَاشْتِغَالِ الْمَحَلِّ بِحَقِّ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي حُكْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَى الْأَوَّلُ كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَتَأْثِيرُ الْعَفْوِ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِصَاصُ بِأَصْلِ الْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ بِالْعَفْوِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ بَادَرَ وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ، وَالشَّفِيعَيْنِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِمَا، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ حَقِّهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ مُتَجَزِّئًا فَإِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ يَقَعُ مِنْ اثْنَيْنِ بِصِفَةِ التَّجَزُّؤِ فَكَذَلِكَ الْقَطْعُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ مَا هُوَ ظُلْمٌ هُنَاكَ لَا يَقَعُ مُتَجَزِّيًا فَكَذَلِكَ مَا هُوَ جُزْءٌ. وَإِذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ الْيَدِ، فَقَدْ قَضَى بِنِصْفِ طَرَفِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِالْأَرْشِ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ نِصْفُ الْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ فَلَا يَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَ رَحِمًا لَا يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصَ بِشَيْءٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ أَقْتَصَّ مِنْهُ لِلْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ لِثُبُوتِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَقَطْ وَلَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبَ وَيُقْتَصُّ لِهَذَا الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ وَمُزَاحَمَةُ الْآخَرِ مَعَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَوْهُومٌ عَسَى يَحْضُرُ وَعَسَى لَا يَحْضُرُ فَلَا يُؤَخَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْلُومِ لِمَكَانِ الْمَوْهُومِ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ يَقْضِي لَهُ بِجَمِيعِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إذَا قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِجَمِيعِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 140 فَيَقْضِي لِلْآخَرِ بِالْأَرْشِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ لَا يَقْضِي لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءً بِحَقِّهِمَا فَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَوْفِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَلَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْوَاحِدِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا فَإِنَّ مَا تَعَذَّرَ عَلَى الثَّانِي لِلِاسْتِيفَاءِ بِقَضَائِهِ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ قَضَى بِهَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا سَالِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَقَوُّمُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ فَأَمَّا فِي الطَّرَفِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الطَّرَفُ كَالسَّالِمِ لَهُ حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَأَنْ يَتَقَوَّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَالْحَابِسِ لِطَرَفِهِ حُكْمًا؛ فَلِهَذَا يَقْضِي لِلثَّانِي بِالْأَرْشِ، وَإِنْ اجْتَمَعَا فَقَضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ فَأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْقِصَاصِ جَازَ عَفْوُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، وَإِنَّمَا لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا الْأَرْشَ بِالْقَبْضِ وَبَعْدَ تَمَامِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْيَدِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا بَقِيَ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا سَقَطَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِعَفْوِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَوْفِيَا الدِّيَةَ حَتَّى عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ اسْتِحْسَانًا كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ وَبِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا قَدْ نَفَذَ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ضَرُورَةُ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَبْقَى حَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ وَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْيَدِ قِصَاصًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَرْشَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَ مَمْلُوكًا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَا الْأَرْشَ بِالِاسْتِيفَاءِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَمْلِكَا الْأَرْشَ بَعْدُ فَيَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّفِيعَيْنِ لَوْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُمَا بِالدَّارِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِرَاءَ عَيْنٍ مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، ثُمَّ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْآخَرِ بِالْبَيْعِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ وَبَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي لَهُمَا لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إلَّا النِّصْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: الْقَاضِي إنَّمَا قَضَى بِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى وَلَوْ اسْتَفْتَيَا فَأَفْتَى لَهُمَا الْقَاضِي أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَكُمَا أَوْ أَنَّ الْأَرْشَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 141 بَيْنَكُمَا، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا فَقَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْمِيرَاثِ أَثْلَاثًا كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا الْمُتْعَةُ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْوَصْفِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ إذَا زَاحَمَهُ الْآخَرُ وَبَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ وَيَكُونُ الْأَرْشُ لِلْآخَرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مِنْ الْقَاضِي، وَالْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ لَا يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بِقَوْلٍ بِحَالٍ كَمَا لَوْ جَعَلَ نِصْفَ الْقِصَاصِ لِغَيْرِهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ لَغْوًا بِخِلَافِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَبِالْفِعْلِ يَصِيرُ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا، وَالْقَاضِي، وَإِنْ قَضَى بِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا، فَالْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ فِي مَعْنَى الصِّلَاتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْقَبْضِ لَا بِالْقَضَاءِ كَمَنْفَعَةِ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ بِالْقَبْضِ لَا بِنَفْسِ الْقَضَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاؤُهُ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا إذَا اسْتَوْفَيَا الْأَرْشَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ هُوَ الْقَبْضُ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ، وَالْبَيْعِ، فَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ هُنَاكَ غَيْرَ الْأَمْرِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ بَيْعً كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَأَبْطَلَ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي قَضَى بِهِ الْآخَرُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالْأَرْشُ كَذَلِكَ أَمَّا إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ مَعًا، فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ إنْ حَصَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ لَكَانَ الْقَاضِي مُسْقِطًا حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْقِصَاصِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إسْقَاطًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ عَفَا عَنْ النِّصْفِ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ وَهَاهُنَا لَمَّا نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ مُزَاحَمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ فَتَقَرَّرَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ بِالْعَفْوِ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ فَيَكُونُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَوْ لَمْ يَكُونَا أَخَذَا الْمَالَ وَأَخَذَا بِهِ كَفِيلًا، ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 142 فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكَفَالَةِ فِي تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَرْشِ عَلَى الْكَفِيلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُمَا بِالْأَرْشِ عَلَى الْأَصِيلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ هُنَاكَ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَا أَخَذَا بِالْمَالِ رَهْنًا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَالِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَقْبِضَا وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا سَوَاءٌ قَبَضَا الْمَالَ، أَوْ لَمْ يَقْبِضَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ، وَالِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ جَمِيعًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ الِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالْأَرْشِ كَالْكَفَالَةِ فَكَمَا أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ بِالْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ الْآخَرَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ أَيْ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ بِالِارْتِهَانِ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُمَا فِي الْأَرْشِ وَلَا فِي بَدَلِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتِمُّ اسْتِيفَاؤُهُمَا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَتُقَامُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بِالْكَفَالَةِ تَزْدَادُ الْمُطَالَبَةُ وَلَا تَثْبُتُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَبَقِيَ كُلُّ حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ. ، وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمَفْصِلِ مِنْ يُمْنَاهُ، ثُمَّ قَطَعَ يَمِينًا أُخْرَى وَبَدَأَ بِالْيَدِ، ثُمَّ قَطَعَ الْأُصْبُعَ، ثُمَّ حَضَرَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يَقْطَعُ أُصْبُعَهُ أَوَّلًا بِأُصْبُعِ الْآخَرِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ إيفَاءَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فَمهمَا أَمْكَنَ إيفَاءُ الْحَقَّيْنِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْأُصْبُعِ مَقْصُودٌ وَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأُصْبُعِ تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ قَطْعَ الْأَصَابِعِ، أَوْ بَعْضَهَا وَتَرْكَ الْكَفِّ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ التَّبَعِ، وَالْمَقْصُودِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَقَتَلَ آخَرَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُقْتَصُّ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أُصْبُعَهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ يَتَخَيَّرُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ وَلَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 143 شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مَا بَقِيَ وَيُضَمِّنَهُ خُمْسَ دِيَةِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ خُمْسُ الْيَدِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَرْشَ كُلِّ أُصْبُعٍ يَكُونُ خُمْسَ أَرْشِ الْيَدِ، فَهُوَ إنَّمَا اسْتَوْفَى أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ حَقِّهِ فَيَقْضِي لَهُ بِالْأَرْشِ فِيمَا بَقِيَ كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرِ خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ وَاسْتَوْفَاهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِيمَةَ الْقَفِيزِ الْخَامِسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اسْتَوْفَى مَحَلَّ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَلَا يَرْجِعُ مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ صِفَةٌ لِلْيَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَدِ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ وَبِفَوَاتِ الْأُصْبُعِ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْبَطْشِ وَلَا يَنْعَدِمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مَفْصِلِ الْيَدِ أَوْ يَتْرُكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصَابِعَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَمَنْ تَجُوزُ بِحَقِّهِ مَعَ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ كُرًّا جَيِّدًا فَوَجَدَ عِنْدَهُ كُرًّا رَدِيئًا وَقَبَضَهُ بِخِلَافِ الْقُفْزَانِ فَإِنَّهُ مِقْدَارٌ، وَلَيْسَ بِصِفَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ عَنْ بَعْضِ الْأَقْفِزَةِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَهَاهُنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الْأَصَابِعِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوَّلًا قُطِعَتْ لَهُ الْيَدُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَكَانِ حَقٍّ مَوْهُومٍ لِغَائِبٍ لَا يَدْرِي أَيَطْلُبُ، أَوْ يَعْفُو، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْآخَرُ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ قَضَى بِمَحَلِّ حَقِّهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَرْشُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ قَوْلِكُمْ إنَّ الْأُصْبُعَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ كَانَ يَتَخَيَّرُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَخَيَّرْ هَاهُنَا لِبَقَاءِ الْأُصْبُعِ فَكَانَ هُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاضِيًا بِالْأُصْبُعِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوَّلًا وَاسْتَوْفَى لَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ أُصْبُعٍ رَجُلٍ مَفْصِلًا، وَمِنْ أُصْبُعِ رَجُلٍ آخَرَ مَفْصِلَ ذَلِكَ الْأُصْبُعِ، وَمِنْ رَجُلٍ ثَالِثٍ الْأُصْبُعَ كُلَّهَا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بُدَاءَتِهِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرَيْنِ وَبِالْبُدَاءَةِ بِأَخْذِ حَقِّ الْآخَرَيْنِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّهِ وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مَقْصُودٌ وَحَقَّ الْآخَرَيْنِ فِيهِ تَبَعٌ، وَإِذَا قَطَعَ هَذَا الْمَفْصِلَ تَخَيَّرَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَوْسَطَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَحَلَّ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةِ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 144 كَمَالِ حَقِّهِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ مِنْ أُصْبُعِهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ قَائِمَةٌ فِي طَرَفِهِ وَلَا تَنْعَدِمُ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَوَّلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَائِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ خِيَارُهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا شَجَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مُوضِحَةً فَأُخِذَتْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَإِنَّ الْمَشْجُوجَ يُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اُقْتُصَّ لَهُ يَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَهَا فِي طُولِهَا إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ، ثُمَّ يُكَفُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشُجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيَّ عَنْ الرَّازِيِّ الْكَبِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَحَلِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ أَكْبَرُ مِنْ يَدِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي الشِّجَاجِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِسَاحَةِ، وَالسَّيْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَهَاهُنَا لَوْ شَجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كَانَ فِي الْمِسَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَلَمِ وَلَوْ شَجَّهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَفِي الْمِسَاحَةِ كَانَ فِي السَّيْرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى أَخَذَتْ مَا بَيْنَ قِرْنَيْهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ بِقَدْرِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فِي السَّيْرِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ فِي الْيَدِ الصَّغِيرَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْيَدِ الْكَبِيرَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَرْشَ الْيَدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَدِ فِي الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ بِحَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ لِكِبَرِ رَأْسِهِ وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ وَتَفْضُلُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى مِثْلَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَانَ هَذَا أَزِيدَ فِي السَّيْرِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي السَّيْرِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 145 لَهُ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ مِنْ الشَّاجِّ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى السَّبْرِ أَزْيَدَ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ شَجَّهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِهِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الطُّولِ فَيُخَيَّرُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ الْمَشْجُوجِ مَا بَيْنَ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ إلَّا إلَى نِصْفِ ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ وَيَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ لِمَا قُلْنَا وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ. حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَبْرَأَ وَلَا قِصَاصَ فِي الْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالْجَائِفَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي الْعَظْمِ فَاعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: وَلَا قِصَاصَ فِي آمَّةٍ وَلَا جَائِفَةَ وَلَا مُنَقِّلَةٍ وَلَا عَظْمٍ يَخَافُ عَلَيْهِ تَلَفٌ وَكُلُّ عَظْمٍ كُسِرَ مِنْ سَاعِدٍ، أَوْ سَاقٍ أَوْ ضِلْعٍ، أَوْ تَرْقُوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْشِ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَدْلِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ. ، وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ، أَوْ نَاقِصَةٌ أُصْبُعًا قِيلَ لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ إنْ شِئْت وَإِلَّا فَخُذْ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ فِي الصِّفَةِ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ، فَإِنْ سَقَطَتْ يَدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ الْأَرْشُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً فَسَقَطَتْ لِأَكَلَةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْأَرْشُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفْسِ لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا الْقِصَاصُ، أَوْ الْأَرْشُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ وَقَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ فِي مَحَلٍّ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِيَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ يَدُهُ شَلَّاءَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْقِصَاصِ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ سَقَطَتْ يَدُهُ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 146 يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ زَالَ الشَّلَلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ لِغَيْرِ قِصَاصٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ إلَّا أَنَّهُ يُقْطَعُ مَا بَقِيَ وَلَا أَرْشَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِهِ فِي قِصَاصٍ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا. ، وَإِذَا اقْتَصَّ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ فِي عُضْوٍ، أَوْ شَجَّهُ فَمَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَنْ ذَلِكَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ يَقُولَانِ الْحَقَّ قَبْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ وَيَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ أَرْشُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَكَانَ يَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَقَادَ مِنْ إنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ وَبَرِئَ الْمُسْتَقِيدُ ضَمِنَ الْمُسْتَقِيدُ دِيَتَهُ» وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِحَقٍّ، أَوْ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ فَلَا تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ وَلَمَّا اتَّصَلَ أَصْلُ الْفِعْلِ بِالْخَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ، ثُمَّ نَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ صَارَتْ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ يَكُونُ حَقًّا مُبَاحًا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ عُدْوَانًا، وَإِنَّ مَحَلَّ حَقِّهِ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْفِعْلُ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ جَزَاءً وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ عُدْوَانٌ. فَإِذَا تَمَيَّزَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ حُكْمًا يُجْعَلُ كَالتَّمْيِيزِ حِسًّا وَلَا تَنُوبُ السِّرَايَةُ مِنْ بَدَنٍ إلَى بَدَنٍ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ عَقِيبَ الْقَطْعِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْبُرْءُ فَلَا تُعْتَبَرُ السِّرَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي، أَوْ قَالَ: مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ - يَدِي قِصَاصًا فَقَطَعَ وَسَرَى فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ، وَالْفِصَادُ، وَالْحِجَامُ، وَالْخِتَانُ لَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالسِّرَايَةِ شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ هَذَا قَطْعٌ لَوْ اقْتَصَرَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَلَا تَكُونُ السِّرَايَةُ مَضْمُونَةً كَقَطْعِ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ قَطْعِ الْيَدِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَالسِّرَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِعَجْزِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَالْبُرْءِ وَبِقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُسْتَوْفِي لِحَقِّهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ طَرَفَهُ كَانَ سَالِمًا بِلَا خَطَرٍ فَلَا يَتَمَيَّزُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَهُوَ طَرَفٌ يَسْلَمُ لَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَبَيَانُهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 147 أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِجُرْحٍ يَعْقُبُهُ زَهُوقُ الرُّوحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْقَتْلِ، فَالْقَطْعُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ جُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَالْقَتْلُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا حَتَّى إذَا قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، أَوْ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ: أَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَّ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا، لَا أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَطْعًا فَصَارَ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ يَصِيرَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيكِ الْخَشَبَةِ إنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا كَانَ تَحْرِيكًا، وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى مَا انْكَسَرَ بِهَا كَانَ كَسْرًا. وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى حَيَوَانٍ فَمَاتَ بِهَا كَانَ قَتْلًا وَهَاهُنَا لَمَّا انْزَهَقَ الرُّوحُ بِهَذَا الْفِعْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَتْلِ فَيَكُونُ هَذَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَزَّ رَقَبَتَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ فِعْلٍ هُوَ حَقٌّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ حَقُّهُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ، وَالْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ يُبْنَى عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِصُورَتِهِ وَصِفَةُ الْحَقِيَةِ فِي صُورَتِهِ تَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا ادَّعَوْا مِنْ تَمْيِيزِ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ حُكْمًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ الَّذِي هُوَ قِصَاصٌ فَقَطْ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَنَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافُهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ لِحَقِّهِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنَّمَا يَكُونُ جَزَاءً إذَا كَانَ قَطْعًا لَا إذَا كَانَ قَتْلًا وَطَرَفُ مَنْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حُكْمًا حَتَّى إذَا قَطَعَ كَانَ الْبَدَلَ لِمَنْ عَلَيْهِ لَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَهُ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ يَكُونُ بِفِعْلٍ هُوَ قَطْعٌ لَا بِفِعْلٍ هُوَ قَتْلٌ قَوْلُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْعَفْوَ، وَالتَّرْكَ فِي وُسْعِهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْوُسْعِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ وَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَمُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَجْزُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا حُرْمَةَ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَتَقَابَلَ حَقَّانِ حَقُّ هَذَا فِي طَرَفٍ يُسَلَّمُ لَهُ بِلَا خَطَرٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَتَتَرَجَّحُ حُرْمَةُ النَّفْسِ عَلَى حُرْمَةِ الطَّرَفِ أَوْ يُعْتَبَرُ الْحُرْمَتَانِ فَلِحَقِّهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 148 فِي الطَّرَفِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْآخَرِ فِي النَّفْسِ يَتَقَيَّدُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتَوْفَى حَوْلًا فَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، ثُمَّ نَبَتَ السِّنُّ الْمَقْلُوعُ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُ سِنِّ الْقَالِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إقَامَتُهُ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا فِي وُسْعِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ قَطْعٌ مُطْلَقٌ وَفِعْلُهُ فِي الصُّورَةِ قَطْعٌ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْآمِرِ وَيَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْلِمِ إلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ الْحَقَّ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَمَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ فَأَمَّا هُنَا فَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ قَبْلَ الْبُرْءِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي قَطْعٍ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ قِصَاصًا، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي قَطْعٍ مُطْلَقٍ فَكَمَا أَنَّ بِهِ تَحَوَّلَ فِعْلُهُ إلَى الْآمِرِ وَخَرَجَ الْقَاطِعُ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَكَذَلِكَ النَّزَّاعُ، وَالْفَصَّادُ، وَالْحَجَّامُ إنَّمَا أُمِرُوا بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ وَكَمَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَى أَمْرِهِمْ بِذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ يَدِي قِصَاصًا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَبْلَهُ كَيْفَ وَقَدْ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ اقْطَعْ قِصَاصًا، فَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ فَهَذَا عَلَى الْخِلَافِ، وَالْحَرْفُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ سِرَايَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ قَطْعٍ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ وَاجِبًا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَمَا يُسْتَوْفَى جَبْرًا يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي بِمَا كَانَ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْجُبْرَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَلَى إنْسَانٍ مَالًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلَهُ كَانَ الْمُسْتَوْفَى مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَوْفِي وَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْفِعْلِ مَضْمُونًا، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُهُ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ حَدًّا فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْإِمَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ مِنْهُ وَفِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَافِذَ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْآمِرِ لِأَمْرِهِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَأَمَّا فِعْلُ الْفَصَّادِ، وَالنَّزَّاعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ ضَمَانَ عَقْدٍ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَلَّدُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ وَمَاتَ الْمُقْتَصُّ لَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا قَطَعَ يَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَسْقُطُ بِهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 149 حَقُّهُ فِي النَّفْسِ؛ فَلِهَذَا قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا. وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَدَفَعَ إلَى وَلِيِّهِ فَقَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ مَثَّلَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَفْسٌ، وَالْيَدُ مِنْ النَّفْسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اسْتِيفَاءَ النَّفْسِ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ لَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ فَإِنَّ الْمُثْلَةَ حَرَامٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَمَا كَانَ يُمْنَعُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ بَعْدَمَا قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى طَرَفًا مِنْ نَفْسٍ لَوْ اسْتَوْفَاهَا لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى جُزْءًا مِنْهَا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِي الْأَطْرَافِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي التَّبَعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَفْوِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ فَإِنَّ مَا يَنْصَرِفُ إلَى الْبَاقِي لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، ثُمَّ قَطَعَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ عَفَا عَنْ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ الْأُصْبُعِ، وَالْأَصَابِعِ لِلْكَفِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَطْرَافِ لِلنَّفْسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْقَبَ الْقَطْعَ قَتْلًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الطَّرَفِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْقَبَهُ عَفْوًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَفْوِ مُحْسِنٌ وَإِحْسَانُهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الضَّمَانَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ الْعَفْوِ لَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَالْقَطْعُ السَّارِي أَفْحَشُ مِنْ الْمُقْتَصِرُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضْمَنُ بَعْدَ الْعَفْوِ إذَا سَرَى شَيْئًا، فَإِذَا اقْتَصَرَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ اسْتَوْفَى طَرَفًا لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْ نَفْسٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ تَقَوُّمَهَا سَقَطَ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ بِمَا سَبَقَ وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي اسْتِيفَاءِ الطَّرَفِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الطَّرَفِ قَطْعٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ غَيْرُ الْقَتْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَطْعَ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الطَّرِيقِ وَهَاهُنَا غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّفْسِ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِي اسْتِيفَائِهَا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا. فَإِذَا اسْتَوْفَى الطَّرَفَ مَقْصُودًا كَانَ مُسْتَوْفِيًا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 150 مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعَفْوِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ بِأَنْ يَقْتُلَهُ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَتْلًا وَيَصِيرَ الطَّرَفُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَأَمَّا بَعْدَ الْعَفْوِ، فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَبَقِيَ الطَّرَفُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى امْرَأَةٍ فَرَمَى بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي أَطْرَافِهَا مَقْصُودًا لَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِ إنْسَانٍ إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِيَّتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ ثَبَتَ فِي مَالِيَّتِهِ تَبَعًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمَالِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ إنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي أَطْرَافِهِ لِإِنْسَانٍ وَفِي نَفْسِهِ لِآخَرَ فَجَاءَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ مَنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ وَلَوْ كَانَ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ثَابِتًا فِي الطَّرَفِ لَصَارَ هُوَ قَاضِيًا بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ الْأَرْشَ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْأُصْبُعِ مَعَ الْكَفِّ فَإِنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ثَابِتٌ فِي الْأَصَابِعِ هُنَاكَ بِدَلِيلِ أَنَّ فَوَاتَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ، وَأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْأَرْشِ فَأَمَّا هُنَا فَفَوَاتُ الْأَطْرَافِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ وَلَا يَنْقُصُ بَدَلُ النَّفْسِ بِفَوَاتِ الْأَطْرَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الزِّيَادَاتِ، وَالْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ قَتْلًا، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْقَبَ الْقَطْعُ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتْلٌ، وَالْقَتْلُ حَقُّهُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَذَا قَتَلَهُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الطَّرَفِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ عَفْوَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ الْقَتْلِ حَتَّى يُقَالَ يَنْصَرِفُ عَفْوُهُ إلَى مَا بَقِيَ. قَالَ: وَفِي الْعَيْنِ الْقِصَاصُ وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ إذَا قُلِعَتْ، أَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَسْوَدَّ مَا بَقِيَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ فِعْلِ مِثْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْسِرَ بَعْضَ السِّنِّ عَلَى وَجْهٍ يَسْوَدُّ مَا بَقِيَ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَآخِرُهُ مُوجِبٌ لِلْأَرْشِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي جَمِيعِهِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 151 إنْسَانٍ فَشُلَّتْ بِجَنْبِهَا أُخْرَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ مَحَلٌّ عَلَى حِدَةٍ وَوُجُوبُ الْأَرْشِ بِالْفِعْلِ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْفِعْلِ فِي الْمَحَلِّ الْآخَرِ وَهُنَا الْمَحَلُّ كُلُّهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا خَرَجَ آخِرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ يَخْرُجُ أَوَّلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَأَمَّا فِي الْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ نُورُهَا بِالضَّرْبَةِ وَلَمْ تُخْسَفْ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَصُورَتُهُ أَنْ تُحْمَى لَهُ مِرْآةٌ، ثُمَّ تُقَرَّبَ مِنْهَا حَتَّى يَذْهَبَ نُورُهَا وَيَرْبِطَ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى وَعَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا حَتَّى قَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقِصَاصِ وَبَيَّنَ طَرِيقَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا إذَا انْخَسَفَتْ، أَوْ قُلِعَتْ الْحَدَقَةُ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي السِّنِّ، وَالْمَحَلِّ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْرِ الْعَظْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ. ، وَإِذَا أَحْرَقَ رَجُلٌ رَجُلًا بِالنَّارِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ الْمَوْلَى بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتُلُهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَهُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْرِقُهُ بِالنَّارِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» وَقَالَ «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا». وَإِذَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا سِنَانَ لَهُ فَأَجَافَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غَيْرَ الْحَدِيدِ إذَا كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَدِيدِ فِي الْقَطْعِ، وَالْجَرْحِ، فَالْفِعْلُ بِهِ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَقَّ بَطْنَهُ بِعُودٍ أَوَذَبَحَهُ بِقَصَبَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ وَفِي مُثْقِلِ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ، وَالْعَصَا قَدْ تَقَدَّمَ. ، وَإِذَا غَرَّقَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي مَاءٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ مِنْهُ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُرَادُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَنْ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ فِيهِ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَمَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ»، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: هَذَا لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا هَذَا كَلَامُ زِيَادٍ ذَكَرَهُ فِي خُطْبَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِيهِ، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَبِالْإِجْمَاعِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ، ثُمَّ الْمَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السِّلَاحِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ فِي الظَّاهِرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ وَالْعَصَا عَلَى قَوْلِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَرِيقَ يَجْتَذِبُ الْمَاءَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْمُعِينِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ. وَلَوْ خَنَقَ رَجُلًا فَمَاتَ، أَوْ طَرَحَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِ جَبَلٍ، أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 152 شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مِنْ مِثْلِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ خِنَاقًا مَعْرُوفًا قَدْ خَنَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَالْإِمَامُ يَقْتُلُ السَّاعِيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَدًّا لَا قِصَاصًا. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَوْ حَبَسَهُ فِي الْبَيْتِ فَطَبَّقَ عَلَيْهِ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى مَا صَنَعَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِإِتْلَافِهِ عَلَى وَجْهٍ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ حَبْسُهُ وَتَطْبِيقُ الْبَابِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ إتْلَافَهُ، وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ مَعْنَى آخَرُ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ وَبُعْدُ الطَّعَامِ عَنْهُ وَلَا صُنْعَ لِلْجَانِي فِي ذَلِكَ فَلَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَبْسِهِ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ. وَلَوْ سَقَى رَجُلًا سُمًّا، أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: سَقَاهُ سُمًّا أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى شَرِبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ مُخْتَارٌ بِهِ فِي شُرْبِهِ فَيَكُونُ قَاتِلًا نَفْسَهُ، وَمَنْ أَعْطَاهُ غَرَّهُ حِينَ لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّمِّ، وَلَكِنْ بِالْغُرُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ النَّفْسِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ «الْيَهُودِيَّةَ حِينَ أَتَتْ بِالشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ هَدِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَمَاتَ، ثُمَّ لَمْ يُضَمِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَتَهُ»؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَأَمَّا إذَا أَوْجَرَهُ إيجَارًا، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا دِيَتَهُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ سُمًّا قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَإِ فَأَمَّا إذَا كَانَ سُمًّا ذُعَافًا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَلْبَثُ. وَإِذَا جَرَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ فَأَشْهَدَ الْمَجْرُوحُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَجْرَحْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى فُلَانٍ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يُبْنَى عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ، وَالْوَارِثُ فِي الدَّعْوَى قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَكَمَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُوَرِّثِ بَعْدَ إقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُجْرَحْ فَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى أَصْلَ الْجُرْحِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْقَتْلِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمَجْرُوحُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَفَى عَنْ الْجَارِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ عَفْوُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَكُونُ لِلْوَارِثِ لَا لِلْمُوَرِّثِ، فَالْوَارِثُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ الْمُوَرِّثِ فَيَكُونُ الْمُوَرِّثُ بِعَفْوِهِ مُسْقِطًا حَقَّ الْغَيْرِ وَمُسْقِطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَفْوَ الْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ عَنْ الْقِصَاصِ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ يَجِبُ لِلْمُوَرِّثِ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَارِثِ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافُهُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 153 عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ لَا ابْتِدَاءً؛ وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُوَرِّثِ وَتَنْفُذُ وَصَايَا فَاصِلِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلْمُوَرِّثِ فَيَصِحُّ بَعْدَ مَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ كَمَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ، ثُمَّ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِذْنُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مُسْقِطٌ لِلْقَوَدِ عَنْ الْجَانِي حَتَّى إذَا قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَذَلِكَ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَلَوْ عَفَا الْوَلِيُّ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْنِ حَقُّهُ بَعْدُ فَإِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْلَ أَوَانِهِ كَانَ بَاطِلًا كَمَا إذَا أَبْرَأَ عَنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ لِمُوَرِّثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ يُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَهَذَا السَّبَبُ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَيُقَامُ مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي تَصْحِيحِ عَفْوِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الْحَقُّ لِلْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَ هَذَا السَّبَبِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَاجِبِ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْمُوَرِّثُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فَيَجِبُ لِلْوَارِثِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعًى فَلِمُرَاعَاةِ السَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا وَلِمُرَاعَاةِ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَارِثِ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَقَالَ {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ، وَالضَّرْبَةِ، وَالشَّجَّةِ، وَالْجِرَاحَةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ السِّرَايَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَفَوْت عَنْ الْقَطْعِ، أَوْ عَنْ الشَّجَّةِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ جَازَ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ، فَالْعَفْوُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْعَفْوُ صَحِيحٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْجِنَايَةِ، أَوْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، أَوْ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُمَا يَقُولَانِ عَفَا عَنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَدَّ السِّرَايَةِ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ أَوْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَفْوَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ فِيهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 154 يُسْقِطُ ضَمَانَ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الشَّجَّةُ وَلَوْلَاهُ لَمَا صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ، أَوْ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الشَّجَّةِ صَارَ أَصْلُ السَّبَبِ هَدَرًا، فَالسِّرَايَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكُونُ هَدَرًا أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَفَوْتُك عَنْ الشَّجَّةِ أَيْ عَنْ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ وَمُوجَبُهَا الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ إذَا اقْتَصَرَ وَفِي النَّفْسِ إذَا سَرَى فَيُصْرَفُ الْعَفْوُ إلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُك عَنْ الْغَصْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا وَرَدُّ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إذَا أَبْرَأَ الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ مُوجَبِ الْعَيْبِ، وَهُوَ الرَّدُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ أَنَّ عَبْدًا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَصَالَحَ مَوْلَاهُ عَنْ الْقَطْعِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَالَ: الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ، فَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْقَطْعِ صُلْحًا عَنْ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ شَجَّةً مَعَ السِّرَايَةِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشَّجَّةِ، وَالْآخَرُ بِهَا وَبِالسِّرَايَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الشَّجَّةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّجَّةُ حَقَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطُ الْحَقِّ فَإِذْ صَادَفَ مَا لَيْسَ بِحَقِّهِ كَانَ بَاطِلًا وَبَيَانُهُ إنْ عَفَا عَنْ الْيَدِ وَحَقِّهِ فِي النَّفْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا وَمُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا لَا حَالُهَا (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَسَرَى إلَى نِصْفِ السَّاعِدِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هَاهُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ فِي الْيَدِ قِصَاصًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ السِّرَايَةِ وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، عَفَوْتُك عَنْ الْقَتْلِ، ثُمَّ اقْتَصَرَ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ فَسَرَى وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُوجَبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ فَمَعْنَاهُ عَنْ قَطْعِ وَاجِبٍ مُقَابِلَ هَذَا الْقَطْعِ لَا عَنْ هَذَا الْقَطْعِ الَّذِي تَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطْعَ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَطْعَ سَبَبُ حَقِّهِ قُلْنَا الْقَطْعُ سَبَبُ حَقِّهِ فِي الْيَدِ لَا سَبَبُ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ، بَلْ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ السَّارِي لَا يَقُولُ أَنَّهُ قَطْعٌ، ثُمَّ قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ يَصِيرُ قَتْلًا بِمَنْزِلَةِ قَنْصٍ يَصِيرُ صَيْدًا، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 155 كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ، وَإِنَّمَا انْزَهَقَ هَذَا الرُّوحُ عَقِيبَ هَذَا الْفِعْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَتْلٌ؛ وَلِهَذَا صَحَّ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ وَمَا دُونَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا جِنَايَةَ فِي قَتْلِ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ، أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ لَمْ تُسْمَعْ بِخِلَافِ الْقَطْعِ، فَهُوَ اسْمٌ حَائِزٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا قَطْعَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ صَحَّتْ الدَّعْوَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي النَّفْسِ فَصَحَّ الْعَفْوُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ فَيَصِيرُ الْمَأْذُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِذْنِ فِي إقَامَةِ الْفِعْلِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَصَرَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ قَطْعًا، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي قَطْعٍ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ، فَالصُّلْحُ هُنَاكَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا سَرَى قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ إلَّا أَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ صُلْحٍ فَاسِدٍ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا فَيَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ إنَّمَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَصَدَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ، وَهُوَ الْعِتْقُ اعْتَبَرْنَا الظَّاهِرَ وَقُلْنَا إذَا سَرَى، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ اعْتَبَرْنَا الْمَقْصُودَ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ فَقُلْنَا الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ نَفَذَ الْعِتْقُ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ، ثُمَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ بِهِ مُخْتَارًا فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ فَقِيلَ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَقَّ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَتْ السِّرَايَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهَا وَاحِدٌ وَبِدُونِ السِّرَايَةِ الْحَقُّ فِي الشَّجَّةِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ الْمُدَّعِي يَتَبَرَّأُ مِنْ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَلَمْ يَثْبُتْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى بَيْعَ عَيْنٍ مِنْ إنْسَانٍ بِثَمَنٍ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ بِنَفْيِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ إذْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَثْبُتْ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ: حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ وَمَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ، وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الْأَخِيرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ظَاهِرًا؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رَدِّ الْقَوَدِ، وَقَدْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ حَتَّى سَرَى، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ مَا ذِكْرُ هَذَا حَقٌّ بِسَبَبِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 156 الْقِيَاسِ وَقِيلَ، بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ الصُّلْحُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ، ثُمَّ بَنَى عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مَسْأَلَةَ التَّزْوِيجِ عَلَى الْجِرَاحَةِ بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. ، وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ فِي الْمَرَضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ لَيْسَ بِمَالٍ وَبِالْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ: الْمَرَضُ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُ الْقَاتِلِ فِيهِ سَوَاءٌ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَاتِلًا لَهُ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَفْوُهُ فِي الْقِصَاصِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمَالِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ عِنْدَهُ مُوجِبٌ لِلْمَالِ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ لَا يُبْطِلُ الْقَوَدَ عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مَعَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَزِمَهُمَا بِالْقَتْلِ، ثُمَّ سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِالْعَفْوِ وَدَمُ أَحَدِهِمَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ دَمِ الْآخَرِ فَسُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا لَمْ إذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفِعْلَانِ اجْتَمَعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا مُوجِبٌ، وَالْآخَرُ غَيْرُ مُوجِبٍ، وَدَمُ الْمَقْتُولِ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ قَالَ: وَلِكُلِّ وَارِثٍ فِي دَمِ الْعَمْدِ نَصِيبٌ بِمِيرَاثِهِ يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُهُ وَصُلْحُهُ أَمَّا الدِّيَةُ إذَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلِكُلِّ وَارِثٍ فِيهَا نَصِيبٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ «الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ أَنَّهُ أَتَاهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ»، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ وَعَنْهُ قَالَ: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِهِ دَخَلَتْ دِيَتُهُ فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ وَلِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دَيْنَهُ فَيَرِثُ مِنْهُ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَثْبُتُ حَقُّهُمَا فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا الْعَقْدُ، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْقِصَاصِ، وَهَذَا لَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ تَرَكَ مَالًا، أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»، وَالْقِصَاصُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ كَالدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ بِالزَّوْجِيَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِالْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَبِهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 157 فَارَقَ الْوَصِيَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِالْعَقْدِ. وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَعُفِيَ أَحَدُهُمَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَاوَرَ فِيهَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَرَى هَذَا قَدْ أَحْيَا بَعْضَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُتْلِفَهُ فَأَمْضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْعَافِيَ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ فَصَحَّ إسْقَاطُهُ وَبِإِسْقَاطِهِ حَقَّ بَعْضِ نَفْسِ الْقَاتِلِ، وَالْآخَرُ يَعْجَزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ اسْتِيفَاءً، ثُمَّ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا لَا يَتَجَزَّأُ سُقُوطًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآخَرَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ قُلْنَا إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَةِ لِبَعْضِ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَيَجِبُ الْمَالُ لِلْآخَرِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّهِ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ، ثُمَّ لِلْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ وَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ فِي سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إذَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا وَاَلَّذِي وَجَبَ لِلْآخَرِ جُزْءٌ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كَذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ الْقَاتِلُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِلشَّاهِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَفْوِ مِنْ الْآخَرِ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فِي ذَلِكَ فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ مِنْ الْقَوَدِ لَا لِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِشَهَادَةِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ، وَهُوَ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ مُتَّهَمٌ فَيَكُونُ كَاذِبًا فِي حَقِّهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْ الشَّاهِدِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّاهِدِ وَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْقَاتِلُ وَكَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالشَّاهِدَ لَا يُصَدِّقَانِ عَلَيْهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَهُ انْقَلَبَ مَالًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَصَدَّقَهُ الْقَاتِلُ بِذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ الْقَاتِلُ وَصَدَّقَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّاهِدِ قَدْ سَقَطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ بِالْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ كَذَّبَهُ، وَهُوَ الْقَاتِلُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْعَفْوِ الْمُسْقِطِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 158 لِحَقِّهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَ الْقَاتِلُ الشَّاهِدَ، فَقَدْ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّصْدِيقِ حَوَّلَ ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى الشَّاهِدِ وَزَعَمَ أَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا لَهُ. وَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ لِغَيْرِهِ بِهِ لَا يَصِيرُ رَدُّ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يُخَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُ آخَرُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْعَفْوِ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِشَهَادَتِهِ أَنْ يُحَوِّلَ نَصِيبَهُ إلَى الْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الْعَفْوُ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا، وَالْقَاتِلُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَاَلَّذِي شَهِدَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِمَنْزِلَةِ عَفْوِهِ وَوَجَبَ لِصَاحِبِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَفْوِ، وَإِنْ شَهِدَا مَعًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَافِي فَيَسْقُطُ حَقُّهُمَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ، وَإِنْ صَدَّقَ الْقَاتِلُ أَحَدَهُمَا وَكَذَّبَ الْآخَرَ أُعْطِيَ الَّذِي صَدَّقَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَبَطَلَ حَقُّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ لَهُ وَكَذَّبَ الْآخَرَ، وَهُوَ قَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ كَالْعَافِي، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَنَّهُمَا قَدْ عَفَوَا يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَضْمَنَ الدِّيَةَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ يُقِرُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا إذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِي تَصْدِيقِهِ إيَّاهُمَا تَكْذِيبُهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مَا عَفَا، وَإِنَّمَا عَفَا شَرِيكُهُ، وَهُوَ إذَا زَعَمَ أَنَّهُمَا عَفَوَا، فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ يُثْبِتَانِ أَنَّهُ لَوْ كَذَّبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانَ الدَّمُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ نَصِيبَهُمَا مِنْ الْقِصَاصِ يَنْقَلِبُ مَالًا بِهَا، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ لِإِقْرَارِهِمَا بِذَلِكَ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أُعْطِيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدَيْنِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا كَإِنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَعْطَاهُمَا الدِّيَةَ أَثْلَاثًا لِإِقْرَارِهِ لِلشَّاهِدَيْنِ بِمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُكَذِّبْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْذِيبِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الصُّلْحِ بِذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَفْوِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ شَرِيكٌ رَابِعٌ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ فَلَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ لَا بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْ الْقَوَدِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشَّهَادَةِ فَيَثْبُتُ بِالْأَبْذَالِ مَعَ الْحُجَجِ كَالْمَالِ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 159 وَإِنْ ادَّعَى الْقَاتِلُ الْعَفْوَ عَلَى الْوَرَثَةِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ حَلَفَ الْوَارِثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدٌ بِالْقِصَاصِ لَا يَحْلِفُ، بَلْ بِالْقَتْلِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ يُحَلِّفُهُ كَمَا انْتَفَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْعَفْوِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ وَلِشُرَكَائِهِ حِصَّتُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ النَّاكِلُ الْعَفْوَ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْقَاتِلِ أَنَّهُ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ، وَأَنَّهُمَا كَفَلَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ صُلْحٍ، وَالْوَلِيُّ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا إنْ ذَكَرَا أَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ كَفَالَةُ الْكَفِيلِ بِعَيْنِهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَقْدٍ تَمَّ بِهِمَا، وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي تَمَّ بِكَفَالَتِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا شَهَادَةً عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ ذَكَرَا أَنَّهَا بَعْدَ الصُّلْحِ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الصُّلْحِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَيُؤْخَذَانِ بِالْكَفَالَةِ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي كَفَلَا عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ بِغَيْرِ الْأَمْرِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّي، وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ شَهَادَتَهُمَا وَجَحَدَ ذَلِكَ الْقَاتِلُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الصُّلْحَ، وَقَدْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْقَاتِلِ وَيَلْزَمُهُمَا مَا أَقَرَّا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْعَفْوِ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مُبْتَذَلٌ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى رَجَعَا، فَالْقِصَاصُ كَمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي هَاهُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْقَوَدُ فَانْعَدَمَ الْمَانِعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَاخْتِلَافُ شُهُودِ الْعَفْوِ فِي الْوَقْتِ، وَالْمَكَانِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ هُوَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ فَيَبْقَى الْقِصَاصُ كَمَا كَانَ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَفَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ عَفَا عَلَى غَيْرِ جَعْلٍ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ، وَهُوَ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ الْقَاتِلُ وَادَّعَاهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَقَدْ جَازَ الْعَفْوُ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْقَوَدِ، ثُمَّ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 160 عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ أَلْفٍ مُدَّعٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ضَرُورَةً فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَعْوَى الْمَالِ مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ عَلَى عَبْدٍ وَالْآخَرُ بِالصُّلْحِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ آخَرَ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ. وَعَفْوُ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ عَنْ قِصَاصٍ وَاجِبٍ لِلصَّغِيرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ شَرْعًا لَا إسْقَاطَهُ وَإِسْقَاطُهُ الْقِصَاصَ كَإِسْقَاطِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِلصَّبِيِّ فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَيَئُولُ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِابْنَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ، وَالْأَبُ بِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ خِيَارَهُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلصَّغِيرِ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ رُبَّمَا يَمِيلُ إلَى الْعَفْوِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْأَبُ كَانَ ذَلِكَ اسْتِيفَاءً مَعَ شُبْهَةِ الْعَفْوِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ، وَالنَّفْسَ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْقَاتِلِ، أَوْ بِهَرَبِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِصَاصَ عَلَى فَوْرِ الْقَتْلِ فَعَلَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلصَّبِيِّ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ إذَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا حَصَلَ التَّشَفِّي نَظِيرَ مَا لَوْ زَوَّجَهُ الْأَبُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ شَرُّ الْقَتْلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ فِي الْحَالِ وَشُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ وُجُودِهِ فِي الْحَالِ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ. فَأَمَّا شُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَلِيٍّ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَعْفُوَ وَلَا مَعْنًى لِمَا قَالَ: أَنَّ فِيهِ قَطْعَ خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ وَلَدِهِ وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ إزَالَتِهِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْوَصِيِّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ صَالَحَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ جَازَ صُلْحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْقِصَاصِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 161 الْوَاجِبِ لَهُ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ حَطَّ مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ حَطُّهُ، وَالْيَسِيرُ وَالْفَاحِشُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا وَهُنَا مُقَدَّرٌ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ يَكُونُ إسْقَاطًا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَصُلْحُ الْوَصِيِّ عَنْ النُّقْصَانِ فِي النَّفْسِ عَلَى الدِّيَةِ يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الصُّلْحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَلِيٌّ سِوَى السُّلْطَانِ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي اللَّقِيطِ. وَإِنْ كَانَ لِلدَّمِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَأَبَى قَتْلَهُ وَأُجِيزَ الْعَفْوُ مِنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ خَصْمٌ عَنْ الْغَائِبِ فَانْتَصَبَ هُنَا الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَإِذَا قَضَى بِالْعَفْوِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ اتَّصَلَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَصْمٌ وَيَكُونُ لِلْحَاضِرِ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِذَا ادَّعَى عَفْوَ الْغَائِبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ فَيَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحْلَفَ الْحَاضِرَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ مَا لَمْ يَقْدُمْ الْغَائِبُ قَبْلَ دَعْوَى الْعَفْوِ فَبَعْدَ دَعْوَى الْعَفْوِ أَوْلَى، فَإِذَا قَدِمَ فَحَلَفَ اُقْتُصَّ مِنْهُ، فَإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً عَلَى الْعَفْوِ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ إلَّا بِمُهْلَةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْضِرْ شُهُودَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ الْعَفْوَ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِمْ يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذْ الثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ حَسَنَةٌ لِإِيلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمْ وَادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِنَا أَنْ يَمْضِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ كَمَا فِي الْمَالِ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَدْ ظَهَرَ، وَالْمَانِعُ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَلَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ قَالَ: وَلَكِنِّي أَسْتَعْظِمُ وَلَا أُعَجِّلُ فِيهِ بِالْقِصَاصِ حَتَّى أُثْبِتَ فِيهِ وَأَسْتَأْنِي بِهِ وَلَا أُعَجِّلُهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَبِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ حُضُورِ شُهُودِهِ يَتَأَنَّى فِيهِ الْقَاضِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَالِ. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِعَيْنِهِ بِالْعَفْوِ، أَوْ بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَاهُ عَفَا، أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ سَقَطَ الْقِصَاصُ سَوَاءً أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَوَدِ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ عَمْدًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ، أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 162 أَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَمَّا زُفَرُ فَيَقُولُ الْقَوَدُ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَلِمَ الْآخَرُ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُ أَوْلَمَ يَشْتَبِهْ فَإِنَّمَا بَقِيَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَالظَّنُّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ، ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ، فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ مَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُسْقِطَ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَفْوَ كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ظَاهِرًا، وَالظَّاهِرُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ نَافِذٍ وَسُقُوطَ الْقَوَدِ عِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَفِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يَشْتَبِهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ عِنْدَهُ وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، ثُمَّ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ فَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ. وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ بِسَيْفٍ، أَوْ عَصَا، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ دَمَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ كَالْمُبَاحِ فَإِنَّ الدَّمَ لَا يُمْلَكُ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ إذَا صَارَ قَاتِلًا لَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ بِالسَّبَبِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِفِعْلٍ يَتَّصِلُ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ أَصَابَهُ هَذَا الْأَحَدُ بَعْدَ الْعَفْوِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّيْفِ فَإِنَّهَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا وَصَارَ فِي حُكْمِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ كَأَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا أَخَذَ الدِّيَةَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَطَأً رَجَعَ هَذَا الْقَاتِلُ خَطَأً بِنِصْفِ الدِّيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ وَبَدَلُ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ تَرِكَتِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا مُقَاصَّةَ هَاهُنَا لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ عَلَى عَاقِلَةِ وَلِيِّ الدَّمِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 163 الَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْوَلِيِّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَلِيِّ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً بَطَلَ دَمُ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّهِ وَيَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْوَلِيِّ قَائِمَةٌ كَمَا كَانَتْ وَسَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهِ إبَاحَةُ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ كَمِلْكِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْبَدَلُ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ، وَإِذَا قَتَلَهُ فَقَالَ الْوَلِيُّ أَنَا كُنْت أَمَرْتُهُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ فِيمَا يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَبَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ الثَّانِي وَاجِبٌ لِوَرَثَتِهِ لَا قَوْلَ لِوَلِيِّ الْأَوَّلِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ قِصَاصًا كَانَ، أَوْ مَالًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْعَفْوِ فِي الْخَطَأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، فَالدِّيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ كَسَائِرِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ هُوَ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْوَةِ لِلْأُمِّ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَوَّلُ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَنْسُبُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الظُّلْمِ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ، فَالْحَقُّ مَعَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَيْنَمَا دَارَ الْحَقُّ فَعُمَرُ مَعَهُ»، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُ عُمَرَ عَنْ هَذَا حَيْثُ رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ الْحَدِيثَ كَمَا رَوَيْنَا وَلَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْقِصَاصُ، وَلَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْعَقْدِ وَكَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشَّرِكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ فِيهِ، فَإِنْ صُولِحَ الْقَاتِلُ عَلَى مَالِ دَخَلَ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَرِكَةً لَهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ وَيَنْفُذُ وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، ثُمَّ هُوَ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عَفْوُهُ بَعْدَ الصُّلْحِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا يَجُوزُ عَفْوُ الْوَارِثِ. ، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ عَفْوٌ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ أَمَّا الْعَمْدُ فَلِأَنَّ مُوجِبَهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَفْوِهِمْ عَنْ الدِّيَةِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ دِيَتِهِمْ، وَإِنَّمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ فِي مَحَلِّ حَقِّهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُلَاقِ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ كَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا عَفَا الرَّجُلُ عَنْ دَمِهِ، وَهُوَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 164 خَطَأٌ ثُلُثُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَازَ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَيَكُونُ عَفْوُهُ وَصِيَّةً مِنْهُ لِلْعَاقِلَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ بَيَّنَّاهُ فِي الْوَصَايَا، فَإِنْ كَانَ أَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِوَصَايَا تَحَاصَّ أَهْلُ الْوَصَايَا، وَالْعَاقِلَةُ فِي ثُلُثِهِ فَسَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ حِصَّتُهُمْ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا، وَالْوَرَثَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا تِبْيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلَ لَكَانَ الْأَجَلُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بُدِئَ بِهِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا، وَمِنْ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ الْمَيِّتُ، وَلَكِنْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الْعَافِي إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ. إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَفَا عَنْ حِصَّتِهِ، وَالْقَتْلُ خَطَأٌ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا بِخِلَافِ الْعَمْدِ فَهُنَاكَ يَنْقُلَانِ حَقَّهُمَا مِنْ الْقِصَاصِ إلَى الدِّيَةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَخَذَا طَائِفَةً مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ شَهِدَا بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ حَقَّ الثَّالِثِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُمَا فِيمَا أَخَذَا، وَإِنَّمَا يُسْقِطَانِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا وَلَوْ لَمْ يَأْخُذَا شَيْئًا حَتَّى شَهِدَا عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا وَصَالَحَ عَلَيْهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ وَشَهَادَةُ جَارِّ الْمَغْنَمِ، أَوْ دَافِعِ الْمَغْرَمِ لَا تُقْبَلُ. وَإِنْ شَهِدَ وَارِثَانِ عَلَى الْمَقْتُولِ أَنَّهُ عَفَا عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ الْقَاتِلِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَالْعَفْوُ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عَفْوِ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كِبَارٌ فَأَجَازَهُ الْقَاضِي وَأَبْرَأَ الْقَاتِلَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضُمِّنَا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ هُوَ الْمَالُ لِلْوَرَثَةِ، وَقَدْ أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمَا فَيُضَمَّنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي دَمِ الْعَمْدِ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَاتِلَ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَفْوًا وَلَا مَالَ لَهُ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَدِ وَالْقَوَدُ الْوَاجِبُ لَهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ يَكُونُ بَاطِلًا وَلَا مَالَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا بِهَذَا التَّأْخِيرِ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا عَفْوٌ، وَهُوَ صُلْحٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ لِلْقَوَدِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ فَيَلْغُو التَّوْقِيتُ مِنْهُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ بِالْمَالِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُمَا بِالسَّيْفِ فَاسْتَحْيَا بَعْضُ إخْوَتِهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 165 مِمَّا فَعَلَتْ فَعَفَا عَنْهُ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ حِصَّتَهُ مِنْ الدِّيَةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ السِّكِّينَ فَوَجَأَ بِهِ رَأْسَ إنْسَانٍ فَأَوْضَحَهُ، ثُمَّ جَرَّ السِّكِّينَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهَا حَتَّى شَجَّهُ أُخْرَى فَهَذِهِ مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ فِيهَا الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا وَأَرْشُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهِ، فَالتَّوَسُّعُ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ فِعْلٍ آخَرَ وَلَوْ رَفَعَ السِّكِّينَ، ثُمَّ وَجَأَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى اتَّصَلَ، أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ فَهَذِهِ مُوضِحَةٌ أُخْرَى: اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَاخْتِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ فَكَأَنَّهُمَا حَصَلَا مِنْ اثْنَيْنِ، ثُمَّ اتِّصَالُ أَحَدِهِمَا بِالْأُخْرَى عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَنْ تَآكَلَ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى اتَّصَلَتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهِمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَفِي مَجْلِسٍ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ بِالسَّرَايَةِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ فِيهَا لَمْ يَمْتَنِعْ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِسَبَبِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى، أَوْ سَقَطَتْ. وَإِذَا فَقَأَ الرَّجُلُ عَيْنَ الرَّجُلِ وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ نَقْصٌ، فَالْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّلَلِ أَوْ فَوَاتِ الْأُصْبُعِ فِي الْيَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي جَانِبِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي جَانِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْبَصَرِ الْكَامِلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْقَدْرُ الْبَاقِي مِنْ الْبَصَرِ مَعَ النُّقْصَانِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا حُكْمُ عَدْلٍ كَمَنْ قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَفِيهَا ظُفْرٌ مُسَوَّدٌ لَوْ خَرَجَ لَا يَنْقُصُهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ فِي يَدِهِ لَمْ يُنْقِصْ مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ شَيْئًا وَمِثْلُهُ لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي بَدَلِهِ كَالصِّغَرِ وَسَوَادِ الْيَدِ أَصْلًا، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَرْشِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ مِنْ كَفِّ الرَّجُلِ أَظْفَارَ يَدِهِ فَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا تُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ، وَلَكِنْ يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمُ عَدْلٍ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ حُكْمُ الْعَدْلِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ حَقِيقَةً وَلَوْ قَطَعَ مِنْ كَفِّ رَجُلٍ أُصْبُعًا زَائِدًا فَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ نُقْصَانُ مَعْنًى فَتَفْوِيتُهَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 166 لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْبَطْشِ، وَإِنَّمَا يُلْحِقُ بِهِ أَلَمًا وَشَيْنًا فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لِلْقَاطِعِ مِثْلُ تِلْكَ الْأُصْبُعِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ فَبَدَلُ الْيَدِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ أَخْمَاسًا وَلَا يَنْقَسِمُ عَلَى الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَإِنَّمَا الْأُصْبُعُ الزَّائِدَةُ كَالثُّؤْلُولِ، وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ كُلَّهُ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِي الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ شَلَلٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمَكِّن نُقْصَانًا فِي مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْقِصُهَا وَلَا يُوهِيهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ وَفِي الْخَطَأِ الْأَرْشُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّغَرِ، وَالضَّعْفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ. وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ يَدَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَفْصِلِ وَبَرَأَتْ وَاقْتَصَّ وَبَرَأَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ، ثُمَّ قَطَعَ أَحَدُهُمَا ذِرَاعَ صَاحِبِهِ مِنْ تِلْكَ الْيَدِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إذَا اسْتَوَيَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ مِنْ الْمَفْصِلِ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَاجِبُ فِي الذِّرَاعِ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ حُكْمُ عَدْلٍ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ التَّقْوِيمُ فَلَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقِصَاصِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَوْتِهِ هَذَا السَّبَبُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ سَبَبٌ آخَرُ فَيَجِبُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ، وَالرُّوحُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مُشَاهَدَةً، وَإِنَّمَا طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَهُ فَيَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى حَقِيقَةِ مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْمَوْتِ مِنْ الضَّرْبَةِ وَمَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا تَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَضْرِبُهُ وَيَكُونُ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الشُّهُودَ هَلْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا لَا فِي الْعَمْدِ وَلَا فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَلَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ كَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِمَا يَعْلَمُ الْقَاضِي أَنَّهُمْ فِيهِ كَذَبَةٌ فَكَيْفَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ إنْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمْ وَجَازَتْ إنْ كَانُوا عُدُولًا؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَدُّوا فِي ذَلِكَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَرَّرْنَا، وَإِنْ كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ عِلْمُ الْقَضَاءِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَيْضًا عِلْمُ الشَّهَادَةِ إلَّا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 167 أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ بِدُونِ شَهَادَتِهِمْ فَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ لَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ قَدَحًا فِيهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّ هَذَا ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ. وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا عَمْدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى فِعْلِهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي بَاشَرَ الْفِعْلَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا سَأَلَهُمَا أَتَعَمَّدَ ذَلِكَ، فَهُوَ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ بِأَوَّلِ كَلَامِهِمَا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ احْتِمَالُ الْخَطَأِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ بَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَطَأً كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مُوَافِقًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَسُؤَالُهُمَا عَنْ الْعَمْدِيَّةِ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ أَوْثَقَ وَهَكَذَا يُوَثِّقُ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَالْقَاضِي مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، أَوْ نُشَّابَةٍ فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ (أَرَأَيْت) لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ ذَبَحَهُ، أَوْ شَقَّ بَطْنَهُ بِالسِّكِّينِ حَتَّى مَاتَ أَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْأَسْلِحَةَ فِي كَوْنِهَا آلَةَ الْقَتْلِ سَوَاءٌ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ، أَوْ أَنَّهُ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَتْلِ، أَوْ وَقْتِهِ، أَوْ مَوْضِعِ الْجِرَاحَةِ مِنْ بَدَنِهِ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَالْمَحَلِّ، وَالْوَقْتِ، وَالْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَلَمْ يُوجَدْ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ إلَّا شَهَادَةَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا مِنْ مَفْصِلِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ، ثُمَّ شَهِدُوا جَمِيعًا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ، وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ كُلَّهُ عَمْدًا فَإِنِّي أَقْضِي عَلَى الْقَاتِلِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ لَمْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ ثَبَتَ قَطْعُ الْيَدِ مِنْ الْمَفْصِلِ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَكِنْ قَدْ أَقَرَّ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَمِنْ فِعْلٍ آخَرَ لَمْ يَعْلَمْ فَاعِلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ وَيَتَوَزَّعُ بَدَلُ النَّفْسِ نِصْفَيْنِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ عَمْدًا فَلَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَاقَرَارُ الْوَلِيِّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى الرَّجُلِ شَاهِدَانِ فَلَمْ يُزَكِّيَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الرَّجُلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ فَهُمَا وَمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهِ وَاحِدًا سَوَاءٌ وَلَوْ زُكِّيَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْيَدِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الرِّجْلِ لَمْ يُؤْخَذْ الْقَاتِلُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْفِعْلَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْعَدْلَ مِنْ الشُّهُودِ بِكُلِّ فِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا يُقَالُ قَدْ اتَّفَقَ الْعَدْلَانِ عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالْحُكْمِ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ (أَلَا تَرَى) الجزء: 26 ¦ الصفحة: 168 أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ قَطَعَ أُصْبُعًا لَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ لَهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا جَمِيعًا قَضَيْت عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ ظَهَرَا بِالْحَجْرِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِفِعْلِهِ السِّرَايَةُ كَانَ ذَلِكَ قَتْلًا فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَقْصُودًا دُونَ الْأَطْرَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا. وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ عَمْدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا كَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ يَقْتُلَهُ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي لَهُ اُقْتُلْهُ وَلَا تَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ فَذَلِكَ حَسَنٌ أَيْضًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ الْقِصَاصَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ تَوَالَيَا مِنْ وَاحِدٍ وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْخَطَأَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْبُرْءِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى كَانَتْ مَوْقُوفَةً فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى السِّرَايَةِ، فَالْفِعْلُ الثَّانِي يَكُونُ إتْمَامًا لِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى فَيُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ فَإِنَّ هُنَاكَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالْبُرْءِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً أُخْرَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جُعِلَتْ عَلَى نَفْسٍ أُخْرَى وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ مَا تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ يَصِيرَ بِالسِّرَايَةِ فِعْلًا مُضَافًا إلَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً؛ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ الْمُوجِبُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ، أَوْ مَحَلُّ الْفِعْلِ. وَإِيضَاحُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَا هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَنَّ الْقِصَاصَ يُبْنَى عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ فِي الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ جَمِيعًا مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَتَخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ هَذَا الْخِيَارَ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَأَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِيفَاءَ بِمُرَاعَاةِ الصُّورَةِ وَهَذَا مِنْهُ اجْتِهَادٌ فِي مَوْضِعِهِ فَعَلَيْهِ أَمْرُهُ بِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْخَطَأَ، فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ صِيَانَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا صُورَةُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْنَا، ثُمَّ مَبْنِيٌّ الْعَمْدُ عَلَى التَّغْلِيظِ، وَالتَّشْدِيدِ؛ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ وَفِيهِ مُرَاعَاةُ صُورَةِ الْفِعْلِ مَعَ التَّغْلِيظِ أَيْضًا فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ وَفِي الْعَمْدِ الْمَقْصُودِ، هُوَ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَفِي التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَطْعِ، وَالْقَتْلِ جَمِيعًا زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 169 الْمَقْصُودِ وَكَمَا أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ يَكُونُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ، فَقَدْ يَكُونُ قَطْعًا لِمُوجِبِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَيُجْعَلُ كَالْبُرْءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِلِاحْتِمَالِ أَثْبَتْنَا الْجَنَابَةَ لِلْأَوَّلِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الْعَمْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ خَطَأً، وَالْأُخْرَى عَمْدًا أُخِذَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال لِجَعْلِ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ وَمُوجِبِهِ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَخَلَّلَ بِالْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ جَانٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُمَا جَمِيعًا عَمْدٌ، أَوْ خَطَأٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدٌ، وَالْأُخْرَى خَطَأٌ أُخِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ الْفَاعِلِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بُرْءٌ فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَطَعَ تِلْكَ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَعَلَى قَاطِعِ الْكَفِّ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ وَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمْدٌ مَحْضٌ فَيَلْزَمُهُمَا الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ يَدِهِ حَدَثَ فِي الْبَدَنِ آلَامٌ وَبِقَطْعِ الْآخَرِ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ لَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الْآلَامُ، بَلْ تَزْدَادُ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ السِّرَايَةُ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ الْآلَامِ الَّتِي تَوَالَتْ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ الثَّانِي تِلْكَ الْيَدَ، أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا آخَرَ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: فِعْلُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ تَنْقَطِعُ بِهِ سِرَايَةُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بِدُونِ بَقَاءِ مَحَلِّ الْفِعْلِ إذْ الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الثَّانِي فَاتَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَانْقِطَاعُ السِّرَايَةِ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ انْقِطَاعِهَا بِالْبُرْءِ؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ يَحْتَمِلُ النَّقْصَ وَفَوَاتُ الْمَحَلِّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ بِهِ فَارَقَ مَا إذَا كَانَ فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الثَّانِي فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَا يُفَوِّتُ مَحَلَّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْفِعْلَانِ خَطَأً كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ وَدِيَةُ النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي عِنْدَنَا، وَالْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِي هَذَا سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا، ثُمَّ حَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ بِالسَّيْفِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي، وَالْقِصَاصُ فِي الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 170 وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ انْزَهَقَتْ عَقِيبَ فِعْلِهِمَا فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّفَاوُتِ فِي صِفَةِ الْفِعْلِ وَلَا فِي مِقْدَارِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ وَجَرَحَهُ الْآخَرُ عَشَرَ جِرَاحَاتٍ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: حَزُّ الرَّقَبَةِ قَتْلٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَوَهُّمَ لِلْحَيَاةِ مَعَهُ فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فَقِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَتَّصِلَ السِّرَايَةُ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ فَإِنَّ الْقَطْعَ مَشْرُوعٌ فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْقَتْلُ حَرَامًا، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَالتَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ فِعْلَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُجْعَلُ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ بِيَقِينٍ، وَهُوَ حَزُّ الرَّقَبَةِ وَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ لِتَفْوِيتِ الْمَحَلِّ بِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً، وَالثَّانِي عَمْدًا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دِيَةُ الْيَدِ وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا رَجُلًا: أَحَدِهِمَا بِسَيْفٍ، وَالْآخَرِ بِعَصَا وَلَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا صَاحِبُ الْعَصَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُثْبِتَا بِشَهَادَتِهِمَا سَبَبًا يُمَكِّنُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَلَى صَاحِبِ السَّيْفِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فِي مَالِهِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ وَعَلَى آخَرَ بِقَطْعِ أُخْرَى، مِنْ تِلْكَ الْيَدِ وَلَا يُمَيِّزَانِ قَاطِعَ هَذِهِ الْأُصْبُعِ مِنْ قَاطِعِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ تَعْيِينِ مَحَلِّ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِمَا بِالْخَطَأِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْحُكْمِ بِدُونِ السَّبَبِ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ إبْهَامَ هَذَا عَمْدًا وَشَهِدَا عَلَى صَاحِبِ الْإِبْهَامِ أَنَّهُ قَطَعَ كَفَّ الْقَاطِعِ ذَلِكَ عَمْدًا، ثُمَّ بَرِئَ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْكَفِّ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ مِنْ يَدِ الْقَاطِعِ بِيَدِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ وَبَطَلَتْ الْأُصْبُعُ أَمَّا بُطْلَانُ الْأُصْبُعِ فَلِفَوَاتِ مَحَلِّهَا بِالْفِعْلِ الثَّانِي وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلثَّانِي فَلِأَنَّ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامِ قَطَعَ يَدَهُ الصَّحِيحَةَ وَيَدُ الْمَقْطُوعَةِ الْإِبْهَامِ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ وَفِي هَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْمَفْصِلِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ جَرَحَهُ سَبُعٌ أَوْ سَبُعَانِ، أَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، أَوْ جَرَحَهُ عَبْدٌ لَهُ، أَوْ عَثَرَ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّفْسَ تَتَوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ الْجُنَاةِ لَا عَلَى عَدَدِ الْجِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْلَفُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ يَسْلَمُ مِنْ جِرَاحَاتٍ، ثُمَّ مَا اتَّحَدَ حُكْمُهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 171 مِنْ الْجِرَاحَاتِ فِي كَوْنِهِ هَدَرًا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِهْدَارُ، وَإِذَا صَارَ بَعْضُ النَّفْسِ هَدَرًا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَيَجِبُ فِيمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً وَجَرَحَهُ سَبُعٌ وَجَرَحَهُ عَبْدٌ لَهُ وَجَرَحَ نَفْسَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ رُبْعُ دِيَةِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ مِنْ أَفْعَالٍ أَرْبَعَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ جِرَاحَةَ السَّبُعِ هَدَرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْإِثْمِ، وَالْحُكْمِ جَمِيعًا. وَجُرْحُهُ نَفْسَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْحُكْمِ وَجُرْحُ عَبْدِهِ لَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا إذَا كَانَ عَمْدًا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ؛ فَلِهَذَا تَوَزَّعَ بَدَلُ نَفْسِهِ أَرْبَاعًا فَيَكُونُ رُبْعُهُ عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ خَطَأً. وَلَوْ جَرَحَهُ سَبُعٌ وَخَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةً وَقَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ وَآخَرُ رِجْلَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الرَّجُلَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّبُعِ، وَالْحَيَّةِ وَمَا خَرَجَ بِهِ مِنْ الْقُرْحَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ ذَلِكَ هَدَرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا تَتَوَزَّعُ النَّفْسُ أَثْلَاثًا فَيُهْدَرُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى الرَّجُلَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ وَضَعَهُ رَجُلٌ، أَوْ حَائِطٌ تَقَدَّمَ إلَى أَهْلِهِ فِيهِ مَعَ جِرَاحَةِ الرَّجُلِ، وَالسَّبُعِ فَعَلَى الرَّجُلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْحَجَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالثُّلُثُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: جِرَاحَةِ الرَّجُلِ وَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ، وَإِصَابَةِ الْحَجَرِ، أَوْ الْحَائِطِ وَحُكْمُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا وَفِعْلِ السَّبُعِ، وَهُوَ هَدَرٌ فَيَتَوَزَّعُ بَدَلُ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ أَثْلَاثًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الدَّمِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَتُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُضْطَرَبٌ فِيهِ ذَكَرَهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَاهُنَا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَلَا مَدْخَلَ لِلنَّائِبِ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَجُوزُ هُنَا مَعَ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ، إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ كَالدِّيَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ، وَالنِّسَاءُ تُجْزِئُ بَيْنَ الْعِبَادِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 172 فِي حُقُوقِهِمْ لِحَاجَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ إلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ، وَالْغَلَطُ مَتَى وَقَعَ فِي الْإِثْبَاتِ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّابِتُ الْقِصَاصَ أَوْ الْمَالَ وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِيفَاءَ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَلَافِيه؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فِيهِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ. فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ وَيَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ الشُّبْهَةِ وَيَجُوزُ فِي اسْتِيفَاءِ الْوَكِيلِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا، وَالْوَكِيلُ لَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَمَتَى وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا فَشُبْهَةُ الْعَفْوِ تَنْعَدِمُ بِحُضُورِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْقَتْلِ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ فَلِلْحَاجَةِ جَوَّزْنَا التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا أَقَرَّ وَكِيلُ الطَّالِبِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُ بَاطِلًا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ عَفَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَفَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَامَ مُقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَطْلُوبِ لَوْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى صَاحِبِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِقِيَامِهِ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَلَا نُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِدُّ الْخُصُومَةِ، وَنَحْنُ وَإِنْ حَمَلْنَا مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ خُصُومَتُهُ مَجَازًا فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِهِ فَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الطَّالِبِ إسْقَاطُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ إيجَابُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُمْضِيَ الْقَضَاءَ بِالْقَوَدِ إلَّا بِحَضْرَةِ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إذَا كَانُوا بَالِغِينَ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ، وَالصُّلْحِ لِمَنْ هُوَ غَائِبٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، وَالْقَاتِلُ وَارِثُهُ بَطَلَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ إلَيْهِ نَصِيبُ مُوَرِّثِهِ مِنْ الْقَوَدِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ إذْ الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُنْفَى، وَعَلَيْهِ حِصَّةُ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِمْ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَيٌّ بَعْضُ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ كَانَ وَرِثَهُ ابْنُ الْقَاتِلِ بَطَلَ الْقَوَدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ كَمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ ابْتِدَاءً لَا يَبْقَى لَهُ عَلَى أَبِيهِ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِحَالٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ هَاهُنَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَالَ عَلَى أَبِيهِ وَيَسْتَوْفِيَهُ. وَالْوَكَالَةُ فِي الجزء: 26 ¦ الصفحة: 173 دَمِ الْخَطَأِ وَفِي الْعَمْدِ مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هَاهُنَا هُوَ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ، وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا وَعِنْدَ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هَذَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ وَيَكُونُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ نَافِذًا عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ قِصَاصًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَكْبَرَ الصِّغَارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، وَالْوِلَايَةُ لِلْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ إرْثًا، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ الدَّمِ فَلَا يَنْفَرِدُ الْكَبِيرُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالدِّيَةِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجْرِي فِيهِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالِاسْتِيفَاءِ مَا لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ وَلِأَنَّ هَذَا قِصَاصٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِاسْتِيفَاءِ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَيَجِبُ بِمُقَابِلَتِهَا قِصَاصٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا لِلْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ؛ وَلِهَذَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا فَإِنَّهُ يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّطْرِ لِلْعِلَّةِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَرِثُ جُزْءًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ سِهَامٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا يَسْقُطُ كَالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ وَبِمِلْكِ بَعْضِ الْقِصَاصِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَاصًا كَامِلًا لَمَا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى أَحَدِهِمْ بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ وَبِالْعَفْوِ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَهَذَا الْكَلَامُ يَصِحُّ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا لِلْمُوَرِّثِ فَمَاتَ وَوَرِثَهُ جَمَاعَةٌ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ هَاهُنَا إنَّمَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ الْقِصَاصِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجِمٍ لَمَّا قَتَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَهُ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ قِصَاصًا، وَقَدْ كَانَ فِي أَوْلَادِ عَلِيٍّ صِغَارٌ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَهُمْ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ أُخِذَ قَالَ: لِلْحَسَنِ إنْ عِشْتُ رَأَيْت فِيهِ رَأْيِي، وَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلْهُ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 174 إنْ شِئْتُ وَقَالَ وَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِيَّاكَ، وَالْمُثْلَةَ، فَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» وَلَا يُقَالُ إنَّمَا قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْله تَعَالَى {، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَتْلُهُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْقَاتِلُ مُرْتَدًّا إنَّمَا ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً وَاسْتِحْلَالُهُ كَانَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عَلَّقَهُ عُتْبَةُ فَقَالَ اُقْتُلْهُ إنْ شِئْت، وَأَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمَا أَخَّرَ عَلِيٌّ قَتْلَهُ وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ حَدَّ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَتَّى قَتَلَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ بِالْفَسَادِ بِقَتْلِ الْإِمَامِ لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُمَاثَلَةَ بِقَوْلِهِ فَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا فَأُقِيدَ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْكِبَارِ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ لَا تَقْتُلْهُ بَيْنَنَا فَإِنَّا لَا نَجْعَلُهُ سَوَاءً بَيْنَنَا، وَبِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ إبَاءِ بَعْضِ الْكِبَارِ، وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَرُوِيَ أَنَّهُ مَثَّلَ بِهِ مَعَ نَهْيِ عَلِيٍّ إيَّاهُ عَنْ الْمُثْلَةِ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ قِصَاصًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَالَ مَا قَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لَا عَلَى وَجْهِ كَرَاهَةِ قَتْلِهِ قِصَاصًا، وَالْمُثْلَةُ مَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ مِنْ الْحَسَنِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ؛ لِيَضْرِبَهُ أَبْقَاهُ بِيَدِهِ فَأَصَابَ السَّيْفُ أَصَابِعَهُ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ إيَّاهُ اسْتِيفَاءً لِلْقِصَاصِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَقَّ الْكَبِيرِ ثَابِتٌ فِي اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مُتَحَقِّقٍ فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُجْعَلُ كَالْوَاجِبِ لَهُ حُكْمًا، وَهُوَ الدِّيَةُ فَأَمَّا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُ الْمَقْتُولِ فَيَجْعَلُهُ وَاجِبًا لِلْوَارِثِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مُقَامَهُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَوَدِ تَشَفِّي الْغَيْظِ وَدَفْعُ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْوَارِثِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ عَلَى حَقِّ الْمَيِّتِ. وَقَدْ خَرَجَ عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ فَيَجِبُ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَهُ كَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ إثْبَاتًا عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِهِ يَحْصُلُ بِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 175 وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] بَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَ الْمَقْتُولِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَقَدْ ثَبَتَ سَبَبٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِمَّا أَنْ يَتَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَنْعَدِمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مُتَجَزِّئًا وَلَمْ يَنْعَدِمْ بِاتِّفَاقٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالتَّزْوِيجِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمْ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لِلْبَاقِينَ شَيْئًا وَلَا لِلْقَاتِلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْقِصَاصِ وَاجِبًا لَهُ لَكَانَ ضَامِنًا بِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْعَفْوِ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَيَظْهَرُ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتنَا الْقِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي الْمَحَلِّ فَأَمَّا قَبْلَ الْعَفْوِ لَوْ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَائِهِ لَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَتِهِ مُقَدِّرُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ جَمِيعَ الْقِصَاصِ وَاجِبٌ لِلْحَاضِرِ، وَلَكِنْ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مَوْجُودٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ عَفَا، وَالْحَاضِرُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَعَفْوُ الْغَائِبِ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَ بِوُجُوبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ مَاتَ وَوَرِثَهُ الْقَاتِلُ لِسَبَبٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ فَلِأَجْلِ الشُّبْهَةِ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ عِنْدَ صِغَرِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ فَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ عَفْوُهُ بَعْدَ مَا يَبْلُغُ وَشُبْهَةُ عَفْوِهِ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ لَا تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ الْمِلْكُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْمَوْلَيَيْنِ فِي الْأَمَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا بِانْفِرَادِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْقَرَابَةُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قِصَاصٍ كَانَ وَاجِبًا لِلْمُورِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالنَّصِّ وَذِكْرُ الْجُزْءِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي كَذِكْرِ الْكُلِّ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ كَامِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَبِيرَ هُنَاكَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْإِمَامُ هُوَ الْوَلِيُّ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 176 لِلْإِمَامِ، فَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي وَصِيِّ الْأَبِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّغِيرِ مَعْتُوهٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ وَصِيَّ الْأَبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مَعَ الْكِبَارِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَرَادَ بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَصِيٌّ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَصِيٌّ، فَهُوَ أَوْلَى أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَيْسَ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. وَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الصَّغِيرِ عَمْدًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ وَأَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَرْشِ الْيَدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَلَا أَنْ يَعْفُوَ وَفِي الصُّلْحِ رِوَايَتَانِ، وَكَذَا لَوْ قُتِلَ عَبْدُ الصَّغِيرِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقِيَ وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الثَّابِتَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَبِ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْقِيمَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ تَمَامُ حَقِّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. فَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا فَأَقَامَ أَخُوهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَإِنِّي لَا أُعَجِّلُ بِقَتْلِهِ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقَاتِلُ وَأَبْلَوْا فِيهِ عُذْرًا لِأَعْلَمَ مِصْدَاقَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ إذَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ قَبَضَهَا مِنْهُ دَرَأَتْ الْقِصَاصَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى الصُّلْحَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ بَنَى الْقِصَاصَ وَأَنْكَرَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَيُقْبَلُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْنُ وَأَنْكَرَ الصُّلْحَ كَلَّفْتُ الْقَاتِلَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الصُّلْحِ وَلَا أُجْبِرُ الْبَيِّنَةَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْأَخِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الِابْنِ فِي حَقِّ الصُّلْحِ فَلَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ الصُّلْحِ وَقُبِلَتْ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ صَالَحَ أَخَاهُ الْغَائِبَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَجَزْت ذَلِكَ وَلَا أُكَلِّفُهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْقِصَاصِ، فَالْبَيِّنَةُ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فَيَتَضَمَّنُ النَّفَاذَ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ أَمَّا الْأَخُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ. وَإِذَا ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَمَ أَبِيهِ عَلَى رَجُلٍ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 177 وَأَخُوهُ غَائِبٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ وَأَحْبِسُ الْقَاتِلَ، فَإِذَا قَدِمَ أَخُوهُ كَلَّفَهُمْ جَمِيعًا أَنْ يُعِيدُوا الْبَيِّنَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُكَلِّفُهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَمٍ خَطَإٍ لَمْ يُكَلَّفُوا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْحَاضِرَ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِتَوَهُّمِ الْعَفْوِ مِنْهُ لَهُمَا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ وَيُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الْجَارِحِ صَحَّ وَانْقَلَبَ مَالًا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صُلْحِ الْغَائِبِ، أَوْ عَفْوِهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ لَمَا قُبِلَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ فَأَقَامَ الْوَاحِدُ مُقَامَ الْجَمِيعِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ قَائِمَةً عَلَى الْخَصْمِ فَلَا يُكَلَّفُ إعَادَتَهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَقُومُ مُقَامَ الْكُلِّ فِيمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الِاحْتِيَاطِ اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَاجِبًا وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِلِاسْتِقْصَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا ادَّعَى الْعَفْوَ وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَيَّامًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إقَامَتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ بِالْقِصَاصِ وَيَتَأَنَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَكِيلِ الْقَاتِلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَلْحَقَ هَذَا بِالْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى إنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إقَامَتِهَا فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْمَيِّتِ لِمَا ذُكِرَ وَبَيَانُ أَنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ لَوْ عَفَوْا عَنْ الْجَارِحِ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ جَازَ عَفْوُهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أُبْرِئَ عَنْ الدَّيْنِ فِي حَيَاتِهِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ، وَالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْقِصَاصُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُورِثِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ ثَابِتٌ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَجْعَلُهُ كَالْمَوْرُوثِ وَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ تَجْعَلُهُ كَالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْمَالُ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ لِلْوَرَثَةِ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا تَفَرَّغَ عَنْ حَاجَتِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ كُلُّ وَارِثٍ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ، وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ لَيْسَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيظِ بِدَلِيلِ قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 178 وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَلَوْ حَضَرَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ وَقُضِيَتْ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كَلَّفَهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْ الْحَاضِرِ كَمَا لَوْ عَفَا الْوَرَثَةُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلِينَ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا الْحَاضِرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ يَهْرُبُونَ عَادَةً فَقَلَّ مَا يُظْفَرُ بِهِمْ جَمِيعًا فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ غَيْبَةِ مَنْ غَابَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ، وَالْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْحَقِّ (أَرَأَيْت) لَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ فُقِدَ فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى أَثَرِهِ أَكَانَ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ حُجَّةٌ يَدْرَأُ بِهَا الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ حُجَّةٍ تُقْبَلُ مِنْ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ إلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ مِنْ الْحَاضِرِ لَوْ أَقَامَهَا. وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ أَقَامَا شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمَا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَقَتَلَاهُ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَالَ: قَدْ شَهِدْت الشُّهُودُ بِالزُّورِ وَأَبُونَا حَيٌّ غَرَّمْته نِصْفَ الدِّيَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا تَعَمَّدَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّمَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا قُضِيَ بِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ قَضَاءُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَ مَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَصِيرُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: إنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِشُبْهَةٍ، وَالْقَتْلُ بِشُبْهَةٍ يُوجِبُ الْمَالَ دُونَ الْقِصَاصِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِنَاءً عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْقَوَدِ وَهَذَا قَضَاءٌ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مُبِيحًا لَهُمَا الْقَتْلَ فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَطَاهِرُهُ يُورِثُ شُبْهَةً وَهَذَا الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً مُبِيحًا فَظَاهِرُهُ يُمَكِّنُ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تُؤَثِّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا هُنَاكَ لَا تُبِيحُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَكَذَلِكَ ظَاهِرُهُ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 179 لَا يُورِثُ شُبْهَةً، ثُمَّ الْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْقَضَاءِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا لَمَّا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ هُنَاكَ فَأَمَّا هُنَا، فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ صُورَةُ الْقَضَاءِ شُبْهَةً. وَيَتَّضِحُ كَلَامُنَا فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ وَجَحَدَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْقَتْلَ، وَالْجَاحِدُ مِنْهُمَا مُحِقٌّ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى فِي التَّأْثِيرِ مِنْ الْخَاطِئِ إذَا شَارَكَ الْعَامِدَ فِي الْقَتْلِ وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُنَا أَوْلَى، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ قَتَلَ الْقَاتِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُمَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرَّ هُوَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّ الْأَبَ حَيٌّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِ شُبْهَةُ قَضَاءٍ مَانِعٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْآخَرَ قَالَ: قَدْ كُنْتُ عَفَوْتُ، أَوْ كُنْت أُرِيدُ أَنْ أَعْفُوَ، أَوْ كُنْتُ صَالَحْتُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى أَخِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَاره بِذَلِكَ حِينَئِذٍ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَذِبًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَنَّهُ يُلْزِمُهُ شَيْئًا بِقَوْلٍ قَالَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَخِيهِ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكَةِ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا بَعْدَ مَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَهُمَا عَلَى الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ قَدْ وَجَبَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقَوَدِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْقَوَدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ وَفِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ اسْتِيفَاءٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُ فِعْلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَبَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِإِقْرَارِ أَخِيهِ، فَإِنْ أَقَامَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَالَحَ عَلَى كَذَا قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ، أَوْ كَانَ عَفَا أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا مَنْ هُوَ خَصْمٌ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ، ثُمَّ الْقَاتِلُ يَكُونُ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصُلْحِ أَخِيهِ وَعَفْوِهِ وَيَجِبُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ أَخِيهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 180 النِّصْفُ قِصَاصًا، فَإِنْ كَانَ قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ، أَوْ صُلْحِهِ وَبَعْدَ مَا عَلِمَ بِأَنَّ الدَّمَ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ انْقَلَبَ مَالًا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ الْقَتْلِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ عَمْدًا وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ فِي مَالِهِمَا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ حِينَ رَجَعَا لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا بَاشَرَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْجَآ الْقَاضِيَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُلْجِئُ مُبَاشِرٌ حُكْمًا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِمَا عِنْدَكُمْ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّاهِدَ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ، وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُبَاشِرَ هُوَ الْوَالِي، وَهُوَ طَائِعٌ مُخْتَارٌ فِي هَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُبَاشِرٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَخَافُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَبِهِ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً إلَى ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ شَرْعًا وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً عَلَى الشُّهُودِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يُقِيمُ الطَّاعَةَ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُكْرَهًا، ثُمَّ إنْ وُجِدَ هَذَا الْإِلْجَاءُ فِي حَقِّ الْقَاضِي فَبِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ مَا صَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مَقْتُولًا، وَإِنَّمَا صَارَ مَقْتُولًا بِاسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ شَرْعًا وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً عَلَى الشُّهُودِ، بَلْ إنَّمَا تَجِبُ مُخَفَّفَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ إلَّا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْحَافِرِ الْبِئْرَ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ أَنَّ الشَّاهِدَ مُبَاشِرٌ حُكْمًا. فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَاشِرَ حَقِيقَةً هَاهُنَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ لِشُبْهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَالْمُبَاشِرُ حُكْمًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، فَقَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ عَلَيْهِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ إنْ رَجَعَا، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 181 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِإِتْلَافِ نِصْفِ النَّفْسِ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا، أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ لِلنَّفْسِ حَقِيقَةً، وَالشُّهُودُ مُتْلِفُونَ لَهُ حُكْمًا، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ الدِّيَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُضَمِّنُ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ثَبَتَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَلِيِّ بِمَا ضَمِنَا؛ لِأَنَّهُمَا ضَمِنَا بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ كَانَا عَامِلَيْنِ فِيهِ لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُمَا مِنْ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوَبِالْمَالِ فَقَضَى الْقَاضِي وَاسْتَوْفَى الْمَشْهُودَ لَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا وَضَمَّنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الشَّاهِدَيْنِ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَا يُقَالُ هُنَاكَ قَدْ مَلَكَ الْمَقْبُوضُ بِالضَّمَانِ وَهَاهُنَا لَمْ يَمْلِكَاهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُمَلَّكُ بِالضَّمَانِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ هُوَ الْقِصَاص وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا بَعْدَ، فَقَدْ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَغَصَبَهُ آخَرُ مِنْهُ، ثُمَّ ضَمِنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ بِالضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا يُمَلَّكُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُ بَدَلٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْتَمَلُ التَّمْلِيكِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مُعْتَبَرًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ عِنْدَنَا لِتَعَذُّرِ أَعْمَالَهُ فِي الْأَصْلِ كَالْيَمِينِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ فِي بَلَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْبِرُّ مُتَوَهِّمَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى هَذَا غَاصِبٌ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ مَمْلُوكٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ لِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي. وَكَذَا شُهُودُ الْكِتَابَةِ إذَا رَجَعُوا وَضَمَّنَهُمْ الْوَلِيُّ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُكَاتَبُ مَمْلُوكًا رَقَبَةً لِلْمُكَاتَبِ انْعَقَدَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي بَدَلٍ، وَهُوَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الشُّهُودُ ضَمِنُوا لِإِتْلَافِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَالْوَلِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتْلِفِينَ مَا كَانُوا ضَامِنِينَ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّبَبِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ إنْسَانٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ فِي الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ دَفَعَهُ غَيْرُهُ حَتَّى وَقَعَ فِيهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ وَهَاهُنَا لَمَّا ضَمِنَ الشُّهُودُ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُنَاةٌ مُتْلِفُونَ لِلنَّفْسِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ تَمَامُ ذَلِكَ الْإِتْلَافِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 182 الْوَلِيِّ فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، وَمَنْ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ عَلَى النَّفْسِ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ فَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَإِنَّمَا رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَقْبُوضِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُسْتَوْفِي بِصَرْفِهِ إلَى حَاجَتِهِ وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ بِالْمَالِ قَوْلُهُمَا إنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُجْعَلُ هُوَ قَائِمًا مُقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ قُلْنَا هَذَا أَنْ لَوْ بَقِيَ حَقُّ مَنْ ضَمِنَهُ قَبْلَ الْوَلِيِّ وَاخْتِيَارِهِ فَتَضْمِينُ الشَّاهِدِ إبْرَاءٌ مِنْهُ لِلْوَلِيِّ فَكَيْفَ يَقُومُ الشَّاهِدُ مُقَامَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ قُلْنَا هَذَا أَنْ لَوْ كُنَّا فِي الْأَصْلِ نَتَوَهَّمُ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ، وَلَيْسَ فِي الْقِصَاصِ تَوَهُّمُ الْمِلْكِ بِالضَّمَانِ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بِاعْتِبَارِ الْحَلِفِ كَيَمِينِ الْغَمُوسِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مِلْكًا لَهُمَا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِمَا كَمَا إذَا شَهِدَا عَلَى الْوَلِيِّ بِالْعَفْوِ وَقَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ فَلَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ قَبْلَ الضَّمَانِ وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً، وَإِذَا كَانَ الْمُتْلِفُ لِلْقِصَاصِ لَا يَضْمَنُهُ لِلْمَالِكِ، فَكَيْف يَضْمَنُهُ لِمَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ؟ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ غَصْبِ الْمُدَبَّرِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَ مَالِكًا حَقِيقَةً لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا جُعِلَ كَالْمَالِكِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ انْعِقَادِ السَّبَبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَدَلِ لِذَلِكَ. وَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ دُونَ الْوَلِيِّ فَقَالَ الْوَلِيُّ أَنَا أَجِيءُ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَتَلَ الْقَاتِلَ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى دَعْوَاهُ وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَتِيلُ فَلَوْ قُبِلَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُقْبَلُ لِإِسْقَاطِ ضَمَانِ الدِّيَةِ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ وَهُمَا لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ، بَلْ يُكَذَّبَانِ الشَّاهِدَيْنِ وَيُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالدِّيَةِ لِنِسْبَتِهِمْ لِلْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الدَّمِ مَعَ آخَرَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ عَبْدًا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ لِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا لِإِثْبَاتِ مِلْكٍ، أَوْ حَقٍّ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى إبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُقْبَلُ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهَذَا لَا يَصِيرُ رَاجِعًا، فَقَدْ يَكُونُ هُوَ مُحِقًّا فِي شَهَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْدًا، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى شَهَادَتِهِ مُنْكِرٌ لِمَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الْمُدَّعِي فَيَصِيرُ بِهِ عَبْدًا لَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي، فَإِذَا قُبِلَتْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَكُونُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ وَقَعَ الضَّمَانُ لَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي الْقَتْلِ، وَأَنَّمَا ظَهَرَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 183 أَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ، وَالْوَلِيُّ، وَلَكِنْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَلِيِّ، وَالشُّهُودِ وَيُتَخَيَّرُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ فِي ذَلِكَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي مَالِهِمْ إذَا رَجَعُوا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِالِاعْتِرَافِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَلَمْ يَقْتُلْ حَتَّى رَجَعَا اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أَدْرَأَ الْقِصَاصَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَتِمُّ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ، وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ كَالْمَالِ، وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْوَطْءِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِصَاصِ يُحْتَاطُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحُدُودِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْحُدُودِ لَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ وَيَجْعَلُ رُجُوعَ الشُّهُودِ مَعَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يَنْعَقِدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهَاهُنَا مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مِنْ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَأَصْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَى حُجَّةٌ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِغَيْرِ صُلْحٍ فَهِيَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ وَتَقَوُّمُ الدَّمِ بِالْمَالِ ثَابِتٌ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قَوَّمَهُ الشَّرْعُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ فَكَمَا لَا يُزَادُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا يُزَادُ فِي صِفَتِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَالًّا. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدَّمِ فَاقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ، ثُمَّ قَالَا: أَخْطَأْنَا إنَّمَا الْقَاتِلُ هَذَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْقَتْلِ وَغَرِمَا الدِّيَةَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا - رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي فِي السَّرِقَةِ. وَلَوْ شَهِدَا بِدَمٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَقُتِلَا بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ دِيَةِ الْآخَرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ شَهَادَتِهِ فِيهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَنْ يُقَوِّمُ بِهِ نِصْفَ الْحَقِّ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ نِصْفُ دِيَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَادَّعَى عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ وَسَأَلُوا يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ لَمْ يُقْبَلْ فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فَكَانَتْ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةً مِنْهُمْ، وَإِنْ رَجَعَ الشَّاهِدُ فَلَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَمَاتَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ حَالًا لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ عَنْ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 184 كَانَ الرُّجُوعُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ بَيَّنَ، بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ - رُجُوعَهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالدِّيَةِ، وَالْمَرِيضُ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى دَمٍ عَمْدٍ وَلَهُمَا عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْقَوَدَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الدَّمِ، فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنَا الدِّيَةَ وَيَقْبِضَانِ دَيْنَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى ذَلِكَ حَاصَّهُمْ فِيهِ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَقْتُولِ قِصَاصًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ لَهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالدِّيَةُ عِنْدَ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَيْهِمَا لِلْمَقْتُولِ قِصَاصًا فَكَيْفَ يَسْتَوْفِيَانِ دَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُمَا عَلَى الْمَقْتُولِ قِصَاصًا فَبَدَلُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَدَيْنُهُ يُقْضَى مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَمَرَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ أَنْ يَقْتُلَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ هَدَرٌ فِيمَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَبَقِيَ مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ مِنْ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ. وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ صَبِيًّا فَقَتَلَ رَجُلًا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ جَانٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ الصَّبِيَّ وَأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ فَثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ أَمْرُهُ قَوْلٌ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ بِقَوْلِهِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ قُلْت مُتَمَثِّلًا نَعَمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ خَبَرًا مُحْتَمِلًا الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ؛ لِيَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فَلَا تَرَدُّدَ فِي كَوْنِهِ تَسَبُّبًا وَاسْتِعْمَالًا، وَإِذَا ثَبَتَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ الْحُكْمُ. وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ صَبِيًّا عَصًا، أَوْ سِلَاحًا يُمْسِكُهُ لَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِيهِ بِشَيْءٍ فَعَطِبَ الصَّبِيُّ بِذَلِكَ بِأَنْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَوَقَعَ عَلَى رِجْلِهِ فَمَاتَ فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي اسْتِعْمَالِ الصَّبِيِّ فِي إمْسَاكِ مَا دَفَعَ إلَيْهِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، أَوْ قَتَلَ رَجُلًا لَمْ يَضْمَنْ الدَّافِعُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِاسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِإِمْسَاكِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ عَلَى رِجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّةَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 185 حَصَلَ الْهَلَاكُ لَا بِمُبَاشَرَتِهِ، بَلْ بِإِمْسَاكِهِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ دَفْعِ الدَّافِعِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي الدَّفْعِ فَيَضْمَنُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَحَدَثَ مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ بِاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسْبِيبِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّسْبِيبِ وَهَذِهِ الْمُبَاشَرَةُ لَيْسَتْ حُكْمَ ذَلِكَ التَّسْبِيبِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالْقَتْلِ حُكْمًا. ، وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ فَذَهَبَ بِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إنْ قُتِلَ أَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ حَائِطٍ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَالصَّبِيُّ الْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ أَصَابَتْهُ حُمَّى فَمَاتَ، أَوْ مَرِضَ فَمَاتَ أَوْ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مُكَاتَبًا صَغِيرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا، فَالْحُرُّ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ أُمَّ الْوَلَدِ بِالْغَصْبِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِرِقِّهَا قِيمَةُ فَلَأَنْ لَا يَضْمَنُ الْحُرُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَ أَوْلَى. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي سَبَبٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَزَالَ يَدَ حَافِظِهِ عَنْهُ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ وَلَمْ يَقُمْ بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ مُسَبِّبًا لِإِتْلَافِهِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ إزَالَةِ يَدِ حَافِظِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنْ لَمْ يَقُمْ بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِأَمْرٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ الْحِفْظَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِإِزَالَةِ حَافِظِهِ عَنْهُ فَأَمَّا التَّرَدِّي مِنْ الْحَائِطِ وَنَهْشُ الْحَيَّةِ وَإِصَابَةُ الْحَجَرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ تَسْبِيبًا كَانَ، أَوْ مُبَاشَرَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، فَهُوَ بِفِعْلِهِ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَبِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَقُومُ بِحِفْظِ نَفْسِهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ جَانِيًا بِإِزَالَةِ الْحِفْظِ عَنْهَا؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ نَقْصَهَا وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ رَجُلًا فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُ أَنْشَأَ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْعَاقِلَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ عَادَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ. وَإِذَا حَمَلَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 186 الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ عَلَى دَابَّةٍ فَقَالَ لَهُ أَمْسِكْهَا لِي، وَلَيْسَ بِيَدِهِ حَبْلٌ فَسَقَطَ عَنْ الدَّابَّةِ فَمَاتَ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ حِينَ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسْبِيبِهِ، فَإِذَا تَلِفَ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَرْكَبُ، أَوْ لَا يَرْكَبُ، فَإِنْ سَارَ الصَّبِيُّ عَلَى الدَّابَّةِ فَأَوْطَأَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلرَّجُلِ بِدَابَّتِهِ حِينَ أَوْطَأَهَا إيَّاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ السَّيْرَ بِاخْتِيَارِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِصِغَرِهِ وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَدَمُ الْقَتِيلِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَلِتَةِ فَإِنَّهَا سَارَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَيِّرَهَا أَحَدٌ وَالدَّابَّةُ الْمُنْفَلِتَةُ إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَدَمُهُ هَدَرٌ وَهَذَا الَّذِي حَمَلَ الصَّبِيَّ عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ يُسَيِّرْهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ قَائِدًا لِلدَّابَّةِ وَلَا سَائِقًا، وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسَيِّرًا لِلدَّابَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَمَلَ الرَّجُلُ مَعَهُ الصَّبِيَّ عَلَى الدَّابَّةِ وَمِثْلُهُ لَا يُصَرِّفُهَا وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ الدَّابَّةُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَيِّرُ لِلدَّابَّةِ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يُجْعَلُ مُتْلِفًا لِمَا أَوْطَأَ بِدَابَّتِهِ مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ إنَّمَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ يُصَرِّفُ الدَّابَّةَ وَيَسِيرُ عَلَيْهَا، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَيِّرٌ لِلدَّابَّةِ هَاهُنَا فَكَانَا جَانِيَيْنِ عَلَى الرَّجُلِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ بِيَدِهِ، وَالرَّجُلُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَلَوْ سَقَطَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَامِلَ الصَّبِيِّ عَلَى الدَّابَّةِ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ إذَا سَقَطَ سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُهُ بَعْدَ مَا سَيَّرَ الدَّابَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُسَيِّرَهَا وَكَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا. وَإِذَا حَمَلَ الْعَبْدُ صَبِيًّا حُرًّا عَلَى دَابَّةٍ فَوَقَعَ الصَّبِيُّ عَنْهَا فَمَاتَ فَدِيَتُهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ يُدْفَعُ بِهِ، أَوْ يُفْدَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَبِّبًا لِهَلَاكِهِ، وَالْعَبْدُ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ تَسَبُّبًا كَانَ أَوَمُبَاشَرَةً، وَمُوجَبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَسَارَا عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَمَاتَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُهَا يُدْفَعُ بِهِ، أَوْ يُفْدَى؛ لِأَنَّهُمَا جَانِيَانِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبُ جِنَايَتِهِ وَيُجْعَلُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَإِذَا حَمَلَ الْحُرُّ الْكَبِيرُ الْعَبْدَ الصَّغِيرَ عَلَى الدَّابَّةِ وَمِثْلُهُ يُصَرِّفُهَا وَيَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا فَأَوْطَأَ إنْسَانًا فَذَلِكَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 187 فِي عُنُقُ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ بِهِ مَوْلَاهُ أَوَيَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ وَيَرْجِعُ مَوْلَاهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الْأَرْشِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا لَهُ وَيَبْقَى حُكْمُ غَصْبِهِ مَا بَقِيَ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا جُنِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ غَصَبَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ هُنَاكَ حُرٌّ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ لَا يُصَرِّفُ الدَّابَّةَ وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهِمَا فَسَارَتْ الدَّابَّةُ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ بِقَائِدٍ لِلدَّابَّةِ وَلَا سَائِقٍ لَهَا، وَإِنَّمَا هَذِهِ دَابَّةٌ مُنْفَلِتَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً حَيْثُ أَوْقَفَهَا وَلَمْ تَسِرْ حَتَّى ضَرَبَتْ رَجُلًا بِيَدِهَا، أَوْ رِجْلِهَا، أَوْ بِذَنَبِهَا، أَوْ كَدَمَتْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ حِينَ كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى الَّذِي أَوْقَفَهَا الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِهِ فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي مِلْكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ جِنَايَة الرَّاكِب.] (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ أَيْ الدَّوَابُّ كَانَتْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ وَهِيَ تَسِيرُ فَقَتَلَتْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّيْرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْيِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَكُونُ حَقًّا لِلْجَمَاعَةِ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِيفَاؤُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ إنَّمَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَيْدُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَرْءِ شَرْعًا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُسْعُ وَلِأَنَّا لَوْ شَرَطْنَا عَلَيْهِ السَّلَامَةَ عَمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْمَشْيِ، وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَلَ بِمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ لَوْ شَرْطنَا عَلَيْهِ صِفَةَ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِهِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: التَّحَرُّزُ عَنْ الْوَطْءِ عَلَى شَيْءٍ فِي وُسْعِ الرَّاكِبِ إذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ جَانِيًا وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهُ بِطَرِيقِ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 188 الْمُبَاشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ حِينَ كَانَ هُوَ عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي وَطِئَتْ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ نَفَحَتْهُ بِرِجْلِهَا وَهِيَ تَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرِّجْلُ جُبَارٌ» أَيْ هَدَرٌ. وَالْمُرَادُ نَفْحَةُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ وَهِيَ تَسِيرُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الرَّاكِبِ أَمَامَ الدَّابَّةِ لَا خَلْفَهَا، وَكَذَلِكَ النَّفْحَةُ بِالذَّنَبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَقَاسَ الَّذِي يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ بِاَلَّذِي أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا، أَوْ يَدِهَا فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِرٌّ بِالْمَارَّةِ وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ مَا أُعِدَّ لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي شَغْلِ الطَّرِيقِ بِمَا لَمْ يُعَدَّ الطَّرِيقُ لَهُ مُتَعَدِّيًا، وَالْمُتَعَدِّي فِي التَّسَبُّبِ يَكُونُ ضَامِنًا؛ فَلِهَذَا يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ النَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ، وَالذَّنَبِ، فَهُوَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ السَّيْرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَيَسْتَعِينُ بِالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ السَّيْرِ جِنَايَةً قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَاشِيَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَالِسِ، وَالنَّائِمِ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ كَدَمَتْ، أَوْ صَدَمَتْ، أَوْ خَبَطَتْ، أَوْ ضَرَبَتْ بِيَدِهَا إنْسَانًا، وَهُوَ يَسِيرُ عَلَيْهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَتْ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَلَا تَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَإِنْ ضَرَبَتْ بِحَافِرِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً، أَوْ حَجَرًا، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَهِيَ تَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التُّرَابِ، وَالْغُبَارِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ سَنَابِكِهَا إذَا فَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَرًا كَبِيرًا فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَنْبَعِثُ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ بِخَرْقٍ مِنْهُ فِي السَّيْرِ. وَلَوْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي السَّيْرِ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَتْ لِتَبُولَ، أَوْ لِتَرُوثَ؛ لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَقِفَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ اللُّعَابُ يَخْرُجُ مِنْ فِيهَا وَلَوْ وَقَعَ سَرْجُهَا أَوْ لِجَامُهَا، أَوْ شَيْءٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا مِنْ أَدَاتِهَا، أَوْ مَتَاعِ الرَّجُلِ الَّذِي مَعَهُ يَحْمِلُهُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فِي السَّيْرِ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الجزء: 26 ¦ الصفحة: 189 لِأَنَّهُ لَمْ يَشُدَّ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يُحْكِمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ بِيَدِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَطِبَ بِهِ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ عَثَرَ بِهِ، أَوْ تَعَقَّلَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَضَعَهُ بِيَدِهِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبُ، وَالرَّدِيفُ، وَالسَّائِقُ، وَالْقَائِدِ فِي الضَّمَانِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يُسَيِّرُونَهَا وَيُصَرِّفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى السَّائِقِ، وَالْقَائِدِ فِيمَا وَطِئَتْ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ لِلْقَتْلِ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا الرَّاكِبُ، وَالْمُرْتَدِفُ فَمُبَاشِرَانِ الْقَتْلَ بِفِعْلِهَا فَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ. وَإِذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَمَا أَصَابَتْ بِيَدِ، أَوْ رِجْلٍ، أَوْ ذَنَبٍ، أَوْ كَدَمَتْ، أَوْ سَالَ مِنْ عِرْقِهَا، أَوْ لُعَابِهَا عَلَى الطَّرِيقِ فَزَلِقَ بِهِ إنْسَانٌ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ خُصُوصًا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْمَارِّ، وَلَكِنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَإِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَمَا أَصَابَتْ فِي وَجْهِهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ كَمَا يَضْمَنُ الَّذِي سَارَ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِ إرْسَالِهِ، فَإِذَا عَدَّتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالَتِهَا أَنْشَأَتْ سَيْرًا آخَرَ بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِي أَحْدَثَتْ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَيَّرَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَسِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَكَانَ هُوَ سَائِقًا لَهَا وَوَقَفَتْ، ثُمَّ سَارَتْ فِيهِ بَرِئَ الرَّجُلُ مِنْ الضَّمَانِ إذًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَقَفَتْ، فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ إرْسَالِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَيْرًا بِاخْتِيَارِهَا فَهِيَ كَالْمُنْفَلِتَةِ، فَإِنْ رَدَّهَا فَاَلَّذِي رَدَّهَا ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي رَدَّهَا فِيهِ، وَإِذَا حَلَّ عَنْهَا وَأَوْقَفَهَا، ثُمَّ سَارَتْ هِيَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْقَطَعَ بِمَا أَنْشَأَتْ مِنْ السَّيْرِ بِاخْتِيَارِهَا. قَالَ: وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَوَقَعَا جَمِيعًا فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ صَاحِبِهِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الِاصْطِدَامَ فِعْلٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَإِنَّمَا وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقُوَّتِهِ وَقُوَّةِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصْطَدِمَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ لِصَاحِبِهِ فَكَأَنَّهُ أَوْقَعَهُ عَنْ الدَّابَّةِ بِيَدِهِ وَهَذَا الجزء: 26 ¦ الصفحة: 190 لِأَنَّ دَفْعَ صَاحِبِهِ إيَّاهُ عِلَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ لِإِتْلَافِهِ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا قُوَّةُ الْمُصْطَدِمِ فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مُعَارِضَةً لِدَفْعِ الصَّادِمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَوْلَا مَشْيُهُ وَثِقَلُهُ فِي نَفْسِهِ لَمَا هَوَى فِي الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إنْسَانٌ غَيْرَهُ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَوْلَا حَفْرُهُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمَا أَتْلَفَهُ بِدَفْعِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا: لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَجَاذَبَا حَبْلًا فَانْقَطَعَ الْحَبْلُ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَإِنْ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ بِأَنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ بِجَذْبِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَفَاهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ عَلَى قَفَاهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِجَذْبِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِهِ، وَالْآخَرُ عَلَى قَفَاهُ فَدِيَةُ السَّاقِطِ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ وَلَوْ قَطَعَ إنْسَانٌ الْحَبْلَ بَيْنَهُمَا فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَفَاهُ وَمَاتَ فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ لِلْحَبْلِ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ أَبِيهِ فَجَذَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَاذِبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ فِي إمْسَاكِهِ، وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَجَاذَبَا صَبِيًّا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيه ابْنَهُ فَيَكُونُ هُوَ مُحِقًّا فِي إمْسَاكِهِ، وَالْآخَرُ مُتَعَدِّيًا فِي جَذْبِهِ وَلَوْ جَذَبَ ثَوْبًا مِنْ يَدِ إنْسَانٍ، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ جَذْبِهِمَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الثَّوْبِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِيه الْإِمْسَاكُ بِالْيَدِ وَمَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَذْبِ فَيُجْعَلُ التَّخْرِيقُ مُحَالًا بِهِ عَلَى فِعْلِهِمَا جَمِيعًا. وَلَوْ عَضَّ ذِرَاعَ إنْسَانٍ فَنَزَعَ ذِرَاعَهُ مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ، فَهُوَ هَدَرٌ وَلَوْ انْقَطَعَ لَحْمُ صَاحِبِ الذِّرَاعِ فَأَرْشُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاضِّ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى جَذْبِ الذِّرَاعِ مِنْ فِيهِ فَإِنَّ الْعَضَّ يُؤْلِمُهُ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَلَمِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُحِقًّا فِي الْجَذْبِ، وَالْآخَرُ مُتَعَدِّيًا فِي الْعَضِّ. وَلَوْ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ فَجَذَبَ صَاحِبُ الْيَدِ يَدَهُ فَعَطِبَتْ يَدُهُ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ بِيَدِهِ لِيُصَافِحَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْجَاذِبَ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَا صَنَعَ فَيَكُونُ هُوَ الْجَانِي عَلَى يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ يَدَهُ؛ لِيَعْصِرَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ؛ لِأَنَّ الْجَاذِبَ مُحْتَاجٌ إلَى الْجَذْبِ لِدَفْعِ الْأَلَمِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ جَلَسَ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ فَقَامَ صَاحِبُهُ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ جَذْبِهِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَالِسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْجُلُوسِ عَلَى ذَيْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي اصْطِدَامِ الْفَارِسَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي اصْطِدَامِ الْمَاشِيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا، وَالْآخَرُ عَبْدًا فَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الجزء: 26 ¦ الصفحة: 191 عَاقِلَةِ الْحُرِّ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ قَاتِلًا لِصَاحِبِهِ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ قِيمَةُ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنْ تَلِفَ الْعَبْدُ الْجَانِي وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَكُونُ بَدَلُهُ لِوَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْحُرُّ. ، وَإِذَا أَوْقَفَ الرَّجُلُ دَابَّتَهُ فِي مِلْكِهِ فَمَا أَصَابَتْ بِيَدٍ، أَوْ رِجْلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوقِفَ دَابَّتَهُ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَيَسْتَوِي إنْ قَلَّ نَصِيبُهُ فِيهَا أَوْ كَثُرَ (أَرَأَيْت) لَوْ قَعَدَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ تَوَضَّأَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِوُضُوئِهِ أَكُنْتُ أُضَمِّنُهُ ذَلِكَ لَا أُضَمِّنُهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فَضَرَبَهَا، أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا، أَوْ بِذَيْلِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهَا، أَوْ كَبْحِهَا بِاللِّجَامِ فِي تَسْيِيرِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ النَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ، وَالذَّنَبِ وَلَوْ خَبَطَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، أَوْ كَدَمَتْ، أَوْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كَانَ يَمْلِكُهَا، أَوْ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ مُمْكِنٌ وَلَوْ سَقَطَ عَنْهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَقَتَلَتْ إنْسَانًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا مُنْفَلِتَةٌ فَاَلَّذِي سَقَطَ مِنْهَا لَيْسَ بِرَاكِبٍ وَلَا قَائِدٍ وَلَا سَائِقٍ، وَالْمُنْفَلِتَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ؛ لِأَنَّهَا عَجْمَاءُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَهِيَ الْمُنْفَلِتَةُ عِنْدَنَا. ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 192 [بَابُ النَّاخِسِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَنَخَسَهَا رَجُلٌ أَوْ ضَرَبَهَا فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ لِأَنَّ نَخْسَهُ جِنَايَةٌ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ جُبَارًا إذَا كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ مِنْ تِلْكَ النَّخْسَةِ فَقَتَلَتْهُ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ ذَلِكَ مِنْ نَخْسِهِ وَجِنَايَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَثَبَتَ مِنْ نَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَتْهُ أَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَتِهِ وَالْوَاقِفَةُ فِي ذَلِكَ وَاَلَّتِي تَسِيرُ سَوَاءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. قَالَ: وَلَوْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا وَهِيَ تَسِيرُ لِأَنَّ النَّفْحَةَ فِي حَالِ السَّيْرِ هَدَرٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا هَذَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إذَا كَانَ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَخَسَ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ وَالرَّاكِبِ سَائِقًا وَرَاكِبًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْفَوْرِ الَّذِي نَخَسَهَا فِيهِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْفَوْرُ كَمَا إذَا سَارَتْ سَاعَةً وَتَرَكَهَا مِنْ السَّوْقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ خَاصَّةً لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ قَدْ انْقَطَعَ وَبَقِيَ فِعْلُ الرَّاكِبِ. قَالَ: وَإِذَا نَخَسَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ وَلَهَا سَائِقٌ بِغَيْرِ إذْنِ السَّائِقِ فَنَفَحَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهَا قَائِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ وَإِنْ نَخَسَ بِإِذْنِ السَّائِقِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَائِدِ فَنَفَحَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّ النَّاخِسَ صَارَ سَائِقًا وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ جُبَارٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. قَالَ وَإِذَا قَادَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فَنَخَسَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَانْفَلَتَتْ مِنْ الْقَائِدِ ثُمَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 2 أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ لِأَنَّ حُكْمَ قَوَدِهِ قَدْ انْقَطَعَ وَصَارَ النَّاخِسُ جَانِيًا فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ النَّاخِسُ عَبْدًا فَجِنَايَةُ الدَّابَّةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ. وَإِنْ كَانَ النَّاخِسُ صَبِيًّا فَهُوَ كَالرَّجُلِ فِي أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ مَرَّتْ الدَّابَّةُ بِشَيْءٍ نُصِبَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَنَخَسَهَا ذَلِكَ الشَّيْءُ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَهُوَ عَلَى الَّذِي نَصَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصْبِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فِي الطَّرِيقِ فَكَانَ نَخْسُ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ نَخْسِ الَّذِي نَصَبَهُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَأَمَرَ عَبْدًا لِغَيْرِهِ فَنَخَسَ دَابَّتَهُ فَنَفَحَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ عَبْدًا كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُرًّا فَإِنْ وَطِئَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُهَا مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ صَارَ لِلْعَبْدِ غَاصِبًا بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فِي نَخْسِ الدَّابَّةِ فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِالسَّوْقِ أَوْ بِقَوْدِ الدَّابَّةِ. وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ عَبْدًا فَأَمَرَ عَبْدًا آخَرَ فَسَاقَ دَابَّتَهُ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالدِّيَةُ فِي أَعْنَاقِهِمَا نِصْفَيْنِ يُدْفَعَانِ بِهَا أَوْ يَفْدِيَانِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاكِبِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ إذَا كَانَ الرَّاكِبُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتَقَ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ بِالْقَوْلِ وَالْمَحْجُورُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ حَتَّى يُعْتَقَ وَإِذَا عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أَوْ مُكَاتَبًا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ فَكَذَلِكَ السَّائِقُ فِي الْحَالِ وَإِذَا أَقَادَ الرَّجُلُ قِطَارًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا وَطِئَ أَوَّلُ الْقِطَارِ وَآخِرُهُ فَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْقَائِدَ مُقَرِّبٌ مَا أَصَابَ بِالصَّدْمَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ السَّائِقُ مُقَرِّبٌ مِنْ ذَلِكَ وَمُشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ وَهَذَا لِأَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكُوبِ فَكَمَا أَنَّ الرَّاكِبَ يُجْعَلُ ضَامِنًا بِمَا تَلِفَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ الدَّابَّةَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي صَرْفِ الدَّابَّةِ بِسَوْقِهِ أَوْ بِقَوْدِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ لِلْإِبِلِ وَسَطَ الْقِطَارِ فَالضَّمَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الَّذِي هُوَ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ سَائِقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ الْإِبِلِ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَكُونُ أَحْيَانَا وَسَطَهَا وَأَحْيَانَا يَتَقَدَّمُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 3 وَأَحْيَانَا يَتَأَخَّرُ لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ سَائِقٌ لِلْقِطَارِ أَوْ قَائِدٌ. وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا وَسَطَ الْقِطَارِ عَلَى بَعِيرٍ وَلَا يَسُوقُ مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِمَّا تُصِيبُ الْإِبِلُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَائِقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ ثَقُلَ السَّوْقُ فِي الزَّجْرِ عَلَى الْإِبِلِ وَالضَّرْبُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الضَّمَانِ فِيمَا أَصَابَ الْبَعِيرُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ أَمَّا مَا فِي الْبَعِيرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ رَاكِبٌ وَالرَّاكِبُ شَرِيكُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ فِي الضَّمَانِ وَأَمَّا مَا خَلْفَهُ فَلِأَنَّهُ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مَا خَلْفَهُ زِمَامُهُ مَرْبُوطٌ بِبَعِيرِهِ وَمَشْيُ الْبَعِيرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ يُضَافُ إلَى الرَّاكِبِ فَيُجْعَلُ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَالْقَائِدِ لِمَا خَلْفَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا إذَا كَانَ زِمَامُ مَا خَلْفَهُ يَقُودُهُ بِيَدِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ نَائِمًا عَلَى بَعِيرِهِ أَوْ قَاعِدًا لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا يَكُونُ بِهِ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي حَقِّ مَا خَلْفَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ عَلَى بَعِيرِهِ. وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِبَعِيرٍ فَرَبَطَهُ إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ وَلَيْسَ مَعَهَا سَائِقٌ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا ضَمِنَ الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَائِدٌ لِذَلِكَ الْبَعِيرِ وَالْقَوْدُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَمَعَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الضَّمَانِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِجَهْلِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْقَائِدُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ الضَّمَانَ حِين رَبَطَ الْبَعِيرَ بِقِطَارِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ وَاقِعًا حِينَ رَبَطَهُ بِالْقِطَارِ ثُمَّ قَادَ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِقِطَارِهِ كَانَ هُوَ السَّبَبُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَيْهِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْقِطَارِ وَقَادَ الْقِطَارَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّابِطِ بِشَيْءٍ مِنْ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ لَمَّا قَادَ الْقِطَارَ فَقَدْ صَارَ ضَامِنًا بِفِعْلِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ رَبَطَ بِأَمْرِهِ. وَلَوْ سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا يَحْمِلُ الْإِبِلُ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ بِالطَّرِيقِ فَعَثَرَ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يَقُودُ الْإِبِلَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَشُدَّ الْحَمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِتَقْصِيرٍ كَانَ مِنْ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ فِي الشَّدِّ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ ذَلِكَ بِيَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ عَلَيْهِ وَلِمَنْ يَعْثُرُ بِهِ بَعْدَ مَا سَقَطَ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ رَجُلٌ أَوْ بُدٍّ كَانَ قَدْ بَنَاهُ رَجُلٌ أَوْ بِمَاءٍ قَدْ صَبَّهُ رَجُلٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إنْسَانٍ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الطَّرِيقَ مُعَدٌّ لِمُرُورِ النَّاسِ فِيهِ فَمَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 4 أَوْ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ فِيهِ يَكُونُ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ الْمُحْدِثُ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ عَلَى مَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الرَّاكِبِ قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّاكِبُ بِمَا أُحْدِثَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَسَيَّرَ الدَّابَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَصْدًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَى فِعْلِ الَّذِي أَحْدَثَ فِعْلٌ آخَرُ مِمَّنْ هُوَ مُخْتَارٌ فَيُفْسَخُ بِهِ حُكْمُ فِعْلِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا عَلَى الطَّرِيقِ فَزَحْزَحَهُ رَجُلٌ آخَرُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ مِنْ الطَّرِيقِ ثُمَّ عَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَلَوْ سَارَ عَلَى دَابَّتِهِ فِي مِلْكِهِ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَقَتَلَتْهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ فِيمَا أَوْطَأَتْ دَابَّتُهُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي مِلْكِهِ وَفِي غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَالرَّمْيِ فَإِنْ رَمَى فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ بِتَقْرِيبِ الدَّابَّةِ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَالْمُتَسَبِّبُ إنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسَبَبِهِ وَهُوَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي سَوْقِ الدَّابَّةِ وَلَا قَوْدِهَا فَهُوَ نَظِيرُ الْقَاعِدِ فِي مِلْكِهِ إذَا تَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ فِي الطَّرِيقِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَالرَّاكِبُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَتْ إنْسَانًا مِنْ أَهْلِهِ أَوْ أَجْنَبِيًّا دَخَلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ فِي دَارِ مُخَلَّى عَنْهُ أَوْ مَرْبُوطًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَلْبِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحِلَّهَا أَحَدٌ فَمَا أَصَابَتْ فَهُوَ عَلَى الَّذِي رَبَطَهَا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَفَتْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوطَةً فَذَلِكَ يَكُون مُضَافًا إلَى مَنْ رَبَطَهَا لِأَنَّ الرَّابِطَ يَعْلَمُ حِينَ رَبَطَهَا أَنَّهُ تَحَوَّلَ فِي رِبَاطِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَغْيِيرُهَا عَنْ حَالِهَا مُبْطِلًا الضَّمَانَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِالرِّبَاطِ كَمَا هِيَ إلَّا أَنْ يَحِلَّ الرِّبَاطَ وَتَذْهَبَ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَلِتَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَهِيمَةٍ مِنْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهِ إذَا أَوْقَفَهُ رَجُلٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ حُكْمًا ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ بِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ بَعْضَ الْهَوَامِّ عَلَى رَجُلٍ فَلَدَغَهُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ وَلَا يُقَالُ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةٌ وَهُوَ اللَّدْغُ مِنْ الْعَقْرَبِ أَوْ الْحَيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَالِحٍ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ حُكْمُ التَّسَبُّبِ الْمَوْجُودُ مِمَّنْ أَلْقَاهُ عَلَيْهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 5 بِمَنْزِلَةِ مَشْيِ الْمَاشِي وَفِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلسَّبَبِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْحَافِرِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ حَجَرًا أَوْ بَنَى فِيهِ بِنَاءً أَوْ أَخْرَجَ مِنْ حَائِطِهِ جِذْعًا أَوْ صَخْرَةً شَاخِصَةً فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ حِيَاضًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جِذْعًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِهَلَاكِ مَا تَلِفَ بِمَا أَحْدَثَهُ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنَّهُ أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ أَوْ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُمْ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمُتْلِفِ عَنْ الْهَدَرِ فَإِذَا أَمْكَنَ إيجَابُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي تَسْبِيبِهِ نُوجِبُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا جُعِلَ التَّسَبُّبُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَفَّارَةُ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ وَلَا مَقْتُولًا عِنْدَ إحْدَاثِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَلَعَلَّ الْمُحْدِثَ مَيِّتٌ عِنْدَ الْإِصَابَةِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَيِّتُ قَاتِلًا؟. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ الْقَاتِلِ وَالْقَتْلُ نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَفِي كُلِّ مَا يُتَصَوَّرُ الْعَمْدُ فِي جِنْسِهِ يُتَصَوَّرُ الْخَطَأِ أَيْضًا وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الْقَصْدِ إلَى اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ وَذَلِكَ فِي الْعَمْدِ لَا يُشْكِلُ وَفِي الْخَطَأِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الْكَفَّارَةُ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَالْخَطَأُ شَرْعًا يُبْنَى عَلَى الْخِطَابِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ وَحِرْمَانَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى مُورِثِهِ بِالْقِصَاصِ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثُ وَإِنْ رَجَعُوا لَا تَلْزَمُهُمْ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ لَا يَصِيرُ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ شُهُودُ الْقِصَاصِ لَا يُحْرَمُونَ الْمِيرَاثَ وَإِنْ رَجَعُوا لَا تَلْزَمُهُمْ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَهُمْ بِالشَّهَادَةِ مَا صَارُوا قَاتِلِينَ مُبَاشَرَةً فَإِنْ عَثَرَ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي الطَّرِيقِ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِمَنْ يَعْثُرُ بِمَا أَحْدَثَهُ فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِيَدِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَثَرَ بِهِ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 6 فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَدْفُوعُ كَالْآلَةِ وَإِذَا نَحَّى رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ آخَرُ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ وَقَدْ خَرَجَ الْأَوَّلُ مِنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْفَسَخَ بِفَرَاغِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شَغَلَهُ بِمَا أَحْدَثَ فِيهِ وَإِنَّمَا شُغِلَ بِفِعْلِ الثَّانِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ كَالْمُحْدِثِ لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ فِي الطَّرِيقِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعٍ كَنَسَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا إنَّمَا كَنَسَ الطَّرِيقَ لِكَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَارَّةُ وَلَا يُؤْذِيَهُمْ التُّرَابُ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا السَّبَبِ. وَلَوْ رَشَّ الطَّرِيقَ أَوْ تَوَضَّأَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ مَا أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ مَخَافَةَ أَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُهُمْ وَهَذَا كُلُّهُ فِي طَرِيقٍ هُوَ لِلْعَامَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَاَلَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ شَرِكَةً خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا أَحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. وَإِذَا أَشْرَع الرَّجُلُ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِوَضْعِ الْجَنَاحِ فَإِنَّ سِوَاءَ الطَّرِيقِ كَرَقَبَةِ الطَّرِيقِ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا يَكُونُ جَانِيًا وَبِالْبَيْعِ لَمْ يُنْسَخْ حُكْمُ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِعْ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَغَلَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فَبَقِيَ ضَامِنًا عَلَى حَالِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْجَنَاحَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ الْمِيزَابُ فَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ يُصْرَفَانِ فَإِنْ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَ ذَلِكَ الطَّرَفَ مِنْ الْمِيزَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِحْدَاثُ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْهُ مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ فَإِنَّهُ شَغَلَ بِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّهمَا أَصَابَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ لِأَنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ ثَابِتٌ يَقِينًا وَفِي الْإِشْغَالِ شَكٌّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ هُوَ ضَامِنٌ لِلْكُلِّ وَفِي حَالٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَحْوَالِ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ مَعْنَى النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَإِنْ سَقَطَ مِنْ عَمَلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ دُونَ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْإِمْسَاكِ فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا ذَلِكَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 7 فَيَكُونُونَ قَاتِلِينَ مُبَاشَرَةً فَلِيَلْزَمْهُمْ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمُونَ الْمِيرَاثَ وَإِنْ سَقَطَ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ فِيهِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كَالْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا إحْدَاثَ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الدَّارِ مَمْنُوعٌ مِنْ إحْدَاثِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا أَمَرَهُ فِي مَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ فَإِنَّهُ قَضَى بِالضَّمَانِ عَلَى مِثْلِهِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُونَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَارَ عَمَلُهُمْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ عَمَلُهُمْ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بَعْدَ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْدُثُ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ وَيُبَاحُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ إحْدَاثُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ إذَا كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لِكَوْنِ الْفِنَاءِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فَبِهَذَا اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ وَجُعِلَ هُوَ كَالْقَاتِلِ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ وَضَعَ سَاجَةً فِي الطَّرِيقِ أَوْ خَشَبَةً بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهَا لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي وَضْعِهَا فَمَا بَقِيَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَكَمَا أَنَّ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْخَشَبَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِوَضْعِهَا فِي الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ زَوَالُ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مِلْكِ قَوْمٍ أَشْرَعُوهُ فِي مِلْكِهِمْ فَلَا ضَمَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَشْرَعَهُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ يُرْفَعُ عَنْهُ بِحِصَّةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَمْلِكُ الْبِنَاءَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ رِضَا شُرَكَائِهِ فَهُوَ جَانٍ بِاعْتِبَارِ إرْضَائِهِمْ غَيْرُ جَانٍ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِهِ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَيُرْفَعُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتُهُ وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ فِيهِ أَوْ صَبَّ فِيهِ مَاءً أَوْ وَضَعَ مَتَاعًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ شَرْعًا فَيُسْتَحْسَنُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ ضَامِنًا بِهِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ. وَإِذَا وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ النَّارِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعً آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْيَوْمُ يَوْمَ رِيحٍ فَإِنْ كَانَ رِيحًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا حِين أَلْقَاهُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُنْسَخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي جَالَتْ بِرِبَاطِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ أَوْ وَهِيَ فَوَقَعَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَلَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 8 ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي الْوَضْعِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي مِثْلِ الْحَائِطِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِنَاءُ الْحَائِطِ مُسْتَوِيًا فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ فِي الْأَصْلِ مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَنْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي شَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِبِنَائِهِ وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا فَأَمَّا إذَا بِنَاهٍ مُسْتَوِيًا فَإِنَّمَا شَغَلَ بِبِنَائِهِ هَوَاءَ مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا مِنْهُ فَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى سَقَطَ وَأَصَابَ إنْسَانًا فَفِي الْقِيَاسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ وَالْإِشْهَادُ فِعْلُ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. لَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إيجَابَ الضَّمَانِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَهَذَا لِأَنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ قَدْ اُشْتُغِلَ بِحَائِطِهِ وَحِينَ قَدْ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فَقَدْ طُولِبَ بِالتَّفْرِيغِ وَالرَّدِّ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبٍ أَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطَالَبْ بِالتَّفْرِيغِ فَهُوَ نَظِيرُ الثَّوْبِ إذَا هَلَكَ فِي حِجْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَهُ صَاحِبُهُ بِالرَّدِّ ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِالْإِشْهَادِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِي هَدْمِ الْحَائِطِ فَالْمُطَالَبَةُ تَتَحَقَّقُ وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ احْتِيَاطًا حَتَّى إذَا جَحَدَ صَاحِبُ الْحَائِطِ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا التَّقَدُّمُ إلَيْهِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ شُرَكَاءُ وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَعِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ وَغَيْرُ مُطَالَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ وَلِكُلِّ أَحَدٍ حَقٌّ فِي الطَّرِيقِ فَيَنْفَرِدُ بِالْمُطَالَبَةِ بِتَفْرِيغِهِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إنَّ حَائِطَك هَذَا مَائِلٌ فَاهْدِمْهُ. وَذَكَر عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي وَمَعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ هَذَا الْحَائِطَ لَمَائِلٌ وَهُوَ لِعَامِرٍ وَلَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ أَنَّهُ عَامِرٌ فَقَالَ عَامِرٌ: مَا أَنْتَ بِاَلَّذِي يُفَارِقُنِي حَتَّى أَنْقُضَهُ فَبَعَثَ إلَى الْفَعَلَةِ فَنَقَضَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِشْهَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتِمُّ وَبَعْدَ الْإِشْهَادِ إنْ تَلِفَ بِالْحَائِطِ مَالٌ فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ وَإِنْ تَلِفَ بِهِ نَفْسٌ فَضَمَانُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ هَذَا دُونَ الْخَطَأِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِيهِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِي التَّقَدُّمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا التَّقَدُّمِ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهُوَ الْمَالُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 9 وَإِذَا بَاعَ الْحَائِطَ بَعْدَ مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ جَانِيًا بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَبِالْبَيْعِ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَانِيًا فِيهِ بِخِلَافِ الْجَنَاحِ فَهُنَاكَ كَانَ جَانِيًا بِأَصْلِ الْوَضْعِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِلْحَائِطِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى حُكْمُ الْإِشْهَادِ بَعْدَ - زَوَالِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْجَنَاحِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَائِطِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ فِي هَدْمِهِ فَحَالُهُ كَحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ شَهِدَ الْمُشْتَرِي فِي الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي هَدْمِهِ فَحَالُهُ كَحَالِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ تَفْرِيغَ الطَّرِيقِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ رَهْنًا فَتَقَدَّمَ إلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الرَّاهِنُ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ هَدْمِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ فِيهِ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إلَى الرَّاهِنِ فِيهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ إلَى الرَّاهِنِ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَيَسْتَرِدَّ الْحَائِطَ فَهَدَمَهُ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِيهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ إلَى السَّاكِنِ الدَّارَ فِي بَعْضِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ سَاكِنًا بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ النَّقْضِ وَإِنْ تَقَدَّمَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِهِ فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى أَبِ الصَّبِيِّ أَوْ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى سَقَطَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَضَمَانُهُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَقُومَانِ مَقَامَهُ وَيَمْلِكَانِ هَدْمَ الْحَائِطِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِمَا فِيهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّقَدُّمِ إلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثُمَّ هُمَا فِي تَرْكِ الْهَدْمِ يَعْمَلَانِ لِلصَّبِيِّ وَيَنْظُرَانِ لَهُ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَهُمَا. وَإِذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَائِطِ إلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بِنَائِهِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّقَدُّمُ إلَى الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِشْهَادُ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي تَرْكِهِ التَّفْرِيغَ بَعْدَ هَذَا وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنُضَمَّنُ هَذَا الَّذِي أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ نَصِيبِهِ مِمَّا أَصَابَ الْحَائِطَ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَطْلُبَ شُرَكَاءَهُ لِيَجْتَمِعُوا عَلَى هَدْمِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى جَمَاعَتِهِ يَتَعَذَّرُ عَادَةً فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي نَصِيبِهِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي هَذَا الْإِشْهَادِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ فِي التَّطَرُّقِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ سَوَاءٌ. وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ فِي الْحَائِطِ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ ثُمَّ الْحَائِطُ مِلْكُ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِاسْتِخْلَاصِهِ لِنَفْسِهِ فَيُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 10 إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْعَبْدِ فَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى وَإِنْ أَصَابَ مَالًا فَضَمَانُهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَيَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَوْلَى كَضَمَانِ النَّفْسِ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقُلْنَا: الْعَبْدُ بِالْتِزَامِ ضَمَانِ الْمَالِ كَالْحُرِّ فَإِنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ ذَلِكَ وَفِي الْتِزَامِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ هُوَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى. وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا فَوَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ فَهُوَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا يُحْدِثُهُ فِي مِلْكِهِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا أَوْ غَيْرَ مَائِلٍ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ وَضْعِ مَتَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ. وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مِنْ دَارِهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَأَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ أَوْ قَالُوا: لَا نَدْرِي هِيَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الشَّفِيعِ مِلْكَهُ كَانَ عَلَى الشَّفِيعِ إثْبَاتُ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي هَدْمِ الْحَائِطِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا مَاتَ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ عَلَيْهِ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالْبَيِّنَةِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ لَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْمُقِرُّ عَلَى الْغَيْرِ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُضَمِّنَهُ الدِّيَةَ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ تَرْكُ هَدْمِ الْحَائِطِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ جَنَاحٍ أَخْرَجَهُ فِي دَارِ فِي يَدِهِ إلَى الطَّرِيقِ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَقَالَتْ الْعَاقِلَةُ: لَيْسَتْ الدَّارُ لَهُ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْجَنَاحَ بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ وَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطٍ لَهُ مَائِلٌ أَوْ غَيْرِ مَائِلٍ سَقَطَ بِهِ الْحَائِطُ فَأَصَابَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالْحَائِطِ حِينَ سَقَطَ الْحَائِطُ وَسُقُوطُهُ عَلَى إنْسَانٍ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ الْحَائِطِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَلَوْ كَانَ هُوَ سَقَطَ مِنْ الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ الْحَائِطُ فَقَتَلَ إنْسَانًا كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ هُنَا بِالْحَائِطِ فَإِنَّ الْحَائِطَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَلَوْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 11 مَاتَ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ كَانَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي مَشْيِهِ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَنْ سُقُوطِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِدِيَةِ السَّاقِطِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْوُقُوفِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَسْفَلُ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْوُقُوفِ فِي مِلْكِهِ وَعَلَى الْأَعْلَى ضَمَانُ الْأَسْفَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ لِأَنَّ الْأَعْلَى مُبَاشِرٌ بِقَتْلِ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمِلْكُ وَغَيْرُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ تَعَقَّلَ فَسَقَطَ أَوْ نَامَ فَانْقَلَبَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِثِقَلِهِ فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِيَدِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ إلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَمِلْكُهُ وَغَيْرُ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ احْتَفَرَهَا فِي مِلْكِهِ وَفِيهَا إنْسَانٌ فَقَتَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَانَ ضَامِنًا لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ - بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ فِي الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الْبِئْرِ فِيمَا أَصَابَ السَّاقِطَ وَالْمَسْقُوطَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَافِرَ لِلْبِئْرِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِمَنْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ وَالسَّاقِطُ بِمَنْزِلَةِ الْمَدْفُوعِ. وَإِذَا شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ شَاهِدَانِ فَأَصَابَ الْحَائِطُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ أَبَاهُ أَوْ عَبْدًا لَهُ أَوْ مُكَاتَبًا لَهُ وَلَا شَاهِدَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ غَيْرُهُمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ هَذَا الَّذِي يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ نَفْعًا لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِي الْهَدْمِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَلَوْ شَهِدَ عَبْدَانِ أَوْ صَبِيَّانِ أَوْ كَافِرَانِ ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَدْرَكَ الصَّبِيَّانِ ثُمَّ وَقَعَ الْحَائِطُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّقُوطُ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَا أَوْ يُسْلِمَا أَوْ يُدْرِكَا ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ عِنْدَ ذَلِكَ مَحْضُ تَحَمُّلٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ. وَإِذَا شَهِدَ عَلَى اللَّقِيطِ فِي حَائِطِهِ ثُمَّ سَقَطَ فَقَتَلَ رَجُلًا فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ حَائِطِهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَقَطَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ فَتَكُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يُوَالِ أَحَدًا وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يُسْلِمُ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَهُوَ كَاللَّقِيطِ يَعْقِلُ عَنْهُمَا جِنَايَتَهُمَا بَيْتُ الْمَالِ وَمِيرَاثُهُمَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ عَلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ شَغَلَ هَوَاءَ مِلْكِهِمْ فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِمْ فَإِذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمْ صَحَّ التَّقَدُّمُ وَيَكُونُ هُوَ فِي تَرْكِهِ التَّفْرِيغَ بَعْدَ ذَلِكَ جَانِيًا وَكَذَلِكَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 12 الْعُلْوُ إذَا وَهِيَ فَتَقَدَّمَ أَهْلُ السُّفْلِ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْعُلْوِ وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ يَكُونُ أَعْلَاهُ لِرَجُلٍ وَأَسْفَلُهُ لِآخَرَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّقَدُّمُ إلَيْهِ هَاهُنَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ أَشْغَلَ بِالْحَائِطِ هَوَاءَ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ لَوْ أَخَّرَهُ أَيَّامًا أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَالتَّأْخِيرِ وَفِي الطَّرِيقِ لَوْ أَخَّرَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَبْرَأَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنُوبُ عَنْ الْعَامَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِمْ لَا فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ وَقَدْ صَحَّتْ الْمُطَالَبَةُ مِنْهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بِتَأْخِيرِهِ. وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمُوا فِيهِ إلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ سَقَطَ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّمَا يَضْمَنُ الَّذِي تُقُدِّمَ إلَيْهِ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَائِطُ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ إذَا وَهَيَا أَوْ مَالَا إلَى الطَّرِيقِ فَتُقُدِّمَ إلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ وَهَذَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْوَرَثَةِ إذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ بَعْضُهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَبَعْضُهُ عَلَى دَارِ قَوْمٍ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ أَهْلُ الدَّارِ فِيهِ فَسَقَطَ مَا فِي الطَّرِيقِ مِنْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَدَّمَ أَهْلُ الطَّرِيقِ إلَيْهِ فَسَقَطَ الْمَائِلُ إلَى الدَّارِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ حَائِطٌ وَاحِدٌ فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَى بَعْضِهِ فَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى جَمِيعِهِ وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَتَقَدُّمُهُ إلَيْهِ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ الْحَائِطِ فِيمَا مَالَ إلَى الدَّارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْمَالِكُ وَفِيمَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الدَّارِ فَتَقَدُّمُهُ صَحِيحٌ فِيمَا مَالَ مِنْهُ إلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا صَحَّ فِي بَعْضِهِ صَحَّ فِي كُلِّهِ وَإِذَا وَهَى بَعْضُ الْحَائِطِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ صَحِيحٌ غَيْرُ وَاهٍ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَسَقَطَ مَا وَهَى وَمَا لَمْ يَهِ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ حَائِطٌ وَاحِدٌ فَإِذَا وَهَى بَعْضُهُ وَهَى كُلُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَائِطًا طَوِيلًا بِحَيْثُ لَوْ وَهَى بَعْضُهُ لَمْ يَهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَتَفَرَّقَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ مَا أَصَابَ الْوَاهِي مِنْهُ وَلَا يَضْمَنُ مَا أَصَابَ الَّذِي لَمْ يَهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطَيْنِ وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ أَوْ الْوَاهِي دُونَ الْحَائِطِ الصَّحِيحِ فَإِذَا أَصَابَ الَّذِي لَمْ يَهِ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَيْهِ ضَمَانٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْهَدْمِ فِيهِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ سُفْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَعُلْوُهُ لِآخَرَ وَقَدْ وَهَى فَتَقَدَّمَ فِيهِ إلَيْهِمَا ثُمَّ سَقَطَ الْعُلْوُ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ لِأَنَّ الْعُلْوَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ بِالسُّفْلِ وَلَكِنَّهُ سَاقِطٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ صَحَّ التَّقَدُّمُ فِيهِ إلَى صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ صَاحِبُهُ كَالْمُتْلِفِ لِمَا سَقَطَ عَلَيْهِ الْعُلْوُ قَالَ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أُجَرَاءَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 13 يَهْدِمُونَ لَهُ حَائِطًا فَقَتَلَ الْهَدْمُ مِنْ فِعْلِهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَالْكَفَّارَةُ دُونَ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُمْ مُبَاشِرُونَ إتْلَافَ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي حَالَةِ الْعَمَلِ. وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ فِي حَائِطٍ مِنْهَا مَائِلٍ وَهُوَ فِي خِيَارِ الشِّرَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَدَّ الدَّارَ بِالْخِيَارِ بَطَلَ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمِلْكَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ أَزَالَهُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ اسْتَوْجَبَ الْبَيْعُ لَمْ يَبْطُلْ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ حِينَ تَقَدَّمَ صَحِيحٌ إمَّا لِأَنَّهُ مَالِكٌ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى الْبَائِعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ بَعْدَ مَا أَوْجَبْنَا الْبَيْعَ فِيهِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فَالْإِشْهَادُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا مُتَمَكِّنًا مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حِينَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ أَوْجَبَهُ بَطَلَ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ زَالَ الْحَائِطُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَصِحَّ التَّقَدُّمُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ يَوْمئِذٍ حَتَّى إنَّ الْبَائِعَ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ ضَمَانٌ. وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ لَهُ عَلَيْهِ جَنَاحٌ شَاعَ قَدْ أَشْرَعهُ الَّذِي بَاعَ الدَّارَ فَسَقَطَ الْحَائِطُ وَالْجَنَاحُ فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ هُوَ الَّذِي طَرَحَ الْجَنَاحَ كَانَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ضَامِنًا لِمَا أَصَابَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَاحَ مَدْفُوعٌ هَاهُنَا وَالْحَائِطَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لَهُ وَقَدْ صَحَّ التَّقَدُّمُ فِي الْحَائِطِ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ الْجَنَاحُ هُوَ السَّاقِطُ وَحْدَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي أَشَرَعَهُ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي وَضْعِ الْجَنَاحِ وَشَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِهِ وَالْجَنَاحُ الْآنَ هُوَ السَّاقِطُ مَقْصُودًا فَكَانَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ عَلَى الَّذِي وَضَعَ الْجَنَاحَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَوَقَعَ فِيهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَمَاتَ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ حَفَرَ بِئْرًا عِنْدَ دَرْبِ أُسَامَةَ فَوَقَعَتْ فِيهَا بَغْلَةٌ فَضَمَّنَهُ شُرَيْحٌ قِيمَتَهَا وَكَانَ قَضَاؤُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْحَافِرَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ فِي مَهْوَاهُ فَإِنَّهُ بِفِعْلِهِ أَزَالَ الْمُسْكَةَ عَنْ الْأَرْضِ وَالْآدَمِيُّ لَا يُسْتَمْسَكُ إلَّا بِمُسْكَةٍ فَإِزَالَةُ مَا بِهِ كَانَ مُسْتَمْسِكًا إيجَادُ شَرْطِ الْوُقُوعِ. وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا عِنْدَ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هَاهُنَا ثِقَلُ الْمَاشِي فِي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 14 نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ إذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ فِيهِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْحَافِرَ سَبَبٌ لِوُقُوعِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ وَيَخْرُجُ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا لَهُمْ ثُمَّ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُخْطِئِ وَفِعْلُ الْمُخْطِئِ اتَّصَلَ بِالْمُتْلَفِ وَفِعْلُ الْحَافِرِ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ فَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ فِعْلِ الْمُخْطِئِ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأُولَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ مُبَاشَرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْحَافِرُ مَبْنِيًّا عَلَى وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ مُطْلَقًا وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ هَذَا إذَا مَاتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَمَاتَ جُوعًا أَوْ غَمًّا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَافِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ ضَامِنٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّمَا يَصِيرُ هَلَاكُهُ مُضَافًا إلَى الْحَافِرِ إذَا هَلَكَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَيُجْعَلُ الْحَافِرُ كَالدَّافِعِ لَهُ فَأَمَّا إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ لِهَلَاكِهِ كَالْجُوعِ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ أَوْ الْغَمُّ الَّذِي أَثَّرَ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مُضَافًا إلَى هَذَا السَّبَبِ وَلَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ فِيهِ وَأَبُو يُوسُفَ لَمَا سَبَبٌ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ بُعْدُ الطَّعَامِ عَنْهُ وَاحْتِرَاقُ مَعِدَتِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَوَادِّ الطَّعَامِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ وَالْحَافِرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ وَالْحُكْمُ تَارَةً يُضَافُ إلَى السَّبَبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِوَاسِطَةٍ فَكَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ تَارَةً بِوَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهَا أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآجِرِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرُّؤَسَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا بَاشَرَ الْحَفْرَ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْأُجَرَاءَ لِذَلِكَ ثُمَّ ضَمَّنَّهُ شُرَيْحٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لَهُ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهِ الْأَجْرَ وَقَدْ صَارُوا مَغْرُورِينَ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ وَإِنَّمَا حَفَرُوا اعْتِمَادًا عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِنَائِهِ فَلِدَفْعِ ضَرَرِ الْغُرُورِ انْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَى الْآمِرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ جُنَاةٌ فِي الْحَفْرِ وَأَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِالْحَفْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْحَفْرِ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ وَلِدَفْعِ الْغُرُورِ عَنْ الْحَافِرِ بِهِ وَقَدْ انْعَدَمَا جَمِيعًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَمْرِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِينَ بَاشَرُوا الْحَفْرَ. وَإِنْ كَانَ فِي فِنَائِهِ فَهُوَ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْأُجَرَاءِ عَلِمُوا أَوْ لَمْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 15 يَعْلَمُوا لِأَنَّ أَمْرَهُ فِي فِنَائِهِ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَائِهِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِنَاءَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ اخْتَصَّ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَسْرُ الْحَطَبِ وَإِيقَافُ الدَّوَابِّ وَإِلْقَاءُ الْكُنَاسَةِ فِيهِ فَكَانَ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْحِلِّ وَانْتَقَلَ فِعْلُ الْآمِرِ إلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ سَقَطَتْ فِيهِ دَابَّةٌ فَعَطِبَتْ فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ النُّفُوسَ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِلسُّقُوطِ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا وَلَوْ أَوْقَعَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ وَهَذَا لِأَنَّ وَضْعَهُ الْقَدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعَ عِلْمِهِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَمُبَاشَرَةُ فِعْلِ إلْقَاءِ النَّفْسِ فِي الْمَهْلَكَةِ وَإِنَّمَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ إذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْإِضَافَةِ إلَى السَّبَبِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ قَالَ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ رَهْطٍ يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَقَتَلَتْ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ رُبْعُ دِيَتِهِ وَسَقَطَ الرُّبْعُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَعْوَانًا لَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ مَا سَقَطَ بِفِعْلِهِمْ فَكَانُوا مُبَاشِرِينَ لِسَبَبِ الْإِتْلَافِ وَالْقَتِيلُ أَحَدُ الْمُبَاشِرِينَ فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَيَسْقُطُ مِنْهُ حِصَّةُ الْقَتِيلِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَبْقَى حِصَّةُ الثَّلَاثَةِ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَشَرَةَ نَفَرٍ مَدُّوا الْحِلَّةَ فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَتْهُ فَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التِّسْعَةِ بِعُشْرِ الدِّيَةِ وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ حِصَّةَ الْمَقْتُولِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الْقَارِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ وَالْقَامِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ كُنَّ يَلْعَبْنَ فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ صَاحِبَتَهَا فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ الْمَرْكُوبَةُ وَوَقَعَتْ الرَّاكِبَةُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِثُلُثِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَارِصَةِ وَبِالثُّلُثِ عَلَى الْقَامِصَةِ وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ حِصَّةَ الْوَاقِصَةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفِرُ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ فَضَمَانُ مَا يَقَعُ فِيهَا عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي وَلَمْ يَفْصِلْ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ عَالَمٍ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْفَرْقُ هُنَاكَ لِمَعْنَى الْغُرُورِ وَلَا غُرُورَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ فَإِنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَى السَّيِّدِ فَلِهَذَا جَعَلَ فِعْلَ عَبْدِهِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَحَفَرَ مِنْهَا طَائِفَةً فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ كَأَنَّهُ الدَّافِعُ وَبِهِ يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَا حَفَرَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ لِمَنْ سَقَطَ فِي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 16 الْقَعْرِ الَّذِي حَفَرَهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ وَالِاسْتِحْسَانُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَهُ كَانَ بِسَبَبِ فِعْلِهِمَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي الْبِئْرِ إنَّمَا يَهْلِكُ عِنْدَ عُمْقِ الْبِئْرِ وَإِتْمَامُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الثَّانِي وَقَدْ انْضَمَّ فِعْلُهُ إلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ فِي إتْمَامِ شَرْطِ الْإِتْلَافِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَإِنَّ التَّعَدِّيَ فِي التَّسْبِيبِ مِنْ حِينِ إزَالَةِ الْمِسْكَةِ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ وَسَّعَ أَحَدٌ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الثَّانِيَ وَسَّعَ رَأْسَهَا قَلِيلًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ السَّاقِطَ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي مَوْضِعِ بَعْضِهِ مِنْ حَفْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهُ مِنْ فِعْلِ الثَّانِي فَأَمَّا إذَا وَسَّعَ رَأْسَهَا كَثِيرًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَفَرَهُ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِيَ كَالدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ بِمَا حَفَرَ فِي الْبِئْرِ الَّذِي حَفَرَهَا الْأَوَّلُ وَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاقِعَ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِيمَا حَفَرَ الْأَوَّلُ خَاصَّةً فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ شَرْطَ وُقُوعِهِ حِينَ أَزَالَ الْمِسْكَةَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ قَدَمَهُ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ سَدَّهَا بِطِينٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ جِصٍّ فَجَاءَ آخَرُ فَاحْتَفَرَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَسَخَ فِعْلَهُ لِأَنَّهُ طَمَّهَا بِمَا تُطَمُّ بِهِ الْآبَارُ فَعَادَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَرْضًا كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا الثَّانِي هُوَ الْحَافِرُ لِلْبِئْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْ سَدَّ الْأَوَّلُ رَأْسَهَا وَاسْتَوْثَقَ مِنْهَا فَجَاءَ الْآخَرُ فَنَقَضَ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ مَا انْتَسَخَ فَإِنَّهَا بِئْرٌ وَإِنْ سَدَّ رَأْسَهَا إلَّا أَنَّهُ اسْتَتَرَ بِمَا فَعَلَ وَالثَّانِي إنَّمَا أَظْهَرَ فِعْلَ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الثَّانِي مِنْ فَتْحِ رَأْسِ الْبِئْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِهَلَاكِهِ لَوْلَا الْبِئْرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَمَا فَعَلَهُ الثَّانِي هُنَاكَ مُوجِبٌ هَلَاكَ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ أَصْلًا وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ فِيهَا طَعَامًا أَوْ مَتَاعًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُسَدُّ بِهِ الْآبَارُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ لَمْ يُنْسَخْ بِمَا صَنَعَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِئْرٌ وَإِنْ جَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَفِعْلُ الْأَوَّلِ كَانَ حَفْرَ الْبِئْرِ وَمَا بَقِيَ اسْمُ الْبِئْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَقَّلَ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَيَصِيرُ بِهِ كَالدَّافِعِ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَضَعَ الْحَجَرَ أَحَدٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ شَفِيرِ الْبِئْرِ أَوْ جَاءَ بِهِ سَيْلٌ فَالضَّمَانُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ التَّعَقُّلَ بِالْحَجَرِ هَاهُنَا غَيْرُ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ حِينَ لَمْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 17 يَكُنْ بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْبِئْرِ وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ فِي هَذِهِ الْبِئْرِ حَجَرًا أَوْ حَدِيدًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَقَتَلَهُ الْحَجَرُ أَوْ الْحَدِيدُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ عَلَى الْحَجَرِ أَوْ الْحَدِيدِ وَإِنَّمَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ إلَى الدَّافِعِ. وَإِذَا حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فَشَجَّهُ رَجُلَانِ فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَةِ بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ مُضَافٌ إلَى الْحَافِرِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِيَدِهِ وَالْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجُنَاةِ لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ رَجُلَانِ وَشَجَّهُ رَجُلٌ آخَرُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ اللَّذَيْنِ قَطَعَا يَدَيْهِ شَجَّهُ أَحَدُهُمَا شَجَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْجُنَاةِ فَقَدْ يَتْلَفُ الْمَرْءُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَجَرَحَهُ الْآخَرُ جِرَاحَةً صَغِيرَةً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الرِّجَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَى عِظَمِ الْجِرَاحَةِ وَلَا عَلَى صِغَرِهَا وَلَا عَلَى عَدَدِ جِرَاحِهَا لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْإِتْلَافِ وَبِكَثْرَةِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ لَا يَزْدَادُ مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَإِذَا وَقَعَ الرَّجُلُ فِي بِئْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ فَوَقَعُوا جَمِيعًا فَمَاتُوا وَلَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِي حَفَرَ الْبِئْرَ وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي وَالْحَاصِلُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ.: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَيْف مَاتُوا بِأَنْ خَرَجُوا مِنْ الْبِئْرِ أَحْيَاءَ وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ فَنَقُولُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَوْتُ الْأَوَّلِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لَهُ فِي مَهْوَاهُ وَالثَّانِي أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّانِي عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتْلِفًا نَفْسَهُ وَالثَّالِثُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَتَكُونُ دِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَيْهِ وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَنَى عَلَيْهِ الْحَافِرُ وَالْخَامِسُ أَنْ يَمُوتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَتَكُونَ دِيَتُهُ عَلَى الْحَافِرِ وَعَلَى الثَّانِي نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّانِيَ جَانٍ عَلَيْهِ بِجَرِّ الثَّالِثِ وَالْحَافِرُ جَانٍ بِالْحَفْرِ وَالسَّادِسُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيُهْدَرُ نِصْفُ دَمِهِ وَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَنَى عَلَيْهِ الثَّانِي وَالسَّابِعُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَمِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ ثُلُثُ دِيَتِهِ عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهَا عَلَى الثَّانِي بِجَرِّ الثَّالِثِ عَلَيْهِ وَيُهْدَرُ ثُلُثُهَا لِأَنَّهُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِجَرِّهِ الثَّانِيَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَوْتِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَتَكُونُ دِيَتُهُ عَلَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 18 عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى مُهْوَاةٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ دَمُهُ هَدَرًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَيُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَوْتِهِ سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَتَكُونَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ فِي مُهْوَاةٍ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتُوا فِي الْبِئْرِ وَلَا يُعْلَمُ كَيْف مَاتُوا فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِي احْتَفَرَ الْبِئْرَ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ حِينَ جَرَّهُ إلَى مُهْوَاةٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَوْتَى وَلَا يُعْلَمُ كَيْف كَانَ حَالُهُمْ فَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ يَضْمَنُ الْأَوَّلَ وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَيَضْمَنُ الثَّانِي الثَّالِثَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ لِأَنَّ وُقُوعَ الْأَوَّلِ فِي الْبِئْرِ سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ وَهُوَ أَسْبَقُ الْأَسْبَابِ وَقَدْ ظَهَرَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ مَوْتِهِ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ تَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ وَالسَّابِقُ وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّانِي أَسْبَقُ الْأَسْبَابِ الْوُقُوعُ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى الْأَوَّلِ وَفِي حَقِّ الثَّالِثِ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى الْأَوَّلِ فَضَمَانُهُ عَلَى الثَّانِي وَقَالَ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ وَقِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا إنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ فَثُلُثُهَا عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهَا عَلَى الثَّانِي وَثُلُثُهَا هَدَرٌ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِمَوْتِهِ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْبَعْضِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَالتَّرْجِيحُ فِي هَذَا لَا يَقَعُ بِالسَّبْقِ كَمَا فِي الْجِرَاحَاتِ فَيَكُونُ ثُلُثُ دِيَتِهِ عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ جَرَّ الثَّالِثَ إلَيْهِ وَثُلُثُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّانِي عَلَيْهِ وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبَانِ فَيُضَافُ إلَيْهِمَا وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى جَرِّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى نَفْسِهِ قَالَ: فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ مَاتُوا يَبْطُلُ نِصْفُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِالنِّصْفِ قِيلَ: لَيْسَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْمُنَاصَفَةِ بَلْ مُرَادُهُ التَّبْعِيضُ وَالِانْقِسَامُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُنَاصَفَةَ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَقَّ الثَّانِي خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ دِيَةِ الثَّالِثِ وَاجِبٌ عَلَى الثَّانِي فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا قَالَ فِي الزَّوَائِدِ وَبِهَذَا الْقَوْلِ نَأْخُذُ. وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بِئْرٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِإِتْلَافِهِ وَمُبَاشَرَةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 19 الْقَتْلِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ كَالدَّمِ. وَإِذَا سَقَطَ الرَّجُلُ فِي بِئْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ الْحَافِرُ: أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهَا عَمْدًا، وَقَالَ وَرَثَةُ الرَّجُلِ: كَذَبَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُمْ فَالْإِنْسَانُ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا فِي الْعَادَةِ فَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: الضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ وَالظَّاهِرُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَلَا يَكْفِيهِمْ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمْدٍ وَهَذَا الظَّاهِرُ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَصِيرَ يَرَى الْبِئْرَ أَمَامَهُ فِي مَمْشَاهُ فَيَتَقَابَلُ الظَّاهِرَانِ وَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ وَإِذَا أَمَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ لَيْسَ عِنْدَ دَارِهِ فَحَفَرَهَا كَانَ مَا وَقَعَ فِيهَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ بِهِ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغُرُورَ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ عَبْدِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَحُرًّا وَمُكَاتَبًا يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَمَاتُوا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ وَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يُؤَدِّيهَا إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَهُوَ ضَامِنٌ فَإِذَا مَاتُوا فِي حَالَةِ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا لَهُمْ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِذَلِكَ الْبَدَلِ. فَنَقُولُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ: إنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ فَيَنْقَسِمُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَثْلَاثًا فَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ أَتْلَفَ ثُلُثَ الْحُرِّ فَيَرْجِعُ وَلِيُّهُ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ وَأَتْلَفَ ثُلُثَ الْمُكَاتَبِ فَيَرْجِعُ وَلِيُّ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ فَيُقْسِمُونَ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مَوْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَيَكُونَ الْفَضْلُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمَا أَخَذُوا مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ غَصَبَ الْعَبْدَ فَارِغًا وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ مَشْغُولًا بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ بِذَلِكَ الشَّغْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى لِتَسْلَمَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ فَارِغًا ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ مَلَكَ الْعَبْدَ حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ وَقَدْ تَلِفَ ثُلُثُ نَفْسِهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا وَثُلُثُهُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 20 الْمُكَاتَبِ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ ثُلُثَ نَفْسِهِ تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ فَيَجْمَعُ مَا أَخَذَ أَوْلِيَاءُ الْمُكَاتَبِ إلَى مَا تَرَكَهُ فَيَنْظُرُ قِيمَتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقَرِّرُ فَيَخْرُجُ وَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَالْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ جَنَى عَلَى ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَفْسِهِ أَقَلَّ كَانَ الْمُسْتَوْفِي مِنْ تَرِكَتِهِ قِيمَتَهُ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حُرًّا وَعَبْدًا يَحْفِرَانِ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمَا فَمَاتَا وَلِلْعَبْدِ مَوْلَيَانِ قَدْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْآخَرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَلَا فِي نَصِيبِ الْآذِنِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِالِاسْتِعْمَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا النِّصْفِ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهِ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مُتْلِفٌ لِنُصَفَّ الْحُرّ فَإِنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا النِّصْفُ مِنْ الْعَبْدِ إنَّمَا جَنَى عَلَى رُبْعِ الْحُرِّ وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلَا فَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ الْبَدَلِ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ مَشْغُولًا فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ بِشُغْلٍ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَرَجَعَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى لِيُسَلِّمَ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَارِغًا ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ مَلَكَ هَذَا النِّصْفَ بِالضَّمَانِ وَقَدْ تَلِفَ نِصْفُ هَذَا النِّصْفِ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ وَيَرْجِعُ الْآذِنُ لِلْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ جَنَى عَلَى رُبْعِ الْحُرِّ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ الرُّبْعِ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَعْنَى الْغَصْبِ هَاهُنَا قَدْ انْعَدَمَ وَإِنَّمَا يَبْقَى حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ وَرَثَةُ الْحُرِّ عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ فَيَأْخُذُونَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ جَنَى عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ هَذَا الْبَدَلَ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَضْمَنُ فِيمَا سَبَقَ بِاعْتِبَارِ الْغَصْبِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ لَهُ وَالْآخَرُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَحَفَرَا بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمَا فَمَاتَ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَوَالِيهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ لَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ كَانَ جَنَى عَلَى نِصْفِ الْمَأْذُونِ وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَرْجِعُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَأْذُونِ ثُمَّ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِمَوْلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 21 الْمَأْخُوذَ اُسْتُحِقَّ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ مَلَكَ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ جَنَى الْمَأْذُونُ عَلَى نِصْفِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَأْذُونُ وَأَخْلَفَ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَهُوَ بِقَوْلِهِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ الضَّمَانِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ بِالْحَفْرِ الْآنَ فِي مِلْكِهِ صَحَّ إذْنُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ يَكُونُ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ فَكَانَ الثَّابِتُ مِنْ الْإِذْنِ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحَافِرُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا فَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَيَافِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَمْلِكُ بِالْحَفْرِ مَوْضِعَ بِئْرِهِ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرِيمِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ إذَا كَانَ حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْحَفْرِ فَهُوَ كَالْحَافِرِ فِي مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ هُنَاكَ فُسْطَاطًا أَوْ اتَّخَذَ تَنُّورًا يَخْبِزُ فِيهِ أَوْ رَبَطَ هُنَاكَ دَابَّتَهُ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمَحَجَّةِ فَأَمَّا إذَا احْتَفَرَ فِي مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَقَعُ فِيهِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْعَامَّةِ فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْصَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ النَّهْرِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ نَهْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً فِي أَرْضِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا وَإِذَا حَفَرَ الْبِئْرَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ وَيُرْفَعُ فَلَا يَرْجِعُ وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُحْكَمُ بِنَاؤُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذَا وَإِنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَحْدَثَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 22 فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَكُونُ مُحْتَسِبًا إذَا جَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيهِ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا يُعْطَبُ بِهِ فَإِنْ مَشَى عَلَى جِسْرِهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَانْخَسَفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى تَسَبُّبِ مَنْ اتَّخَذَ الْجِسْرَ. وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَانْشَقَّ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ مَاءٌ فَغَرَق أَرْضًا أَوْ قَرْيَةً كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسَالَ الْمَاءَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ أَوْ يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالتَّلَفُ بِهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ ضَامِنًا كَالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَى أَرْضَهُ فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ سَقْيَ أَرْضِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَقَ حَشِيشًا فِي أَرْضِهِ أَوْ حَصَائِدَ أَوْ أَجَمَةً فَخَرَجَتْ النَّارُ إلَى أَرْضِ غَيْرِهِ وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ سَاكِنَةً حِينَ أَوْقَدَ النَّارَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِالنَّارِ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِيزَابٍ لَهُ وَتَحْتَ الْمِيزَابِ مَتَاعٌ لِإِنْسَانٍ يَفْسُدُ بِهِ قَالَ: هُوَ ضَامِنٌ فَكَذَلِكَ النَّارُ يُوقِدُهَا الرَّجُلُ فِي دَارِهِ أَوْ تَنُّورِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا احْتَرَقَ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَنَزَّتْ مِنْ ذَلِكَ أَرْضُ جَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِهَذَا السَّبَبِ شَيْئًا وَلَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ عَنْ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَنْ يَكُفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ. وَلَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَ مِنْ صَبِّهِ ذَلِكَ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَفْسَدَهُ كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءً إلَّا أَنَّ صَبَّ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا يَقْبُحُ لِأَنَّ الْمَاءَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسِيلُ إلَى مِلْكِ جَارِهِ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يُفْسِدُ بِهِ اسْتِحْسَانًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ صَبَّهُ فِي مِيزَابٍ لَهُ فَأَفْسَدَ مَتَاعًا لَهُ تَحْتَهُ يَكُونُ ضَامِنًا وَيُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ بِيَدِهِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا يُشْبِهُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَحْدُثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا احْتَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِيهِ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ وَضَعُوا فِيهِ حُبًّا فَصُبَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 23 فِيهِ الْمَاءُ أَوْ طَرَحُوا فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَى أَوْ رَكَّبُوا فِيهِ بَابًا أَوْ عَلَّقُوا فِيهِ قَنَادِيلَ أَوْ ظَلَّلُوهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا عَطِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدِهِمْ مُطْلَقًا فَإِنَّ حَقَّ التَّدْبِيرِ فِي الْمَسْجِدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ لِلْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ فَكَمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَكُونُ جَانِيًا بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهِمْ كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مَسْجِدٌ لِلْعَامَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ اسْتِحْسَانًا إلَّا الْبِنَاءَ وَالْحَفْرَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ الْمَسْجِدِ وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ مِمَّا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهَا كُلَّ مُسْلِمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] الْآيَةُ ثُمَّ بِتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ وَبَسْطِ الْحُصْرِ يَتَمَكَّنُ النَّاسُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ أَخَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُلَّاكِ وَغَيْرُهُمْ كَالسُّكَّانِ نَحْوُ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الدَّارِ ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَكُونُ جَانِيًا فِي وَضْعِ الْأَمْتِعَةِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَنَصْبِ الْقِنْدِيلِ فِي الدَّارِ وَيَكُونُ جَانِيًا فِي الْبِنَاءِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالْبِنَاءُ وَالْحَفْرُ يُخْرِجُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَلَّى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّدْبِيرِ لَا مِنْ بَابِ التَّمْكِينِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَيَكُونُ جَانِيًا إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ وَإِذْنِهِمْ فَأَمَّا بَسْطُ الْحَصِيرِ وَنَصْبُ الْقِنْدِيلِ فَمِنْ بَابِ التَّمْكِينِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَغَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِيهِ كَأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: اخْتَصَّ أَهْلُ الْمَسْجِدِ بِالتَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَغَيْرُهُمْ إذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِهِ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي فَتْحِ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ وَنَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُتَوَلِّي يَكُونُ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِهِمْ قَتِيلٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ وَالْحَفْرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ وَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ وَكَانَ فِيهِ إصْلَاحٌ لِلْمَسْجِدِ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِيهِ سَوَاءً ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ أَهْلُهُ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ كَالْكَعْبَةِ فَالنَّاسُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الطَّوَافُ سَوَاءٌ وَقَدْ اخْتَصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِالتَّدْبِيرِ فِيهَا حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ قَالَ اللَّهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 24 تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وَإِذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي مَسْجِدٍ لِحَدِيثٍ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ أَوْ مَرَّ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ كَمَا يَضْمَنُ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُصَلِّيًا فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ لَمْ يَضْمَنْ مَا يَعْطَبُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ جَالِسًا فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِسِ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ قُرْبَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالْمُعْتَكِفُ يَتَحَدَّثُ وَيَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسُ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا» «وَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ» وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْحُرِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمَسْجِدُ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ وَالْقُعُودُ وَالنَّوْمُ فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالطَّرِيقِ فَإِنَّهُ مُعَدٌّ لِلْمَشْيِ فِيهِ فَالْجُلُوسُ أَوْ النَّوْمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ إذَا احْتَاجَ مَنْ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى إزْعَاجِهِ لِيُصَلِّيَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُصَلِّي أَنْ يُزْعِجَ الْمُصَلِّيَ عَنْ مَكَانِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَشَغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا أَقْوَى مِنْ الرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَصَابَ مُسْلِمًا كَانَ ضَامِنًا لَهُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَشَى فِي الْمَسْجِدِ فَأَوْطَأَ إنْسَانًا أَوْ نَامَ فِيهِ فَانْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِإِتْلَافِهِ وَبِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَضْمَنُ فِي مِلْكِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى. وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ فِي سُوقِ الْعَامَّةِ بِئْرًا أَوْ بَنَى فِيهَا دُكَّانًا بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَطِبَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَأُلْحِقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامَّةُ وَمَا يَكُونُ حَقًّا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَإِذَا أَحْدَثَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَإِذَا فَعَلَهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِمِلْكِهِ. وَإِذَا أَوْقَفَ دَابَّةً فِي السُّوقِ فَمَا أَصَابَتْ دَابَّتُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَلِأَنَّهُ مُتَعَدِّيًا بِإِيقَافِهَا فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَارَّةِ وَالْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِنْ كَانَ مَوْقِفًا تَقِفُ فِيهِ الدَّوَابُّ لِلْبَيْعِ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ السُّلْطَانُ فِي ذَلِكَ فَأَوْقَفَ فِيهِ الدَّابَّةَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا فِيمَا أَصَابَتْ الدَّابَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ أَذِنَ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُعَدًّا لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهِ فَيَكُونُ إيقَافُهَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 25 بِدُونِ إذْنِ السُّلْطَانِ فَهُوَ مَمَرٌّ وَلَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِيقَافِ الدَّابَّةِ فَإِذَا أَوْقَفَ فِيهِ دَابَّتَهُ أَوْ أَرْسَلَهَا فِيهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَوْقَفَهَا وَلَا أَرْسَلَهَا فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا دَابَّةٌ مُنْفَلِتَةٌ فَجُرْحُهَا هَدَرٌ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَدِّ لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ إذَا سَارَ عَلَى دَابَّتِهِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلنَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لِأَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ الطَّرِيقِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الطَّرِيقِ فَالسَّيْرُ فِيهِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ فَإِذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهَا فَهُوَ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً خَطَأً فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ بِهَا وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ جِنَايَتُهُ تَكُونُ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي خَطَأِ عَبْدِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيَمِهِمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْقِيمَةِ الثَّمَنَ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِهِ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا عَاقِلَةَ لَهُ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَيَكُونُ شَاغَلَا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ نَفْسُ الْجَانِي إذَا أَمْكَنَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ الْمُسْتَحَقُّ نَفْسُ الْجَانِي قِصَاصًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ عُقُوبَةً وَالْآخَرُ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ عَلَى وَجْهِ الْجُبْرَانِ وَالْحُرُّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَفْسَهُ بِالطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْعَبْدُ مُسَاوِيًا لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ وَيَكُونُ مُفَارِقًا لَهُ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِأَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ تَمْلِيكًا وَالسَّبَبُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّهِ وَفِي حَقِّ الْحُرِّ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ السَّبَبُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَكُونُ مُقَيَّدًا حُكْمُهُ وَهُوَ أَنَّ نَفْسَهُ صَارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ تَمْلِيكًا لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ لَا مَقْصُودَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِهِ وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ يَصِلُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 26 إلَيْهِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ إتْلَافِ الْمَالِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ بَدَلُ الْمُتْلَفِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ بَدَلَ الْمُتْلَفِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ نَفْسَ الْمُتْلَفِ بِحَالٍ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَتَبَاعَدُ عَنْ الْجَانِي لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ وَيَكُونُ الْخَطَأُ مَوْضُوعًا شَرْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ لِإِظْهَارِ صِيَانَةِ الْمَحَلِّ الْمُحْتَرَمِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمُخْطِئِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ عَاقِلَةَ الْعَبْدِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْحُرَّ مُسْتَنْصِرٌ بِعَاقِلَتِهِ وَمُزَادٌ قُوَّةً وَجُرْأَةً بِهِمْ كَمَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ يَسْتَنْصِرُ بِمَوْلَاهُ فَيَجِبُ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا لَحِقَنِي هَذَا الْبَلَاءُ بِسَبَبِ مِلْكِي فِيهِ فَلِي أَنْ أَتَخَلَّصَ عَنْهُ بِنَقْلِ مِلْكِي فِيهِ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَأَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ فَإِذَا دَفَعَهُ صَارَ كَأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ كَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يُخَاطَبُ غَيْرُهُ كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يَتَأَتَّى فِي جِنَايَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ مُوجِبَهَا يَخْتَلِفُ بِالسِّرَايَةِ وَعَدَمِ السِّرَايَةِ فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ الْوَاجِبُ هَاهُنَا الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ وَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَافُهُ بِالْبُرْءِ وَالسِّرَايَةِ وَالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ النَّفْسَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَكُونُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْمَالُ بِكُلِّ حَالٍ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِيهِ سَوَاءً فَإِذَا بَلَغَ النَّفْسَ وَهُوَ عَمْدٌ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ وَالْمَمْلُوكُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْقِصَاصِ دَمُهُ وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقَى عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ الْقِصَاصَ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ وَالصَّغِيرُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فِي ذَلِكَ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْحُرِّ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَتْلَفُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ. . وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُهُ وَنَفْسُهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْعَاقِلَةِ وَالْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِلَةِ وَلَا يَتَحَمَّلُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ عَوَاقِلَهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ بَلْ سَبَبُ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى مِلْكُهُ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ دُونَ عَوَاقِلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى مُوجِبُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ بَلْ الْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ فَيَكُونُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَوْلَاهُ وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 27 عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُكَاتَبِ. فَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَتَكُونُ دَيْنًا فِي عُنُقِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ أَوْ يُبَاعُ فِيهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً مُكْرَهَةً فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يُبَاعُ فِيهِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مِمَّا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ بِذَلِكَ حُرًّا كَانَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ دُونَ عَوَاقِلِهِ بِأَنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ مُسْتَكْرَهَةً وَسَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى الْمَمَالِيكِ خَطَأً فِيهَا دُون النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ بِحَالٍ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْمُتْلَفُ جُزْءٌ مِنْ الْجِسْمِ وَالْجِسْمُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا مَآلًا فَيَكُونُ إتْلَافُهُ فِي حُكْمِ إتْلَافِ الْمَالِ فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًا فِي مَالِهِ وَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَإِذَا بَلَغَ النَّفْسَ عَقَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ وَقَدْ اعْتَبَرَهُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ نَفْسَ الْعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» وَالْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ لَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَحِلُّ لِلتَّمَلُّكِ بِالْعَقْدِ فَمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ يَكُونُ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِإِتْلَافِ نَفْسِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِتْلَافِ نَفْسِ الْحُرِّ وَذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْمُلَّك بَلْ الْعَبْدُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَمْدًا كَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَتْلِ الْحُرِّ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِصَاصِ وَلَا كَفَّارَةً فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ هَاهُنَا بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ مَثَلًا لِمَا لَيْسَ بِمَالِ وَمَا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا مِنْ الْآدَمِيِّ لَا يَكُونُ مَالًا وَإِنَّمَا وُجُوبُ الْمَالِ بِقَوْلِهِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إلَّا أَنَّ هَذِهِ الدِّيَةَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَفِي حَقِّ الْحُرِّ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّرْعُ وَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ النَّفْسَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ وَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِ الْعَبْدِ وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ الْمَمْلُوكِ قِيمَتُهُ قُلْت قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُزَادُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَلَا تَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرَ الْقِيمَةِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الجزء: 27 ¦ الصفحة: 28 وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَمَةً فَإِنَّهَا لَا تُزَادُ قِيمَتُهَا عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ وَيَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَأَمَّا فِي قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ فَيَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ فِي قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْوَكَالَةِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي قَتْلِ الْعَبْدِ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلِأَنَّ الْمُتْلَفَ مَاتَ فَيَجِبُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجُبْرَانُ بِمَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ الْمَمْلُوكُ عِنْدَ الْغَصْبِ بِقِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ مَالٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَمِلْكُهُ فِي عَبْدِهِ مِلْكُ مَالٍ وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لَهُ يَكُونُ ضَمَانَ الْمَالِ إذَا أَمْكَنَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ الْقِصَاصُ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْمَالِيَّةَ تَرْقُبُ بِهَذَا الْمَحَلِّ فَتَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ بِمَا لَا يَضْمَنُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْعَمْدَ وَالتَّكَافُؤَ وَذَلِكَ تُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ فِي هَذَا الْمَالِ دُونَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ هَذَا الْمَالُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ دُونَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي الْأَسْوَاقِ لِيُوجِبَ بِهِ حِينَ يَنْفُذُ السُّوقُ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الْإِبِلُ وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِبِلِ هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِاخْتِلَافِ أَوْصَافِ الْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالْجَمَالِ وَالْمَالِيَّةِ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ الدِّيَةِ نُقْصَانًا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ أَوْ يَكُونُ الْمُتْلَفُ عَبْدًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا لَوْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْعَبْدِ مَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى تَرْجِيحِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ صَيْرُورَتُهُ مَحِلًّا قَابِلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَخُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَاتِ الَّتِي اخْتَصَّتْ بِهَا النُّفُوسُ الْمُحْتَرَمَةُ عَلَى أَنَّا نَعْتَبِرُ كِلَا الْوَصْفَيْنِ فَنَقُولُ: مَتَى كَانَ الْوَاجِبُ بِإِتْلَافِهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْقِصَاصُ يَتَرَجَّحُ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِيَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ بِالْمَالِ أَصْلٌ وَضَمَانٌ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُون عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَمَهْمَا أَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 29 وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا قُبِضَ فَالْبَيْعُ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يَبْقَى الْبَيْعُ إذَا فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَأَخْلَفَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ بَدَلَ الْمَالِيَّةِ لَمَا بَقِيَ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَنَاوَلُ الْمَالِيَّةَ. وَالرَّاهِنُ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ إلَّا فِي الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِحَالٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بَدَلٌ عَنْ النَّفْسِيَّةِ فَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِبَارِ فَنَقُولُ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرَ الْقِيمَةِ يَجِبُ مِقْدَارُ الدِّيَةِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ حُرًّا وَمَزَّقَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّ مِقْدَارَ الدِّيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي لِهَذَا الْمَعْنَى وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَبْلُغُ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ وَيَنْقُصُ مِنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَهَذَا كَالْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ وَالسَّمَاعُ مِنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا ضَمَانٌ وَجَبَ بِقَتْلِ الْآدَمِيّ فَلَا يُزَادُ عَلَى الدِّيَاتِ كَمَا لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ الْحُرِّ وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبَدَلِ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ وَمَا مِنْ فَضْلٍ فِي الْعَبِيدِ إلَّا وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ وَزِيَادَةً ثُمَّ الْحُرُّ مَعَ أَنَّهُ مَجْمَعُ الْقِصَاصِ لَا يُزَادُ بَدَلُهُ عَلَى أَعْلَى الدِّيَاتِ فَالْعَبْدُ أَوْلَى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ بِالْقَتْلِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْقَتْلَ سَبَبٌ تُضْمَنُ بِهِ النَّفْسُ بِالدِّيَةِ وَهُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَنَفْسُ الْعَبْدِ فِي هَذَا دَاخِلَةٌ كَنَفْسِ الْحُرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ كَنَفْسِ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ بِالدِّيَةِ وَالدِّيَةُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ مُقَدَّرَةٌ بِالنَّصِّ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِالرَّأْيِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهَا بِالرَّأْيِ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ وَاجِبًا بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ كُنَّا قَدْ أَسْقَطْنَا بِالرَّأْيِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ بِالدِّيَةِ لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِهْدَارِ وَنَفْسُ الْعَبْدِ مُحْتَرَمَةٌ كَنَفْسِ الْحُرِّ فَلَا يَجُوزُ إهْدَارُهَا مَا أَمْكَنَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ تَبَعٌ لِلنَّفْسِيَّةِ لِأَنَّ قِوَامَ الْمَالِيَّةِ بِبَقَاءِ النَّفْسِيَّةِ وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ. وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُ الْأَصْلِ بِحَالٍ لِمُرَاعَاةِ التَّبَعِ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَصْلِ اعْتِبَارَ التَّبَعِ وَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِ التَّبَعِ اعْتِبَارَ الْأَصْلِ وَإِذَا جَعَلْنَا الضَّمَانَ وَاجِبًا بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ كُنَّا اعْتَبَرْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ وَبِاعْتِبَارِهِ يَحْصُلُ اعْتِبَارُ التَّبَعِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ وَيُهْدَرُ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 30 وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تَثْبُتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَلَكِنْ مَعَ الْمُسَاوَاةِ تَتَرَجَّحُ النَّفْسِيَّةُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَهُوَ الْقَتْلُ لِأَنَّ الْقَتْلَ سَبَبٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْأَمْوَالُ عَادَةً وَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ النُّفُوسَ لِمَعْنَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَإِنَّمَا تَقْصِدُ بِالْغَصْبِ فَلَا جَرَمَ ضَمَانُ الْغَصْبِ يَكُونُ ضَمَانَ مَالٍ يَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ وَضَمَانُ الْقَتْلِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ سَوَاءٌ بِقَتْلِ الْحُرِّ أَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِقَتْلِ عَبْدِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ مَا يَجِبُ بِمُقَابِلَةِ نَفْسِ الْعَبْدِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَالْخِلَافَةُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ لَا تَنْعَدِمُ حُكْمًا بِالْقَتْلِ فَلَوْ وَجَبَ وَجَبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا فَضْلُ الْقِصَاصِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ فَكَذَلِكَ الْمَالُ. وَمَنْ يَقُولُ: الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَهُوَ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُضْمَنُ بِالْقِصَاصِ بِحَالٍ فَكَيْفَ يُضْمَنُ بِالْقِصَاصِ وَالْمَقْصُودُ بِالْمَالِ التَّمَوُّلُ وَالِادِّخَارُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَيْسَ فِي الْقِصَاصِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحُ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ عَلَى مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ فِي حَالِ الْخَطَأِ مَا هُوَ الْمُتْلَفُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ فَإِذَا جَعَلَ الْمَضْمُونَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْعَمْد مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَمَنْ يَقُولُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَاهُنَا طَرِيقٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الدِّيَةَ مَعَ كَمَالِ الْقِيمَةِ وَيُسْتَوْفَى فِي حَالَةِ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ وَالْقِيمَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْمُغَايَرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّضَادِّ فَأَمَّا النُّقْصَانُ فَنَقُولُ: بَدَلُ النَّفْسِ قَدْ يَنْقُصُ عَنْ أَعْلَى الدِّيَاتِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مُوجِبٍ لِلنُّقْصَانِ فِي الْمَحَلِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَنْقُصُ بِالْأُبُوَّةِ وَبِالْكُفْرِ عَنْ أَصْلِ الْخَصْمِ وَبِالِاجْتِنَانِ فِي الْبَطْنِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ دُونَ بَدَلِ الْمُنْفَصِلِ وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ هُنَاكَ إذْ لَا مَالِيَّةَ فِي الْجَنِينِ حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَعْلَى الدِّيَاتِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ تَكْمِيلَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَدَلَ الْأُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنْ بَدَلِ الذَّكَرِ لِأَنَّ الذَّكَرَ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ وَالْأُنْثَى أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ دُونَ مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ نِكَاحًا فَيَتَنَصَّفُ بَدَلُهَا بِذَلِكَ وَالْجَنِينُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَالِ وَلَكِنَّ فِيهِ عُرْضَةَ الْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا فَبِاعْتِبَارِهِ يَنْقُصُ بَدَلُهُ غَايَةَ النُّقْصَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ بِسَبَبِ الرِّقِّ تَنْتَقِصُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا مَآلًا وَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا لِلنِّكَاحِ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ عَارِضٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِأَنْ يُعْتَقَ فَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ بَدَلُ الرَّقِيقِ عَلَى بَدَلِ الْأُنْثَى لِهَذَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 31 وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّهُ دُونَ الْأُنْثَى فِي صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ ثُمَّ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْتَلِفُ فِي الرَّقِيقِ وَلَكِنْ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْوَصْفِ مَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ فَإِنْ أَمْكَنَ إظْهَارُ النُّقْصَانِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ النُّقْصَانِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ فِي النُّقْصَانِ إلَى مَعْنَى شَرْعِيٍّ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النُّقْصَانَ إذَا كَانَ فَبِاعْتِبَارِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنَّمَا النُّقْصَانُ بِاعْتِبَارِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يُزَادُ بِزِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ لِإِظْهَارِ مِقْدَارِ النُّقْصَانِ إذَا أَمْكَنَ لَا لِثُبُوتِ أَصْلِ النُّقْصَانِ عَلَى أَنَّ بِزِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ يَزْدَادُ النُّقْصَانُ وَعِنْدَ قِلَّةِ الْمَالِيَّةِ يَنْتَقِصُ الْوَاجِبُ عَنْ الدِّيَةِ لَا عَنْ الْقِيمَةِ وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْمَالِيَّةِ يُنْتَقَصُ الْوَاجِبُ عَنْ الْقِيمَةِ وَعَنْ الدِّيَةِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا قَرَّرْنَا النُّقْصَانَ بِعَشَرَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَمْلُوكِيَّةِ تُظْهِرُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَقَدَّرُ بِالْعَشَرَةِ وَهُوَ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ الْحُرِّ إلَّا بِعَقْدٍ يَتَقَدَّرُ الْبَدَلُ فِيهِ بِعَشَرَةٍ وَيَجُوزُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمَةِ بِعَقْدٍ مُتَعَدٍّ عَنْ الْبَدَلِ وَهُوَ الْهِبَةُ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْمَوْهُوبَةَ يُبَاحُ وَطْؤُهَا فَإِذَا ظَهَرَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِالْعَشَرَةِ نَصًّا قَدَّرْنَا النُّقْصَانَ بِالْعَشَرَةِ لِهَذَا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَالنُّقْصَانُ عَنْ الدِّيَةِ يَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةٍ وَالرُّجُوعُ إلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ قَدْ يَكُونُ فِيمَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِيَّةِ كَحُكُومَةِ الْعَدْلِ وَالْوُجُوبُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ خِلَافُ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثِ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَالِكِيَّةِ قِوَامِهَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَحَلِّ فَمَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ فِي حَقِّهِ يُجْعَلُ كَالْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا قُلْنَا: الْبَيْعُ يَبْقَى إذَا قُتِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ الَّتِي تُمْلَكُ بِالْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَحَلِّ فَيُجْعَلُ بَدَلُ الْمَحَلِّ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْمَالِيَّةِ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ بَقِيَ الْبَيْعُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا قَتَلَهُ الرَّاهِنُ فَإِنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا قَرَّرْنَا فِي الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ فَجَعَلْنَا الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ بِحَالٍ فَتَجِبُ فِيهِ الْمَالِيَّةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَأَمَّا طَرَفُ الْمَمْلُوكِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَالِيَّةُ فَقَطْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالْكَفَّارَةِ فَلِهَذَا قَالَ: كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْقِيمَةَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: الْقَوْلُ بِهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجِبَ بِقَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ فَوْقَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ بِأَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ بَلَغَتْ أَلْفًا فَيَجِبُ بِقَطْعِ طَرَفِهِ خَمْسَةَ عَشْرَ أَلْفًا أَوْ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا فَلِهَذَا قَالَ: لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 32 بَدَلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ خَمْسَةَ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا دَفَعَ الْمَوْلَى إلَى الْبَاقِي نِصْفَهُ أَوْ فَدَاهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ النَّصِيبَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ انْقَلَبَ مَالًا عِنْدَ عَفْوِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ هَذَا فِي نَصِيبِهِ كَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَطَأُ وَلَوْ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَيْهِمَا أَوْ فَدَاهُ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ وَذَلِكَ دِيَةُ النَّفْسِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَأَرْشُ الْعَيْنِ خَمْسَةُ آلَافٍ. وَإِذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَحَقُّ الْمَفْقُودِ عَيْنُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَتَيْنِ فَهُوَ مُخْتَارٌ وَعَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشْرَ أَلْفًا فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَحَلَّ الدَّفْعِ بِالْإِعْتَاقِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ هُوَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَتَفْوِيتُهُ مَحَلَّ الدَّفْعِ يَكُونُ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ دَلَالَةَ التَّصَرُّفِ فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالِاخْتِيَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ بِمَا أَنْشَأَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَيَتَضَمَّنُ الَّذِي اخْتَارَ الْفِدَاءَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنْ جَامَعَهَا وَلَمْ تَلِدْ فَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِيَارٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْوَطْءُ دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ بِالْخِيَارِ فَوَطِئَ الْمَبِيعَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْفَسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَطْءَ دَلِيلُ تَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِيهَا وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا كَانَ لِلْفِدَاءِ وَجْهٌ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ دَفْعِهَا فَيَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ كَالِاسْتِخْدَامِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ فَاسِخًا لِلْعَقْدِ بِالْوَطْءِ لَكَانَ إذَا أَجَازَ الْعَقْدَ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ زَوَائِدَهَا فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا جَعَلْنَاهُ فَاسِخًا وَهَا هُنَا إذَا دَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ مَلَكَهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مِنْ وَقْتِ الدَّفْعِ وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ زَوَائِدِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَالْوَطْءُ وَإِنْ كَانَ كَالْجِنَايَةِ لَكِنَّ الْجِنَايَةَ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارًا وَكَذَا الْوَطْءُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ كَالِاسْتِخْدَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي عَيْنِهَا وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ دَفْعِهَا بِالْجِنَايَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الدِّيَاتِ يَقُولُ: الْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ يَكُونُ اخْتِيَارًا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِهَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ دَفْعِهَا بِالْجِنَايَةِ فَيُجْعَلُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ كَالْكِتَابَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُنْقَضُ بِالْقَدْرِ فَيَكُونُ قِيَامُ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِيهَا عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ وَالرَّاهِنُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 33 وَاسْتِرْدَادِ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ وَلَمْ يَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ دَفْعِهَا بِهَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ثَبَتَ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ إبْطَالَهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ دَفْعِهَا وَإِنْ ضَرَبَ الْعَبْدَ ضَرْبًا لَزِمَهُ مِنْهُ عَيْبٌ فَاحِشٌ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ فَمُخْتَارٌ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ يَثْبُتُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ وَقَدْ فُوِّتَ جُزْءٌ فَامْتَنَعَ الدَّفْعُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ وَهُوَ لَا يَتَحَمَّلُ التَّجَزُّؤَ فِي الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ فَتَفْوِيتُ جُزْءٍ مِنْهُ كَتَفْوِيتِ كُلِّهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْعَبْدَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمَوْلَى فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَصَابَهُ جُنَاحٌ أَشْرَعهُ الْمَوْلَى فَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِيَارٍ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ فَعَلَ هَذَا قَبْلَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ بَعْدَ جِنَايَتِهِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي وُقُوعِ الْعَبْدِ فِي الْبِئْرِ وَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ مِنْهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ فَهُوَ عِنْدَ الْحَفْرِ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَبْدَهُ يَقَعُ بِهِ وَلَا قَصَدَ ذَلِكَ بِحَفْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَصِيرُ قَاتِلًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالِاخْتِيَارُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ مِنْ الْمَوْلَى يَكُونُ مُقَوِّيًا لَهُ مَحَلَّ الدَّفْعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةُ إنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْمَوْلَى سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُبَاشَرَةً عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَهُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ. وَلَوْ أَوَطْأَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْوَطْءَ وَلَا الْوُقُوعَ فَهَذَا اخْتِيَارٌ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ قَتْلَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ بِتَفْوِيتِ مَحَلِّ الدَّفْعِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يُجْعَلُ اخْتِيَارًا وَلَا مُعْتَبَرُ بِتَعَمُّدِهِ الْوَطْءَ وَالْوُقُوعَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاطِنِهِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ مَنَعَ الدَّفْعَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ الدَّفْعِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ لِمَوْلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَالرَّاهِنِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَرْهُونَ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ عَلِمَ بِإِحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْأُخْرَى فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلَّذِي عَلِمَ بِهَا وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ وَلِلْأُخْرَى حِصَّتُهَا مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ كَأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ سِوَاهَا فَفِيمَا كَانَ عَالِمًا بِهَا يَجْعَلُ مُخْتَارًا لِوُجُودِ دَلِيلِ الِاخْتِيَارِ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا مُسْتَهْلِكًا مَحَلَّ الدَّفْعِ فَعَلَيْهِ حِصَّتُهَا مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً لَمْ تَبْلُغْ النَّفْسَ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ يَعْلَمُ بِهَا قَبْلَ الْبُرْءِ ثُمَّ انْتَقَضَتْ الْجِرَاحَةُ فَمَاتَ وَهُوَ مُخْتَارٌ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَخَيُّرِ الْمَوْلَى جِنَايَةُ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا وُجِدَ الْإِعْتَاقُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَيَكُونُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 34 ذَلِكَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْأَرْشِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زَهُوقِ الرُّوحِ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ بَرِئَتْ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَرْشِ بَرَأَتْ أَوْ سَرَتْ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ ضَرَبْت فُلَانًا بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْعَصَا أَوْ بِسَوْطٍ أَوْ بِيَدِك أَوْ شَجَجْتَهُ أَوْ جَرَحْتَهُ فَأَنْتِ حُرٌّ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَمَاتَ مِنْهُ عَتَقَ وَالْمَوْلَى مُخْتَارٌ لِلدِّيَةِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْأَرْشِ وَتَخَيُّرِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاء فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إذَا مَرِضْتُ فَمَرِضَ وَمَاتَ يَصِيرُ فَارًّا مِنْ مِيرَاثِهَا فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقِصَاصُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ مُفَوِّتًا حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِذَا جَرَحَ الْعَبْدُ رَجُلًا فَخُوصِمَ فِيهِ الْمَوْلَى فَاخْتَارَ الْعَبْدَ وَأَعْطَى الْأَرْشَ ثُمَّ انْتَقَضَتْ الْجِرَاحَةُ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى خِيَارًا مُسْتَقْبَلًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ وَأَخَذَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْكُتُبِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ هَذِهِ وَمَسْأَلَةُ تَكْرَارِ تِلَاوَةِ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَوْلَى اخْتَارَ الْأَرْشَ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ السَّبَبُ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ اخْتِيَارِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَقْدَمُ عَلَى الِاخْتِيَارِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يَبْرَأُ وَقَدْ يَنْتَقِضُ فَيَسْرِي إلَى النَّفْسِ. يُوضِحُهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ حُكْمًا وَقَدْ يَكُونُ قَصْدًا فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِمَا يَجِبُ بِهَا ثُمَّ الِاخْتِيَارُ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْبُرْءِ وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِمُوجِبِ الْفِعْلِ فَكَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ قَصْدًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى اخْتَارَ الْأَرْشَ عَلَى حُسْبَانِ أَنَّ الْبُرْءَ قَدْ تَمَّ وَإِنَّ الْوَاجِبَ أَرْشُ الطَّرَفِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِهِ الدِّيَةَ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْتَارُ الشَّيْءَ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَلَا يَخْتَارُهُ إذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ هُوَ الدِّيَةَ قُلْنَا يُخَيَّرُ خِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ إذَا أَخْبَرَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَطَلَبَ الشُّفْعَةَ وَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كَثِيرٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ هُوَ عَلَى حَقِّهِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ تَفْوِيتٌ لِمَحَلِّ الدَّفْعِ وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ خِيَارِهِ بَعْدَهُ قَائِمًا وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَصْدًا لَا يَفُوتُ مَحَلُّ الدَّفْعِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى خِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 35 رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا أَعْطَى الْأَرْشَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَعْطَاهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، قَالَ: إذَا أَعْطَاهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ الْمَجْرُوحَ يُخَيَّرُ خِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلدِّيَةِ طَوْعًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ فَإِنْ أَخَذَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَإِنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي جَعَلَ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ الْمُبْتَدَإِ وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى بِالْأَرْشِ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ. قَالَ: وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَاخْتَارَ الْمَوْلَى إمْسَاكَ عَبْدِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قَاضٍ أَوْ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ فَالْعَبْدُ عَبْدُهُ وَالْأَرْشُ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ أَدَّى الدِّيَةَ مَكَانَهُ وَإِلَّا دَفَعَ الْعَبْدَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَتْبَعُوهُ بِالدِّيَةِ عَلَى مَا قَالَ فَإِنْ رَضُوا بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا فِي الْعَبْدِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نَفْسَ صَاحِبِ الْعَبْدِ صَارَ حَقًّا لِمَوْلَى الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْوِيلِ حَقِّهِمْ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ بِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَإِذَا أَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ كَانَ هَذَا تَحْوِيلًا لِحَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فِيهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمْ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مُفْلِسًا كَانَ هَذَا مِنْهُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ لَا تَحْوِيلًا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يُعَدُّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْ الْمَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمَوْلَى كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ. فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الضَّرَرِ كَانَ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ عَادَ كَمَا كَانَ وَفِي بَيْعِ الْمُعَاوَضَةِ إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ حَوَّلَ حَقَّهُ إلَى الْعِوَضِ الْآخَرِ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ عَادَ كَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالشُّفْعَةِ إنْ سَلَّمَ الثَّمَنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي فَصْلِ الشُّفْعَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَهَاهُنَا أَيْضًا إنْ رَضِيَ الْمَوْلَى كَانَ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ أَبَى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ وَاجِبًا مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُكَفِّرِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَهَاهُنَا بِاخْتِيَارِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى مِنْ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْعَبْدَ فَارِغٌ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. يُوضِحُهُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ شَرْعًا يَسْتَبِدُّ بِالْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رِضَا صَاحِبِهِ وَلَوْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 36 رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَتْبَعُوا بِالدِّيَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى ذَلِكَ فِي حَالِ مَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ شَرْعًا وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْحَقِيقَةِ تُبْنَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْلِيسِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّفْلِيسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْمَوْلَى يَكُونُ تَحْوِيلًا لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ إلَى ذِمَّتِهِ لَا إبْطَالًا وَعِنْدَهُمَا التَّفْلِيسُ مُعْتَبَرٌ وَالْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَكُونُ تَأَوِّيًا فَيَكُونُ هَذَا الِاخْتِيَارُ مِنْ الْمَوْلَى إبْطَالًا لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْمَوْلَى هَاهُنَا مُعْتَبَرٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ حَقُّ تَمَلُّكِ الْعَبْدِ بِالْأَخْذِ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِيَارِ وَلَكِنْ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهِ فَيَدْفَعُ ثَمَنَهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ مِنْ حِسَابِ الدِّيَةِ الَّتِي عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْقَاضِي يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ وَيَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. قَالَ: وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً خَطَأً ثُمَّ أَقَرَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حُرٌّ قَبْلَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ وَأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا رَقَبَتَهُ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَمْ يُدْعَ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الْجِنَايَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ مُخْتَارًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا وَلَوْ كَانَ إقْرَارُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالدَّفْعِ وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَيُعْتَق بِإِقْرَارِهِ وَيَكُونُ مَوْقُوفَ الْوَلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَهُ. قَالَ: وَإِذَا جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا أَوْ اكْتَسَبَتْ كَسْبًا فَإِنَّ مَوْلَاهَا يَدْفَعُهَا بِالْجِنَايَةِ وَلَا يَدْفَعُ وَلَدَهَا وَلَا كَسْبَهَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهَا بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ كَاسْتِحْقَاقِ نَفْسِهَا بِالْعَمْدِ قِصَاصًا وَذَلِكَ لَا يَسْرِي إلَى الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فِي عَيْنِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهَا أَوْ يَفْدِيَهَا بِالْأَرْشِ وَإِنَّمَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ مَا يَكُونُ مُتَأَكِّدًا فِي الْأَصْلِ حِينَ انْفَصَلَ الْوَلَدُ عَنْهَا وَأَمَّا الْكَسْبُ فَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَعِنْدَ الِاكْتِسَابِ كَانَ مِلْكُ الْأَصْلِ لِلْمَوْلَى دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا فَأَخَذَ الْمَوْلَى لِذَلِكَ أَرْشًا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْأَرْشَ مَعَهَا لِأَنَّ الْأَرْشَ عِوَضٌ عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْهَا بِالْجِنَايَةِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِيهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِ جُزْءٍ مِنْهَا أَيْضًا وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَلَوْ قُتِلَتْ وَأَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا كَانَ عَلَيْهِ دَفْعُ تِلْكَ الْقِيمَةِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ أَرْشَ جُزْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ حُرٌّ وَهُوَ زِيَادَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَحَقُّ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْأَجْزَاءِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ جَنَى عَلَيْهَا قَبْلَ جِنَايَتِهَا لَمْ يَدْفَعْ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْأَرْشَ مَعَهَا لِأَنَّ الْجُزْءَ الْفَائِتَ بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 37 لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ جِنَايَتِهَا فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِيهِ وَلَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ الْفَائِتِ بَعْدَ جِنَايَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهَا كَانَ قَبْلَ جِنَايَتِهَا أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَرْشَ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَأَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ يَدَّعُونَ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ يُنْكِرُ وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي بَيَانِ صِفَتِهَا حِينَ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ وَإِنْ كَانَ وَجَبَ الْأَرْشُ بَعْدَ جِنَايَتِهَا فَأَمْسَكَهَا الْمَوْلَى وَفَدَاهَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِذَلِكَ الْأَرْشِ فِي الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْفِدَاءَ حَتَّى اسْتَهْلَكَ أَوْ وَهَبَهُ الْجَانِي عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا لِأَنَّ الْأَرْشَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا فَتَصَرُّفُهُ فِي الْأَرْشِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهَا وَلَا يَتَعَذَّرُ دَفْعُهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَدَثَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ أَمَتَيْنِ فَاسْتَهْلَكَ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْأُخْرَى بِجِنَايَتِهَا ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ مِثْلَ مَا اسْتَهْلَكَ فَيَدْفَعُهُ مَعَهَا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَرْشِ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمَوْلَى بِتَصَرُّفِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ الْمَوْلَى جُزْءًا مِنْهَا بِجِنَايَتِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَوْلَى تَصَرَّفَ فِيهِ بِالْجِنَايَةِ وَالْجُزْءُ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِجِنَايَتِهِ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا وَلِهَذَا صَارَ الْمَوْلَى بِهِ مُخْتَارًا وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَيْهَا عَبْدًا فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَفْدِيَهُمَا بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْهَا فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْأَمَةِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَحُكْمُ الدَّفْعِ فِيهَا لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ إذَا تَعَذَّرَ دَفْعُ بَعْضِهَا بِتَصَرُّفِ الْمَوْلَى يَتَعَذَّرُ دَفْعُ كُلِّهَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ مَكَانَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَرْشِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْجَانِي إذَا كَانَ جُزْءًا لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ وَفِي الدَّرَاهِمِ لَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا ثَبَتَ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ فَأَمَّا هُنَا فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهُ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ التَّخَيُّرَ فِيهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِعْتَاقُهُ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يَثْبُتُ لَهُ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا اخْتِيَارًا لَهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْأَمَتَيْنِ إذَا جَنَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ جِنَايَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ فِي الْأُخْرَى فَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ اخْتَارَ دَفْعَ الْأَمَةِ دَفَعَ مَعَهَا قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ كَانَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ مَعَهَا وَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ بِالْإِعْتَاقِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ. (أَلَا تَرَى) الجزء: 27 ¦ الصفحة: 38 أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ فَقَأَ عَيْنَ الْأَمَةِ فَدَفَعَ بِهَا وَأَخَذَتْ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مَكَانَهَا يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيَهُ بِالدِّيَةِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا حِينَ دَفَعَ بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهَا عَبْدٌ فَدَفَعَ بِهَا وَلَوْ قَتَلَهَا حُرٌّ خَطَأً فَأَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا لَمْ يَقُلْ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْهَا أَوْ افْدِهَا وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُ قِيمَتَهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَالْأَرْشُ كَذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ الَّتِي قَبَضَهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَالْمَدْفُوعُ هُنَاكَ عَبْدٌ وَلِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضٌ فَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ دَفْعِ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْقِيمَةِ يَكُونُ مُقَيَّدًا. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَتْ جَارِيَةُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ خَطَأً قِيلَ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْهَا أَوْ افْدِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَجِنَايَةُ جَارِيَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهَا عَلَى عَبْدٍ مَمْلُوكٍ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ قَتَلَتْ عَبْدًا أَوْ مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهَا أَوْ يَفْدِيَهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ إعْطَاءَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ إعْطَائِهِ الْعَبْدَيْنِ لَوْ كَانَ قَائِمًا وَلَوْ أَعْطَاهُمْ الْعَبْدَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْطَاهُمْ قِيمَتَهُ بَعْدَ مَا قَتَلَتْهُ أَمَتُهُ. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً وَقَتَلَتْ الْأَمَةُ رَجُلًا وَهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْأَمَةَ خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ فَإِنَّهُ يُقْسِمُ عَلَى قِيمَة الْأَمَةِ وَدِيَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْأَمَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لِأَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَيْهَا فَثَبَتَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهَا وَحَقُّ أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ فِي الدِّيَةِ وَمَوْلَاهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ فِيهِ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ بِدِيَةِ الْحُرِّ وَأَوْلِيَاءُ الْأَمَةِ بِقِيمَتِهَا فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِدِيَةِ الْحُرِّ وَبِقِيمَةِ الْأَمَةِ لِأَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا. قَالَ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى مِنْهَا ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى قِيلَ لَهُ ادْفَعْهُ بِهَا أَوْ افْدِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَاهُ مِنْ الْأُولَى فَقَدْ طَهَّرَهُ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ مَا وَجَدَ مِنْهُ إلَّا الْجِنَايَةَ الْأُخْرَى فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْضِ مِنْ الْأُولَى شَيْئًا حَتَّى جَنَى الثَّانِيَةَ دَفَعَهُ بِهِمَا أَوْ فَدَاهُ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ اجْتَمَعَتَا فِي رَقَبَتِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ بِدَفْعِهِ وَيَقُولَ إنَّمَا لَحِقَنِي هَذَا الشَّغْلُ بِسَبَبِ مِلْكِي رَقَبَةَ الْعَبْدِ وَأَنَا أَتَخَلَّصُ بِدَفْعِهِ فَيَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَوْ يَفْدِيهِ بِأَرْشِهِمَا. وَإِذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ جَنَى فِي حَالِ رِقِّهِ جِنَايَةً عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إنَّمَا يُقِرُّ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ يَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى لَا شَيْءَ مِنْهُ عَلَى الْعَبْدِ قَبْلَ عِتْقِهِ وَلَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْحَالَيْنِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 39 فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَإِقْرَارُهُ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ جَنَتْ أَمَةٌ جِنَايَةَ فَقَالَ الْمَوْلَى كُنْت أَعْتَقْتهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ أَوْ دَبَّرْتهَا أَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مِنْ أَجْلِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ إنْ قَالَ هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ قَالَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فِي حَقِّهِمْ وَإِنْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ أَوْ التَّدْبِيرَ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ مُسْتَنِدًا إلَى مَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ حِينَ لَمْ يُصَدِّقْهُ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ فِيهِ. وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَأَخْبَرَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَلِيَّ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ لَمْ أُصَدِّقْهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ فِي اخْتِيَارِهِ يَطْلُبُ بِحَقِّهِ فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ فِي خَبَرِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ وَطَالَبَهُ بِإِحْضَارِ الْمَوْلَى وَتَكْلِيفِهِ الْجَوَابَ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى خَبَرِهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَيَكُونُ مُخْتَارًا وَكَذَلِكَ إنْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَاسِقًا كَانَ الرَّسُولُ أَوْ عَدْلًا لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فُضُولِيٌّ فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ الْعَبْدَ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ أَيْضًا وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ حَتَّى أَعْتَقَ الْعَبْدَ فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِيمَا يَكُونُ مُلْزِمًا وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ إيَّاهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ عِنْدَهُمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ لَا يُعْتَبَرُ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَهَذَا خَبَرُ الْمُلْزَمِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خَبَرُ الْفَاسِقِ إذَا كَانَ فُضُولِيًّا وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِهِ فَاسِقٌ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَذَلِكَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْدَى شَطْرَيْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْعَدَدُ فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ وَجَدَ الشَّطْرَ الْآخَرَ وَهُوَ الْعَدَالَةُ فِي حَقِّ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ. وَلَوْ جَنَى عَبْدُهُ جِنَايَةً فَقَالَ الْمَوْلَى كُنْتُ بِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ أَوْ قَالَ هُوَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لِي قَطُّ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ قِيلَ لِفُلَانٍ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَتْلَفَ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ شَيْئًا حِينَ أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ رَجُلٍ يُخَاطَبُ بِدَفْعِهِ أَوْ الْفِدَاءِ كَمَا كَانَ هُوَ يُخَاطِبُ بِهِ فَإِنْ كَذَّبَهُ فُلَانٌ قِيلَ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ أَنْتَ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَالْإِقْرَارُ بَطَلَ بِتَكْذِيبِ الْمَقَرِّ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيُخَاطَبُ ذُو الْيَدِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا فِي يَدِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 40 رَجُلٍ جَنَى جِنَايَةً فَقَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ هُوَ عَبْدُك فَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِيّ لِفُلَانٍ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةُ أَوْ رَهْنٌ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَخَّرَ الْأَمْرَ فِيهِ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَقَالَ زُفَرُ هُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى دَفْعِهِ فَيُجْعَلُ بِهِ مُقَوِّمًا لِلدَّفْعِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِكَلَامِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا وَاخْتِيَارُهُ يُبْنَى عَلَى كَوْنِهِ خَصْمًا فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ صَارَ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَالْإِثْبَاتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْخَصْمُ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ يَدِهِ فِيهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِهِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَا مَعْنَى لِجَعْلِهِ مُخْتَارًا مَعَ بَقَاءِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ فَدَاهُ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ أَخَذَ عَبْدَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَقَدْ اتَّصَلَ تَصْدِيقُهُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَقَدْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُتَبَرِّعًا فِي هَذَا الْفِدَاءِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ مُجْبَرًا عَلَيْهِ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْمَقَرِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ فَالْغَائِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ وَدَفَعَ الْأَرْشَ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ اتَّصَلَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ أَمْضَى دَفَعَهُ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَإِنْ اخْتَارَ الْأَرْشَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَبْدَهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الْغَائِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لَهُ فَمَا صَنَعَ الْأَوَّلُ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَطَلَ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ. وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ خَطَأً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ آخَرَ وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ قَطُّ وَصَدَّقَهُ الرَّجُلُ فَالْعَبْدُ لَهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّابِتَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتَةِ بِالْمُعَايَنَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْإِقْرَارُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ إنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْأَرْشِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ ثَبَتَتْ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ عَلَيْهِ بِهَا ثُمَّ صَارَ مُتْلِفًا الْعَبْدَ بِإِقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِهِ مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَذَلِكَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْفِدَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ إذَا كَانَ ذُو الْيَدِ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَبْلَ إقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ إقْرَارِهِ لِهَذَا الرَّجُلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ لِهَذَا الرَّجُلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مَا أَتْلَفَ شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِالْجِنَايَةِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ هُنَاكَ ذُو الْيَدِ قَدْ صَارَ مُخَاطَبًا بِالدَّفْعِ وَثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَإِذَا حَوَّلَهُ بِإِقْرَارِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ خُوطِبَ بِمَا كَانَ يُخَاطَبُ بِهِ الْمُقِرُّ وَهَا هُنَا بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ مَا ثَبَتَتْ بِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِشَيْءٍ. قَالَ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 41 جِنَايَةً ثُمَّ أَصَابَهُ عَيْبٌ سَمَاوِيٌّ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُخَاطَبُ بِدَفْعِهِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَهُ الْمَوْلَى فِي حَاجَةٍ فَعَطِبَ فِيهَا أَوْ اسْتَخْدَمَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا لَحِقَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الِاسْتِخْدَامِ فِي الْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَعَدِّيًا فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بَعْدَ جِنَايَتِهِ فَاسْتَغْرَقَ رَقَبَتَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ لِأَهْلِ الْجِنَايَةِ تَعَدِّيًا وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّفْعِ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِيَّتِهِ فِي الدَّيْنِ يَثْبُتُ بِذَلِكَ الْإِذْنِ فَيَصِيرُ الْمُتْلَفُ بِهِ كَالْمُتْلِفِ لِلْمَالِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ بِالْجِنَايَةِ حِينَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا فِي عَبْدٍ غَيْرِ مَشْغُولِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَهُ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَرْشَ الْعَيْنِ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْأَوَّلِ وَعَيْنُهُ كَانَتْ صَحِيحَةً فَيَثْبُتُ فِيهَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ فَاتَتْ وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا فَيَكُونُ الْبَدَلُ لَهُ وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلثَّانِي مَعَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَعْوَرُ فَلَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْعَيْنِ أَصْلًا ثُمَّ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا أَخَذَ مِنْ أَرْشِ الْعَيْنِ وَيَضْرِبُ فِيهِ الْآخَرُ بِالدِّيَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَ أَرْشُ الْعَيْنِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ فَيَضْرِبُ بِذَلِكَ فِي الْعَبْدِ وَالثَّانِي إنَّمَا يَضْرِبُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ كَمَالِ الدِّيَةِ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي فَقَأَ عَيْنَهُ عَبْدًا فَدَفَعَ بِهِ كَانَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ أَحَقَّ بِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ مَعَ الْآخَرِ بِالدِّيَةِ إلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ حَقِّهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا خَطَأً وَلِلْمَقْتُولِ وَلِيَّانِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِهِمَا بِقَضَاءِ قَاضٍ ثُمَّ قُتِلَ عِنْدَهُ آخَرُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّ الْآخَرِ وَالشَّرِيكُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْأَوَّلِ: ادْفَعْ نِصْفَك إلَى الْأَوَّلِ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ صَارَ مَمْلُوكًا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّمَا جَنَى عَلَى مِلْكِهِ فَيُخَاطَبُ بِأَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ النِّصْفَ أَوْ يَفْدِيَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فَإِنْ دَفَعَهُ بَرِئَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَيَرُدُّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَرُدُّهُ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ خَمْسَةِ آلَافٍ لِلْآخَرِ وَخَمْسَةِ آلَافٍ لِوَلِيِّ الْأَوَّلِ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا فَإِنْ دَفَعَهُ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا النِّصْفِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَّلَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 42 لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْآخِرَةِ وَرُبْعَهُ لِلَّذِي لَمْ يَكُنْ قُبِضَ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَضْمَنُ الْمَوْلَى الَّذِي كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ فِي يَدِهِ رُبْعَ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوْسَطِ لِأَنَّ هَذَا الرُّبْعَ اسْتَحَقَّهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْآخَرُ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَقَدْ كَانَ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ لِذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوْسَطِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي هَذَا الرُّبْعِ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيُجْمَعُ لَهُ رُبْعُ الْعَبْدِ وَرُبْعُ الْقِيمَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ كَانَ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ لِلْأَوْسَطِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمَوْلَى هَذَا الرُّبْعَ بِاعْتِبَارِ دَفْعِهِ إلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْلَى رَجَعَ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلِينَ خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ اجْتَمَعُوا وَاخْتَارُوا الدَّفْعَ فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَقَدْ تَمَّ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ثُمَّ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ هَذَا النِّصْفِ عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَيُؤْمَرُ بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ وَيَرُدُّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَى الْأَوْسَطِ وَالْآخَرُ يَضْرِبُ فِيهِ الْآخَرُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ وَيَضْرِبُ فِيهِ الْأَوْسَطُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ فَيَكُونُ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْأَوْسَطِ وَثُلُثُهُ لِلْآخَرِ ثُمَّ يَضْمَنُ الْمَوْلَى سُدُسَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْأَوْسَطِ وَهُوَ مَا سَلِمَ مِنْ هَذَا النِّصْفِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْسَطِ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ هَذَا النِّصْفِ وَكَانَ قَدْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ سُدُسَ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا السُّدُسِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَإِنْ شَاءَ الْأَوْسَطُ ضَمِنَ هَذَا السُّدُسَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ هَكَذَا يَقُولُهُ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ هَاهُنَا وَلَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَالِكًا لِهَذَا النِّصْفِ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ حِينَ يَكُونُ قَبَضَ الْأَوَّلَ جِنَايَةً عَلَى حَقِّهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَلَوْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ قَاضٍ كَانَ مِثْلَهُ هَذَا أَيْضًا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِلْأَوْسَطِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِسُدُسِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا وَإِذَا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ دَفَعَهُ إلَى الْأَوْسَطِ وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الْعِرَاقِيُّونَ الْأَوْسَطُ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِسُدُسِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى الْمَفْقُوءِ عَيْنُهُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ ثُمَّ اجْتَمَعُوا فَاخْتَارُوا دَفْعَهُ فَإِنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَدْفَعُ ثُلُثَهُ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الثُّلُثَ وَالْجِنَايَةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 43 الْأَخِيرَةُ مِنْ هَذَا الثُّلُثِ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَيَدْفَعُهُ بِهَا وَيَرُدُّ الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِينَ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالْآخَرُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ثُلُثُ حَقِّهِ فَيَكُونُ هَذَا مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْأَوَّلِ وَخُمُسَاهُ لِلْآخَرِ ثُمَّ يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ وَثُلُثَيْ جُزْءٍ مِنْ سِتَّةَ عَشْرَ جُزْءًا وَثُلُثَيْ جُزْءٍ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ فِي الْحَاصِلِ خَمْسًا بَدَلَ مَا سَلَّمَ لِلْآخَرِ مِنْ هَذَا الثُّلُثَيْنِ إلَّا إنَّهُ إذَا بَنَى الْجَوَابَ عَلَى الْقِسْمَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ ضَرَبَ فِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالْآخَرُ بِسِتَّةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ وَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ وَفِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعُهُ عَلَى الْمَوْلَى بِخُمُسَيْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَتْلَفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَاسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ. قَالَ وَإِذَا قَتَلَتْ الْأَمَةُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا ثُمَّ قَتَلَتْ الْبِنْتُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْبِنْتَ قَتَلَتْ الْأُمَّ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهَا ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأَمَةِ فِيهَا بِقِيمَةِ الْأُمِّ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْبِنْتَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَجَارِيَةٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ جِنَايَةِ الْأُمِّ لَا يَثْبُتُ فِي الْبِنْتِ ثُمَّ قَدْ وُجِدَ مِنْ الْبِنْتِ جِنَايَتَانِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْحُرِّ وَالْأُخْرَى عَلَى الْأُمِّ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِحَقِّ أَوْلِيَاءِ جِنَايَةِ الْأُمِّ فَإِنْ دَفَعَهَا الْمَوْلَى ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِمِقْدَارِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْأُمِّ وَوَلِيُّ الْحُرِّ بِالدِّيَةِ فَتُقْسَمُ الْبِنْتُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى فِدَاءَ الْبِنْتِ دَفَعَ قِيمَتَهَا إلَى وَلِيِّهَا وَقِيمَةَ الْأُمِّ إلَى وَلِيِّ الْأُمِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهَا بِمَا يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ فَقَأَتْ عَيْنَ الْأُمِّ. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهَا دَفَعَ الْأُمَّ بِجِنَايَتِهَا وَدَفَعَ الْبِنْتَ يَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِهَا بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ الْأَمَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْأُمِّ وَالْعَيْنُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَلِهَذَا ضَرَبُوا فِيهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فِيهِمَا فَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ أَرْشَ جِنَايَتِهَا وَقَدْ خَلَطْنَ بِحَقٍّ فِيهِمَا لِلْمَوْلَى وَلَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْأُمِّ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فِي الْأُمِّ وَالْفِدَاءَ فِي بِنْتٍ دَفَعَ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا وَفَدَى الْبِنْتَ بِالدِّيَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ نِصْفَ الْأُمِّ بِجِنَايَتِهَا وَهِيَ جِنَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ بِحَقِّ أَوْلِيَاءِ جِنَايَةِ الْأُمِّ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فِي الْبِنْتِ وَالْفِدَاءَ فِي الْأُمِّ فَدَى الْأُمَّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَدَفَعَ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا لِأَنَّهُ حِينَ فَدَى الْأُمَّ صَارَتْ هِيَ مُخَالِفَةً لَهُ فَجِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَلِهَذَا دَفَعَ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا وَلَوْ فَقَأَتْ الْأُمُّ عَيْنَ الْبِنْتِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 44 بَعْدَ مَا فَقَأَتْ عَيْنَهَا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُمَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْبِنْتَ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِهَا لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ فَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءَ قَتِيلِهَا بِالدِّيَةِ وَوَلِيَّ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ مِنْ الْبِنْتِ مَعَ الْأُمِّ وَيَدْفَعُ الْأُمَّ وَمَا أَصَابَهَا بِأَرْشِ عَيْنِهَا مِنْ الْبِنْتِ فَيَكُونُ مَا دَفَعَ بِهَا مِنْ الْبِنْتِ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّ الْأُمَّ حِينَ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى كَانَتْ عَيْنُهَا صَحِيحَةً فَيَثْبُتُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي بَدَلِ تِلْكَ الْعَيْنِ. وَلَا مُزَاحَمَةَ فِيهِ لِأَوْلِيَاءِ جِنَايَةِ الْبِنْتِ وَهِيَ عَوْرَاءُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي بَدَلِ عَيْنِهَا ثُمَّ يَضْرِبُ وَلِيُّ قَتِيلِ الْأُمِّ فِي الْأُمِّ بِمَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ وَيَضْرِبُ فِيهَا وَلِيُّ جِنَايَةِ الْبِنْتَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنْتِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ فِي الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأُمِّ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهَا عَلَى نِصْفِ الْبِنْتِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَالُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ سَلِمَ لَهُ هَذَا وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ لِأَنَّ عِنْدَ دَفْعِ الْبِنْتِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا شَيْءٌ بَعْدُ فَيَضْرِبُونَ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلِرَجُلٍ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَهُ عَنْ الْأَلْفِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهَذَا الْإِبْرَاءِ حُكْمٌ تِلْكَ الْقِسْمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْفِدَاءَ فِيهِمَا فَدَاهُمَا بِدِيَتَيْنِ وَأَمْسَكَهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ يُفْدِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِدِيَةِ قَتِيلِهَا وَقَدْ خَلَصَتَا لِلْمَوْلَى وَلَا يُعْتَبَرُ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا. قَالَ وَإِذَا قَتَلَتْ الْأَمَةُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا ثُمَّ إنَّ ابْنَتَهَا قَتَلَتْهَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَوْلَاهَا ادْفَعْهَا أَوْ افْدِهَا بِقِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْبِنْتَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَجَارِيَةٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى. وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ وَهِيَ حَامِلٌ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا فَالْوَلَدُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَلَدَ زِيَادَةٌ انْفَصَلَتْ عَنْهَا قَبْلَ تَقَرُّرِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِيهَا وَإِذَا وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ الدَّفْعِ فَهُوَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ. وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً خَطَأً ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدَهَا فَقَطَعَ الْوَلَدُ يَدَهَا فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْأُمَّ وَنِصْفَ قِيمَتِهَا إلَى أَهْلِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهَا وَوَلَدَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَعْطَى الْأَرْشَ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ مَمْلُوكٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا وَقَدْ أَتْلَفَ الْوَلَدُ نِصْفَ الْأُمِّ فَتُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا بِحَقِّ أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا فَلِهَذَا خَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا سَوَاءٌ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلَ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَأَخَذَ الْأَرْشَ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ أَرْشَ جِنَايَتِهَا وَأَمْسَكَ الْبَاقِيَ لِأَنَّ جِنَايَةَ عَبْدِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرَةٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا قَبَضَ الْأَرْشَ الْتَحَقَ ذَلِكَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 45 فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ ذَلِكَ أَرْشَ جِنَايَتِهَا وَيُمْسِكَ مَا بَقِيَ مَعَهَا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ أَرْشَ جِنَايَتِهَا مِنْ سَائِرِ أَمْلَاكِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَجِنَايَةُ الْوَلَدِ عَلَيْهَا هُنَاكَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِحَقِّ الْأُمِّ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لِحَقِّ وَلِيِّ جِنَايَتِهَا وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ جِنَايَتِهَا فَقَالَ الْوَلِيُّ جَنَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَهَا فَالْأَرْشُ لِي وَقَالَ الْمَوْلَى جَنَتْ بَعْدَ الْفَقْءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلِيَّ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ مَالٍ فِي يَدِ الْمَوْلَى وَيَدَّعِي تَارِيخًا فِي جِنَايَتِهِ سَابِقًا عَلَى وُجُوبِ الْأَرْشِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي جَنَى عَلَيْهَا الْقَتِيلُ نَفْسَهُ أَوْ وَلِيَّهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُنْكِرُ سَبْقَ تَارِيخٍ يَدَّعِيه الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمَوْلَى إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيه بِالْبَيِّنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْبِئْرِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي طَرِيقٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ عَلِمَ بِمَا حَفَرَ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْحَافِرَ عِنْدَ الْوُقُوعِ يَصِيرُ جَانِيًا بِسَبَبِ الْحَفْرِ السَّابِقِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَفْرَ كَانَ تَعَدِّيًا مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَيَصِيرُ جَانِيًا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْحَفْرِ كَالْمُعَلَّقِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ فَعِنْدَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ يَصِيرُ مُطَلِّقًا وَمُعْتَقًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَذَلِكَ الْفِعْلُ كَانَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَمُوجِبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَاسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْحَفْرِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنْ يَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَكَانَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ اشْتَرَكَا فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى الثَّانِي بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ صَارَ جَانِيًا عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْحَفْرُ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ مَا اسْتَهْلَكَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا الْعَبْدُ فَهُوَ وَارِثُهُ تَرِكَةً فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ مَا عَتَقَ فَقَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَالْتَحَقَ هُوَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَهُ هَدَرٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ وَقَعَ الْعَبْدُ فِيهَا فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ الْحَفْرِ السَّابِقِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَعْتَقَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَانِيًا حُكْمًا وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجَانِيَ بِالْحَفْرِ هُوَ الْمَوْلَى حَتَّى إنَّ عِنْدَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 46 وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِيهَا يَكُونُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى الْمُعْتِقِ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْمُعْتِقِ فِيهَا كَوُقُوعِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَغْرَمُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لِوَرَثَتِهِ وَلَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَا يَعْلَمُ بِوُقُوعِ الرَّجُلِ فِيهَا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِعْتَاقِ مُسْتَهْلِكًا لَا مُخْتَارًا وَإِنْ عَلِمَ بِمَوْتِ الرَّجُلِ فِيهَا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا بِالْإِعْتَاقِ فَقَدْ صَارَ مُتَخَيِّرًا بِمَوْتِ الرَّجُلِ فِيهَا وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ إعْتَاقُهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُتَخَيِّرًا قَبْلَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إعْتَاقُهُ اخْتِيَارًا فَإِنْ وَقَعَ آخَرُ فِيهَا فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُقَاسِمُ صَاحِبَ الدِّيَةِ فَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ قِيمَةٍ أُخْرَى لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْآخَرِ وَلَا يُشْرِكُ الْأَوَّلُ فِي الدِّيَةِ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى إيَّاهُ اخْتِيَارُ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ وَلَكِنَّهُ أَمْسَكَهُ وَأَدَّى الدِّيَةَ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرِ أَوْ يُفْدِيَهُ بِالدِّيَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَصِيرُ هُوَ بِالْإِعْتَاقِ فِي حَقِّ الثَّانِي مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ فَيَغْرَمُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ دَفْعُهُ الدِّيَةَ إلَى الْأَوَّلِ بِسَبَبِ إعْتَاقِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ الْقِيمَةَ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ هُنَاكَ الْمَوْلَى لَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ إذَا وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ آخَرُ وَلَكِنَّ الثَّانِيَ شَارَكَ الْأَوَّلَ فِيمَا قَبَضَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ غَرِمَ جَمِيعَ مُوجِبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ بَعْد ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِوُقُوعِ الثَّانِي فِيهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَجَدُّدُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ حُرٌّ حِينَ وَقَعَ فِيهِ الثَّانِي وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا أَمْسَكَهُ وَأَدَّى الدِّيَةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَ وُقُوعِ الثَّانِي فِيهِ صَارَ جَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْحَفْرِ السَّابِقِ وَهَذَا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِمُوجِبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ النِّصْفُ أَوْ يَفْدِيه وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ قُلْنَا وَلِيُّ الثَّانِي يَضْرِبُ مَعَ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبَضَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ لَا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَالْمَوْلَى فِي حَقِّهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ وَحَقُّ الْأَوَّلِ فِي الدِّيَةِ فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا فِي حَقِّهِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ وَلَوْ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَيْهِمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقَّيْهِمَا. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا عَشَرَةُ آلَافٍ لِصَاحِبِ النَّفْسِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ لِصَاحِبِ الْعَيْنِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَم بِهِمَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لِلْعَبْدِ عَلَيْهِمَا بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْقَتْلِ وَلَا يَعْلَمُ بِالْعَيْنِ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِذَلِكَ وَعَلَيْهِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 47 لِصَاحِبِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِي حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَيَغْرَمُ لَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهَا أَحَدٌ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَعَلَى الْبَائِعِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ إزَالَتَهُ الْعَبْدَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ إزَالَتِهِ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِيهَا الْعَبْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى الْبَائِعِ قِيمَتُهُ لِلْمُشْتَرِي وَفِي رِوَايَةٍ مُحَمَّدٍ دَمُهُ هَدَرٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعِتْقِ. قَالَ: وَإِذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَقَالَ: الْمَوْلَى أَنَا كُنْتُ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ عَاقِلَتُهُ وَلَمْ يُصَدِّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَصَارَ الْمَوْلَى مُخَاطَبًا بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إيجَابِ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا فِي تَفْرِيغِ الْعَبْدِ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ إذَا كَذَّبَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ صَدَّقَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِتَصَادُقِهَا عَلَى ذَلِكَ وَالْحَقُّ لَا يُعَدُّ وَهْمًا فَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمَوْلَى لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَفْرِ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ بِأَمْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ وَقَعَ إنْسَانٌ فِي بِئْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَأَقَرَّ رَجُلٌ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَفَرَ الْبِئْرَ كَانَ مُصَدِّقًا عَلَى نَفْسِهِ دُونَ عَوَاقِلِهِ وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَحُرًّا يَحْفِرَانِ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمَا فَمَاتَا فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا الْعَبْدَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَقَدْ تَلِفَ فِي عَمَلِهِ ثُمَّ تِلْكَ الْقِيمَةُ تَكُونُ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ جَانِيًا عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَسْتَوْفِي وَلِيُّهُ ذَلِكَ الْبَدَلَ بِحَقِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْمَوْلَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَةِ كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ وَفِي ضَمَانِهِ ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ وَقَدْ صَارَ الْحُرُّ جَانِيًا عَلَى نِصْفِهِ فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَاصِبٍ لَهُ وَكَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْحُرَّ صَارَ جَانِيًا عَلَى نِصْفِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ. وَإِذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَدَفَعَهُ مَوْلَاهُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنَّ وَلِيَّ الْقَتِيلِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ نِصْفَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ جَانِيًا عَلَى الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَبِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ يَكُونُ نِصْفُ قِيمَةِ حَقِّ وَلِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ وُقُوعُ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ بِجِنَايَتِهِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْعَبْدُ مَا كَانَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ حَقٌّ فِي الْعَبْدِ وَبِوُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ وَلِيِّهِ كَانَ تَامًّا يَوْمئِذٍ وَإِنَّمَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 48 يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ وَلَكِنْ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مِلْكُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَكِنَّهُ فِي الْخِيَارِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ وَلَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوَّلًا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَدَفَعَهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ فَإِنَّ وَلِيَّ الْقَتِيلِ يَدْفَعُ ثُلُثَهُ إلَى الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ آخِرًا أَوْ يَفْدِيه بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْحَاصِلِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ اثْنَانِ فِي الْبِئْرِ وَوَاحِدٌ بِيَدِهِ وَقَدْ صَارَ حِصَّةُ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِلَّذِي قَتَلَهُ بِيَدِهِ مَعَ حِصَّتِهِ وَذَلِكَ ثُلُثَانِ مِنْ الْعَبْدِ وَالثُّلُثُ مِنْهُ حَقُّ وَلِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ آخِرًا وَقَدْ قَامَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مَقَامَ الْمَالِكِ فِيهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الثُّلُثَ أَوْ يَفْدِيَهُ بِالدِّيَةِ. وَإِذَا حَفَرَ الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بِالْحَفْرِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْوُقُوعِ بِهِ كَجِنَايَتِهِ بِيَدِهِ وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ تُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى بِهِ قَضَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ كَانَ أَمِيرًا بِالشَّامِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَاتُوا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ قِيمَتُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا قِيمَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَوْمَ حَفَرَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّهُ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَلَا يَغْرَمُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً وَالْجِنَايَةُ مِنْ الْمُدَبَّرِ سَبَبُهَا كَانَ هُوَ الْحَفْرَ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ بِيَدِهِ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَ جَنَى وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا وَقَعَ فِيهَا بَعْضُهُمْ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُدَبَّرِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى ابْتِدَاءً فَمَوْتُ الْمُدَبَّرِ وَحَيَاتُهُ وَعِتْقُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَةً بِيَدِهِ شَارَكَ أَهْلُهَا فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ جَنَى بِيَدِهِ أَلْفَيْنِ فَعَلَى الْمَوْلَى أَلْفُ دِرْهَمٍ لِهَذَا خَاصَّةً لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَقْتَ جِنَايَتِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ صَارَ مَانِعًا دَفْعَهُ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ وَهَذِهِ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْآنَ فَعَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَقَدْ غَرِمَ مَرَّةً أَلْفًا فَيَغْرَمُ لِهَذَا أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ يَضْرِبُ هُوَ فِي الْقِيمَةِ الْأُولَى مَعَ أَهْلِهَا بِتِسْعَةِ آلَافٍ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِقْدَارُ أَلْفٍ فَيَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْبِئْرِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةَ رَهْطٍ مُدَبَّرًا وَمُكَاتَبًا وَعَبْدًا وَحُرًّا يَحْفِرُونَ لَهُمْ بِئْرًا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 49 فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَمَاتُوا وَلَمْ يُؤْذَنْ لِلْمُدَبَّرِ وَلَا لِلْعَبْدِ فِي الْعَمَلِ فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: تَلِفَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ فَيُهْدَرُ رُبْعُ نَفْسِهِ وَتُعْتَبَرُ جِنَايَةُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَالْمُدَبَّرُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْقِنِّ ثُمَّ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ رُبْعُ دِيَةِ الْحُرِّ فِي رَقَبَةِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ وَلِوَلِيِّ الْمُكَاتَبِ رُبْعُ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ فِي رَقَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيَضْرِبُ فِي هَاتَيْنِ الْقِيمَتَيْنِ وَدِيَةُ الْحَرِّ بِنِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ الْمُكَاتَبِ فَيَقْسِمَانِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَاهُمَا بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةِ قِيمَةٍ كَانَتْ مِنْهُمَا فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ رُبْعُ قِيمَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مِلْكُ الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِلْمُدَبَّرِ بِاسْتِحْقَاقِ بَدَلِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِرُبْعِ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَهُ فِي رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ رُبْعُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ فِي رَقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ قِيمَتِهِ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي أَخْلَفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بَعْضُهُ قِصَاصًا مِنْ بَعْضٍ وَيُتَرَادَّانِ الْفَضْلَ وَلَوْ مَعَ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ أَتْلَفَ رُبْعَ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى رُبْعِ الْحُرِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ فَيَأْخُذُونَ رُبْعَ الدِّيَةِ وَيَرُدُّونَ الْفَضْلَ عَلَى مَوْلَى الْمُكَاتَبِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: قِيمَةُ الْمَمْلُوكِ فِي الْجِنَايَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ يَعْنِي الْمُدَبَّرَ وَالْعَبْدَ رُبْعُ قِيمَتِهِ فِي قِيمَة الْآخَرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ فَلَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهُ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدَانِ مَأْذُونًا لَهُمَا فِي الْعَمَلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ الْغَصْبِ وَرُبْعُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَكَذَلِكَ رُبْعُ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَةِ الْحُرِّ فِي أَعْنَاقِهِمْ فِي عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعٌ فَإِذَا عَقَلَتْ عَاقِلَةُ الْحُرِّ رُبْعَ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخَذَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُلْنَا: يُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَى الْمُدَبَّرِ قِيمَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ فَيَكُونُ مُوجِبُ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقِيمَةُ مِثْلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ فَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ فِيهِ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِرُبْعِ الدِّيَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ وَمَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ تَرَكَ وَفَاءً أَخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ تَمَامَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْمُكَاتَبِ إذَا اجْتَمَعَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً فِي كَسْبِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ فِيهَا وَلِيُّ الْحُرِّ بِرُبْعِ الدِّيَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ وَمَوْلَى الْمُدَبَّرِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَى الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 50 لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلُ عَبْدِهِ وَأَوْلِيَاءُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ مَوْلَاهُ فَيَضْرِبُ فِي ذَلِكَ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ وَمَوْلَى الْمُدَبَّرِ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَمَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ جَنَى عَلَى رُبْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلِهَذَا كَانَتْ قِيمَةُ بَدَلِهِ بَيْنَهُمْ. [بَابُ الْجِنَايَاتِ بِالْكَنِيفِ وَالْمِيزَابِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ كَنِيفًا شَارِعًا مِنْ دَارِهِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ مِيزَابًا أَوْ مَصَبًّا أَوْ صَلَايَةً مِنْ حَائِطٍ فَمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ دِيَتُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ حَتَّى شَغَلَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَحْدَثَهُ فِيهِ إمَّا فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ أَوْ فِي هَوَاهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَارَّةِ وَبَيْنَ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ وَفِي الْمِيزَابِ إذَا أَصَابَ الَّذِي فِي الْحَائِطِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي مَوْضِعِ هَذَا الطَّرَفِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَوْ وَضَعَ خَشَبَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَتَعَرْقَلَ بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ بِالْخَشَبَةِ الَّتِي وَضَعَهَا فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَنَى فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا أَوْ جَلَسَ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَضَعَ ظِلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنْ وَطِئَ الْمَارُّ عَلَى الْخَشَبَةِ وَوَقَعَ فَمَاتَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ الزَّلَقَ قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُوطَأُ عَلَى مِثْلِهَا فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ عَلَى مِثْلِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي وَضَعَهَا لِأَنَّ وَطْأَهُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْخَشَبَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعَمُّدِ الزَّلَقِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ التَّعَرْقُلِ بِالْحَجَرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى الطَّرِيقِ عَمْدًا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ فَطَرَيَانُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسْبِيبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَأَلْقَى إنْسَانٌ نَفْسَهُ فِيهَا عَمْدًا فَإِنْ قَالَ وَاضِعُ الْحَجَرِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَمَّدَ التَّعَرْقُلَ بِهِ وَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْبِئْرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاضِعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَاضِعِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْمَجْرُوحَ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فَبَعْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْعَارِضِ الْمُسْقِطِ، وَهَا هُنَا الْوَاضِعُ وَالْحَافِرُ يَدَّعِي صَلَاحِيَةَ الْعِلَّةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْعِلَّةِ لِذَلِكَ، وَالْأَصْلُ هُوَ الصَّلَاحِيَةُ فَكَانَ هُوَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ مَعْنًى مُنْكِرًا لِسَبَبِ الضَّمَانِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَإِذَا تَعَرْقَلَ الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فَوَقَعَ عَلَى حَجَرٍ وَمَاتَ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ دَافِعٌ لَهُ بِحَجَرِهِ عَلَى الْحَجَرِ الثَّانِي فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاضِعٌ فَهُوَ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَجَرِ الثَّانِي سَبَبٌ وَهُوَ التَّعَدِّي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 51 وَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَةُ الْقَتْلِ إلَى مَا دَفَعَهُ عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُضَافًا إلَى الْحَجَرِ الثَّانِي، وَأَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ مُبَاشَرَةٌ قَتْلٌ مَحْظُورٌ [بَابُ الْغَصْبِ فِي الرَّقِيقِ مَعَ الْجِنَايَةِ.] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَقَتَلَ الْعَبْدُ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ اخْتَصَمُوا فَإِنَّ الْعَبْدَ يُرَدُّ إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْغَصْبَ حَرَامٌ مُسْتَحِقٌّ الْفَسْخَ وَفَسْخُهُ بِالرَّدِّ عَلَى مَوْلَاهُ؛ وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ تَخْيِيرُ الْمَالِكِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَالِكُ هُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَهُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ دَفْعِهِ بِهَا دُونَ الْغَاصِبِ فَيَرُدُّهَا إلَيْهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ أَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا فَدَاهُ بِهِ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حِينَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَةٍ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَلِأَنَّ فَسْخَ فِعْلِ الْغَاصِبِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِرَدِّهِ كَمَا قَبَضَهُ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ فَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ حُكْمُ فِعْلِهِ كَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَخَلَّصُ بِالْأَقَلِّ مِنْهُمَا فَهُوَ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ مُخْتَارٌ، فَحَقُّ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِمَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ دُونَ مَا هُوَ مُخْتَارٌ لَهُ وَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الْأَقَلِّ. وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ حَتَّى إنْ كَانَ زَادَ عِنْدَهُ خَيْرًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمَّا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ جُعِلَ كَالْهَالِكِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ غَصْبِهِ وَإِنْ حَدَثَ فِيهِ عَيْبٌ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ فَمَا وَجَبَ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى لِفَرَاغِهِ عَنْ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ ذَهَبَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَاخْتَارَ دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ رُجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ وَيُدْفَعُ نِصْفُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ فِي الْعَيْنِ الَّذِي ذَهَبَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَالْعَيْنُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَلِهَذَا دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمَوْلَى وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِالنِّصْفِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ أَعْوَرَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ أَعْوَرَ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَهُوَ أَعْوَرُ فَيَرْجِعُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَلِمَا جَنَى عَبْدُهُ مِنْ جِنَايَةٍ أَوْ لَحِقَهُ مِنْ دَيْنٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ وَلَا يَضْمَنُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 52 أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ وَمَالِيَّتَهُ اُسْتُحِقَّتْ بِمَا حَدَثَ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَلَكِنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ إنَّمَا يَتَقَدَّرُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ قَائِمًا يُمَكَّنُ مِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْغَاصِبُ مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْلَى هَذِهِ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ بِنِيَّتِهِ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَقَدْ فَاتَتْ وَأَخْلَفَتْ هَذَا الْبَدَلَ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِقِيمَةٍ أُخْرَى عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْأُولَى اُسْتُحِقَّتْ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ رُجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْقِيمَةُ يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةٍ أُخْرَى حَتَّى تَخْلُصَ لَهُ قِيمَتُهُ قَائِمَةً مَقَامَ عَبْدِهِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ وَلَكِنْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ فَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْلَى أَعْوَرَ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ ثُمَّ اجْتَمَعُوا فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِنْ الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ الَّتِي فَاتَتْ عِنْدَهُ فَيَدْفَعُهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ كَانَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْعَيْنِ لِقِيَامِهَا عِنْدَ جِنَايَتِهِ وَحَقَّ الثَّانِي مَا ثَبَتَ فِي تِلْكَ - الْعَيْنِ فَإِذَا سَلَّمَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِلْأَوَّلِ ضَرَبَ هُوَ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا أَخَذَ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمَأْخُوذَ سَالِمٌ لَهُ فَلَا يَضْرِبُ بِهِ وَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ وَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِالدِّيَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ. وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا أَصَابَ الْأَوَّلَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَعْوَرَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَبْدِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَا أَصَابَ الْبَاقِيَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَتْ عِنْدَ الْمَوْلَى ثُمَّ يَرْجِعُ أَوْلِيَاءُ الْأَوَّلِ فِيمَا أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِتَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي عَبْدٍ صَحِيحٍ فَارِغٍ فَمَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ كَمَالُ حَقِّهِ لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِمِثْلِ مَا أَخَذَ مِنْهُ لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَيَكُونُ قَرَارُ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ. وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى فَقَتَلَ عِنْدَهُ آخَرَ خَطَأً فَاخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ بِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي رَقَبَتِهِ ثُمَّ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ اُسْتُحِقَّ قَبْلَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ يَدْفَعُ هَذَا النِّصْفَ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ أَيْضًا عَلَى الْغَاصِبِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى وَهَذَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 53 قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: يَأْخُذُ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ مِنْ الْغَاصِبِ فَيُسَلَّمُ لَهُ وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَالْقِيَاسُ هَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَوْ أَمَرَ بِدَفْعِ ذَلِكَ النِّصْفِ إلَيْهِ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ هَذَا وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ عَدَمِ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لِتَقُومَ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ وَذَلِكَ النِّصْفُ سَالِمٌ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا حَقَّ لَهُ فِي بَدَلِهَا وَالنِّصْفُ الَّذِي أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَاتَ وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ النِّصْفِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْوَلِيِّ فَلَا يَكُونُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا: حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَارِغًا وَإِنَّمَا سُلِّمَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَعَ بَقَاءِ نِصْفِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَكِنْ يُدْفَعُ إلَيْهِ هَذَا النِّصْفُ مِنْ الْقِيمَةِ حَتَّى يُسَلَّمَ لَهُ كَمَالُ حَقِّهِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ قِيمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ الْمَوْلَى وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِهِمَا فَإِنَّهُ يُرْجَعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ رُجُوعَ الْوَلِيِّ هُنَاكَ بِقِسْمَةِ نِصْفِ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِنَايَةَ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَقَدْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثَابِتًا فِيهِ وَهَا هُنَا رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ النِّصْفِ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ هَذَا فِي مَا بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمَوْلَى بَدَلٌ عَنْ النِّصْفِ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَأَمَّا فِي حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ النِّصْفِ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ أَوْ مَا يَأْخُذُهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ الْقِيمَةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنْ النِّصْفِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى وَلِيِّهِ حَالَ فَرَاغِهِ عَنْ كُلِّ حَقٍّ وَصَيْرُورَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَوْلَى فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْعَبْدِ بِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يَبِيعُ خَمْرًا يَقْضِي بِالثَّمَنِ دَيْنَ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ يَطِيبُ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْمَقْبُوضَ ثَمَنُ الْخَمْرِ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إنَّمَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ بِاعْتِبَارِ دَيْنِهِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَدَلُ الْخَمْرِ فَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ جَنَى الْجِنَايَةَ الْأُولَى عِنْدَ الْمَوْلَى وَالثَّانِيَةَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الْعَبْدَ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَهُوَ بَدَلُ مَا اسْتَحَقَّهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا النِّصْفِ مِنْ الْقِيمَةِ كَانَ بِجِنَايَةٍ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 54 مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبُ غَصَبَ الْعَبْدَ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ رَدَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ وَلَوْ رَدَّ جَمِيعَ الْقِيمَةِ فَاسْتَحَقَّهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بَعْدَ مَا هَلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَاسْتَحَقَّهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى. ثُمَّ بَنَى الْمَسَائِلَ إلَى آخِرِ الْبَابِ بَعْدَ هَذَا عَلَى فَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ عَلَى مَالِهِ مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ صَاحِبِيهِ هَدَرٌ وَأَمَّا جِنَايَتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ أَوْ عَلَى مَالِ الْغَاصِبِ فَهَدَرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا مُعْتَبَرٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْغَصْبِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْغَاصِبَ مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمِلْكِ تُنَفَّذُ فِيهِ مِنْ الْمَوْلَى دُونَ الْغَاصِبِ وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ دُونَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رُجُوعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ يَكُونُ بِسَبَبِ الْغَصْبِ لَا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَرَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِ مَالِكِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَكُونُ خَطَأً هَدَرٌ إمَّا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ مَمْلُوكٍ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِيَّتِهِ وَالْمَالِكُ لَا يَسْتَحِقُّ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ فِيمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَالِ كَجِنَايَةِ الْمَالِكِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ هَدَرٌ فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مَمْلُوكِهِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ تُهْدَرُ جِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَوْلَاهُ فِيمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَالِ ثُمَّ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ الْمَغْصُوبُ كَغَيْرِهِ حَتَّى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ كَانَ ذَلِكَ هَدَرًا وَإِذَا قَتَلَهُ الْغَاصِبُ كَانَ مُعْتَبَرًا فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ قُلْنَا: تُهْدَرُ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَتُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَأَجْنَبِيٍّ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي جِنَايَتِهِ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً وَبِأَنْ كَانَ مَغْصُوبًا عَلَى الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ اعْتِبَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا جَنَى عَلَى الرَّاهِنِ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالْقَبْضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَائِدَةً وَهُوَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْغَاصِبُ رَقَبَتَهُ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَمَا ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ بِسَبَبِ الْغَصْبِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ وَلِلْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ غَرَضٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ لِيَتَمَلَّكَ بِهِ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْغَاصِبُ فِي حُكْمِ جِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ كَالْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ قَرَارُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْغَاصِبِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 55 وَاسْتِحْقَاقُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى مَالِكِهِ فَلَمَّا كَانَ قَرَارُ ضَمَانِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ هَاهُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ كَالْمَالِكِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إهْدَارَ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْمِلْكِ بَلْ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا غَيْرُ مُفِيدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ مَوْلَاهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هَاهُنَا: لَوْ اعْتَبَرْنَا جِنَايَتَهُ عَلَى مَوْلَاهُ أَوْ عَلَى مَالِ مَوْلَاهُ كَانَ مُفِيدًا لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِهِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْعَبْدَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ فَلِكَوْنِهِ مُفِيدًا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبِرًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ مَالِيَّتَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِتِلْكَ الْمَالِيَّةِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ تَكُونُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فِي جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْغَاصِبِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِهَا عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةٍ أُطْلِقَ جَوَابُهَا فِي آخَرِ الْبَابِ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الدَّفْعَ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْمَالِيَّةَ فَقَطْ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَلَمْ يَغْرَمْ إلَّا قِيمَتَهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جِنَايَةِ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ اعْتِبَارَ جِنَايَةِ الْمَرْهُونِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَا فَائِدَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِضَمَانِ مَالٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَقَرَّرَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا جِنَايَتَهُ وَجَعَلْنَا قَرَارَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنَ لَا يُتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لِلْمُرْتَهِنِ وَهَا هُنَا ضَمَانُ الْغَصْبِ إذَا تَقَرَّرَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ وَأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فَوُضِّحَ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ لَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ جُعِلَ الْغَاصِبُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ عَبْدًا آخَرَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِبَارِ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ لَمَّا اعْتَبَرْنَا جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَاهُنَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ هُوَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ جِنَايَتُهُ عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَجْعَلُ قَتْلَهُ نَفْسَهُ كَمَوْتِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. فَكَذَلِكَ قَتْلُهُ عَبْدًا آخَرَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ يُجْعَلُ كَمَوْتِ ذَلِكَ الْعَبْدِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ جِنَايَتَهُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ لَزِمَنَا جَعْلُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 56 جِنَايَتِهِ كَجِنَايَةِ مَالِكِهِ عَلَى مَا قَالَا: إنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَجِنَايَةِ الْمَالِكِ فَلَوْ قَتَلَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ فَكَانَ يَنْبَغِي إذَا قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا وَاسْتِدْلَالُهُمَا بِهَذَا الْفَصْلِ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لَهُ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الضَّمَانُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ كَانَ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَاصِبُ كَالْمَالِكِ وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِجِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلِهَذَا افْتَرَقَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: إذَا عَرَفْنَا هَذَا احْتَجْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: لَوْ غَصَبَ عَبْدًا وَجَارِيَةً فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَهُ قَتِيلًا ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ رَدَّهُ الْغَاصِبُ إلَى الْمَوْلَى فَاخْتَارَ دَفْعَهُ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ فِيهِ أَوْلِيَاءَ قَتِيلِهِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِهَا بِقِيمَتِهَا لِأَنَّهُ جُنِيَ عَلَيْهَا وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ فِيهَا أَصْلًا. وَالرَّدُّ فِي الْعَبْدِ لَمْ يُسَلَّمْ حِينَ اُسْتُحِقَّ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِذَا اسْتَوْفَى قِيمَتَهُ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَأَخْلَفَتْ عِوَضًا وَقَدْ كَانَتْ نَفْسُهَا مُسْتَحِقَّةً لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِمْ مِنْ قِيمَتِهَا ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ جَنَتْهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ وَيَأْخُذُ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْعَبْدِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَارِغًا وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ إلَّا الْبَعْضُ وَقَدْ أَخْلَفَ الْعَبْدُ عِوَضًا فَيُسْتَوْفَى مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ وَلَوْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ وَأَدَّى دِيَةَ قَتِيلِ الْعَبْدِ وَأَدَّى قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ فِدَاءَ الْعَبْدِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ وَجِنَايَتُهُ كَانَتْ عَلَى الْحُرِّ وَعَلَى الْجَارِيَةِ ثُمَّ يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ لِانْعِدَامِ الرَّدِّ فِي الْجَارِيَةِ وَانْعِدَامِ سَلَامَةِ الرَّدِّ فِي الْعَبْدِ بِدُونِ الْأَرْشِ وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْغَاصِبُ بَعِيدًا أَوْ كَانَ غَائِبًا فَإِذَا كَانَ حَاضِرًا وَتُمْكِنُ الْمَوْلَى أَخْذَهَا مِنْهُ. فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الطَّوِيلَةَ وَبَيَّنَ التَّقْسِيمَ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: إذَا اغْتَصَبَ عَبْدًا وَجَارِيَةً وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَهُ قَتِيلًا ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَعَهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِتَعَذُّرِ رَدِّهَا بِالْهَلَاكِ ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْلَى هَذِهِ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لَهُ وَقَدْ مَاتَتْ وَأَخْلَفَتْ قِيمَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ قِيمَتِهَا مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَتِهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ كَاسْتِحْقَاقِ عَيْنِهَا فَيُرْجَعُ بِقِيمَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 57 لِتَقُومَ مَقَامَ الْجَارِيَةِ لِلْمَوْلَى فَارِغَةً كَمَا غَصَبَهَا ثُمَّ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي الْعَبْدِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ. فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ أَفْدَاهُ بِالدِّيَةِ وَرُجِعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ أَفْدَاهُ بِالدِّيَةِ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ وَإِلَى الْغَاصِبِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لَمَّا تَقَرَّرَتْ عَلَى الْغَاصِبِ فَقَدْ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ جَنَى عَلَى أَمَةِ الْغَاصِبِ وَهُوَ هَدَرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هُوَ مُعْتَبَرٌ فَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَفِدَاءُ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ هُوَ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْغَاصِبِ وَاسْتَوْجَبَ الْغَاصِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ لِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ أَوْ اعْتِبَارِهِ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْأَمَةِ فَيَقَعُ الْمُقَاصَّةُ لِاسْتِوَاءِ الْقِيمَتَيْنِ فَلِهَذَا لَا يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ. وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ جِنَايَتَانِ مُعْتَبَرَتَانِ جِنَايَةٌ عَلَى الْحُرِّ فَيُضْرَبُ وَلِيُّ الْحُرِّ فِيهِ بِالدِّيَةِ وَجِنَايَةٌ عَلَى الْأَمَةِ فَيُضْرَبُ الْغَاصِبُ فِيهِ بِقِيمَتِهَا وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ أَلْفٍ سَهْمًا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ وَجُزْءٌ لِلْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُ مِنْهَا جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَارِغًا عَشَرَةٌ وَإِنَّمَا سَلَّمَ مِنْهُ جُزْءًا وَقَدْ فَاتَ الْجُزْءُ الْوَاحِدُ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ رُجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِذَا رُجِعَ بِهِ صَارَ فِي يَدِ الْمَوْلَى قِيمَةُ الْغُلَامِ تَامَّةً وَقِيمَةُ الْجَارِيَةِ صَارَ فِي يَدِ وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَصَارَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْغُلَامِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا وَصَارَ فِي يَدِ وَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ مُعْسِرًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ فَإِنْ قَالَ وَلِيُّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ: لَا أَضْرِبُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْغُلَامِ وَلَكِنِّي أَنْظُرُ فَإِنْ خَرَجَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَخَذْتهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَحِقَهُ مَحَلَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا ثُمَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْفَعُ الْغُلَامُ كُلَّهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْأُمِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ لِلْغَاصِبِ فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهِ رُجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَدْفَعُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهَا ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِهِ قِيمَتَانِ. فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْفَعُ مِنْ الْعَبْدِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ وَيَتْرُكُ الْجُزْءَ فِي يَدَيْهِ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْأَمَةِ جِنَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 58 وَهَذَا الْجُزْءُ الْفَائِتُ فِي حَقِّهِ وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ قِيمَتَهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ هَذَا الْجُزْءِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِ الْمَوْلَى حَتَّى إذَا خَرَجَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَخَذَهَا الْمَوْلَى فَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهَا ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ هَذَا الْجُزْءَ إلَى الْغَاصِبِ أَوْ افْدِهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ فَيَدْفَعُ مِنْهَا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا بَدَلَ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ فَدَاهُ فَإِنَّمَا يَفْدِيه بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْقِيمَتَانِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْأُخْرَى وَيَدْفَعُ مَكَانَ ذَلِكَ الْجُزْءِ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِقِيمَتِهِ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ كَانَ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ عِنْدَ الْغَاصِبِ. وَإِنْ قَالَ وَلِيُّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ: أَنَا أَضْرِبُ فِي الْغُلَامِ بِقِيمَتِهَا دَفَعَ إلَيْهِمَا فَيَضْرِبُ فِيهِ وَلِيُّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ بِقِيمَتِهَا وَوَلِيُّ قَتِيلِ الْغُلَامِ بِالدِّيَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَدَرَ الْغَاصِبُ أَوْ أَيْسَرَ أَدَّى إلَى الْمَوْلَى قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِانْعِدَامِ الرَّدِّ فِي الْجَارِيَةِ أَصْلًا وَلِانْعِدَامِ سَلَامَةِ الرَّدِّ فِي الْغُلَامِ فَيَدْفَعُ مِنْ قِيمَةِ الْغُلَامِ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْغُلَامِ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ بَدَلَ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَقَالَ: وَلَيْسَ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ إلَّا مَا أَصَابَهُ مِنْ الْغُلَامِ وَلَا يُعْطَى مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ شَيْءٌ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْقَصِيرَةِ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِهَا تَمَامُ قِيمَتِهَا فَفِي هَذَا الْجَوَابِ رِوَايَتَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِهَا فَيُعْطُونَ مِنْ بَدَلِهَا كَمَالُ حَقِّهِمْ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا اسْتَوْفَى وَلِيُّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْجَارِيَةِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ ذَلِكَ الْجُزْءَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ جَمِيعَ قِيمَتِهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَبْقَى لَهُ فِي الْمَحَلِّ الْآخَرِ حَقٌّ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَبِقِيمَتَيْنِ فِي الْجَارِيَةِ قِيمَةٌ مَكَانَ الْقِيمَةِ الَّتِي أَدَّاهَا إلَى أَوْلِيَاءِ جِنَايَتِهَا وَقِيمَةٌ أُخْرَى بِالْغَصْبِ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَكَانَ الْجَارِيَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْغُلَامِ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ صَارَ كَأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ لَهُ لِتَقَرُّرِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَوْ افْدِهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ حُكْمِ الْمُقَاصَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 59 صَاحِبِهِ هَذَا تَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى مَوْلَاهُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ آخَرَ ثُمَّ عَفَا وَلِيُّ قَتِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ الدِّيَةِ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا نِصْفَهُ ثُمَّ بِعَفْوِ الْأَوَّلِ لَا يَزْدَادُ حَقُّ الثَّانِي وَسَوَاءٌ دَفَعَهُ أَوْ فَدَاهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ سُلِّمَ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ فَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ قَدْ فَرَغَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ كَمَا كَانَ مَرِيضًا فَرَدَّهُ ثُمَّ بَرَأَ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا قَبْلَ الْعَفْوِ ثُمَّ عَفَا الْأَوَّلُ عَمَّا بَقِيَ لَهُ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَهُوَ بَدَلُ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَالْعَفْوُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ لَا إلَى مَا اُسْتُوْفِيَ فَإِذَا أَخَذَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ بِالْعَفْوِ وَإِذَا سَلَّمَ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: وَإِذَا اغْتَصَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا وَاسْتَوْدَعَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْغَاصِبُ أَمَةً فَقَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ قَتَلَ الْأَمَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِهَلَاكِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِذَا أَخَذَهَا الْمَوْلَى دَفَعَهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ الْقِيمَةَ وَقَدْ كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَحَقَّةً لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ ثُمَّ يَدْفَعُ الْغَاصِبُ قِيمَةً أُخْرَى إلَى الْمَوْلَى لِيُسَلَّمَ لَهُ مَكَانَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ مِثْلَ الْوَدِيعَةِ إلَى الْغَاصِبِ أَوْ افْدِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ. وَجِنَايَةُ الْأَمَةِ الْوَدِيعَةِ عَلَى عَبْدِ الْمُودَعِ مُعْتَبَرَةٌ فَيُخَيِّرُ مَوْلَاهَا بَيْنَ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْأَمَةَ مَعَ قَتْلِهِ الْحُرَّ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ قُسِّمَ الْعَبْدُ عَلَى دِيَةِ الْقَتِيلِ وَقِيمَةِ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَأْخُذُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَصَابَ الدِّيَةَ وَيَأْخُذُ الْمَوْلَى مَا أَصَابَ قِيمَةَ الْأَمَةِ وَيَضْمَنُ لَهُ الْغَائِبُ تَمَامَ قِيمَةِ الْأَمَةِ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بِمِثْلِ مَا أَخَذَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ جَنَى عَلَى أَمَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَعَلَى مَالِهِ مُعْتَبَرَةٌ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْرِبُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ أَمَتِهِ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا جِنَايَةَ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ هَدَرٌ وَكَوْنَ الْأَمَةِ أَمَانَةً لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَكَوْنِهَا فِي يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ كُلَّهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ وَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ. قَالَ: وَلَوْ غُصِبَ فَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ كُلَّهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ فَيَكُونُ لَهُ ثُمَّ يَقُولُ: ادْفَعْ الْوَلَدَ إلَى الْغَاصِبِ أَوْ افْدِهِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً الجزء: 27 ¦ الصفحة: 60 لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي يَدِهِ وَقَدْ مَلَكَ الْأَمَةَ بِالضَّمَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْأَمَانَةِ عَلَى مَالِ الْأَمِينِ مُعْتَبَرَةٌ فَيُخَيِّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ لِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ رَجُلَانِ عَبْدًا فَقَتَلَ فِي يَدِهِمَا قَتِيلًا ثُمَّ قَتَلَ أَحَدَهُمَا قِيلَ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جِنَايَةَ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ الْغَاصِبِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ جُعِلَ جِنَايَتُهُ عَلَى أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ كَجِنَايَتِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَمَنْ يَقُولُ: جِنَايَتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ هَدَرٌ عِنْدَهُ يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْغَاصِبِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ أَمَّا مِنْ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَهُ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ خَطَأً ثُمَّ إذَا دَفَعَ الْعَبْدُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلَيْنِ رُجِعَ عَلَى الْغَاصِبَيْنِ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ فَيُدْفَعُ نِصْفُهَا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْعَبْدِ فَارِغًا وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفُ وَقَدْ فَاتَ النِّصْفُ الْآخَرُ وَأَخْلَفَ بَدَلًا ثُمَّ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَعْنِي الْحَيَّ مِنْهُمَا وَفِي مَالِ الْغَاصِبِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ بِيَدِهِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ الْغَاصِبَيْنِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَقَّ الْغَاصِبِ الْمَقْتُولِ مَا يَثْبُتُ إلَّا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى وَقَدْ سَلَّمُوا لَهُ نِصْفَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً خَطَأً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ جَنَى لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَلَا عَاقِلَةَ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ بِجِنَايَتِهِمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي كَسْبِهِمَا لِلْمَوْلَى هُنَاكَ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مَانِعًا دَفْعَ الرَّقَبَةِ هُنَاكَ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ وَهَا هُنَا الْمُكَاتَبُ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ رَقَبَتِهِ بِقَبُولِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ فَإِنْ قِيلَ: لَا بَلْ الْمَوْلَى صَارَ مَانِعًا دَفْعَ رَقَبَتِهِ بِإِيجَابِ الْكِتَابَةِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ دَفْعُ الرَّقَبَةِ بِإِيجَابِهِ هَاهُنَا. وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ بِقَبُولِ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ لَا يَتَعَذَّرُ الدَّفْعُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَلْ بِاسْتِبْرَاءِ أَمَتِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَسْخِ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ وَاسْتِبْرَاءُ أَمَةٍ لِمُكَاتَبٍ دُونَ الْمَوْلَى، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ فَيُفْسَخَ الْعَقْدُ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 61 ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ فَبِأَدَائِهِ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ كَمَالُ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَهُوَ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَتَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ اسْتَحَقَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ نَفْسَهُ حِينَ جَنَى فَإِذَا كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذِّرًا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ جَنَى ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ هَذَا فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يَسْعَى عِنْدَنَا وَيَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِي وَعِنْدَ زُفَرَ يُبَاعُ فِي قِيمَتِهِ كَمَا يُبَاعُ فِي دَيْنٍ آخَرَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْجِنَايَةِ لِحَقِّهِ فَيَكُونُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الْقِيمَةَ ابْتِدَاءً كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَعِنْدَنَا الدَّفْعُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا فِي الْحَالِ وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْهُ بَعْدَ الْعَجْزِ فَلِتَوَهُّمِ الدَّفْعِ تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ فَإِذَا عَجَزَ تَقَرَّرَتْ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ هَلْ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُكَاتَبِ؟ عِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَعِنْدَنَا لَا يُوجِبُ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا إعْتَاقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَتَتَعَلَّقُ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَنَا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ بِقَضَائِهِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى تَعَذُّرِ الدَّفْعِ فَيَتَحَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ كَمَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ الْآبِقِ أَوْ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ عَنْ الدَّفْعِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِمَوْتِهِ عَنْ وَفَاءٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ عَنْ الدَّفْعِ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الْقِيمَةِ. فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ ثُمَّ جَنَى فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى لِلْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْأَقَلِّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهَا لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَفَرَغَتْ الرَّقَبَةُ مِنْهُ فَيَثْبُتُ فِيهَا حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ يَجْنِيهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِمَا قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي قَضَى فِي الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَتَيْنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيَّيْنِ فِي الرَّقَبَةِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى لَوْ عَجَزَ دَفَعَ إلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هَذَا وَمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً وَفِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ مِنْهُ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وُجُوبَ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ. فَإِنْ قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 62 قَتَلَ آخَرَ خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي أَلْفَيْنِ أَلْفٌ مِنْهَا لِلْآخَرِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ حِينَ جَنَى وَقَدْ جَنَى عَلَى الْأَوَّلِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَجَنَى عَلَى الثَّانِي وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَالْأَلْفُ الثَّانِيَةُ يَخْتَصُّ بِهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَا حَقَّ فِيهَا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَفِي مِقْدَارِ أَلْفٍ يَثْبُتُ حَقُّهُمَا فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا. قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلَيْنِ خَطَأً فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ ثُمَّ عَجَزَ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى الثَّالِثِ وَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُبَاعُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِيهِ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ تَحَوَّلَتْ الْجِنَايَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إلَى الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ جَنَى الْجِنَايَةَ الثَّالِثَةَ يَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّهَا بِهَذَا النِّصْفِ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا النِّصْفِ جِنَايَةٌ وَدَيْنٌ فَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِإِبْقَاءِ الْحَقَّيْنِ وَيُدْفَعُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى الثَّالِثِ وَالْأَوْسَطِ لِأَنَّ حَقَّهُمَا جَمِيعًا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ النِّصْفِ فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِمَا ضَرَبَ فِيهِ الْأَوْسَطُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ وَضَرَبَ فِيهِ الثَّالِثُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ لِأَنَّ بِاسْتِيفَائِهِ نِصْفَ الْعَبْدِ قَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ حَقِّهِ وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ النِّصْفُ فَإِذَا ضَرَبَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ كَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. قَالَ: وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَمُكَاتَبَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَالْمِائَةُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِمَوْتِهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ وَالْمِائَةُ كَسْبُهُ فَهِيَ لِمَوْلَاهُ وَهِيَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْمِائَةُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً بِالْجِنَايَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى هَاهُنَا فَيَسْتَوْفِي الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَةَ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ بِحَيَاتِهِ فَتَصِيرُ جِنَايَتُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَعَ ذَلِكَ بُدِئَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ بِهِ قَبْلَ الْعَجْزِ وَبَعْدَهُ مُسْتَوْفِيًا مِنْ تَرِكَتِهِ سَوَاءٌ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ عَنْ عَجْزٍ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ مَا قَضَى بِهِ وَيُبْدَأُ بِهِ فِي تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ بِدَيْنِهِ قَالَ: نَعَمْ فَإِذَا قَضَى الدَّيْنَ بَقِيَتْ الْجِنَايَةُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ وَفِيمَا بَقِيَ وَفَاؤُهُمَا فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَدْ قُضِيَ بِهَا خَصَّ وَلِيُّهَا صَاحِبَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا مُتَأَكِّدًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى الْحُقُوقِ وَالْكِتَابَةَ أَضْعَفُ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُحْبَسُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَالْجِنَايَةُ تَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 63 إنَّهُ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَيُحْبَسُ لِأَجْلِهَا وَلَا تُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِهَذَا بَدَأْنَا بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ إلَّا أَنْ تَتَأَكَّدَ الْجِنَايَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ هِيَ كَالدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ إذَا قُضِيَ بِكَسْبِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ تَتَقَوَّى بِعِتْقِهِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ مَا بَيَّنَّا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ الْحُقُوقُ فِي مَالِهِ فَيُبْدَأُ بِالْأَقْوَى لِهَذَا. وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَلَدًا قَدْ وُلِدَ لَهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ قَدْ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ بِهَا سَعَى الْوَلَدُ فِي الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي وَمَا يَبْقَى بِبَقَاءِ مَا يُؤَدَّى بِهِ يُصَيِّرُ الْجِنَايَةَ مَالًا ثُمَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَبْدَأَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ أَبِيهِ فَكَانَ بَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ الْأَبِ وَلِلْأَبِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ لِأَنَّهُ بِالْبُدَاءَةِ بِالْكِتَابَةِ يُحَصِّلُ الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ وَتَتَقَوَّى ذِمَّتُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْمَالِ فَهُنَاكَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْحُقُوقَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْوَى لِهَذَا إذَا عَجَزَ الْوَلَدُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَعْدَ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ بِيعَ وَكَانَ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِالْحِصَصِ وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْجِنَايَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَانْفِسَاخَ الْكِتَابَةِ بِعَجْزِهِ كَانْفِسَاخِهَا بِعَجْزِ الْأَبِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْجِنَايَةَ مُتَعَلِّقَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَدْفَعُ بِهَا ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَهَا هُنَا الْجِنَايَةُ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِرَقَبَةِ الْوَلَدِ وَلَكِنْ فَاتَ مَحِلُّ الْجِنَايَةِ بِمَوْتِ الْجَانِي حِينَ ظَهَرَ الْعَجْزُ فَلِهَذَا بِيعَ الْوَلَدُ فِي الدَّيْنِ خَاصَّةً. فَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ حَيَّةً حِينَ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَقَدْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يُقْضَ فَإِنَّ عَلَى الْأُمِّ وَالْوَلَدِ السِّعَايَةَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُمَا يَسْتَفِيدَانِ الْعِتْقَ بِالْأَدَاءِ فَيَقُومَانِ مَقَامَهُ بِالسِّعَايَةِ فِيمَا عَلَيْهِ فَإِنْ قُضِيَ عَلَيْهِمَا بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ حَتَّى قَتَلَ أَحَدُهُمَا قَتِيلًا خَطَأً قُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ حِينَ كَانَ يَسْعَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِيُعْتَقَ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ فِي جِنَايَتِهِ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ إنْ كَانَ قُضِيَ عَلَيْهِمَا بِجِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِمَا حَتَّى لَوْ عَجَزَا لَمْ يَدْفَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ، فَلِهَذَا قُضِيَ عَلَى الْجَانِي مِنْهُمَا بِقِيمَتِهِ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ سِوَى مَا عَلَيْهِمَا لِوَلِيِّ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جِنَايَتِهِ خَاصَّةً فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِوَلِيِّ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ نَفْسِهِ فِي تَعَلُّقِهِ بِمَالِيَّتِهِ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ. فَلَوْ مَاتَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَتَرَكَتْ مِائَةَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 64 دِرْهَمٍ وَابْنًا وَلَدَتْهُ فِي مُكَاتَبَتِهَا وَعَلَيْهَا دَيْنٌ وَقَدْ قَتَلَتْ قَتِيلًا خَطَأً فَقُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ - يُقْضَ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى الِابْنِ أَنْ يَسْعَى فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ثُمَّ تِلْكَ الْمِائَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ غَيْرُ عَاجِزَةٍ مَا دَامَ لَهَا ابْنٌ يَسْعَى فِي الْمُكَاتَبَةِ فَتَكُونُ جِنَايَتُهَا دَيْنًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَإِنْ اسْتَدَانَ الِابْنُ دَيْنًا وَجَنَى جِنَايَةً فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَعَ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ أُمِّهِ وَجِنَايَتِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ عَجَزَ بِيعَ فِي دَيْنِهِ وَجِنَايَتِهِ خَاصَّةً فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ كَانَ فِي دَيْنِ أُمِّهِ وَجِنَايَتِهَا بِالْحِصَصِ لِأَنَّ دَيْنَ نَفْسِهِ فِي ثَمَنِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ أُمِّهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ دَفَعَهُ مَوْلَاهُ بِهَا أَوْ فَدَاهُ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَتِهِ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَعْدَ عَجْزِهِ وَإِذَا دَفَعَهُ تَبِعَهُ دَيْنُهُ خَاصَّةً فَبِيعَ فِيهِ دُونَ دَيْنِ أُمِّهِ وَجِنَايَتِهَا فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ دَيْنِ الْأُمِّ وَجِنَايَتِهَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ مَا تَبِعَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّ جِنَايَتَهُ مُقَدَّمَةٌ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ بِخِلَافِ دَيْنِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي مَالِيَّتِهِ غَيْرُ مُقَدَّمٍ عَلَى حَقِّ غَرِيمِهِ وَلَوْ فَدَاهُ الْمَوْلَى فَقَدْ ظَهَرَ بِالْفِدَاءِ مِنْ جِنَايَتِهِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ كَانَ فِي دَيْنِ أُمِّهِ وَجِنَايَتِهَا لِأَنَّ هَذَا الْفَضْلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَفِي مِلْكِ الْمَوْلَى دَيْنُ الْأُمِّ وَجِنَايَتُهَا يُقْضَى مِنْ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ. وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهَا وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً بِالْمُكَاتَبَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُكَاتَبَةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَصِيرُ مَالًا فَيَسْتَوْفِي صَاحِبُ الْجِنَايَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ حَقَّهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِمَّا بَقِيَ مِنْهُ. وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَتَرَكَ عَبْدًا تَاجِرًا عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ بِيعَ الْعَبْدُ فِي دَيْنِهِ خَاصَّةً لِأَنَّ دَيْنَ نَفْسِهِ فِي مَالِيَّتِهِ مُقَدَّمٌ فَإِنَّ حَقَّ غَرِيمِهِ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ مِنْ حَقِّ غَرِيمِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ كَانَ فِي دَيْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَكِنَّهُ كَانَ جَنَى جِنَايَةً وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ مَالٌ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ هُوَ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ بِالْجِنَايَةِ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ فِي نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا دَفَعَ الْجِنَايَةَ بِرِضَاهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَإِنْ شَاءُوا فَدَوْهُ بِالدِّيَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي دَيْنِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ الْجِنَايَةِ إلَى الْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَاهُ فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَأَتْبَعَهُ دَيْنُهُ فَبِيعَ فِيهِ وَلَا شَيْءَ لِغُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ثُمَّ بِيعَ فِي دَيْنِهِ خَاصَّةً فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِغُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ وَقَدْ ظَهَرَ الْعَبْدُ بِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 65 جِنَايَةٌ ثُمَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ شَرَطَ فِي الدَّفْعِ رِضَاءَ غُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاءَهُمْ لِأَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِامْتِنَاعِ الدَّفْعِ لَا يَظْهَرُ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ فِي مَالِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ فِي دَيْنِ نَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاؤُهُمْ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِامْتِنَاعِ الدَّفْعِ يَظْهَرُ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمُكَاتَبِ فِي مَالِيَّتِهِ لِأَنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِمْ إذْ لَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى اُعْتُبِرَ رِضَاؤُهُمْ فِي الدَّفْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ بَيْنَ اثْنَيْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَدَّى يُعْتَقُ فَالْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ: حُكْمُ الْكِتَابَةِ وَحُكْمُ الْجِنَايَةِ أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْكِتَابَةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ قَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمُكَاتَبِ وَإِنَّمَا نُبَيِّنُ حُكْمَ الْجِنَايَةِ فَنَقُولُ: يُقْضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَنِصْفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ حِينَ جَنَى وَالْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَقَدْ تَأَكَّدَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ بِالْأَدَاءِ وَالْعِتْقِ بِالْجِنَايَةِ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُلْزِمُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا النِّصْفِ وَاَلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ إنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الشَّرِيكِ وَاسْتَسْعَاهُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ وَقَبَضَ هُوَ ضَامِنٌ لِلْأَوَّلِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَمِنْ نِصْفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَصِيبِهِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالرَّقَبَةِ وَقَدْ فَاتَتْ وَأَخْلَفَ بَدَلًا وَهُوَ مَا قُبِضَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَرْشِ أَقَلَّ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلَفًا بِالْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ مُتَعَذِّرًا بِمَا يَفْدِيهِ مِنْ الْعِتْقِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَإِثْبَاتِ حَقِّ الْفَسْخِ وَذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ دُونَ الْجِنَايَةِ وَلَوْ خُوصِمَ الْمُكَاتَبُ فِي الْجِنَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَنِصْفِ الْأَرْشِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ نَصِيبُ الْمُكَاتِبِ مِنْهُ فِيمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: ادْفَعْ نَصِيبَك بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ أَرْشِهَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَصِيبِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّقَبَةِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْضِ فِيهَا بِشَيْءٍ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ. وَإِذَا كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَجَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ فَعَتَقَ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمُكَاتِبُ وَاَلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَإِنْ شَاءَا دَفَعَا وَإِنْ شَاءَا أَفْدَيَاهُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ وَبَيْنَ الْمَكَاتِبِ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا يُكَاتَبُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 66 مِنْهُ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ فِي نَصِيبِهِ بِالْعِتْقِ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكُ تُوجِبُ لِلْمَوْلَيَيْنِ الْخِيَارَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الْجَانِي ابْنَ الْمُكَاتَبِ وَوُلِدَ عِنْدَهُ مِنْ أَمَةٍ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ كَانَ مُكَاتَبًا مَعَ ابْنِهِ وَقَدْ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْأَبِ فَيَلْزَمُهُ فِي هَذَا النِّصْفُ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُ الْأَبَ لَوْ جَنَى بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ شَيْءٌ حَتَّى يُعْتَقُ أَوْ يُسْتَسْعَى ثُمَّ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا عَلَى وَجْهٍ ثُمَّ يَصِيرُ مُخْتَارًا وَإِنْ اسْتَسْعَاهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ نَصِيبِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الِابْنُ جَنَى عَلَى أَبِيهِ ثُمَّ أَدَّى الْأَبُ فَعَتَقَ فَعَلَى الِابْنِ نِصْفُ قِيمَةِ نَفْسِهِ فَيَسْعَى فِيهِ لِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَاتَبَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأُمِّ فَالْمُكَاتَبُ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهَا لِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ مِنْهَا حِينَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بِحَالٍ وَهُوَ لَمْ يَصِرْ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ مِنْ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا احْتَبَسَ نَصِيبَهُ عِنْدَ الْوَلَدِ فَلِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ وَأَمَّا جِنَايَةُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ فَقَدْ جَنَى حِينَ جَنَى وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ مَعَ أَبِيهِ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ وَالْأَبُ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ فِي الْأَبِ مِنْ حِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَهُوَ فِي عُنُقِ الِابْنِ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى مِنْ الِابْنِ يَعْنِي النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ مِنْ الِابْنِ حَيْثُ جَنَى عَلَى نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ وَمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةِ نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ مِنْ الِابْنِ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ يُوجِبُ عَلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ فَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ قِصَاصًا وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ. وَإِذَا كَانَتْ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْهَا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ ازْدَادَتْ خَيْرًا أَوْ انْتَقَصَتْ بِعَيْبٍ ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ تَضْمِينَ الْمُكَاتِبِ ضَمَّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا يَوْمَ عَتَقَتْ لِأَنَّ مِلْكَهُ إنَّمَا تَلِفَ بِالْعِتْقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يُضِفْ مَا اكْتَسَبَ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ وَنِصْفَ أَرْشِ مَا جَنَى عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلِلَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الِابْنَ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَ نَصِيبُ الْمَكَاتِبِ مِنْ الِابْنِ فَقَدْ اُحْتُبِسَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ عِنْدَ الْوَلَدِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهَا. وَلَوْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهَا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَكَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْ الْوَلَدِ ثُمَّ جَنَى الْوَلَدُ عَلَى الْأَمَةِ أَوْ جَنَتْ عَلَيْهِ جِنَايَةً لَا تَبْلُغُ النَّفْسَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 67 ثُمَّ أَدَّيَا فَعَتَقَا وَالْمَوْلَيَانِ مُوسِرَانِ فَلِلَّذِي كَاتَبَ الْوَلَدَ أَنْ يَضْمَنَ الَّذِي كَاتَبَ الْأُمَّ نِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مِنْهَا بِمَا صَنَعَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّرِيكِ دَلَالَةُ الرِّضَاءِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْوَلَدِ لَا تَكُونُ رِضًى مِنْهُ بِكِتَابَةِ الْأُمِّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلَّذِي كَاتَبَ الْأُمَّ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ نَصِيبَ الَّذِي كَاتَبَ الْأُمَّ مِنْ الْوَلَدِ مَا أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْوَلَدِ وَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ عَلَى مَا وَصَفْت لَك فِي الْعَبْدِ وَأَبِيهِ مِنْ حُكْمِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى نِصْفِ الْوَلَدِ الَّذِي كَاتَبَهُ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ مِنْهَا شَيْءٌ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا كَانَ قِصَاصًا وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَفَقَأَ عَيْنَ أَحَدِهِمَا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ إنَّ الَّذِي فُقِئَتْ عَيْنُهُ كَاتَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَرَحَهُ جَرْحًا آخَرَ ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَتَيْنِ فَنَقُولُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ: إنَّ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِجِنَايَتِهِ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الضَّمَانَ مِنْ شَرِكَةِ شَرِيكِهِ أَوْ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ وَحُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِنَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جَنَى جِنَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَهِيَ هَدَرٌ وَالْأُخْرَى بَعْدَهَا وَهِيَ تُوجِبُ مُوجِبَهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ مِنْ قَبْلَ الْجِنَايَةِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَنَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أَنَّ الْآخَرَ بَاعَ نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ أَيْضًا جِنَايَةً أُخْرَى ثُمَّ إنَّ الَّذِي بَاعَ رُبْعَهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الرُّبْعَ ثُمَّ كَاتَبَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى نَصِيبِهِ مِنْهُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أُخْرَى ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ الْجِنَايَاتِ فَعَلَى الْمُكَاتِبِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ مِنْهُ جَنَى عَلَى مَوْلَاهُ ثَلَاثَ جِنَايَاتٍ: جِنَايَتَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَحُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ هَدَرٌ وَجِنَايَةً بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ وَعَلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ سُدُسُ وَرُبْعُ سُدُسِ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَالْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ سُدُسِ وَرُبْعِ سُدُسِ الدِّيَةِ وَلَا يُؤَدَّى هَذَا النِّصْفُ حَتَّى يَعْتِقَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ أَوْ يَضْمَنَ وَقَدْ بَطَلَ نِصْفُ سُدُسٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى فِي نِصْفِ نَصِيبِهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَلَمْ يَجُزْ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 68 ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَمَّا نِصْفُ نَصِيبِهِ الَّذِي جَرَى فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَقَدْ أُتْلِفَ رُبْعُ النَّفْسِ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: جِنَايَةٍ قَبْلَ الْبَيْعِ وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِذَلِكَ الْبَيْعِ وَجِنَايَةٍ بَعْدَ الْبَيْعِ وَذَلِكَ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ وَجِنَايَةٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَبْطُلُ ثُلُثُ الرُّبْعِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ الدِّيَةِ. وَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ جَنَى عَلَى رُبْعِ النَّفْسِ أَيْضًا ثَلَاثَ جِنَايَاتٍ: إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْبَعْضِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ كَبَيْعِ الْكُلِّ وَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ الْبَيْعِ - وَحُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَوَزَّعُ هَذَا نِصْفَانِ فَلِهَذَا قَالَ: عَلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ سُدُسُ الدِّيَةِ وَرُبْعُ سُدُسِ الدِّيَةِ مِقْدَارُ مَا صَارَ مُخْتَارًا لَهُ بِبَيْعِ نِصْفِ نَصِيبِهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِنَصِيبِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِكِتَابَةِ شَرِيكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ سُدُسِ وَرُبْعِ سُدُسِ الدِّيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا الِاسْتِهْلَاكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى أَوْ ضَمِنَ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ هَذَا النِّصْفُ مَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الْمَعَانِي. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَقَطَعَ يَدَ آخَرَ وَفَقَأَ عَيْنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ مَاتَا مِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِشَرِيكِ الْمُشْتَرِي: ادْفَعْ نِصْفَك إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلَيْنِ نِصْفَيْنِ أَوْ افْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِنَصِيبِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مَا يَكُونُ دَلِيلَ اخْتِيَارٍ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِهِ إلَيْهِمَا وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: ادْفَعْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ جَنَى عَلَى الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ جِنَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيْعِ، وَالْأُخْرَى بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مُخْتَارًا لِمَا كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ حِينَ بَاعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ يُخَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْن أَنْ يَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِمَا أَوْ يَفْدِيَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْآخَرِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَإِذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ كَانَ هَذَا النِّصْفُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثُهُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْأَوَّلِ وَثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْآخَرِ عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَرَحَ رَجُلًا جَرْحًا خَطَأً فَكَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ جَرَحَهُ أَيْضًا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الَّذِي كَاتَبَ أَوَّلًا رُبْعُ الدِّيَةِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ حِينَ جَنَى ثَلَاثُ جِنَايَاتٍ عَلَى نِصْفِ النَّفْسِ إحْدَاهَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَاثْنَانِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَحُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ هَذَا النِّصْفُ نِصْفَيْنِ وَذَلِكَ قَدْ صَارَ مُخْتَارًا لَهُ بِالْكِتَابَةِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الَّذِي كَاتَبَ آخَرَ فَنَصِيبُهُ أَيْضًا حِينَ جَنَى ثَلَاثَ جِنَايَاتٍ جِنَايَتَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 69 وَحُكْمُهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ وَجِنَايَةً بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَيُوَزَّعُ أَيْضًا هَذَا النِّصْفُ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ لِأَنَّ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَا مُخْتَارًا فَقَدْ كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذَّرًا قَبْلَ هَذَا بِكِتَابَةِ شَرِيكِهِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ وَعَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ مِنْهُ جَنَى بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَمُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَلِفَ نِصْفُ النَّفْسِ بِالْجِنَايَاتِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمُدَبَّرِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَإِنَّمَا تُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتَهُ يَوْمَ جَنَى الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ الرَّقَبَةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا بِذَلِكَ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّدْبِيرِ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَنَى فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً وَلَكِنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ سَوَاءٌ قَرُبَتْ الْمُدَّةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَوْ بَعُدَتْ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ بِهَا فَإِنْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَعَلَى مَوْلَاهُ قِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَتَيْنِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلَّ الدَّفْعِ كَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ فِي الْمُدَبَّرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَحَقِّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي الدِّيَةِ وَحَقِّ الْآخَرِ فِي أَرْشِ الْعَيْنِ فَإِنْ اكْتَسَبَ كَسْبًا أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْجِنَايَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُمْ حَقٌّ فِي كَسْبِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ فِي كَسْبِ الْمُدَبَّرِ وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَوْمَ جَنَى؛ لِأَنَّ بِذَهَابِ الْعَيْنِ فَاتَ نِصْفُهُ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ عَنْ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لَا يَثْبُتُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ مَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ أَصْلًا فَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ عَيْبٌ ثُمَّ قَتَلَ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَا سَبِيلَ لِلثَّانِي عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا أَلْزَمَهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَاتِهِ وَدَفْعُهَا إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ كَدَفْعِ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ فَلَا سَبِيلَ لِلثَّانِي عَلَى الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُ الْأَوَّلَ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَإِنْ قَدْ كَانَ دَفَعَهَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 70 بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلثَّانِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْأَوَّلَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ رَجَعَ الْمَوْلَى بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَوْلَى حِينَ دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِهِ لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاءً كَمَا فِي الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ وَأَخْذِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ مَا كَانَ لِأَحَدٍ فِي الْقِيمَةِ حَقٌّ سِوَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِحَقِّ الثَّانِي وَهُوَ الْجِنَايَةُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ فَلَا يَكُونُ بِهَذَا الدَّفْعِ جَانِيًا فِي حَقِّ الثَّانِي فَلَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا وَكَيْفَ يَكُونُ جَانِيًا فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ بَعْضَ الْقِيمَةِ مِنْ الْأَوَّلِ لِمَكَانِ حَقِّ الثَّانِي مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْقِيمَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ مَنْعِ الرَّقَبَةِ وَإِنَّمَا مَنَعَهَا بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ جَمِيعًا سَوَاءٌ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ كَأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ مِنْ الْمَوْلَى كَانَ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِنَايَتَيْنِ جَمِيعًا وَهُنَاكَ إنْ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا وَإِنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ لِلثَّانِي الْخِيَارُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هَذَا أَنَّ لِلثَّانِي حَقَّ الْمُشَارَكَةِ مَعَ الْأَوَّلِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَيَّنَّا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِذَلِكَ التَّدْبِيرِ انْعَقَدَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى عِنْدَ جِنَايَتِهِ فَهُوَ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ نَحْوَ ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى الْمَدْفُوعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَمَّ التَّحْوِيلُ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هَذِهِ الْوِلَايَةَ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَتِمَّ التَّحْوِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَيَبْقَى الْخِيَارُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهَذَا التَّحْوِيلِ وَأَتْبَعَ الْأَوَّلَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا وَأَتْبَعَ الْمَوْلَى بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْوَصِيِّ إذَا قَضَى دَيْنَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ أَوْ قَضَى دَيْنَ الْغَرِيمِ ثُمَّ أَحْدَثَ آخَرُ بِسَبَبٍ كَانَ وُجِدَ مِنْ الْمَيِّتِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا وَلَكِنَّ الثَّانِيَ يُتْبِعُ الْأَوَّلَ بِنَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ كَانَ لِلثَّانِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُتْبِعَ الْأَوَّلَ بِنَصِيبِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَصِيَّ ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَصِيُّ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ تَعَذَّرَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَكُونُ كَالْمُدَبَّرِ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِكَسْبِهِمَا قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 71 إلَى أَلْفَيْنِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ أَصَابَهُ عَيْبٌ فَرَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَى مَوْلَاهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الثَّانِي وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا تِلْكَ الْجِنَايَةَ لَكَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ ثُمَّ أَلْفٌ مِنْ هَذَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوْسَطِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْأَوَّلِ إنَّمَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْأَلْفِ الثَّانِي فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ الْمَوْلَى قَتِيلَ الْأَوْسَطِ وَخَمْسَمِائَةٍ مِنْهَا بَيْنَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِي هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ فَيَقْسِمُ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ بَيْنَ الْأَوْسَطِ وَالْأَوَّلِ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالْأَوْسَطَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ وَيَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ مِقْدَارُ الْمَأْخُوذِ فَلَا يَضْرِبُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَوْسَطُ لَا يَضْرِبُ بِمَا أَخَذَ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فَيَقْسِمُ الْخَمْسَمِائَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِقَضَاءِ قَاضٍ ثُمَّ رَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَإِنَّ خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا أَخَذَ الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ عَلَى وَلِيِّهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ فَبَقِيَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى سَالِمَةً لِلْأَوَّلِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ بَيْنَهُمَا يَضْرِبُ فِيهَا الْأَوَّلُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَتَكُونُ ذَلِكَ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ يُجْعِلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا سَهْمًا قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ مُدَبَّرٌ وَأُمُّ وَلَدٍ وَعَبْدٌ وَمَكَاتِبُ فَقَتَلُوا رَجُلًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتْلَفَ رُبْعَ النَّفْسِ فَيُقَالُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ: ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ وَيَسْعَى الْمُكَاتَبُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ وَعَلَى مَوْلَى الْمُدَبَّرِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ وَعَلَى مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ قَتِيلًا خَطَأً وَاسْتَهْلَكَ مَالًا فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَعَلَى الْمُدَبَّرِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا اسْتَهْلَكَ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَهْلِكُهُ الْمُدَبَّرُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى ضَامِنًا بِسَبَبِهِ شَيْئًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحِلَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالتَّدْبِيرِ وَمَحِلُّ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ الرَّقَبَةُ وَبِالتَّدْبِيرِ يَتَعَذَّرُ دَفْعُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةُ لِذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَمْلُوكَ يَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِي وَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ فَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ ثُمَّ لَا يُشَارِكُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ فِيمَا يَأْخُذُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا مَا اجْتَمَعَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَحَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ فِي كَسْبِ الْمُدَبَّرِ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 72 بَيْنَهُمَا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَالَ لِلْمَوْلَى غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ فَيَكُونُ أَصْحَابُ دِيَتِهِ أَحَقَّ بِهَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْجِنَايَةِ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ يَمْنَعُ سَلَامَةَ شَيْءٍ مِنْ الرَّقَبَةِ لِلْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ بَعْدَ الدَّيْنِ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ أَصْحَابُ دِيَتِهِ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ مِنْ أَصْحَابِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُمْ فِي ذِمَّتِهِ وَالسِّعَايَةُ بَدَلُ مَالِيَّتِهِ وَحَقُّ غُرَمَائِهِ فِي مَالِيَّتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَعَلَى حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْمَالِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَإِذَا اسْتَغْرَقَ دَيْنُهُ هَذِهِ الْمَالِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِيهَا حَقٌّ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى فِيهَا حَقٌّ. وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الْفَضْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ يَتَقَرَّرُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَالْفَضْلُ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى مِقْدَارِ دَيْنِهِ يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُقْضَى بِهِ مِنْهُ دَيْنُ الْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى عَلَى الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ وَعَلَى الْمُدَبَّرِ بِالسِّعَايَةِ فِي الدَّيْنِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَهَذَا تَقْرِيرٌ مِنْهُ لِلْحُكْمِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا فَلَا يَتَقَرَّرُ بِهِ الْجَوَابُ وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلَا تَسْعَى لِإِيجَابِ الْجِنَايَةِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَلَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ دَيْنِ الْمَوْلَى وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى الْمَوْلَى فِي نَفْسٍ أَوْ مَا دُونَهَا خَطَأً وَعَلَى مَمَالِيكِهِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِهَا فَإِنَّهَا لَوْ اُعْتُبِرَتْ أَوْجَبَتْ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لَهُ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَالْقَاتِلُ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ مَحْرُومٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَلَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ قَالَ: وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ مَوْلَاهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ وَلِلْوَرَثَةِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا قِصَاصًا فِي الْحَالِ وَقَدْ قَوِيَ حَقُّهُمْ فِي السِّعَايَةِ إلَّا أَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْهُ فِي الْقِيمَةِ أَوَّلًا فَإِذَا اسْتَوْفَوْا ذَلِكَ مِنْهُ قَتَلُوهُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَالِصُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَالتَّدْبِيرُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهُ فَعَلَى الْمُدَبَّرِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَعِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا إنَّمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فِي الْحَالِ وَهُوَ فِي الْحَالِ مُكَاتَبٌ أَوْ حُرٌّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْمَالُ لِمَوْلَاهُ وَلِمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَالِ الرِّقِّ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 73 مِنْ الْقِيمَةِ دُونَ الدِّيَةِ فَلِهَذَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مَعَ السِّعَايَةِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ رَدِّ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ بُدِئَ بِالدَّيْنِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ أَوْ بَدَلُ مِلْكِهِ فَيُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْوَارِثِينَ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ يُقْسَمُ عَلَيْهِ الْكُلُّ لَوْلَا الدَّيْنُ وَلَوْلَا الدَّيْنُ لَكَانَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ قِيمَةٌ كَامِلَةٌ وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَثْلَاثًا وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا وَلَا وَلَدَ لَهَا مِنْهُ فَعَلَيْهَا الْقِصَاصُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ فَلَا يَمْنَعُ سَبَبَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَرِثَ جُزْءًا مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى أَبِيهِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي الْقِيمَةِ مِنْ قَبْلِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ وَجَبَ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَجِبْ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَلَدِهَا وَمَا لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لِوَلَدِهَا لَا يَسْقُطُ فَإِنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ حُرَّةٌ حِينَ سَقَطَ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ أَنْ يَلْحَقَ الْمَالُ لِمَوْلَاهَا وَلِمَنْ يَخْلُفُ مَوْلَاهَا إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهَا فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ. وَكَمَا أَنَّ نَصِيبَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ انْقَلَبَ مَالًا فَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لَا بِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى مِنْ دَمِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَسْتَحِقُّ دَمَهُ بِالْقِصَاصِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْمَالِ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهُ بَطَلَ الدَّمُ كُلُّهُ وَهُوَ عِنْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الَّذِي عَفَا أَنْ يَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالْإِرْثِ نِصْفَيْنِ وَبِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا عِنْدَ الْعَفْوِ وَعِنْدَ الْعَفْوِ نِصْفُهُ لِلْعَافِي وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَحِينَ انْقَلَبَ مَالًا كَانَ نِصْفُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ فَيُهْدَرُ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَثْبُتُ وَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ الَّذِي عَلَيْهِمَا مَالًا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهُمَا يَقُولَانِ: الْعَبْدُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَلَوْ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ أَيْضًا حَتَّى يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا إيجَابَ الْمَالِ لِلْمَيِّتِ بِالْجِنَايَةِ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ خَطَأً فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ لَوْ وَجَبَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ وَلَكِنْ قِيلَ: هُوَ كَالْبَاقِي عَلَى مِلْكِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 74 الْمَيِّتِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ أَوْ الْوَارِثُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِلْمُوَرِّثِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ مَالٌ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِلْوَارِثِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَقَدْ عَتَقَا بِالْمَوْتِ وَصَارَ الْكَسْبُ لَهُمَا عَلَى الْخُلُوصِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْمَالَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا لِلْمَالِكِ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا لَهُ عَلَى مُعْتَقِهِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ مَوْلَاهُ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ: أَحَدُهُمَا ابْنُ الْمُدَبَّرِ فَعَلَى الْمُدَبَّرِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتَيْنِ: قِيمَةٍ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَقِيمَةٍ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَهُ قَدْ وَرِثَ بَعْضَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ فَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ وَيَنْقَلِبُ كُلُّهُ مَالًا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حُرٌّ أَوْ مُكَاتَبٌ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَلَوْ حَفَرَ الْمُدَبَّرُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا الْمَوْلَى فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا إذَا قَتَلَهُ خَطَأً وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَبَّرِ بِالْجِنَايَةِ شَيْءٌ فَهَاهُنَا لَا يُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ وَكَمَا لَا يُحْرَمُ الْمُسَبَّبُ الْمِيرَاثَ فَكَذَلِكَ لَا يُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ فَلِهَذَا أُعْتِقَ مِنْ الثُّلُثِ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ الْمُدَبَّرِ يُغَرَّمُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا آخَرَ فَإِنَّ الْخَمْسَمِائَةِ أَرْشُ الْعَيْنِ لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَعَلَى الْمَوْلَى أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ جَنَى عَلَى الْأَوَّلِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ فَلِهَذَا أَسْلَمَتْ الْخَمْسَمِائَةِ لِلْأَوَّلِ وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ يَضْرِبُ فِيهَا الثَّانِي بِالدِّيَةِ وَالْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ إلَّا الْخَمْسَمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي عَبْدًا فَدَفَعَ بِهِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَيْضًا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِيمَا يَكُونُ بَدَلَ جُزْءٍ مِنْهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الْعَبْدَ فِي الْجِنَايَةِ أَصْلًا أَوْ أَخَذَهُ وَبَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِذَلِكَ شَيْئًا وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ صَحِيحًا وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُدَبَّرُ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَضْمَنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي كَسْبِهِ وَسِعَايَتِهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ فِي إبَائِهِ وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ وَلَكِنَّ رَجُلًا قَتَلَ الْمُدَبَّرَ فَغَرِمَ قِيمَتَهُ وَقَدْ جَنَى الْمُدَبَّرُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِالْقِيمَةِ مِنْ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ بَدَلَ رَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ فِي وُجُوبِ صَرْفِهِ إلَى الدَّيْنِ وَلِأَنَّ دَيْنَ نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ مَوْلَاهُ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَحَقَّ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَوْلَاهُ فَلِهَذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِالْقِيمَةِ مِنْ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا أَوْ مَيِّتًا قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلَيْنِ: أَحَدَهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرَ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الْخَطَأِ فَإِنْ عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَالْقِيمَةُ بَيْنَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 75 وَبَيْنَ وَلِيِّ الْخَطَأِ يُقْسَمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ قِنًّا دَفَعَهُ الْمَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَأْذُونِ وَجَمِيعَهَا وَأَضْدَادَهَا وَنَظِيرَهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فَهُمَا يَقُولَانِ حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ ثَابِتٌ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ فَيُسْلِمُ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ الْعَافِي لِفَرَاغِ ذَلِكَ النِّصْفِ عَنْ حَقِّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ حَقُّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ صَاحِبِ الْعَيْنِ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ كَانَ الْمَوْلَى مُخَاطَبًا بِدَفْعِ جَمِيعِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَوْ الْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ يَدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَهَا هُنَا حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْشِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْخَطَأِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَحَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ قَسْمُ أَلْفَيْنِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ حَقِّ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ وَبِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ النَّفْسِ مِنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةُ وَقِسْمَتُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ رُبْعَ الْقِيمَةِ وَيَسْقُطُ رُبْعُ الْقِيمَةِ عَنْ الْمَوْلَى بِعَفْوِ الْعَافِي وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَعِنْدَ مَوْلَاهُ فَفِي الْمُدَبَّرِ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِمَنْزِلَةِ الرَّقَبَةِ فِي جِنَايَةِ الْقِنِّ يَقُولُ: فَإِنْ غَصَبَ رَجُلٌ مُدْبِرًا فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا وَاسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَقَتَلَ عِنْدَهُ رَجُلَيْنِ خَطَأً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ أَثْلَاثًا ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ أَيْضًا فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ قِيمَةٌ تَامَّةٌ كَمَا اسْتَحَقَّهُ ثُمَّ يَرْجِعَ بِمِثْلِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَيَدْفَعَ نِصْفَهُ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي ثَبَتَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقَدْ سَلِمَ لَهُ الثُّلُثُ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ الثُّلُثِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ هَذَا اُسْتُحِقَّ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْمَوْلَى وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَرْجِعُ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ فَيَسْلَمُ لَهُ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فِي دَيْنِهِ فَإِذَا قَضَاهُ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ كَسْبِ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 76 وَكَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَيَرْجِعُ الْمَوْلَى بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَسْلَمْ فَيُجْعَلُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ فَقَتَلَ عِنْدَهُ رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِصَاحِبِ الْخَطَأِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْمَوْلَى وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَلَمْ يَسْلَمْ الرَّدُّ لِلْمَوْلَى فَإِنْ عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ كَانَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَخَذَهُ صَاحِبُ الْعَمْدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ اُسْتُحِقَّ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ فَلَا يَسْلَمُ لِلْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ وَلَوْ قَتَلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوَّلًا رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى فَقَتَلَ عِنْدَهُ رَجُلًا خَطَأً بَعْدَ مَا عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الدَّمِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَخَذَهُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِ الْعَمْدِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ إلَى تَمَامِ نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمَّا ثَبَتَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ قِيمَتِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ يُنْتَقَضُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَتِهِ عِنْدَ الْمَوْلَى أَوْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ مُدْبِرًا فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِقَتْلِ رَجُلٍ عَمْدًا وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْمَوْلَى أَوْ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَإِذَا قُتِلَ بِذَلِكَ بَعْدَ الرَّدِّ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْإِسْنَادِ وَإِنَّمَا اُسْتُحِقَّ نَفْسُهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَيَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَسْلَمْ لِلْمَوْلَى وَلَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ لَوْ اسْتَحَقَّ الْمَالَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُ الْمُدَبَّرِ وَالْقِنِّ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْأَرْشَ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِسَرِقَةٍ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ إنَّهُ رَدَّهُ فَقُتِلَ فِي الرِّدَّةِ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ أَوْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ فَعَلَى الْغَاصِبِ نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِهِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، قَالَ: وَقِيَاسُ هَذَا عِنْدِي الْبَيْعُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا مُرْتَدًّا فَقُتِلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ وَقَدْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ عَمْدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً يُقَوَّمُ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ وَسَارِقًا أَوْ غَيْرَ سَارِقٍ فَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ لَهُمَا بَيْنَ الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 77 الْغَاصِبِ رَجُلًا خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ رَقَبَتِهِ إذَا قُتِلَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا فَاسْتَهْلَكَ عِنْدَهُ مَالًا ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَمَاتَ عِنْدَهُ فَلَا شَيْءَ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَسْبِ أَوْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَلَا لِلْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ سَلِمَ لِلْمَوْلَى حِينَ لَمْ يُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا هَلَكَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ عِنْدَهُ وَلَوْ مَاتَ عِنْدَ الْغَاصِبِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ فَإِذَا أَخَذَهَا الْمَوْلَى دَفَعَهَا إلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَقْبُوضِ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَلَوْ كَانَ قُتِلَ عِنْدَ الْمَوْلَى خَطَأً فَقِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ يَقْبِضُهَا الْمَوْلَى وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ الْمُدَبَّرِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُدَبَّرُ مَالًا عِنْدَ الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ فَحَفَرَ عِنْدَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى فَقَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً فَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى وَأَخَذَهَا أَصْحَابُ الدَّيْنِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ فَعَطِبَتْ شَارَكَ صَاحِبُهَا أَصْحَابَ الدَّيْنِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِيمَةَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِالْحِصَّةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّابَّةِ فِيهَا صَارَ مُتْلِفًا لَهَا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَصَارَتْ قِيمَتُهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْآخَرِ فَتَكُونُ قِيمَةُ نَفْسِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ فَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ آخَرُ فَمَاتَ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى النُّفُوسِ تُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ السَّبَبِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ لَزِمَتْهُ لِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [بَابُ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْنَ اثْنَيْنِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ الْمُدَبَّرُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَ مَوْلَيَيْهِ وَرَجُلًا خَطَأً بُدِئَ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَوْلَى فَعَلَى الْمَوْلَى الْبَاقِي نِصْفُ قِيمَتِهِ وَفِي مَالِ الْمَقْتُولِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ثُمَّ يَكُونُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَهُمَا وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْقَتِيلِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 78 لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا ضَمِنَ فَإِنَّ جِنَايَةَ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ خَطَأً هَدَرٌ فَكَذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ الْقِيمَةِ يَسْلَمُ لِوَلِيِّ الْأَجْنَبِيِّ وَلِصَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَضْرِبُ هُوَ فِيهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَكَانَ ذَلِكَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى الْمُدَبَّرِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ نِصْفُهَا لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ وَنِصْفُهَا لِلْمَوْلَى الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَ بِسَبَبِ الْمَقْتُولِ كَانَ حَقُّ الْمَوْلَى الْحَيِّ بِاسْتِسْعَائِهِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ قَتَلَ الْمَوْلَى عَمْدًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعَلَى الْمَوْلَى الْبَاقِي وَفِي مَالِ الْمَقْتُولِ قِيمَتُهُ تَامَّةً لِوَلِيِّ الْخَطَأِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْعَمْدِ فِي الْقَوَدِ فَلَا مُزَاحِمَةَ لَهُ مَعَ وَلِيِّ الْخَطَأِ فِي الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي قِيمَتِهِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَيُقْتَلُ بِالْعَمْدِ فَإِنْ عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ سَعَى الْمُدَبَّرُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ فَإِنَّمَا يَجِبُ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِي ذَلِكَ وَلَا مُزَاحِمَةَ لَهُ فِي وَلِيِّ الْخَطَأِ فِي الْقِيمَةِ الْأُولَى قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَ أَحَدَ مَوْلَيَيْهِ خَطَأً فَعَلَى الْمَوْلَى الْبَاقِي نِصْفُ قِيمَتِهِ فَيَكُونُ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ أَصْحَابِ الْعَمْدِ نِصْفَيْنِ وَفِي مَالِ الْقَتِيلِ رُبْعُ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ انْقَلَبَ مَالًا وَذَلِكَ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَيَيْنِ فَلِهَذَا كَانَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ رُبْعُ الْقِيمَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَقَدْ وَجَبَ لِلْمَوْلَى الْحَيِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ بِالْجِنَايَتَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ فَيَسْلَمُ لِوَلِيِّ مَوْلَى الْقَتِيلِ وَحَقُّهُمَا فِي النِّصْفِ سَوَاءٌ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي قِيمَتِهِ تَامَّةً لِلْحَيِّ وَلِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ لِمَا قُلْنَا قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ مَوْلَيَيْهِ مَعًا خَطَأً سَعَى فِي قِيمَتِهِمَا لِوَرَثَتِهِمَا لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ هَدَرٌ وَفِي نِصْفِ صَاحِبِهِ مُوجِبٌ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ قِصَاصٌ وَلَوْ غَصَبَ الْمُدَبَّرَ أَحَدُ مَوْلَيَيْهِ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ رَدَّهُ فَقَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا لَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِمَا قِيمَةٌ تَامَّةٌ لِصَاحِبِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ رُبْعُهَا وَهَذَا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ عَلَى الْغَاصِبِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا غَرِمَ هُوَ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ إنَّمَا غَرِمَ ذَلِكَ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمُدَبَّرِ فِي حَالِ كَوْنِ الشَّرِيكِ غَاصِبًا لَهُ ضَامِنًا ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْخَطَأِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَطَأِ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ فَارِغًا وَإِنَّمَا سَلِمَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَقَدْ أَخْلَفَ نَصِيبَهُ عِوَضًا فَيَرْجِعُ فِي الْعِوَضِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ وَذَلِكَ مِنْ الْجَمِيعِ وَهُوَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 79 رُبْعُ نِصْفِ الْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ قَالَ: وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ الْمُدَبَّرِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَرِئَ وَزَادَ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَهُ آخَرُ ثُمَّ انْتَقَضَ الْبُرْءُ فَمَاتَ مِنْهُمَا وَالْمُدَبَّرُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَدِ وَمَا حَدَثَ مِنْهَا وَعَفَا الْآخَرُ عَنْ الْعَيْنِ وَمَا حَدَثَ مِنْهَا فَلِلَّذِي عَفَا عَنْ الْيَدِ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ سِتُّمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً وَفِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا وَلِلَّذِي عَفَا عَنْ الْعَيْنِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ قَطَعَ يَدَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ فَقَأَ الْآخَرُ عَيْنَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَلْفٌ فَلَمَّا مَاتَ مِنْهُمَا صَارَ صَاحِبُ الْيَدِ ضَامِنًا لِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ قِيمَتِهِ مَعَ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ أَلْفًا فِي فَقْءِ عَيْنِهِ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ بِهِ مُتْلِفًا نِصْفَ مَا بَقِيَ وَإِنَّمَا الْبَاقِي مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَقَدْ تَلِفَ بِالْجِنَايَتَيْنِ فَنِصْفُهُ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ تَلِفَ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا صَارَ هُوَ ضَامِنًا سِتُّمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٌ ذَلِكَ لِلْعَافِي فَيَسْقُطُ وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَأَمَّا الْعَافِي صَارَ ضَامِنًا بِجِنَايَتِهِ أَلْفًا وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ أَحَدِهِمَا بِالْعَفْوِ إذْ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْهُمَا عَلَيْهِ نَصِيبُهُ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَالَ: وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا وَلَا وَلَدَ لَهَا فَعَفَا أَحَدُ ابْنَيْ الْمَوْلَى عَنْهَا سَعَتْ لِلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِأَنَّهَا حُرَّةٌ حِينَ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا إلَّا أَنَّ أَصْلَ الْجِنَايَةِ كَانَ مِنْهَا فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْآخَرِ وَكَذَلِكَ عَبْدٌ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الدَّمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا كَانَ فِي الْقِصَاصِ وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ قَالَ: وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُدَبَّرَهُ ثُمَّ قَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا مِنْ قَبْلِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا جَنَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى مَوْلَاهَا كَجِنَايَتِهَا عَلَى غَيْرِهِ لَا مُوجِبَ جِنَايَتِهَا فِي كَسْبِهَا وَهِيَ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا ثُمَّ قَدْ بَطَلَتْ عَنْهَا الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْقَتْلِ، قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ اسْتَقْرَضَتْ مِنْهُ مَالًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَطَلَتْ عَنْهَا الْكِتَابَةُ وَلَزِمَهَا الدَّيْنُ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِهَذَا لِسَبَبِ أَنَّهُ وَإِنْ أَلْزَمَهَا الْقِيمَةَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا يَمْتَنِعُ بُطْلَانُ الْكِتَابَةِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْعِتْقِ وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا مِنْ قَبْلِ الْجِنَايَةِ وَتَسْعَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 80 فِي قِيمَةٍ أُخْرَى لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَتُهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا سَعَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَتُهُ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ مُكَاتَبَتِهَا وَمِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْأَقَلِّ. وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَاسْتَسْعَاهَا فِي قِيمَتِهَا فَقَتَلَتْهُ خَطَأً وَهِيَ تَسْعَى فَعَلَيْهَا قِيمَتُهَا مِنْ قِبَلِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ وَيَبْطُلُ عَنْهَا سِرَايَةُ الرِّقِّ وَلِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَعَلَيْهَا الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَلَا شَيْءَ لِوَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُسْلِمٌ مَعَ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ لِوَرَثَةِ الْأَبِ وَإِذَا قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا وَهِيَ حُبْلَى مِنْهُ وَلَا وَلَدَ لَهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ وَرَثَتِهِ وَمِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحُبْلَى لَا تُقْتَلُ بِالْقِصَاصِ حَتَّى تَضَعَ فَإِنْ وَلَدَتْهُ حَيًّا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهَا لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ الْقِصَاصِ صَارَ مِيرَاثًا لِوَلَدِهَا وَإِنْ وَلَدَتْهُ مَيِّتًا كَانَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ لِوَرَثَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْفَصِلُ مَيِّتًا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا كَانَ حُرًّا وَالْوَاجِبُ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ الْغُرَّةُ وَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْ تِلْكَ الْغُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَهِيَ وَارِثَةٌ حِينَ وَجَبَتْ الْغُرَّةُ بِالضَّرْبَةِ وَتُقْتَلُ هِيَ بِالْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ انْفَصَلَ مَيِّتًا فَلَا تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ كَانَ انْفِصَالُهُ بِالضَّرْبَةِ أَوْ بِغَيْرِ الضَّرْبَةِ وَإِيجَابُ الْغُرَّةِ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِكَوْنِ الْجَنِينِ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ وُجُوبَهَا بِسَبَبِ قَطْعِ السُّرِّ وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ثُمَّ نَصِيبُهَا مِنْ الْغُرَّةِ مِيرَاثٌ لِبَنِي مَوْلَاهَا لِأَنَّهُمْ عُتَقَاءُ وَلَا يُحْرَمُونَ الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهَا بِحَقٍّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [بَابُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ فِي الْخَطَأِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا خَطَأً وَلَهُ وَارِثَانِ فَقَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَلَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَتَلَ الْآخَرَ فَجَاءَ الْآخَرُ فَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ مُكَاتَبٌ بَعْدَ وَفَائِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَقْضِيَّ فِيهِ لِلْأَوَّلِ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَيُقْضَى لَهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِذَلِكَ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّهُ وَحَقُّ الَّذِي لَمْ يُقْضَ لَهُ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَجَاءَ الْأَوْسَطُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ رُبْعَ الْعَبْدِ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ وَالْجِنَايَةُ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ فِي رُبْعِ الرَّقَبَةِ لِانْعِدَامِ الْمُحَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي فَلِهَذَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 81 يَدْفَعُ إلَيْهِ رُبْعَ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَيَفْدِيهِ مَوْلَاهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ قَالَ: فَلَوْ قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ أَعْوَرَّ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ صَحِيحًا لِلْأَوَّلِ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَعْوَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ قِيمَتِهِ صَحِيحًا لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا أَخَذَ وَالْآخَرُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ إنْسَانٌ أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ سُعْرٍ أَوْ عَيْبٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتُهُ حِينَ جُنِيَ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَحَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ أَوْ أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِلَّذِي وَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَسَعَى فِيهَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَطِبَ مِمَّا أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ إنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِلَّذِي وَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَسَعَى فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَإِنَّمَا صَارَ جَانِيًا بِذَلِكَ التَّسَبُّبِ وَجِنَايَاتُ التَّسَبُّبِ وَالْمُبَاشَرَةِ لَا تَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ آخَرُ فَمَاتَ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا أُخْرَى فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ مَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بِالتَّسْبِيبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ فَيَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِهَا قِيمَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ قَدْ فَرَغَتْ مِنْ قَبْلِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ فَيُشْغَلُ بِالْجِنَايَةِ الْمُبْتَدَأَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِأَجْلِهَا وَلَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَرَسٌ فَعَطِبَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ دَيْنًا يَسْعَى فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَلَا يُشَارِكُهُ أَهْلُ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشَارِكُونَهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ضَمَانُ مَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ ضَمَانِ الْمَالِ وَضَمَانِ النَّفْسِ وَلَا مُشَابَهَةَ فِي الْحُكْمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَاسْتَهْلَكَ مَالًا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فِي الْقَتْلِ وَبِالْمَالِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَكُلُّ مَنْ يُكَاتِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ السِّعَايَةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِهِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ فِيمَا يَلْزَمُهَا بِالْجِنَايَةِ وَلَوْ جَنَى عَبْدُهُ خُوطِبَ الْمَكَاتِبُ فِيهِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فَالتَّدْبِيرُ فِي كَسْبِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ الْعَبْدِ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمُكَاتِبُ عَلَى مَالِ جَازَ صُلْحُهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَخْلِيصَ مِلْكِهِ قَالَ: وَإِذَا أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِقَتْلٍ عَمْدًا ثُمَّ إنَّهُ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنْهُ قَضَى عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِلْآخَرِ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا قَضَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَعْجِزَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 82 عَلَى مَالٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ مَا لَمْ يَعْجِزْ فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ بَطَلَ عَنْهُ الْمَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لَازِمٌ يُبَاعُ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ دُيُونِهِ يُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ الْعَجْزِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي إطْلَاقِ الْحَجَرِ عَنْهُ فِي الْجِنَايَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَكَانَ هُوَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ فِي حَالِ قِيَامِهِ بِالْكِتَابَةِ الْمَالُ إنَّمَا يُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ وَكَذَلِكَ قَبُولُهُ بِسَبَبِ الصُّلْحِ فَإِذَا عَجَزَ صَارَ الْحَقُّ لِمَوْلَاهُ وَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ قَبُولُهُ الْمَالَ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ مَالًا لَا بِإِزَاءِ مَالٍ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُطْلَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا يُبَاعُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِسَبَبٍ صَارَ هُوَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ فَكَذَلِكَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى قَالَ: إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا يَسْعَى لِلْآخَرِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ فَإِنْ وَقَعَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمُكَاتَبُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقَتْلِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةٍ أُخْرَى لِصَاحِبِ الْبِئْرِ لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَجِنَايَاتُهُ لَا تَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةٍ أُخْرَى لِصَاحِبِ الْبِئْرِ وَشَاوَلَ صَاحِبُ الْبِئْرِ صَاحِبَ الْقَتِيلِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قُسِّمَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَمَا بَيَّنَّا وَإِذَا قَتَلَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْمُكَاتَبَ قَتَلَ ابْنَهُ وَهُوَ عَبْدٌ وَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ يَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ الْآخَرِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الِابْنِ بِقِيمَةِ الِابْنِ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا حَصَلَتَا مِنْ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ وَحَقِّ أَوْلِيَاءِ الْحُرِّ فِي الدِّيَةِ وَحَقِّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الِابْنِ كَانَ فِي الدِّيَةِ وَلَكِنْ بِجِنَايَةِ الِابْنِ فَأَمَّا بِجِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ قِبَلَهُ إلَّا فِي قِيمَةِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَا جَنَى عَلَى وَلِيِّهِمْ إنَّمَا جَنَى عَلَى الِابْنِ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَلِهَذَا ضَرَبُوا فِي قِيمَتِهِ بِقِيمَةِ الدَّيْنِ قَالَ: وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُكَاتَبُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فِي قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا ازْدَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَعَلَى الْمَوْلَى إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْعِلْمَ بِإِنَّهَا زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يَحْكُمُ بِقِيمَتِهِ فِي الْحَالِ عَلَى قِيَاسِ الْمُدَبَّرِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْمُكَاتَبِ فَقَالَ الْمُكَاتَبُ: جَنَيْت بَعْدَ مَا فُقِئَتْ عَيْنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخِ فِي جِنَايَتِهِ إلَى مَا قَبْلَ فَقْءِ الْعَيْنِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلِأَنَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 83 الْوَلِيَّ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ وَالْمُكَاتَبُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمَوْلَى إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْجِنَايَاتِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَرَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَسْلَافِهِ: اعْلَمْ بِأَنَّ الْجِنَايَةَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا سَوَاءٌ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَلَكِنْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنَايَةِ الْفِعْلُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُمْ خَصُّوا الْفِعْلَ فِي الْمَالِ بِاسْمٍ وَهُوَ الْغَصْبُ وَالْعُرْفُ غَيْرُهُ فِي سَائِرِ الْأَسَامِي، ثُمَّ الْجِنَايَةُ عَلَى النُّفُوسِ نِهَايَتُهَا مَا يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فَقَدْ جَعَلَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَتَخْرِيبِ الْعَالَمِ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ وَفِي الْإِعَانَةِ لِكُلِّ مَنْ اسْتَعَانَ بِهِ، فَإِنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ ظَاهِرٌ فَاَلَّذِي يَقْتُلُ الْوَاحِدَ يَكُونُ قَاطِعًا لِهَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَأَيَّدَ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قِتَالُهُ لِإِيمَانِهِ فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْجِنَايَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرَى التَّوْبَةَ لِلْقَاتِلِ الْعَمْدِ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِقَبُولِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ مَا تَقُولُ فِي مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَقَالَ جَزَاؤُهُ " جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا "، فَقَالَ: إلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، فَقَالَ: وَأَنَّى يَكُونُ لَهُ الْهُدَى؟ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُؤْتَى بِقَاتِلِ الْعَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَالْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ». وَلِعَظْمِ الْجِنَايَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لَمْ يَرَ عُلَمَاؤُنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لَا يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَالذَّنْبُ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرْفَعَهُ الْكَفَّارَةُ وَيَسْتَوِي فِيهِ إنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَا يَجِبُ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا، وَالرَّجُلِ إذَا قَتَلَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا عَمْدًا. وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ وَلَكِنْ لَا يَقُولُ إنَّ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْمَآثِمِ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَالْوَعِيدُ مَنْصُوصٌ - عِنْدَهُ - عَلَيْهِ؟، وَاسْتَدَلَّ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 84 بِالْقَتْلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وَالْمُرَادُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْقَتْلِ لَا بِصِفَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ وَرُبَّمَا يَقُولُ الْمُرَادُ بِالْخَطَأِ مَا يُضَادُّ الصَّوَابَ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] أَيْ ضِدَّ الصَّوَابِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةِ كَذَا إذَا لَمْ يُصِبْ وَالْعَمْدُ ضِدُّ الصَّوَابِ فَتَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا يَقْتُلُ الْمَرْءُ عَدُوَّهُ عَمْدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: قَالَ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ بِالنَّارِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يَعْتِقُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَإِيجَابُ النَّارِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُ وَقِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ مُسْتَقِيمٌ عِنْدَهُ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا صَحِيحٌ عَلَيْنَا نُفَصِّلُ الْخَطَأَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ بِفِعْلِهِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَهَا وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ فَأَلْزَمَهُ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّحْرِيرِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقَّ تَلَفٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ سَوَاءٌ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فَلِهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ وَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ لَكَانَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ جُزْئِهِ فَيَكُونُ فَسْخًا لِهَذَا الْحُكْمِ وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ جَزَاءُ قَتْلِ الْعَمْدِ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ كَانَ الْمَذْكُورُ جَزَاءً لِرَدِّهِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] الْخَطَأُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الْعَمْدَ وَلَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْعَمْدِ وَمَتَى قُوبِلَ الْخَطَأُ بِالْعَمْدِ فَالْمُرَادُ مَا يُضَادُّ الْقَصْدَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْخَطَأَ مِنْ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ " إلَّا خَطَأً " وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، فَلَوْ حُمِلَ هَذَا عَلَى ضِدِّ الصَّوَابِ أَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الصَّوَابُ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَهَذَا مُحَالٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْخَطَأُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقَصْدِ، فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِكَوْنِهِ رَمَى إلَى قَصْدِ الصَّيْدِ أَوْ الْحَرْبِيِّ لَكِنَّهُ بِاتِّصَالِهِ بِالْمَحَلِّ الْمُحْتَرَمِ يَصِيرُ مُحَرَّمًا وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُهُ إثْمُ نَفْسِ الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا عَنْهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِهِ نَوْعُ مَأْثَمٍ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّحَرُّزِ. وَالْكَفَّارَةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 85 تَلْزَمُهُ لِمَحْوِ ذَلِكَ الْإِثْمِ وَالْإِثْمُ فِي حَقِّ قَاتِلِ الْعَمْدِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى تَمْحُوهُ الْكَفَّارَةُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَنْوَاعَ قَتْلِ الْخَطَأِ مَا يَكُونُ مِنْهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَكُونُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] أَيْ فِي قَوْمِ عَدُوٍّ لَكُمْ وَمَا يَكُونُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] وَنَصَّ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ إذْ لَوْ كَانَ لِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ لَنَصَّ عَلَى الْكَفَّارَةِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْخَطَأِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَنْوَاعِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ وَمِنْ جُمْلَتِهَا قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ النَّارَ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَتْلِ وَلَإِنْ صَحَّ قَوْلُهُ بِالْقَتْلِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرِ، ثُمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّطَوُّعُ بِالْإِعْتَاقِ عَنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ غَيْرَ الْقَاتِلِ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّهُ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَسَبَبُهُمَا مَا يَكُونُ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَكَمَا أَنَّ الْمُبَاحَ الْمَحْضَ، وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَكَذَلِكَ الْمَحْظُورُ الْمَحْضُ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ الْقَتْلُ الْخَطَأُ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفِعْلِ مُبَاحٌ وَبِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَهُ مَحْظُورٌ فَكَانَ جَائِزًا وَشِبْهُ الْعَمْدِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَصْدَ التَّأْدِيبُ، وَالتَّأْدِيبُ مُبَاحٌ. وَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ مَحْضٍ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْآلَةَ بِاعْتِبَارِ جِنْسِهَا لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا قَتْلُ الْأَبِ ابْنَهُ عَمْدًا، فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَبِهِ لَا تَخْرُجُ الْفِعْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مَحْضًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يَقْتُلُ الْمُسْتَأْمَنُ عَمْدًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِهِ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الْإِحْرَازِ. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَنَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّذِي بَيَّنَّاهَا، وَكَلَامُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَذَرَهُ بِالْخَطَأِ وَسَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ فَلَمْ يُلْزِمْهُ الْقِصَاصَ مَعَ تَحَقُّقِ الْفِعْلِ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ نَفْسًا مَقَامَ نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَذَلِكَ فِي أَنْ يُحَرِّرَ شَبَحًا لِيَتَفَرَّغَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ شَغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 86 اللَّهِ فَصَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَبُ فِي حَقِّ الْعَامِدِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ الْقِصَاصَ وَمَا سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ مَا قُلْتُمْ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا وَمَا نَقَصَ بِفِعْلِهِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي نَفْسِ الْمَقْتُولِ حُرْمَتَانِ وَالْمَالُ فِي الْخَطَأِ وَجَبَ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ صَاحِبِ النَّفْسِ فَقَطْ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ الْوَاجِبِ هُوَ الْعُقُوبَةُ، وَلَا تَجِبُ الْعُقُوبَةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ إنَّمَا يَكُونُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ لِمَجْمُوعِ الْحُرْمَتَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ مَعَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ جِنَايَةُ الْقَتْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَمَالِيكِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى الْأَحْرَارِ تَارَةً وَعَلَى الْمَمَالِيكِ تَارَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ عَامَّةً أَحْكَامَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْضَ مَا لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَفَرَّعَ عَلَى بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ هُنَاكَ فَبَدَأَ الْكِتَابَ بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَعَلَ جِنَايَةَ الْمُدَبَّرِ عَلَى سَيِّدِهِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ جَعَلَ جِنَايَةَ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَنْ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَالِ مِنْ جِنَايَتِهِ كَالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَأَمَّا مَا يَكُون مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَعَلَى الْجَانِي خَاصَّةً لَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ لَا بِإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ وَالْمُسْتَحَقُّ بِجِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ نَفْسُهُ يَدْفَعُ بِهَا إلَّا أَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ مَنَعَ دَفْعَهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْنِي، وَلَوْ مَنَعَهُ بِالتَّدْبِيرِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إنْ مَنَعَهُ بِتَدْبِيرٍ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَهَذِهِ الْقِيمَةُ فِي مَالِ الْمَوْلَى لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِجِنَايَةِ مَمْلُوكِهِ وَوَصْلَةُ الْمِلْكِ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَالْمَالِكِ، وَهَذِهِ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّةِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقِنِّ لَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فَكَذَلِكَ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ وَيَسْتَوِي جِنَايَتُهُ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَ الْوَاجِبُ دَفَعَهُ أَوْ فَدَاهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَالْقِيمَةُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ هُنَاكَ إلَّا أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسَيْنِ مُسْتَقِيمٌ، وَفِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 87 الْفَائِدَةِ فَأَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ لِهَذَا. فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مَا تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا أُوجِبَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى فَبَقَاءُ الْمُدَبَّرِ وَمَوْتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَعَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي قِيمَتِهِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ، وَهُوَ حَيٌّ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَالَ الْمَوْلَى لَمْ تَزَلْ هَذِهِ قِيمَتُهُ مُنْذُ جَنَى وَقَالَ الْمَوْلَى كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ، وَلَا يُعْلَمُ مَتَى كَانَتْ الْجِنَايَةُ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَأَخَذَ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا وَجَدَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا أَقَرَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ الْيَوْمِ فِي وَقْتٍ لَا يَدْرِي كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْحَالِ إضَافَةً لِلْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ عَلِمَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ وَعَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ سَابِقَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يُحْكَمُ بِقِيمَتِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمَوْلَى فِي النُّقْصَانِ، وَلَا فِي قِيمَتِهِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إذَا أَقَرَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ قَبْلَ الْيَوْمِ فِي وَقْتٍ لَا يَدْرِي كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ قِيمَتَهُ لِلْحَالِ مَعْلُومٌ، وَفِيمَا مَضَى مُسَبِّبُهُ فَيُرَدُّ الْمُسَبِّبُ إلَى الْمَعْلُومِ وَيُجْعَلُ فِي الْحَالِ شَاهِدًا عَلَى مَا مَضَى بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَاءِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يُحَكَّمُ الْحَالُ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَجَّلَ الدَّفْعَ كَانَ مَدْفُوعًا بِالْجِنَايَةِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَجَّلَ الدَّفْعَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتَهُ فِي الْحَالِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَانَتْ دُونَ هَذَا. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ جِنَايَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ فِي الْحَالِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ حُكْمَ مُتَعَلِّقٍ بِرَقَبَتِهِ وَلَكِنْ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَقْتَ الْجِنَايَةِ وَقِيمَتُهُ فِي الْحَالِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى قِيمَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ إذْ الْقِيمَةُ تَزْدَادُ تَارَةً وَتَنْقُصُ الْأُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَ بَيْنَهُمْ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ فَالْمَوْلَى يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي الدَّعَاوَى الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفِ الْعَبْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الزِّيَادَاتِ فَزَادَ هَاهُنَا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ كَثِيرِ الْقِيمَةِ فَصَالَحَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، فَإِنَى أَرُدُّ مِنْ الصُّلْحِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُزَادُ بَدَلُ يَدِ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ إلَّا خَمْسَةً وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ لَمَّا تَعَذَّرَ بَدَلُ نَفْسِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْقُصَ بَدَلُ طَرَفِهِ عَنْ بَدَلِ نَفْسِهِ، وَلَا نَصَّ فِي مِقْدَارِ هَذَا النُّقْصَانِ فَقَدَّرَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ اعْتِبَارًا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 88 لِلْآدَمِيِّ. وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ بَدَلَ طَرَفِهِ النِّصْفَ مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحُرِّ وَسِوَى هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَدَلِ طَرَفِ الْمَمْلُوكِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ فَقَطْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَدَلُ طَرَفِ الْمَمْلُوكِ يَتَقَدَّرُ بِنِصْفِ بَدَلِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الدِّيَةَ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَّ جَمِيعَ الْأَطْرَافِ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتَثْنَى الْأُذُنَ وَالشَّعْرَ كَالْحَاجِبِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَقَالَ: أَسْتَقْبِحُ اعْتِبَارَ الْمَمْلُوكِ بِالْحُرِّ فِي هَذَا وَأَوْجَبَ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرَفَ الْمُلُوكِ فِي حُكْمِ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُجْرَى فِيهِ الْقِصَاصُ بِحَالٍ وَيَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ فِي أَنَّهَا تُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ بَدَلًا مُقَدَّرًا. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، الْمَمْلُوكُ وَالْحُرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَمَا أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِ الْحُرِّ نِصْفُ بَدَلِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِ الْعَبْدِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَدَلَ الْمُقَدَّرَ فِي الْحُرِّ تَارَةً يَجِبُ لِتَفْوِيتِ الزِّينَةِ وَتَارَةً يَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ وَمَعْنَى الزِّينَةِ فِي الْمَمْلُوكِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ الْمَنْفَعَةُ فَفِي كُلِّ طَرَفٍ يَجِبُ بَدَلُهُ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ كَانَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ، وَفِي كُلِّ مَا يَجِبُ فِي الْحُرِّ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الزِّينَةِ وَالْجَمَالُ كَالشَّعْرِ، وَقَطْعُ الْأُذُنِ الْمَمْلُوكُ فِيهِ لَا يَلْحَقُ بِالْحُرِّ وَلَكِنْ يَلْحَقُ بِالْمَالِ فَيَجِبُ النُّقْصَانُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُشْبِهُ الْحُرَّ مِنْ وَجْهٍ وَالْمَالَ مِنْ وَجْهٍ وَالسَّبِيلُ فِيمَا يُرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ أَنْ يُوَفَّرَ عَلَيْهِ حَظَّهُمَا. وَإِذَا حَفَرَ الْمُدَبَّرُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ جَانٍ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، فَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ إلَى وَلِيِّهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَوَهَبَ الْوَلِيُّ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ قَالَ يَدْفَعُ الْوَلِيُّ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِهِ كُلَّهُ إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيمَةَ الْمَقْبُوضَةَ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهِبَةُ الْمَوْلَى النِّصْفَ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ كُلِّهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا كَالْقَائِمِ مِنْ الْقِيمَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَهَبَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْلَى وَبَيْنَ أَنْ يَهَبَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَمَا اسْتَهْلَكَهُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ قِيمَتِهِ إلَى شَرِيكِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا ثَالِثٌ، وَقَدْ غَرِمَ الْوَاهِبُ نِصْفَ الْقِيمَةَ لِلثَّانِي بِأَمْرِ الْقَاضِي فَعَلَى الْوَاهِبِ لِوَلِيِّ الثَّالِثِ سُدُسُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَأَنَّ حَقَّ الثَّالِثِ فِي ثُلُثِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ نِصْفَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الثَّانِي، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الثَّانِي وَيَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ وَنِصْفَ حَقِّهِ، وَهُوَ سُدُسُ الْقِيمَةِ كَانَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 89 فِي النِّصْفِ الَّذِي وَهَبَهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مُسْتَهْلِكٌ لِذَلِكَ فَلِهَذَا يَغْرَمُ لَهُ سُدُسَ الْقِيمَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الْمَوْهُوبُ بِتَمَلُّكٍ صَحِيحٍ مِنْ الْوَاهِبِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ حَفَرَ الْمُدَبَّرُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ، ثُمَّ كَاتَبَ الْمَوْلَى الْمُدَبَّرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْجِنَايَةُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَعَلَى هَذَا يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا بِذَلِكَ الْحَفْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ قَدْ يَكُونُ الْمُدَبَّرُ مَيِّتًا، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْجِنَايَةُ مِنْ الْمَيِّتِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ، ثُمَّ وَقَعَ الْمَوْلَى فِي الْبِئْرِ فَمَاتَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا بِالْحَفْرِ، وَهُوَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَ ذَلِكَ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ هَدَرٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِيهَا عَبْدٌ لِلْمَوْلَى عِنْدَ ذَلِكَ وَالْمَوْلَى وَارِثَهُ أَوْ ابْنُهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَا يَرِثُهُ إلَّا الْمَوْلَى فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ كَانَ مُوجَبًا لِلْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ إلَّا الْمُكَاتَبَ، فَإِنَّ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ يَوْمَ وَقَعَ فِيهَا وَمِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ يَوْمَ حَفَرَ الْبِئْرَ يُؤَدَّى مِنْ ذَلِكَ مُكَاتَبَتُهُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا تَرَكَ وَفَاءً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمَوْلَى فَتُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِي إيجَابِ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ يَوْمَ حَفَرَ لِيُؤَدِّيَ مِنْهُ الْمُكَاتَبَةَ فَتَحْصُلُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ مَا بَقِيَ مِيرَاثٌ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ حُرٌّ فَهُوَ مِيرَاثٌ لَهُ وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمَوْلَى بِالْوَلَاءِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ حَفَرَ الْمُدَبَّرُ الْبِئْرَ قَبْلَ أَنْ يُكَاتِبَ الْمَوْلَى هَذَا الْعَبْدَ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ فِيمَا اتَّصَلَتْ بِهِ حِينَ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِيهَا ابْنَ الْمَوْلَى وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَهُوَ ضَامِنٌ حِصَّةَ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَسْقُطُ حِصَّتُهُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ آخَرَ وَاجِبٍ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّي حِصَّةَ الِابْنِ إلَّا آخَرَ. وَلَوْ حَفَرَ الْمُدَبَّرُ الْبِئْرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ فِي مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ كَانَ جِنَايَةً مِنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَكَانَ مُوجِبُهُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى إذَا اتَّصَلَ الْوُقُوعُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ حَفَرَ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا دَابَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ قِيمَةَ الدَّابَّةِ تَكُونُ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى فِيهَا هُنَا قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ الْمَوْلَى شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَلَا عَلَى الْمُعْتَقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 90 الْجِنَايَةِ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَلَيْسَ عَلَى الْوَارِثِ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُورِثِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى الْمُعْتَقِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ الْمُعْتِقِ. مُدَبَّرٌ قَتَلَ دَابَّةَ رَجُلٍ وَأَحْرَقَ ثَوْبَ آخَرَ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى الْمَالِ تُوجِبُ الضَّمَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ وَسِعَايَتِهِ وَلَكِنْ يَصِيرُ بِهَذَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ مِنْهُ يَتَعَمَّدُ الرِّضَا لَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَلَمْ يُوجَدْ وَحَالُهُ هَاهُنَا كَحَالِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ دَيْنٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا وَلَكِنَّهُ لَوْ اكْتَسَبَ كَسْبًا أَوْ وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَصْرُوفٌ إلَى دَيْنِهِ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى لَهُمَا مُوجِبًا الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُمَا بِكَسْبِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَإِبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَخُصُّ بَعْضَ غُرَمَائِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَهُنَاكَ حَقُّ الْبَاقِينَ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِهِ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ سَيِّدَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إحْدَاهُمَا: رَدُّ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ. وَالْأُخْرَى لِأَجْلِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي قِيمَةِ عَبْدِهِ مُكَاتَبٌ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ خَطَأٌ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَجِنَايَتُهُ خَطَأً تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا جَرَحَ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى صَاحِبَ فِرَاشٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى يَجِيءُ وَيَذْهَبُ فَالْعَبْدُ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ مَرِيضٌ وَالْإِعْتَاقُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ، وَإِذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَأَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ، وَهُوَ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يَجُزْ وَحَصَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ لِلْقَاتِلِ. وَلَوْ أَنَّ مُدَبَّرَةً قَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً وَهِيَ حُبْلَى، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَى وَلَدِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ فَكَانَتْ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُكَاتَبَةُ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَالْوَلَدُ يَدْخُلُ فِي كِتَابَتِهَا وَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَعِنْدَهُمَا هِيَ حُرَّةٌ وَالْوَلَدُ يَنْفَصِلُ عَنْهَا حُرًّا، وَلَوْ جَرَحَتْ مَوْلَاهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَيَعْتِقُ الْوَلَدُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ عَنْهَا وَهِيَ مُدَبَّرَةٌ، فَإِنَّ الْمَوْلَى حَيٌّ حِينَ وَلَدَتْ وَهِيَ إنَّمَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 91 تُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى. وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدْبِرٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَلَدِ مَا يَحْرِمُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ هَذَا مِنْ الثُّلُثِ. مُدَبَّرٌ تَاجِرٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَةِ رَقَبَتِهِ لِغُرَمَائِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ أَمَّا وُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي قِيمَةِ رَقَبَتِهِ فَلِرَدِّ الْوَصِيَّةِ حِينَ قَتَلَ مَوْلَاهُ، ثُمَّ غُرَمَاؤُهُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ ضَامِنًا لَهُمْ شَيْئًا، فَإِنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي كَسْبِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَغْرَمْ لَهُمْ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا أُعْتِقَ بِمَوْتِهِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ بَدَلُ مَالِيَّتِهِ وَغُرَمَاؤُهُ أَحَقُّ بِمُكَاتَبَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي حَيَاةِ مَوْلَاهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ دُونَ مَوْلَاهُ، وَأَمَّا وُجُوبُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى كَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا بِمُعَامَلَتِهِ فَبَقِيَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَلَى حَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَبْدًا مَأْذُونًا عَلَيْهِ دَيْنٌ جَرَحَ مَوْلَاهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، وَهُوَ صَاحِبُ فِرَاشٍ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالًا فَغُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا أَخَذُوا قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَيَأْخُذُونَ قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيَتْبَعُونَ الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا بَاعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ لَكِنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ بِمُعَامَلَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ. مُدَبَّرٌ ضَرَبَ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا أَجْنَبِيًّا خَطَأً بُدِئَ بِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ إلَّا إنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ مَاتَ قَبْلَ الْمَوْلَى فَلِوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ فِي مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا لَهُ، وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى وَيَسْتَوْفِي مَنْ تَرِكَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي قِيمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا لِمَوْلَاهُ فَصَارَ مَحْرُومًا مِنْ الْوَصِيَّةِ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ إنَّمَا صَارَ قَاتِلًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِالضَّرْبَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مُوجِبُهَا الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُدَبَّرًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِي مَالِ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمَا مَاتَا أَوْ لَا، لَا إنْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى وَمَا يَسْعَى فِيهِ الْمُدَبَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحَقُّ غُرَمَائِهِ فِي مِلْكِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ مُدَبَّرَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَبَّرٌ فَقَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ صَاحِبِهِ فَيَرِثَا جَمِيعًا، فَإِنَّ سَيِّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ مُدَبَّرِ صَاحِبِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَيْهِ مُدَبَّرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ مُدَبَّرِهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِيمَةَ مُدَبَّرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 92 مُدَبَّرِ صَاحِبِهِ أَقَلَّ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ قَاتِلًا لِصَاحِبِهِ بِفِعْلٍ كَانَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَمَوْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَعَلَى مَوْلَى الْبَاقِي الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ مُدَبَّرِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْمَيِّتِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَوْلَاهُمَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ مُدَبَّرِهِ، وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ أَعْتَقَ الْآخَرَ سَيِّدُهُ، وَلَا يَضْمَنُ الْفَضْلَ الَّذِي حَدَثَ فِي الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ فِي انْقِطَاعِ السِّرَايَةِ بِهِ لِمَعْنًى يُبْدِلُ الْمُسْتَحَقَّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدِّيَاتِ. مُدَبَّرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا جَنَى جِنَايَةً فَعَلَيْهِمَا قِيمَتُهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى لِمَنْعِهِ دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْقِيمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ مِنْهُ وَاخْتَارَ الْآخَرُ تَرْكَهُ عَلَى حَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ إلَّا أَنَّ الْآخَرَ لَا يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ مُدَبَّرَ الْبَعْضِ لَا يَتَحَمَّلُ التَّمْلِيكَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ دَفْعُ نَصِيبِهِ كَمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ. مُدَبَّرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا جِنَايَةٌ فَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ نَصِيبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَالِ عَلَيْهِ هَدَرٌ وَجِنَايَةُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلَّ الدَّفْعِ كَانَ يُخَاطَبُ صَاحِبُهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يُخَاطَبُ بِدَفْعِ نِصْفِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ إذَا كَانَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا، فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَعَلَى الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى لَمْ تَثْبُتْ فِي نَصِيبِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ نَصِيبِهِ إلَّا هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَهُ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ صَاحِبِهِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى مِقْدَارِ أَنْصَافِ جِنَايَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ جِنَايَتَانِ وَالْمَوْلَى لَا يَغْرَمُ بِجِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ، وَإِنْ كَثُرَتْ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَرَّةً فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ وَلَكِنْ مَا غَرِمَ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفَ حَقِّهِ، فَإِنَّ مَا بَقِيَ نِصْفَ حَقِّهِ وَالْمَوْلَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَا تَثْبُتُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفَهُ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً مَالِيَّةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَيَيْنِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ آخَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مَرَّةً وَلَكِنَّ الْآخَرَ يَتْبَعُ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى وَالْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ هَذَا الْآخَرِ يَضْرِبُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنِصْفِ حَقِّهِ وَيَكُونُ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ أَيْضًا مِنْ الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْآخَرِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 93 يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَنَى بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً أُخْرَى فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا يَعُمُّ الْفُصُولَ كُلَّهَا. وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى أَحَدِ مَوْلَيَيْهِ جِنَايَةً تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ فَغَرِمَ شَرِيكُهُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى الْآخَرِ فَغَرِمَ شَرِيكُهُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ جِنَايَةً، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ مَرَّةً فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ حَقُّ الْآخَرِ اسْتَوَى بِحَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ يَقْسِمُ كُلُّ نِصْفٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فِي يَدِهِ نِصْفَانِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ مُدَبَّرًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَجَنَى الْمُدَبَّرُ جِنَايَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَلَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَجِنَايَتُهُ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَاقِلَتُهُ عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حُكْمُهُ فِي الْجِنَايَةِ كَحُكْمِ الْمُكَاتَبِ حَتَّى إذَا جَنَى جِنَايَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَحِينَئِذٍ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلثَّانِي. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ هَاهُنَا، فَإِنَّ فِي الْمُكَاتَبِ جَعَلْنَا جِنَايَتَهُ فِي رَقَبَتِهِ لِتَوَهُّمِ دَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي مُعْتِقِ الْبَعْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ الْقِيمَةَ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً سَوَاءً قَضَى بِهَا الْقَاضِي أَوْ لَمْ يَقْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الدَّفْعُ هَاهُنَا مُتَوَهَّمٌ أَيْضًا، فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ يُسْتَدَامُ فِيهِ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكُ، فَإِنْ اجْتَهَدَ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ حَكَمَ بِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ حُكْمِهِ فَلِهَذَا تَتَعَلَّقُ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِجِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي فَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمُدَبَّرَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّ مَا تَرَكَهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ وَأَصْحَابِ الدَّيْنِ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَيْهِ بِالْحِصَصِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ وَيَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَنْفَسِخُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلسِّعَايَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 94 عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَى الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ النَّاسِ عَنْ الدَّفْعِ سَوَاءٌ كَانَ قَضَى الْقَاضِي بِالدَّفْعِ أَوْ لَمْ يَقْضِ فَلِهَذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ. وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا لَهُ مِنْ ابْنِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ يَسْعَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَفِيمَا كَانَ عَلَى ابْنِهِ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ قَدْ سَعَى فِيمَا قَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَفِيمَا عَلَى أَبِيهِ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ قَدْ سَعَى فِيمَا قَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ لَمْ يَسْعَ الِابْنُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَالْوَلَدُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، فَإِذَا عَتَقَ بِالْأَوَّلِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِ أَبِيهِ كَمَا لَا يُطَالَبُ بِهِ سَائِرُ وَرَثَةِ أَبِيهِ. رَجُلٌ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ يَدْفَعُهُ إلَى الْوَرَثَةِ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ أَوْ يَفْدُونَهُ مُتَطَوِّعِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتِقُونَهُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَصِيرُ مُنَفَّذَةً بِدُونِ التَّنْفِيذِ فَجَنَى بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَ كَانَ هُوَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ، وَهُوَ مُبْقًى عَلَى مَحَلِّ مِلْكِ الْمَوْلَى فَيُخَاطَبُ مَنْ يَخْلُفُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَإِذَا دَفَعَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا، فَإِذَا اخْتَارَ فِدَاهُ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْفِدَاءِ عَنْهُ، وَإِذَا ظَهَرَ عَنْ الْجِنَايَةِ يُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ يُعْتَقُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ وَفَدَوْهُ أُعْتِقَ وَاسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ مُدَبَّرِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مُلْزَمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ مُدَبَّرَهُ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَسَوَاءٌ مَا جَنَى قَبْلَ إسْلَامِهِ وَمَا جَنَى بَعْدَ إسْلَامِهِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ لِمَوْلَاهُ الذِّمِّيِّ مِنْ أَجْلِ إسْلَامِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ لَا يَضُرُّ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ أَسْلَمَ بَقِيَ مُدَبَّرًا لَهُ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ، ثُمَّ جَنَى كَانَ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ هَذَا بَقِيَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْهَا فَيَكُونُ هُوَ فِي جِنَايَتِهِ كَالْمُكَاتَبِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى لِيُعْتِقَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ. وَأَمَّا مُدَبَّرُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 95 الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ جَنَى الْعَبْدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيلَ لِلْحَرْبِيِّ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا، وَإِذَا أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فَكَذَا إذَا دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ بِمَحَلِّ التَّبَعِ يُخَاطَبُ مَوْلَاهُ فِي جِنَايَتِهِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُدَبَّرِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَحِيحٌ كَإِعْتَاقِهِ فَيَتَعَذَّرُ بِهِ دَفْعُ الرَّقَبَةِ وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ بِجِنَايَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَإِنْ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْعَبْدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَوْلَاهُ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْحَرْبِيِّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمُدَبَّرِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ أَوْ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ دَارِهِ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ سُبِيَ الْحَرْبِيُّ فَالْمُدَبَّرُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِالسَّبْيِ مِنْ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَذَلِكَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فَيُعْتَقُ بِهِ مُدَبَّرُهُ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقَّ تَلَفٌ وَلِأَنَّهُ بِالرِّقِّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَلَا يَبْقَى الْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَيُعْتَقُ لِهَذَا وَالْجِنَايَةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْحَرْبِيُّ إذَا سُبِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَبْطُلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَأْذُونِ. وَإِنْ قُتِلَ الْمَوْلَى وَلَمْ يُسْبَ أَوْ مَاتَ فَالْمُدَبَّرُ حُرٌّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا لِوَرَثَةِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي هَذَا الْمُدَبَّرِ، وَلَا حُرْمَةَ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ لِحَقِّهِمْ وَلَكِنَّهُ مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ لَا وَارِثَ لَهُ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ. وَإِذَا فَقَأَ الْحُرُّ عَيْنَ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ أُذُنَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ نُقْصَانُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ جَمِيعِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي غَيْرُ مُمْكِنٍ هَاهُنَا، فَإِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ جَمِيعِ قِيمَةِ الدِّيَةِ دَفْعُ الْجُثَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قِنًّا فَغَرِمَ الْجَانِي جَمِيعَ الْقِيمَةِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ سَلِمَتْ لَهُ الْجُثَّةُ وَاِتِّخَاذُ هَذَا الشَّرْطِ مُتَعَذِّرٌ فِي هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى الْمَمْلُوكِ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانٌ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَبْدٍ بِأَنْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً، فَإِذَا أَخَذَهَا الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ الْجُثَّةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْجُثَّةِ إلَى الْجَانِي وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْقِيمَةَ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْجُثَّةَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْفَائِتِ خَاصَّةً، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمَمَالِيكِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَلِهَذَا يُقَدَّرُ بَدَلُ طَرَفِهِ بِكَمَالِ بَدَلِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَرِيمِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْحُرِّ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْفَائِتِ دُونَ الْقَائِمِ فَكَذَلِكَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ. وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 96 طَرَفَ الْعَبْدِ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ بِطَرَفِ الْحُرِّ، وَلَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ يَغْرَمُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْجُثَّةِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَدَلًا عَنْ الْفَائِتِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ الْيَدَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يُوفِرُ عَلَى الْمَوْلَى كَمَالَ بَدَلِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ مُحْتَمَلٌ لِلنَّقْلِ فَلَا يُحْتَمَلُ لِلْبَدَلِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مِلْكِهِ كَالْغَاصِبِ إذَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَغْصُوبُ الْقِيمَةَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَمَعَ بَقَاءِ أَصْلِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ لَا يَمْلِكُ إيجَابَ الضَّمَانِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا بَدَلٌ عَنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُقَدَّرُ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا حَقِيقَةً كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلٌ عَنْ الْكُلِّ فَيَمْلِكُ بِهِ مَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَالْجُثَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً حُكْمًا فَهِيَ مَحَلُّ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةٌ حَقِيقَةً، فَأَمَّا فِي الْحُرِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابِلَةِ الْجُثَّةِ إذْ لَا قِيمَةَ لَلْحَرْبِيِّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْقِيمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْجُثَّةِ إنَّمَا يُجْعَلُ لِيُتَمَلَّكَ وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَلَوْ جَعَلْنَا الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ الْجُثَّةِ إنَّمَا يُجْعَلُ لِيُتَمَكَّنَ مِنْ إتْلَافِهِ الْجُثَّةَ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ. فَأَمَّا إذَا قُطِعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ فَهُنَاكَ الْجُثَّةُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا فَيُجْعَلُ الْوَاجِبُ بِمُقَابِلَةِ الْمُتْلَفِ خَاصَّةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الْمُعْتِقِ وَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيُمْكِنُ جَعْلَ الْجُزْءِ بِمُقَابِلَةِ الْجُزْءِ وَهَا هُنَا الْوَاجِبُ جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ حَقِيقَةً وَجَمِيعُ الْمَالِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ بِمُقَابِلَةِ الْجُزْءِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقِيمَةَ بِمُقَابِلَةِ الْكُلِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا غَرِمَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِقَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ، فَأَمَّا إنْ مَلَكَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْ جَانِبِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ وَلِحَيَوَانٍ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَوْ نِصْفًا شَائِعًا مِنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، وَقَدْ فَاتَ النِّصْفُ وَمُلِكَ نِصْفٌ فَمَا بَقِيَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَأَمَّا هَاهُنَا الْوَاجِبُ جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ تَمْلِيكًا وَإِتْلَافًا، فَإِنْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ الْجُثَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ عَلَى الْجَانِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ. وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا الْخِيَارُ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الْجُثَّةَ وَيَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْخِيَارُ لِلْجَانِي بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجُثَّةَ وَيَغْرَمَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ النُّقْصَانَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 97 وَلَا يَأْخُذَ الْجُثَّةَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَالْخِيَارُ فِي مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ بِحَالٍ، وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ خَرْقًا فَاحِشًا أَوْ قَطَعَ بَعْضَ قَوَائِمِ دَابَّةِ الْغَيْرِ كَانَ لِصَاحِبِهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَيُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ وَهَا هُنَا يُمْكِنُ النُّقْصَانُ مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ فَيُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ هَاهُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُدَبَّرِ يُعْتَبَرُ نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْقِنِّ، فَإِذَا امْتَنَعَ دَفْعُ الرَّقَبَةِ الْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذِّرًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، لِهَذَا الْمَعْنَى إنْ يَقْطَعْ الْيَدَيْنِ النُّقْصَانُ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْجِنَايَةُ عَلَى بَنِي آدَمَ إنْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ مُوجِبَ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَمَالَ بَدَلِ النَّفْسِ وُجُوبُهُ بِالنَّصِّ وَالنُّقْصَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْحَذَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ فَمَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُدَبَّرَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ هُنَاكَ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ النُّقْصَانِ بِطَرِيقِ الْمَصِيرِ إلَى الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ، وَكَذَلِكَ فِي جِنَايَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ مَعَ إمْضَاءِ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ لَا يَجِبُ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَاعْتَبَرْنَا مِنْهَا النُّقْصَانَ لِذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى أَطْرَافِ الْمَمَالِيكِ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَمِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجِبُ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِقَطْعِ الطَّرَفِ، وَإِنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ مُعْتَبَرًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الْمَمْلُوكِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ قُلْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ الدَّفْعِ يَجِبُ النُّقْصَانُ وَلِشَبَهِهِ بِجِنَايَةِ الْأَحْرَارِ قُلْنَا إذَا وَجَبَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا هُوَ الْقِيمَةُ دُونَ النُّقْصَانِ عَنْ شَرْطِ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ تُسَلَّمُ الْجُثَّةُ، فَإِذَا مَنَعَ الْمَوْلَى هَذَا الشَّرْطَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ كَسَرَ قَلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْقَلْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 98 قِيمَةَ الْقَلْبِ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الْمَكْسُورُ، وَإِذَا أَمْسَكَ الْمَكْسُورَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ إيجَادَ شَرْطِ سَلَامَةِ الْقِيمَةِ لَهُ فَيَكُونُ كَالْمُبَرِّئِ لَهُ عَنْ ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. رَجُلٌ غَصَبَ مُدَبَّرَ رَجُلٍ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسٍ عَمْدًا فَقَتَلَهُ عِنْدَ الْمَوْلَى رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ، قِنًّا كَانَ أَوْ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَهُ، فَإِنْ غَصَبَ الْمُدَبَّرَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ خَطَأً فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ الْقِيمَةَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ مَرَّةً وَلَكِنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ تِلْكَ الْقِيمَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ الْآخَرِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْقِيمَةِ فَارِغًا وَلِأَنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَوَّلِ بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْغَاصِبِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبِ الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى. وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَقَتَلَ الْمُدَبَّرُ الْغَاصِبَ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ رَجُلًا هُوَ وَارِثُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى الْمُدَبِّرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَعَلَى مَالِهِ هَدَرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَقَرَارُ الضَّمَانِ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَلَوْ جَنَى الْمُدَبَّرُ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَلَى مَوْلَاهُ جِنَايَةً فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جِنَايَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى مَالِ مَوْلَاهُ هَدْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ فِي الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ وَكَلَامُهُمَا فِيهِ أَوْضَحُ فَالْمُدَبَّرُ بِالضَّمَانِ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ. وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي جِنَايَاتِهَا وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ بِسَبَبٍ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى بِهِ مُخْتَارًا، وَفِي وُجُوبِ ضَمَانِ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْغَصْبِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَمَا عَتَقَ نَصِيبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهَا. وَلَوْ أَنَّ أَمَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْوَاطِئُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَنَصِيبُ الْمُسْتَوْلَدُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَذَلِكَ كَافٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَنِصْفُ قِيمَةِ عَقْرِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ وَلَمْ يَتَمَلَّكْ نَصِيبَ شَرِيكَهُ مِنْهَا لِأَجْلِ التَّدْبِيرِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مَقْصُودًا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 99 بِالْإِتْلَافِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْعَقْرِ لِشَرِيكِهِ. وَجِنَايَتُهَا عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ مُدَبَّرٍ هُوَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاطِئُ مِنْهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَيَسْعَى لِلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا مُدَبَّرَةً؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَمْ يَثْبُتْ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ مِنْهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لِلْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ مُدَبَّرَةٌ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهَا مِنْهُ بِالتَّدْبِيرِ وَجِنَايَتُهَا عَلَيْهِ وَوَلَدُهَا لَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَوْلَدَ مُدَبَّرَةَ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ فَيَلْزَمُهُ الْعَقْرُ لِلْمُدَبِّرِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْوَاطِئِ. وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ سَيِّدَهُ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِهِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى ذِمَّتِهِ لِوُقُوعِ النَّاسِ عَنْ دَفْعِهِ بِسَبَبِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شَيْئًا، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانُوا يُطَالِبُونَ الْمُكَاتَبَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ لَهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَرَضِيَ بَعْضُهُمْ جَازَ مَا فَعَلَ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ الْآخَرُونَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ حُرٌّ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ تَخْصِيصَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَهُوَ كَدَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِأُنَاسٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ قَضَاءُ دُيُونِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى عَجَزَ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهَا كَانَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعَجْزِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِذَا مَنَعَ أَحَدُهُمَا صَارَ مُخْتَارًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلرَّقَبَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى، وَهُوَ مُكَاتَبٌ، ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَيَخْلُصُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِمَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَيَدْفَعُ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْأَرْشِ فِيهَا. مُكَاتَبَةٌ جَنَتْ جِنَايَةً، ثُمَّ جُنِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَجَزَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا وَلِيُّهَا فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهَا، فَإِنْ فَدَاهَا، فَقَدْ ظَهَرَهَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتْبَعُ الْجَانِي عَلَيْهِمَا بِالْأَرْشِ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا، وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا مِنْ نَحْوِ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ أَوْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوْ جَدْعِ الْأَنْفِ، وَقَدْ بَرِأَتْ مِنْ ذَلِكَ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَى الْجَانِي وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ قِيمَتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 100 وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهَا إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَقَامَ الْمَالِكِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ جَنَى عَلَى رَجُلٍ جِنَايَةً، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً، ثُمَّ دَفَعَهُ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْعَبْدُ فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ. وَالْأَرْشُ مُخَالِفٌ لِلْوَلَدِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ عَجَزَتْ فَدَفَعَهَا الْمَوْلَى كَانَ الْوَلَدُ لِلْمَوْلَى وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ وَكَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِهِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ وَالْوَلَدُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ زِيَادَةٌ تَوَلَّدَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى. وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ جَنَى أُخْرَى فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى عَجَزَ أَوْ جَنَاهَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَيَتْبَعُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةُ الْمَقْضِيُّ بِهَا فَيُبَاعُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ، وَقَدْ صَارَتْ الْأُولَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ، فَقَدْ اجْتَمَعَ بَعْدَ الْعَجْزِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَبْدَأُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِمُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ. وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَعْجَزْ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَالْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ قَبْلَ الْعَجْزِ، فَإِذَا عَجَزَ بَطَلَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فِي كَسْبِهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ كَانَ هَدَرًا فَكَذَلِكَ إذَا جَنَى قَبْلَ الْعَجْزِ، ثُمَّ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ وَهُمَا سَوَاءٌ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ نِصْفُهُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَبِالْعَجْزِ يَسْقُطُ نَصِيبُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلَكِنْ لَا يَزْدَادُ بِهِ حَقُّ الْأَجْنَبِيِّ فَيُبَاعُ نِصْفُهُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لِهَذَا، لَا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ، ثُمَّ جَنَى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَقَضَى بِهَا أَيْضًا، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَتْ رَقَبَتُهُ كُلُّهَا فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَبِالْعَجْزِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمَوْلَى وَيَبْقَى دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ. رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ مُكَاتَبِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَالْمُكَاتَبَةُ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّ فِي الرِّقِّ قَالَ لَا تَبْطُلُ جِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ وَيُبَاعُ الْمُكَاتَبُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ أَوْ قَطَعَ بِهَا رَجَعَ فِيمَا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 101 دَيْنٌ وَالْقِيمَةُ لِوَلِيِّ جِنَايَتِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُبَاعُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْقِيمَةِ رَجَعَ بِمَا بَقِيَ عَلَى الْمَوْلَى، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ اسْتَهْلَكَ لَهُ مَوْلَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، ثُمَّ اسْتَدَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنًا وَمُكَاتَبَتُهُ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ عَجَزَ أَوْ مَاتَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ فَكَانَ بَيْنَ سَائِرِ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَا يُسَلَّمُ لِمَوْلَاهُ مَا لَمْ يَفْرُغُ مِنْ دَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى جِنَايَةً فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ الْعَبْدُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا نُظِرَ إلَى مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَوْمَ جَنَى الْمُكَاتَبُ فَيَضْمَنُ الْمَوْلَى لِلْأَجْنَبِيِّ الْأَقَلَّ مِنْهُ وَمِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ أَتْلَفَ جُزْءًا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَقْضِي مِنْ ثَمَنِهِ وَكَسْبِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِدَيْنِهِ ضَمِنَ الْمَوْلَى ذَلِكَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَةً، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ دَفْعَهُ ضَمِنَ مَا جَنَى عَلَيْهِ. وَاسْتَوْضَحَ هَذَا كُلَّهُ بِمُكَاتِبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَ لَهُ مَوْلَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اسْتَدَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَائِمُ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى مَوْلَاهُ اتَّبَعَ الْغُرَمَاءُ جَمِيعًا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ الْمَوْلَى بِتِلْكَ الْأَلْفِ حَتَّى يَأْخُذُونَهَا فَيَقْسِمُونَهَا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَبْطُلُ فِيمَا سَبَقَ عَنْ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْفُصُولِ شَيْئًا إلَّا لِلْغُرَمَاءِ الْأَوَّلِينَ فَهَذَا يُوَضِّحُ لَك جَمِيعَ مَا سَبَقَ. رَجُلٌ جَنَى عَلَى مُكَاتَبِهِ جِنَايَةً، ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَلَدًا وُلِدَ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى لِلْمُكَاتَبِ، وَقَدْ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ لَمَّا خَلَّفَ وَلَدًا فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا كَانَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَبِمَوْتِهِ سَقَطَ الْأَجَلُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ وَفَاءً، وَإِذَا صَارَ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ دَيْنٌ يُقْضَى عَلَى الْمَوْلَى بِالْأَرْشِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُودِي إلَى غَرِيمِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، وَالدَّيْنُ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُقُوعَ الْمُقَاصَّةِ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ الْغَرِيمُ مِنْ الْمَوْلَى وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى أَبِيهِ. وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى مَوْلَاهُ جِنَايَةً فَقَضَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَالْجِنَايَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةَ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهُ فَهَذَا وَمَا لَوْ أَعْتَقَ كُلَّهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ أَعْتَقَ كُلَّهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ بَقِيَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يَسْعَى فِيهِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَسْعَى فِيهِ فَلَا يَزِيدُهُ الْعِتْقُ إلَّا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 102 وَكَادًة فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ؛ وَيَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ إخْرَاجُ الْبَاقِي إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْمَوْلَى فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ إنْ عِلْمَ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْلَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ بَعْضَهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ بِالْكِتَابَةِ دَفْعَ الرَّقَبَةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ وَيَسْتَوِي إنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي الْأَرْشِ حَتَّى عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا خُوصِمَ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى، وَهُوَ يَعْرِضُ الْفَسْخَ فَفِيهِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْأَرْشِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ الِاخْتِيَارُ إذَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ دَفْعِ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَالْكِتَابَةُ كَانَتْ تَمْنَعُهُ مِنْ دَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ لِبَيْعِهِ رَقَبَتَهُ مِنْ إنْسَانٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَسْقُطْ الْأَرْشُ عَنْ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ فَعَجَزَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فِي الْجِنَايَةِ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا صَارَ مُخْتَارًا شَيْئًا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ لِاسْتِهْلَاكِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّفْعِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَقَدْ انْقَدَمَ الِاسْتِهْلَاكُ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ فَسْخُ الْبَيْعِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَاتَبَهُ بَعْدَمَا قَضَى بِهِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ إلَى مِلْكِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّمَا كَاتَبَ مَا لَا يَمْلِكُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ، وَلَوْ كَاتَبَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّفْعِ فَخَرَجَ الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَجَزَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ كَانَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَوْلَى اسْتِحْقَاقُ الرَّقَبَةِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِهَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَلَدِ كَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ مَالٍ خَلَفَهُ، فَإِنْ عَجَزَ فَرَدَّ فِي الرِّقِّ لَمْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 103 تَبْطُلْ الْقِيمَةُ عَنْ السَّيِّدِ قَالَ؛ لِأَنِّي أَلْزَمْتُهَا إيَّاهُ وَمُرَادُهُ إذَا عَجَزَ بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَلَدِ، فَأَمَّا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَبَ لَوْ مَاتَ عَاجِزًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ يَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ الْوَلَدُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِ الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً فَكَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُكَاتَبَةَ، ثُمَّ جَاءَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْأَرْشِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ ضَامِنٌ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَكِتَابَتُهُ فِي نَصِيبِهِ تَنْفُذُ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَيَتَأَكَّدُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كُلَّهُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ شَيْئًا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُمَا وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ أَيْضًا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِيهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ مُتْلَفًا عَلَيْهِمْ بِإِعْتَاقِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ نِصْفِ مَا قَبَضَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبُ نَصِيبِهِ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى كَسْبِ الْجَانِي سَبِيلٌ، وَإِنْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَهُمَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُكَاتَبُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِنَصِيبِهِ، فَأَمَّا الْآذِنُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُ تَتَجَزَّأُ فِي نَصِيبِهِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ وَمَا لَوْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا، وَقَدْ جَنَى جِنَايَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ عَجَزَ، ثُمَّ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى قَالَ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَيْهِمْ وَيَبِيعُهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْمَقْضِيِّ بِهَا فَيُبَاعُ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ فِي رَقَبَتِهِ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ دَفَعَ بِهَا فَكَانَ وُجُودُ تِلْكَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَحِينَ عَجَزَ كَانَ عَبْدًا قَدْ اجْتَمَعَ فِي رَقَبَتِهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِمُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ حَتَّى عَجَزَ خَيَّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 104 بِالْجِنَايَتَيْنِ أَوْ يَفْدِيَهُ بِالْأَرْشِ مِنْهُمَا. وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً، ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا فَقُضِيَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ دَيْنٌ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَجَمِيعُ الْجِنَايَةِ الْأُخْرَى فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِنْ شَاءَ مَوْلَاهُ فَدَاهُ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ اجْتَمَعَتَا عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا قَضَى الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ لِجَهْلِهِ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَ عَلِمَ بِهَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ لِلْمُقْضَى لَهُ كَانَ بَاطِلًا فَكَأَنَّهُ مَا قَضَى لَهُ إلَّا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا عَجَزَ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ دَيْنًا لَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِانْعِدَامِ الْمُحَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ، وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِيهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَعْجَزْ وَأَخَذَ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْآخَرِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَوْقَ حَقِّهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلثَّانِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَقَدْ غَرِمَ الْمُكَاتَبُ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى مَوْلَاهُ وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلثَّانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ صَحِيحًا وَهَا هُنَا مُوجِبُ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يُلْزِمُهُ بِجِنَايَاتِهِ إلَّا الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ. مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ قَتَلَ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً فَقَضَى عَلَيْهِ بِإِحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُقْضَى لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ الَّتِي قَضَى لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ جِنَايَتَيْنِ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ قَضَى لِلثَّالِثِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَرْعٌ مِنْ الْجِنَايَةِ بِتَحْوِيلِ الْقَاضِي حَقَّ الثَّانِي إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ النِّصْفِ فَلِهَذَا يَقْضِي لَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَقْضِي أَيْضًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِلَّذِي لَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَيْءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْأَوْسَطِ وَثُلُثُهُ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا النِّصْفِ اجْتَمَعَ حَقُّ الْأَوْسَطِ وَحَقُّ الثَّالِثِ، فَإِنَّ الْمُحَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ، وَفِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى إلَّا أَنْ يُقْضَى لَهُمَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ الثَّالِثَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ فَلَا يَضْرِبُ فِي هَذَا النِّصْفِ إلَّا بِمَا بَقِيَ لَهُ وَالْأَوْسَطُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ فَهُوَ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَلِهَذَا كَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ فَاخْتَارَ دَفْعَهُ كَانَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 105 نِصْفُهُ بَيْنَ الثَّالِثِ وَالْأَوْسَطِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْأَوْسَطِ وَثُلُثُهُ لِلثَّالِثِ وَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلثَّالِثِ خَاصَّةً وَيَكُونُ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ دَيْنًا فِي هَذَا النِّصْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ تَحَوَّلَ إلَى ذِمَّتِهِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّالِثِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا نِصْفٌ وَحَقُّ الْأَوْسَطِ فَيُدْفَعُ إلَيْهِمَا وَيَضْرِبُ فِيهِ الْأَوْسَطُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَالثَّالِثُ بِنِصْفِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ فَلِهَذَا كَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ فَقَضَى لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَجَزَ قَالَ يُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ وَيَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ النَّفْسِ أَوْ يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا كَانَ تَعَلَّقَ بِهِ أَثْلَاثًا، فَإِنَّ حَقَّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَحَقَّ وَلِيِّ النَّفْسِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ كَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ الْمُحَوَّلُ، وَهُوَ الْقَضَاءُ وُجِدَ فِي حَقِّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْقِيمَةِ دَيْنًا لَهُ فِي مَالِيَّةِ ثُلُثِ الرَّقَبَةِ يُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ الْعَجْزِ، وَالثُّلُثَانِ حَقُّ مَوْلَى النَّفْسِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُحَوَّلُ فِيهِ حَتَّى عَجَزَ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ حَتَّى قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ عَجَزَ فَاخْتَارَ دَفْعَهُ، فَأَمَّا الْمَقْضِيِّ لَهُ فَلَهُ ثُلُثُ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيِّ الثَّالِثِ بِذَلِكَ الثُّلُثِ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ فِي الْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَأَمَّا الثُّلُثَانِ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِمَا حَقُّ وَلِيِّ الْأَوَّلِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُحَوَّلُ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا، ثُمَّ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ وَالْآخَرُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ثُلُثُ حَقِّهِ، فَإِنَّمَا يُقْسَمُ ثُلُثَا الرَّقَبَةِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا. وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَتَيْنِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَأَدَّاهَا إلَيْهِ الْمُكَاتَبُ، ثُمَّ قَضَى لِلْآخَرِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَوْفَى لَا شَرِكَةَ لِلثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَحَدِهِمَا تَمَيَّزَ عَنْ حَقِّ الْآخَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ تَحَوَّلَ حَقُّ الْقِيمَةِ إلَى الْقِيمَةِ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُشَارَكَةِ الْمُسْتَوْفِي فِيمَا اسْتَوْفَى، سَوَاءٌ مَاتَ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَمْ يَمُتْ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ. مُكَاتَبَةٌ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَ آخَرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَضَى عَلَيْهَا لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ بِثُلُثِ قِيمَتِهَا، ثُمَّ عَجَزَتْ، فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ النَّفْسِ فِي ثُلُثَيْ رَقَبَةِ الْأُمِّ يَدْفَعُ أَوْ يَفْدِي؛ لِأَنَّ الْمُحَوَّلَ، وَهُوَ الْقَضَاءُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَيُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِحَقِّهِ بِيعَ ثُلُثُ الْوَلَدِ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ حَقٌّ قَوِيٌّ فِي الْأُمِّ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَمَةً مَدْيُونَةً لَوْ وَلَدَتْ بِيعَ وَلَدُهَا مَعَهَا فِي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 106 الدَّيْنِ بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَحَقُّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي الثُّلُثِ فَيَثْبُتُ فِي ثُلُثِ الْوَلَدِ أَيْضًا فَهُوَ نَظِيرُ مُكَاتَبَةٍ عَجَزَتْ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ، وَقَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا فَبِيعَتْ فِي دَيْنِهَا فَلَمْ يَفِ ثَمَنُهَا بِهِ بِيعَ وَلَدُهَا فِيهِ أَيْضًا بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ النَّفْسِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَضَى لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِالسِّعَايَةِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا، ثُمَّ عَجَزَتْ، وَقَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا فَحَقُّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فِي ثُلُثِ رَقَبَتِهَا إنْ شَاءَ دَفَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ وَلَدِهَا وَيُبَاعُ ثُلُثُهَا لِلْمُقْضَى لَهُ، فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا بِيعَ ثُلُثَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْوَلَدِ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالدَّيْنُ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَحَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ. مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ عَجَزَ وَالْجِنَايَاتُ مُسْتَوِيَةٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَأْتِي عَلَى قِيمَتِهِ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِلْمُقْضَى لَهُ دَيْنٌ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَحَوَّلَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ سِوَاهَا فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمُقْضَى لَهُ الْآخَرُ دَيْنٌ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِرَقَبَتِهِ فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي النِّصْفِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَقْضِ لَهُ أَوْ الْفِدَاءُ، فَإِنْ فَدَاهُ طَهُرَ هَذَا النِّصْفُ عَنْ حَقِّ الثَّالِثِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُبَاعُ هَذَا النِّصْفُ لَهُ خَاصَّةً. وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ، فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ دَيْنَانِ دَيْنُ الْمَقْضِيِّ لَهُ الْأَوَّلُ وَدَيْنُ الْمَقْضِيِّ لَهُ الثَّانِي فَيُبَاعُ هَذَا النِّصْفُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَضْرِبُ فِيهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ وَالثَّانِي يَضْرِبُ فِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ وَالْأَوْضَحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا النِّصْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَوَّلَ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَكَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ ثَمَنُ هَذَا النِّصْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ بِيعَ النِّصْفُ الْمَدْفُوعُ فِي دَيْنِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذَا النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيُدْفَعُ أَوَّلًا بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَبِيعَ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي هَذَا النِّصْفِ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِيهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا غَلَطٌ، وَلَوْ كَانَ قَضَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 107 لِلْآخَرَيْنِ أَيْضًا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ الْعَبْدُ فَكَانَ نِصْفُهُ ثَمَنُهُ لِلْأَوَّلِ وَنِصْفُهُ لِلْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ وَحَقَّ الْآخَرَيْنِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَ فِي قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا. مُكَاتَبٌ قَتَلَ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ خَطَأً فَقَضَى لِأَحَدِهِمْ بِثُلُثِ قِيمَتِهِ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ وَهَبَ جِنَايَتَهُ لِلْمُكَاتَبِ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَالَ يُبَاعُ ثُلُثُهُ فِي دَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ إلَى ثُلُثِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ثُلُثِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ يُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى ثُلُثَهُ إلَى الثَّالِثِ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى لِأَحَدِهِمْ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ قَضَى بِالْقِيمَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا إلَّا أَنَّ حَقَّ الثَّانِي لَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى الْقِيمَةِ بَعْدُ، فَإِنْ عَجَزَ دَفَعَ الْمَوْلَى إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ مِنْهُ كَانَ حَقَّ الْوَاهِبِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِالْهِبَةِ فَيَبْقَى لِلْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ جِنَايَتِهِ كَانَ نِصْفُهُ لِلسَّيِّدِ لِهَذَا الْمَعْنَى إذْ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَحِصَّةُ الْعَافِي تُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى، وَفِي حِصَّةِ الْآخَرِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَقَضَى لِلْآخَرِ بِحَقِّهِ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ لِلْآخَرِ نِصْفُهُ فِي دَيْنِهِ مِنْهُ وَيَبْقَى الْعَبْدُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى، وَهُوَ حِصَّةُ الْعَافِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ قَضَى دَيْنَهُ وَيَبْقَى سَالِمًا لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ عَفَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفَا خُوطِبَ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَا فِي يَدِهِ لَا يَفِي بِحَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بِيعَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ ثُلُثًا كَانَ أَوْ نِصْفًا فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَى ذَلِكَ تَحَاصَّا فِي هَذَا الْمَالِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ، ثُمَّ يُبَاعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ فِي دَيْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ تَعَلَّقَ بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ فَلَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَرِيمِ كَمَالُ حَقِّهِ. وَإِذَا وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَتِهِ مِنْ أَمَةٍ لَهُ وَلَدٌ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً كَانَتْ قِيمَتُهُ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ يَأْخُذُهُ فَيَقْضِي بِهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ؟ فَكَذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ بِبَدَلِ رَقَبَتِهِ. وَإِذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبَةِ وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ وَلَمْ يَلْحَقْ الْأُمَّ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ لِتُؤَدِّي مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَتَجْعَلُ الْعِتْقَ لِنَفْسِهَا وَلَهُ حَتَّى إنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْكَسْبِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمُكَاتَبَةِ دَيْنًا عَلَى الْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ فِي رِقِّهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ جَازَ ذَلِكَ الضَّمَانُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 108 بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ مَالًا عَنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ عَتَقَ أُخِذَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَتْ دَيْنًا آخَرَ عَلَى الْوَلَدِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا فِي حَالِ رِقِّهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ كَانَ ضَمَانُهَا صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَهُوَ الرِّقُّ. وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَامْرَأَتُهُ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ الْأَبُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ. وَجِنَايَةُ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ كَجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ وَكَسْبُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّيَا فَعَتَقَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لَهَا وَبِالْعِتْقِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الِابْنُ أَبَاهُ كَانَ الضَّمَانُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى تَبَعًا لِأُمِّهِ فَجِنَايَتُهُ عَلَى أَبِيهِ كَجِنَايَةِ مُكَاتَبٍ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ. فَإِنْ أَدَّتْ الْأُمُّ عَتَقُوا جَمِيعًا وَكَانَتْ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ الْوَلَدُ الْأَبَ وَلَكِنَّ الْأُمَّ قَتَلَتْ الْوَلَدَ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهَا كَانَتْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً لَهَا، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّذِي قَتَلَتْهُ لَوْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ وَجَبَتْ لِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهَا كَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ تَبْقَى بِمَوْتِهَا حَتَّى يُؤَدِّي الْبَدَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا كَانَتْ الْأُمُّ تَسْعَى فِيهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ الْوَلَدَ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ أَبِيهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْأُمُّ حَيَّةٌ تَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ فَلَا حَاجَةَ لِلْوَلَدِ إلَى السِّعَايَةِ فِيمَا عَلَى أَبِيهِ، فَإِنْ أَدَّتْ الْأُمُّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ عَتَقَا جَمِيعًا وَالسِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْوَلَدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْأَبِ تَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ تَأْخُذُ الْأُمُّ حِصَّتَهَا فَمَا أَدَّتْ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ آخَرَ يَخْلُفُهُ الْأَبُ وَمَا بَقِيَ هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَةِ الْأَبِ لَيْسَ لِهَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا فَحِينَئِذٍ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ وَإِنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى تَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ جَزَاءَ الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ كَمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً الجزء: 27 ¦ الصفحة: 109 فَوُلِدَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدٌ مِنْ أَمَتِهِ، ثُمَّ جَنَى الْأَبُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَكَانَ مَانِعًا لَهُ فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا جِنَايَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى آخَرَ كَانَتْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ الْآخَرُ عَلَى الْوَلَدِ لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الْآخَرَ مِنْ هَذَا الْوَلَدِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الْآخَرَ لَوْ جَنَى عَلَى الْأَبِ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُعْتَبَرَةً فَكَذَلِكَ إنْ جَنَى عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي لَمْ يُبَعْ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ. وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا، ثُمَّ أَقَرَّتْ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى حِينَ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا، وَإِقْرَارُهَا عَلَى مُكَاتَبِ الْمَوْلَى بِالدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْهَا، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْ مَالِهِ أُخِذَتْ بِإِقْرَارِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالْمَالِ الَّذِي خَلَفَهُ الْوَلَدُ، وَقَدْ أَقَرَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، وَإِنَّ حَقَّهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهَا فَتُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهَا وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَدَّدَتْ الْإِقْرَارَ بِدَيْنٍ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ كَمَنْ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَصَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ فَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ فِي أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ وَجِنَايَتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهَا صَحِيحًا فِيهِ إذَا خَلَصَ الْحَقُّ لَهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْوَلَدِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ الْغَرِيمُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَقِيمَتِهِ إذَا قُتِلَ، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَلَدُ عَلَى الْأُمِّ بِجِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ عَلَى الْأُمِّ دُونَهُ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أُمِّهِ فِي أَنَّهُ يُلْزِمُهَا دَيْنًا، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ عَنْ مَالٍ بُدِئَ بِالْكِتَابَةِ فَقُضِيَتْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأُمِّ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَحَقُّ اسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ تَرِكَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِذَا قَضَتْ الْكِتَابَةَ وَحُكِمَ بِعِتْقِهَا كَانَ الْبَاقِي مِيرَاثًا مِنْهَا لِلِابْنِ فَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا وَرِثَهُ كَمَا لَوْ جَدَّدَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ بَعْدَمَا صَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَدَعْ الْأُمُّ شَيْئًا فَقَضَى عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ مُقِرٌّ الْيَوْمَ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَ أَقَرَّ بِهَا عَلَى الْأُمِّ، فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ فِي الْكَسْبِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ. وَلَوْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ عَلَى الْوَلَدِ السِّعَايَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ عَجَزَ، وَقَدْ أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى وَيَبْطُلُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ صَارَ كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ حَقًّا لِلْمَوْلَى وَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْقَابِضِ مَا أَدَّى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 110 لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى عِنْدَ عَجْزِهِ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْكَسْبِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ الْقَابِضِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى. وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى وَلَدِهَا بِدَيْنٍ وَعَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ قَدْ اكْتَسَبَهُ فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَحَقُّ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ بِحُجَّةٍ هِيَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَدَيْنُ الْآخَرِ إنَّمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُكَاتَبَةِ وَإِقْرَارُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ قَضَى صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ وَفَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي أَقَرَّتْ لَهُ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهِ إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهَا، فَإِنْ عَجَزَتْ أَوْ عَتَقَتْ لَمْ يَلْزَمْ رَقَبَةَ الْوَلَدِ مِنْ إقْرَارِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ صَارَ الْوَلَدُ عَبْدًا لِلسَّيِّدِ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهَا عَلَيْهِ وَبِالْعِتْقِ صَارَ الْوَلَدُ حُرًّا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ فِي كَسْبِهِ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهَا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا فِي كَسْبِهِ، وَلَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ صُرِفَتْ فِي الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ خَلَفَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنْ صَرَفَتْ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ عَجَزَتْ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى إنَّمَا ثَبَتَ بَعْدَ عَجْزِهَا فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا، فَأَمَّا الْمَصْرُوفُ إلَى الدَّيْنِ، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهَا إلَى مِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَلَوْ غَصَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُكَاتَبُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ إلَّا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْمُكَاتَبِ بِالْقِنِّ وَضَمَانُ الْمَال بِسَبَبِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ يَجِبُ عَلَى الْقِنِّ فِي ذِمَّتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ. فَإِنْ غَصَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ الْمُكَاتَبِ فِي عَبْدِهِ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالْقَتْلُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْقَتْلِ قَضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ وَاقْتَسَمَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ وَوَلِيُّ الْحُرِّ يَضْرِبُ فِيهِ الْمَوْلَى بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَتْلِ وَوَلِيُّ الْحُرِّ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْقَتْلِ، فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالْغَصْبِ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ غَصَبَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَضَى عَلَيْهِ لِوَلِيِّ الْحُرِّ بِقِيمَةِ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْحُرِّ، وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَمَا وَجَبَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ يَكُونُ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ بِخِلَافِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 111 الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَهُمَا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ غُصِبَ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدٍ لَهُ فَاسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ مَالًا لِرَجُلٍ فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يَسْعَى فِيهِ، وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا صَارَ الْكُلُّ مُكَاتَبًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّصْفُ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَمُكَاتَبُ النِّصْفِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ كَمُكَاتَبِ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ مُكَاتَبًا قَتَلَ عَمْدًا وَلَهُ وَارِثٌ فِي كَسْبِهِ غَيْرُ الْمَوْلَى أَوْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فِي قِيمَتِهِ، وَلَا وَفَاءَ بِالْمُكَاتَبَةِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ ضَرَرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَفِي إيجَابِ الْقِيمَةِ تُوَفَّرُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ كِتَابَتُهُ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَإِيجَابُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَقْتُولُ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمَقْتُولِ، وَلَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِسَبَبِهِ إذَا تَرَكَ وَارِثًا غَيْرَ الْمَوْلَى وَاشْتِبَاهُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا، وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي طَلَبِهِ الْوَلِيُّ وَالْوَلَدُ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي كَانَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَالْقِصَاصُ لِوَلَدِهِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِمَوْلَاهُ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فَبِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ حُرًّا فَلِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ اجْتَمَعَا عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَبِاجْتِمَاعِهِمَا لَا يَصِيرُ مُوجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَدَعْ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا فَلَا قِصَاصَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلْمَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ أَمَّا إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَيْضًا، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلِاسْتِيفَاءِ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا قِصَاصَ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ السَّبَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ. رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ مُكَاتَبٍ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى الْقَاطِعِ جِنَايَةً، ثُمَّ عَجَزَ فَعَلَى الْحُرِّ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِلْمَوْلَى وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ مَقْطُوعًا أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْحُرِّ بِجِنَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَكَسْبُهُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ الْعَجْزِ، ثُمَّ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ مَقْطُوعًا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَهُوَ أَقْطَعُ الْيَدِ فَيُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى الْحُرِّ قَبْلَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 112 جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ قِيلَ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ بَطَلَتْ جِنَايَةُ الْحُرِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْحُرِّ وَيَدُهُ صَحِيحَةٌ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِيَدِهِ، ثُمَّ يُحَوَّلُ إلَى بَدَلِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ الْيَدِ مَعَهُ لَوْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا آخَرَ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَقَدْ مَلَكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ الْيَدِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ فَدَاهُ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْ الْحُرِّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ وَطَهُرَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ أَرْشُ يَدِهِ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ، ثُمَّ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَ النِّصْفِ مُكَاتَبُ الْكُلِّ فِي أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمَ الْجُثَّةِ إلَى الْجَانِي، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الدِّيَاتِ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَالنِّصْفُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى غَيْرَ مُكَاتَبٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ الْمُكَاتَبُ فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِمَوْلَاهُ وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبِ. وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ رَجُلًا خَطَأً فَاخْتَارَ الْمُكَاتَبُ فِدَاءَهُ بِالدِّيَةِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَفِي اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ مَنْفَعَةٌ لَهُ، وَهُوَ اسْتِخْلَاصُ عَبْدِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ هُوَ فِيهِ كَالْحُرِّ وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ دُيُونِهِ وَيُطَالِبُهُ بِهِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَزَ بِيعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهُ الْمَوْلَى عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ عَلَى عَبْدِهِ بِجِنَايَةٍ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُخَيَّرُ الْمُكَاتَبُ فِيهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يُقِرُّ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْ جِنَايَةٍ عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا فِيمَا إذَا عَجَزَ وَأَدَّى فِي الدِّيَاتِ. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً ضَمِنَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا وَسَعَى الْمُكَاتَبُ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِنِصْفِ كَسْبِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِنِصْفِ كَسْبِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ هَذَا النِّصْفِ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا بِذَلِكَ فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَإِنْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ نِصْفُهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيْهِ وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ مِنْ نِصْفِ نَفْسِهِ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيُبَاعُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِيهِ بَعْدَ عَجْزِهِ، فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا قَضَى بِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَضَى بِهِ كَانَ السَّبَبُ الْقَضَاءُ، وَهُوَ تَعَذُّرُ الدَّفْعِ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ وَلَكِنْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً، فَإِنَّهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 113 يَقْضِي عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ قِيمَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ هُوَ مُكَاتَبٌ فِيهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الثَّانِي بِهَذَا النِّصْفِ فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةٍ لِهَذَا وَيَدْخُلُ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا مَنَعَ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ إلَّا نِصْفَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَغْرَمُ بِاعْتِبَارِهِ إلَّا نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرَ وَلَكِنَّ الثَّانِي يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لِلثَّانِي قِيلَ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ إلَى الثَّانِي أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَإِنْ دَفَعَهُ تَبِعَهُ الْأَوَّلُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ تَحَوَّلَ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ الْقِيمَةِ لِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ أَمَتِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي نِصْفِ جِنَايَتِهِ وَيَكُونُ نِصْفُهَا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ نِصْفُهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ لِلْمَوْلَى مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأُمَّ بَعْدَمَا جَنَى الْوَلَدُ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ وَسَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ كَانَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمِلْكِ لَهُ بِسَبَبِ عِتْقِ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَنِصْفُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نِصْفَهُ كَانَ مُكَاتَبًا، وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ، وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا عَتَقَ بِحُكْمِ السِّعَايَةِ فِي الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ كَانَ فِي النِّصْفِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ أَحَدٌ مِنْهُمَا وَلَمْ يَجْنِيَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ جَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِنَايَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ الْكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّصْفَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْجَانِي لِلْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ نِصْفُهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ جَنَتْ الْأُمُّ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا وَلَمْ تَدَعْ شَيْئًا فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا يَسْعَى فِي نِصْفِ الْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ مُكَاتَبٌ مَعَهَا، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ تَبَعًا لَهَا كَأَنْ يَقُومَ مَقَامَهَا فِي السِّعَايَةِ فِيمَا عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 114 فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى ابْتِدَاءً فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا كَجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَقْضِ. أَمَّا فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ بَقِيَتْ بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ وَتَصِيرُ جِنَايَتُهَا دَيْنًا بِمَوْتِهَا عَمَّنْ يُؤَدِّي كَمَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمَوْتِهَا عَمَّنْ يُؤَدِّي لَهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ جَنَى الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً، ثُمَّ عَجَزَ، وَقَدْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ أُمِّهِ، فَإِنَّ الَّذِي قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةِ أُمِّهِ دَيْنٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ دَفْعِهِ بِعَجْزِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ، فَإِنْ فَدَاهُ بِيعَ نِصْفُهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى أُمِّهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ لَمْ يَتْبَعْهُ فِي هَذَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنُ أُمِّهِ وَحَقُّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ دَيْنِ أُمِّهِ فَلِهَذَا لَمْ يَتْبَعْهُ الْمَقْضِيِّ لَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ. رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَجَنَى جِنَايَةً، ثُمَّ كَاتَبَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ قَضَى لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَيُقْضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حِين جَنَى عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى غَيْرَ مُكَاتَبٍ فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ مُتَعَذِّرًا فَوَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ قِيمَتِهِ لِوَلِيِّ تِلْكَ الْجِنَايَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ جَنَى عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مُكَاتَبٌ كُلُّهُ فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَتَكُونُ نِصْفُ هَذِهِ الْقِيمَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الَّذِي كُوتِبَ مِنْهُ آخِرًا مَا ثَبَتَ فِيهِ إلَّا حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقِيمَةُ هَذَا النِّصْفِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكُونُ لَهُ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ، وَهُوَ الَّذِي كُوتِبَ مِنْهُ أَوَّلًا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ الْجِنَايَتَانِ جَمِيعًا فَقِيمَةُ ذَلِكَ النِّصْفِ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ، فَقَدْ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ نِصْفُ حَقِّهِ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَوْ فَدَاهُ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَجْنِيَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ عَجَزَ، فَإِنَّ لِلْمُقْضَى لَهُ نِصْفُ مَا قَضَى لَهُ عَلَى الْمَوْلَى وَنِصْفُهُ دَيْنٌ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى الثَّانِي أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَى الثَّانِي كَانَتْ الرَّقَبَةُ فَارِغَةً عَنْ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ يَفْدِي بِالدِّيَةِ، فَإِنْ دَفَعَهُ تَبِعَهُ الْأَوَّلُ فَيُبَاعُ لَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَتْبَعُهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ. وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَجَنَى جِنَايَةً، ثُمَّ كَاتَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي فَجَنَى جِنَايَةً، ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الْأُولَى يُرَدُّ ذَلِكَ النِّصْفُ إلَى الرِّقِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فَالْعَجْزُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 115 فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِيمَا تَقَرَّرَ فِيهِ سَبَبُهُ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَى الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ وَنِصْفُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى تِلْكَ الْجِنَايَةَ كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ لِلْمَوْلَى مِلْكًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِعَجْزِهِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَةً بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ أَيْضًا جِنَايَتُهُ عَلَى الثَّانِي بِذَلِكَ النِّصْفِ وَكَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِالْجِنَايَتَيْنِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الْأُولَى لَوْلَا الْكِتَابَةُ الثَّانِيَةُ، وَهُوَ بِالْكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَعَلَى الْمُكَاتَبِ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مُكَاتَبٌ فَمُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فِي هَذَا النِّصْفِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْأُولَى فَعَلَى الْمَوْلَى هُنَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَنِصْفِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَهُوَ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً وَنِصْفُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ وَيَقْضِي عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي النِّصْفِ الَّذِي كُوتِبَ أَخِيرًا بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَنْصَافِ جِنَايَتِهِمَا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ نِصْفَ عَبْدِهِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ كُلُّهُ وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَتِهِ كَالْحُكْمِ فِي جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا سَبَقَ. رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً سَعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إنْ عَاشَ هَذَا أَوْ مَاتَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ بِمُقَابِلَةِ بَعْضِ الْبَدَلِ فَاتِّحَادُ الْعَقْدِ وَاخْتِلَافُ الْعَقْدِ فِيمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ سَوَاءٌ، وَلَوْ كُوتِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَحَدَهُمَا شَيْءٌ مِمَّا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ جِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ فَكَذَلِكَ إذَا كُوتِبَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِ الضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْعِتْقِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَطَأً وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ، ثُمَّ الْحَيُّ مِنْهُمَا يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَمَّنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مَعَ إبْقَائِهِ فِي حَقِّ الْحَيِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحَيِّ، وَهَذَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ، وَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ حِصَّتِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا بِمَا لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 116 وَيُؤَدِّي فَضْلًا إنْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِفَضْلٍ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُ. وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا، ثُمَّ جَنَى الْوَلَدُ عَلَى الْأُخْرَى فَأَدَّتْ أَمَةٌ الْمُكَاتَبَةَ عَتَقُوا، فَإِنَّ الْأُمَّ تَرْجِعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ ذَلِكَ عَنْهَا بِحُكْمٍ صَحِيحٍ بِأَمْرِهَا وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مُكَاتَبًا وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُلْزِمُهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ لِوُقُوعِ النَّاسِ عَنْ الدَّفْعِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْوَلَدِ مَالٌ حِينَ عَتَقَ كَانَ ذَلِكَ لِلْأُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِتَوَهُّمِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَكَسْبُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ سَالِمٌ لَهَا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ عَنْ دَيْنِهِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ فِي حُكْمِ الْكَسْبِ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا وَالْجِنَايَةُ إنَّمَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ الْكَسْبِ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَضَى عَلَيْهِ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَحِينَئِذٍ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ مِنْ قِيمَةٍ أَوْ أَرْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْوَلَدِ وَدَيْنُهُ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ أُمِّهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْعَبْدِ فَيُؤْخَذُ الدَّيْنُ أَوَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْأُمِّ. وَلَوْ كَانَتْ الْأُخْرَى جَنَتْ عَلَى الْوَلَدِ كَانَ أَرْشُ ذَلِكَ عَلَيْهَا لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُجْعَلُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى ضَرُورَةَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْكِتَابَةِ كَمَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فَجُعِلَ ذَلِكَ لَهَا وَأَرْشُ طَرَفِهِ خَارِجٌ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَكَذَلِكَ كَسْبُهُ فَيَسْلَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا وَأَرْشِ طَرَفِهَا، فَإِنْ أَدَّتْ فِي الْكِتَابَةِ صَارَ مَا أَدَّتْ عَنْ صَاحِبَتِهَا قِصَاصًا بِالْأَرْشِ وَيَتَرَاجَعَانِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبَتِهَا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَاحِبَتُهَا اسْتَوْجَبَتْ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِمَا أَدَّتْ عَنْهَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ كَذَلِكَ. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَنَى جِنَايَةً فَكَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ فَبَلَغَ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ كِتَابَةَ صَاحِبِهِ فَأَجَازَهَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا بِالْإِجَازَةِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا، وَأَمَّا الْمُجِيزُ، فَقَدْ كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذِّرًا فِي نَصِيبِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ كَعَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي الْكُلِّ فِي الْمَنْعِ عَنْ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَالْمُجِيزُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَدَفْعِ نَصِيبِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهِ الْكِتَابَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ قُلْنَا هُوَ بِالْإِجَازَةِ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَحَقِّ بِالْجِنَايَةِ وَالِاخْتِيَارُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَحَقِّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا فَوَّتَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، فَإِنَّهُ مَا تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي فَسْخِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 117 كِتَابَةِ صَاحِبِهِ فِي نَصِيبِهِ وَمَا كَانَ دَفْعُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَكِنْ يَكُونُ عَلَيْهِمَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَاتَبَاهُ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ. عَبْدٌ جَنَى عَلَى حُرٍّ بِقَطْعِ يَدِهِ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ رَجُلٌ حُرٌّ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّ الْجِنَايَتَيْنِ قَبْلُ، فَقَالَ الْحُرُّ كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَيَّ قَبْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَوْلَى بَلْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مِلْكُهُ رَقَبَتَهُ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِدَعْوَاهُ سَبْقَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ الْمَوْلَى خُيِّرَ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ. قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ وَجَرَحَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ، فَقَالَ الْمَوْلَى فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ جِنَايَةِ عَبْدِي عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْته بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَدَّعِي اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَإِنْ الْتَقَى عَبْدٌ وَحُرٌّ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِئَا جَمِيعًا، وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالضَّرْبَةِ، فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْحُرِّ أَنْتَ بَدَأْت بِالضَّرْبَةِ، وَقَالَ الْحُرُّ بَلْ الْعَبْدُ بَدَأَ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ يَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَيَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمَوْلَى كَانَ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، لِلْمَوْلَى أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِجِنَايَتِهِ أَوْ يَفْدِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ سَيْفٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ وَبَرِئَ الْحُرُّ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْعَبْدِ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْحُرُّ إنَّمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْوَاجِبُ الْأَرْشَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي إنْكَارِ التَّارِيخِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ جَمِيعُ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَكُونُ مِقْدَارَ مَا تَقْتَضِيهِ ضَرْبَةُ الْحُرِّ فِي قِيمَتِهِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ضَرَبَ الْعَبْدُ الْحُرَّ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَفْدِيهِ الْمَوْلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى وَيَكُونُ فِي الْبَاقِي أَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَقُومُ الْبَدَلُ مَقَامَهُ وَيُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ ذَلِكَ الْقَدْرِ إلَى الْحُرِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَدْفَعُ إلَيْهِ مِقْدَارَ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ مَعَ الْحُرِّ وَالْعَصَا مَعَ الْعَبْدِ، وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الْحُرِّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 118 أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَقَالَ الْمَوْلَى أَنْتَ بَدَأْت فَضَرَبْت عَبْدِي، وَقَالَ الْحُرُّ بَلْ الْعَبْدُ بَدَأَ فَضَرَبَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَنْ الْحُرِّ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحُرَّ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ عَبْدَهُ بِالسَّيْفِ وَبَطَلَ حَقُّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ نَفْسُ الْعَبْدِ، وَقَدْ مَاتَ وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْلَفَ الْقِصَاصَ، وَإِبْقَاءَ مُوجَبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْحُرُّ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ أَوَّلًا، فَقَدْ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِجِنَايَتِهِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ بِالْجِنَايَةِ فَصَيَّرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى عَلَى الْحُرِّ، ثُمَّ جَنَى الْحُرُّ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأِ تَتَبَاعَدُ عَنْ الْجَانِي وَتَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ وَلِهَذَا خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ وَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ حَقٌّ ضَعِيفٌ حَتَّى لَا يَمْنَعُ بِقَوَدِ شَيْءٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ الضَّعِيفِ لَا يُعْتَبَرُ شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ، فَإِنْ أَقَامَ الْحُرُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ بَدَأَ فَضَرَبَهُ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَبْدِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ حَقٌّ ضَعِيفٌ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ إيَّاهُ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّ الْحُرِّ فَبَطَلَ حَقُّهُ. وَلَوْ الْتَقَى عَبْدٌ وَحُرٌّ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَاضْطَرَبَا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِآ مِنْهَا وَاتَّفَقَ الْمَوْلَى وَالْحُرُّ إنَّهُمَا لَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ مَعْلُومَةٌ وَهِيَ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ عَلَى الْحُرِّ بِنِصْفِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْحُرِّ عَلَيْهِ إنْ سَبَقَتْ فَلِلْمَوْلَى الْأَرْشُ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَدْفُوعٌ مَعَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ فَلِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ قُلْنَا يَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ بِنِصْفِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ فَدَاهُ رَجَعَ عَلَى الْحُرِّ بِجَمِيعِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ وَأَرْشُ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ سَالِمٌ لَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ. وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَعًا وَبَرِآ خُيِّرَ مَوْلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِجِنَايَةِ مَمْلُوكِهِ عَلَى مَمْلُوكِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ صَارَ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَتَرَاجَعَانِ بِشَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَلَ إلَى مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشَ جِنَايَةِ الْآخَرِ تَامًّا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالضَّرْبَةِ قِيلَ لِمَوْلَى الْبَادِي بِالضَّرْبَةِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ سَبَقَ بِالْجِنَايَةِ فَيُخَيَّرُ هُوَ أَوَّلًا، فَإِنْ دَفَعَهُ صَارَ الْعَبْدُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 119 لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِشَيْءٍ لَزِمَهُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ مَعَ عَبْدِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَتَبْقَى جِنَايَةُ عَبْدِ الْآخَرِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ مَاتَ الْبَادِي مِنْ الضَّرْبَةِ وَبَرِئَ الْآخَرُ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ آلَافٍ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَيِّتِ فِي عُنُقِ الْحَيِّ يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَيِّتِ رَجَعَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي رَقَبَةِ الْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْبَدَلِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِهِ وَيُخَيَّرُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ عَبْدِهِ كَانَتْ بَعْدَ الشَّجَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ مَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ تِلْكَ الشَّجَّةِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ جِنَايَةِ مَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدًا لَوْ شَجَّ عَبْدًا مُوضِحَةً، ثُمَّ جَاءَ عَبْدٌ آخَرَ فَقَتَلَ الشَّاجَّ خَطَأً خُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ فَدَاهُ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْمَشْجُوجِ فِي ذَلِكَ الْفِدَاءِ، وَإِنْ دَفَعَهُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَقَدْ أَعَادَ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ بَعْدَ هَذَا بِأَسْطُرٍ، وَقَالَ مَوْلَى الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ مَكَانَ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِ الْبَاقِي وَيُخَيَّرُ مَوْلَاهُ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْمَوْلَى أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ هُوَ الْبَادِي بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ شَيْءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدَهُ لَوْ كَانَ حَيًّا بُدِئَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَيِّتًا، وَلَوْ بَرِئَ الْأَوَّلُ وَمَاتَ الْآخَرُ مِنْ الْجِنَايَةِ خُيِّرَ مَوْلَى الْأَوَّلِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِالْجِنَايَةِ، فَإِنْ فَدَى عَبْدَهُ كَانَ أَرْشُ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فِي الْفِدَاءِ بَعْدَمَا يَدْفَعُ مِنْهُ أَرْشَ مُوضِحَةَ الْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْآخَرَ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الْعَبْدِ مَشْجُوجًا، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ عِوَضًا، وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالدَّفْعِ يَسْقُطُ عَنْ أَرْشِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْآخَرِ عَلَى عَبْدِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ لَزِمَهُ دَفْعُهُ مَعَ عَبْدِهِ فَلَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ مُفِيدًا شَيْئًا. وَلَوْ تَضَارَبَ الْعَبْدَانِ بِالْعَصَا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِآ وَالْبَادِئُ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ إنَّ عَبْدًا لِرَجُلٍ قَتَلَ الْبَادِئَ مِنْهُمَا خَطَأً قِيلَ لِمَوْلَاهُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ أَدَّى مَوْلَاهُ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ أَرْشَ جِرَاحَةِ الْعَبْدِ الْبَاقِي وَالْفَضْلُ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَوْلَى الْبَادِي هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَحُكْمُ جِنَايَةِ مَمْلُوكِهِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِاخْتِيَارِ مَوْلَى الْعَبْدِ الثَّالِثِ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ فَلِهَذَا بُدِئَ بِهِ وَلَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْبَادِي قِيمَتُهُ فَلِمَوْلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِهِ وَالْفَضْلُ لِمَوْلَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 120 الْبَادِي، ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَى الْبَادِي بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ الْبَاقِي فَيَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي كَمَالُ حَقِّهِ، وَإِنْ دَفَعَ مَوْلَى الْقَاتِلِ عَبْدَهُ قَامَ الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ كَانَ الْبَاقِيَ كَأَنْ يُخَيَّرَ مَوْلَاهُ أَوَّلًا، فَإِنْ دَفَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ فَدَاهُ رَجَعَ فِي عُنُقِ صَاحِبِهِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ فَكَذَا هُنَا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الثَّالِثُ قَتَلَ الْآخَرَ مِنْهُمَا فَدَفَعَهُ مَوْلَاهُ قَامَ الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ خُيِّرَ مَوْلَى الْبَادِي بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنَّ دَفْعَهُ إلَيْهِ شَيْءٌ لَهُ عَلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ، وَلَا فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ يَكُونُ حَقُّ مَوْلَى الْمَقْتُولِ ثَابِتًا فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْبَادِي فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَدَاهُ، فَقَدْ طَهَّرَ عَبْدَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ فَاتَ الْمَقْتُولُ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَرْجِعُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَادِئُ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ نَفْسَهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ، فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْمَقْتُولِ مَشْجُوجًا، وَقَدْ فَاتَ وَلَمْ يَخْلُفْ عِوَضًا؛ لِأَنَّ عِوَضَهُ كَانَ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ، وَقَدْ فَاتَ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ مَاتَ الْبَادِئُ بِالضَّرْبَةِ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَإِنَّ مَوْلَى الْبَادِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ إلَى مَوْلَى الثَّانِي أَرْشَ جِنَايَةِ عَبْدِهِ وَيَتْبَعُ عَبْدَهُ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَ عَبْدَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى عَبْدِهِ فَيَتْبَعُهُ بِأَرْشِ ذَلِكَ وَيُخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيَهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْأَرْشَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ الْحَيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ ابْتِدَاءً لِبُدَاءَةِ عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِ الْجِنَايَةِ بِوَجْهِ الْخِطَابِ لَهُ عَلَى مَوْلَى الْبَاقِي أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ بِإِبَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنَاهُ إذَا دَفَعَ الشَّجَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِع عَلَى الْبَاقِي بِشَيْءٍ. وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ الْتَقَيَا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً وَأَحَدُهُمَا بَدَأَ بِالضَّرْبَةِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فَمَاتَ الضَّارِبُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مِنْ ضَرْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَرِئَ الْآخَرُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَكَانَتْ قِيمَةُ عَبْدِهِ فِي عُنُقِ الْحَيِّ وَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَ عَبْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ وَيُخَيَّرُ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ إنَّمَا قَتَلَ الضَّارِبَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ، وَإِنْ أَبَى مَوْلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَلَا شَيْءُ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ لِتَفْوِيتِهِ شَرْطَهُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَا بَرِئَا مِنْ الْمُوضِحَتَيْنِ، ثُمَّ إنَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 121 الْبَادِيَ مِنْهُمَا قَتَلَ الْآخَرَ خَطَأً خُيِّرَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَبِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ فَتَكُونُ جِنَايَتُهُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا فَدَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِهِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ مُفِيدًا شَيْئًا، وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ أَرْشُ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ لِمَوْلَاهُ خَاصَّةً وَيَكُونُ أَرْشُ شَجَّةِ الْحَيِّ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ الْمَقْبُوضَةِ يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَقْتُولِ، وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ بِقَدْرِ أَرْشِ شَجَّةِ الْحَيِّ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْبَادِيَ خَطَأً، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ جِنَايَتَهُ، وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِ مُوضِحَةِ الْحَيِّ، ثُمَّ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْحَيِّ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَوْلَى الْبَادِي هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَشَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ عَبْدَهُ بِمُوضِحَةِ الْعَبْدِ الْحَيِّ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَى الْحَيِّ بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنْ أَبَى إيجَادَ هَذَا الشَّرْطِ كَانَ مُبْطِلًا حَقَّهُ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ دَفْعَ عَبْدِهِ فَدَفَعَهُ، فَإِنَّ أَرْشَ الشَّجَّةِ الَّتِي شَجَّهَا الْأَوَّلُ فِي عُنُقِهِ، فَإِنْ شَاءَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَدَاهُ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى الْمَدْفُوعِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَسَوَاءٌ دَفَعَهُ أَوْ فَدَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ كَانَتْ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ مَوْلَى الْأَوَّلِ بِبَدَلِ تِلْكَ الشَّجَّةِ. قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ أَنَّ الْآخَرَ يَسْبِقُ إلَى الدَّفْعِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْأَوَّلُ شَيْئًا فَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَهُ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ الْبَادِئُ مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِالضَّرْبَةِ، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَمَا بَرِئَا، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْقَاتِلِ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ الْمَشْجُوجِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا جِنَايَةَ الْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ وَكُنَّا قَدْ عِلْمنَا أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ صَحِيحًا وَاشْتَبَهَ حَالُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَيَجِبُ التَّمَسُّكَ بِمَا كَانَ مَعْلُومًا فَلِهَذَا يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ صَحِيحًا إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَإِنْ دَفَعَهُ كَانَ لَهُ نِصْفُ أَرْشِ شَجَّتِهِ فِي عُنُقِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ مِنْهُ حِصَّةَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَشْجُوجًا مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ أَوْ يَفْدِيهِ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ فِي الْفِدَاءِ الَّذِي دَفَعَهُ بَعْدَمَا يَدْفَعُ الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ نِصْفَ أَرْشِ شَجَّتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الَّذِي فَدَى عَبْدَهُ بِقِيمَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ مِنْ الْفِدَاءِ أَوْ يَرْجِعُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ. وَلَوْ الْتَقَى عَبْدَانِ وَتَضَارَبَا فَقَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ صَاحِبِهِ مَعًا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 122 فَبَرِئَا، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ عَبْدَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ عَبْدَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُرِّ إذَا كَانَ هُوَ الْقَاطِعَ لِيَدِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ. وَلَوْ أَنَّ أَمَةً قَطَعَتْ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَهَا وَلَدُهَا خَطَأً، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْوَلَدَ إلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ خُيِّرَ مَوْلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ بَيْنَ دَفْعِ الْأَقَلِّ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدُ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ آخَرَ جَنَى عَلَيْهَا فَتُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ لِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ وَيُخَيَّرُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّجُلِ قَطَعَ يَدَ هَذَا الْعَبْدِ خَطَأً فَبَرِآ فَمَوْلَى الْقَاطِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ خُيِّرَ مَوْلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ وَمَا أَخَذَ بِجِنَايَتِهِ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ كَانَ صَحِيحًا حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ فَحَقُّ وَلِيِّهِ كَانَ ثَابِتًا فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْهُ بِقَطْعِ الْعَبْدِ يَدَهُ إلَى بَدَلٍ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي بَدَلِهِ أَيْضًا، فَإِذَا اخْتَارَ دَفْعَهُ فَعَلَيْهِ دَفْعُ بَدَلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا اخْتِيَارًا لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا اُسْتُحِقَّتْ بِجِنَايَتِهِ وَأَحَدُهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ جِنَايَتُهُمَا عَلَى شَخْصَيْنِ سَوَاءٌ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقُهُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ دَفْعُ الْآخَرِ بِجِنَايَتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْإِعْتَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ بِالْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ اخْتِيَارُهُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي الْكُلِّ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي قَوْلِهِمَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ فَوَّتَ بِتَسْلِيمِ الْجُثَّةِ، وَلَوْ مَنَعَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْجُثَّةِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ. أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَقَتَلَتْ أَحَدَ الْمَوْلَيَيْنِ خَطَأً فَعَلَيْهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى مَوْلَاهَا كَجِنَايَتِهَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَقَدْ جَنَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَعَلَيْهَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ قَتَلَتْ الْآخَرَ بَعْدَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ حِينَ قَتَلَتْ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ لَزِمَهَا السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَالْمُسْتَسْعَى حُرٌّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا قَتَلَتْ الْآخَرَ مِنْهُمَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ وَعَلَيْهَا كَفَّارَتَانِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْقَتْلِ تَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ كَمَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 123 تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ، وَإِنْ قَتَلَتْهُمَا مَعًا فَعَلَيْهَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا جَنَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، وَإِنَّمَا عَتَقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ جَنَتْ عَلَى أَجْنَبِيَّيْنِ، ثُمَّ عَتَقَتْ كَانَ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا لَهُمَا فَكَذَلِكَ إنْ جَنَتْ عَلَى مَوْلَيَيْهَا. وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ يَدَ عَبْدِ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ عَلَى الْأَوَّلِ سِتُّمِائَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْآخَرِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ بِخِلَافِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدِي مَا ذَكَرَ هَاهُنَا صَحِيحٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ قِيمَتَهُ صَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ صَحِيحًا لَا مَقْطُوعَ الْيَدِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَوَّلَ حِينَ قَطَعَ يَدَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ لَزِمَهُ بِالْقَطْعِ خَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ الثَّانِي بِقَطْعِ الرِّجْلِ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَتُهُ صَحِيحًا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقِيمَةُ مَقْطُوعِ الْيَدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَتْلَفَ نِصْفَهُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ، وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَحِينَ مَاتَ مِنْهَا، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ هَذَا مِنْ الْقِيمَةِ الْأُولَى وَالْقِيمَةُ الْأُولَى كَانَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَرُبْعُ تِلْكَ الْقِيمَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَعَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ نِصْفُ ذَلِكَ الرُّبْعِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى خَمْسِمِائَةٍ يَكُونُ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُوجِبَ عَلَى الْأَوَّلِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَالْآخَرُ مِنْهُمَا لَزِمَهُ بِالسِّرَايَةِ قِيمَةُ مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ فِعْلُهُ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قِيمَتِهِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَرُبْعُ تِلْكَ الْقِيمَةِ خَمْسُمِائَةٍ فَنِصْفُ الرُّبْعِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِأَصْلِ الْجِنَايَةِ خَمْسُمِائَةٍ وَبِالسِّرَايَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْمَعَاقِلِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءُ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ: الْأَصْلُ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: قُومُوا فَدُوهُ. قَالَ أَخُوهَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 124 عَمْرُو بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ: أَنَدِي مَنْ لَا عَقَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ؟ أَوْ قَالَ: دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ فَقَالَ: إنَّ لَهَا بَيْتًا هُمْ سُرَاةُ الْحَيِّ وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنِّي فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا قُمْ فَدِهِ» وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَعُذْرُهُ لَا يُعْدِمُ حُرْمَةَ نَفْسِ الْمَقْتُولِ وَلَكِنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ وَاسْتِئْصَالٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ لِلْعُذْرِ فَضَمَّ الشَّرْعُ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ آلَةُ التَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَكُونُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ هَاهُنَا مُغَلَّظَةً لِيَظْهَرَ تَأْثِيرُ مَعْنَى الْعَمْدِ وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ مَنْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ الْقَاتِلِ. ثُمَّ هَذَا الْفَصْلُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَتَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِقُوَّةٍ يَجِدُهَا الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَإِنَّمَا يَنْصُرُهُ عَاقِلَتُهُ فَضُمُّوا إلَيْهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إعَانَةِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِينَ مَنْ اُبْتُلِيَ لِيُعِينَهُ غَيْرُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّوَادِّ فَهَذَا هُوَ صُورَةُ أُمَّةٍ مُتَنَاصِرَةٍ وَجِبِلَّةُ قَوْمٍ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأُمَّةَ هَذِهِ، ثُمَّ كَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْبَابٌ لِلتَّنَاصُرِ مِنْهَا الْقَرَابَةُ، وَمِنْهَا الْوَلَاءُ، وَمِنْهَا الْحِلْفُ، وَمِنْهَا مُمَاحَلَةُ الْعَدُوِّ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُ كَمَا كَانُوا حُلَفَاءَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُمْ الْحَدِيثَ فَكَانُوا يَضِلُّونَ عَنْ حَلِيفِهِمْ وَعَدِيدِهِمْ وَيَعْقِلُ عَنْهُمْ حَلِيفُهُمْ وَعَدِيدُهُمْ وَمَوْلَاهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ كَمَا يَعْقِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ. فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ صَارَ التَّنَاصُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّيوَانِ فَكَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى فَجَعَلَ عُمَرُ الْعَاقِلَةَ أَهْلَ الدِّيوَانِ. بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَضَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَسَّعَ الدِّيوَانَ فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِيهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالُوا: الْعَقْلُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْعَشِيرَةِ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 27 ¦ الصفحة: 125 وَلَا نَسْخَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ قَضَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: هَذَا اجْتِمَاعٌ عَلَى وِفَاقِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِهِ عَلَى الْعَشِيرَةِ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَكَانَ قُوَّةُ الْمَرْءِ وَنُصْرَتُهُ يَوْمَئِذٍ بِعَشِيرَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدَّوَاوِينَ صَارَتْ الْقُوَّةُ وَالنُّصْرَةُ بِالدِّيوَانِ، فَقَدْ كَانَ الْمَرْءُ يُقَاتِلُ قَبِيلَتَهُ عَنْ دِيوَانِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ جَعَلَ بِإِزَاءِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ لِيَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ فَلِهَذَا قَضَوْا بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إلْزَامُ الدِّيَةِ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ الْمَالِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِوَصْلَةِ الْقَرَابَةِ دُونَ الدِّيوَانِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَمَا قَالَ وَإِيجَابُهُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ أَوْلَى وَأَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الصِّلَةِ لَهُمْ بِعَيْنِ الْعَطَاءِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِيجَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَوْلَى فِي إيجَابِهِ مِنْ أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ النُّصْرَةُ فَفِي حَقِّ كُلِّ قَاتِلٍ يُعْتَبَرُ مَا بِهِ تَتَحَقَّقُ النُّصْرَةُ، وَتَنَاصُرُ أَهْلِ الدِّيوَانِ يَكُونُ بِالدِّيوَانِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ قَوْمٍ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِلْفِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَتَى عَقَلَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ تَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفُرُوعِ، ثُمَّ الْقَاتِلُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلُ مَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ هَذَا الْجُزْءُ كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَبِالْمَعْنَى الَّذِي نُوجِبُ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ نُصْرَةٍ أَوْ صِلَةٍ نُوجِبُ هَذَا الْجُزْءَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْكُلِّ لَا فِي الْجُزْءِ، ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ كَمَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ وَكَمَا أَنَّهُ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ شَرْعًا فَالْعَاقِلَةُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِفِعْلِهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وَمَنْ لَمْ يَجْنِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ الْجَانِي الْمَعْذُورِ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ فَلَأَنْ نُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَطَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهُمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا يَخْرُجُ الْعَطَاءُ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ يَخْرُجُ لِلْقَاتِلِ. وَذُكِرَ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 126 : فَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدِّيَةَ تُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَالنِّصْفُ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فِي سَنَةٍ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ جَمِيعُ الدِّيَةِ مَتَى وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَالْأَبِ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَمْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهُ فِي سَنَةٍ. وَمَتَى كَانَ الْوَاجِبُ بِالْقَتْلِ ثُلُثَ بَدَلِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ شَرْعًا وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَاتِّبَاعُ الْأَجْزَاءِ بِالْجُمْلَةِ فِي مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ. وَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ التَّأْجِيلَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ كَالْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ مَعْقُولٌ فَأَمَّا فِي التَّأْجِيلِ فَمَعْنَى نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ فِي الْمَالِيَّةِ أَنْقَصُ مِنْ الْحَالِّ وَبِسَبَبِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلتَّخْفِيفِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَلَوْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً وَفِيهِ إيجَابُ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّا إنَّمَا نُنْكِرُ إيجَابَ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إنَّمَا أَوْجَبْنَاهَا بِالنَّصِّ كَأَصْلِ الْمَالِ بِمُقَابِلَةِ النَّفْسِ أَوْجَبْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ: فِي النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فِي كُلِّ عَامٍ الثُّلُثُ، وَمَا كَانَ مِنْ جِرَاحَاتِ الْخَطَأِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ إذَا بَلَغَتْ الْجِرَاحَةُ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ فَفِي عَامَيْنِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَفِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأَرْشِ مَتَى بَلَغَ نِصْفَ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَوْ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْجَانِي. وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ. أَمَّا التَّسْوِيَةُ فَكَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالتَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يُوجَبَ شَيْءٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي ضَمَانِ الْمَالِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي أَرْشِ الْجَنِينِ بِالْإِيجَابِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَأَرْشُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ فَيَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ». الجزء: 27 ¦ الصفحة: 127 وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى دَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْجَانِي وَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ دُونَ الْقَلِيلِ وَالْفَاضِلُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مُقَدَّرًا وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ. قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْفَضْلَ فِيمَا يُؤَدِّي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَلَمْ يَجِيئُوا عَلَى وَجْهِ الْعَوْنِ لِصَاحِبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَنُصْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَبِنْيَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ، وَكَذَلِكَ النُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالصِّبْيَانِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ الَّتِي خَلَتْ عَنْ النُّصْرَةِ لَمْ تُوجَبْ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْقَاتِلَةُ أَوْ الصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا لَهُمْ مِنْ فَرْضِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ كَمَا فَرَضَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَطَاءَ فِي الدِّيوَانِ فَكَانَ يُوَصِّلُهُ لَهُنَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ خَطَأً فَلَمْ يُرْفَعْ إلَى الْقَاضِي حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَجَلِ يُبْنَى عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ وَالْمَالُ إنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَالْمَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ وَمِثْلُ النَّفْسِ نَفْسٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَتَحَوُّلِ الْحَقِّ بِقَضَائِهِ إلَى الْمَالِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَغْرُورِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ رَدُّ عَيْنِهِ مُتَعَذِّرًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَكِنْ فِي الْحُكْمِ جَعَلَ الْوَاجِبَ رَدَّ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يُحَوِّلَهُ الْقَاضِي إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَائِهِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَاعْتَبَرَ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِهَذَا، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ يَكُونُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ قَضَى بِذَلِكَ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ فَيَجْعَلُ الثُّلُثَ فِي أَوَّلِ عَطَاءٍ يَخْرُجُ لَهُمْ بَعْدَ قَضَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَقَضَائِهِ وَبَيْنَ خُرُوجِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 128 أَعْطِيَاتِهِمْ إلَّا شَهْرٌ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى تَأَخُّرِ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَمَحَلُّ قَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ الْعَطَاءُ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَطَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ سِنِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالثُّلُثُ الثَّانِي فِي الْعَطَاءِ الْآخَرِ إذَا خَرَجَ إنْ أَبْطَأَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ عَجَّلَ قَبْلَ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّالِثُ، فَإِنْ عَجَّلَ لِلْقَوْمِ الْعَطَاءَ فَخَرَجَتْ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَعْطِيَةٍ مَرَّةً وَهِيَ أَعْطِيَةٌ اسْتَحَقُّوهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدِّيَةِ، فَإِنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْطِيَةِ الثَّلَاثَةِ لِوُصُولِ مَحَلِّ أَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ إلَى يَدِ الْعَاقِلَةِ. قَالَ: وَلَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يُقْضَى بِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ وَاجِبَةٌ شَرْعًا فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَى مَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى نِصْفِ دِينَارٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَيْهِمْ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَسَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، ثُمَّ هَذِهِ يُؤْمَرُونَ بِأَدَائِهَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَبْلُغُ مِقْدَارُهَا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا تَجِبُ هَذِهِ الصِّلَةُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ الْعَطَاءُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ، فَقَدْ فَسَّرَهَا هُنَا فَقَالَ: حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ يُصِيبُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مَا وَصَفْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ إجْحَافٌ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ كَمَا ضَمَمْنَا الْعَاقِلَةَ إلَى الْقَبَائِلِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَلِأَنَّهُ مَتَى حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُونَ بِأَقْرَبِ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَطَاءَ عِنْدَنَا إلَّا بِآخِرِ السَّنَةِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا خَرَجَ الْعَطَاءُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا يَخْرُجُ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 129 ذَلِكَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إلَى آخَرِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ الصِّلَاتِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجِزْيَةِ وَفِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يَصِرْ عَطَاؤُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ آخِرِ السَّنَةِ. فَمَتَى كَانَ يَجِيءُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ الْعَطَاءُ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَحَلًّا لِأَخْذِ الدِّيَةِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ، ثُمَّ قَضَى بِهَا وَلَمْ يُخْرِجْ لِلنَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمْ الْمَاضِيَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْأَعْطِيَةِ بِاعْتِبَارِ مُدَّةٍ مَضَتْ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَمَحَلُّ الْأَدَاءِ الْأَعْطِيَاتُ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْأَعْطِيَاتِ الْمَاضِيَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَيَسْتَقْبِلُ بِصَاحِبِ الدِّيَةِ الْأَعْطِيَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ رِزْقٍ يَأْخُذُونَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَطَاءِ، فَإِنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا كَانَ مَحَلًّا لِقَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلِأَجْلِهِ اجْتَمَعُوا وَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الرِّزْقِ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ رِزْقٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكُلَّمَا خَرَجَ رِزْقٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمِقْدَارُ نِصْفِ سُدُسِ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ، وَإِنْ خَرَجَ الرِّزْقُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَخَرَجَ لَهُمْ رِزْقُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَخَذَ مِنْهُمْ سُدُسَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَلَهُمْ أَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ إنَّمَا كَانَتْ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَهُمْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ يُؤَدِّي إلَى إضْرَارٍ بِهِمْ وَبِعِيَالَاتِهِمْ فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَادَةً فَأَمَّا الْأَعْطِيَاتُ فَلَيْسَتْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ لِتَأَلُّفِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ فِي الدِّيوَانِ يَقُومُونَ بِالنُّصْرَةِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ فَلِهَذَا قُلْنَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِفَرْضِ الدِّيَةِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ دُونَ الْأَرْزَاقِ وَمَنْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الثُّمُنِ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ فُرِضَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ يَوْمَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 130 بِالْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَاهُنَا وَالْأَدَاءَ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ الْأَدَاءِ مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إلَى الْقَاضِي سِنِينَ، ثُمَّ ارْتَفَعُوا قَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا»، وَهَذَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّسَبُّبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَفِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِيهَا أَوَّلًا. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ خَاصَمَهُ إلَى قَاضِي بَلَدِ كَذَا فَقَامَتْ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَصَدَّقَهُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبَعْدَ تَقَرُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ أَصْلًا فَيَقْضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَتَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حِصَّةِ عَوَاقِلِهِمْ يُقِرُّ عَلَيْهِمْ فَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدَ الْعَوَاقِلِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ بِزَعْمِهِ إلَى عَاقِلَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِذَا تَوِيَ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِجُحُودِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْكُلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا إذَا تَوِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قُلْنَا: هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَصْلُهُ دَيْنًا لِدَفْعِ التَّوَى عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ وَالْعَمْدُ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ يَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي لِقَوْلِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 131 - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَلِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ مِنْهُ بِالْكُلِّ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ لِأَهْلِ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ كَانَ تَنَاصُرُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى وَأَهْلُ مِصْرٍ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ سُوقِهِمْ وَقُرَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَأَهْلُ مِصْرٍ يَعْقِلُونَ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ وَالنُّصْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهَا بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَنْصَرَ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقُرْبَ فِي السُّكْنَى لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دِيوَانُ أَحَدِهِمَا بِالْكُوفَةِ وَدِيوَانُ الْآخَرِ بِالْبَصْرَةِ لَمْ يَعْقِلْ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلُ دِيوَانِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ مُخْتَلِفِينَ فِي أَنْسَابِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ وَلَاءٌ، وَمِنْهُمْ الْقُرْبَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ جَنَى بَعْضُهُمْ جِنَايَةً عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ رَايَتِهِ وَأَهْلُ فِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِأَهْلِ رَايَتِهِ أَظْهَرُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ لَا يَرْجِعُ فِي اسْتِنْصَارِهِ إلَى عَشِيرَتِهِ عَادَةً وَلِأَنَّ عَطَاءَ أَهْلِ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَهْلِ رَايَتِهِ قَلِيلًا ضَمَّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ رَأَى مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يَجْعَلَهُمْ عَاقِلَةً وَاحِدَةً لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ أَهْلِ رَايَتِهِ، وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ فِي مَعْنَى النُّصْرَةِ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَجُعِلَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ لِهَذَا. وَمَنْ لَا دِيوَانَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَنَحْوِهِمْ تَعَاقَلُوا عَلَى الْأَنْسَابِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ الْبَادِيَتَانِ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْأَنْسَابِ وَلِأَنَّ حَالَهُمْ فِي مَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ قَضَى بِالْعَقْلِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ عَوَاقِلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعَطَاءِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِمْ لَا أَهْلُ إخْوَةِ الْبَادِيَةِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَقَوُّونَ بِأَهْلِ الْعَطَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْعَطَاءِ عَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَقَوُّونَ بِهِمْ وَلَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَهْلَ الْعَطَاءِ. وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِي عَطَاءٍ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 132 أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَلَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمِصْرِ عَطَاءٌ دُون مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ فَلِهَذَا كَانُوا عَاقِلَةً لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَازِلًا وَأَصْحَابُ الْأَرْزَاقِ الَّذِينَ لَا أَعْطِيَاتِ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْأَرْزَاقِ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَعْنَى التَّنَاصُرُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْلُ يُوجَدُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ إذَا وُجِدَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً وَهُمَا أَجْنَبِيَّانِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنُصْرَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُ مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَلَا كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ؛ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وَقَالَ {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حِين كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَلَمْ يَقْضِ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ حَتَّى جَعَلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ الْجِنَايَةُ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَبَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 133 الْقَاضِي عَلَى مَا قَرَّرَنَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ وَبَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّمَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَهْلُ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَعَطَاؤُهُ مِنْ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ عَطَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يَعْقِلُوا مَعَهُمْ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَلَا يُشْبِهُ قِلَّةَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ تَحَوُّلُ الرَّجُلِ بِعَطَائِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يُضَافُونَ إلَيْهِمْ عَاقِلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ عَاقِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَتْبَاعِ لَهُمْ فَلَا تَتَبَدَّلُ الْعَاقِلَةُ بِاعْتِبَارِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّمَّ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَفِي حُكْمِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْقَضَاءِ. وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ فَقَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى تَحَوَّلَ عَنْ الْكُوفَةِ وَاسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ إذَا كَانَ يَسْكُنُ مِصْرًا فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ ذَلِكَ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَطَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إذَا الْتَحَقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَجْنِهَا الْعَاقِلَةُ، وَإِنَّمَا جَنَاهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قُلْنَا تَتَحَوَّلُ بِتَحْوِيلِهِ إلَى دِيوَانٍ آخَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَكَانَ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ حَالًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَفِي اعْتِبَارِ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تُوجِبُ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ أَوْ الثُّلُثَيْنِ أَوْ لَمْ يُؤَدُّوا أَشْيَاءَ حَتَّى جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 134 فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَيْسَ فِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ الْعَطَاءِ يُعْتَبَرُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْقَضَاءِ وَالْأَخْذُ مِنْ الْعَطَاءِ بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ أَقْرَبُ مِنْ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ - يَقْضِي عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ بِمَا كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْبَادِيَةِ حَتَّى إنْ كَانَ قَضَى بِالْإِبِلِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ آخَرَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ بِهِ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا قَتَلَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ رَجُلًا خَطَأً فَعَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ قَضَى الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنْ بَقِيَ أَصْلُ النَّسَبِ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ، وَإِذَا ادَّعَاهُ هُوَ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا، وَإِنْ كَذَبَتْهُ الْأُمُّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ لَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَقَلَ جِنَايَةً كَانَتْ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَعَاقِلَةُ الْأُمِّ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا بَلْ أُجْبِرُوا عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ وَيَصِيرُ حَالُهُمْ مَعَ عَاقِلَةِ الْأُمِّ كَحَالِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ التَّأْجِيلُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ التَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ دَعْوَى الْأَبِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأَخُّرِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ وَوَفَاءٌ فَلَمْ يُؤَدِّ الْكِتَابَةَ حَتَّى جَنَى ابْنَهُ وَابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَوْلَاةٍ لِبَنِي تَمِيمٍ وَالْمُكَاتَبُ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَعَقَلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ، ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ، فَإِنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ يَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ حِين جَنَى، وَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوَالِي أَبِيهِ وَمَوَالِي أُمِّهِ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِالْمُؤَدَّى عَلَى مَوَالِي الْأَبِ. وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الصَّبِيَّ فِي أَمْرٍ لَحِقَهُ فِيهِ تَبَعَةٌ فَيَثْبُتُ لِعَاقِلَتِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَدُّوا عَلَى الْآمِرِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْآمِرُ يُثْبِتُ الْأَمْرَ بِالْبَيِّنَةِ فَرُجُوعُهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُبَاشَرَةِ، وَإِنْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 135 كَانَ الْآمِرُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانُوا اجْتَمَعُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ وَلِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ مِنْ الصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِلْمَوْلَى عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِسَبَبِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآمِرِ وَالصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ مِثْلَ ذَلِكَ فَكُلَّمَا أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مِنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ شَيْئًا أَخَذَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ مِنْ عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لِدَفْعِ الْغُرْمِ عَنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْغُرْمُ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِقَدْرِ مَا أَدُّوا بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ. وَلَوْ أَنَّ ابْنَ الْمُلَاعَنَةِ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَقَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَحَضَرُوا جَمِيعًا، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ بِالثُّلُثِ الَّذِي أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ وَيَبْدَأُ بِهِمْ فِي سَنَةِ مُسْتَقْبِلَةً قَبْلَ أَهْلِ الْجِنَايَةِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ وَيَقْضِي بِالثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي السَّنَتَيْنِ بَعْدَ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مَا أُخِذَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَكَانَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ حَقًّا يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْقَضَاءِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ أَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ لَا عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ، ثُمَّ الْقَضَاءُ بِالرُّجُوعِ لَهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بَلْ يَسْتَوْفِي مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأَبِ. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْآمِرِ مَعَ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ الْآمِرِ وَهُنَا السَّبَبُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَعَاقِلَةِ الْأَبِ قَدْ ظَهَرَ بِدَعْوَى السَّبَبِ فَلِهَذَا قَضَى بِالْبَاقِي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّوْا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَحَقُّهُمْ مُقَدَّمٌ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِمَا اسْتَوْفَاهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا شَيْئًا أَدَّى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِهِمْ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ حِينَ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّةُ ابْنِهِ إلَى حَيَاةِ أَبِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً وَمَوْلَاهُ لِبَنِي تَمِيمٍ تَحْتَ عَبْدٍ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَعَاقِلَةُ الِابْنِ عَاقِلَةُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ فَيَتْبَعُ الْوَلَدُ فِيهِ أُمَّهُ إذَا انْعَدَمَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَمَا فِي النَّسَبِ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 136 عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ حَتَّى عَتَقَ الْأَبُ، فَإِنَّ الْقَاضِي يُحَوِّلُ وَلَاءَهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا فِي النَّسَبِ، ثُمَّ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ الَّتِي قَدْ جَنَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا يُحَوِّلُهَا عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ عِتْقِ أَبِيهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ أَبِيهِ، وَمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ إنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَبُوهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ فَهُوَ الْخَصْمُ بِالْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ يُبْنَى عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَابْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ حَدَثَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ أَنَّهُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي أُمِّهِ وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ الْمَيِّتَ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْأَدَاءِ بَلْ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَهَا هُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ إنَّمَا يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَتْ عَاقِلَتُهُ فِي الْوَقْتِ قَوْمَ أُمِّهِ. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مُسْلِمَةً مَوْلَاةً لِبَنِي تَمِيمٍ جَنَتْ جِنَايَةً أَوْ حَفَرَتْ بِئْرًا فَلَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارٍ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ فَمَاتَ قَضَى بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ لَهَا وَلَاءٌ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ الْحَفْرِ فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْوَلَاءِ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَّلَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْحَالَةِ الْأُولَى يَعْنِي أَنَّ حَالَهَا تَبَدَّلَ بِالسَّبْيِ وَالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي حُكْمِ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِيَةِ وَعَاقِلَةُ الْجَانِيَةِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَمَّا هَمْدَانُ فَعَاقِلَةُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَ حَالُهَا حِينَ صَارَتْ فِي حُكْمِ امْرَأَةٍ أُخْرَى. حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً عَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الَّذِي وَالَاهُ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فِي حُكْمِ عَقْلِ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفِعْلِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى أُسِرَ أَبُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَعْتَقَهُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَ لِأَبِيهِ وَلَاءُ عِتْقٍ لَا يَبْقَى وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي حَقِّهِ بَلْ يُلْغَى حُكْمًا وَتَأَكُّدُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الثَّابِتِ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الَّذِي كَانَ وَالَاهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي الْأَبِ بِشَيْءٍ فَلَا تَزُولُ تِلْكَ الْجِنَايَةُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ بِسَبَبٍ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 137 جَدِيدٍ، وَهُوَ إعْتَاقُ الْأَبِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ أَبُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي وَالَاهُ دُونَ عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَالْخُصُومَةُ فِي سَبَبِهِ مَعَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ. ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا حَتَّى قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى وَالَى رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْجِنَايَتَيْنِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيُجْعَلُ وِلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَبْطُلُ مُوَالَاتُهُ مَعَ الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا جَنَى جِنَايَةً تُعْقَلُ وَجَبَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَتَأَكَّدَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَلَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ أَحَدٍ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى بِسَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا فَلَمْ تَقَعْ الرَّمْيَةُ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَتْ فَقَتَلَتْ رَجُلًا كَانَتْ مُوَالَاتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ جَانٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْي حَتَّى لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِذَا كَانَ بِالرَّمْيِ جَانِيًا وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ تَأَكَّدَ بِهِ الْوَلَاءُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا أَحَدٌ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ، فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَوَلَاءُ الَّذِي وَالَاهُ صَحِيحٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى قَبْلَهُ مِنْ الرَّمْيَةِ وَالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَفْرِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ يَجِبُ بِهَا أَرْشٌ حَتَّى يَعْطَبَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ وَالرَّمْيَةُ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْهُ، فَإِنَّمَا وَالَاهُ وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ وَبَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الرَّامِيَ مُبَاشِرٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَاشَرَةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِالرَّمْيِ مُلْتَزَمٌ الْقَوَدَ إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْكَفَّارَةَ إذَا كَانَ خَطَأً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَانٍ حِينَ رَمَى وَأَمَّا الْحَافِرُ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ وَلَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ، ثُمَّ دِيَةُ هَذَا الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ عَلَى مَنْ وَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْوُقُوعِ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ، وَمَنْ وَالَاهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ مُوجِبَ أَفْعَالِهِ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ وَلَاؤُهُ وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ الْوَلَاءِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ قُلْنَا: إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُوَالِي رَجُلًا، ثُمَّ يَجْنِي أَوْ يَرْمِي أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِوَلَائِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى تَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ مَوْلَى لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 138 كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِإِنْسَانٍ بِعَقْدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْبِئْرِ أَحَدٌ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى رَجُلٍ فَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْآخَرِ عَلِمَ بِالْحَفْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ أَوْ لَا يَقَعُ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَعَ الثَّانِي صَحِيحًا وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فَبَعْدَ مَا عَقَلُوا إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ هَذَا كُلُّهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، ثُمَّ اشْتَغَلَ فِي الْكِتَابِ بِالْكَلَامِ مَعَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ لَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلَاءُ الْمُنْتَقِلُ بِعِتْقِ الْأَبِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِلْعَاقِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَكُونُ إحْدَاهُمَا عَاقِلَةً، ثُمَّ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَاقِلَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قُلْت: إذَا تَحَوَّلَ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ: إذَا انْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ صَارَتْ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ الْحَالَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَنَظِيرُهُ مَا بَيَّنَّا فِي الْمَرْأَةِ الْجَانِيَةِ إذَا ارْتَدَّتْ فَسُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ وَصَاحِبُ الْعَاقِلَتَيْنِ لَمْ يَتَحَوَّلْ حَالُهُ بَلْ حَالُهُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ عَاقِلَتُهُ بِتَحَوُّلِهِ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ عَاقِلَتَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ وَاسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ النَّفْسُ، فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ الْقَضَاءِ الْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَقَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ أَوْ عَلَى مِائَتِي بَعِيرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَرُدَّ إلَى الدِّيَةِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَالَحَ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَتِي بَعِيرٍ بِأَعْيَانِهَا كَانَ جَائِزًا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَصِيرُ مَا لَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ شَرْعًا مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَبَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ قَدْ وَجَبَتْ الدَّنَانِيرُ، فَإِنَّمَا يَقَعُ الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَوْ الْإِبِلِ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَيْسَا بِأَصْلٍ فِي الدِّيَةِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا التَّقْدِيرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عِنْدَهُ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ مِنْهَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْقَاضِي لَوْ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا فِيمَا يَقْضِي بِأَلْفَيْ شَاةٍ وَمِائَتِي بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ؛ لِأَنَّ صُلْحَهُمَا فِي حَقِّهِمَا كَقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي الدِّيَةِ بِثَلَاثَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 139 آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً عِنْدَ الْقَاضِي وَأَقَامَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِدُونِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَلَوْ وَجَبَ الْمَالُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْوَلِيِّ بَعْدَهُ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ: لَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً فَاقْضِ لِي بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ، ثُمَّ وَجَدَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَيِّنَةً فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ بِبَيِّنَتِهِ فَتُحَوَّلُ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: لَا تَعْجَلْ بِالْقَضَاءِ فِي مَالِهِ لَعَلِّي أَجِدُ بَيِّنَةً فَأَخَّرَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً قَضَى لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ نَقَلَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إلَى الْأَمْصَارِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَصَارُوا أَصْحَابَ أَعْطِيَةٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ إنْسَانٌ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَأُورِدَ هَذَا النَّوْعُ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْحَفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْإِمَامُ عَطَاءَهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى أَنْسَابِهِمْ فَتَعَاقَلُوا عَلَيْهَا زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ مَاتَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمُ الَّذِي وَجَبَ الْمَالُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ نَسَبِهِ، وَإِنْ أُثْبِتَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَلَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ عَاقِلَتُهُ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِهِ نَفْسُهُ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ عَطَاءِ الْكُوفَةِ جَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ جِنَايَةً وَقَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِقَوْمٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِيوَانٌ وَجُعِلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَقَلُوا مَعَهُمْ وَدَخَلُوا فِيمَا قَضَى بِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا أَدَّوْا قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى ضَمَّ الْإِمَامُ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ حَالَ الْجَانِي إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا وَانْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأُولَى كَانَ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ حَقِيقَةٌ مِثْلَ دَعْوَى الْمُلَاعَنَةِ حَوَّلَتْ الْجِنَايَةَ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ حَالَةُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَى الْأُولَى لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي، حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 140 بِهَا حَتَّى نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ عَطَاءٍ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدَّنَانِيرِ دُونَ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي مَا لَهُمْ عَطَاءٌ فَيَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، ثُمَّ نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ إلَى الْعَطَاءِ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ أَخَذُوا بِالْإِبِلِ أَوْ بِقِيمَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ دِيَةٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِصَيْرُورَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا لَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ أَهْلَ الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: هُنَاكَ أَبْهَمَ الْجَوَابَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا يُؤْخَذُ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هَاهُنَا فَقَالَ: تُؤْخَذُ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جِنْسًا مِنْهَا بِقَضَائِهِ حَتَّى صَارُوا أَهْلَ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا يُعَيِّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ وَيَأْخُذُهُ مِنْ الْعَطَاءِ وَهَا هُنَا عَيَّنَ الْجِنْسَ عِنْدَ قَضَائِهِ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا أَدَّوْا الْإِبِلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا الْقِيمَةَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ تُؤْخَذُ الْقِيمَةُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ. وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِشَيْءٍ حَتَّى أَبْرَأَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلْجَانِي أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْ الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ بِإِبْرَائِهِ سَقَطَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ عَلَى الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِتَأَكُّدِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْعَاقِلَةِ بِالْإِبْرَاءِ وَسُقُوطِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ وَمَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْجَانِي فَالْإِبْرَاءُ يَكُونُ إسْقَاطًا عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِبْرَاءُ وَلَا الْقَضَاءُ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الْبَاقِيَةِ، فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ حَتَّى لَوْ كَانَ أَقَرَّ الْجَانِي بِالْجِنَايَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ سَوَاءٌ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِقْرَارِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 141 لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْوَلَاءُ وَلَمْ يَجْنِ وَلَكِنَّهُ الْتَحَقَ مَعَهُمْ فِي دِيوَانِهِمْ فَجَنَى بَعْضُهُمْ فَعَقَلَ عَنْهُ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَالَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ وَلَائِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْعَقْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ أَيْضًا وَلَوْ أَخَذَ مَعَهُمْ الْعَطَاءَ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ بِأَخْذِ الْعَطَاءِ لَا يَتَأَكَّدُ حُكْمُ الْوَلَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ حَتَّى إنْ عَقَلَ عَقْلَ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْوَصَايَا] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَرْغُوبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَهُ فَرْضٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَمْ يَرِثُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا يَكُونُ فَرْضًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لَنَا لَا عَلَيْنَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ أَوْ قَالَ حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ»، وَالْمَشْرُوعُ لَنَا مَا لَا يَكُونُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَيْنَا بَلْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النَّوَافِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ثُمَّ التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْوَفَاءِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ إحْسَانٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ، وَتَكَلَّمُوا فِي نَاسِخِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّمَا اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمِيرَاثِ بَعْدَ وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ فَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَابِتَةً بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 142 لَذَكَرَ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ وَصِيَّةٌ مَعْهُودَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالرَّازِيُّ كَانَ لَا يُجَوِّزُ نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ إنَّمَا انْتَسَخَ هَذَا الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَنَسْخُ الْكِتَابِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ لَا تَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ حُكْمَهَا مَنْسُوخٌ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهَا وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَةِ قَالَ: «إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ»، وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجَوَازِ لَا نَفْيُ التَّحْقِيقِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْجَوَازِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ، وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَكِنَّ الْمَرَاسِيلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا كَالْمَسَانِيدِ أَوْ أَقْوَى مِنْ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ اسْمِهِ فَيَرْوِيه مُسْنَدًا وَإِذَا سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ الرِّوَايَةِ فَيُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَكَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ الرَّاوِي الْمَعْرُوفِ دَلِيلَ شُهْرَةِ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَهُوَ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ ابْتِدَاءً قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ طَاوٍ إلَى جَنْبِهِ»، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَّا. ثُمَّ الْوَصِيَّةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ الْمَالِ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الدَّيْنِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَهَذَا مِنْهُمَا إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَرْءِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرُغُ بِهِ ذِمَّتُهُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي تَرِكَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُقَدَّمُ جِهَازُهُ وَكَفَنُهُ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، ثُمَّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الدَّيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا التَّقْدِيمُ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَصِيَّةِ بَلْ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَيْنِ إرْثًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يُوصِ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَإِذَا أَقْضَى كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمِيرَاثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ النَّافِذَةِ شَرْعًا ثُلُثُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 143 الْمَالِ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: «سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ، فَقَالَ لَا قَالَ فَبِنِصْفِهِ قَالَ لَا قَالَ فَبِثُلُثِهِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَكَفْكَفُونَ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ سَعْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرِضَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْلُفُ عَنْ دَارِ الْهِجْرَةِ فَأَمُوتُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يُبْقِيَك اللَّهُ يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يُرْثَى لَهُ إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ»، قِيلَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إشَارَةٌ إلَى مَا جَرَى مِنْ الْفُتُوحِ عَلَى يَدِ سَعْدٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ «قَالَ: يَا رَسُولَ إنِّي لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ»، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَمَّ الْمُعْتَدِينَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّعَدِّي فِي الْوَصِيَّةِ مُجَاوَزَةُ حَدِّهَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ»، وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ وَالْمَيْلُ وَذَلِكَ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ شَرْعًا بِأَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَوْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِوَرَثَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ»، ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: «إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ»، مَعْنَاهُ وَرَثَتُك أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ الْأَجَانِبِ فَتَرْكُ الْمَالِ خَيْرٌ لَك مِنْ الْوَصِيَّةِ فِيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَالَ: لَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ وَقَالَ: مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَعْنِي لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ الْوَصِيَّةِ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَحْشَةَ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ الثُّلُثِ قَالَ الْوَارِثُ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِهِ شَرْعًا وَحَقُّ الْوَارِثِ ثَبَتَ فِي مَالِهِ شَرْعًا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ حَتَّى إذَا بَلَغَ هَذَا - وَأَشَارَ إلَى التَّرَاقِي - قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا كَانَ ذَلِكَ» وَإِنْ لَمْ يَقُلْ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ شَرْعًا لِمَنْ يَتْرُكُ مَالًا كَثِيرًا يَسْتَغْنِي وَرَثَتُهُ بِثُلُثِهِ إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ لِقِلَّةِ الْوَرَثَةِ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا اسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ يَتْرُكُ خَيْرًا يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى: {إنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، ثُمَّ يَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ: «الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ»، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لِوَرَثَةِ سَعْدٍ، فَقَالَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 144 «إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لَهُمْ وَاخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ وَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا قَالَ: «مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، أَيْ يُلِحُّونَ فِي السُّؤَالِ وَنَحْنُ إنَّمَا نُقَدِّمُ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ دُونَ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} [البقرة: 273]، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقْرَ مَعَ الصَّبْرِ أَسْلَمُ لِلْمَرْءِ وَأَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى جِلْدِ الْفَرَسِ». فَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ لِلطُّغْيَانِ وَالْفِتْنَةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] وَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْصَى إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ أَيْضًا فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وَأَوْصَى إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَوَائِجِهِ وَعُمَرُ أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَوْصَى إلَى أَحَدٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ إنَّمَا: «أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، وَبِهِ اسْتَدَلُّوا عَلَى خِلَافَتِهِ، فَقَالُوا مَا اخْتَارَهُ لِأَمْرِ دِينِنَا إلَّا وَهُوَ يَرْضَى بِهِ لِأَمْرِ دُنْيَانَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا أَوْصَى عَلِيٌّ إلَى وَلَدِهِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَأَوْصَى حَمْزَةُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ»، وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْسَانٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَالَ هُوَ السُّدُسُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ مُطْلَقُ لَفْظِ السَّهْمِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى السُّدُسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالُوا السَّهْمُ السُّدُسُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِثْلُ أَخَسِّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ عَنْ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ سِهَامًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَذِكْرُ السَّهْمِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ وَأَخَسُّ السِّهَامِ مُتَيَقَّنٌ فِيهِ إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ السَّهْمُ فَحِينَئِذٍ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا إنْ لَوْ ذَكَرَ السَّهْمَ مُعَرَّفًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَكُمْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ السَّهْمَ بِهِ وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّتَيْنِ فَالْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا أَمْلَكُ وَبِظَاهِرِهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 145 أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالْعِتْقِ لِلَّذِي أَوْصَى بِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ وَصِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ بِأَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ فَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِذَلِكَ الْعَبْدِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي الْمَحَلِّ وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِأَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ أَوْ لَمْ يَبْقَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إنْ قَبِلَا جَمِيعًا الْوَصِيَّةَ فَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحَ بِالسَّبْقِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِيَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ إنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شَيْءَ وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا يَنْفُذُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَهُوَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الْآخِرَةِ بِالتَّفْرِيطِ فِي أَدَاءً بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَالزَّكَاةِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ بِهِ رَقَبَةٌ فَلَمْ تَتِمَّ الْحَجَّةُ وَلَا الرَّقَبَةُ قَالَ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ تَجِبُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّبْدِيلِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ قَالَ - تَعَالَى -: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِثُلُثِ مَالِهِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ اعْتِبَارُ التَّعْبِيرِ فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ يَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ، فَأَمَّا فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ؟ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ، وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقُهُ وَاقِعًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِعَقْدِ مُبَاشَرَةٍ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَأْسَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 146 قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ} [الممتحنة: 8] إلَى قَوْلِهِ: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]، وَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ الْإِرْثَ لَا يَجْرِي مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَتَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي بِخِلَافِ الْوَارِثِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهُمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَتَمْلِيكُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا أَوْ إسْقَاطُهُمْ لِحَقِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّرَ وُجُوبُ الْحَقِّ لَهُمْ يَكُونُ لَغْوًا، ثُمَّ إجَازَتُهُمْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَارِهُونَ لَهُ إلَّا أَنَّهُمْ احْتَشَمُوا الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرُوهُ بِالْإِبَاءِ فَلَوْ لَزِمَهُمْ حُكْمُ الْإِجَازَةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَضَرَّرُوا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِجَازَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُمْ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ قَالَ هُوَ جَائِزٌ وَلَوْ أَحَاطَ بِمَالِهِ وَمُرَادُهُ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا الْوَصِيَّةُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَصِيَّةً لِذِكْرِهِ إيَّاهُ فِيمَا بَيْنَ الْوَصَايَا، وَفِي مَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ قَالَ لَهُ الرُّبُعُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَهُوَ جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَنِينَ مِعْيَارًا لِمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ وَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْإِيجَابِ كَابْنٍ آخَرَ لَهُ مَعَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ فَلَهُ الرُّبُعُ أَوْ يُقَالَ يُنْظَرُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ فَيُزَادُ عَلَى أَصْلِ السِّهَامِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْمَالُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَهْمٌ، فَإِذَا زِدْنَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمًا عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَتْ السِّهَامُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ نُعْطِيه ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ بِهَذَا الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ لَا فِي مِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ فَرَدُّوا إلَى الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 147 الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ بِهَا فِي ثُلُثٍ، وَبَيَانُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِالثُّلُثِ فِي سِهَامِ جَمِيعِ الْمَالِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ بِسَهْمٍ فَهُمَا يَقُولَانِ: مَا يُوجِبُهُ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ السِّهَامِ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ فَكَانَ مُوجَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أُوجِبَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالضَّرْبِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَة فَكَذَلِكَ فِيمَا أَوْجَبَ الْمُوصِي. الْمَقْصُودُ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ سَلَامَةَ مَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ وَتَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَفِي حُكْمِ الْآخَرِ مَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِفُلَانٍ مِنْهَا بِسِتِّمِائَةٍ وَلِفُلَانٍ مِنْهَا بِسَبْعِمِائَةٍ تُعْتَبَرُ تَسْمِيَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي سُمِّيَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِضِيقِ الْمَحِلِّ، ثُمَّ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ يَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ تَنْفُذُ وَصِيَّةُ أَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الَّذِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْآخَرِ خَاصَّةً حَتَّى يَبْطُلَ بِعَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَلِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالرُّبُعِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَضْرِبَ بِجَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ لَهُ فِي الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ بَاعَ مِنْ إنْسَانٍ عَبْدًا وَحَابَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَحَابَاهُ بِأَلْفَيْنِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا حَبَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 148 مَالِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ مَفْسُوخَةٌ بِتَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْسُوخَةِ كَالْمَرْجُوعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهَا كَالْوَصِيَّةِ بِمَالِ الْجَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَتَنْفَسِخُ بِرَدِّهِمْ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الضَّرْبِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالِانْفِسَاخِ فَلَا مَعْنَى لِلضَّرْبِ بِهِ فِي مُزَاحَمَةِ وَصِيَّةِ الْإِيجَابِ فِيهَا صَحِيحٌ، وَلِهَذَا فَارَقَ الْمَوَارِيثَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِكُلِّ وَارِثٍ صَحِيحٌ قَطْعًا وَيَقِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُضَارَبَةُ بِهَا عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ نِصْفَانِ وَثُلُثٌ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ صَحِيحٌ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْوَارِثِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ الثُّلُث، فَأَمَّا هَذَا فَإِيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ لَا تُوجَدُ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَيَبْطُلُ بِرَدِّهِمْ الْإِيجَابَ فِيمَا يَتَنَاوَلُ حَقَّهُمْ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، فَإِنَّهَا مَا وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي أَعْيَانِ التَّرِكَةِ دُونَ الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا سَمَّى الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ السِّعَايَةِ وَالسِّعَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَابَاةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ تَكُونُ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُرْسَلِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ تَنْفِيذُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَالِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتَهُ أَلْفٌ وَبِعَبْدٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا وَهُنَا يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِغَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَخْرُجَ الْعَبْدَانِ مِنْ الثُّلُثِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ وَصِيَّتَهُمَا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَاقِعَةً فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَالٌ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ ضَعِيفَةٌ حَتَّى لَا يَجِبَ تَنْفِيذُهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَصِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنَّ الضَّعِيفَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ كَالْمَعْدُومِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةَ عِنْدَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 149 عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَوَارِيثَ، فَقَدْ اسْتَوَتْ السِّهَامُ فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، فَقَدْ اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ لِمُصَادَفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّرِكَةُ إذَا كَانَتْ أَلْفًا، وَفِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ وَدَيْنٌ أَلْفَانِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ، فَإِنَّهَا اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ حِينَ لَمْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُ الْمُوصِي قَصْدٌ تَبَيَّنَ فَلَنَا التَّفْصِيلُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي فَلَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا يَعْقُبُهُ تَفْسِيرٌ، وَهُوَ مَا سُمِّيَ مِنْ السِّتِّمِائَةِ لِأَحَدِهِمَا وَالسَّبْعِمِائَةِ لِلْآخَرِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ اسْتِوَاءَ الْإِيجَابِ فِي الْقُوَّةِ وَمَا قَالُوا إنَّ الْإِيجَابَ يَنْصَرِفُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ هَاهُنَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِابْنِهِ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ وَلَوْ انْصَرَفَ الْإِيجَابُ إلَى ثُلُثٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ الْمَالِ صَارَ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ صَادَفَ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ وَحَيْثُ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ عَرَفْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الثُّلُثِ مُطْلَقًا تَنْفِيذُ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ لِتَصْحِيحِ إيجَابِهِ فِي جَمِيعِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نِصْفًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ سَأَلَنِي إبْرَاهِيمُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ وَثُلُثِهِ وَرُبُعِهِ فَأَجَازُوا قُلْت لَا عِلْمَ لِي بِهَا قَالَ لِي خُذْ مَالًا لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَخُذْ نِصْفَهَا سِتَّةً وَثُلُثَهَا أَرْبَعَةً وَرُبُعَهَا ثَلَاثَةً فَاقْسِمْ الْمَالَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُدْعَى الثَّقَفِيَّةَ وَرُبَّمَا يُمْتَحَنُ مَنْ يَدَّعِي التَّحَرُّزَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِنِصْفِ الْمَالِ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ فَمَبْلَغُ هَذِهِ السِّهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَحِينَئِذٍ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ يُقْسَمُ جَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَخَرَّجَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَهُ عَلَى طَرِيقٍ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَالْحَسَنُ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَوَى طَرِيقَهُ عَنْهُ. وَطَرِيقُ الْحَسَنِ أَوْجَهُ، فَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فَضَلَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلَا مُنَازَعَةَ فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَيَأْخُذُهُمَا صَاحِبُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 150 النِّصْفِ، ثُمَّ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَفِي ثَمَانِيَةٍ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَيُضْرَبُ أَصْلُ الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ صَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً سَهْمَيْنِ وَمَرَّةً سَهْمًا، وَقَدْ ضُرِبَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ. وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ سَهْمًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَحَدَ عَشَرَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةَ عَشَرَ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ لَمَّا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ بِلَا مُنَازَعَةَ تَرَاجَعَ حَقُّهُ إلَى الثُّلُثِ فَوَصَايَاهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ فِي الثُّلُثِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصَايَا مَتَى وَقَعَتْ فِي الثُّلُثِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ أَرْبَابِهَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِأَرْبَعَةٍ أَيْضًا وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَصْلَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي إحْدَى عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَانَ قَدْ أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَضَرَبْنَا سَهْمًا فِي أَحَدَ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ كَذَلِكَ فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثُونَ. فَأَمَّا تَخْرِيجُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ فَهُوَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ هَاهُنَا وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ فِي الثُّلُثِ وَوَصِيَّةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فِي الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ وَالْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْوَصَايَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَعْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ تَكُونُ عَنْ مُوَافَقَةٍ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَنْبَنِي عَلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا أَقْوَى مِمَّا إذَا جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا فَنَقُولُ: يَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِمِثْلِهِ وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بَيْنَهُمْ فَيُضْرَبُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَنَقُولُ صَاحِبُ النِّصْفِ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ مِنْ حَقِّهِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ سَبْعَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى سَبْعَةٍ إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ النِّصْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ صَاحِبُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 151 الرُّبُعِ كَانَ حَقُّهُ فِي الرُّبُعِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَرُبُعٌ وَصَلَ إلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ وَرُبُعٌ فَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ وَرُبُعٍ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيه، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ فَجُمْلَةُ مَا أَخَذَا مِنْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ ثُلُثَا الْمَالِ تِسْعَةٌ مَرَّةً خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ وَمَرَّتَيْنِ سَهْمٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ وَالْبَاقِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَكَانَ قَدْ انْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ إلَّا أَنَّ الرُّبُعَ يُجْزِي عَنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الرُّبُعِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ يَضْرِبُ أَصْلَ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كَانَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَكَانَ مَا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ مِنْ الثَّلَاثِينَ بِلَا مُنَازَعَةٍ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ. وَمَا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَكَانَ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَصَاحِبُ الرُّبُعِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إلَّا اثْنَانِ وَخَمْسُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً سِتَّةً وَسِتِّينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَتِسْعَةً وَسِتِّينَ، فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ بَلَغَتْ سِهَامُ ثُلُثَيْ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ، فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الثُّلُثِ الَّذِي اقْتَسَمُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ وَأَعْتَقَ بُدِئَ بِالْعِتْقِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ وَالْمُسْقَطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَسَائِرُ الْوَصَايَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ عَنْهَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلضَّعِيفِ مَعَ الْقَوِيِّ، ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدَّمَا الْعِتْقَ عَلَى الْمُحَابَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَصَّ الْمُحَابَاةَ مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَقْوَى سَبَبًا فَسَبَبُهَا عَقْدُ الضَّمَانِ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ التَّبَرُّعِ وَقُوَّةُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبَبِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 152 فَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْمُحَابَاةِ يَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ وَبِقُوَّةِ السَّبَبِ، فَقَالَ يَبْدَأُ بِهَا، وَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْعِتْقِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لِلْعِتْقِ قُوَّةَ السَّبْقِ وَقُوَّةَ الْحُكْمِ وَلِلْمُحَابَاةِ قُوَّةَ السَّبَبِ وَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا السَّبَبُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ فَيَتَحَاصَّانِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ يُوصِي إلَى رَجُلٍ فَيَمُوتُ الْمُوصَى إلَيْهِ فَيُوصِي إلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُمَا جَمِيعًا صَحِيحَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ فَيَخْلُفُهُ وَصِيُّهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ - بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ - التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ مِنْ حَوَائِجِ الْوَصِيِّ كَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ الْمُوصِي مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَاجَتِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ فَيَمُوتُ قَالَ هُوَ مِيرَاثٌ، وَإِنْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهُوَ لَهَا مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُرَادُ بِوَصِيَّتِهِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لَا الْوَصِيَّةُ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصِّحَّةِ وَحَالَةَ الْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْهِبَةُ لِأُمٍّ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَكَسْبُهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِنَّةِ، فَأَمَّا وَصِيَّتُهُ لَهَا مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ وَوُجُوبُ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْوَصِيَّةُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِجَارِيَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِالدَّيْنِ جَازَ وَلَوْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الْمَرْأَةِ يَضْرِبُهَا الطَّلْقُ قَالَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّبَرُّعِ. وَالطَّلْقُ اسْمٌ لِوَجَعِ الْوِلَادَةِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ مَخَاضًا أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] وَمَتَى أَخَذَهَا وَجَعُ الْوِلَادَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهَا الْوَجَعُ، ثُمَّ يَسْكُنُ فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَجَعِ لَا تَصِيرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْمَرِيضَةِ بِمَنْزِلَةِ مَرِيضٍ يَعْقُبُهُ بُرْءٌ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ كَالْمَرِيضَةِ إذَا أَخَذَهَا الْوَجَعُ الَّذِي يَكُونُ آخِرُهُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ عَنْهَا مِنْ سَلَامَتِهَا بِهِ أَوْ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ فِي الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ مَحَلًّا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي لِيَتَدَارَكَ بِهِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِهِ، فَقَدْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَإِيثَارِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَنْ آثَرَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ الْوَارِثُ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 153 قَصْدَهُ بِأَنْ يَأْبَى الْإِجَازَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَصِحُّ إجَازَتُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْإِجَازَةِ وَبِالْمَرَضِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ وَفِقْهُ هَذَا أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِالْمَوْتِ وَلَكِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ الْمَرَضُ فَلَمَّا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ فِي مَنْعِ الْمُوَرِّثِ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُبْطِلِ لِحَقِّ الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ قَامَ مَقَامَهُ فِي صِحَّةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ مِنْ الْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ بِسَبَبِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالٍ بَلْ السَّبَبُ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ فَقَبْلَ اتِّصَالِ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ سَبَبًا، وَهَذَا الِاتِّصَالُ مَوْهُومٌ فَيَكُونُ هَذَا إسْقَاطَ الْحَقِّ قَبْلَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، ثُمَّ الْإِجَازَةُ مِنْ الْوَارِثِ إنَّمَا تَعْمَلُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَإِجَازَتُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ احْتَشَمَ الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِوَصِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَإِجَازَتُهُ صَحِيحَةٌ وَيُسَلِّمُ الْمَالَ لِلْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُوصِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحَةٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً مِنْهُ حَتَّى لَا يَتِمَّ إلَّا بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلِهِ، وَعِنْدَنَا يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ قَدْ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْوَارِثِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا لِلْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا فِيهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالِ جَارِهِ فَأَجَازَهُ الْجَارُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصَرُّفُ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَهُ وَامْتَنَعَ نُفُوذُهُ بِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِيهِ إجَازَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ تَكُونُ إسْقَاطًا كَإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ بَيْعَ الرَّاهِنِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ أَوْ بِعَبْدٍ أَوْ بِثَوْبٍ فَأَجَازَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَالَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالَ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالِ نَفْسٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَفَّذْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوا، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقَّهُمْ وَجَازَ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي جَوَازُ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا وَجَوَازِهَا. وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ وَالثُّلُثُ يَبْلُغُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَالْوَصِيَّةُ تَبْلُغُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 154 أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ وَبَطَلَ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبْطَالِ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ بِإِبْطَالِهَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ فَكَذَا فِي إبْطَالِهِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَبْلَغِ الْوَصَايَا وَإِلَى ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يَنْقُصُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا النِّصْفُ. وَتَفْسِيرُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالزِّيَادَةُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الدَّارِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ ثُلُثَا الثَّوْبِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ ذَوِي قَرَابَتِهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُنَا خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ إمَّا أَنْ يُوصِيَ لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقَارِبِهِ أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَا سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمَنْ لَا يَرِثُ وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ كُلُّ مَنْ يَجْمَعُهُ وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالِاخْتِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَا يَصْرِفُ إلَى غَيْرِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الِاثْنَانِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ ذَوِي لَفْظُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فِي الْمِيرَاثِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَنْقُلَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] مِنْ بَيْنِهِمَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ غَيْرُ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا خَرَجَ الْأَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلِابْنِ خَرَجَ الِابْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلْأَبِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْجُدُودُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ فَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ بِالْوَصِيَّةِ صِلَةَ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 155 وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 23] فَلَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصِّلَةُ مِمَّنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُطْلَقَةَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَالْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَ الْعِشْرَةِ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فَهُوَ أَشْبَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَانَ أَوْلَى كَمَا فِي الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْأَقْرَبِ فِي الشُّفْعَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ أَنَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيَصْرِفُ إلَى كُلِّ مَنْ يَجْمَعُهُ. وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْأَبْعَدِينَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ الْأَقْرَبِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْأَخِ أَوْ الْعَمِّ هَذَا قُرْبَى فَيَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ. (أَلَا تَرَى) إلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرِبَاءَهُ سَبْعِينَ نَفْسًا، وَقَالَ لَهُمْ إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، وَكَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَغَيْرُهُ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَجْعَلُ الْحَدَّ فِيهِ مَنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِقَبَائِل الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمَا إنَّمَا قَالَا ذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُبَّمَا يَبْلُغُ إلَى ثَلَاثَةِ آبَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ آبَاءٍ وَلَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَتَتَبَيَّنُ أَقْرِبَاؤُهُ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ قَدْ طَالَتْ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ. فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ دُونَ الْخَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ أَقْرَبُ مِنْ الْخَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ بِدَلِيلِ الْوِلَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ كَانَ لِلْعَمِّ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذَوِي وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ وَيُصْرَفُ النِّصْفُ إلَى الْخَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ اسْمَ الْقَرَابَةِ، فَإِذَا خَرَجَ الْعَمُّ مِنْ الْوَسَطِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْخَالَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِقَبِيلَةٍ دَخَلَ الْمَوَالِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى تِلْكَ الْقَبِيلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، هَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 156 فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الصِّلَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، فَإِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ صَارُوا مَجْهُولِينَ فَبَطَلَتْ وَجْهُ الْإِحْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي الشُّرْبِ وَالشُّفْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَوْصَى لِفُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَلِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى جَدٍّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، وَكَذَا لِمُحْتَاجِي أَهْلِ بَيْتِهِ أَيْ إذَا أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِ الْعَبَّاسِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ نَسَبُهُ إلَى الْعَبَّاسِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ دَخَلَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ بِنَفْسِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَا مَنْسُوبَيْنِ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَمَنْ كَانَ نَسَبُهُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِجِنْسِ فُلَانٍ أَوْ لِمُحْتَاجِي جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَأَهْلَ الْبَيْتِ سَوَاءٌ وَسَوَاءٌ كَانُوا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبِيلُ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَجَهَالَةُ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، فَإِنَّ قَابِضَ الصَّدَقَةِ هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهَذَا عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبَ وَلَا يُعْطِي غَيْرَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَعِنْدَهُمَا تُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ سِتَّةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَلَهُ وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ فَالثُّلُثُ بَيْنَ إخْوَتِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالِاسْمِ وَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ فُلَانٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَكْثَرُ أُخُوَّةً مِنْ فُلَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ ثُلُثُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ. فَإِنْ قِيلَ وَجَبَ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَيْهِمَا إذَا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ قُلْنَا الْإِضَافَةُ كَانَتْ صَحِيحَةً إلَى الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمَّيْنِ وَلِأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ إلَّا أَنَّهُمْ خَرَجُوا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْوَصِيَّةِ فَلَا يَزْدَادُ حَقُّ الْأَخِ لِأَبٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَمَاتَ اثْنَانِ قَبْلَ مَوْتِهِ كَانَ لِلْبَاقِي ثُلُثُ الثُّلُثِ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ بِوَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَنِي فُلَانٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ هُوَ قَبِيلَةً مِثْلَ تَمِيمٍ وَكُلَيْبٍ وَوَائِلٍ أَوْ لَا يَكُونَ قَبِيلَةً بَلْ أَبٌ خَاصٌّ، فَإِنْ كَانَ قَبِيلَةً خَاصَّةً دَخَلَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 157 فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ النِّسْبَةُ وَالْمَرْأَةُ تَقُولُ أَنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهَا مَجَازًا فَيَتَنَاوَلُ جِنْسَ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهَا حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْحَلِيفُ وَالْخَلِيلُ، وَإِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبِيلَةِ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَغْنِيَاءِ صِلَةٌ وَالصِّلَةُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ. أَمَّا إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَ صُلْبٍ، فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنِينَ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كُنَّ إنَاثًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ ذُكُورُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمِينُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَنِينَ جَمْعٌ لِابْنٍ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ إنَاثًا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْوَصِيَّةِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ الْبَنِينَ إذَا ذُكِرُوا مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27] وَلَمْ يَقْصُرْ اللَّفْظَ عَلَى الذَّكَرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْجَدِّ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ إلَى الْأَبِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ لِيُعْرَفَ دُونَ الْأَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرِ بْنُ سَلَامَةَ يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ جَدُّهُ لَا أَبُوهُ، وَإِذَا كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ صَارَ الْحُكْمُ أَنَّ الصُّلْبَ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَامِلٌ دَخَلَ مَا فِي بَطْنِهَا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ تَسْمِيَةِ الْوَلَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرِثُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِبَنَاتِهِ دُونَ بَنِي ابْنِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ ابْنَهُ حَقِيقَةً وَيَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ مَجَازًا فَمَهْمَا أَمْكَنَ صَرْفُهُ إلَى حَقِيقَتِهِ لَا يُصْرَفُ إلَى مَجَازِهِ وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ وَلَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلْآبَاءِ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصْرَفُ إلَى مَجَازِهِ وَالْوَلَدُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا. وَإِذَا أَوْصَى لِفَخِذِ فُلَانٍ أَوْ لِبَطْنِ فُلَانٍ فَالْجَوَابُ فِيهِ مِثْلُ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وَهَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَجْهُولِ إلَّا إذَا قَالَ لِفُقَرَائِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ يَدْفَعُ إلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّسْمِيَةِ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 158 لَا يُحْصَوْنَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ كُلِّهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْجَمْعُ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَهُمَا أَنَّ الْفَقْرَ اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ وَلَوْ دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُ النِّسَاءَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاحِدَةً يُعْتَقُ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ كَانَ مَيِّتًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَمَّا إذَا مَاتَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا مَاتَ أَوَّلًا، فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ صَارَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِلْحَيِّ وَنِصْفُهُ مَرْدُودًا إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْحَيِّ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فَلَا يُزَادُ حَقُّهُ بِمَوْتِ الْآخَرِ فَكَانَ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَالَ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَلِلْحَيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ كَلِمَةُ تَقْسِيمٍ وَتَجْزِئَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ، وَإِذَا بَطَلَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَا يَكُونُ لِلْحَيِّ إلَّا النِّصْفُ وَلَوْ قَالَ لِفُلَانِ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَالْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ سَوَاءٌ عَلِمَ بِمَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ الْمُوصِي عَلِمَ بِمَوْتِهِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلِلْحَيِّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ كَانَ قَصْدُهُ تَمْلِيكَ نِصْفِ الثُّلُثِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ صِلَةَ الْحَيِّ مِنْهُمَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا تَصْلُحُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ وَالْآخَرُ لَا تَصْلُحُ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَنْ لَا تَصْلُحُ إلَيْهِ الْإِضَافَةُ وَتَثْبُتُ إلَى مَنْ تَصْلُحُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِهَذِهِ الْإِسْرَاءِ وَلِهَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِعَقِبِهِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعَقِبِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَقِبَهُ مَنْ يَعْقُبُهُ، فَإِذَا كَانَ هُوَ حَيًّا لَا يَكُونُ لَهُ عَقِبٌ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْعَقِبِ ثَبَتَ ثُلُثُ الْمَالِ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ كَانَ نِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثَاهُ لِلْمَسَاكِينِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 159 الْمَسَاكِينَ اسْمُ جَمْعٍ فَيَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْحَجِّ كَانَ نِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَجِّ وَصِيَّةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِاثْنَيْنِ، وَإِذَا قَالَ حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً وَأَعْتِقُوا عَنِّي نَسَمَةً يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفَاذُهَا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَسَعُهَا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بُدِئَ بِهَا، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ نَسَمَةِ التَّطَوُّعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ إسْقَاطَ الْفَرْضِ أَهَمُّ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِيُقْبَلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ كَانَ حَجُّهُ تَطَوُّعًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ عِنْدَهُ هَذَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ مِنْهُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أَمَّا إذَا كَانَتْ النَّسَمَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَالْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ وَصِيَّةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ النَّسَمَةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُمَا وَصِيَّتَانِ لِلَّهِ - تَعَالَى -. وَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ فَمَاتَ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَوُلِدَ لِلْأَبِ وَلَدٌ آخَرُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالثُّلُثُ لِوَلَدِهِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَانْصَرَفَ إلَى الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِمَوَالِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ وَأَعْتَقَ فُلَانٌ مِنْهُمْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَالثُّلُثُ لِمَوَالِيهِ يَوْمَ مَاتَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ لِفُلَانٍ مَوَالِي أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالِي أَعْتَقُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَرَبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِأَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْأَعْلَى وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْأَسْفَلِ زِيَادَةُ إنْعَامٍ، وَمِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْأَعْلَى الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثُّلُثَ لِلْمَوْلَى الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالْوَصِيَّةِ الْبِرُّ وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالْبِرِّ الْمَوْلَى الْأَسْفَلَ دُونَ الْأَعْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ كَانَ لِلْأَسْفَلِ دُونَ الْأَعْلَى كَذَلِكَ هُنَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالِاسْمِ وَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِهِ سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا فَلَهُ ثُلُثُ مَالِهِ يَوْمَ يَمُوتُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مَالُهُ أَبَدًا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَرُبَّمَا يَسْتَفِيدُ وَرُبَّمَا يَهْلَكُ فَلَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ مُرْسَلًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي الَّذِي الجزء: 27 ¦ الصفحة: 160 يَكُونُ وَقْتَ الْمَوْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَبِحَ فِي الْمَالِ رِبْحًا أَوْ زَادَ فِي الْمَالِ شَيْئًا أَنَّ لَهُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ مِنْ الْأَصْلِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا الْعُرُوض كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِهِ فَالْهَلَاكُ يُبْطِلُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَاسْتَفَادَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْعَيْنِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي، ثُمَّ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَصْلِ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ مَالِي أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِنْ مَالِي أَوْ ثَوْبٌ مِنْ مَالِي فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَيُعْطِي لَهُ قِيمَةَ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إلَى مَالِهِ فَالْمَالُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْعُرُوضَ وَنَحْوَهَا وَالشَّاةُ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ قِيمَةَ شَاةٍ مِنْ مَالِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ غَنَمِي وَلَا مِنْ مَالِي فَمَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى لَهُ شَاةً أَوْ قِيمَةَ شَاةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ قَالَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ، فَإِنْ كَانَ فِي السَّبَايَا جَارِيَةٌ، فَإِنَّهُ يُعْطَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى لَهُ، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ السَّبْيِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى جَارِيَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ كَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ أَوْصَى لِلرَّجُلِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُغَيِّرَهُ عَنْ جِنْسِهِ أَوْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يُنْقِصَهُ أَمَّا إذَا غَيَّرَهُ عَنْ جِنْسِهِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُطْنٍ، ثُمَّ غَزَلَهُ أَوْ بِغَزْلٍ، ثُمَّ نَسَجَهُ أَوْ بِحَدِيدَةٍ، ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا إنَاءً أَوْ سَيْفًا أَوْ بِفِضَّةٍ، ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا خَاتَمًا أَوْ غَيْرَهُ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ اُسْتُدِلَّ بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّجُوعَ إذَا لَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْبَقَاءُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمَا كَانَ يُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِهِ فَاَلَّذِي أَوْصَى بِهِ يُوجَدُ وَاَلَّذِي وُجِدَ لَمْ يُوصَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَأَمَّا إذَا زَادَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً لَهَا قِيمَةٌ مِثْلَ الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ وَالسَّوِيقِ إذَا لَتَّهُ بِالسَّمْنِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ فَبَنَى فِيهَا كَانَ ذَلِكَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِبَذْلٍ، وَقَدْ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِغَيْرِ بَذْلٍ فَلَمَّا لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِبَذْلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهُ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ، وَأَمَّا إذَا زَادَ شَيْئًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَذْلٍ كَمَا إذَا أَوْصَى بِدَارٍ، ثُمَّ جَصَّصَهَا أَوْ طَيَّنَهَا فَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْسِينٌ وَتَزْيِينٌ وَيُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَذْلٍ فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْبَقَاءِ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ، وَأَمَّا إذَا نَقَصَهُ، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا يَبْقَى الْغَيْرُ مَعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثُبُوتٍ، ثُمَّ قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 161 حَالِهِ لَكِنْ انْتَقَصَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ، ثُمَّ ذَبَحَهَا؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَضِي أَجَلُهُ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّحْمَ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ، فَقَدْ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُطْنٍ، ثُمَّ حَشَا بِهِ قَبَاءً أَوْ بِبِطَانَةٍ، ثُمَّ بَطَّنَ بِهَا أَوْ بِظِهَارَةٍ، ثُمَّ ظَهَّرَ بِهَا ثَوْبًا فَذَلِكَ رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ هَذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ فَالِاسْتِهْلَاكُ يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَوْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ بَاعَهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَبَيْعُهُ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ صَارَ بِحَالٍ لَوْ أَوْصَى بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ بَيْعُهُ دَلِيلًا عَلَى الرُّجُوعِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ أَنْ يُشْتَرَى لَهُ، ثُمَّ تَمَلَّكَهُ الْمُوصِي بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِشِرَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبِدَفْعِهِ إلَى فُلَانٍ، فَإِذَا مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَفَعَ بِمَوْتِهِ الشِّرَاءَ عَنْ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إذَا قَالَ أَوْصَيْت بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ وَالْعَبْدُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ مَلَكَهُ أَنَّهُ لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ شِرَاؤُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ عَبْدِ الْغَيْرِ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ شِرَاؤُهُ إنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَلَمَّا اشْتَرَى بِنَفْسِهِ أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَضَايَقَ عَنْ حَقِّهِمَا يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا هَذَا كَدَارٍ بِيعَتْ وَلَهَا شَفِيعَانِ ثَبَتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ كَذَلِكَ هُنَا قَالَ فِي الْأَصْلِ إنَّهُ مَتَى سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَأَوْصَى بِهَا لِلثَّانِي كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَمَتَى سَمَّى الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَبَيَانُهُ إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ: الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَاسْتَأْنَفَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي فَكَانَ رُجُوعًا وَاسْتِئْنَافًا لِلْوَصِيَّةِ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ هُوَ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ قَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَاسْتَأْنَفَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي بِحَرْفِ قَدْ؛ لِأَنَّهُ لِلْإِيقَاعِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فَكَانَ رُجُوعًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، فَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ، وَقَدْ أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالْجَمْعِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي. أَمَّا إذَا سَمَّى الْمُوصَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 162 بِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ لِأَحَدٍ وَلَكِنَّهُ جَحَدَ وَصِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَمْ أُوصِ لَهُ، فَهَذَا رُجُوعٌ هَكَذَا ذَكَرَ هُنَا وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لَهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قِيَاسِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ رُجُوعًا وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ أَمَّا مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فَوَجْهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ رُجُوعٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالنَّقْصَ فَكَانَ الْجُحُودُ رُجُوعًا كَمَا إذَا جَحَدَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ كَانَ حَجْرًا عَلَى الْوَكِيلِ وَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا جَحَدَا الْبَيْعَ كَانَ إقَالَةً مِنْهُمَا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ رُجُوعًا أَنَّ الْوَصِيَّةَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَإِذَا قَالَ لَمْ أُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ فَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَمَنْ فَرَّقَ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ قَالَ هُنَا جَحَدَ الْوَصِيَّةَ فَكَانَ رُجُوعًا، وَفِي الْجَامِعِ لَمْ يَجْحَدْ وَلَكِنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ، فَقَدْ أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْجُحُودَ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فَمَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ الثَّابِتِ وَجُحُودُ أَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ كَمَا أَنَّ جُحُودَ النِّكَاحِ مِنْ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ رَفْعًا بِالطَّلَاقِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بِالْجُحُودِ يُبْقِي الْعَقْدَ فِي الْمَاضِي، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ يَمْلِكُ نَفْيَ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ فِي الْمَاضِي وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النِّكَاحِ مِنْ الْأَصْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَنْ الْمَحَلِّ إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ أَوْ إبِلِهِ أَوْ طَعَامِهِ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَاسْتُحِقَّ الثُّلُثَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ هَلَكَ وَبَقِيَ الثُّلُثُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يُخْرِجُ الْبَاقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ، وَقَالَ زُفَرُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَذَلِكَ، وَفِي الْهَلَاكِ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَا كَانَ يَمْلِكُ إلَّا الثُّلُثُ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالْعَيْنِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ، فَأَمَّا بِالْهَلَاكِ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَالِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ وَقْتَ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لَهُ الثُّلُثُ شَائِعًا فَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا لَمْ يَبْقَ يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْبَاقِي فِي الْفَصْلَيْنِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 163 جَمِيعًا فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا بَقِيَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَ حَاجَتَهُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ بِقَدْرِ مَا سُمِّيَ لِلْمُوصَى لَهُ فَكَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِيهِ كَالتَّبَعِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ التَّبَعِ لَا مِنْ الْأَصْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ الْمَالِ فَاسْتُحِقَّ جِنْسَانِ أَوْ هَلَكَ جِنْسَانِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُوصَى لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا بَقِيَ بِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ بِحَالٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْأَجْنَاسُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْوَرَثَةَ عَلَى أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَيُعْطُونَهُ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ مَا بَقِيَ بِمَا أَوْجَبَهُ حَتَّى إذَا لَمْ يَهْلَكْ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَيِّرَ الْوَرَثَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِيَأْخُذَ الثُّلُثَ، وَالْبَاقِي هُوَ الثُّلُثُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ وَبِثَلَاثَةٍ مِنْ الرَّقِيقِ وَاسْتُحِقَّ الْبَعْضُ أَوْ هَلَكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الدُّورِ وَالرَّقِيقِ فَهِيَ عِنْدَهُ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا فِي أَنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَالْأَصَحُّ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِقِسْمَةِ الْجَبْرِ فِي الدُّورِ إلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْمُوصَى لَهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي، وَكَذَلِكَ لَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ إلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا نَادِرًا فَالتَّفَاوُتُ فِي بَنِي آدَمَ كَثِيرٌ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا ثُلُثُ مَا بَقِيَ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلِآخَرَ بِسَيْفٍ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عُرُوضٌ بِقِيمَةِ أَلْفٍ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ إنْ لَمْ يُجِيزُوا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَبْلَغَ الْوَصَايَا ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثُلُثُ مَالِ الرَّجُلِ سِتُّمِائَةٍ فَكَانَ الثُّلُثُ مِنْ مَبْلَغِ الْوَصَايَا بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُبْطِلُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبُعَ فَيُسَلِّمُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّوْبِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ السَّيْفِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَجُمْلَةُ مَا نَفَذَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ سِتُّمِائَةٍ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرُبُعُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَرُبُعُ الثَّوْبِ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَيْفٍ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَلَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ سِوَى السَّيْفَ كَانَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ السَّيْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السَّيْفِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِسُدُسِهِ وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 164 عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ السَّيْفِ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ السَّيْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي السُّدُسِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ سِهَامَ السَّيْفِ صَارَتْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسٍ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ وَقِيمَةُ السَّيْفِ مِائَةٌ فَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ يَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا فَذَلِكَ سِتُّونَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدُسَ مِنْ كُلِّ مَالٍ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَسَهْمٌ مِنْ السَّيْفِ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ أَحَدَ عَشَرَ، فَقَدْ بَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ دُونَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْمَالِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ وَالسَّالِمُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسُونَ فَكَانَ التَّخْرِيجُ مُسْتَقِيمًا. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ قِسْمَةُ السَّيْفِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السَّيْفِ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ السَّيْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ وَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى تُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى سَبْعَةٍ أَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمٍ، فَقَدْ نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ، وَفِي سَهْمٍ مِنْ السَّيْفِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَلِصَاحِبِ السَّيْفِ سِتَّةٌ مِنْ السَّيْفِ كُلُّهَا فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَجُمْلَةُ سِهَامِ الْمَالِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى مَعَ هَذَا أَيْضًا بِالثُّلُثِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السُّدُسِ بِسُدُسِ خَمْسِمِائَةٍ وَثُلُثِ سُدُسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسَةِ أَسْدَاسِ سُدُسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ السَّيْفِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ السَّيْفِ إلَّا سُدُسَ سُدُسِ السَّيْفِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ السَّيْفِ كَانَ فِي السَّيْفِ وَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الثُّلُثِ كَانَ فِي الدَّرَاهِمِ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ صَاحِبَ السُّدُسِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السَّيْفِ ثَلَاثُ وَصَايَا وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَوَصِيَّةٌ بِسُدُسِهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ. وَفِي الْحَاصِلِ تَصِيرُ سِهَامُ السَّيْفِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسٍ يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثَاهُ بِلَا مُنَازَعَةً أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَسُدُسٌ، وَهُوَ سِتَّةٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالْجَمِيعِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي السُّدُسِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ سِتِّينَ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسَّيْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِالْمُنَازَعَةِ خَمْسَةٌ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ السَّيْفِ إلَّا سُدُسَ سُدُسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ سُدُسٍ مِنْهُ سِتَّةٌ وَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِالْمُنَازَعَتَيْنِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 165 خَمْسَةٌ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سُدُسِ السَّيْفِ وَحَصَلَ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ سُدُسِ السَّيْفِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ الْمَالُ الْآخَرُ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ تُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ مِنْهُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَصِيرُ جُمْلَتُهُ مِائَةً وَثَمَانِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سِتُّونَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ فَكَانَ لَهُمَا تِسْعُونَ وَظَهَرَ أَنَّ مَبْلَغَ سِهَامِ الْوَصَايَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَجُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ السَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ سُدُسُهُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ يَأْخُذُ صَاحِبُ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ مِقْدَارَ حَقِّهِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ خَمْسَةً وَصَاحِبُ السُّدُسِ سَهْمَيْنِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ السَّيْفِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْ سِهَامِ الْخَمْسِمِائَةِ مِقْدَارَ حَقِّهِ سِتِّينَ وَصَاحِبُ السُّدُسِ ثَلَاثِينَ فَجُمْلَةُ مَا نَفَذَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَخَمْسُونَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ سِهَامِ السَّيْفِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ تَخْرِيجَ قَوْلِهِمَا فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ السَّيْفِ فِي السَّيْفِ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمٍ فَكَانَ السَّيْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ تَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ أَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سُدُسُ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ فَكَانَ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ وَذَلِكَ فَوْقَ الثُّلُثِ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَرْبَعَةً وَتِسْعِينَ وَنِصْفُ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسَّيْفِ سِتَّةٌ كُلُّهُ مِنْ السَّيْفِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ وَبَقِيَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ سِهَامِ السَّيْفِ سِتَّةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِمَّا بَقِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً وَنِصْفًا، فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ ذَلِكَ حَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ فِي أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، فَإِذَا أَرَدْت إزَالَةَ الْكَسْرِ فَلَا طَرِيقَ فِيهِ سِوَى التَّضْعِيفِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ خَرَّجَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَهُمَا عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّيْفَ لَمَّا صَارَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ بِاعْتِبَارِ الْعَوْلِ فَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ تَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عَوْلَ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ فَسِهَامُ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ إذَنْ ثَلَاثُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَشَرَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 166 بِالسُّدُسِ خَمْسَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى سِهَامِ السَّيْفِ تِسْعَةٍ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجَمِيعُ الْمَالِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ السَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْهُ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ مِنْهُ سَهْمٌ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ لِلْوَرَثَةِ وَسِهَامُ الْخَمْسِمِائَةِ سِتُّونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَشَرَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ خَمْسَةٌ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَجُمْلَةُ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَقَدْ نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ. قُلْت هَذَا وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْوَاحِدَةَ مَعَ تَفَاوُتِ مِقْدَارِ السِّهَامِ لَا تَكُونُ، فَإِذَا كَانَ السَّيْفُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ كُلَّ مِائَةٍ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ بَيْنَ السِّهَامِ تَفَاوُتٌ فِي الْمِقْدَارِ فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ قِسْمَةُ الْكُلِّ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْمَسَائِلَ إلَى آخِرِ الْبَابِ تَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ. تَأَمَّلْته فَوَجَدْته كَمَا قَالَ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ قَالَ لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَضْرِبُ فِيهِ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ وَسُدُسِ الْعَبْدِ وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ النِّصْفُ وَمَا أَصَابَ الثُّلُثَ فَهُوَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فَيَكُونُ لَهُ خُمُسُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَخُمُسُ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَبِثُلُثِهِ فَيُسَلَّمُ ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ مُنَازَعَتِهِمَا فِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةٍ فَكُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ كَذَلِكَ فَهُمَا اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا عَشَرَةً فَيَجْعَلُ ذَلِكَ ثُلُثَ الْمَالِ وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ هُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ خَمْسَةٌ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ سَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ خُمُسُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِهَامِ الْأَلْفَيْنِ وَذَلِكَ خُمُسُ الْعِشْرِينَ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَمِنْ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ وَسُدُسُ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقْتَسِمُ هَذَا الْجَوَابَ عِنْدَهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ يَضْرِبُ فِي الْعَبْدِ بِسِتَّةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ بِسَهْمَيْنِ فَسِهَامُ الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ الثُّلُثُ وَجَمِيعُ الْمَالِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْهُ اثْنَا عَشَرَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 167 لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةٌ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَسُدُسُ جَمِيعِ الْعَبْدِ وَلَهُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ السُّدُسُ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ فَأَيُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قُلْت فَهُوَ حَسَنٌ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَفَاوُتًا وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ طَرِيقٌ حَسَنٌ فِي التَّخْرِيجِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ لَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ حَقِيقَةً. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَبِجَمِيعِ الْمَالِ لِآخَرَ، فَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَإِنْ أَجَازُوا فَجَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِاعْتِبَارِ طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْلَمُ الثُّلُثَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الثُّلُثِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سُدُسُ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ رُبُعُ الْمَالِ قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ لَا كَمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الثَّلَاثِينَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ السُّدُسُ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَفِي مِقْدَارِ السُّدُسِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَرَّةً السُّدُسُ وَمَرَّةً نِصْفُ السُّدُسِ فَذَلِكَ رُبُعُ الْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ مَا يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ وَالْإِجَازَةُ كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ أَيْضًا إلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَوْقَ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلْآخَرِ بِسُدُسِ مَالِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ الثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَيُصِيبُ صَاحِبُ الثُّلُثِ تُسْعَ الْمَالِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ يَأْخُذُ صَاحِبُ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْمَالِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، ثُمَّ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَنَصِيبُهُ نِصْفُ سُدُسِ الْمَالِ وَذَلِكَ دُونَ تُسْعِ الْمَالِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسَلَّمُ لَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَظَهَرَ أَنَّ تَخْرِيجَ الْحَسَنِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 168 الْوَرَثَةُ فَالنِّصْفُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمَا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فِي الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا اثْنَانِ فِي الذِّمَّةِ لَا وَصِيَّةَ فِيهِ لِلْآخَرِ وَوَاحِدٌ فِي الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ لِلْآخَرِ وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ وَصِيَّتَانِ بِجَمِيعِهِ وَبِثُلُثِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُدُسُهُ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ يَصِيرُ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْهُ سَهْمَانِ فَكَانَ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا ثَمَانِيَةً إلَّا أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ وَالثُّلُثُ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ وَوَصِيَّتُهُ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةٍ وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي ثَلَاثَةٍ سَهْمٌ مِنْهُ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ وَسَهْمَانِ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ فَلِهَذَا قَالَ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ لَهُمَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِهِ بِثَلَاثَةٍ فِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عَوْلَ فِيهِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ فَحَصَلَ لَهُ سَهْمَانِ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ وَبِعَبْدِهِ ذَلِكَ أَيْضًا لِآخَرَ وَبِسُدُسِ مَالِهِ لِآخَرَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبَا الْعَبْدِ بِأَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ أَرْبَعُ وَصَايَا وَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِيهِ فَثُلُثَا الْعَبْدِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ نِصْفَانِ وَسُدُسٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا وَالسُّدُسُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا فَعِنْدَ تَصْحِيحِ هَذِهِ السِّهَامِ يَنْتَهِي الْحِسَابُ إلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ سُدُسُهُ أَثْلَاثًا وَأَرْبَاعًا فَيَسْلَمُ لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالْعَبْدِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَالسُّدُسُ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا وَالسُّدُسُ الْآخَرُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ يَحْصُلُ لِكُلِّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 169 وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ صَارَ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فَالْأَلْفَانِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كُلَّهُ بَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَجُمْلَةُ الْمَالِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدِ سَبْعَةٌ، وَمِنْ الْأَلْفَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ مِنْ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْ الْأَلْفِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَوَّزَ الْكَسْرَ بِالْإِنْصَافِ وَجَعَلَ الثُّلُثَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَحَصَلَ لِصَاحِبَيْ الْعَبْدِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ عَلَى مَا قُلْنَا. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِعَيْنِهِ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِسِهَامِ جَمِيعِهِ سِتَّةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ فِيهِ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ يَضْرِبُ فِيهِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمَانِ، وَإِنْ ضَمَّنَهَا هَذِهِ السِّتَّةَ إلَى سِهَامِ الْعَبْدِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ الْكُلُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى ذَلِكَ وَلَمْ يُجِيزُوا قَسْمَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْعَبْدِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ فِيهِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ يَسْلَمُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالسُّدُسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْعَبْدِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مَرَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ مَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَصِيرُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَيْضًا فَسِهَامُ الْأَلْفَيْنِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَبَلَغَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا سِتِّينَ فَيَجْعَلُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ وَجُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ. وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ عَلَى الجزء: 27 ¦ الصفحة: 170 النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفُ مَا أَعْطَيْنَاهُ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ نِصْفُ مَا جَعَلْنَاهُ لَهُ، وَهُوَ سَبْعَةٌ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ نِصْفُ مَا أَعْطَيْنَاهُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ سُدُسُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ وَالْبَاقِي فِي الْمَالِ. قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَانِ الْحَرْفَانِ الْأَخِيرَانِ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَالِ فَيَقْسِمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ سَهْمًا فَمَا أَصَابَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَمَا أَصَابَ سِتِّينَ سَهْمًا فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ فَيَضْرِبُ هُوَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بِسِهَامِ حَقِّهِ وَالْوَرَثَةُ بِسِهَامِ حَقِّهِمْ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْأَصْلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ سُبُعُ حَقِّهِ لَا سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمَانِ، وَمِنْ الْأَلْفَيْنِ اثْنَا عَشَرَ، فَإِذَا جَمَعْت الْكُلَّ كَانَ مَالُهُ مِنْ الْعَبْدِ سُبُعَ حَقِّهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ ضَرَبَ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ وَضَرَبَ الْآخَرُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ قِيمَةِ عَبْدِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي حَقِّ الضَّرْبِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ وَهَبَهَا لِآخَرَ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا وَمَاتَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الْمِائَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَصَارَ بِهِ رَاجِعًا وَالْوَصِيَّةُ مَتَى بَطَلَتْ بِالرُّجُوعِ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ غَصَبَهَا غَاصِبٌ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ بِعَيْنِهَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَاسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَهْلِكٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ تَأَكَّدَ فِيهَا بِالْمَوْتِ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهَا وَمَا كَانَ حَقُّهُ مُتَأَكِّدًا فِيهَا قَبْلَ مَوْتِهِ يَبْطُلُ بِفَوَاتِ الْعَيْنِ وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ كَالْمَوْهُوبِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ يَبْطُلُ حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَرَجَعَتْ إلَيْهِ الْمَالِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ بِالْقَبْضِ فَصَارَتْ الْمِائَةُ مَمْلُوكَةً لِبَائِعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَلِهَذَا كَانَ عَيْنًا بَعْدَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَصِيَّةُ بَعْدَمَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 171 [بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْحَجِّ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَةٍ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ وَلِلْمُوصَى لَهُ الْوَارِثُ الْمَنْفَعَةُ، وَهُوَ قَصَدَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ صَرْفَ الْمِائَةِ مِنْ مَالِهِ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَةٍ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ ثُلُثُهُ فَحَجَّ الْوَصِيُّ بِهَا فَبَقِيَ مِنْ نَفَقَةِ الْحَاجِّ وَكِسْوَتِهِ وَإِطْعَامِهِ شَيْءٌ كَانَ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا يَفْضُلُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَنَاسِكِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ لَا يَجُوزُ فَمَا يَفْضُلُ بَعْدَ رُجُوعِهِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَرَغَ عَنْ وَصِيَّتِهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ جَامَعَ فَفَسَدَ حَجُّهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَرَدُّ مَا بَقِيَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَ بِسَفَرِهِ حَجَّةً صَحِيحَةً، وَقَدْ فَوَّتَ هَذَا الشَّرْطَ بِالْإِفْسَادِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْفَقَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُوصِي، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ أَوْ قَرَنَ أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْمَنَاسِكِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَحَجَّ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا يَفْضُلُ فِي يَدِهِ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ بَاطِلًا وَمَتَى بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ النَّخِيلِ لِتَرْكِ الثِّمَارِ عَلَيْهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا فَضَلَ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ عَجَزَتْ النَّفَقَةُ عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكْمِلُوا لَهُ نَفَقَةَ مِثْلِهِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لَهُ وَتُجْزِي الْحَجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرُوهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ مَنْ قَدْ حَجَّ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَدَاءِ الْأَفْعَالِ وَأَبْصَرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاشْتِبَاهِ الْآثَارِ، وَإِنْ حَجَّ عَنْهُ ضَرُورَةً جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَإِنْ أَحَجُّوا عَنْهُ امْرَأَةً، فَإِنَّهُ يُجْزِيهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّ «الْخَثْعَمِيَّةَ حِينَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهَا»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إحْجَاجُ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ، وَقَدْ أَسَاءُوا فِي ذَلِكَ لِنُقْصَانِ حَالِ النِّسَاءِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ الْمِخْيَطَ فِي إحْرَامِهَا وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَلَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ وَلَا تَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي وَتَتْرُكُ طَوَافَ الصَّدْرِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَلَا ضَرُورَةَ لَهُمْ فِي إحْجَاجِهَا عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ فِيمَنْ يَحُجُّ عَنْ الرِّجَالِ كَثْرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُوصِيَةُ فَأَحَجُّوا عَنْهَا رَجُلًا أَجْزَأَهَا؛ لِأَنَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 172 الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ كَانَ مَقْصُودَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهَا، وَإِذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَلَدِهِ وَيَتَجَهَّزُ لِسَفَرِ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَهُ تَجْهِيزُ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ أَيْضًا، وَإِنْ خَرَجَ هُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ. وَفِي الْجَامِعِ ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَفِي الْقِيَاسِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بَاشَرَ بَعْضَ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَيَبْنِي عَلَيْهِ كَمَا إذَا وَصَّى بِإِتْمَامِهِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ خُرُوجَهُ عَلَى قَصْدِ الْحَجِّ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] الْآيَةَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ»، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّ سَفَرَهُ ذَلِكَ لَيْسَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُؤَدِّيًا شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بَعْدَمَا أَحْرَمَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا يُخَمَّرُ وَجْهُهُ وَرَأْسُهُ وَلَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الطَّرِيقِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، وَفِي الْأَخْذِ بِالْقِيَاسِ تَفْوِيتُ مَقْصُودِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ رُبَّمَا يَمُوتُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحُجَّ آخَرُ مِنْ بَلَدِهِ أَيْضًا حَتَّى يَفْنَى فِي ذَلِكَ مَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَمَلَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ وَلَا بِنَاءَ عَلَى الْمُنْقَطِعِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ، ثُمَّ مَاتَ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَبَيَانُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةٌ»، وَالْخُرُوجُ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ خُرُوجُهُ إنَّمَا يَكُونُ قُرْبَةً بِطَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْخُرُوجَ مَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ظَهَرَ بِمَوْتِهِ أَنَّ سَفَرَهُ كَانَ سَفَرَ الْمَوْتِ لَا سَفَرَ الْحَجِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إلَيْهَا حَاجَةً»، فَكَانَ هَذَا فِي الْمَعْنَى وَخُرُوجُهُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءً، ثُمَّ هُنَاكَ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فَهُنَا كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْطَانٌ مُخْتَلِفَةٌ فَمَاتَ، وَهُوَ مُسَافِرٌ وَأَوْصَى بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْطَانِ إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَبِمُطْلَقِ اللَّفْظِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّيَقُّنِ بِمَا هُوَ كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي الْكَمَالَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَمِنْ حَيْثُ مَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَجَهَّزَ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ إنَّمَا يَتَجَهَّزُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ لَا وَطَنَ لَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 173 فَوَطَنُهُ حَيْثُ حَلَّ، وَإِنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ فَهُمْ ضَامِنُونَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَفِي الثَّانِي حَصَّلُوا مَقْصُودَهُ وَزِيَادَةً. وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجُّوا عَنْهُ فَأَحَجُّوا رَجُلًا فَسُرِقَتْ نَفَقَتُهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحِجُّوا آخَرَ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ حَيْثُ أَوْصَى الْمَيِّتُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ أَوْصَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ثُلُثٍ عُزِلَ لِلْحَجِّ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ أَعْتِقُوا عَنِّي نَسَمَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَوْهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْتِقُوا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةُ كَذَلِكَ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ فَكَانَ تَعْيِينُ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ بَعْضَ الْمَالِ لِوَصِيَّتِهِ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي، وَلَوْ عَيَّنَهُ بِنَفْسِهِ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا عَيَّنَ ذَلِكَ الْمَالَ لِوَصِيَّتِهِ وَقَاسَمَ الْوَرَثَةَ، ثُمَّ هَلَكَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُقَاسَمَةَ الْوَصِيِّ مَعَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ يَصِحُّ فَلَأَنْ تَصِحَّ مُقَاسَمَتُهُ مَعَ الْوَرَثَةِ عَنْ الْمُوصِي كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَالْوَرَثَةُ مَا أَقَامُوهُ مَقَامَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَمُقَاسَمَةُ الْمُوصِي مَعَ الْوَرَثَةِ فِي تَمْيِيزِ مَحَلِّ الْمِيرَاثِ مِنْ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ تَصِحُّ، فَأَمَّا مُقَاسَمَتُهُ فِي تَمْيِيزِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ عَنْ الْبَعْضِ لَا يَجُوزُ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ، فَقَدْ بَقِيَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ نَظِيرُ مُقَاسَمَةِ الْوَصِيِّ عَنْ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ تَصِحُّ وَمُقَاسَمَتُهُ بَيْنَ الصِّغَارِ لِتَمْيِيزِ نَصِيبِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لَا تَصِحُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَقْصُودُ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ الْمُقَاسَمَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِتَحْصِيلِ الْقُرْبَةِ لَهُ بِالْعِتْقِ وَيُجْعَلُ الْهَالِكُ عَلَى التَّرِكَةِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَفِيهِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَصِيَّ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصِي فِيمَا فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ خَاصَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مُقَاسَمَتِهِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ نَظِيرُ الْأُولَى فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ السَّفَرَ كَانَ مَقْصُودُهُ فَيَدُورُ مَعَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، جَعَلَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ وَهَا هُنَا التَّعْيِينُ وَالْقِسْمَةُ لِمَقْصُودٍ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ كَانَ وُجُودُ الْقِسْمَةِ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ غَائِبًا فَقَاسَمَ الْمُوصِي الْوَرَثَةَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مَا عَزَلَهُ لِلْمُوصَى لَهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 174 كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا أَخَذُوهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَاسَمَ عَلَى الْوَرَثَةِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ الْمُوَرِّثَ فِي الْعَيْنِ يُبْقِي لَهُمْ الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ مُوَرِّثُهُ وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَيَكُونُ قَائِمًا مَقَامَ مَنْ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ بِإِيجَابٍ مُبْتَدَأٍ حَتَّى لَا يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يَصِيرَ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي فَلَا يَقُومُ الْمُوصِي مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّ حَقِّهِ وَلَكِنْ مَا هَلَكَ مِمَّا عَزَلَهُ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ وَالْعَزْلُ إنَّمَا يَصِحُّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ الْمَعْزُولُ لِلْمُوصَى لَهُ. وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُحِجُّوا عَنْهُ وَارِثًا لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إيثَارَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِنَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيثَارُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ تَمْلِيكًا مِنْهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ إبَاحَتُهُ لَهُ لِنَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَوْصَى بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ لِآخَرَ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَنِصْفُ الثُّلُثِ لِلْحَجِّ وَنِصْفُهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ لِاسْتِوَاءِ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي الْقُوَّةِ وَالْمِقْدَارِ وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ وَالْإِيجَابُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مَا بَقِيَ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ بَطَلَ الْإِيجَابُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَبَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، فَإِنَّ لِلْعَصَبَةِ مَا بَقِيَ بَعْدَ حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ بِقَوْلٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَا وَضَعَهُ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الثُّلُثَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ بِمَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَحِينَئِذٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِالْمِائَةِ وَالْفَضْلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَصَايَا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَسَعُهَا الثُّلُثُ، مِثْلُ الْحَجَّةِ وَالنَّسَمَةِ وَالْبَدَنَةِ بُدِئَ بِاَلَّذِي بَدَأَ بِهِ مَا خَلَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ شَيْئًا وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَخَّرَهُ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ، وَدَعْ الْقِيَاسَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْتِيبِ الْوَصَايَا مِنْ الْبَيَانِ مَا هُوَ كَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْقَاتِلِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَى أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ»، فَإِنْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ جَازَتْ حِصَّةُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 175 الْأَجْنَبِيِّ وَبَطَلَتْ حِصَّةُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَهَا بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمَا فَبُطْلَانُهُ فِي حِصَّةِ الْوَارِثِ بِعَدَمِ الْإِجَازَةِ لَا يُبْطِلُ حِصَّةَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَزِيدُ فِي نَصِيبِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ فَالْإِيجَابُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَارِثِ وَالْوَصِيَّةُ إيجَابٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إيجَابُهُ نِصْفَ الثُّلُثِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي لَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْإِقْرَارِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْقَتْلِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ كَصِفَةِ الْوِرَاثَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ، وَهُوَ وَارِثٌ يَوْمَ أَوْصَى، ثُمَّ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا وَمَاتَ الْمُوصِي إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى يَوْمٍ يَمُوتُ الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثَهُ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثَهُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْوِرَاثَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ بَقَاءِ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ وَالْكَفَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ أَصْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ هُنَاكَ إنْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبِ تَجَدُّدِ الْإِقْرَارِ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا، وَإِنْ وَرِثَهُ بِسَبَبٍ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ. وَإِذَا أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ أَوْ لِعَبْدِ وَارِثِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَارِثُ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ وَلَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِهِ، وَقَدْ كَاتَبَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ فِي صِحَّتِهِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِنَّهُ إنْ عَتَقَ فَالْوَصِيَّةُ سَالِمَةٌ لَهُ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَإِنْ عَجَزَ فَرَقَبَتُهُ وَكَسْبُهُ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِلْقَاتِلِ مِيرَاثًا، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا يُوَرَّثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ وَلَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ أَمَّا الْكَلَامُ فِي نَفْيِ الْإِرْثِ لِلْقَاتِلِ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدِّيَاتِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَنَا سَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ قَبْلَ الْجِرَاحَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَوْصَى لَهُ قَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِقَتْلِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ أَوْصَى بَعْدَمَا جَرَحَهُ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْعَقْدِ فَالْقَتْلُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 176 لَا يُبْطِلُهُ كَالتَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَبِأَنْ كَانَ يُبْطِلُ الْإِرْثَ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ كَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّوْرِيثَ وَلَا يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ وَالْفَرْقُ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجُرْحُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوصِيَ نَادِمٌ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَاجِعٌ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْجُرْحِ فَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ الِانْتِدَابَ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِالْإِحْسَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَرَحَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَالْمُوصَى لَهُ قَصَدَ الِاسْتِعْجَالَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَيُعَاقَبُ بِالْحِرْمَانِ كَالْمِيرَاثِ، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ فَلَمْ يُتَوَهَّمْ قَصْدُ الِاسْتِعْجَالِ فِي تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى حَالِهَا. وَجْهُ قَوْلِنَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ»، وَيَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ جَمِيعًا فِي عُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: «وَلَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ»، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْمِيرَاثِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِدَفْعِ الْمُغَايَظَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَبُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَغِيظُهُمْ أَنْ يُقَاسِمَهُمْ قَاتِلُ أَبِيهِمْ تَرِكَةَ أَبِيهِمْ بِسَبَبِ الْإِرْثِ أَوْ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْجُرْحِ أَوْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَبِهِ فَارَقَ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَةِ لَا لِدَفْعِ الْمُغَايَظَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَةِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبِخِلَافِ سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُشَابِهُ الْإِرْثَ صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَارِثًا فَأَوْصَى لَهُ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا تَجَوُّزٌ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَكُونُ وَارِثًا، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا كَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْوَصِيَّةُ لِمِثْلِ هَذَا الْقَاتِلِ تَصِحُّ. ثُمَّ الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُجْزِئُ الْوَصِيَّةَ فَاجْتِمَاعُهُمَا أَوْلَى، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ جَازَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ تَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْوَرَثَةَ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِرْمَانَ كَانَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْوَرَثَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِتَبَايُنِ الدَّارِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ لِكَوْنِهِ مُحَارِبًا حُكْمًا وَالْقَاتِلُ مُحَارِبٌ لَهُ حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا تَنْفُذَ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَانَ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَشْهُورٌ، وَفِي نَفْيِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَسْبُورٌ وَالْعُلَمَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 177 لِلْوَارِثِ فَكَذَلِكَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُغَايَظَةَ تَنْعَدِمُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا بِخِلَافِ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْمِيرَاثِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ وَالْإِجَازَةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِيمَا تَعْتَمِدُ الْقَبُولَ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي جَانِبِ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ وَلِهَذَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِلْوَصِيَّةِ لَهُ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِجَازَةِ فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ الْقَاتِلِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ، فَإِنَّهَا كَالْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَوْ حَقِّ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ، وَقَالَ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَوْلَاهُ أَوْ لِعَبْدِهِ أَبْطَلْنَاهَا، وَقَالَ الْحَاكِمُ تَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْقَاتِلُ فَأَوْصَى لَهُ أَوْ لِعَبْدِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ فَالْوَصِيَّةُ لِمَوْلَاهُ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَبْدَ الْوَارِثِ إذَا قَتَلَ الْمُوَرِّثَ لَا يُحْرَمُ الْمَوْلَى مِيرَاثَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ وَلَيْسَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى مَا يَحْرِمُهُ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةُ لِابْنِ الْقَاتِلِ وَأَبَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَرَابَتِهِ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ لِمَمَالِيكِ هَؤُلَاءِ مِنْ عَبِيدِهِمْ وَمُكَاتَبِيهِمْ وَمُدَبَّرِيهِمْ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى قِيَاسِ الْإِرْثِ، فَإِنَّ ابْنَ الْقَاتِلِ وَأَبَوَيْهِ يُوَرَّثُونَ الْمَقْتُولَ، وَإِنْ لَمْ يَرِثهُ الْقَاتِلُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ فِي مِلْكِ هَؤُلَاءِ حَقُّ الْمِلْكِ وَلَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ. وَإِذَا أَقَرَّ لِقَاتِلِهِ بِدَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ، وَإِنْ كَانَ سَبَبَ الْهَلَاكِ وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا يُبَايِنُ الصَّحِيحَ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ مَرَضٍ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ كَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ مَرِيضٌ، وَإِنْ تَكَلَّفَ لِمَشْيِهِ إلَى بَعْضِ حَوَائِجِهِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ إذَا قَبَضَهَا لِلْقَاتِلِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَهُوَ صَحِيحٌ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْحَالِ مَعَ الْقَاتِلِ كَمَا يَنْفُذُ مَعَ غَيْرِهِ وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَالْهِبَةِ لَهُ. وَإِذَا ضَرَبَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ بِحَدِيدَةٍ أَوْ بِغَيْرِ حَدِيدَةٍ فَأَوْصَى لَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنَّمَا لَهَا مِقْدَارُ صَدَاقِ مِثْلِهَا مِنْ الْمُسَمَّى وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَيَبْطُلُ بِالْقَتْلِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمْ عَبْدَهُ وَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَأَعْتَقَ عَبْدَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ عَمْدًا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 178 وَالْكَفَّارَةُ إذَا كَانَ خَطَأً كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِهِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَمَا تَعَذَّرَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي قِيمَتِهِ، وَالْعَفْوُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُتْلِفَهُ بِالشَّهَادَةِ بَاطِلَةٌ وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْعَفْوِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ بِحَالٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا لِلْقَاتِلِ وَجَعَلَ الْعَفْوَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ كَانَ هَذَا مِنْهُ وَصِيَّةً لِعَاقِلَتِهِ فَيَجُوزُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ مَالٌ قُلْنَا أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ هَذِهِ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْوَصِيَّةُ تَكُونُ لِلْعَاقِلَةِ وَهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ فَفِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ تَكُونُ لِلْقَاتِلِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ تَتَعَذَّرُ الْوَصِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ يَتَقَرَّرُ وُجُوبُهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَفِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الْوَصِيَّةُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ أَلْفُ نَفْسٍ فِي قَتْلِ رَجُلٍ فَالْجُزْءُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ قِلَّتِهِ يَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعَفْوِ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ، فَإِنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُ بِدَفْعِهِ أَوْ فِدَائِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِمَدِّ عِتْقِ الْعَبْدِ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ، وَإِذَا أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ فَيَكُونُ مُوصِيًا لَهُ بِجُزْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ قَتَلَهُ الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعِتْقِ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَعَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهُ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صَارَتْ مَالًا بَعْدَمَا عَتَقَ وَصَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَالِ رِقِّهِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ دُونَ الدِّيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَجَبَ الْمَالُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ كَانَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَمُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ وَجَبَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا خَطَأً فَلَيْسَ عَلَيْهَا سِعَايَةٌ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَمُوجَبُ جِنَايَتِهَا عَلَى غَيْرِ الْمَوْلَى يَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَلْزَمُهَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَوْلَاهَا خَطَأً شَيْءٌ، وَإِنْ قَتَلَتْهُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ كَانَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ عَفَا أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ سَعَتْ لِلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ إنَّمَا انْقَلَبَ مَالًا بَعْدَمَا عَتَقَتْ وَصَارَتْ أَحَقَّ بِكَسْبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 179 وَلَدٌ بَطَلَ عَنْهَا الْقِصَاصُ لِصَيْرُورَةِ جُزْءٍ مِنْهُ لِوَلَدِهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا انْقَلَبَ مَالًا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى حِينَ وَرِثَ وَلَدُهَا جُزْءًا مِنْهُ. وَإِذَا أَوْصَى لِقَاتِلِهِ بِالثُّلُثِ وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ، وَإِنْ أَجَازَتْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاتِلٌ وَصَدَّقَهُمْ بِذَلِكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَكَذَّبَهُمْ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ حِصَّةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْ الدِّيَةِ وَتَجُوزُ وَصِيَّتُهُ فِي حِصَّتِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ وَيَلْزَمُهُ حِصَّةُ الَّذِينَ صَدَّقُوا مِنْ الدَّيْنِ وَتَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِي حِصَّتِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ فِي مِثْلِ حَالِهِ إذْ لَا وِلَايَةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْقَتْلِ وَأَبْرَأهُ الْمَيِّتُ فَإِبْرَاؤُهُ عَفْوٌ مِنْهُ فَيَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ فِي حَقِّ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ حَتَّى لَوْ كَذَّبَ الْوَرَثَةُ الشُّهُودَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدُ. وَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ جِرَاحَةً عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَقَالَ الْمَجْرُوحُ لَمْ يَجْرَحْنِي فُلَانٌ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْوَرَثَةِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ وَبَعْدَمَا قَالَ لَمْ يَجْرَحْنِي لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ فَكَذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ أَقَامَ وَرَثَتُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُمْ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى مِنْهُمْ وَبَعْدَ قَوْلِ الْمَجْرُوحِ لَمْ يَجْرَحْنِي فُلَانٌ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَا جِرَاحَةَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجَبَ الْجَرْحِ وَدَعْوَاهُ مُوجَبَ النَّفْسِ لَا تُنَافِي مَا أَبْقَاهُ مِنْ مُوجَبِ الْجَرْحِ، وَفِي الْأَوَّلِ نَفْيُ أَصْلِ الْجَرْحِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْقَتْلِ إذْ الْقَتْلُ بِدُونِ الْجَرْحِ لَا تَصَوُّرَ لَهُ إمَّا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلَيْنِ بِوَصِيَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِ الْمُوصَى لَهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ صَاحِبَهُمَا خَطَأً كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ آلَافٍ لِلَّذِي أَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ وَتَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ بِالْحِسَابِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الْحَقَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلِصَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ مُكَذِّبٌ لِشُهُودِهِ فَيَخْرُجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا فِي حَقِّ مَنْ كَذَّبَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَيَبْقَى قَاتِلًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ وَالْوَصِيَّةِ جَمِيعًا. وَإِذْ أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ وَأَوْصَى لِآخَرَ بِعَبْدٍ فَشَهِدَ الْمُوصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ أَنَّهُ قَاتِلٌ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُجَزِّآنِ الثُّلُثَ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَيُسْقِطَانِ مُزَاحَمَةَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مَعَهُمَا فِي الثُّلُثِ وَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ أَيْضًا وَلَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ فَكَانَا شَاهِدَيْنِ؛ لِأَنْفُسِهِمَا وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 180 فِي التَّرِكَةِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْوَرَثَةِ لِلتُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى وَارِثٍ أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ صَبِيًّا صَغِيرًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَتَلَ الصَّبِيُّ مَوْلَاهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتَيْنِ يَدْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثَ وَصِيَّةً لَهُ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُحْرَمُ الْإِرْثَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ فَكَذَلِكَ لَا يُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالْمُعْتَقُ فِي الْمَرَضِ مَا دَامَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَلِهَذَا أَلْزَمُهُ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، وَفِي قِيمَتِهِ بِسَبَبِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ بَعْدَ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ. وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً سَعَى فِي قِيمَتَيْنِ لِلْوَرَثَةِ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ، وَهَذَا أَقْوَى، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى حُرٌّ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ قَتَلَ غَيْرَ مَوْلَاهُ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِأَجْلِ الْجِنَايَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمَا فِي الصَّبِيِّ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لَمْ يَحْسِبْ لَهُ قِيمَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ وَالْخِدْمَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَالْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ غَلَّتِهِ أَوْ سُكْنَى الدَّارِ وَغَلَّتِهَا تَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُوَقَّتًا وَلَا غَيْرَ مُوَقَّتٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَمْلِكُ لَهُ بِإِيجَابِهِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَالْمَنْفَعَةُ وَالْغَلَّةُ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لَهُ وَبِإِيجَابِهِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ وَالْغَلَّةَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَنْفَعَةُ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَيَجْعَلُ التَّمْلِيكَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ تَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَشْغُولًا بِتَصَرُّفِهِ مَوْقُوفًا عَلَى حَاجَتِهِ، فَإِنَّمَا يُحْدِثُ الْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَالْإِرْثُ لَا يَجْرِي فِي الْخِدْمَةِ بِدُونِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا كَانَ مِلْكًا لِلْمُوَرِّثِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِيمَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إيجَابُ مِلْكٍ بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ فِيمَا أَبْقَى. فَإِنْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً الجزء: 27 ¦ الصفحة: 181 وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْدُمُ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي زَمَانِ الْخِدْمَةِ تَكُونُ يَدُ الْوَرَثَةِ مَقْصُورَةً عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ قَصْرُ يَدِهِمْ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ وَالْعَبْدُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فِي نَفْسِهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي سَهْمٍ فَيَخْدُمُهُمْ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً وَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْمُوصَى لَهُ كَمَالَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِسُكْنَى دَارٍ سَنَةً لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، فَإِنَّهُ يَسْكُنُ ثُلُثَهَا سَنَةً وَيَسْكُنُ الْوَرَثَةُ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِالْأَجْزَاءِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقِسْمَةِ أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَوْفِي نَصِيبَهُ مِنْ السُّكْنَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَوْفِيه صَاحِبُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَهَايَآ عَنْ الزَّمَانِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ قِسْمَةِ السُّكْنَى بِالْأَجْزَاءِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ ثُلُثَيْ الدَّارِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ حَقُّهُمْ عَلَى الْخُلُوصِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُمْ فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ تَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِسُكْنَى جَمِيعِهَا، وَلَوْ خَرِبَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ كَانَ لَهُ أَنْ يُزَاحِمَ الْوَرَثَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِ فَكَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ عَبْدِهِ سَنَةً وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّتِهِ تِلْكَ السَّنَةَ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ عَيْنُ مَالٍ مُحْتَمَلِ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ الْغَلَّةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخِدْمَةَ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ إلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَوْفِيه خِدْمَةُ سَنَةٍ كَامِلَةٍ كَمَا أَوْصَى لِزَيْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ دَارِهِ، فَهَذَا وَغَلَّةُ الْعَبْدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلَا يَسْلَمُ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْغَلَّةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ ثُلُثَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ الْمُوصِي بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ فِيمَا يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ فَكَمَا أَنَّ لَلشَّرِيكِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْقِسْمَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ نَصِيبَهُ فَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ هَاهُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقِسْمَةُ تُبْنَى عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا تُلَاقِيه الْقِسْمَةُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ إنَّمَا حَقُّهُ فِي الْغَلَّةِ وَقِسْمَةُ الدَّارِ لَا تَكُونُ قِسْمَةً لِلْغَلَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهَا وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ أَنْ يُؤَاجِرَهُمَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 182 لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ تَمَلَّكَ الْمَنْفَعَةَ بِالِاسْتِئْجَارِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَلَكَ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَمَلَّكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ سَوَاءٌ تَمَلَّكَهَا بِبَدَلٍ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ تَمَلَّكَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَنْفَعَةَ عِنْدِي وَلَكِنَّ الْإِعَارَةَ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا قُلْت: الْمُسْتَعِيرُ لَا يُعِيرُ مِنْ غَيْرِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْإِعَارَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا مِنْ الْغَيْرِ بِعِوَضٍ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَأَنْ تَحْتَمِلَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْلَى. وَتَصِحُّ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ حَتَّى لَوْ قَالَ مَلَّكْتُك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ كَانَتْ عَارِيَّةً صَحِيحَةً، وَإِنَّمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا اللَّفْظِ اللُّزُومُ لِكَوْنِهَا مُتَعَرِّيَةً عَنْ الْبَدَلِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمُوصِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَالْمُوصِي مَاتَ فَلَا يُتَصَوَّرُ رُجُوعُهُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَفِي تَمْلِيكِهَا بِمَالٍ إحْدَاثُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهَا، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِيهَا لِمَنْ يَمْلِكُهَا تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ لِمَنْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا، فَأَمَّا إذَا تَمَلَّكَهَا مَقْصُودَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُ مَعْنًى. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَيُخْرِجُهُ إلَى أَهْلِهِ لِلْخِدْمَةِ هُنَالِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُوصِي، فَإِذَا كَانَ الْمُوصِي وَأَهْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدُمَهُمْ، وَإِذَا كَانُوا فِي بَصْرَةَ فَمَقْصُودُهُ إلَى تَمَكُّنِهِ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ بَلْدَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِلْآخَرِ بِرَقَبَتِهِ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا وَمَا أَوْجَبَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْوَصِيَّةَ بِانْفِرَادِهِ فَبِعَطْفِ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِيمَا أَوْجَبَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ لِمَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فَلَوْ لَمْ يُوصِ فِي الرَّقَبَةِ بِشَيْءٍ لَصَارَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ مَعَ كَوْنِ الْخِدْمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 183 لِإِنْسَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قِيَاسُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ ذَلِكَ كَمَا أَوْصَى وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْأَمَةِ فِي الْوَلَدِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ كَانَ كَمَا أَوْصَى وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ مِنْ الْفَصِّ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الْقَوْصَرَّةُ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ الثَّمَرَةِ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا أَوْصَى، فَأَمَّا إذَا فَصَلَ أَحَدَ الْإِيجَابَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَكُونُ الْأَمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَلِكَ الْخَاتَمُ وَالْفَصُّ وَالْقَوْصَرَّةُ وَالثَّمَرُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي يَبِينُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْأَمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا دُونَ الْوَلَدِ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُلْزِمُهُ شَيْئًا فِي حَالٍ فَيَكُونُ حَالَةَ الْبَيَانِ الْمَوْصُولُ فِيهِ وَالْمَفْصُولُ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْمَفْصُولَ وَالْمَوْصُولَ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ اسْمُ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ جَمِيعًا فَاسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، وَفِي الْقَوْصَرَّةِ كَذَلِكَ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ مُوجَبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَاجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِيجَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَجْعَلُ الْفَصَّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يَكُونُ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ لِلثَّانِي فِيهِ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِالْخَاتَمِ لِلثَّانِي بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ مَعَ الرَّقَبَةِ فَاسْمُ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَلَكِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنَّمَا يَسْتَخْدِمُهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِغَيْرِهِ لَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ حَقٌّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ، فَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ وَرَقَبَتِهِ جِنَايَةً فَالْفِدَاءُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَبْدِ، وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهِ كَالْمَالِكِ وَبِالْفِدَاءِ تَسْلَمُ الْخِدْمَةُ لَهُ وَلَا يَسْلَمُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، فَإِذَا فَدَاهُ خَدَمَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ طَهَّرَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ. وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ انْتَقَضَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ فِي الْخِدْمَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْرِيثَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ لِلْمُوَرِّثِ، ثُمَّ لِلْوَارِثِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يَرَى تَوْرِيثَ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ، ثُمَّ يُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ أَدِّ إلَى وَرَثَتِهِ ذَلِكَ الْفِدَاءَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ صَاحِبَ الرَّقَبَةِ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْفِدَاءِ، فَإِنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ تَسْلِيمٌ لَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ الْفِدَاءِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّ الْفِدَاءَ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 184 عَلَى وَرَثَتِهِ بِيعَ فِيهِ الْعَبْدُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَنَى الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْفِدَاءِ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَحَقَّةً بِالْجِنَايَةِ، وَإِذَا أَبَى صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَفْدِيَ لَمْ يَجُزْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الْخِدْمَةِ حِينَ أَبَى أَنْ يَفْدِيَ وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ فَأَيَّهُمَا صَنَعَ بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ دَفَعَهُ، فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ وَصِيَّتِهِ، وَإِنْ فَدَاهُ، فَإِنَّمَا يَفْدِيهِ بِمَا أَسْلَمَ لَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ حِينَ أَبَى أَنْ يَفْدِيَهُ، فَقَدْ رَضِيَ بِصَيْرُورَةِ الْعَبْدِ مُسْتَهْلَكًا فِيمَا لَحِقَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ وَالْغُرْمِ، وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ خَطَأً وَلَمْ يَجْنِ الْعَبْدُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ يَشْتَرِي بِهَا عِنْدَ عَدَمِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا مَشْغُولَةً لَهُ بِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِيهَا فَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَلَا يُقَالُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمَنْفَعَةِ فَالِاسْتِحْقَاقُ بِهَا يَتَعَدَّى إلَى الْعَيْنِ. وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ وَالْقِيمَةُ بَدَلُ الْعَيْنِ فَيَشْتَرِي بِهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ الْأُولَى وَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَمَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وَصَاحِبُ الْخِدْمَةِ أَمَّا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَبْدِ وَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ تَثْبُتُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالَ حَقِّهِ فِي الْخِدْمَةِ، وَهُوَ حَقٌّ لَازِمٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ قِيمَتُهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ يَشْتَرِي بِهَا عَبْدًا فَيَخْدُمُهُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ، وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْهِ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ دُفِعَ الْعَبْدُ وَأُخِذَتْ قِيمَتُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ حُكْمًا فَيُعْتَبَرُ بِاسْتِهْلَاكِهِ حَقِيقَةً فَيُوجِبُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا مِنْ الْجَانِي بَعْدَ تَسْلِيمِ الْجُثَّةِ إلَيْهِ وَيَشْتَرِي بِهَا عَبْدًا مَكَانَهُ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ أَوْ شُجَّ مُوضِحَةً فَأَدَّى الْقَاتِلُ أَرْشَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ اشْتَرَى بِالْأَرْشِ عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ مَعَ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ الْفَائِتِ بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ وَلَمَّا كَانَ فَوَاتُهُ يُنْقِصُ الْخِدْمَةَ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ أَيْضًا أَوْ يُبَاعُ الْعَبْدُ فَيُضَمُّ ثَمَنَهُ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ الْأَرْشِ وَيَشْتَرِي بِهِمَا عَبْدًا لِيَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ لَمْ يُبَعْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لِأَحَدِهِمَا وَخِدْمَتَهُ لِلْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا بِرِضَاهُمَا وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِالْأَرْشِ عَبْدًا يَخْدُمُهُ مَعَهُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِالْأَرْشِ عَبْدٌ وَقَفَ الْأَرْشَ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، فَإِنْ اصْطَلَحَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 185 عَلَى أَنْ يَقْتَسِمَاهُ نِصْفَيْنِ أَجَزْت ذَلِكَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا، فَإِذَا تَرَاضَيَا فِيهِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مَا يَسْتَوْفِيه الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ مِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ بَدَلًا عَنْ نُقْصَانِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الِاعْتِيَاضَ عَنْ الْخِدْمَةِ وَلَكِنْ يَكُونُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ ذَلِكَ بِالْمَالِ الَّذِي يَسْتَوْفِيه بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا عَلَى حَالِهِ فَصَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ عَلَى مَالٍ يَسْتَوْفِيه مِنْهُ لِيُسَلِّمَ الْعَبْدَ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ لَا تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ فَالْأَرْشُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ مِنْ مِلْكِهِ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقٌّ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ حِينَ لَمْ تُنْتَقَصْ الْخِدْمَةُ بِفَوَاتِهِ وَكُلُّ مَالٍ وُهِبَ لِلْعَبْدِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ اكْتَسَبَهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْعَبْدِ أَمَةً كَانَ مَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا مِلْكُ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ وَكِسْوَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ إلَّا بِذَلِكَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِخِدْمَتِهِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى الْمُسْتَعَارِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَهَذَا كَذَلِكَ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ صَغِيرٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ حَتَّى يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ، فَإِذَا خَدَمَ صَارَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ تَنْمُو الْعَيْنُ وَالْمَنْفَعَةُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَخْدُمُ فَهُوَ بِالنَّفَقَةِ يَتَقَوَّى عَلَى الْخِدْمَةِ وَالْمَنْفَعَةُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مُعَدًّا لِانْتِفَاعِ الْغَيْرِ بِهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَلَمْ يُبَوِّئْهَا بَيْتًا كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْمَوْلَى، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَ الزَّوْجِ بَيْتًا كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ أَوْصَى بِدَابَّةٍ لِرَجُلٍ وَبِظَهْرِهَا، وَمَنْفَعَتِهَا لِآخَرَ كَانَتْ مِثْلَ الْعَبْدِ سَوَاءً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَأَوْصَى بِرَقَبَةِ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ وَبِخِدْمَةِ آخَرَ لِرَجُلٍ آخَرَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ وَقِيمَةُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ ثَلَثُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْبَاقِي أَلْفٌ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ خَمْسَةٌ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمٌ وَيَكُونُ لِلْآخَرِ مِنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةٍ فَوَصِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَضْرِبُ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 186 صَاحِبُهَا فِي الثُّلُثِ بِذَلِكَ وَصَاحِبُ الرَّقَبَةِ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ ثُلُثُ الْمَالِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْوَصِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ سِتُّمِائَةٍ وَمَبْلَغُ الْوَصِيَّتَيْنِ ثَمَانِمِائَةٍ وَيُقَدِّرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ فِي الْحَالِ فَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ حَقُّهُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الرُّبُعِ فَلِهَذَا قَالَ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا وَلِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ اسْتَكْمَلَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَبْدَهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ قَدْ بَطَلَتْ وَجَمِيعُ الْعَبْدِ لِلْآخَرِ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ وَزِيَادَةٌ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ وَصَارَ الْمَيِّتُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَبْقَى السَّالِمُ لِلْوَرَثَةِ عِنْدَ التَّسَاوِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي عَبْدٍ يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دُونَ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ نِصْفُ خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ نِصْفُ رَقَبَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي الثُّلُثِ سَوَاءٌ وَالثُّلُثُ بِقَدْرِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْفُذُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَصِيَّةُ فِي نِصْفِ الثُّلُثِ مِمَّا أَوْصَى لَهُ، وَلَوْ أَوْصَى بِالْعَبِيدِ كُلِّهِمْ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَمْ يَضْرِبْ صَاحِبُ الرِّقَابِ إلَّا بِقِيمَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِقِيمَةِ الْآخَرِ فَيَكُونُ هَذَا كَالْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَلَوْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الرِّقَابِ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ لِاتِّسَاعِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ، وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ وَبِخِدْمَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ رَجَعَ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَأَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ لِفُلَانٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ لِفُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ فِي خِدْمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَلِلْآخَرِ خُمُسَا الثُّلُثِ فِي الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ رَقَبَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْآخَرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَاحِدًا فَأَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ لَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مَعَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ كُلِّ عَبْدٍ لَا يُزَاحِمُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي الثُّلُثِ بِشَيْءٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يُزَاحِمُهُ وَصِيَّتُهُ فِي الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا كَانَ حَقُّهُ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي ثَلَاثَةٍ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 187 فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ وَالثُّلُثُ بِقَدْرِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَاجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْخِدْمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَيَّامٍ يَخْدُمُ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَكُونُ لِلْآخَرِ خُمُسَا الثُّلُثِ فِي الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَيَسْلَمُ لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُمُسُ الرَّقَبَةِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِصَاحِبِ الرِّقَابِ وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالٍ يُزَاحِمُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَاحِدًا فَأَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَبْدِ بِوَصِيَّتِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَتَنَاوَلُهَا الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ كَمَا تَتَنَاوَلُ الرَّقَبَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ لَا تَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ غَيْرُ الرَّقَبَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ حَقُّهُمْ فِي الثُّلُثِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ فَهُوَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَذَلِكَ نِصْفُهُ وَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الثُّلُثِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ كَانَ لَهُ وَالْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ عَبْدٍ ثُلُثُ ذَلِكَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ دُونَ الْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ثَلَاثَةً وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَوْمًا حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ، فَإِذَا مَاتَ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ فَزَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْعَبِيدِ الثَّلَاثَةِ. وَإِذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِغَلَّتِهِ لِآخَرَ، وَهُوَ يُخْرِجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَخْدُمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ شَهْرًا وَيَغُلُّ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ إلَّا أَنَّهُ فِي الْخِدْمَةِ جَعَلَ الْمُنَاوَبَةَ بِالْأَيَّامِ لِتَيَسُّرِ ذَلِكَ، وَفِي الِاسْتِغْلَالِ جَعَلَ النَّوْبَةَ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّ اسْتِغْلَالَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ عَادَةً فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ وَيَتَعَذَّرُ اسْتِغْلَالُهُ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ إذَا جُعِلَتْ بِالْأَيَّامِ، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ طَعَامُهُ عَلَى مَنْ لَهُ مَنْفَعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ وَبِالنَّفَقَةِ يَتَوَصَّلُ إلَى الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ وَكِسْوَتُهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ وَتَعَذُّرِ تَجْدِيدِ الْكِسْوَةِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ، وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً قِيلَ لَهُمَا افْدِيَاهُ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَهُمَا مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ بِالْفِدَاءِ، فَإِنْ أَبَيَا فَفَدَاهُ الْوَارِثُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَبَيَا الْفِدَاءَ، فَقَدْ رَضِيَا بِدَفْعِهِ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ فِي حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دُفِعَ بِجِنَايَتِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ مِنْ غَلَّةِ عَبْدِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ فَثُلُثُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ كَالْوَصِيَّةِ بِرَقَبَتِهِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ مُوصًى لَهُ بِجَمِيعِ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 188 الْمَالِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ تَبْطُلُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ فَلِهَذَا قَالَ: الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَهُوَ لَهُ وَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الْغَلَّةِ اسْتَغَلَّ بِحَسَبِ غَلَّتِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا، كُلُّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ كَمَا لَوْ أَوْصَى، وَإِنَّمَا يَحْبِسَ جَمِيعَ تِلْكَ الْغَلَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْرَضَ أَوْ يَتَعَطَّلَ فَلَا يَعْمَلُ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَحْبُوسٌ لِحَقِّهِ، فَإِنْ مَاتَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ رَدَّ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِمَّا يُحْبَسُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْغَلَّةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيمَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي بَدَلِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ أَنْ لَوْ بَقِيَ حَيًّا وَمِثْلُ هَذَا لَا يُورَثُ، وَإِذَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَزَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ سَلَّمَ جَمِيعَ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالْمَحْبُوسُ مِنْ الْغَلَّةِ بَدَلُ مَنْفَعَةِ جُزْءٍ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَاحْتَاجَتْ الْوَرَثَةُ إلَى سُكْنَاهَا قُسِمَتْ الدَّارُ أَثْلَاثًا وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهَا وَاسْتَغَلَّ ثُلُثَهَا صَاحِبُ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَثُلُثَاهَا خَالِصُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ صَرْفِ نَصِيبِهِمْ إلَى حَاجَتِهِمْ، وَهُوَ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ، فَإِنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا سُمِّيَ لَهُ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الدَّارِ كَانَ لَهُ غَلَّةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى أَوْجَبَهُ لَهُ فَيَصِيرُ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ وَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لِزَوَالِ مُزَاحَمَتِهِ إلَّا أَنَّ هَاهُنَا إنْ كَانَ حَصَلَ مِنْ الْغَلَّةِ شَيْءٌ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِمَا حَصَلَ مِنْ الْغَلَّةِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَائِهَا فِي الْحَالِ، وَهُوَ عَيْنٌ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهَا. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ وَعَبْدِهِ فِي الْمَسَاكِينِ جَازَ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ إلَّا لِإِنْسَانٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ عَيْنُ مَالٍ يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَهَذَا وَصِيَّةٌ بِالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا السُّكْنَى وَالْخِدْمَةُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِمَا بَلْ تُعَارُ الْعَيْنُ لِأَجْلِهِمَا وَالْإِعَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ إنْسَانٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ الْمَسَاكِينُ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يَسُدُّ خُلَّتَهُمْ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ لَهُمْ بِالْغَلَّةِ وَقَلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى، وَقَبْلُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَا عَلَى قِيَاسِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ، فَإِنَّ هَذَا فِي مَعْنَى وَقْفٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَمَنْ أَوْصَى بِظَهْرِ دَابَّتِهِ لِإِنْسَانٍ مَعْلُومٍ يَرْكَبُهَا فِي حَاجَتِهِ مَا عَاشَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْإِعَارَةِ مِنْهُ، وَلَوْ أَوْصَى بِظَهْرِهَا لِلْمَسَاكِينِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَانَ بَاطِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 189 الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَأَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْفُ الْمَنْقُولِ جَائِزٌ فِيمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَرَوَى فِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاتَ عَنْ ثَلَثِمِائَةِ فَرَسٍ وَنَيِّفٍ وَمِائَتَيْ بَعِيرٍ مَكْتُوبٌ عَلَى أَفْخَاذِهَا حَبْسٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَجَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَهُمَا أَبْطَلَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِحَاجَتِهِ. وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ غَلَّةُ دَارِي هَذِهِ أَوْ عَبْدِي هَذَا صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ رُدَّتْ بَعْدَ مَوْتِي فَهِيَ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِي تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ أَصْلًا فَلَا يَأْمَنُ الْمُوصِي مِنْ أَنْ يَرْفَعَ وَرَثَتُهُ إلَى قَاضٍ يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ فَيُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ فَيُحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَعَلَّقَهَا بِرَدِّ الْأُولَى وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ فِيهِ فَائِدَةُ إبْقَاءِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَحْتَالُونَ فِي إبْطَالِ الْأُولَى إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ بِذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، فَإِذَا رُدَّتْ الْأُولَى وَجَبَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَيُبَاعُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِدَارِهِ أَوْ بِأَرْضِهِ فَجَعَلَهَا حَبْسًا عَلَى الْآخَرِ وَالْآخَرُ مِنْ وَرَثَتِهِ لَا يُبَاعُ أَبْطَلْت ذَلِكَ وَجَعَلْتهَا مِيرَاثًا لِلْحَدِيثِ: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى -»، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَلِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ فِي مَعْنَى الْوَقْفِ فَالْوَقْفُ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَجُوزُ وَالتَّأْيِيدُ مِنْ شَرْطِ الْوَقْفِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ وَهِيَ الثُّلُثُ فَهَدَمَهَا رَجُلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي غَرِمَ قِيمَةَ مَا هَدَمَ مِنْ بِنَائِهَا وَتُبْنَى مَسَاكِنَ كَمَا كَانَتْ فَتُؤَجَّرُ وَيَأْخُذُ غَلَّتَهَا صَاحِبُ الْغَلَّةِ وَيَسْكُنُهَا الْآخَرُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ تَعَلَّقَ بِالْبِنَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ وَطَرِيقُ إبْقَاءِ حَقِّهِمَا مِنْهُ أَنْ تُبْنَى مَسَاكِنَ كَمَا كَانَتْ لِيَكُونَ الثَّانِي قَائِمًا مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْبُسْتَانُ إذَا أَوْصَى بِغَلَّتِهِ فَقَطَعَ رَجُلٌ نَخْلَهُ أَوْ شَجَرَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِغَلَّةِ الْبُسْتَانِ تَتَنَاوَلُ الثِّمَارَ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدُ يَتَنَاوَلُ الْأُجْرَةَ، وَكَذَلِكَ بِغَلَّةِ الْأَرْضِ تَتَنَاوَلُ الْأُجْرَةَ وَالْحِصَّةُ مِنْ الْخَارِجِ إذَا وَقَعَتْ مُزَارَعَةً وَبِغَلَّةِ الْأَمَةِ يَتَنَاوَلُ الْأُجْرَةَ دُونَ الْوَلَدِ حَتَّى إنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ، وَأَنَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ عَيْنِهَا كَالثِّمَارِ وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَادَةً وَاسْمُ الْغَلَّةِ يُطْلَقُ عَلَى الثِّمَارِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى أَوْلَادِهَا. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَقِيمَةُ الدَّارِ أَلْفٌ وَلَهُ أَلْفَانِ سِوَى ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْغَلَّةِ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ مَعْنًى كَالْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ بِالثُّلُثِ بَيْنَهُمَا الجزء: 27 ¦ الصفحة: 190 نِصْفَانِ نِصْفُهُ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ كُلُّهُ فِي الدَّارِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَالدَّارِ، إنْ شِئْت قُلْت خُمُسُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فَيُقَاسِمُ الْوَرَثَةَ بِحَسَبِ الْمَالِ وَالْمَالُ الْمَقْسُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ نِصْفُ الدَّارِ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَأَلْفَانِ، فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا كَانَتْ أَخْمَاسًا، وَإِنْ شِئْت قُلْت ثُلُثَا ذَلِكَ فِي الْمَالِ وَثُلُثُهُ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ مُزَاحَمَةَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ قَدْ انْعَدَمَتْ فِي نِصْفِ الدَّارِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي ثُلُثِ الدَّارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْلَا وَصِيَّةُ الْآخَرِ لَكَانَ يَسْلَمُ لَهُ ثُلُثُ الدَّارِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَزِيَادَةٌ أَخَذَ جَمِيعَ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّارِ، وَهُوَ الثُّلُثُ مِمَّا يَسْتَوْفِيه، فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الدَّارِ وَالْمَالِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ قَدْ بَطَلَتْ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَصِيَّةً بِالْعَيْنِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُسْتَحَقّ وَلَكِنَّهَا انْهَدَمَتْ قِيلَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ ابْنِ نَصِيبَك مِنْهَا وَيَبْنِي صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ وَالْوَرَثَةُ نَصِيبَهُمْ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الِامْتِنَاعِ بِنَصِيبِهِمْ وَأَيُّهُمْ أَبَى أَنْ يَبْنِيَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُمْنَعْ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ مَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤَاجِرَهُ وَيُسْكِنَهُ؛ لِأَنَّ الْآبِيَ مِنْهُمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الضَّرَرَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الضَّرَرَ غَيْرَهُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ أَوْ بِغَلَّتِهَا فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ فَشَهِدَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ أَوْ السُّكْنَى أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا لِلْمَيِّتِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُمَهِّدُ مَحَلَّ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لِلْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَوْ بِمَالٍ أَوْ بِقَتْلٍ خَطَأٍ فَشَهَادَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ نَصِيبًا، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ مَالَ الْمَيِّتِ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَفِي وَصِيَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ كَانَ يُقْضَى مِنْ الْمَشْهُودِ بِهِ وَيُسَلَّمُ لَهُ وَصِيَّتُهُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 191 [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ الْأَرْضِ وَالْبُسْتَانِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْغَلَّةُ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ فِي الْبُسْتَانِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ وَالسُّكْنَى فِي الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: ثَمَرَتُهُ لِفُلَانٍ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا ثَمَرَةَ فِيهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْجُودِ، وَإِلَى مَا يَحْدُثُ سَوَاءٌ قَالَ: أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْغَلَّةِ حَقِيقَةٌ لِلْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ جَمِيعًا فَأَمَّا الثَّمَرَةُ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ حَقِيقَةً وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْحَادِثَ إلَّا مَجَازًا فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ فِي الْبُسْتَانِ ثَمَرَةٌ حِينَ يَمُوتُ الْمُوصِي فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ تِلْكَ الثَّمَرَةَ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ يَنْتَفِي الْمَجَازُ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُسْتَانِ ثَمَرَةٌ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَجَازِ، وَيَكُونُ لَهُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثِّمَارِ مَا عَاشَ بِمَنْزِلَةِ الْغَلَّةِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: أَبَدًا فَلَهُ الْمَوْجُودُ وَالْحَادِثُ أَبَدًا جَمِيعًا فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ عَمَّ الْإِيجَابُ الْحَادِثَ وَالْمَوْجُودَ وَالسَّقْيَ وَالْخَرَاجَ، وَمَا يُصْلِحُهُ وَعِلَاجُ مَا يُصْلِحُهُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْبُسْتَانِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَوْ بِأَلْبَانِهَا أَوْ بِسَمْنِهَا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَبَدًا لَمْ يَجُزْ إلَّا مَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ، وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمِنْ السَّمْنِ الَّذِي فِي اللَّبَنِ الَّذِي فِي الضَّرْعِ وَمِنْ الْوَلَدِ الَّذِي فِي الْبَطْنِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا وَالْغَلَّةُ وَالثَّمَرَةُ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَلَكِنِّي أَدَّعِي الْقِيَاسَ فِيهِ، وَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ قِيلَ مُرَادُهُ إنَّ الْقِيَاسَ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ إلَّا الْمَوْجُودُ فِيهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 2 عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَالْعَيْنُ الْحَادِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُوصَى لَهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الثِّمَارُ الَّتِي تَحْدُثُ يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ بِإِيجَابِهِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوَصِيَّةِ عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَوْسَعُ الْعُقُودِ جَوَازًا بِخِلَافِ مَا فِي الْبَطْنِ، فَإِنَّ مِمَّا يَحْدُثُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْحَالِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، وَالْوَصِيَّةُ نَوْعٌ مِنْ الْعُقُودِ، وَقِيلَ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مَسْأَلَةِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْجُودَ وَالْحَادِثَ عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْهُ هَذِهِ الزَّوَائِدُ يُجْعَلُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حُكْمًا لِاشْتِغَالِهِ بِوَصِيَّتِهِ وَالْوَصِيَّةُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْهَا تَصِيرُ كَالْمُضَافِ إلَى حَالَةِ الْحُدُوثِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ كَمَا فِي الثِّمَارِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: مَا فِي بُطُونِ الْحَيَوَانِ لَيْسَ وُسْعِ الْبَشَرِ إيجَادُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُهُ لِلْغَيْرِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَإِنَّ لِصُنْعِ الْعِبَادِ تَأْثِيرًا فِي إيجَادِهِ؛ وَلِهَذَا جَازَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ فَيَصِحُّ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِيَدِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ لِرَجُلٍ حَيَاتُهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِقَوَائِمِ الْخِلَافِ أَوْ سَعَفِ النَّخْلِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَكَانَ الْفَرْقُ هَذَا أَنَّ سَعَفَ النَّخْلِ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا لِلنَّخْلِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِبَعْضِ الْعُقُودِ بِخِلَافِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا الْفَرْقُ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ فِيمَا يَحْدُثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِوَلَدِ جَارِيَتِهِ أَبَدًا فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا الْمَوْجُودُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِهِ حَتَّى إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِذَا وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْحَادِثُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَحْدُثَ الثَّمَرَةُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ لَا يُورَثُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ مَا أَثْمَرَ الْبُسْتَانُ فَتِلْكَ الثَّمَرَةُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهَا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ بَيْعُهُ، وَكَانَ الثَّمَنُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ نَخْلِهِ أَبَدًا لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهَا وَلَمْ يُدْرِكْ وَلَمْ تَحْمِلْ فَالنَّفَقَةُ فِي سَقْيِهَا وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ يَنْمُو مِلْكُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الْغَلَّةِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَإِذَا أَثْمَرَتْ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَإِنَّ الثَّمَرَةَ بِهِ تَحْصُلُ، فَإِنْ حَمَلَتْ عَامًا، ثُمَّ أَحَالَتْ فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّة؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 3 لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ فَالْأَشْجَارُ الَّتِي مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَحْمِلَ فِي سَنَةٍ وَلَا تَحْمِلُ فِي سَنَةٍ يَكُونُ ثِمَارُهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي تَحْمِلُ فِيهَا وُجُودٌ وَأَكْثَرُ مِنْهَا إذَا كَانَتْ تَحْمِلُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهُوَ نَظِيرُ نَفَقَةِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَنَامُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَخْدُمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَرَاحَ بِالنَّوْمِ بِاللَّيْلِ كَانَ أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ بِالنَّهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَنْفَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَلَيْهَا حَتَّى تَحْمِلَ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي نَفَقَتَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْإِنْفَاقِ لِكَيْ لَا يَتْلَفَ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، لَكِنَّهُ يَسْتَوْفِي النَّفَقَةَ مِنْ الثِّمَارِ وَمَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ أَبَدًا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَاسَمَهُمْ الْبُسْتَانَ فَأَغَلَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وَلَمْ يَغُلَّ الْآخَرُ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيمَا خَرَجَ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ رَقَبَةِ الْبُسْتَانِ وَالْقِسْمَةُ لِتَمْيِيزِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ، وَمَا حَصَلَ مِنْ الْغَلَّةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَّةِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا ثُلْثَيْ الْبُسْتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْغَلَّةِ فِي ثُلْثَيْ الْبُسْتَانِ، فَإِذَا نَفَذَ بَيْعُهُمْ قَامَ الْمُشْتَرِي مُقَامَهُمْ فَيَكُونُ شَرِيكَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ الَّذِي فِيهِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِغَلَّتِهِ أَبَدًا لَهُ أَيْضًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَفِي الْبُسْتَانِ غَلَّةٌ تُسَاوِي مِائَةً وَالْبُسْتَانُ يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ الَّتِي فِيهِ وَثُلُثُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْغَلَّةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَطَرِيقُ تَنْفِيذِهَا مِنْ الثُّلُثِ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ ثُلُثَ الْغَلَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَثُلُثَاهَا لِلْوَرَثَةِ، ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ غَلَّةٌ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْغَلَّةِ أَبَدًا. وَلَوْ أَوْصَى بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ لِرَجُلٍ فَأَغَلَّ سَنَةً قَلِيلًا وَسَنَةً كَثِيرًا فَلَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ كُلَّ سَنَةٍ يُحْبَسُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا مَا عَاشَ هَكَذَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي، وَرُبَّمَا لَا تَحْصُلُ الْغَلَّةُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ؛ فَلِهَذَا يُحْبَسُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ عَلَى حَقِّهِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ جَمِيعُ الثُّلُثِ لِيُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةٌ كَمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُحْبَسُ مِقْدَارُ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ إلَيْهَا فِي الْعَادَةِ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُ بِحَبْسِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَشَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ بَقَاؤُهُ حَيًّا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الشَّرْطُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ قَالَ: يُتَوَهَّمُ أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ إلَى أَنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثُّلُثِ أَوْ يَهْلَكُ بَعْضُ الثُّلُثِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَقَ فَيُحْتَاجُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْهُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا يُحْبَسُ جَمِيعُ الثُّلُثِ، وَيَسْتَوِي إنْ أَمَرَ بِأَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 4 دِرْهَمًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ كُلَّ شَهْرٍ أَرْبَعَةً مِنْ مَالِهِ، وَعَلَى آخَرَ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةً مِنْ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْبُسْتَانِ فَثُلُثُ الْبُسْتَانِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ بِوَصِيَّتِهِ، ثُمَّ يُبَاعُ سُدُسُ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَتَوَقَّفُ ثَمَنُهُ عَلَى يَدِ الْمُوصِي أَوْ عَلَى يَدِ ثِقَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ وَيُنْفَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رُدَّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لِبُطْلَانِ وَصِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يُنْفَقُ عَلَى فُلَانٍ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ خَمْسَةٌ حُبِسَ السُّدُسُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَالسُّدُسُ الْآخَرُ عَلَى الْمَجْمُوعَيْنِ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِيمَا أَوْجَبَ لَهُمَا. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ وَبِنِصْفِ غَلَّتِهِ لِآخَرَ، وَهُوَ جَمِيعُ مَالِهِ قُسِّمَ ثُلُثُ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، فَإِنْ كَانَ الْبُسْتَانُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ وَلِلْآخَرِ رُبْعُهَا، الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ فَثُلُثُهُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَالْكُلُّ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ بِالْجَمِيعِ وَالْآخَرُ بِالنِّصْفِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَلِآخَرَ بِغَلَّةِ عَبْدِهِ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ فَثُلُثُهُ سِتُّمِائَةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِغَلَّةِ الْبُسْتَانِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَإِنَّمَا يُضْرَبُ هُوَ بِسِتِّمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَ الثُّلُثُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَهُمَا لِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ سِتَّةٌ فِي غَلَّتِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلَيْسَ فِيهَا نَخْلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهَا تُؤَاجَرُ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَجَرٌ أُعْطِيَ ثُلُثَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ عُرْفًا، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ تُؤَاجَرَ أَرْضُهُ مِنْ رَجُلٍ سِنِينَ مُسَمَّاةً كُلُّ سَنَةٍ بِكَذَا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، فَإِنْ كَانَ سَمَّى أُجْرَةَ مِثْلِهَا جَازَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ حُسِبَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْأُجْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ فَيَكُونُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ بِالْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَرَ أَرْضَهُ وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهَا، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 5 الثُّلُثِ فَبَاعَهَا صَاحِبُ - الرَّقَبَةِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ الْغَلَّةِ الْبَيْعَ جَازَ وَبَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَحَقَّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِجَازَتُهُ الْبَيْعَ تَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَيُسَلِّمُ الثَّمَنَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْآخَرُ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَأَغَلَّ الْبُسْتَانُ سِنِينَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْغَلَّةِ شَيْءٌ إلَّا مَا يَكُونُ فِي الْبُسْتَانِ حِينَ يَمُوتُ أَوْ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى الْبُسْتَانِ مِنْ الْغَلَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ أَوْ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمُوصَى لَهُ الْبُسْتَانَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ كَمَا لَوْ بَاعُوهُ مِنْ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطُوهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّ لِلَّقِنِ مِنْ الْغَلَّةِ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُمْ مِنْ الْعِوَضِ. وَلَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَازَ فَذَلِكَ بِالْعِوَضِ وَكَذَلِكَ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ إذَا صَالَحُوهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِعِوَضٍ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ بِالْعِوَضِ وَغَيْرِ الْعِوَضِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ إذَا مَلَكَهُ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَالَ: أَعْتِقُوهُ أَوْ قَالَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ وَأَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَاصَّا فِي الثُّلُثِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْعِتْقِ الَّذِي يُبْدَأُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِهِ إذَا قَالَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَنْهُمَا أَوْ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ أَلْبَتَّةَ أَوْ قَالَ: إنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ مِنْ مَرْضَى هَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عِتْقٍ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ وَقْتٍ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَا: إذَا كَانَ وَصِيَّةٌ وَعِتْقٌ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِتْقَ الَّذِي يَقَعُ بِنَفْسِ الْمَوْتِ سَبَبُهُ يَلْزَمُهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِهِ إنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا، فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِبَيْعِ الرَّقَبَةِ. وَلَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ فَإِنَّ سَبَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَلَكِنَّ الْحَرْفَ الصَّحِيحَ أَنْ يَقُولَ: مَا يَكُونُ مُنَفَّذًا عَقِيبَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّنْفِيذِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَسْبَقُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى تَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِنَفْسِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 6 الْمَوْتِ يَتِمُّ وَالْآخَرُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَنْفِيذٍ مِنْ الْمُوصَى بَعْدَ مَوْت الْمُوصِي وَالتَّرْجِيحُ يَقَعُ بِالسَّبْقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْعِتْقَ الْمُنَفَّذَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَحَقٌّ اسْتِحْقَاقَ الدُّيُونِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ يَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ إذَا ظَفِرَ بِحَبْسِ حَقِّهِ، وَهَهُنَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِنَفْسِ الْمَوْتِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَالْعِتْقُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ يُقَدَّمُ أَيْضًا فَأَمَّا مَا يُحْتَاجُ إلَى تَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَصَايَا. وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّتَهُ فِي مَرَضِهِ فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ أَوْ بَعْدَ مَا مَاتَ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهَا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْ، وَهِيَ حُرَّةٌ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ عِنْدَهُمَا حُرَّةٌ عَلَيْهَا دَيْنٌ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ نَافِذٌ عِنْدَهُمَا كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ مَا دَامَتْ تَسْعَى وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ لَا يَثْبُتُ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ رَقَبَتِهَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي وَلَدِهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ خُرُوجُ الْوَلَدِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ كَانَ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ فَلَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ قَالَ: إنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ تَحَاصَّا فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَيَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مُسَمًّى لَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ وَهَبَ لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ فَفِي حَيَاتِهِ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمُوصَى بِهِ، وَالْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الْمِلْكُ لِوَرَثَتِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَنْعَقِدُ خَالِيَةً عَنْ فَائِدَةٍ. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ رَقَبَتِهِ عَتَقَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، وَسَعَى فِي الْبَاقِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُهِبَ لَهُ بَعْضَ رَقَبَتِهِ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَجَزَّأُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَقَبَتِهِ كُلِّهَا عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لَهُ رَقَبَتَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ تَتَنَاوَلُ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ فَإِنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ مَالِهِ فَيُعْتَقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ بِالْمَوْتِ وَيَصِيرُ عِنْدَهُمَا حُرًّا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِالْمَالِ فَإِذَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ أُكْمِلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَأُعْطِيَ مَا فَضَلَ عَلَى ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الثُّلُثِ سَعَى فِيهِ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 7 وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِذَلِكَ الْعَبْدِ أَنْ يَعْتِقَ أَوْ يُدَبَّرَ فَهَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ يَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْعِتْقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى؛ وَلِأَنَّهُ صَرَفَهُ بِالْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ إلَى حَاجَتِهِ وَاسْتَثْنَى وَلَاءً لِنَفْسِهِ. وَلَوْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِهِ رَاجِعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا فَأَعْتَقَ الْوَصِيُّ نِصْفَهُ عَنْ الْمَيِّتِ كَانَ يَضْمَنُ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ يُسْتَسْعَى الْغُلَامُ فِيهِ أَوْ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْغُلَامِ هَذَا كُلُّهُ مُسْتَبْعَدٌ قَالَ. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ سُمِّيَ حُطَّ عَنْهُ الثُّلُثُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إنْ شَاءَ أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَصَايَا، وَقَدْ اسْتَوَتْ الْوَصِيَّتَانِ مِنْ حَيْثُ اسْتِغْرَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِصَاحِبِ الْبَيْعِ نِصْفُهُ، وَهُوَ السُّدُسُ وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَهُوَ سُدُسُ الرَّقَبَةِ، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ الْعَبْدِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ وَصِيَّةٌ بِالْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِسِوَى الْعَيْنِ، وَإِنْ أَبَى الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ ثُلُثُ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْبَيْعِ حِينَ رَدَّهَا الْمُوصَى لَهُ فَيُسَلِّمُ الثُّلُثَ لِلْمُوصِي مِنْ ذَلِكَ لَهُ بِالرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَوْصَى لَهُ أَنْ يُبَاعَ، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ آخَرُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالرُّجُوعِ، وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ أَنْ يُبَاعَ وَلَمْ يَزِدْ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ بِقِيمَتِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِحَقِّ الْمُوصِي وَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ النِّسْبَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُنْسَبُ إلَى الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ بَعْدَ مَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةَ نِسْبَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ نَسِيئَةً صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِنِسْبَةِ الْبَيْعِ لِلْعِتْقِ بِأَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ خِدْمَةَ مَوْلَاهُ فَيَرْغَبُ فِي إعْتَاقِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لِغَلَّةِ مَالِهِ فَيَبِيعُهُ نَسِيئَةً، وَيَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهِ مِمَّنْ يُعْتِقُهُ لِيَحْصُلَ بِهِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ، وَهُوَ تَخْلِيصُ الْعَبْدِ عَنْ ذُلِّ الرِّقِّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ «فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ» الْحَدِيثُ فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَقُّ الْمُوصِي وَحَقُّ الْعَبْدِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا لِذَلِكَ، ثُمَّ يُبَاعُ كَمَا أَوْصَى، وَيَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهِ مِقْدَارَ الثُّلُثِ إنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْدِنَ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ وَفِي تَنْفِيذ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَقُّ الْمُوصِي فَيَجِبُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 8 تَنْفِيذُهَا مِنْ مَعْدِنٍ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْهُ بِقِيمَتِهِ لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِالْعَيْنِ بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ فَكَانَ تَنْفِيذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِبَيْعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَبْدُهُ وَأَبَى الْعَبْدُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمُوصِي فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى وَلَاءَهُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لَهُ لَمْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَوْلَى فِي الْوَلَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ وَأَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَبْدٌ آخَرُ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا وَحَطَّ مِنْ قِيمَتِهِ مِقْدَارَ الثُّلُثِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَيَحْتَالُ إلَى تَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ فَأَبَى عِتْقَهُ، ثُمَّ بَاعَ الْعَبْدَ الْآخَرَ، وَحَطَّ عَنْهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي يَحُطُّ عَنْك نِصْفَ الثُّلُثِ وَأَدِّ مَا بَقِيَ إنْ شِئْت وَيَسْعَى الْمُعْتِقُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ أَعْتَقَ سُلِّمَتْ الْمُحَابَاةُ لِلْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا بَدَأَ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ بِالْعِتْقِ تُقَدَّمُ الْمُحَابَاةُ، وَإِذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ تَحَاصَّا، وَإِنْ كَانَتَا مُحَابَاتَيْنِ أَوْ عِتْقَيْنِ تَحَاصَّا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقِيمَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا يُبْدَأُ بِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَ قُوَّةٍ وَقُوَّةُ الْمُحَابَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ سَبَبَهُ تِجَارَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ التِّجَارَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَقُوَّةِ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ وَاجِبَيْنِ أَوْ تَطَوُّعَيْنِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الْمُحَابَاةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ حَتَّى لَا تَصِحَّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْهِبَةُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَالْعِتْقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِبَةِ، وَإِنْ أَجَرَهُ فَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ إسْقَاطًا لِلْعِوَضِ، فَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا فَهُوَ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا فَهُوَ كَالْهِبَةِ وَالْعِتْقُ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قَدَّمْنَا الْعِتْقَ عَلَى الْهِبَةِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْهِبَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ لَا تَبْقَى الْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ، وَمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَكُونُ ثَابِتًا تَبَعًا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمُحَابَاةُ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ التِّجَارَةَ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ عَقْدُ تِجَارَةٍ حَتَّى يَجِبَ لِلشَّفِيعِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 9 الشُّفْعَةُ فِي الْكُلِّ وَالشُّفْعَةُ تَخْصِيصٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ؛ وَلِهَذَا قُلْت إنَّ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَبِالْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التِّجَارَةِ، فَأَمَّا الْعِتْقُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ وَبِالْمَرَضِ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ التَّبَرُّعَاتِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمُحَابَاةُ أَقْوَى، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ الْعِتْقُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ يَسْبِقُ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ فَلِهَذَا بَدَأَ بِالْمُحَابَاةِ قُلْنَا يَبْدَأُ بِهَا لِبِدَايَةِ الْمُوصِي وَلِقُوَّةِ السَّبَبِ فَإِذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ فَالْعِتْقُ يُقَدَّمُ سَبَبُهُ عَلَى الْمُحَابَاةِ حِسًّا وَسَبَبُ الْمُحَابَاةِ أَقْوَى حُكْمًا فَيَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فِي قُوَّةِ السَّبَبِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي إذَا كَانَا لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَا لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِآخَرَ وَلَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِمْ إلَّا بِمَا قَالُوا إنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ بَيْعٌ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْبَيْعِ الَّذِي يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْعِتْقِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ، وَهَذَا لَمَّا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلتِّجَارَةِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقُ الْفَسْخَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْمُسْقَطَ يَكُونُ مَثَلًا شَيْئًا، وَتَعَذُّرُ الْفَسْخِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَيْضًا يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْمُحَابَاةَ تُسْتَحَقُّ اسْتِحْقَاقَ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِعَقْدِ ضَمَانٍ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هِيَ كَالدُّيُونِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ بَدَلٌ مَقْصُودٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشِبْهِهِ بِالتَّبَرُّعِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلِشِبْهِهِ بِالدُّيُونِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا هُوَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ إذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا، فَإِنْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ، وَحَابَى بِالثُّلُثِ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ بَاعَ وَحَابَى بِالثُّلُثِ فَلِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَنِصْفُ الثُّلُثِ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُشْتَرِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمُحَابَاةِ الْأُولَى فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهَا كَالْمَعْدُومِ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ النِّصْفُ الَّذِي يُصِيبُ الْمُشْتَرِي الْآخَرَ يُزَاحِمُهُ فِيهِ الْمُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُعْتَقُ مَحْجُورًا لِحَقِّ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ الْأُولَى، وَقَدْ خَرَجَ الْوَسَطُ حِينَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَفِيمَا بَقِيَ يُعْتَبَرُ حَقُّ صَاحِبِ الْعِتْقِ وَصَاحِبِ الْمُحَابَاةِ الْأُخْرَى؛ فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. قَالَ، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ قِيمَتُهُ وَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ ابْنُهُ يُعْتَقُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ وَيَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ وَيُقَاصُّ بِهَا مِنْ مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَالِابْنُ وَارِثٌ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لَهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْمُسْتَسْعَى حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَبِوُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الجزء: 28 ¦ الصفحة: 10 لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ كَانَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ عِنْدَهُ مُكَاتَبٌ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَإِذَا أَنْفَذنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ، وَأَسْقَطْنَا عَنْهُ السِّعَايَةَ صَارَ وَارِثًا لَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا، وَقَطْعُ الدَّوْرِ وَاجِبٌ فَيَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ أَسْهَلُ مِنْ إبْطَالِ مِيرَاثِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ تَصِحُّ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جَمَعْنَا لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَهُوَ نَظِيرُ جَوَازِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّهُ قَدْ تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ الْمَالِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. وَلَوْ اشْتَرَى ابْنَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ، وَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُحَابَاةُ تُقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِهَا، وَقَدْ اسْتَغْرَقَتْ الثُّلُثَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ وَلَا يَرِثُ الِابْنُ شَيْئًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ مُقَدَّمٌ إلَّا أَنَّ الِابْنَ وَارِثٌ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْعَبْدُ الْآخَرُ مُحَابَاةً، وَيَسْعَى الِابْنُ فِي قِيمَتِهِ وَيُطَالِبُ الْبَائِعَ بِالرَّدِّ فَبِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَيَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الِابْنِ أَلْفًا فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَأَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ يُسَاوِي أَلْفًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ وَيَسْعَى الِابْنُ فِيمَا زَادَ عَلَى حِصَّتِهِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَسْعًى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ فَلَا يَكُونُ وَارِثًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الِابْنُ وَارِثٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ وَيُقَاصُّ بِهَا مِنْ مِيرَاثِهِ قَالَ: وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ جَعَلْت لَهَا الْمِيرَاثَ وَالْمَهْرَ وَأَجَزْت النِّكَاحَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ دَفَعَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَالثُّلُثَ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ الْمَهْرِ، ثُمَّ سَعَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اشْتِرَاطِهِ خُرُوجَ الْقِيمَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الثُّلُثِ قَالَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْمَهْرُ دَيْنٌ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْقِيمَةُ وَصِيَّةٌ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْقِيمَةِ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ دَفْعِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ دَيْنٌ فَيُعْتَبَرُ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فَقَدْ عَرَفْنَا نُفُوذَ الْعِتْقِ وَصِحَّةَ النِّكَاحِ وَثُبُوتَ الْمِيرَاثِ لَهَا، وَلَكِنْ يَجْمَعُ عَلَى أَصْلِهِ لَهَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ قِيمَتِهَا، وَإِنَّهَا كَالْمُكَاتَبَةِ، وَالْمَوْلَى إذَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 11 تَزَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا لِلشُّبْهَةِ فَيَأْخُذُ مَهْرَ مِثْلِهَا أَوَّلًا، ثُمَّ لَهَا الثُّلُثُ مِمَّا بَقِيَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ النِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ عِنْدَهُمَا حُرَّةٌ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَ وَرِثَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَصِيَّةٌ فَيُحَاسَبُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مِنْ مَهْرِهَا وَمِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَبْضِ ذَلِكَ مِنْهَا حِينَ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَيْهَا، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَدَّاهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ زَادَهَا شَيْئًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ لَهُ. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، ثُمَّ اسْتَدَانَ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَتَرَكَ أَلْفَيْنِ سِوَى ذَلِكَ عِنْدَهُمَا هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَتَرِثُ وَلَهَا مَهْرُهَا لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ وَلَهَا دَيْنُهَا الَّذِي اسْتَدَانَ مِنْهَا لِكَوْنِهِ بِبَيِّنَةٍ مُعَايَنَةٍ وَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا وَصِيَّةَ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَوْفِي دَيْنَهَا مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَقِيمَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ؛ فَلِذَلِكَ بَطَلَ النِّكَاحُ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَاسْتَدَانَ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَا مَهْرَ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا تَخْرُجُ هِيَ وَمَهْرُهَا مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَلَهَا الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ الْوَصِيَّةَ يَكُونُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَبَتُهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمَهْرِ فَلَا تَسْعَى فِي شَيْءٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ فَلَهَا الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ، وَيَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِضَرُورَةِ الدَّوْرِ، وَإِذَا أَشْهَدَ الرَّجُلُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فِي كِتَابٍ شُهُودًا وَلَمْ يَقْرَأْهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكْتُبْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ لَا عَلَى الْكِتَابِ وَبِدُونِ عِلْمِ الشَّاهِدِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ، وَإِنْ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا نَشْهَدُ عَلَيْك بِذَلِكَ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ بِنَعَمْ وَلَمْ يَنْطِقْ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا إقْرَارَهُ وَتَحْرِيكُ الرَّأْسِ مِنْ النَّاطِقِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا إذْ هُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِبْعَادِ الشَّيْءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّضَى بِهِ، وَإِنْ كَتَبَهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ أَوْ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا إقْرَارَهُ وَعَلِمُوا بِمَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ وَصِيَّتُك قَالَ: نَعَمْ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 12 كَالْمُعَادِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَقَالَا: سَمَّاهُ لَنَا فَنَسِينَاهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الشَّهَادَةَ، وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَبِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوا الشَّهَادَةَ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ الْأَرْبَعَةِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ هَذَا وَأُجِيزُهُ فَيُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعَهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ سَوَاءً وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْعَتَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً أَخَذَ أَقَلَّهُمْ قِيمَةً وَأَكْثَرَهُمْ قِيمَةً فَجَمَعْنَا قِيمَتَهُمَا، ثُمَّ أَخَذْنَا نِصْفَ ذَلِكَ وَقَسَّمْنَاهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ حَتَّى إذَا كَانَ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ أَلْفًا وَقِيمَةُ الثَّانِي أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَقِيمَةُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ أَقَلِّهِمْ قِيمَةً وَأَكْثَرِهِ قِيمَةً، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ فَيَضْرِبُ أَحَدَهُمْ فِيهِ بِأَلْفٍ، وَالْآخَرَ بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَالْآخَرَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا بَلَغَتْ السِّهَامُ عَشَرَةً فَلِلْأَوَّلِ عُشْرُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ رُبُعُ قِيمَتِهِ، وَلِلثَّانِي عُشْرَانِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ رُبُعُ قِيمَتِهِ وَلِلثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارٍ، وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رُبُعُ قِيمَتِهِ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةُ أَعْشَارٍ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ رُبُعُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ فَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ، وَهَذَا فَإِنَّهُ يُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْتِقُوا أَحَدَهُمَا وَيُمْسِكُوا الْآخَرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ يَشِيعُ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَالَ لِفُلَانِ: عَبْدِي هَذَا أَوْ عَبْدِي هَذَا لِلْآخَرِ وَصِيَّةٌ وَهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهُمَا شَاءُوا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُوصَى لَهُ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُعْطُوهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَهُنَاكَ الْعِتْقُ شَاعَ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُخْتَلِفٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ سِوَاهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَيَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ مِلْكِهِمْ عَنْ الْعَبْدِ وَتَأْخِيرَ حَقِّهِمْ إلَى خُرُوجِ السِّعَايَةِ فَكَانُوا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَالْأَجَانِبِ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِ مَا ثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَيَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ. وَلَوْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِالثُّلُثِ وَأَجَازَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ شَهِدَ الْوَارِثَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا فِي مَرَضِهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ جَازَ إعْتَاقُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 13 ثُبُوتَهُمَا بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِمَا بِالْمُعَايَنَةِ وَالْعِتْقُ الْمُنْفَذُ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَارِثِينَ لَا تُقْبَلُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ عَلَيْهِمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُبْطِلَانِ اسْتِحْقَاقَهُ، وَمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْعَبْدُ لِإِقْرَارِهِمَا بِفَسَادِ رِقِّهِ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ نَفَذَ مِنْ الثُّلُثِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُوصَى لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَلَوْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَبْدُهُ سَالِمٌ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَشَهِدَا وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ زِيَادٍ، وَهُوَ الثُّلُثُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْوَرَثَةِ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثُّلُثِ عَلَيْهِمْ أَوْ الْآخَرُ؛ وَلِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِلْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ فَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَجَعَلَهُ عَنْهُ وَجَعَلَهُ لِهَذَا الْآخَرِ أَوْ أَنَّهُ أَشْرَكَهُ مَعَهُ فِيهِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَجَزْت شَهَادَتَهُمَا لِلْآخَرِ فَأُعْتِقُهُ، وَلَا أُصَدِّقُهُمَا عَلَى الْفَصْلِ الَّذِي فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ وَصِيَّتِهِ يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَنْفَعَةً وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ عِتْقُ الْآخَرِ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ لِلْعَبْدَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ بِالْحِصَصِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَيْهِ هَذَيْنِ فِي مَرَضِهِ وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَرَاءَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فِي الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَحَدِهِمَا لِرَجُلٍ، وَبِالْآخَرِ لِآخَرَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْجَوَابُ، وَعِنْد أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: فِي مَرَضِهِ لِعَبْدٍ لَهُ وَمُدَبَّرٍ أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَلِلْمُدَبَّرِ ثُلُثَا الثُّلُثِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ يَتَخَيَّرَا الْعِتْقَ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ لَهُ حُرِّيَّةُ رَقَبَتِهِ وَيَشِيعُ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْبَيَانِ فَكَانَ الْقِنُّ مُوصَى لَهُ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ وَالْمُدَبَّرُ مُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ كَالتَّدْبِيرِ فَيَضْرِبُ الْمُدَبَّرَ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ وَالْقِنَّ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَلَوْ كَانَ قَالَ فِي الصِّحَّةِ سَعَى الْمُدَبَّرُ فِي سُدُسِ قِيمَتِهِ، وَالْآخَرُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْمَوْتِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 14 وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُدَبَّرُ مُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنْ رَقَبَتِهِ فَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُسَلِّمُ لَهُ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ وَبِالتَّدْبِيرِ ثُلُثَ الرَّقَبَةِ وَيَسْعَى فِي سُدُسِ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لِلْقِنِّ نِصْفَ رَقَبَتِهِ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ فَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فُلَانًا إنْ قُتِلَ، وَأَنَّهُ قَدْ قُتِلَ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا، فَإِنِّي أُجِيزُ الْعِتْقَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ فِي إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ إثْبَاتَ الْعِتْقِ وَالْقَتْلِ وَفِي الْأُخْرَى نَفْيَهُمَا وَالْمُثْبَتُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ فِي مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ هَذَا، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ، وَمَاتَ فِي أَهْلِهِ فَإِنِّي أُجِيزُ شَهَادَةَ شُهُودِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِمَا إثْبَاتَ الْعِتْقِ وَإِثْبَاتَ تَارِيخٍ سَابِقٍ فِي مَوْتِهِ، وَإِنْ شَهِدَ هَذَانِ الْآخَرَانِ أَنَّهُ قَالَ: إنْ رَجَعْت مِنْ سَفَرِي هَذَا فَمُتُّ فِي أَهْلِي فَفُلَانٌ حُرٌّ وَأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فَمَاتَ فِي أَهْلِهِ وَجَاءُوا جَمِيعًا إلَى الْقَاضِي فَإِنِّي لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى الرُّجُوعِ وَأُجِيزُ شَهَادَةَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ مَاتَ فِي أَهْلِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا مَوْتَهُ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِانْعِدَامِ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ الْمَوْتُ لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً فَيُبْطِلُ شَهَادَةَ الْآخَرِينَ جَمِيعًا ضَرُورَةً (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ: إنْ مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخَرِ فَفُلَانٌ حُرٌّ، وَإِنْ مَاتَ فِي رَجَبٍ فَفُلَانٌ حُرٌّ لِعَبْدٍ آخَرَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخَرِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي رَجَبٍ أَخَذْنَا بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَوْتِ الْأَوَّلِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَفُلَانٌ حُرٌّ، وَقَالَا: لَا نَدْرِي مَاتَ أَمْ لَا فَقَالَ: الْغُلَامُ مَاتَ مِنْهُ وَقَالَ الْوَارِثُ: صَحَّ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَدَّعِي شَرْطَ الْعِتْقِ وَالْوَارِثُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِلْغُلَامِ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الشَّرْطِ ظَاهِرًا لَا يَكْفِي لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلشَّرْطِ وَالْعِتْقِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَفُلَانٌ حُرٌّ، وَإِنْ بَرَأْتُ مِنْهُ فَفُلَانٌ آخَرُ حُرٌّ، فَقَالَ الْعَبْدُ: قَدْ مَاتَ مِنْهُ وَقَالَ الْوَارِثُ: قَدْ بَرَأَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي أَعْتَقْتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْعِتْقَ بِبَيِّنَةٍ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ لَهُمَا أَخَذْتُ بِبَيِّنَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، وَأَبْطَلْت الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَرَّتَيْنِ، وَإِذَا أَمَتُّهُ فِي الْأَوَّلِ بَطَلَ الْآخَرُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمُوتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 15 [بَابُ عِتْقِ النَّسَمَةِ عَنْ الْمَيِّتِ] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ نَسَمَةً لِيُعْتِقَهَا عَنْ الْمَيِّتِ كَتَبَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَصِيُّ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ اشْتَرَى مَمْلُوكًا يُقَالُ: لَهُ فُلَانُ الْفُلَانِيُّ، وَهُوَ رَجُلٌ قَدْ اجْتَمَعَ بِكَذَا دِرْهَمًا نَسَمَةً كَانَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِهَا لَهُ فَيُعْتِقُهَا عَنْهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ التَّقَابُضَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الرَّسْمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّكَّ حِكَايَةُ مَا جَرَى، وَالْمَقْصُودُ التَّوْثِيقُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ فَالنَّسَمَةُ هِيَ الرَّقَبَةُ الَّتِي تُشْرَى لِلْعِتْقِ، وَيَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُوصِي رَقَبَةً أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلًا مُجْتَمِعًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إنَّمَا يَتِمُّ بِإِعْتَاقِ مِثْلِهِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ عَاجِزَانِ عَنْ الْكَسْبِ وَالْأُنْثَى كَذَلِكَ فَيَصِيرُ بَعْدَ الْعِتْقِ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ رَجُلًا قَدْ اجْتَمَعَ يَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ الرِّقِّ، وَيَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّكَسُّبِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ مَعْنَى الرَّقَبَةِ فِي إعْتَاقِ مِثْلِهِ، وَقَصَدَ الْمُوصِي التَّقَرُّبَ وَصِفَةُ الْإِطْلَاقِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُعْتِقُ عَنْهُ بِالثُّلُثِ رَقَبَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمُوصِي، وَهُوَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبُ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ النَّسَمَةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ مِنْ مَحَلِّهَا، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الثُّلُثُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ بِالثُّلُثِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُصَدَّقَ لَهُ مِنْ مَالِهِ بِمِائَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْجَبَهَا لَهُ الْمُوصِي لَا يَجُوزُ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ بِنَسَمَةٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاَلَّتِي قِيمَتُهَا خَمْسُونَ غَيْرُ الَّتِي قِيمَتُهَا مِائَةٌ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَشْتَرِي بِثُلُثِ مَا يُوجَدُ كَانَ هَذَا تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي، ثُمَّ لِلْمُوصِي فِي تَقْدِيرِ الثَّمَنِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ التَّحَرُّزُ عَنْ إعْتَاقِ الْحَدِيثِ وَالتَّقَرُّبُ بِإِعْتَاقِ أَفْضَلِ الرِّقَابِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَرْغَبُ فِي وَلَاءِ عَبْدٍ كَثِيرِ الْقِيمَةِ وَيَتَحَرَّزُ عَنْ وَلَاءِ قَلِيلِ الْقِيمَةِ، فَفِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ إبْطَالُ مَقْصُودِ الْمُوصِي، وَإِلْزَامُ وَلَاءٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ وَبِهَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَإِنَّمَا نَظِيرُ هَذَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَجِّ لَوْ أَنَّ صَحِيحًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُحِجَّ عَنْهُ رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَحَجَّ عَنْهُ رَجُلًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُنَاكَ يَصِيرُ مُخَالِفًا ضَامِنًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعَلَى الجزء: 28 ¦ الصفحة: 16 هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ نَسَمَةً بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا يُشْتَرَى لَهُ بِالثُّلُثِ نَسَمَةٌ فَتُعْتَقُ عَنْهُ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لَهُمَا فِي الْأَصْلِ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِائَةٌ مِنْ مَالِهِ وَمِائَةٌ مِنْ مَالِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَكُنْتُ أُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَمَّى مَالَ الْأَجْنَبِيِّ أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لَهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ بِإِنْسَانٍ حُرٍّ أَوْ يُزَادَ مَعَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْءٌ لَا يَصْلُحُ مِنْ مَالِهِ أَكُنْتُ أُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ لَا أُبْطِلُهَا، وَهِيَ جَائِزَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ أَرَأَيْت لَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فَإِذَا فِيهَا دِرْهَمٌ سَتُّوقَةٌ أَوْ أَكْثَرُ لَا يُنْفَقُ أَمَا كُنْت آمِرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا بَقِيَ أَرَأَيْت لَوْ تَجَوَّزَ بِهَذَا الْبَائِعُ أَمَا كُنْت آمِرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا أَرَأَيْت لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ أَوْ هَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ أَكُنَّا نُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ قِيلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْخِلَافِ وَمِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَقِيلَ: بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَيَقُولُ: إذَا أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى نَسَمَةٌ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لَكَانَ الْمُشْتَرَى كُلُّهُ وَالْعِتْقُ يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُجِيزُوا لَوْ قُلْنَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ كُنَّا نُلْزِمُهُ. وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ لَوْ أَجَازَ الْغَيْرُ هُنَاكَ لَا يَكُونُ الْمُشْتَرَى كُلُّهُ لَهُ، وَلَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَيْسَ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ فِي مَالِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِالثُّلُثِ فَثُلُثُ مَالِهِ يُقَسَّمُ عَلَى الثُّلُثِ وَعَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ قِيمَةِ النَّسَمَةِ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْأَدْنَى فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ قِسْمَةُ الثُّلُثِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ مِنْ كُلِّ وَصِيَّتِهِ فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ النَّسَمَةِ يُعْتِقُ بِهِ النَّسَمَةَ، وَمَا أَصَابَ الثُّلُثَ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى عَبْدُ فُلَانٍ فَيُعْتَقَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ، وَإِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مِنْ الْبَيْعِ بِالثُّلُثِ أُوقِفَ الثُّلُثُ حَتَّى يَبِيعَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْوَصِيَّةِ فَمَا دَامَ فِيهِ رَجَاءُ التَّنْفِيذِ يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ الثُّلُثُ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا فَيَرْجِعُ إلَى الْوَارِثِ ذَلِكَ إنْ كَانَ سَمَّى مَا يُشْتَرَى بِهِ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَسَمَةً بِهَذِهِ الْمِائَةِ بِعَيْنِهَا فَيُعْتِقُهَا مِنْ الثُّلُثِ عَنْهُ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ تِلْكَ الْمِائَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ وَالْمِائَةُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِتِلْكَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ بِمَا ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 17 وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُضِيَ بِمَالِ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهَا، وَيَكُونُ الْعِتْقُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ يَكُونُ ثَمَنُ النَّسَمَةِ الثُّلُثَ مِنْ ذَلِكَ بَرِئَ الْوَصِيُّ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّ غَيْرُ مُخَالِفٍ، وَأَنَّهُ نَفَّذَ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا فَلَا يَلْحَقُهُ عَهْدٌ وَلَا ضَمَانٌ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ نَسَمَةٌ فَتُعْتَقُ عَنْهُ فَبَاعَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ رُدَّ الْعَبْدُ مِنْ عَيْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْوَصِيُّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ، وَذَلِكَ رَدَّ الثَّمَنَ عِنْدَ رَدِّ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ يُقَالُ بِعْ الْعَبْدَ، فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي شِرَاءِ النَّسَمَةِ وَالْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ بَلْ هُوَ مُنَفِّذٌ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا. وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ فَالْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَمَّا إذَا نَقَصَ ثَمَنُ الْعَبْدِ عَمَّا اشْتَرَى بِهِ النَّسَمَةَ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ نَسَمَةً يَشْتَرِيهَا بِثَمَنِ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ نَسَمَةٌ اشْتَرَاهَا بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَكَانَ غَيْرَ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوَصِيَّةُ فَلِهَذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْعِتْقُ عَنْهُ وَيَشْتَرِي بِالثَّمَنِ نَسَمَةً أُخْرَى فَيُعْتِقُهَا عَنْ الْمَيِّتِ. وَلَوْ لَمْ يُرَدَّ الْعَبْدَ بِالْعَيْبِ، وَلَكِنْ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الثَّمَنَ فَكَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ اشْتَرَى الْوَصِيُّ النَّسَمَةَ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الشِّرَاءِ عَلَى مَنْ اشْتَرَى لَهُ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ وَكَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْوَصِيِّ نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُوصِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَرْجِعُ الْوَصِيُّ بِهِ؟، أَرَأَيْت لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا لِلْيَتِيمِ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ بَاعَ لَهُ فَلَحِقَهُ غُرْمٌ وَلَيْسَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ أَكَانَ يَرْجِعُ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ نَسَمَةٌ تُعْتَقُ عَنْهُ وَمَالُهُ ثَلَثُمِائَةٍ فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ بِمِائَةٍ نَسَمَةً فَأَعْتَقَهَا، وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ مِائَتَيْنِ فَاسْتُحِقَّتْ النَّسَمَةُ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ وَقَبَضَ الْوَصِيُّ الْمِائَةَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا نَسَمَةً أُخْرَى فَتَلِفَتْ مِنْهُ مِائَةٌ يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا أَخَذُوا لِيَشْتَرِيَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ بَاطِلٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْمُوصِي، وَفِي قَوْلِهِمَا مُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْوَرَثَةَ جَائِزَةٌ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا أَصَابَ الْوَرَثَةَ بِشَيْءٍ وَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَجِّ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُشْتَرَى لَهُ نَسَمَةٌ بِعَيْنِهَا فَتُعْتَقُ عَنْهُ فَاشْتَرَاهَا الْوَصِيُّ، ثُمَّ مَاتَتْ فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا لِشَخْصٍ آخَرَ وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 18 فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَدُفِعَتْ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا، وَهُوَ مِلْكُ الْمُوصِي. وَلَوْ فَدَاهَا الْوَرَثَةُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ فِي الْفِدَاءِ وَتُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ عَنْ الْجِنَايَةِ وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَحَلًّا لِوَصِيَّتِهِ وَالْوَرَثَةُ مَا كَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْفِدَاءِ فَكَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسَمَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حُكْمًا فَكَأَنَّهُمْ فَدَوْهَا مِنْ الْجِنَايَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ حَالُهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ وَلَدَتْ النَّسَمَةُ أَوْ الْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَإِنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْمَيِّتِ الْوَلَاءَ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْمَيِّتُ وَلَاءَ الْأَمَةِ لَا وَلَاءَ وَلَدِهَا وَالْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُفْصَلُ مِنْهَا الْوَلَدُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَهَا لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّسَمَةُ وَالْأُمُّ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ تُعْتَقْ بِذَلِكَ حَتَّى تُعْتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْوَصِيَّةِ يَمْنَعُ انْتِقَالَهَا إلَى الْوَارِثِ بَلْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ إذَا عَتَقَتْ عَنْهُ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمَيِّتِ وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ فِي عَيْنٍ بِجِهَةٍ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ عَنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ وَتَصْرِيحُهُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِي لَمْ تَكُنْ مُدَبَّرَةً، وَلَكِنَّهَا تُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَمَاتَ الْقَائِلُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ فِي حُكْمِ الْمَالِكِ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بَدَلَهَا وَزَوَائِدَهَا وَكَسْبَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ مَالِكًا فِيمَا فِيهِ إبْطَالُ وَصِيَّةِ الْمُوصِي، فَأَمَّا فِيمَا فِيهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فَيُجْعَلُ الْوَارِثُ كَالْمَالِكِ فَيَصِحُّ مِنْهُ تَعْلِيقُ عِتْقِهَا بِمَوْتِهِ أَوْ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُجْعَلُ كَالْمُنَجَّزِ لِعِتْقِهَا فَيُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ إذَا عَلَّقَ عِتْقَهَا بِالشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ التَّفْوِيضِ وَالْمُفَوَّضُ إلَيْهِ يُنَجِّزُ الْعِتْقَ وَالْمَأْمُورُ بِالتَّنْجِيزِ إذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِلًا. وَلَوْ قَالَ لَهَا الْوَارِثُ: أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْتِ فَقَبِلَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا تُعْتَقُ بِجِهَةِ الْوَصِيَّةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ تُعْتَقَ نَسَمَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ فَإِذَا أَوْصَى كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ كَالتَّطَوُّعَاتِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ أَوْ بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَجَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً فَالْأَرْشُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي كَوْنِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 19 فَارِغًا عَنْ الْوَصِيَّةِ فَالْوَارِثُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لَهَا فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ فَكَانَ كَسْبُهَا لِلْوَرَثَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ زَوَّجُوهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تَثْبُتُ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ رَقَبَتَهَا لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِالْوَصِيَّةِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَوَجَبَ الْمَهْرُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ يَبِيعُ عَبْدَهُ هَذَا، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَبَاعَهُ الْوَصِيُّ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّةً يَقُولُ: يَضْمَنُ الْوَصِيُّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ، وَالْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي قَبَضَ الثَّمَنَ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِمَّا وَصَلَ إلَى الْوَرَثَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَرْجِعُ الْوَصِيُّ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلْمَيِّتِ فَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ لَهُ يَسْتَوْفِيه مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ مِمَّا يَغْرَمُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا الْغُرْمُ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَلِهَذَا يُقْتَصَرُ رُجُوعُهُ عَلَى ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيِّ وَالْوَصِيَّةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ تَرَكْته؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلتَّوَثُّقِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَأَكْثَرُ مَا تَقَعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ التَّرِكَةُ الَّتِي تَصِيرُ فِي يَدِ الْمُوصِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهَا فِي الْكِتَابِ إنْ كَتَبَ فِيهِ أَنَّهُ يُعْمَلُ كَذَا إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا أَوْ فِي سَفَرِهِ هَذَا فَرَجَعَ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَبَرَأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ وَقَدْ فَاتَ، وَالْوَصِيَّةُ إلَى الْغَيْرِ إثْبَاتُ الْخِلَافَةِ أَوْ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْوَكَالَةِ أَوْ هِيَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِي مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَدَ الْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ اسْتِحْسَانًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَصَايَا تُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي التَّصَرُّفِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَالْأَخَوَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَبِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 20 بِانْفِرَادِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ إنَابَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا نَائِبَيْنِ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فَلَا تَثْبُتُ الْإِنَابَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، وَبَيَانُ أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ التَّصَرُّفِ الْفَرْقُ لِلْمُوصِي، لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي وَالْإِنَابَةُ تَسْتَدْعِي قِيَامَ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَتُبْطِلُ سُقُوطَ وِلَايَتِهِ كَالْوَكَالَةِ. وَأَمَّا الْوِلَايَةُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ فَتَسْتَدْعِي سُقُوطَ وِلَايَةِ مَنْ هُوَ أَصْلٌ لِيَصِيرَ الْخَلَفُ قَائِمًا مُقَامَهُ كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: سَبَبُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ التَّفْوِيضُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ سَبَبِ التَّفْوِيضِ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِمَا حَقَّ التَّصَرُّفِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الْعِلَّةِ وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْأُخُوَّةُ، وَهِيَ مُتَكَامِلَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِاعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْمُوصِي وَرِضَاهُ بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى فَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، وَمَقْصُودُهُ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ رَأْيَيْهِمَا أَظْهَرُ فَأَشْبَهَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْوَكَالَةَ فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَعْدُودَةُ فَهُوَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلصَّغِيرِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَقَبُولُ الْهِبَةِ وَالْخُصُومَةُ وَالْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا؛ لِأَنَّ التَّجْهِيزَ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ وَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَفِي اشْتِرَاطِ اجْتِمَاعِهِمَا إلْحَاقُ الضَّرَرِ لَا تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّبِيِّ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوصِيَ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ؛ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَبِدُّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إلَى فِعْلٍ أَوْ رَأْيٍ مِنْ الْوَصِيِّ فَرَدُّ الْوَدِيعَةِ كَذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ إذَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَذَلِكَ فَالْوَصِيُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالْخُصُومَةِ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا، وَإِنْ حَضَرَا لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلِهَذَا مَلَكَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ الْخُصُومَةَ وَالتَّفَرُّدَ بِهَا أَمَّا قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي الْوِلَايَةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّبِيَّ يَقْبَلُ بِنَفْسِهِ وَمَنْ يَعُولُهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ لَهُ فَأَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ بِذَلِكَ أَوْلَى فَأَمَّا اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِرْدَادُ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ، وَيَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ وَفِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَحِفْظِ الْمُثَنَّى وَإِنَّمَا رَضِيَ الْمُوصِي بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّ هَاهُنَا يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 21 بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وُكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ إنَّمَا نُثْبِتُ الْوَصِيَّةَ لَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالْإِيصَاءِ إلَى الثَّانِي يَقْصِدُ إشْرَاكَهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَمْلِكُ إشْرَاكَ الثَّانِي مَعَهُ، وَقَدْ يُوصِي الْإِنْسَانُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْمَامِ مَقْصُودِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ عَجْزُهُ عَنْ ذَاكَ فَيَضُمُّ لَهُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ فَإِنَّ رَأْيَ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ هُنَاكَ. وَإِذَا عَجَزَ الْوَكِيلُ يُمَكِّنُ الْمُوَكَّلَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ ضَمَّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ إنَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِي مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّ الْآخَرَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ، وَالْقَاضِي قَائِمٌ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي النَّظَرِ فَيُعْجِزُهُ بِنَفْسِهِ عَنْ النَّظَرِ فَيَضُمُّ إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنَّمَا كَانَ الْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَ مُتَصَرِّفِينَ فِي حُقُوقِهِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ نَصَبَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُوصِي مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْضَى بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِي لَمْ يَرْضَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا مَاتَ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ بِحَالٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِعَقْدٍ فَهُوَ كَالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ الْوَكَالَةُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا مَاتَ وَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ سُقُوطِ وِلَايَةِ وَصِيٍّ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوصِي حُكْمًا كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ حُكْمًا وَفِقْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصِيَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ فِي الرَّأْيِ يَتَفَاوَتُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوَكِّلُ الْوَصِيُّ أَيْضًا عِنْدِي، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ كَالْجَدِّ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ فِي الْمَالِ إلَى الْوَصِيِّ فِي النَّفْسِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 22 الْجَدُّ فِيمَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَوَّلِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ يُجْعَلُ الْأَوَّلُ قَائِمًا حُكْمًا وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْخِلَافَةِ إعْدَامُ الْأَصْلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي أَنْ يَتَدَارَكَ بِرَأْيِهِ مَا فَرَّطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ هُنَاكَ قَائِمٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِوَكِيلِهِ الرِّضَا بِوَكِيلِ غَيْرِهِ أَوْ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيَقُولُ: هُوَ بِمُطْلَقِ الْإِيصَاءِ يَجْعَلُ الْوَصِيَّ خَلَفًا عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَحُقُوقِهِ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، وَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى تَرِكَتِهِ فَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَلَيْسَ مِنْ حَوَائِجِهِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ وَمَوْتِ الْمُوصِي صَارَ التَّصَرُّفُ فِي تَرِكَةِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مِنْ حَوَائِجِهِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَ خَلَفًا عِنْد قَائِمًا مُقَامَهُ فِي كُلِّ مَكَان يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي التَّرِكَتَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَخْلُفُهُ الْوَصِيُّ الثَّانِي فِيهِمَا جَمِيعًا بِمُطْلَقِ الْإِيصَاءِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَخُصَّ تَرِكَتَهُ عِنْدَ الْإِيصَاءِ إلَى الثَّانِي فَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ، وَبَالَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَإِذَا قَبِلَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، ثُمَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُوصِي وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ وَبَعْدَ مَا قَبِلَ الْوَصِيُّ لَوْ جَازَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُوصَى؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ وَالْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ اعْتِمَادًا عَلَى قَبُولِهِ وَيَصِيرُ هَذَا الْوَصِيُّ بِالْقَبُولِ كَالْغَارِّ لَهُ وَالْغَرُورُ حَرَامٌ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ، وَإِنْ قَبِلَهُ فِي حَيَاتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَلَيْسَ فِي رَدِّهِ مَعْنَى الضَّرَرِ وَالْغَرُورُ حَقُّ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ إذَا رَدَّهُ لَا يَضِيعُ الْمَالُ بَلْ يَصِيرُ إلَى وَارِثِهِ وَذَلِكَ خَيْرٌ لِلْمُوصِي شَرْعًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيُّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِدُونِ قَبُولِهِ كَالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ فِي رَدِّهِ هُنَا غَرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُوصِي هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ حِينَ لَمْ يَعْرِفْ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ أَمْ لَا، فَإِنْ رَدَّهُ فِي وَجْهِ الْمُوصِي فَقَالَ الْمُوصِي مَا كَانَ ظَنِّي بِك هَذَا فَمَنْ يَقْبَلُ وَصِيَّتِي إذَا أَمْكَثَ حَتَّى الجزء: 28 ¦ الصفحة: 23 مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ قَبِلَ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ بِرَدِّهِ فِي وَجْهِهِ بَطَلَتْ الْوِصَايَةُ فَلَا يُمْكِنُ قَبُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّهُ رَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي، ثُمَّ قَبِلَهَا بِأَنْ سَمِعَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَصِيًّا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ وَصِيًّا؛ لِأَنَّ رَدَّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي إنَّمَا يَتِمُّ إذَا بَلَغَ الْمُوصِي فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى قَبِلَ صَارَ كَأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَبْلَ الْقَبُولِ هُوَ يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي، وَفِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ قَبِلَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَدَّهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَهَا فِي وَجْهِهِ بَلْ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وِلَايَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْقَبُولُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَلْزَمَ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، ثُمَّ دَلِيلُ الْقَبُولِ كَصَرِيحِ الْقَبُولِ حَتَّى لَوْ بَاعَ بَعْضَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ اشْتَرَى لِلْوَرَثَةِ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَوْ اقْتَضَى مَالًا أَوْ قَضَاهُ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْقَبُولِ وَالرِّضَى بِهِ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ أَوْ الْفَسْخِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِبَرِيرَةَ: إنْ وَطِئَك الزَّوْجُ فَلَا خِيَارَ لَك»، وَإِذَا اشْتَكَى الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى تَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ اخْتَارَهُ وَرَضِيَ بِهِ وَالشَّاكِي قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا فِي شَكْوَاهُ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِيَانَتَهُ لَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى النِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ خِيَانَةً عَزَلَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ اعْتَمَدَ فِي اخْتِيَارِهِ أَمَانَتَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِخِيَانَتِهِ عَزَلَهُ وَالْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ قَائِمٌ مُقَامَهُ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي شَكَا إلَى الْقَاضِي عَجْزَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ وَعَجْزَهُ عَنْ الِاسْتِبْدَالِ ضَمَّ إلَيْهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ الْوَصِيُّ بِالْعَجْزِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ أَوْ يَتْرُكَ التَّصَرُّفَ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ وَيَرْتَفِعُ هَذَا الْخَلَلُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ عَجْزُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ اسْتَبْدَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ عَجْزُهُ اسْتَبْدَلَ بِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ مُقَامَهُ فِي النَّظَرِ، وَهُوَ الْقَاضِي. وَإِذَا أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَجَازَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ، وَالرِّقُّ يَنْفِي وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَمْنَعُ وِلَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِمَوْلَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّبَرُّعِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ مِنْهُ لِلْعَبْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، فَإِذَا رَجَعَ عَنْهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِهِ، وَالْوَرَثَةُ كِبَارٌ أَوْ فِيهِمْ كَبِيرٌ فَلِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 24 التَّصَرُّفِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْهُ فَيَمْنَعُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِمْ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي يَنْفِي الْوِلَايَةَ قَائِمٌ فِي عَبْدِهِ كَمَا هُوَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَرَثَةِ، وَإِثْبَاتُ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوْصَى إلَى مُخَاطَبٍ مُطَّلِعٍ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَوْصَى إلَى مُكَاتَبِهِ أَوْ مُكَاتَبِ غَيْرِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا مُطَّلِعٌ أَيْ مُسْتَنِدٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَنْعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا اكْتِسَابَ سَبَبٍ يَمْنَعُهُ. وَلَوْ كَانَ الرِّقُّ يَمْنَعُ الْإِيصَاءَ إلَيْهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمُكَاتَبِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ: الْمُكَاتَبُ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الصِّغَارُ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَمْلِكُونَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَلَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ فِي حُقُوقِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ تَوَفُّرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ فَإِنَّ مَنْ رَبَّى عَبْدَهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ وَلِهَذَا اخْتَارَهُ لِلْوَصِيَّةِ فَلِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ جَوَّزَ الْوِصَايَةَ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا كَالْوَصِيَّةِ إلَى مُكَاتَبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ عَادَ قِنًّا فَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ، وَإِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ إلَى حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَأْمَنٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْوَصِيِّ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ، وَلَا وِلَايَةَ لِلذِّمِّيِّ وَلَا لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ يَخْلُفُ الْمُوصِيَ فِي التَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، ثُمَّ الْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَصِيًّا لِلْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الْحَرْبِيِّ لَمْ تَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الذِّمِّيِّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ وِلَايَةٌ بِالْقَرَابَةِ فَكَذَلِكَ بِالتَّفْوِيضِ، وَأَحَدُهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا لَهُ أَيْضًا. وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ إرْثًا وَتَصَرُّفًا. وَلَوْ أَوْصَى إلَى فَاسِقٍ مِنْهُمْ مُتَخَوِّفٍ عَلَى مَالِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ إنَّمَا يَجُوزُ شَرْعًا لِيَتِمَّ بِهِ نَظَرُ الْمُوصِي لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَبِالْإِيصَاءِ إلَى الْفَاسِقِ لَا يَتِمُّ مَعْنَى النَّظَرِ وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ بَاطِلَةٌ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَصِيًّا بَلْ يَصِيرُ وَصِيًّا لِكَوْنِ الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ إرْثًا وَتَصَرُّفًا حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 25 يَحْصُلْ نَظَرُ الْمُوصِي لِنَفْسِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْتِ أَنَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ لِهَذَا، وَإِذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِمَالِهِ فَهُوَ وَصِيٌّ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَسَائِرِ أَسْبَابِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا إلَّا فِيمَا جَعَلَهُ وَصِيًّا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَا خَصَّهُ بِهِ الْمُفَوِّضُ كَالتَّوْكِيلِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَصِيَّ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فَيُثْبِتُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ إيجَابُ الْمُوصِي، وَقِيلَ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لَمَّا كَانَ سَبَبُ التَّقْلِيدِ كَانَ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ بِحَاجَةِ الْمُوصِي، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ فَرُبَّمَا يَكُونُ التَّفْرِيطُ مِنْهُ فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَنَجْعَلُهُ وَصِيًّا فِيمَا فَرَّطَ فِيهِ، وَرُبَّمَا يُؤْتَمَنُ هَذَا الْوَصِيُّ عَلَى نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَوْ يُعْرَفُ هِدَايَتُهُ فِي نَوْعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ نَوْعٍ، وَرُبَّمَا يَعْرِفُ شَفَقَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَلَا يَأْتَمِنُهَا عَلَى مَالِهِمْ فَيَجْعَلُ الْغَيْرَ وَصِيًّا عَلَى الْمَالِ دُونَ الْأَوْلَادِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا مُقَيَّدًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْجَدِّ، وَكَمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْجَدِّ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَقْبَلُ النَّقْلَ إلَيْهِ وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْإِيصَاءَ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت إلَيْك مُطْلَقًا. وَلَوْ كَانَ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْإِنَابَةِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَالتَّوْكِيلِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُك بِمَالِي لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَعَلْتُك حَاكِمًا لَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَهُنَا لَمَّا صَحَّ الْإِيصَاءُ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَرَفْنَا أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْوِلَايَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ وِلَايَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالتَّقْلِيدِ فِي الْحُكُومَةِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيصَاءَ تَفْوِيضٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّفْوِيضُ إنَّمَا يُعْمَلُ بَعْدَ زَوَالِ وِلَايَةِ الْمُوصِي وَعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ كَانَ جَوَازُهُ لِحَاجَتِهِ، وَالْحَاجَةُ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَهُوَ عِنْدَ الْإِيصَاءِ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى النَّائِبِ بَعْدَهُ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَصِيِّ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُوصِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَقْصِدْ تَنْفِيذَ وِلَايَتِهِ بِمَا سُمِّيَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَهَمَّ عِنْدَهُ وَالْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ هَذَا يَذْكُرُ الْأَهَمَّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ فَإِذَا تَجَدَّدَتْ الْحَاجَةُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِتَفْوِيضِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي التَّقْلِيدِ، فَإِنَّ رَأْيَ الْمُقَلِّدِ قَائِمٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَفْصِلَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ الْمُعَيِّنِ إلَى رَجُلٍ وَبِتَقَاضِي الدَّيْنِ إلَى آخَرَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 26 فَهُمَا وَصِيَّانِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيٌّ فِيمَا سُمِّيَ لَهُ خَاصَّةً، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوصِيَ أَحْسَنَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ هَهُنَا حِينَ اخْتَارَ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ بِمَنْ يَكُونُ أَمِينًا قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَاخْتَارَ لِتَقَاضِي الدَّيْنِ مَنْ يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى ذَلِكَ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنَّمَا قُلْنَا تَتَعَدَّى الْوِصَايَةُ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ؛ لِأَنَّ بِهِ تَمَامَ النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ وَتَمَامُ النَّظَرِ هَهُنَا فِي أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا سُمِّيَ لَهُ فَإِنَّمَا يُخْتَارُ لِيَتَقَاضَى إلَى النَّاسِ وَلِلتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ أَمِينُ النَّاسِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ التَّصَرُّفَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ لِلْوَصِيِّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي الْبَعْضِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَيَلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهَهُنَا التَّصَرُّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا سُمِّيَ لَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَلْحَقُ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَفِي إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا قَصْرُ وِلَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي شَرْعًا، وَالتَّقْيِيدُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ تَصَرُّفَهُ بِنَوْعٍ وَنَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوصِ إلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْكُلِّ عَرَفْنَا أَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَذَلِكَ الْإِيصَاءُ إلَيْهِمَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَاحِدِ إذَا نُصَّ لَهُ عَلَى نَوْعٍ تَتَعَدَّى وِلَايَتُهُ إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا خَاصًّا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ يَثْبُتُ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ فِي النَّوْعِ الَّذِي سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا تَقْبَلُ التَّمْيِيزَ فِي الْأَنْوَاعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَائِبُهُ فِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ. وَلَوْ قَالَ فُلَانٌ وَصِيِّي حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ إلَى فُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا لِكَوْنِ مَنْ يَخْتَارُهُ لِوَصِيَّتِهِ غَائِبًا فَيَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ غَيْرِهِ لِكَيْ لَا يَضِيعَ مَالُهُ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْغَائِبُ، ثُمَّ إذَا قَدِمَ فَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْوَصِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْخَاصَّةَ إلَى الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَتْ بِقُدُومِ الثَّانِي فَهُوَ كَالْمُنْتَهِي بِبُلُوغِ الْوَلَدِ، وَقَدْ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي مُعَلَّقَةً بِقُدُومِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، ثُمَّ بِهَذَا الْفَصْلِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: التَّقْيِيدُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ، ثُمَّ لَمَّا صَحَّ النَّوْعُ لَهُ أَنْ يُقَيِّدَ بِصَرْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَمَانٍ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ تَقْيِيدُهُ بِالنَّوْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى نَوْعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 27 الْأَنْوَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى جُزْءًا مِنْ الزَّمَانِ كَالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَانَ وَصِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْوَلَدُ، ثُمَّ إذَا نَصَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَهُمَا وَصِيَّانِ فَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ الثَّانِي تَنْضَافُ إلَى مَا بَعْدَ قُدُومِهِ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ مُطْلَقَةٌ فَيَتَصَرَّفُ الْأَوَّلُ إلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ أَوْ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَهُ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ صَارَ الثَّانِي وَصِيًّا وَالْأَوَّلُ وَصِيٌّ فَيَشْتَرِكَانِ فِي التَّصَرُّفِ. وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَهُنَا لَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا مُطْلَقٌ وَفِي الْآخَرِ مُعَلَّقٌ فَأَمَّا هَهُنَا فَتَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا، وَالْعَقْدُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقٌ؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِلَافَةِ لَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ فَلِهَذَا تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ وَلَدِهِ وَمِيرَاثِهِمْ إلَى رَجُلٍ وَبِبَقِيَّةِ وَلَدِهِ وَمِيرَاثِهِمْ إلَى آخَرَ فَهُمَا وَصِيَّانِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُوصِي كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْكُلِّ، وَهِيَ مِمَّا تَقْبَلُ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِالْإِيصَاءِ فَيَقُومَانِ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي الْمَالِ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا اسْتَوْدَعَاهُ رَجُلًا، وَإِنْ أَحَبَّا كَانَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ إلَيْهِمَا، وَيَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُمَا يَنْقَطِعَانِ بِذَلِكَ عَنْ أَشْغَالِهِمَا فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْفَظَ نِصْفَهُ كَالْمُودِعِينَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَإِنْ أَحَبَّا اسْتَوْدَعَاهُ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِيمَا لَهُ مِنْ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالْإِيدَاعُ يَدْخُلُ فِي هَذَا وَقَدْ يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ فَإِذَا جَازَ لِلْوَصِيِّ الْوَاحِدِ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ جَازَ لِلْوَصِيَّيْنِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَازَ لَهُمَا أَنْ يُودِعَاهُ غَيْرَهُمَا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُمَا أَنْ يُودِعَاهُ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ رَأْيِ الْمُوصِي كَانَ أَوْلَى. قَالَ: وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِنَفْسِهِ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَيَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً وَيُشَارِكَ بِهِ لَهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى التِّجَارَةِ فِي مَالِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ قَائِمًا مُقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لِيَكُونَ الْمَالُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ دَفْعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِلتَّصَرُّفِ كَالْوَكِيلِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُوصِي فِي وِلَايَتِهِ فِي الجزء: 28 ¦ الصفحة: 28 مَالِ الْوَلَدِ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا كُلَّهُ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا يَكُونُ أَصْلَحَ لِلْيَتِيمِ وَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَقَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] وَقَدْ يَكُونُ الْأَحْسَنُ فِي تَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ إلَى غَيْرِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِعَجْزِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إمَّا لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ أَوْ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا لَمْ يُشْهِدْ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً كَانَ مَا اشْتَرَى لِلْوَرَثَةِ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِمْ قَائِمٌ مُقَامَهُمْ. وَلَوْ تَصَرَّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الرِّبْحُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِمْ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا تَصَرَّفَ، ثُمَّ هُوَ كَتَبَ أَعْمَلُ فِيهِ مُضَارَبَةً يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِشْهَادِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ عَلَيْهِمْ بَلْ يَبْقَى بَعْضُ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَيَجْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَالِهِمْ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي تَصَرُّفِهِ؛ فَلِهَذَا يَجُوزُ. وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ وَالْوَرَثَةُ صِغَارٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ أَهْلَ الْوَصِيَّةِ فَأَعْطَاهُمْ الثُّلُثَ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْمُوصِيَ أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الْخِلَافَةَ لِحَاجَةِ وَرَثَتِهِ إلَى ذَلِكَ؛ وَلِيَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي النَّظَرِ لَهُمْ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ فَجَازَتْ مُقَاسَمَتُهُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تَجُوزُ مُقَاسَمَةُ الْوَرَثَةِ مَعَهُمْ أَنْ لَوْ كَانُوا بَالِغِينَ، فَإِنْ هَلَكَتْ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ يَكُونُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْهَلَاكُ فِي قَسْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ صَغِيرًا فَأَعْطَى الْوَصِيُّ الْوَارِثَ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ حَتَّى إذَا هَلَكَ الثُّلُثُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَارِثِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُ الْمَالَ ابْتِدَاءً بِالْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَبْقَى لَهُ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ فِي الْمُقَاسَمَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي تَمَيُّزِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ بِقَبُولِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَأَمَّا الْوَارِثُ فَيَخْلُفُ الْمَوْرُوثَ فِي مِلْكِهِ وَيَبْقَى لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْرُوثِ وَلِهَذَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ فَيَقُومُ الْوَصِيُّ مُقَامَهُ فِي تَمْيِيزِ ذَلِكَ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ هَهُنَا فَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا فَقَالَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْت عَلَيْهِمْ كَذَا دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةَ مِثْلِهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ زِيَادَةَ شَيْءٍ قَلِيلٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيهِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إنْ اتَّهَمُوهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمُحْتَمَلِ مَعَ الْيَمِينِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 29 ثُمَّ هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْقَلِيلِ مِنْ الزِّيَادَةِ لَا يَخْرُجُ إنْفَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا أُخْبِرَ فِيمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ. وَإِنْ اتَّهَمُوهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْكَبِيرَ، وَأَعْطَاهُ حِصَّتَهُ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ الصَّغِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الصَّغِيرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْمُقَاسَمَةُ مَعَ الْكَبِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ مِلْكُهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا، فَقَالَ الْوَصِيُّ: أَنْفَقْت عَلَى هَذَا كَذَا، وَعَلَى هَذَا كَذَا، وَكَانَتْ نَفَقَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَاجَةِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ حَاجَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ لَأَنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْأَكْلِ فَبِاخْتِيَارِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ لَا يَزُولُ احْتِمَالُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِهِ وَلَا يَخْرُجُ الظَّاهِرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ الْوَصِيُّ لِلْوَارِثَيْنِ وَهُمَا كَبِيرَانِ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: صَدَقْت وَقَالَ الْآخَرُ: كَذَبْت فَإِنَّ الَّذِي صَدَّقَهُ ضَامِنٌ لِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا يُؤَدِّيهَا إلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ شَرِيكُهُ مَا قَبَضَ الْخَمْسَمِائَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ الَّذِي صَدَّقَهُ بِقَبْضِ خَمْسِمِائَةٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ وَقَوْلُ الْوَصِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ فِي وُصُولِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَقَرَّ الْمُصَدِّقُ بِقَبْضِهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَهَا إلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ شَرِيكُهُ مَا قَبَضَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ يَدَّعِي الِاخْتِصَاصَ بِهَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ وَالْوَصِيُّ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِمَا وَمَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ مِنْ التَّرِكَةِ كَالْبَادِي. وَإِذَا قَسَّمَ الْوَصِيُّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَهُمْ صِغَارٌ وَعَزَلَ لِكُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ أَوْ كَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا وَذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْكِبَارِ لَمْ يَجُزْ وَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ مِنْهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَمْيِيزِ الْأَنْصِبَاءِ وَالْوَاحِدُ لَا يَنْفَرِدُ بِذَلِكَ، ثُمَّ الْوَصِيُّ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتَامَى مَعَ نَفْسِهِ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ تَكُونُ لَهُمْ وَبِالْقِسْمَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَتْ قِسْمَتُهُ بَاطِلَةً وَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِذَا قَضَى الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ بِشُهُودٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَضَى ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي حَوَائِجِهِ وَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ وَقَدْ كَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنَهُ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَلِلْمُوصِي أَنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 30 يُعْطِيَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ الْقَاضِي، وَإِنْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ الْغَرِيمِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ، وَفِي التَّخْصِيصِ إبْطَالُ حَقِّ بَعْضِهِمْ وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فَيَكُونُ دَفْعُهُ جِنَايَةً فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ أَعْطَى الْأَوَّلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَدَفْعِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْقَابِضَ وَالْقَاضِي بِهَذَا لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا فَالْمَأْمُورُ مِنْ جِهَتِهِ بِالدَّفْعِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْقَابِضَ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقَّيْهِمَا، ثُمَّ لَيْسَ فِي الدَّفْعِ بِأَمْرِ الْقَاضِي إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ عَنْ الْمَدْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَالْقَابِضُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجُحُودِ وَأَمَّا إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَذَلِكَ مِنْهُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْآخَرِ أَوْ بِغَيْرِ نَصٍّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ رُبَّمَا يَجْحَدُ الْقَبْضَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْغَرِيمُ الْآخَرُ مِنْ اتِّبَاعِهِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ فَدَفَعَا إلَى رَجُلٍ دَيْنًا وَشَهِدَا أَنَّهُ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِجَمِيعِ مَا دَفَعَا؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا فَقَدْ صَارَا ضَامِنَيْنِ لِمَا دَفَعَا إلَى الطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِشَهَادَتِهِمَا إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ بَقِيَ دَفْعُهُمَا الْمَالَ الْمُدَّعَى جِنَايَةً فِي حَقِّ مَنْ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لِجَمِيعِ مَا دَفَعَا. وَلَوْ لَمْ يَكُونَا دَفَعَا حَتَّى شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي فَقَضَى الْقَاضِي بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَجَانِبِ وَإِنَّمَا دَفَعَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا وَأَمَرَهُمَا بِالدَّفْعِ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى دَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا دَفَعَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَتَّبِعُ الْمَقْضِيَّ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ حِصَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّهِمَا. قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَهِيَ كَشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَيْهِمَا فِيهَا ضَرَرٌ، وَالْوَصِيُّ مُصَدَّقٌ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ فِيمَا يُكَفَّنُ بِهِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ أَمِينٌ مَنْصُوبٌ لَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْوَصِيُّ الْكَفَنَ مِنْ مَالِهِ وَنَقَدَ لَهُ الثَّمَنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَفَنٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْكَفَنَ لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ حَاضِرًا يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ مِنْهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ الْوَصِيُّ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 31 نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ مِنْ مَالِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ بِشُهُودٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْخُوذُ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاصَمُ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ مَعْنَاهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي حَالٍ لَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ. وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَدَائِهِ مِنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَدَائِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ الطَّعَامَ وَالْكُسْوَةَ مِنْ مَالِهِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْ يُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ خَرَاجَهُمْ بِشُهُودٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّبِيُّ لَا يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ وَفِي الْخَرَاجِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِالْأَدَاءِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّأْخِيرِ فَيُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَيْسِيرِ الْأَدَاءِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى أَدَاءِ الْخَرَاجِ وَلَا شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ لَمْ يُجْعَلْ أَمِينًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالٌ فَقَالَ: أَدَّيْت مِنْهُ وَأَنْفَقْت مِنْهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ مِمَّا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُودَعِ إذَا أَمَرَهُ الْمُودِعُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى صَاحِبَ الدَّيْنِ دَيْنَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَيْت لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا قَبَضَ الْوَصِيُّ دَيْنًا كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَى إنْسَانٍ كَتَبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ بِمَا قَبَضَ، وَلَمْ يَكْتُبْ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ لِلْمَيِّتِ مَالًا سِوَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ؛ وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ لَهُ الْبَرَاءَةَ عَمَّا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ، وَهُوَ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ هَذَا جَمِيعُ مَا لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ جَمِيعَ مَا لَهُ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمُوصِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا أَقَرَّ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِسْقَاطَ فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، ثُمَّ هَذَا مِنْ الْوَصِيِّ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَمِنْ الْمُوصِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إبْرَاءُ الْوَصِيِّ الْغَرِيمَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: بَرِئْت الْآنَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي كَانَ عَلَيْك فَحِينَئِذٍ هُوَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ مُتَّصِلٌ بِالطَّالِبِ، وَذَلِكَ إيفَاءُ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِهِ بَرِئْت كَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لَفْظُ إبْرَاءٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَفَالَةِ، وَإِذَا أَخَذَ الصَّبِيُّ مَالَ الْوَرَثَةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 32 إلَى رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا، وَكَذَلِكَ إنْ حَطَّ شَيْئًا عَنْ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطٌ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ لَا بِعَقْدٍ هُوَ ثَابِتٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ فِي الْإِسْقَاطِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالتَّأْخِيرُ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ فَإِذَا احْتَالَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ أَمْلَأَ مِنْ الْغَرِيمِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَصَرُّفٌ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمَلِيءِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى لَهُمْ عَيْنًا. وَإِنْ كَانَ الَّذِي احْتَالَ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَالْغَرِيمُ مَلِيئًا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ وَالْمَالُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَا لَهُمْ عَلَى الْأَصْلَحِ وَالْأَحْسَنِ، وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ عَلَى حَقِّ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ خَيْرًا لَهُ يَوْمَ صَالَحَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَهُ لَمْ يَجُزْ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِلْيَتِيمِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَصَالَحَ الْوَصِيُّ عَلَى مَالٍ يَسْتَوْفِيهِ لِلْيَتِيمِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ بَيِّنَةٌ فَالصُّلْحُ شَرٌّ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إثْبَاتِهِ فَإِنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ إنْ ابْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ، فَإِنْ ابْتَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنَ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَأَمَّا الْأَبُ إذَا فَعَلَ هَذَا مَعَ نَفْسِهِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ. وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْوَكِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا مُسْلِمًا مُتَسَلِّمًا طَالِبًا مُطَالِبًا، ثُمَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ هُوَ مُتَّهَمٌ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى التُّهْمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُعَامِلُ الْأَجْنَبِيَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَبَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَا يُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ مَعَ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفُهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءً فِي انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، ثُمَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ يَكُونُ نَائِبًا مَحْضًا فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَلَغَ الصَّغِيرُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُمْكِنُهُ الْتِزَامُ سَبَبِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِذَا صَارَ نَائِبًا فِي جَانِبِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْوَصِيَّيْنِ إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْأَبِ لِمَعْنَى وُفُورِ شَفَقَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَصِيِّ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 33 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِهَذَا. وَلَوْ كَانَ هُوَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ مَعَ نَفْسِهِ لَمَلَكَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَحْسَنَا إذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ فِي تَصَرُّفِهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُفُورِ الشَّفَقَةِ وَإِيثَارِهِ الصَّبِيَّ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى الْمَالِيَّةِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُلْتَحَقُ بِمَنْ هُوَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَائِبًا فِي جَانِبِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْعُهْدَةَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْأَبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُ وَلَا مَا يَكُونُ جَائِزًا لِنُقْصَانِ تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَيْنِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَإِذَا نَفَّذَ الْوَصِيُّ أُمُورَ الْمَيِّتِ وَسَلَّمَ الْبَاقِيَ إلَى الْوَارِثِ، وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْوَارِثِ كِتَابَ بَرَاءَةٍ لِلْوَصِيِّ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنْ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ حَقِّهِ فَلَعَلَّهُ أَخْفَى بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ أَتْلَفَهُ فَإِنَّ الْخِيَانَةَ مِنْ الْأَوْصِيَاءِ ظَاهِرَةٌ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ نَادِرٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِمَا أَخَذَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مَنْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْوَصِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ الْبَرَاءَةَ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَصَوَّرُ هُوَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ قَالَ: وَإِذَا أَعْطَى الْوَصِيُّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ كَبِيرٌ نَصِيبَهُ مِمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ جَحَدَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَلْفٍ أُخْرَى حِصَّةَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِوُصُولِ الْأَلْفَيْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِ أَلْفًا إلَى أَحَدِهِمَا إقْرَارَهُ أَنَّ الْمَدْفُوعَ نَصِيبُهُ أَقَرَّ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلصَّغِيرِ فَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَكَانَ فِي الْجُحُودِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ لِلصَّغِيرِ أَلْفًا أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَسَائِرَ الْمِيرَاثِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّةَ الْكِبَارِ مِنْ الْعَقَارِ وَإِنَّمَا يَبِيعُ حِصَّةَ الصِّغَارِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِقَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الْعَقَارِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْقِيَاسُ هَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَصِيبِ الصَّغِيرِ دُونَ نَصِيبِ الْكَبِيرِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاخْتِلَاطِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَكَذَلِكَ وِلَايَتُهُ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا صَغِيرَ فِي وِلَايَتِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَمَّا ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي بَيْعِ الْبَعْضِ ثَبَتَتْ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 34 وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي بَيْع الْبَعْضِ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِير جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُت بِهِ نَصِيبُ الْكَبِيرِ وَالْأَشْقَاصُ لَا يُشْتَرَى بِمَا يُشْتَرَى بِهِ الْجُلُّ فَكَانَ فِي بَيْع الْكُلِّ تَوَفُّرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِك الْحِفْظ وَبَيْع الْمَنْقُولَات حَالّ غِيبَته لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَة لَهُ قَالَ، وَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ فِي أَشْيَاء يُشْتَرَى بِهِ وَيَتَصَدَّق بِهَا وَالْوَرَثَة كُلّهمْ كِبَار فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيع الْعَقَار كُلّه فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَة عَلَى الْوَرَثَةِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيع مِنْ الْعَقَار غَيْر الثُّلُث؛ لِأَنَّ ثُبُوت الْوِلَايَة لَهُ بِسَبَبِ الْوَصِيَّة فَيَقْتَصِر عَلَى مَعْدِن الْوَصِيَّة، وَهُوَ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَة كِبَارًا كُلّهمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْن وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِبَار غُيَّبًا أَوْ بَعْضهمْ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيع الْحَيَوَان وَالْعُرُوض؛ لِأَنَّهُ يَمْلِك حِفْظَ التَّرِكَة إلَى أَنْ يَحْضُرُوا فَيَقْتَسِمُوا وَبَيْع الْحَيَوَان وَالْعُرُوض مِنْ الْحِفْظ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى عَلَيْهَا التَّلَف وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَر وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَة بَيْع الْعَقَار؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّة بِنَفْسِهَا فَبَيْعهَا لَيْسَ مِنْ الْحِفْظ. وَإِنْ كَانُوا حُضُورًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيع شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْلَم الْكُلّ إلَيْهِمْ لِيَنْظُرُوا فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَة بَيْنهمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ النَّظَر لِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا حُضُورًا فَلَا حَاجَة إلَى نَظَّرَ الْوَصِيّ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَأَجْر الْوَصِيّ عَبْدًا أَوْ دَابَّة فَهُوَ جَائِز؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَاب النَّظَر وَالْحِفْظ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَة أَقْرَب إلَى الْهَلَاك مِنْ الْعَيْن؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَفِي اسْتِبْدَال ذَلِكَ بِمَا يَبْقَى لَهُمْ، وَهِيَ الْأُجْرَة تُوَفِّر الْمَنْفَعَة عَلَيْهِمْ وَمَا اشْتَرَى الْوَصِيّ لِلرَّقِيقِ مِنْ الْكِسْوَة فَلَا ضَمَان عَلَى الْوَصِيّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أُمَّيْنِ حَافِظ لَهُمْ بِحَقِّ فَهَلَاكه فِي يَده كَهَلَاكِهِ فِي أَيْدِيهمْ، وَإِذَا قَسَمَ الْوَصِيّ الْمَال بَيْنهمْ وَهُمْ كِبَار فَأَعْطَى نَصِيب الْحُضُور مِنْهُمْ وَأَمْسَكَ نَصِيب الْغَائِب فَهُوَ جَائِز؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُرُوض يَمْلِك الْبَيْع فِي نَصِيب الْغَائِب فَيَمْلِك الْقِسْمَة أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي قَسَمَتْهُ مَعْنَى الْحِفْظ فِي حَقّ الْغَائِب؛ لِأَنَّهُ يَتَمَيَّز بِالْقِسْمَةِ مُلْكه مِنْ مِلْك غَيْره وَإِذَا قَسَمَ الْوَصِيَّانِ مَالَ الْوَرَثَةِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً فَقَالَ أَحَدُهُمَا الَّذِي عِنْدِي لِفُلَانٍ خَاصَّةً وَاَلَّذِي عِنْدَك لِفُلَانٍ فَقِسْمَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ فِي التَّصَرُّفِ كَوَصِيٍّ وَاحِدٍ وَالْوَصِيُّ الْوَاحِدُ لَوْ قَاسَمَ نَفْسَهُ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ فَكَذَلِكَ الْوَصَايَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَسْتَبِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي تَصَرُّفٍ كَانَا فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ فَهُمَا فِيهِ كَوَصِيٍّ وَاحِدٍ. وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ فَقَاسَمَ الْآخِرُ الْوَرَثَةَ وَأَعْطَى الْكِبَارَ حِصَّتَهُمْ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 35 ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى إذَا ضَاعَتْ حِصَّةُ الصَّغِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا قَبَضَ الْكِبَارُ بِحِصَّتِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا يُقْدِمُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ بَيْعِ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ وَشِرَائِهِ لِلْيَتِيمِ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُل فَأَمَرَهُ الْوَصِيُّ أَنْ يُقْرِضَهَا أَوْ يَهَبَهَا أَوْ يُسْلِفَهَا فَأَمْرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَعْتَبِرُ أَمَرَهُ بِهِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِلْمَالِ بِدَفْعِهِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ جَازَ وَبَرِئَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ بِهَذَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِلْقَابِضِ بِالْقَبْضِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ وَدَفَعَهُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ وَدِيعَةً كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ مَنْ فِي يَدِهِ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ. وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَصِيُّ بِأَنْ يَعْمَلَ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَتَاعًا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ يَمْلِكُ الْوَصِيُّ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ إقْرَارِ الْوَارِثِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِفُلَانٍ وَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِآخَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً فَوَصِيَّةُ الْمَشْهُودِ لَهُ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ وَوَصِيَّةُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ. وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ مُسْتَحَقًّا لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُقَرِّ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِالثُّلُثِ وَصِيَّةً وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالْوَصِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَحِلِّهَا قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ أَوْصَى بِهِ لِفُلَانٍ أَوْ قَالَ: أَوْصَى بِهِ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ إبْطَالَ اسْتِحْقَاقِهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَقَوْلُهُ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ وَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَمَا بَقِيَ الثُّلُثُ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ لَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ إيجَابَهُ لِغَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِهِ. قَالَ وَلَوْ أَقَرَّ إقْرَارًا مُتَّصِلًا فَقَالَ: أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِفُلَانٍ، وَأَوْصَى بِهِ لِفُلَانٍ جَعَلْتُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ الثَّانِيَ مَعَ الْأَوَّلِ فِي الثُّلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 36 وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إذَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَيَصِيرُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ الْمُغَيِّرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ قَالَ: وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَوْصَى بِهِ لِفُلَانٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَ مِثْلَهُ إلَى الثَّانِي، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي أَقَرَّ أَنَّ الثُّلُثَ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَقَدْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْمَدْفُوعِ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي حَقِّهِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ مِثْلِهِ إلَى الثَّانِي، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ فَإِنَّ الدَّفْعَ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ تَعَيَّنَ فِيمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ هُوَ شَاهِدًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ. وَالشَّاهِدُ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ بِنَفْسِهِ فَكَانَ مُسْتَهْلِكًا، وَتَعْيِينُهُ فِي حَقِّ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الثَّانِي كَأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةِ أَلْفٍ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْقُدُ الْأَلْفَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ، وَالْمَالُ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي يَتَعَيَّنُ الْمَدْفُوعُ إلَى الْأَوَّلِ مَحَلًّا لِلْوَصِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ لِلثَّانِي عَلَى الْوَارِثِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ فِي يَدِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَارِثَ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي كَانَ شَاهِدًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَا مُقِرًّا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْوَرَثَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَيْهِ فِيهَا ضَرَرٌ. قَالَا: وَإِذَا شَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِالثُّلُثِ فَدَفَعَا ذَلِكَ إلَيْهِ، ثُمَّ شَهِدَا إنَّمَا كَانَ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ، وَقَالَا: أَخْطَأْنَا فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْأَوَّلِ فَلَا يَعْمَلُ رُجُوعُهَا فِي حَقِّهِ، وَهُمَا ضَامِنَانِ لِلثُّلُثِ يَدْفَعَانِهِ إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَحِيحٌ، وَقَدْ أَقَرَّا أَنَّهُمَا اسْتَهْلَكَا مَحَلَّ حَقِّ الثَّانِي بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُونَا دَفَعَا شَيْئًا أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا لِلْآخَرِ، وَأَبْطَلْتُ وَصِيَّةَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ مَا ثَبَتَ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ شَهِدَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُمَا خِلَافَ الْأَوَّلِ فَقَدْ صَارَا ضَامِنَيْنِ هُنَاكَ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا قَصَدَا بِشَهَادَتِهِمَا لِلثَّانِي إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَةً وَالْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 37 فَأَخَذَ كُلُّ إنْسَانٍ أَلْفًا، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِفُلَانٍ وَجَحَدَ الْآخَرَانِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْطِيه ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يُعْطِيهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا فِي يَدِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُقِرَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَالْمُقِرُّ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ وَحَقَّ الْمُقِرِّ لَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَهُ الثُّلُثُ وَصِيَّةٌ وَالثُّلُثَانِ بَيْنِي وَبَيْنَ آخَرَ نِصْفَانِ، وَإِذَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُمَا سَوَاءٌ يَقْسِمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ أَقَرَّا بِأَخٍ آخَرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّ حَقَّ الْجَاحِدِ فِي ثُلُثِ الْمَالِ، وَقَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْمَالِ فَمَا أَخَذَهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ كَالتَّاوِي فَلَا يَكُونُ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُقِرُّ يَزْعُمُ أَنَّ لِلْمَقَرِّ لَهُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ بَيْنَنَا أَثْلَاثًا، وَحَقُّهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَحَقِّي فِي سَهْمَيْنِ فَيَجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَاحِدَ مَعَ مَا أَخَذَ يُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ، وَكَأَنَّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ الْوَارِثُ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثُّلُثَ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ فَأَمَرْنَاهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ الِابْنُ الْآخَرُ بِالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي نِصْفِ الْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ أَلْفًا عَيْنًا، وَأَلْفًا دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَقَرَّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى لِهَذَا بِالثُّلُثِ أَخَذَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ ثُلُثَهَا، وَكَانَ لِلْمُقِرِّ ثُلُثَاهَا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي ثُلُثِ كُلِّ أَلْفٍ، وَكَانَ مَنَعَهُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ ثُلُثَ الْعَيْنِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَفِي الْقِيَاسِ يُعْطِيهِ نِصْفَ ذَلِكَ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ عَيْنًا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، ثُمَّ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ الرَّجُلَ غَيْرَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ صَاحِبُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ أَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ فِي هَذَا فَاحِشٌ قَبِيحٌ يَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى تَنْفِيذ الْوَصِيَّة ةِ فِي نِصْفِ الْمَالِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا فَأَخَذَتْ الْمَرْأَةُ الثُّمُنَ، ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِهَذَا بِالثُّلُثِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يَأْخُذ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهَا. وَلَوْ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَحَقُّهَا فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ ثُمُنُ مَا بَقِيَ فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ هَهُنَا قَبِيحٌ قَالَ: وَلَوْ تَرَكَ اثْنَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 38 وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَاقْتَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ بِوَصِيَّةٍ بِالثُّلُثِ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ هَهُنَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا وَصِيَّةُ الْمَشْهُودِ لَهُ ثَبَتَتْ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ حَتَّى إذَا رَجَعَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَاهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَلَا يُجْعَلُ هُوَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْمَعْدُومِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ هَهُنَا لَوْ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ أَيْضًا عَلَى الْغَائِبِ، ثُمَّ اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا إلَّا الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِوَصِيَّةٍ لِرَجُلٍ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ بِعِتْقٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِ الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ وَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ جَمِيعُ التَّرِكَةِ، وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِدَيْنٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ يَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ فَارِغٌ حِينَ الْإِقْرَارِ لَهُ، إنَّمَا أَقَرَّ لِلثَّانِي وَالْمَحَلُّ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْمَحَلُّ مِنْ حَقِّ الْأَوَّلِ كَالرَّاهِنِ إذَا أَقَرَّ بِالْمَرْهُونِ لِإِنْسَانٍ فَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ اسْتَوَيَا؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَإِذَا قَالَ الْوَارِثُ: لِفُلَانٍ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ وَلِفُلَانٍ كَذَا مِنْ الْوَدِيعَةِ، الْوَدِيعَةُ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فَإِنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ هُنَاكَ بِدَيْنٍ شَاغِلٍ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى إقْرَارِهِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالْإِقْرَارُ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، وَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنَيْنِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ، إنْ بَدَأَ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ بُدِئَ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا، وَلَا دَيْنَ هُنَاكَ فَصَارَتْ عَيْنُهَا مُسْتَحَقَّةً لِلْمُقَرِّ لَهُ، ثُمَّ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ لَا فِيمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِذَا أَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ بِوَدِيعَةٍ أُخْرَى بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْعَيْنَ بِنَفْسِهِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ الثَّانِي لَا يَصِحُّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ ثُبُوتِ الدَّيْنَيْنِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّرِكَةِ فَكَانَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ، وَهَهُنَا لَيْسَ مُوجِبَ ثُبُوتِ الْوَدِيعَةِ بِأَعْيَانِهِمَا الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُمَا فِي شَيْءٍ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ مَا أُقِرَّ لَهُ بِهِ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 39 فَلِهَذَا كَانَ الْمُتَّصِلُ وَالْمُنْقَطِعُ فِي هَذَا سَوَاءً حَتَّى إنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِوَدِيعَتَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَهُوَ وَالْإِقْرَارُ بِدَيْنَيْنِ سَوَاءٌ. قَالَ: وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِدَيْنٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَقِيَّتُهُمْ لَزِمَهُ فِي نَصِيبِهِ جَمِيعُ الدَّيْنِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ، فَإِنَّا نَجْعَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ الْجَاحِدَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْمَعْدُومِ، وَكَانَ الْوَارِثُ هُوَ الْمُقِرُّ، وَالتَّرِكَةُ مَا فِي يَدُهُ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ مِمَّا فِي يَدِهِ إذَا كَانَ يَفِي بِذَلِكَ، وَلَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، فَقَالَ: هَذِهِ الْوَدِيعَةُ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ أَوْ قَالَ: هِيَ لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ مَا سَكَتَ وَلِفُلَانٍ مَعَهُ فَإِنَّهَا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَلَا الْإِشْرَاكَ لِغَيْرِهِ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: هِيَ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ لِهَذَا الْآخَرِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَهْلَكَهَا بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِزَعْمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَهْلِكٍ شَيْئًا، إنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ، وَقَدْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أُوصِي إلَى هَذَا بِالثُّلُثِ وَلِهَذَا عَلَى أَبِي دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ وَالدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَالِ أَجَزْتُ الدَّيْنَ، وَأَبْطَلْتُ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ أَوَّلِ كَلَامِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمُقِرِّ لَهُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ فِي الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، وَمُوجِبُ آخِرِ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْوَصِيَّةِ مُؤَخَّرًا عَنْ الدَّيْنِ، وَالْبَيَانُ مُعْتَبَرٌ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُوصِي إلَى فُلَانٍ بِالثُّلُثِ، وَأُعْتِقُ هَذَا الْعَبْدَ، وَهُوَ الثُّلُثُ صَدَّقْتُهُ فِي الْعِتْقِ، وَأَبْطَلْتُ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا بَيَانٌ مُعْتَبَرٌ فَالْعِتْقُ الْمُنَفَّذُ مُقَدَّمٌ فِي الثُّلُثِ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، إنْ فَصَلَ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ أَجَزْتُ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا فَيَبْقَى مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ فَسَدَ رِقُّ الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ السِّعَايَةِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَجَازَهُ بَعْدُ مَوْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَارِثُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ الْمُوصَى لَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ يُبْدَأُ بِهَا مِنْ مَالِ أَبِيهِ قَبْلَ دَيْنِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَارِثُ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْإِجَازَةِ كَالْمُعَايَنَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ حِينَ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُوصَى لَهُ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَارِثِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَرِّثِ فَتَمَّ اسْتِحْقَاقُهُ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ بِهِ، ثُمَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَشْغَلُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 40 تَرِكَتَهُ لَا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ قَدْ اسْتَهْلَكَ مَالَ أَبِيهِ فَهُوَ دَيْنٌ فِيمَا تَرَكَ الْوَارِثُ يُحَاصُّ صَاحِبُهُ صَاحِبَ دَيْنِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَهْلَكَهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ فِي تَرِكَتِهِ قَالَ: وَإِذَا شَهِدَ وَارِثَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ جَازَتْ وَشَهَادَتُهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا فَإِنْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ أَقَرَّا، وَلَمْ يَشْهَدَا بِالْحِصَّةِ فَشَهَادَتُهُمَا فِي نَصِيبِهِمَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُمَا بِدُونِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمَا، إنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُقَالُ إذَا شَهِدَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُمَا عَدْلَانِ فَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَزِمَهُمَا فِي نَصِيبِهِمَا خَاصَّةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ يَتَأَتَّى هَذَا الْإِشْكَالُ فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَوْ أَقَرَّا لَمْ يَلْزَمْهُمَا إلَّا مِقْدَارُ حِصَّتِهِمَا، إنَّمَا هَذَا الْإِشْكَالُ فِي الدَّيْنِ، وَمَعَ هَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي إخْرَاجِهِمَا الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَا، وَهُمَا عَدْلَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَعَلَى بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ أَجَازُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجُرَّا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِهَذَا وَجَعَلَهُ لِهَذَا الْآخَرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا. وَلَوْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى الرُّجُوعِ، وَلَكِنْ شَهِدَا بِالثُّلُثِ لِلْآخَرِ تَحَاصَّا فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهَا فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّ لِلثُّلُثِ عَلَيْهِمَا وَاحِدًا أَوْ مَثْنَى. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَا الْأَجْنَبِيِّ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ؛ لِهَذَا الْوَارِثِ، وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثَ سَبَبُهُ أَقْوَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ فِيهِ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَبِدُونِ الْإِجَازَةِ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَارِثِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ. قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّتِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَجَعَلَهَا لِهَذَا الْوَارِثِ، وَأَنَّهُمَا مَعَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ قَدْ سَلَّمُوا لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا تُقْبَلْ شَهَادَةِ الْوَارِثِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْإِجَازَةِ قَدْ أَخْرَجُوا الثُّلُثَ مِنْ حَقِّ أَنْفُسِهِمْ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ عَلَيْهِمَا فَهُمَا يُبْطِلَانِ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 41 بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ فَيُتَّهَمَانِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ لِلثَّانِي مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يَكُونَ تَحْوِيلًا مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْأَوَّلِ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لِلثَّانِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِجَازَتِهِمْ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلثَّانِي مَعَ إجَازَتِهِمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ مُعْتَمِدًا عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا بِهَا لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. [بَاب إقْرَارِ الْوَارِثِ بِالْعِتْقِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ وَارِثًا وَاحِدًا وَثَلَاثَةَ أَعْبُدَ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: ذَلِكَ الْوَارِثُ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ ذَلِكَ لَا بَلْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ هَذَا فَإِنَّهُمْ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ عَتَقَ كُلُّهُ إذْ لَيْسَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَأَقَرَّ لِلثَّانِي وَرُجُوعُهُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ الْأَوَّلَ بِإِقْرَارِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي حَقِّهِ فَيُعْتَقُ الثَّانِي كُلُّهُ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ، إنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالثُّلُثِ لِفُلَانٍ وَصِيَّةً وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَنَفْسُ الْإِقْرَارِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ فِي الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ: أَعْتَقَ أَبِي هَذَا وَهَذَا، وَإِذَا سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ أَوَّلِهِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُمْ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَعْتَقَهُمْ الْمَيِّتُ فَيُعْتِقُ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقَ أَبِي هَذَا، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا عَتَقَ الْأَوَّلُ كُلُّهُ وَنِصْفُ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالثُّلُثِ لِلْأَوَّلِ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ، ثُمَّ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي أَقَرَّ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي بِنِصْفِ الثُّلُثِ صَحِيحًا فَيُعْتَقْ نِصْفُهُ وَإِبْطَالُهُ اسْتِحْقَاقَ الْأَوَّلِ فِي النِّصْفِ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ فِي حَقِّ الثَّانِي كَالْمُسْتَهْلِكِ لِذَلِكَ النِّصْفِ، ثُمَّ أَقَرَّ فِي الْكَلَامِ لِلثَّالِثِ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ فَيَصِحُّ إيجَابُ الثُّلُثِ لِلثَّالِثِ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْ شَيْءٍ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِلْأَوَّلَيْنِ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِمَا زَادَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّ الْأَوَّلَيْنِ فِي حَقِّ الثَّالِثِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ هَذَا فِي مَرَضِهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا الْآخَرَ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَاَلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ حُرٌّ وَيَسْعَى الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْوَارِثُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ صَارَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 42 كُلُّهُ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ دَبَّرَ هَذَا الْعَبْدَ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَعْتَقَ هَذَا الْآخَرَ فِي مَرَضِهِ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُعْتَقُ مِنْ الْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالتَّدْبِيرِ لَهُ وَإِقْرَارَهُ بِالْعِتْقِ فِي مَرَضِهِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَأَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الثَّانِي نِصْفُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِ الْوَارِثِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا، وَهُوَ يُنْكِرُ أُخِذَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا إقْرَارَهُ بِذَلِكَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ كُلُّهُ يَعْنِي أَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ، وَالْقَوْلُ فِيمَا يُعَادُ، وَيُكَرَّرُ وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَاحِدٌ فِي حَقِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْ الْإِقْرَارِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَهَذَا قِيَاسُهُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ أَوْ خِدْمَةٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ كَذَا، وَكَذَا وَيُعْتَقُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ إنْ كَانَ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا أَوْ دُونِهَا بِمِقْدَارِ ثُلُثِ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ عَنْ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ حَطَّ عَنْهُ ثُلُثَ الْمَالِ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِمَا أَوْصَى بِهِ بِمَالٍ نَقَدَهُ فِي مَرَضِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ بِبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِبَيْعِهِ مِنْ مَعْلُومٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فَإِنْ حَطَّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فِي قِيمَتِهِ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَنْفَعَةُ الْمُوصِي أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْوَلَاءُ، إنَّمَا جَعَلْنَا هَذَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ أَدَاءَ مَا يَقُومُ مَقَامَ مَالِيَّةِ رَقَبَةٍ فِي تَوَفُّرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَإِنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ يَسْلَمْ لَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَعْتَقَ مَعَ هَذَا عَبْدًا عَلَى غَيْرِ جُعْلٍ بُدِئَ بِالْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ، ثُمَّ أَعْتَقْنَا هَذَا الْآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ مَا نَفَذَ مِنْ الْعِتْقِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مُقَدَّمُ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِتْقًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّنْفِيذِ وَمَا أَوْصَى بِهِ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْعِتْقَ الْمُنَفَّذَ فِي ثُلُثِهِ، وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يَخْدُمَ عَبْدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَرَثَتَهُ سَنَةً، ثُمَّ يُعْتَقُ لَمْ يَجُزْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 43 إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ لِلْعَبْدِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، فَإِذَا بَطَلَتْ الْأُولَى لِعَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ الثَّانِيَةُ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا. فَإِذَا صَحَّتْ الْأُولَى بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ كِبَارٌ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْأُخْرَى جَزْمًا عَلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ سَنَةً كَمَا أَوْصَى بِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَخْدُمَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ سَنَةً، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنَّهُ إيفَاءُ مَا كَانَ مِنْ اسْتِخْدَامِ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ سَنَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ أَوْصَى بِعِتْقِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ خِدْمَتِهِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثُ لَا يُرَدُّ لِكَرَاهَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ قِيلَ الْخِدْمَةُ لَا تُوَرَّثُ قُلْنَا نَعَمْ مَقْصُودًا وَلَكِنَّهَا تُوَرَّثُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ صَارَتْ الرَّقَبَةُ مَعَ الْخِدْمَةِ مَمْلُوكَةً لَهُمْ إرْثًا عَلَى أَنْ يُعَادَ إلَى الْمَيِّتِ حُكْمًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ، وَهُوَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لِتَسْلِيمِ الْوَلَاءِ لَهُ، ثُمَّ مَقْصُودُ مَنْ كَرِهَ مِنْهُمْ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَخْدُمَ فُلَانًا سَنَةً، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ وَفُلَانٌ غَيْرُ وَارِثٌ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ وَصِيَّتَيْنِ تَصِحُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً فَيَصِحُّ تَرَتُّبُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى أَيْضًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ الْخِدْمَةَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ هَهُنَا تُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فِي الْمُوصَى بِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ بَعْدَ هَذَا. وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى بِرَدِّهِ بَطَلَتْ الثَّانِيَةُ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا مُرَتَّبَةً عَلَى الْأُولَى، وَقَدْ فَاتَ شَرْطُهَا حِينَ رَدِّ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّ الْإِرْثَ لَا يَجْرِي فِي مُجَرَّدِ الْمَنْفَعَةِ فَوَارِثُ الْمُوصَى لَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إذَا خَدَمَ فُلَانًا سَنَةً أَوْ إنْ خَدَمَ سَنَةً فَهُوَ حُرٌّ فَإِنَّ الشَّرْطَ يَفُوتُ بِمَوْتِ فُلَانٍ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ غَائِبًا فَقَدِمَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَالْخِدْمَةُ تَكُونُ لَهُ مِنْ يَوْمِ قَدِمَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى ذَكَرَ سَنَةً مُنَكَّرَةً، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ السَّنَةِ الَّتِي تَعْقُبُ مَوْتَهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُوصَى بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: يَخْدُمُ فُلَانًا هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ فَلَمْ يَقْدُمْ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا فَإِنَّهُ عَيَّنَ الْوَصِيَّةَ لِلْمَنَافِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي السَّنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِمُضِيِّهَا، وَيَبْطُلُ الْعِتْقُ أَيْضًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَلَوْ قَالَ: يَخْدُمُ فُلَانًا سَنَةً، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَخْدُمُ فُلَانًا يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 44 الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَفِي تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَخْدُمَهُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ قَصْرُ يَدِ الْوَارِثِ عَنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لِمَكَانِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ ضِعْفُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ فَقُلْنَا يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ حَتَّى يَمْضِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَيُتِمُّ بِهِ شَرْطَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، فَيُعْتَقُ ثُلُثَهُ وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَخْدُمَ وَرَثَتَهُ سَنَةً، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ فَصَالَحُوهُ مِنْ الْخِدْمَةِ عَلَى دَرَاهِمَ وَعَجَّلُوا عِتْقَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ، وَيُجْعَلُ وُصُولُ الْبَدَلِ إلَيْهِمْ كَوُصُولِ الْمُبْدَلِ بِأَنَّهُ يَخْدُمُهُمْ سَنَةً فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثُهُ، ثُمَّ هُمْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ عَنْ الْخِدْمَةِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ أَسْقَطُوهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَجَّلُوا الْعِتْقَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ وَلَائِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْقَطُوهُ بِعِوَضٍ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا، وَأَغَلَّتْ عَلَيْهِ قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ، وَتُعْتَقُ هِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَلَا إلَى الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ، وَالْوَرَثَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ لَهُمَا فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ لَهُمْ فِيهَا قَدْ تَقَرَّرَ، وَالْبَاقِي لِمِلْكِ الْمَيِّتِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّا نَجْعَلُهَا كَالْبَاقِيَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حُكْمًا لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهَا، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْوَرَثَةِ، إنْ جَنَتْ جِنَايَةً فَذَلِكَ إلَى الْوَارِث إنْ شَاءَ دَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ، وَأَبْطَلَ الْعِتْقَ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهَا بِالْأَرْشِ، وَأَعْتَقَهَا عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لَهَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهَا دَفَعَ بِهِ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، وَهُوَ مِلْكُ الْمَيِّتِ، إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ طَهُرَتْ عَنْ الْجِنَايَةِ وَبَقِيَتْ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَتْ، وَالْوَارِثُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْتَقَهَا أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ عِتْقِهِ، ثُمَّ عِتْقُهَا مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَمَا اُسْتُحِقَّ فِي عَيْنٍ بِجِهَةٍ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أُتِيَ بِهِ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ حِصَّةُ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْوَرَثَةِ مِنْ قِيمَةِ الْخِدْمَةِ لِاحْتِبَاسِ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَتَّى نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ. وَذَلِكَ مُتَقَوِّمٌ فِيمَا هُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا كَانَ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَحَدٍ إذَا كَانَ يُخْرِجُ قِيمَتَهَا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَنْفِيذٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَتِهِمْ فِي تَنْفِيذِ جَمِيعِ وَصِيَّةِ الْمُوصِي فِي الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إنْ دَبَّرَهَا وَارِثٌ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهَا بِشَرْطٍ آخَرَ، وَقَدْ يُوجَدُ الشَّرْطُ، إنْ لَمْ يَمُتْ فَتَدْبِيرُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَدْبِيرَهَا عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِي التَّدْبِيرِ تَنْفِيذُ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 45 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْوَصِيُّ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ: اعْتِقْهَا عَنْ الْمَيِّتِ فَأَعْتَقَهَا أَوْ اُحْتُضِرَ الْوَصِيُّ فَأَوْصَى إلَى آخَرَ أَنْ يُعْتِقَهَا عَنْ الْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْعِتْقِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ نَائِبٌ مَحْضٌ، وَالْآمِرُ مَا أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْوَصِيَّةِ إلَى الْغَيْرِ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِنَفْسِهِ، وَفِي أَمْرِهِ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَإِيصَائِهِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوصِي فَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ. وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ كَالْمُنْفَصِلِ فِي حُكْمِ مَقْصُودِ الْمُعْتِقِ فِيهِ فَإِنْ أَعْتَقَ الْأُمَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْهُ، وَمَا فِي بَطْنِهَا حُرٌّ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْعِتْقِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْمُعْتِقُ فِيهَا. وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْأُمَّ أَحَدُهُمْ، وَقَدْ صَارَتْ الْأُمُّ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا فَارِغَةٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمْ يُخَيَّرُ شُرَكَاؤُهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِتْقِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ الْمَمْلُوكَ الْمُشْتَرَكَ، إنْ دَبَّرَهَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَ فَتَدْبِيرُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ التَّدْبِيرِ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْهَا نُفُوذُهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا فِي حُكْمِ التَّدْبِيرِ كَمَا لَا يَنْفَصِلُ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهَا وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ فِي الْجَنِينِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حُكْمًا لِيُعْتَقَ عَنْهُ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيَنْفُذُ التَّدْبِيرُ مِنْ الَّذِي دَبَّرَ فِي بَعْضِ الْجَنِينِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ، وَيَسْتَحِقُّ وَلَاءَهُ ضَرُورَةً فَيَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ جَارِيَتَهُ فُلَانَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، وَهِيَ الثُّلُثُ فَبَاعَهَا الْوَرَثَةُ فَبَيْعُهُمْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حُكْمًا مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فَبَيْعُهُمْ إيَّاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَبَيْعِهِمْ إيَّاهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ كَبَيْعِ الْوَرَثَةِ التَّرِكَةَ الْمُسْتَغْرَقَةَ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَهَذَا أَيْضًا كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ أَصْلًا فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالْوَلَدُ وَلَدُهُ، وَالْمُشْتَرِي مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْوَرَثَةِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ حِينَ اشْتَرَاهَا وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا قِيمَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ لِلْوَرَثَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ الْغُرُورِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِهَا، وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ وَإِيجَابُ الْعُقْرِ مُقَيَّدٌ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَغْرَمُ مِنْ الْعُقْرِ عَلَى الْبَائِع بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَتُؤْخَذُ الْجَارِيَةُ وَتُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ سَنَةٍ كَمَا أَوْصَى. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ جَارِيَتِهِ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، وَلَهُ أَلْفَانِ فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهَا الْوَصِيُّ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ يُعْتَقُ ثُلُثُهَا وَتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْوَرَثَةِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ وَالْهَالِكُ قَبْلَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 46 مَوْتِ الْمُوصِي سَوَاءٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْجَارِيَةُ فَلَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُث فَيُعْتَقُ ثُلُثُهَا وَتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ إذَا لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُوصَى لَهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ وَرَدِّهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي فَإِنْ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ فَالْمِلْكُ لَهُ فِي الْمُوصَى بِهِ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إبْطَالَهُ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَهُوَ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ، إنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَطَلَتْ بِرَدِّهِ عِنْدَنَا وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ بِالْإِرْثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَقِبَ الْمَوْتِ، ثُمَّ الْإِرْثُ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هَاهُنَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ صَارَ خَلَفًا عَنْ الْمُوصِي فِي مِلْكِ الْمُوصَى بِهِ كَالْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ وَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبُولِ أَوْ مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ كَالتَّمْلِيكِ لِسَائِرِ الْعُقُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُ ابْتِدَاءً؛ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي، وَالْمِلْكُ الْمُتَجَدِّدُ يَسْتَدْعِي شَيْئًا مُبْتَدَأً، وَأَحَدٌ لَا يَمْلِكُ تَتْمِيمَ سَبَبِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ حَتَّى يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوَرِّثُ، وَالْبَقَاءُ لَا يَسْتَدْعِي سَبَبًا مُبْتَدَأً أَوْ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إدْخَالُ الشَّيْءِ فِي مِلْكِهِ قَصْدًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَفِي الْمِيرَاثِ الْمِلْكُ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْمُوَرِّثِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلشَّرْعِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، فَأَمَّا مَا هُنَا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِإِيجَابِ الْمُوصِي بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبُولِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ الْمُوصِي عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِمَنْفَعَةِ الْمُوصَى لَهُ. وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ تَضَرَّرَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَعْمَى تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إذَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لَهُ. وَلَوْ أَوْصَى بِدِنَانٍ مُسْكِرَةٍ أَوْ بِزِبْلٍ اجْتَمَعَتْ فِي دَارِهِ. وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُهَا شَاءَ أَوْ أَبَى، وَفِي هَذِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِآنِيَةٍ أَوْ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ مَمْلُوكٍ قَدْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ مَلَكَهُ، لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 47 مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَكَانَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ، وَلَاؤُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُ الْوَلَاءَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ أَوْ مِلْكِهَا بِدُونِ قَبُولِهِ نَفَذَ نِكَاحُهُ وَلَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إفْسَادِ نِكَاحِهِ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ مَا لَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِأُمِّ وَلَدِهِ فَمَا لَمْ يَقْبَلْهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ وَرَثَتُهُ بِمَنْزِلَتِهِ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْقَبُولِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا يَخْلُفُونَهُ بِالْقِيَامِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَهَا هُنَا الْمِلْكُ مَا كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ، إنَّمَا كَانَ الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْقَبُولِ، وَهُوَ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ إبْطَالَهُ فَيَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَارِثُ وَهَذَا لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوصَى لَهُ مُنَافٍ لِلْوَصِيَّةِ لَا مُتَمِّمٌ لَهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَهَا هُنَا الْوَصِيَّةُ مَا كَانَتْ تَامَّةً قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ الْمُنَافِي مُتَمِّمًا لِلْوَصِيَّةِ وَلَكِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِي هَذَا، وَنَجْعَلُهَا مِنْ مَالِ الْمُوصَى لَهُ اسْتِحْسَانًا حَتَّى إذَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ تُعْتَقُ، وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ أُمِّ وَلَدِهِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدِيمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ هُوَ، وَلَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إبْطَالِهِ، إنَّمَا بَقِيَ حَقُّ الرَّدِّ لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ تَمَّ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَتِمُّ الْمِلْكُ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إنَّمَا كَانَ ثَابِتًا لَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ انْتَهَتْ حَاجَتُهُ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَكَانَ يَطَؤُهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى وَطْئِهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَصِيَّةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْقَبُولِ وَالرِّضَا مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَحِلُّ الْوَطْءِ ثَابِتٌ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا نَفَى خِيَارَهُ فِي الْقَبُولِ إذَا عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا، وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، وَأَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمْ حَدَثُوا بَعْدَ تَمَامِ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا تَمَّ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ فَهِيَ وَأَوْلَادُهَا لِلْوَرَثَةِ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَائِمٌ، وَنَسَبُ الْأَوْلَادِ مِنْهُ ثَابِتٌ. وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ بِثُلُثِهِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ إذَا قَبِلَ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الرَّادِّ مِنْهُمَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِرَدِّهِ وَلَوْ بَطَلَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ بِأَنْ كَانَ وَارِثًا جَازَ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا بَطَلَتْ بِرَدِّهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 48 فَإِنَّ الْقِسْمَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْهِبَةِ لِيَتِمَّ الْقَبْضُ، وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِوَصِيَّةٍ فَقَبِلَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْوَرَثَةِ فَرَدُّهُ جَائِزٌ إذَا قَبِلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فَسْخٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْمَيِّتِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا إذَا قَبِلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهَا عَلَى الْوَرَثَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْعَقْدِ فَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذَا الْعَقْدِ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولُ كَذَلِكَ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِالتَّرَاضِي وَبِهَذَا فَارَقَ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ التَّمْلِيكِ وَالشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَعَ صِحَّتِهِ، وَهَذَا فَسَخَ الْوَصِيَّةَ وَالشُّيُوعُ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ الْوَصِيَّةِ، إنْ رَدَّهَا عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مِنْهُ لِمَنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّمَلُّكُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْإِعْطَاءِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنَجْعَلُ ذَلِكَ كَالرَّدِّ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوصِي، وَالرَّدُّ فَسْخٌ لِذَلِكَ الْعَقْدِ فَيَجُوزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوصِي أَيْضًا، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَرَثَةِ فِي حُقُوقِهِمْ كَجَمَاعَتِهِمْ، فَكَانَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَوْ هَذَا فَسْخٌ لِقَبُولِهِ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْقَبُولِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، إنَّمَا كَانَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ إذَا أَبَوْا ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَعَنْ مُوَرِّثِهِمْ فَإِذَا رَضُوا بِذَلِكَ أَوْ رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُمْ فِي فَسْخِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ، وَصَارَ كَأَنَّهُ رَدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَوَهَبَهُ الطَّالِبُ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ فَهُوَ هِبَةٌ لَهُمْ كُلِّهِمْ كَأَنَّهُ وَهَبَهُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ بِهَذِهِ الْهِبَةِ لِلْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ يُبَرِّئُ ذِمَّتَهُ لَهَا، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخَادِمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَوَهَبَ إنْسَانٌ لِلْخَادِمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْخَادِمُ هِيَ الثُّلُثُ، ثُمَّ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ فَلَهُ الْخَادِمُ وَثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي قَدِيمٌ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ لِانْعِدَامِ الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْكَسْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ السَّبَبِ فَإِذَا قَبِلَ فَلَهُ الْخَادِمُ وَثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ جَمِيعُ الْأَلْفِ مِنْ الثُّلُثِ سُلِّمَتْ لَهُ فَكَذَلِكَ يُسَلَّمُ لَهُ ثُلُثُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ فَلَهُ الْخَادِمُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ الْوَلَدِ، وَالْهِبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الثُّلُثُ مِنْ الْخَادِمِ وَوَلَدِهَا، وَمَا وُهِبَ لَهَا بِالْحِصَّةِ لَا يُقَدَّمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ، وَقَبْلَ تَمَامِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا وَلَدَتْ جُعِلَ الْوَلَدُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فِي اقْتِسَامِ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 49 فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَأَوْصَى بِالْكُلِّ كَأَنْ يُسَلِّمَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الْكُلِّ بِالْحِصَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْمُوصَى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ثُبُوتُ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَلَا تُعْتَبَرُ السِّرَايَةُ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إلَى غَيْرِ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْأَصْلِ لَا تَكُونُ، وَالْكَسْبُ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْوَلَدِ، وَالْكَسْبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنَاوَلَتْهُ قَصْدًا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْجَارِيَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْكَسْبُ وَالْوَلَدُ تَبَعٌ فَإِنَّمَا يَبْدَأُ مِنْ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحُكْمِ يَكُونُ فِي مَحَلِّهِ فَيَكُونُ هُوَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ الْمَوْجُودُ أُمٌّ فَقَطْ، وَالْمُوجِبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيهَا، ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالِانْفِصَالُ لَا يُنَافِي التَّبَعِيَّةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ وَلَدَ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكُونُ مَمْلُوكًا تَبَعًا وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ الْحَادِثُ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَضْعَفُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ تَبَعًا يَكُونُ أَضْعَفُ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ مَقْصُودًا فَيَتَعَيَّنُ لِلْقَوِيِّ مَحَلٌّ أَقْوَى وَلِلضَّعِيفِ مَحَلٌّ يَلِيقُ بِهِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّا لَوْ أَخَذْنَا بِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَدَّى إلَى أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ فِي الْأَصْلِ لِمَكَانِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي جَمِيعِهَا، ثُمَّ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَتِهَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي نِصْفِ الْأُمِّ وَنِصْفِ الْوَلَدِ أَوْ فِي ثُلُثَيْ الْأُمِّ وَثُلُثَيْ الْوَلَدِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَصْلِ لِأَجْلِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي التَّبَعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّبَعُ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ بِحَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ نَقُولَ: السَّبِيلُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 50 أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَمْسَةِ الْبَنِينَ ثَمَانِيَةً، وَتَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ سَهْمًا بِثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحُ السَّهْمَ الَّذِي زِدْتَهُ بَقِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدًا وَخَمْسِينَ، إنَّمَا طَرَحْنَا هَذَا السَّهْمَ الزَّائِدَ لِتَبْيِينِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَلَا وَصِيَّةَ فِي الثُّلُثَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ السَّهْمِ الزَّائِدِ فِيهِ؛ فَلِهَذَا طَرَحْنَاهُ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ تِسْعَةً، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمًا كَمَا طَرَحْت فِي الِابْتِدَاءِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، فَهُوَ النَّصِيبُ فَإِذَا رَفَعْت ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَبْقَى تِسْعَةٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا يَبْقَى، وَثُلُثُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى سِتَّةٌ نُضِيفُهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ، وَالْعَامَّةُ يُسَمُّونَ هَذَا طَرِيقَ الْحَشْوِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَشَا بِهِ كُتُبَهُ وَالْحُسَّابُ يُسَمُّونَهُ طَرِيقَ الْيُتْمِ، وَالْيُتْمُ هُوَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّ كُلَّ مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي كُتُبِ الْحِسَابِ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَيَحْتَاجُ إلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّرْطِ فِي كُلِّ نَوْعٍ فَزَعَمُوا أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي أُحْكِمَ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْمَسَائِلِ أَوْلَى بِالتَّأَمُّلِ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ الْجَبْرَ. فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَاخْتَارُوا هَذَا الطَّرِيقَ؛ لِأَنَّهُ أَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْحِسَابِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مِثْلُ طَرِيقِ الْجَبْرِ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى فَهْمِ مَنْ يَكُونُ مُبْتَدِئًا فِي عِلْمِ الْحِسَابِ، وَبَيَانُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ: أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ دِينَارًا أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِحَاجَتِك إلَى الْحِسَابِ إذَا رَفَعْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ يَكُونُ لِمَا بَقِيَ ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَيُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ دِينَارًا وَبِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى دِرْهَمًا يُبْقِي مِنْ الثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ دِينَارٌ أَوْ سِتَّةُ دَرَاهِمَ فَحَصَلَ فِي يَدِك دِينَارَانِ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّك جَعَلْتَ النَّصِيبَ دِينَارًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ دِينَارٌ فَتَجْعَلُ الدَّنَانِيرَ مِثْلَهَا قِصَاصًا يَبْقَى فِي يَدِك ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ بِعَدْلِ ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ فَاجْعَلْ آخِرَ الدَّرَاهِمِ آخِرَ الدَّنَانِيرِ، وَآخِرَ الدَّنَانِيرِ آخِرَ الدَّرَاهِمِ، فَصَارَ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى ثَمَانِيَةٍ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ، وَقُلْ قَدْ جَعَلْتُ الثُّلُثَ دِينَارًا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَجُمْلَتُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ أَعْطَيْنَا بِالنَّصِيبِ دِينَارًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ فَثُلُثٌ يَبْقَى دِرْهَمٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَحَصَلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِينَارَانِ كُلُّ دِينَارٍ ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ كُلُّ دِرْهَمٍ بِثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ إذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ الْكُلُّ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 51 ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ. وَأَمَّا طَرِيقُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْحُسَّابُ فَهِيَ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ مَجْهُولٍ فَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا يَبْقَى مَعَك ثُلُثُ مَالٍ إلَّا شَيْءٌ فَتُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ تُسْعُ مَالٍ إلَّا ثُلُثُ شَيْءٍ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فِي يَدِك تُسْعَا مَالٍ إلَّا ثُلُثَا شَيْءٍ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ شَيْءٌ فَاجْبُرْ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَزِدْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ ثُلُثَيْ شَيْءٍ فَصَارَ مَعَنَا ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِ مَالٍ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثُ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ الْمَالَ نَاقِصٌ تُسْعُهُ، وَهُوَ ثُمُنُ مَا مَعَنَا فَزِيدَ عَلَيْهِ مِثْلُ ثُمُنِهِ وَيَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ مِثْلَ ثُمُنِهِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ ثُمُنٌ صَحِيحٌ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْمَانِ فَاضْرِبْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةً، وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ خَمْسَةً فِي ثَمَانِيَةٍ بِأَرْبَعِينَ وَثُلُثَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ بِخَمْسَةٍ وَثُلُثٍ زِدْ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ ثُمُنِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثُلُثَانِ فَيَكُونُ أَحَدًا وَخَمْسِينَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ فَالثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ ثَمَانِيَةٌ إذَا رَفَعْتَهَا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ بَقِيَ تِسْعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَقِيَ سِتَّةٌ تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ. فَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ الْخَطَّائِينَ وَتُسَمَّى طَرِيقَ التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ الثُّلُثَ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَيُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا، وَبِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمَانِ يَضُمُّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةٍ يَكُونُ عَشَرَةً وَحَاجَةُ الْبَنِينَ إلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ سَهْمًا فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِالزِّيَادَةِ خَمْسًا فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَاجْعَلْ الثُّلُثَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ أَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ عَشَرَةٍ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ وَحَاجَتُنَا إلَى عَشَرَةٍ إلَّا أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِزِيَادَةِ سَهْمَيْنِ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِالزِّيَادَةِ خَمْسًا فَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا أَذْهَبَ الْخَطَأَ بِثُلُثِهِ وَبَقِيَ مِنْ الْخَطَأِ سَهْمَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يُؤَثِّرُ فِي ثُلُثِهِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَزِيدَ مَا يُذْهِبُ الْخَطَأَ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ ثُلُثَا سَهْمٍ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يُعْطِي بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ وَثُلُثَيْنِ وَثُلُثُ مَا يَبْقَى سَهْمٌ وَيَضُمُّ السَّهْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ وَثُلُثٌ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَثُلُثَانِ مِثْلُ النَّصِيبِ فَإِنْ أَرَدْت تَصْحِيحَ الْحِسَابِ قُلْت قَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فِي ثُلُثُهُ فَيَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَقَدْ كَانَ النَّصِيبُ سَهْمَيْنِ وَثُلُثَيْنِ ضَرَبْت ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ فَهُوَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 52 ثَمَانِيَةٌ وَكَانَ الْمَقْسُومُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا ضَرَبْت ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ وَطَرِيقُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوعِ الْخَطَأَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ كَانَ بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ وَالْخَطَأَ الثَّانِي كَانَ بِزِيَادَةِ سَهْمَيْنِ فَاضْرِبْ الْمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ سَهْمَانِ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، وَاضْرِبْ الْمَالَ الثَّانِي، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا طَرَحْت ثَمَانِيَةً مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بَقِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ يَأْخُذَ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَيَضْرِبَهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَيَأْخُذَ النَّصِيبَ الثَّانِي، وَذَلِكَ اثْنَانِ يَضْرِبُهُمَا فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ يَكُونُ عَشَرَةً، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، وَهُوَ النَّصِيبُ وَالتَّخْرِيجُ إلَخْ كَمَا بَيَّنَّا وَطَرِيقُ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوعِ الْخَطَأَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ كَانَ بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تُضَعِّفَ الْمَالَ سِوَى النَّصِيبِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ سَبْعَةً أَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا يَبْقَى سِتَّةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُنَا إلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ سَهْمًا فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِزِيَادَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَضْرِبُ الْمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الْأَرْبَعَةُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَضْرِبُ الْمَالَ الثَّانِي، وَهُوَ سَبْعَةٌ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَخَمْسَةٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِذَا طَرَحْت خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ مِنْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ يَطْرَحَ أَقَلَّ الْخَطَأَيْنِ مِنْ أَكْثَرِهِمَا بِلَا ضَرْبٍ، وَأَقَلُّ الْخَطَأَيْنِ خَمْسَةٌ، وَأَكْثَرُهُمَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِذَا طَرَحْت خَمْسَةً مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَقِيَ ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ وَالتَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَطَرِيقُ السُّطُوحِ، وَهُوَ بُرْهَانُ الْجَبْرِ بِعَمَلِ الْمُهَنْدِسِينَ أَنْ تَأْخُذَ مُرَبَّعًا مُسْتَوِيَ الْأَضْلَاعِ وَالزَّوَايَا فَتَخُطَّ فِي طُولِهِ خَطَّيْنِ فَيَصِيرَ ثَلَاثَةَ سُطُوحٍ، ثُمَّ فِي عَرْضِهِ ثَلَاثَةَ خُطُوطٍ فَيَصِيرَ فِي كُلِّ سَطْحٍ أَرْبَعَةً، ثُمَّ تَبْدَأَ بِالسَّطْحِ الَّذِي عَلَى يَمِينِكَ وَتَدْفَعَ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ مِنْ النَّصِيبِ وَتُتِمَّ ذَلِكَ وَتَدْفَعَ الْبَيْتَ الثَّانِي مِنْهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَسَمِّ ذَلِكَ قِطْعَةً بَقِيَ مِنْ هَذَا السَّطْحِ بَيْتَانِ هُمَا قِطْعَتَانِ، وَتَجْمَعُهُمَا إلَى السَّطْحَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَصِيبَيْنِ وَثَمَانِ قِطَاعٍ وَحَاجَتُنَا إلَى خَمْسَةِ أَنْصِبَاءٍ فَيُعْطِي نَصِيبَيْنِ إلَى اثْنَيْنِ، وَيُبْقِي ثَمَانَ قِطَاعٍ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ قِطْعَتَانِ وَثُلُثَا قِطْعَةٍ فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ بِمَعْنَى قِطْعَتَيْنِ وَثُلُثَيْ قِطْعَةٍ، وَإِنَّا حِينَ أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ النَّصِيبَ بَيْتًا كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى قِطْعَتَيْنِ وَثُلُثَيْ قِطْعَةٍ، وَإِنَّ الَّذِي الجزء: 28 ¦ الصفحة: 53 حَصَلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ نَصِيبَانِ كُلُّ نَصِيبٍ قِطْعَتَانِ وَثُلُثَا قِطْعَةٍ فَذَلِكَ خَمْسَةُ قِطَاعٍ مَعَ ثَمَانِ قِطَاعٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قِطْعَةً وَثُلُثَ قِطْعَةٍ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ قِطْعَتَانِ وَثُلُثَا قِطْعَةٍ مِثْلَ مَا أَعْطَيْنَا بِالنَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ، وَهَذَا صُورَتُهُ، ثُمَّ الْحَاصِلُ بَعْدَ هَذَا أَنْ تُخْرِجَهَا عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَتَدَعَ مَا سِوَى ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّطَوُّلِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَبِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ الْآخَرِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ أَحَدَ عَشَرَ وَلِصَاحِبِ رُبُعِ مَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ وَبَيَانُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَتَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ لِمَكَانِ الْوَصِيَّةِ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهُ سَهْمًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تِسْعَةً وَسِتِّينَ، فَهُوَ الْمَالُ وَالثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبَهُ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهُ وَاحِدًا يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ فَإِذَا رَفَعْت مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ أَحَدَ عَشَرَ بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ تَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَأَرْبَعِينَ فَيَكُونَ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ مِثْلُ النَّصِيبِ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ مَجْهُولٍ وَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، وَبِالْوَصِيَّةِ بِرُبْعِ مَا يَبْقَى رُبْعَ مَا بَقِيَ، وَهُوَ رُبْعُ الثُّلُثِ إلَّا رُبْعَ شَيْءٍ بَقِيَ مَعَك ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إلَّا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ فَيَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَيْءٍ فَالْمَالُ نَاقِصٌ فَأَكْمِلْهُ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ، وَزِدْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ خَمْسَةً وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ وَرُبُعٍ فَإِنَّ خَمْسَةً فِي أَحَدَ عَشَرَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ ثَمَانِيَةٌ وَرُبُعٌ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَيَكُونُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 54 تِسْعَةً وَسِتِّينَ، وَهُوَ الْمَالُ الْكَامِلُ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَاهُ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ أَحَدَ عَشَرَ وَالتَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَالْآخَرُ بِخُمُسِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ فَأَنْ تَزِيدَ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا لِلْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ فَيَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِخُمُسِ مَا بَقِيَ فَيَكُونُ ثُلُثَيْنِ، ثُمَّ تَطْرَحُ مَا زِدْت، وَهُوَ وَاحِدٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبُهُ فِي خَمْسَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْهَا وَاحِدًا يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ فَإِذَا رَفَعْت ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِخُمُسِ مَا بَقِيَ خُمُسُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَصِيرُ سَبْعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِثْلُ النَّصِيبِ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ مَجْهُولٍ وَتُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا يَبْقَى ثُلُثُ مَالٍ إلَّا شَيْءٌ وَيُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى خُمُسَ ذَلِكَ، وَهُوَ خُمُسُ الثُّلُثِ إلَّا خُمُسَ شَيْءٍ بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ، وَيَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْهُ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا، ثُمَّ زِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ جُزْءٌ صَحِيحٌ فَتَضْرِبُ خَمْسَةَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ وَخُمُسًا؛ لِأَنَّ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَبْعُونَ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَحَدَ عَشَرَ وَخُمُسٌ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ فَهُوَ الْمَالُ الْكَامِلُ، الثُّلُثُ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَضَرَبْنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ النَّصِيبُ عَشَرَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا مِثْلَ مَا زِدْت أَوَّلًا فَيَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَالْجُمْلَةُ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ. وَمَعْرِفَةُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 55 النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبَهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ تِسْعَةً، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا كَمَا فَعَلْته فِي أَصْلِ الْمَالِ فَيَكُونُ عَشَرَةً، وَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ بَقِيَ تِسْعَةٌ اسْتَرْجِعْ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّصِيبِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَضُمَّ ذَلِكَ إلَى تِسْعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فَيَكُونُ خَمْسِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ كَامِلٍ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ مِثْلَ ثُلُثِ مَالٍ مَجْهُولٍ فَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الثُّلُثِ إلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ فَيَصِيرُ مَعَك أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ مَالٍ إلَّا شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، فَيَكُونُ الْجُمْلَةُ مَالًا وَتُسْعَ مَالٍ إلَّا شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْهُ بِشَيْءٍ وَثُلُثَ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَصَارَ مَالًا وَتُسْعَ مَالٍ يَعْدِلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَالْمَالُ زَائِدٌ بِعَشَرَةٍ فَاطْرَحْ مِنْهُ عَشْرًا وَاطْرَحْ مِمَّا يَعْدِلُهُ الْعَشْرَ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِسِتَّةٍ وَثُلُثٍ عُشْرٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ سِتَّةً وَثُلُثًا فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ وَثُلُثٌ اطْرَحْ مِنْهُ عَشْرَةُ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثٌ، بَقِيَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي عَشَرَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ الْكَامِلَ عَشَرَةٌ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ: إلَّا رُبْعَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ كَانَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ النَّصِيبُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِثَلَاثَةٍ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ الْوَصِيَّةُ بِرُبْعِ مَا بَقِيَ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ خَمْسُونَ، فَالْمَالُ كُلُّهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَضْرِبَ النَّصِيبَ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا فَالنَّصِيبُ الْكَامِلُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ إذَا رَفَعْتهَا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ فَتَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ رُبْعِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضُمُّ ذَلِكَ ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسُونَ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْلُ نَصِيبٍ كَامِلٍ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ الْمَالِ، وَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ رُبْعِ مَا بَقِيَ فَيَصِيرُ مَعَك خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إلَّا شَيْئًا وَرُبْعَ شَيْءٍ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَالًا وَاثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ إلَّا شَيْئًا وَرُبْعَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْهُ بِشَيْءٍ وَرُبْعِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَصَارَ مَالًا وَجُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ يَعْدِلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَرُبْعٍ الْمَالُ زَائِدٌ فَاطْرَحْ مِنْ الْجُمْلَةِ جُزْءًا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 56 مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ لِتَبْيِينِ الْمَالِ الْكَامِلِ، وَاطْرَحْ مِمَّا يَعْدِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِسِتَّةٍ وَرُبْعِ جُزْءٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ عُشْرٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ سِتَّةً وَرُبْعًا فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ وَرُبْعًا، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَرُبْعٌ يَبْقَى خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فَهُوَ الْمَالُ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ الْكَامِلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأُمًّا وَامْرَأَةً وَعَصَبَةً، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى ابْنَتَيْهِ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ اثْنَانِ، وَالسَّبِيلُ فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى بِدُونِ الْوَصِيَّةِ فَنَقُولُ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِلْمَرْأَةِ ثُمُنٌ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِمَكَانِ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ إلَّا أَنَّ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ فَيَجْعَلُ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلَ نَصِيبِ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ لِوَصِيَّتِهِ بِالنَّصِيبِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مَا زِدْتَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ بَقِيَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَالْمَالُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ سَهْمَيْنِ وَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ سِتَّةً، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهَا سَهْمَيْنِ يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ، إذَا رَفَعْت ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثُ ذَلِكَ اثْنَانِ، بَقِيَ أَرْبَعَةٌ تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ مِثْلُ النَّصِيبِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سِتَّةٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ لِلْعَصَبَةِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ، وَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، وَبِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَ الْمَالِ الْبَاقِي يَبْقَى مَعَك تُسْعَا مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَنَصِيبُ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ ثُلُثُ الْمَالِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ حَاجَتَنَا إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ بِثُلُثِ شَيْءٍ، وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ ثَلَاثَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ جُزْءٌ صَحِيحٌ، وَالْمَالُ نَاقِصٌ فَزِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ ثُمُنِهِ، وَزِدْ عَلَيْهِ مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ ثُمُنٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَصِيرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَثُلُثًا، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ ثُمُنِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ فَهُوَ الْمَالُ الْكَامِلُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 57 وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ ثَمَانِيَةٌ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ، ثُمَّ يَضُمُّ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمَانِ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فَخَرَجَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ مُسْتَقِيمًا عَلَى النِّصْفِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتِّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَالنَّصِيبُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، وَثُلُثُ الْبَاقِي سِتَّةَ عَشَرَ فَقَدْ طَوَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحِسَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِيُخْرِجَ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ مُسْتَقِيمًا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ الْوَصِيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ دُونِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ تَزِيدُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ مِثْلَ نَصِيبِ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ سَهْمَيْنِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَكُونُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ سَهْمَيْنِ وَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ سِتَّةً، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمَيْنِ فَيَكُونَ عِشْرِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ، إذَا رَفَعْته مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى سِتَّةٌ فَتَسْتَرْجِعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا يَبْقَى وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَيَصِيرَ مَعَك مِنْ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةً تَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سِتِّينَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ عَشَرَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلسِّتِّينَ ثُمُنٌ صَحِيحٌ فَلِهَذَا ضَرَبَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلَ الْحِسَابِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ سِتَّمِائَةٍ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَخَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ فَتُعْطِيَ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، وَتَسْتَرْجِعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ ثُلُثُ الثُّلُثِ إلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ فَيَكُونُ مَعَك أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ مَالٍ إلَّا شَيْئًا، وَثُلُثَ شَيْءٍ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ مَالًا وَتُسْعَ مَالٍ إلَّا شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَنَصِيبُ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ ثُلُثُ الْمَالِ وَجَبْرُهُ بِشَيْءٍ وَثُلُثِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَكَانَ مَالًا وَتُسْعَ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَالْمَالُ زَائِدٌ فَاطْرَحْ الزِّيَادَةَ، وَهُوَ عُشْرُ الْجُمْلَةِ، وَاطْرَحْ مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثَةٍ عُشْرٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثًا فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثًا، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ عُشْرَهُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثُلُثٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 58 وَثَلَاثُونَ فَهُوَ الْمَالُ الْكَامِلُ، الثُّلُثُ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا فَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي عَشَرَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ الْكَامِلَ عَشَرَةٌ إذَا رَفَعْتهَا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَتَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ سَهْمًا فَيَصِيرُ مَعَك مِنْ الثُّلُثِ أَرْبَعَةً تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْوَرَثَةِ، لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ عِشْرُونَ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ خَمْسَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ لِلْعَصَبَةِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ مِنْ نِصْفِ مَا أَخْرَجْنَا عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَالتَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنَّ تَصْحِيحَ الْفَرِيضَةِ هَاهُنَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ مُسْتَقِيمًا فَتَجْعَلُ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ لِلْعَصَبَةِ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةً لِوَصِيَّتِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِهَا فَيَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ فَيَكُونُ إحْدَى وَثَمَانِينَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مَا زِدْنَا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَتَضْرِبَهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ تِسْعَةً، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَطْرَحَ ثَلَاثَةً يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْت ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِثْلُ مَا أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ بِنَصِيبِهَا وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ مَعْلُومَةٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ وَتُعْطِيَ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا وَبِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى ثُلُثَ مَا بَقِيَ يَبْقَى مَعَك تُسْعَا مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ إلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَنَصِيبُ الْمَرْأَةِ الثُّمُنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَاجَةَ الْوَرَثَةِ إلَى ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ فَاجْبُرْ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ مَالٍ يَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، وَالْمَالُ نَاقِصٌ فَزِدْ عَلَيْهِ، مِثْلَ ثُمُنِهِ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ وَلَيْسَ لِثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ ثُمُنٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَسِتِّينَ وَثُلُثًا، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ ثُمُنِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 59 وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَصِيرُ الْمَالُ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ فَهُوَ الْمَالُ الْكَامِلُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّصِيبَ ثَمَانِيَةٌ إذَا رَفَعْتهَا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ بَقِيَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ذَلِكَ بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ، وَالتَّخْرِيجُ فِي الْمِيرَاثِ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِكَمَالِ الرُّبْعِ بِنَصِيبِهِ وَبِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ لِآخَرَ فَأَجَازُوا، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ النَّصِيبُ اثْنَانِ وَيُكَمِّلُهُ الرُّبْعُ وَاحِدٌ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثُ وَاحِدٌ. وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ نَقُولَ: الْمَالُ لَوْلَا الْوَصِيَّةُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ عَلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ فَإِذَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِكَمَالِ الرُّبْعِ بِنَصِيبِهِ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْهُ لِلْوَارِثِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَطْرَحَ نَصِيبَ الِابْنِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ سَهْمٌ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ فَهُوَ الْمَالُ، الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَالرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَطْرَحْ مِنْهُ وَاحِدًا يَبْقَى اثْنَانِ فَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا دَفَعْت إلَى الِابْنِ الْمُوصَى لَهُ كَمَالَ الرُّبْعِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَاسْتَرْجَعْت مِنْهُ مِقْدَارَ النِّصْف وَذَلِكَ اثْنَانِ بَقِيَ وَاحِدٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِتَكْمِلَةِ الرُّبْعِ وَاحِدٌ، فَإِذَا رَفَعْت ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ أَرْبَعَةٍ بَقِيَ ثَلَاثَةٌ، لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمَانِ يَضُمُّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ عَشَرَةً بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ مِثْلُ النَّصِيبِ فَإِذَا ضَمَّ الِابْنُ الْمُوصَى لَهُ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ إلَى السَّهْمِ الَّذِي أَخَذَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَصَلَ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ كَمَالُ رُبْعِ الْمَالِ بِنَصِيبِهِ، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالٍ فَتُعْطِيَ الِابْنَ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِكَمَالِ الرُّبْعِ بِنَصِيبِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الرُّبْعَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ؛ فَلِهَذَا تُعْطِيهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا فَتَضُمُّهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَتُعْطِي الْمُوصَى لَهُ الْآخَرَ ثُلُثَ مَا يَبْقَى، وَهُوَ ثُلُثُ شَيْءٍ وَثُلُثَيْ رُبْعِ الثُّلُثِ، بَقِيَ مَعَنَا ثُلُثَا رُبْعِ الثُّلُثِ وَثُلُثَا شَيْءٍ فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ وَثُلُثَ جُزْءٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النِّصْفَ شَيْئًا. فَقُلْنَا: شَيْءٌ قِصَاصٌ بِمِثْلِهِ يَبْقَى ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مَعَنَا وَثُلُثَا جُزْءٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ يَعْدِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثًا، وَأَرْبَعَةً وَثُلُثَ مِثْلِ نِصْفِ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ بِمَعْنَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّا فِي الِابْتِدَاءِ أَعْطَيْنَا الِابْنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ اسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، وَذَلِكَ بِمَعْنَى جُزْءٍ يَبْقَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ بِالتَّكْمِلَةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 60 جُزْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى جُزْءًا وَاحِدًا يَبْقَى جُزْءٌ، وَإِنْ ضَمَمْنَا ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ فَيَكُونُ عَشَرَةً بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ جُزْءَانِ مِثْلُ النَّصِيبِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ مُسْتَثْنًى، وَهُوَ الشَّيْءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا دَيْنٌ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتَرَكَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ ثَلَاثَةٍ الثُّلُثُ وَاحِدٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ وَاحِدٌ فَاطْرَحْ نَصِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَاقْسِمْ الْعَيْنَ عَلَى سَهْمَيْنِ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ خَمْسَةٌ وَفِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَحَقَّ كُلِّ ابْنٍ فِي سَهْمٍ، وَالِابْنُ الْمَدْيُونُ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ لَا يُزَاحِمُ الْآخَرِينَ فِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ وَلَكِنَّ الْعَشَرَةَ الْعَيْنَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَقَّيْهِمَا فِي التَّرِكَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خَمْسَةً تَبَيَّنَ أَنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ خَمْسَةٌ، وَأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ التَّرِكَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثَ ذَلِكَ خَمْسَةً فَاسْتَقَامَ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ أَمْسَكَ الِابْنُ الْمَدْيُونُ تَمَامَ نَصِيبِهِ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَأَدَّى ثَلَاثَةً وَثُلُثًا فَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَيْنِ كَمَا كَانَتْ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ فَأَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مَرَّةً خَمْسَةً وَمَرَّةً دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ ثُلُثُ الْعِشْرِينَ وَسَلِمَ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ. وَطَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي حُكْمِ التَّاوِي مَا لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّ الْعَشَرَةَ الْعَيْنَ تُقْسَمُ أَثْلَاثًا فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْطَى لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمَا عَلَيْهِ هَذَا الْمِقْدَارَ وَزِيَادَةً، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ مَتَى ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَهُمَا يَأْخُذَانِ ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقَّيْهِمَا فِي ذِمَّتِهِ فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ إلَّا أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ كَمَا بَيَّنَّا. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنَّ جُزْءًا مِنْ الدَّيْنِ قَدْ تَعَيَّنَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَحَاجَتُنَا إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ذَلِكَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، وَتَضُمَّهُ إلَى الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ فَتَقْسِمَ ذَلِكَ أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 61 وَثُلُثُ ثُلُثِ شَيْءٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ وَحَاجَتُنَا إلَى شَيْئَيْنِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا وَهُوَ نَصِيبُ أَحَدِ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ حَاجَتُنَا إلَى سِتِّينَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ قِصَاصٌ بِمِثْلِهِ يَبْقَى فِي يَدِ الِاثْنَيْنِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ. وَإِذَا كَانَتْ سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ يَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثَ شَيْءٍ عَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي يَعْدِلُ الشَّيْءَ مِنْ الدَّرَاهِمِ خَمْسَةٌ، وَأَنَّا حِينَ جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْعَشَرَةِ وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرُ الثُّلُثِ وَزِيَادَةٌ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فَكَانَ هَذَا، وَالْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ سَوَاءٌ. وَلَوْ لَمْ يُوصِ لَهُ بِالثُّلُثِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِرُبْعِ مَالِهِ فَالْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى الْحِسَابِ إذَا رَفَعْنَا مِنْهُ الرُّبْعَ يُقْسَمُ مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تُطْرَحُ سِهَامُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فَيَضْرِبُ الِابْنُ فِيهَا بِثَلَاثَةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِسَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ خُمْسَا الْعَشَرَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلِلِابْنِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا سِتَّةٌ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ سِتَّةٌ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، فَيَكُونُ الْمُتَعَيِّنُ فِي الْحَاصِلِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي رُبْعِهَا أَرْبَعَةٍ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ فَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ تَمَامَ نَصِيبِهِ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَيُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا فَيَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةٍ خُمْسُهَا وَهُوَ دِرْهَمٌ لِلْمُوصَى لَهُ فَقَدْ أَخَذَ أَرْبَعَةً مَرَّةً وَمَرَّةً دِرْهَمًا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ كَمَالُ رُبْعِ الْعِشْرِينَ، وَحَصَلَ لِلِابْنِ الْآخَرِ مَرَّةً سِتَّةٌ وَمَرَّةً دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَسَلَّمَ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَاسْتَقَامَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ لَا يُعْتَبَرُ الدَّيْنُ فِي الْقِسْمَةِ وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ رُبْعُهَا، وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَلِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهَا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَلِلِابْنِ الْمَدْيُونِ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْطِي لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ لَهُمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَيَسْتَوْفِيَانِ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمَا وَيَقْتَسِمَانِهِ أَخْمَاسًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فِي ذِمَّتِهِ خُمْسَا ذَلِكَ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ لِلْمُوصَى لَهُ فَحَصَلَ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَرُبْعٌ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَحْصُلُ لَهُ سِتَّةٌ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ بَقِيَّةِ الدَّيْنِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يُجْعَلُ الْخَارِجُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، وَيُضَمُّ الْعَشَرَةَ إلَى الْعَيْنِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلْمُوصَى لَهُ رُبْعُهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفُ وَرُبْعُ شَيْءٍ، وَلِلِابْنَيْنِ مَا بَقِيَ وَحَاجَةُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 62 الِابْنَيْنِ إلَى شَيْئَيْنِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، وَفِي يَدِهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَيْءٍ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ قِصَاصًا بِمِثْلِهِ يَبْقَى فِي يَدِهِمَا سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ يَعْدِلُ شَيْئًا وَرُبْعَ شَيْءٍ فَظَهَرَ أَنَّ الدَّيْنَ يَعْدِلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ سِتَّةً، وَإِنَّا حِينَ جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى سِتَّةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِالْخُمْسِ كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْعَيْنِ وَلِلِابْنِ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ خَمْسَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ خُمْسٌ صَحِيحٌ وَأَقَلُّ ذَلِكَ خَمْسَةٌ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ فَعَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ يَطْرَحُ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ وَيَقْسِمُ الْعَيْنَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ فَيَضْرِبُ الِابْنُ فِيهَا بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ فَلَهُ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وَلِلِابْنِ ثُلُثَاهَا فَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ ثُلُثَاهَا أَيْضًا سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ الْعَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ خُمْسَ ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ بَقِيَّةِ الدَّيْنِ فَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ حِصَّتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَيُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ، وَهُوَ ثُلُثَا دِرْهَمٍ فَقَدْ أَخَذَ مَرَّةً ثَلَاثَةً وَثُلُثًا وَمَرَّةً ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ خُمْسُ الْعِشْرِينَ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ، وَقَدْ أَخَذَ الِابْنُ مَرَّةً سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ وَمَرَّةً دِرْهَمًا وَثُلُثًا، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ كَمَالُ حَقِّهِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الدَّيْنُ تَاوٍ فَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خُمْسَهَا دِرْهَمَيْنِ، وَالِابْنُ خُمْسَهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ مِثْلُ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْطَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمَا يَأْخُذَانِهَا قِصَاصًا مِمَّا لَهُمَا عَلَيْهِ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقَّيْهِمَا فَلَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ لِلْمُوصَى لَهُ فَقَدْ أَخَذَ مَرَّةً دِرْهَمَيْنِ وَمَرَّةً دِرْهَمًا وَثُلُثَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَأَخَذَ الِابْنُ مَرَّةً أَرْبَعَةً وَمَرَّةً دِرْهَمَيْنِ وَثُلُثَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يُجْعَلُ الْخَارِجُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا فَتَضُمُّهُ إلَى الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وَتُعْطِي الْمُوصَى لَهُ خُمْسَ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ وَخُمْسٌ يَبْقَى فِي يَدِ الِاثْنَيْنِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَحَاجَتُنَا إلَى شَيْئَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ شَيْءٍ فَيَجْعَلُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ قِصَاصًا بِمِثْلِهَا يَبْقَى فِي يَدِهِمَا ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمْسَ شَيْءٍ فَظَهَرَ أَنَّ الدَّيْنَ بِعَدْلِ الشَّيْءِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَإِنَّا حِينَ جَعَلْنَا لِلْمُتَعَيَّنِ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِأَكْثَرَ إلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ أَخَذَ وَصِيَّتَهُ كُلَّهَا مِنْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُلُثَ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُتَعَيَّنِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهَا فِي الْحَالِ مِنْ ثُلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 63 الْعَيْنِ فَكَذَلِكَ وَجَبَ تَنْفِيذُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ هُنَاكَ يَزْدَادُ حَقُّهُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ وَبِالرُّبْعِ كَانَ لِلِابْنِ نِصْفُ الْعَيْنِ وَنِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ عَلَى سَبْعَةٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ حَازَا الثُّلُثَ، وَلَكِنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثُّلُثَ الْمُتَعَيَّنَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ نِصْفُ الْعَيْنِ فَيَعْزِلُ ذَلِكَ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ وَرُبْعُهَا ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ يَضْرِبُ فِيهَا صَاحِبُ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ خَمْسَةٍ فَالْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، فَيُقْسَمُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ، ثُمَّ يَحْتَسِبُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَأْخُذُ الِابْنُ نِصْفَهُ وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ نِصْفَهُ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ كَمَا فَعَلَاهُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى. وَلَوْ أَوْصَى بِرُبْعِ الْعَيْنِ لِرَجُلٍ وَثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الْآخَرِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْوَصِيَّةِ نِصْفَ الدَّيْنِ يَضْرِبُ فِيهَا صَاحِبُ رُبْعِ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فَوْقَ ثُلُثِهَا فَيَكُونُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَسُدُسٍ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَذَا، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِنِصْفِ الْمَالِ كُلِّهِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَأَجَازَ الِابْنُ الْمَدْيُونُ، وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ بَيْنَ الِابْنِ وَصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَةِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ وَالِابْنُ الْآخَرُ لَمْ يُجِزْ الْوَصِيَّةَ فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَهُ كَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ فَلِهَذَا يَقْتَسِمَانِ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُحْتَسَبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُجِيزٌ لِلْوَصِيَّةِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا أَجَازَا. وَلَوْ أَجَازَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُ الْمَالِ عَشَرَةٌ، وَكُلُّ ابْنٍ خَمْسَةٌ؛ فَلِهَذَا يُحْتَسَبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ خَمْسَةٌ، وَيُؤَدِّي مِمَّا بَقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَأْخُذُ الِابْنُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِزْ الْوَصِيَّةَ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُجِيزَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 64 وَتَمَامُ حَقِّهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ خَمْسَةٌ فَيَأْخُذُ الْأَبُ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ كَمَالَ حَقِّهِ وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثُ سَبْعَةٍ وَثُلُثَانِ بِلَا مِنَّةِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَدِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ حِصَّةُ الْمُجِيزِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ فَحِصَّةُ الْمُجِيزِ نِصْفُهَا دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا وَعَشَرَةً عَلَى امْرَأَتِهِ دَيْنًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيزُوا فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ بَعْدَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ فَاطْرَحْ نَصِيبَهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا فَوْقَهَا وَاقْسِمْ الْعَيْنَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا سَبْعَةٌ لِلِابْنِ وَالْأَرْبَعَةُ لِأَهْلِ الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ يَضْرِبُ فِيهَا صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ، وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِمَا أَصَابَ ثَلَاثَةً، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ يَضْرِبُ صَاحِبُ الرُّبْعِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَقَدْ سَمَّى لَهُ الرُّبْعَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ الْمَرْأَةُ يُحْسَبُ نَصِيبُهَا مِمَّا عَلَيْهَا وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَثْمَانٍ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا قَدْ اسْتَغْرَقَتْ الثُّلُثَ، فَإِنَّ مِيرَاثَهَا ثُمْنُ الثُّلُثَيْنِ، وَثُلُثَا الْمَالِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَثُمْنُ ذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَثْمَانٍ وَثُلُثُ ثُمْنٍ أَوْ ثُمْنُ ثُلُثِ دِرْهَمٍ فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَكُونُ بَيْنَ الِابْنِ وَصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ وَصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ بِالدِّرْهَمَيْنِ مَقْسُومًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ مِمَّا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُ الْمَالِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَإِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ دِرْهَمَانِ، وَالْأُخْرَى الرُّبْعُ خَمْسَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ جَاوَزَتَا الثُّلُثَ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبٍ مَا بَقِيَ شَيْءٌ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَعَشَرَةً عَيْنًا وَعَشَرَةً عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ تُقْسَمُ أَثْلَاثًا فَيَأْخُذُ صَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ ثُلُثَهَا، وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُلُثَهَا، وَيَبْقَى ثُلُثُهَا نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، فَلَا يُعْطَى ذَلِكَ بَلْ يَضْرِبُ فِيهَا الِابْنُ بِمَا بَقِيَ لَهُ وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ بِالدَّيْنِ بِرُبْعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ رُبْعُهَا وَزِيَادَةٌ فَيَضْرِبُ هُوَ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَيَقْسِمُ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ أَمْسَكَ الِابْنُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَقِيرَاطٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَرُبْعِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَخَمْسَةَ أَسْدَاسٍ، وَذَلِكَ دُونَ جَمِيعِ الْمَالِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالَ حَقِّهِ يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُدُسٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 65 لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ وَقِيرَاطٌ وَالْقِيرَاطُ نِصْفُ السُّدُسِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يُمْسِكُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ سَبْعَةٌ وَقِيرَاطٌ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَقْتَسِمُهُ صَاحِبُ رُبْعِ الدَّيْنِ وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا كَانَا اقْتَسَمَا ثُلُثَ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ خَرَجَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنُ بِخِلَافِ هَذَا، وَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَدَقُّ نُبَيِّنُ ذَلِكَ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنًا وَتَرَكَ عَشَرَةً عَيْنًا وَتَرَكَ رَجُلَيْنِ غَرِيمَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فَجَاءَ أَحَدُ الْغَرِيمَيْنِ بِمَا عَلَيْهِ فَأَدَّاهُ وَالْآخَرُ لَا شَيْءَ لَهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْعَيْنَ وَالْعَشَرَةَ الَّتِي عَلَى الِابْنِ عَيْنٌ كُلُّهَا تُقْسَمُ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا فَيَأْخُذُ أَهْلُ الْوَصِيَّةِ مَا أَصَابَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، وَيَأْخُذُ الِابْنَانِ مَا أَصَابَا سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثَيْنِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثٌ، وَالْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ: وَصِيَّتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَوَصِيَّتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ؛ فَلِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ ظَفِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِ حَقِّهِ مِمَّا هُوَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ مَا فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ، فَإِذَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ يَتَمَلَّكُهُ أَيْضًا قَضَاءً لِحَقِّهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: حِينَ أَدَّى أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ الْعَيْنُ عِشْرِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الِابْنِ الْآخَرِ قَدْ تَعَيَّنَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِذَا ضَمَمْنَا مَا عَلَى الِابْنِ إلَى الْعَيْنِ كَانَ ثُلُثُ الْجُمْلَةِ عَشَرَةً وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ؛ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ فِي عَشَرَةٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثٌ. وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَثُلُثٍ فَالثُّلُثَانِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ، فَالْجُمْلَةُ سَبْعُونَ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْغَرِيمِ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ وَزِيَادَةً؛ فَلِهَذَا جَعَلْت الْقِسْمَةَ فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثٌ فَيُحْسَبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ وَيُسْتَوْفَى الْفَضْلُ مِنْ الْعَيْنِ، وَيُحْسَبُ لِلْغَرِيمِ الْمُقَدَّمِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَثُلُثٍ، وَلِلِاخْتِصَارِ وَجْهٌ بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّ أَصْحَابِ الْوَصَايَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَالْجُمْلَةُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَثُلُثَيْنِ، ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثَةً، وَيَقْسِمُ الثُّلُثَانِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَيَكُونُ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 66 ذَلِكَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْعَيْنِ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ الْمُؤَدِّي خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ فَيَسْتَوْفِي الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ فَيَسْتَوْفِي الْمَدْيُونُ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ فَيُسَلِّمُ لَهُ مَا عَلَيْهِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ وَيُحْسَبُ لِلْمُوصَى لَهُ الْمُقَدَّمُ كَمَا عَلَيْهِ خَمْسَةٌ أَيْضًا فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ وَيُسَلَّمُ لِلِابْنَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْكُلُّ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فَيُمْسِكُ الْغَرِيمُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَقْتَسِمُهُ أَهْلُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ عَلَى مَا اقْتَسَمُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَعَشَرَةً عَيْنًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ الدَّيْنِ فَنَصِيبُ الْعَيْنِ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ نَصِيبُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَبْدَأُ بِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ وَيَأْخُذُ الْخَمْسَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُقَدَّمٍ فِي التَّنْفِيذِ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَا هُنَا مِقْدَارُ الْخَمْسَةِ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَبِاعْتِبَارِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ذَلِكَ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَى الْمَدْيُونِ، ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ بِاعْتِبَارِ دَيْنِهِ قَبْلَهُ، فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا عَلَى الْمَدْيُونِ يَحْسِبُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ فَيُؤَدِّي الْفَضْلَ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا وَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ كَمَا اقْتَسَمَا الْعَشَرَةَ الْعَيْنَ فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ مِقْدَارُ ثُلُثَيْ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَيُسَلَّمُ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ. وَلَوْ أَوْصَى مَعَ هَذَا بِثُلُثِ الْعَيْنِ لِآخَرَ فَإِنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَبِاعْتِبَارِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ ثُلُثُ الْمَالِ نِصْفُ الْعَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ، وَصَاحِبُ ثُلُثَيْ الْمَالِ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَيَجِبُ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ وَيُؤَدِّي ثَلَاثَةً وَثُلُثًا فَيَأْخُذُ الِابْنُ نِصْفَهَا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ نِصْفَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثَيْ الدَّيْنِ فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَوْ بِمَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَةً، فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ كَمَا يَضْرِبُ بِهِ صَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ فَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَقَدْ أَجَابَ بِمِثْلِهِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ، وَهُوَ صَوَابٌ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الدَّيْنِ وَثُلُثَ الْعَيْنِ سَوَاءٌ لَكِنَّ مَشَايِخَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى تَصْوِيبِ الْحَاكِمِ فِيمَا ذَكَرَ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَجْهٌ صَحِيحٌ أَيْضًا فَإِنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُتَعَيَّنِ وَلَوْ تَعَيَّنَ جَمِيعُهُ لَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيْ الدَّيْنِ يَضْرِبُ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 67 بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا تَعَيَّنَ نِصْفُهُ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثَيْنِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ فِي حَقِّ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا يَزِيدُ عَلَى سِتَّةٍ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فِي ثُلُثِ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ، وَإِنَّمَا يَبْقَى لِلِابْنَيْنِ ثُلُثَا الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَالْمُتَعَيِّنُ مِنْ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالدَّيْنِ قَدْرَ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِنْ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ كَمَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ هَذَا مُسْتَقِيمٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَبَعْدَ خُرُوجِ الدَّيْنِ لَا وَجْهَ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ الدَّيْنِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَلَوْ تَرَكَ مَعَ هَذَا ثَوْبًا قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِالثَّوْبِ فَإِنَّ نَصِيبَ الثَّوْبِ مِنْ الثَّوْبِ أَرْبَعَةٌ غَيْرَ رُبْعٍ وَنَصِيبَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ غَيْرَ رُبْعٍ، وَيَكُونُ ثُلُثُ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ وَثُلُثَاهُ فِي الْعَشَرَةِ، وَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سَبْعَةً وَنِصْفًا، وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ وَتَمَامَ سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَيَحْسِبُ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ ثَمَانِيَةً وَثُلُثًا إلَى آخِرِهِ، وَوَجْهُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ: اجْتَمَعَ فِي الثَّوْبِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَثُلُثِهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةٍ، خَمْسَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ تَكُونُ عَلَى سِتَّةِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ تَبْلُغُ سِهَامُ الْوَصَايَا عَشَرَةٌ. وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي ضِعْفِ ذَلِكَ عِشْرِينَ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ سِهَامَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فِي الْحَالِ وَيَقْسِمُ الْعَيْنَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي الْحَاصِلِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَالثَّوْبُ مَعَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ، نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ كُلِّهِ فِي الثَّوْبِ، وَنِصْفُهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ ثُلُثُ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ وَثُلُثَاهُ فِي الْعَشَرَةِ عَلَى حِسَابِ أَصْلِ حَقِّهِ فِي الثَّوْبِ وَالْعَشَرَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْعَشَرَةِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَمِنْ الثَّوْبِ قَدْرُ دِرْهَمٍ وَرُبْعٍ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ هَذَا كُلُّهُ مُسْتَقِيمٌ إلَّا حَرْفًا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: يَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ وَتَمَامَ سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثَّوْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثَّوْبِ أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ وَرُبْعَهُ أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا لَوْ قَسَمْنَا الثَّوْبَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا هَكَذَا فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 68 الِابْنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَأْخُذُ سَبْعَةً وَنِصْفًا مِنْ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَنَقُولُ: جُمْلَةُ الْمَالِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهَا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ وَيَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةً وَثُلُثًا أَيْضًا فَيَحْسِبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِسْمَةَ فِي الثُّلُثِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ، وَيَضْرِبُ مَعَهُ فِيهَا صَاحِبُ الثَّوْبِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الثَّوْبِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَيَضْرِبُ مَعَهُ الْآخَرُ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ ذَلِكَ ثُلُثُ الْعِشْرِينَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَسُدُسُ الثَّوْبِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثَّوْبِ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَنِصْفًا فَمَا أَصَابَ صَاحِبُ الثَّوْبِ كَانَ فِي الثَّوْبِ، وَمَا أَصَابَ الْآخَرُ كَانَ فِي الثَّوْبِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خُمْسُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَالْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ فِي الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ كَانَ فِي الثَّوْبِ فِي ثَلَاثَةٍ مِقْدَارُ ذَلِكَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، وَفِي الْمَالِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ دِرْهَمٍ وَثُلُثَيْنِ سَهْمًا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِ فِي الْمَحَلَّيْنِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ خُمْسِ نَصِيبِهِ فِي الثَّوْبِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ شِئْت قُلْت يَأْخُذُ مِنْ الثَّوْبِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا أَصَابَ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا وَالْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ إذَا تَأَمَّلْت، وَإِنَّ مِثْلَ ثُلُثِ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ خُمْسُ حَقِّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ وَإِذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَيْنًا وَثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا وَسَيْفًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِالسَّيْفِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فَلِأَهْلِ الْوَصِيَّةِ نِصْفُ الْعَيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السَّيْفِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسُدُسِ السَّيْفِ وَثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ السَّيْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيمَةُ السَّيْفِ عَلَى سِتَّةٍ خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ لِصَاحِبِ السَّيْفِ وَسُدُسِهِ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ، ثُمَّ صَارَ كُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْعَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ سِهَامُ الْوَصِيَّتَيْنِ عَشَرَةً. وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَشَرَةً فَالثُّلُثَانِ عِشْرُونَ، ثُمَّ يَطْرَحُ سِهَامَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالسَّيْفِ وَقَدْرِ الْخَمْسِينَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَلِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ لَهُ قَدْرُ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الْعَيْنِ وَيُحْسَبُ لِلْمَدْيُونِ مِثْلُهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، ثُمَّ الْمَعْزُولُ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا نِصْفُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالسَّيْفِ كُلِّهِ فِي السَّيْفِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ السَّيْفِ وَنِصْفُ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ ثُلُثُ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَاهُ فِي الْمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ عَلَى مِقْدَارِ أَصْلِ حَقِّهِ فِي الْمَحَلَّيْنِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُحْسَبُ لِلِابْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 69 الْمَدْيُونِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَالسَّيْفُ وَقِيمَتَهُ مِائَةٌ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهَا وَيُسَلَّمُ لِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثُهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَيُؤَدِّي مِائَةً فَإِذَا أَدَّاهَا اقْتَسَمُوا الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ فَيَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ السَّيْفِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ السَّيْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسُدُسِ السَّيْفِ وَثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ فَمَا أَصَابَ صَاحِبُ السَّيْفِ كَانَ فِي السَّيْفِ وَمَا أَصَابَ صَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ فِي السَّيْفِ أَوْ نَقُولُ: الِابْنُ الْآخَرُ يَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَحَقُّهُ فِي مِائَتَيْنِ لَمْ يَسْتَقْبِلْ قِسْمَةَ الثُّلُثِ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ. قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ يَضْرِبُ بِثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ خَطَأٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فَكَيْفُ يَضْرِبُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَقَوْلُهُ: يَضْرِبُ بِسُدُسِ السَّيْفِ أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْعَيْنِ لَا تَقَعُ عَلَى الْعُرُوضِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ عَلَى النَّقْدِ خَاصَّةً وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَقَالَ: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَبِثُلُثِ كَذَا وَسَمَّى تِلْكَ الْعُرُوضَ. وَإِذَا حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِمَا إذَا خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُمَا تَخْرُجُ الْآنَ مِنْ ثُلُثِ مَا يُعَيَّنُ مِنْ الْمَالِ أَمَّا طَعْنُهُ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَهُ وَأَمَّا طَعْنُهُ فِي اللَّفْظِ الثَّانِي فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ فِيمَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْمَالِ فِيمَا هُوَ مُتَمَوَّلٌ وَاسْمُ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا يُتَمَوَّلُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْعَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مُتَعَيِّنٍ النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ فِيهِ سَوَاءٌ وَكَأَنَّهُ بَالَغَ فِي الْبَيَانِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَسَمَّى ذَلِكَ الْعُرُوضَ لِإِزَالَةِ هَذَا الْإِبْهَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَقَدْ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِمَا فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ وَبَيَانُهُ أَنَّ جُمْلَةَ الْعَيْنِ مِنْ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ إنَّمَا يَعْزِلُ ذَلِكَ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا بِالسَّيْفِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَبِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِخُرُوجِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ مِنْ الدَّيْنِ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ نِصْفِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً، وَعَلَى امْرَأَتِهِ عَشَرَةٌ دِينًا وَعَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَةٌ وَتَرَكَ ثَوْبًا يُسَاوِي خَمْسَةً وَأَوْصَى بِالثَّوْبِ لِرَجُلٍ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ إنَّمَا تَسْتَقِيمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ ثُمْنُ مَا بَقِيَ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، ثُمَّ تُطْرَحُ سِهَامُ الِابْنِ وَسِهَامُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا فَوْقَ ذَلِكَ يَبْقَى الثَّوْبُ فَيَضْرِبُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 70 فِيهِ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَالْمُوصَى لَهُ بِثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَيُحْسَبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا مِمَّا عَلَيْهَا فَتَسْتَقِيمُ الْقِسْمَةُ إلَى تَيَسُّرِ خُرُوجِ الدَّيْنَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ جَمِيعُ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِالْعَيْنِ وَقِيمَتُهُ دُونَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَيَبْقَى الْمَالُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ يُمْسِكُ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهَا وَيُؤَدِّي سَبْعَةً وَنِصْفًا وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ مِمَّا عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَيُؤَدِّي دِرْهَمًا وَرُبْعًا فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ مِثْلِ مَا حَبَسَهُ الْمَدْيُونُ فَاسْتَقَامَ وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى إحْدَاهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ خَادِمًا تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ الْخَادِمَ تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ فَتَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَثُلُثُ مَالِهِ نِصْفُ الْعَيْنِ وَهُوَ نِصْفُ رَقَبَتِهَا فَيُسَلَّمُ لَهَا ذَلِكَ وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ ثُمْنُهُ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهِ فَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ الْمَدْيُونَةُ مُسْتَوْفِيَةً مِمَّا عَلَيْهَا مِثْلُ مَا وَصَلَ إلَى الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَالِابْنُ الْمَدْيُونُ مُسْتَوْفٍ مِمَّا عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَصَلَ إلَى الِابْنِ الْآخَرِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدِّينَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى الْخَادِمِ مَا أُخِذَ مِنْهَا مِنْ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا، وَالْمَالُ الْمَقْسُومُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ثُمْنُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَتَيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ فَتُمْسِكُ الْمَدْيُونَةُ مِمَّا عَلَيْهَا مِقْدَارَ حَقِّهَا وَتُؤَدِّي سَبْعَةً وَثَمَانِينَ وَنِصْفًا إلَى الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ وَنِصْفًا، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا دَيْنَ عَلَيْهَا فَقَدْ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُ حَقِّهِ قَالَ: وَإِذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَشَرَةٌ وَتَرَكَ رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ وَأَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَأَوْصَى لِآخَرَ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ أَدَّى أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي عَلَى الِابْنَيْنِ يُجْمَعُ كُلُّهُ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَاَلَّذِي أَدَّى الْعَشَرَةَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَوَصِيَّتُهُ بِمَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَبِأَدَاءِ أَحَدِهِمَا صَارَ مَا عَلَى الِابْنَيْنِ فِي حُكْمِ الْمُتَعَيَّنِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَانِ يُسَلَّمُ لَهُمَا وَذَلِكَ مِقْدَارُ مَا عَلَيْهِمَا فَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ الَّتِي أَدَّى أَحَدُ الْغَرِيمَيْنِ صَارَتْ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 71 بِالثُّلُثِ وَبَيْن الْمُؤَدِّي أَسْدَاسًا فَبِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ السُّدُسُ، وَلِلْمُؤَدِّي خَمْسَةٌ وَلِلْآخَرِ مِمَّا عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى كُلِّ ابْنٍ يَصِيرُ سِتَّةً، فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ أَرْبَعَةٌ فَجُمْلَةُ مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ خَمْسَةٌ، فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ هَذَا مَبْلَغُ سِهَامِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ إلَّا أَنَّ نَصِيبَ الْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ يُطْرَحُ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ يَبْقَى لِلْأَخَوَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا أَحَدَ عَشَرَ مِنْ ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الْوَصِيَّتَيْنِ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةٌ، وَلِلْوَرَثَةِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ مَا عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا جُعِلَ مَا عَلَيْهِمَا كَالْمُتَعَيَّنِ فِي الْقِسْمَةِ فَإِذَا قَدَرَ الْآخَرُ عَلَى الْأَدَاءِ يُحْسَبُ لَهُ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنْ يُقْسَمَ الْمَالُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا فَيُمْسِكُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ خَمْسَةً وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً وَخَادِمًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِلرَّجُلِ بِمَا عَلَيْهِ وَأَوْصَى أَنْ يَعْتِقَ الْخَادِمُ فَإِنَّ الْخَادِمَ يُعْتَقُ مِنْهَا خُمْسُهَا وَتَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ تُقَدَّمُ بِالتَّنْفِيذِ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا فَوَصِيَّةُ الْخَادِمِ مِثْلُ وَصِيَّةِ الرَّجُلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا مِثْلُ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْآخَرِ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمَيْنِ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ سَهْمَ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ فَوْقَ نَصِيبِهِ وَيَبْقَى الْخَادِمُ فَتَضْرِبُ هِيَ بِسَهْمٍ فِيهَا وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ؛ فَلِهَذَا يُعْتَقُ خُمْسُهَا وَتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ وَتَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهَا فَإِذَا أَدَّى الْمَدْيُونُ مَا عَلَيْهِ يُحْسَبُ لَهُ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي الْحَاصِلِ ثُلُثُ مَا عَلَيْهِ نِصْفُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْخَادِمِ تَمَامَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهَا وَيَأْخُذُ الْوَرَثَةُ الْفَضْلَ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثَانِ وَنَفَذَ بِالْوَصِيَّةِ لَهُمَا فِي سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبِخِلَافِ هَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، فَقَالَ: إنَّ الْخَادِمَ يَسْعَى فِي عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ وَصِيَّتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْعِتْقِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي الثُّلُثِ، وَهَهُنَا أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ، وَالْمَدْيُونُ إنَّمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 72 بِمِقْدَارِ ثُلُثِ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَالْخَادِمُ تَضْرِبُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا، وَهُوَ مِائَةٌ فَإِذَا جَعَلْتَ كُلَّ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ سَهْمًا صَارَ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ لِلْخَادِمِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمَدْيُونِ سَهْمَانِ وَالثُّلُثَانِ عَشَرَةٌ، ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْمَدْيُونِ وَيَضْرِبُ الْوَرَثَةُ فِي الْخَادِمِ بِعَشَرَةٍ، وَالْخَادِمُ بِثَلَاثَةٍ؛ فَلِهَذَا قَالَ: تَسْعَى فِي عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا قَسَمْتَ الدُّيُونَ يُصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ لَهُ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا قَسَمْتَ الْمِائَتَيْنِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا فَلِهَذَا يُمْسِكُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَثُلُثَيْنِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَإِذَا أَدَّاهُ رَدَّ عَلَى الْخَادِمِ إلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي خُمْسِ الْمَالِ فِي الْحَاصِلِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَخُمْسُ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُونَ فَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَأَخَذَ الْوَرَثَةُ مِنْ الْخَادِمِ سِتِّينَ دِرْهَمًا وَمِنْ الْمَدْيُونِ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ وَثُلُثًا فَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَاسْتَقَامَ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَلْفَيْنِ عَيْنًا وَأَلْفًا دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ، وَأَوْصَى لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِمَا عَلَيْهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِأَلْفٍ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ أَرْبَعَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ الْمَدْيُونُ عَلَى سَهْمَيْنِ فَتَكُونُ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ يُطْرَحُ سَهْمُ الْمَدْيُونِ وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ خُمْسًا وَخُمْسُ الْعَيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ فَالْمُوصَى لَهُ الْمَدْيُونُ يُحْبَسُ مِمَّا عَلَيْهِ مِقْدَارُ حَقِّهِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى خَمْسَةٍ لَهُ الْخُمْسُ مِنْهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا الْخَمْسَمِائَةِ كَمَالَ حَقِّهِ وَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي أَلْفٍ وَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ أَلْفًا. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْأَلْفِ الْعَيْنِ ثُلُثِهَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَيَطْرَحُ نَصِيبَهُ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى لِلِابْنِ الْآخَرِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ سَهْمٌ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي الْأَلْفِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ ثُلُثُهَا إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدِّينَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُحْسَبُ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيُؤَدِّي مَا يَبْقَى فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُوصَى لَهُ الْآخَرُ يُمْسِكُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلِابْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَاحِدٌ فَيُسَلِّمُ فِي الْحَاصِلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي أَلْفٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، وَإِنَّمَا جُعِلَ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ ثَمَانَمِائَةٍ قَبْلَ أَدَاءِ الْمُوصِي لَهُ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ يُضَمُّ إلَى الْأَلْفِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 73 الْعَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَبَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ فَلِلِابْنِ الْمَدْيُونِ خُمْسَا ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يُحْسَبُ لَهُ ثَمَانُمِائَةٍ، وَيُؤَدِّي مِائَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الدَّعْوَى مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لِلْوَارِثِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ، وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أُخْتًا يَعْنِي بِنْتًا لِلْمَيِّتِ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ بِهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَأْخُذُ مِنْهُ الْفَاضِلَ عَلَى نَصِيبِهِ بِزَعْمِهِ بِمَا فِي يَدِهِ وَأَصْلُ التَّرِكَةِ بِزَعْمِهِ عَلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ وَفِي يَدِهِ نِصْفُ الْمَالِ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَالْفَاضِلُ عَلَى نَصِيبِهِ بِزَعْمِهِ نِصْفُ سَهْمٍ مِنْ سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ، وَذَلِكَ خُمْسُ مَا فِي يَدِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِسَهْمٍ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ نِصْفُ ذَلِكَ السَّهْمِ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ، وَالْأَخُ يَظْلِمُهَا بِالْجُحُودِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا لَهَا فِي يَدِ الْجَاحِدِ، وَإِنَّمَا تَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ مِقْدَارَ مَا لَهَا مِنْ الْحَقِّ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ نِصْفُ سَهْمٍ خُمْسُ مَا فِي يَدِهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي زَعْمِهَا أَنَّ حَقَّهَا فِي التَّرِكَةِ فِي سَهْمٍ وَحَقَّ الْمُقِرِّ فِي سَهْمَيْنِ، وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ بِحِصَّتِهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ اسْتَوْفَى زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَلَا يَكُونُ ضَرَرُهُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْجَاحِدُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَهُوَ الْوَارِثُ خَاصَّةً فَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُخْتِهِ أَثْلَاثًا. وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِأُخْتٍ وَأَقَرَّ بِزَوْجَةٍ لِأَبِيهِ أَعْطَاهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَتَكُونُ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَتَضْرِبُ هِيَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِسَهْمَيْنِ، وَهُوَ بِسَبْعَةٍ فَيُعْطِيهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ وَعَنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مَا فَضَلَ نَصِيبُهُ مِمَّا فِي يَدِهِ وَذَلِكَ نِصْفُ الثُّمْنِ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ سِوَاهَا فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِي هَذِهِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ الْفَرِيضَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَهُوَ يَضْرِبُ فِيمَا هُوَ فِي يَدِهِ بِسَبْعَةٍ وَالْمُقِرُّ لَهَا بِسَهْمٍ فَيُعْطِيهَا ثُمْنَ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا وَزَوْجَةً فَادَّعَتْ الِابْنَةُ أُخْتًا لَهَا أَعْطَتْهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ لَهَا أَعْطَتْ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُمَا ضِعْفُ حَقِّهَا وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا فَادَّعَتْ الْأُخْتُ أَخًا، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ الزَّوْجُ وَجَحَدَتْ الْأُمُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 74 فَالْفَرِيضَةُ مِنْ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ بِزَعْمِ الْأُمِّ تَسْتَقِيمُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لَهَا سَهْمَانِ وَهُوَ الرُّبْعُ وَعَلَى زَعْمِ الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ فَانْكَسَرَتْ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ وَلِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلْأَخِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتِ سَهْمَانِ فَإِقْرَارُ الْأَخِ وَالْأُخْتِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْأُمِّ، وَجُحُودُهُمَا لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهَا فَتُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّينَ الْقِسْمَةُ عَلَى الْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ فَحَقُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي حَقِّ الْأُمِّ تُجْعَلُ الْقِسْمَةُ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى، وَحَقُّهَا رُبْعُ الْمَالِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُضَمَّ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْلُ ثَلَاثَةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَضْمُومُ رُبْعَ الْمَبْلَغِ، وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ وَمِثْلُ ثَلَاثَةٍ خَمْسَةٌ فَإِذَا ضَمَمْت خَمْسَةً إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ عِشْرِينَ لِلْأُمِّ خَمْسَةٌ فَإِذَا أَخَذَتْ نَصِيبَهَا قُسِمَ مَا بَقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلزَّوْجِ سَبْعَةٌ وَلِلْأَخِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتِ سَهْمَانِ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا فَأَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّ لَهَا أَخًا وَجَحَدَتْ الْأُخْتُ فَإِنَّ الزَّوْجَ يُعْطِيهِ خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ الْفَرِيضَةَ مِنْ سِتَّةٍ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ فَيَقْسِمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ؛ فَلِهَذَا يَأْخُذُ خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ مِثْلَ الْأُخْتِ الْمَعْرُوفَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ يَعُولُ بِسَهْمٍ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهَا فِي سَهْمَيْنِ وَحَقَّهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيُعْطِيهَا خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِأُخْتٍ لِأَبٍ أَعْطَاهَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا خَلَفَتْ بِزَعْمِهِ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ سَهْمٌ فَهِيَ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهِ بِسَهْمٍ وَهُوَ بِثَلَاثَةٍ؛ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ أُخْتٍ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ سَهْمٌ بِزَعْمِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِهِمَا لِأُمٍّ أَعْطَاهَا خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ فَيَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثُ سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ وَيَعُولُ بِسَهْمَيْنِ فَحَقُّهُمَا بِزَعْمِهِ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّهُ فِي ثَلَاثَةٍ؛ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ فَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِأُمٍّ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا خُمْسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا بِزَعْمِهِ الثُّلُثُ سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ وَحَقَّهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ فَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَعْطَاهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 75 ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِامْرَأَتَيْنِ أَعْطَاهُمَا أَرْبَعَةً مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَلَفَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَابْنَيْنِ فَلِلنِّسْوَةِ الثُّمْنُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَسْتَقِيمُ فَيَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ يَضْرِبُ ثَمَانِيَةً فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهَا فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ يَضْرِبَانِ بِذَلِكَ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُمَا أَرْبَعَةً مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِمَّا فِي يَدِهِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَأَقَرَّتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ بِامْرَأَةٍ أَعْطَتْهَا ثَلَاثَةً مِنْ أَحَدَ عَشَرَ مِمَّا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ بِزَعْمِهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ ثَلَاثَةٌ فَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ الْمِنْبَرِيَّةُ الَّتِي أَجَابَ فِيهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى الْبَدِيهَةِ فَقَالَ: انْقَلَبَ ثُمْنُهَا تُسْعًا فَإِذَا هِيَ تَزْعُمُ أَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَحَقَّهَا فِي ثَمَانِيَةٍ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهَا بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ تَرَكَ امْرَأَةً وَابْنَةً وَأَبَوَيْنِ فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَتْهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ النِّسَاءِ مِنْ التَّرِكَةِ فِي يَدِهَا، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّ حَقَّهَا فِي التَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ أَقَرَّتْ لَهَا إحْدَى الِابْنَتَيْنِ أَيْضًا فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، وَلَا تَأْخُذُ مِنْ الِابْنَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ الثُّمْنُ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَذَلِكَ الثُّمْنُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مُقِرَّةٌ لِلْأُخْرَى بِنَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَأْخُذُ مِنْ الِابْنَةِ شَيْئًا لِذَلِكَ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَأَقَرَّتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ بِامْرَأَةٍ وَصَدَّقَتْهَا الْأُمُّ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ تِسْعِينَ سَهْمًا لِلِابْنَتَيْنِ سِتُّونَ وَلِلْأَبَوَيْنِ ثَلَاثُونَ فَخُذْ نَصِيبَ الْأُمِّ خَمْسَةَ عَشَرَ وَنَصِيبَ الِابْنَةِ ثَلَاثِينَ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْمَالِ مِنْ الْحَاصِلِ، وَأَعْطِ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةً وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَلِلْأُمِّ اثْنَيْ عَشَرَ، وَقَدْ طَوَّلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنَةِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَضْرِبُ فِيهِ الْمَرْأَةُ بِثَلَاثَةٍ وَالْأُمُّ بِأَرْبَعَةٍ وَالِابْنَةُ بِثَمَانِيَةٍ فَتَسْتَقِيمُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَوْ جَحَدَتْ الْأُمُّ وَلَمْ تُقِرَّ قُسِمَتْ مَا فِي يَدِ الِابْنَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ أَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ تَسْتَقِيمُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ لَمْ تُقِرَّ الِابْنَةُ بِالْمَرْأَةِ وَأَقَرَّتْ الْأُمُّ قَسَمْنَا مَا فِي يَدِهَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ لِلْأُمِّ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْمَرْأَةِ تِسْعَةٌ، وَهَذَا أَيْضًا تَطْوِيلٌ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تَسْتَقِيمُ مِنْ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهَا فَحَقُّهَا أَرْبَعَةٌ وَالْمَرْأَةُ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأَخًا فَادَّعَى الزَّوْجُ ابْنَةً كَبِيرَةً لَهَا مِنْ غَيْرِهِ قَاسَمَهَا مَا فِي يَدِهِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ؛ لِلزَّوْجِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلِابْنَةِ ثَلَاثَةٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 76 لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ الرُّبْعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ مِنْ سِتَّةٍ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَفِي الْحَاصِلِ تُعْطِيهِ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَحَقَّهَا فِي أَرْبَعَةٍ فَيُعْطِيهَا ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهَا. وَإِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ اثْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى ابْنَةٍ لِلِابْنِ بِشَرِكَةٍ أَوْ بِوَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ مَجْهُولَةٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ كُلَّهُ مِنْ نَصِيبِ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا، وَقَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَأْخُذُ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِقْرَارِ قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ بِشَرِكَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِشَرِكَةِ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ حِصَّتِهِ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُقِرِّ لَهُ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَهُوَ يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهِ بِسَهْمٍ وَالْمُقِرُّ لَهُ بِسَهْمَيْنِ فَيُعْطِي ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالثُّلُثِ أَخَذَ مِنْهُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَالَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُقِرِّ لَهُ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَحَقُّهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِثْلُ حَقِّ الْمُقِرِّ لَهُ بِزَعْمِهِ؛ فَلِهَذَا أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ مَا فِي يَدِهِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ وَعَبْدَانِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُمِائَةٍ فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَعْتَقَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي مَرَضِهِ وَأَقَرَّ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا لَا يَدْرِي أَيَّهمَا هُوَ فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنِهِ يُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثَا نَصِيبِهِ، وَيَسْعَى لَهُ فِي الثُّلُثِ الْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ الثُّلُثُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَيَسْعَيَانِ لَهُ فِي ثُلُثَيْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَاَلَّذِي أَقَرَّ بِالْعِتْقِ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا رَقَبَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي نَصِيبِهِ غَيْرُ نَافِذٍ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيُعْتَقُ ثُلُثَا نَصِيبٍ وَيَسْعَى لَهُ فِي ثُلُثِ نَصِيبِهِ وَالنِّصْفُ مِنْ الْآخَرِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ فَيَسْعَى لَهُ الْآخَرُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَقَدْ أَقَرَّ الْآخَرُ بِالثُّلُثِ مُبْهَمًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ بِالْمَوْتِ يَشِيعُ فِيهِمَا فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ مُبْهَمًا فَيُعْتَقُ ثُلُثُ نَصِيبِهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ فِي ثُلُثَيْ نَصِيبِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَأَقَرَّ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا بِعَيْنِهِ سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ فِي ثُلُثِ نَصِيبِهِ مِنْهُ، وَلِلَّذِي أَنْكَرَ عِتْقَهُ فِي جَمِيعِ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْآخَرِ بِإِقْرَارِ صَاحِبِهِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي مَرَضِهِ، وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ عَتَقَ مِنْ نَصِيبِ الْمُقِرِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ نَصِيبِهِ لِإِقْرَارِهِ وَالثُّلُثُ لَهُمَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي نَصِيبِهِ كَامِلًا لِإِنْكَارِهِ عِتْقَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَقَالَ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَ هَذَا الْآخَرَ أَيْضًا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 77 عَتَقَ ثُلُثَا الَّذِي شَهِدَا لَهُ وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَا لَهُ أَوْلَى بِالثُّلُثِ مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا لَهُ حُجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ غَيْرِهِمَا. وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ بِالْعِتْقِ لِأَحَدِهِمَا كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالثُّلُثِ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ رِقَّ الْآخَرِ يَفْسُدُ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا بِعِتْقِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ فَتَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ لَهُمَا. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي صِحَّتِهِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذَا الْآخَرَ فِي مَرَضِهِ عَتَقَ نَصِيبُ الشَّاهِدِ مِنْ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَهُوَ مُقِرٌّ بِحُرِّيَّتِهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ وَيَسْعَى لَلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِإِنْكَارِهِ عِتْقَهُ وَيُعْتَقُ ثُلُثَا نَصِيبِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فِي الْمَرَضِ مِنْ الَّذِي شَهِدَ لَهُ وَيَسْعَى لَهُ فِي ثُلُثِ نَصِيبِهِ وَلِأَخِيهِ فِي جَمِيعِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالثُّلُثِ لِهَذَا الْآخَرِ، وَإِقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ شَرِيكَهُ صَارَ مُتْلِفًا لِنَصِيبِهِ مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ رَقَبَتَانِ فَالثُّلُثُ مِنْهُ ثُلُثَا رَقَبَةٍ؛ فَلِهَذَا يُعْتَقُ ثُلُثَا نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَأَفْعَالُهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَغَصَبَ فِي مَرَضِهِ مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، ثُمَّ قَضَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْكِي عَيْنَهُ، وَهَذَا بَدَلُ مَالٍ وَصَلَ إلَى الْمَرِيضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَنَقَدَ ثَمَنَهُ فَلَا يَكُونُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ عَلَى الْبَائِعِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا حِينَ وَصَلَ إلَيْهِ مَا تَكُونُ مَالِيَّتُهُ مِثْلَ مَالِيَّةِ مَا أَدَّى، وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَدَوَائِهِ، ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مَا تَكُونُ مَالِيَّتُهُ مِثْلَ مَالِيَّةِ مَا أَدَّى، ثُمَّ حَاجَتُهُ فِي مَالِهِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهُمَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَا أُسْوَةَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مَا أَدَّى فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا إبْطَالًا مِنْهُ لَحِقَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَتَخْصِيصُ بَعْضِ غُرَمَائِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمَرِيضُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ لَهُمَا بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَكَانَ أُسْوَةُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَالِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّ دَيْنَهُ الَّذِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ لِفُلَانٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ دَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي الْمَرَضِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ كَإِقْرَارِهِ بِعَيْنٍ لَهُ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 78 الدَّيْنِ مِنْ غَرِيمِهِ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، وَقَدْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ لِلْغَرِيمِ حَقُّ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَرَضِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ الْوَاجِبِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ مِنْهُ بِالْهِبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ بَيْعَ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ وَغَيْرِ الْمُحَابَاةِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ الشُّفْعَةِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِ الْوَارِثِ وَمَا ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ وَأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ وَارِثِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا بَاعَ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِأَكْثَرَ. جَازَ قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ بِثُلُثِهِ يَضَعُهُ حَيْثُ أَحَبَّ أَوْ يَجْعَلُهُ حَيْثُ أَحَبَّ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ مِنْ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ، وَالْمُوصَى لَهُ وَضَعَهُ فِيهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ أَوْ جَعَلَهُ لَهُ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ وَالْجَعْلَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَإِنْ جَعَلَهُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَيَرُدُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُوصِي فَيَنْتَهِي بِهِ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ وَيَصِيرُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمُوصِي. وَلَوْ فَعَلَهُ الْمُوصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَكَانَ مَرْدُودًا عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ إلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ شَاءَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِعْطَاءِ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَهُوَ لَا يَكُونُ مُعْطِيًا نَفْسَهُ كَمَا يَكُونُ جَاعِلًا لَهَا وَاضِعًا عِنْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَوْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيتَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ وَجَدَ رِكَازًا لَهُ أَنْ يَضَعَ الْخُمْسَ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مَصْرِفًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جَعْلُ الْخُمْسِ لِمَصَارِفِ الْخُمْسِ وَوَضْعُهَا فِيهِمْ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: قَدْ جَعَلْتُ ثُلُثِي لِرَجُلٍ سَمَّيْته فَصَدَّقُوهُ فَقَالَ الْوَصِيُّ: هُوَ هَذَا وَخَالَفَهُ الْوَرَثَةُ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَصِيُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا هُوَ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَا تَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَوْصَى إلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَالْوَاضِعُ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالتَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ لَا شَاهِدًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِلْوَصِيِّ: اعْتِقْ أَيَّ عَبِيدِي شِئْت كَانَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَيَّهمْ شَاءَ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَعْتَقْت عَبْدِي فَسَمَّيْته لِلْوَصِيِّ فَصَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ. وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ أَنْ يَضَعَا ثُلُثَهُ حَيْثُ شَاءَا وَيُعْطِيَاهُ مَنْ شَاءَا وَاخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أُعْطِيهِ فُلَانًا وَقَالَ الْآخَرُ: لَا بَلْ فُلَانًا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 79 لَمْ يُجْمِعَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا فَوَّضَ الْمُوصِي الرَّأْيَ فِي الْوَضْعِ إلَيْهِمَا، وَهَذَا شَيْءٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ لِاخْتِيَارِ الْمَصْرِفِ، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى. وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِي لِفُلَانٍ وَقَدْ سَمَّيْته لِلْوَصِيَّيْنِ فَصَدِّقُوهُمَا، فَقَالَ: هُوَ هَذَا وَشَهِدَا لَهُ بِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ وَشَهَادَةُ الْمُثَنَّى حُجَّةٌ تَامَّةٌ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ أَبْطَلْت قَوْلَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ أَنْ يَعْتِقَ، ثُمَّ أَوْصَى لَهُ أَنْ يُبَاعَ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَهَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ التَّصَرُّفَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ نِصْفُهُ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِبَيْعِهِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ كَانَتْ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا عَنْ الْأُولَى فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ. وَإِنْ أَضَافَ الثَّانِيَةَ إلَى نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ التَّصَرُّفَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ مُنَافَاةً. وَإِنْ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ أَنْ يُبَاعَ لِرَجُلٍ آخَرَ تَحَاصَّا فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ أَحَدِهِمَا بِعِوَضٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الثَّانِيَةِ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى. وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَيَاتِهِ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ جَازَتْ الشَّهَادَةُ إمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ الْمُبْهَمُ يَشِيعُ فِيهِمَا بِالْمَوْتِ فَتَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مِنْهُمَا، وَيُجْعَلُ الثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ سَمِعَا ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا مَعَهُمَا فَإِنْ كَذَّبَهُمَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهَا وَأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مَنْ يُعِينُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ. وَإِنْ ادَّعَاهَا الرَّجُلُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ. فَقَالَ: لَوْ سَأَلَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الرَّجُلَ وَصِيًّا مَعَهُمَا، وَالرَّجُلُ رَاغِبٌ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْقِيَاسِ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُمَا إلَى ذَلِكَ فَلَا يُتَّهَمَانِ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُكَذِّبًا لَهُمَا فَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَأَلَا ذَلِكَ مِنْ الْقَاضِي لَمْ يُجِبْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِيهِ، ثُمَّ إذَا كَذَّبَهُمَا الرَّجُلُ أَدْخَلْتُ مَعَهُمَا آخَرَ؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ شَهَادَتِهِمَا إقْرَارًا مِنْهُمَا يُوصِي آخَرُ مَعَهُمَا لِلْمَيِّتِ، وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَلَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 80 التَّصَرُّفِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْأَوْصِيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَّقَهُمَا وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ الْقَبُولُ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْوَصِيَّيْنِ التَّصَرُّفُ بِدُونِ رَأْيِ الثَّالِثِ فَيُدْخِلُ الْقَاضِي مَعَهُمَا وَصِيًّا ثَالِثًا، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي: إذَا شَهِدَا ابْنَا الْمَيِّتِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى هَذَا فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُنَصِّبَانِ نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا وَمَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُمَا. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ فِي حَيَاتِهِ وَالْأَبُ غَائِبٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِالْوَصِيَّةِ وَفِي الِاسْتِحْسَان إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُدَّعِيًا لِلْوَصِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُمَا لَوْ سَأَلَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الرَّجُلَ وَصِيًّا وَالرَّجُلُ رَاغِبٌ فِيهِ أَجَابَهُمَا الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُدَّعِيًا لِلْوَصِيَّةِ وَبِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُمَا لَوْ سَأَلَاهُ أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ أَبِيهِمَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةٌ فِي مَالِ أَبِيهِمَا وَالثَّالِثِ: الْمُوصَى لَهُمَا إذَا شَهِدَا أَنَّ الْمُوصِي أَوْصَى إلَى هَذَا فَهُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَالْوَارِثِ، وَالرَّابِعُ: غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَا فِي حَيَاتِهِ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لَهُمَا فَإِنَّهُمَا يُطَالِبَانِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُدَّعِيًا لِلْوَصِيَّةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ وَصِيًّا بِالْتِمَاسِهِمَا مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ فَلَا يُتَّهَمَانِ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ أَنَّ غَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى هَذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لَخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُمَا يُنَصِّبَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مَنْ يُطَالِبَا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا الْمَيِّتِ الْمُوصَى أَوْ أَبُوهُ، وَرَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَيْهِ أَبْطَلْته؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِلْوَصِيِّ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ، وَالْوِلَادَةُ تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ ابْنَا أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى أَبِيهِمَا، وَإِلَى هَذَا الْآخَرِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا، وَالْمَشْهُودُ بِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَإِذَا بَطَلَ فِي حَقِّ أَبِيهِمَا بَطَلَ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى عَزَلَهُ وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ آخَرَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْعَزْلِ وَيَشْهَدَانِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ. وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْغَرِيمَيْنِ أَوْ غَرِيمَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَزَلَ هَذَا، وَأَوْصَى بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ إلَى الْآخَرِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلثَّانِي وَبِنَقْلِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيهِمَا، وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 81 عَلَى أَنَّهُ أَوْصَى إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ لَا تَفْسُدُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إلَى الْعَيْنِ قَوْلٌ تَكَرَّرَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَكِيلِي فِيمَا تَرَكْت بَعْدَ مَوْتِي جَعَلَهُ وَصِيًّا لَهُ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيٌّ سَوَاءٌ شَهِدَ بِلَفْظَةِ الْوِصَايَةِ أَوْ بِلَفْظَةِ الْوَكَالَةِ. قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمُوصَى لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ لِلْمَيِّتِ شَهَادَةً بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ وَرَثَتُهُ وَيَقْبِضُوا مَا لَهُمْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ ذَلِكَ جَازَ قَبْضُهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَ هُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ فِيمَا كَانَ خَصْمًا فِيهِ. وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ لِوَارِثٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلْكَبِيرِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَهِدَ لِلصَّغِيرِ فَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ. وَإِذَا شَهِدَ لِلْكَبِيرِ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ فِيمَا لِلْكَبِيرِ الْحَاضِرِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: كَانَ هُوَ الْخَصْمُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ حِينَ كَانَ هَذَا الْكَبِيرُ صَغِيرًا فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا فِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّهَادَاتِ وَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ لَا تُقْبَلُ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ، وَتَجُوزُ لِلْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِقَبُولِهِ الْوِصَايَةَ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ فَأَمَّا فِيمَا لِلْوَارِثِ الْكَبِيرِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ وَشَهِدَ رَجُلَانِ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ، وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لَهُمَا بِالثُّلُثِ، وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ فَشَهَادَةُ كُلِّ فَرِيقٍ لَاقَتْ مَحَلًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ لَهُ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُمَا بِهَذَا الْعَبْدِ وَيَشْهَدَ الْآخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَالشَّهَادَةُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا فِي مَحَلٍّ لَا شَرِكَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ عَلَى الْخِلَافِ، وَهُوَ فَصْلُ الدَّيْنِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: حَقُّ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِهَا فَشَهَادَةُ كُلِّ فَرِيقٍ تُلَاقِي مَحَلًّا مُشْتَرَكًا فَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ التَّرِكَةِ وَبِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: كُلُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 82 فَرِيقٍ إنَّمَا يَشْهَدُ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ. وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالْمَوْتِ لَا يَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى التَّرِكَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّرِكَةَ لَوْ هَلَكَتْ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَأَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ التَّرِكَةَ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا تَتَمَكَّنُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَبَتَ فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ حَتَّى لَا يَبْقَ بَعْدَ هَلَاكِ التَّرِكَةِ وَلَوْ أَرَادَ الْوَارِثُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ التَّرِكَةَ لِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ ثَابِتَةً فِي التَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ شَهَادَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ ابْنَا هَذَيْنِ لِهَذَيْنِ وَابْنَا هَذَيْنِ لِهَذَيْنِ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّرِيكِ لِنَفْسِهِ تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ ابْنِهِ لَهُ وَلَوْ شَهِدَ الْمَيِّتُ أَوْ غَيْرُهُمَا بِدَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ بِدَيْنٍ لِآخَرَ عَلَى الْمَيِّتِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَضُرَّانِ أَنْفُسَهُمَا فَإِنَّ دَيْنَهُمَا قَدْ ثَبَتَ فِيهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا يُثْبِتَانِ مَنْ يُزَاحِمُهُمَا فِي التَّرِكَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لِنَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِثْلُ ذَلِكَ هَهُنَا وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ بِوَصِيَّةٍ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فَإِنْ دَفَعَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، ثُمَّ شَهِدَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا ضَامِنَيْنِ لِمَا دَفَعَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا يَدْفَعَانِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ ابْنَيْهِمَا أَوْ أَبَوَيْهِمَا لَا تُقْبَلُ بَعْدَ الدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ الضَّمَانَ بِشَهَادَتِهِمَا عَنْ أَبِيهِمَا أَوْ ابْنَيْهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِدِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا فَهُوَ كَمَا قَالَ: يُعْطَى مِمَّنْ ثُلُثُهُ دِينَارٌ إلَّا دِرْهَمًا، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْطَى مَا سُمِّيَ لَهُ أَوَّلًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ لَغْوٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ. وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ فَمَعْنَاهُ أَوْصَيْت لَهُ بِالدِّينَارِ وَلَكِنْ لَمْ أُوصِ لَهُ بِدِرْهَمٍ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا عَلَى شَيْءٍ وَهُمَا يَقُولَانِ: الْمُجَانَسَةُ فِي الْمِقْدَارِ ثَابِتَةٌ مَعْنًى مِنْ حَيْثُ إنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عِبَارَةً الجزء: 28 ¦ الصفحة: 83 عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى بِطَرِيقِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِيهِ مُرَجِّحًا؛ فَلِهَذَا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنْ الْمُقَدَّرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ صُورَةً فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: كُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ كُرُّ شَعِيرٍ إلَّا مَخْتُومَ حِنْطَةٍ نَقَصَ مِنْ الشَّعِيرِ قِيمَةُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ دَارِي هَذِهِ أَوْ عَبْدِي هَذَا إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ مِنْ ذَلِكَ قِيمَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَجُوزُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّ الدَّارَ وَالْعَبْدَ لَيْسَا بِمُقَدَّرَيْنِ وَلَكِنَّهُمَا يَشْتَرِطَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُقَدَّرًا وَالْمُسْتَثْنَى هُنَا مُقَدَّرٌ، وَكَأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الِاسْتِثْنَاءَ فَاعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ يُعْرَفُ بِالتَّسْمِيَةِ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَدْرِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ مُقَدَّرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ أَوْ يَقُولُ: هَذَا فِي مَعْنَى وَصِيَّةٍ بِبَيْعِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ مِنْهُ بِمِائَةٍ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: جَعَلْت مِلْكَ هَذِهِ الدَّارِ وَمَالِيَّتَهَا مُحَابَاةً إلَّا بِقَدْرِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنِّي لَا أَخْلُفُهَا لَهُ بِعِوَضٍ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ قِيمَتُهَا أَلْفًا، فَأَوْصَى بِبَيْعِهَا مِنْهُ بِمِائَةٍ جَازَتْ الْمُحَابَاةُ مِنْ الثُّلُثِ فَهَاهُنَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ التَّمْلِيكَ مُضَافٌ إلَى جَمِيعِ الدَّارِ وَهَهُنَا إلَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى مَعْنًى وَقِيمَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّارِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ وَالْبَاقِي لِلْمُوصَى لَهُ وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لَهُ بِمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى الْعِشْرِينَ أَوْ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إلَى الْعِشْرِينَ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَلَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ تَمَامُ الْعِشْرِينَ اسْتِحْسَانًا وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِمَا بَيْنَ الْمِائَةِ إلَى الْمِائَتَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْخُلُ الْغَايَتَانِ اسْتِحْسَانًا فَلَهُ الْمِائَتَانِ، وَفِي رِوَايَةِ زُفَرَ لَا يَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فَلَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَدْخُلُ الْغَايَةُ الْأُولَى لِلضَّرُورَةِ، وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ الثَّانِيَةُ فَلَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِقْرَارِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةٍ فَلَهُ عَشَرَةٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ عِشْرُونَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَرْفَ فِي بِمَعْنَى حَرْفِ الْوَاوِ أَوْ بِمَعْنَى حَرْفِ مَعَ وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَهُ مِائَةٌ بِطَرِيقِ الْحِسَابِ، فَإِنَّك إذَا سَأَلْت وَاحِدًا مِنْ الْحُسَّابِ كَمْ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ يَقُول: مِائَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَهُ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَالْعَشَرَةُ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْعَشَرَةِ فَيَلْغُو آخِرُ كَلَامِهِ، وَيُجْعَلُ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمَعَ مَجَازًا وَبِالْمَجَازِ لَا يَثْبُتُ تَمْلِيكُ الْمَالِ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِالسَّكِّ وَالضَّرْبِ مِنْ حَيْثُ الْحِسَابُ تَكْثُرُ السِّهَامُ لَا أَصْلُ الْمَالِ فَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَإِنْ ضَرَبْتهَا فِي عَشَرَةٍ أَوْ فِي مِائَةٍ تَكْثُرُ السِّهَامُ فِيهَا، وَلَا يَزْدَادُ وَزْنُهَا. وَلَوْ قَالَ: بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ دَارِهِ أَوْ أَرْضِهِ جَعَلْت لَهُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةً؛ لِأَنَّ لِذَوِي الْمِسَاحَاتِ طُولًا وَعَرْضًا فَقَوْلُهُ: فِيهَا عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ لِبَيَانِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ فِيهَا لَا طُولٌ، وَلَا عَرْضٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 84 مِقْدَارُهَا بِالْوَزْنِ وَبِأَوَّلِ كَلَامِهِ صَارَ مِقْدَارُ الْوَزْنِ مَعْلُومًا فَيَكُونُ آخِرُ كَلَامِهِ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ سَبْعٌ فِي أَرْبَعٍ جَعَلْت لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ لِلثَّوْبِ طُولًا وَعَرْضًا فَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِيهِ بَيَانُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرُ لِبَيَانِ طُولِهِ، وَالْأَقَلُّ لِبَيَانِ الْعَرْضِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَنُقْصَانِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْوَصْفُ فَكَانَ قَوْلُهُ: سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ بَيَانًا لِصِفَةِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الثَّوْبِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ فَبِزِيَادَةِ الْمِقْدَارِ يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمِائَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ: لَهَا عَشْرُ مَرَّاتٍ عَشَرَةٌ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا إلْغَاءُ آخِرِ الْكَلَامِ فِيهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ فِي جُوَالِقَ أَعْطَيْته الْحِنْطَةَ دُونَ الْجُوَالِقِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ مَظْرُوفًا فِي ظَرْفٍ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَظْرُوفَ خَاصَّةً، وَذَكَرَ الْجُوَالِقَ لِتَعْيِينِ مَحَلِّ الْجُوَالِقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَوْصَى لَهُ بِكَذَا، وَلَا يُقَالُ أَوْصَى لَهُ فِي كَذَا، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا اتَّصَلَ بِهِ حَرْفُ الْبَاءِ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ دُونَ مَا اتَّصَلَ بِهِ حَرْفُ فِي، وَهُوَ الْجُوَالِقُ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْجِرَابِ الْهَرَوِيِّ أَعْطَيْته الْجِرَابَ وَمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ حَرْفَ الْبَاءِ بِالْجِرَابِ وَالْجِرَابُ الْهَرَوِيُّ اسْمٌ لِلْجِرَابِ الْمَمْلُوءِ بَيَانًا دُونَ الْجِرَابِ فَارِغًا وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الدَّنِّ الْخَلِّ أَعْطَيْته الدَّنَّ وَمَا فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِهَذَا الدَّنِّ وَالْخَلِّ فَيَكُونُ حَرْفُ الْبَاءِ مُتَّصِلًا بِهِمَا جَمِيعًا مَعْنًى؛ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ هَذَا الْحَرْفَ بِالدَّنِّ وَسَمَّى الدَّنَّ الْخَلَّ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ حَقِيقَةً إذَا كَانَ مَمْلُوءًا خَلًّا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَيْفٍ أَعْطَيْته السَّيْفَ بِجَفْنِهِ وَحَمَائِلِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّيْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَرْجٍ أَعْطَيْته السَّرْجَ وَمَا حَمَلَ مِنْ مَتَاعِهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُبَّةٍ أَعْطَيْته عِيدَانَ الْقُبَّةِ مِنْ غَيْرِ كِسْوَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَلْعِيدَانِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ مَعَ الْقُبَّةِ كِسْوَةٌ، وَلَكِنْ كُلُّ مَالِكٍ يَتَّخِذُ كِسْوَةَ الْقُبَّةِ لِنَفْسِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُهُ بِخِلَافِ السَّرْجِ وَالسَّيْفِ. وَلَوْ أَوْصَى بِقُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ أَعْطَيْته الْقُبَّةَ بِالْكَنُودِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ عَادَةً (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَّخِذُ كُلُّ مَالِكٍ لَلْعِيدَانِ إلَّا كَنُودًا آخَرَ عَادَةً. وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِحَجَلَةٍ فَلَهُ الْكِسْوَةُ دُونَ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحَجَلَةِ يَتَنَاوَلُ الْكِسْوَةَ بِدُونِ الْعِيدَانِ وَالْعِيدَانُ بِدُونِ الْكِسْوَةِ لَهَا اسْمٌ آخَرُ وَهِيَ الْقُبَّةُ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ بِاسْمِ الْقُبَّةِ الْكِسْوَةَ، وَلَا بِاسْمِ الْحَجَلَةِ الْعِيدَانَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَلَّةٍ زَعْفَرَانٍ أَعْطَيْته الزَّعْفَرَانَ دُونَ السَّلَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ أَنْ يَسْتَحِقَّ السَّلَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ حَرْفَ الْبَاءِ بِالسَّلَّةِ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِعُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا: سَلَّةُ زَعْفَرَانٍ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ بَيَانَ مِقْدَارِ الزَّعْفَرَانِ لَا حَقِيقَةَ السَّلَّةِ كَمَا يُقَالُ: كَيْلُ حِنْطَةٍ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 85 وَكَيْلُ شَعِيرٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْعَسَلِ، وَهُوَ فِي زِقٍّ أَعْطَيْتُهُ الْعَسَلَ دُونَ الزِّقِّ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِهَذَا السَّمْنِ أَوْ الزَّيْتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي وَصِيَّتِهِ لَهُ الْمَظْرُوفَ وَبِتَسْمِيَةِ الْمَظْرُوفِ لَا يَسْتَحِقُّ الظَّرْفَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْوِعَاءِ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِمَا فِي الْبَطْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِالْمَعْدُومِ وَلَمْ يَعْلَمْ وُجُودَهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصَى حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا، وَوُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ فَمَا لَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ مَعْلُومَةَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِهِ صَحِيحَةً وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا فِي بَطْنِ الْحَيَوَانِ لَا تَصِحُّ قَبْلَ الْوُجُودِ، وَإِسْنَادُ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ يَكُونُ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ نِسْبَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ فَلَهَا وَصِيَّةُ أَلْفٍ. وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ فَلَهُ وَصِيَّةُ أَلْفَيْنِ فَوَلَدَتْ جَارِيَةً لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا، ثُمَّ وَلَدَتْ غُلَامًا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ فَلَهَا جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِوُجُودِ الَّذِي انْفَصَلَ قَبْلَ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصَى وَهُمَا تَوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا فِي وَقْتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْآخَرِ فِيهِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَفِي الْمِيرَاثِ الْجَنِينُ فِي الْبَطْنِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ شَرْطُ الْوَصِيَّةِ بِالْأَلْفِ وُجُودُ الْجَارِيَةِ فِي بَطْنِهَا، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ. وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ أَوْ جَارِيَتَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّ الْغُلَامَيْنِ شَاءُوا أَوْ أَيَّ الْجَارِيَتَيْنِ شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ الْمُسْتَدْرَكَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ لِفُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ وَالْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِك غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفَانِ. وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةٌ فَلَهَا أَلْفٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك أَوْ جَمِيعِ مَا فِي بَطْنِك وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَا فِي بَطْنِهَا عَلَى إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُك فَهُوَ اسْمُ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِجَمِيعِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 86 الْمَجْهُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ثُمَّ الْعِدَّةُ لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ وَإِذَا تَرَكَ امْرَأَةً حُبْلَى فَأَوْصَى رَجُلٌ لِمَا فِي بَطْنِهَا وَصِيَّةً، ثُمَّ وَضَعَتْ الْوَلَدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّا نُسْنِدُ الْعُلُوقَ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ. وَإِذَا أَسْنَدْنَا فَقَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِ الْوَلَدِ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أَوْجَبَ لَهُ الْوَصِيَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِنَا حَقِيقَةً. وَإِنْ وَلَدَتْ مَيِّتًا فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ حِينَ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِخِلَافِ مَا إذَا انْفَصَلَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ الَّذِي انْفَصَلَ مَيِّتًا لَا يُجْعَلُ وَلَدًا فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا حَيٌّ، وَالْآخَرُ مَيِّتٌ فَالْوَصِيَّةُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْهُمَا حَيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ اسْتِحْقَاقُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا فَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ نَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا فَلَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَصِحُّ ضَمُّهُ إلَى الْحَيِّ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْجُزْءِ وَالسَّهْمِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَحْسَنُ سِهَامِ وَرَثَتِهِ سِهَامٌ يُزَادُ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُ السِّهَامِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: لَهُ السُّدُسُ فَيَتَنَاوَلُهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي سِهَامِ وَرَثَتِهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُزَادُ عَلَى الْفَرِيضَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ رُدَّ إلَى الثُّلُثِ إنْ لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ؛ لَا لِأَنَّ السَّهْمَ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بَلْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّرِكَةَ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ سَهْمًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ فَتَسْمِيَةُ السَّهْمِ لِلْمُوصَى لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ أَحَدَ تِلْكَ السِّهَامِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا أَقَلُّهَا؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِ الْأَقَلِّ مُرَادًا تَيَقُّنٌ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ شَكٌّ وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ السُّدُسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ: لَهُ السُّدُسُ وَهَكَذَا نَقَلَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالُوا: السَّهْمُ السُّدُسُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ السَّهْمِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ سَهْمَ مَنْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ وَرَثَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ عَارِضٍ وَذَلِكَ الْقَرَابَةُ دُونَ الزَّوْجِيَّةِ فَمَا يَكُونُ عَارِضًا فِي مُزَاحَمَةِ مَا هُوَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 87 أَصْلِيٌّ كَالْمَعْدُومِ وَسِهَامُ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالْقَرَابَةِ السُّدُسَ أَوْ الثُّلُثَ أَوْ النِّصْفَ فَأَمَّا الرُّبْعُ وَالثُّمْنُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ أَدْنَى مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ وَهُوَ السُّدُسُ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْقُصُ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي سَهْمِ وَرَثَتِهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ لَهُ مِثْلَ سَهْمِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا الْمُتَيَقِّنُ بِهِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السَّهْمَ دُونَ الثُّلُثِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَالِكُ أَدَاءِ الثُّلُثِ لَا النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالنِّصْفِ فَيَتَعَيَّنُ السُّدُسُ مُرَادًا لَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَعْدَلَ الْأَعْدَادِ فِي خُرُوجِ سِهَامِ الْفَرَائِضِ مِنْهُ السِّتَّةُ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالسُّدُسِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَجْرِي عَلَى الْأَسْدَاسِ فَيُجْعَلُ لِلسُّدُسِ سَبِيلًا عَلَى حِدَةٍ، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ لَلثُّمْنِ، وَلَا لِلرُّبْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ السُّدُسَ عَدْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ سِهَامِ وَرَثَتِهِ دُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُزَادُ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكَ وَرَثَتِهِ بِسَهْمٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَحْوِيلَ سَهْمِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إيجَابُ مِثْلِ أَحَدِ السِّهَامِ لَهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضِ مَالِهِ أَوْ بِشِقْصٍ مِنْ مَالِهِ أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُ شَيْئًا مَجْهُولًا وَلَيْسَ لَنَا عِبَارَةٌ مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّى لِيَصْرِفَ مِقْدَارَ الْمُسَمَّى بِالرُّجُوعِ إلَى عِبَارَةِ الْمُوصِي، وَجَهَالَةُ الْمُوصَى بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَارِثُ فِي الْبَيَانِ يُقَامُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ بِخِلَافِ السَّهْمِ فَقَدْ وَجَدْنَا هُنَاكَ عِيَارًا مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّى عِنْدَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مِقْدَارَ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ سِهَامُ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إلَّا شَيْئًا أَوْ إلَّا قَلِيلًا أَوْ إلَّا يَسِيرًا أَوْ بِزُهَاءِ أَلْفٍ أَوْ بِعَامَّةِ هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ جُلِّ هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ بِعِظَمِ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَهُوَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مُسْتَثْنًى مَجْهُولٍ، وَأَنَّ جَهَالَتَهُ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَكِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَثْنَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَكُونُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَزِيَادَةٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ بَيَانِ الزِّيَادَةِ إلَى الْوَرَثَةِ، ثُمَّ عَادَ إلَى بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ ابْنَتَانِ وَامْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ فَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْعَوْلِ وَأَخَسُّ السِّهَامِ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ فَيُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ نَصِيبِهَا فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَلَاثِينَ وَكَانَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ وَعَشَرَةُ بَنَاتٍ فَلَهُ سَهْمٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 88 الْمَالَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا وَأَخَسُّ السِّهَامِ سَهْمُ بِنْتٍ فَيُزَادُ ذَلِكَ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ لِلْمُوصَى لَهُ. وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَهَا أَبَوَانِ وَابْنَتَانِ وَزَوْجٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ مِنْ بَعْدِ الْعَوْلِ مِنْ سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ فَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ أَخَسِّ السِّهَامِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا وَزَوْجًا جَعَلْت لَهُ سَهْمًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ الْعَوْلِ مِنْ عَشَرَةٍ لِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأَخَوَيْنِ وَأَوْصَتْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ سَهْمَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ زَائِدٌ عَلَى السُّدُسِ فَلَهُ السُّدُسُ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَخَوَيْنِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَعْدَلُ الْأَعْدَادِ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي قَوْلِهِمَا لَهُ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ أَخَسَّ الْأَنْصِبَاءِ الرُّبْعُ، وَهُوَ نَصِيبُ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ فَيُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَهُوَ الْخُمْسُ وَلَوْ تَرَكَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَأَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ جَعَلْت لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَنِصْفٍ بَعْدَ الْعَوْلِ لِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ أَخَسِّ السِّهَامِ سَهْمًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الشَّرْطِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ أَنْ تُعْتَقَ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ، ثُمَّ مَاتَ فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبُولُهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ التَّزَوُّجِ وَقَدْ قَبِلَتْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ عَتَقَتْ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهَا عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ لَهَا بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَتُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَوْلَى بِهَذَا اللَّفْظِ انْعِدَامَ التَّزَوُّجِ مِنْهَا أَبَدًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَوْتِهَا، وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَا يُتَصَوَّرُ عِتْقُهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ انْعِدَامُ التَّزَوُّجِ عَقِيبَ مَوْتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ قَبِلَتْ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فَتُعْتَقُ، ثُمَّ الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّزَوُّجِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَتَقَتْ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا لِوَرَثَتِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 89 فَفَوَاتُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا السِّعَايَةَ كَمَا لَوْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ أَوْ تُصَلِّيَ تَطَوُّعًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ امْتِنَاعُهَا مِنْ الزَّوَاجِ عَقِيبَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَعْقُبْ ذَلِكَ. وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ إنْ ثَبَتَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا تَرْجِعَ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ سَاعَةً بَعْدَ مَوْتِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ ثَبَاتُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ إلَى وَقْتِ مَوْتِهَا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ وَهُوَ الْعِتْقُ لَا يُتْرَكُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّفْظُ إذَا تَعَذَّرَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْأَقْصَى يُعْتَبَرُ الْأَدْنَى وَذَلِكَ فِي أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ سَاعَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ مَا قَالَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَنَجَّزُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَنْجِيزٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهَا لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا لَمْ يَتَنَجَّزْ بِنَفْسِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْفِيذِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ أَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ عَلَى أَنْ تَثْبُتَ مَعَ وَلَدِي فَقَبِلَتْ وَفَعَلَتْ مَا شَرَطَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُجُودُ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأَقْصَى فَيَتِمُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِقَبُولِهَا لِوُجُودِ ذَلِكَ الْأَدْنَى مِنْهَا، ثُمَّ لَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا وَلَوْ أَوْصَى لِخَادِمَةٍ أَنْ تُقِيمَ مَعَ أَبِيهِ أَوْ مَعَ ابْنَيْهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَا، ثُمَّ هِيَ حُرَّةٌ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ خَدَمَتْهُمَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةُ وَيُصِيبَ الْغُلَامُ خَادِمًا أَوْ مَالًا يَبْلُغُ خَادِمًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ خِدْمَتِهَا. وَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ تَخْدُمُهُمَا حَتَّى يُدْرِكَا فَإِذَا أَدْرَكَا عَتَقَتْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَهُوَ شَرَطَ عَلَيْهَا الْخِدْمَةَ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُمَا عَنْ خِدْمَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ تِلْكَ الْغَايَةِ، وَهِيَ اسْتِغْنَاءُ الْكَبِيرِ عَنْ خِدْمَتِهَا فَإِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ فَاسْتِغْنَاؤُهُمَا يَكُونُ بِالْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَكَّنَانِ مِنْ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمَا فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ فَقَدْ وُجِدَ مَا شُرِطَ عَلَيْهَا فَيَجِبُ إعْتَاقُهَا مِنْ ثُلُثِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا أُعْتِقَتْ وَسَعَتْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْنِيَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْعِتْقِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. وَإِذَا أَوْصَى النَّصْرَانِيُّ بِخَادِمَةٍ لَهُ بِالْعِتْقِ إنْ ثَبَتَتْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ وَصِيَّتُهَا وَعِتْقُهَا مَاضٍ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ عَقِيبَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَشَرْطُ ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ ثَبَاتُهَا عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنْ تَثْبُتَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ سَاعَةً الجزء: 28 ¦ الصفحة: 90 فَقَدْ تَمَّ الشَّرْطُ. وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَوْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ أَبَدًا أَوْ وَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ بَعْدَ تَصْرِيحِهِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ بَعْدَ التَّوْقِيتِ نَصًّا بَلْ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَوَصِيَّتُهَا بَاطِلَةٌ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَعْتِقُوهَا إنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ عِنْدِ وَلَدِي إلَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ شَهْرًا فَإِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الشَّهْرِ أَوْ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ وَلَدِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لَهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِالْعِتْقِ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فُلَانًا بِعَيْنِهِ فَقَبِلَتْ ذَاكَ عَتَقَتْ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّرْطَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى وَيَتِمُّ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً فَيَجِبُ إعْتَاقُهَا وَبَعْدَ مَا عَتَقَتْ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إلَى الرِّقِّ. وَلَوْ أَوْصَى لَهَا بِالْعِتْقِ عَلَى أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فُلَانًا بِعَيْنِهِ أَبَدًا فَقَبِلَتْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا عِلْمنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَقْصِدْ تَأْخِيرَ عِتْقِهَا امْتِنَاعَهَا عَنْ التَّزَوُّجِ أَبَدًا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْعِتْقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ شَرْطٌ وَإِنَّمَا شَرَطَ قَبُولَهَا ذَلِكَ وَامْتِنَاعَهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَاعَةً وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَوْلَى فِي هَذَا الشَّرْطِ فَفَوَاتُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا السِّعَايَةَ فِي شَيْءٍ بَعْدَ مَا عَتَقَتْ. وَإِنْ كَانَ فُلَانًا ذَلِكَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَأَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ فِي التَّزَوُّجِ بِهِ مَنْفَعَةُ الْوَارِثِ وَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ لِوَارِثِهِ عَلَيْهَا كَاشْتِرَاطِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ فَأَبَتْ كَانَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُوجِبُهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْهَا يَلْزَمُهَا رَدُّ مَا بِمُقَابَلَتِهِ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ عَلَى أَنْ لَا يُفَارِقَ وَلَدَهُ أَبَدًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُمْ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ جَازَ عِتْقُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ. وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْهُمْ ضَمِنُوا الدَّيْنَ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَقَدْ أَتْلَفُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ وَالْوَارِثِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَوْصَى الصَّبِيُّ بِوَصِيَّةٍ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 91 أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَصِيَّتُهُ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْخَيْرِ وَيَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّلَاحِ صَحِيحَةٌ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْمَجْنُونِ وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَاعٍ أَوْ قَالَ: يَافِعٌ، وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ يَسْتَغْنِي هُوَ عَنْ الْمَالِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ حَتَّى يَبْقَى لَهُ الْمَالُ فَيَصْرِفُهُ إلَى حَوَائِجِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَةَ بَعْدَ مَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أَحَبُّ الْمِيرَاثِ وَالصَّبِيُّ فِي الْإِرْثِ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسَاوٍ لِلْبَالِغِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُنِي عَلَى قَوْلِي هَذَا أَنَّ إسْلَامَهُ لَا يَصِحُّ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّبِيِّ إذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِوَلِيِّهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَرُشْدُهُ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ بِوَلِيِّهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ عَقْلُهُ وَرُشْدُهُ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ يَحْصُلُ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا اكْتِسَابُ الْأَجْرِ بِالْوَصِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فِيهِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ: هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ فَكَذَلِكَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِيهِ ضَرَرٌ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ. وَإِنْ تَصَوَّرَ فِي الْوَصِيَّةِ مَنْفَعَةً فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْوَضْعِ لَا الْأَحْوَالِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَنْفَعُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الْفَقِيرَةَ وَيَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا الْمُوسِرَةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا لَهُ بِوَلِيِّهِ فَمَنْفَعَةُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَجْرُ وَصِلَةِ الرَّحِمِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِوَلِيِّهِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ الْغُلَامُ بَالِغًا وَلَكِنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْبُلُوغِ وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْسِرْ وَصِيَّتَهُ كَانَتْ بِعَمَلِ الْقُرْبَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ: إذَا أَدْرَكْت، ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثِي لِفُلَانٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ هَدَرٌ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَمَا هُوَ هَدَرٌ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إضَافَةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُمَا فَكَذَلِكَ إضَافَةُ التَّبَرُّعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا قَالَ: إذَا أُعْتِقْتُ فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ التَّبَرُّعِ إلَى حَالَةِ حَقِيقَةِ مِلْكِهِ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَغَيْرُ مُخَاطَبِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 92 وَلَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي التَّبَرُّعَاتِ أَصْلًا فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اسْتَقْبَلَ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا. وَإِذَا أَوْصَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَالِهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَنَا لَا يُجْرَى عَلَى وَرَثَتِهِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ امْتِنَاعَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَحِقَ الْوَرَثَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوا كَانَ نَافِذًا، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ فِي هَذَا بِسَبَبِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَمِنْ حَقِّهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ لَا إبْطَالُهَا. وَإِنْ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَجَزْتُ وَصِيَّتَهُ وَرَدَدْت الْبَاقِيَ عَلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَمِنْ حَقّه تَسْلِيمُ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ إذَا فَرَغَ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ مَا أَوْصَى بِهِ فَارِغٌ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ. وَإِنْ شَهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَجَزْتُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَقْبُولَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ بِدَلِيلِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَذَكَر فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَوَصِيَّةُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ تَأْثِيرًا فِي قَطْعِ الْعِصْمَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَمُحَمَّدٌ قَالَ: الْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بِالتَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِنْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَصَارُوا ذِمَّةً، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا. وَإِنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا مِنْ قِبَلِ أَنِّي لَا آخُذُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ فَالْمُسْتَهْلِكُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلِكُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَالْإِسْلَامُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 93 إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَكَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ لَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ مِنْ الذِّمِّيِّ. وَإِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجُزْ لَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إصْلَاحِهَا أَوْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى بِمَالِهِ بِيعَةٌ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ نَارِهِمْ ذَبِيحَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. (وَوَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ): مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالْوَصِيَّةِ بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْرَاجِ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَهَذَا يَجِبُ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا يَجِبُ تَنْفِيذُهُ إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا فَإِنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ. وَإِنْ كَانُوا لَا يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَوَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يُوصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا مَعْصِيَةٌ عِنْدَهُمْ كَالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ وَالْغَزْوِ إلَى الرُّومِ إذَا كَانَ الْمُوصِي مِنْهُمْ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْقُرْبَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَبْنِيَ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ يَصْرِفُونَهُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَحِينَئِذٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِأَعْيَانِهِمْ لَا لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْلِمِ يُوصِي بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِلْمُغَنِّيَاتِ أَوْ لِلنَّائِحَاتِ، فَإِنْ كَانُوا أَقْوَامًا بِعَيْنِهِمْ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ وَإِلَّا بَطَلَتْ. وَوَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهَا وَقَعَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ كَانَ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُسْتَبْهِمَةً فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ لِأَقْوَامٍ مُعِينِينَ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْهُ لَهُمْ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمُوصِي فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى رَبِّهِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ مَعْصِيَةً فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَاشْتِغَالَهُ بِالْوَصِيَّةِ مَعْصِيَةٌ مِنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَى مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنَّ نَبْنِيَ أَحْكَامَهُمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا نُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ مِنْهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَإِنَّمَا نَعْتَبِرُ مَا يُظْهِرُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْتَبِرَ حَقِيقَةَ مَا يُضْمِرُونَ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ فِي الْخُصُومَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِيمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِغَيْرِ اعْتِقَادِهِمْ لَا اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ بَنِي فِي حَيَاتِهِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، ثُمَّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 94 مَاتَ كَانَ مِيرَاثًا أَمَّا عِنْدهمَا؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ لَا يَلْزَمُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ بِتَحْرِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَجَعْلِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعِدُّهَا لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا بُقْعَةُ الْبِيَعِ فَإِنَّمَا يَعُدُّهَا لِلتَّبَرُّكِ وَعِبَادَةِ الشَّيَاطِينِ، فَلَا تَتَحَرَّرُ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا تَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. وَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْعَصِيرِ فِي حَقِّنَا. وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الْمُسْلِمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَخْلُفُ الْمُوصِي وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ فِي التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ كَتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فِي الْوَكَالَةِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ بَيْعَ ذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ شَرْعًا وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَيْنٍ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْوَصِيُّ مُسْلِمٌ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ وَكَّلَ بِخُصُومَتِهِ مُسْلِمًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِمَا تَوَلَّاهُ الْوَصِيُّ مِنْ عُقُودِهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْعَقْدَ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةٍ هِيَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَنَا اعْتِبَارًا لِلتَّبَرُّعِ بِالتَّمْلِيكِ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالتَّبَرُّعِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِبَيْتٍ لَهُ يُبْنَى مَسْجِدًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ جَعَلَهَا مُعَدَّةً لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُرَمَّ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ أَوْ يُلْقَى فِيهِ حَصًى أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ أَبْوَابٌ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ، وَذَكَر فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ: لِمَرَمَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِعِمَارَتِهِ أَوْ لِمَصَالِحِهِ فَإِنَّ مُطَلَّقَ قَوْلِهِ لِلْمَسْجِدِ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَسْجِدِ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ، وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُقَيِّدُ مُطَلَّقَ لَفْظِهِ، وَفِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَرَمَّةُ الْمَسْجِدِ أَوْ عِمَارَتُهُ. وَإِنْ جَعَلَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 95 السُّفْلَ مَسْجِدًا وَالْعُلُوَّ مَسْكَنًا أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَهُوَ مِيرَاثٌ يُبَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَسَاجِدِ الْكَعْبَةَ وَتِلْكَ الْبُقْعَةُ جُعِلَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَحَرَّرَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكُلُّ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَهُوَ نَافِذٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ إنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا دُونَ الْعُلُوِّ جَازَ. وَإِنْ جَعَلَ الْعُلُوَّ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَالُهُ قَرَارٌ وَتَأْبِيدٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحَبْسَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَإِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِبِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَقَرَّبُ إلَيَّ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَقَعْ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِغَلَّةِ جَارِيَةٍ تَكُونُ فِي نَفَقَةِ الْمَسْجِدِ وَمَرَمَّتِهِ فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي بِنَائِهِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ تَقَعُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ. وَلَوْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ بِيَدِهِ غَلَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فَإِنِّي أَبْنِي الْمَسْجِدَ ثَانِيًا وَأُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهَا يَعْنِي بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ فَيُقْضَى ذَلِكَ مِنْ غَلَّتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَإِنْ شَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ دَارِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ: ثُلُثِي لِفُلَانٍ أَوْ سُدُسِي لِفُلَانٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ مُرَادَهُ الْهِبَةُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْهِبَةَ، وَالْمَوْهُوبُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، وَذَلِكَ دُونَ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُلُثِي وَسُدُسِي وَنَفْسُهُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ لِلْغَيْرِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَالٌ أَمْ لَا وَأَيُّ مِقْدَارِ مَالِهِ، وَمِنْ أَيِّ جِنْسِ مَالِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ كَمَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تُسْقِطُ اعْتِبَارَهُ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا يُنْصَرَفُ إلَى الدَّيْنِ دُونَ الْوَرِقِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَرَضِ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِثُلُثِي أَيْ بِالثُّلُثِ الَّذِي جَعَلَ لِي الشَّرْعُ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 28 ¦ الصفحة: 96 «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ» الْحَدِيثُ وَإِذَا قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ سُدُسُ دَارِي لِفُلَانٍ: فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ مَا جَعَلَهُ لِفُلَانٍ إلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا فِيهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ إيجَابُهُ لَهُ لَا الْإِخْبَارُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ، وَبِذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الْوَصِيَّةِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ دُونَ الْهِبَةِ، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَتِمَّةُ الْقَبْضِ وَأَصْلُ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ السُّدُسُ فِي دَارِي فَهَذَا إقْرَارٌ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِثَبَاتِ الْمِلْكِ فَقَدْ أَخْبَرَ بِمِلْكِهِ فِي سُدُسٍ مُنَكَّرٍ وَجَعَلَ دَارِهِ ظَرْفًا لِذَلِكَ السُّدُسِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِإِضَافَةِ الظَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ بِمُضِيفِ مِلْكِ السُّدُسِ إلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ذَرَّةٌ فِي كَفِّي لِفُلَانٍ أَوْ نَوَاةٌ فِي كُمِّي لِفُلَانٍ وَلَوْ قَالَ: لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا، وَهُوَ وَصِيَّةٌ إذَا كَانَ ذَكَر فِي وَصِيَّتِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي مَالِي؛ لِأَنَّ حَرْفَ " فِي " لِلظَّرْفِ وَحَرْفَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَإِذَا جَعَلَ الْأَلْفَ بَعْضًا مِنْ مَالِهِ كَانَ مُضِيفًا الْأَلْفَ إلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ مُوجِبًا لِفُلَانٍ وَإِنْ قَالَ: عَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ أَوْ دَارِي هَذِهِ لِفُلَانٍ فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ سُدُسُ دَارِي لِفُلَانٍ فِي الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَقْبِضْهَا فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ سُدُسُ دَارِي لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا اللَّفْظِ لِلتَّمْلِيكِ فِي الْحَالِ فَفِي الْعَبْدِ وَالدَّارِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ مَعَ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَصِحُّ، وَفِي قَوْلِهِ سُدُسُ دَارِي لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ؛ فَلِهَذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ مِنْ دَرَاهِمِي لِفُلَانٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَقَدْ جَعَلَ مَا أَوْجَبَهُ لِفُلَانٍ مِنْ بَعْضِ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَيْتٌ مِنْ دَارِي لِفُلَانٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بَيْتٌ فِي دَارِي وَلَوْ قَالَ: سُدُسُ دَارِي لِفُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ: بَعْدَ مَوْتِي وَلَمْ يَقُلْ: ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْوَصِيَّةِ فَهَذِهِ هِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ وَلَا فِي حَالِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَتَكُونُ هَذِهِ هِبَةً غَيْرَ مَقْسُومَةٍ وَلَا مَقْبُوضَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْت بِأَنْ يُوهَبَ لِفُلَانٍ سُدُسُ دَارِي بَعْدَ مَوْتِي وَصِيَّةً أَوْ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ وَصِيَّةً أَجَزْتُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: سُدُسُ دَارِي لِفُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِي هِبَةً أَوْ صَدَقَةً جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لِمَا قَالَ: بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَرَّحَ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ أَضَافَ التَّصَرُّفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ وَصِيَّةً فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مِنْ الثُّلُثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 97 [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْكَمَالِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ تَرَكَ خَمْسَ بَنِينَ وَبِنْتًا فَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ بِكَمَالِ الرُّبُعِ بِنَصِيبِهِ فَأَجَازُوا فَالْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ الرُّبُعُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَكَمَالُ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ وَلِلِابْنَةِ ثَلَاثَةٌ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تَقُولَ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلِابْنَةِ سَهْمٌ فَاطْرَحْ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَاضْرِبْ مَا بَقِيَ، وَهُوَ تِسْعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ لِأَجَلِ الْوَصِيَّةِ بِكَمَالِ الرُّبُعِ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فَهُوَ الْمَالُ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ مَا طَرَحْتُ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَضْرِبُهُمَا فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْنِ يَبْقَى سِتَّةٌ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَالُ وَالنَّصِيبُ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ رُبُعَ الْمَالِ تِسْعَةً، سِتَّةٌ مِنْ ذَلِكَ مِيرَاثُهُ بِلَا مِنَّةِ الْإِجَازَةِ وَثَلَاثَةٌ الْوَصِيَّةُ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ وَصِيَّتَهُ ثَلَاثَةُ أَسَهْمَ يُرْفَعُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فَإِذَا رُفِعَتْ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ وَبِنْتٍ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ وَلِلِابْنَةِ ثَلَاثَةٌ. وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَالُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ لِحَاجَتِك إلَى الْحِسَابِ لَهُ رُبُعٌ صَحِيحٌ، ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ الرُّبُعَ، وَذَلِكَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ وَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ دِينَارٌ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَحَاجَتُهُمْ إلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا نَصِيبَ الِابْنِ دِينَارًا فَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ الَّتِي فِي أَيْدِيهمْ قِصَاصٌ بِمِثْلِهَا يَبْقَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ يَعْدِلُ دِينَارًا وَنِصْفًا فَانْكَسَرَ فَإِذَا ضُوعِفَ يَكُونُ سِتَّةً دَرَاهِمَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، ثُمَّ اقْلِبْ الْقَضِيَّةَ فَيَصِيرُ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى سِتَّةٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ كُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سِتَّةٌ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَاسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ بِالنَّصِيبِ دِينَارًا، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَظَهَرَ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا فَيُعْطِيَ الْمُوصَى لَهُ رُبُعَهُ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا فَيَكُونُ فِي بِدَلِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ مَالٍ وَشَيْءٌ، وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَنِصْفِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا فَاجْعَلْ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قِصَاصًا يَبْقَى فِي يَدِك ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ فَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَذَلِكَ شَيْءٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ فَإِذَا زِدْت عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَنِصْفٍ شَيْئًا وَنِصْفَ شَيْءٍ يَصِيرُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ فَإِذَا أَرَدْت تَصْحِيحَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْكَسِرُ فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً الجزء: 28 ¦ الصفحة: 98 وَثَلَاثِينَ فَهُوَ الْمَالُ، الرُّبُعُ مِنْهُ تِسْعَةٌ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي سِتَّةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ سِتَّةٌ، وَطَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً وَيُعْطِي الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةً كَمَالَ الرُّبُعِ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا فَيَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْوَرَثَةِ فَيَصِيرُ عَشَرَةً وَحَاجَتُهُمْ إلَى خَمْسَةٍ وَنِصْفٍ لِأَنَّا جَعَلْنَا نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ سَهْمًا فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَزِدْ فِي النَّصِيبِ نِصْفَ سَهْمٍ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ النَّصِيبَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى ثَمَانِيَةٍ وَرُبُعٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا نَصِيبَ الِابْنِ سَهْمًا وَنِصْفًا فَيَكُونُ لِخَمْسَةِ بَنِينَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلِابْنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَرُبُعٌ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِزِيَادَةِ سَهْمَيْنِ وَرُبُعٍ، وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ فَلَمَّا زِدْنَا فِي النَّصِيبِ نِصْفَ سَهْمٍ أَذْهَب نِصْفَ الْخَطَإِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَزِيدَ سَهْمًا كَامِلًا لِيَذْهَبَ جَمِيعُ الْخَطَإِ فَيَسْتَرِدَّ بِالنَّصِيبِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ سَهْمَيْنِ يَضُمُّهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ مَقْسُومًا بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ وَالِابْنَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَةِ سَهْمٌ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، فَإِذَا عَرَفَتْ طَرِيقَ الْخَطَإِ فَطَرِيقُ الْجَابِرِينَ تَخَرَّجَ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا أَيْضًا وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَةً، وَأَوْصَى لِلِابْنَةِ بِالرُّبُعِ بِنَصِيبِهَا، وَأَوْصَى بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، فَأَجَازُوا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، نَصِيبُ الِابْنَةِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَتَمَامُ الرُّبُعِ سَبْعَةٌ وَثُلُثَا مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ. أَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ فَنَقُولُ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ بِدُونِ الْوَصِيَّةِ عَلَى سَبْعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَةِ سَهْمٌ فَاطْرَحْ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُمَا، وَذَلِكَ وَاحِدٌ، ثُمَّ اضْرِبْ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ فِي ثَلَاثَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْ عَلَى ذَلِكَ سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ كُنَّا نَزِيدُ سَهْمًا وَاحِدًا. وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ تَزِيدُ سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِشْرِينَ، ثُمَّ يُضْرَبُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ لِمَكَانِ وَصِيَّتِهِ بِكَمَالِ الرُّبُعِ فَيَكُونُ ثَمَانِينَ، فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَجُمْلَةُ الْمَالِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ الرُّبُعُ مِنْ ذَلِكَ سِتُّونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ مَا طَرَحَتْ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَطْرَحَ وَاحِدًا، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ تِسْعَةً، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ كُنَّا نَطْرَحُ مِنْ مَبْلَغِ عَدَدِ النَّصِيبِ سَهْمًا. فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ نَطْرَحُ لِأَجَلِ ذَلِكَ سَهْمَيْنِ يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ النَّصِيبُ فَإِذَا أَخَذَتْ الِابْنَةُ رُبُعَ الْمَالِ سِتِّينَ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهَا بِالنَّصِيبِ، فَإِذَا أَخَذَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَبْقَى لَهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِقْدَارُ وَصِيَّتِهَا، ثُمَّ يُرْفَعُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَهُوَ ثَمَانُونَ يَبْقَى خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُوصَى لَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 99 بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ ثُلُثَا ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ مِائَةً وَسِتِّينَ فَيَكُونُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ وَابْنَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسُونَ وَلِلِابْنَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِثْلُ نَصِيبِهَا فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ مَالِ مَجْهُولٍ فَيُعْطِيَ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ رُبُعُ الْجَمِيعِ، ثُمَّ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا بِالنَّصِيبِ شَيْئًا فَيَكُونَ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثِ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَشَيْءٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمٌ وَثُلُثَا شَيْءٍ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثُ سَهْمٍ وَثُلُثُ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا نَصِيبَ الِابْنَةِ شَيْئًا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ ثُلُثَ شَيْءٍ قِصَاصًا يَبْقَى ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثٌ يَعْدِلُ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ وَثُلُثُ شَيْءٍ فَزِدْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ لِيَتِمَّ الْمَالُ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ وَثُلُثَا شَيْءٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ تَضْرِبَ سِتَّةً فِي ثَمَانِيَةٍ يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَثُلُثَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ يَكُونُ خَمْسَةً وَثُلُثًا، وَسِتَّةٌ فِي ثُلُثٍ اثْنَانِ، وَثُلُثَانِ فِي ثُلُثٍ تُسْعَانِ، فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةُ أَتْسَاعٍ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ مَرَّاتٍ سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ، فَذَلِكَ عِشْرُونَ وَثُلُثَا سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعَةَ أَتْسَاعٍ إذَا زِدْت ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسَةِ أَتْسَاعٍ كَانَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ ثَمَانُونَ وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَيُضْرَبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ جَمِيعُ الْمَالِ، الثُّلُثُ ثَمَانُونَ وَالرُّبُعُ سِتُّونَ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا، وَقَدْ ضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثِ، ثُمَّ يُضْرَبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا ضَرَبْنَا أَصْلَ الْمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ قَالَ: ثُمَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مُوَافَقَةٌ بِالْخَمْسِ فَيُخْتَصَرُ عَلَى الْخَمْسِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَخُمُسِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعُونَ، وَخُمْسُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ خَمْسَةٍ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَخُمْسُ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ سَبْعَةٍ، وَخُمْسُ خَمْسِينَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ فَاسْتَقَامَ. قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ أَوْصَى بِدَارِهِ تُبَاعُ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِقَرْضٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ سَنَةً فَاسْتَهْلَكَ الْوَارِثُ الْمَالَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ تَرَكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَدَارًا قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ تُبَاعُ الدَّارُ مِنْ الَّذِي أَوْصَى لَهُ بِبَيْعِ الدَّارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَلْفُ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْقَرْضِ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْعُ مُحَابَاةٌ وَإِنَّمَا تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْفَرْضِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ ثَمَنُ الدَّارِ فَيُقْرَضُ ذَلِكَ مِنْهُ سَنَةً، وَلَا يُقَالُ: الْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْأَجَلُ يَلْزَمُ فِي الْقَرْضِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 100 لِأَنَّ الْقَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُعَارَ دَارُهُ مِنْ فُلَانٍ سَنَةً كَانَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُقْرَضَ الْأَلْفُ مِنْهُ سَنَةً فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ فَقَدْ فُرِّغَ الْأَلْفُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَيُرَدُّ عَلَى الْوَارِثِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِالثُّلُثِ بِنَصِيبِهِ وَبِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ الْآخَرِ فَأَجَازَا قَالَ: هِيَ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا النَّصِيبُ، ثَمَانِيَةٌ وَتَكْمِلَةُ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ، وَرُبُعُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ سَهْمَانِ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ نَقُولَ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَيُطْرَحُ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ سَهْمًا فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فَهُوَ الْمَالُ، الثُّلُثُ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ وَاحِدًا وَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهُ سَهْمًا لِمَكَانِ وَصِيَّتِهِ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَاسْتَرْجَعَتْ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ ثَمَانِيَةً بَقِيَ خَمْسَةٌ فَهُوَ مِقْدَارُ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَإِذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ بَقِيَ ثَمَانِيَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى رُبُعُ ذَلِكَ سَهْمَانِ بَقِيَ سِتَّةٌ فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ. فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ مَالِ مَجْهُولٍ فَتُعْطِيه الْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ، ثُمَّ تَسْتَرِدُّ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا فَتُعْطِي الْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى رُبُعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَيْءٍ تَعْدِلْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَيْءٍ قِصَاصٌ بِمِثْلِهِ يَبْقَى ثُلُثَا الْمَالِ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَرُبُعُ شَيْءٍ فَيَكْمُلُ الْمَالُ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ نِصْفِهِ، ثُمَّ يَزِيدَ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَ نِصْفِهِ وَذَلِكَ شَيْءٌ وَسِتَّةُ أَثْمَانِ شَيْءٍ وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْمَانِ فَيُضْرَبُ ثَلَاثَةً وَرُبُعَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ ثَمَانِيَةٌ وَالثُّلُثَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ اسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ تَرَكَ أَبَوَيْهِ وَامْرَأَتَهُ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَوْصَى لَأَحَدَاهُنَّ بِالثُّلُثِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِنَصِيبِهَا وَالْأُخْرَى بِالْخُمْسِ بِنَصِيبِهَا فَأَجَازُوا ذَلِكَ. قَالَ: هِيَ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ وَخَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ بَقِيَ وَاحِدٌ وَثَمَانُونَ لِلْمَرْأَةِ مِنْهَا تِسْعَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنَاتِ سِتَّةَ عَشَرَ، فَأَعْطِ صَاحِبَةَ الثُّلُثِ مَعَ نَصِيبِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَصَاحِبَةَ الْخُمْسِ مَعَ نَصِيبِهَا خَمْسَةً، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تُصَحَّحَ الْفَرِيضَةُ فَيَكُونَ أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِحَاجَتِنَا إلَى ثُمُنٍ وَسُدُسٍ وَثُلُثَيْنِ وَيَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 101 سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَظُّ الْبَنَاتِ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ، فَتَضْرِبُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَسْتَقِيمُ مِنْهَا لِلْمَرْأَةِ تِسْعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ اثْنَا عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ الْوَصِيَّةِ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَخُمُسٌ وَذَلِكَ بِأَنْ يُضْرَبَ ثَلَاثَةٌ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يُطْرَحَ نَصِيبُ الِابْنَتَيْنِ الْمُوصَى لَهُمَا مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَاضْرِبْ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ مَبْلَغُ الْمَالِ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ نَأْخُذَ نَصِيبَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَر فَيُضْرَبَ ذَلِكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ بَعْدَ مَا يُطْرَحُ مِنْهُ الثُّلُثُ وَالْخُمْسُ وَالثُّلُثُ خَمْسَةٌ، وَالْخُمْسُ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا طَرْحَتَهُمَا بَقِيَ سَبْعَةٌ فَاضْرِبْ سِتَّةَ عَشَرَ فِي سَبْعَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَاثْنَيْ عَشَرَ هَذَا نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ النَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ بِالسُّبْعِ فَيُخْتَصَرُ عَلَى السَّبْعِ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَسُبْعُ سَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ، وَسُبْعُ مِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَعِنْدَ الِاخْتِصَارِ الْمَالُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُمَا بِالنَّصِيبِ سِتَّةَ عَشَرَ يَبْقَى وَصِيَّتُهُمَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَخُمُسُ جَمِيعِ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُعْطَى ذَلِكَ الْمُوصَى لَهُمَا بِالْخُمْسِ نَصِيبَهَا مِنْ ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَوَصِيَّتَهُمَا خَمْسَةً فَإِذَا ظَهَرَ مِقْدَارُ وَصِيَّتِهِمَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ يُرْفَعُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، وَيَبْقَى وَاحِدَةٌ وَثَمَانُونَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْمِيرَاثِ لِلْمَرْأَةِ تِسْعَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ الْأَرْبَعَةُ وَعِشْرُونَ، وَلِلْبَنَاتِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِتَّةَ عَشَرَ مِثْلُ نَصِيبِهَا، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا مَجْهُولًا فَتُعْطِيَ ثُلُثَهُ إحْدَاهُمَا وَخُمُسًا لِلْأُخْرَى، وَقَدْ انْكَسَرَ الْمَالُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَخْمَاسِ فَظَهَرَ فِيهِ عَدَدُ السِّهَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَلِصَاحِبَةِ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبَةِ الْخُمْسِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ بِالنَّصِيبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْئًا فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِك فَيَصِيرُ مَعَك سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَسِتِّينَ، وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ وَنِصْفِ ثُمُنِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا نَصِيبَ كُلِّ ابْنَةٍ شَيْئًا فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ بَقِيَ وَرَاءَ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ نَصِيبُ الْأَبَوَيْنِ وَالْأُمِّ، وَإِذَا كَانَ سِتَّةَ عَشْرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَحَدَ عَشَرَ يَكُونُ شَيْئَيْنِ وَثُلُثُ سَهْمٍ نِصْفُ ثُمُنِ شَيْءٍ فَإِذَا عَرَفَتْ هَذَا قُلْت الشَّيْئَانِ بِمِثْلِهِمَا قِصَاصٌ يَبْقَى سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وَنِصْفُ ثُمُنٍ وَالْمَالُ نَاقِصٌ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ وَمِثْلُ سُبْعِهِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ حَتَّى يَتِمَّ الْمَالُ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَنِصْفِ ثُمُنٍ سُبْعٌ صَحِيحٌ، الجزء: 28 ¦ الصفحة: 102 فَالسَّبِيلُ أَنْ يُضْرَبَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَنِصْفِ ثُمُنٍ فِي مَخْرَجِ نِصْفِ الثُّمُنِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ يُضَمُّ إلَيْهِ مِثْلُهُ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَتِسْعِينَ، وَمِثْلُ سُبْعِهِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَيَكُونُ مِائَةً وَخَمْسَةً، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَامْرَأَةً فَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِهِ وَلِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ بِرُبُعِ الثُّلُثِ قَالَ: هِيَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ لِلِابْنِ وَصِيَّةٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مِيرَاثُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَإِنَّمَا، يَتَبَيَّنُ لَك هَذَا إذَا صَحَحْت الْفَرِيضَةَ فَتَقُولُ: لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ ثَمَانِيَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا أَوْصَى لِلِابْنِ بِشَيْءٍ وَطَلَب مِنْهُ أَنْ تَجُوزَ بِدُونِ حَقِّهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ وَصِيَّتِهِ لِلِابْنِ، وَتَبْقَى وَصِيَّتُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِرُبُعِ الثُّلُثِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ نَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ فِي حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ، فَإِذَا ضَرَبْتَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ يَكُونُ ذَلِكَ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ، الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ، وَإِنَّمَا أَوْصَى لِلْأَجْنَبِيِّ بِرُبُعِ الثُّلُثِ، وَرُبُعُ سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ. وَإِذَا رَفَعْتَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَبْقَى مِائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ ذَلِكَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، يَبْقَى مِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، فَإِذَا تَرَكَ امْرَأَةً وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ وَجَدًّا فَأَوْصَى لِأَحَدِ أَخَوَاتِهِ بِالثُّلُثِ بِنَصِيبِهَا وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْوَصِيَّةِ، فَأَجَازُوا قَالَ: هِيَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ سَهْمًا الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَصِيَّتُهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَالْجَدِّ فِي قَوْلِ زَيْدٍ: لِلْجَدِّ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عِشْرُونَ، فَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ فَأَنْ تُصَحِّحَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ، وَهِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَالْجَدِّ بِالْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلْجَدِّ مِنْ السُّدُسِ وَمِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَعَلَى أَصْلِ زَيْدٍ يُنْظَرُ فِي الْجَدِّ إلَى الْمُقَاسَمَةِ، وَإِلَى السُّدُسِ، وَإِلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ فَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لَهُ أُعْطِيَ ذَلِكَ وَالْمُقَاسَمَةُ هَاهُنَا خَيْرٌ، ثُمَّ قِسْمَةُ ثَلَاثَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ فَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ عِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ خَمْسَةٌ، وَلِلْجَدِّ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 103 الْوَصِيَّةِ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَلِثُلُثِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِأَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ نَصِيبَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ نَصِيبِ الْأُخْرَى، وَهُوَ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْمَبْلَغُ مِائَتِي سَهْمٍ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ سَهْمًا. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ نَأْخُذَ نَصِيبَ إحْدَى الْأَخَوَاتِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَنَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَهُوَ أَنْ نَطْرَحَ مِنْهَا الثُّلُثَ وَخَمْسَةَ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَثَلَاثَةٌ فِي سَبْعَةٍ يَكُونُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ، وَثُلُثُ الْمَالِ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ فَتُعْطِي الْمُوصَى لَهَا بِالثُّلُثِ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ وَتَسْتَرِدُّ مِنْهَا بِالنَّصِيبِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَسِتُّونَ فَإِذَا تَبَيَّنَتْ وَصِيَّتُهَا تَبَيَّنَتْ وَصِيَّةُ الْأُخْرَى، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ هَذَا الْمِقْدَارِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا مِائَةً وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ إذَا رَفَعَتْ ذَلِكَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ يَبْقَى مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَبْقَى مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ بِالْمُقَاسَمَةِ لِلْجَدِّ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ مِثْلَا النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ نَأْخُذَ مَالًا مَجْهُولًا فَنُعْطِيَ الثُّلُثَ إحْدَى الْأَخَوَاتِ وَخَمْسَةَ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ لِلْأُخْرَى فَيَظْهَرَ فِي الْمَالِ عَدَدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ السِّهَامِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَأَعْطَيْنَا إحْدَاهُمَا سِتَّةً وَالْأُخْرَى خَمْسَةً، ثُمَّ اسْتَرْجَعْنَا مِنْ إحْدَاهُمَا شَيْئًا، وَمِنْ الْأُخْرَى خَمْسَةَ أَسْدَاسِ شَيْءٍ فَيَصِيرُ مَعَنَا سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ وَشَيْءٍ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَشَيْءٍ، وَحَاجَتُنَا إلَى سِتَّةٍ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلْنَا نَصِيبَ الْأُخْتِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عِشْرِينَ شَيْئًا كَمَا بَيَّنَّا فَعَرَفْنَا أَنَّ حَاجَتَنَا إلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ وَثُلُثَيْ شَيْءٍ، فَشَيْءٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ بِمِثْلِهِ قِصَاصٌ يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ، وَالْمَالُ نَاقِصٌ فَأَكْمِلْهُ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ وَمِثْلَ أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ. وَإِذَا زِدْتَ عَلَى الْمَالِ هَذَا فَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَمِثْلَ أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي سَبْعَةٍ فَيَكُونُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّا ضَمَمْنَا إلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مِثْلِهِ فَيَكُونُ الْكَسْرُ عَلَى الْأَثْلَاثِ، ثُمَّ تَضْرِبُ أَرْبَعَةً وَخَمْسَةَ أَسْدَاسٍ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةَ سَهْمٍ وَسَهْمَيْنِ وَنِصْفًا يُضَمُّ إلَيْهِ مِثْلُهُ فَذَلِكَ مِائَتَانِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِثْلُ أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ فَلِكُلِّ سَبْعَةٍ مِنْ مِائَةٍ وَاحِدٌ وَنِصْفٌ يَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَنَصَفًا، فَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى مِائَتَيْنِ وَثَلَاثَةٍ يَكُونُ مِائَةً وَإِحْدَى الجزء: 28 ¦ الصفحة: 104 وَسِتِّينَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ مِائَتَانِ وَأَحَدٌ وَسِتُّونَ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ شَيْئًا وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَخَوَاتُ كَالْأَجَانِبِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْجَدِّ فَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِصَاحِبَةِ الثُّلُثِ بِكَمَالِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِهَا إنْ كَانَتْ وَارِثَةً. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً فَبِالثُّلُثِ وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ، وَأَقَلُّهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَاضْرِبْهُ فِي أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فَثُلُثُهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ عِشْرُونَ، فَكَانَتْ وَصِيَّةُ إحْدَاهُمَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَوَصِيَّةُ الْأُخْرَى عِشْرِينَ، وَمَبْلَغُهُمَا أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْمَرْأَةِ رُبُعُهُ سَبْعَةٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْجَدِّ هَذَا إذَا أَجَزْنَ. وَإِنْ لَمْ يُجِزْنَ جَعَلْتَ الثُّلُثَ عَلَى سِهَامِ الْوَصَايَا، وَوَصِيَّةَ إحْدَاهُمَا الثُّلُثَ سِتَّةً مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَوَصِيَّةَ الْأُخْرَى بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ خَمْسَةً، فَمَبْلَغُهُمَا أَحَدَ عَشَرَ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَالْجَمِيعُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَالثُّلُثُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا يَبْقَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رُبُعُهُ لِلْمَرْأَةِ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَخَمْسَ بَنَاتٍ فَأَوْصَى لِابْنِهِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِهِ، وَأَوْصَى لِإِحْدَى الْبَنَاتِ بِالْخُمْسِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِنَصِيبِهَا فَأَجَازُوا فَهِيَ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَهْمًا الْوَصِيَّةُ مِنْهَا أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا لِلِابْنِ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلِابْنَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ أَنْ تُصَحَّحَ الْفَرِيضَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةٍ لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ، ثُمَّ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْوَصِيَّةِ إلَى حِسَابٍ لَهُ خُمْسٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثٌ ذَلِكَ بِأَنْ يَضْرِبَ الْمَخَارِجَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ خَمْسَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُونُ تِسْعِينَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُمَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعِينَ يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَهُوَ مَبْلَغُ الْمَالِ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَ الِابْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي تِسْعِينَ بَعْدَ مَا تَطْرَحُ مِنْهَا الْخُمُسَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْخُمُسُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ إذَا طَرَحْتَ مِنْ تِسْعِينَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَبْقَى سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَإِذَا ضَرَبْتَ نَصِيبَ الِابْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فِي سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً وَتِسْعِينَ. وَإِذَا تَبَيَّنَ نَصِيبُ الِابْنِ تَبَيَّنَ نَصِيبُ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا نِصْفُ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ ثُلُثُ الْمَالِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ مِائَةٌ وَنَصِيبُ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 105 فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ الْوَصِيَّةِ لَهُ كَانَتْ بِسِتَّةِ أَسْهُمٍ تَمَامَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الثُّلُثِ وَخُمُسُ ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ نَصِيبُ الِابْنَةِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. وَإِذَا رَفَعْتَ مِقْدَارَ وَصِيَّتِهِمَا، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَبْقَى ثَلَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبَنَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ مِثْلُ نَصِيبِهِ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْلُ نَصِيبِ الِابْنَةِ فَاسْتَقَامَ، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ يَتَيَسَّرُ تَخْرِيجُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ إذَا تَأَمَّلَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ إلَّا مُجَرَّدُ التَّطْوِيلِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَإِنْ تَرَكَ امْرَأَتَيْهِ وَأَبَوَيْهِ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَوْصَى لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِنَصِيبِهَا بِالْخُمُسِ وَلِلْأُخْرَى بِالسُّدُسِ بِنَصِيبِهَا وَبِرُبُعِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازُوا قَالَ: هِيَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا الْوَصِيَّةُ مِنْهَا مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ بَيْنَهُمَا لِصَاحِبَةِ الْخُمْسِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَمِيرَاثُهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ خُمُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلِصَاحِبَةِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ وَمِيرَاثُهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَذَلِكَ تِسْعُونَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلِصَاحِبَةِ رُبُعٍ مَا بَقِيَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِتَابِ فَأَنْ نَقُولَ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْمَرْأَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ فَتَعُولُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْوَصِيَّةِ احْتَجْتَ إلَى حِسَابٍ لَهُ خُمُسٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثٌ فَتَضْرِبُ خَمْسَةً فِي سِتَّةٍ فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَطْرَحُ الْمَرْأَتَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ يَبْقَى سِتَّةٌ فَتَضْرِبُ ذَلِكَ فِي تِسْعِينَ فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا الْخُمُسُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَالسُّدُسُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُونَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ تَأْخُذَا نَصِيبَهُمَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَيُضْرَبُ فِي تِسْعِينَ بَعْدَ مَا يُطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسُ وَالسُّدُسُ وَخُمُسُ تِسْعِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَالسُّدُسُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا طَرَحْتَهُمَا مِنْ تِسْعِينَ يَبْقَى سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ فَإِذَا ضَرَبْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فِي سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فَاطْرَحْ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مِقْدَارِ مَا أَخَذَتْ فِي الِابْتِدَاءِ يَبْقَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا أَعْطَيْنَا إحْدَاهُمَا مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَاسْتَرْجَعْنَا مِنْهَا بِالنَّصِيبِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَبْقَى سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ، فَهَذِهِ وَصِيَّتُهَا وَأَعْطَيْنَا الْأُخْرَى تِسْعِينَ فَاسْتَرْجَعْنَا مِنْهَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ فَهَذِهِ وَصِيَّتُهَا، فَإِذَا ضَمَمْتَ تِسْعَةً وَسِتِّينَ إلَى سَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ يَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ رُبُعُ ذَلِكَ سِتَّةٌ، وَيُضَمُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 106 مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْمِيرَاثِ لِلْمَرْأَتَيْنِ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ قَسَمْتَهَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْعَوْلِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِثْلُ نَصِيبِهَا، وَلِلْأَبَوَيْنِ مِائَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ وَلِلْبَنَاتِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِكُلِّ ابْنَةٍ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ بَنَاتٍ وَأَبَوَيْنِ، وَأَوْصَى لِإِحْدَى بَنَاتِهِ بِالثُّلُثِ بِنَصِيبِهَا وَبِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْوَصِيَّةِ لِآخَرَ فَأَقَرَّ الْأَبُ بِابْنٍ وَأَنْكَرَ الْبَنَاتُ وَأَجَازُوا كُلُّهُمْ الْوَصِيَّةَ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ الْوَصِيَّةُ مِنْهَا ثَلَثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتَّةَ عَشَرَ، وَمِيرَاثُهَا سِتُّونَ فَذَلِكَ تَمَامُ الثُّلُثِ وَلِلْأُخْرَى مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّةِ الْأَوَّلِ، وَيَدْخُلُ الِابْنُ مَعَ الْأَبِ فِي نَصِيبِهِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فَيَأْخُذُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ أَوَّلًا نَقُولُ: إقْرَارُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ آخَرَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ عَلَى أَنْ يُشَارِكَ الْمُقَرَّ لَهُ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي إقْرَارِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، ثُمَّ تَصْحِيحُ الْفَرِيضَةِ بِدُونِ هَذَا الْإِقْرَارِ فَنَقُولُ: أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَسْبَاعًا فَنَضْرِبُ سِتَّةً فِي سَبْعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لِلْأَبِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَهُوَ السُّدُسُ وَلِلْأُمِّ كَذَلِكَ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبَنَاتِ لِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ أَرَبَعَةٌ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ بِزَعْمِ الْأَبِ ثَمَانِيَةٌ وَنَصِيبُ الْأَبِ سَبْعَةٌ فَالسُّدُسُ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْأَبِ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَيَصِيرُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِذَا صَارَ السُّدُسُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ تِسْعِينَ هَذَا وَجْهُ تَصْحِيحِ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ. وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْوَصِيَّةِ احْتَجْتَ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ نَصِيبَ إحْدَى الْبَنَاتِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبِ الْأُخْرَى عَلَى حَسَبِ وَصِيَّتِهِ لَهُمَا، وَنَصِيبُ إحْدَى الْبَنَاتِ اثْنَا عَشَرَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبِ الْأُخْرَى تِسْعَةٌ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ إذَا طَرَحْتَ ذَلِكَ مِنْ تِسْعِينَ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ فَإِذَا ضَرَبْتَ تِسْعَةً وَسِتِّينَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ يَكُونُ ذَلِكَ تَمَامُ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ فَهُوَ مَبْلَغُ الْمَالِ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسَبْعُونَ فَتَأْخُذُ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ ذَلِكَ وَتَسْتَرِدُّ مِنْهَا نَصِيبَهَا وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ بَعْدَ مَا تَطْرَحُ مِنْهَا ثُلُثَهَا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ ثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ إذَا طَرَحْتَ سَبْعَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ تَبَقَّى خَمْسَةٌ تَضْرِبُ اثْنَيْ عَشَرَ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 107 فَهُوَ نَصِيبُهَا إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةٍ وَسَبْعِينَ يَبْقَى مِائَتَانِ وَسِتَّةَ عَشَرَ، فَهُوَ وَصِيَّتُهَا، وَوَصِيَّةُ الْأُخْرَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ فَإِذَا ضَمَمْتَ ذَلِكَ إلَى مِائَتَيْنِ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ يَبْقَى هُنَاكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمْ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَلِلْبَنَاتِ ثَلَثُمِائَةٍ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِتُّونَ مِثْلُ النَّصِيبِ، ثُمَّ مَا أَخَذَ الْأَبُ يُقْسَمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةً فَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ذَلِكَ لِلِابْنِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَهْمًا وَسَبْعَةٌ لِلْأَبِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا وَعَشَرَةً دِينًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَأَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ إلَّا إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّك تَرْفَعُ مِنْ الْعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ خُمُسُ الْمَالِ، ثُمَّ تَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمًا فَتَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الِابْنَيْنِ فَتَصِيرُ الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهمَا تِسْعَةً نِصْفُ ذَلِكَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَنِصْفُهُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُون فَلَا يُعْطَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي خُمُسِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَدْيُون وَحَقَّ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي خُمُسِ ذَلِكَ فَمَا تَعَيَّنَ لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ لِلْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِلِابْنِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى الِابْنِ مَرَّةً أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ جُمْلَةُ الْمَالِ الْعَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَنِصْفًا خُمُسُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي الدَّفْعَتَيْنِ فِي ذَلِكَ فَاسْتَرْجَعْنَا دِرْهَمًا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَبَقِيَ لَهُ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، وَالْمَقْسُومُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِالْخُمُسِ إلَّا دِرْهَمَيْنِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ خُمُسُ الْعَشَرَةِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْهُمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيَصِيرُ فِي يَدِك عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ فَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَالْخَمْسَةُ الَّتِي هِيَ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَثْلَاثًا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَيُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمٌ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَلِلِابْنِ فِي الْمَرَّتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ وَأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثُ خُمُسٍ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فِي الدَّفْعَتَيْنِ، وَاسْتَرْجَعْنَا بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمَيْنِ بَقِيَ لَهُ دِرْهَمٌ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَلَوْ أَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ لِرَجُلٍ إلَّا دِرْهَمًا مِنْهُ لِآخَرَ فَإِنَّك تَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ فَتُعْطِي صَاحِبَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 108 الدِّرْهَمِ دِرْهَمًا وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ إلَّا دِرْهَمًا دِرْهَمَانِ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمُسْتَثْنَى حَقُّهُ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمٌ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى حَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ؛ فَلِهَذَا يُعْطَى صَاحِبُ الدِّرْهَمِ مِنْ الثُّلُثِ دِرْهَمًا وَيَبْقَى لِلْآخَرِ مِنْ الثُّلُثِ دِرْهَمَانِ وَثُلُثٌ وَيُسَلَّمُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ الْقِسْمَةُ وَاضِحَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ، فَأَجَازُوا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَاحِدٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَابْنِ آخَرَ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ سَهْمٌ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الثُّلُثَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ تِسْعَةٍ فَالثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَبَيْنَ صَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ عَلَى اعْتِبَارِ أَحْوَالِهِمَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَجَازُوا كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ضِعْفَ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْوَاقِعَةَ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا تَبْطُلُ فِي حَقِّ الضَّرَرِ بِهَا فِي الثُّلُثِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ تِسْعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثَاهُ أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثٍ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَفِي حَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمُوصِي نَصِيبَ أَحَدِ وَرَثَتِهِ عِيَارًا لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ وَنَصِيبُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ سَهْمَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةً، فَيُقْسَمُ ذَلِكَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ (مَسْأَلَةٌ): قَالَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَصِيِّ الْأُمِّ فِيمَا تَرَكَتْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَوَصِيِّ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ وَجَمِيعِ مَنْ يُورَثُ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَالْغَائِبُ مِنْ الْوَرَثَةِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأَبِ وَوَصِيِّ الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيُّ أَبٍ فِي الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فَكُلُّ شَيْءٍ جَائِزٌ لِوَصِيِّ الْأَبِ عَلَى الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوَصِيِّ مَنْ ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَا فَلَا، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ لِوَصِيِّ مِنْ سَمَّيْنَاهُ حَقُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 109 الْحِفْظِ وَمَنْعِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ وَحِفْظُ الدَّيْنِ أَيْسَرُ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ كَمَا إذَا أَوْصَى الْأَبُ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ الْحِفْظُ، وَهَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحِفْظَ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ رُبَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَحْتَاجُ إلَى قَضَائِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَالثَّانِي أَنَّ وَصِيَّ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَلِلْأُمِّ وِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَى وَلَدِهَا الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ كَمَا أَنَّ لَهَا وِلَايَةَ حِفْظِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لِوَصِيِّ الْأُمِّ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ وَصِيَّ الْأَبِ بَاعَ رَقِيقًا أَوْ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ جَازَ بَيْعُهُ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَقَارِ فَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأُمِّ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَمَنْ ذَكَرنَا مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْغَائِبِ وَلَا يَتَّجِرُ وَصِيُّ الْأَبِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَصَرُّفٌ دُونَ الْحِفْظِ وَلَيْسَ لَهُ سِوَى الْحِفْظِ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، فَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأُمِّ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَكُلِّ شَيْءٍ وَرِثَهُ الْكَبِيرُ الْغَائِبُ مِنْ غَيْرِ ابْنِهِ فَلَيْسَ لِوَصِيِّ أَبِيهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْحِفْظِ لَهُ فِي الْمَوْرُوثِ عَنْ الْأَبِ لِحَقِّ الْأَبِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا وَرِثَهُ الْكَبِيرُ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ فَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأُمِّ، وَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، فَأَمْرُهُ عَلَيْهِ جَائِزٌ فِيمَا بَاعَ وَاشْتَرَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ، وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَتَثْبُتُ تِلْكَ الْوِلَايَةُ لِوَصِيِّهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ] (قَالَ) الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ وَالِدَيْهِ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَتَرْتِيبِهَا مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا أَصْلُ التَّخْرِيجِ وَالتَّفْرِيعِ فَمِنْ صَنْعَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَقَدْ كَانَ لَهُ مِنْ الْبَرَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحِسَابِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنَّهُ كَانَ شَكِسَ الْخُلُقَ فَكَانَ لَا يُؤَلِّفُ مَعَهُ لِصِغَرِهِ، وَكَانَ يَخْلُو فَيُصَنِّفُ ثُمَّ عَثَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى تَصْنِيفَاتِهِ سِرًّا فَانْتَسَخَ مِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ فِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْجَامِعِ، وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْحِسَابِ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ خُصُوصًا هَذَا الْكِتَابَ، وَفِيهِ مِنْ دَقَائِقِ الْفِقْهِ وَالْحِسَابِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِوَصِيَّةِ الرَّجُلِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ شَرْعًا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ صِحَّةَ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 110 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِ التَّصَدُّقِ مَا يُنْبِئُ عَنْ التَّقَرُّبِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَرَّبُ إلَى عِبَادِهِ قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، وَمُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ لِتَكْتَسِبُوا بِهِ لِأَنْفُسِكُمْ فِي حَالِ حَاجَتِكُمْ إلَى ذَلِكَ، وَلَفْظُ التَّصَدُّقِ مُسْتَعَارٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، وَالِاسْتِقْرَاضُ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَاجُ إلَى عِبَادِهِ فَيَسْتَقْرِضُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَرَّبُ إلَى عِبَادِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَأْثُرُهُ عَنْ رَبِّهِ: «لَا أَزَالَ أَتَقَرَّبُ إلَى عَبْدِي وَهُوَ يَتَبَاعَدُ عَنِّي. وَقَالَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا». ثُمَّ نَقُولُ: الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَلِهَذَا يُزَادُ حَقُّهُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ، وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ التَّرِكَةِ، وَلَا يُقَدَّمُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمِيرَاثِ إلَى الْوَارِثِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ ثَبَتَ لَهُ بِمِثْلِ مَا ثَبَتَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْوَارِثِ، وَهُوَ السَّهْمُ السَّابِعُ الْمَذْكُورُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ لَهُ فَالْمِيرَاثُ لِلْوَرَثَةِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ السِّهَامِ وَالسُّدُسِ وَالرُّبْعِ وَالثُّلُثِ؛ فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالسُّدُسِ تَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ إلَى الْمُوصِي لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ جَمِيعًا ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نَصِيبَ الْأَقَارِبِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ لِلْأَجَانِبِ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا كَانَ إلَى الْمُوصِي، وَهُوَ بِهَذَا الْإِيجَابِ يَجْعَلُ الْمُوصِيَ خَلِيفَةَ نَفْسِهِ فِيمَا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَتُهُ شَرْعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ صَحِيحَةٌ فِيمَنْ لَا مَالَ لَهُ فِي الْحَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الْخِلَافَةَ ثُمَّ مَلَكَ الْمَالَ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلْكَ الْخِلَافَةِ، وَلِهَذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوِرَاثَةِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَلَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا قِيمَتُهَا ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ الدَّنَانِيرِ أَوْ ثُلُثُ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ الْجِنْسَانِ، وَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَيْسَ صَرْفُ هَذَا الْإِيجَابِ إلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ كُلِّ جِنْسٍ، وَهُوَ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ يَثْبُتُ فِي ثُلُثَيْ كُلِّ جِنْسٍ فَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي ثُلُثِ كُلِّ جِنْسٍ فَإِنْ هَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ دِينَارًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ قَبْلَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ أَوْ ثُلُثُ ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ ثُلُثَ مَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ مَا هَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبَقَّاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ فِيهَا زِيَادَةٌ يُقْضَى الجزء: 28 ¦ الصفحة: 111 مِنْ الزِّيَادَةِ دَيْنُهُ، وَتُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ فَكَانَ الْهَالِكُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَالَ بِالْمَوْتِ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إذَا تَوَى مِنْهُ شَيْءٌ أَنَّ الْتَوَى يَكُونُ مِنْ نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ بِالْحِصَّةِ، وَالْبَاقِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِالتَّوَى بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَإِنَّمَا لَهُ سُدُسُ الْبَاقِي مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ أَوْ ثُلُثِ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا غَيْرَهَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ كُلِّ جِنْسٍ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُقَدَّمُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عِنْدَ الْمَوْتِ مَالًا يُسَمَّى فَيَكُونُ هُوَ فِي مَعْنَى الْغَرِيمِ فِي أَنَّهُ تُقَدَّمُ حُجَّتُهُ فِي مَحَلِّهِ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَمْوَالٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ مِلْكِهِ فِيهِمَا وَقْتَ الْإِيصَاءِ لِتَصْحِيحِ الْوَصِيَّةِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَيْنَ بِهَذَا الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَارِثِ شَرِكَةٌ بَلْ يَكُونُ حَقُّهُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فِي الْعَيْنِ الَّذِي ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ لَهُ فَيُعْطِي لَهُ ثُلُثَ الدَّنَانِيرِ، وَثُلُثَ الدَّرَاهِمِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْوَارِثِ فَإِنْ هَلَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُمَا مَالٌ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّ الدَّنَانِيرَ الْعَشَرَةَ مَعَ ثُلُثِ الدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ يُخْرِجُ ثُلُثَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَكَانَ حَقُّهُ كَالْأَصْلِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ فِيهِمَا كَالتَّبَعِ، وَالْأَصْلِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ إذَا هَلَكَ مِنْهُ نَجْعَلُ الْهَالِكَ مِنْ التَّابِعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِهَلَاكِ بَعْضِ الْمَالِ لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُ جَمِيعِ وَصِيَّتِهِ مِمَّا بَقِيَ إذَا وَجَدَ شَرْطَهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا مِنْ ثُلُثِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ نِصْفُهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَنِصْفُهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ بَعْضِ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ مِنْ وَصِيَّتِهِ فَقَدْ تَبْقَى مِنْ الدَّنَانِيرِ مِقْدَارُ مَا أَوْصَى لَهُ بِمِقْدَارِهِ، وَبِبَقَاءِ ذَلِكَ يَبْقَى جَمِيعُ وَصِيَّتِهِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ اسْتِحْقَاقُهُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي مِنْ الْمَالِ، وَذَلِكَ فِي الْمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَكُونُ نِصْفُ حَقِّهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَنِصْفُهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأَنْ تَجْعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّنَانِيرِ كَأَنَّهُ دَرَاهِمُ فَيَكُونُ مَالُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَثُلُثُ نِصْفِ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 112 الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَنِصْفُ ذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَا دِينَارٍ أَوْ نَجْعَلُ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ فَيَكُونُ الْكُلُّ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ هُنَاكَ حَقَّهُ مُخْتَلِطٌ بِحَقِّ الْوَارِثِ فَبَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَالِ إنَّمَا يَبْقَى مِنْ وَصِيَّتِهِ فِي كُلِّ مَالٍ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنْهُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَثُلُثُ الدَّرَاهِمِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ الدَّنَانِيرِ وَسُدُسِ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ هَلَكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَخَذَ السُّدُسَ كُلَّهُ مِنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ بَاقٍ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الدَّنَانِيرِ، وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْمَالِ مَا يُزَادُ ثُلُثُهُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فَيَأْخُذُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَالَيْنِ زِيَادَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا سُمِّيَ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ. قُلْنَا: لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ وَصِيَّتِهِ لِكَوْنِ حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي غَيْرُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ. وَلَوْ هَلَكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَيْضًا مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ سُدُسَ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ، وَسُدُسَ الْعَشَرَةِ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي الْبَاقِي بِسَهْمٍ شَائِعٍ سَمَّاهُ لَهُ الْمُوصِي فَيَأْخُذُ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ الْمَالَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ وَسُدُسِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لَهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ الْبَاقِيَةِ ثُلُثُهَا، وَمِنْ الدَّرَاهِمِ الْبَاقِيَةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ بَاقٍ بِبَقَاءِ ثُلُثِ كُلِّ نَوْعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تُنَفَّذُ لَهُ الْوَصِيَّةُ إلَّا فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ بِقَدْرِ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ إذَا جُعِلَتْ الْعَشَرَةُ دَنَانِيرَ بِمَعْنَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ نِصْفَهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَنِصْفَهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ بَلْ هَذَا مَالٌ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالَيْنِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَةَ شَاةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ سُدُسَ الْبَاقِي مِنْ الْقِيمَةِ، وَسُدُسَ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ حُكْمًا إذْ الْهَالِكُ يَكُونُ مِنْ نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ بِالْحِصَصِ فَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَقُّ إذَا اسْتَحَقَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا لَهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي سُدُسَ مَالِهِ، وَمَالُهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَجَمِيعُ الدَّرَاهِمِ فَيَسْتَحِقُّ سُدُسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّرَاهِمِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ كُلِّ مَالٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِسُدُسِ الْغَنَمِ وَسُدُسِ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَالَيْنِ أَخَذَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ كُلَّهُ نِصْفَهُ فِي الْغَنَمِ وَنِصْفَهُ فِي الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ هَاهُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي عَيْنٍ فَيَتَعَيَّنُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 113 جَمِيعُ وَصِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالَيْنِ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ وَصِيَّتِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَالَيْنِ وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي هَذَا الْمَوْضِع لِلْمُوصَى لَهُ سُدُسُ مَا بَقِيَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ وَصَحَّتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ، وَفِيهِ الْإِيصَاءُ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سُدُسَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا فَأَمَّا بِالْهَلَاكِ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكُلَّ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ وَقْتَ الْإِيصَاءِ فَاسْتَحَقَّ هُوَ سُدُسَ الْجَمِيعِ ثُمَّ تَبْقَى وَصِيَّتُهُ بِبَقَاءِ مَحَلِّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَصَايَا، وَأَصْلُهَا فِيمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا دِرْهَمَانِ فَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ الدِّرْهَمِ الْبَاقِي إذَا كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ ثُلُثُ الدِّرْهَمِ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَ هَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمَانِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ الدِّرْهَمِ الْبَاقِي بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَنَمِ إبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ ثِيَابٌ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ. فَأَمَّا إذَا تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسٍ إلَّا عَبْدًا وَسُدُسَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ عَبْدٌ كَانَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ سُدُسُ الْعَبْدِ الْبَاقِي، وَسُدُسُ الدَّرَاهِمِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ. أَمَّا فِي الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ الْمَالِ فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِسُدُسٍ إلَّا عَبْدًا وَالدَّرَاهِمَ. قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، وَيَكُون لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ الْبَاقِي مَعَ سُدُسِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الرَّقِيقَ يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِسُدُسِ الرَّقِيقِ كَالْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ الْغَنَمِ، وَسُدُسِ الْإِبِلِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرَّقِيقُ لَا يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً عَلَى وَجْهِ الْجَبْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ الِانْتِفَاعُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ فِي الْعَبِيدِ مُتَعَذَّرٌ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَتَكُونُ الْعَبِيدُ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَاسْتُحِقَّ جِنْسَانِ أَوْ هَلَكَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا سُدُسُ الْبَاقِي فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسٍ إلَّا عَبْدَ الثَّلَاثَةِ فَاسْتُحِقَّ عَبْدَانِ أَوْ هَلَكَا لَمْ يَأْخُذْ إلَّا سُدُسَ الْعَبْدِ الْبَاقِي. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْكُلُّ لَهُ يَسْتَحِقُّ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدَيْنِ بِخِلَافِ صِنْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا تُوجَدُ فِيهِ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ، وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا كَمَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَقِيلَ: الْقِسْمَةُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 114 الْمُخْتَلِفَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ عَبْدَيْنِ كُلَّ عَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا لَمْ يَمْلِكْ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْهُمَا، وَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِهَا مِائَةَ شَاةٍ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبِيدِ دَارٌ فَاسْتُحِقَّ نِصْفُهَا مَقْسُومًا أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَهُمَا سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي، وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ الدَّارِ وَسُدُسِ الدَّرَاهِمِ أَخَذَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ وَسُدُسَ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَاسْتِحْقَاقُ نِصْفِهَا لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ وَصِيَّتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ مِنْهَا شَيْءٌ كَانَ يَأْخُذُ ثُلُثَ نِصْفِهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْهَلَاكَ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الدَّارِ ثَلَاثَةُ دُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مُجْتَمَعَةٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ دَارٍ مِنْهَا عَلَيْهَا حَائِطٌ عَلَى حِدَةٍ فَأَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ أَوْ بِسُدُسِ الدُّورِ وَالدَّرَاهِمِ فَاسْتُحِقَّ دَارَانِ مِنْهَا فَلَهُ سُدُسُ الدَّرَاهِمِ، وَسُدُسُ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الدُّورَ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تُقَسَّمُ كُلُّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُطْلِقَانِ الْقَوْلَ فِي الدُّورِ أَنَّهَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّ رَأْيَ الْإِمَامِ النَّظَرُ فِي قِسْمَةِ الدُّورِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَرَى النَّظَرَ فِي حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلِذَلِكَ قُلْنَا لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا سُدُسُ الْبَاقِي. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ وَقَدْ تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ أَحَدُهَا هَرَوِيٌّ، وَالْآخَرُ مَرْوِيٌّ، وَالْآخَرُ قُوصِيٌّ فَهَلَكَ ثَوْبَانِ مِنْهَا فَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ الثِّيَابِ وَسُدُسِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ هَاهُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، وَالْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ سُدُسَ كُلِّ ثَوْبٍ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي فَبَعْدَ هَلَاكِ الثَّوْبَيْنِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوْبِ الْبَاقِي إلَّا سُدُسَهُ، وَلَوْ هَلَكَ نِصْفُ الدَّرَاهِمِ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ، وَسُدُسِ الثِّيَابِ كَانَ لَهُ سُدُسُ الْبَاقِي، وَثُلُثُ الدَّرَاهِمِ الْبَاقِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي الدَّرَاهِمِ وَصِيَّتَهُ تَبْقَى بِبَقَاءِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ أَوْصَى لَهُ مِنْهَا بِسُدُسٍ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الدَّرَاهِمِ الْبَاقِيَةِ فَيَأْخُذُهَا كُلَّهَا، وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ الثَّوْبِ الْبَاقِي إلَّا سُدُسَهُ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُوصِي فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْ الثَّوْبِ الْبَاقِي إلَّا سُدُسَهُ، وَإِذَا تَرَكَ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَعِدْلًا زُطِّيًّا يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ، وَقَدْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 115 الْعِدْلِ، وَثُلُثِ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الْمُوصِيَ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقَّيْهِمَا فَإِنَّ ثُلُثَ الْعِدْلِ وَثُلُثَ الدَّرَاهِمِ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ إذْ لَا مَالَ لَهُ سِوَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَيْنِ نِصْفُ ذَلِكَ يَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعِدْلِ، وَثُلُثُ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فِي التَّنْفِيذِ فِي مَحَلِّهِ فَكَذَلِكَ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ. فَإِذَا أَخَذَ هُوَ سُدُسَ الْعِدْلِ، وَسُدُسَ الدَّرَاهِمِ خَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ فِي الْبَاقِي بِسَهْمٍ، وَالْوَرَثَةُ بِحَقِّهِمْ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ ضَاعَ نِصْفُ الدَّرَاهِمِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ اقْتَسَمَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ ثُلُثِ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ بِمَا هَلَكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَبْطُلُ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ بَعْضُ وَصِيَّتِهِ، وَلَا يَبْطُلُ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ شَيْءٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْعَيْنِ مِقْدَارُ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَزِيَادَةٌ فَإِذًا حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فِي ثُلُثِ الْمَالِ يَوْمَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فِي الْمِائَتَيْنِ مِائَةٌ فَمَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَمِائَةٌ ثُلُثُ الْعِدْلِ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِينَ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ يَأْخُذُهُ مُقَدَّمًا مِنْ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِمَا سَوَاءٌ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالَيْنِ بَيْنَ الْوَارِثِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا يَضْرِبُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي ثَلَاثٍ فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِي الثُّلُثِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. قَالَ: وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَجِرَابٍ هَرَوِيٍّ يُسَاوِي سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِلْآخَرِ بِسُدُسِ الْجِرَابِ وَثُلُثِ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ الْآخَرُ بِسَهْمَيْنِ فَمَا أَصَابَ الْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْجِرَابِ وَثُلُثِ الدَّرَاهِمِ كَانَ لَهُ نِصْفُ ذَلِكَ فِي الْجِرَابِ وَنِصْفُهُ فِي الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِقَدْرِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سُدُسَ الْجِرَابِ وَثُلُثَ الدَّرَاهِمِ، وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ بِثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ فَإِذَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 116 جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَالثُّلُثَانِ عَشَرَةٌ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَيَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ بِأَحَدِهِمَا أَوَّلًا مِنْ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ يَضْرِبُ فِيهِ الْوَرَثَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِالثَّلَاثَةِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوا شَيْئًا حَتَّى هَلَكَ نِصْفُ الْجِرَابِ لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ فَهُوَ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِثَمَانِينَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ يَضْرِبُ بِثَمَانِينَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ حَتَّى تَقَعَ الْقِسْمَةُ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ نِصْفَ الثُّلُثِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ. ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصِي لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَإِنْ ضَاعَ كَأَنْ ضَاعَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ يَضِعْ مِنْ الْجِرَابِ شَيْءٌ ضَرَبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ فِي الثُّلُثِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَضَرَبَ الْآخَرُ فِيهِ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بَاقِيَةٌ كُلُّهَا فَهُوَ يَضْرِبُ بِثَمَانِينَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِثُلُثِ الْبَاقِي مِنْ الْمَالِ، وَالْبَاقِي سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَالْجِرَابُ وَنِصْفُ الدَّرَاهِمِ فَثُلُثُ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ إذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسِينَ سَهْمًا يَكُونُ لَهُ خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ يَأْخُذُهَا أَوَّلًا مِنْ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَضْرِبُونَ بِجَمِيعِ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْمُوصَى لَهُ بِخَمْسَةٍ. قَالَ: وَلَوْ تَرَكَ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسَيْفًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبْعِ مَالِهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِسُدُسِ السَّيْفِ وَثُلُثِ الدَّرَاهِمِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ أَرْبَعُمِائَةٍ فَوَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ بِسُدُسِ السَّيْفِ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَسُدُسِ الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ ذَلِكَ سِتَّةً وَسِتِّينَ فَإِذَا جَعَلْت تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَكْثَرِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ سَهْمًا فَلِذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ عَلَى خَمْسِينَ: عَشْرٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ رُبْعُ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فِي الدَّرَاهِمِ بِحَسَبِ وَصِيَّتِهِ فِي كُلِّ الْمَالِ ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِي الْبَاقِي بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوا حَتَّى ضَاعَ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 117 بَعْضِ الدَّرَاهِمِ لَا يُبْطِلُ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ شَيْئًا فَهُوَ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِرُبْعِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا فَاجْعَلْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ. وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ تِسْعَةً، وَإِنْ شِئْت قُلْت قَدْ انْكَسَرَتْ الْمِائَةُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَتُجْعَلُ الْمِائَةُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ ثُلُثَا ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ذَلِكَ تِسْعَةٌ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا كَانَ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ مِنْهَا ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ رُبْعُ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَضْرِبُونَ بِجَمِيعِ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِتِسْعَةٍ فَإِنْ هَلَكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ أُخْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ عَلَى حَالِهِ وَالْآخَرُ إنَّمَا يَضْرِبُ بِرُبْعِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَإِذَا جَعَلْت تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ إنَّمَا يُضْرَبُ وَالْأَكْثَرُ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ أَرْبَعَةٌ رُبْعُ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَ الْآخَرِ، وَالْوَرَثَةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَضْرِبُ فِي الْبَاقِي بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ بِثَلَاثَةٍ. وَإِذَا تَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ سِوَاهُ فَأَوْصَى بِالْعَبْدِ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا خَمْسَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَسَهْمٌ لِلْآخَرِ، وَكُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ أَرْبَاعًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجْعَلُ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ إذْ لَيْسَ فِيهَا عَوْلٌ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ، وَسَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ فَلَهُ ثَلَاثَةٌ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَوَابُ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْوَصَايَا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوا حَتَّى هَلَكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ عَلَى سِتَّةٍ، وَالْأَلْفُ الْبَاقِيَةُ كَذَلِكَ عَلَى سِتَّةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْهَا سَهْمَانِ وَلَهُ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 118 فَهُوَ يُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ بِثَلَاثَةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ؛ وَإِنْ كَانَ خَمْسَةٌ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُضْرَبُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي أَرْبَعَةٌ فَوَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِهَذَا يَضْرِبُ هُوَ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ كُلُّهُ فِي الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهُ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ يُضَمُّ إلَى الْأَلْفِ الْبَاقِيَةِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا يَضْرِبُ الْوَارِثُ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِثَلَاثَةٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ ثُمَّ الْأَلْفُ الْبَاقِيَةُ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ فَكَانَ حَقُّهُ فِي سَهْمَيْنِ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي ثَلَاثَةٍ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ كُلُّهُ فِي الْعَبْدِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَذَلِكَ سُدُسُ مَا بَقِيَ فِي الْحَاصِلِ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَالَيْنِ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ. وَإِذَا تَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِعِتْقِ الْعَبْدِ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا يُقَسَّمُ أَخْمَاسًا لِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ بِعِتْقٍ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مُقَدَّمَةٍ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ الْمُنَفَّذِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ فِي احْتِمَالِ الرُّجُوعِ عَنْهُ كَغَيْرِهِ فَيُضْرَبُ الْعَبْدُ فِي الثُّلُثِ بِقِيمَتِهِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَالْآخَرُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ فَيَكُونُ التَّفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ سَهْمٍ فَيَكُونُ لِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفِ سَهْمَانِ فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْمَالُ ثَلَاثَةُ أَلْفٍ فَكُلُّ آلَافٍ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ يُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ رَقَبَتِهِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَيَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ خُمُسَيْ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ فَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَوْا مِنْ الْعَبْدِ أَرْبَعَمِائَةٍ فَيُسَلَّمُ لَهُمْ أَلْفَانِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَلْفٍ هَذَا إنْ أَدَّى الْعَبْدُ السِّعَايَةَ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ قُسِّمَتْ الْأَلْفَانِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ تَاوٍ فَيَعُولُ هُوَ بِوَصِيَّتِهِ، وَيَبْقَى حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَلْفَيْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ أَرْبَعِمِائَةٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ حَقُّ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ سَهْمًا فَيَأْخُذُ سُدُسَ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 119 لِلْعَبْدِ مِنْ رَقَبَتِهِ مِثْلُ هَذَا، وَمِثْلُ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فَالْمُتَعَيَّنُ مِنْ الْمَالِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَسُلِّمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَبْدُ السِّعَايَةَ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ أَمْسَكَ مِقْدَارَ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ فَأَدَّى أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ كَمَالُ حَقِّهِ، وَتَأْخُذُ الْوَرَثَةُ ثَلَثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا حَتَّى يُسَلَّمَ كَمَالُ الْأَلْفَيْنِ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ مَا خَرَجَ مِنْ السِّعَايَةِ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ مِثْلَ سُدُسِ الْخَارِجِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا بَيَّنَّا إذَا تَأَمَّلْت. وَإِذَا تَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى بِعِتْقِهِ وَتَرَكَ أَيْضًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِلْآخَرِ بِسُدُسِ الْأَلْفَيْنِ بِعَيْنِهِمَا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَهِيَ أَلْفٌ فَيُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِجَمِيعِهَا، وَإِنْ جَاوَزَتْ الثُّلُثَ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْمَالِ وَصِيَّتُهُ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَصِيَّتُهُ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَيَجْعَلُ هَذَا سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَالْجُمْلَةُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ، وَيَسْعَى فِي عَشَرَةٍ وَنِصْفٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْأَلْفِ يَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ مِنْ الْأَلْفِ، وَيُجْمَعُ مَا بَقِيَ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِلْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ هَذَا إذَا أَدَّى الْعَبْدُ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوا حَتَّى ضَاعَ نِصْفُ الدَّرَاهِمِ، وَاسْتُحِقَّ نِصْفُ الْعَبْدِ قَسَّمْت الثُّلُثَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ تَرْجِعُ إلَى نِصْفِ رَقَبَتِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ تَرْجِعُ إلَى سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَلَمْ يُنْتَقَصْ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ السُّدُسِ الْأَلْفِ شَيْءٌ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، وَالْمَالُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نِصْفُ الْعَبْدِ الْبَاقِي تِسْعَةٌ يُسَلَّمُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ ثُلُثُ النِّصْفِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْأَلْفِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى السِّعَايَةِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ عَلَى قَدْرِ سَبْعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُبْعُ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَهْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ، وَبَيْنَ سَهْمَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَقَالَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 120 مُحَمَّدٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ مُرْسِلًا قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى وَصَايَاهُمَا فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثُّلُثِ فِيمَا أَوْصَى لَهُ ثُمَّ يُعْطِي صَاحِبَ الثُّلُثِ مِنْ الَّذِي أَوْصَى بِهِ بِعَيْنِهِ لِلرَّجُلِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا أَخَذَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَمَا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ جُعِلَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ شَائِعَةٌ فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مِنْ كُلِّ مَالٍ بِحِصَّتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ ثُلُثَا الْمَالِ فَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الثُّلُثِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ، وَلِصَاحِبِ سُدُسِ الثُّلُثِ الْمَالُ قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ فَإِنَّ حَقَّهُمَا فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الثُّلُثَيْنِ فَيَقُولُ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ، وَوَصَلَ إلَيْهِ سَهْمٌ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَيَبْقَى سَهْمٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ، وَنِصْفٌ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ الرُّبْعُ، وَحَصَلَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، وَتَخْرِيجُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ فَإِنَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَنْتَفِعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِالْإِجَازَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ سُدُسًا آخَرَ مِنْ الْوَرَثَةِ بِالْإِجَازَةِ لِيُسَلِّمَ لَهُ كَمَالَ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِجَازَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيُضْرَبُ صَاحِبُ الْجَمِيعِ بِثَلَاثٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَأَجَازُوا فَفِي قِيَاسِ قَوْل الجزء: 28 ¦ الصفحة: 121 أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَلَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثَّلَاثِينَ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَدَّعِيَانِهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي الثُّلُثِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا يَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا، وَيَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ مَرَّةً سِتَّةً، وَمَرَّةً ثَلَاثَةً، وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ مَرَّةً ثَلَاثَةً، وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ فَيَقُولُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ أَوَّلًا بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِالتَّسْوِيَةِ فَيَكُونُ الْمَالُ مِنْ تِسْعَةٍ ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فِي تِسْعَةٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمٌ يَبْقَى لَهُ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْجَمِيعِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ كَانَ فِي ثَلَاثَةٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمٌ بَقِيَ لَهُ سَهْمَانِ فَمَا زَادَ عَلَى السَّهْمَيْنِ إلَى تَمَامِ خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهَا فَيَكُونُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَنْصَافِ فَتُضْرَبُ ثَلَاثَةٌ فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ سِتَّةً ثُمَّ سِتَّةً فِي تِسْعَةً أَصْلُ الْمَالِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ يُضْرَبُ فِيهِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ بِثَلَاثَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِسَهْمَيْنِ وَالثُّلُثُ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ عِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ، وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ فَأَجَازُوا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ صَاحِبَا النِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَعَهُمَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الزِّيَادَةَ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ الْقَدْرَ ثَلَاثَةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ أَتْسَاعٍ، وَنِصْفُ تُسْعٍ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُمَا إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَجَمِيعُهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ النِّصْفِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثَلَاثَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَبِنِصْفِ مَالِهِ وَبِثُلُثَيْ مَالِهِ، وَبِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مَالِهِ فَأَجَازُوا أَمَّا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّمَا زَادَ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ إلَى خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ لَا يَدَّعِيهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 122 أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا صَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَهُوَ سُدُسُ الْمَالِ ثُمَّ زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى الثُّلُثَيْنِ لَا يَدَّعِيه إلَّا صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا آخَرَ ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سُدُسٌ وَاحِدٌ لَا يَدَّعِيه صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَيَدَّعِيه الْبَاقُونَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَالثُّلُثُ الْبَاقِي اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اثْنَيْ عَشَرَ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فَصَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ يَأْخُذُ مَرَّةً اثْنَيْ عَشَرَ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةً فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَمَرَّةً سِتَّةً فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْ عَشَرَ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةً، وَمَرَّةً سِتَّةً فَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً أَرْبَعَةً، وَمَرَّةً سِتَّةً فَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ مَا أَخَذَ إلَّا سِتَّةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ أَوَّلًا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا بِالسَّوِيَّةِ فَيَكُونُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ صَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ حَقُّهُ فِي عَشَرَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ حَقُّهُ فِي ثَمَانِيَةٍ، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَمَا زَادَ عَلَى سَبْعَةٍ إلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ يَأْخُذُهُ صَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَصَاحِبُ النِّصْفِ حَقُّهُ فِي سِتَّةٍ وَصَلَ إلَيْهِ وَاحِدٌ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ هُوَ لَا يُنَازَعُ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ يَدَّعِيه فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ إلَى تَمَامِ خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ لَا يَدَّعِيه صَاحِبُ الثُّلُثِ فَيَكُونُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اثْنَيْ عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ كَانَ أَوْصَى مَعَ هَذَا أَيْضًا بِجَمِيعِ مَالِهِ فَعَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ نَقُولُ مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ لَا يَدَّعِيه أَحَدٌ سِوَى صَاحِبِ الْجَمِيعِ فَيَأْخُذُهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ إلَى خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَ صَاحِبِ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ وَصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ سُدُسٌ آخَرُ لَا يَدَّعِيه صَاحِبُ النِّصْفِ فَيَكُونُ بَيْنَ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبِ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ وَصَاحِبِ الْجَمِيعِ أَثْلَاثًا، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَهُوَ سُدُسٌ آخَرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ النِّصْفِ أَرْبَاعًا، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي الثُّلُثِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْأَثْلَاثِ وَالْأَنْصَافِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تُضْرَبُ هَذِهِ الْمَخَارِجُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 123 بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ تَجْزِي عَنْ اثْنَيْنِ فَيُضْرَبُ خَمْسَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ عِشْرِينَ ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ سِتِّينَ ثُمَّ يُضْرَبُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ سِتَّةٌ فِي سِتِّينَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مِنْهُ يَصِحُّ التَّخْرِيجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ الثُّلُثُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا أَوَّلًا فَيَكُونُ الْمَالُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ صَاحِبُ خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ حَقُّهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمٌ بَقِيَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُهُ فَيَكُونُ الْمَالُ مِنْ ثَلَاثِينَ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فِي عِشْرِينَ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمَانِ بَقِيَ لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى عِشْرِينَ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَالْخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَثْلَاثًا ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ صَاحِبِ النِّصْفِ أَرْبَاعًا ثُمَّ الْبَاقِي، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْمَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ فَيَكُونُ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ خَمْسَةِ الْأَسْدَاسِ بِخَمْسَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَصِيَّتَهُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَفَّى بِمَا أَوْجَبَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَزِيَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّتِهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا كُلَّهَا، وَقَعَتْ فِي الثُّلُثِ، وَاسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى مَعَ هَذَا بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَبِنِصْفِ مَالِهِ، وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفَ الْمَالِ، وَسُدُسُ الْمَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا، وَنِصْفُ سُدُسٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ الرُّبْعِ أَرْبَاعًا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ السُّدُسِ أَخْمَاسًا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَبَعْضُ الْوَصَايَا قَدْ جَاوَزَتْ الثُّلُثَ، وَإِذَا وَجَبَ بِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَضَادًّا عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ التَّخْرِيجُ مَا قَالَ إنَّ كُلَّ جُزْءٍ فَرَغَ مِنْ مُنَازَعَةِ بَعْضِهِمْ فَيَدَّعِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَيُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَهُ بِالسَّوِيَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَيْسَ هَذَا بِقِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصَايَا الَّتِي لَمْ تُجَاوِزْ الثُّلُثَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّتِهِ، وَلَا نَجْعَلُ لِبَعْضِهِمْ شَيْئًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَكِنْ قِيَاسُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 124 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَكَانَ إلَى الْوَرَثَةِ إجَازَتُهُ وَرَدُّهُ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى مَا وَصَفَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَأَمَّا الثُّلُثُ الَّذِي لَيْسَ إلَى الْوَرَثَةِ إجَازَتُهُ وَلَا رَدُّهُ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا مَحَلُّ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ، وَمَحَلُّ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِمَا جَمِيعًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّصْفَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَالِصًا وَالسُّدُسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ ثُمَّ يَبْقَى الثُّلُثُ الَّذِي لَا إجَازَةَ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا كُلِّهِمْ يَقْتَسِمُونَهُ كَمَا كَانُوا يَقْتَسِمُونَهُ لَوْ لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالثُّلُثِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِثَلَاثٍ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمَيْنِ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ بَلَغَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَإِذَا صَارَ سِهَامُ الثُّلُثِ سَبْعَةَ عَشَرَ فَسِهَامُ جَمِيعِ الْمَالِ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ ثُمَّ إذَا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ نِصْفَ ذَلِكَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَنِصْفًا فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفَهُ فَيَكُونُ سِهَامُ الْمَالِ مِائَةً وَاثْنَيْنِ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ لَكَانَتْ الْإِجَازَةُ بِبَعْضِ وَصِيَّةِ بَعْضِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ أَنْ يُنْقِصَ نَصِيبَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ فَأَجَازُوا فَفِي قِيَاسِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثُ الْمَالِ وَسُدُسُهُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفَيْنِ، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ صَاحِبِ السُّدُسِ أَثْلَاثًا فَنَصِيبُ صَاحِبِ السُّدُسِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ثُلُثُ سُدُسٍ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ لَهُ خُمُسُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ بِالسُّدُسِ بِسَهْمٍ وَيُضْرَبُ الْآخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ خَمْسَةً، وَسِهَامُ الْمَالِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُسَلَّمُ لَهُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَيُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِالْإِجَازَةِ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ يَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْمَالِ ثُمَّ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَكُونُ أَخْمَاسًا قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا فَإِنَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَنْتَفِعَ صَاحِبُ السُّدُسِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِالْإِجَازَةِ أَصْلًا بَلْ يُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ إذَا انْفَرَدَ بِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمِيعِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبْت إلَيْهِ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِقَسْمِ الثُّلُثِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ تَكُونُ عَنْ مُوَافَقَةٍ فَهَذَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 125 أَقْوَى مِنْ الْقَسْمِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا عَلَى خَمْسَةٍ، وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ صَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي خَمْسَةٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمَانِ بَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ سَبْعَةٌ، وَهُوَ لَا يَدَّعِيه فَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَصَاحِبُ السُّدُسِ كَانَ حَقُّهُ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمٌ بَقِيَ لَهُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَمَا زَادَ عَلَى سَهْمٍ وَنِصْفٍ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةٍ يَكُونُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ وَنِصْفٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَحَصَلَ لِصَاحِبِ السُّدُسِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ كَانَ لَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا سَهْمٌ وَاحِدٌ فَقَدْ انْتَفَعَ بِالْإِجَازَةِ، وَحَصَلَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَرَّةً سَهْمَانِ، وَمَرَّةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ، وَمَرَّةً نِصْفُ سَهْمٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً وَرُبْعًا. وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مَا كَانَ يُسَلَّمُ إلَّا سَهْمَانِ فَقَدْ انْتَفَعَ بِالْإِجَازَةِ وَسُلِّمَ لَهُ بِهَا سَهْمٌ وَرُبْعٌ فَعَرَفْت أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الطَّرِيقِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ ثُمَّ تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ أَنْ يَبْدَأَ بِثُلُثِ الْمَالِ فَيُضْرَبُ فِيهِ صَاحِبُ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالْجَمِيعِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالثُّلُثِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَيَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ الرُّبْعِ بِثَلَاثَةٍ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدًا وَخَمْسِينَ فَإِذَا اقْتَسَمُوا الثُّلُثَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَتَقُولُ صَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ حَقُّهُ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَنِصْفُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثُلُثَيْ الْمَالِ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبِ النِّصْفِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ وَرُبْعٌ وَصَاحِبُ الرُّبْعِ كَانَ حَقُّهُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، وَصَلَ إلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ حَقُّهُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَمَا زَادَ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ لَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِيهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَالْجَمِيعِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ وَثُلُثٌ، وَحَقُّ صَاحِبِ السُّدُسِ كَانَ فِي ثَمَانِيَةٍ وَنِصْفٍ وَصَلَ إلَيْهِ سَهْمَانِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي سِتَّةٍ وَنِصْفٍ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، وَهُوَ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ يَكُونُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ أَرْبَاعًا فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَنِصْفٌ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا ثُمَّ طَرِيقُ التَّصْحِيحِ يُضْرَبُ الْمَخَارِجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَإِذَا خُرِّجَتْ الْمَسْأَلَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالْإِجَازَةِ كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِسُدُسِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 126 مَالِهِ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّ صَاحِبَيْ النِّصْفَيْنِ يَأْخُذَانِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ الْمَالِ، وَذَلِكَ الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ فَيَضْرِبُ صَاحِبَا السُّدُسِ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمَالِ ثُمَّ يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْوَصِيَّةُ بِسُدُسِ الْمَالِ فَيَقْتَسِمُونَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ قَالَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَيْ النِّصْفَيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُمَا مِنْ وَصِيَّتِهِمَا إلَّا سُدُسَ السُّدُسِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا الْبَاقِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ لَا سُدُسَ السُّدُسِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ زِيَادَةٌ مِنْ الْكَاتِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ وَصِيَّتِهِمْ إلَّا سُدُسُ سُدُسٍ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسٌ، وَهَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ بِالثُّلُثِ وَصَاحِبَا السُّدُسِ بِالسُّدُسِ فَيَقْتَسِمُونَ الثُّلُثَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالْمَالِ يُفَضِّلُ فِيهِ أَحَدُ الْوَرَثَةِ صَاحِبَهُ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَتَلَ رَجُلٌ الْمَوْلَى عَمْدًا، وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ حِصَّةَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَلَى الْقَاتِلِ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مَالُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ، وَلَوْ وَجَبَ بِالْخَطَأِ كَانَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فَيُقَسَّمُ الْكُلُّ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَهَا هُنَا الْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَبَ بِالْعَمْدِ بَعْدَ عِتْقِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ، وَقَدْ ظَهَرَ خُرُوجُ قِيمَتِهِ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ ثُمَّ يُقَسَّمُ كُلُّ الْخَمْسَةِ آلَافٍ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْعَافِي مِنْهَا سَهْمٌ، وَلِلْآخَرِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ التَّرِكَةَ سِتَّةُ آلَافٍ أَلْفٌ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ لَكَانَتْ تُقَسَّمُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ فَيَكُونُ حَقُّ الْعَافِي خَمْسَمِائَةٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا يَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَّةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ كَالتَّوَى وَمَا يَتْوَى مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِالْحِصَّةِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَّةِ فَإِذَا قَسَّمْنَا الْبَاقِيَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا كَمَا كَانَ يُقَسَّمُ الْكُلُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَوْفِي الْعَافِي شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ، وَقَدْ أَسْقَطَ نَصِيبَهُ بِعَفْوِهِ قُلْنَا مَا يَسْتَوْفِيه فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِدِيَةٍ بَلْ هُوَ عِوَضٌ عَمَّا تَلِفَ مِنْ نَصِيبِهِ بِالْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 127 حِصَّةِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ لِلْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ فِي الثُّلُثِ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فَيَكُونُ ضَرَرُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْحِصَّةِ فَيَأْخُذُ هُوَ جُزْءًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ مِنْ الْمَالِ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَصِيبِهِ فَمَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ قِيلَ حَقُّهُ كَانَ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْفُ لَكَانَ الْعَبْدُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا فَكَيْف يُضْرَبُ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَحَقُّهُ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ قُلْنَا: نَعَمْ كَانَ حَقُّهُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ لِضِيقِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ بِظُهُورِ خَمْسَةِ آلَافٍ لِلْمَيِّتِ، وَهَذَا لِأَنَّ ضَرَرَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَارِثِينَ بِالْحِصَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً، وَأَوْصَى بِعَيْنِ مَالِهِ فَإِنَّهُ تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ ضَرَرُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا فَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي التَّرِكَةِ أَضْعَافُ حَقِّ الْعَافِي فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ صُورَةُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ وَالْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ الْأَلْفِ فَجُزْءٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْهُ حِصَّةُ الْعَافِي، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ بَقِيَ لَهُ فِي الْعَبْدِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ تَلِفَ ذَلِكَ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِذَا قَسَّمْنَا خَمْسَةَ آلَافٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي ثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ جُمْلَةُ مَالِ الْمَيِّتِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ، وَالثُّلُثُ أَلْفَانِ وَثُلُثُ أَلْفٍ يُسَلَّمُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ، وَهُوَ ثُلُثُ أَلْفٍ فَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ جُمِعَ ذَلِكَ إلَى خَمْسَةِ آلَافٍ، وَاقْتَسَمَهَا الِابْنَانِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا ثَلَاثَةٌ لِلْعَافِي وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَتْ قِيمَةُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَافِي فِي نِصْفِ الْعَبْدِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا كَانَ حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَحَقُّ الْعَافِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ تَكُونُ قِسْمَةُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ، وَالْبَاقِي مِنْ التَّرِكَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلْثًا فَيَكُونُ لِلْعَافِي فِي الْحَاصِلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ كَانَ لِلْعَافِي سُدُسُ الْخَمْسَةِ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ هَلَكَ عَلِمْنَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ مِثْلُ نِصْفِ الْبَاقِي مِنْ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تُنَفَّذُ فِي الثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ مِثْلُ نِصْفِ مَا يُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ فَإِذَا كَانَ السَّالِمُ لِلْوَرَثَةِ مِنْ التَّرِكَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 128 عَرَفْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ تُنَفَّذُ فِي نِصْفِهِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَنَّ جُمْلَةَ التَّرِكَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ حَقُّ الْعَافِي مِنْ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَهْمًا يَكُونُ حَقُّ الْعَافِي فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي خَمْسَةٍ، وَإِنَّمَا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا كَانَتْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ فَيَكُونُ حَقُّ الْعَافِي سُدُسَ الْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ ذَلِكَ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ فِي التَّرِكَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى سَبْعَةٍ لِلْعَافِي سَهْمٌ، وَلِلْآخَرِ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُضِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَاقِي فِي يَدِ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَإِنَّمَا تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي نِصْفِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ فَهُوَ الَّذِي جُبِيَ مِنْ الْعَبْدِ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى نِصْفِ الدِّيَةِ يَكُونُ سَبْعَةَ آلَافٍ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا دَيْنٌ، وَلَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ حَقُّ الْعَافِي فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ نِصْفُ مَا جُبِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَكَذَلِكَ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لِيَكُونَ ضَرَرُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَّةِ، وَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ أَلْفٍ سَهْمًا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ يَنْقَسِمُ الْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعَةُ آلَافٍ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ سُبْعُهُ لِلْعَافِي، وَسِتَّةُ أَسْبَاعِهِ لِلْآخَرِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدَانِ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُمَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ قُتِلَ عَمْدًا، وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، وَغَرِمَ الْآخَرُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي خُمُسِ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّرِكَةِ تِسْعَةُ آلَافٍ، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي رُبْعِ قِيمَتِهِ فَإِذَا أَدَّيَا ذَلِكَ ضُمَّ إلَى الْخَمْسَةِ آلَافٍ فَيُقَسِّمُهُ الِابْنَانِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ لِلْعَافِي، وَسُبْعُهُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ حَقُّ الْعَافِي فِي أَلْفَيْنِ، وَحَقُّهُ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُقَسَّمُ الْبَاقِي عَلَى مِقْدَارِ حَقَّيْهِمَا، وَتُجْعَلُ كُلُّ أَلْفٍ سَهْمًا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا يَسْعَى الْبَاقِي فِي سِتِّمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى نِصْفِ الدِّيَةِ يَكُونُ سَبْعَةَ آلَافٍ يُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنَيْنِ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ الثُّلُثِ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَخُمُسُ سَبْعَةِ آلَافٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَظَهَرَ أَنَّ السَّالِمَ لَهُ مِنْ قِيمَتِهِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَيَسْعَى فِي سِتِّمِائَةٍ، وَظَهَرَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْآخَرِ أَيْضًا أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَحَصَلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ثُمَّ مَا فِي يَدِ الِاثْنَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا فَمَا أَصَابَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا فَهُوَ لِلَّذِي الجزء: 28 ¦ الصفحة: 129 لَمْ يَعْفُ، وَمَا أَصَابَ ثَمَانِيَةً وَنِصْفًا فَهُوَ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ فِي الْحَاصِلِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ لَكَانَ لِلْعَافِي مِنْ ذَلِكَ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ، وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ سِتَّةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ نَجْعَلَ كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّ الْعَافِي سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَحَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ سَهْمًا فَجُمْلَتُهُ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّتَيْنِ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا سَبْعَةَ عَشَرَ لِلْعَافِي، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ خَرَّجَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِصْفِ ذَلِكَ إلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَجُعِلَ لِلْعَافِي ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ، وَهُوَ نِصْفُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَلِلَّذِي لَمْ يَعْفُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَنِصْفُ نِصْفِ سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى الْعَبْدَيْنِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَصِيَّةً فَيَسْعَى الْعَافِي مِنْهُمَا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمَيِّتِ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ تَاوٍ فَجُمْلَةُ التَّرِكَةِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سِتَّةُ آلَافٍ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْبَاقِي يَكُونُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، خُمُسُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ الْبَاقِي تَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْمَيِّتِ مِنْ رَقَبَتِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنْهُ بِقَدْرِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَتَيْنِ دَخَلَ يَدَ الْوَرَثَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ ثُمَّ يُقَسَّمُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا فَمَا أَصَابَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا فَهُوَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَمَا أَصَابَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَنِصْفًا فَهُوَ لِلْعَافِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ فَإِنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَاصَّةً وَالْبَاقِي، وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَانِ وَثَلَثُمِائَةٍ فَيَكُونُ حَقُّ الْعَافِي فِي أَلْفَيْنِ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا يَكُونُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ مِائَةٍ سَهْمًا يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعِينَ، وَجُمْلَةُ السِّهَامِ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ لِيَكُونَ ضَرَرُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَّةِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْكَسْرُ بِالْإِنْصَافِ. قَالَ: وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَعْتَقَهُمَا فِي مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا ثُمَّ قُتِلَ عَمْدًا، وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ الْجِنَايَةِ فَعَلَى الْقَاتِلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَالْعَتِيقِ مِنْ الْعَبْدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَالِ الْمَيِّتِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَهُوَ رَقَبَتُهُمَا مَعَ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُمَا الثُّلُثُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ وَخَمْسَةُ أَتْسَاعٍ فَعَلَيْهِمَا السِّعَايَةُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 130 فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِمَا، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ فَإِذَا أَدَّيَا ضُمَّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَيُقَسَّمُ ذَلِكَ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْعَافِي وَالْبَاقِي لِلْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ فَإِنَّ مِقْدَارَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفٌ وَثُلُثُ أَلْفٍ فَإِذَا جُعِلَتْ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَثُلُثَيْ الدِّيَةِ إذَا جُعِلَتْ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ يَكُونُ عِشْرِينَ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّ الْعَافِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْبَاقِي بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِلْعَافِي أَرْبَعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا عَتَقَ مِنْ رَقَبَةِ الْبَاقِي مِنْهُمَا خُمُسُ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ فَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمْ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، وَقَدْ تَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَالِ رَقَبَةُ الْبَاقِي مَعَ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَحَقُّ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الثُّلُثِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ خَمْسَةٌ لِلْعَافِي وَأَرْبَعَةٌ لِلْوَرَثَةِ فَقَدْ انْكَسَرَ الْأَلْفُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَخْمَاسِ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَضْرِبُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ لِلْبَاقِي خُمُسُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. وَإِذَا سَلَّمَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ هَذَا الْمِقْدَارَ تَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْمَيِّتِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدَيْنِ فِي اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ، وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ثُمَّ تُقَسَّمُ الدُّيُونُ مِنْ السِّعَايَةِ وَثُلُثَيْ الدِّيَةِ عَلَى اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِلْعَافِي مِنْهُمْ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرَيْنِ فَهَذَا طَرِيقُ الِاخْتِصَارِ، وَاعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْبَسْطِ الَّذِي بَيَّنَّا فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ جُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ فَأَمَّا مِائَةُ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَثُلُثَا الدِّيَةِ بَيْنَ الَّذِينَ لَمْ يَعْفُوَا سِتَّةً وَخَمْسِينَ هَذَا لِلْعَبْدِ الْبَاقِي، وَمَا جُبِيَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ سِتَّةً وَخَمْسِينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ وَسِهَامَ ثُلُثَيْ الْوَرَثَةِ فَيَصِيرُ ثَلَثَمِائَةٍ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ لِلَّذِي عَفَا سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ، وَلِلْآخَرَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَتَا سَهْمٍ وَسِتَّةٍ أَسْهُمٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا، وَلَكِنَّهُ اعْتَبَرَ طَرِيقَ الْإِيجَازِ فَقَالَ لَمَّا وَجَبَ قِسْمَةُ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفَيْنِ بَيْنَ الْبَاقِي وَالْوَرَثَةُ عَلَى خَمْسَةٍ تُضْرَبُ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثِينَ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 131 خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَثُلُثُ الْبَاقِي خُمُسُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثَانِ، وَيُسَلَّمُ لِلْمَيِّتِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ رَقَبَتِهِ إذَا ضَمَمْته إلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ مِقْدَارُ ثُلْثَيْ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ ضَرَبْته فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا بَيْنَ الَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا نِصْفَيْنِ وَمَا بَقِيَ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ حَقُّ الْعَافِي فِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي سَهْمٍ، وَحَقُّ الْآخَرَيْنِ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا وَسَبْعَةِ أَتْسَاعِ سَهْمٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمُ سَهْلٌ إذَا تَأَمَّلْته. قَالَ: وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَتَلَ رَجُلٌ الْمُوصِيَ عَمْدًا، وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَيُرَدُّ رُبْعُ الْعَبْدِ إلَى الْخَمْسَةِ آلَافٍ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ الْقَاتِلِ فَيَقْتَسِمُهَا الِابْنَانِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِلْعَافِي مِنْهُمَا اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَالِ الْمَيِّتِ تِسْعَةُ آلَافٍ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ قِيمَةُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ الْمِائَتَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ أَتْسَاعًا لِلْعَافِي تُسْعَا ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ مَا بَقِيَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ إلَّا أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعَافِي يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَبَعْضُهُ فِي الدِّيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَمِنْ الدِّيَةِ فَالسَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَضْرِبَ تِسْعَةً فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ كَانَ حَقُّ الْعَافِي مِنْ ذَلِكَ فِي سَهْمَيْنِ ضَرَبْتهمَا فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَالْبَاقِي مِنْ الْعَبْدِ رُبْعُهُ مِقْدَارُ ذَلِكَ بِالسِّهَامِ تِسْعَةٌ فَنِصْفُهُ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَقَدْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فَجُعِلَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنَّمَا فُعِلَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْبَاقِي سَعَى بِهِ، وَهُوَ دَرَاهِمُ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ فَقُسِّمَ الْكُلُّ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَهَا هُنَا الْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا كَانَ جَمِيعُ الْعَبْدِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ يُعْطَى الْعَافِي مِنْ الدِّيَةِ مِقْدَارَ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ بِمَا نَفَّذْنَا مِنْهُ الْوَصِيَّةَ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الِابْنِ الْآخَرِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 132 [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى مِنْ الْعِتْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَصَايَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمُحَابَاةِ قُوَّةٌ مِنْ حَيْثُ السَّبَبُ، وَهُوَ أَنَّ سَبَبَهُ عَقْدُ الضَّمَانِ، وَلِلْعِتْقِ قُوَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَإِذَا بَدَأَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي الثُّلُثِ، وَإِذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ تَحَاصَّا فِيهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعِتْقُ أَوْلَى عَلَى كُلِّ حَالٍ فَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَرَدَّ الْعَبْدَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْعَقْدَ، وَأَدَّى كَمَالَ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُحَابَاةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِهَا فَيُسَلَّمُ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْمُعْتَقِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ يُسَلَّمُ لِلْمُعْتَقِ بَاقِي الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقَدْ سُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي بِالْمُحَابَاةِ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفٌ فَيُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ مُقَدَّمٌ فَيُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ مِقْدَارُ الثُّلُثِ، وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا كَانَ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ قَبْلَ سَلَامَةِ الْمُحَابَاةِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ هَلَكَ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا الْمَالُ فِي الْحَاصِلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْمَالِ وَثُلُثِ الْأَلْفَيْنِ ثُلُثَا أَلْفٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالِالْتِزَامِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْعِتْقُ مُقَدَّمٌ فَالْعَبْدُ فِيمَا مَرَّ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ كَمَالَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ، وَالْمُحَابَاةِ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي عَبْدَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ السَّالِمَ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ نِصْفِ الثُّلُثِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِمَا لَزِمَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ فَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَبِبُطْلَانِهَا يَنْعَدِمُ مُزَاحَمَةُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 133 الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَكُونُ ضَرَرُ التَّوَى عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ حَقِّهِمَا خُمُسُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَنِصْفٌ، وَإِنْ شِئْت قُلْت الْبَاقِي، وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْوَرَثَةِ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْرِبُ فِيهِ بِنِصْفِ الثُّلُثِ، وَالْوَرَثَةُ بِالثُّلُثَيْنِ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي بِالْمُحَابَاةِ خُمُسُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْعَبْدِ الْمَيِّتِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَمَانِمِائَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ تَخَلَّصَ الْمُعْتَقُ الْأَوَّلُ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ الثَّانِي انْفَرَدَ عَنْ الْمُحَابَاةِ فَلَا يُزَاحِمُهُمَا، وَالْعِتْقُ الْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَيُزَاحِمُهُمَا فِي الثُّلُثِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُعْتَقَ الْأَوَّلَ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْمُعْتَقُ الْآخَرُ لِلْمُجَانَسَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ الثَّانِي مَحْجُوبًا بِصَاحِبِ الْمُحَابَاةِ فَإِذَا اسْتَوْفَى هُوَ حَقَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَيْنِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَلَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ كَمَالُ حَقِّهِ فَمَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْعِتْقِ الثَّانِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ الْمُعْتَقُ الْأَوَّلُ لَكَانَ حَقُّهُمَا فِي الثُّلُثِ سَوَاءً ثُمَّ يُؤَدِّي إلَى وَقْتٍ لَا يَنْقَطِعُ، وَالسَّبِيلُ فِي الدَّوْرِ أَنْ يُقْطَعَ فَإِنْ نَقَضَ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ الْبَيْعَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ زِيَادَةٍ الثَّمَنِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُعْتَقِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فَإِنَّ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ الْمُتَقَدِّمَ وَالْمُتَأَخِّرَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ حَالَةُ الْمَرَضِ. وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْمُعْتَقِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ صَاحِبَيْ الْمُحَابَاةِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُحَابِينَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَسَبَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ الضَّمَانِ فَاسْتَوَيَا، وَالْمُعْتَقُ الْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا فَيُزَاحِمُهُمَا فِي الثُّلُثِ، وَإِذَا قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَصَلَ الْمُعْتَقَ الْآخَرَ فَمَا أَصَابَ الْمُعْتَقَ فِيهِمَا أَصَابَ صَاحِبَ الْمُحَابَاةِ الْآخَرِ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا أَمَّا مُزَاحَمَتُهُ مَعَ الْمُعْتَقِ الْأَوَّلِ فَلِلْمُجَانَسَةِ، وَمَعَ صَاحِبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا بِحَقِّ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى هُوَ حِصَّتَهُ، وَخَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ فَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَالثُّلُثُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمُحَابَاةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَالْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلْعَتِيقِ مَعَ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ الْأَوَّلِ فَإِذَا سَلَّمَ نِصْفَ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الْمُحَابَاةِ الْأَوَّلِ دَخَلَ الْمُعْتَقُ فِي النِّصْفِ الَّذِي أَصَابَ صَاحِبَ الْمُحَابَاةِ الْآخَرَ فَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُحَابَاةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 134 الْأَخِيرَةِ فَهُوَ مُزَاحِمٌ لَهُ فِيمَا يَخُصُّهُ. وَلَوْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ فَالثُّلُثُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمُحَابَاةِ نِصْفَانِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُعْتَقِينَ مَعَ الْمُحَابَاةِ فِيمَا أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُحَابَاةِ الْأَخِيرَةِ فَيَكُونُ هُوَ مُزَاحِمًا لَهُ فِي حِصَّتِهِ ثُمَّ يُشَارِكُ الْمُعْتَقُ الْآخَرُ الْمُعْتَقَ الْأَوَّلَ فِيمَا أَصَابَهُ لِلْمُسَاوَاةِ، وَالْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُعْتَقُ الْآخَرُ مَحْجُوبًا لِصَاحِبَيْ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ خَرَجَا مِنْ الْبَيِّنِ قَالَ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُحَابَاةُ وَسَائِرُ الْوَصَايَا سِوَى الْعِتْقِ الْبَاتِّ أَوْ التَّدْبِيرِ أَوْ الْعِتْقِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ أَجَلٍ سَوَاءٌ يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْهِبَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْعِتْقَ الْمُنَفَّذَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا فَكَذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْمُحَابَاةِ، وَثَبَتَ بِطَرِيقِ الْمَعْنَى الْمُحَابَاةُ وَسَائِرُ الْوَصَايَا فَيَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ. قَالَ: وَإِذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهَا، وَوَهَبَهَا لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَقَبَضَهَا، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ بُدِئَ بِالْعِتْقِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْوَصَايَا اسْتَوَى فِي الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَالصَّدَقَةِ لَا رُجُوعَ فِيهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَصَايَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَسْتَوِي بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ سَائِرِ الْوَصَايَا إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ التَّصَدُّقُ وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ فَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ فِيهِ إلَّا أَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَهُوَ نَيْلُ الثَّوَابِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ لَا يَرْجِعُ فِيهِ لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ وَالْمُسْقِطُ يَتَلَافَى مَا يَتَصَوَّرُ فَلَا يَتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ مَعَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّهُ حَابَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ عَقْدُ الضَّمَانِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى التَّبَرُّعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الْمُحَابَاةِ عَلَى الْعِتْقِ إذَا بَدَأَ بِهَا فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَاصَّانِ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ وَصَاحِبُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ عِنْدَهُمَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْوَصَايَا سِوَى الْعِتْقِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ الْمُوصِيَ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ كَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْمُحَابَاةُ فَيَتَحَاصُّونَ فِي الثُّلُثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ وَالدَّيْنِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنٌ، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سُمِّيَ لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ دُونَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 135 الدَّيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَمْ يَحْنَثْ ثُمَّ مَا خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُ ثُلُثُهُ حَتَّى خَرَجَ الدَّيْنُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُعَيِّنُ الْخَارِجَ مَالًا لَهُ فَيَلْتَحِقُ بِمَا كَانَ عَيْنًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يُقَالُ لِمَا لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَكَيْف يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ إذَا خَرَجَ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ لَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الدَّيْنِ يَثْبُتُ بِالْإِرْثِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْوَصِيَّةِ كَالْمِلْكِ فِي الْقِصَاصِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ الدَّيْنُ، وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا الْمُتَعَيَّنُ مَالُ الْمَيِّتِ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَكُونَ السَّالِمُ لِلْمُوصَى لَهُ قَدْرَ الثُّلُثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمِائَةِ الْعَيْنِ وَثُلُثِ الدَّيْنِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ نَظِيرُ مَسَائِلِ الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ الْمُرْسَلِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ التَّفْرِيعُ عَلَى نُقْصَانِ الْمَالِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَهَا هُنَا التَّفْرِيعُ عَلَى نُقْصَانِ زِيَادَةِ الْمَالِ بِخُرُوجِ الدَّيْنِ، وَالْمَعْنَى جَامِعٌ لِلْفَصْلَيْنِ. فَنَقُولُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْمِائَةِ الْعَيْنِ اقْتَسَمَا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْعَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا قَبْلَ خُرُوجِ الدَّيْنِ سَوَاءٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْعَيْنِ فَإِذَا اجْتَمَعَا قُسِّمَ ثُلُثُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ضُمَّتْ إلَى الْعَيْنِ، وَكَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فِي خَمْسِينَ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَيُجْعَلُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةً، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الْعَيْنُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ وَالثُّلُثَانِ عَشَرَةٌ ثُمَّ صَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ حَقُّهُ مُقَدَّمٌ فَيَأْخُذُ خُمُسَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْعَيْنِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ، وَالْوَرَثَةِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لِآخَرَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ اقْتَسَمَا ثُلُثَ الْعَيْنِ فَكَانَ لِصَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الثُّلُثُ لِصَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ فَقَدْ ظَهَرَ جَمِيعُ مَا هُوَ مَحَلُّ حَقِّ صَاحِبِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْحَالِ الْمَحَلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَصِيَّتُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَيُضْرَبُ هُوَ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَالْآخَرُ إنَّمَا يُضْرَبُ بِثُلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 136 الْعَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِثُلُثِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ فَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الْمَالِ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَوَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ ضَرْبًا، وَاسْتِحْقَاقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا يُضْرَبُ هُوَ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَالْآخَرُ بِسَهْمَيْنِ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الدَّيْنِ فَثُلُثُ الْعَيْنِ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافَةٌ إلَى مَحَلِّ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ وَصِيَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحِلِّ خَاصَّةً فَلِهَذَا لَا يُزَاحِمُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْعَيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ضَمَمْته إلَى الْمِائَةِ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الْوَصِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثَ، وَاقْتَسَمَاهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثَيْنِ بِجَمِيعِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّ حَقَّهُ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَهُوَ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ وَثُلُثٍ وَصَاحِبُ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى خَمْسَةٍ فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ وَصِيَّةِ الْعَيْنِ، وَهُوَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا كَانَ لَهُ فِي الْعَيْنِ، وَمَا أَصَابَ الْآخَرَ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا كَانَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَالدَّيْنِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ الدَّيْنِ لِآخَرَ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا اقْتَسَمَ صَاحِبُ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْمَالِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ صَاحِبَا ثُلُثِ الْمَالِ بِخَمْسِينَ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِمَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَكِنْ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَعَ الْمِائَةِ الْعَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْوَارِثِ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَارِثِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ الدَّيْنِ لِآخَرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ضُمَّتْ إلَى الْعَيْنِ، وَكَانَ ثُلُثُ ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةٌ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ فِي الدَّيْنِ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ، وَخَمْسَةٌ مِنْهَا لِلْآخَرِ سَهْمَانِ فِي الْعَيْنِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ حَقُّهُمَا فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَصَاحِبُ ثُلُثِ الدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِخَمْسِينَ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يُضْرَبُ بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ، وَثُلُثُ الْعَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 137 قَدْرُ الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي خَمْسَةٍ فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَمَا أَصَابَ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَأْخُذُ جَمِيعَهُ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ، وَمَا أَصَابَ الْآخَرَ يَأْخُذُ خَمْسَةً مِنْ الْعَيْنِ، وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مِقْدَارِ وَصِيَّتِهِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثَلَاثَةٌ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَثَلَاثَةٌ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ أَحَدُهُمَا اعْتِبَارُ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ فِي مَحَلٍّ هُوَ عَيْنٌ، وَالْآخَرُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا، وَاسْتِحْقَاقًا فَيَقُولُ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ مِنْ الْعَيْنِ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ جَمِيعُ حَقِّهِ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ ثُلُثِ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ فَتُطْرَحُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَقِّهِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِي الثُّلُثِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَثُلُثَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ كُلِّهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ، وَثُلُثَا ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ، وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ فِي الْمَالَيْنِ كَانَتْ بِهَذَا الْمِقْدَارِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الدَّيْنِ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا مِنْ الْعَيْنِ، وَمَا طَرَحْنَا مِنْ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَا يَكُونُ خَاصَّةً بَلْ يَكُونُ مِنْهُمَا بِالْحِصَّةِ فَلِهَذَا اسْتَوْفَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَحَلَّيْنِ بِحَسَبِ حَقِّهِ فِيهِمَا. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَهُمَا بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ كَانَ ثُلُثُ الْعَيْنِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْن، وَالدَّيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي الْعَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا كَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى عَشَرَةٍ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لِصَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ، وَسَهْمَانِ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَخَمْسَةٌ لِلثَّالِثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ وَثُلُثٍ فَإِذَا جُعِلَ كُلُّ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ سَهْمًا يَصِيرُ حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ سَهْمَيْنِ، وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةً، وَحَقُّ الْآخَرِ خَمْسَةً فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَشَرَةٍ، وَيَسْتَوْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَهُ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ فَأَمَّا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ مَقْسُومٌ بَيْنَ الدَّيْنِ لَهُمْ وَصِيَّةً فِي الدَّيْنِ نِصْفَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 138 لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ وَثُلُثٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ سَهْمًا نِصْفُ الْخَمْسِينَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ السِّهَامِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُ فِي الْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ سِتَّةٌ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا عَلَى مِقْدَار حَقِّهِ مِنْهُمَا أَسْبَاعًا كَمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ، وَفِي الْعَيْنِ اعْتَبَرَ الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ وَصِيَّتُهُمَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ ضَعِيفَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ تَنْفِيذُهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ مَالٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّيْنِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ الضَّعِيفَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي جَاوَزَتْ الثُّلُثَ فَأَمَّا وَصِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَيْنِ فَوَصِيَّتُهُ قَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَالٍ آخَرَ فَاعْتَبَرَ الْعَوْلَ فِيهِ لِهَذَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ مُرْسَلًا فَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ثَبَتَ الْعَيْنُ بَيْنَ صَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ وَثُلُثِ الْعَيْنِ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ثُلُثُ الْعَيْنِ بَيْنَ صَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ وَثُلُثِ الْعَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي الْعَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِ فَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ سَهْمَانِ مِنْهَا لِصَاحِبِ وَصِيَّةِ الْعَيْنِ، وَثَلَاثَةٌ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَصَاحِبَ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ مَا خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ الْعَيْنِ ثُمَّ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَبِرُبْعِ الدَّيْنِ، وَالْمُؤَدَّى عَلَى سِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَسِبُ بِسِهَامِ صَاحِبِ الرُّبْعِ هَاهُنَا، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثُلُثُ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ثُمَّ تُطْرَحُ سِهَامُ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ إذَا ضَمَمْته إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ يَصِيرُ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ كُلُّهَا مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ، وَلِلْمُؤَدَّى مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ كُلُّهُ مِمَّا أَدَّى، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَدَّى أَيْضًا، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الْأُخْرَى قُسِّمَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى ثَمَانِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَسَبُ بِسِهَامِ حَقِّ صَاحِبِ الْخُمُسِ أَيْضًا فَقَدْ تَعَيَّنَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَيَكُونُ سِهَامُ الثُّلُثِ عَلَى مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 139 فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ ثَمَانِمِائَةٍ، وَأَرْبَعِينَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ أَرْبَعُونَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْأَكْبَرِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْأَصْغَرِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ يَسْتَوْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّهُ فِي مَحَلِّهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ سَهْمٍ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ مِنْ جُزْءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَيَان ذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ، وَقَدْ انْكَسَرَتْ الْمِائَةُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَخْمَاسِ فَصَارَتْ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِسِهَامِ حَقِّ صَاحِبِ الرُّبْعِ وَالْخُمُسِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَحَلُّ حَقِّهِمَا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ فِي الثُّلُثِ بِسِتِّينَ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِعِشْرِينَ فَتَكُونُ الثَّلَاثُمِائَةِ أَرْبَعِينَ سَهْمًا، وَالثُّلُثَانِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ثُمَّ تُطْرَحُ سِهَامُ حَقِّ الْغَرِيمَيْنِ يَبْقَى حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ فِي عِشْرِينَ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ، وَعَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الِاخْتِصَارِ لِمَا بُيِّنَ أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِنَصِيبِ صَاحِبِ الرُّبْعِ، وَالْخُمُسِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثُّلُثِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَإِذَا جَعَلْت الْأَقَلَّ سَهْمًا كَانَ سِهَامُ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ يُطْرَحُ سِهَامُ الْغَرِيمَيْنِ يَبْقَى حَقُّ ثُلُثِ الْعَيْنِ فِي سَهْمٍ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الَّتِي أَوْصَى بِرُبْعِهَا ضُمَّتْ إلَى الْمِائَةِ الْعَيْنِ ثُمَّ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ سَهْمٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَحَلُّ حَقِّ صَاحِبِ الرُّبْعِ، وَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَكَانَ حَقُّ الْأَكْثَرِ فِي سِتِّينَ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ. وَحَقُّ الْأَصْغَرِ فِي سِتِّينَ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ فِي عِشْرِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ هَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ثَلَثُمِائَةٍ وَعَشَرَةٌ إلَّا أَنْ يُطْرَحَ نَصِيبُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَذَلِكَ سِتُّونَ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ يَكُونُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً فَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الِاخْتِصَارِ صَاحِبُ الرُّبْعِ يَضْرِبُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَكُلُّ غَرِيمٍ يَضْرِبُ بِمِائَةٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِلْكَسْرِ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ، وَالثُّلُثَانِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 140 الْمَدْيُونِ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ تِسْعَةَ عَشَرَ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ يَكُونُ أَحَدًا وَثَمَانِينَ فَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَالْغَرِيمُ الْمُؤَدِّي اثْنَا عَشَرَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ مِنْ خَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَإِنْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الْأُخْرَى اقْتَسَمُوا جَمِيعَ الْمَالِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ سَهْمٍ، وَسَهْمٍ، وَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُطَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَسَبُ حَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ وَالْخُمُسِ هَاهُنَا فَقَدْ تَعَيَّنَ مَحَلُّ حَقُّهُمَا فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِسِتِّينَ وَصَاحِبُ الْخُمُسِ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِعِشْرِينَ فَتَكُونُ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا مِائَةً وَسَبْعَةً وَسِتِّينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الثُّلُثَ فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ سَهْمٍ وَسَهْمٍ فَتُقَسِّمْ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِشْرُونَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ، وَاثْنَا عَشَرَ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ، وَلِكُلِّ غَرِيمٍ سِتُّونَ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمَا عَلَيْهِ، وَلِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْمِائَتَيْنِ الدَّيْنِ قُسِّمَتْ الْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُونَ سَهْمًا، وَمَا بَقِيَ فَلِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي كُلِّ مِائَةٍ مِنْ الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ وَصَايَا. وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهَا، وَبِثُلُثِهَا، وَبِرُبْعِهَا، وَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَقَدْ صَارَ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فِي الْحَاصِلِ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ وَيَنْقَسِمُ نِصْفُ سُدُسِهِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ قُلْنَا مَا عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ يُسَلَّمُ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَيُفَاوَتُ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي الرُّبْعِ، وَهُوَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَحَصَلَ لِكُلِّ غَرِيمٍ مِمَّا عَلَيْهِ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ مِمَّا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصِي بِالثُّلُثِ مِمَّا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ مِنْ الْمِائَةِ رُبْعُ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَجُمْلَةُ حَقِّهِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِنِصْفِ صَاحِبِ الرُّبْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِ فَإِنَّمَا يُضْرَبُ كُلُّ غَرِيمٍ بِتِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَجُمْلَةُ هَذِهِ السِّهَامِ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْغَرِيمَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ يَبْقَى حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيُقَسَّمُ الْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَفِي الْكِتَابِ قَدْ خَرَّجَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 141 مِنْ خَمْسَةِ أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ جَعْلٍ كَأَنَّهُ مِائَةٌ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ هَاهُنَا لِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ بِالْخُمُسِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ لَا يُحْتَسَبُ بِسِهَامِ حَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي الدَّيْنِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَحَلُّ حَقِّهِ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْتَسَبَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْتَسِبُهُ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ فَقَطْ قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ وَجَبَ الِاحْتِسَابُ بِسِهَامِ حَقِّ الْغَرِيمَيْنِ، وَحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ فَمَنْ ضَرُورَةِ الِاحْتِسَابِ بِحَقِّهِمْ الِاحْتِسَابُ بِحَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَيْضًا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ خَرَجَتْ إحْدَى الْمِائَتَيْنِ ضُمَّتْ إلَى الْعَيْنِ ثُمَّ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَصَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبِ الرُّبْعِ، وَالْمُؤَدَّى عَلَى سَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا مِنْ خُمُسِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُحْتَسَبُ فِي الْقِسْمَةِ هَاهُنَا بِسِهَامِ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي الْمُؤَدَّى، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَحَقُّ الْمُؤَدِّي فِي تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِائَةً وَثَمَانِيَةً إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَبْقَى خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ إذَا ضَمَمْته إلَى مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ فَيُقَسَّمُ مَا تَعَيَّنَ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِصَاحِبِ الرُّبْعِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُؤَدِّي تِسْعَةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ مِنْ خَمْسَةِ أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الْأُخْرَى فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا يُعْتَبَرُ سِهَامُ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي الْمِائَةِ الْأُخْرَى أَيْضًا يَكُونُ الثُّلُثُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ، وَلِثُلُثِ الْمِائَةِ اثْنَا عَشَرَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ مِنْ خَمْسَةِ أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا فَجَعَلَ الْقِسْمَةَ مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ، وَالْعَيْنَ سَهْمًا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْعَيْنِ شَيْءٌ اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمِائَةِ الْعَيْنِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِوَصِيَّةِ صَاحِبِ الرُّبْعِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَلَكِنَّ كُلَّ غَرِيمٍ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ ثَمَانِيَةً وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ أَيْضًا فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَالثُّلُثَانِ سِتَّةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْغَرِيمَيْنِ، وَيَبْقَى حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي سَهْمٍ، وَحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي سِتَّةٍ فَيُقَسَّمُ الْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعًا فَإِنْ خَرَجَتْ إحْدَى الْمِائَتَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 142 ضُمَّتْ إلَى الْعَيْنِ، وَقُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ اعْتِبَارُ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي الْمِائَةِ الَّتِي خَرَجَتْ، وَقَدْ انْكَسَرَ كُلُّ مِائَةٍ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنَّمَا يُضْرَبُ كُلُّ غَرِيمٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ كَذَلِكَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى ثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ يَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِائَةً وَخَمْسَةً فَلِهَذَا كَانَتْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا فَإِنْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ قُسِّمَ جَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِرُبْعِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَكُلُّ غَرِيمٍ يَضْرِبُ بِمِائَةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ بِمِائَةٍ أَيْضًا فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ خَمْسِينَ سَهْمًا تَصِيرُ سِهَامُ الْوَصَايَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ سَهْمٌ إلَّا أَنَّ هَذَا السَّهْمَ نَصِفُهُ بِمَا أَدَّى كُلُّ غَرِيمٍ فَلِذَلِكَ ضُعِّفَ الْحِسَابُ فَجُعِلَ الْقِسْمُ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ غَرِيمٍ أَرْبَعَةٌ، وَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ مَحَلِّ حَقِّهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَصَاحِبِ الثُّلُثِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَحَقَّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي أَرْبَعَةٍ فَإِنْ جَعَلْت كُلَّ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمًا يَكُونُ حَقُّ الْوَرَثَةِ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمًا فَلِهَذَا قَالَ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَتَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ دَيْنًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الدَّيْنِ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْعَيْنِ، وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِوَصِيَّةِ الْغَرِيمَيْنِ هَاهُنَا فَإِنَّ مَحَلَّ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ لَا يُحْتَسَبُ بِوَصِيَّتِهِ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَتَبْقَى الْمِائَةُ الْعَيْنُ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ أَثْلَاثًا فَإِنْ خَرَجَتْ إحْدَى الْمِائَتَيْنِ ضُمَّتْ إلَى الْعَيْنِ، وَقَسَّمْنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ الَّتِي لَمْ تَخْرُجْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ إحْدَى الْمِائَتَيْنِ وَجَبَ الِاحْتِسَابُ بِوَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْمِائَةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الِاحْتِسَابُ بِوَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ الْأُخْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ كُلُّ مِائَةٍ مِنْ الدَّيْنِ صَارَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَخَمْسَةٌ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهَا، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ سِهَامِ الْوَصَايَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ هُوَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 143 الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا فَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ لِلْمُوصَى لَهُ الْمُؤَدَّى مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي أَدَّاهَا، وَالْبَاقِي مِنْ الْمَالِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي أَرْبَعَةٍ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ أَرْبَعَةٍ سَهْمًا تَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّيْنِ غَيْرُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ إحْدَى الْمِائَتَيْنِ ضَمَمْت الْخَمْسِينَ إلَى الْمِائَةِ الْعَيْنِ ثُمَّ اقْتَسَمَتْهَا الْوَرَثَةُ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ هَاهُنَا بِشَيْءٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ صَاحِبَيْ الدَّيْنِ فَقَدْ بَقِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارُ حَقِّهِ، وَزِيَادَةٌ فَلَا يُسَلَّمُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِوَصِيَّتِهِمَا لِضَرُورَةِ تَعَيُّنٍ شَيْءٍ لَحِقَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَاهُنَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ بِوَصِيَّتِهِمَا، وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ شَرِيكٌ لِلْوَارِثِ فَيُقَسَّمُ مَا تَعَيَّنَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَحَدُهُمَا مِمَّا عَلَيْهِ مِقْدَارَ الزِّيَادَةِ عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ الْمِائَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ وَصَارَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا لِنَصِيبِهِ جُعِلَ هَذَا، وَمَا لَوْ أَدَّى جَمِيعَ الْمِائَةِ سَوَاءٌ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا كَمَا بَيَّنَّا، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا فِي فَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الدَّيْنُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَحِينَئِذٍ يُقَسَّمُ مَا تَعَيَّنَ عِنْدَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُؤَدِّي سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ غَرِيمٍ يُضْرَبُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالثُّلُثَانِ سِتَّةٌ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ السَّهْمُ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ، وَتُقَسَّمُ الْعَيْنُ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُؤَدِّي سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ يَأْخُذُهُ مِمَّا أَدَّى عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ عَمَّا لَهُ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ إنْ كَانَ أَدَّى جَمِيعَ الْمِائَةِ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُقَاصُّ ذَلِكَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَوْقَ حَقِّهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الثُّلُثِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَسْبَاعًا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْبَاعِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا وَمِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا غَيْرَ ابْنَيْهِ وَلَا مَالًا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ نِصْفُ الْمِائَةِ الْعَيْنُ وَفِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 144 الْوَارِثِ وَحَقُّهُ فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الِابْنَيْنِ فِي سَهْمَيْنِ إلَّا أَنَّ الْمَدْيُونَ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَيُطْرَحُ سَهْمٌ لِأَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ حَقِّهِ وَالزِّيَادَةَ وَيَبْقَى فِي الْعَيْنِ حَقُّ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمٍ فَلِهَذَا تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّ الدَّيْنَ فِي حُكْمِ التَّاوِي فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَثْلَاثًا إلَّا أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ لِأَنَّ عَلَيْهِ لِلْآخَرَيْنِ هَذَا الْقَدْرَ وَزِيَادَةً وَيَسْتَوْفِيَانِ هَذَا الْقَدْرَ قَضَاءً مِمَّا لَهُمَا عَلَيْهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ أَخَذَهُ وَحَقُّهُمَا سَوَاءٌ قَبْلَهُ فَيَقْتَسِمَانِ هَذَا الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ يُسَلِّمُ لِلْآخَرَيْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خُمُسَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الْعَيْنِ صَارَ الْمَالُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِثْلِهَا خَمْسَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ طُرُقِ الْحِسَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا وَلَا نَشْتَغِلُ بِإِعَادَةِ تِلْكَ الطَّرِيقِ هَاهُنَا فَإِنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْوَرَعِ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَسْتَحْسِنُ الِاشْتِغَالَ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي حِسَابِ الْوَصَايَا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِرُبْعِ مَالِهِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الْمِائَةُ الْعَيْنُ أَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ نِصْفَيْنِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَيُضْرَبُ لِلِابْنِ الْآخَرِ فِي الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِسَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يُسَلَّمُ لَهُ رُبْعُ الْعَيْنِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِنْ الْعَيْنِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ وَلَكِنْ لَا يُسَلَّمُ لَهُ بَلْ يَسْتَوْفِيَانِ قَضَاءً مِمَّا لَهُمَا قِبَلَهُ وَحَقُّهُمَا قِبَلَهُ أَخْمَاسًا فَيَسْتَوْفِيَانِ هَذَا الْقَدْرَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا فَفِي الْحَاصِلِ يُسَلِّمُ لِلْمُوصَى خُمُسَا الْعَيْنِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلِلِابْنِ سِتُّونَ وَيَتَعَيَّنُ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةً وَسِتِّينَ وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي رُبْعِهَا أَرْبَعِينَ إلَى أَنْ يُنْسَبَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ بِمِقْدَارِ حِصَّتِهِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ فَيُؤَدِّي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ أَخْمَاسًا خُمُسَاهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَإِذَا ضَمَّهُ إلَى أَرْبَعِينَ يُسَلَّمُ لَهُ خَمْسُونَ كَمَالُ الرُّبْعِ وَيُسَلَّمُ لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ أَثْلَاثًا لِأَنَّ أَصْلَ الْحِسَابِ مِنْ خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَهُوَ الْخُمُسُ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فَيَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ فِي الْعَيْنِ بِسِهَامِ حَقِّهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 145 فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِهَذَا وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خُمُسَ الْعَيْنِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَلِكُلِّ ابْنٍ نِصْفُ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ لِلْمَدْيُونِ نَصِيبَهُ وَلَكِنْ الْآخَرَيْنِ يَأْخُذَانِ ذَلِكَ قَضَاءً مِمَّا لَهُمَا قِبَلَهُ وَحَقُّهُمَا قِبَلَهُ أَثْلَاثًا فَيَقْسِمَانِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ بَيْنَهُمَا لِلْمُوصَى لَهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٍ إذَا ضَمَّهُ إلَى الْعِشْرِينَ يَكُونُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمِائَةِ، وَلِلِابْنِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي خُمُسِ ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوج مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ كَمَالَ حَقِّهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ فَأَدَّى عِشْرِينَ فَاقْتَسَمَهُ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الْآخَرُ أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَإِذَا ضَمَّهُ إلَى مَا كَانَ أَخَذَهُ كَانَتْ الْجُمْلَةُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ خُمُسُ الْمِائَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَثُلُثِ الدَّيْنِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ فِي التَّخْرِيجِ إلَّا أَنَّ مَا يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ هَاهُنَا يَكُونُ مُقَدَّمًا فِي التَّنْفِيذِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُوصِي بِالْعَيْنِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ هُوَ شَرِيكُ الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ كَانَتْ بِثُلُثِ الْمَالِ مُرْسَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّخْرِيجِ إلَّا أَنَّ هَاهُنَا الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَوْصَى لَهُ بِرُبْعِ الْمَالِ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرُ الرُّبْعِ وَزِيَادَةٌ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ مُقَدَّمٌ هَاهُنَا فِي التَّنْفِيذِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَجَمِيعُ وَصِيَّتِهِ هَاهُنَا تُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا رُبْعُ الْمَالَيْنِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ هَذَا الْمِقْدَارُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِمَّا عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ وَسَلَّمَ الِابْنَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ نِصْفَ الْعَيْنِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّ الِاثْنَيْنِ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ خَمْسِينَ تَبَيَّنَ أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ مَا جَاوَزَ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُعْطِي جَمِيعَ حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِرُبْعِ الْمَالِ فَهُوَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ شَرِيكَ الْوَارِثِ بِرُبْعِ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ جَمِيعُ وَصِيَّتِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ وَاسْتَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقُ بِمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ فَأَوْصَى بِرُبْعِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ عَشَرَةٌ أَوْ عِشْرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِرُبْعِ الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِخُمُسِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اسْتَوْفَى الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ دَيْنِهِ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَالزِّيَادَةُ، وَحَقُّهُ فِيمَا تَعَيَّنَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَجَمِيعُ وَصِيَّتِهِ دُونَ ثُلُثَيْ مَا تَعَيَّنَ فَلِهَذَا يَأْخُذُ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 146 الْمَالِ الْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِرُبْعِ مَالِهِ لِآخَرَ فَالْقَوْلُ أَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ جَاوَزَتَا الثُّلُثَ فَيُعْزَلُ لِتَنْفِيذِهِمَا ثُلُثُ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا نِصْفُ الْعَيْنِ ثُمَّ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِثُلُثِ مَا تَعَيَّنَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ. وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِمَا تَعَيَّنَ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ فَإِذَا جَعَلْت تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةً فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ إلَّا أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ الْمَدْيُونُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَيُؤَدِّي ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ نِصْفَهَا، وَيُقْسَمُ نِصْفُهَا بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى. وَإِنْ قَسَمْته عَلَى طَرِيقِ السِّهَامِ قُلْت قَدْ انْكَسَرَتْ الْمِائَةُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا يُسْلَمُ لَهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَخُمُسِهِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَهْمٌ يَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي خَمْسِينَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخُمُسِ ثَلَاثَةٌ فَلِهَذَا يُقْسَمُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ خُمُسٌ فَخُمُسُهُ ثَلَاثَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَرُبْعِهِ وَخُمْسِهِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا عِشْرِينَ مِنْهَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ وَاثْنَا عَشَرَ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ، وَصَاحِبُ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخُمُسِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ بِسِهَامِ حَقِّهِ، وَعَلَى طَرِيقِ السِّهَامِ يَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُث وَرُبْعٌ وَخُمُسٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ ثُمَّ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونَ سِتِّينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ رُبْعُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ خُمُسُهُ اثْنَا عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَبِخُمُسِ مَالِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ وَخُمُسِ مَالِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ جَاوَزَتَا الثُّلُثَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الثُّلُثِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ بِالْعَيْنِ. وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مُرْسَلًا فِي أَنَّهُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا فِي نِصْفِ الْعَيْنِ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا وَالْأَوَّلُ أَيْضًا سَوَاءٌ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 147 الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِي سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ حَقِّهِ فِيهَا وَزِيَادَةٌ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِخُمُسِ الْمَالِ فِي خُمُسِ مَا تَعَيَّنَ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا إلَّا أَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ فِي الزِّيَادَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِخُمُسِ الْآخَرِ بِثَلَاثِينَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ الْخُمُسِ فِي تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقِّ صَاحِبِ الثُّلُثِ فِي عِشْرِينَ سَهْمًا فَيُقْسَمُ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْدَ هَذَا، وَنَصَّ عَلَى الْخِلَافِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اقْتَسَمَا نِصْفَ الْعَيْنِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ حَقُّهُ فِي خَمْسِينَ ثُلُثُ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ حَقّ الْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ مِقْدَارُ حَقِّهِ فِيهِمَا وَزِيَادَةٌ، وَحَقُّهُ فِيهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَة فَلِهَذَا ضَرَبَ هُوَ بِخَمْسٍ كَمَا ضَرَبَ صَاحِبُ الثُّلُثِ فَكَانَ قِسْمَةُ نِصْفِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اقْتَسَمَا نِصْفَ الْعَيْنِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ نِصْفُهُ، وَفِيهِ وَفَاءٌ بِوَصِيَّةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَزِيَادَةٌ فَهُوَ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ أَيْضًا ثُلُثَ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَبِخُمُسِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَانَ نِصْفَ الْعَيْنِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا أَتْسَاعًا، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخُمْسِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَزِيَادَةٌ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِخَمْسٍ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ عَشَرَةٍ سَهْمًا كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ خَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ أَرْبَعَةٌ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا أَتْسَاعًا. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَبِرُبْعِ مَالِهِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا تِسْعَةٌ مِنْهَا لِصَاحِبِ الرُّبْعِ، وَسِتَّةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ هَذَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِجَوَابٍ مُبْهَمٍ فَقَالَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَبِرُبْعِ الْمَالِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هَاهُنَا أَنَّ مُرَادَهُ هُنَاكَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ تَنْفِيذَهُمَا مِنْ نِصْفِ الْعَيْنِ خَاصَّةً أَوْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّخْرِيجِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً دُونَ قَوْلِهِمَا ثُمَّ بَيَانُ التَّخْرِيجِ عَلَى قَوْلِهِمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 148 أَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَثُلُثِ الدَّيْنِ جَمِيعًا فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فَوْقَ ثُلُثٍ وَثُلُثُ الدَّيْنِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الْمَالِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفِ رُبْعِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ انْكَسَرَ الْعُشْرُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مَكَانَ حَقِّ صَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعِينَ، وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِي ثَمَانِينَ، وَلَكِنَّ بَيْنهمَا مُوَافَقَةً بِالْخُمْسِ فَيَقْتَصِرُ بِالْخَمْسَةِ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَلَى خُمْسِهَا، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَمِنْ ثَمَانِينَ عَلَى خُمُسِهَا، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَصَاحِبُ الرُّبْعِ يَضْرِبُ بِتِسْعَةٍ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسِتَّةَ عَشَرَ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ جَاوَزَ الثُّلُثَ فَبَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَصَاحِبُ الرُّبْعِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ سَهْمًا يَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقَّ صَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةً فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِرُبْعِ مَالِهِ وَبِخُمْسِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اقْتَسَمَا نِصْفَ الْعَيْنِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الرُّبْعِ وَسِتَّةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ الْخُمْسِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخُمْسِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الْمَالِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَحَقُّ صَاحِبِ الْخُمْسِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَوْ أَوْصَى مَعَ هَذَا بِثُلُثِ مَالِهِ اقْتَسَمَ أَصْحَابُ الْوَصَايَا نِصْفَ الْعَيْنِ عَلَى أَحَدٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِأَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِثُلُثِ مَا تَعَيَّنَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَقَدْ جَعَلْنَا كُلَّ عَشَرَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيَصِيرُ حَقُّهُ فِي عِشْرِينَ سَهْمًا إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ يَكُونُ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِينَ فَيُقْسَمُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ عِشْرِينَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اقْتَسَمَ أَصْحَابُ الْوَصَايَا نِصْفَ الْعَيْنِ عَلَى سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ مِنْهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الرَّدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْنِ، وَصَاحِبُ الْخُمُسِ بِأَرْبَعِينَ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الْمَالِ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 149 وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ثَمَانُونَ فَجُمْلَتُهُ تَكُونُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِينَ وَفِي الْكِتَابِ اقْتَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِالْكَسْرِ بِالْأَثْلَاثِ فَجَعَلَ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ ثَمَانِينَ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالتَّخْرِيجِ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَهُ أَنَّ فِي الْوَصَايَا فِي الْعَيْنِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَنَقُولُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ وَاجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثُ وَصَايَا وَصِيَّةٌ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٌ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الدَّيْنِ، وَبِعِشْرِينَ لِصَاحِبِ خُمُسِ الدَّيْنِ، وَبِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ لِصَاحِبِ رُبْعِ الْمَالِ فَمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ وَالرُّبْعِ فَيُسَلِّمُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ إلَى تَمَامِ عِشْرِينَ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ يَدَّعِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَالِ سَعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةً وَنِصْفًا فَإِذًا قَدْ رَجَعْنَا مِنْ الْخَمْسِينَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَثُلُثًا يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ ثُمَّ تَخْرِيجُهُ مِنْ حَيْثُ السِّهَامُ فَذَلِكَ أَيْسَرُ فَنَقُولُ قَدْ انْكَسَرَتْ الْعَشَرَةُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَيُجْعَلُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَيَصِيرُ الْخَمْسُونَ الدَّيْنُ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا، حَقُّ صَاحِبِ الْخُمُسِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ تِسْعَةٌ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ يَدَّعِيه، وَفِي الْمَالِ سَعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةً، وَيَبْقَى هُنَاكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَتَضْرِبُ سِتِّينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِينَ كَانَ مَا أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضُرِبَتْ فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَمَا أَخَذَ صَاحِبُ الْخُمُسُ تِسْعَةٌ ضَرَبْته فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ مِنْ الدَّيْنِ مِائَةٌ وَوَاحِدٌ وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ الْمِائَةُ الْعَيْنُ تَصِيرُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ كُلُّ خَمْسِينَ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَجُمْلَةُ مَالِهِ مِائَتَانِ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ إلَّا أَنَّ ثُلُثَ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَصِيَّتِهِ يَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَهُوَ إنَّمَا يُضْرَبُ بِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، وَصَاحِبٌ الْخُمُسِ حَقُّهُ مِنْ الْعَيْنِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 150 وَمِنْ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَأَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فَيُقْسَمُ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِصَاحِبِ الرُّبْعِ مِائَةٌ وَسِتَّةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبْعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْعَيْنِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِأَنَّ صَاحِبَ رُبُعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يُضْرَبُ بِخَمْسِينَ كَمَالَ حَقِّهِ، وَصَاحِبُ رُبُعِ الْعَيْنِ يُضْرَبُ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفِ رُبُعِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ حَقُّهُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي أَرْبَعَةٍ فَلِهَذَا كَانَ تُضْرَبُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثًا سَهْمًا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ فَيَسْتَوِي هُوَ بِصَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ. وَلَوْ أَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِخُمُسِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لِآخَرَ فَنِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِأَنَّ صَاحِبَ خُمُسِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِأَرْبَعِينَ، وَصَاحِبُ خُمُسِ الْمَالِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِثَلَاثِينَ خُمُسِ الْعَيْنِ وَالْمَالِ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ عَشَرَةٍ سَهْمًا صَارَ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ الْآخَرِ فِي ثَلَاثَةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الدَّيْنِ كَانَ نِصْفُ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَزِيَادَةٌ فَهُوَ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَيْنِ كَمَا يَضْرِبُ صَاحِبُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فَلِلْمُسَاوَاةِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِرُبْعِ الْعَيْنِ لِرَجُلٍ، وَرُبُعِ الدَّيْنِ لِآخَرَ إلَّا أَنَّهَا هُنَا إذَا اقْتَسَمَا نِصْفَ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُ حَقِّهِ فَمَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلِابْنِ خَاصَّةً، وَفِي الْأَوَّلِ مَا وَصَلَ إلَيْهِمَا كَمَالُ حَقِّهِمَا فَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَأَدَّى الْفَضْلَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَكَانَ نِصْفُ ذَلِكَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَنِصْفُهُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ نِصْفَانِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِخُمُسِ الْعَيْنِ لِرَجُلٍ، وَبِخُمُسِ الدَّيْنِ لِآخَرَ أَخَذَ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِمَا بِقَدْرٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ وَصِيَّتَهُمَا دُونَ نِصْفِ الْعَيْنِ فَإِنَّ وَصِيَّتَهُمَا بِقَدْرِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَنِصْفُ الْعَيْنِ خَمْسُونَ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالَ حَقِّهِ يَبْقَى مِنْ الْعَيْنِ سِتُّونَ فَهِيَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمَدْيُونِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 151 مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ الْمَدْيُونُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ، وَيُؤَدِّي إلَى أَخِيهِ عِشْرِينَ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ لِرَجُلٍ، وَبِرُبْعِ الدَّيْنِ لِآخَرَ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُمَا فَوْقَ نِصْفِ الْعَيْنِ هَاهُنَا فَإِنَّمَا يَقُولُ نِصْفُ الْعَيْنِ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ثُلُثُ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ ثُمَّ يَضْرِبُ فِيهِ صَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الدَّيْنِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا جَعَلْت تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ سَهْمًا يَكُونُ لِهَذَا ثَلَاثَةٌ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ، وَمَا خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ نِصْفَهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَا وَصِيَّتَهُمَا ثُمَّ مَا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ وَصِيَّتِهِمَا ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ فَإِذَا خَرَجَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَأَخَذَا نِصْفَهُ فَاقْتَسَمَاهُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ فَقَدْ اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالَ وَصِيَّتِهِ فَمَا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ الْعَيْنِ لِآخَرَ، وَبِرُبْعِ الدَّيْنِ لِآخَرَ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ ثُلُثِ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ سَهْمًا يَصِيرُ حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْمَالِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ فَلِهَذَا قُسِّمَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ مَكَانَ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ الْمَالِ مُرْسَلًا فَنِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ صَاحِبَ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ سَهْمًا يَكُونُ حَقُّهُ فِي ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَلِهَذَا كَانَتْ قِسْمَتُهُ الْعَيْنَ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ رُبُعِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةٌ فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْأَصْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ، وَفِيهِ وَصِيَّتَانِ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَلِصَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِمِقْدَارِ ثَمَانِيَةٍ وَثُلُثٍ تَفَاوَتَ مَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ يُسْلَمُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِلَا مُنَازَعَةٍ يَبْقَى أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ فَكَانَ لِصَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ عِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَلِلْآخَرِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَسُدُسٌ قَبْلَهُ مِنْ الْعَيْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَكُونُ جُمْلَةُ حَقِّهِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعَةَ أَسْدَاسٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ أَرْبَعَةٍ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 152 وَسُدُسٍ سَهْمًا فَيَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ فَكَانَ حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعَةَ أَتْسَاعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِخَمْسِينَ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ أَرْبَعَةٍ وَسُدُسٍ سَهْمًا يَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَهُوَ يَضْرِبُ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الدَّيْنِ بِثَمَانِيَةٍ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الدَّيْنِ بِخَمْسَةٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ سَهْمًا فَيُقْسَمُ نِصْفُ سَهْمٍ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبْعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْعَيْنِ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ الدَّيْنِ فَنِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ صَاحِبَ رُبْعِ الْمَالِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَصَاحِبُ ثُلُثِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ وَصَاحِبُ خُمُسِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ، وَذَلِكَ فَوْقَ حَقِّهِ فَقَدْ انْكَسَرَ عَلَى عَشَرَةٍ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ فَيُحْمَلُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَكَانَ حَقُّ صَاحِبِ خُمُسِ الدَّيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَحَقُّ صَاحِبِ رُبْعِ الْمَالِ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَحَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فَلِهَذَا قُسِّمَ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مِمَّا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِأَرْبَعِينَ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْخُمُسِ وَبِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ لِصَاحِبِ رُبُعِ الْمَالِ فَقَدْرُ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ خَرَجَ عَنْ مُنَازَعَةِ صَاحِبِ الرُّبْعِ فَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ يَبْقَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ عَشْرٌ وَرُبْعٌ فَقَدْ انْكَسَرَ الدِّرْهَمُ بِالْأَرْبَاعِ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَلِصَاحِبِ رُبْعِ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَجُمْلَةُ مَا أَصَابَ الرُّبْعُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَرُبْع، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاع فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَيَصِيرُ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ سِتُّمِائَةٍ وَالْمِائَةُ الْعَيْنِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَلَكِنَّك تَجْعَلُ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا بِالْخُمُسِ فَاخْتُصِرَ مِنْ سِتِّمِائَةٍ عَلَى خُمُسِهَا، وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ الْعَيْنِ عَلَى مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ نَعُودُ إلَى الْأَصْلِ فَنَقُولُ حَقُّ صَاحِبِ خُمُسِ الدَّيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ وَتِسْعِينَ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ فِي ثَلَاثِينَ مِقْدَارَ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ بِلَا مُنَازَعَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 153 بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ رُبْعِ الْمَالِ مِنْ الدَّيْنِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِصَاحِبِ خُمُسِ الدَّيْنِ مَرَّةً سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَمَرَّةً سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ سِتُّونَ سَهْمًا. فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَكُونُ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ لِصَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ ثَمَانُونَ ثُلُثٌ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَإِنَّ ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ مَعَ سَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ يَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِينَ إذَا ضَمَمْت إلَى ذَلِكَ ثَمَانِينَ يَكُونُ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِرُبْعِ مَالِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِرُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ صَاحِبَ خُمُسِ الدَّيْنِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعِينَ وَصَاحِبَ رُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ فَهُوَ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِيهَا، وَصَاحِبُ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَتُجْعَلُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى سِتَّةٍ لِأَنَّهُ انْكَسَرَ كُلُّ عَشَرَةٍ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَنْصَافِ فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً. وَإِذَا صَارَ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى سِتَّةٍ فَسِهَامُ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ ثَلَاثُونَ، وَسِهَامُ الْمِائَةِ الْعَيْنِ سِتُّونَ ثُمَّ صَاحِبُ خُمُسِ الدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ، وَصَاحِبُ رُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثَلَاثُونَ بِسِهَامِ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ سِهَامَ رُبْعِ الْمِائَةِ الْعَيْنِ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ إذَا ضَمَمْته إلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَكُونُ تِسْعَةً وَسِتِّينَ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ يَضْرِبُ بِعِشْرِينَ سِهَامَ ثُلُثِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تِسْعَةً وَثَمَانِينَ فَلِهَذَا كَانَتْ قِسْمَةُ نِصْفِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ مَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا لَهُ فَنَقُولُ اجْتَمَعَ فِيمَا تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ وَصِيَّتَانِ لِصَاحِبِ الْخُمُسِ بِأَرْبَعِينَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ بِخَمْسِينَ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَالْعَشَرَةُ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَنِصْفُ الْبَاقِي بِالْمُنَازَعَةِ لَهُ ثَلَاثُونَ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ عِشْرُونَ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَيْنِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَجْتَمِعُ لَهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ إلَّا أَنَّ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِخَمْسِينَ، وَصَاحِبُ الْخُمُسِ بِعِشْرِينَ، وَصَاحِبُ ثُلُثِ الْعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ عَشَرَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِانْكِسَارِ الْعَشَرَةِ بِالْأَثْلَاثِ فَيَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ ثُلُثِ الْعَيْنِ عَشَرَةً، وَحَقُّ صَاحِبِ رُبْعِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي خَمْسِينَ، وَقَدْ جَعَلْنَا كُلَّ عَشَرَةٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 154 عَشَرَ، وَحَقُّ صَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ كَانَ فِي عِشْرِينَ فَيَكُونُ سِتَّةً فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فَيُقْسَمُ نِصْفُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنًا وَمِائَةٌ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ الدَّيْنِ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ الْعَيْنِ فَالْمَالُ كُلُّهُ عَيْنٌ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ مَحَلٌّ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ، وَنِصْفُهُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُسَلَّمُ لِلْمَدْيُونِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ قَدْ تَعَيَّنَ كُلُّهُ فَيَعُولُ لِمِائَةِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ لِتَنْفِيذِ الْوَصَايَا فَيَضْرِبُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِرُبْعِ الدَّيْنِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِخُمُسِ الْعَيْنِ بِأَرْبَعِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ بِمِائَةٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ عَلَى سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ عِشْرُونَ، وَلِصَاحِبِ رُبْعِ الدَّيْنِ خَمْسَةٌ، وَلِصَاحِبِ خُمُسِ الْعَيْنِ ثَمَانِيَةٌ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سَهْمًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَةٌ عَلَى امْرَأَتِهِ دَيْنًا ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَابْنَهُ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالْمِائَةُ الْعَيْنِ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فَالسَّبِيلُ فِي هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ فَيُخْرِجَهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ ثُمَّ يَزِيدُ الْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نِصْفِ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَبِكُلِّ عَدَدٍ رَدَّتْ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ ثُلُثَ الْجُمْلَةِ فَإِذَا زِدْت أَرْبَعَةً عَلَى ثَمَانِيَةٍ صَارَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ لِحَقِّهَا بِمَا عَلَيْهَا فَيَضْرِبُ الِابْنُ فِي الْعَيْنِ بِسَبْعَةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِرُبْعِ مَالِهِ كَانَتْ الْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلِابْنِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لَا بَلْ يَزِيدُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ مِثْلُ ثُلُثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ ثُلُثِهِ ثَمَانِيَةً فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يُطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَيَضْرِبُ الِابْنُ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِثَمَانِيَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِخُمْسِ مَالِهِ فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّك تَزِيدُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ مِثْلُ رُبْعِهَا، وَذَلِكَ سَهْمَانِ ثُمَّ تَطْرَحُ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ سَهْمًا يَبْقَى تِسْعَةٌ تُقْسَمُ الْعَيْنُ عَلَى ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الِابْنِ أَخٌ لِأَبٍ، وَأُمٍّ، وَقَدْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَالْعَيْنُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى خَمْسَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَتَزِيدُ عَلَيْهِ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ نِصْفِهِ سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ سِتَّةً ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ فَيَبْقَى حَقُّ الِابْنِ فِي ثَلَاثَةٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي سَهْمَيْنِ فَعَلَى ذَلِكَ تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ تَرَكَ مِائَةً عَيْنًا، وَمِائَةً عَلَى الجزء: 28 ¦ الصفحة: 155 امْرَأَتِهِ دَيْنًا وَمِائَةً عَلَى ابْنِهِ دَيْنًا، وَتَرَكَ مَعَ ذَلِكَ بِنْتًا، وَقَدْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالْمِائَة الْعَيْنُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ فَيُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِثْلُ نِصْفِهِ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الِابْنِ وَالْمَرْأَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ لِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ اثْنَا عَشَرَ فَإِنْ أَدَّتْ الْمَرْأَةُ مَا عَلَيْهَا صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ عَيْنًا مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِأَنَّهَا إذَا أَدَّتْ مَا عَلَيْهَا فَقَدْ صَارَ نَصِيبُ الِابْنِ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ اقْسِمْهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا يَكُونُ كُلُّ مِائَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ، وَنَصِيبُ الِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ فَيَجِبُ لَهُ مَا عَلَيْهِ، وَلِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا بِمَا عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْمِائَةِ الْعَيْنِ مَقْسُومًا بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى الِابْنِ اثْنَا عَشَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ يَبْقَى حَقُّهُ فِي سَهْمَيْنِ، وَحَقُّهُمَا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِخُمُسِ مَالِهِ، وَلَمْ تُؤَدِّ الْمَرْأَةُ شَيْئًا فَالْمَالُ الَّذِي عَلَى الِابْنِ عَيْنٌ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ وَيَقْسِمُ الْمِائَةَ الْعَيْنَ مَعَ مَا عَلَى الِابْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ كَانَتْ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَزِدْنَا الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ مِثْلَ رُبْعِهَا سِتَّةً فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةً يَبْقَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ فَحَقُّ الِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمِائَةِ فَلِهَذَا قَسَمْنَا الْمِائَتَيْنِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ سِتَّةٌ وَلِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ قَدْ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ، وَيَسْتَوْفِي نِصْفَ سَهْمٍ مِمَّا بَقِيَ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَةٌ عَلَى ابْنَتِهِ دَيْنًا ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ مِنْ الْوَرَثَةِ امْرَأَتَهُ وَابْنَتَهُ وَابْنَهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ ثُمَّ تُزَادُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ مِثْلُ نِصْفِهِ اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبُ الِابْنَةِ لِأَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ حَقَّهَا مِمَّا عَلَيْهَا فَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَلِهَذَا تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَةٌ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنًا مِنْ صَدَاقِهَا فَأَوْصَتْ لِرَجُلٍ بِرُبْعِ مَالِهَا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخْتَيْهَا لِأَبِيهَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 156 وَأُمِّهَا، وَأُخْتَيْنِ لِأُمِّهَا فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ تُقْسَمُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَخَوَاتِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ لِأَنَّا نُصَحِّحُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ فَنَقُولُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ أُمِّ الْفُرُوجِ ثُمَّ تُزَادُ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبْعِ مِثْلُ ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ لِلْعَشَرَةِ ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ ثُمَّ يُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ ثُلُثِهَا عَشَرَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الزَّوْجِ لِأَنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ، وَنَصِيبُهُ كَانَ ثَلَاثَةً ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ تِسْعَةً فَإِذَا طَرَحْت ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَبْقَى أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ فَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِلْمُوصَى لَهُ عَشَرَةٌ، وَقَدْ كَانَ لِلْأُمِّ سَهْمٌ ضَرَبْنَاهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ ضَرَبْنَاهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ سِتَّةً، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَرْبَعَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَمَاتَ وَتَرَكَ مِائَةً عَيْنًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِخُمُسِ مَالِهِ، وَتَرَكَ مِنْ الْوَرَثَةِ امْرَأَتَهُ وَابْنَيْهِ، وَأَبَوَيْهِ فَالْمِائَةُ الْعَيْنِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ إذَا صَحَّحْتهَا كَانَتْ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّهَا مَسْأَلَةُ الْمِنْبَرِيَّةِ ثُمَّ يُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ رُبْعٌ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَتَكُونُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا مِمَّا عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ نَصِيبُهَا ثَلَاثَةً ضَرَبْنَاهَا فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلِابْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ. وَقَدْ كَانَ لَهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَضَرَبْنَا ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ، وَيُحْسَبُ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا مِمَّا عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسَبْعَةُ أَتْسَاعٍ فَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَقْتَسِمُونَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَيْنًا، وَعَشَرَةٌ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِخُمُسِ مَالِهِ إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ مِنْ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا، وَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ، وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّا لَا نَعْتَبِرُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنْ يُعْطِي الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ خُمُسِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَحَدَهُمَا فَيَكُونُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ تِسْعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَلَكِنْ لَا يُعْطِي الِابْنُ الْمَدْيُونَ نَصِيبَهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ بَلْ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا قَبْلَهُ، وَحَقُّهُمَا أَثْلَاثًا فَإِنَّ دِرْهَمَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ لِلْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ خُمُسُ الْعَشَرَةِ الدَّيْنِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا اقْتَسَمَا أَرْبَعَةً وَنِصْفًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، وَلِلِابْنِ ثَلَاثَةٌ فَقَدْ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مَرَّةً سَهْمًا قَدْرُهُ دِرْهَمٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 157 وَنِصْفٌ، وَأَخَذَ الِابْنُ مَرَّةً أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، وَمَرَّةً ثَلَاثَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ تِسْعَةً، وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَيْنَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ خُمُسُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَاثَةٍ وَنِصْفٍ وَاسْتَرْجَعْنَا بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمًا إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الِابْنُ الْمَدْيُونُ مَا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ كَمَالَ حَقِّهِ ثَمَانِيَةً وَنِصْفًا، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنْ تَجْعَلَ الْعَشَرَةَ الْعَيْنِ مَقْسُومَةً بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَتُطْرَحُ سِهَامُهُ فَإِذَا طُرِحَتْ قَسَمْنَا الْعَشَرَةَ أَثْلَاثًا، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ ثُمَّ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى دِرْهَمٌ مِنْ خُمُسِ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَهُوَ رُبْعٌ مَا يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَرُبْعُ ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ فَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَيُسَلَّمُ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ نَقُولُ السَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ دِينَارًا، وَيَضُمُّهُ إلَى الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ عَشَرَةٌ خُمُسُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخُمُسُ دِينَارٍ ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمًا فَيَضُمُّهُ إلَى الْبَاقِي فَيَكُونُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ وَخُمُسَا دِينَارٍ، وَحَاجَتُنَا إلَى دِينَارَيْنِ فَإِنَّا جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ دِينَارًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِينَارٍ قِصَاصٌ بِمِثْلِهَا يَبْقَى فِي يَدِ الْوَرَثَةِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ يَعْدِلُ دِينَارًا أَوْ خُمُسًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَإِنْ حِينَ جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ دِينَارًا كَانَ ذَلِكَ يُجْزَى سَبْعَةً وَنِصْفًا، وَأَعْطَيْنَا الْمُوصَى لَهُ دِرْهَمَيْنِ وَخُمُسَ دِينَارٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا اسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ دِرْهَمًا يَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ فَاسْتَقَامَ، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا، وَتَضُمَّهُ إلَى الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ، وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ خُمُسَ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ، وَخُمُسَ شَيْءٍ فَيَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمًا، وَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَيْءٍ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ قِصَاصًا بِمِثْلِهَا يَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمُسَ شَيْءٍ فَأَكْمَلَ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ ثُلُثَيْهِ، وَزِدْ مَا يَعْدِلُهُ أَيْضًا مِثْلَ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ يَعْدِلَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَعْدِلُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفًا فَأَمَّا حِينَ جَعَلْنَا الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ، وَطَرِيقُ الْخَطَّائِينَ فِي ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ دِرْهَمًا فَيَكُونُ عَدْلُ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يُعْطِي الْمُوصَى لَهُ خُمُسَ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ وَخُمُسًا، وَيَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 158 دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى دِرْهَمَيْنِ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَاجْعَلْ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ دِرْهَمَيْنِ فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ خُمُسَ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ وَخُمُسَ دِرْهَمٍ وَاسْتَرْجِعْ بِالِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ عَشَرَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، وَحَاجَتُهُ إلَى أَرْبَعَةٍ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ وَثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ، وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ فَلَمَّا زِدْنَا فِي النَّصِيبِ دِرْهَمَيْنِ ثَبَتَ خَطَأُ دِرْهَمٍ وَخُمُسٍ، وَبَقِيَ خَطَأُ سِتَّةٍ وَثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ يُؤَثِّرُ فِي دِرْهَمٍ وَخُمُسٍ، وَبَقِيَ خَطَأُ سِتَّةٍ وَخُمُسٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَزِيدَ مَا يُذْهِبُ خَطَأً مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ فَإِنَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ يُذْهِبُ خَطَأَ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ إذَا كَانَ مَا بَيْنَ كُلِّ دِرْهَمٍ خُمُسٌ فَإِذَا زِدْنَا هَذَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّيْنِ ظَهَرَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الدَّيْنِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَالتَّخْرِيجُ إلَخْ كَمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْخَطَّائِينَ يَتَيَسَّرُ التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقِ الْجَامِعِينَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِخُمُسِ مَالِهِ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْعَشَرَةِ وَالْعَيْنُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ يَكُونُ لِلَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَسُدُسٌ. أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ الدَّيْنُ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ تَاوٍ، وَلَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنْ يُعْطِي الْمُوصَى لَهُ خُمُسَ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَفِي يَدِهِ دِرْهَمَانِ فَالدِّرْهَمُ الثَّالِثُ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى هَذَا وَمَالًا عَلَيْهِ عَلَى الْمَالِ فَإِذَا اسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثَلَاثَةً صَارَ مَعَنَا أَحَدَ عَشَرَ فَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ يَأْخُذُهُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ قِصَاصًا بِحَقِّهِمَا، وَحَقُّهُمَا قَبْلَهُ أَثْلَاثًا فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعَشَرَةِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثُ ذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ لِلْمُوصَى لَهُ فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ قَضَى مَا عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ، وَتَبْقَى لَهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَسُدُسٌ، وَيُسَلَّمُ لِلْمَدْيُونِ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ الْمَدْيُونُ مِمَّا عَلَيْهِ كَمَالَ حَقِّهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ لِأَنَّ خُمُسَ الْمَالِ أَرْبَعَةٌ وَالْمُسْتَثْنَى ثَلَاثَةٌ فَإِنَّمَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمٌ وَالْبَاقِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ تِسْعَةَ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ فَيُؤَدِّي الْمَدْيُونُ نِصْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي السَّبِيلُ أَنْ تُقْسَمَ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ ثُمَّ يَسْتَرْجِعُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 159 مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَا سَلَّمَ لَهُ كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا فَتَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ غَيْر ابْنِهِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ مِنْ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِقَدْرِ سَهْمَيْنِ مِنْ الْمَالِ، وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي الثُّلُثِ فَلِهَذَا قُلْنَا يَأْخُذُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِسِتَّةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَأْخُذُ إلَّا خَمْسَةً لِأَنَّ ثُلُثَ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ خَمْسَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ مِثْلُ نِصْفِ الْعَيْنِ فَإِنَّ السَّالِمَ لِلِابْنِ الْآخَرِ نِصْفُ الْعَيْنِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ كَمَالُ حَقِّهِ، وَهُوَ سِتَّةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُسَلِّمُ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ. قَالَ فَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدِرْهَمٍ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ مَالِهِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ يَأْخُذُ مِنْ الْعَيْنِ دِرْهَمًا، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ مِنْ الْعَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَسُدُسًا وَالْبَاقِي لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِخُمُسِ الْمَالِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَالٍ مُسَمًّى يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ هُوَ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَيَبْدَأُ، وَبِالْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ بِالدِّرْهَمِ فَيُعْطِي دِرْهَمًا يَبْقَى تِسْعَةَ دَرَاهِمَ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ خُمُسَ الْعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ يَبْقَى سَبْعَةً بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلَكِنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ لَا يُعْطِي نَصِيبَهُ بَلْ يَكُونُ نَصِيبُهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِ، وَلِلِابْنِ الْآخَرِ مَكَانٌ مَا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَحَقُّهُمَا قَبْلَهُ أَثْلَاثٌ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ مِمَّا عَلَيْهِ، وَحَقُّ الِابْنِ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَقْتَسِمَانِ نَصِيبَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمٌ وَسُدُسٌ فَقَدْ أَخَذَ مَرَّةً دِرْهَمَيْنِ فَصَارَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَسُدُسٌ، وَلِلِابْنِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ الْمُتَعَيِّن خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي خُمُسِ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسُدُسٌ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَيُمْسِكُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ سَبْعَةً وَنِصْفًا، وَيُؤَدِّي دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الْآخَرِ أَثْلَاثًا حَتَّى يَحْصُلَ لِلْمُوصَى لَهُ كَمَالُ حَقِّهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَيْنٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ فِي مُقَاسَمَةِ الْوَرَثَةِ فَيَكُونُ حَقُّ صَاحِبِ الْخُمُسِ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَحَقُّ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 160 أَثْلَاثًا لِأَنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثٌ ثُمَّ نَقُولُ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الدِّرْهَمِ مِثْلُ رُبْعِ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الْخُمُسِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِ مَا أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ فَيَضُمُّ إلَى مَا فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَسُدُسًا ثُمَّ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ مُقَدَّمٌ فَيُعْطِي دِرْهَمًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَسُدُسٌ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا عَيْنًا وَاثْنَيْ عَشَرَ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ الْمَالِ يَأْخُذُ مِنْ الْعَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَسُبْعَ دِرْهَمَ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِأَحَدِهِمَا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ كَمَا بَيَّنَّا فَيَأْخُذُ دِرْهَمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْمَالِ يَأْخُذُ مِنْ الْعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ فَسُدُسُ الْمَالِ بَيْنَهُ وَبَيْن الِابْنِ الْآخَرِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا قَبْلَهُ أَسْبَاعًا فَإِنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَهُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ، وَحَقَّ الِابْنِ فِي خَمْسَةٍ فَسُبْعَاهُ دِرْهَمٌ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ سُبُعَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِلِابْنِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ، وَكُلُّ سُبُعِ أَرْبَعَةٍ أَتْسَاعٍ فَسُبْعَاهُ دِرْهَمٌ وَسُبُعٌ إذَا ضَمَّ ذَلِكَ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ كَانَ ثَلَاثَةً وَسُبُعًا يَبْقَى فِي يَدِ الِابْنِ سِتَّةٌ وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سُدُسِ ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَسَبْعًا إلَى أَنْ يَثْبُتَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَيُمْسِك الِابْنُ الْمَدْيُونُ حِصَّتَهُ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، وَيُؤَدِّي ثَلَاثَةً فَيَقْتَسِمُهَا الِابْنُ وَصَاحِبُ سُدُسِ الْمَالِ أَسْبَاعًا سُبْعَاهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ تُسْعُ دِرْهَمٍ إذَا ضَمَّهُ إلَى مَا أَخَذَ يَحْصُلُ لَهُ أَرْبَعَةٌ سُدُسِ الْمَالِ، وَيَبْقَى لِلْأَبِ دِرْهَمٌ وَسُبْعٌ إذَا ضَمَّهُ إلَى مَا أَخَذَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ كَمَالُ حَقِّهِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يُجْعَلُ الْمَالُ كُلُّهُ كَأَنَّهُ عَيْنٌ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْوَصِيَّةُ بِسُدُسِ الْعَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْمَالِ، وَلِلِابْنِ الْآخَرِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَسْبَاعًا سُبْعَاه لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ ثُمَّ وَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْعَيْنِ مِثْلُ نِصْفِ وَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْمَالِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْ الِابْنِ مِثْلَ نِصْفِ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ فَإِذَا ضَمَّ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعٍ يَكُونُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَسُبْعَا يَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ فَإِذَا ضَمَّ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعٍ يَكُونُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَسُبْعًا يَأْخُذُ الْمُوصِي بِسُدُسِ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ، وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ بِسُدُسِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَسُبُعٌ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَمِائَةٌ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ الْعَيْنِ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَهَا لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مَا زَادَتْ عَلَى ثُلُثِ الْمُتَعَيِّنِ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ نِصْفِ الْعَيْنِ، وَهُوَ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ جَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلْثَيْ الْعَيْنِ أَخَذَ أَيْضًا نِصْفَهَا لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ زَادَتْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 161 عَلَى الثُّلُثِ وَالْمُتَعَيَّنُ مِنْ الدَّيْنِ يَكُونُ مِثْلَ نَصِيبِ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِ الْعَيْنِ كَانَ السَّالِمُ لِلِابْنِ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَيَتَعَيَّنُ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي نِصْفِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يُسَلَّمُ لَهُ نِصْفُ الْعَيْنِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَأَجَازَ الِابْنَانِ الْوَصِيَّةَ لَهُ، وَلَمْ يُجِزْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَجَازَ صَاحِبُهُ فَإِجَازَةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَاطِلَةٌ فِي الْمَالِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يُجِزْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَجَازَ صَاحِبُهُ فَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ إجَازَةَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ بَاطِلَةٌ فَلِأَنَّ الْمَدْيُونَ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَيْنِ. وَأَمَّا مِنْ الْإِجَازَةِ فِي سَلَامَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ فَإِنَّمَا تَعْمَلُ إجَازَةُ مَنْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعَيْنِ دُونَ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الِابْنَ الَّذِي أَجَازَ وَصِيَّةَ أَبِيهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا بِأَنْ كَانَ قَاتِلًا كَانَتْ إجَازَتُهُ بَاطِلَةً فَهَذَا مِثْلُهُ. ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِلَا مِنَّةٍ لِأَحَدٍ، وَيَكُونُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ النِّصْفُ الْبَاقِي، وَقَدْ أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ وَصِيَّتَهُ فَيُعْطِيه مِنْ هَذَا النِّصْفِ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفًا فَيُؤْمَرُ بِدَفْعِ ذَلِكَ الْقَدْرِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَجْعَلُ كَأَنَّ الْمَالَ عَيْنٌ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ بِلَا مِنَّةِ الْإِجَازَةِ يَبْقَى مِنْ حَقِّهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ نِصْفُ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُعْطِي لَهُ مِنْ الْعَيْنِ الثُّلُثَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، يَبْقَى سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ لَا يُعْطِي الْمَدْيُونُ نَفْسَهُ بَلْ يَقْسِمُهُ الْآخَرَانِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا قَبْلَهُ، وَحَقُّهُمَا قَبْلَهُ سَوَاءٌ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ إنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِ نَصِيبِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ فَيَصِيرُ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثٌ. وَيَأْخُذُ أَيْضًا مِثْلَ رُبْعِ مَا أَخَذَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَسُدُسٍ فَيَكُون ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِثْلَ أَرْبَعَةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا أَجَازَ لَهُ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ يَكُونُ رُبْعَ الثُّلُثَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا أَجَازَ لَهُ الْوَصِيَّةَ فِي رُبْعِ مَا يُسَلِّمُ لَهُ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ الِابْنُ الْمَدْيُونُ يُمْسِك مِيرَاثَهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَيُؤَدِّي ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا فَيَقْسِمُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ ثُمَّ يَسْتَوْفِي الْمُوصَى لَهُ مِنْ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ رُبْعُ مَا أَخَذَ بِاعْتِبَارِ إجَازَتِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَسُدُسٌ فَيُسَلِّمُ لَهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مَا أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 162 لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الدَّيْنُ عَمِلَتْ إجَازَتُهُ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيَصِيرُ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَقَدْ كَانَ السَّالِمُ لَهُ بِلَا مِنَّةٍ خَمْسُونَ، وَظَهَرَ الْآنَ أَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْضًا ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثًا حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ كَمَالُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنْ قَالَ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ: قَدْ أَجَزْت لَهُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ، وَجَمِيعُ مَا أَجَازَ لَهُ أَخِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ ثُلُثَهَا لِأَنَّ إجَازَةَ الْمَدْيُونِ فِي الْعَيْنِ إنَّمَا تَصِحُّ بِحَقِّ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجَازَ هُوَ إجَازَتَهُ فَكَمَا أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصِي تَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا نَفَذَتْ إجَازَتُهُمَا قُلْنَا: الْمِائَةُ الْعَيْنُ تُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ مِائَةٌ فِي دِرْهَمٍ، وَحَقُّ كُلِّ ابْنٍ فِي خَمْسِينَ فَتُقْسَمُ الْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَثُلُثُهَا لِلِابْنِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَإِنَّمَا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي نِصْفِهَا فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ حِصَّتَهُ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَأَدَّى خَمْسِينَ فَاقْتَسَمَهَا الِابْنُ وَالْمُوصَى لَهُ أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَاهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَصِلُ إلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُسَلَّمُ لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِنِصْفِ الْعَيْنِ، وَنِصْفِ الدَّيْنِ فَأَجَازَ الْوَارِثَانِ ذَلِكَ فَإِجَازَةُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَاطِلَةٌ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَيْ الْمَالِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ نِصْفُهُ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ الْعَيْنِ حَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَقَدْ أَجَازَ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَصِيَّتَهُ، وَإِجَازَتُهُ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ فَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ الْعَيْنِ وَنِصْفِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالِابْنُ إنَّمَا يَضْرِبُ فَلِهَذَا كَانَتْ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَاهَا، وَلِلِابْنِ ثُلُثُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا سَلَّمَ لِلِابْنِ ثُلُثَهَا، وَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ ثُلُثُهَا قُلْنَا السَّالِمُ لِلِابْنِ ثُلُثُ الْعَيْنِ فِي الصُّورَةِ، وَفِي الْحُكْمِ نِصْفُ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ إجَازَتِهِ فَيَكُونُ كَالسَّالِمِ لَهُ فِي حُكْمٍ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْحُكْمِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلَوْ أَجَازَ لَهُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَصِيَّتَهُ، وَأَجَازَ أَيْضًا مَا أَجَازَ لَهُ أَخُوهُ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِإِجَازَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ نِصْفَ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ فِي الْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إجَازَةَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فِي الْعَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَقِّ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ الْآخَرُ إجَازَتَهُ لَكَانَ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَإِذَا أَجَازَ إجَازَتَهُ أَخَذَ مَعَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةً الجزء: 28 ¦ الصفحة: 163 وَثُلُثَا حِصَّتِهِ مِنْ الْإِجَازَةِ فِي الْمِائَةِ الْعَيْنِ فَتَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ تُقْسَمُ الْمِائَةُ الْعَيْنُ أَثْلَاثًا ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ حِصَّةَ إجَازَتِهِ فِي الْمِائَةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَيُقْسَمُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمِائَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُسَلَّمُ لَهُ أَيْضًا سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا. وَالنِّصْفُ الَّذِي أَخَذَهُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَأْخُذُهُ أَيْضًا بِالْإِجَازَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لَهُ عِوَضًا عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ وَصِيَّتَهُ فِيهِ فَيَكُونُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِيهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ فَإِذَا ضَمَّ ذَلِكَ إلَى مَا أَخَذَهُ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فَإِذَا ثَبَتَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ، وَدَفَعَ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمَا خَمْسِينَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ حِصَّةَ الْإِجَازَةِ فِي الدَّيْنِ قَدْ وَصَلَتْ إلَيْهِ فَبَقِيَ حَقُّهُمَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ سَوَاءٌ فَإِذَا اقْتَسَمَا هَذِهِ الْخَمْسِينَ نِصْفَيْنِ سَلَّمَ لِلْمُوصَى لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ كَمَالَ حَقِّهِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسُونَ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ ثُلُثِ الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ بِالثُّلُثِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ مِنْ الْمَالِ، وَمَا يَتْوِي مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَبِثُلُثِ الدَّيْنِ لِرَجُلٍ فَأَجَازَ أَخَذَ مِنْ الْعَيْنِ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَثُلُثًا. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاعْلَمْ بِأَنَّ إجَازَتَهُمَا هَاهُنَا فِي الِابْتِدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ، وَفِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ثُمَّ نِصْفُ الْعَيْنِ، وَهُوَ خَمْسُونَ سَالِمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِلَا مِنَّةِ الْإِجَازَةِ يَبْقَى إلَى تَمَامِ حَقِّهِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ حَقِّهِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ، وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ، وَمَا يُسَلَّمُ لَهُ بِالْإِجَازَةِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنَّ إجَازَةَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعَيْنِ، وَإِجَازَةُ الِابْنِ الْآخَرِ مُعْتَبَرَةٌ فَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ ثَمَانِيَةً وَثُلُثًا فَلِهَذَا كَانَ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثٌ فَإِنْ أَجَازَ الِابْنُ الْآخَرُ مَا أَجَازَ لَهُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ أَيْضًا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمَدْيُونِ إنَّمَا كَانَتْ لَا تُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْإِجَازَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الِابْنِ الْآخَرِ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ الِابْنُ الْآخَرُ أَخَذَ كَمَالَ حَقِّهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ حَقِّهِ، وَقَدْ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَحَقُّهُ فِيمَا تَعَيَّنَ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالَ إنَّهُ أَعْطَى الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ قَبْلَ خُرُوجِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ لَا فِي الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَلَا فِي الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِإِظْهَارِ تَأْثِيرِ الْإِجَازَةِ فَإِنَّ إجَازَتَهُمَا بَعْدَ خُرُوجِ الدَّيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 164 لَغْوٌ فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ جَمِيعُ وَصِيَّتِهِ قَبْلَ خُرُوجِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ صَارَتْ مِنْهُ الْإِجَازَةُ لَغْوًا أَصْلًا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ الْإِجَازَةُ مُؤَثِّرَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِنِصْفِ الْمَالِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إذَا خَرَجَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ بَطَلَتْ الْإِجَازَةُ، وَأَمْسَكَ الِابْنُ الْمَدْيُونُ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ كَمَالَ حَقِّهِ، وَأَعْطَى ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ إلَى أَخِيهِ، وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمُوصَى لَهُ كَمَالَ حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ فَأَجَازَ الِابْنُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ إجَازَتُهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ، وَلَكِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْعَيْنِ فَإِذَا خَرَجَ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ اقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ كَمَالَ حَقِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الِابْنِ الْمَدْيُونِ بِسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْمَالُ كُلُّهُ عُلِمَتْ إجَازَتُهُ فِي حِصَّتِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَبْقَى لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا أَجَازَا، وَقَدْ سَلَّمَ الِابْنُ الْآخَرُ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُجِيزَا. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنَيْنِ، وَلَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ دَارًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الدَّارِ، وَلِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدَّارِ فِي يَدِ الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ حَتَّى يَرْفَعَ إلَى الْقَاضِي الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمَالَ الْعَيْنَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَنَصِيبُ الْمَدْيُونِ مِنْهُ يَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الْآخَرُ قَضَاءً بِمَا لَهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَهَا هُنَا نَصِيبُهُ مِنْ الدَّارِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا يَبْقَى، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ يَأْخُذُهُ لِمَا فِي أَخْذِهِ مِنْ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ يُوقَفُ فِي أَيْدِيهِمَا لِمَا لَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَحْبُوسٌ بِالْقَبْضِ وَالِابْنُ مَحْبُوسٌ بِالْجَعْلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ إلَى الِابْنِ الْمَدْيُونِ ازْدَادَ نَصِيبُهُ عَلَى نَصِيبِ الِابْنِ الْآخَرِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلِابْنِ الْمَدْيُونِ أَدِّ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ الَّتِي لَهُمَا عَلَيْك، وَإِلَّا بِعْنَا ثُلُثَ الدَّارِ الَّذِي صَارَ لَك، وَأَوْفَيْنَا هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِلنَّظَرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْجَانِيَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا ثُلُثَيْ الْأَلْفِ أَخَذَ ثُلُثَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِمَا كَمَالُ حَقِّهِمَا، وَيَصِلُ إلَيْهِ كَمَالَ حَقِّهِ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَهُ الْقَاضِي فَأَخَذَا ثَمَنَهُ نِصْفَيْنِ. قِيلَ: هَذَا قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَبِيعُ الْقَاضِي نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ لِأَنَّ لَهُمَا عَلَيْهِ دَيْنًا، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 28 ¦ الصفحة: 165 أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَبِيعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ، وَلِلْقَاضِي فِي التَّرِكَةِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الدَّيْنِ فَيَبِيعُ نَصِيبَهُ، وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِيمَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالٍ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ سِوَى الدَّرَاهِمِ فَهُوَ وَالدَّارُ سَوَاءٌ لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَوْ كَانَ دَنَانِيرَ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ قَضَاءً مِمَّا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ أَيْضًا فِي صَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَأْخُذُ النَّقْدَيْنِ وَدَيْنَهُ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَيْضًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَأَخَذَ الدَّنَانِيرِ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ يَكُونُ مُبَادَلَةً فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ الَّتِي عَلَيْهِ مُبَهْرَجَةً، وَمَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ أَجْوَدُ مِنْهَا لِأَنَّهُمَا لَوْ اسْتَوْفَيَا نَصِيبَهُ مَكَانَ مَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَدْيُونِ فِي الْجَوْدَةِ. وَلَوْ اسْتَوْفَيَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ الَّتِي فِي الدَّارِ فَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ أَجْوَدُ مِمَّا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَرَضِيَا بِأَخْذِ نَصِيبِ الْمَدْيُونِ قِصَاصًا فَلَهُمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَجَوَّزَا بِدُونِ حَقِّهِمَا، وَأَسْقَطَا حَقَّهُمَا فِي الْجَوْدَةِ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَيَا بِذَلِكَ كَانَتْ كَجِنْسٍ آخَرَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الرِّبَا، وَقَدْ انْعَدَمَ الرِّضَا مِنْهُمَا بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِمَا بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ فَيُرْفَعُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَبِيعَهُ لَهُمْ فَيُوفِيَهُمْ حَقَّهُمْ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا وَتَرَكَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدَارًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ فَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي حِصَّتَهُ مِنْ الْعَيْنِ وَيُمْنَعُ الْمَدْيُونُ مِنْ حِصَّتِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مَكَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَدْيُونُ مِنْ أَخْذِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَلِّمُ لَهُ مِنْ التَّرِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسَلِّمُ لِأَخِيهِ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْطِيَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى أَخِيهِ فَإِنْ أَعْتَقَ الِابْنَ الْمَدْيُونَ الْعَبْدَ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ لِحَقِّ أَخِيهِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمَوْلَى الْإِبَاقِ إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْجُعْلِ فَإِذَا أَنْفَذَ الْعِتْقَ فِي نَصِيبِهِ كَانَ الشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الِابْنِ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ مَحْبُوسًا فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبَاقِ وَالْمَبِيعُ بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ إذَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 166 أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةَ فِي الدَّيْنِ، وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ، وَتِلْكَ الْمَالِيَّةُ سَلِمَتْ لِلْعَبْدِ فَلِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْبِسَ نَصِيبَ أَخِيهِ مِنْ التَّرِكَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّيْنِ لِأَنَّ قَبْلَ إعْتَاقِ الْعَبْدِ كَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا لَهُ فِي هَذَا النِّصْفِ مِنْ الدَّارِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ. وَإِنْ أَعْطَاهُ نِصْفَ الدَّارِ لِسَكَنِهِ، وَلَوْ بِأُجْرَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ نِصْفَ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَارَ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ وَالسَّاقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِعَادَةَ كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي بِإِعَارَةٍ أَوْ إجَارَةٍ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ وَأَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي سِعَايَتِهِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الِابْنَ الْمَدْيُونَ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ حَقِّهِ مِمَّا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ السِّعَايَةِ، وَلَكِنَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ يُسَلَّمُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعْتَقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةً فَالْعَبْدُ مُوصَى لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ، وَسِعَايَتُهُ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُؤَدِّي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ بَيْنَ الِابْنِ الْمُعْتَقِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَسْلَمَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي مِائَتَيْنِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَ الْغُلَامُ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ يَسْعَى الْعَبْدُ أَيْضًا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سِعَايَتَهُ فِي حُكْمِ الْمُتَعَيَّنِ مِنْ الْمَالِ وَالدَّيْنِ تَاوٍ فَيَسْعَى فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ كَمَالَ حَقِّهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَأَدَّى مِائَةً وَخَمْسِينَ فَيَقْسِمُ مِائَةً مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْعَبْدَ نِصْفَيْنِ، وَمَا بَقِيَ لِلِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الْعَيْنُ تَبَيَّنَ أَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ كَانَ رُبُعَ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي جَمِيعِهِ مَجَازًا، وَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ نِصْفُ ثَلَثِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. وَقَدْ أَخَذَ مِنْ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الْحَاصِل مِائَةٌ، وَخَمْسُونَ، وَقَدْ أَمْسَكَ الْمَدْيُونُ مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَتَرَكَ مِائَةً دَيْنًا عَلَى امْرَأَتِهِ وَمِائَةً عَيْنًا، وَقَدْ أَوْصَى مِنْ مَالِهِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِرَجُلٍ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بِرُبْعِ مَالِهِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ تَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي بِمَنْزِلَةِ الْعَصَبَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَقِّ ذَوِي السِّهَامِ، وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْوَصِيَّتَيْنِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 167 الْأَخِيرَتَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا أَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ لِأَنَّا نُصَحِّحُ السِّهَامَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ثُمَّ يُزَادُ لِلْوَصِيَّتَيْنِ مِثْلُ نِصْفِهِ أَرْبَعَةً ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ حَقَّهَا مِمَّا عَلَيْهَا يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَإِذَا قُسِمَتْ الْمِائَةُ الْعَيْنُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجَزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُمَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَلِلِابْنِ مَا بَقِيَ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى مِائَةٍ كَانَ ثُلُثُهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ بِرُبْعِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَالْمُوصَى لَهُ بِالدَّرَاهِمِ يَضْرِبُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا إذَا ضَرَبْت ذَلِكَ فِي أَحَدَ عَشَرَ يَكُونُ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ ثُمَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مُوَافَقَةٌ بِنِصْفِ الْعُشْرِ فَإِذَا اقْتَصَرَتْ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ عَلَى نِصْفِ عُشْرِهَا يَكُونُ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى هَذَا فَالثُّلُثَانِ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ يُطْرَحُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَنِصْفٌ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالدَّرَاهِمِ أَحَدَ عَشَرَ فَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ، وَبَيْنَ الِابْنِ يَضْرِبُ فِيهِ الِابْنُ بِحَقِّهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ تَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ فَيَجِبُ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا مِمَّا عَلَيْهَا، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ ثُمَّ تَنْفُذُ الْوَصِيَّتَانِ فِي ثُلُثِ الْمَالِ يَضْرِبُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالْعِشْرِينَ بِعِشْرِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ بِالْخُمُسِ فَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا أَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا مُفَسَّرًا. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنًا وَتَرَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَيْنًا، وَعَلَى أَجْنَبِيَّيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ دَيْنًا فَأَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بِمَا عَلَيْهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ الْمِائَةِ الْعَيْنِ فَأَدَّى أَحَدُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ مَا عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُفْلِسٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْمِائَةُ الْعَيْنُ وَالْمِائَةَ الَّتِي عَلَى الِابْنِ تُقْسَمُ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ثَلَاثَةٌ لِلْمُؤَدِّي، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى أَحَدُ الْغَرِيمَيْنِ صَارَ مَا عَلَى الِابْنِ عَيْنًا فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ لِلِابْنِ الْآخَرِ نِصْفُ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ، وَيُسَلِّمُ لِلْمَدْيُونِ مِثْلَ ذَلِكَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 168 وَهُوَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ الْمُوصَى لَهُ بِمِائَةٍ وَاَلَّذِي لَمْ يُؤَدِّ مُسْتَوْفٍ وَصِيَّتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُغَيَّرَ سِهَامُهُ فَيُجْعَلُ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ فَيُسَلِّمُ، وَكُلُّ غَرِيمٍ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ كُلُّ مِائَةٍ عَلَى سِتَّةٍ فَيَكُونُ كُلُّ سَهْمٍ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَلِلْغَرِيمِ الْمُؤَدِّي خَمْسِينَ، وَلِلْآخَرِ مِمَّا عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ مِنْ الْمَالِ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَإِذَا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمْ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ اسْتَقَامَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يُؤَدِّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا فَالْمِائَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ وَالِابْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ الْغَرِيمَيْنِ لَا يَقَعُ لَهُمَا وَصِيَّةً مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَحَلُّ حَقِّهِمَا بِالْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوصَى لَهُ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ فَهَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ لِأَنَّ مَحَلَّ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ فَيَتَعَيَّنُ لَهُ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى أَيْضًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ لِلْمُوصَى عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ مَا لِصَاحِبِهِ فِيمَا أَدَّى فَيَأْخُذُهُ قِصَاصًا بِهِ، وَبِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ يَتَعَيَّنُ مَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ وَصِيَّتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ مِائَةً دَيْنًا، وَتَرَكَ ثَوْبًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَثُلُثُ الثَّوْبِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَثُلُثٌ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَثُلُثٌ مَوْقُوفٌ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَدْيُونُ مَا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِ هَذَا أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ أَخْذِ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ فَصَالَحَهُمَا. وَلَوْ تَرَكَ مَعَ الثَّوْبِ مِائَةً عَيْنًا وَالثَّوْبُ يُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِالثَّوْبِ فَإِنَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْسَمُ الْعَيْنُ وَالثَّوْبُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَهَذِهِ مِنْ أَدَقِّ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِاجْتِمَاعِ قِسْمَتَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَحْتَاجُ إلَى قِسْمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَالثَّوْبُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَةِ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الثَّوْبِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهَا، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ الثَّوْبُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ الْمِائَةُ الْعَيْنُ تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهَا سِتَّةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصِي لَهُمَا خَمْسَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْمَالُ الْمُتَعَيَّنُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ظَهَرَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فَيَكُونُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ خَمْسَةٌ فَيُجْعَلُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 169 الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالثُّلُثَانِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَدْيُونِ، وَيُضْرَبُ الِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالْمُوصِي لَهُمَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ فَتَكُونُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَالثَّوْبُ ثُلُثُ الْعَيْنِ فَإِذَا صَارَ الْكُلُّ عَلَى سِتَّةً وَعِشْرِينَ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الثَّوْبِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ يَأْخُذُ ذَلِكَ يَبْقَى مِنْ الثَّوْبِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى الْمِائَةِ الْعَيْنِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ فَأَمَّا الْمِائَة فَتُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا يَضْرِبُ الِابْنُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِثَمَانِيَةٍ. وَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ فَيُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَضْرِبُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِثَمَانِيَةٍ وَالِاثْنَانِ بِسِتَّةٍ وَعِشْرِينَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ نَصِيبِ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِنْ الثَّوْبِ عَلَى أَنْ يُوقَفَ ذَلِكَ فِي يَدِ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ يَبِيعَهُ الْقَاضِي لِحَقِّ الْمُوصِي لَهُمَا فَإِنْ قِيلَ: فَلِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ مِقْدَارُ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُوقَفُ مِنْ الثَّوْبِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَالِمًا لِلْمَدْيُونِ فِي الْحَالِ كَانَ السَّالِمُ لَهُ فِي الْعَيْنِ عِوَضَهُ مِمَّا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُتَعَيَّنُ مِنْ الدَّيْنِ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ أَدَّى الْمَدْيُونُ وَإِلَّا بِيعَ نَصِيبُهُ مِنْ الثَّوْبِ فَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَسَبْعِينَ سَهْمًا بِاعْتِبَارِ حَقِّهِمَا فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الِابْنُ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى تَنْتَقِضُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ بَيْنُ الْمُوصِي لَهُمَا عَلَى سِتَّةٍ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمِائَتَانِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ كُلَّ خَمْسِينَ عَلَى سِتَّةٍ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ، وَلَهُ مِنْ الثَّوْبِ سَهْمٌ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا خَمْسَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ كُلِّهِ مِنْ الثَّوْبِ ثُمَّ يُضَمُّ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ إلَى الْمِائَتَيْنِ فَيَقْسِمُهُمَا الِاثْنَانِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ تِسْعَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ تُسْعُ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ وَثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يُؤَدِّ الِابْنُ مَا عَلَيْهِ قُسِمَتْ الْمِائَةُ الْعَيْنُ وَالثَّوْبُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الثَّوْبِ وَصِيَّتَانِ وَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَكُونُ الثَّوْبُ عَلَى سِتَّةٍ، وَيَسْتَقِيمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَكِنْ فِي الِانْتِهَاءِ يَنْكَسِرُ بِالْإِنْصَافِ فَجَعَلْنَاهُ عَلَى سِتَّةٍ لِهَذَا يَضْرِبُ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِي الثَّوْبِ بِسِتَّةٍ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ فَتَكُونُ سِهَامُ الثَّوْبِ ثَمَانِيَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَةٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 170 وَسَبْعُونَ فَتُجْعَلُ كُلُّ خَمْسٍ عَلَى سِتَّةٍ فَتَكُونُ سِهَامُ الْمِائَةِ الْعَيْنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَسِهَامُ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ تِسْعَةً فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ تِسْعَةٌ إذَا ضَمَمْته إلَى ثَمَانِيَةٍ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ سِهَامُ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ. وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى ثَلَاثِينَ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَتَكُونُ عَشَرَةً لِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةً يُضَمُّ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ إلَى الْمِائَةِ الْعَيْنِ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَأَمَّا الْمِائَةُ الْعَيْنُ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَيَضْرِبُ فِي ذَلِكَ بِتِسْعَةٍ وَالِابْنُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لِأَنَّهُ يَضْرِبُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ بِثَلَاثِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِتِسْعَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُوقَفُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِمَّا عَلَيْهِ لَهُمَا، وَإِنْ خَرَجَتْ الْمِائَةُ الدَّيْنُ فَقَدْ انْتَقَضَتْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى، وَيَجِبُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِأَنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةٍ ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثَّوْبِ، وَكُلُّ خَمْسِينَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ لَا عَوْلَ فِيهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَحْصُلُ لَهُ خَمْسَةٌ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةٌ فَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَالثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا ثَلَاثَةٌ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ كُلِّهِ فِي الثَّوْبِ ثُمَّ يُضَمُّ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ إلَى الْمِائَتَيْنِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةٌ خُمُسُ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَيْنًا وَثَلَثَمِائَةٍ عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ دَيْنًا، وَتَرَكَ كُرَّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِالْكُرِّ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ وَثُلُثِ الْكُرِّ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ أَنَّ الْمِائَتَيْنِ وَالْكُرَّ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْكُرِّ وَصِيَّتَانِ بِجَمِيعِهِ وَثُلُثِهِ وَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَهُ كَانَ الْكُرُّ عَلَى سِتَّةٍ، وَكُلُّ مِائَةٍ مِنْ الْعَيْنِ كَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا، وَسَهْمَانِ مِنْ الْكُرِّ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكُرِّ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَشَرَةٍ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ فِي الْعَيْنِ خَاصَّةً فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَشَرَةٍ وَالثُّلُثَانِ عِشْرُونَ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَدْيُونِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَتُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْمُوصَى لَهُمَا عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الرُّبْعُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْكُرِّ كُلِّهِ فِي الْكُرِّ وَالرُّبْعُ ثَلَثُمِائَةٍ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْكُلِّ فِي الْحَاصِلِ ثُمَّ يُضَمُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 171 مَا بَقِيَ إلَى الْكُرِّ إلَى الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَمَا أَصَابَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَيْنِ خُمُسُ ذَلِكَ فِي الْكُرِّ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِيهِمَا، وَخُمُسُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ لَهُ مِنْ الْكُرِّ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الرُّبْعِ الْبَاقِي، وَمِنْ الْمِائَتَيْنِ سِتُّونَ دِرْهَمًا، وَيَكُونُ لِلِابْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ الْمَدْيُونِ نِصْفَيْنِ فَتُوقَفُ حِصَّةُ الْمَدْيُونِ مِنْ الْكُرِّ فِي يَدِ أَخِيهِ حَتَّى يَبِيعَهُ الْقَاضِي أَوْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ. فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ انْتَقَضَتْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى، وَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ عَيْنًا فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْكُرِّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْكُرِّ وَالْآخَرُ سُدُسَ الْكُرِّ وَثُلُثَ الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ دُونَ ثُلُثِ الْمَالِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهُمَا، وَقِسْمَةُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْقِسْمَةُ فِي الْكُرِّ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ فَتَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ الْعَيْنِ سَهْمَانِ لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ مِائَةٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكُرِّ كَذَلِكَ فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سِتَّةٍ كَانَ الثُّلُثَانِ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَدْيُونِ وَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، لِلْمُوصَى لَهُمَا سَهْمَانِ، وَلِلِابْنِ سَهْمَانِ، وَفِي الْحَاصِلِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْكُرِّ ثَلَثُمِائَةٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْكُرِّ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ رُبْعُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ الْكُرِّ وَالْمِائَتَيْنِ أَثْلَاثًا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الرُّبْعَ الْبَاقِيَ مِنْ الْكُرِّ بِحِصَّتِهِ، وَيُسَلَّمُ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ فَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ مِقْدَارَ حَقِّهِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ذَلِكَ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَثُلُثَانِ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلِابْنِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنَيْنِ، وَتَرَكَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَشَرَةً دَيْنًا، وَعَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ عَشَرَةً دَيْنًا، وَتَرَكَ سَيْفًا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِالسَّيْفِ فَالسَّيْفُ يُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَالْقِسْمُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ يَزْدَادُ بِنِصْفِ الْمُوصَى لَهُ مِثْلُ نِصْفِ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ، وَنَصِيبُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ نَصِيبِهِ، وَيُضْرَبُ الْمُوصَى لَهُ فِي السَّيْفِ بِثَمَانِيَةٍ وَالِابْنُ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِسَبْعَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ثَمَانِيَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَبْعَةٌ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَيُحْسَبُ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبُهَا مِمَّا عَلَيْهَا اثْنَيْنِ وَنِصْفٌ، وَتُؤَدِّي مَا بَقِيَ، وَيُحْسَبُ لِلِابْنِ الْآخَرِ نَصِيبُهُ مِمَّا عَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 172 أَرْبَاعٍ فَيُؤَدِّي دِرْهَمًا وَرُبْعًا يَأْخُذُ الِابْنُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ السَّيْفِ جَمِيعَ السَّيْفِ قَالَ عِيسَى، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ السَّيْفَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَى الْمَرْأَةِ وَالِابْنِ مِنْ الدَّيْنِ فَكَيْفَ يَأْخُذُ الِابْنُ مِنْ الدَّيْنِ نَصِيبَهُمَا مِنْ السَّيْفِ قَضَاءً عَمَّا لَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ فِي قِسْمَةِ السَّيْفِ سِهَامَهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَدْيُونِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ السَّيْفَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْوَصِيَّةِ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَقُّ الِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ خَاصَّةً قَبْلَ خُرُوجِ الدَّيْنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَقُّ الْآخَرِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا سَبَقَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكُرِّ، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ يُوقَفُ نَصِيبُ الِابْنِ الْمَدْيُونِ مِنْ الْكُرِّ إلَى أَنْ يَبِيعَهُ الْقَاضِي فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ غَلَطًا هَذَا مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَمَا أَصَابَ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَهُوَ لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَلَى مَا وَصَفْت لَك فَكَأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ يُشِيرُ إلَى التَّوَقُّفِ، وَيُرِيدُ أَنَّ حِصَّتَهُ تُسَلَّمُ لَهُ وَحِصَّةُ الْآخَرِينَ تَكُونُ مُوَفَّقَةً فِي يَدِهِ. وَإِذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ، وَتَرَكَ عَلَى أَحَدِ امْرَأَتَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ مِائَةً، وَتَرَكَ خَادِمًا يُسَاوِي مِائَةً فَأَعْتَقَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا تُنَصَّفُ قِيمَتُهَا لِلْمَرْأَةِ وَالِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ تُزَادُ فِي الْوَصِيَّةِ مِثْلَ نِصْفِهِ ثَمَانِيَةٌ، وَيُطْرَحُ نَصِيبُ الْغَرِيمَيْنِ مِمَّا عَلَيْهِمَا يَبْقَى حَقُّ الْخَادِمِ فِي ثَمَانِيَةٍ، وَحَقُّ اللَّذَيْنِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا يُسَلَّمُ لِلْخَادِمِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ الثُّمُنِ وَالِابْنُ سَبْعَةُ أَثْمَانٍ، وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَيَّنُ لِلْغَرِيمَيْنِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْخَادِمِ السِّعَايَةُ وَالسِّعَايَةُ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ فَيَأْخُذُ اللَّذَانِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِمَا نَصِيبَ الْآخَرِينَ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصًا بِمَا لَهُمَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنَيْنِ رَدَّ عَلَى الْخَادِمِ مَا أَخَذَ مِنْهَا مِنْ السِّعَايَةِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ، وَتُمْسِكُ الْمَرْأَةُ الْمَدْيُونَةُ حِصَّتَهَا مِمَّا عَلَيْهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفًا، وَتُؤَدِّي سَبْعَةً وَثَمَانِينَ وَنِصْفًا لِلِابْنِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَيُمْسِكُ الِابْنُ الْمَدْيُونُ مِمَّا عَلَيْهِ حِصَّتُهُ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَنِصْفٌ، وَيُؤَدِّي اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفًا إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا دَيْنَ عَلَيْهَا فَقَدْ وَصَلَ إلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ. وَإِذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنًا، وَتَرَكَ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً فَأَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَدَّى أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ الْعَيْنَ الَّتِي عَلَى الِاثْنَيْنِ تُجْمَعُ فَيُقْسَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَيْنَ الْوَارِثِينَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَاَلَّذِي أَدَّى الْمِائَةَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ بِأَدَاءِ أَحَدِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 173 الْغَرِيمَيْنِ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا تَنْفُذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالْقِسْمَةِ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ الْمِائَةُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ فَيَصِيرُ مَا عَلَى الِابْنَيْنِ عَيْنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ ثُمَّ الْمُؤَدِّي يَأْخُذُ نَصِيبَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ بِمَا أَدَّى قَضَاءً مِمَّا عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَبِقَدْرِ مَا يُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ يُنْتَقَصُ فِيهِ اسْتِيفَاءُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مِثْلَهُ مِمَّا بَقِيَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كُلَّهُ عَيْنًا، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي كُلِّ مِائَةٍ مِمَّا عَلَى الِابْنَيْنِ يَصِيرُ عَلَى سِتَّةِ أَنْصِبَاءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَكَانَ لَهُ فِي الْحَاصِلِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِكُلِّ غَرِيمٍ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَتَكُونُ سِهَامُ الْجُمْلَةِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ فَتُطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ سِهَامُ الْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، وَيُقْسَمُ ثَلَثُمِائَةٍ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ، خَمْسَةً مِنْ ذَلِكَ لِلْمُؤَدِّي فِي الْمِائَةِ الَّتِي أَدَّاهَا صَاحِبُهُ، وَثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ لِلِابْنِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ سِتَّةٍ يَسْتَوْفِيه مِنْ الْمِائَةِ الْعَيْنِ، وَيُحْسَبُ لِلِابْنَيْنِ مَا عَلَيْهِمَا بِنَصِيبِهِمَا، وَيَأْخُذَانِ مَا بَقِيَ، وَيُؤَدِّي الَّذِي عَلَيْهِ الْمِائَةُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْمِائَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثٌ فَيَسْتَوْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً وَتَرَكَ خَادِمًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى رَجُلٍ مِائَةٌ فَأَوْصَى لِلرَّجُلِ بِمَا عَلَيْهِ، وَأَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ الْخَادِمُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الْخَادِمِ خُمُسُهَا، وَتَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا لِلْوَرَثَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَكُونُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ عَلَى سَهْمَيْنِ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ عَلَيْهِ فَوْقَ حَقِّهِ فَيَضْرِبُ الْخَادِمُ فِيهِ بِسَهْمِهِ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَلِهَذَا سَعَتْ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّجُلُ مَا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يُمْسِكُ مِقْدَارَ حَقِّهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمِائَةِ وَيُؤَدِّي الثُّلُثَيْنِ فَيَدْفَعُ إلَى الْخَادِمِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْخَادِمَ تَسْعَى فِي عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالسِّعَايَةِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثُ هَاهُنَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالدَّيْنِ يُضْرَبُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَالْخَادِمُ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا فَإِذَا جَعَلْت الْمِائَةَ عَلَى ثَلَاثَةٍ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ يَطْرَحُ نَصِيبُ الْغَرِيمِ ثُمَّ يَبْقَى حَقُّ الْخَادِمِ فِي سَهْمَيْنِ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي عَشَرَةٍ فَلِهَذَا قَالَ إنَّهَا تَسْعَى فِي عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 174 فَإِذَا تَيَسَّرَ خُرُوجُ الدَّيْنِ يَحْسِبُ الْمَدْيُونُ نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهِ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيُرَدُّ عَلَى الْخَادِمِ مِنْ ذَلِكَ إلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ خُمُسُ الْمَالِ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ الثُّلُثُ هُوَ خُمُسُ الْمَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ لِجَارِيَةٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَرَثَةُ فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَذَّبُوهُ سَعَتْ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ الْمَوْلَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَا يَكُونُ مَعَهَا وَلَدٌ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ الْوَلَدَ فِي مِلْكِهِ أَوْ اشْتَرَاهَا فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَكْذِبُوهُ فَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ حُرَّةٌ مَعَ وَلَدِهَا، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمْ فِي حَقِّهِمْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ مَعَ وَلَدِهَا سَوَاءٌ كَانَ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ يَكُونُ شَاهِدًا لَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةُ فِي إثْبَاتُ حُرِّيَّتِهَا، وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ النَّسَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَد فَإِنْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي صِحَّتِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا فِي صِحَّتِهِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا أَقَرَّ لَهَا بِالتَّدْبِيرِ فِي صِحَّتِهِ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ يَصِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ كَأَنَّهُ أَنْشَأَهُ، وَلَوْ أَسْنَدَ الِاسْتِيلَادَ فِي صِحَّتِهِ اُعْتُبِرَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ مِنْ ثُلُثِهِ فَلَعَلَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا تُصَدَّقُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَتَسْعَى فِي ثُلْثَيْ قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ قَدْ اشْتَرَاهُمَا فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُمَا فِي صِحَّتِهِ عِتْقًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُسْنِدُ إقْرَارَهُ لَهُمَا إلَى وَقْتِ الشِّرَاءِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالصِّحَّةِ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُمَا فِي مَرَضِهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ التَّخْدِيمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا عَتَقَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ مَلْكَهُ، وَذَلِكَ فِي مَرَضِهِ فَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَيَرِثُ ذَلِكَ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ هَذَا الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 175 مُكَاتِبٌ فَلَا يَرِثُ شَيْئًا، وَعِنْدَهُمَا الْمُسْتَسْعَى حُرٌّ فَيَرِثُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَإِذَا كَانَ وَارِثًا عِنْدَهُمَا لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً، وَكَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَهِيَ لَا تَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ شَاهِدٌ لَهَا فِي حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي شَيْءٍ. وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي أَوْ مُدَبَّرَتِي ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ وَتَسْعَى فِي ثُلُثِ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ التَّدْبِيرِ وَأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَبِمَوْتِهِ فَاتَ الْبَيَانُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ فِي نِصْفِهِ فَيُعْتَقُ نِصْفُهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِإِقْرَارِهِ بِالِاسْتِيلَادِ فِي صِحَّتِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مِنْهَا إنَّمَا يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَالُهُ نِصْفُ رَقَبَتِهَا فَيُعْتَقُ ثُلُثُ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَتَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، وَذَلِكَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا فِي الْحَاصِلِ. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي أَوْ حُرَّةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ تُعْتَقُ وَتَسْعَى فِي ثُلُثِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ كَالتَّدْبِيرِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَوْ حُرَّةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ الْكَلَامِ بِحُكْمِهِ لَا بِصُورَتِهِ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْفَصْلُ وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءً. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ جَارِيَةٌ، وَلَهَا ابْنَةٌ، وَلِابْنَتِهَا ابْنَةٌ، وَلَهُ عَبْدٌ، وَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ يُولَدُ مِثْلُهُمْ لِمِثْلِهِ فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ أَحَدِهِمْ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِالنَّسَبِ مِنْهُمْ مَجْهُولٌ وَالنَّسَبُ فِي الْمَجْهُولِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي ثُمَّ يُعْتَقُ مِنْ الْغُلَامِ رُبْعُهُ، وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَيَرِثُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، وَتَسْعَى الْجَارِيَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّهَا تُعْتَقُ فِي حَالَيْنِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَلَدَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ يُعْتَقُ ثُلُثُهَا، وَتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا، وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْعُلْيَا مِنْهُمَا تُعْتَقُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ وَابْنَتُهَا أَوْ أُمُّهَا، وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهَا تُعْتَقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الصُّغْرَى إنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ أَوْ أُمُّهَا أَوْ جَدَّتُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْغُلَامَ فَهِيَ أَمَةٌ فَيُعْتَقُ نِصْفُهَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ اقْتَسَمُوا الثُّلُثَ عَلَى ذَلِكَ يَضْرِبُ فِيهِ الْغُلَامُ بِرُبْعِ قِيمَتِهِ وَالْجَارِيَةُ بِثُلُثِ ذَلِكَ، وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَلَدَيْنِ بِالنِّصْفِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ وَنِصْفٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ ثُمَّ الطَّرِيقُ فِي التَّخْرِيجِ مَعْلُومٌ. وَلَوْ قَالَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 176 فِي صِحَّتِهِ لِأَمَةٍ لَهُ حَامِلٍ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ مَا فِي بَطْنِك ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَالِابْنَةُ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا لِأَنَّا قُلْنَا بِحُرِّيَّتِهَا فَإِنَّ الْأُمَّ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَيُعْتَقُ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُهَا لِأَنَّهَا تُعْتَقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا. وَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا سَعَتْ الْأُمُّ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَالِابْنَةُ فِي رُبْعِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ النَّصِيبَ مِنْ الِابْنَةِ يُعْتَقُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَفِي حَالٍ لَائِمَةٍ لَا يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ مِنْ الثُّلُثِ فِي هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مَقْصُودًا، وَفِيمَا هُوَ تَبَعٌ فِيهِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَلِأَنَّ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إنَّمَا يُعْتَقُ حَالَ كَوْنِهِ تَخَلَّقَ فِي الْبَطْنِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ ذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا النِّصْفَ مَالًا لِلْمَوْلَى يَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى فِيهِ وَنِصْفُ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ نِصْفُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ مِنْ الْوَلَدِ النِّصْفُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالرُّبْعُ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي رُبْعِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ الْأُمِّ رُبْعَهَا فَتَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ سَعَتْ الِابْنَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْأُمَّ حِينَ مَاتَتْ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحِقَّةً لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الْوَلَدُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ سَعْيًا بِنَاءً عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا بَقِيَ الْوَلَدُ كُلُّهُ مَالًا لِلْمَوْلَى، وَقَدْ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْمَوْتِ قَدْ أَوْقَعَتْ الْعِتْقَ عَلَى الِابْنَةِ سَعَتْ الِابْنَةُ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهَا، وَتَكُونُ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ بِتَعَيُّنِ الْمَوْلَى خَرَجَتْ الْأُمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحِقَّةً لِشَيْءٍ مِنْ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الْوَلَدِ تَبَعًا لَهَا أَيْضًا، وَكَانَ مَالُ الْمَوْلَى رَقَبَتَهَا، وَقَدْ عَتَقَتْ الِابْنَةُ فِي مَرَضِهِ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَثُلُثُ مَالِهِ ثُلُثَانِ فِيهِ لِلِابْنَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوقَعْ، وَلَكِنَّ الِابْنَةَ مَاتَتْ قَبْلَ السَّيِّدِ سَعَتْ الْأُمُّ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الِابْنَةَ بِمَوْتِهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا أَوْ مُزَاحِمًا لِلْأُمِّ فَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْأُمِّ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا جَعَلَتْهَا السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ، وَهُمَا حَيَّانِ قَدْ أَوْقَعَتْ الْعِتْقَ عَلَى الْأُمِّ عَتَقَتْ الِابْنَةُ كُلُّهَا بِغَيْرِ سِعَايَةٍ لِأَنَّ بِبَيَانِهِ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهَا مِنْ حِينَ أَوْقَعَ وَالِابْنَةُ كَانَتْ فِي بَطْنِهَا عِنْدَ ذَلِكَ فَتَعْتِقُ كُلُّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَعَلَى الْأُمِّ أَنْ تَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ لَا مَالَ لِلْمَوْلَى سِوَى رَقَبَةِ الْأُمِّ. وَلَوْ لَمْ يُوقِعْ الْعِتْقَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى مَاتَ ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ سَعَتْ الِابْنَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَمِيعِ مَا كَانَ عَلَى الْأُمِّ مِنْ السِّعَايَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ السِّعَايَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ تَبَعُ الْأُمِّ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِعِتْقِ الْأُمِّ. وَالْأُمُّ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 177 لَا تُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ، وَهِيَ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ يَسْعَى فِيمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَنَالُ الْعِتْقَ إلَّا بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي رُبْعِ قِيمَتِهِ أَيْضًا مَعَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَسْعَى الْوَلَدُ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَيْسَ عَلَى وَلَدِ الْحُرَّةِ السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ الْأُمِّ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلَكِنَّهَا تَسْعَى فِي خُمُسَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّ نِصْفَهَا عَتَقَ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ وَالْوَصِيَّةُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَقَدْ مَاتَتْ الْأُمُّ مُسْتَوْفِيَةٌ، لِوَصِيَّتِهَا وَهِيَ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْوَلَدِ يَضْرِبُ فِيهِ الْوَلَدُ بِسَهْمٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَذَلِكَ خُمُسَا جَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الْأُمُّ، وَمَاتَ الْوَلَدُ سَعَتْ الْأُمُّ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، وَقَدْ تَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّمَا تَضْرِبُ الْأُمُّ فِي رَقَبَتِهَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَمَةٍ لَا مَالَ غَيْرُهَا فِي صِحَّتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ السَّاعَةَ أَوْ إذَا مِتُّ سَعَتْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ " أَوْ " بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَقَدْ فَاتَ الْبَيَانُ لِمَوْتِهِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَقَدْ عَتَقَ نِصْفُهَا بِالْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي صِحَّتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لَهَا ثُلُثُ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ السَّاعَةَ أَوْ إذَا مَرِضْت فَإِنَّهَا تَعْتِقُ إذَا مَرِضَ، وَلَا يَعْتِقُ مِنْهَا فِي الصِّحَّةِ شَيْءٌ فَإِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ سَعَتْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لِأَصْلٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ مَنْ ذَكَرَ وَقْتَيْنِ، وَأَضَافَ الْحُرِّيَّةَ إلَى أَحَدِهِمَا بِحَرْفِ " أَوْ " فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي آخِرِ الْوَقْتَيْنِ، وَمَتَى عَتَقَ بِأَحَدِ فِعْلَيْنِ فَإِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ أَوَّلِهِمَا فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ وَقْتٍ وَفِعْلٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ الْفِعْلُ أَوَّلًا جُعِلَ فِي حَقِّ الْمَوْجُودِ كَأَنَّ الْآخَرَ مِثْلُهُ، وَإِنْ وُجِدَ الْوَقْتُ أَوَّلًا يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمَوْجُودِ كَأَنَّ الْآخَرَ مِثْلُهُ، فَهُنَا إمَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ مُنَصَّفُ الْعِتْقِ إلَى آخِرِ الْوَقْتَيْنِ فَإِنَّ زَمَانَ الْمَرَضِ وَقْتٌ كَزَمَانِ الصِّحَّةِ فَلَا يَقَعُ إلَّا فِي زَمَانِ الْمَرَضِ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ وَقْتٍ وَفِعْلٍ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا مَرِضْت، فَإِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَرَضِ، وَعِتْقُ الْمَرَضِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَإِنَّ ذَلِكَ تَدْبِيرٌ لَا تَعْلِيقٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الصِّحَّةِ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ وَالتَّدْبِيرُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ بِعِتْقِ الْبَيَانِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ بِهِ الْبَيْعُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَعَنَ أَبُو حَازِمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ مِنْهَا فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذَا مِتُّ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ جَمِيعًا، وَلَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 178 يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنْ الْعِتْقِ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ وَاللَّفْظُ مُعْتَبَرٌ فِي التَّعْلِيقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ مُدَبَّرَةٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، وَمَا كَانَ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَفْظَةِ التَّعْلِيقِ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ، وَمَا كَانَ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذَا مِتُّ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فِي الصُّورَةِ فَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّدْبِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُمْنَعُ لَهُ الْبَيْعُ فِي الْحَالِ، وَبَعْدَمَا غَلَبَ عَلَى صُورَةِ اللَّفْظِ مَعْنًى يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَإِنَّهُ يَكُونُ هَذَا تَفْوِيضًا حَتَّى يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِنْ وُجِدَتْ صُورَةُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ فَهَذَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ مِتُّ فَأَنْتِ حُرَّةٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ بِالْمَوْتِ عِتْقًا مُعَلَّقًا بِالدُّخُولِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ حَتَّى لَوْ قَالَ هَاهُنَا أَنْتِ حُرَّةٌ السَّاعَةَ، وَإِذَا مِتُّ فِي سَفَرِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى صُورَةِ الشَّرْطِ مَعْنَى التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ فَيَبْقَى التَّعْلِيقُ مُعْتَبَرًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ السَّاعَةَ أَوْ إذَا مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَإِذَا مَاتَ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ عَتَقَتْ مِنْ ثُلُثِهِ بَتًّا. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ فِي صِحَّتِهِ أَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ أَحَدُكُمَا مُدَبَّرٌ، وَقِيمَتُهَا سَوَاءٌ ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُ قِيمَتِهِ مِنْ وَصِيَّتِهِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ حُرِّيَّةٍ وَتَدْبِيرٍ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ، وَقَدْ انْقَطَعَ خِيَارُهُ بِمَوْتِهِ فَيَثْبُتُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ حُرِّيَّةُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَدْبِيرُ نِصْفِ رَقَبَةٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَشِيعُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمَا، وَيَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. وَكَذَلِكَ تَدْبِيرُ نِصْفِ رَقَبَةٍ يَشِيعُ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّدْبِيرِ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَالُهُ رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُسَلَّمُ لَهُمَا بِالتَّدْبِيرِ ثُلُثُ رَقَبَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَيَسْعَى كُلٌّ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ مُدَبَّرَانِ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُمَا بِالتَّدْبِيرِ ثُلُثُ رَقَبَةٍ بَلْ مَا أَوْجَبَ لَهُمَا مِنْ التَّدْبِيرِ أَوْ أَكْثَرُ. وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ تَدْبِيرِ رَقَبَتَيْنِ، وَحُرِّيَّةِ رَقَبَةٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِهِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُعْتَقُ نِصْفُ رَقَبَتِهِ بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ، وَيَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَةً وَنِصْفًا فَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ نِصْفُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَفِي الْحَاصِلِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 179 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدكُمَا حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ فَإِنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ مَوْتِهِ حُرِّيَّةُ نِصْفِ رَقَبَةٍ، وَتَدْبِيرُ نِصْفِ رَقَبَةٍ، وَيَتْبَعُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِيهِمَا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ فِي صِحَّتِهِ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَالْمُدَبَّرُ فِي سُدُسِ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ لِأَحَدِهِمَا فَبِمَوْتِهِ، وَتَشْيِيعِهِ فِيهِمَا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ثُمَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَبَّرِ يَعْتِقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَمَالُهُ رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لَهُ بِالتَّدْبِيرِ ثُلُثُ رَقَبَةٍ، وَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي سُدُسِ قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ مِنْ الْعَبْدِ نِصْفُ رَقَبَتِهِ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا سَعَى الْمُدَبَّرُ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ قَدْ تَوَى بِمَوْتِهِ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِ الْمَوْلَى فَإِنَّمَا مَالُهُ نِصْفُ رَقَبَةِ الْمُدَبَّرِ فَيَعْتِقُ بِالسُّدُسِ ثُلُثُ ذَلِكَ النِّصْفِ مَعَ النِّصْفِ الَّذِي عَتَقَ مِنْهُ بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ وَبَقِيَ الْعَبْدُ سَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْعَبْدِ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَمَوْتُهُ فِي حَقِّهِ، وَبَقَاؤُهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَرَضِ مِنْ الْمَوْلَى، وَلَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَمَاتَ السَّيِّدُ كَانَ لِلْعَبْدِ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِلْمُدَبَّرِ ثُلُثَا الثُّلُثِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَالْعَبْدُ يُوصَى لَهُ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ وَالْعَبْدُ يُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ، وَلَا تُزَادُ وَصِيَّتُهُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَبَّرِ فِي الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ نَصِيبٌ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْقِنِّ فَيَكُونُ هُوَ مُوصًى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ قُلْنَا إنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ اعْتِبَارِ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَمَّا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ مُفِيدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُزَاحَمَتِهِ مَعَ الْقِنِّ فِي الْعِتْقِ الثَّابِتِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْعِتْقَ مُوصًى لَهُ بِنِصْفِ رَقَبَتِهِ فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا سَعَى الْعَبْدُ فِي سِتَّةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى رَقَبَةُ الْعَبْدِ يَضْرِبُ فِيهِ الْعَبْدُ بِحَقِّهِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَالْوَرَثَةُ بِسِتَّةٍ مِقْدَارِ حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ سَعَى الْمُدَبَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَةُ الْمُدَبَّرِ خَاصَّةً فَيَضْرِبُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ بِحَقِّهِ سَهْمَيْنِ وَالْوَرَثَةُ بِسِتَّةٍ فَيُسَلَّمُ لَهُ الرُّبْعَ، وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْآخَرُ رَقِيقٌ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ فَهُوَ صَادِقٌ فِي أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُدَبَّرًا فَيَكُونُ كَلَامُهُ إخْبَارًا لَا إيجَابًا كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَقَالَ: هَذَا الْكَلَامَ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ إخْبَارٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 180 فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ إيجَابًا لِلضَّرُورَةِ وَبِالضَّرُورَةِ، يُصَحَّحُ الْخَبَرُ، فَإِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ بِهِ سَابِقًا فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى أَنْ نَجْعَلَ كَلَامَهُ إيجَابًا بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا عَنْ مَالِ الْمُدَبَّرِ كَمَا هُوَ صِيغَةُ كَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ لِمُدَبَّرَيْنِ لَهُ وَعَبْدٍ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمْ حُرٌّ، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَثُمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ سَعَى الْعَبْدُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَبَّرَيْنِ يَعْتِقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَمَالُهُ رَقَبَتَانِ فَلَهُمْ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثَانِ فِيهِ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ الْعِتْقُ الثَّابِتُ فِي ثُلُثِهِ بِالتَّدْبِيرِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُدَبَّرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا سَعَى الْعَبْدُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَلَى حَالِهِ وَالْمُدَبَّرُ فِي خُمُسَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ تَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَلَا حَظَّ لِلْعَبْدِ فِي الْوَصِيَّةِ فَهُوَ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَلَى حَالِهِ، وَمَالُ الْمَيِّتِ ثُلُثَا رَقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِينَ فَيَضْرِبُ الْمُدَبَّرُ الْبَاقِيَ فِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لِلْمُدَبَّرِ خُمُسَ الْبَاقِي، وَقِيمَةُ الْبَاقِي أَرْبَعُمِائَةٍ فَخُمُسُهُ ثَمَانُونَ فَقَدْ سَلَّمَ لِلْمُدَبَّرِ بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ الثُّلُثَ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَبِالتَّدْبِيرِ ثَمَانُونَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ خُمُسَاهُ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ أَيْضًا سَعَى الْعَبْدُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا ثُلُثَا رَقَبَتِهِ فَهُوَ يَضْرِبُ فِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَلِهَذَا سَعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَسْبَاعًا لِأَنَّ الْقِنَّ أَصَابَهُ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ ثُلُثُ رَقَبَةٍ فَهُوَ مُوصًى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَةٍ، وَلَا يُزَادُ حَقُّهُمَا بِالْإِيجَابِ الَّذِي كَانَ فِي الْمَرَضِ فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ ثُلُثِ رَقَبَةٍ سَهْمًا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ، وَلِلْقِنِّ سَهْمٌ. وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سَبْعَةٍ فَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْمَالُ كُلُّهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كُلُّ رَقَبَةٍ سَبْعَةٌ، وَيُسَلَّمُ لِلْقِنِّ سَهْمٌ، وَهُوَ السُّبُعُ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَيَسْعَى فِي سِتَّةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِ فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَبَّرَيْنِ فِي سَبْعَةٍ أَعْشَارِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّ مَالَ الْمَيِّتِ رَقَبَةُ الْمُدَبَّرَيْنِ، وَهُمَا يَضْرِبَانِ فِي ذَلِكَ بِسِتَّةٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِشْرِينَ كُلُّ رَقَبَةٍ عَشَرَةٌ يُسَلِّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةً، وَيَسْعَى فِي سَبْعَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أَحَدَ الْمُدَبَّرَيْنِ يَسْعَى الْمُدَبَّرُ الْبَاقِي فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَالْقِنُّ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ رَقَبَتُهُمَا يَضْرِبُ فِيهِ الْقِنُّ بِسَهْمٍ وَالْمُدَبَّرُ بِثَلَاثَةٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِكُلِّ رَقَبَةٍ تِسْعَةٌ يُسَلِّمُ لِلْمُدَبَّرِ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ وَالْقِنُّ سَهْمٌ، وَذَلِكَ تُسْعُ رَقَبَتِهِ، وَيَسْعَى فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَيْضًا سَعَى الْمُدَبَّرُ الْبَاقِي فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ سَبْعَةَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 181 عَشَرَ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي الْحَاصِلِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ رَقَبَتَهُ خَاصَّةً فَيَضْرِبُ الْوَرَثَةُ بِحَقِّهِمْ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْمُدَبَّرُ بِحَقِّهِ ثَلَاثَةٌ فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقَدْ مَاتَ كُلٌّ مِنْ الْآخَرَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ الْقَدْرَ إلَى مَا يُسَلَّمُ لِلْبَاقِي اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ أَحَدُكُمْ حُرٌّ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُزَاحِمًا لِلْبَاقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ الْمُتَّهَمَةِ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعُهُ، وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا لَمْ يُنْتَقَصْ مِنْ حَقِّ الْبَاقِينَ شَيْءٌ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ ثَلَاثَةٌ فَإِنَّ بِوَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا جَمَعْتهَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَلِهَذَا لَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُمْ بِمَا تَوَى مِنْ السِّعَايَةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْبَاقِينَ أَيْضًا يَسْعَى الْبَاقِيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَيْنِ قَدْ اسْتَوْفَيَا وَصِيَّتَهُمَا، وَتَوَى مَا عَلَيْهِمَا مِنْ السِّعَايَةِ، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَةُ الْبَاقِينَ، وَهُمَا يَضْرِبَانِ بِحَقِّهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَهْمٍ وَالْوَرَثَةُ بِحَقِّهِمْ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَإِنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ السِّهَامُ عَشَرَةً، كُلُّ رَقَبَةٍ خَمْسَةٌ فَلِهَذَا يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ لِأَمَةٍ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ فَالِابْنَةُ رَقِيقٌ وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ نِصْفُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَنِصْفُهُ بِعِتْقِ الْأُمِّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِرِقِّ الِابْنَةِ كَمَالِ الشَّرْطِ ثُمَّ الْغُلَامُ يَعْتِقُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ أَيْضًا تَبَعًا لِلْأُمِّ فَلِهَذَا يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَالْجَارِيَةُ تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا فَهِيَ أَمَةٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا فَهِيَ حُرَّةٌ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا. طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا الْجَوَابِ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ شَيْءٌ مِنْ الْأُمِّ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي شَرْطِ عِتْقِهَا فَإِنَّ شَرْطَ عِتْقِهَا وِلَادَةُ الْجَارِيَةِ أَوَّلًا، وَهَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَا يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنْ الْجُزْءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ، وَمَاتَ الْمَوْلَى وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ لِلشَّكِّ فِيمَا هُوَ شَرْطٌ. وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ فَإِنَّ شَرْطَ عِتْقِهَا وِلَادَةُ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ كَوْنَ وِلَادَةِ الْغُلَامِ سَابِقًا مَانِعٌ، وَهَذَا الْمَانِعُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 182 مَشْكُوكٌ فِيهِ فَإِنَّمَا هَذَا اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِي الْمَانِعِ لَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّ وِلَادَةَ الْجَارِيَةِ صَارَتْ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَأُعْلِمَ وُجُودُهُ كَانَ أَوَّلًا مَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَة فِي مَرَضِهِ يَسْعَى الْغُلَامُ فِي نِصْفِ سُدُسِ قِيمَتِهِ، وَتَسْعَى الْأُمُّ فِي ثَلَاثَةِ أَسْدَاسٍ، وَنِصْفِ سُدُسِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ نِصْفَ رَقَبَةِ الْغُلَامِ لَا يُعَدُّ مَالًا لِلْمَوْلَى فَإِنَّ الْعِتْقَ فِيهِ تَبَعُ الْأُمِّ فَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَتَانِ وَنِصْفٌ ثُمَّ الْغُلَامُ بِنِصْفِ رَقَبَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأُمُّ تَضْرِبُ بِنِصْفِ رَقَبَتِهَا فَإِنَّ وَصِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا الْمِقْدَارُ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمَيْنِ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ سِتَّةً وَالْمَالُ رَقَبَتَانِ وَنِصْفٌ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ فَيَكُونُ خَمْسَةً ثُمَّ سِتَّةٌ عَلَى خَمْسَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، فَتَضْرِبُ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ فَصَارَتْ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ الرَّقَبَةُ سِتَّةٌ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ نِصْفُهُ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَيُسَلَّمُ لَهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ حَقَّهُ فِي سَهْمٍ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهُ فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَيْهِ السِّعَايَةِ فِي سَهْمٍ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسِ قِيمَتِهِ، وَالْأُمُّ صَارَتْ رَقَبَتُهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمٍ لَهَا مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَذَلِكَ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسِ فَعَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْدَاسٍ وَنِصْفِ سُدُسٍ. فَإِنْ مَاتَ الْغُلَامُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا سَعَتْ الْأُمُّ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْغُلَامَ مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ رَقَبَةُ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ، يَضْرِبُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَعَةٍ وَالْأُمُّ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ أَخْمَاسًا، وَلَكِنْ إذَا قَسَّمْت خَمْسَةً عَلَى رَقَبَتَيْنِ كَانَ كُلُّ رَقَبَةٍ سَهْمَيْنِ وَنِصْفًا فَأُضْعِفَ فَيَكُونُ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى خَمْسَةٍ فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْأُمِّ مِنْ رَقَبَتَيْنِ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةٍ، وَتَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْغُلَامُ سَعَى الْغُلَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَمِيعِ مَا كَانَ عَلَى أُمِّهِ، وَعَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَالنِّصْفُ الَّذِي هُوَ تَبَعُ الْأُمِّ مِنْ الْغُلَامِ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِعِتْقِ الْأُمِّ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَدَاءِ سِعَايَةِ الْأُمِّ لِيَسْتَنِدَ الْعِتْقُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، فَلِهَذَا فِي جَمِيعِ مَا عَلَى أُمِّهِ كَوَلَدِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَيْسَ عَلَى وَلَدِ الْحُرَّةِ سِعَايَةٌ فِي دَيْنِ أُمِّهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي خُمُسَيْ نِصْفِ قِيمَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِوَصِيَّتِهَا، وَيُعَادُ مَا عَلَيْهَا مِنْ السِّعَايَةِ، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ نِصْفُ رَقَبَةِ الْغُلَامِ مَعَ رَقَبَةِ الِابْنَةِ يَضْرِبُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَعَةٍ وَالْغُلَامُ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ خَمْسَةً، وَقَسْمُهُ رَقَبَةٌ وَنِصْفٌ عَلَى خَمْسَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُضَعِّفَ رَقَبَةً وَنِصْفًا فَيَكُون ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِلِابْنَةِ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَنِصْفُ رَقَبَةِ الْغُلَامِ خَمْسَةٌ يُسَلِّمُ لَهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 183 مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ حَقَّهُ فِي سَهْمٍ ضَرَبْنَاهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي خُمُسَيْ نِصْفِ رَقَبَتِهِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثَلَثِمِائَةٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلُوا ذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِثُلُثِ الْمِائَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِعِوَضٍ يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالْعِتْقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَالْعِتْقُ بِعِوَضٍ يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ بِالشَّرْطِ كَالْعِتْقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَمَّا قَبِلُوا جَمِيعًا فَقَدْ وُجِدَ الْقَبُولُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ الْإِيجَابُ فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمْ، وَكَانَ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ فِي الْبَيَانِ، وَقَدْ انْقَطَعَ خِيَارُهُ بِمَوْتِهِ فَيَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمْ جَمِيعًا، وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمِائَةِ بِحِصَّةِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا تَبِعَ الْعِتْقَ، وَثُبُوتُ التَّبَعِ يُثْبِتُ الْمَتْبُوعَ، ثُمَّ إنَّمَا حَصَلَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِقَدْرِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ دُونَ الثُّلُثِ فَيُسَلِّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ ثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ، وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَهُوَ دِيَةٌ مَعَ ثُلُثِ الْمِائَةِ هِيَ عِوَضٌ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَبْدَانِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْآخَرِ ثَلَثُمِائَةٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَا ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفٌ بِنِصْفِ الْمِائَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْغُلَامُ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةٌ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ إلَّا أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ نِصْفُ رَقَبَتِهِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ مِثْلُ قِيمَةِ نِصْفِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ، وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ أَيْضًا مَعَ الْخَمْسِينَ فَلَهُ مِنْ قِيمَتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَصِيَّةً لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ نِصْفَ رَقَبَتِهِ بِخَمْسِينَ، وَقِيمَةُ نِصْفِ رَقَبَتِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمِائَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْإِيجَابِ فَفِي هَذَا الْإِيجَابِ وَصِيَّةٌ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ صَاحِبَهُ فَلَا وَصِيَّةَ فِي هَذَا الْإِيجَابِ لِأَحَدٍ فَبِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ثَبَتَتْ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ الْمِائَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْأَرْفَعِ فَإِنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْأَوْكَسِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرَانِ حُرَّانِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَبِلُوا ذَلِكَ فَهُمْ أَحْرَارٌ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْحُرِّيَّةَ لِأَحَدِهِمْ بِعِوَضٍ فِي قَبُولِهِمْ فَقَبِلُوا قَبُولَ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ الْإِيجَابُ، وَنُزُولُ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ بِاعْتِبَارِ الْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَأَعْتَقَ الْآخَرَيْنِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّتِهِمْ، وَلَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى فِي الْإِيقَاعِ لِأَنَّ إيقَاعَ الْعِتْقِ الْمُتَّهَمِ بِالْبَيَانِ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ، وَبَعْدَمَا عَتَقُوا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إيجَابَ الدَّيْنِ فِيهِمْ ابْتِدَاءً فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْإِيقَاعِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الَّذِي يَرِثُ الْمَالَ مِنْهُمْ مَجْهُولٌ وَالْقَضَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ لَوْ قَالُوا لِرَجُلٍ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدِهِمْ شَيْءٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 184 وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ هُنَاكَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الْبَيَانِ فِي الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ، وَهَا هُنَا لَيْسَ لِلْمَوْلَى فِي الْعِتْقِ حَقُّ الْبَيَانِ فَيَبْقَى مَقْصُودًا بِالْوُجُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمَجْهُولِ مَقْصُودًا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَالثَّالِثُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَقَبِلُوا جَمِيعًا فَهُمْ أَحْرَارٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرٌّ قِيلَ مُطْلَقًا فَقَدْ قَبِلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ الْإِيجَابِ فَيَعْتِقُونَ جَمِيعًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا الْمُتَيَقَّنَ بِهِ وَالْمُتَعَيَّنُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ الْمِائَةِ فَقَطْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ أَقَرُّوا أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى أَحَدِهِمْ مِائَةً، وَعَلَى الْآخَرِ مِائَتَيْنِ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَثُمِائَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مِائَةً فَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ فِي مَرَضِهِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَثُمِائَةٍ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقَبِلَا ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ فَيُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ قِيمَتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، وَيَسْعَى فِي ثُلْثَيْ قِيمَتِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرٌّ، وَإِنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ فَأَنْتِ حُرٌّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ صَحِيحٌ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ مِنْ الْمَوْلَى مَا لَمْ يَتْرُكْ الْعِتْقَ مَرَّةً كَانَ أَوْ مَرَّاتٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَيُّ الشَّرْطَيْنِ وُجِدَ عَتَقَ الْعَبْدُ، فَهَاهُنَا إنْ أَدَّى الْأَلْفَيْنِ عَتَقَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي لِوُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى إحْدَى الْأَلْفَيْنِ سَتُّوقِيَّةً عَتَقَ الْعَبْدُ بِالْأَلْفِ الْخِيَارِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ بَدَلُ السَّتُّوقَةِ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا أَدَّى إلَى الْمَوْلَى أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَدَاءُ الْأَلْفِ سَتُّوقَةً لِلْمَوْلَى إنْ كَانَتْ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ السَّتُّوقَةُ دَيْنًا عَلَى الْعَبْدِ دِرْهَمًا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي الْأَلْفَيْنِ دِرْهَمًا سُتُّوقًا أَوْ وَجَدَهَا تَنْقُصُ مِنْ وَزْنِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ شَيْئًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ بِأَدَائِهِ تَمَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ وَجَدَ الْأَلْفَ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً وَاسْتَحَقَّتْ فَعَلَى الْعَبْدِ بَدَلُهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي هَاهُنَا فَإِنَّ الزَّيْفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مُؤَدِّيًا الْأَلْفَيْنِ ثُمَّ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الْعَرَضِ، فَإِذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا اسْتَبْدَلَهُ بِهِ فَإِذَا اسْتَحَقَّتْ رَجَعَ بِمِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ قِيلَ الْقَبْضُ فِي الْمُسْتَحَقِّ يَنْتَقِصُ مِنْ الْأَصْلِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَلِكَ فِي الزُّيُوفِ بِالرَّدِّ، وَلِهَذَا بَطَلَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 185 الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا وُجِدَ الْكَسْرُ زُيُوفًا فَرَدَّهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْلَى إنَّمَا تَمَّ فِي الْأَلْفِ دِرْهَمٍ. قُلْنَا: نَعَمْ بِالرَّدِّ يَنْتَقِصُ الْقَبْضُ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا فَيَنْتَقِضُ بِانْتِقَاصِ الْقَبْضِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَالْعِتْقُ الْوَاقِعُ لَا يَحْتَمِلُهُ النَّقْصُ. فَبِالرَّدِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْ نُزُولِ الْعِتْقِ مَا لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ أَدَاءِ الْأَلْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ فَوَجَدَ الْوَرَثَةُ الْأَمْرَ عَلَى مَا وَصَفْت لَك إلَّا أَنَّ السَّيِّدَ إنْ كَانَ حَابَى الْغُلَامَ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا، وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ كَانَ الْفَضْلُ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى مِنْ الْمَالِ فِي حُكْمِ الْعِوَضِ اسْتِحْسَانًا، وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ إذَا حَابَى الْعَبْدَ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فِي قَدْرِ الْمُؤَدَّى لِوُجُودِ الْعِوَضِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْوَصِيَّةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرٌّ، وَإِنْ أَدَّيْت إلَيَّ مِائَةَ دِينَارٍ فَأَنْتِ حُرٌّ فَأَدَّاهُمَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِهِمَا لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا وَالْعِتْقُ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْعِلَّةِ ثُبُوتًا فَكَانَ يَسْتَقِيمُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى عِلَّتَيْنِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى شَرْطَيْنِ، فَإِنْ وَجَدَ الْأَلْفَ سَتُّوقَةً أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ نَاقِصَةً أَوْ اُسْتُحِقَّتْ فَعَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْأَلْفَيْنِ يَعْنِي أَنَّ فِي السَّتُّوقِ يَكُونُ الْعِتْقُ وَاقِعًا بِأَدَاءِ الْمِائَةِ الدِّينَارِ خَاصَّةً، وَفِي الزُّيُوفِ وَالْمُسْتَحَقِّ يَكُونُ الْعِتْقُ وَاقِعًا بِأَدَائِهِمَا فَيَسْتَبْدِلُ بِالزُّيُوفِ الْمُسْتَحَقَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إقْرَارِ الْوَارِثِ لِوَارِثٍ مَعَهُ فَيُصَدِّقُهُ صَاحِبُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ] (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنًا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَتَرَكَ مَالًا فَأَقَرَّ الِابْنُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى النَّسَبِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ لَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا كَانَ الِابْنُ وَاحِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ بِابْنٍ آخَرَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ فَإِقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْأَبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا تَنَازَعَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَدُ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي وَقَالَ سَعْدُ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ أَخِي فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَقَدْ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ زَمْعَةَ بِإِقْرَارِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ هَذَا الْوَارِثُ دُونَ أُخْتِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 186 سَوْدَةَ فَقَدْ كَانَتْ مُسْلِمَةً عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَزَمْعَةُ قُتِلَ كَافِرًا وَعَبْدٌ كَانَ عَلَى دِينِهِ يَوْمَئِذٍ فَكَانَ هُوَ الْوَارِثُ خَاصَّةً. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُحْمَلُ هَذَا النَّسَبُ عَلَى غَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ لَا يَكُونُ أَخًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يُحْمَلُ نَسَبُهُ عَلَى أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ هُوَ مَقَامَ الْأَبِ فِيمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ مِنْ الْمَالِ، وَفِي النَّسَبِ لَا يَخْلُفُهُ فَلَا يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ، وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ لَكَ قَضَاءٌ بِالْمِلْكِ لِعَبْدٍ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ كَانَ وَلَدَ أَمَةِ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ لِتَحْقِيقِ نَفْيِ النَّسَبِ مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَدْ كَانَ عَاهِرًا لَا فِرَاشَ لَهُ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تِلْكَ الْوَلِيدَةَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِزَمْعَةَ، وَلَيْسَتْ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: عِنْدَ أَبِي وَلَدٌ عَلَى فِرَاشِ أَبِي أَقَرَّ بِهِ أَبِي، فَإِنَّمَا أَقَامَهُ مَقَامَ أَبِيهِ فِي إظْهَارِ إقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ كَانَ بِإِقْرَارٍ مَعَهُ لَا بِإِقْرَارِ عَبْدٍ، ثُمَّ نَقُولُ: الْمُقَرُّ لَهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا وَرِثَ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ إقْرَارًا بِشَيْئَيْنِ: بِالنَّسَبِ وَبِالشَّرِكَةِ فِي الْمِيرَاثِ. وَالنَّسَبُ إنَّمَا يُقَرُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ إنَّمَا يُقِرُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ: هَذَا ابْنِي فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِنْ دَفَعَ النِّصْفَ إلَيْهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ لِأَبِيهِ وَكَذَّبَهُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الْآخَرُ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُ وَحَقَّ الثَّانِي فِي الشَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَدْفُوعِ لِأَحَدٍ، وَيُجْعَلُ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ كَالتَّاوِي فَيَكُونُ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الْآخَرُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ لِإِقْرَارِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثُلُثِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ قَدْرَ السُّدُسِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ بَعْدَ قَضَاءٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا مِنْ نَصِيبِهِ فَيَدْفَعُ إلَى الْآخَرِ مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ كَمَالَ حَقِّهِ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ أَوْ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ حُكْمًا، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْبَاقِيَ فِي يَدِهِ ثُلُثَا التَّرِكَةِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّفْعِ بِقَضَاءٍ، وَغَيْرِ قَضَاءٍ أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا قَضَى دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ مِنْ التَّرِكَةِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 187 بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ شَيْئًا. وَلَوْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ ضَامِنًا حِصَّةَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي قَضَى بَعْضَ الْغُرَمَاءِ دَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ إذَا دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى يُفْصَلُ بَيْنَ الدَّفْعِ بِقَضَاءٍ، وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الدِّيَاتِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ هُنَاكَ بَيْنَ الدَّفْعِ بِقَضَاءٍ، وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَالْفَرْقُ لَهُمْ بِحَرْفٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَقٌّ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا سَوَاءٌ دَفَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ عَيْنَ مَا يَأْمُرُ الْقَاضِي بِهِ لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ، وَمَتَى كَانَ حَقُّ الثَّانِي ثَابِتًا عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ يُفْصَلُ بَيْنَ الدَّفْعِ بِقَضَاءٍ، وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيَانُهُ فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّتَهُ وَاسْتَوْفَى صَدَاقَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَدْخُلْ الزَّوْجُ بِهَا فَيَضْرِبُ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ ثُمَّ اخْتَارَتْ هِيَ نَفْسَهَا حَتَّى صَارَ الصَّدَاقُ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى، وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الدَّيْنُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا حِينَ تَصَرَّفَ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَاجِبًا حِينَ تَصَرَّفَ، وَقَدْ سَبَقَ نَظَائِرُهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ فَهَاهُنَا قَدْ تَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّ الثَّانِي كَانَ ثَابِتًا حِينَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ فَفَصَلَ بَيْنَ الدَّفْعِ بِقَضَاءٍ، وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ حَقَّ الثَّانِي كَانَ ثَابِتًا حِينَ دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَغْرَمُ الثَّانِي شَيْئًا سَوَاءٌ دَفَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَدَفَعَ الرُّبْعَ إلَى الثَّانِي بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَانِ، وَأَنْكَرَهُمَا الثَّالِثُ أَيْضًا فَإِنَّ الثَّالِثَ يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي يَبْقَى نِصْفُ التَّرِكَةِ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُ وَحَقَّ الثَّالِثِ وَالثَّانِي فِي هَذَا النِّصْفِ سَوَاءٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَالِ، وَقَدْ دَفَعَ إلَى الثَّانِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ كَمَالَ حَقِّهِ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَثُلُثُ الْمَدْفُوعِ إلَى الثَّانِي لَمَّا كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ جُعِلَ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَكَانَ الْبَاقِي فِي يَدِهِ ثُلُثَيْ النِّصْفِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَدَفَعَ الثُّلُثَ إلَى الثَّانِي بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِالثَّالِثِ فَصَدَّقَهُ فِيهِ الْأَوَّلُ، وَكَذَّبَهُ الثَّانِي وَكَذَبَا جَمِيعًا لِلثَّانِي فَإِنَّ الثَّالِثَ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 188 فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدَيْ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ تَخْرِيجَهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ طَرِيقًا آخَرَ لِتَخْرِيجِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّالِثَ يَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدَيْ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِابْنَيْنِ آخَرَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَانِ. وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْأَوَّلَ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِشَيْءٍ صَارَ كَالِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَالثَّالِثُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ، وَصَدَّقَهُ الْأَوَّلُ بِهِ، ثُمَّ بَيَانُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الثَّالِثَ مُسَاوٍ لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ دَافِعٌ أَرْبَعَةً، وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُصَدِّقٌ بِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ نَصِيبَهُ فِي الْمَدْفُوعِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُمَا فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ لِهَذَا ثُمَّ يَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَجْهُ تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ لِلثَّالِثِ: أَنَا قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ حَقِّي فِي سَهْمٍ، وَحَقَّك فِي سَهْمٍ، وَحَقَّ الْبَاقِي فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي فِيهِ حَقُّك نِصْفُهُ فِي يَدِي، وَنِصْفُهُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ يَصِلُ إلَيْك مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِك، وَلَا غُرْمَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا دَفَعْته إلَى الثَّانِي لِأَنِّي دَفَعْته بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَبَقِيَ مَا فِي يَدَيَّ وَحَقُّك فِيهِ فِي نِصْفِ سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَهْمٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ فَيَكُونُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِهَذَا، وَجْهُ تَخْرِيجِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ لِلثَّالِثِ: أَنَا قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّك رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، وَلَا غُرْمَ لَك عَلَيَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَفَعْته إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّك فِي ذَلِكَ النِّصْفُ يَصِلُ إلَيْك مِنْ جِهَتِهِ يَبْقَى حَقُّك فِي سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِك، وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ الثَّانِي نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَمَا دَفَعْت إلَيْهِ زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهِ إنَّمَا دَفَعْته بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ مَضْمُومًا عَلَيَّ فَأَنَا أَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدَيَّ بِحَقِّي، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَأَنْتَ تَضْرِبُ بِحَقِّك الجزء: 28 ¦ الصفحة: 189 وَهُوَ سَهْمٌ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَتُضْعِفُهُ فَيَكُونُ لِلثَّالِثِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْمُقِرِّ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ عَلَى خَمْسَةٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَيْ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ الْأَوَّلَ، وَأَنْكَرَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَأَقَرَّ الثَّانِي بِالثَّالِثِ، وَأَنْكَرَا جَمِيعًا الْأَوَّلَ فَإِنَّ الثَّالِثَ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الْمَعْرُوفِ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الثَّانِي فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، وَأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ كَانَ فِي رُبْعِ الْمَالِ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ النِّصْفَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالرُّبْعُ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ يَكُونُ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً أَوْ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَكَانَ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَمَالَ حَقِّهِمَا، وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ، وَقَدْ دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ الْمَالِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ السُّدُسَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي يَدِهِمَا نِصْفُ الْمَالِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا، وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ بِزَعْمِهِ. وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثَّالِثِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الثَّالِثِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ سُدُسُ الْمَالِ، وَيَغْرَمُ لَهُ أَيْضًا ثُلُثَ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا إلَّا أَنَّهُ دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ الْمَالِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلثَّالِثِ، وَقَدْ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ النِّصْفَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّالِثِ مَا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ ثُلُثَا التَّرِكَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الثَّالِثِ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ، وَثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ سُدُسٌ وَثُلُثُ سُدُسٍ، وَالْبَاقِي فِي يَدِهِ السُّدُسُ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ لَهُ ثُلُثَ سُدُسٍ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا كَمَالَ حَقِّهِ بِزَعْمِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا فِي يَدِ أَخِيهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِ أَخِيهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ مِنْ أَبِيهِ، وَصَدَّقَهُ فِيهِ الْأَخُ الْمَعْرُوفُ، وَأَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ بِهِ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ دَفَعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ مِنْهُ الْمُقَرُّ بِهِ الثَّانِي خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَ مِنْهُ الْمُقَرُّ بِهِ الثَّانِي خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الْبَاقِيَ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَ مِنْهُ خُمُسَ جَمِيعِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 190 الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَجْهُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا جَمِيعًا، وَصَدَّقَهُ الْمَعْرُوفُ فِي أَحَدِهِمَا لَكَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: أَنَا قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ حَقَّك فِي رُبْعِ التَّرِكَةِ، وَنِصْفُ التَّرِكَةِ فِي يَدِ أَخِي، وَهُوَ مُقِرٌّ بِنَصِيبِك فَإِنَّمَا يَبْقَى حَقُّك فِيمَا فِي يَدِي فِي الرُّبْعِ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَا بَقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَانِ فَإِذَا أَقْرَرْتُ بِهِ أَوَّلًا، وَدَفَعْتُ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدَيَّ فَمَا دَفَعْتُهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لَا يَكُونُ مَضْمُومًا عَلَيَّ لِأَنِّي دَفَعْته بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَبْقَى حَقُّك فِيمَا فِي يَدَيَّ فِي سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَهْمٍ، وَنِصْفٍ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَمَا دَفَعَهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، وَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي جَمِيعَ حَقِّهِ إذْ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا، وَذَلِكَ رُبْعُ النِّصْفِ ثُمُنُ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَجْهُ تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا لَكَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ حَقُّك فِي سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَهْمٍ، وَحَقُّ الْمَجْحُودِ فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ حَقُّك نِصْفُهُ فِي يَدِي، وَنِصْفُهُ فِي يَدِ شَرِيكِي، وَهُوَ مُقِرٌّ لَك بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ، وَالْمَجْحُودُ بِسَهْمٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْمَجْحُودِ أَوَّلًا، وَدَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَضْمُونًا فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ بِسَهْمٍ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ سَهْمٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَمَا دَفَعَهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا كَانَ يَدْفَعُ أَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا، وَذَلِكَ خُمُسُ نِصْفِ الْمَالِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ وَلَوْ تَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الثَّانِي مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَةِ مَا يَأْخُذُ مَعَ الْآخَرِينَ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ نِصْفٌ فِي يَدِهِ، وَنِصْفٌ فِي يَدِ أَخِيهِ، وَهُوَ يُقِرُّ لَهُ بِذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ إلَّا مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ الثَّالِثُ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ أَقَرَّ بِابْنَتِهِ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ فَإِذَا أَخَذَ كُلٌّ ضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ وَالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا أَنَّ حَقَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ فَمَا يَصِلُ إلَيْهِمْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتْوَى بِأَخْذِ الِابْنِ الْآخَرِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَّةِ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى لَهُمْ بِالْحِصَّةِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 191 فَاقْتَسَمُوا الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِأَخٍ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ، وَصَدَّقَهُ فِيهِ أَحَدُ إخْوَتِهِ الْمَعْرُوفِينَ، وَتَكَاذَبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِذَا كَانَ دَفَعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَ مِنْهُ الْآخَرُ خُمُسَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَضَمَّهُ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ خَاصَّةً فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي رُبْعَ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ يَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ مَا فِي يَدَيْهِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَ مِنْهُ الْآخَرُ خُمُسَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَضَمَّهُ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ خَاصَّةً فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي رُبْعَ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ فَضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ مَا فِي يَدَيْهِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ فَضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَجْهُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُقِرَّ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ الثَّانِي فِي خُمُسِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ أَحَدَ إخْوَتِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ كَذَّبَهُ، وَصَارَ هُوَ مَعَ مَا أَخَذَ كَالْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا نَعْتَبِرُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْبَاقِيَيْنِ فَمِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ لِلثَّانِي إنَّمَا أَقْرَرْت بِأَنَّ لَك رُبْعَ مَا فِي أَيْدِينَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِك يَصِلُ إلَيْك مِنْ جِهَتِهِ، يَبْقَى حَقُّك فِيمَا فِي يَدِي فِي سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَذَلِكَ رُبْعُ ثُلُثِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ إلَّا أَنِّي دَفَعْت إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيَّ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا فِي يَدِهِ فَأَنْتَ تَضْرِبُ بِسَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُهُ فَيَكُونُ لِي ثَلَاثَةٌ، وَلَك سَهْمَانِ، فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَيْ مَا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَمَا دَفَعَ إلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ هُوَ مَحْسُوبٌ عَلَى الدَّافِعِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي جَمِيعَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ رُبْعُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَوَجْهُ تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَقُّك فِي سَهْمٍ، وَلَكِنَّ نِصْفَ ذَلِكَ السَّهْمِ فِي يَدِي وَنِصْفَهُ فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ لَك، وَهُوَ يَصِلُ إلَيْك مِنْ جِهَتِهِ فَأَنْتَ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ الْأَوَّلُ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِي بَيْنَنَا أَخْمَاسًا لَك مِنْهُ الْخُمُسُ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا فِي يَدِهِ يَضْرِبُ فِيهِ الثَّانِي بِسَهْمٍ، وَالْمُقِرُّ بِسَهْمَيْنِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 192 وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي كَمَالَ حَقِّهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَهُوَ خُمُسُ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا خَرَّجَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَذَّبَ بِهِمَا مَعَ مَا أَخَذَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ مَا أَخَذَ بِنَسَبِهِ الْمَعْرُوفِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَى أَحَدِ سَوَاءٌ كَانَ أَخَذَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَمْ لَا. وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ الْآخَرُ أَقَرَّ بِهِ الْإِخْوَةُ الْمَعْرُوفُونَ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِمَا دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَى الثَّانِي ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ دَفَعَ إلَيْهِ خُمُسَ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ فَضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فَاقْتَسَمُوهَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ لِلثَّانِي حَقُّك فِي خُمُسِ جَمِيعِ الْمَالِ، وَاَلَّذِي فِي يَدِ أَخَوَيَّ لَك بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَوَّلِ لِي سَهْمَانِ، وَلَهُ كَذَلِكَ فَإِنْ دَفَعَك بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَمَا دَفَعَهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ إلَى الثَّانِي كَمَالَ حَقِّهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَهُوَ خُمُسُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمْ سَوَاءٌ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ أَثْلَاثًا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إلَّا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى مَذْهَبِهِ التَّخْرِيجُ بِطَرِيقِ السِّهَامِ فَالْمُقَرُّ لَهُ يَقُولُ لِلثَّانِي حَقُّك فِي سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَهْمٍ، وَحَقُّ الْأَوَّلِ فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي حَقُّك ثُلُثُهُ فِي يَدِي، وَثُلُثَاهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا مُقِرَّانِ بِك فَإِنَّمَا تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِثُلُثِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ، وَالْأَوَّلُ بِسَهْمٍ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا كَانَتْ الْقِسْمَةُ أَسْبَاعًا لِلثَّانِي سُبْعُ مَا فِي يَدِهِ فَإِذَا كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَالْمُقِرُّ يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهِ بِثَلَاثَةٍ، وَالثَّانِي بِسَهْمٍ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ الثَّانِي مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمَعْرُوفَيْنِ فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً فَأَقَرَّتْ الِابْنَةُ بِأَخٍ لَهَا وَأَنْكَرَهُ أَخُوهَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّ حَقَّهُ ضِعْفَ حَقِّهَا فَإِنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَابْنَةً، وَأَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ إلَّا أَنَّ الِابْنَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِنَسَبِهِ الْمَعْرُوفِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنْ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا فَإِنْ أَعْطَتْهُ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِأُخْتٍ مِنْ أَبِيهَا، وَصَدَّقَهَا فِيهَا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ الْمُقَرُّ بِهِ الْأَوَّلُ، وَصَدَّقَتْ هِيَ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَتَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدَ الِابْنَةِ وَالْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمُونَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْمَعْرُوفَ يَزْعُمُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 193 أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنًا وَابْنَتَيْنِ، وَأَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا حَقُّ هَذِهِ فِي رُبْعِ الْمَالِ، وَبَعْضُ الْمَالِ فِي يَدِ الِابْنَةِ وَالْمُقَرِّ لَهُ، وَحَقُّهَا فِي ذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهَا لِإِقْرَارِهِمَا بِهِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الِابْنِ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ رُبْعُ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنَةِ وَالْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمُونَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِتَصَادُقِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَلَوْ كَانَتْ الْمُقَرُّ بِهَا كَذَّبَتْ بِالْأَوَّلِ أَخَذَتْ مِنْ الِابْنَةِ الْمَعْرُوفَةِ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهَا إنْ كَانَتْ أَعْطَتْ الْأَوَّلَ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَتْ هَذِهِ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا سُدُسَ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ فَضَمَّتْهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَعْطَتْ الْأَوَّلَ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَتْ الثَّانِيَةُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهَا فَضَمَّتْهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَجْهُ تَخْرِيجِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِابْنَةَ زَعَمَتْ أَنَّ حَقَّ الثَّانِيَةِ فِي سُدُسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَقُولُ الْمَيِّتُ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ فَإِنَّمَا حَقُّ الثَّانِيَةِ فِي سَهْمٍ مِنْ سِتَّةٍ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ، وَنَصِيبُهَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ يُسَلَّمُ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ يَبْقَى حَقُّهَا فِي سَهْمٍ مِمَّا فِي يَدِهَا، وَمَا بَقِيَ وَهُوَ خَمْسَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا لِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَلِلْمُقِرَّةِ سَهْمٌ وَثُلُثَانِ فَمَا دَفَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ إنَّمَا دَفَعَتْ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ تَضْرِبُ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا بِسَهْمٍ. وَهِيَ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْنِ فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا يَصِيرُ حَقُّ الْمُقِرَّةِ خَمْسَةً وَحَقُّ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةً فَلِهَذَا أَخَذْت مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَأْخُذُ الثَّانِيَةُ كَمَالَ حَقِّهَا مِمَّا فِي يَدِهَا، وَذَلِكَ سُدُسُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ فَضَمَّتْ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَقَاسَمَتْهُ أَثْلَاثًا لِتَصَادُقِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقِرَّةَ زَعَمَتْ أَنَّ حَقَّ الثَّانِيَةِ فِي سَهْمٍ، وَلَكِنْ ثُلُثَا ذَلِكَ السَّهْمِ فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا فَإِنَّمَا تَضْرِبُ هِيَ فِيمَا فِي يَدِ الْمُقِرَّةِ بِثُلُثِ سَهْمٍ، وَالْمُقِرَّةُ بِسَهْمٍ، وَالْمُقَرُّ بِهِ الْأَوَّلُ بِسَهْمَيْنِ فَإِذَا جَعَلَتْ كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا كَانَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ لَهَا عُشْرُ مَا فِي يَدِهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ فَإِنْ دَفَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهَا فَلِهَذَا أَخَذَتْ رُبْعَ مَا فِي يَدِهَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهَا فَتَأْخُذُ الثَّانِيَةُ كَمَالَ حَقِّهَا مِمَّا فِي يَدِهَا، وَذَلِكَ عُشْرُ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنَيْنِ وَمَالًا فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ لَهُ مِنْ أَبِيهِ مَعًا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِهِمَا، وَتَكَاذَبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَاَلَّذِي أَقَرَّا بِهِ جَمِيعًا يَأْخُذُ مِنْ يَدِ الْمُقِرِّ بِالْأَخَوَيْنِ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي الجزء: 28 ¦ الصفحة: 194 أَقَرَّ بِهِ خَاصَّةً فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ خَاصَّةً فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الِابْنِ الْمُقَرِّ بِهِمَا اقْتَسَمَهُ هُوَ، وَالِابْنُ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَخُوهُ نِصْفَيْنِ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: وَلَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا لَكَانَ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُ فِي أَحَدِهِمَا يَأْخُذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ رُبْعَ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ اعْتِبَارًا لِحَالِ تَصْدِيقِهِ بِهِ خَاصَّةً بِحَالِ تَصْدِيقِهِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ بِالْآخَرِ لَا يُغَيِّرُ نَصِيبَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ السِّهَامَ فَيَقُولُ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ إنَّ حَقَّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي سَهْمٍ، وَلَكِنَّ نِصْفَ ذَلِكَ السَّهْمِ فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ، وَهُوَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيمَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَالْمُقِرُّ بِسَهْمٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَدِّمَهَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا بَدَأَ بِالتَّفْرِيعَاتِ عَلَيْهِ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا لِتَكُونَ أَوْضَحَ فِي الْبَيَانِ فَإِنْ تَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا بَدَأَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ خَاصَّةً لِتَصَادُقِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ، وَثُلُثِ مَا فِي يَدِ أَخِيهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالْأَخَوَيْنِ فَيَقْتَسِمُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا أَنَّ حَقَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنًا وَامْرَأَةً فَاقْتَسَمَا الْمَالَ ثُمَّ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَيْنِ لِلْمَرْأَةِ مَعًا، وَصَدَّقَهَا الِابْنُ فِي أَحَدِهِمَا، وَتَكَاذَبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا فِي يَدِهِمَا فَإِنَّ الِابْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ، وَرَجَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ عَنْ هَذَا، وَقَالَ: لَا نَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ شَيْئًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ذَكَرَ رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ مَكَانَ رُجُوعِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ: مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِابْنِ الْمَجْحُودِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لَهُ سَبْعَةٌ، وَلَهَا ثَلَاثَةٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَهَا سَهْمٌ، وَلِلْمَجْحُودِ سَبْعَةٌ فَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ سَبْعَةً مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَهِيَ تَزْعُمُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا فِي سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ التَّرِكَةِ، وَاَلَّذِي فِي يَدِهَا جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيَدْفَعُ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِمَّا فِي يَدِهَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا سَوَاءٌ. وَوَجْهُ رُجُوعِهِمَا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي ثُمُنِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنٌ أَوْ ثَلَاثُ بَنِينَ، وَلَيْسَ فِي يَدِهَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 195 إلَّا مِقْدَارُ نَصِيبِهَا، وَهُوَ الثُّمُنُ فَهِيَ إنَّمَا أَقَرَّتْ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِأَنَّ نَصِيبَهُ فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الِابْنَ الْمَعْرُوفَ لَوْ صَدَّقَهَا فِيهِمَا لَمْ يَأْخُذْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِمَا فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُمَا فِي أَحَدِهِمَا، وَلَكِنَّ الْمُعَامَلَةَ لَهُ مَعَ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيُقَاسِمُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ، وَتَبْقَى مُعَامَلَةُ الْمَجْحُودِ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَنَى الْجَوَابَ عَلَى زَعْمِهَا، وَهِيَ زَعَمَتْ أَنَّ حَقَّ الْمَجْحُودِ فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَحَقُّهَا فِي ثُلُثٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهَا بِحَقِّهِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى عَشَرَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَنَى عَلَى زَعْمِ الِابْنِ الْمَجْحُودِ، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لَهَا سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبُ هُوَ بِسَبْعَةٍ، وَهِيَ بِسَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ لَمَّا كَذَّبَ الْمَجْحُودَ صَارَ هُوَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي حَقِّ الْمَجْحُودِ كَالْمَعْدُومِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ الْوَارِثَةُ مَعَ الْمَجْحُودِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَهَا الثُّمُنُ، وَلِلْمَجْحُودِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهِ. وَلَوْ تَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الِابْنُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى مُقَاسَمَةِ مَا يَأْخُذُ مَعَ الْمُقَرِّ بِهِ الْآخَرِ ثُمَّ فِي زَعْمِ الِابْنِ الْآخَرِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَاَلَّذِي فِي بَعْضِ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْمَعُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا وَالْمَرْأَةِ عَلَى سَبْعَةٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ يُجْمَعُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا وَالْمَرْأَةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ امْرَأَةً وَثَلَاثَ بَنِينَ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَيُقْسَمُ مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمْ تَضْرِبُ فِيهِ الْمَرْأَةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا بِسَبْعَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَاقْتَسَمُوا الْمَالَ ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مَعًا، وَصَدَّقَهُ أَحَدُ إخْوَتِهِ فِي ابْنَيْنِ مِنْهُمَا، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَتَكَاذَبَ الثَّلَاثَةُ فِي مَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّمَا يُسَمِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَكُونَ أَوْضَحَ فِي الْبَيَانِ فَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ بِالثَّلَاثَةِ نُسَمِّيهِ الْأَكْبَرَ، وَاَلَّذِي صَدَّقَهُ فِي الِاثْنَيْنِ نُسَمِّيهِ الْأَوْسَطَ، وَاَلَّذِي صَدَّقَهُ فِي وَاحِدٍ نُسَمِّيهِ الْأَصْغَرَ ثُمَّ نُسَمِّي الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ جَمِيعًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ اثْنَانِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَكْبَرُ خَاصَّةً نُسَمِّيهِ مَجْحُودًا ثُمَّ نَقُولُ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْأَكْبَرِ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ، وَمِنْ الْأَوْسَطِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 196 الْأَصْغَرِ، وَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَكْبَرَ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ سِتَّةَ بَنِينَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي سُدُسِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ، وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَأَخَذَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ لِهَذَا، وَالْأَوْسَطُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي خُمُسِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ الْأَكْبَرِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ قَدْ كَذَّبَ بِهِ فَهُوَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي حَقِّهِ كَالْمَعْدُومِ فَإِنَّمَا تَبْقَى الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ خَمْسَةٍ فَالْأَكْبَرُ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي خُمُسِ التَّرِكَةِ، وَأَنَّ التَّرِكَةَ فِي حَقِّهِ مَا فِي يَدِهِ، وَمَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ، وَالْأَوْسَطُ مُصَدِّقٌ بِهِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ هُوَ مِمَّا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ لِهَذَا ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ فَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْأَكْبَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقَدْ انْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَخْمَاسِ وَالْأَسْدَاسِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ خَمْسَةً فِي سِتَّةٍ فَتَكُونَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ تُضْعِفَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ بِالْإِنْصَافِ فَمِنْهُ تَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ إنَّمَا أَقَرَّ بِاَلَّذِي أَنْكَرَهُ الْأَوْسَطُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ اللَّذَيْنِ أَقَرَّ بِهِمَا الْأَوْسَطُ يَأْخُذَانِ مِنْ الْأَكْبَرِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ يُكَذِّبُ بِهِمَا فَيُجْعَلُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمَا الْأَكْبَرُ، وَالْأَوْسَطُ مَعَ مَا فِي يَدِهِمَا فَفِي زَعْمِ الْأَكْبَرِ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْخُمُسِ، وَأَنَّ مَالَهُمَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ وَاصِلٌ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّمَا يَأْخُذَانِ مِمَّا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ مَا أَقَرَّ لَهُمَا بِهِ، وَذَلِكَ خُمُسَا مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمَّانِهِ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ وَيَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا لِتَصَادُقِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَكْبَرَ زَعَمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ نِصْفُهُ فِي يَدِي وَنِصْفُهُ فِي يَدِ الْأَصْغَرِ فَإِنَّ الْأَوْسَطَ فِي حَقِّهِ كَالْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِهِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَالْأَكْبَرُ بِسَهْمٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الثَّالِثِ، وَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ مُقَاسَمَةُ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ الْأَوْسَطِ أَثْلَاثًا، وَهُمَا مُكَذِّبَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْأَوْسَطَ مُقِرٌّ بِهِمَا، وَاَلَّذِي فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمَا إلَى الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْأَوْسَطِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِتَكَاذُبِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَبِتَصَادُقِهِمَا فَإِنْ كَانَ الثَّلَاثَةُ الْمُقَرُّ بِهِمْ صَدَّقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الثَّالِثُ هُوَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَقَرَّ بِهِمَا الْأَوْسَطُ فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هَاهُنَا يَبْدَأُ بِالْأَصْغَرِ لِحَاجَتِهِ إلَى مُقَاسَمَةِ صَاحِبِهِ بِتَصْدِيقِهِ بِهِمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 197 فَيَأْخُذُ مِنْ الْأَصْغَرِ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي رُبْعِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ، وَذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَأْخُذُ الْأَوْسَطُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي خُمُسِ كُلِّ جُزْءٍ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ الْأَوْسَطِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ لَهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَرُبْعَ مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ، وَالْأَكْبَرُ مُصَدِّقٌ بِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَجْمَعَانِ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ مَعَ الْمَجْحُودِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِتَصَادُقِهِمْ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الثَّالِثُ يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ، وَهُوَ الْأَصْغَرُ مُقِرٌّ لَهُ بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْأَوْسَطَ فِي حَقِّهِ كَالْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهُ، وَإِذَا صَارَ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الِابْنَ لِلْمَيِّتِ هُوَ الْأَكْبَرُ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ أَقَرَّ بِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَأْخُذُ اللَّذَانِ أَقَرَّ بِهِمَا الْأَوْسَطُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ فِي حَقِّهِمَا كَالْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ مُكَذِّبٌ بِهِمَا يَبْقَى الْبَنُونَ أَرْبَعَةٌ فِي زَعْمِ الْأَوْسَطِ هُوَ وَالْأَكْبَرُ، وَعَلَى هَذَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ رُبْعُ التَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ بِزَعْمِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُمَا أَخَذَا مِمَّا فِي يَدِهِ النِّصْفَ ثُمَّ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ فَيَقْتَسِمُونَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِتَصَادُقِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَاقْتَسَمُوا مَالَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الِابْنَانِ جَمِيعًا بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ، وَكَذَّبَتْهُمَا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مِنْ الِابْنَيْنِ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، وَمَا أَخَذَتْهُ الْمَعْرُوفَةُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا فَإِنَّمَا أَخَذَتْ ذَلِكَ الْمَعْرُوفَ، وَلَا يَغْرَمُ الِابْنَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِمَا بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الْمُقِرِّ لِهَذَا هِيَ تَضْرِبُ بِسَهْمٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبْعَةٍ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِنْهُمَا سَهْمًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمْ. وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا ابْنَيْنِ فَاقْتَسَمَا الْمَالَ ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِامْرَأَةٍ، وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ أَخَذَتْ تَسْعَى مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ امْرَأَةً وَابْنَيْنِ، وَأَنَّ لَهَا سَهْمَيْنِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَهِيَ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهِ بِسَهْمَيْنِ، وَهُوَ بِسَبْعَةٍ فَلِهَذَا أَخَذَتْ تَسْعَى مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ إلَيْهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى، وَصَدَّقَهُ فِيهَا أَخُوهُ، وَتَكَاذَبَتْ الْمَرْأَتَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُمَا يَأْخُذَانِ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا جُزْءًا مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 198 أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَثُمُنَ جُزْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ، وَيُقَاسِمُهُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لَهَا سَهْمَانِ، وَلَهُ سَبْعَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِمَا أَخَذَ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ، وَيُقَاسِمُهُ أَتْسَاعًا فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الثَّانِيَةِ فِي نِصْفِ ثُمُنِ مَا فِي يَدَيْهِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ جُزْءًا، وَحَقَّ الْأَوَّلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ مَا دُفِعَ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَتْ الثَّانِيَةُ سَهْمًا مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ يَبْقَى هُنَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُولَى لِلْمُقِرِّ سَبْعَةٌ، وَلِلْأُولَى سَهْمٌ فَظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ كَانَ فِي ثُمُنِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَسَبْعَةِ أَثْمَانٍ فَإِنَّ ثُمُنَ ثَمَانِيَةٍ وَاحِدٌ، وَثُمُنَ سَبْعَةٍ سَبْعَةُ أَثْمَانٍ فَإِذَا رُفِعَتْ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَسَبْعَةِ أَثْمَانٍ يَبْقَى عَشْرٌ وَثُمُنٌ، هَذَا حَقُّ الْمُقِرِّ فَيُضْرَبُ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُمُنٍ وَالثَّانِيَةُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَثُمُنِ جُزْءٍ، وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْمَانِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَثُمُنًا فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَثَلَاثَةَ عَشَرَ كَانَ حَقُّ الثَّانِيَةِ فِي سَهْمٍ ضَرَبْته فِي ثَمَانِيَةٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ لَهَا فَإِذَا أَخَذَتْ ذَلِكَ ضَمَّتْ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ، وَتَقَاسَمَهُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْآخَرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَامْرَأَةً فَيَكُونُ لَهَا سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَلِهَذَا يُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لَهَا سَهْمَانِ، وَلَهُ سَبْعَةٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيُقَاسِمُهُ أَتْسَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مِمَّا فِي يَدِ شَرِيكِي، وَهُوَ يَقْرَبُك فَإِنَّمَا تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَبْعَةٍ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَيُضْعِفُهُ فَيَصِيرُ حَقُّهَا سَهْمًا، وَحَقُّ الْمُقِرِّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا فَضَمَّتْ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ فَيُقَاسِمُهُ أَتْسَاعًا. وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَتْ الْأُخْرَى مِنْهُ نِصْفَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهَا فِي نِصْفِ ثُمُنِ الْمَالِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَمَا دُفِعَ إلَى الْأُخْرَى زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ إنَّمَا دُفِعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، وَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيُعْطِي الثَّانِيَةَ كَمَالَ حَقِّهَا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الثُّمُنِ فَيَضُمُّهُ إلَى الْآخَرِ، وَيُقَاسِمُهُ أَتْسَاعًا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَصَادَقَتْ الْمَرْأَتَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ الِابْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا وَحْدَهَا ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهَا فِي ثُمُنِ الْمَالِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 199 الْمَالِ فَيَدْفَعُ ثُمُنَ ذَلِكَ إلَيْهَا بِحُكْمِ إقْرَارِهِ ثُمَّ يَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا، وَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِلْمَرْأَتَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَتَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا لِلِابْنِ سَبْعَةٌ، وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَلَكَ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ، وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ أَخَذَتْ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا خُمُسَ مَا فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أَخٍ ثَلَاثَةٌ فَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَهُوَ يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدَيْهِ بِثَلَاثَةٍ، وَالْمَرْأَةُ بِسَهْمَيْنِ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدَيْهِ فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ لَهُمَا وَلِلْمَيِّتِ، وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِيهِ، وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ لِلْمَرْأَةِ نَصِيبَهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَ مِنْهُ الْأَخُ خُمُسَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَجْمَعُهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخِ، وَمُقَاسَمَةُ نِصْفٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِأَخْذِ ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّ الْبَاقِي فِي رُبْعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمَيِّتُ خَلَّفَ امْرَأَةً، وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ فَيَكُونُ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ، وَلِكُلِّ أَخٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَمَّا لَوْ أَقْرَرْت بِك وَبِالْمَرْأَةِ مَعًا كَيْفَ تَأْخُذُ مِنِّي رُبْعَ مَا فِي يَدِي سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَقَدْ أَخَذَتْ هِيَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا، وَإِنَّمَا أَخَذَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيَّ فَأَنْتَ تَضْرِبُ فِيمَا بِيَدِي بِسَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ فَهَذَا الطَّرِيقُ يُعْطِيهِ سَهْمًا مِنْ سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ خُمُسَا مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْإِنْصَافِ فَإِذَا أَضْعَفْته يَكُونُ خَمْسَةً. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ الْمُقِرُّ يَقُولُ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنَا قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ حَقَّك فِي سَهْمٍ وَحَقِّي فِي سَهْمٍ وَحَقَّ الْمَرْأَةِ فِي سَهْمٍ، وَلَكِنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ حَقُّك نِصْفُهُ فِي يَدِي وَنِصْفُهُ فِي يَدِ شَرِيكِي، وَهُوَ مُقِرٌّ بِك، وَمَا دَفَعْته إلَى الْمَرْأَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيَّ فَأَنْتَ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيُقَاسِمُهُ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ نَصِيبَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَ مِنْهُ الْمُقَرُّ بِهِ جَمِيعَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُ فِي رُبْعِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا دَفَعَهُ إلَى الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، وَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ رُبْعَ جَمِيعِ نَصِيبِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيُقْسَمُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ قَدْ صَدَّقَ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَخِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَحْدَهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَحْدَهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ إنَّمَا خَلَّفَ ثَلَاثَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 200 إخْوَةٍ، وَأَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَهُوَ مُقِرٌّ لِهَذَا الْأَخِ بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ وَالْأَخِ الْمَقَرِ بِهِمَا فَيَقْتَسِمُوهُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَادَقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي الذِّكْرِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ التَّرِكَةِ فَمَا يَصِلُ إلَى يَدِهِمْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمْ وَلَوْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَتَيْنِ مَعًا وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي أَحَدِهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْأُخْرَى، وَتَكَاذَبَتْ الْمَرْأَتَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الِاثْنَانِ تَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِمَا نِصْفَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ، وَأَنَّ حَقَّ كُلِّ امْرَأَةٍ فِي نِصْفِ الثُّمُنِ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَتَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ ثُمُنِ ذَلِكَ، وَتَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ وَتُقَاسِمُهُ أَتْسَاعًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْآخَرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً، وَأَنَّ لِلْمَرْأَةِ سَهْمَيْنِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَمَا تَحَصَّلَ فِي يَدِهِمَا مِنْ التَّرِكَةِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى زَعْمِهِمَا يَضْرِبُ فِيهِ الِابْنُ بِسَبْعَةٍ وَالْمَرْأَةُ بِسَهْمَيْنِ، وَيُقَاسِمُ الِابْنُ الْمُقِرُّ بِهِمَا الْمَرْأَةَ الْبَاقِيَةَ مَا فِي يَدَيْهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ حَقُّهَا فِي سَهْمٍ، وَحَقُّهُ فِي سَبْعَةٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ الِاثْنَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَخٍ لَهُمَا مِنْ أَبِيهِمَا، وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَتَانِ، وَأَنْكَرَهُمَا هُوَ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الِاثْنَانِ دَفَعَا إلَى الْمَرْأَتَيْنِ نَصِيبَهُمَا بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ نَصِيبِهِ بَعْدَ الثُّمُنِ؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَقَدْ دَفَعَا إلَى الْمَرْأَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمَا بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِمَا فَإِنَّمَا يَدْفَعَانِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثُّلُثَ مِمَّا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الثُّمُنِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَا دَفَعَا إلَى الْمَرْأَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمَا كَانَ بِقَضَاءٍ فَلَا يَكُونُ مَضْمُومًا عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا يَدْفَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي اجْتَمَعَ عَلَيْهَا ابْنَانِ تَأْخُذُ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَهْمًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِمَّا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا خَاصَّةً فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى تِسْعَةٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ فِي اعْتِبَارِ السِّهَامِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا قَدْ أَقْرَرْت لَك بِأَنَّ حَقَّك فِي سَهْمٍ، وَحَقَّ الْأُخْرَى فِي سَهْمٍ، وَحَقِّي فِي سَبْعَةٍ، وَلَكِنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ حَقُّك نِصْفُهُ فِي يَدِ أَخِي، وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِك فَإِنَّك تَضْرِبِينَ فِيمَا فِي يَدِي بِنِصْفِ سَهْمٍ، وَالْأُخْرَى بِسَهْمٍ، وَأَنَا بِسَبْعَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَنِصْفٍ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُهُ فَيَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهَذَا الطَّرِيقُ تُؤْخَذُ مِنْهُ سَهْمَانِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 201 مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَلَوْ هَلَكَ، وَتَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِثَلَاثِ نِسْوَةٍ لِأَبِيهِ، وَصَدَّقَهُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ، وَصَدَّقَهُ الثَّالِثُ فِي إحْدَى هَاتَيْنِ، وَتَكَاذَبَ النِّسْوَةُ فِيمَا بَيْنَهُنَّ فَإِنَّمَا نُسَمِّي الْمَرْأَةَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الْبَنُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، وَاَلَّتِي أَقَرَّ بِهَا اثْنَانِ مُخْتَلَفًا فِيهَا، وَالثَّالِثَةَ مَجْحُودَةً، وَالِابْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِثَلَاثِ نِسْوَةٍ الْأَكْبَرَ، وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ الْأَوْسَطَ، وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِوَاحِدَةٍ الْأَصْغَرَ ثُمَّ نَقُولُ: الْمَجْمُوعُ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ، وَمِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ فَتَضُمُّهُ فِيهَا مِنْ الْأَكْبَرِ جُزْءًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ فَتَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لَهَا سَهْمٌ، وَلَهُ سَبْعَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَوَجْهُ تَخْرِيجِهِ أَنَّ الْأَكْبَرَ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَثَلَاثَ بَنِينَ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الثُّمُنِ فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ مِقْدَارَ مَا أَقَرَّ لَهَا بِهِ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ ثُلُثُ ثُمُنِ نَصِيبِهِ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَأْخُذُ مِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ امْرَأَتَيْنِ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّمُنِ فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفَ الثُّمُنِ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ ثُمَّ يَضُمُّ جَمِيعَ مَا أَخَذَتْ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ فَيُقَاسِمُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَامْرَأَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ لَهَا ثَلَاثَةً مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا يُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمَا يَضْرِبُ فِيهِ الِابْنُ بِسَبْعَةٍ، وَالْمَرْأَةُ بِثَلَاثَةٍ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهَا تَأْخُذُ مِنْ الْأَكْبَرِ جُزْءًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَصْغَرَ يُكَذِّبُ بِهَا. وَلَا تُعْتَبَرُ سِهَامُهُ فِي حَقِّهَا يَبْقَى حَقُّ الْأَكْبَرِ فِي سَبْعَةٍ، وَحَقُّ الْأَوْسَطِ فِي سَبْعَةٍ، وَحَقُّ النِّسْوَةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَإِذَا جُمِعَتْ هَذِهِ السِّهَامُ كَانَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّمَا أَقَرَّ لَهَا بِسَهْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِمَّا فِي يَدِهِ جُزْءًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ، وَيُقَاسِمُهُ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَوْسَطِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْأَوْسَطِ أَنَّ الثُّمُنَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ نِصْفَانِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَيَضْرِبُ هُوَ فِيمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا بِسَبْعَةٍ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهَا بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُهُ فَيَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ لَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ الْمَجْحُودَةُ تُقَاسِمُ الْأَكْبَرَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْأَكْبَرِ أَنَّ حَقَّهَا فِي سَهْمٍ، وَحَقَّهُ فِي سَبْعَةٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا فَيَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَهَا سَهْمٌ، وَلَهُ سَبْعَةٌ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِنْ الْأَكْبَرِ سَهْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَنِصْفَ سَهْمٍ فَتَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ وَالْأَصْغَرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 28 ¦ الصفحة: 202 نِصْفَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخَذَتْ مِنْ الْأَكْبَرِ هَذَا الْمِقْدَارَ؛ لِأَنَّ الْأَكْبَرَ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهَا فِي ثُلُثِ الثُّمُنِ، وَحَقَّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِي نِصْفِ ثُمُنٍ، وَحَقَّ الْمَجْحُودَةِ فِي ثُمُنٍ، وَحَقَّهُ فِي سَبْعَةِ أَثْمَانٍ، وَثُلُثُ الثُّمُنِ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفُ الثُّمُنِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَالثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ فَحَقُّهُ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَثْمَانٍ، وَحَقُّ الْمَجْحُودَةِ فِي ثُلُثٍ، وَحَقُّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِي سَهْمٍ وَنِصْفٍ، وَحَقُّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي سَهْمٍ فَإِذَا جُمِعَتْ هَذِهِ السِّهَامُ كَانَتْ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَنِصْفًا فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِمَّا فِي يَدِهِ سَهْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ لِيَتَيَسَّرَ مُعَامَلَتُهُمَا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَهَا، وَتَأْخُذُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِمَّا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ سَهْمًا وَنِصْفًا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفِ سَهْمٍ لِمَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي يَدِهِ هَذَا الْمِقْدَارُ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ مُكَذِّبٌ بِهَا فَإِذَا أَخَذَتْ ذَلِكَ ضَمَّتْ إلَى مَا فِي يَدَيْ الْأَوْسَطِ ثُمَّ تَأْخُذُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَوْسَطِ سَهْمًا وَنِصْفًا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا نِصْفَ الثُّمُنِ، وَأَنَّ حَقَّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَحَقَّهُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَثْمَانٍ فَإِذَا جُمِعَتْ هَذِهِ السِّهَامُ كَانَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَنِصْفًا فَيَأْخُذُ مِنْهُ سَهْمًا وَنِصْفًا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ لِهَذَا، وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ فَيُقَاسِمُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي ثُمُنِ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي سَبْعَةٍ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا ثُمَّ يُقَاسِمُ الْأَوْسَطُ مَعَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأَوْسَطِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَحَقَّهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَيُقَاسِمُ الْأَكْبَرُ الْمَجْحُودَةَ مَا بَقِيَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّ حَقَّهَا فِي سَهْمٍ، وَحَقَّهُ فِي سَبْعَةٍ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الْأَصْغَرُ هِيَ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْأَوْسَطُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ الْأَكْبَرِ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ مُكَذِّبٌ بِهَا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ سِهَامِهِ فِي حَقِّهَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِنْهُ سَهْمًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَضَمَّتْ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَصْغَرِ فَيُقَاسِمُهُ عَلَى عَشَرَةٍ لَهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ سَبْعَةٌ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى هَذَا، وَاللَّتَانِ أَقَرَّ بِهِمَا الْأَوْسَطُ تَأْخُذَانِ مِنْ الْأَكْبَرِ جُزْأَيْنِ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ مُكَذِّبٌ بِهِمَا فَلَا تُعْتَبَرُ سِهَامُهُ فِي حَقِّهِمَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا أَخَذْنَا مِنْهُ سَهْمَيْنِ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ يَضُمَّانِ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَوْسَطِ، وَيُقَاسِمُهُمَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِلْمَرْأَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَوْسَطِ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ مُقِرٌّ بِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَحَقُّهُ فِي سَبْعَةٍ فَإِنْ تَصَادَقَ النِّسْوَةُ فِيمَا بَيْنَهُنَّ، وَاَلَّتِي أَقَرَّ بِهَا الْآخَرُ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَقَرَّ بِهِمَا الْأَوْسَطُ فَإِنَّ الْمَجْحُودَةَ تَأْخُذُ مِنْ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 203 الْأَصْغَرِ ثُمُنَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِثُمُنِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَتَأْخُذُ مِنْهُ ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ، وَتَأْخُذُ مِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفَ ثُمُنِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ أَقَرَّ بِأَنَّ الثُّمُنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى نِصْفَانِ لَهَا نِصْفُ ثُمُنِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا نِصْفَ ثُمُنِ ذَلِكَ، وَتَأْخُذُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْ الْأَوْسَطِ جُزْءًا وَنِصْفًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ مُكَذِّبٌ بِهَا فَتُطْرَحُ سِهَامُهُ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهَا بِنِصْفِ الثُّمُنِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَلِهَذَا أَخَذَتْ مِمَّا فِي يَدِهِ سَهْمًا وَنِصْفًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ثُمَّ يُجْمَعُ مَا فِي يَدِ النِّسْوَةِ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِلنِّسْوَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَمَا يُجْمَعُ فِي أَيْدِيهِمْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا تَصَادَقُوا وَلَوْ كَانَ الْأَصْغَرُ إنَّمَا أَقَرَّ بِاَلَّتِي أَنْكَرَهَا الْأَوْسَطُ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا أَخَذَتْ تِلْكَ مِنْ الْأَصْغَرِ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْسَطَ مُكَذِّبٌ بِهَا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نَصِيبِهَا فِي حَقِّهِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْأَصْغَرُ لِهَذِهِ بِثُمُنٍ كَامِلٍ فَلِهَذَا تَأْخُذُ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ يُكَذِّبُ بِهِمَا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ سِهَامِهِ فِي حَقِّهِمَا، وَالْأَوْسَطُ أَقَرَّ لِهَاتَيْنِ بِثُمُنٍ كَامِلٍ فَلِهَذَا تَأْخُذَانِ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ نَصِيبِهِ ثُمَّ يُجْمَعُ مَا فِي يَدِ النِّسَاءِ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَكْبَرِ، وَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ لَهُ سَبْعَةٌ، وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَنَّ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةً، وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ فَمَا يُجْمَعُ فِي أَيْدِيهِمْ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى مَا تَصَادَقُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَأَبَوَيْهَا فَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِثَلَاثِ بَنِينَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَدَّقَتْهُ الْأُمُّ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَصَدَّقَهُ الْأَبُ فِي الثَّالِثِ، وَتَكَاذَبَ الْبَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الِابْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَقَرَّتْ بِهِمَا الْأُمُّ يَأْخُذَانِ مِنْ الزَّوْجِ الثُّلُثَ مِنْ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ فَيَضُمَّانِهِ إلَى نَصِيبِ الْأُمِّ، وَيَقْتَسِمُونَهُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ، وَيَأْخُذُ الِابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ مِنْ الزَّوْجِ السُّدُسَ مِنْ نَصِيبِهِ فَيَجْمَعُهُ إلَى نَصِيبِ الْأَبِ، وَيُقَاسِمُهُ عَلَى سَبْعَةٍ لِلِابْنِ خَمْسَةٌ، وَلِلْأَبِ سَهْمَانِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ يَأْخُذُ الِابْنَانِ اللَّذَانِ صَدَّقَتْ بِهِمَا الْأُمُّ مِنْ الزَّوْجِ خُمُسَ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ أَمَّا أَصْلُ الْفَرِيضَةِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ فَإِذَا اقْتَسَمُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ثُمَّ وُجِدَ الْإِقْرَارُ كَمَا بَيَّنَّا فَيُبْدَأُ بِالِابْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ فَنَقُولُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّوْجِ السُّدُسَ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ، وَزَوْجًا، وَأَبَوَيْنِ أَصْلُهُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 204 مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ لَا يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا فَيَضْرِبُ اثْنَيْ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ اثْنَا عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْأُمِّ فِي حَقِّ هَذَا الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا كَذَّبَتْ بِهِ فَلِذَا طَرَحْنَا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ الثُّلُثَ فَلِهَذَا أَخَذَ مِنْ الزَّوْجِ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَبِ، وَيُقَاسِمُهُ عَلَى سَبْعَةٍ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ الْوَرَثَةُ زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، وَابْنٌ، وَالْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ لِلِابْنِ، وَالِابْنُ يَضْرِبُ فِيمَا، وَصَلَ إلَيْهِمَا بِخَمْسَةٍ، وَالْأَبُ بِسَهْمَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةٍ فَأَمَّا الِابْنَانِ اللَّذَانِ صَدَّقَتْ بِهِمَا الْأُمُّ فَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ يَأْخُذَانِ مِنْ الزَّوْجِ خُمُسَ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ. وَالصَّحِيحُ ثُلُثَيْ خُمُسِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا يُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِهِمَا، وَفِي زَعْمِ الزَّوْجِ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، وَهُمَا يَأْخُذَانِ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ خُمُسُ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَا خُمُسِ نَصِيبِهِ صَارَ عَلَى خُمُسٍ فَخُمُسُهُ سِتَّةٌ، وَثُلُثَا خُمُسِهِ أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ يَأْخُذَانِ مِنْهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَهُ لَوْ أَخَذْنَا مِنْك عَشَرَةً فَقَطْ كُنْت عَلَى جَمِيعِ حَقِّك؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى لَك خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي يَدِك نِصْفُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ عَلَى ثَلَاثِينَ فَجَمِيعُ الْمَالِ يَكُونُ سِتِّينَ الرُّبْعُ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَدْ وَافَقْنَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ أَخَذَ فَوْقَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ السُّدُسُ، وَقَدْ أَخَذَ الثُّلُثَ فَلَا يَجُوزُ ضَرَرُ الزِّيَادَةِ عَلَيْنَا خَاصَّةً بَلْ يَكُونُ عَلَيْنَا، وَحَقُّك عَلَى مَا زَعَمْت فِي تِسْعَةٍ فَادْفَعْ أَنْتَ تِسْعَةً وَنَحْنُ نَدْفَعُ عَشَرَةً، وَيَبْقَى فِي يَدِك سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِك صَارَ عَلَى ثَلَاثِينَ، وَقَدْ دَفَعْت إلَى الِابْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ خَمْسَةً، وَإِلَيْنَا عَشَرَةً، وَدَفَعْت أَنْتَ تِسْعَةً يَبْقَى سِتَّةٌ فَهَذِهِ السِّتَّةُ تُقْسَمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك عَلَى اعْتِبَار أَصْلِ حَقِّنَا، وَحَقُّك فِي خَمْسَةَ عَشَرَ وَحَقُّنَا فِي عَشَرَةٍ إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ لَهُمَا، وَحَقُّ الِابْنِ الْآخَرِ مَعَ حَقِّي لِأَنِّي مُقِرٌّ لَهُ، وَقَدْ أَخَذَ هُوَ مِنِّي فَيَصِيرُ حَقُّنَا فِي الْأَصْلِ عِشْرِينَ، وَحَقُّكُمَا عَشَرَةً فَتُقْسَمُ هَذِهِ السِّتَّةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلِابْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُخِذَ مِنْ الزَّوْجِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا مِنْ ثَلَاثِينَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ نَصِيبِهِ، وَثُلُثُ خُمُسِ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ نَصِيبِهِ عَشَرَةٌ، وَثُلُثَ خُمُسِ نَصِيبِهِ سَهْمٌ ثُمَّ يَضُمَّانِ ذَلِكَ إلَى نَصِيبِ الْأُمِّ، وَيَقْتَسِمُونَهُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ زَوْجًا، وَأَبَوَيْنِ، وَالِابْنَيْنِ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 205 وَلِلْأَبِ كَذَلِكَ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ. فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا اجْتَمَعَ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَمْسَةٍ، وَالْأُمُّ بِأَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَإِنْ تَصَادَقَ الْبَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ، وَيَأْخُذُ الْآخَرَانِ مِنْ الْأُمِّ نِصْفَ نَصِيبِهَا فَيُقْسَمُ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعِشْرِينَ سَهْمًا أَمَّا الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ الْأَبِ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، وَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّهُ السُّدُسُ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى السُّدُسِ مِمَّا فِي يَدِهِ نَصِيبُ الِابْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ نَصِيبِهِ، وَاَللَّذَانِ أَقَرَّتْ بِهِمَا الْأُمُّ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ يَأْخُذَانِ مِنْهَا نِصْفَ نَصِيبِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا مِثْلُ حَقِّ الْأَبِ، وَقَدْ أَقَرَّتْ هِيَ أَيْضًا بِابْنَيْنِ لِلْمَيِّتِ كَمَا أَقَرَّ الْأَبُ بِابْنٍ فَكَمَا أَنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ يَأْخُذَانِ هَذَانِ مِنْ الْأُمِّ نِصْفَ نَصِيبِهَا لِيَكُونَ الْبَاقِي لَهَا مِثْلَ نِصْفِ مَا بَقِيَ لِلْأَبِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ لَا يَأْخُذُ وَرَثَةُ الْأُمِّ شَيْئًا، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ الْأُمِّ سُدُسَ التَّرِكَةِ، وَلَا يَنْقُصُ نَصِيبُهَا عَنْ السُّدُسِ مَعَ الْبَنِينَ كَيْفَ يَأْخُذَانِ مِنْهَا شَيْئًا، وَبَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ حَقَّهَا السُّدُسُ، وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ الْأَبُ عَلَى الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ فَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ فَحَقُّهَا مِثْلُ حَقِّهِ، وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِ الْأَبِ سُدُسُ التَّرِكَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا مِنْ التَّرِكَةِ السُّدُسَ، وَنَصِيبُ هَذَانِ يَصِلُ إلَيْهِمَا مِنْ مَحَلِّهِ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ الزَّوْجِ وَالِابْنِ الثَّالِثِ لَهُمَا فَلِهَذَا لَا يَأْخُذَانِ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَكِنْ يُقْسَمُ مَا اجْتَمَعَ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْبَنِينَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمْ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَأَنَّ لِلزَّوْجِ تِسْعَةً، وَلِلْبَنِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْت ذَلِكَ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. وَلَوْ لَمْ يَتَصَادَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَكِنْ اللَّذَانِ أَقَرَّتْ الْأُمُّ بِهِمَا صَدَّقَ الْأُمَّ أَحَدُهُمَا بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ وَكَذَّبَا جَمِيعًا بِالْبَاقِي، وَكَذَّبَا بِهِمَا فَإِنَّ اللَّذَيْنِ تَصَادَقَا فِيمَا بَيْنَهُمَا يَأْخُذَانِ مِنْ الزَّوْجِ ثُلُثَ نَصِيبِهِ فَيَجْمَعَانِهِ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَبِ فَيَقْسِمُونَهُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَرْبَعَةٌ لِلْأَبِ، وَعَشَرَةٌ لِلِابْنَيْنِ نِصْفَانِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ زِيَادَةٌ، وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ قَالَ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ الْأُمُّ مِنْ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصَادَقَا يَأْخُذُ سَهْمًا أَوَّلًا رُبْعَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَزْعُمُ أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَنَّ حَقَّ هَذَا فِي جَمِيعِهِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ قَدْ كَذَّبَ بِهِ فَيُطْرَحُ نَصِيبُ الْأَبِ فِي حَقِّهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ يَبْقَى عِشْرُونَ فَحَقُّهُ فِي خَمْسَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَخَمْسَةٌ مِنْ عِشْرِينَ هُوَ الرُّبْعُ فَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهَا ثُمَّ يَأْخُذَانِ مِنْ الزَّوْجِ ثُلُثَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِ الزَّوْجِ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ إلَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُكَذِّبُ بِأَحَدِهِمَا، وَالْأَخَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 206 بِالْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُطْرَحَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا فِي مُقَاسَمَةِ الزَّوْجِ مَعَ هَذَيْنِ فَإِذَا طَرَحْنَا سِتَّةً يَبْقَى ثَلَاثُونَ فَيَأْخُذَانِ مِنْهُ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَيَجْمَعَانِ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَبِ فَيَقْسِمُونَهُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِمَا الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْأَبِ أَرْبَعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ فَلِهَذَا يُسْهَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالْأَبُ يُكَذِّبُ بِأَحَدِهِمَا قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَوْ اعْتَبَرْنَا الْمُقَاسَمَةَ بَيْنَ الْأَبِ، وَبَيْنَ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ خَاصَّةً أَدَّى إلَى الدُّورِ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْأَبُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يُقَاسِمُ الْآخَرَ لِتَصَادُقِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ فَيُقَاسِمُهُ لِلتَّصَادُقِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِضَرُورَةِ الدَّوْرِ قُلْنَا بِأَنَّ الْأَبَ يُقَاسِمُهُمَا خُمُسًا، وَهَذَا لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَبِ لَا يَخْتَلِفُ بِعَدَدِ الْبَنِينَ سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ كَانَ لِلْأَبِ السُّدُسُ فَلِهَذَا جَعَلْنَا تَصْدِيقَهُ فِي أَحَدِهِمَا كَتَصْدِيقِهِ فِيهِمَا فِي الْمُقَاسَمَةِ إذَا تَصَادَقَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَأْخُذُ الِابْنُ الْبَاقِيَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ وَنِصْفَ جُزْءٍ مِنْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُكَذِّبُ بِهِ فَيُطْرَحُ نَصِيبُهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوْجِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ لِلزَّوْجِ قَدْ دَفَعْت إلَى أَبٍ الْأَخَوَيْنِ عَشَرَةً فَلَوْ دَفَعْت إلَيَّ خَمْسَةً فَقَطْ تَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ رُبْعُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْك مِنْ ضَرْبِ النُّقْصَانِ شَيْءٌ، وَقَدْ دَفَعْت عِشْرِينَ فَادْفَعْ أَنْتَ تِسْعَةً تَبْقَى سِتَّةٌ فَهَذِهِ السِّتَّةُ تُقْسَمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك عَلَى مِقْدَارِ حَقِّنَا وَحَقِّك. وَإِنَّمَا حَقُّك فِي التَّرِكَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَصَلَ إلَيْك ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ حَقِّك يَبْقَى حَقُّك فِي خُمُسَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ، وَحَقُّنَا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ بِزَعْمِك خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَصَلَ إلَيْنَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَبْقَى عَشَرَةٌ، وَذَلِكَ خُمُسَا نَصِيبِنَا، وَقَدْ أَخَذَ الِابْنَانِ حَقَّهُمَا، وَزِيَادَةً تَبْقَى قِسْمَةُ هَذِهِ السَّنَةِ بَيْنِي وَبَيْنَك فَأَنَا أَضْرِبُ بِخُمُسَيْ حَقِّي، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَأَنْتَ تَضْرِبُ بِسِتَّةٍ فَتَكُونُ قِسْمَةُ هَذِهِ السِّتَّةِ بَيْنَنَا أَرْبَاعًا لِي رُبْعُهُ وَرُبْعُ سِتَّةِ سَهْمٍ وَنِصْفٍ فَإِذَا أَخَذْت مِنْهُ سَهْمًا وَنِصْفًا مَعَ الْخَمْسَةِ يَكُونُ سِتَّةً وَنِصْفًا فَلِهَذَا قَالَ يَأْخُذُ سِتَّةً وَنِصْفًا مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ قَالَ الْحَاكِمُ غَلَطٌ فِي هَذَا الْجَوَابِ فِي نِصْفِ سَهْمٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ فَقَطْ هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ نَصِيبِهِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فَإِنَّهَا مُصَدِّقَةٌ فَلَا يَضْرِبُ فِي السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ مَعَهُ بِسَهْمَيْنِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَهْمٍ وَخُمُسٍ، وَالزَّوْجُ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ فَتَكُونُ قِسْمَةُ هَذِهِ السِّتَّةِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا لِلِابْنِ مِنْهُ سَهْمٌ، وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ خَمْسَةً فَظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهُ سِتَّةً فَقَطْ فَيَضُمُّهُ إلَى نَصِيبِ الْأُمِّ، وَيُقَاسِمُهَا عَلَى تِسْعَةٍ لِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلِابْنِ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَعِشْرِينَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 207 وَأَنَّ نَصِيبَ الْأُمِّ أَرْبَعَةٌ، وَنَصِيبَ الِابْنِ خَمْسَةٌ فَمَا يَجْتَمِعُ فِي أَيْدِيهِمَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ، وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ الِابْنُ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ فَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ الْمُقَرَّ لَهُ أَقَرَّ بِأَخٍ لَهُمَا، وَقَالَ الْمُقَرُّ بِهِ لِلْآخَرِ أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَسْت لَهُ بِابْنٍ فَقَدْ كَذَّبَ الْأَخُ الِابْنَ الْمَعْرُوفَ فِيك لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ هَذَا الْمُقِرِّ إلَّا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إذَا أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ، وَدَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ بِهِ أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا أَنْتِ فَلَسْت بِامْرَأَةٍ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا جَمِيعَ مَا فِي يَدِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَأَقَرَّ ابْنُهَا بِزَوْجٍ، وَدَفَعَ إلَيْهِ نَصِيبَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِابْنٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ بِهِ أَنَا ابْنٌ لَهَا، وَأَنْتِ لَسْت بِزَوْجٍ لَهَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يَأْخُذُ الْمُقَرُّ بِهِ الْآخَرُ مِنْ الْمُقِرِّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى نَسَبِ الْمُقَرِّ بِهِ الْآخَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّصَادُقُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَمَنْ تَصَادَقَا عَلَيْهِ يَكُونُ أَوْلَى بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ، وَلَهُ ابْنَانِ قَدْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ عَتَقْنَا جَمِيعًا قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ، وَقَالَ الْآخَرُ أَمَّا أَنَا فَعَتَقْت قَبْلَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّمَا عَتَقْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لِلَّذِي اتَّفَقَ أَنَّهُ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ فِي الْفَصْلَيْنِ لَا يَأْخُذُ الْمُقَرُّ بِهِ الْآخَرُ إلَّا مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِمَّا فِي يَدِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَكْذِيبُهُ بِهِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُك إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِي فَإِذَا كُنْت غَيْرَ وَارِثٍ كَمَا زَعَمْت لَا يَثْبُتُ لَك بِإِقْرَارِي شَيْءٌ، وَأَنْتَ تَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ فَمِنْ ضَرُورَةِ أَخْذِك الشَّيْءَ مِنْ التَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِي الْحُكْمَ بِقَرَابَتِي، وَنَفَذَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَكْذِيبُك فِي، وَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ إنَّمَا يَأْخُذَانِ الْمِيرَاثَ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي الْحَالِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذَانِ بِنِكَاحٍ قَدْ كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِهِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ الْحُكْمُ بِهِ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَقَدْ كَذَّبَ الثَّانِي بِهِمَا فَلَا تَكُونُ لَهُمَا الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّرِكَةِ فَأَمَّا ذُو الْقَرَابَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ التَّرِكَةَ بِسَبَبٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَهُوَ سَبَبٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ بَعْدَ ثُبُوتٍ، وَقَدْ جَرَى الْحُكْمُ بِهِ حِينَ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَكْذِيبُ الثَّانِي فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ إلَّا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُقِرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ إلَّا الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ بَعْدَمَا جَرَى الْحُكْمُ فِي الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَا حَقَّ صَاحِبِ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 208 الْأَلْفِ بِهَذَا التَّكْذِيبِ فَأَقَرَّ صَاحِبُ الْأَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ لِآخَرَ، وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِدَيْنِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ نَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَيْ الْأَلْفِ حَتَّى تَنَاسَخَ ذَلِكَ عَشَرَةً ثُمَّ إنَّ الْعَاشِرَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْوَارِثُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ هُوَ الْأَلْفَ مِنْهُ ثُمَّ يَأْخُذُونَ مِنْهُ حَتَّى يَدُورَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَلَا يَزَالُ يَدُورُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَكْذِيبَهُ لَا يُعْتَبَرُ بَعْدَمَا حَكَمْنَا بِدَفْعِهِ، وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِابْنَيْنِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا، وَتَكَاذَبَ الِابْنَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ بِهِمَا خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهِمَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي خُمُسِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْآخَرَيْنِ لَوْ صَدَّقَاهُ فِيهِمَا كَانَ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَتَكْذِيبُهُمَا بِالْآخَرِ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُقِرُّ يَقُولُ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ حَقِّي فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَجْحُودِ فِي سَهْمٍ، وَحَقُّك فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ ثُلُثَيْ سَهْمِك فِي يَدِ الْآخَرِينَ، وَقَدْ صَدَّقَا بِك مُتَحَمِّلًا عَلَى ثُلُثَيْ مَا بِيَدِك فَأَنْتَ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِي بِثُلُثِ سَهْمٍ، وَأَنَا بِسَهْمٍ، وَالْمَجْحُودُ بِسَهْمٍ فَجَعَلْنَا كُلَّ ثَلَاثَةٍ سَهْمًا فَلِهَذَا نَأْخُذُ سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَنَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ، وَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ أَثْلَاثًا لِتَصَادُقِهِمْ عَلَى أَنَّ حَقَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِابْنَيْنِ فَصَدَّقَهُ أَحَدُ إخْوَتِهِ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَذَّبَهُ الثَّالِثُ فِيهِمَا، وَتَكَاذَبَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الِابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الِاثْنَانِ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَذَّبَ بِهِمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُقَاسَمَةِ بَيْنَ الْمُقِرِّ، وَالْمُقَرِّ بِهِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْمَعْرُوفَ اثْنَانِ، وَالتَّرِكَةَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِابْنَيْنِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا بِعَيْنِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُقِرِّ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْإِعَادَةِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُقَيَّدُ بِاَلَّذِي أَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يَدْخُلُ نَصِيبُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فَرِيضَتِهِمَا فَيَكُونُ إيضَاحًا لِجَمِيعِ مَا سَبَقَ. وَإِذَا تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَأُخْتَهَا، وَأُمَّهَا فَأَقَرَّتْ الْأُخْتُ بِأَخٍ لَهَا، وَصَدَّقَهَا فِي ذَلِكَ الزَّوْجُ، وَكَذَّبَتْهَا الْأُمُّ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَاهُنَا فَرِيضَتَانِ فَرِيضَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ، وَفَرِيضَةٌ مَجْهُولَةٌ بِاعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ فَالْمُقَاسَمَةُ بَيْنَ الْمُقِرَّةِ، وَسَائِرِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَبَيْنَ الْمُقِرَّةِ، وَالْمُصَدِّقِ، وَالْمُقَرِّ بِهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمَجْهُولَةِ فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَهِيَ عَوْلِيَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَالْفَرِيضَةُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 209 الْمَجْهُولَةُ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ، وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ فَيَضْرِبُ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ، وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَالْأُخْتِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ التَّرِكَةِ تَكُونُ مَقْسُومَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمَجْهُولَةِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَإِذَا صَارَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ الرُّبْعُ خَمْسَةٌ بِاعْتِبَارِ الْفَرِيضَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلِلزَّوْجِ مِنْ الْبَاقِي تِسْعَةٌ، وَمَا بَقِيَ هُوَ سِتَّةٌ بَيْنَ الْأَخِ، وَالْأُخْتِ لِلْأَخِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُخْتِ سَهْمَانِ فَإِنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ أَيْضًا فَإِنَّ الْأُخْتَ قَدْ أَقَرَّتْ لِلزَّوْجِ بِأَمْرٍ هُوَ أَكْثَرُ لِنَصِيبِهِ لَوْ صَدَّقَهَا فَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعِينَ سَهْمًا، وَبَيَانُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ بِاعْتِبَارِ الْفَرِيضَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْفَرِيضَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى مَا أَقَرَّتْ الْأُخْتُ بِهِ لِلزَّوْجِ نِصْفُ الْمَالِ كَامِلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا أَقَرَّتْ لِلزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ فَإِذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ كَانَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ الْمَجْهُولَةَ مِنْ سِتَّةٍ، وَالْفَرِيضَةَ الْمَعْرُوفَةَ عَوْلِيَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَقَدْ صَارَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ عِشْرِينَ كَمَا بَيَّنَّا فَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَنَّ حَقَّهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانٍ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَالْأُخْتُ تُقِرُّ لَهُ بِتِسْعَةٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَمَا زَادَ عَلَى سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ إلَى تَمَامِ تِسْعَةٍ، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ قَدْ أَقَرَّتْ الْأُخْتُ بِهِ لِلزَّوْجِ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُ الْحِسَابَ فَيَكُونُ مِنْ أَرْبَعِينَ سَهْمًا لِلْأُمِّ كَمَالُ الرُّبْعِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ يَبْقَى ثَلَاثُونَ فَالْأُخْتُ تَزْعُمُ أَنَّ لِلزَّوْجِ فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ الْأَخُ، وَالْأُخْتُ اثْنَيْ عَشَرَ فَيَقْسِمَانِ ذَلِكَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ قَدْ أَقَرَّ الْأَخُ، وَالْأُخْتُ بِهَا لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ كَذَّبَهُمَا فَتَكُونُ مَوْقُوفَةً فِي يَدِ الْأُخْتِ حَتَّى يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ فَيَأْخُذُ مَا أَقَرَّتْ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَخِ، وَالْأُمِّ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ اسْتَوْفَتْ كَمَالَ حَقِّهَا، وَالْأَخُ كَذَلِكَ اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ بِزَعْمِهِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَأَبَوَيْهِ فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَيْنِ لِلْمَيِّتِ، وَصَدَّقَهَا الْأَبُ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَذَّبَتْهُمَا الْأُمُّ فِيهِمَا، وَتَكَاذَبَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الِابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَأْخُذُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَ سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَثُلُثَ سَهْمٍ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَالْفَرِيضَةُ الْمَجْهُولَةُ عَلَى مَا أَقَرَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ ثَمَانِيَةٌ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 210 لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضْعِفُهُ فَيَكُونُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ لِلْمَرْأَةِ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ ثُمَّ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْأُمِّ فِي مُقَاسَمَةِ الِابْنِ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْأَبُ مَعَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ كَذَّبَتْ بِهِ فَإِذَا طَرَحْنَا ثَمَانِيَةً مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَبْقَى أَرْبَعُونَ فَقَدْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ حَقَّ هَذَا الِابْنِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهَا جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا مِقْدَارَ حَقِّهَا مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعِينَ فَيَضُمُّهُ إلَى نَصِيبِ الْأَبِ، وَيُقَاسِمُهُ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْأَبِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، وَلَهُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا، وَأَنَّ لِلْأَبِ أَرْبَعَةً، وَلِلِابْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَمَا يَصِلُ إلَيْهِمَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى اعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا، وَيُقَاسِمُ الِابْنُ الْبَاقِي الْمَرْأَةَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لَهَا سِتَّةٌ، وَلَهُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَأَنَّ لِلْمَرْأَةِ سِتَّةً، وَلِلِابْنِ الْبَاقِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الِابْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ يَأْخُذُ مِنْ يَدَيْ الْمَرْأَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَ سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ حَقَّ هَذَا الِابْنِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَكِنْ ثُلُثُ ذَلِكَ فِي يَدِهَا، وَثُلُثَا ذَلِكَ فِي يَدِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهَا رُبْعَ التَّرِكَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَفِي يَدِ الْأَبِ نِصْفُ التَّرِكَةِ، وَقَدْ صَدَّقَ الْأَبُ بِهَذَا الِابْنِ فَيَكُونُ مُحْتَمِلًا عَنْهَا ثُلُثَيْ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثَانِ فَإِنَّمَا يَبْقَى حَقُّهُ فِيمَا فِي يَدِهَا فِي أَرْبَعَةٍ وَثُلُثٍ، وَحَقُّ الِابْنِ الْآخَرِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي سِتَّةٍ فَإِذَا جُمِعَتْ هَذِهِ السِّهَامُ كَانَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ وَثُلُثًا فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَثُلُثًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَثُلُثٍ ثُمَّ يُقَاسِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ تَصَادَقَ الِابْنَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الِابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَبُ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ الْأَبُ أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ إلَّا أَنَّهُ يَطْرَحُ نَصِيبَ الْأُمِّ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُكَذِّبَةٌ بِهِ يَبْقَى عِشْرُونَ فَفِي زَعْمِ الْأَبِ أَنَّ لِلِابْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِهِ فَنَأْخُذُ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَنَضُمُّهُ إلَى نَصِيبِ الْمَرْأَةِ فَيَقْتَسِمُونَهُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ سِتَّةٌ، وَنَصِيبَ كُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَمَا تَحَصَّلَ فِي أَيْدِيهِمْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَضْرِبُ فِيهِ كُلَّ ابْنٍ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْمَرْأَةُ بِسِتَّةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِابْنَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ الْأَبِ ثَلَاثَةَ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 211 عَشَرَ سَهْمًا، وَثُلُثَ سَهْمٍ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَى سُدُسِ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ابْنًا وَفِي يَدِهِ نِصْفُ التَّرِكَةِ، وَقَدْ صَارَ عَلَى عِشْرِينَ فَيَكُونُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ أَرْبَعِينَ سَهْمًا السُّدُسُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَحَكَى الْحَاكِمُ هَذَا الطَّعْنَ عَنْ السَّرِيِّ، وَقَالَ صَوَابُهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ إنَّمَا الصَّوَابُ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَثُلُثًا كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنَيْنِ وَعَبْدَيْنِ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأُخْتٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنْكَرَهَا صَاحِبُهُ أَخَذَتْ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ خُمْسَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَابْنَةً، وَأَنَّ حَقَّهَا فِي خُمُسِ كُلِّ عَبْدٍ فَيُعْطِيهَا خُمُسَ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَيَضْمَنُ لَهَا الْمُقِرُّ سُدُسَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِ أَخِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ فِي يَدِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِهَا مِنْ النِّصْفِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إلَى الْجَاحِدِ بِاخْتِيَارِهِ، وَنَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَكَانَ يُعْطِيهَا ثُلُثَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ فَيَضْمَنُ لَهَا ثُلُثَ النِّصْفِ بِاعْتِبَارِ إخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَذَلِكَ سُدُسُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ وَلَوْ تَرَكَ دَارَيْنِ وَابْنًا وَابْنَةً فَاقْتَسَمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا ثُمَّ أَقَرَّتْ الِابْنَةُ بِأَخٍ لَهَا مِنْ أَبِيهَا، وَكَذَّبَهَا فِيهِ أَخُوهَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا خُمُسَيْ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَابْنَةً، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ خَمْسَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فَنُعْطِيهِ خُمُسَيْ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهَا لِهَذَا، وَتَضْمَنُ لَهُ خُمُسَيْ قِيمَةِ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ أَخِيهَا؛ لِأَنَّ ثُلُثَ ذَلِكَ الدَّارِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ كَانَ فِي يَدِهَا، وَقَدْ دَفَعَتْ إلَى أَخِيهَا بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ ضَامِنَةً لِلْمُقَرِّ لَهُ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ بِزَعْمِهَا، وَنَصِيبُهُ ثُلُثَا تِلْكَ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهَا أَمَرْت بِدَفْعِ ثُلُثَيْهِ إلَى الْأَخِ فَلِهَذَا ضَمِنَتْ لَهُ خُمُسَيْ قِيمَةِ تِلْكَ الدَّارِ. وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ إبِلًا، وَبَقَرًا، وَابْنَيْنِ فَاقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلَ بِنَصِيبِهِ، وَالْآخَرُ الْبَقَرَ بِنَصِيبِهِ ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، وَأُخْتٍ مَعًا، وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي الْأُخْتِ، وَكَذَّبَهُ فِي الْأَخِ، وَتَكَاذَبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الِابْنَةَ تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَيُسَلَّمُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَنَصِيبُهَا السُّبْعُ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لَهَا شَيْئًا مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الِابْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْآخَرَ يُصَدِّقُ بِهَا فَيَصِلُ إلَيْهَا نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى أَخِيهَا الَّذِي أَقَرَّ بِهَا خَاصَّةً بِخُمُسِ مَا صَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَابْنَةً الجزء: 28 ¦ الصفحة: 212 وَأَنَّ نَصِيبَهَا الْخُمُسَ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا خُمُسَ مَا صَارَ لَهُ، وَيَضْمَنُ لَهَا أَيْضًا ثُلُثَ سُبْعِ قِيمَةِ مَا صَارَ لِأَخِيهِ، وَهُوَ الْمُقِرُّ بِهَا، وَقِيلَ هَذَا غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَضْمَنَ لَهَا ثُلُثَيْ سُبْعِ قِيمَةِ مَا صَارَ لِأَخِيهِ الْمُقِرِّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَفَعَ نِصْفَ ذَلِكَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهَا ثُلُثَ ذَلِكَ النِّصْفِ فَيَكُونُ غَارِمًا لَهَا قِيمَةَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ، وَصَلَ إلَيْهَا سُبْعُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَخِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ سُبْعٌ وَثُلُثٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَسُبْعُهُ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثُهُ سَبْعَةٌ فَإِذَا صَارَ النِّصْفُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَحَقُّهَا بِزَعْمِهِ فِي ثُلُثِ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا السُّبْعُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِمَّا كَانَ فِي الْأَصْلِ فِي يَدِ أَخِيهِ وَنِصْفُ ذَلِكَ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى أَخِيهِ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْ الدَّافِعِ ضَمَانُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ ضَمَانُ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَسُبْعُ الْكُلِّ سِتَّةٌ فَأَرْبَعَةٌ تَكُونُ ثُلُثَيْ السَّبْعِ فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهَا ثُلُثَيْ سُبْعِ قِيمَةِ مَا صَارَ لِأَخِيهِ، وَيَأْخُذُ الْأَخُ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا صَارَ لِلْمُقِرِّ سُبْعَيْهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَةً، وَالْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ لِلْأَخِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ فَلِهَذَا نُعْطِيهِ سُبْعَيْ مَا صَارَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ الْأَخُ الْآخَرُ مُكَذِّبٌ لَهُ فَلِمَاذَا لَا يُطْرَحُ نَصِيبُهُ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَهُ عَلَى قِيَاسِ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِمَّا دَفَعَ إلَى أَخِيهِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُطْرَحَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَيَضْمَنَ لَهُ خُمُسَ مَا صَارَ لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى أَخِيهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَكَانَ يُعْطِيهِ خُمُسَ ذَلِكَ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ لِلْأُخْتِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمًا، وَالْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ، وَخُمُسَا النِّصْفِ خُمُسُ الْجَمِيعِ فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ خُمُسَ مَا صَارَ لِأَخِيهِ قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا الْحَرْفُ غَلَطٌ، وَصَوَابُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِمَّا صَارَ فِي يَدِ أَخِيهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَكَانَ يُعْطِي الْأُخْتَ سُبْعَ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سِتَّةُ أَسْبَاعٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا صَارَ النِّصْفُ عَلَى سَبْعَةٍ كَانَ الْجَمِيعُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَإِنَّمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ الْقَدْرَ لِصَاحِبِهِ يَدْفَعُهُ إلَى أَخِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 213 [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِوَارِثٍ فَيُجِيزُ ذَلِكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ] (بَابُ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِوَارِثٍ فَيُجِيزُ ذَلِكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَالِهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ لَهُ أَخُوهُ أَخَذَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ إنَّمَا تَمْتَنِعُ بِقَوْلِهِ: لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» إلَى أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثُ يَنْبَغِي عَنْ الْمُسْتَحِقِّ بِالْوَصِيَّةِ يَبْقَى مَا لَهُ النِّصْفُ الْبَاقِي فَيَكُونُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ بِالْمِيرَاثِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمِيرَاثُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْمِيرَاثِ وَالنِّصْفَ الْبَاقِيَ بِالْوَصِيَّةِ لِإِجَازَةٍ كَمَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي امْرَأَةٍ لَا وَارِثَ لَهَا إلَّا زَوْجُهَا فَأَوْصَتْ لَهُ بِنِصْفِ مَالِهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بِالْوَصِيَّةِ قُلْنَا: لِأَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْمَالِ فَارِغٌ عَنْ الْمِيرَاثِ، فَإِيجَابُهَا بِالْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ الْفَاضِلِ وَهَا هُنَا جَمِيعُ الْمَالِ مَشْغُولٌ بِالْمِيرَاثِ، فَلَيْسَ الْبَعْضُ يَصْرِفُ الْإِيجَابَ بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ؛ فَلِهَذَا أَخَذَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ أَوَّلًا. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى مَعَ هَذَا بِنِصْفِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ فَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْوَارِثَانِ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْوَارِثَيْنِ نِصْفَ الْمَالِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ قَدْ زَالَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثَيْنِ. وَمَا أَوْجَبَهُ بِالْوَصِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ الْأَجْنَبِيُّ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ بِلَازِمَةِ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ يَبْقَى فِي يَدِ الِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ سَهْمَانِ، فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ. بَقِيَ فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الِابْنَيْنِ ثَلَاثَةٌ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 2 الْوَصِيَّةِ وَيَأْخُذُ فَضْلَ مَا فِي يَدِ أَخِيهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ لَهُ الْوَصِيَّةَ، وَقَدْ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ ثَلَاثَةٌ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَخِيهِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِيَكُونَ مِيرَاثًا لَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يُوصَ أَجَازَ جَمِيعَ وَصِيَّةِ أَبِيهِ وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ وَصِيَّةَ الْأَجْنَبِيِّ، يَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ بِغَيْرِ إجَازَةٍ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ وَوَصِيَّةَ الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَالضَّعِيفَ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ؛ فَلِهَذَا أَخَذَ الثُّلُثَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ سَهْمَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَيَأْخُذُ مِنْ الْمُجِيزِ سَهْمًا وَاحِدًا وَيُسَلِّمُ لِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّتَهُ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ وَصِيَّتِهِ سَهْمَانِ يَأْخُذُهُمَا مِنْ أَخِيهِ الْمُجِيزِ يَبْقَى فِي يَدِ الْمُجِيزِ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَيَأْخُذُ ذَلِكَ أَيْضًا لِيَكُونَ بِمُقَابَلَةِ مَا سَلَّمَهُ الْمُجِيزُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ بِإِجَازَتِهِ أَوْ يُمْسِكُ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ سَهْمًا بِمُقَابَلَةِ مَا سَلَّمَهُ الْمُجِيزُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ يَبْقَى فِي يَدِهِ ثَلَاثَةٌ وَفِي يَدِ الْمُجِيزِ ثَلَاثَةٌ فَيَأْخُذُ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَجَازَ لَهُ الْوَصِيَّةَ وَيَخْرُجُ الْمُجِيزُ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِنِصْفِ مَالِهِ وَأَوْصَى لِأَحَدِ ابْنَيْهِ بِكَمَالِ النِّصْفِ مَعَ نَصِيبِهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَارِثَانِ أَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ أَرْبَعَةً بِغَيْرِ إجَازَةٍ ثُمَّ يَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ مَا بَقِيَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا سَهْمًا بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يُسَلَّمَ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ، وَيَأْخُذُ الِابْنُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ أَخِيهِ سَهْمَيْنِ بِكَمَالِ النِّصْفِ بِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ سَهْمَانِ فَيَأْخُذُهُمَا مِنْ أَخِيهِ بِاعْتِبَارِ إجَازَتِهِ وَصِيَّتَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ أَخِيهِ ثَلَاثَةً قُلْنَا: لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ سَهْمًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِإِجَازَةِ وَصِيَّتِهِ وَمَا سُلِّمَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَى مِيرَاثِهِ؛ فَلِهَذَا أَخَذَ مِنْ أَخِيهِ سَهْمَيْنِ فَيُجْعَلُ لَهُ كَمَالُ النِّصْفِ بِنَصِيبِهِ فَيُسَلَّمُ لِلْأَجْنَبِيِّ سِتَّةٌ وَلِلِابْنِ الْمُوصَى خَمْسَةٌ وَيَبْقَى لِلِابْنِ الْآخَرِ سَهْمٌ، وَلَوْ أَجَازَ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يُوصَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّ وَلَمْ يُجِزْ لِأَخِيهِ وَلَمْ يُجِزْ أَخُوهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ ثُلُثَ الْمَالِ بِغَيْرِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ وَأَخَذَ مِنْ الَّذِي أَجَازَ لَهُ سَهْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ بِالْإِجَازَةِ مِنْ نَصِيبِهِ هَذَا الْمِقْدَارُ فَيَأْخُذُهُ، وَلَا يَأْخُذُ بِالنَّصِيبِ الْآخَرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِزْ لَهُ الْوَصِيَّةَ فَيَصِيرُ فِي يَدِهِ خَمْسَةٌ وَفِي يَدِ الِابْنِ الْمُجِيزِ لِلْأَجْنَبِيِّ ثَلَاثَةٌ وَفِي يَدِ الِابْنِ الْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةٌ نَصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَإِذَا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ أَوْ لَا يُجِيزُونَهُ، فَإِنْ أَجَازُوا فَالْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ: لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَنَزِيدُ عَلَيْهِ لِلْمُوصَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 3 لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ بَالِغٍ لَهُ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ تَزِيدُ عَلَى مَا فِي يَدِنَا، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِثْلُ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَكُونُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ أَثْلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، فَالْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمٌ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِجَازَةِ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُمَا وَفِي حَالِ الْإِجَازَةِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ضِعْفُ مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ، وَوَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ مِثْلُ نَصِيبِ الْبَنِينَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَهُ سَهْمَانِ وَوَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالْمَالُ كُلُّهُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَأَوْصَى لِآخَرَ أَيْضًا بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ لَهُمَا جَمِيعًا، فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِابْنِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا أَوْجَبَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَحَّدَ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَوْ أَجَازَ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ أَجَازَ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لِلْأَوَّلِ سُدُسَا جَمِيعِ الْمَالِ وَلِلْآخَرِ سُدُسُ الْمَالِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سُدُسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا ثُلُثَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَبَقِيَ فِي يَدِ الِابْنِ ثُلُثَا الْمَالِ أَرْبَعَةٌ مِنْ سِتَّةٍ، فَحِينَ أَجَازَ لِأَحَدِهِمَا فَقَدْ سَوَّاهُ بِنَفْسِهِ فَيَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ سَهْمٌ إلَى مَا فِي يَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَنِصْفُ الْمَالِ انْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ، فَيَكُونُ الْمَالُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ: فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَفِي يَدِ الِابْنِ ثَمَانِيَةٌ، فَإِذَا ضَمَمْنَا مَا فِي يَدِ الَّذِي أَجَازَ لَهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ يَكُونُ ذَلِكَ عَشَرَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ ثُمَّ لَمَّا أَجَازَ صَحَّتْ إجَازَتُهُ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ لَا فِي إبْطَالِ شَيْءٍ مِمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ سَوَّى الثَّانِيَ بِنَفْسِهِ فَيَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ سَهْمَانِ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ فَيَكُونُ سَبْعَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، فَيُضَعِّفُهُ لِلْبِنَاءِ بِالْأَنْصَافِ، فَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِلْأَوَّلِ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَهُوَ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ، كُلُّ سُدُسٍ أَرْبَعَةٌ، وَلِلثَّانِي سَبْعَةٌ، وَهُوَ سُدُسٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سُدُسٍ، وَيَبْقَى لِلِابْنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَابِلًا لِلْمُوصَى لَهُ فَاخْتَارَ الْوَارِثُ لَهُمَا مَعًا أَوْ أَجَازَ لِلْقَابِلِ أَوَّلًا فَهُوَ سَوَاءٌ، وَالْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَابِلِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ لِحَقِّ الْوَارِثِ فَيَزُولُ الْمَانِعُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ لَهُمَا مَعًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 4 أَوْ لِلْقَابِلِ أَوَّلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ الْآخَرَ قَدْ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةِ الْقَابِلِ فِيهِ. وَإِجَازَتُهُ لَهُمَا أَوْ لِلْقَابِلِ فِي الْحَقِيقَةِ تَكُونُ إجَازَةً لِلْقَابِلِ، وَإِنْ أَجَازَ لِلَّذِي لَمْ يَقْبَلْ أَوَّلًا ثُمَّ أَجَازَ لِلْقَابِلِ أَخَذَ الْأَوَّلُ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزَاحِمَهُ الْقَابِلُ فِيهِ، فَإِنَّ الضَّعِيفَ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَحِينَ أَجَازَ وَصِيَّتَهُ لَهُ فَقَدْ سَوَّاهُ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ فَصَارَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِنِصْفِ الْمَالِ كَامِلًا، ثُمَّ إجَازَتُهُ لِلْقَابِلِ تَعْمَلُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَوَّاهُ بِنَفْسِهِ فِيمَا بَقِيَ، وَالْبَاقِي نِصْفُ الْمَالِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، فَأَجَازَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ أَجَازَا جَمِيعًا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْبَاقِي، فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ الَّذِي أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا: تِسْعَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ إجَازَةٍ وَثَلَاثَةٌ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي أَجَازَ لَهُ خَاصَّةً وَسَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي أَجَازَ لِصَاحِبِهِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَجَازَا لَهُمَا الْوَصِيَّتَيْنِ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، وَلَوْ لَمْ يُجِيزَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُمَا ثُلُثُ الْمَالِ فَثُلُثُ الْمَالِ سَالِمٌ لَهُمَا بِغَيْرِ إجَازَةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَانِ، فَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ حِينَ أَجَازَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فَقَبُولُ إجَازَتِهِ لِأَحَدِهِمَا مُعْتَبَرَةٌ بِإِجَازَتِهِمَا لَهُ، وَلَوْ أَجَازَا لَهُ لَكَانَ يَضُمُّ نَصِيبَهُ، وَهُوَ سَهْمٌ إلَى نَصِيبِهِمَا، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ، فَيَضْرِبُ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ سِتَّةٌ، وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُمْ خَمْسَةً، فَحِينَ أَجَازَ الْآخَرُ ضَمَمْنَا مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَهُوَ عَشْرٌ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ، فَيَضْرِبُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ، فَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُمَا الثُّلُثُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ وَفِي يَدِ كُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَحِينَ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لِأَحَدِ الْمُوصَى لَهُمَا يَعْتَبِرُ إجَازَتَهُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَلَوْ أَجَازَ كَانَ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةً حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خَمْسَةٌ وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا أَجَازَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ بِمَا فِي يَدِهِ ثَلَاثَةً حِصَّتَهُ مِنْ الْإِجَازَةِ، فَتَكُونُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ لَمَّا أَجَازَ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الَّذِي أَجَازَ لَهُ خَاصَّةً ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ مُجِيزٍ فِي حَقِّهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْآخَرِ سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا أَجَازَا لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ أَجَازَا لِلْآخَرِ لَكَانَ يَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَهُوَ ثَلَاثُونَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي يُسَلَّمُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ، فَيُجْعَلُ فِيمَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 5 يَأْخُذُ هُوَ مِنْ الَّذِي أَجَازَا لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ أَجَازَا لَهُ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ سَهْمَيْنِ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا: تِسْعَةٌ بِغَيْرِ إجَازَةٍ وَثَلَاثَةٌ مِنْ الَّذِي أَجَازَ لَهُ خَاصَّةً وَسَهْمَانِ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ الْآخَرِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبْعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَأَجَازُوا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ أَصْلَ الْحِسَابِ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِمَكَانِ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ، فَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ سَهْمَانِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ النَّصِيبِ سَهْمٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً، وَقِسْمَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، فَيَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ رُبْعُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ تِسْعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ بِحَالَةِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِسِهَامِ حَقِّهِ غَيْرِ الْإِجَازَةِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الرُّبْعِ أَرْبَعَةٌ وَحَقُّ صَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ رُبْعَ الْمَالِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ رُبْعُ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِيمَا أُوجِبَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَأَجَازُوا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ: الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ يَأْخُذُ النِّصْفَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْبَنِينَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّك تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ وَتَزِيدُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمًا، فَإِذَا صَارَ النِّصْفُ عَلَى سِتَّةٍ كَانَ الْكُلُّ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ سِتَّةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا فَيَتَرَاجَعُ حَقُّ صَاحِبِ النِّصْفِ إلَى الثُّلُثِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْبَنِينَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ فِي ثَلَاثَةٍ يَضْرِبُ بِذَلِكَ فِي الثُّلُثِ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فِي سَهْمٍ يَضْرِبُ بِهِ فِي الثُّلُثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْمَالِ تِسْعَةٌ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّا نَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ لِابْتِدَاءِ الثُّلُثِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ لِتَبْيِينِ نَصِيبِ الْآخَرِ بِقِسْمَةِ الثُّلُثَيْنِ النِّصْفَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الثُّلُثِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ يَضْرِبُ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ وَنِصْفٍ، فَأُضَعِّفُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 6 لِلْكَسْرِ بِالْأَنْصَافِ فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ تِسْعَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَأْخُذُ الثُّلُثَ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ الثُّلُثَانِ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْبَنِينَ أَخْمَاسًا، فَإِذَا صَارَ الثُّلُثَانِ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ سَبْعَةً وَنِصْفًا، فَانْكَسَرَ فَأُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ النَّصِيبِ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ فِي الثَّالِثِ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ سِهَامَ الْمَالِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ يَضْرِبُ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنَيْهِ فَأَجَازُوا فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَلِصَاحِبِ الْمِثْلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ يَأْخُذُ النِّصْفَ ثُمَّ يَقْسِمُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الِابْنَيْنِ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّا نَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، فَإِذَا صَارَ النِّصْفُ ثَلَاثَةً كَانَ الْكُلُّ سِتَّةً: لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْمِثْلِ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يَتَرَاجَعُ إلَى الثُّلُثِ، فَيَأْخُذُ الثُّلُثَ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ بَنِينَ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، وَإِذَا صَارَ ثَلَاثَةً كَانَ الْمَالُ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا فَأُضَعِّفُهُ لِلْكَسْرِ فَيَكُونُ تِسْعَةً، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فِي الثُّلُثِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، وَالْمَالُ كُلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يُعْزَلُ لَهُ الثُّلُثُ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِتَبِينَ وَصِيَّةُ الْآخَرِ فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ وَبَعْدَ التَّضْعِيفِ يَكُونُ تِسْعَةً ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ، وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ إنَّمَا يَضْرِبُ بِسَهْمَيْنِ، وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةٍ وَنِصْفٍ، فَإِذَا أَضْعَفْته كَانَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ تِسْعَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّك إذَا عَزَلْت ثُلُثَ الْمَالِ وَقَسَّمْت الثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَالْآخَرُ إنَّمَا يَضْرِبُ بِنَصِيبِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ، وَهُوَ سَهْمٌ فَيَكُون الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّضْعِيفِ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْمِثْلِ سَهْمَانِ وَلَوْ تَرَكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 7 ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَأَجَازُوا فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِثْلِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَوْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ نَصِيبُهُ هَذَا الْمِقْدَارَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ حَقُّهُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ لَا الْإِضْرَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ نَصِيبَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ تَبْطُلُ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ بِثَلَاثَةٍ مِنْ تِسْعَةٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِثْلِ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْإِجَازَةَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثَيْنِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الْمِثْلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ ثَالِثٍ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ، وَالْإِجَازَةُ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَتْ الْفَرِيضَةُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّهُ يَقُولُ: الثُّلُثُ وَيُقَسَّمُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ وَيُزَادُ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمَالُ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَبَعْدَ التَّضْعِيفِ يَكُونُ تِسْعَةً ثُمَّ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَصَاحِبُ النَّصِيبِ بِوَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَظَهَرَ أَنَّ فِي الْإِجَازَةِ مَنْفَعَةً لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا، فَأَمَّا الْوَارِثُ مَا قَصَدَ بِالْإِجَازَةِ إلَّا تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِضْرَارُ مُضَافًا إلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَالَةِ الْإِجَازَةِ مَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمَالَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّا نَقُولُ: الثُّلُثُ وَنَجْعَلُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْمِثْلِ سَهْمٌ، ثُمَّ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَضْرِبُ بِسَهْمَيْنِ فِي الثُّلُثِ وَصَاحِبُ الْمِثْلِ يَضْرِبُ بِسَهْمٍ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الثَّالِثِ لَوْ كَانَ فِيهِ رُبْعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَمِثْلَ نَصِيبِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّالِثِ سَهْمًا فَيَكُونُ أَرْبَعَةً، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ رُبْعُ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْخَامِسِ، ثُمَّ الْبَاقِي، وَهُوَ الْخَمْسَةُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَيْنِ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا سَهْمَيْنِ وَنِصْفًا مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا زِدْت عَلَى خَمْسَةٍ مَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ وَنِصْفًا فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَنِصْفًا تُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ سَهْمٌ أُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمَانِ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا نِصْفًا سَهْمَيْنِ وَنِصْفًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 8 أُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ خَمْسَةً، وَالْبَاقِي، وَهُوَ عَشْرٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ وَأَخَذَ مِنْهُمَا خَمْسَةً مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ قُسِّمَتْ هَذِهِ الْعَشَرَةُ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ مِثْلُ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْخَامِسِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ رَابِعٍ لَوْ كَانَ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، فَأَجَازُوا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْخَامِسِ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلِلْآخَرِ خُمْسُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هَاهُنَا وَصِيَّتَانِ بِمِثْلِ نَصِيبِ رَابِعٍ وَبِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ فَيَضْرِبُ مُخْرَجَ الرُّبْعِ فِي مُخْرَجِ الْخُمْسِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ عِشْرِينَ ثُمَّ يَزِيدَانِ عَلَيْهِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ رَابِعٍ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ الْخُمْسُ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ تِسْعَةً، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الرَّابِعِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةً، وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ. وَإِنْ قَسَّمْت الْبَاقِيَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْإِجَازَةِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يُجِيزُوا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِحَقِّهِ. وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ سَهْمَانِ وَحَقُّ الْآخَرِ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعًا لِهَذَا ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ فَأَجَازُوا، فَالْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدْ جَعَلْنَا هُنَاكَ الْمَالَ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَكَانَ الْمَقْسُومُ بَيْنَ الِابْنَيْنِ عِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا تَزِيدُ عَلَى الْمَالِ مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِسِهَامِ حَقِّهِ أَحَدُهُمْ بِعَشَرَةٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسَةٍ، وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ رَابِعٍ، وَمِثْلُ نَصِيبِ الرَّابِعِ سُبْعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ، وَالْمُوصَى لَهُ يُمْسِكُ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا أَثْلَاثًا، وَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَأْخُذُ الثُّلُثَ ثُمَّ يُوجَدُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فَيُزَادُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ لِتَبْيِينِ نَصِيبِ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خَمْسَةً: لِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُ الرَّابِعِ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَيُزَادُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا سَهْمَانِ. فَإِذَا قَدَّرْنَا عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 9 ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الرَّابِعِ سَهْمٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا سَهْمَانِ، فَيَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الرَّابِعِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ، وَهُوَ سُبْعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَيْنِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ أَحَدِهِمَا أَثْلَاثًا، فَإِذَا صَارَ ثُلُثَيْ الْمَالِ عَلَى سَبْعَةٍ كَانَ الْكُلُّ عَشَرَةً وَنِصْفًا تُضَعِّفُهُ لِلْكَسْرِ فَيَكُونُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ: لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَبْعَةٌ، وَلِصَاحِبِ نَصِيبِ الرَّابِعِ سَهْمَانِ، وَلِلثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِسِهَامِ حَقِّهِ، أَحَدُهُمْ بِسَبْعَةٍ، وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةٍ، وَالْآخَرُ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ سَادِسٍ لَوْ كَانَ وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُمٍّ لَوْ كَانَتْ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ السَّادِسِ يَأْخُذُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَهْمًا وَهَذَا تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّ نَصِيبَ الْأُمِّ مِنْ هَذِهِ التَّرِكَةِ السُّدُسُ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ السَّادِسِ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُمِّ لَوْ كَانَتْ سَوَاءً فِي الْمِقْدَارِ، فَإِنَّمَا يُزَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ عَلَى سِتَّةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُمَا سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ مِنْ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَهْمًا وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَمْسَةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَبَيْنَ سَهْمٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إلَّا ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْوَارِثِينَ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَرْبَعَةٌ وَيُرَدُّ مِنْهَا ثُلُثُ الْمَالِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّك تَأْخُذُ عَدَدَ الِابْنَيْنِ فَتَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إلَّا الثُّلُثَ فَيَكُونُ تِسْعَةً، فَهَذَا هُوَ الْمَالُ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ بِأَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَهُمْ سَهْمٌ، فَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ سَهْمَيْنِ لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْمُسْتَثْنَى يَزْدَادُ مَالُ الْوَارِثِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ مَالُ الْوَارِثِ ازْدَادَ النَّصِيبُ فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا دَفَعْت إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَرْبَعَةً فَفِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يُسْتَرْجَعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَتَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْوَارِثِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً بَيْنَ الِابْنَيْنِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تَجْعَلُ الْمَالَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَتُعْطِي بِالنَّصِيبِ دِينَارًا وَتَسْتَرْجِعُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثُلُثَ دِينَارٍ وَثُلُثَ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ مَعَك دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى دِينَارَيْنِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ دِينَارًا بِمِثْلِهِ قِصَاصًا يَبْقَى فِي يَدِك دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ يَعْدِلُ دِينَارًا وَثُلُثَيْ دِينَارٍ، فَتَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ لِلْكَسْرِ، فَتَصِيرُ الدَّنَانِيرُ خَمْسَةً الجزء: 29 ¦ الصفحة: 10 وَالدَّرَاهِمُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ نَنْقُلُ الْفِضَّةَ وَنَجْعَلُ آخِرَ الدَّرَاهِمِ آخِرَ الدَّنَانِيرِ وَآخِرَ الدَّنَانِيرِ آخِرَ الدَّرَاهِمِ فَصَارَ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى أَرْبَعَةٍ وَكُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى خَمْسَةٍ ثُمَّ نَعُودُ إلَى الْأَصْلِ، فَنَكُونُ كَأَنَّا جَعَلْنَا الْمَالَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَأَعْطَيْنَا بِالنَّصِيبِ دِينَارًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّصِيبَ أَرْبَعَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِكَمَالِ الثُّلُثِ مَعَ نَفْسِهِ وَأَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَأْخُذُ سُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ كَمَالَ حَقِّهِ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ، وَثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ هُوَ الثُّلُثُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أُوصِيَ لَهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَمْ يُوصَ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ، فَكَذَلِكَ هَاهَهُنَا يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الْمَالِ، ثُمَّ إنْ أَجَازُوا فَلِوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ مِمَّا بَقِيَ كَمَالَ حَقِّهِ الثُّلُثَ مَعَ نَصِيبِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ تِسْعَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ هُوَ ثَلَاثَةً وَلِلْأَجْنَبِيِّ سَهْمٌ يَبْقَى خَمْسَةٌ فَتُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ بِالسَّوِيَّةِ أَرْبَاعًا، انْكَسَرَ بِالْأَرْبَاعِ فَاضْرِبْ تِسْعَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ: لِلْأَجْنَبِيِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْوَارِثِ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى عِشْرُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةٌ، وَالْوَصِيَّةَ لَهُ سَبْعَةٌ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ بَيْنَهُمَا لِتَبْيِينِ مِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَيُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ: سَهْمٌ بِمِيرَاثِهِ وَسَهْمٌ بِوَصِيَّتِهِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ أَرْبَاعًا، وَإِذَا أَرَدْت تَصْحِيحَ الْحِسَابِ احْتَجْت إلَى ضَرْبِ تِسْعَةٍ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ: لِلْأَجْنَبِيِّ سِتَّةٌ وَلِلِابْنِ الْمُوصَى لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ: ثَمَانِيَةٌ بِالْمِيرَاثِ وَثَمَانِيَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ بَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا أَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي مُزَاحَمَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِلْأَجْنَبِيِّ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثُّلُثِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْعَصَبَةُ جَمِيعَ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ إنْ لَمْ يُجِيزُوا، فَإِنْ أَجَازُوا أَخَذَ الْوَارِثُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ الْبَاقِي بِاعْتِبَارِ إجَازَتِهِمْ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا بَقِيَ مِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 11 ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يُوصِ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَاقٍ إذَا لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَأَوْصَى لِأَحَدِ ابْنَيْهِ بِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَأَجَازُوا، أَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَارِثِ مَعَهُ وَأَخَذَ الْوَارِثُ مِائَةَ دِرْهَمٍ لِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَصِيَّتَهُ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ وَلَوْ تَرَكَ سِتَّمِائَةٍ وَأَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ بِمِائَةٍ مِنْ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِائَةً، وَالْآخَرُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ وَصِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَصَاحِبُ الْمَالِ الْمُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ مُقَدَّمٌ عَلَى صَاحِبِ مَا بَقِيَ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الْفَرِيضَةِ فِي الْمِيرَاثِ مُقَدَّمٌ عَلَى صَاحِبِ مَا بَقِيَ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الْفَرِيضَةِ فِي الْمِيرَاثِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَصَبَةِ؛ فَلِهَذَا يَأْخُذُ صَاحِبُ الْمِائَةِ مِنْ الثُّلُثِ مِائَةً، ثُمَّ لِصَاحِبِ مَا بَقِيَ قَدْرُ الْبَاقِي، فَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ وَصِيَّتَهُ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي حِينَ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ أَخَذَ الْآخَرُ جَمِيعَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَاقٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوصَ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ هَلَكَ نِصْفُ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَانَ لِصَاحِبِ الْمِائَةِ مِائَةٌ وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبِ الْمِائَةِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ، وَهُوَ مِقْدَارُ الثُّلُثِ الْآخَرِ يَضْرِبُ بِمِائَةٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِرُبْعِ مَالِهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَسْبَاعًا بِغَيْرِ إجَازَةٍ، وَيَكُونُ نِصْفُ رُبْعِ الْمَالِ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ الَّذِي أَجَازَ صَاحِبَيْ الْوَصِيَّةِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُمَا يُغْلِقَانِ الَّذِي أَجَازَ لَهُمَا الْوَصِيَّةَ عَلَى حَسْبِ مَا يُغْلِقَانِهِ، إنْ لَوْ أَجَازَا جَمِيعًا وَيُقَابِلَانِ الَّذِي لَمْ يُجِزْ وَصِيَّتَهُمَا عَلَى حَسْبِ مَا يُقَابِلَانِهِ إنْ لَمْ يُجِزْ، فَنَقُولُ: لَوْ أَجَازَا الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا لَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَأْخُذُ الثُّلُثَ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَأْخُذُ الرُّبْعَ فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، فَثُلُثُهُ أَرْبَعَةٌ وَرُبْعُهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَوْ لَمْ يُجِيزَا لَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا، فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سَبْعَةٍ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ عِنْدَ إجَازَتِهِمَا الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَأْخُذُ الرُّبْعَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ رُبْعٌ صَحِيحٌ فَيُضْرَبُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ، فَأَمَّا ثُلُثُ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَأْخُذَانِهِ بِلَا مِنَّةِ الْإِجَازَةِ فَيَقْتَسِمَانِهِ أَسْبَاعًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ نَقُولُ: قَدْ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّ الْمُوصَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 12 لَهُ بِالثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ، فَلَوْ أَجَازَا لَهُ الْوَصِيَّةَ لَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ سِتَّةٌ، وَقَدْ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ تِسْعَةٌ فَلَوْ أَجَازَا لَهُ الْوَصِيَّةَ لَكَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ. فَإِذَا أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ فَإِنَّهُمَا يَأْخُذَانِ مِنْ نَصِيبِ الْمُجِيزِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مِقْدَارَ حَقِّهِمَا إنْ لَوْ أَجَازَا، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ أَسْبَاعًا فَلِكُلِّ سُبْعٍ مِنْهُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، وَلَوْ كَانَ الِابْنَانِ أَجَازَا وَصِيَّةَ صَاحِبِ الرُّبْعِ وَلَمْ يُجِيزَا وَصِيَّةَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَإِنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعًا كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الرُّبْعِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ نَصِيبِ الِابْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ أَجَازَا لَهُ الْوَصِيَّةَ فَيُسَلَّمُ لَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَمَالُ الرُّبْعِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ، وَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَالْآخَرُ لِصَاحِبِ الرُّبْعِ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعٌ كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي أَجَازَ لَهُ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ فَيَأْخُذُ نِصْفَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَجَازَا جَمِيعًا لَهُ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةً، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الرُّبْعِ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي أَجَازَ نِصْفَ مَا بَقِيَ إلَى الرُّبْعِ، وَالْبَاقِي مِنْ حَقِّهِ إلَى تَمَامِ الرُّبْعِ تِسْعَةٌ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَازَا لَهُ الْوَصِيَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْوَصِيَّةِ فِي الْمَالِ يَنْقُصُ أَوْ يَزِيدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثُ جَوَارٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَثُمِائَةٍ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ مَاتَ فَلَمْ يُقَسِّمْ الْوَرَثَةُ، وَالْمُوصَى لَهُ حَتَّى زَادَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ فَصَارَتْ سِتَّمِائَةٍ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي مِائَةً أَوْ وَطِئَهَا رَجُلٌ بِشُبْهَةٍ غَرِمَ عُقْرَهَا مِائَةً أَوْ اكْتَسَبَتْ مِائَةً فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَجِلُّ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ أَيْضًا، وَيَكُونُ حُصُولُهَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَحُصُولُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءً فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَدَنِهَا فَلِلْمُوصَى لَهُ تَمَامُ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مِنْهَا، وَمَالُهُ صَارَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ الَّتِي أَوْصَى لَهُ بِهَا وَثُلُثُهَا لَهُ مَعَ الْجَارِيَتَيْنِ الْأُخْرَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَا ضَامِنًا لَهَا فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا وَتَمَامُ الثُّلُثِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ حَتَّى تَقَعَ الْقِسْمَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 13 فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ مِنْ الْجَارِيَةِ، وَمِنْ الزِّيَادَةِ لَا يَبْدَأُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا، وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا بَيَانُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالُ الْمَيِّتِ حَتَّى تَقَعَ الْقِسْمَةُ لَا حِينَ يُوصِي وَلَا حِينَ يَمُوتُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ سَلَامَةُ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ سَلَامَةُ الثُّلُثِ لِلْمُوصَى لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَمَةٌ تُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَأَوْصَى بِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ فَبَاعَهَا الْوَارِثُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُ، نَفَذَ بَيْعُهَا فِي ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ صَارَ أَحَقَّ بِثُلُثِهَا، وَالْوَارِثَ أَحَقُّ بِثُلُثَيْهَا، فَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَدًا يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُوصَى لَهُ مِائَةً يَأْخُذُ ثُلُثَ الْجَارِيَةِ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثَاهَا وَثُلُثَا الْوَلَدِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ التُّسْعُ مِنْ الْوَلَدِ وَيَرُدُّ التُّسْعَيْنِ إلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي يَفُوتُ فِي ثُلُثَيْهَا فَيُقَرَّرُ فِي ثُلُثَيْ الْوَلَدِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ الْوَلَدِ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْجَارِيَةِ، وَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ تُسْعُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ وَيَرُدُّ التُّسْعَيْنِ إلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الثُّلُثِ بِمَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَصِيَّةُ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى الْوَارِثِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ، وَالْكَسْبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْجَارِيَةِ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ بِالْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَادَتْ فِي بَدَنِهَا حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي سِتَّمِائَةٍ صَارَ كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ مِنْ الْمَالِ أَرْبَعَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ثُلُثَيْ الْجَارِيَةِ يَعْتَبِرُ الْقِسْمَةَ وَقْتَ الْبَيْعِ مِنْ الْوَارِثِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْمَيِّتِ، فَالزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ فِي ثُلُثَيْهَا لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ يَبْقَى مَالُ الْمَيِّتِ ثُلُثَهَا، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثَا ثُلُثِ الْجَارِيَةِ، قِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَلِلْوَارِثِ ثُلُثُ ثُلُثَيْهَا، قِيمَةُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الْمِائَتَيْنِ اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ لَمْ تَزِدْ الْجَارِيَةُ، وَلَكِنَّهَا نَقَصَتْ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا وَرَجَعَ عَلَى الْوَارِثِ مِنْ قِيمَتِهَا بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ مَا صَارَ لِلْوَارِثِ مُسْتَهْلَكًا لَهُ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَثُلُثُ الْجَارِيَةِ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، فَإِنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَثُلُثٌ، وَمِقْدَارُ ذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فَيَأْخُذُ ثُلُثَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 14 دِرْهَمٍ حَتَّى يَكُونَ السَّالِمُ لَهُ ثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ: قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَأَوْصَى بِعَبْدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَأَعْتَقَ الْوَارِثُ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ ثُمَّ صَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ جَاءَ الْمُوصَى لَهُ فَطَلَب حَقَّهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمْ يَوْمئِذٍ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ سِتُّمِائَةٍ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا هَذَا الْعَبْدِ، قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثُلُثُهُ لِلْوَرَثَةِ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ مِنْ السِّتِّمِائَةِ مَعَ الثَّمَانِمِائَةِ، وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ لَمْ يُعْتِقْهُمَا، وَلَكِنَّ الْمُوصَى لَهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَبِيدِ حَتَّى صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَاوِي مِائَةً فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْوَارِثُ الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَيَضْمَنُ لَهُ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا بِالْإِعْتَاقِ الْعَبْدَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمئِذٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ خَمْسَمِائَةٍ يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَيَقُومُ لِلْوَارِثِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَثِمِائَةٍ، فَيَأْخُذُهُ الْوَارِثُ مَعَ الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ حَتَّى يُسَلَّمَ لَهُ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدٌ يُسَاوِي ثَلَثَمِائَةٍ، فَأَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا إلَى الْوَصِيِّ، ثُمَّ جَاءَ الْمُوصَى لَهُ يَطْلُبُ حَقَّهُ فَيَكُونُ الْوَصِيُّ فِي الْكِتَابَةِ قَائِمًا مَقَامَ الصَّغِيرِ، وَحِينَ تَنْفُذُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ فِي ثُلُثَيْهِ صَارَ ذَلِكَ مُسْتَهْلَكًا، وَإِنَّمَا أَدَّى الْأَلْفَ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، قُلْنَا: الْكَسْبُ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ الْعَبْدُ وَثُلُثُ الْكَسْبِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَحَدَ عَشَرَ وَتُسْعٌ يَأْخُذُهَا مِنْ مَالِ الِابْنِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَيَرْجِعُ الْمُوصِي عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ الِابْنُ فِي ثُلُثِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِقَدْرِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ فَيُخْرِجُ الْبَاقِيَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَتْ السِّعَايَةُ فِي يَدِ الْمُوصِي قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ حَضَرَ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ مَالَ الِابْنِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُعْتَقٌ بِاسْتِيفَاءِ الْوَصِيِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ فَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ أَنَّ الصِّبَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبُ ضَمَانِ الْعَيْنِ، وَالْمُوصَى لَهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ بِالْكِتَابَةِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ زَادَتْ بَعْدَ أَدَائِهِ الْمُكَاتَبَةَ، لَمْ يُنْظَرْ إلَى الزِّيَادَةِ وَلَا إلَى النُّقْصَانِ بَعْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَ بَعْضُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 15 وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ زَادَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبَةَ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ فَضَاعَ فِي يَدِ الْمُوصِي، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي تَصَرُّفِهِ بِالْكِتَابَةِ وَقَبْضِ الْبَدَلِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَتْبَعَ مَالَ الِابْنِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِثُلُثِ أَرْبَعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ قِيمَةُ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ ثُلُثِهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَمِائَةٍ فَيُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ، وَالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ رَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ ثُلُثِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَيَسْعَى لِلصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدَانِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَاتَبَهُمَا فِي مَرَضِهِ كِتَابَةً وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَأَدَّى الْبَاقِي الْمُكَاتَبَةَ إلَى السَّيِّدِ، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَهْلِكْ الْمُكَاتَبَةَ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَرْجِعُونَ عَلَى الْحَيِّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ تَمَامُ ثُلُثَيْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ حَابَاهُمَا بِقَدْرِ أَلْفٍ فَذَلِكَ وَصِيَّةٌ لَهُمَا تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمَرِيضِ لَا تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فِي ضِمْنِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ قَائِمَةٌ بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ، وَهُوَ الْمُكَاتَبُ الْآخَرُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ تَلْزَمُ بِنَفْسِهَا فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ الْمُقَدَّمِ فِي مَرَضِهِ، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ فَإِنَّمَا مَالُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَنِصْفُ رَقَبَةِ الْبَاقِي قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَاَلَّذِي مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ وَيُؤَدِّي بِمَوْتِهِ نِصْفَ رَقَبَتِهِ، فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَارِثِ، وَالْعَبْدِ الْقَائِمِ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ نِصْفَ الثُّلُثِ سَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ وَلِلْوَارِثِ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا قَسَّمْنَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا لِلْعَبْدِ مِنْ رَقَبَتِهِ بِقَدْرِ ثَلَثِمِائَةٍ، وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ سُلِّمَ لِلْوَصِيِّ بِالْعَبْدِ الْقَائِمِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَالْمَيِّتُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِثْلَ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ فَيُقْتَسَمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَبَقِيَ الْآخَرُ فَأَدَّى الْمُكَاتَبَةَ، وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَعَبْدٌ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَوْصَى أَنْ يُبَاعَ الْعَبْدُ مِنْ فُلَانٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ مِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَوَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ، وَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةٍ فَكُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ يَكُونُ عَلَى سِتَّةٍ أَيْضًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَمَبْلَغُ سِهَامِ الْوَصَايَا عَشَرَةٌ، فَذَلِكَ ثُلُثُ الْمَالِ وَجُمْلَةُ سِهَامِ الْمَالِ ثَلَاثُونَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 16 أَسْهُمٍ، وَهُوَ الْعُشْرُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَخَمْسَةٌ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ يُبَاعُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا كَمَا أَمَرَ بِهِ الْمُوصَى، وَأَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّمَا يُبَاعُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ إنْ رَغِبَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ لِتُنَفَّذَ لَهُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَقِيمَةُ أَرْبَعَةِ أَعْشَارِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ؛ فَلِهَذَا يُبَاعُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعَبْدِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خُمْسُ الْأَلْفَيْنِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ حِصَّةُ نِصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ بِالْبَيْعِ مَعَ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ ذَلِكَ خَمْسُونَ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الْبَيْعِ فَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، فَإِذًا قَدْ سَلَّمَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي الْحَاصِلِ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَنَفَّذْنَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمُحَابَاةِ الْوَصِيَّةَ بِقَدْرِ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَنِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْأَلْفَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدٌ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ فِي مَرَضِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بِسَنَةِ سِتَّةٍ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَأَبَى الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا، فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى فَصْلَيْنِ فِيهِمَا الْخِلَافُ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُحَابَاةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ بَاعَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا يُسَاوِي قِيمَتَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِثَلَاثَةِ أَلْفٍ سَنَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ: إنَّمَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِي ثُلُثِ الثَّمَنِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: التَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْ الثَّمَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْفَصْلَيْنِ ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ نَقُولَ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ حَالَّةً وَسَلَّمَ لَهُ التَّأْجِيلَ فِي مِقْدَارِ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ أَصْلًا، فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَيَبْقَى صَاحِبُ الثُّلُثِ فَيَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَبْدِ، وَإِنْ أَوْصَى بِالْبَيْعِ فَأَدَّى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ حَالَّةً إلَى الْوَرَثَةِ ثُمَّ خَلَّفَ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَتُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ الَّتِي مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَرَغَتْ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ بِمُضِيِّ الْأَجَلِ فَيُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ لَهُ فِي رُبْعِ الثَّمَنِ، وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ فَيُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ ثَلَاثَةُ أَلْفٍ فَرُبْعُهُ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ تَأْجِيلُهُ إلَّا فِي هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ يَضْرِبُ بِالْجَمِيعِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالْمَالُ اثْنَيْ عَشَرَ، فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لَهُ التَّأْجِيلُ فِي مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَهُوَ الرُّبْعُ وَيُؤَدِّي أَلْفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 17 فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ مِنْهَا أَلْفَانِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ الْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الثُّلُثِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ فَيُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ التَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِي مِقْدَارِ الْأَلْفَيْنِ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ثُلُثِ الْأَلْفِ الثَّالِثَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ هَذِهِ الْأَلْفِ فَيَضْرِبُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ بِثَلَاثَةٍ فَيُؤَدَّى رُبْعُ هَذَا الثُّلُثِ مَعَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ رُبْعُ هَذَا الثُّلُثِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَثُلُثَا الْقِيمَةِ لِلْوَرَثَةِ، وَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَدَّى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامُ الْأَلْفِ مَعَ مَا اسْتَوْفَى، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَلَعَلَّ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ فَيُقِرُّ لِوَارِثٍ لَهُ أَوْ لِوَصِيٍّ بِمَالٍ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الْمَوْتُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ فَأَوْصَى رَجُلٌ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِرَجُلٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا. بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلَةٍ أَحْرَى أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهَا لَا يُعْرَفُ لَهُ وَارِثٌ مِنْكُمْ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلْيَضَعْ مَالَهُ حَيْثُ أَحَبَّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَيِّتُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمَّيْنَا وَارِثٌ لَهُ فَعَقْدُ الْمُوَالَاةِ عِنْدَ تَسَبُّبِ الْإِرْثِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، فَلَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ مَعَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ. ، وَإِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِ ابْنٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ مَوْلَى مُوَالَاةٍ، فَالْمِيرَاثُ لِلْعَمَّةِ أَوْ الْخَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ بِهِ شَيْئًا مَعَ وَارِثٍ مَعْرُوفٍ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَارِثُ مِنْ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ مَالُهُ لِهَذَا الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْئَيْنِ بِالنَّسَبِ وَبِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ بَعْدَهُ، وَهُوَ فِي النَّسَبِ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إنَّمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيجَابَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ابْتِدَاءً؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِرَجُلٍ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَمَّا انْتَفَتْ عَنْ إقْرَارِهِ الْتَحَقَ الْمُقَرُّ بِهِ بِالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مَنْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ لِلرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ وَمَنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِابْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 18 ابْنٍ أَوْ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ الْمَرِيضُ وَقَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ وَكَانَ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْمَالِ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَرُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاجِعِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لَهُ، فَلِهَذَا سُلِّمَ الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِمَالِهِ لِأَحَدٍ كَانَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِهِ قَدْ بَطَلَ بِجُحُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ فَكَيْف يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ؟، قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْمَالِ لَهُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَالَ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ عَمَّةٌ أَوْ مَوْلَى نِعْمَةٍ، فَأَقَرَّتْ الْعَمَّةُ أَوْ مَوْلَى النِّعْمَةِ بِأَخٍ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِعَمٍّ أَوْ بِابْنِ عَمٍّ ثُمَّ أَنْكَرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ أَخَذَ الْمُقَرُّ بِهِ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ جُدِّدَ الْإِقْرَارُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ لِلْمُقَرِّ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِزَوْجٍ وَابْنَةٍ لَهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ، فَصَدَّقَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا أَقَرَّتْ بِهِ لَهُ خَاصَّةً، وَجَحَدَ صَاحِبُهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهَا فَلِلزَّوْجِ نِصْفُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ، وَإِقْرَارَهَا بِالِابْنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مَا يَسْتَحِقُّ لِمَا بَقِيَ مِنْ الْوَرَثَةِ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهَا بِالِابْنَةِ فِيمَا بَقِيَ فَيَكُونُ لَهَا النِّصْفُ الْبَاقِي، وَلَوْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِيمَا أَقَرَّتْ بِهِ مِنْ نَسَبِ الِابْنَةِ، وَجَحَدَتْ الِابْنَةُ الزَّوْجَ كَانَ لِلزَّوْجِ رُبْعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَالْتَحَقَتْ بِالِابْنَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ تَصْدِيقِهِ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ لَهُ رُبْعُ الْمَالِ، وَالْبَاقِي لِلِابْنَةِ. وَلَوْ أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَوْ صِحَّتِهَا بِزَوْجٍ وَابْنَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ فَصَدَّقَهَا كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا أَقَرَّتْ لَهُ بِهِ خَاصَّةً، فَلِلزَّوْجِ نِصْفُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ وَلِمَنْ سَمَّى الزَّوْجُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَالِ، ثُمَّ الْبَاقِي يُقَسَّمُ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ عَلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي أَنَّ إقْرَارَهَا لَهُمْ بِالنَّسَبِ لَا يَصِحُّ فَيُجْعَلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْرُوفٌ بِالنَّسَبِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَلَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ سِتَّةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ لِلْأُخْتِ، وَقَدْ أَخَذَ الزَّوْجُ كَمَالَ حَقِّهِ فَيَطْرَحُ سِهَامًا وَيُقَسِّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ: لِلِابْنَةِ سِتَّةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوهَا وَلَمْ يُكَذِّبُوهَا حَتَّى مَاتَتْ ثُمَّ صَدَّقُوهَا بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 19 الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا بَاطِلٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَيُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ عَلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا بِالثَّلَاثَةِ سِوَى الزَّوْجِ فَيَكُونُ لِلِابْنَةِ نِصْفُ ثَلَاثَةٍ مِنْ سِتَّةٍ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ، وَهُوَ سَهْمَانِ. وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمَانِ، وَلَوْ كَانُوا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهَا وَتَكَاذَبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَّا الزَّوْجَ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالْأُمِّ كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يُضَمُّ لِلْأُمِّ نَصِيبُهَا إلَى نَصِيبِ الزَّوْجِ فَيَقْتَسِمَانِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ صَدَّقَ بِهَا فَالْتَحَقَتْ فِي حَقِّهِ بِأُمٍّ مَعْرُوفَةٍ فَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهمَا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا عَلَى خَمْسَةٍ: لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَفِي هَذَا بَعْضُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ بِوُجُوبِ الْأُمِّ لَا يَتَحَوَّلُ نَصِيبُ الزَّوْجِ إلَى الرُّبْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبُ هُوَ بِالنِّصْفِ سِتَّةً، وَلَكِنْ نَقُولُ: الزَّوْجُ إنَّمَا يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ تَرَكَتْ زَوْجًا، وَإِمَّا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا فِي أَيْدِيهمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَخَذَتْ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مَعَ الزَّوْجِ قُلْنَا: هِيَ بِالْأُمِّيَّةِ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، ثُمَّ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الرَّدُّ فِي الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ ضِعْفِ الْمَالِ؛ فَلِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ فَصَدَّقَهُ الْأَخُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ لِرَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ الْأَخُ: لَسْتُ لَهُ بِأَخٍ وَكَانَ إقْرَارُهُ لِي بَاطِلًا، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِمَالِهِ لِأَحَدٍ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ صَارَ رَادًّا لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ حِينَ أَنْكَرَ الْأُخُوَّةَ وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَابْنَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ فَصَدَّقَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي نَفْسِهَا وَكَذَّبَتْهُ فِي الْبَقِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ، وَالْبَاقِي لِلِابْنَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالِابْنَةِ صَحِيحٌ فَالْتَحَقَتَا بِالْمَعْرُوفَتَيْنِ، فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ، وَالْبَاقِي لِلِابْنَةِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ وَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ، وَالْأُخْتِ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِجَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِابْنِ ابْنٍ أَوْ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ثُمَّ قُتِلَ عَمْدًا، فَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ بِهِ فِي الْقَوَدِ قَوْلٌ وَلَكِنَّهُ إلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَوَدِ وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ بِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ فِي الْقِصَاصِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْفَى بِذِمَّةٍ لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ. فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ لَهُ بِنَسَبٍ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَكِنَّ الرَّأْيَ إلَى الْإِمَامِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ الْقَاتِلَ عَلَى الدِّيَةِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 20 ذَلِكَ فَالدِّيَةُ لِلْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الْأَقْوَادِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَقَرَّ بِبَعْضِ مَنْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ كَانَ الْقَوَدُ لِلْمُقَرِّ بِهِ، وَإِذَا صَدَّقَهُ بِنَسَبِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ مَاتَ، فَالْقَوَدُ إلَيْهَا وَإِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ فَتَلْتَحِقُ بِامْرَأَةٍ مَعْرُوفَةٍ، فَيَكُونُ لَهَا رُبْعُ الْقَوَدِ، وَالْبَاقِي لِلْإِمَامِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَيَا، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَا عَلَى الذِّمَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنْ صَالَحَا عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ الذِّمَّةِ كَانَ رُبْعُ ذَلِكَ لَهَا؛ لِأَنَّ صُلْحَهَا صَحِيحٌ فِي نَصِيبِهَا، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَيُصَالِحُ الْإِمَامُ فِيهِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَقَرَّ الْأَخُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ بِابْنَةِ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ، ثُمَّ أَنْكَرَهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِنِصْفِ مِيرَاثِهِ، وَذَلِكَ مُلْزِمٌ إيَّاهُ وَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَاهَا نِصْفَ الْمَالِ ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةِ ابْنِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ دَفَعَ إلَى الْأُولَى بِغَيْرِ قَضَاءٍ دَفَعَ إلَى هَذِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِنِصْفِ الْمَالِ دُونَ الْأُولَى، وَمَا دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَى تِلْكَ بِقَضَاءٍ دَفَعَ إلَى هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِزَعْمِهِ خَلَفَ ابْنَةَ ابْنٍ وَابْنَةَ ابْنِ ابْنٍ وَأَخًا: فَلِابْنَةِ الِابْنِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْرَى السُّدُسُ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ لِلْأَخِ وَمَا دَفَعَهُ إلَى الْأُولَى زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي فَتَضْرِبُ الثَّانِيَةُ فِيمَا بَقِيَ بِثُلُثِهِ، وَهُوَ سَهْمَانِ؛ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِلنِّصْفِ، وَأَنَّ لِلْأَخِ مَا بَقِيَ بَعْدَ السُّدُسِ، وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَلَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنَةٍ لِلْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْخَصْمُ فِي الدِّيَةِ يُقْبَلُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ وَيُحْضِرُ مَعَهُ الِابْنَةَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا. فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّمِ تَرَكَا جَمِيعًا الْقَتْلَ أَوْ أَمَرَا مَنْ يَقْتُلُ بِحَضْرَتِهِمَا وَلَا يَقْتُلُ حَتَّى يَحْضُرَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ فِي نَصِيبِهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْتُلُ إلَّا بِحَضْرَتِهِمَا، فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَخِ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الْبَيِّنَةَ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْقَوْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَخُ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ أَيْضًا الْبَيِّنَةَ حَتَّى يَحْضُرَ الِابْنُ، وَالْأَخُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَخَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلدَّمِ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ زَعَمَ الْأَخُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ الِابْنُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَا جَمِيعًا لِإِثْبَاتِ الْقَوَدِ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يَتَوَلَّيَا قَتْلَهُ أَوْ بِأَمْرِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ فَيَقْتُلُهُ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 21 وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَصَدَّقَهُ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ بِأَنَّهُ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ، وَصَدَّقَهُ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ بِأَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ فَيُقَاسِمهُ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْأَخِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ الْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسَ، وَهُوَ لَا يَنْقُصُ مِنْ السُّدُسِ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ، وَقَدْ زَعَمَ الْأَخُ لِأَبٍ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ سُدُسَانِ وَنِصْفٌ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ الْأَخُ لِأُمٍّ بِأَنَّ لَهُ مِنْ التَّرِكَةِ السُّدُسَ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ وَإِذَا هَلَكَتْ الْمَرْأَةُ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأَخَاهَا لِأَبِيهَا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَخُوهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَصَدَّقَهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ وَصَدَّقَهُ الْأَخُ بِأَنَّهُ أَخُوهَا لِأَبِيهَا؛ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجِ لَا يَتَغَيَّرُ بِالْأَخِ مِنْ الْأَبِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ الزَّوْجُ لَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعُصُوبَةِ فِي يَدِ الْأَخِ لِأَبٍ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِالْعُصُوبَةِ لَهُ مُكَذِّبٌ لَهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ التَّرْجِيحِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ أَنَّهُ أَخُوهَا لِأُمِّهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا يُقِرُّ لَهُ بِالسُّدُسِ بِالْفَرِيضَةِ وَيَصِلُ إلَيْهِ سُدُسٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ بِإِقْرَارِ الْأَخِ لِأَبٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَأَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ أَخَذَ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ الْأَخِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ أَخًا لِأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَزَوْجًا، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ لِلْأَخِ لِأَبٍ، فَفِي هَذَا إقْرَارٌ بِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ الْمُقِرِّ؛ فَلِهَذَا يُعْطِيه ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى نَصِيبِ الزَّوْجِ فَيَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا لِلزَّوْجِ ثُلُثَاهُ وَلِلْمُقَرِّ بِهِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِ الزَّوْجِ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَزَوْجًا، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أَخٍ سَهْمٌ فَعَلَى هَذَا يُقَسَّمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، فَالْمُرَادُ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ مَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ أَنْ يَأْخُذَ هُوَ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأَبٍ وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهَا بِزَعْمِ الزَّوْجِ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَزَوْجًا فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالزَّوْجِ نِصْفَيْنِ عَلَى سَهْمَيْنِ فَمَا يَصِلُ إلَيْهِمَا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى اعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً بَدَأَ الْكِتَابَ بِمَا ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 22 عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ: يُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ قِيمَتِهِ، أَوْ أَكْثَرَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَوَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ رَدُّ رَقَبَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ نُفُوذِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالرَّدَّ، فَيَكُونُ رَدُّهُ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَوْلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ سَعَى فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ، وَفِي ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ مَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا سَلِمَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ، وَلَا مَالَ لِلْمَوْلَى سِوَاهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ يُسَلَّمُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ عَجَّلَ الْعَبْدُ مِنْ السِّعَايَةِ لِمَوْلَاهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقَهَا الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثُ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةَ تَظْهَرُ فِيمَا أَدَّى، وَهُوَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ فَيَخْرُجُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَبَرْ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَدَّى ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إلَى الْمَوْلَى، وَمَا أَنْفَقَهُ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْ إنْفَاقِ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ وَرَثَتِهِ، وَمَا أَنْفَقَهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ عِنْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُحْتَسَبُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّمَا يَبْقَى مَالُهُ ثُلُثَ الْعَبْدِ، قَدْ أَوْصَى لَهُ بِذَلِكَ فَيَسْلَمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ هَذَا الثُّلُثِ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَتْرُكْ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَوْ كَانَ عَجَّلَ لَهُ قِيمَتَهُ كُلَّهَا، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَهِيَ عِنْدَهُ رَدَّ عَلَى الْعَبْدِ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِثَلَثِمِائَةٍ، وَمَالُ الْمَوْلَى عِنْدَ مَوْتِهِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَهُوَ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ تَخْرُجُ رَقَبَتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحْسُوبَةً مِنْ مَالِهِ، فَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا أَدَّاهُ الْعَبْدُ إنَّمَا أَدَّاهُ مِنْ كَسْبٍ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مُكَاتَبٍ أَوْ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ. وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى أَنْفَقَ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَدْرُ مَا أَنْفَقَهُ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا مَالُهُ مَا بَقِيَ فَيُرَدُّ ثُلُثُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنْفَقَهَا كُلَّهَا، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَحَاجَتُهُ فِي النَّفَقَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَالْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ حُرٌّ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ سَلِمَتْ بِعِوَضٍ لَهُ فِيهِ وَفَاءٌ، وَهُوَ مَا إذَا أَدَّاهُ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ قَدْ أَدَّى ذَلِكَ مِنْ كَسْبٍ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 23 ثُمَّ مَاتَ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى مَالًا أَوْ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ، وَهُوَ عَبْدٌ كَانَ لِلْعَبْدِ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَزِيدَهُ عَلَى الثَّلَثِمِائَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِرَقَبَتِهِ وَقِيمَةُ رَقَبَتِهِ ثَلَثُمِائَةٍ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ يَبْدَأُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلْعَبْدِ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَزِيدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَاكْتَسَبَ الْعَبْدُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ وَتَرَكَ ابْنَةً، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ سِوَى مَالِهِ قَبْلَ الْعَبْدِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ لِلْمَوْلَى مِنْ الْأَلْفِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا: سِعَايَةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمِيرَاثُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانُونَ، وَالْبَاقِي لِلِابْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْهَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ الْمُنَفَّذِ فِي الْمَرَضِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُسْلِمًا إلَى الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فِي الْمَرَضِ مَقْبُوضَةٍ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُتَصَدِّقِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمُوصَى لَهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّمَا ظَهَرَ زِيَادَةٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ يَزْدَادُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ، فَيَزْدَادُ حَقُّهُ بِزِيَادَةِ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا يَزْدَادُ الْوَارِثُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِ الْمُوصِي لَهُ وَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ يَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهَا أَنَّ سَهْمَ الدَّوْرِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ بِالْفَسَادِ، فَالسَّبِيلُ طَرْحُهُ، وَإِنَّمَا يُطْرَحُ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِ الدَّوْرِ مِنْ قَبْلِهِ. ثُمَّ فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا اعْتِبَارُ الدَّوْرِ فِي مَالِ الْمَوْلَى، وَالْبَاقِي اعْتِبَارُهُ فِي مَالِ الْعَبْدِ فَيَبْدَأُ بِالتَّخْرِيجِ عَلَى اعْتِبَارِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى، فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَلْفِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى عِنْدَهُ مُكَاتَبٌ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ مَا لَمْ يُحْكَمْ بَحْرِيَّته، وَالْحُكْمُ بِحُرِّيَّتِهِ بَعْدَ أَدَاءِ السِّعَايَةِ مِنْ مَالِهِ وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بِأَنْ يَظْهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ؛ فَلِهَذَا يَعْزِلُ لِلْمَوْلَى بِجِهَةِ السِّعَايَةِ ثَلَثَمِائَةٍ يَبْقَى سَبْعُمِائَةٍ، فَهُوَ مَالُ الْعَبْدِ مِيرَاثٌ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ، فَيَصِيرُ مَالُ الْمَوْلَى سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ هَذَا السَّهْمُ يَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 24 مَقْسُومًا بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ فَانْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ فَأُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ سِتَّةً: سَهْمَانِ لِلْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ وَيَعُودُ أَحَدُهُمَا إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ، وَحَقُّهُمْ فِي أَرْبَعَةٍ فَهَذَا السَّهْمُ الْخَامِسُ هُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى نِصْفُ مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَيُطْرَحُ السَّهْمُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْعَبْدِ سَهْمَانِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ أَحَدُهُمَا فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَوْلَى، وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ وَخَمْسُونَ صَارَ عَلَى خَمْسَةٍ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَوَصِيَّةُ الْعَبْدِ خُمُسَا ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى مِنْ الْأَلْفِ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ يَبْقَى تِسْعُمِائَةٍ وَسِتُّونَ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ فَحَصَلَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى خَمْسُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُسْتَسْعَى حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ بِدَيْنِهِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ثُلُثَا قِيمَتِهِ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَوْلَى يَبْقَى ثَمَانِ مِائَةٍ فَيَسْتَقِيمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالِابْنَةِ نِصْفَانِ، لِلْمَوْلَى أَرْبَعُمِائَةٍ، ثُمَّ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ ذَلِكَ السَّهْمُ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ بِالْمِيرَاثِ فَيَكُونُ الْأَرْبَعُمِائَة فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، لِلْعَبْدِ مِنْهُ سَهْمَانِ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى أَحَدُهُمَا بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَبِاعْتِبَارِهِ يَزْدَادُ مَالُ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُطْرَحُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ حَقِّ وَرَثَةِ الْمَوْلَى يَبْقَى فِي ثَلَاثَةٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يَعُودُ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ بِالْمِيرَاثِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى فَيَسْلَمُ لَهُمْ أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ خُمُسَا هَذِهِ الْأَرْبَعِمِائَة، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ سَلِمَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ قَبْلَ هَذَا مِائَةٌ فَذَلِكَ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ نَجْعَلَ مَالَ الْمَوْلَى عَلَى سِتِّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي دِينَارٍ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُ ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى دِرْهَمٌ وَنِصْفُ دِينَارٍ، وَحَاجَتُهُ إلَى دِينَارَيْنِ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي دِينَارٍ فَنِصْفُ دِينَارٍ بِمِثْلِهِ قِصَاصٌ يَبْقَى فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ يَعْدِلُ دِينَارًا وَنِصْفًا فَأَضْعِفْهُ لِلْكَسْرِ فَيَصِيرُ دِرْهَمَيْنِ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، ثُمَّ اقْلِبْ الْفِضَّةَ وَاجْعَلْ آخِرَ الدَّرَاهِمِ آخِرَ الدَّنَانِيرِ، وَآخِرَ الدَّنَانِيرِ آخِرَ الدَّرَاهِمِ فَيَصِيرُ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 25 وَكُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقُلْ: كُنَّا جَعَلْنَا الْمَالَ دِينَارًا، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَدِرْهَمًا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَتَكُونُ خَمْسَةً، ثُمَّ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي دِينَارٍ، وَذَلِكَ خُمُسَا مَالَ الْمَوْلَى وَحَصَلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِرْهَمٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ: السَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا مَجْهُولًا فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى مَالٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، وَهُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمَالَ نَاقِصٌ نِصْفَ شَيْءٍ فَأَجْبِرْهُ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ نِصْفَ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ نِصْفَ شَيْءٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ شَيْئَانِ وَنِصْفٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي شَيْءٍ، وَشَيْءٌ مِنْ شَيْئَيْنِ وَنِصْفٍ خُمُسَاهُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ إنَّمَا تَنْفُذُ فِي خُمُسَيْ مَالِ الْمَوْلَى، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَطَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ فِيهِ: أَنْ نَجْعَلَ مَالَ الْمَوْلَى خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَنُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ السَّهْمِ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، وَحَاجَتُهُ إلَى سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَنَفِّذْ الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَرُبْعٌ، وَحَاجَتُهُ إلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمٍ وَنِصْفٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ وَرُبْعٍ، وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ، فَلَمَّا زِدْنَا فِي الْوَصِيَّةِ نِصْفَ سَهْمٍ ذَهَبَ نِصْفُ الْخَطَأِ فَاَلَّذِي يُذْهِبُ مَا بَقِيَ نِصْفُ سَهْمٍ آخَرَ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ أَحَدُهُمَا بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت: مَالُ الْمَوْلَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِ فَحَصَلَ فِي يَدِ وَارِثِهِ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، وَحَاجَتُهُ إلَى سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ نِصْفِ سَهْمٍ فَيَعُودُ إلَى الْأَصْلِ وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمٍ وَنِصْفٍ، فَقَدْ ظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِنُقْصَانِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ، وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ نِصْفِ سَهْمٍ، فَلَمَّا زِدْنَا فِي الْوَصِيَّةِ نِصْفَ سَهْمٍ أَذْهَبَ ذَلِكَ الْخَطَأَ وَجَلَبَ خَطَأَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ سَهْمٍ، فَإِنَّمَا يَزِيدُ فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُذْهِبُ ذَلِكَ الْخَطَأَ وَلَا يَجْلِبُ خَطَأً آخَرَ وَذَلِكَ خُمُسَا النِّصْفِ، وَهُوَ سَهْمٌ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمٍ وَخُمْسِ سَهْمٍ وَخُمْسٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ خُمُسَاهُ، وَإِذَا أَرَدْت إزَالَةَ الْكَسْرِ فَاضْرِبْهُ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، خُمُسَاهُ سِتَّةٌ نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى ثَلَاثَةٌ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى اثْنَا عَشَرَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سِتَّةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْآخَرُ الَّذِي يَكُونُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 26 الدَّوْرُ فِيهِ مِنْ جَانِبِ مَالِ الْعَبْدِ، بَيَانُهُ: أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ الْأَلْفِ بِالسِّعَايَةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِلْمَوْلَى يَبْقَى ثَمَانُمِائَةٍ فَهُوَ مَالُ الْعَبْدِ نِصْفُهُ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ يَعُودُ ثُلُثُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الْعَبْدِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ مَالَهُ يَكُونُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى نِصْفٍ يَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا، وَإِذَا عَادَ سَهْمٌ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الْعَبْدِ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَهَذَا هُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ هَذَا الدَّوْرُ بِزِيَادَةِ هَذَا السَّهْمِ فِي نَصِيبِ الِابْنَةِ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهَا سَهْمًا يَبْقَى حَقُّهَا فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ نَعُودُ بِالْوَصِيَّةِ سَهْمًا إلَى الِابْنَةِ فَيَسْلَمُ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِمَّا أَخَذَهُ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يَبْقَى فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى خُمُسَا ثَمَانِمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، كُلُّ خُمُسٍ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، فَإِذَا ضَمَمْت ثَلَثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى مِائَتَيْنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَهُوَ السَّلَمُ لِوَارِثِ الْمَوْلَى. وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ نَجْعَلَ مَالَ الْعَبْدِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا ثُمَّ نُعْطِي الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ دِينَارًا وَيَعُودُ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الِابْنَةِ ثُلُثُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ فِي يَدِهَا دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَحَاجَتُهَا إلَى دِينَارٍ مِثْلَ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى، فَثُلُثُ دِينَارٍ بِمِثْلِهِ قِصَاصٌ يَبْقَى مَعَهَا دِرْهَمٌ يَعْدِلُ ثُلُثَيْ دِينَارٍ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ دِينَارَيْنِ، ثُمَّ اقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَنَقُولُ كُنَّا جَعَلْنَا مَالَهُ دِينَارًا. وَذَلِكَ بِمَعْنَى ثَلَاثَةٍ وَدِرْهَمًا، وَذَلِكَ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ فَيَكُونُ خَمْسَةً، ثُمَّ أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ دِينَارًا فَاسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ دِينَارٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الِابْنَةِ ثُلُثُ دِينَارٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَدِرْهَمٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ، فَذَلِكَ مِثْلُ مَا أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ شَيْئًا، وَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ ذَلِكَ فَيَصِيرُ مَعَ الِابْنَةِ مَالٌ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ شَيْئًا فَأَخَذَ الْمَوْلَى بِثُلُثَيْ شَيْءٍ وَرَدَّ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ ثُلُثَيْ شَيْءٍ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ شَيْءٌ وَثُلُثَا شَيْءٍ، وَكُنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى شَيْئًا فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مَالِ الْعَبْدِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا، وَطَرِيقُ الْخَطَأِ مَنْ فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ مَالَ الْعَبْدِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ نُعْطِي الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ أَحَدَهُمَا وَنَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ سَهْمٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الِابْنَةِ سَهْمٌ وَثُلُثٌ وَحَاجَتُهَا إلَى سَهْمٍ مِثْلَ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى فَظَهَرَ أَنَّ الْخَطَأَ بِزِيَادَةِ ثُلُثِ سَهْمٍ فَنَعُودُ إلَى الْأَصْلِ وَنُعْطِي الْمَوْلَى سَهْمًا وَثُلُثًا، ثُمَّ نَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ سَهْمٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الِابْنَةِ سَهْمٌ وَتُسْعٌ، وَحَاجَتِهَا إلَى سَهْمٍ وَثُلُثٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِنُقْصَانِ تُسْعَيْ سَهْمٍ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ ثُلُثِ سَهْمٍ، فَلَمَّا زِدْنَا فِي نَصِيبِ الْمَوْلَى ثُلُثَ سَهْمٍ أَذْهَبَ ذَلِكَ الْخَطَأَ وَجَلَبَ إلَيْنَا خَطَأَ تُسْعَيْ سَهْمٍ، فَالسَّبِيلُ أَنْ نَزِيدَ مَا يُذْهِبُ ذَلِكَ الْخَطَأَ وَلَا يَجْلِبُ خَطَأً آخَرَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ فَإِنَّمَا نُعْطِي الْمَوْلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 27 بِالْمِيرَاثِ سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ ثُلُثِ سَهْمٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الْكَسْرِ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَاسْتَرْجَعْنَا مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ سِتَّةً فَيَحْصُلُ لِلِابْنَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِثْلُ مَا كُنَّا أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ لِوَارِثِ الْمَوْلَى اثْنَا عَشَرَ، وَاثْنَا عَشَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ خُمُسَاهُ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ وَمَنْ اخْتَارَ التَّطْوِيلَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُخَرِّجُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَلَكِنْ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا التَّطْوِيلِ فَيَقْتَصِرُ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ بَعْدَ هَذَا عَلَى بَيَانِ طَرِيقِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ وَرُبَّمَا يَذْكُرُ فِي بَعْضِهَا طَرِيقَ الْجَبْرِ لِلْإِيضَاحِ أَيْضًا وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى، وَأَنْفَقَهَا الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ: فَلِابْنَةِ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ سِتُّمِائَةٍ وَلِوَرَثَةِ الْمَوْلَى أَرْبَعُمِائَةٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي طَرِيقِ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدَّى السِّعَايَةَ وَعَتَقَ وَمَا أَنْفَقَهُ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِهِ فَإِنَّمَا مَالُ الْمَوْلَى مَا وَرِثَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَقَطْ. وَعَلَى طَرِيقِ الَّذِي يَعْتَبِرُ الدَّوْرَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى نَقُولُ: الْعَبْدُ تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ نِصْفَهُ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ مِيرَاثُهُ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ نُنَفِّذُ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْ ثُلُثِهِ وَنَقْسِمُ ذَلِكَ السَّهْمَ نِصْفَيْنِ فَيَصِيرُ مَالُ الْمَوْلَى عَلَى سِتَّةٍ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي سَهْمَيْنِ وَيَعُودُ أَحَدُهُمَا بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِ فَيَزْدَادُ حَقُّ وَرَثَتِهِ بِسَهْمٍ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ يَبْقَى سَهْمٌ وَيَبْقَى لَهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْعَبْدِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ مَالُهُ عَلَى خَمْسَةٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَعُودُ مِائَةٌ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ، قَدْ نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ فِي مِائَتَيْنِ، وَإِذَا تَبَيَّنَّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَالِهِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالِابْنَةِ نِصْفَيْنِ لِلْمَوْلَى سِتُّمِائَةٍ، ثُمَّ يَرُدُّ مِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ يَبْقَى لَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَيُسَلِّمُ لِلِابْنَةِ سِتَّمِائَةٍ مِثْلَ مَا يُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ اعْتَبَرَتْ الْمِيرَاثَ فَقَدْ اسْتَوَتْ، وَإِنْ اعْتَبَرَتْ الْوَصِيَّةَ فَقَدْ نَفَذَتْ وَصِيَّةُ الْمَوْلَى فِي مِائَتَيْنِ وَسَلِمَ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نَجْعَلُ لِلْمَوْلَى مَالًا وَنُنَفِّذُ وَصِيَّتَهُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُ ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ فِي يَدِ وَارِثِهِ مَالًا إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ، الْمَالُ الْكَامِلُ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي شَيْءٍ، وَشَيْءٌ مِنْ شَيْئَيْنِ وَنِصْفِ خُمُسَاهُ فَظَهَرَ أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فِي خُمُسَيْ مَالِ الْمَوْلَى، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَإِنْ اعْتَبَرَتْ سَهْمَ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ، فَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: لَمَّا لَمْ يَبْقَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ فَمَالُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 28 أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَقْسُومٌ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ، ثُمَّ النِّصْفُ الَّذِي لِلْمَوْلَى يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ الْكَامِلُ سِتَّةً، ثُمَّ يَعُودُ بِالْوَصِيَّةِ سَهْمٌ إلَى الِابْنَةِ فَيَزْدَادُ نَصِيبُهَا بِسَهْمٍ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهَا سَهْمًا وَنَجْعَلُ الْأَلْفَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْمَوْلَى، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِائَتَانِ فَيَسْلَمُ لِلِابْنَةِ سِتُّمِائَةٍ وَلِوَارِثِ الْمَوْلَى أَرْبَعُمِائَةٍ نِصْفُ مَا نَفَذَتْ فِيهِ وَصِيَّتُهُ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى رَدُّ شَيْءٍ مِمَّا أَخَذَ لِعِلْمِنَا أَنَّ لَهُ مَالًا لَا يَجِبُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ مِنْهُ فَنَأْمُرُ الْوَرَثَةَ بِاسْتِقْرَاضِ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لِنَضُمَّهُ إلَى مَالِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ الْمُسْتَقْرِضُ نَجْعَلُهُ شَيْئًا فَيَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَيْئًا بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ لِلْمَوْلَى خَمْسُمِائَةٍ وَنِصْفُ شَيْءٍ، ثُمَّ يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْهُ بِشَيْءٍ يَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ، وَهُوَ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ فَأَجْبِرْهُ بِنِصْفِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَصَارَتْ الْخَمْسُمِائَةِ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ مِنْهُ يَكُونُ مِائَتَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ كَانَتْ بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَامْرَأَتَهُ وَمَوْلَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَلِوَرَثَةِ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ، وَلِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَتُسْعُ دِرْهَمٍ وَلِلْمَرْأَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتُسْعَا دِرْهَمٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الثَّلَثَمِائَةِ كُلَّهَا مَالُ الْمَوْلَى فِي الظَّاهِرِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ وَمَا تَرَكَ إلَّا مِقْدَارَ قِيمَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا يُورَثُ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ السِّعَايَةِ، ثُمَّ هَذِهِ الثَّلَثُمِائَةِ تُجْعَلُ عَلَى ثَلَاثَةٍ تُنَفَّذُ وَصِيَّةُ الْعَبْد فِي سَهْمٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ السَّهْمُ مِيرَاثًا عَنْهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَوْلَى ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، فَالثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ تَعُودُ الثَّلَاثَةُ إلَى الْمَوْلَى فَيَزْدَادُ مَالُهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ، وَبِطَرْحِهَا مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْمَوْلَى يَبْقَى حَقُّهُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي ثَمَانِيَةٍ، فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَيَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى ثَلَاثَةٌ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى سِتَّةَ عَشَرَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّالِمَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ، مِقْدَارُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ؛ لِأَنَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَكُونُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ ثُلُثَا أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَسُبْعُ الْمِائَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَا دِرْهَمٍ وَسُبْعَاهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَلِلْمَرْأَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَا دِرْهَمٍ وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْمِائَةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبْعُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 29 دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ فَجَمِيعُ الْمَالِ الَّذِي تَرَكَ الْعَبْدُ ثَلَثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْمِائَةِ، وَالْمُوصَى بِهِ مَحْسُوبٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ الْمِائَةِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ نَقُولُ: تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يُقَسَّمُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَيَعُودُ إلَى الْمَوْلَى ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ شَيْءٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مَالٌ إلَّا خَمْسَةَ أَثْمَانِ شَيْءٍ يَعْدِلُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ الثَّلَثُمِائَةِ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَخَمْسَةُ أَثْمَانِ شَيْءٍ انْكَسَرَ بِالْأَثْمَانِ فَاضْرِبْ شَيْئَيْنِ وَخَمْسَةَ أَثْمَانٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّلَثَمِائَةٍ تَكُون عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَمَعْرِفَةُ الْوَصِيَّةِ أَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَظَهَرَ أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ كَانَ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِقَدْرِ السِّعَايَةِ وَيَبْقَى لَهُ مِائَةٌ، ثُمَّ هَذِهِ الْمِائَةُ تُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْلَى، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ ذَلِكَ السَّهْمُ يَصِيرُ مِيرَاثًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَيَعُودُ ثَلَاثَةٌ إلَى الْمَوْلَى، وَهُوَ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ وَرَثَةِ الْمَوْلَى يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَقُّ الْعَبْد فِي ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ فَيَسْلَمُ لَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَسْتَقِيمُ، فَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ عِنْدَهُمَا فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْمِائَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَمَلِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِذَا تَأَمَّلَتْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْجَوَابَ مُتَّفِقٌ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، وَإِنْ اعْتَبَرْت سَهْمَ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ قُلْت: السَّبِيلُ أَنْ يُؤَدِّيَ سِعَايَتَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَبْقَى لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ هَذِهِ الْمِائَةُ تُجْعَلُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الِابْنَةِ، وَالْمَرْأَةِ وَهَذَا هُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمَا سَهْمًا يَبْقَى حَقُّهُمَا فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِمَا بِالْوَصِيَّةِ فَيَصِيرُ لَهُمَا خَمْسَةٌ، وَهُوَ مِقْدَارُ حَقِّهِمَا مِنْ الْمِيرَاثِ: أَرْبَعَةٌ لِلِابْنَةِ وَسَهْمٌ لِلْمَرْأَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمِائَةَ صَارَتْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، وَالْمِائَتَانِ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْجُمْلَةُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَصَلَ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى مَرَّةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ مِقْدَارُ حَقِّهِمَا مِنْ الدَّرَاهِمِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يُجْعَلُ لِلْمَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ يَبْقَى مِائَةٌ إلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلُ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا إلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ لَمَّا سَلِمَ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ فَأَجْبِرْ الْمِائَةَ بِشَيْئَيْنِ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ شَيْئَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِائَةَ الَّتِي هِيَ مَالٌ يَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ، وَإِنَّ السَّالِمَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 30 لِلْمَوْلَى مِنْ هَذَا الْمَالِ الْحَاصِلِ شَيْئَانِ، وَذَلِكَ سُبْعَاهُ مَعَ الْمِائَتَيْنِ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَامْرَأَةً وَمَوْلَاهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالثَّلَثُمِائَةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ سَهْمًا: لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا وَخَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِمَّا بَقِيَ بِمِيرَاثِهِ وَلِلِابْنَتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الثَّلَثَمِائَةِ كُلَّهَا مَالُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ فَيَكُونُ لِلْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ هَذَا الثُّلُثُ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا بَيْنَ وَرَثَةِ الْعَبْدِ: لِلِابْنَتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَوْلَى خَمْسَةٌ، فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَكُونُ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ يَعُودُ خَمْسَةٌ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَزْدَادُ مَالُهُ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ الدَّائِرَةُ فَنَطْرَحُهَا مِنْ أَصْلِ حَقِّهِ يَبْقَى حَقُّهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ، ثُمَّ يَعُودُ خَمْسَةٌ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى فَيَسْلَمُ لَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ السَّبِيلُ أَنْ نَأْخُذَ مَالًا مَجْهُولًا وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إلَى الْمَوْلَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فِي يَدِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى مَالًا إلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ شَيْءٍ يَعْدِلُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ، وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ، الْمَالُ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَتِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِجُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، فَالسَّبِيلُ أَنْ نَضْرِبَ شَيْئَيْنِ وَتِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبْعَةً وَسِتِّينَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ صَارَ عَلَى سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ سَهْمًا، وَمَعْرِفَةُ الْوَصِيَّةِ أَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَظَهَرَ أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ كَانَ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ، وَإِنْ جَعَلْتَ السَّهْمَ الدَّائِرَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ الثَّلَثِمِائَةِ سِعَايَةَ الْعَبْدِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَبْقَى مِائَةٌ، فَهُوَ مَالُ الْعَبْدِ وَمِيرَاثٌ فِيمَا بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِلْمَوْلَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ بِثُلُثِ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَثُلُثَا سَهْمٍ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ مَالُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثُلُثِ سَهْمٍ، وَالْمِائَتَانِ اللَّتَانِ لِلْمَوْلَى ضِعْفُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ، فَالْكُلُّ إذًا سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ، ثُمَّ ادْفَعْ إلَى الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ يُرْجَعُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ سَهْمٌ وَثُلُثَانِ إلَى الْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ: لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمِ وَلِلِابْنَتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْلَا مَا كَانَ لِلْعَبْدِ وَصِيَّةٌ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نَقُولُ: السَّبِيلُ فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ لِلْعَبْدِ مَالًا، ثُمَّ نَدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى مِنْهُ بِالْمِيرَاثِ خَمْسَةَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 31 أَشْيَاءَ، ثُمَّ يُرْجَعُ بِالْوَصِيَّةِ شَيْءٌ وَثُلُثَا شَيْءٍ فَيَصِيرُ لِلْعَبْدِ مَالٌ إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثَ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ تِسْعَةَ عَشَرَ شَيْئًا؛ لِأَنَّا قَدْ جَعَلْنَا لِلْمَوْلَى خَمْسَةَ أَشْيَاءَ فَحَاجَةُ الِابْنَتَيْنِ، وَالْمَرْأَةِ إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَأَجْبِرْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَثُلُثِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثُلُثًا فَقَدْ انْكَسَرَ بِأَثْلَاثٍ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَسِتِّينَ فَلَمَّا صَارَ الْمَالُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثُلُثًا، قَدْ جَعَلْنَا الْمِيرَاثَ لِلْمَوْلَى خَمْسَةً، ثُمَّ يُسْتَرْجَعُ بِالْوَصِيَّةِ سَهْمٌ وَثُلُثَا سَهْمٍ صَارَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنَتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَدَّى الْعَبْدُ مِائَةً إلَى الْمَوْلَى فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ، فَلِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِالسِّعَايَةِ وَمِائَةٌ بِالْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا صَارَ هَكَذَا؛ لِأَنَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ مَدْفُوعٌ إلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَدَّى مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ سِعَايَتِهِ مِائَتَانِ، فَإِذَا أَدَّيْنَا إلَى الْمَوْلَى مِائَتَيْنِ بَقِيَ مَالُ الْعَبْدِ مِائَةٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالِابْنَةِ نِصْفَانِ، لِلْمَوْلَى نِصْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ حَاصِلُ مَالِ الْمَوْلَى مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَاجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةٍ تَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمَيْنِ وَيَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ سَهْمٌ فَيَزْدَادُ مَالُهُ سَهْمٌ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الْمَوْلَى سَهْمًا فَيَصِيرُ مَالُهُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْعَبْدِ سَهْمَانِ، ثُمَّ يَرْجِعُ سَهْمٌ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمَيْنِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، فَظَهَرَ أَنَّ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ خُمُسَا مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِذَا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ خَمْسُونَ فَيَصِيرُ لِوَرَثَتِهِ مِائَتَانِ مِثْلُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ وَيَبْقَى لِلِابْنَةِ مِائَةٌ، وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ السَّبِيلُ أَنْ تُجْبَرَ الْوَصِيَّةُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ فَيَصِيرُ لِلْمَوْلَى مَالٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَبَعْدَ الْجَبْرِ مَا لَا يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا فَأَضْعِفْهُ لِلْكَسْرِ بِالنِّصْفِ فَيَصِيرُ خَمْسَةً، وَالشَّيْءُ يَصِيرُ شَيْئَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي خُمُسَيْ مَالِ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَطْرَحَ سَهْمَ الدَّوْرِ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَقُولَ: يَدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى مِنْ الثَّلَثِمِائَةِ ثُلُثَ الْمِائَتَيْنِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَدَّى الْمِائَةَ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ فِي رَقَبَتِهِ بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ فَيَدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى ثُلُثَا ذَلِكَ وَيَبْقَى مَالُ الْعَبْدِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ فَيَكُونُ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى فَاجْعَلْ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْعَبْدِ سَهْمًا فَيَصِيرُ مَالُ الْعَبْدِ خَمْسَةً لِلْمَوْلَى ثَلَاثَةٌ وَلِابْنَةِ الْعَبْدِ سَهْمَانِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 32 ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهَا سَهْمٌ بِالْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً مِثْل مَا كَانَ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَيَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ أَيْضًا إذَا تَأَمَّلْت. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْطَى الْمَوْلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَأَكَلَهَا الْمَوْلَى، فَلِلْمَوْلَى مِنْ هَذِهِ الثَّلَثِمِائَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالسِّعَايَةِ وَمِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ مَالَ الْمَوْلَى وَمَالُ الْمَوْلَى مِائَةٌ يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ وَنِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ، ثُمَّ نَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةٍ تَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ نَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْمَوْلَى سَهْمًا كَمَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ مَالُ الْمَوْلَى عَلَى خَمْسَةٍ خُمُسَا ذَلِكَ لِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَخُمُسَا الْمِائَتَيْنِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا فَظَهَرَ أَنَّ وَصِيَّتَهُ ثَمَانُونَ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ بِقَدْرِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا نَدْفَعُ مِنْ الثَّلَثِمِائَةِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى بِالسِّعَايَةِ يَبْقَى مِائَتَانِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالِابْنَةِ نِصْفَيْنِ فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَبِالسِّعَايَةِ عِشْرُونَ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَمَانِينَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ جَعَلْتَ السَّهْمَ السَّاقِطَ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ قُلْت: قَدْ أَدَّى الْعَبْدُ مِائَتَيْنِ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ فِي رَقَبَتِهِ بِقَدْرِ مِائَةٍ فَيُدْفَعُ إلَى الْمَوْلَى ثُلُثَا الْمِائَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ يَبْقَى مَالُ الْعَبْدِ مِائَتَانِ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَاجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةٍ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْعَبْدِ سَهْمًا وَاقْسِمْ عَلَى خَمْسَةٍ: ثَلَاثَةٌ لِلْمَوْلَى وَسَهْمَانِ لِلِابْنَةِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا سَهْمٌ بِالْوَصِيَّةِ فَيَسْلَمُ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِثْلَ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْطَى مَوْلَاهُ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ فَلَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَسِبُ بِشَيْءٍ مِمَّا أَكَلَ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا مَالُ الْمَوْلَى مَا يَرِثُهُ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَاجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةٍ بَعْدَ طَرْحِ السَّهْمِ الدَّائِرِ، فَلِلْعَبْدِ خُمُسَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ سِتُّونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى نِصْفُ ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ خُمُسَا الثَّلَثِمِائَةِ فِي الْحَاصِلِ وَيَسْلَمُ لِلِابْنَةِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، قَدْ سَلِمَ لِلْمَوْلَى مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ فِي شَيْئَيْنِ، قَدْ سَلِمَ لِوَرَثَتِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَاسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَدَّى إلَى الْمَوْلَى خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْفَقَهَا الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ وَابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَلِلِابْنَةِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي الْحَاصِلِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَى مَا وَرِثَ مِنْ الْعَبْدِ، وَمِيرَاثُهُ مِنْهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مِنْ مَالِهِ دَيْنُهُ أَوَّلًا، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَبْلَ الْعَبْدِ فِي ثَلَثِمِائَةٍ، قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ فَالْمِائَتَانِ دَيْنٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَضَى الدَّيْنَ بَقِيَ لِلْمَوْلَى خَمْسُونَ، قَدْ ظَهَرَ لِلْعَبْدِ زِيَادَةُ مَالٍ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ الَّذِي اسْتَوْفَاهُ بِالدَّيْنِ فَيَكُونُ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ مِائَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 33 دِرْهَمٍ فَصَارَ مَالُ الْمَوْلَى فِي الْحَاصِلِ مِائَةٌ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ نَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ وَبَعْدَ طَرْحِ السَّهْمِ الدَّائِرِ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْعَبْدِ خُمُسَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَخُمُسَا مِائَةٍ وَخَمْسِينَ يَكُونُ شَيْئَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ سِتُّونَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي شَيْئَيْنِ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَإِنْ اعْتَبَرْت الْمِيرَاثَ قُلْت: إنَّهُ قَدْ وَرِثَ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَثَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ مَرَّةً مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً مِائَةً وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، وَلِلِابْنَةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَبْدُ مَاتَ فِي الْحَاصِلِ عَنْ سَبْعِمِائَةٍ وَسِتِّينَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَفِي يَدِهِ خَمْسُمِائَةٍ، قَدْ سَلِمَ لَهُ مِائَتَانِ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ وَسِتُّونَ بِالْوَصِيَّةِ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ وَسِتُّونَ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَابْنًا يُحْرِزُ مِيرَاثَهُ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الْعَبْدِ وَتَرَكَ ابْنَةً، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى مِنْ الْأَلْفِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِالسِّعَايَةِ وَنِصْفُ مَا بَقِيَ بِالْمِيرَاثِ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا مَاتَ عَنْ ابْنٍ فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى مِنْ مِيرَاثِهِ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ ابْنَةٍ فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَابْنَةً سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فِي الْفَصْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَثُمِائَةٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ اكْتَسَبَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَبَقِيَ الْعَبْدُ الْآخَرُ وَلَمْ يَسْعَ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ سِعَايَةٌ فِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمِيرَاثُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتُّونَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى رَقَبَةُ الْحَيِّ، وَهِيَ ثَلَثُمِائَةٍ، وَتَرِكَةُ الْمَيِّت هِيَ أَلْفٌ، فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا فَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَكَسْبُهُ لِلْمَوْلَى؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ هَذَا الْمَالِ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ اقْتِضَاءِ دَيْنِ السِّعَايَةِ وَبَعْضَهُ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى سِتَّةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثُلُثٍ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، ثُمَّ السَّهْمُ الَّذِي هُوَ لِلْمَيِّتِ يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ فَيَزْدَادُ حَقُّهُ بِسَهْمٍ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَتَتَرَاجَعُ السِّهَامُ إلَى خَمْسَةٍ: لِلْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ وَخُمْسُ الْأَلْفِ وَثَلَثِمِائَةِ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ فَيَسْلَمُ لِلْحَيِّ مِنْ رَقَبَتِهِ هَذَا الْمِقْدَارُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 34 وَيَسْعَى فِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَوْلَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، قَدْ سَلِمَ لِلْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ أَيْضًا مِائَتَانِ وَسِتُّونَ، فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا فِي خَمْسِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَسَلِمَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى ضِعْفُ ذَلِكَ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى فِيهِ: أَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِكُلِّ عَبْدٍ سَهْمٌ وَلِوَرَثَةِ الْمَوْلَى أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ فَاطْرَحْ سَهْمَهُ يَبْقَى خَمْسَةٌ: لِلْعَبْدِ الْبَاقِي سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ فَصَارَ الْمَالُ أَلْفًا وَثَلَثَمِائَةٍ، فَإِذَا قَسَمْتهَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ لِلْحَيِّ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ، قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِ الْمَوْلَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَسِتِّينَ بِأَنْ تَضُمَّ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ إلَى الثَّلَثِمِائَةٍ الْبَاقِيَةِ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ وَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُونَ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عِنْدَ الْمَوْت قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَثُمِائَةِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَالْمِائَةُ كُلُّهَا لِلْمَوْلَى بِالسِّعَايَةِ، وَيَسْعَى الْحَيُّ فِي مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُنَا أَرْبَعُمِائَةٍ، فَإِنَّ رَقَبَةَ الْبَاقِي ثَلَثُمِائَةٍ، وَالْمِائَةُ الَّتِي تَرَكَهَا الْمَيِّتُ كُلُّهَا مَالُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَهُ فَوْقَ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْبَعُمِائَة تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ يُطْرَحُ نَصِيبُ الْمَيِّتِ وَيَبْقَى خَمْسَةٌ، فَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ الْبَاقِي خُمْسُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا، قَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْآخِرَ مُسْتَوْفٍ بِالْوَصِيَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَالِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَانُونَ وَالثُّلُثَانِ ثَلَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، قَدْ أَخَذَ وَارِثُ الْمَوْلَى مِائَةَ دِرْهَمٍ فَيَسْعَى الْحَيُّ لَهُمْ فِي مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا حَتَّى يَصِلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالُ حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَيِّتُ تَرَكَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَخَذَ الْمَوْلَى مِائَةً مِنْهَا بِالسِّعَايَةِ وَمِائَةً وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَنِصْفُ الْبَاقِي سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ بِالْمِيرَاثِ وَيَسْعَى الْحَيُّ فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَخَمْسَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ زِيَادَةً عَلَى قِيمَتِهِ، كَانَ نِصْفُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلِابْنَةِ وَنِصْفُهُ لِلْمَيِّتِ بِالْمِيرَاثِ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا تَرَكَ نُقْصَانٌ عَنْ قِيمَتِهِ نَجْعَلُ ذَلِكَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِمَا أَيْضًا وَالنُّقْصَانُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ فَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الِابْنَةِ فَيَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ فِي الْحَاصِلِ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ: ثَلَثُمِائَةٍ قِيمَةُ الْحَيِّ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ يَسْتَوْفِيهِ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ إلَى أَنْ تَتَبَيَّنَ وَصِيَّتُهُ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِمَّا يَسْلَمُ لِلِابْنَةِ إذْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهَا فَإِذَا عَرَفْنَا مِقْدَارَ مَالِهِ قُلْنَا: السَّبِيلُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 35 أَنْ يَكُونَ مَالُهُ عَلَى سِتَّةٍ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ يَعُودُ نِصْفُهُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ فَيَنْكَسِرُ بِالْإِنْصَافِ فَنَجْعَلُهُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ، ثُمَّ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى سَبْعَةٌ وَلِكُلِّ عَبْدٍ سَهْمَانِ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى فَيَسْلَمُ لَهُمْ ثَمَانِيَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ الْحَيِّ سَهْمَانِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَمَالُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَسَبْعُونَ، فَإِذَا قَسَمْتَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ كَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، قَدْ سَلِمَ لِلْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ مَا سَلِمَ لَهُمَا بِالْوَصِيَّةِ وَبَيْنَ مَا وَصَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِالسِّعَايَةِ، وَالْمِيرَاثِ، اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ السِّعَايَةُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسَةِ أَجْزَاءٍ يَأْخُذُ الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ يَبْقَى مِنْ تَرِكَتِهِ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ، نِصْفُ ذَلِكَ لِلِابْنَةِ، وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَ نُقْصَانَ تَرِكَتِهِ عَنْ قِيمَتِهِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْمَوْلَى وَالِابْنَةِ جَمِيعًا لَوْ وُجِدَتْ وَضَرَرًا بِانْعِدَامِهَا يَكُونُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ حَقُّ الْمَوْلَى إذَا وُجِدَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ السِّعَايَةُ فِي كَمَالِ قِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ نُقْصَانِ ذَلِكَ عَلَى الِابْنَةِ، بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ عَلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّمَا يَبْقَى مَالُهُ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ قُلْنَا: هُوَ فِي الصُّورَةِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا النُّقْصَانُ مِنْ حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّا نُسَلِّمُ الْمَيِّتَ بِالْوَصِيَّةِ هَذَا الْقَدْرَ وَزِيَادَةً وَمَا يُسَلَّمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْجُبْرَانَ بِذَلِكَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْحَيِّ، وَالْمَيِّتِ تُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُنَا سِتُّمِائَةٍ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَثَمِائَةٍ، وَذَلِكَ كَأَنَّهُ لِلْمَوْلَى بِسِعَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ وَقِيمَةُ الْحَيِّ أَيْضًا ثَلَثُمِائَةٍ فَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُطْرَحُ السَّهْمُ الدَّائِرُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَهُوَ الَّذِي يَعُودُ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ نَصِيبِ السِّعَايَةِ إذَا قَسَمَنَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا قُلْنَا: يَسْلَمُ لِلْحَيِّ سَهْمَانِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ سِتِّمِائَةٍ، فَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَيَسْلَمُ لِلْمَيِّتِ مِثْلُ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَيَأْخُذُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَوْلَى بِالسِّعَايَةِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِمْ مَا سَلِمَ لِلْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ فَإِذَا ظَهَرَ التَّخْرِيجُ مِنْ حَيْثُ السِّهَامُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 36 فَالتَّخْرِيجُ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمُ سَهْلٌ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نَقُولُ: يُسَلِّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَيْ الَّذِي كَانَ وَصِيَّةً لِلْمَيِّتِ يَعُودُ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى، فَتَصِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ سِتُّمِائَةِ الْأَشْيَاءِ وَنِصْفُ شَيْءٍ، ثُمَّ يَعْدِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فَأَجْبِرْ بِشَيْءٍ وَنِصْفِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَقُولُ مِثْلَهُ، فَظَهَرَ أَنَّ السِّتَّمِائَة تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا، قَدْ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعِفْهُ فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، فَظَهَرَ أَنَّ السِّتَّمِائَة الَّذِي هُوَ مَالُ الْمَوْلَى يَعْدِلُ أَحَدَ عَشَرَ، وَأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ اثْنَانِ مِنْهُمْ مُدَبِّرَانِ فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمْ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُدَبِّرَيْنِ قَبْلَ السِّعَايَةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الْمُدَبِّرِ الْبَاقِي الثُّلُثُ وَخُمْسُ مَا بَقِيَ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَعْشَارِ قِيمَتِهِ وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُنَفَّذَ فِي صِحَّتِهِ يَشِيعُ فِيهِمْ جَمِيعًا بِالْمَوْتِ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ، وَمَالُ الْمَوْلَى عِنْدَ الْمَوْتِ ثُلُثَا رَقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيَسْلَمُ لِلْمُدَبِّرِ ثُلُثُ مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَيَكُونُ مَالُهُ عَلَى سِتَّةٍ، قَدْ مَاتَ أَحَدُ الْمُدَبِّرَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْمُدَبِّرُ الْآخَرُ فِيمَا بَقِيَ بِسَهْمٍ، وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، فَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ مَرَّةً بِالْأَثْلَاثِ وَمَرَّةً بِالْأَخْمَاسِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ نَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةً فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَنَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ قَدْ سَلِمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ خَمْسَةٌ وَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الْمُدَبِّرَيْنِ يَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى عِشْرُونَ: عَشَرَةٌ مِنْ رَقَبَةِ الْمُدَبِّرِ الْقَائِمِ وَعَشَرَةٌ مِنْ رَقَبَةِ الْقِنِّ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لِلْمُدَبِّرِ الْبَاقِي خُمْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا سَلِمَ لَهُ مَرَّةً خَمْسَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ يَبْقَى مِنْ رَقَبَتِهِ سِتَّةٌ، فَإِنَّمَا يَسْعَى هُوَ فِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ شِئْت سَمَّيْت ذَلِكَ خُمُسَيْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شِئْت سَمَّيْته أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ قِيمَتِهِ وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُدَبِّرِ الْقَائِمِ فِي أَرْبَعَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِثْلَ ذَلِكَ فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا فِي ثَمَانِيَةٍ مِثْلَ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ الْبَاتُّ فِي مَرَضِهِ سَعَى الْمُدَبِّرُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَسَعَى الْآخَرُ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْبَيَانِ شَاعَ فِيهِمْ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ ثُلُثُهُ وَلَا يَزْدَادُ حَقُّ الْمُدَبِّرِ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ فَبَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى يَضْرِبُ الْمُدَبِّرُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ، وَالْقِنُّ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ، فَإِذَا جَعَلْتَ كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، قَدْ مَاتَ أَحَدُ الْمُدَبِّرَيْنِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا بَقِيَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 37 لِسِهَامِ حَقِّهِ الْوَرَثَةَ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْمُدَبِّرَ الْبَاقِيَ بِثَلَاثَةٍ، وَالْقِنَّ بِسَهْمٍ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْمَالُ رَقَبَتَانِ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى تِسْعَةٍ، فَقَدْ سَلِمَ لِلْمُدَبِّرِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ الثُّلُثُ مِنْ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَيَسْلَمُ لَلْقِنِّ سَهْمٌ، وَهُوَ تُسْعُ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ قِيمَتِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْمُدَبِّرِ الْمَيِّتِ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلْحَيِّ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ السَّيِّدِ، ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَبْلَ الْمَوْلَى يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُزَاحِمًا لِلْآخَرِ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ وَالطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِي الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ أَوَّلًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا يَسْعَى الْبَاقِي فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ يَشِيعُ فِيهِمَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ، فَصَارَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى سَهْمَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ وَتَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْآخَرُ فِي رَقَبَتِهِ بِسَهْمٍ، وَالْوَرَثَةُ؛ فَلِهَذَا يَسْلَمُ لَهُ خُمْسُ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَرَضِ.] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): الْأَصْلُ فِي مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ أَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ بِالْأَجَلِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ بِمَنْزِلَةِ تَبَرُّعِهِ بِأَصْلِ الْمَالِ بِالْهِبَةِ أَوْ الْإِبْرَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ تَقَعُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمَالِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ، كَمَا تَقَعُ الْحَيْلُولَةُ بِسَبَبِ الْهِبَةِ، وَالْإِبْرَاءِ وَلِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالتَّأْجِيلِ بَاطِلٌ كَتَصَرُّفِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَأَصْلُ إجْرَائِهِ إذَا جَمَعَ فِي تَبَرُّعِهِ بَيْنَ الْمَالِ، وَالْأَجَلِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ التَّبَرُّعُ بِأَصْلِ الْمَالِ حَتَّى إذَا اسْتَغْرَقَ الثُّلُثَ لَمْ يَصِحَّ تَأْجِيلُهُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْمَالِ، وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ بِأَصْلِ الْمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّبَرُّعَ بِأَصْلِ الْمَالِ أَقْوَى وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الضَّعِيفِ، وَالْقَوِيِّ فِي الثُّلُثِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا سَلَّمَ الْمَرِيضُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي عَشَرَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ إلَى رَجُلٍ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَالطَّعَامُ يُسَاوِي مِائَةً، فَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَجَّلَ ثُلُثَيْ الطَّعَامِ، فَكَانَ الثُّلُثُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِمْ رَأْسَ الْمَالِ إلَّا إنْ شَاءَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُؤَخِّرُوا عَنْهُ الطَّعَامَ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ كَانَ بِالْأَجَلِ، فَإِنَّمَا صَحَّ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَعَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثَيْ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 38 لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، فَإِنَّهُ مَا رَضِيَ بِأَنَّهُ يُطَالَبُ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِهِ فَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَى فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَأْسَ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُؤَخِّرُوا عَنْهُ الطَّعَامَ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا نَفَّذُوا التَّأْجِيلَ فِي جَمِيعِ الطَّعَامِ فَقَدْ سَلِمَ لَهُ شَرْطُ عَقْدِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَإِنْ لَمْ يَتَخَيَّرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ حَلَّ الْأَجَلُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مُوجِبُ الْعَقْدِ هُنَا، فَإِنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، أَمَّا لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ عَنْ الْأَجَلِ أَوْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا صَارَ فِي مَعْنَى التَّحَوُّلِ إلَى التَّرِكَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ، وَإِنْ كَانَ بِمَوْتِ رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ حَلَّ الْأَجَلُ، فَالطَّعَامُ حَالٌّ عَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ يُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَمَاتَ رَبُّ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ حَيٌّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ رَأْسَ الْمَالِ كُلِّهِ وَأَبْطَلَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِمْ سُدُسَ رَأْسِ الْمَالِ وَأَدَّى الطَّعَامَ كُلَّهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي تَبَرُّعِهِ هُنَا بَيْنَ الْأَجَلِ، وَالْمَالِ، وَتَبَرُّعُهُ بِالْمَالِ اسْتَغْرَقَ الثُّلُثَ وَزَادَ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ بِالْأَجَلِ فِي شَيْءٍ وَيَسْلَمُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ثُلُثُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ يَبْقَى سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الطَّعَامَ فِي الْحَالِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ رَأْسُ الْمَالِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ حَتَّى يُسَلِّمَ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ الْمَالِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْفَسْخَ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ تَبَرُّعُهُ فِي الْأَجَلِ، وَالْمَالِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الثُّلُثِ فَيُعْطِي ثُلُثَيْ الطَّعَامِ فِي الْحَالِ وَثُلُثَ الطَّعَامِ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ وَتَسْلَمُ لَهُ ثُلُثُ الْخَمْسِينَ وَيُرَدُّ ثُلُثُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوَزُّعَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ أَصْلِ الْمَالِ، وَالْأَجَلِ، ثُمَّ لَوْ جَعَلْنَا هَكَذَا، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَوَجَبَ قَضَاءُ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ وَجَبَ رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرُدُّوا ذَلِكَ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يُنْتَقَضُ فِي الْمَرْدُودِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعُودَ الْعَقْدُ فِيهِ بِدُونِ التَّجْدِيدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَجُلَيْنِ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ فِي التَّخْرِيجِ وَاحِدٌ وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَرِيضُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي عَشَرَةً، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ حَلّ الْأَجَلِ فَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ثُلُثَ رَأْسِ الْمَالِ وَأَدَّى الْكُرَّ كُلَّهُ لِمَا بَيَّنَّا بِأَنَّ تَبَرُّعَهُ بِأَصْلِ الْمَالِ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمٌ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 39 وَإِذَا تَبَرَّعَ بِقَدْرِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ مَالِهِ عَشَرَةٌ، فَإِذَا أَدَّى الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ الطَّعَامَ فِي الْحَالِ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَرَدَّ ثُلُثَ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا لَهُ الْوَصِيَّةَ فِي عَشَرَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ لِتَغَيُّرِ شَرْطِهِ رَدَّ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى الْكُرَّ كُلَّهُ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَا مَالِ الْمَيِّتِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى أَرْبَعِينَ، ثُمَّ رَدَّ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ وَكُرًّا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيَبْقَى السَّالِمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا رَدَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا يَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ كُرٌّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثٌ، فَذَلِكَ ثُلُثَا مَالِ الْمَيِّتِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْمُحَابَاةَ لَهُ فِي سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ لَهُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ بِكُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِائَةَ دِرْهَمٍ رَدَّ سِتَّةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ هَذَا مَعَ كُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيَكُونَ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ مَالُ الْمَيِّتِ وَيَسْلَمُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ بِكُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيَكُونَ السَّالِمَ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِ الْمَيِّتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهَا، ثُمَّ مَاتَ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَهِيَ وَارِثَةٌ، وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ وَلَهَا عُصْبَةٌ، وَلَا مَالَ لِلْمَرْأَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْمِائَةِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ مِنْهَا إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ سِتِّينَ دِرْهَمًا لِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ مَاتَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَارِثَةً لَهُ فَصَحَّ هِبَتُهُ لَهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَمَوْتُ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي مُبْطِلٌ لِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُصَحِّحًا لِوَصِيَّةٍ بَاطِلَةٍ؟ قُلْنَا: الْهِبَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ، فَأَمَّا الْمِلْكُ بِهِ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ وَمَوْتُ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي إنَّمَا يُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ لِكَوْنِ التَّمْلِيكِ فِيهَا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّا هَذِهِ هِبَةٌ مُنَفَّذَةٌ فِي الْحَالِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهَا قَبْلَهُ، ثُمَّ وَجْهُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مَالَ الزَّوْجِ فِي الْأَصْلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِبَتُهُ لَهَا صَحِيحٌ فِي ثُلُثِهَا، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ الثُّلُثِ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ الْمِائَةَ عَلَى سِتَّةٍ تُنَفَّذُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 40 الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ أَحَدُهُمَا إلَى الزَّوْجِ فَيَزْدَادُ مَالُهُ وَهَذَا هُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ، فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا يَبْقَى لِوَارِثِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ فَتَكُونُ الْمِائَةُ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ بِالْمِيرَاثِ إلَى وَارِثِ الزَّوْجِ فَيَسْلَمُ لَهُ أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمَيْنِ فَاسْتَقَامَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ بُطْلَانَ الْهِبَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْمِائَةِ، وَذَلِكَ سِتُّونَ دِرْهَمًا وَتَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي خُمْسِ الْمِائَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُهُ إلَى وَارِثِ الزَّوْجِ، وَهُوَ عِشْرُونَ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَرْبَعِينَ وَتَبْقَى لِعُصْبَتِهَا عِشْرُونَ دِرْهَمًا. فَإِنْ اعْتَبَرْت طَرْحَ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: مَالُهَا مَا نَفَذَتْ الْهِبَةُ فِيهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمِائَةِ، نِصْفُ ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ يَكُونُ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ تُنَفَّذُ لَهَا الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ وَفِي الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ يُعْتَبَرُ مَالُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَصَارَ هَذَا النِّصْفُ عَلَى هَذِهِ ثَلَاثَةً، وَالنِّصْفُ الَّذِي لِعَصَبَتِهَا أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ إلَى عَصْبَتِهَا فَيَزْدَادُ مَالُهَا بِذَلِكَ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ عَصَبَتِهَا يَبْقَى حَقُّ عَصْبَتِهَا فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ إلَى الْعَصَبَةِ فَيَسْلَمُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ ثُلُثَ الْمِائَةِ صَارَ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالسَّالِمَ لِلزَّوْجِ خُمُسَاهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، إذَا ضَمَمْته إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ يَكُونُ مِائَتَيْنِ، وَالسَّالِمُ لِلْعَصَبَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ ثُلُثِ الْمَالِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا كُلُّ خُمْسٍ سِتَّةٌ وَاثْنَانِ. وَلَوْ كَانَ وَهَبَ لَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَأَرْبَعُونَ بِالْمِيرَاثِ، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمِائَتَيْنِ مَالُ الزَّوْجِ وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الزَّوْجِ يَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَتَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي خُمْسِهَا، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَبِمِيرَاثِ الزَّوْجِ مِنْهَا أَرْبَعِينَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَمَانِينَ فَاسْتَقَامَ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ مَالُهَا ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ وَيَنْقَسِمُ هَذَا الثُّلُثُ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ نَصِيبِ عَصَبَتِهَا عَلَى خَمْسَةٍ فَاَلَّذِي يَسْلَمُ لِعَصْبَتِهَا فِي الْحَاصِلِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ ذَلِكَ وَثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ كُلُّ خُمْسٍ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا أَرْبَعُونَ هُوَ لِعَصْبَةِ الْمَرْأَةِ وَخُمُسَاهَا سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مَعَ ثُلُثَيْ الْمِائَتَيْنِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِائَةً وَسِتِّينَ، وَلَوْ كَانَ وَهَبَ لَهَا ثَلَثَمِائَةٍ، وَهِيَ جَمِيعُ مَالِهِ أَخَذَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ مِائَةً وَثَمَانِينَ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَسِتِّينَ بِالْمِيرَاثِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ مَالَهُ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ يَنْقَسِمُ أَخْمَاسًا، فَإِنَّمَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 41 أَخْمَاسِ ثَلَثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ ثَلَثِمِائَةٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ عَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا. وَلَوْ كَانَ وَهَبَ لَهَا خَمْسَمِائَةٍ وَمَاتَتْ قَبْلَهُ كَانَ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ ثَلَثُمِائَةٍ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَمِائَةٌ بِالْمِيرَاثِ وَتَخْرِيجُهُ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ وَاضِحٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْمَسْأَلَةُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ سِتُّمِائَةٍ وَبِمِيرَاثِ الزَّوْجِ مِنْهَا مِائَتَانِ وَطَرِيقُ التَّخْرِيج أَنْ يَقْسِمَ مَالَ الزَّوْجِ عَلَى خَمْسَةٍ، إنْ طَرَحْت السَّهْمَ الدَّائِرَ مِنْ جَانِبِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ مَالَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَوْهُوبِ عَلَى خَمْسَةٍ إنْ طَرَحْت السَّهْمَ الدَّائِرَ مِنْ جَانِبِهَا وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَهُ مِائَةٌ أُخْرَى وَلَا مَالَ لِلْمَرْأَةِ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلُهُ وَلَهَا عَصَبَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِ الزَّوْجِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِنَّمَا تَنْفُذُ هِبَتُهُ فِي ثُلُثِ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَوْهُوبِ خَاصٌّ بِهِ وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، قِسْمَةُ الْمِائَتَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ لَهَا فِي خُمُسَيْ الْمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ ثَمَانُونَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ بُطْلَانَ الْهِبَةِ فِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ الْمِائَةِ الْمَوْهُوبَةِ لَهَا، وَأَنَّ مَالَهَا ثَمَانُونَ دِرْهَمًا نِصْفُهُ لِلزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُهُ لِعَصَبَتِهَا، فَجُمْلَةُ مَا يَسْلَمُ لِوَارِثِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَمَانِينَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ تَرَكَ الزَّوْجُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا سِوَى الْمِائَةِ الْمَوْهُوبَةِ لَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْمِائَةِ كُلِّهَا وَيَرْجِعُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ يَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْخَمْسِينَ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِقْدَارُ مَا وَهَبَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي مِائَةٍ فَاسْتَقَامَ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ وَمِائَةً؛ لِأَنَّك تَنْظُرُ إلَى خُمُسَيْ مَا تَرَكَ مَعَ مَا وَهَبَ، فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ تَخْرُجُ مِنْ خُمُسَيْ ذَلِكَ سَلِمَتْ لَهَا الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُجَاوِزْ ثُلُثَ مَالِ الزَّوْجِ فِي الْحَاصِلِ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَلِلْمَرْأَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي سِتِّينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ الْمِائَةُ الْمَوْهُوبَةُ وَنِصْفُ الْمِائَةِ الْأُخْرَى لَهُ بِالْمِيرَاثِ عَنْهَا، ثُمَّ هَذِهِ الْمِائَةُ، وَالْخَمْسُونَ تَكُونُ مَقْسُومَةً عَلَى خَمْسَةٍ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهِ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سِتُّونَ كُلُّ خُمْسٍ ثَلَاثُونَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ ثَلَاثُونَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مَرَّةً تِسْعُونَ وَمَرَّةً ثَلَاثُونَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سِتِّينَ فَاسْتَقَامَ، وَإِنْ اعْتَبَرْت الجزء: 29 ¦ الصفحة: 42 طَرْحَ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ قُلْت: مَالُهَا مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي لِلزَّوْجِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَالُهَا بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهَا عَلَى خَمْسَةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِعَصَبَتِهَا سَهْمَانِ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الْعَصْبَةِ سَهْمٌ فَيَسْلَمُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّالِمَ لِلْعَصَبَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٌ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَلِوَارِثِ الزَّوْجِ خُمُسَا ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثٌ فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمِائَةِ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ تَكُونُ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَيَسْتَقِيمُ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَمَانِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ وَرِثَ عَنْهَا نِصْفَ مَالِهَا، ثُمَّ هَذِهِ الْمِائَتَانِ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَمَانِينَ فَاسْتَقَامَ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْمَرْأَةِ ثَلَثُمِائَةٍ سَلِمَتْ الْهِبَةُ لَهَا فِي جَمِيعِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ عَنْهَا نِصْفَ الثَّلَثَمِائَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ سِوَى الْمِائَةِ الْمَوْهُوبَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْهِبَةِ بِخُرُوجِهَا مِنْ الثُّلُثِ. وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ فِي مَرَضِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلَا مَالَ لِلْمَرْأَةِ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لَهَا فِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِائَةِ خَمْسِينَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِهَا أَوَّلًا، وَيَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ يَبْقَى مَالُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهِ تُقَسَّمُ هَذِهِ الْخَمْسُونَ أَخْمَاسًا فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُ الْعِشْرِينَ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي عِشْرِينَ فَاسْتَقَامَ، وَلَوْ وَهَبَ لَهَا ثَمَانِينَ دِرْهَمًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ دَيْنٌ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ كَانَ مَالُ الزَّوْجِ جَمِيعَ الثَّمَانِينَ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ عَشَرَةٌ يُنْتَقَصُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِقَدْرِ نِصْفِ دَيْنِهَا، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَهَا بِالْمِيرَاثِ يَكُونُ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَعَصَبَتِهَا، وَإِنَّمَا يُقْضَى دَيْنُهَا مِنْ مَالِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ عَشَرَةٌ كَانَ نِصْفُ هَذِهِ الْعَشَرَةِ لِلزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ عَشَرَةٌ عَرَفْنَا أَنَّهُ يُنْتَقَصُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِقَدْرِ نِصْفِ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالسَّبْعُونَ بِطَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهِ تَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 43 لَهَا فِي خُمْسِ ذَلِكَ وَكُلُّ خُمْسٍ خَمْسَةَ عَشَرَ فَخُمُسَاهَا ثَلَاثُونَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي خَمْسِينَ، ثُمَّ يُقْضَى بِعَشَرَةٍ مِنْ الثَّلَاثِينَ دَيْنُهَا يَبْقَى عِشْرُونَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَعَصَبَتِهَا نِصْفَيْنِ بِالْمِيرَاثِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ سِتُّونَ دِرْهَمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثِينَ فَاسْتَقَامَ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ، وَقَدْ قَبَضَتْ الْمِائَةَ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ قُسِّمَتْ الْمِائَةُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: لِلْمَرْأَةِ مِنْهَا سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ضَرْبًا وَاسْتِحْقَاقًا، فَهُوَ إنْ وَهَبَ لَهَا جَمِيعَ مَالِهِ، فَإِنَّمَا تَضْرِبُ هِيَ فِي الثُّلُثِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمَيْنِ، ثُمَّ السَّهْمُ الَّذِي لَهَا يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ فَيَعُودُ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعِفْهُ فَيَكُونُ الثُّلُثُ أَرْبَعَةً وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةً فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ أَحَدُ سَهْمَيْهَا، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الزَّوْجِ فَيَعُودُ حَقُّهُمْ إلَى سَبْعَةٍ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُمَا أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا سَلِمَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ مِنْهَا إلَى الزَّوْجِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ ثَمَانِيَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهَا فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ قِسْمَةُ الْمِائَةِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا: لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ سِتَّةٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فَهِيَ تَضْرِبُ بِجَمِيعِ الْمَالِ مِائَةً، وَالْآخَرُ بِثُلُثِهَا فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: لَهَا ثَلَاثَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ فَيَكُونُ سِهَامُ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ نِصْفٌ نَصِيبُهَا وَذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ فَيَزْدَادُ مَالُهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَنَطْرَحُهَا مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيَتَرَاجَعُ حَقُّهُمْ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُمَا فِي ثَمَانِيَةٍ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ قِسْمَةُ الْمِائَةِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لَهَا سِتَّةٌ وَيَعُودُ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ سِتَّةَ عَشَرَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَوْصَتْ بِثُلُثِ مَالِهَا لِرَجُلٍ جَازَتْ الْهِبَةُ لَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ يُجْعَلُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ هُنَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ لَهَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، ثُمَّ ثُلُثُ ذَلِكَ الثُّلُثِ تُنَفَّذُ فِيهِ وَصِيَّتُهَا فِي سَهْمٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَيَبْقَى سَهْمَانِ فَيَعُودُ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 44 وَيَزْدَادُ مَالُهُ بِهَذَا السَّهْمِ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ سَهْمًا يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي خَمْسَةٍ وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ وَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْمَانِهِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهَا فِي ثُلُثِ مَالِهَا اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَيَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا بِالْمِيرَاثِ نِصْفُ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ فَاسْتَقَامَ وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَزَوْجَهَا، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ لَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْهِبَةِ لَهَا فِي ثُلُثِ مَالِ الزَّوْجِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَيْنَ ذَلِكَ الزَّوْجِ وَالِابْنِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةً أَرْبَاعًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، فَإِنَّمَا تُنَفَّذُ الْهِبَةُ لَهَا فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ فَيَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سَبْعَةٍ وَحَقُّهَا فِي أَرْبَعَةٍ فَذَلِكَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ ثَمَانِيَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ صِحَّةَ الْهِبَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْمِائَةِ. وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُخْتَيْهَا قُسِّمَتْ الْمِائَةُ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ الزَّوْجِ، وَالْأُخْتَيْنِ عَلَى سَبْعَةٍ: لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ فَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ بِسَهْمٍ، فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سَبْعَةٍ كَانَ الْكُلُّ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ تَعُودُ بِالْمِيرَاثِ إلَى الزَّوْجِ، وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَنَطْرَحُهَا مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَبْقَى لَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ وَلَهَا سَبْعَةٌ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِائَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي سَبْعَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فَيَسْلَمُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَلَوْ كَانَتْ تَرَكَتْ أُخْتَيْهَا وَأَمَّهَا وَزَوْجَهَا قُسِّمَتْ الْمِائَةُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ بَيْنَ وَرَثَتِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ كَانَ الْكُلُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَعُودُ ثَلَاثَةٌ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَنَطْرَحُهُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ فَيَتَرَاجَعُ الْحِسَابُ إلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا تَرَكْت مِنْ الْوَرَثَةِ فَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَزَوْجًا، وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ. وَلَوْ تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَزَوْجًا وَأُمًّا فَالْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّك تُصَحِّحُ فَرْضِيَّتَهَا فَتَجْعَلُ الثُّلُثَ عَلَى سِهَامِ فَرْضِيَّتِهَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 45 وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ مَا يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ مِنْهَا وَتَسْتَقِيمُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ. وَلَوْ تَرَكَتْ ابْنَتَهَا وَأَبَوَيْهَا وَزَوْجَهَا قُسِّمَتْ الْمِائَةُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا، وَهُوَ الثُّلُثُ يَكُونُ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالثُّلُثَانِ ثَلَاثُونَ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ يَبْقَى لَهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِنْهُ يَسْتَقِيمُ التَّخْرِيجُ وَلَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهِيَ مَرِيضَةٌ وَلَا مَالَ لَهُمَا غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَهَا، وَهِيَ وَارِثَتُهُ مَعَ عَصَبَتِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْهِبَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهَا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهَا فَجَازَتْ هِبَتُهَا لَهُ فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ هَذَا الثُّلُثُ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَصَبَةِ الزَّوْجِ أَرْبَاعًا فَعَرَفْت أَنَّ أَصْلَ الْمِائَةِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِحَاجَتِك إلَى ثُلُثٍ يَنْقَسِمُ أَرْبَاعًا، ثُمَّ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ سِهَامِ وَرَثَتِهَا يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سَبْعَةٍ وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي أَرْبَعَةٍ، فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنَّمَا نَفَّذْنَا الْهِبَةَ لِلزَّوْجِ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا مِنْ الْمِيرَاثِ سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهَا ثَمَانِيَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ قُسِّمَتْ الْمِائَةُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ لِلزَّوْجِ فِي ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الزَّوْجِ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِ الزَّوْجِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنُ، فَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ كَانَ الْكُلُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ بِالْمِيرَاثِ إلَيْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ سِهَامِ وَرَثَتِهَا، وَهُوَ سِتَّةٌ يَبْقَى لَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلِلزَّوْجِ ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلزَّوْجِ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْمِيرَاثِ سَهْمٌ فَيَكُونُ السَّالِمُ لِوَرَثَتِهَا سِتَّةَ عَشَرَ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ. وَإِذَا مَرِضَ الزَّوْجُ وَامْرَأَتُهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَوَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً لِصَاحِبِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ تَمُوتَ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا، ثُمَّ الزَّوْجُ أَوْ الزَّوْجُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَا مَعًا. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي مَاتَتْ أَوَّلًا وَلَا وَلَدَ لَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ لَهَا مِنْ مِائَةِ الزَّوْجِ فِي سِتِّينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ مِنْ مِائَتِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَرِثَهَا حِينَ مَاتَتْ قَبْلَهُ، فَإِنَّمَا وَهَبَتْ لِوَارِثِهَا فِي مَرَضِهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ لَا تَرِثُ مِنْ الزَّوْجِ شَيْئًا حَيْثُ مَاتَتْ قَبْلَهُ فَجَازَتْ الْهِبَةُ لَهَا فِي ثُلُثِ مَالِ الزَّوْجِ، ثُمَّ الزَّوْجُ يَرِثُ عَنْهَا نِصْفَ مِائَتِهَا فَيَكُونُ مَالُهُ فِي الْحَاصِلِ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّائِرِ مِنْ جَانِبِهِ تُقَسَّمُ هَذِهِ الْمِائَةُ، وَالْخَمْسُونَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 46 عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لَهَا فِي خُمُسَيْ ذَلِكَ وَذَلِكَ سِتُّونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ يَعُودُ بِالْمِيرَاثِ نِصْفُهُ إلَى الزَّوْج فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سِتِّينَ فَاسْتَقَامَ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يُجِزْ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مِائَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَتُهُ وَجَازَ لَهُ مِنْ مِائَةِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَالَهَا مِائَتُهَا وَرُبْعُ مِائَةِ الزَّوْجِ يَسْلَمُ لَهَا بِالْمِيرَاثِ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الثُّلُثِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَصَبَةِ الزَّوْجِ أَرْبَاعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَهَا فِي الْأَصْلِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ إلَيْهَا، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهَا يَبْقَى لَهُمْ سَبْعَةٌ وَلِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ مَالُهَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فَكُلُّ سَهْمٍ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ مَاتَا مَعًا جَازَ لَهَا نِصْفُ مِائَتِهِ وَجَازَ لَهُ نِصْفُ مِائَتِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَرِثُ مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا حِينَ مَاتَا مَعًا فَتَصِحُّ الْهِبَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةً إلَّا أَنَّ سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةٍ يَعُودُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَتَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَارِثٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَيَبْقَى حَقُّ وَارِثٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ؛ فَلِهَذَا قَسَّمْنَا كُلَّ مِائَةٍ عَلَى سَهْمَيْنِ فَيَسْلَمُ لِوَارِثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ نِصْفُهُ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ وَنِصْفُهُ بِالْوَصِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً عَلَى مِائَةٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَلَهَا عَصَبَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنَّ الْمُحَابَاةَ لَهَا تَجُوزُ فِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَتَبْطُلُ فِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةً، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَتَكُونُ وَصِيَّةً لَهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِ الزَّوْجِ حَيْثُ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَمَالُ الزَّوْجِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ مِقْدَارُ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمِيرَاثِهِ عَنْهَا، ثُمَّ هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَسَبْعُونَ تُجْعَلُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمُحَابَاةُ لَهَا فِي خُمُسَيْ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَيَعُودُ إلَيْهِمْ نِصْفُ الثَّلَاثِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ بِالْمِيرَاثِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَا يَسْلَمُ لَهُمْ سِتُّونَ، وَقَدْ عَرَفْنَا الْمُحَابَاةَ فِي ثَلَاثِينَ فَاسْتَقَامَ. وَإِنْ جَعَلْتَ طَرْحَ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ قِبَلَ الْمَرْأَةِ قُلْت: مَالُهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَثُلُثُ الْخَمْسِينَ الْأُخْرَى بِالْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ بَيْنَ عَصَبَتِهَا وَزَوْجِهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ نَصِيبُ الزَّوْجِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 47 مِنْ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ لَهَا وَنَصِيبُ الْعَصَبَةِ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ إلَى الْعَصَبَةِ فَيَزْدَادُ نَصِيبُهُ فَالسَّبِيلُ أَنْ نَطْرَحَ مِنْ أَصْلِ الْعَصَبَةِ سَهْمًا فَيَتَرَاجَعُ إلَى خَمْسَةٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا لِلزَّوْجِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخُمُسَاهُ لِلْعَصَبَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْعَصَبَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ فَيَسْلَمُ لِلْعَصَبَةِ أَرْبَعُونَ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا مَرَّةً فِي سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ وَمَرَّةً فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٍ فَذَلِكَ ثَلَاثُونَ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ عَنْ عَصَبَةٍ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ ثُلُثِ الْمِائَةِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَهَا مِنْ الْمِائَةِ الْمَوْهُوبَةِ الثُّلُثُ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ بِالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَلَا يَقَعُ فِيهِ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كَانَتْ وَصِيَّتُهَا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنَرُدُّ عَلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الزَّوْجِ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ كَانَ جَمِيعُ الْمِائَةِ مَالَ الزَّوْجِ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهَا، نِصْفُهُ مَقْضِيٌّ مِنْ نَصِيبِ الْعَصَبَةِ، وَنِصْفُهُ مِنْ نَصِيبِ الزَّوْجِ فَيُجْعَلُ نِصْفُ الْعَشَرَةِ كَأَنَّهُ عَلَى الزَّوْجِ، ثُمَّ هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالتِّسْعُونَ تُجْعَلُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ يُقْضَى بِعَشَرَةٍ مِنْ ذَلِكَ دَيْنُهَا وَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ الزَّوْجِ، وَالْعَصَبَةِ نِصْفَيْنِ فَيَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، قَدْ كَانَ وَصَلَ إلَيْهِمْ بِنَقْصِ الْهِبَةِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سِتَّةً وَسَبْعِينَ مِثْلَ مَا نَفَذَ مَا فِيهِ الْهِبَةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ عِشْرُونَ دِرْهَمًا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ وَنَرُدُّ عَلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ عَلَى الزَّوْجِ فَيَبْقَى مَالُهُ تِسْعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْ ذَلِكَ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، ثُمَّ يُقْضَى بِعِشْرِينَ مِنْ ذَلِكَ دَيْنُهَا يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، قَدْ عَادَ إلَيْهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ فَذَلِكَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِثْلَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الرَّجُلِ يَهَبُ الْعَبْدَ فِي مَرَضِهِ فَيَجْنِي عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ غَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ عَبْدًا لِرَجُلٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ يَرُدُّ ثُلُثَيْهِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تُنَفَّذُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَبَعْدَ رَدِّ الثُّلُثَيْنِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى بَقِيَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 48 فَيُقَالُ لَهُمْ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعُوهُ أَوْ افْدُوهُ أَيُّ ذَلِكَ فَعَلُوا رَجَعَ وَرَثَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِمْ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ الرَّدُّ جَعَلَ كَأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، قَدْ كَانُوا يَسْتَفِيدُونَ الْبَرَاءَةَ بِدَفْعِهِ فَكَانُوا مُخْتَارِينَ فِي الْتِزَامِهِ الزِّيَادَةَ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَلَا يَرْجِعُونَ إلَّا بِالْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ يَجْنِي، ثُمَّ يَرُدُّهُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِيهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ ثُلُثَيْهِ إلَى الْوَرَثَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الْعَبْدَ كُلَّهُ بِالْقَبْضِ فَبَقِيَ مِلْكُهُ مَا بَقِيَ الْقَبْضُ، وَأَنَّ وُجُوبَ رَدِّ الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْوَرَثَةِ لِفَسَادِ الْهِبَةِ فِيهِ وَاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقِ الْمَوْلَى فِيهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَثُلُثَا قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ رَدَّ الثُّلُثَيْنِ عَلَيْهِمْ كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِإِعْتَاقِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَقَرَّرَ فِي جَمِيعِهِ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا رَقَبَتَهُ عَلَى رَدِّ الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَثُلُثَا قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ الْوَاهِبَ قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعْهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى أَوْ افْدِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ كُلَّهُ فَيَكُونُ نِصْفُهُ بِالْجِنَايَةِ وَنِصْفُهُ لَهُمْ بِنَقْضِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ الثُّلُثَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِسَهْمٍ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ سَهْمًا يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ فَكَانَ الْعَبْدُ سَهْمَيْنِ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ بِالْجِنَايَةِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سَهْمَانِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَيِّتَ إنَّمَا تَرَكَ عَبْدًا وَنِصْفَ عَبْدٍ فِي الْحُكْمِ فَثُلُثُ ذَلِكَ يَكُونُ نِصْفُ عَبْدٍ؛ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي نِصْفِ عَبْدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ بِالدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ فَيَكُونُ مَالُ الْوَاهِبِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ دُونَ الثُّلُثِ؛ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا قَتَلَ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَغْرَمُ عَشَرَةَ آلَافٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ صَحَّتْ فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَثُلُثُ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَقَرَّرَ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ فَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِاسْتِهْلَاكِ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ وَقِيمَتُهُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا رَقَبَتَهُ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ قِيمَتَانِ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ فَيَسْلَمُ لَهُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ وَثُلُثُ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا غَرِمَ قِيمَتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 49 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ بَاقِيًا كَانَ يَدْفَعُهُ النِّصْفَ بِالْجِنَايَةِ وَالنِّصْفَ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ بِالْجِنَايَةِ إلَّا نِصْفُ الْعَبْدِ فَهُوَ بِالْإِعْتَاقِ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ إلَّا ذَلِكَ النِّصْفَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةً وَنِصْفًا، يَسْلَمُ لَهُ بِالْهِبَةِ ثُلُثُ ذَلِكَ وَيَغْرَمُ قِيمَةً وَاحِدَةً قُلْنَا: عِنْدَ قِيَامِ الْعَبْدِ مَا يُرَدُّ مِنْهُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ هَدَرٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ بِرَدِّ الْقِيمَةِ لَا يَعُودُ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ مِنْ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ كُلِّهَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ فِي قِيمَةٍ كَامِلَةٍ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَتَلَ الْوَاهِبَ وَلَمْ يُعْتِقْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدَ كُلَّهُ: نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ وَنِصْفَهُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ، وَحُكْمُ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ قِيمَتِهِ وَكَثْرَةِ قِيمَتِهِ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ وَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْوَاهِبِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَالدِّيَةُ، وَهِيَ عَشَرَةُ الْآفِّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ سِتَّةَ آلَافٍ وَاخْتَارَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَدَّ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ رُبْعَهُ وَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ يَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ تُنَفَّذُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ السَّهْمُ بِمِثْلِهِ وَمِثْلَ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِثْلَهُ وَمِثْلُ ثُلُثِهِ، فَإِنَّمَا يُفْدَى كُلُّ سَهْمٍ مِنْ الْعَبْدِ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ ثُلُثِهِ وَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ يَبْقَى لَهُمْ ثُلُثُ سَهْمٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ فَاجْعَلْ كُلَّ ثَلَاثَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ: ثَلَاثَةٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَسَهْمٌ لِوِرْثِهِ الْوَاهِبِ بِنَقْضِ الْهِبَةِ، ثُمَّ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَذْكُرُ طَرِيقَةً أُخْرَى بَعْدَ هَذَا فَيَقُولُ: السَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَقِيمَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالدِّيَةُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ فَيَفْدِيهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ زِيَادَةٌ تَظْهَرُ فِي جَانِبِ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ فَتُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ نَصِيبِهِمْ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَعَشَرَةٌ يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سِتَّةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، فَإِنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي سِتَّةٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ. تَخْرِيجُهُ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 50 أَنَّ قِيمَةَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَفْدَاهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ يَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ مَعَ هَذَا رُبْعُ الْعَبْدِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَيَكُونُ جُمْلَةُ مَا يَسْلَمُ لَهُمْ تِسْعَةَ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ. وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ أَوْ افْدِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَهَذَا غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عِنْدَ الدَّفْعِ يَدْفَعُ الْعَبْدَ كُلَّهُ: نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ وَنِصْفَهُ بِبَعْضِ الْهِبَةِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كِتَابِ الدَّوْرِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ وَاخْتَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْفِدَاءُ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَيَفْدِي أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّا نُجَوِّزُ الْهِبَةَ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَرُبْعٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ، فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِهَذَا الْقَدْرِ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ سَهْمٌ وَرُبْعٌ يَبْقَى لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ، فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَرْبَاعِ فَنَضْرِبُ سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَتَكُونُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ رُبْعِهِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ. وَعَلَى طَرِيقِ الثَّانِي يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ الْحِسَابِ. فَإِنَّ عَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ يُفْدَى مَا يَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ، وَهُوَ الدِّينَارُ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ رُبْعِهِ، وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يُفْدَى الشَّيْءُ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ بِشَيْءٍ وَرُبْعِ شَيْءٍ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ وَاضِحٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَلَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مِثْلُ الدِّيَةِ فَيَرُدُّ نِصْفَهُ إلَى الْوَرَثَةِ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَيَدْفَعُ نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا رَدَّ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَقِيلَ لَهُ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهِ أَوْ افْدِهَا بِثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ: أَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّا نُجَوِّزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِثُلُثَيْ سَهْمٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ مِثْلُ ثُلُثَيْهِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ سَهْمٍ يَبْقَى لَهُمْ سَهْمٌ وَثُلُثٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَنَضْرِبُ سَهْمَيْنِ وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً: حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعَةٍ، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ نَفْدِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِسَهْمَيْنِ مِنْ الدِّيَةِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَأَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ قَالَ تَدْفَعُهُ عَلَى مَا فَسَّرْت لَك يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الدَّفْعِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 51 لَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْقِيمَةِ وَكَثْرَةِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُ الْعَبْدَ كُلَّهُ نِصْفَهُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَنِصْفَهُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَفَدَى خَمْسَةً بِخُمْسِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِنِصْفِ سَهْمٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِنِصْفِ سَهْمٍ فَيَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَتِهِ نِصْفَ سَهْمٍ يَبْقَى لَهُمْ سَهْمٌ وَنِصْفٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ فَأَضْعِفْهُ بِالْكَسْرِ بِالنِّصْفِ فَيَكُونُ خَمْسَةً تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَتَجُوزُ فِي خُمْسَيْ قِيمَتِهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، ثُمَّ يَفْدِيهِ بِخُمْسَيْ الدِّيَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ يَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا رَدَّ خَمْسَةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَفَدَى ثَلَاثَةَ أَثْمَانِهِ بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِثُلُثِ سَهْمٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِثُلُثِ سَهْمٍ، فَإِذَا طَرَحْنَا ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ يَتَرَاجَعُ الْعَبْدُ إلَى ثُلُثَيْنِ وَسَهْمَيْنِ فَيَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يَفْدِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ سَهْمٌ لَهُ وَاحِدٌ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسِينَ أَلْفًا رَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ وَنِصْفَ سُبْعٍ، وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سُبْعَيْنِ وَنِصْفٍ فَيَفْدِي ذَلِكَ بِسُبْعَيْ الدِّيَةِ وَنِصْفِ سُبْعٍ؛ لِأَنَّا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِخُمُسِ سَهْمٍ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِذَا طَرَحْنَا ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ يَتَرَاجَعُ الْعَبْدُ إلَى سَهْمَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ فَيَضْرِبُ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي تِسْعَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سِتَّةٍ، وَخَمْسَةٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سُبْعَانِ وَنِصْفُ سُبْعٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِمِثْلِ خَمْسَةٍ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي خَمْسَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةَ أَلْفٍ رُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ وَنَفْدِي الْبَاقِيَ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِعَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ مِثْلُ عَشَرَةٍ، فَإِذَا طَرَحْنَا عُشْرَ سَهْمٍ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ يَتَرَاجَعُ الْعَبْدُ إلَى سَهْمَيْنِ وَتِسْعَةِ أَعْشَارٍ فَيُضْرَبُ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ: حَقُّ الْوَرَثَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ تُفْدَى هَذِهِ الْعَشَرَةُ أَسْهُمٍ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي عَشَرَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ سِتَّةَ آلَافٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ الْوَاهِبُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، فَعَلَيْهِ قِيمَةٌ وَثُلُثٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَالَ الْوَاهِبِ قِيمَتَانِ فِي الْحَاصِلِ فَيَسْلَمُ لَهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 52 الثُّلُثُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلدِّيَةِ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ فَتُضَمُّ الدِّيَةُ إلَى الْقِيمَةِ فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا هُوَ مَالُ الْوَاهِبِ، فَيَسْلَمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ، وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ. وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تِسْعَةَ آلَافٍ فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ غَرِمَ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الدِّيَةَ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا يَسْلَمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيَغْرَمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثَ أَلْفٍ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْقِيمَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَثُلُثُ الدِّيَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَثُلُثَيْ الْقِيمَةِ كَمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ رَفَعْنَا عَنْهُ ثُلُثَيْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ كَانَتْ هَذِهِ قِيمَتُهُ فِي الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ جَانِيًا. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ، وَالْمَوْهُوبَ لَهُ قَتَلَا الْمَوْلَى، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ وَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَاتِلٌ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ فَيُرَدُّ الْعَبْدُ كُلُّهُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَيَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نِصْفِهِ فَيَغْرَمُ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَأَجْنَبِيٌّ قَتَلَا الْمَوْلَى فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ خَمْسَةُ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نِصْفِهِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ فَيَرُدُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ خُمْسَيْ الْعَبْدِ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَيَفْدِي ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ نِصْفِ الدِّيَةِ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَالدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى، هَذِهِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا تَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهَا، وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ، مِقْدَارُهَا مِنْ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَيُرَدُّ الْخُمْسُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ: قِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَيَفْدِي بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْد إنَّمَا جَنَى عَلَى نِصْفِ النَّفْسِ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَإِذَا جَمَعْت مَا وَصَلَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ كَانَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ رُبْعَهُ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا كَمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ إنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِسَهْمٍ فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 53 يَبْقَى لَهُمْ سَهْمٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي نِصْفِ مَالِهِ وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فَيَرُدُّ رُبْعَ الْعَبْدِ بِنَقْضِ الْهِبَةِ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ وَيَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِالْجِنَايَةِ، فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَنِصْفُ الدِّيَةِ الَّتِي أَخَذُوهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَبْعَةِ آلَافِ وَخَمْسِمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَرَضِ وَبَيْعِ الْمَكِيلِ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَكِيلِ وَوَزْنِهِ بِمُحَابَاهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): اعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَابَاةِ فِي الْمَالِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ الْمَالَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَصْلِ فِي تَنْفِيذِ الْمُحَابَاةِ فِيهِ مِنْ الثُّلُثِ فَنَقُولُ: إذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً إلَى أَجَلٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّوْبَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ السَّلَمُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَجَّلَ ثُلُثَيْ الْكُرِّ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِالْأَجَلِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ. وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ سُدُسَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالْمَالِ هُنَا جَاوَزَتْ الثُّلُثَ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْمُحَابَاةِ بِالْأَجَلِ، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ، وَذَلِكَ سِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَيُرَدُّ الْكُرُّ حَالًّا وَيُرَدُّ سُدُسُ الثَّوْبِ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْوَارِثِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْمُحَابَاةَ فِي مِثْلِ نِصْفِهِ تَصِفُهُ وَمَا يُرَدُّ مِنْ الثَّوْبِ يَكُونُ خَطَأً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فِي السَّلَمِ. وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا رَدَّ ثُلُثَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ الْعِشْرِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ عَشَرَةٌ فَيَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الثَّوْبِ حَتَّى يُسْلِمَ لِلْوَرَثَةِ كُرًّا يُسَاوِي عَشَرَةً، وَثُلُثُ الثَّوْبِ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ مِثْلُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْمُحَابَاةَ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ نَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ سُدُسَ الثَّوْبِ وَسُدُسَ الْعَشَرَةِ فَذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَيْسَ تَنْفِيذُ الْمُحَابَاةِ لَهُ مِنْ أَحَدَ الْمَالَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَإِنَّمَا يَرُدُّ السُّدُسَ مِنْهُمَا مِنْ الْكُرِّ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْوَارِثِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْمُحَابَاةَ لَهُ فِي سِتَّةٍ وَثُلُثَيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ ثَوْبًا يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ رَدَّ ثُلُثَ الثَّوْبِ وَثُلُثَ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ عِشْرِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ عَشَرَةٌ فَيَسْلَمُ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَيَرُدُّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 54 مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ سَهْمًا. وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ثَلَاثُونَ وَقِيمَةُ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي كُرٍّ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا أَدَّى الْكُرَّ كُلَّهُ وَرَدَّ ثُلُثَ الثَّوْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا وَيَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ الثَّوْبَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الثَّوْبَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ السَّلَمِ فَيُعْطِي الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قِيمَةَ السَّلَمِ وَثُلُثَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مُحَابَاةً لَهُ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْ السَّلَمِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُسْلَمُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصَّرْفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا فِي الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ، فَإِنَّهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَفِي الْأَصْلِ اسْتَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَالْكُلُّ يُخَرَّجُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، ثُمَّ أَقَالَهُ السَّلَمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَا حَابَاهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ أَعَادَ الْكُرَّ بِالْإِقَالَةِ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ الْعَشَرَةَ الَّتِي بِمُقَابِلَتِهِ وَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ سَوَاءٌ، وَالْإِقَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي لَا مُحَابَاةَ فِيهِ نَافِذٌ مِنْ الْمَرِيضِ فَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْكُرِّ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَكُونُ ثُلُثُهُ بِقَدْرِ عِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ جَازَتْ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي نِصْفِ الْكُرِّ وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ نِصْفَ الْكُرِّ وَرُدَّ عَلَيْهِمْ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ أَخْرَجَ بِالْإِقَالَةِ مِنْ مِلْكِهِ جُزْءًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْإِقَالَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْمُحَابَاةِ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَدَاءِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ مِنْ الْمَحَلِّ الْوَارِدِ عَلَيْهِ لَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالٌ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهَا نَفَذَتْ مِنْ الْمَرِيضِ فِي مِقْدَارِ الْخَارِجِ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِقَالَةُ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ بِالْإِقَالَةِ يَسْقُطُ طَعَامُ السَّلَمِ، وَالْمُسْقَطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا. وَفَسْخُ الْإِقَالَةِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْمُتَلَاشِي فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ جَازَتْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَاحْتَجْنَا إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِيهِ فَنَقُولُ: الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ عِشْرِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ عَشَرَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ ثُلُثُ مَالِهِ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ قُلْنَا: تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِي نِصْفِ الْكُرِّ وَيَسْلَمُ لِلْوَارِثِ نِصْفُ كُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَنِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَذَلِكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 55 عِشْرُونَ فَيُسْلِمُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ نِصْفَ كُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ بِخَمْسَةٍ فَتَسْلَمُ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الْعَشَرَةِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُرِّ بِثُلُثِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ السَّلَمِ فَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ كُرٌّ إلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ ذَلِكَ شَيْئًا وَثُلُثًا؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْمُحَابَاةَ فِي ثُلُثَيْ شَيْءٍ فَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى ضِعْفِ ذَلِكَ فَأَجْبِرْ الْكُرَّ بِثُلُثِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْكُرَّ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، وَقَدْ جَوَّزْنَا الْإِقَالَةَ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ نِصْفُ الْكُرِّ فِي الْمَعْنَى، وَلَوْ أَسْلَمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ أَقَالَهُ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْكُرِّ فِي الْمَعْنَى، وَلَوْ أَسْلَمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ فَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِ عَشَرَةٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةً فِي كُرٍّ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ أَقَالَهُ فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ فَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِ عَشَرَةٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةً فِي كُرٍّ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ أَقَالَهُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي ثُلُثَيْ الْكُرِّ وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ ثُلُثَ الْكُرِّ وَرُدَّ عَلَيْهِمْ ثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَثُلُثُ مَالِهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ عِشْرُونَ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ قَدْرُ ثُلُثَيْ الْمُحَابَاةِ؛ فَلِذَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي ثُلُثَيْ الْكُرِّ وَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ رَأْسِ الْمَالِ سِتَّةً وَثُلُثَيْنِ، وَثُلُثُ كُرٍّ قِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ وَيَسْلَمُ لِلْوَارِثِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ وَسَلِمَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُلُثَا كُرٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ وَثَلَاثِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ سَلِمَ مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْمَالِ، وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُرِّ بِنِصْفِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِثْلُ نِصْفِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ كُرٌّ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ وَحَاجَتُهُمْ إلَى شَيْءٍ فَيَجْبُرُ الْكَرُّ بِنِصْفِ شَيْءٍ وَيَزِيدُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِثْلَهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْكُرَّ يَعْدِلُهُ شَيْءٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ، وَأَنَّا حِينَ جَوَّزْنَا الْإِقَالَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى ثُلُثَيْ الْكُرِّ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ أَقَالَهُ فِي مَرَضِهِ وَقَبَضَ مِنْهُ الْعَشَرَةَ فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي ثُلُثَيْ الْكُرِّ وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ الْكُرِّ وَارْجِعْ عَلَيْهِمْ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ الَّتِي كُنْتَ أَعْطَيْتَهَا الْمَيِّتَ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ فِي الْإِقَالَةِ بِقَدْرِ عِشْرِينَ، وَمَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ عِشْرُونَ، فَإِنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُجِزْ الْإِقَالَةَ، فَثُلُثُ مَالِهِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَالْمُحَابَاةُ إنَّمَا تَجُوزُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ، وَذَلِكَ الثُّلُثُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَابَاهُ فَبِاعْتِبَارِهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي ثُلُثِ الْكُرِّ وَيُؤَدِّي الْمُسْلَمُ إلَيْهِ إلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ كُرٍّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ حِصَّةَ مَا بَطَلَتْ فِيهِ الْإِقَالَةُ فَيُعْطُونَهُ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذُوا مِنْ الطَّعَامِ يَبْقَى لَهُمْ ثَلَاثَةَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 56 عَشَرَ وَثُلُثُ، قَدْ سَلِمَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُلُثُ كُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ سَلِمَ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ فِيهِ نَقُولُ: الْإِقَالَةُ تَصِحُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُرِّ، ثُمَّ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَقْضِيَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ بِثُلُثِ ذَلِكَ، وَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ كُرٍّ إلَّا ثُلُثَ شَيْءٍ يَبْقَى فِي يَدِ الْوَارِثِ ثُلُثَا شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثًا، فَاجْبُرْ ثُلُثَيْ كُرٍّ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَظَهَرَ أَنَّ ثُلُثَيْ الْكُرِّ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، فَالْكُرُّ الْكَامِلُ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، قَدْ جَوَّزْنَا الْإِقَالَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ بِمَعْنَى ثُلُثَيْ الْكُرِّ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَسْلَمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ أَقَالَهُ الْمُسْلِمُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْكُرِّ وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ الْكُرِّ وَخَمْسَةَ أَتْسَاعِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ مَالِهِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ خَمْسُونَ فَنَنْظُرُ إلَى ثُلُثِ مَالِهِ كَمْ هُوَ مِنْ مِقْدَارِ الْمُحَابَاةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ ثَلَاثَةٍ وَثُلُثِ دِرْهَمٍ سَهْمًا، وَجُمْلَةُ الْمُحَابَاةِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ تَكُونُ خَمْسَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَابَاةِ خَمْسُ أَتْسَاعِ، وَصِحَّةُ الْإِقَالَةِ بِاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْكُرِّ وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ الْكُرِّ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَتُسْعَانِ وَخَمْسَةُ أَتْسَاعِ رَأْسِ الْمَالِ، مِقْدَارُ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ وَتُسْعٌ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ مِقْدَارِ ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الْكُرِّ قِيمَتُهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَسَبْعَةُ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ بِأَخْذِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتُسْعٍ الَّذِي أَعْطَى الْوَرَثَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ مُحَابَاةً لَهُ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُرِّ بِخُمْسَيْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْكُرِّ كَذَلِكَ فَيَبْقَى فِي يَدِ الْوَارِثِ كُرٌّ إلَّا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمْسَ شَيْءٍ فَأَجْبِرْ الْكَرَّ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْكُرَّ يَعْدِلُ شَيْئًا وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ شَيْءٍ، قَدْ جَوَّزْنَا الْإِقَالَةَ فِي شَيْءٍ وَشَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ شَيْءٍ يَكُونُ خَمْسَةَ أَتْسَاعٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْإِقَالَةَ إنَّمَا جَازَتْ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْكُرِّ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْكُرِّ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْكُرِّ فَالْعَمَلُ فِيهِ كَمَا وَصْفنَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَسْخٌ كَمَا قَبْلَهُ فَلَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَقِيمَةُ الْكُرِّ ثَلَاثُونَ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَقَالَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَقَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكُرَّ قِيلَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 57 أَنْتَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ شِئْت أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أُخْرَى، وَإِنْ شِئْت فَرُدَّ الْكُرَّ وَخُذْ دَرَاهِمَك؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ لَمَّا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ أَمْكَنَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ هَذَا، وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمَرِيضُ كُرًّا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ سِوَاهُ، فَهُنَاكَ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَشَرَةً أُخْرَى حَتَّى تَسْلَمَ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ فَهُنَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْكُرَّ وَيَأْخُذَ دَرَاهِمَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ الْمُحَابَاةِ، وَإِنَّمَا نَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ السَّلَمِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُفَسَّرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكُتُبِ سِوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَ خَمْسِينَ، ثُمَّ مَرِضَ الْمُشْتَرِي فَأَقَالَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْبَائِعُ، فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ خَمْسِينَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَأَخَذَ مِنْهُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ حَابَاهُ بِقَدْرِ نِصْفِ مَالِهِ فَلَا يُسْلِمُ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ إلَّا مِقْدَارَ الثُّلُثِ غَيْرَ أَنَّ إقَالَةَ الْبَيْعِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ بِخِلَافِ إقَالَةِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَائِمٌ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، وَلِهَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ تَحَالَفَا فِي الْبَيْعِ وَتَرَادَّا الْإِقَالَةَ وَفِي السَّلَمِ لَا يَتَحَالَفَانِ فَلِكَوْنِ الْإِقَالَةِ بِغَرَضِ الْفَسْخِ هُنَا أَثْبَتنَا الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ شَرْطُ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ الْخَمْسِينَ بِطَرِيقِ فَسْخِ الْإِقَالَةِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ ثُلُثَ الثَّمَنِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَيْنِ، وَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مِنْ الثَّمَنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، قَدْ سَلَّمَ لِلْبَائِعِ ثُلُثَ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَيَكُونُ السَّالِمُ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ مِثْلَ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَرَضِ وَلَهُ عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ وَلَا مَالَ لَهُ مِنْ الْعَيْنِ غَيْرُهَا وَلَهُ عَلَى النَّاسِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ مَاتَ فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الثَّلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ هُنَا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِتَعَيُّنِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ وَرَدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ فَلَا تَبْقَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 58 بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْعَقْدَ وَأَدَّى الْكُرَّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالثُّلُثِ بِالْمَالِ جَاوَزَتْ الثُّلُثَ فَلَا يَسْلَمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجَلِ وَلَكِنْ يُؤَدِّي الْكُرَّ كُلَّهُ وَيَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ مِنْ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَظِّ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَعَقْدُ السَّلَمِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَإِنْ اقْتَضَوْا الدَّيْنَ بَعْدَ مَا اخْتَصَمُوا وَقَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِهَذَا وَفُسِخَ السَّلَمُ لَمْ يُرَدَّ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلْمَيِّتِ عَلَى النَّاسِ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ، فَإِنْ بَدَا الْوَارِثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ يُفْسَخُ السَّلَمُ إنْ اخْتَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَفَسْخُ السَّلَمِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَادُ بِخُرُوجِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ رَدَّ عَشَرَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ وَيُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ اقْتَضَوْا الدَّيْنَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمُوا أَسْلَمَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ وَجَازَتْ لَهُ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالْمَالِ، وَالْأَجَلِ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ حِينَ وَصَلَ إلَى يَدِ الْوَارِثِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَلَوْ أَسْلَمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي مَرَضِهِ فِي كُرٍّ يُسَاوِي عَشَرَةً وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ عَلَى النَّاسِ دَيْنٌ فَاقْتَضَى الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمُوا فَالسَّلَمُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ مِنْ الْمَالِ بِقَدْرِ عَشَرَةٍ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَدِّ إلَى الْوَرَثَةِ الْكُرَّ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ عِشْرُونَ، وَهِيَ ثُلُثَا مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مِنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا: عَشَرَةٌ قِيمَةُ الْكُرِّ الَّذِي أَدَّى وَعَشَرَةٌ مُحَابَاةٌ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَالْمَقْبُوضُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ وَرَدَّ الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ حَالًّا وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ مَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَالِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثَانِ، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَإِذَا اخْتَارَ النَّقْضَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ فَيَرُدُّ جَمِيعَ مَا قَبَضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالثَّوَابِ. [بَابُ بَيْعِ الْمَكِيلِ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَكِيلِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ كُرَّ تَمْرٍ فَأَدَّى قِيمَتَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا بِكُرِّ دَقَلٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 59 كُرَّهُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تَخْرُجْ الْمُحَابَاةُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْكُرِّ الْفَارِسِيِّ بِنِصْفِ الدَّقَلِ وَرَدَّ نِصْفَ الْكُرِّ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ حَصَلَتْ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ مَالِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ الْمُحَابَاةِ بِزِيَادَةِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْفَضْلُ رِبًا فَيُنْظَرُ إلَى ثُلُثِ مَالِهِ كَمْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَابَاةِ فَيَجُوزُ فِي الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَهُنَا الثُّلُثُ مِثْلُ نِصْفِ الْمُحَابَاةِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْكُرِّ فَيَرُدُّ عَلَى الْوَارِثِ نِصْفَ كُرِّ قِيمَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَنِصْفَ كُرِّ دَقَلٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَيَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي نِصْفُ كُرٍّ فَارِسِيٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ بِنِصْفِ كُرِّ دَقَلٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ. وَإِنْ بَاعَهُ كُرًّا قِيمَتُهُ سِتُّونَ بِكُرِّ حَشَفٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي خُمْسِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ عِشْرُونَ فَكَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ خُمْسَيْ الْمُحَابَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَارِسِيِّ، وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَخُمْسَا الْحَشَفِ وَقِيمَتُهُ أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ ثُلُثَا تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَلَوْ بَاعَهُ كُرًّا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ بِكُرٍّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ جَازَ الْبَيْعُ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ كُلَّ ثَلَاثَةٍ وَثُلُثِ سَهْمًا فَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ الْكُرِّ الْجَيِّدِ وَخَمْسَةَ أَتْسَاعِ الْكُرِّ الرَّدِيءِ، فَإِنْ اعْتَبَرْت قِيمَتَهُمَا فَهِيَ ثُلُثَا تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ وَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إقَالَةِ السَّلَمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ فِي الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا جَرَحَ الْعَبْدُ رَجُلًا حُرًّا خَطَأً فَمَاتَ الْحُرُّ مِنْهَا، قَدْ عَفَى عَنْ هَذَا الدَّمِ فِي مَرَضِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيلَ لِمَوْلَاهُ: أَتَدْفَعُ أَوْ تَفْدِي. فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ ثُلُثَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِجِنَايَتِهِ وَلَا مَالَ لِلْعَافِي غَيْرُهُ، وَالْعَفْوُ وَصِيَّةٌ مِنْهُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مَالٌ عَلَى الْمَوْلَى فَيَجُوزُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ جَازَ الْعَفْوُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَيَفْدِي سُدُسَهُ بِسُدُسِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَفْوِ فِي جَمِيعِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ إذَا صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي جَمِيعِهِ وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ حِينَئِذٍ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ خَارِجًا مِنْ ثُلُثِهِ وَزِيَادَةً. فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ الْعَفْوِ هُنَا فِي الْبَعْضِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَلْفَا دِرْهَمٍ ضِعْفُ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ لَكَانَ الْعَفْوُ يَجُوزُ فِي جَمِيعِهِ فَالسَّبِيلُ أَنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 60 نَضُمَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ إلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ نُبْطِلُ مِنْ الْعَفْوِ حِصَّةَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ مِنْ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَفْوِ بِاعْتِبَارِ أَنَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَضِعْفُ الْقِيمَةِ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إلَى الدِّيَةِ كَانَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ضِعْفَ الْقِيمَةِ مِنْ الْجُمْلَةِ هُوَ السُّدُسُ؛ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَبَطَلَتْ فِي السُّدُسِ فَيَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثُلُثَا أَلْفٍ فَيَسْلَمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي نِصْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَفْدِي مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ عَبْدٌ إلَّا شَيْئًا بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا، فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَارِثِ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ؛ لِأَنَّا جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى شَيْئَيْنِ فَتُجْبَرُ الْأَمْوَالُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ وَيَزِيدُ عَلَى مَا نَفَذَ مِثْلَهَا فَكَانَتْ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ اثْنَا عَشَرَ شَيْئًا، فَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمْسًا فَانْكَسَرَ بِالْأَخْمَاسِ فَاضْرِبْ شَيْئًا وَخُمْسًا فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ سِتَّةٌ، قَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ فَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا جَازَ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى سَبْعَةً بِسُبْعَيْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَنَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى ضِعْفِ الْقِيمَةِ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَنُبْطِلُ الْهِبَةَ بِقَدْرِهِ، وَذَلِكَ سُبْعَاهُ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَتَبْطُلُ فِي السُّبْعَيْنِ فَنَفْدِيهِ بِسُبْعَيْ الدِّيَةِ، مِقْدَارُهُ أَلْفَانِ وَثَمَانُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ وَسُبْعٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ مِثْلُ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تَأْخُذُ مَالًا مَجْهُولًا فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَيَبْطُلُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا، ثُمَّ تَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَمْوَالٍ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، يَعْدِلُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ فَأَجْبِرْهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ فَصَارَ خَمْسَةُ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ، وَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمْسَيْ شَيْءٍ. فَاضْرِبْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ، قَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ. فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا وَعَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنُ أَلْفٍ، فَالسَّبِيلُ فِيهِ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاء أَنْ يَضُمَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يُبْطِلُ الْعَفْوَ بِحِصَّةِ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَحِصَّةِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ اثْنَا عَشَرَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا بَطَلَ فِي الرُّبْعِ فَنَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ فَنَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَيْءٌ لِلْوَرَثَةِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، قَدْ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي ثَلَاثَةٍ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، قِيمَتُهُ: الجزء: 29 ¦ الصفحة: 61 سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ: نُجَوِّزُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَنُبْطِلُهُ فِي عَبْدٍ إلَّا شَيْئًا، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ، ثُمَّ يُقْضَى الدَّيْنُ بِمَالٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، قَدْ جَعَلْنَا الْعَبْدَ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ مَالًا كَامِلًا فَيَبْقَى فِي يَدِ الْوَرَثَةِ تِسْعَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ يَعْدِلُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ، وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ تَكُونُ تِسْعَةَ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ شَيْئًا، فَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَثُلُثًا، فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ شَيْئًا وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً، قَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَلَاثَةٍ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَصَحَّ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا صَحَّ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَكَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَوْضُوعَةً، فَدَى نِصْفَ سُدُسِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ سُدُسِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّك تَأْخُذُ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَتَضُمَّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ بِحِصَّةِ الدِّيَةِ وَخَمْسَةِ أَسْدَاسٍ، وَبِحِصَّةِ الْأَلْفِ الْمَوْضُوعِ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسٍ، فَإِنَّمَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ سُدُسِ الْعَبْدِ فَيَفْدِيهِ بِنِصْفِ سُدُسِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ هَذَا مَعَ الْأَلْفِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ، قِيمَةُ ذَلِكَ: تِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ: نُجَوِّزُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَنُبْطِلُهُ فِي عَبْدٍ إلَّا شَيْئًا فَنَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ أَحَدَ عَشَرَ مَالًا يَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ شَيْئًا، فَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ شَيْءٍ، فَاضْرِبْهُ فِي أَحَدَ عَشَرَ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ، قَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا جَازَ فِي أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفُ سُدُسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ قَتْلِ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْوَاهِبِ أَوْ غَيْرِهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): رَجُلٌ لَهُ عَبْدَانِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةُ آلَافٍ فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَقَبَضَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ قَتَلَ الْوَاهِبَ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، وَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ كُلَّهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنَّ مَالَهُ فِي الْأَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةٍ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ، وَالْقِيمَةَ سَوَاءٌ فَيَزْدَادُ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ سَهْمٌ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُهُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَيَبْقَى لَهُمْ سَهْمٌ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي سَهْمٍ مِنْ سَهْمَيْنِ، وَهُوَ الْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ كُلُّهُ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 62 ثُمَّ يَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ أَلْفًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَصَارَ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ بِالْجِنَايَةِ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ كَانَ وَهَبَ الْآخَرَ لِرَجُلٍ آخَرَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَرُدُّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ الْآخَرِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ وَيُقَالُ لِمَوْلَى الْقَاتِلِ: ادْفَعْ خَمْسَةً أَوْ افْدِهِ بِخُمْسَيْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى سَهْمَيْنِ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْقَاتِلِ يَدْفَعُ سَهْمَهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ فَيَطْرَحُ السَّهْمَ الدَّائِرَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا فِي سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يَدْفَعُ مَوْلَى الْقَاتِلِ نَصِيبَهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِسَهْمٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ، فَاسْتَقَامَ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خُمْسَيْ عَبْدِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَبَطَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا دَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ نَصِيبَهُ أَوْ فَدَاهُ بِخُمْسَيْ الدِّيَةِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ لَهُمَا فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ: تَأْخُذُ مَالًا مَجْهُولًا فَتَجُوزُ الْهِبَةُ لَهُمَا فِي شَيْءٍ، ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْقَاتِلِ يَدْفَعُ نَصِيبَهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ شَيْءٍ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مَالٌ إلَّا نِصْفَ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ. وَبَعْدَ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا. إنَّمَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ وَشَيْءٍ مِنْ شَيْئَيْنِ وَنِصْفِ خُمُسَاهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خُمْسَيْ عَبْدِهِ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَأَجْنَبِيٌّ قَتَلَا الْوَاهِبَ غَرِمَ الْأَجْنَبِيُّ خَمْسَةَ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نِصْفَ النَّفْسِ بِجِنَايَتِهِ وَيُقَالُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ: أَتَدْفَعُ أَمْ تَفْدِي، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشْرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَرَدَّ الْبَقِيَّةَ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَيُقَالُ لِمَوْلَى الْقَاتِلِ: افْدِ مَا جَازَ لَك فِيهِ الْهِبَةُ بِخَمْسَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا: الْعَبْدَانِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لَهُمَا فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى سَهْمَيْنِ، ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْقَاتِلِ يَفْدِي سَهْمَهُ بِنِصْفِ سَهْمٍ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ إنَّمَا جَنَى عَلَى نِصْفِ النَّفْسِ فَحِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ نُضَعِّفَهُ لِلْكَسْرِ بِالْإِنْصَافِ فَيَصِيرُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا سَهْمَانِ وَلِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ سَهْمَهُ بِسَهْمٍ مِنْ الدِّيَةِ، وَهَذَا السَّهْمُ هُوَ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُهُ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سَبْعَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا فِي أَرْبَعَةٍ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ مَوْلَى الْقَاتِلِ يَفْدِي بِسَهْمٍ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ لَهُمَا فِي أَرْبَعَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 63 إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: السَّبِيلُ أَنْ نَضْرِبَ أَحَدَ عَشَرَ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمَيْنِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ، قَدْ ضَرَبْنَا ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خَمْسِينَ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَالِهِ لَمَّا صَارَ عَلَى مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَكُلُّ عَبْدٍ يَكُون مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ مِنْ مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ يَكُونُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، فَتَبَيَّنَّ تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ جَازَتْ الْهِبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَرَدَّ النِّصْفَ بِنَقْصِ الْهِبَةِ، وَيَدْفَعُ مَوْلَى الْجَانِي النِّصْفَ بِالْجِنَايَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُمْلَةَ مَالِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَدْ انْقَسَمَ ذَلِكَ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا خُمْسُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَهُوَ قِيمَةُ نِصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي وُهِبَ لَهُ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي نِصْفِ قِيمَةِ كُلِّ عَبْدٍ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يَدْفَعُ مَوْلَى الْقَاتِلِ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ أَلْفًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ لَهُمَا فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَوَهَبَ الْعَبْدَ فِي مَرَضِهِ لِرَجُلٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ رُبْعَ الْعَبْدِ نَقْصًا لِلْهِبَةِ وَيَدْفَعُ أَرْبَاعَهُ أَوْ يَفْدِيهَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ إنَّمَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، قِيمَةُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا جَازَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا رُبْعَ الْعَبْدِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ أَوْ يَفْدِي بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَيَجْتَمِعُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ عَبْدًا لَهُ يُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرُ وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَتَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مُحِيطٌ بِالتَّرِكَةِ فَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِهَذَا وَتَبْطُلُ الْجِنَايَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى عَلَى مَوْلَاهُ وَجِنَايَةُ الْخَطَأِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ هَدَرٌ فَيَكُونُ هَذَا وَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ فَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعُوا إلَى الْقَاضِي، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلِكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمٍ، فَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِفَسَادِ السَّبَبِ مَا لَمْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ، وَالْعِتْقُ مَتَى صَادَفَ مِلْكَهُ نَفَذَ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ فَاسِدًا أَمْ صَحِيحًا، وَبِنُفُوذِ الْعِتْقِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 64 تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ غَرِمَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قِيمَتَيْنِ: قِيمَةً كَامِلَةً، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافٍ بِالِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِانْتِقَاضِ الْهِبَةِ، قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ، وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ وَلَكِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ لَا تُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَشَرَةَ آلَافٍ كَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يَغْرَمُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الْقِيمَةِ فِي الْجِنَايَةِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَاقِيَ مَالُ الْمَيِّتِ فِي الْحَاصِلِ فَيَسْلَمُ لَهُ الثُّلُثُ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَيَغْرَمُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ خَمْسَةَ آلَافٍ وَلَمْ يُعْتِقْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَيُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْ الرُّبْعَ أَوْ افْدِهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ لِمَكَانِ الدَّيْنِ، يَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ النِّصْفُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ كَامِلٍ فِي حَالِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَاهِبِ دَيْنٌ، قَدْ بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ الْكَامِلِ أَنَّهُ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَالدِّيَةِ سَوَاءً، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ النِّصْفَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، فَهُنَا أَيْضًا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَتَبْطُلُ فِي نِصْفٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا بَطَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَجَازَتْ فِي رُبْعِهِ، قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا دَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ فَدَاهُ حَصَلَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيَقْضُونَ الدَّيْنَ خَمْسَةَ آلَافٍ لِقَتْلِ الْعَبْدِ الْمَرِيضَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: أَتَدْفَعُ أَمْ تَفْدِي، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَرَدَّ خَمْسَةَ أَثَمَانِهِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ وَيَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ عَبْدًا وَثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ بِالْجِنَايَةِ مَالُهُ. وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ، وَهِيَ خَمْسَةُ آلَافٍ، قِيمَةُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فَيَجْعَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ كَامِلٍ فِي حَالِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَفِي الْعَبْدِ الْكَامِلِ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ، إنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِهِ فَهُنَا أَيْضًا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَنِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْعَبْدُ فَيَقْضُونَ مِنْهُ الدَّيْنَ خَمْسَةَ آلَافٍ، يَبْقَى لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَعْشَارِ الْعَبْدِ، وَرَدَّ سَبْعَةَ أَعْشَارِ الْعَبْدِ إلَى الْوَرَثَةِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ، ثُمَّ يَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ. وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ: أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ فِي رُبْعِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 65 الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَعَبْدٍ كَامِلٍ، ثُمَّ كُلُّ سَهْمٍ تُفْدَى فِيهِ الْهِبَةُ يَفْدِيهِ بِمِثْلِ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا جَعَلْنَا ثَلَاثَةً عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَجَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ فَدَاهُ بِنِصْفِ سَهْمٍ فَيَظْهَرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ زِيَادَةُ نِصْفِ سَهْمٍ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَيَطْرَحُ هَذَا مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ وَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ انْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعِفْهُ فَيَكُونُ خَمْسَةً، فَتَجُوزُ الْهِبَةُ لَهُ فِي سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. فَإِذَا صَارَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ رُبْعُهُ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ، وَجَمِيعُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ لِلْكَسْرِ فَيَكُونُ عِشْرِينَ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ، قَدْ ضَرَبْنَاهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتَّةٌ مِنْ عِشْرِينَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارٍ؛ فَلِهَذَا قَالَ: يَفْدِي ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ بِثَلَاثَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ أَوْ افْدِهِ بِثَلَاثَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ فِي حَقِّ الدَّفْعِ، بَلْ الصَّحِيحُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَوَهَبَهُ لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ وَأَجْنَبِيًّا مَعَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَتَقَرَّرُ بِالْإِعْتَاقِ، وَهُوَ بِالْإِعْتَاقِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْجِنَايَتَيْنِ، فَيَضْمَنُ لِلْأَجْنَبِيِّ كَمَالَ الدِّيَةِ، وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الدِّيَةَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، وَالْقِيمَةَ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ، فَظَهَرَ أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ الدِّيَةُ، وَالْقِيمَةُ فَيَسْلَمُ لَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيَضْمَنُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَتَيْنِ مُسْتَهْلِكًا رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ، وَقِيمَتُهُ فِي الْجِنَايَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَيَغْرَمُ نِصْفَ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً لِوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَغْرَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَثُلُثَيْ خَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً؛ لِأَنَّ مَالَهُ قِيمَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَوْهُوبِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً، فَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ لِلْوَرَثَةِ الثُّلُثَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يُعْتِقْهُ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ نِصْفَهُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ، وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِهِ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ النِّصْفَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَبِنِصْفِ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يَظْهَرُ أَنَّ مَالَ الْوَاهِبِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ، قِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ عَلَى سَهْمَيْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 66 فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي أَحَدِ السَّهْمَيْنِ وَيَفْدِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يُقَالُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ: ادْفَعُوا النِّصْفَ الَّذِي رُدَّ عَلَيْكُمْ إلَى وَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ افْدُوهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ بِانْتِقَاضِ الْهِبَةِ عَادَ ذَلِكَ النِّصْفُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْوَاهِبِ، قَدْ جَنَى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ بِاخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ النِّصْفَ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، قَدْ اسْتَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ وَيَدْفَعُ الْخَمْسِينَ بِالْجِنَايَةِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ وَوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ عَلَى سِتَّةٍ، فَإِنَّ الثُّلُثَ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ مَدْفُوعٌ بِالْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْخَمْسِينَ، ثُمَّ يَدْفَعُ أَحَدَ الْخَمْسِينَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ فَيَسْلَمُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي خَمْسِينَ فَاسْتَقَامَ. وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْ نِصْفَك أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ، وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا وَبِهِ أَجَابَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا، وَفِي كِتَابِ الدَّوْرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ: ادْفَعُوا الثَّلَاثَةَ الْأَخْمَاسِ الَّتِي رُدَّتْ إلَيْكُمْ إلَى وَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ افْدُوهُ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَارْجِعُوا بِقِيمَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبَضَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، قَدْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافٍ فَوَهَبَهُ لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَهَبَهُ لِآخَرَ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي: ادْفَعْهُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ جَازَتْ الْهِبَةُ مِنْ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ، وَرَجَعَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ بِثُلُثِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مِلْكَ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ثُلُثَا عَبْدٍ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ ثُلُثِ الْعَبْدِ الْمَقْبُوضِ، قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ فَيَغْرَمُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ حَتَّى يَسْلَمَ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَبْدٌ وَثُلُثُ عَبْدٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثُلُثَيْ عَبْدٍ، فَإِنْ فَدَاهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ الدِّيَةُ، وَالْعَبْدُ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ، فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَوَهَبَهُ لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَهَبَهُ لِآخَرَ، وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَبَضَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْمَوْهُوبَ لَهُ الْأَوَّلَ وَمَاتَ الْوَاهِبُ مِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 67 مَرَضِهِ فَإِنَّهُ يَسْلَمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ سُبْعُ الْعَبْدِ وَيَرُدُّ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، وَيَجِيءُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَيُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: ادْفَعْ السُّبْعَ الَّذِي فِي يَدِكَ أَوْ افْدِهِ بِسُبْعِ الدِّيَةِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ صَوَابٌ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ تَجُوزُ لَهُ الْهِبَةُ فِي السُّدُسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، أَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُجْعَلُ الْعَبْدُ فِي الْأَصْلِ عَلَى تِسْعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَالثَّلَاثَةُ ثُلُثٌ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنْ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي فِي سَهْمٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَيَفْدِي هَذَا السَّهْمَ بِمِثْلِ ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ بِثُلُثَيْ سَهْمٍ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سَهْمٍ وَثُلُثٍ، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي فِي سَهْمٍ فَذَلِكَ سَهْمَانِ وَثُلُثٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ثُلُثَ الْعَبْدِ صَارَ عَلَى سَهْمَيْنِ وَثُلُثٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْعَبْدِ عَلَى سَبْعَةٍ، فَإِنَّمَا تَصِحُّ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي فِي سَهْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ فَيَفْدِي ذَلِكَ بِسُبْعِ الدِّيَةِ وَيَرُدُّ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ فِي مَالِ مُوَرِّثِهِمْ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنْهُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ: الثُّلُثُ الَّذِي جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَزْدَادُ حَقُّ وَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ بِسَهْمٍ، فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ وَيَجْعَلُ الثُّلُثَ عَلَى سَهْمَيْنِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ بِالثَّانِي فِي أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ سَهْمَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ، وَإِذَا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى سَهْمَيْنِ كَانَ جَمِيعُهُ سِتَّةً، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي سُدُسِ الْعَبْدِ فَيَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ السُّدُسَ بِالْجِنَايَةِ وَيَرُدُّ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَمَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ مِنْ مَرَضِهِ جَازَتْ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ فِي سُدُسِهِ وَرَدَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، وَيَجِيءُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُونَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَسْدَاسِ ثَلَاثَةَ أَسْدَاسٍ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَيَبْقَى فِي يَدِ وَرَثَةِ الثَّانِي ثُلُثُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّا نَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ، لَهُ ثُلُثٌ وَالثَّلَاثَةُ ثُلُثٌ ذَلِكَ تِسْعَةٌ، فَتَصِحُّ الْهِبَةُ مِنْ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ الْفِدَاءِ بِمِثْلِهِ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ لِمَكَانِ الدَّوْرِ، يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْدَاسِهِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِنَقْضِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 68 الْأَوَّلِ وَسُدُسَانِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْعَبْدِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ وَسُدُسُهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: ادْفَعُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ أَوْ افْدُوهُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَالدِّيَةَ سَوَاءٌ، وَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلُوا فَقَدْ حَصَلَ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا، ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الْآخَرِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، قَدْ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ؛ فَلِهَذَا رَجَعُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، سَوَاءً اخْتَارُوا الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ، وَالْآخَرَ جَمِيعًا وَهُمَا مَرِيضَانِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ وَوَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ الدَّفْعَ، أَوْ يَخْتَارُوا جَمِيعًا الْفِدَاءَ أَوْ يَخْتَارَ وَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ الدَّفْعَ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ الْفِدَاءَ أَوْ يَخْتَارُ وَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ الْفِدَاءَ، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ الدَّفْعَ، فَإِنْ اخْتَارُوا جَمِيعًا الْفِدَاءَ قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: رُدَّ سِتَّةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْآخَرِ نَقْضًا لِلْهِبَةِ وَيَبْقَى فِي يَدِك ثُمُنَاهُ، ثُمَّ يَجِيءُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ ثُمُنَانِ، وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ فِدَاءَ الثَّمَنَيْنِ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ عَلَى تِسْعَةٍ: سِتَّةٌ مِنْ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فَارِغٌ عَنْ الْجِنَايَتَيْنِ وَسَهْمَانِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، وَفِيهِمَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ هَدَرٌ، فَإِنَّهُ جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ، وَسَهْمٌ حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ، وَفِيهِ جِنَايَتَانِ، فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ نَصِيبَهُ بِسَهْمٍ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فَيَزْدَادُ نَصِيبُهُمْ بِهَذَا السَّهْمِ، فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ سَهْمًا فَيَتَرَاجَعُ الْعَبْدُ إلَى ثَمَانِيَةٍ، لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ سَهْمٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَفْدِي سَهْمَهُ بِسَهْمٍ مِنْ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ سَهْمَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: افْدِ مَا فِي يَدِك، وَذَلِكَ ثُمُنَانِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِسَهْمَيْنِ، وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ يَفْدُونَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَذَلِكَ ثُمُنَانِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِسَهْمَيْنِ فَيَزْدَادُ فِي حَقِّهِمْ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، وَإِذَا طَرَحْنَا أَرْبَعَةً مِنْ ثَمَانِيَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْحَاصِلِ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ وَسَهْمٌ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الثَّانِي وَسَهْمٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ الْآخَرِ، ثُمَّ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ سَهْمَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 69 الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ عَشَرَةُ آلَافٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، ثُمَّ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ أَيْضًا فَيَسْلَمُ لَهُمْ خَمْسَةُ آلَافٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الْآخَرِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ بِقِيمَةِ رُبْعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الْآخَرَ قَبَضَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ إلَّا بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ اخْتَارُوا جَمِيعًا الدَّفْعَ قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: رُدَّ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْآخَرِ، فَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا وَيَبْقَى فِي يَدَيْ وَرَثَةِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ فَيَدْفَعُونَهَا بِالْجِنَايَةِ إلَيْهِمْ أَيْضًا وَيَرْجِعُونَ بِقِيمَتِهَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ، وَيُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ: ادْفَعْ الْجُزْأَيْنِ اللَّذَيْنِ بَقِيَا فِي يَدِك: أَحَدُهُمَا: إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ، وَالْآخَرُ: إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ السَّهْمُ الَّذِي لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ يَدْفَعُ بِالْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَيُكْسَرُ بِالْإِنْصَافِ فَيَجْعَلُهُ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ اثْنَا عَشَرَ وَلِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الثَّانِي أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ سَهْمَانِ يَدْفَعُهُمَا بِالْجِنَايَتَيْنِ، فَيَحْصُلُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الثَّانِي خَمْسَةٌ وَحَقُّهُمْ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَطْرَحُ السَّهْمَ الدَّائِرَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ فِي سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَإِذَا صَارَ ثُلُثُ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ الْكُلُّ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ يَدْفَعُ سَهْمًا مِنْ نَصِيبِهِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ، وَوَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ يَدْفَعُونَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَهُوَ مَا عَادَ إلَيْهِمْ بِنَقْضِ الْهِبَةِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فَيَزْدَادُ حَقُّ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، فَيَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ أَرْبَعَةً، يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي سِتَّةٍ، وَحَقُّ الْآخَرِينَ فِي خَمْسَةٍ، فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْعَبْدَ صَارَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ، وَأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الْآخَرَ يَرُدُّ تِسْعَةً عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْآخَرِ بِحُكْمِ نَقْضِ الْهِبَةِ، فَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْوَاهِبَ الْأَوَّلِ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةً فِي يَدِ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْآخَرِ ثَلَاثَةٌ وَيَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ إلَيْهِمْ سَهْمًا فَيَحْصُلُ لَهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَنَفَّذْنَا هِبَةَ مُوَرِّثِهِمْ فِي سَهْمَيْنِ فَاسْتَقَامَ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ سَهْمًا، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ الثَّانِي يَدْفَعُونَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةً فَيَحْصُلُ لَهُمْ عَشَرَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا هِبَةَ مُوَرِّثِهِمْ فِي خَمْسَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الثَّانِي بِقِيمَةِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْهُمِ الَّتِي دَفَعُوا إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الْآخَرَ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْ مُوَرِّثِهِمْ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، قَدْ اسْتَحَقَّ تِلْكَ الْجِنَايَةَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَوْسَطُ الدَّفْعَ، وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ، فَهَذَا وَمَا لَوْ اخْتَارَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 70 الْفِدَاءَ سَوَاءٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَوْسَطُ الْفِدَاءَ وَالْآخَرُ الدَّفْعَ فَهَذَا وَمَا لَوْ صَارَ الدَّفْعَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَصِيبِ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الثَّانِي إلَّا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِاخْتِيَارِهِمْ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ. وَفِي نَصِيبِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ جِنَايَتَانِ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِاخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ يَدْفَعُ نَصِيبَهُ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يَفْدِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِ نَصِيبِهِ؛ فَلِهَذَا يُغَيَّرُ الْحُكْمُ بِاخْتِيَارِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُمِائَةٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، فَإِنَّ الثَّانِيَ يَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، قَدْ تَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَاقِي بِحَقِّهِ، فَيَقُولُ: قَدْ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى سَهْمَيْنِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا: الْبَاقِي فِي رَقَبَةِ الْآخَرِ فَهُوَ يَضْرِبُ فِي رَقَبَتِهِ بِسَهْمٍ، وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ عَلَى خَمْسَةٍ يَسْلَمُ لَهُ الْخُمْسُ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَيِّتُ تَرَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَضِفْ الْمِائَةَ إلَى قِيمَةِ الْبَاقِي، ثُمَّ يُجْعَلُ لَهُ الْخُمْسُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ السِّعَايَةِ فَوْقَ مَا تَرَكَهُ فَيُجْعَلُ مَا تَرَكَ مَالَ الْمَوْلَى، فَيَكُونُ مَالُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَيَضْرِبُ فِيهِ الْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ، وَالْعَبْدُ الْبَاقِي فَيَسْلَمُ لَهُ الْخُمْسُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ، وَيَسْعَى فِي مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْحَيِّ فِي ثَمَانِينَ وَلِلْمَيِّتِ فِي مِثْلِهِ فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُمَا فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْ الْعَبْدَيْنِ حَتَّى سَعَى أَحَدُهُمَا فِي مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ أَبَقَ أَوْ عَجَزَ عَنْ السِّعَايَةِ ضَمَّ مَا سَعَى فِيهِ إلَى رَقَبَةِ الْآخَرِ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْبَاقِي خُمْسَ ذَلِكَ لِلتَّخْرِيجِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَلَوْ عَجَّلَا لِلْمَرِيضِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِمَا فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ مَاتَ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْعَيَا فِي ثُلُثَيْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ عِنْدَ الْمَوْتِ ثُلُثُ رَقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا اسْتَهْلَكَ إلَّا بَعْدَ جُمْلَةِ مَالِهِ، فَإِنَّمَا نَفَذَ الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي ثُلُثِ الثُّلُثِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهَا عَجَّلَ لَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ مَاتَ ضَمَّ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ إلَى رَقَبَةِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَهُوَ جَمِيعُ تَرِكَةَ الْمَوْلَى فَثُلُثُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَيَسْعَى الَّذِي لَمْ يُعَجِّلْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 71 شَيْئًا فِي مِائَتَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَيَسْعَى الْآخَرُ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي مِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا بَقِيَ مِنْ رَقَبَةِ الَّذِي عَجَّلَ بِسَهْمٍ، وَاَلَّذِي لَمْ يُعَجِّلْ بِثَلَاثَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوصًى لَهُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، ثُمَّ يَحْتَسِبُ لِلَّذِي عَجَّلَ مَا أَدَّى. وَلَوْ عَجَّلَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْآخَرُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَفِي سُدُسِ قِيمَتِهِ لِلْعَبْدِ الَّذِي عَجَّلَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى عِنْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَهِيَ رَقَبَةُ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُونَ، فَاَلَّذِي لَمْ يُعَجِّلْ يُسْلِمُ لَهُ خَمْسِينَ وَيَسْعَى فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَاَلَّذِي عَجَّلَ ثَلَاثَمِائَةٍ، قَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ كَانَ السَّالِمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ خَمْسِينَ، قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَوْلَى مِنْهُ فَكَانَ دَيْنًا لَهُ فِي تَرِكَتِهِ، فَيَأْخُذُ خَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السِّعَايَةِ بِحِسَابِ دِيَتِهِ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِائَتَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِائَةٍ، وَلَوْ عَجَّلَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ قِيمَتَهُ وَعَجَّلَ الْآخَرُ نِصْفَ قِيمَتَهُ فَاسْتَهْلَكَ الْمَوْلَى جَمِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الَّذِي عَجَّلَ النِّصْفَ فِي ثُلُثِ الْقِيمَةِ لِلْوَرَثَةِ، وَفِي نِصْفِ سُدُسِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمَا بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ بَيْنهمَا نِصْفَيْنِ فَيُسَلِّمُ لِلَّذِي عَجَّلَ النِّصْفَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِمَا بَقِيَ مِنْ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَأْخُذُ الْعَبْدُ الْآخَرُ بِحِسَابِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ سَلَّمَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ. وَلَوْ كَانَ عَجَّلَ أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَعَجَّلَ لَهُ الْآخَرُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَاسْتَهْلَكَ الْمَوْلَى جَمِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَاتَ يَسْعَى الْعَبْدُ الَّذِي عَجَّلَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِلْوَرَثَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَالَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ فَيُسَلِّمُ لَهُمَا بِالْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ، قَدْ عَجَّلَ أَحَدُهُمَا مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَعَجَّلَ الْآخَرُ خَمْسِينَ، فَيَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى يَصِيرَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، فَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي مِائَةٍ. وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى يَسْلَمُ لِلْعَبْدِ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، وَتَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ رَقَبَتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عَنْ وَرَثَةٍ أَحْرَارٍ، فَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 72 لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْمَوْلَى، وَلَهُ وَرَثَةٌ يَحُوزُونَ مِيرَاثَهُ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لَا يَعُودُ إلَى السَّيِّدِ بِالْمِيرَاثِ فَلَا يَقَعُ الدَّوْرُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَهُ أَوْلَادٌ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ غَيْرُ السَّيِّدِ، فَالْمِائَتَانِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ بِحِسَابِ دَيْنِهِ، وَثَلَثُمِائَةٍ الْبَاقِيَةُ مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ تَكُونُ لِلذَّكَرِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوَلَاءِ هَذَا إذَا كَانَ مَوْتُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْعَبْدِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَالْخَمْسُمِائَةِ كُلُّهَا بَيْنَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ صَارَ لِلْمَوْلَى: بَعْضُهُ بِحِسَابِ الدَّيْنِ وَبَعْضُهُ بِحِسَابِ الْمِيرَاثِ فَتَكُونُ الْخَمْسُمِائَةِ كُلُّهَا تَرِكَةِ الْمَوْلَى وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَتَرَكَ ابْنَتَهُ كَانَتْ الْمِائَتَانِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى بِحِسَابِ دَيْنِ السِّعَايَةِ وَكَانَتْ الثَّلَثُمِائَةِ بَيْنَ ابْنَةِ الْعَبْدِ وَالذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَوْلَى نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَرِكَةَ الْعَبْدِ فِي الْحَاصِلِ هَذَا فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِابْنَتِهِ وَنِصْفُهُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَمَوْلَاهُ كَانَتْ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِائَةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى فِي الْحَاصِلِ أَرْبَعُمِائَةٍ، قِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ مِائَتَانِ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ، ثُمَّ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ فِي خُمْسَيْ هَذِهِ الْأَرْبَعِمِائَةِ بِاعْتِبَارِ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ نَصِيب الْمَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ وَصِيَّتَهُ خُمْسَا أَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَوْلَى مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ، وَيَبْقَى مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالِابْنَةِ نِصْفَانِ، فَيَسْلَمُ لِلِابْنَةِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَلِوَرَثَةِ الْمَوْلَى فِي الْحَاصِلِ ثَلَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ عَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ طَرْحَ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ نَصِيبِ الْعَبْدِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ هُنَا السَّبِيلُ أَنْ نَرْفَعَ مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ بِالسِّعَايَةِ يَبْقَى ثَلَثُمِائَةٍ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ، ثُمَّ نَصِيبُ الْمَوْلَى يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذِهِ الثَّلَثُمِائَةٍ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةٌ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ إلَى الِابْنَةِ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ نَصِيبِهَا يَبْقَى لَهَا سَهْمَانِ، وَلِلْمَوْلَى ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، فَهَذِهِ تَكُونُ أَخْمَاسًا خُمُسَاهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْوَصِيَّةِ خُمْسٌ آخَرُ، وَذَلِكَ سِتُّونَ فَيَسْلَمُ لَهَا مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، قَدْ كُنَّا أَعْطَيْنَا الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِثْلَ هَذَا فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ وَتَرَكَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَوَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَالَ الْمَوْلَى خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مَعَ نِصْفِ مَا بَقِيَ، ثُمَّ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِهِ وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ تَكُونُ أَخْمَاسًا لِلْعَبْدِ: خُمُسَاهَا بِالْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ مِائَتَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 73 دِرْهَمٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ وَصِيَّتَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ يَبْقَى عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي مِائَةِ دِرْهَمِ فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ مَعَ نِصْفِ مَا بَقِيَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ، قَدْ نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ فِي مِائَتَيْنِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ تَرْفَعُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ بَقِيَ تَرِكَةُ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَتُقَسَّمُ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ نَصِيبِ الِابْنَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: ثَلَثُمِائَةٍ لِلْمَوْلَى وَمِائَتَانِ لِلِابْنَةِ، ثُمَّ تَعُودُ مِائَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، فَيَسْلَمُ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي الْمَرَّتَيْنِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِوَرَثَةِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةَ فِي الْمِائَتَيْنِ، قَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ دَيْنَهُ مُحِيطٌ بِتَرِكَتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لِوَرَثَتِهِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَثَمِائَةٍ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَثَمِائَةٍ كُلَّهَا مَالُ الْمَوْلَى، وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبه تُقَسَّمُ أَخْمَاسًا: لِلْعَبْدِ خُمُسَاهَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ بِقَدْرِ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَسْلَمُ لَهُ نِصْفُ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ بِالْمِيرَاثِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يُرْفَعُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ يَبْقَى تَرِكَةُ الْعَبْدِ مِائَةٌ فَيُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى أَخْمَاسًا: لِلْمَوْلَى ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ سِتُّونَ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ عِشْرُونَ فَيَسْلَمُ لَهَا سِتُّونَ مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ مَرَّةً فِي مِائَةٍ وَمَرَّةً فِي عِشْرِينَ فَاسْتَقَامَ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا ثُلُثُهُ بَيْنَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ إلَّا شَيْئًا، فَإِنَّ التَّخْرِيجَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ تَرِكَتِهِ يَكُون لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ جَمِيعَ رَقَبَتِهِ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ فَلِهَذَا لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ ابْنَتَيْنِ وَثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَلِكَ الثُّلُثُ بَيْنَ الِابْنَتَيْنِ، وَالْمَوْلَى أَثْلَاثًا، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ أَصْلَهُ مِنْ تِسْعَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ إلَى الْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَهُوَ الدَّائِرُ فَتَطْرَحُهُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِ وَتَجْعَلُ الثَّلَثَمِائَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، فَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ هَذِهِ الثَّلَثِمِائَةٍ، وَثُمُنُ الثَّلَثِمِائَةِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ، فَثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ تَكُونُ مِائَةً وَاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفًا، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ السَّالِمَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ هَذَا الْمِقْدَارُ، فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى مِنْ تَرِكَتِهِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَنِصْفٌ وَيَعُودُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ، عَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يُرْفَعُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ يَبْقَى مِائَةٌ، فَهَذِهِ الْمِائَةُ تُقَسَّمُ بَيْنَ الِابْنَتَيْنِ، وَالْمَوْلَى أَثْلَاثًا، ثُمَّ الثُّلُثُ الَّذِي لِلْمَوْلَى يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 74 فَتَكُونُ هَذِهِ الْمِائَةُ عَلَى تِسْعَةٍ، وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الِابْنَتَيْنِ تَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ يَسْلَمُ لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الِابْنَتَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ سَهْمٌ، فَيَكُونُ لَهُمَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ الثُّلُثَانِ مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ وَلِلْمَوْلَى الثُّلُثُ، وَإِذَا قَسَّمْتَ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ ظَهَرَ أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فِي مِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ مَرَّةً فِي مِائَةٍ وَمَرَّةً فِي ثُمُنِ الْمِائَةِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَخْرُجُ لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتْ تَرِكَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَثَمَانَ مِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِابْنَتَيْهِ مِنْ تَرِكَتِهِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَكَ ابْنَتَيْهِ وَأُمَّهُ، وَالْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ قَدْرَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى كُلُّهُ بِحِسَابِ دَيْنِ السِّعَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرْتَ إلَى مَا بَقِيَ فَتُقَسِّمُهُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، ثُمَّ نَظَرْتَ إلَى سَهْمٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَأَضَفْتَهُ إلَى ثُلُثِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَذَلِكَ ثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَوْلَى، فَهُوَ الْوَصِيَّةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ اثْنَا عَشَرَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ الثَّلَاثَةُ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ يَعُودُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سَهْمٌ بِالْوَصِيَّةِ إلَى وَرَثَةِ الْعَبْدِ فَاطْرَحْ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ فَيَبْقَى لَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَقِيَتْ مِيرَاثُ الْمَوْلَى فَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ فَلِهَذَا صَارَ الْبَاقِي بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مَقْسُومًا عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ. الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ ابْنَةً وَامْرَأَةً وَمَوْلَاهُ رَفَعْتَ مِنْ تَرِكَتِهِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، ثُمَّ نَظَرْتَ إلَى مَا بَقِيَ فَأَخَذْت سَبْعَةً فَأَضَفْته إلَى ثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَجَعَلْته لِوَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ يَعُودُ سَهْمٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْوَصِيَّةِ إلَى وَرَثَةِ الْعَبْدِ فَيَطْرَحُ هَذَا السَّهْمَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، وَتَجْعَلُ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى سَبْعَةٍ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ ابْنَةً وَأُمًّا وَامْرَأَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَسَّمَ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ رَفْعِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ سَهْمًا فَنَظَرْتَ إلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَالسِّتِّينَ فَأَضَفْتَهَا إلَى ثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَجَعَلْت ذَلِكَ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ: لِلِابْنَةِ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ، يَبْقَى خَمْسَةٌ فَهِيَ لِلْمَوْلَى بِالْعُصُوبَةِ، ثُمَّ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْخَمْسَةِ ثُلُثٌ صَحِيحٌ، فَيُضْرَبُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَارَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ: لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يَعُودُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ إلَى وَرَثَةِ الْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ، وَإِذَا طَرَحْت مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ خَمْسَةً يَبْقَى سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ. الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ أُخْرَى مَعَ ثُلُثِ الْقِيمَةِ كَمَا بَيَّنَّا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 75 وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأُمًّا وَامْرَأَةً كَانَتْ وَصِيَّتُهُ جُزْءًا مِنْ أَحَدٍ وَسَبْعِينَ مَعَ ثُلُثِ رَقَبَته؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ: لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ ثُلُثُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَصِيَّةٌ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ: لِلْمَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَيَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْعَبْدِ سَهْمٌ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ فَيُطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ سَهْمٌ يَبْقَى أَحَدٌ وَسَبْعُونَ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ وَبِجُزْءٍ مِنْ أَحَدٍ وَسَبْعِينَ مِمَّا بَقِيَ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ رَفْعِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْمَوْلَى وَتَرَكَ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَوَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا، وَالسِّعَايَةُ مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمَشْغُولَ بِالدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ لَا يُعَدُّ مَالًا لِلْمَوْلَى فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ يَبْقَى مَالُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْر مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: خُمُسَاهُ لِلْعَبْدِ بِالْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْمَوْلَى، ثُمَّ يَعُودُ نِصْفُ الثَّمَانِينَ بِالْمِيرَاثِ إلَى الْمَوْلَى فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي ثَمَانِينَ فَاسْتَقَامَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَجْعَلُ طَرْحَ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ قَالَ: يَرْفَعُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَهُوَ مِائَةٌ وَثُلُثَا مَا بَقِيَ، فَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَذَلِكَ بَيْنَ الِابْنَةِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ، ثُمَّ نَصِيبُ الْمَوْلَى يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيُطْرَحُ سَهْمٌ مِنْ قِبَلِ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَيْهَا بِالْوَصِيَّةِ وَيُقَسَّمُ هَذَا الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةٍ: خُمُسَاهَا لِلِابْنَةِ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ يَعُودُ خُمْسٌ بِالْوَصِيَّةِ إلَيْهَا فَيَسْلَمُ إلَيْهَا مِثْلُ مَا سَلِمَ لِلْمَوْلَى، وَقَدْ حَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مَرَّةً فِي سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ وَمَرَّةً فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٍ فَذَلِكَ ثَمَانُونَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَ الِابْنَةِ امْرَأَةٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ كِلَاهُمَا، فَهُوَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا إذَا تَأَمَّلْتَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ وَتَرَكَ الْمَوْلَى أَيْضًا ثَلَثَمِائَةٍ فَوَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّا نَضُمُّ مَا تَرَكَ الْمَوْلَى إلَى مَا تَرَكَهُ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى قِيمَتِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ مَالَ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى نُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي خُمْسَيْ ذَلِكَ، وَخُمْسَا سِتِّمِائَةٍ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ يَبْقَى مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ سِتُّونَ يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ وَيَأْخُذُ نِصْفَ الْمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَقُولُ: وَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةٍ، فَإِذَا تَرَكَ ثَلَاثَ مِائَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِمِائَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 76 لَهُ مِائَتَيْنِ فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ تَرِكَةِ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ السِّعَايَةِ وَنِصْفَ الْمِائَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ ثُلُثُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ وَصِيَّةً فَتَكُونُ هَذِهِ الْمِائَتَانِ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ أَخْمَاسًا، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي خُمْسِهَا وَخُمْسُ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُونَ فَظَهَرَ أَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ مَرَّةً فِي مِائَتَيْنِ وَمَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ فَذَلِكَ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُخَرَّجُ وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ فَتَعَجَّلَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ ابْنَتِهِ وَمَوْلَاهُ، فَالْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا تَرَكَ الْعَبْدُ صَارَ مِيرَاثًا بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ، فَمَالُ الْمَوْلَى عِنْدَ مَوْتِهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ يَقْسِمُ ذَلِكَ أَخْمَاسًا الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ خُمْسَا ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّ الْمَوْلَى أَخَذَ مِنْ الْعَبْدِ مِائَةً زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَضُمُّ ذَلِكَ إلَى تَرِكَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَصِيرُ سِتَّمِائَةٍ بَيْنَ الْأُخْتِ، وَالْمَوْلَى نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُمِائَةٍ فَيُحْسَبُ لِلْمَوْلَى مَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَيَأْخُذُ وَرَثَتُهُ مِائَتَيْنِ مِنْ الِابْنَةِ فَيَسْلَمُ لِلِابْنَةِ ثَلَاثُ مِائَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى تَعَجَّلَ مِنْ الْعَبْدِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَصِيَّةُ هُنَا عِشْرُونَ وَمِائَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ لِلْمَوْلَى مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَنِصْفُ مَا بَقِيَ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَالُ الْمَوْلَى ثَلَاثَ مِائَةٍ، وَبَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِمِائَةِ تَكُونُ أَخْمَاسًا الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ خُمْسَاهَا، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَتَبَيَّنَّ أَنَّ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ كَانَتْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، قَدْ أَخَذَ الْمَوْلَى مِائَتَيْنِ فَمِقْدَارُ عِشْرِينَ مِنْ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَضُمُّ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَتَانِ وَسِتُّونَ فَيَحْتَسِبُ لِلْمَوْلَى مَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَيَأْخُذُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ مَا بَقِيَ وَأَرْبَعِينَ، وَيَسْلَمُ لِلِابْنَةِ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ، وَلَوْ كَانَ عَجَّلَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ لِلْمَوْلَى مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَنِصْفُ مَا بَقِيَ بِالْمِيرَاثِ فَيَكُونُ ثَلَاثَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ، الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ خُمْسَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَظَهَرَ أَنَّ السِّعَايَةَ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، قَدْ أَخَذَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، يَبْقَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ السِّعَايَةِ سِتُّونَ دِرْهَمًا، فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَنِصْفِ مَا يَبْقَى بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَتِهِ مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَاسْتَقَامَ. وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ السِّعَايَةِ حَتَّى مَاتَ، وَتَرَكَ خَمْسَمِائَةٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ سِتِّينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَرْفَعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَنِصْفُ مَا بَقِيَ بِالْمِيرَاثِ، فَيَكُونُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 77 مَالُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ: خُمْسَاهَا لِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، فَظَهَرَ أَنَّ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَوْلَى مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ، يَبْقَى ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ، بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ، لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، فَيَصِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَعِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا وَصِيَّةَ الْعَبْدِ فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَرَضِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ يُسَاوِي عَشَرَةً إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ 0 وَلَمْ يَحِلَّ، فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَنَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ كُلَّهُ حَالًّا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ حَابَى بِالْأَجَلِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْأَجَلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مُحِيطٌ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ هُنَا فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْأَجَلِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ بِذَلِكَ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ الْكُرُّ قَدْ حَلَّ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ السَّلَمِ، أَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ السَّلَمِ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ بِمَوْتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ هُنَا، وَلَكِنْ يُجْبَرُونَ عَلَى أَدَاءِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مُوجِبُ الْعَقْدِ هُنَا. وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي عَشَرَةً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَةٌ، فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَنَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ هُنَا حَصَلَتْ بِالْمَالِ وَالْأَجَلِ جَمِيعًا فَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَالثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ فَذَلِكَ الْقَدْرُ سَلَمٌ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ أَدَّى الْكُرَّ حَالًّا؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ نَفَّذْنَاهَا مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَلَا يَسْلَمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجَلِ فَيُؤَدِّي الْكُرَّ حَالًّا وَيَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ حَتَّى يُقْضَى الدَّيْنُ بِعَشَرَةٍ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ، وَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِ الْعَقْدِ هُنَا فِي شَيْءٍ لَمَّا أَمْكَنَ رَدُّ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ وَبَيْعِ الْكُرِّ بِالْكُرِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ عِشْرُونَ، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ نَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُرَّ وَأَدَّى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِقَدْرِ عِشْرِينَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَسْلَمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَثَبَتَ الْخِيَارُ لَهُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيُقْضَى دَيْنُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 78 عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي عَشْرٍ فَاسْتَقَامَ، وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرٍّ يُسَاوِي خَمْسِينَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَرْبَعُونَ، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ نَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ ثَلَاثِينَ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَسْلَمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ أَدَّى الْكُرَّ وَرَدَّ ثَلَاثِينَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ بِأَرْبَعِينَ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعُونَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي عِشْرِينَ وَفِي الْحَاصِلِ يَسْلَمُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ قِيمَةُ كُرِّهِ وَثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّيْنِ وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى رَجُلَيْنِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةً إلَى أَجَلٍ وَقَضَى الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ قَبْلَ حَلّ الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ طَعَامَ السَّلَمِ حَلَّ بِمَوْتِهِ فِي نَصِيبِهِ فَلَمْ يَتَغَيَّرُ مُوجِبُ الْعَقْدِ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَالْحَيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ فِي حَقِّهِ لِتَغَيُّرِ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثُلُثَ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُوصًى لَهُ بِالْأَجَلِ فِي نَصِيبِهِ، فَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ لَهُ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا مَا عَلَيْهِ فَقَدْ سَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ كُرٍّ قِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ وَبَقِيَ الْكُرُّ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، قَدْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمُوا، فَالْحَيُّ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُمَا بِقَدْرِ نِصْفِ مَالِهِ وَلَا يُسْلِمُ الْمُحَابَاةَ لَهُمَا إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ فَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُمْ الْخِيَارُ، فَإِنْ اخْتَارُوا إمْضَاءَ الْعَقْدِ أَدَّوْا الْكُرَّ وَرَدُّوا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمْ مِنْ الْمُحَابَاةِ مِقْدَارُ ثُلُثِ الْمَالِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ فَيُؤَدِّي الْكُرَّ حَالًّا وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونُ السَّالِمُ لَهُمَا قِيمَةَ الْكُرِّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَثُلُثَ مَالِ الْمَيِّتِ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا مَاتَ مُعْسِرًا، فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَنَقَضَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ نِصْفَ الْكُرِّ وَثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا مَاتَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ، قَدْ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعَةٍ، فَنَصِيبُ الْحَيِّ يُجْعَلُ عَلَى خَمْسَةٍ يَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْخُمْسِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَيُؤَدِّي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ كُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْحَيِّ فِي دِرْهَمَيْنِ وَلِلْمَيِّتِ فِي مِثْلِهِ فَاسْتَقَامَ. وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَكِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا، وَقَالَتْ وَرَثَةُ رَبِّ السَّلَمِ: لَا نُجِيزُ هَذَا السَّلَمَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 79 فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ فِي حِصَّتِهِ وَرَدَّ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى نِصْفَ الْكُرِّ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَبْعَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْحَاضِرُ فِي نَصِيبِهِ بِسَهْمٍ وَوَرَثَةُ رَبِّ السَّلَمِ بِأَرْبَعَةٍ، فَيَسْلَمُ لَهُ الْخُمْسُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِالْوَصِيَّةِ فَيَرُدُّ إلَى الْوَرَثَةِ نِصْفَ كُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعَةُ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْحَاضِرِ فِي ثَلَاثَةٍ وَلِلْغَائِبِ فِي مِثْلِهِ فَاسْتَقَامَ. فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِهَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي نَقْضِ السَّلَمِ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى نِصْفَ الْكُرِّ وَرَدَّ ثَلَاثَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ، فَإِنَّمَا يَبْقَى إلَى تَمَامِ حَقِّهِمْ ثَمَانِيَةٌ، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ نِصْفَ الْكُرِّ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ثَلَاثَةً، فَقَدْ سَلِمَ لَهُمْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا فِي ثَلَاثَةٍ وَلِلْآخَرِ فِي سَبْعَةٍ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ السَّلَمِ قَدْ انْتَقَضَ فِيمَا رَدَّ، وَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِانْتِقَاضِ قَبْضِهِ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ سِتِّينَ دِرْهَمًا إلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، فَأَخَذَ الْوَرَثَةُ أَحَدَهُمْ وَلَمْ يَظْفَرُوا بِالْآخَرَيْنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ: فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ أَدَّى ثُلُثَ الْكُرِّ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَسُبْعًا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ، فَالْحَاضِرُ إنَّمَا يَضْرِبُ فِي نَصِيبِهِ بِسَهْمٍ، وَالْوَرَثَةُ بِسِتَّةٍ فَيَسْلَمُ لَهُ السُّبْعُ مِنْ نَصِيبِهِ، وَنَصِيبُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَسُبْعُهُ يَكُونُ دِرْهَمًا وَسِتَّةَ أَتْسَاعٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثُ كُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَسُبْعًا، فَإِنْ ظَفِرُوا بِأَحَدِ الْغَائِبَيْنِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِهَذَا وَفُسِخَ السَّلَمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَهَذَا الثَّانِي أَيْضًا بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ فِي حِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثُلُثَ الْكُرِّ وَرَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا تُسْعًا؛ لِأَنَّ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعًا، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ مَا بَيَّنَّا يَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا كَانَ أَسْلَمَ إلَيْهِمَا وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ الثَّانِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسُبْعًا، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ عَشَرَةً قِيمَةَ مَا أَدَّى مِنْ الطَّعَامِ وَسَبْعَةً وَسُبْعًا مُحَابَاةً، فَذَلِكَ كَمَالُ رُبْعِ مَا أَسْلَمَ إلَيْهِمَا بِمَا أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُحَابَاةِ، وَلَا يَرُدُّ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ فَسَخَ الْقَاضِي حِصَّتَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِيمَا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَا يَعُودُ الْحَقُّ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِهَذَا، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ ظَفِرُوا بِالثَّالِثِ جَازَ السَّلَمُ فِي حِصَّتِهِ وَجَازَتْ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهَا كَمَالُ الثُّلُثِ سَوَاءٌ فَيُؤَدِّي إلَى الْوَرَثَةِ حِصَّتَهُ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قِيمَتُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 80 عَشَرَةٌ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْوَرَثَةِ تَمَامُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَهِيَ ثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ الثَّالِثِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا: عَشَرَةٌ قِيمَةُ مَا أَدَّى وَعَشَرَةٌ مُحَابَاةٌ، وَهِيَ تَمَامُ ثُلُثِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِمَا أَخَذَ الْأَوَّلَانِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ ظَفِرُوا بِالْأَوَّلِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَسْبَاعًا كَمَا بَيَّنَّا، فَحِينَ ظَفِرُوا بِالثَّانِي، كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ مُسْتَوْفٍ لِسَهْمِهِ، بَقِيَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي سِتَّةٍ، وَحَقُّهُمَا فِي سَهْمَيْنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ سَلِمَ لَهُمَا الرُّبْعُ مِمَّا عَلَيْهِمَا، قَدْ أَخَذَ الْأَوَّلُ حِصَّتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فَيَسْلَمُ لِلثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ الرُّبْعِ، ثُمَّ إذَا ظَفِرُوا بِالثَّالِثِ، فَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُمْ فِي الثُّلُثِ، قَدْ أَخَذَ الْأَوَّلَانِ حَقَّهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ إيصَالُ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِمَا فَيَسْلَمُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ كُلِّهِ لِلثَّالِثِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي عِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ، وَأَخَذَ بِهِ رَهْنًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَضَاعَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ السَّلَمَ فَقَدْ ذَهَبَ الرَّهْنُ بِنِصْفِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً بِنِصْفِ الْكُرِّ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِمِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَيُقَالُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ: فَإِنْ شِئْت أَدِّ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ عَلَيْك مِنْ الْكُرِّ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ عَلَيْك إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ شِئْتَ فَرُدَّ الدَّرَاهِمَ وَخُذْ مِنْ الْوَرَثَةِ نِصْفَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالْأَجَلِ لَا تَتَعَذَّرُ إلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَمَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ نِصْفُ الْكُرِّ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ الْأَجَلُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَأَخَذَ مِنْ الْوَرَثَةِ نِصْفَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ حِينَ ضَاعَ فِي يَدِهِ صَارَ هُوَ بِهِ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ الْكُرِّ فَكَأَنَّهُ أَدَّاهُ إلَيْهِ، وَإِذَا فَسْخ الْعَقْدَ وَجَبَ عَلَى الْوَرَثَةِ رَدُّ ذَلِكَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ تُجِيز لَهُ الْوَرَثَةُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ فَيَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، قَدْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ رَضِيَ الْوَرَثَةُ بِالْأَجَلِ فِيمَا بَقِيَ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَرِيضُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا قِيمَتُهُ تُسَاوِي عَشَرَةً فَضَاعَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَدَّ الدَّرَاهِمَ كُلَّهَا وَأَخَذَ مِنْ الْوَرَثَةِ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَابَاهُ بِنِصْفِ الْمَالِ وَلَا يَسْلَمُ مِنْ الْمُحَابَاةِ إلَّا مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِذَا اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ رَدَّ رَأْسَ الْمَالِ وَاسْتَرَدَّ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا الْكُرَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ عِنْدَ فَسْخِ السَّلَمِ، وَإِذَا اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ فَمَالُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْكُرّ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَيَسْلَمُ لَهُ بِالْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَيَرُدُّ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ. وَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 81 عِشْرُونَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ فَضَاعَ الرَّهْنُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ كَمَا قُلْنَا إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَأَخَذَ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهَ؛ لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْكُرِّ، وَهُوَ أَمِينٌ فِي الزِّيَادَةِ، فَعِنْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ يَرُدُّ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْوَرَثَةِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مَالَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، فَإِنَّ الْكُرَّ مُسْتَهْلَكٌ فَلَا يُحْتَسَبُ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ عَشَرَةٌ، وَيَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ ثُلُثَا تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، قَدْ حَلَّ الْكُرُّ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ إلَّا عَيْنُ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَابِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ حِينَ أَسْلَمَ، وَإِنَّمَا مَاتَ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُحَابَاةٌ كَانَ مُبَاشَرَتُهُ فِي الصِّحَّةِ، وَالْمَرَضِ سَوَاءً وَلَوْ أَسْلَمَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فِي مَرَضِهِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ يَوْمئِذٍ عِشْرُونَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَقِيمَةُ الْكُرِّ يَوْمَ مَاتَ عَشَرَةٌ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ إمْضَاءِ الْعَقْدِ يُؤَدِّي الْكُرَّ وَيَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَشَرَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ هُنَا مُحَابَاةٌ، وَإِنَّمَا تَسْلَمُ الْمُحَابَاةُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْكُرِّ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ عَشَرَةٌ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي عِشْرِينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ الْكُرِّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَشَرَةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ لَا مُحَابَاةَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ حِينَ وَقَعَ السَّلَمُ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الْمَرَضِ وَمُبَاشَرَتُهُ فِي الصِّحَّةِ سَوَاءً إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصِيَّةٌ، فَإِنْ أَعْطَاهُ الْكُرَّ رَهْنًا فَفِي حُكْمِ الرَّهْنِ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْكُرِّ يَوْمَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ بَدْءَ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ فَيَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: مَرِيضٌ أَسْلَمَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِالْكُرِّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ فَصَارَ قِيمَةُ الْكُرِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، قَدْ ضَاعَ الرَّهْنُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ يَذْهَبُ بِالْكُرِّ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمئِذٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالْكُرِّ فَيَنْعَقِدُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَيَتِمُّ بِهَلَاكِهِ، ثُمَّ يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَأَخَذَ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهَ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْكُرِّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْوَرَثَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ مُسْتَهْلَكٌ، فَإِذَا رَفَعْت قِيمَتَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَوْمَ يَقَعُ السَّلَمُ بَقِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَذَلِكَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَسْلَمُ لِصَاحِبِ الْمُحَابَاةِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثَيْهَا، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ. وَلَوْ أَسْلَمَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي كُرٍّ يُسَاوِي عِشْرِينَ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ فَزَادَتْ قِيمَةُ الْكُرِّ حَتَّى صَارَتْ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ السَّلَمِ، قَدْ ضَاعَ الرَّهْنُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ يَذْهَبُ بِقِيمَةِ الْكُرِّ يَوْمئِذٍ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ يَثْبُتُ لَهُ بَدْءُ الِاسْتِيفَاءِ فِي جَمِيعِ الْكُرِّ، فَإِنَّ فِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 82 قِيمَتِهِ وَفَاءً بِالْكُرِّ فَيَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى زِيَادَةِ قِيمَةِ الْكُرِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّرَاهِمَ وَأَخَذَ كُرًّا مِثْلَ كُرِّهَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَهُوَ ثُلُثَا تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ مُسْتَهْلَكٌ، وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ كَانَ عِشْرِينَ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ، وَمَالُ الْمَيِّتِ مِنْهُ مِقْدَارَ الْمُحَابَاةِ فَقَطْ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيَرُدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ مِقْدَارَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا حَتَّى يَسْتَقِيمَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ السَّلَمِ فِي مَرَضِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ مَوْصُوفٍ قِيمَتِهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا إلَى مَرِيضٍ، وَقَبَضَ الْمَرِيضُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، وَلَا مَالِ لَهُ غَيْرُ الْكُرِّ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ حَابَاهُ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ فَوْقَ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ فَيَتَخَيَّرُ حِينَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ شَرْطُ عَقْدِهِ، فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ السَّلَمَ وَرَجَعَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِدَرَاهِمِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْكُرِّ، وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الْكُرِّ، فَيَكُونُ السَّالِمُ لِرَبِّ السَّلَمِ نِصْفَ كُرٍّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا: عَشَرَةٌ مِنْهَا بِالْعَشَرَةِ الَّتِي أَسْلَمَهَا وَعَشَرَةٌ بِالْمُحَابَاةِ، وَهِيَ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ كُرٍّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُرَّ وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يَرُدَّ مِنْ الْمُحَابَاةِ مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ بِطَرِيقِ الزِّيَادَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ عَلَى قِيَاسِ بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَا تَجُوزُ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ حَتَّى مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا قُبِضَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِسَلَامَةِ نِصْفِ الْكُرِّ لِلْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ نِصْفِ الْكُرِّ لَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ انْتِقَاضِ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْكُرِّ، وَانْتِقَاضُ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ قُلْنَا: إنَّمَا يَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ الْكُرِّ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، وَهُوَ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ حِينَ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ حَطَّ نِصْفَ الْكُرِّ، قَدْ بَيَّنَّا فِي جَانِبِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَرُدَّ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى وَرَثَةِ رَبِّ السَّلَمِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، وَكَمَا يَجُوزُ الْحَطُّ فِي رَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ، فَحَطُّ بَعْضِهِ يَجُوزُ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 83 الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِتَرِكَتِهِ لَمْ تَجُزْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ وَيُحَاصُّ رَبُّ السَّلَمِ الْغُرَمَاءَ بِرَأْسِ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْكُرِّ لِمَكَانِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَيَجِبُ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ، فَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ فَلِهَذَا يَتَحَاصُّونَ فِي التَّرِكَةِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِالسَّلَمِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الرَّهْنِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ اسْتَوْفَى رَبُّ السَّلَمِ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الرَّهْنِ وَرَدَّ مَا بَقِيَ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ السَّلَمِ بِالرَّهْنِ أَسْبَقُ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَيَسْتَوْفِي رَأْسَ مَالِهِ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى مَرِيضٍ فِي كُرٍّ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَاسْتَهْلَكَهَا، ثُمَّ مَاتَ، وَقَدْ أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْكُرِّ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ السَّلَمِ نَقَضَ السَّلَمَ وَأَخَذَ دَرَاهِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَإِذَا نَقَضَ الْعَقْدَ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْمُحَابَاةِ، فَيَجُوزُ لِلْآخَرِ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ خُمْسَيْ الْكُرِّ وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، فَيُسْلِمُ لَهُ خُمُسَيْ كُرٍّ قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْكُرِّ وَقِيمَتُهُ سِتُّونَ دِرْهَمًا، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَالْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُرَّ وَأَعْطَى الْوَرَثَةَ سِتِّينَ دِرْهَمًا وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ عَلَى أَصْلِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَالْمُحَابَاةُ هُنَا بِقَدْرِ سَبْعِينَ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنَّمَا يَسْلَمُ الثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْمُحَابَاةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِالثُّلُثِ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةً، فَإِذَا اخْتَارَ رَبُّ السَّلَمِ إمْضَاءَ الْعَقْدِ كَانَ لَهُ مِنْ الْكُرّ قَدْرُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفٍ وَرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ قَدْرَ سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ وَنِصْفٍ مِنْ الْكُرِّ بِطَرِيقِ الْحَطِّ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَهُوَ رُبْعُ ثُلُثِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بِقَدْرِ سَبْعِينَ، فَمِقْدَارُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْكُرِّ مُسْتَحَقٌّ بِعِوَضِهِ، وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ صَاحِبَ الْمُحَابَاةِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُحَابَاةٌ لَهُ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ مَا يُسَاوِي سِتِّينَ وَذَلِكَ ثُلُثَا التَّرِكَةِ، وَلِرَبِّ السَّلَمِ مِنْ الْكُرِّ مَا يُسَاوِي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَنِصْفَ: عَشَرَةٌ مِنْهَا بِإِزَاءِ دَرَاهِمِهِ وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ مُحَابَاةً، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعِتْقُ أَوْلَى وَيَرْجِعُ صَاحِبُ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ بَدَأَ بِالْمُحَابَاةِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ فَهُوَ وَالْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ، قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 84 فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُرَّ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا مِنْ مَرِيضٍ، ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْكُرِّ، قَدْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ بِعَشَرَةٍ أَيْضًا، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْبَيْعِ، وَالْمُحَابَاةُ لَهُ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ مِنْ الثَّانِي بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ كُرٌّ آخَرُ فَبَاعَهُ فِي مَرَضِهِ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ وَحَابَاهُ فِيهِ، ثُمَّ مَاتَ تَحَاصَّا فِي الثُّلُثِ فَمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي الْكُرِّ الَّذِي اشْتَرَى وَيَرُدُّونَ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الْكُرَّيْنِ دَرَاهِمَ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يُمْكِنُ إزَالَةُ الْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ، فَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ الْعَبْدَ يَقْتُلُهُ خَطَأً وَيَعْفُ عَنْهُ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَبْدًا لِرَجُلٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ الْوَاهِبُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَجَازَ لَهُ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْهِبَةِ، وَالْعَفْوِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ تَجُوز مِنْ الثُّلُثِ، فَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْهِبَةِ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ لَوْلَا الْعَفْوُ لَكَانَ يَدْفَعُ ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَسْلَمُ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمُ بِالْعَفْوِ، فَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي أَرْبَعَةٍ لَمَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي سَهْمَيْنِ: سَهْمٌ بِالْعَفْوِ وَسَهْمٌ بِالْهِبَةِ؛ فَلِهَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ، تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ السَّهْمُ بِمَعْنَى سَهْمَيْنِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَيِّتَ إنَّمَا تَرَكَ عَبْدًا وَخُمْسَيْ عَبْدٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ عَبْدٍ وَيَسْلَمُ لِلْمُوصَى لَهُ خُمْسَا عَبْدٍ فِي الْحُكْمِ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ يَجْعَلُ الْعَبْدَ مَالًا وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ يَبْقَى فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مَالٌ إلَّا شَيْئًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ، وَالْعَفْوَ فِي شَيْءٍ فَحَاجَةٌ الْوَرَثَةِ إلَى ضِعْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، فَأَجْبِرْ الْمَالَ بِشَيْءٍ، وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَهُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، وَأَنَّا حِينَ جَوَّزَنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى خُمْسِ الْعَبْدِ وَجَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِيهِ أَيْضًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى ثُلُثَهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ دُونَ الْهِبَةِ لَكَانَ يَفْدِي سُدُسَ الْعَبْدِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَلْفَا دِرْهَمٍ جَازَ الْعَفْوُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَيَضُمُّ الْأَلْفَيْنِ إلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ وَيَبْطُلُ الْعَفْوُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْجُمْلَةِ فَيَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْهِبَةُ، وَالْعَفْوُ يَتَضَاعَفُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 85 مَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ فِيهِ. فَإِنَّمَا يَفْدِي ثُلُثَ الْعَبْدِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ كُلُّهُ بِالْهِبَةِ وَثُلُثَا الْعَفْوِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقِيمَةُ أَوْ الدِّيَةُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَيَكُونُ السَّالِمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْحَاصِلِ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، قَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ وَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّا نَضُمُّ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ إلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ نُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدَاءَ بِحِصَّةِ مَا عَدِمْنَا وَذَلِكَ سُبْعَانِ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا هِبَةٌ، فَبَعْدَ وُجُودِ الْهِبَةِ يَتَضَاعَفُ الْفِدَاءُ فَيَفْدِي أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أَلْفٍ، وَيَسْلَمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْعَبْدُ بِالْهِبَةِ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ بِالْعَفْوِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ أَلْفٍ فَيَكُونُ لَهُ أَلْفَانِ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ أَلْفٍ فَذَلِكَ ثُلُثُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَدَى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّا نَضُمُّ إلَى الدِّيَةِ ضِعْفَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ خَاصَّةً لَكَانَ يَفْدِي بِحِسَابِ الْمَضْمُومِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الدِّيَةِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْهِبَةِ مَعَ الْعَفْوِ يَتَضَاعَفُ الْفِدَاءُ فَيَفْدِي ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَقِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ رُبْعُهُ بِالْعَفْوِ قِيمَتُهُ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، قَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ. لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَدَى ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعٍ بِثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّا نَضُمُّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ إلَى الدِّيَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْعَفْوُ لَكَانَ يَفْدِي بِحِصَّةِ الْمَضْمُومِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْهِبَةُ وَالْعَفْوُ يَتَضَاعَفُ الْفِدَاءُ؛ فَلِهَذَا يَفْدِي ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِهِ بِثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ الدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَدَاهُ كُلَّهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّا نَضُمُّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ دُونَ الْهِبَةِ لَكَانَ يَفْدِي بِحِصَّةِ الْمَضْمُومِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْعَبْدِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْهِبَةُ مَعَ الْعَفْوِ يَتَضَاعَفُ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ فَيَفْدِي جَمِيعَهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَيَسْلَمُ لَهُ الْعَبْدُ بِالْهِبَةِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَهَذَا؛ لِأَنَّا نُصَحِّحُ الْهِبَةَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ أَوَّلًا، فَإِنَّ بِتَصْحِيحِ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ يَزْدَادُ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ وَبِزِيَادَةِ الْفِدَاءِ يَزْدَادُ مَالُ الْمَيِّتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ يَصِحُّ الْعَفْوُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَيَفْدِي مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 86 الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْعَبْدِ لَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ شَيْءٌ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْعَفْوُ وَيَفْدِي جَمِيعَ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ عَبْدًا لِرَجُلٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمِ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ وَهَبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْآخَرُ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ جَرَحَ الْعَبْدُ الْمَرِيضَ جِرَاحَةً خَطَأً فَمَاتَ مِنْهَا، وَعَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي فِي الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَبْدِ لَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهُ، دَفَعَ بِثُلُثَيْنِ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ وَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْوَاهِبِ فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ: عَبْدٌ يُسْتَحَقُّ لَهُ بِالْجِنَايَةِ وَعَبْدٌ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ فَوَهَبَهُ فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا عَبْدٍ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ بِالْهِبَةِ، وَنِصْفُهُ الثَّانِي بِالْعَفْوِ فَيَكُونُ السَّالِمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ ثُلُثَ الْعَبْدِ، قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الثُّلُثَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَيَسْلَمُ لِلثَّانِي ثُلُثُ الْعَبْدِ بِالْعَفْوِ وَيَدْفَعُ ثُلُثَيْهِ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَيَسْلَمُ لَهُمْ عَبْدٌ وَثُلُثَا عَبْدٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي ثُلُثَيْ عَبْدٍ فَاسْتَقَامَ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ مُعْسِرًا دَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَأَمْسَكَ الْخُمْسَ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الْأَوَّلَ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ تَاوٍ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ قَائِمٌ وَهُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ يَضْرِبُ فِيهِ الْوَرَثَةُ بِسِهَامِ حَقِّهِمْ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي بِسَهْمٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ يَسْلَمُ لَهُ الْخُمْسُ وَيَدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، فَإِذَا تَيَسَّرَ اسْتَقَامَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا قِيمَةِ الْعَبْدِ رَدَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَ الْعَبْدِ فَدَى بِسُبْعِهِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهِ بِتُسْعَيْ الدِّيَةِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهَا وَيُؤْخَذُ مِنْ الْأَوَّلِ تُسْعَا قِيمَةِ الْعَبْدِ وَخُمْسَا تُسْعِهِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ ضِعْفَ الْقِيمَةِ لِأَجْلِ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَضِعْفَ الْقِيمَةِ لِأَجْلِ الْهِبَةِ فَيَضُمُّ ذَلِكَ إلَى الْعَبْدِ فَيَكُونُ خَمْسَةَ آلَافٍ، ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَيَجِدُ الْعَبْدَ وَالدِّيَةَ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْجُمْلَةِ، فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَيَفْدِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ عَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ. وَتَجُوزُ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فِي أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْوَرَثَةِ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُمَا فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِذَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 87 أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَفْدِي بِتُسْعِهِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهِ بِتُسْعَيْ الدِّيَةِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهَا، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْفِدَاءُ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَضْرِبُ تِلْكَ الْأَرْبَعَةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَاثْنَا عَشَرَ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَكُونُ تُسْعَاهُ خُمْسَيْ تُسْعِهِ، فَإِنَّ كُلَّ تُسْعٍ يَكُونُ خَمْسَةً، وَتُسْعَاهُ عَشَرَةٌ، وَخُمْسَا تُسْعِهِ سَهْمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْدِي بِتُسْعِهِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ إنَّمَا ضَمِنَ أَرْبَعَةً مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَدْ ضَرَبْنَا ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ، فَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَضْمَنُ تُسْعَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَخُمْسَيْ تُسْعِهِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَدَى خُمْسَ الْعَبْدِ بِخُمْسَيْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ لِأَجْلِ الْعَفْوِ، وَمِثْلَهُ لِأَجْلِ الْهِبَةِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ مَعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَبْطُلُ الْعَفْوُ بِحِصَّةِ الْمَضْمُومِ، وَالْمَضْمُومُ كَانَ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، فَحِصَّتُهُ خُمْسَا الْجُمْلَةِ؛ فَلِهَذَا يَفْدِي خُمْسَيْ الْعَبْدِ بِخُمْسَيْ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ خُمْسَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَيَسْلَمُ لَهُ بِالْهِبَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، قَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَثَمَانُمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَدَى أَرْبَعَةَ أَعْشَارِهِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ عَشَرَةٍ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا: إنَّهُ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الْقِيمَةِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فَيُضَمُّ إلَى الدِّيَةِ مَعَ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ الْجُمْلَةُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَفْدِي حِصَّةَ الْمَضْمُومِ، وَالْمَضْمُومُ مِنْ الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ عُشْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُومَ اثْنَا عَشَرَ، وَاثْنَا عَشَرَ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَعْشَارِهِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ عُشْرِهِ. وَإِنْ أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَاضْرِبْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ اثْنَيْ عَشَرَ فِي عَشَرَةٍ، فَتَكُونَ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَعُشْرُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمِائَةُ تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَعْشَارِهِ، وَعِشْرُونَ تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ عُشْرٍ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَخْ كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَدَى أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ سِتَّةَ آلَافٍ فَدَى ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ فَدَى ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَتُسْعَ خُمْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فَدَى ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَخُمْسَ خُمْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِسْعَةَ آلَافٍ فَدَى مِنْهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَدَى ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّا نَضُمُّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا إلَى الدِّيَةِ، وَالْقِيمَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 88 فَيَكُونُ سِتِّينَ أَلْفًا يَبْطُلُ الْعَفْوُ، وَالْهِبَةُ فِي حِصَّةِ الْمَضْمُومِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ. فَإِذَا بَطَلَ الْعَفْوُ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ فَدَاهُ بِثُلُثِي الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ تَبْطُلُ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ فَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَيَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثُ أَلْفٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ وَالْعَفْوَ لَهُمَا فِي سِتَّةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا فَدَى ثُلُثَيْهِ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ وَيَرُدُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّا نَعْتَبِرُ فِي الْعَفْوِ هُنَا الدِّيَةَ دُونَ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ الدِّيَةَ أَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ، وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ هُوَ الْأَقَلُّ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا الدِّيَةَ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ سَوَاءً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي الثُّلُثِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيُؤَدِّي ثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَيَرُدُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثُ أَلْفٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فِي ثُلُثِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا لِأَنَّا نَعْتَبِرُ فِي الْعَفْوِ الدِّيَةَ فَيَسْلَمُ لَهُ الثُّلُثُ بِالْعَفْوِ وَيُؤَدِّي ثُلُثَ الدِّيَةِ وَيَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثَا أَلْفٍ، قَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ مِثْلُ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَإِنْ أَرَادَ الدَّفْعَ دَفَعَ خَمْسَةَ أَثْمَانِهِ وَضَمِنَ لَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ خَمْسَةَ أَثْمَانِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْهِبَةِ كَانَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَبِالْعَفْوِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَهُوَ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْوَاجِبَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى ضِعْفِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضُمَّ خَمْسِينَ أَلْفًا إلَى نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ ثَمَانِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُبْطِلُ مِنْ الْهِبَةِ وَالْعَفْوِ بِحِسَابِ مَا عَدِمْنَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الْجُمْلَةِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَفْوُ فِي خَمْسَةِ أَثْمَانِهِ دَفَعَ قِيمَةَ ذَلِكَ تِسْعَةَ آلَافٍ وَثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَيَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ خَمْسَةَ أَثْمَانِ قِيمَتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْمِقْدَارُ أَيْضًا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَسَلِمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الدِّيَةِ بِالْعَفْوِ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمُ كَانَ مِثْلَ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. مَسْأَلَةٌ مِنْ إقَالَةِ السَّلَمِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ كُرُّ حِنْطَةٍ عَلَى رَجُلَيْنِ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَرَأْسُ مَالِهِ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَأَقَالَهُمَا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ مَاتَ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ قِيلَ لِلْحَاضِرِ: رُدَّ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِ نِصْفِ رَأْسِ الْمَال، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَأَدِّ سَبْعَةَ أَعْشَارِ نِصْفِ الْكُرِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 89 وَذَلِكَ يُسَاوِي عَشَرَةً وَنِصْفًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقَالَةِ حَابَاهُمَا بِقَدْرِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمُحَابَاةُ لَهُمَا فِي الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ مُسْتَوْفٍ لِوَصِيَّتِهِ، فَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ حِصَّةَ الْحَاضِرِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ يَضْرِبُ بِسَهْمٍ وَالْوَرَثَةُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةً، فَإِنَّمَا نُسْلِمُ لَهُ خُمْسَ هَذَا النِّصْفِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ الْمُحَابَاةُ لَهُمَا كَانَتْ بِقَدْرِ عِشْرِينَ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ عَشَرَةٍ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِقَالَةِ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي مِقْدَارِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمُحَابَاةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ كَانَتْ الْإِقَالَةُ تَجُوزُ لَهُمَا فِي النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَابَاةِ مِثْلُ نِصْفِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا إنَّمَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ لِلْحَاضِرِ فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ، وَنِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَثَلَاثَةُ أَعْشَارِهِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ وَيُؤَدِّي سَبْعَةَ أَعْشَارِ نِصْفِ الْكُرِّ، قِيمَةُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ هُوَ السَّالِمُ لِلْوَرَثَةِ، قَدْ سَلِمَ لِلْحَاضِرِ بِالْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمِ، وَلِلْغَائِبِ مِثْلُ ذَلِكَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ إلَى أَنْ يَقْدُمَ الْغَائِبُ، فَإِذَا قَدِمَ رَدَّ نِصْفَ رَأْسِ مَالِ حِصَّتِهِ وَنِصْفَ كُرٍّ وَيَرُدُّ الْوَرَثَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ ثَلَاثَةٍ مِنْ عَشَرَةٍ وَنِصْفٍ، وَيَأْخُذُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى تَسْلَمَ الْإِقَالَةُ لَهُمَا فِي نِصْفِ الْكُرِّ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ بِخُمْسِهِ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا فِي عَشَرَةٍ وَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ نِصْفُ كُرٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسَائِلِ السَّلَمِ إلَى رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي هُنَاكَ عَلَى الْحَاضِرِ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ فَسْخًا لِعَقْدِ السَّلَمِ فِيمَا أَمَرَهُ بِالرَّدِّ، وَفَسْخُ السَّلَمِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلَا يَعُودُ حَقُّهُ بِحُضُورِ الثَّانِي، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هَذَا إقَالَةُ السَّلَمِ فَكَأَنَّهُ فَسَخَ الْإِقَالَةَ أَوْ مَنَعَ صِحَّتَهَا فِي النَّقْصِ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا حَضَرَ وَأَمْكَنَ إعْمَالُهُ وَجَبَ إعْمَالُهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ الرَّاجِعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَسْتَوِيَا فِي الْوَصِيَّةِ وَفِيمَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِقَالَةِ. وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِرَجُلٍ صَحِيحٍ عَبْدًا يُسَاوِي ثَلَاثَ مِائَةٍ فَقَبَضَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمَرِيضِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ الْمَرِيضُ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْلَمُ لِوَرَثَةِ الْمَرِيضِ وَيَرْجِعُونَ أَيْضًا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَثُلُثَيْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَرِيضِ فِي الْحَاصِلِ خَمْسُمِائَةٍ الْعَبْدُ الْمَوْهُوبُ وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَى، وَهُوَ فِي كَعَبْدٍ آخَرَ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ دَيْنًا، وَهُوَ ثَمَنُهُ، فَإِذَا رَفَعْنَا الْمِائَةَ مِنْ سِتِّمِائَةٍ يَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ، فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَعَلَيْهِ رَدُّ مِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 90 وَثُلُثٍ بِاعْتِبَارِ نَقْضِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْمِائَةِ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَهُوَ ثَمَنُ الْعَبْدِ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدِّي ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَيَسْلَمُ لِلْوَرَثَةِ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ مِثْلِ نِصْفِ مَا سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الدَّوْرِ] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) إمْلَاءً فِي كِتَابِ الدَّوْرِ. قَالَ: وَإِذَا جَرَحَ الْعَبْدُ رَجُلًا فَعَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَمْدًا فَالْعَفْوُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِسْقَاطُ الْمَرِيضِ حَقَّهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدِّيَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ خَطَأً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حِينَ عَفَا جَازَ الْعَفْوُ فِي الْكُلِّ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَهَذَا تَصَرُّفٌ بَعْدَهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ حِينَ نَفَذَ التَّصَرُّفُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حِينَ عَفَا جَازَ الْعَفْوُ مِنْ ثُلُثِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ فَعَفْوُهُ يَكُونُ إسْقَاطًا بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ إذَا بَاشَرَهُ فِي مَرَضِهِ وَبَعْدَ مَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ عَفْوُهُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدِّيَةِ فَالْعَفْوُ صَحِيحٌ فِي ثُلُثِهِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ ثُلُثَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَلَا يَقَعُ الدَّوْرُ هُنَا سَوَاءٌ اخْتَارَ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لَمْ يَقَعْ الدَّوْرُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ وَيَقَعُ الدَّوْرُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِأَنَّ وُقُوعَ الدَّوْرِ بِزِيَادَةِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ مَالُ الْمَيِّتِ فِي الِابْتِدَاءِ مَا هُوَ الْأَقَلُّ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي يَتَخَلَّصُ بِدَفْعِ الْأَقَلِّ فَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ أَنَّهُ مَالُ الْمَيِّتِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِاخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ. فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ لَا عِنْدَ اخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ لَا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، ثُمَّ جُمْلَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَلْفًا أَوْ أَلْفَيْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 91 أَوْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، أَوْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَوْ خَمْسَةَ آلَافٍ، أَوْ سِتَّةَ آلَافٍ، أَوْ سَبْعَةَ آلَافٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، أَوْ تِسْعَةَ آلَافٍ أَوْ عَشَرَةَ آلَافٍ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَةَ أَلْفًا، أَوْ عِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، أَوْ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَفِي الْأَصْلِ إنَّمَا بَدَأَ بِمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ بَعْضَ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَعْضَ وَالْأَوْلَى أَنْ نُخْرِجَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ أَوْضَحَ فِي الْبَيَانِ وَأَقْرَبَ إلَى الْفَهْمِ فَنَقُولُ أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لَا تَدُورُ الْمَسْأَلَةُ، وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُ ثُلْثَيْ الْعَبْدِ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي الثُّلُثِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الدَّوْرُ هُنَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَصْحِيحُ الْعَفْوِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَظْهَرُ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ فَتَبَيَّنَ أَنَّا صَحَّحْنَا تَبَرُّعَهُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُ الْعَفْوِ فِي جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ وَزِيَادَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجِبُ تَصْحِيحُ الْعَفْوِ فِي بَعْضِهِ، ثُمَّ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَنَا مَالٌ آخَرُ ضِعْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَكَانَ يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ هُوَ أَقَلَّ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْعَبْدِ. فَإِذَا جَازَ الْعَفْوُ فِي الْكُلِّ وَسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدِّيَةِ هُنَا لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عِنْدَ صِحَّةِ الْعَفْوِ فَإِنَّمَا وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا الْعَفْوِ لِأَنَّا عَدِمْنَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ إلَى الدِّيَةِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمَا هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَيَبْطُلُ الْعَفْوُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَضْمُومِ. وَإِذَا ضَمَمْت إلَى عَشَرَةِ آلَافٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَكَانَ الْمَضْمُومُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ السُّدُسَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَفْوَ يَصِحُّ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَيَبْطُلُ فِي السُّدُسِ فَيَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ هَذَا الْقَدْرُ، وَمَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْعَفْوَ مِثْلُ نِصْفِهِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا، أَوْ دِرْهَمًا وَتَجْبُرَ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلَهُ فِي الدِّرْهَمِ فَيَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ عَشَرَةُ أَمْثَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَكُلُّ جُزْءٍ بَطَلَ فِيهِ الْعَفْوُ فَدَاهُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَارِثِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَحَاجَتُهُمْ إلَى دِينَارَيْنِ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ فَيَكُونُ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى عَشَرَةٍ وَكُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ، ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقُلْ قَدْ جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا الدِّينَارُ عَشَرَةٌ وَالدِّرْهَمُ اثْنَانِ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ. أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ دِينَارَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ دِينَارٍ يَعْدِلُ خَمْسَةً فَتُقْلَبُ الْفِضَّةُ وَتُجْعَلُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 92 الدِّينَارَ بِمَعْنَى خَمْسَةٍ وَالدِّرْهَمَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، ثُمَّ تَعُودُ إلَى الْأَصْلِ فَتَقُولُ قَدْ كَانَ الْعَبْدُ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ بِمَعْنَى خَمْسَةٍ وَالدِّرْهَمُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، ثُمَّ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَبَطَلَ فِي السُّدُسِ فَيَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نَقُولُ السَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا مَجْهُولًا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَيَبْطُلُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْءٌ فَتَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى شَيْئَيْنِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تُجْبَرَ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ وَتَزِيدُ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَصَارَ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ اثْنَا عَشَرَ شَيْئًا فَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمُسَ شَيْءٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَخْمَاسِ فَتَضْرِبُ شَيْئًا وَخُمُسَ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ فَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّا نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي السُّدُسِ فَنَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ عَلَى الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَتُجْبَرُ الْعَفْوَ فِي سَهْمٍ وَتُبْطِلُهُ فِي سَهْمَيْنِ فَتَفْدِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِمَا، وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَعُودُ إلَى الْأَصْلِ وَتَجْبُرُ الْعَفْوَ فِي سَهْمَيْنِ وَتُبْطِلُهُ فِي سَهْمٍ فَيَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ عَشَرَةٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى أَرْبَعَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا فِي الْعَفْوِ ذَهَبَ خَطَأُ اثْنَيْ عَشَرَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَنِصْفُ سَهْمٍ فَنُجَوِّزُ الْعَفْوُ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٌ وَنُبْطِلُهُ فِي نِصْفِ سَهْمٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةً، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فَيَسْتَقِيمُ وَسَهْمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ تَكُونُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ فَظَهَرَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ. وَإِذَا عَرَفْنَا طَرِيقَ الْخَطَأَيْنِ تَيَسَّرَ طَرِيقُ الْجَامِعَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي وَجْهِ تَخْرِيجِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِ الْحِسَابِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ بِتَصَرُّفِهِ وَعَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمَا بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِسُبُعَيْ الدِّيَةِ. وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لَوْ كَانَ هُنَا مَالٌ آخَرُ ضِعْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ لَكَانَ الْعَفْوُ يَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ فَيَضُمُّ مَا عَدِمْنَا وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَتَجِدُهُ سُبُعَيْ الْجُمْلَةِ فَنُبْطِلُ الْعَفْوَ فِي سُبُعَيْ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ مَا عَدِمْنَا وَنُجَوِّزُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 93 وَمَا أَبْطَلْنَا فِيهِ الْعَفْوَ، وَذَلِكَ سُبُعَا الْعَبْدِ فَنَفْدِي بِسُبْعَيْ الدِّيَةِ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ وَسَبْعٌ يُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْعَفْوَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ نَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَنُجْبِرُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَنُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَنَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ خَمْسَةُ أَمْثَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَحَاجَتُهُمْ إلَى دِينَارَيْنِ. فَإِذَا قَلَبْت الْفِضَّةَ كَانَ كُلُّ دِينَارٍ بِمَعْنَى خَمْسَةٍ وَكُلُّ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ، ثُمَّ نَعُودُ إلَى الْأَصْلِ فَنَقُولُ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ خَمْسَةٌ وَالدَّرَاهِمُ اثْنَانِ فَذَلِكَ سُبُعُهُ، وَقَدْ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا بَطَلَ فِي سَبْعَةٍ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَنُبْطِلُهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْءٌ فَنَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَمْوَالٍ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ فَأَجْبِرْهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ فَيَكُونَ خَمْسَةَ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَعْدِلُ شَيْئًا وَخُمُسَيْ شَيْءٍ فَانْكَسَرَ بِالْأَخْمَاسِ فَنَضْرِبُ شَيْئًا وَخُمُسَيْ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً فَظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ سَبْعَةً، وَقَدْ كُنَّا صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّا صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ نَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَنُبْطِلُهُ فِي سَهْمَيْنِ فَنَفْدِيهِمَا بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِمَا، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ فَنَعُودُ إلَى الْأَصْلِ وَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي سَهْمَيْنِ وَنُبْطِلُهُ فِي سَهْمٍ فَنَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى أَرْبَعَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ فَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا أَذْهَبَ سَبْعَةً فَنَزِيدُ فِي الْعَفْوِ مَا يُذْهِبُ خَطَأَ السَّهْمِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ سُبْعُ سَهْمٍ وَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي سَهْمَيْنِ وَسُبْعٍ وَنُبْطِلُهُ فِي سِتَّةِ أَسْبَاعِ سَهْمٍ فَنَفْدِي ذَلِكَ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَسُبْعَانِ فَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي سَهْمَيْنِ وَسُبْعٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ سُبْعَاهُ فِي الْحَاصِلِ فَظَهَرَ أَنَّا أَبْطَلْنَا الْعَفْوَ فِي سُبْعَيْ الْعَبْدِ وَجَوَّزْنَاهُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِهِ، وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ لِأَنَّا نَنْظُرُ إلَى ضِعْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ فَنَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ. فَإِذَا هُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ فَنُبْطِلُ الْعَفْوَ بِاعْتِبَارِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَنُصَحِّحُهُ فِي خَمْسَةِ أَثْمَانِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَنَفْدِي بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَإِنَّ كُلَّ ثَمَنٍ مِنْ الدِّيَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 94 وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَتُجَوِّزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ، ثُمَّ تَفْدِي ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ وَثُلُثٍ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِثْلُ ثُلُثِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى دِينَارَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْأَثْلَاثِ فَتَضْرِبُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَارَتْ الدَّرَاهِمُ عَشَرَةً وَالدَّنَانِيرُ سِتَّةً، ثُمَّ تَقْلِبُ الْفِضَّةَ وَتَعُودُ إلَى الْأَصْلِ فَتَقُولُ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ عَشَرَةٌ وَالدِّرْهَمُ سِتَّةٌ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَأَبْطَلْنَا فِي الدِّرْهَمِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَهُوَ سِتَّةٌ فَتَفْدِيه بِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ وَثُلُثٍ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ، وَقَدْ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي عَشَرَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَتُبْطِلُهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا مِنْهُ فَتَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ وَمِثْلِ ثُلُثِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ وَثُلُثٌ إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثًا تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَثُلُثًا انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَتَضْرِبُ خَمْسَةً وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ وَتَضْرِبُ ثَلَاثَةَ أَمْوَالٍ وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ عَشَرَةً فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَعْدِلُ شَيْئًا وَسِتَّةَ أَعْشَارِ شَيْءٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ فَتَضْرِبُ شَيْئًا وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسٍ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ الْكَامِلَ ثَمَانِيَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّا نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ وَطَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا إذَا تَأَمَّلْت فَتَرَكْته لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّطْوِيلِ. وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ لِأَنَّا نَأْخُذُ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ فَنَضُمُّهُ إلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَنَجِدُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ الْجُمْلَةِ فَنُبْطِلُ الْعَفْوَ بِقَدْرِهِ وَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ وَعِشْرُونَ وَتُسْعَانِ وَنَفْدِي أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ بِأَرْبَعَةِ أَتْسَاعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَأَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ نَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَنُبْطِلُهُ فِي الدَّرَاهِمِ فَنَفْدِي ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ، وَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ فِيهِ بِالْأَنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ تَعْدِلُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ اقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَتَقُولُ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ بِمَعْنَى خَمْسَةٍ وَالدِّرْهَمُ بِمَعْنَى أَرْبَعَةٍ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَصَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي الدِّرْهَمِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَنَفْدِي ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 95 عَشَرَةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تُصَحِّحَ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَتُبْطِلَهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَتَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ نِصْفِهِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مَالَانِ وَنِصْفٌ إلَّا شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ وَحَاجَتُهُمْ إلَى شَيْئَيْنِ فَاجْبُرْ مَالَيْنِ وَنِصْفًا بِشَيْءٍ وَنِصْفِ شَيْءٍ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ فَيَصِيرُ مَالَيْنِ وَنِصْفًا يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا فَانْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَمْوَالٍ يَعْدِلُ تِسْعَةَ أَشْيَاءَ فَالْمَالُ الْكَامِلُ يَعْدِلُ شَيْئًا فَتَضْرِبُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَتَضْرِبُهُ فِي خَمْسَةٍ وَشَيْءٍ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ إذَا ضَرَبَتْهُ فِي خَمْسَةٍ يَكُونُ تِسْعَةً، وَقَدْ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَضَرَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّا جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْعَبْدِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يُفْدَى نِصْفُهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّا نَأْخُذُ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَنَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ وَكَمْ هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ. فَإِذَا هُوَ نِصْفُ الْجُمْلَةِ فَنُبْطِلُ الْعَفْوَ بِاعْتِبَارِهِ فِي الْعَبْدِ وَنُجَوِّزُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ نَفْدِي مَا أَبْطَلْنَا فِيهِ الْعَفْوَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ نَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَنُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَنُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَنَفْدِي ذَلِكَ بِضِعْفِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضِعْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ تَعْدِلُ دِينَارَيْنِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ سَوَاءٌ، وَأَنَّا صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي الدِّرْهَمِ، وَقَدْ فَدَى الْمَوْلَى ذَلِكَ بِضِعْفِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْعَفْوَ وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ نُصَحِّحُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَنُبْطِلُهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَنَفْدِي ذَلِكَ بِضِعْفِهِ، وَذَلِكَ مَالَانِ إلَّا شَيْئَيْنِ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى شَيْئَيْنِ فَاجْبُرْ مَالَيْنِ بِشَيْئَيْنِ وَزِدْ عَلَى مَا يَعْدِلُهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَالَيْنِ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ كُلُّ مَالٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَشَيْءٌ مِنْ شَيْئَيْنِ يَكُونُ نِصْفَ شَيْئَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّا صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ سِتَّةَ آلَافٍ فَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ضِعْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَنْظُرُ إلَى الْمَضْمُومِ كَمَا هُوَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَتَجِدُ ذَلِكَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَتُبْطِلُ الْعَفْوَ فِي سِتَّةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ وَتَفْدِي ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ إذَا تَأَمَّلْت وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تُجَوِّزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَتَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ وَبِمِثْلِ ثُلُثِهِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 96 لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ مِثْلُهَا وَمِثْلُ ثُلُثَيْهَا، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سَبْعَةَ آلَافٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، أَوْ تِسْعَةَ آلَافٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَالْعَفْوُ هُنَا صَحِيحٌ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَلَا دَوْرَ فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ زِيَادَةٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ اخْتَارَ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ضِعْفَ الدِّيَةِ وَتَضُمَّهُ إلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ تَدْفَعُ حِصَّةَ الضِّعْفِ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ ضِعْفَ الدِّيَةِ لَكَانَ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُوَ مِقْدَارُ الدِّيَةِ هُنَا فَلَهُ أَقَلُّ الْمَالَيْنِ، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ الزِّيَادَةُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ وَصَارَتْ الدِّيَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ كَالْعَبْدِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ هُنَا لَا يَقَعُ الدَّوْرُ لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ زِيَادَةً فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الدَّوْرُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ فَتَقُولُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا صَحَّ الْعَفْوُ فِي النِّصْفِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ النَّقْدِيَّةِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ أَلْفًا فَتَضُمُّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَدْفَعُ حِصَّةَ الضِّعْفِ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْعَبْدِ فَيَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ فِي النِّصْفِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَيَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَسَائِرُ الطُّرُقِ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا فَإِنَّك تَجْعَلُ الْعَمَلَ فِي الدِّيَةِ هُنَا عَلَى طَرِيقٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ فِي الْعَبْدِ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخُذْ ضِعْفَ الدِّيَةِ وَضَمَّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَدْفَعُ حِصَّةَ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ خُمُسَا الْعَبْدِ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ خُمُسَا الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَخُذْ ضِعْفَ الدِّيَةِ وَضُمَّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ سِتِّينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَدْفَعُ الْعَبْدَ مَا أَصَابَ حِصَّةَ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْعَبْدِ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي الثُّلُثَيْنِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثَانِ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثُ أَلْفٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَالْعَفْوُ جَائِزٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الدِّيَةِ فَتَضُمُّهُ عَلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَدْفَعُ حِصَّةَ النِّصْفِ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الدِّيَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ بِنِصْفِ هَذَا الْمِقْدَارِ إذَا تَأَمَّلْت فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَإِنَّ الدَّوْرَ لَا يَقَعُ فِي الدَّفْعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْفِدَاءِ، وَلَوْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 97 اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يُفْدَى بِجُزْأَيْنِ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ وَجُزْأَيْنِ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ فَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافٍ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا تَصِيرُ الدِّيَةُ مِائَةَ سَهْمٍ وَالضِّعْفُ سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَجُزْءَانِ، ثُمَّ تَفْدِي مِائَتَيْ الضِّعْفِ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ جُزْءَانِ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ وَمِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ الدِّيَةِ وَهُوَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ تَفْدِيهِ إنَّمَا يُفْدَى بِمِائَةِ أَمْثَالِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ مِائَةُ أَمْثَالِهِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا جَرَحَ رَجُلًا خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ تَأْخُذَ ضِعْفَ الْقِيمَةِ وَتَضُمَّهَا إلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْعَبْدَ عَلَى الدِّيَةِ وَعَلَى الضِّعْفِ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ بِحِصَّةِ الدِّيَةِ وَبِحِصَّةِ التَّرِكَةِ وَيَبْطُلُ بِحِصَّةِ الضِّعْفِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ هُنَا أَلْفَا دِرْهَمٍ. فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الدِّيَةِ يَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ إذَا قَسَّمْت الْعَبْدَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَالْعَفْوُ صَحِيحٌ بِحِصَّةِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ بِحِصَّةِ التَّرِكَةِ وَهُوَ سَهْمٌ لِأَنَّ التَّرِكَةَ سِوَى الْعَبْدِ أَلْفٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفُ سُدُسِهِ وَيَبْطُلُ فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسِ الْعَبْدِ فَتَفْدِيهِ بِنِصْفِ سُدُسِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَجَازَ الْعَفْوُ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَتُجِيزَ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلَهُ فِي الدِّرْهَمِ فَتَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَقَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَذَلِكَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ أَيْضًا فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ فَالدِّينَارُ قِصَاصٌ وَبَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا تَعْدِلُ دِينَارًا فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ إلَى الْأَصْلِ فَتَقُولُ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَدِرْهَمًا فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ سُدُسِهِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ السَّبِيلُ أَنْ تُجِيزَ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَتُبْطِلَهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَتَفْدِي ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ عَشَرَةُ أَمْوَالٍ إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَالٌ كَامِلٌ وَهِيَ الْآلَافُ الَّتِي هِيَ مِثْلُ قِيمَةِ الْعَبْدِ صَارَ عِنْدَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ مَالًا إلَّا عَشَرَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ فَاجْبُرْهُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ وَزِدْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِثْلَهُ فَصَارَ أَحَدَ عَشَرَ مَالًا يَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ شَيْئًا كُلُّ مَالٍ يَعْدِلُ شَيْئًا وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَاضْرِبْ شَيْئًا وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 98 أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا، وَقَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَجَعَلْنَا كُلَّ شَيْءٍ أَحَدَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا صَحَّ فِي أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّمَا يُفْدَى بِتِسْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَضُمَّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْعَبْدَ عَلَى الدِّيَةِ وَعَلَى النِّصْفِ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ بِإِزَاءِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ وَبِإِزَاءِ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا وَتَبْطُلُ فِي تِسْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ. وَطَرِيقُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَتَفْدِي الدِّرْهَمَ بِضِعْفِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضِعْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ خُمُسُ دِينَارٍ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ فَصَارَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ وَخُمُسُ دِينَارٍ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ فَخُمُسُ دِينَارٍ بِمِثْلِهِ قِصَاصٌ يَبْقَى دِرْهَمَانِ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ يَعْدِلُ دِينَارًا وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِينَارٍ فَاجْعَلْ كُلَّ خُمُسٍ دِينَارًا فَيَصِيرُ الدِّينَارُ تِسْعَةً وَالدِّرْهَمُ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ اقْلِبْ الْفِضَةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ أَحَدَ عَشَرَ وَالدِّرْهَمُ تِسْعَةٌ فَذَلِكَ عِشْرُونَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي الدِّرْهَمِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، ثُمَّ فَدَى الدِّرْهَمَ بِمِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ خُمُسُ دِينَارٍ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ. فَإِذَا جَمَعْت الْكُلَّ كَانَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَاسْتَقَامَ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تُجِيزَ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَتُبْطِلَهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَنَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ مَالَانِ إلَّا شَيْئَيْنِ، وَعِنْدَ الْوَرَثَةِ أَيْضًا خُمُسُ مَالٍ فَصَارَ عِنْدَهُمْ مَالَانِ وَخُمُسُ مَالٍ إلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ فَأَجْبِرْ بِشَيْئَيْنِ وَبَعْدَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ يَصِيرُ مَالَيْنِ وَخُمُسَ مَالٍ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فَاجْعَلْ كُلَّ خُمُسٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ الْمَالَانِ وَالْخُمُسُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْأَشْيَاءُ عِشْرِينَ لِأَنَّا مَتَى ضَرَبْنَا مَالَيْنِ وَخُمُسَ مَالٍ لِأَجْلِ الْكَسْرِ فِي خَمْسَةٍ فَقَدْ ضَرَبْنَا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فِي خَمْسَةٍ أَيْضًا وَالْأَرْبَعَةُ مَتَى ضُرِبَتْ فِي الْخَمْسَةِ تَصِيرُ عِشْرِينَ. وَإِذَا تَأَمَّلْت كَانَ كُلُّ شَيْءٍ أَحَدَ عَشَرَ وَكُلُّ مَالٍ عِشْرِينَ، وَقَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا، وَقَدْ جَعَلْنَا الْعَبْدَ مَالًا فَذَلِكَ عِشْرُونَ وَجَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يُفْدَى بِثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُجِيزُ الْعَفْوَ بِإِزَاءِ الضِّعْفِ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَبِإِزَاءِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 99 التَّرِكَةِ وَهُوَ أَلْفَانِ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَتَبْطُلُ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَفْدِيهِ بِثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ تَرَكَ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَدَاهُ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُجِيزُ الْعَفْوَ بِحِصَّةِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ وَبِحِصَّةِ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَتَفْدِيهِ بِسَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ الدَّوْرُ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ هُنَا زِيَادَةٌ وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَيُسَلَّمُ لَهُ خُمُسَاهُ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ سِتَّةُ آلَافٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ. وَإِذَا جَازَ الْعَفْوُ فِي الْعَيْنِ مِقْدَارُهُ مِنْ الْعَبْدِ خُمُسَاهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَيِّتِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ دَفَعَ خُمُسَيْ الْعَبْدِ وَثُلُثَيْ خُمُسِهِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ سَبْعَةُ آلَافٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيَدْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَثُلُثَا أَلْفٍ وَكُلُّ أَلْفٍ خُمُسُ الْعَبْدِ فَذَلِكَ خُمُسَاهُ وَثُلُثَا خُمُسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَفَعَ خُمْسَيْ الْعَبْدِ وَثُلُثَ خُمُسِهِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَثُلُثَا أَلْفٍ وَيَدْفَعُ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ خُمْسَيْ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ تِسْعَةُ آلَافٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَيَبْقَى لَهُ مِنْ الْعَبْدِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَالدَّوْرُ هُنَا يَقَعُ فِي الدَّفْعِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْفِدَاءِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ضِعْفَ الدِّيَةِ وَتَضُمَّهُ إلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْ الضِّعْفِ مِقْدَارَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَتَدْفَعَ الْبَاقِيَ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ لَوْ كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَخُذْ ضِعْفَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَتَضُمُّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ فَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ الْمَيِّتُ شَيْئًا لَكَانَ يَدْفَعُ مِقْدَارَ النِّصْفِ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ فَلَمَّا تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافٍ وَجَبَ أَنْ يَطْرَحَ مِنْهَا مِقْدَارَ عَشَرَةٍ فَيَبْقَى مِنْ الضِّعْفِ عَشَرَةٌ وَهُوَ الرُّبْعُ فَيَدْفَعُ رُبْعَ الْعَبْدِ مِقْدَارُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَيَبْقَى لِلْمَوْلَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا سُلِّمَتْ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الدِّيَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَمِنْ التَّرِكَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ عِشْرِينَ أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرَ سَلِمَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَجَازَ الْعَفْوُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِقْدَارُ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الدِّيَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَقَلُّ، وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَلْفَا مِثْلَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ الْمَيِّتُ مَالًا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 100 أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَقُولَ لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَضِعْفَ الْقِيمَةِ بِهِ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْكُلِّ. وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَرْفَعَ مِنْ الْعَبْدِ مِقْدَارَ الدَّيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لَمْ يَكُنْ وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ مِنْ الْعَبْدِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَلَى حِدَةٍ. ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْكَامِلِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا وَالدَّيْنُ عَشَرَةَ آلَافٍ دَفَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَكَانَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ. فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَدْفَعُ رُبْعَهُ أَيْضًا لِمَكَانِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الرُّبْعِ مِقْدَارُهُ مِنْ الدِّيَةِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ الْوَارِثُ يَقْضِي الدَّيْنَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَيَبْقَى لَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ أَوْ تَقُولُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ الْعَبْدِ يُجْعَلُ كَأَنْ لَيْسَ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَيَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ فَاجْعَلْ كَأَنَّ هَذَا النِّصْفَ عَبْدٌ عَلَى حَدِّهِ، ثُمَّ أَخَذَ ضِعْفَ مَا فِيهِ مِنْ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَضَمَّهُ إلَى قِيمَتِهِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي نِصْفِهِ وَيَبْطُلُ فِي نِصْفِهِ فَقَدْ بَطَلَ نِصْفُ هَذَا الْبَاقِي مَعَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ وَعَلَى الْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الدَّوْرَ هُنَا، وَلَكِنْ نَقُولُ مَالُ الْمَيِّتِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَهُوَ أَلْفٌ وَثُلُثُ أَلْفٍ مِقْدَارُهُ مِنْ الْعَبْدِ خُمُسُهُ وَثُلُثُ خُمُسِهِ وَيَدْفَعُ مَا بَقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَثُلُثَا خُمُسِهِ فَيَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ بِخُمُسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خُمُسَانِ وَثُلُثَا خُمْسٍ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَمَالُ الْمَيِّتِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ خُمُسُ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ فَيَقْضِي الدَّيْنَ بِخُمُسَيْهِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خُمُسُهُ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَمَالُهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِهِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا أَلْفٍ يَدْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَثُلُثُ خُمُسِهِ فَيَقْضِي الدَّيْنَ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ خُمُسًا وَثُلُثَ خُمُسٍ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَثُلْثَيْ خُمُسِهِ لِأَنَّ مَالَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَيَدْفَعُ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَثُلُثَا خُمُسِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَالْعَفْوُ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَمَعَ الدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالتَّرِكَةِ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَةُ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَفْدِيهِ كُلَّهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 101 لِأَنَّهُ إذَا فَدَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِجَمِيعِهِ الدَّيْنَ، وَلَا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مَالٌ فَلِهَذَا بَطَلَ الْعَفْوُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يَفْدِيهِ بِأَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ فَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُبْطِلُ الْعَفْوَ بِحِصَّةِ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَبِحِصَّةِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ فَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي تِسْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَتَفْدِي الدِّرْهَمَ بِمِثْلَيْهِ فَيَصِيرُ مَعَ الْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ يُقْضَى مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنُ وَمِقْدَارُ الدَّيْنِ خُمُسُ دِينَارٍ وَخُمُسُ دِرْهَمٍ فَيَبْقَى دِرْهَمٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ إلَّا خُمُسَ دِينَارٍ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ فَالدِّرْهَمُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِرْهَمٍ إلَّا خُمُسَ دِينَارٍ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ وَخُمُسًا فَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْخُمُسِ فَاجْعَلْ كُلَّ خُمُسٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ الدِّرْهَمُ تِسْعَةً وَالدِّينَارُ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ اقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ تِسْعَةٌ وَالدِّرْهَمُ أَحَدَ عَشَرَ فَذَلِكَ عِشْرُونَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي الدِّرْهَمِ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، وَقَدْ فَدَاهُ بِمِثْلِ ضِعْفِهِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَيَقْضِي الدَّيْنَ بِخُمُسِ دِينَارٍ وَخُمُسِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّ مَبْلَغَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عِشْرُونَ وَدَيْنُهُ مِقْدَارُ خُمُسِ ذَلِكَ وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ مَالًا فَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ يُفْدَى مَا بَقِيَ بِمِثْلَيْهِ فَيَصِيرُ مَعَ الْوَرَثَةِ مَالَانِ إلَّا شَيْئَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الدَّيْنَ بِخُمُسِ مَالٍ فَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مَالٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَالٍ إلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَبَعْدَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فَاجْعَلْ كُلَّ خُمُسٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ عِشْرِينَ وَالْمَالُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ تِسْعَةً وَبَعْدَ الضَّرْبِ يَكُونُ الْمَالُ وَهُوَ الْعَبْدُ عِشْرِينَ وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتُبْطِلُهُ فِيمَا بَقِيَ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَفْوَ يَجُوزُ فِي ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ عِشْرِينَ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ فَتَضُمُّهُ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَفْدِي حِصَّةَ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَحِصَّةُ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا تَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ تَقْضِي الدَّيْنَ بِأَلْفَيْنِ وَتُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَقَدْ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يُفْدَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا وَيَجُوزُ الْعَفْوُ فِي خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ لِأَنَّك تَضُمُّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَفْدِي مَا بِإِزَاءِ الضِّعْفِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 102 وَذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَمَا بِإِزَاءِ الدَّيْنِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا تَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ يُقْضَى الدَّيْنُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي رُبْعِ الْعَبْدِ وَمِقْدَارُهُ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لِرَجُلٍ جَرَحَ رَجُلًا، ثُمَّ جَرَحَ آخَرَ فَعَفَا عَنْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلَى نِصْفِ الْعَبْدِ كَمْ قِيمَتُهُ فَيَعْمَلُ فِيهِ كَمَا وَصَفْنَا فِي الْعَبْدِ إذَا جَرَحَ رَجُلًا وَاحِدًا فَعَفَا عَنْهُ يَعْنِي أَنَّهُ إنْ كَانَ قِيمَةُ النِّصْفِ عَشَرَةُ آلَافٍ لَا يَقَعُ الدَّوْرُ فِي الدَّفْعِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ النِّصْفِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لَا يَقَعُ الدَّوْرُ فِي الدَّفْعِ وَيَقَعُ فِي الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَإِنَّ الدَّوْرَ يَقَعُ فِي الدَّفْعِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْفِدَاءِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ مَدْفُوعٌ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مُسْتَحَقٌّ بِهَا وَالنِّصْفُ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْجِنَايَةِ الَّتِي وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْهَا وَمُوجِبُ تِلْكَ الْجِنَايَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَصَارَ حُكْمُ هَذَا النِّصْفِ وَحُكْمُ عَبْدٍ جَنَى جِنَايَةً سَوَاءٌ فِيمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ لِرَجُلٍ جَرَحَا رَجُلًا فَعَفَا عَنْهُمَا الْمَجْرُوحُ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ عَشَرَةُ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرُ قِيلَ لِسَيِّدِهِمَا ادْفَعْ ثُلُثَيْهِمَا، أَوْ افْدِهِ ذَلِكَ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةَ آلَافٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَإِنَّمَا يَصِحُّ الْجَوَابُ فِي الْفِدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الدَّفْعِ لِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ إذَا كَانَا لِوَاحِدِ وَجَرَحَا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ عَبْدٍ وَاحِدٍ جَرَحَ رَجُلًا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ لَا يَقَعُ الدَّوْرُ فِي الدَّفْعِ، وَلَا فِي الْفِدَاءِ، وَلَكِنْ يَدْفَعُ ثُلُثَيْهِ، أَوْ يَفْدِي ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ يَقَعُ الدَّوْرُ فِي الدَّفْعِ. فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا عَشَرَةَ آلَافٍ وَقِيمَةُ الْآخَرِ خَمْسَةَ آلَافٍ فَمَاتَ الَّذِي قِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْبَاقِي، أَوْ يَفْدِيهِ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَالسَّبِيلُ أَنْ تَتَبَيَّنَ الْجَوَابَ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ تَبْنِي عَلَيْهِ الْجَوَابَ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَتَقُولُ الْعَبْدَانِ هُنَا فِي الْحُكْمِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَنَيَا عَلَى وَاحِدٍ فَصَارَا كَعَبْدٍ وَاحِدٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ السَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ ضِعْفَ الدِّيَةِ فَتَضُمُّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَيَجِبُ الدَّفْعُ فِيمَا بِإِزَاءِ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ سُبُعَيْنِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْأَصْلِ. فَإِذَا سَلَّمَ لِلْمَوْلَى ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى سَهْمَيْنِ وَدَفَعَ إلَى الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ الْعَبْدِ اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 103 مُسْتَوْفِيًا الْوَصِيَّةَ فِيهِ فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْبَاقِي عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَعَلَى مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَتَقُولُ حِينَ مَاتَ الَّذِي قِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْوَارِثُ فِي الْبَاقِي بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَالْمَوْلَى بِسَهْمٍ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالْعَفْوِ كَانَتْ تَجُوزُ فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدِ الْأَوْكَسِ فَيَصِيرُ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَيَبْقَى لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ سَهْمٌ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ سَهْمًا فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي سَهْمَيْنِ وَيُسَلَّمُ لِلْوَارِثِ أَرْبَعَةٌ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَالدِّيَةَ سَوَاءٌ فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ وَقِيمَتَهُ مِنْ الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ. وَلَوْ مَاتَ الَّذِي قِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ الْآخَرُ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ دَفَعَ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ صَارَ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الْوَرَثَةُ فِي الْبَاقِي بِأَرْبَعَةٍ وَالْمَوْلَى بِسَهْمَيْنِ لِأَنَّ لَهُ وَصِيَّةً فِي هَذَا الْعَبْدِ سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ لِلْمَوْلَى مِنْ هَذَا الْعَبْدِ وَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ السَّهْمُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا فِيهِ مِنْ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ قِيمَتُهُ، وَذَلِكَ نِصْفٌ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَوْلَى فِي الْحُكْمِ سَهْمٌ وَلَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ سَهْمٌ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَمِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمُ سَلِّمْ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَيْ هَذَا الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ سِتَّةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِلْمَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ ثُلُثُ نِصْفِ الدِّيَةِ وَمِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ ثُلُثُ نِصْفِ الدِّيَةِ أَيْضًا فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ جَرَحَا رَجُلًا وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ عِشْرُونَ أَلْفًا فَعَفَا عَنْ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ جَازَ عَفْوُهُ وَيَدْفَعُ الْآخَرُ عَبْدَهُ، أَوْ يَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ مَوْلَى الْآخَرِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ يُسَلِّمْ لِلْوَرَثَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ يُسَلِّمْ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ فَفِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا هُوَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْ هَذَا، وَلَكِنْ عَفَا عَنْ الَّذِي قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَإِنَّهُ يُجْبَرُ الْمَوْلَى الَّذِي قِيمَةُ عَبْدِهِ أَلْفٌ حَتَّى يَنْظُرَ اخْتَارَ الدَّفْعَ أَمْ الْفِدَاءَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَالُ الْمَيِّتِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَدَفَعَهُ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَفَهُ الْمَيِّتُ فَكَانَ الْمَجْرُوحُ تَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُقَالُ الْمَوْلَى الْعَبْدُ الْأَرْفَعُ تَخْتَارُ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ مِنْ عَبْدِهِ مَا يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافٍ وَهُوَ خُمُسُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ خُمُسِهِ وَصَارَ الْعَفْوُ فِيمَا بَقِيَ، وَذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّ فِيهِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَحِصَّةُ مَا جَازَ فِيهِ الْعَفْوُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ خُمُسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الدِّيَةِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَإِنَّ فِي هَذَا الْعَبْدِ مِنْ الدِّيَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ فَيَضُمُّ ضِعْفَهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الضِّعْفِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 104 مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ خُمُسُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ خُمُسِهِ لِأَنَّ كُلَّ خُمُسٍ مِنْ الثَّلَاثِينَ يَكُونُ سِتَّةً وَنِصْفُ الْخُمُسِ ثَلَاثَةً، ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى الْعَبْدِ كَمْ يَكُونُ قِيمَةُ خُمُسِهِ وَنِصْفُ خُمُسِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عِشْرُونَ أَلْفًا فَخُمُسُهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَنِصْفُ خُمُسِهِ أَلْفَانِ فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ سِتَّةَ آلَافٍ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ الْقَدْرَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَقَدْ سَلَّمَ الْأَلْفَ لَهُمْ فَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفِ خُمُسِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى مِنْهُ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مَعَ الْعَبْدِ الْآخَرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي خُمُسَيْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَفِي الْحَاصِلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْعَبْدِ الْأَوْكَسِ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْعَبْدِ الْأَرْفَعِ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ مَا إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الْأَوْكَسِ الدَّفْعَ، ثُمَّ اخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْفَعِ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الْأَوْكَسِ الْفِدَاءَ وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّمَا يَفْدِي عَبْدَهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنْ اخْتَارَ الْآخَرُ الدَّفْعَ قَسِّمْ عَلَى الضِّعْفِ وَعَلَى الْقِيمَةِ فَخُذْ ضِعْفَ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ ضُمَّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَمَا أَصَابَ صَاحِبَ حِصَّةِ الضِّعْفِ دَفَعَهُ إلَّا مِقْدَارَ خَمْسَةِ آلَافٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ سَقَطَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ الَّذِي يَدْفَعُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَقَدْ جَوَّزَنَا الْعَفْوَ فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْأَرْفَعِ مِقْدَارُهُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ نِصْفِ الدِّيَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَسُدُسُ أَلْفٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْفَعِ الْفِدَاءَ كَانَ مَالُ الْمُوصِي الدِّيَةَ عَشَرَةَ آلَافٍ فَتَجُوزُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيَدْفَعُ مَا بَقِيَ إلَى تَمَامِ خَمْسَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثُلُثَا أَلْفٍ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةَ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ زِيَادَةٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ هُنَا بِاخْتِيَارِهِمْ جَمِيعًا الْفِدَاءَ وَهُوَ أَقَلُّ الْمَالَيْنِ، وَلَا يَقَعُ الدَّوْرُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْعَفْوِ وَالْوَصِيَّةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا جَرَحَ رَجُلًا خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ فِي مَرَضِهِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ دَفَعَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ لِأَنَّهُ أَوْصَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 105 لِمَوْلَى الْجَارِحِ بِجَمِيعِ عَبْدِهِ حَيْثُ عَفَا عَنْهُ وَالْعَفْوُ لَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي مَرَضِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِلْمَوْلَى بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالثُّلُثِ فَيَكُونُ ثُلُثُ مَالِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُ الْعَبْدِ وَدَفَعَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سُدُسَهُ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْدَاسِهِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ وَيَضْرِبُ الْمَوْلَى بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ جَمِيعُ الْمَالِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ فَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنَّمَا يَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَيُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى ثَلَاثَةً وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْ التِّسْعَةِ سَهْمًا وَاحِدًا وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِأَنَّ مَالَهُ فِي حَالِ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَقَدْ جَرَى هَذَا الْبَابُ إلَى آخِرِهِ عَلَى نَحْوِ هَذَا وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا يَكُونُ رِوَايَةً عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لَا يَضْرِبُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الدَّوْرُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى خَمْسَةَ أَسْبَاعِهِ بِخَمْسَةِ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ أَرْبَعَةٌ لِلْوَرَثَةِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَافِي وَصِيَّةٌ سِوَى الْعَفْوِ كَانَ الطَّرِيقُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ أَنْ يَضُمَّ ضِعْفَ الْقِيمَةِ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَفْدِي مَا بِإِزَاءِ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلْآخَرِ وَصِيَّةٌ مِنْ مِثْلِ وَصِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يُزَادَ مِثْلُ وَصِيَّتِهِ لِمَكَانِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَيُزَادُ ضِعْفُ ذَلِكَ لِمَكَانِ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْوَصِيَّةَ يُزَادُ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ كُلُّهُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَفْدِي حِصَّةَ الضِّعْفَيْنِ وَحِصَّةَ الْوَصِيَّةِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ فَإِنَّ كُلَّ سُبُعٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ خَمْسَةٌ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ سُبُعَ الدِّيَةِ وَالْوَرَثَةُ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِهِ، وَقَدْ جَازَ لَهُ الْعَفْوُ فِي سُبُعَيْ الْعَبْدِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ السَّبِيلُ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الدِّيَةِ فَتَزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحَ مِنْ الْمَالِ لَكَانَ يَجُوزُ الْعَفْوُ وَالْوَصِيَّةُ كِلَاهُمَا، ثُمَّ تَفْدِي ذَلِكَ الْقَدْرَ لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ امْتَنَعَ تَنْفِيذُ كِلَا الْعَفْوِ وَالْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ لَهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْعَفْوُ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى الْعَبْدَ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ خَمْسَةَ آلَافٍ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 106 عِشْرُونَ أَلْفًا فَلَمَّا كَانَ بِوُجُودِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا يَكُونُ إمْكَانُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّتَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ عَلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ يَضُمُّ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتَفْدِي الدِّرْهَمَ بِمِثْلِهِ وَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ تَعْدِلُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّ حَاجَةَ الْوَرَثَةِ إلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَحَاجَةَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إلَى دِينَارٍ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا الدِّرْهَمُ خَمْسَةٌ وَالدِّينَارُ اثْنَانِ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَفَدَى الدِّرْهَم، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ، ثُمَّ يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَثَمَانِيَةٌ لِلْوَرَثَةِ. وَطَرِيقُ الْجَبْرِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ مَالًا وَتُجِيزَ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَتُبْطِلَهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَتَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ مَالَانِ إلَّا شَيْئَيْنِ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَبَعْدَ الْجَبْرِ مَالَانِ يَعْدِلُ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ فَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا، وَقَدْ جَوَّزْنَا الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَشَيْءٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَنِصْفٍ سَبْعَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا جَازَ فِي السُّبْعَيْنِ وَطَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ عَلَى سَبْعَةٍ وَتُجِيزَ الْعَفْوَ فِي أَرْبَعَةٍ وَتُبْطِلَهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَفْدِي ذَلِكَ بِمِثْلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سِتَّةٌ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ مَعَ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ فِي عِشْرِينَ أَرْبَعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ وَسِتَّةَ عَشَرَ لِلْوَرَثَةِ فَقَدْ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِنُقْصَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَأَجِزْ الْعَفْوَ فِي ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهِ وَأَبْطِلْهُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِ فَيُفْدَى ذَلِكَ بِثَمَانِيَةٍ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ فَقَدْ ظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِنُقْصَانِ سَبْعَةٍ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِنُقْصَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَلَمَّا نَقَصْنَا سَهْمًا ارْتَفَعَ مِنْ الْخَطَأِ سَبْعَةٌ يَجِبُ أَنْ تَنْقُصَ سَهْمًا آخَرَ لِيَرْتَفِعَ جَمِيعُ الْخَطَأِ فَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي السُّبْعَيْنِ وَتُبْطِلُهُ فِي خَمْسَةِ أَسْبَاعِهِ فَيُفْدَى ذَلِكَ بِمِثْلَيْهِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ وَلِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ فَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَسَلِمَ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ سِتَّةَ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَفْدِي ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ سِتَّةُ آلَافٍ مِنْهَا لِلْوَرَثَةِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا وَصِيَّةٌ سِوَى الْعَفْوِ لَكَانَ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الْقِيمَةِ وَيُضَمُّ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تُفْدَى حِصَّةُ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ فَلَمَّا كَانَ هُنَا وَصِيَّةٌ مِثْلُ الْعَفْوِ وَجَبَ أَنْ يَزْدَادُ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِثْلُ الْقِيمَةِ لِمَكَانِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِثْلَيْ ذَلِكَ لِمَكَانِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ حِصَّةَ الضِّعْفَيْنِ وَحِصَّةَ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ مِنْ أَرْبَعِينَ فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 107 وَقِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ يَفْدِيهِ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا فَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَيُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى بِالْعَفْوِ رُبْعُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِثْلَ ذَلِكَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ آلَافٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ وَعَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُفْدَى ثُلُثُ الْعَبْدِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الْقِيمَةِ أَلْفَانِ فَيُضَمُّ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يَفْدِي حِصَّةَ الضِّعْفِ وَهُوَ السُّدُسُ فَلَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِثْلُ الْقِيمَةِ لِمَكَانِ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَلْفٌ وَيُؤْخَذُ ضِعْفُ ذَلِكَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَيَزِيدُ كُلُّهُ عَلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يَفْدِي حِصَّةَ الضِّعْفَيْنِ وَحِصَّةَ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ الثُّلُثُ فَصَارَ لِلْمَوْلَى بِالْعَفْوِ ثُلُثَا الْعَبْدِ قِيمَتُهُ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ فَدَى ثَلَاثَةً بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثَ الْأَلْفِ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ أَلْفَانِ وَثُلُثَا أَلْفٍ. وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّتَيْنِ فِي أَلْفٍ وَثُلُثِ أَلْفٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبْعٍ فَدَى أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ وَرُبْعِ جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَرُبْعِ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَأْخُذُ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ لِأَجْلِ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِرُبْعِ الْمَالِ وَالرُّبْعُ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ فَخُذْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْأَلْفِ لِأَجْلِ الْمُوصَى لَهُ وَضِعْفُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَلْفَانِ وَرُبْعُ الْأَلْفِ ضُمَّ هَذَا كُلَّهُ إلَى الدِّيَةِ مَعَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَرُبْعُ أَلْفٍ، ثُمَّ يَفْدِي مَا بِإِزَاءِ الضِّعْفَيْنِ، وَمَا بِإِزَاءِ وَصِيَّةِ صَاحِبِ الرُّبْعِ، وَذَلِكَ جُزْءٌ وَرُبْعُ جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَرُبْعًا بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ وَنِصْفٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَرُبْعٍ وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَرُبْعٍ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ تَقُولُ بَطَلَ الْعَفْوُ فِي أَرْبَعَةٍ وَرُبْعٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَرُبْعٍ مِنْ الْعَبْدِ وَيَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي عَشَرَةٍ وَأَعْطَيْنَا لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ذَلِكَ وَهُوَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ فَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَسَلِمَ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 108 وَثَلَاثُونَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ أَوْصَى بِالسُّدُسِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَانِ فَدَى سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ جُزْءٌ وَلِلْوَرَثَةِ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ لِأَنَّك تَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ ضِعْفَ الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ لِمَكَانِ الْعَفْوِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ لِأَنَّ حَقَّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ صَاحِبِ الْعَفْوِ يَزِيدُ عَلَيْهِ ضِعْفَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ فَمَبْلَغُ الضِّعْفَيْنِ وَالْوَصِيَّةِ سَبْعَةُ آلَافٍ. فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ يَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَيَفْدِي مِنْ ذَلِكَ حِصَّةَ الضِّعْفَيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهَا لِأَنَّ الدِّيَةَ خَمْسَةُ أَمْثَالِ الْقِيمَةِ وَخَمْسَةُ أَمْثَالِ السَّبْعَةِ يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةً، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ صَاحِبُ الْعَفْوِ عَشَرَةً فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَدْ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثُونَ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ تَجْعَلُ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَتُجِيزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، ثُمَّ تَفْدِي الدِّرْهَمَ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَذَلِكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَصَارَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَنِصْفًا وَلِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ نِصْفُ دِينَارٍ أَضْعِفْهُ لِمَكَانِ الْكَسْرِ فَيَصِيرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ سَبْعَةَ دَنَانِيرَ، ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ الدِّينَارُ عَشَرَةٌ وَالدِّرْهَمُ سَبْعَةٌ، ثُمَّ صَحَّحْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَأَبْطَلْنَاهُ فِي الدِّرْهَمِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَنَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ ثَلَاثُونَ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ السَّبِيلُ أَنْ تُجِيزَ الْعَفْوَ فِي شَيْءٍ وَتُبْطِلَهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَتَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ خَمْسَةُ أَمْوَالٍ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْجَبْرِ خَمْسَةُ أَمْوَالٍ تَعْدِلُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ، وَفِيهِ كَسْرٌ فَأَضْعِفْ فَيَصِيرُ عَشَرَةَ أَمْوَالٍ يَعْدِلُ سَبْعَةَ عَشَرَ شَيْئًا وَالْمَالُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ شَيْئًا وَسَبْعَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَعْشَارِ فَاضْرِبْهُ فِي عَشَرَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا صَحَّ فِي عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَفْدِي سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ الدِّيَةِ وَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا رَجُلٌ وَهَبَ عَبْدًا لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً، وَلَا مَالَ لِلْوَاهِبِ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ مَالُك الْعَبْدِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ يَكُونُ نَافِذًا قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ نِصْفُهُ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ وَنِصْفُهُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ الثُّلُثَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَتَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ سَهْمًا وَتَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 109 سَهْمَيْنِ فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي أَحَدِهِمَا فَتَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ وَيَسْتَوِي إنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ، أَوْ كَثُرَتْ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَقَلَّ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ إذَا فَدَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ كَانَ الْعَبْدُ خَارِجًا مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ سِتَّةَ آلَافٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْعَبْدَ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ السَّهْمُ بِمِثْلِهِ وَمِثْلُ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا فَيَزْدَادُ فِي مَالِ الْوَاهِبِ سَهْمٌ وَثُلُثَانِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَطْرَحَ مِنْ نَصِيبِ الْوَاهِبِ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ فَيَبْقَى ثُلُثُ سَهْمٍ وَنَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ نَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثَلَاثَةٌ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تُفْدَى ذَلِكَ بِمِثْلِهَا وَمِثْلِ ثُلُثَيْهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَصِيرُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِأَنَّا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي نُقَدِّمُ بَيَانَهُ نَقُولُ لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَلْفَانِ سِوَى الْعَبْدِ لَكَانَتْ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ فَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَيَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ بِحِسَابِ مَا عَدِمْنَاهُ وَهُوَ رُبْعُ الْجُمْلَةِ إذَا ضَمَمْت الْأَلْفَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ فَنَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَهُوَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ. فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ رُبْعَ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ كَانَ تِسْعَةَ آلَافٍ ضِعْفَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ الْعَبْدِ فَحُكْمُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خُمُسِ الْعَبْدِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَنُجَوِّزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِمِثْلِ نِصْفِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ نِصْفِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِنِصْفِ سَهْمٍ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْوَاهِبِ نِصْفُ سَهْمٍ يَبْقَى سَهْمٌ وَنِصْفُ سَهْمٍ وَنَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ. فَإِذَا ضَعَّفْت الْكَسْرَ بِالْأَنْصَافِ صَارَ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَتَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ تَفْدِي الْخُمُسَيْنِ بِخُمُسَيْ الدِّيَةِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ يُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَاسْتَقَامَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَنُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ بِثُلُثِ سَهْمٍ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْوَاهِبِ ثُلُثَ سَهْمٍ يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ وَثُلُثَا سَهْمٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا صَارَ نَصِيبُ وَارِثِ الْوَاهِبِ خَمْسَةً وَنَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 110 ثَلَاثَةً فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي الْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّلَاثَةَ بِسَهْمٍ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةٍ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةُ آلَافٍ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً وَعَلَى الْوَاهِبِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَشَرَةَ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرَ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَبَطَلَتْ بِالْجِنَايَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ خَمْسَةَ آلَافٍ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ فَاجْعَلْ ذَلِكَ النِّصْفَ كَعَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ سِتَّةُ آلَافٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خُمُسِ الْعَبْدِ وَنَفْدِيهِ بِخُمُسِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِحِصَّةِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ خُمُسَاهُ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ الْقَدْرُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَلَى حِدَةٍ فَيُرَدُّ نِصْفُ ذَلِكَ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِهِ وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَنَفْدِيهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ هُنَا مِثْلُ الْقِيمَةِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ نَنْظُرَ إلَى حِصَّةِ الدَّيْنِ فَنُبْطِلُ الْهِبَةَ بِقَدْرِهِ، ثُمَّ نُجَوِّزُ الْهِبَةَ فِي نِصْفِ الْبَاقِي سَوَاءٌ اخْتَارَ الدَّفْعَ، أَوْ الْفِدَاءَ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ تَرَكَ مَالًا فَإِنَّ التَّرِكَةَ تُضَمُّ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، ثُمَّ تَنْفُذُ الْهِبَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْوَاهِبُ خَمْسَةَ آلَافٍ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَاجْعَلْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَأَجِزْ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ وَأَبْطِلْهَا فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ تَدْفَعُ ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ فَتَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْوَاهِبِ سَهْمًا فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى سَهْمَيْنِ، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، وَمَالُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ تَرَكَ الْوَاهِبُ عَشَرَةَ آلَافٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّك تَجْعَلُ مَالَ الْمَيِّتِ بَعْدَ طَرْحِ سَهْمِ الدَّوْرِ عَلَى سَهْمَيْنِ فَيَكُونُ نِصْفُ مَالِهِ مِثْلَ الْعَبْدِ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّك تَجْعَلُ مَالَ الْمَيِّتِ بَعْدَهُ فَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فَاسْتَقَامَ وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْعَبْدُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ بَاعَهُ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلدِّيَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهُوَ مُسْتَهْلِكٌ لِلْعَبْدِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مُخْتَارًا لِلْعَبْدِ خَارِجًا مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مُسْتَهْلِكًا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَثُلُثَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مَالُ الْمَيِّتِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَهُوَ ثُلُثَا الْعَبْدِ فَيَغْرَمُ ثُلُثَ الْقِيمَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 111 لِتَعَذُّرِ بَعْضِ الْهِبَةِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ بِتَصَرُّفِهِ وَجَمِيعِ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ. فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَلَى مَا خَرَّجْنَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ تُضَمُّ الدِّيَةُ إلَى الرَّقَبَةِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ لَهُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا فَإِنَّ الدِّيَةَ تُضَمُّ إلَى الرَّقَبَةِ فَيَصِيرُ مَالُ الْوَاهِبِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَيَغْرَمُ مَا بَقِيَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيُسَلِّمُ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ مَعَ الدِّيَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ لَوْ كَانَ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مَالُ الْوَاهِبِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا غَيْرَ عَشَرَةٍ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْقَتْلُ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً فَهُوَ سَوَاءٌ وَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَبِالْمَوْتِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَيَبْقَى حُكْمُ الْهِبَةِ فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَغْرَمَ ثُلْثَيْ قِيمَتِهِ. وَلَوْ أَنَّهُ قَتَلَ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَلَمْ يَقْتُلْ الْوَاهِبَ فَإِنَّ جِنَايَتَهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مَالِكِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْوَاهِبَ وَالْمَوْهُوبَ لَهُ جَمِيعًا فَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ هَدَرٌ وَعَلَى الْوَاهِبِ مُعْتَبَرَةٌ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ إلَّا عَلَى الْوَاهِبِ فَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ يُخَيَّرُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا وَهَبَ عَبْدَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ وَرَجُلًا أَجْنَبِيًّا قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعْ الْعَبْدَ إلَيْهِمَا، أَوْ افْدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ الْخُمُسَيْنِ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ وَوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ إلَيْهِمَا فَيَقَعُ فِيهِ الْكَسْرُ فَيُجْعَلُ عَلَى الْعَبْدِ سِتَّةٌ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ بِسَهْمٍ فَتَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ سَهْمًا فَيَصِيرُ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ وَتُبْطِلُهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ ادْفَعُوا الثَّلَاثَةَ الْأَسْهُمَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا فُسِخَتْ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ صَارَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الْوَاهِبِ هَدَرًا وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرَةً. فَإِذَا دَفَعَ الْوَرَثَةُ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ فَدَوْا رَجَعُوا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَسْهُمِ قَدْ تَلِفَتْ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي ضَمَانِهِ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يَفْدِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِلْوَاهِبِ وَالدَّفْعَ إلَى الْآخَرِ، وَإِنْ قَالَ أَنَا أَدْفَعُ إلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 112 وَرَثَةِ الْوَاهِبِ وَأَفْدِي لِوَرَثَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي خَمْسَةٍ وَتَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَاصِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ إلَيْهِمَا أَوْ الْفِدَاءَ لِلْوَاهِبِ وَالدَّفْعَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَيْهِمَا، أَوْ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ إلَى الْوَاهِبِ خَاصَّةً جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خُمُسَيْهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ إلَيْهِمَا وَلِلْوَاهِبِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ بِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ فِي مَالِ الْوَاهِبِ عَلَى وَجْهِ تَخْرِيجِ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لَهُمَا وَقِيمَتُهُ سِتَّةُ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ رُبْعَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَفْدِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْوَاهِبَ وَلَمْ يَقْتُلْ الْأَجْنَبِيَّ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ. فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ الْأَجْنَبِيَّ مَعَهُ لِأَنَّ بِحُكْمِ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَتَغَيَّرُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِقْدَارُ مَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ. فَإِذَا جَازَتْ الْهِبَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَدَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَيَرُدُّ الْهِبَةَ فِي رُبْعِ الْعَبْدِ فَيُقَالُ لِوَارِثِ الْوَاهِبِ ادْفَعْ الرُّبْعَ إلَى وَارِثِ الْأَجْنَبِيِّ، أَوْ افْدِهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ يُقَابِلُ ذَلِكَ الرُّبْعَ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مَوْلَاهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الرُّبْعُ إلَّا جِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ فَيَدْفَعُ الْوَارِثُ، أَوْ يَفْدِيهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ. وَلَوْ وَهَبَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ مِنْ رَجُلٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ أَقَلُّ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ وَرَجُلًا أَجْنَبِيًّا قَتَلَا الْوَاهِبَ خَطَأً فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ خَمْسَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نِصْفَ النَّفْسِ بِجِنَايَتِهِ وَيُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ كُلَّهُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُنَا عَشَرَةُ آلَافٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَنِصْفُ الدِّيَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ خَمْسَةُ آلَافٍ فَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْمَيِّتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْمَيِّتِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِهِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ مَالُهُ سَهْمَيْنِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ، وَمَالُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ فَنِصْفُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَجُوزُ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَهُوَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِثْلَ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ أَتْلَفَ بِجِنَايَتِهِ نِصْفَ النَّفْسِ فَيَصِيرُ مَالُ الْمَيِّتِ سِوَى الْعَبْدِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَتَبَيَّنَ خُرُوجُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةَ آلَافٍ فَاخْتَارَ دَفْعَهُ رَدَّ الرُّبْعَ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَدَفَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَنِصْفُ الدِّيَةِ الَّتِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 113 أُخِذَتْ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا اجْعَلْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَاجْبُرْ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ ادْفَعْهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْمَيِّتِ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ سَهْمًا فَيَصِيرُ مَالُهُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي نِصْفِهِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَرَدَّ خُمُسَهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْمَالَ كُلَّهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِهِمْ نِصْفَ سَهْمٍ فَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَذَلِكَ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ كَسْرٌ فَأَضْعِفْهُ فَيَصِيرَ خَمْسَةً، ثُمَّ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خُمُسِ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ لِأَنَّ مَالَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا كُلُّ خُمُسٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخُمُسَاهُ سِتَّةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ سِتَّةُ آلَافٍ، ثُمَّ تَفْدِيهِ بِمِثْلِ نِصْفِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِثْلَيْ مَا نَفَذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ وَيَتَيَسَّرُ تَخَرُّجُهُ عَلَى سَائِرِ الطُّرُقِ أَيْضًا، وَقَدْ تَرَكْنَاهُ كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ وَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا لِرَجُلٍ وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ جَنَى عَلَى الْوَاهِبِ جِنَايَةً خَطَأً فَعَفَا عَنْهَا، ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَاخْتَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ دَفْعَهُ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي خُمُسِهِ وَيَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ جَمَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ فُصُولًا فِي الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ فُصُولًا فِي الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ عَنْ الْجِنَايَةِ فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَمْدًا فَالْعَفْوُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْقِصَاصَ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُ الْهِبَةِ فَيَجُوزُ فِي الثُّلُثِ وَيَبْطُلُ فِي الثُّلُثَيْنِ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ أَيْضًا فَتَصِيرُ وَصِيَّتُهُ سَهْمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَالسَّبِيلُ أَنْ نَجْعَلَ الْعَبْدَ عَلَى خَمْسَةٍ فَتَصِيرُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نُجِيزُ الْعَفْوَ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ أَيْضًا وَنُبْطِلُ الْهِبَةَ فِي أَرْبَعَةٍ فَقَدْ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ فَصَارَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي الْحُكْم سَهْمَانِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ أَنْ نَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَنُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الدِّينَارِ، ثُمَّ نُجِيزُ الْعَفْوَ فِي ذَلِكَ الدِّينَارِ وَنُبْطِلُ الْهِبَةَ فِي الدِّرْهَمِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي الدِّينَارَيْنِ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَالدِّرْهَمَ أَرْبَعَةً وَالدِّينَارَ وَاحِدًا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي الدِّينَارِ، وَذَلِكَ خُمُسُ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ السَّبِيلُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 114 أَنْ نُجِيزَ الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ نُجِيزُ الْعَفْوَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَنُبْطِلُهُ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا فَصَارَ لِلْوَرَثَةِ مَالٌ إلَّا شَيْئًا يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ وَبَعْدَ الْجَبْرِ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَهُوَ خُمُسُهُ وَيَدْفَعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَيَفْدِي ثَلَاثَةً بِثُلُثِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَا الْهِبَةُ وَكَانَ الْعَبْدُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَجَنَى عَلَى الْمَرِيضِ وَعَفَا عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِسُدُسِ الدِّيَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيِّنَاهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الْقِيمَةِ فَيُضَمُّ إلَى الدِّيَةِ فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ يُفْدَى مَا بِإِزَاءِ الضِّعْفِ، وَذَلِكَ السُّدُسُ بِسُدُسِ الدِّيَةِ فَهُنَا لَمَّا كَانَتْ الْهِبَةُ وَالْعَفْوُ جَمِيعًا فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْوَصِيَّتَانِ فَيَجِبُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِضِعْفِ ذَلِكَ السُّدُسِ لِمَكَانِ الْهِبَةِ وَسُدُسٌ لِمَكَانِ الْعَفْوِ فَذَلِكَ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي أَلْفٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ أَلْفٌ بِالْهِبَةِ وَثُلُثَا أَلْفٍ بِالْعَفْوِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ وَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا جَازَ الْعَفْوُ فِي رُبْعِهِ وَدَفَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا هِبَةٌ كَانَ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الدِّيَةِ وَيَضُمُّ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يُدْفَعُ مَا بِإِزَاءِ الضِّعْفِ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ فَلَمَّا وُجِدَتْ الْهِبَةُ هُنَا فَالسَّبِيلُ أَنْ يُوضَعَ مِثْلَا قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا عَلَى ذَلِكَ فَيَصِيرُ ثَمَانِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَدْفَعُ حِصَّةَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ وَحِصَّةَ ضِعْفِ الدِّيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَيَحْصُلُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ رُبْعُ الْعَبْدِ بِالْهِبَةِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَفِيهِ مِنْ الْجِنَايَةِ الَّتِي جَازَ فِيهِ الْعَفْوُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ فَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ فِيهِ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَتُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الدِّينَارِ، ثُمَّ الْعَفْوُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ الدِّينَارِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِثْلُ نِصْفِ الْعَبْدِ وَتُبْطِلُ الْهِبَةَ فِي الدِّرْهَمِ فَيَصِيرُ مَعَ الْوَرَثَةِ دِرْهَمٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ كَانَ فِي الدِّينَارِ وَنِصْفُ الدِّينَارِ لِلْهِبَةِ وَالنِّصْفُ لِلْعَفْوِ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا دِينَارًا وَدِرْهَمًا فَالدِّينَارُ وَاحِدٌ وَالدِّرْهَمُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ أَجَزْنَا الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تُجِيزُ الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ الْعَفْوُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَتُبْطِلُ الْهِبَةَ فِي مَالٍ إلَّا شَيْئًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَبَعْدَ الْجَبْرِ الْمَالُ يَعْدِلُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ فَذَلِكَ رُبْعُ الْعَبْدِ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ تُضَعِّفَ الدِّيَةَ وَهِيَ عِشْرُونَ أَلْفًا وَالْقِيمَةُ وَهِيَ سِتُّونَ أَلْفًا تَضُمُّهَا إلَى الْقِيمَةِ أَيْضًا فَتَصِيرُ مِائَةَ أَلْفٍ وَعَشَرَةً فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ وَضِعْفِ الدِّيَةِ يَدْفَعْهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 115 وَذَلِكَ ثَمَانُونَ أَلْفًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ وَسَلَّمَ لَهُ مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ خَمْسَةَ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَبْعَةٍ لِأَنَّا نَأْخُذُ ضِعْفَ الدِّيَةِ فَنَضُمُّهُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ سِتِّينَ أَلْفًا، ثُمَّ نَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ الْقِيمَةِ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ ضِعْفِ الْقِيمَةِ وَضِعْفِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ مِائَةُ أَلْفٍ يَدْفَعْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ الْعَبْدِ كُلُّ سُبْعٍ عِشْرُونَ أَلْفًا، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سُبْعَيْنِ وَالْعَفْوَ فِي نِصْفِ سُبْعٍ فَيَحْصُلُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا الْعَفْوُ لَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَيَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْهِبَةُ وَكَانَ الْعَفْوُ بِانْفِرَادِهِ فَكَانَ يُؤْخَذُ ضِعْفُ الْقِيمَةِ وَيُضَمُّ إلَى الدِّيَةِ، ثُمَّ يُفْدَى حِصَّةُ الضِّعْفِ وَهُوَ السُّدُسُ. فَإِذَا اجْتَمَعَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَفْدِيَ الْهِبَةَ بِسُدُسِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ الْفِدَاءُ كُلُّهُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِالْعَفْوِ. فَإِذَا فَدَاهُ بِالثُّلُثِ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَحَصَلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ بِالْهِبَةِ وَثُلُثَاهُ بِالْعَفْوِ وَهُوَ نِصْفُ مَا حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، ثُمَّ تُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَتَبَيَّنُ مَا لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ تُجِيزُ الْعَفْوَ فِي الدِّينَارِ وَتُبْطِلُهُ فِي الدِّرْهَمِ فَتَفْدِي الدِّرْهَمَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ تَعْدِلُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَقُلْ قَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَالدِّرْهَمَ أَرْبَعَةً وَالدِّينَارَ ثَمَانِيَةً فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي الدِّرْهَمِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ فَدَاهُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ مَا دَامَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّا نَجْعَلُ الْعَفْوَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَنَعْتَبِرُ الْهِبَةَ خَاصَّةً فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَوْ أَجَزْنَا شَيْئًا مِنْ الْعَفْوِ بِنَقْصِ الْفِدَاءِ وَبِاعْتِبَارِهِ تَنْتَقِصُ الْهِبَةُ. وَإِذَا انْتَقَصَتْ الْهِبَةُ انْتَقَصَ مَالُهُ فَلِهَذَا أَبْطَلْنَا حُكْمَ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ. أَوْ نَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ هِبَةٌ لَكَانَ يَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ يُفْدَى بِمِقْدَارِ الضِّعْفِ وَهُوَ النِّصْفُ. فَإِذَا كَانَ هُنَا هِبَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُفْدَى بِمِثْلِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَلَوْ وَهَبَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ لِرَجُلٍ فَقَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا قِيلَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهُ رَدَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَيَدْفَعُ أَحَدَ الْخُمُسَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْخُمُسَ وَيَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا يَضْرِبُ فِيهَا الَّذِي لَمْ يَعْفُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 116 بِسَبْعَةٍ وَاَلَّذِي عَفَا بِخَمْسَةٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ حُكْمٌ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَبَيْنَ الْوَارِثَيْنِ وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ الْوَارِثَيْنِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ الْعَبْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَتُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ وَتُبْطِلُهَا فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يُدْفَعُ نِصْفُ ذَلِكَ السَّهْمِ بِالْجِنَايَةِ فَوَقَعَ فِيهِ كَسْرٌ فَضَعِّفْهُ فَيَصِيرُ سِتَّةً، ثُمَّ تُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ وَتُبْطِلُهَا فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَدْفَعُ سَهْمًا وَاحِدًا بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ عَفَا أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ حَقُّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ. فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ زَادَ مَالُ الْمَيِّتِ فَتَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ سَهْمًا فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ تُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ وَتُبْطِلُهَا فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ تَدْفَعُ سَهْمًا بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ بَيْنَ الْوَارِثَيْنِ فَنَقُولُ التَّرِكَةُ تُقَسَّمُ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا تُقَسَّمُ إنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ السَّهْمُ الْمَدْفُوعُ بِالْجِنَايَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَاصَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ السَّهْمَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَصِيرُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ وَلِلَّذِي عَفَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَضَعِّفْهُ فَيَصِيرَ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَنَصِيبُ الَّذِي عَفَا خَمْسَةً فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَيَسْتَقِيمُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا قَدْ أَوْرَدَهَا فِي الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُفْدَى بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ صَارَ سِتَّةَ آلَافٍ فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُقَسَّمُ الْخَمْسَةُ آلَافٍ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ أَحَدَ عَشَرَ وَلِلْعَافِي سَهْمٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا وَصِيَّةٌ لَكَانَتْ الْخَمْسَةُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَاصَّةً وَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي الْبَاقِي بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْعَافِي بِخَمْسِمِائَةٍ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ خَمْسِمِائَةِ سَهْمًا يَصِيرُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ إذَا فَدَاهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ صَارَ مَالُ الْمَيِّتِ سَبْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَكُونُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ مِقْدَارَ ثُلُثِ مَالِهِ فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِهِ وَيَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ الْخَمْسَةَ آلَافٍ يَضْرِبُ فِيهَا الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْعَافِي بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ رَدَّ رُبْعَ الْعَبْدِ وَصَارَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيَفْدِيهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَنُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمٍ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ السَّهْمَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ هَكَذَا فَمِقْدَارُ مَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْدِيَهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْمَيِّتِ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ سَهْمًا وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَيَبْقَى مِنْ نَصِيبِهِمْ ثُلُثُ سَهْمٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 117 وَمِنْ نَصِيبِ الْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمٌ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا صَارَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَقَدْ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَطَلَتْ فِي سَهْمٍ فَيَفْدِي تِلْكَ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِهَا وَمِثْلِ ثُلُثَيْهَا فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ مِثْلُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ ذَلِكَ الِاثْنَانِ بَيْنَهُمَا فَيَضْرِبُ فِيهِ الَّذِي عَفَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْآخَرُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَنَجْعَلُ رُبْعَ الْعَبْدِ سَهْمًا فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ نِصْفَيْنِ يَحْتَسِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالَيْنِ يَخْتَلِفُ فَلَا يَتَأَتَّى قِسْمَةُ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَمَا كَانَ أَصْلُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَا هِبَةٌ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ طَرِيقًا آخَرَ قَالَ السَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، ثُمَّ نَفْدِي تِلْكَ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِهَا وَمِثْلِ ثُلُثَيْهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَتَظْهَرُ الزِّيَادَةُ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ بِخَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ نَطْرَحَ مِنْ نَصِيبِهِمْ خَمْسَةً فَيَصِيرُ الْعَبْدُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِلْوَرَثَةِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ نَفْدِي تِلْكَ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِهَا وَمِثْلِ ثُلُثَيْهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَصِيرُ سِتَّةً مِثْلَيْ مَا نَفَذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا عَنْهُ الْوَلِيَّانِ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَرُدُّ نِصْفَ الْعَبْدِ وَيَجُوزُ لَهُ النِّصْفُ. وَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْفُ كَانَ كَمْ يَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَكَمْ يَدْفَعُ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ فَمِقْدَارُ مَا كَانَ يَدْفَعُ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ يَرُدُّ بَعْضَ الْعَفْوِ وَمِقْدَارُ مَا كَانَ يَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ يُسَلَّمُ لَهُ لِأَنَّهُمَا لَمَّا عَفَوَا فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُ الْهِبَةِ فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ لَكَانَ يَدْفَعُ جَمِيعَ الْعَبْدِ نِصْفُهُ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ فَلَمَّا بَطَلَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِالْعَفْوِ رُدَّ النِّصْفُ بِحُكْمِ نَقْصِ الْهِبَةِ وَيُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ النِّصْفُ وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ عَبْدٍ وَنِصْفٍ وَيُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُ عَبْدٍ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْحُكْمِ عَبْدٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُمْ اسْتَهْلَكُوا نِصْفَهُ بِالْعَفْوِ وَلَوْ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ عَبْدًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَعَفَا عَنْهُ الْأَوْلِيَاءُ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَرُدُّ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَيَجُوزُ لَهُ الثُّلُثُ وَالْجِنَايَةُ عَلَى عَبْدِهِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى عَبْدِ مَالِكِهِ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِ مَالِكِهِ خَطَأً تَكُونُ هَدَرًا. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا الَّذِي جَنَى وَالْآخَرُ الَّذِي وَهَبَ فَإِنَّ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِهِمْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَيَرُدُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ وَسَلِمَ لَهُ النِّصْفُ هَكَذَا قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 118 قَالَ يَرُدُّ ثُلُثَ الْعَبْدِ وَسَلِمَ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَتَفْسِيرُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ إنَّ عَبْدًا آخَرَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ جَنَى عَلَى الْوَاهِبِ، ثُمَّ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ عَبْدَيْنِ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ فَلَمَّا عَفَا الْأَوْلِيَاءُ صَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا وَحَصَلَ لِلْمَيِّتِ عَبْدَانِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الثُّلُثِ وَهُوَ ثُلُثَا عَبْدٍ فَتَبْطُلُ فِي ثُلُثِ عَبْدٍ فَيَرُدُّ الثُّلُثَ وَيَجْعَلُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَا هَذَا الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ الَّذِي سَلِمَ لَهُمْ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُمْ عَبْدٌ وَثُلُثٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. فَظَهَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ يَرُدُّ ثُلُثَ الْعَبْدِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ كَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهُ حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَفْوِ فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ لَكَانَ يُسَلَّمُ لَهُ الْخُمُسَانِ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِخُمُسَيْ الدِّيَةِ لِأَنَّا نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ بِخُمُسَيْ الدِّيَةِ لِأَنَّا نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ الثُّلُثَ بِمِثْلِ نِصْفِهِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ وَنَفْدِيهِ بِسَهْمٍ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِهِمْ سَهْمًا وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمَانِ فَصَارَ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ، وَقَدْ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَصَيَّرَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَهُوَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا أَيْضًا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنْ نَجْعَلَ كُلَّ أَلْفٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْقِيمَةُ سِتِّينَ وَالدِّيَةُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي الثُّلُثِ وَهُوَ عِشْرُونَ سَهْمًا، ثُمَّ نَفْدِي ذَلِكَ بِعَشَرَةٍ وَهُوَ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ عَشَرَةٌ فَصَارَ الْعَبْدُ خَمْسِينَ سَهْمًا، وَقَدْ أَجَزْنَا الْوَصِيَّةَ فِي عِشْرِينَ، وَذَلِكَ خُمُسَا الْعَبْدِ. وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مِقْدَارَهُ بِالدِّرْهَمِ فَقُلْ قَدْ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ لِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ تَفْدِي الْوَرَثَةُ ذَلِكَ بِخُمُسَيْ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا وَهُوَ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ. فَإِذَا عَفَوَا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ لِأَنَّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ الْفِدَاءِ كَأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ إذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى مَا قَبَضُوا يَتَبَيَّنُ أَنَّ السَّالِمَ لَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا وَإِذَا وَهَبَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ لِرَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ادْفَعْ نِصْفَهُ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ، أَوْ افْدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ نِصْفَهُ وَإِلَى الْعَافِي رُبْعَهُ وَيَبْقَى لَهُ الرُّبْعُ لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَعْفُوَا كَانَ يَدْفَعُ جَمِيعَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا نِصْفُهُ بِالْجِنَايَةِ وَنِصْفُهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ، وَلَوْ عَفَوَا لَكَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا نِصْفَهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ شَيْئًا فَلَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 119 وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ نِصْفَهُ رُبْعُهُ بِالْجِنَايَةِ وَرُبْعُهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَعْفُوَا وَيَدْفَعُ إلَى الْعَافِي رُبْعَهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَفَوَا فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَسَلِمَ لَهُ الْعَبْدُ كُلُّهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْرَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَعْفُوَا لَكَانَ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُسَلَّمُ لَهُ كُلُّهُ بِالْهِبَةِ فَلَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْجِنَايَةِ وَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فَيَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ قَدْرَ ثُلُثِ الدِّيَةِ فَمَالُ الْمَيِّتِ فِي الْحَاصِلِ عَشَرَةُ آلَافٍ فَإِنَّ الْفِدَاءَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَافِي نِصْفَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثُلُثَا أَلْفٍ فَكَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثٌ، وَفِي يَدِ الْوَرَثَةِ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثَانِ فَلِهَذَا سَلِمَ الْعَبْدُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَمَّا حُكْمُ الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أَنْ نَقُولَ يَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِالْفِدَاءِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْعَافِي يَضْرِبُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعَفْوِ لِأَنَّا جَعَلْنَا مَالَ الْمَيِّتِ الْفِدَاءَ وَهُوَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَعَبْدًا بِالْهِبَةِ وَهُوَ بَيْنَهُمَا وَنِصْفَ عَبْدٍ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْآخَرُ بِالْعَفْوِ فَيَضْرِبُ هُوَ بِهِ كَمَا يَضْرِبُ الْآخَرُ بِالْفِدَاءِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَقَدْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَاجْعَلْ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْآخَرَ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيُجْمَعُ إلَى نِصْفِ الدِّيَةِ فَيَصِيرُ سِتَّةَ آلَافٍ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى حِسَابِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ، وَذَلِكَ عَبْدٌ بِالْمِيرَاثِ وَنِصْفُ عَبْدٍ وَنِصْفُ الدِّيَةِ بِالْجِنَايَةِ فَيَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَبِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ آلَافٍ فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا وَالْآخَرُ يَضْرِبُ بِنِصْفَيْ عَبْدٍ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ فَيَكُونُ الْكُلُّ ثَمَانِيَةً نَصِيبُ الْعَافِي مِنْ ذَلِكَ رُبْعُ سِتَّةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِالْعَفْوِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ فَيَأْخُذُ مِنْ الْفِدَاءِ خَمْسَمِائَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةٍ وَيَرُدُّ ثُلُثَ الْعَبْدِ إلَى الْوَارِثِينَ، ثُمَّ يَفْدِي لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُنَا لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ حِينَ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثُلُثَ أَلْفٍ اسْتَوَى الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِدَاءِ. فَإِذَا جَاوَزَتْ قِيمَتُهُ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْآخَرِ فِيهِ وَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ الْعَبْدَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ وَتَبْطُلُ فِي سَهْمَيْنِ وَيُفْدَى السَّهْمُ الَّذِي جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ بِمِثْلَيْهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضِعْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ جَازَ الْعَفْوُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ السَّهْمِ فَيُفْدَى النِّصْفُ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ عَلَى سِتَّةٍ لِأَنَّ الثُّلُثَ انْقَسَمَ عَلَى نِصْفَيْنِ، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ وَنَفْدِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 120 أَحَدَهُمَا بِمِثْلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْعَبْدِ وَسَهْمَانِ مِنْ الدِّيَةِ، وَفِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ سَبْعَةٌ فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ اسْتَهْلَكَ سَهْمًا وَاحِدًا وَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَقَدْ ازْدَادَ مَالُ الْمَيِّتِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى أَرْبَعَةٍ لَمَّا نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَنَطْرَحُهَا مِنْ نَصِيبِهِمْ يَبْقَى فِي أَيْدِيهِمْ سَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ وَسَهْمَانِ مِنْ الدِّيَةِ وَسَهْمٌ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْعَافِي فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي سَهْمَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْعَبْدَ صَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا بَطَلَتْ فِي ثُلُثِهِ وَصَحَّتْ فِي ثُلُثَيْهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيُفْدَى الثُّلُث بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ أَيْضًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَثُلُثَا أَلْفٍ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَافِي ثُلُثَيْ أَلْفٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ سِتَّةُ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَأَمَّا بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَ الْوَارِثَيْنِ وَهُوَ أَنْ يُقَسَّمَ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَثُلُثُ الْعَبْدِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ الْعَافِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَثُلُثِ الْقِيمَةِ أَيْضًا وَيَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْعَافِي فِي مَالِ الْمَيِّتِ هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي تَرَكَهُ الْمَيِّتُ وَنِصْفُ الْعَبْدِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَلَمْ يَجِبْ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَضْرِبْ هُوَ بِشَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ نِصْفَ الدِّيَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَنِصْفُ الْعَبْدَ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ الْعَافِي تِسْعَةً وَنِصْفًا، ثُمَّ نُجِيزُ الْهِبَةَ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ صَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا. فَإِذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي خَمْسَةِ يُفْدَى ذَلِكَ بِعَشَرَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضِعْفُ الْقِيمَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَرَثَةِ بِخَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَافِي نِصْفَ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ وَهُوَ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا يَبْقَى مِنْ نَصِيبِهِمْ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ وَنَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ خَمْسَةٌ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ سَهْمًا يَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ وَتَبْطُلُ فِي ثُلُثَيْهِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لِرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ فَدَفَعَ نِصْفَهُ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ، وَلَا مَالَ لِلْمَوْلَى رَجَعَ الْغَائِبُ عَلَى الْقَابِضِ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ النِّصْفُ لَهُ إذَا سَلِمَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِشَرِيكِهِ وَلَمْ يُسَلَّمْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى لِلْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي كَانَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ فَتَبْطُلُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَحُكْمُ ضَمَانِ الْمَوْلَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَصَحُّ أَنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 121 يُقَالَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلْغَائِبِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى فَدَى النِّصْفَ مِنْ الشَّاهِدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَالْآخَرُ غَائِبٌ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ نِصْفَ الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَأْخُذَانِ مِنْ الْمَوْلَى نِصْفَ الدِّيَةِ أَيْضًا فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّ النَّفْسَ وَاحِدَةٌ فَأَيُّهُمَا حَضَرَ فَهُوَ خَصْمٌ عَنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَيُجْعَلُ اخْتِيَارُ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ بِحَضْرَةِ أَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ بِحَضْرَتِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى. وَلَوْ فَدَى مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدَ فَأَخَذَ السَّيِّدُ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ نِصْفَ الْقِيمَةِ إلَى الْغَائِبِ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْلَمْ بِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فِي الظَّاهِرِ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ اخْتِيَارَهُ الْفِدَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارٌ مِنْ الْآخَرِ وَتَجِبُ لَهُمَا جَمِيعُ الدِّيَةِ، ثُمَّ قَالَ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا فَدَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ نِصْفَ الْقِيمَةِ إلَى الْغَائِبِ فَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الدِّيَةِ. فَأَمَّا أَنْ تُحْمَلَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا هُوَ فِي اخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ الدَّفْعَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا هَلْ يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فِيهِ رِوَايَتَانِ بَيَّنَّاهُمَا فِي الصُّلْحِ وَالْجَامِعِ، أَوْ يُقَال فَرَّقَ بَيْنَ قَتْلِ الْعَبْدِ وَمَوْتِهِ كَأَنَّهُ إذَا مَاتَ فَلَمْ يُوجَد هُنَا شَيْءٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَيَجْعَلُ حَقَّهُمَا مُتَحَوِّلًا إلَى الدِّيَةِ. فَأَمَّا إذَا قَتَلَ فَقَدْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْقَاتِلِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَبْدِ فَيَتَحَوَّلُ مِنْ الْآخَرِ إلَى الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ حَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَحَقُّ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ، أَوْ يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدِّيَةِ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَوْ دَفَعَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ اخْتِيَارَ دَفْعِ النِّصْفِ إلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ ذَكَرَ أَنَّ اخْتِيَارَهُ دَفْعَ ثُلُثِ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَر، وَقَدْ وَفَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالُوا مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ الْمُصَالَحَةَ تَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا اخْتِيَارُ الدَّفْعِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا. فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ دَفْعَ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ، وَلَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْجَوَابَ سِوَاهُ، وَأَنَّ اخْتِيَارَ دَفْعِ النِّصْفِ إلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلدَّفْعِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَقُولُ دَفْعُ النِّصْفِ إلَى أَحَدِهِمَا اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ وَالْحَقُّ فِي الْحَاصِلِ لِلْمَيِّتِ فَهُمْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 122 جَمِيعًا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ فَيَكُون اخْتِيَارُهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَلِيَّيْنِ فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَيُجْعَلُ هَذَا فِي الْحُكْمِ كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى شَخْصَيْنِ فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُ الدَّفْعِ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلدَّفْعِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ. فَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ إلَّا أَنْ يَشَاء صَاحِبُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدَانِ كَانَ مُسْتَهْلِكًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ مَذْهَبَهُمَا إذَا كَانَ مُعْسِرًا كَانَ اخْتِيَارُهُ بَاطِلًا وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ الْآخَر ضَامِنًا لَهُ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَهُوَ رُبْعُ قِيمَةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُعْطِيَهُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتِيَارُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْآخَرِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى يُطَالِبُهُ بِهِ إذَا أَيْسَرَ وَلَا سَبِيل عَلَى شَرِيكِهِ. وَلَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ دَفَعَهُ كُلَّهُ خُمُسُهُ بِالْجِنَايَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بِنَقْضِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي سُدُسِ الْعَبْدِ وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ بِالسُّدُسِ أَيْضًا فَإِنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ السَّهْمَ الَّذِي جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَحَاجَتُهُمْ إلَى أَرْبَعَةٍ فَظَهَرَتْ الزِّيَادَةُ فِي نَصِيبِهِمْ سَهْمٌ وَهُوَ السَّهْمُ الدَّائِرُ فَيُطْرَحُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ يَبْقَى حَقُّهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ خَمْسَةً بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ وَيَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَرِيضَ مَاتَ عَنْ عَبْدٍ وَخُمُسِ عَبْدٍ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْعَبْدِ وَبِثُلُثِ خُمُسِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي الْحُكْمِ إنَّمَا تَرَكَ عَبْدًا وَخُمُسًا فَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا أَنَّ الْمُوصَى لَهُ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْرِبُ إلَّا بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ فَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَرَفْنَا أَنَّ الْجَوَابَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِجَمِيعِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ فَإِنَّ مَالَهُ فِي الْحَاصِلِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا الدِّيَةُ وَالْعَبْدُ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ فَيَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، ثُمَّ يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الدِّيَةِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 123 وَثُلُثُ مَالِهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ، وَقَدْ سَلِمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِقْدَارُ أَلْفٍ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الدِّيَةِ أَلْفَيْنِ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ وَيُسَلَّمُ لِلْوَرَثَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَثُلُثَيْ أَلْفٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَالْجَوَابُ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَالَ الْمَيِّتِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَيَكُونُ ثُلُثُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ لَمْ تَزِدْ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَيُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَلِلْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُوصًى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَالْآخَرُ مُوصًى لَهُ بِالْعَبْدِ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَكَيْفُ يُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَحَقُّ أَحَدِهِمَا ضِعْفُ حَقِّ الْآخَرِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْقُصْ حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ احْتَاجَ إلَى نَقْصِ الْهِبَةِ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ وَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَنْقُصُ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْفِدَاءِ بِقَدْرِ مَا تَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ. فَأَمَّا مَا تَنْتَقِصُ فِيهِ الْهِبَةُ مِنْ الْعَبْدِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ. وَإِذَا انْتَقَصَ الْفِدَاءُ انْتَقَصَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَبْقَ هُنَا وَجْهٌ سِوَى تَصْحِيحِ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لِيَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَحُكِيَ أَنَّ ابْنِ جَمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَتَبَ إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ كَانَ بِالرَّقَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخْرُجُ عَلَى الْأُصُولِ الْمَعْرُوفَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ كَمَا قُلْت، وَإِنَّمَا لَمْ نَعْرِفْ حِسَابًا يَتَبَيَّنُ لَنَا بِهِ قَدْرَ مَالِ الْمَيِّتِ فَإِنَّا كُلَّمَا نَقَصْنَا الْهِبَةَ فِي شَيْءٍ انْتَقَصَ مَالُ الْمَيِّتِ بِقَدْرِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَك ذَلِكَ الْحِسَابُ فَمُنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَيَدْفَعُ الْخُمُسَ بِالْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خُمُسُ الْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الطَّرِيقَ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنْ قَالَ أَنَا أَفْدِي وَقِيمَةُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ رَدَّ خَمْسَة أَثْمَانِهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَفَدَى ثَلَاثَةَ أَثْمَانِهِ بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الْعَبْدِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَفْدِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَصَارَ مَالُ الْمَيِّتِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَثُلُثُ مَالِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ. فَإِذَا جَوَّزْنَا الْهِبَةَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَلْفٌ وَثُلُثٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَصِيَّةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِهِ قُلْنَا السَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مَا تَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ أَنْ تَقُولَ الْهِبَةُ يَكُونُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 124 وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ وَهُوَ نِصْفُ الثُّلُثِ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ السَّهْمُ بِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ وَمِثْلِ ثُلُثِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْقِيمَةِ هَكَذَا فَإِنَّ الْقِيمَةَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَالدِّيَةَ عَشَرَةُ آلَافٍ. فَإِذَا فَدَاهُ بِذَلِكَ ازْدَادَ مَالُ الْمَيِّتِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثٍ. فَالسَّبِيلُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثٌ يَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَحَقُّ الْوَرَثَةِ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَلِهَذَا جَازَتْ الْهِبَةُ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافِ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَمِنْ حَيْثُ السِّهَامُ إنَّمَا يَفْدِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِعَشَرَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةٌ أَمْثَالِهِ وَمِثْلُ ثُلُثِهِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثُلُثِهِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يَقُولُ يُجْعَلُ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَتَكُونُ الدِّيَةُ ثُلُثَيْنِ وَالْعَبْدُ تِسْعَةً، ثُمَّ يَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْهِبَةُ فِي سُدُسِ الْعَبْدِ فَيَفْدِيهِ بِسُدُسِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَيَزْدَادُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ. فَالسَّبِيلُ أَنْ يُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِهِمَا خَمْسَةٌ يَبْقَى لَهُمَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ لِأَنَّ سِهَامَ الْعَبْدِ تِسْعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إذَا طَرَحْت مِنْهُ خَمْسَةً يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَأَضْعِفْهُ فَيَصِيرُ حَقُّهُمَا خَمْسَةً وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثَلَاثَةً فَلِهَذَا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ يَفْدِي ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَثْمَانِ الدِّيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِثْلَ مَا سَلِمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنْ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا تَصِيرُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ أَوْصَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالسُّدُسِ مِنْ مَالِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ خَمْسَةَ أَسْبَاعِهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَسُبُعَيْهِ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِثْلَا وَصِيَّةِ صَاحِبِ السُّدُسِ فَإِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْعَبْدِ كُلِّهِ بِالْهِبَةِ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ تَجُوزُ فِي ثُلُثِهِ فَوَصِيَّةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ السُّدُسُ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَإِذَا صَارَ ثُلُثُ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ تِسْعَةٌ سِتَّةٌ لِلْوَرَثَةِ وَسَهْمَانِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَهْمَهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِهِمْ سَهْمَانِ فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ عَلَى سَبْعَةٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَهْمَانِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 125 وَلِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَهْمَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ثُلُثَيْ الثُّلُثِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ فَيُسَلَّمُ لَهُ الْعَبْدُ كُلُّهُ وَيُسَلَّمُ لِلْآخَرِ سُدُسُ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَحَصَلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي أَلْفَيْنِ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ مَالُ الْمَيِّتِ يَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَثُلُثُهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرُ سُدُسُ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ وَهُوَ تَمَامُ ثُلُثِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْنِ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِقْدَارَ سُبُعَيْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ فَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْخُمُسِ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ خُمُسِ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ فَهُنَا لَمَّا جَازَتْ الْهِبَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ فِي سُبُعَيْ الدِّيَةِ فَعِنْدَ الْفِدَاءِ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ سُبُعَيْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا يُنْظَرُ إلَى حَالِ الدَّفْعِ فَمِقْدَارُ مَا تَجُوزُ فِيهِ الْهِبَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ فَعِنْدَ الْفِدَاءِ إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ تَجُوزُ فِي الْكُلِّ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الدَّفْعِ يَدْفَعُ سُدُسَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ فَعِنْدَ الْفِدَاءِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مِثْلَ سُدُسِ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِرُبْعِ مَالِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَضْرِبُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ وَالْآخَرَ يَضْرِبُ بِالرُّبْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْعٌ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ثُلُثُهُ أَرْبَعَةٌ وَرُبْعُهُ ثَلَاثَةٌ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْمَالُ كُلُّهُ أَحَدً وَعِشْرُونَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَرْبَعَةَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْمَيِّتِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ عَشَرَةً وَلِلْمُوصَى لَهُمَا سَبْعَةٌ فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْأَرْبَعَةَ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالْآخَرُ بِالرُّبْعِ وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَالْمَالُ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ فِي الْكِتَابِ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 126 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَكَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي الْكُلِّ وَيَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ الْأَقَلُّ مِنْ رُبْعِ جَمِيعِ الْعَبْدِ كُلِّهِ بِالْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي كُلِّهِ صَارَ نَصِيبَهُ فَيَجِبُ أَنْ يُقَسَّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحِسَابِ الَّذِي قُلْنَا إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يُفْدَى ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ نِصْفِهِ فَالدِّيَةُ مِنْ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ وَقَبَضَهُ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَيَأْخُذُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ الْمُعْتِقِ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ، أَوْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَقَبْلَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَالْعَفْوِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ حُكْمَانِ حُكْمٌ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ الْوَارِثَيْنِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا وَالْعِتْقُ قَبْلَ الْقَتْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَهُوَ حُرٌّ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَمْسَةُ آلَافٍ وَالْعَبْدُ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَمَالُ الْمَيِّتِ سِتَّةُ آلَافٍ، ثُمَّ يُقَسَّمُ نِصْفُ الدِّيَةِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ أَحَد عَشَرَ وَلِلْعَافِي سَهْمٌ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا يُقَسَّمُ إنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْءٌ أَيْضًا لِأَنَّ التَّرِكَةَ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا فَالْأَلْفُ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ خَمْسَةُ آلَافٍ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ آلَافٍ بِالْقَتْلِ فَلَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا صَارَ مُسْتَهْلِكًا نَصِيبه فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَوْفِي بِخِلَافِ قَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّ هُنَاكَ بِالْعَفْوِ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا، وَلَا مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ صَارَ مَالًا بَعْدَ مَا صَارَ حُرًّا، وَلَكِنَّ أَصْلَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ كَانَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مِنْ الْقِيمَةِ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيهِ الْآخَرُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِذَا اسْتَسْعَاهُ فِي ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ عَبْدٌ وَنِصْفٌ فَيَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ الْقِيمَةِ. فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ كَانَ الْوَاصِلُ إلَيْهِمْ تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ هَذِهِ الْقِيمَةَ فَيَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 127 بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَجَبَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ وَنِصْفَ الْقِيمَةِ وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ وَيَضْرِبُ الْعَافِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الْجِنَايَةِ بِالْعَفْوِ فَتُقَسَّمُ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ قِيمَةٌ وَثُلُثٌ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يُوجِبُ الْمَالَ، وَقَدْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ بِالْعِتْقِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَصَارَ كَأَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ عَبْدَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَقِيمَةٌ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ ثُلُثُ الْقِيمَةِ وَيَدْفَعُ قِيمَةً وَثُلُثًا إلَى الْوَرَثَةِ حَتَّى يَصِيرَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي النِّصْفِ فَسَقَطَ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْقِيمَةِ لِأَنَّا إذَا أَسْقَطْنَا عَنْ قِيمَةٍ وَثُلُثِ نِصْفِ قِيمَةٍ يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْقِيمَةِ نِصْفُ الْقِيمَةِ مِنْ ذَلِكَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَثُلُثُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ فِي الْحَاصِلِ ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَلِلْعَافِي سُدُسُ الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ بَعْدَ الْقَتْلِ وَالْعَفْوُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ قِيمَةٌ بِالْهِبَةِ وَنِصْفُ قِيمَةٍ بِالْجِنَايَةِ فَيُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أَثْلَاثًا لِأَنَّ حَقَّ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ وَحَقَّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا يَقْتَسِمَانِهِ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ كَمَا يَقْتَسِمَانِهِ إنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً. وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً كَانَ الْقَتْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ نِصْفُ الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْخَطَأِ الْمَالُ فَلَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْقِيمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَابِضِ، ثُمَّ الْمُتْلِفِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ كُلُّهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَيْضًا ثُلُثُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ فِي الْأَصْلِ قِيمَتَانِ فَيَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَثُلُثٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَدْ أَسْقَطَ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا يَبْقَى خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ دَبَّرَ الْعَبْدَ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ عَمْدًا، ثُمَّ عَفَا أَحَدُ الِاثْنَيْنِ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى قِيمَةٌ وَنِصْفٌ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ وَالنِّصْفُ مِنْ جِهَةِ الْجِنَايَةِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُدَبِّرِ عَلَى مَوْلَاهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْتَسِمُهَا الِاثْنَانِ أَثْلَاثًا، وَلَوْ كَاتَبَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ إلَّا نِصْفَ الْقِيمَةِ يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَصَارَ مَالُهُ قِيمَةً وَنِصْفًا فَيَسْقُطُ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَيُؤَدِّي نِصْفَ الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَقْتَسِمُهَا الِاثْنَانِ أَثْلَاثًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 128 وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَدَبَّرَهُ الثَّانِي أَوْ كَاتَبَهُ فَهُوَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَلَوْ كَاتَبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلَ، ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْوَاهِبَ خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى فِي الْأَصْلِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ بِالْهِبَةِ وَقِيمَةٌ بِالْجِنَايَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ ثُلُثُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ صَارَ الْعَافِي بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَوْفِي لِنِصْفِ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ فَيَبْقَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَهَبَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ خَطَأً فَالْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي بِالْخِيَارِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ قِيمَتَانِ فَيَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثُّلُثُ وَهُوَ ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَيَضْمَنُ ثُلُثَ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْعَبْدَيْنِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْعَبْدُ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّهُ يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ فَيَصِيرُ مَالُ الْمَيِّتِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ ضُمَّتْ الْقِيمَةُ إلَى الدِّيَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَالُ الْمَيِّتِ كَمْ هُوَ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَيَغْرَمُ مَا وَرَاء ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ وَبَيَانُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سِتَّةَ آلَافٍ فَإِنَّ مَالَ الْمَيِّتِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا فَيُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُهُ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ ثُلُثَيْ أَلْفٍ وَكَذَلِكَ مَا زَادَتْ قِيمَتُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ فَإِنْ عَفَا أَحَدُ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ عَبْدٌ وَنِصْفٌ وَالْعَافِي صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلنِّصْفِ بِالْعَفْوِ فَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ ثُلُثُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخَرِ وَنِصْفُهُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى نِصْفَهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى هُنَا قِيمَةٌ وَنِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الَّذِي عَفَا يُعْتَبَرُ أَقَلُّ الْمَالَيْنِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالِاخْتِيَارِ وَالِاخْتِيَارُ فِيمَا جَازَ فِيهِ الْعَفْوِ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي نَصِيبِ الَّذِي عَفَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَفِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ، ثُمَّ يَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ. وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَاجْعَلْ كُلَّ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ مَالُ الْمَيِّتِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ أَمَّا خَمْسَةُ آلَافٍ فَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَأَلْفَانِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَأَلْفٌ اسْتَهْلَكَهُ الْعَافِي فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ وَيَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ الْخَمْسَةَ آلَافٍ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ الَّذِي هُوَ مَحْسُوبٌ عَلَى الْعَافِي فَيَضْرِبُ فِيهِ الْعَافِي بِنِصْفِ قِيمَتِهِ مِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 129 قِبَلِ الْمِيرَاثِ وَنِصْفِ قِيمَتِهِ مِنْ قِبَلِ الْجِنَايَةِ وَيَضْرِبُ فِيهِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَبِنِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَمَا أَصَابَ الْعَافِي حُسِبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ الْقِيمَةِ الَّذِي أَتْلَفَ وَيَأْخُذُ الْفَضْلَ، وَمَا أَصَابَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ يُسَلَّمُ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ الْقِيمَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ الثُّلُثِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمَّ مَالَ الْمَيِّتِ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ وَهُوَ قِيمَةٌ وَنِصْفُ قِيمَةٍ وَنِصْفُ الدِّيَةِ فَيَجُوزُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ وَيَضْمَنُ الْفَضْلَ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ فَيَضْرِبُ قِيمَةَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ وَالْعَافِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ سَلِمَ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ عِشْرُونَ أَلْفًا فِي الْحَاصِلِ عَشَرَةٌ آلَافٍ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ وَمِثْلُهُ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِي الْعَبْدِ قَبْلَ الْهِبَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَقَدْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ مِنْ الَّذِي لَمْ يَعْفُ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ إلَى جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْعَافِيَ اسْتَهْلَكَ بِالْعَفْوِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتْلَفَهُ، وَقَدْ وَجَبَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ نِصْفُ الدِّيَةِ فَتُضَمُّ الدِّيَةُ إلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَيُؤَدِّي الْفَضْلَ فَيَقْتَسِمْهُ الِاثْنَانِ نِصْفَيْنِ حَتَّى إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا. فَإِذَا ضَمَمْت الدِّيَةَ إلَى الْقِيمَةِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَيُسَلَّمُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَغْرَمُ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ خَاصَّةً وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ عَمْدًا فَعَفَا الْوَلِيَّانِ عَنْهُ جَازَ الْعَفْوُ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ بَطَلَ بِعَفْوِهِمَا فَكَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى الْعَبْدِ فَتَجُوزُ هِبَتُهُ فِي ثُلُثِهِ فَلَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ وَاخْتَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَدْفَعُ الْخُمُسَ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَيَبْقَى لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْخُمُسُ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَجُوزُ فِي الثُّلُثِ فَلَمَّا عَفَا أَحَدُهُمَا وَجَبَ دَفْعُ نِصْفِ ذَلِكَ الثُّلُثِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةٍ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ سَهْمًا بِالْجِنَايَةِ وَهُوَ الدَّائِرُ فَنَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ سَهْمًا وَيَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى خَمْسَةٍ فَيَرُدُّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَخُمُسَهُ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَيَضْرِبُ الَّذِي عَفَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 130 بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَاَلَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَخُمُسِ الْعَبْدِ وَأَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا فِي الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّهُ اعْتَبَرَ اللَّفْظَ هُنَا وَقَالَ هُنَاكَ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ وَلِلْعَافِي سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ عَفَا الْآخَرُ بَعْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِمَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَيُسَلَّمُ لَهُ الْخُمُسَانِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا عَفَوَا فَقَدْ جُعِلَ الَّذِي عَفَا مِنْهُمَا آخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَوْفِي خُمُسَ ذَلِكَ الْعَبْدِ بِالْإِتْلَافِ. فَإِذَا سَلِمَ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ مَعَ ذَلِكَ اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَخْمَاسٍ فَيَضْرِبُ فِيهِ الَّذِي عَفَا أَوَّلًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَاَلَّذِي عَفَا آخِرًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَبِخُمُسِهِ إلَّا أَنَّهُ يُحْسَبُ عَلَيْهِ بِالْخُمُسِ الَّذِي أَتْلَفَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَفَا بَعْدَ مَا صَارَ مَالًا وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا عَفَا، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصَ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ عَفَوَا مَعًا ضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ عَفْوَهُمَا مَعًا يُبْطِلُ حُكْمَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَى ذَلِكَ الْعَبْدِ فَيُسَلَّمُ لَهُ الثُّلُثُ بِالْهِبَةِ وَيَضْمَنُ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالْعِتْقِ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَعَلَى الْمُعْتَقِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِأَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ هُنَا قِيمَةٌ وَنِصْفٌ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ عِتْقِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْقِيمَةَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَيَضْرِبُ فِيهِ الْعَافِي أَوَّلًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَالْعَافِي آخِرًا بِقِيمَةٍ كَامِلَةٍ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِلَّذِي عَفَا آخِرًا وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِالْعَفْوِ وَيَبْقَى لَهُ سُدُسُ الْقِيمَةِ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِالْعَفْوِ وَيَبْقَى لَهُ سُدُسُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ يَضْرِبُ الْآخَرُ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ جِهَةِ الْكَاتِبِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَةٍ كَامِلَةٍ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثُلُثَا الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ عَمْدًا فَعَفَا الِاثْنَانِ عَنْهُ مَعًا فَالْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنٌ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ قَدْ بَطَلَ بِعَفْوِهِمَا فَلَا يَتَبَيَّنُ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْمُعْتَقِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ فَإِنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ حُرٌّ وَنِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ. فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ يَكُونُ سَبْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْخَمْسَةَ آلَافٍ يَضْرِبُ فِيهِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَنِصْفِ الْقِيمَةِ وَالْعَافِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى مَا كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ، وَلَا يَضْرِبُ بِحِصَّةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ الْآخَرُ فَعَفْوُ الْأَوَّلِ جَائِزٌ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 131 وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِمَا قُلْنَا فَلَمَّا عَفَا الْآخَرُ يَجُوزُ عَفْوُهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَيَبْطُلُ عَنْ الْعَبْدِ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ اثْنَا عَشَرَ، وَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ لِلَّذِي عَفَا أَوَّلَ مَرَّةٍ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِأَنَّ إسْقَاطَ الثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ فِي نَصِيبِهِ لَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلَا يَضْمَنُ ذَلِكَ الْعَافِي آخِرًا لِلَّذِي عَفَا أَوَّلًا لِأَنَّهُ بِالْعَفْوِ مُسْقِطٌ لَا مُسْتَوْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقَدْ عَفَا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ مَالَ الْمَيِّتِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافٍ فَإِنَّمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثُ أَلْفٍ مِقْدَارُ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ وَيَغْرَمُ الزِّيَادَةَ إلَى تَمَامِ خَمْسَةِ آلَافٍ فَيَقْتَسِمُ الِاثْنَانِ ذَلِكَ يَضْرِبُ فِيهِ الَّذِي عَفَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَقَطْ لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا وَيَضْرِبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ بِالْجِنَايَةِ وَبِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَقْتَسِمَانِهِ وَعَلَى ذَلِكَ مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدَهُ مِنْ مَرِيضٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَهَبَهُ لِصَحِيحٍ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ، وَمَاتَ الثَّانِي مِنْ مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلثَّالِثِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِوَرَثَةِ الثَّانِي انْتَقَصَتْ الْهِبَةُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ مِنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبْع وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ فَأَجْرُ الْهِبَةِ لِلْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةٍ وَلِلثَّانِي فِي سَهْمٍ. وَقَدْ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ فِي السِّتَّةِ الَّتِي عَادَتْ إلَى الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا بَطَلَتْ فِي تِلْكَ السِّتَّةِ صَارَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَوْلَاهُ خَطَأً تَكُونُ هَدَرًا فَإِنَّمَا تَبْقَى الْجِنَايَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ وَسَهْمٌ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي وَيَدْفَعَانِ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْأَوَّلِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَاطْرَحْ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ نَصِيبِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةٌ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَثَلَاثَةٌ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ وَيُسَلَّمُ لِوَرَثَتِهِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الثَّانِي لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ ثُلُثَ قِيمَةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا الدِّيَةِ أَقَلَّ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الْعَبْدَ فَارِغًا، ثُمَّ رَدَّ السَّهْمَيْنِ عَلَيْهِمْ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الشُّغْلَ فَكَأَنَّهُ تَلِفَ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اخْتِيَارِ الْأَقَلِّ وَهُوَ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ فَلَا يَضْمَنُ لَهُمْ إلَّا الْأَقَلَّ، وَلَوْ أَنَّهُمْ اخْتَارُوا الْفِدَاءَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَقَلَّ يَرُدُّ الثَّالِثَ عَلَى وَرَثَةِ الثَّانِي بِثُلُثَيْهِ، ثُمَّ فَدَوْهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ الثَّالِثُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَوَرَثَةُ الثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، ثُمَّ يَضْمَنُ الثَّالِثُ لِوَرَثَةِ الثَّانِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَخَذَ عَبْدًا فَارِغًا عَلَى طَرِيقِ التَّمَلُّكِ وَرَدَّهُ مَشْغُولًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 132 وَقَدْ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ الشُّغْلَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ وَكَانَتْ سِتَّةَ آلَافِ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ لِأَنَّا نُجِيزُ الْهِبَةَ مِنْ الْأَوَّلِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ فَيَفْدُونَ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَمِثْلِ ثُلُثِهِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْأَوَّلِ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِ الْأَوَّلِ سَهْمًا وَثُلُثَيْ سَهْمٍ يَبْقَى لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ثُلُثُ سَهْمٍ وَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ. فَإِذَا جَعَلْت كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا جَازَتْ الْهِبَةُ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ لِلثَّانِي فِي سَهْمٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ يَفْدِيَانِ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ بِمِثْلِهَا وَمِثْلِ ثُلُثَيْهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَيَصِيرُ لِلْأَوَّلِ سِتَّةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِقِيمَةِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ فِي الْحَاصِلِ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفًا فَإِنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي خُمُسَيْ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْأَوَّلِ تَجُوزُ فِي الْأَصْلِ فِي سَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَفْدِيَانِ ذَلِكَ بِمِثْلِ نِصْفِهِ فَإِنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا يُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْأَوَّلِ نِصْفُ سَهْمٍ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ أَضْعِفْهُ لِلْكَسْرِ فَيَكُونُ خَمْسَةً، ثُمَّ تَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمَيْنِ وَتَبْطُلُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَفْدِيَانِ ذَلِكَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ لِلْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ وَرَثَةُ الثَّانِي بِمَا أَدَّوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الثَّالِثِ لِأَنَّ مَا أَدَّوْا هُوَ الْأَقَلُّ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الثَّالِثِ، وَإِنْ اخْتَارَ الثَّالِثُ الْفِدَاءَ وَوَرَثَةُ الثَّانِي الدَّفْعَ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْهِبَةُ لِلثَّانِي فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ وَمِنْ الثَّانِي لِلثَّالِثِ فِي خُمُسِ الْعَبْدِ لِأَنَّك تَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى تِسْعَةٍ لِحَاجَتِك إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ فَيَجُوزُ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَلِلثَّانِي مِنْ ذَلِكَ وَاحِدٌ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْأَوَّلُ السَّهْمَيْنِ وَيَفْدِي الثَّانِي سَهْمَهُ بِسَهْمَيْنِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ وَيَزْدَادُ مَالُهُ بِذَلِكَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَطْرَحَ أَرْبَعَةً مِنْ وَرَثَتِهِ يَبْقَى لَهُمْ سَهْمَانِ وَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ خَمْسَةً لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ سَهْمَانِ وَلِلْأَوْسَطِ سَهْمَانِ وَلِلثَّالِثِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْأَوْسَطُ سَهْمَيْهِ وَيَفْدِي الثَّالِثُ سَهْمَهُ بِسَهْمَيْنِ مِنْ الدِّيَةِ فَيَصِيرُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِقِيمَةِ الْخُمُسَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ. وَعَلَى طَرِيقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ السَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ الْعَبْدَ دِرْهَمًا وَدَنَانِيرَ فَتَجُوزُ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَهِبَةُ الثَّانِي فِي دِينَارَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ وَرَثَةُ الثَّانِي الدِّينَارَيْنِ وَيَفْدِي الثَّالِثُ دِينَارَهُ بِدِينَارَيْنِ فَيَصِيرُ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ دِرْهَمٌ فَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ تَعْدِلُ سِتَّةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّا جَوَّزْنَا هِبَةَ الْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ فَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ بِمِثْلِهَا قِصَاصٌ فِي دِرْهَمٍ يَعْدِلُ دِينَارَيْنِ فَاقْلِبْ الْفِضَّةَ وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ كُنَّا جَعَلْنَا الْعَبْدَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ الدِّرْهَمُ اثْنَانِ وَكُلُّ دِينَارٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 133 وَاحِدٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، ثُمَّ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ تَجْعَلُ الْعَبْدَ مَالًا، ثُمَّ تُجِيزُ الْهِبَةَ لِلْأَوَّلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَلِلثَّانِي فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ وَرَثَةُ الْأَوَّلِ شَيْئَيْنِ وَيَفْدِي الثَّالِثُ شَيْئًا بِشَيْئَيْنِ فَيَصِيرُ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ مَالٌ وَشَيْءٌ يَعْدِلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ فَالشَّيْءُ بِمِثْلِهِ قِصَاصٌ وَبَقِيَ مَالٌ كَامِلٌ يَعْدِلُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ، وَقَدْ أَجَزْنَا الْهِبَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ، وَإِنْ اخْتَارَ الثَّالِثُ الدَّفْعَ وَاخْتَارَ وَرَثَةُ الثَّانِي الْفِدَاءَ جَازَتْ الْهِبَةُ لِلثَّانِي فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَلِلثَّالِثِ فِي رُبْعِهِ وَيَرْجِعُ رُبْعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ بِانْتِقَاصِ الْهِبَةِ وَرُبْعُهُ يُدْفَعُ لِلثَّالِثِ وَيَفْدِي وَرَثَةُ الثَّانِي بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّك تَجْعَلُ الْعَبْدَ عَلَى تِسْعَةٍ، ثُمَّ يَدْفَعُ الثَّالِثُ سَهْمَهُ وَيَفْدِي الثَّانِي سَهْمَيْهِ بِأَرْبَعَةٍ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ بِخَمْسَةٍ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ وَرَثَتِهِ يَبْقَى لَهُمْ سَهْمٌ وَلِلثَّانِي وَلِلثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ أَرْبَعَةً فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ لِلْأَوْسَطِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ وَالثَّالِثِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَدْفَعُ الثَّالِثُ سَهْمَهُ وَيَفْدِي الْأَوْسَطُ سَهْمَيْهِ بِأَرْبَعَةٍ فَيَصِيرُ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ سِتَّةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ الْمَرِيضَ الْآخَرَ وَلَمْ يَقْتُلْ الْأَوَّلَ فَإِنَّ الْهِبَةَ تَنْتَقِصُ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَيَرُدُّونَهُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ الْجِنَايَةِ إمَّا لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فِي ذَلِكَ فَيَرْجِعُونَ بِهِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَيَبْقَى ثُلُثُ الْعَبْدِ فَإِنْ اخْتَارَ الثَّالِثُ دَفْعَهُ فَعَلَى الثَّالِثِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الثُّلُثَ نِصْفُهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَنِصْفُهُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الثُّلُثَ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْأَوَّلِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ الْآخِرِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ تَامٍّ وَهَبَهُ مِنْ رَجُلٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْوَاهِبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ التَّامِّ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ رَدَّ نِصْفَهُ بِنَقْصِ الْهِبَةِ وَدَفَعَ نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ. فَكَذَلِكَ الثُّلُثُ فَإِنْ اخْتَارُوا الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةً، أَوْ أَقَلَّ يَعْنِي إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَةَ آلَافٍ، أَوْ أَنَّ قِيمَتَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثَا أَلْفٍ. فَإِذَا فَدَاهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثٌ يُسَلَّمُ لِوَرَثَةِ الْأَوْسَطِ ضِعْفُ مَا نَفَّذْنَا فِيهِ هِبَةَ الْأَوْسَطِ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ عَمِلْت فِي هَذَا الثُّلُثِ بَعْدَ أَنْ تَجْعَلَ فِي هَذَا الثُّلُثِ ثُلُثَ النَّفْسِ فَيُجْعَلُ كَعَبْدٍ كَامِلٍ جَنَى عَلَى ثُلُثِ النَّفْسِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ جَمِيعًا وَاخْتَارَ الثَّالِثُ وَوَرَثَةُ الثَّانِي الدَّفْعَ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنْ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَمِنْ الثَّانِي لِلثَّالِثِ فِي سَهْمَيْنِ لِأَنَّك تَجْعَلُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 134 الْعَبْدَ عَلَى تِسْعَةٍ سِتَّةٌ لِلْأَوَّلِ لَا جِنَايَةَ فِيهَا وَسَهْمَانِ لِلْأَوْسَطِ فِيهِمَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَوَّلِ وَسَهْمٌ لِلْآخَرِ فِيهِ جِنَايَتَانِ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَجِنَايَةٌ عَلَى الْأَوْسَطِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ السَّهْمَ عَلَى سَهْمَيْنِ وَأَضْعِفْ الْحِسَابَ لِلْكَسْرِ بِالْأَنْصَافِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأَوَّلِ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْأَوْسَطِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْآخِرِ سَهْمَانِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْآخِرُ إلَى الْأَوْسَطِ سَهْمًا وَاحِدًا فَيَزْدَادُ نَصِيبُهُ بِسَهْمٍ فَاطْرَحْ مِنْ نَصِيبِهِ سَهْمًا يَبْقَى نَصِيبُهُ ثَلَاثَةٌ وَنَصِيبُ الثَّالِثِ سَهْمَيْنِ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةٍ فَيَكُونُ كُلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ الثَّالِثُ إلَى الْأَوْسَطِ سَهْمًا وَاحِدًا فَيَصِيرُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْآخِرُ سَهْمَهُ الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ وَيَدْفَعُ الْأَوْسَطُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ أَيْضًا إلَى الْأَوَّلِ فَيَزْدَادُ نَصِيبُهُ بِأَرْبَعَةٍ وَهِيَ السِّهَامُ الدَّائِرَةُ فَيَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِهِ أَرْبَعَةً، وَقَدْ كَانَ سِهَامُهُ عَشَرَةً يَبْقَى سِتَّةٌ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ كُلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْأَوْسَطُ وَالْآخِرُ إلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةً فَيَصِيرُ لِوَرَثَتِهِ عَشَرَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ اخْتَارُوا جَمِيعًا الْفِدَاءَ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ آلَافٍ، أَوْ أَقَلُّ فَالْفِدَاءُ كُلُّهُ عَلَى الثَّالِثِ يُسَلَّمُ لَهُ الْعَبْدُ وَيُؤَدِّي الدِّيَتَيْنِ لِأَنَّهُ يَفْدِي الْأَوَّلَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالْأَوْسَطَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ خَارِجًا مِنْ ثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الثَّالِثُ الْفِدَاءَ مِنْ الثَّانِي خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ الثَّانِي فَإِنَّ مَالَهُ يَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَيَزْدَادُ أَيْضًا مَالُ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْآخِرَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الْأَوَّلِ وَيَغْرَمُ الْأَوْسَطُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالْهِبَةِ مِنْ الثَّانِي قَالُوا وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَالَ الْأَوْسَطِ إذَا صَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا قِيمَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَصْحِيحِ الْهِبَةِ مِنْ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافٍ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ بَطَلَ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَهِبَةُ الثَّانِي فِي نِصْفِ النِّصْفِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْهِبَةَ عِنْدَ اخْتِيَارِهِمَا الْفِدَاءَ تُجْعَلُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ سِتَّةٌ وَلِلْأَوْسَطِ سَهْمَانِ وَلِلْآخِرِ سَهْمٌ، ثُمَّ إنَّ الْآخِرَ فَدَى الْأَوْسَطَ بِسَهْمٍ فَإِنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ الْقِيمَةِ فَيُطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْسَطِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْعَبْدِ عَلَى سَهْمَيْنِ وَالْعَبْدُ كُلُّهُ سِتَّةً لِلْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأَوْسَطِ سَهْمٌ وَلِلثَّالِثِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَفْدِي الثَّالِثُ الْأَوْسَطَ بِسَهْمٍ فَيَصِيرُ لِلْأَوْسَطِ سَهْمَانِ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ يَفْدِي الثَّالِثُ لِلْأَوَّلِ بِسَهْمٍ وَيَفْدِيهِ الْأَوْسَطُ أَيْضًا بِسَهْمٍ فَتَظْهَرُ الزِّيَادَةُ فِي مَالِ الْأَوَّلِ بِسَهْمَيْنِ وَنَطْرَحُ مِنْ نَصِيبِ الْأَوَّلِ سَهْمَيْنِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 135 فَيَصِيرُ الْعَبْدُ كُلُّهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ سَهْمَانِ وَلِلْأَوْسَطِ سَهْمٌ وَلِلثَّالِثِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَدْفَعَانِ السَّهْمَيْنِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ لِلْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ مِثْلَا مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْوَصِيَّةَ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ حَاصِلِ الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْفَرَائِضِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الْفَرَائِضَ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ عِنْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَلَا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ كَرَجُلٍ لَقِيَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ أَمُهَاجِرٌ أَنْتَ قَالَ فَإِنَّ إنْسَانًا مِنْ أَهْلِي مَاتَ فَكَيْفَ يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ قَالَ لَا أَدْرِي قَالَ فَمَا فَضْلُكُمْ عَلَيْنَا تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا تَعْلَمُونَ الْفَرَائِضَ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِي»، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٍ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَقَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِ زَيْدٍ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ طُرُقُ الْفَرْضِيِّينَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ فَمِنْ بَيْنِ مُطَوِّلٍ أَمَلَّ وَمِنْ بَيْنِ مُوجِزٍ أَخَلَّ فَالسَّبِيلُ أَنْ نُجْرِيَ الْقَصْدَ وَنَدَعَ التَّطْوِيلَ بِذِكْرِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْإِخْلَالَ بِتَرْكِ نَصِّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا فَنَقُولُ إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ يُبْدَأُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى مِنْ الْحُقُوقِ عُرِفَ ذَلِكَ بِقَضِيَّةِ الْعُقُولِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ فَأَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلَّا نَمِرَةٌ فَكَانَ إذَا كَانَ غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَا رِجْلَاهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ». ، وَقَدْ نُقِلَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 136 ذَلِكَ فِي حَالِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِمَا فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكَفَنِ لَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَ عَنْ الدَّيْنِ حَتَّى كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ «هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ» ثُمَّ الْكَفَنُ لِبَاسُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُعْتَبَرُ بِلِبَاسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَلِبَاسُهُ فِي حَيَاتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِهِ حَتَّى لَا يُبَاعَ عَلَى الْمَدْيُونِ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِهِ. فَكَذَلِكَ لِبَاسُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَنْ مَاتَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ فَيُكَفَّنُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَالُهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكَفَنَ أَقْوَى مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ بَعْدَ الْكَفَنِ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنَّكُمْ تُقِرُّونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّكَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَجِّ فَقَالَ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ كَيْفَ تَقْرَءُونَ آيَةَ الدَّيْنِ فَقَالُوا {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَقَالَ بِمَاذَا يُبْدَأُ فَقَالُوا بِالدَّيْنِ قَالَ هُوَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَإِنَّهُ يُفَكُّ بِهِ رِهَانُهُ وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، ثُمَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالْوَصِيَّةُ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ مَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ يَأْخُذُ مَا كَانَ لَهُ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَالْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَسْعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِيمَتِهِ»، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الدَّيْنُ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا. فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُورِثَ فِي الْمَالِ وَالْمَالُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالدَّيْنِ كَالْمَرْهُونِ. فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَانَ الْمِيرَاثِ مَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ أَوَانَهُ فَيَكُونُ حَالُ الدَّيْنِ كَحَالِ حَيَاةِ الْمُورِثِ فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِيمَا يَفْضُلُ مِنْ حَاجَتِهِ. فَأَمَّا الْمَشْغُولُ بِحَاجَتِهِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِتَرِكَتِهِ فَالْمَالُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ وَقِيَامُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ ظُهُورَ حُكْمِ الْخَلَفِ، وَلَا يَقُولُ يَبْقَى مَمْلُوكًا بِغَيْرِ مَالِكٍ، وَلَكِنْ تَبْقَى مَالِكِيَّةُ الْمَدْيُونِ فِي مَالِهِ حُكْمًا لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُعْتَبَرُ مِيرَاثًا لِلْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَى وِلَايَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 29 ¦ الصفحة: 137 يَصِيرُ مِيرَاثًا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ تُقَدَّمُ الْوَصِيَّةُ فِي مَحِلِّهَا عَلَى الْمِيرَاثِ وَمَحِلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» فَفِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ تُقَدَّمُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ أَيْضًا. فَأَمَّا مَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ فِيهِ يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَارِثُ وَبَعْدَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ فَنَقُولُ الْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يُتَوَارَثُ ثَلَاثَةٌ الرَّحِمُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ نَوْعَانِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ الْإِرْثِ عِنْدَنَا عَلَى تَرْتِيبٍ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ ثَلَاثَةٌ الرِّقُّ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّ مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ التَّقْصِيرُ شَرْعًا وَالْوَارِثُونَ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ وَأَصْحَابُ الْفَرَائِضِ هُمْ الَّذِينَ لَهُمْ سِهَامٌ مُقَدَّرَةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَالْعَصَبَاتُ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ فَالْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ الذَّكَرُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ الذُّكُورُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ وَالْعَصَبَةُ بِغَيْرِهِ الْأُنْثَى الَّتِي تَصِيرُ عَصَبَةً بِمَنْ فِي دَرَجَتِهَا مِنْ الذَّكَرِ كَالْبَنَاتِ بِالْبَنِينَ وَالْأَخَوَاتِ بِالْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْأَخَوَاتِ يَصِرْنَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ وَفَرْقُ فِيمَا بَيْنَ الْعَصَبَةِ بِغَيْرِهِ وَالْعَصَبَةِ مَعَ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَصَبَةً بِغَيْرِهِ إلَّا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَصَبَةً وَالْعَصَبَةُ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَصَبَةً فِي نَفْسِهِ كَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ فَالْبِنْتُ لَيْسَتْ عَصَبَةً بِنَفْسِهَا وَالْأُخْتُ تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَهَا وَذَوُو الْأَرْحَامِ مَا عَدَا هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُرَثِ الْعُصُوبَةُ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِهَا جَمِيعُ الْمَالِ وَلَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَرِيضَةِ جَمِيعُ الْمَالِ وَالْعُصُوبَةُ فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْإِرْثِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الرَّحِمِ فَكَانَتْ الْعُصُوبَةُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ مِيرَاثِ الْآبَاءِ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْبُدَاءَةَ بِبَيَانِ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وَلِأَنَّ الِابْنَ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْعُصُوبَةُ فَقَدَّمْنَا بَيَانَ مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ الْأَوْلَادِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اعْلَمْ أَنَّ الِابْنَ الْوَاحِدَ يُحْرِزُ جَمِيعَ الْمَالِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ثُمَّ جَعَلَ لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 138 كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وَثَبَتَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ هَذَا وَضِعْفُ النِّصْفِ الْجَمِيعُ. وَثَبَتَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِآيَةِ الْإِخْوَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] أَيْ يَرِثُهَا جَمِيعَ الْمَالِ. وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ لِلْأَخِ جَمِيعَ الْمَالِ ثَبَتَ لِلِابْنِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ الْأَخَ وَلَدُ أَبِيهَا وَوَلَدُهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ وَلَدِ أَبِيهَا وَالْمِيرَاثُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَقْرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] وَزِيَادَةُ الْقُرْبِ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنُصُّ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ لِلْبَنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ إلَّا الْبَنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يُوَرِّثُ إلَّا الْكِبَارَ مِنْ الْبَنِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَيُوَرِّثُونَ الْعَشِيرَةَ فَإِنَّمَا بَيَّنَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ فَإِنْ اجْتَمَعَ الْبَنُونَ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ إذَا انْفَرَدَتْ النِّصْفُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وَاسْتِدْلَالًا أَيْضًا بِمِيرَاثِ الْأُخْتِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَالْبِنْتُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْأُخْتِ فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ لِلْبَنَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ كَثُرْنَ {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] فِي قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ لِلْبَنِينَ النِّصْفُ وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَكُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَقَدْ تُجَاذِبُ الْبَنِينَ حَالَتَانِ إمَّا أَنْ تَعْتَبِرَهُمَا بِالثَّلَاثِ، أَوْ بِالْوَاحِدَةِ وَاعْتِبَارُهُمَا بِالْوَاحِدَةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِمَا بِالثَّلَاثِ إبْطَالُ شَرْطٍ مَنْصُوصٍ وَالْقِيَاسُ لِإِبْطَالِ النَّصِّ بَاطِلٌ، وَفِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَمَنْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَتَيْنِ فَلِلِابْنِ النِّصْفُ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ النِّصْفُ، وَفِي قَوْله تَعَالَى فَلَهُنَّ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ فَأَهْلُ اللُّغَةِ جَعَلُوا الْكَلَامَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْفَرْدُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ فَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ غَيْرُ الْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ أَبْنِيَةٌ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْجَمْعِ وَلَيْسَ لِلتَّثْنِيَةِ إلَّا بِنَاءً وَاحِدًا وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولِ فِي الْمَعْنَى يُعَارِضُ الْفَرْدَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَفِي الثَّلَاثِ تَتَعَارَضُ الْبَنَاتُ مَعَ الْفَرْدِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْجَمْعِ عَلَى جَانِبِ الْفَرْدِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ ظَهَرَ إلْحَاقُ الْبِنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ هَذَا بَيَانِ أَصْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا، وَفِي الْإِخْوَةِ فِي حُكْمِ الْحَجْبِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 139 قَوْله تَعَالَى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَقَدْ جَعَلَ لِلذَّكَرِ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ مِثْلَ نَصِيبِ الِابْنَتَيْنِ وَأَدْنَى الِاخْتِلَاطِ أَنْ يُجْمَعَ ابْنٌ وَبِنْتٌ وَلِلِابْنِ هُنَا الثُّلُثَانِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلَمَّا صَارَ نَصِيبُ الْبَنِينَ مَعْلُومًا بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى نَصِيبَ الْبِنْتَيْنِ أَيْضًا وَذَكَرَ نَصِيبَ مَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ فَإِنَّ «سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ وَامْرَأَةً فَاسْتَوْلَى الْأَخُ عَلَى مَالِهِ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ إنَّ سَعْدًا قُتِلَ مَعَك وَخَلَّفَ ابْنَتَيْنِ، وَقَدْ غَلَبَ عَمُّهُمَا عَلَى مَالِهِمَا، وَلَا يُرْغَبُ فِي النِّسَاءِ إلَّا بِمَالٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ ظَهَرَ أَثَرُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قِفُوا مَالَ سَعْدٍ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مَا إنْ بَيَّنَهُ لِي بَيَّنْته لَكُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَا سَعْدٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَلَهُ مَا بَقِيَ». وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ فَرِيضَةٍ فِيهَا بِنْتٌ وَابْنَةُ ابْنٍ وَأَخٌ فَجَعَلَ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْت إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ حَالَ الْبِنْتَيْنِ أَقْوَى مِنْ حَالَةٍ الِابْنَةِ وَابْنَةِ الِابْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حَالَةَ التَّثْنِيَةِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْجَمْعِ لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ وَانْضِمَامِ أَحَدِ الْفَرْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ، وَلَا مَعْنَى فِي الْجَمْعِ سِوَى هَذَا وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ الْإِمَامُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَثْنَى كَمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِلَيْهِ إشَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] أَيْ اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا وَكَلِمَةُ فَوْقَ صِلَةٌ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] يَعْنِي مَعَ الْأَعْنَاقِ مَعَ أَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَيَانُ نَصِيبِ الثَّالِثِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَا فَإِنْ اخْتَلَطَ الذُّكُورُ بِالْإِنَاثِ مِنْ الْأَوْلَادِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِالنَّصِّ وَاسْتِدْلَالًا بِمِيرَاثِ الْإِخْوَةِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وَالْأَوْلَادُ أَقْرَبُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 140 مِنْ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الِابْنِ يَقُومُونَ مَقَامَ أَوْلَادِ الصُّلْبِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وَاسْمُ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ مَجَازًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27]. وَعِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ صُلْبِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ أَيْ أَبٍ لَك أَكْبَرُ فَتَحَيَّرَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْهَمْ مَا قَالَ لَهُ فَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27] وَجَعَلَ يَقُولُ مَنْ كُنْت ابْنَهُ فَهُوَ أَبُوك فَإِنْ اجْتَمَعَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ وَأَوْلَادُ الِابْنِ فَإِنْ كَانَ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ فَلَا شَيْءَ لِأَوْلَادِ الِابْنِ ذُكُورًا كَانُوا، أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ لِأَنَّ الذَّكَرَ مِنْ أَوْلَادِ الصُّلْبِ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الِاسْمِ، وَعِنْدَ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمَجَازِ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَذِّرٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ مَجَازًا أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُهُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ لَيْسُوا بَنِيهِ وَلَكِنَّهُمْ بَنُو ابْنِهِ، وَهَذَا حَدُّ الْمَجَازِ مَعَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ وَيُمْكِنُ نَفْيُ الْمَجَازِ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَوْلَادَ الِابْنِ يُدْلُونَ بِالِابْنِ وَيَرِثُونَ بِمِثْلِ نَسَبِهِ فَيُحْجَبُونَ بِهِ كَالْأَجْدَادِ بِالْأَبِ وَالْجَدَّاتِ بِالْأُمِّ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانُوا يُدْلُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ بِمِثْلِ نَسَبِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ بِالْأُمُومَةِ وَهُمْ بِالْأُخُوَّةِ وَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ الِابْنُ دُونَ أَوْلَادِ الِابْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ، وَلَا فِي أَوْلَادِ الِابْنِ ذَكَرٌ فَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الصُّلْبِ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الصُّلْبِ بِنْتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ لِأَنَّ حَظَّ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْبِنْتَانِ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَقِّ الْبَنَاتِ شَيْءٌ لِبَنَاتِ الِابْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ وَكَانَ فِي أَوْلَادِ الِابْنِ ذَكَرٌ فَإِنْ انْفَرَدَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِ الِابْنِ فَالْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ الْبَنَاتِ لَهُمْ نِصْفًا كَانَ، أَوْ ثُلُثًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوَّلِ رَجُلٍ ذَكَرٍ»، وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ حَقِيقَةً وَأَوْلَادَ الِابْنِ مَجَازًا وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجَازُ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ بَنَاتُ الصُّلْبِ. فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِالْمَجَازِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَإِنْ اخْتَلَطَ الذُّكُورُ بِالْإِنَاثِ مِنْ أَوْلَادِ الِابْنِ فَنَقُولُ إنْ كَانَ بَنَاتُ الصُّلْبِ بِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 141 أَوْلَادِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ الْبَاقِي لِبَنِي الِابْنِ خَاصَّةً، وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ فَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الصُّلْبِ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ أَوْلَادِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُنْظَرُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَالسُّدُسِ لِبَنَاتِ الِابْنِ فَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا لَهُنَّ فَلَهُنَّ ذَلِكَ وَالْبَاقِي لِبَنِي الِابْنِ وَيُسَمَّى هَذَا الْجِنْسُ مَسَائِلُ الْإِضْرَارِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِالْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ فِي مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ أَمَّا الثُّلُثَانِ لِلْبَنَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ هُنَا وَهُوَ إعْطَاءُ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَبْقَى لِأَوْلَادِ الِابْنِ اسْتِحْقَاقٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا أَخَذَتْ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الصُّلْبِ وَاحِدَةً قَدْ بَقِيَ السُّدُسُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْبَنَاتُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَهُنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ فَلَا يُعْطَيْنَ إلَّا الْأَقَلَّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَلِهَذَا يُنْظَرُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى السُّدُسِ فِيمَا يُعْطَى بَنَاتُ الِابْنِ، وَلِأَنَّ بَنَاتَ الِابْنِ لَوْ انْفَرَدْنَ مَعَ الِابْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ وَمَعَ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْبَنَاتِ لَا يَكُونُ لَهُنَّ إلَّا السُّدُسُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ أَقْوَى مِنْ حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ الْأُنْثَى عَصَبَةً بِالذَّكَرِ إذَا كَانَتْ صَاحِبَةَ فَرْضٍ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً شَيْئًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ تَصِرْ عَصَبَةً بِالذَّكَرِ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ مَعَ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْعَمِّ مَعَ بَنِي الْعَمِّ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ مَعَ أَوْلَادِ الِابْنِ يَعْصِبُ الْإِنَاثَ فِي دَرَجَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ لِلْمَيِّتِ لِصُلْبِهِ فَكُلُّ ذَكَرٍ يَعْصِبُ الْأُنْثَى فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ يَعْصِبُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ مَا بَقِيَ كَالْأَخِ مَعَ الْأَخَوَاتِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ. وَهَذَا لِأَنَّ بَنَاتَ الصُّلْبِ لَمَّا أَخَذْنَ نَصِيبَهُنَّ خَرَجْنَ مِنْ الْبَنِينَ وَصَارَ فِيمَا بَقِيَ كَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ ابْنَةٌ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا بَقِيَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَنَاتُ الصُّلْبِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ فَفِي الثُّلُثَيْنِ عَمِلْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11]، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَمِلْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 142 الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] يُوَضِّحُهُ أَنَّ الذَّكَرَ مِنْ أَوْلَادِ الِابْنِ يَعْصِبُ الْأُنْثَى فِي دَرَجَتِهِ فِي حُكْمِ الْحِرْمَانِ وَبَيَانُهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ ابْنَةٌ وَابْنَةُ ابْنٍ فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَعَ ابْنَةِ الِابْنِ ابْنُ الِابْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ يَعْصِبُهَا فِي حُكْمِ الْحِرْمَانِ فَلَأَنْ يَعْصِبَهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ التَّعْصِيبَ فِي الْأَصْلِ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلْحِرْمَانِ فَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ أَوْلَادَ الِابْنِ دُونَ الْأُنْثَى بِدَرَجَةٍ فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنَتِي الصُّلْبِ بِنْتٌ ابْنٌ وَابْنُ ابْنِ ابْنٍ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنهمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ الْبَاقِيَ لِلذَّكَرِ خَاصَّةً هُنَا لِأَنَّ الْأُنْثَى إنَّمَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا لَا بِذَكَرٍ هُوَ دُونَهَا فِي الدَّرَجَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبِنْتَ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِابْنِ الِابْنِ فِي ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ صُلْبِيَّةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنِ ابْنٍ فَإِنَّهُ لَا تَصِيرُ ابْنَةُ الِابْنِ عَصَبَةً بِابْنِ الِابْنِ. فَكَذَلِكَ مَعَ الْبِنْتَيْنِ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا كَانَ أَبْعَدَ بِدَرَجَةٍ فَلَوْ جُعِلَ لِلْأُنْثَى الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ مِنْهُ بِدَرَجَةٍ عَصَبَةً كَانَ الذَّكَرُ مَحْرُومًا فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ فِي مِيرَاثِ الْعَصَبَاتِ الْأَقْرَبُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبْعَدِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُخْتَ لَمَّا صَارَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ كَانَ الْبَاقِي لَهَا دُونَ ابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ. وَإِذَا صَارَ مَحْرُومًا لَا يَعْصِبُ أَحَدًا وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُنْثَى لَوْ كَانَتْ فِي دَرَجَةِ الذَّكَرِ كَانَتْ عَصَبَةً بِهِ مُسْتَحِقَّةً مَعَهُ. فَإِذَا كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْهُ بِدَرَجَةٍ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْقُرْبِ فِي قُوَّةِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا فِي الْحِرْمَانِ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ التَّعْصِيبَ كَانَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْأُنْثَى، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي ابْنَةٍ مَعَ ابْنِ الِابْنِ لِأَنَّ بِالتَّعْصِيبِ هُنَاكَ يُنْتَقَصُ حَقُّهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَصِيبُ الْبِنْتِ الثُّلُثُ فَلِذَا جَعَلْنَاهَا عَصَبَةً بِابْنِ الِابْنِ وَحَقُّهَا بِدُونِ التَّعْصِيبِ النِّصْفُ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ ابْنَةِ الِابْنِ مَعَ ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ لِلصُّلْبِ فَإِنَّ بِالتَّعْصِيبِ هُنَاكَ بِابْنِ ابْنِ الِابْنِ لَا يَزْدَادُ نَصِيبُهَا بِحَالٍ، وَقَدْ يُؤَدِّي إلَى حِرْمَانِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْبِنْتُ الصُّلْبِيَّةُ وَاحِدَةً فَحَقُّ ابْنَةُ الِابْنِ مَعَهَا السُّدُسُ دُونَ التَّعْصِيبِ. وَلَوْ عَصْبنَا بِنْتَ الِابْنِ بِابْنِ ابْنِ الِابْنِ لَا يَزْدَادُ نَصِيبُهَا عَلَى السُّدُسِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مِنْ النِّصْفِ وَهُوَ النِّصْفُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ سَهْمٌ لِبِنْتِ الِابْنِ وَسَهْمَانِ لِابْنِ ابْنِ الِابْنِ كَمَا فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّعْصِيبِ. فَأَمَّا فِي التَّعْصِيبِ هُنَا تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى ابْنَةِ الِابْنِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْقُرْبِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ فِي دَرَجَةِ الذَّكَرِ هُنَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَبْعَدَ مِنْ الْبَنَاتِ يَسْتَحِقُّ وَالْأَقْرَبُ يَصِيرُ مَحْرُومًا بِنِسْبَةِ الْمُحَالِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ. فَصْلٌ ، ثُمَّ جُمْلَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 143 مَنْ يَرِثُ مَعَ الْأَوْلَادِ سِتَّةُ نَفَرٍ الْأَبُ وَالْجَدُّ لِأَبٍ، وَإِنْ عَلَا وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ أَوْ أُمُّ الْأَبِ وَالزَّوْجَةُ، وَلَا يَرِثُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مَعَ الِابْنِ بِالْفَرِيضَةِ لَا بِالْعُصُوبَةِ، وَلَا يَكُونُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَاحِبَ فَرْضٍ مَعَ الِابْنَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَرِثُ بِالْعُصُوبَةِ. فَأَمَّا الْأَبُ فَلَهُ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَرْضٌ وَعُصُوبَةٌ وَكِلَاهُمَا فَالْفَرْضُ مَعَ وُجُودِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ وَالْعُصُوبَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى وَكِلَاهُمَا مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَفَرِيضَتُهُ السُّدُسُ لَا يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِالْفَرِيضَةِ بِحَالٍ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ مَعَ الْوَلَدِ، وَإِنَّ فَرِيضَتَهُ السُّدُسُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالَ مَتَى أُضِيفَ إلَى اثْنَيْنِ وَبُيِّنَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ كَانَ لِلْآخَرِ مَا بَقِيَ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ عَصَبَةٌ حَالَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَأَمَّا مَعَ الْبِنْتِ فَهُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ يَأْخُذُ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ وَالْبِنْتُ تَأْخُذُ النِّصْفَ، ثُمَّ لِلْأَبِ مَا بَقِيَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَهُوَ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ فَيَكُونُ عَصَبَةً فِيمَا بَقِيَ وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُدْلِي بِهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَبِ مَجَازًا إلَّا فِي فَصْلٍ وَهُوَ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ فَإِنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ فَإِنْ كَانَ مَكَانُ الْأَبِ جَدًّا فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. فَأَمَّا الْأُمُّ فَإِنَّهَا صَاحِبَةُ فَرْضٍ وَلَهَا فِي الْمِيرَاثِ حَالَانِ إمَّا السُّدُسُ وَإِمَّا الثُّلُثُ لَا تُنْقَصُ مِنْ السُّدُسِ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ، وَلَا تُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا عِنْدَ الرَّدِّ أَمَّا السُّدُسُ لَهَا مَعَ الْوَلَدِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وَالثُّلُثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وَالسُّدُسُ لَهَا مَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لَهُمَا. فَأَمَّا مَعَ الْإِخْوَةِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي فُصُولٍ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا أَنَّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ، وَعِنْدَ الِانْفِرَادِ حَتَّى أَنَّ فَرْضَهَا السُّدُسُ مَعَ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ كَمَا فِي الذُّكُورِ الْمُفْرَدِينَ وَكَمَا مَعَ الذُّكُورِ مَعَ الْإِنَاثِ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاطُ فِي الْمَثْنَى مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ فَرِيضَتُهَا السُّدُسُ مَعَهُمَا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرِيضَتُهَا الثُّلُثُ مَعَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَثْلَاثًا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 144 إخْوَةٌ} [النساء: 11]، وَذَلِكَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَالْحَجْبُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِشَرْطِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْمَثْنَى مِنْ الْأَخَوَاتِ كَالثَّلَاثِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]. فَكَذَلِكَ الْمَثْنَى كَالثَّلَاثِ فِي الْحَجْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَنَاتِ أَنَّ الْمَثْنَى حُكْمُ الْجَمْعِ فِي الْحَجْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ جَمِيعًا، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ فَقَدْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ النَّصِّ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْإِخْوَةِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ. وَعَلَى قَوْلِ الزَّيْدِيَّةِ الْحَجْبُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ قَالُوا لِأَنَّ هَذَا الْحَجْبَ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ وَهُوَ عِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ يَكْثُرُ عِيَالُ الْأَبِ فَيُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ مَالٍ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَالْأُمُّ لَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَيْسَتْ عَلَى الْأَبِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الْأُمِّ فَهِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ مَالٍ لِأَجْلِهِمْ فَلَا تُحْجَبُ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِاعْتِبَارِهِمْ وَحُجَّتُنَا ظَاهِرُ الْآيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْأُخُوَّةِ حَقِيقَةً لِلْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْأَخَ مَنْ جَاوَرَ غَيْرَهُ فِي صُلْبٍ، أَوْ رَحِمٍ، وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَقَوْلُهُمْ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَلَا نَفَقَةَ هُنَا عَلَى الْأَبِ وَيُحْجَبُونَ إذَا كَانُوا كِبَارًا وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ مِنْ نَفَقَتِهِمْ شَيْءٌ ثُمَّ السُّدُسُ الَّذِي يُحْجَبُ عَنْهُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ يَكُونُ لِلْأَبِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ إنَّ ذَلِكَ لِلْإِخْوَةِ بَيَانُهُ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ أَبَوَيْنِ وَإِخْوَةً عِنْدَنَا لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَعِنْدَهُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالسُّدُسُ لِلْإِخْوَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ طَاوُسٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى الْإِخْوَةَ السُّدُسَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ»، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِخْوَةَ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا، أَوْ أَرِقَّاءَ لَا يَحْجُبُونَ فَلَمَّا حَجَبُوا الْأُمَّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ وَرَثَةٌ مَعَ الْأَبِ، وَلَا يَرِثُونَ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ الْأَبِ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مِقْدَارُ مَا نَقَصُوا مِنْ نَصِيبِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ سُدُسٌ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، ثُمَّ هُنَاكَ الْمُرَادُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ حَالًا يَكُونُ الْوَارِثُ فِيهِ الْأَبَوَانِ فَقَطْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فَبَيَّنَ نَصِيبَ الْأُمِّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نَصِيبِهَا بِوُجُودِ الْغَيْرِ فَيَبْقَى مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 145 أَنَّ الْوَارِثَ هُمْ الْأَبَوَانِ فَقَطْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ لَقِيت ابْنَ رَجُلٍ مِنْ الْإِخْوَةِ الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ السُّدُسَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا لَنَا لِأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ فَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِخْوَةَ بِالْوَصِيَّةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ وَالْمَعْنَى الَّذِي قَالَ هُوَ كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فِي حَقِّ مَنْ يَحْجُبُهُ وَالْأَخُ وَارِثٌ فِي حَقِّ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا يَحْجُبُ الْأُمَّ بِخِلَافِ الرَّقِيقِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ هُوَ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ لِأَنَّ حَالَّ الْإِخْوَةِ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ وَهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا وَالِدٌ، وَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْأُمِّ فَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْأَخُ شَيْئًا مَعَ الْأَبِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَثْبُتُ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ كَمَذْهَبِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا فَكَيْفَ يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ وَيَخْتَلِفُونَ أَيْضًا فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَكَذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ عِنْدَ مَنْ سَمَّيْنَا، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيَ زَيْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ نَشَدْتُك اللَّهَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّنِي قُلْت ذَلِكَ بِرَأْيِي فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ رَأْيِك وَحُجَّتُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] يَعْنِي ثُلُثَ التَّرِكَةِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وَعَلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] يَعْنِي نِصْفَ مَا تَرَكَ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَقَصَ نَصِيبُ الْأُمِّ بِالزَّوْجِ لِأَنَّ سَبَبَ وِرَاثَةِ الْأُمِّ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الزَّوْجِ فَإِنَّ سَبَبَ وِرَاثَتِهَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ وَالدَّفْعَ فَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْقَصَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا لِمَكَانِ الزَّوْجِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْأَبُ، وَقَدْ يُنْتَقَصُ نَصِيبُ الْأَبِ لِوُجُودِ الزَّوْجِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَرَكَتْ أَبَاهَا وَحْدَهُ كَانَ لَهُ جَمِيعُ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَبِ زَوْجُهَا فَلَهُ نِصْفُ الْمَالِ، وَلَا يُنْتَقَصُ نَصِيبُ الْأُمِّ لِمَكَانِ الزَّوْجِ بِحَالٍ فَإِدْخَالُ ضَرَرِ النُّقْصَانِ عَلَى الْأَبِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْأُمِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِقْهِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ عَصَبَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الْعَصَبَاتِ وَأَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 146 مُقَدَّمُونَ فَيُعْطُونَ فَرِيضَتَهُمْ، ثُمَّ مَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ وَاعْتِبَارُ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ وُجُودِ الْمُزَاحَمَةِ وَيُقَاسُ بِمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ جَدٌّ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَحُجَّتنَا فِي ذَلِكَ {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ فَلِأُمِّهِ ثُلُثُ مَا وَرِثَهُ أَبَوَاهُ إذْ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا صَارَ قَوْلُهُ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فَصْلًا خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَقَدْ كَانَ يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَلَمَّا قَالَ هُنَا {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ لَهَا مِيرَاثُ الْأَبَوَيْنِ وَمِيرَاثُ الْأَبَوَيْنِ مَا بَقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ عَلَّقَ إيجَابَ الثُّلُثِ لَهَا بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْوَلَدِ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ أَبَوَيْنِ فَقَطْ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] شَرْطٌ وقَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] عَطْفٌ عَلَى شَرْطٍ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ وَالْمُتَعَلِّقُ بِشَرْطَيْنِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِمَا يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِهِمَا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ثُلُثَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لَهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْأُصُولِ كَالِابْنِ وَالْبِنْتِ فِي الْفُرُوعِ لِأَنَّ سَبَبَ وِرَاثَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الْبِنْتِ عَلَى الِابْنِ، وَلَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفُرُوعِ بَلْ يَكُونُ لِلْأُنْثَى مِثْلَ نِصْفِ نَصِيبِ الذَّكَرِ. فَكَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ وَيُقَاسُ مَا بَقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مَكَانُ الْأَبِ جَدًّا فَيَقُولُ تَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، أَوْ التَّسْوِيَةُ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُرْبِ، وَلَا مُسَاوَاةَ فَالْأُمُّ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالْجَدُّ لَا يَتَّصِلُ بِهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَدَّ قَدْ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَهُوَ الْأَبُ وَالْأُمُّ لَا تَحْرُمُ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهَا بِحَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فَلِهَذَا أَعْطَيْنَاهَا مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ وَمَعَ الْأَبِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَكَانَ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ مَعَ الزَّوْجِ وَثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجَةِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ مَعَ الزَّوْجِ لَوْ أَعْطَيْنَاهَا ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ إلَّا السُّدُسُ فَيَكُونُ فِيهِ تَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَلَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا الْجَدَّةُ فَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ فَرِيضَتُهَا السُّدُسُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ» وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ فَإِنْ اجْتَمَعَتَا فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ الْأُمِّ جَاءَتْ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَتْ أَعْطِنِي مِيرَاثَ وَلَدِ ابْنَتِي فَقَالَ لَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصِيبًا وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 147 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيك شَيْئًا، وَلَكِنِّي أُشَاوِرُ أَصْحَابِي فَجَمَعَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ الْأَبِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ أَعْطِنِي مِيرَاث وَلَدَ ابْنِي فَقَالَ لَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصِيبًا وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيك شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَى أَنَّ ذَلِكَ السُّدُسَ بَيْنَكُمَا إذَا اجْتَمَعَتَا وَهُوَ لِمَنْ انْفَرَدَ مِنْكُمَا، ثُمَّ لَا يَزْدَادُ نَصِيبُ الْجَدَّاتِ عَلَى السُّدُسِ، وَإِنْ كَثُرْنَ إلَّا عِنْدَ الرَّدِّ، وَلَا يُنْقَصُ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ. فَأَمَّا الزَّوْجُ فَهُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ وَلَهُ حَالَانِ النِّصْفُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى وَالرُّبُعُ عِنْدَ وُجُودِهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] الْآيَةَ، وَلَا يَزْدَادُ الزَّوْجُ عَلَى النِّصْفِ بِذَلِكَ بِحَالٍ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الرُّبُعِ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ وَلَهَا حَالَانِ الرُّبُعُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى وَالثُّمُنُ عِنْدَ وُجُودِهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الْآيَةَ وَنَصِيبُ الزَّوْجَاتِ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا لَا يُزَادُ لَهُنَّ عَلَى الرُّبُعِ بِحَالٍ، وَلَا يُنْقَصُ عَنْ الثُّمُنِ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ، وَلَا يُحْجَبُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِأَحَدٍ، وَلَا سَبَبٍ إلَّا بِقَتْلٍ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَجْبَ نَوْعَانِ حَجْبُ حِرْمَانٍ وَحَجْبُ نُقْصَانٍ فَحَجْبُ الْحِرْمَانِ نَحْوُ حَجْبِ الْأَجْدَادِ بِالْأَبِ وَالْجَدَّاتِ بِالْأُمِّ وَحَجْبُ النُّقْصَانِ نَحْوُ حَجْبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ حَجْبَ الْحِرْمَانِ لَا يَثْبُتُ بِمَنْ هُوَ غَيْرُ وَارِثٍ بِسَبَبِ الْقَتْلِ أَوْ الرِّقِّ، أَوْ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ حَجْبُ النُّقْصَانِ فِي أَكْثَرِ قَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَبَتَ حَجْبُ النُّقْصَانِ بِمَنْ لَا يَكُونُ وَارِثًا وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا الْحَجْبُ بِالنَّصِّ ثَابِتٌ بِالْوَلَدِ وَبِالْإِخْوَةِ وَبِسَبَبِ الرِّقِّ وَالْقَتْلِ وَالْكُفْرِ لَا بِقَيْدِ هَذَا الِاسْمِ فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْأَخِ وَالْوَلَدِ وَارِثًا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَجْبِ الْحِرْمَانِ لِأَنَّ حَجْبَ الْحِرْمَانِ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مُسْتَحِقًّا. فَأَمَّا حَجْبُ النُّقْصَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَالْإِخْوَةِ لَا يُوجِبُ لَهُ إلَّا أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَالْأَخُ وَارِثًا، وَلَا يَكُونُ وَارِثًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ جُعِلَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ كَالْمَيِّتِ. فَكَذَلِكَ فِي الْحَجْبِ هُوَ كَالْمَيِّتِ وَكَمَا أَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا فَبِالْمَوْتِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، ثُمَّ شَرَطْنَا كَوْنَهُ وَلَدًا حَيًّا لِلْحَجْبِ بِالِاتِّفَاقِ. فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ وَارِثًا حُرًّا لِلْحَجْبِ وَنَفْسُ حَجْبِ النُّقْصَانِ عَلَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 148 حَجْبِ الْحِرْمَانِ فِي الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ فِي حَجْبِ الْحِرْمَانِ تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ فِي الْكُلِّ، وَفِي حَجْبِ النُّقْصَانِ تَقْدِيمُ الْحَاجِبِ عَلَى الْمَحْجُوبِ فِي الْبَعْضِ. فَإِذَا شُرِطَ هُنَاكَ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فِي الْحَاجِبِ. فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ التَّشْبِيهِ فِي مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَيُسَمَّى هَذَا بَابَ التَّفْوِيضِ وَبَابَ تَرْتِيبِ الْأَنْسَابِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي جِنْسِ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ لِتَسْجِيدِ الْخَوَاطِرِ فَنَقُولُ إنَّكَ تَسْأَلُ عَنْ ثَلَاثَةِ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ فَالْأَصْلُ فِي تَخْرِيجِ الْجَوَابِ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَةَ الِابْنِ تَقُومُ مَقَامَ ابْنَةِ الصُّلْبِ عِنْدَ عَدَمِهَا وَابْنَةُ ابْنِ الِابْنِ تَقُومُ مَقَامَ ابْنَةِ الِابْنِ عِنْدَ عَدَمِهَا، ثُمَّ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعُلْيَا مِنْهُنَّ ابْنَةُ الِابْنِ وَالْوُسْطَى ابْنَةُ ابْنِ الِابْنِ وَالسُّفْلَى ابْنَةُ ابْنِ ابْنِ الِابْنِ فَيَكُونُ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ ابْنَةِ الصُّلْبِ وَالْوُسْطَى السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلسُّفْلَى فَإِنْ كَانَ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامٌ قُلْت إنْ كَانَ الْغُلَامُ مَعَ الْعُلْيَا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْوُسْطَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلسُّفْلَى لِأَنَّ الذَّكَرَ لَا يَعْصِبُ مَنْ دُونَهُ بِدَرَجَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ مَعَ السُّفْلَى فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ السُّفْلَى وَالْغُلَامِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا جَدُّهَا أَبُ أَبِيهَا فَقُلْ هَذَا الْمَيِّتُ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَالسُّؤَالُ مُحَالٌ لِأَنَّ أَبَ الْأَبِ أَبُ أَبِ الْعُلْيَا وَهُوَ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَالسُّؤَالُ صَحِيحٌ وَهَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يَذْكُرْ فِي السُّؤَالِ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ قُلْنَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ إشَارَةً بِذِكْرِهِ إيَّاهُ فِي جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ مَعَ أَنَّا عَرَفْنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا، وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الزَّوَالِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا جَدَّتُهَا أُمُّ أَبِيهَا قُلْنَا إنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَالسُّؤَالُ مُحَالٌ لِأَنَّ أُمَّ أَبٍ الْعُلْيَا هِيَ الْمَيِّتَةُ نَفْسُهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَالسُّؤَالُ مُسْتَقِيمٌ وَأُمُّ أَبٍ الْعُلْيَا زَوْجَةُ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لَهَا الثُّمُنُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ ابْنِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا عَمُّهَا فَنَقُولُ عَمُّ الْعُلْيَا ابْنُ الْمَيِّتِ فَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا عَمَّتُهَا فَعَمَّةُ الْعُلْيَا ابْنَةُ الْمَيِّتِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 149 فَلَهَا النِّصْفُ وَلِلْعُلْيَا السُّدُسُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا عَمُّ ابْنِهَا فَعَمُّ ابْنِهَا أَخُ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا عَمَّةُ ابْنِهَا فَعَمَّةُ ابْنِهَا أُخْتُ الْمَيِّتِ فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ فَإِنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ فَنَقُولُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَالْمَالُ بَيْنَ عَمِّ الْعُلْيَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَمِّهَا لِأَبٍ نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ لِعَمِّهَا لِأُمِّهَا لِأَنَّ عَمَّهَا لِأُمٍّ ابْنُ امْرَأَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَالْمَالُ بَيْنَ عَمِّ الْعُلْيَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَمِّهَا لِأُمٍّ نِصْفَانِ لِأَنَّهُمَا ابْنَا الْمَيِّتِ، وَلَا شَيْءَ لِعَمِّهِمَا لِأَبٍ لِأَنَّهُ ابْنُ زَوْجِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَهُوَ كَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَعَمَّةُ الْعُلْيَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَمَّتُهَا لِأُمٍّ ابْنَتَا الْمَيِّتِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَالْمَالُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتِهَا لِأَبٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهَا لِأُمٍّ لِأَنَّهَا ابْنَةُ امْرَأَةِ ابْنِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَأُخُوَّتُهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَأُخْتُهَا لِأَبِيهَا فِي دَرَجَتِهَا فَيَكُونُ لَهُمْ الثُّلُثَانِ وَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهَا لِأُمِّهَا لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنِ امْرَأَةِ ابْنِ الْمَيِّتِ وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْفَصْلِ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى فَإِنْ كَانَ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ فَنَقُولُ الْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي دَرَجَةِ الْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ لِلْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ سِوَاهُنَّ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي غُلَامٌ فَالْبَاقِي بَيْنَ السُّفْلَى مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَالْغُلَامُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلسُّفْلَى مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ مَعَ السُّفْلَى مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي فَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغُلَامَ كَمَا يَعْصِبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ يَعْصِبُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ بِدَرَجَةٍ إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِالْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ مَعَ الْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي فَلِلْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْوُسْطَى مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَالْغُلَامُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ مَعَ الْعُلْيَا مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ وَمَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ بَنِي أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ فَالْمَالُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّهَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَيْنَ ابْنِ عَمّهَا لِأَبٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ ابْنَ عَمِّهَا فِي دَرَجَةِ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ رَجُلًا كَانَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 150 أَوْ امْرَأَةً فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ بَنَاتِ أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ فَلِلْعُلْيَا، وَمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَطَرِيقُ تَخْرِيجِهِ مَا بَيَّنَّا وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ الْمُعَايَاةِ وَمُتَشَابِهُ الْأَنْسَابِ، وَلَكِنْ أَوْرَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَلِكَ بَابًا فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَيُؤَخَّرُ الْبَيَانُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْأَصْلُ فِي تَوْرِيثِهِمْ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إحْدَاهُمَا قَوْله تَعَالَى {، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ، أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] مَعْنَاهُ أَخٌ، أَوْ أُخْتٌ لِأُمٍّ هَكَذَا فِي قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةِ آيَةَ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا فِي النِّسَاءِ نَزَلَتْ وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلَى آخِرِ السُّورَةِ وَالْمُرَادُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ هَكَذَا قَالَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الصَّيْفِ لِأَنَّ نُزُولَهَا كَانَ فِي الصَّيْفِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَتَيْنِ وَهُوَ الْكَلَالَةُ أَنَّهُ عِبَارَةُ عَمَّا خَلَا عَنْ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَفِي آيَةِ النِّسَاءِ الْكَلَامُ مُبْهَمٌ جِدًّا، وَفِي آيَةِ الصَّيْفِ زِيَادَةُ بَيَانٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَكَانَ «عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ الْكَلَالَةِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ لَمَّا أَلَحَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّؤَالِ عَنْهُ وَضَعَ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ أَمَا يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ»، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى الْآيَةِ لِيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِ مَعْنَاهَا فَيَنَالَ ثَوَابَ الْمُجْتَهِدِينَ وَرُوِيَ أَنَّ «ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَتَى وَجَدْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيِّبَةَ نَفْسٍ فَسَلِيهِ عَنْ الْكَلَالَةِ فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثِيَابَهُ يَوْمًا لِيَخْرُجَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْكَلَالَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبُوك أَمَرَك بِذَلِكَ مَا أَرَاهُ يَعْرِفُ الْكَلَالَةَ فَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مَا أَرَانِي أَعْرِفُ الْكَلَالَةَ بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا قَالَ» وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا ثَلَاثًا وَلَوْ عَلِمْتهَا لَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الدِّينَا، وَمَا فِيهَا الْكَلَالَةُ وَالْخِلَابَةُ وَالرِّبَا وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنِّي رَأَيْت فِي الْكَلَالَةِ رَأْيًا فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ أَرَى الْكَلَالَةَ مَا خَلَا عَنْ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَاتَّبَعَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَأْيِهِ وَقَالَ لَا أَرْضَى الجزء: 29 ¦ الصفحة: 151 مِنْ نَفْسِي أَنِّي أُنْسَبُ إلَى مُخَالِفَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي كَتِفٍ فَلَمَّا طُعِنَ وَأَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ دَعَا بِالْكَتِفِ وَمَحَاهُ وَقَالَ اشْهَدُوا أَنِّي أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا قَوْلَ لِي فِي الْكَلَالَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْأَبَ بِالْأَخِ، وَلَا أَنَّهُ يُنْقِصُ نَصِيبَهُ مِنْ السُّدُسِ بِسَبَبِ الْأَخِ وَلَمْ يَبْقَ السُّدُسُ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ كَلَالَةً وَأَمَّا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَأَخٍ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّدُسُ فَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَلَالَةً مَعَ قِيَامِ الْأَبِ عِنْدَهُ لَصَارَ ذَلِكَ السُّدُسُ لِلْأَخِ لِأُمٍّ فَيَصِيرُ الْأَبُ مَحْجُوبًا بِسَبَبِ الْأَخِ لِأُمٍّ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ هَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَالِدٌ فَقُلْت إنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] يَعْنِي الْكَلَالَةَ هَالِكٌ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا وَالِدٌ» وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَهُوَ يَشْمَلُ الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ جَمِيعًا فَإِنَّ اسْمَ الْوَلَدِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوِلَادَةِ وَيُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى الْوَالِدِ لِتَوَلُّدِ الْوَلَدِ مِنْهُ وَعَلَى الْوَلَدِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ الْوَالِدِ كَاسْمِ الذُّرِّيَّةِ يَتَنَاوَلُ الْأَوْلَادَ وَالْآبَاءَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآيَةً لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] يَعْنِي آبَاءَهُمْ فَسُمِّيَ الْأَبُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْوَلَدَ ذُرِيَ مِنْهُ وَسُمِّيَ بِهِ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ ذُرِيَ مِنْ الْأَبِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] الْوَلَدُ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَهُ وَلَدُ ابْنٍ لَا يَكُونُ كَلَالَةً لِوُجُودِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ. فَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَبٌ لَا يَكُونُ كَلَالَةً لِوُجُودِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ وَمِنْ حَيْثُ مَعْنَى اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ الْحُجَّةُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ السَّبَبَ نَوْعَانِ سَرْدٌ وَكَلَالَةٌ فَالسَّرْدُ لَا يُتْبِعُ فَرْدًا فَرْدًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ نَسَبٌ تَوَارَثَ كَابِرٌ عَنْ كَابِرٍ ... كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 152 وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ يُتْبِعُ فَرْدًا فَرْدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا سِوَى ذَلِكَ وَمِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَنَّ اشْتِقَاقَ الْكَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ أَحَاطَ بِهِ وَمِنْهُ يُقَالُ تَكَلَّلَ الْغَمَامُ السَّمَاءَ أَيْ أَحَاطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِجَوَانِبِ الرَّأْسِ وَمِنْهُ الْكُلُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ وَالْإِحَاطَةُ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّ اتِّصَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا سِوَى الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَإِنَّ الِاتِّصَالَ يُحِيطُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنْ ابْنَيْ مُنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ وَقِيلَ اشْتِقَاقُ الْكَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ أَيْ بَعُدَ وَمِنْهُ الْكَلُّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا تَبَاعَدَ عَنْ الْمَقْصُودِ وَمَعْنَى التَّبَاعُدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ لِكَوْنِ الِاتِّصَالِ بِوَاسِطَةٍ، أَوْ وَاسِطَتَيْنِ، أَوْ وَاسِطَاتٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ ... وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَبَ مِنْ الْكَلَالَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْكَلَالَةَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى هُوَ اسْمٌ لِمَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ هُوَ اسْمٌ لِوَرَثَةِ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ، وَلَا وَالِدٌ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] أَيْ يُورَثُ فِي حَالِ مَا يَكُونُ كَلَالَةً فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبَ زَيْدًا قَائِمًا، وَإِنَّمَا يُورَثُ الْمَيِّتُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكَلَالَةَ صِفَةٌ لَهُ وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] أَيْ يَسْتَفْتُونَك عَنْ الْكَلَالَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِفْتَاءُ عَنْ وَرَثَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ لَا يُفْهَمُ بِهَذَا السُّؤَالِ شَيْءٌ وَالْآيَةُ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ بِيُورَثُ وَبِالْكَسْرِ بِوَرَثَةٍ وَالْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ وَتَأْوِيلُ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ يَتَنَاوَلُ الْوَرَثَةَ وَيَتَنَاوَلُ الْمَيِّتَ كَاسْمِ الْأَخِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ بِالسَّنَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْوَرَثَةُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا وَعِيَالًا فَعَلَيَّ نَفَقَتُهُ» يَعْنِي كَلَالَةً إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ بَنُو الْأَعْيَانِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَتَمَامُ الِاتِّصَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَقِّهِمْ وَبَنُو الْعَلَّاتِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ قَالَ الْقَائِلُ وَيُوسُفُ إذْ دَلَّاهُ أَوْلَادُ عَلَّةٍ ... فَأَصْبَحَ فِي قَعْرِ الرَّكِيَّةِ ثَاوِيَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 153 وَبَنُو الْأَخْيَافِ وَهُوَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ أَخْيَفُ إذَا كَانَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ زَرْقَاءَ وَالْأُخْرَى كَحْلًا فَنُسِبَ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ إلَى شَيْءٍ وَبِأُخْرَى إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَحَالُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ كَذَلِكَ. ثُمَّ نَبْدَأُ بِبَيَانِ مِيرَاثِ بَنِي الْأَخْيَافِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِيرَاثَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] أَيْ لِأُمٍّ وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُمْ أَصْحَابُ الْفَرِيضَةِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ السُّدُسُ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى وَلِلْمَثْنَى فَصَاعِدًا مِنْهُمْ الثُّلُثُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ لَا يُزَادُ لَهُمْ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ كَثُرُوا إلَّا عِنْدَ الرَّدِّ فَلَا يُنْتَقَصُ الْفَرْدُ مِنْهُمْ عَنْ السُّدُسِ إلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ، وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَلَفْظُ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ ذُكُورِهِمْ، وَإِنَاثِهِمْ وَالْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ فَيُعْتَبَرُ مِيرَاثُهُمْ بِمِيرَاثِ الْمُدْلِي بِهِ وَلِلْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ حَالَانِ فَالْفَرْدُ مِنْهُمْ يُعْتَبَرُ حَالُهُ بِأَسْوَإِ حَالَيْ الْأُمِّ فَلَهُ السُّدُسُ وَالْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ يُعْتَبَرُونَ بِأَخَسِّ حَالَيْ الْأُمِّ لِتَقَوِّي حَالِهِمْ بِالْعَدَدِ وَفِي مَعْنَى الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَوَاءٌ وَيُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ، وَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْعُصُوبَةِ ثُمَّ هُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَمَعَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي تَوْرِيثِهِمْ الْكَلَالَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا خَلَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُمْ لَا يَسْقُطُونَ بِبَنِي الْأَعْيَانِ وَلَا بِبَنِي الْعَلَّاتِ، وَلَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُمْ بِبَنِي الْعَلَّاتِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْقُصُ نَصِيبُهُمْ بِبَنِي الْأَعْيَانِ أَمْ لَا وَبَيَانُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الثُّلُثُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِالسَّوِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُشَرِّكَةُ. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفِي التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى التَّشْرِيكِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا نَفْيُ التَّشْرِيكِ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ وَالْحِمَارِيَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِأَبٍ وَأُمٍّ سَأَلُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِنَفْيِ التَّشْرِيكِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَوَّلًا فَقَالُوا هَبْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 154 أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَدَقْتُمْ وَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ، وَقَدْ اسْتَوْفَوْا فِي الْإِدْلَاءِ إلَى الْمَيِّتِ بِالْأُمِّ وَيُرَجَّحُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِالْإِدْلَاءِ إلَيْهِ بِالْأَبِ فَإِنْ كَانُوا لَا يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فَلَا يَبْقَى هُنَا شَيْءٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْإِدْلَاءِ بِقَرَابَةِ الْأَبِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْإِدْلَاءُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَاحْتِجَاجُنَا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا هَبْ أَنْ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَنَّا إذَا جَعَلْنَا أَبَاكُمْ حِمَارًا فَإِنَّا نَجْعَلُ أُمَّكُمْ أَتَانًا فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِدْلَاءِ بِهَا شَيْءٌ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِقَرَابَةِ الْأَبِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ وَبَعْدَ مَا وُجِدَ هَذَا السَّبَبُ لَا تَكُونُ قَرَابَةُ الْأُمِّ عِلَّةً الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ تَكُونُ عِلَّةً لِلتَّرْجِيحِ فَلِهَذَا يُرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ، وَمَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي حَقِّهِمْ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ الْعُصُوبَةُ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ مَعَ وُجُودِ الْقَوِيِّ فَلَا يَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْفَرِيضَةِ فِي حَقِّ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ وَجَبَ إلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا فَإِنْ بَقِيَ سَهْمٌ فَهُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. وَإِذَا اعْتَبَرَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ لِتَرَجُّحِ قَرَابَةِ الْأَبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لَهُمْ كَمَا يُرَجَّحُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ هُنَاكَ أَخٌ وَاحِدٌ لِأُمٍّ وَعَشَرَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ هُنَا فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ مُعْتَبَرًا لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ وَبَقِيَ تَفْضِيلُ الْأَخِ لِأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ إذْ عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَوْ كَانَ مَكَانُ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مُشَرِّكَةً لِأَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَيْنِ بِالْفَرِيضَةِ وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَوْلِيَّةً وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانُهُمَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ لَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مُشَرِّكَةً لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ بِالتَّشْرِيكِ إنَّمَا يَقُولُ بِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْأَخُ لِأُمٍّ وَاحِدًا لَا تَكُونُ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ. فَأَمَّا بَيَانُ مِيرَاثِ بَنِي الْأَعْيَانِ فَنَقُولُ إنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ أَوْلَادِ الصُّلْبِ عِنْدَ عَدَمِهِمْ فِي التَّوْرِيثِ ذُكُورُهُمْ مَقَامَ ذُكُورِهِمْ، وَإِنَاثُهُمْ مَقَامَ إنَاثِهِمْ حَتَّى أَنَّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً الجزء: 29 ¦ الصفحة: 155 فَلَهَا النِّصْفُ وَلِلْمَثْنَى فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] كَمَا فِي مِيرَاثِ الْبَنَاتِ إذَا كُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ هُنَا وَنَصَّ عَلَى مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ هُنَا وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ ثَمَّةَ لِيُسْتَدَلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِلْفَرْدِ مِنْهُمْ إذَا كَانَ ذَكَرًا جَمِيعُ الْمَالِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] أَيْ يَرِثُهَا جَمِيعَ الْمَالِ، وَإِنْ كَثُرُوا فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْأَبْنَاءِ وَعِنْدَ اخْتِلَاطِ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] كَمَا هُوَ فِي مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَالْإِرْثُ خِلَافَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ عَمَّا يَخْلُفُهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدِ مَوْتِهِ وَالْخِلَافَةُ إمَّا بِالْمُنَاسَبَةِ، أَوْ بِالْمُوَاصَلَةِ، أَوْ بِالْقَرَابَةِ وَمِيرَاثُ بَنِي الْعَلَّاتِ كَمِيرَاثِ أَوْلَادِ الِابْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ عِنْدَ عَدَمِ بَنِي الْأَعْيَانِ يَقُومُ ذُكُورُهُمْ مَقَامَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثُهُمْ مَقَامَ إنَاثِهِمْ كَأَوْلَادِ الِابْنِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الذَّكَرِ مِنْ بَنِي الْأَعْيَانِ شَيْئًا كَمَا لَا يَرِثُ أَوْلَادُ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ حَتَّى أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ لَا تَرِثُ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَا تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ إذَا كَانَ مَعَهَا أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ بَلْ يَكُونُ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ، وَإِنْ كَانَ بَنُو الْأَعْيَانِ إنَاثًا مُفْرَدَاتٍ فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِبَنِي الْعَلَّاتِ إذَا كُنَّ إنَاثًا مُفْرَدَاتٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلَطِينَ فَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْظَرُ لِلْإِنَاثِ مِنْهُمْ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى السُّدُسِ فَلَهُنَّ شَرُّهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَنُو الْأَعْيَانِ بِنْتَيْنِ مِنْ الْإِنَاثِ فَصَاعِدًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخَوَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبُهُنَّ فِيمَا بَقِيَ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي لِلذَّكَرِ خَاصَّةً وَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِضْرَارِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَوْلَادِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الصُّلْبِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَوْرِيثِهِمْ مَعَ الْجَدِّ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ شَيْئًا لِأَنَّ شَرْطَ تُورَثِيهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هَالِكًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] وَمَنْ لَهُ ابْنٌ فَلَيْسَ بِهَالِكٍ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي تَوْرِيثِهِمْ مَعَ الْبَنَاتِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِنَاثِ الْمُفْرَدَاتِ مِنْهُمْ دُونَ الذُّكُورِ حَتَّى إنَّ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَةً أَوْ ابْنَتَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ نِصْفًا كَانَ، أَوْ ثُلُثًا، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَأَقْرَبُ رَجُلٍ ذَكَرٍ هُوَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 156 الْأَخُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعَ الِابْنَةِ، أَوْ الِابْنَتَيْنِ أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ نِصْفًا كَانَ، أَوْ ثُلُثًا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْأَخَوَاتِ يَصِرْنَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَصِرْنَ عَصَبَةً وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَ الذُّكُورُ بِالْإِنَاثِ مِنْ الْإِخْوَةِ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ فَالْأُخْتُ تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِأَنْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنَةٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ وَأُخْتٍ لِأَبٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعِنْدَنَا الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَحُجَّتُهُ مَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ فَرِيضَةٍ فِيهَا ابْنَةٌ وَأُخْتٌ فَقَالَ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ فَقُلْت قَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ فَغَضِبَ وَقَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] قَالَ الزُّهْرِيُّ فَلَمْ أَفْهَمْ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى سَأَلْت عَنْهُ عَطَاءً فَقَالَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ فَإِنَّ اسْمَ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَجَبَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْوَلَدِ اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَمَّا حَجَبَ الزَّوْجَ عَنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبُعِ وَالْمَرْأَةَ إلَى الثُّمُنِ مِنْ الرُّبُعِ بِالْوَلَدِ اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَكَذَلِكَ هُنَا شُرِطَ عَدَمُ الْوَلَدِ لِتَوْرِيثِ الْأُخْتِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْفَرِيضَةِ يَسْتَحِقُّهُ الْعَصَبَةُ بِالنِّسْبَةِ وَالْأَخُ عَصَبَةٌ. فَأَمَّا الْأُخْتُ فَلَيْسَتْ بِعَصْبَةٍ لِأَنَّهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا تَكُونُ عَصَبَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ عَصَبَةً بِغَيْرِهَا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَصَبَةً وَالِابْنَةُ لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عَصَبَةً مَعَهَا. وَلَوْ صَارَ عَصَبَةً مَعَهَا لَشَارَكَهَا فِي الْمِيرَاثِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يُشَارِكُهَا فِي نَصِيبِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يُخَالِطَهَا ذَكَرٌ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ عَصَبَةً بِالذَّكَرِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَمَعْنَاهُ ابْنٌ بِدَلِيلِ مَا عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فَإِنَّ مَعْنَاهُ بِالِاتِّفَاقِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 157 إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ابْنٌ حَتَّى إنَّ الْأَخَ يَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ فَإِنْ قِيلَ هُمَا شَرْطَانِ ذُكِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَادِثَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِهِمَا الذَّكَرُ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي الذَّكَرُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ الْكُلُّ شَرْطٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ ذُكِرَ أَوَّلًا إذَا كَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَيِّتُ يُجْعَلُ لِلْمَيِّتِ النِّصْفُ، ثُمَّ قُلْت الْمَسْأَلَةُ بِجَعْلِ الْأُخْتِ هِيَ الْمَيِّتَ وَالْأَخِ هُوَ الْوَارِثَ وَجَعْلِ لَهُ جَمِيعَ الْمَالِ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الشَّرْطَ وَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ الْوَلَدِ، ثُمَّ الْمُرَادُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى فَكَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سُئِلَ عَنْ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ قَدْ ضَلَلْت إذًا، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ» فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ عَصَبَةٌ مَعَ الْبِنْتِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ حَالَ الْأُخْتِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الِاخْتِلَاطِ بِالْإِخْوَةِ لِأَنَّ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ حَالُ مُزَاحَمَةٍ وَحَالَ الِانْفِرَادِ حَالُ عَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ. فَإِذَا كَانَتْ هِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ فِي حَالَةِ الِاخْتِلَاطِ بِالْإِخْوَةِ فَلَأَنْ لَا تُحْجَبَ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ كَانَ أَوْلَى وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ وُجُودَ عَيْنِ الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ حِرْمَانَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَإِنَّمَا يَحْجُبُونَ بِفَرِيضَةِ الِابْنَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ لِأَبَوَيْنِ السُّدُسَ مَعَ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَجْبُ الْأَخَوَاتِ بِفَرِيضَةِ الْبَنَاتِ لَكَانَتْ تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ فِي فَرِيضَةِ الْبَنَاتِ كَبَنَاتِ الِابْنِ فَإِنَّهُنَّ يُزَاحِمْنَ الِابْنَةَ الْوَاحِدَةَ فِي فَرِيضَةِ الْبَنَاتِ فَيَكُونُ لَهُنَّ السُّدُسُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَجْبَ الْأَخَوَاتِ بِفَرِيضَةِ الْبَنَاتِ فِيمَا وَرَاءَ فَرِيضَةِ الِابْنَةِ انْعَدَمَ الْحَجْبُ فَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُنَّ بِخِلَافِ بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الِابْنَتَيْنِ لِأَنَّ حَجْبَهُنَّ بِوُجُودِ الْبَنَاتِ لَا بِفَرِيضَةِ الْبَنَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَنَاتِ الْمِيرَاثَ يَنْبَنِي عَلَى الْقُرْبِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْوِلَادَةِ فَوَلَدُ الرَّجُلِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِ ابْنِهِ وَوَلَدُ ابْنِهِ أَقْرَبُ مِنْ وَلَدِ جَدِّهِ كَمَا أَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْجَدِّ وَالْأَخَوَاتُ وَلَدُ الْأَبِ وَالْعُصُوبَةُ تُسْتَحَقُّ بِالْوِلَادَةِ لَا بِالْأَبِ فِي الْجُمْلَةِ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعُصُوبَةِ لِوَلَدِ الْأَبِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ مَحْجُوبَاتٍ عَنْ فَرِيضَةِ الْبَنَاتِ. فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ ذَكَرٌ مَعَهُنَّ فَجَعْلُهُنَّ عَصَبَةً بِالذَّكَرِ أَوْلَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُهُنَّ عَصَبَةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا وَرَاءِ فَرِيضَةِ الْبَنَاتِ بِخِلَافِ فَرِيضَةِ بَنَاتِ الِابْنِ فَالْحَاجَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَى ذَلِكَ فِي حَقِّهِنَّ فَإِنَّهُنَّ لَا يُحْجَبْنَ عَنْ فَرِيضَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 158 الْبَنَاتِ بِخِلَافِ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِالْأُمِّ، وَلَا تَأْثِيرِ لِقَرَابَتِهَا فِي الْعُصُوبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الذَّكَرَ هُوَ الَّذِي يُدْلِي بِقَرَابَتِهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ كَلَالَةً مُبْهَمَةً لِتَوْرِيثِ أَوْلَادِ الِابْنِ وَمَنْ لَهُ ابْنَةٌ فَلَيْسَ بِكَلَالَةٍ مُطْلَقًا وَشَرَطَ تَوْرِيثَ أَوْلَادِ الْأَبِ كَلَالَةً مُقَيَّدَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ} [النساء: 176] أَيْ وَلَدٌ ذَكَرٌ بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} [النساء: 176] فَالشَّرْطُ هُنَاكَ عَدَمُ وَلَدٍ ذَكَرٍ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّرْطَ هُنَاكَ نَصًّا بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ لَهُ ابْنَةٌ فَهُوَ كَلَالَةٌ مَعْنًى وَلَيْسَ بِكَلَالَةٍ صُورَةً فَإِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ يَكُونُ مُنْقَطِعَ النَّسَبِ، وَلَا نَسَبَ لِأَحَدِهِمْ فَإِنَّ الْإِخْوَةَ لَا يُنْسَبُونَ إلَى أَخِيهِمْ وَأَوْلَادُ الْبِنْتِ لَا يُنْسَبُونَ إلَى أَبِ أُمِّهِمْ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى أَبِ أَبِيهِمْ فَلِكَوْنِهِ كَلَالَةً مَعْنًى قُلْنَا يَرِثُهُ الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ كَلَالَةٍ صُورَة قُلْنَا لَا يَرِثُهُ الْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَإِنْ كَانُوا يَنَزَّلُونَ مَنْزِلَةَ الْأَوْلَادِ فِي الْإِرْثِ فَلَا يَنَزَّلُونَ مَنْزِلَتَهُمْ فِي الْحَجْبِ حَتَّى إنَّهُمْ لَا يَحْجُبُونَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْحَجْبَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ الْمَعْنَى فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِي الْأَوْلَادِ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ] فَإِنْ سُئِلْت عَنْ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقُونَ فَقُلْ هَذَا مَيِّتٌ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأَرْبَعَ إخْوَةٍ لِأُمٍّ لِأَنَّ أَخَ أَخِيهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِثْلُهُ أَخٌ لِلْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ لِلْمَيِّتِ كَذَلِكَ وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ لِلْمَيِّتِ كَذَلِكَ. فَأَمَّا أَخٌ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخُوهُ هُمَا أَخَوَا الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأَخُوهُ لِأُمٍّ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَرْبَعُ إخْوَةٍ لِأَبٍ وَأَرْبَعُ إخْوَةٍ فَلِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ فَإِنْ قَالَ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَهُوَ فِي الْحَاصِلِ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا فَلِلْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ فَإِنْ قَالَ تَرَكَ ثَلَاثَ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ أَخٍ ثَلَاثُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَمَعَ كُلِّ أُخْتٍ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَهُوَ فِي الْحَاصِلِ تَرَكَ أَخَوَيْنِ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَأَرْبَعَ إخْوَةٍ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا فَيَكُونُ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 159 بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ أَنَّ الثُّلُثَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ فَيَكُونُ قِسْمَةُ هَذَا الْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ عَلَى نَحْوِ قِسْمَةِ مِيرَاثِ الْأُمِّ بَيْنَهُمْ وَمِيرَاثُ الْأُمِّ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، ثُمَّ يُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى فِي حَالَةِ الِاخْتِلَاطِ مِنْ حُكْمِ الْعُصُوبَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ وَالْأُنْثَى قَدْ اسْتَوَتْ بِالذَّكَرِ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَبْدًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ اسْتَوَيَا فِي الْمِيرَاثِ عَنْهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَإِنْ قَالَ تَرَكَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ فَنَقُولُ أَمَّا عَمُّهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَهُوَ أَخٌ الْمَيِّتِ لِأَبٍ لِأَنَّهُ مِثْلُ أَبِيهِ وَأَبُوهُ أَخٌ لِلْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأَمَّا عَمُّهُ لِأُمٍّ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَيِّتِ وَأَمَّا عَمُّهُ لِأَبٍ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ الْمَيِّتِ فَهُوَ أَخٌ الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً أُخْرَى غَيْرَ أُمِّ الْمَيِّتِ فَهُوَ أَخٌ الْمَيِّتِ لِأَبٍ فَفِي حَالِ تَرْكِ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَابْنِ أَخٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَخَوَيْنِ، وَفِي حَالِ تَرْكِ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ قَالَ تَرَكَ ابْنَ الْأَخِ لِأَبٍ مَعَهُ ثَلَاثُ بَنِي أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقِينَ قُلْنَا ابْنُ عَمِّهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مِثْلُهُ ابْنُ أَخٍ الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَابْنُ عَمِّهِ لِأُمِّهِ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَيِّتِ وَابْنُ عَمّه لِأَبِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَمُّهُ لِأُمِّهِ فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ فَقُلْ حِينَئِذٍ ابْنُ عَمِّهِ لِأَبِيهِ إنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أُمِّ الْمَيِّتِ فَهُوَ ابْنُ أَخِ الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ فَإِنْ كَانَ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى غَيْرِ أُمِّ الْمَيِّتِ فَإِنَّمَا تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِي أَخٍ لِأَبٍ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَخْرُجُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ الْعَوْلِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) اعْلَمْ أَنَّ الْفَرَائِضَ ثَلَاثَةٌ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ وَفَرِيضَةٌ قَاصِرَةٌ وَفَرِيضَةٌ عَائِلَةٌ فَالْفَرِيضَةُ الْعَادِلَةُ هِيَ أَنْ تَسْتَوِيَ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بِسِهَامِ الْمَالِ بِأَنْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ دُونَ سِهَامِ الْمَالِ وَهُنَاكَ عَصَبَةٌ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ يَكُونُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 160 لِلْعَصَبَةِ فَهُوَ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ الْقَاصِرَةُ أَنْ يَكُونَ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ دُونَ سِهَامِ الْمَالِ وَلَيْسَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ بِأَنْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُمًّا فَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلَا عَصَبَةَ فِي الْوَرَثَةِ لِيَأْخُذَ مَا بَقِيَ فَالْحُكْمِ فِيهِ الرَّدِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ وَالْفَرِيضَةُ الْعَائِلَةُ أَنْ يَكُونَ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ سِهَامِ الْمَالِ بِإِنْ كَانَ هُنَاكَ ثُلُثَيْنِ وَنِصْفًا كَالزَّوْجِ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا كَالزَّوْجِ مَعَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَمَعَ الْأُمِّ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْعَوْلِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْكِرُ الْعَوْلَ فِي الْفَرَائِضِ أَصْلًا وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْعَوْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ أَعِيلُوا الْفَرَائِضَ وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ فَقَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَتَى بِفَرِيضَةٍ فِيهَا ثُلُثَانِ وَنِصْفٌ، أَوْ نِصْفَانِ وَثُلُثٌ فَقَالَ لَا أَدْرِي مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ فَأُقَدِّمُهُ، وَلَا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ فَأُؤَخِّرُهُ وَأَعَالَ الْفَرِيضَةَ وَأُيَمُّ اللَّهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَخَّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ فَقِيلَ وَمَنْ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى غَيْرِ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فَهُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كَيْفَ يُصْنَعُ فِي الْفَرِيضَةِ الْعَائِلَةِ فَقَالَ أَدْخِلْ الضَّرَرَ عَلَى مَنْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا فَقِيلَ وَمَنْ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا فَقَالَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ فَقَالَ عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُغْنِي رَأْيُك شَيْئًا، وَلَوْ مِتَّ لَقُسِمَ مِيرَاثُك بَيْنَ وَرَثَتِك عَلَى غَيْرِ رَأْيِك فَغَضِبَ فَقَالَ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعَوْلِ حَتَّى نُجْمَعَ، ثُمَّ نَبْتَهِلَ فَنَجْعَلَ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا. فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا بِالنِّصْفِ، وَهَذَا بِالنِّصْفِ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ فَقَالَ لِمَ تَقُلْ هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْت حَتَّى قَالَ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْلَا أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الْعَوْلِ قَضَاءُ إمَامٍ عَادِلٍ وَرِعٍ لَمَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُبَاهَلَةِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْعَوْلِ، ثُمَّ اشْتَبَهَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فُصُولٍ فَمِنْهَا إذَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ فَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ سِتَّةٌ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ فَتَعُولُ بِسَهْمٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 161 مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرُ النُّقْصَانِ مِنْهُمْ فَقَالَ سُفْيَانُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ إنَّمَا يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى ابْنَةِ الِابْنِ خَاصَّةً فَتَأْخُذُ الِابْنَةُ فَرِيضَتَهَا سِتَّةً وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ الِابْنَةِ وَابْنَةِ الِابْنِ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلِابْنَةِ وَرُبُعُهُ لِابْنَةِ الِابْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى غَيْرِ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فَضَرَرُ النُّقْصَانِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ قَوْلٌ بِالْعَوْلِ لِأَنَّ الْعَوْلَ لَيْسَ إلَّا هَذَا فَإِنَّ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا لَا يَسَعُ لِأَرْبَعَةٍ فَتُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِجَمِيعِ حِصَّتِهَا فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، وَهَذَا هُوَ الْعَوْلُ. وَمِنْ هَذِهِ الْفُصُولِ إذَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ فَتَعُولُ بِأَرْبَعَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ عَشَرَةٍ وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ سُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأَبٍ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ ضَرَرُ الْحِرْمَانِ بِضَرَرِ النُّقْصَانِ فَكَمَا أَنَّ ضَرَرَ النُّقْصَانِ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دُونَ الْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ. فَكَذَلِكَ ضَرَرُ الْحِرْمَانِ وَقَالَ طَاوُسٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَالْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِالسَّوِيَّةِ لِيَدْخُلَ الضَّرَرُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ، ثُمَّ حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي وَهْمِ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ يُوهِمُ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا، أَوْ ثُلُثَيْنِ وَنِصْفًا فِي مَالٍ وَاحِدٍ فَكَانَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ هُوَ إلَى بَيَانِ مَنْ يَكُونُ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَقَالَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَاتِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» الْحَدِيثَ فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى غَيْرِ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فَهُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ مِنْ وَجْهٍ وَعَصَبَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ إدْخَالُ ضَرَرِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَعَلَى الْحَرْفِ الْآخَرِ قَالَ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى مَنْ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا وَهُمْ الْأَخَوَاتُ وَالْبَنَاتُ أَمَّا الْأَخَوَاتُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُنَّ يَسْقُطْنَ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَبِالِابْنِ وَيَصِرْنَ عَصَبَةً إذَا خَالَطَهُنَّ ذَكَرٌ وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ لَا يَسْقُطُونَ بِحَالٍ وَكَذَلِكَ الْبَنَاتُ فَإِنَّهُنَّ يَصِرْنَ عَصَبَةً إذَا خَالَطَهُنَّ ذَكَرٌ وَالْعَصَبَةُ مُؤَخَّرٌ عَنْ صَاحِبِ الْفَرِيضَةِ. فَإِذَا كُنَّ أَسْوَأَ حَالًا كَانَ إدْخَالُ الضَّرَرِ وَالنُّقْصَانِ عَلَيْهِنَّ أَوْلَى وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إنْ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ وَيَضْرِبُ كُلُّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 162 وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ حَقِّهِ عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ كَالْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ وَبَيَانُ الْمُسَاوَاةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ فَرِيضَةً ثَابِتَةً لَهُ بِالنَّصِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إيجَابَ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ الْعَبْدِ وَمَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِالرُّبُعِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَمُرَادُ الْمُوصِي أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ عِنْدَ سَعَةِ الْمَحَلِّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا سُمِّيَ لَهُ عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ لِعَدَمِ الْإِجَازَةِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَرِيضَةِ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ عِنْدَ سَعَةِ الْمَحَلِّ وَالضَّرْبُ بِهِ عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ، وَفِيمَا قُلْنَاهُ عَمَلٌ بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَفِيمَا قَالَهُ عَمَلٌ بِبَعَضِ النُّصُوصِ وَإِبْطَالٌ لِلْبَعْضِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا أَنَّ مَنْ يَذُبُّ عَنْهُ يَقُولُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التَّعْيِينُ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ دُونَ الْبَعْضِ وَالتَّعْيِينُ فِيمَا قُلْتُمْ فِي جَمِيعِ النُّصُوصِ فَنَقُولُ الطَّرِيقُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إدْخَالِ النُّقْصَانِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِمَا اعْتَمَدَهُ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمْ فِي حَالَةٍ أُخْرَى سِوَى حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَثْبَتَ دَيْنَهُ فِي التَّرِكَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَأَثْبَتَ آخَرُ دَيْنَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، ثُمَّ الْعُصُوبَةُ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ وَالنُّقْصَانُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَلَوْ جَازَ إدْخَالُ النُّقْصَانِ عَلَى بَعْضِهِمْ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لِأَنَّ سَبَبَ تَوْرِيثِهِمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ عِنْدَ التَّوْرِيثِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَيَكُونُ أَضْعَفَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ وَالْعَجَبُ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دُونَ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ وَهُنَّ أَسْوَأُ حَالًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُنَّ يَسْقُطْنَ بِالْبَنَاتِ وَبِالْجَدِّ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَا أَخَذَ بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ بَيَانُ الْفَرِيضَةِ الْعَائِلَةِ أَنْ نَقُولَ أَصْلُ مَا يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَعُولُ مَرَّةً بِنِصْفِ سَهْمٍ وَمَرَّةً بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ سَهْمٍ وَمَرَّةً بِسَهْمٍ وَمَرَّةً بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ وَمَرَّةً بِسَهْمَيْنِ وَمَرَّةً بِسَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ وَمَرَّةً بِثَلَاثَةٍ وَمَرَّةً بِأَرْبَعَةٍ فَاَلَّتِي تَعُولُ بِنِصْفِ سَهْمٍ صُورَتُهَا امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَابْنَةً وَأَبَوَيْنِ فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَتَعُولُ بِنِصْفِ سَهْمٍ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ سَهْمٍ صُورَتُهَا رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنَتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 163 سَهْمٍ فَتَعُولُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ. وَإِذَا أَرَدْت تَصْحِيحَهَا ضَرَبْت سِتَّةً وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَهَذِهِ هِيَ الْمِنْبَرِيَّةُ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَجَابَ عَلَى الْبَدِيهَةِ وَقَالَ انْقَلَبَ ثُمُنُهَا تُسْعًا يَعْنِي أَنَّ لَهَا ثَلَاثَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِسَهْمٍ صُورَتُهَا إذَا تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا فَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ فَتَعُولُ بِسَهْمٍ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ بِأَنْ تَرَكَ الرَّجُلُ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَامْرَأَةً وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ فَتَعُولُ بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِسَهْمَيْنِ صُورَتُهَا فِيمَا إذَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ فَتَعُولُ بِسَهْمَيْنِ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِسَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ بِأَنْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا وَامْرَأَةً فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ فَتَعُولُ بِسَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ بِأَنْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَبِهَا تَعُولُ وَاَلَّتِي تَعُولُ بِأَرْبَعَةٍ صُورَتُهَا فِيمَا قَدَّمْنَا إذَا تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا وَزَوْجًا فَأَنَّهَا تَعُولُ بِنَصِيبِ الْأُمِّ وَبِنَصِيبِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهَا تَعُولُ بِأَرْبَعَةٍ وَلَا تَعُولُ الْفَرَائِضُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أُمُّ الْفُرُوخِ لِكَثْرَةِ الْعَوْلِ فِيهَا وَتُسَمَّى الشُّرَيْحِيَّةَ لِأَنَّهَا رُفِعَتْ إلَى شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَضَى بِهَذَا فَجَعَلَ الزَّوْجُ يَسْأَلُ الْفُقَهَاءَ بِالْعِرَاقِ فَيَقُولُ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَلَمْ تَتْرُكْ وَلَدًا فَمَاذَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ فَقَالُوا النِّصْفُ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا أُعْطِيت نِصْفًا، وَلَا ثُلُثًا فَبَلَغَ مَقَالَتُهُ إلَى شُرَيْحٍ فَدَعَاهُ وَقَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُ قَدْ بَقِيَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فَلَمَّا أَتَاهُ عَزَّرَهُ وَقَالَ أَنْتَ تُشَنِّعُ عَلَى الْقَاضِي وَتَنْسِبُ الْقَاضِيَ بِالْحَقِّ إلَى الْفَاحِشَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ هَذَا الَّذِي كَانَ بَقِيَ لِي عِنْدَك وَحَقِّ اللَّهِ أَنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ ... فَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ يَجْتَمِعُ الْخُصُومُ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَا أَخْوَفَنِي مِنْ هَذَا الْقَضَاءِ لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَنِي بِهِ إمَامٌ عَادِلٌ وَرِعٌ. يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ الْمَسَائِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ بِكَثْرَةِ تَعْدَادِهَا، وَلَكِنَّا بَيَّنَّا لِكُلِّ فَرِيضَةٍ صُورَةً فَذَلِكَ يَكْفِي لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ يَقِيسُ عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي الْبَابِ مَسْأَلَةُ الِالْتِزَامِ وَهِيَ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَمَذْهَبُنَا فِيهِ ظَاهِرٌ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 164 وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثُ وَهِيَ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ لَا يَنْقُلَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَإِنْ قَالَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْأُخْتَيْنِ الثُّلُثُ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِالْعَوْلِ، وَإِنْ قَالَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ كَانَ تَارِكًا مَذْهَبَهُ فِي أَنَّ الْأُخْتَيْنِ لَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إدْخَالُ النُّقْصَانِ هُنَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْأُمَّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ مُحْصَنٍ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ كَذَلِكَ فَإِنَّهُنَّ لَا يَصِرْنَ عَصَبَةً بِحَالٍ فَإِنْ قَالَ الْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْأُمِّ فَقَدْ يَسْقُطْنَ بِمَنْ لَا تَسْقُطُ الْأُمُّ بِهِ قُلْنَا هَذَا اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ أَدْخَلَ هُوَ الضَّرَرَ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دُونَ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ أَسْوَأُ حَالًا فَهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَتَمَشَّى فِي الْفُصُولِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَتْ بِهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْفُقَهَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ الْجَدَّاتِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) اعْلَمْ بِأَنَّ الْجَدَّةَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ وَفَرِيضَتُهَا، وَإِنْ كَانَ لَا تُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَنْ يَرِثُ مِنْ الْجَدَّاتِ وَالثَّانِي فِي مِقْدَارِ نَصِيبِ الْجَدَّاتِ وَالثَّالِثُ فِي تَرْتِيبِ بَعْضِ الْجَدَّاتِ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْمِيرَاثِ وَالرَّابِعُ فِي حَجْبِ الْجَدَّاتِ. فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ كُلَّ جَدَّةٍ تُدْلِي بِعَصَبَةٍ، أَوْ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ فَهِيَ وَارِثَةٌ وَكُلُّ جَدَّةٍ تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ فَهِيَ غَيْرُ وَارِثَةٍ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: كُلُّ جَدَّةٍ دَخَلَ فِي نَسَبِهَا إلَى الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ لِأَنَّ أَبَ الْأُمِّ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا صَاحِبِ فَرْضٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمِّ أَبِ الْأَبِ وَأُمِّ أَبِ الْأُمِّ فَوَرَّثَهُنَّ إلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةَ لِأَنَّ فِي نَسَبِهَا إلَى الْمَيِّتِ أَبًا بَيْنَ أُمَّيْنِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا هَكَذَا وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْجَدَّاتِ وَارِثَاتٌ كُلَّهُنَّ وَالْقُرْبَى وَالْبُعْدَى مِنْهُنَّ سَوَاءٌ عَلَى تَفْصِيلٍ نُبَيِّنُهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثِنْتَانِ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّالِثَةُ أَنَّهَا لَا تَرِثُ مِنْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 165 الْجَدَّاتِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَهِيَ أُمُّ الْأُمِّ وَتَقُومُ هِيَ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ فِي فَرِيضَةِ الْأُمِّ إمَّا السُّدُسُ، أَوْ الثُّلُثُ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إلَّا جَدَّتَانِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا عَابَهُ فِي الْوِتْرِ بِرَكْعَةٍ قَالَ سَعْدٌ يَعِيبُنِي أَنْ أُوتِرَ بِرَكْعَةٍ وَهُوَ يُوَرِّثُ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ إلَّا أَنَّ أَبَانَ ذَكَرَ أَنَّ مُرَادَ سَعْدٍ مِنْ هَذَا الْأَخْذُ عَلَيْهِ فِي تَوْرِيثِ الْبُعْدَى مَعَ الْقُرْبَى لَا فِي تَوْرِيثِ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ فِي الْأَصْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ هَلَّا يُوَرِّثُ حَوَّاءَ وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ حَمَلَا قَوْلَ سَعْدٍ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَخَذَا بِهِ فَقَالَا لَا يَرِثُ مِنْ الْجَدَّاتِ إلَّا اثْنَتَانِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا تَوْرِيثُ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ حَتَّى ذَكَرَ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرَّثَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ» قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْت لِإِبْرَاهِيمَ، وَمَا هُنَّ فَقَالَ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَلَكِنْ ذَكَرَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ هَذَا الْحَدِيثَ وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ هِيَ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبٍ الْأَبِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا تَكَادُ تَصِحُّ لِمَا فِيهَا مِنْ تَوْرِيثِ الْبُعْدَى مَعَ الْقُرْبَى وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِخِلَافِ ذَلِكَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَدَّاتِ كَمَا يَرِثْنَ فِي الْأُصُولِ بِالْوَلَاءِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُنَّ بِحَالِ مَنْ يَرِثُ مِنْ الْفُرُوعِ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَهُنَاكَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الدَّرَجَةِ الْمِيرَاثُ لِمَنْ هُوَ وَلَدُ عَصَبَةٍ، أَوْ وَلَدُ صَاحِبِ فَرْضٍ. فَكَذَلِكَ هُنَا الْمِيرَاثُ لِمَنْ هِيَ وَالِدَةُ عَصَبَةٍ، أَوْ صَاحِبِ فَرْضٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ أُمَّ أَبِ الْأُمِّ تُدْلِي بِأَبِ الْأَبِ وَأَبُ الْأُمِّ لَيْسَ بِوَارِثٍ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتِ كَأَنْ تُدْلِي بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَرِثَ مَعَهُمْ، وَلِأَنَّ الْمُدْلِيَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْ الْمُدْلَى بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ أُمُّ أَبِ الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ أَبِ الْأُمِّ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ الْمِيرَاثُ لِأَبٍ الْأُمِّ دُونَهُمَا وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَبَ الْأُمِّ إذَا انْفَرَدَ عَنْ أُمِّهِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ مَعَ أُمِّهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ لِلْجَدِّ دُونَ أَبٍ الْأَبِ لِأَنَّ أُمَّ الْأَبِ تُدْلِي بِأَبِ الْأُمِّ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ شَيْئًا فَأُمُّهُ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ كَيْفَ تَسْتَحِقُّ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ لِأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَالِ حَيَاةِ أَبِ الْأُمِّ. فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ كَانَ يَقُولُ تَوْرِيثُ الْجَدَّاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْإِدْلَاءِ لِأَنَّ أُمَّ الْأُمِّ تُدْلِي بِالْأُمِّ كَمَا أَنَّ أَبَ الْأُمِّ يُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْإِدْلَاءُ بِالْأُنْثَى إذَا كَانَ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ لَا يُوجِبُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 166 اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِلْأُنْثَى كَالْإِدْلَاءِ بِالِابْنَةِ فَإِنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ كَابْنِ الْبِنْتِ فِي حُكْمِ الْفَرِيضَةِ وَالْعُصُوبَةِ وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْأُخْتِ كَابْنِ الْأُخْتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَدَّاتِ إنَّمَا ثَبَتَ شَرْعًا بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ» فَهَذِهِ طُعْمَةٌ أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ الْجَدَّاتِ بِهَذَا الِاسْمِ وَالْقُرْبَى وَالْبُعْدَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا أَبٌ بَيْنَ ابْنَيْنِ وَمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُجَرَّدُ الِاسْمِ يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنَّسَبِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ وَمَنْ يُدْلِي مِنْهُنَّ بِعَصَبَةٍ، أَوْ صَاحِبَةِ فَرْضٍ يَكُونُ سَبَبُهُ أَقْوَى مِمَّنْ يُدْلِي بِمَنِّ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا صَاحِبَةِ فَرْضٍ وَبِهَذَا الْإِدْلَاءِ تَثْبُتُ الْفَرِيضَةُ، وَفِي حَقِّ الْأُمِّ إنَّمَا تَثْبُتُ الْعُصُوبَةُ دُونَ الْفَرِيضَةِ وَبِالْإِدْلَاءِ بِالْأُنْثَى لَا تَثْبُتُ الْعُصُوبَةُ. فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ أُمُّ الْأُمِّ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَتَرِثُ بِمِثْلِ سَبَبِهَا وَهِيَ الْأُمُومَةُ فَتَقُومُ مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا كَالْجَدِّ أَبِ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَابْنُ الِابْنِ يَقُومُ مَقَامَ الِابْنِ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ تَرِثُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الثُّلُثَ، وَفِي بَعْضِهَا السُّدُسَ فَكَذَلِكَ أُمُّ الْأُمِّ بِخِلَافِ الْأَخِ لِأُمٍّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُدْلِي بِالْأُمِّ فَلَا يَرِثُ بِمِثْلِ سَبَبِهَا ثُمَّ كَمَا لَا يُزَاحِمُ أَحَدٌ مِنْ الْجَدَّاتِ الْأُمِّ فَكَذَلِكَ لَا يُزَاحِمُ أُمَّ الْأُمِّ شَيْءٌ مِنْ الْجَدَّاتِ فِي فَرِيضَةِ الْأُمِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَالَ الْمُدْلِي مَعَ الْمُدْلَى بِهِ كَحَالِ الْمُدْلَى بِهِ مَعَ الْمَيِّتِ وَالْمُدْلِي أُمُّ الْمُدْلَى بِهِ وَصَاحِبَةُ فَرْضٍ كَمَا أَنَّ الْمُدْلَى بِهِ أُمٌّ لِلْمَيِّتِ وَصَاحِبَةُ فَرْضٍ فَكَمَا أَنَّ مِيرَاثَ الْمُدْلِي مِنْ الْمَيِّتِ الثُّلُثُ فَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الْمُدْلَى بِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ»، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ عِنْدَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ فَأَعْطَاهَا» أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ الْأُمِّ، ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ الْأَبِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ وَقَالَتْ مَا لِي مِنْ مِيرَاثِ ابْنِ ابْنَتِي فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيك شَيْئًا وَأَرَاك غَيْرَ الْجَدَّةِ الَّتِي أَعْطَاهَا أَبُو بَكْرٍ وَلَسْت بِرَائِيك فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنَّ ذَلِكَ السُّدُسَ بَيْنَكُمَا، وَأَنَّهُ لِمَنْ انْفَرَدَ مِنْكُمَا فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي فَرِيضَةِ الْجَدَّاتِ عَلَى السُّدُسِ فَالْجَدَّتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ سَوَاءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَدِلَّاءَ بِالْأُنْثَى لَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ فَرِيضَةِ الْمُدْلَى بِهِ بِحَالٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 167 كَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْبَنَاتِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِي حَقِّ الْجَدَّاتِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّا نَعْتَبِرُ مَا وَرَدَ بِهِ السُّنَّةَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ زِيَادَةٌ عَلَى السُّدُسِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الْجَدَّاتِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ السُّدُسُ هَذَا بَيَانُ الْفَصْلِ الثَّانِي. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّرْتِيبِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عَلِيٍّ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ الْجَدَّاتِ أَوْلَى بِالسُّدُسِ مِنْ الْبُعْدَى سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ وَهَكَذَا يَرْوِيه الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرْوُونَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْقُرْبَى إنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالْبُعْدَى مِنْ قِبَلِ الْأَبِ. فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبُعْدَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالْقُرْبَى مِنْ قِبَلِ الْأَبِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى سَوَاءٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبُعْدَى أُمَّ الْقُرْبَى، أَوْ جَدَّةُ الْقُرْبَى فَحِينَئِذٍ لَا تَرِثُ مَعَهَا وَالْأُخْرَى الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَحِينَئِذٍ الْقُرْبَى أَوْلَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْقُرْبَى أُمَّ الْقُرْبَى، وَلَا جَدَّتَهَا أَمَّا هُوَ أَمَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاسْمِ الْجُدُودَةِ شَرْعًا وَالْقُرْبَى وَالْبُعْدَى فِي هَذَا الِاسْمِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْبُعْدَى إذَا كَانَتْ أُمَّ الْقُرْبَى، أَوْ جَدَّتَهَا فَإِنَّمَا تُدْلِي بِهَا وَتَرِثُ بِمِثْلِ نَسَبِهَا فَتَكُونُ مَحْجُوبَةً بِهَا كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ إذَا كَانَتْ الْجِهَةُ وَاحِدَةً فَسَوَاءٌ كَانَتْ تُدْلِي بِهَا، أَوْ لَا تُدْلِي بِهَا كَانَتْ مَحْجُوبَةً بِهَا لِمَعْنَى إيجَادِ السَّبَبِ كَأَوْلَادِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا لِإِيجَادِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُدْلُونَ بِهَذَا الِابْنِ، وَإِنَّمَا يُدْلُونَ بِابْنٍ آخَرَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْجَدَّةَ إنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالْأُمُومَةِ وَمَعْنَى الْأُمُومَةِ فِي الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَظْهَرُ لِأَنَّهَا أُمٌّ فِي نَفْسِهَا تُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْأُخْرَى أُمٌّ تُدْلِي بِالْأَبِ. فَإِذَا كَانَتْ الْقُرْبَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَقَدْ ظَهَرَ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ زِيَادَةِ الْقُرْبِ وَزِيَادَةِ ظُهُورِ صِفَةِ الْأُمُومَةِ فِي جَانِبِهَا فَهِيَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ الْقُرْبَى مِنْ قِبَلِ الْأَبِ فَلَهَا تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْقُرْبِ وَلِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ زِيَادَةُ ظُهُورِ صِفَةِ الْأُمُومَةِ فَاسْتَوَيَا فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأَخِ أَنَّ لِلْأَخِ زِيَادَةَ قُرْبٍ وَلِلْجَدِّ زِيَادَةَ قُوَّةٍ مِنْ حَيْثُ الْأُبُوَّةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فَنَقُولُ الْجَدَّةُ تَرِثُ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ وَالْأُمُومَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَمَعْنَى الْأَصْلِيَّةِ فِي الْقُرْبَى أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْبُعْدَى مِنْ أَيْ جَانِبٍ كَانَتْ الْقُرْبَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ الْمَيِّتِ وَالْأُخْرَى أَصْلُ أَصْلِ أَصْلِ الْمَيِّتِ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْأَصْلِيَّةِ فِي الْقُرْبَى أَظْهَرَ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْبُعْدَى كَمَا لَوْ كَانَتْ الْقُرْبَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أُمَّ الْأُمِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 168 وَأُمَّ الْأَبِ إذَا اجْتَمَعَتَا كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ زَيْدٌ مِنْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الْأُمُومَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ لِأُمِّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْحَجْبِ فَنَقُولُ الْأُمُّ تَحْجُبُ الْجَدَّاتِ أَجْمَعَ بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ حِينَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمٌّ» فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ مَعَ الْأُمِّ، وَفِي رِوَايَةِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ حِينَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمٌّ دُونَهَا» فَهَذَا يُفِيدُ مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ وَزِيَادَةً وَهُوَ أَنَّ الْبُعْدَى لَا تَرِثُ مَعَ الْقُرْبَى فَإِنَّ قَوْلَهُ أُمٌّ دُونَهَا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْجَدَّةَ تَرِثُ بِالْأُمُومَةِ وَفَرْضُ الْأُمَّهَاتِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الْأُمُّ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ مِنْ الْجَدَّاتِ شَيْءٌ مِنْ فَرْضِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْجَدَّاتِ وَبَيْنَ الْأُمِّ لِأَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا تُدْلِي بِهَا وَتَرِثُ بِمِثْلِ سَبَبِهَا فَلَا تُزَاحِمُهُمَا كَمَا لَا يُزَاحِمُ الْجَدُّ الْأَبَ وَاَلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُدْلِي بِهَا فَهِيَ لَا تُزَاحِمُهَا فِي فَرِيضَتِهَا لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ مِنْهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ابْنَةِ الِابْنِ مَعَ الِابْنَتَيْنِ فَإِنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ لَمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلِابْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِابْنَةِ الِابْنِ مَعَهُمَا مُزَاحَمَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُدْلِي بِهِمَا إنَّمَا تُدْلِي بِالِابْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِ الْجَدَّةِ بِالْأَبِ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا أَنَّ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا تَصِيرُ مَحْجُوبَةً بِالْأَبِ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِهِ، وَلَا تَرِثُ بِمِثْلِ نَسَبِهِ فَهِيَ تَرِثُ بِالْأُمُومَةِ وَهُوَ بِالْأُبُوَّةِ وَالْعُصُوبَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدَّةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِهِ فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا تَرِثُ أُمُّ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ تَرِثُ أُمُّ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ وَابْنَهَا حَيٌّ» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى أُمَّ حَسَكَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - السُّدُسَ مِنْ أَبِي حَسَكَةَ وَحَسَكَةُ حَيٌّ» وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ إرْثَ الْجَدَّاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْإِدْلَاءِ فَالْإِدْلَاءُ بِالْأُنْثَى لَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ فَرِيضَتِهَا، وَلَا فِي الْقِيَامِ مَقَامَهَا فِي التَّوْرِيثِ بِمِثْلِ سَبَبِهَا كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاسْمِ الْجَدَّةِ فِي هَذَا الِاسْمِ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ سَوَاءٌ. فَإِذَا كَانَ الْأَبُ لَا يَحْجُبُ أُمَّ الْأُمِّ. فَكَذَلِكَ لَا يَحْجُبُ أُمَّ الْأَبِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي مَعْنَى الْإِدْلَاءِ وَالِاسْتِحْقَاقُ لَيْسَ بِالْإِدْلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مِمَّنْ يَحْجُبُ شَيْئًا مِنْ الْجَدَّاتِ لَاسْتَوَى فِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 169 ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ فِي جَانِبِهِ وَمَنْ لَا يَكُونُ فِي جَانِبِهِ كَالْأُمِّ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِدْلَاءِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ بِدُونِ الْقَرَابَةِ لَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ وَالْقَرَابَةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْإِدْلَاءِ فَهُنَا مُعَيَّنَانِ أَحَدُهُمَا إيجَادُ السَّبَبِ وَالْآخَرُ الْإِدْلَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْحَجْبِ، ثُمَّ إيجَادُ السَّبَبِ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ الْأَدِلَّاءِ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْحَجْبِ كَمَا فِي حَقِّ بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الِابْنَتَيْنِ فَإِنَّهُنَّ يُحْجَبْنَ بِإِيجَادِ السَّبَبِ وَلَا يُدْلِينَ إلَى الْمَيِّتِ بِالْبَنَاتِ. فَكَذَلِكَ الْأَدِلَّاءُ، وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ إيجَادِ السَّبَبِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْحَجْبِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا قُلْنَا الْجَدَّةُ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تُدْلِي بِالْأَبِ، وَلَا تَرِثُ مَعَهُ لِوُجُودِ الْإِدْلَاءِ، وَإِنْ انْعَدَمَ مَعْنَى إيجَادِ السَّبَبِ وَالْجَدَّةُ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ لِانْعِدَامِ الْإِدْلَاءِ وَإِيجَادِ السَّبَبِ جَمِيعًا. فَأَمَّا الْأُمُّ تَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا لِوُجُودِ الْإِدْلَاءِ وَإِيجَادِ السَّبَبِ وَتَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِإِيجَادِ السَّبَبِ، وَإِنْ انْعَدَمَ الْإِدْلَاءُ وَبِهِ فَارَقَ الْأَخُ لِأُمٍّ فَكَانَ وَارِثًا مَعَهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَعْنَى الْإِدْلَاءِ الْمَوْجُودِ فِي جَانِبِ الْأَبِ يَحْجُبُ الذَّكَرَ هُنَا فَإِنَّ أَبَ الْأَبِ يَحْجُبُهُ الْأَبُ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَبُ يَحْجُبُ مَنْ يُدْلِي بِهِ إذَا كَانَ ذَكَرًا. فَكَذَلِكَ يَحْجُبُ مَنْ يُدْلِي بِهِ إذَا كَانَ أُنْثَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ كَمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُ الْأَخَوَاتِ وَبِهِ فَارَقَ الْأُمَّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ لِأَنَّ هُنَاكَ الذَّكَرَ مِنْ الْإِخْوَةِ لَا يَصِيرُ مَحْجُوبًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ يُدْلِي بِهَا. فَكَذَلِكَ الْأُنْثَى. فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَهَا كَانَ رَقِيقًا، أَوْ كَافِرًا عَلَى أَنَّهُ قَالَ وَرَّثَ جَدَّةً وَابْنَهَا حَيٌّ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ ابْنَهَا أَبٌ الْمَيِّتِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَهَا الْحَيَّ غَيْرُ أَبِ الْمَيِّتِ وَالْحَدِيثُ حِكَايَةُ حَالٍ وَحَدِيثُ حَسَكَةَ لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَ عُمَرَ. وَاخْتَلَفَ الْفَرْضِيُّونَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ أُمُّ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ وَأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّةِ لِأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْ أُمِّ الْأَبِ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ الْقُرْبَى إنَّمَا تَحْجُبُ الْبُعْدَى إذَا كَانَتْ وَارِثَةً وَهُنَا الْقُرْبَى لَيْسَتْ بِوَارِثَةٍ مَعَ ابْنِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرَةِ وَالرَّقِيقَةِ فَيَكُونُ فَرْضُ الْجَدَّاتِ لِلْبُعْدَى وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْأَبِ هُنَا لِأَنَّ الْقُرْبَى هُنَا وَارِثَةٌ فِي حَقِّ الْبُعْدَى، وَلَكِنَّهَا مَحْجُوبَةٌ بِالْأَبِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَبٌ كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْقُرْبَى فَصَارَتْ الْبُعْدَى مَحْجُوبَةً بِالْقُرْبَى، ثُمَّ صَارَتْ الْقُرْبَى مَحْجُوبَةً بِابْنِهَا فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَبِ وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَخَوَيْنِ مَعَ الْأَبِ لِأَنَّهُمَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَا لَا يَرِثَانِ شَيْئًا مَعَ الْأَبِ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 170 [فَصْلٌ فَإِنْ اجْتَمَعَ جَدَّةٌ لَهَا قَرَابَتَانِ أَوْ ثَلَاثُ قَرَابَاتٍ مَعَ جَدَّةٍ لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ] وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ امْرَأَةٌ لَهَا بِنْتٌ وَلِابْنَتِهَا بِنْتٌ وَلَهَا ابْنُ وَلِابْنِهَا ابْنُ فَتَزَوَّجَ ابْنُ ابْنِهَا بِنْتَ بِنْتِهَا فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَهَذِهِ الْجَدَّةُ أُمّ أُمِّ أُمِّ هَذَا الْوَلَدِ وَأُمُّ أَبِ أَبٍ هَذَا الْوَلَدِ. فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَهُ مَعَ هَذِهِ الْجَدَّةِ جَدَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أَبٍ هَذَا الْوَلَدِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَمُحَمَّد وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِيرَاثُ الْجَدَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَانِ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ وَثُلُثٌ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ سُفْيَانَ وَأَبِي يُوسُفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَتَانِ لِإِحْدَى ابْنَتَيْهَا ابْنَةٌ وَلِلْأُخْرَى ابْنٌ فَتَزَوَّجَ ابْنُ ابْنَتَهَا ابْنَةَ ابْنِهَا وَوُلِدَ مِنْهَا وَلَدٌ فَهِيَ لِهَذَا الْوَلَدِ أُمُّ أُمِّ الْأَبِ فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَهُ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أُمُّ أَبِ الْأَبِ فَهِيَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا وَصُورَةُ مَا إذَا كَانَ لَهَا ثَلَاثُ قَرَابَاتٍ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ ابْنَةُ ابْنِ ابْنَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا الْوَلَدُ ذَكَرٌ فَتَزَوَّجَ الِابْنَةَ السُّفْلَى فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَلِهَذِهِ الْجَدَّةِ مِنْ هَذَا الْوَلَدِ ثَلَاثُ قَرَابَاتٍ لِأَنَّهَا أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّهِ وَأُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمُّ أُمِّ أَبِ الْأَبِ فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَهَا لِهَذَا الْوَلَدِ جَدَّةٌ أُخْرَى مُحَاذِيَةٌ لَهَا وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبِ ابْنِهِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلَّتِي لَهَا ثَلَاثُ قَرَابَاتٍ وَرُبُعُهُ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَقِّ الَّتِي لَهَا جِهَاتٌ إذَا فَسَدَ بَعْضُ تِلْكَ الْجِهَاتِ بِأَنْ دَخَلَ فِي تِلْكَ النِّسْبَةِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ لَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْجِهَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْجِهَاتِ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهَا أَقْرَبُ الْجِهَاتِ خَاصَّةً، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِيهَا فِي أَقْرَبِ الْجِهَاتِ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ لَا بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّقِيقَ وَالْكَافِرَ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا، وَلَكِنْ لَمَّا انْعَدَمَ فِي حَقِّهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْفَرِيضَةُ، أَوْ الْعُصُوبَةُ جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ فَمَنْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ سَبَبَانِ فَهُوَ فِي الصُّورَةِ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ السَّبَبِ مُتَعَدِّدٌ فَيَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ سَبَبٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ كُلُّ سَبَبٍ فِي شَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَإِنَّ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ وَالْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا تَرَكَ أُمَّهُ وَهِيَ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ فَإِنَّهَا تَرِثُ بِالسَّبَبَيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِالسَّبَبَيْنِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَهُوَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 171 الْإِخْوَةُ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ اعْتَبَرْنَاهَا فِي التَّرْجِيحِ وَيَقْوَى السَّبَبُ بِهَا حَتَّى يَنْعَدِمَ الْأَخُ لِأَبٍ فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ بِهَا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِلْجَدَّاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْإِدْلَاءِ لِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْإِنَاثِ لَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَرِيضَةِ بِمِثْلِ سَبَبِ الْمُدْلَى بِهِ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاسْمِ الْجَدَّةِ وَبِتَعَدُّدِ الْجِهَةِ لَا بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ فِي الَّتِي لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَبِتَعَدُّدِ الْعِلَّةِ لَا يَزْدَادُ الِاسْتِحْقَاقُ كَمَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ شَاهِدَيْنِ عَلَى مِلْكِ عَيْنٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ عَشَرَ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ فَقَدْ اعْتَبَرْنَا الْإِدْلَاءِ فِي حُكْمِ الْحَجْبِ كَمَا قَرَّرْنَا فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَجْبِ غَيْرُ حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِحُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا عُرِفَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَبَانَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْإِدْلَاءِ فِي حُكْمِ الْحَجْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ هُنَاكَ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يَعْنِي الْإِخْوَةَ لِأُمٍّ مَعَ الْعُصُوبَةِ بِالْأُمُومَةِ وَالزَّوْجِيَّةَ مَعَ الْعُصُوبَةِ وَالْأُخْتِيَّةَ مَعَ الْأُمُومَةِ فِي حَقِّ الْمَجُوسِيِّ. فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ هُنَاكَ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ جَعَلْنَا الِاسْتِحْقَاقَ مَبْنِيًّا عَلَى السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. [فَصْلٌ التَّثْبِيتُ فِي الْجَدَّاتِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَدَّاتُ فِي الْأَصْلِ سِتَّةٌ جَدَّتَاك وَجَدَّتَا أَبِيك وَجَدَّتَا أُمِّك وَهِيَ الْأُصُولُ فِي الْجَدَّاتِ إذْ لَمْ يَتَفَرَّعْ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْجَدَّاتِ فِي الْمَعْنَى كَالْفُرُوعِ لِهَذِهِ الْجَدَّاتِ لِتَفَرُّعِ بَعْضِهِنَّ مِنْ بَعْضٍ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ الْجَدَّاتِ مُتَحَاذِيَاتٍ هُنَّ وَارِثَاتٌ كَيْفَ صُورَتُهُنَّ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ بِعَدَدِهِنَّ أُمَّهَاتٍ ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَدَدِهِنَّ أُمَّهَاتٍ إلَّا الْآخِرَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ إلَّا الْآخِرَةَ الَّتِي تَلِيهَا هَكَذَا إلَّا أَنْ تَبْقَى أُمٌّ وَاحِدَةٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَذْكُرُونَ بِعَدَدِهِنَّ أَبْنَاءً إلَّا الْأُولَى وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إلَّا الْأُولَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَذْكُرُونَ الْجَدَّاتِ بِقَرَابَاتِهِنَّ وَبَيَانُهُ إذَا قِيلَ خَمْسُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَات وَارِثَاتٍ كَيْفَ صُورَتُهُنَّ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ نَقُولُ إحْدَاهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَالثَّانِيَةُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَالثَّالِثَةُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبِ الْأَبِ وَالرَّابِعَةُ أُمُّ أُمِّ أَبِ أَبِ الْأَبِ وَالْخَامِسَةُ أُمُّ أَبِ أَبِ أَبِ الْأَبِ وَعَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَعَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْكُوفَةِ نَقُولُ إحْدَاهُنَّ أُمُّ جَدَّةِ جَدَّاتِ الْمَيِّتِ وَالثَّانِيَةُ أُمُّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 172 جَدَّةِ أُمِّ أَبِ الْمَيِّتِ وَالثَّالِثَةُ جَدَّةُ جَدَّةِ أَبِ الْمَيِّتِ وَالرَّابِعَةُ جَدَّةُ جَدَّاتِ الْمَيِّتِ وَالْخَامِسَةُ أُمُّ جَدِّ جَدِّ الْمَيِّتِ. فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ جَدَّتَيْنِ مُتَحَاذِيَتَيْنِ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ وَثَلَاثِ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ وَخَمْسِ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ كَمْ الْوَلِيد وَارِثَاتٌ مِنْهُنَّ فَقُلْ خَمْسَةٌ الْجَدَّتَانِ الْمُتَحَاذِيَتَانِ إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُمِّ وَالْأُخْرَى أُمُّ الْأَبِ فَهُمَا وَارِثَتَانِ وَمِنْ الثَّلَاثِ الْوَاحِدَةُ وَارِثَةٌ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مِنْهُنَّ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَهُمَا غَيْرُ وَارِثَتَيْنِ هُنَا لِأَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِاللَّتَيْنِ هُمَا وَارِثَتَانِ وَالثَّالِثَةُ أُمُّ أَبِ الْأَبِ فَهِيَ الْوَارِثَةُ مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ الْوَارِثَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبِ الْأَبِ. فَأَمَّا الثَّلَاثُ غَيْرُ وَارِثَاتٍ لِأَنَّ مَنْ يُدْلِينَ بِهَا وَارِثَاتٌ وَكَذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقِ الرَّابِعِ الْوَارِثَةُ وَاحِدَةٌ فَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا تَأَمَّلْتَ تَجِدْ الْوَارِثَاتِ مِنْهُنَّ الْخَمْسَةَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَوْرِيثِ الْقُرْبَى مَعَ الْبُعْدَى إذَا لَمْ تَكُنْ الْبُعْدَى أُمَّ الْقُرْبَى أَوْ جَدَّتَهَا فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ الْجَدَّاتِ مُتَحَاذِيَاتٍ وَارِثَاتٍ كَمْ السَّاقِطَاتُ بِإِزَائِهِنَّ فَالسَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَحْفَظَ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ بِيَمِينِك، ثُمَّ تَطْرَحَ اثْنَتَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وَتَحْفَظَهُمَا بِيَسَارِك، ثُمَّ تُضَعِّفَ مَا بِيَسَارِك بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بِيَمِينِك فَمَا بَلَغَ فَهُوَ مَبْلَغُ جُمْلَةِ الْعَدَدِ وَالْوَارِثَاتُ مِنْ ذَلِكَ عَدَدٌ مَعْلُومٌ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَمَا بَقِيَ عَدَدُ السَّاقِطَاتِ بَيَانُهُ إذَا قِيلَ ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ وَارِثَاتٍ كَمْ السَّاقِطَاتُ بِإِزَائِهِنَّ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَحْفَظَ الثَّلَاثَ بِيَمِينِك، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ اثْنَتَيْنِ فَتَحْفَظَهُمَا، ثُمَّ تُضَعِّفَ مَا بِيَسَارِك بِعَدَدِ مَا بَقِيَ فِي يَمِينِك وَهُوَ الْوَاحِدَةُ فَإِذَا أَضْعَفْت الِاثْنَتَيْنِ مَرَّةً تَكُونُ أَرْبَعَةً فَكَانَ عَدَدُ الْجُمْلَةِ أَرْبَعًا ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ وَارِثَاتٌ وَالسَّاقِطَةُ وَاحِدَةٌ فَالْوَارِثَاتُ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبِ الْأَبِ وَالسَّاقِطَةُ أُمُّ أَبِ الْأُمِّ فَإِنْ قِيلَ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ وَارِثَاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ كَمْ بِإِزَائِهِنَّ مِنْ السَّاقِطَاتِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ الْأَرْبَعَ بِيَمِينِك، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ اثْنَتَيْنِ وَتَأْخُذَهُمَا بِيَسَارِك، ثُمَّ تُضَعِّفَ مَا بِيَسَارِك بِعَدَدِ مَا فِي يَمِينِك. فَإِذَا ضَعَّفْت الِاثْنَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ يَكُونُ ثَمَانِيَةً. فَإِذَا كَانَ الْوَارِثَاتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا عَرَفْتَ أَنَّ السَّاقِطَ بِإِزَائِهِنَّ أَرْبَعًا فَإِنْ قَالَ خَمْسُ جَدَّاتٍ وَارِثَاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ كَمْ بِإِزَائِهِنَّ مِنْ السَّاقِطَاتِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّك تُضَعِّفُ الِاثْنَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ خَمْسُ مِنْهُنَّ وَارِثَاتٍ وَالْبَوَاقِي سَاقِطَاتٍ فَإِنْ قَالَ سِتُّ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ وَارِثَاتٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا تُضَعِّفُ الِاثْنَتَيْنِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَهُوَ عَدَدُ الْجُمْلَةِ سِتَّةَ عَشْرَ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَسِتَّةَ عَشْرَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَلَيْسَ فِي اللَّاتِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 173 مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَارِثَاتٌ إلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ إلَى أَنْ تَذْكُرَ سِتَّةَ عَشْرَ مَرَّةٍ، وَفِي اللَّاتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الْوَارِثَاتُ خَمْسَةٌ وَهُنَّ مَنْ لَا يَدْخُلُ فِي نَسَبِهِنَّ إلَى الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ وَمَنْ سِوَاهُنَّ سَاقِطَاتٌ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَطَرِيقُ تَخْرِيجِهِ مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ أَصْحَابِ الْمَوَارِيثِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَصْحَابُ الْمَوَارِيثِ بِالِاتِّفَاقِ صِنْفَانِ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتُ فَأَصْحَابُ الْفَرَائِضِ اثْنَا عَشَرَ نَفَرًا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ النِّسَاءِ فَالرِّجَالُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالزَّوْجُ وَالْأَخُ لِأُمٍّ وَالنِّسَاءُ الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ وَالزَّوْجَةُ فَسِتَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ صَاحِبُ فَرْضٍ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُمْ الزَّوْجُ وَالْأَخُ لِأُمٍّ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ وَالزَّوْجَةُ وَسِتَّةٌ يَتَرَدَّدُ حَالُهُمْ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالْعُصُوبَةِ وَهُمْ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأَمَّا الْعَصَبَاتُ لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا، وَلَكِنْ يُحْصَوْنَ جِنْسًا وَهُمْ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْعَصَبَةُ بِغَيْرِهِ وَالْعَصَبَةُ مَعَ غَيْرِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ مَنْ هُوَ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الذَّكَرُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ الذُّكُورُ فِي نِسْبَةٍ إلَى الْمَيِّتِ فَأَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبٌ الْأَبِ، وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ، ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأُمٍّ، ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ عَمِّ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ عَمِّ الْأَبِ لِأَبٍ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ هَكَذَا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» مَعْنَاهُ فَلِأَقْرَبِ رَجُلٍ ذَكَرٍ وَالِابْنُ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّ الِابْنَ تَفَرَّعَ مِنْ الْمَيِّتِ فَالْمَيِّتُ أَصْلُهُ وَالْأَبُ تَفَرَّعَ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَهُوَ أَصْلٌ لَهُ وَاتِّصَالُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ أَظْهَرُ مِنْ اتِّصَالِ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ فَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ لَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْفَرْعِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَشْجَارَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ بِالْأَصْلِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اتِّصَالَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ أَظْهَرُ عَرَفْنَا أَنَّ الْفَرْعَ إلَى الْأَصْلِ أَقْرَبُ وَأَيَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] مَعْنَاهُ وَلِلْوَلَدِ مَا بَقِيَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ ابْنَ الْأَبِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْبُنُوَّةُ وَقَدْ بَيَّنَّا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 174 أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسَّبَبِ دُونَ الشَّخْصِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْأَبُ فَهُوَ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ مِنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْجَدُّ أَبٌ الْأَبِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأُبُوَّةُ، وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْأَخُ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْعَمِّ لِأَنَّ الْأَخَ وَلَدُ ابْنِهِ وَالْعَمَّ وَلَدُ جَدِّهِ. فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْقُرْبِ فِي الْفُرُوعِ فَاعْتَبِرْ كُلَّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ فَاتِّصَالُ الْأَخِ بِأَخِيهِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَاتِّصَالُ الْعَمِّ بِهِ بِوَاسِطَتَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَخَ أَقْرَبُ ثُمَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَقْرَبُ مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَبِالْمِيرَاثِ لِبَنِي الْأَعْيَانِ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ»، وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي صُلْبٍ، أَوْ رَحِمٍ وَالْقُرْبُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ جَاوَرَهُ فِي الصُّلْبِ وَالرَّحِمِ جَمِيعًا وَالْأَخُ لِأَبٍ جَاوَرَهُ فِي الصُّلْبِ خَاصَّةً فَمَا يَحْصُلُ بِهِ الْقُرْبُ فِي جَانِبِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَظْهَرُ فَهُوَ أَقْرَبُ حُكْمًا، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُ أَمَسُّ قُرْبًا فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَابْنُ الْأَخِ يَتَّصِلُ بِهِ بِوَاسِطَتَيْنِ فَصَارَ الْحَاصِلُ فِي هَذَا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ فَمَنْ يَكُونُ أَظْهَرَهُمَا قُرْبًا يَكُونُ أَوْلَى. وَإِذَا تَفَاوَتَا فِي الدَّرَجَةِ فَمَنْ يَكُونُ أَمَسَّهُمَا قُرْبًا أَوْلَى، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ الْعَمُّ، ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ مَعَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَعِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَلِكَ بَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةً وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَعِنْدَنَا لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهَا، وَلَا شَيْءَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] أَيْ بَعْضُهُمْ أَقْرَبُ إلَى بَعْضٍ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رَحِمٌ وَالْمِيرَاثُ يُبْنَى عَلَى الْقُرْبِ وَرَوَيْنَا فِي أَوَّلِ الْعَتَاقِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَهُ» الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ، «وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ» فَقَدْ شَرَطَ فِي تَوْرِيثِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ لَا يَدَعَ الْمُعْتِقُ وَارِثًا وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ فَيُعْتَبَرُ بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَبِحَقِيقَتِهِ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّوْرِيثِ الْقَرَابَةُ وَبِإِدْلَاءٍ لَا تَثْبُتُ الْقَرَابَةُ، وَلَكِنَّ الْوَلَاءَ شَبِيهٌ بِالْقَرَابَةِ شَرْعًا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وَمَا تَشَبَّهَ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِحَقِيقَتِهِ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يُشْبِهُ الشَّيْءَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 175 فِي الْحُكْمِ عِنْدَ انْعِدَامِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ أَضْعَفُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فِي الْجُمْلَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوْلَى الْأُمِّ فَظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ انْعَدَمَ بِهِ الْوَلَاءُ الَّذِي كَانَ لِعُمُومِ الْأُمِّ وَالْقَرَابَةُ لَا تَحْتَمِلُ الرَّفْعَ بِحَالٍ وَكَذَلِكَ يُسْتَحَقُّ الْإِرْثُ بِالْقَرَابَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَبِالْوَلَاءِ لَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَالْمُعْتَقُ لَا يَرِثُ مِنْ الْمُعْتِقِ شَيْئًا وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ الزَّوْجِيَّةُ فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الرَّفْعَ فَالْإِرْثُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَصْلٌ فَإِنَّ الْقَرَابَاتِ تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فَحُكْمُ الْفَرْعِ يَثْبُتُ لِلْأَصْلِ، وَإِنْ انْعَدَمَ فِيهِ مَعْنَاهُ كَمَا يُعْطَى لِبَيْضِ الصَّيْدِ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَإِنْ انْعَدَمَ فِيهِ مَعْنَى الصَّيْدِ ثُمَّ إذَا ادَّعَيْنَا هَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْقُرْبِ وَهُوَ الْعُصُوبَةُ فَالزَّوْجِيَّةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ فَتَخْرُجُ عَلَى مَا ذُكِرَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ ابْنَةً فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ مَالِهِ لِابْنَتِهِ وَالْبَاقِيَ لِابْنَةِ حَمْزَةَ» فَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْمُعْتَقِ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا هُوَ عَصَبَةٌ»، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتَهُ وَلَمْ يَقُلْ كُنْتَ وَارِثَهُ، وَفِي هَذَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةٌ وَالْعَصَبَةُ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَسَبَبُ نُزُولِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ آخَى بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ» فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْحُكْمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّحِمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُؤَاخَاةِ وَالْوَلَاءِ وَبِهِ نَقُولُ، وَهَذَا لِأَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدٍ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ وَالْفَسْخَ فَيَكُونُ ضَعِيفًا جِدًّا وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُبُوَّةِ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ فَلِأَنَّ الْمُعْتَقَ يُنْسَبُ إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ كَمَا يُنْسَبُ الِابْنُ إلَى أَبِيهِ بِالْوِلَادَةِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْوَالِدَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِ وَلَدِهِ وَالْمُعْتِقُ سَبَبُ إحْيَاءِ الْمُعْتَقِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرِّقَّ تَلَفٌ وَالْحُرِّيَّةَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَالْمُعْتِقُ سَبَبٌ لِإِيجَادِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْمُعْتَقِ وَهُوَ صِفَةُ الْمِلْكِيَّةِ وَبِهِ بَايَنَ الْإِنْسَانُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ. (أَلَا تَرَى) هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ مِنْ الْأَعْلَى خَاصَّةً دُونَ الْأَسْفَلِ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَحَقِيقَةُ الْعَصَبَةِ هُنَاكَ تَشْمَلُ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ هُنَاكَ الْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَهُنَا يَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى، ثُمَّ أَقْوَى مَا يُسْتَحَقُّ بِالْوَلَاءِ الْعُصُوبَةُ. فَإِذَا انْعَدَمَتْ يُقَامُ الْوَلَاءُ مَقَامَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 176 بِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَّ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْوَلَاءِ الْعُصُوبَةُ قُلْنَا تَقْدِيمُ الْعُصُوبَةِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَاخْتَلَفُوا فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا لِأَخٍ لِأُمٍّ فَنُبَيِّنُ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ نَذْكُرُ حُكْمَهُ فَنَقُولُ أَخَوَانِ لِلْأَكْبَرِ مِنْهُمَا امْرَأَةٌ وُلِدَ بَيْنَهُمَا ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الْأَكْبَرُ فَتَزَوَّجَهَا الْأَصْغَرُ وَوُلِدَ بَيْنَهُمَا ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الْأَصْغَرُ وَلَهُ ابْنٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الْأَكْبَرِ فَقَدْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ وَهُمَا ابْنَا الْأَصْغَرِ أَحَدُهُمَا أَخُوهُ لِأُمِّهِ. فَأَمَّا بَيَانُ الْحُكْمِ فَنَقُولُ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ لِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِالْعُصُوبَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَعَنْ عُمَرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَظْهَرُهُمَا قُرْبًا فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمَالِ كَمَا لَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخَرُ لِأَبٍ وَبَيَانُ هَذَا لِوَصْفِ الْقُرْبِ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ فَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ وَمِنْ جَانِبِ الْأُمِّ وَاتِّصَالُ الْآخَرِ بِهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا قُرْبًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعُمُومَةَ وَالْأُخُوَّةَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَرَجَّحُ الَّذِي لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الَّذِي لِأَبٍ. فَإِذَا اسْتَوَيَا كَانَ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ سَبَبَانِ لِلْمِيرَاثِ الْفَرِيضَةُ بِالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَالْعُصُوبَةُ بِالْعُمُومَةِ وَيَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ وَيُجْعَلُ اجْتِمَاعُ السَّبَبَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَوُجُودِهِمَا فِي شَخْصَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ السُّدُسَ بِالْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يُزَاحِمُ الْآخَرَ فِيمَا بَقِيَ بِالْعُصُوبَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ مِمَّا لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ. فَأَمَّا مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَلِذَلِكَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ مَعْنَى الْقُوَّةِ فِي التَّأْثِيرِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ قِيَاسَانِ عَلَى قِيَاسٍ وَاحِدٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ هُنَا مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ فَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِأَحَدِهِمَا بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَالسَّبَبُ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِخْوَةُ وَالْإِخْوَةُ لِأُمٍّ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ الْوَصْفِ فِي الْإِخْوَةِ لِأَبٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ التَّرْجِيحُ. فَأَمَّا هُنَا الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ زِيَادَةً فِي وَصْفِ الْعُمُومَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُمُومَةَ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ فِي صُلْبِ الْجَدِّ وَبِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ فِي رَحِمِ الْجَدَّةِ لَا تَسْتَحِقُّ الْفَرِيضَةَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمُجَاوَرَةُ فِي رَحِمِ الْأُمِّ مُوجِبًا زِيَادَةَ وَصْفٍ فِي مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ فِي صُلْبِ الْجَدِّ. فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ مُجَاوَرَةٌ فِي صُلْبِ الْأَبِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمُجَاوَرَةُ فِي رَحِمِ الْأُمِّ مُوجِبًا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 177 لِتِلْكَ الْمُجَاوَرَةِ زَائِدًا فِي وَصْفِهَا فَلِهَذَا يُرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ. وَلَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ فَإِنَّ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَلَا يُرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ هُنَا عَلَى الْآخَرَيْنِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ بِالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ تُسْتَحَقُّ الْفَرِيضَةُ وَاسْتِحْقَاقُ الْفَرْضِيَّةِ لَيْسَ يَنْبَنِي عَلَى الْقُرْبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الْعَصَبَةِ وَصَاحِبِ فَرْضٍ بَلْ صَاحِبُ الْفَرْضِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَصَبَةِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلْحَقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ مُرَجَّحًا عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ بَلْ يُعْطَى الْأَخُ لِأُمٍّ فَرْضَهُ وَهُوَ السُّدُسُ. فَأَمَّا الْإِخْوَةُ لِأَبٍ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْعُصُوبَةُ، وَفِي الْعَصَبَاتِ الْأَقْرَبُ يَتَرَجَّحُ فَجَعَلْنَا الْإِخْوَةَ لِأُمٍّ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ وَصْفٍ وَرَجَّحْنَا بِهِ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ، وَلَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ وَصُورَتُهُ مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ الْأَخَوَيْنِ. فَإِذَا مَاتَ وَلَدُ الْأَصْغَرِ فَقَدْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمِّهِ فَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا بَقِيَ كُلُّهُ لِلَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ أَمَّا عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ فَظَاهِرٌ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْعُمُومَةَ كَالْأُخُوَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأَبٍ لَا يَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ لِجَمِيعِ الْمَالِ. فَكَذَلِكَ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ عَمٍّ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ وَصُورَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ نِصْفَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ ابْنَيْ الْعَمِّ بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْأَخِ لِأُمٍّ الَّذِي لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ الْآخَرِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِي عَمٍّ أَحَدُهُمْ أَخٌ لِأُمٍّ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ لِأُمٍّ أَحَدُهُمْ ابْنُ عَمٍّ وَصُورَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ بَنِي الْأَعْمَامِ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثُّلُثُ لِلْأَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ اللَّذَيْنِ لَيْسَا بِابْنِ عَمٍّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ. وَاخْتَلَفَ الْفَرْضِيُّونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْعُمُومَةَ كَالْأُخُوَّةِ وَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ عِنْدَهُ فِي مَعْنَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ هُنَا وَالْبَاقِي كُلُّهُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 178 لِابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْعُمُومَةُ بِالْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي مَعْنَى الْعُمُومَةِ، وَمَا اسْتَوَيَا هُنَا فَإِنَّ الْعَمَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَعِنْدَهُ الْعُمُومَةُ قِيَاسُ الْأُخُوَّةِ، وَفِي الْأُخُوَّةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ إنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْأُخُوَّةِ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ لَا عِنْدَ التَّفَاوُتِ. فَكَذَلِكَ فِي الْعُمُومَةِ. الْفَصْلُ الثَّانِي إذَا تَرَكَ ابْنَةً وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ ابْنَيْ الْعَمِّ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ لِأُمٍّ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا شَيْءٌ مَعَ الِابْنَةِ فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابُ هَكَذَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ عِنْدَهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَحَقُّ بِالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَمَعَ الْبِنْتِ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ شَيْئًا فَلَا يَصِحُّ بِهَا التَّرْجِيحُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ لِأَنَّ الِابْنَةَ لَمَّا أَخَذَتْ فَرِيضَتَهَا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْوَسَطِ فَيُجْعَلُ الْبَاقِي فِي حَقِّ الْأَخَوَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ابْنَةٌ، وَعِنْدَهُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ الْأَخُ لِأُمٍّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ. فَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي هُنَا وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِأُمٍّ بَلْ الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْأَخِ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ قَالَ عَطَاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا غَلَطٌ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ أَكْبَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَسْقُطَ إخْوَتُهُ لِأُمٍّ بِاعْتِبَارِ الِابْنَةِ فَبَقِيَ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ فِي أَنَّهُ ابْنُ عَمٍّ. وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُهَا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِالْعُصُوبَةِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْقَرَابَةِ إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ بَنِي عَمٍّ أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا وَالْآخَرُ أَخُوهَا لِأُمِّهَا فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ وَعَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عِنْدَهُ فَيُرَجَّحُ بِالْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ فَرَائِضِ الْجَدِّ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 179 - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ حَتَّى يَحْجُبَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ أَيْ جَانِبٍ كَانُوا وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا فِي فَصْلَيْنِ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ وَامْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ فَلِلْأُمِّ فِيهِمَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْجَدِّ أَبًا كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَذَكَرِ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْأُمِّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ أَيْضًا وَهَكَذَا رَوَى أَهْلُ الْكُوفَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْأُمِّ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ وَرَوَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَانِ وَهِيَ إحْدَى مُرَبَّعَاتِ عَبْدِ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي امْرَأَةٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَالْبَاقِيَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَيْنِ وَالرُّوَاةُ كُلُّهُمْ غَلَّطُوا زَيْدًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالُوا إنَّمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا فِي الزَّوْجِ وَأُمٍّ وَجَدٍّ كَيْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ لِلْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ الْأُمَّ، وَإِنْ أَخَذَتْ ثُلُثَ الْمَالِ كَامِلًا يَبْقَى لِلْجَدِّ خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَلَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْإِرْثِ مَعَ الْأَوْلَادِ وَيَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ. فَأَمَّا فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَا، وَلَكِنْ يُقَاسِمُهُمْ وَيُجْعَلُ هُوَ كَأَحَدِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّ زَيْدًا كَانَ يَقُولُ يُقَاسِمُهُمْ مَا دَامَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ. فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ أَخَذَ الثُّلُثَ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقَاسِمُهُمْ مَا دَامَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ سُدُسِ الْمَالِ وَإِذَا كَانَ السُّدُسُ خَيْرًا لَهُ أَخَذَ السُّدُسَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ أَشْهُرُهُمَا كَقَوْلِ زَيْدٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا كَقَوْلِ عَلِيٍّ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الْجَدِّ وَعَنْهُ كَقَوْلِ زَيْدٍ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ خَاصَّةً وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْهُ كَقَوْلِ زَيْدٍ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْخَرْقَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَدِّ وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ اجْتَمَعُوا فِي الْجَدِّ عَلَى قَوْلٍ فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ فَتَفَرَّقُوا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْجَدِّ عَلَى شَيْءٍ وَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ اشْهَدُوا أَنَّهُ لَا قَوْلَ لِي فِي الْجَدِّ، وَلَا فِي الْكَلَالَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 180 وَأَنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْ أَحَدًا وَقَالَ عَلِيٌّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفَحِمَ فِي جَرَاثِيمِ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ فِي الْجَدِّ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ قَالَ هَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدًا لَا حَيَّاهُ اللَّهُ، وَلَا بَيَّاهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْجَدِّ لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ أَمَّا حُجَّةُ مَنْ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ مَعَ الْجَدِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ شَبَّهَ الْأَخَوَيْنِ بِشَجَرَةٍ أَنْبَتَتْ غُصْنَيْنِ وَالْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ نَبَتَ مِنْهَا غُصْنٌ فَالْقُرْبُ بَيْنَ غُصْنَيْ الشَّجَرَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَ أَصْلِ الشَّجَرَةِ وَالْغُصْنُ النَّابِتُ مِنْ غُصْنِهَا لِأَنَّ بَيْنَ الْغُصْنَيْنِ مُجَاوَرَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَبَيْنَ الْغُصْنِ الثَّانِي وَأَصْلِ الشَّجَرَةِ مُجَاوَرَةٌ بِوَاسِطَةِ الْغُصْنِ الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْأَخُ عَلَى الْجَدِّ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْقُرْبِ إلَّا أَنَّ فِي جَانِبِ الْجَدِّ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْوِلَادُ يَتَأَيَّدُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى اتِّصَالُهُ بِالنَّافِلَةِ وَبِالْوِلَادِ يَسْتَحِقُّ الْفَرْضِيَّةَ مَنْ لَهُ اسْمُ الْأُبُوَّةِ وَبِهَذِهِ الْفَرْضِيَّةِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] فَلَا يَنْقُصُ نَصِيبُ الْجَدِّ عَنْ السُّدُسِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ بِحَالٍ وَتَأَيَّدَ بِهَذَا الْوِلَادِ قَرَابَتُهُ مِنْ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ مُزَاحِمًا لِلْإِخْوَةِ وَيُقَاسِمُهُمْ إذَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ السُّدُسِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الْحَجْبِ أَقْوَى مِنْ الْإِخْوَةِ بِدَلِيلِ حَجْبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِالْوَلَدِ دُونَ الْإِخْوَةِ وَحَجْبِ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ بِالْوَلَدِ الْوَاحِدِ دُونَ الْأَخِ، ثُمَّ الْوَلَدُ لَا يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ عَنْ السُّدُسِ بِحَالٍ كَانَ أَوْلَى. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ شَبَّهَ الْأَخَوَيْنِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرَانِ وَالْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرٌ، ثُمَّ تَشَعَّبَ مِنْ النَّهْرِ جَدْوَلٌ فَالْقُرْبُ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ يَكُونُ أَظْهَرَ مِنْهُ بَيْنَ الْجَدْوَلِ وَأَصْلِ الْوَادِي، وَهَذَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ إلَّا أَنَّ فِي جَانِبِ الْجَدِّ مَعْنَى الْوِلَادِ وَبِهِ يُسَمَّى أَبًا، وَلَكِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَبِ الْأَوَّلِ بِدَرَجَةٍ فَيُجْعَلُ هُوَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَامُ الْعَبْدُ بِدَرَجَةٍ مَقَامَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ فِي الْأُمِّ وَالْأُمُّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ تَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ. فَكَذَلِكَ الْجَدُّ بِالْوِلَادِ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ إذْ الْجَدُّ مَعَ الْجَدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ فَكَمَا أَنَّ نَصِيبَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُمِّ وَذَلِكَ الثُّلُثَانِ. فَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ ضِعْفُ نَصِيبِ الْجَدَّةِ وَنَصِيبُ الْجَدَّةِ السُّدُسُ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ فَنَصِيبُ الْجَدِّ الثُّلُثُ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُدْلِي لِلْمَيِّتِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ، ثُمَّ لِلْأَخِ زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُدْلِي بِوَاسِطَةِ الْأَبِ بِالْبُنُوَّةِ وَالْجُدُودِيَّةُ تُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ بِالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فِي الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ تَرَكَ أَبًا وَابْنًا كَانَتْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 181 الْعُصُوبَةُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ، وَلَكِنْ فِي جَانِبِ الْأَبِ تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ الْوِلَادُ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَرِيضَةَ وَصَاحِبُ الْفَرِيضَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَصَبَةِ فَقُلْنَا فِي الْفَرْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْوِلَادِ يُجْعَلُ الْجَدُّ مُقَدَّمًا. وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْعُصُوبَةِ يُعْتَبَرُ الْإِدْلَاءُ وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ لِأَنَّ إدْلَاءَهُمْ بِالْأُمِّ، وَلَا تَأْثِيرَ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ بِهَا وَالْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِي الْإِدْلَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلِهَذَا قُلْت إذَا مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ أَخًا الْمُعْتَقُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَجَدِّهِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْفَرْضِيَّةِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ قَلَّ الْبَاقِي لَهُمَا، أَوْ كَثُرَ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَلَا يَتَّقِ اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ مِثْلَيْنِ وَالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ الْجَدُّ مَيِّتًا يُجْعَلُ ابْنُ الِابْنِ قَائِمًا مَقَامَ الِابْنِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَيْ جَانِبٍ كَانُوا وَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَى وَالِاتِّصَالِ فِي جَانِبِهِ مُرَجَّحًا. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ مَيِّتًا يَكُونُ الْجَدُّ قَائِمًا مَقَامَ الْأَبِ فِي حَجْبِ جَمِيعِ الْإِخْوَةِ، وَيَكُونُ اتِّصَالُهُ وَقُرْبُهُ إلَى الْمَيِّتِ بِالْمَيِّتِ مُرَجَّحًا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَاحِدٌ لَا يُعْقَلُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بِوَجْهٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْأُبُوَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27] وَمَنْ كُنْت ابْنَهُ فَهُوَ أَبُوك وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالُوا {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 133] وَكَانَ إبْرَاهِيمُ جَدًّا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَاتَّبَعْت مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] وَكَانَا جَدَّيْنِ لَهُ وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ فَالْجَدُّ لَهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ مَا لِلْأَبِ حَتَّى أَنَّ وِلَايَته تَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَالْخِلَافَةُ فِي الْإِرْثِ نَوْعُ وِلَايَةٍ. وَكَذَلِكَ الْجَدُّ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَالنَّفَقَةُ صِلَةٌ كَالْمِيرَاثِ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ فِي حُكْمِ حُرْمَةِ وَضْعِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَحُرْمَةِ حَلِيلَتِهِ كَالنَّافِلَةِ وَالْمَنْعُ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِ النَّافِلَةِ وَثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لَهُ بِالِاسْتِيلَادِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ فَإِذَا جُعِلَ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ. فَكَذَلِكَ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقُرْبِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِ بِالْعُصُوبَةِ وَهِيَ لَا تُبْنَى عَلَى الْقُرْبِ فَابْنَةُ الِابْنَةِ أَقْرَبُ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 182 وَمِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، ثُمَّ الْمِيرَاثُ بِالْعُصُوبَةِ لِابْنِ الْعَمِّ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ دُونَ ابْنَةِ الِابْنَةِ. فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا رَجَعْنَا إلَى بَيَانِ مَذْهَبِ الَّذِينَ قَالُوا بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ فَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ بَيَانِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ الْجَدُّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَا دَامَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ أَوْ كَانَا سَوَاءً فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ فَإِنَّهُ يُعْطَى الثُّلُثَ، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمَنْ مَذْهَبُهُ أَنْ يَعْتَدَّ بِالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ. فَإِذَا أَخَذَ الْجَدُّ نَصِيبَهُ رَدَّ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ جَمِيعِ مَا أَصَابُوا إنْ كَانَ أَوْلَادُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلَطِينَ فَإِنْ كَانُوا إنَاثًا فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا مَسْأَلَةُ الْعُشْرِيَّةِ وَصُورَتُهَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ فَعَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالْمُقَاسَمَةِ لِأَنَّ بِالْمُقَاسَمَةِ نَصِيبَ الْجَدِّ خُمُسَا الْمَالِ وَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ خَمْسَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ يَرُدُّ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ مَا أَصَابَهُ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأُضَعِّفُهُ فَيَكُونُ عَشَرَةً لِلْجَدِّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بَعْدَ الرَّدِّ خَمْسَةٌ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا السَّهْمُ الْوَاحِدُ. هُوَ عُشْرُ الْمَالِ فَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْمَسْأَلَةُ عُشْرِيَّةَ زَيْدٍ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ يُوَفِّرُ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ لِلْجَدِّ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ وَإِلَى سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ فَأَيُّ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْجَدِّ أَعْطَى ذَلِكَ وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ لَا يَكُنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ مَعَ الْجَدِّ، وَلَكِنْ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِالْجَدِّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ الْمُقَاسَمَةُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْجَدِّ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْدَرِيَّةِ خَاصَّةً فَإِنَّ جَعْلَ الْأُخْتِ فِيهَا صَاحِبَةَ فَرْضٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَصُورَتُهَا امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَدًّا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْأُخْتَ هُنَا صَاحِبَةَ فَرْضٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ نَصِيبِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ إلَّا السُّدُسُ فَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِلْجَدِّ صَارَتْ الْأُخْتُ مَحْجُوبَةً بِالْجَدِّ، وَهَذَا خِلَافُ أَصْلِهِ، وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا بِالْمُقَاسَمَةِ انْتَقَصَ نَصِيبُ الْجَدِّ عَنْ السُّدُسِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُ عَنْ السُّدُسِ بِاعْتِبَارِ الْوَلَاءِ بِحَالٍ وَإِسْقَاطُ الْأُخْتِ بِالْجَدِّ مُتَعَذِّرٌ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 183 أَيْضًا لِأَنَّهَا صَاحِبَةُ فَرْضٍ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ وَفَرِيضَتُهَا النِّصْفُ فَلِهَذِهِ الْفَرِيضَةُ جَعَلَهَا صَاحِبَةَ فَرْضٍ هُنَا، ثُمَّ يَنْضَمُّ نَصِيبُ الْأُخْتِ مَعَ نَصِيبِ الْجَدِّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ تِسْعَةٍ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْهُ تِسْعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ تِسْعَةً وَكَانَ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ مَضْرُوبَانِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَكَانَ نَصِيبُ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْوَسَطِ صَارَ الْبَاقِي فِي حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَإِنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا الْأُخْتَ صَاحِبَةَ فَرْضٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَعَذَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الضَّرُورَةُ فِيمَا أَصَابَهُمَا فَيَبْقَى الْمُعْتَبَرُ الْمُقَاسَمَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأُخْتِ أَخًا لَمْ تَكُنْ الْمَسْأَلَةُ أَكْدَرِيَّةً بَلْ سُدُسُ الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْجَدِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِالْعُصُوبَةِ فَقَطْ وَلِلْعَصَبَةِ مَا يَبْقَى مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ كَانَ الْأَخُ مَحْرُومًا لِانْعِدَامِ مَحَلِّ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْأُخْتِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَانُ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ أُخْتَيْنِ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لَمْ تَكُنْ الْمَسْأَلَةُ أَكْدَرِيَّةً لِأَنَّهُمَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَيَكُونُ الْبَاقِي الثُّلُثَ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ أُخْتَانِ فَالْمُقَاسَمَةُ وَالسُّدُسُ لِلْجَدِّ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ أَخًا وَأُخْتًا فَالسُّدُسُ خَيْرٌ لَهُ فَيَأْخُذُ السُّدُسَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْأَكْدَرِيَّةِ لِأَنَّهُ تَكَدَّرَ فِيهَا مَذْهَبُ زَيْدٍ فَاضْطُرَّ إلَى تَرْكِ أَصْلِهِ وَقِيلَ إنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَلْقَاهَا عَلَى فَقِيهٍ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْأَكْدَرِ فَأَخْطَأَ فِيهَا عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ الَّذِي وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي تَرِكَتِهِ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْأَكْدَرِ وَمِنْ مَذْهَبِ زَيْدٍ أَنَّ الْبَنَاتِ مَعَ الْجَدِّ كَغَيْرِهِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْجَدُّ يَكُونُ عَصَبَةً مَعَهُنَّ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَجُوزَ تَفْضِيلُ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ وَبِهَذَا كُلِّهِ أَخَذَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَحْسَنُوا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ الْفَتْوَى بِالصُّلْحِ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَقَالُوا إذَا كُنَّا نُفْتِي بِالصُّلْحِ فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فَالِاخْتِلَافُ هُنَا أَظْهَرُ فَالْفَتْوَى بِالصُّلْحِ فِيهِ أَوْلَى. فَأَمَّا بَيَانُ مَذْهَبِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَقُولُ أَنَّهُ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَا دَامَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ السُّدُسِ، أَوْ كَانَا سَوَاءً. فَإِذَا كَانَ السُّدُسُ خَيْرًا لَهُ أَخَذَ السُّدُسَ، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي مُقَاسَمَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 184 الْجَدِّ وَلَكِنْ يَعْتَدُّ بِهِمْ إذَا انْفَرَدُوا عَنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَيَجْعَلُ الْجَدَّ كَأَحَدِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الْمُقَاسَمَةِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ سِوَى الْبَنَاتِ فَإِنَّهُ يُوَفِّرُ عَلَيْهِمْ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ السُّدُسَ يُعْطَى لِلْجَدِّ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يُكَمِّلُ لَهُ السُّدُسَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ يَنْظُرُ لِلْجَدِّ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ فَأَيُّمَا كَانَ خَيْرًا لَهُ ذَلِكَ وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ مَعَ الْجَدِّ وَفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ النِّصْفُ وَفَرِيضَةُ الْمَثْنَى فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَعَ الِابْنَةِ الْجَدُّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَهُ السُّدُسُ، وَلَا يَكُونُ عَصَبَةً بِحَالٍ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَفْضِيلُ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ وَبِهَذَا كُلِّهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسِوَى هَذَا رِوَايَتَانِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأُخْرَى أَنَّ الْمَالَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ بِالْمُقَاسَمَةِ وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الْجَدِّ دُونَ السُّدُسِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ جَدٍّ وَسِتِّ إخْوَةٍ فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ اجْعَلْ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ وَمَزِّقْ كِتَابِي هَذَا إنْ وَصَلَ إلَيْك فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى هَذِهِ الْفَتْوَى حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يُمَزِّقَهُ. فَأَمَّا بَيَانُ مَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ مَا دَامَتْ الْقِسْمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الثُّلُثِ وَافَقَ فِي هَذَا زَيْدًا وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِأَوْلَادِ الْأَبِ مَعَ الْأَوْلَادِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ فَوَافَقَ فِيهِ عَلِيًّا وَقَالَ يُعْتَدُّ بِهِمْ إذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فَأَهْلُ الْحِجَازِ يَرْوُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعْطِي أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ لِلْجَدِّ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زَيْدٍ فَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَرْوُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ لِلْجَدِّ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى السُّدُسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْجَدِّ وَافَقَ فِيهِ عَلِيًّا وَمِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ابْنَةٌ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ فَهَذِهِ مِنْ مُرَبَّعَاتِ عَبْدِ اللَّهِ. وَمِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَانِ فَكَانَ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ فَهَذِهِ مِنْ مُرَبَّعَاتِهِ أَيْضًا وَمِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَنَّ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْجَدِّ فَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ، وَلَا يَعْتَدُّ بِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَبِهَذَا كُلِّهِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَصَارَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْحَاصِلِ فِي ثَمَانِ فُصُولٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ نَذْكُرَ كُلَّ فَصْلٍ عَلَى الِانْفِرَادِ أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ تُعْتَبَرُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 185 الْمُقَاسَمَةُ مَا دَامَتْ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَعِنْدَ عَلِيٍّ تُعْتَبَرُ الْمُقَاسَمَةُ مَا دَامَتْ خَيْرًا لَهُ مِنْ سُدُسِ الْمَالِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا امْتَازَ مِنْ الْإِخْوَةِ بِمَعْنَى الْوَلَاءِ وَاسْمِ الْأُبُوَّةِ وَبِهَذَا الِاسْمِ وَالْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِاسْتِحْقَاقِ الْفَرِيضَةِ وَفَرِيضَةُ الْأَبِ بِالنَّصِّ السُّدُسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]، ثُمَّ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ مَعَ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْأَخَ وَلَدُ مَنْ يُدْلِي بِهِ الْجَدُّ وَهُوَ الْأَبُ، ثُمَّ فَرِيضَةُ الْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ السُّدُسُ لَا يَنْقُصُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ فَرِيضَةُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ السُّدُسُ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ بِحَالٍ وَاعْتِبَارُ الْعُصُوبَةِ لِتُوَفِّرَ الْمَنْفَعَةَ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَتْ الْفَرِيضَةُ أَنْفَعَ لَهُ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُعْطَى فَرِيضَتَهُ، وَذَلِكَ السُّدُسُ وَجْهُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ ابْنِي مَاتَ فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَك السُّدُسُ فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ لَك سُدُسٌ آخَرُ». وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ لِلْمَيِّتِ وَلَدًا فَجَعَلَ لَهُ السُّدُسَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَلَدَ لِلْمَيِّتِ فَجَعَلَ لَهُ الثُّلُثَ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَقَالَ هَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْجَدِّ شَيْئًا فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِلْجَدِّ بِالثُّلُثِ» فَقَالَ مَعَ مَنْ كَانَ فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ لَا دَرَيْت فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ وَقَالَ «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِلْجَدِّ بِالثُّلُثِ» فَقَالَ مَعَ مَنْ كَانَ فَقَالَ لَا أَدْرِي شَيْئًا فَقَالَ لَا دَرَيْت، وَإِنَّمَا يَحْمِلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ وَالثُّلُثَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْجَدَّ مَعَ الْجَدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ ثُمَّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَكَانَ لِلْجَدَّةِ نِصْفُ نَصِيبِ الْأُمِّ وَهُوَ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْجَدِّ نِصْفُ نَصِيبِ الْأَبِ وَهُوَ الثُّلُثُ بِالْوَلَاءِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ ضِعْفَ حَظِّ الْأُنْثَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ عَنْ فَرْضِهِمَا وَفَرْضُهُمَا الثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَكُلُّ وَارِثٍ يَحْجُبُ آخَرَ عَنْ فَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ مَعْنَى حُجَّتِهِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي فَرْضِهِ كَالْوَلَدِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ مَعَ الْأَبِ فَإِنَّهُمَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَلَا حَظَّ لَهُمَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ وَارِثَيْنِ مَعَ الْأَبِ وَكَلَامُنَا فِيمَنْ يَحْجُبُ غَيْرَهُ وَهُوَ وَارِثٌ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَجْهُ قَوْلِ زَيْدٍ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِالْأَبِ كَمَا يُدْلِي الْجَدُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ عِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّ بِوُجُودِهِمْ لَا يَزْدَادُ مَعْنَى الْإِدْلَاءِ فِي الْجَدِّ، وَلَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 186 يَنْتَقِصُ فِي جَانِبِ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي حَقِّ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مُعْتَبَرٌ لِلتَّرْجِيحِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّرْجِيحُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ لَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ فَفِي حَقِّ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ غَيْرُ الْأُخُوَّةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي التَّرْجِيحِ مَعَ الْجَدِّ، وَلَكِنْ يُجْعَلَا فِي الْمُقَاسَمَةِ كَأَنَّهُمَا جَمِيعًا إخْوَةٌ لِأَبٍ حَتَّى يَأْخُذَ الْجَدُّ نَصِيبَهُ فَيَخْرُجَ مِنْ الْوَسَطِ، ثُمَّ صَارَتْ الْجِهَةُ وَاحِدَةً فِيمَا بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْإِخْوَةِ لِأَبٍ فَيَظْهَرُ التَّرْجِيحُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَيَرُدُّ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَا أَخَذُوا لِهَذَا الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخَوَيْنِ فَالْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، ثُمَّ الْأَبُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْجَدَّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ كَالْأَخِ لِأَبٍ لَكَانَ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَإِذَا جُعِلَ هُوَ كَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ لِأَبٍ فَالْأَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَأَنْ يَحْجُبَانِ الْإِخْوَةَ لِأَبٍ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا انْفَرَدَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ مَعَ الْجَدِّ لِأَنَّ هُنَاكَ الْجَدُّ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ بِمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْجَدُّ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ نَصِيبَهُ إذَا كَانَ بِالْمُقَاسَمَةِ دُونَ الثُّلُثِ يُعْتَبَرُ الْوَلَاءُ لَكِنْ لَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ عَنْ السُّدُسِ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ لَا يُعْتَبَرُ الْوَلَاءُ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ الْإِدْلَاءُ بِالْأَبِ فَهُنَا مَعَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْوَلَاءِ فِي جَانِبِ الْجَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَمَّا قَضَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ لِيَقُومَ مَعْنَى الْوَلَاءِ فِي جَانِبِهِ مَقَامَ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي جَانِبِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَكَانَ مُعْتَبَرًا وَجَعْلُ الْجَدِّ كَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُوَضِّحُهُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، ثُمَّ يَرُدُّونَ مَا أَصَابَهُمْ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُؤَدِّي إلَى تَفْضِيلِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْجَدِّ، وَهَذَا سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْجَدَّ لَا يُنْتَقَصُ نَصِيبُهُ عَنْ السُّدُسِ بِحَالٍ، وَقَدْ يَنْقُصُ نَصِيبُ الْأَخِ عَنْ السُّدُسِ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَفْضِيلُ الْأَخِ عَلَى الْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْجَدِّ عِنْدَ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَعِنْدَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَصَبَاتٌ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأُنْثَى إنَّمَا تَصِيرُ عَصَبَةً لِلذَّكَرِ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ. فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ فَلَا فَالسَّبَبُ فِي حَقِّ الْجَدِّ غَيْرُ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْأُخْتِ فَلَا تَصِيرَنَّ عَصَبَةً بِهِ بِخِلَافِ الْأَخِ فَالسَّبَبُ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَتَصِيرُ الْأُخْتُ عَصَبَةً بِالْأَخِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الْإِنَاثِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 187 كَالْجَدَّةِ. فَكَذَلِكَ لَا يُعَصِّبُ غَيْرَهَا بِمَنْزِلَةِ ابْنِ الْعَمِّ، وَلِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْجَدِّ بِمَنْزِلَةِ الِابْنَةِ مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ الِابْنَةُ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْأَبِ. فَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْجَدِّ وَجْهُ قَوْلِ زَيْدٍ أَنَّ الْجَدَّ كَأَحَدِ الذُّكُورِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُخْتَ تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْأَخِ لَا بِاسْمِ الْأُخُوَّةِ فَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْأَخِ لِأُمٍّ، وَلَا يَجْعَلُهَا عَصَبَةً، وَلَكِنْ إنَّمَا تَصِيرُ بِالْأَخِ لِكَوْنِ الْأَخِ عَصَبَةً وَالْجَدُّ فِي الْعُصُوبَةِ مُسَاوٍ لِلْأَخِ فَتَصِيرُ الْأُخْتُ عَصَبَةً إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ فَإِنَّهَا تُجْعَلُ صَاحِبَ فَرْضٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا بَيَّنَّا مَعَ أَنَّ الْجَدَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ فَرْضٍ فَإِنَّ لَهُ السُّدُسُ فَيَكُونُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأُمٍّ وَالْأُخْتُ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْأَخِ لِأُمٍّ. وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ عِنْدَ عَلِيٍّ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ بِالْمُقَاسَمَةِ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاقِي كُلُّهُ لِلْجَدِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَاقِي بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ وَالْجَدُّ هُوَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ أَوْلَادِ الْأَبِ لِأَنَّ جَانِبَهُ زَائِدٌ بِالْوَلَاءِ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ الْوَلَاءُ هُنَا لِمَكَانِ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ اعْتَبَرْنَاهَا فِي جَانِبِهَا حِينَ جَعَلْنَاهَا صَاحِبَةَ فَرْضٍ إذْ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ قَرَابَةَ الْأُمِّ لَكَانَتْ هِيَ عَصَبَةً بِالْأَخِ لِأَبٍ وَإِذَا اعْتَبَرَ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي جَانِبِهَا يَعْتَبِرُ الْوَلَاءَ فِي جَانِبِ الْجَدِّ فَيَكُونُ سَبَبُهُ فِي الْعُصُوبَةِ أَقْوَى وَيُحْجَبُ بِهِ أَوْلَادُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِخِلَافِ مَا إذَا انْفَرَدَ أَوْلَادُ الْأَبِ مَعَ الْجَدِّ لِأَنَّ هُنَاكَ يُعْتَبَرُ الْوَلَاءُ فِي جَانِبِ الْجَدِّ فَيَكُونُ سَبَبُهُ مِثْلَ سَبَبِ أَوْلَادِ الْأَبِ وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ يُقَاسِمُونَ الْجَدَّ فِي جَمِيعِ الْمَالِ فَيُقَاسِمُونَهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ صَاحِبِ الْفَرِيضَةِ كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ فِي الْجَدِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ فِي إثْبَاتِ الْعُصُوبَةِ لِلْجَدِّ مَعَ أَوْلَادِ الْأَبِ فَهُوَ، وَمَا انْفَرَدُوا مَعَهُ سَوَاءٌ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ] وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ فَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ يُوَفِّرُ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ ثُمَّ يَنْظُرُ لِلْجَدِّ إلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ وَإِلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى سُدُسِ الْمَالِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِلْجَدِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ فَمَا بَقِيَ هُنَا كَجَمِيعِ الْمَالِ هُنَاكَ فَاعْتَبَرَ الْمُقَاسَمَةَ وَثُلُثَ مَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ السُّدُسُ خَيْرًا لَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْقُصُ الْجَدُّ عَنْ السُّدُسِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ السُّدُسِ بِاسْمِ الْأُبُوَّةِ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ وَأَمَّا عِنْدَ عَلِيٍّ يَنْظُرُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَإِلَى سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِلْجَدِّ الْمُقَاسَمَةَ وَالسُّدُسَ وَلَا يَعْتَبِرُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ. فَكَذَلِكَ هُنَا وَأَهْلُ الْحِجَازِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 188 يَرْوُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِ زَيْدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِلْجَدِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَرْوُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ السُّدُسَ وَالْمُقَاسَمَةُ هُنَا كَمَا هُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَعَلْنَا لِلْجَدِّ الثُّلُثَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ وَضِعْفُ نَصِيبِ الْجَدَّةِ، وَقَدْ تَغَيَّرَ ذَلِكَ بِوُجُودِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَمَتَى وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي فَرِيضَةٍ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُنَاصَفَةُ كَمَا فِي فَرِيضَةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَفَرِيضَةِ الْأُمِّ بِالْإِخْوَةِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا لَهُ السُّدُسَ وَالْمُقَاسَمَةَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ وَإِثْبَاتُ مِقْدَارِ الْفَرِيضَةِ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ بِخِلَافِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَإِنَّا إذَا جَعَلْنَا لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ كَانَ ذَلِكَ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَفِي فَرِيضَةِ السُّدُسِ نَصٌّ. وَإِذَا جَعَلْنَا لَهَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ بِامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ كَانَ ذَلِكَ رُبُعَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَفِي فَرِيضَةِ الرُّبُعِ نَصٌّ. فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَا لِلْجَدِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِفَرْضٍ مَنْصُوصٍ عَلَى كُلِّ حَالِّ فَيَكُونُ إثْبَاتُ فَرِيضَةٍ بِالرَّأْيِ. [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الِابْنَةِ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ] وَالْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الِابْنَةِ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ الْجَدُّ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ هُنَا وَفَرِيضَتُهُ السُّدُسُ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَكُونُ هُوَ عَصَبَةً يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الِابْنَةِ فَهُمَا يَقُولَانِ الِابْنَةُ صَاحِبَةُ فَرْضٍ فَتَكُونُ كَغَيْرِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْجَدُّ عَصَبَةٌ مَعَ سَائِرِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَيُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ. فَكَذَلِكَ مَعَ الِابْنَةِ وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ وَالْأَبُ صَاحِبُ فَرْضٍ مَعَ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] إلَّا أَنَّا جَعَلْنَا الْأَبَ الْأَدْنَى مَعَ الِابْنَةِ عَصَبَةً فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مَا جَعَلْنَاهُ صَاحِبَ فَرْضٍ فَلَوْ أَعْطَيْنَا لِلْجَدِّ حُكْمَ الْعُصُوبَةِ كُنَّا قَدْ سَوَّيْنَاهُ بِالْأَبِ فَحَجَبَ الْإِخْوَةَ، وَلَا يُزَاحِمُهُمْ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فَلَا نَجْعَلُ لَهُ حَظًّا مِنْ الْعُصُوبَةِ هُنَا. وَالْفَصْلُ السَّابِعُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةً وَجَدًّا وَأُخْتًا فَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ مَعَ الِابْنَةِ اسْتَحَقَّ مَا بَقِيَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ فَالْأُخْتُ مَعَ الِابْنَةِ عَصَبَةٌ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الْأُخْتُ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْجَدِّ وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْعَصَبَةِ إذَا صَارَتْ الْمَرْأَةُ عَصَبَةً بِالذَّكَرِ. فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَبْدًا كَانَ مِيرَاثُهُ بِالْوَلَاءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 189 الْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأَنَّ الْأُخْتَ عِنْدَ وُجُودِ الْأَخِ إنَّمَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْأَخِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ابْنَةً كَانَتْ عَصَبَةً بِالْأَخِ فَكَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الِابْنَةِ وَهُنَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ الِابْنَةُ مَا كَانَتْ الْأُخْتُ عَصَبَةً بِالْجَدِّ. فَكَذَلِكَ مَعَ الِابْنَةِ. وَالْفَصْلُ الثَّامِنُ إذَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَجَدًّا فَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ وَعَلِيٍّ لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ لِلْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وَالنُّقْصَانُ عَمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ الْأُمُّ أَقْرَبُ مِنْ الْجَدِّ بِدَرَجَةٍ وَالْأَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَجُوزُ تَفْضِيلُهُ عَلَى الْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النُّقْصَانَ دُونَ الْحِرْمَانِ وَيَجُوزُ حِرْمَانُ الْجَدِّ فِي مَوْضِعٍ تَرِثُ الْأُمُّ فِيهِ الثُّلُثَ وَهُوَ حَالَ حَيَاةِ الْأَبِ فَلَأَنْ يَجُوزَ نُقْصَانُ نَصِيبِ الْجَدِّ عَنْ نَصِيبِ الْأُمّ كَانَ أَوْلَى وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَبِ ثَابِتٌ لِلْجَدِّ وَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَلَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ تَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ. فَأَمَّا بَعْدَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الِابْنِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي جَانِبِ الْجَدِّ فَضِيلَةَ الْأُبُوَّةِ وَالْبَعْدَ بِدَرَجَةٍ، وَفِي جَانِبِ الْأُمِّ فَضِيلَةَ الْقُرْبِ بِدَرَجَةٍ وَنُقْصَانَ الْأُبُوَّةِ فَاسْتَوَيَا فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ يَدُورُ عَلَى سِتَّةِ مَسَائِلَ فَمَنْ أَحْكَمَ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ فِيهَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ مَا سِوَاهَا وَالْمَسَائِلُ السِّتُّ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ وَرَوَاهَا عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ إحْدَاهَا مَسْأَلَةُ الْخَرْقَاءِ وَصُورَتُهَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَجَدٌّ وَأُمٌّ فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى سِتِّ أَقَاوِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ وَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ فِي رِوَايَةٍ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ نَصِيبَ الْجَدِّ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُمِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَانِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَفْضِيلَ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ وَيَرَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وَالسَّادِسُ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمَالَ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ أَثْلَاثًا وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَحْفُوظٌ عَنْ عُثْمَانَ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمٌّ لَكَانَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ بِالْفَرِيضَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْجَدِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 190 فَإِذَا اسْتَحَقَّتْ الْأُمُّ الثُّلُثَ عَلَيْهِمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهَا جَمِيعِهِمَا وَيَبْقَى حَقُّهُمَا فِي الْبَاقِي سَوَاءٌ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ أَثْلَاثًا وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَرْقَاءُ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِ الْعَصَبَةِ فِيهَا وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً لِأَنَّ قَدِيمًا جَوَابَهَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُثْمَانَ وَتُسَمَّى مُثَلَّثَةً لِجَعْلِ عُثْمَانَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَتُسَمَّى حَجَّاجِيَّةً لِأَنَّ الْحَجَّاجَ أَلْقَاهَا عَلَى الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ أَتَى بِالشَّعْبِيِّ مُوثَقًا بِحَدِيدٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ بِشِبْهِ الْمُغْضَبِ وَقَالَ أَنْتَ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَيْنَا يَا شَعْبِيُّ فَقَالَ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ لَقَدْ أَجْدَبَ الْجَنَابُ وَضَاقَ الْمَسْلَكُ وَاكْتَحَلْنَا السَّهَرَ وَاسْتَحْلَسْنَا الْحَرَرَ وَوَقَعْنَا فِي فِتْنَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَرْوِيَةٌ أَتَيْنَا وَلَا فَجِرْيَةَ أَقْوِيَاءَ قَالَ صَدَقَ خُذُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ فِي أُمٍّ وَأُخْتٍ وَجَدٍّ فَقَالَ قَدْ قَالَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَا قَالَ فِيهَا الْحَبْرُ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا وَلَمْ يُعْطِ الْأُخْتَ شَيْئًا قَالَ وَمَا قَالَ فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ جَعَلَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ قَالَ، وَمَا قَالَ فِيهَا زَيْدٌ قَالَ جَعَلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَالَ، وَمَا قَالَ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُثْمَانَ قَالَ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَقَالَ لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْعَلَمِ فَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُلَقَّبَةٌ بِالْأَكْدَرِيَّةِ وَصُورَتُهَا أُمٌّ وَجَدٌّ وَزَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلُ زَيْدٍ كَمَا بَيَّنَّا وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ أَنْ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ عَلَى مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ فَتَعُولَ بِسَهْمَيْنِ وَالْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ فَتَعُولُ بِثَلَاثَةِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ زَيْدٍ إلَّا أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْجَدَّ وَالْأُخْتَ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَعِنْدَ عَلِيٍّ لَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ امْرَأَةٌ وَأُخْتٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلَانِ لِلصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ وَالْآخَرُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ وَالثَّالِثُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ بِالْمُقَاسَمَةِ وَالرَّابِعُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 191 نِصْفَانِ. وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَجَدًّا وَأَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلَانِ لِلصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدُهُمَا لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَفِي الْآخَرِ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ وَالثَّالِثُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ فَيَكُونُ هَذَا مُوَافِقًا لِأَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِيهِ لِعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ. وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ امْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَجْد وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلَانِ لِلصِّدِّيقِ كَمَا ذَكَرْنَا وَالثَّالِثُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَانِ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ السُّدُسِ فَالْمُقَاسَمَةُ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالسُّدُسُ سَهْمَانِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَانِ وَالْخَامِسُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ أَثْلَاثًا كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ فَتَكُونَ هَذِهِ مِنْ مُرَبَّعَاتِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ابْنَةٌ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلُ الصِّدِّيقِ أَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ بِالْفَرْضِ وَالْعُصُوبَةِ وَقَوْلُ زَيْدٍ أَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَقَوْلَانِ لِعَبْدِ اللَّهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ وَالْقَوْلُ الْأُخَرُ أَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ وَلِلْجَدِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَهُوَ وَالسُّدُسُ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ فَهَذَا بَيَانُ الْمَسَائِلِ السِّتَّةِ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ يَتَيَسَّرُ تَخْرِيجُهَا عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ الرَّدِّ] قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا فَضَلَ الْمَالُ عَنْ حُقُوقِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَلَيْسَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَيْضًا كَمَا يُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الرَّدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ إلَّا عَلَى سِتَّةِ نَفَرٍ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَابْنَةُ الِابْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَوْلَادُ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 192 وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ أَيًّا كَانَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يُرَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ شَيْءٌ بَعْدَ مَا أَخَذُوا فَرَائِضَهُمْ، وَلَكِنَّ نَصِيبَ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ قَالَ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْجَدَّةِ، ثُمَّ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَذْهَبُنَا يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدِهِمَا بِأَنْ يُعْطُونَ فَرَائِضَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرُدَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ فَرَائِضِهِمْ فَتَكُونَ الْقِسْمَةُ مَرَّتَيْنِ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مِقْدَارِ فَرَائِضِهِمْ فَيُقْسَمُ جَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ التَّطْوِيلِ وَبَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُمًّا فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ عَلَى مِقْدَارِ فَرِيضَتِهِمَا فَتَكُونُ عَلَى خَمْسَةٍ وَسِتَّةٌ عَلَى خَمْسَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَيُضْرَبُ سِتَّةٌ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ مِنْهُ تَصِحُّ. وَعَلَى الْآخَرِ يُقْسَمُ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْأُخْتِ وَخُمُسَاهُ لِلْأُمِّ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُخَالِطْهُمْ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَإِنْ خَالَطَهُمْ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِسْمَتَيْنِ وَبَيَانُهُ إذَا تَرَكَتْ امْرَأَةٌ زَوْجًا وَأُمًّا وَابْنَةً فَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ بَقِيَ سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسٍ فَيُرَدُّ عَلَى الِابْنَةِ وَالْأُمِّ دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَضْرِبَ اثْنَيْ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ الْبَاقِي وَهُوَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ بَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ لِلِابْنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِلْأُمِّ رُبُعُهَا وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ يُطْلَبُ حِسَابٌ لَهُ رُبُعٌ وَلِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ رُبُعٌ وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَيُعْطَى الزَّوْجُ الرُّبُعَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ لِلِابْنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ رُبُعُهَا ثَلَاثَةٌ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّ الرَّدَّ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ لَا رَحِمَ لَهُ وَهُوَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِالرَّحِمِ، وَأَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فِيمَا بَقِيَ يُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِالرَّحِمِ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَوُو الْأَرْحَامِ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَصْرِفُ الْمَالَ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ، وَلَا عَصَبَةٍ. فَكَذَلِكَ إذَا فَضَلَ عَنْ حُقُوقِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَلَيْسَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَالْحُجَّةُ لِمَنْ أَبَى الرَّدَّ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالتَّقْدِيرُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء: 14] الْآيَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 193 فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ، وَفِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ زِيَادَةٌ عَلَى مَا قُدِّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ الرَّدُّ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْفَرِيضَةِ أَوْ الْعُصُوبَةِ، أَوْ الرَّحِمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ مَا فُرِضَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْفَرِيضَةُ لَهُمَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَفِي الرَّدِّ لَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالرَّحِمِ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَإِذَا بَطَلَتْ الْوُجُوهُ صَحَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّدِّ بَاطِلٌ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَا يُسْتَحَقُّ لَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَيُصْرَفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ فَأَصْحَابُ الْفَرَائِضِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَيُرَجَّحُوا بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ وَصْلَةَ الْإِسْلَامِ بِانْفِرَادِ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ كَوَصْلَةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يَصْلُحُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ الرَّدُّ بِاعْتِبَارِ الرَّحِمِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالرَّحِمِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ بِحَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ، أَوْ مَا يُشْبِهُ الْقَرَابَةَ فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ كَالْوَلَاءِ وَالزَّوْجِيَّةُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفَرْضِيَّةِ بِهَا كَانَ بِالنَّصِّ فَفِيمَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى ابْنَةِ الِابْنَةِ مَعَ الِابْنَةِ لِأَنَّهُمَا فِي الرَّدِّ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ فَيَكُونُ الْأَقْرَبُ مُقَدَّمًا وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِأَبٍ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى أَوْلَادِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ كَمَا لَا تَثْبُتُ الْعُصُوبَةُ لِأَوْلَادِ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِالْأُنْثَى وَالْإِدْلَاءُ بِالْأُنْثَى لَيْسَ بِسَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ بِحَالٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ الْجَدَّةِ ضَعِيفٌ فَلَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ كَانَ سَبَبُهُ قَوِيًّا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِالرَّدِّ. فَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] مَعْنَاهُ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ بِسَبَبِ الرَّحِمِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِ الْمِيرَاثِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُوَصِّلُهُ الرَّحِمُ وَالْآيَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْفَرِيضَةِ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فَيُعْمَلُ بِالْآيَتَيْنِ وَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرِيضَةً بِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ، ثُمَّ يُجْعَلُ مَا بَقِيَ مُسْتَحَقًّا لَهُمْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِانْعِدَامِ الرَّحِمِ فِي حَقِّهِمَا فَلَا يَكُونُ هَذَا مُجَاوَزَةً وَلَئِنْ كَانَ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَذَلِكَ جَائِزٌ، ثُمَّ كَمَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 194 عَلَى الْحَدِّ الْمَحْدُودِ شَرْعًا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ وَبِالْإِجْمَاعِ يُنْتَقَصُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمَّا سُمِّيَ لَهُ عِنْدَ الْعَوْلِ وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَذَلِكَ الرَّدُّ. وَلَمَّا «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَعُودُهُ قَالَ أَمَا إنَّهُ لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي فَأُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» فَقَدْ اعْتَقَدَ سَعْدٌ أَنَّ الِابْنَةَ تَكُونُ وَارِثَةً فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ مَنَعَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَوْ كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى النِّصْفِ بِالرَّدِّ لَجَوَّزَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِنِصْفِ الْمَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ الْمُلَاعِنَةَ مِنْ أُمِّهَا» أَيْ وَرَّثَهَا جَمِيعَ الْمَالِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الرَّدِّ، وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا وَعَتِيقِهَا وَالِابْنُ الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ خِلَافَةٌ وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ مِلْكًا وَتَصَرُّفًا حَتَّى إنَّ مَا يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ كَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَلِهَذَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ دُونَ السَّبَبِ الْخَاصِّ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ دُونَ السَّبَبِ الْخَاصِّ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِحَالٍ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْإِرْثَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْعَدَمَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمُبَاشَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَمَا انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمِلْكِ وَالْوَارِثَةِ خِلَافُهُ فِي الْمِلْكِ، ثُمَّ وَلِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ خَلَلٌ فِيمَا بِهِ تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِرْثِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ قُلْنَا الْأَقَارِبُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَتَرَجَّحُوا بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ وَمُجَرَّدُ الْقَرَابَةِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِلْعُصُوبَةِ فَثَبَتَ بِهَا التَّرْجِيحُ بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي حَقِّ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُصُوبَةَ بِانْفِرَادِهِ وَإِذَا تَرَجَّحُوا بِقُوَّةِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ كَانُوا أَوْلَى بِمَا بَقِيَ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ بِهِ اسْتَحَقُّوا الْفَرِيضَةَ فَيَكُونُ سَبَبًا عَلَى تِلْكَ الْفَرِيضَةِ فَكَمَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبُ مِنْ السَّبَبِ. فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فَيَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْقَرَابَةِ جَمِيعًا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ الرَّدَّ بِهِ عَلَى سَبْعَةِ نَفَرٍ الِابْنَةِ وَابْنَةِ الِابْنِ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ وَوَلَدِ الْأُمِّ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى، وَقَدْ يَكُونُ الرَّدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 195 يَكُونُ عَلَى اثْنَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةٍ إلَّا أَنَّ فِي الْأَرْبَعَةِ وَاحِدًا مِمَّا لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. أَمَّا الرَّدُّ عَلَى الْوَاحِدِ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَةً، وَلَا عَصَبَةَ لَهُ فَالنِّصْفُ لَهَا بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ أُمًّا فَالثُّلُثُ لَهَا بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهَا وَصُورَةُ الرَّدِّ عَلَى اثْنَيْنِ أَنْ يَتْرُكَ أُمًّا وَابْنَةً فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهَا فَعَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ تَأْخُذُ الْأُمُّ سَهْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَالِابْنَةُ ثَلَاثَةً وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمَانِ رَدٌّ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا فَانْكَسَرَ بِالْأَرْبَاعِ، وَلَكِنْ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَاقْتَصَرَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَذَلِكَ اثْنَانِ، ثُمَّ اضْرِبْ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ سِتَّةً فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ سِتَّةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي وَهُوَ أَرْبَعَةٌ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِلِابْنَةِ وَرُبُعَهُ لِلْأُمِّ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنٍ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ لِلِابْنَةِ وَالرُّبُعُ لِبَنَاتِ الِابْنِ بَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ فَيَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي لِلِابْنَةِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَلِبَنَاتِ الِابْنِ سَهْمٌ بَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، وَمَا بَقِيَ رَدٌّ عَلَيْهِنَّ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ فَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَعْشَارِ وَالْأَرْبَاعِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَتَقْتَصِرُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ نَضْرِبُهُ فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ أَوْ اثْنَانِ فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ فِي عِشْرِينَ فَيَكُونُ مِائَةً وَعِشْرِينَ، وَإِنْ شِئْت اقْتَصَرَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ الْمُوَافَقَةِ بِالْإِنْصَافِ فَتَضْرِبُ عَشَرَةً فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا يَقَعُ فِيهِ الْكَسْرُ بِالْأَنْصَافِ. وَإِذَا خَرَّجْته مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لَا يَقَعُ الْكَسْرُ فَإِنَّ الِابْنَةَ تَأْخُذُ النِّصْفَ سِتِّينَ وَبَنَاتُ الِابْنِ السُّدُسَ عِشْرِينَ، ثُمَّ الْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ أَرْبَاعًا فَيَحْصُلُ لِبَنَاتِ الِابْنِ ثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الِابْنَةِ خَاصَّةً فَيَكُونُ مِنْ سِتَّةٍ لِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ سَهْمٌ بَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ سِتَّةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ وَلَوْ تَرَكَتْ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ وَعَشْرَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ خُمْسُ الْمَالِ لِلْجَدَّاتِ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْأَخَوَاتِ بَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَضْرِبُ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي ثَلَاثِينَ فَيَكُونُ مِائَةً وَخَمْسِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي أَنْ تَجْعَلَ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سِتَّةٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 196 لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ ثُمَّ ثَلَاثِينَ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تَضْرِبُ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَّا أَنَّ لِلِاقْتِصَارِ هُنَا وَجْهًا فَإِنَّ بَيْنهمَا مُوَافَقَةً بِالسُّدُسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى السُّدُسِ مِنْ مَبْلَغِ الرُّءُوسِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ تَضْرِبُ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ مِائَةً وَخَمْسِينَ كَانَ لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ مِائَةٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَدٌّ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا فَيَحْصُلُ لِلْجَدَّاتِ ثَلَاثُونَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةٌ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ وَلِلْأَخَوَاتِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَا عَشَرَ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الْأَخَوَاتِ دُونَ الْجَدَّاتِ فَيَكُونُ لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةٌ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ عَلَى عَشَرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ سِتَّةً فِي ثَلَاثِينَ فَيَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِينَ لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشَرَةٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَصُورَةُ الرَّدِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِيمَا إذَا تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الْمَالُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَالسَّهْمُ الْبَاقِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ خَمْسَةً فِي سِتَّةً فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتِ لِأُمٍّ أَرْبَاعًا فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ سِتَّةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَصُورَةُ الرَّدِّ فِي فَرِيضَةٍ فِيهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ أَنْ يَتْرُكَ امْرَأَةً وَأُمًّا وَابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ أَصْلُهُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ اثْنَا عَشَرَ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ رَدٌّ عَلَيْهِنَّ إلَّا عَلَى الْمَرْأَةِ فَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةً مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ مَا بَقِيَ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُنَّ عَلَى عِشْرِينَ لِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَلِلِابْنَةِ اثْنَا عَشَرَ وَلِابْنَةِ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ رَدٌّ عَلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ أَخْمَاسًا فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي رَدٌّ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 197 عَلَى الِابْنَةِ وَالْأُمِّ أَرْبَاعًا فَإِنَّمَا تَضْرِبُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرِينَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَتِسْعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَهَذَا الطَّرِيقُ لِتَخْرِيجِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولَانِ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا قَرَابَةَ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَلَهُ قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا وَالشَّافِعِيُّ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولَانِ عَصَبَةُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَصَبَةُ وَلَدِ أُمِّهِ وَبِهِ أَخَذَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ حَتَّى قَالَ النَّخَعِيُّ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ عَصَبَةَ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَأَمِتْ أُمَّهُ وَانْظُرْ مَنْ يَكُونُ عَصَبَتُهَا فَهُوَ عَصَبَةُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَصَبَةُ أُمِّهِ وَهِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا وَعَتِيقِهَا وَالْوَلَدُ الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ»، ثُمَّ هِيَ عَصَبَةٌ لِعَتِيقِهَا. فَكَذَلِكَ لِوَلَدِهَا الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أُمُّ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ أَبُوهُ أُمُّهُ» لِأَنَّهَا تَرِثُ جَمِيعَ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ وَاسْتِحْقَاقُ جَمِيعِ الْمَالِ يَكُونُ بِالْعُصُوبَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا عَصَبَتُهُ وَالْحُجَّةُ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ مَا رُوِيَ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ كَتَبْت إلَى صَدِيقٍ لِي بِالْمَدِينَةِ أَنْ «سَلْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ مَنْ عَصَبَتُهُ فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَصَبَتَهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ»، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَائَيْنِ وَمَاءُ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِحَضَنَتِهَا فِي الرَّحِمِ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ فِي الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقَدُّمَ هِيَ فِي الْعُصُوبَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهَا أَظْهَرُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ بَنَى الْعُصُوبَةَ عَلَى النِّسْبَةِ وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ إلَّا إذَا انْعَدَمَتْ النِّسْبَةُ فِي جَانِبِ الْأَبِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ النِّسْبَةُ إلَى الْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَبَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى أُمِّهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعُصُوبَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى النَّسَبِ يَثْبُتُ لِقَوْمِ الْأُمِّ إذَا انْعَدَمَ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَهُوَ نَظِيرُ وَلَاءِ الْعِتْقِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْمُ الْأَبِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أُمِّهِ فَهَذَا كَذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْعُصُوبَةِ لِقَوْمِ الْأُمِّ إبْطَالَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ لِتَوْرِيثِ الْأَخِ لِأُمٍّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً مُطْلَقَةً فَعَلَى مَا قَالُوا إذَا مَاتَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 198 وَتَرَكَ ابْنَةً وَأَخًا لِأُمٍّ يَكُونُ النِّصْفُ لِلِابْنَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأُمٍّ بِالْعُصُوبَةِ وَتَوْرِيثُ الْأَخِ لِأُمٍّ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْعُصُوبَةَ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَالْإِدْلَاءُ بِالْإِنَاثِ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِدْلَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَهُوَ الْعُصُوبَةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَاءِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ بِاعْتِبَارِ الْإِعْتَاقِ وَالْأُنْثَى وَالذَّكَرُ فِيهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ قَوْمَ الْأُمِّ فِي الْعُصُوبَةِ يَنْزِلُونَ مَنْزِلَةَ قَوْمِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِمْ هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ أَبِيهِ لَا تُجْعَلُ عَصَبَتُهُ قَوْمَ أُمِّهِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا ذَكَرُوا مَوْجُودٌ هُنَا. فَأَمَّا الْجَدَّاتُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَهُوَ أَنَّهَا تُحْرِزُ مِيرَاثَهُ، وَلَكِنْ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالرَّدِّ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهَا تُحْرِزُ مِيرَاثَهُ بِالْعُصُوبَةِ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهَا فِي وُجُوبِ الْإِكْرَامِ وَالْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْإِكْرَامِ وَالْبِرِّ لِأُمِّهِ وَالرُّبُعَ لِأَبِيهِ، وَفِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يَجْعَلُ الْبِرَّ وَالْإِكْرَامَ كُلَّهُ لِأُمِّهِ وَحَدِيثُ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ عَصَبَتَهُ قَوْمُ أَبِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ وَهُوَ الرَّحِمُ لَا فِي إثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ لَهُمْ فَكَيْف ثَبَتَ لَهُمْ حَقِيقَةُ الْعُصُوبَةِ، وَإِنَّمَا يُدْلُونَ بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا إذَا كَانَا تَوْأَمًا أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ فِي الْمِيرَاثِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا غَيْرَ تَوْأَمٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا كَانَا تَوْأَمًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَالْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَقَالَ مَالِكٌ كَالْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا كَانَ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ، وَإِنَّمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ انْقَطَعَ نَسَبُهُمَا بِاللِّعَانِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي قَطْعِ النِّسْبَةِ عَنْهُ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ إنَّمَا خُلِقَا مِنْ مَاءِ فَحْلٍ وَاحِدٍ فَكَانَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْطَعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِيمَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْقَطْعِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ. فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ مُحْتَمَلًا لِذَلِكَ وَهُوَ كَوْنُهُمَا مَخْلُوقَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَدِ الزِّنَا لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّانِي، وَإِنْ ادَّعَاهُ بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَلِأَنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ عَلَى أَنَّ نَسَبَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ الْأَبِ وَانْتَفَى بِاللِّعَانِ، وَأَنَّهُ فِي اللِّعَانِ وَنَفْيِ النَّسَبِ ظُلْمٌ لَهُمَا لِأُمِّهِمَا فَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَكَانَا فِي الْمِيرَاثِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِأَبٍ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ، وَلَا أَبَ لَهُمَا فَكَيْف تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَهُوَ نَظِيرُ وَلَدِ الزِّنَا فَإِنَّ هُنَاكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ إذَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 199 كَانَا تَوْأَمًا وَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْأَبِ قَوْلُهُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ هُنَا قَطَعَ النَّسَبَ فَلَا كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ فَتَبَيَّنَ بِقَضَائِهِ أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ الْمُلَاعِنِ لَا أَنْ يُقَالَ كَانَ ثَابِتًا فَقُطِعَ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْيِ النِّسْبَةِ عَنْ الْأَبِ قُلْنَا يُؤَثِّرُ فِي هَذَا، وَفِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ نَفْيُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لِأَبٍ لَا تُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ الْأُخُوَّةَ لِأُمٍّ لَا تُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأُمِّ وَقَوْلُهُ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمَا صَارَا مُكَذِّبَيْنِ فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَالْمُقِرُّ بِالشَّيْءِ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا فِيهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي سَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا مَاتَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ وَخَلَفَ ابْنَةً وَأُمًّا فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ زَيْدٍ الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَاقِي لِلْأُمِّ بِالْعُصُوبَةِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ الْبَاقِي لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهِ لِأُمِّهِ. وَلَوْ خَلَفَ ابْنَةً وَأُمًّا وَأَخًا تَوْأَمًا فَعِنْدَنَا هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّوْأَمَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ شَيْئًا. وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ الْبَاقِي لِلتَّوْأَمِ بِالْعُصُوبَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَعَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ الْبَاقِي لِأَخِيهِ تَوْأَمًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ تَوْأَمٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ لِأُمِّهِ فَإِنَّهُ ابْنُهَا وَأَقْرَبُ عَصَبَةِ الْأُمِّ عِنْدَهُ يَكُونُ عُصْبَةً لِوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَلَوْ مَاتَ ابْنُ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ وَخَلَفَ ابْنَةً وَأُمًّا وَعَمًّا فَعِنْدَنَا هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ الْبَاقِي يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْأُمِّ وَالِابْنَةِ أَرْبَاعًا لِأَنَّ عَمَّهُ يَكُونُ عَمًّا لِأُمٍّ وَالْعَمُّ لِأُمٍّ لَا يَكُونُ عَصَبَةً وَعَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ الْبَاقِي يَكُونُ لِلْعَمِّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ لِلْأُمِّ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ إنْ كَانَ الْعَمُّ تَوْأَمًا مَعَ ابْنَةٍ فَالْبَاقِي لَهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَهَذَا طَرِيقُ تَخْرِيجِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . [بَابُ أُصُولِ الْمُقَاسَمَةِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الْفَرَائِضَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ سِتَّةٌ الثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ وَالسُّدُسُ وَالنِّصْفُ وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ فَبَعْضُ الْفَرْضِيِّينَ جَعَلُوا ذَلِكَ جِنْسَيْنِ الثُّلُثَانِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الثُّلُثُ وَنِصْفُ نِصْفِهِ وَهُوَ السُّدُسُ وَالنِّصْفُ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ وَنِصْفُ نِصْفِهِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَبَعْضُهُمْ جَعَلُوا الْكُلَّ جِنْسًا وَاحِدًا وَقَالُوا نِسْبَة الثُّمُنِ مِنْ السُّدُسِ كَنِسْبَةِ الرُّبُعِ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الثُّمُنَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ السُّدُسِ وَالرُّبُعَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَالنِّصْفَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ الْكُلُّ جِنْسًا وَاحِدًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَمَنْ جَعَلَهَا جِنْسَيْنِ قَالَ الثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ وَالسُّدُسُ لَا يَكُونُ فَرِيضَةً إلَّا فِي فَرِيضَةِ الْأَقَارِبِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 200 وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي فَرِيضَةِ الْأَزْوَاجِ وَالنِّصْفُ يَكُونُ فِيهِمَا جَمِيعًا. فَأَمَّا الثُّلُثَانِ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ فِي فَرِيضَةِ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، وَفِي فَرِيضَةِ الْبَنَاتِ إذَا كُنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وَأَمَّا الثُّلُثُ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ فِي فَرِيضَةِ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَالْإِخْوَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، وَفِي فَرِيضَةِ أَوْلَادِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَأَمَّا السُّدُسُ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي فَرِيضَةِ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]، وَفِي فَرِيضَةِ الْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وَفِي فَرِيضَةِ الْفَرْدِ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] وَهُوَ فِي النِّسْبَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي فَرِيضَةِ ابْنَةِ الِابْنِ مَعَ الِابْنَةِ، وَفِي فَرِيضَةِ الْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَفِي فَرِيضَةِ الْجَدَّةِ، وَفِي فَرِيضَةِ الْجَدِّ مَعَ الْوَلَدِ وَأَمَّا النِّصْفُ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي فَرِيضَةِ الِابْنَةِ الْوَاحِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، وَفِي فَرِيضَةِ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَفِي فَرِيضَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وَأَمَّا الرُّبُعُ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ فِي فَرِيضَةِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ {فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12]، وَفِي فَرِيضَةِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] وَالثُّمُنُ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فِي فَرِيضَةِ الْمَرْأَةِ مَعَ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. ثُمَّ أَصْلُ مَا تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الصِّحَاحُ دُونَ الْكُسُورِ مِنْ الْحِسَابِ لِمَعْنَى التَّيْسِيرِ مَتَى كَانَ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا مِنْ أَقَلِّ الْأَعْدَادِ فَتَخْرِيجُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ يُعَدُّ خَطَأً لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، ثُمَّ جُمْلَةُ مَا تُخَرَّجُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَرَائِضُ أُصُولٌ سَبْعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْفَرَائِضَ نَوْعَانِ مُفْرَدَاتٌ وَمُرَكَّبَاتٌ فَالْمُفْرَدَاتُ تُخَرَّجُ مِنْ أُصُولٍ خَمْسَةٍ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَسِتَّةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَيُزَادُ لِلْمُرَكَّبَاتِ أَصْلَانِ اثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهَذَا لِأَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ تَخْرُجُ مِنْهُ الْمُقَاسَمَةُ مُسْتَقِيمًا اثْنَانِ وَأَقَلَّ عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الثُّلُثُ مُسْتَقِيمًا ثَلَاثَةٌ فَنَقُولُ كُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا نِصْفٌ، وَمَا بَقِيَ، أَوْ نِصْفَانِ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ اثْنَيْنِ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا ثُلُثٌ، وَمَا بَقِيَ، أَوْ ثُلُثَانِ، وَمَا بَقِيَ، أَوْ ثُلُثٌ وَثُلُثَانِ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا رُبُعٌ وَمَا بَقِيَ، أَوْ رُبُعٌ وَنِصْفٌ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثٌ، وَمَا بَقِيَ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا سُدُسٌ، وَمَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسَانِ، وَمَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسٌ وَنِصْفٌ، أَوْ سُدُسَانِ وَنِصْفٌ، أَوْ سُدُسٌ وَثُلُثٌ أَوْ سُدُسٌ وَنِصْفٌ وَسُدُسَانِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 201 أَوْ نِصْفٌ وَثُلُثٌ، وَمَا بَقِيَ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ سِتَّةٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا ثُمُنٌ، أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. وَلَوْ تُصَوِّرُ اجْتِمَاعُ الثُّمُنِ مَعَ الرُّبُعِ لَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فَالرُّبُعُ فَرِيضَةُ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَالثُّمُنُ فَرِيضَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْوَلَدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا رُبُعٌ وَسُدُسٌ، أَوْ رُبُعٌ وَسُدُسَانِ أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثٌ وَنِصْفٌ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثَانِ وَنِصْفٌ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا ثُمُنٌ وَسُدُسٌ، أَوْ ثُمُنٌ وَسُدُسَانِ، أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ وَسُدُسٌ، أَوْ ثُمُنٌ وَثُلُثَانِ وَسُدُسَانِ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ، أَوْ ثُمُنٌ وَثُلُثٌ فَطَعَنُوا فِي هَذِهِ وَقَالُوا لَا يَجْتَمِعُ فِي الْفَرِيضَةِ الثُّمُنُ وَالثُّلُثُ فَالثُّلُثُ فَرِيضَةُ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَفَرِيضَةُ أَوْلَادِ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَالثُّمُنُ فَرِيضَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْوَلَدِ فَكَيْفُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا وَقِيلَ يُتَصَوَّرُ هَذَا عَلَى أَصْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ مَنْ لَا يَرِثُ لِكُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ يَحْجُبُ حَجْبَ النُّقْصَانِ، وَلَا يَحْجُبُ حَجْبَ الْحِرْمَانِ. فَإِذَا تَرَكَ امْرَأَةً وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَابْنًا رَقِيقًا فَهَذَا الِابْنُ يَحْجُبُ الْمَرْأَةَ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ، وَلَا يَحْجُبُ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ فَيَجْتَمِعُ الثُّمُنُ وَالثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ أَرْبَعَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَا تَعُولُ وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَعُولُ وَهِيَ سِتَّةٌ وَاثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. فَأَمَّا السِّتَّةُ تَعُولُ بِسُدُسِهَا وَثُلُثِهَا وَنِصْفِهَا وَثُلُثَيْهَا، وَلَا تَعُولُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَعُولُ بِثُلُثَيْهَا فِي مَسْأَلَةِ أُمِّ الْفُرُوخِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرْضِيِّينَ أَنَّهَا تَعُولُ وِتْرًا وَشَفْعًا وَأَمَّا اثْنَا عَشَرَ فَإِنَّهَا تَعُولُ بِنِصْفِ سُدُسِهَا وَبِرُبُعِهَا. وَرُبُعُهَا وَسُدُسُهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ تَعُولُ وِتْرًا لَا شَفْعًا فَتَعُولُ بِوَاحِدَةٍ وَبِثَلَاثَةٍ وَخَمْسَةٍ وَلَا تَعُولُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَبَيَانُ الْعَوْلِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا إذَا تَرَكَ امْرَأَةً وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَمَّا فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَبَيَانُ الْعَوْلِ بِثَلَاثَةٍ فِي امْرَأَةٍ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ فَأَنَّهَا تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ وَبَيَانُ الْعَوْلِ بِخَمْسَةٍ فِي امْرَأَةٍ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمًّا فَإِنَّهَا تَعُولُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ إذَا اجْتَمَعَتْ السِّهَامُ. فَأَمَّا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِنَّهَا تَعُولُ عَوْلَةً وَاحِدَةً بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمِنْبَرِيَّةُ تَرَكَ امْرَأَةً وَابْنَتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ لَا تَعُولُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا تَعُولُ إلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ فِي امْرَأَةٍ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُمٍّ وَابْنٍ رَقِيقٍ فَإِنَّ الِابْنَ عِنْدَهُ يَحْجُبُ الْمَرْأَةَ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ، وَلَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ فَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 202 عَشَرَ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ وَبَعْضُ الْفَرْضِيِّينَ زَادَ أَصْلَيْنِ عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ وَثَلَاثِينَ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْفَرِيضَةِ السُّدُسُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ بِأَنْ تَرَكَ جَدَّةً وَجَدًّا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ فَيَكُونُ لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ إذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ وَالثُّلُثُ وَسُدُسُ مَا بَقِيَ إنَّمَا يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ عَلَى أَصْلِهِ السُّدُسُ وَالرُّبُعُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ بَيَانُهُ فِي امْرَأَةٍ وَجَدٍّ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ إذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ لِكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ وَأَقَلُّ حِسَابٍ يُخَرَّجُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَرَائِضُ مُسْتَقِيمًا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ سُدُسُهَا سِتَّةٌ وَرُبُعُهَا تِسْعَةٌ يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَثُلُثُ مَا بَقِيَ يَكُونُ سَبْعَةً فَرَدُّوا هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِهَذَا، ثُمَّ بَيَانُ هَذِهِ الْأُصُولِ أَنَّ نَقُولَ أَمَّا اثْنَانِ فَعَدَدٌ فَرْضٌ غَيْرُ مُرَكَّبٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُ عَدَدًا إذَا ضَرَبْته فِي مِثْلِهِ يَكُونُ اثْنَيْنِ لِيَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَعَرَفْت أَنَّهُ فَرْدٌ فَيَكُونُ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ إذَا ضَعَّفْته يَكُونُ ثَلَاثَةً فَلِهَذَا كَانَ أَصْلًا لِفَرِيضَةٍ فِيهَا ثُلُثٌ وَثُلُثَانِ وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ فَهُوَ عَدَدٌ مُرَكَّبٌ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّك مَتَى ضَرَبْت اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ يَكُونُ أَرْبَعَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْهُ وَهُوَ فَرْدٌ أَيْضًا فَكَانَ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَهُوَ الرُّبُعُ وَلِمَا يُنْسَبُ إلَى الْعَدَدِ الَّذِي رُكِّبَ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ فَلِهَذَا قُلْنَا: كُلُّ فَرِيضَةٍ فِيهَا رُبُعٌ، أَوْ رُبُعٌ وَنِصْفٌ فَإِنَّهَا تُخَرَّجُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَمَّا سِتَّةٌ فَإِنَّهُ عَدَدٌ مُرَكَّبٌ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّكَ إذَا ضَرَبْت اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُونُ سِتَّةً وَهُوَ فَرْدٌ أَيْضًا فَيَكُونُ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَهُوَ السُّدُسُ وَلِمَا يُنْسَبُ أَجْزَاءُ الْعَدَدَيْنِ اللَّذَيْنِ رُكِّبَ مِنْهُمَا سِتَّةٌ وَهُوَ الثُّلُثُ وَالنِّصْفُ وَأَمَّا ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ عَدَدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ عَدَدَيْنِ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّك مَتَى ضَرَبْت اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ كَانَ ثَمَانِيَةً وَهُوَ فَرْدٌ أَيْضًا فَكَانَ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَلِمَا يُنْسَبُ إلَى أَجْزَاءِ الْعَدَدَيْنِ اللَّذَيْنِ رُكِّبَ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ وَهُوَ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ لَوْ تُصَوِّرَ ذَلِكَ وَأَمَّا اثْنَا عَشَرَ فَهُوَ لَيْسَ بِعَدَدٍ فَرْدٍ وَلَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْدَادٍ أَرْبَعَةٍ بِجِهَتَيْنِ فَإِنَّكَ مَتَى ضَرَبْتَ اثْنَيْنِ فِي سِتَّةٍ يَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَتَى ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ فَلِهَذَا كَانَ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَى أَجْزَاءِ الْأَعْدَادِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ، وَذَلِكَ الرُّبُعُ وَالثُّلُثُ وَالنِّصْفُ وَالسُّدُسُ وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَلَيْسَ بِعَدَدٍ فَرْدٍ، وَلَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ سِتَّةِ أَعْدَادٍ بِثَلَاثِ جِهَاتٍ فَإِنَّكَ مَتَى ضَرَبْت اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي ثَمَانِيَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ فِي سِتَّةٍ يَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَلِهَذَا كَانَ أَصْلًا لِمَا يُنْسَبُ إلَى أَجْزَاءِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ تُصَوَّر الجزء: 29 ¦ الصفحة: 203 اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْفَرَائِضِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَتْ تُخَرَّجُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّ مِنْهَا الثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثَ وَالسُّدُسَ وَالنِّصْفَ وَالرُّبُعَ وَكُلَّ الْفَرَائِضِ هَذِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّ الْأَعْدَادَ أَرْبَعَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَمُتَدَاخِلَةٌ وَمُتَّفِقَةٌ وَمُتَبَايِنَةٌ. فَأَمَّا الْمُتَسَاوِيَةُ نَحْوَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعَةٍ فَأَحَدُ الْعَدَدَيْنِ يُجْزِئُ عَنْ الْآخَرِ وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَأَمَّا الْمُتَدَاخِلَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَالْأَقَلُّ جُزْءًا مِنْ الْأَكْثَرِ نَحْوَ ثَلَاثَةٍ وَتِسْعَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَاثْنَا عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ كَوْنِ الْأَقَلِّ جُزْءًا مِنْ الْأَكْثَرِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ عَلَامَاتٍ أَنَّك إذَا نَقَصْت عَنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالَ الْأَقَلِّ يُفْنَى بِهِ الْأَكْثَرُ وَإِذَا زِدْت عَلَى الْأَقَلِّ أَمْثَالَهُ يَبْلُغُ عَدَدُ الْأَكْثَرِ. وَإِذَا قَسَمْت الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَقَلِّ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا لَا كَسْرَ فِيهِ وَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَكِنَّ الْأَقَلَّ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَكْثَرِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِأَجْزَاءٍ فَبَيَانُ الْمُوَافَقَةِ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ كَسِتَّةٍ مَعَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّ الْأَقَلَّ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ فَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيَانُ الْمُوَافَقَةِ فِي أَجْزَاءٍ كَسِتَّةٍ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَدَاخِلَيْنِ فَإِنَّكَ إذَا زِدْت عَلَى الْأَقَلِّ أَمْثَالَهُ يَزِيدُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالسُّدُسِ وَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فَفِي الْمُتَدَاخِلَةِ بِجُزْءٍ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ وَفِي الْمُتَّفِقَتَيْنِ يُقْتَصَرُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ وَيَضْرِبُ فِي مَبْلَغِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي أَجْزَاءٍ يُقْتَصَرُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي مَبْلَغِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا إذَا اقْتَصَرْت عَلَى أَدْنَى الْأَجْزَاءِ وَمَتَى كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ حِسَابٍ قَلِيلٍ فَتَخْرِيجُهَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ خَطَأً وَأَمَّا الْمُتَبَايِنَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ أَقَلَّ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يُتَّفَقَانِ فِي شَيْءٍ كَسَبْعَةٍ مَعَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَحِينَئِذٍ يُضْرَبُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ فِي الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ يَسْتَقِيمُ الْحِسَابُ، ثُمَّ الْأَعْدَادُ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ إلَّا أَنَّ الْفَرَائِضَ كُلَّهَا أَجْزَاءُ الْأَعْدَادِ الْمُطْلَقَةِ يَعْنِي الثُّلُثَ وَالسُّدُسَ وَالنِّصْفَ وَالرُّبُعَ وَالثُّمُنَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ أَجْزَاءُ الْأَعْدَادِ الْمُقَيَّدَةِ كَاثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي عَدَدِ السِّهَامِ وَالْأَنْصِبَاءِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَصْحِيحِ الْحِسَابِ] اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَرَثَةَ إمَّا أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَصْحَابَ فَرَائِضَ، أَوْ كُلُّهُمْ عَصَبَاتٌ، أَوْ اخْتَلَطَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُمْ أَصْحَابَ فَرَائِضَ فَقِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى الْأَنْصِبَاءِ وَإِنْ كَانُوا عَصَبَاتٍ فَقِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا كُلَّهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَطَ الْفَرِيقَانِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْأَنْصِبَاءِ، وَفِي حَقِّ الْعَصَبَاتِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا كُلَّهُمْ، أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلَطِينَ، وَعِنْدَ الِاخْتِلَاطِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 204 نَحْسِبُ كُلَّ ذَكَرٍ رَأْسَيْنِ وَكُلَّ أُنْثَى رَأْسًا وَاحِدًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا. فَأَمَّا أَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، أَوْ بِكَسْرٍ وَصُورَةُ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ امْرَأَةٌ وَثَلَاثُ بَنِينَ وَابْنَةٌ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ بِالْعُصُوبَةِ فَنَحْسِبُ لِكُلِّ ذَكَرٍ رَأْسَيْنِ وَلِلْأُنْثَى رَأْسًا فَتَكُونُ سَبْعَةً فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقِيمَةً مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِلِابْنَةِ سَهْمٌ. فَأَمَّا إذَا انْكَسَرَ فَقَدْ يَكُونُ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَعْنِي فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَالسَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَطْلُبَ الْمُوَافَقَةَ أَوَّلًا بَيْنَ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَبَيْنَ عَدَدِ مَنْ انْكَسَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَتَضْرِبُ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ وَتَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً وَمَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ يَسْتَقِيمُ التَّخْرِيجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ ضَرَبْت أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً فِي عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسَيْنِ نَظَرْت فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ يُجْزِئُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا مُتَدَاخِلَيْنِ فَالْأَكْثَرُ يُجْزِئُ عَنْ الْأَقَلِّ فَتَضْرِبُ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ فِي مَبْلَغِ الْأَكْثَرِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فَتَضْرِبُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ ضَرَبْت فِي مَبْلَغِ الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً وَمَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَعْدَادَ الرُّءُوسِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ فِي مَبْلَغِ ذَلِكَ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَعْدَادِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ إلَّا وَاحِدَةً مِنْهَا، ثُمَّ تَضْرِبَ الْأَجْزَاءَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَمَا بَلَغَ يُضْرَبُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِ الَّذِي لَمْ يُقْتَصَرْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ فَمَا بَلَغَ يُضْرَبُ مِنْهُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ فَمَا بَلَغَ تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ مُوَافَقَةٌ بِشَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَعْدَادَ الرُّءُوسِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ فَالْمُوَافَقَةُ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مِنْهَا فَتَقْتَصِرُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْجُزْءِ وَتَضْرِبُهُ فِي مَبْلَغِ الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ ضَرَبْته فِي الْعَدَدِ الَّذِي لَا مُوَافَقَةَ لَهُ فَمَا بَلَغَ ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ وَالْمُوَافَقَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهَا فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ الْجُزْءَ الْمُوَافِقَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ تَضْرِبَ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مُوَافَقَةَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 205 لَهُمَا فِي جَمِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ تَضْرِبَ مَبْلَغَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ فِي مَبْلَغِ الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ تَضْرِبُ فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً وَمَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً فَمَا بَلَغَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ فَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ تُوقَفُ أَحَدُ الْأَعْدَادِ، ثُمَّ تُضْرَبُ الْأَجْزَاءُ الْمُوَافِقَةُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْأُخَرِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ تَضْرِبُ مَبْلَغَهُ فِي الْعَدَدِ الْمَوْقُوفِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ مَبْلَغُ عَدَدِ الرُّءُوسِ تَضْرِبُ فِيهِ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يُوقَفُ أَحَدُ الْأَعْدَادِ وَيُضْرَبُ الْأَجْزَاءُ الْمُوَافَقَةُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْأُخَرِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَمَا بَلَغَ يَطْلُبُ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدَدِ الْمَوْقُوفِ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّفِقَا بِجُزْءٍ فَيُقْسَمُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي عَدَدِ الْمَوْقُوفِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ وَالْأَنْصِبَاءِ فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسَيْنِ يُقْتَصَرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، ثُمَّ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ يُضْرَبُ فِيهِ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بَيْنَ النَّصِيبِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ يُقْتَصَرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ النَّصِيبِ فِي الْمَبْلَغِ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْ الْأَنْصِبَاءِ وَأَعْدَادِ الرُّءُوسِ مُوَافَقَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ كُلِّ عَدَدٍ، ثُمَّ يُضْرَبُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَمَا بَلَغَ يُضْرَبُ فِيهِ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ لِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالْأَنْصِبَاءِ يُقْتَصَرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْهُ، ثُمَّ يُضْرَبُ فِي الْعَدَدَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، ثُمَّ يُضْرَبُ الْمَبْلَغُ فِي أَصْلِ الْفَرِيضَةِ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَبَيَانُ طَلَبِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْأَعْدَادِ أَنْ يُطْرَحَ عَنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالُ الْأَقَلِّ فَإِنْ كَانَ فَنَى بِهِ عَرَفْت أَنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً بِآحَادِ الْأَقَلِّ، وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ عَرَفْت أَنَّهُ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ وَإِنْ بَقِيَ اثْنَانِ يُطْرَحُ عَنْ الْأَقَلِّ أَمْثَالُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِنْ فَنَى فِيهِ عَرَفْت أَنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِاتِّحَادِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ عَرَفْت أَنْ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّك إذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ ثَمَانِيَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالُ الْأَقَلِّ فَيَفْنَى بِهِ فَبِهِ عَرَفْت أَنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً بِاتِّحَادِ الْأَقَلِّ وَهُوَ الثُّمُنُ إنْ طَلَبْت الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ فَإِذَا طَرَحْت عَنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالَ الْأَقَلِّ فَيَبْقَى اثْنَانِ فَيُطْرَحُ عَنْ الْأَقَلِّ أَمْثَالُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ فَيَفْنَى بِهِ عَرَفْت أَنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً بِآحَادِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَهَذَا الْأَصْلُ يَتَمَشَّى فِي عَدَدَيْنِ مُطْلَقِينَ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُطْلَقٌ وَالْآخَرُ مُقَيَّدً. فَأَمَّا إذَا كَانَا مُقَيَّدَيْنِ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ هَذَا الجزء: 29 ¦ الصفحة: 206 الْأَصْلُ وَبَيَانُهُ إذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ فَتَطْرَحُ عَنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالُ الْأَقَلِّ يَبْقَى سَبْعَةٌ، ثُمَّ تَطْرَحُ عَنْ الْأَقَلِّ أَمْثَالَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ فَبَقِيَ وَاحِدٌ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ. فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ تَطْرَحُ عَنْ الْأَكْثَرِ أَمْثَالَ الْأَقَلِّ فَبَقِيَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ تَطْرَحُ عَنْ الْأَقَلِّ أَمْثَالَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مُوَافَقَةً بِالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ فَعَرَفْت أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَتَمَشَّى فِي الْأَعْدَادِ الْمُقَيَّدَةِ وَلَكِنَّ مَبْنَى أُصُولِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْأَعْدَادِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ الْمُطْلَقَةِ مِنْ جَانِبٍ وَأَمَّا بَيَانُ مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَ ذَلِكَ الْفَرِيقَ وَتَضْرِبَهُ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ. فَأَمَّا بَيَانُ مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اتِّحَادِ الْفَرِيقَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ فِي شَيْءٍ فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُوَافَقَةٌ فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَا ضَرَبْت ذَلِكَ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ الْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ بَعْدَ مَا ضَرَبْت فِي جُزْءٍ مُوَافِقٍ عَدَدَ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، ثُمَّ يُضْرَبُ هَذَا الْجُزْءُ فِيهَا فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ فَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ لَهُمْ الْمُوَافَقَةُ أَنْ يُضْرَبَ الْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي جَمِيعِ عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَمَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقِ الَّذِي لَا مُوَافَقَةَ لَهُمْ أَنْ يَضْرِبَ جَمِيعَ نَصِيبِهِمْ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ فَعِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ مَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ فِي مَبْلَغِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَعْدَ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكُلِّ مُوَافَقَةٌ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ يُضْرَبُ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ لِأَحَدِهِمْ فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْفَرِيقِ الَّذِي لَا مُوَافَقَةَ لَهُمْ أَنْ يُضْرَبَ الْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي مَبْلَغِ عَدَدِ رُءُوسِ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 207 الْآخَرِينَ بَعْدَ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَنْ يُضْرَبَ جَمِيعُ نَصِيبِهِمْ فِي مَبْلَغِ رُءُوسِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ مَا ضَرَبْت جَمِيعَ أَحَدِهِمَا فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ إذَا كَانَ الْكَسْرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ. فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ وَالْأَنْصِبَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فَالْوَاحِدَةُ مِنْهَا تَجْرِي عَلَى الْكُلِّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي الْعَدَدِ الَّذِي ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُ شَيْئًا تَضْرِبُ فِيهِ فَإِنَّكَ لَمْ تَضْرِبْ أَعْدَادَ الرُّءُوسِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَلَكِنْ اكْتَفَيْت بِالْوَاحِدِ مِنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ إذَا عَرَفْنَا هَذِهِ الْأُصُولَ جِئْنَا إلَى تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهَا. فَنَقُولُ أَمَّا إذَا كَانَ الْكَسْرُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبُ فَصُورَتُهُ مَنْ تَرَكَ امْرَأَةً وَسَبْعَ بَنَاتٍ وَخَمْسَ بَنِينَ فَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُحْسَبُ لِكُلِّ ذَكَرٍ رَأْسَانِ وَلِكُلِّ أُنْثَى رَأْسٌ فَيَكُونُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَقِسْمَةُ سَبْعَةٍ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ ثَمَانِيَةً فِي سَبْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ كَانَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ ضَرَبْته فِي سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ لَهَا وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْأَوْلَادِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَتِسْعَةَ عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِيمُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ سَبْعَةً فَظَهَرَ أَنَّ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَلِلْبَنِينَ الْخَمْسَةُ سَبْعُونَ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَبْعَةٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ تَرَكَ امْرَأَةً وَعَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنَيْنِ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي سَبْعَةٌ بَيْنَ عَشْرِ بَنَاتٍ وَابْنَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ بِالسَّبْعِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى السَّبْعِ مِنْ عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ، ثُمَّ تَضْرِبُ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمَانِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَوْلَادِ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ هُوَ الْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ وَالْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمًا وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَيْنِ. فَإِنَّ الْكَسْرَ مِنْ جِنْسَيْنِ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ النَّصِيبِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ خَمْسَ بَنَاتٍ وَابْنَ ابْنٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 208 وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ أَوْلَادِ الِابْنِ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ خَمْسَةً وَاثْنَيْنِ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ خَمْسَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي عِشْرِينَ فَتَكُونَ سِتِّينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْبَنَاتِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُنَّ، وَذَلِكَ اثْنَانِ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُنَّ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً. وَإِذَا قَسَمْتَ أَرْبَعِينَ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ كُلُّ نَصِيبٍ ثَمَانِيَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ أَوْلَادِ الِابْنِ أَنْ تَأْخُذَ مَا لَهُمْ وَهُوَ سَهْمٌ فَتَضْرِبُ ذَلِكَ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ فَيَكُونُ عِشْرِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلذَّكَرِ عَشَرَةً وَلِكُلِّ ابْنَةٍ خَمْسَةٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ وَالْكَسْرُ مِنْ جِنْسَيْنِ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ثَمَانِ بَنَاتٍ وَابْنَ ابْنٍ وَابْنَتَيْ ابْنٍ فَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ثَمَانِيَةٍ وَبَيْنَ سَهْمَيْنِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَيُقْتَصَرُ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ عَلَى النِّصْفِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسَهْمٌ وَاحِدٌ لِأَوْلَادِ الِابْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ التَّسَاوِي يُجْزِئُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْبَنَاتِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَيْنِ وَذَلِكَ اثْنَانِ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَنَاتِ مِثْلُ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِهِمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ أَوْلَادِ الِابْنِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ وَهُوَ وَاحِدٌ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ مَا لَمْ يَكُنْ فَيَسْتَقِيمُ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَسْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ، وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ وَخَمْسَ بَنَاتٍ وَابْنِ ابْنٍ وَابْنَتَيْ ابْنٍ فَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا لَا يَسْتَقِيمُ وَأَوْلَادُ الِابْنِ سَهْمٌ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ فَيَكُون خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ، ثُمَّ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ فِي سِتِّينَ فَيَكُونُ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْجَدَّاتِ أَنَّهُ كَانَ لَهُنَّ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي سِتِّينَ فَذَلِكَ سِتُّونَ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 209 وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَضْرِبَ عَدَدَ رُءُوسِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَضْرِبَ نَصِيبَهُنَّ وَذَلِكَ وَاحِدٌ فِي عِشْرِينَ فَيَكُونُ عِشْرِينَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْبَنَاتِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي سِتِّينَ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَضْرِبَ عَدَدَ رُءُوسِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبَ نَصِيبَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ أَوْلَادِ الِابْنِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُمْ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي سِتِّينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ تَضْرِبَ عَدَدَ رُءُوسِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبَ نَصِيبَهُنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ أُنْثَى وَنَصِيبُ الذَّكَرِ ضِعْفُ ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ. فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ وَبَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ بِنْتًا وَابْنَ ابْنٍ وَابْنَتَيْ ابْنٍ فَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُنَّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالنَّصِيبِ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَسْتَوِي بِرُءُوسِ الْجَدَّاتِ، وَعِنْدَ تَسَاوِي الْعَدَدَيْنِ يُجْزِئُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلِأَوْلَادِ الِابْنِ سَهْمٌ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَرْبَعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْجَدَّاتِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ سَهْمٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَضْرِبَ مَا كَانَ لَهُنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي أَرْبَعَةٍ عَدَدَ رُءُوسِ أَوْلَادِ الِابْنِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ بَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ لَا فَرْقَ، وَإِنَّمَا يُضْرَبُ نَصِيبُهُنَّ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْبَنَاتِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَأْخُذَ الْجُزْءَ الْمُوَافِقَ مِنْ نَصِيبِهِنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ فَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي عَدَدِ رُءُوسِ أَوْلَادِ الِابْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونَ أَرْبَعَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ أَوْلَادِ الِابْنِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ وَهُوَ وَاحِدٌ فِيمَا ضَرَبْت فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُمْ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي الجزء: 29 ¦ الصفحة: 210 ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ لِكُلِّ أُنْثَى ثَلَاثَةٌ وَلِلذَّكَرِ سِتَّةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَسْرُ مِنْ أَجْنَاسٍ أَرْبَعَةٍ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ عَدَدِ الرُّءُوسِ وَالْأَنْصِبَاءِ فَصُورَةُ ذَلِكَ فِي امْرَأَتَيْنِ وَثَلَاثِ جَدَّاتِ وَخَمْسِ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمَرْأَتَيْنِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَسْتَقِيمُ وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمَانِ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلِلْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَسْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَعْدَادَ الرُّءُوسِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونَ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ فِي سَبْعَةٍ فَيَكُونَ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، ثُمَّ تَضْرِبَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ فَيَكُونَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ فَيَكُونَ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهَا فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ فَثَلَاثَةٌ فِي خَمْسَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ فِي سَبْعَةٍ تَكُونُ مِائَةً وَخَمْسَةً. فَإِذَا ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ تَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذَا نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْجَدَّاتِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ فَيَكُونَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَخَمْسَةٍ فِي اثْنَيْنِ تَكُونُ عَشَرَةً، ثُمَّ عَشَرَةً فِي سَبْعَةٍ تَكُونُ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ فِي اثْنَيْنِ تَكُونُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٌ فَتَكُونُ ثَمَانَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَثَلَاثَةٌ فِي اثْنَيْنِ تَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ سِتَّةً فِي سَبْعَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. فَإِذَا ضَرَبْت أَرْبَعَةً فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَسِتِّينَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُمْ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ فَتَكُونُ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُمْ فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ اثْنَانِ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ. فَإِذَا ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثِينَ يَكُونُ تِسْعِينَ هَذَا نَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ وَنَصِيبُ كُلِّ أَخٍ ضِعْفُ ذَلِكَ فَاسْتَقَامَ. فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِ الْأَنْصِبَاءِ مُوَافَقَةٌ فَصُورَةُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةٍ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 211 وَثَمَانِ جَدَّاتٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ أُخْتًا وَأَرْبَعَةِ إخْوَةٍ وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلنِّسْوَةِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمَانِ بَيْنَهُنَّ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ وَنَصِيبُهُنَّ مُوَافَقَةً بِالنِّصْفِ فَاقْتَصَرَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاسْتَوَى عَدَدُ رُءُوسِ النِّسْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُنَّ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ لَا يَسْتَقِيمُ لَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَنَصِيبِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الرُّبُعِ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاسْتَوَى بِعَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَنَصِيبِهِمْ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ فَاقْتَصَرَ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاسْتَوَى بِعَدَدِ رُءُوسِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ تَسَاوِي الْعَدَدِ الْوَاحِدِ يُجْزِئُ عَنْ الْكُلِّ فَتَضْرِبُ اثْنَيْ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ النِّسْوَةِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَقُولَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِيمُ بَيْنَهُنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ عِنْدَ تَسَاوِي الْعَدَدِ لَا تَجِدُ شَيْئًا تَضْرِبُ فِيهِ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ لَتَعْرِفَ بِهِ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْجَدَّاتِ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ، وَذَلِكَ اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونَ ثَمَانِيَةً وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِثْلُ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِهِنَّ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِثْلُ الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِهِنَّ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَمَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنْ تَضْرِبَ مَا لَهُنَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُقَدَّرُ الْجُزْءُ الْمُوَافِقُ مِنْ نَصِيبِهِمْ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ فَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ وَلِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَانِ. وَإِذَا عَرَفْت لِكُلِّ فَصْلٍ صُورَةٌ كَمَا بَيَّنَّا يَتَيَسَّرُ عَلَيْك تَخْرِيجُ نَظَائِرِهَا عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالتَّخْرِيجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يَفْهَمُ الْأُصُولَ الَّتِي قَدْ بَيِّنَاهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 212 [بَابُ مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَذَا الْبَابَ قَبْلَ بَابِ الْوَلَاءِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْفَرْضِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَابَ الْوَلَاءِ لِأَنَّ مَوْلَى النِّعْمَةِ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ لَكِنَّا نَقُولُ إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ ثُمَّ يُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ الْمِيرَاثِ بِمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْقَرَابَةِ أَوْ لَمَّا بَيَّنَ بَابَ الرَّدِّ وَكَانَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الرَّحِمِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَابِ مِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَام؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا بِالرَّحِمِ كَمَا أَنَّ هُنَاكَ بِالرَّحِمِ وَالْوَلَاءِ نَوْعَانِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلِهَذَا قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ ثُمَّ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَام اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فَمَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ سَأَلَ أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ إجْمَاعِهِمْ. وَقَالَ الْمُعْتَضِدُ أَلَيْسَ إنَّهُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَقَالَ كَلًّا وَقَدْ كَذَبَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِرَدِّ مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ كَانَ وَرِثَهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَدْ صَدَقَ أَبُو حَازِمٍ فِيمَا قَالَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنِّي لَمْ أَسَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَهُوَ فِينَا فَنَتَمَسَّكُ بِهِ أَمْ فِي غَيْرِنَا فَنُسَلِّمُ إلَيْهِ، وَعَنْ الْأَنْصَارِ هَلْ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْءٌ وَعَنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَام فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا وَلَكِنِّي وَرَّثْتُهُمْ بِرَأْيِي. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ شُرَيْحٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 2 وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَهْلُ التَّنْزِيلِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِمَّنْ قَالَ لَا يَرِثُونَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَمَّا مَنْ نَفَى تَوْرِيثَهُمْ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَلَى بَيَانِ سَبَبِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَوِي الْأَرْحَام شَيْئًا وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَأَدْنَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَخْبَرَنِي أَنْ لَا مِيرَاثَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قُبَاءَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا» وَمَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] مَعْنَاهُ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْخَاصِّ فَفِي حَقِّ مَنْ يَنْعَدِمُ فِيهِ الْوَصْفُ الْخَاصُّ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ» وَلَمَّا مَاتَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيِّ هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ فِينَا مَيِّتًا فَلَا نَعْرِفُ لَهُ فِينَا إلَّا ابْنُ أُخْتٍ» فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ أَيْ لِخَالِهِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُنْذِرِ وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ نَفْيِ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فِي حَالِ وُجُودِ صَاحِبِ فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلْفَرِيقَيْنِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ثَمَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا بِالْفَرِيضَةِ وَالْعُصُوبَةِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا مِنْهُمْ فَرَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى أَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ذَكَرَ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْجَدِّ أَبِ الْأُمِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ بِالرَّحِمِ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعُصُوبَةِ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَيَسْتَحِقُّ الْأَقْرَبُ جَمِيعَ الْمَالِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْعُصُوبَةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 3 بِالْبُنُوَّةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ وَابْنُ الِابْنِ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَ الْأَبِ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُنْثَى فِي دَرَجَتِهِ تَكُونُ صَاحِبَةَ فَرْضٍ وَهِيَ أُمُّ الْأُمِّ بِخِلَافِ الْأُنْثَى فِي دَرَجَةِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْأُنْثَى الَّتِي تُدْلِي بِالْجَدِّ أَبِ الْأُمِّ صَاحِبَةَ فَرْضٍ وَهِيَ أُمُّ أَبٍ لِأُمٍّ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقَدَّمُ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ عَلَى الْجَدِّ أَبِ الْأُمِّ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ الْجَدُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْإِخْوَةِ فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ الْجَدُّ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ وَعِنْدَهُمَا يُسَوَّى فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ إلَّا أَنَّ هُنَا قَدَّمُوا بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادَ الْأَخَوَاتِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِالْأَبِ وَالْجَدُّ أَبُ الْأُمِّ يُدْلِي بِالْأُمِّ فَفِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ يُعْتَبَرُ الْإِدْلَاءُ بِالذَّكَرِ دُونَ الْأُنْثَى فَفِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ تَقَدَّمَ الْإِدْلَاءُ بِالْأَبِ عَلَى الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ ثُمَّ الَّذِي يُوَرِّثُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ صِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْقَرَابَةِ وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَإِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ التَّنْزِيلِ وَهُمْ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَشَرِيكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْزِلُونَ الْمُدْلِيَ مَنْزِلَةَ الْمُدْلَى بِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةٍ وَابْنَةَ أُخْتٍ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ لِابْنَةِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَأُخْتًا. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الرَّحِمِ مِنْهُمْ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذِرَاحٍ سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ الْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَثَبَتُوا الِاسْتِحْقَاقَ بِأَصْلِ الرَّحِمِ. ثُمَّ كُلُّ فَرِيقٍ يَزْعُمُ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِلَ فِي الْبَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا - مَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا الثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالَةِ فَزَعَمَ أَهْلُ التَّنْزِيلِ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ تُدْلِي بِالْأَبِ فَأَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَبِ وَالْخَالَةَ تُدْلِي بِالْأُمِّ فَأَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْأُمِّ قَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ فَإِنَّ الْعَمَّةَ قَرَابَتُهَا قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُبُوَّةُ تَسْتَحِقُّ بِالْفَرْضِيَّةِ وَبِالْعُصُوبَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 4 جَمِيعًا وَالْخَالَةُ قَرَابَتُهَا قَرَابَةُ الْأُمِّ وَبِالْأُمُومَةِ تَسْتَحِقُّ الْفَرْضِيَّةَ دُونَ الْعُصُوبَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْمُسْتَحَقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ ضِعْفَ الْمُسْتَحَقَّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ أُخْتٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ابْنَةَ الِابْنَةِ أَوْلَى مِنْ ابْنَةِ الْأُخْتِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ وَلَا نَصَّ هُنَا مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ فَلَا طَرِيقَ سِوَى إقَامَةِ الْمُدْلِي مَقَامَ الْمُدْلَى بِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِيَثْبُتَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُدْلَى بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَلَدَ عَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَ فَرْضٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ وَلَا صَاحِبِ فَرْضٍ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُدْلَى بِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الرَّحِمِ يَقُولُوا إنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] وَفِي هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ الرَّحِمُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَيَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ جَمِيعَ الْمَالِ ثُمَّ فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ تَارَةً تَكُونُ زِيَادَةُ الْقُرْبِ نُقْصَانَ دَرَجَةٍ يَعْنِي أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ بِدَرَجَةٍ وَتَارَةً بِقُوَّةِ السَّبَبِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ الْبُنُوَّةُ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأُبُوَّةِ فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ يَثْبُتُ التَّقْدِيمُ كَمَا يَثْبُتُ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَوَلَدُ الِابْنَةِ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ فَلِهَذَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ ثُمَّ الْقَوْلُ بِمَا قَالَ بِهِ أَهْلُ التَّنْزِيلِ يُؤَدِّي إلَى قَوْلٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ حِرْمَانُ الْمُدْلِي بِكَوْنِ الْمُدْلَى بِهِ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ بِمَعْنًى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ رِقُّ الْمُدْلَى بِهِ يُوجِبُ حِرْمَانَهُ لَكَانَ مَوْتُ الْمُدْلَى بِهِ مُوجِبًا حِرْمَانَهُ أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْحَجْبِ وَالْحِرْمَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْمُدْلَى بِهِ فَكَذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ فِيهِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَلَكِنْ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْرِيثِ بَعْضِ الْأَرْحَامِ إلَّا شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَدَّمَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ الْوَصْفُ الْخَاصُّ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ الْعَامِّ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالْوَصْفِ وَهُمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَصْفُ الْعَامُّ قَدْ اسْتَوَى فِيهِ الْفَرِيقَانِ وَيُرَجَّحُ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ بِاعْتِبَارِ قُوَّةِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ بِالْوَصْفِ الْخَاصِّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 5 فَيُقَدَّمُونَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ فِي الْحَاصِلِ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ مِنْهُمْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَالصِّنْفُ الثَّانِي بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ الْأَجْدَادُ الْفَوَاسِدُ وَالْجَدَّاتُ الْفَاسِدَاتُ وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ الْعَمُّ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَالْخَالُ وَالْخَالَاتُ وَالصِّنْفُ الْخَامِسُ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ وَالصِّنْفُ السَّادِسُ أَعْمَامُ الْأَبِ لِأُمٍّ وَعَمَّاتُ الْأَبِ وَأَخْوَالُ الْأَبِ وَخَالَاتُ الْأَبِ وَالصِّنْفُ السَّابِعُ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الدَّرَجَةِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ أَوْ وَلَدَ عَصَبَةٍ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَوَلَدُ صَاحِبِ الْفَرْضِ وَالْعَصَبَةِ أَوْلَى، بَيَانُ ذَلِكَ فِي ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنٍ مَعَ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَلَكِنَّ ابْنَةَ ابْنَةِ الِابْنِ وَلَدُ صَاحِبِ فَرْضٍ فَهِيَ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ أَخٍ وَابْنَةَ ابْنِ أَخٍ فَابْنَةُ ابْنِ الْأَخِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ مَنْ هُوَ عَصَبَةٌ دُونَ الْأُخْرَى، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ وَالْآخَرُ وَلَدُ عَصَبَةٍ فَهُمَا سَوَاءٌ كَابْنَةِ الْأَخِ مَعَ ابْنَةِ الْأُخْتِ فَإِنَّ إحْدَاهُمَا لَا تَصِيرُ مَحْجُوبَةً بِالْأُخْرَى. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقْرَبَ فَالْأَقْرَبُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَتْ الْأَبْعَدُ وَلَدَ عَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَةَ فَرْضٍ كَابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنَةِ مَعَ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنِ فَإِنَّ ابْنَةَ ابْنَةِ الِابْنَةِ أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ فَهِيَ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنَةُ ابْنَةِ الْأُخْتِ تَتَقَدَّمُ عَلَى ابْنَةِ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ، وَفِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّرَجَةِ يُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَقْوَى سَبَبًا كَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ، وَعِنْدَ التَّفَاوُتِ فِي الدَّرَجَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ كَابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ أَوَّلُ مَنْ يَقَعُ فِيهِ الْخِلَافُ إذَا اتَّفَقَتْ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاخْتَلَفَتْ الْأَبْدَانُ فَالْقِسْمَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْأَجْدَادُ وَاخْتَلَفَتْ الْآبَاءُ فَالْقِسْمَةُ عَلَى الْآبَاءِ ثُمَّ يُنْقَلُ نَصِيبُ كُلِّ ذَكَرٍ مِنْ الْآبَاءِ إلَى وَلَدِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَنَصِيبُ كُلِّ أُنْثَى إلَى وَلَدِهَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَجْدَادُ يَقْسِمُ أَوَّلًا عَلَى الْأَجْدَادِ ثُمَّ يَجْمَعُ مَا خَصَّ الذُّكُورَ مِنْهُمْ فَيَقْسِمُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ يَجْمَعُ مَا خَصَّ الْإِنَاثَ فَيَقْسِمُ بَيْنَ أَوْلَادِهِنَّ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالَ: يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ أَبْدَانُهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرِّوَايَةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 6 الْأُولَى أَشْهَرُ فَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْفَرَائِضِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتَّفَقُوا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ عَلَى أَنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْأَبْدَانَ لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ عَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَ فَرْضٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُرَجَّحُ بِمَعْنَى فِي الْمُدْلَى بِهِ فَإِذَا كَانَ فِي الْحِرْمَانِ يُعْتَبَرُ الْمُدْلَى بِهِ فَفِي النُّقْصَانِ أَوْلَى فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَّلُ مَنْ يَقَعُ بِهِ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ اسْتَوَيَا فِي الْأَبِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْمَيِّتِ، وَفِي الْأَبْدَانِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ اعْتَبَرْنَا مَنْ وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَدَدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَبْدَانُهُمْ دُونَ الْمُدْلَى بِهِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ، وَهَذَا لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ كَامِلَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَالْعِلَّةُ تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ فَيُجْعَلُ الْأَصْلُ كَالْمُتَعَدِّدِ حُكْمًا بِتَعَدُّدِ الْفَرْعِ وَكَمَالِ الْعِلَّةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ قَتَلُوا رَجُلًا عَمْدًا يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى الْكَمَالِ وَالْمَقْتُولُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا يُجْعَلُ مُتَعَدِّدًا حُكْمًا لِتَكَامُلِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَالْمَوْجُودُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفَرْعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمَوْجُودِ فِي الْأَصْلِ مَعَ تَحَقُّقِ ضِدِّهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ لِذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ مَا فِي الْأُصُولِ مِنْ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْفُرُوعِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ قَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْمَرْءِ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْنًى فِيهِ لَا بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَالِاسْتِحْقَاقُ عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ وَذَلِكَ مَعْنَى فِي أَبْدَانِهِمْ، وَقَدْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ أَيْضًا وَهِيَ الْوَلَاءُ فَثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ فِي الْمُدْلَى بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ صِفَةُ الرِّقِّ أَوْ الْكُفْرِ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْأَبْدَانِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ فِي صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَدُ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ بِمَعْنَى اثْنَيْنِ فَكُلُّ أُنْثَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ فِي الْعَدَدِ يُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ فَكَذَلِكَ فِي صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَالْجِهَةُ هُنَاكَ قَدْ اخْتَلَفَتْ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ غَيْرُ الْأُمُومَةِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالسَّبَبِ فَبِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ السَّبَبُ مَعْنَى فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يَكُونُ السَّبَبُ وَاحِدًا فَيَعْتَبِرُ فِي الصِّفَةِ الْأَبْدَانَ خَاصَّةً. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ فَالْفَرْضِيَّةُ وَالْعُصُوبَةُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 7 وَعِنْدَ التَّفَاوُتِ بِالسَّبَبِ يُعْتَبَرُ الْمُدْلَى بِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَصْلِ النِّسْبَةِ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَنْسَابِ إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْأَبْدَانِ تُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ خَاصَّةً فِيمَا بَيْنَ الْأَوْلَادِ فَإِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْأَبْدَانِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ أَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَبْدَانُ وَاتَّفَقَتْ الْآبَاءُ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ بِنْتٍ وَابْنَ بِنْتٍ أُخْرَى فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُدْلَى بِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ أَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ هُنَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ الْأَبْدَانُ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ آبَاؤُهُمْ وَاتَّفَقَتْ أَجْدَادُهُمْ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنِ بِنْتٍ وَابْنَ ابْنِ بِنْتٍ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ أَوَّلًا عَلَى الْآبَاءِ وَاثْنَانِ مِنْهُمْ ذَكَرَانِ يَعْنِي ابْنَةَ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنَ ابْنِ الِابْنَةِ وَاثْنَانِ مِنْهُمْ أُنْثَيَانِ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ أَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْبِنْتَيْنِ يُدْلِيَانِ بِالذَّكَرِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَسَهْمَانِ لِلَّتَيْنِ تُدْلِيَانِ بِالْأُنْثَى، ثُمَّ يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا فَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْأَثْلَاثِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا يُجْزِئُ عَنْ الْآخَرِ فَتَضْرِبُ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ كَانَ لِلَّتَيْنِ تُدْلِيَانِ بِذَكَرٍ ثُلُثَانِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا ثَمَانِيَةٌ لِابْنِ ابْنِ الْبِنْتِ وَأَرْبَعَةٌ لِابْنَةِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَكَانَ لِلْآخَرَيْنِ الثُّلُثُ سِتَّةٌ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا أَرْبَعَةٌ لِابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَسَهْمَانِ لِابْنَةِ ابْنَةِ الْبِنْتِ وَبَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَاقْتَصَرَ عَلَى النِّصْفِ فَيَعُودُ إلَى تِسْعَةٍ فَالتَّخْرِيجُ كَمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ أَبْدَانُهُمْ وَآبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنِ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَ ابْنَةِ ابْنِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْأَجْدَادُ أَوَّلًا وَاثْنَانِ مِنْهُمْ ذَكَرَانِ يَعْنِي أَنَّ ابْنَةَ ابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنَ ابْنَةِ ابْنِ ابْنَةٍ وَالْآخَرَانِ أُنْثَيَانِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ الثُّلُثَانِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لِهَذَيْنِ وَالثُّلُثُ لِلْآخَرَيْنِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الِابْنَتَيْنِ يُقْسَمُ عَلَى آبَائِهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا. وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرَيْنِ يُقْسَمُ عَلَى الْآبَاءِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا فَيَقْتَصِرُ عَلَى تِسْعَةٍ بَعْدَ الِاقْتِصَارِ كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا أَصَابَ مَنْ اتَّفَقَتْ آبَاؤُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ أَبْدَانُهُمْ فَيَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَيَتَيَسَّرُ التَّخْرِيجُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 8 الْآبَاءُ دُونَ الْأَجْدَادِ وَالْأَجْدَادُ دُونَ الْأَبْدَانِ فَصُورَةُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَيْ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ ابْنِ بِنْتٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقِسْمَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا بِالسَّوِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ الْأَجْدَادُ وَاثْنَانِ مِنْهُمْ أَجْدَادُهُمَا ذَكَرٌ يَعْنِي ابْنَةَ ابْنِ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ ابْنِ بِنْتٍ وَالْأُخْرَيَانِ أَجْدَادُهُمَا أُنْثَى فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ أَرْبَعَةٌ لِلْبَنِينَ أَجْدَادُهُمَا ذَكَرٌ وَسَهْمَانِ لِلْآخَرَيْنِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ اللَّتَيْنِ أَجْدَادُهُمَا ذَكَرٌ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْآبَاءِ أَثْلَاثًا فَنَصِيبُ ابْنَةِ ابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ ثُلُثَيْ الثَّلَاثِينَ وَالْأُخْرَى ثُلُثُ الثَّلَاثِينَ وَذَلِكَ الثُّلُثُ يُقْسَمُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْآبَاءِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَصِيبُ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنَةِ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَالْأُخْرَى ثُلُثَا الثُّلُثِ، ثُمَّ مَا يُصِيبُ كُلَّ أَبٍ فَهُوَ مَنْقُولٌ إلَى وَلَدِهِ فَإِنَّ بَيْنَ الْأَبْدَانِ مُوَافَقَةً وَلَا حَاجَةَ إلَى قِسْمَةٍ أُخْرَى مَسْأَلَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هِيَ أَلْطَفُ مَسَائِلِ الْبَابِ فَاعْتَبِرْهَا وَهِيَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ أَرْبَعَةٌ أَجْدَادُهُمْ أُنْثَى وَأَرْبَعَةٌ أَجْدَادُهُمْ ذَكَرٌ فَالْأَرْبَعَةُ الْأُولَى ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَالْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ ذَكَرٌ ابْنُ ابْنِ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَةُ ابْنَةِ ابْنِ بِنْتٍ وَابْنُ ابْنَةِ ابْنِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْعِبْرَةُ لِلْأَجْدَادِ أَوَّلًا فِي الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ثَمَانِيَةٌ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ ذَكَرٌ وَأَرْبَعَةُ نَصِيبُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ أُنْثَى، ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْآبَاءِ وَاثْنَانِ مِنْ الْآبَاءِ ذَكَرٌ يَعْنِي ابْنَةَ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنَ ابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَابْنَ ابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَاثْنَانِ أُنْثَى فَيُقْسَمُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُلُثَاهُ، وَهُوَ تُسْعَا الْمَالِ لِلَّذَيْنِ أَبُوهُمَا ذَكَرٌ وَتُسْعُ الْمَالِ لَلْآخِرَتَيْنِ، ثُمَّ هَذَا التُّسْعُ يُقْسَمُ بَيْنَ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَابْنِ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا فَيَكُونُ لِلْأُولَى ثُلُثُ التُّسْعِ وَلِلِابْنِ ثُلْثَا التُّسْعِ. وَأَمَّا التُّسْعَانِ فَبَيْنَ ابْنَةِ ابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَابْنِ ابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الْأَبْدَانِ لِلِابْنِ ثُلُثَا التُّسْعَيْنِ وَلِلِابْنَةِ الثُّلُثُ، ثُمَّ تَجِيءُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ ذَكَرٌ عَلَى الْآبَاءِ وَاثْنَانِ مِنْهُمْ ذَكَرَانِ يَعْنِي ابْنَ ابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنَةَ ابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ وَالْآخَرَيْنِ يُدْلِيَانِ بِأُنْثَى يَعْنِي ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنَ الِابْنَةِ فَيُقْسَمُ الثُّلُثَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الْأَبْدَانِ ثُلُثَا ذَلِكَ الثُّلُثَيْنِ لِلَّذَيْنِ أَجْدَادُهُمَا ذَكَرٌ وَثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ لِلَّذَيْنِ أَجْدَادُهُمَا أُنْثَى، ثُمَّ يَقْسِمُ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 9 عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُلُثَا ذَلِكَ الثُّلُثِ لِابْنِ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ وَثُلُثُهُ لِابْنَةِ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ وَالثُّلُثَانِ يُقْسَمُ كَذَلِكَ أَيْضًا فَإِذَا ضَرَبَ بَعْضَ هَذَا فِي بَعْضٍ بَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَبَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الرُّبُعِ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ تِسْعَةٌ مِنْ ذَلِكَ لِلَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ أُنْثَى، ثُمَّ سِتَّةٌ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ لِلَّذَيْنِ أَبُوهُمَا ذَكَرٌ وَثَلَاثَةٌ لِلَّذَيْنِ أَبُوهُمَا أُنْثَى، ثُمَّ تُقْسَمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبْدَانِ أَثْلَاثًا لِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ. وَكَذَلِكَ السِّتَّةُ تُقْسَمُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُنْثَى سَهْمَانِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلَّذِينَ أَجْدَادُهُمْ ذَكَرٌ تُقْسَمُ عَلَى الْآبَاءِ أَثْلَاثًا سِتَّةٌ لِلَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ بِالْأُنْثَى، ثُمَّ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبْدَانِ لِلْأُنْثَى سَهْمَانِ وَلِلذَّكَرِ أَرْبَعَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ حِصَّةُ اللَّذَيْنِ أَبُوهُمَا ذَكَرٌ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبْدَانِ لِلذَّكَرِ مِنْهُمَا ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُنْثَى أَرْبَعَةٌ فَمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ تَخْرِيجُهُ هَذَا فَإِنْ كَانَ مَعَ الثَّمَانِيَةِ ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنِ فَالْمَالُ كُلُّهُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ صَاحِبَةِ فَرْضٍ فَإِنَّ ابْنَةَ ابْنِ الِابْنَةِ صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّرَجَةِ وَلَدُ صَاحِبِ الْفَرْضِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ابْنَةُ ابْنِ ابْنِ الِابْنِ فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ فَهِيَ أَبْعَدُ بِدَرَجَةِ وَالْبُعْدَى مَحْجُوبَةٌ بِالْقُرْبَى، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَ صَاحِبَةِ فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْكُلّ ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَهِيَ أَوْلَى بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ مِنْ جَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ذَكَرٌ يَعْنِي ابْنَ ابْنَةِ الِابْنَةِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ سِوَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ، وَهُوَ ابْنَةُ الِابْنَةِ فَالْمَالُ كُلُّهُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهَا، وَهُوَ ابْنُ الِابْنَةِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هَذَا كُلُّهُ بَيَانُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ فَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ نَقُولُ إذَا تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ أُمَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي نُعَيْمٍ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ إنْ كَانَا مِنْ أُمَّيْنِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِ كُلَّ فَرْعٍ يَقُومُ مَقَامَ أَصْلِهِ فَكَأَنَّهُمَا ابْنَتَانِ لِلْمَيِّتِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَأَمَّا إذَا اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَلَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُقَاسِمُ نَفْسَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْفَرْعَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ عُبَيْدٍ أَنَّ كُلَّ فَرْعٍ قَائِمٌ مَقَامَ أَصْلِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ أُمَّيْنِ فَبِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ التَّبْنِيَةُ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مِنْ أُمَّيْنِ أَوْ مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 10 أُمٍّ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةٍ وَابْنَيْ ابْنَةٍ أُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْقِسْمَةُ نِصْفَانِ نِصْفٌ لِابْنَةِ الِابْنَةِ وَنِصْفٌ لِابْنَيْ الِابْنَةِ نِصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنَتَيْنِ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى فَرْعِ كُلِّ أَصْلٍ نَصِيبُ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةٍ وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا لِبَنَاتِ الِابْنَةِ عَشْرَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةٍ وَبِنْتَيْ ابْنَةٍ أُخْرَى وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنَةٍ أُخْرَى فَعِنْدَنَا الْمَالُ بَيْنَهُنَّ أَسْدَاسًا بِالسَّوِيَّةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا ثُلُثٌ لِابْنَةِ الِابْنَةِ وَثُلُثَانِ لِابْنَتَيْ الِابْنَةِ نِصْفَانِ وَثُلُثٌ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ الِابْنَةِ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِي ابْنِ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنَةٍ أُخْرَى وَابْنَ ابْنِ أُخْرَى لِهَذِهِ الِابْنَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَسْدَاسًا وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ نِصْفُ الْمَالِ لِثَلَاثَةِ بَنِي ابْنِ الْبِنْتِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ ابْنَيْ ابْنِ الِابْنَةِ الْأُخْرَى وَابْنِ ابْنِهَا نِصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَانِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى أَوْلَادِهِمَا فَالنِّصْفُ لِلثَّلَاثَةِ وَالنِّصْفُ لِلْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ نِصْفُ ذَلِكَ لِابْنَيْ ابْنِهَا وَنِصْفُهُ لِابْنِ ابْنِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ مَنْ يُدْلِي بِهِ إلَيْهَا فِي نَصِيبِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةٍ أُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الِابْنَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، وَقَدْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ هُنَا وَهِيَ الْوَلَاءُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الرَّحِمِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ ابْنٍ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الِابْنَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِابْنَةِ الِابْنَةِ وَالرُّبْعُ لِابْنَةِ الْأُخْرَى عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّدِّ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُدْلَى بِهِ مِنْ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ وَإِحْدَاهُمَا وَلَدُ الِابْنَةِ فَتَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا وَالْأُخْرَى وَلَدُ ابْنَةِ الِابْنِ فَتَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا وَلَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَأَسْدَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُقَامُ الْمُدْلِي مَقَامَ الْمُدْلَى بِهِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنٍ وَابْنَ ابْنَةٍ أُمُّهُمَا وَاحِدَةٌ وَتَرَكَ أَيْضًا ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنٍ وَابْنَ ابْنَةِ ابْنٍ أُمُّهُمَا وَاحِدَةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ بَيْنَ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنِ وَابْنِ ابْنَةِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 11 وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ هَاتَيْنِ وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَرْبَاعًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَأَسْدَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّدِّ كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ وَلَدَيْ الِابْنَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي نُعَيْمٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْأَبْدَانُ، وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا لِأُمٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا يَكُونَا فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى الْمُدْلَى بِهِ. وَكَذَلِكَ الرُّبُعُ الَّذِي أَصَابَ الْآخَرَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي نُعَيْمٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِي ابْنَ بِنْتِ وَابْنَ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنَيْ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ أَسْدَاسًا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ عَلَى الْآبَاءِ أَوَّلًا لِابْنَيْ ابْنَةِ الِابْنَةِ سَهْمَانِ وَلِلْأَرْبَعَةِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَإِنَّ أَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَكَرٌ وَلِكُلِّ ذَكَرٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ فَيَكُونُ لِابْنَيْ ابْنَةِ الِابْنَةِ فِي الْحَاصِلِ خُمُسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَ عَشَرَةٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَ الْفِرَقِ أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ لِبَنِي ابْنِ الِابْنَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَثُلُثُهُ لِابْنَيْ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَثُلُثُهُ لِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ اعْتِبَارًا بِالْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنَيْ ابْنَةِ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّ بَنِي ابْنِ الِابْنَةِ هُمْ وَرَثَةُ الْجَدَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ كَانُوا يَرِثُونَهَا بِالْعَصَبَةِ، فَأَمَّا ابْنَتَا ابْنَةِ الِابْنَةِ فَلَيْسَتَا بِوَارِثَتَيْنِ لِلْجَدَّةِ حَتَّى لَا يَرِثَا بِأَنَّهَا لِعُصُوبَةٍ فَكَمَا أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَحْجُبَانِ ابْنَيْ ابْنَةِ الِابْنَةِ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ فَكَذَلِكَ عَنْ مِيرَاثِ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ بِالْإِدْلَاءِ بِالْجَدَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ ثَلَاثَةٌ لِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ وَثَلَاثَةٌ لِبَنِي ابْنِ الِابْنَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدْلَى بِهِ فَكَأَنَّهُمَا اثْنَانِ يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ إلَى وَلَدِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ، وَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الدَّرَجَةِ وَلَدُ صَاحِبِ الْفَرِيضَةِ أَوْلَى وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ فَإِنَّهُ وَارِثُ الْجَدَّةِ دُونَ مَنْ سِوَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَذَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْمَالُ بَيْنَ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنِ وَابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ أَرْبَاعًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَأَسْدَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّ ابْنَةَ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَابْنَ ابْنَةِ الِابْنَةِ صَارَا مَحْجُوبَيْنِ بِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَارِثُ الْجَدَّةِ دُونَهُمَا بَقِيَ ابْنَةُ ابْنَةِ الِابْنِ وَابْنُ ابْنِ الِابْنَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 12 مَقَامَ مِنْ يُدْلِي بِهِ مِنْ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ، وَابْنُ ابْنِ الِابْنَةِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنَةِ وَابْنَةُ ابْنَةِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ ابْنَةِ الِابْنِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَأَسْدَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّدِّ، وَهَذَا طَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فِرَقٌ أَرْبَعَةٌ إمَّا أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ أَوْ مُخْتَلَطِينَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ أَوْ يَكُونُوا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ فَهُوَ بِالْمِيرَاثِ أَحَقُّ، وَإِنْ كَانُوا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ إنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ أَوْ عَصَبَةٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ بِوَلَدِ عَصَبَةٍ وَلَا صَاحِبِ فَرِيضَةٍ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْعَصَبَةِ وَصَاحِبَ الْفَرْضِ أَقْرَبُ حُكْمًا وَالتَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ حَقِيقَةٌ إنْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَبِالْقُرْبِ حُكْمًا، فَأَمَّا إذَا اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنْ انْفَرَدُوا فَكَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْأَبْدَانِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى الْآبَاءِ حَتَّى إذَا تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ وَابْنَةَ أَخٍ وَهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الثُّلُثَانِ لِابْنِ الْأُخْتِ وَالثُّلُثُ لِابْنَةِ الْأَخِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا الثُّلُثَانِ لِابْنَةِ الْأَخِ وَالثُّلُثُ لِابْنِ الْأُخْتِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى وَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا لِأُمٍّ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا فِي نِصْفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآبَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الْأَصْلُ، ثُمَّ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَام بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَفِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ يُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَرَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرَابَةُ الْأُمِّ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ إذْ لَا سَبَبَ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَبَيْنَهُمْ سِوَى هَذَا وَبِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ لَا يَفْضُلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى بِحَالٍ وَرُبَّمَا يَفْضُلُ الْأُنْثَى فَإِنَّ أُمَّ الْأُمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ دُونَ أَبِ الْأُمِّ فَإِنْ لَمْ تَفْضُلْ هُنَا الْأُنْثَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْمُدْلَى بِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَا مُخْتَلِطَيْنِ بِأَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 13 لِابْنَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِابْنَةِ الْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَا شَيْءَ لِابْنَةِ الْأَخِ لِأَبٍ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمُدْلَى بِهِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ، ثُمَّ نَصِيبُ كُلِّ أَخٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَفِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ يَتَرَجَّحُ مَنْ هُوَ أَقْوَى سَبَبًا فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ وَاَلَّذِي لَهُ إخْوَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَكُونُ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الَّذِي تَكُونُ أُخُوَّتُهُ مِنْ جَانِبٍ فَلِهَذَا يُقَدِّمُ ابْنَةَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى ابْنَةِ الْأَخِ لِأَبٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ بِدَرَجَةٍ كَانَ هُوَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ كَانَ هُوَ أَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى سَبَبًا. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْل عَلِيٍّ فِي الرَّدِّ وَأَسْدَاسًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّدِّ اعْتِبَارًا بِالْمُدْلَى بِهِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُ كُلِّ أُخْتٍ إلَى وَلَدِهَا. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ أُمَّيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي نُعَيْمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ إنْ كَانَا مِنْ أُمَّيْنِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ أُخْتٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ ابْنِ أَخٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ ابْنَةِ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ دَرَجَةً وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْمُدْلَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ وَارِثٌ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا هُوَ الْأُخْتُ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ ابْنُ الْأَخِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا وَابْنَ أَخٍ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُدْلِي مِيرَاثُ الْمُدْلَى بِهِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ أُخْتٍ وَابْنَةَ أَخٍ وَابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، ثُمَّ الْأُنْثَى فِي دَرَجَتِهِ لَا تُجْعَلُ بِهِ عَصَبَةً هُنَا بِخِلَافِ الْأَخَوَاتِ وَالْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى مَتَى كَانَتْ صَاحِبَةَ فَرِيضَةٍ عِنْدَ الِانْفِرَادِ تَصِيرُ عَصَبَةً بِذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا لَكِنْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ أَوْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، فَأَمَّا هُنَا الْأُنْثَى بِانْفِرَادِهَا لَا تَكُونُ صَاحِبَةَ فَرْضٍ وَهِيَ ابْنَةُ الْأَخِ فَلَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا أَيْضًا وَلَكِنَّ الْمَالَ كُلُّهُ لِلذَّكَرِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ. فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 14 فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ ابْنَةِ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَةِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِابْنَةِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ مَعَ ابْنَةِ الْأَخِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِابْنَةِ الْأُخْتِ وَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ ثُلُثَاهُ لِابْنَةِ الْأَخِ وَثُلُثُهُ لِابْنَةِ الْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِلَّذِينَ هُمَا لِأَبٍ بِاعْتِبَارِ الْمُدْلَى بِهِ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ قَرَابَتَانِ مِنْ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ] (فَصْلٌ) فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ قَرَابَتَانِ مِنْ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ لِلْوَاحِدِ قَرَابَتَانِ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَصُورَةُ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنْ يَتْرُكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَهِيَ أَيْضًا ابْنَةُ ابْنِ ابْنَةٍ بِأَنْ كَانَ لِرَجُلٍ ابْنَتَانِ لِإِحْدَاهُمَا ابْنَةٌ وَلِلْأُخْرَى ابْنٌ فَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِالِابْنَةِ فَوَلَدَ بَيْنَهُمَا ابْنَةٌ فَهِيَ ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةِ الْجَدِّ وَهِيَ أَيْضًا ابْنَةُ ابْنِ ابْنَتِهِ فَلَا شَكَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَرِثُهُ بِالْقَرَابَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْفَرْضِيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَرِثُ هَذِهِ إلَّا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ اتَّحَدَتْ وَهِيَ الْوَلَاءُ فَهِيَ نَظِيرُ الْجَدَّاتِ عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْجَدَّاتِ أَنَّ الَّتِي هِيَ جَدَّةٌ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَاَلَّتِي هِيَ جَدَّةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ سَوَاءٌ فَهَذَا كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْفَرْضِيُّونَ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يَقُولُونَ هَذِهِ تَرِثُ بِالْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْجَدَّاتِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ بِالْفَرْضِيَّةِ وَبِتَعَدُّدِ الْجَدَّاتِ لَا تَزْدَادُ فَرِيضَتِهِنَّ فَإِذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ وَالْعَدَدُ سَوَاءً فَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الْجِهَتَيْنِ لِوَاحِدَةٍ، فَأَمَّا هُنَا الِاسْتِحْقَاقُ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَيُعْتَبَرُ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ، وَهُوَ فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ يُعْتَبَرُ الْجِهَتَانِ جَمِيعًا لِلتَّرْجِيحِ تَارَةً وَلِلِاسْتِحْقَاقِ أُخْرَى فَلِلتَّرْجِيحِ كَالْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَلِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْأَخِ لِأُمٍّ إذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ السَّبَبَانِ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا يُعْتَبَرُ السَّبَبَانِ فِي حَقِّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَهُنَا أَيْضًا يُعْتَبَرُ السَّبَبَانِ جَمِيعًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ هَذِهِ ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةٍ أُخْرَى قَرَابَتُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثُلْثَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى شَخْصَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ ابْنَةٍ أُخْرَى وَابْنَةَ ابْنِ ابْنَةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ عَلَى الْآبَاءِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ وَرُبُعُهُ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ ابْنَ ابْنَةِ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ سَهْمَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا وَلَدُ الِابْنَةِ وَسَهْمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا وَلَدُ ابْنَةِ الِابْنَةِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ابْنُ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ وَاَلَّتِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 15 لَهَا قَرَابَتَانِ بِمَنْزِلَةِ اثْنَيْنِ فَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمٌ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْمُدْلَى بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، ثُمَّ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ هُوَ مُدْلٍ بِهِ يَكُونُ لِوَلَدِهِ فَمَا نَجِدُهُ ذَا قَرَابَتَيْنِ فَبِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ، وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ يَسْلَمُ لَهُ وَمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ بِضَمِّهِ إلَى مَا أَخَذَ الْآخَرُ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ نَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ وَبَعْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى النِّصْفِ لِلْمُوَافَقَةِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ مِمَّنْ سِتَّةٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ ابْنِ ابْنَةٍ أُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثُلُثَا الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى خَمْسَةٍ بِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ابْنَيْ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنَةٍ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ خُمُسَا الْمَالِ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا وَلَدُ ابْنِ الِابْنَةِ وَخُمُسُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا وَلَدُ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَلِلْأُخْرَى خُمُسَا الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنُ ابْنِ بِنْتٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَالُ بَيْنَهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ أَخْمَاسًا بِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ، ثُمَّ الَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ تَأْخُذُ خُمُسَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَيَضُمُّ خُمُسَا الْمَالِ لِلَّتِي تَأْخُذُهُ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ الْآبَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ وَاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَإِذَا ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ وَبِجِهَةِ الْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ لَهَا سَبْعَةٌ وَلِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ ثَمَانِيَةٌ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنَةِ ابْنَةٍ فَيَكُونُ لَهَا سَبْعَةٌ وَلِابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ ثَمَانِيَةٌ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقِسْمَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْمَالِ خُمُسٌ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَخُمُسَانِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ، ثُمَّ مَا أَخَذَتْ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ سَلِمَ لَهَا وَمَا أَخَذَتْ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ يُضَمُّ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخَوَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبْدَانِ أَرْبَاعًا لِاسْتِوَاءِ الْآبَاءِ فَيَضْرِبُ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ عِشْرِينَ لَهَا بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ ثَمَانِيَةٌ وَبِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ رُبُعُ الْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ لَهَا أَحَدَ عَشَرَ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلِابْنَةِ الْأُخْرَى الْبَاقِي فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْآبَاءِ فَتَكُونُ عَلَى سَبْعَةٍ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ يَسْلَمُ لَهَا وَسَهْمَانِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ تَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرَيْنِ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْأَبْدَانِ أَرْبَاعًا لِاسْتِوَاءِ الْآبَاءِ وَاخْتِلَافِ الْأَبْدَان فَيَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي سَبْعَةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ السُّبُعُ أَرْبَعَةٌ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَيَكُونُ لَهَا مِمَّا بَقِيَ الرُّبُعُ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ فَيَكُونُ لَهَا عَشَرَةٌ وَلِابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ سِتَّةٌ وَلِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 16 اثْنَا عَشَرَ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنَةِ ابْنَةٍ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنَةٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقِسْمَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ سَهْمَانِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْآبَاءِ عَلَى تِسْعَةٍ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ سَهْمٌ فَيَضُمُّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ ابْنَةِ ابْنَةِ الِابْنَةِ وَابْنِ ابْنَةِ الِابْنَةِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ أَرْبَاعًا لِاسْتِوَاءِ الْآبَاءِ وَاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَمَا اتَّحَدَ مِنْ جِهَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ تَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ وَابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا عَلَى الْأَبْدَانِ لِاسْتِوَاءِ الْآبَاءِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْأَرْبَاعِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا يُجْزِي عَنْ الْآخَرِ فَتَضْرِبُ تِسْعَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُون سِتَّةَ وَثَلَاثِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ بَيْنَ الَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ وَبَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ أَرْبَاعًا لَهَا ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنَةِ الْأُخْرَى ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنِ سِتَّةٌ وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ وَبَيْنَ ابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ أَرْبَاعًا لِابْنِ ابْنِ الِابْنَةِ اثْنَا عَشَرَ وَلِابْنَةِ ابْنِ الِابْنَةِ سِتَّةٌ وَلِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ سِتَّةٌ فَيَحْصُلُ لَهَا بِالْجِهَتَيْنِ تِسْعَةٌ هَذَا طَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ ذِي الْقَرَابَتَيْنِ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَةَ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَهِيَ ابْنَةُ أَخٍ لِأَبٍ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ أُخْتٌ لِأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ فَيُزَوِّجُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ أُخْتَهُ لِأُمِّهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِذَا وَلَدَتْ ابْنَةً كَانَتْ هَذِهِ لَهُ ابْنَةُ أُخْتٌ لِأُمٍّ وَهِيَ ابْنَةُ أَخٍ لِأَبٍ فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَعَ هَذِهِ ابْنَةَ أُخْتٍ لِأَبٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِذِي الْقَرَابَتَيْنِ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ فَيَنْكَسِرُ بِالْأَثْلَاثِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمُدْلَى بِهِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا لِأُمٍّ وَأُخْتًا وَأَخًا لِأَبٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْمَالُ كُلُّهُ لِذِي الْقَرَابَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي جَانِبِهَا قَرَابَةُ الْأُمِّ وَقَرَابَةُ الْأَبِ فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أَخٍ لِأَبٍ فَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْمَالُ كُلُّهُ لِذِي الْقَرَابَتَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ السُّدُسُ لِذِي الْقَرَابَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَكَانَتْ الَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَخٍ لِأُمٍّ وَمَعَهَا ابْنُ أَخٍ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ هَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 17 فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أَخٍ لِأُمٍّ فَلَهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَلِذِي الْقَرَابَتَيْنِ النِّصْفُ بِاعْتِبَارِ الْأَبِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ الْمَالُ فِي الْحَاصِلِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ فَلِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ السُّدُسُ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَلَهَا الثُّلُثَانِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا بِمَنْزِلَةِ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأَخٍ لِأُمٍّ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ أَخْمَاسًا لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْرَى سَهْمَانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَرَابَةُ الْأَبِ وَقَرَابَةُ الْأُمِّ فَاسْتَوَيَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَمْيِيزِ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى هُنَا فَإِنَّ مَا يَسْلَمُ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ كُلِّ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا ابْنَةُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّ تَمْيِيزَ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى مُقَيَّدٌ هُنَا فَقَدْ مَالَ مَشَايِخُنَا أَيْضًا إلَى التَّمْيِيزِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِهَذَا التَّمْيِيزِ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا وَثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مِيرَاثِ الْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ عِنْدَنَا وَالْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَقَالَ بِشْرٌ الْمَدِينِيُّ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَقَالَ أَهْلُ التَّنْزِيلِ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْعَمَّةُ مَعَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْجَدَّاتِ لِأَبٍ وَهِيَ مَعَ الْخَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَبِهَا تَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ وَبِهَا تَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَائِمَةً مَقَامَ الْمُدْلَى بِهِ وَهِيَ الْوَاسِطَةُ الَّتِي تَتَّصِلُ لِلْمَيِّتِ بِهَا لِلْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمَّةِ وَلَا شَيْءَ لِلْخَالَةِ بِمَنْزِلَةِ أَبٍ الْأَبِ مَعَ أَبٍ الْأُمِّ. وَأَمَّا أَهْلُ التَّنْزِيلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ إذَا اجْتَمَعَا وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا بِأَنْ تُجْعَلَ الْعَمَّةُ كَالْأَبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَرَابَتَهَا قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْخَالَةُ كَالْأُمِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَرَابَتَهَا قَرَابَةُ الْأُمِّ. وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدٍ فَكَانَ يَقُولُ الْعَمَّةُ مَعَ ابْنَةِ الْأَخِ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ ابْنَةَ الْأَخِ تَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ابْنِهَا، وَهُوَ الْأَخُ وَالْعَمَّةُ أَيْضًا تَتَّصِلُ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَلَوْ نَزَّلْنَاهَا مَنْزِلَةَ الْأَبِ كَانَتْ ابْنَةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 18 الْأَخِ مَحْجُوبَةً بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَخَ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ فَجَعَلْنَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا مَعَ الْخَالَةِ فَقَدْ جَعَلْنَا الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ الْأَدْنَى؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهَا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَتُجْعَلُ الْعَمَّةُ مَعَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ الْأَدْنَى؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهَا قَرَابَةُ الْأَبِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ قَالُوا الْعَمَّةُ وَلَدُ الْجَدِّ وَبِهِ تَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ فَتَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ أَبٍ الْأَبِ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ أَبٍ الْأُمِّ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَالْجَدِّ أَبٍ الْأُمِّ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا وَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ كَانَتْ وَارِثَةً مَعَ الْعَمَّةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَعَلْنَاهَا كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ. وَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأُنْثَى مَتَى أُقِيمَتْ مَقَامَ ذَكَرٍ فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا وَلَا تُقَامُ مَقَامَ ذَكَرٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ أَوْ أَقْرَبُ وَالذَّكَرُ الَّذِي فِي دَرَجَةِ الْعَمَّةِ الْعَمُّ، وَهُوَ وَارِثٌ فَتُجْعَلُ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ لِهَذَا، فَأَمَّا أَبُو الْأَبِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا مَقَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْخَالَةُ لَوْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا، وَهُوَ الْخَالُ لَمْ تَرِثْ مَعَ الْعَمَّةِ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْخَالَةُ لَوْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهَا، وَهُوَ الْخَالُ لَمْ تَرِثْ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ أُمًّا وَعَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَمَّةَ لَوْ جُعِلَتْ كَالْجَدِّ أَبِ الْأَبِ لَكَانَ الْعَمُّ كَذَلِكَ فَإِنَّ قَرَابَتَهُمَا سَوَاءٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمُّ مُزَاحِمًا لِلْإِخْوَةِ كَالْجَدِّ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ فَكَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ عَمًّا وَعَمَّةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ فَإِذَا كَانَا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلَا مِيرَاثَ لِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ الْعَصَبَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَمُّ لِأَبٍ وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا لِأُمٍّ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُمَا قَرَابَةُ الْأُمِّ وَبِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ لَا يَفْضُلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأُمٍّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَوْرِيثَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ، وَفِي الْعُصُوبَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ مَا لِلْأُنْثَى إذَا تَسَاوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُمَا بِالْفَرْضِيَّةِ وَفِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِيَّةِ لَا يَفْضُلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 11] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ إذَا كَثُرُوا فَإِنْ اجْتَمَعَ عَمَّاتٌ بَعْضُهُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَعْضُهُنَّ لِأَبٍ وَبَعْضُهُنَّ لِأُمٍّ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِقُوَّةِ السَّبَبِ فِي حَقِّهَا بِاجْتِمَاعِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا أَوْلَادُ الْعَمَّاتِ إذَا كَانَ بَعْضُهُنَّ أَقْرَبَ فَلَهُ الْمَالُ كُلُّهُ، وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ يَتَرَجَّحُ ذُو الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى هَذَا مِيرَاثُ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ حَتَّى إذَا تَرَكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 19 خَالًا وَخَالَةً فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَرَ هُنَا لَيْسَ بِعَصَبَةٍ وَتَوْرِيثُهُمَا بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَيَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ مَا لِلْأُنْثَى فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِذِي الْقَرَابَتَيْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لِقُوَّةِ السَّبَبِ فِي جَانِبِهِ بِاجْتِمَاعِ الْقَرَابَتَيْنِ. وَإِنْ اخْتَلَطَ الْعَمَّاتُ بِالْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالُ فَلِلْعَمَّاتِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ الثُّلُثُ اعْتِبَارًا لِلْعَمَّاتِ بِالْعَمِّ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ بِالْأُمِّ وَيَسْتَوِي فِي هَذَا إنْ اسْتَوَتْ الْأَعْدَادُ أَوْ اخْتَلَفَتْ حَتَّى إذَا تَرَكَ عَمَّةً وَاحِدَةً وَعَشَرَةً مِنْ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَلِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ بَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْأُمُومَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُمٍّ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ خَالَةً وَاحِدَةً وَعَشَرَةً مِنْ الْعَمَّاتِ فَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ وَلِلْعَمَّاتِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ فَإِنْ تَرَكَ عَمَّةً لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَالَةً أَوْ خَالًا لِأُمٍّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلَّتِي لَهَا قَرَابَتَانِ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ كَالْعَمَّيْنِ أَوْ الْخَالَيْنِ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ذُو الْقَرَابَتَيْنِ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مِنْ جِهَتِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَا؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ كَالْأُمِّ سَوَاءٌ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةُ كَالْعَمِّ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ] فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ أَوْ اخْتَلَفَتْ وَالتَّفَاوُتُ بِالْقُرْبِ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْبُطُونِ فَمَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ ذَا بَطْنٍ وَاحِدٍ فَهُوَ أَقْرَبُ مِمَّنْ يَكُونُ ذَا بَطْنَيْنِ وَذُو الْبَطْنَيْنِ أَقْرَبُ مِنْ ذِي ثَلَاثِ بُطُونٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ الْأَبْعَدُ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَقْرَبُ وَمِيرَاثُ ذَوِي الْأَرْحَام يُبْنَى عَلَى الْقُرْبِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ خَالَةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ خَالَةٍ أَوْ ابْنَةَ ابْنِ خَالَةٍ أَوْ ابْنَ ابْنِ خَالَةٍ فَالْمِيرَاثُ لِابْنَةِ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ابْنَةَ عَمَّةٍ وَابْنَةَ ابْنَةِ خَالَةٍ فَابْنَةُ الْعَمَّةِ أَوْلَى بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَإِنْ تَرَكَ بَنَاتَ الْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ خَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِبَنَاتِ الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْخَالَةِ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ذَا قَرَابَتَيْنِ وَبَعْضُهُمْ ذَا قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ لَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَذَا، وَعِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ الَّذِي لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الَّذِي لِأُمٍّ ذَكَرًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 20 كَانَ أَوْ أُنْثَى. بَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنَاتِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَكَذَلِكَ ثَلَاثُ بَنَاتِ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ خَالَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَةَ عَمَّةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَلِابْنَةِ الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْخَالَةِ الثُّلُثُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الدَّرَجَةِ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً يَعْنِي الِاتِّصَالَ إلَى الْمَيِّتِ وَلَكِنْ ذُو الْقَرَابَتَيْنِ أَقْوَى سَبَبًا فَعِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ الْأَقْوَى فِي مَعْنَى الْأَقْرَبِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ. وَكَذَلِكَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ وَقَرَابَةُ الْأَبِ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ فَجَعَلَ قُوَّةَ السَّبَبِ كَزِيَادَةِ الْقُرْبِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَلَدَ عَصَبَةٍ أَوْ وَلَدَ صَاحِبِ فَرْضٍ فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يُقَدَّمُ وَلَدُ الْعَصَبَةِ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ لَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَذَا بَلْ يُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الِاتِّصَالِ بِالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ فِي جَانِبِ وَلَدِ الْعَصَبَةِ وَصَاحِبِ الْفَرْضِ قُوَّةَ السَّبَبِ بِاعْتِبَارِ الْمُدْلَى بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قُوَّةَ السَّبَبِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ لَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ بَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَابْنَةَ عَمَّةٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ عَصَبَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَةَ عَمٍّ وَابْنَةَ خَالٍ أَوْ خَالَةٍ فَلِابْنَةِ الْعَمِّ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ هُنَا فَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِكَوْنِهِ وَلَدَ عَصَبَةٍ، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عِمْرَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ أَوْ اتَّحَدَتْ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْعَصَبَةِ أَقْرَبُ اتِّصَالًا بِوَارِثِ الْمَيِّتِ فَكَانَ أَقْرَبَ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّ الْعَمَّةَ تَكُونُ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمَالِ مِنْ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ وَلَدُ الْعَصَبَةِ، وَهُوَ أَبٌ الْأَبِ وَالْخَالَةُ لَيْسَتْ بِوَلَدِ عَصَبَةٍ وَلَا وَلَدِ صَاحِبِ فَرْضٍ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ أَبٍ الْأُمِّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْخَالَةَ وَلَدُ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الِاتِّصَالِ بِوَارِثِ الْمَيِّتِ إلَّا أَنَّ اتِّصَالَ الْخَالَةِ بِوَارِثٍ هُوَ أُمٌّ فَتَسْتَحِقُّ فَرِيضَةَ الْأُمِّ وَاتِّصَالُ الْعَمَّةِ بِوَارِثٍ هُوَ أَبٌ فَتَسْتَحِقُّ نَصِيبَ الْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَإِنْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ مِنْ بَنَاتِ الْأَخْوَالِ أَوْ الْخَالَاتِ وَقَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ مِنْ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ أَوْ الْعَمَّاتِ لِأُمٍّ فَالْمَالُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَثْلَاثًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذُو قَرَابَتَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ذُو قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَتَرَجَّحُ جِهَةُ ذِي الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مَنْ كَانَ قَرَابَتُهُ لِأَبٍ عَلَى مَنْ كَانَ قَرَابَتُهُ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 21 ذَلِكَ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُرَاعَى قُوَّةَ السَّبَبِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْأَبْدَانِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَعَلَى أَوَّلِ مَنْ يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهِ مِنْ الْآبَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَةَ خَالَةٍ وَابْنَ خَالَةٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّ الْآبَاءَ قَدْ اتَّفَقَتْ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةَ خَالٍ وَابْنَ خَالَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لِابْنِ الْخَالَةِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْخَالِ الثُّلُثُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا لِاخْتِلَافِ الْآبَاءِ فَيَكُونُ لِابْنِ الْخَالَةِ الثُّلُثُ وَلِابْنَةِ الْخَالِ الثُّلُثَانِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمَّةٍ وَابْنَةَ عَمَّةٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الْأَبْدَانِ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمَّةٍ وَابْنَةَ عَمٍّ فَإِنْ كَانَتْ ابْنَةَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَهِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ عَصَبَةٍ وَابْنُ الْعَمَّةِ لَيْسَ بِوَلَدِ عَصَبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمٍّ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبْدَانِ لِابْنِ الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْعَمِّ الثُّلُثُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْآبَاءِ، وَهَذَا إذَا كَانَ ابْنَ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْنَ عَمَّةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَهُوَ أَوْلَى بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ ذُو قَرَابَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ابْنَ عَمَّةٍ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ قَرَابَةُ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقَاتٍ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتِ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَالثُّلُثَانِ لِبَنَاتِ الْعَمَّاتِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ ابْنَةُ الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْآخَرَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَالثُّلُثُ لِبَنَاتِ الْخَالَاتِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ ابْنُ الْخَالَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَةُ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَتَكُونُ الْمُقَاسَمَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ عَلَى الْأَبْدَانِ لِابْنِ الْخَالَةِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْخَالِ الثُّلُثُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مَعَ هَؤُلَاءِ ثَلَاثُ بَنَاتِ أَعْمَامٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنَةِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ عَصَبَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَلِابْنَةِ الْعَمِّ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَحِينَئِذٍ الثُّلُثَانِ لِقَوْمِ الْأَبِ وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ ابْنَةُ الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ابْنَةَ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ وَابْنَةَ الْعَمِّ لِأُمٍّ سَوَاءٌ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَيْسَتْ بِوَلَدِ عَصَبَةٍ وَلَا صَاحِبَةَ فَرِيضَةٍ فَكَمَا تَتَرَجَّحُ ابْنَةُ الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى ابْنَةِ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ فَكَذَلِكَ عَلَى ابْنَةِ الْعَمِّ لِأُمٍّ وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَهُوَ سُؤَالُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَ الْمُدْلَى بِهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لَمَا اخْتَلَفَتْ الْقِسْمَةُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هُنَاكَ تَتَعَدَّدُ الْفُرُوعُ بِتَعَدُّدِ الْمُدْلَى بِهِ حُكْمًا وَهُنَا لَا يَتَعَدَّدُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 22 الْمُدْلَى بِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَدَّدُ الشَّيْءُ حُكْمًا إذَا كَانَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً وَالْعَدَدُ فِي الْأَوْلَادِ مِنْ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ يَتَحَقَّقُ فَيَثْبُتُ التَّعَدُّدُ فِيهِمْ حُكْمًا بِتَعَدُّدِ الْفُرُوعِ، فَأَمَّا فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَدُّدُ حَقِيقَةً فَلَا يَثْبُتُ التَّعَدُّدُ حُكْمًا بِتَعَدُّدِ الْقَرَابَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ أَعْمَامِ الْأُمِّ وَعَمَّاتِهَا وَأَخْوَالِ الْأُمِّ وَخَالَاتِهَا] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): فَإِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ خَالَةً لِأُمٍّ أَوْ خَالًا لِأُمٍّ فَالْمِيرَاثُ لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ وَارِثَةٌ لَهُ فَخَالُهَا وَخَالَتُهَا بِمَنْزِلَةِ خَالِهِ وَخَالَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا جَمِيعًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ لِاسْتِوَاءِ الْمُدْلَى بِهِ فَإِنْ تَرَكَ خَالَةَ الْأُمِّ وَعَمَّةَ الْأُمِّ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالَةِ، وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِعَمَّةِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِخَالَةِ الْأُمِّ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ فِي تَوْرِيثِ هَذَا النَّوْعِ الْمُدْلَى بِهِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَعَمَّةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ عَمَّةِ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ خَالَةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ خَالَةِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ وَوَجْهُ قَوْلِ عِيسَى أَنَّ عَمَّةَ الْأُمِّ قَرَابَتُهَا مِنْ الْأُمِّ قَرَابَةُ الْأَبِ وَخَالَةُ الْأُمِّ قَرَابَتُهَا مِنْ الْأُمِّ قَرَابَةُ الْأُمِّ وَالتَّوْرِيثُ هُنَا لِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَتُرَجَّحُ قَرَابَةُ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَهَكَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِي عَمَّةِ الْمَيِّتِ وَخَالَتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى هَذَا فَإِنَّ هُنَاكَ إحْدَاهُمَا وَلَدُ عَصَبَةٍ وَالْأُخْرَى وَلَدُ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَرَجَّحْنَا قَرَابَةَ الْأَبِ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ. وَوَجْهُ مَا قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ أَنَّ خَالَةَ الْأُمِّ وَلَدُ صَاحِبِ فَرْضٍ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ وَعَمَّةُ الْأُمِّ لَيْسَتْ بِوَلَدِ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ وَلَا عَصَبَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ أَبٍ الْأُمِّ فَلِهَذَا كَانَتْ خَالَةُ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ عَمَّةِ الْأُمِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ خَالَ الْأُمِّ وَخَالَةَ الْأُمِّ مَعَ عَمَّةِ الْأُمِّ، ثُمَّ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا قَرَابَتَانِ أَوْ لِإِحْدَاهُمَا قَرَابَتَانِ وَلِلْأُخْرَى قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِهَةِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْأُمِّ كَاخْتِلَافِ الْجِهَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ فَإِنْ تَرَكَ عَمَّةَ الْأَبِ وَعَمَّ الْأَبِ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِعَمَّةِ الْأَبِ إنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِأُمٍّ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبْدَانِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَعَلَى الْمُدْلَى بِهِ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَةُ الْأَبِ فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى وَيَحْيَى الْمَالُ كُلُّهُ لِعَمَّةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، وَهُوَ أَبُ أَبِ الْأَبِ، وَلِأَنَّهَا تُدْلِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 23 بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَقَرَابَةُ الْأَبِ فِي مَعْنَى الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ فَإِنْ اجْتَمَعَ الْفَرِيقَانِ يَعْنِي عَمَّةَ الْأَبِ وَخَالَةَ الْأَبِ وَعَمَّةَ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأُمِّ فَلِقَوْمِ الْآبَاءِ الثُّلُثَانِ وَلِقَوْمِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، ثُمَّ قِسْمَةُ كُلِّ فَرِيقٍ بَيْنَ كُلِّ فَرِيقٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَقِسْمَةِ جَمِيعِ الْمَالِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا ذَا قَرَابَتَيْنِ وَالْآخَرُ ذَا قَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَلَكِنْ فِي نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ يَتَرَجَّحُ ذُو الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْكَلَامُ فِي أَوْلَادِ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فِي آبَائِهِمْ وَإِنَّهَا تَعُمُّ وَلَكِنْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ الْأُصُولِ فَلَا شَيْءَ لِلْأَوْلَادِ كَمَا لَا شَيْءَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ عِنْدَ بَقَاءِ عَمَّةٍ أَوْ خَالَةٍ لِلْمَيِّتِ وَيُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْجِنْسِ شَخْصٌ لَهُ قَرَابَتَانِ بَيَانُهُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَخٌ لِأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ فَتَزَوَّجَ أَخُوهَا لِأُمٍّ أُخْتَهَا لِأَبِيهَا فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ خَالَتُهَا لِأَبٍ وَهِيَ أَيْضًا عَمَّتُهَا لِأُمٍّ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ذُو قَرَابَتَيْنِ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الْفَاسِدِ مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْجَدَّ الْفَاسِدَ مَنْ يَتَّصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِأُمٍّ وَالْجَدَّةُ الْفَاسِدَةُ مَنْ يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي تَرْتِيبِ التَّوْرِيثِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَالْبَاقِي فِي تَرْتِيبِ التَّوْرِيثِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَأَمَّا بَيَانُ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَنَقُولُ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَالْقُرْبُ بِالْبَطْنِ فَمَنْ يَتَّصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِبَطْنٍ وَاحِدٍ فَهُوَ أَقْرَبُ مِمَّنْ يَتَّصِلُ بِبَطْنَيْنِ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِبَطْنَيْنِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِمَّنْ يَتَّصِلُ بِبُطُونٍ ثَلَاثَةٍ وَالْجَدُّ الَّذِي يَتَّصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِبَطْنٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ أَبُ الْأُمِّ وَاَلَّذِي يَتَّصِلُ بِبَطْنَيْنِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ أَبُ أُمِّ الْأُمِّ وَأَبُو أَبِ الْأُمِّ وَأَبُ أُمِّ الْأَبِ وَلَهُمْ مِنْ الْجَدَّاتِ الْفَاسِدَاتِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَبِ الْأُمِّ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَرَائِضِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إلَّا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَبُ أُمِّ الْأُمِّ وَأَبُ أُمِّ الْأَبِ وَقَالَ: الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَلِأَبِ أُمِّ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَتَقَدَّمَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فِيهَا اخْتِلَافٌ وَهِيَ مَا إذَا تَرَكَ أَبَ أُمِّ الْأُمِّ وَأَبُ أَبِ الْأُمِّ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ أَيْضًا لَا لِصَاحِبِ الْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّكَ إذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِهِ بَطْنًا يَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ وَهِيَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 24 صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِ الْآخَرِ بَطْنًا يَبْقَى أَبُ الْأُمِّ، وَهُوَ جَدٌّ فَاسِدٌ فَلِهَذَا كَانَ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أَبِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهَا أُمُّ أُمِّهِ، وَهُوَ ابْنُ ابْنِهَا وَالْآخَرُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لِلْأُمِّ بَلْ هُوَ ابْنُ ابْنِهَا وَالْمُعْتَبَرُ هُنَا مَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَإِذَا كَانَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فِي نِسْبَتِهِ إلَى أُمِّ الْمَيِّتِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْمُدْلَى بِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِأَبِ أَبِ الْأُمِّ وَثُلُثُهُ لِأَبِ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّا نَعْتَبِرُ فِي الْقِسْمَةِ أَوَّلَ مَنْ يَقَعُ بِهِ الْخِلَافُ، ثُمَّ يَنْقُلُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مِنْ يُدْلِي بِهِ. فَأَمَّا إذَا تَرَكَ أَبَ أُمِّ الْأُمِّ وَأَبَ أُمِّ الْأَبِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَالَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اعْتِبَارًا بِالْمُدْلَى بِهِ فَإِنَّ أَبَ أُمِّ الْأَبِ يُدْلِي بِالْأَبِ وَالْأُخْرَى تُدْلِي بِالْأُمِّ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاتِّصَالِ بِصَاحِبِ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّكَ إذَا أَسْقَطْتَ بَطْنًا مِنْ أَبِ أُمِّ الْأَبِ تَبْقَى أُمُّ الْأَبِ، وَإِذَا أَسْقَطْتَ بَطْنًا مِنْ نَسَبِ الْآخَرِ تَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ وَبَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ فِي الْفَرْضِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَاتِّصَالَ الْآخَرِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَالْعُصُوبَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقَرَابَةِ الْأَبِ دُونَ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَإِنْ تَرَكَ أَبَ أَبِ الْأُمِّ وَأَبَ أُمِّ الْأَبِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ أَبَ أَبِ الْأُمِّ يُدْلِي بِالْأُمِّ وَأَبَ أُمِّ الْأَبِ يُدْلِي بِالْأَبِ، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ اتِّصَالًا بِصَاحِبِ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّكَ إذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِهِ بَطْنًا تَبْقَى أُمُّ الْأَبِ وَهِيَ جَدَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ يَبْقَى أَبُ الْأُمِّ، وَهُوَ جَدٌّ فَاسِدٌ. وَاخْتَلَفَتْ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ عِيسَى فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أَبِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرِيضَةٍ فِي حَقِّهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَهُ الْمَالَ كُلَّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِالْمَيِّتِ بِقَرَابَةِ الْأَبِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ لَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ قَرَابَةِ الْأُمِّ وَبَيْنَ قَرَابَةِ الْأَبِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْأُمُّ فِي الْعُصُوبَةِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعُصُوبَةِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمَيِّتِ، فَأَمَّا هُنَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعُصُوبَةُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمَيِّتِ فَكَانَ مَنْ يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ أَوْلَى بِالْمَالِ فَإِنْ تَرَكَ أَبَ أُمِّ الْأُمِّ وَأَب أَبِ الْأُمِّ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمَالَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا الثُّلُثَانِ لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِالْأَبِ وَالْآخَرَانِ يُدْلِيَانِ بِالْأُمِّ فَقَامَا مَقَامَ الْأُمِّ، ثُمَّ الثُّلُثُ الَّذِي أَصَابَ اللَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ بِالْأُمِّ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثُ ذَلِكَ لِأَبِ أَبِي الْأُمِّ وَثُلُثُ ذَلِكَ لِأَبِ أُمِّ الْأُمِّ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فِي اعْتِبَارِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 25 أَوَّلِ مَنْ يَقَعُ بِهِ الْخِلَافُ فِي الْقِسْمَةِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَأَبُ أَبِ الْأُمِّ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فَمَعَهُمَا أَوْلَى وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْن أَبِ أُمِّ الْأَبِ وَأَبِ أُمِّ الْأُمِّ نِصْفَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى أَبُ أُمِّ الْأُمِّ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِأَبِ أَبِ الْأُمِّ إذَا انْفَرَدَ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْلَى فَإِذَا سَقَطَ هُوَ يَبْقَى أَبُ أَبِ الْأُمِّ وَأَبُ أُمِّ الْأَبِ وَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنْ تَرَكَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ جَدَّةً فَاسِدَةً كَجَدَّتِهِمْ أُمِّ أَبِ الْأُمِّ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ وَقَوْلِ عِيسَى هَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ وَهَذِهِ الْجَدَّةُ تَسْقُطُ، فَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَبِ أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَمِنْ الثُّلُثِ الْبَاقِي ثُلُثُهُ لِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ وَثُلُثَاهُ بَيْنَ أَبِ أَبِ الْأُمِّ وَبَيْنَ أَبِ أُمِّ الْأَبِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُدْلَى بِهِمَا فِي حَقِّهِمَا الْأَبُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَبْدَانُهُمَا فَتُقْسَمُ تِلْكَ الْحِصَّةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبْدَانِ أَثْلَاثًا. فَإِنْ تَرَكَ أَبَ أُمِّ الْأَبِ وَأَبَ أُمِّ أَبِ الْأَبِ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ بِدَرَجَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْبُعْدَى مِنْ الْجَدَّاتِ الصَّحِيحَاتِ تَسْتَوِي بِالْقُرْبَى إذَا لَمْ تَكُنْ الْبُعْدَى أُمَّ الْقُرْبَى فَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِدِ مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَطْنًا يَبْقَى صَاحِبَةُ فَرْضٍ وَهِيَ أُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبِ الْأَبِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَرْضِيَّةِ مُسَاوَاةٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ تَرَكَ أُمَّ أَبِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمَّ أُمِّ أَبِ الْأُمِّ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ كُلُّهُ لِأُمِّ أَبِ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اتِّصَالًا بِصَاحِبِ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّكَ إذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِهَا بَطْنَيْنِ يَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ فَإِذَا أَسْقَطْتَ مِنْ نَسَبِ الْأُخْرَى بَطْنَيْنِ يَبْقَى بَطْنَانِ، وَهُوَ جَدٌّ فَاسِدٌ، وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى الْمَالُ كُلُّهُ لِأُمِّ أُمِّ أَبِ الْأُمِّ إقَامَةً لِلْأُمِّ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ اتِّصَالُ هَذِهِ بِالْأُمِّ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ وَاتِّصَالُ الْأُخْرَى بِالْأُمِّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَاسْتِحْقَاقُ الْعُصُوبَةِ بِالْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ لَهَا. فَإِنْ تَرَكَ أَبَ أُمِّ أَبِي الْأَبِ وَأَبَ أَبِ أُمِّ الْأَبِ فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ أُمِّ أَبِ الْأَبِ؛ لِأَنَّكَ إذَا أَسْقَطْت مِنْ نَسَبِهِ بَطْنًا يَبْقَى أُمُّ أَبِ الْأَبِ وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَإِذَا أَسْقَطْت مِنْ نَسَبِ الْآخَرِ بَطْنًا يَبْقَى أَبُ أُمِّ الْأَبِ، وَهُوَ جَدٌّ فَاسِدٌ. وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْأَبَ الْمُدْلَى بِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ، ثُمَّ اتِّصَالُ أَبِ أُمِّ الْأَبِ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَاتِّصَالُ الْآخَرِ بِهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا ثُلُثَاهُ لِأَبِ أُمِّ أَبِ الْأَبِ وَثُلُثُهُ لِأَبِ أَبِ أُمِّ الْأَبِ اعْتِبَارًا لِأَوَّلِ مَنْ يَقَعُ بِهِ الْخِلَافُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ الثُّلُثَانِ لِأُمِّ أُمِّ أَبِ الْأُمِّ وَالثُّلُثُ لِأُمِّ أَبِ أُمِّ الْأُمِّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 26 فَأَمَّا بَيَانُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ أَبَ الْأُمِّ وَمَعَهُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْخَالُ وَالْخَالَةُ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ الْأُمِّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ أَبَ الْأُمِّ اتِّصَالُهُ بِالْأُمِّ بِالْأُبُوَّةِ وَاتِّصَالُ الْخَالَةِ بِالْأُمِّ بِالْأُخْتِيَّةِ وَاتِّصَالُ الْخَالِ بِالْأُخُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ تُقَدَّمُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْأُخُوَّةِ، وَلِأَنَّ الْخَالَةَ أَوْ الْخَالَ يَتَّصِلَانِ بِالْمَيِّتِ بِأَبِ الْأُمِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَتَّصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِهِ لَا يُزَاحِمُهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ أَبِ الْأُمِّ الْعَمُّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّةِ فِي دَرَجَةِ الْخَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَالَةِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْعَمَّةِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ فَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبِ الْأُمِّ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَمَّةِ فَإِنْ تَرَكَ أَبَ أَبِ الْأُمِّ وَمَعَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ فَعِنْدَنَا الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ إذَا كَانَ مَعَ أَبِ أَبِ الْأُمِّ الْعَمَّةُ فَالْعَمَّةُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْخَالَةُ فَعَلَى قِيَاسِ أَبِي بَكْرٍ أَبُو أَبِ الْأُمِّ أَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ؛ لِأَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِأَبِ الْأُمِّ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ مَعَ الْأُخْتِ وَقَالَ عِيسَى الْعَمَّةُ أَوْلَى مِنْ أَبِ أَبِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَلِأَنَّ قَرَابَتَهَا قَرَابَةُ الْأَبِ، وَفِي الْعُصُوبَةِ تُقَدَّمُ قَرَابَةُ الْأَبِ، فَأَمَّا الْخَالَةُ إنْ كَانَتْ مَعَ أَبِ أَبِ الْأُمِّ فَأَبُ أَبِ الْأُمِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّا نُقِيمُ الْأُمَّ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَإِنَّ اتِّصَالَهُمَا جَمِيعًا بِالْمَيِّتِ بِالْأُمِّ، ثُمَّ أَبُ الْأَبِ فِي الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأُخْتِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ فَلِهَذَا قُدِّمَ أَبُو أَبِ الْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْحَرْقَى وَالْغَرْقَى] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ بِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْيَمَامَةِ حِينَ بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ لِقِسْمَةِ مِيرَاثِهِمْ وَبِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي الَّذِينَ هَلَكُوا فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ حِينَ بَعَثَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقِسْمَةِ مِيرَاثِهِمْ وَبِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْحَرَّةِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى بِهِ فِي قَتْلَى الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 27 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرِثُ مِنْ بَعْضٍ إلَّا فِيمَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ صَاحِبِهِ مَعْلُومٌ وَسَبَبَ الْحِرْمَانِ مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا حَيَاتَهُ بِيَقِينٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِيَقِينٍ آخَرَ وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ بِالشَّكِّ إلَّا فِيمَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّا حِينَ أَعْطَيْنَا أَحَدَهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ فِيمَا وَرِثَ مِنْ صَاحِبِهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِيمَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ كَثِيرٌ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ، فَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقِينًا وَالِاسْتِحْقَاقُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ؛ لِأَنَّ فِي الْفِقْهِ أَصْلٌ كَثِيرٌ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَلَا يُعْلَمُ هَذَا يَقِينًا، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ وَلَكِنَّ هَذَا الْبَقَاءَ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْمُزِيلِ لَا لِوُجُودِ الْمُبْقِي فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي بَقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ يُجْعَلُ ثَابِتًا فِي نَفْيِ التَّوْرِيثِ عَنْهُ وَلَا يُجْعَلُ ثَابِتًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَرِثُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَرِّيَ فَإِذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فِي الْبَعْضِ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ فِي الْكُلِّ وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَسَبَبِ الْحِرْمَانِ وَالتَّرَدُّدِ فِيمَا بَيْنَ الْأَشْخَاصِ كَطَلَاقِ الْمُتَّهَمِ فِي إحْدَى نِسَائِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَإِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ لِبَعْضِهِنَّ مَعْلُومٌ، وَهُوَ النِّكَاحُ وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ لِبَعْضِهِنَّ مَعْلُومٌ، وَهُوَ عَدَمُ النِّكَاحِ فَتُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُنَّ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ وَلَا تَيَقُّنَ هُنَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ هُنَا مَجْهُولٌ وَاعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ فِي إحْدَى الْجَانِبَيْنِ أَمَّا فِي جَانِبِ الْمَقْضِيِّ لَهُ أَوْ فِي جَانِبِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا عِنْدَ وُقُوعِ الْجَهَالَةِ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ أَصْلًا، ثُمَّ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إسْنَادَ مَوْتِ كُلِّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 28 وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ إضَافَةُ مَوْتِ الْآخَرِ إلَيْهِ وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ تَارِيخِ بَيْنَ الْمُوَرِّثَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا لِتَحَقُّقِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ غَرِقَا وَتَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنَةً فَمِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِابْنَتِهِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَالِابْنُ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَا أَوْ احْتَرَقَا أَوْ تَرَكَ الْأَبُ أَبًا وَابْنَةً وَامْرَأَةً وَلَمْ يَتْرُكْ الِابْنُ أَحَدًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ فَنَقُولُ أَمَّا مِيرَاثُ الْأَبِ فَلِزَوْجَتِهِ مِنْهُ الثُّمُنُ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. وَأَمَّا مِيرَاثُ الِابْنِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ أُمَّ هَذَا الِابْنِ فَإِنَّمَا تَرَكَ الِابْنُ أُمًّا وَجَدًّا وَأُخْتًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَرْقَى، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي بَابِ الْجَدِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ أُمَّ الِابْنِ فَإِنَّمَا تَرَكَ الِابْنُ جَدًّا وَأُخْتًا فَعَلَى قَوْلِ الصِّدِّيقِ مِيرَاثُهُ لِلْجَدِّ، وَعِنْدَ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ بِالْمُقَاسَمَةِ أَثْلَاثًا فَإِنْ تَرَكَ الِابْنُ بِنْتًا فَنَقُولُ أَمَّا مِيرَاثُ الْأَبِ فَالْأَبُ إنَّمَا تَرَكَ فِي الْحَاصِلِ امْرَأَةً وَابْنَةَ ابْنٍ وَأَبَا فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ بِالْفَرْضِ وَالْعُصُوبَةِ. وَأَمَّا مِيرَاثُ الِابْنِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ أُمَّ الِابْنِ فَإِنَّمَا تَرَكَ ابْنَةً وَأُمًّا وَجَدًّا وَأُخْتًا فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ فِي قَوْلِ الصِّدِّيقِ، وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ لِلْجَدِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ، وَفِي قَوْلِ زَيْدٍ الْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ بِالْمُقَاسَمَةِ أَثْلَاثًا، وَفِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ فَإِنْ غَرِقَ رَجُلٌ وَابْنَتُهُ وَتَرَكَ الرَّجُلُ أَبًا وَأُخْتًا وَامْرَأَةً وَتَرَكَتْ الِابْنَةُ زَوْجًا فَنَقُولُ أَمَّا مِيرَاثُ الْأَبِ فَلِامْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ. وَأَمَّا مِيرَاثُ الِابْنَةِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ أُمَّهَا فَإِنَّمَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَجَدًّا وَأُخْتًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهَا فَإِنَّمَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا وَجَدًّا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ فِي قَوْلِ الصِّدِّيقِ، وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْمُقَاسَمَةِ أَثْلَاثًا وَأَمَّا بَيَانُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْقَى وَالْغَرْقَى فَنَقُولُ أَخَوَانِ غَرِقَا وَتَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمًّا وَابْنَةً وَمَوْلَى وَتَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعِينَ دِينَارًا فَتَرِكَةُ الْأَكْبَرِ مِنْهُمَا لِلْأُمِّ السُّدُسُ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَلِلِابْنَةِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِينَارًا وَلِأَخِيهِ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ. وَكَذَلِكَ يُقْسَمُ تَرِكَةُ الْأَصْغَرِ، ثُمَّ بَقِيَ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُونَ دِينَارًا، وَهُوَ مَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَلِأُمِّهِ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى بِالْعُصُوبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَرِثُ مِنْ صَاحِبِهِ مِمَّا وَرِثَ صَاحِبُهُ مِنْهُ، وَهَذَا بَيَانُ التَّخْرِيجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 29 [بَابُ مَوَارِيثِ أَهْلِ الْكُفْرِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَارَثُ بِمِثْلِهَا الْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جِهَاتٌ لِلْإِرْثِ لَا يَرِثُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ نِكَاحٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْكِحَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ نَحْوَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَنِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ آخَرَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي التَّوَارُثِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَقَالَ زُفَرُ: لَا يَتَوَارَثُونَ بِهِمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَتَوَارَثُونَ بِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَتَوَارَثُونَ بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا يَتَوَارَثُونَ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ إذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَفِي الْإِرْثِ نَوْعُ وِلَايَةٍ لِلْوَارِثِ عَلَى الْمُوَرِّثِ فَلِعُلُوِّ حَالِ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَتَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ يُسْتَحَقُّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَارَةً وَبِالسَّبَبِ الْخَاصِّ أُخْرَى، ثُمَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْمُرْتَدُّ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِحَالٍ وَالْمُرْتَدُّ كَافِرٌ فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ» يَعْنِي يَزِيدُ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْإِرْثِ مِنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ قَبْلَ أَنْ يَسْلَمَ فَلَوْ صَارَ بَعْدَ إسْلَامِهِ مَحْرُومًا مِنْ ذَلِكَ لِنَقْصِ إسْلَامِهِ مِنْ حَقِّهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] هَذَا بَيَانُ نَفْيِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِرْثَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْإِرْثِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مَالِهِ مِلْكًا وَيَدًا وَتَصَرُّفًا وَمَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبْقَى الْوِلَايَةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً، فَقَالَ {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 30 فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِرْثَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَالسَّبَبُ الْخَاصُّ كَمَا لَا يُوجِبُ الْوِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يُثْبِتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ يَعْنِي وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَبِهِ فَارَقَ التَّوْرِيثَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ فَإِنَّ الْأَوَّلِيَّةَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ كَوِلَايَةِ الشَّهَادَةِ وَالسَّلْطَنَةِ وَلَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ التَّوْرِيثُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَالْإِرْثُ لِلْمُسْلَمِ مِنْهُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ إسْلَامِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ كَسْبُ إسْلَامِهِ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ كَسْبُ الرِّدَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُ هُوَ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِاسْتِنَادِ فِي جَانِبِهِ أَوْ لَا يَرِثُ هُوَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى رِدَّتِهِ كَمَا لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ الْمَقْتُولِ شَيْئًا، ثُمَّ الْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ فَيَرِثُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَرِثُ هُوَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ دُونَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» الْعُلُوُّ مِنْ حَيْثُ الْحُجَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ النُّصْرَةَ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ قُلْنَا عِنْدَنَا نَفْيُ التَّوْرِيثِ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ خَبِيثٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُجْعَلَ الْمُسْلِمُ خَلَفًا لَهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا النُّقْصَانُ مُحَالًا بِهِ عَلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِ كَالزَّوْجِ إذَا أَسْلَمَ وَامْرَأَتُهُ مَجُوسِيَّةٌ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَفْرِشَهَا الْمُسْلِمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ إسْلَامُهُ مُبْطِلًا مِلْكَهُ، ثُمَّ أَهْلُ الْكُفْرِ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ فَالْيَهُودِيُّ يَرِثُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ مِنْ الْمَجُوسِيِّ وَالْمَجُوسِيُّ مِنْهُمَا عِنْدنَا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الِاعْتِقَادِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَرِثُهُمَا الْمَجُوسِيُّ وَلَا يَرِثَانِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ شَيْئًا فَمَنْ قَالَ لَا يَتَوَارَثُونَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ» وَهُمْ أَهْلُ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} [البقرة: 62]، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى بَعْضِهِ فَكَمَا أَنَّ عَطْفَ الْيَهُودِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ عَطْفُ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ لَا تَرْضَى إلَّا بِأَنْ يَتْبَعَ الْيَهُودِيَّةَ مَعَهُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مِلَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَنَّ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْإِنْجِيلِ وَالْيَهُودِ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ فَكَانَ مِلَّةُ كُلِّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 31 وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مِلَّةِ الْآخَرِ كَالْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّصَارَى فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالْقُرْآنِ فَكَانَتْ مِلَّتُهُمْ غَيْرَ مِلَّةِ النَّصَارَى وَبِهِ فَارَقُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْمِلَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ النَّصَارَى كالنسطورية والملكانية وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْيَهُودِ أَيْضًا كَالْفَرْعِيَّةِ وَالسَّامِرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقُوا عَلَى دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالتَّوْرَاةِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ، وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ الِاثْنَيْنِ يَزْدَان وَأُهْرِمْنَ وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَلَا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَلَا يُوَافِقُهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا أَهْلَ مِلَّتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حِلُّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدِّينَ دِينَيْنِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وَجَعَلَ النَّاسَ فَرِيقَيْنِ فَقَالَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَهُمْ الْكُفَّارُ بِأَجْمَعِهِمْ وَجَعَلَ الْخَصْمَ خَصْمَيْنِ، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] يَعْنِي الْكُفَّارَ أَجْمَعَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَهْلُ مِلَلٍ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَلَكِنْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالْقُرْآنِ وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ بِأَجْمَعِهِمْ وَبِهِ كَفَرُوا فَكَانُوا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْبُدُ مِنْهُمْ صَنَمًا وَمَنْ يَعْبُدُ صَنَمًا آخَرَ وَيُكَفِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ بِأَجْمَعِهِمْ وَكَانُوا فِي هَذَا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» إشَارَةً إلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْمِلَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فَفِي تَنْصِيصِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِّ فِي مَوْضِعِ التَّفْسِيرِ بَيَانٌ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَحِلُّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ لَا يُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهَا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اسْتَوَوْا فِي حُكْمِ حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِ الْمِلَّةِ بَيْنَهُمْ فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَجُوسِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ حِلِّ الذَّبِيحَةِ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَالْكِتَابِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانُوا يُضْمِرُونَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الشِّرْكِ فَلِتَحَقُّقِ وُجُودِ الشَّرْطِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 32 فِي حَقِّهِمْ حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَهُوَ شَرْطُ الْحِلِّ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَاتَ لَا يَرِثُهُ قَرَابَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ هُوَ قَرِيبَهُ الْحَرْبِيَّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِتَبَايُنِ الدَّارِ تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ تَنْقَطِعُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الْوِلَايَةُ فَيَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا حَقِيقَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُتْرَكَ لِيَسْتَدِيمَ الْمَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى إذَا مَاتَ يُوقَفُ مَالُهُ حَتَّى يَأْتِيَ دَارَنَا فَيَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ فَبَعْدَ مَوْتِهِ يَبْقَى حُكْمُ الْأَمَانِ فِي مَالِهِ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ حَقِّهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صَرْفَ مَالِهِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ. بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَرِثُونَهُ شَيْئًا وَمَالُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ يُصْرَفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ إذَا مَاتَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ إذَا اخْتَلَفَتْ مَنَعَتُهُمْ وَمِلْكُهُمْ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَحْكَامٍ فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمِلْكِ لَا تَتَبَايَنُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ يَجْمَعُهُمْ، فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ وَلَكِنْ دَارُ قَهْرٍ فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمِلْكِ تَخْتَلِفُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبِتَبَايُنِ الدَّارِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ. وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِينَا فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي مَنَعَةِ مِلْكِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا بِأَمَانٍ بِخِلَافِ مَا إذَا صَارُوا ذِمَّةً فَإِنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَنَعَتُهُمْ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ الْمَجُوسِ] (قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) فِي الْمَجُوسِيِّ إذَا كَانَ لَهُ قَرَابَتَانِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 33 بِهِمَا وَيَكُونُ اجْتِمَاعُ الْقَرَابَتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَافْتِرَاقِهِمَا فِي شَخْصَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَا يَرِثُ الْوَاحِدُ بِالْقَرَابَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَرِثُ بِالْأَقْرَبِ مِنْهُمَا، وَهَكَذَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ زَيْدٍ فَإِنَّ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ يُرْوَى عَنْ أَبِيهِ مِثْلُ هَذَا وَالْفَرْضِيُّونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَصِحُّ عَنْ زَيْدٍ، وَقَدْ حُفِظَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَعْمَامٍ أَحَدُهُمْ أَخٌ لِأُمٍّ أَنَّ لِلْأَخِ لِأُمِّ السُّدُسَ بِالْأُخُوَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِالْعُمُومَةِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي حَقِّ الْمَجُوسِيِّ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمَجُوسِيِّ ثَلَاثَةُ بَنِينَ لِلِابْنِ الْأَكْبَرِ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، ثُمَّ مَاتَ الْأَكْبَرُ فَتَزَوَّجَهَا الْمَجُوسِيُّ فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ الْأَكْبَرُ فَقَدْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَعْمَامٍ أَحَدُهُمْ أَخٌ لِأُمٍّ، وَقَدْ وَرَّثَهُ زَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالسَّبَبَيْنِ جَمِيعًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّمَا يَرِثُ أَوْفَرَ النَّصِيبَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا يَرِثُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِثْلُهُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ السَّبَبِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُهُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ اخْتَارَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ تَوْرِيثَهُ بِالسَّبَبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ شَخْصٌ وَاحِدٌ فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ لَا تَرِثُ فَرْضَيْنِ بِالْأُخْتِيَّةِ لِأُمٍّ وَبِالْأُخْتِيَّةِ لِأَبٍ. وَكَذَلِكَ الْجَدَّةُ لَا تَرِثُ فَرْضَيْنِ إنْ كَانَتْ جَدَّةً مِنْ جِهَتَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَثْبُتُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَحْقِيقِ السَّبَبَيْنِ فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَوْ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْفَرْضِيَّةِ وَالْعُصُوبَةِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ كَالْأَبِ مَعَ الِابْنَةِ يَكُونُ صَاحِبَ فَرْضٍ وَعَصَبَةً، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ صَاحِبِ فَرِيضَةٍ فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِالسَّبَبِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ فَرِيضَتُهُ نَصًّا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ حَاجِبًا نَفْسَهُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ ابْنَتَهُ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَلِلْمَجُوسِيِّ ابْنَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ، ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ فَقَدْ مَاتَ عَنْ أُمٍّ هِيَ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ، وَعَنْ أُخْتٍ أُخْرَى لِأَبٍ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا السَّبَبَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ لَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ بِالْفَرِيضَةِ فَتَكُونُ حَاجِبَةً نَفْسَهَا مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَوْرِيثُهُ بِالسَّبَبَيْنِ رَجَّحْنَا الْأَقْرَبَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَنْبَنِي عَلَى الْقُرْبِ فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْ الْأَسْبَابِ عَلَى أَبْعَدِهَا وَمَنْ قَالَ: يَرِثُ أَوْفَرَ النَّصِيبَيْنِ قَالَ: الْأَقَلَّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ وَمَنْ قَالَ: يَرِثُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ ثَابِتٌ عَلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 34 الْإِطْلَاقِ فِي حَقِّهِمْ، وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُعَارِضُهُ السَّبَبُ الَّذِي لَا يَكُونُ ثَابِتًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْكِحَةِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ لِتِلْكَ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ بِاعْتِبَارِهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْبِنْتِيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ اجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَفَرَّقَ ذَلِكَ فِي شَخْصَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا وَأَخًا لِأُمٍّ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِالسَّبَبَيْنِ جَمِيعًا وَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ الَّذِي قَالُوا فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعُصُوبَةِ يَزِيدُ فِي فَرِيضَةِ شَخْصٍ هُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ كَمَا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْفَرْضِيَّةِ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْعُصُوبَةِ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْفَرْضِيَّةِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ لِمَا اجْتَمَعَا فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ فَهُنَاكَ مَا اجْتَمَعَ سَبَبَانِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْأُخْتِيَّةُ وَبِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَتَقَوَّى هَذَا السَّبَبُ وَلَا يَتَعَدَّدُ. وَكَذَلِكَ الْجَدَّةُ فَالِاسْتِحْقَاقُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهُوَ أَنَّهَا جَدَّةٌ لَا يَزْدَادُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ كَانَتْ جَدَّةً مِنْ جِهَتَيْنِ، فَأَمَّا هُنَا الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبِنْتِيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَالْأُمِّيَّةِ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُخْتَلِفَةٌ سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ افْتَرَقَتْ فِي أَشْخَاصٍ وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ شَخْصًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِاتِّحَادِ الشَّخْصِ لِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَأَمَّا الْأَنْكِحَةُ فَنَقُولُ إنَّ تِلْكَ الْأَنْكِحَةَ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْأَنْسَابِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَنْقَطِعَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ بَلْ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ مُطْلَقًا يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ وَنِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا النَّسَبُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمِيرَاثَ سَوَاءٌ كَانَ نَسَبُهُ فِي الْأَصْلِ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا (أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّسَبَ إذَا ثَبَتَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّوَارُثَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ لِتِلْكَ الْأَنْكِحَةِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِمْ وَاعْتِقَادُهُمْ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَكُونُ دَافِعًا عَنْهُمْ لَا فِيمَا يَكُونُ مُلْزَمًا بِغَيْرِهِمْ وَفِي الْإِرْثِ الِاسْتِحْقَاقُ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَاعْتِقَادُهُمْ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ بَقَاءِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ مَجُوسِيٌّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 35 مَاتَ عَنْ أُمٍّ وَابْنَةٍ هِيَ أُخْتُهُ لِأُمٍّ وَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ فَقَدْ مَاتَ عَنْ أُمٍّ هِيَ زَوْجَتُهُ، وَعَنْ بِنْتٍ هِيَ أُخْتُهُ لِأُمِّهِ فَلَا تَرِثُ الْأُمُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا وَلَا الِابْنَةُ بِالْأُخْتِيَّةِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ لِلْأُمِّ لَا تَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ وَلَكِنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ فَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا وَلَوْ أَنَّ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ ابْنًا وَابْنَةً، ثُمَّ فَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ابْنُهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ فَقَدْ مَاتَ عَنْ أُمٍّ وَعَنْ ابْنٍ وَابْنَةِ ابْنٍ فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ بِاعْتِبَارِ الْأُمِّيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنَةِ الِابْنِ فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ فَإِنَّمَا مَاتَ الِابْنُ عَنْ زَوْجَةٍ هِيَ جَدَّتُهُ أُمُّ ابْنِهِ وَهِيَ أُمُّهُ وَعَنْ ابْنَةٍ هِيَ أُخْتُهُ لِأُمِّهِ، وَعَنْ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَا بِكَوْنِهَا جَدَّةً؛ لِأَنَّ الْجَدَّةَ لَا تَرِثُ مَعَ الْأُمِّ وَلَكِنْ لَهَا السُّدُسُ بِالْأُمِّيَّةِ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ بِالْبِنْتِيَّةِ وَلَا شَيْءَ لَهَا بِالْأُخْتِيَّةِ لِأُمٍّ وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ بِالْعُصُوبَةِ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ الِابْنُ وَلَكِنْ مَاتَتْ الِابْنَةُ الْكُبْرَى فَقَدْ مَاتَتْ عَنْ أُمٍّ هِيَ جَدَّتُهَا أُمُّ أَبِيهَا، وَعَنْ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَعَنْ ابْنَةِ أَخٍ هِيَ أُخْتُهَا لِأُمِّهَا فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ بِالْأُمِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَهُمَا يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَلِابْنَةِ الْأَخِ السُّدُسُ بِالْأُخْتِيَّةِ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِالْعُصُوبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الِابْنَةُ الصُّغْرَى هِيَ الَّتِي مَاتَتْ فَإِنَّمَا مَاتَتْ عَنْ أُمٍّ هِيَ جَدَّتُهَا أُمُّ أَبِيهَا، وَعَنْ عَمَّةٍ هِيَ أُخْتُهَا لِأُمِّهَا، وَعَنْ أَبٍ هُوَ أَخُوهَا لِأُمِّهَا فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ مَعَهَا أَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا مَعَ الْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَكِنَّ الْمَالَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلذَّكَرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ابْنُ الِابْنِ وَلَا لِلْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا ابْنَةُ الِابْنِ. مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَتَيْنِ فَتَزَوَّجَ إحْدَى ابْنَتَيْهِ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَةً، ثُمَّ مَاتَ الْمَجُوسِيُّ فَقَدْ مَاتَ عَنْ أُمٍّ هِيَ زَوْجَتُهُ، وَعَنْ ثَلَاثَةِ بَنَاتٍ إحْدَاهُنَّ زَوْجَتُهُ وَابْنَتَانِ هُمَا أُخْتَاهُ لِأُمِّهِ وَإِحْدَاهُنَّ ابْنَةُ ابْنَتِهِ فَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَهَا السُّدُسُ بِالْأُمِّيَّةِ وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ بِالْبِنْتِيَّةِ وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ مِنْهُنَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَا لِلْأُخْتَيْنِ بِالْأُخْتِيَّةِ وَلَا لِلثَّالِثَةِ بِكَوْنِهَا ابْنَةُ ابْنَتِهِ وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ لِلْعَصَبَةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْأُمِّ وَالْبَنَاتِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِنَّ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ مَاتَتْ عَنْ ابْنَتَيْ صُلْبٍ وَابْنَةِ ابْنٍ فَيَكُونُ الْمَالُ لِلِابْنَتَيْنِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا الِابْنَةُ الَّتِي هِيَ زَوْجَتُهُ فَقَدْ مَاتَتْ عَنْ ابْنَةٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالْعُصُوبَةِ، وَإِنْ لَمْ تَمُتْ هَذِهِ وَلَكِنْ مَاتَتْ الِابْنَةُ السُّفْلَى فَإِنَّهَا مَاتَتْ عَنْ أُمٍّ هِيَ أُخْتُهَا لِأَبِيهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 36 وَعَنْ أُخْتٍ لِأَبٍ أَيْضًا فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ بِالْأُمِّيَّةِ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالْأُخْتِيَّةِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَتَيْنِ فَمَاتَ الْمَجُوسِيُّ، ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ فَإِنَّمَا مَاتَتْ عَنْ أُمٍّ هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ، وَعَنْ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَيْضًا فَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ بِالْأُمِّيَّةِ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ بِالْأُخْتِيَّةِ؛ لِأَنَّا لَمَّا اعْتَبَرْنَا الْأُخْتِيَّةَ لِأَبٍ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْأُمِّ لِاسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ بِهَا صَارَ ذَلِكَ كَالْمَوْجُودِ فِي شَخْصٍ آخَرَ فَإِنَّمَا تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ وَهُمَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ بِالْأُخْتِيَّةِ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ بِالْأُخْتِيَّةِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْأُخْتِيَّةِ لِأَبٍ مَوْجُودَةٌ فِي الْأُمِّ وَهِيَ لَا تَكُونُ حَاجِبَةً نَفْسَهَا فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقَرَابَةُ الَّتِي فِيهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلْحَجْبِ، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا بَقِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ صِفَةَ الْأُخْتِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا لَمَّا اُعْتُبِرَتْ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لِلْحَجْبِ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي شَخْصٍ آخَرَ وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَطَرِيقُ تَخْرِيجِهِ مَا بَيَّنَّا [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ] (فَصْلٌ) فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ الْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ تَرِثُ زَوْجَتُهُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً وَمَاتَ الْمُرْتَدُّ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ أَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْفَارِّ إنَّمَا تَرِثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ ارْتَدَّتْ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ مِيرَاثٌ كَمَا لَا يَرِثُهُ أَقَارِبُهُ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَرِثُ أَحَدًا، وَلِأَنَّهُ جَانٍ بِالرِّدَّةِ وَهَذِهِ صِلَةُ شَرْعِيَّةٌ فَالْجَانِي عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ يُحْرَمُ هَذِهِ الصِّلَةِ عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَالْقَاتِلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُرْتَدُّ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، وَإِنْ بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّهُ إنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمَ ارْتَدَّ فَلَهُ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَكَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا بِرِدَّةِ الْأَبَوَيْنِ مَا بَقِيَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ تَبَعِيَّتِهِ الدَّارَ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى، وَإِذَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمَ ارْتَدَّ فَلَا مِيرَاثَ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ مَا بَعْدَ رِدَّتِهِمَا، وَإِذَا عَلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الْمُرْتَدِّ ابْتِدَاءً يَكُونُ مُرْتَدًّا مَعَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 37 الدَّارِ لَا يُعَارِضُ الْأَبَوَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا سُبِيَ وَمَعَهُ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً وَلَا يَكُونُ الدَّارُ مُعَارِضًا لِلْأَبِ فِي الِابْتِدَاءِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لِلْوَلَدِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَلَدُ مُرْتَدًّا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يُورَثُ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ يَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَسْبُ الرِّدَّةِ يُورَثُ عَنْهُ كَكَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ لِبَيْتِ الْمَالِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ فَيْءٌ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَتَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَلَاءِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَلَاءَ نَوْعَانِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ فَصُورَةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَيَصِيرَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُعْتَقِ بِالْوَلَاءِ وَيُسَمَّى هَذَا وَلَاءَ النِّعْمَةِ وَوَلَاءَ الْعَتَاقَةِ، وَبِهَذَا الْوَلَاءِ يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى شَيْئًا وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِوَجْهِ السُّلْطَانِ أَوْ أَعْتَقَهُ سَائِبَةً أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي إنْ أَعْتَقَهُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ أَوْ بِطَرِيقِ الْكِتَابَةِ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ أَعْتَقَهُ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَعْنِي مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ مِنْ الْمُعْتِقِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الصِّلَةَ مَنْ يُعْتِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْمُعْتِقُ لِوَجْهِ السُّلْطَان جَانٍ فِي قَصْدِهِ فَيُحْرَمُ هَذِهِ الصِّلَةَ وَاَلَّذِي يُصَرِّحُ بِنَفْيِ الْوِلَايَةِ يَكُونُ مُرَادُهُ لِهَذِهِ الصِّلَةِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَنَظِيرُهُ الرَّجْعَةُ عَقِيبَ الطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ ثُبُوتُهُ شَرْعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ التَّصْرِيحُ بِالْحُرْمَةِ وَالْبَيْنُونَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ قَصْدِهِ وَشَرْطِهِ، وَهَذَا الْإِعْتَاقُ وَالْحُكْمُ يَتْبَعُ السَّبَبَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ الْإِعْتَاقُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» «وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَبْدٍ فَسَاوَمَهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِآخَرَ فَسَاوَمَهُ فَاشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ أَخُوكَ وَمَوْلَاكَ». وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَعْتَقَهُ سَائِبَةً، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتِقَ مُسَبَّبٌ لِإِحْيَاءِ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقَّ تَلَفٌ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ تُثْبِتُ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي بِهَا امْتَازَ الْآدَمِيُّ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَكَانَ الْمُعْتِقُ سَبَبًا لِإِحْيَاءِ الْمُعْتَقِ كَمَا أَنَّ الْأَب سَبَبٌ لِإِيجَادِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 38 الْوَلَدِ فَكَمَا أَنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى أَبِيهِ بِالنَّسَبِ وَالْمُعْتَقَ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] الْآيَةَ أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْكَافِرَ فِي مَعْنَى الْمَيِّتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] فَبِالْإِسْلَامِ يَحْيَا حُكْمًا وَالرَّقِيقُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَبِالْعِتْقِ يَحْيَا حُكْمًا فَالْمُسَبَّبُ لِإِحْيَائِهِ يَكُونُ مُنْعِمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ الْوَلَاءُ لَا يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي قُلْنَا لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا، ثُمَّ الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لَا يُورَثُ عَنْهُ وَلَكِنْ يُورَثُ بِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ: الْوَلَاءُ جُزْءٌ مِنْ الْمِلْكِ يُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْمِلْكِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ شَيْءٌ سِوَى الْمِلْكِ، وَالْإِعْتَاقُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُثْبِتًا شَيْئًا آخَرَ سِوَاهُ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا بَعْضَ الْمِلْكِ غَيْرَ مُبْطِلٍ لِلْبَعْضِ فَمَا يَبْقَى يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْمِلْكِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَالنَّسَبُ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، ثُمَّ الْإِعْتَاقُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَمَعَ إبْطَالِ الْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْمِلْكِ وَلَكِنَّهُ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إحْيَائِهِ حُكْمًا فَيُعْقِبُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِأَكْبَرِ بَنِي الْمُعْتِقِ بَعْدَهُ وَقَالَ الْأَكْبَرُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي الذَّبِّ عَنْ الْعَشِيرَةِ «وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ الْأَكْبَرَ بِقَوْلِهِ الْكُبْرُ» فَيُقَدَّمُ أَكْبَرُ الْبَنِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ لِهَذَا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْبَرِ الْأَقْرَبُ يَعْنِي أَنَّ أَقْرَبَ الْبَنِينَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ حَتَّى إذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ عَنْ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ خَاصَّةً دُونَ ابْنِهِ فِي قَوْلٍ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ عَنْ ابْنِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنِ ابْنٍ فَالْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ لِابْنِ الِابْنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ. فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتَقُ عَنْ أَبٍ وَابْنٍ فَمِيرَاثُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ خَاصَّةً دُونَ أَبِيهِ فِي قَوْلِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ بِالْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ فِي حُكْمِ الْعُصُوبَةِ كَالِابْنِ فَإِنَّهُ ذَكَرٌ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَالِابْنِ إلَّا أَنَّ الِابْنَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ شَرْعًا فِي مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنْ مِيرَاثِهِ لَوْ قَدَّمْنَا الِابْنَ بِالْعُصُوبَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْفَرْضِيَّةِ فَأُولَى الْوُجُوهِ أَنْ يَجْعَلَ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِ كَمِيرَاثِ الْمُعْتِقِ وَيَجْعَلَ كَأَنَّ الْمُعْتَقَ الَّذِي اسْتَحَقَّ ذَلِكَ، ثُمَّ يَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ أَبُوهُ وَابْنُهُ فَيَكُونُ مَقْسُومًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 39 بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْعُصُوبَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُبُوَّةِ فَمَا كَانَ الْأَبُ مَعَ الِابْنِ فِي حُكْمِ الْعُصُوبَةِ إلَّا نَظِيرُ الْأَخِ مَعَ الْأَبِ فَإِنَّ الْأُخُوَّةَ لَمَّا كَانَتْ دُونَ الْأُبُوَّةِ فِي الْعَصَبَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ شَيْءٌ مَعَ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَمَّا كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخِ لِأَبٍ شَيْءٌ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُعْتَقِ فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَبُ السُّدُسَ مِنْهُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَبِالْفَرْضِيَّةِ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَقَ إذَا مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَابْنَةٍ لَا يَكُونُ لِلِابْنَةِ مِنْ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ عَصَبَةً تَبَعًا لِلِابْنِ وَلَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ لِلتَّبَعِ مَعَ الْأَصْلِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِغَلَبَةِ الْأَصْلِ. فَإِنْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا فَهِيَ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ بِالْوَلَاءِ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهَا وَبَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ سَوَاءٌ فَإِنْ أَعْتَقَ مُعْتِقُهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَهِيَ تَسْتَحِقُّ مِنْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهَا مَا يَسْتَحِقُّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهَا بِالْوَلَاءِ كَالْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الثَّانِيَ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَيْهَا فَلِاتِّحَادِ سَبَبِ الْإِضَافَةِ جَعَلَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ أَبُوهَا عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهَا بِالْوَلَاءِ وَهِيَ تُنْسَبُ إلَى الْأَبِ بِالْعُصُوبَةِ لَا بِالْوَلَاءِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ السَّبَبُ لَمْ يَكُنْ مَوْلَى الْأَبِ مُضَافًا إلَيْهَا فَلَا تَكُونُ عَصَبَةً لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِ مُعْتَقِهِنَّ» إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ امْرَأَةٌ عَتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنًا هُوَ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهَا وَابْنَ عَمٍّ لَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِابْنِهَا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةً لَهَا وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ دُونَ الِابْنِ بِهِ قَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعْتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَتْ فَاخْتَصَمَ فِي وَلَاءِ مُعْتَقِهَا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرِ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَعْقِلُ جِنَايَتَهُ عَلَى مِيرَاثِهِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ مَوْلَى أُمِّي فَلِي مِيرَاثُهُ فَقَضَى عُمَرُ بِالْمِيرَاثِ لِلزُّبَيْرِ وَجَعَلَ عَقْلَ الْجِنَايَةِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ وَالِابْنُ مُقَدَّمٌ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ، فَأَمَّا عَقْلُ الْجِنَايَةِ فَبِالتَّنَاصُرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ يَتَعَاقَلُونَ بِالتَّنَاصُرِ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ وَلَا عُصُوبَةَ وَالتَّنَاصُرُ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا وَلِمَوْلَاهَا بِقَوْمِ أَبِيهَا لَا بِأَبِيهَا فَلِهَذَا كَانَ عَقْلُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمْ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اشْتَرَتْ عَبْدًا فَأَعْتَقَتْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ عَنْ ابْنَةٍ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمُعْتِقَةِ بِالْعُصُوبَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْتَقَتْ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 40 الْمُعْتَقُ عَنْ ابْنَةٍ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِابْنَتِهِ وَنِصْفًا لِابْنَةِ حَمْزَةَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ، وَعَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا فَإِنْ اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ أَبَاهَا فَعَتَقَ عَلَيْهَا اسْتَحَقَّتْ وَلَاءَهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُعْتِقَةً لَهُ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهَا الْمَالُ نِصْفُهُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَنِصْفُهُ بِالْعُصُوبَةِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا ابْنَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْمُشْتَرِيَةِ بِالْعُصُوبَةِ خَاصَّةً وَلَوْ جُنَّ الْأَبُ جُنُونًا مُطْبِقًا كَانَ لِلْمُشْتَرِيَةِ أَنْ تُزَوِّجَهُ بِوِلَايَةِ الْوَلَاءِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبْ الْمَسَائِلِ أَنْ يَثْبُتَ لِلِابْنَةِ عَلَى ابْنِهَا وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ. وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا لَهُ ابْنَتَانِ اشْتَرَيَا الْأَبَ فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ إنَّ إحْدَاهُمَا مَعَ الْأَبِ اشْتَرَيَا ابْنًا لِلْأَبِ فَعَتَقَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَابْنَتَيْنِ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْوَلَاءِ فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ أُخْتَيْنِ، وَعَنْ وَلَاءٍ ثَابِتٍ عَلَيْهِ لِشَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ، وَهُوَ الْأَبُ وَالْآخَرُ حَيٌّ فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي يَكُونُ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ لِلْمُشْتَرِيَةِ مَعَ الْأَبِ وَنِصْفُهُ لِلْأَبِ بِالْوَلَاءِ فَيَكُونُ بَيْنَ الِابْنَتَيْنِ نِصْفَانِ لِلْوَلَاءِ الثَّابِتِ لَهُمَا عَلَى الْأَبِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مُعْتَقِ مُعْتِقِهَا بِالْوَلَاءِ كَمَا تَرِثُ مُعْتَقَهَا فَيَكُونُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَكْسِرُ بِالْإِنْصَافِ مَرَّتَيْنِ فَإِذَا أَضْعَفَ ثَلَاثَةً مَرَّتَيْنِ يَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ لَهُمَا ثَمَانِيَةٌ بِالْأُخْتِيَّةِ وَلِلِابْنَةِ الْمُشْتَرِيَةِ سَهْمَانِ بِوَلَاءِ نَفْسِهَا وَسَهْمَانِ بِوَلَاءِ الْأَبِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثَ بَنَاتٍ اشْتَرَى بِنْتَانِ مِنْهُمَا أَبَاهُمَا، ثُمَّ إنَّ الْأَبَ مَعَ الثَّالِثَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِ الْأَبَ اشْتَرَيَا ابْنًا لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَقَدْ مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ، وَعَنْ وَلَاءٍ ثَابِتٍ عَلَيْهِ لِشَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ، وَهُوَ الْأَبُ وَالْآخَرُ حَيٌّ فَيَكُونُ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ الْوَلَاءِ نِصْفَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ، ثُمَّ نَصِيبُ الْأَبِ بَيْنَ الِابْنَتَيْنِ بِالْوَلَاءِ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ تِسْعَةً، ثُمَّ تُضَعِّفُ تِسْعَةً مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِكُلِّ ابْنَةٍ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْمُشْتَرِيَةِ نِصْفُ الْبَاقِي بِوَلَاءِ نَفْسِهَا وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَلِلَّتَيْنِ اشْتَرَيَا الْأَبَ النِّصْفُ الْبَاقِي، وَهُوَ سِتَّةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَحَدَ عَشَرَ وَلِلْأُخْرَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَاسْتَقَامَ فَإِنْ اشْتَرَى الْأَبُ مَعَ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ لَهُ وَمَعَ الِابْنَةِ الثَّالِثَةِ الْأَخُ فَعَتَقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَهُ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ وَعَنْ وَلَاءٍ ثَابِتٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 41 عَلَيْهِ لِأَشْخَاصٍ ثَلَاثَةٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ حَيَّانِ وَالثَّالِثُ، وَهُوَ الْأَبُ مَيِّتٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ بِالْأُخْتِيَّةِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُقْسَمُ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ اللَّتَيْنِ اشْتَرَيَا الْأَخَ ثُلُثُ هَذَا الْبَاقِي بِوَلَاءِ نَفْسِهَا وَثُلُثُ هَذَا الثُّلُثِ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ لِلْأَبِ نِصْفَيْنِ بِوَلَاءِ الْأَبِ فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَيْضًا لَهُنَّ ثُلُثَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا فَقُلْت الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْأَبِ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ لَهُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ فَإِنْ اشْتَرَى الِابْنَتَانِ أَبَاهُمَا، ثُمَّ أَبُ الْأَبِ مَعَ إحْدَاهُمَا وَالْأُخْرَى الَّتِي لَمْ تَشْتَرِ الْأَبَ اشْتَرَوْا أَخَاهَا لَهَا، ثُمَّ أَرْبَعَتُهُنَّ جَمِيعًا مَعَ الْأَبِ وَالْأَخِ اشْتَرَوْا أُمَّهُمْ وَهِيَ امْرَأَةُ الْأَبِ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (فَإِنْ قِيلَ) فَقَدْ مَاتَ عَنْ امْرَأَةٍ أَيْضًا قُلْت لَا كَذَلِكَ فَالنِّكَاحُ قَدْ فَسَدَ حِينَ مَلَكَ الْأَبُ جُزْءَ أُمِّهَا فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ أُمٍّ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ وَوَلَاءٍ ثَابِتٍ عَلَيْهِ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ حَيَّانِ وَوَاحِدٌ مَيِّتٌ فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ السُّدُسُ يَكُونُ بِالْوَلَاءِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ ابْنَةٍ ثُلُثَا ذَلِكَ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ لِلْأَخِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ حِصَّةُ وَلَاءِ الْأَبِ مِنْ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ وَتَقْسِيمُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ يُقْسَمُ أَثْلَاثًا وَثُلُثُهُ يَنْقَسِمُ نِصْفَيْنِ فَيَسْتَقِيمُ التَّخْرِيجُ مِنْهُ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَاتَتْ عَنْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ، وَعَنْ وَلَاءٍ ثَابِتٍ عَلَيْهَا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ أَحْيَاءٌ وَاثْنَانِ مَيِّتَانِ الْأَبُ وَالِابْنُ فَيَكُونُ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ يَنْقَسِمُ بِالْوَلَاءِ أَخْمَاسًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَخْمَاسُ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ خَمْسَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ خُمُسُ الثُّلُثِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الِابْنِ يَنْكَسِرُ أَثْلَاثًا بِالْوَلَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ فَتَضْرِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَنْقَسِمُ بِالْوَلَاءِ أَخْمَاسًا لِكُلِّ بِنْتٍ ثَلَاثَةٌ بِاعْتِبَارِ وَلَاءِ نَفْسِهَا وَثَلَاثَةٌ بِاعْتِبَارِ وَلَاءِ الِابْنِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا أَثْلَاثًا لِلْمُشْتَرِيَتَيْنِ لِلِابْنِ مَعَ الْأَبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَسَهْمٌ لِلْأَبِ بِوَلَاءِ الِابْنِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لَهُ بِوَلَاءِ الْأُمِّ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَتَيْنِ لِلْأَبِ نِصْفَيْنِ بِوَلَائِهِمَا عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ مَرَّةً عَشَرَةٌ وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً سَهْمَانِ فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلِلَّتِي اشْتَرَتْ الِابْنَ مَعَ هَذَا سَهْمٌ آخَرُ فَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلَّتِي لَمْ تَشْتَرِ الْأَبَ عَشَرَةٌ بِالنَّسَبِ وَثَلَاثَةٌ بِوَلَاءِ نَفْسِهَا وَسَهْمٌ بِوَلَاءِ الِابْنِ فَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ خَمْسَةً وَأَرْبَعَيْنِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 42 [فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ] (فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ جَائِزٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْقَرَابَاتِ وَلَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عِنْدَنَا هُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هُوَ بَاطِلٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدٍ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا فَإِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَسْأَلُهُ أَنْ يُعَاقِدَهُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ فَأَوَّهَ الرَّجُلُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَوَالَاهُ وَلَكِنْ إيتَاءٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ مِمَّنْ لَا وَارِثَ لَهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَإِنَّمَا يُصْرَفُ مَالُهُ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُوصَى لَهُ سَاوَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَتَرَجَّحَ بِإِيجَابِ الْمُوصَى لَهُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ الَّذِي عَاقَدَهُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ فَلَمَّا كَانَ إثْبَاتُ الِاسْمِ فِي الدِّيوَانِ سَبَبًا لِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ، وَإِذَا كَانَ يَتَحَمَّلُ بِهِ الْعَقْلَ يُورَثُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ، فَقَالَ: إنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ لَيْسَ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ فَيَبْقَى لِلْوَارِثِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ، وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ مُوَرِّثُهُ وَبِالْعَقْدِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ إلَّا أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مِلْكِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ هُنَا بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ بَاشَرَاهُ ابْتِدَاءً وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ وِرَاثَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي بَلْ هُوَ مِلْكٌ ثَبَتَ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا وَعَقْدُ الْمُوَالَاةِ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] يَعْنِي نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْمُرَادُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]. فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ النَّصِيبِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ إرْثًا عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِمَا جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] الْقَسَمَ بَلْ الْمُرَادُ الصَّفْقَةُ بِالْيَمِينِ فَإِنَّ الْعَادَةَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 43 أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِهِ إذَا عَاقَدَهُ وَيُسَمَّى الْعَقْدُ صَفْقَةً لِهَذَا، وَفِي حَدِيثِ «تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِينِي فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيَّ وَيُوَالِينِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ أَخُوكَ وَمَوْلَاكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ» يَعْنِي مَحْيَاهُ فِي تَحَمُّلِ عَقْلِ الْجِنَايَةِ عَنْهُ وَمَمَاتُهُ فِي الْإِرْثِ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمَوْرُوثَ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لِلْمَالِكِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْثِرُ قَرَابَتَهُ عَلَى الْأَجَانِبِ فِي هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْأَقْرَبَ عَلَى الْأَبْعَدِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ عَادَةً فَمَا دَامَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ فَقَدْ وُجِدَ النَّظَرُ مِنْ الشَّرْعِ لَهُ فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْقَرَابَةِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَعَقَدَ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ مَعَ إنْسَانٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ صَحِيحٌ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ لِغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَ الْخَصْمِ يَرْجِعُ كُلُّهُ إلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَإِنَّ إثْبَاتَ هَذِهِ الْخِلَافَةِ بِطَرِيقِ الْعَقْدِ قَصْدًا مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ تَثْبُتُ الْوِرَاثَةُ وَنَحْنُ نَقُولُ يُجْعَلُ هَذَا الْعَقْدُ قَائِمًا مَقَامَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْأَسْبَابِ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي قُلْنَا، ثُمَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ مَوْلَى لَهُ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَصِيرُ مَوْلَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَاقِدْهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَهُوَ أَخُوهُ وَمَوْلَاهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ، وَلِأَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَعْنَى الْحَيَاةِ حُكْمًا كَمَا فِي الْعِتْقِ فَكَمَا أَنَّ الْمُعْتِقَ يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَى الْمُعْتَقِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ إحْيَائِهِ فَكَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ إحْيَائِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ زِيَادَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ» فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِهِ لَا يَصِيرُ مَوْلَى لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِينِي فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيَّ وَيُوَالِينِي فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِهِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فَإِنَّ سَبَبَهُ الْإِعْتَاقُ، وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتِقِ وَهُنَا سَبَبُ حَيَاتِهِ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ هُوَ الْمُكْسِبُ سَبَبَ الْحَيَاةِ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ وَلَاءُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 44 الْمُوَالَاةِ يُخَالِفُ وَلَاءَ الْعِتْقِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا اتَّفَقَا عَلَى تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْفَرْقُ أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ سَبَبُ الْإِحْيَاءِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ مِنْ الْأَعْلَى فِي حَقِّ الْأَسْفَلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَسْفَلِ فِي حَقِّ الْأَعْلَى وَهُنَا السَّبَبُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ الشَّرْطُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَالثَّانِي أَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ الْإِعْتَاقُ وَالْإِعْتَاقُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ وَهُنَا السَّبَبُ الْإِيجَابُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِلنَّقْضِ إلَّا أَنَّهُ يَنْفَرِد بِالْفَسْخِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَبَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ الْجِنَايَةُ لَا تَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَعْقِلْ جِنَايَتَهُ فَالْعَقْدُ تَبَرُّعٌ وَالْمُتَبَرِّعُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِ رِضَاءِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا تَحَمَّلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ صَارَ الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً وَأَحَدُ الْمُتَعَاوَضَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَكَمَا يَمْلِكُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ يَمْلِكُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ يُعَاقِدَ غَيْرَهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ فَيَفْسَخُ الْعَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ مَا عَقَلَ جِنَايَتَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُوَالِ أَحَدًا إذَا جَنَى جِنَايَةً وَعَقَلَ بَيْتُ الْمَالِ جِنَايَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ بَيْتُ الْمَالِ جِنَايَتَهُ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْعُصُوبَةَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتَهُ» وَالْعُصْبَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُنَا الْمَوْتُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ هَذِهِ الصِّلَةَ لَهُ بِعَقْدِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ لِحَقِّ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَمَا يَمْتَنِعُ لِحَقِّ الْعَصَبَاتِ فَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ بِهَذَا الْوَلَاءِ فَقُلْنَا مَا دَامَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا شَيْءَ لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَلَوْ أَنَّهُ وَالَى رَجُلًا وَعَاقَدَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ ابْنِ عَمٍّ، ثُمَّ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ بِهِ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً وَالسَّبَبُ الْبَاطِلُ لَا يُزَاحِمُ السَّبَبَ الصَّحِيحَ. وَحُكْمُ الْوَلَدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي مِيرَاثِهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ وَلَدٍ كَامِلٍ لَهُ خَاصَّةً يَعْنِي أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ حَتَّى ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 45 مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ وَيُزَاحِمُ سَائِرَ أَوْلَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ ابْنٌ كَامِلٌ لَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَلِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ، فَأَمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ أَوْ يَتَكَامَلُ وَلَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُهُ هُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامُلٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ فَلَهُمَا مِنْهُ جَمِيعًا مِيرَاثُ أَبٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَقَالَ زُفَرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثُ أَبٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ كَالْبُنُوَّةِ وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ ابْنًا كَامِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبًا كَامِلًا وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالْمُرَادُ هَهُنَا الْأَبُ وَالْأُمُّ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ السُّدُسَ بِالْأُبُوَّةِ مَعَ الِابْنِ فَالْقَوْلُ بِاسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ بِالْأُبُوَّةِ مَعَ الِابْنِ يَكُونُ بِخِلَافِ هَذَا النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَائِهِ فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَاءَيْنِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ جَعَلْنَاهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِمَا، وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْأَبَ أَحَدُهُمَا قُلْنَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ مَالِهِ بِالْأُبُوَّةِ إلَّا مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي جَانِبِهِ لَا تَتَحَقَّقُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهِمَا حَتَّى إذَا انْعَدَمَتْ الْمُعَارَضَةُ فِي جَانِبِهِمَا بِأَنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ كَامِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الْبَاقِي مِنْهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ لَمْ تَبْقَ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَرِثُهُ الْآخَرُ مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ. رَجُلٌ وَعَمٌّ لَهُ ادَّعَيَا ابْنَةَ جَارِيَةٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَمُّ وَتَرَكَ أَبَاهُ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْأَبِ بِالْفَرْضِ وَالْعُصُوبَةِ، وَإِنْ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ هَذِهِ الِابْنَةَ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ مَاتَ الْجَدُّ وَتَرَكَ هَذِهِ الْمُدَّعَاةَ وَعَصَبَتَهُ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنِهِ مِنْ وَجْهٍ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنِهِ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا كِلَاهُمَا، فَأَمَّا أَنْ نَقُولَ بِنْتُ الْأَقْرَبِ أَوْ نَقُولَ هِيَ لَا تَسْتَحِقُّ إلَّا النِّصْفَ سَوَاءٌ كَانَ الثَّابِتُ أَقْرَبَ الْجِهَتَيْنِ أَوْ أَبْعَدَهُمَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا لِبَيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ تَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَحَقَّتْ الثُّلُثَيْنِ النِّصْفَ بِكَوْنِهَا ابْنَةَ ابْنٍ وَالسُّدُسَ بِكَوْنِهَا ابْنَةَ ابْنِ ابْنِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ فِي شَخْصٍ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُنَا لَا يَكُونُ لَهَا إلَّا النِّصْفُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّابِتَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ وَأَنَّ الْأَبَ أَحَدُهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَرِثُ مِنْ الْمَقْتُولِ شَيْئًا عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَتَلَهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 46 عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَقَالَ مَالِكٌ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَلَهُ الْمِيرَاثُ لَا مِنْ الدِّيَةِ. وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ لَا مِيرَاثَ لَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِأَنْ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ، وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ يَعْنِي بَقَرَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمَعْنَى فَذَلِكَ الْقَاتِلُ قَصَدَ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ فَصَارَ أَصْلًا أَنَّ كُلَّ قَاتِلٍ قَصَدَ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ وَلَوْ تُوُهِّمَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عُقُوبَةً لَهُ أُورِدَ لِقَصْدِهِ عَلَيْهِ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَأَمَّا فِي الْخَطَأِ قَالَ مَالِكٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى قَتْلِ مُوَرِّثِهِ وَاسْتِعْجَالُ الْمِيرَاثِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْخَاطِئُ مَعْذُورٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالْخَطَأُ مَوْضُوعٌ رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ الدِّيَةَ فَلَوْ وَرِثَ مِنْ ذَلِكَ لَتَحَمَّلُوا عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ شَرْعًا وَالْقَتْلُ مِنْ الْخَاطِئِ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ ضِدَّ الْمَحْظُورِ الْمُبَاحُ وَالْمَحَلُّ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقَتْلِ الْمُبَاحِ إلَّا جَزَاءً عَلَى جَرِيمَةٍ وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ لَا يُتَصَوَّرُ الْمُبَاحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِبَاحَةِ فَقُلْنَا إنَّ هَذَا الْقَتْلَ مَحْظُورٌ، وَلِهَذَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهِيَ سَاتِرَةٌ لِلذَّنْبِ وَمَعَ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا شَرْعًا لَمَا جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْكَفَّارَةِ فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَصْدِ إلَى الِاسْتِعْجَالِ قَائِمَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ كَانَ قَاصِدًا إلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرَ الْخَطَأَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُجْعَلُ هَذَا التَّوَهُّمُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ قَاتِلٍ هُوَ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى مُوَرِّثِهِ لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَمُ وَقَصَدَ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ. وَكَذَلِكَ إنْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ وَطِئَ بِدَابَّتِهِ مُوَرِّثَهُ، وَهُوَ رَاكِبُهَا؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ فَإِنَّمَا مَاتَ الْمَقْتُولُ بِفِعْلِهِ وَيُتَوَهَّمُ قَصْدُهُ إلَى الِاسْتِعْجَالِ فَكَانَ الْقَاضِي الْجَلِيلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ رَاكِبِهَا يُسَيِّرُهَا كَيْفَ يَشَاءُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ حَجَرٍ فِي يَدِهِ وَخَرَجَهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ فَأَمَّا الْقَاتِلُ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ وَمَنْ أَخْرَجَ ظُلَّةً أَوْ جَنَاحًا فَسَقَطَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ قَاتِلًا وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاطِئِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ هُنَا يُوهَمُ الْقَصْدُ إلَى الِاسْتِعْجَالِ؛ لِأَنَّهُ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ السَّبَبِ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ مُوَرِّثِهِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ مُوَرِّثَهُ يَمُرُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَقَعُ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ الْجَنَاحُ، ثُمَّ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا الْمُسَبَّبُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ هَذَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 47 بِشَيْءٍ وَالْقَاتِلُ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَقْتُولٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْمَقْتُولُ عِنْدَ الْحَفْرِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِالْحَفْرِ قَاتِلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلًا عِنْدَ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْحَافِرَ قَدْ يَكُونُ مَيِّتًا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَيِّتُ قَاتِلًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْقَتْلِ مِنْ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدْرِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَاتِلٌ كَمَا فِي الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ قَاتِلُونَ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِوُجُودِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ فِعْلَهُمَا كَفِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْخَاطِئُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْظُورَ مَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا، ثُمَّ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الْقَصْدِ إلَى الِاسْتِعْجَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِقَصْدِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ شَرْعًا إذْ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي التَّحَرُّزِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى التَّقْصِيرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّهُمَا لَا يُنْسَبَانِ إلَى التَّقْصِيرِ شَرْعًا فَأَمَّا الْأَبُ إذَا خَتَنَ وَلَدَهُ أَوْ حَجَمَهُ أَوْ بَطَّ قُرْحَةً بِهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مُبَاحٌ لَهُ شَرْعًا وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فَهُوَ وَمَا لَوْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ بِحَقٍّ سَوَاءٌ. وَلَوْ أَدَّبَ وَلَدَهُ بِالضَّرْبِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ دِيَتَهُ وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَلَوْ أَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ بِإِذْنِ الْأَبِ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْكٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا مِنْ دَعْوَى الْمُنَاقَضَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ لَوْ أَدَّبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ فَمَاتَ كَانَ ضَامِنًا فَإِذَا أَدَّبَهُ بِإِذْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ فَلَمَّا كَانَ لِأَمْرِهِ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُعَلِّمِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا ضَرَبَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْدِيبَ يُبَاحُ لَهُ شَرْعًا كَالْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ وَمَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا هَذَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إنَّمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَمَا يُبَاحُ لِلْمَرْءِ شَرْعًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَالرَّمْي إلَى الصَّيْدِ وَالْمَشْي فِي الطَّرِيقِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْأَبَ لَا يُعَزِّرُ بِسُوءِ أَدَبِ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْعَارِ وَاللَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُعَلِّمَ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَإِذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 48 صَارَ مُبَاحًا لَهُ شَرْعًا لَمْ يَتَقَيَّدْ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْخِتَانَ وَالْحِجَامَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الطُّهْرَةَ بِهِ تَحْصُلُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْأَبِ فَلِهَذَا لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بَلْ يُجْعَلُ فِعْلُ الْآمِرِ بِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْأَبَ يَغِيظُهُ سُوءُ أَدَبِ وَلَدِهِ وَرُبَّمَا يَحْمِلُهُ الْغَيْظُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَأْدِيبِهِ وَتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ وَلَا فِي الْمُعَلِّمِ إذَا أَدَّبَهُ بِإِذْنِ الْأَبِ، ثُمَّ دِيَةُ الْمَقْتُولِ تَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ الدِّيَةِ نَصِيبٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالزَّوْجِيَّةِ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ الضَّحَّاكِ أَنَّ «شَيْبَانَ الْكِلَابِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ»، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالُ الْمَيِّتِ حَتَّى تُقْضَى بِهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ فَيَرِثُهَا عَنْهُ مَنْ يَرِثُ سَائِرَ أَمْوَالِهِ، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ زَوْجِيَّةٍ قَائِمَةٍ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ مُنْتَهِيَةً بِالْمَوْتِ لَا بِاعْتِبَارِ زَوْجِيَّةٍ قَائِمَةٍ فِي الْحَالِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الدِّيَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ عَمْدًا فَلِلْبَاقِيَيْنِ أَنْ يَقْتُلَاهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَوَدِ، وَهُوَ الْعَمْدُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَحْرُومٌ عَنْ الْمِيرَاثِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِي أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ مِنْ الْقِصَاصِ صَارَ مِيرَاثًا بِمَوْتِهِ بَيْنَ إخْوَتِهِ وَالْقَاتِلُ يَرِثُ أَخَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ لَهُ فَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَنْهُ، وَإِذَا وَرِثَ جُزْءًا مِنْ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ سَقَطَ ذَلِكَ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْأَخِ الْبَاقِي فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ جُزْءٌ مِنْ الْقِصَاصِ عَنْ الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْمِيرَاثِ. وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ قَتَلَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ الْأُمَّ عَمْدًا وَالزَّوْجُ وَارِثٌ مَعَهُمْ، وَهُوَ أَبُوهُمْ فَلِلْأَخِ الْبَاقِي وَالْأُخْتِ وَالزَّوْجِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَحْرُومٌ عَنْ مِيرَاثِ أُمِّهِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى مَاتَ الْأَخُ الْبَاقِي فَلِلْأُخْتِ وَالزَّوْجِ أَنْ يَقْتُلَا الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّ الْأَخَ الْبَاقِيَ مَاتَ عَنْ أُخْتٍ وَأَخٍ وَأَبٍ فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِلْأَبِ وَالْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ مِنْ نَصِيبِهِ فَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِنْ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ أَخِيهِ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأُخْتِ أَنْ تَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَبِ مِنْ الْقِصَاصِ صَارَ مِيرَاثًا بَيْنَ الْقَاتِلِ وَأُخْتِهِ فَلَا يَكُونُ مَحْرُومًا عَنْ مِيرَاثِهِ وَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ وَرِثَ مِنْ امْرَأَتِهِ الرُّبْعَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ تِسْعَةٌ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا لِلْأَخِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 49 ثُلُثَاهُ سِتَّةٌ وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ فَلَمَّا مَاتَ الْأَخُ صَارَ نَصِيبُهُ لِلْأَبِ فَإِنَّمَا مَاتَ الْأَبُ عَنْ تِسْعَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ سِتَّةٌ وَلِلِابْنَةِ ثَلَاثَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ اجْتَمَعَ لِلْأُخْتِ سِتَّةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ النِّصْفُ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ وَأُخْتًا قَتَلَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ أَبُوهُمْ وَقَتَلَ الْآخَرُ أُمَّهُمْ فَإِنَّ قَاتِلَ الْأُمِّ يَقْتُلُ قَاتِلَ الْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ وَلَا يَقْتُلُهُ قَاتِلُ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْقِصَاصِ وَلِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ فَلَمَّا قَتَلَ الْآخَرُ الْأُمَّ صَارَ بَعْضُ ذَلِكَ مِيرَاثًا مِنْهَا لِقَاتِلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ لِلْأُمِّ فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَقَاتِلُ الْأُمِّ قَدْ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمِلْكِهِ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَغْرَمُ قَاتِلُ الْأَبِ لِلْأُخْتِ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ خَلَّفَ امْرَأَةً وَابْنًا وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَلِلِابْنَةِ تِسْعَةٌ فَحِينَ قَتَلَ الْآخَرُ الْأُمَّ فَنُصِيبُهَا مِيرَاثٌ بَيْنَ قَاتِلِ الْأَبِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا فَحَصَلَ لِلِابْنَةِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ قَاتِلُ الْأُمِّ قِصَاصًا صَارَ نَصِيبُهُ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِيرَاثًا بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا، وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ لِلِابْنَةِ ثَمَانِيَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَكَانَ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِابْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَإِذَا ضَمَمْتَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ تَكُونُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فَلِهَذَا قَالَ: يَغْرَمُ لَهَا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا مِنْ الدِّيَةِ وَيَبْطُلُ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ سِتَّةٌ بِالْمِيرَاثِ عَنْ أُمِّهِ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بِالْمِيرَاثِ عَنْ أَخِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ مِيرَاثِ الْحَمْلِ] بَابُ مِيرَاثِ الْحَمْلِ (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): اعْلَمْ بِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَانْفَصَلَ حَيًّا، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَاتَ الْمُوَرِّثُ؛ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ إذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَاتَ الْمُوَرِّثُ فَإِنَّمَا يَرِثُ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا أَوْ يُسْمَعَ مِنْهُ عُطَاسٌ أَوْ يَتَحَرَّكَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ فَتَحَرَّكَ قُلْنَا إنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 50 خَرَجَ أَكْثَرُهُ فَتَحَرُّكُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَإِنْ خَرَجَ أَقَلُّهُ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلُ كَوْنِهِ حَيًّا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا وُجُودَهُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَعْدُومُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ خَلَفًا عَنْ أَحَدٍ فَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْخِلَافَةِ الْوُجُودُ. (فَإِنْ قِيلَ) الْخِلَافَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْخِلَافَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْ الْمَيِّتِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ بَلْ تَقُولُونَ، وَإِنْ كَانَ نُطْفَةً فِي الرَّحِمِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ وَلَا حَيَاةَ فِي النُّطْفَةِ قُلْنَا نَعَمْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ مُعَدَّةٌ لِلْحَيَاةِ وَلَأَنْ يَكُونَ مِنْهَا شَخْصٌ حَيٌّ فَيُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْحَيَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ كَمَا يُعْطَى لِلْبَيْضِ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا كَسَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّ إعْتَاقَ مَا فِي الْبَطْنِ صَحِيحٌ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ نُطْفَةً فِي الرَّحِمِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ الْمَآلُ فَكَذَلِكَ هُنَا يُعْتَبَرُ الْمَآلُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ وَلَمَا جَعَلْنَا الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ كَالْمُنْفَصِلِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْإِرْثِ اعْتِبَارًا لِمَآلِهِ فَكَذَلِكَ النُّطْفَةُ تُجْعَلُ كَالنَّفْسِ الْحَيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْعُلُوقَ يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ ذَلِكَ، وَفِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَا ضَرُورَةَ فَاسْتَنَدْنَا إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِنَا حَاجَةٌ إلَى إسْنَادِ الْعُلُوقِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ، وَإِذَا أَسْنَدْنَا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَصَارَ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ بِتَيَقُّنٍ فَيَكُونُ هُوَ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ تَبَعًا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَوْلَى لِمُوَالَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حِينَ أَثْبَتْنَا نَسَبَهُ مِنْ الزَّوْجِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا فِي التَّوْرِيثِ انْفِصَالَ الْوَلَدِ حَيًّا؛ لِأَنَّ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً وَلَكِنْ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلْحَيَاةِ يَوْمئِذٍ وَتَحَرُّكُهُ فِي الْبَطْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِ تَحَرُّكِ الْبَطْنِ مُحْتَمَلًا قَدْ يَكُونُ مِنْ الرِّيحِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْوَلَدِ أَمَّا إذَا انْفَصَلَ وَاسْتَهَلَّ فَهُوَ دَلِيلُ حَيَاتِهِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ». وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْعُطَاسُ دَلِيلُ حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَالِ وَتَحَرُّكُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 51 كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْخَارِجُ بَعْضَهُ فَنَقُولُ إنْ كَانَ الْخَارِجُ هُوَ الْأَكْثَرُ فَحُكْمُ الْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَكَأَنَّهُ خَرَجَ كُلُّهُ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَقَلَّهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدُ إذْ الْأَقَلُّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ بِدَلِيلِ حُكْمِ النِّفَاسِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي مِقْدَارِ مَا يُوقَفُ لِلْحَمْلِ مِنْ الْمِيرَاثِ فَرَوَى ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوقَفُ لِلْحَمْلِ نَصِيبُ أَرْبَعِ بَنِينَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُوقَفُ لِلْحَمْلِ مِيرَاثُ ابْنَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ لَا اعْتِبَارَ بِمَا يُتَوَهَّمُ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُتَيَقَّنِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ بَنِينَ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ قَالَ: وِلَادَةُ الْمَرْأَةِ أَرْبَعَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَنْدَرُ مَا يَكُونُ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ، وَهُوَ وِلَادَةُ اثْنَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْخَصَّافِ فَإِنَّ النَّادِرَ لَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ، وَالْعَامُّ الْغَالِبُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إلَّا وَلَدًا وَاحِدًا فَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي الْحُكْمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأُمَّ وَلَدٍ حَامِلًا فَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ إنَّمَا يُدْفَعُ إلَى الِابْنِ خُمْسُ الْمَالِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْحَمْلَ أَرْبَعُ بَنِينَ، وَعَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ يُدْفَعُ إلَى الِابْنِ ثُلُثُ الْمَالِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْحَمْلَ اثْنَانِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْخَصَّافِ يُدْفَعُ إلَى الِابْنِ نِصْفُ الْمَالِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْحَمْلَ ابْنٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مَعَ الْحَمْلِ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَعَ الْحَمْلِ مِمَّنْ لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهُ بِالْحَمْلِ أَوْ مِمَّنْ تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهُ بِالْحَمْلِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهُ بِالْحَمْلِ فَإِنَّهُ يُعْطَى فَرِيضَتُهُ حَتَّى إذَا تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَجَدَّةً فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهَا بِهَذَا الْحَمْلِ. وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا فَإِنَّهُ تُعْطَى الْمَرْأَةُ الثُّمُنَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهَا بِهَذَا الْحَمْلِ وَلَوْ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَأَخًا أَوْ عَمًّا لَا يُعْطَى الْأَخُ وَالْعَمُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَيَسْقُطُ مَعَهُ الْأَخُ وَالْعَمُّ وَلَا يُعْطَى مَنْ يَرِثُ مَعَ الْحَمْلِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْرِيثَ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهُ بِالْحَمْلِ فَالْمُتَيَقَّنُ لَهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ فَلَا يُعْطَى إلَّا ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِحَالٍ فَأَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَشْكُوكٌ فَلِهَذَا لَا يُعْطَى شَيْئًا، ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَقَلُّ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ إنْ يُجْعَلْ الْحَمْلَ ذَكَرًا يُجْعَلْ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ إنْ يَجْعَلْ الْحَمْلَ أُنْثَى فَإِنَّمَا يُوقَفُ لِلْحَمْلِ أَوْفَرُ النَّصِيبَيْنِ وَلَا يُعْطَى سَائِرُ الْوَرَثَةِ إلَّا الْأَقَلَّ احْتِيَاطًا. بَيَانُ ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 52 وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ أَبِيهَا فَإِنَّ الْحَمْلَ يُجْعَلُ أُنْثَى عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْحَمْلَ ذَكَرًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ كَامِلًا ثَلَاثَةً مِنْ سِتَّةٍ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ لِلْأَخِ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْحَمْلَ أُنْثَى فَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ الْحَمْلُ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعِ أَخَوَاتٍ، وَعَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ الْحَمْلُ بِمَنْزِلَةِ أُخْتَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ الْمَسْأَلَةَ بِسَهْمَيْنِ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَلَا شَكَّ أَنْ ثَلَاثَةً مِنْ ثَمَانِيَةٍ دُونَ ثَلَاثَةٍ مِنْ سِتَّةٍ. وَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ الْخَصَّافِ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْحَمْلَ أُنْثَى فَالْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ فَإِنَّ الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْحَمْلَ أُنْثَى وَيُوقَفُ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَإِنْ وَلَدَتْ ابْنَةً فَالْمَوْقُوفُ يَكُونُ لَهَا وَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ ابْنًا فَقَدْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى، وَإِنْ وَلَدَتْ ابْنَتَيْنِ انْتَقَصَتْ الْقِسْمَةُ وَيَسْتَرِدُّ مِنْ الْأُمِّ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ فَيَكُونُ لِلْأُخْتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقْسِمُ الْمَالَ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ لِلْأَخِ بِالْعُصُوبَةِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا فَوَلَدَتْ الْحَامِلُ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى وَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ الْآخَرُ أَوْ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا اسْتَهَلَّ بِأَنْ كَانَ لَيْلًا أَوْ لِكَثْرَةِ الزَّحْمَةِ لَمْ يَعْلَمَ مَنْ اسْتَهَلَّ مِنْهُمَا وَالتَّخْرِيجُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ هُنَا حَالَتَانِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَهَلَّ مِنْهُمَا الِابْنُ فَإِنَّمَا تَرَكَ الرَّجُلُ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ الِاثْنَيْنِ عَنْ أَخٍ وَأُمٍّ فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ وَقِسْمَةُ سَبْعَةٍ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ سِتَّةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لِلْأُمِّ سِتَّةٌ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الزَّوْجِ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ ابْنِهَا فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلِلِابْنِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَهَلَّ الِابْنَةَ فَإِنَّمَا مَاتَ الرَّجُلُ عَنْ ابْنٍ وَابْنَةٍ وَامْرَأَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنَةِ سَبْعَةٌ، ثُمَّ مَاتَتْ الِابْنَةُ عَنْ أُمٍّ وَأَخٍ وَقِسْمَةُ سَبْعَةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لَا تَسْتَقِيمُ فَنَضْرِبُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِلْمَرْأَةِ تِسْعَةٌ وَلِلِابْنَةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَلِلِابْنِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ قَدْ وَرِثَتْ الْأُمُّ مِنْ الِابْنَةِ سَبْعَةً فَيَكُونُ لَهَا فِي الْحَاصِلِ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلِابْنِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ إلَّا أَنَّ بَيْنَ سِتَّةَ عَشَرَ وَسِتَّةٍ وَخَمْسِينَ مُوَافَقَةً بِالنِّصْفِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّمُنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَثُمُنُ سِتَّةَ عَشَرَ اثْنَانِ وَثُمُنُ سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ سَبْعَةٌ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى تِسْعَةٍ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلِلِابْنِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 53 تِسْعَةٍ وَبَيْنَ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ جُمْلَةُ السِّهَامِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى مُوَافَقَةً بِالثُّلُثِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَضْرِبُ فِي جَمِيعِ الْآخَرِ وَذَلِكَ إمَّا سِتَّةَ عَشَرَ فِي تِسْعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ ضَعِّفْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ حَالَتَانِ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ كَانَ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ مِنْ تِسْعَةٍ ضَرَبْنَاهَا فِي سِتَّةَ عَشَرَ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَضْعَفْنَا فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ فَهُوَ نُصِيبُ الْأُمِّ، وَكَانَ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ ضَرَبْنَا ذَلِكَ فِي سِتَّةَ عَشَرَ فَتَكُونُ مِائَةً وَاثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ أَضْعَفْنَا ذَلِكَ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ نَصِيبُ الِابْنِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ وَمَتَى انْفَصَلَ الْحَمْلُ مَيِّتًا لَا يَرِثُ إذَا انْفَصَلَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ بِسَبَبٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَبَيَانُهُ إذَا ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَهَذَا الْجَنِينُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَى الضَّارِبِ الْغُرْمَ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ فَإِذَا حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ وَبَعُدَ عَنْهُ نَصِيبُهُ كَمَا يُوَرَّثُ عَنْهُ بَدَلُ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْغُرَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِمَا سَبَقَ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَالْمَفْقُودُ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَفْقُودَ يُجْعَلُ حَيًّا فِي مَالِهِ مَيِّتًا فِي مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ وَلَا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُهُ وَلَا يُعْطَى لَهُ مِيرَاثُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ وَلَكِنْ يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَفْقُودِ كَمَا يُوقَفُ نَصِيبُ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ مَعْلُومَةً وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ بِحَيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمَنْفِيِّ فَنَقُولُ فِي مَالِ نَفْسِهِ يُجْعَلُ حَيًّا لَا بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَفِي مَالِ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ حَيَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِدَفْعِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ مَتَى يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا مَضَى مِنْ مَوْلِدِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِائَةُ سَنَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ، ثُمَّ إذَا وُقِفَ نَصِيبُهُ مِنْ مِيرَاثِ غَيْرِهِ فَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا أَخَذَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ حَتَّى حُكِمَ بِمَوْتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِمَّا وُقِفَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ، وَإِنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 54 إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَيُقْسَمُ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ يَكُونُ بَاقِيًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ مَاتَ قَبْلَ هَذَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَشُرُوطُ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ إلَّا مَنْ كَانَ بَاقِيًا مِنْ وَرَثَتِهِ حِينَ حُكِمَ بِمَوْتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْمُنَاسَخَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَتَّى مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي وَرَثَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَقَطْ أَوْ يَكُونُ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ الثَّانِيَةُ وَقِسْمَةُ التَّرِكَةِ الْأُولَى سَوَاءً أَوْ تَكُونُ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ الْأُولَى، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَسْتَقِيمَ قِسْمَةُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ أَوْ بِكَسْرٍ فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَلَا تَغْيِيرَ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِ الْقِسْمَةِ بَيَانُهُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ أَوْ إحْدَى الْبَنَاتِ وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنَّ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْبَاقِينَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَيَكْتَفِي بِقِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ تُقْسَمُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَوَّلًا لِتُبَيِّنَ نَصِيبَ الثَّانِي، ثُمَّ تُقْسَمُ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ قِسْمُ نَصِيبِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الضَّرْبِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً فَلَمْ تُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ الِابْنُ وَخَلَّفَ ابْنَةً وَأُخْتًا فَإِنَّ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ تُقْسَمُ أَثْلَاثًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ سَهْمَيْنِ وَتَرَكَ ابْنَةً وَأُخْتًا فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالْعُصُوبَةِ مُسْتَقِيمٌ وَلَا يَنْكَسِرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ قِسْمَةُ نَصِيبِ الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ سِهَامِ فَرِيضَتِهِ مُوَافَقَةً بِجُزْءٍ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ سِهَامِ فَرِيضَتِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ سِهَامَ فَرِيضَةِ الْأَوَّلِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَبْلَغِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 55 مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِشَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فِي سِهَامِ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَبْلَغِ. وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، وَبَيَانُهُ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَخْلُفَ الرَّجُلُ ابْنًا وَابْنَةً وَلَمْ يُقَسِّمْ تَرِكَتَهُ حَتَّى مَاتَ الِابْنُ عَنْ ابْنَةٍ وَامْرَأَةٍ وَثَلَاثَةِ بَنِي ابْنٌ فَفَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ سَهْمَيْنِ وَخَلَّفَ امْرَأَةً وَابْنَةً وَثَلَاثَةَ بَنِي ابْنٍ فَتَكُونُ فَرِيضَتُهُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ أَرْبَعَةٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ إلَّا أَنَّ قِسْمَةَ سَهْمَيْنِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَكِنْ بَيْنَ سَهْمَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَيَقْتَصِرُ مِنْ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي عَلَى النِّصْفِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ فَرِيضَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الِابْنِ مِنْ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الِابْنَةِ مِنْ فَرِيضَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهَا، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ سَهْمٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهَا، وَهُوَ سَهْمٌ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ أَيْضًا، وَهُوَ سَهْمٌ فَيَكُونُ لَهَا سَهْمًا وَاحِدًا وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ أَنْ نَقُولَ رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنٍ وَابْنَةٍ وَلَمْ تُقْسَمُ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَ الِابْنُ عَنْ ابْنٍ وَابْنَةٍ فَفَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ سَهْمَيْنِ وَفَرِيضَتُهُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ وَقِسْمَةُ سَهْمَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَتَضْرِبُ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى فِي الْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ تِسْعَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الِابْنِ أَنَّهُ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ تَرِكَةِ الْأَوَّلِ سَهْمَيْنِ تَضْرِبُهُمَا فِي الْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ سِتَّةً. وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ ابْنِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ أَيْضًا فَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ ابْنَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهَا وَذَلِكَ سَهْمٌ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَيَكُونُ لَهَا سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ فَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى وَرَثَتِهِ فَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مَنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 56 وَارِثًا لِلْأَوَّلَيْنِ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَجْعَلَ فَرِيضَةَ الْأَوَّلَيْنِ كَفَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا، ثُمَّ تَنْظُرُ إلَى نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنْ تَرِكَةِ الْأَوَّلَيْنِ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ قِسْمَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ قَسَمْتَهُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ نَصِيبِهِ مِنْ التَّرِكَتَيْنِ وَبَيْنَ فَرِيضَتِهِ مُوَافَقَةٌ بِجُزْءٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ فَرِيضَتِهِ، ثُمَّ تَضْرِبُ فَرِيضَتَهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَبْلَغِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ تَرِكَةِ الْأَوَّلَيْنِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ سِهَامِ فَرِيضَتِهِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنْ تَرِكَةِ الْأَوَّلَيْنِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِشَيْءٍ ضَرَبْتَ مَبْلَغَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي سِهَامِ الْفَرِيضَةِ الثَّالِثَةِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَبْلَغِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي نَصِيبِ فَرِيضَتِهِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ مِنْ التَّرِكَتَيْنِ. وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهُ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنْ التَّرِكَتَيْنِ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ نَصِيبُهُ، وَبَيَانُ هَذَا أَنْ نَقُولَ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنَةٍ وَعَنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَخٌ، ثُمَّ مَاتَتْ الِابْنَةُ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَعَنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ عَمُّهَا فَفَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنْ سَهْمَيْنِ فَإِنَّمَا مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ سَهْمَيْنِ وَفَرِيضَتُهُ مِنْ سَهْمَيْنِ أَيْضًا لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ وَقِسْمَةُ سَهْمٍ عَلَى سَهْمَيْنِ لَا تَسْتَقِيمُ فَتَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ فَتَكُونُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ مَاتَتْ الِابْنَةُ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَعَمٍّ فَتَكُونُ فَرِيضَتُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ وَقِسْمَةُ سَهْمٍ عَلَى سِتَّةٍ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا مُوَافَقَةَ فِي شَيْءٍ فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي سِتَّةٍ فَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ نَصِيبُ الِابْنِ مِنْ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اثْنَا عَشَرَ وَمِنْ الْمَيِّتِ الثَّانِي سِتَّةٌ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَنَصِيبُ الِابْنَةِ سِتَّةٌ يَضْرِبُ نَصِيبَهَا، وَهُوَ سَهْمٌ فِي فَرِيضَتِهَا، وَهُوَ سِتَّةٌ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ نَصِيبَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ مِنْ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ سَهْمٌ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمٌ فَهُوَ لِلْعَمِّ. وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُوَافَقَةِ فَصُورَتُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ امْرَأَةً وَأُمًّا وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَمَاتَتْ الْأُمُّ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَعَمًّا وَمَنْ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ وَهُمَا الِابْنَتَانِ فَأُخْتُ الْأَوَّلِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتُهُ لِأُمٍّ ابْنَا الْمَيِّتِ الثَّانِي وَأُخْتُهُ لِأَبِيهِ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُمَا، ثُمَّ لَمْ تُقْسَمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَابْنَةً وَمَنْ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَهُمَا الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَصِحَّ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 57 فَيَكُونُ أَصْلُهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ سِتَّةٌ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ السُّدُسُ سَهْمَانِ فَتَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ عَنْ سَهْمَيْنِ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَعَمًّا وَابْنَتَيْنِ فَفَرِيضَتُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَقِسْمَةُ سَهْمَيْنِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي سِتَّةٍ فَتَكُونُ تِسْعِينَ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْأُمِّ إنَّهُ كَانَ نَصِيبُهَا سَهْمَيْنِ يَضْرِبُ ذَلِكَ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ وَرَثَتِهَا مُسْتَقِيمٌ، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَابْنَةً وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ فَفَرِيضَتُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ سَهْمٌ وَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ الْبَاقِي سَهْمٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ نَنْظُرُ إلَى نَصِيبِهَا مِنْ التَّرِكَتَيْنِ فَنَقُولُ كَانَ لَهَا مِنْ التَّرِكَةِ الْأُولَى سِتَّةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي سِتَّةٍ فَتَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ لَهَا مِنْ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْأُمِّ مِنْ تَرِكَةِ الْأُولَى، وَهُوَ سَهْمٌ فَكَانَ أَرْبَعَةً فَيَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ التَّرِكَتَيْنِ أَرْبَعِينَ وَقِسْمَةُ أَرْبَعَةٍ عَلَى أَرْبَعِينَ تَسْتَقِيمُ وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَبَوَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ ابْنَةٍ وَمَنْ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَخٌ وَجَدٌّ وَجَدَّةٌ فَنَقُولُ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنْ سِتَّةٍ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ سَهْمَيْنِ وَخَلَّفَ ابْنًا وَجَدًّا وَجَدَّةً وَأَخًا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ فَالْمُقَاسَمَةُ نِصْفَانِ فِي قَوْلِ زَيْدٍ وَقِسْمَةُ السَّهْمَيْنِ عَلَى سِتَّةٍ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى النِّصْفِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى وَذَلِكَ سِتَّةٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَهْمٌ تَضْرِبُهُ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ فَرِيضَتِهِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَكُونُ سِتَّةً وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ ابْنَتِهِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي الْجُزْءِ الْمُوَافِقِ مِنْ نَصِيبِ الْمَيِّتِ الثَّانِي وَذَلِكَ سَهْمٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةً فَهُوَ لَهَا وَلِلْجَدَّةِ سَهْمٌ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ بِالْمُقَاسَمَةِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنَتَيْنِ لَهُ مِنْهَا وَأَبَوَيْنِ فَمَاتَتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ عَنْ زَوْجٍ وَمَنْ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ جَدُّهَا أَبُ أَبِيهَا وَجَدَّتُهَا أُمُّ أَبِيهَا وَأُخْتُهَا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَفَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَقِسْمَتُهَا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ الْمِنْبَرِيَّةُ، ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ عَنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا تُقْسَمُ فَرِيضَتُهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 58 مِنْ سِتَّةٍ فِي الْأَصْلِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ مِنْ تِسْعَةٍ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْجَدَّ وَالْأُخْتَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَتَضْرِبُ تِسْعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَيْنَ ثَمَانِيَةٍ فِي شَيْءٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى فِي الْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَبْلَغِ وَالطَّرِيقُ فِي التَّخْرِيجِ مَا بَيَّنَّا. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَأَبَوَيْنِ وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ فَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَتْ الْأُمُّ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ فَلَمْ تُقْسَمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ وَخَلَّفَ امْرَأَةً وَمَنْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ فَلَمْ تُقْسَمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَمَنْ خَلَّفَهُ الْأَوَّلُونَ فَلَمْ تُقْسَمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَابْنَتَيْنِ وَمَنْ خَلَّفَهُ الْأَوَّلُونَ فَلَمْ تُقْسَمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ الْأُخْتُ لِأُمٍّ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَثَلَاثَ بَنَاتٍ وَأَبَوَيْنِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ خَلَّفَتْ الْأُخْتُ لِأُمٍّ زَوْجًا وَثَلَاثِ بَنَاتٍ وَأَبَوَيْنِ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ أَوَّلًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَّفَتْ أَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ خَلَّفَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَثَلَاثَ بَنَاتٍ، ثُمَّ وَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ فَرِيضَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخَوَاتِ، ثُمَّ إنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَابْنَتَيْنِ فَإِنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتَ لِأُمٍّ ابْنَتَاهَا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالرُّبْعُ لِلزَّوْجِ وَأَصْلُهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَّا أَنَّ بَيْنَ نَصِيبِهَا - وَهُوَ سَهْمَانِ - وَبَيْنَ سِهَامِ فَرِيضَتِهَا مُوَافَقَةً بِالنِّصْفِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى النِّصْفِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ اثْنَيْ عَشَرَ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ لَهُمَا سَهْمَانِ ضَرَبْنَاهُ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى سَبْعَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَحَصَلَ لَهُ مِنْ التَّرِكَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنْ امْرَأَةٍ وَابْنَتَيْنِ وَهُمَا الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ فَتَكُونُ فَرِيضَتُهُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ، وَهَكَذَا تَغْيِيرُهُ فِي تَرِكَةِ كُلِّ مَيِّتٍ فَيُعْتَبَرُ الِاقْتِصَادُ وَالضَّرْبُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْحِسَابُ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَثَلَاثِمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ فَمِنْ ذَلِكَ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 59 [بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَإِنَّمَا تَنْبَنِي مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ عَلَى مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَرِثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَاَلَّذِي زَادَ هُنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ مَتَى وَقَعَتْ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ ابْنُ الْمَرِيضِ بِأَنَّ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ جَامَعَهَا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ جَعَلْنَا النِّكَاحَ كَالْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الزَّوْجَ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا عَنْ مِيرَاثِهِ فَرُدَّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ وَيَكُونُ لَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي طَلَّقَهَا وَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ امْرَأَةٌ أُخْرَى وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تَرِثْ هَذِهِ الْمُبَانَةُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا قَصْدٌ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ فَإِنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ يَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ وَالثِّنْتَانِ فَيَبْقَى جَمِيعُ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ اكْتَسَبَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ هَذِهِ فَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ لَمْ تُجْعَلْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً مَقَامَ النِّكَاحِ فِي بَقَاءِ مِيرَاثِهَا كَمَا لَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ جَمِيعًا عَنْ شَهْوَةٍ مَعًا بِغَيْرِ رِضَاهُمَا فَلَهُمَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَصْدِ هُنَا مَوْجُودَةٌ وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا، ثُمَّ الْأُخْرَى مُكْرَهَتَيْنِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْأُولَى وَلِلثَّانِيَةِ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إلَى إبْطَالِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ غَيْرُ مَوْجُودٍ حِينَ وَطِئَ الْأُولَى، وَهُوَ مَوْجُودٌ وَحِينَ وَطِئَ الثَّانِيَةَ وَلَوْ وَطِئَهَا ابْنَ ابْنِهِ وَهِيَ مُكْرَهَةٌ حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ابْنُهُ حَيًّا فَلَا مِيرَاثَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَيْسَ بِوَارِثِ الْجَدِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ تُهْمَةُ الْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَيِّتًا، وَكَانَ ابْنُ الِابْنِ وَارِثًا فَحِينَئِذٍ لَهَا الْمِيرَاثُ لِوُجُودِ تُهْمَةِ الْقَصْدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ بِأَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَصْدِ هُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْوَطْءِ بِأَنْ كَانَ رَقِيقًا فَعَتَقَ أَوْ كَافِرًا فَأَسْلَمَ أَوْ فَعَلَهُ ابْنُ الِابْنِ وَالِابْنُ حَيٌّ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَصْدِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُكْتَسَبِ لِسَبَبِ الْفُرْقَةِ وَارِثًا، وَالْمِيرَاثُ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَعْتَبِرُ حَالَةَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ صَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ بِاعْتِبَارِهَا تُهْمَةَ الْقَصْدِ وَذَلِكَ يَبْنِي عَلَى قَصْدٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 60 مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِفِعْلِهِمَا كَمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِقَتْلٍ بَاشَرَهُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي غَيْرِ وَلَاءِ مَجُوسِيٍّ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ خَالَ ابْنِ عَمَّتِهِ وَعَمَّةَ ابْنِ خَالِهِ فَالسَّبِيلُ لَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ خَالُ ابْنِ عَمَّةٍ أُخْرَى وَعَمَّةُ ابْنِ خَالٍ آخَرَ غَيْرَ هَذَا الْأَوَّلِ فَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَّةٌ وَلَا خَالٌ غَيْرُ هَذَا فَقُلْ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَإِنَّ خَالَ ابْنِ عَمَّتِهِ أَبُوهُ وَعَمَّةَ ابْنِ خَالِهِ أُمُّهُ؛ لِأَنَّ خَالَ ابْنِ عَمَّتِهِ هُوَ أَخُو عَمَّتِهِ وَأَخُو عَمَّتِهِ أَبُوهُ وَعَمَّةُ ابْنِ خَالِهِ هِيَ أُخْتُ أَخِي أُمِّهِ فَهِيَ أُمُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُمَا فَلِهَذَا كَانَ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ. فَإِنْ سُئِلَ عَنْ خَالٍ وَعَمٍّ فَوَرِثَ الْخَالُ دُونَ الْعَمِّ فَقُلْ وَرِثَ الْخَالُ؛ لِأَنَّهُ خَالُ أُمٍّ بِسَبَبٍ آخَرَ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ خَالٌ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعَمِّ مَا يَحْرِمُهُ مِنْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُبَيِّنُ فَقُلْ إنَّ الْخَالَ هُوَ ابْنُ أَخِ الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَخَوَيْنِ لِأَبٍ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا أُمَّ أُمِّ أُخْتِهِ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَإِنْ وَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَهَذَا الِابْنُ ابْنُ أَخِي الْآخَرِ وَخَالُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخُو أُمِّهِ فَإِنَّهُ ابْنُ جَدَّتِهِ وَلَكِنَّهُ ابْنُ أَخِي الْمَيِّتِ وَابْنُ الْأَخِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ. فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَرِثَهُ سَبْعَةٌ إخْوَةٍ وَأُخْتٌ الْمَالِ بِالسَّوِيَّةِ فَهَذَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ أُمَّهَا ابْنُهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ سَبْعَ بَنِينَ فَصَارَ بَنُوهُ إخْوَةُ امْرَأَةِ أَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَبَقِيَ أَبُوهُ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ امْرَأَةٍ وَسَبْعِ بَنِي ابْنٍ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَ بَنِي الِابْنِ بِالسَّوِيَّةِ وَهُمْ أَخَوَاتُهَا لِأُمِّهَا فَقَدْ وَرِثَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمُنُ الْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَرِثَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ مِنْ رَجُلٍ دُونَ الْآخَرِ فَقُلْ لَعَلَّ فِي الْآخَرِ مَانِعًا مِنْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ فَإِنْ قَالَ: لَا مَانِعَ فَقُلْ إنَّ الْمَيِّتَ ابْنُ أَحَدِهِمَا أَوْ زَوْجَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الَّذِي يَرِثُهُ دُونَ أَخِيهِ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَرِثَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَالْآخَرُ الرُّبْعَ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ مَاتَتْ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ فَإِنْ قَالَ: وَرِثَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَيْنِ وَالْآخَرُ الثُّلُثَ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخُوهَا لِأُمِّهَا وَالْآخَرُ زَوْجُهَا فَلِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 61 وَهُوَ سَهْمَانِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحَصَلَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُ الْمَالِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَانِ فَإِنْ قَالُوا كَانُوا ثَلَاثَ إخْوَةٍ فَوَرِثَ أَحَدُهُمْ الثُّلُثَيْنِ وَوَرِثَ اثْنَانِ مِنْهُمْ سُدُسًا فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا ثَلَاثُ بَنِي عَمٍّ وَهُمْ إخْوَةٌ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمْ، ثُمَّ مَاتَتْ فَصَارَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ أَثْلَاثًا فَصَارَ لَهُ الثُّلُثَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَأَخَوَيْنِ وَرِثُوا الْمَالَ لِلرَّجُلِ الثُّلُثُ وَلِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ النِّصْفُ وَالْآخَرُ السُّدُسُ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخُوهَا لِأُمِّهَا وَالْآخَرُ الَّذِي لَيْسَ أَخَاهَا لِأُمِّهَا لَهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَلَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ لَهَا، وَهُوَ زَوْجُهَا فَمَاتَتْ فَصَارَ لِزَوْجِهَا النِّصْفُ وَلِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخُوهَا لِأُمِّهَا السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ ابْنَيْ عَمَّيْهَا اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَخُوهَا لِأُمِّهَا نِصْفَيْنِ فَحَصَلَ لِأُخْتِهَا لِأُمِّهَا الثُّلُثُ وَلِابْنِ عَمِّهَا الْآخَرِ السُّدُسُ، وَهُوَ أَخُ هَذِهِ الِابْنَةِ وَلِزَوْجِهَا النِّصْفُ، وَهُوَ أَخُ هَذَا أَيْضًا لِأُمِّهِ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَأُخْتِهِ وَرِثَا الْمَالَ فَصَارَ لِلرَّجُلِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ وَلِأُخْتِهِ الثُّمُنُ فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ أُمَّ امْرَأَةِ أَبِيهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَصَارَ لِامْرَأَتِهِ الثُّمُنُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، وَهُوَ أَخٌ الْمَرْأَةِ لِأُمِّهَا. فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَابْنِهِ وَرِثَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا وَعَمُّهَا حَيٌّ، ثُمَّ مَاتَتْ فَصَارَ لِزَوْجِهَا النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ لِأَبِ الزَّوْجِ، وَهُوَ الْعَمُّ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ وَرِثَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ ابْنَ عَمِّهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ ابْنَةً، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ فَصَارَ لِابْنَتِهَا النِّصْفُ وَلِزَوْجِهَا الرُّبْعُ وَمَا بَقِيَ فَلِلزَّوْجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهَا. فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَأُمِّهِ وَرِثَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ فَهَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَهُوَ عَصَبَتُهُ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْهِ وَرِثُوا الْمَالَ أَثْلَاثًا فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَتِي ابْنَيْهِ ابْنَ أَخِيهِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَصَارَ لِابْنَتَيْ الِابْنَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنِ أَخِيهِ، وَهُوَ زَوْجُهُمَا فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَرِثَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ الْمَالَ أَثْلَاثًا إحْدَاهُنَّ أُمُّ الْأُخْرَى فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ ابْنَةَ ابْنِ ابْنِ آخَرَ لَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ ابْنِهِ فَهَاتَانِ الِابْنَتَانِ إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَلَهُ أُخْتٌ فَصَارَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالْعُصُوبَةِ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ امْرَأَةٍ وَابْنِهَا وَابْنِ ابْنِهَا وَرِثُوا الْمَالَ ثَلَاثًا فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَةَ ابْنِهِ ابْنَ ابْنِ لَهُ آخَرَ فَوُلِدَتْ لَهُ ابْنَتَانِ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الِابْنِ فَهَاتَانِ الِابْنَتَانِ إحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنُ أَخٍ لَهُ ابْنَةَ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ أَخِيهِ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَتَيْ ابْنَيْهِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَإِحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى وَمَا بَقِيَ فَلِابْنِ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ أَخِيهِ، وَهُوَ عَصَبَتُهُ. فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ وَرِثَهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 62 سَبْعَةَ عَشْرَ امْرَأَةً مَالَهُ بِالسَّوِيَّةِ فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ثَمَانِ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَجَدَّتَيْنِ فَلِلْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشْرَ وَلِلْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَلِلنِّسْوَةِ الرُّبْعُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَلِلْجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ سَهْمَانِ فَتَعُولُ بِخَمْسَةٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةَ عَشْرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَوَرِثَهُ امْرَأَةٌ مِنْ ذَلِكَ دِينَارًا وَاحِدًا فَقُلْ هَذَا رَجُلٌ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ فَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشْرَ وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ وَلِلنِّسْوَةِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ لِلنِّسْوَةِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَاضْرِبْ خَمْسَةَ عَشْرَ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ سِتِّينَ لِلنِّسْوَةِ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشْرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ وَاثْنَا عَشْرَ مِنْ سِتِّينَ فَهُوَ الْخُمُسُ فِي الْحَاصِلِ وَخَمْسُ عِشْرِينَ دِينَارًا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ دِينَارٌ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ امْرَأَةٍ وَرِثَتْ أَرْبَعَةَ أَزْوَاجٍ لَهَا وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ صَارَ لَهَا نِصْفُ أَمْوَالِهِمْ جَمِيعًا وَصَارَ لِلْعَصَبَةِ النِّصْفُ فَقُلْ هَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَهَا أَرْبَعُ إخْوَةٍ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَبَعْضُهُمْ وَرَثَةُ بَعْضٍ مَعَهَا، وَكَانَ جَمِيعُ مَا لَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ وَلِلثَّانِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَلِلثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ وَلِلرَّابِعِ دِينَارٌ فَإِنَّمَا مَاتَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ عَنْ ثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَلَهَا الرُّبْعُ وَذَلِكَ دِينَارَانِ وَمَا بَقِيَ مِنْ إخْوَتِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ دِينَارٌ فَصَارَ لِصَاحِبِ السِّتَّةِ ثَمَانِيَةٌ وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ خَمْسَةٌ وَلِصَاحِبِ الدِّينَارِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَمَاتَ عَنْهَا فَيَكُونُ لَهَا الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ، وَعَنْ أَخَوَيْنِ فَيَكُونُ لَهَا الرُّبْعُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَذَلِكَ دِينَارَانِ وَمَا بَقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ بَيْنَ أَخَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ لِلَّذِي كَانَ لَهُ خَمْسَةٌ ثَمَانِيَةٌ وَلِلَّذِي كَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الثَّالِثُ فَمَاتَ عَنْهَا وَعَنْ أَخٍ فَوَرِثَتْهُ الرُّبْعَ، وَهُوَ دِينَارَانِ وَصَارَ مَا بَقِيَ لِأُخْتِهِ، وَهُوَ سِتَّةٌ فَحَصَلَ لِلْأَخِ اثْنَا عَشَرَ دِينَارًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الرَّابِعُ فَمَاتَ عَنْهَا فَيَكُونُ لَهَا الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ تِسْعَةٌ لِلْعَصَبَةِ فَقَدْ وَرِثَتْ هِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارَانِ وَمِنْ الرَّابِعِ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ لَهَا تِسْعَةٌ، وَهُوَ نِصْفُ مَالِهِمْ وَلِلْعَصَبَةِ النِّصْفُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى قَوْمٍ وَهُمْ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا، فَقَالَ لَهُمْ لَا تُعَجِّلُوا بِقِسْمَةِ هَذَا الْمِيرَاثِ فَإِنَّ لِي امْرَأَةً غَائِبَةً فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ وَلَمْ أَرِثْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْت وَلَمْ تَرِثْ فَهَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُمًّا وَأَخًا لِأَبٍ، وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ بِأُخْتٍ لَهَا لِأُمِّهَا فَصَارَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ فَإِنْ كَانَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ حَيَّةً فَلَهَا السُّدُسُ الْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 63 أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَالسُّدُسُ الْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، وَهَذَا الَّذِي جَاءَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ مَا قَالَ فَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَتْ امْرَأَتِي حَيَّةً وَرِثَتْ وَلَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً لَمْ أَرِثْ أَنَا وَلَا هِيَ فَهَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ جَدَّهَا أَب أَبِيهَا وَزَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأَخًا لَهَا لِأُمِّهَا، وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ أُخْتَهَا لِأُمِّهَا فَصَارَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ فَإِنْ كَانَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ حَيَّةً كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ بِالْمُقَاسَمَةِ فَيَرِثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ مَيِّتَةً كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَسَقَطَ الْأَخُ فَلَا يَرِثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ الْجَدُّ عَنْ السُّدُسِ. فَإِنْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ: لَا تُعَجِّلُوا بِقِسْمَةِ هَذَا الْمِيرَاثِ فَإِنِّي حُبْلَى فَإِنْ وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا وَرِثَ مَعَكُمْ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً فَإِنَّ هَذَا رَجُلٌ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَهُ وَلِأَبِيهِ سُرِّيَّةٌ فَمَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ ابْنِهِ وَلَهُ امْرَأَةٌ وَابْنَةٌ وَعَمٌّ، فَقَالَتْ سُرِّيَّتُهُ لَا تُعَجِّلُوا فَإِنِّي إنْ وَلَدْتُ غُلَامًا كَانَ أَخًا لِلْمَيِّتِ، وَكَانَ عَصَبَتَهُ فَكَانَ الْبَاقِي لَهُ دُونَ الْعَمِّ. وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدْتَ جَارِيَةً؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَالْأُخْتُ مَعَ الِابْنَةِ عَصَبَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي لَهَا دُونَ الْعَمِّ فَإِنْ قَالَتْ: إنْ وَلَدْتُ غُلَامًا وَرِثَ، وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ فَهَذَا رَجُلٌ مَاتَ أَخُوهُ وَلَهُ سُرِّيَّةٌ حُبْلَى، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَعَمًّا، فَقَالَتْ سُرِّيَّتُهُ لَهُمْ ذَلِكَ فَهِيَ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ ابْنَ أَخٍ الْمَيِّتِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْعُصُوبَةِ مِنْ الْعَمِّ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً كَانَتْ ابْنَةَ أَخٍ الْمَيِّتِ فَلَا تَرِثُ شَيْئًا وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ بِالْعُصُوبَةِ فَإِنْ قَالَتْ: إنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ فَهَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَسُرِّيَّةِ ابْنِهَا حُبْلَى وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ: لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً كَانَتْ أُخْتًا لِأَبٍ فَيَكُونُ لَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا لَمْ يَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ فَإِنْ قَالَتْ: إنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ وَلَدَتْهُمَا جَمِيعًا وَرِثَا فَهَذَا رَجُلٌ مَاتَ أَبُوهُ وَلَهُ سُرِّيَّةٌ حُبْلَى، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أُمَّهُ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ فَسُرِّيَّةُ أَبِيهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ أَخًا لِلِابْنِ فَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَا فِي يَدَيْهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ النِّصْفَ وَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ سِتَّةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْجَدِّ اثْنَانِ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ اثْنَانِ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَاحِدٌ، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ مَا فِي يَدِهِ عَلَى الْأُخْتِ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهَا النِّصْفَ ثَلَاثَةً وَيَخْرُجُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ رَدَّتْ الْأُخْتُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 64 مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَا فِي يَدِهَا وَلَمْ تَرِثْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً كَانَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْأُمِّ السُّدُسُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ خَمْسَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ وَبَقِيَ عَشَرَةٌ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْهَا كَمَالُ النِّصْفِ تِسْعَةٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَثْلَاثًا فَيَرِثَانِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنْ قَالَتْ الْحُبْلَى إنْ وَلَدْتُ غُلَامًا وَرِثَ وَوَرِثْت، وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً لَمْ أَرِثْ وَلَمْ تَرِثْ فَهَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَ ابْنَةِ ابْنِهِ ابْنَةَ ابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ ابْنَةِ ابْنِهِ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنِهِ حُبْلَى مِنْ ابْنِ ابْنَةِ ابْنِهِ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَهُ وَعَصَبَتَهُ فَجَاءَتْ ابْنَةُ ابْنِ ابْنِهِ هَذِهِ، فَقَالَتْ مَا قَالَتْ فَهِيَ إنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَا لِلْجَارِيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ابْنَتَيْ الْمَيِّتِ قَدْ أَحْرَزَتَا الثُّلُثَيْنِ فَرِيضَةَ الْبَنَاتِ فَلَا شَيْءَ لِمَنْ دُونَهُمَا مِنْ الْبَنَاتِ وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَرِثَتْ هِيَ، وَهُوَ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ وَابْنُهَا ابْنُ ابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ فَتَصِيرُ هِيَ عَصَبَةٌ بِهِ، وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ قَالَتْ: هَذِهِ الْحُبْلَى إنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثْت أَنَا وَهِيَ، وَإِنْ وَلَدْت غُلَامًا لَمْ أَرِثْ أَنَا وَلَا هُوَ فَهَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَ ابْنُ ابْنِهَا ابْنَةَ ابْنِ ابْنِهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ ابْنِهَا وَابْنَةُ ابْنِ ابْنِهَا حُبْلَى، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَابْنَتَهَا وَأَبَوَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُبْلَى وَقَالَتْ مَا قَالَتْ فَهِيَ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا لَمْ يَرِثْ هُوَ وَلَا هِيَ؛ لِأَنَّ لِابْنَةِ الْمَيِّتِ النِّصْفَ وَلِأَبَوَيْهَا السُّدُسَ وَلِلزَّوْجِ الرُّبْعَ فَقَدْ عَالَتْ الْفَرِيضَةُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا صَارَتْ عَصَبَةً بِالذَّكَرِ فِي دَرَجَتِهَا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً كَانَ لِابْنَةِ الْمَيِّتِ النِّصْفُ وَلِهَذِهِ مَعَ ابْنَتِهَا السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَا ابْنِ ابْنٍ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ فَكَانَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَإِنْ قَالَتْ: لَا تُعَجِّلُوا فَإِنِّي حُبْلَى فَإِنْ وَلَدْت غُلَامًا حَيًّا وَجَارِيَةً مَيِّتَةً وَرِثْت أَنَا وَالْغُلَامُ، وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً حَيَّةً وَغُلَامًا مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنَّا فَهَذَا رَجُلٌ لَهُ ابْنَتَانِ وَابْنَةُ ابْنِ ابْنٍ قَدْ تَزَوَّجَهَا ابْنُ ابْنٍ لَهُ آخَرَ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ ابْنِهِ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَتَيْهِ وَابْنَةَ ابْنِهِ وَهِيَ حُبْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِهِ فَهِيَ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا حَيًّا وَجَارِيَةً مَيِّتَةً صَارَتْ هِيَ عَصَبَةً بِالْغُلَامِ فَوَرِثَ الْغُلَامُ وَهِيَ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً حَيَّةً وَغُلَامًا مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الِابْنَتَيْنِ قَدْ أَحْرَزَتَا فَرِيضَةَ الْبَنَاتِ، وَكَانَ الْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 65 [بَابُ السُّؤَالِ فِي بَنَاتِ الِابْنِ وَالْإِخْوَةِ] (بَابُ السُّؤَالِ فِي بَنَاتِ الِابْنِ وَالْإِخْوَةِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): قَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ فِي الْعَوِيصِ فِي مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ وَالْجَدَّاتِ فَلَا نُعِيدُ هَهُنَا شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ ثَمَّةَ فَنَقُولُ: رَجُلٌ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنَاتٍ ابْنُ بَعْضِهِنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمَّةٌ أَوْ عَمَّةُ عَمِّهَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يُجِيبُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ مِنْ الْعَدَدِ وَأَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ النَّسَبِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُجِيبُونَ فِيهَا بِأَقَلَّ مِمَّا يَكُونُ مِنْ الْعَدَدِ وَأَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ النَّسَبِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْحِيحَ كَلَامِ السَّائِلِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَلْغَى بَعْضَ كَلَامِ السَّائِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْعِبَارَةِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِعِبَارَاتٍ وَذَلِكَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَلْغَى صِفَةَ كَلَامِهِ، وَهُوَ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ لِبَعْضِهِمْ فَإِنَّهُ إذَا حَمَلَ عَلَى أَبْعَدِ مَا يَكُونُ مِنْ النَّسَبِ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فَلِهَذَا اخْتَرْنَا طَرِيقَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ عَمَّةُ الْعُلْيَا ابْنَةُ الْمَيِّتِ وَعَمَّةُ عَمَّتِهَا أُخْتُ الْمَيِّتِ وَعَمَّةُ الْوُسْطَى دَرَجَةُ الْعُلْيَا وَعَمَّةُ عَمَّتِهَا ابْنَةُ الْمَيِّتِ أَيْضًا فَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتًا فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالْعُصُوبَةِ، وَعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَمَّةُ الْوُسْطَى هِيَ الْعُلْيَا وَعَمَّةُ عَمَّتِهَا هِيَ عَمَّةُ الْعُلْيَا فَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ وَأُخْتًا فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ فَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمُّهَا فَعَمُّ الْعُلْيَا ابْنُ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمَّتُهَا وَعَمَّةُ عَمَّتِهَا وَأُخْتُهَا وَابْنَةُ أُخْتِهَا وَجَدَّتُهَا وَأُمُّهَا فَلِعَمَّةِ الْعُلْيَا وَعَمَّةِ الْوُسْطَى الثُّلُثَانِ؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَا الْمَيِّتِ وَلِجَدَّةِ الْعُلْيَا الثُّمُنُ؛ لِأَنَّهَا امْرَأَةُ الْمَيِّتِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْعُلْيَا وَلِأُخْتِهَا وَلِابْنِ أُخْتِهَا وَلِابْنَةِ أُخْتِهَا وَلِلْوُسْطَى وَلِأُخْتِهَا وَلِعَمَّتِهَا وَلِعَمَّةِ السُّفْلَى وَعَمَّةِ عَمَّتِهَا بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ فِي دَرَجَةِ الذُّكُورِ أَوْ فَوْقَهُمْ فَيَكُونُونَ عَصَبَةً فِيمَا بَقِيَ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَ ابْنَتِهِ وَابْنَةَ ابْنِهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَالٌ وَعَمٌّ فَخَالُ ابْنِ الِابْنَةِ هُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ عَمُّ ابْنَةِ الِابْنِ هُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالَتُهُ وَعَمَّتُهُ فَخَالَةُ ابْنِ الِابْنَةِ ابْنَةُ الْمَيِّتِ وَعَمَّةُ ابْنَةِ الِابْنِ كَذَلِكَ ابْنَةُ الْمَيِّتِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةُ عُمُومَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَلِلْأَخَوَاتِ فَرْضُهُنَّ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 66 وَلِلْأُخْتِ لِأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِعَمِّ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِعَمِّ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّهُمَا عَمَّتَا الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ إذَا حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَقْرَبِ مَا يَكُونُ مِنْ النَّسَبِ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَبُوهَا وَأَخُوهَا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ أَبَ الْمَيِّتِ حَيٌّ فَهُوَ يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ دُونَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَدُّهَا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ أَبَ أَبِي الْمَيِّتِ حَيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةُ بَنِي إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَةُ عُمُومَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَالْمَالُ لِابْنِ أَخِي الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِابْنِهَا وَأُمِّهَا؛ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّ الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَهُوَ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ. فَإِنْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ فَاَلَّذِي لِأُمٍّ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لَهُ دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ فَاَلَّذِي لِأَبٍ أَخٌ لِأَبٍ فَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لَهُ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَيْ عَمِّهَا أَحَدُهُمَا أَخُوهَا لِأُمِّهَا وَتَرَكَتْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمِّهَا فَثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ إخْوَةٌ لِأُمٍّ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي بَيْنَ اللَّذَيْنِ هُمَا ابْنَا عَمٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الرَّابِعِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَثْلَاثًا فِي قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ تَرَكَتْ ابْنَيْ عَمَّتِهَا إحْدَاهُمَا أُخْتُهَا لِأُمِّهَا وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ إحْدَاهُمَا ابْنَةُ عَمٍّ فَإِنَّمَا تَرَكَتْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ فَلَهُنَّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الْعَمِّ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَتَيْ عَمَّةٍ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ وَالْأُخْرَى أُخْتُهُ لِأَبِيهِ وَثَلَاثَةُ إخْوَةٍ لِأُمٍّ أَحَدُهُمْ ابْنُ عَمٍّ فَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فِي الْحَاصِلِ أُخْتًا وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ لِأُمٍّ فَلَهُمْ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ فَلَهَا الرُّبْعُ وَتَرَكَ ابْنَةَ عَمٍّ، وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَلَهُ مَا بَقِيَ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَ أَخٍ لِأُمِّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتٍ لِأَبٍ وَخَالَةً وَابْنَ عَمٍّ فَالْمَالُ لِابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ الْأُخْتِ لِأَبٍ فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ وَمُحَمَّدٍ قَاسَاهُ عَلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرِيدُ بِهِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ وَتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مِنْ الْجَدَّتَيْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ الْجَدَّةِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الْجَدَّاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابٌ مِنْ مُتَشَابِهِ النَّسَبِ] (بَابٌ مِنْ مُتَشَابِهِ النَّسَبِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَيْسَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ تَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمَّ الْآخَرِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُلَامًا فَقَرَابَةُ مَا بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمُّ الْآخَرِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 67 لِأُمِّهِ وَلَا يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا إنْ مَاتَ وَلَهُ عَصَبَةٌ، وَإِنْ تَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنَةَ الْآخَرِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَقَرَابَةُ مَا بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنُ خَالِ الْآخَرِ فَلَا يَرِثُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ الْعَصَبَاتِ فَإِنْ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا أُمَّ الْآخَرِ وَتَزَوَّجَ الْآخَرُ ابْنَتَهُ فَوُلِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَقَرَابَةُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ ابْنَ الْمُتَزَوِّجِ بِالْأُمِّ خَالُ ابْنِ الَّذِي تَزَوَّجَ الِابْنَةَ وَعَمُّهُ وَابْنُ الَّذِي تَزَوَّجَ الِابْنَةِ ابْنُ أُخْتِ الَّذِي تَزَوَّجَ الْأُمَّ وَابْنُ أَخِيهِ لِأُمِّهِ فَلَا يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ لِأُمٍّ وَابْنَ الْأَخِ لِأُمٍّ مِنْ جُمْلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا يَرِثُونَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَتَهَا مِنْ ابْنِهِ فَوُلِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَقَرَابَةُ مَا بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ أَنَّ أَبَ الَّذِي تَزَوَّجَ الْأُمَّ عَمُّ ابْنِ الِابْنِ الَّذِي تَزَوَّجَ الِابْنَةَ وَخَالُهُ وَابْنُ الِابْنِ ابْنُ أَخِ الْأَبِ وَابْنُ أُخْتِهِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ وَرِثَ صَاحِبُهُ هُنَا مِنْ قِبَلِ الْعَمِّ مِنْ الْأَبِ عَصَبَتَهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ عَصَبَةٌ فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصَبَةُ صَاحِبِهِ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ وَارِثًا لَهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ الْأَبُ الِابْنَةَ وَتَزَوَّجَ الِابْنُ الْأُمَّ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُلَامًا فَقَرَابَةُ مَا بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ أَنَّ ابْنَ الْأَبِ عَمُّ ابْنِ الِابْنِ وَابْنُ أُخْتِهِ وَابْنُ الِابْنِ خَالُ ابْنِ الْأَبِ وَابْنُ أُخْتِهِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ وَرِثَهُ صَاحِبُهُ بِالْعُصُوبَةِ وَفِيهِ حِكَايَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا لِلْمَظَالِمِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَزَوَّجْتُ أُمَّهَا ابْنِي فَمُرْ بِعَطَائِي، فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا كَانَ أَوْلَى وَإِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَإِنْ أَحْسَنْتَ جَوَابَهَا أَمَرْت بِعَطَائِكَ، وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ جَوَابَهَا لَا أُعْطِيكَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَاتِ، فَقَالَ: إنْ وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ وَلِابْنِكَ غُلَامٌ فَأَيُّ قَرَابَةٍ تَكُونُ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ فَلَمْ يُحْسِنْ الرَّجُلُ الْجَوَابَ وَقَالَ: سَلْ الْقَاضِيَ الَّذِي وَلَّيْته مَا وَرَاءَ مَجْلِسِكَ فَإِنْ أَحْسَنَ الْجَوَابَ فَاصْرِفْ عَطَائِي إلَيْهِ وَإِلَّا فَاعْذُرْنِي فَلَمْ يُحْسِنْ الْقَاضِي وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إلَّا رَجُلٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَقَامَ، فَقَالَ: إنْ أَجَبْت فَأَحْسَنْت هَلْ تَقْضِي حَاجَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَجَابَ كَمَا ذَكَرْنَا فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهُ وَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْعَالِمِ مَا حَاجَتُكَ، فَقَالَ: إنَّ عَامِلَكَ أَسْقَطَ حَرْفًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَمَا ذَاكَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فَهُوَ يُسْقِطُ حَرْفَ مِنْ فَيَأْخُذُ أَمْوَالَنَا قَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ الْأَوَّلِ وَعَزَلَ ذَلِكَ الْعَامِلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [فَصْلٌ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ] (فَصْلٌ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ وَالِدِيهِ وَمَا وَلَدَا فَهَذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 68 لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ مَا وَلَدَا هُوَ الْمَيِّتُ فَكَيْفَ يَتْرُكُ الْمَيِّتُ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ وَمَا وَلَدَا سِوَاهُ فَإِنْ سُئِلَ عَنْ أُمٍّ وَأَبَوَيْنِ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنْ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ فَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إمَّا رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ مَيِّتٌ تَرَكَ زَوْجًا وَامْرَأَةً فَإِنْ سُئِلَ عَنْ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَمِّ الرَّجُلِ لَا يَكُونُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ فَإِنْ سُئِلَ عَنْ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَهَذَا لَا يَكُونُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَا يَكُونُ ابْنَ الْأَخِ بِحَالٍ فَإِنْ سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ ابْنَتَهُ وَأَبَوَيْ ابْنَتِهِ فَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْبِنْتِ فَإِنْ سُئِلَ عَنْ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ لِأَبٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ هُوَ جَدُّ الْمَيِّتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِ أَبِيهِ فَإِنْ سُئِلَ عَمَّنْ مَاتَ وَتَرَكَ عَمَّ ابْنِ أَخِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَخِيهِ عَمٌّ فَهَذَا لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ ابْنُ أَخِ عَمِّهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ يُهْدِيكَ إلَى مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ بِالنَّسَبِ] (بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ بِالنَّسَبِ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا قَرَابَةٍ أَوْ وَارِثٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ إلَّا بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَالْمَرْأَةُ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ إلَّا بِثَلَاثٍ الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ وَالْمَوْلَى؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا حُجَّةٌ، وَعَلَى غَيْرِهَا لَيْسَ بِحُجَّةِ فَالرَّجُلُ بِالْإِقْرَارِ بِالْأَبِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِالِانْتِسَابِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَبِيهِ شَرْعًا قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيه فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا». وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَإِنَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الِانْتِسَابِ إلَى الْمَوْلَى. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يُقِرُّ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِابْنٍ فَإِنَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَحْمِلُ نَسَبَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فَإِذَا كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ إلَّا فِي الْوَلَدِ إذَا كَانَ صَغِيرًا فِي يَدِهِ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّصْدِيقِ وَالْمَرْأَةُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَبِ وَالزَّوْجِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ إنَّمَا تُقِرُّ عَلَى نَفْسِهَا أَيْضًا وَالْأَبَوِيَّةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهَا فَإِذَا أَقَرَّتْ بِابْنٍ فَإِنَّمَا أَقَرَّتْ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ أَوَّلًا، وَهُوَ الزَّوْجُ وَإِقْرَارُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ يُوضِحُهُ أَنَّهُ مَعَ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الزَّوْجِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 69 لَا يَتَحَقَّقُ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ دُونَ هَذَا الزَّوْجِ، وَفِي جَانِبِ الرَّجُلِ يَتَحَقَّقُ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ لِلنَّسَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى سِوَى الْمَعْرُوفَةِ بِالنِّكَاحِ أَوْ الْمِلْكِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْأَعْلَاقِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّسَبُ مِنْ الْمَرْأَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا وَهِيَ الْقَابِلَةُ فَلَا يُجْعَلُ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ حُجَّةً وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ إنَّمَا تُخَالِفُ حَالَةَ الصِّحَّةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ فَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً وَالنَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُقِرِّ أَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ مَوْلَى عَتَاقَةٍ مَعْرُوفٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِأَبٍ آخَرَ وَلَا بِمَوْلَى آخَرَ لِثُبُوتِ حَقِّ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دُونَ تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِزَوْجٍ وَلَهَا زَوْجٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ حَقُّ الْغَيْرِ وَإِنَّهَا مُكَذَّبَةٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شَرْعًا بِخِلَافِ الرَّجُلِ يُقِرُّ بِامْرَأَةٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُكَذَّبٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ ابْنِ ابْنٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ أَخٍ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّ نَسَبَ النَّافِلَةِ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ عَلَى أَبِيهِ. وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ لَا يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَكَانَ إقْرَارًا مِنْهُ عَلَى ابْنِهِ. وَكَذَلِكَ الْجَدُّ فَإِنْ جَمَعَ فِي الْإِقْرَارِ بَيْنَ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِهِ كَانَ الْمَالُ لِمَنْ جَازَ إقْرَارُهُ بِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي حَالِ انْفِرَادِهِ نَحْوَ مَا إذَا أَقَرَّ بِابْنٍ وَابْنَةِ ابْنٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلِابْنِ بِالْفَرْضِ وَالْفَرْدُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِهِ صَحِيحٌ فَيَكُونُ ثُبُوتُ نَسَبِهِ بِإِقْرَارِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ جَمِيعَهُ مِثْلِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كَانَ لَهُ حَظُّهُ كَامِلًا وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا بِإِقْرَارِهِ عَلَى حِسَابِهِمَا لَوْ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمَا إلَّا بَاقِي الْمَال بَيَانُهُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَلِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ كَامِلًا وَالْبَاقِي بَيْنَ ابْنَةِ الِابْنِ وَالْأُخْتُ عَلَى سَبْعَةٍ لِابْنَةِ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ إقْرَارَ فَرِيضَتِهِمَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَدَّقَ فِي إدْخَالِ النُّقْصَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَخَذَتْ الرُّبْعَ كَامِلًا، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي حَقِّ الْآخَرِينَ فَتَضْرِبُ ابْنَةُ الِابْنِ بِنَصِيبِهَا أَرْبَعَةً وَالْأُخْتُ بِثَلَاثَةٍ. وَلَوْ أَقَرَّ بِابْنَتَيْ ابْنٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْبَاقِي بَيْنَ ابْنَتَيْ الِابْنِ وَالْأُخْتِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 70 أَنَّ الْفَرِيضَةَ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِابْنَتَيْ الِابْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشْرَ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَلَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَأَخَذَتْ الرُّبْعَ كَامِلًا فَتَضْرِبُ ابْنَتَا الِابْنِ فِي الْبَاقِي بِسِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالْأُخْتُ، وَإِنْ تَصَادَقَ بَعْضُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِجَمِيعِ نَصِيبِ الْمُتَصَادِقِينَ فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى حِسَابِ مَا تَصَادَقُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِتَصَادُقِهِمْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَأَقَرَّ بَعْضُ وَرَثَتِهِ بِوَارِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُونَ دَخَلَ مَعَهُ فِي نَصِيبِهِ فَاقْتَسَمَاهُ عَلَى سِهَامِهِمَا نَحْو مَا إذَا تَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. فَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَخٍ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِابْنَةٍ لِأَبِيهِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّهَا مِثْلُ نِصْفِ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ فَإِنَّهُ يُقَاسِمُهَا مَا فِي يَدَيْهِ عَلَى تِسْعَةٍ لَهَا سَهْمَانِ وَلَهُ سَبْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَبْعَةٌ وَلِأَخِيهِ سَبْعَةٌ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ مُقِرٌّ مِنْهُمْ بِوَارِثٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِي الْمُقِرِّينَ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُقِرِّينَ لَهُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ وَذَلِكَ بِأَنْ تُصَحَّحَ الْفَرِيضَةُ لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيبِهِ بَيَانُهُ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَخٍ فَإِنَّهُمَا يُقَاسِمَانِهِ جَمِيعًا مَا فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْأَخِ الْمُقِرِّ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ الْمُقِرَّةِ سَهْمٌ وَلِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ سَهْمَانِ؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِكُلِّ أَخٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ فَمَا وَصَلَ إلَيْهِمَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمْ، وَفِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا كَثْرَةٌ وَلَكِنْ بِالْقَدْرِ الَّذِي بَيَّنَّا يَتَيَسَّرُ تَخْرِيجُ الْكُلِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ إقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ بَعْدَ وَارِثٍ] (بَابُ إقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ بَعْدَ وَارِثٍ) (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -): وَإِذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ مَعَهُ وَأَعْطَاهُ نَصِيبَهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ وَلَمْ يُصَدِّقْ الْأَوَّلُ قَاسَمَهُ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ عَلَى حِسَابِ نَصِيبِهِمَا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ مِنْهُ فَكَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ مَعَهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَيَجْعَلُ ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ كَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يَكُونُ نَسَبُهُ مَعْرُوفًا وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ لِلْغَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 71 حُجَّةً عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَصْدِيقٍ يَكُونُ مِنْهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ مَا أَتْلَفَ عَلَى الثَّانِي شَيْئًا وَالدَّفْعُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِي حُكْمِ التَّاوِي فَكَانَ جَمِيعُ الْمَالِ مِقْدَارَ مَا بَقِيَ يَدِهِ فَيُقَاسِمُهُ الْمُقَرُّ لَهُ الْآخَرُ عَلَى حِسَابِ نَصِيبِهِمَا، وَبَيَانُهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَخَوَيْنِ مَعًا أَوْ بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ فَإِنَّهُمَا يَأْخُذَانِ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهِمَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخِرِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ؛ لِأَنَّ فِي آخَرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ حُكْمَ أَوَّلِهِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، فَأَمَّا إذَا فَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْأَوَّلُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى الْأَوَّلِ فِي إدْخَالِ شَيْءٍ مِنْ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَيْ مَا فِي يَدَيْهِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ أَعْطَاهُ نِصْفَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلَانِ فِي حُكْم التَّاوِي كَمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَعْطَاهَا عُشْرَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِزَعْمِ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ امْرَأَةً وَثَلَاثَةَ بَنِينَ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ أَوَّلًا يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْمُقَرِّ بِهِ آخِرًا أَوْ الْمُقَرُّ بِهِ آخِرًا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْمُقَرِّ بِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالثَّانِي فَحَقُّ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ وَحِينَ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي ثَانِيًا فَلَا يَكُونُ هُوَ مُعْتَبَرًا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ الْأَوَّلِ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَعَصَبَةً فَأَقَرَّتْ الِابْنَةُ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّهَا تُعْطِيهَا خُمْسَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لَهَا سَهْمٌ وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِ الِابْنَةِ بِحَقِّهَا فَلِذَا أَخَذَتْ خُمْسَ مَا فِي يَدِهَا فَإِنْ أَعْطَتْهَا ذَلِكَ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَتْهَا سَهْمًا مِنْ تِسْعَةِ أَسْهُمٍ مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ لِلْمَيِّتِ امْرَأَتَيْنِ وَإِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَتَيْنِ سَهْمَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَلَهَا ثَمَانِيَةٌ فَتُعْطِيهَا سَهْمًا مِنْ تِسْعَةٍ فَإِنْ أَعْطَتْ ذَلِكَ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَتْهَا سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ لِلْمَيِّتِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَإِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلنِّسْوَةِ ثَلَاثَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَلَهَا اثْنَا عَشَرَ فَتُعْطِيهَا سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَعْطَتْهَا ذَلِكَ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَتْهَا سَهْمًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 72 سَهْمًا مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ لِلْمَيِّتِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَإِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ أَرْبَعَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَلَهَا النِّصْفُ سِتَّةَ عَشَرَ فَهِيَ تَضْرِبُ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا بِسِتَّةَ عَشَرَ وَالْمَرْأَةُ بِسَهْمٍ فَلِهَذَا أَعْطَتْهَا سَهْمًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ. وَلَوْ تَرَكَ أَخًا فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنَةٍ لِلْمَيِّتِ أَعْطَاهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَةً وَأَخًا فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَأَخًا فَيَكُونُ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ فَحَقُّ الثَّانِيَةِ بِزَعْمِهِ مِثْلُ حَقِّهِ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا خُمُسَيْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَ بَنَاتٍ وَأَخًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةٌ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِلْأَخِ فَيَضْرِبُ الْأَخُ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ بِثَلَاثَةٍ وَهِيَ بِسَهْمَيْنِ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا خُمُسَيْ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ أَرْبَعَ بَنَاتٍ وَأَخًا فَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ مِنْ سِتَّةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ فَهُوَ يَضْرِبُ فِي الْبَاقِي بِسَهْمٍ وَالْأَخُ بِسَهْمَيْنِ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْأَخُ أَوَّلًا بِابْنَةٍ وَأَعْطَاهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةِ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ وَأَخًا فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِابْنَةِ الِابْنِ سَهْمٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ لِلْأَخِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُعْطِيهَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّ مَعَ الِابْنَةِ وَابْنِ الِابْنِ لَا تَرِثُ ابْنَةُ ابْنِ الِابْنِ شَيْئًا وَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْأَخُ أَوَّلًا بِابْنَةِ ابْنِ ابْنٍ فَأَعْطَاهَا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةِ ابْنٍ أَعْطَاهَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَرَكَ ابْنَةَ ابْنٍ وَابْنَةَ ابْنِ ابْنٍ وَأَخًا فَلِابْنَةِ الِابْنِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِابْنَةِ ابْنِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَهْمَانِ لِلْأَخِ فَتَضْرِبُ هِيَ فِي فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِسَهْمَيْنِ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنَةِ لِلْمَيِّتِ أَعْطَاهَا أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ لَهَا النِّصْفَ ثَلَاثَةً وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسَ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُعْطِيهَا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِابْنِ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِزَعْمِهِ تَرَكَ ابْنَ ابْنٍ وَأَخًا فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الِابْنِ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَدْخُلُ الِابْنُ مَعَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 73 ابْنِ الِابْنِ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأَخِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْأَخُ بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ فَدَفَعَ إلَيْهَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَخَذَتْ سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِزَعْمِهِ خَلَّفَ امْرَأَتَيْنِ وَأَخًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ وَلِلْأَخِ سِتَّةٌ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا عُشْرَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَلِلْأَخِ تِسْعَةٌ فَإِنْ أَعْطَاهَا الْعُشْرَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مِنْهُ سَهْمًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلنِّسْوَةِ الرُّبْعُ أَرْبَعَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَالْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ لِلْأَخِ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ وَأَعْطَاهَا تَسْعَى مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا ثُمُنَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ابْنَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا سَهْمَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ لِلْمَيِّتِ ابْنَيْنِ وَثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلنِّسْوَةِ سَهْمٌ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ فَيَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْنِ فَيَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ يَضْرِبُ ثَمَانِيَةً فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لِلنِّسْوَةِ سِتَّةٌ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُعْطِيهَا مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ سَهْمَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَعْطَاهَا جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَالثُّمُنُ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي، وَهُوَ تِسْعَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنَّ أَرْبَعَةً تُجْزِي عَنْ سَهْمَيْنِ فَيَضْرِبُ ثَمَانِيَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ أَرْبَعَةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُعْطِيهَا مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا، وَإِذَا دَفَعَ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ ضَمِنَ لَهُ جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ حِصَّتِهِ دُونَ حِصَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ فِيمَا أَخَذَهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَفِيمَا دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الصُّنْعُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ فَيُجْعَلُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ، وَبَيَانُهُ لَوْ تَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ فَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِآخَرَ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ الثَّانِي فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 74 ثُلُثِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَالْبَاقِي فِي يَدِهِ نِصْفُ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ ثُلُثَيْ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَهُوَ جَمِيعُ نَصِيبِهِ بِزَعْمِهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ رُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ لِلْمَيِّتِ أَرْبَعَ بَنِينَ وَالْبَاقِي فِي يَدِهِ سُدُسُ الْمَالِ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ وَيَغْرَمُ لَهُ نِصْفَ السُّدُسِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِآخَرَ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِآخَرَ أَعْطَاهُ ثُلُثَ جَمِيعِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ شَيْئًا مِمَّا أَخَذَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِنَسَبٍ لَهُ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ ضَامِنٌ فِي حَقِّ الثَّانِي مَا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِزَعْمِهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيَغْرَمُ لِلْآخَرِ جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ بِزَعْمِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ رُبْعَ جَمِيعِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ ثُمُنُ جَمِيعِ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا دُفِعَ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِغَيْرِ قَضَاءٍ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمَا يُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ. وَلَوْ تَرَكَ أَخًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ جَمِيعَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ أَيْضًا جَمِيعَ مَا أَعْطَى الْأَخَ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ لِلِابْنِ وَأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ بَعْضَ الْمَالِ بِدَفْعِهِ إلَى الْأَخِ بِاخْتِيَارِهِ. وَلَوْ تَرَكَ عَمَّا فَأَقَرَّ الْعَمُّ بِأَخٍ لِلْمَيِّتِ وَأَعْطَاهُ الْمَالَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ غَرِمَ لَهُ مِثْلَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْطَى لِلْأَوَّلِ مَا لَيْسَ لَهُ فَإِنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنِ ابْنٍ لَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالِابْنِ لَا يَكُونُ هُوَ مُقِرًّا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ لِابْنِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ. وَلَوْ تَرَكَ أَخًا فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنِ ابْنٍ وَأَعْطَاهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ وَغَرِمَ لَهُ مِثْلَ جَمِيعِ الْمَالِ وَدَفَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِلِابْنِ الثَّانِي مِثْلَ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى الِابْنِ الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ مِثْلَ ثُمُنِ جَمِيعِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأُمٍّ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا مِثْلَ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا وَإِنَّهُ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَوْ تَرَكَ أَخًا فَأَقَرَّ الْأَخُ بِأَخٍ آخَرَ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ وَأَعْطَاهُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ سُدُسَ الْمَالِ وَثُلُثَ سُدُسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا دَفَعَ إلَى الثَّانِي بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي يَبْقَى ثُلُثَا الْمَالِ، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَثْلَاثًا وَأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 75 فِي يَدِهِ فَيُعْطَى الثَّالِثُ كَمَالَ حَقِّهِ وَذَلِكَ سُدُسٌ وَثُلُثُ سُدُسٍ، وَفِي يَدِهِ سُدُسٌ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ وَيَغْرَمُ لَهُ ثُلُثَ سُدُسِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ نِصْفَ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَا يَغْرَمُ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَإِذَا أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثَيْنِ فَصَدَّقَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ يُنْظَرُ فِي نَصِيبِ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ الْمُقَرِّ بِهِمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِمَا فَيُعْطِي ذَلِكَ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ وَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ عَلَى حِسَابِ نَصِيبِهِمَا فِي الْأَصْلِ لَوْ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِهِمَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآخَرَ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَفِي حَقِّ الْمَجْحُودِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآخَرَ كَذَّبَهُ فِيهِمَا، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخَوَيْنِ مَعًا وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ لَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا لَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي رُبْعِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ ضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا خُمُسَ مَا فِي يَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ حَقَّكَ فِي سَهْمٍ وَحَقِّي فِي سَهْمٍ وَحَقَّ الْمَجْحُودِ فِي سَهْمٍ إلَّا أَنَّ أَخِي حِينَ صَدَّقَ بِكَ فَقَدْ يَحْمِلُ عَنِّي نِصْفَ مَئُونَتِهِ فَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّكَ فِيمَا فِي يَدِي فِي نِصْفِ سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَجْحُودِ فِي سَهْمٍ فَيُضَعِّفُهُ لِلْكَسْرِ بِالْإِنْصَافِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَقَدْ قَدَّمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَأَعَادَهَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَخَوَاتِهَا، فَقَالَ: لَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ وَأُخْتٍ مَعًا وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي الْأُخْتِ وَكَذَّبَهُ فِي الْأَخِ. فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَابْنَةً وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سَبْعَةٍ لِلْأُخْتِ السُّبْعُ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِهَا وَيُقَاسِمُهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمَا وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْحُودِ نِصْفَانِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْأُخْتُ تَأْخُذُ تُسْعَ مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَابْنَةً وَأَنَّ حَقَّ الِابْنَةِ فِي سَهْمٍ وَحَقَّهُ فِي سَهْمَيْنِ وَحَقَّ الْمَجْحُودِ فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 76 سَهْمَيْنِ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ الَّذِي هُوَ لَهَا نِصْفُهُ فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا فَذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّمَا تَضْرِبُ هِيَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِنِصْفِ سَهْمٍ وَهُمَا بِأَرْبَعَةٍ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعِفْ الْحِسَابَ فَيَكُونُ تِسْعَةً فَلِهَذَا أَخَذَتْ تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا حَتَّى أَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ وَصَدَّقَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فِي الْآخَرِ أَخَذَ الْمُقَرُّ بِهِ الْأَوَّلُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَهُ لِلثَّانِي فِي كَلَامٍ مَفْصُولٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِهَذَا وَيَأْخُذُ الْآخَرُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِسَهْمٍ أَيْضًا لَكِنَّ الِابْنَ الْآخَرَ حِينَ صَدَّقَهُ فِيهِ فَقَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ نِصْفَ مُؤْنَتِهِ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِنِصْفِ سَهْمٍ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْآخَرُ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْأَخُ صَدَّقَهُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ وَكَذَّبَهُ فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ مِنْ الْمُقِرِّ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ حِينَ أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا أَنَّ حَقَّهُ فِي ثُلُثِ التَّرِكَةِ وَلَكِنَّ بَعْضَ التَّرِكَةِ فِي يَدِ الْآخَرِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِهِ فَذَلِكَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِهِ مِقْدَارَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ لِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ وَأَعْطَاهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأُخْتٍ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ رُبْعَ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَوَّلِ إنَّمَا أَقَرَّ لَهَا بِسُبْعِ الْمَالِ فَإِنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَ بَنِينَ وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ لَهَا سُبْعُ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَلَهَا سُبْعُ ذَلِكَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ أَخَذَ الْأَوَّلُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي فَتَضْرِبُ الْأُخْتَ فِيمَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِسَهْمٍ وَالْمُقِرُّ بِثَلَاثَةٍ فَلِهَذَا أَخَذَتْ رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ وَضَمَّتْهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي صَدَّقَ بِهَا فَاقْتَسَمَاهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّهِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَتَيْنِ لِأَبِيهِ مَعًا وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي أَحَدَيْهِمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِمَا نِصْفَ ثُمُنِ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا بِزَعْمِهِ فِي نِصْفِ ثُمُنِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا نِصْفَ ثُمُنِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَبْعَةٌ يُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمَا، ثُمَّ يُقَاسِمُ الْمُقِرُّ الْمَرْأَةَ الْمَجْحُودَةَ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَأَنَّ لَهَا سَهْمًا وَلَهُ سَبْعَةً فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 77 بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ وَأَعْطَاهَا تُسْعَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ مَعًا وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي أَحَدَيْهِمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِنَّ جُزْءًا مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا وَخُمُسَ جُزْءٍ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ جُزْءٍ مِمَّا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ بِزَعْمِهِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَلِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا يَسْتَقِيمُ وَالْبَاقِي، وَهُوَ سَبْعَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ فَيَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ سِتَّةً، ثُمَّ ثَمَانِيَةً فِي سِتَّةٍ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ إلَّا أَنَّهُ دَفَعَ إلَى الْأُولَى تُسْعَ مَا فِي يَدِهِ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَتُسْعَاهُ خَمْسَةٌ وَثُلُثٌ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ حَقُّهَا بِزَعْمِهِ وَثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ أَعْطَاهَا زِيَادَةً عَلَى حَقِّهَا وَمَا أَعْطَاهَا زِيَادَةً مِنْ حَقِّ الْأُخَرَتَيْنِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ مَا أَعْطَاهَا مِنْ حَقِّهِ يَكُونُ مَحْسُوبًا مِنْ نَصِبِيهِ فَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ كَانَ مَا أَعْطَى مِنْ نَصِيبِهِ سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ سَهْمٍ وَخُمُسَيْ خُمُسِ سَهْمٍ، وَقَدْ كَانَ نَصِيبُهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ إذَا اُنْتُقِصَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ حَقِّهِ بَقِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَخَمْسٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ خُمُسٍ وَحَقُّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا سَهْمَانِ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا فِي يَدِ الِابْنِ الْآخَرِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِهَا فَإِنَّمَا تَضْرِبُ هِيَ بِسَهْمٍ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ مِقْدَارُ حَقِّهِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عِشْرِينَ سَهْمًا وَخُمُسَ سَهْمٍ وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ خُمُسِ سَهْمٍ فَلِهَذَا أَخَذَتْ سَهْمًا مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ نَصِيبَ امْرَأَتَيْنِ، وَكَانَ صَوَابُهُ أَنْ يَحْذِفَ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَتْ نَصِيبَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْمَرْأَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ فَيُعْطِي الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا سَهْمًا مِنْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ خُمُسِ سَهْمٍ، وَقَدْ فَحَصْتُ فِي أَصْلِ التَّخْرِيجِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَعَسَى يَتَّضِحُ إذَا تَيَسَّرَ وُصُولِي إلَى كُتُبِي أَوْ أُصِيبُ وَقْتَ فَرَاغِ خَاطِرِي فَإِذَا أَخَذْتَ ذَلِكَ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِنَّ فَضَمَمْتَهُ إلَى مَا فِي يَدِ الَّذِي صَدَّقَهُ بِهَا فَاقْتَسَمَاهُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً وَأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَيَقْسِمُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا وَيُقَاسِمُ الْمُقَرُّ بِهِنَّ الْمَرْأَةَ الْمَجْحُودَةَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَنَّ لَهَا سَهْمَيْنِ وَلَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا فَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى اعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ لَهَا سَهْمَانِ وَلَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَفِي هَذَا أَيْضًا بَعْضُ شُبْهَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ نَصِيبِهِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ حَتَّى يُنْتَقَصَ ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 78 الْقَدْرُ مِنْ نَصِيبِهِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ مَعَ الْمَجْحُودَةِ وَلَوْ تَرَكَ أَخَوَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِابْنَتَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي أَحَدَيْهِمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنْهُمَا تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَوَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ قَدْ أَقَرَّ لِهَذِهِ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا نِصْفَ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ حَقُّهَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَيَبْقَى نِصْفُ الثُّلُثِ فَلِهَذَا أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ ضَمَّ ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ الْآخَرِ وَاقْتَسَمَاهُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَوَيْنِ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ فَحَقُّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّهَا فَلِهَذَا اقْتَسَمَا مَا وَصَلَ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا لَهَا سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ وَتُقَاسِمُ الْأُخْرَى الْمُقَرَّ بِهِمَا مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ لَهَا الثُّلُثَ وَلَهُ السُّدُسُ فَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا لَهَا سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِثَلَاثِ بَنَاتٍ وَصَدَّقَهُ أَخُوهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا تَأْخُذُ مِنْ الْمُقَرِّ بِهِنَّ تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ وَأَخَوَيْنِ فَيَكُونُ لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثَاهُ أَثْلَاثًا وَثُلُثُهُ نِصْفَيْنِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْبَنَاتِ اثْنَا عَشَرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ لِلْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِأَرْبَعَةٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ تُسْعَا التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ لِهَذَا فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ بِهَا وَيُقَاسِمُهُ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ لَهَا نِصْفَ التَّرِكَةِ وَلَهُ الرُّبْعُ، ثُمَّ يُقَاسِمُ الْمُقَرَّ بِهِنَّ الْبَاقِيَتَيْنِ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لَهَا ثَمَانِيَةٌ وَلَهُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ الْقِسْمَةَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةٌ وَلَهُ ثَلَاثَةٌ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِهَذَا قَالَ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَدْفَعْ حَتَّى اخْتَصَمُوا، ثُمَّ دَفَعَ بِقَضَاءٍ، وَكَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ لِآخَرَ أَنَّهُ وَارِثٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ وَارِثًا وَدَخَلَ عَلَى الْقَوْمِ جَمِيعًا إذَا لَمْ يَكُونُوا دَفَعُوا شَيْئًا حَتَّى شَهِدُوا؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ بَلْ عَلَيْهِمْ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا قَدْ دَفَعَا مِنْ حِصَّتِهِمَا نَصِيبَ الْوَارِثِ، ثُمَّ جَاءَا بِشَاهِدَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَاحِدِ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تُتِمُّ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَكَذَّبَهُ الْأَخُ فِيهَا وَالْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَإِنَّهُ يُقَاسِمُهَا مَا فِي يَدِهِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِزَعْمِهِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَإِنْ دَفَعَ ثُمُنَ مَا فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 79 يَدِهِ إلَيْهَا بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهَا أَخِيرًا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَا تَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ وَالِابْنُ إنَّمَا أَقَرَّ أَنَّ حِصَّتَهَا فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ قَدْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا تَأْخُذُ مِمَّا بَقِيَ فِي الِابْنِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّ الْمَعْرُوفَةَ هُنَاكَ كَذَّبَتْ بِهَا فَلَا يَصِلُ إلَيْهَا نَصِيبُهَا مِمَّا فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ الْمُقِرِّ فِيمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ، وَكَانَ حَقُّهَا فِي التَّرِكَةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً، ثُمَّ أَقَرَّ الِابْنُ بِامْرَأَةٍ وَصَدَّقَتْهُ الْمَعْرُوفَةُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَا سَبِيلَ لَهَا عَلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَامْرَأَةً فَأَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِامْرَأَتَيْنِ مَعًا وَصَدَّقَتْهُ الْمَعْرُوفَةُ فِي أَحَدَيْهِمَا وَكَذَّبَتْهُ فِي الْأُخْرَى فَإِنَّ الْمَعْرُوفَةَ تُقَاسِمُ الَّتِي أَقَرَّتْ بِهَا مَا فِي يَدِهَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ فِي يَدِهَا، وَقَدْ صَدَّقَتْ بِهَذِهِ وَزَعَمَتْ أَنَّ حَقَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقَاسِمُ الِابْنُ الْمَرْأَةَ الْبَاقِيَةَ مَا فِي يَدِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِزَعْمِهِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ يَضْرِبُ فِي الْبَاقِي بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لَهَا مِنْ ذَلِكَ سَهْمَانِ وَلَهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِابْنٍ وَصَدَّقَهَا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ يُقَاسِمُ الْمَعْرُوفَ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْبَنِينَ فِي يَدِهِ وَاَلَّذِي فِي يَدِ الْمَرْأَةِ مِيرَاثُ النِّسَاءِ وَلَا حَظَّ لِلْبَنِينَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِابْنَيْنِ وَصَدَّقَهَا الْمَعْرُوفُ فِي أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ لَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْمَرْأَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَالِابْنُ الْآخَرُ يُقَاسِمُ الْمَرْأَةَ مَا فِي يَدِهَا عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِزَعْمِهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لَهَا ثَلَاثَةٌ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً فَأَقَرَّ الِابْنُ بِثَلَاثِ نِسْوَةٍ وَصَدَّقَتْهُ الْمَعْرُوفَةُ فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَانَ الْمَعْرُوفَةُ تُقَاسِمُ هَاتَيْنِ مَا فِي يَدِهَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ فِي يَدِهَا، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِهَاتَيْنِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّ حَقَّهُمَا مِثْلُ حَقِّهَا وَيُقَاسِمُ الِابْنُ الْمَرْأَةَ الْبَاقِيَةَ مَا فِي يَدِهِ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِزَعْمِهِ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ أَرْبَعَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرِينَ فَهِيَ تَدْخُلُ مَعَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَتَضْرِبُ بِسَهْمٍ، وَهُوَ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِنْ تَصَادَقَ النِّسْوَةُ كُلُّهُنَّ فِيمَا بَيْنَهُنَّ فَإِنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ مَعَ الْمَعْرُوفَةِ فِيمَا فِي يَدِهَا فَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ فِي يَدِهَا، وَقَدْ أَقَرَّتْ لَهُنَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَقَرَّتْ بِثَلَاثَةِ بَنِينَ فَصَدَّقَهَا الِابْنُ فِي أَحَدِهِمْ فَاَلَّذِي صَدَّقَ الِابْنُ بِهِ يُقَاسِمُهُ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ وَيَقْسِمُ مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لَهَا أَرْبَعَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 80 لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِزَعْمِهَا مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَامْرَأَةً فَيَكُونُ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ أَرْبَعَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَمَا فِي يَدِهَا يُقْسَمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِابْنَيْنِ الْمَجْحُودَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ وَلَوْ صَدَّقَهَا الِابْنُ فِيهِمْ جَمِيعًا دَخَلُوا مَعَهُ فِي نَصِيبِهِ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ أَرْبَاعًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ صَدَّقَهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادٍ مَعْرُوفِينَ لِلْمَيِّتِ وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِآخَرَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ إقْرَارِهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْمُقِرَّ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَيَكُونُ الْآخَرُ عَلَى حَقِّهِ فِيمَا فِي يَدِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَ الْأَوَّلُ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَضُمُّ مَا فِي يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَلَامِ الْآخَرِ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ إنْكَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ مُسْتَهْلِكًا نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَ حَقَّهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَيَأْخُذُ الْآخَرُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ مَا صَارَ مُسْتَهْلِكًا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ بِالدَّفْعِ، وَهُوَ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَخَاهُ فَأَقَرَّ بِأَنَّ لِلْمَيِّتِ ابْنًا، ثُمَّ أَنْكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ فُلَانٌ ابْنُهُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا لِلْأَوَّلِ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ إنْكَارُهُ رُجُوعٌ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْآخَرِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بَعْدَ الدَّفْعِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ كَانَ ضَامِنًا لِلثَّانِي جَمِيعَ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَحِينَ أَنْكَرَهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي التَّرِكَةِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ التَّرِكَةُ لِلْبَاقِي، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهَا عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ بِاخْتِيَارِهِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَعْطَاهُ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَيِّتَ الْأَوَّلَ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَأَنَّ نِصْفَ تَرِكَتِهِ لِلْمُقَرِّ بِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ نِصْفَيْنِ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَبِيهِمَا فَحَقُّهُ مِثْلُ نِصْفِ حَقِّ الْمُقَرِّ بِهِ بِزَعْمِهِ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ حِينَ مَاتَ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ فَأَقَرَّتْ إحْدَاهُمَا بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ أَعْطَتْهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ لِلْمُقَرِّ بِهِ النِّصْفَ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَبِيهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 81 وَأَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ قَدْ صَارَ أَثْلَاثًا بِمَوْتِ أَبِيهَا لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ فَإِذَا بِزَعْمِهَا لَهَا سُدُسُ الدَّارِ وَلِلْمُقَرِّ بِهِ أَرْبَعَةُ أَسْدَاسٍ فَيُقْسَمُ مَا فِي يَدِهَا بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَخْمَاسًا وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ وَتَرَكَ دَارًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ ابْنًا وَتَرَكَ عَبْدًا سِوَى نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ، ثُمَّ إنَّ عَمَّ الْجَارِيَةِ أَقَرَّ بِأَخٍ لِأَبٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَلَا يُعْطِيهِ مِمَّا وَرِثَ مِنْ الْعَبْدِ شَيْئًا أَمَّا لَا يُعْطِيهِ مِنْ الْعَبْدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الْعَبْدِ مِيرَاثٌ مِنْ أَخِيهِ وَبِزَعْمِهِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ عَنْ ابْنِهِ وَأَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ لِأَبٍ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِأَبٍ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَأَمَّا الدَّارُ فَهِيَ مِيرَاثٌ مِنْ ابْنِهِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِيمَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ، قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَيْهِ فِي الْحَاصِلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَبِيهِ وَالرُّبْعُ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَخِيهِ وَحَقُّ الْمُقَرِّ بِهِ بِزَعْمِهِ فِي ثُلُثِ الدَّارِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ نِصْفَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَخِيهِ وَذَلِكَ سُدُسُ الدَّارِ فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ رَدَّ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى أَخِيهِ وَأَنَّهُ أَخَذَهُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْمُقَرِّ بِهِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ فَلَا وَجْهَ سِوَى أَنْ يُقَالَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا خَلَّفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ ابْنَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ الْعَائِدُ إلَى الْأَخِ ثُلُثُ النِّصْفِ فَيَجْتَمِعُ فِي يَدِهِ ثُلُثُ الدَّارِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ ذَلِكَ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ ثُلُثَ الدَّارِ لَهُ إرْثٌ عَنْ أَبِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ قَاسَمَهُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَالْعَبْدِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي التَّرِكَتَيْنِ جَمِيعًا فَمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ التَّرِكَتَيْنِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ ابْنَةً فَأَقَرَّ الثَّانِي بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ وَأَنَّهَا أُمُّهُمَا وَأَنْكَرَتْ الِابْنَةُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا مِمَّا فِي يَدِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ؛ لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْأَوَّلِ بِزَعْمِهِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ أُمًّا وَابْنَةً وَأَخًا فَتَكُونُ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَنَصِيبُهُ مِنْ التَّرِكَةِ الْأُولَى سَبْعَةٌ وَقِسْمَةُ سَبْعَةٍ عَلَى سِتَّةٍ لَا يَسْتَقِيمُ فَبِضَرْبِ سِتَّةَ عَشَرَ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَتِسْعِينَ كَانَ لِلْأُمِّ مِنْ التَّرِكَةِ الْأُولَى سَهْمَانِ ضَرَبَتْهُمَا فِي سِتَّةٍ فَذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ لِلْأُمِّ مِنْ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ السُّدُسُ، وَهُوَ سَبْعَةٌ فَإِذَا ضَمَمْت سَبْعَةً إلَى اثْنَيْ عَشَرَ تَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلِلْمُقِرِّ مِنْ التَّرِكَةِ الْأُولَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ وَمِنْ التَّرِكَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سِتَّةً وَخَمْسِينَ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَلِهَذَا يُعْطِيهَا مِمَّا فِي يَدِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 82 مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ رَجُلٌ مَاتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْأَخُ وَارِثُهُ وَهُمَا أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ إنَّ الثَّانِيَ أَقَرَّ بِأَخٍ لِأَبٍ فَإِنَّهُ يُقَاسِمُهُ هَذِهِ الْأَلْفَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ الثَّانِي كَانَ فِي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ وَأَنَّ مَا أَخَذَهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ كَانَ مُسْتَحِقُّ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ قَضَاءً مِمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَرِكَةً لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْمُقَرَّ بِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي تَرِكَتِهِ فَلِهَذَا قَاسَمَهُ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَإِنْ كَانَ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثَ الْأَلْفِ وَأَخَذَ مِنْ الْمُقِرِّ ثُلُثَ الْأَلْفِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ زَعَمَ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِهِ فِي ثُلُثِ كُلِّ أَلْفٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ الثَّانِي فَيَأْخُذُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ تَرِكَتِهِ، ثُمَّ مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ الثَّانِي، وَقَدْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرِثَهَا عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ الْمُقَرُّ بِهِ: أَقْرَرْتُ أَنَّ هَذَا الْأَلْفَ تَرَكَهَا أَبِي وَأَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُهُ وَلَسْتَ ابْنَهُ فَادْفَعْهَا إلَيَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ الْأَلْفُ وَلِلْمُقَرِّ بِهِ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا بِيَدِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِلْمُقَرِّ بِهِ بِنِصْفِهَا وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَسَبِهِ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ سَبَبٌ مِثْلُهُ فَلَا يُزَاحِمُهُ، وَفِي الْأَوَّلِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ لَهُ إلَّا بِالنِّصْفِ وَصِحَّةُ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ قَالَ: كَذَلِكَ كُلُّ وَارِثٍ مَا خَلَا الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِوَارِثٍ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَأَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ وَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الرَّوِيَّاتِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ فَاقْتَسَمَا الْمَالَ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَالَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي، وَقَالَ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ يُقَاسِمُ الْأَخَ مِنْ الْأَبِ بِمَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبٍ مُسَاوٍ لَهُ فِي التَّرِكَةِ وَالْمُقَرُّ لَهُ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى زِيَادَةً عَلَيْهِ فَيُقَاسِمُهُ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ، وَفِي يَدِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ التَّرِكَةِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مِنْ الْأُمِّ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِثْلُهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ التَّرِكَةِ السُّدُسُ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يُزَاحِمُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ وَلَوْ قَالَ الْأَخُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 83 مِنْ الْأُمِّ أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي وَأَنْكَرَهُ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ فَإِنَّهُ يُقَاسِمُ الْأَخَ مِنْ الْأُمِّ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ الْمُقِرُّ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ قَالَ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ أَنْتَ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ كَمَا قُلْتَ وَقَالَ الْأَخُ لِأَبٍ أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ يُقَاسِمُ الْأَخَ لِأَبٍ مَا فِي يَدِهِ نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يَضُمُّ ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةٍ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلْمُقَرِّ بِهِ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَيَكُونُ لِلْأَخِ لِأُمٍّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِأَبٍ فَإِنَّمَا أَخَذَ هُوَ مَا أَخَذَ ظُلْمًا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي، وَإِنَّمَا حَاصِلُ التَّرِكَةِ مَا فِي أَيْدِيهِمَا فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا وَلَوْ كَانَ صَدَّقَهُ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعُصُوبَةِ مَا فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعُصُوبَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ سَوَاءٌ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَى مِنْ الْأُخُوَّةِ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا كَانَ السُّدُسُ سَالِمًا بِالْفَرْضِيَّةِ لِلْأَخِ لِأُمٍّ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ الْأَخُ لِأُمٍّ أَنْتِ أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَكَذَّبَهُ الْأَخُ لِأَبٍ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأُمٍّ عَلَى سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ أَخًا لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْأَخِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ خَمْسَةٌ فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ بِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِخَمْسَةٍ وَالْمُقِرُّ بِسَهْمَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا أَسْبَاعًا وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَخُو الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَالَ الْأَخُ لِأَبٍ لِأَحَدِهِمَا أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي وَكَذَّبَ الْآخَرُ وَقَالَ الْأَخُ لِأُمٍّ لِلْآخَرِ أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي وَكَذَّبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ لِأَبٍ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي التَّرِكَةِ وَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ لِأُمٍّ يَأْخُذُ أَيْضًا مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُسَاوِيهِ فِي التَّرِكَةِ وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَتَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَقْتَسِمَانِ مَا أَخَذَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَصَادُقِهِمَا وَلَوْ قَالَ الْأَخُ لِأَبٍ لِأَحَدِهِمَا أَنْتَ أَخٌ الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ كَمَا قُلْتَ وَكَذَّبَ الْآخَرُ وَقَالَ الْأَخُ لِأُمٍّ لِلْآخَرِ أَنْتَ أَخٌ الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ كَمَا قُلْتَ وَكَذَّبَ بِاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ لِأَبٍ وَكَذَّبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ يَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعُصُوبَةِ وَيُقَاسِمُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ مَا فِي يَدِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ عَلَى سِتَّةٍ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ لَهُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ التَّرِكَةِ وَلِلْمُقِرِّ السُّدُسُ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُقَاسِمُهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 84 مَا فِي يَدِهِ أَسْدَاسًا، وَإِنْ تَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا بَعْضَهُمَا بِبَعْضِ أَخَذَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ لِأَبٍ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَقَاسَمَ ذَلِكَ الْآخَرَ نِصْفَيْنِ وَلَا يَرْجِعُ فِي نَصِيبِ الْأَخِ لِأُمٍّ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حِصَّتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِزَعْمِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ أَخَذَا جَمِيعًا مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأَبٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سَبِيلٌ عَلَى مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأُمٍّ وَلَوْ قَالَ الْأَخُ لِأَبٍ لِأَحَدِهِمَا أَنْتَ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي وَقَالَ الْآخَرُ أَنْتَ أَخِي لِأُمِّ وَخَرَجَ الْكَلَامُ مِنْهُمَا مَعًا وَصَدَّقَهُ الْأَخُ لِأُمٍّ فِي الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ فَاَلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ يَأْخُذُ مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ السُّدُسَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ فَيَكُونُ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَقَدْ أَخَذَ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمَا السُّدُسَ فَيَأْخُذُ هَذَا الْمُقَرُّ بِهِ سُدُسًا آخَرَ وَلَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْأَخِ لِأَبٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ لِأَبٍ نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْأَخُ لِأَبٍ أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ فَرَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ لِأُمٍّ وَصَدَّقَهُ فِيهِ الْأَخُ لِأُمٍّ. فَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْآخَرَ يَأْخُذُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ لِهَذَا الْمُقَرِّ بِهِ سُدُسَ التَّرِكَةِ وَأَنَّ لَهُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ الثُّلُثَ، وَقَدْ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ وَلَكِنْ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فَإِذَا أَخَذَ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ ضَمَّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْأَخِ لِأُمٍّ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَ مِنْهُ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْأَخِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِسُدُسٍ كَامِلٍ وَمَا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا يُعْطِيهِ كَمَالَ نَصِيبِهِ بِزَعْمِهِ وَإِنْ تَرَكَ الرَّجُلُ أَخًا لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَعَمًّا فَاقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ وَأَخَذَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ النِّصْفَ وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ السُّدُسَ وَالْعَمُّ مَا بَقِيَ فَادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا أُخْتُ الْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ أَنْتِ أُخْتِي لِأَبِي وَأُمِّي وَقَالَتْ الْأُخْتُ لِأَبٍ أَنْتِ أُخْتِي لِأَبِي وَأُمِّي وَكَذَّبَهُمَا الْعَمُّ فَالْمُقَرُّ بِهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ لِأَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ أَقَرَّتْ أَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَتَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهَا وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ زَعَمَتْ أَنَّ نَصِيبَهَا سُدُسُ التَّرِكَةِ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا الرُّبْعُ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِي نَصِيبِهَا سُدُسُ التَّرِكَةِ وَلَوْ كَذَّبَتْهَا الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ مَعَ الْعَمِّ قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 85 بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِإِقْرَارِهَا أَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ وَلَوْ قَالَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ أَنْتَ أُخْتُ الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَكَذَّبَتْ الْأُخَرَتَانِ بِهَا قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ عَلَى أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ لَهَا النِّصْفَ مِنْ التَّرِكَةِ ثَلَاثَةً مِنْ سِتَّةٍ فَتَضْرِبُ هِيَ فِيمَا فِي يَدِ الْأُخْتِ لِأَبٍ بِثَلَاثَةٍ وَالْأُخْتِ لِأُمٍّ بِسَهْمٍ فَإِنْ صَدَّقَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ بِمَا قَالَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَمَا فِي يَدِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ عَلَى خَمْسَةٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْمَقَرِّ بِهَا وَسَهْمٌ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَسَهْمٌ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ التَّرِكَةِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ الْعَمَّ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لِلْمَيِّتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الْعَمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهَا فِي نِصْفِ التَّرِكَةِ ثَلَاثَةٌ وَحَقُّهُ فِي سَهْمٍ فَإِنَّمَا تَضْرِبُ هِيَ بِثَلَاثَةٍ وَالْعَمُّ بِسَهْمٍ وَلَوْ تَرَكَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَقَرَّتْ الْأُمُّ بِأَخَوَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَكَذَّبَهَا الْأَبُ فِي ذَلِكَ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ وَيُوقَفُ السُّدُسُ الْبَاقِي فِي يَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّ هَذَا السُّدُسَ لِلْأَبِ دُونَهَا فَإِنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِهَا مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَالْأَبُ كَذَّبَهَا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ وَزَعَمَ أَنَّ الثُّلُثَ لَهَا فَيَبْقَى مَوْقُوفًا فِي يَدِهَا إلَى أَنْ يُصَدِّقَهَا الْأَبُ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ مَا اسْتَحَقَّا شَيْئًا مَعَ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَهَا الْأَبُ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ تَأْخُذْ السُّدُسَ حَتَّى يُصَدِّقَهَا فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَخَ الْوَاحِدَ لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَإِذَا صَدَّقَهَا فِيهِمَا أَخَذَ سُدُسَ الْبَاقِي لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِهِ وَتَصْدِيقِهِ إيَّاهَا فِي الِانْتِهَاءِ كَتَصْدِيقِهِ إيَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَتَهُ وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَامْرَأَتَهُ فَأَقَرَّتْ الِابْنَةُ بِامْرَأَةٍ لِلْمَيِّتِ فَإِنْ صَدَّقَتْهَا الْمَعْرُوفَةُ فِي ذَلِكَ فَالْمُقَرُّ بِهَا تُقَاسِمُ الْمَعْرُوفَةَ مَا فِي يَدِهَا نِصْفَيْنِ وَلَا تَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الِابْنَةِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ النِّسَاءِ فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِهَا، وَإِنْ كَذَّبَتْهَا الْمَعْرُوفَةُ قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الِابْنَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ بِزَعْمِ الِابْنَةِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلْمَرْأَتَيْنِ الثُّمُنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلِابْنَةِ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ فَالِابْنَةُ تَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِهَا بِثَمَانِيَةٍ وَالْمُقَرُّ بِهَا بِسَهْمٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى تِسْعَةٍ، وَفِي الْكِتَابِ خَرَّجَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ فَأَعْطَى الْمُقَرَّ بِهَا ثَلَاثَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَهْمٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَبَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ هِيَ الَّتِي أَقَرَّتْ بِابْنَةٍ لِلْمَيِّتِ فَصَدَّقَتْهَا الِابْنَةُ الْمَعْرُوفَةُ جُمِعَ مَا فِي يَدِ الِابْنَةِ وَمَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَاقْتَسَمُوا ذَلِكَ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 86 أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشْر وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ فَيَقْسِمُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ عِنْدَ تَصْدِيقِ الِابْنَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الْمُقَرُّ بِهَا فِي نَصِيبِ الْمَرْأَةِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهَذَا لِأَنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِ النِّسَاءِ هُنَاكَ كَانَ فِي يَدِ الْمَعْرُوفَةِ وَهُنَا لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الِابْنَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِيرَاثُ الِابْنَتَيْنِ لِأَنَّ فِي يَدِهَا النِّصْفُ وَمِيرَاثُ الِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلَوْ كَذَّبَتْهَا الِابْنَةُ الْمَعْرُوفَةُ قُسِّمَ مَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّهَا تَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَالْمُقَرُّ بِهَا بِثَمَانِيَةٍ كَمَا أَقَرَّتْ لَهَا بِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهَا الْأَخُ جُمِعَ مَا فِي يَدِ الْأَخِ وَمَا فِي يَدِ الْمَرْأَةِ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ بِزَعْمِهِمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةً وَلِلْمُقَرِّ بِهِمَا ثَمَانِيَةً وَلِلْأَخِ خَمْسَةً فَيَقْسِمُ مَا فِي يَدَيْهِمَا عَلَى هَذَا بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا فَلَوْ لَمْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ بِهَا وَلَكِنَّ الْأَخَ أَقَرَّ بِهَا فَإِنَّهُ يَقْسِمُ مَا فِي يَدِ الْأَخِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ بِزَعْمِ الْأَخِ لَهَا ثَمَانِيَةٌ وَلَهُ خَمْسَةٌ وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ أَقَرَّ بِأَخٍ وَكَذَّبَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ بِإِقْرَارِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الثَّانِيَ مُسَاوٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ آخَرَ وَصَدَّقَهُ فِيهِ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَكَذَّبَ الْمُقَرُّ بِهِمَا بَعْضَهُمَا بَعْضًا فَإِنْ كَانَ الْأَخُ الْمُقِرُّ دَفَعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَخَذَ الْمُقَرُّ بِهِ الْآخَرُ مِنْهُ خُمُس مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَبْقَى مَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَنِصْفُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَهُ بِذَلِكَ وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا الْأَوَّلَيْنِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ وَنِصْفٌ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ فَيَكُونُ خَمْسَةً فَلِهَذَا يَأْخُذُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ هُوَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِسَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَالْمُقِرُّ بِسَهْمٍ وَنِصْفٍ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَهُ فَيَكُونُ خَمْسَةً فَلِهَذَا يَأْخُذُ خُمُسَيْ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَخَذَ مِنْهُ الْمُقَرُّ بِهِ الْآخَرُ رُبْعَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ الرُّبْعَ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّ الْمَيِّتَ بِزَعْمِهِ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَمَا دَفَعَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ الْآخَرِ جَمِيعَ حَقِّهِ، وَهُوَ رُبْعُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ فَيَقْتَسِمَانِ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ فَإِنْ تَصَادَقَ الْمُقَرُّ بِهِمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَخَذَ الْمُقَرُّ بِهِ الْأُخَرُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَنَّ حَقَّ هَذَا الْمُقَرِّ بِهِ الْآخَرِ فِي ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 87 التَّرِكَةِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ ذَلِكَ فَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُقَرِّ بِهِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَسِمُونَهُ أَثْلَاثًا لِتَصَادُقِهِمْ عَلَى أَنَّ حَقَّهُمْ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ الْإِقْرَارِ بَعْدَ قِسْمِ الْمِيرَاثِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدًا وَدَارًا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَهُمَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِآخَرَ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ وَرُبْعَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِهِ فِي ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَفِي يَدِهِ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ذَلِكَ وَمَا أَخَذَهُ أَخُوهُ كَانَ فِي يَدِهِمَا فِي الْأَصْلِ نِصْفُهُ فِي يَدِ الْآخَرِ فَلَا يَضْمَنُ الْمُقِرُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ بِهِ وَنِصْفُهُ كَانَ فِي يَدِهِ سَلَّمَهُ لِأَخِيهِ فَيَغْرَمُ لِلْمُقَرِّ بِهِ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَحِصَّتُهُ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فِي التَّرِكَةِ بِزَعْمِهِ فَلِهَذَا يَغْرَمُ لَهُ رُبْعَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِأَخِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ أَعْطَاهَا خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ وَخُمُسَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ابْنَيْنِ وَابْنَةً فَحَقُّهَا فِي خُمُسِ التَّرِكَةِ فَيُعْطِيهَا خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى أَخِيهِ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ حَقُّهَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقِرِّ ضِعْفُ حَقِّ الْمُقَرِّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ لَهَا ثُلُثَ النِّصْفِ وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَأُخْتٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فِيهِمَا وَتَكَاذَبَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يُعْطِي الْأُخْتَ سُبْعَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ وَعُشْرَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَةً فَيَكُونُ نَصِيبُ الِابْنَةِ سَهْمًا مِنْ سَبْعَةٍ فَيُعْطِيهَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ وَعُشْرَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي دَفَعَهُ لِصَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ يُعْطِيهَا خُمُسَ ذَلِكَ النِّصْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَيَكُونُ حَقُّهَا فِي خُمُسِ ذَلِكَ وَخُمُسُ النِّصْفِ عُشْرُ الْجَمِيعِ وَيُعْطِي الْأَخَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَخِ بِزَعْمِهِ سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ فَيُعْطِيهِ سُبُعَيْ مَا فِي يَدِهِ وَخُمُسَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بِزَعْمِهِ فِي خُمُسِ نِصْفِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأُخْتَيْنِ مَعًا فَإِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الِابْنَتَيْنِ سُدُسُ التَّرِكَةِ فَيُعْطِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ وَثُمُنَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَى صَاحِبِهِ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبْعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 88 فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ النِّصْفُ وَرُبْعُ النِّصْفِ ثُمُنُ الْكُلِّ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ مَعًا فَإِنَّهُ يُعْطِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى صَاحِبِهِ لَكَانَ يُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمْ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ النِّصْفِ، وَهُوَ سُدُسُ الْجَمِيعِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَابْنَةً وَعَبْدَيْنِ وَدَارًا فَاقْتَسَمُوا فَأَخَذَتْ الِابْنَةُ عَبْدًا وَأَخَذَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَبْدًا وَالْآخَرُ الدَّارَ فَأَقَرَّتْ الِابْنَةُ بِأَخٍ أَعْطَتْهُ سُبُعَيْ مَا فِي يَدهَا وَقِيمَةَ جُزْءٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فَلِهَذَا أَعْطَتْهُ سُبُعَيْ مَا فِي يَدِهَا، وَقَدْ كَانَ فِي يَدِهَا مِمَّا وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ الْخُمُسُ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِهِمْ فِي التَّرِكَةِ فَذَلِكَ الْخُمُسُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهَا لَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِ أَثْلَاثًا وَظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِهِ فِي ثُلُثَيْ خُمُسِ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَلِكَ جُزْءَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا فَإِنَّ خُمُسَ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَاهُ جُزْءَانِ فَلِهَذَا تَغْرَمُ لِلْمُقَرِّ بِهِ جُزْأَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِمَّا صَارَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِأُخْتٍ أَعْطَتْهَا سُدُسَ مَا فِي يَدِهَا وَعُشْرَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا ابْنَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ فَلِهَذَا أَعْطَتْهَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهَا، وَكَانَ فِي يَدِهَا مِمَّا وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ الْخُمُسُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْتِ الْمُقَرِّ بِهَا نِصْفَيْنِ وَخُمُسُ النِّصْفِ عُشْرُ الْجَمِيعِ فَلِهَذَا تَغْرَمُ لَهَا عُشْرَ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِأَخٍ وَأُخْتٍ فَإِنَّهَا تُعْطِي الْأَخَ رُبْعَ مَا فِي يَدِهَا وَعُشْرَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهَا خُمُسُ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ فَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَرْبَاعًا نِصْفُ ذَلِكَ لِلْأَخِ وَالرُّبْعُ لِكُلِّ أُخْتٍ وَنِصْفُ الْخُمُسِ عُشْرُ الْجَمِيعِ فَلِهَذَا تَغْرَمُ عُشْرَ قِيمَةِ مَا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ وَتُعْطَى الْأُخْتُ مِثْلَ نِصْفِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا مِثْلُ نِصْفِ الْأَخِ. وَلَوْ أَقَرَّتْ بِأَخَوَيْنِ مَعًا أَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فَلِهَذَا تُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهَا وَقِيمَةَ جُزْأَيْنِ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهَا خُمُسُ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهَا لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَخْمَاسًا فَإِنَّمَا تَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُمُسَ الْخُمُسِ فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ خُمُسٌ وَلِخُمُسِهِ خُمُسٌ وَأَقَلُّ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ خُمُسُهُ خَمْسَةٌ وَخُمُسَا خَمْسَةٍ سَهْمَانِ فَلِهَذَا غَرِمَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْأَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 89 مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِأُخْتَيْنِ أَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سُبْعَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا ثَلَاثَ بَنَاتٍ وَابْنَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ فَلِهَذَا أَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ سُبْعَ مَا فِي يَدِهَا وَقِيمَةَ جُزْءٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي يَدِهَا، وَهُوَ الْخُمُسُ مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ لَوْ لَمْ تَدْفَعْهُ إلَى الْأَخَوَيْنِ لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَثْلَاثًا فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي ثُلُثِ ذَلِكَ الْخُمُسُ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْكُلِّ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ أَقَرَّ بِأَخٍ وَأُخْتٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرَانِ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يُعْطِي لِلْأُخْتِ ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَبِنْتَيْنِ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَلِهَذَا أَعْطَى الْأُخْتَ ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ وَقِيمَةَ جُزْءٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ خُمُسَا مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَكَانَ يُقْسَمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَخْمَاسًا لِلْأُخْتِ خُمُسَا ذَلِكَ وَخُمُسَا خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَشَرَةٌ فَخُمُسُ ذَلِكَ سَهْمَانِ فَلِهَذَا يَغْرَمُ لِلْأُخْتِ قِيمَةَ جُزْأَيْنِ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ وَيُعْطِي الْأَخَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضِعْفُ حَقِّ الْأُخْتِ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ مَعًا فَإِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَابْنَةً فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ وَنَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ لِهَذَا وَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْأَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ خُمُسَا مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَثْلَاثًا فَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ الْخُمُسِ لِأَنَّ ثُلُثَيْ الْخُمُسِ جُزْءَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَتَيْنِ وَعَبْدَيْنِ وَأَمَةً فَاقْتَسَمُوا فَأَخَذَ الِابْنُ الْأَمَةَ وَكُلُّ ابْنَةٍ عَبْدًا، ثُمَّ أَقَرَّتْ إحْدَى الِابْنَتَيْنِ بِأُخْتَيْنِ أَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سُدُسَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا ابْنًا وَأَرْبَعَ بَنَاتٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ فَهَذَا تُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سُدُسَ مَا فِي يَدِهَا وَقِيمَةُ جُزْءٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلْأُخْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ رُبْعُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهَا لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ فَإِنَّمَا تَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الرُّبْعِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ رُبْعَ اثْنَيْ عَشَرَ ثَلَاثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِأَخَوَيْنِ وَأُخْتٍ مَعًا أَعْطَتْ الْأُخْتَ تُسْعَ مَا فِي يَدِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهَا ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ تِسْعَةٍ وَنَصِيبُ الْأُخْتِ سَهْمٌ فَتُعْطِيهَا تُسْعَ مَا فِي يَدِهَا وَقِيمَةُ جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 90 لِلْأَخَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهَا رُبْعُ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهَا لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمَا أَسْدَاسًا لِلْأُخْتِ سُدُسُ ذَلِكَ وَسُدُسُ الرُّبْعِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ رُبْعَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سِتَّةٌ وَسُدُسُهُ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَتُعْطِي لِلْأَخِ مِثْلَيْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ ضِعْفُ نَصِيبِهَا. وَلَوْ كَانَ الِابْنُ أَقَرَّ بِثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ مَعًا وَكَذَّبَتْهُ الْأُخْتَانِ فِي ذَلِكَ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سُبْعَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ابْنًا وَخَمْسَ بَنَاتٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ لِكُلِّ ابْنَةٍ سَهْمٌ وَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قِيمَةَ جُزْأَيْنِ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءًا مِمَّا صَارَ لِلَّاخَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ نِصْفُ مَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِنَّ أَخْمَاسًا فَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خُمُسَ النِّصْفِ وَخُمُسُ النِّصْفِ عُشْرُ الْجَمِيعِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ وَلَكِنَّهُ بَنَى هَذَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقِسْمَةِ بِالْأَرْبَاعِ حِينَ كَانَتْ الْمُقِرَّةُ بِالِابْنَةِ فَجَعَلَ فِي يَدِ الِابْنِ جُزْأَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ يَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جُزْأَيْنِ مِنْ عِشْرِينَ لِهَذَا وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ وَأُخْتَيْنِ مَعًا أَعْطَى كُلَّ أَخٍ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ بِزَعْمِهِ ثَلَاثَ بَنِينَ وَأَرْبَعَ بَنَاتٍ فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ عَشَرَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَسَهْمَانِ مِنْ عَشَرَةٍ الْخُمُسُ فَلِهَذَا يُعْطِي الْأَخَ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ وَثُمُنَ مَا صَارَ لِأُخْتَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ نِصْفَ ذَلِكَ وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ بِهِمْ عَلَى ثَمَانِيَةٍ لِكُلِّ أَخٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ فَإِنَّمَا يَغْرَمُ لِلْأَخِ رُبْعَ النِّصْفِ مِمَّا صَارَ لِكُلِّ أُخْتٍ وَرُبْعُ النِّصْفِ ثُمُنُ الْجَمِيعِ فَلِهَذَا قَالَ: يَغْرَمُ لِلْأَخِ ثُمُنَ مَا صَارَ لِلْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ يُعْطِي كُلَّ أُخْتٍ مِثْلَ نِصْفِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَخِ مِثْلُ نَصِيبِ الْأُخْتَيْنِ فَيَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ أُخْتٍ مِثْلَ نِصْفِ نَصِيبِ الْأَخِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ هَذَا الْوَجْهِ وَقِيَاسُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ فَرَائِضِ الْخُنْثَى] (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] وَقَالَ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الذُّكُورِ وَحُكْمَ الْإِنَاثِ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ شَخْصٍ هُوَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ الْوَصْفَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَكَيْف يَجْتَمِعَانِ وَبَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، الجزء: 30 ¦ الصفحة: 91 وَجَعَلَ عَلَامَةَ التَّمْيِيزِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ الْآلَةَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ سَائِرُ الْعَلَامَاتِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، ثُمَّ قَدْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْمَوْلُودِ الْآلَتَانِ جَمِيعًا فَيَقَعُ الِاشْتِبَاهُ إلَى أَنْ تَتَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا بِخُرُوجِ الْبَوْلُ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَنْعَدِمَ آلَةُ التَّمْيِيزِ أَصْلًا بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَوْلُودَةِ آلَةُ الرِّجَالِ وَلَا آلَةُ النِّسَاءِ وَهَذَا أَبْلَغُ جِهَاتِ الِاشْتِبَاهِ وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ وَلَيْسَ بِذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَلَيْسَ لَهُ مَا لِلْأُنْثَى وَلَيْسَ لَهُ مَا لِلذَّكَرِ يَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ كَهَيْئَةِ الْبَوْلِ الْغَلِيظِ فَسُئِلَ عَنْ مِيرَاثِهِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ نِصْفُ حَظِّ الْأُنْثَى وَنِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا عِنْدَنَا وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِي أَمْرِهِ سَوَاءٌ وَالْمُرَادُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَيَتَبَيَّنُ حَالُهُ بِنَبَاتِ اللِّحْيَةِ أَوْ بِنَبَاتِ الثَّدْيَيْنِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فِي الْمِيرَاثِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْعَلُ فِي الْمِيرَاثِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَأُ حَالِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ ذَكَرًا وَفِي الْحَاصِلِ يَكُونُ لَهُ شَرُّ الْحَالَيْنِ وَأَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَهُ نِصْفُ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَنِصْفُ مِيرَاثِ الْأُنْثَى وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، أَمَّا بَيَانُ الْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ الذُّكُورَةُ فِيهِ شَرًّا لَهُ بِأَنْ تَرَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَشَخْصًا لِأَبٍ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ فَإِنْ جُعِلَ ذَكَرًا لَمْ يَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلزَّوْجِ وَالنِّصْفَ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَخِ لِأَبٍ شَيْءٌ وَلَوْ جُعِلَ أُنْثَى كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ فَتَعُولُ بِسَهْمٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ سَبْعَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُجْعَلُ ذَكَرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَهُ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نِصْفِ مِيرَاثِهَا أَنْ لَوْ كَانَتْ أُنْثَى، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لِأُمٍّ وَشَخْصًا هُوَ مُشْكِلٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ جُعِلَ هَذَا الْمُشْكِلُ ذَكَرًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَلَهَا النِّصْفُ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَتَعُولُ فَرِيضَةُ الْمَسْأَلَةِ بِثَلَاثَةٍ فَعِنْدَهُمَا يُجْعَلُ ذَكَرًا وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نِصْفِ مِيرَاثِهَا وَأَنْ لَوْ كَانَتْ أُنْثَى، وَبَيَانُ الْحَالِ الَّذِي تَكُونُ الْأُنُوثَةُ فِيهِ شَرًّا لَهَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَعَصَبَتَهُ وَوَلَدًا هُوَ مُشْكِلٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُشْكِلُ ذَكَرًا فَلَهُ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهُ الثُّلُثُ فَيُجْعَلُ أُنْثَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ نِصْفٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ نِصْفُ الثُّلُثَيْنِ وَنِصْفُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 92 الثُّلُثِ فَيَكُونُ لَهُ فِي الْحَالِ نِصْفُ الْمَالِ وَلِلِابْنَةِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لِلْعَصَبَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مُتَرَدِّدٌ وَالْأَصْلُ فِي الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ وَيَتَوَزَّعُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْأَحْوَالِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ وَالْعَتَاقِ الْمُبْهَمِ إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ مَاتَ يَسْقُطُ نِصْفُ صَدَاقِهَا وَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِنَّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ هُنَا أَكْثَرُ وَالْحَاجَةُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى الِاشْتِبَاهِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَحْوَالِ يَنْبَنِي عَلَى التَّيَقُّنِ بِالسَّبَبِ وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ الْفَرْضِيَّةُ وَالْعُصُوبَةُ وَلَا يُتَيَقَّنُ بِوَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ بِهَذَا الْمُشْكِلِ وَبِدُونِ التَّيَقُّنِ بِالسَّبَبِ لَا يُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ لَكِنْ لَا يُعْطَى إلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِالسَّبَبِ الْمُسْقِطِ لِنِصْفِ الصَّدَاقِ هُنَاكَ وَبِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعِتْقِ رَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمُسْتَحَقِّ كَذَلِكَ فَبَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالسَّبَبِ يُصَارُ فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَصَبَةً، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ وَمِنْ الِاسْتِبَانَةِ الْبَوْلُ فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ إحْدَى الْمَبَالَيْنِ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا فَمِنْ أَيِّهِمَا أَسْبَقَ فَإِنْ خَرَجَا مَعًا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ يَأْتِيك بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الْخُنْثَى، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي الْمِيرَاثِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا لَا يُعْطَى إلَّا مِيرَاثَ جَارِيَةٍ وَذَلِكَ نِصْفُ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ إمَّا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ فِي حَالٍ وَالنِّصْفَ فِي حَالٍ فَيُعْطَى نِصْفَ الْكُلِّ وَنِصْفَ النِّصْفِ أَوْ لِأَنَّ النِّصْفَ اثْنَانِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مَعَ ذَلِكَ ابْنٌ مَعْرُوفٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ أَسْوَأَ الْحَالِ لِلْخُنْثَى أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَتَكَلَّمُوا فِيمَا إذَا كَانَ الْخُنْثَى حَيًّا بَعْدَ تَوَهُّمِ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ فِي الثَّانِي أَنَّهُ كَيْفَ يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُدْفَعُ الثُّلُثُ إلَى الْخُنْثَى وَالنِّصْفُ إلَى الِابْنِ وَيُوقَفُ السُّدُسُ كَمَا فِي الْحَمْلِ وَالْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُمَا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُمَا، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ مَعْلُومٌ فَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ مِنْ حَقِّهِ لِمُزَاحَمَةِ الْغَيْرِ وَالْخُنْثَى مَا زَاحَمَهُ إلَّا فِي الثُّلُثِ فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَبْقَى مُسْتَحَقًّا لَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِ الْخُنْثَى أُنْثَى حِين أَعْطَيْنَاهُ الثُّلُثَ مَعَ الِابْنِ وَبَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِالْأُنُوثَةِ فِي حَقِّهِ يُعْطَى الذَّكَرُ ضِعْفَ مَا يُعْطَى الْأُنْثَى وَبِهِ فَارَقَ الْحَمْلَ وَالْمَفْقُودَ فَإِنَّا لَمْ نَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ فَلِهَذَا يُوقَفُ نَصِيبُهُمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 93 وَإِذَا دَفَعَ الثُّلُثَيْنِ إلَى الِابْنِ هَلْ يُوجَدُ مِنْهُ الْكَفِيلُ؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحْتَاطُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ، وَقِيلَ بَلْ هُنَا يُحْتَاطُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ تَبَيَّنَ عَلَامَةَ الذُّكُورَةِ فِي الْخُنْثَى كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ مِمَّا أَخَذَهُ الِابْنُ فَيَحْتَاطُ لِحَقِّهِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الِابْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذَ الْكَفِيلِ لِلْمَجْهُولِ وَهُنَا إنَّمَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِمَعْلُومٍ فَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ يَصُونَ بِهِ الْقَاضِي قَضَاءَهُ وَيَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الْخُنْثَى فَيَأْخُذُ مِنْ الِابْنِ كَفِيلًا لِذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُنْثَى ذَكَرٌ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَخِيهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْثَى فَالْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلِابْنِ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْخُنْثَى وَالِابْنِ الْمَعْرُوفِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ. أَمَّا بَيَانُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَيُعْطِيهِ نِصْفَ كُلِّ حَالَةٍ فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ نِصْفُهُ نِصْفَيْنِ وَثُلُثُهُ نِصْفَيْنِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، فَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا فَلَهُ السِّتَّةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهُ أَرْبَعَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تَقُولَ لَهُ نِصْفُ أَرْبَعَةٍ وَهُوَ سَهْمَانِ وَنِصْفُ سِتَّةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ نِصْفُ ثَمَانِيَةٍ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفُ سِتَّةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ سَبْعَةً أَوْ تَقُولَ الثُّلُثُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ لِلْخُنْثَى وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ لَهُ خَمْسَةٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةٌ لِلِابْنِ فَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدٌ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ بِهَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنْ يَقُولَ الْخُنْثَى فِي حَالٍ ابْنٌ، وَفِي حَالٍ ابْنَةٌ فَالِابْنَةُ فِي الْمِيرَاثِ نِصْفُ الِابْنِ فَيُجْعَلُ لَهُ نِصْفُ كُلِّ حَالٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ابْنٍ فَكَأَنَّهُ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ابْنٍ فَيُجْعَلُ لِكُلِّ رُبْعٍ مِنْ الِابْنِ سَهْمًا فَلِلِابْنِ الْكَامِلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ أَوْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَكَأَنَّ الذَّكَرَ بِمَنْزِلَةِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ فِي حَقِّ الْخُنْثَى مَعْلُومٌ وَالْأُنْثَى الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ الْخُنْثَى بِمَنْزِلَةِ أُنْثَى وَنِصْفٍ. وَلَوْ تُصُوِّرَ اجْتِمَاعُ ابْنَةٍ وَنِصْفٍ مَعَ ابْنَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَالُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلِابْنَةِ وَنِصْفٍ ثَلَاثَةٌ فَهَاهُنَا أَيْضًا يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلِابْنَةِ وَنِصْفٍ ثَلَاثَةٌ، وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى رُجُوعِ أَبِي يُوسُفَ إلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 94 لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ قَالُوا وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ رُجُوعَهُ إلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ. قَالَ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْخُنْثَى ابْنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَلِلِابْنَةِ ثُلُثُ الْمَالِ وَلِلْخُنْثَى نِصْفُ الْمَالِ وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْعَصَبَةِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا الثُّلُثُ فَيُعْطَى نِصْفَ كُلِّ حَالَةٍ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى أُنْثَى، وَفِي حَالٍ لَا شَيْءَ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ رُدَّ الْفَضْلُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مَا أَخَذَ. مَعْنَاهُ يَجْعَلُ الْمَالَ فِي الْحَاصِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ سَهْمَانِ لِلَابِنِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَثَلَاثَةٌ لِلْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ أَصْلِ حَقِّهِمَا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الْخُنْثَى أَبٌ لِلْمَيِّتِ فَلِلْخُنْثَى ثُلُثُ الْمَالِ وَلِلْأَبِ ثُلُثُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ فَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ خَمْسَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِلْأَبِ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْعُصُوبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: لِلْخُنْثَى نِصْفُ كُلِّ حَالَةٍ وَنِصْفُ ثَلَاثَةٍ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، وَنِصْفُ خَمْسَةٍ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ هُوَ ثُلُثَا الْمَالِ، أَوْ يَقُولَ: مِقْدَارُ ثُلُثِهِ لِلْخُنْثَى بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ إلَى تَمَامِ خَمْسَةٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَالسُّدُسُ لِلْأَبِ بِيَقِينٍ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ لِلْأَبِ سَهْمَانِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَلِلْخُنْثَى أَرْبَعَةٌ وَذَلِكَ ثُلُثَانِ. وَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً خُنْثَى وَابْنَةَ ابْنٍ خُنْثَى وَعَصَبَةً فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِلْخُنْثَى الْأَعْلَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَلِلْأَسْفَلِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَصَبَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ لِلْأَعْلَى وَرُبْعُهُ لِوَلَدِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى أَقَلِّ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِلَى أَكْثَرِهِ فَيَأْخُذُ نِصْفَ ذَلِكَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ اعْتِبَارَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَقُولُ النِّصْفُ لِلْعُلْيَا مُتَيَقَّنٌ بِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَالسُّدُسُ لَا يَدَّعِيهِ الْعَصَبَةُ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَةَ تَقُولُ هُمَا ابْنَتَانِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا فِي جِهَةِ الدَّعْوَى فَالْأَعْلَى يَدَّعِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ نِصْفُ الذُّكُورَةِ لِنَفْسِهِ وَالْأَسْفَلُ مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا لِأَنَّهُ ذَكَرٌ وَالْعُلْيَا أُنْثَى أَوْ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَانِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ لِهَذَا السُّدُسِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي تَدَّعِيهِ الْعَصَبَةُ إنْ كَانَ الْخُنْثَيَانِ أُنْثَيَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 95 وَتَدَّعِيهِ ابْنَةُ الِابْنِ إنْ كَانَتْ هِيَ ذَكَرًا وَالْعُلْيَا هِيَ أُنْثَى وَتَدَّعِيهِ الْعُلْيَا إنْ كَانَتْ ذَكَرًا فَلَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّهِمْ الْأَكْثَرُ وَالْأَقَلُّ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا كَأَنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَقَدْ انْكَسَرَ السُّدُسُ بِالْأَنْصَافِ فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ انْكَسَرَ الثُّلُثُ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ اثْنَيْ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَخَذَتْ الْعُلْيَا مَرَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً نِصْفَ السُّدُسِ ثَلَاثَةً وَمَرَّةً ثُلُثَ الثُّلُثِ أَرْبَعَةً فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَأَخَذَتْ السُّفْلَى مَرَّةً ثَلَاثَةً وَمَرَّةً أَرْبَعَةً فَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلْعَصَبَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ فَالنِّصْفُ وَهُوَ سِتَّةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْعُلْيَا ثُلُثٌ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَهُوَ لِلْأَعْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَعْلَى ذَكَرًا، فَإِنْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ فَلِلْعُلْيَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِالرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَسْفَلُ ذَكَرًا وَالْأَعْلَى أُنْثَى فَالثُّلُثُ لِلْأَسْفَلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ فَيَكُونُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ نِصْفَيْنِ فَقَدْ أَخَذَ الْأَعْلَى مَرَّةً سِتَّةً وَمَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَأَخَذَ الْأَسْفَلُ مَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ رُبْعُ الْمَالِ. ابْنَةُ أَخٍ خُنْثَى وَابْنَةُ ابْنِ أَخٍ خُنْثَى وَابْنُ ابْنِ ابْنِ أَخٍ مَعْرُوفٍ فَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الْعُلْيَا إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَلَا شَيْءَ لَهَا وَالثَّانِيَةُ إنْ كَانَتْ أُنْثَى فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَالْعُلْيَا أُنْثَى فَالْمِيرَاثُ لَهُ، وَإِنْ كَانَتَا أُنْثَيَيْنِ جَمِيعًا فَالْمِيرَاثُ لِلْأَسْفَلِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي هَذَا بِأَكْثَرِهِ وَأَقَلِّهِ فَاَلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ وَجْهٍ وَيَرِثُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَاَلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَيَرِثُ مِنْ وَجْهٍ سَوَاءٌ فِي قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ فَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ غَيْرُ هَذَيْنِ الْخُنْثَيَيْنِ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْعُلْيَا فِي قَوْلِنَا؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَانِ وَابْنَةُ الْأَخِ مُقَدَّمَةٌ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى ابْنَةِ ابْنِ الْأَخِ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرِثُ مِنْ وُجُوهٍ وَاَلَّذِي يَرِثُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَعْلَى إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ كَانَ هُوَ ذَكَرًا أَوْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعُلْيَا أُنْثَى وَالْآخَرُ ذَكَرًا فَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ فَلِهَذَا جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. ، فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ خَنَاثَى بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَسْفَلُ مِنْ السُّفْلَى ابْنُ أَخٍ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ الْعُلْيَا إنْ كَانَ ذَكَرًا وَرِثَ دُونَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى وَالثَّانِيَةُ ذَكَرًا وَرِثَ دُونَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى وَالثَّالِثَةُ ذَكَرًا وَرِثَ دُونَهُمْ، وَإِنْ كُنَّ إنَاثًا جَمِيعًا وَرِثَ ابْنُ الْأَخِ الْأَسْفَلِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ يَكْفِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 96 لِلْمُزَاحَمَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي هَذَا الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. ، فَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا خُنْثَى وَأُخْتًا خُنْثَى وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُمَا فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا ابْنَةٌ وَالْأُخْتُ مَعَ الِابْنَةِ تَكُونُ عَصَبَةً، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِلِابْنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِلْأُخْتِ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ لِلِابْنَةِ بِلَا شَكٍّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَتُهُمَا وَالِابْنَةُ إنْ كَانَتْ ذَكَرًا كَانَ هَذَا النِّصْفُ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهَذَا النِّصْفُ لِلْأُخْتِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَجُعِلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُجْعَلُ لِلِابْنَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِلْأُخْتِ رُبْعُهُ، وَإِنْ تَرَكَ أُخْتًا خُنْثَى وَابْنَةَ أَخٍ خُنْثَى فَفِي قَوْلِنَا لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْعَصَبَةِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَيَيْنِ أُنْثَيَانِ فَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَلَا شَيْءَ لِابْنَةِ الْأَخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْأُخْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ وُجُودِ ذِي السَّهْمِ وَابْنَةُ الْأَخِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِلْأُخْتِ الثُّلُثَانِ وَلِابْنَةِ الْأَخِ السُّدُسُ وَلِلْعَصَبَةِ السُّدُسُ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ لَهَا النِّصْفُ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ تُزَاحِمُ الْأُخْرَى فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أُنْثَى وَالْأَخُ ذَكَرٌ فَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ، وَإِنْ كَانَتَا أُنْثَيَيْنِ فَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ فَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَلِابْنَةِ الْأَخِ رُبْعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ لِلْعُلْيَا بِلَا شَكٍّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْعُلْيَا إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعُلْيَا أُنْثَى وَالسُّفْلَى ذَكَرًا فَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ وَاَلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَاَلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ابْنَةً خُنْثَى وَابْنَةَ أَخٍ خُنْثَى وَلَا عَصَبَةَ لَهُ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْأُخْتِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً خُنْثَى وَابْنَةَ ابْنٍ خُنْثَى وَابْنَةَ ابْنِ ابْنٍ خُنْثَى وَعَصَبَةً فَعَلَى قَوْلِنَا الْخَنَاثَى إنَاثٌ فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَلَا شَيْءَ لِلسُّفْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ فَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى أَرْبَاعًا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمَا، وَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِلْعُلْيَا ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلْوُسْطَى سَهْمَانِ وَلِلسُّفْلَى سَهْمٌ وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ لِلْعُلْيَا بِلَا شَكٍّ وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوُسْطَى نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعُلْيَا إنْ كَانَ ذَكَرًا فَهَذَا السُّدُسُ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهَذَا السُّدُسُ لِلْوُسْطَى ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبَقِيَ ثُلُثُ الْمَالِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَدَّعِيهِ وَتَقُولُ أَنَا ذَكَرٌ وَالثُّلُثَانِ لِي وَالْعَصَبَةُ إنَاثٌ جَمِيعًا تَقُولُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 97 هَذَا الثُّلُثُ لَنَا، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَقَدْ أَخَذَتْ الْعُلْيَا مَرَّةً سِتَّةً وَمَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمًا فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ ثُلُثَا الْمَالِ، وَالْوُسْطَى أَخَذَتْ مَرَّةً سَهْمَيْنِ وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ الثُّلُثُ، وَإِنَّمَا أَخَذَتْ السُّفْلَى سَهْمًا وَالْعَصَبَةُ كَذَلِكَ وَذَلِكَ نِصْفُ السُّدُسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ عَصَبَةٌ فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ بِلَا شَكٍّ وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوُسْطَى نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَالثُّلُثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ لِلْعُلْيَا مَرَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ وَلِلْوُسْطَى مَرَّةً ثَلَاثَةٌ وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ وَلِلسُّفْلَى أَرْبَعَةٌ، فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ خَنَاثَى كُلُّهُنَّ وَعَصَبَةٌ فَعِنْدَنَا لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْعُلْيَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّ الْخَنَاثَى إنَاثٌ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ حَالُهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ فَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الِابْنَةِ وَابْنَةِ الِابْنِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا أَرْبَاعًا. وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا لِلِابْنَةِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَلِلْعُلْيَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَلِلْوُسْطَى ثَمَانِيَةُ عَشَرَ سَهْمًا وَلِلسُّفْلَى ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَصَبَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَثُلُثُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَلِلْعَصَبَةِ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ السُّفْلَى لَا تَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثَ إلَّا بِثُلُثِهِ فَإِنَّهَا تَقُولُ أَنَا ذَكَرٌ وَالْبَوَاقِي إنَاثٌ وَالثُّلُثُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْوُسْطَى أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ يَعْصِبُ مَنْ فَوْقَهُ بِدَرَجَةٍ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا كَمَا يَعْصِبُ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ فَيَخْرُجُ ثُلُثُ هَذَا الثُّلُثِ عَنْ مُنَازَعَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَوَاقِي تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِدَعْوَاهَا الذُّكُورَةَ، وَالْعَصَبَةُ تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا أَيْضًا بِدَعْوَاهَا أَنَّهُنَّ إنَاثٌ، وَأَمَّا ثُلُثُ الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِدَعْوَاهَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ وَالْعَصَبَةُ كَذَلِكَ فَقَدْ انْكَسَرَ الثُّلُثُ بِالْأَثْلَاثِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَخْمَاسِ فَيُضْرَبُ ثَلَاثَةٌ فِي خَمْسَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ سِتِّينَ، ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِينَ فَأَمَّا الِابْنَةُ فَقَدْ أَخَذَتْ النِّصْفَ تِسْعِينَ وَجَعَلْنَا السُّدُسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا نِصْفَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجَعَلْنَا ثُلُثَ الثُّلُثِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ سِوَى السُّفْلَى أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةٌ وَجَعَلْنَا ثُلُثَيْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ بَيْنَ الْخَمْسَةِ أَخْمَاسًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةٌ، فَحَصَلَ لِلِابْنَةِ مَرَّةً تِسْعُونَ وَمَرَّةً خَمْسَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً خَمْسَةٌ وَمَرَّةً ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ مَرَّةً خَمْسَةَ عَشَرَ وَمَرَّةً خَمْسَةٌ وَمَرَّةً ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْوُسْطَى مَرَّةً خَمْسَةٌ وَمَرَّةً ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَكَذَلِكَ لِلْعَصَبَةِ وَلَمْ يُسَلَّمْ لِلسُّفْلَى إلَّا ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، فَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 98 مِنْهُنَّ غُلَامٌ مَعْرُوفٌ فَعِنْدَنَا لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِلْعُلْيَا مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الذَّكَرِ الْأَسْفَلِ وَبَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِنْتَانِ وَالذَّكَرُ مِنْ أَوْلَادِ الِابْنِ يَعْصِبُ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ الْإِنَاثِ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا بِالْفَرْضِيَّةِ، وَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ نِصْفُ الْمَالِ لِلِابْنَةِ وَالسُّدُسُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا نِصْفَيْنِ وَثُلُثَا سُدُسِ الْمَالِ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى أَثْلَاثًا وَثُلُثُ سُدُسِ الْمَالِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ السُّفْلَى أَرْبَاعًا وَسُدُسُ الْمَالِ الْبَاقِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْغُلَامِ أَخْمَاسًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْغُلَامَ يَدَّعِي أَنَّهُنَّ إنَاثٌ وَأَنَّ لَهُ نِصْفُ ثُلُثِ الْبَاقِي فِي الْحَاصِلِ فَنِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ خَارِجٌ عَنْ دَعْوَاهُ وَالسُّفْلَى تَدَّعِي أَنَّهُ ذَكَرٌ وَأَنَّ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُسْطَى أَثْلَاثًا فَثُلُثَا السُّدُسِ بِزَعْمِهِ لِلْوُسْطَى وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الِابْنَةِ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى فِي هَذَا الْجُزْءِ وَهُوَ ثُلُثَا السُّدُسِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِدَعْوَاهَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَثُلُثُ السُّدُسِ هُمَا مَعَ السُّفْلَى يَدَّعُونَهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا وَالسُّدُسُ الْبَاقِي هُمْ جَمِيعًا مَعَ الْغُلَامِ يَدَّعُونَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا فَقَدْ انْكَسَرَ الثُّلُثُ بِالْأَرْبَاعِ وَالْأَخْمَاسِ وَالْأَثْلَاثِ فَإِذَا ضُرِبَتْ الْمَخَارِجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَانَ ذَلِكَ سِتِّينَ، ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَقَدْ أَخَذَتْ الِابْنَةُ مَرَّةً النِّصْفَ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَمَرَّةً نِصْفَ الثُّلُثِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ فَهُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ، وَمَرَّةً ثُلُثَ ثُلُثَيْ السُّدُسِ أَرْبَعِينَ وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ، وَمَرَّةً رُبْعَ ثُلُثِ السُّدُسِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَمَرَّةً خُمْسَ السُّدُسِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْتَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثًا، وَابْنَةُ الِابْنِ أَخَذَتْ مَرَّةً ثَلَاثِينَ، وَمَرَّةً ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، وَمَرَّةً خَمْسَةً، وَمَرَّةً اثْنَيْ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتُّونَ وَثُلُثٌ، وَالْوُسْطَى أَخَذَتْ مَرَّةً ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، وَمَرَّةً خَمْسَةً، وَمَرَّةً اثْنَيْ عَشَرَ فَذَلِكَ ثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَالسُّفْلَى أَخَذَتْ مَرَّةً خَمْسَةً، وَمَرَّةً اثْنَيْ عَشَرَ، وَمَا أَخَذَ الْغُلَامُ إلَّا اثْنَيْ عَشَرَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. فَإِنْ كَانَتْ الْوُسْطَى أَوْ السُّفْلَى مَعْرُوفَتَانِ أَيُّهُمَا ابْنَتَانِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالسُّدُسُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا نِصْفَيْنِ وَمِنْ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِلِابْنَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْعُلْيَا ثَلَاثَةٌ وَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَالْغُلَامِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ مَقْسُومًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَحَاجَتُنَا إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَرْبَاعًا فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا نِصْفُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلِابْنَةِ الصُّلْبِيَّةِ بِغَيْرِ شَكٍّ وَالسُّدُسُ وَهُوَ سِتَّةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي ذَلِكَ بِدَعْوَاهَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ وَلَا يُنَازِعُهُمَا فِي ذَلِكَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَالْغُلَامُ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمَا ابْنَتَانِ وَأَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَهُمَا فَلِهَذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 99 قُسِّمَ هَذَا السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَأَمَّا الثُّلُثُ الْبَاقِي فَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لَا يَدَّعِيَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمَا إلَّا بِالْغُلَامِ الَّذِي دُونَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا ابْنَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ حَالُهُمَا فَيَعْصِبُهُمَا الْغُلَامُ الَّذِي هُوَ دُونَهُمَا فِي الْبَاقِي فَقَدْ اسْتَوَى فِي هَذَا الثُّلُثِ دَعْوَى الْغُلَامِ وَدَعْوَى الْعُلْيَا وَابْنَةِ الصُّلْبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً لِابْنَةِ الصُّلْبِ وَثَلَاثَةً لِلْعُلْيَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِدَعْوَى صِفَةِ الذُّكُورَةِ. يَبْقَى الثُّلُثُ فَهُوَ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَحَصَلَ لِابْنَةِ الصُّلْبِ مَرَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمَرَّةً ثَلَاثَةٌ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَحَصَلَ لِلْعُلْيَا مَرَّةً ثَلَاثَةٌ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَحَصَلَ لِلْغُلَامِ سَهْمَانِ وَلِلْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمٌ. وَإِنْ كَانَتْ السُّفْلَى هِيَ الْمَعْرُوفَةُ أَنَّهَا ابْنَةٌ وَالْبَاقُونَ خَنَاثَى فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَالسُّدُسُ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا نِصْفَيْنِ وَنِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى أَثْلَاثًا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ جَمِيعًا أَرْبَاعًا لِلِابْنَةِ رُبْعُهُ وَلِلْعُلْيَا رُبْعُهُ وَلِلْوُسْطَى رُبْعُهُ وَرُبْعُهُ بَيْنَ السُّفْلَى وَالْغُلَامِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَسْدَاسًا وَأَرْبَاعًا وَأَثْلَاثًا وَذَلِكَ بِأَنْ تَضْرِبَ سِتَّةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةَ عَشَرَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ لِلِابْنَةِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَالسُّدُسُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُمَا فِي الثُّلُثَيْنِ أَحَدٌ وَالثُّلُثُ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُمَا فِي الثُّلُثَيْنِ أَحَدٌ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي وَذَلِكَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ فَرُبْعُهُ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ السُّفْلَى إنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الثُّلُثَ بِالْغُلَامِ وَالْغُلَامُ يَزْعُمُ أَنَّ الْوُسْطَى أُنْثَى وَأَنَّ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظٍّ الْأُنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا فَرُبْعُ هَذَا الثُّلُثِ لَا يَدَّعِيهِ الْغُلَامُ وَالسُّفْلَى وَقَدْ اسْتَوَى فِيهِ دَعْوَى الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَالِابْنَةِ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا ذَكَرٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سِتَّةٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ سَهْمًا اسْتَوَى فِيهِ دَعْوَى الِابْنَةِ وَالْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَالْغُلَامِ فَيَكُونُ أَرْبَاعًا رُبْعُهُ لِلِابْنَةِ وَرُبْعُهُ لِلْعُلْيَا وَرُبْعُهُ لِلْوُسْطَى وَرُبْعُهُ بَيْنَ الْغُلَام وَالسُّفْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ مُقِرٌّ أَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ هَذَا الْمِيرَاثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّفْلَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ وَرُبْعُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ فَإِذَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَانَ لِلْغُلَامِ تِسْعَةٌ وَلِلسُّفْلَى أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَإِنْ أَرَدْت دَفْعَ الْكَسْرِ بِالْأَنْصَافِ فَاضْعُفْ الْحِسَابَ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ خُنْثَى فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 100 أَمْرُهَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلْخُنْثَى أَسْوَأَ حَالَةٍ وَأَسْوَأُ الْأَحْوَالِ هُنَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى وَكَيْف يُحْكَمُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَكِنْ يُعْطِيهِ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَأَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ هُنَا نِصْفُ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جُعِلَ أُنْثَى يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ وَتَعُولُ الْفَرِيضَةُ بِسَبَبِهَا وَإِثْبَاتُ الْعَوْلِ بِدُونِ التَّيَقُّنِ لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا جَعَلْنَا لِلْأَخِ مَا بَقِيَ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَالْفَرِيضَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ فَتَعُولُ بِسَهْمَيْنِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ سِتَّةً فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ ذَلِكَ وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ يَعْنِي وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ وَهُوَ سِتَّةٌ يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى ذَكَرًا، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالٍ فَيُعْطِيهِ نِصْفَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَالْأُمُّ لَهَا اثْنَا عَشَرَ يَعْنِي وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ ذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْخُنْثَى لَهَا ثَمَانِيَةٌ يَعْنِي وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍّ فَلَهَا نِصْفُ ذَلِكَ فَحَصَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلزَّوْجِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلْخُنْثَى وَالزَّوْجِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَلِلْأُمِّ وَالْأَخِ لِأُمٍّ مِثْلُ مَا كَانَ لِلْأُمِّ فِي الْفَرِيضَةِ الْأُولَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَرِيضَةِ الْأُولَى لِلْأُمِّ سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَهُنَا لِلْأُمِّ سَهْمٌ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَهُمَا هُنَا مِثْلُ نَصِيبِ الْأُمِّ هُنَاكَ وَأَنَّ حَالَهُمَا فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُقَسَّمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْلِنَا هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْأَخِ لِأُمٍّ مَعَ الْخُنْثَى يُحَوِّلُ نَصِيبَ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ وَيَكُونُ السُّدُسُ لِلْأَخِ لِأُمٍّ فَإِنَّمَا يُجْعَلُ لِلْخُنْثَى مَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ لَهُ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَأَخَوَيْنِ لِأُمِّهِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ هِيَ خُنْثَى فَعِنْدَنَا لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْأُخْتِ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ لَهُ نَصِيبُ الذَّكَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ خَمْسَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَوْ جُعِلَتْ أُنْثَى كَانَ لَهَا سِتَّةٌ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَلِهَذَا جَعَلْنَا لَهُ الْبَاقِيَ، وَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْفَرِيضَةُ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ لِلْمَرْأَةِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 101 مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ لَهَا يَعْنِي وَالرُّبْعُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الرُّبْعِ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَهَا سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ وَلِلْأَخَوَيْنِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ وَلِلْخُنْثَى ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ خَمْسَةَ أَجْزَاءِ ذَلِكَ سِتُّونَ لَهُ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ لَهَا ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَعَ ذَلِكَ أُمًّا فَفِي قَوْلِنَا لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ نَصِيبُ الذَّكَرِ هُنَاكَ، وَفِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ ذَكَرًا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَلَهَا سِتَّةٌ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَبَيْنَ اثْنَيْ عَشَرَ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ سَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ سِتِّينَ مِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَإِنْ خَرَجَ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضِعْفِ ذَلِكَ وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَقَدْ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا مِنْ سِتِّينَ فَأَمَّا مِقْدَارُ اثْنَيْ عَشَرَ يَعْنِي وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الرُّبْعِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ قُلْنَا، وَإِنَّمَا إنَّ مِقْدَارَ اثْنَيْ عَشَرَ لَهَا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ الْخُمْسُ وَخُمْسُ سِتِّينَ اثْنَا عَشَرَ فَلِلْأُمِّ ثَمَانِيَةٌ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ السُّدُسِ سَهْمَانِ وَهُوَ عَشَرَةٌ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا تِسْعَةٌ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ سِتَّةَ عَشَرَ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ عِشْرِينَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَنِصْفًا، وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَسْرِ بِالْأَنْصَافِ، فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ خَنَاثَى كُلُّهُنَّ وَلَا عَصَبَةَ لَهُ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ النِّصْفَ لِلِابْنَةِ ثَابِتٌ بِغَيْرِ شَكٍّ وَالسُّدُسَ سَهْمَانِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُلْيَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا ابْنَتَانِ وَأَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَهُمَا، ثُمَّ السُّفْلَى تَزْعُمُ أَنَّهَا ذَكَرٌ وَأَنَّ الْوُسْطَى أُنْثَى وَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَهُوَ لَا يَدَّعِي ثُلُثَ هَذَا الثُّلُثِ وَالْوُسْطَى وَالْعُلْيَا وَالِابْنَةُ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِدَعْوَاهَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا يَبْقَى ثُلُثَا الثُّلُثِ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَتُهُنَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 102 تَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهَا فَيَكُونُ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا وَأَرْبَاعًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ أَرْبَعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ اثْنَيْ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ فِي أَصْلِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ مِائَةً وَثَمَانِيَةً لِلِابْنَةِ مَرَّةً أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ وَهُوَ النِّصْفُ، وَمَرَّةً نِصْفُ السُّدُسِ تِسْعَةٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ وَهُوَ ثُلُثُ ثُلُثِ الثُّلُثِ، وَمَرَّةً رُبْعُ ثُلُثَيْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَسِتَّةٌ وَأَرْبَعَةٌ يَكُونُ عَشْرًا إذَا ضَمَمْتَ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ يَكُونُ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ وَلِلْعُلْيَا مَرَّةً تِسْعَةٌ، وَمَرَّةً أَرْبَعَةٌ، وَمَرَّةً سِتَّةٌ فَذَلِكَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَيْسَ لِلسُّفْلَى إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ مِائَةً وَثَمَانِيَةً فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْخُنْثَى] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي قَوْمٍ لَهُ مَا لِلْمَرْأَةِ وَمَا لِلرَّجُلِ كَيْفَ يَرِثُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَنْ قَتَادَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، وَهَذَا حُكْمٌ كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا يُحْكَى أَنَّ قَاضِيًا فِيهِمْ رُفِعَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فَجَعَلَ يَقُولُ هُوَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَاسْتَبْعَدَ قَوْمُهُ ذَلِكَ فَتَحَيَّرَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ فِي الِاسْتِرَاحَةِ فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَا يَأْخُذُهُ النَّوْمُ لِتَحَيُّرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَكَانَتْ لَهُ بُنَيَّةٌ فَغَمَزَتْ رِجْلَيْهِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ تَفَكُّرِهِ فَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ وَقَالَتْ دَعْ الْحَالَ وَابْتَغِ الْمَبَالَ فَخَرَجَ إلَى قَوْمِهِ وَحَكَمَ بِذَلِكَ فَاسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَا يَقَعُ بِهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الْوِلَادَةِ الْآلَةُ، وَذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّ وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَعِنْدَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ مَنْفَعَةُ تِلْكَ الْآلَةِ خُرُوجُ الْبَوْلِ مِنْهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْأَصْلِيَّةَ فِي الْآلَةِ أَنَّهَا الْمَبَالُ، فَإِذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرَّجُلِ عَرَفْنَا أَنَّ آلَةَ الْفَصْلِ فِي حَقِّهِ هَذَا وَأَنَّ الْآخَرَ زِيَادَةُ خَرْقٍ فِي الْبَدَنِ، فَإِذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ الْآلَةَ هَذَا وَأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَبَالَيْنِ فِي الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحُكْمُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا لِلْبَوْلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 103 بِالسَّبْقِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَالْمُسَاوَاةُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ كَمَا خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَقَدْ حُكِمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَبَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مَا خَرَجَ عَلَامَةَ تَمَامِ الْفَصْلِ وَبَعْدَ مَا حُكِمَ لَهُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِخُرُوجِ ذَلِكَ الْبَوْلِ مِنْ الْآلَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ لَا يُلْتَفَتُ لِلْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ مَوْلُودٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا مَعًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُورَثُ بِأَكْثَرِهِمَا بَوْلًا؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ بِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْكَثْرَةِ كَمَا يَكُونُ بِالسَّبْقِ إذْ لَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَمَا لَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ اللَّاحِقِ وَالسَّابِقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ أَكْثَرُ هُوَ الْمَبَالُ فَالْحُكْمُ لِلْمَبَالِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَبَى ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كَثْرَةَ الْبَوْلِ تَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْمَخْرَجِ وَلَا مُعْتَبَرَ لِذَلِكَ فَمَخْرَجُ بَوْلِ النِّسَاءِ أَوْسَعُ مِنْ مَخْرَجِ بَوْلِ الرِّجَالِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ تَظْهَرُ فِي الْبَوْلِ لَا فِي الْمَبَالِ، وَالْآلَةُ الْفَصْلُ الْمَبَالُ دُونَ الْبَوْلِ، وَبِاعْتِبَارِ السَّبْقِ يَأْخُذُ السَّابِقُ اسْمَ الْمَبَالِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ ذَلِكَ الِاسْمَ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ أَخَذَا اسْمَ الْمَبَالِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ وَقِلَّتِهِ ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَقْبَحَ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ عَلَى مَا يُحْكَى عَنْهُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا قَالَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُورَثُ مِنْ أَكْثَرِهِمَا بَوْلًا قَالَ يَا أَبَا يُوسُفَ وَهَلْ رَأَيْت قَاضِيًا يَكِيلُ الْبَوْلَ بِالْأَوَانِي؟، فَقَدْ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَتَوَقَّفَ فِي الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلتَّمْيِيزِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمَعْقُولِ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا فَتَوَقَّفَ وَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ فِقْهِ الرَّجُلِ وَوَرَعِهِ أَنْ لَا يَخْبِطَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي ثُمَّ قَالَ بَخٍ بَخٍ، لِابْنِ عُمَرَ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ لَا أَدْرِي وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا إذَا اسْتَوَيَا فِي الْمِقْدَارِ لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ وَقَفَ فِيهِ عَلَى دَلِيلٍ لِيَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ بِقَضَايَا فِيهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي هُوَ مُشْكِلٌ لَا يَخْلُو إذَا بَلَغَ هَذِهِ الْمَعَالِمَ وَإِنَّمَا لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَزُولَ الْإِشْكَالُ بِظُهُورِ عَلَامَةٍ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا جَامَعَ بِذَكَرِهِ أَوْ خَرَجَتْ لَهُ لِحْيَةٌ أَوْ احْتَلَمَ كَمَا يَحْتَلِمُ الرِّجَالُ فَهُوَ رَجُلٌ وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ فِي بَاطِنِهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَقَوْلُ الْإِنْسَانِ شَرْعًا مَقْبُولٌ فِيمَا يُخْبِرُ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 104 كَانَ لَهُ ثَدْيَانِ مِثْلُ ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ أَوْ رَأَى حَيْضًا كَمَا تَرَى النِّسَاءُ أَوْ كَانَ يُجَامَعُ؟ كَالْمَرْأَةِ أَوْ ظَهَرَ بِهِ حَبَلٌ أَوْ نَزَلَ فِي ثَدْيَيْهِ لَبَنٌ فَهُوَ امْرَأَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَلَامَاتِ الْفَصْلِ لِلْبُلُوغِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا عِنْدَ بُلُوغِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إذَا بَلَغَ عَنْ هَذِهِ الْمَعَالِمِ. قُلْنَا لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي مِيرَاثِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ فِيمَا سَبَقَ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ وَقَدْ رَاهَقَ لَمْ يَغْسِلْهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَكِنْ يُيَمَّمُ الصَّعِيدَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ وَبِالْمَوْتِ لَا تَنْكَشِفُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّ نَظَرَ هَذَا الْجِنْسِ أَخَفُّ فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أُبِيحَ النَّظَرُ لِلْجِنْسِ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَالْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ فِي وُجُوبِ سَتْرِ عَوْرَتِهِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ مُشْكِلًا لَا يُوجَدُ لَهُ جِنْسٌ أَوْ لَا يُعْرَفُ جِنْسُهُ أَنَّهُ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ مِنْ النِّسَاءِ فَيُعْذَرُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ لِانْعِدَامِ مَا يُغْسَلُ بِهِ فَيُيَمَّمُ الصَّعِيدَ، وَهُوَ نَظِيرُ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ فَإِنَّهَا تُتَيَمَّمُ الصَّعِيدَ فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ يُيَمِّمُهُ مِنْ النِّسَاءِ يَمَّمَتْهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ يَمَّمَهُ بِخِرْقَةٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهِ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَفِي هَذَا أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ السِّنُّ وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ. وَإِنْ سَجَّى دُبُرَهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ احْتِيَاطٍ فَلَعَلَّهُ امْرَأَةٌ وَمَبْنَى حَالِهَا عَلَى السِّتْرِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُسَجِّيَ دُبُرَ الرَّجُلِ عِنْدَ الْعُذْرِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ، وَاشْتِبَاهُ حَالِهِ فِي الْعُذْرِ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ مَقْلُوبًا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُحْمَلُ عَلَى السَّرِيرِ مُسْتَوِيًا بِغَيْرِ نَعْشٍ وَالْمَرْأَةُ تَحْتَ نَعْشٍ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ بِغَيْرِ نَعْشٍ وَهُوَ امْرَأَةٌ كَانَ فِيهِ تَشْبِيهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَإِنْ جُعِلَ عَلَى سَرِيرِهِ النَّعْشُ كَانَ فِيهِ تَشْبِيهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ إذَا كَانَ رَجُلًا فَأَوْلَى الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى سَرِيرِهِ مَقْلُوبًا، وَإِنْ جُعِلَ عَلَى السَّرِيرِ النَّعْشُ فِيهِ الْمَرْأَةُ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السِّتْرِ وَالسِّتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ، وَيُدْخِلُهُ قَبْرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ أُنْثَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْمِسَهُ مَنْ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُرْمِسَهُ مَحْرَمُهُ عِنْدَ الْإِدْخَالِ فِي قَبْرِهِ فَكَانَ هَذَا أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ، وَيُكَفَّنُ كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السَّتْرِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي كَفَنِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزَةٌ، وَاشْتِبَاهُ أَمْرِهِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعُذْرِ فَلِهَذَا يُكَفَّنُ كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يُؤْمَرُ بِالسِّتْرِ وَيُنْهَى عَنْ الْكَشْفِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 105 فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا كَانَ أَقْرَبُ إلَى السِّتْرِ فِي حَقِّهِ فَهُوَ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ.» وَأَكْرَهُ فِي حَيَاتِهِ لُبْسَ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الذَّهَبَ بِيَمِينِهِ وَالْحَرِيرَ بِشِمَالِهِ وَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» فَإِنَّمَا أَبَاحَ اللُّبْسَ بِشَرْطِ أُنُوثَةِ اللَّابِسِ، وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي الْخُنْثَى، ثُمَّ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَتَرَجَّحُ مَعْنَى الْحَظْرِ فِيهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَتَرْكُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَا يَرِيبُهُ وَلُبْسُهُ يَرِيبُهُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُبَاحِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي تَرْكِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُوَاقِعًا لِلْحَرَامِ إنْ كَانَ رَجُلًا، وَإِنْ قَبَّلَهُ رَجُلٌ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهُ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى فَتَقْبِيلُهُ بَعْدَ مَا رَاهَقَ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَتَكُونُ أُمُّهُ حَرَامًا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَتَرْكُ نِكَاحِ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ أَوْلَى مِنْ نِكَاحِ امْرَأَةٍ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَلَا عِلْمَ لِي بِنِكَاحِهِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ إلَى أَنْ يَبْلُغَ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ يَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ دُخُولَ الْمَالِكِينَ، وَالْأُنْثَى تَصِيرُ مَمْلُوكَةً بِالنِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ إنْكَاحِ الْوَلِيِّ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ عَلَامَةُ الرِّجَالِ وَقَدْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً حُكِمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مِنْ حِينِ عَقْدِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أُجِّلَ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ، وَإِنْ كَانَ زَوَّجَهُ أَبُوهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِهِ عَلَامَةُ الرِّجَالِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ بَاطِلًا. وَإِنْ أَحْرَمَ وَقَدْ رَاهَقَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا عِلْمَ لِي بِلِبَاسِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ فِي إحْرَامِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ الْمِخْيَطِ، وَالْمَرْأَةُ فِي إحْرَامِهَا يَلْزَمُهَا لُبْسُ الْمِخْيَطِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الِاكْتِفَاءُ بِلُبْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ فَلَمَّا اسْتَوَى الْجَانِبَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَتَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِلِبَاسِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السِّتْرِ، وَمَبْنَى حَالِهِ عَلَى السَّتْرِ كَمَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمِخْيَطِ لِلرَّجُلِ فِي إحْرَامِهِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَاشْتِبَاهُ أَمْرِهِ مِنْ أَبْلَغِ الْأَعْذَارِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ، وَكَفَّارَةُ الْإِحْرَامِ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْبَالِغِ عِنْدَنَا وَيُصَلِّي بِقِنَاعٍ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السِّتْرِ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَالتَّقَنُّعُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِالتَّقَنُّعِ فِي صَلَاتِهَا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ، وَيَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 106 كَجُلُوسِ الْمَرْأَةِ مَعْنَاهُ يُخْرِجُ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُفْضِي بِأَلْيَتَيْهِ إلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السِّتْرِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَاشْتِبَاهُ الْحَالِ أَبْيَنُ الْأَعْذَارِ، وَيَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ وَأَمَامَ صَفِّ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَوُقُوفُهُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَوُقُوفُهَا يُفْسِدُ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا وَمَنْ خَلْفَهَا مِنْ الرِّجَالِ بِحِذَائِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَةَ فِي هَذَا كَالْبَالِغَةِ اسْتِحْسَانًا فَإِذَا وَقَفَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ أَمَامَ صَفِّ النِّسَاءِ نَتَيَقَّنُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ جَمِيعِ الْقَوْمِ، فَإِنْ وَقَفَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَالسُّقُوطُ بِهَذَا الْأَدَاءِ مُشْتَبِهٌ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَحَبُّ إلَيَّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ وَهُوَ الْأَدَاءُ مَعْلُومٌ وَالْمُفْسِدُ وَهُوَ مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَوْهُومٌ فَلِلتَّوَهُّمِ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ أَقَامَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَيُعِيدُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ سَجَدَاتِ صَلَاتِهِمْ وَالْمُرَادُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي حَقِّهِمْ مَوْهُومٌ وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ لِهَذَا. وَإِنْ مَاتَ هَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ صَفَّ الرِّجَالِ أَقْرَبُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ صَفِّ الْخَنَاثَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَقَدْ أَمَرَ بِأَنْ يُقَرَّبَ مِنْهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وَلِلرِّجَالِ زِيَادَةُ دَرَجَةٍ عَلَى النِّسَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ جِنَازَةُ الرَّجُلِ أَقْرَبُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ جِنَازَةِ النِّسَاءِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِتَرَدُّدِ الْحَالِ فِيهِ تُجْعَلُ جِنَازَتُهُ خَلْفَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَأَمَامَ جِنَازَةِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ دُفِنُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُدْفَنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّهَدَاءِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ كُلَّ مَيِّتِينَ حَاجِزٌ مِنْ التُّرَابِ» فَيُفْعَلُ كَذَلِكَ هُنَا وَيُوضَعُ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثُمَّ خَلْفَهُ الْخُنْثَى ثُمَّ خَلْفَهُ الْمَرْأَةَ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ فَيَكُونُ الرَّجُلُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ أَحَقَّ. (أَلَا تَرَى) فِي حَدِيثِ أُحُدٍ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَقْدِيمِ أَكْثَرِهِمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ إلَى جَانِبِ الْقِبْلَةِ» وَيُجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ مَيِّتِينَ حَاجِزٌ مِنْ الصَّعِيدِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ. وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا بَعْدَ مَا بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ أَوْ سَرَقَ مِنْهُ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْبُلُوغِ مُخَاطَبًا وَحَدُّ الْقَذْفِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 107 وَالسَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَاشْتِبَاهُ حَالِهِ لَا يَمْنَعُ بِتَحَقُّقِ قَذْفِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ وَلَا تَحَقُّقِ سَرِقَتِهِ وَالسَّرِقَةِ مِنْهُ مُوجِبَ الْقَطْعِ، وَإِنْ قَذَفَهُ رَجُلٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ وَالرَّتْقَاءِ إذَا قَذَفَهَا رَجُلٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاذِفَ يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ بِنِسْبَةِ الرَّجُلِ إلَى فِعْلٍ يُبَاشِرُهُ وَنِسْبَةِ الْمَرْأَةِ إلَى التَّمْكِينِ مِنْ فِعْلٍ يُبَاشِرُهُ غَيْرُهَا، وَمَعَ اشْتِبَاهِ أَمْرِهِ لَا يَتَقَدَّرُ السَّبَبُ وَلَا يَدْرِي أَنَّ قَاذِفَهُ إلَى أَيِّ فِعْلٍ نَسَبَهُ، فَإِنْ كَانَ نَسَبَهُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ وَهُوَ امْرَأَةٌ كَانَ قَدْ نَسَبَهُ إلَى مُحَالٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَاذِفِ الرَّتْقَاءِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَسَبَهُ إلَى التَّمْكِينِ وَهُوَ رَجُلٌ كَانَ قَدْ نَسَبَهُ إلَى مَا هُوَ قَاصِرٌ فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ أَوْ امْرَأَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَفِي الْأَطْرَافِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ رَجُلًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ إذَا كَانَتْ هِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ امْرَأَةً لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ هُوَ رَجُلًا، فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَبِهِ فَارَقَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِهِ وَتَقَرُّرِ سَبَبِهِ، وَلَوْ قَطَعَ هَذَا الْخُنْثَى يَدَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَلَكِنَّ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ فَعَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ قِنَاعٍ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ لَمْ آمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَالْمُرَاهِقَةُ إذَا صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ لَا تُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ اسْتِحْسَانًا زَادَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَصَلَّى بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَمَرْته أَنْ يُعِيدَ، وَهَذَا بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ مُشْكِلًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ تُصُوِّرَ يُحْكَمُ بِهَذَا، وَأَكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْكَشِفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ وَقُدَّامَ النِّسَاءِ إذَا كَانَ قَدْ رَاهَقَ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَالْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ لَجَازَ لِلْخُنْثَى التَّكَشُّفُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّكَشُّفِ إبْدَاءَ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْخُنْثَى أَيْضًا وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَا فِي إزَارٍ وَاحِدٍ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ رِوَايَتَانِ بَيَّنَّاهُمَا فِي الِاسْتِحْسَانِ. وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا لَا يَخْلُونَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَإِذَا خَلَى الْخُنْثَى بِرَجُلٍ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَتَكُونُ هَذِهِ خَلْوَةُ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 108 وَإِذَا خَلَا بِامْرَأَةٍ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ ذَكَرٌ خَلَا بِأَجْنَبِيَّةٍ وَالْمُرَاهِقَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْخَلْوَةِ كَالْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ امْرَأَةٌ مَحْرَمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْخُنْثَى أُنْثَى فَتَكُونُ هَذِهِ مُسَافَرَةُ امْرَأَتَيْنِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لَهُمَا وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الْخُنْثَى إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ مِنْ الرِّجَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أُنْثَى، وَلَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُدْرِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَعْدَمُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَأَكْرَهُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْحُلِيَّ وَالذَّهَبَ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ وَلَدَانِ خُنْثَيَانِ فَمَاتَ أَبُوهُمَا أَحْرَزَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثِ رَجُلٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى، وَعِنْدَنَا مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الِابْنَتَيْنِ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي فَرَائِضِ الْخُنْثَى وَلَا يَرِثُ الْخُنْثَى بِوَلَاءِ الْغَيْرِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ أُنْثَى. وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِمَا فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ غُلَامًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ هَذَا الْخُنْثَى قَالَ يُوقَفُ الْخَمْسُمِائَةِ الْفَاضِلَةُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ جَعَلْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ كَالْأُنْثَى مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ، وَهَذَا لِأَنَّا لَا نُعْطِيهِ إلَّا بِالْمُتَيَقَّنِ بِهِ وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ هُوَ الْأَقَلُّ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبْعُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْخُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ رَجُلٍ وَنِصْفِ امْرَأَةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَحْوَالِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَوْ قَالَ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ هَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَلَا الْعَتَاقُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يُنْجَزُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ حَقِيقَةً وَمَعَ الْإِشْكَالِ لَا يَتَبَيَّنُ وُجُودُ الشَّرْطِ فَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَدْخُلْ دَارَ فُلَانٍ فَعَبْدُهُ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ وَلَا يُعْلَمُ أَدَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنْ فَرَضَ لِهَذَا الْخُنْثَى فِي الْغَنِيمَةِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ وَإِنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَصَحَّ لَهُ بِسَهْمٍ؛ لِأَنَّهُ صَغِيرٌ مَا دَامَ مُشْكِلَ الْحَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِشْكَالَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلِأَنَّهُ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ وَكَذَلِكَ الرَّضْخُ دُونَ السَّهْمِ. وَإِنْ أَخَذَ الْخُنْثَى أَسِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالصَّغِيرُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ خَرَاجُ رَأْسِهِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ الْخُنْثَى فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْعُقَلَاءِ وَلِتَوَهُّمِ الْأُنُوثَةِ. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 109 كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ أَوْ قَالَ كُلُّ أَمَةٍ لِي حُرَّةٌ وَلَهُ مَمْلُوكٌ خُنْثَى لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، وَإِنْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ تَيَقُّنِ الْجَمْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ يَتَنَاوَلُهُ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، وَعِنْدَ الِانْفِرَادِ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يُتَيَقَّنُ ذَلِكَ وَالرِّقُّ فِيهِ يَقِينٌ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَاشْتَرَى الْخُنْثَى لَمْ تَطْلُقُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا طَلُقَتْ بِشِرَاءِ الْخُنْثَى لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ. وَإِنْ قَالَ الْخُنْثَى أَنَا رَجُلٌ أَوْ قَالَ أَنَا امْرَأَةٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُحَارِفُ عَمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ تَجَسَّسَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ وَيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي وُجُوبِ سَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَنَظَرُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُبَاحُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَسَوَاءٌ جَسَّسَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ يُتَوَهَّمُ نَظَرُ خِلَافِ الْجِنْسِ وَلَكِنْ يَشْتَرِي لَهُ جَارِيَةً عَالِمَةً بِذَلِكَ مِنْ مَالِهِ تَجَسَّسُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالشِّرَاءِ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَهَذَا نَظَرُ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَهَذَا نَظَرُ الْمَمْلُوكَةُ إلَى مَالِكِهَا، قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ مُعْسِرًا اشْتَرَى لَهُ الْإِمَامُ جَارِيَةً بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَتَجَسَّسُهُ ثُمَّ بَاعَهَا وَجَعَلَ ثَمَنَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفَانِ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا وَلَكِنَّهُ خَصَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَهُمَا ثُمَّ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهَا وَفِيهِ إقَامَةُ مَا هُوَ ظَهْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ شَرْعًا فَيَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَصِّلَ ذَلِكَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُزَوِّجُ امْرَأَةً خُنَاثَةً وَكَأَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلَ مَعَ هَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى إنْ كَانَ امْرَأَةً فَهَذَا نَظَرُ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ وَالنِّكَاحُ لَغْوٌ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَهَذَا نَظَرُ الْمَنْكُوحَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَإِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ رَجُلًا أَوْ زَوَّجَهُ امْرَأَةً فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ لَا يُجِيزُهُ وَلَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَتَوَارَثُ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ. أَمَّا لَا نُبْطِلُهُ لِأَنَّ الْعَاقِدَ وَلِيٌّ وَلَا نُجِيزُهُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ بِمُصَادَفَةِ هَذَا الْعَقْدِ مَحَلَّهُ، وَلَا يَتَوَارَثُ؛ لِأَنَّ التَّوَارُثَ مِنْ حُكْمِ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ قُتِلَ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ فَعَلَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَنِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ وَعَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى مُدَّعِي الزِّيَادَةِ إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَةِ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَوُلِدَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ خُنْثَى فَمَاتَ الْخُنْثَى بَعْدَ أَبِيهِ فَادَّعَتْ أُمُّهُ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الْغُلَامُ وَادَّعَى الِابْنُ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ مِنْ حَيْثُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 110 تَبُولُ الْجَارِيَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ وَالِابْنُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْأُمِّ سَوَاءٌ أَقَامَتْ هِيَ وَحْدَهَا أَوْ أَقَامَا جَمِيعَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهَا وَالِابْنُ يَنْفِي بَيِّنَةَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ أَقَامَتْ الْأُمُّ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ زَوَّجَهُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ النِّسَاءُ وَطَلَبَ مِيرَاثَهُ مِنْهَا قَالَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةَ إثْبَاتٍ؛ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالْمِيرَاثِ لِنَفْسِهِ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، ثُمَّ لِلْأُمِّ نَصِيبُهَا مِنْ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُقَالُ هِيَ تُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّدَاقِ فَكَيْفَ تَأْخُذُ نَصِيبَهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُكَذَّبَةً فِيمَا زَعَمَتْ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زَعْمَ الزَّاعِمِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا جَرَى الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ مِنْ الْمَبَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ يَبُولُ مِنْ الْمَبَالِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَبُولُ نَفْيٌ وَالشَّهَادَةُ بِلَفْظِ النَّفْيِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَوُجُودُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَعَدَمِهَا. وَلَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ كَانَ غُلَامًا يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الْغُلَامُ خَاصَّةً وَأَقَامَتْ الْأُمُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ النِّسَاءُ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ أَصْلُ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَّقَتْهَا الْأُمُّ فِيمَا ادَّعَتْ وَأَقَامَ الِابْنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ جَارِيَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَقَامَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَأَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ الصَّدَاقِ فَتَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ وَالْمِيرَاثِ وَفِي بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ زِيَادَةٌ وَهُوَ إثْبَاتُ الصَّدَاقِ فَتَتَرَجَّحُ لِذَلِكَ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ فَالْوَقْتُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ يُثْبِتُ عَقْدَهُ وَحْدَهُ فِي الْخُنْثَى فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ تَصِيرُ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ مُحَالًا، وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى حَيًّا أَبْطَلْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَمْ أَقْضِ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحِلُّ وَقَدْ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِيهِ وَانْتَفَتَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ زَوْجًا وَزَوْجَةً بِخِلَافِ مَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْعَقْدُ قَدْ ارْتَفَعَ هُنَاكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ فَصِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ أُخْتَيْنِ ادَّعَيَا نِكَاحَ رَجُلٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُمَا بِالْمِيرَاثِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ حَيًّا لَكَانَ يُبْطِلُ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا لَمْ يُوَقِّتَا. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 111 الْفَرْقِ بَيْنَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ. قَالَ: وَلَيْسَ يَكُونُ الْخُنْثَى مُشْكِلًا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ عَلَى حَالٍ مِنْ الْحَالَاتِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ تَحْبَلَ أَوْ تَحِيضَ أَوْ تَخْرُجَ لَهُ لِحْيَةٌ أَوْ يَكُونَ لَهُ ثَدْيَانِ كَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ حَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَبَاتِ الثَّدْيَيْنِ يَكُونُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِذَا قَالَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ هُوَ غُلَامٌ أَوْ قَالَ هِيَ جَارِيَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْكِلٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الصَّغِيرِ فَيَكُونُ إخْبَارُهُ بِذَلِكَ كَإِخْبَارِ الْخُنْثَى بِنَفْسِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْخُنْثَى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَهُوَ مُرَاهِقٌ فَأَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ زَوَّجَهُ عَلَى هَذَا الْوَصِيفِ فَأَمَرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهَا وَأَنَّهُ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ وَأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ هَذَا الْعَبْدِ، وَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الْغُلَامِ فَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتَيْنِ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَالْإِبْطَالُ لِلْمُعَارَضَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا، وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ وَلَا يُعْرَفُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ أَبْطَلْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي مَعْنَى الْإِثْبَاتِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْبَاتُ النِّكَاحِ وَالْمِيرَاثِ وَإِثْبَاتُ الْمَهْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ الْوَصِيفِ وَالْمَرْأَةُ تُثْبِتُ الْمَهْرَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعٌ فَلِلتَّعَارُضِ قُلْنَا بِأَنَّهُ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ إثْبَاتُ الْمَهْرِ فِي بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ دُونَ بَيِّنَةِ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ زَوَّجَهَا إيَّاهُ بِرِضَاهَا وَأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ أَبْطَلْت ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ إثْبَاتُ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ فَاسْتَوَيَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ مِنْهُمَا أَبْطَلْت ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَوْ قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِصِدْقِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الْحُكْمُ بِكَذِبِ الْفَرِيقِ الثَّانِي هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ. وَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ تَشْوِيشٌ فِي الرِّوَايَةِ فَقَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ وَقَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَلَمْ يُوَقِّتَا وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنِّي أُبْطِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَأَرُدُّهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْخُنْثَى فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَيِّنَةَ الْمَرْأَةِ أَوْلَى لِمَا فِي بَيِّنَتِهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ الْمَهْرُ. وَلَوْ كَانَ الْخُنْثَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادَّعَى مُسْلِمٌ أَنَّ أَبَاهُ زَوَّجَهُ إيَّاهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَادَّعَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 112 قَضَيْت بِبَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهَا وَهِيَ أَقَامَتْ مَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَضَيْت بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْبَيِّنَتَيْنِ بِحُكْمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَشَهَادَةِ الْكُفَّارِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً لِمَكَانِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ. وَإِذَا مَاتَ هَذَا الْخُنْثَى فَادَّعَتْ أُمُّهُ مِيرَاثَ غُلَامٍ وَجَحَدَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ وَأَقَرَّ الْوَصِيُّ بِهِ قَالَ إذَا جَاءَتْ الْأَمْوَالُ وَالدُّيُونُ لَمْ أُصَدِّقْ الْوَصِيَّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالْجُحُودِ الْحَاجَةُ إلَى حُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَقَوْلُ الْوَصِيِّ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَعْوَى الْمَالِ فَأَخْبَرَ الْوَصِيُّ أَنَّهُ غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَهُوَ لَوْ أَخْبَرَ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا إذَا لَمْ يُعْرَفْ خِلَافُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إلْزَامِ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ قَوْلُ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ أَخَاهُ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَ الْخُنْثَى فَقَالَ الْوَصِيُّ هُوَ غُلَامٌ وَقَالَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ هُوَ جَارِيَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ الْأَخُ إلَّا فِي نَصِيبِهِ يَرِثُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَحَدُ وَرَثَةِ الْخُنْثَى وَقَدْ أَقَرَّ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِ وَأَنَّ لَهَا مِنْهُ مِيرَاثَ النِّسَاءِ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ أَوْ النِّكَاحِ صُدِّقَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلُ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَخٌ آخَرُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ جَارِيَةٌ وَزَوَّجَهُ رَجُلًا ثُمَّ مَاتَ الْخُنْثَى وَهُوَ مُرَاهِقٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ حَالُهُ فَنِكَاحُ الْأَوَّلِ جَائِزٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الثَّانِي عَلَى الثَّانِي وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ يَسْتَنِدُ بِالْعَقْدِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَحِينَ زَوَّجَهُ أَحَدَهُمَا لَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ لِيَكُونَ الْمُزَوِّجُ وَلِيًّا، وَلَوْ جَعَلْنَا النِّكَاحَ مِنْ الثَّانِي مُعْتَبَرًا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ فَيَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَبِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَيَّهمَا أَوَّلُ أَبْطَلْت ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَمْ أُوَرِّثْهُمَا شَيْئًا لِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا وَتَنَافِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ عِتْقُ هَذَا الْخُنْثَى عَنْ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا مَحَالَةَ. وَلَا يَحْضُرُ - إنْ كَانَ مُرَاهِقًا - غُسْلَ امْرَأَةٍ وَلَا رَجُلٍ كَمَا لَا يُغَسِّلُهُ إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ لِتَوَهُّمِ نَظَرِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ. وَإِذَا زُوِّجَ خُنْثَى مِنْ خُنْثَى وَهُمَا مُشْكِلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَجُلٌ وَالْآخَرَ امْرَأَةٌ لَمْ أُجِزْ النِّكَاحَ وَلَمْ أُبْطِلْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ بَيْنَ الْوَلِيَّيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَلَا يُحْكَمُ بِجَوَازِهِ لِتَوَهُّمِ كَوْنِهِمَا أُنْثَيَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 113 أَوْ ذَكَرَيْنِ أَوْ عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّرَهُ الْوَلِيَّانِ، وَإِنْ مَاتَا لَمْ يَتَوَارَثَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مُشْكِلٌ أَجَزْت النِّكَاحَ إذَا كَانَ الْأَبَوَانِ هُمَا اللَّذَانِ زَوَّجَا؛ لِأَنَّ أَبَ الزَّوْجِ مِنْهُمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ غُلَامٌ، وَأَبُ الْمَرْأَةِ مِنْهُمَا أَخْبَرَ أَنَّهَا امْرَأَةٌ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ شَرْعًا مَا لَمْ يُعْرَفْ خِلَافُ ذَلِكَ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَا بَعْدَ ذَلِكَ الْأَبَوَيْنِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ الزَّوْجُ وَأَنَّ الْأُخْرَى هِيَ الزَّوْجَةُ لَمْ أَقْضِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ مَا جَرَى الْحُكْمُ بِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِلَا إشْكَالٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ الزَّوْجَ فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَاسْتَوَيَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَنْقُضُ الْأُخْرَى، وَإِنْ قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَوَّلًا وَاتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِهَا تَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ لِلْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى. وَإِذَا شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى خُنْثَى أَنَّهُ غُلَامٌ وَشَهِدَ شُهُودُ آخَرُونَ أَنَّهُ جَارِيَةٌ فَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ مِيرَاثًا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ قَضَيْت بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهُ غُلَامٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ مِيرَاثًا وَكَانَ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّهَا امْرَأَتُهُ قَضَيْت بِأَنَّهَا جَارِيَةٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتَ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا وَلَا يُطْلَبُ مِنْ قِبَلِهِ شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى لِصِحَّةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ إذَا لَمْ يَدَّعِ بِهَا شَيْئًا فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مِنْ أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ لَا يَدَّعِي بِذَلِكَ شَيْئًا إذْ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ مَا عَرَفَ كَوْنَهُ مُشْكِلًا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ حِسَابِ الْوَصَايَا] قَالَ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ تَفْرِيعِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَقَدْ كَانَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي عِلْمِ الْحِسَابِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُوجَدُ غَيْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ سَمَّاهُ التَّكْمِلَاتُ وَإِنَّمَا جَمَعَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا التَّصْنِيفِ بَعْدَ مَا صَنَّفَ كُتُبَ الْحِسَابِ وَسَمَّاهُ حِسَابُ الْوَصَايَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْقِيقُ طَرِيقِ التَّعْمِيمِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ فِي تَخْرِيجِ مَسَائِلِ الْحِسَابِ عَلَيْهِ وَالْحِسَابُ قَلَّ مَا يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَدَّمُوهُ عَلَى سَائِرِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقِ الْفِقْهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 114 الْوَرَعِ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَشْتَغِلُ فِي شَرْحِ مَسَائِلِ كُتُبِ الْحِسَابِ بِطَرِيقِ الْحِسَابِ. وَيَقُولُونَ: إنَّا لَا نَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الطُّرُقِ وَلَا نَدْرِي أَنَّهَا تُوَافِقُ فِقْهَ الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا، وَلَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ فَيُكْتَفَى بِمَا هُوَ طَرِيقُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَقَالُوا: إنَّ الْحِسَابَ كَسْبِيٌّ فِي الِابْتِدَاءِ ضَرُورِيٌّ فِي الِانْتِهَاءِ، وَفِي الْفِقْهِ كَسْبِيٌّ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَدْرِي أَيُصِيبُ يَقِينًا أَمْ لَا وَبَعْدَ مَا اجْتَهَدَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ يَقِينًا أَمْ لَا وَفِي الْحِسَابِ نَتَيَقَّنُ إنْ أَصَابَ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ فِي الِانْتِهَاءِ فَذَكَرَ طَرِيقَ الْحِسَابِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ لِبَيَانِ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ عَلَى مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورِيِّ فِي الِانْتِهَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَ الْحِسَابِ فِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ فَيُكْتَفَى فِي بَيَانِ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا اعْتَمَدَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا طَرِيقُ التَّعْمِيمِ وَقَدْ سَمَّاهُ ثُمَّ الْكَسْرُ وَالتَّعْمِيمُ هُوَ الْأَصْلُ فَنَقُولُ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ فَأَجَازَ الِابْنُ وَلَمْ تُجِزْ الِابْنَةُ فَالْقِسْمَةُ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا لِلِابْنَةِ عَشَرَةٌ وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّا نُصَحِّحُ الْوَصِيَّةَ لَوْ أَجَازَا جَمِيعًا فَنَقُولُ: عِنْدَ إجَازَتِهِمَا تَكُونُ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ الْمَالُ بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا وَقَدْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَيَزْدَادُ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ فَتَكُونُ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةٍ ثُمَّ تُصَحَّحُ الْفَرِيضَةُ؛ لَوْ لَمْ يُجِزْ فَنَقُولُ: الْفَرِيضَةُ مِنْ تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا فَتَكُونُ الْفَرِيضَةُ مِنْ تِسْعَةٍ فَإِذَا أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ فَالسَّبِيلُ أَنْ نَضْرِبَ تِسْعَةً فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَهُوَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِلَا مِنَّةِ الْإِجَازَةِ وَلِلِابْنَةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُجِزْ الْوَصِيَّةَ فَتَأْخُذُ كَمَالَ حَقِّهَا مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَالِابْنُ قَدْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ وَبِاعْتِبَارِ الْإِجَازَةِ حَقُّهُ فِي خُمُسَيْ الْمَالِ وَكُلُّ خُمُسٍ تِسْعَةٌ؛ فَلَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَهُوَ يَأْخُذُ مِنْ الْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَيَدْفَعُ سَهْمَيْنِ إلَى الْمُوصَى لَهُ فَيَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَإِذَا لَمْ تُجِزْ الِابْنَةُ أَخَذَتْ حَقَّهَا عَشَرَةً فَانْتَقَصَ بِمَا كَانَ يُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْإِجَازَةِ سَهْمٌ وَبَقِيَ سَهْمَانِ وَضَرَرُ الْإِجَازَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ نَصِيبِهِمَا وَالتَّفَاوُتُ مَا بَيْنَ حَالَةِ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ وَسَهْمٌ مِنْ نَصِيبِ الِابْنَةِ، وَالِابْنُ قَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَرِضَاهُ يَعْمَلُ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ الِابْنَةِ فَلِهَذَا دَفَعَ سَهْمَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ قِيلَ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِشَخْصٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 115 بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَالْقِسْمَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ. وَالطَّرِيقُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا لِلْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ النَّصِيبِ ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِمَكَانِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ ادْفَعْ مِنْهُ مَا زِدْتَ لِلنَّصِيبِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ النَّصِيبِ فَيَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فَهُوَ الثُّلُثُ وَجُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ النَّصِيبَ فَخُذْ النَّصِيبَ وَهُوَ السَّهْمُ وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ تِسْعَةً ثُمَّ ارْفَعْ مِنْهُ سَهْمًا كَمَا رَفَعْتَهُ مِنْ أَصْلِ الثُّلُثِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ وَتَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مَقْسُومٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلِ النَّصِيبِ قَالَ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَحْسِبَهُ بِالْجَامِعِ وَمُرَادُهُ طَرِيقُ الْخَطَأَيْنِ وَفِي تَخْرِيجِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَحَدُهَا يُسَمَّى طَرِيقَ التَّقْدِيرِ وَالْآخَرُ يُسَمَّى طَرِيقَ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَالْآخَرُ طَرِيقَ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ فَاَلَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنْ قَالَ: خُذْ مَالًا فَوْقَ الْعَشَرَةِ لَهُ ثُلُثٌ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَأَخْرِجْ ثُلُثَهُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ مِنْهُ سَهْمًا وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمًا بَقِيَ سَهْمَانِ فَرُدَّهُمَا عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ عَشَرَةً وَحَاجَتُك إلَى ثَلَاثَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِسَبْعَةٍ فَاحْفَظْ ذَلِكَ مَعَكَ وَخُذْ مَالًا آخَرَ لَهُ ثُلُثٌ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَأَخْرِجْ مِنْهُ الثُّلُثَ سَبْعَةً ثُمَّ أَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمَيْنِ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ فَزِدْهَا عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُكَ إلَى ثَلَاثَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِزِيَادَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَاضْرِبْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَطَإِ الثَّانِي وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونَ سِتِّينَ وَثُلُثَ الثَّانِي وَهُوَ سَبْعَةٌ فِي الْخَطَإِ الْأَوَّلِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَيَكُونَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ وَهُوَ الثُّلُثُ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَطْرَحَ أَقَلَّ الْخَطَأَيْنِ مِنْ أَكْثَرِهِمَا بِلَا ضَرْبٍ فَإِنْ طَرَحْتَ سَبْعَةً مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَقِيَتْ ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ فَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْجَامِعُ الْأَكْبَرُ وَالْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِتَضْعِيفِ الثُّلُثِ سِوَى النَّصِيبِ فَهُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ جُعِلَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَرْبَعَةً وَالثُّلُثُ الثَّانِي سَبْعَةً وَعَلَى طَرِيقِ التَّقْدِيرِ فِي الْخَطَأَيْنِ أَنْ تَقُولَ: لَمَّا ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ تَجْعَلُ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً ثُمَّ تُعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَا سَهْمٍ يَبْقَى سَهْمٌ وَثُلُثٌ تَضُمُّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ تِسْعَةً وَثُلُثًا وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ إلَى سِتَّةٍ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ الثَّلَاثَةِ وَثُلُثٍ وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ، فَلَمَّا زِدْنَا فِي النَّصِيبِ سَهْمًا أَذْهَبَ خَطَأَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيَبْقَى خَطَأُ ثَلَاثَةٍ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 116 وَثُلُثٍ فَتَزِيدُ فِي النَّصِيبِ مَا يُذْهِبُ الْخَطَأَ الْبَاقِيَ وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا؛ لِأَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يُؤَثِّرُ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي سَهْمَيْنِ وَعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ بَقِيَ سَهْمٌ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَ ذَلِكَ فَقَدْ انْكَسَرَ فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ النَّصِيبُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ رُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ ثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ فَيَكُونُ سِتَّةً وَتِسْعِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِثْلَ النَّصِيبِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ فَإِذَا اقْتَصَرَتْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الثُّلُثُ أَحَدَ عَشَرَ وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَاحِدٌ وَعَلَى طَرِيقِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ تَقُولُ: لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ وَالثَّانِيَ بِزِيَادَةِ ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ فَتَضْرِبُ ثُلُثَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَطَإِ الثَّانِي وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ وَثُلُثُ ثُلُثِ الثَّانِي هُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَطَإِ الْأَوَّلِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ وَقَدْ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ وَهُوَ سَهْمٌ فِي الْخَطَإِ الثَّانِي وَهُوَ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلُثُ وَنَصِيبَ الثَّانِي فِي الْخَطَإِ الْأَوَّلِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى عَشَرَةٌ وَثُلُثَانِ اضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ. وَإِذَا أَرَدْتَ الِاقْتِصَارَ فَبَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ كَمَا بَيَّنَّا. وَحَاصِلُ طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْخَطَأُ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَالسَّبِيلُ طَرْحُ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَمَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا إلَى زِيَادَةٍ وَالْآخَرُ إلَى نُقْصَانٍ فَالسَّبِيلُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَمَسَائِلُ الْحِسَابِ تَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا عَلَى طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ إذَا لَمْ يُخَالِطْهُ حَذَرٌ فَإِنْ خَالَطَهُ ذَلِكَ فَقَدْ يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا وَفِي الْأَغْلَبِ لَا يَخْرُجُ مُسْتَقِيمًا فَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ. قَالَ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مِمَّا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَالثُّلُثُ أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا وَالنَّصِيبُ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالثُّلُثُ وَالرُّبُعُ مِمَّا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا بِوَصِيَّتِهِ بِمِثْلِ النَّصِيبِ ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةً وَهُوَ ثُلُثُ اثْنَيْ عَشَرَ وَرُبُعُهُ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَيَبْقَى أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 117 وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُونُ ثَلَاثَةً ثُمَّ اضْرِبْهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةً ثُلُثَ اثْنَيْ عَشَرَ وَرُبُعَهُ؛ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ بَقِيَ اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ ثُلُثُ هَذَا الْبَاقِي وَرُبُعُهُ وَهُوَ سَبْعَةٌ يَبْقَى خَمْسَةً فَتَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَكُونُ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ مَقْسُومًا بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَرُبُعِ وَثُلُثِ وَسُدُسِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ الْآخَرِ وَالثُّلُثُ مِمَّا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ فَالثُّلُثُ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَيَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَيْ عَشَرَ فَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا وَسُدُسُهَا تِسْعَةٌ وَثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهَذَا مِنْ التَّعْمِيمِ الْكَثِيرِ أَيْضًا فَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ فَتَزِيدَ عَلَيْهِ النَّصِيبَ وَاحِدًا، ثُمَّ تَضْرِبَهُ فِي مَالٍ لَهُ ثُلُثُ وَرُبُعُ وَسُدُسُ وَثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ إذَا ضَرَبْتَ أَرْبَعَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ تَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثَ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَرُبُعَهُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَسُدُسَهُ وَهُوَ اثْنَانِ، وَثُلُثَ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَكُونَ جُمْلَةَ مَا طَرَحْتَهُ عَشَرَةً يَبْقَى ثَمَانِيَةً وَثَلَاثُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ وَهُوَ وَاحِدٌ فَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ اطْرَحْ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً كَمَا طَرَحْتَهُ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ ثُلُثُ اثْنَيْ عَشَرَ وَرُبُعُهُ وَسُدُسُهُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ فَلِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ ثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا وَسُدُسُهَا وَذَلِكَ تِسْعَةٌ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمَانِ تَضُمُّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَالثُّلُثُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْبَاقِي بَعْدَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَيُعْطَى ثُلُثَيْهَا وَهُوَ سَهْمَانِ وَيَرُدُّ السَّهْمَ الْبَاقِيَ إلَى الثُّلُثَيْنِ وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهِ النَّصِيبَيْنِ وَهُوَ اثْنَانِ فَيَصِيرَ سَبْعَةً ثُمَّ تَضْرِبَ فِي ثَلَاثَةٍ لِمَكَانِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ لَكِنَّا نَطْرَحُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ نَصِيبٍ سَهْمًا فَإِذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ تُطْرَحُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ نَصِيبٍ سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ ضِعْفُ الثُّلُثِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَإِذَا طَرَحْنَا أَرْبَعَةً مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ وَهُوَ الثُّلُثُ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبَيْنِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ اثْنَانِ فَتَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ سِتَّةً ثُمَّ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 118 أَرْبَعَةً بِاعْتِبَارِ النَّصِيبَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ مِقْدَارُ النَّصِيبَيْنِ كُلُّ نَصِيبٍ سَبْعَةٌ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ثُلُثَا ذَلِكَ وَيَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَرُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ فَيَكُونَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ بَيْنَ خَمْسِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ قَالَ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ الثُّلُثُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ سَهْمَيْنِ فَيَكُونَ سَبْعَةً، ثُمَّ تَضْرِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ تَطْرَحُ بِاعْتِبَارِ النَّصِيبَيْنِ هُنَا سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَيَبْقَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا فَهُوَ الثُّلُثُ وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبَيْنِ فَخُذْ اثْنَيْنِ وَاضْرِبْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ سِتَّةً، ثُمَّ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ ارْفَعْ مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْنِ يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبَانِ كُلُّ نَصِيبٍ ثَمَانِيَةٌ، فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْ الثُّلُثِ سِتَّةَ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ؛ يَبْقَى سَهْمَانِ فَرُدَّهُمَا عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ؛ فَيَصِيرَ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةُ مِثْلِ النَّصِيبِ. قَالَ: وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالثُّلُثُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهِ لِلْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا ثُمَّ اضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِقْدَارَ النَّصِيبِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ هُنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّصِيبِ فَكَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ الزِّيَادَةَ بِقَدْرِ النَّصِيبِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ كَانَتْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَكَانَ الطَّرِيقُ طَرْحَ الزِّيَادَةِ وَالنَّصِيبِ مِنْ الْجُمْلَةِ فَإِذَا زِدْتَ سَهْمًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ وَاحِدًا وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ تِسْعَةً، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ وَاحِدًا كَمَا زِدْتَ عَلَى أَصْلِ الثُّلُثِ فَيَكُونَ عَشَرَةً فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَاسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ مِثْلَ ثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَيَحْصُلَ فِي يَدِكَ مِنْ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَتُسَلِّمُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ تِسْعَةً ثُمَّ تَزِيدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ فَيَصِيرَ ثَلَاثِينَ سَهْمًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ نَصِيبِ الْكَامِلِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ لَوْ كَانَ وَثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ؛ فَالثُّلُثُ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ وَالنَّصِيبَانِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي سِتَّةٌ وَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً، وَتَزِيدَ عَلَيْهِ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَصِيرَ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنْ قَسَمْتَهُ بَيْنَ ثَلَاثِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 119 بَنِينَ؛ كَانَ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ وَإِنْ قَسَمْتَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ؛ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ الرَّابِعِ لَوْ كَانَ ثَلَاثَةٌ فَزِدْنَا عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ مِثْلَ نَصِيبِ رَابِعٍ لَوْ كَانَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، ثُمَّ اضْرِبْ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَثُلُثُ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ؛ فَيَصِيرَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ نَصِيبَ رَابِعٍ لَوْ كَانَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ مِثْلَ نَصِيبِ رَابِعٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ تِسْعَةً ثُمَّ تِسْعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ أَيْضًا ثَلَاثَةً يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ نَصِيبُ رَابِعٍ لَوْ كَانَ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةٌ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ فَزِدْهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ فَيَصِيرَ سِتَّةً وَتِسْعِينَ سَهْمًا إنْ قَسَّمْتَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ؛ كَانَ لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا وَلَوْ قَسَّمْتَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ كَانَ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ نَصِيبَ رَابِعٍ لَوْ كَانَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرِينَ وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُوصَى لَهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَاسْتَقَامَ. رَجُلٌ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَالِهِ فَأَجَازُوا فَالْمَالُ سِتَّةَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ ثَلَاثَةٌ وَالطَّرِيقُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، فَتَزِيدَ عَلَيْهِ بِالنَّصِيبِ وَاحِدًا لِوَصِيَّتِهِ بِمِثْلِ النَّصِيبِ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ لِلْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ثُلُثِهِ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَثُلُثٌ؛ لِأَنَّك إذَا زِدْتَ عَلَى الْعَدَدِ مِثْلَ ثُلُثِهِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ رُبُعَ الْكُلِّ ثُمَّ تَضْرِبُ خَمْسَةً وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَهُوَ مَبْلَغُ الْمَالِ وَقَدْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِرُبُعِ جَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ وَاحِدًا وَضَرَبْنَا كُلَّ سَهْمٍ فِي ثَلَاثَةٍ فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ يَبْقَى تِسْعَةٌ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ مِثْلَ النَّصِيبِ وَسُمِّيَ هَذَا فِي الْأَصْلِ: الْمَنْكُوسَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ تَزِيدَ أَقَلَّ مِمَّا أَوْصَى بِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ تَزِيدُ مِثْلَ ثُلُثِ مَا مَعَكَ وَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ تَزِيدُ مِثْلَ رُبُعِ مَا مَعَك وَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِسُدُسِ مَالِهِ تَزِيدُ مِثْلَ خُمُسِ مَا مَعَكَ؛ فَلِهَذَا سَمَّاهُ الْمَنْكُوسَ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ وَبِثُلُثِ مَالِهِ وَبِدِرْهَمٍ فَالْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَالسَّبِيلُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ تَأْخُذَ حِسَابًا لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَطْرَحَ مِنْهُ الثُّلُثَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالرُّبُعَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَبْقَى خَمْسَةٌ ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَيَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَإِذَا قَسَّمْتَهُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَسْتَقِمْ سِهَامُهُمْ صِحَاحًا فَتَعُولُ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَتَعْزِلُ مِنْهُ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَلَا تَعْزِلُ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَيَبْقَى. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 120 خَمْسَةٌ وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَرْبَعَةٌ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَ تِسْعَةً وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَاضْرِبْ أَصْلَ الْحِسَابِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي اثْنَيْنِ وَإِنَّمَا ضَرَبْتَ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّك جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَالْمَالِ الْآخَرِ فَصَارَ مَرَّتَيْنِ فَلِهَذَا تَضْرِبُ أَصْلَ الْحِسَابِ فِي اثْنَيْنِ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الْوَصَايَا فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْهُ الثُّلُثَ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ وَإِذَا رَفَعْتَ مِنْهُ الرُّبُعَ أَيْضًا لِلْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى وَهُوَ سِتَّةٌ يَبْقَى عَشَرَةٌ فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْهُ الدِّرْهَمَ لِوَصِيَّتِهِ بِهِ تَعُولُ بِدِرْهَمٍ يَبْقَى تِسْعَةٌ مِثْلَ عَدَدِ الْبَاقِي مِنْ الْمَالَيْنِ بَعْدَ مَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَدِرْهَمٍ وَثُلُثِ وَرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ عَلَى مِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَالنَّصِيبُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا وَخَرَّجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ بِطَرِيقِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ فَقَالَ: السَّبِيلُ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا إذَا رَفَعْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ وَالدِّرْهَمَ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَالدِّرْهَمُ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَتُعْطِي بِالنَّصِيبِ وَاحِدًا فَيَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ تُعْطِي وَاحِدًا آخَرَ بِقَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ فَيَبْقَى اثْنَا عَشَرَ فَتُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَ وَرُبُعَ مَا يَبْقَى وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَيَبْقَى خَمْسَةٌ فَتُعْطِي مِنْهُ وَاحِدًا آخَرَ بِقَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ فَيَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَتَزِيدُهَا عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تُخْرِجُ مِنْهُ نَصِيبَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ وَاحِدًا فَتَكُونُ حَاجَةُ الْبَنِينَ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَعُدْ إلَى الْأَصْلِ وَخُذْ مَالًا آخَرَ فَوْقَ الْمَالِ الْأَوَّلِ بِوَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَارْفَعْ مِنْهُ النَّصِيبَ اثْنَيْنِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَارْفَعْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ فَارْفَعْ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالدِّرْهَمَ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَرُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ فَيَصِيرَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ وَحَاجَةُ الْبَنِينَ إلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا النَّصِيبَ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ فَاضْرِبْ الْمَالَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِي الْخَطَإِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ ثُمَّ اضْرِبْ الْمَالَ الثَّانِيَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي الْخَطَإِ الْأَوَّلِ وَهُوَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرَ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَهْمًا فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَجُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَتَضْرِبَهُ فِي الْخَطَإِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَتَأْخُذُ النَّصِيبَ الثَّانِيَ وَذَلِكَ اثْنَانِ فَتَضْرِبُهُ فِي الْخَطَإِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَلَاثُونَ فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْ الثُّلُثِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 121 بِالنَّصِيبِ ثَلَاثِينَ فَيَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَرْفَعُ وَاحِدًا بِقَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ فَتَرْفَعُ بِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى ثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا وَدِرْهَمًا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَرُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ فَيَصِيرَ تِسْعِينَ سَهْمًا بَيْنَ ثَلَاثِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثُونَ مِثْلَ النَّصِيبِ ثُمَّ خَرِّجْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ أَيْضًا عَلَى نَحْوِ مَا خَرَّجْنَا عَلَيْهِ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْأُوَلِ وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ فِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ بَعْدَ الْخَطَإِ الْأَوَّلِ تَزِيدُ فِي النَّصِيبِ خَاصَّةً فَتُضَعِّفُهُ وَفِي الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ بَعْدَ الْخَطَإِ الْأَوَّلِ تُضَعِّفُ الْمَالَ سِوَى النَّصِيبِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّضْعِيفَ هُنَاكَ أَكْبَرُ سَمَّاهُ الْجَامِعَ الْأَكْبَرَ وَمِنْ حَيْثُ التَّضْعِيفُ هُنَا أَقَلُّ سَمَّاهُ الْجَامِعَ الْأَصْغَرَ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ تَخْرِيجُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ. إذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَدِرْهَمٍ فَإِنَّكَ تَطْلُبُ حِسَابًا إذَا رَفَعْتَ بِالنَّصِيبِ مِنْهُ وَاحِدًا وَدِرْهَمًا يَبْقَى مَالُهُ ثُلُثٌ ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا. رَجُلٌ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَامْرَأَةً وَتَرَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَوْبَيْنِ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ امْرَأَتِهِ وَثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ فَصَارَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ بِقِيمَتِهِ لِأَجْلِ الْبَنِينَ فَالثَّوْبُ الْآخَرُ بِقِيمَتِهِ لِامْرَأَتِهِ مَا قِيمَةُ كُلِّ ثَوْبٍ فَالسَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْجَامِعِ أَنْ نَنْظُرَ أَوَّلًا كَمْ نَصِيبُ الْمَرْأَةِ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ فَنَقُولَ: أَصْلُ الْفَرِيضَةِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَالْقِسْمَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةً وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ فَظَهَرَ أَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ نَصِيبِ الِابْنِ فَنَقُولُ الِابْنُ يَأْخُذُ الْعِشْرِينَ الَّذِي تَرَكَ وَيُقَوَّمُ الثَّوْبُ الَّذِي أَخَذَهُ الِابْنُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَالثَّوْبُ الْآخَرُ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالدِّرْهَمِ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ أَرْبَعَةٌ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ ثُمَّ يُخْرِجُ الثُّلُثَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى مِنْ الثُّلُثِ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَتُعْطَى مِنْهَا مِثْلَ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ يَبْقَى سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَسِتَّةُ أَسْبَاعٍ فَتُعْطَى بِالْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ وَسُبُعَانِ فَيَبْقَى أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَتُعْطَى مِنْهَا دِرْهَمٌ بِقَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ فَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ فَتَجْمَعُهُ إلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعٌ فَيَكُونُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعٍ فَتُقَسِّمُهُ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْمَرْأَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَلِلْمَرْأَةِ دِرْهَمٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعٍ إذَا رَفَعْنَا ذَلِكَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَسْبَاعٍ يَبْقَى سَبْعَةُ دَرَاهِمَ فَقَدْ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَاحْفَظْهَا وَعُدْ إلَى الْأَصْلِ فَقَوِّمْ الثَّوْبَ الَّذِي أَخَذَهُ الِابْنُ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَالثَّوْبَ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ نَصِيبِ الِابْنِ فَيَكُونَ عَشَرَةً ثُمَّ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 122 الَّتِي تَرَكَهَا الْمَيِّتُ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ الثُّلُثُ مِنْهَا عَشَرَةٌ فَتُعْطَى مِنْهَا بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً مِثْلَ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ وَبِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى دِرْهَمَيْنِ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ سَبْعَةٌ هَذَا، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فَتُعْطَى دِرْهَمًا أَيْضًا بِقَوْلِهِ " وَدِرْهَمٍ " فَيَبْقَى ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فَتَزِيدُهُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَاقْسِمْهُ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْمَرْأَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةٌ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ظَهَرَ الْخَطَأُ الثَّانِي بِنُقْصَانِ ثُلُثِ دِرْهَمٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخَطَأَيْنِ مَتَى كَانَ إلَى الزِّيَادَةِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ إلَى النُّقْصَانِ فَالطَّرِيقُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَ سَبْعَةً وَثُلُثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ بِالْأَجْزَاءِ فَاحْفَظْ هَذَا ثُمَّ اضْرِبْ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ وَهُوَ سَبْعَةٌ فِي الْقِيمَةِ الثَّانِيَةِ لِثَوْبِ الِابْنِ وَهُوَ سَبْعَةٌ فَيَكُونَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اضْرِبْ الْخَطَأَ الثَّانِيَ وَهُوَ ثُلُثٌ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَكُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثًا ثُمَّ تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ خَمْسِينَ وَثُلُثًا ثُمَّ يُضْرَبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِلْكَسْرِ بِالثُّلُثِ كَمَا ضُرِبَ سَبْعَةٌ وَثُلُثٌ فَيَكُونُ مِائَةً وَأَحَدًا وَخَمْسِينَ ثُمَّ تُقَسِّمُهَا عَلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي حَفِظْتَهَا وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَإِذَا قَسَّمْتَ مِائَةً وَأَحَدًا وَخَمْسِينَ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا فَهَذَا هُوَ نَصِيبُ الِابْنِ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِ الِابْنِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةُ عَشَرَ جُزْءًا وَنَصِيبُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ نَصِيبِ الِابْنِ فَظَهَرَ أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهَا دِرْهَمَانِ وَعِشْرُونَ جُزْءًا وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ جُزْءٍ فَظَهَرَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ كُلِّ ثَوْبٍ. وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِدِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ وَبِسُدُسِ مَالِهِ بَعْدَ الدِّرْهَمِ فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّكَ تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدُ عَلَيْهَا دِرْهَمًا لِوَصِيَّتِهِ بِسُدُسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ فِي مِثْلِهِ أَنْ تَزِيدَ مِثْلَ خُمُسِ مَا مَعَكَ وَاَلَّذِي مَعَكَ خَمْسَةٌ وَوَاحِدٌ فَيَصِيرَ مَعَك سِتَّةٌ ثُمَّ تَزِيدَ دِرْهَمًا مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِدِرْهَمٍ قَبْلَ السُّدُسِ فَيَكُونُ سَبْعَةً تَرْفَعُ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ الْأُولَى دِرْهَمًا وَبِالْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ سُدُسَ مَا مَعَكَ بَعْدَ الدِّرْهَمِ وَاَلَّذِي مَعَك سِتَّةٌ فَسُدُسُهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ يَبْقَى خَمْسَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَلَوْ كَانَ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِدِرْهَمٍ وَبِسُدُسِ مَالِهِ بَعْدَ الدِّرْهَمِ وَدِرْهَمٍ بَعْدَ السُّدُسِ فَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ سَبْعَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّك تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ أَرْبَعَةً فَتَزِيدُ عَلَيْهَا دِرْهَمًا مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ بَعْدَ السُّدُسِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ فَيَكُونُ مَعَك خَمْسَةٌ ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهَا خُمُسُهَا وَهُوَ دِرْهَمٌ مِنْ أَجْلِ وَصِيَّتِهِ بِسُدُسِ مَالِهِ فَيَكُونُ سِتَّةً ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهَا دِرْهَمًا مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِدِرْهَمٍ فَيَكُونُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 123 ذَلِكَ سَبْعَةً رُفِعَ مِنْهَا دِرْهَمٌ بِالْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَبِالْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ سُدُسُ مَا بَقِيَ وَهُوَ دِرْهَمٌ أَيْضًا وَبِالْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ وَبِدِرْهَمٍ بَعْدَ السُّدُسِ فَيَبْقَى أَرْبَعَةٌ بَيْنَ أَرْبَعَةِ بَنِينَ مُسْتَقِيمٌ لِكُلِّ ابْنٍ دِرْهَمٌ. فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ وَأَبَوَيْنِ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى الْبَنَاتِ لِبَعْضِهِمْ وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ لِأُخْرَى وَأَوْصَى لِإِحْدَى الْبَنَاتِ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ مَعَ نَصِيبِهَا فَأَجَازُوا فَالثُّلُثُ خَمْسُونَ وَالنَّصِيبُ عِشْرُونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي عَشَرَةٌ وَالتَّكْمِلَةُ ثَلَاثُونَ وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِحَاجَتِك إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثَاهُ بَيْنَ الْبَنَاتِ أَثْلَاثًا وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، اثْنَا عَشَرَ بَيْنَهُنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَهُوَ سِتَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ تَضْرِبَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ أَجْلِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَيَصِيرَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِثْلَ سِهَامِ إحْدَى الْبَنَاتِ مِنْ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ فَيَبْقَى خَمْسُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الْمَالِ مِائَةً وَخَمْسِينَ إذَا أَرَدْتَ قِسْمَتَهَا فَالسَّبِيلُ أَنْ تَرْفَعَ مِنْهَا ثُلُثَهَا يَبْقَى مِائَةٌ ثُمَّ تَأْخُذَ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ مِثْلَ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهَا دُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَكُونُ ذَلِكَ تِسْعِينَ فَيَبْقَى عَشَرَةٌ فَاحْفَظْ هَذِهِ الْعَشَرَةَ وَاقْسِمْ التِّسْعِينَ أَوَّلًا فَأَعْطِ الْأَبَوَيْنِ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَنُقَسِّمُ سِتِّينَ سَهْمًا بَيْنَ الْبَنَاتِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عِشْرِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ ابْنَةٍ عِشْرُونَ فَادْفَعْ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ مِنْ الثُّلُثِ الَّذِي عَزَلْتَ عِشْرِينَ فَيَبْقَى ثَلَاثُونَ ثُمَّ ادْفَعْ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ عَشَرَةٌ فَبَقِيَ عِشْرُونَ فَاجْمَعْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَشَرَةِ الَّتِي بَقِيَتْ مَعَك مِنْ الْمِائَةِ فَيَكُونُ ثَلَاثِينَ فَرُدَّهَا عَلَى نَصِيبِ الِابْنَةِ الَّتِي أَوْصَى لَهَا بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ فَإِذَا زِدْتَ الثَّلَاثِينَ عَلَى عِشْرِينَ تَبْلُغُ الْجُمْلَةُ خَمْسِينَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ فَالْمَالُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا وَالثُّلُثُ عَشَرَةٌ وَالنَّصِيبُ سَبْعَةٌ وَثُلُثُ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَالسَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَرْفَعَ بِالنَّصِيبِ وَاحِدًا وَبِالدِّرْهَمِ آخَرَ فَيَبْقَى وَاحِدٌ فَاقْسِمْهُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثَا دِرْهَمٍ ثُمَّ تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَرُدَّهُ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَكُونُ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا اضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عَشَرَةً فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَالُ ثَلَاثُونَ وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَانْظُرْ مَا بَيْنَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذْتَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهُوَ عَشَرَةٌ فَتَجِدَ ذَلِكَ سَبْعَةً. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 124 فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَ سَبْعَةً مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ مِثْلُ ذَلِكَ يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَاحِدٌ فَرُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَهُوَ مَقْسُومٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ وَبِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَبِدِرْهَمٍ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا لَهُ رُبُعٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَتَرْفَعَ بِالنَّصِيبِ مِنْهُ وَاحِدًا وَتَرْفَعَ الدِّرْهَمُ الَّذِي قَالَ يَبْقَى سَهْمَانِ فَاقْسِمْهُمَا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ ثُلُثَيْ سَهْمٍ فَرُدَّ مَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ نَظَرْتَ إلَى مَا بَيْنَ أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَهُ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ آخَرُ يَبْقَى سَهْمَانِ فَرُدَّهُمَا عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلَ النَّصِيبِ فَإِنْ قَالَ وَبِثُلُثِ وَرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَأْخُذُ مَالًا لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَتَرْفَعُ مِنْهُ الثُّلُثَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالرُّبُعَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى خَمْسَةٌ فَتَرْفَعُ مِنْهُ الدِّرْهَمَ أَيْضًا يَبْقَى أَرْبَعَةٌ يُقَسَّمُ ذَلِكَ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ وَثُلُثٌ ثُمَّ تَزِيدُ مَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ سَهْمٌ وَثُلُثٌ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، اضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ سَهْمًا فَهُوَ الثُّلُثُ وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَانْظُرْ مَا بَيْنَ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَتَجِدُ مَا بَيْنَهُمَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى اثْنَا عَشَرَ فَتُعْطِي الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَالْمُوصَى لَهُ بِالدِّرْهَمِ دِرْهَمًا يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانُونَ ثُمَّ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مِثْلَ النَّصِيبِ. فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَدِرْهَمٍ صَحِيحٍ يَعْنِي لَا كَسْرَ فِيهِ فَإِنَّا إلَى الْآنَ خَرَّجْنَا عَلَى حِسَابٍ وَقَعَ فِيهِ كَسْرٌ فَالسَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ أَدْنَى مَالٍ يَكُونُ لَهُ ثُلُثٌ وَلِثُلُثِهِ ثُلُثٌ وَأَقَلُّ ذَلِكَ تُسْعُهُ إلَّا أَنَّك تُبْتَلَى فِيهِ بِالتَّضْعِيفِ أَيْضًا فَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ تِسْعَةٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ تُضَعِّفَهُ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَاطْرَحْ ثُلُثَهَا ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا الثُّلُثَ، وَالدِّرْهَمُ الثُّلُثُ سَهْمَانِ وَالدِّرْهَمُ سَهْمٌ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَاحْفَظْهَا ثُمَّ عُدْ إلَى الْأَصْلِ إلَى الْحِسَابِ فَخُذْ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً وَزِدْ عَلَيْهَا وَاحِدًا مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ فَتَكُونَ سِتَّةً فَارْفَعْ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 125 ثُلُثَهَا وَدِرْهَمًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَرُدَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ ثُلُثَيْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْفَرِيضَةُ الْأُولَى فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اقْسِمْ هَذِهِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّتِي حُفِظَتْ مِنْ الْحِسَابِ الْأَوَّلِ فَيَكُونَ كُلُّ قِسْمٍ خَمْسَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ ثُمَّ زِدْ هَذِهِ الْخَمْسَةَ عَلَى السِّتَّةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى الَّتِي أَخَذْتَ فَيَكُونَ أَحَدَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَجُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ ثُمَّ تَرْفَعُ النَّصِيبَ وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى سِتَّةٌ فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَ ذَلِكَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطِ الْآخَرَ دِرْهَمًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ تَضُمُّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَقْسُومٌ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ مِثْلَ النَّصِيبِ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ فِي التَّخْرِيجِ بِنَاءً عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّحَاحِ وَالْكُسُورِ ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي آخَرِ الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَضَعَهُ الْحِسَابُ لَا نَأْخُذُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا أَوْصَى بِالدِّرْهَمِ إنَّمَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِدِرْهَمٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَأَمَّا أَنْ تَجْعَلَ لَهُ سَهْمًا بِتَسْمِيَةِ الدِّرْهَمِ ثُمَّ تَشْتَغِلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ صَحِيحٌ أَوْ لَا يَقُولُ فَهَذَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً فَاخْتَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا ثُمَّ قَالَ الِابْنُ أَنَا أَرُدُّ مِمَّا اخْتَلَسْتَهُ الثُّلُثَ وَتَرُدِّينَ أَنْتِ الرُّبُعَ فَيَصِيرُ مَا يَبْقَى فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ وَيُقْسَمُ مَا يَزِيدُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى كَمْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الِابْنَةِ اثْنَا عَشَرَ وَمَعَ الِابْنِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالطَّرِيقُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا لَهُ رُبُعٌ صَحِيحٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَتَجْعَلَهُ فِي يَدِ الِابْنَةِ تَطْرَحُ مِنْهُ الرُّبُعَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ ثُمَّ تَنْظُرَ مَالًا إذَا أَلْقَيْتَ مِنْهُ ثَلَاثَةً يَبْقَى سِتَّةٌ وَهُوَ تِسْعَةٌ تَجْعَلُهُ فِي يَدِ الِابْنِ فَتَطْرَحُ مِنْهُ الثُّلُثَ ثُمَّ تَجْمَعُ بَيْنَ مَا طَرَحْتَ مِنْ الْمَالَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَوَاحِدٌ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ قَسْمُهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَةِ أَثْلَاثًا فَاضْرِبْ أَصْلَ مَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَاَلَّذِي كَانَ مَعَ الِابْنَةِ أَرْبَعَةٌ إذَا ضَرَبْتَهُ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ وَاَلَّذِي مَعَ الِابْنِ تِسْعَةٌ إذَا ضَرَبْتَهُ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَيَرُدُّ الِابْنُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ الثُّلُثَ وَهُوَ تِسْعَةٌ يَبْقَى لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَتَرُدُّ الِابْنَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ الرُّبُعَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِلِابْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلِلِابْنَةِ تِسْعَةٌ ثُمَّ تَجْمَعُ بَيْنَ تِسْعَةٍ وَثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ فَاقْسِمْهَا بَيْنَهُمَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلِابْنَةِ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرَ مَعَ الِابْنِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَمَعَ الِابْنَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَلِلْآخِرِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ. فَالثُّلُثُ ثَلَاثَةَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 126 عَشَرَ وَالنَّصِيبُ سِتَّةٌ وَالتَّكْمِلَةُ سَبْعَةٌ وَطَرِيقُ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَتَطْرَحَ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ وَهُوَ الْمُوصَى لَهُ بِالتَّكْمِلَةِ فَيَبْقَى أَرْبَعَةٌ ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ لِوَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ مَا طَرَحْتَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ سَهْمٌ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَتَضْرِبَهُ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْهُ وَاحِدًا كَمَا فَعَلْتَ فِي الِابْتِدَاءِ يَبْقَى سَهْمَانِ فَاضْرِبْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا ضَرَبْتَ أَرْبَعَةً فَيَكُونَ سِتَّةً فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَ سِتَّةً مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى سَبْعَةٌ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ إنَّمَا كَانَتْ بِسَبْعَةِ أَسْهُمٍ فَإِذَا رَفَعْتَ سَبْعَةً مِنْ الثُّلُثِ يَبْقَى سِتَّةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَ ذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَرُدَّهُ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونَ ثَلَاثِينَ إذَا قَسَمْتَهُ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ كَانَ لِكُلِّ ابْنٍ سِتَّةٌ مِثْلَ النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ. فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا دَخَلَ عَلَى هَذَا مِنْ الرَّفْعِ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ بِأَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَهُمْ خَمْسَةٌ فَتَطْرَحَ مِنْهُ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ وَاحِدًا يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ يَبْقَى سَهْمَانِ اضْرِبْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ سِتَّةً ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ وَاحِدًا كَمَا فَعَلْتَ فِي أَصْلِ الْحِسَابِ يَبْقَى خَمْسَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ إذَا رَفَعْتَ النَّصِيبَ وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَهُوَ مِقْدَارُ الرُّبُعِ أَيْ الْمَيْلِ الَّذِي مَالَ بِهِ الْمَوَالِي لِلْمُوصَى لَهُ بِالتَّكْمِلَةِ وَإِنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ هَذَا وَهُوَ سَهْمَانِ إذَا رَفَعْتَهُمَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَيَكُونَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ مِثْلَ النَّصِيبِ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ لَهُ لِثُلُثٍ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَالنَّصِيبُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَتَكْمِلَةُ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَتَكْمِلَةُ الرُّبُعِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَخْرِيجُ هَذَا أَيْضًا عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ بِأَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَطْرَحَ مِنْهُ سَهْمًا نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَسَهْمًا آخَرَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَذَلِكَ وَاحِدٌ فَإِنَّ الثُّلُثَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَرْبَعَةٌ وَالرُّبُعَ ثَلَاثَةٌ فَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ فَخُذْ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ وَثُلُثًا آخَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ فَذَلِكَ ثُلُثَا سَهْمٍ ضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ خَمْسَةٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونَ ثَلَاثَةً وَثُلُثَيْنِ ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَإِذَا ضَرَبْتَ ثَلَاثَةً وَثُلُثَيْنِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 127 فِي اثْنَيْ عَشَرَ يَكُونُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثَانِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ مَالًا لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَطْرَحَ مِنْهُ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ؛ يَبْقَى خَمْسَةٌ ثُمَّ تَنْظُرَ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَذَلِكَ وَاحِدٌ فَتَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصِيبَيْنِ فَيَكُونَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَتَأْخُذَ ثُلُثَ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ فَتَزِيدَهُ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ فَتَصِيرَ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ هَذِهِ السِّتَّةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ وَثُلُثُ الْمَالِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَبْقَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَرُبُعُ الْمَالِ يَكُونُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ إذَا رَفَعْتَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ فَإِذَا رَفَعْتَ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ سِتَّةً وَعِشْرِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الرُّبُعِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثَ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمَانِ فَرُدَّهُمَا عَلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ فَيَكُونُ تِسْعِينَ مَقْسُومًا بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِثْلَ النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ تَخْرِيجُ الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى] (رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى) (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اعْلَمْ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِابْتِدَاءِ فَتَعَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ تِسْعَ سِنِينَ أَيْضًا، وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ تَحَوُّلِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ تَقَلُّدَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَضَاءَ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ كَرِهَ لَهُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ إلَى التَّحَوُّلِ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَصَارَ ذَلِكَ صِفَةً لَهُ يُعْرَفُ بِهَا مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُقَال أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ مِمَّنْ تَقَلَّدَ مِنْهُمْ الْقَضَاءَ وَمِمَّنْ لَمْ يُقَلَّدْ وَقِيلَ كَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ تَبِعَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ شَهِدَ مِلَاكَ رَجُلٍ فَلَمَّا نَثَرَ السُّكَّرَ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْضًا فَكَرِهَ لَهُ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ وَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ فَجَاءَ أَبُو يُوسُفَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 128 كَانَ فِي مِلَاكِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نُثِيرُ الثَّمَرَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ انْتَهِبُوا» وَبَلَغَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا نَحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ أَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةٌ ثُمَّ قَالَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ فَلْيَقْطَعْ» فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْهِبَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا تَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُنَاظِرُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَبَيَّنَ بِالْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَتَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَسَائِلَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أُسْتَاذَيْهِ فَجَمَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ وَأَخَذَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَوَى عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ بَعْضَ مَا كَانَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَصْلُ التَّصْنِيفِ لِأَبِي يُوسُفَ وَالتَّأْلِيفُ لِمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ ثُمَّ بَدَأَ فَقَالَ: رَجُلٌ غَصَبَ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ فَبَاعَهَا وَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ وَالْعِتْقُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عِتْقُهُ جَائِزٌ وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْإِيجَابِ كَلَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْعَقْدِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ الْعَقْدُ فِيهِ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَانَ نَافِذًا، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِذْنِ فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الْعَقْدِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِعَيْنِهَا بَلْ لِحُكْمِهَا وَالْحُكْمُ الْخَاصُّ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بَعْدَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِتْقَ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ». وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ تَعَذَّرَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَقَدْ صَارَ هُوَ مُتْلِفًا لِلْجَارِيَةِ بِتَمْلِيكِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي عَلَى إعْتَاقِهَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْقَتْلِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ قَابِضًا مُنْهِيًا لِمِلْكِهِ فِيهَا، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَلِأَنَّهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ قَدْ مَلَكهَا وَالثَّمَنُ بَدَلُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ لِلْغَاصِبِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الْمَمْلُوكِ مَحْفُوظَةٌ عَلَى الْمَالِكِ بِصِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ بِإِعْتَاقٍ يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَقْدُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَقَدْ انْعَقَدَ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ لَنَا أَحَدُهُمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 129 أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِصِفَةِ التَّوَقُّفِ قُلْنَا وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ السَّبَبِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ مِلْكًا مَوْقُوفًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْعَقْدِ النَّافِذِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ مِلْكٌ حَلَالٌ وَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَثْبُتُ مِلْكٌ حَرَامٌ بِحَسَبِ السَّبَبِ، فَبِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يَثْبُتُ مِلْكٌ مَوْقُوفٌ، وَالْمِلْكُ الْمُوقَفُ دُونَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ بِالْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَالْمَوْقُوفُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ الْحُكْمِ وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ بَلْ يَقْتَرِنُ بِهِ تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ أُخْرَى (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى مَا بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ وَلَيْسَ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بِالْمَالِكِ. فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُشْتَرَى قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَالِكِ لَا مَحَالَةَ فَيَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ جَمِيعًا فَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ. وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِهَا وَبِمَهْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِشُبْهَةٍ فَلَزِمَهُ الْمَهْرُ؛ إذْ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ وَهَذَا الْوَطْءُ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عِنْدَنَا فَوَجَبَ الْمَهْرُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمِلْكُ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فَهُوَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ يُسْتَفَادُ بِهِ حِلُّ الْوَطْءِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ كَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْجَارِيَةَ وَوَطِئَهَا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهَا، ثُمَّ الْوَاطِئُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ وَأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ تَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ مَا يَشْتَرِيهَا مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا. وَذَلِكَ الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا مِنْ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَكِنْ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا لَزِمَهُ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلِاسْتِيفَاءِ وَمَنْفَعَةُ الْمُسْتَوْفَى لَهُ حَصَلَتْ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَنْ وَهَبَ طَعَامًا لِإِنْسَانٍ فَأَكَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ وَضَمِنَ الْآكِلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا الْغُرُورُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالثَّمَنُ إنَّمَا كَانَ عِوَضًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 130 عَنْ الْعَيْنِ دُونَ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَفِي حَقِّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْهِبَةِ، وَبِهِ فَارَقَ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ وَمُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ عِنْدَنَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ ثُمَّ الْغُرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَيْنِ وَفِيمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ. فَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا وَفِيهَا نَخْلٌ لَهُ ثَمَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ النَّخْلُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَتَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّخْلَ جُعِلَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِسَبَبِ الِاتِّصَالِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ مَوْجُودٌ فِيهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اشْتَرَى نَخْلًا قَدْ أَثْمَرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثَّمَرَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِالنَّخْلِ لَيْسَ بِالْقَرَارِ بَلْ لِلْفَصْلِ إذَا أَدْرَكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُجَدُّ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ أَوْ يَفْسُدُ إذَا تُرِكَ كَذَلِكَ فَكَانَ الِاتِّصَالُ فِي مَعْنَى الْعَارِضِ فَيُجْعَلُ كَالْمُنْفَصِلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ إلَّا بِالذِّكْرِ، بِخِلَافِ النَّخْلِ فَاتِّصَالُهُ بِالْأَرْضِ بِالْقَرَارِ مَا بَقِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَكَمَا يَدْخُلُ الْبِنَاءُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ النَّخْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا دَخَلَ الثِّمَارُ فِي الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ تَدْخُلْ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ الثِّمَارُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ أَمْلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ مُحَمَّدٌ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَفْسِهِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ فَبَادَأَهُ الْمُسْتَمْلِي هُنَا مَنْ يُخَالِفُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ رَجُلٍ قَعَدَ عَنْ الْعِلْمِ أَيْ تَرَكَ الِاخْتِلَافَ إلَيْنَا فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يُجِبْهُ احْتِرَامًا لَهُ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَابَّةً فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَالَ بِعْتَنِي وَهَذَا الْعَيْبُ بِهَا وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْبَائِعِ الْيَمِينُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا عَيْبًا يُتَوَهَّمُ حُدُوثُهُ فِي مِثْلِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 131 تِلْكَ الْمُدَّةِ وَهُوَ عَارِضٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهَذَا حَالَ كَوْنِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا ادَّعَى اسْتِنَادَ الْعَيْبِ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ الْيَمِينِ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ يَعْنِي يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَقْبَلَهُ مِنْهُ فَعِنْدَنَا لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا اتَّهَمَ الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ قَالَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَجْهٍ مُنْكِرٌ؛ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ لُزُومَ الْعَقْدِ إيَّاهُ وَوُجُوبَ إبْقَاءِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُدَّعٍ فَاعْتَبَرْنَا الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَّهَمًا. فَأَمَّا إذَا اتَّهَمَهُ اسْتَحْلَفَهُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي كَلَامِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ فِي جَانِبِهِ نَوْعُ تُهْمَةٍ فَيُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِخَبَرٍ مُتَمَثِّلٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُورِثُ تُهْمَةً فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا أَوْجَدَ مِثْلَ تِلْكَ التُّهْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي رَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ فَلَا يَبْقَى يَمِينٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُ الْيَمِينِ عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَالْمُشْتَرِي مُدَّعٍ هُنَا حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي مَوْضِعِهَا لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَالْمُدَّعِي يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ غَيْرِ ثَابِتٍ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ أَوْجَدَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَأَقَامَهَا وَقَضَى لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَهِيَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَوَّلًا. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شَيْئًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُحَلِّفُ الْبَائِعَ فِي الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْوَارِثَ يُحَلِّفُ الْمُوَرِّثَ ثُمَّ فِيمَا يُدَّعَى فِي التَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ الْوَارِثُ عَلَى الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ صَارَ الْبَائِعُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمِلْكِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ ثُبُوتُ هَذَا الْمِلْكِ لَهُ بِالشِّرَاءِ كَثُبُوتِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ثُمَّ هُنَاكَ إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ فِي الْمَمْلُوكِ دَعْوَى يَسْتَحْلِفُ الْمَالِكَ عَلَى الثَّبَاتِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّ مَوْتَ الْمُوَرِّثِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 132 لَيْسَ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْوَارِثِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي أَخْذِهِ وَمَنْعِهِ مِنْهُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ كَانَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الثَّبَاتِ فَهُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْوَارِثِ إذَا أَخَذَ عَيْنَ التَّرِكَةِ فَادَّعَى إنْسَانٌ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الثَّبَاتِ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْخَصْمِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ ذِي الْيَدِ شَيْئًا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَهُ الْيَمِينُ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ، قَالَ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَائِزَةٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَاعَ عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ فَطَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ يَمِينُك مَا بِعْتَهُ وَبِهِ عَيْبٌ عَلِمْتَهُ وَكَتَمْتَهُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَصَلُحَ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ كُلَّ عَيْبٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالصُّلْحِ وَفِيهَا حِكَايَةٌ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَابْنَ أَبِي لَيْلَى اجْتَمَعَا فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَالِقِيِّ فَأَمَرَهُمَا بِالْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرَى الْمُشْتَرِي مَوْضِعَ الْعَيْبِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حَسْنَاءَ فِي مَوْضِعِ الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ الْبَائِعُ إلَى كَشْفِ عَوْرَتِهَا لِيُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْعَيْبَ،. أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ غُلَامًا حَبَشِيًّا عَلَى رَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى كَشْفِ ذَلِكَ لِيُرِيَهُ الْمُشْتَرِيَ فَمَا زَالَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ فَجَعَلَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا لِأَنَّ صِفَةَ الْمَبِيعِ وَمَاهِيَّتَهُ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِتَسْمِيَةِ مَا بِهِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْعُيُوبِ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، ثُمَّ الْبَائِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ يُمْنَعُ مِنْ الْتِزَامِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْجَرْحُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَالْجَرْحُ مَدْفُوعٌ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ جَهَالَةً فِي الصِّفَةِ بِتَرْكِ تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُلَاقِي الْعَيْنَ دُونَ الصِّفَةِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْجَهَالَةِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَدْ حَلَّ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَجَلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 133 بَيْنَهُمَا وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّأْجِيلَ مُعْتَادٌ جَرَى فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يُطَالِبَهُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ. وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ أَوْ أَصْلُ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ هَذَا التَّأْجِيلَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَالْمَذْكُورِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجَلَ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِالْأَجَلِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ الْخِيَارُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْقَاءِ فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِمَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مَشْرُوعٌ وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الِانْتِهَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَبِهَذِهِ الْمَعَانِي يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَتَغَيَّبَ حَتَّى حَطَّ الطَّالِبُ بَعْضَهُ ثُمَّ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَطَّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًّا فِي هَذَا الْحَطِّ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ خَصْمِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَبِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْعَدِمُ تَمَامُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحَطِّ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَطِّ لَمْ يَصِحَّ حَطُّهُ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَطُّ إسْقَاطٌ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهُ وَهُوَ طَائِعٌ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْمُتَلَاشِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إسْقَاطَ الْبَعْضِ مُعْتَبَرٌ بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ دَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ خَصْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا حَطَّ بَعْضَهُ. وَقَوْلُهُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ، قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ خَصْمُهُ فَالتَّأْخِيرُ لَا يُفَوِّتُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ كَانَ مُخْتَارًا طَائِعًا فِي الْحَطِّ وَالصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بَعْدَ مَا أَبَقَ الْمَغْصُوبُ ثُمَّ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّحْنَا إبْرَاءَهُ عَنْ الْكُلِّ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ الْحَطُّ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ أَصْنَافِ الثِّمَارِ كُلِّهَا أَوْ اشْتَرَى طَلْعًا حِينَ يَخْرُجُ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا خِيَارَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 134 فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تُشَقِّحَ أَيْ تُدْرِكَ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تَزْهُوَ أَيْ تَنْجُوَ مِنْ الْعَاهَةِ وَهَذَا بِالْإِدْرَاكِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَالْمُؤَبَّرَةُ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ طَلْعُهَا فَإِذَا شَرَطَ الْمُبْتَاعُ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا الثَّمَرَةَ مَقْصُودَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ عَيْنٌ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْمَالِيَّةُ بِالتَّمَوُّلِ التَّقَوُّمُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَقَدْ تَمَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، وَالْعَقْدُ مَتَى صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ كَانَ صَحِيحًا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ إلَّا بِالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ الْمُشْتَرِيَ وَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِسَبَبِهِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْعُهَا مُدْرِكَةً قَبْلَ الْإِدْرَاكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» وَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَمُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا تَتَلَقَّوْا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا. فَإِنْ كَانَتْ الثِّمَارُ قَدْ تَلِفَتْ يَعْنِي انْتَهَى عِظَمُهَا فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْعَقْدُ صَحِيحٌ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ مُدَّةً يَسِيرَةً لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا يَتَنَاهَى عِظَمُهَا لَا تَزْدَادُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنَّمَا تُنْضِجُهَا الشَّمْسُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْخُذُ اللَّوْنَ مِنْ الْقَمَرِ وَالذَّوْقَ مِنْ النُّجُومِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَهُوَ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ تَقْرِيبٌ إلَى مَقْصُودِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بَغْلًا وَشِرَاكَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْدُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ اشْتَرَى حَطَبًا فِي الْمِصْرِ بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ، وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ فَيَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ» وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابِلِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَالْعُرْفُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ. فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا إذْ الْعُرْفُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 135 ثُمَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ حَيْلُولَةً بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ النَّخِيلُ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطْحَنَهَا الْبَائِعُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ إلَى مُدَّةٍ يَفْسُدُ بِهَا الْعَقْدُ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ مِنْ أَذْرُعٍ مَقْسُومَةٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْسُومَةٍ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِجُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِضَافَةِ فَسَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ النِّصْفُ وَسَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ الْعُشْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا وَالذِّرَاعُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ مِنْ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا وَالْجَرِيبُ كَذَلِكَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مِائَةُ جَرِيبٍ فَإِنَّمَا اشْتَرَى عُشْرَهَا وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ فَإِذَا ذَرَعَ الْكُلَّ فَكَانَ أَلْفَ ذِرَاعٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اشْتَرَى عُشْرَهَا، وَالْمُكَسَّرَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ الذِّرَاعِ بَيْنَ النَّاسِ سُمِّيَتْ مُكَسَّرَةً لِأَنَّهَا كُسِرَتْ مِنْ ذِرَاعِ الْمِلْكِ قَبْضَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ فَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ فَإِنَّمَا سَمَّى فِي الْعَقْدِ جُزْءًا مُعَيَّنًا وَهُوَ عُشْرٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فِي الْجَوْدَةِ وَالْمَالِيَّةِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بِهَذَا السَّبَبِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ، ثُمَّ إذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ شَرِيكًا بِقَدْرِ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا إنْ شَاءَ لِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا خَمْسُونَ ذِرَاعًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَاخْتَارَ أَخْذَهَا لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَذُكِرَ الذِّرَاعُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ الصِّفَةِ وَهُنَا الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَا سُمِّيَ مِنْ الذِّرَاعِ هُنَا لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَوَجَدَهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ قَدْ فَلَّسَهُ الْقَاضِي وَحَبَسَهُ فِي الدَّيْنِ، وَعِنْدَنَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 136 قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: إنَّ مَالَهُ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ صَارَ حَقًّا لِغُرَمَائِهِ فَإِعْتَاقُهُ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِّ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَرْهُونِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَبْدُ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَرِيمِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَيْئًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْغَرِيمِ لَا يَنْفُذُ فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ لِأَنَّ شَرْطَ نُفُوذِ الْعِتْقِ مِلْكُ الْمَحَلِّ وَالْأَهْلِيَّةُ فِي الْعِتْقِ وَبَعْدَ وُجُودِهِمَا لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِتْقَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَنْفُذُ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهُ وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا. وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَتَاعًا يَبِيعُهُ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّ بِالنَّقْدِ وَلَا بِالنَّسِيئَةِ فَبَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْبَائِعُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْمَتَاعِ يَدْفَعُهَا إلَى الْآمِرِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِمُطْلَقِ إيجَابِ الْبَيْعِ وَذَلِكَ مُنْصَرِفٌ إلَى النَّقْدِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ هَذَا وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا إذَا بَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْآمِرِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الثَّمَنِ إمَّا لِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى عِيَالِهِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لِلْوَكِيلِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْعُرْفِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ مُطْلَقٌ فَتَقْيِيدُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ يَكُونُ زِيَادَةً وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِهَذَا فَالْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ لِلِاسْتِرْبَاحِ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَكْثَرُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ ثُمَّ يَفْسُدُ الْمُطْلَقُ فِي مَعْنَى نَسْخِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَالشَّيْءُ لَا يَنْسَخُهُ مَا دُونَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَّ عَلَى التَّقْيِيدِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ إيجَابِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَمَلَ هُنَاكَ بِالْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ إمَّا النَّقْدُ أَوْ النَّسِيئَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُهُ مِنْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ شِئْتَ بِالنَّقْدِ وَإِنْ شِئْتَ بِالنَّسِيئَةِ؛ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ هُنَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالنَّسِيئَةِ كَانَ صَحِيحًا وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ نَفَذَ بِسَبَبِ حَرَامٍ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ كَانَتْ لِحَقِّ الْأَمْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 137 يَدْفَعَ الْفَضْلَ إلَى الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْبَائِعُ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حِينَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُخَالِفًا وَهُوَ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ جَارِيَةً بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمْ بِالْجَارِيَةِ الَّتِي قَبَضَ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ جَارِيَتَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ قِيمَتَهَا صَحِيحَةً. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَوْ عَرْضٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مُشْتَرًى اشْتَرَاهُ بِعِوَضِهِ وَفِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ بَائِعٌ وَالْبَيْعُ غَيْرُ الشِّرَاءِ فَإِذَا وَجَدَ عَيْبًا بِمَا اشْتَرَى فَرَدَّهُ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ صَحِيحًا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ إذَا وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّدَاقِ عَيْبًا فَاحِشًا فَرَدَّتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكْمُ الرَّدِّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَرْدُودِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْعِوَضِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى تَسْلِيمِ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً كَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهَا فَيَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْبَدَلِ الْمَوْجُودِ عَلَى شَرْطِ الْعَقْدِ بِقِيمَةِ الْآخَرِ. وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَنْفَسِخُ الْقَبْضُ فِي الْمَرْدُودِ مِنْ الْأَصْلِ وَيَتَحَقَّقُ عَجْزُ بَائِعِهَا عَنْ تَسْلِيمِهَا كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ إذَا رُدَّتَا بِالْعَيْبِ، وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةُ بِأَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ تَصِحُّ. وَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى يَجِبُ قِيمَتُهُ فَهُنَالِكَ الْعَجْزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُنَا الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِانْتِهَاءِ بَطَلَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِهِ، ثُمَّ الْقِيمَةُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى تَسْلِيمِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهِيَ جَارِيَةٌ صَحِيحَةٌ لَا إلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا لَكَانَ يَأْخُذُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ الْقِيمَةَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ اسْتَرَدَّ دَرَاهِمَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَتِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ سِلْعَةً فَطَعَنَ فِيهَا بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 138 ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودٍ عَلَى الْعَيْبِ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَإِنَّمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ وُجُودِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ إنْقَادِ الثَّمَنِ وَبِدُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ؛ إذْ الرَّدُّ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُعْتَبَرٌ بِالرَّدِّ بِالْإِقْرَارِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ، قَوْلُهُ بِأَنَّ دَعْوَاهُ لَا يَصِحُّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْعَقْدِ فَيَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِهِ رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ هُوَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ الثَّمَنِ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ، وَدَعْوَى سَبَبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدُّيُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ يَدَّعِي انْعِدَامَ لُزُومِهِ فِي جَانِبِهِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَهَذِهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ مِنْهُ كَدَعْوَى شَرْطِ الْخِيَارِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ دَارًا أَوْ مَتَاعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عُذْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْعُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ لِلْوَالِدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا فَإِنَّ عِنْدَهُ مَالَ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكِ لِلْوَالِدِ وَلِهَذَا قَالَ: لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَلَا حَقَّ مِلْكٍ لِأَنَّ الْكَسْبَ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْكَاسِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِي وَلَدِهِ مِلْكٌ فَكَذَلِكَ فِي كَسْبِ وَلَدِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَلَدَ مَالِكٌ لِكَسْبِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ الْوَطْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُهُ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْكَاسِبَ غَيْرُهُ فِي الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْكَسْبَ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً يَسْتَدْعِي سَبَبًا لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي حَالِ ضَرِّهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ وَالنَّظَرِ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِبُلُوغِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْوِيجِ كَانَ يَنْفُذُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ فِي مَالِهِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ مَتَاعًا لِرَجُلٍ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سُكُوتُهُ إقْرَارٌ بِالْبَيْعِ أَيْ هُوَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 139 بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ فَيَنْفُذُ بِهِ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا بِسُكُوتِهِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَالِكُ بِسُكُوتِهِ كَالْغَارِّ لَهُ وَالْغُرُورُ حَرَامٌ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَهُوَ قِيَاسُ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ أَنَّهُ يَجْعَلُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَسْكُتُ إذَا رَأَى غَيْرَهُ يَبِيعُ مَا أَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا بِهِ فَبِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ يُجْعَلُ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا. وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّكُوتُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا وَفِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا فَجُعِلَ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا لِهَذَا كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا مِنْهَا بِالنِّكَاحِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرِّضَا وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّعَجُّبِ أَيْ لِمَاذَا يَفْعَلُ هَذَا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِلَى مَاذَا تَئُولُ عَاقِبَةُ فِعْلِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَمِلْكُ الْمَالِكِ ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ سُكُوتِ الْمَوْلَى وَسُكُوتِ الْبِكْرِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ بِالْإِجَازَةِ هُنَاكَ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْقِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ مَنْ عَامَلَ الْعَبْدَ وَلَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ إذْنًا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمَوْلَى فِي الْحَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُنَا لَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ، وَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ أَسْبَقُ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُقِرُّ حِينَ لَمْ يَسْأَلْ الْمَالِكَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكَّلَهُ أَمْ لَا وَاعْتَمَدَ سُكُوتًا مُحْتَمَلًا، ثُمَّ الْحَاجَةُ هُنَا إلَى التَّوْكِيلِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ. فَأَمَّا الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ إسْقَاطٌ مِنْ الْمَوْلَى حَقَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِيرُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ وَسُكُوتُهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ الرَّدِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ نَصِيبًا فِي دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومٍ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِوُجُوهِهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ هُنَاكَ ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ إنْ لَمْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 140 يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ بِهِ وَذَكَرَ هُنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَجَزْتُ بَيْعَ النَّصِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَإِنْ كَانَتْ سِهَامًا كَثِيرَةً لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ لِأَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ تَتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ وَالتَّفَاوُتُ إذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْبَائِعِ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ وَالْجَهَالَةُ وَفِي الْبَيْعِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا سَمَّى ثَمَنَ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا يَجُوزُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَقِلَّةِ الْجَهَالَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْبَيْعُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَصِيبَ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ وَقِلَّةِ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ يَقِلُّ نَصِيبُهُ مَعَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ وَقَدْ يَكْثُرُ نَصِيبُهُ مَعَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وُجُوهٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ؛ فَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: نَصِيبُ الْبَائِعِ النِّصْفُ وَالْبَائِعُ يَقُولُ نَصِيبِي مِنْ الدَّارِ الْعُشْرُ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَشِرَاءُ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثِ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ هُنَاكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِذَا خَتَمَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلْبَيْعِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ تَسْلِيمٌ لِلْبَيْعِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا شَهِدَ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ فَكَتَبَ شَهَادَتَهُ وَخَتَمَهَا ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا وَيُقْضَى لَهُ بِالْمِلْكِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الدَّارُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَمَّا جُعِلَ السُّكُوتُ مِنْ الْمَالِكِ رِضًى بِالْبَيْعِ فَخَتْمُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رِضًا بِالْبَيْعِ، قَالَ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ لِلتَّوَثُّقِ وَهَذَا التَّوَثُّقُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ شِرَاؤُهُ فَيَجْعَلُ إقْدَامَ الشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِصِحَّةِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعَجُّبِ حَتَّى يَنْظُرَ كَيْفَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ مِلْكِهِ أَوْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذَا بَدَا لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْمَبِيعَ أَوْ يَحْتَمِلَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارُهُ فَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارٌ أُخْرَى حُدُودُهَا تُوَافِقُ حُدُودَ دَارِهِ وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْبَيْعِ. وَإِذَا بِيعَ الرَّقِيقُ أَوْ الْمَتَاعُ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ وَذَلِكَ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ غَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَإِنْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى أَهْلِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 141 فَابْنُ أَبِي لَيْلَى جَعَلَ مَنْعَهُ لِلْخَوَارِجِ كَمَنْعِهِ أَهْلَ الْحَرْبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ تَتَنَاوَلُ الدَّيْنَ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي لِلْخَوَارِجِ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ مِنْ تَأْوِيلِ الْكُفَّارِ فَإِذًا كَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ يَمْلِكُونَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْخَوَارِجَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةً، وَثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى أَهْلِهَا وَبِهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا كَمَا لَوْ اسْتَوْلَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رُدَّتْ عَلَيْهِمْ مُحَابَاةً وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ مَلَكُوهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ الْخَوَارِجَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَنُفُوسِهِمْ، كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فَهَذَا اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ كَغَصْبِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مَالَ بَعْضِهِمْ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنَعَةَ الْخَوَارِجِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ الْقَهْرُ وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ صَاحِبِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَعْدَ إحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ قَهْرَهُمْ يَتِمُّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، وَمَا كَانَ مَنَعَةُ الْخَوَارِجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا كَمَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا مَا دَامُوا فِي دَارِنَا وَإِنْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ فَلَا فَرْقَ فَإِنَّا لَوْ قَدَرْنَا عَلَى الْخَوَارِجِ اسْتَبَيْنَاهُمْ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ أَنَّا قَدَرْنَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَرَضْنَا عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَالَ مَا دَامَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَازِ مَعْصُومٌ وَالْقَهْرُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَالصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ لَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَبِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ الْمَالَ بِدَارِهِمْ يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ بِإِحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ صَارَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ لَكَانَ مِيرَاثًا عَنْهُمْ إذَا قُتِلُوا. فَأَمَّا سُقُوطُ الضَّمَانِ فَهُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 142 كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ مَعَ بَقَاءِ الْإِحْرَازِ الْقِسْمَةُ قَدْ تَسْقُطُ بِالضَّمَانِ بِأَسْبَابٍ وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ لَا يُمَلِّكُ الْمَالَ بِحَالٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَاتِ إذَا بَاعَ مُسْلِمٌ دَابَّةً مِنْ نَصْرَانِيٍّ فَاسْتَحَقَّهَا نَصْرَانِيٌّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ مِنْ النَّصَارَى وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ الْغَنِيُّ مَالَ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَنَّ عِنْدَهُ الْأَبُ مَالِكٌ مَالَ وَلَدِهِ شَرْعًا، وَإِتْلَافُ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إذَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ شَرْعًا حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ كَانَتْ ضَامِنَةً فَالْأَبُ كَذَلِكَ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدًا مَعَ الْجَارِيَةِ وَزَادَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا وَقَدْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ وَيَأْخُذُ الْمِائَةَ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْعَيْبُ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ رُدَّتْ الْجَارِيَةُ وَقُسِمَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَكُونُ لَهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ وَيَرُدُّ مَا أَصَابَ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ صَحِيحَةً وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بِرَدِّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا يَبْقَى فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ بِيعَ بِدَرَاهِمَ وَلَكِنَّهُ بَيْعٌ كَبَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى بَائِعِ الْعَبْدِ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ صَحِيحًا. فَأَمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ فِي الْجَارِيَةِ يَبْطُلُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ عَلَى قَابِضِ الْجَارِيَةِ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِهَلَاكِهَا فِي يَدِهِ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ فَالْعَبْدُ كَانَ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِذَا رُدَّ الْمَعِيبُ بِالْعَيْبِ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْجَارِيَةِ فَرُدَّتْ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ فِيمَا يُقَابِلُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ هَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ بِرَدِّ الْآخَرِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَنْفَسِخُ فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 143 الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِيَعًا بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَغْرَمُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ مَا أَصَابَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ الدِّرْهَمَ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ. وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَوْبَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ قِبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ رَدِّ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَيَقُولُ قِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي أَلْفٌ فَلِي عَلَيْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّمَا هَلَكَ عَلَى ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهَلَكَ الْآخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ رَدُّ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ عَنْهُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَقُولُ كَانَ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفًا فَسَقَطَ عَنْهُ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَالْبَائِعُ يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِكَ كَانَ أَلْفًا فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ عَنْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ سُقُوطَ الزِّيَادَةِ عَنْهُ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ قِيمَةِ الْهَالِكِ بَلْ الْمَقْصُودُ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ وَتَقَرُّرِهِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْآخَرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَتَقَرَّرْ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَهُوَ مَا قَبَضَ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُهَا لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ مَا رُدَّ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ رَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ. وَإِذَا اشْتَرَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 144 دَارًا وَبَنَى فِيهَا بِنَاءً ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الدَّارَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ وَالْبِنَاءَ وَيُعْطِي الثَّمَنَ وَقِيمَةَ الْبِنَاءِ إنْ شَاءَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ. وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْيَتِيمِ وَعَلِمَ بِهَا الْوَصِيُّ أَوْ الْأَبُ فَلَمْ يَطْلُبْهَا فَلَيْسَ لِلْيَتِيمِ شُفْعَةٌ إذَا أَدْرَكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا أَدْرَكَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الشُّفْعَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ رَجُلٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَالْمَطْلُوبُ مُتَغَيِّبٌ أَوْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْهُ الدَّيْنَ وَهُوَ مُتَغَيِّبٌ جَازَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَبَرُّعٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِالْأَجَلِ وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَمْ يَتِمَّ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْأَجَلِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الطَّالِبِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَيْسَ فِي التَّأْجِيلِ إلَّا إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ لَا يَمَسُّ جَانِبَ الْمَطْلُوبِ كَانَ صَحِيحًا مَعَ غَيْبَتِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْقَاتِلِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ. وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَا يَمَسُّ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ الطَّالِبَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِعِوَضٍ يَلْزَمُهُ الْمُتَوَسِّطُ وَقَدْ صَحَّ الْتِزَامٌ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ فَغَيْبَةُ الْمَطْلُوبِ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الضَّامِنِ. وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ عَنْ صُلْحٍ أَوْ بَاعَ بَيْعًا أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الطَّالِبَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَرُدُّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ إكْرَاهًا فِي مَوْضِعِهِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ فَإِكْرَاهُ الرَّعِيَّةِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِمَّنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَيَقُولَا الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ غَائِبًا أَوْ أَكْرَهَ مَنْ عَامَلَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ نُفُوذُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِهِ بِأَنْ كَانَ يَتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهَ مِنْ مِثْلِهِ لَهُ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 145 لِأَنَّهُ أَثْبَتَ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِلْعَقْدِ أَوْ لِلدَّفْعِ لِصِفَةِ اللُّزُومِ بِالْبَيِّنَةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمِ وَلَوْ سَاعَدَهُ الْخَصْمُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَ الصُّلْحُ وَالْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا أُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِحَقِّ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ يَجْحَدُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا إقْرَارَ لِمَنْ خَاصَمَ إلَّا عِنْدِي وَلَا صُلْحَ لَهُمْ إلَّا عِنْدِي وَكَانَ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ سَمِعَ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَصَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ يَقِينٍ فَكَيْفَ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَعْلَمُ يَقِينًا بِخِلَافِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا خَاصَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِمَا هُوَ مُوجَبُ الشَّرْعِ وَهَذَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَفِي الصُّلْحِ وَالْإِقْرَارِ مِنْ الْخَصْمِ إبْطَالُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لَهُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فَهَذَا أَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ خَصْمِهِ أَوْ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَ الْقَاضِي صُلْحَهُمَا أَوْ إقْرَارَ الْخَصْمِ يَقْضِي بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ قَوْلُهُ إذَا كَانَ عَلِمَ إنْكَارَهُ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَاضِي إلَّا بِطَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ ثَبَتَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الشَّرْعِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالصُّلْحُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ مُوجَبِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ هَذَا رَاجِعًا إلَى تَقْرِيرِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ الْقَاضِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِمَّا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَهَذَا الصُّلْحُ وَالْإِقْرَارُ مِمَّا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحٍ أَوْ إقْرَارٍ كَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ يَجْعَلُ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ فَلَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَتْوَ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَعِنْدَهُ مُطْلَقُ الْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْمَالِ وَلَا يُطَالِبُ الْأَصِيلَ مَا لَمْ يَتْوَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِمَكَانِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ إذَا اشْتَرَطَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 146 هَذَا الشَّرْطَ ثُمَّ طَالَبَ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُ اخْتِيَارَهُ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا إبْرَاءً لِلْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ صَاحِبِ الْمَغْصُوبِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمَا جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ بَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إنْ شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُفْلِسَ هَذَا، أَوْ يَمُوتَ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ هُنَاكَ صَكًّا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ لِلتَّحَرُّزِ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ الضَّمَانَ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مُسَمًّى كَقَوْلِهِ مَا كَانَ لَك عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا قَضَى لَك الْقَاضِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالَ بِعَقْدٍ مُعْتَمَدٍ تَمَامُ الرِّضَا فَمَعَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ وَبَيَانُ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ هُنَا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَلَا جَهَالَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجَهَالَةُ هُنَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهَا جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ إلَّا بِمَا ثَبَتَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْحُجَّةِ أَوْ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الطَّالِبِ وَجَهَالَةُ الْمُقِرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهَا وَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ تَرَكَ الْأَصِيلُ شَيْئًا ضَمِنَ الْكَفِيلُ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ لِأَنَّ صِحَّةَ الضَّمَانِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَفَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ خَلَفًا عَنْ الذِّمَّةِ فِي بَقَاءِ الْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَالْوُجُوبُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَرِكَةً خَلَفًا وَصِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ إلَّا بِقَدْرِ تَرِكَةِ الْأَصِيلِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِعِوَضٍ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا يُؤَدِّي وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِالْتِزَامِ وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَفَالَةَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَقَالَ إذَا كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَلَمَّا جُعِلَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاوِضَيْنِ هَذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 147 بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَأْذُونِ فِي حَالَةِ رِقِّهِ لِأَنَّ الْحَاجِزَ وَهُوَ الرِّقُّ قَائِمٌ وَإِنَّمَا أَصْلُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ أَوْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالْكَفَالَةُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ التُّجَّارَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَايَةَ التَّحَرُّزِ لِهَذَا قِيلَ: الْكَفَالَةُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا غَرَامَةٌ، فَبَقِيَ مَحْجُورًا عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِالْتِزَامِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَرْجِعُ كَمَا أَنَّ الْمُقْرِضَ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْمَالِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ وَلَكِنْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ مِنْ الْمُعَاوِضِ الَّذِي بَاشَرَهُ وَإِنْ كَانَ تَبَرُّعًا فَإِذَا صَحَّ مِنْهُ انْقَلَبَ مُعَاوَضَةً فَيُطَالِبُ بِهِ الشَّرِيكَ أَمَّا هُنَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَبَرُّعًا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا أَفْلَسَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى التَّفْلِيسُ وَالْحَجْرُ يَتَحَقَّقُ وَقَوْلُهُ فِيهِ كَقَوْلِهِمَا أَوْ أَبْلَغُ مِنْهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمَدْيُونِ فِي عَبْدِهِ فَيَتَحَقَّقُ بِالتَّوَى بِالتَّفْلِيسِ عَلَى قَوْلِهِ. وَإِذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ». فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ التَّوَى لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ التَّوَى أَنْ يَهْلِكَ عَيْنُ الشَّيْءِ أَوْ مَحَلُّهُ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بِهِ وَالدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ حَقِيقَةً وَمَحَلُّهُ قَائِمٌ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ بِبَقَاءِ الذِّمَّةِ مَحَلًّا صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِفْلَاسِ وَهَذَا تَأْخِيرٌ يَزُولُ سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَإِنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ وَحَلَفَ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُنَاكَ صَارَ تَاوِيًا حُكْمًا حَتَّى انْقَطَعَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ الْخَصْمِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمَا وُكِّلَ بِهِ إذَا مَرِضَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا فَلَا وَعِنْدَنَا بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا أَوْ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَتَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِالثَّابِتِ وَهُوَ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَّا عِنْدَ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ فَهَذَا. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 148 مِثْلُهُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ رَأْيَ غَيْرِهِ مَقَامَ رَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَمَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ لَا يَحْصُلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ الْعُذْرُ هُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَادِرٌ عَلَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ بِخِلَافِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْعُذْرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ بِالْحُضُورِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَقَدْ رَضِيَ هُنَاكَ بِرَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَثَبَتَ لَهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي فَيَمْلِكُ بِوِلَايَتِهِ التَّوْكِيلَ وَالْإِيصَالَ إلَى الْغَيْرِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ الْمُوصِي وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ حَالَةُ الْعُذْرِ وَغَيْرُ حَالَةِ الْعُذْرِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَعِنْدَنَا لَا تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ هُوَ لِكَوْنِ الْقِصَاصِ مَحْضَ حَقِّ الْعَبْدِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ بِاسْتِيفَاءِ سَائِرِ حُقُوقِهِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالْحَدُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُقِيمُهُمَا الْإِمَامُ عِنْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ظَهَرَ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ الْعَفْوَ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي الْقِصَاصِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحَدِّ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ الثَّبَاتَ فَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلِلْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِ مِثْلُهُ فَهُوَ قِصَاصٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ قِصَاصًا حَتَّى يَتَرَاضَيَا بِهِ اعْتِبَارًا لِلدَّيْنِ الَّذِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ وَمُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ حَقُّ غَيْرِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 149 وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِدَرَاهِمِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْ صَاحِبِهِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يُفِيدُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ لِأَنَّ فِي الْأَعْيَانِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَلَا فَائِدَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ هُنَا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ إذَا اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْحُلُولِ وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَهُمَا وَمُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ كَانَ جَائِزًا وَمُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ شَرْعًا وَإِنْ وُجِدَ التَّرَاضِي «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ». وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّ حَقٍّ يُعَوَّضُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَصْلَهُ مُضَارَبَةٌ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَأَجْعَلُهُ مُضَارَبَةً كَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رِبًا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَيَرُدُّهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ قَرْضًا لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّهُ مُنَاقَضٌ فِي ذَلِكَ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ. وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ أَنَّهُ رِبًا لِكَوْنِهِ مُنَاقَضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي ذَلِكَ عُرْفًا ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْقَرْضَ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِنْ كَانُوا دَفَعُوا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيُقِرُّونَ بِثَمَنِ الْمَتَاعِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمُعَامَلَةِ قَرْضًا وَالزِّيَادَةُ رِبًا شُرِطَ عَلَيْهِ فَلِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ قَالَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَهَذَا الْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ قَبُولِ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ لَا دَلِيلُ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا فَصَلَ يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى سَوَاءٌ فَصَلَ أَمْ وَصَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِأَنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَأْتِيَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 150 الطَّالِبُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى قَبْضِ الْمَتَاعِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبْضِهِ الْمَبِيعَ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ بِالْحَقِيقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الطَّالِبِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا فَثَمَنُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَفِي إقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنَاقَضٌ فِي كَلَامِهِ. وَإِذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى زِنًا قَدِيمٍ أَوْ سَرِقَةٍ قَدِيمَةٍ فَعَلَى قَوْلِنَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقَامُ الْحَدُّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْحُدُودِ وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَةِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إنْ أُتِيَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ سَكْرَانَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الشُّرْبُ إلَى غَايَةِ السُّكْرِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ وَإِنْ زَالَ مَا بِهِ مِنْ السُّكْرِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِطَا بَقَاءَ الرَّائِحَةِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُدُودِ. وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدَانِ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ عَلَى دَيْنٍ لِرَجُلٍ آخَرَ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَهِيَ كَالْمُسْتَحَقَّةِ لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ فَهَذَا فِي مَعْنَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغَرِيمُ يَتَضَرَّرُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ بِدُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّرِكَةِ وَالْآنَ يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي التَّرِكَةِ وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِ إذَا كَانَ لِلشَّاهِدِ مَنْفَعَةٌ فِيهَا وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالتُّهْمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا فَيَجِبُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَشَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَنَا وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِالْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَيُجْعَلُ الثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فِي بَابِ الزِّنَا وَالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (أَلَا تَرَى) «أَنَّ مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا هَرَبَ ثُمَّ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَرَبَهُ دَلِيلَ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ صَحِيحٌ هُنَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ وَإِنْكَارُهُ رُجُوعٌ عَمَّا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّمَا شَهِدَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 151 الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَبِهِ فَارَقَ الْقَتْلَ وَالْقَذْفَ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ. وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ فَاسِقٌ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَوْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ وَكَوْنُهُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِفِسْقِهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ النَّفْيُ لَا الْإِثْبَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ وَبِهِ فَارَقَ الرِّقَّ وَإِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الرِّقِّ عَلَيْهِ وَلِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَاضِي فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ حُكْمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفِسْقِ لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّ الْفَاسِقَ إذَا تَابَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا فَالشَّاهِدُ لَا يَعْلَمُ بَقَاءَ هَذَا الْوَصْفِ فِيهِ عِنْدَ شَهَادَتِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَذَلِكَ يُطْلِقُ لَهُ الْخَبَرَ دُونَ الشَّهَادَةِ فَكَانَ مُحَارِفًا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ سَبَبَهُ حَقِيقَةً وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي بَعْضِهَا فَلَعَلَّ الشَّاهِدَ بِذَلِكَ يَعْتَمِدُ لِسَبَبٍ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ وَعِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ بِفِسْقٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُجَرَّدَ شَهَادَتِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَإِذَا سَافَرَ الْمُسْلِمُ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أَيْ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا بَعْدَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 152 الْإِسْلَامِ وَأَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ} [المائدة: 106] وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ» كُلِّهَا وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْنَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ انْقِطَاعُ وِلَايَتِهِمْ عَنَّا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّفَرِ مَوْجُودٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي شَهِدَا فِيهَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يُعَزَّرَانِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رُبَّمَا ضَرَبَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْكَاذِبُ مِنْهُمَا فَضَرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبَثٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى ضَرْبِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُؤَدَّبَانِ عَلَى ذَلِكَ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الْغَالِطُ وَالْكَاذِبُ وَالشُّهُودُ صَادِقُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ وَبِدُونِ تَقَرُّرِ السَّبَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي إيَّاهُمْ. وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْقَاضِي وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُسْأَلُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الشُّهُودِ لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْعَدَالَةُ ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» فَيَعْتَمِدُ الْقَاضِي هَذَا الظَّاهِرَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فَإِذَا طَعَنَ اشْتَغَلَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الطَّاعِنِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُصُولِهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي. وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُجِيزُهَا فِي الْجِرَاحَاتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَلَاعِبِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَإِنْ كَانُوا تَفَرَّقُوا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ الْعُدُولَ قَلَّ مَا يَحْضُرُونَ مَلَاعِبَ الصِّبْيَانِ فَكَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَكِنَّ هَذَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا. فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقُوا وَعَادُوا إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُلَقَّنُونَ الْكَذِبَ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تَكُونُ لَهُمْ شَهَادَةٌ عَلَى الْبَالِغِينَ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 153 وَالضَّرُورَةُ الَّتِي اعْتَادُوهَا لَا تَتَحَقَّقُ فَإِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَمْنَعَهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِلَّعِبِ فَتَنْدَفِعَ هَذِهِ الضَّرُورَةُ بِمَنْعِنَا إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مَعَ شُهُودِهِ عَلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَكِنَّا لَا نَأْخُذُ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا اتَّهَمْتَ الْمُدَّعِيَ رَدَدْتَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْيَمِينُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَالْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُدَّعِي لَيْسَ لَك إلَّا هَذَا شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا فِيهِ فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ طَلَبِهِ أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَعِنْدَنَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ إذَا كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ صُلْحًا بَاشَرَهُ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الثَّبَاتِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَوَلَدًا وَلَمْ يُقِرَّ بِحَبَلِ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى وِلَادَتِهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَمْ يَرِثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِرَاشٌ قَائِمٌ أَوْ إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَقَوْلِهِمَا. وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدَانِ وُلِدَا فِي مِلْكِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 154 مِنْ أَمَتِهِ فَأَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَمَتَانِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ يَثْبُتُ نَسَبُ أَحَدِهِمَا وَيُوَرِّثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَيُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّعَايَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لِلْمَجْهُولِ صَحِيحٌ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ أَوْ طَلَاقِ أَحَدِ الْمَرْأَتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعْتِقُ أَحَدَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاتِّفَاقٍ وَثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِطُ وَلَدُهُ بِوَلَدِ أَمَتِهِ فَلَا يُعْرَفُ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ مِنْ وَلَدِ أَمَتِهِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ أَدَّى إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الْأَخْطَارِ فَكَذَلِكَ بِخَطَرِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ تَمَيُّزُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَهُوَ عِتْقٌ فِي الصِّحَّةِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ الْعِتْقُ أَيْضًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَرِثَانِ مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا وَاعْتَبَرَا هَذَا بِوَلَدِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَإِنَّهُمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ نَقُولَ هُنَاكَ هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُنَا لَا نَقُولُ بِأَنَّ نَسَبَهُمَا ثَابِتٌ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ نَسَبِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْمِيرَاثُ لَا يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ النَّسَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَإِنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُوَرِّثُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ وَلِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُفَاوَضَةٍ لَكِنَّهَا عَنَانٌ عَامٌّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 155 مُفَاوَضَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ اتِّفَاقٌ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَقُلْنَا لَمَّا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ عَنَانٌ عَامٌّ فَكَأَنَّهُمَا بَاشَرَا شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَلَقَّبَاهَا بِلَقَبٍ فَاسِدٍ وَهُوَ يَقُولُ قَصْدًا بِصَحِيحِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِمَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهُمَا مُمَلَّكًا بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مِنْهُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِدَرْجِ التَّمَلُّكِ فِي كَلَامِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هِبَةُ الْمَتَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ الشَّرِيكِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَاهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمُسَاوَاةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَعَلَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَنَيَا هَذَا الْعَقْدَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَهُ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالِاحْتِمَالِ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ فَإِذَا نَفَذَ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي مِلْكِهِ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ كَحَقِيقَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْتَمِدُ الْفَسْخَ وَيَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَكَمَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَعِنْدَنَا لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ هَذَا الْعَقْدِ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَقُلْنَا يَدْفَعُ الشَّرِيكُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَتَى عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ فَارَقَ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ فَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ يَكُونُ بِالتَّضْمِينِ هُنَاكَ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي إبْقَاءِ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ عِنْدَنَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ وَعِنْدَ أَبِي لَيْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ الْمُكَاتَبُ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ وَعَلَى الَّذِي كَاتَبَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَالْوَلَاءُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 156 كُلُّهُ لَهُ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ إبْطَالَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُجَزَّأُ فَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ عَتَقَ الْكُلَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الْآخَرِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَقَّ الْوَلَاءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابَةُ تُجَزَّأُ فَالْمُكَاتَبُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَحِقًّا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ وَيَسْعَى الْمُكَاتَبُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَهَذَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ. وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ بَيْعُ نَصِيبِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الشَّرِيكِ أَيْضًا بَيْعُ نَصِيبِهِ اعْتِبَارًا لِحَقِّ الْعِتْقِ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى أَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ أَمَّا أَنْ يُقَالَ التَّدْبِيرُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِ الْمُدَبَّرِ وَلَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ خَاصَّةً فَلَا يَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ هَذَا كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَعَلَى هَذَا قَالَ إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَالتَّدْبِيرُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ التَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ الْعِتْقِ بُطْلَانُ التَّدْبِيرِ فَيَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَادِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْعِتْقِ كَمَا أَنَّهُ إذَا نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا نَفَذَ التَّدْبِيرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ حَتَّى إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ إبْطَالِ هَذَا الْوَلَاءِ عَلَيْهِ. وَإِذَا وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا؛ فَهُوَ لَهُ دُونَ شَرِيكِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الَّذِي يَحْدُثُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلًا لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَهَذَا فِي الْإِرْثِ لَا يَتَحَقَّقُ ثُمَّ الْمِلْكُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 157 بِالْمِيرَاثِ لَيْسَ بِحَادِثٍ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَيَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرَّثِ وَسَبَبُ هَذِهِ الْخِلَافَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ لَبَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ شَرْعًا. وَإِذَا كَانَ الْمَوْرُوثُ لِلْوَارِثِ خَاصَّةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ النُّقُودِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالطَّارِئُ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ. وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا وَلِلْعَبْدِ مَالٌ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَالُ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَعْقِدُ الْكِتَابَةَ بِقَصْدِ تَمْكِينِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَالُهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ نَظِيرُ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقُ يَدْخُلُ فِي الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ. لَكِنَّا نَقُولُ: مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَاتَبُ بِمُطْلَقِ الْكِتَابَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَقْدُ هُنَا إلَى رَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَكِنْ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَنَافِعِهِ لَا لِمَالِهِ وَبِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ هُوَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ عِنْدَنَا ثُمَّ يَجُوزُ فَسْخُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي عِنْدَنَا كَمَا يَجُوزُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ فِي الرِّقِّ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعَجْزِ عِنْدَهُ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ وَنِكَاحُهُ بَاطِلَانِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَالرِّقَّ يُبْقِي الْوِلَايَةَ، وَعِنْدَنَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَلَا عَبْدَهُ وَلَكِنْ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَبُطْلَانِ كَفَالَتِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَنْزِعُ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصْلِ، وَقِيَامُ الرِّقِّ فِيهِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ فَلِهَذَا قَالَ لَا تَنْفُذُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 158 كَفَالَتُهُ بَعْدَ مَا عَتَقَ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ فَإِنْ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فِي كَسْبِهِ حُكْمُ مِلْكٍ وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهِ مَوْقُوفَةٌ فَإِنْ عَتَقَ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ فَإِنْ عَجَزَ تَمَّ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. فَأَمَّا عِنْدَنَا عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ بَاطِلَانِ عَجَزَ أَوْ عَتَقَ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِذَلِكَ. وَأَمَّا كَفَالَتُهُ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً مَا لَمْ يَعْتِقْ فَإِذَا عَتَقَ نَفَذَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَكِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الرَّقِيقِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ حَقُّ الْمَوْلَى فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَاقَى مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِمَالِيَّةِ الْمَوْلَى قُلْنَا ثَانِيَةً تُؤَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ إلَى حَالَةِ الْعِتْقِ وَلَوْ كَفَلَ إنْسَانٌ عَنْهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَسْتَدْعِي دَيْنًا صَحِيحًا وَقِيَامُ الرِّقِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ دَيْنٍ صَحِيحٍ لِلْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَقْوَى فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَرِّعُ مُؤَدِّيًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ لِلْمَوْلَى. رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَعْتِقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنَّ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِحُصُولِ الْجَزَاءِ وَعِنْدَهُ لَا يُشْتَرَطُ وَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِالْأَهْلِيَّةِ فِي الْمُتَصَرِّفِ وَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ جُنَّ الْحَالِفُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ. فَأَمَّا إذْ كَانَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَكَمَا أَنَّ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَلِكَ بِزَوَالِ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ صَحَّ مِنْهُ فِي حَالِ إقَامَتِهِ وَالْجُنُونُ إنَّمَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلتَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إيقَاعًا فِي حَقِّهِ وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا التَّعْلِيقُ عِنْدَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ مَوْجُودٌ وَلَا يُشْتَرَطُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 159 وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ هُنَا بِالْبَيْعِ فَيُتْرَكُ الْعِتْقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي صَحَّ مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَصِيرُ بِهِ مُعَلِّقًا رَقَبَتَهُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيُعْتَقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ نُزُولِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إنَّمَا يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هُنَا هُوَ الْبَيْعُ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ انْعَدَمَ الْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بَلْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا عِنْدَنَا لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان فَجَاوَزَ بِهَا الْمَكَانَ ثُمَّ عَطِبَتْ بَعْدُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا عِنْدَنَا وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْأَجْرُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ الْمَضْمُونَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بِسَبَبِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ وَتَقَرَّرَ الْأَجَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ بِالْمُجَاوَزَةِ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ غَصَبَهَا مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ وَالْأَجْرُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ اسْتَوْفَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ الْإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَكَبَّرَ مَعَهُ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ فَعِنْدَنَا يَسْجُدُ مَعَهُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَعْتَدُّ بِهَا لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّ الْقَائِمَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْقَاعِدَ فِي اسْتِوَاءِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالرَّاكِعُ فِي هَذَا وَالْمُنْتَصِفُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ إدْرَاكُهُ إيَّاهُ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ وَإِدْرَاكُهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ سَوَاءً وَلَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ شَرْطُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَإِذَا أَدْرَكَهُ قَائِمًا فَقَدْ شَارَكَهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ وَكَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 160 الْقِيَامِ وَفِيمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلْقِيَامِ فَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ كَمَا لَوْ أَدْرَكَ فِي السُّجُودِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ فَلِهَذَا يَسْجُدُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. فَأَمَّا إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ فَهُوَ مُشَارِكٌ لِلْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الرُّكُوعِ فَلَا يُشْكِلُ وَفِي الْقِيَامِ لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ كَحَالَةِ الْقِيَامِ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. فَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَدِمَ مَكَّةَ فَقَضَاهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا لَا مِنْ وَقْتِ بِلَادِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهَا كَمَا فَاتَهُ ثُمَّ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إنَّمَا أَحْرَمَ لَهَا مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ بِسَرِفٍ بَعْدَمَا أَحْرَمَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْفِضِي عُمْرَتَكِ وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي فَاتَتْهَا» وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ مُعْتَبَرٌ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ وَمَنْ نَذَرَ عُمْرَةً فَأَدَّاهَا مِنْ التَّنْعِيمِ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ نَذْرِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى مَكَّةَ بِالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، الْوَاجِبُ وَغَيْرُ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي حُكْمِ قَضَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ كَالنَّبَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ كَالصَّيْدِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ لَهُ أَيْضًا إخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَاذٌّ فَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ تَعَارَفُوا إخْرَاجَ الْقُدُورِ مِنْ الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ وَإِخْرَاجِ التُّرَابِ الَّذِي يَجْمَعُونَهُ مِنْ كَنْسِ سَطْحِ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَبَرَّكُوا بِذَلِكَ وَكُلُّ أَثَرٍ شَاذٍّ يَكُونُ عَمَلُ النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَجَّةً. وَأَمَّا إذَا اقْتَتَلَ الْقَوْمُ فَأَحَلُّوا عَنْ قَتِيلٍ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ أَصَابَهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ ذَكَرْنَا هُنَا قَوْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ. وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ رَجُلًا ضَرَبَهُ بِعَصَا أَوْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 161 حَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِذَا وَقَعَ مَوْقِعَ السِّلَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُذْكَرَانِ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرِ. فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالْعَصَا الصَّغِيرِ بِالضَّرْبِ بِالْمُوَالَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَهُنَا نَصٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ إنَّمَا اعْتَمَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الْقَصْدُ إلَى الْقَتْلِ بِمَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ وَالْعَصَا الصَّغِيرُ مَعَ الْمُوَالَاةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرِ. إذَا عَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ فَقَلَعَ شَيْئًا مِنْ أَسْنَانِهِ فَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي السِّنِّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ ضَامِنٌ الْعَضَّةَ لِأَنَّهُ صَارَ قَالِعًا سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ كَالْخَاطِئِ وَالْمُضْطَرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَاهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ فِيمَا صَنَعَ دَافِعٌ لِلْأَذَى غَيْرُ مُبَاشِرٍ لِلْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَسَقَطَ فَمَاتَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صَاحِبَ السِّنِّ هُوَ الْجَانِي بِعَضِّهِ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّ الْمَعْضُوضَ يَدُهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى جَسَدِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ وَهُنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى إلَّا بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ. وَإِذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلْقَاضِي لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَدْعُو الْمُدَّعِي بِشُهُودِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ ثُمَّ شَرْطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْبِرَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ بِالْإِقْرَارِ فَيَتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُنْكِرِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَيُثْبِتُ بِهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ ثُمَّ السُّكُوتُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مَانِعٌ وَالسَّاكِتَ كَذَلِكَ وَالْإِنْكَارُ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ وَفِي السُّكُوتِ مُنَازَعَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَمِنْ الْجَوَابِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ إنْكَارِهِ وَيَتَمَكَّنُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 162 الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى حَقِّ الْمُدَّعِي وَيُجْبِرُهُ أَنَّهُ يُلْزِمُهُ الْقَضَاءَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ حَلَفَ دَعَا الْمُدَّعِي شُهُودَهُ فَهُمَا يَجْعَلَانِ سُكُوتَهُ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارٍ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَإِنْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ شُهُودًا عَلَى حَقِّهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ لَا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذًا لَك يَمِينُهُ» وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَغَلُ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بِالْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْمُنَازَعَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِحْلَافِ هُنَا فَائِدَةُ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيِّنَةُ وَالْيَمِينُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَهُ فِي الِاسْتِحْلَافِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَهُوَ وُصُولُهُ إلَى حَقِّهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَهُ بِذَلِكَ وَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ فِي الِابْتِدَاءِ رَجَاءَ أَنْ يُقِرَّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ رَجَاءَ أَنْ يَنْكُلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَإِذَا أَنْكَرَ الْخَصْمُ الدَّعْوَى ثُمَّ جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَى الْحَرَجِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْبَلُهُ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ قِبَلَهُ مَالًا فَيَقُولَ مَا لَهُ قِبَلِي شَيْءٌ ثُمَّ يُقِيمُ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالِهِ وَيُقِيمُ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ فَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ هُوَ مُنَاقَضٌ فِي دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَصْلَ الْمَالِ خُصُوصًا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ سَاقِطٌ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى. . (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ جُحُودِ أَصْلِ الْمَالِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَطُّ لَكِنَّهُ ادَّعَى مَرَّةً هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ وَاسْتَوْفَى الْمَالَ بِهَا فَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ التَّوَثُّقِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لِأَنَّ مَعَ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْكَارِ مُتَعَذِّرُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ قِبَلَ رَجُلٍ دَعْوَى وَقَالَ: عِنْدِي مِنْهَا الْمَخْرَجُ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ إقْرَارٌ لِأَنَّ الْمَخْرَجَ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَوْفَيْتُهَا إيَّاهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهَا سَوَاءً وَذَاكَ إقْرَارٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 163 بِأَصْلِ الْمَالِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ ادَّعَى الْمَخْرَجَ مِنْ دَعْوَاهُ لَا مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ ثُمَّ الْمَخْرَجُ مِنْ الدَّعْوَى بِبَيَانِ وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهِ وَوَجْهُ الْفَسَادِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّهُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطُّ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْمُسْقِطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ. وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ ثُمَّ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا الْقَاضِي يَقْضِي بِهِ إذَا كَانَ يَذْكُرُهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْضِي بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَوْ طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَذْكُرُ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِثْبَاتِ فِي دِيوَانِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِذَا كَانَ ذَاكِرًا فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ الْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلِهَذَا يُثْبِتُهُ فِي دِيوَانِهِ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي لَهُ الشُّهُودُ فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ لَوْ قَضَى بِهِ كَانَ قَضَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَرُبَّمَا يُنْسَبُ بِهِ إلَى الْمِيلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْضِيَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَأُمُّهُ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مُسْلِمٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ قَوْلَهُ لِغَيْرِهِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ عِنْدَنَا فَإِذَا كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَهِيَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هَذَا قَذْفٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِكَوْنِهِ وَلَدَ الزِّنَا كَمَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْفَاهُ مِنْ أَبِيهِ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ وَهُوَ مُحْصَنٌ فِي نَفْسِهِ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَتَدَاخَلُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعْنَى الزَّجْرِ لِلْقَاذِفِ وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْرِبُ حَدَّيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا: إنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِيهَا فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ فَإِنَّ مَعْتُوهَةً كَانَتْ بِالْكُوفَةِ آذَاهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَأَتَى بِهَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَاعْتَرَفَتْ فَأَقَامَ عَلَيْهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 164 حَدَّيْنِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى إقْرَارِ الْمَعْتُوهَةِ وَإِقْرَارُهَا هَدَرٌ وَأَلْزَمَهَا الْحَدَّ وَالْمَعْتُوهَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَدَّيْنِ وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَأَقَامَ حَدَّيْنِ مَعًا وَمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَا يُوَالِي بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ يَضْرِبُ أَحَدَهُمَا ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُقَامُ الْآخَرُ وَأَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَضَرَبَهَا قَائِمَةً وَإِنَّمَا تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَضَرَبَهَا لَا بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا وَإِنَّمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا حَتَّى إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهَا فِي اضْطِرَابِهَا سَتَرَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَانْتَشَرَ بِالْكُوفَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ نَفَى حَاجَتَهُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ إذَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا دَامَتْ مُحَلَّلَةً فِي حَقِّهِ فَلَهُ فِيهَا حَاجَةٌ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا لِأَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ لِحَوَائِجِ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ سَوَاءً. وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَشْتَهِيكِ وَلَا أُرِيدُكِ وَلَا أَهْوَاكِ وَلَا أُحِبُّكِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ، وَالنِّيَّةُ مَتَى تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرْغَبْهَا رَغْبَةً فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى النِّسَاءِ» الْحَدِيثَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ لَا يَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ أَوْ فُلَانٌ مَيِّتٌ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَشِيئَةُ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَبْقَى أَصْلُ الْإِيقَاعِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يَكُونُ لَهُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ فَيَخْرُجُ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يَخْرُجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا أَصْلًا. وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ مَوْلَاهُ طَلِّقْهَا فَهَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ طَلِّقْهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَارِقْهَا أَوْ دَعْهَا أَوْ اُتْرُكْهَا أَوْ خَلِّ سَبِيلَهَا وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْإِرْسَالِ وَفِي إجَازَةِ النِّكَاحِ إثْبَاتُ الْقَيْدِ فَالْأَمْرُ بِالْإِرْسَالِ لَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 165 يَكُونُ إثْبَاتًا لِلْقَيْدِ مِنْهُ. وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي صِحَّتِهِ فَجَحَدَ ذَلِكَ الزَّوْجُ وَادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ وَهُوَ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْوَفَاةِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا حَلَفَ وَقَضَى الْقَاضِي بِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا مِنْهُ لَهَا فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فِي إقْرَارِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَاضِي بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَقْضِي بِالنِّكَاحِ وَلَا يُبْطِلُ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ وَلَكِنْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَيَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْحُكْمُ تَكْذِيبَهَا فِي الدَّعْوَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْإِقْرَارُ السَّابِقُ مِنْهَا وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً. وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ أُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ هَذِهِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَطْلُقُ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْيَمِينُ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي الْمِلْكِ وَالشَّرْطُ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ ضَمَّ امْرَأَةً أُخْرَى إلَيْهَا وَهَذَا الضَّمُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي نِكَاحِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ امْرَأَةً أُخْرَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَّ غَيْرِهَا إلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّمَا ضَمَّهَا هِيَ إلَى الْأُخْرَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ ضَمَّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً بَقِيَ نِكَاحُ الْأَمَةِ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَةً. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى؛ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَوْصُولَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْأَيْمَانِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا. وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَعْمَلُ عِنْدَهُ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 166 وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ لَيْسَ بِيَمِينٍ ثُمَّ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ وَلَا يُرَادُ التَّعْلِيقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ ذِكْرُ وَصْفٍ فَيَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَأْثِيرُهُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَالْإِيقَاعُ فِي هَذَا وَالتَّعْلِيقُ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24]. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِنَثْرِ السُّكَّرِ وَالْجَوْزِ اللَّوْزِ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَأَخَذَ ذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَكَ أَهْلُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَكْرَهُ نَثْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: هَذَا تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَأْخُذُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَأْخُذُ وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ. وَإِذَا بَطَلَ التَّمْلِيكُ كَانَ النَّثْرُ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ، وَفِي التَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ نَثْرِ ذَلِكَ أَوْ عَنْ تَحَرُّزِ أَخْذِهِ وَفِي الْأَخْذِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي هَذَا إيقَاعُ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَعَلَى هَذَا قُلْنَا لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْوَاضِعُ عِنْدَ الْوَضْعِ آذِنًا لِلنَّاسِ بِالتَّنَاوُلِ وَلَا بَأْسَ بِالتَّنَاوُلِ مِمَّا لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ الشُّحُّ وَالظِّنَّةُ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ غَرَسَ الشَّجَرَةَ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ ثَمَرِهَا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْتِقَاطُ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكْرَهُ النَّبِيذَ فِي الْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْبَابِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ النَّسْخِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَشْرَبُوا سُكْرًا» وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ فَلِثُبُوتِ النَّسْخِ قُلْنَا: لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الشُّرُوطِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ عِلْمَ الشُّرُوطِ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ، وَأَعْظَمِهَا صَنْعَةً فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 167 بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَامَلَهُ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنْ الْأَمَانَةِ وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعِلْمِ الشَّرْطِ فَكَانَ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ وَفِيهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إضَاعَتِهَا. وَالثَّانِيَةُ: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ يَصِيرُ حَكَمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ، وَلَا يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُخْرِجَ الْكِتَابَ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَفْتَضِحَ فِي النَّاسِ. وَالثَّالِثَةُ: التَّحَرُّزُ عَنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لَا يَهْتَدِيَانِ إلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إذَا رَجَعَا إلَيْهِ لِيَكْتُبَ. وَالرَّابِعَةُ: رَفْعُ الِارْتِيَابِ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ مِقْدَارَ الْبَدَلِ وَمِقْدَارَ الْأَجَلِ فَإِذَا رَجَعَا إلَى الْكِتَابِ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا تَقَعُ الرِّيبَةُ لِوَارِثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ لَا تَبْقَى الرِّيبَةُ بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَى تَعَلُّمِ الشُّرُوطِ لِعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَظَّمَهَا بِقَوْلِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ -: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فَقَدْ أَضَافَ اللَّهُ - تَعَالَى - تَعْلِيمَ الشُّرُوطِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] وَأَضَافَ تَعْلِيمَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ - جَلَّ جَلَالُهُ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَبَقَ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِبَيَانِ عِلْمِ الشُّرُوطِ، وَبِذَلِكَ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَقْوَى الْمَذَاهِبِ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُبْتَدِئُ بِبَيَانِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ الْمُعَلِّمُ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ. ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ: إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذَا اللَّفْظَ، وَقَالَ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْبَيَاضِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُشْتَرَى ذَلِكَ الْبَيَاضُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا اخْتَارَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هَذَا اللَّفْظَ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32] وَلَمْ يَقُلْ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا تُوعَدُونَ وَلَمَّا «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 168 مِنْ الْعَدَّاءِ عَبْدًا كَتَبَ مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْحَنَفِيِّ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْسَنَ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ثُمَّ فِي هَذَا إيجَازٌ وَحَذْفٌ لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى، وَقَوْلُهُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ عِنْدَهُ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ وَاسْمِ أَبِيهِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتِمُّ التَّعْرِيفُ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ أَوْ اسْمِ أَبِيهِ وَذِكْرِ قَبِيلَتِهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ «فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ» فَقَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ الْأَبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَبِمُجَرَّدِ اسْمِهِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَى اسْمِهِ اسْمَ أَبِيهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا إلَّا نَادِرًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّادِرُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ فَإِنَّهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ اسْمَيْنِ يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ أَسَامٍ ثَلَاثَةٍ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ بِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا يُكْتَفَى فِي تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَعْتِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَإِتْمَامُ تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْعَدَّاءِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا وَاحِدًا، فَكَانَ لَا يَقَعُ الِالْتِبَاسُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَمَامِ التَّعْرِيفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي نَظَرِهِ قَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ الِاسْمِ أَيْضًا، وَهُوَ «فِيمَا كَتَبَهُ لِأُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُكَيْدِرَ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ ثُمَّ أَتَمَّ الْكِتَابَ»؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَفِي الْمُعَامَلَةِ لَمَّا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ ذَكَرَ اسْمَ مَنْ عَامَلَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِمَا قُلْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ عَشَرَةُ آبَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعْرِيفُ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَحْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا فِي الْعَادَةِ فَلَا يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ أَوْ بِذِكْرِ الْقَبِيلَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 169 غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ تَمَامُ الِامْتِيَازِ بِمَا قُلْنَا كَانَ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ، وَيُكَنِّيَهُ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِكُنْيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ لَقَبٌ لَا يَغِيظُهُ ذَلِكَ، وَلَا يَشِينُهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ أَيْضًا لِزِيَادَةِ التَّعْرِيفِ فَأَمَّا ذِكْرُ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ قَالَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَعْتَبِرُ ذَلِكَ كَمَا اعْتَبَرَ الْمَالِكُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِلتَّعْرِيفِ أَنْ يَكْتُبَ مُكَاتَبَ فُلَانٍ وَقَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى الْعِتْقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّا قَالَ: لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالصِّنَاعَاتِ التَّعْرِيفَ فَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْرِيفَ، وَهُوَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ وَأَمَّا كَتْبُهُ الْحِلْيَةَ فَهُوَ حَسَنٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تُشْبِهُ الْحِلْيَةَ كَمَا أَنَّ النِّعْمَةَ تُشْبِهُ النِّعْمَةَ. ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَنِي فُلَانٍ، وَإِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَإِنَّهُ يُعَادُ الْخَبَرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: جَمِيعُ الدَّارِ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: الدَّارُ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ، وَلَكِنْ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَهَا فَذَكَرَ الْجَمِيعَ لِقَطْعِ هَذَا الْوَهْمِ ثُمَّ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُشْتَرَى، وَتَعْرِيفُ الْمُشْتَرَى إذَا كَانَ مَحْدُودًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْبَلْدَةِ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا يُبْدَأُ بِالْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ذِكْرُ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْحُدُودِ وَأَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَذْكُرُ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَخَصِّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَعَمِّ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالنَّسَبِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ ثُمَّ بِاسْمِ أَبِيهِ ثُمَّ بِاسْمِ جَدِّهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَامُّ يُعَرَّفُ بِالْخَاصِّ وَالْخَاصُّ لَا يُعَرَّفُ بِالْعَامِّ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَعَمِّ أَحْسَنَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّسَبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ، فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ يَكْثُرُ فِي النَّاسِ عَادَةً ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ يَصِيرُ أَخَصَّ بِهِ ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ جَدِّهِ يَصِيرُ أَخَصَّ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ الْمَحَلَّةِ لِيَصِيرَ أَخَصَّ ثُمَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ. وَإِذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ: أَحَدُ حُدُودِهَا لَزِيقُ كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ ثُمَّ كَتَبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَتْ الْحُدُودُ فِي الْبَيْعِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتُبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا الدَّاخِلَةِ أَوْ الطَّرِيقُ الْعَامُّ ثُمَّ يَكْتُبَ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْبَقُ إلَى وَهْمِ أَحَدٍ بِهَذَا اللَّفْظِ لِشِرَاءِ الدِّجْلَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 170 وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَيْعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي آخَرِ عُمْرِهِ أَنْ يَكْتُبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَلِي كَذَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَلِي الشَّيْءَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّصِلُ بِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَرْحَامِ وَالنُّهَى»، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْقُرْبُ دُونَ الِاتِّصَالِ فَإِذَا قُلْنَا: يَنْتَهِي إلَى كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا يُفْهَمُ الِاتِّصَالُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدَّيْنِ وَعِنْدَنَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ حُدُودٍ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ وَيُتَحَرَّزُ فِيهِ عَنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ فَلِهَذَا يُكْتَبُ فِيهِ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فِي كِتَابِنَا: فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْكِتَابَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَرُبَّمَا يَحُولُ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الْكِتَابِ احْتِجَاجًا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مِمَّا لَا يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] ثُمَّ قَالَ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا أَرَى أَنْ يَكْتُبَ بِحُدُودِهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَالْمُشْتَرَى الْمَحْدُودُ دُونَ الْحَدِّ فَإِذَا قَالَ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْحُدُودُ الَّتِي تُسَمَّى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ: أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا فَقَوْلُهُ: اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُنْتَهِي دُونَ الْمُنْتَهَى إلَيْهِ وَالْمُنْتَهِي دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا، وَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَتْ الْحُدُودُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ أَحَدِ ذَلِكَ فَيَكْتُبُ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَسُفْلِهَا وَعُلْوِهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ مَنْ يَخْتَارُ سُفْلَهُ وَعُلْوَهُ، وَقَالَ: السُّفْلُ وَالْعُلْوُ لِلْبِنَاءِ لَا لِلدَّارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ: وَمِنْهَا سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَذْكُورٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ سِرْدَابٌ، فَإِذَا قَالَ: سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ لَا يَدْخُلُ السِّرْدَابُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِنَاءٍ وَالْبِنَاءُ مَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ: سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ: سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا يَدْخُلُ الْهَوَاءُ فِي ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَبَيْعُ الْهَوَاءِ لَا يَجُوزُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ قُلْنَا: هَذَا لَا يَسْبِقُ إلَيْهِ وَهْمُ أَحَدٍ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: طَرِيقُهَا وَمَرَافِقُهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَذْكُرُونَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 171 الطَّرِيقَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَرْكُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ ذَكَرُوا الطَّرِيقَ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الطَّرِيقُ الْعَامَّ الَّذِي لَا يَحُوزُهُ، وَكَذَلِكَ الْمِيزَابُ رُبَّمَا يَصُبُّ فِي جُزْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ وَطَرِيقُهَا، وَسَبِيلُ مَائِهَا الَّذِي مِنْ حُقُوقِهَا فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ هُوَ مِنْ حُقُوقِهَا فَيَصِيرُ جَامِعًا فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ. وَالْأَحْسَنُ: أَنْ لَا يَذْكُرَ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ خَاصٌّ أَوْ مَسِيلُ مَاءٍ خَاصٌّ دَخَلَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ هَذَا اللَّفْظُ إلَى مَا وَرَاءَهُمَا مِنْ الْمَرَافِقِ ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ يَدْخُلُ مَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعُ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ، وَمِنْ حَشَرَاتٍ هِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ الَّتِي فِيهَا فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْعَقْدِ مَحَلًّا لَهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَى أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ الْكِتَابُ فَيَقُولَ بِمَا هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَبِهَذَا الْقَيْدِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ دُونَ مَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الدَّارِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ، وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ قَالَ: بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفٍ أَوْ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يَكْتُبَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ وَخَارِجٌ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا شَيْئًا وَاحِدًا مَنْعُوتًا بِالنَّعْتَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ خَارِجٌ مِنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَكُلُّ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ جُزْءٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكُلِّ كَثِيرٍ، وَهُنَا الْحُقُوقُ الدَّاخِلَةُ غَيْرُ الْحُقُوقِ الْخَارِجَةِ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا. ثُمَّ قَالَ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ إلَى ذَلِكَ النَّقْدِ، وَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مِقْدَارِهِ وَبَيَانِ وَزْنِهِ، وَأَنَّهُ وَزْنُ سَبْعَةٍ أَيْ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً، وَكُلُّهَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ نَقَدَهُ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا، وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 172 مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِقَبْضِ الْبَائِعِ إذَا لَمْ يَنْقُدْهُ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ ثُمَّ قَالَ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكِ أَبِي فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ، وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الدَّرَكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ فَيَقُولَ عَلَى أَنْ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ يَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، فَيَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالدَّرَكِ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُ سَوَاءٌ شَرَطَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ فَحَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَكْتُبَ فَمَا أَدْرَكَ مَنْ يَحِقَّ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ دَرَكٍ وَلَا يُسَمَّى الْمُشْتَرَى لِجَوَازِ أَنْ يَلْحَقَ الدَّرَكُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّجُوعُ لِوَارِثِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ، وَالدَّرَكُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبٍ يَعْتَرِضُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُسَمَّى دَرَكًا وَبِالسَّبَبِ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَإِنَّمَا يَلْحَقُ الدَّرَكُ الْمُشْتَرِيَ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَلِهَذَا كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَزِيدُ مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْمِقْدَارِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِهِ: يَكْتُبُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ. مَعْنَاهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ مَا لَحِقَ الدَّرَكُ فِيهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. ثُمَّ قَالَ: شَهِدَ أَيْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ الْمُسَمَّوْنَ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَيَقُولُ: هَذَا مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدَنَا: أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا تَكُونُ شَهَادَتُهُمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَالْأَحْسَنُ ذِكْرُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثْبِتُ الشُّهُودُ فِيهِ أَسَامِيَهُمْ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالدَّرَكِ كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ دُونَ لَفْظِ الْعَهْدِ كَمَا يَكْتُبُهُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ فَمَا لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ عُهْدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلصَّكِّ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَاخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ لِهَذَا وَالْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ الْمَذْكُورِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَرَطَ الْخَلَاصَ فَهُوَ أَحْمَقُ سَلِّمْ مَا بِعْت أَوْ رُدَّ مَا قَبَضْت، وَلَا خَلَاصَ وَكَانَ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجَوِّزُ اشْتِرَاطَ الْخَلَاصِ وَيَقُولُ: إنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 173 وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْخَلَاصِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَحِقِّ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: إنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ وَاشْتَرَطَ الْخَلَاصَ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلَكَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي ضَمَانِ الدَّرَكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ كَفَالَةَ إنْسَانٍ بِالدَّرَكِ فَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، وَكَفَلَ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ. وَيُكْتَبُ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ فِيهَا، وَأَيُّهُمَا شَاءَ فُلَانٌ يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: إنَّ مُطْلَقَ الْكَفَالَةِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَيَكْتُبُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ فَيَكْتُبَ مَنْ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ تَحَرُّزًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى الَّذِي طَالَبَهُ بِهِ ثُمَّ يَكْتُبَ حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ ثَمَنَهَا، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا فَيَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْخَلَاصِ، وَلِيَحْصُلَ بِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ ثُمَّ تَفْسِيرُ الدَّرَكِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَأَمَّا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ دَرَكًا حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ بِشَيْءٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا بَاعَ جَارِيَةً مِنْ إنْسَانٍ، وَضَمِنَ لَهُ آخَرُ تَسْلِيمَهَا فَهَلَكَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الضَّامِنِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْتَزَمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِالْمَالِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ يَرُدُّ الثَّمَنَ فَالضَّامِنُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ رَجُلَيْنِ، فَأَرَادَ أَنْ يَضْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ كَتَبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَفِيلَانِ ضَامِنَانِ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكِ فُلَانٍ فِيهَا وَأَهْلُ الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ: يُرِيدُ فِي هَذَا الْكِتَابِ اشْتَرَى مِنْهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً الجزء: 30 ¦ الصفحة: 174 لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَخْتَلِفُ بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَاخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ، وَيَكْتُبُ أَيْضًا، وَكَانَ الْعَقْدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَنْصَرِفُ إيجَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكْتُبْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْفُذُ عَقْدُهُ عِنْدَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَكْتُبُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لَهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، أَوْ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ دَرَكٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِالْعُهْدَةِ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: كَفِيلُ ضَامِنٍ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِيهَا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ الثَّمَنَ، وَهُوَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ وَبَعْدَ مَا صَرَّحَ بِمَعْنَى الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ. وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارِ كَتَبَ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ حُدُودَ الْمَنْزِلِ، وَمَوْضِعَهُ مِنْ الدَّارِ أَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ، وَوَصَفَ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حُقُوقِ طَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُبَيِّنَ عَرْضَ الطَّرِيقِ وَطُولَهُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الطَّرِيقِ، وَعِنْدَنَا: لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ ذِكْرُهُ لِلتَّحَرُّزِ، وَلَوْ كَتَبَ الْمَقْصُورَةَ، وَهُوَ مَنْزِلٌ عَلَيْهِ حُجْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَهَذَا مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْمَسْكَنَ أَوْ كَتَبَ الْحُجْرَةَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي فِيهَا، وَهِيَ كَذَا كَذَا بَيْتًا، فَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَقِيمٌ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمَنْزِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا مَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَمَا لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَفِي الْحَاصِلِ هَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الدَّارُ وَالْمَنْزِلُ وَالْبَيْتُ، فَإِنْ اشْتَرَى دَارًا، وَلَمْ يَقُلْ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا وَالْجُذُوعُ وَالْأَبْوَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَيَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلُ وَالْعُلْوُ فَأَمَّا الظُّلَّةُ الَّتِي عَلَى الْهَوَاءِ أَحَدُ جَانِبَيْهَا عَلَى حَائِطِ الدَّارِ، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ عَلَى حَائِطِ دَارِ الْجَارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الدَّارِ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ أَيْضًا كَالظُّلَّةِ، وَفِي الْأَمَالِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الظُّلَّةُ تَدْخُلُ فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَوْ مَسِيلٌ خَاصٌّ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَالطَّرِيقُ الَّتِي فِي السِّكَّةِ الْعُظْمَى لِهَذِهِ الدَّارِ دَاخِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 175 الْحُقُوقَ. وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا، فَإِنْ قَالَ بِحُقُوقِهِ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ، وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمُسْقَفٍ وَاحِدٍ يُبَاتُ فِيهِ وَالْعُلْوُ فِي هَذَا كَالسُّفْلِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآخِرِ وَمَرَافِقِهِ وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمَرْءُ بِأَهْلِهِ وَثِقَلِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ السُّفْلُ وَلَكِنَّ تَمَامَ مَرَافِقِهِ بِالْعُلْوِ، فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ الْمَنْزِلُ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ فَلِكَوْنِهِ دُونَ الدَّارِ قُلْنَا: لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْمَنْزِلِ وَلِكَوْنِهِ فَوْقَ الْبَيْتِ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ إذَا ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ. وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ الدَّارِ غَيْرَ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَإِنْ اشْتَرَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ وَتُذْرَعُ الدَّارُ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا بِتِلْكَ الْأَذْرُعِ الْمُسَمَّاةِ إنْ كَانَتْ ذِرَاعَانِ وَالدَّارُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ كُلَّ ذِرَاعٍ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ. وَالْمَأْذُونُ وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ نَصِيبَ الْبَائِعِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذُكِرَ هُنَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ كَانَ سَمَّى رُبْعًا أَوْ ثُلْثًا أَوْ سَهْمًا مِنْ كَذَا كَذَا سَهْمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا أَجْزَأَ مِنْ كَذَا جُزْءًا بَعْدَ الثُّلْثِ أَوْ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا بَعْدَ الرُّبْعِ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ كَذَا ذِرَاعًا مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا جَرِيبًا مِنْ كَذَا جَرِيبًا؛ لِأَنَّ الْجَرِيبَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ كَتَسْمِيَةِ الذِّرَاعِ وَعِنْدَهُمَا تَسْمِيَةُ الذِّرَاعِ كَتَسْمِيَةِ السَّهْمِ؛ لِأَنَّ ذِرَاعًا مِنْ ذِرَاعَيْنِ نِصْفُ الدَّارِ وَذِرَاعًا مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ عُشْرُ الدَّارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ جَانِبِ الدَّارِ فَبَعْضُ الْجَوَانِبِ يَكُونُ عَامِرًا وَبَعْضُهَا غَامِرًا وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَبَطَلُ الْعَقْدُ بِهَا. وَقَالَ يَكْتُبُ فِي شِرَاءِ نَصِيبِ دَارٍ مِنْ امْرَأَةٍ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِهَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَهُوَ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ وَمَرَافِقِهِ، وَكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ قُلْت لِمَ كَتَبَهُ بِحُدُودِهِ وَأَرْضِهِ، وَلَمْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 176 يَثْبُتْ بِحُدُودِهَا وَأَرْضِهَا كَمَا فِي الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ: لِأَنَّ النَّصِيبَ مُذَكَّرٌ فَلَمَّا أَضَفْته إلَيْهِ ذَكَّرْته، وَإِنْ كَتَبَ بِحُدُودِهَا أَرْضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ الْإِضَافَةَ إلَى الدَّارِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَوْضَحُهُمَا فَإِنَّ الْمُشْتَرَى النَّصِيبُ دُونَ الدَّارِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِبَيَانِ الْمُشْتَرِي وَحُقُوقِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفَوْقَهُ مَنْزِلٌ وَاشْتُرِطَ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَكَانَ الْعُلْوُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ السُّفْلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ كُلِّ حَقٍّ فِي الْمَنْزِلِ اشْتِرَاطُ الْعُلْوِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْعُلْوَ أَيْضًا، فَإِذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْعُلْوِ فَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَإِذَا اشْتَرَى الْبَيْتَ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي السُّفْلِ، وَفِي الدَّارِ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ أَوْ بَعْضَهُ يُخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِمُطْلَقِ اسْمِ الدَّارِ. وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَمَنَعَ صَاحِبُ تِلْكَ الدَّارِ الطَّرِيقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ إقَامَةِ حَقِّ الْبَيِّنَةِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ دَارٍ أُخْرَى لِلْبَائِعِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّرِيقُ، وَغَيْرُ الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا هُوَ حَقُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ لَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي النَّاسِ عَيْبًا وَيَنْتَقِصُ - بِاعْتِبَارِهِ - الثَّمَنُ. فَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَ سُفْلٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لَهُ عُلْوٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ - الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ - أَحَدُ حُدُودِ هَذَا الْبَيْتِ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الدَّارِ كَمَا أَنَّ الدَّارَ فِي الْمَحَلَّةِ فَكَمَا أَنَّ فِي شِرَاءِ الدَّارِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَحَلَّةَ فَفِي شِرَاءِ الْبَيْتِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ، وَإِعْلَامُهَا بِذِكْرِ حُدُودِهَا ثُمَّ الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ بُقْعَةً مَعْلُومَةً مِنْ الدَّارِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ حُدُودِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْتٌ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَيَقُولُ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَيَذْكُرُ طَرِيقَهُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ بِالذِّكْرِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 177 وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَى أَنْ يَكْتُبَ الْحُدُودَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ، وَمِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ، وَالْحَدُّ الثَّانِي فِي شَرْقِيِّ الدَّارِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الثَّالِثُ: دُبُرُ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ: الْغَرْبِيُّ دَارُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ فَالْبِدَايَةُ أَوْلَى مِنْهَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِالْغَرْبِيِّ وَدَارَ عَلَيْهَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِاَلَّذِي هُوَ دُبُرَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ سَمَّى الَّذِي يَلِيهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ وَبِذِكْرِ الْحُدُودِ صَارَ مَعْلُومًا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ أَوْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ أَحَدُ حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ وَانْتَهَى إلَى دَارِ فُلَانٍ أَوْ لَزِيقَ دَارِ فُلَانٍ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْتًا عُلْوًا فِي الدَّارِ لَيْسَ لَهُ سُفْلٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ الْبَيْتَ الَّذِي فِي عُلْوِ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ يَقُولُ: وَهَذَا الْبَيْتُ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْهَدِمُ ذَلِكَ الْبَيْتُ فَيَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إعَادَتِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ مِنْ الدَّارِ مَعْلُومًا، وَإِعْلَامُ مَوْضِعِهِ بِإِعْلَامِ مَوْضِعِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا عُلْوُهُ فَيَكْتُبُ، وَهُوَ عُلْوٌ سُفْلُهُ لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا الْبَيْتُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُلْوِ حُدُودٌ، وَإِنَّمَا الْحُدُودُ لِلسُّفْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ هَذَا الْعُلْوِ حُجْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ حُدُودَ الْعُلْوِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْعُلْوُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ إعْلَامُ الْمَبِيعِ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُدُودِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا سُفْلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي الدَّرَجِ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَى عُلْوِ الْبَيْتِ مُسَلَّمًا، قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعَ الدَّرَجِ مِنْ الدَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ فِي جَانِبٍ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ فِي جَانِبٍ آخَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانُ بْنِ فُلَانٍ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ إذَا نَقَدَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِالْبَرَاءَةِ مَا لَمْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ تُذْكَرُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. وَإِنْ كَانَ بَيْتٌ فَوْقَهُ بَيْتٌ فَاشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتَيْنِ يَتَنَاوَلُ بَيْتَيْنِ مُتَلَاصِقَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُفْلٌ فَيَذْكُرُ: أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، وَيَكْتُبُ: هَذَا الْبُنْيَانُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا، أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الْأَسْفَلِ كَذَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لِلْبَيْتِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 178 السُّفْلِ وَبِذِكْرِهَا يَصِيرُ الْعُلْوُ مَعْلُومًا ثُمَّ يَكْتُبُ: اشْتَرَى مِنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اللَّذَيْنِ حَدَّدْنَا أَسْفَلَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهَا كِلَاهُمَا وَأَرْضِهِمَا وَبِنَائِهِمَا وَطَرِيقِهِمَا فِي الدَّرَجِ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ، وَيَحُدُّ بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ أَصْلٌ هُنَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُمَا عِنْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْمَرَافِقِ. وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا مِنْ رَجُلَيْنِ، وَهِيَ صَحْرَاءُ كَتَبَ: اشْتَرَى مِنْهُمَا الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا، وَالرَّابِعُ: اشْتَرَى مِنْهُمَا هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَهِيَ صَحْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الصَّحْرَاءَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَبْنَى بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَلَكِنْ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ الْمَبْنَى عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ، وَرُبَّمَا يَبْنِيهِمَا الْمُشْتَرِي فَيَسْتَحِقُّ بِنَاءَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ أَوْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فِي صَكِّ الشِّرَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمئِذٍ صَحْرَاءَ رُبَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ فَلِهَذَا يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ فِي الضَّمَانِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ يَعْنِي إذَا اشْتَرَى هَذِهِ وَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ الدَّرَكَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقِيمَةُ مَا بُنِيَ فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ مِنْ بَيْنِ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ التَّنْصِيصُ عَلَى قِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي الضَّمَانِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَيْسَ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغُرُورِ فِي الْمَبِيعِ، وَفِيمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ كَالْأَوَّلِ وَعِنْدَنَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي صِفَةَ السَّلَامَةِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْبَائِعُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُشْتَرِي قَرَارَ الْبِنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ يَكْتُبُ ضَمَانَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَيَنُصُّ أَيْضًا عَلَى مِقْدَارِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ فِي الْوَثِيقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إلَى كَذَا دِرْهَمًا بِقِيمَةِ عَدْلٍ يَوْمَ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَنْقُضُ بِنَاءَهُ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ. ، وَمِنْ أَهْلِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 179 الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ اسْتَحْسَنَ أَيْضًا أَنْ يَكْتُبَ وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَبْنِي ثُمَّ يَنْهَدِمُ الْبِنَاءُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا انْهَدَمَ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْدَثَهُ فَيَكْتُبُ، وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ: فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدَّارِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْبِنَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ: الْعَقْدُ يَبْطُلُ كُلُّهُ بِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِمِقْدَارِ مَا يُوجَدُ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ بِقِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظَ مَا لَا رُجُوعَ لَهُ مِنْ مَرَمَّةٍ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ أَوْ حَفْرٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ حَتَّى لَوْ قَالُوا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الدَّارِ وَطَوَاهَا فَالْحَفْرُ لَيْسَ مِنْ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ، وَالْعُلْوُ مِنْ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ مَا هُوَ بِنَاءٌ مَطْوِيٌّ وَيَكْتُبُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ، وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَنَا فَإِنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ النَّقْضَ مِنْ الْبَائِعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُخْتَارُ اللَّفْظَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعَيْنِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا بَاعَهُ النِّصْفَ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ بِاعْتِبَارِ عَقْدِهِ فَلِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ هُوَ بَائِعٌ، وَفِي النِّصْفِ الْآخِرِ هُوَ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي دَارِ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا عُلْوٌ، وَالْآخَرُ سُفْلٌ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ؛ أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا هَذَانِ الْبَيْتَانِ وَالرَّابِعُ: وَأَحَدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ سُفْلٍ عُلْوُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ حُدُودِ الْبَيْتِ السُّفْلُ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ الْبَيْتِ الْآخَرِ عُلْوَ سُفْلِهِ لِفُلَانٍ وَيُحِدُّ الْبَيْتَ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يُجْرِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السُّفْلِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ، وَالْعُلْوِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ بِدُونِ السُّفْلِ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سُفْلَ بَيْتٍ وَعُلْوَ بَيْتٍ آخَرَ وَهُمَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمَوْضِعِ وَالتَّحْدِيدِ وَإِعْلَامِ الْعُلْوِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 180 وَبِتَحْدِيدِ السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْعُلْوِ بِنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ فَتَحْدِيدُهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُ طَرِيقًا فِي دَارِ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ طَرِيقًا مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا، وَهَذَا الطَّرِيقُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ دَارِ فُلَانٍ الَّتِي إلَى جَانِبِ هَذِهِ الدَّارِ إلَى بَابِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، عَرْضُ هَذَا الطَّرِيقِ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامُ الطَّرِيقِ بِذِكْرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ: أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الطَّرِيقَ الَّذِي ضَمَّنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهَا وَأَرْضِهِ مُسْلِمًا إلَى بَابِ الدَّارِ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالذِّرَاعِ طُولًا وَعَرْضًا؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ عَرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ بَعْضَ الْإِبْهَامِ فَقَدْ يُبَدَّلُ بِالْبَابِ بَابٌ آخَرُ وَلَكِنْ يُجَوِّزُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِبْهَامِ؛ لِأَنَّ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ طَرِيقٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ يُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الطَّرِيقِ التَّطَرُّقُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ بِقَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، فَإِنَّ مَا لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ عَرْضَ الطَّرِيقِ كَانَ يَجُوزُ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلرُّجُوعِ إلَيْهِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَعْرِفَةِ بَابِ الدَّارِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ عُلْوٌ لِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ: عُلْوُهُ لِفُلَانِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ، فَرُبَّمَا يَنْقُضُ الْعُلْوَ الَّذِي لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ أَوْ يَمْنَعُ صَاحِبَ الْعُلْوِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا بَعْدَ الِانْهِدَامِ. وَإِنْ اشْتَرَى حَائِطًا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ الْحَائِطَ الَّتِي فِي الدَّارِ الَّذِي فِي بَنِي فُلَانٍ، وَهَذَا الْحَائِطُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا عَرْضُهُ كَذَا؛ لِأَنَّ بِتَنَاوُلِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَصِيرُ الْمُشْتَرَى - وَهُوَ الْبِنَاءُ وَمَوْضِعُهُ مِنْ الْأَرْضِ - مَعْلُومًا، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْحَائِطَ الَّذِي سَمَّيْنَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ أَرْضَهُ وَبِنَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ اخْتِلَافُ شُبْهَةِ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ الْأَصْلِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا غَيْرَ بَيْتٍ فِيهَا كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ غَيْرَ بَيْتٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَطَرِيقِهِ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا، وَعَيَّنَ حُدُودَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُسْتَثْنَى بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ فِي حَاجَةِ الدَّارِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الطَّرِيقَ فِيمَا يُسْتَثْنَى تَضَرَّرَ الْبَائِعُ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا يَقُولُ: غَيْرُ هَذَا الْبَيْتِ، وَطَرِيقُهُ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ يَكْتُبُ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ رَأَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 181 فُلَانٌ هَذَا الْبَيْتَ، وَعَرَّفَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْتَثْنَى تَتَمَكَّنُ بِهِ جَهَالَةٌ فِي صِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ بُيُوتَ الدَّارِ تَخْتَلِفُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ. وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَأَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْمُسْتَثْنَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي. وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَنِصْفَ سَاحَةِ تِلْكَ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجِهَا وَالطَّرِيقَ كَتَبَ: أَشْتَرِي مِنْهُ مَنْزِلًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَأَشْتَرِي مِنْهُ أَيْضًا نِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجٍ فِيهَا سِوَى هَذَا الْمَنْزِلِ ثُمَّ يُحَدِّدُ هَذَا الدَّارَ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَهَذَا الْمَنْزِلُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَ الْمَنْزِلِ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَهَذَا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ سَاحَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ إمَّا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّدَ جَمِيعَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي حَدَّدْنَا وَنِصْفَ هَذَا الْمَخْرَجِ وَنِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِلَى الْمَخْرَجِ مُسَلِّمًا ثُمَّ يُجْرِيه عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِنَاؤُهَا لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ عَلَى رَسْمِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَبِنَاءَهَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَمْلُوكًا لَهُ وَشِرَاؤُهُ إنَّمَا يَتَنَاوَل مِلْكَ الْبَائِعِ لَا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ: الْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَى أَرْضَ دَارٍ بِنَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ مُطْلَقًا فِي الْعُرْفِ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ أَخَصُّ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إعْلَامِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَهُ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ الدَّارُ الَّتِي نِصْفُهَا لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ حُدُودَ جَمِيعِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ نِصْفِ الدَّارِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ فِي الشِّرَاءِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ وَمَالِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا بِمَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِعَقْدٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ فِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْ الْبَائِعِ لِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ الْمَالَ لَهُ ثُمَّ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرَى بِالثَّمَنِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ إفْسَادٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ النُّفُوذُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْأَمْرَ وَرَجَعَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 182 بِدَرَاهِمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى رَسْمِهِ إلَى أَنْ يَكْتُبَ فِي آخِرِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَ ضَمَانَ الدَّرَكِ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْعَقْدِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّسْلِيمِ يُخْرِجُ مِنْ الْوَسَطِ فَالِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّرَكُ إنَّمَا يَلْحَقُ الْمُوَكِّلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ كَانَ بِالرَّقَّةِ كَتَبَ لِلرَّشِيدِ كِتَابًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ فُلَانٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِمَاذَا كَتَبْت الدَّرَكَ لِلْمُشْتَرَى لَهُ فَقَالَ هَكَذَا كَتَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ إذَا كَتَبَ الدَّرَكَ لَهُ فَلِمَاذَا لَمْ تَكْتُبْ رَدَّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ قَالَ لِأَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَالثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الرَّدُّ يَكُونُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ قِيلَ فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرَى لَهُ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ وَكَأَنَّهُ سَلَكَ فِي هَذَا طَرِيقَةَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى قِيَاسِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ الْمُشْتَرِي قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ قَدْ يَلْحَقُ الْوَكِيلَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ لَوْ كَتَبَ فِي ضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا يَبْنِي الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِدُونِ رِضَا الْمُوَكِّلِ فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ بِنَائِهِ فِي الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ ضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا فِيهَا حَمَّامٌ كَتَبَ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي شِرَاءِ الدَّارِ وَالدَّارَيْنِ قَالَ وَيُسَمِّي فِيهَا قِدْرَ الْحَمَّامِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ قِدْرَ الْحَمَّامِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِخِلَافِ الْأَبْوَابِ وَالسُّرَرُ الْمُرَكَّبَةُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْقِدْرَ لَا يُرَكَّبُ فِي مَوْضِعِهِ لِيَكُونَ عَلَى الْبِنَاءِ وَلَكِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيُطَيَّنُ مَا حَوْلَهُ لِكَيْ لَا يُخْرِجَ النَّارَ وَالدُّخَانَ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَكْتُبُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَمَّامِ بِحُدُودِهَا وَقِدْرِهَا وَآنِيَتِهَا وَمَلْقَى رَمَادِهَا وَشُرُفَاتِهَا وَبِئْرِهَا وَالْبَكَرَةِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ الَّتِي فِيهَا وَمُسْتَنْقَعِ مَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِهَا وَبَعْضُ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَلَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 183 ذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَمَّامُ مِنْ سَائِرِ الْمَحْدُودَاتِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرَيْنِ النِّصْفُ كَتَبَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ أَشْتَرِي مِنْهُمْ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ قَدْ تَفَاوَتَتْ، وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ يَعْنِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثَّمَنَ فِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الثَّمَنِ، وَفِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَبَرِئَ إلَيْهِمْ مِنْهُ فَقَبَضَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا نَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِكَذَا رُبَّمَا يَدَّعِي صَاحِبُ النِّصْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ إلَّا ثُلُثُ الثَّمَنِ وَيَحْتَجُّ بِمُطْلَقِ إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ ثُمَّ قَالَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَى مِنْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا اشْتَرَى مِنْهُمْ. وَإِنْ اشْتَرَى ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ وَاحِدٍ كَتَبَ اشْتَرَوْا مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا، وَهَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ إعَادَةِ الْخَبَرِ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَيَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَوْا مِنْهُ نَقَدَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَبَرِئُوا إلَيْهِ مِنْهُ فَصَارَ لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَمَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ إلَى آخِرِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِابْنِهِ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمَالِهِ وَبِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مُمَيِّزًا لِمَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْمَالَ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لِابْنِهِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشُّرُوطِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْتُبُ اسْمَ الْأَبِ قَبْلَ اسْمِ الِابْنِ، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ فُلَانٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ الْوَكِيلِ وَلَكِنْ يَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ يَزِيدُونَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَهُوَ ثَمَنُ مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشُّرُوطِ بَنَوْا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى بِمَالِ الصَّغِيرِ فَذَكَرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِهِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَذْكُرْ مَالَهُ أَصْلًا فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 184 الزِّيَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا، وَمِنْ مَالِ ابْنِهِ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْوَلَدِ فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْأَبُ أَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَدَّعِي ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَيَكْتُبُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ يَكْتُبُ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَلْحَقُ الِابْنَ دُونَ الْأَبِ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكْتُبَ هُنَا، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَيْضًا، وَقَدْ وَكَّلَ فُلَانٌ يَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فُلَانًا بِالْخُصُومَةِ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إمَّا وَكَالَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي الدَّارِ فِي الْحَالِ أَوْ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَيَزِيدُونَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَلِمَةُ عِزٍّ لَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ تَوْكِيلًا جَدِيدًا، وَفِي هَذَا النَّوْعِ احْتِيَاطٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلِلِابْنِ فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْخُصُومَةِ بِالْعَيْبِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُوَكِّلُ وَلَا الِابْنُ مِنْ خُصُومَةِ الْبَائِعِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا وَيَمْتَنِعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ قَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّوْكِيلَ لِكَيْ لَا يَتَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَهُ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ. وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ دَارِهِ مِنْ ابْنِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ فِي عِيَالِهِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ابْنِهِ إنِّي بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ بِكَذَا دِرْهَمًا وَقَبَضْت الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْك وَبَرِئْتَ إلَيَّ مِنْهُ وَأَنْتَ يَوْمئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِي فَمَا أَدْرَكَك مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَيَّ خَلَاصُهُ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى لَفْظَيْنِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ. وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الشَّاشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ فَيَكُونُ نَائِبًا وَلَا يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِلْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعُهْدَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا يُعَامِلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْأَبَ فِيهِ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ، وَهُوَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَسَفِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ هُوَ يَكُونُ مُبَاشِرًا فِيهِ مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ، وَمِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ سَفِيرًا فِيهِ عَنْ الِابْنِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ مِمَّنْ هُوَ وَلِيُّهُ فَالْعَاقِدُ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّفِيرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرًا عَنْ جَمَاعَةٍ وَلَكِنَّ الْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ أَيْضًا أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ بِعْت مِنْهُ بِكَذَا، وَفِي الشِّرَاءِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ اشْتَرَيْت مِنْهُ بِكَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ، وَيَكُونُ مُبَاشِرًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 185 يَكُونُ أَقْوَى مِنْ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ سَفِيرًا وَالْقَوِيُّ يَنْتَظِمُ الضَّعِيفَ وَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَفِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُبَاشِرًا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُعَبِّرًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا لَوْ ذُكِرَ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ سَفِيرٌ فِيهِ فَقَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا، وَفِي الشِّرَاءِ قَالَ بِعْت هَذِهِ الدَّارَ لِابْنِي مِنْ نَفْسِي لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَنْتَظِمُ الْقَوِيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالْقَبُولِ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ فِي الرَّسْمِ لِفُلَانٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْيَاءِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَالصَّوَابُ فَاجْعَلْهُ بِالْهَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ: هَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانِ بْنُ فُلَانٍ، يَكْتُبُ: إنِّي قَدْ بِعْتُك، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ كُلُّهُ بِالْكَافِ، وَإِذَا كَتَبَ: هَذَا الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ لِابْنِهِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ فَيَذْكُرُ هَذَا، وَمَا بَعْدَهُ بِالْهَاءِ. وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لَك عَلَى هَذَا كَذَا دِرْهَمًا، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ وَإِنِّي بِعْتُك بِذَلِكَ كُلِّهِ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانِ وَيُجْرِيهِ عَلَى الرَّسْمِ حَتَّى يَقُولَ: بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي لَك عَلَيَّ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا وَلَا يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك وَلَكِنْ يَكْتُبُ، وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ هَذَا اللَّفْظَ أَيْضًا وَقَالُوا هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ إذَا تَمَّ الشِّرَاءُ إلَّا أَنْ يَصِيرَ الْمَدْيُونُ قَابِضًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ لِلْغَيْرِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَجْعَلَهُ قَابِضًا الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ قَبْضٌ حُكْمِيٌّ لَا حِسِّيٌّ فَيَكْتُبُ: وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَلَا يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ الْحِسِّيِّ ثُمَّ يَكْتُبُ، وَقَدْ قَبَضْت هَذِهِ الدَّارَ مِنِّي، وَقَدْ بَرِئْت إلَيْك مِنْهَا وَبَرِئْت أَنَا مِمَّا كَانَ لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَكِنْ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا جَرَى الرَّسْمُ بِذَكَرِهِ لِلتَّأْكِيدِ فَيَذْكُرُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْضَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الشُّرُوطِ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَكْتُبَ بَرَاءَةً مِنْ الدَّيْنِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لِي عَلَيْك كَذَا، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لِي عَلَيْك وَأَنَّك بِعْتنِي بِهِ دَارَ كَذَا وَقَبَضْتهَا مِنْك وَبَرِئْت إلَيَّ مِنْهُ فَمَا ادَّعَيْت قَبْلَك مِنْ دَعْوَى فِي هَذَا الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ فَإِنِّي فِيمَا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ مُبْطِلٌ وَأَنْتَ مِمَّا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَرِيءٌ وَهَذِهِ زِيَادَةُ زِيَادَاتٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ قَوْلَهُ أَوْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 186 غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا الدَّيْنِ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الشِّرَاءِ فَهُوَ لَا يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَى ذَلِكَ كَتَبَ هَذَا أَوْ لَمْ يَكْتُبْ فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ جَرَى الرَّسْمُ بِكَتْبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ. وَإِذَا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ وَكِيلٍ كَتَبَ كِتَابَ الْوَكَالَةِ وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَيْهَا عَلَى حِدَةٍ وَكَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا وَجَعَلَ تَارِيخَهُ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ كِتَابَ الْوَكَالَةِ حُجَّةُ الْوَكِيلِ مِنْ وَجْهٍ وَكِتَابُ الشِّرَاءِ وَثِيقَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَإِنْ كَتَبَ الْكُلَّ فِي بَيَاضٍ وَاحِدٍ وَبَدَأَ بِكِتَابِ الْوَكَالَةِ ثُمَّ بِكِتَابِ الشِّرَاءِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا بِذَلِكَ يَحْصُلُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ تَارِيخَ كِتَابِ الشِّرَاءِ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ لُحُوقِ الْعُهْدَةِ إنَّمَا يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ خَاصَّةً وَلَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي فِي بَيْعِ مَالِ الْمَيِّتِ أَوْ كَانَ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَالْوَصِيُّ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَيِّتِ إيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَلَا يَنْسُبُ الدَّارَ إلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى الْعَاقِدِ تَكُونُ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ غَيْرِهِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ. وَإِذَا هَلَكَ صَكُّ الشِّرَاءِ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا آخَرَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ كَمَا وَصَفْنَا وَيَكْتُبَ فِي آخِرِهِ وَقَدْ كُنْت كَتَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ شِرَاءً مِنِّي فِي صَكٍّ فَهَلَكَ ذَلِكَ وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَشْهَدَ لَك عَلَى شِرَائِك هَذِهِ الدَّارِ مِنِّي فَكَتَبْتُ لَك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْتُ لَك عَلَيْهِ الشُّهُودَ الْمُسَمَّيْنَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مَا أَدْرَكَهُ فِي الدَّارِ مِنْ دَرَكٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَعَلَى الضَّامِنِ رَدُّ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُ فِي الضَّمَانِ الدَّرَكَ وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ لَيْسَ بِضَمَانٍ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ فِي الضَّمَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ الدَّرَكَ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَضَمَانُ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْعَيْبِ وَالْكَفِيلُ بِالدَّرَكِ لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَلِأَنَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 187 الْبَائِعَ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُمَلِّكُهُ النَّقْضَ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ النَّقْضِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الدَّارِ سُدُسَهَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا بِسُدُسِ الثَّمَنِ، وَهُوَ حِصَّةُ مَا اسْتَحَقَّ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الدَّرَكِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْبَاقِي بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَلَوْ رَدَّ الْكَفِيلُ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْبَعْضَ وَرَدَّ الْبَعْضَ يَجِبُ اعْتِبَارُ كُلِّ جُزْءٍ بِجُمْلَتِهِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِبَيَانِ جُمْلَةِ الذُّرْعَانِ يَصِيرُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا يُذْرَعُ بِذِرَاعٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الذِّرَاعَ الْمُكَسَّرَةَ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ الْأَطْوَلَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ وَلَكِنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الذَّرْعَ بِهِ غَالِبًا وَمُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الذِّرَاعُ الْوَسَطُ، فَإِنْ ذَرَعَهَا وَوَجَدَهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَمَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهَا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ فَقَدْ وَجَدَهَا أَضْيَقَ مِمَّا شَرَطَ لَهُ فِي الدَّارِ، وَالسَّعَةُ فِي الدَّارِ مَقْصُودَةٌ فَبِتَغَيُّرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ بِهَا وَلَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَكَانَتْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةٌ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الذَّرْعِ فَإِنَّهُ سَمَّى الثَّمَنَ جُمْلَةً بِمُقَابَلَةِ الدَّارِ وَالذَّرْعُ فِيهَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِمِقْدَارٍ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثَّمَنُ الْعَيْنَ دُونَ الْوَصْفِ فَلَا يَزْدَادُ الثَّمَنُ بِزِيَادَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ الذِّرَاعَ هُنَاكَ مَقْصُودًا حَتَّى سَمَّى بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وَجَدَهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّمَنَ أَلْفًا كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ شَرْطَهُ، وَإِذَا أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُنَا بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَبِنُقْصَانِ الذِّرَاعِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الْوَصْفِ وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا مَعْلُومَةً عَلَى أَنَّهَا عِشْرُونَ جَرِيبًا وَعِشْرُونَ نَخْلَةً بِكَذَا دِرْهَمًا فَزَادَتْ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 188 سَمَّى؛ لِأَنَّ النَّخْلَ صِفَةٌ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ حَتَّى أَنَّهَا تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ الذِّكْرِ وَزِيَادَةُ الصِّفَةِ لَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ وَلَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا ثَلَاثُ فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ بَرَاحَ أَرْضٍ فِيهَا نَخْلٌ مُطْلَقًا أَوْ يَشْتَرِيَهَا بِدُونِ النَّخْلِ أَوْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ الَّذِي فِيهَا دُونَهَا فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَالطَّرْفَاءِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَصَبَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا خِلَافَ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَالدَّرِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ رِيعِ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ بِقَصَبِ السُّكَّرِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقْطَعُ إذَا أَدْرَكَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ لَيْسَ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَالثِّمَارُ الَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ لَا تَدْخُلُ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا أَوْ بِذِكْرِ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ وَمِنْ حُقُوقِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ. وَالزَّرْعُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَمْلِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ شَجَرَهُ لَا يُعَدُّ مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْطَعَ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يُؤْخَذُ الثَّمَرُ مِنْ الشَّجَرِ وَالْوَرْدُ مِنْ الشَّجَرَةِ فَكَمَا أَنَّ شَجَرَ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا يَدْخُلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَإِنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِدُونِ النَّخْلِ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَكَمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النَّخْلِ ثُمَّ يَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْبَرَاحَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ الَّتِي فِيهِ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَهُوَ كَذَا نَخْلَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الْبَرَاحِ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ لِكَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَى الْبَائِعِ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ النَّخْلُ فَإِنَّ بِذِكْرِ النَّخْلِ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا أُصُولَ النَّخْلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ نَخْلًا إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى أُصُولِهَا فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ جُذُوعًا وَلِهَذَا لَوْ رَفَعَ الْبَائِعُ تِلْكَ النَّخْلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِي مَنَابِتِهَا نَخِيلًا آخَرَ أَوْ يَضَعَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أُسْطُوَانَةً أَوْ مَا أَحَبَّ. وَإِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 189 اشْتَرَى النَّخْلَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْأَرْضِ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَقْصُودًا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَمَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَكْتُبُ حُدُودَ الْبَرَاحِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ وَحُدُودَ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ النَّخْلُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى النَّخْلَ بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَطَرِيقِهِ فِي الْبَرَاحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ: بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، وَفِي النَّوَادِرِ يَذْكُرُ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي دُخُولِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْعَقْدِ النَّخْلَ، وَاسْمُ النَّخْلِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْأَصْلُ لَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ التَّبَعِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَخْلًا إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ ضَرُورَةِ مَا سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَذْكُرُ مَوَاضِعَهَا مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِيمَا إذَا اشْتَرَى النَّخِيلَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ الْأَحْوَطُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَيَذْكُرَ طَرِيقَ النَّخْلِ فِي الْبَرَاحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الطَّرِيقَ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَيَذْكُرُ عَدَدَ النَّخَلَاتِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسْلِيمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِذِكْرِ عَدَدِ النَّخَلَاتِ وَرُبَّمَا يَقْلَعُ الْبَائِعُ بَعْضَهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَهَا فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ. وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا عُيُونُ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَالْعَيْنُ تَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَنَا، وَمَا هُوَ حَاصِلٌ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّيعِ لِلْأَرْضِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ فَتَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْبَيْعُ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الْمَمْلَحَةِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْعَيْنُ لَا تَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ السُّكْنَى وَالْعَيْنُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ الذِّكْرِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الْأَرْضَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا كَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا الْغَازُ وَالنَّفْطُ، أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الْعُيُونُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا النَّفْطُ وَالْغَازُ، وَمَا فِي الْعُيُونِ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا. وَإِذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 190 قَالَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ: أَنَا أَبِيعُكَهَا بِمَا اشْتَرَيْتهَا بِهِ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْت ذَلِكَ فَأَبَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي شِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ وَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا جَرَى مِنْ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي: أَبِعْتهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ وَعْدٌ لَا إيجَابٌ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ. وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ دَارًا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ كِتَابًا؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَلِّمُ لِأَصْحَابِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ عِوَضًا عَمَّا يَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ وَالْقِسْمَةُ تَكُونُ مُسْتَدَامَةً بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ مِنْهُمْ الْوَثِيقَةَ، وَصِفَةُ ذَلِكَ: هَذَا مَا اقْتَسَمَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانَةُ بَنُو فُلَانٍ اقْتَسَمُوا الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ اقْتَسَمُوهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَانَ ذَرْعُ جَمِيعِ هَذَا الدَّارِ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً، وَكَانَ جَمِيعُ الَّذِي لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً فَأَصَابَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَحَدُ حُدُودِ الَّذِي أَصَابَهُ كَذَا وَالرَّابِعُ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُخَالِفُهُمَا فِي تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَبْلَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ كَانَ حَقُّهُ شَائِعًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ الْآنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَتِمُّ الْكِتَابُ وَتَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ. وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، فَالِانْتِفَاعُ بِالْحَائِطِ مِنْ حَيْثُ وَضَعُ الْخَشَبِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ خَشَبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هَدْمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْإِضْرَارِ بِشَرِيكِهِ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَشَبِ أَنْ لَوْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَائِطُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ وَضَعَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ غَاصِبٌ، وَإِنْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ فَالشَّرِيكُ مُعِيرٌ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَائِطِ مِنْهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 191 وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ خَشَبَةً وَاحِدَةً عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ بِفَتْحِ كُوَّةٍ أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَى، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَمْ تَكُنْ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ ضَرَرًا مِنْ حَيْثُ تَوْهِينُ الْبِنَاءِ أَوْ زِيَادَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وِلَايَةُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ. وَإِذَا انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِيهِ كَمَا كَانَ وَنَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَنَا كَمَا كَانَتْ وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الْبِنَاءِ إلَى الْإِنْفَاقِ بِمَالِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَمَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ «شَرُّ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ فِي الْبُنْيَانِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا يُتْلِفُ الْمَالَ الْحَرَامُ الرِّبَا وَالْبِنَاءُ» فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْآخَرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا عَلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُنْفِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: أَنَا أَبْنِيهِ بِنَفَقَتِي، وَأَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعِي كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ مَالَهُ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَإِذَا مَنَعَهُ شَرِيكُهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَأَرَادَ الْآخَرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ، كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الثَّانِي، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَإِذَا رَدَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ إذَا انْهَدَمَا فَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ وَيَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتَهُ ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى إشَارَةً هُنَا إلَى أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فِي وَضْعِ الْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ عُلْوِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَبْنِ السُّفْلَ، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى نِصْفَيْنِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ الْآخَرِ قَالَ: يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا بَاعَ يَعْنِي بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا بَاعَ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّمَا أَخَذَ نِصْفَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفَهُ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ، فَكَأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 192 فَحِينَ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَيَرُدُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاعَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا النِّصْفُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْآخَرِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَيْتٍ وَاحِدٍ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا فِي الدَّارِ شَرِيكًا فِي الْبِنَاءِ وَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَخُصُّ الْبَيْتَ الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ فَلَوْ بَقِيَتْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَفَرَّقُ نَصِيبُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْقِسْمَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلِهَذَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُقَدَّمِهَا بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ وَأَخَذَ الْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا بِنَصِيبِهِ، وَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الثُّلُثِ قَالَ: يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَتَبَ إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَوْ لَمْ يَبِعْ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ لَكَانَتْ الْقِسْمَةُ تَبْقَى وَيَتَخَيَّرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْقِسْمَةَ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ نَقْضُ الْقِسْمَةِ لِإِخْرَاجِهِ نَصِيبَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ بِمَا يَخُصُّ بِهِ الْمُسْتَحِقَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ بِظُهُورِ شَرِيكٍ ثَالِثٍ لَهُمَا فِي الدَّارِ، وَلَكِنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ كَانَ صَحِيحًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 193 نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ. وَلَوْ كَانَ عِشْرُونَ جَرِيبَ أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْآخَرُ خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ تُسَاوِي أَلْفَ حِصَّتِهِ فَبَاعَ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ قَالَ: يَرُدُّ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ رُبُعَ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَكَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا فِيهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ كَانَ نِصْفُهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ، وَأَخَذَ نِصْفَهُ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْأَجْرِبَةِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْخَمْسَةَ شَائِعًا فِيمَا كَانَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَفِيمَا أَخَذَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَبْعَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَبَاعَ مَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ خَمْسَمِائَةٍ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ وَلِلْآخَرِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَ الْأَلْفِ اسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَلِأَنَّ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ، فَإِنَّمَا سَلَّمَ ثُلُثَهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَثُلُثَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَرَجَعَ بِمَا هُوَ عِوَضُ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ إذَا كَتَبَ الْكَاتِبُ بَيْنَهُمَا كِتَابَ الْقِسْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إنْ وَقَعَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ بِتَرَاضِيهِمَا بَيَّنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقِسْمَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِ قَضَاءٍ حَتَّى إنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ، وَالْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي لَا تُرَدُّ لِمَكَانِ الْعَيْبِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ صِفَةَ الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 194 فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اقْسِمْ مَا عِنْدَكَ فَأَعْطِنِي حِصَّتِي فَأَعْطَاهُ حِصَّتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ تَمَّتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَتَمَامُهَا بِدَفْعِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ وَإِمْسَاكِهِ حِصَّةَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ ابْتِدَاءً بِحُكْمِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ قَالَ خُذْ حِصَّتَك وَدَعْ مَا بَقِيَ حَتَّى أَقْبِضَهَا فَأَخَذَ حِصَّتَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا بَقِيَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ فَإِنَّ تَمَامَهَا بِالْحِيَازَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَانَ شَرْطُ سَلَامَةِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا بَقِيَ لِلْآخَرِ، فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ، فَكَانَ مَا هَلَكَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ لِقَوْمٍ وَأَحَدُهُمْ شَاهِدٌ، وَالْآخَرُونَ غُيَّبٌ، فَأَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يُسْكِنَهَا إنْسَانًا أَوْ يُؤَاجِرَهَا إيَّاهُ فَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُعِيرًا أَوْ مُؤَجِّرًا نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي عَيْنِ مِلْكِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَنْفَعَةِ مِلْكِهِمْ أَيْضًا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَصْمٌ يُخَاصِمُهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَكِنَّهُ إذَا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ أَفْتَاهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُفْتِيهِ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يُمْنَعُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا. (أَلَا تَرَى) لَوْ كَانُوا حَضَرُوا مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا غُيَّبًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُمْ بِغَيْبَتِهِمْ، فَكَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا جَمِيعَ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ فِي سُكْنَاهُ إلَّا إثْبَاتُ الْيَدِ إلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَا يَضْمَنُ الْعَقَارَ بِالْيَدِ لَا يَضْمَنُهُ بِالسُّكْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي سُكْنَاهُ مَنْفَعَةً لِشُرَكَائِهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ فَإِنَّهَا تَخْرَبُ، وَإِذَا سَكَنَهَا إنْسَانٌ كَانَتْ عَامِرَةً فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةٌ لِشُرَكَائِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ بِالْإِسْكَانِ يُثْبِتُ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى الدَّارِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ شُرَكَاؤُهُ فَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُونَ إذَا حَضَرُوا مِنْ إرْجَاعِهِ وَاسْتِرْدَادِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَإِنْ أَجَرَهَا الْحَاضِرُ، وَأَخَذَ الْآخَرُ حِصَّةَ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ تَطِيبُ لَهُ، وَحِصَّةُ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ لَا تَطِيبُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ يُؤَاجِرُ فِي حِصَّتِهِمْ فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَيُعْطِي ذَلِكَ شُرَكَاءَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْخُبْثِ كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِمْ فَيَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 195 ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا كَتَبَ إنَّك أَطْعَمْتنِي أَرْضَ كَذَا لِأَزْرَعَ فِيهَا مَا بَدَا لِي مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَتَبَ عَارِيَّةً فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ أَطْعَمْتَنِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعَارَةِ يُجْعَلُ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْعَارِيَّةُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُوضَعْ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ إعَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَوْ كَتَبَ أَعَرْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى، وَإِذَا كَتَبَ أَطْعَمْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ التَّمَكُّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا يُطْعَمُ عَيْنُهَا، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَكُونُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالزِّرَاعَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلسُّكْنَى فَلَفْظُ الْإِعَارَةِ أَقْرَبُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَفْظُ الطُّعْمَةِ أَقْرَبُ إلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ: وَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّهَا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَجَوَابُهُ يَعْتَمِدُ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَبِالْإِعَارَةِ لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْتَعِيرُ بِتَسْلِيطِ الْمُعِيرِ فَهُوَ كَانْتِفَاعِ الْمُعِيرِ بِهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَدَاءَ الْخَرَاجِ؛ فَبِهَذَا الشَّرْطِ يُخْرِجُهُ مِنْ الطُّعْمَةِ، وَتَكُونُ إجَارَةً فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ خَرَاجَهَا، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِهِ إجَارَةً، وَفَسَادُهَا لِجَهَالَةِ الْخَرَاجِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ خَرَاجُ الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي جُمْلَةً ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَى الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي فَعِنْدَ قِلَّةِ الْحَمَاحِمِ تَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرْضِ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْحَمَاحِمِ تُنْتَقَصُ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ يَكُونُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ، وَقِيلَ: بَلْ الْمُرَادُ الْجَهَالَةُ فِي رَوَادِفِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُلَاةَ الْجَوْرِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ يَزْدَادُ، وَيُنْتَقَصُ وَلِإِفْسَادِ هَذَا الْعَقْدِ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ، وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْوَارِثِ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِعَارَةَ وَلِأَنَّ لِلْخَرَاجِ تَعَلُّقًا بِالْغَلَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إنْ مَنَعَ الْخَرَاجَ لَمْ تَطِبْ لَهُ الْغَلَّةُ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَلَّةِ لِيُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْغَلَّةِ فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْخَرَاجِ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ زَرَعُوا الْأَرْضَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 196 وَاصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْخَرَاجُ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ زِرَاعَتِهَا أَوْلَى لَا يَلْزَمُهُ الْخَرَاجُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّهَا، وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ تُرِكَ الزَّرْعُ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ قَالَ: وَجَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ آخَرَ مَا تَرَكَ فِيهِ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثُمَّ يَبْقَى الزَّرْعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِصَاحِبِهَا أَجْرُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ التَّرْكِ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِصَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ إبْقَاؤُهُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ الْمُفْسِدِ، وَهُوَ الْمَوْتُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ ابْتِدَائِهِ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ أَوْ رَطْبَةٌ لَمْ يُتْرَكْ وَقُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ، وَتَطُولُ مُدَّتُهَا فَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إضْرَارٌ بِوَارِثِ الْمُؤَجِّرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَهِيَ مُدَّةٌ لَا تَطُولُ عَادَةً. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ثُمَّ جَعَلَ عَلَيْهَا سَرْجًا وَأَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَجْرِ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ مَا زَادَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رِبْحٌ إلَّا عَلَى ضَمَانِهِ، وَقَبْلَ الزِّيَادَةِ إنَّمَا كَانَ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ كَانَ الْفَضْلُ طَيِّبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَ نِصْفَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا وَمُرَادُهُ: أَجَّرَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْهُ أَوْ نِصْفًا شَائِعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ إجَارَةِ الْمُشَاعِ، وَإِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّانِقُ حِصَّةَ النِّصْفِ الْآخَرِ لِيَكُونَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا حِصَّةَ الَّذِي أَجَرَهُ وَلَا يُقَالُ: قَدْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ الْبَيْتِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ تَنْصِيصِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَجَرَ فِيهِ النِّصْفَ فَقَطْ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْخُبْثَ الَّذِي يُمْكِنُ فِي إجَارَةِ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ يَسِيرٌ فَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ زَادَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا قَلِيلًا ثُمَّ أَجَرَهُ بِأَضْعَافٍ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَرَ بَعْضَهُ بِمَا دُونَ الْأَجْرِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانُ يَسِيرٌ قُلْنَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَهُ بِالدَّنَانِيرِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 197 بِالْفَضْلِ وَأَشَارَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخُبْثِ ضَعِيفٌ هُنَا وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ جِنْسَانِ فَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يَنْعَدِمُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الصُّورَةِ جِنْسَانِ، وَفِي الْحُكْمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَ يُجْعَلَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ يَحْصُلُ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَإِنْ أَجَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ عَوْدِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ دَنَّ خَلٍّ فَعَثَرَ الْحَمَّالُ فَانْكَسَرَ الْحَمْلُ قَدْ بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْحَمَّالَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْكِسَارِ يَكُونُ بِجِنَايَةِ يَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَاحِبُ الدَّنِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَلَوْ تَعَمَّدَ كَسْرَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كُسِرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَكَذَا؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَهُ أَمِينٌ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عِنْدَ الْكَسْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الدَّنِّ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ لَمْ يُضَمِّنْهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ أَيْضًا، وَلَكِنْ تُفَرَّقُ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ حِينَ كَسَرَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطَ عَقْدِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ فَيُسْقِطُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ، وَذَلِكَ مُتَلَاشٍ غَيْرُ قَائِمٍ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ قَائِمٌ حُكْمًا بِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَإِنَّ الْحَمَّالَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ عِنْدَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ فَسْخُهُ عَلَى بَدَلِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ عَلَى الْقِيمَةِ فِي الْمَنْقُولِ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ انْكَسَرَ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ بِأَنْ أَصَابَهُ حَجَرٌ مِنْ مَكَان أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ أَوْ كَسَرَهُ رَجُلٌ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 198 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الدَّنِّ عَبَرَ فَانْكَسَرَ، وَقَالَ الْحَمَّالُ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَانْكَسَرَ أَوْ قَالَ كَانَ مُنْكَسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ وَلَهُ الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ يَدَّعِي عَلَيْهِ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّنِّ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُقَرِّرُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُخْلِفْ بَدَلًا فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلْحَمَّالِ الْأَجْرُ حَيْثُ انْكَسَرَ. وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ يَصْبُغُهُ فَصَبَغَهُ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ: أَمَرْتنِي أَنْ أَصْبُغَهُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِيهِ خِلَافُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِجَارَاتِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ قُوِّمَ الثَّوْبُ أَبْيَضَ وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِذَلِكَ الصِّبْغِ فَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ وَافَقَ فِي أَصْلِ الصِّبْغِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ وَلِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنٌ اتَّصَلَ بِهِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَصَبَغَهُ وَاخْتَارَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخْذَ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ. وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ دَابَّةً مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْكُوفَةَ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَوَانِبُ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إذَا شَرَطَ إبْقَاءَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ يَبْلُغُ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْعَادَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الرَّيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ، وَالْكِرَاءُ إلَى الرَّيِّ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ إلَى مَدِينَتِهَا دُونَ نَوَاحِيهَا، وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إلَى مَدِينَتِهَا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الرَّيَّ اسْمٌ لِوِلَايَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَدَائِنَ وَنَوَاحِيَ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَدِينَتِهَا فِي الْعُرْفِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ سَمَّى مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِهَا كَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ خُرَاسَانُ وَالشَّامُ وَالْعِرَاقُ إنْ سَمَّى مِنْهَا مَكَانًا مَعْلُومًا جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَنَظِيرُ هَذَا فِي دِيَارِنَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى كَاشْغَرَ جَازَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ خَاصَّةً، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ كَاشْغَرَ إلَى فَرْغَانَةَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 199 مُشْتَمِلٌ عَلَى بِلَادٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَتُمْكِنُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى أُوزْجَنْدَ جَازَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ أُوزْجَنْدَ إلَى سَمَرْقَنْدَ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ أَوْ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى بُخَارَى فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ بُخَارَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ بُخَارَى مِنْ كَرْمِينِيَةَ إلَى قَرِيرٍ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوَاضِعَ مُتَبَايِنَةٍ بِمَنْزِلَةِ الرَّيِّ فَتَمَكَّنَ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمَا إلَى الْمَدَائِنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَكْرَى أَحَدَهُمَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّرْطِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً بِحِصَّةِ هَذِهِ الدَّابَّةِ فَلَا يَظْهَرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَكْرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَبِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِإِزَاءِ الدَّابَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبْحًا مَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْفَضْلِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَبْنِيَانِ لَهُ حَائِطًا، فَعَمِلَهُ أَحَدُهُمَا، وَمَرِضَ الْآخَرُ وَهُمَا شَرِيكَانِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لِلَّذِي لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا قَبِلَا الْعَقْدَ جَمِيعًا ثُمَّ الَّذِي أَقَامَ الْعَمَلَ فِي نَصِيبِهِ مُسْلِمٌ لِمَا الْتَزَمَهُ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ نَائِبٌ عَنْهُ فَقَامَ مَقَامَهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ هَذَا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ عَلَى دَوَابِّهِ هَذِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّوَابِّ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَفِي حَقِّ غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ يُجْعَلُ الْعَقْدُ كَأَنْ لَيْسَ فَكَأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِحَمْلِ طَعَامِهِ عَلَى دَوَابِّهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَبِلَ عَمَلَ الْحَمْلِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ أَوْفَى مَا قَبِلَهُ سَوَاءٌ حَمَلَ الطَّعَامَ عَلَى تِلْكَ الدَّوَابِّ أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بَعْدَ إعْلَامِ مِقْدَارِ الطَّعَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الدَّوَابَّ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ فِي عَيْنِ تِلْكَ الدَّوَابِّ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَمْلُ الطَّعَامِ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَعْيِينِ الدَّوَابِّ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى دَوَابِّهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَلَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 200 الطَّعَامِ، وَقَدْ أَوْفَاهُ كَمَا الْتَزَمَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ؛ لِأَنَّهُ مَا فَارَقَ الطَّعَامَ حِينَ ذَهَبَ مَعَهُ، وَلَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ لَهُ طَرِيقًا فَحَمَلَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الطَّعَامِ قَدْ حَصَلَ حِينَ أَوْصَلَ الطَّعَامَ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فِي أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ حَمَلَهُ، وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ ضَمِنَهُ إنْ غَرِقَ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلتَّلَفِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ رَاكِبِ الْبَحْرِ أَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ مَعَ مَا مَعَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَرِيقَانِ فِي الْبَرِّ أَحَدُهُمَا: آمِنٌ وَالْآخَرُ مَخُوفٌ فَحَمَلَهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ، فَإِنْ تَلِفَ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ سَلِمَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا، فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَحْرِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحْمِلَانِ لَهُ طَعَامًا مِنْ الْفُرَاتِ إلَى أَهْلِهِ فَحَمَلَهُ كُلَّهُ أَحَدُهُمَا، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَقَدْ بَاشَرَاهُ أَوْ بَاشَرَهُ أَحَدُهُمَا بِوَكَالَةٍ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ ثُمَّ هُوَ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ فَلِلْعَامِلِ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي نِصْفِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبِلَ حَمْلَ نِصْفِ الطَّعَامِ بِنِصْفِ الْأَجْرِ، وَقَدْ حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَمْلِ ضَامِنًا لِنِصْفِ الْأَجْرِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ لَوْ حَمَلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ نَائِبٍ عَنْ الْآخَرِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ شَرِكَةٍ فَلَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَجِيءَ بِأَهْلِهِ كُلِّهِمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ، فَذَهَبَ وَجَاءَ بِهِمْ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ، فَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ، وَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى نَحْوِ مَا الْتَزَمَهُ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الذَّهَابِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى، فَإِنَّهُ يَتَوَزَّعُ عَلَى حِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ، وَمَنْ مَاتُوا فَيَلْزَمُهُ بِحِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بَعْضَ هَذَا الْعَمَلِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ كُلَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ كَمَا الْتَزَمَهُ، وَفِي الرُّجُوعِ هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِالْعَوْدِ إلَى وَطَنِهِ لَيْسَ بِعَامِلٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ حِينَ لَمْ يَأْتِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ خَاصَّةً؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَذْهَبُ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي رُجُوعِهِ وَحْدَهُ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 201 فَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ بِكِتَابٍ لَهُ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ، فَذَهَبَ بِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَهَابِهِ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِالْكِتَابِ إلَى فُلَانٍ وَيَأْتِيَهُ بِالْجَوَابِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ، وَلَمْ يَأْتِهِ بِالْجَوَابِ فَهُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ فِي الرُّجُوعِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّةَ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ، وَإِنْ رَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ حِينَ رَدَّ كِتَابَهُ إلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْكِتَابِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي أَجْرِ الذَّهَابِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِعَوْدِهِ رَدَّ الْكِتَابَ أَوْ لَمْ يَرُدَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمُجَرَّدِ الذَّهَابِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي أَهْلِهِ، وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ الْكِتَابَ مَعَهُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَرَجَعَ بِالطَّعَامِ إلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ الْأَجْرُ، وَهُوَ غَاصِبٌ فِي رَدِّ الطَّعَامِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ضَامِنٌ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ، وَمَا كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ وَانْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ ثُمَّ هُوَ فِي الرُّجُوعِ بِالطَّعَامِ غَاصِبٌ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ إنْ هَلَكَ وَبِغَصْبِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ حَمْلِ الطَّعَامِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ فَسَخَ ذَلِكَ حِينَ رَجَعَ بِالطَّعَامِ، وَفَوَّتَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ اسْتَوْدَعَ الطَّعَامَ رَجُلًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَهَلَكَ الطَّعَامُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الدَّفْعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى فُلَانٍ وَالْمُودِعُ إذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ رَجُلًا آخَرَ كَانَ ضَامِنًا إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي، وَإِذَا صَارَ ضَامِنًا كَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ سَوَاءٌ وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الدَّنِّ إذَا تَعَمَّدَ كَسْرَهُ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ هُنَا فِي أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ وَالطَّعَامَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ، وَلَهُ الْأَجْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا مِنْ الطَّعَامِ كَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 202 غَيْرَ أَنَّهُ إنْ انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَوَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ مَاتَ فَرَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَ بِبَيْعِهِ أَوْ يَدْفَعُهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ سَوَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَهُ الْأَجْرُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ: وَلِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ فَيُوَلِّيهِ الْقَاضِي مَا تَوَلَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُصِبَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا، وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ الطَّعَامُ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ لَهُ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: مَنْ جَاءَنِي بِمَتَاعِي مِنْ مَكَانِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَذَهَبَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ ثُمَّ جَاءَ فَلَا أَجْرَ لَهُ أَمَّا إذَا ذَهَبَ فَجَاءَ بِالْمَتَاعِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْمُسَمَّى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النَّسْخِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا اسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ، وَاسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَمَلَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ مَا سَمِعَ كَلَامَهُ، فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ عَلَى جِهَةِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ رَضِيَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جِهَةَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ فَرَجَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَ بِهِ إنْسَانًا بِعَيْنِهِ فَهُنَاكَ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا حِينَ خَاطَبَهُ بِعَيْنِهِ فَكَانَ هُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلًا لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ، وَهُنَا الْعَقْدُ مَا انْعَقَدَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ الذَّاهِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَجِيئِهِ بِالْمَتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ بِالْمَتَاعِ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ ثَوْبًا رَبْطِيًّا فَحَمَلَ عَلَيْهَا هَرَوِيًّا فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَمْ يَضْمَنْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبْطِيِّ وَالْهَرَوِيِّ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْقِيمَةِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ كَمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَثْوَابَ الرَّبْطِيَّةَ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا مِنْ الثِّيَابِ الرَّبْطِيَّةِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَكَذَلِكَ هُنَا. وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَابَّةً، وَنَقَدَهُ الْكِرَاءَ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْكِرَاءِ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَرْكَبْ الرَّجُلُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ لِلْمُسْتَكْرِي عَنْ الْمُكَارِي مَا وَجَبَ رَدُّهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ وَحِينَ أَفْلَسَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْتَكْرِي الدَّابَّةَ لِيَرْكَبَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُكَارِي رَدُّ جَمِيعِ الْكِرَاءِ، وَقَدْ كَفَلَ الْكَفِيلُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 203 بِذَلِكَ فَكَانَ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ، فَإِنْ رَضِيَ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَكَارَا إلَيْهِ فَحَمَلَهُ وَأَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْكِرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُكَارِي إلَّا بِالْكِرَاءِ الَّذِي قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَكْرِي؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ عَنْهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا نَقَدَ عَنْهُ الْكِرَاءَ، وَإِنَّمَا أَوْفَى عَنْهُ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْحَمْلِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُكَارِي مَا أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ فِي إيفَاءِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ كَفِيلٍ بِغَيْرِ الْأَمْرِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بِمَا أَوْفَى مِنْ الْحَمْلِ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ كَمَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْمَقْبُوضِ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ، وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِيُسْقِطَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ الْكِرَاءَ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِهِ مُطَالَبَةَ الْمُسْتَكْرِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَارِي، وَلَمْ يَحْمِلْهُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمُكَارِي قَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْكِرَاءِ فَإِنَّهُ كَفَلَ الْكَفِيلَ بِذَلِكَ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً يُؤَدِّبُ ابْنَهُ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُؤَدِّبِ إقَامَتُهُ عُرْفًا وَلَا دِينًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ بِخِلَافِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ دِينًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى خِلَافَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَأْمُورٌ بِهِ دِينًا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُجَصِّصَ لَهُ حَائِطًا أَوْ لِيُطَيِّنَ لَهُ سَطْحًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ طِينًا وَلَا جِصًّا مَعْلُومًا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ ذَلِكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَإِنَّ عَمَلَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ فَكَانَ الْعَمَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إنْ عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقُولُ: أَنَا مَا رَضِيتُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ غِلْظَةً مِنْ الْجِصِّ أَوْ الطِّينِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْغِلْظَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَنْقُدُ لَهُ الدَّرَاهِمَ كُلَّ أَلْفٍ بِكَذَا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ بِكَذَا يَنْقُدُ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَقَدَ عَلَى مَنَافِعَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ لِيُقِيمَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ عَمَلًا مَقْصُودًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 204 فِي النَّاسِ. وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا غُيَّبًا وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةَ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الرَّقِيقَ وَالْمَتَاعَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْحِفْظِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْحِفْظِ فَإِنَّ حِفْظَ الثَّمَنِ رُبَّمَا يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلْغَائِبِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ نَهَوْهُ عَنْ الْبَيْعِ فَبَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَصًّا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ نَظَرًا لِلَّذِي أَقَامَهُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فَنَهْيُ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ. وَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا، وَلِلْمَيِّتِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ بِصَكٍّ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْوَصِيِّ: حُطَّ عَنِّي النِّصْفَ لِأُعْطِيَك النِّصْفَ وَادْفَعْ إلَيَّ الصَّكَّ، وَكَانَ فِيهِ شُهُودٌ لَا يَشْهَدُونَ إلَّا أَنْ يَرَوْا الصَّكَّ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَطَّ لِلْيَتِيمِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ يَعْنِي فِي رَدِّ الصَّكِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَطَّ الدَّيْنِ عَنْهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ وَاجِبًا بِعَقْدِهِ فَلَا يَتْوَى بِهِ حَقُّ الْيَتِيمِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الشُّهُودُ لَا يَشْهَدُونَ مَا لَمْ يَرَوْا الصَّكَّ فَفِي دَفْعِ الصَّكِّ إلَيْهِ إتْوَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ يَشْهَدُونَ بِغَيْرِ صَكٍّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إتْوَاءُ مَالِهِ بَلْ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَوْفِي نِصْفَ حَقِّهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا بَقِيَ فَيَسْتَوْفِيهِ، وَحَطُّهُ بَاطِلٌ إذَا أَثْبَتَ الْمَدْيُونُ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ. وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ دَعْوَى فَرَأَى الْوَصِيُّ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ إنْ لَمْ يُصَالِحْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا اسْتَوْجَبَ الْمُدَّعِي شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ»، وَمَا يَخَافُهُ الْوَصِيُّ مَوْهُومٌ فَلَيْسَ كُلُّ مُدَّعٍ يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ شَاهِدٍ يَرْغَبُ فِي حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَ الْأَدَاءِ رُبَّمَا تَظْهَرُ عَدَالَتُهُ، وَرُبَّمَا لَا تَظْهَرُ، وَلَوْ أَدَّى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْهُومِ كَانَ مُخْرِجًا مَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ بِمُقَابَلَتِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ تَحْصُلُ لَهُ حَقِيقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ جَاءَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ عُدُولٍ يَعْرِفُهُمْ الْوَصِيُّ، وَكَانَ الصُّلْحُ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ فِي رَأْيِ الْوَصِيِّ وَسِعَهُ أَنْ يُصَالِحَهُ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ حَقَّ الْمُدَّعِي قَدْ ثَبَتَ ظُهُورُهُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَفِي هَذَا تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ أَوْ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ الْوَصِيُّ لِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: هَذَا إذَا عَلِمَ الْوَصِيُّ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى الصُّلْحِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ رَغِبَ فِيهِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يَرْغَبُ فِي الصُّلْحِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَالِحَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 205 الْبَيِّنَةِ إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ شُهُودًا يَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهَذَا التَّأْخِيرِ يَنْعَدِمُ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتٍ يَفُوتُهُ. وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ دَخَلَ فِيهِ رَقِيقُهُ وَدُورُهُ وَكُلُّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ هُوَ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُهُ فَالْمَالُ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَمَالَهُ» الْحَدِيثَ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ تَبْقَى مَا بَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَأَمَّا بَعْدَ أَخْذِ الْمَوْلَى الْمَالَ مِنْهُ لَا يَبْقَى مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَلَا يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ فِيمَا سَمَّى مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ قَدْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِتَصَرُّفِهِ صَارَ قَابِضًا الْأَمَةَ مِنْهُ فَالْتَحَقَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا قَبَضَهُ مِنْهُ. (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِتَصَرُّفِهِ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْمَوْلَى هُنَا قَابِضًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ قَابِضًا هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْبَائِعِ فِيهَا يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ، وَالْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ، وَإِنْ تَعَيَّبَتْ بِالنِّكَاحِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الْعَيْبُ فِي عَيْنِهَا لَمْ يُجْعَلْ قَابِضًا بِهِ، وَهُنَا مَا كَانَ لِلْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ وَلَا كَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ قَبْضِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا فَجَعَلْنَاهُ قَابِضًا لَهَا بِالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ بِالتَّزْوِيجِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهَا إلَى الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِيَدِهِ فِيهَا، وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُفَاوِضُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلَ مِنْ نَفَقَةِ صَاحِبِهِ، وَكَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَ لِصَاحِبِهِ دَيْنٌ عَلَى الَّذِي أَنْفَقَ لَمْ تَفْسُدْ الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ مَتَى فَضَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ تَفْسُدُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ فَضَلَ بِمَالٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ لَا تَصْلُحُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ لِأَحَدِهِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ صَارَ نَقْدًا صَالِحًا أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَارًا أَوْ رَقِيقًا فِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ حَتَّى يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَصِيرَ مَالًا يَعْنِي حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ نَقْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ مَا وَرِثَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَلَكِنَّ الدَّارَ وَالرَّقِيقَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ حَتَّى يَصِيرَ ثَمَنُهُ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ. وَإِذَا خَلَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَقَبْلَ خُلْعِهَا ضَمِنَ أَبُوهَا بِالْمَهْرِ وَضَمِنَ لِلزَّوْجِ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ، وَتُؤَاخِذُ الِابْنَةُ الزَّوْجَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 206 فَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْخُلْعِ يُفِيدُ وُجُودَ الْقَبُولِ مِنْ الضَّامِنِ لِلدَّرَكِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيُقَرَّرُ نِصْفُ مَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فَتَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ الدَّرَكِ فِي حَقِّهَا، وَإِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ صَحِيحٌ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْخُلْعُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَالِهَا بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنَّمَا يَجْعَلُهَا عَلَى مَالٍ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ خَلَعَهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَهْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا بِالْمَهْرِ فَفِيمَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الزَّوْجِ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي رَجَعَتْ الِابْنَةُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ فَيُطَالِبَهُ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْخُلْعِ مَعَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَمْ تَقَعْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ الزَّوْجُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ بَارَأْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَالْمُبَارَأَةَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَلَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بَارَأْتُكِ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى حُكْمِهِ ثُمَّ حَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ الْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ، وَهُوَ مَا يَحْكُمُ بِهِ فَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَالْخُلْعُ عَلَى بَدَلٍ مَجْهُولٍ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْهُ، فَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْوِلَايَةُ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا أَقَلَّ مَهْرٍ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ عَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْخُلْعِ مَالًا مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، وَلَكِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْغُرُورِ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ مَا لَمْ تُزَوِّجْ نَفْسَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ أَوْ لَا يَبْقَى إلَى أَوَانِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ فِي حَقٍّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَعَدَالَتِهِمْ وَبِتَوْكِيلِهِ وَكِيلًا بِالْقِيَامِ مَقَامَهُ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَلَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ مَا يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ هَذَا شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ وَكِيلًا، وَلَا رَسُولًا لَهُ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُدَّعِي، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَفِي الِاسْتِحْلَافِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 207 بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرٌ مِنْهُ لِلْغَائِبِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا النَّظَرِ لِغَيْبَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي أَيْضًا فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْخَصْمُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الْمَالَ وَيَطْلُبُ يَمِينَهُ، وَمِنْ رَأْيِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْغَيْبِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى وَكِيلِهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبُ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَافَ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّظَرِ فِيهِ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الطَّالِبَ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَاضِيًا لَا يُجِيزُ الْكِتَابَ إلَّا عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي إنْ كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي اسْتِحْلَافِ الطَّالِبِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَقَالَ الطَّالِبُ: اسْتَحْلِفْنِي وَاكْتُبْ لِي بِيَمِينِي اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَإِنَّ الْمَالَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَرَى ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ وَكِيلًا وَلَا يَحْضُرَ مَجْلِسَ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَسْتَحْلِفَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إلَّا بِهَذَا، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ وَحَالَهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ فَرُبَّمَا يَكُونُ شَاهِدُهُ الْآخَرُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ حَتَّى إذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ وَجَاءَ بِشَاهِدِهِ الْآخَرِ فَشَهِدَ لَهُ قَضَى بِحَقِّهِ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ. وَإِذَا أَسْلَمَتْ مُدَبَّرَةُ الذِّمِّيِّ فَاسْتَسْعَتْ فِي قِيمَتِهَا فَعَجَزَتْ عَنْ السِّعَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَوَّمَهَا، وَاسْتَسْعَاهَا لَمْ يَرُدَّهَا وَأَجْبَرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَضَاءِ قَائِمٌ، وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ الْمَوْلَى فَلَا يُعْتَبَرُ عَجْزُهَا بِمَنْزِلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا اسْتَسْعَاهُ الْقَاضِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي صَالَحَهَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَيُبْطِلَ الْقَاضِي الْفَضْلَ وَيُجْبِرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَ مِثْلَهُ فِي الْحَالِ، وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِ هَذَا الصُّلْحِ فَائِدَةٌ لَهَا فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي نَقْضِهِ فَائِدَةٌ لَهَا، وَهُوَ سُقُوطُ الزِّيَادَةِ عَنْهَا وَعَجْزُهَا يُسْقِطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْ لِمَوْلَاهَا بِاخْتِيَارِهَا لِعَجْزِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ فَلِهَذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 208 يَبْطُلُ هَذَا الصُّلْحُ عِنْدَ عَجْزِهَا، وَيَجْبُرُهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ لِإِسْلَامِهَا مَعَ إصْرَارِ مَوْلَاهَا عَلَى الْكُفْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْحِيَلِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمْ لَا كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: مَنْ قَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْحِيَلَ فَلَا تُصَدِّقْهُ، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّمَا جَمَعَهُ وَرَّاقُو بَغْدَادَ. وَقَالَ: إنَّ الْجُهَّالَ يَنْسُبُونَ عُلَمَاءَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِيرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْ تَصَانِيفِهِ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْجُهَّالِ عَلَى مَا يَتَقَوَّلُونَ وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ الْكِتَابِ - قَوْله تَعَالَى - {: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً، فَإِنَّهُ حِينَ قَالَتْ: لَهُ لَوْ ذَبَحْتَ عَنَاقًا بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْرَدَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وَذَلِكَ مِنْهُ حِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً لِإِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ لِيُوقِفَ إخْوَتَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ. وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ سَلَامَتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اكْتِسَابُ حِيلَةٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ الْإِثْمِ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ «وَلَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلِّمْ أَخَاكَ ثُمَّ تَزَوَّجْهَا». وَهَذَا تَعْلِيمُ الْحِيلَةِ وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، مَنْ تَأَمَّلَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَجَدَ الْمُعَامَلَاتِ كُلَّهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 209 بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ امْرَأَةً إذَا سَأَلَ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ تَزَوَّجْهَا، وَإِذَا هَوِيَ جَارِيَةً فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ: اشْتَرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ صُحْبَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا. وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا إذَا نَدِمَ وَسَأَلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ رَاجِعْهَا؟ وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا إذَا تَابَتْ مِنْ سُوءِ خُلُقِهَا وَطَلَبَا حِيلَةَ قِيلَ لَهُمَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَيَدْخُلَ بِهَا فَمَنْ كَرِهَ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكْرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا أَوَّلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلسَّائِلِ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى» فَأَهْلُ الْحَدِيثِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُمْ يَرْوُونَ «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُك أَمَا تَدْرِي قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] قَالَ: كُنْت فِي الصَّلَاةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلَا أُنَبِّئُك بِسُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِهَا ثُمَّ شَغَلَهُ وَفْدٌ عَنِّي فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَخْرُجَ جَعَلْت أَمْشِي مَعَهُ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت: السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَاذَا تَقْرَأُ فِي صَلَاتِك قُلْت: أُمَّ الْقُرْآنِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَعَمْ إنَّهَا هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيت لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا». وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَهُ بَعْدَ إخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ فَإِنَّ الْوَعْدَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 210 كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحِنْثِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا دَاخِلًا بِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: مَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَأَخْرَجَتْ إحْدَى رِجْلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْتِقَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْقَدَمَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَفْضِيلِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ عَلَى غَيْرِهَا هُوَ الثَّوَابُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مُحْدَثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيِ فِي هَذَا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقَارِئَ يَنَالُ الثَّوَابَ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَا لَا يَنَالُهُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى بَيَانُهُ أَنَّهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِقِرَاءَةِ تَبَّتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْإِقْرَارُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ سُورَةِ تَبَّتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعَانِي الْأُخْرَى، وَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ» تَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا: اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِلْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرْضًا. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ مَا يُغْنِي الْمُسْلِمَ عَنْ الْكَذِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» تَأْوِيلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ مَعَارِيضِ الرِّجَالِ الْكَلَامَ فَإِنَّ صَرِيحَ الْكَذِبِ لَا يَحِلُّ هُنَا كَمَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ. وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَبَ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ إنْ صَحَّ، فَتَأْوِيلُ هَذَا: أَنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا عَرَّضَ فِيهِ مَا خَفِيَ عَنْ السَّامِعِ مُرَادُهُ، وَأَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ خِلَافَ مَا أَظْهَرَهُ فَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَحْضُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَانُوا مَعْصُومِينَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرَائِعَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ. وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ، وَقَالَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 211 ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمْرُ النَّعَمِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ يَتَخَلَّصُ الْمَرْءُ مِنْ الْإِثْمِ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْمَعَارِيضِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] الْآيَةَ فَقَدْ جَوَّزَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَعَارِيضَ، وَنَهَى عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235]. ثُمَّ بَيَانُ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَيِّدَ الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ بِلَعَلَّ وَعَسَى كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ»، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُ لِتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِلَعَلَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُضْمِرُ فِي لَفْظِهِ مَعْنًى سِوَى مَا يُظْهِرُهُ وَيَفْهَمُهُ السَّامِعُ مِنْ كَلَامِهِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِتِلْكَ الْعَجُوزِ: إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ فَجَعَلَتْ تَبْكِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ» أَخْبَرَهَا بِلَفْظٍ أَضْمَرَ فِيهِ سِوَى مَا فَهِمَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ خَطَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْت عُثْمَانَ وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ، وَمَا أَمَرْت وَلَا نَهَيْت فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا فَلَمَّا كَانَ فِي مَقَامٍ آخَرَ فَقَالَ مَنْ كَانَ سَائِلِي عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاَللَّهُ قَتَلَهُ، وَأَنَا مَعَهُ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ ذَاتُ وُجُوهٍ أَمَّا قَوْلُهُ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ صِدْقٌ حَقِيقَةً وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ أَيْ كَانَ قَتْلُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَالَ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فَمَا كَرِهْت لَهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ، وَمَا كَرِهْت قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاَللَّهُ قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ مَقْتُولٌ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ بِقَوْلِهِ «وَإِنَّ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ بِدَمِك هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى عُنُقِهِ وَلِحْيَتِهِ». وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اُبْتُلِيَ بِصُحْبَةِ قَوْمٍ عَلَى هِمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَقَدْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، وَمِنْهُ مَا يُرْوَى عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَاذَا فَنِيَتْ بِهِ الشِّيعَةُ مُنْذُ الْيَوْمِ أَرَأَيْت نَظَرَك إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفْعَك إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَوْلَك صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته فَقَالَ عَلِيٌّ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ فَقُلْت لَا فَقَالَ وَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ فَقُلْت لَا فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقُلْت لَا فَقَالَ فَإِنِّي رَجُلٌ مُكَابِدٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 212 الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَضَعُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَهُ رِيبَةٌ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ جَعَلَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ: مَا كَذَبْت وَلَا كِدْت يُوهِمُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ بِحَالِهِمْ فَيُظْهِرُونَ لَهُ مَا فِي بَاطِنِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَغْسِلُ شَعْرِي حَتَّى أَفْتَحَ مِصْرَ وَأَتْرُكَ الْبَصْرَةَ كَجَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ وَأَعْرُكَ أُذُنَ عَمَّارٍ عَرْكَ الْأَدِيمِ، وَأَسُوقَ الْعَرَبَ بِعَصَايَ فَذَكَرُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ عَلِيًّا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ، وَهَا غُرَّةُ هَامَتِهِ عَلَى مِثْلِ الطَّشْتِ لَا شَعْرَ عَلَيْهَا، فَأَيُّ شَعْرٍ يَغْسِلُهُ بِهَذِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا لَهَا فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ عَلَى مَاذَا شَهِدْتُمْ قُلْنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنَّكَ جَعَلْتَ الْجَارِيَةَ لَهَا فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ إنَّمَا قُلْت لَكُمْ اشْهَدُوا أَنَّهَا لَهَا، وَأَنَا أَعْنِي الْمِرْوَحَةَ الَّتِي كُنْت أُشِيرُ إلَيْهَا وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي مَعَك حَقًّا قَالَ لَا فَقَالَ احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ: احْلِفْ وَاعْنِ مَسْجِدَ حَيِّك، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِيءٌ فَعَلَّمَهُ الْحِيلَةَ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ - تَعَالَى - أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ بَرِيئًا عَنْ الْحَقِّ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْحَقَّ وَلَا كَانَ يَحِلُّ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ هَذَا لِيَمْنَعَ بِهِ الْحَقَّ، وَمَا كَانَ يَنْفَعُهُ هَذِهِ النِّيَّةُ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنْ كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ لَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِنِيَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنْته فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ لِي؟ فَقَالَ: قُلْ وَاَللَّهِ لَا أُبْصِرُ إلَّا مَا بَصَّرَنِي بِهِ غَيْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي يَعْنِي إلَّا مَا بَصَّرَك رَبُّك فَيَقَعُ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ فِي بَصَرِهِ ضَعْفًا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُبُ مِنْهُ فَلَا يَسْتَوْجِسُ بِامْتِنَاعِهِ، وَهُوَ يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَلَا تَكُونُ يَمِينُهُ كَاذِبَةً. وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 213 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ مُوَابَأَةُ النَّاسِ فِيمَا لَا يَأْثَمُ بِهِ» وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ عَيُونًا فَرَأَى بَغْلَةً لِشُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ أَمَا إنَّهَا إذَا رَبَضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ، وَقَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا أَبْصَرَ الْبَغْلَةَ فَأَعْجَبَتْهُ رَبَضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا فَقَالَ شُرَيْحٌ مَا قَالَ فَلَمَّا قَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ قَامَتْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ السُّوءِ»، وَمِنْهُ يُقَالُ إنَّ الْعَيْنَ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ فَأَرَادَ شُرَيْحٌ أَنْ يَرُدَّ عَيْنَهُ بِأَنْ يُحَقِّرَهَا فِي عَيْنِهِ، وَقَالَ مَا قَالَ وَأَضْمَرَ فِيهِ مَعْنًى صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ وَذُكِرَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سِيدَةَ قَالَ جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ وَإِنَّ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضُ الْمُدَارَاةِ فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِيمَا يُخْبِرُهُ بِهِ وَيَحْلِفُ لَهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ يَعْنِي أَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَاةِ أَوْ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَا قَالَهَا، وَيَعْنِي مَا قَالَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ يَعْنِي الَّذِي فَإِنَّ مَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الَّذِي فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ وَبَيَانُهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لِي رَجُلٌ: إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت لَك مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ أَيْ أَضْمِرْ فِي قَلْبِك الَّذِي مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ الَّذِي قُلْت لَك مِنْ حَقِّك مِنْ شَيْءٍ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ غَرَّارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كُنَّا نَأْتِي إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ الْحَجَّاجِ فَكُنَّا إذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ يَقُولُ لَنَا: إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي وَحَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ مَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا وَلَا لَكُمْ عِلْمٌ بِمَكَانِي وَلَا فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا وَاعْنُوا أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا فِيهِ قَاعِدٌ أَوْ قَائِمٌ فَتَكُونُونَ قَدْ صَدَقْتُمْ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فِي الدِّيوَانِ فَقَالَ إنِّي اعْتَرَضْت عَلَى دَابَّةٍ، وَقَدْ نَفَقَتْ وَهُمْ يُرِيدُونَ يُحَلِّفُونَنِي أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَكَيْفَ أَحْلِفُ فَقَالَ ارْكَبْ دَابَّةً وَاعْتَرِضْ عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك رَاكِبًا ثُمَّ احْلِفْ لَهُمْ أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَيَفْهَمُونَ الْغَرَضَ وَأَنْتَ تَعْنِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك وَيُحْكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَكِبَ رَشَادًا وَأَرَادَ فَرَسَ الْبُخْتِ وَقَالَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 214 لِجَارِيَتِهِ قُولِي: إنَّ الشَّيْخَ قَدْ رَكِبَ وَرُبَّمَا يَقُولُ لَهَا: اضْرِبِي قَدَمَكِ عَلَى الْأَرْضِ وَقُولِي: لَيْسَ الشَّيْخُ هُنَا أَيْ تَحْتَ قَدَمِي. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَقَالَ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ» فَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَاذِبًا أَوْ صَادِقًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّخْصَةَ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَهُ بِالْيَمِينِ فَكَيْفَ يُرَخِّصُ فِيهِ مَعَ التَّأْكِيدِ بِالْيَمِينِ وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، فَهُوَ مُعَظِّمٌ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي حَلِفِهِ، وَيَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ حَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّهُ غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ بِتَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ. وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَيَقُولُ: الْمَظْلُومُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ شَرْعًا فِي وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لَهُ لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَالظَّالِمُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْكَفِّ عَنْ الظُّلْمِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُحِقًّا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ يَمْتَنِعُ الظَّالِمُ عَنْ الْيَمِينِ لِحَقِّهِ فَيَخْرُجُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ يَهْلَكُ إنْ حَلَفَ كَاذِبًا كَمَا أَهْلَكَ حَقَّهُ فَيَكُونُ إهْلَاكًا بِمُقَابَلَةِ إهْلَاكٍ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إذَا اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ الْمُسْتَحْلِفِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ، وَانْقِطَاعُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْحَالِفِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ عِلْمُهُ أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَلَا يَسْتَثْنِي فَالْإِثْمُ وَالْبِرُّ فِيهِمَا عَلَى عِلْمِهِ يَعْنِي إذَا حَلَفَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي يَمِينِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ يَمِينِ اللَّغْوِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَالِمًا حِينَ كَانَ لَا يَعْلَمُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَاعْتَبَرْنَا مَا عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ فِي يَمِينِهِ فَيَكُونُ آثِمًا وَيُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ مَا عِنْدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْإِجَارَةِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا سِنِينَ مَعْلُومَةً فَخَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَغْدِرَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 215 بِهِ رَبُّ الدَّارِ فَلْيُسَمِّ لِكُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ أَجْرًا أَوْ يَجْعَلْ لِلسَّنَةِ الْأَخِيرَةِ أَجْرًا كَثِيرًا وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَافَ أَنْ تُنْقَضَ الْإِجَارَةُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِأَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُذْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا السُّكْنَى فِي آخِرِ الْمُدَّةِ فَالْحِيلَةُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَجْرَ لِلسِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ شَيْئًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ قَبْلَ حُصُولِ مَقْصُودِهِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَيُمْنَعُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ الْفَسْخِ لِلْعُذْرِ كَيْ لَا يَفُوتَهُ مُعْظَمُ الْأَجْرِ بِالسُّكْنَى فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ فِي صَفْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْكُلَّ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَفَرَّقَ التَّسْمِيَةَ فَرُبَّمَا يَذْهَبُ بَعْضُ الْقُضَاةِ إلَى رَأْيِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُوَزِّعُ الْمُسَمَّى عَلَى جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْحِصَّةِ، فَلَا يُنْظَرُ إلَى تَفْرِيقِ التَّسْمِيَةِ مَعَ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الدَّارِ مِنْ مَرَمَّتِهَا، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ رَبُّ الدَّارِ إنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مِقْدَارِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَهُ فَيَضُمَّ ذَلِكَ إلَى أَجْرِ الدَّارِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَيُقِرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنِّي اسْتَسْلَفْت مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ أَجْرِ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ السِّنِينَ، وَيُعْذَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ أَكْثَرَ الْأُجْرَةِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى حَتَّى لَا يَفْسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مُضِيِّهَا الْعَقْدَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ. وَإِنْ خَافَ أَنْ يَغِيبَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَمْتَنِعَ أَهْلُهُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ إلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ لِوَقْتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ أَهْلِهِ، وَيَضْمَنَ لَهُ الزَّوْجُ رَدَّهَا لِلْوَقْتِ الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُؤْخَذُ بِهِ حِينَئِذٍ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجَرَهَا مِنْ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَصِيرُ الزَّوْجُ مُلْتَزِمًا رَدَّهَا بِالضَّمَانِ أَيْضًا فَيُطَالِبُهُ بِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ قَالَ: وَفِي هَذَا بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّ الدَّارِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْآجِرَ إذَا جَاءَ لِيَأْخُذَهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ هَذَا وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ، وَالرَّدُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَيْفَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ تَسْلِيمَ الدَّارِ إلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا بِحَقٍّ لَازِمٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا كَذِبٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فَالْأَحْوَطُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 216 أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ الدَّارَ مِنْهَا بَعْدَ رِضَاهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ لِيَصِيرَ بِهِ ضَامِنًا رَدَّ الدَّارِ عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَعَلَى مَالِكِ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ، وَيَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يُوَكِّلُ رَبَّ الدَّارِ فِي الْخُصُومَةِ مَعَ أَهْلِهِ لِاسْتِرْدَادِ الدَّارِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ بِهِ، فَإِذَا غَابَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَهْلَ الْمُسْتَأْجِرِ بِرَدِّ الدَّارِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وَكَالَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَيْرَ مَلِيءٍ بِالْأَجْرِ فَيَنْبَغِي لِلْآجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِأَجْرِ الدَّارِ مَا سَكَنَهَا أَبَدًا أَوْ يُسَمَّى كُلُّ شَهْرِ لِلضَّامِنِ فَتَكُونُ هَذِهِ كَفَالَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَيَأْخُذُ الْكَفِيلُ بِهَا إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْإِفْلَاسِ وَدَيْنِ الْأُجْرَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ التَّوَثُّقِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْكَفَالَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْأُجْرَةِ. رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَأَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَحْسِبَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ مَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ مِنْ الْأَجْرِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ وَبَيَّنَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ جَائِزٌ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْآلَاتِ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْوَكَالَةَ عَلَى مَا قَالَ فِي الْبُيُوعِ إذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِلْمَدْيُونِ: سَلِّمْ مَالِي عَلَيْك فِي كَذَا وَاشْتَرِ لِي بِمَالِي عَلَيْك عَبْدًا وَالْأَصَحُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّرْفِ إلَى مَحَلٍّ مَعْلُومٍ، وَهُوَ بِنَاءُ الدَّارِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا أَمَرَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ الْمُسْتَأْجِرَ بِمَرَمَّةِ الْحَمَّامِ بِبَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ دَابَّةً وَغُلَامًا إلَى مَكَانِ مَعْلُومٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ فِي عَلَفِ الدَّابَّةِ وَنَفَقَةِ الْغُلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَنْفَقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي صَرْفَ الزِّيَادَةِ إلَى الْبِنَاءِ فِيمَا أَنْفَقَ، وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَسْلِيمَ ذَلِكَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَأَنْكَرَهُ رَبُّ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَشْهَدَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَقُولُ: إنَّهُ أَنْفَقَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ مَضْمُونٌ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الضَّامِنِ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى تَصْدِيقِ الضَّامِنِ كَانَ الْإِشْهَادُ بَاطِلًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ بَنَى فِيهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 217 وَقَالَ دَفَعْتهَا إلَيْهِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْرِ وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مِلْكٌ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا، فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبِنَاءَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُصَدَّقَ فِي النَّفَقَةِ عَجَّلَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الدَّارِ إلَيْهِ، وَيُوَكِّلُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى دَارِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ حِينَئِذٍ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَفِي هَذَا الْهَلَاكِ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّعْجِيلِ مَلَكَ الْأَجْرَ الْمَقْبُوضَ وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ ثُمَّ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَهُ فِي دَارِهِ كَانَ أَمِينًا فِي ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الْمُحْتَمَلِ مَعَ الْيَمِينِ كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُكَذِّبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْوَصِيِّ يَدَّعِي الْإِنْفَاقَ عَلَى الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا خَافَ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي رَدِّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَأَجَرَهَا مِنْهُ سَنَةً مِنْ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَإِضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ صَحِيحٌ فَبَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْزَمَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: أَنَا لَا آمَنُ أَنْ يَغِيبَ رَبُّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُنِي كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا وَيَسْتَأْجِرَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ مِنْ الْعَدْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى إذَا مَضَتْ السَّنَةُ، وَتَغَيَّبَ رَبُّ الدَّارِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْعَدْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدِّينَارُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلُزُومُ الْعَقْدِ يَكُونُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُمْضِيَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ لِيَلْزَمَ الْعَقْدُ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ، فَإِذَا خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْرَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ مَعَ الْعَدْلِ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إذَا أَدَّى الْأَجْرَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، وَمِنْ عَزْمِهِ الْفَسْخُ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ فَسَخْت الْعَقْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: فَسَخْت الْإِجَارَةَ بَيْنِي وَبَيْنَك رَأْسَ الشَّهْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 218 إضَافَةَ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَا تَكُونُ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ، وَكَمَا تَصِحُّ إضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إضَافَةُ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَهَذَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ. وَإِذَا اكْتَرَى الرَّجُلُ إبِلًا لِمَتَاعٍ لَهُ إلَى مِصْرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ قَصَرَ عَنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَالْكِرَاءُ سَبْعُونَ دِينَارًا فَإِنَّ قَصَرَ عَنْ الرَّمْلَةِ إلَى أَذْرَعَاتٍ فَالْكِرَاءُ سِتُّونَ دِينَارًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَهَالَةِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِالشَّرْطِ وَلَوْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ بِشَرْطٍ فِيهِ حَظْرٌ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ، فَإِنْ حَمَلَهُ إلَى مِصْرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُفْسِدَ قَدْ زَالَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ ثَوْبًا لِلُّبْسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُ وَمَنْ يَلْبَسُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَوْ رَكِبَهَا أَوْ لَبِسَهُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَجَبَ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ، وَهُوَ الْجَهَالَةُ قَالَ: وَالْحِيلَةُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفْسُدَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا إلَى أَذْرَعَاتَ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ أَذْرَعَاتَ إلَى الرَّمْلَةِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَ أَذْرَعَاتَ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَى الرَّمْلَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الرَّمْلَةِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَكَذَلِكَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِبِلِ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْإِبِلِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا، وَإِنْ أَبَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ بِأَذْرَعَاتٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ. وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضًا لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حِيلَةٌ إلَّا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ، وَإِذَا بَاعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ أَجَرَ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَرَى زَرْعَهُ فِيهَا، وَإِذَا لَمْ يَبِعْهُ الزَّرْعَ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِزَرْعِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِقَلْعِ زَرْعِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَشْجَارٌ أَوْ بِنَاءٌ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَشْجَارَ وَالْبِنَاءَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَبِيعُ الْأَشْجَارَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 219 بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَابٌ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ طَرِيقًا مَعْلُومًا لَهَا مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِحَّ الشِّرَاءُ ثُمَّ يُؤَاجِرَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الطَّرِيقَ فِي الشِّرَاءِ فَسَدَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَهَا كَانَ الرَّدُّ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ صَحِيحًا فَشَرَطَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ] (قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لَهُ بِعَيْنِهَا بِكَذَا دِرْهَمًا فَلَمَّا رَآهَا الْوَكِيلُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَى الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِيمَا بَاشَرَهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمْرِ الْآمِرِ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ تَامُّ الْوِلَايَةِ فِي تَصَرُّفِهِ فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِمَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْآمِرِ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ لَا يُلْزِمُهُ الشِّرَاءَ لِلْآمِرِ لَا مَحَالَةَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْوَكَالَةَ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الشِّرَاءِ أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي اكْتِسَابِهِ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِيَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَا يُقَالُ: إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَفِي حِصَّةِ مَا سَمَّى لَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ جَمِيعِهَا بِالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ لَا بِشِرَاءِ بَعْضِهَا وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَهَا لِلْآمِرِ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْأَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَهُوَ لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالشِّرَاءِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِنْ أَمَرَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ كَفِعْلِ الْأَوَّلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ عَلَى الْآمِرِ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 220 غَيْرَهُ لِيَشْتَرِيَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْآمِرِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَيْهِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ الْأَوَّلُ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ الْآخَرِ لِلْآمِرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَإِنَّهُ مَتَى فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ عَلَى الْعُمُومِ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ، وَيَكُونُ فِعْلُ الْوَكِيلِ الثَّانِي كَفِعْلِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ إذَا اشْتَرَاهَا بِالنَّقْدِ. وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُوَكِّلِ تَفْوِيضَ الْآمِرِ إلَى رَأْيِهِ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَقُولُ لَهُ: مَا صَنَعْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَكَّلَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ يَبِيعُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَكِيلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَقَدْ قَالَ لَهُ صَاحِبُهَا: مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَصِيرُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الْجَارِيَةِ بِبَيْعِهَا فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ إيَّاهَا مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْجَارِيَةِ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَالسَّبِيلُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ الْعَقْدَ فَتَنْفُذَ الْإِقَالَةُ عَلَى الْوَكِيلِ خَاصَّةً أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَنْ يُوَلِّيَهُ الْعَقْدَ فِيهَا أَوْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا فِي الْبَيْعِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ ائْتَمَنَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا. فَلَوْ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ لِلْآمِرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْآمِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَدِّهَا بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَصْلِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ بَقِيَ هُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إلَّا لِلْآمِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ إلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا، وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ عَلِمَ بِعَيْبِهَا، وَاشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَكُونُ خَصْمًا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ لِيَبِيعَهُ بِحَضْرَتِهِ فَيَنْفُذَ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَنَا، وَخُصُومَةُ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا تَكُونُ مَعَ الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَعَ عَاقِدِهِ، فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي إلَّا بِأَنْ يَضْمَنَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 221 الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ الدَّرْكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الدَّرْكِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَلَا خُصُومَةَ لَهُ بِالْعَيْبِ مَعَ الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ، وَإِذَا رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ يُدْرَكُ. وَإِذَا خَلَعَ الْأَبُ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الصَّدَاقِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَطْلُقْ الْبِنْتُ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الْأَبِ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، كَمَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الِابْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ فِي الْخُلْعِ الْمَرْأَةَ تَلْتَزِمُ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا بِالْخُلْعِ شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى ابْنَتِهِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَهِيَ فِي الْخُلْعِ كَأَجْنَبِيٍّ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الدَّرْكَ لِلزَّوْجِ فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ الْخُلْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الشُّرُوطِ. وَإِذَا خَافَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ مَتَاعٍ مِنْ بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ يَبْعَثُ بِالْمَتَاعِ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَسْتَوْدِعُ الْمَالَ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا فَالْحِيلَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَسْتَأْذِنَ رَبَّ الْمَالِ فِي أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِرَأْيِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَيَدْفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صَنِيعَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ الصُّلْحِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُبْطِلُهُ غَيْرُنَا يَعْنِي شَرِيكًا وَابْنَ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: هَذَا تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ يَعْنِي إنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمِائَةَ فِي نُجُومِهَا، وَلَا يَدْرِي أَيُؤَدِّي أَمْ لَا يُؤَدِّي وَتَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ لَا يَجُوزُ فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحُطَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْهُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَاجِلًا ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْرِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَشَرْطَانِ فِي عَقْدٍ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ فِي السَّنَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 222 أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عَلَى بَدَلٍ مُسَمًّى، وَيَكُونُ الصُّلْحُ صَحِيحًا عَلَى مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ يَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ، وَمِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ يَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ فَبَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ جَائِزًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى شَرْطٍ أَوْلَى. رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا فِي يَدِ ابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ فَصَالَحَهُ الِابْنُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الْمِائَةُ عَلَيْهِمَا أَثْمَانًا وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطُ دَعْوَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ وَخُصُومَةٌ تَلْزَمُهُ لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ وَلِهَذَا جَازَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَمْلِيكًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ بَقِيَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى، وَقَدْ كَانَتْ أَثْمَانًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِمَا يَتَوَزَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ قَبُولِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ صَالَحَاهُ بَعْدَ إقْرَارِهِمَا بِهَا لَهُ، وَأَرَادَا بِالْإِقْرَارِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ فَالْمِائَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا أَنَّهَا لِلْمُدَّعِي ثُمَّ صَالَحَاهُ فَكَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا الدَّارَ بِالْمِائَةِ وَظَهَرَ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا وَبِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِيَيْنِ فِي الْمَنْزِلِ نِصْفَيْنِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقِرَّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ ثُمَّ يُصَالِحَهُمَا مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ الدَّارِ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا، فَإِذَا صَرَّحَا بِذَلِكَ كَانَ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَا بِهِ، وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَيَاهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُمُنُهَا، وَلِلْآخَرِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا. رَجُلٌ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي؛ وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى دَارٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَفِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْ الدَّارِ مِائَةَ ذِرَاعٍ بِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ إلَّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى ذِي الْيَدِ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ صَحِيحًا، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِعِوَضٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا. مَرِيضٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَلَهُ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَأَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 223 لَهُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ ثُمَّ مَاتَ جَازَ إقْرَارُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ وَرَثَتِهِ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْمَالِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ مُحَابَاةً، وَهُوَ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَإِقْرَارُهُ بِمَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ بِإِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ يَكُونُ صَحِيحًا وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَهُوَ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا مُطْلَقًا عَلَيْهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ إذَا ادَّعَوْا ذَلِكَ. رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُنَجِّمَهُ نُجُومًا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ، فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِالْمَالِ كَفِيلًا كَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْأَصِيلِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ مَالٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَنَجَّمَهُ عَلَيْهِمَا نُجُومًا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَنْجِيمَ الْمَالِ عَلَيْهِمَا صُلْحٌ فَقَدْ عَلَّقَ بُطْلَانَ الصُّلْحِ بِعَامِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ إنَّمَا أَخَذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى النُّجُومِ الَّتِي سَمَّيَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَضْمَنَ الْكَفِيلُ الْمَالَ عَلَى أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ بِدَفْعِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ مَحَلِّهِ إلَى الطَّالِبِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَاشْتِرَاطُ بَرَاءَتِهِ عِنْدَ إيفَاءِ الْكَفِيلِ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ صَحِيحًا. رَجُلٌ صَالَحَ غَرِيمًا لَهُ عَلَى أَنْ يُؤَجِّلَهُ بِمَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ فُلَانٌ الْمَالَ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، وَالْمَالُ حَلَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي بِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الصُّلْحَ قِيَاسُ الْبَيْعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ ضَمَانَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ فَالْفِقْهُ فِي ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فَيَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَضْمَنُ الْكَفِيلُ الْمَالَ أَوْ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا ضَمِنَهُ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغُرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت عَلَى أَنَّ فُلَانًا إنْ ضَمِنَ هَذَا الْمَالَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ كَذَا فَالصُّلْحُ تَامٌّ وَإِلَّا فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِهَذِهِ كَانَ تَمَامُ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا ضَمِنَ فُلَانٌ، وَلَا يَبْقَى غَرَرٌ إذَا ضَمِنَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 224 فُلَانٌ فَالصُّلْحُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ. وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالُهُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَبْدَأَ بِضَمَانِ الْمَالِ فَيَقُولَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ وَافَيْت بِهِ إلَى كَذَا مِنْ الْأَجَلِ، فَأَنَا بَرِيءٌ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ رَهْنًا بِمَا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ مِنْهُ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَقَطْ، وَأَرَادَ الْكَفِيلُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا وَلَا إشْكَالَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَسْتَدْعِي دَيْنًا وَاجِبًا، وَصِحَّةُ الرَّهْنِ تَسْتَدْعِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالدَّرْكِ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالدَّرْكِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي هَذَا: أَنْ يُقِرَّ الْمَطْلُوبُ أَنَّ هَذَا الْكَفِيلَ ضَمِنَ عَنْهُ مَالًا لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ بَاشَرَهُ وَلَا يُسَمِّيَ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَلَا مِقْدَارَ الْمَالِ ثُمَّ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِذَلِكَ فَيَكُونَ صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ، وَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَيُمَكَّنَ بِأَدَائِهِ مِنْ إخْرَاجِ الرَّهْنِ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ: مَقْصُودِي لَا يَتِمُّ بِهَذَا وَرُبَمَا يَقُولُ: الْمَطْلُوبُ بَعْدَ كَفَالَتِي بِالنِّصْفِ أَنَّ الْمَالَ دِرْهَمٌ فَيُعْطِينِي ذَلِكَ وَيَسْتَرِدَّ النِّصْفَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا ثِقَةً يَثِقَانِ بِهِ، وَيَكُونَ ارْتِهَانُ الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الرَّهْنَ قَبْلَ بَرَاءَتِهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ. رَجُلٌ أَخَذَ مِنْ غَرِيمِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ كَذَا فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِنَفْسِ فُلَانٍ غَرِيمٌ آخَرُ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَعْنِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَا يَجُوزُ، فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَى بِفُلَانٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ وَبِنَفْسِ أَحَدِهِمَا، وَكَمَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِالْمُوَافَاةِ بِالْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ بِنَفْسِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ غَدٍ فَمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: لَا آمَنُ أَنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 225 يُبْرِئَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَالُ دُونَ النَّفْسِ وَبَعْدَ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَتَمَكَّنَ الطَّالِبُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي مَعْنَى تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ فِيهِ فَشَرَطَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ، فَلَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا ثُمَّ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُضَمِّنَّهُ الْمَالَ وَالنَّفْسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَاهُ بِنَفْسِهِ لِوَقْتِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ بِهِ لِذَلِكَ الْأَجَلِ فَالنَّفْسُ وَالْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ لَهُ كَفَالَةً مُطْلَقَةً. [مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ] (مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ) قَالَ: وَإِذَا خَافَ الْوَصِيُّ جَهْلَ بَعْضِ الْقُضَاةِ فِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا أَنْفَقَ وَعَمِلَ، وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا جَهْلًا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ فَالْوَصِيُّ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْمُحْتَمَلِ قَوْلُ الْأَمِينِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي قَبُولِ الْوِصَايَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُوصِيَ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْمَالِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْوَصِيَّ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْقُضَاةِ كَانَ جَهْلًا، وَلَكِنْ رَأَى بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَعُدُّوهُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَبَيَّنَ الْحِيلَةَ لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ فِي قَبْضِ التَّرِكَةِ وَبَيْعِهَا وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَشْهَدُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَيْهِ وَلَا يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ وَلَا عَمِلَ فِي التَّرِكَةِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ مَا قَضَيْت دَيْنًا وَلَا وَصَلَ إلَيْك تَرِكَةٌ وَلَا أَمَرْت بِشَيْءٍ مِنْهَا يُبَاعُ وَلَا وَكَّلْت بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ، وَضَعَ التَّرِكَةَ مَوَاضِعَهَا عَلَى حُقُوقِهَا فَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَيَسَعُهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيَنْوِيَ غَيْرَ مَا اسْتَحْلَفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَوَسَّعَ فِي كِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ: يَنْوِي مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتِ كَذَا لِوَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا لِمَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ مَعَ إنْسَانٍ غَيْرِ الَّذِي عَامَلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ صَحِيحَةٌ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ فَإِنَّ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ كَالْمَنْصُوصِ فِي أَنَّ لَهُ عُمُومًا فَتَجُوزُ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، وَهُوَ يَنْوِي مُسَاكَنَتَهُ فِي بَيْتِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَصَحَّتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَنَوَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 226 السَّفَرَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَصَحَّ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى: إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ غُلَامٍ صَغِيرٍ فَجَاءَتْ أُمُّ الصَّغِيرِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَطْلُبُ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ يَقْتَضِي الْفِرَاشَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أُمِّ الصَّغِيرِ، فَجُعِلَ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَأَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ وَنَوَى طَعَامًا بِعَيْنِهِ أَوْ شَرَابًا بِعَيْنِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ فِعْلُ الْأَكْلِ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضَى لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْحَاجَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْعُمُومِ لِلْمُقْتَضَى، وَلَا إلَى جَعْلِهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَاكَنَةِ فَهُنَاكَ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَكَانِ لَا تَعْمَلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ الْمَنْصُوصِ فَالْمُسَاكَنَةُ تَكُونُ تَارَةً فِي بَلَدِهِ وَتَارَةً فِي مَحِلِّهِ وَتَارَةً فِي دَارٍ وَأَيًّا مَا كَانَ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَهُوَ إنَّمَا نَوَى صِفَةَ الْكَمَالِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ لَا نَقُولُ بِنِيَّتِهِ فِي تَخْصِيصِ الْمَكَانِ حَتَّى لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، فَإِذَا نَوَى السَّفَرَ، فَإِنَّمَا نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ أَنْوَاعٌ شَرْعًا خُرُوجٌ لِلسَّفَرِ وَلِمَا دُونَ السَّفَرِ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي تَنَوُّعِ الْخُرُوجِ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ كَذِكْرِ الْمَصْدَرِ، وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ الْفِرَاشُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ الثَّابِتِ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَهُوَ مِلْكُ الْبَدَلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ الْمُصَرَّحِ بِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ أَوْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَخْصِيصِ مَا فِي لَفْظِهِ حَتَّى يَكُونَ عَامِلًا وَأَسْهَلُ طَرِيقٍ قَالُوا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَيْمَانِ: إنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَالَ لَهُ: قُلْ وَاَللَّهِ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ اللَّهُ فَدَغَمَ الْهَاءَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْطِنُ بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ يَمْضِي فِي كَلَامِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ يَمِينًا وَلَا يَأْثَمُ بِهِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا. وَإِذَا أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْوَرَثَةِ أَمْوَالَهُمْ، وَيَكْتُبَ عَلَيْهِمْ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أَيُّهُمَا أَوْثَقُ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ، وَمَا أَعْطَاهُمْ أَوْ لَا يُسَمِّي قَالَ: الْأَوْثَقُ لَهُ أَنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 227 يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَلَا يُسَمِّيَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ وَارِثٍ فَيُضَمِّنَهُ مَا سَمَّى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَتَبَ بَرَاءَتَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ أَنْ يُضَمِّنُوهُ شَيْئًا فَهَذَا أَوْثَقُ لَلْوَصِيِّ وَلَكِنَّ الْأَوْثَقَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يُخْفِي الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ، فَإِذَا كَتَبُوا لَهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا سَمَّوْا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا فِيمَا يَظْهَرُ فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذُكِرَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَأْمُرْهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ: هَذَا مَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا، وَالنِّكَاحُ سُنَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ارْتِفَاعَ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُمَا لِيَمْنَعَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَيُوصِلَهُمَا إلَى مُرَادِهِمَا بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَتَكُونَ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَادِمٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ خُصُوصًا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَلَوْ امْتَنَعَ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ رُبَمَا يَحْمِلُهَا النَّدَمُ أَوْ فَرْطُ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ فَهُوَ يَسْعَى إلَى إتْمَامِ مُرَادِهِمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْدُبَانِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِيهِ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لَهُ: تَزَوَّجْنِي فَحَلِّلْنِي أَوْ قَالَ لَهُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ: تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَحَلِّلْهَا لِي أَوْ قَالَ الثَّانِي لِلْمَرْأَةِ: أَتَزَوَّجُكِ فَأُحَلِّلُكِ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُحَلِّلُهَا لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ لِلنِّكَاحِ وَالتَّوْقِيتُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ وَلَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 228 إلَّا أَنَّهُمَا لَوْ قَصَدَا الِاسْتِهْجَانَ عِوَضًا بِالْحِرْمَانِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُورِثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَأَجَازَتْ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْفُ أَوْ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ أَحَدَهُمَا، وَتَتَحَلَّلُ الْيَمِينُ بِوُجُوبِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، فَإِنْ خَطَبَهَا أَوَّلًا انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمِينَ فَلَا تَطْلُقُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَقَبَّلَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ بَلَغَهَا فَأَجَازَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُنَا شَرْطُ التَّزَوُّجِ وَإِتْمَامُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهَا وَهِيَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فِي نِكَاحِهِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ فَهِيَ كَذَا أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ خَطَبْتهَا فَهِيَ كَذَا أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ غَيْرُ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَسْبِقُ الْعَقْدَ فَلَا يَكُونُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى الْمِلْكِ، وَهَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ عَقَدَ يَمِينَهُ بِلِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: " أكر فُلَانَة رَابِحُوا همه مَا هُوَ دى لَهُ بَحْرَاهُمْ "، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ يُفْهِمُ غَيْرَ الْخِطْبَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ أَيْضًا هَكَذَا الْعُرْفُ بِخُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَأَمَّا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّزَوُّجَ فَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ هَذَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا. رَجُلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بِالْكُوفَةِ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ وَكِيلٌ لَهُ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ حَتَّى لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَمُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ لَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَيْئًا بِالْكُوفَةِ فَاشْتَرَى لَهُ وَكِيلُهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ: أَنْ تُوَكِّلَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا يُزَوِّجُهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْرُجَ الْوَكِيلُ وَالزَّوْجُ إلَى الْحِيرَةِ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَا مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ ثُمَّ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بِالْكُوفَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُقِيمَ بِالْكُوفَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ كَانَ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ تَزْوِيجًا بِالْكُوفَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَوْكِيلَهَا لِئَلَّا تُبْتَلَى بِالْخُرُوجِ مَعَ غَيْرِ الْمَحْرَمِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذِنْت لَك أَنْ تَتَزَوَّجَ كُلَّ أَمَةٍ تَشْتَرِيهَا فَاشْتَرَى الْعَبْدُ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَاهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى الجزء: 30 ¦ الصفحة: 229 وَقَدْ أَقَامَهُ الْمَوْلَى مُقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ زَوَّجَ بِنَفْسِهِ أُمَّتَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ جَازَ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ فِي حَوَائِجِهِ، وَهُوَ يَطَؤُهَا فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ وَسِعَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَأَنْ يَبِيعَهُ مَعَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَدَعُهَا تَخْرُجُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، وَلَا يَطْلُبُ وَلَدَهَا لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ إذَا حَبَسَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ إذَا حَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا أَوْ لَا يَعْزِلُ فَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا وَأَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَشَدْتُك بِاَللَّهِ: هَلْ كُنْتَ تَعُودُ إلَى جِمَاعِهَا قَبْلَ أَنْ تَبُولَ؟ قَالَ نَعَمْ فَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَنْفِيَهُ فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الَّتِي قَدْ حَصَّنَتْ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ بَعْضِ الْمَنِيِّ فِي إحْلِيلِهِ فَبِالْمُعَاوَدَةِ يَصِلُ إلَيْهَا إذَا عَادَ فِي جِمَاعِهَا قَبْلَ الْبَوْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَتَى أَهْلَهُ وَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ ثُمَّ سَالَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ ثَانِيًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَصَبَّ الْمَاءَ مِنْ فَوْقُ فَرُبَّمَا يَعُودُ إلَى فَرْجِهَا فَتَحْبَلُ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْعَزْلِ قَالَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ مِنْ مَاءٍ فَهُوَ خَالِقُهَا، وَإِنْ صَبَبْتُمْ ذَلِكَ عَلَى صَخْرَةٍ فَاعْزِلُوا أَوْ لَا تَعْزِلُوا». وَإِذَا غَابَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَأَرَادَ الثَّانِي مِنْهُمَا أَنْ يُبْطِلَ الشَّرِكَةَ فَالْحِيلَةُ لَهُ: أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ فَارَقَهُ وَنَقَضَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا بَلَغَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَقَدْ انْقَضَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِنَقْضِ الشَّرِكَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَالْغَرَرُ عَنْ شَرِيكِهِ بِذَلِكَ وَعِبَارَةُ الرَّسُولِ فِي إعْلَامِهِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ نَحْوُ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَفَسْخِ الْمُضَارَبَةِ وَنَقْضِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إذَا كَانَ الْأَسْفَلُ غَائِبًا فَأَرَادَ الْأَعْلَى أَنْ يَنْقُضَ وَلَاءَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ مُوَالَاتَهُ فَيَكُونُ تَبْلِيغُ الرَّسُولِ إيَّاهُ كَتَبْلِيغِ الْمُرْسِلِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْأَسْفَلُ فَلَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ الْأَعْلَى، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْمُوَالَاةِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 230 [بَابُ الْأَيْمَانِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَيْسَ لِفُلَانٍ يَوْمَئِذٍ ثَوْبٌ ثُمَّ اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْإِضَافَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إلَى الْيَمِينِ لَيْسَ مَعْنًى فِي الثَّوْبِ وَالطَّعَامِ بَلْ لِمَعْنًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ اتِّحَادِ الْفِعْلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ لَا وَقْتَ الْيَمِينِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ وَقَالَ: الدَّارُ لَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ إلَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ يَمِينِهِ فَأَمَّا الثَّوْبُ وَالطَّعَامُ فَيُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ مَا كَانَ فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَوَهَبَ لَهُ ثَوْبًا صَحِيحًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ مِنْهُ قَمِيصًا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ تَمْلِيكَ الثَّوْبِ مِنْهُ لَا إلْبَاسَ الثَّوْبِ إيَّاهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَتَأَدَّى بِكِسْوَةِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِلْبَاسِ وَيُقَالُ فِي الْعَادَةِ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا إذَا مَلَكَهُ سَوَاءٌ لَبِسَهُ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْكِسْوَةِ عَلَى مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ اللُّبْسُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّمْلِيكُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا لِفُلَانٍ فَلَبِسَ قَمِيصًا لِعَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحْنَثُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ قَالَ: وَلَكِنْ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ كَسْبَهُ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَكَسَا عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا مَلَكَهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ مِنْ عَبْدِهِ حُكْمًا، وَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطَ حِنْثِهِ ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَا عَبْدَ فُلَانٍ لَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ كَأَنَّهُ كَسَا فُلَانًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 231 وَهُمَا يَقُولَانِ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ هِبَتُهُ لِعَبْدِ أَخِيهِ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الرُّجُوعِ تَكُونُ مَعَ الْمَوْلَى، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ فَرُجُوعُهُ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَهُنَا شَرْطُ حِنْثِهِ نَفْسُ الْكِسْوَةِ لَا مَعْنًى يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ فِيهِ يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى؟ وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَبَاعَ مِنْ عَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ وَكِيلِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ فَكَيْفَ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ مِنْ عَبْدِ فُلَانٍ وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ فَبَاعَهُ بِجَارِيَةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلنَّقْدِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ لَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْمُقَابَضَةِ، فَإِنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعًا مِنْ وَجْهٍ مُشْتَرِيًا مِنْ وَجْهٍ وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَا يَكُونُ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَأَمَرَ رَجُلًا فَاشْتَرَى لَهُ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ؟ قَالُوا: وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُبَاشِرُهُ عَادَةً، وَفِي الْيَمِينِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ، وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَنَعَمْ يَعْنِي إذَا كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَهُ حَانِثًا بِشِرَاءِ وَكِيلِهِ لَهُ، وَإِنْ وَهَبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ لِلْحَالِفِ عَلَى شَرْطِ الْعِوَضِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ بَعْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّرْطِ نَفْسَ الْعَقْدِ وَبِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ هُوَ مُشْتَرِيًا، وَلَا صَاحِبُهُ بَائِعًا مِنْهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ مَعَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَا فِي مَقْصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَذِهِ ثَلَاثُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْكُنَا فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ مِنْهَا لَا يَحْنَثُ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ فَتَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُمَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ دَارٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَجْمَعْهُمَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْكُنَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُسَمَّى فِي الْعُرْفِ سَاكِنًا مَعَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 232 فِي بَيْتٍ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هُنَا الدَّارُ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَالْمَقَاصِيرُ فِيهَا كَالْبُيُوتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَّخَذُ الْمَرَافِقُ كَالْمَطْبَخِ وَالْمَرْبِطِ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَهَا فِي السُّكْنَى مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ كُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَعْضِ الْمَقَاصِيرِ لَوْ أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنَّ سَاكِنَ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى مَتَاعَ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؟ فَكَانَتْ الْمَقَاصِيرُ فِي دَارٍ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْبُيُوتِ فَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ لَيْسَ بِمَسْكَنٍ عَلَى حِدَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى إنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتٍ إذَا أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَمَعَهُ مَتَاعٌ لَمْ يُقْطَعْ وَالضَّيْفُ الَّذِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي إحْدَى الْبَيْتَيْنِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكُلَّ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ هُنَاكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَحْنَثُ وَجَعَلَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي الدَّارِ كَالدُّخُولِ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْعُرْفِ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ أَوْ مَقْصُورَةً هُوَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ زِيَارَتِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: فِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ يَجْلِسُ فِي دَارِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِيَمِينِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دِهْلِيزٍ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ دِهْلِيزٌ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى خَارِجًا فَإِمَّا كُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْلِسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا بِإِذْنِهِ؟ بِخِلَافِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ خَارِجَ الْبَابِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ بِدُونِ إذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ، وَلَا يُسَمَّى دُخُولًا عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ مَنْزِلًا وَحَلَفَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَالِفِ الْأَوَّلِ مَنْزِلًا فَدَخَلَا مَعًا لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلَ الْمَنْزِلِ وَلَكِنْ مَعَ صَاحِبِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالدُّخُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ عِنْدَ الدُّخُولِ لِقَاءَهُ وَإِكْرَامَهُ بِالزِّيَارَةِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ هُوَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 233 مَنْزِلَ فُلَانٍ بِقَدَمِهِ يَعْنِي بِذَلِكَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى أَرْضِ مَنْزِلِهِ فَدَخَلَهُ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ أَوْ نَعْلَانِ أَوْ رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ دُخُولُهُ مَنْزِلَهُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ دَاخِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا أَوْ حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا، وَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ وَضْعِ الْقَدَمِ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَطَأُ الشَّيْءَ بِقَدَمَيْهِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مُنْتَعِلًا، وَمَنْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ عُومِلَ بِنِيَّتِهِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ دَارَ أَبِيك إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَحْنَثَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: قَدْ أَذِنْت لَك فِي دُخُولِ هَذِهِ الدَّارِ كُلَّمَا شِئْت فَتَدْخُلُ كُلَّمَا شَاءَتْ، وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ بِإِذْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، وَالْإِذْنُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا يَتَنَاوَلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ النَّهْيُ فَهِيَ كُلُّ مَرَّةٍ إنَّمَا تَدْخُلُ بِإِذْنِهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الدُّخُولِ فَحِينَئِذٍ إذَا دَخَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ دُخُولًا بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ مِنْ بَيْتِي، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَخَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ إلَى الْحُجْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ مِنْ الْبَيْتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؟ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَرَاهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ لَا بِالْخُرُوجِ إلَى الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ مِنْ حِرْزِهِ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنْزِلِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ قِيلَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ قَالُوا: وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَاسْمُ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُ السُّفْلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ بَاتَ فِي حُجْرَتِهِ إذَا قِيلَ لَهُ: أنذيت الْبَلْدَةَ اللَّيْلَةَ يَسْتَجِيرُ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْتِي؟ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْخُذُ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا جَمِيعًا فَأَخَذَ حَقَّهُ جَمِيعًا إلَّا دِرْهَمًا وَهَبَهُ لِلْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ مُتَفَرِّقًا، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الْأَخْذَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ الْبَعْضَ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا فَلَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَخَذَ جَمِيعَ حَقِّهِ فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمًا مُتَفَرِّقًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَسْتَبِدَّ لَهُ فَإِنْ اسْتَبَدَّ لَهُ حِينَئِذٍ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الِاسْتِبْدَالِ لَمْ يُوجَدْ أَخْذُ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ أَخْذُ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ، فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَبِقَبْضِهِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِهِ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ لَمْ يَجُزْ فَحِينَ اسْتَبْدَلَهُ، فَقَدْ وُجِدَ الْآنَ قَبْضُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَقَدْ كَانَ قَبَضَ بَعْضَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَعَرَفْنَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 234 أَنَّهُ وَجَدَ أَخْذَ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْكُلَّ سُتُّوقًا فَاسْتَبْدَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخَذَ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَقَاضَى فُلَانًا فَلَزِمَهُ فَلَمْ يَتَقَاضَاهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ غَيْرُ التَّقَاضِي فَالتَّقَاضِي يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْمُلَازَمَةُ تَكُونُ بِالْبَدَنِ وَالْمُلَازَمَةُ غَيْرُ التَّقَاضِي فِي عُرْفِ النَّاسِ وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إعْطَاءُ جَمِيعِ حَقِّهِ مُتَفَرِّقًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ عِبَارَةٌ عَنْ التَّفَرُّقِ عَادَةً، وَهُوَ بِإِعْطَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ إنَّمَا أَعْطَاهُ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا وَلَوْ حَلَفَ الطَّالِبُ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَنَامَ الطَّالِبُ أَوْ غَفَلَ فَهَرَبَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا فَارَقَ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ فَارَقَهُ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُزُومِهِ فَذَهَبَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الطَّالِبُ عَلَى إمْسَاكِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مَا فَارَقَهُ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي هَرَبَ مِنْهُ وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ عَجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ مُفَارِقًا لَهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أُبَايِعُ بِهِ فُلَانًا، فَهُوَ صَدَقَةٌ ثُمَّ بَايَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ مِلْكَهُ، فَإِنَّمَا أَضَافَ النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ إلَى حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَمَّا بَايَعَ غَيْرَهُ بِهِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ كَالْمُنْشَأِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْعَيْنِ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا اللَّفْظُ الْتِزَامًا لِلتَّصَدُّقِ بِيَمِينِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ قِيمَتُهُ صَدَقَةٌ وَالْمُلْتَزِمُ لِلتَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلتَّصَدُّقِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الطَّالِبَ شَيْئًا ثُمَّ أَمَرَ الْمَطْلُوبُ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْمُعْطِي، فَإِنَّ الدَّافِعَ رَسُولٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى فُلَانٍ فَيَصِيرُ الْمُعْطِي فُلَانًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى إنْسَانٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ثُمَّ إنَّ الدَّافِعَ لَمْ يُحْضِرْ النِّيَّةَ عِنْدَ التَّصَدُّقِ جَازَ إذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِالصَّدَقَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ إعْطَاءً مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُنَاوَلَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ يَدِهِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعْطِي، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِعْطَاءِ فِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِذَا صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ لَا يَحْنَثُ بِمَا دُونَهُ، وَإِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَأَعْطَاهُ وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مَا عَلَيْهِ دِرْهَمًا فَمَا فَوْقَهُ فَأَعْطَاهُ حَقَّهُ كُلَّهُ دَنَانِيرَ، وَإِنَّمَا عَنَى الدَّرَاهِمَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا صَرَّحَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 235 بِهِ خُصُوصًا إذَا تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنَانِيرِ لِمَالِهِ مِنْ الْمَقْصُودِ فِي الصَّرْفِ وَالتَّقْيِيدِ إذَا كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ أَكَلْت عِنْدَك طَعَامًا أَبَدًا، فَهُوَ كُلُّهُ حَرَامٌ يَنْوِي بِذَلِكَ الْعَيْنَ فَأَكَلَهُ عِنْدَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحَرَامَ مَا أَكَلَهُ وَبَعْدَمَا أَكَلَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَرَامًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ الْحَرَامِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ إنَّمَا يَكُونُ يَمِينًا إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ كَانَ لَغْوًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إنَّهُ بَعْدَمَا أَكَلَهُ حَرَامٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ انْفَصَلَ عَنْهُ كَانَ حَرَامًا؟ فَيَقُولُ هُوَ صَادَفَ مَحَلَّهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ يَمِينٌ حَتَّى إذَا قَالَ: هَذَا الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَصْلًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ طَعَامًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ طَعَامَ فُلَانٍ وَالطَّعَامُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْهُ وَالذَّوْقُ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْجُزْءِ كَالْأَكْلِ يَتِمُّ بِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ لَا يُسَمَّى ثَوْبًا، وَلَا دَابَّةً وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَكْلَ لُقْمَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ بِهَذَا غَيْرَ الْخَمْرِ فَإِنْ شَرِبَ غَيْرَهَا لَمْ يَحْنَثْ يَعْنِي غَيْرَهَا مِمَّا لَا يُسْكِرُ فَأَمَّا مَا يُشْرَبُ لِلسُّكْرِ وَالتَّلَهِّي بِهِ إذَا شَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ كَانَ حَانِثًا؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ فِي النَّاسِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرُ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ السُّكْرِ فَيَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ مَا يُسْكِرُ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ لَفْظِهِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ أَوْ اللَّبَنِ، وَهُوَ شَرَابٌ فَالشَّرَابُ حَقِيقَةً مَا يُشْرَبُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَايِلُ حَرَامًا فَشَرِبَ خَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْفُجُورُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلِيلَ الْعُرْفِ يَغْلِبُ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا يَنْصَرِفُ إلَى دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ دُونَ الْوَرَقِ وَالْبَنَفْسَجُ لِلْوَرَقِ حَقِيقَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُرْفَ يُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَإِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَتَقَيَّدُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 236 بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَمْسَيْت قَبْلَ أَنْ أُطْعَمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ إنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يُطْعَمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُخُولُ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْإِمْسَاءَ قَبْلَ الْإِصْبَاحِ، فَإِنَّمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ كَيْفَ أَصْبَحْت فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَيْف أَمْسَيْت فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّائِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الْمَسَاءِ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ؟ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَطْعَمْ، فَقَدْ أَمْسَى قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ فَيَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْجَمَلَ فَكَبِرَ حَتَّى صَارَ مُسِنًّا فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْأَيْمَانِ مِنْ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ الْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ وَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَبَّ أَوْ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ حَنِثَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا صَارَ ثَمَرًا لَمْ يَحْنَثْ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابٌ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) امْرَأَةٌ حَامِلٌ تُرِيدُ أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا عَلَى أَنَّهَا إنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا كَانَ الزَّوْجُ بَرِيئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ سَلِمَتْ عَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ الزَّوْجِ ثَوْبًا لَمْ تَرَهُ بِأَنْ كَانَ فِي مِنْدِيلٍ فَتَشْتَرِيهِ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا أَوْ نِصْفِهِ فَإِنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بَرِئَ الزَّوْجُ، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ عِلَّتِهَا رَدَّتْ الثَّوْبَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَعَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إذَا بَقِيَ الثَّوْبُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَبِهِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَعُودُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يَتَعَيَّبُ عِنْدَهَا أَوْ يَهْلَكُ فَيَتَعَذَّرُ رَدُّهُ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَشْتَرِيَ الثَّوْبَ وَتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَهُ مِنْ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّدُّ إذَا سَلِمَتْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ اشْتَرَاهَا الْآمِرُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَخَافَ الْمَأْمُورُ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا قَالَ: يَشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيهَا وَيَقْبِضُهَا ثُمَّ يَأْتِيهِ الْآمِرُ فَيَقُولُ لَهُ قَدْ أَخَذْتهَا مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ هِيَ لَك بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمَا وَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 237 مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّمَا قَالَ الْآمِرُ: يَبْدَأُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى فَيَقُولُ: أَخَذْت مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ لَهُ لَوْ بَدَأَ قَالَ: بِعْتهَا مِنْك رُبَّمَا لَا يَرْغَبُ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَبْدَأَ الْآمِرُ حَتَّى إذَا قَالَ الْمَأْمُورُ: هِيَ لَك بِذَلِكَ، ثُمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا يُمَكِّنُ الْمَأْمُورَ مِنْ رَدِّهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ حَلَفَ يُعْتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ وَيَجُوزَ عَنْ ظِهَارِهِ قَالَ يَقُولُ الرَّجُلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْآمِرِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ تَصْحِيحِ الْعِتْقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِضْمَارِ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ يَظْهَرُ حُكْمُ الْمُضْمَرِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَصِيرُ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى مَوْجُودًا بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ، كَمَا أَوْجَبَهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلٍ، وَهُوَ مَنْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَلَا يَمْلِكُ إبْدَالَهُ بِغَيْرِهِ فَعِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا يُعْتَقُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الظِّهَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى كَذَا، وَلَوْ كَانَ هُوَ يُمْكِنُهُ إعْتَاقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ لِهَذَا الْمَمْلُوكِ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ يَشْتَرِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ هَكَذَا عَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُعْتَقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً امْرَأَةٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَلَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَحَلَفَ مَا لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ وَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا قَدْ انْقَضَتْ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ نَفَقَةً بِقَدْرِ دَيْنِهَا قَالَ يَسَعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ ظَفِرَتْ بِجِنْسِ حَقِّهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ إنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا الزَّوْجَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا بِطَرِيقِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَهِيَ إنَّمَا تَسْتَوْفِي بِحِسَابِ دَيْنِهَا وَلَهَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ مَالِ الزَّوْجِ بِحِسَابِ دَيْنِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ حَلَّفَهَا الْقَاضِي عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَحَلَفَتْ تَعْنِي بِهِ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ وَسِعَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ مَظْلُومَةً تُعْتَبَرُ نِيَّتُهَا، فَإِذَا حَلَفَتْ مَا انْقَضَتْ عِدَّتِي تَعْنِي بِهِ عِدَّةَ عُمْرِهَا وَسِعَهَا ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا لَهُ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقْرِضَهُ رَبُّ الْمَالِ الْمَالَ إلَّا دِرْهَمًا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 238 ثُمَّ يُشَارِكَهُ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ فِيمَا أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَذَا، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُسْتَقْرَضِ مُتَمَلِّكًا ثُمَّ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ صَحِيحٌ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَيَسْتَوِي إنْ عَمَلًا جَمِيعًا أَوْ عَمِلَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَرَبِحَ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ شَاءَ أَقْرَضَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُسْتَقْرِضُ إلَى الْمُقْرِضِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُقْرِضُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِضَاعَةً فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِضَاعَةً كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ صَاحِبُ الْمَالِ، وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خَاصَّةً فَالْمَالُ كُلُّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ ثُمَّ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَالِ، وَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحِيلَةُ هِيَ الْأَوْلَى قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهَا بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ أَعْطَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالَ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَادَقَةٌ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيَّ بَأْسٌ أَنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ وَرُبَّمَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» فَإِنْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا دَالَسْتَ وَلَا دَلَّسْت فَحَلَفَ كَانَ صَادِقًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْغُرُورِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ يَمِينٌ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ كَذَلِكَ وَيُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ وَيَجْعَلَهُ جَائِزَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، فَهُوَ خَصْمٌ لِلشَّفِيعِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى تَسْلِيمِهَا لِلْآمِرِ ثُمَّ يُودِعَهَا الْآمِرُ مِنْهُ أَوْ يُعِيرَهَا رَجُلٌ أَحَبَّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الدَّارَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ يَشْتَرِيهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَنْقُدُهُ تِسْعَةَ آلَافٍ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 239 وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُحِقَّتْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا أَدَّى وَقَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ الصَّرْفُ صَحِيحٌ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ إلَّا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ، وَلَوْ أَعْطَاهُ بِالْبَاقِي مَكَانَ الدِّينَارِ ثَوْبًا أَوْ مَتَاعًا رَجَعَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِعِشْرِينَ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ وَالْمَتَاعِ فَيَكُونُ قَابِضًا مِنْهُ عِشْرِينَ أَلْفٍ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَأَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَدُّ الْمَقْبُوضِ، فَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ وَوَجَدَ بِالدَّارِ عَيْبًا رَدَّهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وُجُوهَ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ أَوْ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مَكْرُوهٌ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ فَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذَا الْحَقِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إذَا الْتَزَمَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَيْفَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَالْحَجِّ؟ فَهَذَا دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِالْغَيْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَوْ تَمَلُّكِ الدَّارِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إضْرَارٌ بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمَالِي قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا، وَإِنَّمَا تَصَدَّقَ بِالدِّرْهَمِ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ فَلَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ يَكُونُ هُوَ فِيهِ آثِمًا قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا لِغَيْرِهِ وَكَتَبَ فِي الصَّكِّ وَنَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ الْآمِرِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَرْضَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَجِيءُ الْآمِرُ فَيَقُولُ: قَدْ أَخَذْت مَالِي وَأَقْرَرْت بِذَلِكَ حِينَ أَشْهَدْت عَلَى الصَّكِّ، وَلَمْ آمُرْ فُلَانًا بِالشِّرَاءِ لِي فَيَسْتَرِدَّ مَالَهُ، وَلَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِيُطَالِبَهُ بِثَمَنِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا فَفِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى الْآمِرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْآمِرَ بِالْمَالِ وَيَقُولَ نَقَدْت الثَّمَنَ مِنْ مَالِي فَالْحِيلَةُ أَنْ يَكْتُبَ: وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ. وَلَا يَكْتُبَ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ، فَإِذَا خَتَمَ الشُّهُودُ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَطْ ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَا نَقَدَهُ مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 240 الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِلْآمِرِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ الِاسْتِحْلَافِ] (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَغِيبَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: كُلُّ جَارِيَةٍ تَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: إذَا حَلَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقُولُ: نَعَمْ فَيُرِيهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبَتْ، وَهُوَ يَعْنِي بَنِي تَغْلِبَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَوْ يَنْوِي بِقَلْبِهِ وَاحِدَ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَعَمْ وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] الْآيَةَ، فَإِذَا عَنَى هَذَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فَإِنْ أَبَتْ إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، قَالَ: فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ وَلْيَعْنِ بِذَلِكَ كُلَّ سَفِينَةٍ جَارِيَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24] وَالْمُرَادُ السُّفُنُ، فَإِذَا عَنَى ذَلِكَ عَمِلَ بِنِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ لَهُ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ وَنِيَّةُ الْمَظْلُومِ فِيمَا يُحَلَّفُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ حَلَّفَتْهُ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَلْيَقُلْ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ، وَهُوَ يَنْوِي بِذَلِكَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِك فَيُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَى غَيْرِ رَقَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنَى أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ عَلَى إطْلَاقِك فَهَذِهِ النِّيَّةُ تَعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ إنْ عَنَى بِقَوْلِهِ فَهِيَ طَالِقٌ مِنْ الْوَثَاقِ فَنِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَأَطَؤُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَعَنَى الْوَطْءَ بِقَدَمِهِ، فَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَنْبَغِي أَنْ يَدِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَالْوَطْءُ يَكُونُ بِالْقَدَمِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَطْءُ مَتَى أُضِيفَ إلَى النِّسَاءِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى النِّسَاءِ، فَلِهَذَا لَا يَدِينُ هُنَا فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى رَجُلٌ اتَّهَمَ جَارِيَةً أَنَّهَا سَرَقَتْ لَهُ مَالًا فَقَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَصْدُقِينِي وَخَافَ الْمَوْلَى أَنْ لَا تَصْدُقَهُ فَتَعْتِقُ فَمَا الْحِيلَةُ فِيهِ قَالَ: تَقُولُ الْجَارِيَةُ: قَدْ سَرَقْته ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ أَسْرِقْهُ فَيَتَيَقَّنُ أَنَّهَا صَدَقَتْهُ فِي إحْدَى الْكَلَامَيْنِ، وَلَا تُعْتَقُ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ وَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ ابْتَدَأْتُك الجزء: 30 ¦ الصفحة: 241 بِالْكَلَامِ فَجَارِيَتِي حُرَّةٌ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ كَلَّمَتْهُ بَعْدَ كَلَامِهِ حِينَ خَاطَبَتْهُ بِيَمِينِهَا فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُبْتَدِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُكَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَعًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ إذَا حَلَفَ رَجُلَانِ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ ابْتَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَالْتَقَيَا وَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَعًا لَمْ يَحْنَثْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ بِالشَّيْءِ مَنْ يَسْبِقُ غَيْرَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ كَلَامُهُ بِكَلَامِ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا رَجُلٌ قَالَ: وَاَللَّهِ أَمَّا أَنَا لَا أَجْلِسُ فَمَا أَقُومُ حَتَّى أُقَامَ يَعْنِي حَتَّى يُقَوِّيَنِي اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَيُقِيمَنِي، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فَلَا يَقُومُ أَحَدٌ مَا لَمْ يُقِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ، وَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ، فَإِنَّهُ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَا يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِحَالٍ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ ذُقْت طَعَامًا حَتَّى أَضْرِبَك فَأَنِفَتْ الْأَمَةُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَنَاوَلَ الطَّعَامَ فَلَا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِوَلَدِهِ بِنَفْسِ الْهِبَةِ، فَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّرْطُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَالَ: وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْنِي فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ سَأَلْتنِي الْخُلْعَ إنْ لَمْ أَخْلَعْك فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَسْأَلْك قَبْلَ اللَّيْلِ وَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَلِيهِ الْخُلْعَ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَسْأَلُك أَنْ تَخْلَعَنِي فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِزَوْجِهَا: قُلْ قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ تُعْطِيهَا لِي فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا قُولِي لَا أَقْبَلُهُ فَقَالَتْ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُومَا، فَقَدْ بَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهَا فِي الْيَمِينِ أَنْ تَسْأَلَهُ الْخُلْعَ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ وَشَرْطَ بِرِّ الزَّوْجِ أَنْ يَخْلَعَهَا بَعْدَ سُؤَالِهَا، وَقَدْ فَعَلَ، فَإِنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ حِينَ رَدَّتْ الْخُلْعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِيمَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْنِي فَقَالَ الزَّوْجُ خَلَعْتُك عَلَى كَذَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ تَقُلْ الْمَرْأَةُ قَبِلْت بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى كَذَا فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت، فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ الْبَدَلَ كَانَ كَلَامُهَا سُؤَالًا لِلْخُلْعِ لَا أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ فِي النِّكَاحِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ أَنْ لَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 242 يَذْكُرَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ، وَلَا يَعْتَمِدُ الرِّضَى وَوُجُوبُ الْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا إذَا ذَكَرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْحِيَلِ نَظِيرَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَقَالَ: إنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ يَتَأَذَّى مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ فَامْتَنَعَتْ مِنْ جَوَابِهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تُكَلِّمِينِي اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسَكَتَتْ وَامْتَنَعَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَخَافَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَطَافَ عَلَى الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي اللَّيْلِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ حِيلَةً فَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ أَتَيْت أُسْتَاذَك فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ وَيَقُولُ لَا فَرَجَ لِي إلَّا مِنْ قِبَلِك فَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَقُلْ لِلَّذِينَ حَوْلَهَا مِنْ أَقَارِبِهَا اُدْعُوهَا فَمَاذَا أَصْنَعُ بِكَلَامِهَا، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ وَأَسْمَعُهَا مِنْ هَذَا بِمَا تَقْدِرُ فَجَاءَ وَقَالَ ذَلِكَ حَتَّى ضَجِرَتْ وَقَالَتْ بَلْ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا فَصَارَتْ مُكَلِّمَةً لَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَخَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ أَوْرَدَهَا فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ إنَّهُ قَالَ لِلرَّجُلِ ارْجِعْ إلَى بَيْتِك حَتَّى آتِيك فَأَتَشَفَّعَ لَك فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى بَيْتِهِ وَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَثَرِهِ فَصَعِدَ مِئْذَنَةَ مَحَلَّتِهِ وَأَذَّنَ فَظَنَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْك فَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى الْبَابِ وَقَالَ قَدْ بَرَّتْ يَمِينُك وَأَنَا الَّذِي أَذَّنْت أَذَانَ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِصْفِ اللَّيْلِ قَالَ وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَزُفَّتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ أُخْتِهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: لِيُطَلِّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَتَزَوَّجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا، وَفِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ أَنَّهَا وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِوَلِيمَتِهِ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ فِي عِدَادِ الشَّبَابِ يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا جَالِسِينَ عَلَى الْمَائِدَةِ إذْ سَمِعُوا وَلْوَلَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ: مَاذَا أَصَابَهُنَّ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ غَلِطُوا فَأَدْخَلُوا امْرَأَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَدَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَلَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى مَائِدَتِكُمْ فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلُوا فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا قَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْمَهْرُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْكُثُ بِأُصْبُعِهِ عَلَى طَرَفِ الْمَائِدَةِ كَالْمُتَفَكِّرِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ مَنْ إلَى جَانِبِهِ أَبْرِزْ مَا عِنْدَك هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ آخَرُ فَغَضِبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 243 - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ هَلْ: يَكُونُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَضَاءِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْنِي فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيَّ بِالزَّوْجَيْنِ فَأَتَى بِهِمَا فَسَارَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّهُ هَلْ تُعْجِبُك الْمَرْأَةُ الَّتِي دَخَلْت بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: طَلِّقْ امْرَأَتَك تَطْلِيقَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَقَالَ قُومَا إلَى أَهْلِكُمَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ سُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْت؟ فَقَالَ: أَحْسَنَ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبَهَا إلَى الْأُلْفَةِ وَأَبْعَدَهَا عَنْ الْعَدَاوَةِ أَرَأَيْت لَوْ صَبَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ أَمَا كَانَ يَبْقَى فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ بِدُخُولِ أَخِيهِ بِزَوْجَتِهِ؟ وَلَكِنِّي أَمَرْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ دُخُولٌ، وَلَا خَلْوَةٌ، وَلَا عِدَّةٌ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِمَّنْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ وَعِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ وَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَعَجِبُوا مِنْ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُسْنِ تَأَمُّلِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بَيَانُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي خَتَمَ بِهَا الْكِتَابَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [كِتَابُ الْكَسْبِ] كِتَابُ الْكَسْبِ (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَإِذْ قَدْ أَجَبْتُكُمْ إلَى مَا سَأَلْتُمُونِي مِنْ إمْلَاءِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ، وَقَدْرِ الْفَاقَةِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِشَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَصْنِيفَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِظْهَارِ وَجْهِ التَّأْثِيرِ وَبَيَانِ طَرِيقِ التَّقْدِيرِ رَأَيْت أَنَّ أُلْحِقَ بِهِ إمْلَاءَ شَرْحِ كِتَابِ الْكَسْبِ الَّذِي يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ تَصْنِيفَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ، وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ، وَفِيهِ مِنْ الْعُلُومِ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهَا، وَلَا التَّخَلُّفُ عَنْ عَمَلِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا حَثُّ الْمُفْلِسِينَ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمُكْتَسِبِينَ فِي الْكَسْبِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالتَّنَاوُلُ مِنْ كَدِّ يَدِهِمْ لَكَانَ يَحِقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إظْهَارُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَّنَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِيثَارِ فِيهِ فَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ تَبَرُّكًا بِالْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَنُلْحِقُ بِهِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَمَا يَجُودُ بِهِ الْخَاطِرُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْإِشَارَاتِ فَنَقُولُ الِاكْتِسَابُ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَا حَلَّ مِنْ الْأَسْبَابِ وَاللَّفْظُ فِي الْحَقِيقَةِ يُسْتَعْمَلُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 244 فِي كُلِّ بَابٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] أَيْ بِجِنَايَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَقَدْ سَمَّى جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ كَسْبًا وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] أَيْ بَاشَرَا بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ بَابٍ وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُفْهَمُ مِنْهُ اكْتِسَابُ الْمَالِ ثُمَّ بَدَأَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَبُ الْحَلَالِ كَمُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ، وَمَنْ مَاتَ دَائِبًا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ مَاتَ مَغْفُورًا» وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقَدِّمُ دَرَجَةَ الْكَسْبِ عَلَى دَرَجَةِ الْجِهَادِ فَيَقُولُ لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَجُلٍ أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ ابْتَغَى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ بِقَوْلِهِ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] الْآيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَافَحَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِذَا يَدَاهُ قَدْ اكْتَبَتَا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَضْرِبُ بِالْمَرِّ وَالْمِسْحَاةِ لِأُنْفِقَ عَلَى عِيَالِي فَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ وَقَالَ كَفَّانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى». وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْمَرْءَ بِاكْتِسَابِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَنَالُ مِنْ الدَّرَجَاتِ أَعْلَاهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ فَحِينَئِذٍ كَانَ فَرْضًا بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُوتِ عَادَةً، وَلِتَحْصِيلِ الْقُوتِ طُرُقُ الِاكْتِسَابِ أَوْ التَّغَالُبُ بِالِانْتِهَابِ وَالِانْتِهَابُ يَسْتَوْجِبُ الْعِقَابَ، وَفِي التَّغَالُبِ فَسَادٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَعَيَّنَ جِهَةَ الِاكْتِسَابِ لِتَحْصِيلِ الْقُوتِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ بَطْنَتُهُ فَلْيُحْسِنْ إلَيْهَا» يَعْنِي الْإِحْسَانَ بِأَنْ لَا يَمْنَعَهَا قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالْكَسْبِ، كَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ كُوزٍ يَسْتَقِي بِهِ الْمَاءَ أَوْ دَلْوٍ أَوْ رِشًا يَنْزَحُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِثَوْبٍ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ عَادَةً وَمَا لَا يَتَأَتَّى إقَامَةُ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا فِي نَفْسِهِ ثُمَّ الْكَسْبُ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّمَسُّكِ بِهُدَاهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَبَيَانُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ اكْتَسَبَ أَبُونَا آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] أَيْ تَتْعَبْ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِهِ لَا تَأْكُلْ خُبْزًا بِزَيْتٍ حَتَّى تَعْمَلَ عَمَلًا إلَى الْمَوْتِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 245 وَفِي الْآثَارِ «أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحِنْطَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا فَزَرَعَهَا وَسَقَاهَا وَحَصَدَهَا وَدَرَسَهَا وَطَحَنَهَا وَخَبَزَهَا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ حَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ: إنَّ رَبَّك يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنْ صُمْت بَقِيَّةَ الْيَوْمِ غَفَرْت لَك خَطِيئَتَك وَشَفَّعْتُك فِي أَوْلَادِك فَصَامَ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى تَنَاوُلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ لِيَنْظُرَ يَجِدُ لَهُ مِنْ الطَّعْمِ مَا كَانَ يَجِدُ لِطَعَامِ الْجَنَّةِ» فَمِنْ ثَمَّةَ حَرَصَ الصَّائِمُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى تَنَاوُلِ الطَّعَامِ. ، وَكَذَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِدْرِيسُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ خَيَّاطًا وَإِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ بَزَّارًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَلَيْكُمْ بِالْبَزْرِ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ بَزَّارًا» يَعْنِي الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَدَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ» عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا فَيَسْأَلُ عَنْ سِيرَةِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَتَّى اسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمًا عَلَى صُورَةِ شَابٍّ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ تَعْرِفُ دَاوُد أَيُّهَا الْفَتَى فَقَالَ نِعْمَ الْعَبْدُ دَاوُد إلَّا أَنَّ فِيهِ خَصْلَةً قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ فَرَجَعَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى مِحْرَابِهِ بَاكِيًا مُتَضَرِّعًا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي كَسْبًا تُغْنِينِي بِهِ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَنْعَةَ الدِّرْعِ وَلَيَّنَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالْعَجِينِ فِي يَدِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] فَكَانَ يَصْنَعُ الدِّرْعَ وَيَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ»، وَسُلَيْمَانُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه يَصْنَعُ الْمَكَايِيلَ مِنْ الْخُوصِ فَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَزَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ نَجَّارًا، وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ وَرُبَّمَا كَانَ يَلْتَقِطُ السُّنْبُلَةَ فَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ. وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْعَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَوْمًا كُنْت رَاعِيًا لِعُقْبَةَ بْنِ مُعَيْطٍ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا وَكَانَ رَاعِيًا»، وَفِي حَدِيثِ «السَّائِبِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِيكِي وَكَانَ خَيْرُ شَرِيكٍ لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي» أَيْ: لَا يُلَاحِي، وَلَا يُخَاصِمُ فَقِيلَ: فَبِمَاذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَكُمَا فَقَالَ: فِي الْأُدْمِ وَازْدَرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْكَسْبَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. ثُمَّ الْكَسْبُ نَوْعَانِ: كَسْبٌ مِنْ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ وَكَسْبٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَالْكَاسِبُ لِنَفْسِهِ هُوَ الطَّالِبُ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمُبَاحِ وَالْكَاسِبُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْبَاغِي لِمَا عَلَيْهِ فِيهِ جُنَاحٌ نَحْوَ مَا يَكُونُ مِنْ السَّارِقِ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 246 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا} [النساء: 112] الْآيَةَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ النَّوْعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْكَسْبِ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ التَّقَشُّفِ وَحَمَاقَى أَهْلِ التَّصَوُّفِ: إنَّ الْكَسْبَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَنْزِلَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَقَالُوا: إنَّ الْكَسْبَ يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فَمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ يَكُونُ حَرَامًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَنْفِي التَّوَكُّلَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ التَّوَكُّلِ لَرُزِقْتُمْ، كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ يَغْدُو خِمَاصًا وَيَرُوحُ بِطَانًا» وَقَالَ تَعَالَى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ وَبَيَانُ أَنَّ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الْمَوْعُودِ يَأْتِيهِ لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] الْآيَةَ، وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَقَدْ أُمِرُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ تَرْكُ مَا خُلِقَ الْمَرْءُ لِأَجْلِهِ وَأُمِرَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَا أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنْ الْمُتَاجِرِينَ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيَّ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] الْآيَةَ» وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ وَالْكَسْبَ بَلْ الْمُرَادُ تِجَارَةَ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهِ فَذَلِكَ يُسَمَّى تِجَارَةً وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ هَذَا النَّوْعُ، وَهُوَ بَذْلُ النَّفْسِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ بِالْجِهَادِ وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ. وَكَذَا قَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى آخِذَ الْمَالِ لِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الدِّينِ بَائِعًا نَفْسَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة: 9] وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «النَّاسُ غَادِيَانِ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا»، وَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ فَالْقَوْلُ مَعَ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَلْزَمُونَ الْمَسْجِدَ فَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالْكَسْبِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ السَّادَةُ وَالْقُدْوَةُ الْقَادَةُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إلَّا أَنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 247 تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} [البقرة: 282] الْآيَةَ فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحِلِّ، وَفِي بَعْضِهَا نَدْبٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَمَنْ يَقُولُ بِحُرْمَتِهَا إنَّمَا يُخَاطِبُنَا بِمَا يَفْهَمُهُ وَلَفْظُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ حَقِيقَةٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، كَمَا فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَالْمُرَادُ التِّجَارَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ، وَإِنَّ أَخِي دَاوُد كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ» وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]. وَأَقْوَى مَا تَعْتَمِدُهُ أَنَّ الِاكْتِسَابَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِمُعَارَضَتِهِمْ إيَّانَا فِي ذَلِكَ بِيَحْيَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ يَقُولُ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِمْ، فَقَدْ بُعِثُوا لِدَعْوَةِ النَّاسِ إلَى دِينِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ فَكَانُوا مَشْغُولِينَ بِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَامَّةَ أَوْقَاتِهِمْ بِالْكَسْبِ لِهَذَا، وَقَدْ اكْتَسَبُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ الْمَرْءُ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ حَيْثُ مَرَّ بِقَوْمٍ مِنْ الْقُرَّاءِ فَرَآهُمْ جُلُوسًا قَدْ نَكَسُوا رُءُوسَهُمْ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هُمْ الْمُتَوَكِّلُونَ فَقَالَ: كَلًّا، وَلَكِنَّهُمْ الْمُتَآكِلُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَنْ الْمُتَوَكِّلُونَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ وَاكْتَسِبُوا لِأَنْفُسِكُمْ. وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا لَا يَكْتَسِبُونَ دَعْوَى بَاطِلٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بَزَّارًا وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْمَلُ فِي الْأُدْمِ وَعُثْمَانُ كَانَ تَاجِرًا يُجْلَبُ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَيَبِيعُهُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَكْسِبُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ حَتَّى أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ «وَقَالَ لِلْوَازِنِ: زِنْ وَارْجَحْ، فَإِنَّ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ»، «وَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَعْبًا وَحِلْسًا مِنْ يَزِيدَ». «وَاشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ: هَلُمَّ شَاهِدٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا أَشْهَدُ لَك الجزء: 30 ¦ الصفحة: 248 بِأَنَّك أَوْفَيْت الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَيْفَ تَشْهَدُ لِي وَلَمْ تَكُنْ حَاضِرًا؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ إيفَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ»، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فَالْمُرَادُ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ فَيَحْصُلُ بِهِ النَّبَاتُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى رِزْقًا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُك وَيَرْزُقُ رِزْقَك وَيَرْزُقُ رِزْقَ رِزْقِك يَعْنِي يُنْزِلُ الْمَطَرَ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا لِلنَّبَاتِ ثُمَّ النَّبَاتُ رِزْقُ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْعَامُ رِزْقٌ لِبَنِي آدَمَ، وَلَئِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَنَقُولُ: فِي السَّمَاءِ رِزْقُنَا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ أَمَرَ بِاكْتِسَابِ السَّبَبِ لِيَأْتِيَنَا ذَلِكَ الرِّزْقُ عِنْدَ الِاكْتِسَابِ. بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «عَبْدِي حَرِّكْ يَدَك أُنْزِلْ عَلَيْك الرِّزْقَ»، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَرْيَمَ بِهَزِّ النَّخْلَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُزِّي إلَيْك} [مريم: 25] الْآيَةَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهَا مِنْ غَيْرِ هَزٍّ مِنْهَا، كَمَا كَانَ يَرْزُقُهَا فِي الْمِحْرَابِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْعِبَادِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يَدَعُوا اكْتِسَابَ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَا مِنْ سَبَبٍ، وَلَا فِي سَبَبٍ كَمَا خَلَقَ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَقَدْ يَخْلُقُ لَا مِنْ سَبَبٍ، وَلَا فِي سَبَبٍ كَمَا خَلَقَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ يَخْلُقُ مِنْ سَبَبٍ فِي سَبَبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاس إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ} [الحجرات: 13] الْآيَةَ، ثُمَّ الِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ وَطَلَبُ الْوَلَدِ لَا يَنْفِي يَقِينَ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَا أَمْرُ الرِّزْقِ لِيُعْلِمَ أَنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ فِي تَرْكِهِ الْكَسْبَ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «قَوْلِهِ لِلسَّائِلِ الَّذِي قَالَ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا بَلْ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ». وَنَظِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ، فَقَدْ أُمِرْنَا بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ لِأَحَدٍ، فَهُوَ يَأْتِيهِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ أَحَدٌ لَا يَتَطَرَّقُ بِهَذَا إلَى تَرْكِ السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَانُوا يَسْأَلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، وَقَدْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَكَانُوا يَأْمَنُونَ الْعَاقِبَةَ ثُمَّ كَانُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي دُعَائِهِمْ وَكَذَا أَمْرُ الشِّفَاءِ فَالشَّافِي هُوَ اللَّهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْمُدَاوَاةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا خَلَقَ دَاءً إلَّا وَخَلَقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا السَّامُّ أَوْ قَالَ الْهَرَمُ»، وَقَدْ «فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ دَاوَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجِرَاحَةِ فِي وَجْهِهِ» ثُمَّ اكْتِسَابُ السَّبَبِ بِالْمُدَاوَاةِ لَا يَنْفِي التَّيَقُّنَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 249 بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الشَّافِي فَكَذَا اكْتِسَابُ سَبَبِ الرِّزْقِ بِالتَّحَرُّكِ لَا يَنْفِي التَّيَقُّنَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّازِقُ وَالْعَجَبُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِ مَنْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَرِبْحِ تِجَارَتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الِاكْتِسَابُ حَرَامًا لَكَانَ الْمَالُ الْحَاصِلُ بِهِ حَرَامَ التَّنَاوُلِ؛ لِأَنَّ مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ يَكُونُ حَرَامًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَ تَنَاوُلُ ثَمَنِهَا حَرَامًا وَحَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ التَّنَاوُلِ عَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ مِنْ نَتِيجَةِ الْجَهْلِ وَالْكَسَلِ ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ وَقَالَتْ الْكَرَّامِيَّةُ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ أَحَدٌ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لِيَشْتَغِلَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ فَرْضًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ شَرْعًا يَكُونُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِضَافَةِ الْكَسْبِ إلَى وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ لَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِرَغْبَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَحْصِيلُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، فَإِنَّ مَا يُفْتَرَضُ لِلضَّرُورَةِ إنَّمَا يُفْتَرَضُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يَعْجِزُ عَنْ الْكَسْبِ فَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ فَرِيضَتُهُ إلَى حَالِ عَجْزِهِ؟ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُفْتَرَضَ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ أَوْ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِمْ وَكَذَا أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَخْيَارِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ النَّاسِ بِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الْفَرِيضَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ أَصْلًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُهُ فَرْضًا لَكَانَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَذْمُومٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] إلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 20] وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ لَمَّا كَانَ فَرْضًا كَانَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَكْسُوبِ إلَّا بَعْدَ الْكَسْبِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] الْآيَةَ يَعْنِي الْكَسْبَ وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمَا قَالَا الْمُرَادُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 250 طَلَبُ الْعِلْمِ قُلْنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ قَالَ «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ هِيَ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]» فَلَا يُتْرَكُ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَكْحُولٍ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالظَّاهِرُ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11] الْآيَةَ وَكَانُوا انْفَضُّوا بِذَلِكَ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ. قُلْنَا: الْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْإِيجَابِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَالرُّخْصَةُ لَقَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي بَابِ طَرِيقِ الْحَجِّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ مِنْ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمُعْتَدَّاتِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْكَسْبِ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ يَكُونُ وَاجِبًا وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ فِي الْكَسْبِ نِظَامُ الْعَالَمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ فِنَائِهِ وَجَعَلَ سَبَبَ الْبَقَاءِ وَالنِّظَامِ كَسْبَ الْعِبَادِ، وَفِي تَرْكِهِ تَخْرِيبَ نِظَامِهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فَبَقَاءُ هَذَا النِّظَامِ يَتَعَلَّقُ التَّسَافُدِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ: بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ. قُلْنَا: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْبَقَاءَ بِتَسَافُدِ الْحَيَوَانَاتِ وَرَكَّبَ الشَّهْوَةَ فِي طِبَاعِهِمْ وَتِلْكَ الشَّهْوَةُ تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِكَيْ لَا يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الطَّبْعَ دَاعٍ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ. فَأَمَّا الِاكْتِسَابُ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَدٌّ وَتَعَبٌ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ بَقَاءُ نِظَامِ الْعَالَمِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ أَصْلَهُ فَرْضًا لَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِهِمْ مَا يَدْعُوا إلَى الْكَدِّ وَالتَّعَبِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ فَرْضًا لِكَيْ لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ فَيَحْصُلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرُوا مِنْ التَّقْسِيمَاتِ يَبْطُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ، كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ. فَإِنَّ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ تَأْتِي فِي الْعِلْمِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُهُ فَرْضًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ طَلَبُ الْكَسْبِ وَكَانَ مَعْنَى الْفَرِيضَةِ مَا بَيَّنَّا مِنْ بَقَاءِ نِظَامِ الْعَالَمِ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ عَلَى قَصْدِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِكْثَارَ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} [الحديد: 20] ثُمَّ يَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ بَعْدَ مَا اكْتَسَبَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ هَلْ الِاشْتِغَالُ بِالِاكْتِسَابِ أَفْضَلُ أَمْ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ؟ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ أَفْضَلُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الِاكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَإِنَّ مَا يَكْتَسِبُهُ الزَّارِعُ تَصِلُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْجَمَاعَةِ عَادَةً، وَاَلَّذِي يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 251 إنَّمَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ يُحَصِّلُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَيُحَصِّلُ الثَّوَابَ لِجِسْمِهِ وَمَا كَانَ أَعَمَّ نَفْعًا. ، فَهُوَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ»، وَلِهَذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِمَارَةُ وَالسَّلْطَنَةُ بِالْعَدْلِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ، كَمَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ نَفْعًا وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «الْعِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجِهَادُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْعِبَادَةِ فِي عُمْرِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَكَذَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ إذَا أَحْرَجَهُمْ أَمْرٌ يَحْتَاجُونَ إلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ لَا بِالْكَسْبِ وَالنَّاسُ إنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إلَى الْعُبَّادِ دُونَ الْمُكْتَسِبِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاكْتِسَابَ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَنَالُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ بِمَنْعِ النَّفْسِ هَوَاهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى} [النازعات: 40] الْآيَةَ وَالِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِانْتِهَاءِ وَالدَّوَامُ فِي الْعِبَادَاتِ فَأَمَّا الْكَسْبُ فَفِيهِ بَعْضُ التَّعَبِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي الِانْتِهَاءِ وَتَحْصِيلُ مُرَادِ النَّفْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا يَكُونُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا النِّكَاحُ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ رَسُولِ اللَّهِ بِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَكَانَ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ بَعْد مَا يُحَصِّلُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهِيَ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى أَمْ صِفَةَ الْغِنَى وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: صِفَةُ الْغِنَى أَعْلَى، وَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 252 الْكَسْبِ فِي مَوْضِعَيْنِ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ مَذْهَبِنَا فَقَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ قَنَعُوا بِمَا يَكْفِيهِمْ وَعَمَدُوا إلَى الْفُضُولِ فَوَجَّهُوهَا لِأَمْرِ آخِرَتِهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَمَا زَادَ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ، وَلَا يُحَاسَبُ أَحَدٌ عَلَى الْفَقْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى فَاحْتَجَّ وَقَالَ: الْغِنَى نِعْمَةٌ وَالْفَقْرُ بُؤْسٌ وَنِقْمَةٌ وَمِحْنَةٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ النِّعْمَةَ أَفْضَلُ مِنْ النِّقْمَةِ وَالْمِحْنَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَالَ فَضْلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَسُمِّيَ الْمَالُ خَيْرًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180]، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10] يَعْنِي الْمُلْكَ وَالْمَالَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ سُرِّيَّةٍ فَتَمَنَّى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، وَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الدَّرَجَةَ الدُّنْيَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ يَدُ اللَّهِ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ وَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي مَرَضِهِ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْغِنَى أَعْلَى مِنْ صِفَةِ الْفَقْرِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْك» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُؤْسِ وَالتَّبَاؤُسِ» الْبُؤْسُ: الْفَقْرُ وَالتَّبَاؤُسُ: التَّمَسْكُنُ وَلَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ لِلْعِبَادِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ لِلْعَبْدِ مَا يَكُونُ أَسْلَمَ لَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْلَمُ بِالْفَقْرِ مِنْ طُغْيَانِ الْغِنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 11] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطُّغْيَانِ الْأَغْنِيَاءُ يَعْنِي الَّذِينَ ادَّعَوْا مَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ ثُمَّ صِفَةُ الْغِنَى مِمَّا تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ بِالْفَقْرِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 253 وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 14] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِدَاءِ الْجَيِّدِ عَلَى جَيِّدِ الْفَرَسِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ فُقَرَاءَ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ»، وَفِي الْآثَارِ «إنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - دُخُولًا الْجَنَّةَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُلْكِهِ» «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا أَبْطَأَك عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إنَّك آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولُ مَا حَبَسَك عَنِّي فَتَقُولُ: الْمَالُ، كُنْت مُحَاسِبًا مَحْبُوسًا حَتَّى الْآنَ» وَكَانَ هُوَ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَكَانَ مَالُهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَانَ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَانَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا، وَفِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَانَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّهِ مَا قَالَ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَفْضَلُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عُرِضَ عَلَيَّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَاسْتَفْتَيْت أَخِي جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالتَّوَاضُعِ فَقُلْت: أَكُونُ عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْت صَبَرْت، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ لِنَفْسِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لَنَا مَا سَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا حَظُّكُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ حَظِّي مِنْ الْأُمَمِ» فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا التَّمَسُّكُ بِهَذَا. وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُنْسِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ فَقْرٍ مُنْسٍ، وَمِنْ غِنًى يُطْغِي» إلَّا أَنَّهُ قَيَّدَ السُّؤَالَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمُرَادُهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا نَقَلَهُ، كَمَا سَمِعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ أَنَّ الشُّكْرَ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ أَمْ الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي جَوَابِهَا لِتَعَارُضِ الْآثَارِ وَقَالَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَوَقَّفَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ فِيهِمْ وَقَالَ إذًا فَيُقْتَدَى بِهِ وَيُتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 254 أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا سَوَاءٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالْجَائِعِ الصَّابِرِ»، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى عَبْدَيْنِ وَأَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِعْمَ الْعَبْدُ أَحَدُهُمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ، وَهُوَ دَاوُد قَالَ اللَّهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ} [ص: 30] الْآيَةَ وَالْآخَرُ اُبْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَهُوَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الشُّكْرُ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ أَنَّ جَمِيعَ الدُّنْيَا صَارَتْ لُقْمَةً فَتَنَاوَلَهَا عَبْدٌ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ بِمَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِمَّا أُوتِيَ» يَعْنِي لِمَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَبَيَّنَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّبْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا} [سبأ: 13]، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ أَفْضَلُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ»، وَلِأَنَّ فِي الْفَقْرِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالصَّبْرُ عَلَى الِابْتِلَاءِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَلَمِ الْمَرَضِ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْعَمَى أَفْضَلُ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى الْبَصَرِ «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَخَذْت كَرِيمَتَهُ وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ لَهُ عِنْدِي إلَّا الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ الْجَنَّةُ وَالرُّؤْيَةُ»، وَهَذَا الْفِقْهُ، وَهُوَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابًا فِي نَفْسِ الْمُصِيبَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُشَاكِهِ فِي رِجْلِهِ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «أَنَّ مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَصَابَهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَوْعَ اضْطِرَابٍ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ» فَعَرَفْنَا أَنَّ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابٌ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا فَأَمَّا نَفْسُ الْغِنَى فَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى وَمَا يُنَالُ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا يُنَالُ فِيهِ الثَّوَابُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا أَنَّ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ كَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156] الْآيَةَ. وَحُكِيَ أَنَّ غَنِيًّا وَفَقِيرًا تَنَاظَرَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ: أَنَا أَفْضَلُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [الحديد: 11] الْآيَةَ وَقَالَ الْفَقِيرُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَسْتَقْرِضُ مِنْ الْخَبِيثِ وَغَيْرِ الْخَبِيثِ، وَلَا يُسْتَقْرَضُ إلَّا الْأَجَلُّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْتَاجُ إلَى الْفَقِيرِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْفَقِيرُ إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَلْزَمُهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 255 أَدَاءُ حَقِّ الْمَالِ، فَلَوْ اجْتَمَعَ الْفُقَرَاءُ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْأَخْذِ وَيُحْمَدُونَ شَرْعًا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَخْذِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْفُقَرَاءَ كِفَايَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا ضَمِنَ لَهُمْ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ هُمْ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْفُقَرَاءُ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا ظَنَّهُ مَنْ يَعْتَبِرُ الظَّاهِرَ وَلَا يَتَأَمَّلُ فِي الْمَعْنَى، وَيَتَّضِحُ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ثُمَّ الْكَسْبُ عَلَى مَرَاتِبَ فَمِقْدَارُ مَا لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ يَعْنِي مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اكْتِسَابُهُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرَائِضِ إلَّا بِهِ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرَائِضِ يَكُونُ فَرْضًا فَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِابْنِ خُنَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا يَعِظُهُ لُقْمَةٌ تَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَك وَخِرْقَةٌ تُوَارِي بِهَا سَوْأَتَك فَإِنْ كَانَ لَك كِنٌّ يَكُنُّك فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَك دَابَّةٌ تَرْكَبُهَا بَخٍ بَخٍ» وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالِاكْتِسَابُ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَبِالِاكْتِسَابِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ» وَكَذَا إنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ غَنِيًّا؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] مَعْنَاهُ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ} [الطلاق: 7] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى إيفَاءِ هَذَا الْمُسْتَحَقِّ بِالْكَسْبِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَمُونُ» فَالتَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ فَرْضٌ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثُمَّ مَنْ تَعُولُ» فَإِنْ اكْتَسَبَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ لِسَنَةٍ بَعْدَ مَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ» عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَالْمُتَأَخِّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ كَبِيرَانِ مُعْسِرَانِ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمَا؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ عُسْرَتِهِ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْكَسْبِ «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ وَقَالَ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَك أَلَك أَبَوَانِ قَالَ نَعَمْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 256 ارْجِعْ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» يَعْنِي اكْتَسِبْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ تَرْكُهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَكِنَّ هَذَا دُونَ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْضِيَّةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعِي دِينَارٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك فَقَالَ مَعِي آخَرُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْك» الْحَدِيثَ فَأَمَّا غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يُفْتَرَضُ عَلَى الْمَرْءِ الْكَسْبُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْيَسَارِ، وَلَكِنَّهُ يُنْدَبُ إلَى الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ الْمَالَ فَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَيُكْرِمُ بِهِ ضَيْفَهُ وَيَبَرُّ بِهِ صَدِيقَهُ «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْغَبُ لَك رَغْبَةً مِنْ الْمَالِ». . . الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ» وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ النِّعْمَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تَقُولُ النِّعْمَةُ: كُفِرْت وَلَمْ أُشْكَرْ، وَتَقُولُ الْأَمَانَةُ: ضُيِّعْت وَلَمْ أُؤَدَّ، وَتَقُولُ الرَّحِمُ: قُطِعْت وَلَمْ أُوصَلْ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ تَرْفَعُ الْبَرَكَةَ مِنْ الْعُمْرِ» «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْته»، وَفِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مَا يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَيُنْدَبُ إلَى الِاكْتِسَابِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ اكْتَسَبَ وَجَمَعَ الْمَالَ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى. ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَرَفْنَا أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُبَاحٌ أَمَّا الْجَمْعُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُتَعَفِّفًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَهَا مُفَاخِرًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَدَلَّ أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَفُّفِ مُبَاحٌ وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِي عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمْرِي» وَكَانَ كَذَا، فَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً حَلُوبَةً وَفَدَكُ وَسَهْمٌ بِخَيْبَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ فَطَرِيقٌ مُبَاحٌ أَيْضًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى إلَيْهِمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وَقِيلَ هَذَا كَانَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ الرُّكُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ ثُمَّ اُنْتُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَتْ رِوَايَتُهُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَبًّا لِلْمَالِ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِصَاحِبِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 257 الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إلَّا مَنْ قَالَ بِمَالِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي يَتَصَدَّقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَقُولُ الشَّيْطَانُ: لَنْ يَنْجُوَ مِنِّي صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ أُزَيِّنَهُ فِي عَيْنِهِ فَيَجْمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِمَّا أَنْ أُحَقِّرَهُ فِي عَيْنِهِ فَيُعْطِيَ فِي غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِمَّا أَنْ أُحَبِّبَهُ إلَيْهِ فَيَمْنَعَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْجَمْعِ أَسْلَمُ، وَلَا عَيْبَ عَلَى مَنْ اخْتَارَ طَرِيقَ السَّلَامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَسْبَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَيَّ كَسْبٍ كَانَ حَتَّى قَالَ: إنَّ كَسْبَ فَتَّالِ الْحِبَالِ وَمُتَّخِذِ الْكِيزَانِ وَالْجِرَارِ وَكَسْبَ الْحَرَكَةِ فِيهِ مُعَاوَنَةٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى كُوزٍ يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ وَإِلَى دَلْوٍ وَرِشَاءٍ يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ وَيَحْتَاجُ إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِعَمَلِ الْحَرَكَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى إقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ لَا تَسُبُّوا الدُّنْيَا فَنِعْمَ مَطِيَّةُ الْمُؤْمِنِ الدُّنْيَا إلَى الْآخِرَةِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ فَنَظَرَ إلَيْهِ الرَّجُلُ كَالْمُتَعَجِّبِ فَقَالَ: لَوْلَا الْخُبْزُ مَا عُبِدَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي بِأَكْلِ الْخُبْزِ يُقِيمُ صُلْبَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الطَّاعَةِ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَكَاسِبَ كُلَّهَا فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الدَّنَاءَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا» وَالسَّفْسَافُ مَا يُدْنِي الْمَرْءَ وَيَبْخَسُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لَا يُكَفِّرُهَا الصَّوْمُ، وَلَا الصَّلَاةُ قِيلَ: فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَبُ الْحَلَالِ كَمُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ، وَمَنْ بَاتَ وَانِيًا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ مَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الِاكْتِسَابُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ» مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سِوَى التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ السُّؤَالِ لَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ» أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ لِغَيْرِهِ مَكْسَبَةٌ فِيهَا نَقْصُ الْمَرْتَبَةِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْك أَوْ مَنَعُوك» ثُمَّ الْمَذَمَّةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَيْسَتْ لِلْكَسْبِ بَلْ لِلْخِيَانَةِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ وَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَمَعْنَى الْبُخْلِ ثُمَّ الْمَكَاسِبُ أَرْبَعَةٌ الْإِجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْإِبَاحَةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 258 سَوَاءٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الزِّرَاعَةُ مَذْمُومَةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَابَةِ فِي دَارِ قَوْمٍ فَقَالَ مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا» «، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] أَهُوَ التَّعَرُّبُ؟ قَالَ: لَا لَكِنَّهُ الزِّرَاعَةُ»، وَالتَّعَرُّبُ سُكْنَى الْبَادِيَةِ وَتَرْكُ الْهِجْرَةِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ازْدَرَعَ بِالْجُرُفِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُطْلُبُوا الرِّزْقَ تَحْتَ خَبَايَا الْأَرْضِ» يَعْنِي الزِّرَاعَةَ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ»، وَقَدْ كَانَ لَهُ فَدَكُ وَسَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَكَانَ قُوتَهُ فِي آخِرِ الْعُمْرِ مِنْ ذَلِكَ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ أَرْضٌ بِخَيْبَرَ يُدْعَى ثَمْغٌ، وَقَدْ كَانَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَزَارِعُ بِالسَّوَادِ يَزْرَعُونَهَا وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا مَزَارِعُ بِالسَّوَادِ وَغَيْرِهِمَا وَتَأْوِيلُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِالزِّرَاعَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْجِهَادِ حَتَّى يَطْمَعَ فِيهِمْ عَدُوُّهُمْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ وَقَعَدْتُمْ عَنْ الْجِهَادِ وَذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالْجِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَفِي عَمَلِ الْمَزَارِعِ مُعَاوَنَةٌ لِلْمُجَاهِدِ، وَفِي عَمَلِ الْمُجَاهِدِ دَفْعٌ عَنْ الزَّارِعِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ التِّجَارَةُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ التِّجَارَةُ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَسُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّاجِرُ الْأَمِينُ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا فَبِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ تَحْصِيلُ مَا يُقِيمُ بِهِ الْمَرْءُ صُلْبَهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَبِالتِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْمُو الْمَالُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ هُوَ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ» فَالِاشْتِغَالُ بِمَا يَكُونُ نَفْعُهُ أَعَمَّ يَكُونُ أَفْضَلَ، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الزِّرَاعَةِ أَطْهَرُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ الزَّارِعُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ وَكُلُّ ذَلِكَ صَدَقَةٌ لَهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا غَرَسَ مُسْلِمٌ شَجَرَةً فَتَنَاوَلَ مِنْهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ طَيْرٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «وَمَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَالْعَافِيَةُ هِيَ الطُّيُورُ الطَّالِبَةُ لِأَرْزَاقِهَا الرَّاجِعَةُ إلَى أَوْكَارِهَا، وَإِذَا كَانَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 259 فِي عَادَةِ النَّاسِ ذَمُّ الْكَسْبِ الَّذِي يَنْعَدِمُ فِيهِ التَّصْدِيقُ كَعَمَلِ الْحِيَاكَةِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ عَرَفْنَا أَنَّ مَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْكَسْبِ، فَهُوَ أَفْضَلُ فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، فَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ وَمُجَاهِدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْمُرَادُ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ فَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ، كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ فَتَشْبِيهُ هَذَا بِذَاكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ فَرْضِيَّةِ طَلَبِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَالْمُرَادُ عِلْمُ الْحَلَالِ عَلَى مَا قِيلَ: أَفْضَلُ الْعِلْمِ عِلْمُ الْحَلَالِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ حِفْظُ الْحَالِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ فِي الْحَالِ لِأَدَاءِ مَا لَزِمَهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ عَيْنًا عِلْمُهُ كَالطَّهَارَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنْ أَرَادَ التِّجَارَةَ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يَتَحَرَّزُ بِهِ عَنْ الرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ زَكَاةِ جِنْسِ مَالِهِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْحَجَّ هَذَا مَعْنَى عِلْمِ الْحَالِ وَهَذَا عِلْمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَقَاءُ بَيْنَ النَّاسِ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ فَيُفْتَرَضُ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ جَمِيعًا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي بَيَانِ فَرِيضَةِ الْكَسْبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الَّذِينَ لَا يُعَلِّمُونَ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ لِيَرْتَفِعَ الْعِلْمُ بِهِمْ وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْقُلُوبِ وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ»، فَإِذَا قَبَضَ الْعُلَمَاءَ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك} [التوبة: 6] الْآيَةَ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ تَعْلِيمُ الْكَافِرِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ فَتَعْلِيمُ الْمُؤْمِنِ أَوْلَى وَبَيَانُ قَوْلِنَا أَنَّهُ مِنْ آكَدِ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ شُغِلَ جَمِيعَ عُمْرِهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ مُفْتَرَضًا فِي الْكُلِّ، وَلَوْ شُغِلَ جَمِيعَ عُمْرِهِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ كَانَ مُشْتَغِلًا فِي الْبَعْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ أَدَاءِ النَّفْلِ قَالَ، وَكَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ فَأَدَاءُ الْعِلْمِ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَ صَاحِبِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ مَعْرُوفٌ وَالْعَمَلُ بِخِلَافِهِ مُنْكَرٌ فَالتَّعْلِيمُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ هَلْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالْعِلْمِ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ النَّاسُ قَوْلَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى الْقَوْلَيْنِ وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 260 يُوجِبُ التَّعْمِيمَ وَقَالَ بَعْدَ هَذِهِ فَعَلَى الْبُصَرَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ طَرِيقَ الْفِقْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ عَلَى الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالْعِلْمِ خَاصَّةً وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الْآيَةَ، فَتَبَيَّنَ بِالْآيَتَيْنِ أَنَّ الْكِتْمَانَ حَرَامٌ وَأَنَّ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ لَازِمٌ فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ عِلْمٌ، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْكِتْمَانُ فِيمَا بَلَغَهُ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِظْهَارُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَيْتُمْ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ طَعَنَ عَلَى أَوَّلِهَا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ، فَإِنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ كَكَاتِمِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَعَلَى كُلٍّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ نِصَابِهِ وَصَاحِبُ النِّصَابِ وَصَاحِبُ الْمَنْصِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ زَمَانٍ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ فَكَذَا فِي كُلِّ حِينٍ وَمَكَانٍ إنَّمَا يُفْتَرَضُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ مَنْ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَقَلَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ وَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّ بَعْضُهُمْ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْعِلْمِ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَيَانُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ خَاصَّةً، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا كُلَّهُمْ قَدْ انْزَوَوْا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِتَعْلِيمِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ، وَكَذَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَانْزَوَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلْعِلْمِ ثَمَرَتَيْنِ الْعَمَلُ بِهِ وَالتَّعْلِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَيَكْتَفِي بِثَمَرَةِ الْعَمَلِ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَاصِلٌ. (قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةً لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ مَخْرَجٌ مِنْ الْإِثْمِ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ فَرْضٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] الْآيَةَ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى هَذَا التَّحَرُّزِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ، وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْعِلْمَ لَمَا تَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصَّوَابُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْبَيِّنُ مِنْ الْخَفِيِّ يَعْنِي أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَصْلُ الدِّينِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا أَحَقَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا مَحَاهُ اللَّهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ التَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 261 صَوَابٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْخَطَأِ بِجَهْدِهِ وَطَرِيقُ التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ (قَالَ فَعَلَى الْعُلَمَاءِ إذَا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ) يَعْنِي أَنَّ بَيَانَ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْآثَارِ وَاجِبٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا، كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيَسْمَعُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْكُمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا فَلْيُبَلَّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» ثُمَّ إنَّمَا يُفْتَرَضُ بَيَانُ مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ النَّاسِ، وَهُوَ النَّاسِخُ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَيَجِبُ رِوَايَتُهُ وَكَذَا الشَّاذُّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْفِتْنَةِ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْت لَرَمَيْتُمُونِي بِالْحِجَارَةِ وَأَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عِنْدَهُ حَدِيثٌ فِي الشَّهَادَةِ وَكَانَ لَا يَرْوِيهِ إلَى أَنْ اُحْتُضِرَ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْلَا مَا حَضَرَنِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا رَوَيْته لَكُمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «، مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» فَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ رِوَايَتِهِ فِي صِحَّتِهِ لِكَيْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ ثُمَّ لَمَّا خَافَ الْفَوْتَ بِمَوْتِهِ رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ فَهَذَا أَصْلٌ لِمَا بَيَّنَّا. (قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْتَرَضْ الْأَدَاءُ عَلَيْنَا لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا؟ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ فِي نَقْلِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْقُلُ هَذَا الدِّينَ عَنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» فَلَوْ جَوَّزْنَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَرْكَ النَّقْلِ لَجَوَّزْنَا مِثْلَ ذَلِكَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّوَافِضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ آيَاتٍ فِي شَأْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ فِي فَضْلِهِ وَالتَّنْصِيصَ عَلَى إمَامَتِهِ غَيْرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَتَمُوا ذَلِكَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هَذَا كَذِبٌ وَزُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَيْفَ بِجَمَاعَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ وَلَكِنْ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ الرَّوَافِضُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ فَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - مَا تَرَكُوا نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْفَرْضُ نَوْعَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فَفَرْضُ الْعَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إقَامَتُهُ نَحْوُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 262 كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ كَالْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَعَدَ الْكُلُّ عَنْ الْجِهَادِ حَتَّى اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بَعْضِ الثُّغُورِ اشْتَرَكَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَأْثَمِ بِذَلِكَ وَكَذَا غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالدَّفْنُ كُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ضَاعَ مَيِّتٌ بَيْنَ قَوْمٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَالِهِ كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ فَأَدَاءُ الْعِلْمِ إلَى النَّاسِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنُ الْعِلْمِ مَحْفُوظًا بَيْنَ النَّاسِ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْدَرَسَ شَيْءٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ (قَالَ وَمَا رَغَّبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْفَضَائِلِ فَأَدَاؤُهُ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ) وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مُبَاشَرَةَ فِعْلِ التَّطَوُّعَاتِ وَمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَا إثْمَ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ حَتَّى إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ زَمَانٍ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ كَانُوا تَارِكِينَ لِفَرِيضَةٍ مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّ بِتَرْكِ النَّفْلِ يَنْدَرِسُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَدَاءِ مَعْنَى الِانْدِرَاسِ وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ صَلَّى التَّطَوُّعَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ آثِمًا مُعَاتَبًا؛ لِأَنَّ فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَدَاءِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّطَوُّعَاتِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ قَطْعُ طَمَعِ الشَّيْطَانِ عَنْ وَسْوَسَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ هَذَا الْعَبْدُ يُؤَدِّي مَا لَيْسَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَتْرُكُ أَدَاءَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ وَسْوَسَتِهِ بِهَذَا، وَهُوَ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَمَكَّنَ فِي فَرِيضَةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ اجْعَلُوا نَوَافِلَ عَبْدِي جَبْرًا لِنُقْصَانِ فَرِيضَتِهِ»، وَإِذَا كَانَ فِي التَّطَوُّعِ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَيَانِ فِيهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ فَيَفُوتَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَصْلًا فَعَرَفْنَا أَنَّ أَدَاءَهُ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةُ فِعْلِهِ فَرِيضَةً (قَالَ وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ إلَّا لِغَائِبٍ حَضَرَ خُرُوجَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَهْلِ مِصْرِهِ) يَعْنِي بِهَذَا أَنَّ أَصْلَ الْبَيَانِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ الْوَقْتَ مُوَسَّعٌ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ كَمَا بَيَّنَّا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَلَّذِي أَتَاهُ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ فِي مِصْرِهِ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ حَتَّى يُفْتِيَهُمْ بِذَلِكَ إذَا رَجَعَ إلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ الْوَقْتُ فِي التَّعْلِيمِ وَاسِعًا عَلَى الْمُعَلِّمِ، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، فَقَدْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 263 تَضَيَّقَ الْوَقْتُ فَلَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَرْضٌ، وَلَكِنَّ الْوَقْتَ وَاسِعٌ، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَهْلِ مِصْرٍ فَأَمَّا فِيمَا اشْتَهَرَ فِيهِمْ فَلَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ مِصْرٍ، وَأَهْلُ مِصْرٍ يَتَوَصَّلُونَ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عُلَمَائِهِمْ دُونَ هَذَا الرَّاجِعِ إلَيْهِمْ وَالْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ يَعْنِي إذَا تَأَلَّمَ بَعْضُ الْجَسَدِ تَأَلَّمَ الْكُلُّ، وَإِذَا نَالَ الرَّاحَةَ بَعْضُ الْجَسَدِ اشْتَرَكَ فِي ذَلِكَ الْأَعْضَاءُ، فَإِذَا كَانَ مَشْهُورًا فِي أَهْلِ مِصْرٍ لَا يَنْدَرِسُ بِامْتِنَاعِ هَذَا الْعَالِمِ مِنْ الْبَيَانِ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِيهِمْ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إلَى الِانْدِرَاسِ فِي حَقِّهِمْ فَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيَانَ لِأَهْلِ مِصْرٍ حَتَّى يَنْدَرِسَ فَكَذَا لَا يَحِلُّ تَرْكُ الْبَيَانِ لِلَّذِي ارْتَحَلَ إلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِهَذَا الْمَقْصُودِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي أَهْلِ مِصْرٍ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَوْلَادَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَلْقًا لَا تَقُومُ أَبْدَانُهُمْ إلَّا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَاللِّبَاسُ وَالْكِنُّ، أَمَّا الطَّعَامُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا} [الأنبياء: 8] الْآيَةَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]، وَأَمَّا الشَّرَابُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الْآيَةَ، وَأَمَّا الْكِنُّ فَلِأَنَّهُمْ خُلِقُوا خَلْقًا لَا تُطِيقُ أَبْدَانُهُمْ مَعَهُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا تَبْقَى عَلَى شِدَّتِهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنْ نَفْسِهِ لِتَبْقَى نَفْسُهُ فَيُؤَدِّي بِهَا مَا تَحَمَّلَ مِنْ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِكِنٍّ فَصَارَ الْكِنُّ لِهَذَا بِمَعْنَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (قَالَ: وَقَدْ دَلَّهُمْ الْمَعَاشُ بِأَسْبَابٍ فِيهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَعَلُّمِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عُمْرِهِ، فَلَوْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ فَنِيَ عُمْرُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَمَا لَمْ يَتَعَلَّمْ لَا يُمْكِنُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْمَعِيشَةِ فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلُّمَ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَوَصَّلَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ بِعِلْمِهِ فَيَتَوَصَّلُ غَيْرُهُ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ أَيْضًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] الْآيَةَ، يَعْنِي أَنَّ الْفَقِيرَ مُحْتَاجٌ إلَى مَالِ الْغَنِيِّ وَالْغَنِيَّ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ الْفَقِيرِ فَهُنَا أَيْضًا الزَّارِعُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ النَّسَّاجِ لِيُحَصِّلَ اللِّبَاسَ لِنَفْسِهِ وَالنَّسَّاجُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ لِيُحَصِّلَ الطَّعَامَ وَالْقُطْنَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 264 كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ يَكُونُ مُعِينًا لِغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ بِهَذَا يَحْصُلُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ» وَسَوَاءٌ أَقَامَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِعِوَضٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ مَا بَيَّنَّا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَعْنَى الطَّاعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، فَإِذَا نَوَى الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ إقَامَةِ الطَّاعَةِ أَوْ تَمْكِينِ أَخِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا عَلَى عَمَلِهِ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ إذَا قَصَدَا بِفِعْلِهِمَا ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ وَتَكْثِيرَ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُمَا الثَّوَابُ عَلَى عَمَلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي الْأَصْلِ وَلَكِنْ بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ أَصْلًا وَيَصِيرُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ تَبَعًا فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ: فَإِنْ تَرَكُوا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، فَقَدْ عَصَوْا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلَفًا) يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا كَانَتْ لَا تَبْقَى عَادَةً بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ قَاتِلٌ نَفْسَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وَهُوَ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَبَعْدَ التَّنَاوُلِ، فَقَدْرُ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ يُنْدَبُ إلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ مِقْدَارَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ يَضْعُفُ وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، وَلِأَنَّ اكْتِسَابَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: الصَّلَوَاتُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَسْرُوقٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالْمُرَادُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْحُرْمَةَ تَنْكَشِفُ فَيُلْحَقُ بِالْمُبَاحِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَيْتَةِ هَذَا مَعَ حُرْمَتِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَمَا ظَنُّك فِي الطَّعَامِ الْحَلَالِ (قَالَ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] الْآيَةَ) وَالْمُرَادُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَصَّ الْمَسَاجِدَ بِالذِّكْرِ وَالنَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ؟ فَلَا فَائِدَةَ لِتَخْصِيصِ الْمَسَاجِدِ بِالذِّكْرِ سِوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ فَرْضًا، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنْ كَانَ خَالِيًا فِي بَيْتِهِ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى السَّتْرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرُوا عِنْدَهُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ» (قَالَ وَعَلَى النَّاسِ اتِّخَاذُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 265 الْأَوْعِيَةِ لِنَقْلُ الْمَاءِ إلَى النِّسَاءِ)؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ، وَإِنْ تَيَمَّمَتْ لِلْوُضُوءِ احْتَاجَتْ إلَى الْمَاءِ لِتَشْرَبَ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَخْرُجَ تَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ، فَإِنَّهَا أُمِرَتْ بِالْقَرَارِ فِي بَيْتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ حَاجَتَهَا كَالنَّفَقَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِكَفِّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّخِذَ وِعَاءً لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَأَتَّى إقَامَةُ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا (قَالَ وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92] الْآيَةَ) وَهَذَا مَثَلٌ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ ابْتَدَأَ طَاعَةً ثُمَّ لَمْ يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَغْزِلُ ثُمَّ تُنْقِضُ فَلَا تَكُونُ ذَاتَ غَزْلٍ، وَلَا ذَاتَ قُطْنٍ، وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِكْنَانِ حَتَّى مَاتَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ دُخُولَ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ قَصْدًا فَكَأَنَّهُ قَتَلَهَا بِحَدِيدَةٍ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجِيءُ بِهَا نَفْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ثُمَّ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَأَضْمَرَ فِي كَلَامِهِ مَعْنًى صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّخُولَ الَّذِي هُوَ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ دَاخِلُهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ جَزَاءِ فِعْلِهِ يَعْنِي أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِ دُخُولُ النَّارِ، وَلَكِنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِفَضْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ النَّارَ بِعَدْلِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قِيلَ فِي بَيَانِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إنْ جَازَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ عَفُوٌّ كَرِيمٌ يَتَفَضَّلُ بِالْعَفْوِ، وَلَا يُخَلِّدُ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ (قَالَ وَكُلُّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنْ إفْسَادِ الطَّعَامِ، وَمِنْ الْإِفْسَادِ الْإِسْرَافُ) وَهَذَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَعَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ»، وَفِي الْإِفْسَادِ إضَاعَةُ الْمَالِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ الْحَلَالِ الْإِفْسَادُ وَالسَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ، أَمَّا الْإِفْسَادُ فَحَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77] الْآيَةَ، وَأَمَّا السَّرَفُ فَحَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] الْآيَةَ وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا} [الفرقان: 67] الْآيَةَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّقْتِيرَ حَرَامٌ وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ مَا بَيْنَهُمَا، وَفِي الْإِسْرَافِ تَبْذِيرٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ فَمِنْ ذَلِكَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَكْفِي ابْنَ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ»، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ بَلْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 266 فِيهِ مَضَرَّةٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الطَّعَامِ فِي مَزْبَلَةٍ أَوْ شَرٍّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ مِنْ الطَّعَامِ فِيهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَسُدُّ بِهِ جَوْعَتَهُ إذَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ فِي تَنَاوُلِهِ جَانٍ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ رُبَّمَا يُمْرِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَجِرَاحَتِهِ نَفْسَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا تَجَشَّأَ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ نَحِّ عَنَّا جُشَاءَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا» «، وَلَمَّا مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِ مَرَضِهِ فَقِيلَ: إنَّهُ أَتْخَمَ، قَالَ: وَمِمَّ ذَاكَ؟ فَقِيلَ: مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا إنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أَشْهَدْ جِنَازَتَهُ وَلَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ»، وَلَمَّا قِيلَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَلَا تَتَّخِذُ لَك جَوَارِشًا؟ قَالَ: وَمَا يَكُونُ الْجَوَارِشُ؟ قِيلَ: هُوَ صِنْفٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الشِّبَعِ؟ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةً، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَهُ ضَيْفٌ بَعْدَ تَنَاوُلِهِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ فَيَأْكُلَ مَعَ ضَيْفِهِ لِئَلَّا يَخْجَلَ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ فِي الْغَدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ بِاللَّيْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ بِالنَّهَارِ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَالْأَلْوَانِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَقَالَ «تُدَارُ الْقِصَاعُ عَلَى مَوَائِدِهِمْ وَاللَّعْنَةُ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ» «وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ فِي ضِيَافَةٍ فَأُتِيَتْ بِقَصْعَةٍ بَعْدَ قَصْعَةٍ فَقَامَتْ وَجَعَلْت تَقُولُ: أَلَمْ تَكُنْ الْأُولَى مَأْكُولَةً، وَإِنْ كَانَتْ فَمَا هَذِهِ الثَّانِيَةُ؟ وَفِي الْأُولَى مَا يَكْفِينَا قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا» إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَنْ يَمَلَّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَسْتَكْثِرَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شَيْئًا فَيَجْتَمِعَ لَهُ مِقْدَارُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَشْكُو إلَيْهِ ثَلَاثًا: الْعَجْزَ عَنْ الْأَكْلِ وَعَنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْعِيِّ فِي الْكَلَامِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اسْتَكْثِرْ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَجَدِّدْ السَّرَارِيَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَانْظُرْ إلَى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فِي خُطْبَتِك، وَمِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَضَعَ عَلَى الْمَائِدَةِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ فِيهِ كَانَ حَقَّ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا عَلَى آخِرِ الطَّعَامِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ يَأْكُلَ وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ حَوَاشِيَهُ أَوْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 267 الْجُهَّالِ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ غَيْرُهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَرَكَ هُوَ مِنْ حَوَاشِيهِ، أَمَّا إذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ كَأَنْ يَخْتَارَ لِتَنَاوُلِهِ رَغِيفًا دُونَ رَغِيفٍ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ التَّمَسُّحُ بِالْخُبْزِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَمْسَحُ بِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَتَقَذَّرُ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يَأْكُلُ مَا يَمْسَحُ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ إذَا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ لُقْمَةٌ أَنْ يَتْرُكَهَا بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ فَيَأْكُلَهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالطَّعَامِ، وَفِي التَّنَاوُلِ إكْرَامًا، وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِ الْخُبْزِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ، فَإِنَّهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، وَمِنْ إكْرَامِ الْخُبْزِ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ الْإِدَامَ إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْدُوبٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَفِي تَرْكِ اللُّقْمَةِ الَّتِي سَقَطَتْ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَفِي الْمُبَادَرَةِ إلَى تَنَاوُلِ الْخُبْزِ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ إظْهَارُ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَإِذَا كَانَ جَائِعًا فَفِي الِامْتِنَاعِ إلَى أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ نَوْعُ مُمَاطَلَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ حِكَايَةٌ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَقِيَ بُهْلُولًا الْمَجْنُونَ يَوْمًا، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الطَّرِيقِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَقَالَ: أَمَا تَسْتَحِي مِنْ نَفْسِك أَنْ تَأْكُلَ بِالطَّرِيقِ، قَالَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ أَنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا وَنَفْسِي غَرِيمِي وَالْخُبْزُ فِي حِجْرِي، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» فَكَيْفَ أَمْنَعُهَا حَقَّهَا إلَى أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ وَالْمَخِيلَةُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمِقْدَادِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ثَوْبٍ لَبِسَهُ إيَّاكَ وَالْمَخِيلَةَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ»، وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} [المدثر: 6] الْآيَةَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَاثُرَ حَرَامٌ (قَالَ وَأَمْرُ اللِّبَاسِ نَظِيرُ الْأَكْلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا نَهَى عَنْ الْإِسْرَافِ وَالتَّكْثِيرِ مِنْ الطَّعَامِ فَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الثَّوْبَيْنِ» وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَلْبَسَ نِهَايَةَ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ فِي الثِّيَابِ عَلَى وَجْهٍ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ أَوْ يَلْبَسَ نِهَايَةَ مَا يَكُونُ مِنْ الثِّيَابِ الْخَلَقِ عَلَى وَجْهٍ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْرَافِ وَالْآخَرَ يَرْجِعُ إلَى التَّقْتِيرِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ الْغَسِيلَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْجَدِيدَ الْحَسَنَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ» إلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنْ الثِّيَابِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَادِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 268 وَالْأَوْقَاتِ وَالْجُمَعِ لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ كَانَ لَهُ جُبَّةٌ أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقَسُ فَكَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَلِلْوُفُودِ يَنْزِلُونَ إلَيْهِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَاءٌ مَكْفُوفٌ بِالْحَرِيرِ وَكَانَ يَلْبَسُ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ»، وَلِأَنَّ فِي لُبْسِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إظْهَارَ النِّعْمَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ»، وَفِي التَّكَلُّفِ لِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مَعْنَى الصَّلَفِ وَرُبَّمَا يَغِيظُ ذَلِكَ الْمُحْتَاجِينَ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَكَذَا فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَاهِرَ بَيْنَ جُبَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ إذَا كَانَ يَكْفِيهِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ جُبَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُؤْذِي غَيْرَهُ وَمَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْخَشِنَ مِنْ الثِّيَابِ لِلُّبْسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْخَشِنَ مِنْ الثِّيَابِ فَإِنْ لَبِسَ الْخَشِنَ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَاللِّينَ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، الْخَشِنُ يَدْفَعُ مِنْ الْبَرْدِ مَا لَا يَدْفَعُهُ اللِّينُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَاللِّينُ مُنَشِّفٌ مِنْ الْعَرَقِ مَا لَا يُنَشِّفُهُ الْخَشِنُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ، وَإِنْ لَبِسَ اللِّينَ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ لَهُ أَيْضًا إذَا كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ. وَكَمَا يُنْدَبُ إلَى مَا بَيَّنَّا فِي طَعَامِ نَفْسِهِ وَكِسْوَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي طَعَامِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَعْرُوفُ مَا يَكُونُ دُونَ السَّرَفِ وَفَوْقَ التَّقْتِيرِ حَتَّى قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَلَّفَ تَحْصِيلَ جَمِيعِ شَهَوَاتِ عِيَالِهِ، وَلَا أَنْ يَمْنَعَهَا جَمِيعَ شَهَوَاتِهَا، وَلَكِنَّ إنْفَاقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدِيمَ الشِّبَعَ مِنْ الطَّعَامِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ «أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا» «وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قُبِضَ وَتَقُولُ يَا مَنْ لَمْ يَلْبَسْ الْحَرِيرَ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» «وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ رُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ أَوْ أَكْثَرُ لَا نُوقِدُ فِي بُيُوتِنَا نَارًا، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ»، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَطْوَلُ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا»، فَلِهَذَا كَانَ التَّحَرُّزُ عَنْ اسْتِدَامَةِ الشِّبَعِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى (قَالَ وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ) يَعْنِي حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ الْجُوعُ إلَى حَالٍ تَضُرُّهُ وَتُفْسِدُ مَعِدَتَهُ بِأَنْ تَحْتَرِقَ فَلَا يَنْتَفِعَ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّهَاوُنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَقٌّ قَبْلَهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ «نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا، وَلَا تُجِعْهَا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 269 لِآخَرَ «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِلَّهِ عَلَيْك حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ كُلْ وَاشْرَبْ وَالْبَسْ عَنْ غَيْرِ مَخِيلَةٍ» وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِيهِ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَفْوِيتِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِنَفْسِهِ، وَكَمَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْعِبَادَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَرَامٌ فَاكْتِسَابُ سَبَبِ التَّفْوِيتِ حَرَامٌ فَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَيَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَهُ، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْأَكْلِ لِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ صَائِمًا أَوْ لِيَكُونَ الطَّعَامُ أَلَذَّ عِنْدَهُ إذَا تَنَاوَلَهُ فَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَنَاوِلُ أَجْوَعَ كَانَتْ لَذَّتُهُ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ بِالِامْتِنَاعِ إلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بَلْ فِيهِ إتْلَافُ النَّفْسِ وَحُرْمَةُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَوْقَ حُرْمَةِ نَفْسٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسٍ أُخْرَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ إتْلَافِهَا فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ، كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهِيَ عَدُوُّ الْمَرْءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ «أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ» يَعْنِي نَفْسَهُ وَلِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَرَى عَدُوَّهُ فَكَيْف يَصِيرُ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ النَّفْسِ» وَتَجْوِيعُ النَّفْسِ مُجَاهَدَةٌ لَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْهَلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فِي حَمْلِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَفِي التَّجْوِيعِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَفْوِيتُ الْعِبَادَةِ لَا حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفْسَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَمَانَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا مَعْصُومَةً لِتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ الَّتِي تَحَمَّلَتْهَا، وَلَا تَتَوَصَّلُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْأَكْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَأَمَّا الشَّابُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشَّبَقِ وَالْوُقُوعِ فِي الْعَيْبِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَكْلِ وَيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ فَتَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، وَلِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي عَلَى مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: فِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ إشْبَاعُهَا، وَفِي إشْبَاعِهَا تَجْوِيعُهَا ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: إذَا جَاعَتْ وَاحْتَاجَتْ إلَى الطَّعَامِ شَبِعَتْ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا شَبِعَتْ عَنْ الطَّعَامِ جَاعَتْ وَرَغِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا كَانَ التَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَرْضًا، وَإِنَّمَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 270 يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّجْوِيعِ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا (قَالَ وَيُفْتَرَضُ عَلَى النَّاسِ إطْعَامُ الْمُحْتَاجِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالطَّلَبِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْخُرُوجِ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُطْعِمُهُ مِقْدَارَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ إلَى جَنْبِهِ طَاوٍ حَتَّى إذَا مَاتَ، وَلَمْ يُطْعِمْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِحَالِهِ اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي الْمَأْثَمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ جُوعًا بَيْنَ قَوْمٍ أَغْنِيَاءٍ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ بِحَالِهِ مَا يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى النَّاسِ فَيُخْبِرُ بِحَالِهِ لِيُوَاسُوهُ وَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُزِيلُ ضَعْفَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الْمَأْثَمِ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَسِيرِ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ أَسِيرًا فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَقَصَدُوا قَتْلَهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِحَالِهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْجُوعَ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ عَدُوٌّ يُخَافُ الْهَلَاكُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدُوِّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِيُعْلَمَ بِحَالِهِ، وَمَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ لِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مَصْرِفًا وَمُسْتَحَقًّا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ يُنْدَبُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] وَلَمَّا «، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ إفْشَاءُ السَّلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» فَإِنْ كَانَ الْمُحْتَاجُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا يَسْأَلُ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِمَا فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ قَالَ: أَمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي السُّؤَالِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» يَعْنِي لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ لِلْقَوِيِّ الْقَادِرِ عَلَى التَّكَسُّبِ وَقَالَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 271 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ»، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَأَلَ فَأُعْطِيَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا»، فَلَوْ كَانَ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ لَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَقِيرٌ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَطُوفَ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَسْأَلَ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ كَانَ آثِمًا عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ: السُّؤَالُ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا بَلْ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَ رَفِيقٌ لَهُ مَاءٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ رَفِيقَهُ، وَلَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَاءَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ، وَلَمْ تَجُزْ عِنْدَنَا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي السُّؤَالِ ذُلًّا وَلِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الذُّلِّ، وَبَيَانُهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَنَقْلُ الصَّخْرِ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ ... أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجَالِ يَقُولُ النَّاسُ لِي فِي الْكَسْبِ عَارٌ ... فَقُلْت الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الذُّلِّ بِالسُّؤَالِ تَعَيَّنَ وَمَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَوْهُومٌ وَرُبَّمَا يُعْطَى مَا يَسْأَلُ وَرُبَّمَا لَا يُعْطَى فَكَانَ السُّؤَالُ رُخْصَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ إذْ الْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّؤَالَ يُوصِلُهُ إلَى مَا تَقُومُ بِهِ نَفْسُهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَالْكَسْبِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَمَعْنَى الذُّلِّ فِي السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَمْنُوعٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى وَمُعَلِّمِهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُمَا سَأَلَا عَنْ الْحَاجَةِ؟ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77] وَالِاسْتِطْعَامُ طَلَبُ الطَّعَامِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ {لَوْ شِئْتَ لَاِتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْبِرِّ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ أَوْ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ سِوَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَ وَكَذَا رَسُولُ اللَّهِ «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَا يُلَتُّ فِي السَّمْنِ وَإِلَّا اكْتَرَعْنَا مِنْ الْوَادِي كَرْعًا» «وَسَأَلَ رَجُلًا ذِرَاعَ شَاةٍ وَقَالَ نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ، فَلَوْ كَانَ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ذُلًّا لَمَا فَعَلَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - ذَلِكَ، فَقَدْ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الذُّلِّ، وَلِأَنَّ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي سُؤَالِ النَّاسِ فَلَيْسَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 272 فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي كَسْبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلَا يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ، كَمَا فَعَلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ {إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَقَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ وَالشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ» (قَالَ: وَالْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ يُقِيمُ بِالْأَخْذِ فَرْضًا عَلَيْهِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ فَهُنَا الْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِعْطَاءِ يُؤَدِّي لِلْفَرْضِ وَالْآخِذُ فِي الْأَخْذِ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَكْتَسِبَ وَدَرَجَةُ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْمُتَبَرِّعِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي النَّوَافِلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَعَمَلُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك» مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بِنَفْسِ الْأَدَاءِ يُفْرِغُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَالْآخِذُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بَلْ بِالتَّنَاوُلِ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَلَا يَدْرِي أَيَبْقَى إلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوْ لَا يَبْقَى، وَلِهَذَا لَا مِنَّةَ لِلْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ لِلْغَنِيِّ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْمَلُ لِلْغَنِيِّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْحَالِ لِيَصِلَ إلَيْهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُهُ لِلْحَالِ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْفُقَرَاءُ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ فِي ذَلِكَ مَأْثَمٌ بَلْ يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اجْتَمَعَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِنَّةَ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ إنْ كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَالْمُعْطِي هُنَا أَفْضَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمَا يُعْطِي سَلَخَ عَنْ الْغِنَى وَيَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ وَالْآخِذُ يَتَمَاثَلُ إلَى الْغِنَى وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَةَ الْفَقِيرِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ فَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ بِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ، وَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ لِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى دَرَجَةً؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ بِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ بِالْإِعْطَاءِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَفِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ دَاعِيَةٌ إلَى الْأَخْذِ دُونَ الْإِعْطَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ فِي تَصَدُّقِهِ بِدِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَكْسِرَ شَهَوَاتِ سَبْعِينَ شَيْطَانًا»، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي الْإِعْطَاءِ أَظْهَرَ كَانَ أَفْضَلَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ «وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ» وَالْآخِذُ يُحَصِّلُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 273 لِنَفْسِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُعْطِي يُخْرِجُ مِنْ مِلْكِهِ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ مُقْتَرِضًا بِأَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ فَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمُعْطِي أَفْضَلُ أَيْضًا وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْآخِذُ أَفْضَلُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ مُقِيمٌ بِهِ فَرْضًا عَلَيْهِ وَالْمُعْطِي مُتَنَفِّلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ التَّنَفُّلِ، وَلِأَنَّ الْآخِذَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا كَانَ آثِمًا وَالْمُعْطِي لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِعْطَاءِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُعْطِيهِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالثَّوَابُ مُقَابَلٌ بِالْعُقُوبَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَّدَ نِسَاءَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ غَيْرَهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] الْآيَةَ ثُمَّ جَعَلَ لَهُنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ ضِعْفَ مَا لِغَيْرِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ فِي حَقِّ الْآخِذِ دُونَ الْمُعْطِي فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ لِلْآخِذِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمُعْطِي، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُشْكِلٌ بِرَدِّ السَّلَامِ، فَإِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالسَّلَامِ أَفْضَلَ مِنْ الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْبَادِئِ بِالسَّلَامِ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَلِلرَّادِّ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» وَرُبَّمَا يَقُولُونَ الْآخِذُ يَسْعَى فِي إحْيَاءِ النَّفْسِ وَالْمُعْطِي يَسْعَى فِي تَحْصِينِ النَّفْسِ أَوْ فِي إنْمَاءِ الْمَالِ وَإِحْيَاءُ النَّفْسِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ إنْمَاءِ الْمَالِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ بَيْنَ السُّفْلَى بِالْأَدَاءِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَخْذِ مِنْ الْعَيْنِ وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ أُحُدٍ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا فِي الْمَعْنَى يَدُ الْفَقِيرِ، قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: يَدُ اللَّهِ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَبِهَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي، وَلِأَنَّ الْمُعْطِيَ يَتَطَهَّرُ مِنْ الدَّنَسِ بِالْإِعْطَاءِ وَالْآخِذَ يَتَلَوَّثُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي أَدَاءِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 274 الصَّدَقَةِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّنْزِيهِ، وَفِي الْأَخْذِ تَلْوِيثٌ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّدَقَةَ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَسَمَّاهَا غُسَالَةً فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ» يَعْنِي الصَّدَقَةَ وَيَدُلُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَاشِرُ الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِهِ وَكَانَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِنَفْسِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَلِآلِ مُحَمَّدٍ» وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا كَانَ يَحِلُّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَحِلُّ لِقَرَابَتِهِمْ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ حَرَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى قَرَابَتِهِ إظْهَارًا لِفَضْلِهِ لِتَكُونَ دَرَجَتُهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَدَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَحِلُّ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَمَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِعْطَاءِ بِحَالٍ لَمَا كَانَ فِي تَحْرِيمِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ نَدَبَ كُلَّ أَحَدٍ إلَى التَّصَدُّقِ وَنَدَبَ كُلَّ أَحَدٍ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ السُّؤَالِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَسْأَلْ النَّاسَ شَيْئًا أَعْطَوْك أَوْ مَنَعُوك»، «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَعْطَاك أَوْ مَنَعَك فَكَانَ بَعْدَ مَا سَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْرِضُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِمَّا يُعْطِي فَكَانَ لَا يَأْخُذُ وَيَقُولُ لَسْت آخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا بَعْدَ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا قَالَ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُشْهِدُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَشْهَدْتُكُمْ عَلَيْهِ أَنِّي عَرَضْت عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَهُوَ يَأْبَى» وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَخْذِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] الْآيَةَ يَعْنِي مِنْ التَّعَفُّفِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْأَخْذِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابًا مِنْ الْفَقْرِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْفَقْرِ»، فَإِذَا كَانَ التَّعَفُّفُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَخْذِ كَانَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَخْذِ تَرْكُ التَّعَفُّفِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْطِي أَفْضَلَ مِنْ الْآخِذِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ (قَالَ وَكُلُّ مَا كَانَ الْأَكْلُ فِيهِ فَرْضًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُثَابًا عَلَى الْآكِلِ؛ لِأَنَّهُ تَمَثَّلَ بِهِ الْأَمْرَ فَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ) فَيَقُولُ لِلَّذِي لَهُ السَّعْيُ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي مُبَاضَعَتِهِ أَهْلَهُ فَقِيلَ إنَّهُ يَقْضِي شَهْوَتَهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 275 أَفَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِلِّهِ أَمَا كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ» وَبِمِثْلِهِ نَسْتَدِلُّ هُنَا فَنَقُولُ لَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا أَكَلَ كَانَ مُثَابًا عَلَيْهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ دِينَارِ الْمَرْءِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ»، فَإِذَا كَانَ هُوَ مُثَابًا فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى قَالَ، وَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا، وَلَا مُسِيئًا فِي ذَلِكَ، وَلَا مُعَاتَبًا، وَلَا مُعَاقَبًا؛ لِأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مُثَابٌ عَلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعَاتَبًا عَلَيْهِ أَوْ مُحَاسَبًا؟ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ «أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَكْلَةٌ أَكَلْتهَا مَعَك فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ مِنْ لَحْمٍ وَخُبْزِ شَعِيرٍ هُوَ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّمَا ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ثَلَاثٍ قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يُوَارِي سَوْأَتَهُ وَمَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ وَمَا يُكِنُّ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثُمَّ هُوَ مَسْئُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ». وَالثَّانِي حَدِيثُ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ فَأُتِيَ بِعِذْقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعِذْقَ وَجَعَلَ يَنْفُضُهُ حَتَّى تَنَاثَرَ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ: أَوَنُسْأَلُ عَنْ هَذَا: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إي وَاَللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ حَتَّى الشَّرْبَةَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ إلَّا عَنْ ثَلَاثٍ كِسْرَةٌ تُقِيمُ بِهَا صُلْبَك أَوْ خِرْقَةٌ تُوَارِي بِهَا سَوْأَتَك أَوْ كِنٌّ يُكِنُّك مِنْ الْحَرِّ» قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُحَاسَبُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً فَمَنْ زَجَّى عُمْرَهُ بِهَذَا وَكَانَ قَانِعًا رَاضِيًا دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ هُدِيَ بِالْإِسْلَامِ وَقَنَعَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أَنَّ الْمُصْلِحَ الَّذِي يَصِيرُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَهُ التَّنَاوُلُ إلَى مِقْدَارِ الشِّبَعِ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، فَهُوَ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْخَبِيصِ وَالْفَوَاكِهِ وَأَنْوَاعِ الْحَلَاوَاتِ مِنْ السُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى إنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ وَالِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَهُ أَفْضَلُ لَهُ فَكَانَ تَنَاوُلُ هَذِهِ النِّعَمِ رُخْصَةً وَالِامْتِنَاعُ مِنْهَا عَزِيمَةً فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِحَدِيثَيْنِ رُوِيَا فِي الْبَابِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ الصِّدِّيقِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 276 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أُتِيَ يَوْمًا بِقَدَحٍ تَنَدَّتْ بِعَسَلٍ وَبَرْدٍ لَهُ فَقَرَّبَهُ إلَى فِيهِ ثُمَّ رَدَّهُ وَأَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَقَالَ أَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مِنْ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] الْآيَةَ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ تَنَاوُلَ ذَلِكَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ أَفْضَلُ وَالثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً وَأَمَرَ بِهَا فَزُيِّنَتْ لَهُ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهَا بَكَى وَقَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مِنْ الَّذِينَ يَتَوَصَّلُونَ إلَى جَمِيعِ شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ دَعَا شَابًّا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ فَأَهْدَاهَا لَهُ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَقَدْ كَانَ طَرِيقُهُمْ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ هَذَا فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ. وَكَذَا نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رُبَّمَا أَصَابَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «لَيْتَ لَنَا مَلْتُوتًا نَأْكُلُهُ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَصْعَةٍ فَقِيلَ: إنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ، وَقِيلَ لَمْ يُصِبْ وَأَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ» ثُمَّ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَنَاوُلِ الْخُبْزِ إلَى الشِّبَعِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ سِوَى الْعَرْضِ عَلَى مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ الْعَرْضُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَمَعْنَى الْعَرْضِ بَيَانُ الْمِنَّةِ وَتَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالسُّؤَالِ أَنَّهُ هَلْ قَامَ بِشُكْرِهَا؟ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] الْآيَةَ أَنَّهُ الْعَرْضُ بِمِثْلِ هَذَا، وَأَمَّا فِي اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَتَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ، فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الدُّنْيَا «حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ حَدِيثُ «الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافِدًا مِنْ قَوْمِهِ وَكَانَ مُتَنَعِّمًا فِيهِمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا طَعَامُك يَا ضَحَّاكُ قَالَ اللَّحْمُ وَالْعَسَلُ وَالزَّيْتُ وَلُبُّ الْخُبْزِ قَالَ ثُمَّ تَصِيرُ إلَى مَاذَا فَقَالَ أَصِيرُ إلَى مَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لِلدُّنْيَا مَثَلًا بِمَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ إيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ»، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَعَامَهُ، وَإِنْ كَانَ لَذِيذًا طَيِّبًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الْخُبْثِ وَالنَّتِنِ فِي الِانْتِهَاءِ، فَهُوَ مِثْلُ الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَفِي حَدِيثِ «الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا خُبْزُ شَعِيرٍ وَزَيْتٌ فَجَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَدْعُو الْأَحْنَفَ إلَى أَكْلِهِ وَكَانَ لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 277 فَذَكَرَ الْأَحْنَفُ ذَلِكَ لِحَفْصَةَ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَ طَعَامَهُ طَيِّبًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَبَكَى وَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ ثَلَاثَةً اصْطَلَحُوا فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَالثَّانِي بَعْدَهُ ثُمَّ خَالَفَهُمْ الثَّالِثُ فِي الطَّرِيقِ أَكَانَ يُدْرِكُهُمْ؟ فَقَالَتْ: لَا، قَالَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يُصِبْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا شَيْئًا وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَهُ كَذَلِكَ، فَلَوْ اشْتَغَلَ عُمَرُ بِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا مَتَى يُدْرِكُهُمْ» فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَفِي الْحَاصِلِ الْمَسْأَلَةُ صَارَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَفِي مِقْدَارِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ هُوَ مُثَابٌ غَيْرُ مُعَاقَبٍ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى حَدِّ الشِّبَعِ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ حِسَابًا يَسِيرًا بِالْعَرَضِ. وَفِي قَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ مِنْ الْحَلَالِ هُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ مُطَالَبٌ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَحَقِّ الْجَائِعِينَ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ أَكْرَهُهُ وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِيلَ لَهُ: إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ مَا رَأْيُك فِيهِ قَالَ إلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا تَجَشَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا تَفْتِنَّا» وَالْجُشَأُ مِنْ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَتَسَبُّبُ الْمَوْتِ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ فَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْهُ فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ سَوَاءٌ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ السُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ دِرْهَمًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِهِ وَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ أَوْ يُخَلِّفُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ ذَلِكَ زَادَهُ إلَى النَّارِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اكْتَسَبَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُبَالِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ مِنْ أَيِّ بَابٍ كَانَ وَلَا يُبَالِي» «، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَيِّبْ طُعْمَتَك أَوْ قَالَ أَكْلَتَك تُسْتَجَبْ دَعْوَتُك». وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي بَيَانِ حَالِ النَّاسِ بَعْدَهُ يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَقُولُ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الدِّرْهَمُ الْحَلَالُ فِيهِمْ أَعَزُّ مِنْ أَخٍ فِي اللَّهِ وَالْأَخُ فِي اللَّهِ أَعَزُّ فِيهِمْ مِنْ دِرْهَمٍ حَلَالٍ» قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ اللِّبَاسِ يَعْنِي أَنَّهُ مَأْجُورٌ فِيمَا يُوَارِي بِهِ سَوْأَتَهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 278 وَيَدْفَعُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنْهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ وَتَرَكَ الْأَجْوَدِ مِنْ الثِّيَابِ وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ، كَمَا فِي الطَّعَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَبِسَ يَوْمًا ثَوْبًا مُعَلَّمًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَقَالَ شَغَلَنِي عَلَمُهُ عَنْ صَلَاتِي كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرِي عَلَيْهِ»، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى عَامِلِهِ لِيُرَقِّعَهُ فَزَادَ عَلَيْهِ ثَوْبًا آخَرَ وَجَاءَهُ بِالثَّوْبَيْنِ فَأَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَوْبَهُ وَرَدَّ الْآخَرَ وَقَالَ ثَوْبُك أَجْوَدُ وَأَلْيَنُ، وَلَكِنَّ ثَوْبِي أَنْشَفُ لِلْعَرَقِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّزَيِّي بِالزِّيِّ الْحَسَنِ وَيَقُولُ أَنَا أَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَكْفِينِي لِعِبَادَةِ رَبِّي فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ الْأَجْوَدِ أَفْضَلُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي لُبْسِ ذَلِكَ ثُمَّ حَوَّلَ الْكَلَامَ إلَى فَصْلٍ آخَرَ حَاصِلُهُ دَارَ عَلَى فَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَسَاعِيَ أَهْلِ التَّكْلِيفِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ مِنْهَا لِلْمَرْءِ كَالْعِبَادَاتِ، وَنَوْعٌ مِنْهَا عَلَيْهِ كَالْمَعَاصِي، وَنَوْعٌ مِنْهَا بَيْنَهُمَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمُبَاحَاتُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَقَوْلِك: أَكَلْت أَوْ شَرِبْت أَوْ قُمْت أَوْ قَعَدْت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْفِقْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَتْ الْكَرَّامِيَّةُ مَسَاعِي أَهْلِ التَّكْلِيفِ نَوْعَانِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ مَسَاعِيهِمْ فِي حَدِّ الْإِهْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، فَقَدْ قَسَّمَ الْأَشْيَاءَ قِسْمَيْنِ لَا فَاصِلَ بَيْنهمَا إمَّا الْحَقُّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ أَوْ الضَّلَالُ، وَهُوَ مَا عَلَى الْمَرْءِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] الْآيَةَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ إمَّا صَالِحٌ أَوْ سَيِّئٌ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمَرْءُ مَكْتُوبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18] الْآيَةَ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ مَكْتُوبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَحْضُرُ جَمِيعُ مَا عَمِلَهُ فِي مِيزَانِهِ عِنْدَ الْحِسَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49] وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَمْلًا وَالْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوَاثِيقَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لَازِمَةٌ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَعْنِي مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} [الذاريات: 56] الْآيَةَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُوقِنًا بِهَذَا الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ أَوْ تَارِكًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِشَيْءٍ سِوَى هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُبَاحَ الَّذِي تُصَوِّرُونَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُقَرِّبًا لَهُ مِمَّا يَحِلُّ وَيَكُونُ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مُبْعِدًا لَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ أَوْ يَكُونُ مُقَرِّبًا لَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ أَوْ مُبْعِدًا لَهُ مِمَّا يَحِلُّ وَيُؤْمَرُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَ مَسَاعِيهِ غَيْرُ خَارِجَةٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 279 الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَذَلِكَ عِبَادَةٌ لَهُمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمَا كَانَ مُبَاحًا، فَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَرْءِ، وَلَا عَلَى الْمَرْءِ وَمَا كَانَ هَذَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَّا لِحِكْمَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُهْمَلًا لَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ لَهُ، فَهُوَ مُثَابٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]. فَالتَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا أَخْطَأَ بِهِ، وَقَدْ انْتَفَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِالنَّصِّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي ثَلَاثٌ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا لَا يَنَالُ بِهِ الْمَرْءُ الثَّوَابَ، وَلَا يَكُونُ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُهْمَلًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَرْءِ أَوْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ خَاصٌّ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عَلَيْهِ خَاصٌّ فِيمَا يَضُرُّهُ تُجَاهَ الْآخِرَةِ، وَفِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُهْمَلًا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ مَا يَكُونُ مُهْمَلًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ هَلْ يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى الْعَبْدِ أَمْ لَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْفَائِدَةُ مَنْفَعَتُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ الْمُعَاقَبَةُ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَمَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ مَا يُكْتَبُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَبْقَى فِي دِيوَانِهِ مَا فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَيُمْحَى مِنْ دِيوَانِهِ مَا هُوَ مُهْمَلٌ وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا صَعَدَ الْمَلَكَانِ بِكِتَابِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ حَسَنَةً يُمْحَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ يَبْقَى جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ»، وَاَلَّذِينَ قَالُوا يُمْحَى الْمُهْمَلُ مِنْ الْكِتَابِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 280 اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يُمْحَى ذَلِكَ فِي الْأَثَانِينَ وَالْأَخْمِسَةِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ أَيْ يُمْحَى مِنْ الدِّيوَانِ فِيهِمَا مَا هُوَ مُهْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ جَزَاءٌ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُمْحَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ دِيوَانٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَدِيوَانُ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَالدِّيوَانُ الثَّالِثُ مَا فِيهِ جَزَاءٌ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ»، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الدِّيوَانِ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ قِيلَ: هُوَ الْمُهْمَلُ الَّذِي قُلْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَقِيلَ هُوَ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفُوٌّ كَرِيمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] الْآيَةَ وَقِيلَ بَلْ هُوَ الصَّغَائِرُ، فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ لِمَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الْآيَةَ، فَهُوَ الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِأَعْمَالِ الْكَبَائِرِ مَا هُوَ فِي صُورَةِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ إذَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ لَا الشِّرْكُ غَيْرُ مَغْفُورٍ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَلَا قِيمَةَ لِأَعْمَالِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا} [الفرقان: 23] الْآيَةَ وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّ الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ. الْقِسْمَ الثَّالِثَ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِلْمَرْءِ، وَلَا عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ، فَإِنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ، وَلَا شَرٍّ وَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] أَنَّ الْمُرَادَ مَحْوُ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ مِنْ دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَالْإِثْبَاتُ فِي دِيوَانِ السُّعَدَاءِ، وَمَحْوُ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ مِنْ دِيوَانِ السُّعَدَاءِ وَالْإِثْبَاتُ فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّمَا يَرْوُونَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كَمَا رُوِيَ عَنْ وَائِلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبْت أَسْمَاءَنَا فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهَا مِنْ دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَثْبِتْهَا فِي دِيوَانِ السُّعَدَاءِ، فَإِنَّك قُلْت فِي كِتَابِك وَقَوْلُك الْحَقُّ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] الْآيَةَ فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى وَقَالَ إنَّا نَرَى الْكَافِرَ يُسْلِمُ وَالْمُسْلِمَ يَرْتَدُّ وَالصَّحِيحَ يَمْرَضُ وَالْمَرِيضَ يَبْرَأُ، وَكَذَا نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَشْقَى السَّعِيدُ وَيَسْعَدَ الشَّقِيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عِلْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ أَحَدٍ وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ بَعْدُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 281 قَوْله تَعَالَى {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] مَحْوُهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ مِنْ دِيوَانِ الْعَبْدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ، وَلَا شَرٍّ وَإِثْبَاتُ مَا فِيهِ الْخَيْرُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ» وَلِأَجْلِهِ أَوْرَدَ مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَحْوُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِ الْبَعْضِ وَإِثْبَاتُهَا فِي قَلْبِ الْبَعْضِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ قَوْله تَعَالَى {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] أَوْ الْمُرَادُ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي الْمَقْسُومِ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ الرِّزْقِ وَالسَّلَامَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْمَرَضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ «الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَكْلَةٌ أَكَلْتهَا مَعَك فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ»، وَقَدْ رَوَيْنَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ زَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَشُكْرُهُ إذَا وُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا فَرَغَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِهِمْ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْثُوقٌ بِهِ فِيمَا يَرْوِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَهُ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا وُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا فَرَغَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ جُعِلَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا لُقْمَةً فَابْتَلَعَهَا مُؤْمِنٌ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ مَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِمَّا أُوتِيَ»، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الدُّنْيَا بِالْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَطْيَبُ، وَفِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَالشُّكْرِ فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا (ثُمَّ قَالَ وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكُتُبِ إلَّا أَنَّهَا تَلِيقُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ فِي الزُّهْدِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ قِيلَ لَهُ، أَلَا صَنَّفْت فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ شَيْئًا فَقَالَ صَنَّفْت كِتَابَ الْبُيُوعِ ثُمَّ أَخَذَ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْتَرَضَ لَهُ دَاءٌ فَخَفَّ دِمَاغُهُ، وَلَمْ يُتِمَّ مُرَادَهُ وَيُحْكَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَهْرِسْ لَنَا مَا كُنْت تُرِيدُ أَنْ تُصَنِّفَ فَفَهْرَسَ لَهُمْ أَلْفَ بَابٍ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصَنِّفَهَا فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَوْتُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 282 وَاشْتِغَالُ أَبِي يُوسُفَ بِالْقَضَاءِ قَضَى عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَصَنَّفَا مَا أَتْعَبَ الْمُتَّبِعِينَ، وَهَذَا الْكِتَابُ أَوْ تَصَانِيفُهُ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فَذَكَرَ فِي آخِرِهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَلِيقُ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالذَّهَبُ بِيَمِينِهِ وَالْحَرِيرُ بِشِمَالِهِ وَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» وَلُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي حَالَةِ الْحَرْبِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ ثَخِينًا يُدْفَعُ بِمِثْلِهِ السِّلَاحُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ سُدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ حَرِيرٌ فَلَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْقَبَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْكُتُبِ (قَالَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَعَلَيْهِ الْفِرَاشُ مِنْ الدِّيبَاجِ يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْعُدَ أَوْ يَنَامَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمَا شاه بَانُوا عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ زَيَّنَتْ بَيْتَهُ بِالْفُرُشِ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا فِي بَيْتِك يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجْتهَا فَأَتَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَمْ أَسْتَحْسِنْ مَنْعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ زَيَّنَ دَارِهِ ذَلِكَ هَذَا فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ إنَّمَا أَتَجَمَّلُ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ وَلَسْت أَسْتَعْمِلُهُ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَيْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُ أَحَدٍ، وَلَا يَنْظُرَ إلَى غَيْرِ حِمَاك فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا إذَا اتَّخَذَهُ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَإِنْ كَانَ الِاكْتِفَاءُ بِمَا دُونَهُ أَفْضَلَ وَيَدْخُلُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ، وَاَلَّذِي قَالَ لَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ اللُّبْسُ وَالْمَلْبُوسُ يَصِيرُ تَبَعًا لِلَّابِسِ فَأَمَّا مَا يَجْلِسُ أَوْ يَنَامُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ (قَالَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ) قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: تَحْتَ اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ لَا لِإِيجَابِ الثَّوَابِ مَعْنَاهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ هَذَا رَأْسًا بِرَأْسٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيُؤَنِّبُونَ مَنْ فَعَلَهُ قَالُوا؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 283 الطَّرِيقَةِ، فَإِنَّهُ «لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَلَا نَهُدُّ مَسْجِدَك ثُمَّ نَبْنِيهِ فَقَالَ: لَا عَرْشَ كَعَرْشِ مُوسَى أَوْ قَالَ عَرْشٌ كَعَرْشِ مُوسَى وَكَانَ سَقْفُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَرِيدٍ فَكَانَ يَنْكَشِفُ إذَا مُطِرُوا حَتَّى كَانُوا يَسْجُدُونَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِمَسْجِدٍ مُزَيَّنٍ مُزَخْرَفٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: لِمَنْ هَذِهِ الْبِيَعُ؟، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِكَرَاهِيَتِهِ هَذَا الصُّنْعَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَمَّا بَعَثَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُزَيِّنَ بِهَا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرَّ بِهَا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا الْمَالِ مِنْ الْأَسَاطِينِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُزَخْرَفَ الْمَسَاجِدُ وَتُعْلَى الْمَنَارَاتُ وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ أَتَمَّهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَهُ وَزَيَّنَهُ حَتَّى نَصَبَ عَلَى رَأْسِ الْقُبَّةِ الْكِبْرِيتَ الْأَحْمَرَ وَكَانَ أَعَزَّ وَأَنْفَسَ شَيْءٍ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ يُضِيءُ مِنْ مِيلٍ وَكُنَّ الْغَزَّالَاتُ يُبْصِرْنَ ضَوْءَهُ بِاللَّيَالِيِ مِنْ مَسَافَةِ مِيلٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ زَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَيَّنَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَادَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَهُ بَنَى الْمَسْجِدَ بِمَالِهِ وَزَادَ فِيهِ وَبَالَغَ فِي تَزْيِينِهِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَا رُوِيَ بِخِلَافِ هَذَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» أَيْ يُزَيِّنُونَ الْمَسَاجِدَ، وَلَا يُدَاوِمُونَ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ وَالْمُرَادُ التَّزَيُّنُ بِمَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ مِنْ الْأَمْوَالِ أَوْ عَلَى قَصْدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَعَلَى بَعْضِ ذَلِكَ يُحْمَلُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْآثَارِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ هَذَا بِمَالِ نَفْسِهِ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ حِلِّهِ فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ بِمَالِ الْمَسْجِدِ، فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَالِ الْمَسْجِدِ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبِنَاءِ فَأَمَّا التَّزَيُّنُ فَلَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُجَصِّصَ الْحَائِطَ بِمَالِ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُشَ الْجِصَّ بِمَالِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ فِي التَّجْصِيصِ أَحْكَامَ الْبِنَاءِ، وَفِي النَّقْشِ عَلَى الْجِصِّ تَزْيِينُ الْبِنَاءِ لَا إحْكَامُهُ فَيَضْمَنُ الْمُتَوَلِّي مَا يُنْفَقُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ. (قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْنِي لِنَفْسِهِ دَارًا وَيَنْقُشُ سَقْفَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ؟) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ فِيمَا يُنْفِقُ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 284 لِلتَّزَيُّنِ يَقْصِدُ بِهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَفِيمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِلتَّزَيُّنِ مَنْفَعَتُهُ، وَمَنْفَعَةُ غَيْرِهِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَأَنْ يَجُوزَ صَرْفُهُ إلَى مَنْفَعَتِهِ وَمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الْمَسَاجِدِ بِالتَّعْظِيمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَزْدَادُ بِالتَّزْيِينِ فِي قُلُوبِ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْعَوَامّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُؤْجَرُ هُوَ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُثَابُ الْمُؤْمِنُ عَلَى إنْفَاقِ مَالِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْبُنْيَانِ» زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا خَلَا الْمَسَاجِدَ فَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ فِيمَا يُنْفِقُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ وَعَلَى هَذَا أَمْرُ اللِّبَاسِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَجَمَّلَ بِلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ وَأَجْوَدِهَا، فَقَدْ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةٌ فَنَكٍ عَلَمُهَا مِنْ الْحَرِيرِ فَكَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ وَلِلْوُفُودِ» إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَادِ مِنْهُ لُبْسُهُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ ثَوْبَ مِهْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَأَنَّهُ ثَوْبُ دَهَّانٍ»، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ فَإِنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ تَسَرَّى حَتَّى اسْتَوْلَدَ مَارِيَةَ أُمَّ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ كَانَ تَسَرَّى حَتَّى اسْتَوْلَدَ أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ قَنَعُوا بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَعَمَدُوا إلَى الْفُضُولِ فَقَدَّمُوهَا لِآخِرَتِهِمْ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ، أَلَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي، فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَرَادَ سَفَرًا اسْتَعَدَّ لِسَفَرِهِ فَمَا لَكُمْ لَا تَسْتَعِدُّونَ لِسَفَرِ الْآخِرَةِ وَأَنْتُمْ تَتَيَقَّنُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْهُ، أَلَا وَمَنْ أَرَادَ سَفَرًا فِي الدُّنْيَا فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ تَمَكَّنَ وَإِنْ طَلَبَ الْقَرْضَ وَجَدَ، وَإِنْ اسْتَوْهَبَ رُبَّمَا يُوهَبُ لَهُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سَفَرِ الْآخِرَةِ وَسُئِلَ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَنَا نَتَيَقَّنُ بِالْمَوْتِ وَلَا نُحِبُّهُ؟ فَقَالَ: إنَّكُمْ أَحْبَبْتُمْ الدُّنْيَا فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا خَلْفَكُمْ، وَلَوْ قَدَّمْتُمْ مَحْبُوبَكُمْ لَأَحْبَبْتُمْ اللُّحُوقَ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكْتَفِيَ مِنْ الدُّنْيَا بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَيُقَدِّمَ لِآخِرَتِهِ مَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا اكْتَسَبَهُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ اسْتَمْتَعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ مَا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَالْقَوْلُ بِتَأْثِيمِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ وَأَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ غَيْرُ سَدِيدٍ إلَّا أَنَّ أَفْضَلَ الطَّرِيقِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 285 - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا مِنْ الدُّنْيَا بِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ خُصُوصًا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ «لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ خَزَائِنُ مَفَاتِيحِ الْأَرْضِ رَدَّهَا وَقَالَ: أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْت صَبَرْت، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ كَانَ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا «لَيْتَ لَنَا خُبْزُ بُرٍّ قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ وَعَسَلٍ فَنَأْكُلُهُ فَصَنَعَ ذَلِكَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَاءَ بِهِ فِي قَصْعَةٍ فَقِيلَ: إنَّهُ مَا تَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ بَعْضَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ» «، وَقَدْ أُهْدِيَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَدْيٌ سَمِينٌ مَشْوِيٌّ فَأَكَلَ مِنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -» «وَقَدْ تَنَاوَلَ مِمَّا أَتَى بِهِ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ» «وَحِينَ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجَدْيُ الْمَشْوِيُّ قَالَ لِبَعْضِهِمْ: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» فَبِهَذِهِ الْآثَارِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ لَنَا وَكَانَ يَكْتَفِي بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ يَا مَنْ لَمْ يَلْبَسْ الْحَرِيرَ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهِ عَزِيمَةٌ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ وَالنَّيْلُ مِنْ اللَّذَّاتِ رُخْصَةٌ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الصَّعْبَةِ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنْ تَرَخَّصَ بِالْإِصَابَةِ مِنْ النِّعَمِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَثِّمَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ ذَمَّ نَفْسَهُ وَكَسَرَ شَهْوَتَهُ فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ وَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَقِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ زَادَنِي مَعَهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا»، وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ أَضْعَفَ لِي مَعَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ سَبْعِينَ أَلْفًا»، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَإِلَى أَيِّ مَحَلٍّ صَرَفَهُ»، فَإِذَا صَرَفَ الْمَالَ إلَى مَا فِيهِ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْحِسَابُ وَالسُّؤَالُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْهُ إذَا صَرَفَهُ إلَى شَهَوَاتِ بَدَنِهِ (قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مِنْ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا أَشْيَاءُ) مِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَمِنْهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهَا، وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ السُّحْتِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ ظُلْمِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 286 اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ عَلَيْنَا فَلَا نُضَيِّقُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ لَك فِي الْكِتَابِ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَأْخُذُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [كِتَابُ الرَّضَاعِ] قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَة سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ هَلْ هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا صَنَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيَرُوجَ بِهِ، وَفِي أَلْفَاظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ سَبَبَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ قَالَ: وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا كَانَ يُصَحِّحُ الْجَوَابَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا فِيهِ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: وَهُوَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ تَصْنِيفَاتِهِ وَلِكُلِّ دَاخِلٍ دَهْشَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ صَنَّفَ الْكُتُبَ مَرَّةً ثُمَّ أَعَادَهَا إلَّا قَلِيلًا مِنْهَا فَهَذَا الْكِتَابُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعَادَ اكْتَفَى فِي أَحْكَامِ الرَّضَاعِ بِمَا أَوْرَدَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاكْتَفَى الْحَاكِمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُفْرِدْ هَذَا الْكِتَابَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَكِنِّي لَمَّا فَرَغْت مِنْ إمْلَاءِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاقَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَأَتْبَعْته بِإِمْلَاءِ كِتَابِ الْكَسْبِ رَأَيْت الصَّوَابَ اتِّبَاعَ ذَلِكَ بِإِمْلَاءِ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ فَفِيهِ بَعْضُ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ ثُمَّ إنَّهُ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ أَسْبَابُ حُرْمَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثَةٌ النَّسَبُ وَالصِّهْرُ وَالرَّضَاعُ وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ سَبْعَةٌ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] وَالْمُصَاهَرَةُ كَالنَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِكْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَالَ {وَهُوَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 287 الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعٌ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَقَالَ تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] ثُمَّ حَرَّمَ بِالرَّضَاعِ مِثْلَ هَذَا الْعَدَدِ الَّذِي حَرُمَ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَنْصُوصٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ النَّصُّ خَاصَّةً، وَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْقِيَاسَ لَمْ نَقُلْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّ الْإِنَاثَ خُلِقْنَ لِلذُّكُورِ، وَهَذَا مَحَلُّ النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُنَّ مَكَانُ حَرْثٍ لِلْوَلَدِ وَأَنَّ التَّنَاسُلَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَبِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَخْتَلُّ هَذَا الْمَعْنَى وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَهِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا عِنْدَ رَفْضِ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَالْعَاقِلُ يَحْرِصُ عَلَى حِمَايَةِ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَدَفْعِ الْعَارِ وَالشَّنَارِ عَنْهُمَا، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الِاسْتِعْرَاضُ لِلْوَطْءِ وَالْعَاقِلُ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أُمِّهِ وَابْنَتِهِ كَمَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الشَّرِيعَةَ وَكَانُوا عُقَلَاءَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: 58] إلَى قَوْله تَعَالَى {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59]، فَإِذَا كَانَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَهُ وَكَذَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ امْرَأَةِ أَبِيهِ الَّتِي رَبَّتْهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ بِاعْتِبَارِ التَّرْبِيَةِ، وَفِي حَقِّ امْرَأَةِ ابْنِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهَا يَكُونُ وَلَدًا لَهُ، وَكَذَلِكَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الرَّضَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ سَبَبَيْ الْكَوْنِ، فَإِنَّ النَّشْرَ وَالتَّسْوِيَةَ يَحْصُلُ بِهِ، وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الرَّضَاعِ، كَمَا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ النَّسَبِ ثُمَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْعَصَبِيَّةُ أَوْ شِبْهُ الْعَصَبِيَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي إلَّا مَا كَانَ لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه»، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] ثُمَّ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعَصَبِيَّةِ، وَفِي الْمُصَاهَرَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَاسِطَةِ، وَفِي الرَّضَاعَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْبُنُوَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» ثُمَّ بَيَّنَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الْحُرْمَةِ فَقَالَ، وَمِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 288 ذَلِكَ مَا حَرُمَ بِالْكُفْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى لَيْسَ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَتِلْكَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذِهِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحُرْمَةِ سَبْعَةٌ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: إذَا كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَى الْأُخْتِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا». وَالثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَالْخَامِسَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُفَارِقَ إحْدَى الْأَرْبَعِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وَبِإِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَالثَّالِثَةُ: إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَالْأَمَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَ الْحُرَّةَ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهِيَ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ شَرْعًا عِنْدَنَا لَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى إنَّهَا وَإِنْ رَضِيَتْ لَمْ تَحِلَّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا رَضِيَتْ الْحُرَّةُ جَازَ وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْقَوْلَ مَنْسُوبًا إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَمُرَادُهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالرَّابِعَةُ: إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ عِدَّةِ هَذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَأَصْلِ النِّكَاحِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ كَمَا يُجْعَلُ الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ. وَالْخَامِسَةُ: مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَوْ مُعْتَدَّةُ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 24] أَيْ أَخَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. وَالسَّادِسَةُ: مُكَاتَبَةُ الرَّجُلِ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَا يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ إلَى أَنْ تَعْتِقَ بِالْأَدَاءِ فَيَنْكِحَهَا أَوْ تَعْجِزَ فَيَطَأَهَا بِالْمِلْكِ. وَالسَّابِعَةُ: الْمُشْرِكَةُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ. وَزَعَمَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَجُوزُ لِمُشْرِكٍ وَلَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ يَقُولُ بِبُطْلَانِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ لَمَا سَمَّاهَا امْرَأَتَهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ حِينَ أَسْلَمَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ بَلْ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِلْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمَ الصِّحَّةِ، وَإِنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ خَاصَّةً لِخُبْثِهَا وَكَرَامَةِ الْمُسْلِمِ فَفِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ لَهُ عَنْ فِرَاشِ الْخَبِيثَةِ وَبِالنِّكَاحِ ثَبَتَ الِازْدِوَاجُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 289 بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبِي الْحَالِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُسْلِمِ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤْمِنَ. (قَالَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فَأَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَتَرَكَ بَاقِي أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ مُخْتَلٌّ، فَإِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ حَتَّى يُقَالَ إنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْكِتَابُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وَعَطْفُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17] فَقَدْ عَطَفَ أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى الْمَجُوسِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ تَتَنَاوَلُهُمْ الْجِهَةُ الثَّابِتَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] فَعَرَفْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ خُصُّوا مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَخُصُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَكَانَ يَقُولُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْقَى لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابِيَّةً وَأَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ أَوْ الْحَرَائِرُ مِنْهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ] وَهُوَ مَا نَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَمَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَتَحْرِيمُ الْأُمِّ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْأُمِّ وَأُمَّ الْأَبِ، وَإِنْ بَعُدَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ كَانَتْ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْجَدَّاتِ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَاسْمُ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ، وَإِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَصَحُّ، فَإِنَّ اسْمَ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّةَ مَجَازًا حَتَّى يَنْفِيَ عَنْهَا هَذَا الِاسْمَ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: إنَّهَا جَدَّةٌ وَلَيْسَتْ بِأُمٍّ، وَلَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 290 يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ أَدَاتَيْ لَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ فَمِنْ أُصُولِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ حَتَّى إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِلنَّهَارِ حَقِيقَةً وَيَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ مَجَازًا وَقَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ عَلَى بَنِيهِ دَخَلَ فِي الْأَمَانِ بَنُو بَنِيهِ مَعَ بَنِيهِ لِصُلْبِهِ وَالِاسْمُ لِبَنِيهِ حَقِيقَةٌ وَلِبَنِي بَنِيهِ مَجَازٌ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ اسْتِعَارَةُ الشَّيْءِ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمُسْتَعَارًا كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ عَلَى اللَّابِسِ مِلْكًا لَهُ وَعَارِيَّةً فِي يَدِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ دُخُولٌ لَا لِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ فِيمَا لَا يَمْتَدُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ وَقْتِ الْقُدُومِ لَا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ فِيمَا يَمْتَدُّ يُحْمَلُ ذِكْرُ الْيَوْمِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ لِيَكُونَ مِعْيَارًا لَهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي السِّيَرِ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَدْخُلُ بَنُو الِابْنِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُمْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَأَدْنَى الشَّبَهِ يَكْفِي لِإِثْبَاتِهِ وَالسَّبَبُ الدَّاعِي لَهُ إلَى طَلَبِ هَذَا الْأَمَانِ شَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَتُهُ عَلَى بَنِيهِمْ كَشَفَقَتِهِ عَلَى بَنِيهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا حُرْمَةُ الِابْنَةِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ ابْنَةِ الْبِنْتِ وَابْنَةِ الِابْنِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ قَالَ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ وَالْأَخِ إلَى أَسْفَلِ الدَّرَجَةِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَمَّةَ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْعَمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهَا أُمَّ الْأَبِ أَوْ غَيْرَ أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ إنْ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأُمٍّ، فَإِنَّ الْعَمَّةَ أُمُّهَا أُمُّ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَمَّةُ لِأَبٍ فَأُمُّهَا امْرَأَةُ أَبِ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَأَقَامَتْ السُّنَّةُ امْرَأَةَ الْجَدِّ مَقَامَ امْرَأَةِ الْأَبِ، وَعَمَّةُ الْعَمَّةِ حَرَامٌ إذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ أَبِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، كَمَا أَنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133]، وَهُوَ كَانَ عَمًّا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُؤْذُونِي فِي بَقِيَّةِ آبَائِي» يَعْنِي الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ أَوْ الْأَبِ فَعَمَّةُ الْعَمَّةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 291 بِمَنْزِلَةِ عَمَّةِ الْأَبِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ أُخْتَ الْأَبِ لِأُمٍّ فَعَمَّةُ عَمَّتِهَا لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَالَةَ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْخَالَةِ هِيَ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ فَأُمُّ الْخَالَةِ امْرَأَةُ أَبِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةُ بِالسُّنَّةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَبِ فَامْرَأَةُ الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ كَامْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْحُرْمَةِ وَخَالَةُ الْخَالَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، كَمَا بَيَّنَّا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ الْخَالَةُ فَخَالَتُهَا تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَأَمَّا ابْنَةُ الْعَمِّ وَابْنَةُ الْعَمَّةِ وَابْنَةُ الْخَالَةِ وَابْنَةُ الْخَالِ فَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحَلَّلَاتِ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} [الأحزاب: 50] وَيُتْلَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَمَا تَنَاوَلَهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَهُ هَذَا النَّصُّ وقَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. وَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ بِاعْتِبَارِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ فَأَمَّا الرَّبَائِبُ فَلَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَالْحِجْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَذَكَرَ الْحِجْرَ فِي قَوْلِهِ {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] بِطَرِيقِ الْعَادَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ مُؤَثِّرًا فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ امْرَأَةٌ لَهَا وَلَدٌ يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُ الِابْنَةَ إذَا كَبِرَتْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي نِكَاحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي حِجْرِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحِجْرِ وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَالْمُبَاشَرَةُ حَرَامٌ عَلَى الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَذَكَرَ الْمَسَاجِدَ لِلْعَادَةِ إذْ الِاعْتِكَافُ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا تَكُونُ حَرَامًا لِلْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] وَلَكِنْ نَقُولُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَصْلَابِكُمْ يَعْنِي حُرْمَةَ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ التَّبَنِّي مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مَشْرُوعًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، «وَتَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 292 زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ امْرَأَةَ زَيْدٍ بَعْدَ مَا فَارَقَهَا»، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] فَالْمُرَادُ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ حُرْمَةِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي ثُمَّ تَحْرِيمُ حَلِيلَةِ ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ثَبَتَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، فَإِنَّ ابْنَ ابْنِهِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ؟ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ صُلْبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] وَالْمَخْلُوقُ مِنْ التُّرَابِ هُوَ الْأَصْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ إلَى تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْفُصُولِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَمْ تُسْتَقْصَ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [بَابُ تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ] بَابُ تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ أَمَتَانِ قَدْ وَلَدَتَا مِنْهُ فَتُرْضِعُ إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اللِّقَاحُ وَاحِدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ بِسَبَبِ الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لَا تَثْبُتُ فَقَالُوا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ فَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ صَغِيرَانِ عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ لَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الْأُخُوَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِرْضَاعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْبَعْضِيَّةِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ اللَّبَنِ لِقُرْبِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَلَوْ بَاشَرَ الرَّجُلُ الْإِرْضَاعَ بِأَنْ نَزَلَ اللَّبَنُ فِي ثَنْدُوَتِهِ فَأَرْضَعَ صَبِيَّيْنِ لَا تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ بَيْنَهُمَا فَبِإِرْضَاعِ غَيْرِهِ كَيْفَ تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ فِي جَانِبِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُرْوَةَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِيَلِجَ أَفْلَحُ، فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُلِ فَقَالَ لِيَلِجَ عَلَيْك أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَيْتِهَا فَسَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ مَا أَحْسِبُهُ إلَّا بداح عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ حَيًّا أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ فَقَالَ نَعَمْ»، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ الرَّضَاعَةَ بِالنَّسَبِ وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 293 فَكَذَلِكَ سَبَبُ الْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ، كَمَا كَانَ سَبَبًا لِوِلَادَتِهَا كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ إذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا صَبِيَّةً فَلَيْسَ لِلْأَخِ الْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا عَرَضَ ابْنَةَ حَمْزَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ» وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَتَا أَخَوَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضِيعًا أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ وَالْأُخْرَى صَبِيَّةٌ تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ ابْنَةُ عَمِّ الصَّغِيرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَابْنَةُ الْعَمِّ مِنْ النَّسَبِ حَلَالٌ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَغِيرَتَيْنِ فَكَبِرَا ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا تَزَوَّجَ ابْنَةَ صَاحِبِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ «لَمَّا عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي كَانَتْ تَحِلُّ لِي أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا ثُوَيْبَةُ» قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ابْنٌ وَابْنَةٌ فَجَاءَتْ امْرَأَةُ أَخِيهِ فَأَرْضَعَتْ الِابْنَ وَالِابْنَةَ جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ كُنَّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَامْرَأَةُ الْأَخِ وَالْأَجْنَبِيَّةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ ثَبَتَتْ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ هَذَا الِابْنِ وَالِابْنَةِ وَبَيْنَ جَمِيعِ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَوْ السَّرَارِي كَانَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْجُهَّالِ أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَحْدُثُونَ بَعْدَ ذَلِكَ دُونَ مَا انْفَصَلُوا قَبْلَ الْإِرْضَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ تُثْبِتُ الْأُخُوَّةَ وَهُوَ يَجْمَعُ الْكُلَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ، وَلَا مِنْ وَلَدِ الْمَرْأَةِ مَنْ يَتَزَوَّجُ تِلْكَ الْجَارِيَةَ، وَلَا وَلَدِ وَلَدِهَا، وَلَا لِوَلَدِ وَلَدِ الْعَمِّ أَنْ يَتَزَوَّجُوا تِلْكَ الْجَارِيَةَ، فَإِنَّهُمْ أُخُوَّةُ أَوْلَادِ أُخُوَّةٍ وَأَخَوَاتٍ فَإِنْ كَانَ لِلْجَارِيَةِ الْمُرْضِعَةِ وَلَدٌ وَلِلْغُلَامِ الْمُرْضَعِ وَلَدٌ وَلِأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوْلَادٌ وَلِأَوْلَادِ زَوْجِهَا أَوْلَادٌ جَازَتْ الْمُنَاكَحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ ابْنَةُ عَمٍّ لِلذَّكَرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ابْنٌ فَأَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَلَا مِنْ وَلَدِ خَالِهِ مَا كَانَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ إذَا كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الْخَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ حَرُمَ وَلَدُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْرُمْ وَلَدُ الْخَالِ مِنْ غَيْرِهَا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا صَبِيَّةً وَالْأُخْرَى صَبِيًّا لَمْ يَكُنْ لِأَخِي ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ أَنْ يَتَزَوَّجَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 294 تِلْكَ الصَّبِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ، وَلَا لِعَمِّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنِ أَخِيهِ، وَلَا لِابْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَلَا لِابْنِ ابْنِهِ، وَإِنْ سَفَلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِخَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ ابْنِ أُخْتِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الصَّبِيِّ الْمُرْضَعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمُرْضِعَةِ وَلَا جَدَّتَهَا وَلَا أُخْتَهَا وَلَا خَالَتَهَا وَلَا عَمَّتَهَا اعْتِبَارًا لِلرَّضَاعِ بِالنَّسَبِ وَإِذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ لِابْنِهَا وَلَا لِابْنِ ابْنِهَا وَلَا لِابْنِ ابْنَتِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَبِرَ ذَلِكَ الصَّبِيُّ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ؛ لِأَنَّهَا حَلِيلَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» قَالَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَةِ ابْنِهِ نَسَبٌ، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَلَكِنْ نَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ تُعْتَبَرُ بِحُرْمَةِ النَّسَبِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ قَالَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا وَالتَّنَزُّهُ عَنْهَا أَفْضَلُ وَبِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا، فَإِنَّهَا تَكُونُ أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ قَدْ تَحَقَّقَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أُمًّا وَهِيَ بِكْرٌ؟ وَكَمَا لَا تُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ حَيْثُ النَّسَبِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا تُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ قُلْنَا هَذَا تَلْبِيسٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْأُمِّيَّةُ مِنْ النَّسَبِ سَبَبِيَّةُ الْوِلَادَةِ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْوِلَادَةُ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ وَتُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ الرَّضَاعِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ يَتَقَرَّرُ بِسَبَبِهِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا تُثْبِتُ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ بَيْنَ هَذَا الصَّبِيِّ وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا كَانَ وَطْءَ ذَلِكَ الزَّوْجِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ اللَّبَنُ يَكُونُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ مَا لَمْ تَحْبَلْ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِلثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 30 ¦ الصفحة: 295 إذَا ازْدَادَ لَبَنُهَا بِسَبَبِ الْحَبَلِ، فَهُوَ وَمَا لَوْ وَلَدَتْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الثَّانِي وَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ وَاجِبٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَصْلَ الِابْنِ مِنْ الْأَوَّلِ وَازْدَادَ سَبَبُ الْحَبَلِ مِنْ الثَّانِي فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَلَطَ امْرَأَتَانِ اللَّبَنَ بِأَنْ حَلَبَتَا لَبَنَهُمَا وَأَوْجَرَتَا صَبِيًّا وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَمَّا حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَنَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ كَانَ هَذَا نَاسِخًا لِلسَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: نُزُولُ اللَّبَنِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَمَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي لَا يُنْسَخُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ الْحَبَلِ مِنْ الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِقُوَّةِ طَبْعِهَا وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَوْ أُخِذَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ فَأَوْجَرَ بَعْدَ مَوْتِهَا صَبِيًّا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ هَذَا الصَّبِيِّ وَبَيْنَهَا عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ: أَنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِيجَارِ أَصْلًا، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِيجَارِ وَبَيْنَ الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ وَعَلَى الْقَوْلِ الظَّاهِرِ إذَا حُلِبَ لَبَنُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فِي قَارُورَةٍ ثَبَتَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِإِيجَارِ هَذَا اللَّبَنِ صَبِيًّا سَوَاءٌ أُوجِرَ قَبْلَ مَوْتِهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَفِي ثَدْيِهَا لَبَنٌ فَارْتَضَعَ صَبِيٌّ مِنْهَا أَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ بِهِ صَبِيٌّ عِنْدَنَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ أَيْضًا، وَعِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ لِأَصْلَيْنِ لَهُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّبَنَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً فَيُحِيلُهُ الْمَوْتُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَرَامَ عِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَعِنْدَنَا لَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُحْلَبُ مِنْ الْحَيِّ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ وَمَا فِيهِ حَيَاةٌ إذَا بَانَ مِنْ الْحَيِّ، فَهُوَ مَيِّتٌ وَالثَّانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَمْنَعُ حُكْمَ الرَّضَاعِ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ خَمْرٍ فَأَوْجَرَهُ صَبِيٌّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَبِالْمَوْتِ لَا تَنْعَدِمُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ، فَهُوَ غِذَاءٌ يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانْتِشَارُ الْعَظْمِ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ بِالْمَوْتِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غِذَاءً، وَإِنْ تَنَجَّسَ وَالسَّعُوطُ وَالْوَجُورُ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ عِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الرَّضَعَاتِ لِيَحْصُلَ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانْتِشَارُ الْعَظْمِ، وَهَذَا بِالسَّعُوطِ وَالْوَجُورِ لَا يَحْصُلُ، وَعِنْدَنَا لَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى بَاطِنِهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ التَّرْبِيَةُ، وَذَلِكَ بِالسَّعُوطِ وَالْوَجُورِ يَحْصُلُ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالدِّمَاغُ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ وَلَوْ صُبَّ اللَّبَنُ فِي أُذُنِ صَبِيٍّ أَوْ صَبِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 296 وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَقَنَ صَبِيٌّ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ اللَّبَنُ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّوْمَ يَفْسُدُ بِهَذَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ: مَعْنَى إنْبَاتِ اللَّحْمِ إنَّمَا يَصِلُ بِمَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى لَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ ذُكِرَ مَا إذَا جُعِلَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي دَوَاءٍ أَوْ طَعَامٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْإِرْضَاعِ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَوْ أَنَّ صَبِيَّيْنِ شَرِبَا مِنْ لَبَنِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مُعْتَبَرٌ بِالنَّسَبِ، وَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ النَّسَبُ بَيْنَ آدَمِيٍّ وَبَيْنَ الْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِشُرْبِ لَبَنِ الْبَهَائِمِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ سَبَبَ إخْرَاجِهِ مِنْ بُخَارَى، فَإِنَّهُ قَدِمَ بُخَارَى فِي زَمَنِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَعَلَ يُفْتِي فَنَهَاهُ أَبُو حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ لَسْت بِأَهْلٍ لَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِالْحُرْمَةِ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَخْرَجُوهُ (قَالَ: وَالرَّضَاعُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ عَلَى قِيَاسِ النَّسَبِ، فَإِنَّ الْأَنْسَابَ تَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الرَّضَاعِ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ صَبِيَّةً فَأَرْضَعَتْ الصَّبِيَّةَ أُمُّ الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُخْتَهُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ أَرْبَعَةٍ: حُكْمِ الْحُرْمَةِ وَحُكْمِ وُجُوبِ الصَّدَاقِ وَثُبُوتِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ، وَحُرْمَةِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا حُرْمَةُ الْفُرْقَةِ فَنَقُولُ: وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَ الزَّوْجِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ لَهُ أُخْتِيَّتُهُ يَغْرَمُ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاق "؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُرْجَعُ عَلَيْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي تَقْرِيرِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ وَكَانَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ فَكَأَنَّهَا أَلْزَمَتْهُ ذَلِكَ وَمُجَرَّدُ التَّسَبُّبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ الْقَفَصِ فَطَارَ الطَّيْرُ، وَعِنْدَنَا التَّسَبُّبُ إنَّمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إذَا كَانَ الْمُسَبِّبُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ مِنْ مُخْتَارٍ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَهُنَا إذَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فِي التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُخَافُ الْهَلَاكُ عَلَى الرَّضِيعِ فَإِرْضَاعُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مَأْمُورٌ فَلَا يَكُونُ تَعَدِّيًا، وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي بَاطِنِ الْمَرْءِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 297 فِي ذَلِكَ فَإِنْ قَالَتْ تَعَمَّدْت الْفَسَادَ ضَمِنَتْ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَةَ أُخْتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ خَالَةَ الرَّجُلِ أَوْ عَمَّتُهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ خَالَتِهِ أَوْ ابْنَةَ عَمَّتِهِ وَابْتِدَاءُ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ فَالْبَقَاءُ أَوْلَى، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ فَإِنْ كَانَ لَبَنُهَا مِنْ أَبِيهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَبَنُهَا مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَخِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ (قَالَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ يَكُونُ لِلْكَبِيرَةِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا وَلِلصَّغِيرَةِ أَيْضًا نِصْفُ الصَّدَاقِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُرْجَعُ بِمَا غَرِمَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِهِ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْضِعَةَ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ مُعْتَدَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ وَالْكَبِيرَةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ وَعِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْكَبِيرَةِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْكَبِيرَةِ وَلَا وَاحِدَةً مِنْ حِذَائِهَا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الْكَبِيرَةِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَقَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ ابْنَةَ بِنْتِ الْكَبِيرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجَدَّةِ وَالنَّافِلَةِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ ثُمَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّغِيرَةِ تَحْرُمُ جَدَّتُهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا تَحْرُمُ أُمُّهَا وَالدُّخُولُ بِالْجَدَّةِ يُحَرِّمُ ابْنَةَ الِابْنَةِ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ، وَلَا لِلْمُرْضِعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَجْهٍ أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ ابْنَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَإِنَّ الْمُرْضِعَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ قَطُّ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْكَبِيرَةُ قَطُّ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ أُمِّ امْرَأَتِهِ وَتَحِلُّ لَهُ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنَةِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَكَمَا أَنَّ ابْنَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ فَكَذَلِكَ ابْنَةُ الِابْنَةِ فَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُ الْكَبِيرَةِ بَانَتَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ صَارَتْ خَالَةً لِلصَّغِيرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَالَةِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَالْحُكْمُ فِي هَذَا كَالْحُكْمِ فِي الْأُخْتَيْنِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا خَالَةُ الْكَبِيرَةِ أَوْ عَمَّتُهَا لَمْ تَحْرُمْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 298 عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ عَمَّتِهَا وَابْنَةِ خَالَتِهَا حَلَالٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ صَغِيرَتَانِ فَجَاءَتْ أُمُّ إحْدَاهُمَا فَأَرْضَعَتْ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَحُكْمُ الرُّجُوعِ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ جَاءَتْ أُخْتَيْهِ فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأُخْتِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إرْضَاعِهِمَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرْضِعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ وَالْحُرْمَةِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الصَّبِيَّتَانِ إلَى امْرَأَةٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ فَشَرِبَتَا مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا جِنَايَةٌ تَسْبِيبًا وَلَا مُبَاشَرَةً وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتَانِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَا شَيْءَ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا وَالْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تُسْقِطُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي التَّسْبِيبِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةً كَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا غَرِمَ لِلصَّغِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِكَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً فِي التَّسْبِيبِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ تَحْرُمُ الْأُمُّ عَلَى التَّأْبِيدِ وَالْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الِابْنَةِ وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ، فَإِنَّمَا تَبِينُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَابْنَتَيْنِ، وَلَا تَبِينُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَخِيرًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا، وَإِنَّمَا وُجِدَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا وَبِنْتَيْنِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ شَاءَ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَيْضًا إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَقَدَ عَلَى الصَّغِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُنْ الْكَبِيرَةُ أُمًّا لَهَا وَالنَّصُّ إنَّمَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْأُمِّيَّةِ بِالرِّضَاعِ لَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِسَبَبَيْنِ النِّكَاحُ وَالْأُمِّيَّةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَثْبُتَ الْأُمِّيَّةُ أَوَّلًا ثُمَّ النِّكَاحُ أَوْ النِّكَاحُ ثُمَّ الْأُمِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ إنَّمَا ثَبَتَتْ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ وُجِدَا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ أَوْ الْأُمِّيَّةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 299 وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، أَمَّا إذَا أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا فَغَيْرُ مُشْكَلٍ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ، فَقَدْ صَارَتْ ابْنَةً لِلْمُرْضِعَةِ، وَقَدْ دَخَلَ هُوَ بِهَا وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْأُولَى وَاَلَّتِي أَرْضَعَتْهَا آخِرًا لَا تَبِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ أُخْتُهَا، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى لَمْ تُرْضِعْهَا الْكَبِيرَةُ أَوَّلًا وَالْأُولَى قَدْ بَانَتْ، فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي أُرْضِعَتْ آخِرًا، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا بِنَّ جَمِيعًا، وَلَا تَبِينُ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا سَبَبٌ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ. وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ الثَّلَاثَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ بِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى، فَقَدْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا ثُمَّ بِإِرْضَاعِ الثَّانِيَةِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَكِنْ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَيْضًا وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ اثْنَتَيْنِ مَعًا ثُمَّ الثَّالِثَةُ بَانَتْ الْكَبِيرَةُ وَاَلَّتِي أَرْضَعَتْهَا مَعًا، وَلَا تَبِينُ الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الصِّغَارِ عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الْأُخْرَتَيْنِ مَعًا، فَقَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ كِبَارٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَأَرْضَعَتْ إحْدَى الْكِبَارِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا وَالْبَاقِيَتَانِ تَحْتَهُ عَلَى حَالِهِمَا فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا إحْدَى الْبَاقِيَتَيْنِ أَيْضًا بَانَتْ هِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ الصَّغِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ فِي نِكَاحِهِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنْ أَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ بَانَتْ هِيَ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمُرْضِعَاتِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكِبَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ أَيْضًا لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَطَلَّقَ الْكَبِيرَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ جَاءَتْ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَنِكَاحُ الصَّغِيرَةِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فَلَيْسَتْ الْأُمُّ فِي نِكَاحِهِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ حَرُمَتْ الصَّغِيرَةُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ دُونَ الْكَبِيرَةِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتْ الْكَبِيرَةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ وَالْعَقْدُ عَلَى الِابْنَةِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 300 أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهَا بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَجُلٍ فَأَرْضَعَتْ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَأُمُّ وَلَدِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْ خَالَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ عَمَّتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ ابْنَةَ ابْنِهِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَالْجَوَابُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَرْضَعَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً لَهَا إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخَوَاتِ تِلْكَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا الْأُمُّ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا سَبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَاتِهَا، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ أُخْتُ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَخٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ يَجُوزُ لِأَخِيهِ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ لِإِحْدَاهُمَا بَنُونَ وَلِلْأُخْرَى بَنَاتٌ فَأَرْضَعَتْ الَّتِي لَهَا الْبَنَاتُ ابْنًا مِنْ بَنِي الْأُخْرَى، فَإِنَّمَا تَحْرُمُ بَنَاتُهَا عَلَى ذَلِكَ الِابْنِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لَهُنَّ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَا يَحْرُمُ أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِهَا عَلَى سَائِرِ بَنِي الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ الْأُخُوَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَهَا الْبَنُونَ أَرْضَعَتْ إحْدَى بَنَاتِ الْأُخْرَى حَرُمَتْ تِلْكَ الِابْنَةُ عَلَى بَنِي الْمُرْضِعَةِ وَغَيْرُهَا مِنْ بَنَاتِهَا يَحِلُّ عَلَى الْمُرْضِعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الْبَنَاتِ أَرْضَعَتْ أَحَدَ الْبَنِينَ وَأُمُّ الْبَنِينَ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْبَنَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ الْمُرْتَضِعِ مِنْ أُمِّ الْبَنَاتِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَكَانَ لِإِخْوَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بَنَاتِ الْأُخْرَى إلَّا الِابْنَةَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُمْ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَلِأُمٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ أَوَّلًا وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الَّتِي وَطِئَهَا، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ابْنَةً لَاشْتَرَى الْبَنَاتِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهُنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ نِكَاحًا حَلَالٌ فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَوْ اشْتَرَى الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ كُلَّهُنَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْبَنَاتِ وَحْدَهُنَّ إنْ شَاءَ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَطَأَ مِنْ الْأُمَّهَاتِ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ، وَإِنْ شَاءَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَحْدَهَا دُونَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 301 الْأُخْرَتَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ بَعْضَ الْأُمَّهَاتِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَبَيْنَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَابْنَةِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ عَلَى قِيَاسِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا، وَلَوْ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ بَعْدَهُ وَاحِدَةً مِنْ الْأَخِرَتَيْنِ، وَلَا وَاحِدَةً مِنْ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْ الْبَنَاتِ، فَقَدْ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ أَوْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ، فَإِذَا أَخْرَجَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ، وَإِنْ شَاءَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَطِئَ أُمَّهَا فَحَرُمَتْ هِيَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ مِنْ الْبَنَاتِ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْ الْأُمَّهَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُوَاطَأَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا حَلَالٌ فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجَانِ أَوْ يُكَذِّبَانِهَا أَوْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ أَوْ الْمَرْأَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَإِنْ صَدَّقَاهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لَا بِشَهَادَتِهَا بَلْ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ بِمَا يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَبِحَسَبِ الْأَقَلِّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَذَّبَاهَا فِي ذَلِكَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاسْتِحْسَانَ وَالنِّكَاحَ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الرَّضَاعِ لَا تُتِمُّ حُجَّةَ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّنَزُّهِ أَنْ يُفَارِقَهَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ» فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَعْطَاهَا كَمَالَ الْمُسَمَّى وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَأْخُذُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا بَلْ تُبْرِئُ الزَّوْجَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ وَكَذَّبَتْهَا الْمَرْأَةُ، فَإِنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِحُرْمَتِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ صَدَّقَتْهَا الْمَرْأَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحُرْمَةِ وَلَيْسَ فِي يَدِهَا مِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 302 ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ صِدْقَهَا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ لَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَكِنْ تَفْدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ فَتَخْتَلِعُ مِنْهُ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَسَعْهُمَا أَنْ يُقِيمَا عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ النِّكَاحِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْفَصْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ قَالَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَامْرَأَةٌ صَغِيرَةٌ وَلِابْنِهِ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَامْرَأَةٌ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ امْرَأَةَ الِابْنِ وَأَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ امْرَأَةَ الْأَبِ وَاللَّبَنُ مِنْهُمَا، فَقَدْ بَانَتْ الصَّغِيرَتَانِ مِنْ زَوْجَيْهِمَا، وَلَا تَحِلُّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِلْأَبِ وَلِلِابْنِ؛ لِأَنَّ امْرَأَةَ الْأَبِ لَمَّا أَرْضَعَتْ امْرَأَةَ الِابْنِ بِلَبَنِ الْأَبِ، فَقَدْ صَارَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ بِلَبَنِهِ امْرَأَةَ الْأَبِ، فَقَدْ صَارَتْ ابْنَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى زَوْجِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ، وَنِكَاحُ الْكَبِيرَتَيْنِ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْإِرْضَاعِ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الْكَبِيرَتَيْنِ وَبَيْنَ زَوْجَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَكَانُ الِابْنِ وَالْأَبِ أَخَوَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرَّضِيعَتَيْنِ صَارَتْ بِنْتَ أَخِ زَوْجِهَا، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَعَمُّهُ مَكَانَ الْأَخَوَيْنِ بَانَتْ امْرَأَةُ الْعَمِّ الصَّغِيرَةُ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ ابْنِ أَخِيهِ وَنِكَاحُ امْرَأَةِ ابْنِ الْأَخِ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ عَمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَوْ كَانَا رَجُلَيْنِ غَرِيبَيْنِ لَمْ تَبِنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَارَتْ ابْنَةَ الزَّوْجِ الْآخَرِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَيْسَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَرَابَةٌ، وَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي أُرْضِعَ بِهِ مِنْ النِّسَاءِ لَيْسَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُصُولِ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ نِكَاحِ الشُّبْهَةِ] (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَخِيهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاطِئَيْنِ مَهْرُ مِثْلِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا يَطَأُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ حَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطِئَ امْرَأَةَ أَخِيهِ بِشُبْهَةٍ وَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِسُقُوطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْوَاطِئِ وَالْعِدَّةِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ثُمَّ الْعِدَّةِ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَأَضْعَفَ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَلَا تَكُونُ لَهُ رَافِعَةٌ فَتُرَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ فَإِنْ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 303 حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ دُونَ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ، وَلَوْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْزَمُ الَّذِي وَطِئَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهُ صَحِيحٌ وَفِرَاشُ الْوَاطِئِ فَاسِدٌ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَةِ إذَا نُعِيَ إلَى الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حَيًّا، وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ وَطِئَهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْوَاطِئِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُلُوقَ سَبَقَ وَطْأَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلَّقَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْأَخَوَيْنِ دَخَلَ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَوَطِئَهَا وَالْآخَرُ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَطَأْهَا، فَإِنَّ الْوَاطِئَ يَغْرَمُ مَهْرَ مِثْلِ الْمَوْطُوءَةِ وَتُرَدُّ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْوَاطِئِ، وَلَا مَهْرَ عَلَى الْآخَرِ الَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِكَاحٌ وَبِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَتُرَدُّ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ بِهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ إذَا تَعَرَّى عَنْ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ، وَلَا الْعِدَّةَ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ أَيْضًا قَالَ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَ الْمَرْأَةَ الَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَيَغْرَمَ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَتَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَوْطُوءَةَ فَيَغْرَمَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ وَالْمَهْرَ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا الْفَصْلُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكَايَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ فَبِهَذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ فِي تَصْنِيفَاتِهِ لَا يَسْتُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ سَتَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ كَانَ هَذَانِ الْأَخَوَانِ تَزَوَّجَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ صَاحِبَتِهَا فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ دُونَ الْأُخْرَى كَانَ لِلزَّوْجِ الَّذِي حَاضَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنَّمَا كَانَ لَا يَطَؤُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا وَهُنَا الَّتِي فِي عِدَّتِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ زَوْجَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيَّيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ أُخْتِهَا كَانَ الْجَوَابُ فِيهَا مِثْلَ ابْنَةٍ وَأُمِّهَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 304 أُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَدَخَلَ بِهَا، فَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ بِالِابْنَةِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ أُمَّهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَعَلَيْهِ لِلِابْنَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِدُخُولِهِ بِهَا شُبْهَةً وَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَأَمَّا الَّذِي وَطِئَ الْأُمَّ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَغْرَمُ لِلِابْنَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ جِهَتِهِ وَيَغْرَمُ لِلْأُمِّ مَهْرَ مِثْلِهَا لِوَطْئِهِ إيَّاهَا شُبْهَةً وَلَيْسَ لِلَّذِي وَطِئَ الْأُمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَطِئَ الْأُمَّ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ ابْنَتَهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِي وَطِئَ الِابْنَةَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنَةَ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَكِنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَابْنَهُ تَزَوَّجَا امْرَأَتَيْنِ أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ صَاحِبَتِهَا فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي دَخَلَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ بِدُخُولِهِ بِهَا وَتَبِينُ مِنْ الْأَبِ، وَلَا يَغْرَمُ لَهَا الْأَبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَطْءَ الِابْنِ إيَّاهَا يُحَرِّمُهَا عَلَى الْأَبِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حِينَ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهَا عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ ثُمَّ الْأَبُ يَغْرَمُ لِامْرَأَةِ ابْنِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَهْرًا بِدُخُولِهِ بِهَا وَتَبِينُ مِنْ الِابْنِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ وَطِئَهَا، وَذَلِكَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَغْرَمُ الِابْنُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهَا حِينَ طَاوَعَتْ أَبَ الزَّوْجِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَوْطُوءَةُ الْأَبِ وَالْأُخْرَى مَوْطُوءَةُ الِابْنِ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَمَسَّ الْأَبُ امْرَأَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّ الِابْنَ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا الْمَهْرَ بِالدُّخُولِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَمَسَّهَا إنَّمَا خَلَا بِهَا وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَأَمَّا الَّتِي وَطِئَهَا الِابْنُ فَقَدْ بَانَتْ مِنْ الْأَبِ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَى الْأَبِ وَلَيْسَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي نِكَاحِ الْأَبِ فَلَا تَحِلُّ لِلِابْنِ بِحَالٍ وَهِيَ مَوْطُوءَةُ الِابْنِ فَلَا تَحِلُّ لِلْأَبِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ امْرَأَةَ الِابْنِ، وَلَمْ يَطَأْ الِابْنُ امْرَأَةَ الْأَبِ فَاَلَّتِي وَطِئَ الْأَبُ يَغْرَمُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَتَبِينُ مِنْ الِابْنِ، وَلَا يَغْرَمُ لَهَا الِابْنُ شَيْئًا، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي نِكَاحِ الِابْنِ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا الْأَبُ، وَقَدْ وَطِئَهَا الْأَبُ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا الِابْنُ وَيُرَدُّ امْرَأَةُ الْأَبِ إلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ابْنَهُ خَلَا بِهَا فَقَطْ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ ابْنَتَهَا فَأُدْخِلَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَامْرَأَةُ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 305 الِابْنِ عَلَى الْأَبِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ أَوَّلًا أَوْ الْأَبُ أَوْ كَانَ الْوَطْءُ مِنْهُمَا مَعًا فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ أَوَّلًا فَعَلَيْهِ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْأَبِ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَا يَغْرَمُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ حِينَ طَاوَعَتْ الِابْنَ حَتَّى وَطِئَهَا، فَإِنَّمَا بَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا أَوَّلًا، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَهَا وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ الِابْنُ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلَا يَغْرَمُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ حِينَ طَاوَعَتْ الْأَبَ حَتَّى وَطِئَهَا، فَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا مَعًا أَوْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَا مَعًا؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ ظَهَرَ، وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا ثُمَّ يَغْرَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُسْقِطَ لِصَدَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ مُطَاوَعَتُهَا أَبَ الزَّوْجِ أَوْ ابْنَهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْقِطَ وَالْمُوجِبَ إذَا اقْتَرَنَا تَرَجَّحَ الْمُسْقِطُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْقِطَ يُرَدُّ عَلَى الْمُوجِبِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْمُسْقِطِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِالنَّصِّ إذْ تَعَارُضُ السَّبَبَيْنِ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْفُرْقَةِ إلَى الزَّوْجِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَوْطُوءَةُ الْأَبِ وَالْأُخْرَى مَوْطُوءَةُ الِابْنِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا جَارِيَةٌ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ، فَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثَهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدَيْهِمَا، وَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَا يَغْرَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُلْزِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ لِصَاحِبِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ وَسَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِمَوْلَاهَا فِي شَيْءٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْعَتَاقِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا، وَهَذَا الجزء: 30 ¦ الصفحة: 306 ظَاهِرٌ ثُمَّ ذَكَرَ وَطْءَ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَوَطْءَ الِابْنِ جَارِيَةَ أَبِيهِ وَوَطْءَ الرَّجُلِ جَارِيَةَ أَخِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقَارِبِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أُمُّ وَلَدٍ فَزَوَّجَهَا مِنْ صَبِيٍّ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَخُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا آخَرَ فَأَوْلَدَهَا فَجَاءَتْ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا فَأَرْضَعَتْهُ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ صَارَ ابْنَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَابْنَ زَوْجِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ هَذَا الرَّضِيعِ وَامْرَأَةُ الِابْنِ حَرَامًا عَلَى الْأَبِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَعْتَرِضَ الْبُنُوَّةُ عَلَى النِّكَاحِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْتَرِضَ النِّكَاحُ عَلَى الْبُنُوَّةِ فَتَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَا تَحِلُّ لِلْغُلَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَجُوزُ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْلَاهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ زَوْجِهَا الثَّانِي، وَلَكِنَّهَا أَرْضَعَتْهُ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهَا الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا قَطُّ؛ لِأَنَّ الرَّضِيعَ قَدْ صَارَ ابْنَ الْمَوْلَى مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ كَانَتْ هِيَ فِي نِكَاحِهِ مَرَّةً، وَلَمْ يَصِرْ ابْنَ الزَّوْجِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ اللَّبَنُ مِنْهُ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ إحْدَاهُمَا كَبِيرَةٌ وَالْأُخْرَى صَغِيرَةٌ وَلِلْكَبِيرَةِ لَبَنٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا مِنْهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، وَذَلِكَ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَالْفُرْقَةُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّغِيرَةَ كَانَتْ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ مِنْ النَّسَبِ فَكَيْفَ يُحَرِّمُ الِابْنَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا اللَّبَنُ لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا تَصِيرُ الصَّغِيرَةُ ابْنَتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَيْسَ لِلْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنَّ فِعْلَهَا الِارْتِضَاعُ، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَفِي إسْقَاطِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِ الصَّغِيرَةِ وَيَسْتَوِي إذَا كَانَتْ الْكَبِيرَةُ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَةُ زَوْجِهَا أَوْ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ فِيمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ، وَقَدْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 307 إلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: تَعَمَّدْت الْفَسَادَ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: مَا تَعَمَّدْت ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا الضَّمَانَ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ مُصَابَةً فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فِي جُنُونِهَا بَانَتَا مِنْهُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الصَّغِيرَةِ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الْمَجْنُونَةِ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فِي السَّبَبِ لِكَوْنِهَا مُصَابَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الصَّغِيرَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ وَهِيَ نَائِمَةٌ فَارْتَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِهَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَبِيرَةِ فِعْلٌ فِي الْفُرْقَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَأَخَذَ مِنْ لَبَنِ الْكَبِيرَةِ فِي مِسْعَطٍ فَأَوْجَرَ بِهِ الصَّغِيرَةَ، وَلَا تَعْلَمُ الْكَبِيرَةُ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ، فَإِنَّهُمَا يَبِينَانِ مِنْهُ وَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَسَادَ رَجَعَ الزَّوْجُ بِجَمِيعِ مَا غَرِمَ لَهُمَا لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ، وَإِنْ قَالَ لَمْ: أَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَرْجِعُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ يَعْنِي الْإِيجَارَ بَانَتَا " مِنْهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحْتَهُ امْرَأَةٌ تُصَابُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَتُجَنُّ وَتُفِيقُ فَدَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا إلَى أَنْ يَفْجُرَ بِهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا فَفَعَلَ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ تَبْلُغْ وَمِثْلُهَا يُجَامَعُ فَدَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَهَا فَفَعَلَ بَانَتْ وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ قَالَ فَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ الَّذِي أَمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَسَادَ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي يَلْزَمُ لِلصَّغِيرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ أَرَادَ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْإِرْضَاعِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُرْضِعَةَ قَدْ تَكُونُ مُحْسِنَةً فِي الْإِرْضَاعِ بِأَنْ تَخَافَ عَلَى الصَّبِيِّ الْهَلَاكَ فَأَمَّا فِي الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّقْسِيمُ، فَإِنَّ الزِّنَا فَسَادٌ كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاحِ شَيْءٌ حَتَّى يُقَالَ أَرَادَ الزَّانِي الْفَسَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فَسَادٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ فَسَادَ النِّكَاحِ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ عَلَيْهِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 308 بِشَيْءٍ، وَهَذَا، كَمَا يُقَالُ أَنَّ مَنْ زَنَى فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَلَكِنْ لَا يَفْسُدُ بِهِ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالصَّوْمِ، وَلَا قَاصِدًا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي أَنَّ الِابْنَ إذَا زَنَى بِامْرَأَةِ أَبِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَعَمَّدَ الْفَسَادَ بِأَنْ أَكْرَهَهَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ بِمَا يَغْرَمُ لَهَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا قَبَّلَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ مُكْرَهَةٌ رَجَعَ الْأَبُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْحَدُّ وَالْمَهْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَإِذَا قَبَّلَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ فَيَكُونُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ لَهَا مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ وَهُنَا نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى الْوَاطِئِ إنَّمَا يَجِبُ لِلْأَبِ وَمِثْلُ هَذَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْحَدِّ لِفِقْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْوَطْءِ، وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْأَبِ عَلَى الْوَاطِئِ فَيَثْبُتُ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فَهُنَاكَ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّقْبِيلُ أَوْ الْمَسُّ فَاسْتَقَامَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ [خَاتِمَة الْكتاب] نَحْمَدُك يَا مَنْ جَعَلْت الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَشَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نِهَايَةِ خُلَاصَةِ الْأَصْفِيَاءِ وَذَخِيرَةِ نُخْبَةِ الْعُظَمَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِينِ الْقَائِلِ «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ نَجَمُوا فِي جَبْهَةِ الدُّنْيَا بُدُورَ هُدًى وَكَانُوا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - خَيْرَ قُدْوَةٍ لِمَنْ اقْتَدَى وَعَلَى التَّابِعِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُرْشِدِينَ الْقَائِمِينَ بِعَهْدِهِ الرَّاشِدِينَ بِرُشْدِهِ وَبَعْدُ، فَإِنَّ مِنْ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ أَنَّ ظُهُورَ الْإِنْسَانِ بِمَظْهَرِ الشَّرَفِ فِي الدَّارَيْنِ وَنَيْلَهُ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فِي الْكَوْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِتَحْلِيَةِ الظَّاهِرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَ تَزْكِيَةِ الْبَاطِنِ بِالْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ. فَالْعِلْمُ الْمُتَكَفِّلُ مِنْ بَيْنِ الْعُلُومِ بِبَيَانِ الْأُولَى لَا رَيْبَ يَكُونُ بِالِاشْتِغَالِ أَوْلَى، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ الَّذِي اعْتَنَى بِشَأْنِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عِصَابَةٌ هُمْ أَهْلُ الْإِصَابَةِ. فَبَيَّنُوا الْمَعْقُولَ فِيهِ وَالْمَنْقُولَ وَاسْتَخْرَجُوا أَغْصَانَ الْفُرُوعِ مِنْ شُعَبِ الْأُصُولِ وَإِبْرَازَ حَقَائِقِهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَزُوا دَقَائِقَهُ وَقَنَصُوا شَوَارَهُ وَنَظَمُوا قَلَائِدَهُ وَذَلَّلُوا مَصَاعِبَهُ وَقَرَّبُوا مَطَالِبَهُ وَأَلَّفُوا فَأَجَادُوا وَصَنَّفُوا فَأَفَادُوا، وَأَسْنَى مَا أُلِّفَ فِيهِ وَأَبْدَعُهُ وَأَعْذَبُهُ مَوْرِدًا وَأَحْكَمُهُ وَأَجْمَعُهُ (كِتَابُ الْمَبْسُوطِ) فِي فِقْهِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْثَ الرَّحْمَةِ وَشَآبِيبَ الرِّضْوَانِ، تَصْنِيفُ الْعَلَمِ النِّحْرِيرِ ذِي الْإِتْقَانِ وَالتَّحْرِيرِ وَالْحُجَّةِ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 309 لِمَنْ بَعْدَهُ وَالْبُرْهَانِ الَّذِي يُوقَفُ عِنْدَهُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَحَبْرِ الْأُمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَعَلَ دَارَ النَّعِيمِ مَثْوَاهُ كِتَابٌ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ جَمَعَ فَأَوْعَى. وَأَحَاطَ بِالنَّوَادِرِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ جِنْسًا وَنَوْعًا. وَاسْتَخْرَجَ مِنْ بِحَارِ كُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دُرَّهَا وَقَرَّبَ لِلْمُجْتَنِي أَزْهَارَهَا وَأَثْمَارَهَا وَأَبْرَزَ دَقَائِقَهَا وَكُنُوزَهَا وَحَلَّ غَوَامِضَهَا وَرُمُوزَهَا وَنَظَمَهَا فِي سُمُوطِ أَبْوَابِ كِتَابِهِ أَبْدَعَ نِظَامٍ وَأَدْرَجَهَا فِي أَدْرَاجِ فُصُولِهِ مَعَ حُسْنِ انْسِجَامٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِظُهُورِهِ فِي عَالَمِ الْمَطْبُوعَاتِ سُدَّتْ فُرْجَةٌ وَاسِعَةٌ فِي مُؤَلَّفَاتِ فِقْهِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي مَذْهَبِهِ هِيَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْأَبْعَاضُ، وَهُوَ الْكُلُّ وَالْجَدَاوِلُ، وَهُوَ الْبَحْرُ الزَّاخِرُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاتِيك الْكُتُبِ إذَا وَرَدَتْ فِيهَا مَسَائِلُ تَسْتَعْصِي عَلَى الْفَهْمِ. وَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ أَحَالُوا الْحُكْمَ فِيهَا عَلَى كِتَابِ (الْمَبْسُوطِ) عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ كَانَ عَلَيْهِ عَسِيرًا. وَكَمْ طَرَقَ فُقَهَاءُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَبْوَابَ الْمَكَاتِبِ. وَطَالَمَا نَقَّبُوا عَنْهُ فِي أَدْرَاجِ الْكُتُبْخَانَاتِ فَمَا عَثَرُوا عَلَيْهِ، وَلَا اهْتَدَوْا إلَيْهِ. وَمَا أَحْوَجَ عُلَمَاءَ الْفِقْهِ إلَى كُتُبٍ تَجْمَعُ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ يَكُونُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا. وَكِتَابُ (الْمَبْسُوطِ) جَمَعَ كُلَّ الْمَسَائِلِ الَّتِي دَوَّنَهَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْإِمَامُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَعْلَامُ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يُعْبَأُ بِكَلَامِهِمْ فَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْكِتَابِ وَلِلَّهِ بَرَاعَةُ عِبَارَاتِهِ وَلَطَافَةُ إشَارَتِهِ وَتَنْبِيهَاتُهُ النَّافِعَةُ وَتَنْوِيرَاتُهُ السَّاطِعَةُ. الشَّاهِدُ لَهُ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. وَزِيَادَةِ مَزِيَّتِهِ. وَلِمُؤَلِّفِهِ بِسَعَةِ اطِّلَاعِهِ وَطُولِ بَاعِهِ. وَطَالَمَا تَشَوَّقَ الْعُلَمَاءُ. إلَى بُزُوغِ بَدْرِهِ. وَتَشَوَّفَ الْفُقَهَاءُ إلَى تَرْشِيفِ ثَغْرِهِ. وَبَقِيَتْ النُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةً إلَى طَلْعَةِ بَدْرِهِ الْكَامِلَةِ. وَالْأَنْظَارُ مُتَوَجِّهَةً إلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ حُجُبِهِ الْحَائِلَةِ حَتَّى وَفَّقَ اللَّهُ لَهُ صَاحِبَ الْأَعْمَالِ الْمَشْكُورَةِ. وَالْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ (حَضْرَةُ الْمُحْتَرَمِ الْحَاجُّ مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي السِّيَاسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ) فَأَخَذَ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي أَسْبَابِ تَسْهِيلِهِ بَاذِلًا هِمَّتَهُ فِي طَبْعِهِ لِعُمُومِ نَفْعِهِ وَقَسَّمَهُ إلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا وَكُلُّهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَمَّتْ طَبْعًا مَعَ كَمَالِ التَّصْحِيحِ وَالتَّحْرِيرِ وَالتَّنْقِيحِ بِمُبَاشَرَةِ عِصَابَةٍ أُولِي نَجَابَةٍ وَبَرَاعَةٍ وَإِصَابَةٍ، فَبَذَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ جَهْدَهُ بِقَدْرِ مَا لَدَيْهِ. هَذَا وَكَانَ طَبْعُهُ النَّاضِرُ وَوَضْعُهُ الْبَاهِرُ بِمَطْبَعَةِ السَّعَادَةِ، الثَّابِتُ مَرْكَزُهَا بِجِوَارِ مُحَافَظَةِ مِصْرَ إدَارَةُ مُهَذِّبِ الطَّبْعِ ذِي الْقَدْرِ الْجَلِيلِ حَضْرَةِ الْمُحْتَرَمِ مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي إسْمَاعِيلُ مَنَحَهُ اللَّهُ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَكَانَ لِطَبْعِهِ الْخِتَامُ وَلُبْسِهِ وِشَاحَ التَّمَامِ فِي شَعْبَانَ مِنْ عَامِ 1331 هِجْرِيَّةً عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ السَّلَامِ آمِينَ الجزء: 30 ¦ الصفحة: 310